نهاية الأرب في فنون الأدب

النويري

الجزء الأول

الجزء الأول [مقدمة الكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رافع السماء وفاتق رتقها، ومنشئ السّحاب وموكف ودقها؛ ومجرى الأفلاك ومدبّرها، ومطلع النّيّرات ومكوّرها، ومرسل الرياح ومسخّرها؛ ومزيّن سماء الدنيا بزينة الكواكب، وحافظها عند استراق السمع بإرسال الشّهب الثواقب، وهادى السارى بمطالع نجومها فى ظلم الغياهب؛ وجاعل الليل سكنا ولباسا، ومبدّل وحشة ظلمائه يفلق الإصباح إيناسا؛ وماحى آيته بآية النهار المبصرة، ومذهب دجنّته بإشراق شمسه النّيره؛ وباسط الأرض فراشا ومهادا، ومرسى الجبال وجاعلها أوتادا؛ ومفجّر العيون من جوانبها وخلالها، ومضحك ثغور الأزهار ببكاء عيون الأمطار وانهمالها؛ ومكرّم بنى آدم بتفضيلهم على كثير من خلقه، ومذلّل الأرض لهم ليمشوا فى مناكبها وليأكلوا من رزقه؛ وحاملهم على ظهر اليمّ فى بطون الجوارى المنشآت، ومعوّضهم عن أعواد السّفن غوارب اليعملات [1] . خلق كلّ دابّة من ماء وأودعها من خفىّ حكمه ما أودع، وباين بين أشكالهم (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع) . وهدى الطير إلى ما اتخذته من الأوكار واتّخذ لها من المبانى، وجعلها من رسائل المنايا ووسائل الأمانى. أحمده على نعمه التى كم أولت من منّه؛ ومننه التى كم والت من نعمه، وأشكره على ألطافه التى كم كشفت من غمّه، وأزالت من نقمه.

_ [1] اليعملة (بفتح الياء والميم) الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة والجمع يعمل. وهو اسم لا وصف.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد نطق بها لسانه وقلبه، وأنس بها ضميره ولبّه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى جعلت له الأرض مسجدا وترابها طهورا، وأنزل عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً . صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله الذين رقوا بنسبهم إليه أعلى المراتب، وتسنّموا من ذروة الشرف والثناء كاهل الكواكب، وعلى أصحابه الذين اتّطدت بهم قواعد الشريعة وعلا منارها، وهدمت معاقل الكفر وعفت آثارها؛ وأنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجالدوا فى دين الله وجادلوا: صلاة ترفع منار قائلها، وترسل عليه سحائب المغفرة بوابلها! وبعد، فمن أولى ما تدبّجت به الطروس والدفاتر، ونطقت به ألسنة الأقلام عن أفواه المحابر؛ وأصدرته ذوو الأذهان السليمه، وانتسبت إليه ذوو الأنساب الكريمة؛ وجعله الكاتب ذريعة يتوصّل بها إلى بلوغ مقاصده، ومحجّة لا يضلّ سالكها فى مصادره وموارده: فنّ الأدب الذى ما حلّ الكاتب بواديه، إلّا وعمرت بواديه؛ ولا ورد مشارعه، إلّا واستعذب شرائعه؛ ولا نزل بساحته إلّا واتّسعت له رحابها، ولا تأمّل مشكلاته إلّا وتبيّنت له أسبابها. وكنت ممن عدل فى مباديه، عن الإلمام بناديه؛ وجعل صناعة الكتابة فننه الذى يستظلّ بوارفه، وفنّه الذى جمع له فيه بين تليده وطارفه. فعرفت جليّها، وكشفت خفيّها؛ وبسطت الخرائد [1] ونظمت منها الارتفاع، وكنت فيها كموقد نار على

_ [1] لعلها: الجرائد. أى جرائد الحسبانات التى يستخرج منها الارتفاع أى مقدار الإيراد. وبقية الكلام تدل على ذلك لأنه استعار اصطلاحات أهل الحساب.

يفاع. واسترفعت القوانين، ووضعت الموازين؛ وعانيت المقترحات، واعتمدت على المقايسات؛ وفذلكت على الأصل وما أضيف إليه، وحررت ما بعد الفذلكة فكان العمل على ما استقرّت الجملة عليه؛ واستخرجت وحصّلت، وجمّلت من عرضه وخصّلت؛ وسقت الحواصل، وأوردت المحاسيب وفذلكت على الواصل؛ وطردت ما انساق إلى الباقى والموقوف، ونضّدت شواهد المصروف؛ وشطبت شواهد الارتفاع، وقرنت أعمال المبيع بالمبتاع؛ واستوفيت أعمال الاعتصار وتوالى الغلّات، وتأمّلت سياق الأصناف والآلات؛ ونظرت فى سياقات العلوفات والعوامل، وأجبت عن المخرج والمردود فأعجزت المناظر والمناضل؛ وأتقنت موادّ هذه الصناعة، وتاجرت فيها بأنفس بضاعه. ثمّ نبذتها وراء ظهرى، وعزمت على تركها فى سرّى دون جهرى؛ وسألت الله تعالى الغنية عنها، وتضرّعت إليه فيما هو خير منها. ورغبت فى صناعة الآداب وتعلّقت بأهدابها، وانتظمت فى سلك أربابها، فرأيت غرضى لا يتمّ بتلقّيها من أفواه الفضلاء شفاها، وموردى منها لا يصفو ما لم أجرّد العزم سفاها. فامتطيت جواد المطالعه، وركضت فى ميدان المراجعه. وحيث ذلّ لى مركبها، وصفا لى مشربها، آثرت أن أجرّد منها كتابا أستأنس به وأرجع إليه، وأعوّل فيما يعرض لى من المهمّات عليه. فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأثبتّ منها خمسة فنون حسنة الترتيب، بيّنة التقسيم والتبويب: كلّ فنّ منها يحتوى على خمسة أقسام.

الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى السماء وما فيها. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق السماء. الباب الثانى- فى هيئتها. الباب الثالث- فى الملائكة. الباب الرابع- فى الكواكب السبعة. الباب الخامس- فى الكواكب الثابتة. القسم الثانى- فى الآثار العلويّة. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى السّحاب، وسبب حدوثه، وفى الثلج، والبرد. الباب الثانى- فى الصواعق، والنّيازك، والرعد، والبرق. الباب الثالث- فى أسطقسّ الهواء. الباب الرابع- فى أسطقسّ النار، وأسمائها. القسم الثالث- فى الليالى، والأيام، والشهور، والأعوام، والفصول، والمواسم، والأعياد. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى الليالى، والأيّام.

الباب الثانى- فى الشهور، والأعوام. الباب الثالث- فى الفصول. الباب الرابع- فى المواسم، والأعياد. القسم الرابع- فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون. وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق الأرض. الباب الثانى- فى تفصيل أسماء الأرض. الباب الثالث- فى طول الأرض، ومساحتها. الباب الرابع- فى الأقاليم السبعة. الباب الخامس- فى الجبال. الباب السادس- فى البحار، والجزائر. الباب السابع- فى الأنهار، والغدران، والعيون. القسم الخامس- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، والقصور، والمنازل. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها. الباب الثانى- فى خصائص البلاد. الباب الثالث- فى المبانى القديمة. الباب الرابع- فيما وصفت به المعاقل. الباب الخامس- فيما وصفت به القصور، والمنازل.

الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلّق به ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه؛ ووصف أعضائه، وتشبيهها، والغزل، والنّسيب، والمحبة، والعشق، والهوى، والأنساب. وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقّلاته، وطبائعه. الباب الثانى- فى وصف أعضائه، وتشبيهها. وما وصف به طيب الرّيق، والنّكهة، وحسن الحديث والنّغمة، واعتدال القدود. ووصف مشى النساء. الباب الثالث- فى الغزل، والنسيب، والهوى، والمحبّة، والعشق. الباب الرابع- فى الأنساب. القسم الثانى- فى الأمثال المشهورة عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) . وعن جماعة من الصحابة (رضى الله عنهم) ، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجىّ، والألغاز. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى الأمثال.

الباب الثانى- فى أوابد العرب. الباب الثالث- فى أخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطّيرة، والفراسة، والذّكاء. الباب الرابع- فى الكنايات، والتعريض. الباب الخامس- فى الأحاجىّ، والألغاز. القسم الثالث- فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطرب. وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى المدح. وفيه ثلاثة عشر فصلا. وهى: حقيقة المدح، وما قيل فيه. ما قيل فى الجود، والكرم، وأخبار الكرام. ما قيل فى الإعطاء قبل السؤال. ما قيل فى الشجاعة، والصبر، والإقدام. ما قيل فى وفور العقل. ما قيل فى الصدق. ما قيل فى الوفاء، والمحافظة. ما قيل فى التواضع. ما قيل فى القناعة، والنزاهة.

ما قيل فى الشكر، والثناء. ما قيل فى الوعد، والإنجاز. ما قيل فى الشفاعة. ما قيل فى الاعتذار، والاستعطاف. الباب الثانى- فى الهجاء. وفيه أربعة عشر فصلا: ما قيل فى الهجاء، ومن يستحقّه. ما قيل فى الحسد. ما قيل فى السّعاية والبغى. ما قيل فى الغيبة والنميمة. ما قيل فى البخل واللّؤم، وأخبار البخلاء، واحتجاجهم. ما قيل فى التطفّل. ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة. ما قيل فى الجبن، والفرار. ما قيل فى الحمق، والجهل. ما قيل فى الكذب. ما قيل فى الغدر، والخيانة. ما قيل فى الكبر، والعجب. ما قيل فى الحرص، والطمع. ما قيل فى الوعد، والمطل. ما قيل فى العىّ، والحصر.

الباب الثالث- فى المجون، والنوادر، والفكاهات، والملح. الباب الرابع- فى الخمر، وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها. وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها. وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل فى وصف آلاتها، وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى. الباب الخامس- فى النّدمان، والسّقاة. الباب السادس- فى الغناء، والسّماع، وما ورد فى ذلك من الحظر والإباحة، ومن سمع الغناء من الصحابة (رضوان الله عليهم) والتابعين، والأئمة، والعبّاد، والزّهّاد، ومن غنّى من الخلفاء، وأبنائهم، والأشراف، والقوّاد، والأكابر، وأخبار المغنّين ممن نقل الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة. الباب السابع- فيما يحتاج إليه المغنّى، ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، وما وصفت به آلات الطرب.

القسم الخامس- فى الملك، وما يشترط فيه، وما يحتاج إليه؛ وما يجب له على الرعيّة، وما يجب للرعيّة عليه. ويتّصل به ذكر الوزراء، وقادة الجيوش، وأوصاف السلاح، وولاة المناصب الدينيّة، والكتّاب، والبلغاء. وفيه أربعة عشر بابا: الباب الأوّل- فى شروط الإمامة: الشرعيّة، والعرفيّة. الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه، وما يفضل به على غيره. وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدّالة على علوّ همّتهم، وكرم شيمتهم. الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة، والنصيحة، والتعظيم، والتوقير. الباب الرابع- فى وصايا الملوك. الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا. الباب السادس- فى حسن السياسة، وإقامة المملكة. ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام. الباب السابع- فى المشورة، وإعمال الرأى، والاستبداد، ومن يعتمد على رأيه، ومن كره أن يستشير. الباب الثامن- فى حفظ الأسرار، والإذن. والحجاب.

الباب التاسع- فى الوزراء، وأصحاب الملك، الباب العاشر- فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب؛ ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح. الباب الحادى عشر- فى القضاة، والحكام. الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم، وهى نيابة دار العدل. الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة، وأحكامها. الباب الرابع عشر- فى ذكر الكتّاب، والبلغاء؛ والكتابة، وما تفرّع عنها من الوظائف والكتابات، وهى: كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان، والتصرّف، وكتابة الحكم، والشروط، وكتابة النسخ، وكتابة التعليم.

الفن الثالث فى الحيوان الصامت ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى السباع، وما يتصل بها من جنسها. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى الأسد، والببر، والنّمر. الباب الثانى- فى الفهد، والكلب، والذئب، والضّبع، والنّمس. الباب الثالث- فى السّنجاب، والثّعلب، والدّبّ، والهرّ، والخنزير. القسم الثانى- فى الوحوش، والظباء، وما يتّصل بها من جنسها. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فيما قيل فى الفيل، والكركدّن، والزّرافة، والمهاة، والإيّل [1] . الباب الثانى- فى الحمر الوحشيّة، والوعل، واللّمط. الباب الثالث- فيما قيل فى الظّبى، والأرنب، والقرد، والنّعام.

_ [1] ويقال أيضا: الأيّل والأيّل (قاموس) .

القسم الثالث- وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى الخيل. الباب الثانى- فى البغال، والحمير. الباب الثالث- فى الإبل، والبقر، والغنم. القسم الرابع- وفيه بابان: الباب الأوّل- فى ذوات السموم القواتل. الباب الثانى- فيما هو ليس بقاتل بفعله، من ذوات السموم. القسم الخامس- وفيه سبعة أبواب: ستّة منها فى الطير، وباب فى السمك. (وذيّلت عليه بباب ثامن، أوردت فيه ما قيل فى آلات صيد البرّ، والبحر) . الباب الأوّل- فى سباع الطير، وهى: العقبان، والبوازى، والصقور، والشواهين. الباب الثانى- فى كلاب الطير، وهى: النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب. الباب الثالث- فى بهائم الطير، وهى: الدّرّاج، والحبارى، والطاووس، والدّيك، والدّجاج، والإوزّ، والبطّ، والنّحام، والأنيس، والقاوند، والخطّاف، والقيق، والزّرزور، والسّمانى [1] ، والهدهد، والعقعق، والعصافير.

_ [1] فى الأصل السّمّان. وقال فى الصحاح والسّمانى ولا شدّد الميم.

الباب الرابع- فى بغاث الطير، وهو: القمرى، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت، والشّفنين، والعبطبط، والنّواح، والقطاة، واليمام، وأصنافه، والببّغاء. الباب الخامس- فى الطير الليلىّ، وهو: الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى. الباب السادس- فى الهمج، وهو: النمل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص. الباب السابع- فى أنواع الأسماك. الباب الثامن- يشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ، والبحر، ووصف زماة البندق، وما يجرى هذا المجرى.

الفن الرابع فى النبات ويشتمل على خمسة أقسام: (وذيّلت على هذا الفن، فى القسم الخامس، بشىء من أنواع الطّيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، وغير ذلك) . القسم الأوّل- فى أصل النبات، وما تختصّ به أرض دون أرض. (ويتّصل به ذكر الأقوات، والخضراوات، والبقولات) . وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فى أصل النبات، وترتيبه. الباب الثانى- فيما تختصّ به أرض دون أرض، وما يستأصل شأفة النبات الشاغل للأرض عن الزراعة. الباب الثالث- فى الأقوات، والخضراوات، والبقولات. القسم الثانى- فى الأشجار. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل. الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل. الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى.

القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة. وفيه بابان: الباب الأوّل- فيما يشمّ رطبا، ويستقطر. ويشتمل على أربعة أنواع: وهى «الورد، والنّسرين، والخلاف، والنّيلوفر» . الباب الثانى- فيما يشمّ رطبا، ولا يستقطر. ويشتمل على ما قيل فى البنفسج، والنرجس، والياسمين، والآس، والزعفران، والحبق. القسم الرابع- فى الرياض، والأزهار. (ويتصل به الصّموغ، والأمنان، والعصائر) . وفيه أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى الرياض، وما وصفت به نظما، ونثرا. الباب الثانى- فى الأزهار، وما وصفت به. الباب الثالث- فى الصموغ. وفيه ثمانية وعشرون صنفا. الباب الرابع- فى الأمنان. القسم الخامس- فى أصناف الطيب، والبخورات، والغوالى، والنّدود، والمستقطرات، والأدهان، والنّضوحات، وأدوية الباه، والخواصّ. وفيه أحد عشر بابا: الباب الأوّل- فى المسك، وأنواعه

الباب الثانى- فى العنبر، وأنواعه، ومعادنه. الباب الثالث- فى العود، وأصنافه، وأنواعه، ومعادنه. الباب الرابع- فى الصّندل، وأصنافه، ومعادنه. الباب الخامس- فى السّنبل الهندىّ، وأصنافه؛ والقرنفل، وجوهره. الباب السادس- فى القسط، وأصنافه. الباب السابع- فى عمل الغوالى، والنّدود. الباب الثامن- فى عمل الرامك، والسّكّ من الرامك والأدهان. الباب التاسع- فى عمل النّضوحات، والمياه المستقطرة، وغير المستقطرة. الباب العاشر- فى الأدوية التى تزيد فى الباه، وتلذّذ الجماع، وما يتصل بذلك. الباب الحادى عشر- فما يفعل بالخاصّيّة.

الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام: القسم الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) وحوّاء، وأخبارهما، ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس. وفيه ثمانية أبواب: الباب الأوّل- فى مبدإ خلق آدم (عليه السلام) ، وموسى (عليه السلام) ، وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم (عليهما السلام) ، وأولاده. الباب الثالث- فى أخبار إدريس: النبىّ (عليه السلام) . الباب الرابع- فى قصّة نوح (عليه السلام) ، وخبر الطّوفان. الباب الخامس- فى قصّة هود (عليه السلام) مع عاد، وهلاكهم بالريح العقيم. الباب السادس- فى قصة صالح (عليه السلام) مع ثمود، وعقرهم الناقة، وهلاكهم. الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة، والقصر المشيد، وهلاكهم. الباب الثامن- فى أخبار أصحاب الرّسّ، وما كان من أمرهم.

القسم الثانى- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه السلام) ، وخبره مع نمرود؛ وقصّة لوط؛ وخبر إسحاق، ويعقوب؛ وقصّة يوسف؛ وأيّوب؛ وذى الكفل؛ وشعيب (عليهم السلام) . وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى قصّة إبراهيم، الخليل (عليه الصلاة والسلام) ، وأخبار نمرود بن كنعان. الباب الثانى- فى خبر لوط (عليه السلام) مع قومه، وقلب المدائن. الباب الثالث- فى خبر إسحاق، ويعقوب (عليهما السلام) . الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) . الباب الخامس- فى قصّة أيوب (عليه السلام) ، وابتلائه، وعافيته. الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب (عليهما السلام) . الباب السابع- فى خبر شعيب (عليه السلام) ، وقصته مع مدين. القسم الثالث- يشتمل على قصّة موسى بن عمران (عليه السلام) ، وخبره مع فرعون؛ وخبر يوشع، ومن بعده؛ وحزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان بن داود، وشعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتصل بذلك من خبر عزيز؛ وقصّة

يونس بن متّى، وخبر بلوقيا؛ وزكريا، ويحيى، وعمران، ومريم، وعيسى (عليهم السلام) ، وقصص الحواريّين، وما كان من أمرهم فيمن أرسلوا إليه، وخبر جرجيس. وفيه ستة أبواب: (وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أربعة أبواب، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض ومدّة إقامته بها، ووفاته، وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد) . الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران، وهرون؛ وغرق فرعون؛ وأخبار بنى إسرائيل؛ وأخبار قارون؛ وخبر بلعم بن باعوراء، والجبّارين، وغير ذلك. الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران (عليه السلام) من أخبار يوشع بن النون، ومن بعده؛ وخبر حزقيل، وإلياس، واليسع، وعيلا، وأشمويل، وطالوت، وجالوت، وداود، وسليمان. الباب الثالث- فى أخبار شعيا، وأرميا، وخبر بخت نصّر، وخراب بيت المقدس، وعمارته؛ وما يتّصل بذلك من خبر عزيز.

الباب الرابع- فى قصّة ذى النون يونس بن متّى (عليه السلام) ، وخبر بلوقيا. الباب الخامس- فى خبر زكريّا، ويحيى، وعمران، ومريم ابنته؛ وعيسى بن مريم (عليهما السلام) . الباب السادس- فى أخبار الحواريّين الذين أرسلهم عيسى (عليه السلام) ، وما كان من أمرهم بعد رفعه؛ وخبر جرجيس. التذييل على هذا القسم- ويشتمل على أربعة أبواب: الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم. الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض؛ وقتل الدجّال؛ وخروج يأجوج، ومأجوج، وهلاكهم؛ ووفاة عيسى (عليه السلام) . الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى ابن مريم إلى النفخة الأولى. الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر، والمعاد؛ والنفخة الثانية فى الصّور.

القسم الرابع- فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم، والطوائف؛ وخبر سيل العرم، ووقائع العرب فى الجاهليّة. وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين، المذكور فى سورة الكهف. الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم: ملوك مصر، والهند، والصين، وجبل الفتح. الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم: ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف منهم؛ والملوك الساسانيّة؛ وملوك اليونان والسريان؛ والكلدانيين؛ والصقالبة؛ والبوكبرد؛ والإفرنجة؛ والجلالقة؛ وطوائف السودان. الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب. (ويتّصل به خبر سيل العرم) . الباب الخامس- فى أيّام العرب، ووقائعها فى الجاهليّة. القسم الخامس- فى أخبار الملة الإسلاميّة؛ وذكر شىء من سيرة نبيّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبار الخلفاء من بعده (رضى الله عنهم) ؛ وأخبار الدولة الأمويّة؛ والعباسيّة؛ والعلويّة؛ ودول ملوك الإسلام، وأخبارهم، وما فتح الله (سبحانه وتعالى) عليهم- على ما سنبيّن ذلك- إن شاء الله (تعالى) . وفيه اثنا عشر بابا:

الباب الأوّل- فى سيرة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وابنه: الحسن (رضى الله عنهم أجمعين) . الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشام وغيره. الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق، ومصر. الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض الدولة الأموية. الباب السادس- فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب، ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ منهم بالملك. الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين، فى مدّة الدولتين: الأمويّة، والعباسية، فقتل دونها، بعد مقتل الحسين ابن علىّ (رضى الله عنهما) . الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزنج، والقرامطة، والخوارج بالموصل. الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك، والممالك، بالبلاد الشرقيّة والشماليّة، فى خلال الدولة العباسيّة، وهم: ملوك خراسان، وما وراء النهر، والجبال، وطبرستان، وغزنة، والغور

وبلاد السند، والهند: كالدولة السامانيّة. والصّفّاريّة، والغزنويّة، والغوريّة، والدّيلميّة الختليّة. الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق. وما والاه؛ وملوك الموصل، والديار الجزيرية، والبكريّة، والبلاد الشاميّة، والحلبيّة: كالدولة الحمدانيّة. والدّيلميّة البهويهيّة، والسّلجقيّة، والأتابكيّة. الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة. والجنكزخانيّة، وهى دولة التتار، وما تفرّع منها. الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة، نيابة عن خلفائها، وهم: الملوك العبيديّون الذين انتسبوا إلى علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) ، وما كان من أمرهم، وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة، والبلاد الشاميّة، والخلبيّة، والثغور، والسواحل، وغير ذلك إنى أن انقرضت دولتهم؛ وقيام الدولة الأيّوبيّة، وأخبار ملوكها بمصر، والشام إلى حين انقراضها؛ وقيام دولة الترك، ومن ملك منهم من أبنائهم، وما حازوه من الأقاليم، وما فتحوه من الممالك، وغير ذلك من

أخبارهم، وما استقرّ فى ملك ملوك هذه الدولة إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة...... وسبعمائة (فى أيّام مولانا السلطان السيد الأجل المالك الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبى الفتح محمد، بن السلطان الشهيد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، أبى المظفر قلاون، الصالحىّ. خلد الله ملكه على ممرّ الزمان، وسقى عهد والده صوب الرّحمة والرّضوان، ببركة سيد ولد عدنان!) هذا مجموع ما يشتمل عليه هذا الكتاب، من فنون وأقسام وذيول وأبواب. ثم ينطوى كل باب منها على فصول وأخبار، ويحتوى على وقائع وآثار. ولما انتهت أبوابه وفصوله، وانحصرت جملته وتفصيله، ترجمته: بنهاية الأرب فى فنون الأدب وأتيت فيه بالمقصود والغرض، وأثبتّ الجوهر ونفيت العرض، وطوّقته بقلائد من مقولى، ورصّعته بفرائد من منقولى. فكلامى فيه كالسارية تلتها السحائب، أو السريّة ردفتها الكتائب. فما هو إلّا مترجم عن فنونه، وحاجب لعيونه. وما أوردت فيه إلّا ما غلب على ظنّى أنّ النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه. ولو علمت أنّ فيه خطأ لقبضت بنانى، وغضضت طرفى، ولو خبرت طريق

المعترض لعطفت عنانى، وثنيت عطفى. لكنّى تبعت فيه آثار الفضلاء قبلى، وسلكت منهجهم فوصلت بحبالهم حبلى. فإن يكن اعتراض، فعلى علاهم لا علىّ العار. وقد علمت أنه من صنف كتابا فقد استهدف، وأصمّ الأسماع وإن كان لبعضها قد شنّف. وخليق للواقف عليه أن يسدّ ما يجد به من خلل، وأن يغفر ما يلمح فيه من زلل. فأسبل عليها ستر معروفك الذى سترت به قدما على عوارى. والذى أدّى إليه اجتهادى من تأليفه فقد أصدره، والذى وقفت عنده غايتى فقد أوردته. قد تبلّغت فيه وسعى، لكن ليس من عثرة الكتاب أمان. وبالله سبحانه المستعان! وعليه أتوكّل، وإليه أتضرّع فى التيسير وأتوسل؛ ومن فضله أستمدّ الصواب، وباسمه أستفتح الكتاب [1] !

_ [1] ورد فى النسخة الفوتغرافية التى اعتمدنا الطبع عليها (وهى المحفوظة بكتبخانة الكوپريلى بالقسطنطينية) ما نصه فى هذا الموضع: «هذا آخر الفهرست لهذا الكتاب. ولنبتدئ إن شاء الله تبارك وتعالى بما بدأ به مؤلفه عفا الله تعالى عنه وهو الفن الأوّل. ونرجو بعون الله وحوله وقوّته الإتمام بسلام. وصلى الله وسلم على أشرف الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام» - وهى من زيادات الناسخ.

الفن الأول فى السماء والآثار العلوية، والأرض والمعالم السفلية

الفن الأوّل فى السماء والآثار العلويّة، والأرض والمعالم السّفليّة وقد أوردت فى هذا الفن نبذة من وصف السماء، التى هى قبلة الدعاء، وباب الرجاء؛ والكواكب السيّارات ذوات السنا والسناء؛ والملائكة الذين هم أولو أجنحة، مثنى، وثلاث، ورباع؛ والسحائب التى تجود بوبلها فتعدل فى قسمها بين السهل واليفاع؛ والرعد الذى إن ونت يحثّها؛ والريح الذى إن اجتمعت يبثّها؛ والبرق الذى شبّه ببنان الحاسب والكفّ الخضيب؛ والثلج الذى خلع على الأرض رداء المشيب؛ وقوس السّحاب الذى تنكّبه الجوّ فأفرغ عليه مصبّغات الحلل، ورمى الجدب ببنادق البرد فتباشرت بالخصب أهل الحلل؛ والنّيران وعبّادها وعددها، والمياه وأمدادها ومددها؛ والليالى والأيام، والشهور والأعوام؛ والسّنة وفصولها ومباديها، والأعياد والمواسم ومتّخذيها؛ والأرض والجبال، والبرارى والرمال؛ والجزائر والبحار، والعيون والأنهار؛ وطبائع البلاد، وأخلاق من سكنها من العباد؛ والمبانى والمعاقل، والقصور والمنازل. وجعلته خمسة أقسام يستدلّ بها عليه، ويتوصّل من أبوابها إليه.

القسم الأول فى السماء وما فيها وفيه خمسة أبواب:

القسم الأوّل فى السماء وما فيها وفيه خمسة أبواب: الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى مبدإ خلق السماء قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. والسماء تذكّر وتؤنّث. فشاهد التذكير قول الله (عزّ وجلّ) : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ؛ وقول الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما، ... لحقنا بالسماء مع السّحاب! وشاهد التأنيث، قوله (تبارك وتعالى) : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ؛ وقول الشاعر: يا ربّ، ربّ الناس فى سماته! [1]

_ [1] هكذا فى الأصول، أى بالتاء المثناة. ولو همزت، لفات الشاهد.

2 - ذكر ما قيل فى أسماء السماء وخلقها

2- ذكر ما قيل فى أسماء السماء وخلقها قد نطقت العرب للسماء بأسماء. منها: الجرباء. وسمّيت بذلك لكثرة النّجوم بها. ومنها: الخلقاء. لملاستها. وبرقع [1] . والرّقيع. ومنه قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لسعد بن معاذ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» . أى من فوق سبع سماوات. ومنها: الطرائق. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) . والسماء مخلوقة من دخان. 3- حكى فى سبب حدوثه أنّ الله تعالى خلق جوهرة، وصف من طولها وعرضها عظما. ثم نظر إليها نظر هيبة، فانماعت، وعلاها من شدّة الخوف زبد ودخان. فخلق الله من الزبد الأرض، وفتقها سبعا؛ ومن الدخان السماء، وفتقها سبعا. ودليله قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ . قال: ولما فتق الله تعالى السماوات، أوحى فى كل سماء أمرها. واختلف المفسّرون فى الأمر، ما هو؟ فقال قوم: خلق فيها جبالا من برد وبحارا؛ وقال قوم: جعل فى كل سماء كوكبا، قدّر عليه الطلوع والأفول، والسير والرجوع. وقال قوم: أسكنها ملائكة سخّرهم للعالم السّفلىّ، فوكّل طائفة بالسحاب وطائفة بالريح، وجعل منهم حفظة لبنى آدم وكاتبين لأعمالهم ومستغفرين لذنوبهم.

_ [1] كز برج وقنفذ كما فى القاموس.

الباب الثانى

الباب الثانى 1- فى هيئتها ذهب المفسّرون لكتاب الله عزّ وجلّ أنّ السماء مسطوحة، بدليل قوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) . وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . ويطلق على مجموعها فلك، لقوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) . وذهب الحسن إلى أنّ الفلك غير السماوات، وأنّه الحامل بأمر الله تعالى للشمس والقمر والنجوم. قالوا: ولمّا فتق الله تعالى رتق السماوات، جعل بين كلّ سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. وروى عن أبى هريرة (رضى الله عنه) ، قال: «بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس هو وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب. فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان [1] ، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: أتدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: سماء فى بعد ما بينهما

_ [1] العنان السحاب. واحدته بهاء. (قاموس) .

خمسمائة سنة. قال ذلك حتّى بلغ سبع سماوات، ما بين كل سماءين، ما بين السماء والأرض. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ فوق ذلك العرش. وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّها الأرض. ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة. حتّى عدّ سبع أرضين، بين كل أرض وأرض خمسمائة سنة» . أخرجه أبو عيسى الترمذىّ، في «جامعه» . ويروى عن ابن عبّاس (رضى الله عنهما) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان جالسا بالبطحاء، بين أصحابه، إذ مرّت عليهم سحابة. فنظروا إليها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا: نعم. هذا السحاب. فقال (صلى الله عليه وسلم) : والمزن. قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان. فقال: هل تدرون ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندرى. قال: خمسمائة عام. وبينها وبين السماء التى فوقها كذلك. (حتّى عدّ سبع سماوات) . ثمّ قال: وفوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء (وفى لفظ: كما بين السماء والأرض) . وفوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم [1] مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم [2] العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض. وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وقال: «ثم ما بين السماء السابعة والكرسىّ مسيرة خمسمائة عام. ثم ما بين الكرسىّ إلى الماء مسيرة خمسمائة عام. والعرش فوق الماء.» ولم يذكر الأوعال.

_ [1] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ......... ظهورهنّ. [2] فى الترمذىّ: أظلافهنّ وركبهنّ......... ظهورهنّ.

2 - أما الأمثال

وجاء فى رواية أخرى ذكر الكرسىّ، وأنّ السماوات فى ضمنه. وهى بالنسبة إليه كحلقة ملقاة فى أرض فلاة، والكرسىّ بالنسبة إلى العرش كذرّة ملقاة فى أرض فلاة فيحاء. (وفى رواية كحلقة) . وروى أن أبا ذرّ (رضى الله عنه) قال: «يا رسول الله: أىّ آية أنزلت عليك أعظم؟ قال: آية الكرسىّ. ثم قال: يا أبا ذرّ! أتدرى ما الكرسىّ؟ قلت: لا؛ فعلّمنى يا رسول الله، مما علّمك الله. فقال: ما السماوات والأرض وما فيهنّ فى الكرسىّ، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الكرسىّ فى العرش، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما العرش فى الماء، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وما الماء فى الريح، إلا كحلقة ألقاها ملق فى فلاة. وجميع ذلك فى قبضة الله كالحبّة، وأصغر من الحبّة، فى كفّ أحدكم. تعالى الله سبحانه» . رواه أبو حاتم فى كتاب العظمة. والقول فى هيئة السماء، على مذاهب أصحاب علم الهيئة، كثير. أغضينا عنه، لأنه لا يقوم عليه دليل واضح. فلذلك اقتصرنا على ذكر المنقول دون المعقول. فلنذكر ما جاء فى الأمثال التى فيها ذكر السماء، وما وصفها الشعراء به وشبّهوها. 2- أما الأمثال فقولهم: أرفع من السماء، للبالغة. وقول الشاعر: من ذا رأى أرضا بغير سماء؟ إنّ السماء ترجّى حين تحتجب. إنّ السماء، إذا لم تبك مقلتها، ... لم تضحك الأرض عن شىء من الزّهر.

3 - وأما الوصف والتشبيه

3- وأما الوصف والتشبيه فمنه قول عبد الله بن المعتزّ: كأنّ سماءنا، لمّا تجلّت ... خلال نجومها عند الصّباح، رياض بنفسج خضل، نداه ... تفتّح بينه نور الأقاح. وقال آخر: كأنّ سماءنا، والشّهب فيها، ... وأصغرها لأكبرها مزاحم، بساط زمرّد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم. ونحوه قول الآخر: كأنّ سماء الأرض نطع زمرّد، ... وقد فرشت فيه الدّنانير للصّرف. وقال آخر: ورأيت السّماء كالبحر إلّا ... أنّ مرسوبه من الدّرّطافى. فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك خافى. وقال التّنوخىّ يصف ليلة: كأنما نجومها، ... نصب عيون الرّمّق، دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق. وقال أبو طالب الرّقّىّ: وكأنّ أجرام السماء، لوامعا، ... درر نثرن على بساط أزرق. وقال ظافر الحدّاد: كأنّ نجوم الليل، لما تبلجت، ... توقّد جمر فى خلال رماد. حكى، فوق ممتدّ المجرّة شكلها، ... فواقع تطفو فوق لجّة وادى.

4 - ومما قيل فى الفلك

وقال آخر: كأنّ النّجوم، نجوم السما، ... وقد لحن للعين من فرط بعد، مسامير من فضّة سمّرت ... على وجه لوح من اللّازورد. وقال محمد بن عاصم: ترى صفحة الخضراء، والنّجم فوقها، ... ككفّ سدوسىّ بدا فيه درهم. ترى، وعلى الآفاق أثواب ظلمة، ... وأزرارها منها شمال ومرزم [1] . 4- ومما قيل فى الفلك قال أبو العلاء المعرّىّ: يا ليت شعرى! وهل ليت بنافعة؟ ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟ كم خاض فى إثرك الأقوام واختلفوا ... قدما! فما أوضحوا حقّا ولا تركوا. شمس تغيب ويقفو إثرها قمر، ... ونور صبح يوافى بعده حلك. طحنت طحن الرّحى من قبلنا أمما ... شتّى، ولم يدر خلق أيّة سلكوا. وقال، إنّك طبع خامس، نفر. ... عمرى! لقد زعموا بطلا وقد أفكوا! راموا سرائر للرحمن حجّبها، ... ما نالهنّ نبىّ، لا ولا ملك. وقال الرئيس أبو علىّ بن سينا [2] : بربّك! أيّها الفلك المدار، ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟ مدارك، قل لنا، فى أىّ شيء؟ ... ففى أفهامنا منك ابتهار!

_ [1] المرزم: الثبت القائم على الأرض. [2] . قال صاحب عيون الأنباء (ج 1 ص 248- 249) إن بعض الناس ينسب هذه القصيدة لابن سينا وليست له، ونص على أنها لابن الشل البغدادى وقد أوردها فى خمسين بيتا.

وعندك ترفع الأرواح؟ أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟ وفيك الشّمس رافعة شعاعا، ... بأجنحة قوادمها قصار؟ قطوف، ذى النّجوم أم الّلآلى؟ ... هلال أم يد فيها سوار؟ وشهب، ذى المجرّة أم ذبال [1] ... عليها المرخ [2] يقدح والعفار [3] ؟ وترصيع، نجومك أم حباب ... تؤلّف بينها اللّجج الغزار؟ تمدّ رقومها ليلا وتطوى ... نهارا، مثل ما طوى الإزار! فكم بصقالها صدئ البرايا! ... وما يصدا لها أبدا غرار. وتبدو ثمّ تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار [4] . فبينا الشّرق يقدمها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار. هى العشواء، ما خبطت هشيم ... هى العجماء، ما جرحت جبار [5] . وقال أبو عبادة البحترىّ: أناة! أيّها الفلك المدار! ... أنهب ما تصرّف أم خيار؟ ستبلى مثل ما نبلى، وتفنى ... كما نفنى، ويؤخذ منك ثار.

_ [1] الذبال: الفتائل. [2] المرخ: شجر سريع الورى كثيره. وقد وصفه المؤلف فيما بعد (ص 39) بأنه شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا. [3] العقار: شجر يتخذ منه الزناد وهو من شجر النار. [4] الصوار كالصيار بكسر الصاد وضمها: القطيع من البقر. [5] الجبار (بضم الجيم) الهدر.

الباب الثالث من القسم الأول من الفن الأول

الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى ذكر الملائكة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «أطّت [1] السماء، وحقّ لها أن تئطّ. ما فيها موضع أربع أصابع، إلّا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد» . والملائكة أولو أجنحة: مثنى، وثلاث، ورباع، وأكثر من ذلك. فإنه قد ورد أن جبريل (عليه السلام) له ستمائة جناح. وهى الصورة التي رآه النبىّ (صلى الله عليه وسلم) فيها مرّتين: إحداهما فى الأرض، وقد سدّ ما بين الخافقين. ووصفه الله تعالى بالقوّة، فقال تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) . ومن قوّته، أنه اقتلع مدائن قوم لوط، وكانت خمس مدائن، من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء، حتّى إنّ أهل السماء يسمعون نبّاح كلابهم، وأصوات دجاجهم؛ ثمّ قلبها. والمرّة الثانية، رآه (صلى الله عليه وسلم) عند سدرة المنتهى. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) . وكان هبوط جبريل (عليه السلام) على الأنبياء (صلوات الله عليهم) ورجوعه فى أوحى [2] من رجع الطّرف.

_ [1] أطّ: صوّت.

وعظماء الملائكة أربعة، وهم: إسرافيل، وميكائيل، وجبرائيل، وعزرائيل. وأقربهم من الله تعالى منزلة، إسرافيل. فإذا أراد الله تعالى بوحى، جاء اللوح المحفوظ حتّى يقرع جبهة إسرافيل، فيرفع رأسه، فينظر فيه. فإن كان إلى السماء، دفعه إلى ميكائيل؛ وإن كان إلى الأرض، دفعه إلى جبرائيل؛ وإن كان بموت أحد، أمر به عزرائيل. صلوات الله عليهم! وقد روى فى قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ، هم أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. فجبريل على الجنود والرياح، وميكائيل على القطر والنبات، وعزرئيل على قبض الأرواح، وإسرافيل يبلّغهم ما يؤمرون به. وجعل الله تعالى لهم أن يتمثلوا للبشر على ما شاءوا من الصور، كما كان جبريل يتمثل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صورة دحية الكلبىّ مرارا، وفى صورة غيره من لرجال؛ وكما تمثّل لمريم عليها السلام بشرا سويا. ونزلت الملائكة فى غزوة بدر على الخيول المسوّمة، وقد سدلوا ذوائب عمائمهم على مناكبهم. وهم مخلوقون من نور. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!

الباب الرابع من القسم الأول من الفن الأول

الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى الكواكب السبعة المتحيرة قال الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) . ذهب المفسرون إلى أنها هى الكواكب السبعة: زحل، والمشترى، والمرّيخ، والشمس، والزّهرة، وعطارد، والقمر. وقالوا: إن هذه الكواكب هى المعنيّة بقوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) . وسميت كنّسا لأنها تجرى فى البروج ثم تكنس أى تستتر كما تكنس الظباء؛ وخنسا لاستقامتها ورجوعها. وقيل الخنّس والكنّس منها خمسة، دون الشمس والقمر. وسميت خنّسا لأن الخنوس فى كلام العرب الانقباض. وفى الحديث الشريف «الشيطان بوسوس للعبد، فإذا ذكر الله تعالى خنس» أى انقبض ورجع. فيكون فى الكوكب بمعنى الرجوع. وكنّسا من قول العرب كنس الظبى اذا دخل الكناس، وهو مقرّه؛ ويكون فى الكوكب اختفاءه تحت ضوء الشمس. وأسماء هذه الكواكب عند العرب مشتقة من صفاتها. فقالوا فى زحل: زحل فلان إذا أبطأ، وبذلك سمّى هذا الكوكب لبطئه فى السماء. وقيل الزّحل والزّحيل [1] الحقد وهو فى طبعه. وهذا الكوكب عند المفسرين هو المعنى بقول الله عز وجل وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) .

_ [1] الذحل الذى بمعنى الحقد بالذال المعجمة ولم يذكره أحد من أئمة اللغة فى الزاى. فهو أشتباه على الناقل. والذى «فى اللسان» أنه سمى بذلك لبعده.

وقالوا فى المشترى: إنه إنما سمّى بذلك لحسنه، كأنه اشترى الحسن لنفسه. وقيل لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الأموال، والأرباح. وقالوا فى المرّيخ: إنه مأخوذ من المرخ (وهو شجر تحتك بعض أغصانه ببعض فتورى نارا) فسمّى بذلك لأحمراره. وقال آخرون المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمى به لا يستمرّ فى ممرّه. وكذلك المرّيخ، فيه التواء كثير فى سيره وحكمه، فشبه بذلك. وقالوا فى الشمس: إنها لما أن كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية وثلاثة سفلية، سميت بذلك لأن الواسطة التى فى المخنقة تسمّى «شمسة» . وقالوا فى الزّهرة: إنها مشتقة من الزاهر، وهو الأبيض النّيّر من كل شىء. وقالوا فى عطارد: إنه النافذ فى الأمور، ولهذا سمّى بالكاتب. وهكذا هذا الكوكب كثير التصرف مع ما يلابسه ويقارنه. وقالوا فى القمر: إنه مأخوذ من القمرة، وهى البياض؛ والأقمر الأبيض. والفرس تسمّى هذه الكواكب بلغتها «كيوان» ويعنون به زحل؛ و «تير» ، ويعنون به المشترى (وبعضهم يسميه «البرجيس» ) ؛ و «بهرام» ويعنون به المرّيخ؛ و «مهر» ويعنون به الشمس؛ و «أناهيد» ويعنون به الزّهرة (وبعضهم يسميها «بيدخت» ) ، و «هرمس» (ويعنون به عطارد) ، و «ماه» (ويعنون به القمر) . وقد جمع بعض الشعراء أسماء هذه الكواكب فى بيت واحد من بيتين يمدح بهما بعض الرؤساء فقال: لا زلت تبقى وترقى للعلا أبدا ... مادام للسّبعة الأفلاك أحكام! مهر، وماه، وكيوان، وتير معا ... وهرمس، وأناهيد، وبهرام!

2 - ذكر ما قيل فى الشمس

وقال أبو إسحاق الصابى: نل المنى فى يومك الأجود، ... مستنجحا بالطالع الأسعد! وارق كمرقى زحل صاعدا ... إلى المعالى أشرف المقصد! وفض كفيض المشترى بالنّدى ... إذا اعتلى فى أفقه الأبعد! وزد على المرّيخ سطوا بمن ... عاداك من ذى نخوة أصيد! واطلع كما تطلع شمس الضّحى ... كاسفة للحندس الأسود! وخذ من الزّهرة أفعالها ... فى عيشك المستقبل الأرغد! وضاه بالأقلام فى جريها ... عطارد الكاتب ذا السّودد! وباه بالمنظر بدر الدّجى ... وافضله فى بهجته وازدد! وقد اختص كلّ كوكب من هذه الكواكب بقول. سنذكر من ذلك ما تقوم به الحجة، وينهض به الدليل من الكتاب والسنة، وما يتمثّل به مما فيه ذكرها، وما ورد فى ذلك من الأوصاف والتشبيهات: نظما ونثرا مما وقفت عليه فى أثناء مطالعتى لكتب الفضلاء وتصانيفهم ودواوينهم. وعدلت عن أقوال المنجمين لما فيها من سوء الطويّة وقبح الأعتقاد: لأن منهم من يرى أن للنجوم فى الوجود تأثيرات وأفعالا. أعاذنا الله تعالى من ذلك! 2- ذكر ما قيل فى الشمس (والشمس هى النيّر الأعظم) وقد ذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى إلى أن نور الشمس والقمر فى سائر السماوات بدليل قول الله عز وجل (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) .

وجاء فى الحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الشمس والقمر وجوههما إلى السماء وأقفاؤهما إلى الأرض» وفى حديث آخر «وجوههما إلى العرش وأقفاؤهما إلى الأرض» . وفى حديث آخر «ان الشمس تكون فى الصيف فى السماء الخامسة، وفى الشتاء فى السماء السابعة تحت عرش الرحمن» . وزعموا أن حركتهما وحركة سائر الكواكب مستقيمة غير مستديرة، وأن الشمس تقطع سماء الدنيا فى يومها، وتغيب فى الأرض فى عين حمئة. ومعنى حمئة ذات حمأة. وقد جاء فى تفسير قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أى إلى موضع قرارها، لأنها تجرى إلى أبعد منازلها فى الغروب، ثم ترجع؛ ومن قرأ «لا مستقرّ» لها أى هى دائبة السير ليلا ونهارا. وهى قراءة شاذة [1] . وقد قال الله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) وروى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تجرى لمستقر لها تحت العرش، فتخرّ ساجدة؛ فلا تزال كذلك حتّى يؤذن لها فى الطلوع. ويوشك أن يقال لها: ارجعى من حيث جئت؛ وذلك طلوعها من مغربها. وذهب وهب بن منبّه إلى أن الشمس على عجلة لها ثلاثمائة وستون عروة، وقد تعلق بكل عروة ملك؛ يجرّونها فى السماء ودونها البحر المسجور فى موج مكفوف كأنه جبل ممدود فى الهواء، ولو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت ما على وجه الأرض من شىء حتّى الجبال والصخور. وروى عن كعب أنه قال: «خلق الله القمر من نور وخلق الشمس من نار» .

_ [1] هذا الرأى هو الذى استقر عليه علماء الفلك أخيرا، بعد التحقيق والتدقيق. فلله در صاحبه! فإنه، وإن كان قد خالفه فيه الدهماء، لكنه قد أقرّه الراسخون فى العلم الآن.

3 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس

وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) ، والسراج لا يكون إلا من نار؛ وهما مضيآن لأهل السماوات؛ كما يضيآن لأهل الأرض. وقد تقدّم الدليل على ذلك. 3- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس يقال: أشهر من الشمس، أحسن من الشمس. أدلّ على الصبح من الشمس. ومن أنصاف الأبيات: وهل شمس تكون بلا شعاع فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ولو لم تغب شمس النهار، لملّت الشمس نمّامة واللّيل قوّاد الشمس طالعة إن غيّب القمر وربّما تنكسف الشمس والشمس تنحطّ فى المجرى وترتفع إذا الشمس لم تغرب، فلا طلع البدر ومن الابيات قول الطائى: فإنّى رأيت الشّمس زيدت محبّة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد. وقال علىّ بن الجهم. والشّمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد. وقال أبو تمّام: وإنّ ضريح الرأى والحزم لأمرئ ... إذا بلغته الشمس، أن يتحوّلا.

وقوله: وكلّ كسوف فى الدّرارى شنيعة، ... ولكنّه فى الشمس والبدر أشنع. وقوله أيضا: أعندك الشمس تجرى فى منازلها، ... وأنت مشتغل الالحاظ بالقمر؟ وقال البحترىّ: كذاك الشّمس تبعد أن تسامى، ... ويدنو الضّوء منها والشّعاع. وقال ابن الرومى: ورأيته كالشّمس: إن هى لم تنل ... فالدّفء منها والضّياء ينال. وقال أيضا: كالشّمس لا تبدو فضيلتها ... حتّى تغشّى الأرض بالظّلم. وقال أيضا: كالشمس فى كبد السماء محلّها، ... وشعاعها فى سائر الآفاق. وقال العبّاس بن الأحنف: هى الشمس مسكنها فى السماء. ... فعزّ الفؤاد عزاء جميلا! وقال أبو عبيد البكرىّ: والشمس يستغنى، إذا طلعت، ... أن يستضاء بغرّة البدر. وقال أبو الطيب المتنبى: كالشمس لا تبتغى بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها.

4 - ذكر ما جاء فى وصف الشمس وتشبيهها

وقال ابن لنكك البصرىّ: وهبك كالشّمس فى حسن؛ ألم ترها ... يفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر؟ وقال ابن عبّاد: فقلت: وشمس الضّحى تحتمى ... إذا بسطت فى المصيف الأذى. وقال ابن مسعويه الخالدىّ: لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست فى منازلها. وقال أبو الفتح البستىّ: فالحرّ حرّ عزيز النّفس حيث ثوى، ... والشّمس فى كلّ برج ذات أنوار. 4- ذكر ما جاء فى وصف الشمس وتشبيهها من ذلك قول الوزير المهلّبىّ: الشّمس فى مشرقها قد بدت ... منيرة ليس لها حاجب. كأنّها بودقة أحميت، ... يجول فيها ذهب ذائب. وقال ظافر الحدّاد: أنظر لقرن الشّمس بازغة ... فى الشّرق تبدو ثم ترتفع! كسبيكة الزّجّاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتّسع. وقال أبو هلال العسكرىّ: والشمس واضحة الجبين كأنّها ... وجه المليحة فى الخمار الأزرق!

وكأنّها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق! وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ: أو ما ترى شمس الأصيل عليلة ... تزداد من بين المغارب مغربا؟ مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدّت على الدّنيا ملاء مذهبا! ومما وصفت به- وقد قابلت القمر- قول الشاعر: أما ترى الشمس، وهى طالعة، ... تمنع عنّا إدامة النّظر؟ حمراء صفراء فى تلوّنها ... كأنّها تشتكى من السّهر. مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر. وقال مؤيد الدين الطغرائى، عفا الله عنه ورحمه: وكأنّما الشمس المنيرة إذ بدت، ... والبدر يجنح للمغيب وما غرب، متحاربان: لذا مجنّ صاغه ... من فضّة، ولذا مجنّ من ذهب. ومن أحسن ما وصفت به فى الطلوع والزوال والغروب قول أعرابىّ. مخبّأة: أمّا إذا اللّيل جنّها ... فتخفى وأما فى النّهار فتظهر. إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وانجاب الحجاب المسترّ وألبس عرض الأفق لونا كأنّه ... على الأفق الغربىّ ثوب معصفر عليها دروع الزّعفران، يشوبه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر: ترى الظّلّ يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت عن الأرض ينشر. فأفنت قرونا، وهى فى ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كلّ يوم وتنشر!

5 - ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذم

وقال آخر: وبدالنا ترس من الذّهب الذى ... لم ينتزع من معدن بتعمّل. مرآة نور لم تشن بصياغة ... كلّا ولا جليت بكفّ الصّيقل. تسمو إلى كبد السماء كأنّها ... تبغى هناك دفاع أمر معضل. حتّى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل. ثم انثنت تبغى الحدور كأنها ... طير أسفّ مخافة من أجدل. ومما وصفت به، وقد قابلت الغيم، قول ابن المعتز: تظلّ الشمس ترمقنا بطرف ... خفىّ لحظه من خلف ستر. تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يحاول نيل بكر. وقال آخر: وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنوّ البكر من خلف السّتور. وقال محمد بن رشيق: فكأنّ الشّمس بكر حجّبت ... وكأنّ الغيم ستر قد ستر [1] . 5- ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذمّ فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن عمير، وقد سئل عنها فقال: مظهرة للدّاء، مثقّلة للهواء، مبلاة للثوب، جالبة للهب. وقال آخر: الشمس تشحب اللون، وتغيّر العرق، وترخى البدن، وتثير المرّة. إذا احتجمت فيها، أمرضتك؛ وإن أطلت النوم فيها، أفلجتك؛ وإن قربت منها، صرت زنجيّا، وإن بعدت عنها، صرت صقلّيّا.

_ [1] كذا بالأصل ولعل يد الناسخ حرفته عن «سدل» كما هو ظاهر.

وقال ابن سنا الملك: لا كانت الشمس! فكم أصدأت ... ضفحة خدّ كالحسام الصّقيل! وكم وكم صدّت بوادى الكرى ... طيف خيال جاءنى عن خليل! وأعدمتنى من نجوم الدّجى ... ومنه روضا بين ظلّ ظليل! تكذب فى الوعد؛ وبرهانه ... أنّ سراب القفر منها سليل. وهى إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف، راح عنها كليل. يا علّة المهموم، يا جلدة ال ... محموم، يا زفرة صبّ نحيل! يا قرحة المشرق عند الضّحى، ... وسلحة المغرب عند الأصيل! أنت عجوز، لم تبرّجت لى، ... وقد بدا منك لعاب يسيل؟ وقال التيفاشىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه: فى خلقة الشمس وأخلاقها ... شتّى عيوب ستة تذكر. رمداء، عمشاء، إذا أصبحت؛ ... عمياء عند اللّيل، لا تبصر. ويغتدى البدر لها كاسفا ... وجرمها من جرمه أكبر. حرورها فى القيظ لا تتّقى ... ودفؤها فى القرّ مستحقر. وخلقها خلق المليك الذى ... ينكث فى العهد ولا يصبر. ليست بحسناء. وما حسن من ... يحسر عنه اللحظ لا يبصر؟ وقال أبو الطيب المتنبى: تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم. وكان حالهما فى الحكم واحدة ... لو اختصمنا من الدّنيا إلى حكم.

6 - ذكر ما قيل فى الكسوف

6- ذكر ما قيل فى الكسوف روى أن الشمس كسفت فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووافق ذلك موت إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الناس: إنما كسفت الشمس لأجله فقال النبىّ (صلى الله عليه وسلم) «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّف بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبّروا وصلّوا حتّى يكشف ما بكم» . وقال محمد بن هانئ فى الكسوف. هى الحوادث لا تبقى ولا تذر! ... ما للبريّة من محتومها وزر! لو كان ينجى علوّ من بوائقها، ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر! 7- ذكر أسماء الشمس اللغوية وللشمس أسماء نطقت بها العرب. فمنها: ذكاء، والجارية، والجونة، والغزالة، واللاهة [1] ، والضّحى، والضّحّ، ويوح (بالياء المثناة والباء الموحدة) ، والشّرق، وحناذ، والعين، والمؤوّبة، والسّراج.

_ [1] الذى فى كتب اللغة أن اللاهة اسم محيّة. وأما الشمس فاسمها إلاهة مثلثة، وأليهة. فلعل ما هنا تصحيف من الناسخ.

8 - ذكر عباد الشمس

8- ذكر عبّاد الشمس قال الشهرستانىّ فى كتابه المترجم «بالملل والنحل» : إن عبدة الشمس طائفة من الهنود يسمّون الديبكينية [1] أى عباد الشمس؛ ومذهبهم مذهب الصابئة. وتوجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر الإلهية والربوبيّة عليها. ويزعمون أن الشمس ملك من الملائكة، وأن لها نفسا وعقلا، ومنها نور الكواكب، وضياء العالم، وتكوّن الموجودات السفلية. وهى ملك يستحق التعظيم، والسجود، والتبخير، والدعاء. ومن سنتهم أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وللصنم بيت خاصّ بنوه باسمه ووقفوا عليه ضياعا، وله سدنة وقوّام. فتأتى هذه الطائفة إلى البيت، ويصلّون فيه ثلاث كرّات. ويأتى أصحاب العلل والأمراض فيصومون له، ويصلّون، ويدعون، ويستشفون به. 9- ذكر ما قيل فى القمر (وهو النير الثانى) ذهب وهب بن منبّه أن القمر موضوع على عجلة فى فلك، والفلك يدور بأمر الله تعالى إلى ناحية المغرب، والعجلة يجرّها ثلاثمائة وستون ملكا إلى ناحية المشرق؛ وتدوير العجلة من تدوير الفلك الأعظم؛ وتدوير فلك القمر من تدوير العجلة. ويقال: إن القمر كان كالشمس فى الضياء. فلم يكن يعرف الليل من النهار، فأمر الله تعالى جبريل أن يمرّ عليه بجناحه، فمرّ عليه، فمحاه. فهو ما ترى فيه من السواد.

_ [1] الذى فى الشهرستانى طبع لويدرة: «الدينكيتيّة» . وهو الأقرب للصواب ويقول مترجمه الألمانى العلامة هاربرد كرانه ولعله من «ديكرت» ومعناه «صانع النهار» .

10 - ذكر ما قيل فى القمر

وبهذا القول فسر قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) . قالوا: ولا يسمّى قمرا إلا بعد مضىّ ثلاث ليال من استهلاله. والأقمر هو الأبيض. 10- ذكر ما قيل فى القمر (من استهلاله إلى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) قالوا: وللقمر من أوّل الشهر إلى آخره خمس حالات؛ وللياليه عشرة أسماء أما حالاته الخمس: فالأولى: الهلالية، وهى خروجه من تحت شعاع الشمس وظهوره فى الغرب فى أوّل الشهر. الثانية: أن يفضل فيه النور على الظلمة، وذلك فى الليلة السابعة من الشهر. الثالثة: الاستقبال، وهو كونه فى البرج السابع من بروج الشمس، ويسمّى الامتلاء لامتلاء القمر فيه نورا، وذلك فى الليلة الرابعة عشرة من الشهر، ويسمّى القمر فيها بدرا لكماله، ويسمّى بذلك لامتلائه، وقيل لمبادرته الشمس بالطلوع، وتسمّى الليلة التى قبلها (وهى الثالثة عشرة) ليلة السّواء لاستواء القمر فيها، وقيل: لاستواء ليلها ونهارها فى الضياء، وهى ليلة التّمام. الرابعة: أن تفضل الظلمة فيه على النور، وذلك فى الليلة الثانية والعشرين من الشهر.

11 - ذكر أسماء القمر اللغوية

الخامسة: المحاقيّة، وهى مدّة استتاره بشعاع الشمس؛ ويسمّى ذلك أيضا سرارا، وذلك فى الليلة التاسعة والعشرين، ويمكن أن يغيب ثلاث ليال لا يرى ويهلّ فى اليوم الرابع، ويسمّى حينئذ قمرا لا هلالا؛ والشمس تعطيه من نورها كلّ ليلة ما يستضىء به نصف سبع قرصه حتّى يكمل، ثم يسلبه من الليلة الخامسة عشرة، فى كل ليلة نصف سبع قرصه حتّى لا يبقى فيه نور فيستتر. وأما أسماء لياليه، فإنه يقال لأوّل ثلاثة منها غرر، والثانية شهب، والثالثة زهر، والرابعة بهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة [1] حنادس، والثامنة ظلم، والتاسعة داد، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار؛ ويسمّون الليلة الثامنة والعشرين الدّعجاء، والليلة التاسعة والعشرين الدّهماء، والليلة الموفية ثلاثين اللّيلاء، ويسمّونها ليلة البراء لتبرّى القمر من الشمس. 11- ذكر أسماء القمر اللّغوية وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: القمر، والباهر، والبدر، والطّوس، والجلم، والغاسق، والوبّاص، والزّبرقان، والمنشقّ، والواضح [2] ، والباحور، والأبرص، والزّمهرير. ومنه قول الله سبحانه وتعالى: (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) وقول بعض العرب. وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزّمهرير ما ظهر.

_ [1] الذى فى اللسان والقاموس: ان الظّلم، ثلاث ليال يلين الدّرع. والحنادس، ثلاث ليال بعد الظلم. ويؤيده ما فى الصحاح: ان الحندس الليل الشديد الظلمة. وقد ذكر ابن سيدة هذه الأسماء فى المخصص (ج 9 ص 30- 31) وأوردها على هذا الترتيب. وعليه فصواب العبارة هكذا: (والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس اخ) اهـ. [2] الذى فى كتب اللغة: ان الوضح القمر، فلعله تحريف من الناسخ.

12 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر

ومن أسمائه: السّنمّار، والسّاهور. والفخت ضوءه، والأخذ [1] منزلته. وكذلك الوكس، وهى المنزلة التى يكسف فيها: والهالة دارته. 12- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر يقال فى أمثالهم: أضيع من قمر الشتاء! قيل لأنه لا يجلس فيه. إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر. ويقال: أضوأ من القمر؛ وأتمّ من البدر. ومن أنصاف الأبيات: أريها السّها وترينى القمر لا تخرج الأقمار من هالاتها هكذا البدر فى الظّلام يوافى كذاك كسوف البدر عند تمامه ومن الأبيات قول الطائى: إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا. وقال ابن أبى البغل، والبيت الثانى لابن بحر: المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضعيفا ضئيلا ثم يتّسق. «يزداد حتّى إذا ما تمّ أعقبه ... كرّ الجديدين نقصا ثم ينمحق» . وقال أبو الفرج الببغا: ستخلص من هذا السّرار وأيّما ... هلال توارى فى السّرار فما خلص!

_ [1] عبارة اللسان فى مادة (اخ ذ) : ونجوم الأخذ منازل القمر لأن القمر يأخذ كل ليلة فى منزل منها اهـ.

13 - ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه

13- ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه من ذلك قول عبد الله بن المعتتر فى الهلال: وانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حموله من عنبر! وقول عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ: وربّ صبح رقبناه، وقد طلعت ... بقيّة البدر فى أولى بشائره! كأنّما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصّبح، ألقى نعل حافره! وقال آخر: قد انقضت دولة الصّيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد! يتهلو الثّريّا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود! وقال أبو هلال العسكرىّ: فى هلال كأنّه حيّة الرّم ... ل أصابت على اليفاع مقيلا . بات فى معصم الظّلام سوارا ... وعلى مفرق الدّجى إكليلا. وقال آخر: والجوّ صاف والهلال مشنّف ... بالزّهرة الزّهراء نحو المغرب. كصحيفة زرقاء فيها نقطة ... من فضة من تحت نون مذهب. وقال آخر: قلت لمّا دنت لمغربها الشّم ... س ولاح الهلال للنّظّار: أقرض الشّرق صنوه الغرب دينا ... را فأعطاه الرّهن نصف سوار.

وقال أبو العلاء المعرّى: ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال. وقال آخر: وكأنّ الهلال نون لجين ... غرقت فى صحيفة زرقاء. وقال أبو عاصم البصرىّ من شعراء اليتيمة: رأيت الهلال، وقد أحدقت ... نجوم الثّريّا لكى تسبقه. فشبّهته وهو فى إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقه، بقوس لرام رمى طائرا ... فأتبع فى إثره بندقه. وقال آخر: ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللّباس. وقال الواوا الدمشقىّ رحمه الله: وكأنّ الهلال تحت الثّريّا ... ملك فوق رأسه إكليل! وقال إبراهيم بن محمد المرادىّ، من شعراء الأنموذج، ملغزا فيه: دع ذا! وقل للنّاس: ما طارق، ... يطرقكم جهرا ولا يتّقى؟ ليس له روح على أنّه ... يركب ظهر الأدهم الأبلق. شيخ رأى آدم فى عصره ... وهو إلى الآن بخدّ نقى. ومدّ وسط السّجن مع قومه ... لا ينبرى من نهجه الضّيّق. هذا ويمشى الأرض فى ليلة ... أعجب به من موثق مطلق.

فتارة ينزل تحت الثّرى ... وتارة وسط السّما يرتقى. وتارة يوجد فى مغرب ... وتارة يوجد فى المشرق. وتارة تحسبه سابحا ... يسرى بشاطى البحر كالزّورق. وتارة تحسبه وهو فى ... أستاره والبعض منه بقى، ذبابة من صارم مرهف ... بارزة من جفنه المطبق. يدنو إلى عرس له حسنها ... يختطف الأبصار بالرّونق. حتّى اذا جامعها يرتدى ... بحلّة سوداء كالمحرق. وهو على عادته دائما ... يجامع الأنثى ولا يتّقى. ثم يجوب القفر من أجلها ... مشتملا فى مطرف أزرق. حتّى اذا قابلها ثانيا ... تشكّه بالرّمح فى المفرق. وبعد ذا تلبسه حلّة ... يا حسنها فى لونها المونق! فجسمه من ذهب جامد ... وجلده صيغ من الزّئبق. وهو إذا أبصرته هكذا ... أملح من صاحبة القرطق. وقال ابن المعتز: نظرت فى يوم لذّة عجبا ... وافى به للسّعود مقدار. يقابل الشمس فيه بدردجى ... يأخذ من نورها ويمتار. كصيرفىّ يروح منتقدا ... فى كفّه درهم ودينار.

14 - ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم

وقال عبد الله بن علىّ الكاتب: كشف البدر وجهه لتمام، ... فوجوه النّجوم مستترات . وكأنّ البدر التّمام عروس، ... وكأنّ النّجوم مستنقبات. 14- ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم حكى أن أعرابيا رأى رجلا يرقب الهلال. فقال له: ما ترقب فيه، وفيه عيوب لو كانت فى الحمار لردّ بها؟ قال: وما هى؟ فقال: إنه يهدم العمر، ويقترب الأجل، ويحلّ الدّين، ويقرض الكتّان، ويشجب اللون، ويفسد اللحم، ويفضح الطارق، ويدلّ السارق. ومن عيوبه أن الإنسان إذا نام فى ضوئه حدث فى بدنه نوع من الاسترخاء والكسل، ويهيج عليه الزكام والصّداع؛ وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة فى ضوئه، تغيرت طعومها وروائحها. وقال ابن الرومىّ: ربّ عرض منزّه عن قبيح ... دنّسته معرّضات الهجاء. لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر، رماه بالخطّة الشّنعاء. قال: يا بدر أنت تغدر بالسّا ... رى وتزرى بزورة الحسناء. كلف فى شحوب وجهك يحكى ... نكتّا فوق وجنة برصاء. يعتريك المحاق ثمّ يحليّ ... ك شبيه القلامة الحجناء.

15 - ذكر عباد القمر

ويليك النّقصان فى آخر الشّهر ... فيمحوك من أديم السّماء. فإذا البدر نيل بالهجو، هل يأ ... من ذو الفضل ألسن الشّعراء؟ لا لأجل المديح، بل خيفة الهج ... وأخذنا جوائز الخلفاء! هذا ما أمكن إيراده فى القمر، فلنذكر خبر عبّاد القمر. 15- ذكر عبّاد القمر قال الشهرستانىّ: عبّاد القمر طائفة من الهنود يسمّون الحندر بكتية [1] ، أى عبّاد القمر. يزعمون أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلىّ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة واتصالها إلى كمالها؛ وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات؛ وهو تلو الشمس وقرينها، ومنها نوره، وبالنظر إليها زيادته ونقصانه؛ ومن سنّتهم أنهم اتخذوا صنما على عجلة تجرّه أربعة، [2] وبيده جوهرة؛ ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه، وأن يصوموا النصف من كل شهر، ولا يفطروا حتّى يطلع القمر، ثم يأتون الصنم بالطعام والشراب واللبن، ثم يرغبون إليه وينظرون إلى القمر، ويسألونه حوائجهم؛ فإذا استهل الشهر علوا السّطوح، وأوقدوا الدّخن، ودعوا عند رؤيته، ورغبوا إليه، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور، ولم ينظروا إليه إلا على وجوه حسنة. وفى نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار، أخذوا فى الرقص واللعب بالمعازف بين يدى الصنم والقمر.

_ [1] فى الشهرستانى طبع لوندرة: «الجندريكنية» . وأفادنا مترجمه إلى الألمانية أن «چندراكا» معناه القمر فى لغتهم. [2] الذى فى الشهرستانى: صنما على صورة عجل وبيد الصم الخ.

16 - ذكر ما قيل فى الكواكب المتحيرة

16- ذكر ما قيل فى الكواكب المتحيرة والكواكب الخمسة الباقية من الكواكب السبعة تسمّى المتحيرة. ثلاثة منها علوية تعلو أفلاكها فلك الشمس، وهى: زحل، والمشترى، والمرّيخ؛ واثنان سفلية فلكهما تحت فلك الشمس، وهى: الزّهرة، وعطارد. وسمّيت هذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية، وتتبع الغربية. فهذا الأرتداد فيها شبه التحير. 17- ذكر عباد الروحانيات (وما احتجوا به فى سبب عبادتهم لها [1] ) وعباد الروحانيات هم الصابئة. يقال: صبأ الرجل إذا مال وزاغ. ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان. وكانت الصابئة تقول: إنا نحتاج فى معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه، إلى متوسط؛ ولكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا. وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب؛ والجسمانىّ بشر مثلنا يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، يماثلنا فى الصورة والمادّة. قالوا: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) . وقالوا: الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرّب إليه بالمتوسطات المقرّبين لديه، وهم الروحانيون المقدّسون المطهرون، جوهرا وفعلا وحالة.

_ [1] نقل المؤلف هنا بعض عبارات الشهرستانى في الملل والنحل مع تقديم وتأخير (أنظر ص 203 من طبعة الأب كرتون الانكليزى فى لندرة سنة 1842- 1846) .

أما الجوهر فهم المقدّسون عن الموادّ الجسمانية، المبرؤون عن القوى الجسدانية، أى منزّهون عن الحركات المكانية، والتغييرات الزمانية؛ قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) . وإنما أرشدنا إلى هذا معلمنا الأوّل، عاذيمون، وهرمس. فنحن نتقرّب إليهم، ونتوكل عليهم، وهم أربابنا، وآلهتنا، ووسائلنا، وشفعاؤنا عند رب الأرباب، وإله الآلهة. فالواجب علينا أن نطهّر نفوسنا من دنس الشهوات الطبيعية، ونهذّب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، حتّى يحصل لنا مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات. فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبأ فى جميع أمورنا إليهم. فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس إلا باكتسابنا، ورياضتنا، وفطامنا لأنفسنا عن دنيّات الشهوات، باستمداد من جهة الرّوحانيات؛ والاستمداد هو التضرّع والابتهال. بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم. فيحصل لنفوسنا استعداد أو استمداد من غير واسطة، بل يكون حكمنا وحكم من يدعى الوحى واحدا. قالوا: والأنبياء أمثالنا فى النوع، وأشكالنا فى الصورة، ومشاركونا فى المادّة. يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويساهموننا فى الصورة. أناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأيّة مزية لهم لزم مشايعتهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) . قال: وأما الفعل، فالروحانيات هم الأسباب المتوسطون فى الاختراع، والإيجاد،

وتصريف الأمور من حال إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال، يستمدّون القوّة من الحضرة القدسية، ويفيضون الفيض على الموجودات السفليه. فمنها- مدبرات الكواكب السبعة السيّارة فى أفلاكها، وهى هياكلها. فلكل روحانى هيكل، ولكل هيكل فلك. ونسبة الروحانىّ إلى ذلك الهيكل الذى اختص به نسبة الروح إلى الجسد. فهو ربه ومديره ومدبره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا (وربما يسمونها أباء) ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات فى الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامثراجات فى المركبات فتتبعها قوّى جسمانية، وتركب عليها نفوس روحانية، مثل أنواع النبات والحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحانىّ كلىّ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانىّ جزئىّ. فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك. ومنها- مدبرات الآثار العلوية الظاهرة فى الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياج؛ وما ينزل من السماء مثل الصواعق والشهب؛ وما يحدث فى الجوّ من الرعد والبرق والسحاب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرّة؛ وما يحدث فى الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة إلى غير ذلك. ومنها- متوسطات القوى السارية فى جميع الموجودات، ومدبرات الهداية الشائعة فى جميع الكائنات، حتى لا ترى موجودا ما خاليا عن قوّة وهداية، إذا كان قابلا لهما. قالوا: وأما الحالة، فأحوال الروحانيات من الرّوح، والرّيحان، والنعمة، واللذة، والراحة، والبهجة، والسرور فى جوار رب العالمين، كيف تخفى؟ ثم طعامهم وشرابهم

18 - ذكر بيوت الهياكل (وأماكنها ونسبتها إلى الكواكب)

التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد؛ وأنسهم بذكر الله وطاعته، فمن قائم وراكع وساجد، ومن قاعد لا يريد تبدل حالته لما هو فيه من النعمة واللذة، ومن خاشع بصره لا يرفع، ومن ناظر لا يغمض، ومن ساكن لا يتحرّك، ومتحرّك لا يسكن، وكروبىّ [1] فى عالم القبض، وروحانىّ فى عالم البسط (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ) . وقد جرت مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء فى المفاضلة بين الروحانىّ المحض والبشرية النبوية، ليس هذا موضع إيرادها. فلنذكر إن شاء الله تعالى بيوت الهياكل، تلو ما ذكرناه من عباد الروحانيات ومحتجّاتهم! 18- ذكر بيوت الهياكل (وأماكنها ونسبتها إلى الكواكب) قالوا: ثم لم تقتصر الصابئة على التقرّب إلى الروحانيات بأعيانها، والتلقى بذواتها حتّى اتخذوا أصناما على هيئة الكواكب السبعة، وجعلوا لها بيوتا، وسمّوا البيوت بالهياكل، وجعلوا الهياكل الأفلاك للكواكب. وعظموا هذه الأصنام التى صنعوها، وزعموا أنهم إذا عظموها تحرّكت لهم الكواكب السبعة العلوية بكل ما يريدون. وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم «بمروج الذهب ومعادن الجوهر» أن هذه الطائفة تزعم أن البيت الحرام هيكل زحل، وإنما طال بقاء هذا البيت على مرور الدهور، معظما فى سائر العصور، لأن زحل تولّاه: إذ من شأنه الثبوت [2] .

_ [1] الكروبيون سادة الملائكة المقرّبون. [2] راجع الشهرستانى طبعة كرتن (ص 430- 431) .

ومن البيوت المشهورة [1] : بيت على رأس جبل أصفهان، يسمّى مارس [2] ، ثم اتخذه بعض ملوك المجوس بيت نار؛ وبيت ببلاد الهند، وبيت ببلخ، بناه منوشهر على اسم القمر، وكان الموكل بسدانته يسمونه برمك، وإليه تنسب البرامكة؛ وبيت غمدان باليمن، بناه الضحاك على اسم الزّهرة؛ وبيت بفرغانة [3] ، على اسم الشمس، يعرف بكاوسان، بناه كاوس [4] أحد ملوك الفرس، وخربه المعتضد [5] بالله؛ وبيت ببلاد الصين، بناه ولد عامور بن شوبل [6] بن يافث، وقيل بناه بعض ملوك الترك [7] . وحكى غير المسعودى أن البيت الأوّل الكعبة. ويذكرون أن إدريس (عليه السلام) أوصى به، وأوصى أن يكون الحج إليه وهو عندهم بيت زحل؛ والبيت

_ [1] وراجع الشهرستانى (ص 431، 432) . [2] فى الشهرستانى: فارس. [3] من مدن خراسان. [4] فى الأصل: مكاوس [وهو خطأ من الناسخ. والتصويب عن المسعودى وعن الشهرستانى] . [5] فى الشهرستانى أنه المعتصم. [6] فى بعض نسخ المسعودى: سوبل (بالسين المهملة) . [7] انظر الباب الرابع والستين من مروج الذهب، ففيه تفصيل لما أورده النويرى هنا بغاية التلخيص.

الباب الخامس من القسم الأول من الفن الأول

الثانى وهو بيت المرّيخ، يزعمون انه كان بصور من الساحل الشامىّ؛ والبيت الثالث وهو بيت المشترى، كان بدمشق بناه جيرون بن سعد بن عاد، وموضعه الآن الجامع الأموىّ؛ والبيت الرابع وهو بيت الشمس بمصر، ويسمى عين شمس، وآثاره باقية الى وقتنا هذا [1] ؛ والبيت الخامس وهو بيت الزهرة، كان بمنبج وخرب؛ والبيت السادس بيت عطارد، وكان بصيدا من الساحل الشامىّ وخرب؛ والبيت السابع وهو بيت القمر، كان بحرّان؛ وهو بيت الصابئة الأعظم. الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الأوّل 1- فى الكواكب الثابتة ذهب بعض من تكلم فى ذلك أن هذه الكواكب معلقة فى سماء الدنيا كالقناديل، وأنها مخلوقة من نور. وقال آخرون: إنها معلقة بأيدى ملائكة. وفسر بهذا القول قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) . يقال انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة. وهذه الكواكب فى سماء الدنيا بنص الكتاب العزيز، لقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) .

_ [1] زالت هذه الآثار الآن.

2 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب

وقال قتادة: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاثة: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر. فمن تأوّل غير هذا فقد أخطأ. قالوا: وإنما سميت بالثوابت، وإن كانت متحرّكة لأنها ثابتة الابعاد على الأبد، لا يقرب أحدها من الآخر، ولا يبعد عنه، ولا يزيد، ولا ينقص، ولا تتغيّر عن جهاتها. لأنها تتحرّك بحركتها الطبيعية حول قطبى العالم. ولهذا سميت ثابتة. وهى فى فلك ثامن غير أفلاك الكواكب السبعة السيارة. ودليل ذلك أن للكواكب السبعة حركات أسرع من حركات هذه. 2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب يقال: أناى من كوكب؛ أبعد من مناط النجم؛ أهدى من النجم. ومن أنصاف الأبيات: وأين نزيل الأرض عند الكواكب؟ ... وأين الثّريّا من يد لمتناول؟ والكوكب النّحس يسقى الأرض أحيانا ومن الأبيات قول أبى تمّام عفا الله عنه: كالنّجم إن سافرت كان مواكبا ... وإذا حططت الرحل كان جليسا. وقال أبو نواس: أين النّجوم الثّابتا ... ت من الأهلّة والبدور؟ وقال آخر: وكنّا فى اجتماع كالثّريّا، ... فصرنا فرقة كبنات نعش!

3 - ذكر ما قيل فى وصف الكواكب وتشبيهها

وقال آخر: كالفرقدين إذا تأمّل ناظر، ... لم يعل موضع فرقد من فرقد. وقال الوزير أبو الفتح البستىّ: وللنّجم من بعد الرّجوع استقامة ... وللشّمس من بعد الغروب طلوع. وقال جحظة: مثل الّذى يرجو البلو ... غ إلى الكواكب وهو مقعد. وقال عمر بن أبى ربيعة: أيّها المنكح الثّريّا سهيلا، ... عمرك الله! كيف يلتقيان؟ هى شاميّة إذا ما استهلّت، ... وسهيل إذا استهلّ يمانى. وقال آخر: وكلّ أخ مفارقه أخوه، ... لعمر أبيك، إلا الفرقدان! 3- ذكر ما قيل فى وصف الكواكب وتشبيهها من ذلك ما قاله ابن حجّاج فى المجرّة: يا صاحبىّ استيقظا من رقدة ... تزرى على عقل اللّبيب الأكيس! هذى المجرّة والنّجوم كأنّها ... نهر تدفّق فى حديقة نرجس! وقال آخر: وكأنّ المجرّ جدول ماء ... نوّر الأقحوان فى جانبيه.

وقال المهذب بن الزبير فيها: وترى المجرّة والنّجوم كأنّها ... تسقى الرياض بجدول ملآن. لو لم يكن نهرا، لما عامت به ... أبدا نجوم الحوت والسّرطان. وقال أبو هلال العسكرىّ: تبدو المجرّة منجرّا ذوائبها ... كالماء ينساح أو كالأيم [1] ينساب. وقال هشام بن إلياس فى الجوزاء: فكأنّما جوزاؤه فى غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق. وكأنّما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول: إلى ثلاث نلتقى! وقال آخر: وكأنّ الجوزاء لمّا استقلّت ... وتدلّت، سرادق ممدود. وقال العلوىّ فيها أيضا: ها إنّها الجوزاء فى أفقها ... واهية ناعسة تسحب. نطاقها واه لدى أفقها ... ينسلّ منها كوكب كوكب. وقال ابن وكيع فيها: قم فاسقنى صافية ... تهتك جنح الغسق! أما ترى الصّبح بدا ... فى ثوب ليل خلق؟

_ [1] الأيم، والأين: ضرب من الحيات. (عن النوادر فى اللغة) .

أما ترى جوزاءه ... كأنّها فى الأفق، منطقة من ذهب ... فوق قباء أزرق؟ وقال كعب الغنوىّ: وقد مالت الجوزاء حتّى كانّها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول. وقال امرؤ القيس فى الثّريّا: إذا ما الثّريّا فى السّماء تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل. وقال ابن الطّثريّة: إذا ما الثّريّا فى السّماء كأنّها ... جمان وهى من سلكه، فتبدّدا. وقال المبرّد: إذا ما الثّريّا فى السّماء تعترضت، ... يراها حديد العين ستّة أنجم. على كبد الجرباء وهى كأنّها ... جبيرة درّ ركّبت فوق معصم. وقال عبد الله بن المعتز: فناولنيها، والثّريّا كأنّها ... جنى نرجس حيّا النّدامى بها الساقى. وقال أيضا: كأنّ الثّريّا فى أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضّض. وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة فيها: فسمونا، والفجر يضحك فى الشّر ... ق إلينا مبشّرا بالصّباح.

والثّريّا كراية أو لجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح، وكأنّ النّجوم فى يد ساق ... يتهادى تهادى الأقداح. وقال ابن المعتز: ولاحت لساريها الثّريّا كأنّها ... على الأفق الغربىّ قرط مسلسل. وقال أبو نضلة: وتأمّلت الثّريّا ... فى طلوع ومغيب. فتخيّرت لها التش ... بيه فى المعنى المصيب. وهى كأس فى شروق ... وهى قرط فى غروب. وقال آخر: كأنّ الثّريّا هودج فوق ناقة ... يسير بها حاد مع الليل مزعج، وقد لمعت بين النّجوم كأنّها ... قوارير فيها زئبق يترجرج. وقال ابن سكرة الهاشمىّ: ترى الثّريّا، والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر. كفّ عروس لاحت خواتمها ... أو عقد درّ فى البحر ينتثر. وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ: وخلت الثّريّا كفّ عذراء طفلة ... مختّمة بالدّرّ منها الأنامل. تخيّلتها فى الجوّ طرّة جعبة ... ملوكيّة لم تعتلقها حمائل. كأنّ نبالا ستّة من لآلئ ... يوافى بها فى قبّة الأفق نابل.

وقال أحمد بن إبراهيم الضبىّ، شاعر اليتيمة: خلت الثريا إذ بدت ... طالعة فى الحندس: مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس وقال أبو العلاء المعترىّ فى سهيل. وسهيل كوجنة الحبّ فى اللّو ... ن وقلب المحبّ فى الخفقان. مستبدّا كأنّه الفارس المع ... لّم يبدو معارض الفرسان. وقال عبد الله بن المعتز: وقد لاح للسّارى سهيل كأنّه ... على كلّ نجم فى السّماء رقيب! وقال الشريف بن طباطبا: وسهيل كأنّه قلب صبّ ... فاجأته بالخوف عين الرقيب. وقال أبو عبادة البحترىّ: كأنّ سهيلا شخص ظمآن جانح ... من اللّيل فى نهر من الماء يكرع. وقال ابن طباطبا: كأنّ سهيلا، والنّجوم أمامه ... يعارضها، راع أمام قطيع. وقال الشريف الرضىّ فى الفرقدين: وهبّت لضوء الفرقدين نواظرى ... إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع. كأنّهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإنّى سامع!

وقال آخر: قلت للفرقدين واللّيل مرخ ... ستر ظلمائه على الآفاق: ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق! وقال القاضى التنوخىّ: وأشقر الجوّ قد لاجت كواكبه ... فيه كدرّ على الياقوت منثور. وقال القاضى الفاضل، عبد الرحيم من رسالة: «سرنا، وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرّة نهر؛ والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالزّنج شعله من الرمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصّباح؛ وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّل فتغرّب. فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدى الصباح؛ أو ناظر يغضّه الغيظ ويفتحه، او معنى يغمضه الحسن ثم يشرحه؛ أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواكب؛ أو فارس يحمى الأعقاب، أو داع به إليها وقد شردت عن الأصحاب. والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب؛ أو الشجرة المنوّرة، أو الحبر المصوّرة. والثريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى» .

القسم الثانى من الفن الأول فى الآثار العلوية وفيه أربعة أبواب

القسم الثانى من الفن الأوّل فى الآثار العلوية وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى السحاب، وسبب حدوثه، وفى الثّلج والبرد والسحاب من الآثار العلوية. روى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناد يرفعه إلى عبيد ابن عمير أنه قال: يبعث الله ريحا فتقمّ الأرض، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، وذلك أنها تحمل الماء فتمجّه. فى السحاب، ثم يمريه فيدرّكما تدرّ اللّقحة. وقد روى فى الأثر أن الرياح أربع: ريح تقم؛ وريح تثير، فتجعله كسفا؛ وريح تؤلّف، فتجعله ركاما؛ وريح تمطر. وروى عن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: إن الله تعالى يرسل الرياح فتثير سحابا، وينزل عليه المطر فتتمخض به الريح كما تمخض النّتوج بولدها. وروى عن عكرمة (رضى الله عنه) أنه قال: ينزل الله الماء من السماء السابعة

2 - ذكر ما قيل فى ترتيب السحاب

فتقع القطرة على السحاب مثل البعير، والسحاب للمطر كالغربال ينزل منه بقدر. ولولا ذلك لأفسد ما على الأرض. وقال الزمخشرى فى تفسيره: السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم أنه يأخذ من البحر. ويؤيد ذلك قوله عز وجل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) . 2- ذكر ما قيل فى ترتيب السحاب (وأسمائه اللغوية وأصنافه) قال أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبىّ فى فقه اللغة، ينقله عن أئمتها: أوّل ما ينشأ السحاب، فهو نشء. فإذا انسحب فى الهواء، فهو السحاب. فإذا تغيرت وتغممت له السماء، فهو الغمام. فإذا كان غيم ينشأ فى عرض السماء فلا تبصره، وإنما تسمع رعده، فهو العقر. فإذا أطلّ وأظلّ السماء، فهو العارض. فإذا كان ذا رعد وبرق، فهو العرّاص. فإذا كانت السحابة قطعا صغارا متدانيا بعضها من بعض، فهى النّمرة. فإذا كانت متفرّقة، فهى القزع. فإذا كانت قطعا متراكمة، فهى الكرفئ (واحدتها كرفئة) . فإذا كانت قطعا كأنها قطع الجبال، فهى قلع، وكنهور (واحدتها كنهورة) . فإذا كانت قطعا رقاقا، فهى الطّخارير (واحدتها طخرور) .

فإذا كانت حولها قطع من السحاب، فهى مكلّلة. فإذا كانت سوداء، فهى طخياء، ومتطخطخة. فإذا رأيتها وخسبتها ما طرة، فهى مخيّلة. فإذا غلظ السحاب وركب بعضه بعضا، فهو المكفهّر. فإذا ارتفع ولم ينبسط، فهو النّشاص. فإذا تقطع فى أقطار السماء وتلبّد بعضه فوق بعض، فهو القرد. فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق، فهو العماء، والعماية، والطّخاء، والطّخاف، والطّهاء. فإذا اعترض اعتراض الجبل قبل أن يطبق السماء، فهو الحبىّ. فإذا عنّ، فهو العنان. فإذا أظل الأرض، فهو الدّجن. فإذا اسودّ وتراكب، فهو المحمومى. فإذا تعلق سحاب دون السحاب، فهو الرّباب. فإذا كان سحاب فوق سحاب، فهو الغفارة. فإذا تدلّى ودنا من الأرض مثل هدب القطيفة، فهو الهيدب. فإذا كان ذا ماء كثير، فهو القنيف. فإذا كان أبيض، فهو المزن، والصّبير. فإذا كان لرعده صوت، فهو الهزيم.

_ [1] اسم فاعل من احمومى الشيء اذا اسودّ. يوصف به نحو السحاب والليل.

3 - ذكر ما قيل فى ترتيب المطر

فإذا اشتدّ صوت رعده، فهو الأجشّ. فإذا كان باردا وليس فيه ماء، فهو الصّرّاد [1] . فإذا كان ذا صوت شديد، فهو الصّيّب. فإذا أهرق ماءه، فهو الجهام (وقيل بل الجهام الذى لا ماء فيه) . 3- ذكر ما قيل فى ترتيب المطر قال الثعالبىّ رحمه الله: أخفّ المطر وأضعفه الطّلّ، ثم الرّذاذ، ثم البغش والدّثّ ومثله الرّكّ، ثم الرّهمة. ويقال أيضا: أوّله رشّ وطشّ، ثم طلّ وزذاذ، ثم نضح ونضخ، وهو قطر بين قطرين، ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود. 4- ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر يقال إذا أتت السماء بالمطر اليسير [2] الخفيف: حفشت، وحشكت. فإذا استمرّ قطرها، قيل: هطلت، وهتنت. فإذا صبّت الماء، قيل: همعت، وهضبت. فإذا ارتفع صوت وقعها، قيل: انهلّت، واستهلّت.

_ [1] فى فقه اللغة بعده: فإذا كان خفيف تسفره الريح فهو الزّبرج، وبعده فإذا كان ذا صوت الخ. [2] كذا فى فقه الثعالبى وعبارة اللسان: حفشت السماء تحفش حفشا: جاءت بمطر شديد ساعة ثم أقلعت؛ ومثله حشكمت وأغبت فالحفشة والحشكة والغبيه بمعنى واحد.

5 - ذكر أسماء أمطار الأزمنة

فإذا سال المطر بكثرة، قيل: انسكب، وانبعق. فإذا سال يركب بعضه بعضا، قيل: اثعنجر، واثعنجج. فإذا دام أياما لا يقلع، قيل: أثجم، وأغبط، وأدجن. فإذا أقلع، قيل: أنجم، وأفصم، وأفصى. 5- ذكر أسماء أمطار الأزمنة قالت العرب: أوّل ما يبدأ المطر فى إقبال الشتاء، فاسمه الخريف، ثم يليه الوسمىّ، ثم الرّبيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم. وقيل المطر الأوّل هو الوسمىّ، ثم يليه الولى، ثم الربيع، ثم الصّيّف، ثم الحميم. 6- ذكر أسماء المطر اللغوية قال الثعالبىّ: إذا أحيا الأرض بعد موتها، فهو الحيا. فإذا جاء عقيب المحل أو عند الحاجة إليه، فهو الغيث. فإذا دام مع سكون، فهو الدّيمة. والضّرب فوق ذلك قليلا، والهطل فوقه. فإذا زاد، فهو الهتلان، والهتّان، والتّهتان. فإذا كان القطر صغارا كانه شذر، فهو القطقط. فإذا كانت مطرة ضعيفة، فهى الرّهمة. فإذا كانت ليست بالكثيرة، فهى الغبية، والحفشة، والحشكة.

فإذا كانت ضعيفة يسيرة، فهى الذّهاب، والهميمة. [1] فإذا كان المطر مستمرّا، فهو الودق. فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع، فهو الوابل. فإذا انبعق بالماء، فهو البعاق. فإذا كان يروى كل شىء، فهو الجود. فإذا كان عامّا، فهو الجدا. فإذا دام أيّاما لا يقلع، فهو العين. فإذا كان مسترسلا سائلا، فهو المرثعنّ. فإذا كان كثير القطر، فهو الغدق. فإذا كان شديد الوقع كثير الصّوب، فهو السّحيفة. [2] فإذا كان شديدا كثيرا، فهو العزّ، والعباب. فإذا جرف ما مرّ به، فهو السّحيقة. [3] فاذا قشرت وجه الأرض، فهى السّاحية. فإذا أثرت فى الأرض من شدّة وقعها، فهى الحريصة. فإذا أصابت القطعة من الأرض وأخطأت الأخرى، فهى النّفضة. فإذا جاءت المطرة لما يأتى بعدها، فهى الرّصدة، والعهاد نحو منها.

_ [1] فى فقه الثعالبى: الهيمة. بإسقاط الميم الأولى وهو تحريف كما يعلم من مراجعة القاموس. [2] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى. [3] نقل صاحب اللسان فى مادة (س ح ف) عن الأصمعى: (ان السحيفة بالفاء، المطرة الحديدة التى تجرف كل شىء. والسحيقة بالقاف، المطرة العظيمة القطر الشديدة الوقع القليلة العرض) وهو عكس ما نقله النويرى عن الثعالبى.

7 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر

فإذا أتى المطر بعد المطر، فهو الولى. فإذا رجع وتكرر، فهو الرّجع. فإذا تتابع، فهو اليعلول. فإذا جاءت المطرة دفعات، فهى الشّآبيب. 7- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر يقال: أبرد من غبّ المطر. أرقّ من دمع الغمام. أسرع من السيل إلى الحدور. أطغى من السيل. أغشم من السيل. أمضى من السيل. يذهب يوم الغيم ولا يشعر به. قد بلغ السيل الزّبى. اضطره السيل إلى معطشه. أرنيها نمره، أريكها مطره. سبق سيله مطره. قبل السحاب أصابنى الوكف. ومن أنصاف الأبيات: هل يرتجى مطر بغير سحاب وأوّل الغيث طلّ ثم ينسكب سحابة صيف عن قريب تقشّع فدرّكما درّ السّحاب على الرّعد أسرع السّحب فى المسير الجهام ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟ سحاب عدانى فيضه وهو صيّب يحسب الممطور أن كلّ مطر سال به السّيل وما يدرى به ومن الأبيات قول الطائى: وكذا السّحائب، قلّما تدعو إلى ... معروفها الرّوّاد ما لم تبرق.

8 - ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر

وقال البحترىّ عفى عنه: واعلم بأنّ الغيث ليس بنافع ... ما لم يكن للنّاس فى إبّانه. وقال أبو الطّيّب: ليت الغمام الّذى عندى صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم! وقال كثيّر: كما أبرقت يوما عطاشا غمامة. ... فلمّا رجوها، أقشعت وتجلّت. وقال آخر: أنا فى ذمّة السّحاب وأظما! ... إنّ هذا لوصمة فى السّحاب! وقال آخر: والله ينشى سحابا تطمئنّ به النّ ... فوس من قبل بلّ الأرض بالمطر. 8- ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر قال أبو تمّام الطائى: سحابة صادقة الأنواء ... تجرّ أهدابا على البطحاء. تجمع بين الضّحك والبكاء: ... بدت بنار وثنت بماء. وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه: ذات ارتجاس بحنين الرّعد ... مجرورة الذّيل صدوق الوعد، مسفوحة الدّمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد،

ورنّة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند. جاءت بها ريح الصّبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد. وراحت الأرض بعيش رغد ... من وشى أنوار الثّرى فى برد. كأنما غدرانها فى الوهد ... يلعبن ترحابا بها بالرّند. وقال أبو الحسن علىّ بن القاسم القاشانى من شعراء اليتيمة عفى عنه: إذا الغيوم ارجحنّ باسقها ... وحفّ أرجاءها بوارقها، وعبّيت للثّرى كتائبها ... وانتصبت وسطها عقائقها، وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألحّ خافقها، وابتسمت فرحة لوامعها ... واختلفت عبرة حمالقها، وقيل: طوبى لبلدة نتجت ... بجوّ أكنافها بوارقها. أيّة نعماء لا تحلّ بها؟ ... وأىّ بأساء لا تفارقها؟ وقال القاضى التّنوخىّ: سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له فى الثّرى فعل الشّفاء بمدنف. أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكّر أو كالنّادم المتلهف. ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف. غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضّحى ... بظلمته فى ثوب ليل مسجّف. فعبّس عن برق به متبسّم ... عبوس بخيل فى تبسّم معتف. تحاول منه الشمس فى الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف.

وقال ابن الرومىّ: سحائب قيست بالبلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها. حدتها النّعامى مقبلات فأقبلت ... تهادى رويدا سيلها كركودها. وقال أبو هلال العسكرىّ: وبرق سرى، واللّيل يمحى سواده ... فقلت: سوار فى معاصم أسمرا! وقد سدّ عرض الأفق غيم تخاله ... يزرّ على الدّنيا قميصا معنبرا. تهادى على أيدى الحبائب والصّبا ... كخرق من الفتيان نازع مسكرا. تخال به مسكا وبالقطر لؤلؤا ... وبالرّوض ياقوتا وبالوحل عنبرا. سواد غمام يبعث الماء أبيضا ... وغرّة أرض تنبت الزّهر أصفرا. أتتك به أنفاس ريح مريضة ... كمفظعة رعناء تستاق عسكرا. فألقى على الغدران درعا مسرّدا ... وأهدى إلى القيعان بردا محبّرا. تخال الحيا فى الجوّ درّا منظّما ... وفى وجنات الرّوض درّا منثّرا. وأقبل نشر الأرض فى نفس الصّبا ... فبات به ثوب الهواء معطّرا. إذا ما دعت فيه الرّعود فأسمعت ... أجاب حداة واستهلّ فأغزرا. ويبكى إذا ما أضحك البرق سنّه ... فيجعل نار البرق ماء مفجّرا. كأنّ به رؤد الشّباب خريدة ... قد اتّخذت ثنى السّحابة معجرا. فثغر يرينا من بعيد تبلّجا ... ودمع يرينا من بعيد تحدّرا.

وقال مؤيد الدين الطّغرائى: سارية ذات عبوس برقها ... يضحك والأجفان منها تهمل. كحلّة دكناء فى حاشية ... فيها طراز مذهب مسلسل. إذا دنت عشارها، صاح بها ... قاصف رعد وحدتها الشمأل. وقال عبد الله بن المعتزّ: ومزنة جاد من أجفانها المطر: ... فالرّوض منتظم والقطر منتثر. ترى مواقعه فى الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر. وقال أيضا: ما ترى نعمة السّماء على الأر ... ض وشكر الرّياض للأمطار؟ وكأنّ الرّبيع يجلو عروسا ... وكأنّا من قطره فى نثار! وقال ابن عوف الكاتب فى إطباق الغيم وقربه: فى مزنة أطبقت فكادت ... تصافح التّرب بالغمام. وقال آخر: تبسّمت الرّيح، ريح الجنو ... ب فيها هوى غالبا وادّكارا. وساقت سحابا كمثل الجبال ... إذا البرق أومض فيه، أنارا. إذا الرّعد جلجل فى جانبي ... هـ، روّى النّبات وأروى الصّحارى. تطالعنا الشّمس من دونه ... طلاع فتاة تخاف اشتهارا، تخاف الرّقيب على نفسها ... وتحذر من زوجها أن يغارا. فتستر غرّتها بالخما ... ر طورا، وطورا تزيل الخمارا.

فلمّا رآه هبوب الجنو ... ب وانهمز الماء فيه انهمارا، تبسّمت الأرض لمّا بكت ... عليها السّماء دموعا غزارا! وقال الأسعد بن بليطة من شعراء الذخيرة: لو كنت شاهدنا عشيّة أمسنا ... والمزن تبكينا بعينى مذنب، والشمس قد مدّت أديم شعاعها ... فى الأرض تجنح غير أن لم تذهب خلت الرّذاذ برادة من فضّة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب! وقال أبو عبد الله محمد بن الخياط من شعرائها: راحت تذكّر بالنّسيم الرّاحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا. أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كى تهتدى، مصباحا. ... وكأنّ صوت الرّعد خلف سحابها حاد إذا ونت السحائب، صاحا. ... جادت على التّلعات فاكتست الرّبا حللا أقام لها الرّبيع وشاحا. وقال ابن برد الأصغر الأندلسىّ من شعرائها: وما زلت أحسب فيه السّحاب، ... ونار بوارقها تلتهب: نجاتىّ توضع فى سيرها ... وقد قرعت بسياط الذّهب. ومما ورد فى وصفها نثرا قال بعض الأندلسيّين من رسالة: ثم أرسل الله الرياح من كنائنها، وأخرجها من خزائنها؛ قجرّت ذيولها، وأجرت خيولها؛ خافقة بنودها، متلاحقة جنودها؛ فأثارت الغمام، وقادته بغير زمام؛ وأنشأت بحريّة من السحاب، ذات أتراب وأصحاب؛ كثيرا عددها، غزيرا مددها،

فبشّرت بالقطر كلّ شائم، وأنذرت بالورد كلّ حائم، والريح تنثّها، والبرق يحثّها، كأنه قضيب من ذهب، أو لسان من لهب؛ وللسحاب من ضوء البرق هاد، ومن صوت الرعد حاد؛ والريح توسع بلحمتها سداها، وتسرع فى حياكتها يداها. فلما التحم فتقها، والتأم رتقها؛ وامتدّت أشطانها، واتسعت أعطانها؛ وانفسحت أجنابها، وانسدلت أطنابها؛ وتهدّل خملها، وتمخض حملها؛ ومدّت على آفاق السماء نطاقها، وزرّت على أعناق الجبال أطوافها، كأنها بناء على الجوّ مقبوب، أو طبق على الأرض مكبوب؛ تمشى من الثقل هونا، وتستدعى من الريح عونا؛ ومخايلها تقوى، وعارضها أحوى. فلما أذن الله لها بالأنحدار، وأنزل منه الودق بمقدار، أرسلت الريح خيوط القطر من رود السحائب، وأسبلتها إسبال الذوائب. فدرّت من خلف مصرور، ونثرت طلّها نثر الدرور. ثم انخرق جيبها، وانبثق سيبها؛ وصار الخيط حبلا، والطلّ وبلا. فالسحاب يتعلّق، والبرق يتألّق؛ والرعد يرتجس، والقطر ينبجس؛ والنّقط تترامى طباقا، وتتبارى اتساقا؛ فيردف السابق المصلّى، ويتصل التابع بالمولّى؛ كما يقع من المنخل البر، وينتثر من النظام الدّرّ؛ فجيوب السماء تسقطه، وأكفّ الغدران تلقّطه؛ والأرض قد فتحت أفواها، وجرعت أمواها. حتّى أخذت ريّها من المطر، وبلغت منه غاية الوطر، خفى من الرعد تسبيحه، وطفئت من البرق مصابيحه، وحسرت السماء نقابها، وولّت المطر أعقابها؛ وحكت فى ردّها طلق السابق، وهرب الآبق. ومن رسالة لمحمد بن شرف القيروانى: برئ عليل البرى، وأثرى فقير الثرى، وتاريخ ذلك انصرام ناجر [1] ، وقد بلغت القلوب

_ [1] رجب أو صفر. وكل شهر من شهور الصيف (قاموس) .

الحناجر، محمارّة احمرت لها خضرة السماء، واغبرّت مرآة الماء، حتّى انهلّ طالع وسمىّ، وتلاه تابع ولىّ، دنا فأسفّ، ووكف فما كفّ. فما فتئ مسكوبا قطره، محجوبا شمسه وبدره، وجليت عروس الشمس، معتذرة عن مغيبها بالأمس. فعندها مزّق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن درّ البر فى أصداف ترابها. فما مرّت أيام إلا والقيعان مسندسه، والآكام مطوّسه. ومن رسالة لأبى القاسم، محمد بن عبد الله بن أبى الجد فى وصف مطر بعد قحط: قال: لله تعالى فى عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام. تختلف والعدل متّفق، وتفترق والفضل مجتمع متّسق. ففى منحها نفائس المأمول، وفى محنها مداوس [1] العقول. وفى أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقه، وبين أرجاء سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقه. وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب. وانسكبت غمائم الرزايا، بنفحات العطايا. وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس والى الرخاء. ذلك تقدير اللطيف الخبير، وتدبير العزيز القدير! ولما ساءت بتثبط الغيث الظّنون، وانقبض من تبسط الشك اليقين، واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النّجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت أجياد الأنوار، من حلى الديمة المدرار، أرسل الله بين يدى رحمته ريحا بليلة الجناح، مخيلة النّجاح، سريعة الإلقاح. فنظمت عقود السحاب، نظم السّخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام. وحين ضربت تلك المخيلة فى الأفق قبابها، ومدّت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها،

_ [1] جمع مدوس [أى مصاقل العقول] :

وانبتك وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكى بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكى بنان الكرام، عند أريحيّة المدام، فاستغربت الرياض ضحكا ببكائها، واهتزّ رفات النبات طربا لتغريد مكّائها، واكتست ظهور الأرض من بيض إنائها، خضر ملائها. فكأنّ صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطا مفوّفا، وأهدت إليها من زخارف بزّها ومطارف وشيها ألطافا وتحفا. وخيّل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التّخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافترار الغيطان. فيا برد موقعها على القلوب والأكباد! ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصّواد! كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشّفت شنب الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال. أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجليل، من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجميل، من ظلال نعمها معرّس ومقيل. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر؛ وتوقّد قبس، وتردّد نفس؛ وهو الكفيل تعالى بإتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة والحيا بعزته! وقال الوزير أبو عمرو الباجىّ فى مثل ذلك: إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل؛ ونعما يبسطها إذا شاء إنعاما وترفيها، ويقبضها متى أراد إلهاما وتنبيها؛ ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، ولآخرين فسادا وضيرا. (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) . وإنه كان من امتساك السّقيا، وتوقّف الحيا؛ ما ريع به الآمن، واستطير له الساكن؛ ورجفت الأكباد فزعا، وذهلت الألباب جزعا؛ وأذكت ذكاء حرّها، ومنعت السماء درّها؛ واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة؛ وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى؛

9 - ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد

ثم نشر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منّته، وأزاح محنته. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفّق، ورواء غدق، من سماء طبق. استهلّ جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع. فاستوفت الأرض ريّا، واستكملت من نباتها أثاثا وريّا؛ فزينة الأرض مشهوره، وحلّة الزهر منشوره، ومنّة الرب موفوره؛ والقلوب ناعمة بعد بوسها، والوجوه ضاحكة إثر عبوسها؛ وآثار الجزع ممحوّه، وسور الشكر متلوّه؛ ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه فى قضاء الحقوق إلى سواء الطريق؛ ونستعيذ به من المنّة أن تعود فتنه. والمنحة أن تصير محنه! والحمد لله رب العالمين! 9- ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد قال أبو الفتح كشاجم: الثّلج يسقط أم لجين يسبك، ... أم ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك؟ راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... فى كلّ ناحية بثغر تضحك! شابت ذوائبها فبيّن ضحكها ... طربا وعهدى بالمشيب ينسّك! وتردّت الأشجار منه ملاءة ... عمّا قليل بالرّياح تهتّك! وقال أيضا: ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كلّ جانب غرّه! باتت. وقيعانها زبرجدة. ... فأصبحت قد تحوّلت درّه! كأنها والثّلوج تضحكّها ... تعار ممن أحبّه ثغره! شانت فسرّت بذاك وابتهجت ... وكان عهدى بالشّيب يستكره!

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الأول

وقال الصاحب بن عبّاد: أقبل الثّلج فى غلائل نور ... تتهادى بلؤلؤ منثور! فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض فصار النّثار من كافور! وقال النميرىّ: أهدى لنا بردا يلوح كأنه ... فى الجو حبّ لآلئ لم يثقب، أو ثغر حواء اللّثات تبسّمت ... عن واضح مثل الأقاحى أشنب! الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الأوّل فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح (أ) فأما النيازك، فهو ما يرى من الذوائب المتصلة بالشّهب والكواكب. روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لجماعة من الأنصار: «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذى يرمى به؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نقول إذا رأيناها يرمى بها: مات ملك، ولد مولود. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ليس ذلك كذلك، ولكن الله تعالى كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه الملائكة فيسبحون، فيسبّح من تحتهم لتسبيحهم، فيسبّح من تحت أولئك حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحون، ثم يقولون ألا تسألون من فوقكم ممّ يسبحون؛ فيقولون قضى الله فى خلقه كذا وكذا، للأمر الذى كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى إلى السماء الدنيا فيتحدّثون به، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف. ثم يأتون

به الكهّان، فيصيبون بعضا، ويخطئون بعضا. ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التى يقذفون بها، فانقطعت الكهانة، فلا كهانة اليوم» . والشهب التى يقذف بها الشياطين غير النجوم الثوابت التى منها البروج والمنازل لقول الله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) . وقال بعض الشعراء: وكوكب نظر العفريت مسترقا ... للسّمع فانقضّ يذكى إثره لهبه كفارس حلّ من تيه عمامته ... وجرّها كلّها من خلفه عذبه وكتب ابن الحرون إلى صديق له، وقد كثر انقضاض الكواكب، وذلك فى أيام المتوكل على الله: أما بعد. فإن الفلك قد تفرّى عن شهب ثواقب، كنيران الحباحب، متّقدة كشرر الزنود، وشعل زبر الحديد؛ مازجها عرض حمرة البهرمان، وصفرة العقيان [1] . فهى كأرسال جراد منتشر، وهشيم ذرته ريح صرصر، فى سرعة الكفّ، ووحى لحظ الطّرف. (ب) وأما الصواعق، فهى ما قاله الزمخشرىّ فى تفسيره: الصاعقة قصفة من رعد ينقضّ معها شقّة من نار. وقالوا: إنها تنقدح من السحاب إذا اصطكّت أجرامه. وهى نار لطيفة حديدة لا تمرّ بشىء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. على أنها متى سقطت على نخلة أحرقت عاليها.

_ [1] العقبان الذهب.

وقال صاحب كتاب «مناهج الفكر ومباهج العبر» فى كتابه: ومن عجيب شأنها أنها تحرق ما فى الكيس، ولا تحرق الكيس؛ وإن احترق فإنما يحترق باحتراق ما ذاب فيه وسال. قال: وهى إذا سقطت على جبل أو حجر كلسته ونفذته، وإذا سقطت فى بحر غاصت فيه وأحرقت ما لاقت من جوانبه. وربما عرض لها عند انطفائها فى الأرض برد ويبس، فتكوّن منها أجرام حجرية، أو حديدية، أو نحاسية. وربما طبعت الحديد سيوفا لا يقوم لها شىء. (ج) وأما الرعد وما قيل فيه. قال الله تبارك وتعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) . قال المفسرون: الرعد ملك موكل بالسحاب، معه كرّ من حديد، يسوقه من بلد إلى بلد كما يسوق الراعى إبله. فكلما خالف سحاب، صاح به فزجره. فالذى يسمع هو صوت الملك. وقال الزمخشرىّ من تفسيره: الرعد الذى يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك. وأما صوت الرعد، تقول العرب: رعدت السماء. فإذا ازداد صوتها، قيل: ارتجست. فإذا زاد، قيل: أرزمت، وقعقعت [1] . فإذا بلغت النهاية، قيل: جلجلت، وهدهدت.

_ [1] عبارة فقه اللغة: (فإذا زاد، قيل: أرزمت، ودرّت. فإذا زاد واشتدّ، قيل: قصفت، وقعقعت. فإذا بلغ النهاية الخ) اهـ.

المثل

المثل ربّ صلف تحت الراعدة. (للبخيل المتكبر) . (د) وأما البرق وما قيل فيه، فقد ذهب المفسرون لقول الله تعالى إلى أنه ضرب الملك الذى هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد. وروى عن مجاهد: ان الله عز وجل وكّل بالسحاب ملكا. فالرعد قعقعة [1] صوته، والبرق سوطه [2] . وأما ترتيبه فى لمعانه تقول العرب إذا برق كأنه يتبسم، وذلك بقدر ما يريك سواد الغيم من بياضه: أنكلّ انكلالا. فإذا بدا من السماء برق يسير، قيل: أوشمت السماء. ومنه قيل: أوشم النبت إذا أبصرت أوّله. فإذا برق برقا ضعيفا، قيل: خفا. فإذا لمع لمعا خفيفا، قيل: لمح، وأومض. فإذا تشقق، قيل: انعقّ انعقاقا. فإذا ملأ السماء وتكشف واضطرب، قيل: تبوّج. فإذا كثر وتتابع، قيل: ارتعج. فإذا لمع وأطمع ثم عدل، قيل له: خلّب.

_ [1] فى الأصل نغنغة: وهو محرّف عن قعقعة بالقاف كما يقتضيه السياق. [2] فى الأصل صوته. وهو محرّف عن سوطه وهو مخراق الحديد الذى ذكر فى السطر الذى قبله.

المثل:

المثل: «ليس فى البرق اللّامع مستمتع» . ذكر ما قيل فى وصف الرعد والبرق قال أبو هلال العسكرىّ، عفا الله عنه: والرعد فى أرجائه مترنّم ... والبرق فى حافاته متلهّب. كالبلق ترمح، والصّوارم تنتضى ... والجوّ يبسم، والأنامل تحسب. وقال آخر: إذا ونت السّحب الثّقال وحثّها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه، أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهنّ مقهقه، إذا صاح فى آثارهنّ حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له. وقال ابن الدقّاق الأندلسىّ: أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهّب أكناف الدّجى ويفضّض. كأنّ سليمى من أعاليه أشرفت ... تمدّ لنا كفّا خضيبا وتقبض. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: ويوم جرى برقه أشقرا ... يطارد من مزنه أشهبا: ترى الأرض فيه وقد فضّضت ... ووجه السّماء وقد ذهّبا! وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ، شاعر الذخيرة: ولما تجلّى اللّيل والبرق لامع ... كما سلّ زنجى حساما من التّبر، وبتّ سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدّنيا جبائر من درّ.

وقال محمد بن عاصم، شاعر الخريدة عفا الله عنه: أضاء بوادى الأثل واللّيل مظلم ... بريق كحدّ السّيف ضرّجه الدّم. إذا البرق أجرى طرفه فصهيله ... إذا ما تفرّى رعده المترنّم. فشبّهته إذ لاح فى غسق الدّجى ... بأسنان زنجىّ بدت تتبسّم. وقال أيضا: والبرق يضحك كالحبيب وعنده ... رعد يخشّن كالرّقيب مقاله! وقال آخر: أرقت لبرق غدا موهنا ... خفىّ كغمزك بالحاجب. كأنّ تألّقه فى السما ... يدا كاتب أويدا حاسب. وقال عبد الله بن المعتزّ، يشير إلى سحابة: رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يحب. ثم حدت بها الصّبا حتّى بدا ... فيها إلى البرق كأمثال الشّهب. تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب. وتارة تبصره كأنّه ... أبلق مال جلّه حين وثب. حتّى إذا ما رفع اليوم الضّحى ... حسبته سلاسلا من الذّهب. قوله شجاعا يضطرب مأخوذ من قول دعبل: أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفىّ كبطن الحيّة المتقلّب. وقال ايضا: ما زلت أكلأ برقا فى جوانبه ... كطرفة العين تخبو ثم تختطف. برق تجاسر من حفّان لامعه ... يقضى اللّبانة من قلبى وينصرف.

(هـ) وأما قوس قزح وما قيل فيه. قالوا: وإنما سمى بذلك لتلوّنه. وكان ابن عبّاس (رضى الله عنهما) يكره أن يسميه قوس قزح، ويسميه قوس الله، ويقول: قزح اسم الشيطان. وزعم القدماء فى علة تلوّنه وتكوّنه، أنه إذا تكاثف جزء من الهواء بالبرد ثم أشرق عليه نور بعض الكواكب انصبغ ذلك الجزء، وانعطف منه الضوء إلى مايليه من الهواء، كالحمرة الصافية إذا طلعت عليها الشمس سطع نورها، وانعطف منه ألوان مختلفة إلى ما يقرب منها. وحمرته وصفرته من قبل الرّطوبة واليبس. قالوا: وقياس ذلك النار، فإنها إذا كانت من حطب رطب، كان لونها أحمر كدرا، فإن كانت من حطب يابس، كان لونها أصفر صافيا. وقال آخرون: القوس يحدث عن رطوبة الهواء وصقالته، حتّى يمكن أن ترسم فيه دائرة الشمس كما ترسم الأشباح فى المرايا، وتشتبك الأشعة بما يكون فيه البخار الرطب فيتولد، فيكون منها تلك الألوان. وإنما توجد دائرة على الناظر، لأن الشمس أبدا تكون فى قفاها، ولذلك ترى فى مقابلة الجهة التى تكون فيها الشمس، فترى فى المغرب إذا كانت الشمس فى المشرق، وترى فى المشرق إذا كانت فى المغرب. وزعم بعض القدماء أن أثر القوس غير حقيقىّ، وإنما هو تخييل لا وجود له فى نفسه. وقال إن إدراكه على نحو إدراك صورة الإنسان فى المرآة من غير أن تكون منطبعة على الحقيقة فيها ولا قائمة بها. وذلك بحسب غلظ الحس الباصر، وهو لا يرى إلا أن يكون وراء السحاب الصقيل، إذ ذاك يكون كالمرآة مؤديا للبصر على نحو تأدية البلّور، إذا جعل وراءه شىء غير مشفّ، ولا يكون ذلك عن السحاب الصقيل وحده، كما لا يكون عن البلّور وحده، ولا عن غير المشفّ وحده. والله أعلم.

ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه

ذكر ما قيل فى وصفه وتشبيهه قال أبو الفرج الوأواء، عفا الله تعالى عنه: سقيا ليوم بدا قوس الغمام به ... والشّمس طالعة والبرق خلّاس! كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السّهام وعين الشمس برجاس. وقال سعيد بن حميد القيروانى، رحمة الله عليه: أما ترى القوس فى الغمام وقد ... نمّق فيه الهواء نوّارا؟ حكى الطّواويس وهى جاعلة ... أذنابها للمياه أستارا. أخضر فى أحمر على يقق ... على وشاح السّحاب قد دارا. كأنما المزن وهى راهبة ... شدّت على الأفق منه زنّارا. وقال ظاهر الدين الحريرى. شاعر الخريدة عفا الله عنه: ألست ترى الجوّ مستعبرا ... يضاحكه برقه الخلّب؟ وفد بات من قزح قوسه ... بعيدا وتحسبه يقرب؟ كطاقى عقيق وفيروزج ... وبينهما آخر مذهب. وقال سيف الدولة بن حمدان، من أبيات: وفد نشرت أيدى الجنوب مطارفا ... على الجوّ دكنّا والحواشى على الأرض. يطرّزها قوس السّحاب بأصفر ... على أحمر فى أخضر وسط مبيضّ. كأذيال خود أقبلت فى غلائل ... مصبّغة، والبعض أقصر من بعض. وقال عبد المحسن الصّورىّ، عفا الله تعالى عنه: تأمّل الجوّ ترى واليا ... قد ولى العهد على السّحب! سار، وقوس الله تاج له، ... ركضا من الشّرق إلى الغرب!

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الأول

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى أسطقسّ [1] الهواء روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «الريح من روح الله تعالى، تأتى بالرحمة، وتأتى بالعذاب. فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها؛ واستعيذوا بالله من شرّها» . أخرجه البيهقىّ فى سننه. وروى أبو الفرج بن الجوزىّ بإسناده أن الريح تنقسم إلى قسمين: رحمة وعذاب؛ وينقسم كل قسم إلى أربعة أقسام. ولكل قسم اسم. فأسماء أقسام قسم الرحمة: المبشّرات، والنّشر، والمرسلات، والرّخاء. وأسماء أقسام قسم العذاب: العاصف، والقاصف (وهما فى البحر) ، والعقيم، والصرصر (وهما فى البر) . وقد جاء القرءان بكل هذه الأسماء. 2- ذكر ما قيل فى حدّ الهواء قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى حدّه: الهواء حرم بسيط، طباعه أن يكون حارّا رطبا مشفا متحرّكا إلى المكان الذى تحت كرة النار التى فوق كرة الأرض والماء.

_ [1] كلمة معربة عن اليونانية معناها: العنصر.

وقال إبّقراط: إنّ تغير حالات الهواء هو الذى يغير حالات الناس مرة إلى الغضب، ومرة إلى السكون، وإلى الهمّ والسرور، وغير ذلك. وإذا استوت حالات الهواء، استوت حالات الناس وأخلاقهم. وقال: إن قوى النفوس تابعة لأمزجة الأبدان، وأمزجة الأبدان تابعة لتصرف الهواء، إذا برد مرة، وسخن مرة، خرج مرة الزرع نضيجا، ومرة غير نضيج، ومرة قليلا، ومرة كثيرا، ومرة حارّا، ومرة باردا، فتتغير لذلك صورهم ومزاجاتهم. وإذا استوى واعتدل الهواء، خرج الزرع معتدلا، فاعتدلت بذلك الصور والمزاجات. قال: والعلة فى تشابه التّرك، هو أنه لما استوى هواء بلادهم فى البرد استوت صورهم وتشابهوا. وقال: إنّ الرياح تقلب الحيوان حالا إلى حال، وتصرفه من حرّ إلى برد، ومن يبس إلى رطوبة، ومن سرور إلى حزن؛ وإنها تغير ما فى البيوت من أصناف المآكل كالتمر، والعسل، والسمن، والشراب، فتسخنها مرة، وتبردها أخرى، وتصلّبها مرة، وتيبّسها مرة. وعلة ذلك أنّ الشمس والكواكب تغير الهواء بحركاتها؛ وإذا تغير الهواء، تغير بتغيره كل شىء. وقال: إنّ الجنوب إذا هبت، أذابت الهواء وبرّدته، وسخنت البحار والأنهار. فكل شىء فى رطوبة تغير لونه وحالاته. وهى ترخى الأبدان والعصب، وتورث الكسل، وتحدث ثقلا فى الأسماع، وغشاوة فى الأبصار. وأما الشّمال فإنها تصلب الأبدان، وتصحح الأدمغة، وتحسن اللون، وتصفى الحواس، وتقوّى الشهوة والحركة، غير أنها تهيج السعال، ووجع الصدر.

وزعم بعض من تأخر فى الإسلام من الحكماء: أن الجنوب إذا هبت بأرض العراق، تغير الورد، وتناثر الورق، وتشقق القنّبيط، وسخن الماء، واسترخت الأبدان، وتكدّر الهواء. وزعم آخرون من القدماء: ان الهواء جسم رقيق متى تموّج من المشرق إلى المغرب سمى ريح الصّبا. قيل: سميت ريح الصّبا، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. والصّبوة الميل. وجاء فى بعض الآثار: ما بعث نبىّ إلا والصّبا معه، وهى الريح التى سخّرت لسليمان (عليه السلام) غدوّها شهر، أى من أوّل النهار إلى الزوال، ورواحها شهر، أى من الزوال إلى المغرب. كان يغدو من تدمر من بلاد الشام فيقيل فى إصطخر من بلاد فارس، ويبيت بكابل من بلاد الهند. وعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وإذا تموّج من الجنوب إلى الشّمال، سمى ريح الجنوب، وهى الريح التى أهلك الله عز وجل بها عادا. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الفن الخامس من كتابنا هذا. وإذا تموّج من الشّمال إلى الجنوب، سمى ريح الشّمال. وهم يزعمون أن مبادئ الرياح شمالية أخذت إلى الجنوب، وغربية أخذت إلى المشرق للطف الهواء فى هاتين الجهتين،. والعرب تحبّ الصّبا لرقتها، ولأنها تجىء بالسحاب. والمطر فيها والخصت. وهى عندهم اليمانية.

3 - ذكر أسماء الرياح اللغوية

3- ذكر أسماء الرياح اللغوية قال الثعالبىّ فى فقه اللغة: إذا وقعت الريح بين ريحين، فهى النّكباء. فإذا وقعت بين الجنوب والصّبا، فهى الجربياء. فإذا هبّت من جهات مختلفة، فهى المتناوحة. فإذا كانت ليّنة، فهى الرّيدانة. فإذا جاءت بنفس ضعيف وروح، فهى النّسيم. فإذا كان لها حنين كحنين الإبل، فهى الحنون. فإذا ابتدأت بشدّة [1] ، فهى العاصف، والسّيهوج. فإذا كانت شديدة ولها زفزفة وهى الصوت، فهى الزّفزافة. فإذا اشتدّت حتّى تقلع الخيام، فهى الهجوم. فإذا حرّكت الأغصان تحريكا شديدا أو قلعت الأشجار، فهى الزّعزاع، والزّعزعان، والزّعزع. فإذا جاءت بالحصباء، فهى الحاصبة. فإذا درجت حتّى ترى لها ذيلا كالرّسن فى الرمل، فهى الدّروج. فإذا كانت شديدة المرور، فهى النّؤوج. فإذا كانت سريعة، فهى المجفل، والجافلة. فإذا هبّبت من الأرض كالعمود نحو السماء، فهى الإعصار. فإذا هبّت بالغبرة، فهى الهبوة.

_ [1] عبارة الثعالبى. فإذا ابتدأت بشدة، فهى النافجة. فإذا كانت شديدة، فهى العاصف الخ.

4 - فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع

فإذا حملت المور وجرّت الذيل، فهى الهوجاء. فإذا كانت باردة، فهى الحرجف، والصّرصر، والعريّة. فإذا كان مع بردها ندى، فهى البليل. فإذا كانت حارّة، فهى الحرور، والسّموم. فإذا كانت حارّة وأتت من قبل اليمن، فهى الهيف. فإذا كانت باردة شديدة تخرق البيوت، فهى الخريق [1] . فإذا ضعفت وجرت فويق الأرض، فهى المسفسفة. فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا، فهى العقيم. (وقد نطق بها القرآن) . 4- فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع يقال: الرياح الحواشك: المختلفة الشديدة. البوارح: الشّمال الحارّة فى الصيف. الأعاصير: التى تهيج بالغبار. المعصرات: التى تأتى بالأمطار. المبشّرات: التى تهبّ بالسحاب والغيث. السّوافى: التى تسفى التراب. 5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الهواء يقال: أخفّ من النسيم. أسرع من الرّيح. ريحهما جنوب (يضرب للمتصافيين) . هو ساكن الريح (اذا كان حليما) . قد هبّت ريحه (إذا قامت دولته) . ومن أنصاف الأبيات. إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا وبعض القول يذهب بالرياح تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن لو كنت ريحا كانت الدّبورا

_ [1] فى اللسان أنها الريح الباردة الشديدة الهبوب كأنها خرقت، أماتوا الفاعل بها.

6 - ذكر ما جاء فى وصف الهواء وتشبيهه

ومن الأبيات: إذا هبّت رياحك، فاغتنمها. ... فإن لكلّ خافقة سكون! وقال آخر: وكلّ ريح لها هبوب ... يوما فلا بدّ من ركود. وقال آخر: والريح ترجع عاصفا ... من بعد ما ابتدأت نسيما. وقال أبو تمّام، عفا الله عنه: إنّ الرياح إذا ما أعصفت، قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرّتم. وقال ابن الرومىّ، رحمة الله عليه: لا تطفئنّ جوى بلوم إنه ... كالريح تغرى النّار بالإحراق. 6- ذكر ما جاء فى وصف الهواء وتشبيهه قال عبد الله بن المعتزّ، رحمة الله عليه: ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول. ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرسول. وقال ابن الرومىّ: حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... تحيّة، فجرت روحا وريحانا. هبّت سخيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها، وتنادى الطير إعلانا . ورقّ تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ الأرض أحيانا. يخال طائرها تشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا.

وقال أيضا: كأنّ نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسمىّ ولىّ. هديّة شمال هبّت بليل ... لأفنان الغصون بها نجىّ. إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنفّس كالشّجىّ لها الخلىّ. وقال آخر: وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح بلّتها السماء. تنفّس نشرها سحرا فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء. وقال إسحاق الموصلىّ: يا حبّذا ريح الجنوب إذا جرت ... فى الصّبح وهى ضعيفة الأنفاس! قد حمّلت برد النّدى وتحمّلت ... عبقا من الجثجاث [1] والبسباس [2] !

_ [1] فى الأصل بالإهمال وهو من إهمال الناسخ. فقد ورد فى مادة (ج ث ث) من لسان العرب: «الجثجاث شجر أصفر مرّ طيب الريح تستطيبه العرب وتكثر ذكره فى أشعارها» . وقال أبو حنيفة الدينورى إنه من أحرار الشجر وهو أخضر ينبت بالقيظ له زهرة صفرا، كأنها زهرة العرفجة طيبة الريح. وقال ابن البيطار: أول ما رأيته بساحل نيل مصر فى أعلاه فى صحاريه بمقربة من ضيعة هناك، تسمى شاهور، وهى على طريق الطرانة. وقال داود فى تذكرته إنه يسمى باليونانية ترديسيون. [2] فى اللسان: «البسباس نبات طيب الريح» . وهو المعروف عند علماء العرب بالاسم الفارسى «الرازيانج» وبهذا الاسم كان يعرف فى الأندلس والمغرب ولا يزال معروفا به إلى اليوم فى قطر الجزائر واسمه السريانى «برهليا» ويعرف فى مصر والشام باسم «الشمار» ومنه نوع برى ينبت بالقيروان ويسميه

وقال آخر: إذا خلا الجوّ من هواء، ... فعيشهم غمّة وبوس. فهو حياة لكلّ حىّ، ... كأنّ أنفاسه نفوس. وقال ابن سعيد الأندلسىّ: الرّيح أقود ما يكون لأنّها ... تبدى خفايا الرّدف والأعكان [1] . وتميّل الأغصان بعد علوّها ... حتّى تقبّل أوجه الغدران. وكذلك العشّاق يتّخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان. وقال آخر: أيا جبلى نعمان بالله خلّيا ... سبيل الصّبا يخلص إلىّ نسيمها. أجد بردها أو تشف منّى خرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها. فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنفّست ... على كبد حرّاء، قلّت همومها. وقال ابن هتيمل اليمنىّ: هبّت لنا سحرا، والصبح ملتثم، ... واللّيل قد غاب فيه الشّيب والهرم. سقيمة من بنات الشّرق أضعفها ... عن قوّة السّير، لمّا هبّت، السّقم. فبلّغت بلسان الحال قائلة ... ما لم يبلّغه يوما إلىّ فم، سرّا لغانية تسرى إلىّ به ... من النّسيم رسول ليس يتّهم. أصافح الرّيح إجلالا لما حملت ... إلىّ من ريح برديها وأستلم.

_ [1] واحده عكنة بالضم، وهى ما تثنّى من لحم البطن سمنا.

الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأول

الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل 1- فى أسطقس النار [1] وأسمائها، وعبادها، وبيوت النيران حكى أصحاب التواريخ فى حدوث النار أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الارض وحجّ، نزل جبل أبى قبيس. فأنزل الله إليه مرختين من السماء، فحكّ إحداهما بالأخرى فأوريا نارا. فلهذا سمى الجبل بأبى قبيس. ويدل على أن النار من الشجر، قوله عز وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) . والعرب تقول: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» . لأنهما أسرع اقتداحا. قال الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) . وقال أصحاب الكلام فى الطبائع: إن الله عز وجل جمع فى النار الحركة، والحرارة، واليبوسة، واللّطافة، والنور. وهى تفعل بكل صورة من هذه الصور خلاف ما تفعل بالأخرى. فبالحركة تعلى الأجسام؛ وبالحرارة تسخن؛ وباليبوسة تجفف؛ وباللطافة تنفذ؛ وبالنور تضىء ما حولها.

_ [1] أنظر فى كتاب الحيوان للجاحظ تفصيلات ومعلومات عن النار. وهى مما يجب الوقوف عليه والاحاطة به من الوجهة العلمية والفلسفية. أما من حيث اللغة والأدب فيراجع ما ورد فى كتاب «سرور النفس بمدارك الحواس الخمس» للتيفاشى باختصار صاحب لسان العرب، وهو موجود بالفتو غرافية فى «دار الكتب المصرية» ومحل الشاهد هو الباب الثامن من ص 391 الى ص 423

2 - ذكر أسماء النار

ومنفعة النار تختص بالإنسان دون سائر الحيوان. فلا يحتاج إليها شىء سواه، وليس به عنها غنى فى حال من الأحوال. ولهذا عظمتها المجوس، [1] وقالوا: إذ أفردتنا بنفعها، فنفردها بتعظيمها. على أنهم يعظمون جميع ما فيه منفعة على العباد، فلا يدفنون موتاهم فى الأرض، ولا يستنجون فى الأنهار. 2- ذكر أسماء النار (وأحوالها فى معالجتها وترتيبها) أما أسماؤها، فمنها: النار، والصّلاء، والسّكن، والضّرمة، والحرق، والحمدة (وهو صوت التهابها) ، والحدمة، والجحيم، والسّعير، والوحى. وأما تفصيل أحوالها ومعالجتها وترتيبها، فقد قال الثعالبىّ فى فقه اللغة: إذا لم يخرج الزّند النار عند القدح، قيل: كبايكبو. فإذا صوّت ولم يخرج، قيل: صلد يصلد. فإذا أخرج النار، قيل: ورى يرى. فإذا ألقى الإنسان عليها ما يحفظها ويذكيها، تقول: شيعتها وأثقبتها. فإذا عالجها لتلتهب، قال: حضأتها وأرّثتها [2] . فإذا جعل لها مذهبا تحت القدر، قال: سخوتها.

_ [1] guebres.mages. عند الفرنسيين. والمجوس لفظ مشتق من «موغ» و «مغ» ومعناه النور فى اللغة الطورانية. [2] فى فقه الثعالبى: وأرشيها بالشين وعبارة القاموس فى مادة (ارش) وتأريش النار تأريثها.

3 - ذكر عباد النار

فإذا زاد فى إيقادها وإشعالها، قال: أحجبتها. فإذا اشتدّ تأجّجها، فهى جاحمة [1] . فإذا طفئت البتة، فهى هامدة. فإذا صارت رمادا، فهى هابية. والله تعالى أعلم. 3- ذكر عبّاد النار (وسبب عبادتها وبيوت النيران) أوّل من عبد النار قابيل بن آدم. وذلك أنه لما قتل أخاه هابيل هرب من أبيه إلى اليمن، فجاءه إبليس لعنه الله، وقال له: إنما قبل قربان هابيل وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها. فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار. فهو أوّل من نصب النار وعبدها. وأوّل من عظمها من ملوك الفرس، جم. وهو أحد ملوك الفرس الأوّل، عظمها ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال: إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب، لأن النور عنده أفضل من الظلمة. ثم عبدت النار بالعراق، وأرض فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، وطبرستان، والجبال، وأذربيجان، وأرّان، وفى بلاد الهند، والسند، والصين.

_ [1] عبارة فقه اللغة بعده: (فاذا سكن لهبها ولم يطفأ حرها فهى خامدة) وبعده فاذا طفئت البتة الخ

وبنى فى جميع هذه الأماكن بيوت للنّيران، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى. ثم انقطعت عبادة النيران من أكثر هذه الأماكن إلا الهند. فإنهم يعبدونها إلى يومنا هذا. وهم طائفة تدعى الإكنواطرية. [1] زعموا أن النار أعظم العناصر جرما، وأوسعها حيزا، وأعلاها مكانا، وأشرفها جوهرا، وأنورها ضياء وإشراقا، وألطفها جسما وكيانا؛ وأن الأحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع؛ ولا نور فى العالم إلا بها؛ ولا نموّ ولا انعقاد إلا بممازجتها. وعبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا فى الأرض ويحشوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاما لذيذا، ولا شرابا لطيفا، ولا ثوبا فاخرا، ولا عطرا فائحا، ولا جوهرا نفيسا، إلا طرحوه فيها: تقرّبا إليها، وتبرّكا بها. وحرّموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، خلافا لجماعة أخرى من زهّاد الهند. وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظمائها. يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا، ويقدّمونها على الموجودات كلها. ومنهم زهّاد وعبّاد يجلسون حول النار صاغين، يسدّون منافسهم حتّى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر مجرم. وسنّتهم الحثّ على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها، وهى: الكذب، والحسد، والحقد، والكفاح، والحرص، والبغى، والبطر. فإذا تجرّد الإنسان عنها، تقرّب من النار.

_ [1] أفادنا المترجم الألمانى لكتاب الملل والنحل أن هذه الكلمة مأخوذة من «أجنيهترا» وهى لنار المقدّسة (أى التى تتأجج إكراما للإله أجنى.)

4 - وأما بيوت النيران

4- وأما بيوت النيران (ومن رسمها من ملوك الفرس) قال المسعودىّ: أوّل من حكى ذلك عنه أفريدون الملك. وذلك أنه وجد نارا يعظمها أهلها، [وهم] [1] معتكفون على عبادتها. [فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم فى عبادتها. فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى عبادتها] [2] وأنها واسطة بين الله تعالى وبين خلقه، وأنها من جنس الآلهة النورية، وأشياء ذكروها له. وجعلوا للنور مراتب وقوانين [وفرقوا بين طبع النار والنور] [3] وزعموا أن الحيوان يجتذبه النور، فيحرق نفسه: كالفراش الطائر بالليل فما لطف جسمه، يطرح نفسه فى السراج فيحرقها. وغير ذلك مما يقع فى صيد الليل من الغزلان، والوحش، والطير؛ وكظهور الحيتان من الماء إذا قربت من السراج فى الزوارق كما يصاد السمك ببلاد البصرة فى الليل، فإنهم يجعلون السّرج حوالى المركب، فيثب السمك من الماء إليها؛ وأن بالنور صلاح هذا العالم، وشرف النار على الظلمة إلى غير ذلك. فلما أخبروا الملك أفريدون بذلك أمر أن تحمل جمرة منها إلى خراسان، فحملت. فاتخذ لها بيتا بطوس. [واتخذ بيتا آخر بمدينة بخارا يقال له برد سورة] [4] . وبيتا آخر بسجستان كواكر [5] ، كان اتخذه بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن يهراسف.

_ [1] الزيادة عن المسعودىّ. [2] الزيادة عن المسعودىّ. [3] الزيادة عن المسعودىّ. [4] سماه الشهرستانى: «قباذان» (ص 197) . [5] سماه الشهرستانى: «كركرا» (ص 197) .

وبيت آخر ببلاد الشير والرّان، كانت فيه أصنام أخرجها منه أنوشروان، وقيل إنه صادف هذا البيت، وفيه نار معظمة فنقلها إلى الموضع المعروف بالبركة. وبيت آخر للنار يقال له كوسجة [1] : بناه كيخسرو الملك. وقد كان بقومس بيت نار معظم لا يدرى من بناه، يقال له حريش. [2] ويقال إن الإسكندر لما غلب عليها، تركها ولم يطفئها. وبيت نار آخر يسمّى كنكدز، بناه سياوش بن كاوس الجبار، وذلك فى زمن لبثه بشرق الصين مما يلى البركة. وبيت نار بمدينة أرّجان من أرض فارس؛ بناه قمار. وبيت بأرض فارس اتّخذ فى أيام يهراسف. [3] فهذه البيوت كانت قبل ظهور زرادشت. ثم اتخذ زرادشت بعد ذلك بيوتا للنيران. فكان مما اتخذ بيت بمدينة نيسابور من بلاد خراسان، وبيت بمدينة نسا والبيضاء من أرض فارس. وقد كان زرادشت أمر يستاسف [4] الملك بطلب نار كان يعظمها جم [5] فطلبت، فوجدت بمدينة خوارزم. فنقلها يستاسف إلى مدينة دارا بجرد من أرض فارس............ والمجوس تعظم هذه النار ما لا تعظم غيرها من النيران والبيوت............ وللفرس بيت نار

_ [1] سماه الشهرستانى: «كويسة» (ص 197) . [2] سماه الشهرستانى: «جرير» (ص 197) . [3] هو لهراسب. [4] فى الشهرستانى: كشتاسف. [5] هو الملك جمشيد.

5 - ذكر نيران العرب

بإصطخر فارس، يعظمه المجوس. كان فى قديم الزمان للأصنام، فأخرجتها جمان بنت بهمن بن اسپنديار وجعلته بيت نار. ثم نقلت عنه النار فخرب...... وفى مدينة سابور من أرض فارس بيت معظم عندهم اتخذه دارا بن دارا. وفى مدينة جور من أرض فارس...... بيت بناه أردشير بن بابك......... وقد كان أردشير بنى بيت نار يقال له بارنوا فى اليوم الثانى من غلبته على فارس. وبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم بناه سابور الجنود ابن أردشير بن بابك حين نزل على هذا الخليج وحاصر القسطنطينية. ولم يزل هذا البيت إلى خلافة المهدىّ. وكان سابور اشترط على الروم بقاء هذا البيت......... وبأرض العراق بيت نار بالقرب من مدينة السلام. بنته بوران [1] بنت كسرى أبرويز، الملكة، بالموضع المعروف بأسنيبا [2] . وبيوت النيران كثيرة تعظمها المجوس. والذى ذكرناه هو المشهور منها [3] . 5- ذكر نيران العرب ونيران العرب أربعة عشر نارا. 1- نار المزدلفة. توقد حتّى يراها من دفع من عرفة. وأوّل من أوقدها قصىّ بن كلاب. 2- نار الاستسقاء. كانت الجاهلية الأولى، إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتدّ الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار. يجمعون لها بقرا، معلقة فى أذنابها وعراقيبها

_ [1] فى الشهرستانى: توران. [2] فى المسعودى: استينيا. وفى الشهرستانى: إسفينيّا. [3] هذا الباب كله منقول عن مروج الذهب (أنظر طبعة باريس ج 4 ص 72- 86) .

السّلع [1] والعشر [2] ، ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجّون بالدعاء والتضرّع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصّل بها إلى نزول الغيث [3] . وفى ذاك يقول الوديك الطائى: لا درّ درّ رجال خاب سعيهم، ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر! أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر؟ وقال أمية بن أبى الصّلت: ويسوقون باقر السّهل للطّو ... د مهازيل خشية أن تبورا. عاقدين النّيران فى بكر الأذ ... ناب منها، لكى تهيج النّحورا. سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت الببقورا. 3- نار الزائر والمسافر. ويسمونها نار الطّرد. وذلك أنهم كانوا إذا لم يحبوا رجوع شخص، أوقدوا خلفه نارا ودعوا عليه. ويقولون فى الدعاء: أبعده الله وأسحقه! وأوقدوا نارا إثره. قال الشاعر: وجمّة قوم قد أتوك ولم تكن ... لتوقد نارا خلفها للتندّم.

_ [1] قال العلامة الدكتور أوغمت هفتر الألمانى والأب المحقق الفاضل لويس شيخو اليسوعى فى حاشية صفحة 36 متن كتاب النبات والشجر الأصمعى الذى عنيا بتحقيقه وطبعه فى بيروت سنة 1908، ما نصه: السلع نبات. وقيل شجر مر، وقيل أنه سمّ. له ورقة صغيرة شاكة كأن شوكها زغب. وهو بقلة تنفرش كأنها راحة الكلب. [2] قال الفاضلان المذكوران فى ذلك الموضع أيضا مانصه: «قيل إن العشر من كبار شجر العضاه وهو ذو صمغ حلو وحرّاق مثل القطن. يقتدح به. وهو عريض الورق. يخرج من شعبه ومواضع زهره سكر فيه شىء من المرارة يقال له سكر العشر. ويخرج له نفاخ كشقاشق الجمال. وله نور كالدفلى، مشرق حسن النظر. وله ثمر: l AselePiasgigaN tea.Le AselePiade:FoRsk GalotRoP isPRoeRa: [3] أما الافرنج والأمريكان فى هذا العصر فانهم يستنزلون الغيث باطلاق المدافع لاحداث الدوىّ والضجيج والالتهاب فى الجو..

والجمّة: الجماعة يمشون فى الدّم، وفى الصلح. ومعنى هذا البيت: لم تندم على ما أعطيت فى الحمالة عند كلام الجماعة، فتوقد خلفهم ناراكى لا يعودوا. 4- نار التحاليف. كانوا لا يعقدون حلفهم إلا عليها، فيذكرون منافعها، ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذى ينقض العهد، ويطرحون فيها الكبريت والملح. فإذا فرقعت هوّل على الحالف. قال الكميت: همو خوّفونى بالعمى هوّة الرّدى ... كما شبّ نار الحالفين المهوّل. وقال أوس بن حجر: إذا استقبلته الشّمس، صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهوّل حالف. 5- نار الغدر. كانت العرب إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا له نارا بمنى، أيام الحج على الأخشب (وهو الجبل المطلّ على منّى) . ثم صاحوا: هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم: فإن نهلك فلم نعرف عقوقا ... ولم توقد لنا بالغدر نار. 6- نار السّلامة. وهى نار توقد للقادم من سفره، إذا قدم بالسلامة والغنيمة. قال الشاعر: يا سليمى أوقدى النارا ... إنّ من تهوين قد زارا. 7- نار الحرب. وتسمّى نار الأهبة والإنذار. توقد على يفاع، فتكون إعلاما لمن بعد. قال ابن الرومى: له ناران: نار قرى وحرب. ... ترى كلتيهما ذات التهاب. 8- نار الصّيد. يوقدونها لصيد الظباء، لتعشى أبصارها.

9- نار الأسد. كانت العرب توقدها إذا خافوه؛ فإن الأسد إذا عاين النار حدّق إليها وتأمّلها. 10- نار السّليم. توقد للملدوغ، والمجروح، ومن عضّه الكلب الكلب حتّى لا يناموا فيشتدّ بهم الألم. قال النابغة: يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلى النّساء فى يديه قعاقع. وذلك لأنهم كانوا يعلقون عليه حلى النساء ويتركونه سبعة أيام. 11- نار الفداء. وذلك أن ملوكهم كانوا إذا سبوا قبيلة وخرجت إليهم السادات فى الفداء وفى الاستيهاب، كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن. وأما فى الظلمة فيخفى قدر ما يحبسون من الصيفىّ لأنفسهم، وقدر ما يجودون به، وما يأخذون عليه الفداء. فيوقدون لذلك النار. قال الشاعر: نساء بنى شيبان يوم أوارة ... على النّار إذ تجلى له فتياتها. 12- نار الوسم. كانوا يقولون للرجل: ما نارك؟ (فى الاستخبار عن الإبل) أو ما سمتك؟ [فيقول] : حياط، أو علاط، أو حلقة، أو كذا، أو كذا. حكى أن بعض اللصوص قرّب إبلا كان قد أغار عليها وسلبها من قبائل شتّى إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التجّار: ما نارك؟ وإنما سأله عن ذلك، لأنهم كانوا يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها، فقال: تسألنى الباعة: ما نجارها، ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها؟ وكلّ دار لأناس دارها! ... وكلّ نار العالمين نارها [1] !

_ [1] يقول العرب فى أمثالهم: «كل نجار إبل نجارها» وشطره الثانى «ونار إبل العالمين نارها» يضربون المثل للمخلط الذى فيه كل لون من الأخلاق وليس له رأى يثبت عليه.

13- نار القرى. وهى من أعظم مفاخر العرب. كانوا يوقدونها فى ليالى الشتاء، ويرفعونها لمن يلتمس القرى. فكلما كانت أضخم وموضعها أرفع، كان أفخر. وهم يتمادحون بها، قال الشاعر: له نار تشبّ بكلّ واد ... إذا النّيران ألبست القناعا. وقال إبراهيم بن هرمة: إذا ضلّ عنهم ضيفهم، رفعوا له ... من النار فى الظّلماء ألوية حمرا. 14- وكانت للعرب نار عظمى تسمّى نار الحرّتين. وهى التى أطفأها الله تعالى بخالد بن سنان العبسىّ. وكانت حرّة ببلاد عبس، تسمّى حرّة الحدثان. روى عن ابن الكلبىّ أنه قال: كان يخرج منها عنق فيسيح مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، لا تمرّ بشىء إلا أحرقته. وأن خالد بن سنان أخذ من كل بطن من بنى عبس رجلا فخرج بهم نحوها، ومعه درّة حتّى انتهى إلى طرفها، وقد خرج منها عنق كأنه عنق بعير فأحاط بهم، فقالوا: هلكت والله أشياخ بنى عبس آخر الدهر! فقال خالد كلّا! وجعل يضرب ذلك العنق بالدّرّة ويقول: «بدّا بدّا، كلّ هدى الله يؤدّى! أنا عبد الله خالد بن سنان!» فما زال يضربه حتّى رجع، وهو يتبعه والقوم معه كأنه ثعبان يتملك حجارة الحرّة حتّى انتهى إلى قليب، فانساب فيه وتقدّم عليه، فمكث طويلا. فقال ابن عم لخالد، يقال له عروة بن شب: لا أرى خالدا يخرج إليكم أبدا! فخرج ينطف عرقا، وهو يقول: زعم ابن راعية المعزى أنى لا أخرج. فقيل لهم بنو راعية المعزى إلى الآن. وفى هذه النار يقول الشاعر: كنار الحرّتين لها زفير ... تصمّ مسامع الرجل السّميع.

6 - ذكر النيران المجازية

6- ذكر النيران المجازية ومن النيران، نيران مجازية لا حقيقية. فمنها: نار البرق. وقد وصفها بعض الأعراب فقال: نار تجدّد للعيدان نضرتها ... والنار تشعل عيدانا فتحترق إشارة إلى أن النار تحرق العيدان، إلا نار البرق فإنها تجىء بالغيث. نار المعدة. وهى التى تهضم الطعام. وهى كنار الحياة، ونار الغريزة. وقوّتها مادّة للصحة، كما أن ضعفها سبب للعلة. نار الحمّى. وقد قيل: النيران ثلاثة: نار لا تأكل ولا تشرب، وهى نار الآخرة؛ ونار تأكل وتشرب، وهى نار الحمّى، تأكل اللحم وتشرب الدّم؛ ونار تأكل ولا تشرب، وهى نار الدّنيا. ومن النيران المجازية: نار الشوق، نار الشّره، نار الشباب، نار الشراب. قال شاعر يمدح بعض الملوك: وقيت نار الجحيم يا ملك، ... أربع نيرانه له نسق! نار شباب تروق نضرتها، ... ونار راح كأنّه شفق، ونار سلطانه، تقارنها ... نار قرى لا تزال تأتلق،

7 - ذكر النيران التى يضرب المثل بها

7- ذكر النيران التى يضرب المثل بها يضرب المثل: بنار الحباحب. وهى نار لبخيل كان يوقدها. فإذا استضاء بها إنسان، أطفأها. وقيل: إنها النار التى توريها الخيل بسنابكها من الحجارة. قال الله تعالى: (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) . وقال النابغة: ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب وهذا المثل يضرب لما لا منفعة فيه ولا حاصل له. نار الغضى، يضرب بها المثل فى الحرارة. وهى جمر أبيض لا يصلح إلا للوقود. نار العرفج. هى نار تتقد سريعا. قال قتيبة بن مسلم لعمرو بن عباد بن الحصين: «للسّؤدد أسرع إليك من النار فى يبس العرفج» . إذا التهبت فيه النار انتشرت وتسمى نار الزّحفتين، لأن العرفج إذا انتشرت فيه النار عظمت واستفاضت. فمن كان بالقرب منها زحف عنها، ثم لا تلبث أن تنطفئ من ساعتها. فيحتاج الذى زحف عنها أن يزحف إليها. فلا يزال المصطلى بها كذلك، فلذلك سميت نار الزحفتين. نار الحلفاء. يضرب بها المثل فى سرعة الاتقاد، كما قيل: فما ظنّك بالحلفا ... ءأدنيت له نارا. وفى سرعة الانطفاء، كما قيل: نار الحلفاء، سريعة الانطفاء.

8 - ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل

8- ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل يقال: آكل من النار؛ أحرّ من النار؛ أحرّ من الجمر؛ أحسن من النار؛ أسرع من شرارة فى قصباء. ويقال: فلان وارى الزناد؛ وريت بك زنادى؛ فلان ثاقب الزّند؛ فلان كابى الزّناد؛ صلدت زناده؛ فلان ما يصطلى بناره؛ هو القابس العجلان؛ هما زندان فى وعاء. ومن أنصاف الأبيات: والنار قد يخمدها النّافخ كملتمس إطفاء نار بنافخ والجمر يوضع فى الرّماد فيخمد كذا كلّ نار روّحت تتوهّج هيهات تكتم فى الظّلام مشاعل ومن الأبيات قول علىّ بن الجهم: والنّار فى أحجارها مكنونة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند وقال آخر: والنار بالماء الذى هو ضدّها ... تعطى النّضاج، وطبعها الإحراق. وقال آخر: والكاتم الأمر ليس يخفى ... كالموقد النار باليفاع. وقال آخر: لا تتّبع كلّ دخان ترى، ... فالنّار قد توقد للكىّ.

9 - ذكر ما قيل فى وصف النار وتشبيهها

وقال أبو تمام: لولا اشتعال النّار فيما جاورت، ... ما كان يعرف طيب عرف العود. وقال آخر: وفتيلة المصباح تحرق نفسها ... وتضىء للسّارى، وأنت كذاكا. 9- ذكر ما قيل فى وصف النار وتشبيهها قال عبد الله بن المعتزّ، غفر الله له: كأنّ الشّرار على نارها ... وقد راق منظرها كلّ عين. سحالة تبر إذا ما علا، ... فإمّا هوى ففتات اللّجين. أخذه العسكرىّ فقال: أوقدت بعد الهدوّ نارا ... لها على الطارقين عين . شرارها إن علا نضار، ... لكنّه إن هوى لجين. وقال السّرىّ الرّفّاء: والتهبت نارنا، فمنظرها ... يغنيك عن كلّ منظر عجب . إذا رمت بالشّرار فاطّردت ... على ذراها مطارد اللهب، رأيت ياقوتة مشبّكة ... تطير عنها قراضة الذّهب. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: حمراء نازعت الرّياح رداءها ... وهنا وزاحمت السّماء بمنكب. ضربت سماء من دخان فوقها، ... لم تدر منها شعلة من كوكب. وتنفّحت عن كلّ نفحة جمرة ... باتت لها ريح الشّمال بمرقب. قد ألهبت فتذهّبت فكأنها ... شقراء تمرح فى عجاج أكهب [1] .

_ [1] الكهبة لون ليس بخالص فى الحمرة. وهو فى الحمرة خاصة (صحاح الجوهرى) .

وقال أبو الفتح كشاجم: كأنما النار والرّماد وقد ... كاد يوارى من نورها النّورا: ورد جنىّ القطاف أحمر قد ... ذرّت عليه الأكفّ كافورا. وقال تاج الملوك بن أيوب: أما ترى النار وهى تضرم فى ... أحشاء كانونها وتلتهب؟ كأنّما الفحم فوقها قضب ... من عنبر وهى تحته ذهب. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: لابنة الزّند فى الكوانين جمر ... كالدّرارىّ فى دجى الظّلماء. خبّرونى عنها ولا تكتمونى، ... ألديها صناعة الكيمياء؟ سبكت فحمها صفائح تبر ... رصّعتها بالفضّة البيضاء. كلّما رفرف النّسيم عليها ... رقصت فى غلالة حمراء. هذا البيت مأخوذ من قول الخفاجىّ: وكأنّها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص فى قميص أحمر. وقال أبو هلال العسكرىّ: نار تلعّب بالسّقوف كأنها ... حلل مشقّقة على حبشان. ردّت عليها الريح فضل دخانها ... فأتت به سبجا على عقيان. فالجوّ يضحك فى ابيضاض شرائر ... منها ويعبس فى اسوداد دخان.

وقال ابن أبى الخصال: وعوجوا على ياقوته ذهبيّة، ... يهيم بها المقرور بالسّبرات [1] . إذا ما ارتمت من فحمها بشرارها، ... رأيت نجوم اللّيل منكدرات. وقال سيف الدّولة بن حمدان: كأنما النار والرّماد معا ... وضوءها فى ظلامه يحجب: وجنة عذراء مسّها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب. وقال آخر: فحم كيوم الفراق تشعله ... نار كنار الفراق فى الكبد. أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرّمد. وقال أبو طالب المأمونىّ: ما نرى النار كيف أسقمها القرّ ... فأضحت تخبو وطورا تسعّر؟ وغدا الجمر والرّماد عليه ... فى قميص مذهّب ومعنبر؟ وقال أبو فراس الحمدانىّ: لله برد ما أش ... دّ ومنظر ما كان أعجب! جاء الغلام بناره ... هو جاء فى فحم تلهّب. فكأنما جمع الحلىّ ... فمحرق منه ومذهب. ثم انطفت فكأنها ... ما بيننا ندّ معشّب.

_ [1] السّبرة: الغداة الباردة.

10 - ذكر شىء مما قيل فى الشمعة والشمعدان

10- ذكر شىء مما قيل فى الشّمعة والشّمعدان (والسراج [1] والقنديل [2] ) 1- أما الشمعة، فمن جيّد ما قيل فيها قول الأرّجانىّ: نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للنّاس من فيها. قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها. سقيمة لم يزل طول اللسان لها ... فى الحىّ يجنى عليها ضرب هاديها. غريقة فى دموع، وهى تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها. تنفّست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها. يخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيّيها. بدت كنجم هوى فى إثر عفرية ... فى الأرض فاشتعلت منه نواصيها. نجم رأى الأرض أولى أن يبوّأها ... من السماء، فأمسى طوع أهليها. كأنها غرّة قد سال شادخها ... فى وجه دهماء يزهيها تجلّيها. أو ضرّة خلقت للشّمس حاسدة؛ ... فكلّما حجبت، قامت تحاكيها. وحيدة كشباة الرّمح هازمة ... عساكر الليل إن حلّت بواديها. ما طنّبت قطّ فى أرض مخيّمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها.

_ [1] مما يجب التنبية اليه ان «سورج» و «سرج» معناهما الشمس فى اللغة الهندية عن السنسكريتيه (أنظر القاموس الهندى الانكليزى تأليف فوربس) . [2] فى اللغة اللاتينية CaNdella وفى الفرنسية ChaNdelle بمعنى الشمعة وعنها.CaNdelaBRe ويقول علماء الافرنج ان اختراع الشمع للاستضاءة مما توصل اليه الغاليون وعلى ذلك يكون الأصل افرنكيا ثم نقله العرب لمعنى المصباح المعرف بالقنديل.

لها غرائب تبدو من محاسنها، ... إذا تفكّرت يوما فى معانيها. كصعدة فى حشا الظّلماء طاعنة ... تسقى أسافلها ريّا أعاليها . فالوجنة الورد إلا فى تناولها ... والقامة الغصن إلا فى تثنّيها . صفراء هنديّة فى اللّون إن نعتت، ... والقدّ واللّين إن أتممت تشبيها . فالهند تقتل بالنّيران أنفسها ... وعندها أنّ ذاك القتل يحييها . قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجنى على الكفّ إن أهويت تجنيها . ورد تشاك به الأيدى إذا قطفت، ... وما على غصنها شوك يوقّيها . ما إن تزال تبيت اللّيل ساهرة ... وما بها غلّة فى الصّدر تطفيها . صفر غلائلها، حمر عمائمها، ... سود ذوائبها، بيض لياليها . تحيى الليالى نورا، وهى تقتلها. ... بئس الجزاء لعمر الله تجزيها! قدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها. غرّاء فرعاء ما تنفكّ قالية ... تقصّ لمتّها طورا وتفليها. شبّاء شعثاء لا تكسى غدائرها ... لون الشّبيبة إلا حين تبليها. قناة ظلماء لا تنفك يأكلها ... سنانها طول طعن أو يشظّيها. مفتوحة العين تفنى ليلها سهرا؛ ... نعم، وإفناؤها إيّاه يفنيها. وربّما نال من أطرافها مرض ... لم يشف منه بغير القطع مشفيها. وقال آخر: بيضاء أضحكت الظلام فراعها ... فبكت وأسبلت الدّموع بوادرا. جفّت دموع جفونها فكأنّما ... كسيت من الطّلع النّضيد ضفائرا.

وقال أبو القاسم المطرّز من أبيات: وللشّموع عيون كلّما نظرت ... تظلّمت من يديها أنجم الغسق. من كلّ مرهفة الأعطاف كالغصن ال ... ميّاد لكنّه عار من الورق. إنى لأعجب منها وهى وادعة ... تبلى، وعيشتها من ضربة العنق! وقال آخر: جاءت بجسم كأنّه ذهب ... تبكى وتشكى الهوى وتلتهب. كأنها فى أكفّ حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب. وقال محمد بن أبى الثبات، شاعر اليتيمة: ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت، وباطنها مكتسى. لها مقلة هى روح لها، ... وتاج على الرأس كالبرنس. إذا غازلتها الصّبا حرّكت ... لسانا من الذّهب الأملس. وتنتج من حيث ما ألقحت ... ضياء يجلّى دجى الحندس. فنحن من النّور فى أسعد، ... وتلك من النار فى أنحس! وقال آخر: ورشيقة بيضاء تطلع فى الدّجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها. شابت ذوائبها أوان شبابها، ... واسودّ مفرقها أوان فنائها. كالعين: فى طبقاتها ودموعها ... وبياضها وسوادها وضيائها.

ومما ورد فى وصفها نثرا.

وقال الصاحب بن عبّاد: وشمعة قدّمت إلينا ... تجمع أوصاف كلّ صبّ: صفرة لون، وذوب جسم، ... وفيض دمع، وحرّ قلب. وقال السرىّ الرفّاء: مفتولة مجدولة ... تحكى لنا قدّ الأسل. كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل. ومما ورد فى وصفها نثرا. من رسالة لابن الأثير الجزرىّ جاء منها: وكان بين يدىّ شمعة تعمّ مجلسى بالإيناس، وتغنى بوجودها عن كثرة الجلّاس؛ وكانت الريح تتلعّب بشعبها، وتدور على قطب لهبها؛ فطورا تقيمه فيصير أنمله، وطورا تميله فيصير سلسله؛ وتارة تجوّفه فيصير مدهنه، وتارة تجعله ذا ورقات فيمثل سوسنه؛ وآونة تنشره فيبسط منديلا، وآونة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا. ومن رسالة أخرى له: وكانت الريح تتلعّب بلهبها لدى الخادم فتشكله أشكالا، فتارة تبرزه نجما، وتارة تبرزه هلالا؛ ولربما سطع طورا كالجلّنارة فى تضاعيف أوراقها، وطورا كالأصابع فى انضمامها وافتراقها. وقال سيف الدّين المشدّ فى الفانوس: وكانّما الفانوس فى غسق الدّجى ... دنف براه سقمه وسهاده. حنيت أضالعه ورقّ أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده.

2 - ومما قيل فى السراج.

2- ومما قيل فى السراج. من رسالة لأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال، جاء منها: عذرا إليك أيّدك الله! فإنى خططت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحرّكه لسانا؛ وآونة تطويه جنّابه، وأخرى تنشره ذؤابه؛ وتارة تقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوّسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشقته حروف برق، بكفّ ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلا حظّ منه للعين، ولا هداية فى الطّرس ميدين. 3- رسالة القنديل والشمعدان. من إنشاء المولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لى روايتها عنه. وهى الموسومة «بزهر الجنان، فى المفاخرة بين القنديل والشمعدان» . ابتدأها بأن قال: الحمد لله الذى أنار حالك الظّلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلّى جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحىّ خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدرر أنوار دراريها؛ كرع فى نهر مجرّتها النّسران، ورتع فى مراعى رياضها الفرقدان.

أحمده على نعمه التى لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدّى واجب حقها إنسان؛ حمدا يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان. وأصلى وأسلم على سيدنا محمد الذى أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهوره أفعال الركوع والسجود؛ صلّى الله وسلم عليه وعلى آله الوافين بالعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلاما دائمين إلى اليوم الموعود! وبعد فإن فنون الاداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جدّ ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثّل فى خاطرى المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بدّ من إبراز المفاخرة بينهما فى أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزّقا جلباب الدّجى بأضوائهما، وحسما مادّة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا فى سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدرا من جوهرهما نورا. سماكل واحد منهما إلى أنه الأصل، وأن بمدحه يحسن الفصل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمه، والبدرة التى ليست لها قيمه؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت فى جيد مجده قلائد العقيان. فأحببت أن أنظمهما فى ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحه، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحه؛ وليتسنم غارب الاستحقاق بالفضيله، ويؤكد فى تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدّعاوى إلا بالبرهان، ولعمرى لقد قيل قدما: من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان.

فأتلع الشمعدان جيده للمطاوله، وعرض سمهريّه اللجينىّ للمناضله. وقال: استنّت الفصال حتّى القرعى لست بنديم الملوك فى المجالس، كلّا ولا الروضة الغنّاء للمجالس! طالما أحدقت بى عساكر النظار، ووقفت فى استحسان هياكلى رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علّقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسودّ وجهك من دخانك. فنضنض لسان القنديل نضنضة الصّلّ، وارتفع ارتفاع البازى المطلّ. وقال: إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخارى بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت فى أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدّسة بشموس أنوارى حلا؛ جمع شكلى مجموع العناصر، فعلى مثلى تعقد الخناصر؛ يحسبنى الرائى جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك فى المجالس زمانا، ومن صبر على حرّ المشقة ارتفع مكانا. فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهمّ بأن يكون عن جوابه منكّبا. وقال: أين ثمنك من ثمنى، ومسكنك من مسكنى؟ صفائحى صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتّبريز؛ تنزّه العيون فى حمائلى الذهبيه، وتسر النفوس ببزوغ أنوارى الشمسيه؛ ولا يملكنى إلا من أوطنته السعادة مهادها، وقرّبت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت فى الصحة والسّقم، وازدادت قيمتى إذا نقصت فى القيم؛ إن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصبّ وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتى، ولا من قرناء مفاخرتى. فالتفت القنديل التفات الضّرغام، وفوّق إلى قرينه سهام الملام. وقال:

أنت عندى كثعاله، لا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريّا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك فى صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلوّ وخصصت بالهبوط. ترى باطنى من ظاهرى مشرقا، وتخالنى لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتى مسلسل، وتاج فضائلى بجواهر العلوّ مكلّل. فلحظه الشّمعدان بطرف طرفه، وأرسل فى ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال: إنّ افتخارك بالعلوّ غير مفيد، ومزية اختصاصك به ليس له أبّهة مزيد؛ طالما علا القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدّخان؛ ولقد صيّرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السّها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل: وقلب بلا لبّ، وأذن بلا سمع وسلاسلك تشعر بعقلك، وعتوك ينبئ عن غلوّ إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفّة بكفّه، ووزنته إذ كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخرى الجليله، واستمع مناقبى الجميله. أطارد جيوش الظّلماء برمحى، وأمزق أثوب الديجور بصبحى؛ جمع عاملى بين طلع النخل. وحلاوة النحل؛ يتلو سورة النور لسانى، ويقوى فى مصادمة عساكر الليل البهيم جنانى؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسنى أحسن جلوه. ولله درّ القائل: انظر إلى شمعدان شكله عجب ... كروضة روّضت أزهارها السّحب. يطارد الليل رمح فيه من ورق ... سنانه لهب من دونه الذّهب. فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى.

فأضرم نار تبيينه، فى أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل: لقد أطلت الأفتخار بمحاسن غيرك، لّما وقفت فى المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلى الجوامع، والفرقان فارق بينى وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتى فيه بيّنه، وآية نورى فى سورة النور مبيّنه؛ فاقطع موادّ اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالافتخار الأولى؛ تخالنى درّة علّقت فى الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء. ولله درّ القائل: قنديلنا فاق بأنواره ... نور رياض لم تزل مزهره. ذبالة فيه إذا أوقدت ... حكت بحسن الوضع نيلوفره. لا يحمل الأقذاء خاطرى، ولا يغتمّ مشاهدى وناظرى؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذى لا يفتقر إلى الحكّ؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرّضت نفسك للمنيه، وانعكست عليك موادّ الأمنيه؛ مع أن الحق أوضح من لبّة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبه، وهذه ميادين المناضلة رحبه. فحار الشمعدان فى الجواب، وجعل ما أبداه أوّلا فصل الخطاب فقال القنديل: لا بدّ من الإقرار بأن قدحى المعلّى، وأنى عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامى العالى، ونورى المتوالى.

فقال الشمعدان: لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدّرّىّ الذى قصر عن بلوغك باع مثيلك. فجنح الشمعدان للسلّم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدى شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ وقال: لولا حميّة النفوس، ما تجمّلت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمّنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاؤك من كدرى، وأين نظرك من نظرى؛ خصك الله بنوره، وذكرك فى فرقانه وزبوره. فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال: حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائى خميلة نور تفتّحت أزهارها، وحديقة نرجس اطّردت أنهارها؛ تسرّ بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طىّ بساط المنافسه، وإخماد شرر المقابسه؛ والاستغفار فيما فرط من كلامنا، والرجوع إلى الله فى إصلاح أقوالنا وأفعالنا. ونقول: الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حفى كل واحد منا فى إبراز معايبه قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا فى المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين!

القسم الثالث من الفن الأول فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد

القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم 1- فى الليالى والأيام روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله الخلق فى ظلمة. (وروى: فى عماء) ثم رش عليهم من نوره. وهذا يدل على أن الظلمة خلقت قبل النور. وروى أن عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) سئل عن الليل، أكان قبل أو النهار؟ قال: أرأيتم حيث كانت السماوات والأرض رتقا، هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل كان قبل النهار. والذى ورد فى القرآن من ذكر الليل والنهار، والظلمات والنور بدأ الله (عز وجل) بذكر الليل قبل النهار، وبالظلمات قبل النور. ويروى أن الله (عز وجل) لما خلق السماء والأرض، وقع ظل السماء على الأرض فأظلمت، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا.

2 - ذكر ما قيل فى الليل وأقسامه

ثم خلق الزمان وقسمه قسمين: ليلا، ونهارا. فجعل حصة الليل للقمر، وحصة النهار للشمس. فكانا يتعاقبان بالطلوع فيهما، فلم يكن بين الليل والنهار فرق فى الإضاءة. فلما أراد الله عز وجل خلق النوع الإنسانىّ- وعلم أنه لا غنى له عن حركته للمعاش نهارا وسكونه للراحة ليلا- أمر جبريل فأمرّ جناحه على القمر فمحا نوره. فالسواد الذى يرى فى القمر هو أثر المحو، وصار الليل مظلما، والنهار مبصرا. وروى أيضا أن الله (عز وجل) خلق حجابا من ظلمة مما يلى المشرق، ووكّل به ملكا يقال له سراهيل. فإذا انقضت مدّة النهار، قبض الملك قبضة من تلك الظلمة واستقبل بها المغرب، فلا تزال الظلمة تخرج من خلل أصابعه وهو يراعى الشفق. فإذا غاب الشفق، بسط كفه فطبق الدّنيا ظلمة. فإذا انقضت مدّة الليل، قبض كفه على الظلمة، إصبعا بعد إصبع إلى أن يذهب الظلام، حتّى تنتقل الشمس من الشرق إلى الغرب. وذلك من أشراط الساعة. والله أعلم! 2- ذكر ما قيل فى الليل وأقسامه الليل طبيعىّ، وشرعىّ. أما الطبيعىّ، فهو من حين غروب الشمس واستتارها إلى طلوعها وظهورها. وأمّا الشرعىّ، فهو من حين غروبها إلى طلوع الفجر الثانى، وهو المراد بقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) . والليل ينقسم إلى اثنتى عشرة ساعة، لها أسماء وضعتها العرب، وهى:

فصل

الشاهد، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوشن ثم العبكة [1] ، ثم التّباشير، ثم الفجر الأوّل، ثم الفجر الثانى، ثم المعترض. هذا ما ذكره ابن النحاس فى وصف صناعة الكتاب. وحكى الثعالبىّ فى فقه اللغة- عن حمزة الأصفهانىّ، قال: وعليه عهدته- أسماء غير هذه، وهى: الجهمة، والشّفق، والغسق، والعتمة، والسّدفة، والزّلّة [2] ، والزّلفة، والبهرة، والسّحر، والفجر، والصّبح، والصّباح. فصل وقد عبّر بالليالى عن الأيام، كقول الله عزّ وجلّ: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ؛ وقوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) . فعبر عن الأيام بالليالى، لأن كل ليلة تتضمن يوما. 3- ذكر الليالى المشهورة من الليالى المشهورة: ليلة البراءة. وهى ليلة النصف من شعبان، قيل سميت بذلك لأنها براءة لمن يحييها؛ وليلة القدر. والصحيح أنها فى مفردات العشر الأخير من شهر رمضان؛ وليلة الغدير. وهى ليلة الثامن عشر من ذى الحجة؛

_ [1] كذا بالأصل والذى فى كتب اللغة بهذا المعنى «الهتكة» فلعل ما هنا تحريف من الناسخ. [2] لا توجد هذه الكلمة بهذا المعنى لا فى اللسان ولا فى القاموس ولا فى مستدرك شارحه. وهذا هو الذى دعا الثعالبى لجعل العهدة على حمزة الاصفهانى.

4 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الليل

وليلة الهرير. وهى ليلة من ليالى صفّين، قتل فيها خلق كثير من أصحاب معاوية (رضى الله عنه) ؛ وليلة الخلعاء. وهى ليلة باتها أبو الطّمحان القينىّ عند ديرانية، فأكل طفيشلها [1] بلحم الخنزير، وشرب خمرها، وزنى بها، وسرق كساءها؛ وليلة النابغة. يضرب بها المثل فى الخوف؛ وليلة المتوكل. تضرب مثلا فى موت نتج من سرور، لأنه قتل فى مجلس أنسه، على ما نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى. 4- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الليل يقال: أطغى من الليل. أطفل من ليل على نهار. أحير من الليل. أستر من الليل. أظلم من الليل. أندى من ليلة ماطرة. ويقال: الليل أخفى للويل. الليل نهار الأريب. الليل طويل وأنت مقمر. الليل وأهضام الوادى. الليل أغور (لأنه لا يبصر فيه) . ويقال: اتخذ الليل جملا. شمّر ذيلا، وادّرع ليلا. أمر نهار قضى بليل.

_ [1] نوع من المرق (قاموس) . وقال ابن الخشّاب فى تفسير ألفاظ الكتاب المنصورى للرازى ما نصه: طفشيل (بهذا الضبط) طعام يتخذ من الحبوب كالباقلىّ والحمّص ونحوهما (عن تكملة المعجمات العربية لدوزى) .

5 - ذكر ما قيل فى وصف الليل وتشبيهه

ومن أنصاف الأبيات: الليل حبلى ليس تدرى ما تلد ما أقصر الليل على الراقد! ما أشبه الليلة بالبارحه! وليل المحبّ بلا آخر إحدى لياليك فهيسى هيسى! فإنّك كالليل الذى هو مدركى ومن الأبيات: إن اللّيالى لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان. واللّيالى كما عهدت حبالى ... مقربات يلدن كلّ عجيب. أما ترى اللّيل والنهارا ... جارين لا يبقيان جارا؟ وقال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تمنّيا! وقال أبو حية النّميرىّ: إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة، ... تقاضاه شىء لا يملّ التّقاضيا. 5- ذكر ما قيل فى وصف الليل وتشبيهه قد أكثر الشعراء فى وصف الليل بالطّول والقصر. وذكروا سبب الطول الهموم وسبب القصر السرور. ولهذا أشار بعض الشعراء فى قوله: إنّ الليالى للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الاعمار. فقصارهنّ مع الهموم طويلة، ... وطوالهنّ مع السرور قصار.

6 - وأما ما وصف به من الطول

وقال آخر: إنّ التّواصل فى أيامه قصر، ... كما التهاجر فى أيّامه طول. فليس يعرف تسهيدا ولا رمدا ... جفن برؤية من يهواه مشغول. وقال ابن بسّام: لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تغور. ليل كما شاءت فإن لم تزر، ... طال؛ وإن زارت، فليل قصير. أصله من قول علىّ بن الخليل: لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أنّ نجوم الليل ليست تعول. ليل كما شاءت قصير إذا ... جادت، وإن صدّت، فليل طويل. وقال آخر: أخو الهوى يستطيل الليل من سهر، ... والليل فى طوله جار على قدره. ليل الهوى سنة فى الهجر مدّته؛ ... لكنّه سنة فى الوصل من قصره. وقال الوليد بن يزيد بن عبد الملك: لا أسأل الله تغييرا لما صنعت: ... نامت وقد أسهرت عينىّ عيناها. فالليل أطول شىء حين أفقدها ... والليل أقصر شىء حين ألقاها. 6- وأما ما وصف به من الطول قال الخبّاز: وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا. كيوم القيامة فى طوله ... على من يراقب فيه الصّباحا.

وقال ابن المعتزّ: مالى أرى الليل مسبلا شعرا ... عن غرّة الصّبح غير مفروق. وقال بشار: خليلىّ! ما بال الدّجى لا يزحزح، ... وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح؟ أضلّ النّهار المستنير طريقه؟ ... أم الدّهر ليل كلّه ليس يبرح؟ وقال الرّفاء: ألا ربّ ليل بتّ أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا اللّيل أغمضا. كأنّ الثّريّا راحة تشبر الدّجى ... لتعلم طال اللّيل لى أم تعرّضا. عجبت لليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا؟ وقال محمد بن عاصم: أقول، واللّيل دجى مسبل ... والأنجم الزّهر به مثّل: يا طول ليل ما له آخر ... منك، وصبح ماله أوّل! وقال التنوخىّ: وليلة كأنّها قرب أمل ... ظلامها كالدّهر ما فيه خلل. كأنّما الإصباح فيها باطل ... أزهقه الله بحقّ، فبطل. ساعاتها أطول من يوم النّوى ... وليلة الهجر وساعات العذل. مؤصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرج منها من دخل. وقال أبو محمد، عبد الله بن السيّد البطليوسىّ: ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبّ، أوفى الجوّ روض نهار؟ كأنّ الليالى السّبع فى الأفق جمّعت ... ولا فصل فيما بينها بنهار.

وقال الشريف البياضىّ: أقول لصحبى والنجوم كأنّها، ... وقد ركدت فى بحر حندسها غرقى: أرى ثوب هذا اللّيل لا يعرف البلى! ... فهل أرين للصّبح فى ذيله فتقا؟ وقال أيضا: أقول وللدّجى عمر مديد ... وآخره يردّ إلى معاد. وقد ضلّت كواكبه، فظلّت ... حيارى ما لها فى الأفق هادى: لعلّ الليل مات الصّبح فيه، ... فلازم بعده لبس الحداد. وقال آخر: أما لظلام ليلى من صباح؟ ... أما للنّجم فيه من براح؟ كأنّ الأفق سدّ، فليس يرجى ... به نهج إلى كلّ النواحى. كأنّ الشّمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير روّاد طلاح. كأنّ الصّبح مهجور طريد، ... كأنّ الليل مات صريع راح. كأنّ بنات نعش متن حزنا، ... كأنّ النّسر مكسور الجناح. وقال آخر: يا ليلة طالت على عاشق، ... منتظر للصّبح ميعادا! كادت تكون الحول فى طولها؛ ... إذا مضى أوّلها، عادا. وقال ابن الرومىّ: ربّ ليل كأنّه الدّهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد. ذى نجوم كأنّهنّ نجوم الشّ ... يب ليست تزول، لكن تزيد.

وقال أبو الأحنف: حدّثونى عن النّهار حديثا ... أو صفوه، فقد نسيت النّهارا. وقال بشّار: طال هذا اللّيل بل طال السّهر! ... ولقد أعرف ليلى بالقصر. لم يطل حتّى دهانى فى الهوى ... ناعم الأطراف فتّان النّظر. فكأنّ الهجر شخص ماثل ... كلّما أبصره النّوم نفر. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: يا ليل وجد ينجد ... أما لطيفك مسرى؟ وما لدمعى طليق ... وأنجم الجوّ أسرى؟ وقد طما بحر ليل ... لم يعقب المدّ جزرا. لا يعبر الطّرف فيه ... غير المجرّة جسرا. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: وليل كأنّ الدّهر أفضى بعمره ... جميعا إليه، فانتهى فى ابتدائه. يحدّث بعض القوم بعضا بطوله، ... ولم يمض منه غير وقت عشائه. وقال إبراهيم ولد ابن لنكك البصرىّ، شاعر اليتيمة: وليلة أرّقنى طولها ... فبتّها فى حيرة الذّاهل. كأنّما اشتقّت لإفراطها ... فى طولها من أمل الجاهل. وقال امرؤ القيس: وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى. فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل:

ألا أيّها الليل الطويل، ألا انجلى ... بصبح! وما الإصباح منك بأمثل! فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل. وقال آخر: أراقب فى السّماء بنات نعش؛ ... ولو أسطيع، كنت لهنّ حادى. كأنّ اللّيل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد. وقال أخرم بن حميد: وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد، والدّمع تجرى سواكبه. كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيّدة دون المسير كواكبه. وقال ابن الرقاع: وكأنّ ليلى حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول. أرعى النجوم. إذا تغيب كوكب، ... أبصرت آخر كالسّراج يجول. وقال آخر: ما لنجوم اللّيل لا تغرب؟ ... كأنّها من خلفها تجذب! رواكد ما غار فى غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب. وقال سعيد بن حميد: يا ليل، بل يا أبد! ... أنائم عنك غد؟ يا ليل لو تلقى الّذى ... ألقى بها أو تجد، قصّر من طولك أو ... ضعّف منك الجلد!

7 - أما ما وصف به من القصر

وقال سيف الدّين المشدّ: مات الصّباح بليل ... أحييته حين عسعس. لو كان فى الدّهر صبح ... يعيش، كان تنفّس. 7- أما ما وصف به من القصر فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس: وليلة إحدى الليالى الزّهر، ... قابلت فيها بدرها ببدرى. لم تك غير شفق وفجر، ... حتّى تولّت وهى بكر الدّهر. وقال الشريف الرضىّ: يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسّحر. وقال آخر: يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا ... فبتّ من صبحها لمّا بدا، فرقا. لما خلوت بآمالى بها، قصرت ... وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا. وقال آخر: يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... يعارض البرق فى أفق الدّجى برقا. قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشّفقا. وقال القاضى السعيد بن سناء الملك: يا ليلة الوصل، بل يا ليلة العمر! ... أحسنت، إلا إلى المشتاق، فى القصر. يا ليت زيد بحكم الوصل فيك لنا ... ما طوّل الهجر من أيامك الأخر.

أو ليت نجمك لم تقفل ركائبه، ... أو ليت صبحك لم يقدم من السّفر. أو ليت لم يصف فيك الشرق من غبش، ... فذلك الصّفو عندى غاية الكدر. أو ليت كلّا من الشرقين ما ابتسما، ... أو ليت كلّا من النّسرين لم يطر. أو ليت كنت كما قد قال بعضهم: ... «ليل الضّرير فصبحى غير منتظر» . أو ليت فجرك لم ينفر به رشئى، ... أو ليت شمسك ما جارت على قمرى. أو ليت قلبى وطرفى تحت ملك يدى ... فزدت فيه سواد القلب والبصر. أو ليت ألقى حبيبى سحر مقلته ... على العشاء فأبقاها بلا سحر. أوليت كنت سألتيه مساعدة ... فكان يحبوك بالتكحيل والشّعر. كأنّها حين ولّت قمت أجذبها ... فانقد فى الشّرق منها الثّوب من دبر. لا مرحبا بصباح جاءنى بدلا ... من غرّة النّجم أو من طلعة القمر! وقال عبد الله بن المعتز: يا ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء! أحييتها فأمتّها ... وطويتها طىّ الرداء. حتّى رأيت الشمس تت ... لو البدر فى أفق السماء. فكأنه وكأنّها ... قدحان من خمر وماء. وقال المهلبى: قد قصر الليل عند ألفتنا ... كأن حادى الصّباح صاح به. وقال آخر: كأنّما الليل راكب فرسا ... منهزما والصّباح فى طلبه.

8 - أما ما وصف به من الإشراق

8- أما ما وصف به من الإشراق فمن ذلك قول شاعر أندلسىّ: ربّ ليل عمرته ... فيك خال من الفكر. كثرت حوله الحجو ... ل وسارت به الغرر. وقال أبو بكر الصنوبرى: يا ليلة طلعت بأسعد طالع ... تاهت على ضوء النهار السّاطع. بمحاسن مقرونة بمحاسن ... وبدائع موصولة ببدائع. ضوء الشّموع وضوء وجهك مازجا ... ضوء العقار وضوء برق لامع. فكأنّما ألقى الدّجى جلبابه ... وأراك جلباب النّهار الساطع. 9- أما ما وصف به من الظلمة قال الله عز وجل: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) . فهذه أتمّ أوصاف الظلمة. وقال مضرّس بن ربعىّ: وليل يقول الناس فى ظلماته: ... سواء صحيحات العيون وعورها كأنّ لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح [1] أعاليها وساج كسورها وقال أبو تمام: إليك هتكنا جنح ليل كأنّما ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد

_ [1] جمع مسح بكسر فسكون وهو الكساء يتخذ من الشعر.

10 - ومما قيل فى تباشير الصباح

وقال أبو نواس: أبن لى: كيف صرت إلى حريمى، ... وجفن الليل مكتحل بقار وقال العلوىّ الأصفهانىّ: وربّ ليل باتت عساكره ... تحمل فى الجوّ سود رايات لامعة فوقها أسنّتها ... مثل الأزاهير وسط روضات ومن رسالة لابى عبد الله بن أبى الخصال. جاء منها: والليل زنجىّ الأديم، تبرىّ النجوم؛ قد جلّلنا ساجه، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال للّحظ، ولا تعارف إلا باللفظ؛ ولو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، ولو خضبت به الشّيبة ما نصلت. 10- ومما قيل فى تباشير الصباح قال أبو محمد العلوىّ: كأنّ اخضرار الجوّ صرح ممرّد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب. كأنّ سواد اللّيل فى ضوء صبحه ... سواد شباب فى بياض مشيب. وقال أبو علىّ بن لؤلؤ، الكاتب: ربّ فجر كطلعة البدر جلّى ... جنح ليل كطلعة الهجران، زار فى حلّة النراة فولّى الل ... يل عنه فى حلّة الغربان. وقال الخالديّان: وكأنّما الصّبح المنير وقد بدا ... باز [1] أطار من الظّلام غرابا.

_ [1] البازلغة فى البازى. (عن الجوهرى) ، واخترنا ذلك لأنه منقول عن كلمة فارسية هى «باز» . وتركية «طوغان» وهو نوع من الصقور وأشد الجوارح تكبرا وأضيقها خلقا. يوجد بأرض الترك ويؤخذ للصيد.

وقال النظام البلخىّ، من شعراء الخريدة: فلاح الصبح مبتسم الثّنايا ... وطار اللّيل مقصوص الجناح. يطير غراب أو كار الدّياجى ... إذا ما حلّ بازىّ الصّباح. وقال تميم بن المعزّ: وكأنّ الصّباح فى الأفق باز ... والدّجى بين مخلبيه غراب. وقال ابن وكيع: غرّد الطير فنبّه من نعس. ... وأدر كأسك فالعيش خلس! سلّ سيف الفجر من غمد الدّجى ... وتعرّى الصبح من ثوب الغلس. وانجلى فى حلة فضّيّة ... ما بها من ظلمة اللّيل دنس. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: ولمّا رأيت الغرب قد غصّ بالدّجى ... وفى الشّرق من ثوب الصّباح دلائل، توهّمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذى يبدو من الشّرق ساحل. وقال أسعد بن بليطة الأندلسىّ: جرت بمسك الدّجى كافورة السّحر ... فغاب، إلا بقايا منه فى الطّرر، صبح يفيض وجنح الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجىّ فى نهر. قد حار بينهما فى برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخدّ والشّعر. وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبىّ: بتنا كأنّ حداد الليل شملتنا ... حتّى بدا الصبح فى ثوب سحولىّ. كأنّ ليلتنا، والصبح يتبعها، ... زنجيّة هربت قدّام رومىّ.

وقال أبو نواس: فقمت والليل يجلوه الصّباح، كما ... جلا التّبسم عن غرّ الثّنيّات. وقال عبد الله بن المعتزّ: قد أغتدى واللّيل فى جلبابه ... كالحبشىّ فرّ من أصحابه. والصّبح قد كشّر عن أنيابه ... كأنّما يضحك من ذهابه. وقال السرىّ: وشرّد الصبح عنّا الليل فاتّضحت ... سطوره البيض فى آياته السّود. وقال أبو فراس: مددنا علينا الليل، والليل راضع ... إلى أن تردّى رأسه بمشيب. بحال تردّ الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنّا عين كلّ رقيب. إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنه ... مبادى نصول فى عذار خضيب. وقال عبد الصمد بن بابك، شاعر اليتيمة: واستهلّت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات، حدادها التّطويق. فتضاحكت شامتا وكأنّ الص ... بح جيب على الدّجى مشقوق. وقال أبو بكر الصنوبرىّ: وليلة كالرّفرف المعلم ... محفوفة الظّلماء بالأنجم. تعلّق الفجر بأرجائها، ... تعلّق الأشقر بالادهم. وقال السلامىّ، شاعر اليتيمة: وقد خالط الفجر الظّلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم.

وعهدى بها، والليل ساق ووصلنا ... عقار، وفوها الكأس أو كأسها الفم. إلى أن بدرنا بالنجوم، وغربها ... يفضّ عقود الدّرّ والشّرق ينظم. ونبّهت فتيان الصّبوح للذّة ... تلوح كدينار يغطّيه درهم. ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى، عفا الله عنه. جاء منها: «فلما قضى الليل نحبه، وأرسل الصباح على دهمه شهبه؛ شمّر الليل إزاره، ووضع النجم أوزاره؛ ونزح بالطّيف طاردا، وظلّ وراء الصبح ناشدا؛ وفجر الفجر نهر النهار، واستردّ البنفسج وأهدى البهار؛ فمواكب الكواكب منهزمه، وغرّة الفجر كغرّة مولاى مبتسمه» . ومما يدخل فى هذا الباب، ما حكى أن بعض الأعراب تزوّج بأربع نسوة، فأراد أن يختبر عقولهنّ. فقال لإحداهنّ: إذا دنا الصبح فأيقظينى. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال: وما يدريك؟ قالت: غارت صغار النجوم وبقى احسنها وأضوؤها وأكبرها، وبرد الحلىّ على جسدى، واستلذذت باستنشاق النسيم. فقال لها: إن فى ذلك دليلا. ثم بات عند الثانية، فقال لها مثل مقالته للأولى. فلما دنا الصبح، أيقظته. فقال لها: وما يدريك؟ قالت: ضحكت السماء من جوانبها، ولم تبق نابتة إلا فاحت روائحها، وعينى تطالبنى بإغفاءة الصباح. فقال لها: إن فى ذلك دليلا.

11 - ذكر ما قيل فى النهار

ثم بات عند الثالثة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، أيقظته. فقال لها: وما يدريك؟ فقالت: لم يبق طائر إلا غرد، ولا ملبوس إلا برد، وقد صار للطّرف: فى الليل مجال، وليس ذلك إلا من دنوّ الصباح. فقال لها: إن فى ذلك لدليلا. ثم بات عند الرابعة، فقال لها مثل ذلك. فلما دنا الصبح، قالت له: قم، فقد دنا الصبح! فقال لها: وما يدريك؟ قالت: أبت نفسى النوم، وطلبنى فمى بالسواك واحتجت إلى الوضوء. فقال لها: أنت طالق، فإنك أقبحهنّ وصفا. 11- ذكر ما قيل فى النهار والنهار طبيعىّ، وشرعىّ. فالطبيعىّ زمان بين طلوع نصف قرص الشمس من المشرق، وإلى غيابه فى المغرب. والشرعىّ ما بين انفجار الفجر الثانى إلى غروب الشمس. والفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو بياض مستطيل؛ والفجر الصادق بياض مستطير. وقد وضعت العرب لساعات النهار أسماء، كما وضعت لساعات الليل، وهى: الذّرور، ثم البزوغ، ثم الضّحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزّوال، ثم الدّلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصّبوب، ثم الحدور، ثم الغروب. ويقال أيضا: البكور، ثم الشّروق، ثم الإشراق، ثم الرّاد، ثم الضّحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطّفل، ثم العشىّ، ثم الغروب. ذكر ذلك معا أبو جعفر النحاس.

12 - ذكر الأيام التى خصت بالذكر

وحكى الثعالبىّ فى كتاب فقه اللغة- عن حمزة بن الحسن- قال: وعليه عهدتها: الشّروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضّحى، ثم الهاجرة، ثم الظّهيرة، ثم الرّواح، ثم العصر، ثم القصر، ثم الأصيل، ثم العشىّ، ثم الغروب. وكانت العرب العاربة تسمّى أيام الأسبوع بأسماء غير هذه التى تتداولها الناس فى وقتنا هذا، وهى: «أوّل» وهو الأحد «أهون» وهو الاثنان «جبار» وهو الثلاثاء «دبار» وهو الأربعاء «مؤنس» وهو الخميس «عروبة» وهو الجمعة «شيار» وهو السبت. نظم ذلك شاعر فقال: أؤمّل أن أعيش وأنّ يومى ... لأوّل أو لأهون أو جبار، أو التالى دبار وإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار. 12- ذكر الأيام التى خصّت بالذكر منها: الأيام المعلومات. وهى عشر ذى الحجة، وفيها يوم التّروية. وهو اليوم الثامن سمى بذلك لأنهم يرتوون من الماء لما بعده، لأن منى لا ماء بها. الأيام المعدودات. هى أيام التشريق. وعدّتها ثلاثة بعد يوم النحر. سميت بذلك لأنهم كانوا يشرّقون فيها لحوم الأضاحى فى الشمس والهواء، لئلا تفسد. أيام العجوز. ويقال فيها الأيام الأعجاز، وهى سبعة: أوّلها السادس والعشرون من شباط من شهور الروم؛ والخامس من برمهات من شهور القبط. وهى لا تخلو من رياح وبرد. وسميت بالعجوز: لأنها فى عجز الشتاء.

يوم عبيد، مثل لليوم المنحوس. كان عبيد بن الأبرص قد تصدّى للنعمان فى يوم بؤسه الذى لا يفلح من لقيه فيه، كما لا يخيب من لقيه فى يوم نعيمه، قال أبو تمّام: من بعد ما ظنّ الأعاذى أنّه ... سيكون لى يوم كيوم عبيد. يوم المطر. يضرب مثلا فى كفر النعمة. وذلك أنه حكى عن المعتمد على الله ابن عباد صاحب إشبيلية أنه خلا بزوجته الرميكية فى مجلس أنس، والزمان فيه قيظ. فتمنّت عليه غيما ومطرا. فأمر بمجامر العنبر والعود والنّدّ، حتّى انعقد الدّخان كالضّباب، ثم أمر برشّ صحن المجلس بماء الورد من أعلاه. وحصل بينهما بعد ذلك نبوة، فقالت له: ما رأيت معك يوم سرور قطّ! فقال لها: ولا يوم المصر؟ [1] ؟ صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى قوله: إنّهنّ يكفرن العشير. يوم عاشوراء. وهو اليوم العاشر من المحرّم. ورد فى فضله أحاديث كثيرة. ويقال إن نوحا (عليه السلام) ركب السفينة فيه فصامه وأمر من معه بصومه. وصحّ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما هاجر، رأى اليهود فى المدينة صياما فى هذا اليوم. فسألهم عنه، فقالوا: هذا اليوم الذى نجىّ الله تعالى فيه موسى وبنى إسرائيل، وأغرق فرعون وقومه. فنحن نصومه شكرا لله تعالى. فقال (عليه الصلاة والسلام) : أنا أحقّ بأخى موسى. ثم أمر مناديا فنادى: من أكل فليمسك، ومن لم يأكل فليصم! وفيه قتل الحسين بن علىّ (رضى الله عنهما) .

_ [1] راجع رواية أوفى فى نفح الطيب.. سماه «يوم الطين» . (ص 287 ج 1 طبعة ليدن) .

13 - ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث

13- ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث يوم الجمعة، للمسلمين. وسبب اتخاذهم له أنه اليوم الذى أتمّ الله فيه خلق العالم، وأوجد فيه أبا البشر آدم (عليه السلام) وفيه قبض، وفيه يكون النفخ فى الصّور، وفيه الصّعق، وفيه الساعة التى لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها حاجة إلا قضاها له. يوم السبت، لليهود. وحجّتهم على اتخاذهم له أن الله تعالى ابتدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، وأن يوم السبت يوم فراغ ودعة. ولهم فى ذلك أقوال كثيرة. يوم الأحد، للنصارى. ذكر فى سبب اتخاذهم له أن الله (سبحانه وتعالى) ابتدأ فيه بخلق الأشياء. 14- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر النهار يقال: أطول من يوم الفراق. أضوأ من نهار. أنور من وضح النهار. ويقال: يذهب يوم الهمّ ولا يشعر به. ما يوم حليمة بسرّ. من ير يوما ير به. يوم السّرور قصير. اليوم خمر وغدا أمر. اليوم عيش وغدا خيش. اليوم فعل وغدا ثواب. يوم لنا ويوم علينا. لكلّ قوم يوم. ومن أنصاف الأبيات: وهل يخفى على الناس النهار وفى اللّيالى والأيام معتبر

15 - ذكر شىء مما قيل فى وصف النهار وتشبيهه

ومن الأبيات: واله ما أمكن يوم صالح ... إنّ يوم الشّر لا كان عتيدا! وقال آخر: أمام! لا أدرى، وإن سألت: ... ما نسك يوم جمعة من سبت. وقال آخر: وأيام! الشّرور مقصّصات ... وأيّام السّرور تطير طيرا. وقال آخر: لا تحملنّ هموم أيّام على ... يوم، لعلّك أن تقصّر عن غده. 15- ذكر شىء مما قيل فى وصف النهار وتشبيهه فمن ذلك قول شاعر، يصفه بالقصر: ويوم سرور قد تكامل وصفه ... سوى قصر، لا عيب فيه سواه! وعهدى به كالرّمح طولا، فعندما ... هززناه للهو التقى طرفاه. وقال آخر: بأبى من نعمت منه بيوم، ... لم يزل للسّرور فيه نموّ! يوم لهو، قد التقى طرفاه ... فكأنّ العشىّ فيه غدوّ. وقال آخر: لم ينتشر فلق الإصباح من؟؟؟ صر ... فيه إلى أن طواه فيلق الغسق. ولم يكن ما تقى جفنى أخى رمد ... كملتقى طرفيه: الصّبح والشّفق. وما تناولت فيه الرّطل مصطبحا ... إلا أعادته منّى كفّ مغتبق.

وقال آخر: لله يوم مسرّة ... أضوا وأقصر من ذباله! لما نصبنا للمنى ... فيه بأشراك حباله، طار النّهار مروّعا ... فيه وأجفلت الغزاله! وقال آخر: حثّ الكؤوس! فذا يوم به قصر، ... وما به من تمام الحسن تقصير. صحو وغيم، يروق الطّرف حسنهما: ... فالصّبحو فيروزج، والغيم بلّور. وقال آخر: ويوم كحلى الغانيات سلبته ... حلىّ الرّبا حتّى انثنى وهو عاطل. سبقت إليه الشمس، والشمس غضّة ... وصبغ الدّجى من مفرق الفجر ناصل. ومن كلام ابن برد الأصغر الأندلسىّ: اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره؛ وتقنعت شمسه، وتعطّر نسيمه؛ وعندنا بلبل هزج، وساق غنج؛ وسلافتان: سلافة إخوان، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا فى الطباع، وازدوجنا فى إثارة السرور. فاخرق إلينا سرادق الدّجن تجد مرأى لم يحسن إلا لك، ولا يتم إلا بك. ومن كلامه أيضا: لم نلتق منذ عرّينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطّرب، وعبسنا فى وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخفّ إلى مجلس قد نسخت فيه الرياحين

16 - ذكر شىء مما وصفت به الآلات

بالدواوين، والمجامر بالمحابر، والأطباق، بالأوراق، وتنازع المدام، بتنازع الكلام؛ واستماع الأوتار، باستماع الأخبار؛ وسجع البلابل، بسجع الرسائل؛ كان أشحذ لذهنك، وأرشد لرأيك. 16- ذكر شىء مما وصفت به الآلات الموضوعة لمعرفة الأوقات قد وضع أهل هذا الفنّ لمعرفة درجات الليل وساعات النهار آلات، يستدلّون بها على معرفة ما مضى من ذلك وما بقى، ولتحرير المواقيت: كالاصطرلاب، والطّرجهارة والبنكام. ووصف الشعراء والفضلاء ذلك بأوصاف، نذكر منها إن شاء الله تعالى ما نقف عليه. 1- فأما الاصطرلاب وما قيل فيه. فقال أبو طالب، عبد السلام المأمونى: وشبيه بالشّمس يسترق الأن ... وار من نور جرمها فى خفاء. فتراه أدرى وأعلم منها، ... وهو فى الأرض، بالذى فى السّماء. وقال أيضا: وعالم بالغيب من غير ما ... سمع، ولا قلب، ولا ناظر! يقابل الشمس فيأتى بما ضمّنها من خبر حاضر. ... كأنها ناجته لمّا بدا لعينها بالفكر والخاطر. ... وألهمته علم ما يحتوى عليه صدر الفلك الدّائر.

وقال أبو إسحاق الصابى، وقد أهداه فى مهرجان إلى مخدومه: أهدى إليك بنو الآمال واجتهدوا ... فى مهرجان جديد أنت تبليه. لكنّ عبدك إبراهيم، حين رأى ... سمّو قدرك عن شىء يساميه. لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه! وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز: أفضل ما استصحب النبيل فلا ... يعدل به فى المقام والسّفر، جرم إذا ما التمست قيمته ... جلّ عن التّبر وهو من صفر. مختصر وهو إذ تفتّشه ... عن ملح العلم غير مختصر. ذو مقلة تستنير ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق النّظر. تحمله وهو حامل فلكا ... لو لم يدر بالبنان لم يدر. مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن جلّ ما فى السماء من خبر. أبدعه ربّ فكرة بعدت ... فى اللّطف عن أن تقاس بالفكر. فاستوجب الشّكر والثناء به ... من كلّ ذى فطنة من البشر. فهو لذى اللّبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفطر. وكتب أبو الفرج الببغاء يصف اصطرلابا أهداه فقال: آثرتك- أيدك الله- ببرهان الحكمة ونسبها، ومدار الفلسفة وقطبها؛ ومرشد الفكر ومناره، وميزان الحسن ومعياره؛ ونافى الشك ومزيله، وشاهد الأثير ودليله؛ مصوّر الحكمة وممثّلها، ومقسم البروج ومعدّلها؛ وموقف النجوم ومسيّرها، وجامع الأقاليم ومدبّرها؛ مرآة الحبك، وصورة الفلك؛ وأمين الكواكب، وحدّ المشارق والمغارب؛ مما اخترعت العقول تسطيحه، وأتقن الحسّاب تصحيحه؛ وتمارت الفطن

فى ترتيبه، واصطلحت الحكماء على تركيبه؛ فأوضحت بالنقش تقسيمه، وأبانت بالكتابة رسومه؛ إلى أن شافهنا بالارتفاع على بعد مسافته، وحصر متفرّق الأمور فى خرقى عضادته؛ واحتوى على قطرى الشّمال والحنوب، واطلع باللطف على خفيّات الغيوب؛ الملقب بالاصطرلاب، الفاصل بين الخطإ والصواب. وقال أبو نصر الكاتب فيه: قطب الزمن ومداره، وميزان الفلك ومعياره؛ وأساس الحكمة وموضوعها، وتفصيل الفطنة ومجموعها؛ الناطق فى صمته، الموفى على نعته؛ مظهر السّر المكنون، المخبر بما كان وما يكون؛ ذو شكل مقمر مستدير، ولون مشمس مستنير؛ ومنطقة محيطة بأجزائه، وخطوط معدّلة على اعضائه؛ وكتابة مطبقة بتدويره، ورموز بائحة بضميره؛ متقابل الأهداف، متكامل الأوصاف؛ بحجرة مسكونه، وصفائح مصونه؛ وقدّ موموق، وباب مطروق؛ للعلم فتحه ورتاجه، وعليه طريقه ومنهاجه؛ إذا انتصب قال فحمد، وإذا اضطجع عيى فلم يفسد؛ صفرىّ الانتساب، ذهىّ الإهاب؛ يخترق الأنوار من نقابه، ويستخدم الشّمس فى حسابه؛ يجمع الشرق والغرب فى صفحته، ويستره الحامل فى راحته؛ رافعه ينظر من تحته، وأخباره تسند عن خرته. 2- ومما قيل فى طرجهارة. قال أبو الفتح كشاجم يصفها [1] : روح من الماء فى جسم من الصّفر ... مؤلّف بلطيف الحسّ والفكر.

_ [1] هى من الآلات التى تعرف بها الساعات. ولهم آلات أخرى فى هذا المعنى مثل صندوق الساعات، دبّة الساعات، الرخامة، المكحلة، اللوح (أنظر مفاتيح العلوم للخوارزمى طبع ليدن ص 235) .

الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الأول فى الشهور والأعوام

له على الظّهر أجفان محجّرة ... ومقلة دمعها جار على قدر. تنشاله حركات فى أسافله ... كأنها حركات الماء فى الشّجر. وفى أعاليه حسّاب مفصّلة ... للناظرين بلا ذهن ولا نظر. إذا بكى، دار فى أحشائه فلك ... خافى المسير؛ وإن، لم يبك لم يدر. ومخرج لك بالأجزاء ألطفها ... من النهار، وقوس اللّيل فى السّحر. مترجم عن مواقيت يخبّرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر. تقضى به الخمس فى وقت الوجوب وإن ... غطّى على الشمس أو غطّى على القمر. وإن سهرت لأسباب تؤرّقنى ... عرفت مقدار ما ألقى من السّهر. محدّد كلّ ميقات، تخيّره ... ذوو التّخيّر للأسباب والسّفر. الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الأوّل فى الشهور والأعوام نذكر فى هذا الباب الشهور العربية، واشتقاقها، والشهور العجمية، ودخول بعضها فى بعض، والسنين القمرية، والشمسية، والنسىء ومعناه، وما يجرى هذا المجرى، مما لمحناه أثناء المطالعة بعون الله تعالى وقدرته. وإياه أسأل التوفيق بكرمه ومنته!. 1- ذكر الشهور وما قيل فيها الشهر إما طبيعىّ، وإما اصطلاحىّ. فالطبيعىّ هو مدّة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى حين يفارقها مرة أخرى.

2 - ذكر الأشهر العربية

وقال آخرون: هو عود شكل القمر فى جهة بعينها إلى شكله الأوّل. وأما الاصطلاحىّ، فهو مدّة قطع الشمس مقدار برج من بروج الفلك. وذلك ثلاثون يوما، وثلث عشر يوم بالتقريب. وهذا مذهب الروم، والسريان، والفرس والقبط. والله (سبحانه وتعالى) أعلم! 2- ذكر الأشهر العربية (وما يختص بها من القول) والأشهر العربية قسمان: قسم غير مستعمل، وهو الذى وضعته العرب العاربة؛ وقسم مستعمل، وهو الذى وضعته العرب المستعربة. وكلا القسمين موضوع على الأشهر القمرية. فأما القسم غير المستعمل، فهو أسماء كانت العرب العاربة اصطلحوا عليها، وهى: مؤتمر، ناجر، خوّان، صوان (ويقال فيه: بصان) ، رنّى، أيّدة، الأصمّ، عادل، ناطل، واغل، ورنة، برك. وفى هذه الأسماء خلاف عند أهل اللغة. والذى ذكرناه منها هو المشهور، ويدل عليه قول الشاعر: بمؤتمر وناجر ابتدأنا ... وبالخوّان يتبعه البصان ورنّى ثم أيّدة تليه ... تعود أصمّ صمّ به السّنان وعادله وناطله جميعا ... وواغله فهم غرر حسان وورنة بعدها برك فتمت ... شهور الحول يعقدها البنان.

وأما القسم المستعمل، فهو هذه الأسماء المشهورة: المحرّم، صفر، الربيعان، الجماديان، رجب، شعبان، رمضان، شوّال، ذو القعدة،. ذو الحجّة. قيل: وإنما وضعوا هذه الأسماء على هذه الشهور لاتفاق حالات وقعت فى كل شهر، فسمى الشهر بها عند ابتداء الوضع. فسموا المحرّم محرّما: لأنهم أغاروا فيه فلم ينجحوا، فحرّموا القتال فيه، فسمّوه محرّما. وسموا صفرا: لصفر بيوتهم فيه منهم عند خروجهم إلى الغارات. وقيل: لأنهم كانوا يغيرون على الصّفريّة، وهى بلاد. وشهرا ربيع: لأنهم كانوا يخصبون فيهما بما أصابوا فى صفر، والربيع الخصب. والجماديان: من جمد الماء، لأن الوقت الذى سميا فيه بهذه التسمية كان الماء جامدا فيه لبرده. ورجب: لتعظيمهم له. والترجيب التعظيم. وقيل: لأنه وسط السنة فهو مشتق من الرواجب، وهى أنامل الأصبع الوسطى. وقيل: إن العود رجب النبات فيه أى أخرجه، فسمى بذلك. وكذلك تشعّب العود فى الشهر الذى يليه، فسمى شعبان. وقيل: سمى بذلك لتشعبهم فيه للغارات. وسمى رمضان، أى شهر الحر. مشتق من الرمضاء. وشوّال، من شالت الإبل أذنابها إذا حالت، أو من شال يشول إذا ارتفع. وذو القعدة: لقعودهم فيه عن القتال إذ هو من الأشهر الحرم. وذو الحجة، لأن الحج اتفق فيه، فسمى به. ويقال إن أوّل من سماها بهذه الأسماء، كلاب بن مرّة. ومن مجموع هذه الأشهر أربعة حرم، ثلاثة سرد، وهى: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ وواحد فرد، وهو رجب.

3 - وأما شهور اليهود

هذا ما رواه الأصمعىّ عن العرب فى ترتيب الأشهر الحرم. واختار غيره أن الواحد الفرد هو المحرّم؛ والسرد رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، لتكون الأربعة أشهر فى سنة واحدة. وهذا مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومنها أربعة أشهر لا تكاد العرب تنطق بها إلا مضافة، وهى: شهرا ربيع، وشهر رجب، وشهر رمضان [1] . فهذه الشهور العربية وما قيل فيها. 3- وأما شهور اليهود فأسماؤها: تشرى، مرحشوان، كسلاو، طابات، شباط، آذار، نيسان، أيّار، سيوان، تموز، آب، أيلول. 4- وأما الشهور العجمية فإنها شمسية. وهى أقسام، بحسب الأمم التى تنسب إليهم. فمنها الشهور القبطية، وتنسب لدقلطيانوس. وكل شهر منها ثلاثون يوما. وما فضل من عدد أيام السنة الشمسية جعلوه كبيسا فى آخر شهر منها، وهى: توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونه، أبيب، مسرى. وأوّل توت يكون النوروز. وفى أوّل يوم من كيهك تدخل الأربعينيات، وهى أربعون يوما باردة تؤذن بالشتاء. وفى الرابع من برمودة تدخل الخمسينيات، وهى أيام حارّة تؤذن بالصيف.

_ [1] أى لا يقال: ربيع الأوّل، ربيع الثانى، رجب، رمضان. بل يضيفون الى كل منها لفظة «شهر» .

ومنها شهور السريان والروم. وهما متفقان فى العدد والدّخول. والسريانيون ينسبون شهورهم لأغسطش [1] ، وهو قيصر. وهذه الشهور منها ما ينقص عن الثلاثين، ومنها ما يوفيها، ومنها ما يزيد عليها. وفيها يقول الكيزانىّ: شهور الروم ألوان: ... زيادات ونقصان. فتشرينهم الثانى، ... وأيلول ونيسان. ثلاثون، ثلاثون، ... سواء، وحزيران. وأشباط ثمان بع ... د عشرين له شان. والسبعة التى تركها، كل شهر منها يزيد يوما. ووضع لها بعض المغاربة ضابطا، وهو حروف معجمة ومهملة يجمعها فى أربع كلمات، وهى: «فاز رجل ختم بحجّ» . وجمعها آخر فى مثل ذلك فقال: «غاب عنك زيد فحجّ» . فما كان معجما فهو أحد وثلاثون يوما، وما كان مهملا فهو ثلاثون، والشهر الموافق للألف ثمانية وعشرون. وأوّل سنة السريان تشرين الأوّل. ودخوله رابع بابه، ويوافق أكتوبر من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم تشرين الثانى، ودخوله فى الخامس من هتور، ويوافقه نومبر [2] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم كانون الأوّل، ودخوله فى الخامس من كيهك، ويوافقه دچنبر [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛

_ [1] هو القيصر الرومانى المشهور، نقلا عن اللاتينية.Augustus ولكن العرب حينما عربوا الشهر المعروف باسمه اكتفوا بقولهم أغشت) August (للتمييز بين اللفظين. وأما نحن فى هذه الأيام فقد تركنا هذا الفارق ونقول فى تسمية هذا الشهر «أغسطس» أيضا. [2] NovemBRe ونقول فى مصر الآن نومبر. [3] DeeemBRe ونقول فى مصر الآن ديسمبر.

ثم كانون الثانى، ودخوله فى السادس من طوبه، ويوافقه ينير [1] من شهور الروم، وهو أوّل سنتهم، وعدد أيامه أحد وثلاثون يوما؛ ثم شباط، ودخوله فى السابع من أمشير ويوافقه فبرير [2] من شهور الروم، وهو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم؛ ثم آذار، ودخوله فى الخامس من برمهات، ويوافقه مارس من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم نيسان، ودخوله فى السادس من برمودة، ويوافقه أبريل من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم أيّار، ودخوله فى السادس من بشنس، ويوافقه مايه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم حزيران، ودخوله فى السابع من بؤونة، ويوافقه يونيه من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما؛ ثم تموز، ودخوله فى السابع من أبيب، ويوافقه يوليه من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم آب، ودخوله فى الثامن من مسرى، ويوافقه أغشت [3] من شهور الروم، وهو أحد وثلاثون يوما؛ ثم أيلول، ودخوله فى الرابع من توت، ويوافقه ستنبر [4] من شهور الروم، وهو ثلاثون يوما. ونظم بعض الشعراء أرجوزة فى مداخلة الشهور، فقال: وإن حفظت أشهر السّريان ... وكنت من ذاك على بيان. ورمت منها عمل المنازل ... فإنها معلومة التداخل.

_ [1] JaNvieR ونقول في مصر الآن يناير. (وقد كان عربه المرحوم رفاعه بك بقوله: «ينويه» ) غير ان هذا الاصطلاح لم يعمل به. [2] FevRieR ونقول فى مصر الآن فبراير (مع الإشباع) . [3] أنظر حاشية رقم (1) من صفحة 160 [4] نقول الآن فى مصر «سبتمبر» مجاراة للنطق الفرنسى الحديث SePtemBRe.على انهم يقولون «ست» عند ما يريدون السبعة SePt بإهمال حرف الباء، فاذا أرادوا السبعين لفظوا بالباء.

أيلول يبدو رابعا من توت ... هذا بحكم النظر المثبوت. وهكذا تشرين وهو الأوّل ... من بابة أربعة تكمل. أوّل تشرين الأخير يدخل ... ومن هتور خمسة يا رجل. أوّل كانون وأعنى الأوّلا ... وخامس من كيهك تعدّلا. أوّل كانون الأخير سادس ... من طوبة فيها يقيس القائس. ومن شباط أوّل يوافى ... سابع أمشير بلا خلاف. أوّل آذار حساب صادق ... من برمهات خامسا يوافق. برمودة سادسه وأوّل ... نيسان وفق ليس عنه معدل. أوّل أيّار بغير لبس ... يوافق السادس من بشنس. بؤونة وافق منه سابعه ... أوّل حزيران لما يتابعه. أوّل تموز على الترتيب ... يدخل فى السامع من أبيب. أوّل آب ثامن من مسرى، ... العلم بالمرء اللبيب أحرى. وقال بعض الشعراء فى مثل ذلك: متى تشأ معرفة التداخل ... من أوّل الشهور فى المنازل. فعدّ من توت بلا تطويل ... أربعة فهى ابتدا أيلول. وبابة كذاك من تشرين ... الأوّل السابق فى السّنين. والخامس المعدود من هاتور ... أوّل تشرينهم الأخير. أوّل كانون بغير دلسه ... إذا نقصت من كيهك خمسه. وطوبة إن مرّ منه ستّة ... أتاك كانون الأخير بغته.

ومن شباط أوّل يوافق ... سابع أمشير، حساب صادق. أوّل آذار إذا جعلته ... لبرمهات خامسا وجدته. أوّل نيسان لدى التجريد ... السادس المعدود من برمود. ومثله أيّار مع بشنس ... واحدة مقرونة بخمس. أما حزيران فيحسبونه ... من أوّل السابع من بؤونه. كذلك السابع من أبيب ... أوّل تموز بلا تكذيب. أوّل آب عند من يحصّل ... ثامن مسرى ذاك ما لا يجهل. وأما شهور الفرس، فهى موافقة لشهور القبط فى العدد. لأن كل شهر منها ثلاثون يوما، إلا أبان ماه، وهو الشهر الثامن، فإنهم يصيفون إليه خمسة أيام لأجل النسىء، ويسمونها الاندركاه. ولكل يوم من أيام الشهر اسم خاص، يزعمون أنه اسم ملك من الملائكة موكل به. فأسماء المشهور منها: افريدون ماه (وهو رأس سنتهم) ، أرديهشت ماه، حرداد ماه، تير ماه، ترد ماه، برماه، مهر ماه، أبان ماه، ادر ماه، دى ماه، بهمن ماه، اسفندار ماه. ويعنون بقولهم «ماه» القمر. المثل- قول بعض الشعراء: شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار

5 - ذكر ما يختص بالسنة من القول

5- ذكر ما يختص بالسنة من القول وما جاء من اختلاف الأمم فى ابتدائها وانتهائها، والفرق بين السنة والعام أما الفرق بين السنة والعام، فإنهم يقولون «سنة جدب» و «عام خصب» . قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) . وقال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . والصحيح أنهما اسمان موضوعان على مسمّى واحد. قال الله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) . والسنة طبيعية، واصطلاحية. فالطبيعية قمرية؛ وأوّلها استهلال القمر فى غرّة المحرّم، وانسلاخها بسراره فى ذى الحجة. وهى اثنا عشر شهرا، وعدد أيامها ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوما تقريبا؛ ويتم من هذا الخمس والسدس فى ثلاث سنين يوم، فتصير السنة فى الثالثة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما. ويبقى شىء يتم منه ومن خمس اليوم وسدسه المستأنف فى السنة يوم واحد إلى أن يبقى الكسر أصلا بأحد عشر يوما عند تمام ثلاثين سنة. وتسمّى تلك السنين كبائس العرب. وأما السّنة الاصطلاحية فإنها شمسيّة، وعدد أيامها عند سائر الأمم ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وربع يوم. فتكون زيادتها على السنة العربية عشرة أيام ونصف يوم وربع يوم وثمن يوم وخمسا من خمس يوم. ويقال: إنهم كانوا فى صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة عربية سنة، ويسمونها الازدلاف. لأن كل ثلاث وثلاثين سنة قمرية اثنتان

6 - ذكر النسىء ومذهب العرب فيه

وثلاثون سنة شمسية تقريبا. وذلك لتحرزهم من الوقوع فى النسىء الذى أخبر الله عز وجل أنه زيادة فى الكفر. وهذا الازدلاف هو الذى نسميه فى عصرنا هذا بين كتاب التصرف «التحويل» . لأنا نحوّل السنة الخراجية إلى الهلالية، ولا يكون ذلك إلا بأمر السلطان. وسنة العالم- على ما اتفق عليه المنجمون- هى من حين حلول الشمس رأس الحمل، وهو الاعتدال الربيعىّ. ومنهم من يجعل أوّلها من حين حلول الشمس رأس الميزان، وهو الاعتدال الخريفىّ. وابتداء سنة القبط قطع الشمس اثنتى عشرة درجة من السنبلة، وابتدؤا بفعل ذلك فى زمن أغسطش، وهو قيصر الأوّل على ما ذكره أصحاب الزيجات. وأما الفرس، فأوّل سنتهم عند حلول الشمس أوّل نقطة من الحمل [1] . وأما السّريانيون، فأوّل سنتهم عند قطع الشمس من الميزان ستّ عشرة درجة. 6- ذكر النسىء ومذهب العرب فيه يقال إن عمرو بن لحىّ، وهو خزاعة- ويقال اسمه عمرو بن عامر الخزاعىّ- هو أوّل من نسأ الشهور، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وجعل الوصيلة، والحامى. وهو أوّل من دعا الناس إلى عبادة هبل، قدم به معه من هيت. ومعنى النسىء أنهم ينسئون المحرم إلى صفر، ورجب إلى شعبان.

_ [1] وهذا اليوم هو عيد نيروزهم إلى الآن.

وكان جملة ما يعتقدونه من الدّين تعظيم الأشهر الحرم الأربعة، وكانوا يتحرّجون فيها من القتال. وكانت قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا فى شهر حرام، حرموا مكانه شهرا من أشهر الحلّ، ويقولون نسئ الشهر. وحكى ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام) أن أوّل من نسأ الشهور على العرب، وأحلّ منها ما أحلّ، وحرّم ما حرّم، القلمّس. وهو حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحرث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده ولده عباد، ثم قام بعد عباد ابنه قلع، ثم قام بعد قلع ابنه أمية، ثم قام بعد أمية ابنه عوف، ثم قام بعد عوف ابنه أبو ثمامة جنادة، وعليه ظهر الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها، اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل، وقال بأعلى صوته: «اللهم إنى لا أخاف ولا [1] أعاف، ولا مردّ لما قضيت! اللهم إنى أحللت شهر كذا (ويذكر شهرا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شنّ الغارات فيه) وأنسأته إلى العام القابل (أى أخرت تحريمه) وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقى!» وكانوا يحلون ما أحلّ، ويحرّمون ما حرّم. وفى ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطّعان، من أبيات يفتخر: ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحلّ، نجعلها حراما؟ وحكى السهيلىّ فى كتابه المترجم «بالروض الأنف» أن نسىء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير المحرّم إلى صفر لحاجاتهم إلى شنّ الغارات وطلب الثأر، والثانى تأخير الحج عن وقته تحرّيا منهم للسنة الشمسية. فكانوا يؤخرونه فى كل عام

_ [1] فى اللسان: «أنا الذى لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لى قضاء» .

7 - ذكر السنين التى يضرب بها المثل

أحد عشر يوما حتّى يدور الدّور فى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته. فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة، حج بالناس أبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) فوافق حجه فى ذى القعدة، ثم حج رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى العام القابل فوافق عود الحج إلى وقته فى ذى الحجة كما وضع أوّلا. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجه، خطب فكان مما قال فى خطبته (صلى الله عليه وسلم) : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» . يعنى أن الحج قد عاد فى ذى الحجة. 7- ذكر السنين التى يضرب بها المثل يضرب المثل: بعام الجراد. كان سنة ثمان من الهجرة. عام الحزن. وهى السنة التى مات فيها أبو طالب عم النبىّ (صلى الله عليه وسلم) وخديجة (رضى الله عنها) وهى سنة عشر من الهجرة، وكان موتها بعده بثلاثة أيام وقيل بسبعة. عام الرّمادة. كان سنة ثمانى عشرة من الهجرة، فى خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) . أصاب الناس فيه قحطّ حتّى صارت وجوههم فى لون الرماد من الجوع. وقيل: كانت الريح تسفى ترابا كالرّماد لشدّة يبس الأرض، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى «التاريخ» . عام الرّعاف. كان سنة أربع وعشرين من الهجرة، سمى بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرّعاف.

عام الجماعة. كان سنة أربعين من الهجرة. فيه سلّم الحسن بن علىّ (رضى الله عنهما) الخلافة لمعاوية، فاجتمعت الكلمة فيه. عام الجحاف. كان سنة ثمانين من الهجرة، وقع بمكة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول. عام الفقهاء. وهو سنة أربع وتسعين من الهجرة. فيها مات علىّ بن الحسين زين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق (رضى الله عنهم) وسعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وسعيد بن زيد بن ثابت. وفيه قتل الحجاج بن يوسف الثقفىّ سعيد بن جبير. سنيّات خالد. يضرب بها المثل فى الجدب. وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث المعروف بأبى مطير. كان قد تولّى لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين توالى القحط فيها حتّى أجلى أهل البوادى. سنة عشر ومائة. مات فيها قرينان فى الزهد: الحسن البصرى ومحمد بن سيرين، وقرينان فى الشعر: جرير والفرزدق. سنة ست وخمسين وثلاثمائة. مات فيها جماعة من الملوك، وهم: شمكير بن زياد صاحب طبرستان وجرجان، ومعز الدّولة بن بويه، وكافور الأخشيدىّ صاحب مصر، ويقفور ملك الروم، وأبو علىّ محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدّولة ابن حمدان ممدوح المتنبى، والحسن بن فيرزان صاحب أذربيجان.

الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الأول

الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الأوّل 1- فى الفصول وأزمنتها وفصول السنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ولكل فصل منها ثلاثة بروج، وثلاثة أشهر، وسبع منازل، وموافقة من الطبائع الأربع. 1- فأما فصل الربيع، وهو عند العرب الصيف، فطبعه حارّ رطب. ودخوله عند حلول الشمس برج الحمل، والثور، والجوزاء. وهذه البروج عندهم تدل على الحركة. وله من السن الطفوليّة والحداثة، ومن الرياح الجنوب، ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة، ومن القوى القوّة الجاذبة، ومن الأخلاط الدّم، ومن الكواكب القمر والزّهرة، ومن المنازل بعض الفرغ المقدّم والفرغ المؤخر، والرشاء، والسّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، وبعض الهقعة. وعدد أيامه أربعة وتسعون يوما. وحلول الشمس [1] فى الثانى عشر من آذار، ويوافقه مارس من شهور الروم، وفى السادس عشر من برمهات من شهور القبط، وفى العشرين من اسفندار ماه من شهور الفرس. وإذا حلت الشمس برج الحمل، اعتدل الليل والنهار، وصار كل واحد منهما اثنتى عشرة ساعة. ثم يأخذ النهار فى الزيادة، والليل فى النقصان. وفى هذا الفصل تتحرّك الطبائع، وتظهر الموادّ المتولدة فى الشتاء. فيطلع النبات وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسّفاد، وتذوب الثلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية.

_ [1] أى برج الحمل الذى هو أول فصل الربيع.

ذكر ما قيل فى وصف فصل الربيع وتشبيهه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ: ما الدّهر إلّا الرّبيع المستنير إذا ... جاء الرّبيع، أتاك النّور والنّور. فالأرض ياقوتة، والجوّ لؤلؤة، ... والنّبت فيروزج، والماء بلّور. وقال آخر: اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطّر، متهلّل، نشوان! فالأرض وشى، والنّسيم معنبر، ... والماء راح، والطّيور قيان. وقال الثعالبىّ: أظنّ الرّبيع العام قد جاء زائرا ... ففى الشّمس بزّازا، وفى الرّيح عطّارا. وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضى بين الوشى والمسك أوطارا. وقال آخر: وفصّل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصّع منها حليّا. وفاخر بالأرض أفق السّماء ... فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا. وقال الحسن بن وهب: طلعت أوائل للرّبيع فبشّرت ... نور الرّياض بجدّة وشباب! وغدا السحاب يكاد يسحب فى الثّرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب. فترى السّماء إذا أجدّ ربابها ... فكأنّما التحفت جناح غراب. وترى الغصون إذا الرّياح تناوحت ... ملتفّة كتعانق الأحباب. وقال بعض فضلاء أصفهان فى وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ فى الخريدة:

ذكر ما قيل فى وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا

أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسرّ حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جمّ وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه فى صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا. 2- وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان، والأسد، والسنبلة. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوّة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرّة الصفراء؛ ومن الكواكب المرّيخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنّثرة والطّرف والجبهة (وهى أربعة عشر يوما) والخراتان وبعض الصّرفة. وتنزل الشمس فى برج السرطان فى الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفى العشرين من بؤونه، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل فى الزيادة، والنهار فى النقصان. والله أعلم. ذكر ما قيل فى وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله ذو الرمّة: وهاجرة حرّها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبى. تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطّالب. وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرّاهب.

وقال مسكين الدّارمىّ. وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها ... إذا ما اتّقتها بالقرون سجود. تلوذ بسؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السّنان طريد. وقال ابن الفقيسىّ: فى زمان يشوى الوجوه بحرّ، ... ويذيب الجسوم لو كنّ صخرا. لا تطير النّسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا. ويودّ الغصن النّضير به لو ... أنّه من لحائه يتعرّى. وقال أيضا: يا ليلة بتّ بها ساهدا ... من شدّة الحرّ وفرط الأوار. كأننى فى جنحها محرم ... لو أنّ للعورة منّى استتار. وكيف لا أحرم فى ليلة ... سماؤها بالشّهب ترمى الجمار؟ وقال آخر: ويوم سموم خلت أنّ نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوادغ، ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزى ملآن ومائى فارغ. وقال محمد بن أبى الثياب، شاعر اليتيمة: وهاجرة تشوى الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّىّ نار توهجّ. وماء كلون الزيت ملح كأنّه ... بوجدى يغلى أو بهجرك يمزج. وقال الثعالبىّ: ربّ يوم هواؤه يتلظّى ... فيحاكى فؤاد صبّ متيّم. قلت إذ صكّ حرّه حرّ وجهى: ... «ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم» !

ومما وصف به من النثر قول بعضهم: أوقدت الظّهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب؛ هاجرة كأنها من قلوب العشّاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق؛ حرّ تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكب الرمس؛ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج [1] ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور. 3- وأما فصل الخريف- فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس. وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشّمال؛ ومن الساعات السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوّة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرّة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصّرفة والعوّاء والسّماك والغفر والزّبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان فى الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفى الثامن عشر من توت. وفى هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، وتصرم الثمار، ويغيّر وجه الأرض، ويصفرّ ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوامّ، وتنجحر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدّفئة، وتصير الدّنيا كأنها كهلة مدبرة. ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين. والله أعلم.

_ [1] هكذا بالأصل وفى صبح الأعشى ثلج.

ذكر ما قيل فى وصف فصل الخريف وتشبيهه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبرىّ، عفا الله عنه: ما قضى فى الربيع حقّ المسرّا ... ت مضيع زمانه فى الخريف. نحن منه على تلقّى شتاء ... يوجب القصف أو وداع مضيف. فى قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف. يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النّسيم الضّعيف. وقال عبد الله بن المعتز: طاب شرب الصّبوح فى أيلول! ... برد الظلّ فى الضّحى والأصيل! وخبت جمرة الهواجر عنّا، ... واسترحنا من النهار الطّويل. وخرجنا من السّموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظلّ ظليل، وشمال تبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول. فكأنّا نزداد قربا الى الجن ... ة فى كلّ شارق وأصيل. ووجوه البقاع تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرّسول. تبتغى غلّة لتعمل روضا ... بكثير من الحبا أو قليل. وقال آخر: اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصّيف من أيلول أسرع حاد. وأشمّنا باللّيل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح فى الأجساد. وأفاك بالأنداء قدّام الحيا ... فالأرض للأمطار فى استعداد. كم فى ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد. تبدو إذا جاد السّحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد.

وقال آخر: لا تصغ للّوم إنّ اللّوم تضليل ... واشرب ففى الشّرب للأحزان تحليل. فقد مضى القيظ واجتثّت رواحله، ... وطابت الرّاح لما آل أيلول. وليس فى الأرض نبت يشتكى رمدا ... إلا وناظره بالطّلّ مكحول. وقال آخر يذمّه: خذ بالتّدثّر فى الخريف فإنّه ... مستوبل، ونسيمه خطّاف. يجرى مع الأيّام جرى نفاقها ... لصديقها «ومن الصّديق يخاف» ! ومما وصف به من النثر: قال أبو إسحاق الصابى يصفه: الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا؛ وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرّحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذّنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد، كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهذّبا من عكرها؛ واطّرادا مع نفحات الهواء، وحركات الريح الشّجواء؛ واكتست الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب. وقال ابن شبل: كلّ ما يظهر فى الربيع نوّاره، ففى الخريف تجتنى ثماره؛ فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدّامه. وقال ضياء الدّين ابن الأثير الجزرىّ عن الخريف يفتخر على فصل الربيع: أنا الذى آتى بذهاب السّموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفىّ يترقرق صفاء الأنهار، فتشتبه القوابل بالأسحار، وأيامى

هى الذهبيات وتلك نسبة كريمة النّجار؛ ومن ثمراتى ما لا تزال أمّهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيرها ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل. ولقد أنصف من قال: محاسن للخريف بهنّ فخر ... على زمن الربيع، وأىّ فخر! به صار الزّمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حرّ. 4- وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدى والدّلو والحوت. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السنّ الشيخوخة؛ ومن الرياح الدّبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوّة الدّافعة؛ ومن الاخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشترى وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدّم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما. ويكون حلول الشمس برأس الجدى فى الثالث عشر من كانون الأوّل، ويوافقه دچنبر من شهور الروم؛ وفى السابع عشر من كيهك من شهور القبط. وإذا حلت الشمس ببرج الجدى يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الدّنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. وروى عن علىّ (رضى الله عنه) أنه قال: «توقّوا البرد فى أوّله، وتلقّوه فى آخره، فإنه يفعل فى الأبدان كفعله فى الأشجار: أوّله يحرق، وآخره يورق» .

ذكر ما قيل فى وصف فصل الشتاء وتشبيهه. فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة: فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب فى ظلمائها الطّنبا. لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا. وقال ابن حكينا البغدادىّ: البس إذا قدم الشّتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا. الرّيق فى اللهوات أصبح جامدا ... والدّمع فى الآماق صار برودا. وإذا رميت بفضل كأسك فى الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا. وترى على برد المياه طيورها ... تختار حرّ النّار والسّفّودا. يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا، وحرّك عودا! وقال آخر: ويومنا أرواحه قرّة ... تخمّش الأبدان من قرصها. يوم تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النّار إلى قرصها! وقال عبد الله بن المعتزّ: قد منع الماء من اللّمس ... وأمكن الجمر من المسّ. فليس نلقى غير ذى رعدة، ... ومسلم يسجد للشّمس! وقال آخر: ليس عندى من آلة البرد إلّا ... حسن صبرى، ورعدتى، وقنوعى. فكأنّى لشدّة البرد هرّ ... يرقب الشّمس فى أوان الطّلوع.

وقال ابن سكّرة الهاشمىّ، عفا الله تعالى عنه ورحمه: قيل: ما أعددت للبر ... د وقد جاء بشدّه؟ قلت: درّاعة برد ... تحتها جبّة رعده. وقال أبو سعيد المخزومىّ: إذا كنت فى بلدة نازلا ... وحلّ الشّتاء حلول المقيم، فلا تبرزنّ إلى أن ترى ... من الصّحو يوما صحيح الأديم. فكم زلقة فى حواشى الطريق ... تردّ الثياب بخزى عظيم! وكم من لئيم غدا راكبا ... يحبّ البلاء لماش كريم! وقال الصاحب بن عبّاد: أنّى ركبت فكفّ الأرض كاتبة ... على ثيابى سطورا ليس تنكتم. فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطّرس ثوبى، ويمنى الأشهب القلم. قال أبو علىّ كاتب بكر شاعر اليتيمة: يا بلدة أسلمنى بردها ... وبرد من يسكنها للقلق. لا يسلم الشّاتى بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق. ومما وصف به نثرا قول بعضهم: إذا حلّت الشمس برج الجدى مدّ الشتاء رواقه، وحلّ نطاقه؛ ودبّت عقارب البرد لاسبه، ونفع مدخور الكسب كاسبه. ومن رسالة لابن أبى الخصال، جاء منها: الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضّريب وصعّد أنفاسه الصعيد؛

فحماه مباح، ولا هرير له ولا نباح؛ والنار كالصّديق، أو كالرّحيق؛ كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرّب. وقال بعضهم: برد بغير الألوان، وينشّف الأبدان؛ ويجمّد الريق فى الأشداق، والدّمع فى الآماق؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره. وقيل لبعضهم: أىّ البرد أشدّ؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر المنخران، وتلجلج اللسان، واصطكّت الأسنان. ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة فى أرجوزة فقال: عندى فى وصف الفصول الأربعه ... مقالة تغنى اللّبيب مقنعه. ذكر ما قيل فى فصل الصيف أمّا المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه. فصل من الدّهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرّه نار سقر. يظلّ فيه القلب مقشعرّا، ... والأرض تشكو حرّه المضرّا. أوّله فيه ندى منغّص ... كأنه على القلوب يقنص. يلصق منه الجلد بالثّياب ... ويعلق التّراب بالأثواب. حتّى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النّفس. فتّحت النّار لنا أبوابها ... وشبّ فيها مالك شهابها. حرّ يحيل الأوجه الغرّانا ... حتّى ترى الروم به حبشانا. يعلو به الكرب ويشتدّ القلق ... وتنضح الأبدان فيه بالعرق.

تبصره فوق القميص قد علا ... حتّى ترى مبيضّه مصندلا. إن كان رثّا، زاد فى تمزيقه؛ ... أو مستجدّا، جدّ جبل زيقه. ثم يعيد الماء نارا حاميه ... يزيد فى كرب القلوب الصّاديه. شاربه يكرع فى حميم ... كأنّه من ساكنى الجحيم. ينسيه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه. حتّى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره، تحرّكت فى جنحه دواهى ... سارية، وأنت عنها لاهى. من عقرب يسعى كسعى اللّصّ ... سلاحها فى إثره كالشّصّ. وحيّة تنفث سمّا قاتلا ... تزوّد الملسوع حتفا عاجلا. تبصر ما بجلدها من الرّقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش. لو نهشت بالنّاب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا. فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فصلا. ذكر ما قيل فى فصل الخريف حتّى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكلّ سوأة معروف. أهونه يسرع فى حلّ الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد. يجنى على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته. لا يمكن النّاس اتّقاء شرّه ... ولا خلاف برده وحرّه. تبصره مثل الصّبىّ الأرعن ... من كثرة العشّاق والتلوّن. فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصّفو الكدر.

أحسن ما يهدى لك النّسيما ... يقلبه فى ساعة سموما. وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من الصّيف على عيوبه. ذكر ما قيل فى فصل الشتاء حتّى إذا ما أقبل الشّتاء، ... جاءتك منه غمّة عمياء. لو أنّه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص، لكان جهما. يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير. تأتيك فى أيّامه رياح ... ليس على لاعنها جناح. حراكها ليس إلى سكون ... تضرّ بالأسماع والعيون. يحدث من أفعالها الزّكام ... هذا إذا ما فاتك الصّدام. ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم. يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحقّ للصّديق. وربما خرّ عليك السّقف، ... فإن عفا عنك أتاك الوكف. وإن أردت فى النّهار الشّربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا. واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشّرارا. يترك مبيضّ الثّياب أرقطا ... يحكى السّعيدىّ لك المنقّطا. وبعد ذا تسدّد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا. نعم، وترخى دونه السّتورا ... حتّى ترى صباحه ديجورا. وإن أردت الشّرب فى الظّلام ... عاقك عن تناول المدام. حسبك أن تندسّ فى اللّحاف ... من خشية البرد على الأطراف! ورعده يشغل عن كلّ عمل ... ويؤثر النّوم ويستحلى الكسل.

حتّى إذا جئت إلى الرّقاد، ... نمت على فرش من القتاد. إنّ البراغيث عذاب مزعج ... لكلّ قلب ولجلد ينضج. لا يستلذّ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا. تنحّ فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لى، قتلته. حتّى إذا ما هو عنّا بانا ... وزال عنّا بعضه، لا كانا! ذكر ما قيل فى فصل الربيع جاء إلينا زمن الرّبيع ... فجاء فصل حسن الجميع. لبرده وحرّه مقدار ... لم يكتنف حدّهما إكثار. عدّل فى أوزانه حتّى اعتدل ... وحمد التّفصيل منه والجمل. نهاره فى أحسن النّهار ... فى غاية الإشراق والإسفار. تضحك فيه الشّمس من غير عجب ... كأنّها فى الأفق جام من ذهب. وليله مستلطف النّسيم ... مقوّم فى أحسن التّقويم. لبدره فضل على البدور ... فى حسن إشراق وفرط نور. كجامة البلّور فى صفائها ... أذابت الجراد فى نقابها. كأنّها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره. روميّة حلّتها زرقاء ... فى الجيد منها درّة بيضاء. هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطربها من التّقصير. فيه تظلّ الطّير فى ترنّم ... حاذقة باللّحن لم تعلّم. غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه. من كلّ دبسىّ له رنين ... وكلّ قمرى له حنين.

فى قرطق أعجل أن يورّدا ... خاط له الخيّاط طوقا أسودا. تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم. هذا وفيه للرّياض منظر ... يفشى الثّرى من سرّه ما يضمر. سرّ نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه. فيه ضروب لنبات [1] الغضّ ... يحكى لباس الجند يوم العرض. من نرجس أبيض كالثّغور ... كأنّه مخانق الكافور. وروضة تزهر من بنفسج ... كأنّها أرض من الفيروزج. قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السّماء. يضحك منها زهر الشّقيق ... كأنّه مداهن العقيق. مضمّنات قطعا من السّبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج. كأنّما المحمرّ فى المسودّ ... منه إذا لاح عيون الرّمد. وارم بعينيك إلى البهار ... فإنّه من أحسن الأزهار. كأنّه مداهن من عسجد ... قد سمّرت فى قضب الزّبرجد. فانهض إلى اللهو ولا تخلّف ... فلست فى ذلك بالمعنّف. واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفرّ من خوف المزاج لونها. دونك هذى صفة الزّمان ... مشروحة فى أحسن التّبيان! وارض بتقليدى فيما قلته ... فإنّنى أدرى بما وصفته.

_ [1] لعله للنبات بالتعريف.

الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الأول

الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الأوّل فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل فى ذلك والذى أورده فى هذا الباب، هو مما وقفت عليه أثناء مطالعتى للكتب الموضوعة فيه، ونقلته منها لمّا تعذر علىّ من أتلقاه من فيه. وضمنته أعياد المسلمين، والفرس والنصارى، واليهود. 1- ذكر الأعياد الإسلامية والأعياد الإسلامية التى وردت بها الشريعة اثنان: عيد الفطر، وعيد الأضحى. والسبب فى اتخاذهما، ما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «أنه قدم لمدينة، ولأهلها يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما فى الجاهلية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الله (عز وجل) قد بدّلكم خيرا منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى» . فأوّل ما بدئ به من العيدين عيد الفطر، وذلك فى سنة اثنتين من الهجرة. وفيها كان عيد الأضحى. وعيد ابتدعته الشّيعة، وسموه عيد الغدير. وسبب اتخاذهم له مؤاخاة النبىّ (صلى الله عليه وسلم) علىّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) يوم غدير خمّ. والغدير على ثلاثة أيام [1] من الجحفة بسرّة الطّريق. قالوا: وهذا الغدير تصبّ فيه عين، وحوله شجر كثير ملتفّ بعضها ببعض. وبين الغدير والعين مسجد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) . واليوم الذى ابتدعوا فيه هذا العيد هو الثامن عشر من ذى الحجة، لأن المؤاخاة كانت

_ [1] فى صبح الأعشى (ج 2 ص 407) ثلاثة أميال، وفى المعجم [بينه وبين الجحفة ميلان] .

2 - ذكر أعياد الفرس

فيه فى سنة عشرة من الهجرة، وهى حجة الوداع. وهم يحيون ليلتها بالصلاة، ويصلون فى صبيحتها ركعتين قبل الزوال. وشعارهم فيه لبس الجديد، وعتق الرّقاب، وبرّ الأجانب، والذبائح. وأوّل من أحدثه معز الدّولة أبو الحسن علىّ بن بويه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. ولما ابتدع الشيعة هذا اتخذوه من سننهم، عمل عوامّ السّنّة يوم سرور نظير عيد الشيعة فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وجعلوه بعد عيد الشيعة بثمانية أيام، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الغار هو وأبو بكر الصدّيق (رضى الله عنه) . وأظهروا فى هذا اليوم الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران. 2- ذكر أعياد الفرس وأعياد الفرس كثيرة جدّا. وقد صنف علىّ بن حمزة الأصفهانىّ فيها كتابا مستقلّا ذكر فيه أعيادهم، وسبب اتخاذهم لها، وسنن ملوكهم فيها. وقد رأيت أن أقتصر على المشهور منها، وهى ثلاثة أعياد: النّيروز، والمهرجان، والسّدق. 1- فأما النّيروز، فهو أعظم أعيادهم وأجلّها. يقال إن أوّل من اتخذه جمشيد أحد ملوك الفرس الأول. ويقال فيه جمشاد، ومعنى جم القمر، وشاد الشعاع والضياء؛ وسبب اتخاذهم لهذا العيد أن طهومرت لما هلك، ملك بعده جمشاد. فسمى اليوم الذى ملك فيه نوروز، أى اليوم الجديد. ومن الفرس من يزعم أن النّيروز اليوم الذى خلق الله (عز وجل) فيه النور، وأنه كان معظّم القدر عند جمشاد. وبعضهم يزعم أنه أوّل الزمان الذى ابتدأ فيه الفلك بالدوران.

ومدّته عندهم ستة أيام، أوّلها اليوم الأوّل من شهر أفريدون ماه، الذى هو أوّل شهور سنتهم. ويسمون اليوم السادس النّوروز الكبير، لأن الأكاسرة كانوا يقضون فى الأيام الخمسة حوائج الناس ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع خواصّهم. وحكى ابن المقفّع أنه كان من عادتهم فيه أن يأتى الملك من الليل رجل جميل الوجه، قد أرصد لما يفعله. فيقف على الباب حتّى يصبح. فإذا أصبح دخل على الملك من غير استئذان. فإذا رآه الملك، يقول له: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأين تريد؟ وما اسمك؟ ولأىّ شىء وردت؟ وما معك؟ فيقول: أنا المنصور، واسمى المبارك، ومن قبل الله أقبلت، والملك السعيد أردت، وبالهناء [1] والسلامة وردت، ومعى السنة الجديدة. ثم يجلس، ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة، وفيه حنطة، وشعير، وجلبان، وحمّص، وسمسم، وأرز (من كل واحد سبع سنابل وتسع حبات) وقطعة سكر، ودينار ودرهم جديدان. فيضع الطبق بين يدى الملك. ثم تدخل عليه الهدايا. ويكون أوّل من يدخل عليه وزيره، ثم صاحب الخراج، ثم صاحب المعونة، ثم الناس على طبقاتهم ومراتبهم. ثم يقدّم للملك رغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب، موضوع فى سلّة. فيأكل منه ويطعم من حضره. ثم يقول: هذا يوم جديد، من شهر جديد، من عام جديد، من زمان جديد، يحتاج أن نجدّد فيه ما أخلق من الزمان، وأحقّ الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء. ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويفرّق فيهم ما حمل إليه من الهدايا. وكانت عادة عوامّ الفرس فيه رفع النار فى ليلته، ورشّ الماء فى صبيحته. وفى ذلك يقول المعوج:

_ [1] ؟؟؟؟؟

كيف ابتهاجك بالنّيروز يا سكنى؟ ... وكلّ ما فيه يحكينى وأحكيه! فناره كلهيب النار فى كبدى! ... وماؤه كتوالى عبرتى فيه! وقال آخر: نورز النّاس ونورز ... ت، ولكن بدموعى! وذكت نارهم، والنّ ... ار ما بين ضلوعى! 2- وأما المهرجان، فوقوعه فى السادس والعشرين من تشرين الأوّل من شهور السّريان، وفى السادس عشر من مهرماه من شهور الفرس. وهذا الأوان وسط زمان الخريف، وفيه يقول بعض الشعراء: أحبّ المهرجان لأنّ فيه ... سرورا للملوك ذوى السّناء، وبابا للمصير إلى أوان ... تفتّح فيه أبواب السّماء. وهو ستة أيام. ويسمّى اليوم السادس المهرجان الأكبر. قال المسعودىّ: وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم، أنهم كانوا يسمون شهورهم بأسماء ملوكهم. وكان لهم ملك يسمّى مهر، يسير فيهم بالعنف والعسف. فمات فى نصف الشهر الذى يسمونه مهرماه، فسمى ذلك اليوم مهرجان. وتفسيره «نفس مهر ذهبت» وهذه لغة الفرس الأوّل. وزعم آخرون أن «مهر» بالفارسية حفاظ و «جان» الروح. وقد نظم عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر ذلك، فقال: إذا ما تحقّق بالمهرجا ... ن من ليس يعرف معناه، غاظا. ومعناه أن غلب الفرس فيه ... فسمّوه للرّوح حقّا حفاظا. ويقال إنه إنما عمل فى عهد أفريدون الملك، وأن معنى هذا الاسم «إدراك الثأر» .

وسبب اتخاذهم له، أن بيوراسف (وهو الضحاك) ، ويقال له أزدهاق ذو الحيّتين والأفواه الثلاثة، والأعين الستة، الدّاهى الخبيث المتمرّد، لما قتل جمشاد، وملك بعده، غيّر دين المجوسية. وجاء إبليس فى صورة خادم، فقبّل منكبيه، فنبت فيهما حيتان، فكان يطعمهما أدمغة الناس. فأجحف ذلك بالرعية، فخرج رجل بأصبهان، يقال له كابى، ويقال فيه كابيان. ودعا الناس إلى قتاله، فاجتمع له خلق كثير. فشخص الضحاك لقتاله، فهاب كثرة جمعه وفرّ منهم. فاجتمع الناس على كابى ليملكوه عليهم، فأبى ذلك وقال: ما أنا من أهل الملك، وأخرج صبيا من ولد جمشاد، يسمّى أفريدون وملّكه، فأطاعه الناس فيه وملّكوه عليهم. وخرج أفريدون فى طلب الضحاك ليأخذ ثأر جدّه فظفر به، وجعل ذلك اليوم عيدا، وسماه المهرجان. ويقال إن المهرجان هو اليوم الذى عقد فيه التاج على رأس- أردشير بن بابك، أوّل ملوك الفرس الساسانية. وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يفضل المهرجان على النيروز: أخا الفرس إنّ الفرس تعلم إنّه ... لأطيب من نيروزها مهرجانها: لإدبار أيّام يغمّ هواؤها ... وإقبال أيّام يسرّ زمانها. وكان مذهب الفرس فيه أن يدّهن ملوكهم بدهن البان تبرّكا، وكذلك عوامهم، وأن يلبس القصب والوشى، ويتوّج بتاج عليه صورة الشمس وحجلتها الدّائرة عليها، ويكون أوّل من يدخل عليه الموبذان بطبق فيه أترجّة، وقطعة سكّر، ونبق، وسفر جل، وعنّاب، وتفّاح، وعنقود عنب أبيض، وسبع طاقات آس قد زمزم علمها.

ثم يدخل الناس على طبقاتهم بمثل ذلك. وكان أردشير، وأنو شروان يأمران بإخراج ما فى خزائنهم فى المهرجان والنيروز من أنواع الملابس والفرش، فتفرّق كلّها فى الناس على مراتبهم، ويقولان: إن الملوك تستغنى عن كسوة الصيف فى الشتاء، وعن كسوة الشتاء فى الصيف، وليس من أخلاقهم أن يخبؤوا كسوتهم فى خزائنهم ويساووا العامّة فى فعلها. وزعم بعض أصحاب التاريخ أن النيروز عملته الفرس قبل المهرجان بألفى سنة وخمسمائة سنة. 3- وأما السّدق، فإنه يعمل فى ليلة الحادى عشر من شهر بهمن ماه. ويسمّى هذا اليوم عندهم أبان روز، لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسما. ويقال فى سبب اتخاذهم له: إن فراسياب لما ملك، سار إلى بلاد بابل وأكثر فيها الفساد، وخرّب العمران. فخرج عليه دق بن طهماسب، وطرده عن مملكته إلى بلاد التّرك. وكان ذلك فى يوم أبان روز. فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدا، وجعلوه ثالثا ليوم النيروز، والمهرجان. ويقال أيضا فى سبب اتخاذهم له: إن الأب الأوّل، وهو عندهم كيومرث، لما كمل له مائة ولد، زوج الذكور بالإناث، وصنع لهم عرسا أكثر فيه من إشعال النيران، فوافق ذلك الليلة المذكورة، واستسنه الفرس بعده. وهم يوقدون النيران بسائر الأدهان، ويزيدون فى الولوع بها، حتّى إنهم يلقون فيها سائر الحيوانات.

وفى ذلك يقول ابن حجاج من أبيات يمدح بها عضد الدّولة بن بويه: مولاى يا من نداه يعدو ... ففات سبتا وليس يلحق. ليلتنا حسنها عجيب ... بالقصف والعزف قد تحقّق. لنارها فى السّما لسان ... عن نور ضوء الصّباح ينطق. والجوّ [1] منها قد صار جمرا ... والنجم منها قد كاد يحرق. ودجلة أضرمت حريقا ... بألف نار وألف زورق. فماؤها كلّها حميم ... قد فار مما غلى [2] وبقبق. وقال أبو القاسم المطرّز، فى سدق عمله السلطان ملك شاه، أشعل فيه الشموع والنيران فى السّميريّات بدجلة، وذلك فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة: وكلّ نار على العشّاق مضرمة ... من نار قلبى أو من ليلة السّدق. نار تجلّت بها الظّلماء فاشتبهت ... بسدفة الليل فيها غرّة الفلق! وزارت الشمس فيها الليل واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق. مدّت على الأرض بسطا من جواهرها ... ما بين مجتمع وار ومفترق. مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق. أعجب بنار ورضوان يسعّرها ... ومالك قائم منها على فرق! فى مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق.

_ [1] كذا فى الأصل ولعله « والجو منها يصير جمرا ... والنجم منها يكاد يحرق » ليستقيم الوزن. [2] فى الأصول يغلى.

3 - ذكر أعياد النصارى القبط

3- ذكر أعياد النصارى القبط وأعياد النصارى أربعة عشر عيدا: سبعة يسمونها كبارا، وسبعة يسمونها صغارا. فأما الكبار: 1- فمنها عيد البشارة. ويعنون بها بشارة غبريال، وهو عندهم جبريل عليه السلام على ما يزعمون أنه بشر مريم ابنة عمران بميلاد عيسى (عليهما السلام) . وهم يعملونه فى التاسع والعشرين من برمهات من شهورهم. 2- ومنها عيد الزيتونة. وهو عيد الشّعانين، وتفسيره التسبيح. يعملونه فى سابع أحد من صومهم. وسنّتهم فيه أن يخرجوا بسعف النخل من الكنيسة. ويزعمون أنه يوم ركوب المسيح اليعفور فى القدس، وهو الحمار، ودخوله صهيون وهو راكب، والناس يسبحون بين يديه، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. 3- ومنها الفصح. وهو العيد الكبير عندهم يقولون إن المسيح قام فيه بعد الصّلبوت بثلاثة أيام. 4- ومنها خميس الأربعين. ويسميه الشاميون السّلّاق [1] . وهو الثانى والأربعون من الفطر. يزعمون أن المسيح عليه السلام تسلّق فيه من بين تلاميذه إلى السماء من بعد القيام، ووعدهم إرسال الفار قليط وهو روح القدس. 5- ومنها عيد الخميس. وهو العنصرة يعمل بعد خمسين يوما من يوم القيام يقولون إن روح القدس حلّت بالتلاميذ، وتفرّقت عليهم ألسنة الناس، فتكلموا بجميع الألسنة، وتوجه كل واحد منهم إلى بلاد لسانه الذى تكلم به يدعوهم إلى دين المسيح.

_ [1] فى الأصل السلاقى. وفى القاموس [وكرمّان عيد للنصارى] وفى صبح الأعشى بغير ياء على الصواب.

6- ومنها الميلاد. وهو اليوم الذى ولد فيه المسيح. يقولون إنه ولد فى يوم الاثنين فيجعلون عشية الأحد ليلة الميلاد. وهم يوقدون فيه المصابيح بالكنائس ويزينونها. ويعمل فى التاسع والعشرين من كيهك من شهورهم. 7- ومنها الغطاس. ويعمل فى الحادى عشر من طوبة من شهورهم. ويقولون إن يحيى بن زكريا، وينعتونه بالمعمدان، غسل عيسى عليه السلام فى بحيرة الأردنّ، ويزعمون أن عيسى (عليه السلام) لما خرج من الماء اتصل به روح القدس على هيئة حمامة. والنصارى يغمسون أولادهم فى الماء فيه، ووقته شديد البرد. وأما الأعياد الصغار: 1- فمنها الختان. ويعمل فى سادس بئونة، يقولون إن المسيح ختن فى هذا اليوم، وهو الثامن من الميلاد. 2- ومنها الأربعون. وهو عند دخول الهيكل يقولون إن سمعان الكاهن دخل بعيسى (عليه السلام) مع أمّه [الهيكل] [1] وبارك عليه. ويعمل فى ثامن أمشير من شهورهم. 3- ومنها خميس العهد. ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام. وسنّتهم فيه أن يأخذوا إناء ويملؤوه ماء ويزمزموا عليه، ثم يغسل البطريك به أرجل سائر الناس. ويزعمون أن المسيح عيسى (عليه السلام) فعل مثل هذا بتلاميذه فى مثل هذا اليوم، يعلمهم التواضع، وأخذ عليهم العهد أن لا يتفرّقوا، وأن يتواضع بعضهم لبعض. وعوامّ النصارى يسمون هذا الخميس خميس العدس، وهم يطبخون فيه العدس المقشور

_ [1] الزيادة من صبح الأعشى.

على ألوان، ويسميه أهل الشام خميس الأرز. ومنها خميس البيض أيضا. ويسميه أهل الأندلس خميس أبريل، وأبريل شهر من شهور الروم. 4- ومنها سبت النّور. وهو قبل الفصح بيوم. يقولون إن النور يظهر على مقبرة المسيح فى هذا اليوم، فتشتعل منه مصابيح كنيسة القيامة التى بالقدس. وليس كذلك، بل هو من تخييلات فعلها أكابرهم ليستميلوا بها عقول أصاغرهم. وقيل إنهم يعلقون القناديل فى بيت المذبح، ويتحيلون فى إيصال النار إليها بأن يمدّوا على سائرها شريطا من حديد فى غاية الدقة، يدهنونه بدهن البلسان ودهن الزّنبق. فإذا صلّوا، وحان وقت الزوال، فتحوا المذبح، فدخل الناس إليه، وقد أشعلت فيه الشموع. ويتوصل بعض القوم إلى أن يعلق بطرف الشريط الحديد النار فتسرى عليه، فتقد القناديل واحدا بعد واحد بسبب الدّهن. 5- ومنها حدّ الحدود. وهو بعد الفصح بثمانية أيام. يعمل أوّل أحد بعد الفطر، لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم. وفيه يجدّدون الآلات، والأثاث، واللباس، ويأخذون فى المعاملات، والأمور الدّنيوية. 6- ومنها التجلى. يقولون: إن المسيح (عليه السلام) ، تجلّى لتلاميذه بعد أن رفع، وتمنّوا عليه أن يحضر لهم إيليا، وموسى، فأحضرهما لهم فى مصلّى بيت المقدس، ثم صعد. ويعمل فى ثالث عشر مسرى من شهورهم. 7- وعيد الصليب. وتزعم النصارى أن قسطنطين بن هيلانى انتقل عن اعتقاد اليونان إلى اعتقاد النصرانية، وبنى كنيسة قسطنطينية العظمى، وسائر كنائس الشام.

وسبب ذلك- على ما نقله المؤرّخون- أنه كان مجاورا للبرجان، فضاق بهم ذرعا من كثرة غاراتهم على بلاده. فهمّ أن يصانعهم ويقرّر لهم عليه إتاوة فى كل عام ليكفّوا عنه. فرأى ليلة فى المنام أن ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فحاربت البرجان فهزموهم. فلما أصبح، عمل أعلاما وصوّر فيها صلبانا، ثم قاتل بها البرجان فهزمهم. وقيل إنه رأى فى المنام صلبانا من نور فى السماء، وقائلا يقول له: اعمل مثل هذا على رؤوس أعلامك وقاتل بها فنصر. فأمر أهل مملكته بالرجوع عن دينهم والدّخول فى دين النصرانية، وأن يقصوا شعورهم، ويخلقوا لحاهم. وإنما فعل ذلك بهم لأن رسل عيسى عليه السلام كانوا قد وردوا على اليونان من قبل يأمرونهم بالتعبد بدين النصرانية، فأعرضوا عنهم، ومثّلوا بهم هذه المثلة نكالا بهم. ففعلوا ذلك تأسّيا بهم. ولما تنصر قسطنطين، خرجت أمه هيلانى إلى الشام، فبنت الكنائس، وسارت إلى بيت المقدس، فطلبت الخشبة التى صلب عليها المسيح، على ما يزعمون. وكانت مدفونة فى مزبلة. فأخرجت منها، وفيها مواضع سبعة مسامير فلما حملت إليها، غلفتها بالذهب وحملتها إلى ابنها. واتخذت يوم رؤيتها لها عيدا. قال المسعودىّ: وذلك لأربع عشرة ليلة خلت من أيلول، ووافق ذلك سبع عشرة ليلة خلت من توت من شهور القبط. وكان من مولد عيسى إلى اليوم الذى وجدت فيه الخشبة ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار الروم فى فنّ التاريخ، وهو فى الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب.

4 - ذكر أعياد اليهود

4- ذكر أعياد اليهود وأعياد اليهود التى نطقت بها توراتهم خمسة: 1- منها عيد رأس السنة. ويسمونه رأس هيشا، أى عيد رأس الشهر. وهو أوّل يوم من تشرين. ينزل عندهم منزلة عيد الأضحية عندنا. ويقولون إن الله عز وجل أمر إبراهيم بذبح إسحاق ابنه عليهما السلام فيه، وفداه بذبح عظيم. 2- ومنها عيد صوماريا. ويسمّى الكبور. وهو عندهم الصوم العظيم الذى فرض عليهم، ويقتل من لم يصمه. ومدّة الصوم خمس وعشرون ساعة، يبدأ فيها قبل غروب الشمس فى اليوم التاسع من شهر تشرين، ويختم بمضىّ ساعة بعد غروبها من اليوم العاشر. ويشترطون رؤية ثلاثة كواكب عند الإفطار. وهى عندهم تمام الأربعين الثالثة التى صام فيها موسى عليه السلام. ولا يجوز أن يقع عندهم فى يوم الأحد، ولا يوم الثلاثاء، ولا فى يوم الجمعة. ويزعمون أن الله تعالى يغفر لهم فيه جميع ذنوبهم إلا الزنا بالمحصنات، وظلم الرجل أخاه، وجحد ربوبية الله تعالى. 3- ومنها عيد المظلّة. وهو ثمانية [1] أيام، أوّلها الخامس عشر من تشرين. وكلها أعياد، واليوم الأخير منها يسمّى عرابا [2] ، وتفسيره شجر الخلاف. وهو أيضا حج لهم. وهم يجلسون فى هذه الأيام تحت ظلال سعف النخل الأخضر، وأغصان الزيتون. والخلاف، وسائر الشجر الذى لا ينشر ورقه على الأرض. ويزعمون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله تعالى إياهم فى التّيه بالغمام.

_ [1] فى صبح الأغشى [سبعة أيام] . [2] فى صبح الأعشى [عرايا] .

4- ومنها عيد الفطير. ويسمونه الفصح. ويكون فى الخامس عشر من نيسان. وهو سبعة أيام يأكلون فيها الفطير، وينظّفون بيوتهم فيها من خبز الخمير. لأنها عندهم الأيام التى خلص الله تعالى فيها بنى إسرائيل من فرعون وأغرقه، فخرجوا إلى التيه، وجعلوا يأكلون اللحم، والخبز الفطير، وهم بذلك فرحون. وفى آخر هذه الأيام غرق فرعون. 5- ومنها عيد الأسابيع، وهى الأسابيع التى فرضت عليهم فيها الفرائض، وكمّل فيها الدّين. ويسمّى عيد العنصرة، وعيد الخطاب. ويكون بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع. يقولون إنه اليوم الذى خاطب الله تعالى فيه بنى إسرائيل من طور سيناء وإن من جملة ما خوطبو به العشر كلمات، وهى وصايا تتضمن أمرا ونهيا. وهو: من حجوجهم. وحجوجهم ثلاثة: الأسابيع، والفطير، والمظلّة. وهم يعظمونه ويأكلون فيه القطائف ويجعلونها بدلا عن المنّ الذى أنزل عليهم فى هذا اليوم، على ما يزعمون. واتخاذهم لهذا العيد فى اليوم السادس من سيوان. 6- وعيد الفوز. وهو عيد أحدثوه، ويسمونه الفوريم. وذكروا فى سبب اتخاذهم له أن بختنصر لما أجلى من كان ببيت المقدس من اليهود إلى عراق العجم، أسكنهم مدينة جىّ، وهى إحدى مدينتى أصفهان. فلما ملك أردشير بن بابك، سماه اليهود بالعبرانية أجشادوس. وكان له وزير يسمونه بلغتهم هيمون. ولليهود يومئذ حبر يسمّى بلغتهم مردوخاى. فبلغ أردشير أن له ابنة عمّ جميلة الصورة من أحسن أهل زمانها. فطلب تزويجها منه، فأجابه إلى ذلك. فتزوّجها، وحظيت عنده، وصار مردوخاى قريبا منه. فأراد هيمون الوزير إصغاره حسدا له، وعزم على إهلاك طائفة اليهود التى فى جميع مملكة أردشير. فرتب مع نوّاب الملك فى سائر الأعمال

أن يقتل كلّ واحد منهم من يعلمه من اليهود. وعيّن لهم يوما وهو النصف من آذار. وإنما خص هذا اليوم دون غيره، لأن اليهود يزعمون أن موسى عليه السلام ولد فيه، وتوفى فيه. وأراد بذلك المبالغة فى نكايتهم ليضاعف الحزن عليهم بهلاكهم، وبموت موسى (عليه السلام) . فبلغ مردوخاى ذلك، فأرسل إلى ابنة عمه يعلمها بما بلغه، ويحضها على إعمال الحيلة فى خلاصهم، فأعلمت الملك بالحال، وذكرت له أن الوزير إنما حمله على ذلك الحسد، لقرب مردوخاى منه. فأمر بقتل هيمون الوزير، وأن يكتب أمان لليهود. فاتخذوه عيدا. واليهود يصومون قبله ثلاثة أيام. وهذا العيد عندهم عيد سرور، ولهو، وخلاعة، وهدايا يهديها بعضهم لبعض، ويصوّرون فيه من الورق صورة هيمون، ويملئون بطن الصورة نخالة ويلقونها فى النار حتّى تحترق. 7- وعيد الحنكة. وهو أيضا مما أحدثوه. وهو ثمانية أيام، أوّلها ليلة الخامس والعشرين من كسلا. وهم يوقدون فى الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا؛ وفى الثانية سراجين؛ ويضعف ذلك فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فيكون فى الثامنة ثمانية سرج. وسبب اتخاذهم لهذا العيد، أن بعض الجبابرة تغلّب على البيت المقدّس وقتل من كان فيه من بنى إسرائيل، وافتض أبكارهم. فوثب عليه أولاد كاهنهم، وكانوا ثمانية، فقتله أصغرهم. فطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيرا، وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج على أبوابهم فى كل ليلة إلى ثمان ليال. فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسموه الحنكة، وهو مشتق من التنظيف، لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار شيعة الجبار.

القسم الرابع من الفن الأول فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران

القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم 1- فى مبدإ خلق الأرض قال الله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) . والأرض سبع، كما أن السماوات سبع. والدّليل على ذلك قوله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) واختلف فيها هل هى سبع متطابقات بعضها فوق بعض، أو سبع متجاورات؟ فذهب قوم إلى أنّ الله تعالى خلق سبع سماوات متطابقات متعاليات، وسبع أرضين متطابقات متسافلات؛ وبين كل أرض وأرض، كما بين كل سماء وسماء، خمسمائة عام. وفسر بهذا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) . أى كانت سماء واحدة [1] ففتقناهما سبعا. قيل: ولكل أرض أهل وسكّان مختلفو الصور والهيئات؛ ولكل أرض اسم خاص.

_ [1] أى وأرضا واحدة [ولعله سقط من قلم الناسخ] .

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الأول

وذهب قوم إلى أنها سبع متجاورات متفرّقات لا متطابقات. فجعلوا الصين أرضا، وخراسان أرضا، والسند والهند أرضا، وفارس والجبال والعراق وجزيرة العرب أرضا، والجزيرة والشام وبلاد إرمينية أرضا، ومصر وإفريقيّة أرضا، وجزيرة الأندلس وما جاورها من بلاد الجلالقة والأنكبردة وسائر طوائف الروم أرضا. ويقال: إنها كانت على ماء، والماء على صخرة، والصخرة على سنام ثور، والثور على كمكم [1] ، والكمكم على ظهر حوت، والحوت على الماء، والماء على الريح، والريح على حجاب ظلمة، والظلمة على الثرى. وإلى الثرى انقطع علم المخلوقين. قال الله تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) . وزعم آخرون أن تحت الأرض السابعة صخرة. وتحت الصخرة الحوت، وتحت الحوت الماء، وتحت الماء الظلمة، وتحت الظلمة الهواء، وتحت الهواء الثرى. وقد تقدّم فى الباب الأوّل من هذا الكتاب أن الأرض مخلوقة من الزّبد. فلا فائدة فى تكراره. الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها ، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك قال الثعالبىّ: فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمة اللغة:

_ [1] كذا بالأصل؟

إذا اتّسعت الأرض ولم يتخللها شجر أو خمر، فهى الفضاء والبراز والبراح؛ ثم الصّحراء والعراء؛ ثم الرّهاء والجهراء. فإذا كانت مستوية مع الاتّساع، فهى الخبت والجدد؛ ثم الصّحصح والصّردح؛ ثم القاع والقرقر؛ ثم القرق والصّفصف. فإذا كانت مع الاستواء والاتساع بعيدة الأكناف والأطراف، فهى السّهب والخرق؛ ثم السّبسب والسّملق والملق. فإذا كانت مع الاتّساع والاستواء والبعد لا ماء فيها، فهى الفلاة والمهمة؛ ثم التّنوفة والفيفاء؛ ثم النّفنف والصّرماء. فإذا كانت مع هذه الصفات لا يهتدى فيها لطريق، فهى اليهماء والغطشاء. فإذا كانت تضلّ سالكها، فهى المضلّة والمتيهة. فإذا لم يكن بها أعلام ولا معالم، فهى المجهل والهوجل. فإذا لم يكن بها أثر، فهى الغفل. فإذا كانت قفراء، فهى القىّ. فإذا كانت تبيد سالكها، فهى البيداء. والمفازة كناية عنها. فإذا لم يكن فيها شىء من النّبت، فهى المرت والمليع. فإذا لم يكن فيها شىء، فهى المروراة والسّبروت والبلقع. فإذا كانت الأرض غليظة صلبة، فهى الجبوب، ثم الجلد، ثم العزاز، ثم الصّيداء، ثم الجدجد. فإذا كانت صلبة يابسة من غير حصى، فهى الكلد، ثم الجعجاع.

فإذا كانت غليظة ذات حجارة ورمل، فهى البرقة والأبرق. فإذا كانت ذات حصّى، فهى المحصاة والمحصبة. فإذا كانت كثيرة الحصى، فهى الأمعز والمعزاء. فإذا اشتملت عليها كلّها حجارة سود، فهى الحرّة واللّابة. فإذا كانت ذات حجارة كأنها السكاكين، فهى الحزيز. فإذا كانت الأرض مطمئنة، فهى الجوف والغائط؛ ثم الهجل والهضم. فإذا كانت مرتفعة، فهى النّجد والنّشز. فإذا جمعت الأرض الارتفاع والصّلابة والغلظ، فهى المتن والصّمد، ثم القفّ والفدفد والقردد. فإذا كان ارتفاعها مع اتّساع، فهى اليفاع. فإذا كان طولها فى السماء مثل البيت، وعرض ظهرها نحو عشرة أذرع، فهى التّلّ؛ وأطول وأعرض منها الرّبوة والرّابية؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية، وهى التى لا يعلوها الماء. وبها ضرب المثل فى قولهم: «بلغ السيل الزّبى» ؛ ثم النّجوة، وهى المكان الذى تظن أنه نجاؤك؛ ثم الصّمّان، وهى الأرض الغليظة دون الجبل. فإذا ارتفعت عن موضع السيل وانحدرت عن غلظ الجبل، فهى الخيف. فإذا كانت الأرض لينة سهلة من غير رمل، فهى الرّقاق والبرث؛ ثم الميثاء والدّمثة. فإذا كانت طيبة التربة كريمة المنبت بعيدة عن الأحساء والنّزوز، فهى العذاة. فإذا كانت مخيلة للنبت والخير، فهى الأريضة. فإذا كانت ظاهرة لا شجر فيها ولا شىء يختلط بها، فهى القراح والقرواح. فإذا كانت مهيأة للزراعة، فهى الحقل والمشارة والدّبرة.

2 - ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته

[فإذا لم تهيأ للزراعة، فهى بور] [1] . فإذا لم يصبها المطر، فهى الفلّ والجرز فإذا كانت غير ممطورة وهى بين أرضين ممطورتين، فهى الخطيطة. فإذا كانت ذات ندى ووخامة، فهى الغمقة. فإذا كانت ذات سباخ، فهى السّبخة. فإذا كانت ذات وباء، فهى الوبئة والوبيئة. فإذا كانت كثيرة الشجر، فهى الشّجراء والشّجرة. فإذا كانت ذات حيّات، فهى المحوّاة [2] . فإذا كانت ذات سباع أو ذئاب، فهى المسبعة والمذأبة. 2- ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته قال الثعالبىّ رحمه الله تعالى: الصّعيد، تراب وجه الأرض. والبوغاء، والدّقعاء، التراب الرّخو الرقيق الذى كأنه ذريرة. والثّرى، التراب النّدىّ: وهو كل تراب لا يصير طينا لازبا إذا بلّ. المور، التراب الذى تمور به الريح. الهباء، التراب الذى تطيّره الريح فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم [يلتزق لزوقا] [3] .

_ [1] الزيادة من فقه الثعالبى. [2] كذا ضبط فى فقه اللغة، وفى اللسان: (وأرض محياة ومحواة كثيرة الجيات) وهو الأولى لاطراد هذا الوزن فى مثل ذلك. [3] الزيادة من فقه الثعالبى.

3 - ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه

[والهابى، الذى دقّ وارتفع] [1] . السّافياء، التراب الذى يذهب فى الأرض مع الريح. النّبيئة، التراب الذى يخرج من البئر عند حفرها. الرّاهطاء والدّامّاء، التراب الذى يخرجه اليربوع من جحره ويجمعه.. الجرثومة، التراب الذى يجمعه النمل عند قريته. العفاء، التراب الذى يعفّى الآثار. وكذلك العفو. الرّغام، التراب المختلط بالرمل. السّماد، التراب الذى يسمّد به النبات. فإذا كان مع السّرقين، فهو الدّمال.. 3- ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه النّقع والعكوب، الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل. العجاج، الغبار الذى تثيره الريح. الرّهج والقسطل، غبار الحرب. الخيضعة، غبار المعركة. العثير، غبار الأقدام. المنين ما تقطّع منه. 4- ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه قال: إذا كان الطين حرّا يابسا، فهو الصّلصال. فإذا كان مطبوخا، فهو الفخّار.

_ [1] الزيادة من فقه الثعالبى.

5 - ذكر تفصيل أسماء الرمال

فإذا كان علكا لاصقا، فهو اللّازب. فإذا غيّره الماء وأفسده، فهو الحمأ. (وقد نطق القرآن بهذه الأسماء الأربعة) . فإذا كان رطبا، فهو الثّأطة والثّرمطة والطّثرة. فإذا كان رقيقا، فهو الرّداغ. فإذا كان ترتطم فيه الدوابّ، فهو الوحل. وأشدّ منه الرّدغة والرّزغة. وأشدّ منها الورطة تقع فيها الغنم فلا تقدر على التخلّص منها؛ ثم صارت مثلا لكل شدّة يقع فيها الإنسان. فإذا كان حرّا طيبا علكا وفيه خضرة، فهو الغضراء. فإذا كان مخلوطا بالتبن، فهو السّياع. فإذا جعل بين اللّبن، فهو الملاط. 5- ذكر تفصيل أسماء الرّمال قال: العداب، ما استرقّ [1] من الرمل. الحبل، ما استطال منه. اللّبب، ما انحدر منه. الحقف، ما اعوجّ منه. الدّعص، ما استدار منه.

_ [1] فى الأصل: ما اشتدّ. ولكن الذى فى لقاموس وفقه اللغة: ما استرق.

6 - ذكر ترتيب كمية الرمل

العقدة، ما تعقّد منه. العقنقل، ما تراكم منه. السّقط، ما جعل يتقطّع ويتصل منه. النّهبورة، ما أشرف منه. التّيهور، ما اطمأنّ منه. الشّقيقة، ما انقطع وغلظ منه. الكثيب والنّقا، ما احدودب وانهال منه. العاقر، ما لا ينبت شيئا منه. الهدملة، ما كثر شجره منه. الأوعس، ما سهل ولان منه. الرّغام، ما لان منه. وليس هو الذى يسيل من اليد. الهيام، ما لا يتمالك أن يمسك باليد منه للينه. الدّكداك، ما التبد بالأرض منه. العانك، ما تعقّد منه حتّى لا يقدر البعير على المسير فيه. 6- ذكر ترتيب كمية الرمل قال الثعالبىّ: الكثير يقال له العقنقل. فإذا نقص، فهو كثيب. فإذا نقص، فهو عوكل.

7 - ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها

فإذا نقص عنه، فهو سقط. فإذا نقص عنه، فهو عداب. فإذا نقص، فهو لبب. وقال فى كتابه «الغريب [1] » : إذا كانت الرملة مجتمعة، فهى العوكلة. فإذا انبسطت وطالت، فهى الكثيب. فإذا انتقل الكثيب من موضع إلى آخر بالرياح وبقى منه شىء رقيق، فهو اللّبب. فإذا نقص، فهو العداب. 7- ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها قال الثعالبىّ: المرصاد والنّجد، الطريق الواضح؛ وكذلك الصّراط والجادّة والمنهج واللّقم والمحجّة، وسط الطريق ومعظمه. واللّاحب، الطريق الموطّأ. المهيع، الطريق الواسع. الوهم، الطريق الذى يرد فيه الموارد. الشّارع، الطريق الأعظم. النّقب والشّعب، الطريق فى الجبل. الخلّ، الطريق فى الرمل.

_ [1] ليس هذا الكتاب الثعالبى؛ وانما هو كتاب «الغريب المصنف» لأبى عمرو الشيبانى؛ الموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الأول

المخرف، الطريق فى الأشجار. ومنه الحديث: «عائد المريض فى مخارف الجنة» . النّيسب، الطريق المستقيم؛ وقيل إنه الطريق المستدق الواضح، كطريق النمل والحية وحمر الوحش. والله أعلم. الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الأوّل فى طول الأرض ومسافتها ذهب المتكلمون فى ذلك أن مسافة الأرض خمسمائة عام: ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار؛ وأن مقدار المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون منها ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم. وقيل إن الدّنيا سبعة أجزاء: ستة منها ليأجوج ومأجوج، وواخذ لسائر الناس. وقيل إن الأرض خمسمائة عام: البحار منها ثلاثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران. وقيل إن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان منها اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف فرسخ، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. وقال وهب بن منبه: ما العمارة من الدّنيا فى الخرب إلا كفسطاط فى الصحراء. وقال أردشير بن بابك: إن الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسّودان.

وقيل: إن الأقاليم سبعة، والأطراف أربعة، والنواحى خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا. وقال الخوارزمىّ صاحب الزيج: دور المعمور سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض، والجبال، والمفاوز، والبحار. والباقى خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان. ومثّل المعمور بصورة طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب. وزعم أصحاب الهيئة أن قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا، وأن دورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل. وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر. وإنما علم ذلك وحرر من عبد الله المأمون، وذلك أنه لما أشكل عليه ما ذكره المتقدّمون من مقدار الأرض بعث جماعة من أهل الخبرة بالحساب والنجوم- منهم علىّ بن عيسى- إلى برّية سنجار. وتفرّقوا من هناك. فذهب بعضهم إلى جهة القطب الشمالىّ، وذهب آخرون إلى جهة القطب الجنوبىّ، وسار كل منهم فى جهته إلى أن وصل غاية ارتفاع الشمس نصف النهار، وقد زال وتغير عن الموضع الذى اجتمعوا فيه وتفرّقوا منه، مقدار درجة واحدة. وكانوا قد ذرعوا الطريق فى ذهابهم، فنصبوا السهام، ووتدوا الأوتاد، وشدّوا الحبال. ثم رجعوا وامتحنوا الذرع ثانية، فوجدوا مقدار درجة واحدة من السماء سامتت وجه بسيط الأرض ستة وخمسين ميلا وثلثى ميل. (والميل أربعة آلاف ذراع؛ والذراع ست قبضات؛ والقبضة أربع أصابع؛ والإصبع ست شعيرات، بطون بعضها إلى بعض؛ والشعيرة

الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الأول

ست شعرات من شعر الخيل) . فضربت هذه الأميال فى جميع درجات الفلك، وهى ثلاثمائة وستون درجة، فخرج من الضرب عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل. فحكم بأن ذلك دور الأرض. وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخىّ: مسافة طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو من أربعمائة مرحلة، ومسافة عرضها من حيث العمران الذى من جهة الشمال (وهو مساكن يأجوج ومأجوج) إلى حيث العمران الذى من جهة الجنوب (وهو مساكن السودان مائتان وعشرون مرحلة؛ وما بين برارى يأجوج ومأجوج والبحر المحيط فى الجنوب خراب ليس فيه عمارة. ويقال إن مسافة ذلك خمسة آلاف فرسخ. حكى هذه الأقوال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» رحمه الله. الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى الأقاليم السبعة ذهب أصحاب الزيجات إلى أن كل إقليم منها كأنّه بساط ممدود، طوله من المغرب إلى المشرق، وعرضه من الجنوب إلى الشمال. 1- فأما الإقليم الأوّل. فمبدؤه من مشرق أرض الصين إلى مدائن أبوابها. وهى الأنهار التى تدخل السفن فيها من البحر إلى المدائن الجليلة، مثل خانقو وخانفور. [1]

_ [1] كذا بالأصل والصواب، خانجو عن كتاب «تقويم البلدان» لأبى الفدا.

وفيه جزيرة سرنديب. ومن أرض اليمن ما كان جنوبيا من صنعاء، مثل ظفار وحضرموت وعدن. وفيه من بلد النوبة دنقلة؛ ومن بلد السودان غانة. ثم ينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من خط الاستواء إلى مقدار ما يبعد عنه عشرون درجة وثلاث عشرة دقيقة. وذهب بعض الناس إلى أن أوّل المعمور من حيث يكون العرض وخط الاستواء اثنتى عشرة درجة ونصف وربع درجة، وفيما بين هذا العرض وخط الاستواء مسكون بطوائف من السودان فى عداد الوحوش والبهائم. وعدّ فيه بطليموس من البلاد ذوات العروض ستين مدينة. وأهل هذا الإقليم سود، وهو قليل الساكن لإفراط حرّه. 2- وأما الإقليم الثانى. فيبتدئ من بلاد الصين، ويمرّ على بعض بلاد الهند الساحلية، مثل تانة [1] ، وصيمور، وسندان؛ ومن بلاد السند على المنصورة وديبل، ثم يبلغ عمان. ويكون فيه من أرض العرب: نجران، وهجر، وجنّابة [2] ، ومهرة، وسبأ، وتبالة، والطائف، وجدّة، ومكّة، والمدينة، ومملكة الحبشة، وأرض البجة، وأسوان، وقوص، والصعيد الأعلى، وجنوب بلاد المغرب حتّى ينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الأوّل إلى سبع وعشرين درجة واثنتى عشرة دقيقة. وزعم بطليموس أن فيه أربعمائة وخمسين مدينة. وأهله بين السمرة والسواد، وهو كثير الذهب.

_ [1] اسم لمدينة ببلاد الهند. قال البيرونى: هى على الساحل. والنسبة اليها «تانشى» ومنها الثياب التانشية (انظر تقويم البلدان) . [2] فى معجم ياقوت: جنابة بلدة صغيرة من سواحل فارس، وهى فى الاقليم الثالث. وفى «تقويم البلدان» (جنابة بلدة قد خرب غالبها، وهى فرضة لفارس، وضبطها ابن خلكان بفتح الجيم والمشهور الضم) .

3- وأما الإقليم الثالث. فمبدؤه من شرق أرض الصين، وفيه مدينة مملكتها، حمدان [1] ؛ وفيه من بلاد الهند تانش والقندهار، ومن بلاد السند المولتان وقزدار [2] . ثم يمرّ ببلاد سجستان، وكرمان، وفارس، وأصبهان، والأهواز، والبصرة، والكوفة، وأرض بابل، وبلاد الجزيرة، والشام، وفلسطين، وبيت المقدس، والقلزم، والتّيه، وأرض مصر، والإسكندرية، وبلاد برقة، وإفريقيّة، وتاهرت، وبلاد طنجة، والسّوس، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الثانى فى العرض إلى تمام ثلاث وثلاثين درجة وتسع وأربعين دقيقة. وزعم بطليموس أن فيه تسعا وخمسين مدينة. وأهله سمر. 4- وأما الإقليم الرابع. فمبدؤه من أرض الصين، ويمرّ على التّبّت والحنق [3] ، ثم على جبال قشمير، ووخان [4] ، وتل حسان، وكابل، والغور، وهراة، وبلخ، وطخارستان؛ ويمتدّ إلى الرىّ، وقمّ، وهمذان، وحلوان [5] ، وبغداد، والموصل، وأذربيجان، ويمتدّ على منبج، وطرسوس، والثغور، وأنطاكية، وجزيرة قبرس، وصقلّيّة، ثم على الزّقاق إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الثالث فى العرض إلى تتمة تسع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة.

_ [1] هكذا بالأصل. ولعل المراد مدينة واقعة على النهر المشهور باسم خمدان ببلاد الصين. [2] فى الأصول: «كرورا» وليس بالسند بلد بهذا الاسم. ويترجح أن النساخين حرفوه عن «كردار» ، ويقال فيه «قصدار» (انظر معجم ياقوت) . [3] فى ياقوت: والختن.... وبرجان، وبذخشان. وهو الصواب. [4] لم نعثر على بلدة بهذا الاسم ولعلها محرفة عن «وخش» وهى كما فى معجم ياقوت: بلدة من نواحى بلخ. وفى «تقويم البلدان» : انها بلدة بما وراء النهر فى الاقليم الرابع. [5] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر.

وزعم بطليموس أن فيه مائة وثلاثين مدينة. وأهله بين السمرة والبياض. 5- وأما الإقليم الخامس. فمبدؤه من أرض الترك المشرفين على يأجوج ومأجوج إلى كاشغر، وبلاساغون، وفرغانة، وإسبيجاب، [1] والشّاش، وأشروسنة، وسمرقند، وبخارى، وخوارزم، وبحر الخزر إلى باب الأبواب، وبرذعة، وميّافارقين، ودروب الروم، وبلادهم. ثم يمرّ على رومية الكبرى، وأرض الجلالقة [2] ، وبلاد الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية الإقليم الرابع إلى تمام ثلاث وأربعين درجة وثمانى عشرة دقيقة. وذكر بطليموس أن فيه سبعا وتسعين مدينة. وأكثر أهله بيض. 6- وأما الإقليم السادس. فمبدؤه من مساكن ترك المشرق، وهم الخرخيز، والكيماك، والتّغزغر، ثم على بلاد الخوز من شمال تخومها، واللّان، والسّرير، وأرض برجان، ثم على قسطنطينيّة، وأفرنجة [3] ، وشمال الأندلس؛ وينتهى إلى البحر المحيط؛ وعرضه من غاية الإقليم الخامس إلى تمام سبع وأربعين درجة وخمس عشرة دقيقة. وزعم بطلميوس أن فيه ثلاثا وثلاثين مدينة، وهو كثير الإمداد والثلوج. وأهله بيض الأبدان، شقر الشعور. 7- وأما الإقليم السابع. فليس فيه كبير عمارة، وإنما هو فى المشرق غياض وجبال يأوى إليها طوائف من الترك كالمتوحشين. ويمرّ على بلاد البجناك، ثم على بلاد البلغار، ثم على الروس والصقالبة، وينتهى إلى البحر المحيط. وعرضه من غاية

_ [1] هى المشهورة أيضا باسم: إسفيجاب. [2] أهل جلّيقيّة بشمال الأندلس. [3] أى فرنسا.

2 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض

الإقليم السادس إلى تتمة خمسين درجة ونصف. وفيه الأرض المحفورة، وهى وهدة لا يقدر أحد أن ينزل إليها، ولا أن يصعد منها من هو فيها لبعد قعرها. يسكنها أمّة من الناس لا يدرى من هم. وإنما علم أنها معمورة برؤية الدّخان فيها نهارا، والنار ليلا. يشقها نهر يجرى، والعمارة محيطة به. وزعم بطليموس أن فيها ثلاثا وعشرين مدينة. وأهل هذا الإقليم بيض صهب الشعور. وما بقى من المعمور إلى نهايته إلى ثلاث وستين درجة مضاف إلى هذا الإقليم ومحسوب فيه. يسكنه طوائف من الناس، هم بالبهائم فى الخلق والخلق أشبه منهم ببنى آدم. 2- ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض يقال: أحمل من الأرض. أكتم من الأرض. أصبر من الأرض. آمن من الأرض. أوثق من الأرض. أوطأ من الأرض. أحفظ من الأرض. أكثر من الرمل. أظلم من الرمل. أعطش من الرمل. أوجد من التراب. ويقال: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها. رماه بين سمع الأرض وبصرها. أخذت الأرض زخارفها. أفق قبل أن يحفر ثراك. ابتغوا الرزق فى خبايا الأرض. ومن أنصاف الأبيات: الأرض من تربة والناس من رجل أنّى تمطر الأرض السماء

3 - ذكر شىء مما قيل فى وصف الأرض وتشبيهها

ومن الأبيات: والأرض لا تطعم من فوقها ... إلا لكى تطعم من تطعمه وقال آخر: إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر، فهى الأرض. ناهيك من أرض! وقال آخر: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا، ... فكم تحتها قوم همو منك أرفع! وقال آخر: يا أرض كم وافد أتاك فلم ... يرجع إلى أهله ولم يؤب! 3- ذكر شىء مما قيل فى وصف الأرض وتشبيهها قال الأخطل: وتيهاء ممحال كان نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همّل. ترى لامعات الآل فيها كأنّها ... رجال تعرّى تارة وتسربل. وجوز فلاة لا يغمّض ركبها ... ولاعين هاديها من الخوف تغفل. وكلّ بعيد الغور لا يهتدى له ... بعرفان أعلام ولا فيه منهل. ملاعب جنّان كأنّ ترابها ... إذا اطّردت فيها الرّياح تغربل. ترى الثعلب الحولىّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزا حصان محجّل. وقال ذو الرمّة: ودوّيّة جرداء جدّاء خيّمت ... بها هبوات الصّف من كلّ جانب. سباريت يخلو سمع مجتازها بها ... من الصّوت، إلا من صياح الثّعالب.

وقال ذو الرمّة: وهاجرة السّراب من الموامى ... ترقّص فى عساقلها الأروم. تموت قطا الفلاة بها أواما ... ويهلك فى جوانبها النّسيم. مللت بها المقام فأرقتنى ... هموم لا تنام ولا تنيم. وقال ضابئ البرجمىّ: وداويّة تيه يحاربها القطا ... على من علاها من ضلول ومهتدى. مسافهة للعيس ناء نياطها؛ ... إذا سار فيها راكب، لم يغرّد. وقال مسلم بن الوليد: وقاطعة رجل السّبيل مخوفة ... كأنّ على أرجائها حدّ مبرد. مؤزّرة بالآل فيها كأنّها ... رجال قعود فى ملاء معمّد. وقال الصاحب بن عباد: وتيهاء لم تطمث بخفّ وحافر ... ولم يدر فيها النّجم كيف يغور. معالمها أن لا معالم بينها، ... وآياتها أنّ المسير غرور. ولو قيل للغيث، اسقها: ما اهتدى لها ... ولو ظلّ ملء الأرض وهو جزور. تجشّمتها، واللّيل وحف جناحه ... كأنّى سرّ والظّلام ضمير. وقال الشريف الرضى: وتنوفة حصباؤها ... خلقت لنار القيظ جمرا. تبدى جنادبها الأن ... ين أسى على المجتاز ظهرا. وترى بها العصفور متّ ... خذا وجار الضّبّ وكرا.

وقال المتنبى: مهالك لم يصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه. وقال ابراهيم بن خفاجة الاندلسى: ومفازة لا نجم فى ظلمائها ... يسرى ولا فلك بها دوّار. تتلهّب الشّعرى بها فكأنّها ... فى كفّ زنجىّ الدّجى دينار. ترمى بها الغيطان فيها والرّبى ... آل كما يتموّج التّيّار. والقطب ملتزم لمركزه بها ... فكأنّه فى ساجه مسمار. قد لفّنى فيها الظّلام وطاف بى ... ذئب يلمّ مع الدّجى زوّار. طرّاق ساحات الدّيار مغاور ... خبث لأبناء السّرى غدّار. يسرى، وقد فضح الدّجى وجه الضّيا، ... فى فروة قد مسّها اقشعرار. فعشوت فى ظلماء لم يقدح بها ... إلا لمقلته، وبأسى نار. ورفلت فى خلع علىّ من الدّجى ... عقدت بها من أنجم أزرار. واللّيل يقصر خطوه، ولربّما ... طالت ليالى الرّكب وهى قصار. وقال آخر: ومجهولة الأعلام طامسة الصّوى ... إذا عسفتها العيس بالرّكب، ضلّت. إذا ما تهادى الرّكب فى فلواتها، ... أجابت نداء الرّكب فيها فأصدت. وقال مسعود، أخوذى الرمّة يصف بعد فلاة: ومهمهه فيها السّراب يلمح ... يدأب فيها القوم حتّى يطلحوا. ثمّ يظلّون كأن لم يبرحوا ... كأنّما أمسوا بحيث أصبحوا.

وقال مسلم: تجرى الرّياح بها مرضى مولّهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد. وقال آخر: ودوّيّة مثل السّماء قطعتها ... مطوّقة آفاقها بسمائها. وقال بعض الاعراب [1] فى الآل: كفى حزنا أنّى تطاللت كى أرى ... ذرى علمى دمخ فما يريان! كأنّهما، والآل ينجاب عنهما، ... من البعد عينا برقع خلقان. قال أبو هلال: وهذا من أغرب ما روى من تشبيهات القدماء. وقال آخر: والآل تنزو بالصّوى أمواجه ... نزوالقطا الكدرىّ فى الأشراك. والظّلّ مقرون بكلّ مطيّة ... مشى المهار الدّهم بين رماك. وقال ابن المعتز: وما راعنى بالبين إلا ظعائن ... دعون بكائى، فاستجاب سواكبه. بدت فى بياض الآل والبعد دونه ... كأسطر رقّ أمرض الخطّ كاتبه.

_ [1] هو طهمان بن عمرو الدارمى، كما فى ياقوت. وأورد القصيدة بتمامها، وهى 15 بيتا. (معجم البلدان، مادة دمخ) .

الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الأول

الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى الجبال قال الله تعالى: « «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» *. قال المفسرون: خلق الله عز وجل الأرض على الماء فمادت وتكفّأت، كما تتكفّأ السفينة، فأثبتها بالجبال. ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا. وروى أبو حاتم فى كتاب العظمة، أن النبىّ (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله تعالى لما خلق الأرض، جعلت تميد. فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت. فعجبت الملائكة من خلق الجبال، وقالت: يا رب هل خلقت خلقا أشدّ من الجبال؟ قال: الحديد، قالت: فهل من خلق أشدّ من الحديد؟ قال: النار، قالت: فهل من خلق أشدّ من النار؟ قال: الماء، قالت: فهل من خلق أشدّ من الماء؟ قال: الريح، قالت: فهل من خلق أشدّ من الريح؟ قال: ابن آدم، يتصدّق بيمينه فيخفيها عن شماله» . وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. فبعث الله ريحا فعصفت الماء فأبرز عن حشفة فى موضع البيت. فدحا الأرض من تحتها فمادت فأوتدها بالجبال» . فكان أوّل جبل وضع، جبل أبى قبيس. وهو الجبل المطلّ على الكعبة. وفى كنيته بأبى قبيس قولان: أحدهما- أن آدم كناه بذلك حين اقتبس منه النار التى بين أيدى الناس (وقد تقدّم بيان ذلك فى الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ فى ذكر النّيران) .

الثانى- أنه أضيف إلى رجل من جرهم كان يتعبد فيه، اسمه أبو قبيس. ويقال فيه أبو قابوس، وشيخ الجبال. وكان من قبل يسمّى بالأمين. وقال محمد بن السائب الكلبىّ: «إن الله عز وجل لما خلق الأرض، مادت بأهلها. فضربها بجبل السّراة فاطمأنت» . وهو أعظم جبال العرب وأكثرها خيرا، ويسمّى الحجاز. وهو الذى حجز بين تهامة ونجد. فتهامة من جهته الغربية مما يلى البحر، ونجد من جهته الشرقية. وهو آخذ من قعر عدن إلى أطرار [1] الشأم» . ويسمّى هناك جبل لبنان. فإذا تجاوز اللاذقية ومرّ بالثغور، سمّى جبل اللّكّام. ثم يمتدّ فى بلاد الروم إلى بلاد أرمينية، فيسمّى هناك حارثا وحويرثا. ثم يمتدّ إلى بحر الخزر، وفيه «الباب والأبواب» . وقال بعض المفسرين فى قوله تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» إنه جبل محيط بالعالم من زمرّدة خضراء، وإن جبال الدّنيا متفرّعة عنه. وقال قوم: إن السماء مطبقة عليه والشمس تغرب فيه، وهو الحجاب الساتر لها عن أعين الناس، فى أحد الوجوه المفسّر بها قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» . وقال قوم: إن منه إلى السماء مقدار ميل، وإن الذى يرى من خضرة السماء مكتسب من لونه. وقال ابن حوقل: جميع الجبال الموجودة فى الدّنيا متفرّعه عن الجبل الخارج من بلاد الصين، مشرقا ذاهبا على خط مستقيم إلى بلاد السودان مغرّبا.

_ [1] فى الأصل أطبران، وهو تحريف. والتصحيح عن البكرى: أطرار الشام وفيه فى موضع آخر «أطراف بوادى الشام» ومثل هذا فى ياقوت. وأطرار الوادى نواحيه وكذلك أطرار البلاد والطريق واحدها طر. وأطرار البلاد أطرافها. (عن تاج العروس) .

2 - ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض إلى أن يبلغ الجبيل

وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر فى «كتاب الخراج» : وجدت خلف خط الاستواء فى الجنوب وقبل الإقليم الأوّل جبالا تسعة: خمسة منها متقاربة المقادير، أطوالها ما بين أربعمائة ميل إلى خمسمائة ميل؛ وجبلا طوله سبعمائة ميل؛ وجبل القمر، وطوله ألف ميل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الأوّل؛ وجبلا بعضه وراء خط الاستواء، وبعضه فى الإقليم الثانى. قال: ومجموع ما عرف فى الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلا. منها فى الإقليم الأوّل سبعة عشر جبلا، وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الثالث أحد وثلاثون جبلا، وفى الإقليم الرابع أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم الخامس تسعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السادس أربعة وعشرون جبلا، وفى الإقليم السابع أربعة وأربعون جبلا. 2- ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض إلى أن يبلغ الجبيل ثم ما ارتفع عن ذلك إلى أن يبلغ الجبل العظيم، وترتيب ذلك قال الثعالبىّ فى كتابه المترجم «بفقه اللغة» وأسنده إلى أئمتها: أصغر ما ارتفع من الأرض النّبكة؛ ثم الرابية أعلى منها؛ ثم الأكمة؛ ثم الزّبية؛ ثم النّجوة؛ ثم الرّيع؛ ثم القفّ؛ ثم الهضبة (وهى الجبل المنبسط على الأرض) ؛ ثم القرن (وهو الجبل الصغير) ؛ ثم الدّكّ (وهو الجبل الذليل [1] ) ؛ ثم الضّلع (وهو الجبل الذى ليس بالطويل) ؛ ثم النّيق (وهو الجبل الطويل) ؛ ثم الطّود؛ ثم الباذخ والشّامخ؛ ثم الشّاهق؛ ثم المشمخرّ؛ ثم الأقود والأخشب؛ ثم الأيهم؛ ثم القهب (وهو العظيم) ؛ ثم الخشام.

_ [1] فى الأصل: الجبل الدكيك. وقد اعتمدنا ما فى القاموس وفقه اللغة أيضا.

3 - ذكر ترتيب أبعاض الجبل

3- ذكر ترتيب أبعاض الجبل قال الثعالبىّ: أوّل الجبل الحضيض، وهو القرار من الأرض عند أصل الجبل. ثم السّفح، وهو ذيله. ثم السّند، وهو المرتفع فى أصله. ثم الكيح، وهو عرضه. ثم الحضن، وهو ما أطاف به. ثم الرّيد، وهو ناحيته المشرفة على الهواء. ثم العرعرة، وهى غلظه ومعظمه. ثم الحيد، وهو جناحه. ثم الرّعن، وهو أنفه. ثم الشّعفة، وهى رأسه. وقال صاحب كتاب «الفاخر» : يقال من أسماء الجبال: العظيم منها الطّور، والطّود، والكفر، والقهب، والعمود، والعلم، والأرعن، [1] والمشمخرّ. والأيهم الطويل، وهو الشامخ، والشاهق، والباذخ، والباسق، والأقود. والأخشب، الخشن. والعقاب، الصّعاب. والثّنايا، التى ليست بصعبة.

_ [1] كذا بالأصل: والذى فى القاموس واللسان والمخصص (الرّعن أنف الجبل المتقدّم أو الجبل. الطويل) فما هنا من تحريف النساخ.

والهرشمّ، النّخر. والخشام، جبل طويل ذو أنف. والوزر، والملجأ، والقلعة، ما يحصّن فيه. والقرن، جبل صغير. والضّلع والدّكّ، فيه دقّة وانحناء. والنّيق، الذى لا يستطاع أن يرتقى إليه. وأعلى الجبل قلّته وقنّته وذؤابته. وعرعرته، غلظه. والفند، القطعة منه. وشعفه ومصاده، أعلاه. والكيح والكاح، عرضه. والرّكح [1] ، ناحيته المشرفة على الهواء. والحضيض، أسفله. قال: وصغار الجبال، اليفع، والضّرس، والضّرب والعنتيبة [2] ، والعنتوت، والأكمة، والهضبة. والذّريحة، ما انبسط على وجه الأرض. واللّوذ، حضن الجبل وما يطيف به.

_ [1] فى الأصل: الوكح بالواو. وهو تصحيف من الناسخ. وقد صححناه اعتمادا على ما فى القاموس والمخصص. [2] كذا بالأصل ولم نعثر عليها فى القاموس واللسان والمخصص.

4 - ذكر ترتيب مقادير الحجارة

والرّيد والرّيود، نواحيه المحدّدة. والحيد، شاخص يتقدّم كالجناح. ومثله الشّنعوف. والصّدع والشّقب، شقّ فيه. والغار والكهف، مثل البيوت فيه. والقردوعة، الزاوية فيه. واللهب والنّفنف والغار، مهواة بين جبلين. والشّؤون، خطوط فيه. والمخرم، منقطع أنفه. والقرناس، شبه الأنف. والإرم، العلم فيه. 4- ذكر ترتيب مقادير الحجارة قال الثعالبى: إذا كانت صغيرة، فهى حصاة. فإذا كانت مثل الجوزة وصلحت للاستنجاء بها، فهى نبلة. وفى الحديث: «اتّقوا الملاعن وأعدّوا النّبل» . يعنى عند إتيان الغائط. فإذا كانت أعظم من الجوزة، فهى قنزعة. فإذا كانت أعظم منها وصلحت للقذف، فهى مقذاف ورجمة ومرداة. ويقال: إن المرداة، حجر الضبّ الذى ينصبه علامة لحجره. فإذا كانت ملء الكفّ، فهى يهيرّ.

فإذا كانت أعظم منها، فهى: فهر، ثم جندل، ثم جلمد، ثم صخرة، ثم قلعة. وهى التى تنقلع من عرض الجبل. وبها سميت القلعة التى هى الحصن. وقال صاحب كتاب «الفاخر» : من أسمائها، الحجارة؛ والجلمود والجلمد الحجر الصّلب. والبرطيل، الصّخرة العظيمة. والصّفوان، الأملس. والرّضمة، الحجر العظيم. والأتان، صخرة فى مسيل ماء أو حافة نهر. والإزاء، التى عند مهراق الدلو. والرّجمة، ما تطوى به البئر. والكذّان، الرخو. واليرمع، الأبيض الرّخو. والمدقّ والمداك والصّلاية، حجر العطار الذى يسحق عليه العطر. والفهر، ما يملأ الكفّ ويسحق به العطر. والمرداة، ما يكسر به الحجر. والمرداس، ما يرمى به فى البئر لينظر أفيها ماء أم لا. قال الشاعر: من جعل العدّ القديم الّذى ... أنت له عدّة أحراس، إلى ظنون أنت من مائه ... منتظر رجعة مرداس. والنّشف، حجر تدلك به الرّجل فى الحمّام. والنّقل، ما كان في طرق الجبال.

والأثفيّة، ما ينصب عليه القدر. والقلاعة، ما يرمى به فى المقلاع. والظّرّان، حجارة محدّدة يذبح بها. والصّفيح، ما رقّ منه وعرض. واللّخاف، حجارة عراض. والفلك، قطعة مستديرة وترتفع عما حولها. والمدملك، المدوّر. والكليت، حجر مستدير يسدّ به وجار الضّبع. والبلّيت، [1] التام. وقال ابن الأعرابىّ: القبيلة، صخرة على رأس البئر؛ والعقابان من جنبتيها يعضدانها. ومنها المرو، وهى البيض كالحصى. والحصباء، الصغار. والرّضراض، نحوها. والقضيض، أصغر منها. والزّنانير، واحدها زنّير، أصغر ما يكون.

_ [1] كذا بالأصل وعبارة القاموس (والبليت كسكّيت لفظا ومعنى) واللسان (ولبلّيت الرجل الرّمّيت) وهو الحليم الساكن القليل الكلام.

5 - ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة

5- ذكر ما يتمثّل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة ما جاء من ذلك على لفظ أفعل. يقال: أثقل من ثهلان. أثقل من نضاد. أثقل من أحد. أصلب من الحجر. أصلب من الجندل. أقسى من الحجر. أصبر من حجر. أيبس من صخر. أبقى من النّقش فى الحجر. ويقال: رمى فلان بحجره. ردّ الحجر من حيث جاءك. وجّه الحجر وجهة ما، أى دبّر الأمر على وجهه. ألقمه الحجر، أى جاوبه بجواب مسكت. رماه بثالثة الأثافى. أنجد من رأى حضنا (وحضن جبل بنجد) أى من رآه لم يحتج أن يسأل هل بلغ نجدا أم لا. الليل يوارى حضنا، أى يخفى كل شىء حتّى الجبل. ومن أنصاف الأبيات: كأنّه علم فى رأسه نار إذا قطعنا علما بدا علم قوموا انظروا كيف تزول الجبال (يضرب لموت الرؤساء) . جندلتان اصطكّتا اصطكاكا (يضرب لقرنين يتصاولان) . ومن الأبيات: ولو بغى جبل يوما على جبل، ... لانهدّ منه أعاليه وأسفله! تتناثر الأطواد وهى شوامخ ... حتّى تصير مداوس الأقدام. جد فقد تنفجر للصّخ ... رة بالماء الزّلال.

6 - ذكر شىء مما قيل فى وصف الجبال وتشبيهها

6- ذكر شىء مما قيل فى وصف الجبال وتشبيهها قال السموءل بن عاديا: لنا جبل يحتلّه من نجيره ... منيع يردّ الطّرف وهو كليل! رسا أصله تحت الثّرى وسمابه ... إلى النّجم فرع لا يرام طويل! وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: وأرعن طمّاح الذّؤابة باذخ ... يطاول أعنان السّماء بغارب. يصدّ مهبّ الرّيح من كلّ وجهة ... ويزحم ليلا شهبه بالمناكب. وقور على ظهر الفلاة كأنّه ... طوال اللّيالى ناظر فى العواقب. يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب. أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدّثنى ليل السّرى بالعجائب. وقال: ألاكم كنت ملجأ فاتك ... وموطن أوّاه وموئل تائب! وكم مرّ بى من مدلج ومؤوّب ... وقال بسفحى من مطىّ وراكب! ولاطم من نكب الرّياح معاطفى ... وزاحم من خضر البحار جوانبى! فما كان إلّا أن طوتهم يد الرّدى ... فطارت بهم ريح النّوى والنّوائب. وما غيّض السّلوان دمعى وإنّما ... نزفت دموعى من فراق الأصاحب. وأسمعنى من وعظه كلّ عبرة ... يترجمها عنه لسان التّجارب. فسلّى بما أبكى، وسرّ بما شجى، ... وكان على ليل السّرى خير صاحب. وقلت وقد نكّبت عنه مطيّتى: ... سلام فإنّا من مقيم وذاهب!

الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأول

وقال أيضا عفا الله عنه: وأشرف طمّاح الذّؤابة شامخ ... تمنطق بالجوزاء ليلا، له خصر. وقور على مرّ اللّيالى كأنّما ... يصيخ إلى نجوى وفى أذنه وقر. تمهّد منه كلّ ركن زكابه ... فقطّب إطراقا وقد ضحك البدر. ولاذ به نسر السّماء كأنّما ... يجرّ إلى وكر به ذلك النّسر. فلم أدر من صمت له وسكينة ... أكبرة سنّ وقّرت منه أم كبر. وقال أيضا يصفه نثرا من رسالة كتبها إلى بعض الرؤساء: وكيف لى بقربك ودونك كل علم باذخ، مجّ الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه؛ قد ناء بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه؛ قد لاث من غمامه عمامه، وأرسل من ربابه ذؤابه؛ تطرّزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف؛ بحيث مدّه البسيط بساطا، وضربت السماء فسطاطا. الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل 1- فى ذكر البحار والجزائر روى عن ابن عباس (رضى الله عنهما) أنه قال: «لما أراد الله عز وجل أن يخلق الماء خلق ياقوتة خضراء ووصف من طولها وعرضها وسمكها، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء يترقرق لا يثبت فى ضحضاح. فما يرى من التموّج والاضطراب إنما هو ارتعاده من خشية الله تعالى؛ ثم خلق الريح فوضع الماء على متنه؛ ثم خلق العرش ووضعه على متن الماء» . وفسر بهذا قوله عز وجل: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» .

2 - ذكر بحار المعمور من الأرض

2- ذكر بحار المعمور من الأرض وبحار المعمور ثلاثة: أعظمها البحر المحيط، ثم بحر ما نيطش [1] ، ثم بحر الخزر. فأما البحر المحيط وجزائره، ويسمّى باليونانية أوقيانوس، ويسمّى بحر الظلمات، سمّى بذلك لأن ما يتصاعد من البخار عنه لا تحلله الشمس لأنها لا تطلع عليه. فيغلظ ويتكاثف فلا يدرك البصر هيئته. ولعظم أمواجه، وتكاثف ظلمته، وغلظ مائه، وكثرة أهوائه، لم يعلم العالم من حاله إلا بعض سواحله وجزائره القريبة من المعمور. والذى علم به من الجزائر ستة من جهة المغرب، تسمّى جزائر السعادات، والجزائر الخالدات. قال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم «بالمسالك والممالك» : وبإزاء طنجة الجزائر المسماة باليونانية، فرطناتس أى السعيدة. وسميت بذلك لأن فى شعرائها [2] وغياضها كلّها أصناف الفواكه الطيبة من غير غراسة ولا فلاحة، وأن أرضها تحمل الزرع مكان العشب، وأصناف الرياض بدل الشوك. وهى متفرّقة متقاربة. ويقال إن بعض المراكب عصفت عليها الريح فألقتها إلى جزيرة من هذه الجزائر، فنزل من فيها من الركاب إليها، فوجدوا فيها من أنواع أشجار الفواكه وأشجار الأفاويه وأنواع اليواقيت كل مستحسن. فحملوا منه ما أطاقوا ودخلوا به بلاد الأندلس. فسألهم ملكها من أين لهم هذا. فأخبروه بأمرهم، فجهز مراكب وسيرها، فلم يقفوا على حزيرة منها. وعدمت المراكب لعظم البحر وشدّة عصف الريح فلم يرجع منها شىء.

_ [1] كذا فى الأصل، وفى كثير من كتب الجغرافية العربية: وهو المعروف فى كتب الجغرافية العربية مثل أبى الفدا ببحر أزق، وعند الأتراك ببحر آزوف. [2] الشعراء: الأرض ذات الشجر.

ويقال إن هذه الجزائر مسكونة بقوم هم بالوحوش أشبه منهم بالناس. وبينها وبين ساحل البحر عشرة أجزاء. ويقال إن فى جهة المشرق مما يلى بلاد الصين ستة جزائر أخرى، تسمّى جزائر السيلى. يقال إن ساكنيها قوم من العلويين، وقعوا إليها لما هربوا من بنى أمية. ويقال إن جزائر السيلى لم يدخلها أحد من الغرباء وطاوعته نفسه على الخروج منها لصحة هوائها ورقة مائها، وإن كان منها فى عيش قشيف. وفى هذا البحر من الجزائر العامرة جزيرة برطانية، وهى تحاذى جزيرة الأندلس، وأهلها صهب الشعور، زرق العيون. ومما يلى بلاد إفرانسية جزائر يغمرها خلق من الفرنج، لا ينقادون لبلد، ولا يدينون بدين. وفيما يلى الأرض الكبيرة جزيرة ذات أبرجة، يحيط بها سبعمائة ميل وخمسون ميلا، وفيها أربع مدائن، فى كل مدينة ملك. وجزيرة برفاغة. يحيط بها أربعة آلاف ميل، وفيها ثلاث مدائن عامرة. والدّاخل إليها قليل. وهى كثيرة الأنواء والأمطار. وأهلها يحصدون زرعها قبل جفافه لقلة طلوع الشمس عندهم، ويجعلونه فى بيت ويوقدون النار حوله حتّى يجف. وجزيرة أنقلطرة. فيها مدائن عامرة، وجبال شاهقة، وأودية، وأرض سهلة. والشتاء بها دائم. وبين هذه الجزيرة والبر مجاز سعته اثنا عشر ميلا.

3 - ذكر ما يتفرع من البحر المحيط

وفيه مما يلى الصقالبة جزيرتان: إحداهما جزيرة أمرنانيوس النساء، لا يسكنها غير النساء فقط. وتسمّى الأخرى أمرنانيوس الرجال، لا يسكنها غير الرجال. وهم فى كل عام يجتمعون زمان الربيع، ويتناكحون نحوا من شهر ثم يفترقون. ويقال إن هاتين الجزيرتين لا يكاد يقع طرف أحد عليهما لكثرة الغمام، وظلمة البحر، وعظم الأمواج. 3- ذكر ما يتفرّع من البحر المحيط يتفرّع من البحر المحيط خليجان: أحدهما من جهة المغرب، ويسمى البحر الرومىّ. والآخر من جهة المشرق، ويسمّى البحر الصينىّ، والهندىّ، والفارسىّ، واليمنىّ، والحبشىّ، بحسب ما يمرّ عليه من البلاد. وهما المرادان بقوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) . أى لا يبغى هذا على هذا. والبرزخ أرض بين الفرما التى هى على بحر الروم، وبين مدينة القلزم التى هى على بحر الحبش [1] ، مسافتها ثلاثة أيام. وقيل: البرزخ إرسال ماء البحر الحلو على ماء البحر الملح، لأنه مغيض له. فلا سبيل لأحدهما على الآخر، بل جعل الله بينهما حاجزا وهو البرزخ. فأما البحر الرومىّ وجزائره، فإن المؤرّخين قالوا إن الإسكندر حفره وأجراه من البحر المحيط. ويقولون إن جزيرة الاندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها الإشبان والبربر. وكان بعضهم يغير على بعض، والحرب بينهم سجال. فلما

_ [1] فى الأصل بحر فارس. وكان الأصوب أن يعبر باللفظ الذى اختاره لهذا المقام، وهو البحر الحبشى

ملك الإسكندر، رغب إليه الإشبان فيما يحول بينهم وبين البربر. فرأى ان يجعل بينهما خليجا من البحر يمكن به احتراس كل طائفة من الأخرى. فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا، وعرضه اثنا عشر ميلا. وبنى بجانبيه سكرين [1] ، وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها، وجعل عليها حرّاسا يمنعون الجواز عليها من جهة البربر إلا بإذن من جعله نائبا عنه فى بلاد الإشبان. وكان قاموس البحر أعلى من أرض الزقاق، فطما وغطّى السّكرين والقنطرة، وساق بين يديه بلادا وطغا على أخرى. حتّى إن المسافرين فيه يخبرون أن المراكب فى بعض الأوقات يتوقف سيرها فيه مع وجود الريح. فيسبرون أمرها، فيجدون المانع لها سلوكها بين شرفات السور أو بين حائطين. فعظم طولا وعرضا، وصار بحرا [2] . قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : وقد زاد عرضه ستة أميال عما كان عليه فى زمن الإسكندر. فصار ثمانية عشر ميلا. قال: وزعم السالكون فيه أنّ البحر ربما جزر فى بعض الأوقات، فترى القنطرة. قالوا: وهذا الزقاق صعب شديد متلاطم الأمواج مهول، شبيه بما جاوره من البحر المحيط. وأهل الأندلس يقولون إن بين هذا البحر وبين البحر المحيط بحرا يسمونه بحر الأيلاية بتفخيم اللام [3] . وهو بحر عظيم الموج صعب السلوك.

_ [1] السكر (بكسر السين) هو ما سدّ به النهر. [2] هو المسمى بحر الزقاق واسمه الآن مجاز جبل طارق. [3] لعل المؤلف يشير إلى خليج ليون فهو مشهور بشدّة التيار وبصعوبة السلوك.

ومبدأ جريه من البحر الرومىّ من الإقليم الرابع. فإذا خرج من الزقاق يمرّ مشرّقا فى جهة بلاد البربر وشمال المغرب الأقصى إلى أن يمرّ بالمغرب الأوسط، إلى إفريقية، إلى برقة، إلى الإسكندرية، إلى شمال أرض التيه وأرض فلسطين. فيمرّ بسواحل الشام إلى أن يصل إلى السويدية التى هى فرضة أنطاكية، وعندها حجز البحر. ومنها يعطف فيمرّ على العلايا وأنطالية (وهما فرضتان لبلاد الروم) ، ثم على ظهر بلاد قسطنطينية إلى أن ينتهى إلى المكان الذى منه خرج. وطوله خمسة آلاف ميل، وقيل ستة آلاف. وعرضه مختلف: ففى موضع ثلاثمائة ميل، وفى موضع ستمائة ميل، وفى موضع سبعمائة. ويقال إن فيه ما يزيد على مائة وسبعين جزيرة. كانت عامرة بطوائف من الفرنج، أخرب المسلمون أكثرها بالمغازى فى صدر الإسلام. وأجلّ ما ملك المسلمون منها، ثم انتزع أكثره من أيديهم: 1- جزيرة الأندلس. 2- وجزيرة يابسة. وهى حيال جزيرة الأندلس، ومسافتها يومان فى يوم. وفيها مدينة صغيرة مسوّرة. 3- وجزيرة منرقة، ومسافتها يومان فى نصف يوم. وفيها مدينة عامرة. 4- وجزيرة ميورقة. ويقال فيها ما يورقة. ومسافتها يومان فى يومين، وبها مدينة. 5- وجزيرة رودس [1] . وهى حيال بلاد أفرنجة [1] . ويحيط بها ثلاثمائة ميل. وفيها حصنان.

_ [1] هذا الوصف لا ينطبق على جزيرة رودس، بل على جزيرة قورسقة التى هى حيال بلاد أفرنجة أي فرنسا، وهى تابعة لها.

6- وجزيرة سردانية. وطولها مائتان وثمانون ميلا، وعرضها مائة وثمانون ميلا. وفيها ثلاث مدائن كبار. وسكانها قوم من الفرنج متوحشون. وبها معدن فضة. 7- وجزيرة صقلية. وهى حيال إفريقية مضاهية لجزيرة الأندلس. وشكلها مثلث. يحيط بها خمسمائة ميل. كثيرة الجبال، والحصون، والأمصار، والأنهار، والأشجار. ومما فيها من المدن المشهورة على ساحل البحر: بلرمو. وبها يكون الملك؛ وكانت قصبة الجزيرة بعد أن فتحها المسلمون ثم انتقل الناس منها إلى الخالصة. وهى محدثة. بنيت فى أيام القائم ابن المهدىّ العبيدىّ فى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. ثم صارت بلرمو وبقيت الخالصة ربضا لها؛ وقطانية. وكانت عظيمة فأحرقها البركان الذى فى الجزيرة. فبنى الأمبرطور مدينة عوضها، وسماها غشطارة. ومسينى. وهى على أحد أركان الجزيرة. وسرقوسة. وهى على الركن الآخر، والبحر محيط بها من ثلاث جهاتها. وطرابنش. وهى على الركن الثالث، والبحر محيط بها. ولها مجاز. ومن بلاد هذه الجزيرة البرية: والشاقة، ومازر، وكركنت، ونوطس، وطبرمين، وقصريانة، والنور، ورغوص، وغيطة، وغير ذلك. وبهذه الجزيرة. (ويقال بجزيرة ملاصقة لها) بركان، وهو أطمة يخرج منها أجسام كأجسام الناس بغير رؤوس من النار، فتعلو فى الهواء ليلا ثم تسقط فى البحر، فتطفو على وجه الماء. ومنها يكون حجر المرو الذى تحكّ به الأرجل.

4 - ويخرج من هذا البحر خليجان

7- وجزيرة بلونس. ودورها ألف ميل. ولها مجاز إلى البر الطويل، عرضه ستة أميال. فيها ما يزيد على خمسين مدينة؛ القواعد منها خمس عشرة مدينة، وهى مشهورة عند الفرنج. 8- وجزيرة مالطة. وطولها أربعة وعشرون ميلا، وعرضها اثنا عشر، وفى وسطها مدينة واحدة. 9- وجزيرة قوسرة. وفيها مواضع متوحشة. 10- وجزيرة أقريطش. وهى حيال برقة. طولها ثلاثمائة ميل، وعرضها مائة وثلاثون ميلا. وبها مدينتان: إحداهما تسمّى الخندق، والأخرى تسمّى ربض الجبن. وفيها معدن ذهب. 11- وجزيرة قبرس. وهو اسم النحاس، لأن بها معدن نحاس. يحيط بها ألف ميل وخمسمائة ميل. وفيها من المدن الجليلة، ليمسون، والباف بباء مفخمة، والماغوصة. وكلها فى البحر. وفى وسط الجزيرة مدينة الأفقسية، وهى القصبة. وبها يكون متولى الجزيرة. 4- ويخرج من هذا البحر خليجان أحدهما يسمى جون البنادقة، والآخر يسمى خليج القسطنطينية. 1- فأما خليج البنادقة. فإنه خليج كبير متسع ليس له فوّهة. وإنما هو جون له ركنان، سعة ما بينهما سبعون ميلا. يحيط بهذا الجون مدن جليلة لطائفة من الفرنج تسمى البنادقة. وهى ذوات حصون وقلاع ممتنعة.

ومبدؤه من شرقىّ بلاد قلورية عند مدينة تسمى أذرنت [1] ، ومنتهاه بلاد إيكلاية [2] . ومن هناك يعطف، وطوله ألف ميل ومائة ميل. وفيه ست جزائر، ثلاثة منها فى ضفة، وثلاثة فى أخرى، بها مدن عامرة. وثلاثة معترضة بين ركنيه مهملة لا ساكن بها. 2- وأما خليج القسطنطينية. ويسمى بحر نيطش فإن فوهته مقابلة لجزيرة رودس، وسعتها غلوة سهم. ويقال إنه كان بين الشطين سلسلة طرفاها فى برجين تمنع المراكب من العبور إلا بإذن الموكل بها. ويمرّ هذا الخليج نحو مائتى ميل وخمسين ميلا إلى أن ينتهى إلى القسطنطينية فتكون فى غربيه، يحيط بجهتين منها. وهى مدينة عظيمة مشهورة. وعرض البحر عندها أربعة أميال. ثم يمرّ ستين ميلا حتّى ينصب فى بحر ما نيطش. وهو بحر سوداق. وعرض فوهته هناك عشرة أميال. وفى موضع أقلّ، وفى موضع أكثر. فهذا البحر الرومى وجزائره وما تفرّع منه. والله أعلم.

_ [1] فى الأصل أكدنت وهو تحريف لمدينة أذرنت قال فى نزهة المشتاق: خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقى بلاد قلوريه ... من عند أذرنت ... وينتهى طرفه إلى بلاد إيكلاية. [2] فى الأصل انكلاية، وهو تحريف ظاهر عن إيكلاية التى ذكرها الإدريسى فى هذا الموضع.

5 - وأما بحر الهند وجزائره

5- وأما بحر الهند وجزائره فمبدؤه من مشرق الصين فوق خط الاستواء. ويجرى إلى جهة الغرب، فيجتاز ببلاد الواق [1] ، وبلاد سفالة الزنج؛ ثم ببلاد الزنج حتّى يصل إلى بلاد بربرا، وهناك حجزه. وأما الشرقىّ: فمبدؤه من لوقين، وهى أوّل مرافىء الصين ثم بخانقو فرضة الصين العظمى؛ ثم إلى سمندور من بلاد الهند؛ ثم إلى حارتين، إلى قندرينه [2] ، إلى تانة، إلى سندابور، إلى بروص (ويقال بروج، وإليها ينسب القماش البروجى) ، إلى صيمور [3] ، إلى سندان، إلى سوتارة، إلى كنباية. (وإليها ينسب القماش الكنبايتى) ، إلى ديبل (وهى أوّل مرافئ السند) ؛ ثم إلى سرون، ثم إلى التّيز [4] من بلاد مكران، وهى أحد ركنى الخليج الفارسىّ. والركن الآخر يسمى رأس الجمحة: وهو جبل خارج فى البحر، ومن هناك يسمى بحر اليمن، ثم يمتدّ على ظفار؛ ثم على الشّحر ساحل بلاد مهرة؛ ثم على شرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ، ثم على أبين، ثم على عدن، ثم المخنق، ثم العارة، ثم يمتدّ إلى باب المندب.

_ [1] قال البيرونى مانصه: (فى كتاب تحقيق ما للهند ص 103 سطر 7) جزيرة الوقوان من جملة قمير. وهو اسم لا كما تظنه العوام من أنه شجرة حملها كرءوس الناس تصيح ولكن قمير قوم ألوانهم الى البياض قصار القدود على صور الأتراك ودين الهنود مخرمى الآذان وأهل جزيرة الوقواق منهم سود الألوان والناس فيهم أرغب ويجلب منهم الآبنوس الأسود وهو لب شجرة تلقى حواشيها فأما الملمع والشوحط والصندل الأصفر فمن الزنج. اهـ [2] لعل المقصود: قندابيل (وقد ذكرها ياقوت) . [3] ويقال صيمون (انظر ياقوت) . [4] هى قصبة بلاد مكران بالسند.

ومن هناك يخرج خليج القلزم، وطوله ثمانية آلاف ميل، وعرضه يختلف. فى موضع ألف ميل وسبعمائة ميل، وفى موضع ألفان، وفى موضع دون ذلك. ويقال: إن بينه وبين البحر المحيط بحرا آخر يسمى البحر الزفتى، سمى بذلك لظلمته وسواده، وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل. وهذا البحر- أعنى الهندىّ- بجملته قسمه السالكون له ستّ قطع، وضعوا لها أسماء مختلفة. 1- فالذى يمرّ بأرض الصين يسمى بحر صنجى [1] ، ينسب لمدينة فى جزيرة من جزائره. وهو بحر كثير الأمواج مهول. فإذا كان فى أوّل هياجه ظهر فيه بالليل أشخاص سود، طول الواحد منهم خمسة أشبار وأقلّ من ذلك. يصعدون إلى المراكب ولا يضرون أحدا. فإذا عاينهم السّفّار، أيقنوا بالدّمار. وإذا قدّر الله تعالى نجاتهم من هذه الشدّة، أراهم على رأس الدّقل طائرا أبيض كأنما خلق من النور، فيتباشرون به. فإذا ذهب عنهم الروع، فقدوه. وفيه من الجزائر المعمورة: جزيرة شريرة [2] . يحيط بها ألف ميل ومائتا ميل. فيها مدائن كثيرة، أجلها المدينة التى تنسب إليها، ومنها يجلب الكافور. وجزيرة صنجى. وإليها تنسب هذه القطعة. وطولها مائتا ميل؛ وعرضها أقلّ من ذلك. وفيها جواميس وبقر بغير أذناب.

_ [1] لعل هذا الاسم هو و «شنجو» لمسمى واحد. وهى المعروفة عند العرب باسم مدينة «زيتون» وهى فرضة الصين (راجع أبا الفدا) . [2] سماها أبو الفدا: سريرة.

وجزيرة أنفوجة. يحيط بها أربعمائة ميل. عمارتها متصلة. 2- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر الصّنف. فى جزيرة من جزائره مدينة. وهو بحر خبيث كثير الأمطار والرياح الشديدة. وفى جباله معادن الذهب والرصاص، وفيه مغاص اللؤلؤ، وفى غياضه الخيزران. وفيه مملكة المهراج. ويشتمل على جزائر لا تحصى، ولا يمكن المراكب أن تطوف بها فى سنة. وفيها أنواع الطيب من الكافور، والقرنفل، والعود، والصّندل، والجوزبوّى، والبسباسة، والكبابة. ومن جزائره المشهورة: جزيرة الزانج. وتكسيرها سبعمائة فرسخ، وبها يكون المهراج، وهو اسم يطلق على كل من ملكها. وجزيرة البركان. وهى جزيرة فيها جبل يرمى بالشرر ليلا، وبالرعود القواصف نهارا، وهى أحد آطام الدّنيا المشهورة. وجزيرة قمار. وإليها ينسب العود القمارىّ. وبها شجر الصندل. دورها أربعة أشهر. وهى مأوى عبّاد الهند وعلمائهم. يسمّى ملكها قامرون. وجزائر الرامى [1] . وهى نحو ألف جزيرة معمورة. بها الملوك. وفيها معادن الذهب، وشجر الكافور. وجزائر لنجيالوس. ويقال لنكيالوس. وهى كثيرة، وأهلها سود، مشوّهو الصور لقربها من خط الاستواء. وبها معادن الحديد. 3- ويلى هذه القطعة قطعة تسمّى بحر لاروى، وبحر كله، وبحر الجاوه، وبحر فنصور. وإنما ترادفت عليه هذه الأسماء بحسب ما يمرّ عليه من البلاد والجزائر.

_ [1] فى الأصل الراقى وفى نزهة المشتاق «الرامى» .

وهو بحر لا يدرك قعره. وفيه نحو ألف جزيرة تسمّى جزائر النارجيل، لكثرته بها. وكلها عامرة بالناس. وبين الجزيرة والجزيرة الفرسخ والفرسخان. وليس يوجد فى سائر جزائر البحر ألطف صنعة من أهل جزائره فى سائر المهن. وبيوت أمواله الودع. ومن جزائره المشهورة مما يلى أوائل بلاد الهند: جزيرة الماند. وهى جزيرة يحيط بها ألف ميل. وفيها ثلاث مدن كبار. وجزيرة كرموه. يحيط بها ثلاثمائة ميل. وجزيرة بلى. منسوبة لمدينة من الهند على ساحله. يأتيها التجار لاجل الفلفل. وجزائر الذئاب. وهى كثيرة. وأكبرها جزيرة ديبى. وسكانها قبائل من العرب. يحيط بها أربعمائة ميل. وفيها الموز، وقصب السكر. وجزيرة السيلان. وطولها ستمائة ميل، وعرضها قريب من ذلك. وفيها مدن كثيرة. وإليها ينسب العود السيلى. وجزيرة كله. وإليها ينسب البحر. وهى جزيرة خطيرة، طولها ثمانمائة ميل، وعرضها ثلاثمائة ميل وخمسون ميلا. وبها من المدن فنصور. فيها شجر الكافور (وفيها العود الفاخر) وملاير، ولا روى، وكله (وإليها ينسب الدّهن) . ولكل مدينة من هذه المدن خور تعبره المراكب من البحر. وجزيرة صندابولات. وطولها نحو من مائتى ميل، وعرضها نحو مائة ميل. تنسب إلى مدينة هى فيها. وجزائر بداميان. فيها أمم سود، قباح الوجوه. قامة الرجل منهم أقلّ من ذراع. ليس لهم مراكب. فإذا وقع اليهم غريق أو من يتيه من التجّار، أكلوه.

4- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر هركند، وفيه جزائر كثيرة. ويقال إن عدّتها ألف جزيرة وتسعمائة جزيرة. ويقع فيها العنبر الذى تكون القطعة منه مثل البيت. وسكانها أحذق الناس فى الحياكة، ينسجون القميص بكميّه ودخاريزه قطعة واحدة. وفيه من الجزائر المشهورة: جزيرة سرنديب [1] . وهى مدوّرة الشكل، يحيط بها ألف فرسخ. يشقّها جبل الراهون، وهو الجبل الذى هبط عليه آدم (عليه السلام) من الجنة. وفى أوديتها الياقوت والماس والسّنباذج. وطولها مائتان وستون ميلا. ومدينة هذه الجزائر العظمى تسمى أغنا، يسكنها مسلمون، ونصارى، ويهود، ومجوس. ولكل أهل ملة من هذه الملل حاكم. لا يبغى بعضهم على بعض. وكلهم يرجع إلى ملك يسوسهم ويجمع كلمتهم. ولهذا البحر أربعة أودية تصب فى البحر تسمى الأغباب [2] . 5- ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر اليمن. وأوّله بحر الجمحة، وهو بلاد مهرة. معترض فى البحر فيمرّ بحاسك (وهو أوّل مرافئ اليمن) ؛ ثم يمرّ بمرباط [3] (ساحل بلاد ظفار) ؛ ثم يمرّ بالشّحر (ساحل بلاد مهرة) ؛ ثم بشرمة ولسعا (ساحلى بلاد حضرموت) ؛ ثم بأبين؛ ثم بعدن؛ ثم بالمخنق؛ ثم بالعارة؛ ثم الباب بالمندب.

_ [1] قال البيرونى فى كتابه على الهند: سنكلديب وهى جزيرة سرنديب (ص 102) وفى أبى الفدا سنكاديب. [2] الأغباب واحدها غبّ. وهو- على ما قال البيرونى- كالزاوية والعطفة يدخل من البحر إلى البر ويكون للسفن فيه مخاوف وخاصة من جهة المد والجزر. والخور هو شبه الغبّ ولكنه ليس من جهة دخول البحر وإنما هو من مجىء المياه الجارية واتصاله بالبحر ساكنا ومخاوف السفن فيه من جهة العذوبة التى لا تستقلّ بالأثقال استقلال الملوحة بها (تحقيق ما للهند ص 102) . [3] مدينة بين حضرموت وعمان وهى الفرضة لمدينة ظفار الواقعة على خمسة فراسخ منها.

وفيه من الجزائر المشهورة: جزيرة سقوطرة. وطولها نحو من مائة وثمانين ميلا، وعرضها فى الوسط نحو خمسة عشر ميلا. وبها الصبر. يسكنها قوم من اليونان، تغلبوا على من كان فيها من الهند فى زمن الإسكندر. وبها عيون يقال إن الشرب منها يزيد فى العقل. ولهذا سميت فى الكتب القديمة جزيرة العقل. ويلى هذه القطعة قطعة تسمى بحر الزنج، وبحر بربرا؛ ويسمى ساحله الزنجبار. وفيه مما يلى بلاد اليمن جزائر ومنها: جزيرة دعون [1] ، وهى مدوّرة. وجزيرة السود. وجزيرة حورتان. وجزيرة مروان. وفيها مدن يسكنها السّرّاق، وهى مقابلة لبلاد مهرة. وجزائر الديبجات. وهى كثيرة. وأهلها مفرطون فى السواد. وجميع ما عندهم أسود، حتّى قصب السكر والكافور. وجزيرة القمر. وتسمى جزيرة ملاى. وطولها أربعة أشهر، وعرض الواسع منها يزيد على عشرين يوما. وهى تحاذى جزيرة سرنديب. وفيها بلاد كثيرة أجلها كيدانة، وملاى (وإليها تنسب الجزيرة) ودهمى، وبليق، وخافورا، ودعلى، وقمرية (وإليها ينسب القمر) . ويقال: إن بهذه الجزيرة خشبا، ينحت من الخشبة

_ [1] من المعلوم أن العرب يسمون شبه الجزيرة بالجزيرة. ولم أجد لهذا الاسم أثرا فيما بين يدىّ من كتب المراجعة فلعلها هى التى ذكرها ياقوت باسم «دغوث» وقال إنها بلد بنواحى الشحر من أرض عمان أو لعلها «دغوطة» التى قال أبو الفدا انها آخر مدن سفالة وآخر العمارة فى البر المتصل.

6 - ويخرج من هذا البحر الذى يجمع هذه القطع خليجان

منه شان [1] يكون طوله ستين ذراعا، يجذف على ظهره مائة وستون رجلا. ولما ضاقت هذه الجزيرة بأهلها بنوا على الساحل محلات يسكنونها فى سفح جبل يعرف بهم. ومنها يخرج نهر النيل [2] . 6- ويخرج من هذا البحر الذى يجمع هذه القطع خليجان أحدهما بحر القلزم، والآخر بحر فارس. 1- فأما خليج القلزم. فخروجه من باب المندب. وهو جبل طوله اثنا عشر ميلا، وسعة فوهته بمقدار أن الرجل يرى صاحبه من البرّ الآخر. فاذا قارب المندب يمرّ فى جهة الشمال، بغلافقة، والأهواب (وهما ساحلا زبيد) ثم الجردة، ثم الشّرجة، ثم عثّر (وكانت مقرّ ملك قديم) ثم بالسّرّين، وحلى، وعسفان، والجار (وهى فرضة المدينة) والجحفة، والصّفراء، والحوراء، ومدين، وأيلة، والطّور، وفاران، ثم القلزم (وكانت مدينة مسكونة، وكذلك أيلة) . ومن القلزم ينعطف من جهة الجنوب فيمرّ بالقصير (وهى فرضة لقوص) ثم إلى عيذاب (وهى فرضة لبلاد البجّة) ، ثم يمتدّ إلى زيلع (وهى ساحل بلاد الحبشة) ويتصل ببربرا. وطوله ألف ميل وخمسمائة ميل. وعرضه فى مواضع أربعمائة ميل، ودون ذلك إلى مائتى ميل إلى ما دون ذلك. وهو بحر كريه المنظر والرائحة.

_ [1] أى من السفن المعروفة باسم الشوانى. [2] يخلط الجغرافيون العرب كثيرا بين هذه الجزائر المعروفة بالقمر (بضم فسكون) وبين الجبل المعروف بالقمر (بفتح فسكون) فيجعلونهما شيئا واحدا ويقولون بخروج منابع النيل من تلك الجزائر. وهذا أمر غير معقول:

وفيه فيما بين القلزم وأيلة المكان المعروف بتاران، وهو مكان يشبه دردور عمان. لأنه فى سفح جبل إذا وقفت الريح على دردورته انقطعت بنصفين على شعبتين متقابلتين؛ ثم يخرج من كمّى هاتين الشعبتين، فيثير البحر فتتبلّد السفن باختلاف الريح فلا تكاد تسلم. وهاتان الشعبتان تسميان الجبيلين، ومقدار هذا الموضع ستة أميال، ويسمى بركة الغرندن [1] . ويقال: إنها التى أغرق الله فرعون وقومه فيها. فإذا كان للجنوب أدنى مهب، فلا يمكن سلوكه. وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة، العامر منها أربعة، وهى: جزيرة دهلك. يحيط بها نحو مائتى ميل؛ يسكنها قوم من الحبوش. مسلمون. وجزيرة سواكن. وهى أقل من ميل فى ميل. وبينها وبين البحر الحبشى بحر قصير يخاض. وأهلها طائفة من البجّة تسمى الحاسد وهم مسلمون، ولهم بها ملك. وجزيرة النعمان. وبها نويس [2] تعيش من لحوم السلاحف. وجزيرة السامرىّ. يسكنها قوم من اليهود، سامرة، فى عيش قشيف. 2- وأما خليج فارس. فإنه مثلث الشكل على هيئة القلع. أحد أضلاعه من تيز مكران. فيمرّ فى بلاد كرمان على هرمز، ومن بلاد فارس على سيراف، وتوح [3] ، ونجيرم، وجنّابة، ودارين، وسينيز، ومهروبان؛ ومنها يفضى

_ [1] الذى فى تقويم أبى الفداء: الغرندل باللام. [2] تصغير ناس. [3] هكذا فى الأصل وفى أبى الفدا. وأما ياقوت فقال إنها توّج. (وضبطها أبو الفدا بضم الثاء وسكون الواو) واتفق أبو الفداء وياقوت على أنها هى التى تسمى أيضا توز (ولكن ياقوت يضبطها بفتح فتشديد) . والذى فى ياقوت هو الصواب كما يؤخذ من «لب اللباب» للسيوطى، ومن «لطائف المعارف» للثعالبى.

البحر إلى عبّادان، ومن عبادان ينعطف الضلع الآخر فيمرّ بالخط، وهو ساحل بلاد عمان إلى صور، وهى ساحل بلاد عمان مما يلى بلاد اليمن؛ ثم يمتدّ إلى رأس الجمحة من بلاد مهرة. والضلع الآخر يمتدّ على سطح البحر من تيز مكران إلى رأس الجمحة. وهذه الأضلاع غير متفاوتة فى الطول؛ فإن الضلع الذى يمتدّ على سطح البحر طوله خمسمائة ميل، وطول الضلع الآخر من حيث يبتدئ من تيز مكران إلى أن ينتهى إلى عبّادان ثم ينعطف إلى أن يصل إلى رأس الجمحة، تسعمائة ميل. وفيه مما يلى عبّادان مكان يعرف بالدّردور. وهو بين جبلين، أحدهما يسمى كسير، والآخر عوير. ويضاف إليهما جبل آخر بالقرب منهما يقال فيه «وآخر ما فيه خير» لشدّة ما يرى بها من الأهوال. وهى جبال سود ذاهبة فى الهواء. يتكسر الماء على شعبها. ولا بدّ للمراكب أن تمرّ بينها، وقلّما تسلم. وفى هذا البحر من الجزائر المشهورة على ألسنة التجار تسع، منها أربعة عامرة، وهى: جزيرة خارك. يحيط بها اثنا عشر ميلا. وهى عامرة آهلة كثيرة البساتين. وبها مغاص اللؤلؤ. وجزيرة كيش. وبها مغاص اللؤلؤ أيضا. وهى آهلة. وتسمى هذه الجزيرة فى عصرنا هذا «قيس» . وجزيرة أوال. وهى تجاه ساحل البحرين، وبينهما يوم. وبها مدينة. وأوال مدينة من مدائن البحرين.

7 - وأما بحر ما نيطش [2]

وجزيرة لافت. وتعرف بجزيرة بنى كاوان [1] . وطولها اثنان وخمسون ميلا، وعرضها تسعة أميال. وهى آهلة. وهاتان الجزيرتان معدودتان فى بلاد جور من أعمال فارس. ويقال أيضا إنه يخرج من البحر المحيط خليج ثالث فى شمال الصقالبة، ويمتدّ قرب بلد بلغار المسلمين، ويسمى بحر أدريك، منسوب إلى أمّة على ساحله فى جهة الشمال، ثم ينحرف نحو المشرق؛ وبين ساحله وبين أقصى بلاد الترك أرضون وجبال مجهولة خربة. فهذا البحر المحيط وما يتفرّع منه. 7- وأما بحر ما نيطش [2] ويسمى البحر الأسود وبحر سوداق. وهى مدينة على ساحله. هى فرضة لبلاد القفجاق مما يلى القسطنطينية. وعليه أيضا للقفجاق مدينة عظيمة تسمى قرم [3] ،

_ [1] ويسميها الإدريسى: ابن كاوان، وغيره يسميها: بركاوان. [2] جرى المؤلف على تعريف هذا البحر بأنه المعروف بالبحر الاسود. والحقيقة أن بحر نيطش هو المعروف الآن بالبحر الأسود، وأما بحر ما نيطش فهو المعروف ببحر آزاق وبحر آزوف. ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من كتاب العرب يخلطون بين هذين البحرين. ولذلك قال المسعودىّ: «فبحر نيطش وبحر ما نطش يجب أن يكونا بحرا واحدا، وإن تضايق البحر فى بعض المواضع بينهما أو صار بين الماءين كالخليج. وليست تسمية ما اتسع منه وكثير ماؤه بما نطش. وما ضاق منه وقل ماؤه بنيطش ينبغى أن تجمعهما فى اسم ما نطش أو نيطش. فإذا عبّرنا فى بعض المواضع فى مبسوط هذا الكتاب فقلنا «ما نطش» أو «نيطش» فإنما نريد به هذا المعنى فيما اتسع من البحر وضاق» . (من مروج الذهب، ص 58) . [3] وبها سميت شبه الجزيرة الموجودة فى البحر الأسود وهى شبه جزيرة القرم.

8 - وأما بحر الخزر

مقصودة من كل الجهات. وبها علماء، وفقهاء، ورؤساء. وهى محدثة. مصّرت فيما بين الثلاثين والأربعين وستمائة للهجرة النبوية. ويسمى هذا البحر أيضا بحر الروس، لجزائر فيه يسكنها أمة تسمى الروس، نصارى. وهو بحر ضخم كثير الأخوار والتّروش [1] والجبال الجرش. وطوله من الشمال إلى الجنوب ألف ميل وثلاثمائة، وعرضه مختلف. ففى موضع ستمائة ميل، وفى موضع ثلاثمائة ميل. والناس مختلفون فيه. فمنهم من يقول إنه بحر مستقل بنفسه، يخرج منه خليج القسطنطينية ويصب فى بحر الروم أو هو مغيض لخليج القسطنطينية. وأكثرهم على أنه بحر مستقل بنفسه لطوله وعرضه وكثرة جزائره. وبعضهم يقول إنه خليج يخرج من البحر المحيط على ظهر بلاد الصقالبة، ويحيط به بلاد البطلمية، وبلاد الغامانية، وبلاد الأزكشية، وبلاد الشركسية، وبلاد العلان [2] والعنكر والناشقرد. وفيه ست جزائر عامرة، وهى كثيرة المدن والقرى، يسكنها الروس. 8- وأما بحر الخزر وهو بحر جرجان وطبرستان والديلم. وذلك بحسب ما يمرّ عليه من البلاد. وهو- على ما حكاه ابن حوقل- مدوّر الشكل، ليس له اتصال ببحر آخر.

_ [1] فى الأصل التروس. ولكن الإدريسى يستعمل لفظة «التروش» بالشين المعجمة. ومعناها الشّعب أى لصخور التى تكون تحت سطح الماء قليلا فتنكسر السفن وتتحطم إذا اصطدمت بها. [2] العلان ترك تنصروا وهم خلق كثير وقلعتهم إحدى قلاع العالم تتعمم بالسحاب (عن أبى الفدا) وبلادهم فى أرض قفجاق أو قفقاسية وهم المشهورون فى كتب العرب أيضا باسم اللان.

قال: ولو أن إنسانا طاف به، لانتهى إلى الموضع الذى ابتدأ منه، لا يقطعه عن ذلك إلّا نهر يصب فيه [1] . وفى شرقىّ هذا البحر بعض بلاد الديلم، وبلاد طبرستان، وجرجان، وبعض المسافة التى بين جرجان وخوارزم؛ وغربيه بلاد أرّان، وبلاد الخزر، وبعص مفازة الغزية [2] ؛ وشماليه مفازة الطّغزغزية؛ وجنوبيه الجيل [3] ، والديلم. وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل. وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : طوله من جهة الخزر إلى عين الهم ألف ميل [4] ، وعرضه من ناحية جرجان إلى مصب نهر إتل ستمائة ميل [5] ، وخمسون ميلا وهو يقطع عرضا من طبرستان إلى مدينة باب الأبواب فى أسبوع بالريح الطيبة، وفيه أربع جزائر، وهى: جزيرة سياكوه [6] . وهى تجاه آبسكون، فرضة جرجان. يسكنها طائفة من الترك. يصاد بها البزاة البيض. وجزيرة سهلان. وطولها نحو مائة ميل، وعرضها نحو خمسين ميلا.

_ [1] هذا ملخص العبارة التى أوردها ابن حوقل (وانظر كتابه ص 13) . [2] فى الأصل: الغرنة. والتصحيح عن أبى الفدا. [3] فى الأصل: الختل (وهو تحريف ظاهر من النساخ) . [4] هكذا فى مقدمة الإدريسى (فى جميع النسخ) ولكنه عند كلامه على الجزء السابع من الإقليم الخامس نص على أن طول هذا البحر 800 ميل وأن عرضه 600 ميل (وهذا هو الذى نقله عنه أبو الفدا) ، ثم عاد الادريسى فقال ان طوله 900 ميل. [5] فى الأصل مائه ميل [والتصحيح عن الإدريسى] . [6] فى الاصل: بساه كوه. (والتصحيح عن أبى الفدا) .

وجزيرة البركان [1] . وهى أطمة عظيمة تظهر منها نار فى الهواء، كأشمخ ما يكون من الجبال. ترى من نحو مائه فرسخ من البر. وجزيرة تجاه باب الأبواب. كثيرة المروج والأنهار. وهذا البحر يقال إنه كثير التنانين. وقد اختلف فيها. فمن الناس من يقول إنها دواب تعظم فى قعر البحر فتؤذى ما به من دواب، فيبعث الله عز وجل عليها السحاب والملائكة فتخرجها من البحر وتقلبها فى أرض يأجوج ومأجوج، فتكون طعاما لهم. وهذا مما يحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومنهم من رأى أنها ريح سوداء تكون فى قعر البحر فتظهر إلى النسيم وتلحق بالسحاب، كالزّوبعة التى تثور من الأرض وتستدير ثم تطول فى الهواء. فيتوهم الناس أنها حيّات سود. وسائر البحار تمدّ وتجزر، خلا هذا البحر. ويقال إن علة المدّ والجزر تكون عن وضع الملك الموكل بقاموس البحر عقبه فى أقصى بحر الصين، فيفور فيكون منه المدّ؛ ثم يرفعه فيكون من رفعه الجزر. (ومنهم من روى مكان العقب الإبهام) . ومنهم من قال إن العلة فيه غير هذا كله. والله أعلم!

_ [1] هى شبه الجزيرة المعروفة الآن باسم يشرون. وفيها مدينة. كو المشهورة وهذه المدينة سماها أبو الفدا «باكوى» وسماها المسعودى «باكه» وقال ان بها معدن النفط الأبيض (أى البترول) ثم قال وفى هذه النفاطة أطمة، وهى عين من عيون النار لا تهدأ على سائر الأوقات تتضرم الصعداء. فهذا هو الذى عناه النويرى باسم «البركان» .

ذكر ما فى المعمور من البحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب

ذكر ما فى المعمور من البحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب وفى المعمور بحيرات مالحة: فالذى اشتهر منها: بحيرة خوارزم. وشكلها مثلث كالقلع، وليس فى المعمور بحيرة أعظم منها. يحيط بها أربعمائة فرسخ. يصبّ فيها نهرا سيحون وجيحون، اللذان فى أرض الهياطلة، وغيرهما من الأنهار العظيمة الجارية فى بلاد الترك. وهى مع ذلك لا تزيد ولا تعذب. وزعم صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» أن فى هذه البحيرة حيوانا يظهر على سطحها فى صورة الإنسان يتكلم ثلاث كلمات أو أربعا، بلغة لا تفهم ثم يغوص. وظهوره عندهم يدل على موت ملك من ملوك ذلك الحين. ومنها بحيرة الطّرّيخ [1] : لسمك صغير يصاد منها ويحمل إلى سائر بلاد أرمينية وأذربيجان. وطولها أربع مراحل، وعرضها مرحلة. يجمع من أطرافها البورق. والسمك يوجد بها فى زمان مخصوص، يأتيها فى نهر يصب إليها، ويكثر حتّى يصاد بالأيدى. فإذا انقضى ذلك الزمان، لا يوجد منه شىء البتة.

_ [1] واسمها فى كتب الجغرافية العربية بحيرة أرجيش، وهذا السمك الذى سميت به، كما فى «القاموس» سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل. وقد عرّفنا ابن حوقل أنه صغير مقدار الشبر يملح ويحمل الى الجزيرة والموصل والرقة وحران وحلب وسائر الثغور.

وفى بلاد أذربيجان بحيرة كبوذان [1] . وكبوذان قرية فى جزيرة، يسكنها ملّاحو المراكب التى يركب فيها من هذه البحيرة. وطول هذه البحيرة نحو ثلاثة أيام، وعرضها كذلك. وفيها جزائر: منها جزيرة فيها قلعة حصينة تسمّى تلا. ولا يكون بهذه البحيرة حيوان البتة، لأن ماءها منتن ردىء. وفى بلاد البحرين بحيرة. وبها وبالبحر الكبير سميت أرض هجر: «البحرين» . وفى الشام بأرض الغور بحيرة زغر، وتسمّى المنتنة والميتة. لأنها لا يعيش بها حيوان ولا يتكوّن فيها شىء مما يتكوّن فى المياه الجارية والراكدة من الحيوانات. وطولها ستون ميلا، وعرضها اثنا عشر ميلا. ويقال إنها ديار قوم لوط التى خسفهم الله بها. ويقال إنها كانت خمس مدن، أسماؤها: «ضيعه» ، و «ضعوه» ، و «عمره» ، و «دوما» ، و «سذوم» . وكانت سذوم أكبرها وأعظمها. ويصبّ فى هذه البحيرة نهر الأردنّ وغيره من الأنهار الصغار والسيول من بلاد الكرك وغيرها، فلا تزيد. ويقال إن لها منفذا إلى بحر القلزم. وبساحلها الشرقىّ إلى حدّ أريحا معدن الكبريت الأبيض، يحفر عليه ويخرج. ويتكوّن فى هذه البحيرة شىء على شكل البقر، ويطفو على وجهها ويتفقع، فيجمع منه شىء أسود يسمونه «الحمر» وينقل إلى قلعة الكرك يدّخر بها، يدخل فى النّفط.

_ [1] هى التى ذكرها أبو الفدا باسم «بحيرة تلا» وياقوت باسم «بحيرة أرمية» . وقد ذكر أن فى وسطها جبلا يقال له «كبوذان» وجزيرة فيها أربع قرى أو نحو ذلك يسكنها ملّاحو سفن هذا البحر (معجم البلدان ج 2 ص 78) .

وفى أعمال مصر بحيرة تنّيس، مقدارها إقلاع يوم فى [عرض] [1] نصف يوم. يكون ماؤها فى أكثر السنة ملحا من دخول ماء البحر الرومىّ إليها، فإذا مدّ النيل صبّ فيها فتحلو فإذا جزر ملحت. ويقال: إنه كان فى مكانها برّ مسلوك تغلّب عليه البحر فى ليلة واحدة، فما كانت أرضه مستفلة غرق، وما كانت أرضه عالية مثل تنّيس وتونة بقى. وفى وسط هذه البحيرة جزيرة صغيرة تسمى سنجار، يسكنها قوم صيادون. وقال إبراهيم بن وصيف شاه فى «كتاب العجائب الكبير» : إن بحيرة تنّيس كانت أجنّة وكروما ومنازل ومنتزهات، وكانت مقسومة بين ملكين من ولد أتريب بن مصر، وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا، فأنفق المؤمن ماله فى وجوه البرّ حتّى باع حصته من أخيه وفرّق مالها أيضا، فأصلحها أخوه وزاد فيها غروسا وفجّر فيها أنهارا وبنى فيها بنيانا، واحتاج أخوه إلى ما فى يده فكان يمنعه ويفتخر عليه بما فى يده من المال والأجنّة، فخاطبه أخوه فى بعض الأيام فسطا عليه، وقال: أنا أكثر منك مالا وولدا وخيرا، فقال له أخوه: فما أراك شاكرا لله تعالى على ما رزقك، ويوشك أن ينزع ذلك منك. ويقال: إنه دعا عليه فغرّق ماء البحر ما كان له فى ليلة واحدة. وقيل: إن هذين اللذان ذكرهما الله تعالى فى كتابه العزيز، فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) الآيات؛ والله تعالى أعلم. وبالقرب من الإسكندرية بحيرة، طولها إقلاع يوم وعرضها كذلك، يدخل إليها الماء من بحر الروم من مكان الأشتوم، ويخرج منها إلى بحيرة أخرى دونها

_ [1] الزيادة من «معجم ياقوت» .

فى خليج عليه مدينتان، إحداهما تسمّى الجدية، والأخرى تسمّى أتلو [1] كثيرة المقات والنخل، وكلها فى الرمل. ويصب فى البحيرة خليج من النيل يسمّى «الحافر» طوله نصف يوم إقلاعا، وهو كثير الطير والسمك والعشب. وفى بلاد إفريقية بحيرة بنزرت ماؤها ملح، وطولها ستة عشر ميلا، وعرضها ثمانية أميال. وعلى عشرة أميال منها بحيرة ماؤها عذب تسمّى بحيرة متّيجة [1] . فإذا جاء الشتاء وكثرت السيولى، غاضت بحيرة بنزرت، وفاضت بحيرة متّيجة حتّى تمدّها ستة شهور فلا يحلو ماؤها؛ فإذا انقضى زمن الشتاء وجاء الصيف، غاضت بحيرة متّيجة، وفاضت بحيرة بنزرت فلا يملح ماؤها. ويصاد فى هذه البحيرة فى كل شهرين من شهور السنة نوع من السمك لا يخالطه غيره؛ وأهل الناحية يعرفون دخول الشهور بتغيّر السمك فيها. وحكى صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : أن بتخوم بلاد أرمينية بحيرة يكون فيها الماء والسمك والطير ستة أشهر كوامل، ثم تجف فلا يرى فها ماء ولا سمك ولا طير سبع سنين، فإذا كانت السنة الثامنة ظهر ذلك فيها ستة أشهر ثم ينقطع. وهذا دأبها مدى الزمان. وبخلاط بحيرة لا يرى فيها سمك ولا ضفدع ولا سرطان عشرة أشهر من السنة، ثم يظهر ذلك كله فى الشهرين الباقيين.

_ [1] كذا بالأصل وفى معجم ياقوت «أتكو» بليدة قرية من نواحى مصر قرب رشيد. [2] وزنها فى القاموس بسكّينة.

ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر

وبقرية من ناحية پنجهير [1] من بلاد خراسان بحيرة، ما غمس فيها شىء إلا ذاب: حديدا كان أو خشبا. وكذلك بركة النّظرون التى بأرض مصر ما وقع فيها شىء إلا صار نطرونا حتّى العظم والحجارة. ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر (ما جاء من ذلك على لفظ أفعل) يقال: أعمق من البحر. أندى من البحر. ويقال: حدّث عن البحر ولا حرج. ويقال: جاء بالطّمّ والرّمّ. والطّم البحر؛ والرّم البر. ومن أنصاف الأبيات: وهل يملك البحر أن لا يفيضا؟ ومن ورد البحر استقلّ السّواقيا! أنا الغريق، فما خوفى من البلل؟ ومن الأبيات: هو البحر إلا أنّه عذب مورد، ... وذا عجب أنّ العذوبة فى البحر! وقال ابن الرومىّ: كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا، وتعلو فوقه جيفه.

_ [1] فى الأصل «پنجهير» وهى على ما قال ياقوت مدينة بنواحى بلخ. فلذلك أظن أن ذلك الاسم محرف عن «پنجديه» التى قال ياقوت إنها من نواحى خراسان وهو الصقع الذى أشار إليه المؤلف. نعم إن ياقوت لم يذكر هذه البحيرة عند كلامه على كل من المدينتين ولكن المسعودىّ نص على أن ينجهير من أرض خراسان (ج 2 ص 15 طبع أوروبا) .

ومثله قول الآخر: كمثل البحر يغرق فيه حىّ، ... ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه. وقال ابن الرومىّ: ألا فارجه واخشه إنه ... هو البحر: فيه الغنى والغرق! وقال أبو نواس: من قاس غيركم بكم، ... قاس الثّماد إلى البحور! وقال آخر: إذا كنت قرب البحر مالى مخلص ... إليه، فما يغنى اقترابى من البحر! وقال آخر: كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... منه، ويرسل للبعيد سحائبا. ذكر شىء مما قيل فى وصف البحر وتشبيهه قال ابن رشيق عفا الله عنه: البحر مرّ المذاق صعب ... لا جعلت حاجتى إليه. أليس ماء ونحن طين؟ ... فما عسى صبرنا عليه؟ وقال ابن حمديس: لا أركب البحر، أخشى ... علىّ منه المعاطب! طين أنا وهو ماء، ... والطّين فى الماء ذائب. وقال آخر: وزاخر ليس له صولة ... إلّا إذا ما هبّت الرّيح. فهو إذا ما سكنت ساكن كأنما الرّيح له روح.

وقال أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت: تناهى البحر فى عرض وطول، ... وليس له على التحقيق كنه. وأعجب كلّما شاهدت فيه ... سلامتنا على الأهوال منه. فحسبى أن أراه من بعيد ... وأهرب فوق ظهر الأرض عنه. ومما وصف به البحر والسفن قول بشر بن أبى خازم: أطاعن صفّهم ولقد أرانى ... على زوراء تسجد للرّياح. إذا اعترضت براكبها خليجا، ... تذكّر ما عليه من جناح. ونحن على جوانبها قعود، ... نغضّ الطّرف كالإبل القماح. وقال ابن تولو من أبيات: تحثّ بنا فيه قلاص كأنها ... وعال، تبدّت من جبال شواهق. لها كافلا ماء وريح كلاهما ... يعلّمها فى الجرى سبق السّوابق . إذا انحدرت؛ فالماء ألطف قائد، ... وإن صعدت، فالريح أعسف سائق. وقال السلامىّ: وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين ولا تقاد. ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم، وليس له فؤاد! جرى فظننت أنّ الأرض وجه، ... ودجلة ناظر، وهو السّواد. وقال محمد بن هانئ: معطّفة الأعناق نحو متونها ... كما نبّهت أيدى الحواة الأفاعيا.

إذا اعملوا فيها المجاذيف سرعة، ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا. إذا ما وردن الماء شوقا لبرده، ... صدرن- ولم يشربن- غرثى صواديا. وقال الرستمىّ: لم نزل مشفقين مذقيل: سارت ... بك دهم قليلة الأوضاح. أصلها البرّ وهى ساكنة فى ا ... لبحر سكنى إقامة لا براح. هى فى الماء وهى صفر من الما ... ء سوى نضح موجها النّضّاح. فإذا أوقرت، فذات وقار؛ ... وإذا أخليت، فذات جماح. وتراها فى اللّجّ ذات جناحي ... ن وإن لم تكن بذات جناح. من مطايا لا يغتذين ولا يس ... أمن سير البكور بعد الرّواح. منشآت من الجوارى اللّواتى ... لسن من صنعة الجوارى الملاح. والدات مولّدات بلا ح ... ل نكاح ولا حرام سفاح. لا من البيض بل من السّود ألوا ... نا وذات الألواح والأرواح. طائرات مع الرّياح، وطورا ... كاسرات بالجرى حدّ الرّياح. سائرات لا يشتكين سرى اللي ... ل ولا يرتقبن ضوء الصّباح. ساكنات بلا خضوع سكون، ... جامحات بلا غرام جماح. لا يخفن الغمار يقذفن فيها، ... ويخفن المرور بالضّحضاح. إن صدمن الحصى عطبن ولا يع ... طبن إمّا صدمن حدّ الرّماح. ما رأى الناس من قصور على الما ... ء سواها يسير سير القداح. يتسبسبن كالأساود فى الخف ... ة لا فى معادة الأشباح. فإذا ما تقابلت، قلت: ذود ... من كباش تقابلت للنّطاح.

شرعها البيض كالغمامات فى الصّي ... ف صحاحا منها وغير صحاح. كم مدلّ بالجاه والمال فيها، ... وبه حاجة إلى الملّاح! قائد جنده لهم أدوات ... نفعها ثمّ فوق نفع السّلاح. فإذا البحر صال، صالوا عليها ... بمواض تمضى بغير جراح. يكثرون الصّياح حتّى كأنّ الس ... فن تجرى من خوف ذاك الصّياح. ومما وصفت به البحار والسفن نثرا قال أبو عمرو صاحب الصلاة القرطبىّ يصف شانيا [1] سافر فيه: «فارقت مولاى حين أخذت للسّفر عدّة الحزم، وشددت عقدة العزم؛ وانتظمت مع السّفر فى سلك، وركبنا على اسم الله ظهر الفلك؛ فى شان عظيم الشان، أحدقت به النّطق إحداق الحيازم، وأمسكته إمساك الأبازم؛ ثم تتبّع خلله فسدّ، ورخوه فشدّ؛ حذرا على ألواحه من الإنخاع، واتصلت بعرانيسه اتصال الجلود بالأضلاع؛ ثم جلببت جلبابا من القار، وضمّخ فى المتنين والفقار؛ فامتاز بأغرب ميسم، وعاد كالغراب الأعصم؛ [2] قد حسن منه المخبر، وكأنّ الكافور قد قرن فيه بالعنبر. له من التماسيح أجنابها، ومن الخطاطيف أذنابها؛ واستقلّت رجله بفراشها، استقلال السّهام برياشها؛ وقد مدّ قلعيه ذراعيه متلقيا من وفد الرياح مصافحه، ومستهديا منها منافحة. تقلّد الحكم عليها إشتيام [3] ذو تيقظ واستبصار، واستدلال على الأعماق

_ [1] الشانى اسم لنوع من السفن التجارية والحربية عند المسلمين وجمعه شوانى. [2] أى الأبيض الجناحين (عن تاج العروس) . [3] الإشتيام هو رئيس الملّاحين، لفظ أعجمىّ أخذه العرب (راجع الجواليقىّ)

والأقصار؛ يستدلّ باختلاف المياه إذا جرى، ويهتدى بالنجوم إذا سرى؛ قد جعل السماء مرآة ينظر فيها، ويحذر من دجن يوافيها؛ فإذا أصدأها الظلام بحنادسه، وصقلها الضياء بمداوسه؛ يسبّح الله فى مصبحه وممساه، ويبسمل فى مجراه ومرساه، ويذكر ربّا يحفظه ولا ينساه. قد اتخذ فيه مواتيه، من أنجد النّواتيه؛ مشمّرين الأثواب، مدبّرين بالصواب؛ يفهمون عنه بالإيماء، ويتصرّفون له تصرّف الأفعال للأسماء؛ ويترنّمون عند الجذب والدّفع، والحطّ والرفع: بهينمة تبعثهم على النّشاط. والجمام [1] ، وتؤدّيهم فى عملهم بالتمام. فخرجنا ونفح الريح نسيم، ووجه البحر وسيم؛ وراحة الرّيح تصافح عبابه مصافحة الخلّ، وتطوى جناحه طىّ السّجل؛ وتجول من لججه أبرادا، وتصوغ من حبكه أزرادا: كأنما ترسم فى أديم رقشا، أو تفتح فى فصوص نقشا. فلما توسطنا ثبج البحر، وصرنا منه بين السّحر والنّحر؛ صحت الريح من سكرها، وطارت من وكرها؛ فسمعنا من دوىّ البحر زئيرا، ومن حبال الثانى صفيرا؛ ورأيناه يزبد ويضطرب، كأنّه بكأس الجنوب قد شرب؛ واستقبلنا منه وجه باسر، وطارت من أمواجه عقبان كواسر؛ يضطرب ويصطفق، ويختلف ولا يتّفق؛ كأن الجوّ يأخذ بنواصيها، ويجذبها من أقاصيها؛ والشانى تلعب به أكفّ الموج، ويفحص منها بكلكله فوجا بعد فوج؛ ويجوب منها ما بين أنجاد وأغوار، وخنادق وأسوار؛ والبحر تحتنا كأرض تميد بأهلها، وتتزلزل بوعرها وسهلها؛ ونحن قعود، دود على عود؛ قد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا؛ والرّشّ يكتنفنا من كل جانب، ويسيل من أثوابنا سيل المذانب. فشممنا ريح الموت، وظننّا التلف والفوت؛ وبقينا فى همّ ناصب، وعذاب واصب؛ حتّى انتهينا

_ [1] ذهاب الإعياء والتعب.

إلى كنف الجون، وصرنا منه فى كنّ وصون؛ وهدأ من البحر ما استشرى، وتنادينا بالبشرى؛ ووطئنا من الأرض جددا، ولبسنا أثواب الحياة جددا! ......» ومن رسالة لأبى عامر بن عقال الأندلسىّ عفا الله عنه جاء منها: « ... وكان جوازه، أيده الله على بحر ساكن، قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه؛ وصارحيّه ميتا، وهديره صمتا؛ وجباله لا ترى بها عوجا ولا أمتا؛ وضعف بعد تعاطيه، وعقد السلّم بين موجه وشاطيه. فعبر آمنا من لهواته، متملّكا لصهواته؛ على جواد يقطع البحر سبحا، ويكاد يسبق الريح لمحا؛ لا يحمل لجاما ولا سرجا، ولا يعرف غير اللّجّة سرجا؛ فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤاد؛ يخترق الهواء ولا يرهبه، ويركض فى الماء ولا يشربه! ......» ومن رسالة للأستاذ ابن العميد فى مثل ذلك جاء منها: « ... وكأن العشاريات وقد ردّيت بالقار، وحلّيت باللّجين والنّضار؛ عرائس منشورة الذوائب، مخضوبة الحواجب؛ موشحة المناكب، مقلّدة الترائب؛ متوّجة المفارق، مكلّلة العواتق، فضّية الحلل والقراطق؛ أو طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها؛ وكأنها إذا جدّت فى اللّحاق، وتنافست فى السّباق؛ نوافر نعام، أو حوافل أنعام؛ أو عقارب شالت بالإبر، أودهم الخيل واضحة الحجول والغرر؛ وكأن المجاديف طير تنفض خوافيها، أو حبائب تعانق حبائب بأيديها......»

الباب السابع من القسم الرابع من الفن الأول

الباب السابع من القسم الرابع من الفن الأوّل فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك والدواليب والنّواعير والجداول قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) . قال المفسرون: هو المطر. ومعنى سلكه أدخله فى الأرض، وجعله عيونا ومسالك ومجارى كالعروق فى الجسد. قال أبو الفرج، قدامة بن جعفر: مجموع ما فى المعمور من الأنهار فى الأقاليم السبعة مائة نهر وأربعة وثمانون نهرا، منها: فى الإقليم الأول ثلاثة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثانى تسعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الثالث ستة وعشرون نهرا؛ وفى الاقليم الرابع أربعة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم الخامس ثمانية وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السادس ستة وعشرون نهرا؛ وفى الإقليم السابع ثمانية وعشرون نهرا. ثم قال: وفى هذه الأنهار ما جريانه من المشرق إلى المغرب، كنهر نهاوند ونهر سجستان؛ وما جريانه من الشمال إلى الجنوب كدجلة؛ وما جريانه من الجنوب إلى الشمال، كنهر النّيل ونهر مهران؛ وما جريانه مركّب من هذه الجهات، كنهر الفرات وجيحون ونهر الكرّ. وسنذكر المشهور منها.

فأما نهر النيل

فأما نهر النيل فزعم قدامة بن جعفر أن انبعاثه من جبل القمر وراء خطّ الاستواء، من عين تجرى منها عشرة أنهار، كلّ خمسة منها تنصب إلى بطيحة. ثم يخرج من كل بطيحة نهران، وتجرى الأنهار الأربعة إلى بطيحة كبيرة فى الإقليم الأوّل. ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل. وقال صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» : «إن هذه البحيرة تسمّى بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولها، متوحّشون: يأكلون من وقع إليهم من الناس. ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة، ونهر الحبشة؛ فإذا خرج النّيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد ننه (طائفة من السودان أيضا، وهم بين كانم والنّوبة) ، فإذا بلغ دنقلة (مدينة النوبة) عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر الى الإقليم الثانى، فيكون على شطّيه عمارة النّوبة. وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى. ثم يشرّق إلى الجنادل، وإليها تنتهى مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد إقلاعا. وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا فى إبّان زيادة النيل. ثم يأخذ على الشّمال فيكون على شرقيّة مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى؛ ثم يمرّ بين جبلين هما يكتنفان لأعمال مصر، أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ حتّى يأتى مدينة مصر [1] فتكون فى شرقيه. فإذا تجاوزها بمسافة يوم، انقسم قسمين: أحدهما يمرّ حتّى يصب فى بحر الروم عند مدينة دمياط، ويسمّى بحر الشرق؛ والآخر- وهو عمود النيل ومعظمه- يمرّ إلى أن يصب فى بحر الروم أيضا عند مدينة رشيد، ويسمّى بحر الغرب.

_ [1] يشير إلى الفسطاط، أى مصر العتيقة فى عرفنا الآن.

قالوا: وتكون مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب فى رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعين فرسخا. وقيل إنه يجرى فى الخراب أربعة أشهر، وفى بلاد السودان شهرين، وفى بلاد الإسلام شهرا.» وروى البخارى فى «صحيحه» عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبىّ (صلى الله عليه وسلم فى حديث المعراج، قال: «ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. (قال: هذه سدرة المنتهى) وإذا أربعة أنهار نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أمّا الباطنان، فنهران فى الجنة؛ وأمّا الظاهران، فالنيل والفرات» . وليس فى الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار وتغيض، غيره. وذلك أن زيادته تكون فى الفيظ الشديد فى شمس السّرطان والأسد والسنبلة. وقد حكى فى فضائل مصر أن الأنهار تمدّه بمائها، وذلك عن أمر الله تعالى. وقال قوم: إن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف على حسب مددها، كثيرة كانت أو قليلة؛ وفى مدده اختلاف كثير. وكان منتهى زيادته قديما ستة عشر ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، بمقياس مصر. فان زاد عن ذلك ذراعا واحدا، زاد فى الخراج مائة ألف دينار: لما يروى من الأراضى العالية. والغاية القصوى فى الزيادة ثمانية عشر ذراعا فى مقياس مصر. [1] فإذا انتهى إلى هذا الحدّ، كان فى الصعيد الأعلى اثنين وعشرين ذراعا: لارتفاع البقاع التى يمرّ عليها.

فإذا انتهت زيادته، فتحت خلجانات وترع تتخرّق المياه فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل. وللنيل ثمان خلجانات، وهى: خليج الإسكندرية؛ وخليج دمياط؛ وخليج منف؛ وخليج المنهى (حفره يوسف الصدّيق عليه السلام) ؛ وخليج أشموم طنّاح؛ وخليج سردوس (حفره هامان لفرعون) ؛ وخليج سخا؛ وخليج حفره عمرو بن العاص، يجرى إلى أن يصبّ فى السّباخ. ويحصل لأهل مصر إذا وفى النيل ستة عشر ذراعا- وهى قانون الرىّ- فرح عظيم: بحيث إن السلطان يركب فى خواصّ دولته وأكابر الأمراء فى الحراريق إلى المقياس، ويمدّ فيه سماطا يأكل منه الخواصّ والعوامّ، ويخلع على القيّاس، ويصله بصلة مقرّرة له فى كلّ سنة. وقد ذكر بعض المفسرين «للكتاب العزيز» أن يوم «وفاء النيل» هو اليوم الذى وعد فيه فرعون موسى بالاجتماع، وهو قوله تعالى إخبارا عن فرعون (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) . والعادة جارية أن اجتماع الناس للتخليق فى هذا الوقت. ومتى قصّر النيل عن هذا المقدار، غلت الأسعار. وهو إذا ابتدأ فى زيادته يكون مخضرّا، ثم محمّرا، ثم كدرا. وإذا انتهى فى الزيادة غشّى الأرض، وتصير القرى فوق الرّوابى فلا يتوصّل إليها إلا فى المراكب أو على الجسور الممتدّة التى تنفق عليها الأموال الكثيرة وتتخذ لحفظ الماء.

فإذا انتهى رىّ مكان وأخذ حدّه، قطع جسر ذلك المكان من مكان معروف (يعرفه خولة البلاد ومشايخها) تروى منه الجهة التى تليها مع ما تجمع فيها من الماء المختص بها. ولولا إتقان هذه الجسور وحفر الترع لقلّ الانتفاع بالنيل. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة الجسور فى كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم بها: لما يترتب عليها من المصالح، ويحصل بها من النفع فى رىّ البلاد. وقد وصف بعض الشعراء، النيل فى طلوعه وهبوطه، فقال: واها لهذا النّيل، أىّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع! يلقى الثرى فى العام وهو مسلّم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع. مستقبل مثل الهلال، فدهره ... أبدا يزيد كما يزيد ويرجع. وللشعراء فيه أوصاف وتشبيهات، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى في موضعها. وهذا النهر مخالف فى جريه لسائر الأنهار، لأنه يجرى مما يلى الجنوب مستقبل الشمال. وكذلك نهر مهران بالسّند، ونهر الأرنط، وهو نهر حمص وحماة، ويسمّى العاصى لمخالفته للأنهار فى جريها. وما عداها من الأنهار جريها من الشمال إلى الجنوب: لارتفاع الشمال عن الجنوب وكثرة مياهه. وهو أخفّ المياه وأحلاها وأعمّها نفعا وأكثرها خراجا. وقد حكى أنه جبى فى أيام كيقاوش (أحد ملوك القبط الأوّل مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار؛ وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار؛ وجباه عمرو بن العاص اثنى عشر ألف ألف دينار؛ ثم رذل إلى أن جبى أيام القائد جوهر (مولى المعزّ العبيدىّ) ثلاثة آلاف ألف ومائتى ألف دينار.

وأما الفرات

وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق فى حفر ترعه وإتقان جسوره وإزالة ما هو شاغل للأرض عن الزراعة كالقصب والحلفاء. وحكى ابن لهيعة أن المرتّبين لذلك كانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل: سبعون ألفا للصعيد، وخمسون ألفا للوجه البحرىّ. وحكى ابن زولاق أن أحمد بن المدبر لما ولى الخراج بمصر، كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها، فقال: والله لو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا. وقيل إنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء العامر والغامر مائة ألف ألف فدان. والفدان أربعمائة قصبة، والقصبة عشرة أذرع. واعتبر أحمد بن المدبر ما يصلح للزراعة بمصر فى وقت ولايته، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان. والباقى استبحر وتلف. واعتبر مدّة الحرث فوجدها ستين يوما. والحراث يحرث خمسين فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث. وأما الفرات فهو أحد الرّافدين، ويقال الوافدين، والآخر دجلة، سميا بذلك لأنهما يجريان فى جانبى بغداد: دجلة من شرقيها، والفرات من غربيها: يأتى إليها من دجلة من واسط، والبصرة، والأبلة، والأهواز، وفارس، وعمان، واليمامة، والبحرين، وسائر بلاد الهند، والسند، والصين؛ ويأتى إليها من الفرات من الموصل، وأذربيجان، وأرمينية، والجزيرة، والثغور، والشام، ومصر، والمغرب؛ وقد تقدّم ذكرنا لحديث البخارى أنه يجرى من تحت سدرة المنتهى.

وأما مبتدأ جريه الذى يعرفه الناس، فمن مدينة قاليقلا من نهر يسمّى أودخش، ويجرى مقدار أربعمائة وخمسين ميلا مغرّبا، ثم يخرج من جهة الجنوب حتّى يمرّ بين ثغرى ملطية، وسميساط؛ ثم إلى جسر منبج؛ ثم يعطف ويأخذ جهة الجنوب حتّى يصل إلى بالمن ويمر بنصيبين، والرّقة، وقرقيسيا، والرّحبة؛ فيلتحف على عانات؛ ثم يمتدّ حتّى يمر بهيت والأنبار. فإذا جاوزها انقسم قسمين: قسم يأخذ نحو الجنوب قليلا وهو المسمّى بالعلقم، ينتهى إلى بلاد سورا وقصر ابن هبيرة والكوفة والحلّة، إلى البطيحة التى بين البصرة وواسط؛ والقسم الآخر يسمّى نهر عيسى، منسوب لعيسى بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو ينتهى إلى بغداد، ويمرّ حتّى يصبّ فى دجلة. قال المسعودىّ: وقد كان الأكثر من ماء الفرات ينتهى إلى بلاد الحيرة؛ ثم يتجاوزها ويصب فى البحر الفارسىّ، وكان البحر يوم ذاك فى الموضع المعروف بالنّجف فى هذا الوقت، وكانت مراكب الهند والصين ترد على ملوك الحيرة فيه. قال: والموضع الذى كان يجرى فيه بيّن إلى زمن وضعى هذا الكتاب، يعنى «كتاب مروج الذهب» وهو فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ويعرف بالعتيق، وعليه كانت وقعة القادسية. وطول الفرات من حيث يخرج عند ملطية إلى أن يأتى ما يأتى منه إلى بغداد ستمّائة فرسخ وثلاثة وعشرون فرسخا، وفى شطّه مدن فى جزائر تعدّ من أعمال الفرات، وهى الريسة، والناووسة، والقصر، والحديثة، وعانات، والدّالية.

وأما نهر دجلة

وأما نهر دجلة ويسمى السلامة، وبه سميت بغداد دار السلام على أحد القولين، والثانى السلام على الخلفاء فيها. وهذا النهر فارزبين العراق والجزيرة، وانبعاثه من أعين بجبال آمد، ويصب إليه نهران يخرجان من أرزن الروم وميّا فارقين وعيون أخرى من جبال السلسلة، فيمرّ ببلد، ثم بالموصل فيصب فيه نهر الخابور الخارج من بلاد أرمينية بين بلاد سورا وقبر سابور؛ ويصب فيه الزاب الأكبر الخارج من بلاد أذربيجان على فرسخ من الحديثة. ويسمى المجنون لحدّته وشدّة جريه، ثم تمرّ دجلة فيصب فيها الزاب الأوسط، ومخرجه من الفرات ويجرى بين إربل ودقوقاء، ويصب فى دجلة أيضا الزاب الأصغر، ومخرجه أيضا من الفرات. وهذه الزوابى الثلاثة أنبطها زاب بن طهماسب: أحد ملوك الفرس الأول، ثمّ تمرّ دجلة بتكريت إلى أن تتجاوز سامرّا قليلا فيقع فيها نهر عيسى ويمرّ حتّى يشقّ بغداد. فاذا تجاوزها صب فيه نهر يخرج من بلاد أرمينية يسمّى تامرّا بعد أن يمرّ بناصلو ثم بباجسرا فيسمّى النهروان، ويشق مدينة تعرف به، ثم تمرّ دجلة بجر جرايا والنّعمانية ثم بواسط، ثم إلى البطائح، ثم تخرج منها فتمرّ بالبصرة وتجرى حتّى تنتهى إلى عبّادان، وعندها تصبّ فى البحر الفارسىّ. وما يمرّ من دجلة بالبصرة يملح إذا مدّ البحر فلا يشرب منه البتة؛ ويحلو إذا جزر. فأهل البصرة ينتظرون بالاستقاء منه الجزر، وهو يمدّ بكرة ويجزر عشاء.

وأما نهر سجستان

وكانت المراكب التى ترد من الهند والصين تدخل فى دجلة من بحر فارس إلى مدينة المداين، فاتفق أن انبثق فى أسافل كسكر بثق عظيم على عهد قباذ بن فيروز فأهمل حتّى طغى ماؤه وغرّق غمارات وضياعا فصارت بطائح. ويسمّى هذا البثق دجلة العوراء لتحوّل الماء عنه. وصار بين دجلة الآن ودجلة العوراء مسافة بعيدة تسمّى بطن جوخى، وهو من حدّ فارس من أعمال واسط إلى نحو السّوس من أعمال خوزستان. ويقال إن كسرى أنفق أموالا عظيمة على أن يحوّل الماء إليها فأعياه ذلك. ورامه خالد بن عبد الله القسرى فعجز عنه. ومقدار مسافة جرى نهر دجلة إلى أن يصب فى البحر الفارسى ثلاثمائة فرسخ؛ ومقدار البطائح ثلاثون فرسخا طولا وعرضا. وهى تفيض فى كثير من الأوقات حتى يخشى على بغداد الغرق. وأما نهر سجستان ويسمّى الهندمند [1] ، فيقال إن منوچهر بن أيراج [2] بن أفريدون أنبطه. وهو يجرى من عيون فى بلاد الهند ويمرّ ببلد الغور؛ فإذا تجاوزها، مرّ من أعالى سجستان على بررخّج، ثم على بسط [3] ، ثم على دونج [4] فتفرّع منه أنهار تجرى فى شوارعها. ثم يمرّ عمود النهر حتّى يصب فى بحيرة زرة.

_ [1] وسماه المسعودى «الهرمند» فى كتاب «التنبيه والإشراف» . [2] فى المسعودى «أيران» وقال: إن أيران تسميه الفرس أيراج. [3] هى المشهورة باسم «بست» . ومنها أبو الفتح البستىّ الشاعر المعروف. [4] لم أعثر على هذا الاسم فيما بيدى من كتب الجغرافية العربية، ولعلها هى نفس المدينة التى ذكرها ياقوت وغيره باسم «زربح» وقال إنها قصبة سجستان.

وأما نهر مهران

وطول هذا النهر من حيث يبتدئ إلى نهايته مائة فرسخ. وزعم قوم أنه يخرج من نهر الكنك. وأما نهر مهران وهو نهر السند [1] ، فهو يشبه نيل مصر فى زيادته ونقصه واصناف حيوانه وما يتفرّع منه من الخلجان. وهو يستمدّ من أربعة أنهر: نهران يجريان من السند، ونهر من ناحية كابل، ونهر من بلاد قشمير. وتجتمع فتكون نهرا واحدا، ويجرى حتّى ينتهى إلى الدور فيمرّ بها، ومن ثم يسمّى نهر مهران، ثم يمرّ بالمولتان، ثم بالمنصورة، ثم يجرى إلى ديبل. فإذا تجاوزها صب فى بحر الهند على ستة أميال منها. وطوله ألف فرسخ. وأما نهر جيحون [2] ويسمّى بالفارسية «به روذ» وهو «نهر بلخ [3] » . وانبعاثه من بحيرة فى بلاد التّبّت، مقدارها طولا وعرضا أربعون ميلا، تجتمع من أنهار الختّل.

_ [1] لا يزال اسم «مهران» علما يطلقه بعض الهنود إلى الآن على القسم الأسفل من نهر السند. [2] فى الأصل «جيحان» . وهو خطأ لأن جيحان نهر آخر فى آسيا الصغرى ويعرف بنهر المصيصة ويصب فى بحر الشام. أنظر ياقوت وابن رسته فى «التنبيه والإشراف» . [3] ويسمى أيضا نهر كالف على ما رواه المسعودى باسم قلعة حصينة، قال ياقوت إنها قائمة على طرفه شبيهة بالمدينة بينها وبين بلخ ثمانية عشر فرسخا.

وأما نهر سيحون

فإذا خرج منها مربوخّان فيسمّى نهر جرياب [1] ، ويجرى من المشرق إلى المغرب إلى أعلى حدود بلخ. ثم يعطف إلى ناحية الشمال إلى أن يصير إلى التّرمذ، ثم منها إلى زمّ وآمل من بلاد خراسان. ثم يجرى إلى أن يمرّ ببلاد خوارزم فيشق قصبتها. فإذا تجاوزها تشعّب منه أنهار وخلجان يمينا وشمالا، تصب إلى مستنقعات وبطائح يصاد فيها السمك. ثم تخرج منها مياه تجتمع وتصير عمودا واحدا، تجرى مقدار أربعة وعشرين فرسخا، ثم تصب فى بحيرة خوارزم. ويكون مقدار جريه من مبدئه إلى نهايته ثلاثمائة وخمسين فرسخا. وقيل: أربعمائة. وساحله يسمّى الرّوذبار [2] . ويقال إنه يخرج منه خليج يأخذ سمت المغرب حتّى يقرب من كرمان، ثم يمضى حتّى يصبّ فى بحر فارس. ونهر جيحون ربما جمد فى الشتاء حتّى تعبر عليه القفول. قالوا: ويبتدئ جموده من ناحية خوارزم. وأما نهر سيحون ويسمّى نهر الشّاش، وهو فارز بين بلاد الهياطلة وبلاد تركستان. قال ابن حوقل: مبتدؤه من أنهار تجتمع فى حدود بلاد التّرك [والإسلام] ، فتصير عمودا واحدا وتجرى حتّى تظهر فى حدود أوزكند من بلاد فرغانة فتصب فيه

_ [1] فى الأصول «جواب» والتصحيح عن الاصطخرى وابن حوقل. [2] قال ياقوت: كأن معناه بالفارسية «موضع النهر» . ثم نقل عن السمعانىّ أن الروذبار لفظة لمواضع عند الأنهار الكبيرة فى بلاد متفرّقة. ثم ذكر روذبار بلخ ثم قال وبالشاش أيضا قرية يقال لها روذبار من وراء جيحون. [ولعل المراد هنا بلاد النهر أى نهر جيحون كما قالوا زنجبار أى بلاد الزنج] .

وأما نهر الكنك [2]

فيعظم ويكثر ماؤه، ثم يمتدّ إلى فاراب. فإذا تجاوزها يجرى فى برّية فيكون على جانبيه الأتراك الغزّيّة، ويمرّ إلى أن يصب فى نهر جيحون [1] . وبين موقعه فى النهر وبين بحيرة خوارزم عشرة أيام. وأما نهر الكنك [2] وهو نهر تعظّمه الهند، فينبعث من بلاد قشمير ويجرى فى أعالى بلاد الهند. وهم يزعمون أنه من الجنة فيعظّمونه غاية التعظيم. ومن عجائبه أنه إذا ألقى فيه شىء من القاذورات، أظلم جوّه ورجفت أرجاؤه وكثرت الأمطار والرياح والصواعق. وقد وصفه العتبىّ فى «التاريخ اليمينىّ» فقال: «وهذا النهر الذى يتواصف الهنود قدره وشرفه، فيرون من عين الخلد التى فى السماء مغترفه؛ إذا أحرق منهم ميت ذرّوه فيه بعظامه، فيظنون أنّ ذلك طهر لآثامه؛ وربما أتاه الناسك من المكان البعيد فيغرق نفسه فيه، يرى أنّ هذا الفعل ينجيه. والهنود يفرطون فى تعظيمه حتّى إن الرجل منهم إذا أراد الفوز، أحرق نفسه وألقى رماده فيه، أو يأتى إلى النهر (وهناك شجر القنا فى غاية الارتفاع، وقوم هناك بأيديهم سيوف مسلولة وخناجر) فيربط نفسه فى طرف قناة، ثم يحزّ رأسه بيده

_ [1] اختصر المؤلف كلام ابن حوقل اختصارا خفيفا (وانظر كلام ابن حوقل فى كتابه «المسالك والممالك» ص 392- 393) . [2] قال أبو الفدا إن اسمه الهندى: كانكو وسماه المسعودى «جنجس» فى كتاب «التنبيه والإشراف» .

وأما نهر الكر

فيبقى الرأس معلقا فى طرف القناة وتسقط الجثة، أو يلقى نفسه من شاهق على تلك السيوف والخناجر فيتقطع، ومنهم من يلقى نفسه فى النهر فيغرق» . وأما نهر الكر فهو نهر بأرض أرمينية. وانبعاثه من بلاد اللّان، فيمرّ ببلاد الأنجاز [1] حتّى يأتى ثغر تفليس فيشقّه ويجرى فى بلاد الساوردية. [2] ثم يخرج بأرض برذعة، ويحرى إلى برزنج فيصب فيه نهر الرّسّ. وهذا النهر هو المذكور فى القرآن العزيز فى قوله تعالى (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) * [3] على ما ذهب إليه بعض المفسرين. فإذا صب فيه هذا النهر، صارا نهرا واحدا يصب فى بحر الخزر. ونهر الرّسّ يخرج من أقاصى بلاد الروم، على ما زعم المسعودى. وأما نهر إتل وهو نهر عظيم، فهو نهر الخزر. ويمرّ جانبه الشرقىّ على ناحية خرخيز، ويجرى ما بين الكيماكية والغزّية. ثم يمتدّ غربا على ظهر بلغار [4] وبرطاس والخزر. ثم ينقسم قسمين: أحدهما إلى مدينة إتل

_ [1] فى الأصل «الأبحار» . والأصوب «الابخاز» وهو اسم لجهة من بلاد أرمينيه (وقد ذكر الابخاز كل من الإصطخرى وابن حوقل والمقدسى وابن خرداذبة والمسعودى) . [2] جيل من الأرمن يسميهم العرب أيضا «السياوردية» ويصفونهم بأنهم «أهل العبث والفساد والتلصص (عن حاشية فى ص 192 من «مسالك الممالك» للإصطخرى) . [3] فى الاصل «كذب أصحاب الرس المرسلين» وهو غير نظم القرآن، فتنبه. [4] مدينة كانت على نهر؟؟؟ لاد الروسيا. ومنها خرج البلغار الى البلاد المعروفة الآن فأسمهم.

ذكر ما فى المعمور

يشقّها بنصفين ويجرى إلى أن يصب فى بحر الخزر، ويجرى الآخر فيمرّ ببلد الرّوس حتّى يصب فى بحرهم وهو بحر سوداق. ويقال إنه يتشعب منه نيّف وتسعون نهرا، وإذا وقع فى البحر، يجرى فيه مسيرة يومين ثم يغلب عليه. وقيل إنه يجمد فى الشتاء، ويتبين لونه فى لون البحر. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر ما فى المعمور من الأنهار والعيون التى يتعجّب منها قال صاحب «مباهج الفكر ومناهج العبر» فى كتابه: «وذكر المعتنون بتدوين العجائب فى كتبهم التى وضعوها لذلك أن فى المعمور أنهارا وعيونا يتعجّب منها إذا أخبر عنها. فذكروا منها نهر الكنك (وقد تقدّم ذكره) وأن بأرض الهند مكانا يعرف بعقبة عورك فيه عين ماء لا تقبل نجسا ولا قذرا، وإن ألقى فيها شىء من ذلك، اكفهرّت السماء وهبّت الريح وكثر الرعد والبرق والمطر. فلا تزال كذلك إلى أن يخرج منها ما طرح فيها. «وذكروا أن فى ناحية الباميان عينا تسمّى ديواش تفور من الأرض كغليان القدر؛ متى بصق فيها إنسان أورمى فيها شيئا من القاذورات، ازداد غليانها وفورانها وفاضت. فربما أدركت من جعل ذلك فيها فغرّقته. «وبناحية الباميان أيضا عين تجرى من جبل فى بعض الأحيان. فإذا خرج ماؤها، صار حجرا أبيض.

«وبقرية من أعمال فارس كهف بين جبال شاهقة فيه حفرة بقدر الصّحفة، يقطر فيها من أعلى الكهف ماء: إن شرب منه واحد لا يفضل عنه منه شىء، وإن شرب منه ألف عمّهم وأرواهم. «وبناحية أردشير [1] جرد عين يجرى منها ماء حلو يشرب لشفية الجوف. فمن شرب منه قدحا أقامه مرة، وإن زاد فعلى قدر الزيادة. «وبدارين من أعمال فارس نهر ماؤه شروب. إذا غطّت فيه الثياب خضّرها. «وفى بعض رساتيق همذان عيون متى خرج منها الماء تحجّر. «وبنواحيها أيضا ماء يخرج من تحت قلعة ويجرى فى جداول إلى بعض الرساتيق. فما تشبّث منه فى صدع أو شقّ صار حجرا صلدا، وإذا صبّ فى خزفة وأقام فيها ثلاثة أيام ثم كسرت، وجد فى جوفها أخرى قد تحجرت من الماء. «وبناحية تفليس عين تنبع، فإذا خرج منها الماء صار حيّات. «وبأرض القدموس من حصون الدّعوة بربضها حمّام يجرى إليها الماء من عين هناك. فإذا كان فى أوّل شهر تمّوز ينبع فى الحمّام حيّات فى طول شبرين أوّلا، ثم فى طول شبر، وتكثر. ولا توجد فى غير الحمام. فإذا انقضى شهر تمّوز، عدمت تلك الحيّات، فلا توجد إلى العام القابل. «وبأرض أرمينية واد لا يقدر أحد ينظر إليه ولا يقف عليه ولا يدرى ما هو. إذا وضعت القدر على ضفّته غلت ونضج ما فيها. وفيها واد عليه الأرحاء والبساتين. ماؤه حامض؛ فإذا نزل فى الإناء، عذب وحلا.

_ [1] فى معجم ياقوت «أردشير خرّه» مضبوطا بالعبارة.

«وبالمراغة عيون اذا خرج ماؤها لم يلبث إلا قليلا حتى يتحجّر. فمنه تفرش دورهم. «وبنواحى أرزن الروم ماء يستقى فيستحجر ويصير ملحا. «وأكثر مياه بلاد اليمن تستحيل شبّا. «وبنواحى واحات من أعمال مصر عيون مياهها ألوان مختلفة: من الحمرة والصّفرة والخضرة. تسيل إلى مستنقعات، فتكون ملحا بحسب ألوانها. «وفى هذه الناحية عيون يطبخ بمائها بدلا عن الخلّ. «وبنواحى أسوان من الصعيد الأعلى مستنقعات منها النّفط. «وكذلك بتكريت من أرض العراق. «وبأرض كتامة [1] من بلد إفريقيّة عين تسمّى عين الأوقات. تجرى فى أوقات الصلوات الخمس. فإذا حضر جنب أو امرأة حائض، لا تبضّ بشىء من الماء. وإذا اتّهم رجلان، أتت بالماء للصادق وشحّت على الكاذب. «وببلد إفريقية أيضا عين تنبع بالمداد، يكتب به أهل تلك الناحية. «وبطرطوشة من بلاد الأندلس واد يجرى رملا. قال: وذكر بعض أصحاب المجاميع أنه كان بمدينة طحا من كورة الأشمونين من صعيد مصر بئر فيها ماء معين يشرب منها طول أيام السنة فيكون الماء كسائر المياه، حتّى إذا كان أوّل يوم من برمودة من شهور القبط فمن شرب من ذلك الماء

_ [1] فى الأصل: «كامة» وهو غلط من الناسخ، لأن «كتامة» قبيلة من البربر منتشرة فيما بين برقة الى أرض الجزائر.

ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء

يومئذ خدمته الطبيعة مقدار ما شرب. فاذا كان وقت الزوال عاد الماء إلى حالته الاولى، ثم لا يفعل كذلك إلا فى مثل ذلك اليوم من العام القابل. وقال: إنه كان بمدينة الأشمونين كنيسة تعرف ببوجرج إلى جانبها بئر لا نداوة فيها ولا بلل فى سائر أيام السنة، فاذا كان اليوم العاشر من طوبة من شهور القبط تمتلئ تلك البئر ماء شروبا. فلا يبقى أحد من نصارى ذلك البلد إلا ويأخذ من ذلك الماء للتبرّك به. حتّى إذا كان عند الزوال، غاض الماء فلا يبقى فى البئر منه شىء ويجفّ لوقته. «وبأرض مرمنيثا من عمل حصن الأكراد عين تسمّى الفوّارة. تكون فى غالب الأوقات بينها وبين وجه الأرض تقدير ثلاثة أذرع. وتفور فى بعض الأيام ويخرج منها ماء يدير أرحية الطواحين ويسقى البساتين فيستمرّ كذلك بعض يوم ثم يغور. ويتكرر ذلك فى الأسبوع مرتين وثلاثة. «وبقلعة بعلبك من الشام بئر تعرف ببئر الرحمة لا يرى فيها الماء إلا إذا حوصرت. فإنها عند ذلك تمتلئ حتّى تفيض. فإذا زال الحصار جفّت» . ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء (ما جاء من ذلك على لفظ افعل) الأمثال: يقال: أسرع من الماء إلى قراره. أرقّ من الماء. أحمق من لاعق الماء.

أحمق من القابض على الماء. أصفى من ماء المفاصل. أعذب من ماء المفاصل. أجرى من الماء. أعذب من ماء الحشرج. أعذب من ماء البارق. ألطف من الماء. أوجد من الماء. ويقال: أن ترد الماء بماء أكيس. ماء ولا كصدّاء. قد بلغ الماء الزّبى. ويقال: فلان يرقم على الماء. (إذا كان حاذقا) . ثأطة مدّت بماء. (للامر يزداد فسادا) . ليس الرّىّ فى التّشافّ. (فى ذم الاستقصاء) . الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه؛ وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه. الكدر من رأس العين. إذا عذبت العيون، طابت الأنهار. هذا غيض من فيض، وبرض من عدّ. (أى قليل من كثير) .

ومن أنصاف الابيات: والمرء يشرق بالزّلال البارد! كذلك غمر الماء يروى ويغرق! والمشرب العذب كثير الزّحام! مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى! وكيف يعاف الرّنق من كان صاديا؟ ومن الابيات: يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك سبيل غير مسدود؟ لحائم حام حتّى لا حيام به ... محلّا عن طريق الماء مصدود! وقال آخر: أيجوز أخذ الماء من ... متلهّب الأحشاء صادى؟ وقال آخر: أرى ماء وبى عطش شديد، ... ولكن لا سبيل إلى الورود! وقال آخر: من غصّ داوى بشرب الماء غصّته، ... فكيف يصنع من قد غصّ بالماء؟ وقال آخر: وما كنت إلّا الماء جئنا لشربه، ... فلمّا وردناه إذا الماء جامد! وقال آخر: وفى نظرة الصادى إلى الماء حسرة، ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد! وقال آخر: وإنّى للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت ورّاده، لعيوف!

وقال آخر: سأقنع بالثّماد، لعلّ دهرا ... يسوق الماء من حرّ كريم! وقال آخر: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء، خانته فروج الأصابع. وقال آخر: وإنّى وإشرافى عليك بهمّتى ... لكالمبتغى زبدا من الماء بالمخض. وقال آخر: فقل فى مكرع عذب، ... وقد وافاه عطشان! وقال آخر: وكيف الصّبر عنك، وأىّ صبر ... لظمآن عن الماء الزّلال؟ وقال آخر: وإنّ الماء فى العيدان يجرى، ... وربّتما تغيّر فى الحلوق! وقال آخر: إذا أنا عاتبت الملول فإنّما ... أخطّ بأقلام على الماء أحرفا! وقال آخر: والماء لس عجيبا أنّ أعذبه ... يفنى، ويمتدّ عمر الآجن الأسن. وقال آخر: المال يكسب أهله، ما لم يفض ... فى الراغبين إليه، سوء ثناء. كالماء تأسن بئره إلا إذا ... خبط السّقاة جمامه بدلاء.

ذكر شىء مما قيل فى وصف الماء وتشبيهه

ذكر شىء مما قيل فى وصف الماء وتشبيهه فأما ما اختص به نهر النيل من الوصف. فمن ذلك قول ابن النّقيب: كأنّ النّيل ذو فهم ولبّ ... لما يبدو لعين الناس منه. فيأتى حين حاجتهم إليه، ... ويمضى حين يستغنون عنه! وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ: يوم لنا بالنّيل مختصر ... ولكلّ يوم مسرّة قصر. والسّفن تجرى كالخيول بنا ... صعدا، وجيش الماء منحدر. فكأنّما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر. ومن رسالة للقاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى قال: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذّراع. فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وعار عليها فاستقعدها وما تخطّاها. فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إيّاه. وأما ما اختصت به دجلة من الوصف. قال التنوخىّ: وكأنّ دجلة إذ تغمّض موجها ... ملك يعظّم، خيفة ويبجّل. عذبت، فما أدرى أماء ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل؟ وكأنّها ياقوتة أو أعين ... زرق يلاءم بينها ويوصّل. ولها بمدّ بعد جزر ذاهب ... جيشان: يدبرذا، وهذا يقبل.

ومما وصفت به الأنهار

وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر «اليتيمة» : وميدان تجول به خيول ... تقود الدّارعين [1] ولا تقاد. ركبت به إلى اللّذّات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد. جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السّواد. وقال الصنوبرىّ: فلمّا تعالى البدر واشتدّ ضوءه ... بدجلة فى تشرين بالطّول والعرض وقد قابل الماء المفضّض نوره ... وبعض نجوم الليل يطفى سنا بعض، توهّم ذو العين البصيرة أنه ... يرى ظاهر الأفلاك فى باطن الأرض. ومما وصفت به الأنهار قال الصنوبرى: والعوجان الذى كلفت به ... قد سوّى الحسن فيه مذعوّج. ما أخطأ الأيم فى تعوّجه ... شيئا إذا ما استقام أو عرّج. تدرّج الريح متنه فترى ... جوشن ماء عليه قد درّج. إن أعنقت بالجنوب أعنق فى ... لطف، وإن هملجت به هملج. من أين طافت شمس النهار به ... حسبت شمسا من جوفه تخرج. وقال أبو فراس: والماء يفصل بين زه ... ر الرّوض فى الشّطّين فصلا. كبساط وشى جرّدت ... أيدى القيان عليه نصلا.

_ [1] أنظر قبل هذا ص 256 فى وصف البحر والسفن. وكتب فى بعض الأصول عند هذا الموضع لفظة «مكرر» .

وقال الناجم: انظر إلى الرّوض الذّك ... ى فحسنه للعين قرّه! فكأنّ خضرته السما ... ء، ونهره فيه المجرّه. وقال عبد الله بن المعتزّ: وترى الرّياح إذا مسحن غديره ... وصفينه ونقين كلّ قذاة، ما إن يزال عليه ظبى كارع ... كتطلّع الحسناء فى المرآة. ومثله قول الآخر: وغدير رقّت حواشيه حتى ... بان فى قعره الذى كان ساخا. وكأنّ الطّيور إذ وردته ... من صفاء به، تزقّ فراخا. وقال آخر: والنّهر مكسوّ غلالة فضّة؛ ... فإذا جرى سيل، فثوب نضار. وإذا استقام، رأيت صفحة منصل [1] ؛ ... وإذا استدار، رأيت عطف سوار. وقال أبو مروان بن أبى الخصال: النّهر قد رقّت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز. تترقرق الأمواج فيه كأنّها ... عكن الخصور تهزّها الأعجاز. وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسى: لله نهر سال فى بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء! وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب تحفّ بمقلة زرقاء. والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء!

_ [1] المنصل (بضم فسكون فضم) هو السيف.

وقال أبو القاسم بن العطار: مررنا بشاطى النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق. وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة ... عليه، وما غير الحباب لها حلق! وقال محمد بن سهل البلخى، شاعر «الذخيرة» : راقنا النهر صفاء ... بعد تكدير صفائه. كان مثل السيف مدمى ... فجلوه من دمائه. أو كمثل الورد غضّا ... فهو اليوم كمائه. وقال القاضى التنوخى، شاعر «اليتيمة» : أحبب إلىّ بنهر معقل الذى ... فيه لقلبى من همومى معقل! عذب إذا ما عبّ فيه ناهل ... فكأنّه من ريق حبّ ينهل. متسلسل فكأنّه لصفائه ... دمع بخدّى كاعب يتسلسل. فإذا الرّياح جرين فوق متونه ... فكأنّها درع جلاه الصّيقل! وقال مؤيد الدين الطّغرائىّ فى الغدير: عجنا إلى الجزع الذى مدّ فى ... أرجائه الغيم بساط الزّهر. حول غدير ماؤه المنتمى ... إلى بنات المزن يشكو الخصر. لولاذه [1] الرّيح سموما به ... لانقلبت وهى نسيم السّحر. حصباؤه درّ ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدّرر. وقد كسته الرّيح من نسجها ... درعا به يلقى نبال المطر.

_ [1] كذا بالأصل. وفى ديوانه: «لو لاذت الريح الخ» وهو الصواب.

ومما وصفت به البرك

وألبسته الشّمس من صبغها ... نورا به يخطف نور البصر. كأنّها المرآة مجلوّة ... على بساط أخضر قد نشر. وقال أيضا: ملنا إلى النّشر الذى ترتقى ... إليه أنفاس الصبا عاطره. حول غدير ماؤه دارع ... والأرض من رقّته حاسره. والشمس إن حاذته رأد الضّحى ... حسناء فى مرآتها ناظره. والشّهب إن حاذته جنح الدّجى ... تسبح فى لجّته الزاخره. قد ركّب الخضراء فيه، فمن ... حصبائه أنجمها زاهره. يخضرّ [1] إن مرت بأرجائه ... لفح سموم فى لظى هاجره. أنموذج الماء الذى جاءنا ال ... وعد بأن نسقاه فى الآخره! ومما وصفت به البرك قال البحترىّ عفا الله عنه: يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات التى لاحت مغانيها! ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... فى الحسن طورا، وأطوارا تباهيها؟ كأنّ جنّ سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقّوا فى معانيها. فلو تمرّ بها بلقيس عن عرض، ... قالت: هى الصّرح تمثيلا وتشبيها. تنصبّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها. كأنّما الفضّة البيضاء سائلة ... من السبائك تجرى في مجاريها.

_ [1] فى الأصل «يخضرّ» وفى ديوانه (الموجود منه نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» ) «يحضر» ولا معنى لهما. ولعل الصواب «يخصر» من الخصر، وهو شدّة البرد كما يرتضيه السياق.

إذا علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها. إذا النّجوم تراءت فى جوانبها ... ليلا، حسبت سماء ركّبت فيها. لا يبلغ السّمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها. يعمن فيها بأوساط مجنحّة ... كالطير تنقضّ فى جوّ خوافيها. كأنها حين لجّت فى تدفّقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها! وقال ابن طباطبا: كم ليلة ساهرت أنجمها لدى ... عرصات أرض ماؤها كسمائها. قد سيّرت فيها النجوم كأنّما ... فلك السماء يدور فى أرجائها. أحسن بها بحرا إذا التبس الدّجى، ... كانت نجوم الليل من حصبائها! ترنو إلى الجوزاء وهى غريقة ... تبغى النّجاء، ولات حين نجائها! تطفو وترسب فى اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أسمائها. والبدر يخفق وسطها فكأنّه ... قلب لها قد ريع فى أحشائها. وقال عبد الجبار بن حمديس، يصف بركة يجرى إليها الماء من شاذروان من أفواه طيور وزرافات وأسود، من أبيات: والماء منه سبائك من فضّة ... ذابت على دولاب شاذروان! فكأنّما سيف هناك مشطّب ... ألقته يوم الرّوع كفّ جبان! كم شاخص فيه يطيل تعجّبا ... من دوحة نبتت من العقيان! عجبا لها تسقى هناك ينائعا ... ينعت من الثّمرات والأغصان! خصّت بطائرة على فنن لها ... حسنت، فأفرد حسنها من ثانى!

قسّ الطيور الساجعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان. فإذا أتيح لها الكلام تكلّمت ... بخرير ماء دائم الهملان. وكأنّ صانعها استبدّ بصنعة ... فخر الجماد بها على الحيوان! أوفت على حوض لها فكأنّها ... منها إلى العجب العجاب روان. وكأنّها ظنّت حلاوة مائها ... شهدا، فذاقته بكلّ لسان. وزرافة فى الجوّ من أنبوبها ... ماء يريك الجرى فى الطّيران. مركوزة كالرّمح حيث ترى له ... من طعنه الحلق انعطاف سنان. وكأنّما ترمى السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان! لو عاد ذاك الماء نفطا، أحرقت ... فى الجوّ منه قميص كلّ عنان. فى بركة قامت على حافاتها ... أسد تذلّ لعزّة السّلطان! نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها، ... فلذلك انتزعت من الأبدان. وكأنّما الحيّات من أفواهها ... يطرحن أنفسهنّ فى غدران. وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها، ... أخذت من المنصور عهد أمان! وقال آخر: ولقد رأيت، وما رأيت كبركة ... فى الحسن ذات تدفّق وخرير! عقدت لها أيدى المياه قناطرا ... من جوهر فى لجّة من نور! وقال علىّ بن الجهم، يصف فوّارة: وفوّارة ثارها فى السّماء، ... فليست تقصّر عن ثارها! تراها اذا صعدت فى السّماء ... تعود الينا بأخبارها. تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها!

ومما وصفت به الدواليب والنواعير

وقال ابن حجاج فيها: علمت فى دارك فوّارة، ... غرّقت الأفق بها الأنجما! فاض على نجم السما ماؤها، ... فأصبحت أرضك تسقى السما! وقال تميم بن المعزّ العبيدىّ: وقاذفة بالماء فى وسط بركة ... قد التحفت ظلّا من الأيك سجسجا. إذا أينعت بالماء سلّته منصلا ... وعاد عليها ذلك النّصل هودجا. تحاول إدراك النجوم بقذفها، ... كأنّ لها قلبا على الجوّ محرجا! ومما وصفت به الدواليب والنواعير قال أبو حفص بن وضّاح: لله دولاب يطوف بسلسل ... فى روضة قد أينعت أفنانا! قد طارحت فيه الحمائم شجوها ... بنحيبها، وترجّع الألحانا. فكانّه دنف يطوف بمعهد، ... يبكى ويسأل فيه عمّن بانا. ضاقت مجارى طرفه عن دمعه، ... فتفتّحت أضلاعه أجفانا! وقال الموفقىّ، رحمه الله: ناعورة تحسب من صوتها ... متيّما يشكو إلى زائر. كأنّما كيزانها عصبة ... رموا بصرف الزّمن الواتر. قد منعوا أن يلتقوا فاغتدوا ... أوّلهم يبكى على الآخر! وقال آخر: وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحى، وأحرت مقلتىّ دموعها! وقد ضعفت مما تئنّ، وقد غدت ... من الصّعف والشّكوى بعدّ صلوعها!

ومما وصفت به نثرا

وقال ابن منير الطرابلسى: لنواعيرها على الماء ألحا ... ن تهيج الشّجا لقلب المشوق. فهى مثل الأفلاك شكلا وفعلا، ... قسمت قسم جاهل بالحقوق: بين عال، سام، ينكّسه الح ... ظ ويعلو بسافل مرزوق. وقال أبو الفرج الوأواء: وكريمة سقت الرياض بدرّها، ... فغدت تنوب عن السّحاب الهامع. بلباس محزون، ودمعة عاشق، ... وحنين مشتاق، وأنّه جازع. فكأنّها فلك يدور، وعلوه ... يرمى القرار بكلّ نجم طالع. وقال الصنوبرىّ: فلك من الدّولاب فيه كواكب ... من مائه تنقضّ ساعة تطلع. متلوّن الأصوات: يخفض صوته ... بغنائه، طورا وطورا يرفع. ومما وصفت به نثرا من رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبى إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليّات. جاء منها: « ... والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرّمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعّثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف؛ ولا مسوسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها متلاء خصورها، وتساوى [بين] هواديها وصدورها؛ معتدله القدود، ناعمة الحدود؛

ومما وصفت به الجداول

مع مليّات أخذت النار منها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه [1] فى هيجاء السلّم، وتحكى صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بغيظها، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها فى اقتضاء إرادتها، وتطلع طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى قناة الأعمار: تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره. يفارق خلّ خلّه، وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره. ويعلمه التّدوار، لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه. فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها، ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره. ومن فاته، الإدراك أدركه الرّدى: ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه.» ومما وصفت به الجداول قال ابن المعتزّه عفا الله عنه: على جدول ريّان، لا يقبل القذى: ... كأنّ سواقيه متون المبارد. وقال الناجم: أحاطت أزاهير الرّبيع سويّة ... سماطين مصطفّين، تستنبت المرعى. على جدول ريّان كالسّهم مرسلا، ... أو الصارم المسلول، أو حيّة تسعى.

_ [1] أى أخلاق المرسل إليه.

ذكر عباد الماء [1]

وقال المفجّع: على جدول ريّان ينساب متنه ... صقيلا، كمتن السيف وافى مجرّدا. إذا الرّيح ناغته، تحلّق وجهه ... دروعا وضاء، أو تحزّز مبردا. وقال ابن الرومىّ: على حفافى جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور. أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحيّة المذعور. وقال ذو الرمّة: فما انشقّ ضوء الصّبح حتّى تبيّنت ... جداول: أمثال السّيوف القواطع. وحيث انتهينا من ذكر المياه إلى هذه الغاية فلنذكر عباد الماء. ذكر عبّاد الماء [1] وعبّاد الماء طائفة من الهند يسمّون الجلهكيّة [2] ، يزعمون أن الماء ملك، ومعه ملائكة، وأنه أصل كل شىء، وبه كلّ ولادة ونموّ ونشوء وبقاء وطهارة وعمارة، وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء. فإذا أراد الرجل منهم عبادته، تجرّد وستر عورته. ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم ساعتين وأكثر. ويأخذ ما أمكنه من الرّياحين فيقطّعها صغارا ويلقى فى الماء بعضها بعد بعض، وهو يسبّح ويقرأ. وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده. ثم أخذ منه فنقّط على رأسه ووجهه وسائر جسده. ثم يسجد وينصرف.

_ [1]- هذه العبارة كلها منقولة عن كتاب «الملل والنحل» للشهرستانى. [2] فى الأصل: المهكنية. [وهو تصحيف وصوابه من الشهرستانى] .

القسم الخامس من الفن الأول فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل

القسم الخامس من الفن الأوّل فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم (فى طبائع البلاد، وأخلاق سكّانها) روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلاد وأخلاق سكّانها، فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء، جعل كل شىء لشىء. فقال العقل: أنا لاحق بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصّحّة: وأنا معك. وقال محمد بن حبيب: لمّا خلق الله تعالى الخلق، خلق معهم عشرة أخلاق: الايمان، والحياء، والنجدة، والفتنة، والكبر، والنفاق، والغنى، والفقر، والذل، والشقاء. فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك. وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشأم، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النّفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذّلّ: وأنا معك. وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.

نوع آخر منه

وحكى عن الحجاج انه قال: لما تبوّأت الأشياء منازلها، قال الطاعون: أنا نازل بالشأم، فقالت الطاعة: وأنا معك. وقال النّفاق: أنا نازل بالعراق، فقالت النعمة: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا نازل بالبادية، فقال الصبر: وأنا معك. نوع آخر منه روى عن عبد الله بن عباس (رضى الله تعالى عنهما) أنه قال: إن الله تعالى خلق البركة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى قريش، وواحد فى سائر الناس. وجعل الكرم عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وجعل الغيرة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأكراد، وواحد فى سائر الناس. وجعل المكر عشرة أجزاء: فتسعة منها فى القبط، وواحد فى سائر الناس. وجعل الجفاء عشرة أجزاء: فتسعة منها فى البربر، وواحد فى سائر الناس. وجعل النّجابة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الرّوم، وواحد فى سائر الناس. وجعل الصناعة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الصين، وواحد فى سائر الناس. وجعل الشهوة عشرة أجزاء: فتسعة منها فى النّساء، وواحد فى سائر الناس. وجعل العمل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الأنبياء، وواحد فى سائر الناس. وجعل الحسد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس. ويقال: قسم الحقد عشرة أجزاء: فتسعة منها فى العرب، وواحد فى سائر الناس. وقسم البخل عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الفرس، وواحد في سائر الناس. وقسم الكبر عشرة أجزاء: فتسعة منها فى الروم، وواحد فى سائر الناس. وقسم

نوع آخر منه

الطّرب عشرة أجزاء: فتسعة منها فى السّودان، وواحد فى سائر الناس. وقسم الشّبق عشرة أجزاء: فتسعة منها فى اليهود، وواحد فى سائر الناس. ويقال: أربعة لا تعرف فى أربعة: السّخاء فى الروم، والوفاء فى التّرك، والشجاعة فى القبط، والغمّ فى الزّنج. نوع آخر منه حكى عن الحجاج أنه سأل أيوب بن القرّيّة عن طبائع أهل البلاد، فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها جفاة، ونساؤها كساة عراة. وأهل اليمن أهل سمع وطاعه، ولزوم الجماعه. وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا. وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد، وعزّ عتيد. وأهل العراق أبحث الناس عن صغيره، وأضيعهم لكبيره. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب؛ أكيس الناس صغارا، وأجهلهم كبارا. وحكى عن أبي عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» أنه قال: كنا نعلّم فى المكتب كما نعلّم القرآن: احذروا حماقة أهل بخارى، وغلّ أهل مرو، وشغب أهل نيسابور، وحسد أهل هراة، وحقد أهل سجستان. وقال أبو حامد القاضى: أعيانى أن أرى خراسانيّا ذكيّا، وطبريا رزينا، وهمدانيا لبيبا، وبصريّا ركيكا، وكوفيّا رئيسا، وبغداديّا سخيّا، وموصليّا لطيفا، وشاميّا خفيفا، وحجازيا منافقا، وبدويّا ظريفا.

وقال بختيشوع: تسعة لا تخلو من تسعة: قمّىّ من رعونة، ويمانى من جنون، وواسطىّ من غفلة، وبصرىّ من جدل، وكوفىّ من كذب، وسوادىّ من جهل، وبغدادىّ من مخرقة، وخوزىّ من لؤم، وطبرىّ [1] من زرق. وقيل: جاور أهل الشام الروم، فأخذوا عنهم اللؤم وقلة الغيرة. وجاور أهل الكوفة أهل السواد، فأخذوا عنهم السّخاء والغيرة. وجاور أهل البصرة الخوز، فأخذوا عنهم الزنا وقلة الوفاء. ويقال: إن القدماء اعتبروا البلاد وما امتاز به بعضها عن بعض من الطبائع، فوجدوا أخصب بقاع الدنيا ثمانية مواضع: أرمينية، وأذربيجان، وماه دينور، وماه نهاوند، وكرمان، وأصبهان، وقومس، وطبرستان. ووجدوا أخف بقاع الدنيا ماء، ماء ثمانية مواضع: دجلة، والفرات، وزندرود أصبهان، وماء سوران، وماء هفيجان، وماء جنديسابور، وماء بلخ، وماء سمرقند. (وغفلوا عن نيل مصر، ولعله أحقّها بهذه الخصوصية من سائر المياه) . ووجدوا أو بأبقاع الدنيا ستة مواضع: النّوبندجان، وسابورخواست، وجرجان، وحلوان [2] ، وبرذعه، وزنجان. (وغفلوا عن شيزر) . ووجدوا أعقل أهل البلاد تسعة: أهل أصبهان، والحيرة، والمداين، وماه دينور، وإصطخر، ونيسابور، والرّىّ، وطبرستان، ونشوى (وهى نقجوان) . ووجدوا أسرى أهل بقاع الدنيا أهل سبعة مواضع: طوسفون (وهى المداين) ، وبلاشون (وهى حلوان [2] ) ، وماسبذان، ونهاوند، والرّىّ، وأصبهان، ونيسابور.

_ [1] من أهل طبرستان. وأما النسبة إلى طبرية الشام فطبرانىّ. [2] أى حلوان العراق، لا حلوان مصر.

ووجدوا أهل [1] بقاع الدنيا أهل عشرة مواضع: ماسبذان، ومهر جانقذق [2] ، وسورستان، والرّىّ، والرّويان، وأذربيجان، والموصل، وأرمينية، وشهرزور، والصّامغان. ووجدوا البخل فى أهل ثمان بقاع: مرو، وإصطخر، ودارايجرد، وخوزستان، وماسبذان، وديبل، وماه دينور، وحلوان. ووجدوا أسفل أهل بقاع الأرض أربعة: أهل السّدجان [3] ، وبادرايا، وماكسايا، وخوزستان. ووجدوا أقل أهل الأرض نظرا فى العواقب أهل سبعة مواضع: طبرستان، وأرمينية، وقومس، وكرمان، وكوسان، ومكران، وشهرزور. ويقال: إنه وفد رجل من عجم خراسان على كسرى، فقال له: أخبرنى من أحسن أهل خراسان لقاء؟ قال: أهل بخارى. قال: فمن أوسعهم بذلا للخبز والملح؟ قال: أهل جوزجان. قال: فمن أحسنهم ضيافة؟ قال: أهل سمرقند. قال: فمن أدقّهم نظرا وتقديرا؟ قال: أهل مرو. قال: فمن أسوأهم طاعة؟ قال:

_ [1] فى بعض النسخ «آهل» بالمدّ. [2] هذا الاسم يتركب من ثلاث كلمات: مهر (أى الشمس، المحبة، الشفقة) ؛ جان (أى النفس، الروح) ؛ قذق (وقد يضم أوله ولعله اسم رجل) . فيكون معناه: محبة أو شمس نفس قذق. وهى كورة حسنة من نواحى بلاد الجبل (عن ياقوت) . [3] كذا فى الأصل ولم يذكرها ياقوت. وإنما ذكر «السيرجان» ، مدينة بين كرمان وفارس. فلعلها مصحفة عنها.

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأول فى خصائص البلاد

أهل خوارزم. قال: فمن أخبثهم طويّة؟ قال: أهل مرو الروذ، إن رضى بذلك أهل أبيورد. قال: فمن أسقطهم عقلا؟ قال: أهل طوس، إن رضى بذلك أهل نسا. قال: فمن أكثرهم شغبا وجدلا؟ قال: أهل سرخس، إن رضى بذلك أهل قوهستان. قال: فمن أضعفهم وأخبثهم؟ قال: أهل نيسابور. قال: فمن أقلّهم غيرة على النساء؟ قال: أهل هراة. الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل فى خصائص البلاد ولنبدأ من ذلك بمكة ويثرب، وأعرب عما أنقله من فضلهما ولا أغرب؛ وأصله بذكر البيت المقدّس والمسجد الأقصى، ولا أشترط الاستيعاب لأن فضائلها لا تحصى. فأما مكة (شرّفها الله تعالى وعظمها) ففضائلها مشهورة بيّنة. قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) . وقال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) . قال بعض المفسرين: «أمنا» من النار. وقيل: كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا ولجأ إليه فى الجاهلية. وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفا» أنه حدّث أن قوما أتوا سعدون الخولانى بالمنستير، وأعلموه أن كتامة قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار طول الليل، فلم

ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض

تعمل فيه وبقى أبيض البدن، فقال: لعله حجّ ثلاث حجج؟ قالوا: نعم. قال: حدّثت أن «من حجّ حجّة أدّى فرضه، ومن حجّ ثانية داين ربّه، ومن حجّ ثلاث حجج حرّم الله شعره وبشره على النار» . ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال: «مرحبا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك!» . وجاء فى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يدعو الله عند الرّكن الأسود إلا استجاب له» . وكذلك عند الركن [1] . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من صلّى خلف المقام ركعتين، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وحشر يوم القيامة مع الآمنين» . ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض قال أبو الوليد الأزرقىّ بسند يرفعه إلى كعب الأحبار أنه قال: كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرضين بأربعين سنة. ومنها دحيت الأرض. وقال يرفعه إلى مجاهد: خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين. وعنه يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله ريحا فصفّقت الماء فأبرزت عن حشفة فى موضع البيت كأنها قبّة. فدحا الله عز وجل الأرض من تحتها فمادت ثم مادت. فأوتدها الله تعالى بالجبال، فكان أوّل جبل وضع فيها أبو قبيس، فلذلك سميت مكة أمّ القرى

_ [1] كذا فى جميع النسخ ولعله «الركن اليمانى» .

ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام، ومبدإ الطواف

وعنه يرفعه إلى مجاهد أنه قال: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفى سنة، وإن قواعده لفى الأرض السابعة السّفلى. ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام، ومبدإ الطواف قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى علىّ بن الحسين رضى الله عنهما إنه أتاه سائل يسأله، فقال له: عمّ تسأل؟ فقال: أسألك عن بدء الطواف بهذا البيت لم كان؟ وأنّى كان؟ وحيث كان؟ وكيف كان بالحجر؟ فقال له: نعم، من أين أنت؟ فقال: من أهل الشام. فقال: أين مسكنك؟ قال: فى بيت المقدس. قال: فهل قرأت الكتابين؟ (يعنى التوراة والإنجيل) . قال له الرجل: نعم. فقال له: يا أخا أهل الشام احفظ، ولا تروينّ عنّى إلا حقا: أمّا بدء هذا الطواف بهذا البيت، فإنّ الله تعالى قال للملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، قالت الملائكة: أى ربّ، أخليفة من غيرنا: ممن يفسد فيها ويسفك الدماء، ويتحاسدون، ويتباغضون، ويتنازعون؟ أى ربّ، اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى؛ ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تبارك وتعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) . قال: فظنّت الملائكة أن ما قالوه ردّ على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرّعون ويبكون إشفاقا لغضبه. فطافوا بالعرش ثلاث ساعات. فنظر الله عز وجل إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله سبحانه تحت العرش بيتا على أربع

ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام

أساطين من زبرجد، وغشاه بياقوتة حمراء وسمّى البيت الضراح. ثم قال للملائكة: طوفوا بهذا البيت، ودعوا العرش، فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش، وصار أهون عليهم، وهو البيت المعمور الذى ذكره الله عز وجل: يدخله كلّ يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدا. ثم إن الله سبحانه بعث ملائكة فقال: ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وقدره. فأمر الله سبحانه من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا كان، ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن جبريل عليه السلام وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغبار الذى أرى على عصابتك، أيّها الرّوح الأمين؟ قال: إنى زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، وهذا الغبار الذى ترى مما تثير بأجنحتها. وقال، رفعه إلى ليث بن معاذ رضى الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا، سبعة منها فى السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض السّفلى، وأعلاها الذى يلى العرش: البيت المعمور. لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت. لو سقط منها بيت، لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السّفلى، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره، كما يعمر هذا البيت.

ذكر هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت

ذكر هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت قال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام إلى الأرض من الجنة، كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض. وهو مثل الفلك من رعدته. قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى الأرض ستين ذراعا، فقال: يا رب مالى لا أسمع أصوات الملائكة ولا حسّهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لى بيتا تطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى، قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطّى، فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز، فصارت كل مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض أو بحر فجعله خطوة، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. فبنى البيت الحرام. وإن جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أسّ ثابت فى الأرض السّفلى فقذفت الملائكة فيه الصخر، ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا. وإنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطورزيتا، وطور سينا، والجودى، وحراء [1] ، حتّى استوى على وجه الأرض. قال ابن عباس رضى الله عنهما: فكان أوّل من أسس البيت وصلّى فيه وطاف به، آدم عليه السلام. حتّى بعث الله سبحانه الطّوفان، فدرس موضع البيت فى الطّوفان. حتّى بعث الله تبارك وتعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فرفعا قواعده وأعلامه. ثم بنته قريش بعد ذلك. وهو بحذاء البيت المعمور، لو سقط، ما سقط إلا عليه.

_ [1] فى النسخ «حبرى» . والتصحيح من حاشية الجمل على الجلالين، فقد نقل أثر ابن عباس.

وقال أبو الوليد أيضا، ورفعه إلى وهب بن منبّه: إن الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم عليه السلام، أمره أن يسير إلى مكة. فطوى له الأرض وقبض له المفاوز، فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها من مخاض ماء أو بحر فجعله له خطوة. فلم يضع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتّى انتهى إلى مكة. وكان قبل ذلك قد اشتدّ بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة، حتّى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكى لبكائه. فعزّاه الله عز وجل بخيمة من خيام الجنة، ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة. وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة: فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يتلهّب من نور الجنة. ونزّل معها الركن، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة. وكان كرسيّا لآدم عليه السلام، يجلس عليه. فلما صار آدم بمكة، حرسها الله تعالى، حرسه الله تعالى وحرس تلك الخيمة بالملائكة. كانوا يحرسونها ويذودون عنها ساكن الأرض، وساكنوها يومئذ الجنّ والشياطين، فلا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء من الجنة، لأنه من نظر إلى شىء من الجنة وجبت له. والأرض يومئذ طاهرة نقيّة لم تنجس ولم يسفك فيها الدم، ولم تعمل فيها الخطايا. فلذلك جعلها الله عز وجل مسكن الملائكة، وجعلهم فيها كما كانوا فى السماء يسبّحون اللّيل والنّهار، لا يفترون. وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفّا واحدا مستديرين بالحرم كلّه: الحلّ من خلفهم، والحرم كله من أمامهم. ولا يجوزهم جنىّ ولا شيطان. ومن أجل مقام الملائكة، حرّم الحرم حتّى اليوم. ووضعت أعلام حيث كان مقام الملائكة. وحرم الله على حوّاء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم من أجل خطيئتها التى أخطأت فى الجنة. فلم تنظر إلى شىء من ذلك حتّى قبضت. وإن آدم عليه السلام كان إذا أراد لقاءها ليلمّ بها

للولد، خرج من الحرم كله حتّى يلقاها. فلم تزل خيمة آدم مكانها حتّى قبض الله آدم عليه السلام ورفعها الله. وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانا: بيتا بالطّين والحجارة. فلم يزل معمورا، يعمرونه ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح عليه السلام. فنسفه الغرق وخفى مكانه. فلما بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام طلب الأساس، فلما وصل إليه ظلّل الله مكان البيت بغمامة. فكانت حفاف البيت الأوّل، ثم لم تزل راكزة على حفافه تظل إبراهيم عليه السلام وتهديه مكان القواعد حتّى رفع الله القواعد قامة. ثم انكشفت الغمامة، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أى الغمامة التى ركزت على الحفاف لتهديه مكان القواعد. وعن وهب بن منبه أنه قال: قرأت فى كتاب من الكتب الأول، ذكر فيه أمر الكعبة، فوجدت فيه أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت. فينقضّ من عند العرش محرما ملبّيا، حتّى يستلم الحجر. ثم يطوف بالبيت سبعا ويركع فى جوفه ركعتين، ثم يصعد. وقال الأزرقىّ، يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض، أهبطه إلى موضع البيت الحرام. وهو مثل الفلك من رعدته. ثم أنزل عليه الحجر الأسود يعنى الركن، وهو يتلألأ من شدّة بياضه. فأخذه آدم صلى الله عليه وسلم فضمّه إليه أنسابه. ثم أنزلت عليه العصى فقيل له: تخطّ يا آدم، فتخطّى، فإذا هو بأرض الهند والسند. فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى الركن فقيل له: احجج، قال فحج فلقيته الملائكة فقالوا: برّ حجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام.

ذكر فضل البيت الحرام، والحرم

قال: وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه كعب الأحبار فقال: اخبرّنى عن البيت الحرام. فقال كعب: أنزله الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم، فقال له: يا آدم إن هذا بيتى أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشى، ويصلّى حوله كما يصلّى حول عرشى. ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة ثم وضع البيت عليه. فكان آدم يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند العرش. فلما أغرق الله تعالى قوم نوح، رفعه إلى السماء وبقيت قواعده. وقال وهب بن منبه: كان البيت الذى بوّأه الله تعالى لآدم عليه السلام يومئذ من ياقوت الجنة. وكان من ياقوتة حمراء تلتهب، لها بابان: أحدهما شرقىّ والآخر غربىّ. وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة. وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض. والركن يومئذ نجم من نجومه وهو يومئذ ياقوتة بيضاء. والله أعلم. ذكر فضل البيت الحرام، والحرم قال أبو الوليد، يرفعه عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها ما رأى من سعتها ولم يرفيها أحدا غيره، فقال: يا رب، أما لأرضك هذه من عامر يسبّحك فيها ويقدّس لك غيرى؟ قال: إنى سأجعل فيها من ذرّيتك من يسبّح بحمدى ويقدّس لى، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبّحنى فيها خلقى، وسأبوّئك فيها بيتا أختاره لنفسى، وأخصّه بكرامتى، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمى، فأسمّيه بيتى، وأنطعه [1] بعظمتى، وأحوزه بحرماتى، وأجعله أحق بيوت الأرض

_ [1] أنطعه: بسط له النطع بالكسر، بساط من أديم (تفسير بهامش الأصل) . وفى بعض النسخ «وأنطفه» بالفاء» .

كلها وأولاها بذكرى، وأضعه فى البقعة التى اخترت لنفسى، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض؛ وقبل ذلك قد كان بعينى: فهو صفوتى من البيوت، ولست أسكنه، ولبس ينبغى لى أن أسكن البيوت؛ ولا ينبغى لها أن تسعنى، ولكن على كرسىّ الكبرياء ولجبروت؛ وهو الذى استقلّ بعزتى، وعليه وضعت عظمتى وجلالى، وهنالك استقرّ قرارى؛ ثم هو بعد ضعيف عنّى لولا قوّتى؛ ثم أنا بعد ذلك ملء كل شىء، وفوق كلّ شىء، ومحيط بكلّ شىء، وأمام كلّ شىء، وخلف كلّ شىء، وليس ينبغى لشىء أن يعلم علمى ولا يقدر قدرتى، ولا يبلغ كنه شانى. أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا، أحرّم بحرماته ما فوقه وما تحته وما حوله. فمن حرّمه بحرمتى فقد عظّم حرماتى، ومن أحلّه فقد أباح جرماتى، ومن أمّن أهله فقد استوجب بذلك أمانى، ومن أخافهم أخفرنى فى ذمتى، ومن عظّم شأنه عظم فى عينى، ومن تهاون به صغر فى عينى؛ ولكل ملك حيازة ما حواليه مما حواليه، وبطن مكة خيرتى وحيرتى؛ وجيران بيتى وعمّارها وزوّارها، وفدى وأضيافى فى كنفى وأفنيتى، ضامنون على ذمتى وجوارى؛ فأجعله أوّل بيت وضع للناس، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض:؟؟؟ نه أفواجا شعثا غبر على كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق، يعجّون بالتكبير عجيجا، ويرجّون بالتلبية رجيجا، وينتحبون بالبكاء نحيبا. فمن اعتمره لا يريد غيره، فقد زرنى ووفد إلىّ ونزل بى؛ ومن نزل بى، فحقيق علىّ أن أتحفه بكرامتى؛ وحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته. تعمره آدم من كنت حيا، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء: أمة بعد أمة، وقرن بعد قرن، ونبىّ بعد نبىّ، حتّى ينتهى ذلك إلى نبىّ من ولدك وهو خاتم النبيين، فأجعله من عمّاره وسكّانه وحماته، وولاته وسقاته، يكون أمينى عليه من كان حيا. فإذا انقلب إلىّ،

وجدنى قد ذخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به القربة منى والوسيلة إلىّ، وأفضل المنازل فى دار المقام. وأجعل اسم ذلك البيت ودكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبىّ من ولدك يكون قبل هذا النبى وهو أبوه يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضى على يديه عمارته، وأنبط له سقايته، وأريه حلّه وحرمه ومواقفه، وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتا لى، قائما بأمرى، داعيا إلى سبيلى؛ أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم؛ أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر؛ وينذر لى فيفى؛ ويعد لى فينجز؛ أستجيب له فى ولده وذرّيته من بعده وأشفّعه فيهم، وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدّامه وخزّانه وحجّابه حتّى يبتدعوا ويغيروا؛ فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء. أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت وأهل تلك الشريعة، يأتمّ به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن؛ يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنّته، ويقتدون فيها بهديه. فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره، واستكمل نسكه؛ ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه، وأخطأ بغيته. فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشّعث الغبر الموفين بنذورهم، المستكملين مناسكهم، المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون. وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه؛ يا آدم، بزائدى فى ملكى ولا عظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر تمدّها من بعدها سبعة أبحر لا تحصى، بل القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما عندى. ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغناء والسّعة، إلا كما نقصت الأرض ذرّة وقعت من جميع ترابها وجبالها وحصاها ورمالها وأشجارها، بل الذرّة أنقص للأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه. ليس مما عندى ويعدّ هذا مثلا للعزيز الحكيم.

ذكر ما جاء فى طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت

ذكر ما جاء فى طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت قال أبو الوليد الأزرقىّ، ورفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كان مع نوح عليه السلام فى السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا فى السفينة ماله وخمسين يوما، وإن الله جل ثناؤه وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها إلى الجودىّ فاستقرّت عليه. وقال عن مجاهد: كان موضع الكعبة قد خفى ودرس زمن الغرق فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام. فكان موضعه أكمة حمراء مدوّرة، لا تعلوها السيول. غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه. وكان يأتيه المظلوم والمبعود من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب. فقلّ من دعا هنالك، إلا استجيب له. وكان الناس يحجّون إلى مكة، إلى موضع البيت، حتّى بوّأ الله تعالى مكانه لإبراهيم عليه السلام. فلم يزل منذ أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض معظما محرّما تتناسخه الأمم والملل أمّة بعد أمّة، وملّة بعد ملة. قال: وكانت الملائكة تحجّه قبل آدم عليه السلام. ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت قال عثمان بن ساج: بلغنا (والله أعلم) أن إبراهيم خليل الله عليه السلام عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض، مشارقها ومغاربها، فاختار موضع الكعبة. فقالت له الملائكة: يا خليل الرحمن اخترت حرم الله فى الأرض، قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل (ويقولون خمسة) . وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم عليه السلام من تلك الجبال.

ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم

ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم قال أبو الوليد عن محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام، جاءه جبريل عليه السلام فقال: طف به سبعا، فطاف به سبعا، هو وإسماعيل. يستلمان الأركان كلّها فى كل طواف، فلما أكملا سبعا، صلّيا خلف المقام ركعتين. قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصّفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة. فلما دخل منى وهبط من العقبة، مثّل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برزله عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات، فغاب عنه؛ ثم برز له عند الجمرة السفلى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الحذف، فغاب عنه إبليس؛ ثم مضى إبراهيم فى حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتّى انتهى إلى عرفة. فلما انتهى إليها، قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال: نعم، قال: فسميت عرفات بذلك. قال: ثم أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن فى الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتى؟ قال الله جل ثناؤه: أذّن، وعلىّ البلاغ، قال: فعلا إبراهيم على المقام فأشرف به حتّى صار أرفع الجبال وأطولها فجمعت له الأرض يومئذ: سهلها، وجبلها، وبرّها، وبحرها، وإنسها، وجنّها حتّى أسمعهم جميعا، فأدخل إصبعيه فى أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وبدأ بشق اليمين فقال: «أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم» فأجابوه من تحت التخوم السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها:

(لبّيك، اللهمّ لبّيك) . قال: وكانت الحجارة على ما هى اليوم، إلا أن الله عز وجل أراد أن يجعل المقام آية. فكان أثر قدميه فى المقام آية إلى اليوم. قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: (لبيك، اللهم لبيك) . فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم. وأثر قدمى إبراهيم فى المقام آية. وذلك قوله تعالى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) . قال ابن إسحاق: وبلغنى أن آدم عليه السلام كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم، وحجّه إسحاق وسارة من الشام. قال: وكان إبراهيم يحجّه كل سنة على البراق. قال: وحجّت بعد ذلك الأنبياء والأمم. وعن مجاهد، قال: حج إبراهيم وإسماعيل، ماشيين. وعن عبد الله بن ضمرة السلولى: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، جاءوا حجّاجا فقبروا هنالك. وفى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان النبىّ من الأنبياء إذا هلكت أمّته لحق بمكة فتعبّد بها النبىّ ومن معه حتّى يموت. فمات بها: نوح، وهود، وصالح، وشعيب. وقبورهم بين زمزم والحجر. وعن مجاهد: حج موسى النبىّ عليه السلام على جمل أحمر. فمرّ بالرّوحاء عليه عباءتان قطوانيّتان متّزر بإحداهما، مرتد بالأخرى. فطاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة. فبينما هو يلبىّ بين الصفا والمروة، إذ سمع صوتا من السماء يقول: (لبّيك عبدى، أنا معك) قال: فخرّ موسى ساجدا.

وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما قال: بلغنى أن البيت وضع لآدم يطوف به ويعبد الله عنده؛ وأنّ نوحا قد حجّه وجاءه وعظمه قبل الغرق. فلما أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق فكان ربوة حمراء معروفا مكانه؛ فبعث الله هودا إلى عاد، فتشاغل بأمر قومه حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بعث الله تعالى صالحا إلى ثمود، فتشاغل بهم حتّى هلك، ولم يحجّه. ثم بوّأه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فحجّه وأعلم مناسكه ودعا إلى زيارته. ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم، إلا حجه. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لقد سلك فجّ الرّوحاء سبعون نبيا، حجّاجا: عليهم لباس الصّوف. مخطّمى إبلهم بحبال اللّيف. ولقد صلّى فى مسجد الخيف سبعون نبيّا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد مرّ بفجّ الرّوحاء (أو لقد مرّ بهذا الفجّ) سبعون نبيا على نوق حمر خطمها الليف، لبوسهم العباء وتلبيتهم شتّى. فمنهم يونس بن متّى. فكان يونس يقول: (لبّيك فرّاج الكرب، لبّيك) ؛ وكان موسى يقول: (لبّيك، أنا عبدك لديك، لبّيك) قال: وتلبية عيسى: (لبّيك، أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك، لبّيك) » . وعن عطاء بن السائب أن إبراهيم رأى رجلا يطوف بالبيت فأنكره، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أصحاب ذى القرنين، قال: وأين هو؟ قال: هو بالأبطح. فتلقّاه إبراهيم عليه السلام فاعتنقه، فقال لذى القرنين: ألا تركب؟ قال: ما كنت لأركب، وهذا يمشى، فحجّ ماشيا.

ذكر ما جاء من مسئلة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم

ذكر ما جاء من مسئلة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم قال أبو الوليد الأزرقىّ، يرفعه إلى محمد بن كعب القرظى أنه قال: دعا إبراهيم عليه السلام للمؤمنين، وترك الكفّار لم يدع لهم بشىء، فقال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . وقال عثمان بن ساج: وأخبرنى محمد بن السائب الكلبىّ قال: قال إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . فاستجاب الله عز وجل له فجعله بلدا آمنا وآمن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات، تحمل إليهم من الآفاق. وقال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمنا، لا يخاف فيه من دخله. وقال سعيد بن السائب بن يسار: لما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة أن يرزق أهلها من الثمرات، نقل الله أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك: رزقا للحرم. وروى عن محمد بن المنكدر، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما وضع الله الحرم نقل له الطائف من الشام. وعن الزّهرىّ أنّ الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف، لدعوة إبراهيم خليل الله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: جاء إبراهيم يطالع إسماعيل عليهما السلام فوحده غائبا، ووجد امرأته الآخرة، وهى السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى. فوقف وسلم فردّت عليه السلام واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب،

فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: هل من حبّ أو غيره من الطعام؟ قالت: لا، قال: بارك الله لكم فى اللحم والماء. قال ابن عباس رضى الله عنهما: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وجد عندها يومئذ حبّا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضا ذات زرع» . وعن سعيد بن جبير مثله، وزاد فيه: «ولا يخلو أحد على اللحم والماء فى غير مكة إلا وجع بطنه؛ وإن خلا عليهما بمكة لم يجد لذلك أذى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «وجد فى المقام كتاب فيه» هذا بيت الله الحرام بمكة، توكّل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله فى اللحم واللّبن» ووجد فى حجر فى الحجر كتاب من خلقة الحجر «أنا الله ذو بكّة الحرام صغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتّى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى اللحم والماء» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما هدموا البيت وبلغوا أساس إبراهيم عليه السلام وجدوا فى حجر من الأساس كتابا، فدعوا له رجلا من أهل اليمن، وآخر من الرّهبان، فإذا فيه: «أنا الله ذو بكة حرّمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر ويوم صغت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء واللبن» . وعن مجاهد رضى الله عنه قال: وجد فى بعض الزبور «أنا الله ذو بكّة جعلتها بين هذين الجبلين وصغتها يوم صغت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء

ذكر أسماء الكعبة ومكة

وجعلت رزق أهلها من ثلاث سبل فليس يوتا [1] أهل مكة إلا من ثلاثة طرق أعلى الوادى وأسفله وكدى وباركت لأهلها فى اللحم والماء» . ذكر أسماء الكعبة ومكة عن ابن أبى نجيح قال: إنما سمّيت «الكعبة» لأنها مكعّبة على خلقة الكعب. قال: وكان الناس يبنون بيوتهم مدوّرة تعظيما للكعبة. فأوّل من بنى بيتا مربّعا حميد بن زهير، فقالت قريش: «ربّع حميد بن زهير بيتا، إمّا حياة وإمّا موتا» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: إنما سمّيت «بكة» لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء جميعا. وقالوا: «بكّة» موضع البيت، ومكّة القرية. وقال ابن أبى أنيسة: «بكّة» موضع البيت، ومكة هو الحرم كلّه. وكان ابن جريح يقول: إنما سميت «بكة» لتباكّ الناس بأقدامهم قدّام الكعبة. ويقال: إنما سميت «بكة» لأنها تبكّ أعناق الجبابرة. وعن الزهرى: أنه بلغه إنما سمّى «البيت العتيق» من أن الله تعالى أعتقه من الجبابرة. وعن مجاهد والسدّى: إنما سمى «البيت العتيق» الكعبة، أعتقها الله من الجبابرة؛ فلا يتجبّرون فيه إذا طافوا. وكان البيت يدعى «قادسا» ويدعى «بادرا» ويدعى «القرية القديمة» ويدعى «البيت العتيق» . وعن مجاهد قال: من أسمائها «مكّة» و «بكّة» و «أمّ رحم» و «أمّ القرى» و «صلاح» و «كوثى» و «الباسّة» .

_ [1] فى الأصل «بيوت» . وفى بعض النسخ كما فى الصلب بدون نقط. ولعل الصواب يؤتى.

ذكر ما جاء فى فضل الركن الأسود

وعن ابن أبى نجيح قال: بلغنى أن أسماء مكة «مكة» ؛ و «بكة» ؛ و «أم رحم» ؛ و «أم القرى» : و «الباسّة» ؛ و «البيت العتيق» ؛ و «الحاطمة» : (تحطم من يستخفّ بها) ؛ و «الناسّة» (تنسّهم، أى تخرجهم إخراجا إذا غشموا وظلموا) . ذكر ما جاء فى فضل الركن الأسود عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: ليس فى الأرض من الجنة إلا الرّكن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة؛ ولولا ما مسّهما من أهل الشّرك ما مسّهما ذو عاهة إلا شفاه الله عز وجل. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه قال فى الرّكن الأسود: لولا ما مسّه من أنجاس الجاهلية وأرجاسهم. ما مسّه ذو عاهة إلا برأ. وقال: نزل الركن، وإنه لأشدّ بياضا من الفضّة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى الله عنها، وهى تطوف معه بالكعبة حين استلم الركن: «لولا ما طبع على هذا الحجر، يا عائشة، من أرجاس الجاهلية وأنجاسها، إذن لاستشفى به من كل عاهة، وإذن لألفى كهيئته يوم أنزله الله، وليعيدنه الله إلى ما خلقه أوّل مرة، وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة، ولكنّ الله غيره بمعصية العاصين، وستر زينته عن الظّلمة والأثمة لأنهم لا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء كان بدؤه من الجنة» . وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يبعث الركن الأسود، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به: يشهد لمن استلمه بحق» .

وعنه رضى الله عنه: الركن يمين الله فى الأرض: يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى مكة. فلما دخلنا الطواف، قام عند الحجر وقال: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك، ما قبّلتك. ثم قبّله ومضى فى الطواف فقال له علىّ رضى الله عنه: بل يا أمير المؤمنين هو يضرّ وينفع، قال: وبم قلت ذلك؟ قال: بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قال: قال الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) . فلما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره وأخرج ذرّيته من صلبه فقرّرهم أنه الربّ وهم العبيد، ثم كتب ميثاقهم فى رقّ، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له: افتح فاك، فألقمه ذلك الرّقّ وجعله فى هذا الموضع، وقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش فى قوم لست فيهم، يا أبا الحسن. وعن عكرمة: أنّ الحجر الأسود يمين الله فى الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله. وعن مجاهد: يأتى الركن والمقام يوم القيامة، كلّ واحد منهما مثل أبى قبيس: يشهدان لمن وافاهما بالموافاة. والله أعلم.

ذكر ما جاء فى فضل استلام الركن الأسود، واليمانى

ذكر ما جاء فى فضل استلام الركن الأسود، واليمانى عن عطاء بن السائب أن عبيد بن عمير قال لابن عمر رضى الله عنهما: إنى أراك تزاحم على هذين الركنين، فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ استلامهما يحطّ الخطايا حطّا» . وسئل رضى الله عنه، فقيل له: إنا نراك تفعل خصالا أربعا لا يفعلها الناس: نراك لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليمانى، ونراك لا تلبس من النّعال إلا السّبتية، ونراك تضفّر شعرك وقد يصبغ الناس بالحنّاء، ونراك لا تحرم حتّى تستوى بك راحلتك وتوجّه. فقال عبد الله: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع الركن الأسود والركن اليمانى أن يستلمهما فى كل طواف أتى عليهما. قال: كان لا يدعهما فى كل طواف طاف بهما حتّى يستلمهما، لقد زاحم على الركن مرة فى شدّة الزحام حتّى رعف، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتّى رعف الثانية، فخرج فغسل عنه ثم رجع. فما تركه حتّى استلم. وعن نافع قال: لقد رأيت ابن عمر رضى الله عنهما، زاحم مرة على الركن اليمانى حتّى انبهر فتنحّى فجلس فى ناحية الطواف حتّى استراح، ثم عاد فلم يدعه حتّى استلمه. قالوا: وليس هذا واجبا على الناس، ولكنه كان يحب أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما جاء فى فضل الطواف بالكعبة

ذكر ما جاء فى فضل الطواف بالكعبة عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طاف بالبيت، كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ومحا عنه سيّئة» . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضى الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج المرء يريد الطّواف بالبيت، أقبل يريد الرحمة. فإذا دخله غمرته. ثم لا يرفع فدما ولا يضع قدما إلا كتب الله له بكلّ قدم خمسمائة حسنة، وحطّ عنه خمسمائة سيئة (أو قال خطيئة) ، ورفعت له خمسمائة درجة. فإذا فرغ من طوافه فصلّى ركعتين دبر المقام، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الركن فقال له: استأنف العمل فيما بقى فقد كفيت ما مضى، وشفّع فى سبعين من أهل بيته» . وعن حسّان بن عطية: أن الله خلق لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها فى كل يوم، فستّون منها للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين. قال حسان: فنظرنا فإذا هى كلها للطائفين هو يطوف ويصلى وينظر. ذكر ما جاء فى فضل زمزم عن وهب بن منبة أنه قال فى زمزم: والذى نفسى بيده، إنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله برّة، وإنها لفى كتاب الله شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم. وعن ابن خثيم قال: قدم علينا وهب بن منبه مكة فاشتكى، فجئناه نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم. قال: فقلنا له: لو استعذبت، فإن هذا ماء فيه غلظ؟ قال: ما أريد

أن أشرب حتّى أخرج منها غيره، والذى نفس وهب بيده، إنها لفى كتاب الله زمزم لا تنزف ولا تذم، وإنها لفى كتاب الله برّة شراب الأبرار، وإنها لفى كتاب الله مضنونة، وإنها لفى كتاب الله طعام من طعم وشفاء من سقم، والذى نفس وهب بيده لا يعمد أحد إليها فيشرب منها حتّى يتضلع إلا نزعت منه داء أو أحدثت له شفاء. وعن كعب أنه قال لزمزم: إنا نجدها مضنونة ضنّ بها لكم، وإن أوّل من سقى ماءها إسماعيل عليه السلام، طعام من طعم، وشفاء من سقم. وعن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد به شفاء شفاك الله. وإن شربته لظمإ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وهى هزمة جبريل عليه السلام بعقبه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلّع من ماء زمزم براءة من النّفاق» . وعن الضحاك بن مزاحم أنه قال: بلغنى أنّ التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب بالصّداع، وأن التطلّع فيها يجلو لبصر، وأنه سيأتى عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات. قال: قال لنا الخزاعىّ: وقد رأينا ذلك فى سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائتين، وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة وسال واديها فى سنة تسع وسبعين، وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم وارتفع حتّى قارب رأسها، فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبع أذرع أو نحوها، وعذبت حتّى كان ماؤها أعذب مياه مكة التى يشربها أهلها. وإنا رأيناها أعذب من مياه العيون.

ذكر ما جاء من اتساع منى أيام الحج ولم سميت منى

وعن الضحاك بن مزاحم أيضا أن الله عز وجل يرفع المياه العذاب قبل يوم القيامة غير زمزم، وتغور المياه العذبة غير زمزم. ذكر ما جاء من اتساع منى أيام الحج ولم سميت منى عن أبى الطّفيل، قال: سمعت ابن عباس رضى الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه فى غير أيام الحج! فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد. وعن ابن عباس، قال: إنما سميت منى منى لأن جبريل حين أراد أن يفارق آدم، قال له. تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسميت منى لتمنى آدم. وقيل: إنما سميت منى لمنى [1] الدماء بها. ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «نعم المقبرة هذه!» (لمقبرة أهل مكة) . وعن محمد بن عبد الله بن صيفىّ أنه قال: من قبر فى هذه المقبرة، بعث آمنا يوم القيامة (يعنى مقبرة مكة) . ذكر شىء من خصائص مكة من خصائصها أن الذئب فيها يروّع الظبى ويعارضه ويصيده. فإذا دخل الحرم، كفّ عنه.

_ [1] المنى هو إراقة الدماء.

وأما المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

ومنها أنه لا يسقط على الكعبة حمام إلا إن كان عليلا؛ وأن عادة الطير إذا حاذت الكعبة أن تفترق فرقتين ولا تعلوها. والله أعلم. وأما المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ففضائلها أوسع من أن أحصرها، وأعظم من أن أسبرها. ناهيك بها من بلد اختاره الله تعالى لرسوله، ونص على فضله في محكم تنزيله، قال الله عز وجل: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) . وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أىّ مسجد هو؟ فقال: مسجدى هذا، وهو قول ابن المسيّب وزيد بن ثابت وابن عمر رضى الله تعالى عنهم، وبه أخذ مالك رحمه الله. وقال ابن عباس: هو مسجد قباء. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا لمسجد الحرام» . قال القاضى عياض رحمه الله: إختلف الناس فى معنى هذا الاستثناء على اختلافهم فى المفاضلة بين مكة والمدينة. فذهب مالك أن الصلاة فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فان الصلاة فى مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج مالك وأشهب وابن نافع وجماعة أصحابه بما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه «صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه» فتأتى

فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة وعلى غيره بألف. وهذا مبنىّ على تفضيل المدينة على مكة، وهو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين. وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة. وهو قول عطاء وابن وهب وابن حبيب، من أصحاب مالك. وحكاه الباجى عن الشافعى. قال القاضى أبو الوليد الباجى: الذى يقتضيه الحديث مخالفة حكم مكة لسائر المساجد، ولا يعلم منه حكمها مع المدينة. قال القاضى عياض: ولا خلاف أن موضع قبر النبى صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» . قالوا: هذا يحتمل معنيين، (أحدهما) . أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه تستحق ذلك من الثواب كما قيل: «الجنة تحت ظلال السّيوف» . (والثانى) أن تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون فى الجنة بعينها. قاله الداودىّ. وروى ابن عمر وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تحمّل عن المدينة: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال: «إنما المدينة كالكير: تنفى خبثها وتنصع طيبها» . وقال: «لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه» .

وعنه صلّى الله عليه وسلم: «من مات فى أحد الحرمين حاجّا أو معتمرا، بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب» . وفى طريق آخر: «بعث من الآمنين يوم القيامة» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما: «من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمت بها فإنّى أشفع لمن يموت بها» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه. اللهم إنّ إبراهيم حرّم مكة، وأنا أحرّم ما بين لا بتيها» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة أو أشدّ، وانقل حمّاها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا» . ودعا النبىّ صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة فقال: «اللهم بارك لهم فى مكيالهم، وبارك لهم فى صاعهم ومدّهم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من زار قبرى، وجبت له شفاعتى» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زارنى فى المدينة محتسبا، كان فى جوارى وكنت له شفيعا يوم القيامة» . وكان مالك رحمه الله لا يركب فى المدينة دابّة، ويقول: أستحيى من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابّة. وروى أنه وهب للشافعىّ كراعا كثيرا، فقال له الشافعىّ: أمسك منها دابّة. فأجابه بمثل هذا الجواب. وحكى القاضى عياض فى «كتاب الشفاء» قال: حدّث أن أبا الفضل الجوهرىّ لما ورد المدينة زائرا وقرب منها، ترجّل ومشى باكيا منشدا:

ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها على صاحبها أفضل الصلاة والسلام

ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرّسوم ولا لبّا، نزلنا عن الأكوار نمشى، كرامة ... لمن بان عنه أن نلّم به ركبا. قال: وحكى بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشأ يقول متمثلا: رفع الحجاب لنا فلاح لناظر ... قمر تقطّع دونه الأوهام. وإذا المطىّ بنا بلغن محمدا، ... فظهورهنّ على الرّجال حرام. قرّبنتا من خير من وطئ الثّرى، ... فلها علينا حرمة وذمام. وأفتى مالك رحمه الله فيمن قال «تربة المدينة رديّة» بضرب ثلاثين درّة، وأمر بحبسه؛ وكان له قدر. وقال: «ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبىّ صلى الله عليه وسلم، يزعم أنها غير طيّبة!» . وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى المدينة: «من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبّل الله منه صرفا ولا عدلا» . ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها على صاحبها أفضل الصلاة والسلام من خصائصها، أن العطر والبخور يوجد لهما فيها من الضّوع والرائحة الطيّبة أضعاف ما يوجد فى سائر البلاد؛ ولها فى قصبتها فغمة طيّبة ورائحة عطرة، وإن لم يكن فيها شىء من الطيب البتة. ولهذا سميت «طيبة» و «طابة» .

قال الشاعر: ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا؟ وهذا البيت ينسب لفاطمة الزهراء رضى الله عنها. ومن أسمائها «طيبة» و «طابة» و «يثرب» و «المدينة» و «الدار» . قال القاضى عياض رحمه الله: وجدير بمواطن عمرت بالوحى والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والرّوح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح؛ واشملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر؛ مدارس آيات، ومساجد جماعات وصلوات، ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين؛ ومواقف سيد المرسلين، ومتبوّأ خاتم النبيين؛ حيث انفجرت النبوّة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها: أن تعظّم عرصاتها، وتتنسّم نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدراتها. وقال: يا دار خير المرسلين ومن به ... هدى الأنام وخصّ بالآيات. عندى لاجلك لوعة وصبابة ... وتشوّق متوقّد الجمرات. وعلىّ عهد إن ملأت محاجرى ... من تلكم الجدرات والعرصات، لأعفّرنّ مصون شيى بينها ... من كثرة التقبيل والرّشفات. لولا العوادى والأعادى، زرتها ... أبدا ولو سحبا على الوجنات. لكن سأهدى من حفيل تحيّتى ... لقطين تلك الدار والحجرات.

وأما البيت المقدس، والمسجد الأقصى

أذكى من المسك المفتّق نفحة ... تغشاه بالاصال والبكرات. وتخصّه بزواكى الصّلوات ... ونوامى التسليم والبركات. وأما البيت المقدّس، والمسجد الأقصى فالبيت المقدّس أحد القبلتين، والمسجد الأقصى ثالث الحرمين. إليه تشدّ الرّحال، ويكثر النزول والارتحال؛ وفى الأرض المقدّسة تحشر الخلائق ليوم العرض، ويبسط الله تعالى الصخرة الشريفة حتّى تكون كعرض السماء والأرض؛ وتجتمع الناس هناك لفصل الحساب، ويضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. ولنبدأ بذكر الأرض المقدّسة قال الله عز وجل إخبارا عن موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) . قال الزجاج: والمقدّسة المطهّرة. وقيل للسّطل «القدس» لأنه يتطهّر منه. وسمى بيت المقدس لأنه يتطهّر فيه من الذنوب. وقيل: سماها مقدّسة لأنها طهّرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين. وقد اختلف فى الأرض المقدّسة ما هى؟ فذهب ابن عباس رضى الله عنهما إلى أنها أريحا. وقال السّدّى: أريحا هى أرض بيت المقدس. وقال مجاهد: هى الطّور وما حوله. وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس. وقال الكلبى: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وقال قتادة: هى الشام كلها.

وقال عبد الله بن عمر: والحرم محرّم مقداره من السماوات والأرض، وبيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض. وقال ابن قتيبة. وقرأت فى مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: اللهمّ إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت مكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس. وقال الله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) . والمسجد الأقصى بيت المقدس: سمّى أقصى لأنه أبعد المساجد التى تزار. وقيل: لبعد المسافة بين المسجدين. وقوله عز وجل «الذى باركنا حوله» قيل: بالماء والأنهار والأشجار والثمار. وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحى، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة. وقال تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) . قال الثعلبىّ فى تفسيره: قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنم: «التّين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس» . وقال الضحاك: «هما مسجدان بالشام» . وقال محمد بن كعب: «التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء» . ومجازه على هذا التأويل: منابت التين والزيتون. وروى عطية عن ابن عباس: «التين مسجد نوح عليه السلام الذى بنى على الجودى، والزيتون بيت المقدس» .

وروى نهشل عن الضحاك: «التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى» قال: «وطور سينين، يعنى جبل موسى عليه السلام» . قال عكرمة: «السّينين الحسن بلغة الحبشة» . وعنه: كل جبل ينبت فهو سينين. وقال مجاهد: «الطّور الجبل، وسينين المبارك» . وقال قتادة: «المبارك الحسن» . وقال مقاتل: «كل جبل فيه شجر فهو سينين، وسيناء وهو بلغة النّبط» . وقال الكلبىّ: «يعنى الجبل المشجر» . وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: «أربعة أجبال مقدّسة بين يدى الله تعالى: طور تينا، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا. فاما طور تينا: فدمشق. وأما طور زيتا: فبيت المقدس. وأما طور سينا: فهو الذى كان عليه موسى عليه السلام. وأما طور تيمانا: فمكّة. والبلد الأمين مكة بلا خلاف» . ومسجد بيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التى لا تشدّ الرحال إلا إليها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ورد فى الصحيح: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى» . وفى الصحيح أيضا «أن موسى عليه السلام، لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر» .

أما فضل بيت المقدس

وكانت عمارة مسجد البيت المقدّس بأمر الله عز وجل لنبيه داود عليه السلام أن يعمره ثم لم يقدّر له عمارته وقدّر الله تعالى ذلك على يدى سليمان بن داود عليهما السلام، فهو الذى عمره. وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبينا فى الفن الخامس فى التاريخ. وقد وردت آثار وأحاديث فى فضل بيت المقدس، وفضل زيارته، وثواب الصلاة فيه، ومضاعفة الحسنات والسيئات فيه، وفضل السكنى فيه، والإقامة به، والوفاة فيه، وما به من قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومحراب داود، وعين سلوان، وما ورد فى أن الحشر منه، وما ورد فى فضل الصخرة والصلاة إلى جانبها، وما ورد من أن الله عز وجل عرج بنبيه من بيت المقدس إلى السماء، وثواب الإهلال من بيت المقدس، وما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة. وسنذكر من ذلك طرفا تقف عليه إن شاء الله تعالى ونحذف أسانيد الأحاديث الواردة فيه رغبة فى الاختصار فنقول. وبالله التوفيق: أما فضل بيت المقدس فقد ورد عن الزهرىّ أنه قال: لم يبعث الله عز وجل نبيا، إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس. وقد صلّى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته سبعة عشر شهرا، كما روى فى الصحيحين، حتّى أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .

وتحويل القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلّون بمكة إلى الكعبة. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أمره الله تعالى أن يصلّى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من تعيينه فى التوراة. هذا قول عامّة المفسرين، على ما حكاه الثعلبىّ عنهم. وقال عبد الرحمن بن زيد: قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله» . فاستقبله النبىّ صلى الله عليه وسلم. قالوا جميعا: فصلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وكانت الأنصار قد صلّت قبل بيت المقدس ستين يوما، قبل قدوم النبىّ صلى الله عليه وسلم. وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا فى السبب الذى كان عليه الصلاة والسلام من أجله يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليهما السلام. وقال مجاهد: من أجل أن اليهود قالوا: يخالفنا محمد فى ديننا، ويتّبع قبلتنا! وقال مقاتل بن حيّان: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى نحو بيت المقدس، قالت اليهود: يزعم محمد أنه نبى، وما نراه أحدث فى نبوّته شيئا! أليس يصلى إلى قبلتنا ويستسنّ بسنتنا؟ فإن كانت هذه نبوّة. فنحن أقدم وأوفر نصيبا.

وأما فضل زيارته، وفضل الصلاة فيه

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق عليه وزاده شوقا إلى الكعبة. وقال ابن زيد: لما استقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، بلغه أن اليهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم، قالوا جميعا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: وددت أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها، فإنى أبغضهم وأبغض موافقتهم، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك، ليس لى من الأمر شىء؛ فسل ربّك، فعرج جبريل. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحبّ من أمر القبلة. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) الآية . فلما صرفت القبلة إلى الكعبة قال مشركو مكة: قد تردّد على محمد أمره، واشتاق إلى مولده ومولد آبائه، وقد توجه نحو قبلتهم وهو راجع إلى دينكم عاجلا، وتكلم اليهود والمنافقون فى تحويلها. فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . وروى عن كعب أنه قال: إن الله عز وجل ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين. وأما فضل زيارته، وفضل الصلاة فيه فقد روى عن مكحول أنه قال: من زار بيت المقدس شوقا إليه، دخل الجنة وزاره جميع الأنبياء فى الجنة وغبطوه بمنزلته من الله تعالى؛ وأيّما رفقة خرجوا يريدون بيت المقدس، شيّعهم عشرة آلاف من الملائكة: يستغفرون لهم ويصلّون عليهم،

ولهم مثل أعمالهم اذا انتهوا إلى بيت المقدس، ولهم بكل يوم يقيمون فيه صلاة سبعين ملكا؛ ومن دخل بيت المقدس طاهرا من الكبائر، تلقاه الله بمائة رحمة، ما منها رحمة إلا ولو قسمت على جميع الخلائق لوسعتهم؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ركعتين يقرأ فيهما ب «فاتحة الكتاب» و «قل هو الله أحد» خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكان له بكل شعرة على جسده حسنة؛ ومن صلى فى بيت المقدس أربع ركعات، مرّ على الصراط كالبرق وأعطى أمانا من الفزع الأكبر يوم القيامة؛ ومن صلى فى بيت المقدس ستّ ركعات، أعطى مائة دعوة مستجابة، أدناها براءة من النار، ووجبت له الجنة؛ ومن صلّى فى بيت المقدس ثمان ركعات، كان رفيق إبراهيم خليل الرحمن؛ ومن صلّى فى بيت المقدس عشر ركعات، كان رفيق داود وسليمان فى الجنة؛ ومن استغفر للمؤمنين والمؤمنات فى بيت المقدس ثلاث مرات، كان له مثل حسناتهم، ودخل على كل مؤمن ومؤمنة من دعائه سبعون مغفرة، وغفر له ذنوبه كلّها. وروى عن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة، كلّ صلاة أربع ركعات يقرأ فى الخمس صلوات عشرة آلاف مرة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، فقد اشترى نفسه من الله عز وجلّ؛ ليس للنار عليه سلطان» . وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل فى بيته بصلاة واحدة، وصلاته فى مسجد القبائل بستّ وعشرين، وصلاته فى المسجد الذى يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته فى المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» .

وأما ما ورد فى بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه

وعن مكحول أن ميمونة رضى الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس قال: «نعم المسكن بيت المقدس! ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه. قالت: فمن لم يطق ذلك؟ قال: يهدى له زيتا [1] » وعن مكحول عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: لا يسمع أهل السماء من كلام بنى آدم شيئا غير أذان مؤذّن بيت المقدس. وأما ما ورد فى بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه فقد روى عن نافع، قال: قال ابن عمر رضى الله عنهما، ونحن فى بيت المقدس: يا نافع، اخرج بنا من هذا البيت، فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات. وقال جرير بن عثمان وصفوان بن عمرو: الحسنة فى بيت المقدس بألف، والسيئة بألف. وأما فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به فقد روى عن ذى الأصابع أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت يا رسول الله إن ابتلينا بالبقاء بعدك، فأين تأمرنا؟ قال: «عليك ببيت المقدس، لعلّ الله يرزقك ذرّية تغدو إليه وتروح» .

_ [1] يظهر أن بعض الكلمات قد سقطت فى هذا الموضع. ولذلك رأيت إيراد الحديث بلفظ آخر عن ابن الفقيه الهمذانى فى كتابه «مختصر كتاب البلدان» المطبوع فى ليدن سنة 1302 هـ (سنة 1885 م) وهذا نصه: «قالت ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتنا عن بيت المقدس، قال: نعم المصلى هو أرض المحشر وأرض المنشر، إيتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة. قلت بأبى وأمى أنت من لم يطق أن يأتيه. قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإنه من أهدى إليه، كان كمن صلى فيه» .

وأما ما به من قبور الأنبياء ومحراب داود وعين سلوان

وعن أبى أمامة الباهلىّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقّ، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم، حتّى يأتيهم أمر الله عز وجل وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» . وعن عطاء، قال: لا تقوم الساعة حتّى يسوق الله عز وجل خيار عباده إلى بيت المقدس وإلى الأرض المقدّسة، فيسكنهم إيّاها. وعن كعب، قال: قال الله عز وجل لبيت المقدس: أنت جنتى وقدسى وصفوتى من بلادى، من سكنك فبرحمة منى، ومن خرج منك فبسخط منى عليه. وعن وهب بن منبه، قال: أهل بيت المقدس جيران الله، وحقّ على الله عز وجل أن لا يعذّب جيرانه؛ ومن دفن فى بيت المقدس نجا من فتنة القبر وضيقه. وعن كعب، قال: اليوم فى بيت المقدس كألف يوم، والشهر فيه كالف شهر، والسنة فيه كألف سنة؛ ومن مات فيه فكأنما مات فى السماء، ومن مات حوله فكأنما مات فيه. وعن خالد بن معدان قال: سمعت كعبا يقول: مقبور بيت المقدس لا يعذّب. وأما ما به من قبور الأنبياء ومحراب داود وعين سلوان ففى الأرض المقدّسة قبر إبراهيم الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام. وفى الصحيح أن موسى عليه السلام لما حضرته الوفاة سأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدّسة، رمية حجر.

وأما ما ورد فى أن الحشر من البيت المقدس

وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن بشر بن بكر عن أمّ عبد الله عن ابنها أنه قال: من أتى بيت المقدس، فليأت محراب داود، فليصلّ فيه، ويسبح فى عين سلوان فإنها من الجنة. وبسنده إلى سعيد بن عبد العزيز، قال: كان فى زمان بنى إسرائيل فى بيت المقدس عند عين سلوان عين. وكانت المرأة إذا قذفت، أتوا بها فشربت منها فإن كانت بريئة لم تضرّها، وإن كانت نطفة ماتت. فلما حملت مريم حملوها، فشربت منها فلم تزدد إلا خيرا. فدعت الله أن لا يفضح بها امرأة مؤمنة. فغارت العين. وأما ما ورد فى أن الحشر من البيت المقدس فقد روى عن أبى ذرّ رضى الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله «أخبرنا عن بيت المقدس. قال: أرض المحشر والمنشر. ايتوه فصلّوا فيه وليأتينّ على بيت المقدس [1] ! ولبسطة قوس أو مسحة قوس فى بيت المقدس أو من حيث يرى بيت المقدس خير من كذا وكذا» . وعن كعب قال: العرض والحساب من بيت المقدس.

_ [1] بياض فى الأصل بمقدار كلمة. وقد روى ابن فضل الله العمرى فى «مسالك الأبصار» المطبوع بدار الكتب المصرية (ج 1 ص 136) حديثا تقرب ألفاظه جدا من هذا الحديث ان لم يكونا حديثا واحدا. فلأجل تكملة النقص الموجود فى نسخ النويرى فى هذا الموضع نورد ما رواه أبن فضل الله وهو: وعن أبى ذر قال: قيل يا رسول الله صلاة فى البيت المقدس أفضل، أم صلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلاة فى مسجدى هذا أفضل من أربع صلوات فيه. ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر! وليأتين على الناس زمان، ولبسطة قوس من حيث يرى بيت المقدس، أفضل وخير من الدنيا جميعا.

وأما ما ورد فى فضل الصخرة، والصلاة إلى جانبها

وعن قتادة فى قوله تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال: من صخرة بيت المقدس. وعن يزيد بن جابر «يوم ينادى المناد من مكان قريب» قال: يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فينفخ فى الصّور فيقول: أيّتها العظام النّخرة، والجلود المتمزّقة، والأشعار المتقطّعة؛ إن الله تعالى أمرك أن تجتمعى للحساب. وقال المفسرون فى قوله تعالى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) هو أن إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادى: «يأيها الناس، هلمّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء، وهذه هى النفخة الأخيرة.» والمكان القريب صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هى أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن السائب: باثنى عشر ميلا. وعن ابن عمر رضى الله عنهما فى قوله تعالى (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) قال: هو حائط بيت المقدس الشرقىّ الذى من ورائه واد يقال له وادى جهنم، ومن دونه باب يقال له باب الرحمة. وأما ما ورد فى فضل الصخرة، والصلاة إلى جانبها فقد روى عن أنس بن مالك، قال: إن الجنة لتحنّ شوقا إلى بيت المقدس، وإن بيت المقدس من جنة الفردوس، وهى [1] سرّة الأرض.

_ [1] أى الصخرة.

وأما ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس إلى السماء

وعن أبى إدريس الخولانىّ: قال: يحوّل الله صخرة بيت المقدس مرجانة بيضاء كعرض السماء والأرض، ثم ينصب عليها عرشه، ثم يقضى بين عباده: يصيرون منها إلى الجنة وإلى النار. وعن أبى العالية فى قوله تعالى (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) * قال: من بركتها أن كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الأنهار كلّها والسّحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» . وقال ابن عباس رضى الله عنهما: صخرة بيت المقدس من صخور الجنة. قال الزجاج: يقال إنها فى وسط الأرض. وعن كعب قال: من أتى بيت المقدس فصلّى عن يمين الصخرة وشمالها، ودعا عند موضع السّلسلة، وتصدّق بما قلّ أو كثر، استجيب دعاؤه، وكشف الله حزنه، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه؛ وإن سأل الله الزيادة أعطاه إياها. وأما ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس إلى السماء فقد روى الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد الواسطى الخطيب رحمه الله بسنده إلى سوادة بن عطاء الحضرمىّ، قال: نجد فى الكتاب مكتوبا أن الله عز وجل لمّا أن خلق الأرض وشاء أن يعرج إلى السماء وهى دخان، استشرف لذلك الجبال أيّها يكون ذلك عليه؟ وخشعت صخرة بيت المقدس تواضعا لله عز وجل، فشكر الله لها ذلك وجعل المعراج عنها. وكان عليها ما شاء الله أن

يكون. قال: فمدّ الجبار يديه حتّى كانتا حيث يشاء أن تكونا، ثم قال: «هذه جنتى غربا، وهذه نارى شرقا، وهذا موضع ميزانى طرف الجبل، وأنا الله ديّان يوم الدّين» وكان معراجه إلى السماء عن الصخرة. وروى أيضا بسنده إلى هانئ بن عبد الرحمن، ورديح بن عطية عن إبراهيم ابن أبى عبلة أحسبه كذا قال: وسئل عبادة بن الصامت ورافع بن خديج وكانا عقيييّن بدريّين، فقيل لهما: أرأيتما ما يقول الناس فى هذه الصخرة أحقّا هو فنأخذ به، أم هو شىء أصله من أهل الكتاب فندعه؟ فقال كلاهما: سبحان الله! ومن يشكّ فى أمرها، إن الله عز وجل لما استوى إلى السماء، قال لصخرة بيت المقدس: «هذا مقامى وموضع عرشى يوم القيامة، ومحشر عبادى، وهذا موضع نارى عن يسارها وفيه أنصب ميزانى أمامها، وأنا الله ديّان يوم الدّين» ثم أستوى إلى علّيّين. وروى أيضا بسنده عن كعب، قال: إن فى التوراة أنه يقول لصخرة بيت المقدس «أنت عرشى الأدنى ومنك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض وكلّ ما يسيل من ذروة الجبال من تحتك؛ من مات فيك فكأنما مات فى السماء، ومن مات حولك فكأنما مات فيك، لا تنقضى الأيام والليالى حتّى أرسل عليك نارا من السماء فتأكل آثار أكفّ بنى آدم وأقدامهم منك، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتّى أتركك كالمرآة، وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلا، وسياجا من نار؛ وأجعل عليك قبة جبلتها بيدى، وأنزل فيك روحى وملائكتى يسبّحون لى فيك؛ لا يدخلك أحد من ولد آدم إلى يوم القيامة؛ فمن برضوء تلك القبة من بعيد، يقول: طوبى لوجه يخرّ فيك لله ساجدا، وأضرب عليك حائطا من نار،

وسياجا من الغمام، وخمسة حيطان من ياقوت ودرّ وزبرجد؛ أنت البيدر، وإليك المحشر، ومنك المنشر» . وروى أبو الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن محمد بن الجوزىّ رحمه الله فى ذلك حديثين، ثم تكلم عليهما وضعّف رواتهما. أما أحدهما، فقال: أخبرنا المبارك بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد، قال: أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر النّصيبى، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن صالح بن عمر المقرى، قال: حدثنا عيسى بن عبيد الله، قال: حدّثنا على ابن جعفر الرازى، قال: حدّثنا العباس بن أحمد بن عبد الله، قال: حدّثنا عبد الله ابن عمر المقدسى، قال: حدّثنا بكر بن زياد الباهلىّ، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسرى بى إلى بيت المقدس مرّ بى جبريل عليه السلام إلى قبر إبراهيم، فقال: انزل، فصلّ ها هنا ركعتين، ها هنا قبر أبيك إبراهيم. ثم مرّ بى ببيت لحم، فقال: انزل، صلّ ها هنا ركعتين، فإن ها هنا ولد أخوك عيسى. ثم أتى بى إلى الصخرة فقال: من ها هنا عرج ربك إلى السماء» . قال الحافظ أبو حاتم بن حيّان: هذا حديث لا يشك عوامّ أصحاب الحديث أنه موضوع. وكان بكر بن زياد يضع الحديث على الثقات. وأما الحديث الثانى، فرواه بسند إلى إبراهيم بن أعين عن رديح بن عطية بن النعمان، عن عبد الله بن بسر الحمصىّ، عن كعب الأحبار، قال: يقول الله عز وجل

وأما ثواب الإهلال من بيت المقدس

لبيت المقدس: أنت عرشى الذى منك ارتفعت إلى السماء، ومنك بسطت الأرض، ومن تحتك جعلت كل ماء عذب يطلع فى رءوس الجبال. قال أبو حاتم الرازىّ: إبراهيم بن أعين منكر الحديث. هذا ما ورد فى هذا الفصل وقد نبهنا على ما فيه من المآخذ والله أعلم. وأما ثواب الإهلال من بيت المقدس فقد روى عن أم سلمة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أهلّ من بيت المقدس، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» . قال سالم: وأهلّ ابن عمر رضى الله عنهما من بيت المقدس بعمرة. وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحرم من بيت المقدس، قدم مكة مغفورا له» . وأما ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة فقد روى عن كعب الأحبار قال: لا تقوم الساعة حتّى يزور البيت الحرام بيت المقدس، فينقادان جميعا إلى الجنة وفيهما أهلوهما. وروى عن خالد بن معدان قال: يحشر الله الكعبة إلى الصخرة زفّا إليها زفّا، متعلقين بجميع من حج إليهما، تقول الصخرة مرحبا: بالزائرة والمزور إليها. هذا ما اتفق إيراده فى فضائل البيت المقدّس، وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخباره طرفا آخر وهو فى الباب الثانى، من القسم الثالث، من الفن الخامس فى التاريخ عند ذكرنا لأخبار سليمان بن داود عليهما السلام. فلنذكر خلاف ذلك.

وأما اليمن وما يختص به

وأما اليمن وما يختص به فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان يمان، والحكمة يمانية» . وقال الجاحظ: من خصائص اليمن السيوف، والبرود، والقرود. ويقال: ان السيف متى قلع بالهند وطبع باليمن، فناهيك به! وقال الأصمعىّ: أربعة ملأت الدنيا ولا تكون إلا باليمن، وهى الورس، والكندر، والخضض، والعقيق. وأما الشام وما يختص به فمن ذلك أن الشام موطن الأنبياء عليهم السلام، ومعدن الزّهّاد والعبّاد. وحكى أن الابدال السبعين بأرض الشام، بجبل لكام وجبل لبنان. ومن خصائص الشام: مسجد دمشق الذى ما عمر على وجه الأرض مثله وكانت عمارته فى سنة ست وثمانين، عمّره الوليد بن عبد الملك. ووقع الحريق فيه فى سنة إحدى وستين وأربعمائة، فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. وعن قتادة، قال: أقسم الله تعالى بمساجد أربعة، قال: «والتّين» وهو مسجد دمشق، «والزّيتون» وهو بيت المقدس، «وطور سينين» وهو حيث كلم الله موسى، «وهذا البلد الأمين» وهو مكة.

وقال محمد بن شعيب: سمعت غير واحد من قدمائنا يذكرون أن التين مسجد دمشق، وأنهم قد أدركوا فيه شجرا من تين قبل أن يبنيه الوليد. وعن هشام بن عبد الملك قال: لما أمر الوليد ببناء مسجد دمشق، وجدوا فى الحائط القبلىّ من المسجد لوحا فيه نقش فأتوا به الوليد، فبعث إلى الروم والعبرانيين وغيرهم، فلم يستخرجوه. فدلّ على وهب بن منبّه فبعث إليه، فلما قدم أخبره بموضع ذلك اللوح فإذا الحائط الذى وجد فيه بناء هود عليه السلام. وعن زيد بن واقد قال: وكّلنى الوليد على العمال فى بناء جامع دمشق، فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد ذلك. فلما كان الليل وافى، وبين يديه الشّمع، فنزل فإذا هى كنيسة لطيفة: ثلاثة أذرع فى ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح فإذا فيه سفط، وفى السّفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام، مكتوب عليه: «هذا رأس يحيى بن زكريا» . فأمر الوليد، فردّ إلى مكانه، وقال: اجعلوا العمود الذى فوقه مغيّرا من الاعمدة، فجعلوا عليه عمودا مسفّط الرأس. وكانت البشرة والشعر على رأسه لم يتغير. وقال أبو زرعة: مسجد دمشق خطّه أبو عبيدة بن الجرّاح، وكذلك مسجد حمص. وقيل: لما قدم المهدىّ يريد بيت المقدس، دخل مسجد دمشق ومعه أبو عبد الله الأشعرىّ كاتبه، فقال: يا أبا عبد الله سبقنا بنو أمية بثلاث، قال: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: بهذا البيت (يعنى المسجد) لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالى فإن لهم موالى ليس لنا مثلهم، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا! ثم أتى بيت المقدس فدخل الصخرة، فقال: يا أبا عبد الله وهذه رابعة.

وحكى عمرو بن مهاجر الأنصارىّ قال: حسبوا ما أنفق على الكرمة التى فى قبلة مسجد دمشق، فإذا هو سبعون ألف دينار. وقال أبو قصىّ: أنفق فى عمارة مسجد دمشق أربعمائة صندوق، كل صندوق أربعة عشر ألف دينار. وقال بعض شعراء المحدثين فى وصفه: دمشق قد شاع ذكر جامعها ... وما حوته ربى مرابعها. بديعة المدن فى الكمال لما ... يدركه الطّرف من بدائعها. طيّبة أرضها مباركة ... باليمن والسّعد أخذ طالعها. جامعها جامع المحاسن قد ... فاقت به المدن فى جوامعها. تذكر فى فضله ورفعته ... أخبار صدق راقت لسامعها. قد كان قبل الحريق مدهشة ... فغيّرته نار بلاقعها. فأذهبت بالحريق بهجته ... فليس يرجى إياب راجعها. إذا تفكّرت فى الفصوص وما ... فيها، تيقّنت حذق واضعها. أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح فى مدافعها. كأنّها من زمرّد غرست ... فى أرض تبر يغشى بفاقعها. فيها ثمار تخالها ينعت ... وليس يخشى فساد يانعها. تقطف باللحظ لا بجارحة ال ... ايدى ولا تجتنى لبائعها. وتحتها من رخامه قطع، ... لا قطع الله كفّ قاطعها. أحكم ترخيمها المرخّم قد ... بان عليها إحكام صانعها.

وإن تفكّرت فى قناطره ... وسقفه، بان حذق رافعها. وان تبيّنت حسن قبّته ... تحيّر اللّبّ فى أضالعها. تخترق الريح فى مخارمها ... عصفا فتقوى على زعازعها. وأرضه بالرّخام قد فرشت ... ينفسح الطّرف فى مواضعها. مجالس العلم فيه مونقة ... ينشرح الصدر فى مجامعها. وكلّ باب عليه مطهرة ... قد أمن الناس دفع مانعها. يرتفق الخلق من مرافقها ... ولا يصدّون عن منافعها. ولا تزال المياه جارية ... فيها لما شقّ من مشارعها. وسوقها لا تزال آهلة ... يزدحم الناس فى شوارعها. لما يشاءون من فواكهها ... وما يريدون من بضائعها. كأنّها جنّة معجّلة ... فى الأرض، لولا سرى فجائعها. دامت برغم العدا مسلّمة ... وحاطها الله من قوارعها. وقال عبد الله بن سلام: بالشام من قبور الأنبياء ألفا قبر وسبعمائة قبر؛ وقبر موسى بدمشق؛ ودمشق معقل الناس فى آخر الزمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: من أراد أن ينظر إلى الموضع الذى قال الله عز وجل فيه (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) فليأت النّيرب الأعلى بدمشق بين النهرين، وليصعد الغار فى جبل قاسيون، فليصلّ فيه فإنه بيت عيسى وأمّه. ومن أراد أن ينظر إلى إرم، فليأت نهرا فى دمشق يقال له بردى. ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التى فيها مريم بنت عمران والحواريّون. فليأت مقبرة الفراديس.

وأما مصر وما يختص بها من الفضائل

ومن خصائصها التّفّاح الذى يضرب به المثل فى الحسن والطّيب. وكان يحمل منه إلى الخلفاء فى كل سنة ثلاثون ألف تفاحة. وبها الغوطة، وهى أحد متنزّهات الدنيا الأربعة. وهى أجلّها. وسنذكر وصفها فى باب الرياض إن شاء الله تعالى. وأما مصر وما يختصّ بها من الفضائل فمن فضلها أن الله عز وجل ذكرها فى كتابه العزيز فى أربعة وعشرين موضعا. منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلّت عليه القرائن والتفاسير. فأما صريح اللفظ، فقوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) . وقوله تعالى مخبرا عن فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) . وقوله عز وجل مخبرا عن يوسف عليه السلام: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) . وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) . وأما ما دلت عليه القرائن، فمنه قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) . وقوله عز وجل: (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) . قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه وغيرهم: هى مصر. وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) .

وقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) . يعنى مصر. وقوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) . يعنى قوم فرعون، وأن بنى إسرائيل ورثوا أرض مصر. وقوله عز وجل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) . وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) . وقوله عز وجل مخبرا عن فرعون: (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) . وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) . وقوله تعالى مخبرا عن قوم فرعون: (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) . يعنى أرض مصر. وقوله عز وجل مخبرا عن نبيه يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) . وقوله تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) .

وقوله عز وجل مخبرا عن بنى إسرائيل: (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) . وقوله تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) . وقوله تعالى: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) . يعنى أرض مصر. وقوله تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) . وقوله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) . وقوله تعالى مخبرا عن ابن يعقوب: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) . يعنى أرض مصر. وقوله تعالى: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) . وذكر ابن عباس مصر، فقال: سميت مصر بالأرض كلها فى عشرة مواضع من القرآن. والله تعالى أعلم. وأما ما ورد فيها من الحديث النبوى صلوات الله وسلامه على قائله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا بها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال أبو بكر رضى الله عنه: ولم يا رسول الله؟ فقال: «لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة» . وعنه صلى الله عليه وسلم، وذكر مصر: «ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته» . وتكررت الأحاديث فى فضلها.

وقال عبد الله بن عمرو: وأهل مصر أكرم الأعاجم كلّها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصّة. وقال أيضا: لما خلق الله عز وجل آدم، مثّل له الدنيا: شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك. فلما رأى مصر، رآها أرضا سهلة ذات نهر جار، مادّته من الجنة، تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الربّ عز وجل إليه بالرحمة. فى سفحه أشجار مثمرة، فروعها فى الجنة تسقى بماء الرحمة. فدعا آدم فى النيل بالبركة، ودعا فى أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات. وقال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة وتربتك مسكة تدفن فيها عرائس الجنة، أرض حافظة مطبقة رحيمة. لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعزّ، يا أرض مصر فيك الخباء والكنوز، ولك البر والثّروة، سال نهرك عسلا. كثّر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكا نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك يا مصر خير ما لم تتجبّرى وتتكبّرى أو تخونى، فاذ فعلت ذلك، عراك شرّ، ثم تغوّر خيرك» . فكان آدم أوّل من دعا لها بالخصب والرحمة والرأفة والبركة. وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: دعا نوح عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتى، فبارك فيه وفى ذرّيته وأسكنه الأرض الطيبة لمباركة التى هى أمّ البلاد. قال عبد الله بن عمرو: لما قّسم نوح عليه السلام الأرض بين ولده، جعل لحام مصر وسواحلها والمغرب وشاطئ النيل. فلما دخل بيصر بن حام وبلغ العريش،

قال: «اللهم إن كانت هذه الارض التى وعدتنا على لسان نبيك نوح عليه السلام وجعلتها لنا منزلا فاصرف عنا وباها، وطيّب لنا ثراها، واجمع ماها، وأنبت كلاها، وبارك لنا فيها، وتمم لنا وعدك، إنك على كل شىء قدير، وإنك لا تخلف الميعاد» وجعلها بيصر لابنه مصر وسماها به. والقبط ولد مصر بن بيصر بن حام ابن نوح. وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبار مصر وبنيه عند ذكرنا لملوك مصر، وهو فى الفن الخامس فى التاريخ. وعن كعب الأحبار: لولا رغبتى فى بيت المقدس لما سكنت إلا مصر. فقيل له: ولم؟ فقال: لأنها معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه. وقال أبو بصرة الغفارى: سلطان مصر سلطان الأرض كلّها. قال: وفى التوراة مكتوب: مصر خزائن الأرض كلّها، فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى. وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة. وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قاضى العراق: سألت أحمد بن المدبّر عن مصر فقال: كشفتها فوجدت غامرها أضعاف عامرها. ولو عمرها السلطان، لوفت له بخراج الدنيا.

ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم

ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جماعة، منهم: موسى، وهرون، ويوشع بن نون، ودانيال، وأرميا، ولقمان، وعيسى بن مريم. ولدته أمّه بأهناس، وبها النخلة التى ذكرها الله تعالى لمريم على أحد الأقوال. ولما سار عيسى إلى الشأم أخذ على سفح المقطم ماشيا، عليه جبة صوف مربوط الوسط بشريط، وأمّه تمشى خلفه، فالتفت إليها وقال: يا أمّاه، هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما من كان بها منهم، فكان: إبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام، واثنا عشر سبطا. ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات رضى الله عنهم كان بها من الصدّيقين مؤمن آل فرعون الذى ذكره الله عز وجل فى القرآن. وقيل: إنه ابن لفرعون لصلبه. آمن بموسى ولحق به وجعله الله نبيا وآية. وكان بها وزراء فرعون الذين وصفهم الله تعالى وفضّلهم على قوم نمرود حين قالوا: «أرجئه وأخاه» وقال وزراء النمرود: «اقتلوه أو حرّقوه» . وأخرجت مصر السحرة الذين أحضرهم فرعون لموسى. وكانت عدّتهم مائتى ألف واثنين وثلاثين ألفا وقيل أكثر من ذلك، آمنوا كلّهم فى ساعة واحدة. ولم نعلم ممن آمن فى ساعة واحدة مثل هذا العدد.

ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ومن فضائل مصر ونبل أهلها أنهم لم يفتنوا بعبادة العجل. وكان بها من الصدّيقات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأم إسحاق، ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، التى مشطها فرعون بأمشاط الكتّان لما آمنت بموسى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شممت ليلة أسرى بى فى الجنة رائحة ما شممت أطيب منها، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ فقال: هذا رائحة ماشطة بنت فرعون» . ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منهم: إبراهيم الخليل عليه السلام، تزوّج بهاجر أمّ إسماعيل. ويوسف الصدّيق، تزوّج بنت صاحب عين شمس، وتزوّج زليخا بعد أن عجزت وعميت. دعا الله لها فردّها الله إلى حالتها الأولى، ورزق منها الولد. وتسرّى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية التى أهداها له المقوقس، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى السيرة النبوية. ذكر من أظهرته مصر من الحكماء (الذين عمروا الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وأظهروا ما خفى من العلوم [1] ) قال الحسن بن إبراهيم، صاحب تاريخ مصر:

_ [1] بعض الحكماء المذكورين فى هذا الفصل ليسوا من أهل مصر بل وفدوا عليها وأقاموا بها مدّة قليلة أو كثيرة.

منهم: ذو القرنين، وهو الإسكندر [1] من قرية يقال لها لوبية [2] . وهو الذى قتل دارا بن دارا. وسيأتى خبره إن شاء الله تعالى فى التاريخ فى ذكر ملوك اليونان. ومنهم: هرمس، وهو المثلث بالنعمة: نبىّ، وحكيم، وملك: وهو الذى صير الرّصاص ذهبا، وبنى الهرمين الكبيرين على أحد الأقوال. وقيل: هو إدريس عليه السلام. ومنهم تلميذاه: أغاثاذيمون وفيثاغورس، ولهما من العلوم الموروثة صناعة الكيمياء، والنّجوم، والسّحر، وعلم النارنجيات، والطلسمات، والبرابى، وأسرار الطبيعة. ومنهم أوسلا وسيزوارس وبندقليس، أصحاب الكهانة والزّجر. ومنهم سقراط، صاحب الحكمة، والكلام على البارئ جل ذكره، وهو صاحب البلاغة. ومنهم أفلاطون، صاحب السّياسة، والنواميس، والكلام على المدن والملوك. ومنهم بطليموس، صاحب الرّصد، والمساحة، والحساب؛ وهو صاحب كتاب المجسطى من كتب الأفلاك، وحركة الشمس، والقمر، والكواكب المتحيرة والثابتة، وصورة فلك البروج. وله صفة الأمم الذين يعمرون الأرض، وكتاب الثمرة فى علم النجوم وتسطيح الكرة.

_ [1] هو الاسكندر الأكبر، ابن فيلّبوس وهو ليس من مصر وإنما غزاها بجيوشه وأسس فيها مدينة الاسكندرية التى صارت بعده مدينة العلم والحكمة. [2] هذا اللفظ محرف عن «پيلا» وهى احدى مدائن افريقية، وفيها كانت ولادة الاسكندر الاكبر.

ومنهم أرسطاطاليس، صاحب المنطق، والآثار العلوية، والحس والمحسوس، والكون والفساد، والسماء والعالم، وسمع الكيان والسمع الطبيعى، ورسالة نبت الذهب، قالوا: وليعقوب بن إسحاق الكندىّ نحو ألف كتاب مستخرجة من كتب أرسطاطاليس. ومنهم أراطس، صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة فى تشكيل صورة الفلك، والألف كوكب، واثنان وعشرون كوكبا من الكواكب الثابتة، والزيج. ومنهم أنطوليوس [1] ، صاحب الفلاحة. ومنهم إبّرخس، صاحب الرصد والآلة المعروفة بذات الحلق. ومنهم ثاون، صاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أسطنس، ودروثيوس، ووالنس، أصحاب كتب أحكام النجوم، وعنهم انتشر ذلك. ومنهم إيرن، صاحب الهندسة والمقادير، وكتاب جر الأثقال، والحيل الروحانية، وعمل البناكيم والآلات لقياس الساعات. ومنهم فيلون البزنطى، وله عمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة. ومنهم أرشميدس، صاحب الحيل والهندسة والمرايا المحرقة وعمل المجانيق ورمى الحصون، والحيل على الجيوش والعساكر برّا وبحرا.

_ [1] ورد هذا الاسم فى الاصل هكذا: «أفلطيونس» وليس هناك رجل بهذا الاسم. وإنما المشهور بكتابه فى الفلاحة هو «انطوليوس الأفريقى» . وقد ذكره ابن العوام فى كتاب الفلاحة الأندلسية، ويقل عنه.

ومنهم ماريه وقلبطره، أصحاب الطّلّسمات، والخواص للطبائع. ومنهم أبلونيوس، وله كتاب المخروطات وقطع الخطوط. ومنهم ثيودوسيس، وهو صاحب كتاب الأكر. ومنهم ذيوفنطس، وله كتاب الحساب. ومنهم أوطوقيس، وله كتاب الكرة والأسطوانة. ومنهم المشاءون [1] ، أصحاب الرواق. وبمصر من العلوم التى عمرت بها الدنيا علم الطب اليونانى، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وغير ذلك وبها الطلسمات العشرة. وبادى [2] الاسكندرانى صاحب الزيج. والذين نشروا الطب وشرحوه جالينوس، صاحب الطب، تعلمه بمصر، ومن كتبها أخذ. ومنهم ديسقريد: صاحب الحشائش، وديوچانس، واركاغانس، وارباسيوس، وفريقونوس، وروفس، هؤلاء أصحاب الطب اليونانى. فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤهم الذين ورثوا الحكمة، من مصر خرجوا، وبها ولدوا؛ ومنها انتشرت علومهم فى الأرض. قال الحسن بن إبراهيم: وكانت مصر يسير إليها فى الزمن الأوّل طلبة العلم وأصحاب العلم الدقيق لتكون أذهانهم على الزيادة وقوّة الذكاء ودقة الفطنة. والله تعالى أعلم.

_ [1] فى الأصل: «المساتير» . ولعله يشير إلى أتباع ارسطو الذين يسميهم العرب «المشائين» . [2] لعل هذا الاسم محرف عن «ثاون» ؟؟؟ دى سبقت الاشارة اليه.

ومن فضائل مصر

ومن فضائل مصر أنها تمير الحرمين الشريفين، ولولا مصر لما أمكن أهل الحرمين وأعمالهما المقام بهما، ولما توصل إليهما من يرد من أقطار الأرض. ومنها أنها فرضة الدنيا، يحمل من خيرها إلى سواحلها، وذلك أن من ساحلها بالقلزم ينقل إلى الحرمين، وإلى جدّة، وإلى عمان، وإلى الهند، وإلى الصين، وصنعاء، وعدن، والشّحر، والسّند، وجزائر البحر. ومن جهة تنّيس، ودمياط، والفرما فرضة بلد الروم، وأقاصى الأفرنجه، وقبرس. وسائر سواحل الشام، والثغور إلى حدود العراق. ومن جهة الإسكندرية فرضة أقريطش، وصقلّيّة، وبلد الروم، والمغرب كلّه إلى طنجة، ومغرب الشمس. ومن جهة الصعيد فرضة بلد النّوبة، والبجة، والحبشة، والحجاز، واليمن. وفيها من ثغور الرّباط: البرلّس، ورشيد، والإسكندرية، ورباط ذات الحمام، ورباط البحيرة، ورباط إخنا، ورباط دمياط، وشطا، وتنّيس، والأشتوم، والفرما، والورّاده، والعريش، والشّجرتين، ورباط الحرس. وجهة الحبشة، والبجة. ورباط أسوان على النّوبة. ورباط الواحات على البربر والسّودان. ورباط قوص. وبها من المساجد والمشاهد والآثار الصالحة، ما لم يكن فى غيرها. ولو استقصينا ذلك، لطال به الشرح وانبسط القول. وقال سعيد بن عقبة: كنت بحضرة المأمون حتّى قال، وهو فى قبة الهواء: لعن الله فرعون حين يقول (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) فلو رأى العراق!. فقلت:

يا أمير المؤمنين لا تقل هذا فإن الله عز وجل قال (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) . فما ظنّك يا أمير المؤمنين بشىء دمره الله، هذا بقيّته؟. قال: ثم قلت: لقد بلغنى أن أرضا لم تكن أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها. وكانت الأنهار بقناطر وجسور وتقدير حتّى إن الماء يجرى تحت منازلهم وأفنيتهم: يحبسونه متى شاءوا، ويرسلونه متى شاءوا. وكانت البساتين بحافتى النيل من أوّله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رسيد إلى الشام متصلة لا تنقطع. ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلئ مما يسقط من الشجر. وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر. ومن فضائلها النيل، وقد تقدّم ذكره فى باب الأنهار. ومن عجائبها الهرمان وسيأتى ذكرهما فى باب المبانى القديمة إن شاء الله تعالى. ومن عجائبها أن أهلها مستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور، استغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا. وفيها ما ليس فى غيرها، وهو حيوان السّقنقور، والنّمس. ولو لاه لأكلت الثعابين أهلها؛ وهو لها كقنافدّ سجستان لأهلها. وفيها سمك يسمّى الرّعّاد. وهو سمك إذا أمسكه إنسان أو أمسك ما يتصل به من خيط الصّنارة أو الشبكة التى يقع فيها، ارتعدت يده. والحطب السّنط الذى لو وقد منه يوما وجمع ما وجد من رماده كان ملء كفّ. وهو صلب العود، سريع الوقود، بطىء الخمود. ويقال: إنه الآبنوس، وإنما البقعة قصّرت عن الكيان فجاء أحمر شديد الحمرة.

ودهن البلسان. والأفيون، وهو عصارة الخشخاش. وكان بها اللّبخ، وهو ثمر فى قدر اللوز الأخضر إلا أن المأكول منه الظاهر. ورأيته أنا بها وأكلت منه سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وبها الأترجّ الأبلق. وبها من المعادن: معدن الزّمرّد، ومعدن النّفط، والشّبّ، والبرام، والرّخام. وقيل: إن بها سائر المعادن كلّها. وأهلها يأكلون صيد بحر الرّوم وبحر فارس [1] طريّا. وفى كل شهر من شهور القبط صنف من المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره. فيقال: رطب توت، ورمّان بابه، وموز هاتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. ومنها أن صيفها خريف، وشتاءها ربيع؛ وما يقطعه الحرّ والبرد فى سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها فى الحرّ والبرد: لأنها فى الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حرّ الأوّل والثانى، وبرد السادس والسابع [2] . ويقال: لو لم يكن من فضل مصر إلا أنها تغنى فى الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفى الشتاء عن الوقود والفراء.

_ [1] يشير إلى البحر الأحمر المتصل بالخليج الفارسى بواسطة بحر الهند. [2] قارن ذلك بما ورد فى المقريزىّ (طبع بولاق ج 1 ص 28) .

ومما وصفت به

ومما وصفت به أن صعيدها حجازىّ. حجره كحجر الحجاز ينبت النخل والدّوم (وهو شجر المقل) ، والعشر، والقرظ، والإهليلج، والفلفل، والخيار شنبر. وأسفل أرضها شامىّ: يمطر كمطر الشام، وتقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللّوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول والرياحين. وهى ما بين أربع صفات: فضة بيضاء، أو مسكة سوداء، أو زبرجدة خضراء، أو ذهبة صفراء. وذلك أن النيل يعمّ أرضها فتصير كالفضة البيضاء، ثم ينصبّ عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء [1] . وحكى ابن زولاق فى «فضائل مصر» أن أميرها موسى بن عيسى [الهاشمى] [2] وقف بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن كان معه: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبا ما فى الدنيا مثله! فقالوا: يقول الأمير! فقال: أرى ميدان رهان، وحيطان نخل، وبستان شجر، ومنازل سكنى، وذروة جبل، وجبّانة أموات، ونهرا عجّاجا، وأرض زرع، ومراعى ماشية، ومراتع خيل، وساحل بحر. [وصائد نهر] وقانص وحش، وصائد سمك، وملّاح سفينة، وحادى إبل، ومفازة رمل، وسهلا، وجبلا! فهذه ثمانية عشر متنزّها فى أقل من ميل فى ميل.

_ [1] قارن ذلك بما ورد فى المقريزى (طبع بولاق ج 1 ص 26) . [2] هو والى مصر فى أيام الرشيد سنة 175 هجرية. والزيادة عن المقريزى (طبع بولاق ج 2 ص 153) .

وأما جزيرة الأندلس

وأين هذه الأوصاف من وصف الواصف لقصر أنس بالبصرة حيث يقول: زر وادى القصر نعم القصر والوادى! ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد. زره فليس له شىء يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أو بادى. ترى به السّفن والظّلمان حاضرة ... والضبّ والنون والملّاح والحادى. وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسىّ، يصف جبل الرّصد مثل ما وصف به قصر أنس: يا نزهة الرّصد المصرىّ قد جمعت ... من [1] كلّ شىء حلا فى جانب الوادى. فذا غدير، وذا روض، وذا جبل: ... فالضّبّ والنّون والملّاح والحادى. فهذه نبذة من فضائل مصر. ولولا الرغبة فى الاختصار، لكانت فضائلها تكون كتابا مفردا. وأما جزيرة الأندلس فقد اقتصرت فى وصفها على رسالة وصفها ابن حزم فيها، فقال: « ... أرضها شاميّة فى طيبها، تهاميّة فى اعتدالها واستوائها، أهوازية فى عظم خراجها وجبايتها، عدنيّة فى منافع سواحلها، صينيّة فى معادنها، هندية فى عطرها وطيبها وذكائها. وأهلها عرب فى الأنساب والعزّة والأنفة، وفصاحة الألسن، وطيب النّفوس، وإباء الضيم، وقلّة احتمال الذل والإهانة، والنّزاهة عن الخضوع؛ هنديّون فى فرط عنايتهم بالعلوم وحبّهم لها؛ بغداديّون فى ظرفهم ونظافتهم، ورقّة أخلاقهم

_ [1]- هذه رواية المقريزىّ. أما الاصل فقد ورد فيه الشطر الأول غير موافق فى الوزن للبقية هكذا: يا نزهة الرصد التى قد نزهت ... عن كل شىء الخ

وأما البصرة وما اختصت به

ونباهتهم، ولطافة أذهانهم، وحدّة أفكارهم؛ نبطيّون فى استنباط المياه، ومعاناتهم للغراسة، وتركيب الشجر والفلاحة؛ صينيّون فى إتقان الصنائع العلمية، وإحكام المهن الصورية؛ تركيّون فى معاناة الحروب ومعالجة آلاتها، والنظر فى مهمّاتها» . قال إبراهيم بن خفاجة، يصفها: إنّ للجنّة بالأندلس ... مجتلى عين وريّا نفس! فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس. وقد أظهرت الأندلس جماعة من الفضلاء والأعيان والأكابر، ذكرهم ابن بسّام فى كتابه المترجم «بالذخيرة، فى محاسن أهل الجزيرة» . وذكرهم الفتح بن خاقان فى كتابه «المطمح» و «قلائد العقيان» وغيرهما. وسنذكر إن شاء الله تعالى حال الأندلس وابتداء عمارتها وملوكها عند ذكرنا فتحها، وهو فى الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى التاريخ من اخبار الدولة الأموية فى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان فى سنة 92 من الهجرة. وأما البصرة وما اختصت به فمن خصائصها أن للغربان بها ضربا من العجب. وذلك أنها تقع إليها بالخريف حتّى تكون الأرض بها سوداء، وتقع على كل نخلة أصرم ثمرها، ولا تقع على ما لم تصرم، ولو بقى عليها عذق واحد. ومن عجائبها أيضا، أن التمر يكون مصبوبا فى بيادره، فلا يقع عليه شىء من الذّباب لا فى الليل ولا فى النهار.

وأما بغداد وما اختصت به

وأهل البصرة يتخذون المظلّات على التمر والعجوة خوفا عليها من الخفّاش. ومن عادة الذباب الفرار من الشمس إلى الظلّ، فلا يوجد فى تلك الظلال شىء منه البتة. فيتوهم المتوهّم أن هاتين الحالتين من طلّسم، له من الخاصية ما يمنع الغربان والذباب. وليس كذلك، وإنما هو من حماية الله ووقايته. ووصف خالد بن صفوان البصرة، فقال: منابتها قصب، وأنهارها عجب، وسماؤها رطب، وأرضها ذهب. وفي الكوفة عدم الوفاء. وأما بغداد وما اختصت به فإنه يقال: إنها جنة الأرض، ومجتمع الوافدين: دجلة والفرات، وواسطة الدنيا، ومدينة السلام، وقبة الإسلام، لأنها غرّة البلاد، ودار السلام والخلافة، ومجمع الطّرائف والطيبات، ومعدن المحاسن واللطائف، وبها أرباب النّهايات فى كل فن، وآحاد الدهر فى كل نوع. وكان أبو إسحاق الزجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية. وكان أبو الفضل بن العميد اذا طرأ عليه أحد وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد. فان فطن لفضائلها وخواصّها، جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله. وقال ابن زريق الكوفىّ، الكاتب: سافرت أبغى لبغداد وساكنها ... مثلا، فحاولت شيئا دونه الياس. هيهات! بغداد الدنيا بأجمعها ... عندى، وسكّان بغداد هم الناس.

وأما الأهواز وما اختصت به

وقال آخر: سقى الله بغداد من جنة ... غدت للورى نزهة الأنفس. على أنّها منية الموسرين، ... ولكنّها حسرة المفلس. وأما الأهواز وما اختصت به فقال أبو عثمان «عمرو بن بحر الجاحظ» : إن قصبة الأهواز مخصوصة بالحمّى الدائمة اللازمة، حتّى إنها ليست إلى الغريب بأسرع منها إلى القريب. وقال إبراهيم بن العباس عن مشيخة من أهلها عن القوابل بها: إنهن ربما قبلن الطّفل المولود بها فيجدنه محموما؛ ولا تكاد توجد بها وجنة حمراء لصبىّ ولا صبية، ولا دم ظاهر. ومن عجائب خصائصها: أن جميع أصناف الطّيب تستحيل رائحته فيها جدّا، حتّى لا تكاد توجد له رائحة. وذلك من كثرة الرّطوبات، وغلظ الهواء، والأبخرة الفاسدة. (وهذا موجود بأنطاكية والقسطنطينيّة) . ويقال: إن الخيل لا تنزو بها ولا تصهل، وإنها تعتلف الحشيش دون التبن؛ لما يلحقها من الرّبو، لنداوة البلد وعفونته. وأما فارس وما اختصت به فمن خصائصها: ماء الورد الذى لا يوجد مثله فى سائر البلاد طيبا، والجورى الموصوف من أحد بلادها يجلب إلى أقاصى البلاد، ويضرب به المثل. ولشيراز من بلاد فارس فغمة طيبة ليست فيما عداها من بلاد فارس.

وأما أصفهان وما اختصت به

وأما أصفهان وما اختصت به فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء. وحكى أن الحجاج ولّى بعض خواصّه أصفهان، فقال له: قد ولّيتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النّحل، وحشيشها الزّعفران. ومن خصائص الرّىّ: برودها موصوفة كبرود اليمن، وتسمّى العدنيّات تشبيها لها ببرود عدن. وفيها الثياب المنيّرة. قالوا: واللص الحاذق ينسب إلى الرّىّ. وأما جرجان وما اختصت به فهى سهليّة جبلية، برّية بحريّة. وأهلها يعدّون زيادة على مائة نوع من أنواع الرياحين، والبقول، والحشائش الصّحراوية، والثمار والحبوب السّهلية التى هى مبذولة بها للفقراء والغرباء. ومن خصائصها: العنّاب الذى لا يكون فى سائر البلاد مثله، ويقال: هى بغداد الصّغرى، إلا أنها وبيّة، مختلفة الهواء فى اليوم الواحد، قتّالة للغرباء، كثيرة الأنداء. ويقال: جرجان مقبرة أهل خراسان. وفى بعض الكتب القديمة أن بخراسان بلدة يقال لها جرجان، يساق إليها قصار الأعمار من الناس. وكان أبو تراب النيسابورىّ يقول: لما قسمت البلاد بين الملائكة، وقعت جرجان فى قسم أبى يحيى (يعنى ملك الموت) .

وأما نيسابور وما اختصت به

وأما نيسابور وما اختصت به فحكى عن عمرو بن الليث الصّفّار أنه كان يقول: كيف لا أقاتل عن بلدة حشيشها الرّيباس، وترابها النّقل، وحجرها الفيروزج. أراد بقوله: «ترابها النّقل» طين الأكل الذى لا يوجد مثله فى الأرض، ويحمل منها إلى أقاصى البلاد وأدانيها، ويتحف به الملوك. قالوا: وربما بيع الرّطل منه بدينار. قال المأمون يصفه: جد لى من النّقل، فذاك الذى ... منه خلقنا وإليه نصير. ذاك الذى يحسب فى مثله ... أحجار كافور عليها عبير. قالوا: والفيروزج لا يكون إلا فى نيسابور، وربما بلغت قيمة الفصّ منه- الذى إذا أربى وزنه على مثقال، وجمع الخضرة والاستدارة، وصبر على النار، وامتنع على المبرد، ولم يتغير بالماء الحارّ- مائتى دينار. ويقال إن له خاصية فى تقوية القلب بالنظر إليه، كما أنّ للياقوت خاصّيّة فى مسرّة النفس. ولما دخلها إسماعيل بن أحمد السامانىّ، ملك ما وراء النهر وخراسان. استحسنها واستطابها، وقال: يا لها من بلدة جليلة، لو لم يكن لها عيبان! كان ينبغى أن تكون مياهها التى فى باطن الأرض على ظاهرها، وأن تكون مسالحها [1] التى على ظهرها فى بطنها. ومن خصائصها الثياب النيسابورية الرّقاق. وأهلها لا يكرمون الغريب. قال المرادىّ: لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا ... إلّا وحبلك موصول بسلطان. أولا، فلا أدب يغنى ولا حسب ... يجدى ولا حرمة ترعى لإنسان.

_ [1] فى الاصل «مشايخها» .

وأما طوس وما اختصت به

وقال أيضا فيها: قال المرادىّ قولا غير متّهم، ... والنّصح ما كان من ذى اللّبّ مقبول: لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا، ... إن الغريب بنيسابور مخذول. وأما طوس وما اختصت به فمن خصائصها السّبج الذى لا يكون إلا بها، ومنها ينقل إلى الآفاق، والحجر الأبيض الذى تتخذ منه القدور. ويقال: إن الله عز وجل ألان لأهلها الحجارة كما ألان لداود الحديد، حتّى إنهم يتخذون منها ما يتخذ غيرهم من الزّجاج من سائر الأوانى. وأما بلخ وما اختصت به فيقال: هى من أقدم البلاد وأخصّها بالملوك، وهى شبيهة بالعراق، وخراسان، والهند. وإليها ينسب جيحون، فيقال: نهر بلخ. وكان سعيد بن الحسن يقول: العيش فى الصيف ببلخ كتصحيفها [1] . ومن خصائصها البخاتى [2] والنّيلوفر.

_ [1] أى مثل ثلج. [2] فى الأصل: النجادى. [وهو تحريف لا شك فيه] . «والبخاتى» هى نوع من النياق اشتهرت بها هذه المدينة. قال ابن حوقل الرحالة البغدادىّ الشهير فى كتابه «المسالك والممالك» (ص 328، 329) ما نصه: «ويرتفع من بلخ وأعمالها فى نفسها النوق المتقدمة على ما فى جنسها وتعرف بالبخاتى ولا نظير لها من جنسها فى جميع الأرض. وبها الأترج والنيلوفر وقصب السكر وما لا يكون الا بالبلدان الحارة الا أنه لا نخيل بها» .

وأما بست وما اختصت به

وأما بست وما اختصت به فيقال: إن هواءها كهواء العراق، وماءها كماء الفرات؛ ومن خصائصها الإجّاص الذى لا يوجد مثله فى غيرها. ويقال: إن من مات ببست مغفورا له فقد انتقل من جنّة إلى جنّة. وأما غزنة وما اختصت به فهى موصوفة بصحة الهواء، وجودة التّربة، وعذوبة الماء، وهى جبلية شمالية؛ ومن خصائصها أن الأعمار بها طويلة، والأمراض قليلة. قالوا: وهى أرض تنبت الذهب، ولا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية. ومنها خرج الأجلّاء الأنجاد من الرجال. وقال أبو سعيد منصور زعيم جرجان: لم أر بلدة في الصيف أطيب، وفى الربيع أشبه، ومن الحشرات أنظف من غزنة. ثم قال: إن قلّة ثمارها من منافعها، لأن كثرة الثمار مقترنة بكثرة الأمراض. وقد وصفها صاحب كتاب «لطائف المعارف» فقال: واها لغزنة إذ غدت ... للملك والإسلام دارا. من كعبة قد أصبحت ... للمجد والعليا مدارا. فى صدرها الملك الّذى ... قطب السّعود عليه دارا. وقال أيضا فيها: يا دار ملك نرى كلّ الجمال بها ... وأسعد الدهر تبدو من جوانبها. كأنما جنّة الفردوس قد نزلت ... بأرض غزنة تعجيلا لصاحبها.

وأما سجستان وما اختصت به

وأما سجستان وما اختصت به فيقال فيها: ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصّها بطل. ومما تختص به الطاسات وجلاجل البزاة، والطبول الموكبية، والفرش الدّيباج. وأما الهند وما اختصت به فيقال: الهند بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. وعود الهند يذكر مع أمّهات الطيب. وفى الهند الفيل، والكركدّن، والببر، والطاووس، والببغاء. وفيه الياقوت الأحمر، والصّندل الأبيض، والعاج، وأصناف العطر، والثياب المخملة وغيرها، والّلانس [1] ، والأقمشة. وأما الصين وما اختصّ به فإن العرب تقول لكل طرفة من الأونى: صينيّة كائنة ما كانت: لاختصاص الصين بالطّرائف. وأهل الصين خصّوا بصناعة الطّرف، والملح، وخرط التماثيل، والإبداع فى عمل النّقوش والتصاوير، حتّى إن مصوّرهم يصوّر الإنسان فلا يغادر شيئا إلا الرّوح، ثم لا يرضى بذلك حتّى يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المتبسّم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهازئ؛ ويركّب صورة فى صورة. وفيه مناديل الغمر التى إذا اتّسخت وألقيت فى النار، نقّيت ولم تحترق.

_ [1] كذا بالأصل ولعلها محرفة عن القلانس.

وأما سمرقند وما اختصت به

وفيه الحديد. وربما اشترى بأضعاف وزنه فضة. وفيه السّنجاب الفارحانىّ الذى هو من أنفس الأوبار. وفيه اللّبود الجياد. قال الجاحظ فى كتاب «النظر فى التجارة» : إن خير اللّبود الصينية، ثم المغربية الحمر، ثم الطالقانيّة البيض. وأما سمرقند وما اختصت به قال قتيبة بن مسلم، لما أشرف على سمرقند لأصحابه: شبّهوها، فلم يأتوا فيها بشىء، فقال: كأنها السماء فى الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن أنهارها المجرّة. فاستحسنوا هذا التشبيه. ومن خصائصها: الكواغد التى عطّلت قراطيس مصر، والجلود التى كان الأوائل يكتبون عليها، لأنها أحسن وأنعم وأرفق وأرقّ. ولا تكون إلا بها وبالصين. ومن خصائصها: الثياب الوذارية، والنشادر، والزّئبق، والبندق. وأما بلاد التّرك وما اختصت به فيه يقال. إنها توازن بلاد الهند في كثرة الخصائص. وفيها المسك والسّنجاب والسّمور والقاقم والفنك والثّعالب السّود والأرانب البيض وغير ذلك. وفيها البزاة البيض والخيل. وتثبّتّ من بلاد الترك خاصية: أنه من أقام بها اعتراه سرور لا يدرى ما سببه، ولا يزال متبسما ضاحكا؛ وأن الميت إذا مات فيها لا يدخل على أهله كبير حزن كما يلحق غيرهم عند موت محبوب.

وأما خوارزم وما اختصت به

وأما خوارزم وما اختصّت به فانها تقارب بلاد الترك، بل تنافسها في الخصائص والمتاجر. ومن خصائصها البطيخ الذى يقال له «النارنج» يقال إنه أحلى البطاطيخ وأطيبها. وكان يحمل منها إلى المأمون وإلى الواثق في قوالب الرصاص، معبّاة في الثلج. فكانت تقوّم الواحدة منه- إذا سلمت ووصلت- بسبعمائة درهم. والله أعلم. ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات منها: مدينة «خبيص» من مدن كرمان. لا يمطر المطر فيها داخل السور أبدا حتّى إن الرجل يخرج يده من سورها إلى خارجها، فتبتلّ يده ولا يبتلّ ساعده. وبقرية من قرى كرمان أيضا «حصن عادى» ليس فيه فأر. وإذا دخل إليه فأر، مات. ومدينة «حمص» لا يوجد فيها عقرب. وإذا تثر ترابها على ظهر عقرب، ماتت. وكذلك قلعة أعزاز [1] من أعمال حلب. ويقال إنه لا يدخل مدينتها حيّة. ومتى نثر عليها من ترابها، ماتت لوقتها. ولا يوجد فيها بعوض البتة. وإن الرجل متى أخرج يده من السور، وقع عليها؛ فإذا أدخل يده، طار عنها. و «بمصر [2] » أن التماسيح إذا ساقها الماء إليها وحاذتها، انقلبت على طهرها. فإذا بعدت عنها، لا تضر أحدا. بخلاف ما هى في بلاد الصعيد، فإنها تفترس جميع ما تظفر به من الحيوان حتّى الخيل. ولا يقوى على قتالها إلا الجاموس. ومدينة «سجلماسة» لا يوجد فيها ذباب البتة.

_ [1] كذا ذكرها أيضا في التقويم بالهمزة. وفي المعجم «عزاز» بدونها. [2] يعنى مصر العتيقة أى الفسطاط.

ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة

ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة (وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض، والآثار العلوية) أما خصائصها العلمية والعملية، فيقال: حكماء اليونان، وأطباء جنديسابور، وصاغة حرّان، وحاكة اليمن، وكتّاب السّواد. ومن خصائصها في الجواهر، يقال: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع ظفار، وبجادىّ بلخ، ومرجان إفريقيّة. ومن خصائصها في الملابس، يقال: برود اليمن، ووشى صنعاء، وريط الشام، وقصب مصر، وديباج الرّوم، وقزّ السّوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلل أصبهان، وسقلاطون بغداد، وعمائم الأبلّة، ومنيّر الرىّ، وملحم مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدّامغان، وجوارب قزوين. ومن خصائصها في الأوبار، يقال: سنجاب خرخيز، وسمّور بلغار، وثعالب الخزر، وفنك كاشغر، وحواصل [1] هراة، وقاقم تغزغز.

_ [1] ورد هذا اللفظ في كثير من كتب العرب بمعنى الجلود السنية التى يتدفأ بها أهل الترف والنعيم فقد ذكر الهمذانى (ص 235) الفنك والسمور والقاقم والحواصل والوشق والدّلق الخ. وذكره ابن البيطار فقال: «أنه طائر يكون بمصر كثيرا يعرف بالكى (بضم الكاف وإسكان الياء المنقوطة باثنتين من أسفل) ...... ولباسه يصلح للشباب وذوى الأمزاج الحارة ومن يغلب عليه الصفراء.» . وذكر السيوطى في الجزء الثانى من «حسن المحاضرة» لطائف مصر وأورد من جملتها الحوصل (بغير ألف في النسخة المطبوعة طبع حجر بمصر، ص 176) حيث قال ما نصه: «وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفرا الأبيض الذى يقوم مقام الفنك في لينه ورقته» .

ومن خصائصها في الفرش، يقال: بسط أرمينية، وزلالىّ قاليقلا، ومطارح ميسان، وحصر بغداد [1] . ومن خصائصها في المراكب، يقال: عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برذعة. ومن خصائصها في الحيوانات ذوات السموم، يقال: أفاعى سجستان، وحيّات اصفهان، وثعابين مصر، وعقارب شهرزور، وجرّارات الأهواز، وبراغيث أرمينية، وفأر أرزن، ونمل ميّا فارقين، وذباب تل فافان، واقداح [2] نلد. [3] ومن خصائصها في الحلواء، يقال: سكّر الأهواز، وعسل أصفهان، وفانيذ ماكسان [4] ودبس أرّجان.

_ [1] لعله مصحف عن «حصر عبادان» لأن المقريزى طالما يتكلم عن الحصر العبدانية في مواضع كثيرة جدّا من خططه. وكذلك السيوطى قال في لطائف مصر: «وبها من الحصر العبدانى ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها» . وقال المقدسى ص 118 «ان أكثر أهل عبادان صناع الحصر من الحلفاء» وكانت هذه الحصر في غاية من الجمال حتى كان أهل مصر يقلدونها كما رأينا من عبارة السيوطى. [2] مفرده «قدح» وقال في القاموس: «والقدح والقادح أكال يقع في الشجر والاسنان ... والقادحة الدودة» . وقال ابن البيطار في كلامه على «التربد» نوع من النبات مانصه: «والتربد إذا طال به الزمان عمل فيه القادح كما يعمل في الخشب...... تراه مثقّبا كأنه ثقب برأس ابرة» . ثم قال فى بقية الكلام ما نصه: «لا يجب أن يستعمل منه (أى التربد) إلا...... السليم من السوس» . [3] هكذا في الأصل. وربما كان محرفا عن «بلد» المدينة المشهورة في العراق. [4] كذا بالاصل وصوابه «ماسكان» وقد أوردها ياقوت فقال «انها بلد مشهور بالنواحى المجاورة لمكران وراء سجستان» ثم قال «ولا يوجد الفانيذ بغير مكان إلا بهذا الموضع ... واليه ينسب القانيذ الماسكانى» .

ومن خصائصها في الثمار، يقال: رطب العراق، وتمر كرمان، وعنّاب جرجان، وإجّاص بست، وسفرجل نيسابور، وتفّاح الشام، ومشمش طوس، وكمّثرى نهاوند، وأترجّ طبرستان، ونارنج البصرة، وتين حلوان، وعنب بغداد، وقشمش هراة، وموز اليمن، وجوز الهند، وبطّيخ خوارزم، وباقلاء الكوفة. ومن خصائصها في الرياحين، يقال: نرجس جرجان، وورد جور، ونيلوفر السّيروان، ومنثور بغداد، وزعفران قمّ، وشاهسفرم سمرقند. ومن خصائصها في الخلق والأخلاق، يقال: شقرة الروم، وسواد الزّنج، وغلظ الترك، وجفاء الجيل، ودمامة الصّين، وقصر يأجوج. ومن خصائصها في الأمراض، يقال: طواعين الشام، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وحمّى خيبر. وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ. ومن خصائصها في الآثار العلوية، يقال: شتاء أرمينية، ومصيف عمان، وصواعق تهامه، وزلازل دبيل. وقال الجاحظ في «كتاب الأمصار» : الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتّخنيث ببغداد، والطّرمذة بسمرقند، والغىّ بالرّىّ، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبخل بمرو، والعجائب بمصر. وحكى عن عمرو بن عامر مزيقيا، أنه قال لقومه لما تحقق كون سيل العرم: من كان ذا شاء وبعير وجمل غير شرود، فليلحق بالشّعب من كوفان، فلحقت به

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأول (فى المبانى القديمة)

همدان؛ ومن كان ذا سياسة وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مرّ، فلحقت به خزاعة. ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فلحقت بها بنو قيلة، وهم الأوس والخزرج؛ ومن كان يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير (وهى من أرض الشام) ، فلحقت به غسّان؛ ومن كان يريد الثياب الرّقاق، والخيول العتاق، والذّهب والأوراق، فليلحق بالعراق، فلحقت به لخم. والله سبحانه وتعالى أعلم. الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل (فى المبانى القديمة) والمبانى القديمة كثيرة، فلنذكر منها ما عظم خطره، وشاع في الآفاق ذكره. ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض قيل: أوّل ما بنى على وجه الأرض «الصّرح» ويسمّى «المجدل» بناه النّمرود الأكبر ابن كوش بن حام بن نوح، بكوثى ربّى من أرض بابل. قيل: وبها إلى هذا العصر من أثره كالجبال. وكان طوله في الهواء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع. وكان مبنيا بالحجارة والرّصاص والكلس والشّمع واللّبان. يناه ليمنعه وقومه من بأس الله عز وجل. وكان قد كفر وطغى وادّعى الألوهية، فأرسل الله تعالى

ذكر خبر إرم ذات العماد

إليه جبريل، فضربه بخافقة جناحه فهدمه، وهام من كان حوله على وجهه، وقد تبلبلت ألسنتهم من الدّهش والذّعر، فكانت عنه هذه اللغات التى يتكلم بها سائر الأمم، وهى اثنتان وسبعون لغة، وسميت تلك الأرض التى كان بها بابل. ذكر خبر إرم ذات العماد وهى التى ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) . وكان سبب عمارتها أن شدّاد بن عاد بن إرم لما سمع وصف الجنة سوّلت له نفسه أن يبنى مثلها. فبنى مدينة بين حضرموت وصنعاء، طولها اثنا عشر فرسخا، وعرضها مثل ذلك. وأحاط بها سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع، غشّاه بصفائح الفضة المموّهة بالذهب، فلا يدركه البصر إذا أشرقت عليه الشمس. وبنى داخلها مائة ألف قصر (بعدد رؤساء أهل مملكته) من الذهب والفضّة، وكذلك جذوع سقوفها وأعمدتها. وأجرى في وسطها نهرا صفّح أرضه بالذهب، وجعل على حافتيه أنواع الجواهر واليواقيت بدلا من الحصباء وألقى فيه المسك والعنبر بدلا من الحمأة. وفرّع منه جداول إلى تلك القصور والمنازل، وغرس على شطوطها من الأشجار ما كان لزهره عرف طيّب ورائحة ذكيّة. زعموا أنه أقام في بنائها ثلاثمائة سنة، فلما تمّ بناؤها، زاد في طغيانه وخرج من حضرموت إليها ليسكنها. فلما أشرف عليها جاءته صيحة من السماء فأهلكته هو وجنوده.

ذكر خبر سد يأجوج ومأجوج

ويروى أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له ندّت فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه، فبلغ معاوية خبره، فاستحضره وسأله فقصّ عليه قصته. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار، فقال: هى إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك: أحمر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له ندّت. ثم التفت فرأى ابن قلابة فقال: هذا والله ذاك الرجل. وزعم الأخباريون أنه كان بها أربعمائة ألف وأربعون ألف عمود، ولهذا سميت ذات العماد. وقد ذهب قوم إلى أنها دمشق. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إرم ذات العماد بما هو أبسط من هذا عند ذكرنا لخبر شديد وشدّاد، ابنى عاد؛ وهو في الباب الخامس من القسم الأوّل، من الفن الخامس في التاريخ، وذلك في السّفر الحادى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك. والله تعالى أعلم. ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج هو في الإقليم السادس في آخر الجزء التاسع من تجزئة عشرة أجزاء. قال [1] صاحب كتاب «نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق» إن الواثق بالله لما رأى فى المنام كأنّ السّدّ الذى بناه ذو القرنين مفتوح، أحضر سلّاما الترجمان وقال له:

_ [1] ان ابن خرداذبة هو أوّل من روى خبر هذه البعثة العلمية عن نفس رئيسها ثم استملاه منه من الكتاب الذى كان كتبه في هذا المعنى الخليفة الواثق بالله (انظر المسالك والممالك طبع ليدن سنة 1306 هـ- سنة 1889 م من صفحة 162- 170) . وعن ابن خرداذبة نقل جميع المؤلفين الذين جاءوا بعده مثل الإدريسى وابن رسته وابن الفقيه الهمذانى والمقدسى. وقد نقل النويرى عن الإدريسى. وكلهم قد يزيد وينقص بعض الكلمات أو يبدلها بغيرها.

اذهب فانظر إلى هذا السدّ وجئنى بخبره وحاله وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يسيرون معه، عددهم خمسون رجلا، ووصله بخمسة آلاف دينار، وأعطاه ديته عشرة آلاف درهم، وأمر أن يعطى كل واحد من أصحابه الخمسين ألف درهم ورزق سنة، وأمر لهم بمائة بغل تحمل الماء والزاد. قال سلام الترجمان: فشخصنا من سامرّا بكتاب الواثق إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بالنظر إلى تنفيذنا من هناك؛ فكتب لنا كتابا إلى ملك السّرير وأنفذنا إليه، فلما وردنا عليه، أشخصنا إلى ملك اللّان. فلما وصلنا إليه، أشخصنا إلى صاحب فيلان [1] شاه. فلما وردنا عليه [أرسلنا إلى ملك الخزر وهو] اختار لنا خمسة أدلّاء يدلّون على الطريق. فسرنا من عنده سبعة وعشرين يوما في تخوم بلاد بسجرت إلى أن وصلنا إلى أرض سوداء طويلة ممتدّة كريهة الرائحة، فشققناها في عشرة أيام. وكنا قد تزوّدنا لقطعها أشياء نشمها خوفا من أذى روائحها الكريهة. ثم انفصلنا عنها. فسرنا مدّة شهر في بلاد خراب قد درست ابنيتها ولم يبق منها إلا رسوم يستدل بها عليها. فسألنا من معنا عن تلك المدن، فأخبرونا أنها لمدن التى كان يأجوج ومأجوج يغزونها ويخرّبونها. ثم سرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذى في شعبة السدّ وذلك في ستة أيام. وفي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية. وهناك مدينة يدعى ملكها خاقان بن أدكش، وأهلها مسلمون لهم مساجد ومكاتب. فسألونا من أين أقبلنا، فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين الواثق بالله، فعجبوا منا ومن قولنا «أمير المؤمنين» ثم سألونا عن أمير المؤمنين: أشيخ هو أم شابّ؟ فقلنا: شابّ، فعجبوا أيضا. ثم قالوا: وأين يكون؟ قلنا: هو بالعراق بمدينة سرّ من رأى. فعجبوا أيضا

_ [1] فى الأصل: «قبلاه شاه» . والتصويب عن ابن خرداذبة.

من ذلك، وقالوا: ما سمعنا هذا قطّ. فسألناهم عن إسلامهم من أين وصلهم ومن علّمه لهم؟ فقالوا: وصل إلينا منذ أعوام كثيرة رجل راكب على دابة طويلة العنق طويلة اليدين والرجلين، لها في موضع صلبها حدبة، (فعلمنا أنهم يصفون الجمل) قالوا: فنزل بنا وكلمنا بكلام فهمناه، ثم علّمنا شرائع الإسلام فقبلناها، وعلمنا أيضا القرآن ومعانيه فتعلمناه وحفظناه. قال سلام: ثم خرجنا بعد هذا إلى السدّ لنبصره، فسرنا عن المدينة نحوا من فرسخين، فوصلنا السدّ. فإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا، وله في وسط هذا الفناء باب من حديد طوله خمسون ذراعا قد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعا. والظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب. وكله مبنىّ بلبن الحديد مغيب بالنّحاس. وارتفاع العضادتين خمسون ذراعا، وعلى أعلى العضادتين دروند حديد، طوله مائة وعشرون ذراعا. والدّروند للعتبة العليا، وقد ركب منها على كل واحدة من العضادتين مقدار عشرة أذرع. ومن فوق الدّروند بنيان متصل بلبن الحديد المغيب بالنحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر. وفوقه شرّافات حديد، فى طرف كل شرّافة قرنتان تنثنى أطراف كل واحدة منهما على الأخرى [1] ، وللباب مصراعان مغلقان، عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ثخن خمسة أذرع؛ وقائمتاهما في دوّارة على قدر الدروند. وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع في الاستدارة؛ وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعا. وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل،

_ [1]- هذه رواية ابن حرداذبة. وفي الأصل «قرنان مشى الأطراف بعضها الى بعض» . ورواية المقدسى: «قرنان ينثنى كل واحد في صحبه» .

وعلى الغلق مفتاح طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة دنداجة [1] ، كل دنداجة منها كأغلظ ما يكون من دساتج [2] الهواوين، معلق كل واحد منها بسلسلة على قدر حلقة المنجنيق [3] . وعتبة الباب السفلى عشرة أذرع بسط مائة ذرع سوى ما تحت العضادتين، الظاهر منها خمسة أذرع. وكلها مكتالة بالذراع السوادىّ. ورئيس ذلك الحصن يركب فى كل جمعة مع عشرة فوارس، مع كل فارس إرزبّة حديد، كل إرزبّة خمسة أمنان. فيضرب القفل بتلك الإرزبّات في كل يوم ثلاث مرات ليسمع من خلف الباب. فيعلم أنّ هناك حفظة، وليعلم هؤلاء أن يأجوج ومأجوج لم يحدثوا في الباب حدثا. وإذا ضرب أصحاب الإرزبّات القفل، وضعوا آذانهم ليسمعوا ما وراء الباب، فيسمعون من ورائه دويّا يدلّ على أن خلفه بشرا. وبالقرب من هذا الموضع حصن يكون عشرة [فراسخ] فى عشرة [فراسخ] . ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتى ذراع في مائتى ذراع؛ وبين هذين الحصنين عين ماء عذبة، فى أحد الحصنين آلة البناء التى بنى بها السدّ من قدور الحديد ومغارف الحديد؛ والقدور فوق ديكدانات [4] على كل ديكدان أربع قدور مثل قدور الصابون؛ وهناك أيضا بقايا من لبن الحديد

_ [1]- هذه رواية الإدريسى. والذى في ابن خرداذبة «دندانكة» وهى كلمة فارسية معناها «سن» والمراد أسنان المفتاح. [2] الدستج كلمة فارسية معناها «يدالهاون» أى المدقّ الذى تدق به الأشياء في الهاون. [3] فى ابن خرداذبة ما يفيد أن المفتاح وحده هو المعلق في السلسلة وهذا نص روايته: «معلق فى سلسلة ملحومة بالباب طولها ثمانى أذرع في استدارة أربعة أشبار والحلقة التى فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق» وهى رواية معقولة أكثر مما ورد في المتن لان المفتاح فقط هو الذى يصح تعليقه دون القفل والغلق. [4] كلمة فارسية يقابلها عند العرب «الأثافى» .

التى بنى بها السدّ وقد التصق بعضها ببعض من الصدإ، وطول اللّبنة ذراع ونصف فى ارتفاع شبر. قال سلام الترجمان: وقد سألنا من خاطبناه من أهل تلك الجهات هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج قطّ، فأخبرونا أنهم رأوا منهم [مرّة] عددا فوق شرفات الردم، فهبّت عليهم ريح عاصفة، فرمت منهم ثلاثة إلى ناحيتنا. [1] وكان مقدار الرجل منهم شبرين ونصفا. قال سلام: فكتبت هذه الصفات كلّها، ثم انصرفنا مع الأدلّاء من تلك الحصون، فأخذوا بنا على ناحية خراسان. فسرنا إلى مدينة بختان، إلى غربان، إلى مدينة برساخان، إلى انطرار، إلى سمرقند، فوصلنا إلى عبد الله بن طاهر، ثم وصلنا إلى الرىّ، ثم رجعنا إلى سرّ من رأى بعد خروجنا عنها. فكان مغيبنا في سفرنا ثمانية وعشرين شهرا. قال: فهذا جميع ما حدّث به سلام. وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبىّ في تفسيره: إن ارتفاع السدّ مائتا ذراع وخمسون ذراعا. قال: وروى في طوله ما بين طرفى الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون ذراعا. نقله عن وهب بن منبه. وسنذكر إن شاء الله تعالى من أخبار السدّ وكيفية بنائه وطوله وعرضه، وغير ذلك مما هو متعلق به عند ذكرنا لأخبار ذى القرنين. فتأمّله هناك، وهو في الباب

_ [1] فى ابن خرداذبه: «فهبت ريح سوداء فألقتهم الى جانبهم» أى الى الجهة التى ظهر منها أولئك الناس، وهو المعقول، لانه عقب بأن طول الرجل كان شبرين ونصفا، ومعنى ذلك في رأى العين من هذا العدو فتنيه.

ذكر مبانى الفرس المشهورة

الأوّل من القسم الرابع من الفن الخامس في التاريخ، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا. ذكر مبانى الفرس المشهورة ومبانى الفرس كثيرة: قديمة وحديثة. فمن قديمها «سدّ اللّبن» . بناه قباذ بن فيروز، وقيل إن الذى بناه ابنه كسرى ابن قباذ بن فيروز. كذا ورد في التاريخ. وهذا السدّ من أرض شروان إلى بلاد اللّان، وبينهما مائة فرسخ، بين شعاب جبل القبق. وهو جبل عظيم قد اشتمل على اثنتين وسبعين أمّة، لكل أمّة لسان وملك، لا يعرف بعضهم بعضا لكثرة غياضه وأشجاره؛ وفيه عيون وأنهار؛ وتقدير مسافته طولا وعرضا نحو شهرين. ومبدأ السّور من جوف بحر الخزر على مقدار مسافة ميل مارّا إلى البرّ، ثم يمرّ إلى أن يتصل بقلعة طبر شروان. وهو مبنىّ بالصخر والحديد والرّصاص. بناه على زقاق البقر المنفوخة، فكان كلما ارتفع البناء نزلت تلك الزّقاق إلى أن استقرّت في قعر البحر، فغاصت الرجال بالخناجر فشقّوها فتمكن البناء. وجعل بين كل ثلاثة أميال من السور وأقل وأكثر بابا من الحديد على حسب الطريق التى تجعل من أجله، وبنى عليه حصنا وأسكن فيه من يحفظ ذلك الباب ويحرسه. وزعم المؤرّخون أن سبب بنائه لهذا السور أن الخزر كانت تغير على بلد فارس إلى أن تبلغ همذان والموصل، فحجزهم بهذا السور.

ومن مبانى الفرس إيوان كسرى

ومن مبانى الفرس إيوان كسرى زعم المسعودىّ أن سابور ذا الأكتاف بناه في نيف وعشرين سنة، وطوله مائة ذراع في عرض خمسين ذراعا في ارتفاع مائة ذراع، وطول كل شرفة منه خمسة عشر ذراعا. ولما ملك المسلمون المداين، أحرق ستر هذا الإيوان فأخرجوا منه مائة ألف دينار ذهبا. ولما بنى المنصور بغداد، أحب أن ينقضه ويبتيها به، فاستشار خالد بن برمك فى ذلك فنهاه، وقال: «هو آية للإسلام، ومن رآه علم أن الذى بناه لا يزيل ملكه إلا نبىّ والمؤونة على نقضه أكثر من الارتفاق به» . فقال له: «أبيت إلا ميلا إلى العجم» فهدمت منه ثلمة. فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا، فأمسك المنصور عن هدمه، فقال له خالد: «أنا الآن، يا أمير المؤمنين، أشير بهدمه لئلا يتحدّث الناس بعجزك عن هدم ما بناه غيرك» فلم يفعل. وحكى مثل هذه القصة أنها وقعت ليحيى بن خالد مع الرشيد، وهو إذ ذاك فى اعتقاله. وكان الرشيد بلغه أن تحته كنزا فأراد هدمه واستشار يحيى فأشار عليه بمثل هذا. ومن عجيب ما يحكى من تقلب الأحوال أن بعض شرفاته هدمت وجعلت فى أساس سور بغداد. وقال ابن الأثير في تاريخه إن الإيوان باق إلى الآن. (وكان يوم ذاك في سنة خمس وعشرين وستمائة) ، والله أعلم.

ومن المبانى القديمة الحضر

ومن المبانى القديمة الحضر وكان حصنا حصينا مبنيّا بالرّخام، يسكنه ملوك الضّيازن. وهو بين دجلة والفرات، بحيال تكريت. ويقال إن بانيه الساطرون. وذكر أن قصر ملكه قائم إلى وقتنا هذا فى وسط المدينة، وفى وسطه هيكل مربّع مبنىّ بالصخر، وفيه صور دقيقة المعانى. حكى أن سابور الجنود حاصره أربع سنين فلم يقدر عليه. واتفق أن بنت ملكه وهى النضرة [1] بنت الضّيزن حاضت، فأخرجت من القصر إلى ربضه لأجل ذلك. فرأت سابور، وكان جميل الصورة، فعشقته. فأرسلت إليه تقول: إن ملّكتك الحصن فما تجعل لى؟ قال: حكّمتك. قالت: تتزوّج بى. فأجابها إلى ذلك، فقالت له: خذ حمامة ورقاء مطوّقة، فاخضب رجليها بدم حيض جارية بكر زرقاء، وأرسلها. فإنها تقع على سور البلد فيقع لوقته. وكان ذلك حلّ طلّسم له. ففعل ذلك، فوقع السّور ودخل سابور الحصن وقتل ملكه وأصحابه واصطفى ابنته لنفسه. فلما كانت ليلة دخولها عليه، لم تزل متململة قلقلة طول ليلتها، فالتمس سابور ما الذى قلقت من أجله، فاذا ورقة آس قد لصقت بعكنة من عكنها، فقال لها: ما كان أبوك يغذوك؟ فقالت: الزّبد والمخّ وشهد أبكار النحل والخمر، فقال لها: أنا أحقّ منك بثار أبيك، ثم أمر رجلا أن يركب فرسا جموحا وأن يربط غدائرها في ذنبه ويركض به. ففعل ذلك، فتقطّعت.

_ [1] فى ياقوت: «النضيرة» .

ومن المبانى القديمة القليس

وهذا الحصن قد اختلف في موضعه. فقيل: بحيال تكريت بين دجلة والفرات. وقيل: بالجزيرة. ويقال إنه كان حاجزا بين الرّوم والفرس، وملكته الزّبّاء بنت مليح [1] واسمها فارعة. وفيه يقول عدىّ بن زيد العبادىّ من قصيدة: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور. شاده مرمرا وكلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور. لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور. ومن المبانى القديمة القليس وهى كنيسة كانت باليمن بناها أبرهة بن الصباح، ملك اليمن بصنعاء. ونقل إليها الرخام المجزّع والملّون، والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس. وكان أراد أن يرفع بناءها حتّى يشرف منها على بحر عدن. فلما أهلكه الله تعالى وفرّق ملكه، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثرت حولها السّباع والحشرات. وبقيت إلى زمن السّفّاح فذكر له أمرها، فبعث إليها من خرّبها وأخذ ما كان فيها. حكى ذلك السهيلى في «الروض الأنف» . وحكى أن كيفية بناء هذه الكنيسة أنه كان لها باب من نحاس طوله عشرة أذرع وعرضه أربعة أذرع، يدخل منه إلى بيت طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا، مسقّف بالساج المنقوش، مسمّر بمسامير الذهب والفضّة. ثم يدخل من البيت إلى إيوان معقود طوله أربعون ذراعا، عن يمينه ويساره عقود مزخرفة.

_ [1] كذا في الأصل «بنت فريح» . وذكر في تاج العروس في مادة زب ب أنها بنت عمرو بن الظرب وأن أسمها بارعة أو ميسون أو نابلة. فتنبه.

ومن المبانى المشهورة قنطرة صنجة

ثم يدخل من الإيوان إلى قبّة، ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا، جدرها مموّهة بالذهب والفضة. وفي صدر القبّة منبر من الآبنوس المرصّع بالعاج، المصفّح بالذهب والفضة. ولما تم بناؤها، خرج رجل من بنى كنانة فقعد فيها ليلا (أى أحدث) . فأغضب أبرهة ذلك، فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بجيش كثيف من الحبشة، فكان من أمره ما قصه الله تعالى في كتابه العزيز في سورة النمل: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . وذكر لى أن الذى خرّبها العباس بن الربيع بن عبد الله العامرىّ، عامل المنصور على اليمن. ومن المبانى المشهورة قنطرة صنجة وهى من مبانى الروم على نهر عظيم يسمّى بهذا الاسم، يصبّ في الفرات، لا يمكن خوضه: لأن قراره رمل سائل متى وطئه الإنسان برجله سال. وهو ما بين حصن منصور وكيسوم من ديار بكر. وهذه القنطرة طاق واحد، ما بين جدرانها مائة خطوة. وهى مبنية بحجارة مهندمة، طول الحجر منها عشرة أذرع في ارتفاع خمسة أذرع. ومن المبانى القديمة ملعبا بعلبك وهما كبير وصغير. فالكبير، يحكى أنه من بناء سليمان بن داود عليهما السلام. وهو مبنىّ على عمد شاهقة. وحجارته منها ما هو عشرة أذرع وأكثر.

ذكر مبانى العرب المشهورة

والملعب الصغير تهدّم أكثره، وبقى منه حائط طوله عشرون ذراعا وارتفاعه كذلك. ليس فيه إلا سبعة أحجار: واحد من أسفله، وحجران فوقه، وأربعة أحجار فوقهما. ويقال إنه البيت الذى كان فيه الصنم الذى كان يدعى «بعلا» . ذكر مبانى العرب المشهورة وهى غمدان، وحصن تيما، والخورنق، والسّدير، والغريّان. قال الجاحظ: أحبّت العرب أن تشارك الفرس في البناء وتنفرد بالشعر، فبنوا: غمدان، وكعبة نجران، وحصن مارد، والأبلق الفرد. فأما غمدان فكان بصنعاء. زعم بعض المؤرّخين أن بانيه حام بن نوح. وزعم آخرون أن بيوراسب بناه على اسم الزّهرة. وقال ابن هشام إن الذى أسسه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن حمير ابن سبإ بن يعرب. وخرّبه عثمان بن عفّان، رضى الله عنه. وقيل في صفته إنه كان مربّعا، أحد أركانه مبنىّ بالرخام الأبيض، والثانى بالرّخام الأصفر، والثالث بالرخام الأخضر، والرابع بالرّخام الأحمر. وفيه سبعة سقوف طباقا، ما بين السّقف والآخر خمسون ذراعا. وعلى كل ركن تمثال أسد من نحاس، إذا هبّت الريح دخلت من دبره وخرجت من فيه، فيسمع لها صوت كزئير الأسد. وقال ابن الكلبىّ: كان على كل ركن من أركان غمدان مكتوب «اسلم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان» .

وأما حصن تيماء

ويقال: إن سليمان بن داود عليهما السلام أمر الشياطين أن يبنوا لبلقيس أربعة قصور: غمدان، وصرواح، وبينين، وسلحين. وكلّها باليمن. ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: لا يستقيم أمر العرب ما دام فيها غمدانها. وهذا القول هو الذى حضّ عثمان على هدمه. ويقال إن آثاره باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلّ عال مطلّ على صنعاء. وأما حصن تيماء فهو الأبلق الفرد. سمّى بالأبلق الفرد لأنه كان مبنيا بحجارة مختلفة الألوان وهو بأرض تيماء. بناه السموءل بن عاديا اليهودىّ. ويقال إنه من بناء سليمان بن داود عليه السلام. وبه تضرب العرب المثل في المنعة والحصانة. وفيه يقول الشاعر: طلب الأبلق العقوق فلمّا ... لم ينله فرام بيض الأنوق. وقصدت الزّبّاء هذا الحصن وحصن مارد فلم تقدر عليهما، فقالت: «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» . ومارد حصن كان بدومة الجندل. مبنىّ بحجارة سود. ويقال إنه أيضا من بناء السموءل بن عاديا، اليهودىّ. وأما الخورنق والسّدير فكان الخورنق على ثلاثة أميال من الحيرة، والسّدير في برّية بالقرب منها. بناهما النعمان بن امرئ القيس، وهو النعمان الأكبر. ويقال في سبب بنائه لهما: ن يزدجرد بن سابور كان لا يعيش له ولد، فسأل عن مكان صحيح الهواء، فذكر له

ظهر الحيرة. فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان وأمره ببناء الخورنق. فبناه على نهر سنداد في عشرين سنة. بناه له رجل يسمّى سنمار. فلما فرغ من بنائه، عجب النّعمان من حسن بنائه وإتقانه، فأمر أن يلقى سنمّار من أعلاه حتّى لا يبنى مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه، شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إلىّ هذا الإحسان، لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت؛ فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبنى أفضل منه، ولم تبنه؟ فأمر به؛ فطرح من أعلاه. وقيل: بل قال: أنا أعرف فيه حجرا متى أخذ من موضعه، تداعى البناء. فخاف النعمان إن هو لم ينصفه في أجرته فعل ذلك، فقتله. والعرب تضرب المثل بفعل النّعمان مع سنمّار في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح، فيقال: جازاه مجازاة سنمّار. وفيه يقول بعض الشعراء: جزانى جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمّار، وما كان ذا ذنب. سوى رفعه البنيان عشرين حجّة ... يعلّى عليه بالقراميد والسّكب. والخورنق تعريب خورنقاه [1] ، وهو الموضع الذى يؤكل فيه ويشرب. والسّدير تعريب سادل أى قبّة في ثلاث قباب متداخلة. وفي هذه الأبنية يقول الأسود ابن يعفر: ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم، وبعد إياد؟ أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد.

_ [1] والأصح خانقاه. (من هامش الأصل) .

وأما الغريان

وقال عدىّ بن زيد العبادىّ: وتفكّر ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما، وللهدى تفكير. سرّه ملكه وكثرة ما يح ... ويه والبحر معرضا والسّدير. فارعوى قلبه، فقال: فما غب ... طة حىّ إلى الممات يصير؟ وأما الغريّان فهما أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة. بناهما النعمان بن المنذر بن ماء السماء، على جاريتين كانتا قينتين تغنّيان بين يديه. فمائتا، فأمر بدفنهما وبنى عليهما الغريّين. ويقال إن المنذر غزا الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، وكان بينهما وقعة على عين أباغ، وهى من أيام العرب المشهورة. فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر وانهزمت جيوشه. فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: «ما العلاوة بدون العدلين» فذهبت مثلا. ثم رحل إلى الحيرة فانتهبها وحرّقها ودفن ابنيه بها، وبنى الغريّين عليهما. حكاه ابن الأثير فى تاريخه «الكامل» . وأمر المنصور بهدم أحدهما، لكنز توهّم أنه تحتهما. فلم يجد شيئا. وقيل في سبب بنائهما غير ذلك. والله أعلم. ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية وهى الأهرام، وحائط العجوز، وملعب أنصنا، ومدينة عين شمس، والبرابى، وحنيّة اللازورد، ومنارة الإسكندرية، ورواق الإسكندرانيّين.

فأما الأهرام

فأما الأهرام التى بأرض مصر فهى كثيرة. وأعظمها الهرمان اللذان بالجيزة غربىّ مصر. وقد اختلف في بانيهما. فقال قوم: بانيهما سوريد بن سهلوق بن سرناق. بناهما قبل الطوفان لرؤيا رآها، فقصّها على الكهنة، فنظروا فيما تدل عليه الكواكب النيرة من أحداث تحدث فى العالم، فأقاموا مراكزها في وقت المسألة. فدلت على أنها نازلة من السماء تحيط بوجه الأرض. فأمر حينئذ ببناء البرابى والأهرام، وصوّر فيها صور الكواكب ودرجها وما لها من الأعمال وأسرار الطبائع والنواميس وعمل الصنعة. ويقال إن هرمس المثلث بالحكمة (وهو الذى يسميه العبرانيون أخنخ، وهو إدريس عليه السلام) استدلّ من أحوال الكواكب على كون الطوفان. فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم وما يخاف عليه الذهاب والدّثور. وكل هرم منها مربع القاعدة، مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر دراعا، يحيط به أربعة سطوح متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعا، ويرتفع إلى أن يكون سطحه مقدار ستة أذرع فى مثلها. ويقال إنه كان عليه حجر شبه المكبّة فرمته الرياح العواصف. وهو مع هذا العظم من إحكام الصنعة وإتقان الهندسة وحسن التقدير بحيث إنه لم يتأثر إلى يومنا هذا بعصف الرياح وهطل الأمطار وزعزعة الزلازل؛ وطول الحجر منه خمسة أذرع في سمك ذراعين.

ويقال إن بانيهما جعل لهما أبوابا على آزاج مبنية بالحجارة في الأرض، طول كل أزج منها عشرون ذراعا. وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أحد أنه باب. فأزج الشرقىّ منها في ناحية الجنوب، وأزج الغربىّ في ناحية الغرب. يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت، كل بيت منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة؛ وكلها مقفلة بأقفال. وحذاء كل بيت منها صنم من ذهب مجوّف، إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالمسند إذا قرئت انفتح فوه فتوجد فيه مفاتيح ذلك القفل فيفتح بها. والقبط يزعمون أنها والهرم الصغير الملوّن قبور: فالهرم الشرقىّ فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربىّ أخوه هو حيت [1] . والصابئة تزعم أن أحدها قبر أغاثديمون، والآخر قبر هرمس، والملوّن قبر صاب ابن هرمس؛ وإليه تنسب الصابئة على قول من زعم ذلك منهم؛ وهم يحجّون إليها ويذبحون عندها الدّيكة والعجول السّود، ويبخرون بدخن؛ ويزعمون أنهم يعرفون عند اضطراب ما يذبحون حالة الذبح ما يريدن عمله من الأمور الطبيعية. وقصرت همم الملوك والخلفاء عن معرفة ما في هذين الهرمين، إلى أن ولى عبد الله المأمون الخلافة وورد مصر، أمر بفتح واحد منها. ففتح بعد عناء طويل، واتفق لسعادته أنه وقع النّقب على مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب، وهو زلّاقة ضيقة من الحجر الصوّان الماتع الذى لا يعمل فيه الحديد، بين حاجزين ملتصقين بالحائط قد نقر في الزّلّاقة حفر، يتمسك السالك بتلك الحفر، ويستعين بها

_ [1] كذا بالأصل وكذلك في خطط المقريزى. وفي ياقوت «هو جيب» .

على المشى في الزّلّاقة لئلا يزلق، وأسفل الزلاقة بئر عظيمة بعيدة القعر. ويقال إن أسفل البئر أبواب يدخل منها إلى مواضع كثيرة وبيوت ومخادع وعجائب. وانتهت بهم الزّلّاقة إلى موضع مربّع في وسطه حوض من حجر صلد مغطّى. فلما كشف عنه غطاؤه، لم يوجد فيه إلا رمّة بالية. فأمر المأمون بالكف عما سواه. وهذا الموضع يدخله الناس إلى وقتنا هذا. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر الأهرام عند ذكرنا لأخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، وذلك في الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس، وهو في السفر الثانى عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا فتأمله هناك. وقال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام: «كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإنى أخاف على الدّهر منه» . ونظم عمارة اليمنىّ هذا القول، فقال: خليلىّ، ما تحت السماء بنيّة ... تماثل في إتقانها هرمى مصر! بناء يخاف الدّهر منه، وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدّهر! تنزّه طرفى في بديع بنائها، ... ولم يتنزّه في المراد بها فكرى. وقال بعض الشعراء: حسرت عقول ذوى النّهى الأهرام، ... واستصغرت لعظيمها الأعلام. ملس منيّفة البناء شواهق، ... قصرت لعال دونهنّ سهام! لم أدر حين كبا التفكّر دونها ... واستبهمت لعجيبها الأوهام، أقبور أملاك الأعاجم هنّ، أم ... طلّسم رمل هنّ، أم أعلام؟

وقال أبو الطيّب المتنبى: أين الذى الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا، ويدركها الفناء فتتبع. وقال أميّة بن عبد العزيز الأندلسىّ: بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا ... على طول ما عاينت من هرمى مصر؟ أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر . وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنّهما ثديان قاما على صدر. وقال آخر: انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفى صعد! وكأنما الأرض العريضة إذ ... ظمئت لفرط الحرّ والومد. حسرت عن الثّديين بارزة ... تدعو الإله لفرقة الولد. فأجابها: لبّيك! يوسعها ... ريّا ويشفيها من الكمد. وقال ابن الساعاتىّ: ومن العجائب، والعجائب جمّة ... دقّت عن الإكثار والإسهاب. هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيّامه، وتزيد حسن شباب. لله! أىّ بنيّة أزليّة ... تبغى السّماء بأطول الأسباب؟ ولربّما وقفت وقوف تبلّد ... أسفا على الأيّام والأحقاب. كتمت عن الأسماع فصل خطابها ... وغدت تشير به إلى الألباب.

وأما حائط العجوز

وقال سيف الدين بن جبارة: لله! أىّ غريبة وعجيبة ... فى صنعة الأهرام للألباب؟ أخفت عن الأسماع قصّة أهلها، ... ونضت عن الإبداع كلّ نقاب. فكأنّما هى كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب. ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ في ذكر مصر ووصف الأهرام، جاء منها: بلد أشهد بفضله على البلاد، ووجدته هو المصر وما عداه فهو السّواد. فما رآه راء إلا ملأ عينه وصدره، ولا وصفه واصف إلا علم أنه لم يقدره قدره. وبه عجائب من الآثار، لا يضبطها العيان ولا الإخبار. فمن ذلك الهرمان، اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان؛ قد اختص كل منهما بعظم البناء، وسعة الفناء؛ وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه، ولا يدركها الطّرف على مدّة تحديقه؛ فإذا أضرم برأسه قبس ظنه المتأمل نجما، وإذا استدارت عليه قوس السماء كان لها سهما» . وبالقرب من الأهرام صنم على صورة إنسان، تسميه العامّة «أبو الهول» لعظمه. والقبط يزعمون أنه طلّسم للرمل الذى هناك، لئلا يغلب على أرض الحيزة. وأما حائط العجوز والعجوز هى دلوكا ملكة مصر. وهذا الحائط من العريش (وهو حدّ مصر من جهة الشام) إلى أسوان (وهى حدّ مصر من جهة النوبة) ، شاملا للديار المصرية من الجانب الشرقىّ. وزعمت القبط أنّ سبب بنائها أن الله عز وجل لما أغرق فرعون وقومه، خافت دلوكا على مصر أن يطمع الملوك فيها. فبنته، وزوّجت النساء بالعبيد حتّى يكثر النّسل والذرّية.

وأما ملعب أنصنا

وقيل في سبب بنائه: إن دلوكا ولدت ولدا فأخذت لمولده رصدا، فرأت أن التمساح يقتله، فبنت هذا الحائط وقاية له من التّمساح. فلما شبّ الغلام رأى فى مولده ذلك، فأحب أن يراه. فصوّر له من خشب. فلما رآه، هاله منظره واستولى على نفسه الوهم والفزع، فمات [1] . وأما ملعب أنصنا فإنه كان مقياسا للنيل. ويقال: إنه من بناء دلوكا. وكان بناؤه كالطّيلسان، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوّان الأحمر الماتع، بين العمود والعمود خطوة. وكان النيل يدخل إليه من فوهة فيه عند زيادة النيل. فاذا بلغ الحدّ الذى يحصل به الرّىّ، جلس الملك فى مشترف له، ويصيعد قوم إلى رءوس الأعمدة فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت. فمن زلّت به قدمه منهم، سقط إلى البركة. وأما مدينة عين شمس فهى من المبانى التى درست. وكانت مصر فرعون موسى، ومنها خرج بجنوده فى طلب موسى وبنى إسرائيل؛ وكانت عدّتهم ستمائة ألف، ليس فيهم ابن عشرين سنة ولا ابن ستين سنة. واستقلّ فرعون هذا العدد وقال كما أخبر الله تعالى عنه: (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) . وكان بها هيكل الشمس فخرب.

_ [1] لم يرض ابن فضل الله بذكر هذه الخرافة في كتابه. وقد وصف لنا جزءا من هذا السور (انظر مسالك الأنصار المطبوع، ج 1 ص 239) .

وأما البرابى

والفرس تزعم أن هرسيك بناها. ويقال: إنه كان قد بقى منها عمودان من حجر صلد، فلكات طول كل عمود منهما أربعة وثمانون ذراعا، على رأس كل عمود صورة إنسان على دابة، وعلى رأسيهما شبه الصومعتين من نحاس. فإذا كان (اللّيل) ، قطر من رأس كل واحد منهما ماء. لا يتجاوز نصف العمود الذى هو مركب عليه. والموضع الذى يصل إليه الماء لا يزال أخضر رطبا. وقد وقع العمودان بعد الخمسين وستمائة. وأما البرابى وهى بيوت حكمة القبط. ويقال: إنه كان لكل كورة من كور مصر برباة، يجلس فيها كاهن على كرسىّ من ذهب. ومن أعجب البرابى وأعظمها (برباة إخميم) . وهى مبنية بحجر المرمر، طول كل حجر خمسة أذرع في سمك ذراعين. وهى سبعة دهاليز، سقوفها حجارة، طول كل حجر منها ثمانية عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع، مدهونة بالّلازورد وسائر الاصباغ، يخالها الناظر إليها كأنما فرغ الدّهّان منها. يقال إن كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة. وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، يقال إنها رموز على علوم القبط، وهى: الكيمياء، والسّيمياء، والطّلّسمات، والطب. أودعوها هذه الصور. ويقال إن ذا النون المصرىّ العابد فكّ منها علم الكيمياء.

وأما حنية اللازورد

وأما حنيّة اللازورد وهى بأرض منف. ومنف هذه هى التى تسمّى مصر القديمة. يقال إن عقد الحنيّة أحسن من عقد قنطرة صنجة التى تقدّم ذكرها. والحنيّة معقودة من حجارة مهندمة، طول كل حجر منها أكثر من خمسة عشر ذراعا. وفيها نقوش وكتابة وطلّسمات مموّهة باللّازورد. وهى من الشرق إلى الغرب، وفي صدرها فضاء فيه بناء مرتفع، عليه بلاطة من الصوّان الأسود، مكتوب فيها بالقلم البرباوى ثلاثون سطرا. يقال إنه قبر الذى بنى الحنيّة، وأنه ديساره: ملك كان بمصر، حكيم. وللقبط عيد يسمّى ديساره: وهو عيد هذا الملك، ويسمّى عيد العنب. وأما منارة الإسكندرية فهى مبنية بحجارة مهندمة مضبّبة بالرصاص، على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس. وفيها نحو ثلاثمائة بيت بعضها فوق بعض، تصعد الدابة بحملها إلى سائر البيوت من داخلها. وللبيوت طاقات ينظر منها إلى البحر. وبين أهل التاريخ خلاف فيمن بناها. فزعم بعضهم أنها من بناء الإسكندر بن فيلبّس المقدونىّ. وزعم آخرون أنها من بناء دلوكا، ملكة مصر. ويقال إن على جانبها الشرقىّ كتابة، وإنها نقلت إلى اللسان العربىّ فوجدت «بنت هذه القنطرة فرتنا بنت مرتيوس اليونانية لرصد الكواكب» .

ويقال: إن طولها كان ألف ذراع. وكان في أعلاها تماثيل من نحاس. منها تمثال قد أشار بسبابته اليمنى نحو الشمس: أينما كانت من الفلك، يدور معها حيثما دارت. ومنها تمثال وجهه في البحر متى صار العدوّ منهم على نحو من ليلة، سمع له صوت هائل يعلم به أهل المدينة طروق العدوّ. ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة، صوّت صوتا مطربا. ويقال: إنه كان بأعلاها مرآة ترى منها قسطنطينيّة، وبينهما عرض البحر. وكلما جهز الروم جيشا رؤى في المرآة. وحكى المسعودىّ في «مروج الذهب» أن هذه المنارة كانت في وسط الإسكندرية، وأنها تعدّ من بناء العالم العجيب، بناها بعض البطالسة من ملوك اليونان يقال له الإسكندر، لما كان بينهم وبين الروم من الحروب في البرّ والبحر. فجعلوا هذه المنارة مرقبا، وجعلوا في أعلاها مرآة من الأحجار المشفّة، تشاهد فيها مراكب البحر إذا أقبلت من رومية على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها. ولم تزل كذلك إلى أن ملكها المسلمون، فاحتال ملك الروم على الوليد بن عبد الملك بأن أنفذ أحد خواصّه ومعه جماعة إلى بعض ثغور الشام على أنه راغب فى الإسلام. فوصل إلى الوليد وأظهر الإسلام، وأخرج كنوزا ودفائن كانت في الشام حملت الوليد على تصديقه فيما يدّعيه. ثم قال له: إن تحت المنارة أموالا ودفائن وأسلحة، دفنها الإسكندر. فصدّقه وجهّزه مع جماعة من ثقاته إلى الإسكندرية، فهدم ثلث

المنارة وأزال المرآة، ثم فطن الناس أنها مكيدة، فاستشعر ذلك فهرب فى مركب كانت معدّة له. ثم بنى ما هدم بالجص والآجرّ. ثم قال المسعودىّ: وطول المنارة فى هذا الوقت (يعنى الوقت الذى وضع فيه كتابه، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة مائتان وثلاثون ذراعا. وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع. وهى فى عصرنا هذا ثلاثة أشكال: فمنها تقدير الثلث مربع مبنىّ بالحجارة، ثم بعد ذلك بناء مثمّن الشكل بالآجرّ والجص نحو ستين ذراعا، وأعلاها مدوّر الشكل. ويقال إن أحمد بن طولون بنى فى أعلاها قبة من الخشب فهدمتها الرياح. فبنى فى مكانها مسجدا فى الدولة الظاهرية الركنية بيبرس صاحب مصر رحمه الله تعالى. ثم هدم فى ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة بسبب الزّلزلة الحادثة. ثم بنى فى شهور سنة ثلاث وسبعمائة فى دولة السلطان الملك الناصر ولد السلطان الملك المنصور، ثبت الله دولته، وكان المندوب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، نائب السلطنة الشريفة فى الغيبة. وقد وصف الشعراء منارة الإسكندرية. فمن ذلك ما قاله الوجيه الدروىّ: وسامية الأرجاء تهدى أخا السّرى ... ضياء، إذا ما حندس الليل أظلما. لبست لها بردا من الأنس ضافيا ... فكان بتذكار الأحبّة معلما. وقد ظلّلتنى من ذراها بقبّة ... ألاحظ فيها من صحابى أنجما. فخيّلت أنّ البحر تحتى غمامة ... وأنّى قد خيّمت فى كبد السّما!

وأما رواق الإسكندرانيين

وقال أبو الفتح الأغر بن قلاقس: ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا ... كأنّما فيه النّسرين أوكار. راسى القرارة سامى الفرع فى يده ... للنّور والنّون أخبار وأخيار [1] . أطلقت فيه عنان القول فاطّردت ... خيل لها فى بديع الشّعر مضمار. وأما رواق الإسكندرانيين فهو ملعب كان بالإسكندرية. كانوا حكماء يجتمعون فيه فلا يرى أحد منهم شيئا دون الآخر، ووجه كل واحد منهم- وإن اختلفت جهاتهم- تلقاء وجه الآخر. وإن عمل أحد منهم شيئا أو تكلم، سمعه الآخر. ونظر القريب والبعيد فيه سواء. وقد بقيت منه بقايا عمد تكسرت، غير عمود منها يسمّى عمود السّوارى فى غاية الطول والغلظ من الحجر الصوّان الأحمر. ذكر شىء من عجائب المبانى قال صاحب كتاب «مباهج الفكر ومناهج العبر» : ذكر بعض المصنفين لكتب العجائب، أن الفرس تزعم أن أوشهنج بنى بأرض بابل سبع مدائن، جعل فى كل مدينة منها أعجوبة ليست فى الأخرى.

_ [1] هكذا فى الأصل. وفى بدائع البدائه «أخبار وآثار» وفى مسالك الأبصار «إخيار وأخيار» وهذا الوجه الأخير أولى ويكون المعنى أن هذه المنارة تخير عن المراكب المضيئة القادمة الى الإسكندرية وأن فيها أخبارا عن السمك السايح فى البحر حولها.

فكان فى الأولى- التى يكون فيها الملك- مثال أنهار الدنيا كلّها. فإذا التوى عليه أحد من أهل مملكته بخراجهم، خرّج نهرا من تلك الأنهار الشبيهة بنهر تلك الناحية فغرقوا. فإذا أدّوا الخراج، سدّ عليهم من عنده فانسدّ عنهم. وفى الثانية حوض. فإذا أراد الملك أن يجمع الناس لشراب، أتى من أحبّ منهم بشراب له خاص فيصبه فى الحوض. يفعل ذلك كل إنسان منهم، فيختلط الجميع. ثم تقوم السّقاة فتأخذ الأوانى ويسقى كلّ واحد من شرابه الذى جاء به. وفى الثالثة طبل. فإذا غاب من البلد أحد وأراد أهله أن يعلموا خبره، أحىّ هو أو ميت، ضربوا الطبل: فإن كان حيا صوّت، وإن كان ميتا لم يصوّت. وفى الرابعة المرآة. فإذا غاب الرجل عن أهله وأرادوا أن يعلموا حاله، نظروا فى المرآة فرأوه فى الحالة التى هو عليها. وفى الخامسة إوزّة نحاس. فإذا دخل المدينة غريب، صفّرت. فيعلمون أن غريبا دخلها. وفى السادسة قاضيان جالسان على الماء. فيجىء المحقّ والمبطل ليجلسا معهما. فيجلس المحق، ويرسب المبطل. وفى السابعة شجرة. لا تظل إلا ساقها. فإذا جلس تحتها واحد أظلته إلى ألف. فإن زاد على الألف واحد، قعدوا كلهم فى الشمس. وكنت قد أنكرت هذه الحكاية وقصدت حذفها وإلغاءها والإضراب عنها. فرأيت ابن الجوزىّ وضعها فى كتابه الذى سماه «سلوة الأحزان» فأوردتها.

وحكى أنه كان بمدينة قيساريّة- لما كانت فى أيدى الروم- كنيسة بها مرآة. إذا اتهم الرجل امرأته بزنا، نظر فى تلك المرآة، فيرى وجه المتّهم فيها. وأن بعض الناس اتّهم فرأوه فيها فقتله الملك، فجاء أهله إلى المرآة حميّة فكسروها. وحكى الواقدىّ فى فتوح السند: أن عبد الله العبدىّ عامل معاوية على السند غزا بلد القيقان، فأصاب منهم غنائم كثيرة، وأن ملك القيقان بعث إليه يطلب منه الفداء وحمل إليه هدايا كان فيها قطعة من مرآة، يذكر أهل العلم أن الله تعالى أنزلها على آدم عليه السلام، لما كثر ولده وانتشروا فى الأرض، فكان ينظر فيها فيرى من بعد منهم على الحالة التى هو عليها من خير أو شر، فحملها عبد الله إلى معاوية، فبقيت فى ذخائر بنى أمية إلى أن انتقل الملك عنهم إلى بنى العباس، فضاعت فيما فقد من الذخائر [1] . وقيل: إن بنهاوند حجرا يسمّى الكيلان، بالقرب منه صخرة، من أراد أن يتعرّف حال غائب أو آبق أو سارق، أتى إلى تلك الصخرة فنام تحتها، فيرى فى النوم حال ما تعرف به على ما هو عليه. وعجائب المبانى كثيرة، سنذكر إن شاء الله تعالى منها جملة فى أخبار ملوك مصر الذين كانوا قبل الطوفان وبعده، فتأمّله هناك تجده.

_ [1] بهامش الأصل ما نصه: «قد ذكر أبو جعفر الطبرى فى تاريخه أن هذه المرآة كانت عند أبى جعفر المنصور فالله أعلم أين صارت بعده» .

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الأول (فيما وصفت به المعاقل والحصون)

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الأوّل (فيما وصفت به المعاقل والحصون) وهذا الباب قد ترجمت عليه فى الفن الثانى الذى يلى هذا الفن فيما يحتاج إليه الملك. وإنما ضممته إلى هذا الفن لمناسبته له وشبهه به، واستثنيته من الفن الثانى واقتصرت فيه على مجرّد الترجمة. وبالله التوفيق. وقد أوسع الفضلاء والأدباء والكتاب والبلغاء القول فى هذا المعنى وتواردوا فيه، فاقتصرنا على ما نورده من ذلك، وهو قليل من كثير. فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين يصف قلعة فتحت من غير حصار: « ... وهذه القلعة التى انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها؛ أرحب المدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا إذا أمحلت السّنون؛ فروعها فوق الثّريّا شامخه، وعروقها تحت الثّرى راسخه؛ تباهى بأزهارها نجوم السماء، وتناجى بأسرارها أذن الجوزاء؛ وكانت فى الزمن الغابر، عتت على عظيم القياصر؛ فنازلها بأكثر من النجوم عددا، وطاولها بأوفى من البحر مددا؛ فأبت على طاعته كلّ الإباء، واستعصت على مقارعته أشدّ استعصاء، ومردت مرود مارد على الزّباء؛ فأمكننا الله من ذروتها، وأنزل ركّابها لنا عن صهوتها» . وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى رحمه الله، يصف آمد من رسالة جاء منها: « ... وآمد ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقدوعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمّه وإن استصحب خيلا ورجلا؛

ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفكّ له حجر، وسوادها فظنّ أنه لا ينسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر؛ من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أمّل من سؤال معهدها» . وقال من أخرى يصفها: « ... وهى العقيلة التى صدر الصّدور الأول محلّا عن وردها، والطريدة التى حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التى كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطّابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نآى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها بسهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها فلم تحسر لها لثاما، وما استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما» . وقال من أخرى يصف قلعة نجم، وهى من عيون الرسائل، جاء منها: « ... هى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامه؛ عافدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلّها بقرعه، بادية عصمة صافحها الزمن على أن لا يروّعها بخلعه؛ فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لم تطبع طبع حمص فى العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة فى الأقارب؛ فلم يكن غير ثلاثة إلا وقد أثّرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم يصل إلى السابعة إلا والبحر مؤذن بنقبها؛ فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع؛ وفتحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيّرت الجبال فكانت سرابا» .

وقال من أخرى فى فتح بيت المقدس، جاء منها: « ... زاول المدينة من جانب، فاذا هو أودية عميقة: ولجج وعر غريقة؛ وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار؛ وقدّم المنجنيقات التى تتولّى عقاب الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التى تضرب ولا تفارق سهامها ولا سهامها نصالها؛ فصافحت السّور فإذا سهامها فى ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر بشرى من المنجنيق تخلد إخلاده إلى الأرض وتعلو علوّه إلى السّماك؛ فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها؛ وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب؛ ومضغ سرد حجارته بأنياب مغوله، وأظهر من صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه إلى أن كادت ترقّ لمقتله» . وقال أيضا من أخرى: « ... فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماؤها نبل الوبال، وتملأ ارضها بالنّكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال؛ وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر فى الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأعمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها فى أهلها بتوفير سهام الإرغام؛ وكشف النقّابون نقاب السّور المحجوج المحجوب، فتهدّم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب» . ووصف القاضى الفاضل المنجنيق من رسالة فقال: «فسلّمت كأنّها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأطّت كأنها مرنان، واهتزّت كأنها جانّ، وتقوّمت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع وأحجمت

كأنها جبان. ورمت رءوسهم الموقّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقه، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلّقة وغير مخلّقه» . ووصف النامى المنجنيق فقال: وحصن زياد غدوة السّبت نافثا ... سماما، أراك ابن الأراقم أرقما. نصبت له فى الأرض بيت حديقة ... تمدّ لها فى الجوّ كفّا ومعصما. لها أخوات للمنايا كوامن ... وإن لم يكن ما أضمرته مكنّما. عذارى، ولكن قد وجدن حواملا ... بعرس تراه للجنادل مأتما. ترى الصّخر فيه الصّخر وهو نسيبه ... عدوّا بيوم أرضه تمطر السّما. إذا أقعدت جدرا قياما، رأيتها ... تنبّه قيعانا من التّرب نوّما! ومما وصفت به المعاقل والحصون نظما. فمن ذلك قول كعب الأشقرى، يصف قلعة: محلّقة دون السّماء كأنّها ... غمامة صيف زال عنها سحابها. ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى، ... ولا الطّير إلا نسرها وعقابها. ولا خوّفت بالذّئب ولدان أهلها، ... ولا نبحت إلا النّجوم كلابها. وقال أبو تمام، يصف عمّورية: وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب. بكر، فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب. من عهد إسكندر أو قبل ذاك، فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب! وقال الخالديان: وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالى وجانبها الصّعب.

يزرّ عليها الجوّ جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشّهب. إذا ما سرى برق، بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل الحجب. سموت لها بالرأى: يشرق فى الدّجى ... ويقطع فى الجلّى، ويصدع فى الهضب. فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخدّ بالتّرب! وقالا أيضا فى قلعة: وقلعة عانق العيّوق سافلها، ... وجار منطقة الجوزا أعاليها. لا تعرف القطر، إذ كان الغمام لها ... أرضا توطّأ قطريه مواشيها. إذا الغمامة لاحت، خاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمى عزاليها. يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها، ... لو أنّه كان يجرى فى مجاريها. على ذرى شامخ وعر: قد امتلأت ... كبرا به، وهو مملوء بها تيها. له عقاب: عقاب الجوّ حائمة ... من دونها، فهى تخفى فى خوافيها. وقال أبو بكر الخوارزمىّ: وبكر تحامتها البعول مخافة، ... فقد تركت من كثرة المهر أيّما. ممنّعة لم يغلط الدّهر باسمها، ... ولم يرها فى النّوم إلا توهّما. تزلّ عقاب الجوّ عن شرفاتها، ... وتبغى إليها الرّيح مرقى وسلّما! ويسمع فى الأفلاك صيحة ديكها، ... فتحسب ديك العرش صاح ترنّما. عجوز، ترى فى صحّة الجسم كاعبا؛ ... ولو أرّخت، كانت من الدّهر أقدما! توارى أساسا بالتّخوم مؤزّرا، ... وتبرز رأسا بالنّجوم معمّما. تنازعها الأرض السّماء وتدّعى ... لديها بها حقّا لها متهضّما. وتحسبها زهر الكواكب كوكبا ... هوى خلف شيطان رجيم، فخيّما!

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الأول

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الأوّل (فيما وصفت به القصور والمنازل) ولنبدأ بذكر ما بناه المتوكل من القصور وما أنفق عليها، ثم نذكر ما قيل فى وصفها، وما وصفت به المنازل الخالية، وما قيل فى حبّ الوطن. فأما قصور المتوكل، فهى: الكامل، والجعفرىّ، وبركوانا [1] ، والعروس، والبركة، والجوسق، والمختار، والغريب، والبديع، والصّبيح، والمليح، والقصر، والبرج، والمتوكّليّة، والقلّاية. حكى المؤرّخون أنه أنفق فى بنائها مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار عينا، ومائتا ألف ألف وثمانية وخمسون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. قالوا: وكان «البرج» من أحسنها. كان فيه صور عظيمة من الذهب والفضة، وبركة عظيمة غشّى ظاهرها وباطنها بصفائح الفضة، وجعل عليها شجرة من الذهب فيها طيور تصوت وتصفّر سماها «طوبى» بلغت النفقة على هذا القصر ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار. وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك قول السرىّ: مجلس فى فناء دجلة، يرتا ... ح إليه الخليع والمستور. طائر فى الهواء، فالبرق يسرى ... دون أعلاه والحمام يطير. فإذا الغيم سار، أسبل منه ... حلل دون جدره وستور. وإذا غارت الكواكب صبحا، ... فهو الكوكب الذى لا يغور!

_ [1] كذا بالأصل. وفى معجم ياقوت «يزكوار» .

وقال أيضا: منزل كالرّبيع حلّت عليه ... حاليات السّحاب عقد النّطاق. يمتع العين في طرائف حسن ... تتحامى بها عن الإطراق. بين ساج كأنّه ذائب التّب ... ر على مثل ذائب الأوراق. وقال أيضا: والقصر يبسم عن وجه الضّحى، فترى ... وجه الضّحى- عند ما أبدى له- شحبا. يبيت أعلاه بالجوزاء منتطقا، ... ويغتدى برداء الغيم محتجبا! وقال أبو سعيد الرستمىّ، يصف دارا بناها الصاحب بن عبّاد: وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النّجم في آفاقها متضائلا. نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز، ... فأصبح في أرض المداين عاطلا. فلو أبصرت ذات العماد عمادها، ... لأمست أعاليها حيا، أسافلا. ولو لحظت جنّات تدمر حسنها، ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا. متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا. وقال علىّ بن يوسف الإيادىّ، يذكر دارا بناها المعز العبيدىّ بمصر وسماها «العروسين» : بنى منظرا يسمى «العروسين» رفعة، ... كأنّ الثّريّا عرّست في قبابه. إذا الليل أخفاه بحلكة لونه، ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه. تمكّن من سعد السّعود محلّه، ... فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه. ولو شاده عزم المعزّ ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه. لكان حصى الياقوت والتّبر مفرغا ... على المسك من أجّره وترابه.

وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلىّ، يصف دارا بناها المعتمد بن عبّاد من أبيات: ويا حبّذا دار قضى الله أنّها ... يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى! وما هى إلا خطّة الملك الّتى ... يحطّ إليها كلّ ذى أمل رحلا. إذا فتحت أبوابها، خلت أنّها ... تقول بترحيب لداخلها: أهلا. وقد نقلت صنّاعها من صفاته ... إليها أفانينا، فأحسنت النّقلا. فمن صدره رحبا، ومن نوره سنا، ... ومن صيته فرعا، ومن حلمه أصلا! فأعلت به في رتبة الملك ناديا، ... وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى. نسيت به إيوان كسرى، لأنّنى ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا. ترى الشّمس فيه ليقة تستمدّها ... أكفّ، أقامت من تصاويرها شكلا. لها حركات أودعت في سكونها، ... فما تبعت من نقلهنّ يد رجلا. ولما عشينا من توقّد نورها، ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا. وقال أيضا من قصيدة يصف فيها دارا بناها المنصور ببجاية، جاء منها: واعمر بقصر الملك ناديك الّذى ... أضحى بمجدك بيته معمورا! قصر لو انّك قد كحلت بنوره ... أعمى، لعاد على المقام بصيرا. واشتقّ من معنى الحياة نسيمه، ... فيكاد يحدث للعظام نشورا. فلو أنّ بالإيوان قوبل حسنه، ... ما كان شيئا عنده مذكورا. نسى «الصّبيح» مع «المليح» بذكره، ... وسما ففاق «خورنقا» و «سديرا» . أعيت مطالعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا. ومضت على القوم الدّهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا. أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها، وقصورا.

فلك من الأفلاك، إلّا أنه ... حقر البدور فأطلع «المنصورا» . أبصرته فرأيت أبدع منظرا ... ثم انثنيت بناظرى محسورا. وظننت أنّى حالم في جنّة ... لمّا رأيت الملك فيه كبيرا. وإذا الولائد فتّحت أبوابها، ... جعلت ترحّب بالعفاة صريرا. عضّت على حلقاتهنّ ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا. فكأنّها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا. تجرى الخواطر مطلقات أعنّة ... فيه، فتكبو عن مداه قصورا. بمرخّم الساحات تحسب أنّه ... فرش البها وتوشّح الكافورا. ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه ... مسكا تضوّع نشره وعبيرا. يستخلف الإصباح منه إذا انقضى ... صبحا على غسق الظّلام منيرا. ضحكت محاسنه إليك كأنّما ... جعلت له زهر النّجوم ثغورا. ومصفّح الأبواب تبرا نظّروا ... بالنّقش بين شكوله تنظيرا. تبدو مسامير النّضار كما علت ... فلك النّهود من الحسان صدورا. خلعت عليه غلائلا ورسيّة ... شمس تردّ الطّرف عنه حسيرا. فإذا نظرت إلى غرائب حسنه، ... أبصرت روضا في السّماء نضيرا. وعجبت من خطّاف عسجده الّتى ... حامت لتبنى في ذراه وكورا. وضعت به صنّاعه أقلامها، ... فأرتك كلّ طريدة تصويرا. فكأنّما للشّمس فيه ليقة ... مشقوا بها التّزويق والتّشجيرا. وكأنّما فرشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا. يا مالك الملك الذى أضحى له ... ملك السّماء على العداة نصيرا.

كم من قصور للملوك تقدّمت ... فاستوجبت بقصورك التأخيرا. فعمرتها وملكت كلّ رياسة ... منها، ودمّرت العدا تدميرا. وقال عمارة اليمنىّ، يصف دارا بناها فارس الإسلام من أبيات: فتملّ دارا شيّدتها همّة، ... يغدو العسير بأمرها متيسّرا. فاقت على الإطلاق كلّ بنيّة، ... وسمت بسعدك عزّة وتكبّرا. أنشأت فيها للعيون بدائعا ... دقّت، فأذهل حسنها من أبصرا. فمن الرّخام: مسيّرا، ومسهّما، ... ومنمنمّا، ومدرهما، ومدنّرا. وسقيت من ذوب النّضار سقوفها ... حتّى يكاد نضارها أن يقطر. لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصوّر. فيها حدائق لم تجدها ديمة، ... كلّا ولا نبتت على وجه الثّرى. لم يبد فيها الروض إلا مزهرا، ... والنخل والرّمان إلا مثمرا. والطّير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها، لم تستطع أن تنفرا. وبها من الحيوان كلّ مشبّه [1] ... لبس الحرير العبقرىّ مصوّرا. لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثا ولا ظبيا بوجرة أعفرا. أنست نوافر وحشها لسباعها: ... فظباؤها لا تتّقى أسد الشّرى. وكأنّ صولتك المخيفة أمّنت ... أسرابها أن لا تخاف فتذعرا. وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطّول ألوية تؤمّ العسكرا. نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا، ومن بزل المهارى مشفرا. جبلت على الإقعاء من أعجازها، ... فتخالها في التّيه تمشى القهقرى!

_ [1] فى الأصول «مسبهن» . ولعلها تصحيف.

وقال أبو الصلت أميّة بن عبد العزيز، يصف قصرا بناه علىّ بن تميم بن المعزّ بمصر: لله، مجلسك المنيف! فبابه ... بموطّد فوق السّماك مؤسّس. موف على حبك المجرّة تلتقى ... فيه الجوارى بالجوار الكنّس. تتقابل الأنوار في جنباته ... فاللّيل فيه كالنّهار المشمس. عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقسى. واستشرفت عمد الرّخام وظوهرت ... بأجلّ من زهر الرّبيع وأنفس. فهواؤه من كلّ قدّ أهيف، ... وقراره من كلّ خدّ أملس. فلك تحيّر فيه كلّ منجّم، ... وأقرّ بالتقصير كلّ مهندس. فبدا للحظ العين أحسن منظرا، ... وغدا لطيب العيش خير معرّس. فاطلع به قمرا، إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس. فالناس أجمع دون قدرك رتبة، ... والأرض أجمع دون هذا المجلس! وقال الوزير أبو سليمان بن أبى أميّة: يا دار، آمنك الزّما ... ن خطوبة ونوائبه. وجرت سعودك بالّذى ... يهوى نزيلك دائبه. فلنعم مأوى الضّيف أن ... ت، إذا تحاموا جانبه. خطر شأوت به الدّيا ... ر، فأذعنت لك قاطبه. وقال أبو صخر القرطبىّ: ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا، تسرّ النّفس أنسا ومنظرا. ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا، وحلّاها من النّور جوهرا.

وأما ما وصفت به المنازل الخالية

وقال الشريف الرضىّ: ما زلت أطّرق المنازل باللّوى ... حتّى نزلت منازل النّعمان. بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمّ العماد، عريضة الأعطان. شهدت بفضل الرّافعين قبابها. ... ويبين بالبنيان فضل البانى! ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمّرة بعمر فانى! وأما ما وصفت به المنازل الخالية فمن ذلك ما قاله البحترىّ يشير إلى «الكرمان» الذى بناه كسرى أنوشروان من أبيات: فكأنّ الكرمان من عدم الأن ... س وإخلائه بنيّة رمس. لو تراه، علمت أنّ اللّيالى ... خلعت فيه مأتما بعد عرس. وهو ينبيك عن عجائب قوم، ... لا يشاب البيان فيها بلبس. وإذا ما رأيت صورة أنط ... اكية، ارتعت بين روم وفرس. والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجى الصّفوف تحت الدّرفس! وقال أيضا من قصيدة يرثى فيها المتوكل، ويذكر قصره «الجعفرىّ» : محلّ على القاطول [1] أخلق داره، ... وعادت صروف الدّهر جيشا تعاوره. كأنّ الصّبا توفى نذورا، إذا انبرت ... تجرّ به أذيالها وتباكره. وربّ زمان ناعم تمّ عهده، ... ترقّ حواشيه ويونق ناظره. تغيّر حسن «الجعفرىّ» وأنسه، ... وقوّض بادى «الجعفرىّ» وحاضره. تحمّل عنه ساكنوه فجاءة، ... فعادت سواء دوره ومقابره. إذا نحن زرناه، أجدّ لنا الأسى؛ ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره.

_ [1] نهر مشهور معروف.

ولم أنس وحش القصر إذريع سربه، ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجاذره. وإذ صيح فيه بالرّحيل فهتّكت ... على عجل أستاره وسرائره. وأوحشه حتّى كأن لم يكن به ... أنيس، ولم تحسن لعين مناظره. كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها، والملك يشرق زاهره. ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها ... وبهجتها، والعيش غضّ مكاسره. فأين الحجاب الصّعب حيث تمنّعت ... بهيبتها أبوابه وستائره؟ وأين عمود الملك في كلّ نوبة ... تنوب، وناهى الدّهر فيه وآمره؟ وقال عمر بن أبى ربيعة: يا دار، أمسى دارسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل. قد جرّت الرّيح بها ذيلها، ... واستنّ في أطلالها الوابل. وقال شاعر أندلسىّ: قلت يوما لدار قوم تفانوا: ... أين سكّانك الكرام لدينا؟ فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا! وقال عبد الله بن الخياط الأندلسىّ: يا دار علوة، قد هيّجت لى شجنا ... وزدتنى حزنا! حيّيت من دار! كم بتّ فيك على اللّذّات معتكفا، ... والليل مدّرع ثوبا من القار! كانّه راهب في المسح ملتحف، ... شدّ المجرّ له وسطا بزنّار! وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ: إنّ ربعا عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعا ومصيفا. غيّرت آية صروف اللّيالى، ... وغدا عنه حسنه مصروفا.

ما مررنا عليه، إلّا وقفنا ... وأطلنا شوقا إليه الوقوفا. آلفا للبكاء فيه، كأنّى ... لم أكن فيه للغوانى أليفا. حاسدا للجفون لمّا أذالت ... فى مغانيه دمعها المذروفا! وقال الشريف الرضىّ من أبيات: ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضّرّاء والحدثان! بالى المعالم، أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عانى. أمقاصر الغزلان، غيّرك البلى ... حتّى غدوت مراتع الغزلان! وملاعب الأنس الجميع طوى الرّدى ... منهم، فصرت ملاعب الجنّان! وقال أبو الحسن علىّ القابوسىّ نثرا: «قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف؛ ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد؛ فاستبدل بالأنس وحشه، وبالنّضارة غبره، وبالضّياء ظلمه؛ واعتاض من تزاحم المواكب، بالأدم النّوادب؛ ومن ضجيج النّداء والصّهيل، عجيج البكاء والعويل» . ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزرىّ، جاء منها: « ... دار لعبت بها أيدى الزمن، وفرّقت بين الساكن والسّكن. كانت مقاصير جنّة، فأضحت وهى ملاعب جنّه. ولقد عميت أخبار قطّانها، وعفّت آثارها آثار وطّانها، حتى شابهت إحداهما في الجفا، الأخرى في العفا. وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام؛ غير أن السحاب بكاهم وأجرى بها سوافح دموعه، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصّباح من خلال صدوعه» .

ومما قيل في حب الأوطان

ومما قيل في حب الأوطان قال ابن الرومىّ (وهو أوّل من بيّن السبب في حب الوطن) : ولى منزل، آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيرى له الدّهر مالكا! عهدت به شرخ الشّباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا. فقد ألفته النفس حتّى كأنّه ... لها جسد، إن غاب غودرت هالكا. وحبّب أوطان الرّجال إليهم ... مآرب قضّاها الشّباب هنالكا. إذا ذكروا أوطانهم، ذكّرتهم ... عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا! ذكر شىء مما قيل في الحمّام قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: أهلا ببيت النار من منزل ... شيد لأبرار وفجّار! يدخله ملتمس لذّة ... فيدخل الجنة في النار! وقال أبو عامر بن شهيد الأندلسىّ: نعم، أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا! ببرانه من زنادكم قدحت، ... وماؤه من بنانكم نبعا! وقال علىّ بن عطية البلنسىّ: ربّ حمّام تلظّى ... كتلظّى كلّ وامق. ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق. فغدا منّى ومنه ... عاشق في جوف عاشق! وقال أبو طالب المأمونىّ، شاعر اليتيمة: وبيت كأحشاء المحبّ دخلته ... ومالى ثياب فيه غير إهابى.

أرى محرما فيه وليس بكعبة، ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابى. بماء كدمع الصّبّ في حرّ قلبه ... إذا آذنت أحشاؤه بذهاب. توهّمت فيه قطعة من جهنّم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب. يثير ضبابا بالبخار مجدّلا ... بدور زجاج في سماء قباب! وقال آخر: إنّ حمّامك هذا ... غير مذموم الجوار. ما رأينا قبل هذا ... جنّة في وسط نار! وأنشدنى جمال الدّين محمد بن الحكم لنفسه: قالوا: نراك دخلت حمّاما، وما ... حلف الهوى يلتذ بالأهواء. فأجبتهم: لم تكف أدمع مقلتى ... حتّى بكيت بجملة الأعضاء. تم السفر الأوّل (نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف) نجز السّفر الأوّل من «كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرى التيمى القرشى، عرف بالنويرى عفا الله عنه؛ ووافق الفراغ من كتابته في يوم السبت المبارك لعشر بقين من ذى القعدة عام إحدى وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضيه، وذلك بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل السّفر الثانى «الفنّ الثانى في الإنسان وما يتعلق به» والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وآله وصحته وسلم آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل!

فهرس الجزء الأول

فهرس الجزء الأوّل من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى .... صحيفة مقدّمة الكتاب 1 الفن الأوّل فى السماء والآثار العلوية، والأرض، والمعالم السفلية 27 القسم الأوّل فى السماء وما فيها، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: مبدأ خلق السماء 28 ذكر ما قيل في أسماء السماء وخلقها 29 ذكر ما حكى في سبب حدوثها 29 الباب الثانى: فى هيئة السماء 30 فى الأمثال التى ورد فيها ذكر السماء 32 فى وصف السماء وتشبيهها 33 ما قيل في الفلك 34

... صحيفة الباب الثالث: فى ذكر الملائكة 36 الباب الرابع: فى الكواكب السبعة المتحيرة 38 ذكر ما قيل في الشمس 40 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الشمس 42 ذكر ما جاء في وصف الشمس وتشبيهها 44 ذكر شىء مما وصفت به على طريق الذم 46 ذكر ما قيل في الكسوف 48 ذكر أسماء الشمس اللغوية 48 ذكر عبّاد الشمس 49 ذكر ما قيل في القمر 49 ذكر ما قيل في القمر (من استهلاله الى انقضاء الشهر وأسماء لياليه) 50 ذكر أسماء القمر اللغوية 51 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر القمر 52 ذكر ما قيل في وصف القمر وتشبيهه 53 ذكر شىء مما قيل فيه على طريق الذم 56 ذكر عبّاد القمر 57 ذكر ما قيل في الكواكب المتحيرة 58 ذكر عبّاد الروحانيات 58 ذكر بيوت الهياكل وأماكنها ونسبتها الى الكواكب 61

... صحيفة الباب الخامس: فى الكواكب الثابتة 63 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الكواكب 64 ذكر ما قيل في وصف الكواكب وتشبيهها 65 القسم الثانى فى الآثار العلوية، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى السحاب، وسبب حدوثه، وفي الثلج والبرد 71 ذكر ما قيل في ترتيب السحاب، وأسمائه اللغوية وأصنافه 72 ذكر ما قيل فى ترتيب المطر 74 ذكر ما قيل فى فعل السحاب والمطر 74 ذكر أسماء أمطار الأزمنة 75 ذكر أسماء المطر اللغوية 75 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر المطر 77 ذكر شىء مما قيل في وصف السحاب والمطر 78 ذكر ما ورد في وصفها نثرا 82 ذكر شىء مما وصف به الثلج والبرد 86 الباب الثانى: فى النيازك، والصواعق، والرعد، والبرق، وقوس قزح 87

... صحيفة الباب الثالث: في أسطقسّ الهواء 95 ذكر ما قيل في حد الهواء 95 ذكر أسماء الرياح اللغوية 98 فصل فيما يذكر منها بلفظ الجمع 99 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الهواء 99 ذكر ما جاء في وصف الهواء وتشبيهه 100 الباب الرابع: فى أسطقسّ النار، وأسمائها، وعبّادها، وبيوت النيران 103 ذكر أسماء النار 104 ذكر عبّاد النار 105 بيوت النيران ومن رسمها من ملوك الفرس 107 ذكر نيران العرب 109 ذكر النيران المجازية 114 ذكر النيران التى يضرب بها المثل 115 ذكر ما جاء منها على لفظ أفعل 116 ذكر ما قيل في وصف النار وتشبيهها 117 ذكر شىء مما قيل في الشمعة والشمعدان، والسراج، والقنديل 120 ما ورد في وصفها نثرا 123 ما قيل في السراج 124 رسالة القنديل والشمعدان 124

... صحيفة القسم الثالث من الفن الأوّل فى الليالى والأيام، والشهور والأعوام، والفصول والمواسم والأعياد، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى الليالى والأيام 130 ذكر ما قيل في الليل وأقسامه 131 فصل وقد عبر بالليالى عن الأيام 132 ذكر الليالى المشهورة 132 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الليل 133 ذكر ما قيل في وصف الليل وتشبيهه 134 ذكر ما وصف به الليل من الطول 135 ذكر ما وصف به الليل من القصر 140 ذكر ما وصف به الليل من الإشراق 142 ذكر ما وصف به الليل من الظلمة 142 ذكر شىء مما قيل في تباشير الصباح 143 ذكر ما قيل في النهار 147 ذكر الايام التى خصت بالذكر 148 ذكر أيام أصحاب الملل الثلاث 150 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر النهار 150 ذكر شىء مما قيل في وصف النهار وتشبيهه 151 ذكر شىء مما وصفت به الآلات الموضوعة لمعرفة الأوقات 153

... صحيفة الباب الثانى: فى الشهور والأعوام 156 ذكر الشهور وما قيل فيها 156 ذكر الأشهر العربية وما يختص بها من القول 157 شهور اليهود 159 الشهور العجمية 159 ذكر ما يختص بالسنة من القول 164 ذكر النسىء ومذهب العرب فيه 165 ذكر السنين التى يضرب بها المثل 167 الباب الثالث: فى الفصول وأزمنّها 169 ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا 171 الباب الرابع: فى ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل في ذلك 184 ذكر الأعياد الإسلامية 184 ذكر أعياد الفرس 185 ذكر أعياد النصارى القبط 191 ذكر أعياد اليهود 195

... صحيفة القسم الرابع من الفن الأوّل فى الأرض، والجبال، والبحار، والجزائر، والأنهار، والعيون، والغدران، وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل: فى مبدأ خلق الأرض 198 الباب الثانى: فى تفصيل أسماء الأرضين وصفاتها، فى الاتساع، والاستواء، والبعد، والغلظ، والصلابة، والسهولة، والحزونة، والارتفاع، والانخفاض، وغير ذلك 199 ذكر تفصيل أسماء التراب وصفاته 202 ذكر تفصيل أسماء الغبار وأوصافه 203 ذكر تفصيل أسماء الطين وأوصافه 203 ذكر تفصيل أسماء الرّمال 204 ذكر ترتيب كمية الرمل 205 ذكر تفصيل أسماء الطرق وأوصافها 206 الباب الثالث: فى طول الأرض ومسافتها 207 الباب الرابع: فى الأقاليم السبعة 209 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الأرض 213 شىء مما قيل في وصف الأرض وتشبيهها 214

... صحيفة الباب الخامس: فى الجبال 218 ذكر أسماء ما ارتفع من الأرض الى أن يبلغ الجبيل 220 ذكر ترتيب أبعاض الجبل 221 ذكر ترتيب مقادير الحجارة 223 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الجبال والحجارة 226 ذكر شىء مما قيل في وصف الجبال وتشبيهها 227 الباب السادس: فى ذكر البحار والجزائر 228 ذكر بحار المعمور من الأرض 229 ذكر ما يتفرع من البحر المحيط 231 ذكر الخلجان التى تخرج من البحر الرومى 235 بحر الهند وجزائره 237 ذكر خلجان البحر الهندى 243 بحر ما نيطش 246 بحر الخزر وجزائره 247 ذكر ما في المعمور من المبحيرات المالحة المشهورة وما بها من العجائب 250 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر البحر 254 ذكر شىء مما قيل في وصف البحر وتشبيهه 255 ذكر ىء مما وصف به البحر والسفن 256 ذكر ما وصفت به البحار والسفن نثرا 258

... صحيفة الباب السابع: فى العيون والأنهار والغدران وما وصفت به البرك، والدواليب، والنواعير، والجداول 261 نهر النيل 262 نهر الفرات 266 نهر دجلة 268 نهر سجستان 269 نهر مهران 270 نهر جيحون 270 نهر سيحون 271 نهر الكنك 272 نهر الكر 273 نهر إتل 273 ذكر ما في المعمور من الأنهار والعيون التى يتعجب منها 274 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الماء 277 ذكر شىء مما قيل في وصف الماء وتشبيهه 281 ذكر شىء مما وصفت به الأنهار 282 ذكر شىء مما وصفت به البرك 285 ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير 288 ذكر شىء مما وصفت به الدواليب والنواعير نثرا 289

... صحيفة ذكر شىء مما وصفت به الجداول 290 ذكر عبّاد الماء 291 القسم الخامس من الفن الأوّل فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها، وخصائصها، والمبانى القديمة، والمعاقل، وما وصفت به القصور والمنازل، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: فى طبائع البلاد، وأخلاق سكانها 292 الباب الثانى: فى خصائص البلاد 297 مكة المشرفة 297 ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض 298 ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم عليه السلام ومبدأ الطواف 299 ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام 300 ذكر هبوط آدم عليه السلام الى الأرض، وبنيانه الكعبة المشرفة وحجه وطوافه بالبيت 301 ذكر فضل البيت الحرام، والحرم 304 ذكر ما جاء في طواف سفينة نوح عليه السلام بالبيت 307 ذكر ما جاء من تخير إبراهيم عليه السلام موضع البيت 307 ذكر حج إبراهيم عليه السلام وإذنه بالحج وحج الأنبياء بعده وطوافهم 308 ذكر ما جاء من مسألة إبراهيم عليه السلام الأمن والرزق لأهل مكة والكتب التى وجد فيها تعظيم الحرم 311

... صحيفة ذكر أسماء الكعبة ومكة 313 ذكر ما جاء في فضل الركن الأسود 314 ذكر ما جاء في فضل استلام الركن الأسود، واليمانى 316 ذكر ما جاء في فضل الطواف بالكعبة 317 ذكر ما جاء في فضل زمزم 317 ذكر ما جاء من اتساع منّى أيام الحج، ولم سميت منّى 319 ذكر ما جاء فى فضائل مقبرة مكة 319 ذكر شىء من خصائص مكة 319 المدينة المشرّفة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) 320 ذكر شىء من خصائص المدينة المشرفة وأسمائها 323 البيت المقدّس، والمسجد الأقصى 325 البدء بذكر الأرض المقدسة 325 فضل بيت المقدس 328 فضل زيارة بيت المقدس، وفضل الصلاة فيه 330 ما ورد في بيت المقدس من مضاعفة الحسنات والسيئات فيه 332 فضل السكنى فيه والإقامة والوفاة به 332 ما ببيت المقدس من قبور الأنبياء، ومحراب داود وعين سلوان 333 ما ورد في أن الحشر من بيت المقدس 334 ما ورد فى فضل الصخرة والصلاة الى جانبها 335 ما ورد فى أن الله عز وجل عرج من بيت المقدس الى السماء 336

... صحيفة ثواب الإهلال من بيت المقدس 339 ما ورد من أن الكعبة تزور الصخرة يوم القيامة 339 اليمن وما يختص به 340 الشام وما يختص به 340 مسجد دمشق وما قيل فيه 340 مصر وما يختص بها من الفضائل 344 ذكر من ولد بمصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان بها منهم 349 ذكر من كان بها من الصدّيقين والصدّيقات، رضى الله عنهم 349 ذكر من صاهر أهل مصر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 350 ذكر من أظهرته مصر من الحكماء 350 ومن فضائل مصر 354 ما وصفت به مصر 357 جزيرة الأندلس 358 البصرة وما اختصت به 359 بغداد وما اختصت به 360 الأهواز وما اختصت به 361 فارس وما اختصت به 361 أصفهان وما اختصت به 362 جرجان وما اختصت به 362 نيسابور وما اختصت به 363

... صحيفة طوس وما اختصت به 364 بلخ وما اختصت به 364 بست وما اختصت به 365 غزنة وما اختصت به 365 سجستان وما اختصت به 366 الهند وما اختصت به 366 الصين وما اختصت به 366 سمرقند وما اختصت به 367 بلاد الترك وما اختصت به 367 خوارزم وما اختصت به 368 ذكر الخصائص التى تجرى مجرى الطّلّسمات 368 ذكر خصائص البلاد في أشياء مختلفة (وهى العلم، والعمل، والجواهر، والملابس، والأوبار، والفرش، والمراكب، والحيوانات ذوات السموم، والحلوى، والثمار، والرياحين، والخلق، والأخلاق، والأمراض والآثار العلوية) 369 الباب الثالث: فى المبانى القديمة 372 ذكر أوّل بناء وضع على وجه الأرض 372 ذكر خبر إرم ذات العماد 373 ذكر خبر سدّ يأجوج ومأجوج 374

... صحيفة ذكر مبانى الفرس المشهورة 379 من مبانى الفرس إيوان كسرى 380 من المبانى القديمة الحضر 381 من المبانى القديمة القليس 382 من المبانى المشهورة قنطرة صنجة 383 من المبانى القديمة ملعبا بعلبك 383 ذكر مبانى العرب المشهورة 384 غمدان 384 حصن تيماء 385 الخورنق والسدير 385 الغريان 387 ذكر الأبنية القديمة التى بالديار المصرية 387 الأهرام 388 حائط العجوز 392 ملعب أنصنا 393 مدينة عين شمس 393 البرابى 394 حنية اللازورد 395 منارة الاسكندرية 395

... صحيفة رواق الإسكندرانيين 398 ذكر شىء من عجائب المبانى 398 الباب الرابع: فيما وصفت به المعاقل والحصون 401 الباب الخامس: فيما وصفت به القصور والمنازل 406 ما وصفت به المنازل الخالية 412 ذكر شىء مما قيل في حب الأوطان 415 ذكر شىء مما قيل فى الحمّام 415 نسخة ما هو مكتوب في آخر الأصل بخط المؤلف 416 تمّ فهرس السفر الأوّل من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى

فهرس الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ الفن الثانى .... صحيفة فى الإنسان وما يتعلق به 1 القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه، والغزل، والنسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب؛ وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل: فى اشتقاقه وتسميته وتنقلاته وطبائعه، وما يتصل بذلك 5 فصل قال أحمد بن محمد بن عبد ربه 7 فصل وأما ترتيب أحواله 10 فصل فى ظهور الشيب وعمومه 12 النفس الغضبية 13 النفس البهيمية 13

... صحيفة الباب الثانى: فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها 16 الشعر وما قيل فيه 16 فصل فى تفصيل أوصافه 17 ومما وصف به الشعر 18 ومما وصفت به شعور النساء 19 ذكر ما قيل فى الشيب والخضاب من المدح والذمّ 21 فأما مدح الشيب 21 وأما ما ورد فى ذم الشيب 24 ومما قيل فى الخضاب من المدح 29 ومما قيل فى ذم الخضاب 30 وأما ما وصف به الوجه 31 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 34 ومما وصف به صفاء الوجه ورقة البشرة 35 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 36 ومما قيل فى صفرة الوجه 37 ومن ذلك ما قيل فى المؤنث 37 ومما قيل فى السمرة 38 ومما قيل فى السواد 38 ومما وصف به أثر الجدرىّ فى الوجه 40

... صحيفة ومما قيل فى الحواجب 41 ومما وصفت به الحواجب 41 ومما قيل فى العيون ووصفها 42 فصل فى عوارض العين 44 فصل فى كيفية النظر وهيئته 44 ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث 50 ومما قيل فى أدواء العين 52 ومما قيل فى أرمد 53 ومما قيل فى أرمد غطى عينيه بشعريّة 55 فصل فى ترتيب البكاء 56 فصل فيما قيل فى الأنف 57 ومما قيل فى الشفاه والفم 57 فصل فى تقسيم ماء الفم 58 فصل فى ترتيب الضحك 58 ومما قيل فى طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير 59 ومما وصف به على لفظ التأنيث 61 ومما قيل فى طيب عرف النساء 62 ومما قيل فى الأسنان 64 فصل فى مقابحها 65 فصل فى ترتيب الأسنان 66 ومما قيل فى السواك 67

... صحيفة ومما قيل فى اللسان 68 فصل فى عيوبه 68 فصل فى ترتيب العىّ 69 ومما وصف به حسن الحديث والنغمة 70 ومما قيل فى الأذن 72 فصل فى ترتيب الصمم 72 ومما وصف به الصدغ 73 ومما وصفت به الخدود والوجنات 74 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 77 ومما وصفت به الخيلان 78 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 81 ومما قيل فى العذار 81 ومما وصف به العذار على طريق الذم 87 ومما قيل فى العنق 92 ومما قيل فى اليد إذا باشرت ما يعلق بها 93 ومما مدحت به اليد 94 ومما قيل فى النهود 95 ومما قيل فى البطن 97 ومما قيل فى الأرداف والخصور 97 ومما وصفت به على لفظ التأنيث 99 ومما قيل فى السّوق 100

... صحيفة ومما وصفت به القدود 101 ومما قيل فى العناق 103 ومما ورد على لفظ التأنيث 105 ومما قيل فى وصف مشى النساء 106 ما جاء من الأمثال فى الإنسان 108 ومما يتمثل به فى ذكر النفس 109 ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة 110 ما قيل فى الرأس والشعر 110 ما يتمثل به من ذكر الوجه 110 ما يتمثل به من ذكر العين 111 ما يتمثل به من ذكر الأنف 112 ما يتمثل به من ذكر الفم واللسان والأسنان 112 ما يتمثل به من ذكر الأذن 113 ما يتمثل به من ذكر العنق 113 ما يتمثل به من ذكر اليد 113 ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب 115 ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب 116 ما يتمثل به من ذكر الكبد والدم والعروق 116 ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم 117 من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل 117 وأما من ضرب بها المثل من النساء 123

... صحيفة الباب الثالث: فى الغزل والنسيب والهوى والمحبة والعشق 125 ذكر شىء مما قيل فى الهوى والمحبة والعشق 125 فأما كلام الحكماء والفلاسفة 126 وأما كلام الإسلاميّين وما قالوه فيه 126 ذكر مراتب العشق وضروبه 128 ذكر ما قيل فى الفرق بين المحبة والعشق 130 وأما سبب العشق وما قيل فيه 131 فصل ومن أسباب العشق 135 فصل وذكر بعض الحكماء 135 فصل ويتأكد العشق بإدمان النظر 137 وأما ما قيل فى مدحه وذمه والممدوح منه والمذموم 138 فأما الممدوح منه 138 وأما القسم المذموم منه 145 ذكر شىء من الشعر المقول فى ذم العشق والحب 150 وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه 160 وممن خاطر بنفسه فى هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا 165 وأما من كفر بسبب العشق 173 وأما من قتل بسبب العشق 175 وأما من قتل بسبب العشق 176 وأما من قتله العشق 184

... صحيفة وأما من قتل نفسه بسبب العشق 195 ذكر شىء مما ورد فى التحذير من فتنة النساء وذمّ الزنا والنظر الى المردان والتحذير من اللواط وعقوبة اللائط 198 أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء 198 وأما ما جاء فى ذمّ الزنا 201 وأما ما جاء في النهى عن النظر الى المردان ومجالستهم 202 وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء 204 وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة 205 أما عقوبة الدنيا 205 وأما عقوبته في الآخرة 208 ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب 210 فمما قيل في المذكر 213 ومما قيل في المؤنث 226 ومما قيل في المطلق والمشترك 231 ومما قيل في طيف الخيال 237 ومما قيل في الرد على العذول 241 ومما قيل في رجوع العذول 242 ومما قيل في الوصال 242 ومما قيل في الفراق والبين 243 ومما قيل في مفارقة الأصحاب 246

... صحيفة ومما قيل في التوديع 246 ومما قيل في الصدّ والهجران 250 ومما قيل في الزيارة 251 ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها 253 ومنها التأخر عن عيادة المرضى 254 ومما قيل في المدامع 255 ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير 258 ومما قيل في النحول 259 ومما قيل في المحبوب اذا اعتلّ 261 ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء 262 ومما قيل على لسان الورقاء 263 ومما قيل في المراجعات 265 ومما قيل في المردوف 267 ومما قيل في الجناس 268 ومما قيل في الموشّحات 272 الباب الرابع: فى الأنساب 276 الطبقة الاولى الجذم 277 وأما عزوة العرب الى يمن 283 والطبقة الثانية الجماهير 284

... صحيفة والطبقة الثالثة الشعوب 284 والطبقة الرابعة القبيلة 284 والطبقة الخامسة العمائر 284 والطبقة السادسة البطون 284 والطبقة السابعة الأفخاذ 285 والطبقة الثامنة العشائر 285 والطبقة التاسعة الفصائل 285 والطبقة العاشرة الرهط 285 أصل النسب أبو البشر آدم عليه السلام 286 إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام 322 ذكر نسب قيس وبطونها 334 الياس بن مضر بن نزار 343 مدركة بن الياس بن مضر 348 مالك بن النضر 352 فهر بن مالك 352 كعب بن لؤى بن غالب 355 مرة بن كعب 356 كلاب بن مرة بن كعب 357 عبد مناف بن قصىّ 359 عبد المطّلب بن هاشم 360

الجزء الثاني

الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلق به وهذا الفن قد اشتمل على معان مؤنسة للسامع، مشنّفة للمسامع؛ مرصّعة لصدور الطروس والدفاتر، جاذبة لنوافر القلوب والخواطر؛ واضحة البيان، معربة عن وصف الإنسان. فمن تشبيهات فائقه، وغزليّات رائقه؛ وأنساب طاهره، ووقائع ظاهره؛ وأمثال امتدّت أطنابها، وتبينت أسبابها؛ وأوابد جعلتها العرب لها عادة ودليلا، واتخذتها ضلالة وتبديلا؛ ونصبتها أحكاما ونسكا، وصيرتها عبادة ومداواة فتبوّأت بها من النار دركا؛ وشى من أخبار الكهّان، وزجر عبدة الأوثان؛ وكنايات نقلت الألفاظ إلى معان أبهى من معانيها، وبلغت النفوس بعذوبتها غاية أمانيها؛ وألغاز غوّرت بالمعانى وأنجدت، وأشارت إليها بالتأويل حتّى إذا قرّبتها من الأفهام أبعدت؛ ومدائح رفعت للممدوح من الفضل منارا، وأهاجى صيّرت المهجوّ من القوم يتوارى؛ ومجون ترتاح إليها عند خلوتها النفوس، ويبتسم عند سماعها ذو الوجه العبوس؛ وشىء مما قيل في الخمر والمعاقره، وأرباب الطّرب وذوى المسامره؛ وتهان نشرت من البشائر ملاء، ورفعت من المخامد لواء؛ وتعاز حسرت نقاب الحسرات، وأبرزت مصون العبرات.

وأوردت فيه نبذة من الزهد والإنابه، وجملة من الدعوات المستجابه. وطرّزته بذكر ملك، مدّ رواق العدل، ونشر لواء الفضل؛ وقام بفروض الجهاد وسننه، وأراع العدوّ في حالتى يقظته ووسنه؛ وعمّ الأولياء بمواصلة برّه وموالاة نواله، وقهر الأعداء بمراسلة سهامه ومناضلة نصاله؛ وشمل رعاياه بعدله وجوده، واردف سراياه بجيوشه وجنوده، فهو الملك الذى جمع بين شدّة البأس، ولين النّدى، وأزال مرارة الإياس، بحلاوة العطا. وما يحتاج إليه لإقامة المملكة: من نائب ناهيك به من نائب!، يكفّ بعزمه كفّ الحوادث ويفلّ بحزمه ناب النوائب؛ وينصف الضعيف من القوىّ، ويفرّق ببديهته بين المريب والبرىّ؛ ويتفقد أحوال الجيوش ويصرف همته إليهم، ويجعل اهتمامه بهم وفكرته فيهم وتعويله عليهم؛ إلى غير ذلك من استكمال عددها، والمطالبة بعرض خيولها وإصلاح عددها؛ وسدّ ثغور الممالك، وضبط الطرق وتسهيل المسالك؛ وقمع المفسدين، وإرغام الملحدين؛ وبث السّرايا، وتيسير الأرزاق والعطايا. ووزير يشيّد قواعد ملكه بحسن تدبيره وجميل سداده، ويعمل فكره فيما يستقرّ بسببه نظام الملك على مهاده؛ ويأمر بتحصيل الأموال من جهات حلّها، ويقرّ مناصب الدّولة الشريفة في الكفاة من أهلها؛ ويتصفّح الأقاليم والمعاملات والأعمال، ويستكفى لمباشرتها أمناء النظّار ومحقّقى المستوفين وكفاة العمال. وقائد جيوش إن انتدبه للقاء عدوّ بدر الكتائب، وأنهل من دمائهم السّمر العوالى وعلا هامهم بالبيض القواضب؛ تتبعه عساكر تنفر قلوبهم عن الفرار، ويحلّوا من قاتلهم من أعداء الله دار البوار؛ يدّرعون السابريّة [1] الذوائل، ويعتقلون السّمهرية الذّوابل؛

_ [1] هى دروع دقيقة النسج في إحكام، والذوائل جمع ذائلة وهى الطويلة «قاموس» .

ويتقلدون المشرفية البواتر؛ ويتنكّبون القسىّ النواتر [1] ، ويمتطون من كل جواد صفا منه أديمه وعيناه وحوافره، واتسع منه جوفه وجبهته ومناخره؛ وطال منه أنفه وعنقه وذراعه، وقصر منه ظهره وساقه وعسيبه وامتدّ عند الحضر باعه: فهو من أكرم الأصائل، والمعنىّ بقول القائل: وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا في الغطاط الحثاث. بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثّلاث. وذكرت ما ورد في فضل الرباط والجهاد، وما أعدّ الله تعالى من الثواب لمن أنفق فيه الطّوارف والتّلاد؛ وبذل الكريمين: (النفس والمال) لحسن المآل؛ وهجر الحبيبين: (الوطن والعيال) لبلوغ الآمال. ومن قاض يحكم بين الناس بالعدل، ويقدّم ذوى النباهة والفضل. ومتولّى مظالم يردّها على أهلها بقهره وسلطانه، وسطوته وأعوانه. وناظر حسبة يجرى الأمور على قواعدها الشرعية، وأوضاعها العرفية وقوانيها المرضية. إلى غير ذلك: من كاتب، ذى رأى صائب، وفهم ثاقب؛ انقادت له المعانى بأسهل زمام، وأغنت صحائفه عن صفحات الحسام: لولا حظت عين ابن أوس كتبه ... ما قال: «إن السيف منها أصدق» .

_ [1] فى القاموس «قوس ناترة تقطع وترها لصلابتها» .

وكاتب خراج ضبط بقلمه الأموال، وحرّر بنباهته الغلال؛ وبسط الموازين، ووضع القوانين؛ وفصل بين الخراجىّ والهلالى، وميز ما بين الأعمال والتوالى. وما لا بدّ للملك منه من خواصّ جبلت على محبته قلوبهم، وتجافت عن المضاجع فى خدمته جنوبهم. ومن معقل شمخ على الجوزاء بأنفه، واتخذ الثريّا وشاحا لعطفه؛ توارى في قرار التخوم أساسه، ولاح للسارى ككوكب الظلماء مقياسه. فالأرض تدّعيه: لأنه ثبت على مناكبها، والسماء تنازعها فيه: لأنه تمنطق بكواكبها؛ والجبال تقول منى اتّخذت أحجاره، والمياه تقول علىّ استقرّ قراره؛ وجفن السحاب يهمع لانحطاطه عن هذه الرتبة، والطير تقول إن لم أبلغه فقد اتّحد به من بينى وبينه نسبه. وضمّنت هذا الفن من المنقول ما يسهل تعاطيه على الأفهام، ووضعته على خمسة أقسام.

القسم الأول فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه.

القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه. والغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق، والأسباب وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، وما يتصل بذلك) فأما اشتقاقه وتسميته، فقد اختلف الناس في ذلك: هل هو من الأنس الذى هو نقيض الوحشة، أو النّوس الذى هو نقيض السكون، أو الإيناس الذى هو بمعنى الإبصار، أو النّسيان الذى هو نقيض الذّكر. قال الشريف السيد ضياء الدّين أبو السعادات هبة الله المعروف بابن الشجرى فى «أماليه» (فى المجلس التاسع عشر وهو يوم السبت سابع عشر رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائةفى شرح قول أعشى تغلب: وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا، ... وأكثر ما يعطونك النظر الشّزر. قوله: «وكانوا أناسا ينفحون» وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر النحويين: فوزنه عال. والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا. فإذا دخلت عليه الألف واللام، التزموا فيه الحذف، فقالوا «الناس» ولا يكادون يقولون «الأناس» إلا في الشعر. كقوله: إنّ المنايا يطّلع ... ن على الأناس الآمنينا.

وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس. فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة: لأن بعضهم يأنس إلى بعض. وبه [1] أخذ بعض الشعراء في قوله: وما سمّى الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلّب. قال: وذهب الكسائىّ إلى أن «الناس» لغة مفردة، وهو اسم تامّ وألفه منقلبة عن واو، واستدلّ بقول العرب فى تحقيره نويس. قال: ولو كان منقوصا من أناس لردّه التحقير إلى أصله، فقيل «أنيس» . وقال بعض من وافق الكسائىّ في هذا القول: إنه مأخوذ من النّوس، مصدر ناس ينوس إذا تحرّك. ومنه قيل لملك من ملوك حمير ذو نواس: لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. قال الفرّاء: والمذهب الأوّل أشبه، وهو مذهب المشيخة. وقال أبو علىّ الفارسىّ: أصل الناس الأناس. فحذفت الهمزة التى هى فاء ويدلك على ذلك الإنس والأناسىّ. فأما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما صارت ثانية وهى زائدة أشبهت ألف فاعل. يعنى أنها أشبهت بكونها ثانية وهى زائدة ألف «ضارب» فقيل نويس، كما قيل ضويرب. وقال سلمة بن عاصم، وكان من أصحاب الفراء: الأشبه في القياس أن يكون كلّ واحد منهما أصلا بنفسه فأناس من الأنس، وناس من النوس لقولهم في تحقيره نويس كبويب في تحقير باب. هذا ما قاله ابن الشجرىّ في أماليه.

_ [1] لم نجد هذه الزيادة في أمالى ابن الشجرى الموجود منها نسخة مخطوطة «بدار الكتب المصرية» .

فصل

وذهب أبو عمرو الشّيبانىّ: أنه مشتق من الإيناس، الذى هو بمعنى الإبصار؛ وحجته قوله تعالى: «إنّى آنست نارا» أى أبصرت نارا. وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من النّسيان، وحجتهم أن أصله إنسيان. فحذفت الياء تخفيفا وفتحت السين لأن الألف تطلب فتح ما قبلها. ولأن العرب حين صغرته قالت فيه أنيسيان، فزادت الياء. والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ولو لم تكن فى المكبر لما ردّت في المصغّر. وبه أخذ أبو تمام في قوله: لا تنسين تلك العهود فإنما ... سمّيت إنسانا لأنك ناسى. وأنكر البصريون ذلك، وقالوا: لا حجة فيه، لأن العرب قد صغرت أشياء على غير قياس كما قالوا في تصغير رجل بمعنى راجل رويجل، وفي تصغير ليلة لييلة، وفي تصغير عشيّة عشيشة. وقال ابن عباس: إنما سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى. وهذا هو الأرجح والله تعالى أعلم. فصل قال أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد في كتابه يرفعه إلى وهب بن منبّه إنه قال: قرأت في «التوراة» أن الله عز وجل حين خلق آدم ركّب جسده من أربعة أشياء؛ ثم جعلها وراثة في ولده، تنمى في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة. رطب، ويابس، وسخن، وبارد. قال: وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلقه من تراب وماء، وجعل فيه يبسا ورطوبة، فيبوسة كل جسد من قبل التراب، ورطوبته

من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح. ثم خلق للجسد بعد هذا الخلق الأوّل أربعة أنواع أخر وهى ملاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهنّ، ولا تقوم واحدة منهنّ إلا بالأخرى: المرّة السوداء، والمرّة الصفراء، والدم الرطب الحارّ، والبلغم البارد. ثم أسكن بعض هذا الخلق في بعض، فجعل مسكن اليبوسة في المرّة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدّم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرّة الصفراء. فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كلّ واحدة فيه وفقا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدل بناؤه. فإن زادت واحدة منهنّ عليهنّ وقهرتهنّ ومالت بهنّ، دخل على أخواتها السّقم من ناحيتها بقدر ما زادت؛ وإن كانت ناقصة عنهنّ، ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السّقم من نواحيهنّ، لغلبتهنّ عليها حتّى تضعف عن طاقتهنّ وتعجز عن مقاومتهنّ. قال وهب: وجعل عقله في دماغه، وشرهه في كليتيه، وغضبه في كبده، وصرامته فى قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه. وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا. ويقال: إنما لقّب الإنسان بالعالم الصغير، لأنهم مثّلوا رأسه بالفلك، ووجهه بالشمس إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالرّوح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود؛ ومثلوا حواسّه الخمس ببقية الكواكب السيّارة، وآراءه بالنجوم الثابتة، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهره بالبرّ، وبطنه بالبحر، ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون.

ومنها: أن فيه ما يشاكل الجمعة، والشهر، والأيام، والسنة. أما أيام الجمعة، فإن بدنه سبعة أجزاء، وهى اللحم، والعظام، والعروق، والأعصاب، والدّم، والجلد، والشعر. وأما الشهور، فإن لبدنه اثنى عشر جزءا مدبرة: ستة منها باطنة؛ وهى الدماغ، والقلب، والكبد، والطّحال، والمعدة، والكليتان؛ وستة ظاهرة، وهى العقل، والحواسّ الخمس؛ فهذه الاثنا عشر مقابلة لشهور السنة. وأما الأيام، فإن فيه ثلاثمائة وستين عظما؛ منها ما هو لبنية الجسد مائتان وثمانية وأربعون عظما. والإنسان ينقسم إلى أربعة أنواع: الرأس، واليدان، والبدن، والرجلان؛ ففى الرأس اثنان وأربعون عظما؛ وفي اليدين اثنان وثمانون عظما؛ وفى البدن أربعون عظما؛ وفي الرجلين أربعة وثمانون عظما؛ والباقى سمسمانية لسدّ الفروج التى تكون بين العظام. وفيه ثلاثمائة وستون عرقا. وأما فصول السنة: فإن فيه أربعة أخلاط طبعها طبع الفصول الأربعة، فالدّم كالربيع في حرارته ورطوبته، والمرّة الصفراء كالصيف في حرّه ويبسه، والمرّة السوداء كالخريف في برده ويبنسه، والبلغم كالشتاء في برده ورطوبته. وهذه الأخلاط من أوّل مزاج الأركان التى هى العناصر الأربعة، وهى: النار، والهواء، والماء، والأرض.

فصل وأما ترتيب أحواله وتنقل السن به إلى أن يتناهى:

فصل وأما ترتيب أحواله وتنقل السنّ به إلى أن يتناهى: [قال [1] الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) . وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث الله تعالى ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقىّ أو سعيد» ، الحديث. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكّل الله بالرحم ملكا: فيقول أى رب نطفة! أى ربّ علقة! أى ربّ مضغة! فإذا أراد الله أن يقضى خلقها قال: أى ربّ ذكر

_ [1]- هذه الزيادة المحصورة بين قوسين مربعين منقولة كما هى عن إحدى النسخ.

أم أنثى؟ أشقىّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمّه» . خرّج ذلك البخارىّ في «صحيحه» فى باب القدر. وقال الثعلبىّ في تفسير قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : «قالت الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين [1] حالا، وسبعة وثلاثين اسما [2] : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم خلقا آخر، ثم جنينا، ثم وليدا، ثم رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعا، ثم ناشئا، ثم مترعرعا، ثم حزوّرا، ثم مراهقا، ثم محتلما، ثم بالغا، ثم أمرد، ثم طارّا، ثم باقلا، ثم مسيطرا، ثم مصرخا، ثم مختطّا، ثم صملّا، ثم ملحيا، ثم مستريما، ثم مصعدا، ثم مجتمعا. وقال غيره: ما دام الولد في الرّحم، فهو جنين؛ فإذا ولد، فهو وليد، وما دام لم يستتمّ سبعة أيام، فهو صديغ: لأنه لم يشتدّ صدغه إلى تمام السبعة؛ ثم مادام يرضع، فهو رضيع؛ فإذا قطع عنه اللبن، فهو فطيم، ثم إذا غلظ وذهبت عنه ترارة الرّضاعة، فهو جحوش. قال الهذلىّ: قتلنا مخلدا وابنى خراق ... وآخر جحوشا فوق الفطيم. ثم إذا دبّ ونما، فهو دارج. فإذا بلغ طوله خمسة أشبار، فهو خماسىّ. فإذا سقطت رواضعه، فهو مثغور. فإذا نبتت أسنانه بعد السّقوط، فهو مثّغر ومتّغر معا.

_ [1] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها. [2] البيانات التالية بعده سبعة وعشرون فلعلها محرفة عنها.

فصل فى ظهور الشيب وعمومه

فإذا تجاوز [1] عشر سنين أو جاوزها، فهو مترعرع وناشئ. فإذا كاد أن يبلغ الحلم أو بلغه، فهو يافع ومراهق. فإذا احتلم واجتمعت قوّته، فهو حزوّر؛ واسمه في جميع هذه الأحوال التى تقدّم ذكرها غلام. فإذا احضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل، قيل فيه قد بقل وجهه. فإذا صار ذا فتاء؛ فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه، فهو مجتمع. ثم مادام بين الثلاثين والأربعين، فهو شابّ، ثم هو كهل إلى أن يستوفى الستين. فصل فى ظهور الشيب وعمومه يقال للرجل أوّل ما يظهر به الشيب، قد وخطه الشيب. فإذا زاد، قيل خصّفه وخوّصه. فإذا ابيضّ بعض رأسه، قيل قد أخلس رأسه، فهو مخلس. فإذا غلب بياضه سواده، فهو أغثم. فإذا شمطت مواضع من لحيته، قيل وخزه القتير ولهزه. فإذا كثر فيه الشيب وانتشر، قيل فيه قد تقشّع [2] فيه الشيب.

_ [1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل. وفي فقه الثعالبى (فاذا كاد يجاوز العشر السنين، أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ) وهو الصواب. [2] كذا بالأصل وفقه اللغة وهو محرف عن «تفشّغ» قال في القاموس (وتفشّغ فيه الشيب أو الدم: انتشر وكثر) .

ويقال أيضا: شاب الرجل، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم توجّه، ثم دلف، ثم دبّ، ثم مجّ، ثم هدج، ثم ثلّب، ثم الموت. وقيل: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقه، واستنباط الدّقيقه. وأما النفس الغضبية، فهمّ صاحبها منافسة الأكفاء ومغالبة الأقران ومكاثرة العشيرة. ومن ذلك ما أجاب به حصين بن المنذر، وقد قيل له: ما السّرور؟ قال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. وقيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ. وقيل لعبد الله بن الأقسم: ما السرو؟ قال: رفع الأولياء، ووضع الأعداء، وطول البقاء، مع الصحّة والنماء. وقيل لزياد: ما السرور؟ قال: من طال عمره، ورأى فى عدوّه ما يسرّه. وقيل لأبى مسلم، صاحب الدعوة: ما السّرور؟ قال: ركوب الهمالجة، وقتل الجبابرة. وقيل له: ما اللذة؟ قال: إقبال الزمان، وعزّ السلطان. وأما النفس البهيمية، فهمّ صاحبها طلب الراحة. وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح. وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا:

يوم المطر للشرب؛ ويوم الريح للنوم؛ ويوم الدّجن للصيد؛ ويوم الصّحو للجلوس. قيل: ولما بلغ ابن خالويه ما قسمته الفرس من أيامها قال: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم! (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) . ولكنّ نبينا صلى الله عليه وسلم جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه؛ ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى. فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع، آمنه الله يوم الفزع الأكبر» . قالوا: والطبيعة البهيمية هى أغلب الطبائع على الإنسان: لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل. ومن ذلك قولهم: الرأى نائم، والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود. ومن ذلك ما أجاب به امرؤ القيس، وقد قيل له: ما السرور؟ فقال: بيضاء رعبوبه، بالطيب مشبوبه، باللحم مكروبه. «وكان مفتونا بالنساء» . وقيل لأعشى بكر: ما السرور؟ قال: صهباء صافيه، تمزجها ساقيه، من صوب غاديه. «وكان مغرما بالشراب» . وقيل لطرفة بن العبد: ما السرور؟ قال مطعم هنىّ، ومشرب روىّ، وملبس دفىّ، ومركب وطىّ. «وكان يؤثر الخفض والدّعة» . وهو القائل: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك! لم أحفل متى قام عوّدى. فمنهنّ سبقى العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد.

وكرّى إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورّد. وتقصير يوم الدّجن، والدّجن معجب، ... ببهكنة تحت الخباء المعمّد. وسمع هذه الأبيات عمر بن عبد العزيز فقال: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدى: لولا أن أعدل في الرعيه، وأقسم بالسويّه، وأنفر في السّريّه. وقال عبد الله بن نهيك، عفا الله تعالى عنه: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى، ... وعيشك، لم أحفل متى قام رامس. فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كأنّ أخاها مطلع الشمس ناعس. ومنهنّ تجريد الكواعب كالدّمى ... إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس. ومنهن تقريط الجواد عنانه ... إذا ابتدر الشخص الخفىّ الفوارس. وقيل ليزيد بن مزيد: ما السرور؟ فقال: قبلة على غفلة: وقيل لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: شرب الجريال، ومحادثة الرجال. وقيل للحسن بن هانئ: ما السرور؟ فقال: مجالسة الفتيان، فى بيوت القيان، ومنادمة الإخوان، على قضب الرّيحان؛ ثم أنشد: قلت بالقفص لموسى، ... ونداماى نيام: يا رضيعى ثدى أمّ ... ليس لى عنه فطام! إنما العيش سماع ... ومدام وندام. فإذا فاتك هذا، ... فعلى الدّنيا السلام!

الباب الثانى من القسم الأول من الفن الثانى (فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها)

الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها) وما وصف به طيب الريق والنّكهة، وحسن الحديث، والنّغمة، واعتدال القدود، ووصف مشى النساء. وهو مرتب على ترتيب بنية الإنسان في المذكر والمؤنث. فأما الشّعر وما قيل فيه، قال الثعالبىّ عن أئمة اللغة: العقيقة، الشعر الذى يولد به الإنسان. الفروة، شعر معظم الرأس. الناصية، شعر مقدّم الرأس. الذّؤابة، شعر مؤخّر الرأس. الفرع، شعر رأس المرأة. الغديرة، شعر ذؤابتها. الغفر، شعر ساقها. الدّبب، شعر وجهها. الوفرة، ما بلغ شحمة الأذن من الشعر. الّلمّة، ما ألمّ بالمنكب منه. الطّرّة، ما غشّى الجبهة منه. الجمّة والغفرة، ما غطّى الرأس منه.

فصل فى تفصيل أوصافه

الهدب، شعر أشفار العين. الشارب، شعر الشّفة العليا. العنفقة، شعر الشفة السّفلى. المسربة، شعر الصدر. وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام دقيق المسربة. الشّعرة، العانة. الإسب، شعر الأست. الزّبب، شعر بدن الرجل. ويقال بل هو كثرة الشعر في الاذنين. فصل فى تفصيل أوصافه يقال: شعر جفال، إذا كان كثيرا. ووحف، إذا كان متصلا. وكثّ، إذا كان كثيرا كثيفا مجتمعا. ومعلنكس، ومعلنكك، إذا زادت كثافته. ومنسدر، إذا كان منبسطا. وسبط، إذا كان مسترسلا. ورجل، إذا كان غير جعد ولا سبط. وقطط، إذا كان شديد الجعودة. ومقلعطّ، إذا زاد على القطط. ومفلفل، إذا كان نهاية في الجعودة كشعر الزّنج.

وسخام، إذا كان حسنا ليّنا. ومغدودن، إذا كان طويلا ناعما. وقال الأصمعىّ: من لم يخفّ شعره قبل الثلاثين لم يصلع أبدا؛ ومن لم يحمل اللحم قبل الثلاثين لم يحمله أبدا. ومما وصف به الشعر، قال نصر بن أحمد، عفا الله تعالى عنه: سلسل الشّعر فوق وجه، فحاكى ... ظلمة الليل فوق ضوء الصّباح. وقال ابن الرومىّ: وفاحم وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مرسلا غدره. قبل كاللّيل من مفارقه ... منحدرا لا يذمّ منحدره. حتّى تناهى إلى مواطنه ... يلثم من كلّ موطئ عفره. كأنّه عاشق دنا شغفا ... حتّى قضى من حبيبه وطره. وقال فتح الدّين بن عبد الظاهر: حلّ ثلاثا يوم حمّامه ... ذوائبا يعبق منها الغوال. فقلت، والقصد ذؤاباته: ... يا سهرى في ذى اللّيال الطّوال! وقال آخر: قد علّق القلب بدبّوقة ... وجنّ منها فهو مفتون؟ واعجيا للعشق في حكمه ... بشعره قبّد مجنون.

وقال آخر: رأيت على قدّ الحبيب ذؤابة ... فعينى على تلك الذّؤابة تهمع. يقول لى الواشون: مالك باكيا؟ ... فقلت: بعينى شعرة فهى تدمع. وقال آخر: وشعرة عاينها ناظرى ... على قوام مائس الخطره. فسال دمعا وهمى جفنه، ... والدّمع لا شكّ من الشّعره. وقال آخر: ولربّ ممشوق القوام تضمّه ... ممشوقة، فتعانقا غصنين. أرخت ذوائبها وأسبل شعره، ... فتقابلا قمرين في ليلين! ومما وصفت به شعور النساء؛ قال بكر بن النطّاح: بيضاء تسحب من قيام فرغها ... وتغيب فيه فهو جثل أسحم. فكأنّها فيه نهار ساطع، ... وكأنّه ليل عليها مظلم. وقال آخر: نشرت علىّ ذوائبا من شعرها، ... حذر الكواشح والعدوّ المحنق. فكأنّنى وكأنها وكأنّه ... صبحان باتا تحت ليل مطبق. وقال عمر بن أبى ربيعة: سبته بوحف في العقاص كأنّه ... عناقيد، دلّاها من الكرم قاطف. أسيلات أبدان، دقّاق حضورها، ... وثيرات ما التفّت عليه الملاحف.

وقال المتنبى: ومن كلّما جرّدتها من ثيابها، ... كساها ثيابا غيرها الشّعر الوحف. وقال أيضا: دعت خلاخيلها ذوائبها، ... فجئن من فرقها إلى القدم. وقال في أخرى: نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... فى ليلة، فأرت ليالى أربعا. واستقبلت قمر السماء بوجهها، ... فأرتنى القمرين في وقت معا. وقد ألمّ في ذلك بقول ابن المعتزّ: سقتنى في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب. فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى، ... وشمسين من خمر وخدّ حبيب. وقال ابن المعتزّ: فلمّا أن قضت وطرا وهمّت ... على عجل بأخذ للرّداء، رأت شخص الرّقيب على تدان ... فأسبلت الظّلام على الضّياء. وغاب الصبح منها تحت ليل، ... وظلّ الماء يقطر فوق ماء. وقال ابن لنكك: هل طالب ثأر من قد أهدرت دمه ... بيض، عليهنّ نذر قتل من عشقا؟ من العقائل ما يخطرن عن عرض ... إلّا أرينك في قدّ قنا ونقا. رواعف بخدود زانها سبج ... قد زرفن [1] الحسن في أصداغها حلقا.

_ [1] زرفن صدغيه جعلهما كالزّرفين وهو حلقة الباب.

ذكر ما قيل في الشيب والخضاب من المدح والذم

نواشر في الضّحى من فرعها غسقا، ... وفي ظلام الدّجى من وجهها فلقا. أعرن غيد ظباء روّعت غيدا، ... والورد توريد خدّ، والمها حدقا. وقال ابن دريد الأزدىّ: غرّاء لو جلت الخدود شعاعها ... للشّمس عند طلوعها، لم تشرق. غصن على دعص تألّق فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق. لو قيل للحسن: احتكم لم يعدها. ... أو قيل: خاطب غيرها! لم ينطق. فكأنّنا من فرعها في مغرب، ... وكأنّنا من وجهها في مشرق. وقال آخر: جعودة شعرها تحكى غديرا ... يصفّقه الجنوب مع الشّمال. ذكر ما قيل في الشيب والخضاب من المدح والذم فأما مدح الشيب، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» . وقال ابن أبى شيبة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: هو نور المؤمن» . وفي الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ان أوّل من رأى الشيب إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا ربّ ما هذا؟ فقال له: الوقار، فقال: رب زدنى وقارا» .

وتأمل حكيم شيبه فقال: مرحبا بزهرة الحنكة ويمن الهدى ومقدّمة العفّة ولباس التقوى. وقيل: دخل أبو دلف على المأمون وعنده جارية له، وكان أبو دلف قد ترك الخضاب، فأشار المأمون إلى الجارية فقالت له: شبت يا أبا دلف، إنا لله وإنا اليه راجعون. فسكت عنها أبو دلف، فقال له المأمون: أجبها، فقال: تهزّأت إذ رأت شيبى فقلت لها: ... لا تهزئى من يطل عمر به يشب! شيب الرجال لهم زين ومكرمة، ... وشيبكن لكنّ الويل فاكتئبى! فينا لكنّ- وإن شيب بدا- أرب، ... وليس فيكنّ بعد الشّيب من أرب! وقال آخر: أهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا، ... أهلا به من وافد ونزيل! أهدى الوقار وذاد كلّ جهالة ... كانت، وساق إلى كلّ جميل. فصحبت في أهل التقى أهل النهى ... ولقيت بالتعظيم والتبجيل. ورأى لى الشّبّان فضل جلالة ... لما اكتهلت، وكنت غير جليل. فإذا رأونى مقبلا، نهضوا معا: ... فعل المقرّ لهيبة التفضيل. إن قلت، كنت مصدّقا في منطقى، ... ماضى المقالة حاضر التعديل. وقال مسلم بن الوليد: الشّيب كره، وكره أن يفارقنى ... اعجب لشىء على البغضاء مودود. وقال علىّ بن محمد الكوفىّ: بكى للشّيب، ثم بكى عليه ... وكان أعزّ من فقد الشّباب. فقل للشّيب: لا تبرح حميدا ... إذا نادى شبابك بالذّهاب.

وقال العسكرىّ: يودّ أنّ شيبه ... إذ جاء لا ينصرف. يخلف ريعان الصّبا ... والموت منه خلف. وقال ابن المعتزّ: قد يشيب الفتى، وليس عجيبا ... أن يرى النّور في القضيب الرّطيب. وقال أبو تمام: ولا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأى والأدب. وقال أبو الفتح البستى: يا شيبتى دومى ولا تترحّلى ... وتيقّنى أنّى بوصلك مولع! قد كنت أجزع من حلولك مرة، ... فالآن من خوف ارتحالك أجزع! وقال آخر: فأمّا المشيب فصبح بدا ... وأما الشّباب فليل أفل. سقى الله هذا وهذا معا ... فنعم المولّى ونعم البدل!. وقال أبو الفتح كشاجم: تفكّرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحقّ للشّيب واجب. يصاحبنى شرخ الشباب فينقضى، ... وشيبى لى حتّى الممات مصاحب. وقال أبو العلاء السروىّ، شاعر اليتيمة: حىّ شيبا أتى لغير رحيل، ... وشبابا مضى لغير إياب! أىّ شىء يكون أحسن من عا ... ج مشيب في آبنوس شباب؟

وقال أبو عوانة الكاتب: هزئت إذرأت مشيبى، وهل غي ... ر المصابيح زينة للسماء؟ وتولّت فقلت قولا بإفصا ... ح لها، لا بالرّمز والإيماء: إنما الشيب في المفارق كالنّو ... ر بدا والسّواد كالظلماء. لا محيص عن المشيب أو المو ... ت، فكن للحوباء أو للنّماء! إن عمرا عوّضت فيه عن المو ... ت بشيب من أعظم النّعماء! وقال ابن عبد ربه: كأنّ سواد لمته ظلام ... يطلّ من المشيب عليه نور. وقال أبو عبد الله الاسباطى: لا يرعك المشيب، يا ابنة عبد ال ... لّه، فالشيب زينة ووقار! إنما تحسن الرّياض إذا ما ... ضحكت في ظلالها الأنوار. وأما ما ورد في ذم الشيب، قال قيس بن عاصم رحمة الله عليه: الشيب خطام المنيّة. وقال غيره: الشيب نذير الموت. وقد ورد في بعض التفاسير في قوله تبارك وتعالى (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) . قيل: هو الشيب. وقال أعرابىّ: كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء؛ فيا خير مبدول ويا شرّ بدل.

وقيل للنبىّ صلى الله عليه وسلم: عجّل عليك الشيب يا رسول الله، قال: «شيّبتني هود وأخواتها» . قيل: هى عبس، والمرسلات، والنازعات. وقيل لعبد الملك بن مروان: عجّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيبنى ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن. وقال بعضهم: خرجت إلى ناحية الطّفاوة، فإذا أنا بامرأة لم أر أجمل منها، فقلت: أيتها المرأة، إن كان لك زوج فبارك الله له فيك، وإلا فأعلمينى. قال فقالت: وما تصنع بى؟ وفيّ شىء لا أراك ترتضيه. قلت: وما هو؟ قالت: شيب في رأسى. قال: فثنيت عنان دابتى راجعا، فصاحت بى: على رسلك، أخبرك بشىء، فوقفت وقلت: وما هو، يرحمك الله؟ قالت: والله ما بلغت العشرين بعد، وهذا رأسى فكشفت عن عناقيد كالحمم، وقالت: والله ما رأيت برأسى بياضا قطّ، ولكن أحببت أن تعلم أنّا نكره منك ما تكره منا، وأنشدت: أرى شيب الرّجال من الغوانى ... بموضع شيبهنّ من الرجال! قال: فرجعت خجلا، كاسف البال. قال أبو تمام: غدا الشيب مختطا بفودىّ خطّة ... سبيل الرّدى منها إلى النفس مهيع. هو الزّور يجفى، والمعاشر يجتوى، ... وذو الإلف يقلى، والجديد يرقّع. له منظر في العين أبيض ناصع، ... ولكنه في القلب أسود أسفع. وقال آخر: تقول لمّا رأت مشيبى ... بدا، وعندى له انقباض: لا ترج عطفا عليك منّى، ... سوّد ما بيننا البياض!

وقال آخر: وقالوا: مشيب المرء فيه وقاره، ... وما علموا أن المشيب هو العيب. وأىّ وقار لامرئ عرّى الصّبا، ... ومن خلفه شيب وقدّامه شيب؟ وقال آخر: من شاب، قد مات وهو حىّ، ... يمشى على الأرض مشى هالك! لو كان عمر الفتى حسابا ... كان له شيبه فذلك [1] . وقال محمود الورّاق: بكيت لقرب الأجل، ... وبعد فوات الأمل! ووافق شيب طرا ... بعقب شباب رحل. شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل. طوى صاحب صاحبا ... كذاك اختلاف الدّول! وقال عبيد بن الأبرص: والشيب شين لمن أمسى بساحته! ... لله درّ شباب اللّمة الخالى. وقال البحترىّ: وددت بياض السيف يوم لقيننى ... مكان بياض الشيب حلّ بمفرقى. وقال أبو العتاهية: عريت عن الشباب، وكان غضّا، ... كما يعرى من الورق القضيب. ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب!

_ [1] الفذالك جمع الفذلكة أى نتائج الحساب التى يقال عندها: فذلك يكون كذا. (أنظر: شفاء الغليل للخفاجى) .

وقال آخر: يا حسرتا أين الشباب الذى ... على تعدّيه المشيب اعتدى؟ شبت، فما أنفكّ من حسرة ... والشيب في الرأس رسول الرّدى! إنّ مدى العمر قريب فما ... بقاء نفسى بعد قرب المدى؟ وقال آخر: هذا عذارك بالمشيب مطرّز ... فقبول عذرك في التصابى معوز! ولقد علمت- وما علمت توهّما- ... أن المشيب لهدم عمرك يرمز. وقال أيضا: ألست ترى نجوم الشّيب لاحت ... وشيب المرء عنوان الفساد! وقال أيضا: أبلى جديدى هذان الجديدان ... والشأن في أن هذا الشّيب ينعانى! كأنما اعتمّ رأسى منه بالجبل الر ... اسى، فأوهنى ثقلا وأوهانى. وقال آخر: لما رأت وضح المشيب بعارضى ... صدّت صدود مجانب متحمّل. فجعلت أطلب وصلها بتلطّف، ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلى! وقال كشاجم: ضحكت! من شيبة ضحكت ... لسواد اللّمّة الرجله ثم قالت وهى هازئة: ... جاء هذا الشيب بالعجله! قلت: من حبّيك، لا كبر، ... شاب رأسى فانثنت خجله.

وثنت جفنا على كحل ... هى منه الدّهر مكتحله. أكثرت منه تعجّبها! ... فهى تجنيه وتعجب له. وقال أبو تمام: دقة في الحياة تدعى جلالا، ... مثل ما سمّى اللّديغ سليما. غرّة مرّة ألا إنّما كن ... ت أغرّا أيام كنت بهيما. وقال ابن المعتز: لقد أبغضت نفسى في مشيبى ... فكيف تحبّنى الخود الكعاب؟ وقال أبو هلال العسكرىّ: فلا تعجبا أن يعبن المشيبا ... فما عبن من ذاك إلا معيبا! إذا كان شيبى بغيضا إلىّ ... فكيف يكون إليها حبيبا؟ وقال محمد بن أميّة: رأين الغوانى الشيب لاح بعارضى، ... فأعرضن عنّى بالخدود النّواضر. وكنّ إذا أبصرننى أو سمعن بى، ... دنون فرقّعن اللّوى بالمحاجر. وقال آخر: قالت، وقد راعها مشيبى: ... كنت ابن عمّ فصرت عمّا. واستهزأت بى، فقلت أيضا: ... قد كنت بنتا فصرت أمّا. وقال آخر: تضاحكت لمّا رأت ... شيبا تلالا غرره. قلت لها: لا تعجبى ... أنبيك، عندى خبره. هذا غمام للردّى، ... ودمع عينى مطره.

ومما قيل في الخضاب من المدح، ما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «غيّروا هذا الشيب، وجنّبوه السواد» . وكان أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه يخضب بالحناء وبالكتم. وقد مدح الشعراء الخضاب. فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: وقالوا: النّصول مشيب جديد! ... فقلت: الخضاب شباب جديد! إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود. وقال أبو الطيب المتنبى: وما خضب الناس البياض لأنّه ... قبيح، ولكن أحسن الشّعر فاحمه. وقال محمود الورّاق: للضّيف أن يقرى ويعرف حقّه! ... والشيب ضيفك، فاقره بخضاب. وقال عبدان الأصبهانىّ: فى مشيبى شماتة لعداتى، ... وهو ناع منغّض لحياتى. ويعيب الخضاب قوم، وفيه ... أىّ أنس إلى حضور وفاتى. لا ومن يعلم السرائر منّى ... ما به رمت خلّة الغانيات. إنما رمت أن يغيّب عنى ... ما ترينيه كلّ يوم مراتى. وهو ناع إلىّ نفسى، ومن ذا ... سرّه أن يرى وجوه النّعات؟

وقال ابن الرومىّ: يا بياض المشيب سوّدت وجهى، ... عند بيض الوجوه سود القرون! فلعمرى، لأخفينّك جهدى ... عن عيانى وعن عيان العيون! ولعمرى، لأمنعنّك أن تض ... حك في رأس آسف محزون! بخضاب فيه ابيضاض لوجهى ... وسواد لوجهك الملعون! وقال آخر: نهى الشيب الغوانى عن وصالى ... وأوقع بين أحبابى وبينى. فلست بتارك تدبير ذقنى ... إلى أن ينقضى أمدى لحينى. أدبّر لحيتى ما دمت حيّا ... وأعتقها ولكن بعد عينى. وقال آخر: قالوا: فلان لم يشب، ... وأرى المشيب عليه أبطا. فأجبتهم: لولا حدي ... ث الصّبغ لانكشف المغطّى. ومما قيل في ذم الخضاب: قال محمود الورّاق، رحمه الله: يا خاضب الشيب الّذى ... فى كلّ ثالثة يعود. إن النّصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد. وله بديهة روعة ... مكروهها أبدا عتيد. فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود لما تريد. وقال آخر: تستّر بالخضاب، وأىّ شىء. ... أدلّ على المشيب من الخضاب؟

وقال ابن الرومىّ: قل للمسوّد حين سوّد: هكذا ... غشّ الغوانى في الهوى إياكا! كذب الغوانى في سواد عذاره، ... فكذبنه في ودّهنّ كذاكا! وقال المتنبى: ومن هوى كلّ من ليست مموّهة ... تركت لون مشيبى غير مخضوب. ومن هوى الصدق في قولى وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب. وقال الأمير شهاب الدين بن يغمور عفا الله عنه: يا صابغ الشّيب، والأيام تظهره: ... هذا الشباب، وحقّ الله مصنوع! إن الجديد إذا ما كان في خلق ... يبين للناس أن الثوب مرقوع. وأما ما وصف به الوجه، فمن ذلك ما قيل في المذكر قال الوجيهىّ: مستقبل بالذى يهوى، وإن كثرت ... منه الإساءة، معذور بما صنعا. فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيها حيثما شفعا. وقال الآخر: رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيّهما أنور؟ سوى أنّ ذاك قريب المزار ... وهذا بعيد لمن ينظر. وذاك يغيب وذا حاضر ... فما من يغيب كمن يحضر. ونفع الهلال كثير لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر.

وقال ابن لنكك: البدر والشمس المني ... رة والدّمى والكوكب: أضحت ضرائر وجهه ... من حيث يطلع تغرب. وكأنّ جمر جوانحى ... فى خدّه يتلّهب. وكأنّ غصن قوامه ... من ماء دمعى يشرب. وصوالج في صدغه ... بسواد قلبى تلعب. وقال ابن المعدّل: نظرت إلى من زيّن الله وجهه، ... فيا نظرة كادت على عاشق تقضى! وكبّرت عشرا، ثم قلت لصاحبى: ... متى نزل البدر المنير إلى الأرض؟ وقال الخبز أرزّى: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النّظر فلم أدر من حيرتى فيهما ... هلال الدّجى من هلال البشر! فلولا التورّد في الوجنتين ... وما راعنى من سواد الشّعر، لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر! وقال أبو الشيص: تخشع شمس النهار طالعة ... حين تراه، ويخشع القمر. تعرفه أنه يفوقهما ... بالحسن، فى عين من له بصر. وقال أبو هلال العسكرىّ: ووجه نشرّب ماء النعيم، ... فلو عصر الحسن منه العصر.

وقال آخر: ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا. كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا. وقال عمر بن أبى ربيعة: وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف. أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف. وقال الجمانىّ من أبيات: نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان. إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان. ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو نواس: نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه. وقال آخر. أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون! ومثله قول الآخر: ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا.

وقال الأرّجانىّ ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه. لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه. قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه. يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه. وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه. ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه. وقال أيضا: وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا. تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا. ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر. بحوراء من حور الجنان عزيزة، ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر. وقال السرىّ الرفاء بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح. ماء النعيم على ديباج وحنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح. رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح

ومما وصف به صفاء الوجه ورقة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا.

وقال آخر: ليس فيها أن يقال لها: ... كملت، لو أن ذا كملا. كلّ جزء من محاسنها ... صائر من حسنها مثلا. وقال عمر بن أبى ربيعة: وفتاة إن يغب بدر الدّجى، ... فلنا في وجهها عنه خلف. أجمع الناس على تفضيلها، ... وهواهم في سواها مختلف. وقال الجمانىّ من أبيات: نرى الشمس والبدر معناهما ... بها واحدا، وهما معنيان. إذا طلعت وجهها، أشرقا ... بطلعتها، وهما آفلان. ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو نواس: نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهى في وجهه. وقال آخر. أعد نظرا! فما في الخدّ نبت، ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون! ومثله قول الآخر: ولما استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه، ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا.

وقال الأرّجانىّ ما أنس، لا أنسى له موقفا، ... والعيس قد ثوّرهنّ الحداه. لمّا تجلّى وجهه طالعا، ... وقد ترامت نظرات الوشاه. قابلنى حين بدت أدمعى ... فى خدّه المصقول مثل المراه. يوهم صحبى أنه مسعدى ... بأدمع لم تذرها مقلتاه. وإنما قلّدنى منّة ... بدمع عين من جفونى امتراه. ولم تقع في خدّه قطرة ... إلا خيالات دموع البكاه. وقال أيضا: وأغيد رقّ ماء الوجه منه، ... فلو أرخى لثاما عنه، سالا. تبين سوادها الأبصار فيه، ... فحيث لحظت منه، حسبت خالا. ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال بشار وما ظفرت عينى غداة لقيتها ... شىء، سوى أطرافها والمحاجر. بحوراء من حور الجنان عزيزة ... يرى وجهه في وجهها كلّ ناظر. وقال السرىّ الرفاء بيضاء تنظر من طرف تقلّبه ... مفرّق بين أجساد وأرواح. ماء النعيم على ديباج وجنبها ... يجول بين حتى ورد وتفّاح. رقّت فلو مرج الماء القراح بها ... والراح، لامترجت بالماء والراح

وقال الأرّجانىّ من أبيات: ولمّا تلاقينا، وللعين عادة ... تثير وشاة عند كلّ لقاء، بدت أدمعى في خدّها من صقاله، ... فغاروا وظنوا أن بكت لبكائى! ومما قيل في صفرة الوجه، فمن ذلك ما قيل مذكرا. قال أبو عبادة البحترىّ: بدت صفرة في وجهه، إنّ حمدهم ... من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه في العقد. وقال آخر: لم تشن وجهه المليح، ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا. وقال الأرّجانىّ وأجاد: راق ماء الحياة من وجنتيه، ... فهو مرآة أوجه العشّاق! ومن ذلك ما قيل في المؤنث، قال سلم الخاسر: تبدّت فقلت: الشمس عند طلوعها ... بوجه غنىّ اللون عن أثر الورس! فقلت لأصحابى، وبى مثل ما بهم، ... على مرية: ما هاهنا مطلع الشمس! وقال أبو تمام: صفراء- صفرة صحة- قد ركّبت ... جثمانها في ثوب سقم أصفر. وقال مسعود الأصبهانىّ، شاعر الخريدة: وقينة قال لها ناقص: ... كملت، لولا صفرة اللون. قلت: اتّئد! فالشمس مصفرّة، ... وهى صلاح الأرض في الكون!

ومما قيل في السّمرة، قال شاعر: كيف لا أعشق ظبيا ... سارحا في ظلّ ملك. إنما السّمرة فيه ... مزج كافور بمسك. وقال آخر: يا ذا الذى يذهب أمواله ... فى حبّ هذا الأسمر الفائق! ما الذهب الصامت مستكثرا ... إذهابه في الذهب الناطق! وقال آخر: ذهبىّ اللون! تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح. خوّفونى من فضيحته! ... ليته وافى، وأفتضح! ومما قيل في السّواد (وهو يختص بالمؤنث) : قال الزركشىّ في «دنانير» البرمكية: أشبهك المسك، وأشبهته: ... قائمة في لونه قاعده. لا شكّ، إذ لونكما واحد، ... أنكما من طينة واحده. وقال ابن الرومىّ: أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق. فأقبلت نحوها الضمائر وال ... أبصار، يعبقن أيّما عبق! يفترّ ذاك السواد عن يقق ... فى ثغرها كاللّآلئ النّسق. كأنّها، والمزاح يضحكها، ... ليل تفرّى دجاه عن غسق.

وقال الصنوبرىّ يا غصنا من سبج رطب، ... أضبح منك الدرّ في كرب! حبّك من قلبى مكان الذى ... أشبهته من حبّة القلب. وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة عفا الله عنه: يا ربّ غانية بيضاء تصبحنى ... من العتاب كؤوسا ليس تنساغ. أشتاق طرّتها أو صدغها ومعى ... من كلّها طرر سود وأصداغ! كأننا، لا أتاح الله فرقتنا! ... يا كعبة المسك، يا زنجيّة، زاغ. وقال آخر: أحبّ النساء السّود من أجل تكتم، ... ومن أجلها أحببت من كان أسودا! فجئنى بمثل المسك أطيب نفحة! ... وجئنى بمثل الليل أطيب مرقدا! وقال العسكرىّ: صرفت ودّى إلى السّودان من هجر، ... ولا التفتّ إلى روم ولا خزر! أصبحت أعشق من وجه ومن بدن ... ما يعشق الناس من عين ومن شعر. فإن حسبت سواد الخدّ منقصة، ... فانظر إلى سفعة في وجنة القمر! وقال بشار وأجاد: يكون الخال في خدّ نقىّ ... فيكسبه الملاحة والجمالا، ويونقه لأعين مبصريه، ... فكيف إذا رأيت اللون خالا؟ وقال أبو علىّ بن رشيق: دعائك الحسن فاستجيبى ... باسمك في صبغة وطيب. نيهى على البيص واستطيلى، ... تبه شباب على مشيب!

ولا يرعك اسودادلون ... كمقلة الشادن الرّبيب. فإنما النّور عن سواد ... فى أعين الناس والقلوب! وقال آخر: إن أزهرت ليلا نجوم السما ... بيضا على أسود مرخى الإزار. وأوجب العكس مثالا لها، ... فالسّود في الأرض نجوم النهار. ومما وصف به أثر الجدرىّ في الوجه، فمن ذلك قول الناجم: يا قمرا جدّر لما استوى ... واكتسب الملح بتلك الكلوم! أظنّه غنّى لشمس الضّحى ... فنقّطته فرحا بالنّجوم. وقال آخر: وقالوا: شابه الجدرىّ، فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم! فقلت: ملاحة نثرت عليه! ... وما حسن السماء بلا نجوم؟ ومثله قول الآخر: أيّها العائبون وجها مليحا ... نثر الحسن فيه نبذ خدوش! أىّ أفق بها بغير نجوم؟ ... أىّ ثوب زها بغير نقوش؟ وقال أبو زيد القاضى: غاية الحاسد الذى لام فيه ... أن رأى فوق خدّه جدريّا. إنما وجهه هلال تمام، ... جعلوا برقعا عليه الثريّا!

وقال أبو تمام بن رباح خدّك مرآة كلّ حسن، ... تحسن من حسنها الصّفات! مالى أرى فوقه نجوما، ... قد كسفت وهى نيّرات! ومما قيل في الحواجب، فمن محاسنها: الزّجج، والبلج. فأما الزّجج، فدقة الحاجبين وامتدادهما. وأما البلج، فهو أن يكون بينهما فرجة. والعرب تستحب ذلك. ومن معايبها: القرن، والزّبب، والمعط. فالقرن، اتصال الحاجبين. والعرب تكرهه. والزّبب، كثرة شعرهما. والمعط، تساقط الشعر عن بعض أجزائهما. ومما وصفت به الحواجب، قال الزاهى: وأغيد مجدول القوام جبينه ... سنا القمر البدرىّ في الغصن الرّطب. تنكّب قوس الحاجبين فسهمه ... لواحظه المرضى، وبرجاسه قلبى! وقال عبد الله بن أبى الشيص: حذرت الهوى حتّى رميت من الهوى ... بأصرد سهم من قسى الحواجب. وقال محمد بن عبد الرحمن الكوفىّ: ومستلب عين الغزال وقد ترى ... بجبهته عين الغزالة ماثلا. تناول قوس الحاجبين مفوّقا ... بأسهم ألحاظ تشكّ المقاتلا.

وقال آخر: غزانى الهوى في جيشه وجنوده ... وعبّى علىّ الخيل من كلّ جانب. بميمنة أعلامها أعين المها ... وميسرة تقضى بزجّ الحواجب. وقال آخر: لها حاجبان، الحسن والغنج منهما ... كأنهما نونان من خطّ ماشق. ومما قيل في العيون ووصفها، فمن محاسنها: الدّعج، وهو شدّة السّواد مع سعة المقلة. البرج، وهو شدّة سوادها وشدّة بياضها. النّجل، سعتها. الكحل، سواد جفونها من غير كحل. الحور، اتساع سوادها كأعين الظباء. وقيل: هو سواد العين وشدّة بياضها. الوطف، طول أشفارها؛ وفي الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام في أشفاره وطف. الشّهلة، حمرة في سوادها. ومن معايبها: الحوص، ضيق العين. الخوص، غؤورها مع الضيق. الشّتر، انقلاب الجفن. العمش، هو أن العين لا تزال سائلة رامصة.

الكمش، أن لا تكاد تبصر. الغطش، شبه العمش. الجهر، أن لا تبصر نهارا. العشا، أن لا تبصر ليلا. الخزر، أن ينظر بمؤخر عينه. الغضن، أن يكسر عينه حتّى تتغضّن جفونه. القبل، أن يكون كأنه ينظر إلى أنفه. وهو أهون من الحول. الشّطور، أن تراه ينظر إليك وهو ينظر إلى غيرك. وهو قريب من صفة الأحول. وفيه يقول الشاعر: حمدت إلهى إذ بلانى بحبّه ... وبى حول أغنى عن النظر الشّزر. نظرت إليه- والرقيب يظنّنى ... نظرت إليه- فاسترحت من العذر. الشّوص، أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه في شق العين التى ينظر بها. الخفش، صغر العين وضعف البصر. ويقال إنه فساد في العين يضيق له الجفن من غير وجع. الدّوش، ضيق العين وفساد البصر. الإطراق، استرخاء الجفن. الجحوظ، خروج المقلة وظهورها من الحجاج. البخق، أن يذهب البصر؛ والعين منفتحة. الكمه، أن يولد الإنسان وهو أعمى. البخص، أن يكون فوق العين أو تحتها لحم ناتئ.

فصل فى عوارض العين

فصل فى عوارض العين يقال: حسرت عينه، إذا اعتراها كلال من طول النظر. زرّت عينه، إذا توقّدت من خوف. سدرت عينه، إذا لم تكد تبصر. اسمدرّت عينه، إذا لاحت لها سمادير؛ وهى ما يتراءى لها من أشباه الذّباب وغيره. قدعت عينه، إذا ضعفت من الإكباب على النظر. حرجت عينه، إذا حارت. قال ذو الرمّة: وتحرج العين فيها حين تنتقب هجمت، إذا غارت. ونقنقت، إذا زاد غؤورها؛ وكذلك حجلت وهجّجت. ذهبت، إذا رأت ذهبا كثيرا فحارت فيه. شخصت، إذا لم تكد تطرف من الحيرة. فصل فى كيفية النظر وهيئته إذا نظر الإنسان إلى الشىء بمجامع عينيه، قيل: قد رمقه. فإذا نظر من جانب أذنه، قيل: لحظه.

فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه. فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه. (وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) . فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه. (وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) . فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا. فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا. فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق. فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه. فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه. فإن شر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه. فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر: وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا. فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه. فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق. فإن لألأهما، قيل برّق. فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق. فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره.

فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج. فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج. فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش. فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) . فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد. فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره. فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره. وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر: برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا. إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا. جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا. وقال جرير: إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا. يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا. وقال ذو الرمّة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.

_ [1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين.

فإذا نظر إليه بعجلة، قيل: لمحه. فإذا رماه ببصره مع حدّة، قيل: حدجه بطرفه. (وفي حديث ابن مسعود «حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم» ) . فإن نظر إليه بشدّة وحدّة، قيل: أرشقه وأسفّ النظر إليه. (وفي حديث الشعبىّ أنه كره أن يسفّ الرجل إلى أمّه وأخته وابنته) . فإن نظر إليه نظر المتعجّب أو الكاره المبغض، قيل: شفنه وشفن إليه شفونا وشفنا. فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرا. فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذى علق. فإن نظر إليه نظرة المستثبت، قيل: توضّحه. فإن نظر إليه واضعا يده على حاجبه مستظلّا بها من الشمس ليستبين المنظور إليه. قيل استكفّه واستوضحه واستشرفه. فإن نشر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاقته: قيل استشفّه. فإن نظر إلى الشىء كاللّمحة ثم خفى عنه، قيل: لاحه لوحة. قال الشاعر: وهل تنفعنّى لوحة لو ألواحها فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتّى يعرفه، قيل: نفضه نفضا. فإن نظر في كتاب أو حساب، قيل: تصفّحه. فإن فتح عينيه لشدّة النظر، قيل: حدّق. فإن لألأهما، قيل برّق. فإن انقلب حملاق عينيه، قيل: حملق. فإن عاب سواد عينيه من الفزع، قيل برق بصره.

فإن فتح عين مفزّع أو مهدّد، قيل: حمّج. فإن بالغ في فتحها وأحدّ النظر عند الخوف، قيل: حدّج. فإن كسر عينه عند النظر، قيل: دنقش وطرفش. فإن فتح عينه وجعل لا يطرف، قيل: شخص. وفي القرآن العزيز: (شاخصة أبصارهم) . فإن أدام النظر مع سكون، قيل: أسجد. فإن نظر إلى أفق الهلال ليراه، قيل: تبصّره. فإن أتبع الشىء بصره، قيل: أتأره بصره. وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسّقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر: برّح السّقم بى وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا. إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا. جوهر الحسن منذ أعرض للقل ... ب ثنى الجسم كلّه أعراضا. وقال جرير: إنّ العيون التى في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا. يصرعن ذا الّلبّ حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا. وقال ذو الرمّة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين [1] بالألباب ما تفعل الخمر.

_ [1] المشهور فعولان. بالرفع وصف للعينين.

وقال أبو تمام: متطلّب بصدوده قتلى ... فرد المحاسن وجهه شغلى. ألحاظه في الخلق مسرعة ... فيما تريد كسرعة النّبل. وقال آخر: ألحاظكم تجرحنا في ألحشاء ... ولحظنا يجرحكم في الخدود. جرح بجرح، فاجعلوا ذا بذا! ... فما الّذى أوجب هذا الصّدود؟ وقال آخر: ومقلة شادن أودت بقلبى، ... كأنّ السّقم لى ولها لباس. يسلّ اللحظ منها مشرفيّا ... لقتلى، ثم يغمده النّعاس. وقال ابن الرومىّ: يا عليلا، جعل العلّ ... ة مفتاحا لظلمى! ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمى. بك سقم في جفون، ... سقمها أكّد سقمى. وقال تاج الدين بن أيوب: أسقمنى طرفك السّقيم، وقد ... حكاه منّى في سقمه الجسد! هبّ نسيم من نحو أرضك لى ... فزادنى في هواك ما أجد. وهاج شوقى، والنار ما برحت ... عند هبوب الرّياح تتّقد. وقال ابن المعتز: ضعيفة أجفانه، ... والقلب منه حجر! كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر.

ومما وصفت به العيون على لفظ التأنيث، فمن ذلك ما قاله عدىّ بن الرقاع: وكأنّها بين النّساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم. وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... فى عينه سنة وليس بنائم. وقال الناجم: كاد الغزال يكونها، ... لكنّما هو دونها. والنّرجس الغضّ الجن ... ىّ أغضّ منه جفونها. من كان يعرف فضلها ... فعن القياس يصونها. وقال أبو دلف: نقتنص الآساد من غيلها، ... وأعين العين لنا صائده! ينبو الحسام العضب عنا وقد ... تكلم فينا النظرة القاصدة! تهابنا الأسد، ونخشى المها: ... آبدة ما مثلها آبذه! وقال آخر: لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر! أمضى وأنفذ في القلو ... ب من الخناجر في الحناجر! وقال آخر: ينظرن من خلل السّجوف كأنّما ... يمطرن أحشاء الكريم نبالا! وقال أبو فراس الحمدانىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه: وبيض بألحاظ العيون كأنّما ... هززن سيوفا أو سللن خناجرا. تصدّين لى يوما بمنعرج اللّوى ... فغادرن قلبى بالتصبّر غادرا.

سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة، ... ومسن غصونا، والتفتن جآذرا. وأطلعن في الأجياد للدّرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا. وقال ابن الرومىّ: نظرت، فأقصدت الفؤاد بطرفها، ... ثم انثنت عنّى، فكدت أهيم! ويلاى! إن نظرت وإن هى أعرضت: ... وقع السّهام ونزعهنّ أليم! وقال أيضا: لطرفها وهو مصروف كموقعه ... فى القلب حين يروع القلب موقعه. تصدّ بالطّرف لا كالسّهم تصرفه ... عنّى، ولكنّه كالسّهم تنزعه. وقال الأرّجانى: نقبوهنّ خشية العشّاق! ... أو لم تكف فتنة الأحداق؟ إنّ في الأعين المراض لشغلا ... للمعنّى عن الخدود الرّقاق! كلّ ما فات في الليالى المواضى ... فهو في ذمّة اللّيالى البواقى. وقال أيضا: سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدّارعونا. سللن سيوفا ولاقيننا! ... فلا تسأل اليوم ماذا لقينا. كسرن الجفون ولولا الرّضا، ... بحكم الغرام كسرنا الجفونا. وحسب الشهيد سرورا بأن ... يعاين حورا مع القتل عينا. وقال أبو نواس: ضعيفة كرّ الطّرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم.

وقال آخر: يا من تكحّل طرفها ... بالسّحر لا بالإثمد! نفسى كما عذّبتها ... وقتلتها بالإثم، دى [1] ! ومما قيل في أدواء العين، فمن ذلك: الغمص، أن لا تزال العين ترمص. اللّحح، أسوأ الغمص. اللّخص، التصاق الجفون. العائر، الرّمد الشديد. وفيه يقول النابغة: وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد. وكذلك الساهك. الغرب، ورم في المآقى. السّبل، أن يكون على بياضها وسوادها شبه غشاء. السّجا [2] ، أن يعسر على الإنسان فتح عينيه إذا انتبه من النوم: الظّفر، ظهور ظفرة (وهى جليدة تغشى العين من تلقاء المآقى) . الطّرفة، أن يحدث في العين نقطة حمراء. الانتشار، أن يتسع ثقب الناظر حتّى يلحق البياض من كل جانب. الحثر، أن يخرج في العين حبّ وهو الجرب. القمر، أن يعرض للعين فترة وفساد. يقال: قمرت عينه.

_ [1] فعل أمر للمؤنث من «ودى» بمعنى دفع الدية بسبب الإثم الذى وقع منها [2] فى «فقه اللغة» الجسأة [بتقديم الجيم على السين ولعله الصواب] .

ومما قيل في أرمد، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتز (وقيل إنها لابن الرومىّ، وقيل للناجم) : قالوا: اشتكت عينه! فقلت لهم: ... من كثرة الفتك نالها الوصب! حمرتها من دماء من قتلت، ... والدم في النّصل شاهد عجب. وقال ابن منير الطرابلسىّ: رنا وفي طرفه احمرار، ... يغضّ من سحر مقلتيه. وفاض من نرجسيه ماء، ... ضرّجه ورد وجنتيه. فقلت يا ممرضى بوجه، ... أظنّ دائى سرى إليه! هيهات، لا تجحدنّ قتلى! ... هذا دمى شاهد عليه! وقال الواثق بالله: لى حبيب قد طال شوقى إليه، ... لا أسميّه من حذارى. عليه. لم تكن عينه لتجحد قتلى، ... ودمى شاهد على وجنتيه! وقال الصولىّ: يكسر لى طرفا به حمرة، ... قد خلط النّرجس في ورده. ما احمرّت العين، ولكنّه ... يكحلها من وردتى خدّه! وقال آخر: قالوا: بدت في عينه حمرة ... قد حازها من وردة الخدّ. فقلت لم يرمد ولكنه ... يصافح النّرجس بالورد!

وقال أبو عبد الله بن الحدّاد الوزير: يا شاكى الرّمد الذى بشكاته، ... قد صار دهرى فيه ليلة أرمدا! الله والإشفاق يعلم أنّنى ... لو أستطيع فدا، لكنت لك الفدا! كم من دم سفكت جفونك لم تزل ... تخفى وتكتم سفكه حتّى بدا. لم يشتمل بدم غرار مهنّد ... إلا وقد أهدى النفوس إلى الرّدى. وقال أبو الفرج الببغاء: بنفسى ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد! أراقت دمى ظلما محاسن وجهه، ... فأضحت وفي عينيه آثاره تبدو! غدت عينه كالجمر حتّى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخدّ. لئن أصبحت رمداء مقلة مالكى، ... لقد طال ما استشفت به مقل رمد! وقال آخر: قضب الهند والقنا أخدانك! ... والمقادير في الورى أعوانك! أيّها ذا الأمير ما رمدت عي ... نك! حاشا لها، ولا أجفانك! بل حكت فعلك الكريم لبضحى ... شانها في العلى سواء وشانك. فهى تحمرّ مثل سيفك في الرّو ... ع، وتصفو كما صفا إحسانك. وقال آخر وأجاد: لقد جار ما تشكوه في الحكم واعتدى ... وأسرف في أفعاله وتمرّدا! فمن لى بأن لو كنت أعرف حيلة ... تصيّر أجفانى لأجفانك الفدا؟ دهت عينك العين التى قد قضى القضا ... بأنك فيها سوف تصبح أرمدا.

فمذ بدّلت من نرجس بشقائق، ... أعادت لجين الدمع منّى عسجدا. سللت حسام اللحظ منها على الورى، ... وقد كان أحرى أن يصان ويغمدا! فأنت الذى أبليتها بالذى بها، ... إذا السيف لم يغمد تراكبه الصّدا. ومما قيل في أرمد غطى عينيه بشعريّة، [1] قول السراج الورّاق: شعريّتى، مذرمدت قد حجبت ... طرفى عنكم، فصرت محبوسا. الحمد لله! زادنى شرفا: ... كنت سراجا فصرت فانوسا. وقال آخر: غطّى على عينيه شعريّة، ... تشعل في القلب لهيب الغرام. كأنّه البدر بدا نصفه، ... ونصفه الآخر تحت الغمام! وقال آخر: لا تحسبوا شعريّة أصبحت ... من رمد في وجهه مرسله. وإنما وجنته كعبة، ... أستارها من فوقها مسبله. ومن رقعة كتبها أرمد (وهو عبد الله بن عثمان الواثقى) عفا الله عنه. قال: صادف ورود كتابه رمدا في عينى قد حصرنى في الظّلمه، وحبسنى بين الغم والغمّه، وتركنى أدرك بيدى ما كنت أدرك بعينى: كليل سلاح البصر، قصير خطو النظر. قد ثكلت مصباح وجهى، وعدمت بعضى، الذى هو آثر عندى

_ [1] لم نعثر على هذه الكلمة في اللسان ولا في القاموس. وفي شفاء الغليل للخفاجى: أن «شعريّة نسبة الى الشعر: غشاء أسود رقيق يكون على وجه النساء والأرمد، وأصله أنه ينسج من الشعر ثم يطلق على كل ما شابهه، وهى مولّدة» .

فصل فى ترتيب البكاء

من كلّى. فالبيض عندى سود، والقريب منّى بعيد! قد أحاط الوجع أجفانى، وقبض عن التصرّف بنانى؛ ففراغى شغل، ونهارى ليل، وطوال الخطا قصار، وقصار أوقاتى طوال. وأنا ضرير وإن عددت في البصراء، وأمّىّ وإن كنت من جملة الكتّاب والقرّاء. قد قصرت العلة خطوتى قلمى وبنانى، وقامت بين يدى ولسانى. وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات، فيقولون: القلّة ذلّة، والوحدة وحشة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرض، والرّمد كمد، والعلة قلّة، والقاعد مقعد. والله تعالى أعلم. فصل فى ترتيب البكاء إذا تهيأ الرجل للبكاء، قيل: أجهش. فإذا امتلأت عينه دموعا، قيل: أغرورقت عينه، وترقرقت. فإذا سالت، قيل: دمعت، وهمعت. فإذا كثرت دموعه، قيل: همت. فإن كان لبكائه صوت، قيل نحب ونشج. فإذا صاح مع بكائه، قيل: أعول. قال سلم الخاسر: أتتنى تؤنّبنى في البكاء ... فأهلا بها، وبتأنيبها! تقول، وفي قولها حشمة: ... أتبكى بعين ترانى بها؟ فقلت: إذا استحسنت غيركم، ... أمرت الدّموع بتأديبها.

فصل فيما قيل في الأنف

فصل فيما قيل في الأنف الشّمم، ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها. القنا، طول الأنف، ودقّة أرنبته، وحدب في وسطه. الفطس، تطامن قصبته مع ضخم الأرنبة. الخنس، تأخّر الأنف عن الوجه. الذّلف، شخوص طرفه مع صغر أرنبته. الخشم، فقدان حاسّة الشمّ. الخرم، شقّ في المنخرين. الخثم، عرض الأنف. (يقال ثور أخثم) . القغم، اعوجاج في الأنف. (قال الشاعر: ليّن المنخرين معتدل الما ... رن لا سائل ولا جعد.) ومما قيل في الشّفاه والفم، الشّدق، سعة الشّدقين. الضّجم، ميل في الفم وفيما يليه. الضّزز، لصوق الحنك الأعلى بالأسفل. الهدل، استرخاء الشفتين وغلظهما. اللّطع، بياض يعتريهما. القلب، انقلابهما. الجلع، قصرهما عن الانضمام.

فصل فى تقسيم ماء الفم

فصل فى تقسيم ماء الفم ما دام فيه، فهو ريق، ورضاب. فإذا علك، فهو عصيب. فإذا سال، فهو لعاب. فإذا رمى به، فهو بزاق، وبصاق. فصل فى ترتيب الضحك [1] التبسّم أوّل مراتبه، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار، ثم الانكلال وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشدّ منهما، ثم القهقهة والقرقرة والكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطّخطخة، ثم الإهزاق والزّهزقة، وهو أن يذهب الضحك به كلّ مذهب. قال كشاجم: عذبت في الرّشف منه شفة ... مصّها أطيب من نيل الأمل! وعليها حمرة في لعس ... تستعير اللون من صبغ الخجل! هى فيما خلت آثار دم ... من فؤادى، علّ فيه ونهل!

_ [1] فى الأصل: فى تقسيم ماء الوجه وترتيب الضحك. ولعدم وجود كلام على تقسيم ماء الوجه حذفناه من العنوان.

وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: يا ضاحكا، يستهلّ مضحكه ... عن برد واضح وعن شنب! أعطيتنى قبلة رشفت بها الش ... هد مشوبا بعبرة العنب. كأنّنى إذ لثمت فاك بها ... لثمت تفّاحة من الذهب. وقال كشاجم: كأنّ الشفاه اللعس منها خواتم ... من التّبر مختوم بهنّ على درّ. وقال سيف الدّولة بن حمدان، فى صباه: أقبّله على عجل ... كشرب الطائر الفزع. رأى ماء فأطمعه ... فخاف عواقب الطّمع. فصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذّ بالجرع. ومما قيل في طيب الريق والنكهة على لفظ التذكير، فمن ذلك قول ابن الرومىّ: أهيف الغصن، أهيل الدّعص لما ... يقتسم قدّه وشاح ومرط. طيّب طعمه إذا ذقت فاه، ... والثّريّا في جانب الغرب قرط. وقال آخر: با مانعى طيب المنام، ومانحى ... ثوب السّقام، وتاركى كالآل! عمّن أخذت جواز منعى ريقك ال ... معسول، يا ذا المعطف العسّال؟ عن ثغرك النظّام، أم عن شعرك ال ... فحّام، أم عن طرفك الغزّال؟

وقال آخر أتدرون شمعتنا لم هوت؟ ... لتقبيل ذا الرّشإ الأكحل! درت أن ريقته شهدة ... فحنّت إلى إلفها الأوّل. وقال بشار بن برد: يا أطيب الناس ثغرا غير مختبر ... إلّا شهادة أطراف المساويك! وقال ابن وكيع البستىّ: ريق إذا ما ازددت من شربه ... ريّا، ثنانى الرّىّ ظمآنا. كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا. وقال ابن الرومىّ: يا ربّ ريق بات بدر الدّجى ... يمجّه بين ثناياكا. يروى ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا. وقال أبو الفتح كشاجم: بلغته الكأس فارتعدت ... طربا منها إلى فمه. منعته أن يؤخّرها ... فى يديه من تحشّمه. فحساها ثم أعقبها ... أرجا من طيب مبسمه. وقال آخر: بقدر الصّبابة عند المغيب، ... تكون المسرّة عند الحضور. وأطيب ما كان يرد الثّغور ... إذا هو صادف حرّ الصّدور.

ومما وصف به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول ابن ميّادة: كأنّ على أنيابها المسك شابه ... بعيد الكرى من آخر الليل عابق. وما ذقته إلا بعينى تفرّسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق. يضم إلىّ الليل أذيال حبّها ... كما ضمّ أردان القميص البنائق. وقال البحترىّ: كأنّ على أنيابها بعد هجعة، ... إذا ما نجوم الليل حان انحدارها، مجاجة مسك صفّقت بمدامة ... معتّقة صهباء، حان اعتصارها. وقال ذو الرمة: أسيلة مجرى الدّمع هيفاء طفلة ... عروب، كإيماض الغمام ابتسامها. كأنّ على فيها، وما ذقت طعمه، ... زجاجة خمر طاب فيها مدامها. وقال كشاجم: البدر لا يغنيك عنها إذا ... غابت وتغنيك عن البدر. فى فمها مسك ومشمولة ... صرف ومنظوم من الدّرّ. فالمسك للنّكهة، والخمر للرّ ... يقة، واللّؤلؤ للثّغر. وقال الهذلىّ: وما صهباء صافية شمول، ... كعين الدّيك منجاب قذاها، تشجّ بماء سارية عريص ... على ظمإ به رصف صفاها، بأطيب نكهة من طعم فيها ... إذا ما طار عن سنة كراها.

وقال ابن الرومىّ: وما تعتريها آفة بشريّة ... من النّوم إلا أنها تتختّر. كذلك أنفاس الرّياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الأنام تغيّر. وما ذفته إلا بشمّ ابتسامها ... وكم مخبر يدنيه للعين منظر. وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منوّرة باتت تراح وتمطر. وقال جميل: وكأنّ طارقها على علل الكرى، ... والنجم وهنا قد دنا لتغوّر، يستاف ريح مدامة معلولة ... بذكىّ مسك أو سحيق العنبر. وقال الشريف الموسوىّ، شاعر اليتيمة: يا عذبة المبسم! بلّى الجوى ... بنهلة من ريقك البارد! أرى غديرا سيّحا ماؤه، ... فهل لذاك الماء من وارد؟ من لى بذاك العسل الذائب ال ... جارى خلال البرد الجامد؟ ومما قيل في طيب عرف النساء، قالوا: من أجود ما قيل في ذلك من قديم الشعر قول الاعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل، يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل، يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل.

وقول القطامىّ: وماريح قاع ذى خزامى وحوله ... شذا أرج من طيّب النّبت غارب، بأطيب من مىّ إذا ما تقلّبت ... من الليل وسنى جانبا بعد جانب. أخذه ابن المعتز ببعض لفظه وزاد زيادة حسنة، فقال: وما ريح قاع زاهر مسّت النّدى ... وروض من الرّيحان سحّت سحائبه، فجاء سحيرا بين يوم وليلة ... كما جرّ من ذيل الغلالة ساحبه، بأطيب من أنياب سرّة موهنا ... إذا الليل أدجى وارجحنّت كتائبه. إذا رغبت عن جانب من فراشها ... تضوّع مسكا أين مالت جوانبه. وقال ابن الرومىّ: والعرف ندّ ذكىّ، وهى ذاكية ... إذا أساء جوار العطر أبدان. نعيم كلّ بهار من مجامرها ... ويشمس الليل منها فهو ضحيان. كأنها، وعثان النّدّ يشملها، ... شمس عليها ضبابات وأدجان. وقال ابن الأحنف: ذكرتك بالرّيحان لمّا شممته ... وبالراح لما قابلت أوجه الشّرب. تذكّرت بالريحان منك روائحا ... وبالراح طعما من مقبّلك العذب. ومن البليغ قول سحيم: فما زال بردى طيّبا من ثيابها ... إلى الحول، حتّى أنهج البرد باليا. وأبلغ منه قول الأحنف: وجد الناس ساطع المسك من دج ... لة قد أوسع المشارع طيبا. فهم ينكرون ذاك وما يد ... رون أن قد حللت منها قريبا.

وقال آخر، وأحسن: جارية أطيب من طيبها ... والطّيب فيها المسك والعنبر. ووجهها أحسن من حليها ... والحلى فيها الدّرّ والجوهر. وقال امرؤ القيس: ألم تر أنى كلّما جئت طارقا، ... وجدت بها طيبا، وإن لم تطيّب. وقال آخر: أتاها بعطر أهلها فتضاحكت ... وقالت: وهل يحتاج عطر إلى عطر؟ وقد بالغوا حتّى وصفوا طيب المواضع التى وطئها المحبوب. وأوّل من قال ذلك النميرى الشاعر في زينب بنت يوسف أخت الحجاج فقال: تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات. وقال جميل: ألا أيّها الربع الذى غيّر البلى! ... عفا وخلا، من بعد ما كان لا يخلو. تداءب ريح المسك فيه وإنما ... به المسك أن جرّت به ذيلها جمل. وقول الآخر: أرى كلّ أرض دست فيها، وإن مضت ... لها حجج، يزداد طيبها ترابها! ومما قيل في الأسنان، فمن محاسنها: الشّنب، وهو رقّة الأسنان واستواؤها وحسنها. الرّتل، حسن تنضيدها واتساقها. التّفليج، تفرّج ما بينها.

فصل فى مقابحها

الشّتت، تفرّقها من غير تباعد بل في استواء وحسن. (يقال: ثغر شتيت، إذا كان مفلّجا حسنا أبيض) . الأشر، تحزيز في أطراف الثنايا يدل على حداثة السن. الظّلم، الماء الذى يجرى على الأسنان من البريق لا من الرّيق. فصل فى مقابحها الرّوق، طولها. الكسس، صغرها. الثّعل، تراكبها وزيادة سنّ فيها. الشّغا، اختلاف منابتها. اللّصص، شدّة تقاربها وانضمامها. اليلل، إقبالها على باطن الفم. الدّفق، انصبابها إلى قدّام. الفقم، تقدّم سفلاها على العليا. القلح، صفرتها. الطّرامة، خضرتها. الحفر، ما يلزق بها. الدّرد، ذهابها. الهتم، انكسارها. اللّطط، سقوطها.

فصل فى ترتيب الأسنان

فصل فى ترتيب الأسنان وهى: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب، وأربع ضواحك، وثنتا عشرة رحا، وأربعة نواجذ. قال أبو الفتح كشاجم: عرضن! فعرّضن القلوب من الجوى ... لأسرع في كىّ القلوب من الجمر! كأن الشّفاه اللّعس فيها خواتم ... من المسك، مختوم بهنّ على درّ. وقال أيضا: كالغصن في روضة تميس: ... تصبو إلى حسنها النّفوس. ما شهدت والنّساء عرسا، ... فشكّ في أنها عروس! تبسم عن باسم برود ... تعبق من طيبه الكؤوس. يجمع فيه لمجتنيه: ... مسك، وورد، وخندريس. وقال المتنبى: ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التّراقى وشحّت بالمباسم. وقال الصنوبرىّ: تلك الثّنايا من عقدها نظمت، ... بل نظم العقد من ثناياها. وقال البحترىّ: ويرجع الليل مبيضّا إذا ضحكت ... عن أبيض خصل السّمطين وضّاح. وقال ابن الرومىّ: كأنّى لم أبت أسقى رضابا: ... يموت به ويحيا المستهام!

تعلّلنيه واضحة الثّنايا، ... كأنّ لقاءها حولا لمام. تنفّس كالشّمول ضحى شمال ... إذا ما فضّ عن فمها الختام. وقال النابغة: تجلو بقادمتى حمامة أيكة ... بردا، أسفّ لثاته بالإثمد. كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه، وأسفله ندى. وقال شقيق بن سليل: وتبسم عن ألمى اللّثات، مفلّج: ... خليق الثّنايا بالعذوبة والبرد. وقال جميل: بذى أشر كالأقحوان يزينه ... ندى الطّلّ، إلا أنه هو أملح. وقال السمهرىّ: كأنّ وميض البرق بينى وبينها، ... إذا حان من بعض البيوت، ابتسامها. وقال آخر: أحاذر في الظلماء أن تستشفّنى ... عيون العبارى في وميض المضاحك! ومما قيل في السّواك، قول بعض الشعراء: أقول لمسواك الحبيب: لك الهنا، ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق! فقال، وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق: تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى، ... أعلّله بين العذيب وبارق!

فصل فى عيوبه

وقال آخر: نقل الأراك بأن ريقة ثغره ... من قهوة، مزجت بماء الكوثر. قد صحّ ما نقل الأراك لأنه ... قد جاء يروى عن «صحاح الجوهرى» . وقال آخر: بالله، إن جزت بوادى الأراك ... وقبلت أغصانه اللّدن فاك، فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنّنى والله ما لى سواك! ومما قيل في اللسان، فمن محاسنه: إذا كان الرجل حادّ اللسان قادرا على الكلام، فهو ذرب اللسان، وفتيق اللسان. فإذا كان جيّده، فهو لسن. فإذا كان يضعه حيث أراد، فهو ذليق. فإذا كان فصيحا بيّن اللهجة، فهو حذاقىّ. فإذا كان مع حدّة اللسان بليغا، فهو مسلاق. فإذا كان لا يعترض لسانه عقدة، ولا يتحيّف بيانه عجمة، فهو مصقع. فإذا كان المتكلم عن القوم، فهو مدره. فصل فى عيوبه الرّتّة، حبسة في لسان الرجل، وعجلة في كلامه. اللّكنة والحكلة، عقدة في اللسان وعجمة في البيان. الهتهتة (بالتاء والثاء) ، حكاية التواء اللسان عند الكلام.

فصل فى ترتيب العى

التّعتعة (بالتاء والثاء) . حكاية صوت الألكن والعىّ. الّلثغة، أن يصيّر الراء لاما من كلامه. الفأفأة، أن يتردّد في الفاء. التّمتمة، أن يتردّد في التاء. اللّفف، أن يكون في للسان ثقل وانعقاد. اللّيغ، أن لا يبيّن الكلام. اللّجلجة، أن يكون فيه عىّ وإدخال بعض كلامه في بعض. الخنخنة، أن يتكلم من لدن أنفه. ويقال: هى أن لا يبيّن الرجل كلامه فيخنخن فى خياشيمه. المقمقة، أن يتكلم من أقصى حلقه. فصل فى ترتيب العىّ يقال: رجل عيىّ. ثم حصر، ثم فهّ، ثم مفحم، ثم لجلاج، ثم أبكم. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: المرء مخبوّ تحت لسانه. وقال شاعر: وما المرء إلّا الأصغران: لسانه ... ومعقوله. والجسم خلق مصوّر. وقال امرؤ القيس: وذلك من نبإ جاءنى، ... وخبّرته عن أبى الأسود. ولو عن نثا غيره جاءنى، ... وجرح اللسان كجرح اليد. (النّثا القبيح من الكلام) .

وقال جرير: لسانى وسيفى: صارمان كلاهما! ... وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا! (قوله أشوى إذا أخطأ المقتل) . وقال آخر: وجرح السيف تدمله فيبرى، ... وجرح الدّهر ما جرح اللسان! ومما وصف به حسن الحديث والنغمة، فمن ذلك قول ذى الرمّة: ولمّا تلاقينا، جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع. ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع. وقال أيضا: وإنا ليجرى بيننا حين نلتقى ... حديث له وشى كوشى المطارف! حديث كوقع القطر في المحل يشتفى ... به من جوّى في داخل القلب، لاطف. وقال ابن الرومىّ: ولقد سئمت مآربى، ... فكأنّ طيّبها خبيث. إلّا الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبدا حديث. وقال بشّار: وكأنّ رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا. وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا. وتخال ما اشتملت علي ... هـ ثيابها: ذهبا وعطرا.

وقال البحترىّ: فلمّا التقينا- والنّقا موعد لنا- ... تعجّب رائى الدّرّ حسنا ولاقطه. فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها، ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه! وقال آخر: ظللنا نشاوى عند أمّ محمد ... بنوم، ولم نشرب شرابا ولا خمرا! إذا صمتت عنّا، صحونا بصمتها؛ ... وإن نطقت، هاجت لألبابنا سكرا. وقال ابن الرومىّ عفا الله عنه: وحديثها السّحر الحلال، لو انّه ... لم يجن قتل العاشق المتحرّز. إن طال لم يملل، وإن هى أو جزت ... ودّ المحدّث أنها لم توجز. شرك القلوب، وفتنة ما مثلها ... للمطمئنّ، وعقلة المستوفز. وقال القطامىّ: فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذى الغلّة الصادى. وقال علىّ بن عطية البلنسىّ: كلّمتنى فخلت درّا نثيرا، ... وتأمّلت عقدها هل تناثر. فازدهاها جمالها، فأرتنى ... عقد درّ من التبسّم آخر! وقال الوأواء الدّمشقىّ: وحديث كأنّه ... أوبة من مسافر. كان أحلى من الرّقا ... دلدى طرف ساهر.

فصل فى ترتيب الصمم

بتّ ألهو بطيبه ... فى رياض زواهر: بين ساق وسامر ... ومغنّ وزامر. وقال الطائىّ: مدّت إليك بنانة أسروعا، ... تشكو الفراق، ومقلة ينبوعا. كادت لعرقان النّوى ألفاظها ... من رقّة الشّكوى تكون دموعا. وقال ابن المعتزّ: وسرّ أحاديث عذاب لو أنّها ... جنى النحل، لم تمجج حلاوتها النحل. ومما قيل في الأذن، الصّمع، صغرها. السّكك، كونها في نهاية الصّغر. القنف، استرخاؤهما وإقبالهما إلى الوجه. الخطل، غلظهما. فصل فى ترتيب الصّمم يقال: بأذنه وقر. فإذا زاد، فهو صمم. فإذا زاد، فهو طرش. فإذا زاد حتّى لا يسمع الرعد، فهو صلخ.

ومما وصف به الصّدغ، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: ريم! يتيه بحسن صورته، ... عبث الفتور بلحظ مقلته. فكأن عقرب صدغه وقفت، ... لما دنت من نار وجنته. وقال ابن الرومىّ: أبدا نحن في خلاف: فمنّى ... فرط حبّ ومنك لى فرط بغض. فبصدغيك فوق خطّ عذار ... ظلمات، وبعضها فوق بعض. وقال الصاحب بن عبّاد: وعهدى بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا. فما بال الشتاء أتى، وهذا ... عقارب صدغه يزددن شرّا؟ وقال ابن المعتزّ: أمن سبج في عارضيه صوالج ... معطّفة تفّاح خدّيه تضرب؟ وما ضرّه نار بخدّيه الهبت؛ ... ولكن بها قلب المحبّ يعذّب؟ عناقيد صدغيه بخدّيه تلتوى ... وأمواج ردفيه بخصريه تقلب. شربت الهوى صرفا زلالا، وإنما ... لواحظه تسقى وقلبى يشرب. وقال الثعالبىّ: وصو لجان في يدى شادن ... لا يسمح العاشق أن يذكره . وصو لجان المسك في خدّه ... متّخذ حبّة قلبى كره.

وقال الناشئ الأصغر: لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب. يلدغ الناس إذ تعق ... رب لدغ العقارب. وقال الصاحب بن عبّاد: يا شادنا في وجهه عقرب ... ما يستجيب الدّهر للراقى. يسلم خدّاه على لدغها، ... ولدغها في كبدى باقى! وقال عمر المطوعىّ: بنفسى من تمّت محاسن وجهه! ... فما هو إلا البدر عند تمام. وأرسل صدغا فوق خدّ كأنه ... جناح غراب فوق طوق حمام. وقال آخر: حلّت بمقارب صدغه في خدّه ... قمرا، فجلّ بها عن التشبيه! ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... فمن العجائب كيف جلّت فيه؟ وقال العماد الأصبهانىّ: وإذا بدا لك صدغه في وجهه، ... أبصرته قمرا بدا في العقرب! وقال أبو الفتح كشاجم: ومنعن ورد خدودهنّ فلم نطق ... قطفا لها لعقارب الأصداغ! ومما وصفت به الخدود والوجنات، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. قال أبو الفتح كشاجم: غدا، وغدا تورّد وجنتيه ... لعين محبه يصف الرّياضا.

على خدّيه ماء عسجدىّ؛ ... فلو نظر الرقيب إليه، غاضا. وقال آخر: دعوت بماء في زجاج، فجاءنى ... حبيبى به خمرا نظرت له شزرا. فقال: هو الماء القراح وإنما ... تجلّى له خدّى فأوهمك الخمرا! وقال أبو القاسم عبد الغفار المصرىّ، شاعر اليتيمة: ورد الخدود أرقّ من ... ورد الرّياض وأنعم. هذا تنشّقه الأنو ... ف، وذا يقبّله الفم. فإذا عدلت، فأفضل ال ... وردين ورد يلثم. وقال أيضا (ويروى للوأواء الدمشقى) : لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثارى اليوم أذى مسلم! ويا لقومى دونكم شادنا ... معتدل القامة والمبسم! فإن أبى إلا جحود الهوى ... واكتتم الأمر ولم يعلم، قولوا له يكشف عن خدّه؛ ... فإن فيه نقطا من دمى. وقال ابن الرومىّ: وغزال ترى على وجنتيه ... قطر سهميه من دماء القلوب. لهف نفسى لتلك من وجنات ... وردها ورد شارق مهضوب! أنهلت صبغ نفسها ثم علّت ... من دماء القتلى بغير ذنوب. جرحته العيون فاقتصّ منها ... بجوى في القلوب دامى النّدوب.

وقال أيضا: يا وجنتيه اللتين من بهج ... فى صدغيه اللذين من دعج! ما حمرة فيكما: أمن خجل، ... أم صبغة الله، أم دم المهج؟ وقال أبو الفتح البستىّ: ومهفهف غنج الشمائل أزعجت ... قلبى محاسن وجهه إزعاجا. درت الطبيعة أن فاحم شعره ... ليل فأذكت وجنتيه سراجا. وقال عبد الله بن المعتزّ: يا من يجود بموعد من لحظه ... ويصدّ حين أقول: أين الموعد؟ ويظلّ صبّاغ الحياء بخدّه ... تعبا: يعصفر تارة ويورّد. وقال الراضى بالله: يصفرّ وجهى إذا تأمّلنى ... خوفا، ويحمرّ خدّه خجلا. حتّى كأنّ الذى بوجنته ... من ماء وجهى إليه قد نقلا. وقال الخبز أرزى: صل بخدّى خدّيك، تلق عجيبا ... من معان يجاز فيها الضمير. فبخدّيك للرّبيع رياض، ... وبخدّى للدّموع غدير. وقال أيضا: أظهر الكبرياء من فرط زهو، ... فتلقّيته بذلّ الخضوع. وحبانى ربيع خدّيه بالور ... د فأمطرته سحاب الدّموع. وقال الصنوبرىّ: رقّ، فلو كلّفته أعيننا ... أن يرشح الخمر خدّه، رشحا.

وقال المفجّع: ظبى إذا عقرب أصداغه، ... رأيت ما لا يحسن العقرب. تفّاح خدّيه له نضرة ... كأنّه من دمعتى يشرب. وقال آخر: ومبيح أسرار القلو ... ب بوجنتيه وحاجبيه. جمع الإله له المحا ... سن ثم أفرغها عليه. وكأنّ مرآتين علّ ... قتا بصفحة عارضيه. وكأنّ ورد الجلّن ... ار مضعّف في وجنتيه. وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ في غلام جرح خدّه: وأحوى رمى عن قسىّ الحور ... سهاما يفوّقهنّ النظر. يقولون: وجنته قسّمت ... ورسم محاسنه قد دثر. وما شقّ وجنته عابثا ... ولكنّها آية للبشر. جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر. ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتزّ: نجل العيون، سواحر اللحظات ... هيّجن منك سواكن الحركات. أقبلن يرمين الجمار تنسّكا، ... فجعلن قلبك موضع الجمرات. فكأنهنّ غصون بان ناعم ... يحملن تفّاحا على الوجنات.

وقال ابن الرومىّ: تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ من مشربها. فهى حسب العين من نزهتها، ... وهى حسب الأذن من مطربها. وقال ديك الجنّ: بأبى الثلاث الآنسا ... ت الرائقات الغانيات! أقبلن، والأصداغ في ... وجناتهنّ معقربات! ألفاظهنّ مؤنّثا ... ت والجفون مذكّرات! حتّى إذا عاينتهنّ ... وللأمور مسبّبات، جمّشتهنّ، وقلت: طي ... ب عناقكنّ هو الحياة! فحجلن حتّى خلت أنّ ... خدودهنّ معصفرات. ومما وصفت به الخيلان، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. قال بعض الشعراء: فى الساعد الأيمن خال له ... مثل السّويداء على القلب. كأنه من سبج فاحم ... مركّب من لؤلؤ رطب. وقال ابن منير الطرابلسى: لاح لنا عاطلا، فصيغ له ... مناطق من مراشق المقل. حياة روحى وفي لواحظه ... حتفى بين النّشاط والكسل. ما خاله من فتيت عنبر صد ... غيه ولا قطر صبغة الكحل. لكن سويداء قلب عاشقه ... طفت على نار وردة الخجل.

وقال أيضا: أنكرت مقلته سفك دمى، ... وعلى وجنته فاعترفت. لا تخالوا خاله في خدّه ... قطرة من صبغ جفن نطفت. تلك من نار فؤادى جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت! وقال آخر: لا تخال الخال يعلو خدّه ... نقط مسك ذاب من طرّته. ذاك قلبى سلبت حبّته ... فاستوت خالا على وجنته. وقال ابن منير: كأنّ خدّيه دينارين قد وزنا ... وحرّر الصّيرفىّ الوزن واحتاطا. فخفّ إحداهما عن وزن صاحبه، ... فحطّ فوق الذى قد خفّ قيراطا. وقال آخر: أضحى ليوسف في الجمال خليفة، ... يخشأه كلّ العالمين إذا بدا. عرّج معى وانظر إليه لكى ترى ... فى خدّه علم الخلافة أسودا. وقال آخر: كم قلت للنفس: إليه اذهبى، ... فحبّه المشهور من مذهبى! مهفهف القدّ له شامة ... من عنبر في خدّه المذهب. آيسنى التوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب! وقال آخر: ومهفهف من شعره وجبينه ... يغدو الورى في ظلمة وضياء. لا تنكروا الخال الذى في خدّه ... كلّ الشقيق بنقطة سوداء.

وقال آخر: لهيب الخدّ حين رأته عينى ... هوى قلبى عليه كالفراش. فأحرقه فصار عليه خالا؛ ... وها أثر الدّخان على الحواشى! وقال آخر: بدا على خدّه خال يزيّنه، ... فزادنى شغفا منه إلى شغفى. كأنّ حبّة قلبى عند رؤيته ... طارت فقلت لها: فى الخدّ منه قفى! وقال آخر: خيلان خدّك ردّت ... صحيح قلبى مريضا. فى العين سود، ولكن ... ما زلن في القلب بيضا. وقال آخر: خدّك مرآة كلّ حسن ... يحسن من حسنها الصّفات. مالى أرى فوقه نجوما ... قد كسفت وهى نيّرات؟ وقال آخر: حجّت إلى وجهك أبصارنا ... طائفة، يا كعبة الحسن! تمسح خالا منك في وجنة ... كالحجر الأسود في الركن. وقال الأسعد بن بليطة: سكران لا أدرى- وقد وافى بنا- ... أمن الملاحة أم من الجريال. تتنفّس الصّهباء في لهواته ... كتنفّس الرّيحان في الآصال. وكأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في ليال وصال.

ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى الفتح كشاجم: فديت زائرة في العيد واصلة ... لمستهام بها للوصل منتظر. فلم يزل خدّها ركنا ألوذبه، ... والخال في صحنه يغنى عن الحجر. وقال العباس بن الأحنف: ومحجوبة في الخدر عن كلّ ناظر، ... ولو برزت، ما ضلّ بالليل من يسرى. بخال بذاك الخدّ أحسن منظرا ... من النّقطة السّوداء في وضح البدر. ومما قيل في العذار، فمن ذلك ما ورد فيه على سبيل المدح. قال مانى الموسوس عفا الله عنه ورحمه: وما غاضت محاسنه؛ ولكن ... بماء الحسن أورق عارضاه. سمعت به فهمت إليه شوقا! ... فكيف لك التصبّر، لو تراه؟ وقال أبو فراس: من أين للرشإ الغرير الأحور ... فى الخذ مثل عذاره المتحدّر؟ يا من يلوم على هواه سفاهة! ... أنظر إلى تلك السوالف، تعذر. قمر كأنّ بعارضيه كليهما ... مسك تساقط فوق ورد أحمر. وقال ابن المعدّل: سالت مسايل عارضي ... هـ بنفسجا في ورده. فكأنّه من حسنه ... عبث الربيع بخدّه.

وقال الخبّاز البلدى: وعارض مثل دارة البدر ... دار بوجه كليلة القدر. فلو تراه وحسن منظره، ... شهدت أنّ الجمال للشّعر. وقال ابن المعتزّ: وتكاد الشمس تشبهه ... ويكاد البدر يحكيه. كيف لا يخضرّ عارضه، ... ومياه الحسن تسقيه؟ وقال محمد بن وهب: صدودك في الورى هتك استتارى، ... وساعده البكاء على اشتهارى. ولم أخلع عذارى فيك إلّا ... لما عاينت من حسن العذار. وكم أبصرت من حسن، ولكن ... عليك من الورى وقع اختيارى. وقال أبو الفرج الوأواء: وشمس [1] بأعلاه ولبلان أسبلا ... بخدّيه، إلا أنّها ليس تغرب. ولمّا حوى نصف الدّجى نصف خدّه ... تحيّر حتّى مادرى أين يذهب. وقال الخبز أرزّى: انظر إلى الغنج يجرى في لواحظه، ... وانظر إلى دعج في طرفه الساجى! وانظر إلى شعرات فوق عارضه ... كأنهنّ نمال سرن في العاج! وقال أيضا: وجه تكامل حسنه ... لما تطرّفه عذاره. والسيف أحسن ما ترى ... ما كان مخضرّا غراره.

_ [1] فى الأصل: «ليل» . والتصويب عن اليتيمة.

وقال الأمير سيف الدّين المشدّ: ولائم في عذار بدر ... لم أستطع عن هواه ميلا. فقلت، والدّمع في جفونى ... لفرط وجدى تسيل سيلا: ضللت في خدّه نهارا! ... كيف رشادى، وصار ليلا؟ وقال أيضا: ولمّا أن بدا في الخدّ شعر ... توقّف عند منتصف العذار. فقلت للائمى فيه: تعجّب ... لنصف الليل في نصف النهار! وقال أيضا: ومهفهف يحمى ورود رضابه ... بصوارم سلّت من الأجفان. كتب العذار بليقة مسكيّة ... فى خدّه سطرا من الرّيحان. وقال أيضا: يقول العواذل لمّا بدا ... على خدّه شعر زائر: ذوى ورد خدّيه، قلت: اقصروا ... فنرجس ألحاظه وافر! وقال آخر: وقالوا: تسلّى فقد شانه ... عذار أراحك من صدّه. فقلت: وهمتم، ولكنّنى ... خلعت العذار على خدّه. وقال آخر: بروحى وقلبى ذلك العارض الذى ... غدا مسكه فوق السّوالف سائلا. درى خدّه أنّى أجنّ من الهوى، ... فأظهر لى قبل الجنون سلاسلا!

وقال آخر: أصبحت مأسورا بغنج لحاظه ... ومقيّدا من صدغه بسلاسل. حتّى بدا سيف العذار مجرّدا ... فخشيت منه، فقلت هذا قاتلى! وقال آخر: قالت: اسودّ عارضاك بشعر، ... وبه تقبح الوجوه الحسان! قلت: أشعلت في فؤادى نارا، ... فعلى عارضىّ منه دخان! وقال آخر: قلت، وقد أبصرته مقبلا ... وقد بدا الشّعر على الخدّ: صعود ذا النمل على خدّه ... يشهد أن الرّيق من شهد. ومثله قول الآخر: قالوا: التحى، فاصب إلى غيره! ... قلت لهم: لست إذا أسلو! لو لم يكن من عسل ريقه، ... ما دبّ في عارضه النّمل. وقال آخر: عذاره أحسن ما فيه، ... وتيهه من أحسن التّيه. فى فمه الشّهد، فلا تعجبوا ... إن دبّ نمل بعذاريه. وقال آخر: أصلى بنار الخدّ عنبر خاله ... فغدا العذار دخان ذاك العنبر. وقال آخر (وقد تقدّم إيراده في صفاء الخدّ) . أعد نظرا، فما في الخدّ نبت ... حماه الله من ريب المنون! ولكن رقّ ماء الوجه حتّى ... أراك مثال أهداب الجفون.

ومثله قول الآخر (وقد تقدّم إيراده) : ولمّا استدارت أعين الناس حوله ... تلاحظه كيف استقلّ وسارا، تمثّلت الأهداب في ماء وجهه ... فظنّوا خيال الشّعر فيه عذارا. وقال الحاجرىّ: وما اخضرّ ذاك الخدّ نبتا، وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر. وقال آخر: يا لائمى في حبّ ذى عارض، ... ما البلد المخصب كالماحل! يموج ماء الحسن في وجهه ... فيقذف العنبر في الساحل. وقال آخر: ولمّا بدا خطّ العذار بوجهه ... كظلمة ليل في ضياء نهار، تغلغل في قلبى هواه فلم أزل ... خليع عذار في جديد عذار. وقال آخر: قالوا: التحى، فامتحت بالشّعر بهجته! ... فقلت: لولا الدّجى لم يحسن القمر. من كان منتظرا للصبر عنه به، ... فإنّنى لغرامى كنت أنتظر. خطّت يد الحسن منه فوق وجنته: ... هذى محاسن، يا أهل الهوى، أخر! وقال آخر: وقلت: الشّعر يسلينى هواه! ... ولم اعلم بأنّ الشّعر حينى. فظلت لشقوتى أفدى وأحمى ... سواد عذاره بسواد عينى. وقال محمد بن عبد الله السلامى، شاعر اليتيمة: عذارك جادت عليه الرّيا ... ض بأجفانها وبآماقها.

وطال غرام الغوانى به ... فقد طرّزته بأحداقها. وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: وغزال لولا نميمة شعر ... ذكّرته، لقلت: إحدى الجوارى. شارب أشرب الصّبابة قلبى، ... وعذار خلعت فيه عذارى. وقال آخر: قالوا: التحى وستسلو عنه، قلت لهم: ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزّهر؟ هل التحى طرفه الساجى، فأهجره؟ ... وهل تزحزح عن ألحاظه الحور؟ وقال أبو الفتح كشاجم: من عذيرى من عذارى قمر، ... عرّض القلب لأسباب التلف؟ زيد حسنا وضياء بهما، ... فهو الآن كبدر في سدف. خمّشا خدّيه ثم انعطفا، ... آه ما أحسن ذاك المنعطف! علم الشّعر الذى عاجله ... أنه جار عليه، فوقف. فهو في وقفته معترف ... بالتناهى في التعدّى والسّرف. وقال آخر: لا تعتقدوا ما لاح في وجنته ... شعرا، غلطا! ما ذاك من شمته! بل ساكن ماء الحسن قد حرّكه ... موج قذف العنبر في حافته. وقال عبد الله بن سارة الإشبيلىّ: ومعذّر رقّت حواشى حسنه، ... فقلوبنا حذرا عليه رقاق. لم يكس عارضه السواد، وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق.

وقال أبو بكر الدانىّ، شاعر الذخيرة: بدا على خدّه عذار ... فى مثله يعذر الكئيب. وليس ذاك العذار شعرا، ... لكنّما سرّه غريب. لمّا أراق الدّماء ظلما، ... بدت على خدّه الذّنوب. وقال عبد الجليل الأندلسىّ: ومعذّرين كأنما بخدودهم ... طرق العيون ومنهج الأوداج. وكأنما صقلوا الجمال فأظهروا ... مشى النّمال على متون العاج. ومما وصف به العذار على طريق الذمّ، فمن ذلك ما قاله الوزير أبو المغيرة ابن حزم، عند ما عرضت عليه رسالة بديع الزمان في الغلام الذى خطب إليه ودّه بعد أن عذّر، قال: «ورد كتابك ينشد ضالّة ودّنا، ويرقع خلق عهدنا؛ ويطلب ما أفاءته جريرتك «إلينا، وذهبت به جنايتك علينا؛ أيام غصنك ناضر، وبدرك زاهر؛ لا نجد رسولا «إليك، غير لحظة تخرق حجاب الدّموع، أو زفرة تقيم مناد الضّلوع؛ فإن رمنا شكوى «ينفث بها مصدورنا، ويستريخ إليها مهجورنا؛ لقينا دونها أمنع سدّ، وأقبح كفّ «وصدّ، وأقدح ردّ. وفي فصل منها: «حتّى إذا طفئت تلك النّيران، وانتصف لنا منك الزمان؛ بشعرات أغشت «هلالك كسوفا، وقلبت ديباجك صوفا؛ وأعادت نهارك ليلا، وناحت عليك تلهّفا

«وويلا؛ وأطار حمامك غرابك، وحجب ضياءك ضبابك؛ فصار عرسك مأتما، «وعاد وصلك محرّما، قال القائل: «وبتّ مداما تسرّ النزيف ... فأصبحت تجرع خلّا ثقيفا. «وصرت حجازا جديب المحلّ، ... وقد كنت للطالب الخصب ريفا. «أقبلت تتسلّل إلينا لواذا، وتطلب منا عياذا؛ قد أنساك ذلّ العزل عزّ الولايه، «وأولاك طمعا نسياننا تلك الجناية؛ أيّام ترشقنا سهام ألحاظك رشقا، وتقتلنا سيوف «ألفاظك عشقا؛ وتميس غصنا، فتثير حزنا؛ وتطلع شمسا، فتفتّت نفسا. «فالآن نلقاك بدمع قد جفّ، ووجد قد كفّ؛ وعزاء قد أبّد، وصبر قد أغار «وأنجد؛ وننظر منك إلى روض قد صوّح، وسار قد أصبح؛ وأعجم قد أفصح، «ومبهم قد صرّح. فلا شكّ قد رفع الغطاء، ولا إفك قد برح الخفاء، ولا لوم قد وقع «الجزاء. وهلّا ذكرت المثل الممتهن «الصّيف ضيّعت اللبن!» ونسيت من أحرقت «قلبه صدّا، وأقلقت جنبه ردّا؛ وملأت جوانحه نارا، وتركت نومه غرارا؛ «أن يوفيك قرضا، ويجازيك حتّى ترضى؛ حين نكّس علمك، وعثرت قدمك؛ «وضاقت طرقك، وأظلم أفقك؛ وهوى نجمك، وخاب قدحك؛ وفلّ سيفك، وحطّ «رمحك؛ فاطو ثوب وصلك فلا حاجة لنا إلى لباسه، وازو طارق شخصك فلا رغبة «لنا في إيناسه؛ فما يشتهى اليوم زيارة رمس، من زهد فيه أمس. قال: «حانت منيته فاسودّ عارضه، ... كما تسوّد بعد الميّت الدار. «يا من نعته إلى الإخوان لحيته، ... أدبرت، والناس إقبال وإدبار! «فيا لدهر مضى ما كان أحسنه! ... إذ أنت ممتنع والشّرط دينار. «ايّام وجهك مصقول عوارضه، ... وللرياض على خدّيك أنوار!

وقال علىّ بن نصر الكاتب تعزية لمن طلعت لحيته: «لكل حادثة يفجع بها الدهر- أحسن الله معونتك- حدّ من القلق والالتياع، «ومبلغ من التحرّق والارتياع؛ تستوجب فنّا من التعزيه، وتستحق نصيبا من العظة «والتسليه؛ والاختصار فيها لما قرب خطبه وشانه، والإكثار لما جلّ محلّه «ومكانه. «ومصابك هذا- أعانك الله- فى بياض روضك لما اسودّ، كمصابك في سواده «إذا ابيضّ؛ والألم ببياض روضه جميما، نظير الألم به يوم يعود هشيما. «فليس أحد يدفع عظيم النازل بك، ولا يستصغر جسيم الطارق لك؛ وإن كان «ما يتعقبه من المشيب أقذى للعيون. «التفتت عنك النواظر، وكانت منتفتة إليك، ووقفت عنك الخواطر، وكانت «موقوفة عليك؛ وصيّرك قذى الأجفان وكنت جلاها، وجعلك كربة النفوس «وكنت هواها؛ وأبدلك من أنس التقبل، وحشة التنقل؛ وعوّضك من رقة الترفرف، «كلفة التأفّف؛ فتبارك الله الذى صرف عنك الابصار، ونقّل فيك الأطوار! «فعويلا دائما وبكاء! وعزاء عن الذكر الجميل عزاء! فلكل أجل كتاب، وعلى كل «جائحة ثواب. «ولقد استوفيت أمد الصبا والصبابه، واستنبت الحسرة عليها والكآبه. فرزيّتك «راسية والرزايا سوائر، ومصيبتك ثابتة والمصائب عوائر. «إنا لله وإنا إليه «راجعون» .

«ثم لا حيلة، فإنها الأيام التى لا تثبت على حاله، ولا تعرف غير التنقل والاستحاله! «فآجرك الله في وجه نضب ماؤه، وذهب رواؤه ومات حياؤه! وفي ضيعة استأجم «برّها، واستدغل نورها؛ وأسبع طريقها، واتسعت تنوفتها! وفي جاه كان عامرا «فخرب، ودخل كان وافرا فذهب، وتذكار كان واصلا إلى القلوب فحجب! «فأصبحت مسبوق السكّيت، وظللت حيا وأنت الميت؛ فلا حول ولا قوّة إلا بالله «من محن ذفعت إليها، ولم تعن بحال عليها. «وقد يشغل الإنسان عن نوائبه المشاركون فيها، ويسلّيه عنها المساهمون في معنى «معانيها؛ وأنت من بين هذه المنزلة لا شريك لك، فإنهم يعتاضون عنها ولست «بمعتاض، ويركضون للعيش ولست بركاض. والدهر يطوى محاسنك طىّ السجلّ «كتابه، وينشر مقابحك نشر اليمانى أثوابه. ويملّ الطرف رؤيتك فلا يفيق عليك «جفنا، ويمجّ السمع ذكرك فلا يجد عنده أذنا. ومنها: وقد جعلت رقعتى هذه جامعة بين البكاء عليك والأنين، وناظمة بين العزاء والتأبين. لها حلاوة النثر، وعليها طلاوة الشعر. نتجتها قريحة عليك، ونسجتها خواطر خاطرت إليك؛ تخفّف غرامك والناس مشاغيل بتثقيله، وتكرم مكانك والإجماع واقع على تهوينه. فإن عرفت لى ذاك، وإلا عرفه الصّدق؛ وإن شكرنه، وإلا شكره الحق. والسلام عليك من أسير لا يخلص بالفدية، وقتيل بسيف السّبال واللحية.» وقال الصنوبرىّ: ما بدت شعرة بخدّك إلّا ... قلت في ناظرىّ أو في فؤادى.

أنت بدر جنى الخسوف عليه ... ظلمة، لا أرى لها من نفاد. فاسوداد العذار بعد ابيضاض ... كابيضاض العذار بعد اسوداد. وقال آخر: أصبح نحسا- وكان سعدا- ... من كان مولى فصار عبدا. بكى على حسنه زمانا، ... لما رأى الشّعر قد تبدّى. لو نبت الشّعر في وصال، ... لعاد ذاك الوصال صدّا! وقال الخبز أرزى: بدا الشّعر في وجهه، فانتقم ... لعاشقه منه لمّا ظلم. وما سلّط الله نبت اللّحى ... على المرد إلّا زوال النّعم. توحّشت العين في وجهه، ... وحقّ لها وحشة في الظّلم. إذا اسودّ فاضل قرطاسه، ... فما ظنّه بمجارى القلم؟ ولم يعل في خدّه كالدّخا ... ن إلّا وأسفله كالحمم. وقال التّنوخىّ: قلت لأصحابى، وقد مرّ بى ... منتقبا بعد الضّيا بالظّلم: بالله، يا أهل ودادى! قفوا ... كى تبصروا كيف زوال النّعم! وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ في ملتح: ما للعذار، وكان وجهك قبلة، ... قد خطّ فيه من الدّجى محرابا. وإذا الشّباب- وكان ليس بخاشع- ... قد خرّ فيه راكعا، وأنابا.

وقال أيضا: وافى بأوّله صحيفة صفحة ... جعل العذار بها يسيل مدادا. متجهّما ثكل الشّباب كأنما ... لبس العذار على الشّباب حدادا. وقال عمر المطوعىّ، من شعراء اليتيمة: غدا- منذ التحى- ليلا بهيما، ... وكان كأنّه القمر المنير. فقد كتب السّواد بعارضيه ... لمن يقرا: «وجاءكم النّذير» . وقال عبد الجليل الأندلسىّ، من شعراء الذخيرة: وأمرد يستهيم بكل واد ... وينصب للحشا خدّا صليبا. دعوت دعاء مظلوم عليه، ... وكان الله مستمعا مجيبا. فطوّقه الزمان بما جناه ... وعلّق من عدريه؟؟؟ ومما قيل في العنق، يقال: الجيد، طولها- التّلع، إشرافها- الهنع، نطامنها- الغلب، غلظها- البتع، شدّتها- الصّعر، ميلها- الوقص، قصرها- الخضع، خضوعها- الحدل، عوجها. وقال دعبل: أتاح لك الهوى بيض حسان ... سلبنك بالعيون وبالنّحور. نظرت إلى النّحور فكدت تقضى ... فأولى لو نظرت إلى الخصور.

وقال قيس بن الخطيم. وجيد كجيد الرّيم صاف يزينه ... توقّد ياقوت وفصل زبرجد. كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أىّ توقّد. ومما قيل في اليد إذا باشرت ما يعلق بها، يقال: من اللحم غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن السمن نسمة، ومن الزّبد وضرة، ومن الجبن نشمة، ومن اللبن مذقة، ومن البيض زهكة، ومن السمك صمرة، ومن الزيت قنمة، ومن الخمر عتكة، ومن الخل خمطة، ومن العسل ونحوه لزجة، ومن الطّيب عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الزعفران ردعة، ومن العنبر لطخة، ومن الخلوق ضمخة، ومن الحنّاء قنئة، ومن الدّم ضرجة، ومن الماء بللة، ومن الطين لثقة وردغة، ومن البرد صردة، ومن التراب كثبة وغضرة، ومن القار حلكة، ومن الفحم حممة، ومن المداد طرسة، ومن الحديد سهكة، ومن الفضة سبكة، ومن الذهب نضرة، ومن النار شعلة، ومن الرياحين فوحة، ومن البقل زهرة، ومن الفاكهة الرطبة لزقة، ومن البابسة فكهة، ومن العمل مجلة ونفطة، ومن الخشونة شثنة وثفنة، ومن الشوك مشطة وشظية، ومن الحطب حزمة، ومن الرمح كعبة، ومن الصولجان لعبة، ومن الجود سبطة، ومن العظية منحة، ومن البخل جعدة، ومن المنع لحزة، ومن العدم تربة، ومن الرزّ زنخة، ومن الصابون حفرة، ومن الفرصاد قانية، ومن الرجيع قثمة، ومن كل القاذورات قذرة، ومن الوسخ درنة. اه

ومما مدحت به اليد، قال مؤيد الدّين الطّغرائى: ويد تمدّ المال راحتها ... أبدا، ويغمر ظهرها القبل. إن ضنّ غيث أوخبا قمر، ... فجبينه ويمينه البدل. وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ قالوا: بدت عارضة- لا بدت! - ... فى كفّ ذاك السيّد الأوحد. راحته راحة من يجتدى، ... وكفّه كفّ الذى يعتدى. فلا أصابت يده آفة! ... فكم يد عندى لتلك اليد! وقال ابن دريد: يا من يقبّل كفّ كلّ ممخرق، ... هذا ابن يحيى ليس بالمخراق! قبّل أنامله، فلسن أناملا؛ ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق! وقال إبراهيم بن العباس بن محمد: لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل. فباطنها للنّدى، ... وظاهرها للقبل. وبسطتها للغنى، ... وسطوتها للأجل. وقال ابن الرومىّ: فامدد إلىّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النّوال، وظهرها التقبيلا. وقال أبو نواس: يا قمرا، أبرزه ماتم ... يندب شجوا بين أتراب! يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب.

وقال الناشى: من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا. وكأنّ يمناها إذا نطقت بها ... تلقى على يدها الشّمال حسابا. وقال الراضى بالله: قالوا: الرّحيل! فأنشبت أظفارها ... فى خدّها، وقد اعتلقن خضابا. فاخضّر تحت بنانها فكأنّها ... غرست بأرض بنفسج عنّابا. وقال ابن كيغلغ: لمّا اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنّا بدمع ناطق، فرّقن بين معاجر ومحاجر، ... وجمعن بين بنفسج وشقائق. وقال كشاجم: فما أنسها، لا أنس منها إشارة ... بسبّابة اليمنى إلى خاتم الفم! وأعلنت بالشكوى إليها فأومأت ... حذارا من الواشين أن لا تكلّم. فلم أر شكلا واقعا فوق شكله ... كعنّابة تومى بها فوق عندم. ومما قيل في النهود، يقال: ثندوة الرّجل، ثدى المرأة، خلف الناقة، ضرع الشاة والبقرة، طبى الكلبة. قال ابن الرومىّ: صدور فوقهنّ حقاق عاج، ... وحلى زانه حسن اتّساق! يقول الناظرون إذا رأوها: ... أهذا الحلى من هذى الحقاق؟ وما تلك الحقاق سوى ثدىّ ... قدرن من الحقاق على وفاق.

نواهد لا يعدّ لهنّ عيب ... سوى منع المحبّ من العناق. وهو مأخوذ من قول بعض الأعراب: ... أبت الرّوادف والثّدىّ لقمصها مسّ البطون، وأن تمسّ ظهورا. وقال محمد بن مبادر: ولها ثديان ما عدوا ... من حقاق العاج أن كعبا. قسمت نصفين دعص نقا ... وقضيبا لان، فاضطربا. وقال عبد الله بن أبى السّمط بن مروان: كأنّ الثّدىّ إذا ما بدت ... وزان العقود بهنّ النّحورا، حقاق من العاج مكنونة ... يسعن من الدّرّ شيئا كثيرا. وقال علىّ بن الجهم: كنت مشتاقا وما يحجزنى ... عنك إلا حاجز يمنعنى. شاخص في الصدر، غضبان على ... قبب البطن وطىّ العكن. يملأ الكفّ ولا يفضله، ... وإذا أثنيته لا ينثنى. وقال ابن الرومىّ: ملقمات أطفالهنّ ثديّا ... ناهدات كأحسن الرّمّان. مفعمات كأنها حافلات ... وهى صفر من درّة الألبان. وقال ابن المعتزّ: قبيح بمثلك أن تهجرى، ... وأقبح من ذاك أن تهجرى. أقاتلى بفتور الجفون ... ورمّانتين على منبر، كحقين من لبّ كافورة ... برأسيهما نقطتا عنبر!

ومما قيل في البطن، يقال: الدّحل، عظمه- الحبن، خروجه- الثّجل، استرخاؤه- القمل، ضخمه- الضّمور، لطافته- العجر والبجر، شخوصه- التّخرخر، اضطرابه. قال محمد بن مبادر: والبطن ذو عكنة لطيف ... صفر وشاحاه جائلان. أشرف من فوقه عليه ... ثديان ميلان ناهدان. ومما قيل في الأرداف والخصور، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. فمنه قول عبد الله بن طاهر: صبّ كئيب يشتكيك الهوى ... كما اشتكى خصرك من ردفكا. لسانه عن وصف أسقامه ... أكلّ منه عن مدى وصفكا. وقال ابن أبى البغل: كأنّه في اعتداله غصن ... وفي السّراويل منه أمواج. إذا مشى كالقضيب جاذبه ... ردف له كالكشيب رجراج. ويعلم الله أنّنى رجل ... إليه مذ قد كثرت محتاج.

وأنشد أبو بكر بن دريد عفا الله عنه ورحمه: قد قلت لمّا مرّ يخطر ماشيا ... والرّدف يجذب خصره من خلفه. يا من يسلّم خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه. وقال السرىّ الرّفاء: ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه. وقال المتنبى: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا. وقال السرىّ الرفّاء: أحاطت عيون الناظرين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق. وقال الأمير سيف الدّين المشدّ: وأهيف القدّ بتّ أشكو ... له تلافى وما تلافى. فلان عطفا ودقّ خصرا ... وإنما ردفه تجافى. وقال أبو نواس: ليّن القدّ لذيذ المعتنق ... يشبه البدر إذا البدر اتّسق. مثقل الرّدف إذا ولّى حكى ... موثقا في القيد يمشى في زلق. وإذا أقبل كادت أعين ... نحوه تجرح فيه بالحدق. وقال آخر وأجاد: أيا من نصفه غصن ... يميل ونصفه كفل. صفاتك في تباينها ... فمنفصل ومتّصل. فنصفك موج عاصفة ... ونصفك شارب ثمل.

ومما وصفت به على لفظ التأنيث، فمنه قول أبى عبادة البحترىّ: كأنّهنّ وقد قاربن في نظرى ... ضدّين في الحسن تثقيلا وإخطافا. رددن ما خفّفت عنه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا. وقال آخر: لها ردف تعلّق في لطيف ... فذاك الرّدف لى ولها ظلوم. يعذّبنى إذا فكّرت فيه ... ويتعبها إذا قصدت تقوم. وقال مؤمل وأفرط: من رأى مثل حبّتى ... تشبه البدر إذ بدا. تدخل اليوم ثم تد ... خل أردافها غدا. وقال أبو هلال: تمشى بأرداف أبين قعودها ... بين النّساء كما أبين قيامها. وقال علىّ بن عطية البلنسى: وإنسيّة زارت من اللّيل مضجعى ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر. أسائلها أين الوشاح؟ وقد سرت ... معطّلة منه، معطّرة النّشر. فقالت: وأومت، للسّوار نقلته ... إلى معصمى لما تقلقل في خصرى. وقال الطائىّ: من الهيف لو أنّ الخلاخل صيّرت ... لها وشحا جالت عليها الخلاخل.

وقال إسحاق الموصلىّ: ظباء كاليعافير ... كنوس في المقاصير. وأدبرن بأعجاز ... كأوساط الزّنابير. وقال عمر بن أبى ربيعة: يتقابلن كالبدور على الأغ ... صان في مثقل من الأرداف. بخصور تحكى خصور الزّنابي ... ر ضعاف هممن بالانقصاف. وقال آخر: عظمت روادفها فآذت خصرها ... ووشاحها قلق كقلب المغرم. وقال آخر: آخرها متعب لأوّلها ... فبعضها جائر على بعض. وقال آخر: تمشى فتثقلها روادفها ... فكأنّها تمشى إلى خلف. وقال البجلىّ: إن العزيز علىّ خصرك إنه ... بالرّدف حمّل منك ما لا يحمل. فخذى له جسمى مكان وشاحه ... إن العليل بشكله يتعلّل. ومما قيل في السّوق، فمن ذلك قول الأمير سيف الدّين المشدّ: ساق تجلّى كأنّه قمر، ... يحمل شمسا، أفديه من ساق! شمّر عن ساقه غلائله، ... فقلت: مهلا، واكفف عن الباقى! لمّا رآنى، وقد فتنت به ... من فرط وجدى وعظم أشواقى، غنّى وكأس المدام في يده: ... قامت حروب الهوى على ساق.

وقال عروة: فقمن بطيئا مشيهنّ تأوّدا ... على قصب قد ضاق عنه خلاخله. كما هزّت الميزان ريح فحرّكت ... أعاليه منه وارجحنّت أسافله. وقال كثيّر عزّة: ويجعلن الخلاخل حين تلوى ... بأسوقهنّ في قصب خدال. وقال كشاجم: قلت: وقد أبصرتها حاسرا ... عن ساقها فاضل سربالها: لو لم تكن من برد ساقها، ... لاحترقت من نار خلخالها. وله أيضا: وإذا لبسن خلاخلا، ... كذّبن أسماء الخلاخل. ومما وصفت به القدود، فمن ذلك قول أبى فراس الحمدانىّ: غلام فوق ما أصف ... كأنّ قوامه ألف. إذا ما مال يرعبنى: ... أخاف عليه ينقصف. وأشفق من تأوّده: ... أخاف يذيبه التّرف. وقال الخبز أرزّىّ: أهيف يحكى بقدّه الألفا ... يخسر من لم يكن به كلفا. أحسن من بهجة الخلافة والأم ... ن لمن قد يحاذر التّلفا. لو أبصر الوجه منه منهزم ... يطلبه ألف فارس، وقفا.

وقال مانى: أتمنّى الذى إذا أنا أو مأ ... ت إليه بطرف عينى، تجنّى. أهيف كالقضيب لو أنّ ريحا ... حرّكت هدب ثوبه، لتثنّى! وقال آخر: أيا سائلى عن قدّ محبوبى الّذى ... كلفت به وجدا وهمت غراما. أبى قصر الأغصان ثمّ رأى القنا ... طوالا، فأضحى بين ذاك قواما. وقال آخر، وهو محمد بن التلمسانى: يا مخجلا بقوامه ... أغصان بانات اللّوى! ما أنت عندى والقضي ... ب الّلدن في حدّ سوى! هذاك حرّكه الهوا ... ء وأنت حرّكت الهوى! وقال آخر: يا غصنا راح الصّبا ... يثنيه، لا ريح الصّبا! ما إن بدا للعين إلا ... ارتاح قلبى وصبا. ولا انثنى يخطر إلا ... ازداد قلبى وصبا. وقال آخر، وهو كشاجم: معتدل من كلّ أعطافه، ... مستحسن القامة والملتفت. لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت. سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى، فلو أودت به ما اشتفت. واستعذنت روحى هواه فلا ... تصحو ولا تسلو، ولو أتلفت.

ومما قيل في العناق، فمن ذلك ما ورد على لفظ التذكير. فمنه قول الحسين بن الضحاك: وموشّح، نازعت فضل وشاحه ... وكسوته من ساعدىّ وشاحا. بات الغيور يشقّ جلدة خدّه ... وأمال أعطافا علىّ ملاحا. وقال آخر: بتّ وبدر الدّجى نديمى ... وهو موات بلا امتناع. فقلت للحاسدين لمّا ... أشرقت الشمس بالشّعاع: القلب والطّرف منزلاه ... وهو إلى الآن في الذّراع. وقال ابن المعتز: ما أقصر الليل على الراقد! ... وأهون السّقم على العائد! يفديك ما أبقيت من مهجتى، ... لست لما أوليت بالجاحد. كأنّنى عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد. فلو ترانا في قميص الدّجى، ... حسبتنا في جسد واحد. وقال أبو هلال في نحو ذلك: ونحن في نظم الهوى واحد ... كأنّنا عقدان في نحر. وقال ابن الصولى: طال عمر الليل عندى ... إذ تولّعت بصدّ. يا ظلوما نقض العه ... د ولم يوف بعهد!

أنسيت الوصل إذ بت ... نا على مرقد ورد. واعتنقنا كوشاح ... وانتظمنا نظم عقد. وتعطّفنا كغصني ... ن، فقدّانا كقدّ. وقال ابن عبد كان الكاتب: وكلانا مرتد صاحبه ... كارتداء السّيف في يوم الوغى. بخدود شافيات من جوّى ... وشفاه مرويات من ظما. نتساقى الريق فيما بيننا: ... زقّ أمّات القطا زغب القطا. وقال على بن الجهم: سقى الله ليلا ضمّنا بعد فرقة، ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب! فبتنا جميعا: لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا، لم تسرّب. وقال الخبزأرزّىّ: طوّقته طوق العتاق بساعدى، ... وجعلت كفّى للّثام وشاحا. هذا هو الفوز العظيم فخلّنا، ... متعانقين فما نريد براحا! وقال صالح بن يونس: لى سيّد ما مثله سيّد، ... تصدّت الحمّى له فاشتكى. عانقته عند موافاته، ... والأفق بالليل قد احلولكا. فجاءت الحمّى كعاداتها، ... فلم تجد ما بيننا مسلكا! وقال الحسين بن علىّ بن بشر الكاتب: ضممته ضمّ مفرط الضّمّ، ... لا كأب مشفق ولا أمّ. ولم نزل، والظلام حارسنا، ... جسمين مستودعين في جسم.

ألثمه في الدّجى، وبرق ثنا ... ياه يرينى مواضع اللّثم. ثمّ افترقنا عند الصباح وقد ... أثّرت فيه كهيئة الختم. وقال أبو عبد الله الحامدىّ: سقانى وحيّانى وبات معانقى! ... فيا عطف معشوق على ذلّ عاشق! ويا ليلة، باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دور المخانق! نبثّ من الشّكوى حديثا كأنّه ... قلائد درّ في نحور العواتق. ومما ورد على لفظ التأنيث، فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى: هيفاء تحكى قضيبا ... قد جمّشته الرّياح. تفترّ عن سمط درّ ... عليه مسك وراح. جرّدتها واعتنقنا: ... كلّ لكلّ وشاح! باتت، وكلّ مصون ... لى من حماها مباح. فى ليلة لم يعبها ... فى الدّهر إلا الصّباح. وقال أيضا: أقول وقد جرّدتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التّمّ: لئن آلمت صدرى بشدّة ضمّها، ... لقد جبرت قلبى وإن أوهنت عظمى! وقال أبو الفضل الأصبهانىّ: يا ليلة قرنت لنا ... فيها المآرب بالنّجاح. بتنا برغم وشاتنا ... متعانقين إلى الصّباح.

متمازجين كانّنا ... روحان من ماء وراح. ظنّ الوشاة لفرط ضمّ ... ى أنّنى بعض الوشاح! ومما قيل في وصف مشى النساء، يقال: تهالكت المرأة، إذا انفتلت في مشيتها. تأوّدت، إذا اختالت في تثنّ وتكسّر. بدحت وتبدّحت، إذا أحسنت مشيتها. تهزّعت تهزّعا، إذا اضطربت في مشيتها. قرصعت قرصعة، وهى المشية القبيحة؛ وكذلك مثعت مثعا. وقال الأعشى: غرّاء، فرعاء، مصقول عوارضها ... تمشى الهوينى كما يمشى الوجى الوحل كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مزّ السحابة: لا ريث ولا عجل. وقال آخر: يمشين مشى قطا البطاح تأوّدا، ... قب البطون، رواجح الأكفال. وقال ابن عائشة من أبيات: فكأنّهنّ إذا أردن خطا ... يقلعن أرجلهنّ من وحل وقال أبو الفتح كشاجم: وتهتزّ في مشيها مثل ما ... تهزّ الصّبا غصنا ناعما. وتأمر بالأمر فيه الذى ... كرهت فأرضى به راغما.

وقال آخر: شبّهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف. صلف تباهت نفسه في نفسه، ... لما انثنى بسنانه المرعوف. وقال آخر: تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف المخمور في صعد. تظلّ من زور بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد. وقال المنخّل اليشكرىّ: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير. فدفعتها فتدافعت ... مشى القطاة إلى الغدير. ولمتها فتنفّست ... كتنفّس الظّبى البهير. وقال عمر بن أبى ربيعة: أبصرتها ليلة، ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر. يرفلن في الرّيط والمروط كما ... تمشى الهوينى سواكن البقر. وقال ابن مقبل: يهززن للمشى أوصالا منعّمة ... هزّ الجنوب ضحى عيدان يبرينا [1] . أو كاهتزاز ردينىّ تداوله ... أيدى التّجار فزادوا متنه لينا. يمشين هيل النّقا مالت جوانبه ... ينهال حينا وينهال الثّرى حينا.

_ [1] العيدان: النخل الطوال واحدته بهاء، ويبرين: اسم قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الأحياء.

وقال أشجع السلمىّ: وماجت كموج الماء بين ثيابها ... يميل بها شطر ويعدلها شطر. إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردّت شهادتها الأزر. وقال العباس بن الأحنف: شمس مقدّرة في خلق جارية ... كأنما كشحها طىّ الطّوامير. كأنها حين تمشى في وصائفها ... تخطو على البيض أو خضر القوارير! انتهى الغرض في وصف الأعضاء، وما شاكلها واتصل بها. فلنذكر إن شاء الله تعالى ما جاء فيما قدّمناه من الأمثال. فأما ما جاء منها في الإنسان، يقال: شديد على الإنسان ما لم يعوّد. وما علّم الإنسان إلا ليعلما. الناس من جهة التمثيل أكفاء. الناس أخياف وشتّى في الشّيم. الناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم. وما الناس إلا هالك وابن هالك. والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمهجور ومحقور. وقال آخر: الناس أكيس من أن يحسدوا رجلا ... حتّى يروا عنده آثار إحسان.

ويقال: المرء أعلم بشأنه. المرء مع من أحبّ. دع امرأ وما اختار. كلّ امرئ في شأنه ساع. كلّ امرئ مصبّح في أهله. كلّ امرئ من شجو صاحبه خلو. المرء يعجز لا محالة. المرء توّاق إلى ما لم ينل. المرء يجمع، والزمان يفرّق. ويقال: الرّجال بالأموال. تقطّع أعناق الرجال المطامع. ولكلّ دهر دولة ورجال. ومما يتمثل به في ذكر النفس، يقال: النفس مولعة بحبّ العاجل. النفس أعلم من أخوك النافع. أكذب النفس إذا حدّثتها.

ما عاتب الرجل اللبيب كنفسه. الجود بالنفس أقصى غاية الجود. نفس عصام سوّدت عصاما. ومما يتمثل به من أعضاء الإنسان الظاهرة والباطنة ما قيل في الرأس والشعر من نجا برأسه فقد ربح. رماه بأقحاف رأسه. أى بالدواهى. اختلفت رءوسها فرتعت. كلّ رأس به صداع. ويقال: ادقّ من الشّعر. اهون من الشّعر الساقط. ما يتمثل به من ذكر الوجه وجه المحرّش أقبح. أى وجه مبلّغ القبيح أقبح من وجه قائله. فى وجه مالك تعرف إمرته. قبل البكاء كان وجهك عابسا. قال أبو تمام: وما أبالى، وخير القول أصدقه، ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى.

وقال ابن الرومىّ: وقلّ من ضمنت خيرا طويّته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان. له محيّا جميل يستدلّ به ... على جميل، وللبطنان ظهران. وقال آخر: صلابة الوجه صلاح الفتى ... ورقّة الوجه من الخرقة. ما يتمثل به من ذكر العين، يقال: أسرع من طرف العين. أسرع من لمح البصر. العين ترجمان القلب. شاهد البغض اللحظ. ربّ عين أنمّ من لسان. ليس لما قرّت به العين ثمن. نظرة من ذى علق. عين عرفت فذرفت. لحظه أصدق من لفظه. ليس لعين ما رأت، ولكن لكفّ ما أخذت. لا تطلب أثرا بعد عين. من أطاع طرفه، أصاب حتفه. وأىّ عار على عين بلا حور. والدّمع قد يعلن ما في الصّدور.

ما يتمثل به من ذكر الأنف

ومن الأبيات: وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة؛ ... ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا. وقال الأمير أبو الفضل الميكالىّ: كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الابعد. كالعين لا تنظر ما حولها، ... ولحظها يدرك ما يبعد. ما يتمثل به من ذكر الأنف أنفك منك وإن كان أجدع. يضرب في القريب السّوء. شفيت نفسى وجدعت أنفى. لأمر ما جدع قصير أنفه. كلّ شىء أخطأ الأنف جلل. لدغت حيث لا يضع الراقى أنفه. يضرب للأمر الذى لا دواء له. ربّ حام لأنفه وهو جادعه. يضرب لمن أنف من الشىء فتوقعه الأنفة في أشدّ منه. مات حتف أنفه. جدع الحلال أنف الغيرة. قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم. أنف في السّماء، واست في الماء! ما يتمثل به من ذكر الفم، واللسان، والأسنان كل جان يده إلى فيه. حدّثنى، فاه إلى فيّ. فلان خفيف الشّفة. أى قليل المسألة.

ما يتمثل به من ذكر الأذن

سكت ألفا، ونطق خلفا. قرع سنّ النادم. كدمت في غير مكدم. أى طلبت غير مطلب. وجرح الدّهر ما جرح اللّسان. وجرح اللسان كجرح اليد. ما يتمثل به من ذكر الأذن جاء فلان ناشرا أذنيه. لبست على ذلك أذنى. أساء سمعا فأساء إجابة. كلامه يدخل في الأذن بلا إذن. جعلت ذلك دبر أذنى. ما يتمثل به من ذكر العنق حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. أذلّ الحرص أعناق الرجال. وقال أبو الفتح البستىّ: فكم دقّت وشقّت واسترقّت ... فضول العيش أعناق الرّجال. ما يتمثل به من ذكر اليد أهدى من اليد إلى الفم. ألزم من اليمين للشّمال.

يداك أوكتا، وفوك نفخ. اليد العليا خير من اليد السّفلى. آثر لديه من يمين يديه. ذهبوا أيدى سبا. أى متفرّقين. بالساعد تبطش الكفّ. على يدى دار الحديث. إذا كان خبيرا بالأمر. هو على حبل ذراعه. أى موافق له. تربت يداه. دعاء عليه بالفقر. ما تبلّ إحدى يديه الأخرى. البخيل. تركه على أنقى من الراحة. فلان يقلّب كفّيه. سقط في يديه. للنادم. أعطاه عن ظهر يد. أى ابتدأه لا عن مكافأة. ما سدّ فقرك مثل ذات يدك. إن الذّليل الذى ليست له عضد. يد تشحّ، وأخرى منك تأسونى. على اليد ردّ ما أخذت. وما الكفّ إلا إصبع ثم إصبع.

ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب

ومن الأبيات: قد تطرف الكفّ عين صاحبها، ... ولا يرى قطعها من الرّشد. وقال آخر: فلو أنّها إحدى يدى رزئتها؛ ... ولكن يدى بانت على إثرها يد. وقال أبو تمام: وهل يستعيض المرء من خمس كفّه، ... ولو صاغ من حرّ اللّجين بنانها؟ ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب صدرك أوسع لسرّك. صدور الاحرار، قبور الأسرار. لا بدّ للمصدور من أن ينفث. ألزم له من شعرات صدره. ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. القلب طليعة. القلوب تتقلّب. قال بعض الشعراء: متى تجمع القلب الذّكىّ وصارما ... وأنفا حميّا، تجتنبك المظالم. وقال آخر: إنّ التباعد لا يضرّ ... إذا تقاربت القلوب.

ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب

ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب استظهر على الدّهر بخفّة الظّهر. قلب الأمر ظهرا لبطن. لا تجعل حاجتى بظهر. أى لا تلقها وراء ظهرك. انقطع السّلى في البطن. لتناهى الشّدّة. نزت به البطنة. لمن لا يحتمل النّعمة. لكلّ جنب مصرع. لجنبه فلتكن الوجبة، فى الدعاء عليه. دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا. ما يتمثل به من ذكر الكبد والدّم والعروق يا بردها على الكبد! فلان بين الخلب والكبد. ما ينفع الكبد يضرّ الطّحال. ويقال: جرى منه مجرى الدّم في العروق. هو أعزّ من دم الفؤاد. سرّك من دمك. لا تكايل بالدّم. لا يحزنك دم هراقه أهله. للجانى على نفسه.

ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم، يقال:

فلان لا يشرب الماء إلا بدم. العرق نزّاع. ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ مدرك! ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم، يقال: التفّت الساق بالساق. فى الشدّة. كشفت الحرب عن ساقها، وكشرت عن نابها. قدح في ساقه، إذا عمل في شىء يكرهه. لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا. قد شمّرت عن ساقها، فشمّرى! فى الحثّ على الجدّ. ويقال: له قدم في الخير، أى سابقة. إنك لا تسعى برجلى من أتى. وقال الشاعر: إنّ قريشا- وهى من خير الأمم- ... لا يضعون قدما على قدم. من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل يقولون: أسخى من حاتم. أجود من كعب بن مامة.

أجود من هرم. قال الميدانى: هو هرم بن سنان بن أبى حارثة. وفيه يقول زهير بن أبى سلمى: إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنّ الجواد على علّاته هرم. أقرى من مطاعيم الرّيح. ومطاعيم الريح أربعة: منهم أبو محجن الثقفىّ. وكان لبيد بن ربيعة العامرىّ يطعم إذا هبّت الصّبا. أشجع من ربيعة بن مكدّم. أعزّ من كليب بن وائل. أعزّ من مروان القرظ. أسود من قيس بن عاصم. أحلم من الاحنف بن قيس. أزكن من إياس بن معاوية. أفتك من البرّاض بن قيس النمرىّ، خليع بنى كنانة. فتك بعروة الرّجّال، والمساور بن مالك الغطفانىّ، وأسد بن خيثم الغنوىّ بسبب لطيمة النعمان. وبسبب ذلك كانت أيام الفجار الأخر؛ وسنذكرها في وقائع العرب إن شاء الله تعالى. أوفى من الحارث بن عباد. وخبره مشهور مع مهلهل أخى كليب لما أمنه يوم تحلاق اللّم أوفى من عوف بن محلّم. أوفى من هانئ بن قبيصة. وخبره مشهور في أدرع النعمان؛ وبسببها كانت وقعة ذى قار. أوفى من السّموءل بن عادياء. أجمل من ذى العمامة. وهو سعيد بن العاص بن أمية، ويكنى أبا أحيحة؛ وهو المقول فيه: أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا ولد. أمضى من سليك المقانب.

أغلى فداء من حاجب بن زرارة؛ ومن بسطام بن قيس؛ ومن الأشعث. أسرته مذحج ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير. أعدى من الشّنفرى؛ ومن السّليك بن السّلكة. أبطأ من فند. وهو مولى لعائشة بنت طلحة؛ وقال أبو هلال العسكرى: عائشة بنت سعد بن أبى وقّاص، بعثت به مولاته ليقتبس نارا، فأتى مصر، فأقام بها سنة، ثم جاء يشتد ومعه نار، فتبددت فقال: تعست العجلة! أنوم من عبّود. كان عبود عبدا أسود؛ وكان الله عز وجل قد بعث نبيا إلى قومه. قال الميدانى: إن النبىّ هو خالد بن صفوان، نبىّ أهل الرّسّ. فلم يؤمن به أحد منهم إلا ذلك العبد الأسود، وإن قومه احتفروا له بئرا فصيروه فيها وأطبقوا عليه صخرة. فكان ذلك الأسود يخرج من القرية فيحتطب، ويبيع الحطب فيشترى به طعاما وشرابا، ثم يأتى به إليه فيعينه الله تعالى على الصخرة فيرفعها ويدلى إليه الطعام والشراب. فاحتطب يوما وجلس فنام على شقّه الأيسر سبع سنين. ثم هبّ من نومه فانقلب على شقّه الأيمن، فنام سبع سنين، وهو يظن أنه نام ساعة من نهار. ثم احتمل حزمته وأتى القرية، فباع الحطب وجاء الى الحفرة فلم يجد النبىّ وكان قد بدا للقوم فأخرجوه. فكان يسأل عن الأسود، فيقولون: لا ندرى. فضرب به المثل لمن ينام نوما طويلا. وقيل فيه غير ذلك. وذكره الميدانى في أمثاله ولم يذكر السبعة الثانية، وإنما ذكرها صاحب كتاب المفاخر [1] . أنعم من خريم الناعم. هو رجل من ولد سنان بن أبى حارثة، كان في زمن الحجاج. أبلغ من سحبان وائل. ويقال أخطب من سحبان: وهو الذى يقول: لقد علم الحىّ اليمانون أنّنى ... إذا قلت: أمّا بعد، أنّى خطيبها. أخطب من قسّ. هو قسّ بن ساعدة بن حذافة بن زهير بن إياد بن نزار. وكان من حكماء العرب وهو أول من كتب من فلان الى فلان؛ وأوّل من أقرّ بالبعث من غير علم؛ وأوّل من قال: «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» . وقيل: إنّه عمّر مائة وثمانين سنة.

_ [1] هو كتاب «الفاخر» وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية.

روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: وفد وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما فرغ من حوائجهم قال: أفيكم من يعرف قسّ بن ساعدة الإيادىّ؟ فقالوا: كلنا نعرفه! قال: ما فعل؟ قالوا: هلك! فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: كأنّى به على جمل أحمر بعكاظ قائما، يقول: «أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا! كلّ من عاش مات، وكلّ من مات فات، وكل ما هو آت آت! إنّ في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا: مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة لن تبور وليل داج، وسماء ذات أبراج! أقسم قسّ حقّا: إن كان في الأرض رضا ليكوننّ بعده سخط! وإن لله عز وجل دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذى أنتم عليه! ما لى أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا!» ثم أنشد أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه شعرا حفظه له، وهو: فى الذاهبين الأوّل ... ين من القرون لنا بصائر. لمّا رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر. ورأيت قومى نحوها ... تسعى: الأصاغر والأكابر. لا يرجع الماضى إلىّ ... ولا من الباقين غابر. أيقنت أنّى لا محا ... لة حيث صار القوم صائر! ويقال: أعيا من باقل. وهو رجل من ربيعة ابتاع ظبيا وحشيا بأحد عشر درهما، وجعل بقية الدراهم في فيه. فسئل عن ثمنه، ففعل بيديه تجاه السائل (أى فتح أصابعه وفغر فاه وأدلى لسانه يشير بذلك إلى ثمنه) . فحصل من ذلك انفلات الظبى؛ وسقوط الدراهم؛ والإساءة على السائل فضرب به المثل. أبرّ من العملّس. كان برّا بأمه فكان يحملها على عاتقه. أبرّ من فلحس. وهو رجل من شيبان. حمل أباه على ظهره وحجّ به. وفيه أيضا يقال: أسأل من فلحس كان سيدا عزيزا، يسأل سهما في الجيش وهو في بيته فيعطى لعزه؛ فإذا أعطى سأل لامرأته؛ فإذا أعطى سأل لبعيره، وكان له ولد يقال له زاهر، فكان مثله، فقيل فيه: «العصا من العصيّة» .

ويقال: أخيب صفقة من شيخ مهو. وهو حىّ من عبد القيس اشتروا الفسو من إياد وكانوا يعرفون به، فعرفت به عبد القيس. قال الميدانى: هذا الشيخ اسمه عبد الله بن بيدرة، اشترى الفسو من إياد ببردى حبرة، وقال لقومه: اشتريت لكم عار الدهر، فقالت عبد القيس في ذلك: إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد. وفيهم يقول شاعر: يا من رأى كصفقة ابن بيدره ... من صفقة خاسرة مخسّره؟ المشترى العار ببردى حبره! ... شلّت يمين صافق ما أخسره! أخسر صفقة من أبى غبشان. فإنه باع مفاتيح الكعبة من قصىّ بزقّ خمر. أضلّ من سنان. وهو ابن أبى حارثة المرّى؛ وكان قومه عنفوه على الجود، فركب ناقة له ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك. وسمته العرب ضالّة غطفان؛ وقالوا: إن الجانّ استفحلته تطلب كرم نجله. أبطش من دوسر. وهى كتيبة النعمان. أهدى من قيس بن زهير. أفرغ من حجّام ساباط. يقال إنه كان إذا أعوزه من يحجمه حجم أمّه. فلم يزل يحجمها حتى نزف دمها، فماتت. أندم من الكسعىّ. واسمه محارب بن قيس، وقيل غامد بن الحارث. وكان أرمى الناس، لا يخطئ له سهم، فخرج ومعه قوس وخمس سهام فرمى صيدا في الليل فأصاب سهمه ونفذ، فوقع في الحجر فقدح نارا. ثم رمى كذلك حتى استنفد السّهام. وهو يظن أنه أخطأ في الجميع فكسر قوسه، وخلع إبهامه. فلما أصبح رأى رميّته، فندم على فعله. أمنع من الحارث بن ظالم. وسيأتى خبره في وقائع العرب أبخل من مادر. وسيأتى خبره في باب الهجاء.

أكذب من مسيلمة الحنفىّ، (وخبره مشهور في دعواه النبوّة) ومن المهلّب، (وكان يكذب لأصحابه في حرب الأزارقة، يعدهم بالنّجدة والإمداد) . أحمق من راعى ضأن ثمانين، (وذلك أن أعرابيا بشّر كسرى ببشارة سرّ بها، فقال له كسرى: سلنى ما شئت! فقال: أسألك ضأنا ثمانين) ؛ ومن هبنّقة، وهو ذو الودعات؛ واسمه يزيد بن ثروان أحد بن قيس بن ثعلبة؛ وبلغ من حمقه أنه ضلّ له بعير، فنادى من وجد بعيرى فهو له، فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان. وفيه يقول الشاعر: عش بجدّ وكن هبتقة القي ... سىّ نوكا أو شيبة بن الوليد. ربّ ذى إربة مقلّ من الما ... ل وذى عنجهية مجدود. العنجهية الجهل أحمق من ربيعة البكّاء. هو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن حمقه أن أمّه تزوّجت بعد أبيه، فدخل عليها الخباء، وكان قد التحى فوجد زوجها بياضعها، فتوهّم أنه يريد قتلها، فبكى وهتك الخباء، فاجتمع الناس وسألوه عن شأنه، فأخبرهم أنه وجده على بطنها يريد قتلها، فقالوا: «أهون مقتول» فصار مثلا. أتيه من أحمق ثقيف. وهو يوسف بن عمرو. ألصّ من شظاظ. وهو رجل من بنى ضبّة. أزنى من قرد. وهو قرد بن معاوية بن هذيل. أمطل من عرقوث. وقال كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل. أشام من خوتعة. وهو رجل من بنى غفيلة بن قاسط أخى النمر بن قاسط. أشأم من قدار (وهو عاقر الناقة) ؛ ومن أحمر ثمود (وهو عاقرها أيضا) .

وأما من ضرب بها المثل من النساء

أشأم من طويس. وهو مخنّث، كان يقول إنه ولد يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ وفطم يوم مات أبو بكر؛ وبلغ يوم قتل عمر؛ وتزوّج يوم قتل عثمان؛ وولد له يوم قتل علىّ. أمكر من قيس بن زهير. وأمّا من ضرب بها المثل من النساء يقال. أنجب من مارية. ولدت لزرارة: حاجبا، ولقيطا، وعلقمة. أنجب من بنت [1] الحارث. ولدت لزياد العبسىّ بنيه الكلمة، وهم: ربيعة الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحافظ، وأنس الفوارس. أنجب من أمّ البنين [2] . ولدت لمالك بن جعفر بن كلاب، ملاعب الأسنة عامرا، فارسا. أنجب من عاتكة: ولدت لعبد مناف هاشما، وعبد شمس، والمطّلب. أسرع من نكاح أمّ خارجة. وهى عميرة بنت سعد بن عبد الله بن قدار بن ثعلبة بن معاوية بن زيد ابن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان. ولدت في نيّف وعشرين حيّا من العرب. كان الرجل يقول لها: خطب! فتقول: نكح! قال أبو الفرج الأصبهانى: فمن ولدت، الدّيل، وليث، والحارث بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة؛ وغاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ والعنبر، وأسيد، والهجيم بنو عمرو بن تميم؛ وخارجة ابن يشكر (وبه كانت تكنّى) ؛ وسعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا (وهو أبو المصطلق) .

_ [1] صوابه الخرشب وهى فاطمة بنت الخرشب الأنمارية انظر «مجمع الأمثال» و «تاج العروس» . [2] هم كما في «أمثال الميدانى» أبو براء، وملاعب الأسنة عامر، وطفيل فارس فرزل وربيعة، ومعاوية، وأم البنين هى ابنة عمرو بن عامر فارس الضحياء، وبذلك تعلم ما في الأصول من السقط.

قال: وزعموا أن بعض أزواجها طلّقها فرحل بها ابن لها عن حيه إلى حيها فلقيها راكب، فلما تبينته، قالت لابنها: هذا خاطب لى لا شكّ فيه، افتراه يعجلنى أن أنزل عن بعيرى، فجعل ابنها يسبّها. أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها. وذلك أن زوجها طلقها، فطالبته بمهرها، فأخذ أحد خلخاليها من رجلها وأعطاها إيّاه، فرضيت به. أحمق من دغة. هى مارية بنت مغنج [1] بن ربيعة بن عجل، وقيل بنت منعج؛ تزوّجت وهى صغيرة فى بنى العنبر بن تميم، فحملت. فلما أدركها المخاض، ظنّت أنها تريد الخلاء فتبرزت فولدت فاستهلّ الولد. فانصرفت وهى تقدّر أنها إنما أحدثت. فقالت لضرّتها يا هنتاه، هل يفغر الجعرفاه؟ قالت: نعم، ويدعو أباه! فمضت ضرّتها للولد فأخذته، فبنو العنبر تسمّى بنى الجعراء. أبصر من زرقاء اليمامة. وهى امرأة من طسم، كانت تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال. وسيأتى إن شاء الله تعالى خبرها في وقعة طسم وجديس. أزنى من هرّ. وهى امرأة يهودية؛ وهى التى قطع المهاجر يدها فيمن قطع من النساء حين شمتن بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أشبق من حبّى المدنيّة. أشأم من البسوس. وهى جارة جسّاس بن مرّة، صاحبة الناقة التى قتل بسببها كليب، وثارت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة. ويقال: أمنع من أمّ قرفة. وهى امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزارى. كان يعلّق في بيتها سبعون سيفا، كلّ سيف لذى محرم منها. فضرب بها المثل. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] فى الأصلى «معج» وفي اللسان والقاموس وشرحه «مغنج» وفي بعض النسخ «منعج» قال المغفل بن سلمة: من أعجم العين فتح الميم ومن أهملها كسر الميم. قاله البكرى في شرح أمالى القالى.

الباب الثالث من القسم الأول من الفن الثانى (فى الغزل، والنسيب، والهوى، والمحبة، والعشق)

الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى الغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق) ولنبدأ بذكر الهوى، لأنه السبب الباعث على الغزل. وذلك أنه إذا حلّ في الأجسام ارتاحت النفوس، ورقّت القلوب، وانجذبت الخواطر، وصفت الأذهان، وسهل على القرائح فأبرزته الألسن. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. ذكر شىء مما قيل في الهوى، والمحبة، والعشق، وما قيل في ماهية العشق، وحقيقته وسببه، وما قيل في مدحه، وذمّه، والممدوح منه، والمذموم، وضرر العشق في الدّنيا، والآفات التى تجرى على العاشق: من المرض، والجنون، والضّنا، والمخاطرات بالنفوس، وإلقائها إلى الهلاك. ثم نذكر أخبار ومن أخرجه عن دينه حتّى كفر بربه، ومن قتل، وقتل فيه، ومن قتل نفسه. ثم نذكر ما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللائط، وغير ذلك من أمر العشق، على ما سنشرحه إن شاء الله تعالى فنقول، وبالله التوفيق. أمّا ماهية العشق وحقيقته، فقد تكلم عليه أوائل الحكماء والفلاسفة وغيرهم من المسلمين، على ما نشرحه إن شاء الله تعالى.

فأما كلام الحكماء والفلاسفة

فأما كلام الحكماء والفلاسفة فقال أفلاطون: العشق، حركة النفس الفارغة بغير فكرة. وسئل ديوجانس عن العشق، فقال: سوء اختيار صادف نفسا فارغة. وقال أرسطاطاليس: العشق، هو عمى الحسّ عن إدراك عيوب المحبوب. وقال فيثاغورس: العشق، طبع يتولد في القلب ويتحرّك وينمى ثم يتربّى، ويجتمع إليه موادّ من الحرص، وكلما قوى ازداد صاحبه في الاهتياج واللّجاج، والتمادى في الطمع، والفكر في الأمانىّ، والحرص على الطلب، حتى يؤدّيه ذلك إلى الغم المقلق. وإلى هذا المعنى أشار المتنبى بقوله: وما العشق إلا غرّة وطماعة: ... يعرّض قلب نفسه فيصاب. وقال بعض الفلاسفة: لم أرحقّا أشبه بباطل، ولا باطلا أشبه بحق من العشق: هزله جدّ، وجدّه هزل، وأوّله لعب، وآخره عطب. وقد ذهب بعضهم إلى أنه مرض وسواسىّ شبيه بالماليخوليا. وأما كلام الإسلاميين وما قالوه فيه فقد حكى عن أبى العالية الشامىّ، قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح للمرء يهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه! قال فقال له ثمامة: اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسئلة طلاق أو محرم صاد ظبيا، أو قتل نملة؛ فأما هذه فمسائلنا نحن! فقال له المأمون: ما العشق؟ يا ثمامة، فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مملّك، ومالك قاهر، مسالكه لطيفة،

ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطى عنان طاعتها، وقيود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وغيض في القلوب مسلكه! فقال له المأمون: أحسنت والله، يا ثمامة! وأمر له بألف دينار. وحكى عن الفضل بن يعقوب: قال لما اجتمع ثمامة بن أشرس، ويحيى بن أكثم عند المأمون، قال ليحيى: خبّرنى عن العشق ما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، سوانح تسنح للعاشق يؤثرها، ويهيم بها تسمّى عشقا! فقال له ثمامة: يا يحيى، أنت بمسائل الفقه أبصر منك بهذا، ونحن بهذا أحذق منك! فقال المأمون: فهات ما عندك! فقال: يا أمير المؤمنين، إذا امتزجت خواطر النفوس بوصل المشاكلة نتجت لمح نور ساطع تستضىء به نواظر العقول، ويتصوّر من ذلك اللمح نور خاص بالنفوس متصل بجواهرها يسمّى عشقا! فقال له المأمون: صدقت، هذا وأبيك الجواب! وحكى عن الأصمعىّ، قال: دخلت على هرون الرشيد، فقال: يا أصمعىّ، إنى أرقت ليلتى هذه، فقلت: ممّ؟ أنام الله عين أمير المؤمنين، قال: فكّرت فى العشق ممّ هو، فلم أقف عليه، فصفه لى حتّى إخاله جسما مجسما! قال الأصمعىّ: لا والله ما كان عندى قبل ذلك فيه شىء فأطرقت مليّا، ثم قلت: نعم يا سيّدى، إذا تقاربت الأخلاق المشاكلة وتمازجت الأرواح المشابهة، لمح نور ساطع يستضىء به العقل، وتهتز لإشراقه طباع الحياة، ويتصوّر من ذلك النور خلق خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمّى العشق! فقال: أحسنت والله! يا غلام، أعطه وأعطه وأعطه! فأعطيت ثلاثين ألف درهم.

ذكر مراتب العشق وضروبه

وحكى عن الأصمعىّ أنه قال: لقد أكثر الناس في العشق، فما سمعت أوجز ولا أجمل من قول أعرابيّة (وقد سئلت عن العشق) فقالت: ذلّ وجنون. قلت: هذه صفة ثمرة العشق ومآله. والتحقيق أن العشق شدّة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها، فإذا قوى فكره فيه تصوّرت حصولها وتمنّت ذلك، فيتجدّد من شدّة الفكر مرض. وقيل لبعضهم: ما العشق؟ فقال: ارتياح في الخلقة، وفرح يجول في الرّوح، وسرور ينساب في أجزاء القوى. وقال أبو العيناء: سألت أعرابيّا عن الهوى، فقال: هو أظهر من أن يخفى. وأخفى من أن يرى، كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة، فقال: التى لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء. وسئل بعض الصوفية عن الهوى والمحبة فقال: الهوى يحلّ في القلب، والمحبة يحلّ فيها القلب! وللعشق مراتب من ابتدائه إلى انتهائه. ذكر مراتب العشق وضروبه قالوا: أوّل ما يتجدّد الاستحسان للشخص تحدث إرادة القرب منه، ثم المودّة. (وهو أن يودّ لو ملكه) ، ثم يقوى الودّ فيصير محبة، ثم يصير هوى (فيهوى بصاحبه فى محابّ المحبوب من غير تمالك) ، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيّما (والتتيّم حالة يصير بها المعشوق مالكا للعاشق لا يوجد في قلبه سواه) ، ثم يزيد التتيّم فيصير ولها (والوله إلخروج عن حدّ الترتيب، والتعطل عن أحوال التمييز) .

وقال بعضهم: أوّل مراتب العشق الميل إلى المحبوب، ثم العلاقة، ثم الحب، ثم يستحكم الهوى فيصير مودّة تزيد بالمؤانسة، وتدرس بالجفاء والأذى، ثم الخلّة، ثم الصّبابة (وهى رقة الشوق) تولّدها الألفة، ويبعثها الإشفاق، ويهيجها الذكر، ثم تصير عشقا. وهو على أضرب. فمبدؤه يصفى الذهن، ويهذّب العقل. كما قال ذو الرياستين لأصحابه: «اعشقوا، ولا تعشقوا حراما! فإن عشق الحرام يطلق اللسان ويرفع التبلّد ويطلق كفّ البخيل ويبعث على النظافة ويدعو إلى الذكاء، فإذا زاد؛ مرض الجسد، فإذا زاد؛ أخرج العقل وأزال الرأى فاستهلك، ثم يترقّى فيصير ولها، ويسمّى ذو الوله مدلّها، ومستهاما، ومستهترا، وحيران؛ ثم بعدها التتيّم فيدعى متيّما، والتتيّم نهاية الهوى، وآخر العشق؛ ومن التتيّم يكون الداء الدّوىّ، والجنون الشاغل» . وقال بعض الحكماء: أوّل الحب العلاقة (وهو شىء يحدثه النظر أو السمع فيخطر للبال، ويعرض للفكر، ويرتاح له القلب، ثم ينمى بالطمع، واللّجاج، وإدمان الذكر) ، ثم يقوى فيصير حبّا، ثم يصير هوى، ثم يصير خلّة، ثم عشقا، ثم ولها، فيسمّى صاحبه مدلّها، ومستهاما، وهائما، وحيران، ثم يصير متيّما، وهو أرفع منازل الحب، لأن التتيم التعبّد؛ والوجد ألم الحب، والهيمان الذهاب في طلب غرض لا غاية له؛ والكلف والشّغف اللهج بطلب الغرض. وقال الفرّاء: اللّوعة، حرقة القلب من الحب. وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: العلاقة الحب اللازم للقلب؛ والجوى الهوى الباطن؛ واللّوعة حرقة الهوى؛ واللاعج الهوى المحرق؛ والشّغف أن يبلغ الحب شغاف القلب (وهو جلد دونه) ؛ والتّتيم أن يستعبده الهوى؛ والتّبل أن يسقمه الهوى،

ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق

يقال: رجل متبول؛ والتّدليه، ذهاب العقل من الهوى، يقال: رجل مدلّه؛ والهيوم أن يذهب على وجهه؛ والشّغف إحراق القلب مع لذة يجدها وهو شبيه باللّوعة. وقال أبو عبد الله بن عرفة: الإرادة قبل المحبة، ثم المحبة، ثم الهوى، ثم العشق. وقال ابن دريد: الصّبابة رقّة الهوى. واشتقاق الحب من أحب البعير، إذا برك من الإعياء. ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق قالوا: المحبة جنس، والعشق نوع. فإن الرجل يحب أباه وأمه، ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه، بخلاف العاشق. وقد حكى أن بعض العشاق نظر إلى جارية كان يهواها، فارتعدت فرائصه وغشى عليه، فقيل لبعض الحكماء: ما الذى أصابه؟ فقال: نظر من يحبّه، فانفرج قلبه، فتحرّك الجسم لانفراج القلب! فقيل له: فنحن نحب أهالينا ولا يصيبنا ذلك فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الرّوح! وقالوا: كل عشق يسمّى حبّا، وليس كل حب يسمّى عشقا. لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السّرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة. قال الشاعر: ثلاثة أحباب: فحبّ علاقة، ... وحبّ تملّاق، وحبّ هو القتل!

وأما سبب العشق وما قيل فيه، فقالوا: سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه. وأكثر أسباب المصادفة النظر. ولا يكون ذلك بالملح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرّب منه، وتمنّت الاستمتاع به. فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا، وشغلها كله به، فيتجدّد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى. وكلما قويت الشهوة البدنية، قوى الفكر في ذلك. وقد أمر الله عز وجل بغضّ البصر فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) . فقرن غض البصر بحفظ الفرج، لأنه يسببه ويؤول إليه. وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: «لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى! وليست لك الآخرة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العينان تزنيان، وزناهما النظر» . وعن علىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! «يا علىّ، اتّق النظرة بعد النّظرة! فإنها سهم مسموم، يورث الشّهوة في القلب» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس» . وعن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: «النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة!» .

وعن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: «إيّاكم والنظر! فإنّه يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة!» . وقال الحسن البصرىّ: من أطلق طرفه، أطال أسفه. وقال ذو النون: اللّحظات تورث الحسرات: أوّلها أسف، وآخرها تلف. فمن تابع طرفه، تابع حتفه. وقال حكيم: أوّل العشق النظر، وأوّل الحريق الشّرر. وقال أبو الفرج بن الجوزىّ: البصر صاحب خبر القلب. ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول الفكر فيها فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. فاحذر من شر النظر! فكم أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد! وهو سبب الآفات، إلا أن علاجه في بدايته قريب. فإذا كرر تمكن الشرّ فصعب علاجه. فإن النظرة إذا أثّرت في القلب، فإن أعجل الحازم بغضها وحسم المادّة من أوّلها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرّغ ونقشها فيه. فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنمو فيفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، ويخرج بصاحبه الى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقى في التلف. وقد أكثر الشعراء في وصف ما يحدثه النظر من البلايا، فمن ذلك، قول الفرزدق: تزوّد منها نظرة لم تدع له ... فؤادا، ولم يشعر بما قد تزوّدا. فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا ... بغير سلاح مثلها حين أقصدا.

وقال إبراهيم بن العباس بن صول الكاتب: فمن كان يؤتى من عدوّ وحاسد، ... فإنّى من عينى أتيت ومن قلبى! هما اعتورانى نظرة ثم فكرة، ... فما أبقيا لى من رقاد ولا لبّ! وقال إسمعيل بن عمار الأعرابىّ: عينان مشئومتان، ويحهما! ... والقلب حيران مبتلى بهما. عرّفتاه الهوى لظلمهما، ... يا ليتنى قبله عدمتهما! وقال أبو عبد الله المارستانىّ: رمانى بها طرفى فلم يخط مقتلى، ... وما كلّ من يرمى تصاب مقاتله! إذا متّ، فابكونى قتيلا لطرفه ... قتيل عدوّ حاضر ما يزايله! وقال ابن المعتز: متيّم يرعى نجوم الدّجى ... يبكى عليه رحمة عاذله! عينى أشاطت بدمى في الهوى، ... فابكوا قتيلا بعضه قاتله! وقال المتنبى: وأنا الّذى اجتلب المنيّة طرفه ... فمن المطالب؟ والقتيل القاتل! وقال ابن المعتز: وما أدرى، إذا ما جنّ ليل، ... أشوقا في فؤادى أم حريقا؟ ألا يا مقلتىّ، دهيتمانى ... بلحظكما فذوقا! ثم ذوقا! وقال أبو عبد الله بن الحجاج: يا من رأى سقمى يزي ... د وعلّتى تعيى طبيبى. لا تعجبنّ فهكذا ... تجّنى العيون على الدّلوب!

وقال أبو منصور بن الفضل: لواحظنا، تجنى ولا علم عندها ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر. ولم أر أغبى من نفوس عفائف ... تصدّق أخبار العيون الفواجر. ومن كانت الأجفان حجّاب قلبه ... أذنّ على أحشائه بالفواقر! وقال أبو محمد بن الخفاجىّ: رمت عينها عينى، وراحت سليمة! ... فمن حاكم بين الكحيلة والعبرا؟ فياطرف، قد حذّرتك النظرة التى ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا! ويا قلب، قد أرداك من قبل مرة! ... فويحك! لم طاوعته مرّة أخرى؟ وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ: ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنّما طرفك خمّار. هذا هوى يصدر عنه جوى ... يتلوه لوعات وأفكار. وهذه أفعالها، هذه! ... ما بعد رأى العين إخبار. ولم يكن أوّل من غرنى! ... كلّ غرير الطّرف غرّار! وقال أبو شجاع الوزير: لأعذّبنّ العين غير مفكّر ... فيها، جرت بالدمع أم فاضت دما! ولأهجرنّ من الرّقاد لذيذه ... حتّى يصير على الجفون محرّما! سفكت دمى، فلأسفكنّ دموعها ... وهى التى بدأت فكانت أظلما! هى أوقعتنى في حبائل فتنة: ... لو لم تكن نظرت، لكنت مسلّما! وقال آخر عفا الله عنه: يا عين أنت قتلتنى، ... وجعلت ذنبك من ذنوبى!

فصل

وأراك تهوين الدّمو ... ع كأنّها وفق الحبيب. تالله، أحلف صادقا ... والصّدق من شيم الأريب! لو ميّزت نوب الزما ... ن من البعيد إلى القريب، ما كنّ إلا دون ما ... جنت العيون على القلوب! وقال آخر، وأجاد: أنا ما بين عدوّي ... ن هما: قلبى وطرفى. ينظر الطّرف ويهوى ال ... قلب، والمقصود حتفى. وقال ابن الحريرىّ: فتصبّر، ولا تشم كلّ برق! ... ربّ برق فيه صواعق حين! واغضض الطّرف، تسترح من غرام ... تكتسى فيه ثوب ذلّ وشين. فقياد الفتى موافقة النف ... س، وبدء الهوى طموح العين. فصل قالوا: ومن أسباب العشق، سماع الغناء وإنشاد الغزل. فإن ذلك يصوّر في النفس نقوش صور فتخمّر خميرة صورة موصوفة، ثم تصادف نظرا مستحسنا، فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. فصل وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل. واستدل بقول النبىّ صلى الله عليه وسلم! «الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . قال: وقد كانت الأرواح موجودة

قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس. فلما افترقت في الأجساد، بقى في كل نفس حب ما كان مقارنا لها. فإذا شاهدت النفس من نفس نوع موافقة، مالت إليها ظانّة أنها هى التى كانت قرينتها. فإن كان التشاكل في المعانى كانت صداقة ومودّة، وإن كان في معنى يتعلق بالصورة، كان عشقا. وإنما يوجد الملل والإعراض من بعض الناس لأن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة. وأنشدوا على ذلك: وقائل: كيف تهاجرتما؟ ... فقلت قولا فيه إنصاف: لم يك من شكلى ففارقته، ... والناس أشكال وألّاف. قال أبو الفرج بن الجوزىّ: فإن قيل إذا كان سبب العشق نوع موافقة بين شخصين في الطباع، فكيف يحب احدهما صاحبه والآخر لا يحبه؟ فالجواب أنه يتفق فى طبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق، ولا يتفق في طبع العاشق ما يلائم طبع المعشوق. فإذا كان سبب العشق اتفاقا في الطباع بطل قول من قال: إن العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة. إنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة، ثم قد يكون الشىء حسنا عند شخص غير حسن عند آخر. وحكى على ذلك حكاية رفعها بالسند إلى علىّ بن الحسين القرشىّ، عن رجل من أهل المدينة كان أديبا ظريفا طلّابا للأدب والملح، قال: كنت يوما في مجلس رجل من قريش ومعنا قينة ظريفة حسنة الصورة، ومعنا فتى من أقبح ما رأته العين، والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن الناس وجها، وأثراهم ثوبا، وأطيبهم ريحا، فأقبل علىّ صاحب البيت، فقال: إن في أمر هذين لعجبا! قلت: وما ذاك؟ قال: هذه الجارية تحب هذا (يعنى القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة، وهذا

فصل

الحسن الوجه يحبها، وليس له في قلبها محبة. فبينا نحن على شرابنا إذ سرّ الفتى الحسن الوجه فتغنّى وقال: بيد الذى شغف الفؤاد بهم ... فرج الذى ألقى من السّقم! فاستيقنى أن قد كلفت بكم ... ثم افعلى ما شئت عن علم! فأقبلت عليه، وقالت: قد علمنا ذاك، فمه! ثم تركته، وأقبلت على القبيح الوجه، فلبثنا ساعة، ثم تغنى الفتى أيضا: ألا ليتنى أعمى أصمّ تقودنى ... بثينة لا يخفى علىّ كلامها! فقالت: اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتنى، فقلت لها: يا فاجرة تختارين هذا، وهو أقبح من ذنوب المصرّين، على هذا الذى هو أحسن من توبة التائبين، فقالت لى: ليس الهوى بالاختيار! ثم أنشأت تغنى وتقول: فلا تلم المحبّ على هواه ... فكلّ متيمّ كلف عميد يظنّ حبيبه حسنا جميلا، ... وإن كان الحبيب من القرود! فقلت: أجل! إنه لكما قلت، وليس في هذا حيلة، وذكرت قول عمر ابن أبى ربيعة: فتضاحكن، وقد قلن لنا: ... حسن في كلّ عين ما تودّ! فصل قالوا: ويتأكد العشق بإدمان النظر، وكثرة اللقاء، وطول الحديث. فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تمّ استحكامه. وقد ذكر حكماء الأوائل أنه إذا وقعت القبل بين المتحابّين ووصلت بلّة من ريق كل واحد منهما إلى معدة الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جرم

بد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شىء من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشق من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، فوصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النّور في جرم البلّور، ووصل بعضه إلى جرم الرئة، ثم إلى القلب فيدبّ في العروق الضوارب في جميع البدن فينعقد في بدن هذا ما تحلل من بدن هذا فيصير مزاجا، فيتولد به العشق وينمى. هذا ما قيل في سبب العشق والله أعلم. وأما ما قيل في مدحه وذمّه والممدوح منه والمذموم، قال ابن الجوزىّ فى كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» : اختلف الناس في العشق، هل هو ممدوح أو مذموم. فقال قوم: هو ممدوح، لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ولا يقع عند جامد الطبع. ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ الطبيعة. فهو يجلو العقول، ويصفّى الأذهان، ما لم يفرط. فإن أفرط عاد سمّا قاتلا. وقال آخرون: هو مذموم، لأنه يستأسر العاشق ويجعله في مقام المستعبد. قال: قلت: وفصل الحكم فى هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والودّ والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم، وأما العشق الذى يزيد على حدّ الميل والمحبة فيملك العقل ويصرّف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم. ويتحاشى من مثله الحكماء. هذا ما قيل في مدحه وذمّه مجملا. والله تعالى أعلم. فأما الممدوح منه، وهو الذى قدّمنا ذكره، فقد وقع فيه جماعة من الخلفاء والأكابر فلم يعب عليهم ولا نقصهم. وقد تكلموا في مدحه وتفضيله بما سنذكر منه إن شاء الله تعالى طرفا.

فقالوا: العشق يولّد الأخلاق الحميدة! وقالوا: لو لم يكن في الهوى إلا أنه يشجّع الجبان، ويصفّى الأذهان، ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفا! وقال أعرابىّ: من لم يحبّ قط فهو ردىء التركيب جافى الطبع كزّ المعاطف. وقد روى أن الشعبىّ كان ينشد: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، ... فأنت وعير في الفلاة سواء! وسمع ابن أبى مليكة غناء وهو يؤذّن، فطرب. فقيل له في ذلك، فقال: إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا. وسئل أبو نوفل: هل يسلم أحد من العشق؟ فقال: نعم الجلف الجافى الذى ليس فيه فضل ولا عنده فهم. فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دماثة أهل الحجاز ورقّة أهل العراق، فهيهات! وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه إلى اليمان بن عمرو مولى ذى الرياستين، قال: كان ذو الرياستين يبعثنى ويبعث أحداثا من أهله إلى شيخ عالم بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلّموا منه الحكمة، فإنه حكيم!، وكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره به. فقصدناه ذات يوم، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذّكاء، ويشرّف الهمة! وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذى الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك فهبناه أن نخبره. فعزم علينا فأخبرناه، فقال: صدق والله! فهل

تعلمون من أين أخذ هذا؟ فقلنا: لا. قال ذو الرياستين: إن بهرام جوركان له ابن، وكان قد رشّحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيئ الأدب. فغمه ذلك ووكّل به من يلازمه من المؤدّبين والحكماء ليعلموه. فكان يسألهم عنه فيحكون عنه ما يغمّه من سوء فهمه وقلة أدبه. إلى أن سأل بعض مؤدّبيه يوما، فقال له المؤدّب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيّرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذى حدث؟ قال: إنه رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلب عليه هواها، فهو لا يهذى إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه! ثم دعا بأبى الجارية، فقال: إنى مسرّ إليك سرّا فلا يعدونّك. فضمن له ستره. فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنّت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة الملوك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرهما، فقبل أبوها ذلك منه. ثم قال للمؤدّب الموكل به خوّفه منى وشجعه على مراسلة المرأة! ففعل ذلك وفعلت الصبيّة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجنى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته له، أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرّماية وضرب الصوالجة حتّى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج من الدوابّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما عنده. فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما طلب. ثم دعا مؤدّبه، فقال: إن الموضع الذى وضع به ابنى نفسه من حبّ هذه المرأة لا يزرى به. فتقدّم إليه أن يرفع ذلك إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها. ففعل. ورفع الفتى ذلك إلى أبيه، فاستدعى أباها، وزوّجه بها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له:

إذا اجتمعت بها فلا تحدث شيئا حتّى آتيك! فلما اجتمع أتاه، فقال: يا بنىّ لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إيّاك، وليست في حبالك! فإنى أنا أمرتها بذلك. وهى أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك، حتّى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى. فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك! ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدّب، وعقد لابنه على الملك من بعده. قال اليمان: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن: لم حملكم على العشق؟ فسألناه: فحدّثنا بحديث بهرام جور وابنه. فهذا ممن ارتفع بالهوى وترقّى بسببه إلى مرتبة الملك. وحكى ابن الجوزىّ أيضا، قال: حدّث القاسم بن محمد النّميرىّ، قال: ما رأيت شابا ولا كهلا من ولد العباس أصون لنفسه، وأضبط لجأشه وأعفّ لسانا وفرجا من عبد الله بن المعتزّ! وكان ربما عبثنا بالهزل في مجلسه، فجرى معنا فيه فيما لا يقدح به عليه قادح. وكان أكثر ما يشغل به نفسه سماع الغناء، وكان كثيرا ما يعيب العشق، ويقول: هو ضرب من الحمق! وكان إذا رأى منا من هو مطرق أو مفكّرا تهمه بالعشق ويقول: وقعت والله يا فلان! وقلّ عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه، وقد حدث به سهو شديد، وفكر دائم، وزفير متتابع، وسمعناه ينشد أشعارا منها: مالى أرى الثّريّا ... ولا أرى الرّقيبا؟ يا مرسلا غزالا، ... أما تخاف ذيبا؟

وسمعناه مرة أخرى ينشد، وهو يشرب في إناء قد لفه، فاتهمناه فيه، وكتب عين هذا الشعر: ما قليل منك لى بقليل، ... يا منى عينى وغاية سولى! سل بحقّ الله عينيك عنّى: ... هل أحسّت في الهوى بقتيل؟ أنت أفسدت حياتى بهجر، ... ومماتى بحساب طويل! وأنشد: أسر الحبّ أميرا ... لم يكن قبل أسيرا. فارحموا ذلّ عزيز ... صار عبدا مستجيرا! وأنشد يوما، وقد راى دار بعض الناس، فقال: أيا داركم فيك من لذّة ... وعيش لنا، كان ما أطيبه! ومن قينة أفسدت ناسكا، ... وكانت له في التّقى مرتبه. وقال أيضا مرّة: لقد قتلت عيناك نفسا كريمة، ... فلا تأمنن إن متّ سطوة ثائر! كأنّ فؤادى في السّماء معلّق، ... إذا غبت عن عينى، بمخلب طائر. وأنشد يوما، وفي يده خاتم: حصلت منك على خا ... تم حوته البنان! فما يفارق كفّى ... كأنّه قهرمان. يا أهل ودّى بعدتم ... وأنتم جيران! قال النميرىّ: فقلت له: جعلنا الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن الآن ننكرها منك! وكان يرجع عن بعض ذلك تصنعا، ثم لا يلبث

مستوره ان يظهر حتى تحقق عندنا عشقه، ودخل في طبقة المرحومين، فسمعته يوما ينشد: مكتوم، يا أحسن خلق الله ... لا تتركينى هكذا بالله! ثم تنفس إثر ذلك فأجبته: قد ظفر العشق بعبد الله ... وانهتك السّتر بحمد الله. فقل له: سمّ لنا سيّدى ... هذا الذى تهوى، بحقّ الله! فضحك وقال: لا، ولا كرامة! فكتبت إليه من الغد: بكت عينه وشكا حرقة ... من الوجد في القلب ما تنطفى. فقلت له: سيّدى، ما الذى ... أرى بك؟ قال: سقام خفى. فقلت: أعشق؟ فقال: اقتصر ... على ما ترى بى، أما تكتفى؟ فكتب إلىّ: يا من يحدّث عنّى ... بظنّ سمع وعين! إن كنت تخطب سرّى، ... فارجع بخفّى حنين! فكتبت إليه: هيهات لحظك عندى ... يقرّ فيه بعشقك! دع عنك خفّى حنين ... واحرص على حلّ ربقك! تعال نحتال فيما ... تهوى، برفقى ورفقك! وصرت إليه فقال: يا أبا طيب، قد عصيت إبليس أكثر مما عصى ربّه إلى أن أوقعنى في حبائله، فأنشدته:

من أين لا كان إبلي ... س جاءنى بك يسعى؟ أبداك لى من بعيد ... فقلت: طوعا وسمعا! فأخبرنى بقصته. فسعيت له بلطيف الحيلة وأعاننى بحزم الرأى حتّى فاز بالظفر. قال أبو بكر الصولى: اعتل عبد الله بن المعتز فأتاه أبوه عائدا وقال: ما عراك، يا بنىّ؟ فأنشأ يقول: أيّها العاذلون، لا تعذلونى ... وانظروا حسن وجهها تعذرونى! وانظروا هل ترون أحسن منها، ... إن رأيتم شبيهها فاعذلونى! بى جنون الهوى، وما بى جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون! قال: فتتبع أبوه الحال حتّى وقع عليها، فابتأع الجارية التى شغف بها بسبعة آلاف دينار، ووجّهها إليه. وحكى أن الرشيد كان له ثلاث جوار اشتدّ شغفه بهنّ، فقال العباس بن الأحنف على لسانه: ملك الثّلاث الآنسات عنانى ... وحللن من قلبى بكلّ مكان! مالى تطاوعنى البريّة كلّها، ... وأطيعهنّ وهنّ في عصيانى؟ ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه عززن أعزّ من سلطانى! أخذ المعنى والروىّ سليمان بن الحكم المستعين، أحد خلفاء بنى أمية بالأندلس، فقال: عجبا يهاب الليث حدّ سنانى، ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان! وأقارع الأهوال لا متهيّبا ... منها سوى الإعراض والهجران! وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان!

ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان. هذى الهلال، وتلك بنت المشترى ... حسنا، وهذى أخت غصن البان! حاكمت فيهنّ السّلوّ إلى الصّبا ... فقضى لسلطان على سلطان. فأبحن من قلبى الحمى وثنيننى ... عن عزّ ملكى كالأسير العانى. لا تعذلوا ملكا تذلّل في الهوى! ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثانى! إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى ... كلفا بهنّ، فلست من مروان! وإذا الكريم أحبّ، أمّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السّلوان! وقال العباس: لا عار في الحبّ إنّ الحبّ؛ مكرمة ... لكنّه ربّما أزرى بذى الخطر! وأما القسم المذموم منه، وهو الذى ثنّينا بذكره في صدر هذا الفصل فقد أكثر الناس القول في ذمه، وبيّنوا أسبابه. فقال ابن الجوزىّ: بيان ذمه أن الشىء إنما يعرف مذموما أو ممدوحا بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه، وذات العشق لهج بصورة، وهذا ليس فيه فضيلة فتمدح، ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة، إنما هو أثر غلبة النفس الشّهوانية. وقال بعض الحكماء: ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من امراض الخلعاء الذين جعلوا دأبهم ولهجهم متابعة النفس وإرخاء عنان الشهوة وإمراح النظر في المستحسنات من الصور. فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج، فيقال «عشق» . وليس هذا من صفة الحكماء:

لأن الحكيم من استطال رأيه على هواه، وتسلطت حكمته على شهوته. فرعونات طبعه مقيّدة أبدا كصبىّ بين يدى معلمه أو عبد بمرأى سيده؛ وما كان العشق قط إلا لأرعن بطّال. وقلّ أن يكون لمشغول بصناعة أو بتجارة، فكيف لمشغول بالعلوم والحكم، فإنها تصرفه عن ذلك. ولهذا لا تكاد تجده في الحكماء. وقال ابن عقيل: العشق مرض يعترى النفوس العاطلة، والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الإلف ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ. فهو من علل البظّالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر، وطلب الحقائق؛ المستدل بها على عظم الخالق. ولهذا قلما تراه إلا في الرّعن البطرين، وأرباب الخلاعة النّوكى. وما عشق حكيم قط: لأن قلوب الحكماء أشدّ تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدّة تطلبها، فهى أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف. وقلّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة، فإنه مارّ في طلب المعانى، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن الصور. وقال ابن الجوزىّ: واعلم أن العشاق قد جاوزوا حدّ البهائم في عدم ملكة النفس فى الانقياد إلى الشهوات: لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهى أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أىّ موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضمّوا شهوة إلى شهوة، وذلّوا للهوى ذلّا على ذل. والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها حسب. وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم. ثم قال: والعشق بيّن الضرر في الدّين والدنيا. أما في الدّين فإنه يشغل القلب عن الفكر فيما له خلق: من معرفة الله تعالى، والخوف منه، والقرب إليه. ثم ينفذ ما ينال

من موافقة غرضه المحرّم الذى يكون فيه خسران آخرته، ويعرّضه لعقوبة خالقه. فكلما قرب من هواه، بعد من مولاه. ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فان وقع، فياسرعان زواله! قالت الحكماء: كل مملوك مملول. وقال الشاعر: وزادنى شغفا بالحبّ أن منعت ... أحبّ شىء إلى الإنسان مانحا. فان كان المعشوق لا يباح، اشتدّ القلق به والطلب له. فإن نيل منه غرض، فالعذاب الشديد في مقابلته. على أن بلوغ الغرض يزيد ألما فتربى مرارة الفراق على لذّة الوصال. كما قال الشاعر: كلّ شىء ربحته في التّدانى ... والتّلاقى، خسرته في الفراق. فإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض، فالامتناع عذاب شديد فهو معذب فى كل حال. هذا ضرره في الدّين. وأما ضرره في الدّنيا فإنه يورث الهمّ الدائم، والفكر اللازم، والوسواس، والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر. ويتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن، والرّعدة فى الأطراف، واللّجلجة في اللسان، والنّحول في الجسد. فالرأى عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحة، والدموع هواطل، والحسرات تتتابع، والزّفرات تتوالى، والأنفاس لا تمتدّ، والأحشاء تضطرم. فإذا غشّى على القلب غشاء ثانيا أخرج إلى الجنون. وما أقربه حينئذ من التلف! قال: هذا، وكم جنى من جناية على العرض، ووهّن الجاه بين الخلق. وربما أوقع فى عقوبات البدن وإقامة الحدود. وقال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهى كامنة في الدماغ والقلب والكبد.

وفي الدماغ ثلاثة مساكن: مسكن للتخيّل، وهو في مقدّم الرأس؛ ومسكن للفكر، وهو في وسطه؛ ومسكن للذّكر، وهو في مؤخّره. ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيله فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به. وقال الجاحظ: ذكر لى عن بعض حكماء الهند أنه قال: إذا ظهر العشق عندنا فى رجل أو امرأة، غدونا على أهله بالتعزية. قال: وبلغنى أن عاشقا مات بالهند عشقا، فبعث ملك الهند إلى المعشوق فقتله به. وقال الربعى: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق! كل شىء عدوّه! هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرّقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكّر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد فلم ينجع فيه دواء، ولا عزّ بى عزاء. وقال شاعر: وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ... يملّ، وأن النّأى يشفى من الوجد! بكلّ تداوينا، فلم يشف ما بنا! ... على أنّ قرب الدار خير من البعد! وأنشد المارستانىّ: إذا قربت دار كلفت، وإن نأت ... أسفت! فلا بالقرب أسلو ولا البعد!

وإن وعدت زاد الهوى لانتظارها، ... وإن بخلت بالوعد متّ على الوعد! ففى كلّ حبّ لا محالة فرحة، ... وحبّك ما فيه سوى محكم الجهد! وحكى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى موهوب بن راشد قال: وقفت امرأة من بنى عقيل على أخت لها، فقالت لها: يا فلانة، كيف أصبحت من حبّ فلان؟ قالت: قلقل والله حبّه الساكن، وسكّن المتحرّك! ثم أنشدتها: ولو أنّ ما بى بالحصى فلق الحصى، ... وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب! ولو أنّنى أستغفر الله كلّما ... ذكرتك لم يكتب على ذنوب! قالت: لا جرم والله، لا أقف حتّى أسأله كيف أصبح من حبّك! فجاءته فسألته فقال: إنما الهوى هوان، وإنما خولف باسمه، وإنما يعرف ما أقول من كان مثلى قد أبكته المعارف والطلول. وقال مسلم بن عبد الله بن جندب الهذلىّ: خرجت أنا وريان السوّاق إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق ذوات جمال وفيهن جارية حسناء العينين، فأنشد ريان قول أبىّ: ألا يا عباد الله، هذا أخوكم ... قتيل! فهلّا فيكم اليوم ثائر؟ خذوا بدمى إن متّ كلّ خريدة ... مريضة جفن العين، والطّرف ساحر! وأقبل علىّ، وأشار إليها فقال: يا ابن الكرام دم أبيك في أثوابها فلا تطلب أثرا بعد عين! قال: فأقبلت علىّ امرأة جميلة، أجمل من تيك، فقالت: أنت ابن جندب؟ فقلت: نعم. قالت: إن أسيرنا لا يفكّ، وقتيلنا لا يودى، فاحتسب أباك، واغتنم نفسك! ومضين.

ذكر شىء من الشعر المقول في ذم العشق والحب

ذكر شىء من الشعر المقول في ذمّ العشق والحب قال الأصمعىّ: سئل أعرابىّ عن الحبّ، فقال: وما الحب؟ وما عسى أن يكون؟ هل هو إلا سحر أو جنون. ثم قال: هل الحبّ إلا زفرة بعد زفرة، ... وحرّ على الأحشاء ليس له برد؟ وفيض دموع العين منّى كلّما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو؟ وقال: قلت لأعرابىّ: ما الحب؟ فقال: الحبّ مشغلة عن كلّ صالحة ... وسكرة الحبّ تنفى سكرة الوسن. وقال محمد بن عبد الله بن مبادر: من فتى أصبح في الحبّ ... سقاه الحبّ سمّا؟ كلّما أخفى جوى الحبّ ... ، عليه الدمع نمّا. ساهر لا يطعم النو ... م إذا الليل ادلهمّا. كلّما راقب نجما ... فهوى، راقب نجما. أنتمو همّى فإن لم ... تصلونى متّ غمّا. يا ثقاتى، خطم الحبّ ... لكم انفى وزمّا! يا أخى، دائى جوى الحبّ ... وداء الناس حمّى. لا تلم مفتضحا في ال ... حبّ، إن الحبّ أعمى! وقال محمد بن ابى أمية: فو الله، ما أدرى امن لوعة الهوى ... صبرت على التقصير أم ليس لى قلب؟ أقبّح أمرا، والفؤاد يودّه، ... أجنّ فؤادى في الهوى؟ بل هو الحبّ.

وقال أبو عبادة البحترىّ: قال بطلا وأفال الراى من ... لم يقل إن المنايا في الحدق! إن تكن محتسبا من قد ثوى ... بحمام، فاحتسب من قد عشق! وقال أبو تمام: أمّا الهوى فهو العذاب، فإن جرت ... فيه النّوى فالتّيم كلّ التّيم. وقال ابن أبى حصينة: والعشق يجتذب النفوس إلى الرّدى ... بالطّبع، واحسدا لمن لم يعشق! طرق الخيال فهاج لى بطروقه ... ولها، فليت خيالها لم يطرق! وقال صالح بن عبد القدّوس: عاص الهوى إن الهوى مركب ... يصعب بعد اللّين منه الذّلول! إن يجلب اليوم الهوى لذّة ... ففى غد منه البكا والعويل. وقال ابن المعتزّ: فكأنّ الهوى امرؤ علوىّ ... ظنّ أنّى وليت قتل الحسين! وكأنّى لديه نجل زياد ... فهو يختار أوجع القتلتين! وقال أبو عبد الله بن الحجاج: ويحك، يا قلبى ما أغفلك! ... تعشق من يعشق أن يقتلك؟ وأنت يا طرفى أوقعتنى، ... ويحك يا طرفى مالى ولك؟ قد كان من حقّ بكائى على ... تبتّلى بالحبّ أن يشغلك. حتّى توصلت لقتلى، فلا ... كنت ولا كان الذى أرسلك!

وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ: وكان ابتداء الذى بى مجونا، ... فلمّا تمكّن أمسى جنونا. وكنت أظنّ الهوى هيّنا ... فلاقيت منه عذابا مهينا. وقال أبو بكر بن محمد بن عمر العنبرىّ: يا صاح، إنّى مذ عرفت الهوى ... غرقت في بحر بلا ساحل! عينى لحينى نظرت نظرة ... رحت بها في شغل شاغل. علّقته في البيت من فارس؛ ... لكنّه في السّحر من بابل. يظلمنى، والعدل من شأنه! ... ما أوجع الظّلم من العادل! وقال آخر: من سرّه أن يرى المنايا ... بعينه منظرا صراحا. فليحس كأسا من التجنّى ... وليعشق الأوجه الملاحا! يا أعينا أرسلت مراضا ... فاختلست أعينا صحاحا! وقال آخر: ما أقتل الحبّ! والإنسان يجهله ... وكلّ ما لم يذقه فهو مجهول. راح الرّماة إلى بعض المها، فإذا ... بعض الرّماة ببعض الصّيد مقتول! وأما الآفات التى تجرى على العاشق من المرض والضّنا والجنون والمخاطرات بالنفوس وإلقائها إلى الهلاك، فهى كثيرة جدّا، مشاهدة ومسموعة. فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه، قال: لما بعثت قريش عمارة بن الوليد مع عمرو بن العاص إلى النجاشىّ يكلمانه فيمن قدم عليه من المهاجرين، فراسل عمارة جارية لعمرو بن العاص كانت معه فصغت إليه. فاطلع عمرو على ذلك

فوجد على عمارة. وكان عمارة أخبر عمرا أن زوجة النجاشىّ علقته وأدخلته إليها فوشى عمرو بعمارة عند النجاشىّ وأخبره بالخبر، فقال له النجاشىّ: ائتنى بعلامة أستدلّ بها على ما قلت! ثم عاد عمارة فأخبر عمرا بأمره وأمر زوجة النجاشىّ، فقال له عمرو: لا أقبل هذا منك إلا أن تعطيك من دهن الملك الذى لا يدّهن به غيره. فكلمها عمارة فى ذلك، فقالت: أخاف من الملك فأبى أن يرضى منها حتّى تعطيه من ذلك الدّهن فأعطته منه فأعطاه عمرا فجاء به عمرو إلى النجاشىّ فنفخ سحرا في إحليل عمارة. فذهب مع الوحش (فيما تقول قريش) فلم يزل متوحّشا يرد ماء في جزيرة بأرض الحبش حتى خرج إليه عبد الله بن أبى ربيعة في جماعة من أصحابه فرصده على الماء فأخذه فجعل يصيح به: يا بجير أرسلنى! فإنى أموت إن أمسكتنى! فأمسكه فمات في يده. وحكى عن محمد بن زياد الأعرابىّ قال: رأيت بالبادية أعرابيا في عنقه تمائم وهو عريان وعلى سوأته خرقة وفي رجله حبل ومن خلفه عجوز آخذة بطرف الحبل وهو يعضّ ذراعيه، فقلت للعجوز: من هذا؟ فقالت: ابن ابنتى! فقلت لها: أبه مسّ من الجنّ؟ فقالت: لا والله ولكنه نشأ وابنة عمّ له في مكان واحد، فعلّقها وعلّقته. فحبسها أهلها ومنعوها منه فزال عقله وصار إلى ما ترى! فقلت لها: ما اسمه قالت: عكرمة. فقلت: أيا عكرمة ما أصابك؟ قال: أصابنى داء قيس وعروة وجميل: فالجسم منى نخيل، والفؤاد عليل. قال: فتركته ومضيت. وحكى عن عباس بن عبيد، قال: كان بالمدينة جارية ظريفة حاذقة بالغناء فهويت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها. فملّها الفتى وفارقها، وتزايدت محبتها له حتى ولهت. وتفاقم الأمر بها حتّى هامت على وجهها ومزّقت ثيابها، فرآها مولاها فى ليلة من الليالى، وهى تدور في السّكك ومعه أصحاب له، فجعلت تبكى وتقول:

الحبّ أوّل ما يكون لجاجة ... تأتى به وتسوقه الأقدار. حتّى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار. قال: فما بقى أحد إلا رحمها. فقال لها مولاها: يا فلانة، امضى معنا إلى بيتنا! فأبت وقالت: شغل الحلى أهله أن يعارا قال: وذكر بعض من رآها ليلة وقد لقيتها جارية أخرى مجنونة فقالت لها: فلانة، كيف أنت؟ قالت: كما لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحبّك؟ قالت: على ما لم يزل، يتزايد على مرّ الأيام! قالت لها: فغنّى بصوت من أصواتك فإنى قريبة. الشّبه بك! فأخذت قصبة توقّع بها وغنّت: يا من شكا ألما للحبّ شبّهه ... بالنار في القلب من حزن وتذكار! إنّى لأعظم ما بى أن أشبّهه ... شيئا يقاس إلى مثل ومقدار. لو أنّ قلبى في نار لأحرقها، ... لأنّ أجزاءه أذكى من النّار! ثم مضت. وحكى عن سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم علىّ بنيسابور إبراهيم بن سبابة الشاعر البصرى. فأنزلته علىّ فجاء ليلة من الليالى وهو مكروب قد هاج. فجعل يصيح بى: يا أبا أيوب! فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعيانى الشادن الرّبيب! فقلت: بماذا؟ فقال: أشكو إليه فلا يجيب! فقلت: داره وداوه!

فقال: من أين أبغى شفاء دائى؟ ... وإنما دائى الطّبيب! فقلت: إذن يفرّج الله عز وجل! فقال: يا ربّ، فرّج إذا وعجّل، ... فإنّك السامع المجيب! ثم انصرف. وحدث عن على بن محمد النوفلىّ عن أبى المختار عن محمد بن قيس العبدىّ، قال: إنى لبمزدلفة بين النائم واليقظان إذا سمعت بكاء حرقا وغناء عاليا. فاتبعت الصوت فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حسنا ومعها عجوز. فلطئت بالأرض لأمتع عينى بحسنها، فسمعتها تقول: دعوتك يا مولاى سرا وجهرة ... دعاء ضعيف القلب عن محمل الحبّ! بليت بقاسى القلب لا يعرف الهوى ... وأقتل خلق الله للهائم الصبّ! فإن كنت لم تقض المودّة بيننا ... فلا تخل من حبّ له أبدا قلبى! رضيت بهذا ما حييت فإن أمت ... فحسبى معادا في المعاد به حسبى! قال: وجعلت تردّد هذه الأبيات وتبكى، فقمت إليها وقلت: بنفسى من أنت؟ مع هذا الوجه وهذا الجمال يمتنع عليك من تريدين؟ قالت: نعم! والله إنه يفعل تصبرا وفي قلبه أكثر مما في قلبى! قلت: فإلى كم البكاء؟ قالت: أبدا! أو يصير الدمع دما وتتلف نفسى غما. فقلت: إن هذه آخر ليلة من ليالى الحج، فلو سألت الله تعالى التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك! قالت: يا هذا، عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإنى قد قدّمت رغبتى إلى من ليس يجهل بغيتى! وحوّلت وجهها عنى، وأقبلت على بكائها وشعرها.

وحكى أبو الفرج، عبد الرحمن بن على بن محمد بن الجوزىّ في كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» بسند رفعه إلى هشام بن عروة، قال: أذن معاوية بن أبى سفيان يوما للناس، فكان فيمن دخل عليه فتى من بنى عذرة. فلما أخذ الناس مجالسهم، قام الفتى العذرىّ بين السماطين فأنشأ يقول: معاوى، يا ذا الفضل والحلم والعقل ... وذا البرّ والإحسان والجود والبذل! أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسكنى ... وأنكرت مما قد أصبت به عقلى. ففرّج- كلاك الله- عنّى فإننى ... لقيت الذى لم يلقه أحد قبلى! وخذ لى- هداك الله- حقّى من الذى ... رمانى بسهم كان أهونه قتلى! وكنت أرجّى عدله إن أتيته ... فأكثر تردادى مع الحبس والكبل! سبانى سعدى وانبرى لخصومتى ... وجار ولم يعدل وغاصبنى أهلى. فطلّقتها من جهد ما قد أصابني! ... فهذا أمير المؤمنين من العدل؟ فقال معاوية: أدن بارك الله عليك! ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إننى رجل من بنى عذرة، تزوّجت ابنة عمّ لى. وكانت لى صرمة من الإبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتنى نائبة الزمان وحادثات الدهر، رغب عنى أبوها. وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت مخالفة أبيها. فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستصرخا به راجيا لنصرته. فذكرت له قصتى، فأحضر أباها وسأله عن قضيتى. وكان قد بلغه جمالها، فدفع لأبيها عشرة آلاف درهم، وقال له: هذه لك، وزوّجنى بها وأنا أضمن خلاصها من هذا الأعرابىّ! فرغب أبوها في البذل فصار الأمير لى خصما وعلىّ منكرا! فانتهرنى وأمر بى إلى السجن وأرسل إلىّ أن أطلقها فلم أفعل. فحبسنى وضيق علىّ وعذبنى بأنواع العذاب، فلما أصابنى مسّ الحديد وألم العذاب ولم أجد

بدّا عن ذلك، طلقتها. فما استكملت عدّتها حتّى تزوّج بها. فلما دخل بها أرسل إلىّ فأطلقنى. وقد أتيتك يا أمير المؤمنين مستجيرا بك، وأنت غياث المكروب، وسند المسلوب. فهل من فرج؟ ثم بكى وقال في بكائه: فى القلب منّى نار ... والنار فيها استعار! والجسم منّى نحيل ... واللون فيه اصفرار. والعين تبكى بشجو ... فدمعها مدرار. والحبّ داء عسير ... فيه الطّبيب يحار. حمّلت منه عظيما ... فما عليه اصطبار. فليس ليلى ليلا ... ولا نهارى نهار! فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن الحكم كتابا غليظا، وكتب في آخره: ركبت أمرا عظيما لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زانى! قد كنت تشبه صوفيّا له كتب ... من الفرائض أو آيات فرقان. حتّى أتانا الفتى العذرىّ منتحبا ... يشكو إلىّ بحقّ غير بهتان. أعطى الإله عهودا لا أخيس بها: ... أو لا فبرّئت من دين وإيمان! إن أنت راجعتنى فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحما بين عقبان! طلّق سعاد، وجهّزها معجّلة ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان! فما سمعت كما بلّغت من عجب ... ولا فعالك حقّا فعل إنسان! ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الكميت ونصر بن ذبيان وقال: اذهبا به إليه! قال: فلما ورد كتاب معاوية على ابن الحكم وقرأه تنفس الصّعداء، وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلّى بينى وبينها سنة ثم عرضنى على السيف! وجعل يؤامر نفسه

فى طلاقها فلا يقدر. فلما أزعجه الوفد طلقها وأسلمها إليهما. فلما رآها الوفد على هذه الصورة العظيمة وما اشتملت عليه من الجمال المفرط، قالوا: لا تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين! وكتب ابن الحكم كتابا لأمير المؤمنين معاوية، ودفعه إليهما مع الجارية. فكان مما كتب فيه يقول: لا تحنثنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفى بعهدك في رفق وإحسان. وما ركبت حراما حين أعجبنى، ... فكيف سمّيت باسم الخائن الزانى؟ أعذر فانك لو أبصرتها لجرت ... منك الأمانى على تمثال إنسان! وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند البريّة من إنس ومن جان! حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت، ... أقول ذلك في سرّ وإعلان! فلما ورد الكتاب على معاوية وقرأه، قال: لقد أحسن في الطاعة، ولكن أطنب فى ذكر الجارية! ولئن كانت أعطيت حسن النّغمة مع هذا الوصف الحسن فهى أكمل البرية! فأمر بإحضارها، فلما مثلت بين يديه، استنطقها فإذا هى أحسن الناس كلاما وأكملهم شكلا ودلالا. فقال: يا أعرابىّ، هذه سعدى! ولكن هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ قال نعم، إذا فرّقت بين رأسى وجسدى! فقال: أعوّضك عنها يا أعرابىّ ثلاث جوار أبكار ومع كل واحدة ألف دينار وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهنّ. فشهق شهقة ظن معاوية أنه مات. فقال له: ما بالك يا أعرابىّ؟ قال: أشرّبال وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فعند من أستجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول: لا تجعلنى والأمثال تضرب بى ... كالمستغيث من الرّمضاء بالنار! اردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسى ويصبح في همّ وتذكار!

قد شفّه قلق ما مثله قلق. ... وأسعر القلب منه أىّ إسعار! كيف السّلوّ، وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبّار؟ قال: فغضب معاوية غضبا شديدا، ثم قال: يا أعرابىّ، أنت مقرّ بأنك طلقتها! ومروان مقرّ بأنه طلقها، ونحن نخيرها فان اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوّجناه بها. ثم التفت إليها أمير المؤمنين وقال: ما تقولين، يا سعدى؟ أيما أحبّ إليك، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وما تصيرين إليه عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أو هذا الأعرابى في فقره وسوء حاله؟ فأنشأت تقول: هذا [1] ، وان كان في فقر وإضرار، ... أعزّ عندى من قومى ومن جارى! وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذى درهم عندى ودينار! ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدزات الأيام! وإن لى معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى! والله إنى لأحق من صبر معه في الضراء كما تنعّمت معه في السرّاء! فعجب كلّ من كان حاضرا. فأمر له بها ثم أعادها له بعقد جديد، وأمر لهما بألف دينار. فأخذها وانصرف يقول: خلّوا عن الطّريق للأعرابى! ... ألم ترقّوا، ويحكم ممّا بى؟ قال: [2] فضحك معاوية وأمر بها فأدخلت في قصوره حتى انقضت عدّتها من ابن الحكم ثم أمر برفعها إلى الأعرابى.

_ [1] روى هذا الشعر في نسخة أخرى على وجه آخر وهو: هذا وإن أصبح في أطمار ... وكان في نقص من اليسار أكثر عندى من أبى وجارى ... وصاحب الدرهم والدينار أخشى إذا غدرت حرّ النار [2] وجدت هذه الزيادة في بعض النسخ.

ولقد ساق ابن الجوزى في كتابه من أخبار العشاق وما نالهم من الأمراض والجنون والضنا، وقصّ كثيرا من أخبارهم، تركنا إيراد ذلك رغبة في الاختصار، لأنه أمر غير منكور. وأما من خاطر بنفسه وألقاها إلى الهلاك لأجل محبوبه، فمن ذلك ما روى عن أبى ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان أنه قال: كان عبد الملك يجلس يومين في الأسبوع جلوسا عامّا للناس: فبينا هو جالس في مستشرف له وقد ادخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصّة غير مترجمة. فيها: «إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته فلانة تغنينى ثلاثة أصوات ثم ينفذ فىّ ما شاء من حكمه، فعل!» . فاستشاط من ذلك غضبا وغيظا، وقال: يا رباح! علىّ بصاحب هذه القصة! فخرج الناس جميعا فأدخل عليه غلام كما عذّر، من أحسن الفتيان، فقال له عبد الملك: يا غلام، هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذى غرّك منّى؟ والله لأمثلنّ بك ولأردعنّ بك نظراءك من أهل الجسارة! ثم قال: علىّ بالجارية فجىء بها كأنها فلقة قمر! وبيدها عودها ووضع لها كرسىّ، فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام! فقال لها: يا جارية، غنينى بشعر قيس بن ذريح: لقد كنت حسب النفس، لو دام ودنا؛ ... ولكنما الدنيا متاع غرور! وكنّا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالى غبطة وسرور. فما برح الواشون حتّى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور.

فغنّت. فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثانى! فقال: غنينى بشعر جميل: ألا ليت شعرى! هل أبيتنّ ليلة ... بوادى القرى؟ إنى إذا لسعيد! إذا قلت: ما بى يا بثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد! وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد! فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد! يموت الهوى منّى إذا ما لقيتها، ... ويحيا إذا فارقتها فيعود! فغنته الجارية. فسقط الغلام مغشيّا عليه ساعة. ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال يا جارية! غنينى بشعر قيس بن الملوّح: وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب. فلا تحسبى أن الغريب الذى نأى، ... ولكنّ من تنأين عنه غريب! فغنته الجارية فطرح نفسه من المستشرف، فتقطع قبل وصوله إلى الأرض. فقال عبد الملك: ويحه! لقد عجّل على نفسه! ولقد كان تقديرى فيه غير الذى فعل! وأمر بإخراج الجارية عن قصره، فأخرجت. ثم سأل عن الغلام فقالوا: غريب، لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادى في الأسواق، ويده على رأسه: غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا! وحكى أن مثل هذه الحكاية جرت في مجلس سليمان بن عبد الملك. حكى عن أبى عثمان الجاحظ أنه قال: قعد سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم وعرضت عليه القصص فمرّت به قصة فيها: إن رأى امير المؤمنين أن يخرج إلىّ فلانة

(إحدى جواريه) حتّى تغنينى ثلاثة أصوات، فعل. فاغتاظ سليمان وأمر أن يؤتى برأسه. ثم أتبع الرسول برسول آخر فأمره أن يدخل الرجل إليه. فلما مثل بين يديه، قال له: ما الذى حملك على ما صنعت؟ فقال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك! فأمره بالجلوس، فجلس حتى لم يبق من بنى أمية أحد. ثم أمر بإخراج الجارية فأخرجت ومعها عود، ثم قال: اختر! فقال: تغنى لى بقول قيس بن الملوّح: تعلّق روحى روحها قبل خلقنا ... ومن بعد أن كنّا نطافا وفي المهد! فعاش كما عشنا فأصبح ناميا، ... وليس- وإن متنا- بمنقصف العهد. يكاد فضيض الماء يخدش جلدها، ... اذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلد. وإنّى لمشتاق إلى ريح جيبها، ... كما اشتاق إدريس إلى جنّة الخلد! فغنت. ثم قال: تأمر لى برطل. فأمر له به فشربه. ثم قال: تغنى بقول جميل: علقت الهوى منها وليدا، فلم يزل ... إلى اليوم ينمى حبّها ويزيد. وأفنيت عمرى في انتظار نوالها ... وأبليت فيها الدّهر وهو جديد. فلا أنا مردود بما جئت طالبا، ... ولا حبّها فيما يبيد يبيد. إذا قلت: ما بى يابثينة قاتلى ... من الحبّ! قالت: ثابت ويزيد. وإن قلت: ردّى بعض عقلى أعش به ... مع الناس! قالت: ذاك منك بعيد. فغنّت، فقال له سليمان: قل ما تريد؟ قال: تأمر لى برطل، فأمر له به فشربه. ثم قال: تغنى بقول قيس بن ذريح: «لقد كنت حسب النفس» الأبيات

فغنت. فقال له سليمان: قل ما تشاء! قال: تأمر لى برطل! فأمر له به، فما استتمه حتّى وثب فصعد إلى أعلى قبة ثم زجّ نفسه على دماغه فمات. فاسترجع سليمان وقال: أتراه توهّم الجاهل أنى أخرج إليه جاريتى وأردّها إلى ملكى؟ يا غلام خذ بيدها فانطلق بها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدّقوا بثمنها عنه. فلما انطلقوا بها، نظرت إلى حفرة في الدار قد أعدّت للمطر، فجذبت يدها من أيديهم وأنشأت تقول: من مات عشقا فليمت هكذا! ... لا خير في عشق بلا موت! وزجت نفسها في الحفرة على دماغها. فماتت. وقد حكى أيضا مثل هذه، وأنها وقعت للرشيد. روى عن أبى بكر محمد بن علىّ المخزومىّ قال: اشتريت للرشيد جارية مدنية. فأعجب بها وأمر الفضل بن الربيع أن يبعث في حمل أهلها ومواليها لينصرفوا بجوائزها. وأراد بذلك تشريفها. فوفد إلى مدينة السلام ثمانون رجلا، ووفد معهم رجل من أهل العراق استوطن المدينة كان يهوى الجارية. فلما بلغ الرشيد خبر مقدمهم أمر الفضل أن يخرج إليهم ليكتب اسم كل واحد منهم وحاجته، ففعل. فلما بلغ إلى العراقىّ قال: ما حاجتك؟ قال له: إن أنت كتبتها وضمنت لى عرضها مع ما يعرض، أنبأتك بها. فقال: أفعل ذلك، فقال: حاجتى أن أجلس مع فلانة حتّى تغنّينى ثلاثة أصوات وأشرب ثلاثة أرطال، وأخبرها بما تجنّ ضلوعى من حبها! فقال الفضل: أنت موسوس مدخول عليك في عقلك! فقال: يا هذا، قد أمرت أن تكتب ما يقول كلّ واحد منا فاكتب ما أقول واعرضه، فإن أجبت إليه وإلا فأنت في أوسع العذر، فدخل الفضل مغضبا فوقف بين يدى الرشيد، وقرأ عليه ما كتب من حوائجهم. فلما فرغ

قال: يا أمير المؤمنين فيهم واحد مجنون! سأل ما أجلّ مجلس أمير المؤمنين عن التفوّه به. فقال: قل، ولا تجزعنّ! فقال: قال كذا وكذا. فقال: اخرج إليه، وقل له «إذا كان بعد ثلاث، فاحضر لينجز لك ما سألت» . وكن أنت متولّى الاستئذان له. ثم دعا بخادم فقال له: امض إلى فلانة فقل لها: حضر رجل يذكر كذا وكذا وقد أجبناه إلى ما سأل فكونى على أهبة. وخرج الفضل إلى الرجل وأخبره بما قال الرشيد، فانصرف وجاء فى اليوم الثالث. فعرّف الفضل الرشيد خبره فقال: يوضع له بحيث أرى كرسىّ من فضة، وللجارية كرسىّ من ذهب! وليخرج إليه ثلاثة أرطال! ففعلوا ذلك وجاء الفتى فجلس على الكرسىّ، والجارية بإزائه، فجعل يحدّثها والرشيد يراهما، فقال له الخادم: لم تدخل فتشتو وتصيّف! فأخذ رطلا وخرّ ساجدا، وقال: إن شئت أن تغنّى فغنّى: خليلىّ عوجا! بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا! وقولا لها: ليس الضلال أجازنا؛ ... ولكنّما جزنا لنلقاكما عمدا! غدا يكثر الباكون منا ومنكم، ... وتزداد دارى من دياركم بعدا! فغنت، فشرب الرطل، وحادثها ساعة. فاستحثه الخادم فأخذ الرطل بيده وقال: غنى جعلنى الله فداءك! تكلّم منّا في الوجوه عيوننا، ... فنحن سكوت والهوى يتكلّم! ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا، ... وذلك فيما بيننا ليس يعلم! فغنته وشرب الرطل الثانى وحادثها ساعة. واستعجله الخادم فخرّ ساجدا يبكى واخذ الرطل بيده واستودعها الله وقام ودموعه تستبق استباق المطر وقال: إذا شئت أن تغنّى فغنّى.

أحسن ما كنّا تفرّقنا ... وخاننا الدّهر وما خنّا! فليت ذا الدّهر لنا مرّة ... عاد لنا الدّهر كما كنا! فغنته الصوت، فقلّب الفتى طرفه فبصر بدرجة في الصحن، فأمها. فاتبعه الخدم ليهدوه الطريق، ففاتهم وصعد الدرجة فألقى نفسه إلى الأرض على رأسه فمات. فقال الرشيد: عجّل الفتى! ولو لم يعجّل لوهبتها له! وممن خاطر بنفسه في هواه وعرّضها للتلف فنجا ونال خيرا، ما حكاه ابن الجوزى بسند يرفعه إلى أبى الفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم الفقيه المعروف بابن الترسى قال: كنت جالسا بحضرة أبى، وأنا حدث، وعنده جماعة. فحدّثنى حديث وصول النعم إلى الناس بالألوان الظريفة. وكان ممن حضر صديق لأبى. فسمعته يحدّث أبى، قال: حضرت عند صديق لى من التّجّار- كان يتّجر بمائة ألف دينار- فى دعوة. وكان حسن المروءة، فقدّم مائدة وقدّم عليها ديكريكة [1] فلم يأكل

_ [1] فى الباب الثانى الخاص بالحوامض من كتاب «صفة الأطعمة» الموجود منه نسخة فتوغرافية بدار الكتب المصرية مانصه: «ديكبريكة. يقطّع اللحم أوساطا ويترك في القدر ويلقى عليه يسير ملح وكف حمص مقشور وكسفرة يابسة ورطبة وبصل مقطع وكراث ويطرح عليه غمرة ما، ويغلى ثم تؤخذ رغوته ويلقى عليه شيرج يسير وخل خمر ومرى ويلقى عليه قليل فلفل مسحوق ناعم ويطبخ حتّى يتبين طعمه. ومن الناس من يحليها بقليل سكر فاذا نضجت طرح فيها أطراف الطيب مع فلفل وكزبرة يابسة وتترك حتى تهدأ وترفع» انتهى. والظاهر أن صواب اللفظ (ديكبرديكة) ثم اختصر أو حرف الى ديكبريكة وديكريكة لأن الذى فى المعاجم الفارسية (ديك برديك) فمعنى (ديك) القدر و (بر) فوق وعلى، فيكون المراد قدر فوق قدر. وتقول هذه المعاجم إن هذا النوع المزدوج يستعمل لأعمال التصعيد والتقطير. ولا يبعد أن يكون هذا الطعام مما يعالج في طبخه بالبخار أى بوضع قدره على قدر أخرى فيها ماء يغلى على النار فسمى الطعام باسم وعائه اه. أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا.

منها، فامتنعنا. فقال: كلوا! فإنى أتأذّى بأكل هذا اللون. فقلنا: نساعدك على تركه. قال: بل أساعدكم على الأكل، واحتمل الأذى! فأكل وأكلنا، فلما أراد غسل يده أطال. فعددت عليه أنه قد غسلها أربعين مرة. فقلت: يا هذا، وسوست! فقال: هذه الأذية التى قرفت منها! فقلت: وما سببها؟ فامتنع من ذكر السبب، فلما ألححت عليه، قال: مات أبى وسنى عشرون سنة، وخلّف لى نعمة وفيرة ورأس مال ومتاعا في دكانه. فقال لما حضرته الوفاة: يا بنىّ! إنه لا وارث لى غيرك، ولا دين علىّ ولا مظلمة. فإذا أنا متّ فأحسن جهازى وتصدّق عنى بكذا وكذا، وأخرج عنى حجّة بكذا، وبارك الله لك في الباقى! ولكن احفظ وصيتى! فقلت: قل! قال: لا تسرف فى مالك، فتحتاج إلى ما في أيدى الناس فلا تجده. واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل. فالزم السّوق وكن أوّل من يدخلها، وآخر من يخرج منها. وإن استطعت أن تدخلها سحرا بليل فافعل، فإنك تستفيد بذلك فوائد تكشفها لك الأيام، ومات. فأنفذت وصيته، وعملت بما أشار به. وكنت أدخل السوق سحرا، وأخرج منها عشاء. فلا أعدم من يجىء يطلب كفنا فلا يجد من قد فتح غيرى فأحتكم عليه، ومن يبيع شيئا والسوق لم تقم فأبتاع منه، وأشياء من هذه الفوائد. ومضى علىّ سنة وكسر، فصار لى بذلك جاه عند أهل السوق وعرفوا استقامتى وأكرمونى. فبينا أنا جالس يوما ولم تتكامل السوق، وإذا بامرأة راكبة حمارا مصريا وعلى كفله منديل دبيقىّ [1] ومعها خادم وهى بزىّ القهارمة. فبلغت آخر السوق ثم رجعت، فنزلت عندى. فقمت إليها وأكرمتها، وقلت: ما تأمرين؟ وتأملتها فإذا بامرأة لم أر قبلها

_ [1] دبيق (بالباء الموحدة ثم الياء) مدينة كانت بالقرب من دمياط وكانت مشهورة بنفائس المنسوجات التى تعرف باسمها.

ولا بعدها إلى الآن أحسن منها في كل شىء. فتكلمت وقالت: أريد كذا وكذا (ثيابا طلبتها) . فسمعت نغمة ورأيت شكلا قتلنى فعشقتها في الحال أشدّ عشق، وقلت: اصبرى حتى يخرج الناس، فآخذ ذلك لك فليس عندى إلا القليل مما يصلح لك. وأخرجت الذى عندى وجلست تحادثنى، وكأن السكاكين في فؤادى من عشقها. وكشفت عن أنامل رأيتها كالطّلع، ووجه كدارة القمر. فقمت لئلا يزيد علىّ الأمر، وأخذت لها من السوق ما أرادت، وكان ثمنه مع مالى نحو خمسمائة دينار، فأخذته وركبت ولم تعطنى شيئا. وذهب عنى لما تداخلنى من حبها أن أمنعها من المتاع إلا بالمال، وأن أستدل على منزلها ومن دار من هى؟ فحين غابت عنى، وقع لى أنها محتالة وأن ذلك سبب فقرى. فتحيرت في أمرى وكتمت خبرى، لئلا أفتضح بما للناس علىّ. وأجمعت على بيع ما في يدى من المتاع وإضافته إلى ما عندى من الدراهم وأدفع أموال الناس إليهم ولزوم البيت والاقتصار على غلة العقار الذى ورثته. وأخذت أشرع فى ذلك مدة أسبوع، وإذا بها قد أقبلت ونزلت عندى، فحين رأيتها أنسيت جميع ما جرى علىّ، وقمت إليها. فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك لشغل عرض لنا، وما شككنا فى أنك لم تشك أنا احتلنا عليك، فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا! فقالت، هات التخت والطيار [1] ، فأحضرته، فأخرجت دنانير عتقا، فوفتنى المال بأسره. وأخرجت تذكرة بأشياء أخر. فأنفذت إلى التجّار أموالهم وطلبت منهم الذى أرادت، وحصّلت أنا

_ [1] فى شرح المقامات الحريرية للطرّزى المسمى بالايضاح في تفسير قول الحريرى في المقامة الثانية والأربعين «ثم اعتضد عصا التّسيار ... وأنشد ملغزا في الطيار. وذى طيشة شقه مائل ... وما عابه بهما عاقل» ما نصه: «الطيار معيار الذهب لأنه على شكل الطائر وقيل هو ميزان لا لسان له أفادنيه حضرة صاحب السعادة العلامة أحمد تيمور باشا.

فى الوسط ربحا جيدا. وأحضر التّجّاز الثياب فقمت وثمنتها معهم لنفسى. ثم بعتها عليها بربح عظيم، وأنا في خلال ذلك أنظر إليها نظر من تألّف حبها، وهى تنظر إلىّ نظر من فطنت بذلك ولم تنكره. فهممت بخطابها ولم أقدر عليه. وجمعت المتاع فكان ثمنه ألف دينار. فأخذته، وركبت ولم أسألها عن موضعها. فلما غابت عنى، قلت: هذه الآن الحيلة المحكمة! أعطتنى خمسمائة دينار وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقارى الآن، والحصول على الفقر! وتطاولت غيبتها عنى بنحو شهر. وألحّ التجّار علىّ بالمطالبة، فعرضت عقارى على البيع، ولازمنى بعض التجّار فوزنت جميع ما كنت أملكه ورقا وعينا. فبينا أنا كذلك، إذ نزلت عندى. فزال عنى جميع ما كنت فيه برؤيتها. واستدعت الطيّار والتخت، فوزنت المال ورمت إلىّ تذكرة يزيد ما فيها على ألفى دينار بكثير. فتشاغلت بإحضار التجّار ودفع أموالهم إليهم وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا. فقالت لى: يا فتى، ألك زوجة؟ فقلت: لا، والله ما عرفت امرأة قط، وأطمعنى ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها، والإمساك عنها عجز، ولعلها تعود أو لا تعود. وأردت كلامها فهبتها. وقمت كأنى أحثّ التجار على جمع المتاع. وأخذت يد الخادم وأخرجت إليه دنانير وسألته أن يأخذها ويقضى لى حاجة. فقال: أفعل، فقصصت عليه قصتى وسألته توسط الأمر بينى وبينها. فضحك وقال: والله إنها لك أعشق منك لها! وو الله ما بها حاجة إلى أكثر هذا الذى تشتريه، وإنما تأتيك محبة لك وطريقا إلى مطاولتك، فخاطبها ودعنى، فجسّرنى على خطابها فخاطبتها وكشفت لها عشقى ومحبتى وبكيت، فضحكت. وتقبلت ذلك أحسن قبول. وقالت: الخادم يأتيك برسالتى. ونهضت ولم تأخذ شيئا من المتاع، فرددته على أصحابه. وحصل لى مما اشترته أوّلا وثانيا ألوف دراهم ربحا،

ولم أعرف النوم في تلك الليلة شوقا إليها، وخوفا من انقطاع السبب بيننا. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم، فأكرمته وسألته عن خبرها، فقال: هى والله عليلة من شوقها إليك، فقلت: اشرح لى أمرها، فقال: هذه مملوكة السيدة أم المقتدر وهى من أخص جواريها، واشتهت رؤية الناس والدخول والخروج. فتوصلت حتّى جعلتها قهرمانة. وقد والله حدّثت السيدة بحديثك وبكت بين يديها وسألتها أن تزوّجها منك، فقالت السيدة: لا أفعل أو أرى هذا الرجل. فإن كان يستأهلك وإلا لم أدعك ورأيك. وتحتاج أن تحتال في إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت وصلت بها إلى تزويجك بها، وإن انكشفت ضرب عنقك. وقد أنقذتنى إليك في هذه الرسالة، وقالت لك: إن صبرت على هذا، وإلا فلا طريق لك والله إلىّ، ولا لى إليك بعدها! فحملنى ما في نفسى أن قلت: أصبر، فقال: إذا كانت الليلة فاعبر إلى المحرم، وادخل إلى المسجد، وبت فيه. ففعلت ذلك. فلما كان وقت السّحر، إذا بطيار [1] قد قدم، وخدم قد رفعوا صناديق فراغا. فجعلوها في المسجد وانصرفوا. وخرجت الجارية فصعدت إلى المسجد، والخادم معها. فجلست وفرقت باقى الخدم في حوائج، واستدعتنى فعانقتنى وقبلتنى. ولم أكن نلت ذلك منها قبله. ثم أجلستنى في بعض الصناديق وأقفلته. وطلعت الشمس وجاء الخدم بثياب وحوائج من المواضع التى كانت أنفذتهم إليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقى الصناديق، وأقفلتها. وحملت إلى الطيار وانحدر. فلما حصلت فيه ندمت وقلت: قتلت نفسى لشهوة، وأقبلت ألومها تارة، وأشجّعها وأمنّيها أخرى، وأنذر النّذور على خلاصى، وأوطّن مرة نفسى على القتل إلى أن بلغنا الدار. وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوقى

_ [1] أى زورق من الزوارق الخفيفة.

الخادم الذى يعرف الحديث، وبادر به أمام الصناديق وهى معى، والخدم يحملون بقيتها. وكلما جازت بطائفة من الخدم والبوّابين، قالوا: نريد أن نفتّش الصندوق، فتصيح عليهم وتقول: متى جرى الرسم معى بهذا؟ فيمسكون عنها وروحى في السّياق إلى أن انتهينا إلى خادم خاطبته هى بالأستاذ. فعلمت أنه أجل الخدم، فقال: لا بدّ من فتح الصندوق الذى معك، فخاطبته بلين وذل، فلم يجبها. وعلمت أنها ما ذلّت ولها حيلة، فأغمى علىّ. وأنزلوا الصّندوق ليفتحوه. فبلت من شدّة ما نالنى من الفزع، فجرى البول من خلال الصندوق. فصاحت: يا أستاذ، أهلكت علينا متاعا بخمسة آلاف دينار في الصندوق. ثياب مصبّغات وماء ورد، وقد انقلب على الثياب، والساعة تختلط ألوانها، وهى هلاكى مع السيدة! فقال لها: خذى صندوقك إلى لعنة الله أنت وهو، مرّى! فصاحت بالخدم: احملوا، فأدخلت الدار ورجعت إلىّ روحى، فبينا نحن كذلك إذ قالت: وا ويلاه! الخليفة والله! فجاءنى أعظم من الأوّل. وسمعت كلام خدم وهو يقول من بينهم: ويك يا فلانة! إيش في صندوقك؟ أرينى هو، فقالت: ثياب لستى يا مولاى، والساعة أفتحه بين يديها، وتراه، وقالت للخدم: أسرعوا ويلكم! فأسرعوا فأدخلتنى إلى الحجرة وفتحت الصندوق وقالت: اصعد من هذه الدرجة إلى الغرفة فاجلس فيها، وفتحت صندوقا آخر فقلبت بعض ما فيه إلى الصندوق الذى كنت فيه، وأقفلت الجميع. وجاء المقتدر وقال: افتحيه، ففتحته، فلم ير شيئا فيه. فصعدت إلىّ وجعلت تقبلنى وترشفنى. ونسيت ما جرى. ثم تركتنى، وأقفلت باب الحجرة يومها. ثم جاءتنى ليلا فأطعمتنى وسقتنى وانصرفت. فلما كان من غد جاءتنى، فقالت: السيدة الساعة تجىء، فانظر كيف تخاطبها، ثم عادت بعد ساعة مع السيدة،

وقالت: انزل، فنزلت. فإذا بالسيدة جالسة على كرسىّ وليس معها إلا وصيفتان وصاحبتى. فقبّلت الأرض وقمت بين يديها، فقالت: اجلس، فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها، وليس من محلى أن أجلس بحضرتها، فتأملتنى وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب، ونهضت، فجاءتنى صاحبتى بعد ساعة، وقالت: أبشر، فقد أذنت لى في تزويجك، وما بقى الآن عقبة إلا الخروج. فقلت: يسلم الله! فلما كان من غد حملتنى في الصندوق. فخرجت كما دخلت بعد مخاطرة أخرى وفزع ثان. ونزلت في المسجد ورجعت إلى منزلى، فتصدّقت، وحمدت الله تعالى على السلامة. فلما كان بعد أيام جاءنى الخادم ومعه كيس وفيه ثلاثة آلاف دينار عينا وقال: أمرتنى ستى بإنفاذ هذا إليك من مالها، وقالت: اشتر به ثيابا ومركوبا وخدما، وأصلح به ظاهرك، واحضر يوم الموكب إلى باب العامّة، وفف حتّى تطلب. فقد وافق الخليفة أن يزوجك بحضرته. فأخذت المال وأجبت عن رقعة كانت معه، واشتريت ما قالوه بشىء يسير منه وبقى الأكثر عندى. وركبت إلى باب العامة في يوم الموكب بزىّ حسن. وجاء الناس فدخلوا إلى الخليفة، ووقفت إلى أن استدعيت ودخلت. فإذا أنا بالمقتدر جالسا والقضاة والقوّاد وغيرهم من الهاشميين. فهبت المجلس وعلّمت كيف أسلّم. ففعلت. وتقدّم المقتدر إلى بعض القضاة الحاضرين فخطب لى وزوّجنى. وخرجت من حضرته. فلما انتهيت إلى بعض الدهاليز، عدل بى إلى دار عظيمة مفروشة بأنواع الفرش الفاخرة وفيها من الآلات والخدم والقماش ما لم أر مثله قطّ. وانصرف من أدخلنى. فجلست يومى لا أقوم إلا إلى الصلاة. وخدم يدخلون وخدم يخرجون، وطعام عظيم ينقل وهم يقولون: الليلة تزف فلانة باسم صاحبتى إلى زوجها البزّاز،

وأنا لا أصدّق فرحا. فلما جاء الليل أثّر فيّ الجوع وأقفلت الأبواب، ويئست من الجارية، فقمت أطوف الدار فوقعت على المطبخ. ووجدت الطباخين جلوسا فاستطعمتهم فلم يعرفونى وقدّرونى بعض الوكلاء. فقدّموا إلىّ هذا اللون مع رغيفين فأكلتهما وغسلت يدى بأشنان كان في المطبخ وقدّرت أنها قد نقيت. وعدت إلى مكانى. فلما جنّ الليل إذا طبول وزمور وأصوات عظيمة. وإذا أنا بالأبواب قد فتّحت وصاحبتى قد أهديت إلىّ وجاءوا بها فجلوها علىّ، وأنا أقدّر أن ذلك في النوم. ثم تركت معى في المجلس. وتفرّق ذلك البوش. فلما خلونا، تقدّمت إليها فقبلتها وقبلتنى. فلما شمّت رائحة لحيتى، رفستنى فرمت بى عن المنصّة وقالت: أنكرت والله أن تفلح يا عامّى، يا سفلة، وقامت لتخرج، فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها، وقلت: عرفينى ذنبى واعملى بعده ما شئت، فقالت: ويحك، أكلت ولم تغسل يدك! فقصصت عليها قصتى، فلما بلغت إلى آخرها قلت: علىّ وعلىّ- وحلفت بطلاقها وطلاق كل امرأة أتزوّجها وصدقة مالى وجميع ما أملكه والحجّ ماشيا على قدمىّ وكلّ ما يحلف به المسلمون- لا أكلت بعدها ديكيريكة إلا غسلت يدى أربعين مرة. فاستحيت وتبسمت وصاحت: يا جوارى! فجاء مقدار عشر جوار ووصائف، فقالت: هاتوا شيئا نأكل، فقدّمت ألوان ظريفة وطعام من أطعمة الخلفاء. فأكلنا وغسلنا أيدينا. واستدعت شرابا فشربنا وغنّى أولئك الوصائف أطيب غناء وأحسنه، ثم قمنا إلى الفراش فخلوت بها وبتّ بأطيب ليلة، ولم نفترق أسبوعا. وكانت يوم الأسبوع وليمة عظيمة اجتمع فيه الجوارى. فلما كان من الغد، قالت لى: إن دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا مع جارية غيرى، لمحبة سيدتى لى. وجميع ما تراه

فهو هبة من السيدة لى. وقد أعطتنى خمسين ألف دينار من عين وورق وجوهر. ولى ذخائر في خارج القصر كثيرة من كل لون. وجميعها لك، فاخرج إلى منزلك، وخذ معك مالا واشتردارا سريّة واسعة الصحن، فيها بستان، كثيرة الحجر. وتحوّل إليها، وعرفنى لأنقل إليها هذا كله، ثم آتيك، وسلمت إلىّ عشرة آلاف دينار عينا. فخرجت وابتعت الدار وكتبت إليها بالخبر. فحملت إلىّ تلك النعمة بأسرها. فجميع ما أنا فيه منها، فأقامت عندى كذا وكذا سنة أعيش معها عيش الخلفاء، ولم أدع مع ذلك التجارة. فزاد مالى وعظمت منزلتى وأثرت حالى، وولدت لى هؤلاء الفتيان وأومأ إلى أولاده. ثم ماتت (رحمها الله) وبقى علىّ من مضرّة الديكيريكة ما شاهدته. وبالجملة فلا يغترّ أحد بهذه الحكاية وأمثالها، فيجهل بنفسه فيهلكها. «فما المغرّر محمود وإن سلما» . وأما من كفر بسبب العشق فكثير جدّا لا ينحصرون، ومما ورد فى ذلك حكاية عجيبة أوردتها لغرابتها وهى مما حكاه ابن الجوزىّ في كتابه المترجم «بذم الهوى» قال: سمعت شيخنا أبا الحسن علىّ بن عبيد الله الزعفرانى يحكى أن رجلا اجتاز بباب امرأة نصرانية، فرآها فهويها من وقته، وزاد الأمر به حتّى غلب على عقله، فحمل إلى البيمارستان. وكان له صديق يتردّد إليه ويترسّل بينه وبينها. ثم زاد الأمر به، فقالت أمّه لصديقه: إنى أجىء إليه فلا يكلمنى، فقال: تعالى معى،

فأتت معه. فقال له: إن صاحبتك بعثت إليك رسالة، قال: كيف؟ قلت: هذه أمك تؤدّى رسالتها. فجعلت أمه تحدّثه عنها بشىء من الكذب. ثم زاد الأمر عليه ونزل به الموت، فقال لصديقه: قد جاء الأجل وحان الوقت وما لقيت صاحبتى في الدّنيا، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة. فقال له: كيف تصنع؟ قال: أرجع عن دين محمد، وأقول عيسى ومريم والصليب الأعظم. فقال ذلك ومات. فمضى صديقه إلى تلك المرأة فوجدها عليلة فجعل يحدّثها، وأخبرها بموت صاحبها، فقالت: أنا ما لقيته في الدّنيا وأنا أريد أن ألقاه في الآخرة. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنا بريئة من دين النصرانية. فقام أبوها فقال للرجل: خذوها الآن فإنها منكم، فقام الرجل ليخرج، فقال له: قف ساعة؛ فوقف، فما لبث أن ماتت. قال: وبلغنى عن رجل ببغداد (يقال له صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح) أنه صعد يوما إلى المنارة ليؤذن فرأى بنت رجل نصرانىّ كان بيته إلى جانب المسجد. فافتتن بها، فجاء فطرق الباب فقالت له: من أنت؟ قال: أنا صالح المؤذن. ففتحت له الباب فدخل وضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات، فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتينى على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا، إلا أن تترك دينك، فقال كلمة الكفر وبرئ من الإسلام. ثم تقدّم إليها فقالت: إنما قلت هذا لتقضى غرضك ثم تعود إلى دينك. فكل من لحم الخنزير، فأكل منه، قالت: فاشرب الخمر، فشرب. فلما دبّ الشراب فيه دنا منها فدخلت بيتا وأغلقت بينها وبينه

الباب، وقالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبى زوّجنى منك. فصعد فسقط فمات. فخرجت إليه ولفته في مسح. وجاء أبوها فقصت عليه القصة فأخرجه فى الليل ورماه في السكة. وظهر حديثه، فرمى على مزبلة. وأما من قتل بسبب العشق فلا يكاد ذلك يحصر كثرة، وأعظمه وأشدّه واقعة عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ، لعنه الله. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لابن عمه علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه: «يا علىّ أشقى الأوّلين عاقر ناقة صالح، وأشقى الأوّلين والآخرين قاتلك، وهو هذا» وأشار إلى ابن ملجم قبحه الله تعالى ولعنه ، وأوجب له خزيه ومقته وعذابه، وذلك نكالا لما اجترأ عليه في قتله أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وذلك أن ابن ملجم قبحه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام، كانت من أجمل النساء وكانت ترى رأى الخوارج، وقد قتل علىّ رضى الله عنه قومها يوم النّهروان. فلما رآها ابن ملجم عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوّجك إلا على ثلاثة آلاف درهم وعبد وقينة، وأن تقتل علىّ بن أبى طالب. فحمله العشق على أن خسر الدّنيا والآخرة، وتزوّجها على ذلك. وكان من خبره في قتل علىّ رضى الله عنه ما نذكره إن شاء الله تعالى في التاريخ. وفي ذلك يقول الشاعر: فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كهر قطام بيّنا غير معجم. ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، ... وضرب «علىّ» بالحسام المصمّم. فلا مهر أغلى من «علىّ» وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم!

ومنهم من حمله العشق على قتل أبيه. وهو أبو عبد الملك مروان بن عبد الرحمن ابن مروان بن عبد الرحمن الناصر، ويعرف هذا «بالطليق» . كان يتعشق جارية كان أبوه قد ربّاها معه وذكر أنها له، ثم استأثر بها وخلا معها. فحمله العشق على أن انتضى سيفا ورصد أباه في بعض خلواته بها فقتله. فسجنه المنصور بن أبى عامر سنين، ثم أطلقه. فلقّب «بالطّليق» واعتراه من ذلك شبه الجنون فكان يصرع فى بعض الأوقات. وأما من قتل بسبب العشق، فروى عن الشعبىّ قال: دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: يا عمرو، أخبرنى عن أشجع من لقيت، فقال: نعم يا أمير المؤمنين. خرجت مرة أريد الغارة. فبينا أنا أسير إذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس، وهو كأعظم ما يكون من الرجال خلقا، وهو محتب بسيف. فقلت له: خذ حذرك فإنى قاتلك، فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، فشهق شهقة فمات. فهذا أجبن من رأيت يا أمير المؤمنين. وخرجت يوما حتّى انتهيت إلى حىّ. فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبه في وهدة يقضى حاجة. فقلت: خذ حذرك فإنى قاتلك، قال: من أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: أبا ثور، ما أنصفتنى، أنت على ظهر فرسك، وأنا في بئر، فأعطنى عهدا أنك لا تقتلنى حتى أركب فرسى وآخذ حذرى، فأعطته عهدا أن لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره. فخرج من الموضع الذى كان فيه

حتى احتبى بسيفه وجلس. فقلت له: ما هذا؟ فقال: ما أنا راكب فرسى ولا بمقاتلك، فإن نكثت عهدك فأنت أعلم، فتركته ومضيت فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت! ثم إنى خرجت يوما آخر حتّى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه. فلم أر أحدا فأجريت فرسى يمينا وشمالا فظهر لى فارس. فلما دنا منى إذا هو غلام قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرب منى سلّم فرددت عليه وقلت: من الفتى؟ قال أنا الحارث بن سعد، فارس الشهباء، فقلت له: خذ حذرك، فإنى قاتلك فقال: الويل لك! من أنت؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قال: الحقير الذليل؟ والله ما يمنعنى من قتلك إلا استصغارك، فتصاغرت نفسى إلىّ وعظم عندى ما استقبلنى. فقلت له: خذ حذرك، فو الله لا ينصرف إلا أحدنا، قال: أغرب، ثكلتك أمّك! فإنى من أهل بيت ما نكلنا عن فارس قط! فقلت: هو الذى تسمع، قال: اختر لنفسك، إما أن تطرد لى، وإما أن أطرد لك، فاغتنمتها منه، فقلت: أطرد لى، فأطرد وحملت عليه، حتى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه، إذا هو قد صار حزاما لفرسه، ثم اتبعنى فقرع بالقناة رأسى، وقال: يا عمرو، خذها إليك واحده، فو الله لولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فتصاغرت إلىّ نفسى، وكان الموت والله يا أمير المؤمنين أحبّ إلىّ مما رأيت، فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال: اختر لنفسك، فقلت: أطرد لى، فأطرد لى. فظننت أنى قد تمكنت منه واتبعته حتّى إذا ظننت أنى قد وضعت الرمح بين كتفيه، فإذا هو قد صار لببا لفرسه، ثم اتبعنى ففرع رأسى بالقناة وقال: يا عمرو، خذها إليك اثنتين، فتصاغرت إلىّ نفسى فقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فقال: اختر لنفسك، فقلت: أطرد

لى، فأطرد حتّى إذا قلت إنى وضعت الرمح بين كتفيه وثب عن فرسه فإذا هو على الأرض، فأخطأته ومضيت، فاستوى على فرسه واتبعنى فقرع بالقناة رأسى وقال: يا عمرو، خذها إليك ثالثة، ولولا أنى أكره قتل مثلك لقتلتك، فقلت له: اقتلنى، فإن الموت أحب إلىّ مما أرى بنفسى وأن تسمع فتيان العرب بهذا، فقال يا عمرو: إنما العفو ثلاث، وإنى إن استمكنت منك الرابعة قتلتك، وأنشأ يقول: وكّدت أغلاظا من الأيمان ... إن عدت يا عمرو إلى الطّعان، لتوجرنّ لهب السّنان ... أولا، فلست من بنى شيبان! فلما قال هكذا، كرهت الموت، وهبته هيبة شديدة، وقلت: إنّ لى إليك حاجة، قال: وما هى؟ قلت: أكون لك صاحبا، ورضيت بذلك يا أمير المؤمنين، قال: لست من أصحابى، فكان ذلك والله أشدّ علىّ وأعظم مما صنع. فلم أزل أطلب إليه حتى قال: ويحك، وهل تدرى أين أريد؟ قلت: لا، قال: أريد الموت عيانا، فقلت: رضيت بالموت معك، فقال: امض بنا، فسرنا جميع يومنا وليلتنا حتّى جنّنا الليل وذهب شطره. فوردنا على حىّ من أحياء العرب، فقال لى: يا عمرو فى هذا الحىّ الموت، ثم أومأ إلى قبة في الحىّ فقال: وفي تلك القبة الموت الأحمر، فإما أن تمسك علىّ فرسى فأنزل فآتى بحاجتى، وإما أن أمسك عليك فرسك فتنزل فتأتينى بحاجتى، فقلت: لا، بل انزل أنت، فأنت أعرف بموضع حاجتك، فرمى إلىّ بعنان الفرس ونزل، فرضيت لنفسى يا أمير المؤمنين أن أكون له ساسا. ثم مضى حتّى دخل القبة فاستخرج منها جارية لم تر عيناى قط مثلها حسنا وجمالا، فحملها على ناقة، ثم قال: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: إما أن تحمينى وأقود أنا، وإما أن

أحميك وتقود أنت، قلت: بل تحمينى أنت، وأقود أنا، فرمى إلىّ بزمام الناقة، وسرنا بين يديه وهو خلفنا حتّى أصبحنا، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، ما تشاء؟ قال: التفت فانظر هل ترى أحدا؟ قال: فالتفت، فقلت: أرى جمالا، قال: أغذّ السير، ثم قال لى: يا عمرو، قلت: لبيك، قال: انظر، فإن كان القوم قليلا فالجلد والقوّة والموت، وإن كانوا كثيرا فليسوا بشىء، قال: فالتفتّ، فقلت: هم أربعة أو خمسة، قال: أغذّ السير، ففعلت، وسمع وقع الخيل، فقال لى: يا عمرو، قلت: لبيك! قال: كن عن يمين الطريق، وقف وحوّل وجوه دوابنا إلى الطريق، ففعلت، ووقفت عن يمين الراحلة ووقف هو عن يسارها. ودنا القوم منا، فإذا هم ثلاثة نفر فيهم شيخ وهو أبو الجارية وأخواها غلامان شابان، فسلموا فرددنا السلام، ووقفوا عن يسار الطريق. فقال الشيخ: خلّ عن الجارية يا ابن أخى، فقال: ما كنت لأخلّيها ولا لهذا أخذتها، فقال لأصغر ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجرّ رمحه وحمل عليه الحارث وهو يقول: من دون ما ترجوه خضب الذابل ... من فارس مستلئم مقاتل، ينمى إلى شيبان خير وائل ... ما كان سيرى نحوها بباطل! ثم شدّ عليه قطعنه طعنة دقّ منها صلبه، فسقط ميتا. فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه يا بنىّ، فلا خير في الحياة على الذّلّ، فخرج إليه وأقبل الحارث يقول: لقد رأيت كيف كانت طعنتى! ... والطّعن للقرن الشديد همّتى. والموت خير من فراق خلّتى ... فقتلتى اليوم ولا مذلّتى!

ثم شدّ عليه فطعنه طعنة سقط منها ميتا. فقال له الشيخ: خلّ عن الظعينة يا ابن أخى، فإنى لست كمن رأيت، قال: ما كنت لأخلّيها ولا لهذا قصدت، فقال له الشيخ: اختر يا ابن أخى، فإن شئت طاردتك، وإن شئت نازلتك، فاغتنمها الفتى ونزل. ونزل الشيخ وهو يقول: ما أرتجى بعد فناء عمرى؟ ... سأجعل السّنين مثل الشّهر. شيخ يحامى دون بيض الخدر. ... إنّ استباح البيض قصم الظّهر. سوف ترى كيف يكون صبرى. فأقبل الحارث وهو يقول: بعد ارتحالى وطويل سفرى ... وقد ظفرت وشفبت صدرى. والموت خير من لباس الغدر، ... والعار أهديه لحىّ بكر. ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخى، إن شئت نازلتك، وإن بقيت فيك قوّة ضربتنى؛ وإن شئت فاضربنى، فان بقيت في قوّة ضربتك. فاغتنمها الفتى فقال: وأنا أبدؤك، قال: هات، فرفع الحارث السيف، فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه، ضرب بطنه ضربة فقد معاه، ووقعت ضربة الحارث في رأسه. فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف، ثم أقبلت إلى الناقة فعقدت أعنة الأفراس بعضها إلى بعض وجعلت أقودها. فقالت الجارية: يا عمرو، إلى أين؟ ولست لى بصاحب، ولست كمن رأيت، ولو كنت صاحبى لسلكت سبيلهم! فقلت: اسكتى، قالت: فإن كنت صادقا فأعطنى سيفا ورمحا، فإن غلبتنى فأنا لك، وإن غلبتك قتلتك، فقلت لها: ما أنا بمعطيك ذلك، وقد عرفت أصلك وجرأة قومك وشجاعتهم، فرمت بنفسها عن البعير وهى تقول:

أبعد ما شيخى وبعد إخوتى ... أطلب عيشا بعدهم في لذّة؟ هل لا تكون قبل ذا منيّتى؟ وأهوت إلى الرّمح فكادت تنتزعه من يدى. فلما رأيت ذلك خفت إن هى ظفرت بى أن تقتلنى، فقتلتها فهذا أشدّ ما رأيته يا أمير المؤمنين. فقال عمر بن الخطاب: صدقت يا عمرو. وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى الليث بن سعد أنه قال: أتى عمر رضى الله عنه بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى في الطريق. فسأل عمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر، ولم يعرف قاتله. فشقّ ذلك عليه، وقال: اللهم ظفّرنى بقاتله. حتّى إذا كان رأس الحول أو قريب من ذلك، وجد صبىّ مولود ملقى بموضع القتيل فأتى به عمر. فلما أتى به وأخبر بمكانه، قال: ظفرت تالله بدم القتيل إن شاء الله تعالى، فدفع الصبىّ إلى امرأة، وأمرها أن تقوم بشأنه وأعطاها نفقة. وقال: انظرى من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلمينى بمكانها. فلما شبّ الصبىّ جاءت جارية فقالت للمرأة إن سيدتى بعثتنى إليك لتبعثى إليها بالصبىّ لتراه وتردّه إليك. قالت: نعم، اذهبى به إليها وأنا معك، فذهبت بالصبىّ والمرأة معها إلى سيدتها. فلما رأته أخذته فقبلته وضمّته إلى صدرها. وإذا هى بنت شيخ من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرت عمر خبرها. فاشتمل على سيفه، ثم أقبل على منزلها، فوجد أباها متكئا على باب داره. فسلم عليه، وقال له: أبا فلان، قال: لبّيك، قال: ما فعلت ابنتك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين، جزاها الله خيرا، هى من أعرف الناس بحق الله تعالى وحق أبيها، مع حسن صلاتها

وصيامها والقيام بدينها، فقال عمر: قد أحببت أن أدخل إليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثّها على ذلك. فقال: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، امكث مكانك حتّى أعود إليك، فاستأذن بعمر، فلما دخل عمر، أمر من كان عندها بالخروج عنها، فخرجوا. وبقيت هى وعمر ليس معهما ثالث. فكشف عمر عن السيف، وقال: لتصدقينى وإلا ضربت عنقك، وكان عمر لا يكذب، فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، فو الله لأصدقنّك. إن عجوزا كانت تدخل علىّ فاتخذتها أمّا، وكانت تقوم من أمرى بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضت بذلك حينا. ثم إنها قالت لى يوما: يا بنية، إنه قد عرض لى سفر، ولى بنت في موضع أتخوّف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك حتّى أرجع من سفرى، فعمدت إلى ابن لها شاب أمرد، فهيأته كهيئة الجارية وأتتنى به لا أشك أنه جارية. فكان برى منى ما ترى الجارية من الجارية حتّى أغفلنى يوما وأنا نائمة فما شعرت حتّى علانى وخالطنى. فمددت يدى إلى شفرة كانت إلى جنبى فقتلته. ثم أمرت به فألقى حيث رأيت. فاشتملت منه على هذا الصبى، فلما وضعته ألقيته فى موضع أبيه. فهذا والله خبرهما، فقال عمر: صدقت، بارك الله فيك، ثم أوصاها ووعظها ودعا لها وخرج، وقال لأبيها: بارك الله لك في ابنتك، فنعم الابنة هى! وقد وعظتها وأمرتها، فقال: وصلك الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيرا عن رعيّتك. وروى أيضا بسنده إلى أبى عباد قال: أدركت الخادم الذى كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرنى بأعجب شىء رأيته من الحجاج! قال: كان ابن اخيه أميرا على واسط، وكان بواسط امرأة يقال لها أبّة، لم يكن بواسط في ذلك الوقت

أجمل منها. فأرسل ابن أخيه إليها يراودها عن نفسها مع خادم له. فأبت عليه وقالت: إن أردتنى فاخطبنى إلى إخوتى، وكان لها أربعة إخوة فأبى، وقال: لا، إلا كذا. وعاودها فأبت، فراجعها وأرسل إليها بهدية فأخذتها وعزلتها. وأرسل إليها عشية الجمعة: إنى آتيك الليلة، فقالت لأمّها: ان الأمير بعث إلىّ بكذا وكذا. فأنكرت أمّها ذلك، وقالت أمها لاخوتها إن أختكم قد زعمت كيت وكيت: فأنكروا ذلك وكذبوها. فقالت إنه قد وعدنى أن يأتينى الليلة، ترونه. قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذى هى فيه، وجويرية لها على باب الدار تنتظره. فجاء ونزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس، فأتنى بدابتى، ودخل والجارية أمامه. فوجد أبّة على سرير مستلقية. فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها، وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق، ودخل إخوتها عليه بأيديهم السيوف فقطّعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدقّ الباب دقّا رفيقا فلا يكلمه أحد. فلما خشى الضوء وأن تعرف الدابة انصرف. وأصبح الناس فإذا هم به على تلك الصفة. فأتوا به الحجاج فأخذ أهل تلك السكة، فقال أخبرونى: ما قصته؟ قالوا: لا نعلم حاله، غير أنا وجدناه ملقى. ففطن الحجاج فقال: علىّ بمن كان يخدمه، فأتى بذلك الخصىّ الذى كان الرسول بينهما، فقالوا: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: اصدقنى عن خبره وقصته، فأبى. فقال: إن صدقتنى لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقنى فعلت بك وفعلت. قال: فأخبره الأمر على جهته. فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجىء بهم، وعزلت المرأة عنهم. فسألها فأخبرته بمثل ما أخبر به الخصىّ، ثم سأل إخوتها، فأخبروه بمثل ذلك ولم يختلفوا، وقالوا: نحن صنعنا به الذى ترى،

فأمر برقيقه ودوابه للمرأة، فقالت المرأة: هديته عندى، فقال: بارك الله لك فيها، وكثّر في النساء مثلك، هى لك، وما ترك من شىء فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن. فألقوه للكلاب، ودعا بالخصىّ فقال: أما أنت فقد قلت لك إنى لا أضرب عنقك! وأمر بضرب وسطه، فقطع نصفين. والأخبار في مثل هذا كثيرة، فلا تطوّل بذكرها. وأما من قتله العشق فكثير جدّا لا يكاد يحصر، روى عن عكرمة قال: إنى لمع ابن عباس عشية عرفة، إذ أقبل فتية يحملون فتى من بنى عذرة في كساء، وهو ناحل البدن، أحلى من رأيت من الفتيان، فوضعوه بين يديه ثم قالوا: استشف لهذا يا ابن عمّ رسول الله، فقال: وما به؟ فترنم الفتى بصوت ضعيف خفىّ الأنين، وهو يقول: بنا من جوى الأحزان والحبّ لوعة ... تكاد لها نفس الشّفيق تذوب! ولكنّما أبقى حشاشة معول ... على مابه عود هناك صليب! وما عجب موت المحبّين في الهوى؛ ... ولكن بقاء العاشقين عجيب! قال: ثم حمل فمات في أيديهم، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحبّ، لا عقل ولا قود. قال عكرمة: فما رأيت ابن عباس سأل الله تعالى تلك الليلة- حتّى أمسى- إلا العافية مما ابتلى به ذلك الفتى. وروى عن الأصمعىّ قال: حدّثنى أبو عمرو بن العلاء قال: حدّثنى رجل من بنى تميم قال: خرجت في طلب ضالّة لى. فبينا أنا أدور في أرض بنى عذرة أنشد ضالّتى،

إذا بيت معتزل عن البيوت، وإذا في كسر البيت شابّ مغمى عليه، وعند رأسه عجوز لها بقيّة من جمال، وهى ساهية تنظر إلى وجه الفتى. فسلمت فردّت السلام. فسألتها عن ضالّتى فلم يك عندها منها علم. فقلت: أيتها العجوز، من هذا الفتى؟ قالت: ابنى، ثم قالت: هل لك في أجر لا مؤنة فيه؟ فقلت: والله إنى لأحبّ الأجرو إن رزئت! فقالت: إن ابنى هذا يهوى ابنة عمّ له علقها وهما صغيران. فلما كبر حجبت عنه، فأخذه شبيه بالجنون. ثم خطبها إلى أبيها فامتنع من تزويجه، وخطبها غيره فزوّجها إياه. فنحل جسم ولدى واصفرّ لونه وذهل عقله. فلما كان منذ خمس، زفّت إلى زوجها، فهو كما ترى: لا يأكل ولا يشرب، مغمى عليه. فلو نزلت إليه فوعظته! قال: فنزلت إليه فلم أدع شيئا من الموعظة إلا وعظته به حتّى أن قلت له فيما قلت: إنهنّ الغوانى صاجبات يوسف، ناقضات العهد، وقد قال فيهن كثيّر عزّة: هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... فى وصل غانية من وصلها خلف؟ قال: فرفع رأسه، محمرة عيناه كالمغضب، وقال: لست ككثيّر عزة! إنّ كثيّرا رجل مائق، وأنا رجل وامق! ولكننى كأخى تميم حيث يقول: ألا لا يضير الحبّ ما كان ظاهرا، ... ولكنّ ما اختاف الفؤاد يضير! ألا قاتل الله الهوى كيف قادنى ... كما قيد مغلول اليدين أسير! فقلت له: فإنه قد جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بى» . فأنشأ يقول: ألا ما للمليحة لا تعود؟ ... أبخل بالمليحة أم صدود؟ مرضت فعادنى أهلى جميعا ... فما لك لا نرى فيمن يعود!

فقدتك بينهم فبكيت شوقا، ... وفقد الإلف يا أملى شديد! وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولى من ذوى رحمى عديد! ولو كنت السقيمة، كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد! قال: ثم شهق شهقة وخفت، فمات. فبكت العجوز وقالت: فاضت والله نفسه! فدخلنى أمر لم يدخلنى مثله قط. فلما رأت العجوز ما حلّ بى، قالت: يا فتى لا ترع! عاش بأجل، ومات بقدر، وقدم على ربّ كريم، واستراح من تباريحه وغصصه! ثم قالت: هل لك في استكمال الصنيعة؟ قلت: قولى ما أحببت! قالت: تأتى البيوت فتنعاه اليهم ليعاونونى على رمسه، فإنى وحيدة. قال: فركبت فرسى وقصدت البيوت وأقبلت أنعاه إليهم. فبينا أنا أنعاه، إذا خيمة رفع جانب منها، وإذا امرأة قد خرجت كأنها القمر ليلة البدر. ناشرة شعرها، تجرّ خمارها، وهى تقول: بفيك الكثكث! بفيك الحجر! من تنعى؟ قلت: أنعى فلانا! قالت: أوقد مات؟ قلت: إى والله قد مات! قالت: فهل سمعت له قولا، قلت: اللهم لا، إلا شعرا، قالت: وما هو؟ فأنشدتها قوله: ألا ما للمليحة لا تعود الأبيات. فاستعبرت باكية وأنشأت تقول: عدانى أن أزورك يا مناى ... معاشر كلّهم واش حسود! أشاعوا ما علمت من الدّواهى ... وعابونا، وما فيهم رشيد!. فأما إذ ثويت اليوم لحدا ... فكلّ الناس دورهم لحود. فلا طابت لى الدّنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى عديد!

ثم شهقت شهقة وخرّت مغشيّا عليها، وخرج النساء من البيوت واضطربت ساعة وماتت. فو الله ما برحت حتّى دفنتهما جميعا. وروى الساجى عن الأصمعىّ قال: رأيت بالبادية رجلا قددق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده. فتعجبت ودنوت منه أسأله عن حاله. فقالوا: اذكر له شيئا من الشعر يكلمك، فقلت: سبق الفضاء بأنّنى لك عاشق ... حتّى الممات، فأين منك مذاهبى؟ فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول: أخلو بذكرك لا أريد محدّثا، ... وكفى بذكرك سامرا وسرورا! قال: فقلت له: أخبرنى عنك! قال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملنى وألقنى على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه: ألا ما للمليحة لا تعود ... أبخل بالمليحة أم صدود؟ فلو كنت المريضة كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهنى الوعيد! فإذا جارية مثل القمر، قد خرجت فألقت نفسها عليه فاعتنقا. وطال ذلك، فسترتهما بثوبى خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة، فرّقت بينهما، فإذا هما ميتان. فما برحت حتّى صليت عليهما ودفنا. فسألت عنهما، فقيل لى: عامر بن غالب، وجميلة بنت أميل المزنيّان. وروى ابن الجوزىّ بسند يرفعه إلى محمد بن خلف قال: ذكر بعض الرواة عن العمرىّ قال: كان أبو عبد الله الجيشانىّ يعشق صفراء العلاقمية. وكانت سوداء، فاشتكى من حبها، وضنبى حتّى صار إلى حدّ الموت. فقال بعض أهله لمولاها: لو وجهت

صفراء إلى أبى عبد الله الجيشانى، فلعله أن يعقل إذا رآها! ففعل. فلما دخلت عليه قالت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحى! قالت: ما تشتهى؟ قال: قربك! قالت: ما تشتكى؟ قال: حبّك! قالت: فتوصى بشىء؟ قال: نعم، أوصى بك إن قبلوا منى! فقالت: إنى أريد الانصراف! قال: فتعجلى ثواب الصلاة علىّ! فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء. ومات من ساعته. وروى أيضا بسند يرفعه إلى عوانة بن الحكم أن عبد الله بن جعفر وفد إلى عبد الملك بن مروان فحدّثه، قال: اشتريت جارية بعشرة آلاف درهم، فوصفت ليزيد بن معاوية فأرسل إلىّ يقول: إما أن تهديها إلىّ، وإما أن تبيعها بحكمك، فكتبت إليه: لا تخرج والله من ملكى ببيع ولا هبة أبدا. ومكثت عندى لا أزداد لها إلا حبا. حتّى أتتنى عجوز من عجائزنا، فذكرت أن بعض عزّاب المدينة يهواها، وأنه يجىء في كل يوم متنكرا فيقف بالباب حتّى يسمع غناءها. فراعيت مجيئه ليلة، فإذا به قد أقبل متقنع الرأس حتّى قعد مستخفيا فدعوت قيّمة الجارية، فقلت: انطلقى الساعة فأصلحى هذه الجارية بأحسن ما أمكن، وعجلى بها، ففعلت. فقمت وقبضت على يدها وفتحت الباب وأتيت إلى الرجل فحركته فانتبه مذعورا. فقلت: لا بأس عليك، خذ هذه الجارية، هى لك، فإذا هممت ببيعها فارددها إلىّ، فدهش الفتى. فدنوت إلى أذنه فقلت: ويحك، قد أظفرك الله عز وجل ببغيتك، فانصرف إلى منزلك، فإذا الفتى ميت، فلم أر شيئا قط أعجب من ذلك، وهانت علىّ الجارية، فكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيعلم حالها أو تخبره

عن نفسها فيحقد ذلك علىّ. فمكثت مدّة مديدة ثم ماتت. ولا أظنها ماتت إلا كمدا وأسفا على الفتى. وروى ابن الجوزىّ أيضا بسنده قال: حكى عن شبابة بن الوليد العذرىّ أن فتى من بنى عذرة يقال له أبو مالك بن النضر، كان عاشقا لابنة عمّ له عشقا شديدا. فكان على ذلك مدّه، ثم إنه فقد بضع عشرة سنة، لا يحسّ له خبر. قال شبابة: فأضللت إبلا لى. فخرجت في طلبها. فبينا أنا أسير في الرمال إذا بهاتف يهتف. بصوت ضعيف: يا ابن الوليد، ألا تحمون جاركم ... وتحفظون له حتّى القرابات؟ عهدى إذا جار قوم نابه حدث، ... وقوه من كلّ مكروه الملمّات! هذا أبو مالك المسمى ببلقعة ... من الضّباع وآساد بغابات! طليح سوق، بنار الحبّ محترق، ... تعتاده زفرات إثر لوعات! أما النهار فيصيه تذكّره، ... والليل مرتقب للصبح هل ياتى. يهدى بجارية من عذرة اختلست ... فؤداه، فهو منها في بليّات! فقلت: دلّنى عليه، رحمك الله! قال: نعم، اقصد الصوت، فقصدته، فسمعت أتينا من خباء فاذا قائل يقول: يا رسيس الهوى، أذبت فؤادى ... وحشوت الحشا عذابا أليما! فدنوت منه فقلت: أبو مالك؟ قال: نعم! قلت: ما بلع بك إلى ما أرى؟ قال: حبّى سعاد ابنة أبى الهندام العذرىّ، شكوت يوما ما أجد من حبها إلى ابن عمّ لنا فاحتملنى إلى هذا الوادى، منذ بضع عشرة سنة، يأتينى كل يوم بخبرها ويقوتنى من عنده. فقلت إنى أصير إلى أهلها فأخبرهم ما رأيت. قال: أنت وذاك، قال: فانصرفت

فأخبرتهم، فرقّوا له فزوّجوه بحضرتى. فرجعت إليه لأفرّج عنه، فلما أخبرته الخبر، نظر إلىّ، ثم تأوّه تأوّها شديدا بلغ من قلبى، ثم قال: ألآن إذ حشرجت نفسى وخامرها ... فراق دنيا وناداها مناديها! ثم زفر زفرة فمات. فدفنته في موضعه ثم انصرفت فأخبرتهم الخبر. فأقامت الجارية بعده ثلاثا لا تطعم، ثم ماتت. وحكى عن المبرد قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابى مع المأمون. فلما قربنا من الرّقّة، إذا نحن بدير كبير، فقال لى بعض أصحابى: مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه ونحمد الله تعالى على ما رزقنا من السلامة، فدخلنا إلى الدير، فرأينا مجانين مغلغلين، وهم فى نهاية القذارة، فاذا فيهم شابّ عليه بقية من ثياب ناعمة، فلما بصربنا قال: من أنتم يافتيان؟ حياكم الله! فقلنا: نحن من العراق. فقال: بأبى العراق وأهلها! بالله أنشدونى أو أنشدكم! فقال المبرد: قلت: والله إن الشعر من هذا لظريف، فقلنا: أنشدنا، فأنشأ يقول: الله يعلم أنّنى كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أجد! روحان لى: روح تضمّنها ... بلد وأخرى حازها بلد! وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر ولا يقوى لها جلد. وأظنّ غائبتى كشاهدتى ... فكأنّها تجد الذى أجد! قال المبرد: بالله زدنا، فأنشأ يقول: لمّا أناخوا قبيل الصّبح عيرهم ... ورحّلوها فثارت بالهوى الإبل، وقلّبت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إلىّ ودمع العين منهمل،

وودّعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل! ويلى من البين! ماذا حلّ بى وبها ... من نازل البين؟ حان البين فارتحلوا! يا راحل العيس، عرّج كى نودّعها! ... يا راحل العيس، فى ترحالك الأجل؟ إنّى على العهد لم أنقض مودّتهم، ... يا ليت شعرى! بعد العهد ما فعلوا؟ قال: فقال رجل من البغضاء الذين معى: ماتوا! قال: قال إذن فأموت! فقال له: إن شئت! فتمطّى واستند إلى السارية التى كان مشدودا فيها فمات. فما برحنا حتّى دفناه. وحكى عن أبى يحيى التيمى، قال: كنا نختلف إلى أبى مسعر بن كدام، وكان يختلف معنا فتى من النّسّاك، يقال له أبو الحسن، ومعه فتى حسن الوجه يفتتن به الناس إذا رأوه. فأكثر الناس القول فيه وفي صحبته إياه. فمنعه أهله أن يصحبه وأن يكلمه. فذهل عقله حتّى خيف عليه التلف. فلقيته فأخبرته بذلك، فتنفس الصّعداء ثم أنشأ يقول: يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنّة الحدق! لى منك ما للناس كلّهم: ... نظر وتسليم على الطّرق. لكنّهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق! ثم صرخ صرخة وشخص بصره نحو السماء وسقط إلى الأرض. فحرّكته فإذا هو ميت. وروى ابن الجوزىّ قال: أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبى نصر الحميدىّ قال: حدّثنى أبو محمد علىّ بن أحمد

الفقيه الحافظ قال: حدّثنى أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجىّ الأديب، قال: نت أختلف في النحو إلى أبى عبد الله محمد بن خطاب النحوى في جماعة، أيام الحداثة. وكان معنا أسلم بن سعيد قاضى قضاة الأندلس. قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون. وكان معنا عند ابن خطاب أحمد بن كليب. وكان من أهل الأدب والشعر فاشتدّ كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متسترا بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وأنشدت في المحافل. فلعهدى بعرس في بعض الشوارع و «البكورىّ» الزامر في وسط المحفل يزمر بقول أحمد بن كليب في أسلم. أسلّمنى في هوا ... هـ أسلم، هذا الرّشا! غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا! وشى بيننا حاسد ... سيسأل عمّا وشى! ولو شاء أن يرتشى ... على الوصل روحى، ارتشى! ومغنّ محسن يسايره. فلما بلغ هذا المبلغ، انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب ولزم بيته والجلوس على بابه. فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم نهاره كله. فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا. فإذا صلّى المغرب واختلط الظلام، خرج مستروحا، وجلس على باب داره. فعيل صبر أحمد بن كليب. فتحيل في بعض الليالى ولبس جبّة من جباب أهل البادية، واعتمّ بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجا وبالأخرى قفصا فيه بيض. وجاء كأنه قدم من بعض الضّياع، فتقدّم إلى أسلم وقبل يده، وقد اختلط الظلام، وقال: يا مولاى، من يقبض

هذا؟ فقال له أسلم: من أنت؟ فقال: أجيرك في الضّيعة الفلانية- (وقد كان يعرف أسماء ضياعه) . فأمر أسلم غلمانه بقبض ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في ضياعهم. ثم جعل أسلم يسأله عن أحوال الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخى! وإلى هاهنا تتبعنى؟ أما كفاك انقطاعى عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملة، وعن القعود على بابى نهارا حتّى قطعت علىّ جميع مالى فيه راحة فصرت في سجنك؟ والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلى، ولا جلست بعدها على بابى، لا ليلا ولا نهارا، ثم قام. وانصرف أحمد بن كليب حزينا كئيبا. قال محمد: واتصل ذلك بنا فقلنا لأحمد بن كليب: وخسرت دجاجك وبيضك؟ فقال: هات كلّ ليل قبلة في يده، وأخسر أضعاف ذلك! فلما يئس من رؤيته البتة، نهكته العلة وأضجعه المرض. قال محمد بن الحسن: فأخبرنى شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوإ حال. فقلت له: لم لا تتداوى؟ فقال: دوائى معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم فيّ البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم! فلو سعيت في أن يزورنى لأعظم الله جزاءك بذلك، وآجره. قال: فرحمته وتقطعت نفسى عليه، فنهضت إلى أسلم فاستأذنت عليه، فأذن لى وتلقّانى بما يجب، فقلت: لى حاجة، فقال: وما هى؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندى. فقال: نعم، ولكن قد تعلم أنه برّح بى، وشهر اسمى وآذانى. فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل هذه الحال التى هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته. فقال لى: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلّفنى هذا! فقلت: لا بدّ من ذلك فليس عليك فيه شىء، وإنما هى عيادة مريض. قال: ولم أزل به حتّى أجاب، فقلت له: فقم الآن، قال: لست والله أفعل، ولكن غدا، فقلت له: ولا خلف،

قال: نعم. فانصرفت إلى أحمد بن كليب فأخبرته بوعده فسرّ بذلك وارتاحت نفسه. فلما كان من الغد بكّرت إلى أسلم، وقلت له: الوعد، قال: فوجم، وقال: والله لقد تحملنى على خطّة صعبة علىّ، وما أدرى كيف أطيق ذلك؟ فقلت له: لا بدّ أن تفى بوعدك لى، قال: فأخذ رداءه ونهض معى راجلا، فلما أتينا منزل أحمد، وكان يسكن في درب طويل. فعند ما توسّط الزّقاق وقف واحمرّ وخجل، وقال: يا سيدى، للساعة والله أموت! وما أستطيع أن أعرض هذا على نفسى! فقلت: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل، قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتّة! ورجع هاربا فاتّبعته وأخذت بردائه، فتمادى وتمزق الرداء وبقيت قطعة منه في يدى لشدّة إمساكى له. ومضى ولم أدركه. فرجعت ودخلت على أحمد، وكان غلامه قد دخل عليه لما رآنا من أوّل الزقاق مبشّرا. فلما رآنى تغير وجهه وقال: أين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة فاستحال من وقته واختلط وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الاسترجاع. فاستبشعت الحال وجعلت أتوجّع وقمت، فثاب إليه ذهنه، وقال لى: يا أبا عبد الله، قلت: نعم، قال: اسمع منى، واحفظ عنّى، وأنشأ يقول: أسلم، يا راحة العليل ... رفقا على الهائم النّحيل! وصلك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل! قال: فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟ قال: قد كان، فخرجت عنه فو الله ما توسطت الزقاق حتّى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدّنيا. وهذه الحكاية مشهورة عند أهل الأندلس. وأسلم هذا من بنى خالد وكانت فيهم وزارة وحجابة. وهذا الباب طويل والحكايات والأخبار والوقائع فيه كثيرة يطول الشرح بذكرها.

وأما من قتل نفسه بسبب العشق، فحكى عن عبد الرحمن بن إسحاق القاضى قال: انحدرت من «سرّ من رأى» مع محمد بن إبراهيم أخى إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها. فلما سرنا ساعة، قال: ارفقوا بنا، ثم دعا بطعامه فأكلنا، ثم قال: ما ترى في النبيذ؟ قلت له: أعز الله الأمير، هذه دجلة قد جاءت بمدّ عظيم يرغب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلة، فلو شئت أخرته، قال: لا بدّ لى من الشراب، واندفعت مغنية فغنّت، واندفعت أخرى فغنته: يا رحمتا للعاشقينا، ... ما إن أرى لهم معينا! كم يشتمون ويضربو ... ن ويهجرون، فيصبرونا! فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، ورفعت الستارة وقذفت بنفسها في دجلة. وكان بين يدى محمد غلام ذكر أنّ شراءه ألف دينار، بيده مذبّة، لم أر أحسن منه. فوضع المذبّة من يده وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول: أنت التى غرّقتنى ... بعد الفضا، لو تعلمينا! فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتهما وقد خرجا معتنقين ثم غرقا. وحكى عن جميل بن معمر العذرىّ أنه قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لى: يا جميل حدّثنى بعض أحاديث بنى عذرة، فإنه بلغنى أنهم أصحاب أدب وغزل، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، انتجعوا عن حيّهم مرة فوجدوا النّجعة بموضع نازح فقطنوه. فخرجت أريدهم. فبينا أنا أسير، غلطت الطريق وجنّ علىّ الليل،

فلاح لى باب فقصدته. فوردت على راع في أصل جبل قد ألجأ غنمه إلى كهف فى الجبل، فسلمت عليه، فردّ علىّ السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟ قلت: قد كان ذلك، فأرشدنى! قال: بل أنزل حتّى تريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحت وقّفتك على القصد. فنزلت فرحّب بى وأكرمنى، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج نارا، وجعل يشوى ويلقى بين يدىّ، ويحدّثنى في خلال ذلك. ثم قام إلى كساء فقطع به جانب الخباء ومهّد لى جانبا، ونزل جانبا خاليا. فلما كان في الليل سمعته يبكى ويشكو إلى شخص. فأرقت ليلتى. فلما أصبحت، طلبت الإذن فأبى، وقال: الضيافة ثلاث! فأقمت عنده، وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب لى. فإذا هو من بنى عذرة، من أشرافهم. فقلت: يا هذا، وما الذى أحلّك هذا الموضع؟ فأخبرنى أنه كان يهوى ابنة عمّ له وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها فأبى أن يزوّجه إيّاها لقلّة ذات يده، وأنه زوّجها رجلا من بنى كلاب فخرج بها عن الحىّ وأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر ورضى أن يكون راعيا لتأتيه ويراها. وجعل يشكو إلىّ صبابته بها وعشقه لها، حتى إذا جنّنا الليل وحان وقت مجيئها، جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فلما أبطأت عن الوقت المعتاد وغلبه الشوق، وثب قائما وأنشأ يقول: ما بال ميّة لا تأتى لعادتها! ... أهاجها طرب أم صدّها شغل؟ لكن قلبى لا يلهيه غيرهم ... حتّى الممات، ولالى غيرهم أمل! لو تعلمين الّذى بى من فراقكم ... لما اعتللت ولا طابت لك العلل! روحى فداؤك! قد هيّجت لى سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل! لو أن عاديّه منّى على جبل، ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل!

ثم قال: يا أخا بنى عذرة، مكانك حتّى أعود إليك! فما أتوهّم أن أمر ابنة عمّى صحيح! ثم مضى. فما لبث أن أقبل وعلى يده شىء محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بنى عذرة، هذه ابنة عمى، أرادت أن تأتينى فاعترضها الأسد فأكلها! ثم وضعها عن يده، وقال: على رسلك حتّى أعود اليك، ومضى فأبطأ حتّى يئست من رجوعه. ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فألقاها وجعل ينكت على أسنان الأسد ويقول: ألا أيّها الليث المخيل بنفسه! ... هلكت! لقد حرّت يداك لنا حزنا! وغادرتنى فردا وقد كنت آلفا ... وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سجنا! أقول لدهر خاننى بفراقه: ... معاذ إلهى أن أكون له خدنا! ثم قال: يا أخا بنى عذرة، إنك سترانى بين يديك ميّتا! فإذا متّ فاعمد إلىّ وابنة عمّى، فأدرجنا في كفن واحد، واحفر لنا جدثا واحدا، وادفنّا فيه، واكتب على قبرى هذين البيتين: كنّا على ظهرها، والعيش في مهل! ... والشّمل يجمعنا والدار والوطن ففرّق الدهر والتصريف ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن. وردّ الغنم إلى صاحبها وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خناق فطرحه في عنقه، فناشدته الله تعالى أن لا يفعل، فأبى وجعل يخنق نفسه حتّى سقط ميتا. فكفّنتهما ودفنتهما فى قبر واحد، وكتبت البيتين على قبرهما، ورددت الغنم إلى صاحبها، وأعلمته بقصتهما فحزن حزنا شديدا أشفقت منه على نفسه.

ذكر شىء مما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذم الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللواط، وعقوبة اللائط

ذكر شىء مما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللّائط أما ما ورد من التحذير من فتنة النساء، فقد روى عن أبى أمامة بن يزيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت في الناس بعدى فتنة أضرّ على الرجال من النّساء» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النساء؛ فإن أوّل فتنة بنى إسرائيل كانت في النّساء» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى النساء واخمرة» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لم يكن كفر من مضى إلّا من قبل النساء، وهو كائن، كفر من بقى من قبل النساء. وعن حسان بن عطية، قال: ما أتيت أمّة قطّ إلا من قبل نسائهم. وعن سعيد بن المسيب، قال: ما يئس الشيطان من ابن آدم قطّ، إلا أتاه من قبل النّساء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال إبليس لربه عز وجل: يا ربّ قد أهبط آدم، وقد علمت أن سيكون لهم كتاب

ورسل، فما كتابهم ورسلهم؟ قال الله عز وجل: رسلهم الملائكة والنّبيّون منهم، وكتبهم التوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، قال: فما كتابى؟ قال: كتابك الوشم، وقرآنك الشّعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابك من كل مسكر. وصدقك الكذب، وبيتك الحمّام، ومصايدك النساء، ومؤذّنك المزمار، ومسجدك الأسواق» . ومن فتنة النساء، ما روى عن وهب بن منبّه أن عابدا كان في بنى إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه. وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا. فخرج البعث عليهم فلم يدروا عند من يخلّفون أختهم، ولا من يأمنون عليها، فأجمعوا رأيهم على أن يخلّفوها عند العابد. فأتوه وسألوه أن يخلّفوها عنده. فأبى ذلك. فلم يزالوا به حتّى قال: أنزلوها في بيت جوار صومعتى، فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها. فمكثت في جوار العابد زمانا ينزل إليها الطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له النبطان. فلم يزل يرغّبه في الخير ويعظّم عنده خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوّفه ان يراها أحد فيعلقها. فلم يزل به حتّى مشى بطعامها ووضعه عند باب بيتها، ولا يكلّمها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه فى الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشى إليها بطعامها حتّى تضعه في بيتها. كان أعظم لأجرك. فلم يزل به حتّى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها. فلبث بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، وقال له: لو كنت تكلمها وتحدّثها، فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتّى حدّثها

زمانا، يطلع إليها من فوق صومعته. ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فقال له: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها، وتقعد على باب بيتها فتحدّثك، كان آنس لها. فلم يزل به حتّى أنزله فأجلسه على باب صومعته يحدّثها، وتخرج الجارية من بيتها حتّى تقعد على بابها. فلبثا زمانا يتحدّثان. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير، فقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من بيتها فحدّثتها، كان آنس لها. فلم يزل به حتّى فعل. فلبثا بذلك زمانا. ثم جاءه إبليس فقال: لو دنوت من باب بيتها، ثم قال: لو دخلت البيت فحدّثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد، كان أحسن، فلم يزل به حتّى دخل البيت فجعل يحدّثها نهاره كله. فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزيّنها له حتّى ضرب العابد بيده على فخذها وقبّلها. ثم لم يزل يحسنها في عينه ويسوّل له حتّى وقع عليها فأحبلها، فولدت غلاما. فجاء إبليس، فقال له: أرأيت إن جاء إخوتها، وقد ولدت منك كيف تصنع؟ فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها، فقتله. ثم جاءه، فقال: أتراها تكتم ما صنعت بها؟ خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها، فذبحها وألقاها في الحفرة. فمكث ما شاء الله حتّى قفل إخوتها من الغزو. فجاءوه فسألوه عن أختهم فنعاها لهم وترحّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امراة، وهذا قبرها. فأتى إخوتها القبر فبكوها وترحّموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. قال: فلما جنّهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في النوم فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم. فأخبره بقول العابد وبموتها. فكذّبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أختكم. إنه أحبلها وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فرقا منكم، وألقاهما في الحفرة خلف باب البيت. وأتى الأوسط في منامه، فقال له مثل ذلك؛ ثم أتى أصغرهم، فقال له مثل

ذلك. فلما استيقظ القوم، استيقظوا متعجبين لما رآه كلّ واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض يقول: لقد رأيت عجبا! وأخبر بعضهم بعضا بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم، ليس هذا بشىء، فامضوا بنا ودعوا هذا، فقال أصغرهم: لا أمضى حتّى آتى ذلك لمكان فأنظر فيه، فانطلقوا فبحثوا الموضع، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين. فسألوا عنها العابد، فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم فأنزل من صومعته وقدّموه ليصلبوه. فلما أوثقوه على الخشبة، أتاه الشيطان، فقال له: قد علمت أنى صاحبك الذى فتنتك في المرأة حتّى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتنى اليوم وكفرت بالله الذى خلقك، خلّصتك مما أنت فيه، فكفر العابد بالله. فلما كفر، خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه. قال وهب: ففيه نزلت هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) . نسأل الله العافية من فتنتهن، ونعوذ به من الشيطان الرجيم. وأما ما جاء في ذم الزنا. فكفى به ذمّا قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن» الحديث وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمّة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزنى» .

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتدّ غضب الله تعالى على الزّناة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء. فإذا زنى العبد، نزع منه سربال الإيمان. فاذا تاب ردّ عليه» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشّرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحلّ له» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والزّنا، فإنّ في الزنا ستّ خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة: فأما اللواتى فى الدنيا، فذهاب نور الوجه، وانقطاع الرّزق، وسرعة الفناء؛ وأما اللّواتى في الآخرة، فغضب الربّ، وسوء الحساب، والخلود في النار، إلا أن يشاء الله تعالى» . وعن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك!» قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك» . قلت: ثم أىّ؟ قال: «أن تزنى بحليلة جارك» . والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة. وأما ما جاء في النهى عن النظر إلى المردان ومجالستهم. روى عن أبى السائب انه قال: لأنا على القارئ من الغلام الأمرد أخوف منّى عليه من سبعين عذراء. وفي لفظ عنه: لأنا أخوف على عابد من غلام أمرد من سبعين عذراء.

وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا رأيتم الرجل يلحّ النظر إلى غلام أمرد، فاتّهموه. وكان سفيان الثورىّ رضى الله عنه لا يدع أمرد يجالسه. وعن يعقوب بن سوال قال: كنا عند أبى نصر بشر بن الحارث. فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت يا شيخ: أين مكان باب حرب؟ فقال لها: هذا الباب الذى يقال له باب حرب. ثم جاء بعدها غلام فسأله، فقال له يا شيخ: أين مكان باب حرب؟ فأطرق بشر. فردّ عليه الغلام السؤال فغمّض عينيه. فقلنا للغلام: أىّ شىء تريد فقال: باب حرب. فقلنا: بين يديك. فلما غاب، قلنا يا أبا نصر، جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها، وجاءك غلام فلم تكلمه؟ فقال: نعم، يروى عن سفيان الثورىّ أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسى من شيطانيه. وعن أبى سعيد الخراز، قال: رأيت إبليس في النوم، وهو يمرّ عنّى ناحية، فقلت: تعال، فقال: أىّ شىء أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس، قلت ما هو؟ قال: الدنيا، فلما ولّى. التفت إلىّ فقال: غير أن لى فيكم لطيفة، قلت: ما هى؟ قال: صحبة الأحداث. وعن مظفر القرميسينىّ، قال: من صحب الأحداث على شرط السلامة والنصيحة، أدّاه ذلك إلى البلاء؛ فكيف من صحبهم على غير وجه السّلامة؟ وقد ذكر أبو الفرج في كتابه المترجم «بذم الهوى» من افتتن بالأحداث، وصرح بأسمائهم. فلم نؤثر التعرّض لذلك، لما فيه من التشنيع عليهم والإذاعة لمساويهم.

وأما ما جاء في التحذير من اللواط وما ورد في سحاق النساء، روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون ملعون من عمل بعمل قوم لوط» . وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . وعن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخوف ما أخاف على أمّتى عمل قوم لوط» . وفي لفظ آخر عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمّتى من بعدى عمل قوم لوط، ألا فلتترقّب أمتى العذاب إذا كان الرجال بالرجال والنساء بالنساء» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يعل فحل فحلا حتّى كان قوم لوط، فإذا علا الفحل الفحل، ارتجّ أو اهتزّ عرش الرحمن عز وجل، فاطّلعت الملائكة تعظيما لفعلهما، فقالوا: يا ربّ، ألا تأمر الأرض أن تغور بهما، وتأمر السماء أن تحصبهما، فيقول الله تعالى: إنّى حليم لا يفوتنى شىء» . وعن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: إن الرجل ليأتى الرجل فتضجّ الأرض من تحتهما، والسماء من فوقهما، والبيت والسقف، كلهم يقولون: أى ربّ، ائذن لنا بنطبق بعضنا على بعض فنجعلهم نكالا ومعتبرا، فيقول الله عز وجل: إنهم وسعهم حلمى ولن يفوتونى.

وكان سفيان الثورىّ رحمه الله يقول: لو أنّ رجلا عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجليه يريد الشهوة، لكان لواطا. وروى عن مكحول عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سحاق النساء زنّى بينهن» . وأما ما ورد في عقوبة اللائط والملوط به في الدنيا والآخرة: أما عقوبة الدنيا، فقد جاء بها نصّ القرآن في قصة قوم لوط، وشرح أفعالهم، وما عذبوا به في آى كثيرة. وجاء في الأحاديث النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، فى عقوبة اللائط والملوط به ما يدل على التغليظ والتشديد. فمن ذلك ما روى عن عكرمة عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن عمل عمل قوم لوط: يقتل الفاعل والمفعول به، وفي لفظ آخر عن ابن عباس عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: اقتلوا الفاعل والمفعول به، فى عمل قوم لوط. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل بعمل قوم لوط فاقتلوه» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فارجموا الأعلى والأسفل» .

وعن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، أنه وجد رجلا في بعض الأضاحى ينكح رجلا كما تنكح المرأة. فجمع أبو بكر رضى الله عنه لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، فيهم علىّ بن أبى طالب، وقال: إن هذا ذنب لم تعمل به أمّة إلا أمّة واحدة. ففعل الله بهم ما قد علمتم. أرى أن نحرّقه بالنار، فاجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرّق بالنار. فأمر به أبو بكر رضى الله عنه أن يحرّق بالنار. وقد حرّقهم عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك. - وعن يزيد بن قيس أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه رجم لوطيّا. - وعن سعيد بن زيد قال: سئل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ما حدّ اللوطىّ؟ قال: ينظر أعلى بيت في القرية فيرمى منكّسا ثم يتبع بالحجارة. وللتابعين ولأئمة العلماء في ذلك أقوال: فمنهم من رأى أن حدّه كحدّ الزنا، وفرّق بين المحصن وغير المحصن. ومنهم من رأى أن حدّه القتل أحصنا، أو لم يحصنا. روى سفيان عن جابر عن الشعبىّ أنه قال: اللّوطىّ يرجم، أحصن أو لم يحصن. وعن ابن أبى نجيح عن عطاء قال: حدّ اللوطىّ حدّ الزانى؛ وإن أحصن رجم، وإلا جلد. وبه قال الهيثم. وعن قتادة عن الحسن أنه قال في الرجل يخالط الرجل: إن كان أحصن، جلد ورجم؛ وإن كان لم يحصن، جلد ونفى. وعن مالك بن أنس عن الزهرى قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن.

وعن الطيالسىّ قال: حدّثنا إسحاق الكوسخ، قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيرجم اللوطى، أحصن أو لم يحصن؟ قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن. وقد روى عن أحمد بن حنبل أن حدّ اللوطىّ كحدّ الزانى، يختلف بالثّيوبة والبكارة. وهو قول محمد عن الشافعىّ. وقال الحكم: يضرب اللوطىّ دون الحدّ. قال ابن الجوزىّ: وإلى هذا مال أبو حنيفة. وأما مذهب ابن حزم الظاهرىّ فإنه لا يضرب في اللّواط فوق عشرة أسواط. وقال النخعىّ: لو كان أحد ينبغى أن يرجم مرتين، لكان ينبغى أن يرجم اللوطىّ مرتين. وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ، قال: أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علىّ، قال: أخبرنا علىّ بن جعفر الصوفى، قال: سمعت الموازينى يقول: قال لى رجل من الحاج: مررت بدار قوم لوط، وأخذت حجرا مما رجموا به، فطرحته في مخلاة، ودخلت مصر. فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى. وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجى، ووضعته في روزنة في البيت. فدعا الحدث الذى كان في البيت صبيا إلى عنده واجتمع معه، فسقط الحجر على الحدث من الروزنة، فقتله. وقال أيضا: أخبرتنا شهدة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكىّ، قال: أخبرنى جدّى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقرى، قال: سمعت أبا عبد الله

محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجّا إلى مكة. فلما كانت ليلة عرفات، رأى الإمام الذى حجّ بنا تلك الليلة مناما. فلما صرنا إلى مكة بعد انقضاء الحج، سمعنا مناديا ينادى فوق الحجر: أنصتوا يا معشر الحجيج، فأنصت الخلق، فقال: يا معشر الحجيج، إن إمامكم رأى أن الله عز وجل قد غفر لكل من وافى البيت العام إلا رجلا واحدا فإنه فسق بغلام. وأما عقوبته في الآخرة، فقد روى عن أبى سلمة عن أبى هريرة وعبد الله ابن عباس رضى الله عنهم، قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فى خطبته: «من نكح امرأة في دبرها أو غلاما أو رجلا، حشر يوم القيامة أنتن من الجيفة، يتأذّى به الناس حتّى يدخله الله نار جهنم. ويحبط الله عمله، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا. ويجعل في تابوت من نار، ويسمّر عليه بمسامير من حديد من نار، فتشتبك تلك المسامير في وجهه وفي جسده» . قال أبو هريرة: وهذا لمن لم يتب. وعن انس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا يجمعهم مع العالمين، يدخلون النار أوّل الداخلين إلا أن يتوبوا؛ فمن تاب، تاب الله تعالى عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن خمر، والضارب أبويه حتّى يستغيثا، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» . وعن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّوطيّان لو اغتسلا بماء البحر، لم يجزهما إلا أن يتوبا» .

وعن أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أمّتى يعمل عمل قوم لوط، نقله الله إليهم حتّى يحشر معهم» . قلت: وقد بلغنى من كثير من الناس أن رجلين مشيا على جانب البركة المعروفة ببركة قوم لوط، وهى في غور الكرك على جانبها ضياع، منها الصافية واللاخية وسويمة وغيرها، وتعرف هذه البركة أيضا بالمنتنة، ويقال إنها إحدى المدائن التى خسف بها (من مدائن قوم لوط) . فجعلا يتباسطان. فكان من جملة ما قالاه أو قاله أحدهما للآخر فلم ينكره: هذه بركة أصحابنا، فطلعت من البركة موجة اختطفتهما معا، وألقتهما في البركة. فكان آخر العهد بهما. وهذه الحكاية يتداولها أهل تلك البلاد. لا ينكرها سامع منهم على قائل. ولا يبعد أن يعاقب من تجاهر بمعاصى الله وانتسب لمن كفر بالله وعصاه وكذّب رسوله أن يعاقبه الله بما عاقبهم به ويلحقه بهم. وفي بعض هذا عبرة لمن اعتبر. ولنرجع إلى سياق ما جاء في ذلك من الأحاديث والأخبار. روى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزىّ بسنده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قبّل غلاما بشهوة، عذّبه الله في النار ألف سنة؛ ومن جامعه لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام، إلا أن يتوب» . وعن خالد عن إسمعيل بن كثير عن مجاهد، قال: لو أن الذى يعمل ذلك العمل (يعنى عمل قوم لوط) اغتسل بكل قطرة في السماء وكلّ قطرة في الأرض، لم يزل نجسا.

ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب

وعن عبّاد بن الوليد العنبرىّ قال: سمعت إبراهيم بن شمّاس يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لو أنّ لوطيّا اغتسل بكل قطرة من السماء، لقى الله تعالى غير طاهر. وعن طلحة بن زيد عن برد بن سنان عن أبى المنيب عن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما، قال: يحشر اللوطيون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير. وعن أبى الصهباء عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم قال: من خرج من الدنيا على حال، خرج من قبره على تلك الحال، حتّى إن اللوطىّ يخرج يطلق ذكره على دبر صاحبه مفتضحين على رءوس الخلائق يوم القيامة. هذا ما أمكن إيراده في هذا الفصل على سبيل الاختصار والإيجاز، وإلا فالأخبار فى العشق وتوابعه وما يتولد عنه كثيرة جدّا، ووقفنا منها على كثير، ولا يحتمل أن يورد في الكتب الشاملة لفنون مختلفة أكثر مما أوردناه. فلنذكر الآن نبذة مما قيل في الغزل والنسيب. ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب هذا الباب- أكرمك الله وعافاك، ووقاك من فتنته وكفاك- باب متسع، قد أكثر الشعراء القول فيه، وتنوّعوا في أساليبه ومعانيه؛ لو استقصيناه لطال به هذا التصنيف، وانبسط هذا التأليف؛ وكان بمفرده كتبا مبسوطة وأسفارا كبيرة، فلخصنا منه دررا نفيسة وأعلاقا خطيرة؛ واقتصرنا منه على ما رقّ معناه وراق، وحسن لفظه وشاق؛ وارتاحت إليه النفوس، وتحلت به الطروس؛ ولمحته النواظر، وانجذبت إليه الخواطر. وقد تنوّع الشعراء في الغزل: فتغزّلوا في المحبوب باسمه،

وكنوا عنه واستعاروا له، ووصفوا أعضاءه وشبهوها بأشياء، فشبهوا العيون بالنّرجس، وأفعالها بالخمر والسّهام؛ وشبّهوا الحواجب بالقسىّ، والجبين بالصّباح، والشّعور بالليالى، والسّوالف بالغوالى والصوالج والعقارب؛ وشبهوا الوجه بالشمس والقمر؛ وشبهوا الخدود بالورد والتّفاح؛ وشبهوا الثّغور بالأقحوان، واللمى بالخمر، والريق بالشّهد، والشّفاه بالعقيق، والأسنان بالّلؤلؤ؛ وشبهوا النّهود بالرّمّان، والقوام بالغصون، والأرداف بالكثبان. وغير ذلك. وقد تقدّم إيراد ذلك كله مستوفى فى موضعه، وهو في الباب الذى قبل هذا الباب. وتغزلوا أيضا في أصناف الفواكه المأكولة والمشمومة؛ وتغزلوا في الرياض والأزهار. وسنورد إن شاء الله ذلك في موضعه، وهو في القسم الثانى والثالث والرابع من الفن الرابع من كتابنا هذا، فى السفر العاشر من هذه النسخة. فلنورد الآن هاهنا من باب الغزل والنسيب خلاف ما قدّمنا ذكره مما ذكرناه وما نذكره إن شاء الله تعالى. والذى نورده في هذا الباب نبذة مما قيل في المذكّر، والمؤنّث، والمطلق، والمشترك، وطيف الخيال، والردّ على العذول، ورجوع العذول، والوصال، والفراق، والبين، والتوديع، والصدّ، والهجران؛ وما قيل في الزيارة وتخفيفها، وموانعها، والمدامع، والرضا من المحبوب باليسير، والنّحول؛ وما قيل في المحبوب إذا اعتلّ؛ وما قيل على لسان الورقاء، والمراجعات، والمردوف، والجناس، والموشّحات.

فمما قيل في المذكر

فمما قيل في المذكر قال العماد الأصفهانى الكاتب: وأحور يسبى بطرف يكلّ ... وتخجل منه الظّبا والظّباء. بخدّيه من حسنه والشباب ... تجمّع ضدّان: نار وماء. وفي مقلتيه وقد صحّتا ... كما صحتا سقم وانتشاء. عففت وعفت الحيا في هوا ... هـ حتّى استوى صدّه واللّقاء. وكلّ حياء يذود العفا ... ف عن ودّه، فعليه العفاء! وقال آخر: وكأنّ بهجة وجهه في شعره ... قمر بدا في ليلة ليلاء. وكأنّ عقرب صدغه في خده ... وقفت مخافة ناره والماء. قمر رجوت من الزمان وصاله ... يوما، فأخلف بالصّدود رجائى! وقال عبد الجليل بن وهبون: وافت به غفلة الرّقيب ... والنجم قد مال للغروب، نشوان قد هزّت الحميّا ... منه قضيبا على كثيب! يعثر في ذيله فيحكى ... عثرة عينيه في القلوب! والله لو نالت الثّريّا ... ما نال من بهجة وطيب، دنا إليها الهلال حتّى ... قبّل في كفّها الخضيب! وقال ابن حجاج: ومذلّل! أما القضيب فقدّه ... شكلا وأمّا ردفه فكثيب! يمشى وقد فعل الصّبا بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن، وهو رطيب.

متلوّن يبدى ويخفى شخصه ... كالبدر يطلع تارة ويغيب. أرمى مقاتله فتخطئ أسهمى ... غرضى، ويرمى مهجتى فيصيب! نفسى فداؤك! إنّ نفسى لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب! مالى ومالك لا أراك تزورنى ... إلا ودونك كاشح ورقيب! وقال أبو نواس: شبيه بالقضيب وبالكثيب! ... غريب الحسن ذو دلّ غريب! بعيد. إن نظرت إليه يوما، ... رجعت وأنت ذو أجل قريب! ترى للصّمت والحركات فيه ... سواما لا يذاد عن القلوب. ويمتحن القلوب بمقلتيه، ... فينكشف البرىء من المريب! وقال الوأواء الدمشقىّ: بدر تقنّع بالظّلا ... م على قضيب في كثيب! تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذّنوب. فعلت به ريح الصّبا ... ما ليس تفعل بالقضيب. عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب. وتلطّمت وجناتنا ... بيد الدّموع من النّحيب! وقال الأمير تاج الملوك ابن أيوب: سلب الفؤاد فلا عدمت السالبا! ... ورنا، فكان اللحظ سهما صائبا! قمر مشارقه الجيوب، فلا ترى ... أبدا له إلا القلوب مغاربا! ملك الفؤاد بمقلتين وحاجب ... أمسى لحسن الصبر عنّى حاجبا. وحكى القضيب شمائلا عبثت به ... أيدى النّسيم شمائلا وجنائبا!

وقال أيضا: يا أيّها البدر الّذى ... مطلعه طوق القبا! يا جنّة القلب الّذى ... أضرم فيه لهبا! فدّيت هذا الوجه، ما ... أحسنه وأعجبا! لم تر عينى قبله ... صبحا تردّى غيهبا! وقال أبو نواس: يا بدعة في مثال ... يجوز حدّ الصّفات! فالوجه بدر تمام ... بعين ظبى فلاة! والقدّ قدّ غلام ... والغنج غنج فتاة! مذكّر حين يبدو، ... مؤنّث الخلوات! زها علىّ بصدغ ... مزرفن الحلقات. من فوق خدّ أسيل ... يضىء في الظّلمات! وقال كشاجم: معتدل من كلّ أعطافه! ... مستحسن الإقبال والملتفت! لو قيست الدّنيا ولذّاتها ... بساعة من وصله، ما وفت! سلّطت الألحاظ منه على ... قلبى؛ فلو أودت به ما اشتفت! واستعذبت روحى هواه فما ... تسلو ولا تصحو، ولو أتلفت! وقال فضل الرّقاشىّ: وشاطر فاتك الشّمائل قد ... خالط منه المجون تخنيثا. تراه طورا مذكّرا؛ فإذا ... عاقر راحا، رأيت تأنيثا.

ألثغ إن قلت يا فديتك: قل ... موسى، يقل من رطوبة: موثا. ما زال حتّى الصباح معتنقى ... مطارحى في الدّجى الأحاديثا. وقال كشاجم: بليت بوجدين [1] وجدى بظبى ... يصدّ، وما به إلا لجاج. وعذّبنى قضيب في كثيب ... تساوى فيه لين واندماج. أغار إذا دنت من فيه كاس ... على درّ يقبّله زجاج. وقال أيضا: يا لقومى! من لمكتئب ... دمعه في الخدّ منسفح؟ لامه العذّال في رشإ ... عذره من مثله يضح. وادّعوا نصحى! وأخون ما ... كان عذّالى إذا نصحوا! خوّفونى من فضيحته، ... ليته وافى وأفتضح! كيف يسلو القلب عن غصن، ... علّه من مائه المرح؟ ذهبىّ الحسن تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح! وكأنّ الشمس نيط لها ... قمر، يمناه والقدح. صدّ أن مازحته غضبا! ... ما على الأحباب إن مزحوا؟ وهو لا يدرى لنخوته ... أننا في النّوم نصطلح! ثمّ لا أنسى مقالته: ... أطفيلىّ ومقترح؟

_ [1] كذا في الأصول، وهو مخالف للوزن الشعرى، والذى في ديوان كشاجم المطبوع: بليت ولجّ بى وجد بظبى الابيات.

وقال تاج الملوك ابن أيوب: فديت وجه الحبيب بدرا! ... والبدر يفدى، وليس يفدى! سى فؤادى بليل شعر ... وصبح وجه وغصن قدّ. فى فمه عنبر مداف ... فى قهوة خولطت بشهد. كأنّما خدّه شقيق، ... نقّط من خاله بندّ. ظبى من التّرك ذو دلال ... يستحسن الجور والتعدّى. كأنّه غصن خيزران، ... إذا انثنى أو قضيب رند. يحلّ في الحبّ عقد صبرى ... إن شدّ في الخصر عقد بند! وقال أبو نواس: أيا من بحبّى علىّ اجترى؟ ... ومن بلسانى علىّ افترى؟ ومن بيدى غلّنى للهوى، ... فأصبحت للحبّ مستأسرا؟ أما والذى جعل المستهام ... صديق السّهاد عدوّ الكرى! لقد ذهبت مهجتى باطلا، ... لئن متّ منك على ما أرى! وقال آخر: ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر! ملأ القلوب بصورة ... تليت محاسنها سور! فإذا رنا وإذا شدا ... وإذا سقى وإذا سفر: فضح الغزالة والحم ... امة والمدامة والقمر! وقال آخر: إذا أكثر الواشون فينا مقالهم ... وليس لهم عندى وعندك من ثار ،

وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّت حماتى عند ذاك وأنصارى، لقيناهم من مقلتيك وأدمى ... وأنفاسنا بالسّيف والسّيل والنار. وقال آخر، من شعراء اليتيمة: وأغنّ أغيد حبّه ... مستأنس لى، وهو نافر! إن قلت: زرنى! قال: نم، ... فالطّيف ليس يزور ساهر! كيف السبيل إلى الرّقا ... د كما رسمت، وأنت هاجر؟ ويقول لى فيما يقو ... ل: نعم! وما للقول آخر! حتّى أشاور! قلت: ل ... كنّى هويت ولم أشاور! وقال تاج الملوك: يا قمرا أقبل يسعى على ... دعص من الأغصان مهزوز! وصلك، واويلى! على طيبه ... أصبح ذا منع وتعزيز. ما كان إلا بيضة الدّيك لى ... أو مطرة في شهر تمّوز. وقال أبو نواس: عذّبنى قلبى بمن قلبه ... للصّبّ مثل الحجر القاسى. أحور فتّان قطوف الخطا ... أغيد مثل الغصن ميّاس. أبيت ليلى ونهارى معا ... معلّقا منه بوسواس. إنّى وإن لم يك لى نائل ... منه لأرجوه على ياس. وقال سيف الدّين المشدّ: إلى قدّك اللّدن يعزى الهيف! ... فما هبّت الرّيح إلا انعطف! قوام أراد قضيب النّقا ... يحاكيه، لمّا انثنى، فانقصف!

فيا راميا قد رمانى هواه ... بنار الأسى في بحار الأسف! سهام جفونك قلبى غدا ... لها غرضا، وضلوعى هدف. وأوردتنى في الهوى موردا ... تجرّعت فيه مرير التّلف. وأعرضت عنّى، ولا ذنب لى! ... فكم ذا الدّلال! وكم ذا الصّلف! ومخطف خصر على ردفه، ... فكلّ فؤاد به مختطف! وقال أبو القاسم العطار: وبى غزال، إذا صادفت غرّته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا! كالبدر مكتملا، كالظّبى ملتفتا، ... كالروض مبتسما، كالغصن منعطفا! وقال تاج الملوك: يا قمرا في غصن من بانة، ... يميل عجبا في كثيب من نقا! أصبح قلب المستهام مغربا ... له، وأطواق القباء مشرقا! أغيد، لا يقصد إلّا تلقى! ... ولم يزل قلبى به معلّقا. ذكّرنى حسن ابتسام ثغره ال ... واضح لمع البرق إذ تألّقا. وطالما ذكّرنى رضابه ال ... بارد صرف الراح إذ تعتّقا. أغنّ، ما فوّق سهم لحظه ... إلا أصاب القلب لمّا فوّقا. حاجبه قوس ولحظ عينه ... سهم، فما يخطى إذا ما رشقا. وقال أبو نواس. جال ماء الشّباب في خدّيكا، ... وتلالا البهاء في عارضيكا. ورمى طرفك المكحّل بالسّح ... ر فؤادى فصار رهينا لديكا.

أنا مستهتر بحبّك صبّ ... لست أشكو هواك إلّا إليكا. يا بديع الجمال والحسن والدّ ... لّ، حياتى وميتتى في يديكا. بأبى أنت! لو بليت بوجدى ... لم يهن ما لقيت منك عليكا! أصبحت بالهوى سهام المنايا ... قاصدات إلىّ من عينيكا! وقال أيضا: يا من جداه قليل ... ومن بلاه طويل! ومن دعانى إليه ... طرف أحمّ كحيل، وواضح النبت يحكى ... مزاجه الزّنجبيل، ووجنة جائل ما ... ؤها وخدّ أسيل. وغصن بان تثنّى ... قدّا، وردف ثقيل، ويجمع الحسن فيه ... وجه وسيم جميل! فكلّ ناحية من ... قلبى إليه تميل! وقال الوأواء الدمشقى: رماه ريم فأصا ... ب القلب منه، إذ رمى. واحتجّ في قتلته ... بأنّه ما علما. يا معشر الناس! أما ... ينصفنى من ظلما؟ علّم سقم طرفه ... جسمى منه سقما. فسقم جسمى في الهوى ... من طرفه تعلّما. لو قيل لى: ما تشتهى؟ ... مخيّرا محكّما. لقلت أن ألثمه: ... نحرا ووجها وفما!

وقال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور: أحوى النواظر، ألعس الشّ ... فتين، عذب الرّيق، ألمى! لو زارنى طيف له ... عند الهجوع ولو ألمّا، لأفاد روحا أو لفرّ ... ج من هموم النفس همّا! وقال آخر: وأهيف، مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذرى فيه ذنب اللّوائم. بثغر كما يبدو لك الصّبح باسم، ... وشعر كما يبدو لك لليل فاحم. مليح الرضا والسّخط، تلقاه عاتبا ... بألفاظ مظلوم وألحاظ ظالم. ومما شجانى أنّنى يوم بينهم ... شكوت الذى ألقى إلى غير راحم. وحمّلت أثقال الجوى غير حامل ... وأودعت أسرار الهوى غير كاتم. وأبرح ما لا قيته أنّ متلفى ... بما حلّ بى في حبّه، غير عالم. ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهر ... لهان، ولكنّى سهرت لنائم. وقال أبو نواس: يا ريم هات الدّواة والقلما ... أكتب شوقى إلى الّذى ظلما! غضبان قد غرّنى رضاه ولو ... يسئل ممّا غضبت، ما علما. فليس ينفكّ منه عاشقه ... فى جمع عذر لغير ما اجترما. أظلّ يقظان في تذكّره ... حتّى إذا نمت، كان لى حلما. لو نظرت عينه إلى حجر، ... ولّد فيه فتورها سقما! وقال سيف الدين المشدّ: وبى رشيق القوام لدن ... لقدّه ينسب الرّدينى!

ما نظرته العيون إلّا ... فدته من نظرة وعين! قابل بالكأس وجنتيه، ... فخفّ نجم بنيّرين. وزيّنت كفّه الحميّا! ... ما أحسن التّبر في اللّجين! وقال كشاجم: بالله يا متفرّدا في حسنه ... ومقلّبا هاروت بين محاجره! ومحكّما أردافه في خصره، ... ومصافحا خلخاله بضفائره! لا تغضبنّ على فتى يرضى بما ... أوليته، ولو انتعلت بناظره. ويكاتم الأسرار حتّى إنه ... ليصونها عن أن تمرّ بخاطره. وقال أبو تمام الطائى: لها، وأعارنى ولها! ... وأبصر ذلّتى فزها! له وجه يعزّبه، ... ولى حرق أذلّ بها! دقيق محاسن، وصلت ... محاسن وجنتيه بها. ألاحظ حسن وجنته، ... فتجرحنى وأجرحها. وقال أيضا: نشرت فيك رسيسا كنت أطويه! ... وأظهرت لوعتى ما كنت أخفيه! إن كان وجهك لى تترى محاسنه، ... فإنّ فعلك لى تترى مساويه! مرتجّة في تهاديه أسافله، ... مهتزّة في تثنّيه أعاليه! تاهت على صور الأشياء صورته ... حتّى إذا كملت، تاهت على التّيه!

وقال المخزومىّ: أىّ محبّ فيك لم أحكه؟ ... وأىّ ليل فيك لم أبكه؟ إن كان لا يرضيك إلا دمى، ... فقد أذنّا لك في سفكه! وقال أبو نواس: يا قابرى بملاله ... ودامرى بمطاله! ويا مبدّل ليلى ... قصاره بطواله! أعوذ منك بوجه ... بدر الدّجى في مثاله! لكنّه منه أحلى ... لحسن موضع خاله. هلّا رحمت صريعا ... تحت الرّدى وطلاله؟ من لا يرى منه فوق ال ... فراش غير خياله. مثل الخلال نحيلا ... يخفى على عذّاله. فمن بغى لك سوءا، ... فكان في مثل حاله! وقال محمد بن عبد الله السلامىّ، شاعر اليتيمة: ومختصر الخصر، من بعده ... هربت فألقيت في صدّه! وقابلنى وجهه مقبلا ... بحدّ الحسام وإفرنده. فما زلت أعصر من خمره ... وأقطف من مجتنى ورده. وأظما فأرشف من ريقه! ... فيا حرّ صدرى من برده! وقال أبو هلال العسكرىّ: أقول لمّا لاح من خدره، ... واللّيل يرخى الفضل من ستره: أبدره أحسن من وجهه، ... أم وجهه أحسن من بدره؟

قد مالت الرّقّة في شطره، ... ومالت الغلظة في شطره. فأزره غصّت بأردافه، ... ووشحه جالت على خصره. أصبحت لا أدرى- وإن لم يكن ... فى الأرض شىء أنا لم أدره- أشعره أحسن من قدّه؟ ... أم قدّه أحسن من شعره؟ ودرّه يؤخذ من لفظه، ... أم لفظه يؤخذ من درّه؟ وثغره ينظم من عقده، ... أم عقده ينظم من ثغره؟ فمن عذير الصّبّ من صدّه؟ ... ومن مجير القلب من هجره؟ يا ليته يعرف حبّى له! ... عساه يجزينى على قدره! وقال تاج الملوك بن أيوب: يا هلالا لاح في غصن، ... تشرق الدّنيا بطلعته! وغزالا طالما خضع ... الأسد الضارى لهيبته! ما رنا إلّا وجرّد لى ... صارما من لحظ مقلته. صل عليلا، أنت أعلم من ... كلّ مخلوق بعلّته. قد أطالت مقلتاك بلا ... سبب تعذيب مهجته. كلّما لجّت عواذله ... أجّجت نيران لوعته. فاتّئد من طول عذلك لى، ... يا عذولى في محبّته! من بنى الأتراك معتدل، ... قد تمادى في قطيعته. ليس يشفى القلب من ظمإ ... غير رشفى راح ريقته! لا، ولا يطفى لظى كبدى ... غير تقبيلى لوجنته! ليت أن الدّهر مكّننى ... بيدى من حلّ تكّته!

وقال آخر: ومهفهف! عنّى يميل ولم يمل ... يوما إلىّ، فقلت من ألم الجوى: لم لا تميل إلىّ، يا غصن النّقا؟ ... فأجاب: كيف، وأنت من جهة الهوى؟ وقال ابن منير الطرابلسىّ: من ركّب البدر في صدر الرّدينىّ، ... وموّه السّحر في حدّ اليمانىّ؟ وأنزل النّيّر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسروانىّ؟ طرف زنا أم قراب سلّ صارمه؟ ... وأغيد ماس أم أعطاف خطّىّ؟ وبرق غادية أم برق مبتسم، ... يفترّ من خلل الصّدغ الدّجوجىّ؟ ويلاه، من فارسىّ النّحر مفترس ... بفاتر أسدىّ الفتك ريمىّ! يكنّ ناظره ما في كنانته! ... فليس ينفكّ من إقصاد مرمىّ! أذلّنى بعد عزّ؛ والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظّبى الكناسىّ. مامان مانىّ [1] ، لولا ليل عارضه ... ما شدّ خيل المنايا بالأمانىّ. تكنّف الحسن منه وجه مشتمل ... نفار أحور في تأنيث حورىّ. أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالى القضيب الخيزرانىّ؟ لو قيل للبدر: من في الأرض تحسده؟ ... إذا تجلّى، لقال ابن الفلانىّ! أربى علىّ بشتّى من محاسنه ... تألّفت بين مسموع ومرئىّ. إباء فارس مع لين الشّآم مع الظ ... رف العراقىّ في النّطق الحجازىّ. وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركىّ! أشبهته ببعادى، ثم كان له ... مزية الخلق والأخلاق والزّىّ. من أين لى لهب يجرى على ذهب ... فى صحن أبيض صافى الماء فضّىّ؟

_ [1] الإشارة إلى مانى القائل بالثنوية أى بالنور والظلام.

وروضة لم تحكها كفّ سارية ... ولا شكا خدّها من لثم وسمىّ؟ يحفّها سوسن غضّ يغازله ... بنرجس بنطاف السّحر مولىّ. من منقذى أو مجيرى من هوى رشإ ... أفتى وأفتك من عمرو بن معدىّ؟ لا يعشق الدّهر إلا ذكر معركة ... أو خوض مهلكة أو ضرب هندىّ. ولا يحدّث إلا عن ربابته ... من المهار العوالى والمهارىّ. والصّافنات ولبس الضافيات وشر ... ب الصافيات وإطراب الأغانىّ، أشهى إليه من الدّوح الظّليل على الرّ ... وح العليل وتغريد القمارىّ، شدّ الجياد لأيّام الجلاد وإر ... شاد الصّعاد إلى طعن الأناسىّ؟ وحثّ باز على نأى وحمل قطا ... مىّ تكدّر منه عيش كدرىّ؟ فى غلمة كغصون البان يحملها ... كثبان برد على غادات بردىّ؟ يمشون في الوشى أسرابا، فتحسبهم ... روض الرّبيع على بيض الأداحىّ. والساحر الساخر الغرّار بينهم ... كالشمس تكسف أنوار الدّرارىّ. مهفهف القدّ، سهل الخد، أغرب في ال ... جمال من لثغة في لفظ نجدىّ. يلهيه عن كتب تروى ونصرته ... لشافعىّ فقيه أو حنيفىّ. عوج القسىّ وقبّ الأعوجيّة والشّ ... هب الهماليج تربى في الأوارىّ. والشّعر في الشّعر الداجى على الغنج السّ ... اجى يليّن منه قلب حوشىّ. فلو بصرت به يصغى وأنشده، ... قلت النّواسىّ يشجو قلب عذرىّ. أو صائد الإنس قد ألقى حبائله ... ليلا فأوقع فيها صعيد وحشىّ. أغراه بى بعد ما جدّ النّفار به ... شدو القريض وألحان السّريجىّ. فصار أطوع لى منه لمقلته، ... وصرت أعرف فيه بالعزيزىّ.

ومما قيل في المؤنث، قال ابن الرومى: مخفّفة مثقّلة، تراها ... كأن لم يعد نصفيها غذاء! إذا الإغباب جدّد حسن شىء ... من الأشياء، جدّدها اللّقاء. لها ريق تشفّ له الثّنايا، ... ويروى عنه- لا منه- الظّماء. وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصّبح، بلّتها السّماء! تنفّس نشرها سحرا، فجاءت ... به سحريّة المسرى رخاء! وقال أبو نواس: ما هوى إلا له سبب ... يبتدى منه وينشعب. فتنت قلبى محجّبة، ... وجهها بالحسن منتقب. خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب. فاكتسب منه طرائفه ... واستزادت بعض ما تهب. صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللّعب! وقال أيضا: يا قمرا، أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب! يبكى فيذرى الدّرّ من نرجس، ... ويلطم الورد بعنّاب. أبرزه المأتم لى كارها، ... برغم دايات وحجّاب! لا تبك ميتا حلّ في رمسه، ... وابك قتيلا لك بالباب!

وقال سيف الدين المشد: وبمهجتى! من لو بدت ... للشمس من تحمت النّقاب، سترت محاسن وجهها ... خجلا، ولاذت بالسّحاب! وقال القاضى أبو على التّنوخى، شاعر اليتيمة: أقول لها والحىّ قد فطنوا بنا ... ومالى عن أيدى المنون براح: لما ساءنى أن وشّحتنى سيوفهم ... وإنّى لكم دون الوشاح وشاح. وقال عمارة اليمانى: طرقتها، والليل وحف الجناح، ... وما تلبّست بثوب الجناح. فى ليلة بات نجادى بها ... ذوائبا يخفقن فوق الوشاح. والحسن قد ألّف أشتاته ... غصن تثنّى فوق ردف رداح. نام رقيب الصّبح عن ليلتى، ... وبات لى كلّ مصون مباح! أجمع من خدّ ومن مبسم ... بحمرة الورد بياض الأقاح. حصلت من ريق ومن منطق ... على اقتراح ونمير قراح. ترنّحت من نشوات الصّبا ... فبتّ مسرورا بنشوان صاح. وفاح من نشر الصّبا عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصّباح! وقال أبو نواس: وذات خدّ مورّد ... قوهيّة المتجرّد. تأمّل العين منها ... محاسنا ليس تنفد. فالحسن في كل جزء ... منها معاد مردّد.

فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولّد. وكلّما عدت فيه ... يكون لى العود أحمد! وقال علىّ بن عبد الرحمن بن المنجم: شبّهتها بالبدر فاستضحكت ... وقابلت قولى بالنّكر. وسفّهت قولى وقالت: متى ... سمجت حتّى صرت كالبدر. البدر لا يرنو بعين كما ... أرنو، ولا يبسم عن ثغر. ولا يميط المرط عن ناهد، ... ولا يشدّ العقد في نحر. من قاس بالبدر صفاتى، فلا ... زال أسيرا في يدى هجرى! وقال العماد الأصفهانىّ: لثن الأهلّة بالمعاجر ... وكحلن بالسّقم المحاجر. ونظرن عن حدق حجر ... ن بها على آرام حاجر. شهرت لحاظ ظبائهنّ ... على القلوب ظبا بواتر. آرام خدر بالّلحا ... ظ تصيد آسادا خوادر. غيد لسفك دم المحب ... تظافرت منها الظّفائر. بيض التّرائب حمرها ... خضر اللّمى سود الغدائر. وقال كشاجم: جعلت إليك الهوى ... شفيعا فلم، تشفعى! وناديت مستعطفا ... رضاك فلم تسمعى. أتاركتى مدنفا ... أخا جسد موجع! ومغريتى والدّمو ... ع قد أحرقت مدمعى.

أحين سبيت الفؤا ... د بالنظر المطمع، جفوت وأقصيتنى؟ ... فهلّا، وقلبى معى؟ وقال ابن المعلم: صعدة القدّ وسيف الكحل ... حكما حكم الهوى في أجلى. يا لقومى! حملت ثقل دمى ... غادة يثقلها حمل الحلى! قدّها معتدل يظلمنى! ... حزنى من قدّها المعتدل! خصرها ينشط، لكن ردفها ... أبدا بقهره بالكسل. نظرة من مقلتى جارية ... وثنت عطف القضيب الثّمل. لست أدرى: قمر في كلّة ... ما أرى، أم دمية في هيكل؟ سألت جسمى عن ساكنه! ... ومن الجهل سؤال الطّلل! وقال سيف الدين المشدّ: وغادة، أعشق من أجلها ... بدر الدّجى والظّبى والخيزران. لأنّ ذا يشبهها بهجة، ... وذاك ألحاظا، وهذا بنان. وقال أبو نواس: يا منسى المأتم أشجانه ... لما أتاهم في المعزّينا! حلّت عجار الوشى عن صورة ... ألبسها الله التّحاسينا! استفتنتهنّ بتمثالها ... فهنّ للتّكليف يبكينا. حقّ لذاك الوجه أن يزدهى ... عن حزنه من كان محزونا. وقال أيضا: أيا ليت شعرى أمن صخرة ... فؤادك هذا الذى لا يلين!

تقول إذا ما اشتكيت الهوى، ... كما يشتكى الباس المستكين: أفى النّوم أبصرت ذا كلّه؟ ... فخيرا رأيت، وخيرا يكون! وقال المشوق الشامى: أترى بثار أو بدين ... علقت محاسنها بعينى؟ فى خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرّدينى. وبوجهها ماء الشّبا ... ب خليط نار الوجنتين. وقال السرىّ الرفّا، شاعر اليتيمة: قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها. ويهزّها سكران: سك ... ر شرابها وشبابها! تسعى بصهباوين من ... ألحاظها وشرابها. وكأنّ كأس مدامها ... لمّا ارتدت بحبابها: توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها. وقال ابن الرومىّ: من بنات الرّوم، لا يكذبنا ... لونها المشرق عن منصبها. قامة الغصن- إذا ما اعتدلت، ... قامة الغصن- إلى منكبها. شهد الشاهد من أحسنها، ... فحكى الغائب من أطيبها. تشفع الحسن بإحسان لها ... يجلب الأفراح من مجلبها. تشرع الألحاظ في وجنتها ... فتلاقى الرّىّ في مشربها. وجنة للغنج فيها عقرب، ... وبلاء الصبّ من عقربها.

ومما قيل في المطلق والمشترك

وإذا قامت إلى ملعبها ... كمهاة الرمل في ملعبها، سألت أردافها أعطافها: ... هل رأت أوطأ من مركبها؟ وقال أبو الحسين بن فارس: مرّت بنا هيفاء مقدودة ... تركيّة تنمى لتركي. ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحوىّ. ومما قيل في المطلق والمشترك ، قال الطغرائى: فيم التعجّب من قلبى وصبوته ... كأنّكم لم تروا من قبله عجبا! ذوقوا الهوى ثم لوموا ما بدا لكم؛ ... أولا، فخلّوا ملامى واربحوا التّعبا! وقال أيضا: وكنت أرانى مفلتا شرك الهوى، ... وقد صادنى سحر العيون النّوافث. وأسمعنى داعى الغرام نداءه، ... فقمت إليه مسرعا غير لابث. وأعطيت إخوان البطالة صفقتى، ... وبعت قديما من غرامى بحادث. فما صفقتى في البيع صفقة خاسر، ... ولا بيعتى للحبّ بيعة ناكث. فلا تعذلونى في غرامى بعد ما ... تولّى الصّبا، فالعذل أوّل باعث! ولا تبحثوا عن سرّ قلبى إنّه ... صفا، ليس يمضى فيه معول باحث. أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها، ... وقد كان بدء الحب مزحة عابث! وقال الأرّجانىّ: قفا معى في هذه المعاهد! ... لا بدّ للصّبّ من المساعد! لا تبحلا يا صاحبىّ واسمحا ... بوقفة على المعنّى الواجد.

فى منزل عهدت في عراصه، ... لو ردّ معهودا بكاء عاهد، كواعبا من الدّمى لواعبا ... مشبهة الثّغور لا القلائد. يمشين من فرط النّعيم والصّبا ... كالقضب الموائل الموائد. فيهنّ ظبى علق القلب به ... من الظّباء النّفر الشوارد. إذا تبدّى مرض بطرفه، ... لم يخل من أفئدة عوائد. رميته، فصادنى. فمن رأى ... صيدا يمرّ بفؤاد الصائد؟ قطعت من قلبى رجائى في الهوى! ... والقطع طبّ كلّ عضو فاسد! وقال أبو القاسم عبد الله الدينورىّ، شاعر اليتيمة: يا لعصر الخلاعة المودود ... ولظلّ الشّبيبة الممدود! وارتشافى الرّضاب من برد الثّغ ... ر ولثمى عليه ورد الخدود! وبكورى إلى مجالس علم ... ورواحى إلى كواعب غيد! فى قميص من السّرور مذال ... ورداء من الشّباب جديد! وقال تاج الملوك بن أيوب: ألّا رحمتم متيما دنفا ... ما زال من جوركم بكم عائذ! صبّا قضى الله أن يهيم بكم ... ولا مردّ لحكمه النافذ! يلوذ حبّا دون الأنام بكم ... وحسبه أنه بكم لائذ! وقال فخر الدين الوركانى، شاعر الخريدة: أأحبابنا أمّا حياتى بعدكم ... فموت، وأما مشربى فمنغّص وأسعد شىء فيّ قلبى لأنّه ... لديكم، وجسمى بالبعاد مخصّص!

وقال العماد الأصفهانى: بذلت لهم- أبغى رضاهم- مودّتى ... وقلبى وصبرى والرّقاد، فما رضوا. وهبنى عن كلّ تعوّضت بعدهم ... فقل لى: بماذا عنهم أتعوّض؟ وما كان ظنّى أنّ عيشى ينقضى ... ونجم الصّبا ينقضّ والعهد ينقض. وقال الطغرائى: إن الألى أرضاك قولهم ... بالأمس، تحت رضاهم سخط! لمّا صفا ذاك الجمال لهم، ... تاهوا على العشّاق واشتطّوا. همّوا ببين فاستطار له ... قلبى، فكيف يكون إن شطّوا؟ وقال الطغرائى أيضا: فى القلب من حرّ الفراق شواظ، ... والدمع قد شرقت به الألحاظ. ولقد حفظت عهودكم، وغدرتم. ... شتّان غدر في الهوى وحفاظ! لله أىّ مواقف رقّت لنا ... فيها الوسائل، والقلوب غلاظ! وقال أيضا: وسائل عن جوى قلبى، فقلت له: ... ما أنت عندى على سرّ بمتّهم! طاب الجوى في الهوى حتّى أنست به، ... فهو المرارة يحلو طعمها بفمى! وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: أتقتلنى ظلما وتجحدنى قتلى، ... وقد قام من عينيك لى شاهدا عدل! أطلّاب ذحلى، ليس لى غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلى! أغار على قلبى، فلما أتيته ... أطالبه فيه، أغار على عقلى! بنفسى التى ضنّت بردّ سلامها! ... ولو سألت قتلى، وهبت لها قتلى!

إذا جئتها صدّت حياء بوجهها، ... فتهجرنى هجرا ألذّ من الوصل. وإن حكمت جارت علىّ بحكمها؛ ... ولكنّ ذاك الجور أشهى من العدل. كتمت الهوى جهدى، فجوّده الأسى ... بماء البكا، هذا يخطّ وذا يملى! وأحببت فيها العذل حبّا لذكرها، ... فلا شىء أحلى في فؤادى من العذل! أقول لقلبى كلّما ضامه الأسى: ... إذا ما أبيت العزّ، فاصبر على الذّلّ! برأيك لا رأيى تعرّضت للهوى، ... وأمرك لا أمرى وفعلك لا فعلى. وجدت الهوى نصلا من الموت مغمدا ... فجرّدته ثم اتكأت على النصل! فإن كنت مقتولا على غير ريبة ... فأنت الذى عرّضت نفسك للقتل! وهذه الأبيات معارضة لصريع الغوانى في قوله: أديرا علىّ الكأس، لا تشربا قبلى ... ولا تطلبا من عند قاتلتى ذحلى! فما حزنى أنّى أموت صبابة؛ ... ولكن على من لا يحلّ لها قتلى! فديت التى صدّت وقالت لتربها: ... دعوه، الثّريّا منه أقرب من وصلى! وقال ابن عبد ربه: صحا القلب، إلا خطرة تبعث الأسى ... لها زفرة موصولة بحنين. بلى، ربّما حلت عرى عزماته ... سوالف آرام وأعين عين. لواحظ حبّات القلوب إذا رنت ... بسحر عيون وانكسار جفون. وريط من الموشىّ أينع تحته ... ثمار صدور، لا ثمار غصون. برود كأنوار الربيع لبسنها ... ثياب تصاب لا ثياب مجون. فرين أديم الليل عن نور أوجه ... تجنّ بها الألباب كلّ جنون. وجوه جرى فيها النعيم فكلّلت ... بورد خدود يجتنى بعيون.

سألبس للأيّام درعا من العزا، ... وإن لم يكن عند اللّقا بحصين. وكيف، ولى قلب إذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟ وقال آخر: هزّوا القدود وجرّدوا الأجفانا! ... فاطلب لنفسك، إن قدرت أمانا. والق السّلاح إذا انثنوا وإذا رنوا؛ ... وكن الجبان وإن ملكت جنانا. واحذر ضراما بالعيون، وسل به ... مثلى، وجانب بالقدود طعانا. فلقد رأيت الأسد وهى كواسر ... تخشى بمعترك الهوى الغزلانا. لا تعبثنّ بذابل وبباتر! ... وخف المهفهف واحذر الوسنانا! لولا تشابه مقلة أو قامة، ... ما خفت يوما صعدة وسنانا. وأنا الّذى حضر الوقائع في الهوى ... وأقام في أسر الغرام زمانا. ولكم رأيت به الشّدائد مرّة! ... ولكم رأيت به الممات عيانا! وثبتّ بين معاطف ولواحظ ... فى موقف يذر الشّجاع جبانا! مستسلما للعشق: لا مستصرخا ... صبرا، ولا مستنجدا سلوانا. أرجو الشهادة إن قتلت به، وما ... ولّيت فيه ولا ثنيت عنانا. يا ويح قلب ما خلا من شغله ... بصبابة ومحبّة مذكانا! لو فتّشوه لما لقوا لسوى الهوى ... فيه ولا غير الغرام مكانا. وقال التلعفرىّ: هذا العذول عليكم، مالى وله؟ ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله! شرط المحبة أنّ كلّ متيّم ... صبّ يطيع هواه، يعصى عذّله. وأخذتمونى حين سار بحبّكم ... مثلى، ومثلى سرّه لن يبذله!

ما أعربت والله عن وجدى بكم ... وصبابتى إلّا دموعى المهمله. جزتم مداكم في قطيعتكم، فلا ... عطف لعائدكم يرام، ولا صله. أألومكم في هجركم وصدودكم، ... ما هذه في الحبّ منكم أوّله! قسما بكم، قد حرت مما أشتكى! ... حسبى الدّجى، فعدمته ما أطوله! ليلى كيوم الحشر معنى إن يكن ... لا ليل ذاك له، فذا لا صبح له. يا سائلى من بعدهم عن حالتى! ... ترك الجواب جواب هذى المسأله! حالى إذا حدّثت لا لمعا ولا ... جملا لإيضاحى لها من تكمله [1] . عندى جوى يذر الفصيح مبلّدا: ... فاترك مفصّله! ودونك مجمله [2] ! القلب ليس من الصّحاح فيرتجى ... إصلاحه، والعين سحب مثقله [3] . يا نازحين، وفي أكلّة عيسهم ... رشأ عليه حشا المحبّ مقلقله! قمر له في الطّرف بل في القلب بل ... فى النّثرة الحصداء أشرف منزله [4] . الصّدغ منه عقرب، ولحاظه ... أسد، وخلف الظّهر منه سنبله [5] . ما أجور الألحاظ منه إذا رنا! ... وإذا انثنى، فقوامه ما أعدله! لو لم يصب صدغيه عارض خدّه، ... ما أصبحت في عارضيه مسلسله. لله منه مهفهف أجنيته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله! لو كنت فيه قبلت نصح عواذلى، ... ما أدبرت أيام حظّى المقبله!

_ [1] إشارة إلى الكتب الشهيرة: اللمع، الجمل، الإيضاح، التكملة. وكلها في علم العربية. [2] يشير إلى «الفصيح» لثعلب، و «المفصل» للزمخشرىّ، و «المجمل» لابن فارس. وكلها كتب في اللغة. [3] الاشارة إلى «للصحاح» للجوهرى، و «العين» للخليل بن أحمد. وهما من كتب اللغة. [4] يشير إلى بعض منازل القمر، وهى: الطرفة، والقلب، والنثرة. [5] يشير إلى بعض البروج، وهى: العقرب، والأسد، والسنبلة.

ومما قيل في طيف الخيال

وقال الطغرائىّ: رويدكم! لا تسبقوا بقطيعتى ... صروف الليالى، إنّ في الدّهر كافيا. ويا قلب، عاود ما ألفت من الجوى! ... معاذ الهوى أن تصبح اليوم ساليا! ويا كبدى، ذوبى! ويا مقلتى، اسهرى! ... ويا نفس لا تبقى من الوجد باقيا! فلا تطمعوا في برء مابى، فإنّه ... هو الداء قد أعيا الطبيب المداويا! ومما قيل في طيف الخيال ، قال قيس بن الخطيم: إنى شربت، وكنت غير شروب! ... وتقرّب الأحلام غير قريب. ما تمنعى يقظى، فقد تؤتينه ... فى النوم غير مكدّر محسوب. كان المنى تلقاءها، فلقيتها ... ولهوت من لهو امرئ مكذوب! وقال عمرو بن قميئة: نأتك أمامة، إلا سؤالا ... وإلّا خيالا يوافى خيالا. خيالا يخيّل لى نيلها، ... ولو قدرت لم يخيّل نوالا! قال أبو هلال العسكرى: ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم فى الخيال. وقال البعيث: أزارتك ليلى، والرّكاب خواضع؟ ... وقد بهر الليل النجوم الطّوالع! وأعطتك غايات المنى غير أنّها ... كواذب ان حصّلتها وخوادع.

وقال أبو تمام: استزارته فكرتى في المنام، ... فأتاها في خفية واكتتام. يا لها ليلة تزاورت الأر ... واح فيها سرّا عن الأجسام! مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنّا في دعوة الأحلام! وقال الحمدونىّ: لم أنله، فنلته بالأمانى ... فى منامى سرّا من الهجران! واصل الحلم بيننا بعد هجر، ... فاجتمعنا ونحن مفترقان. وكأنّ الأرواح خافت رقيبا، ... فطوت سرّها عن الأبدان. منظر كان نزهة العين إلّا ... أنه منظر بغير عيان. وقال ابن الرومىّ: طرقتنا، فأنالت نائلا ... شكره- لو كان في النّبه- الجحود. ثم قالت، وأحسّت عجبى ... من سراها حيث لا تسرى الأسود. لا تعجّب من سرانا، فالسّرى ... عادة الأقمار والناس هجود. أخذ العسكرىّ المعنى، فقال: رقبت غفلة الرّقيب، فزارت ... تحت ليل مطرّز بنهار. فتعجّبت من سراها، فقالت: ... غير مستطرف سرى الأقمار! ثم مالت بكأسها فسقتنى ... جلّناريّة على جلّ نارى! وقال آخر: فيا ليت طيفا، خيّلته لى المنى، ... وإن زادنى شوقا إليك، يعود! أكلّف نفسى عنك صبرا وسلوة، ... وتكليف ما لا يستطاع شديد!

وقال العسكرىّ: طرق الخيال، فزار منه خيالا. ... فسرى يغازل في الرّقاد غزالا. يا كشفة للكرب، إلّا أنّه ... ولّى على دبر الظّلام فزالا. قعد المتيّم، وهو أكثر صبوة ... وأشدّ بلبالا وأكسف بالا! وقال العماد الأصفهانىّ: ظبى طربت لطيفه المتأوّب ... طرب العليل لرؤية المتطبّب. لم أدر زورته، أكانت خطفة ... من بارق أم لمعة من كوكب. زار الكرى متهيّبا رقباءه، ... أهلا به من زائر متهيّب! لمّا رأى وجدى، تأوّه رحمة. ... لله من متأوّه متأوّب! وأتى ليقرب من وساد متيّم؛ ... لمّا أحسّ بناره، لم يقرب. وقال محمد بن بختيار: لو أنّ طيف الخيال يسرى، ... بلّ سراه غليل صدرى. ولو أراد الحبيب أن لا ... يضيمنى، ما استطاب هجرى. يلومنى في هواه من لا ... يعلم أنّ الملام يغرى. كم ليلة زار في دجاها، ... فكان تحت الظلام بدرى. يتحفنى باحمرار خدّ ... مورّد وابيضاض ثغر. يجمع لى بين سكر لحظ ... وسكر ريق وسكر خمر، ودرّ لفظ ودرّ ثغر ... ودرّ كأس ودرّ نحر.

وقال آخر: قلت للمعرض الّذى صدّ عنّى: ... إنّ طيف الخيال لى عنك يغنى. قال: لا تحمد الخيال فما زا ... رك إلّا عن اختيارى وإذنى. كدت تقضى أسى، فقلت لطيفى: ... أحى لى روحه بزور التّمنّى! ليس شحّا بأن تموت؛ ولكن ... خفت أن تستريح بالموت منّى! وقال آخر: فإن يحجبوها بالنهار، فما لهم ... بأن يحجبوا بالليل عنّى خيالها! وقال المجنون: وإنّى لأستغشى، وما بى نعسة؛ ... لعلّ لقاها في المنام يكون! تخبّرنى الأحلام أنّى أراكم، ... ألا ليت أحلام المنام يقين! وقال المؤمل: أتانى الكرى ليلا بشخص أحبّه؛ ... أضاءت له الآفاق، والليل مظلم. فكلّمنى في النّوم غير مغاضب، ... وعهدى به يقظان لا يتكلّم! وذكر العباس بن الأحنف العلة في طروق الخيال، فقال: خيالك حين أرقد نصب عينى ... إلى وقت انتباهى لا يزول. وليس يزورنى صلة، ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول. وتبعه الطائىّ فقال: زار الخيال لها، لا بل أزاركه ... فكر، إذا نام فكر الحلو لم ينم. ظبى تقنّصته لمّا نصبت له ... فى آخر الليل أشراكا من الحلم.

ومما قيل في الردّ على العذول، قال أبو نواس: ما حطّك الواشون من رتبة ... عندى، ولا ضرّك مغتاب. كأنّما أثنوا- ولم يشعروا- ... عليك عندى بالذى عابوا. وقال تاج الملوك: مه يا عذول عن المحبّ، فإنّما ... عذل المحبّ يزيد في بلباله! لا تعذلنّ على الصّبابة مغرما ... حتّى تبيت من الزّمان بحاله! وقال أيضا من قصيدة: ولقد قلت للذى لا منى في ... ك، وما زال حاله مثل حالى: يا عذولى في حبّه، كفّ عذلى. ... أنا ما للعذول فيه وما لى! كلما زدت في ملامى وعذلى، ... زدت في لوعتي وفي بلبالى! وقال الأرّجانى: وجدى بلومك، يا عذول يزيد! ... فاستبق سهمك، فالرمىّ بعيد! بلغ الهوى من سرّ قلبى موقعا: ... لا العذل يبلغه ولا التفنيد! وتنمّ بالشّجو المكتّم عبرتى، ... ومن الدّموع على الغرام شهود! وقال سيف الدين المشدّ: يا عاذلى، خلّ عنّى! ... أسمعت غير سميع! لا ترج منّى سلوّا! ... فما فؤادى مطيعى! وكيف أكتم ما بى ... من لوعة وولوع، والذّاريات جفونى، ... والمرسلات دموعى [1] !

_ [1] إشارة إلى اسم السورتين الكريمتين: الذاريات والمرسلات.

وقال ابن الخيمى: وتأمرنى العذّال بالصبر عنكم، ... ومن ذا الذى يرضى عن الحلو بالصّبر؟ ومن أعجب الأشياء أنّ عواذلى ... يطيلون لومى في الهوى، والهوى عذرى! ومما قيل في رجوع العذول، قال ابن وكيع: أقبل والعذّال يلحوننى، ... فكلّهم قال: من البدر؟ فقلت: ذا من طال في حبّه ... منكم لى التعنيف والزّجر! قالوا: جهلنا، فاغتفر جهلنا ... فليس عن ذا لامرئ صبر! عذرك في الحبّ له واضح، ... وما لنا في لومنا عذر! وقال أيضا: أبصره عاذلى عليه، ... ولم يكن قبل ذا رآه. فقال لى: لو عشقت هذا، ... ما لامك الناس في هواه! قل لى: إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه؟ وظلّ من حيث ليس يدرى، ... يأمر بالحبّ من نهاه! ومما قيل في الوصال، قال ابن الرومىّ: ولقد يؤلّفنا اللّقاء بليلة ... جعلت لنا حتّى الصباح نظاما. نجزى العيون جزاءهنّ عن البكا ... وعن السّهاد ولا نصيب أثاما. فنبيحهنّ مرادهنّ، يردنه ... فيما ادّعين، ملاحة ووساما.

ونكافئ الآذان، وهى حقيقة ... إذ لا تزال تكابد اللّوّاما. فنثيبهنّ من الحديث مثوبة ... تشفى الغليل وتكشف الأسقاما. ونكافئ الأفواه عن كتمانها، ... إذ لا يزال لها الصّمات لجاما. فنبيحهنّ ملاثما ومراشفا، ... ما ضرّها أن لا تكون مداما! نجزى الثلاثة أنصباء ثلاثة ... مقسومة آناؤها أقساما. ومما قيل في الفراق والبين، قال بعض الكتّاب: فى الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملال، وعمارة القلب بالشوق، والدلالة على فضل المواصلة واللقاء. قال شاعر: جزى الله يوم البين خيرا، فإنّه ... أزانا على علّاته أمّ ثابت! وقال ابن الرومىّ: فإذا كان في الفراق اعتناق، ... جعل الله كلّ يوم فراقا! وقال أبو حفص الشطرنجىّ: من يكن يكره الفراق، فإنّى ... أشتهيه لموضع التّسليم! إنّ فيه اعتناقة لفراق ... وانتظار اعتناقة لقدوم. وقال سيف الدولة بن حمدان: راقبتنى العيون فيك، فأشفق ... ت؛ ولم أخل قطّ من إشفاق. ورأيت العدوّ يحسدنى في ... ك مجدّا بأنفس الأعلاق.

فتمنّيت أن تكون بعيدا، ... والذى بيننا من الودّ باق! ربّ هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق! وأرى هذا كلّه على سبيل التعلل ليس إلا، وإنما الفراق لا شكّ في إيلامه للقلوب. قال بعض الشعراء: فلم لا تسبل العبرات منّى، ... ولست على اليقين من التّلاقى؟ فلا وأبيك، ما أبصرت شيئا ... أمرّ على النّفوس من الفراق! وقال آخر: يا ربّ، باعد بين جفنى والكرى ... مادام من أهواه في هجرانى! إنّى لأخشى أن أنام فألتقى ... بخياله، خوف الفراق الثانى! وقال آخر: فارقته وبودّى لو تفارقنى ... روح الحياة، وأنّى لا أفارقه! وقال أبو تمام: الموت عندى والفرا ... ق: كلاهما ما لا يطاق! يتعاونان على النفو ... س: فذا الحمام وذا السّياق! لو لم يكن هذا كذا، ... ما قيل: موت أو فراق! وقال غريب بن سعيد شاعر «اليتيمة» : ألان يوم الفراق قسوته ... حتّى جرى دمعه وما شعرا. فخلت ما سال من مدامعه ... درّا على وجنتيه منتثرا. لم يبك شوقا، لكن بكى جزعا ... لهول يوم الفراق إذ حضرا.

فى مشهد لو أطاق شاهده ... فيه استتارا لوجهه، سترا. أبى أساه وفيض أدمعه ... إلا اشتهارا في الحبّ، فاشتهرا. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: هيّج البين دواعى سقمى، ... وكسا جسمى ثوب الألم! أيّها البين، أقلنى مرّة ... فإذا عدت، فقد حلّ دمى. يا خلىّ الرّوع، نم في غبطة! ... إنّ من فارقته لم ينم. ولقد هاج لقلبى سقما ... ذكر من لو شاء، داوى سقمى. وقال آخر: بكت وبكيت لوشك الفراق؛ ... فقف، تر من مد معينا العجب! فذا فضّة في عقيق جرى، ... وهذا عقيق جرى في ذهب! وقال آخر: قلت له والرّقيب يزعجه ... مستعجلا للفراق: أين أنا؟ فمدّ كفّا إلى ترائبه ... وقال: كن آمنا، فأنت هنا! وقال آخر: قد قلت إذ سار السّفين به، ... والشّوق ينهب مهجتى نهبا: لو كان لى ملك أصول به، ... «لأخذت كلّ سفينة غصبا» وقال كشاجم: مزجت دموع العين م ... نّى يوم بانوا بالدّما. فكأنّما مزجت بخدّ ... ى مقلتى خمرا بما!

وقال آخر: لم أنس يوم الفراق موقفها، ... وطرفها في دموعها غرق. وقولها، والرّكاب سائرة: ... تتركنا هكذا، وتنطلق؟ ومنه ما قيل في مفارقة الأصحاب: لمّا رأيت مصاحبى ومعاشرى ... لجديد ودّى بالقطيعة مزّقا، فارقته وسللت من يده يدى، ... وقرأت لى وله: «وإن يتفرّقا» . وقال آخر: قالوا: قطعت صديقك البرّ الذى ... منه استفدت مكارم الأخلاق. فأجبتهم: بعض المفاصل ربّما ... فسدت، فتقطع في صلاح الباقى! وقال آخر: ولقد شكرت مفارقى ... إذ ساء في أخلاقه. لو كان أحسن عشرتى، ... لهلكت يوم فراقه. ومثله قول الآخر: علّمتنى بهجرها الصّبر عنها، ... فهى مشكورة على التّقبيح! وأرادت بذا قبيح فعال ... صنعته، فكان عين المليح! ومما قيل في التوديع، قال البحترىّ: أقول له عند توديعه، ... وكلّ بعبرته مبلس: لئن قعدت عنك أجسامنا، ... لقد سافرت معك الأنفس!

وقال أبو الطيب المتنبى: يا راحلا، كلّ من يودّعه ... مودّع دينه ودنياه. إن كان فيما نراه من كرم ... فيك مزيد، فزادك الله! وقال البحترىّ: ألم ترنى يوم فارقته ... اودّعه، والهوى يستزيد أولّى إذا أنا ودّعته، ... فيغلبنى الشوق حتّى أعود. وقال أبو تمام: نأى وشيك وانطلاق، ... وغليل شوق واحتراق. بأبى فتى ودّعته ... تاهت بصحبته الرّفاق! بدر يضىء لعاشقي ... هـ فما يطيف به المحاق! وقال ابن زيدون: ودّع الصبر محبّ ودّعك، ... حافظ من سرّه ما استودعك! يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا، إذ شيّعك! يا أخا البدر سناء وسنا، ... حفظ الله زمانا أطلعك! إن يطل بعدك ليلى، فلكم ... بتّ أشكو قصر الليل معك! وقال أبو عبد الرحمن شاعر «اليتيمة» : إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يهولنّك البعاد! وانتظر العود عن قريب، ... فانّ قلب الوداع عادوا.

وقال آخر: ودّعته حيث لا تودّعه ... روحى، ولكنّها تسير معه ثم تولّى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي الدموع سعه وقال الإمام الصولى: لو كنت يوم الوداع حاضرنا ... وهنّ يشكون علّة الوجد، لم تر إلا الدّموع جارية ... تسقط من مقلة على خدّ. كأنّ تلك الدّموع قطر ندى، ... يقطر من نرجس على ورد! وقال أبو منصور أحمد بن محمد اللخمىّ: وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودّعهم وجدا وإشفاقا. إنّى خشيت على الأظعان من نفسى ... ومن دموعى: إحراقا وإغراقا. وقال ابن نباتة: ولمّا استقلّت للّرواح حمولهم ... ولم يبق إلا شامت وغيور، وقفنا: فمن باك يكفكف دمعه، ... وملتزم قلبا يكاد يطير! وقال آخر: ولمّا وقفنا للوداع، وقلبها ... وقلبى يبثّان الصّبابة والوجدا، بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعى ... عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا. وقال آخر: ودّعتها ولهيب الشّوق في كبدى ... والبين يبعد بين الرّوح والجسد، وداع صبّين لم يمكن وداعهما ... إلا بلحظة عين أو بنان يد.

وحاذرت أعين الواشين فانصرفت ... تعضّ من خوفها العنّاب بالبرد. وكان أوّل عهد العين يوم نأت ... بالدّمع آخر عهد القلب بالجلد. وقال الهيثم الكلاعىّ، من شعراء «اليتيمة» : ولم أنسها يوم الوداع، ومسحها ... بوادر دمع العين. والعين تذرف. أفانين تجرى من دموع ومن دم ... على الخدّ منها تستهلّ وترعف. وتكرارنا نجوى الهوى ذات بيننا، ... وكلّ إلى كلّ يلين ويعطف. جعلنا هناك الهجر منّا بجانب، ... وللبين داع بالتّرحّل يهتف. ولولا النوى، لم نشك ضعفا عن الأسى! ... ومن يحمل الأشجان بالبين يضعف! فقلت: كلانا مثقل من صبابة؛ ... ولكنّنى عن حملها منك أضعف. وقال الظاهر البصرىّ: نفسى الفداء لمن جاءت تودّعنى ... يوم الفراق بقلب خائف وجل! قد كنت فارقت روحى يوم فرقتها؛ ... لكن حييت بطيب الضّمّ والقبل! وقال يزيد بن معاوية: جاءت بوجه كأنّ البدر برقعه ... حسنا على مثل غصن البانة الثّمل. إحدى يديها تعاطينى معتّقة ... كخدّها عصفرته حمرة الخجل. ثمّ استبدّت وقالت وهى عالمة، ... بما تقول وشمس الكأس لم تفل: لا ترحلنّ، فما أبقيت لى جلدا ... مما أطيق به توديع مرتحل! ولا من الصبر ما ألقى الفراق به ... ولا من الدّمع ما أبكى على طلل! ومن الناس من كره الوداع. وفي ذلك يقول البحترىّ: الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك!

لا تعذلنّى في مسي ... رى يوم سرت ولم ألاقك! إنّى خشيت مواقفا ... للبين تسفح غرب ماقك! وعلمت أنّ بكاءنا ... حسب اشتياقى واشتياقك! وذكرت ما يجد المودّ ... ع عند ضمّك واعتناقك، فتركت ذاك تعمّدا ... وخرجت أهرب من فراقك! وقال آخر: الله يعلم ما تركت وداعه، ... ولقد جزعت لبعده وفراقه، إلا مخافة أن يذيب فؤاده ... ما في فؤادى منه عند عناقه! وقال آخر: إنّ تركى فضيلة التشييع ... لاجتنابى مشقّة التّوديع. ما يفى أنس ذا بوحشة هذا، ... فرأيت الصّواب ترك الجميع! وقال آخر: ما تركت الوداع يوم افترقنا ... عن ملال ولا لوجه قبيح. أنت روحى على الحقيقة ما زل ... ت، وما اخترت أن أودّع روحى! ومما قيل في الصدّ والهجران، قال أبو عبادة البحترىّ: هجر الحبيب، فمتّ من شغف ... لمّا حرمت عزيمة الصّبر! فإذا قضيت، فناد: يا حزنى، ... هذا قتيل الصّدّ والهجر! والبدر في حلّ وفي سعة ... من سفكه دم عبده الحرّ!

وقال ابن ميّادة: كانوا بعيدا، فكنت آملهم ... حتّى إذا ما تقاربوا، هجروا. فالبعد منهم على رجائهم ... أنفع من قربهم إذا هجروا! وقال أبو الحسن أحمد بن عمر النهروانىّ: على قلبى الاحبّة بالت ... مادى في الهوى غلبوا. وبالهجران من عين ... ىّ طيب النوم قد سلبوا. وما طلبوا سوى قتلى، ... فهان علىّ ما طلبوا! ولما سمع الشيخ العالم صدر الدين محمد بن الوكيل هذه الأبيات، عارضها، وأنشدنى لنفسه في صفر الأغر الميمون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. لئن غلبوا على عقلى، ... لقد سلبوا لمن غلبوا! وإن أبكى تبسّمهم، ... فخلّب برقهم خلبوا! وإن ترج العيون، فقد ... إليها السّهد قد جلبوا! وإن عطفوا برقّتهم، ... فدرّ مدامعى حلبوا. ومما قيل في الزيارة، قال الوزير ابو عبد الله بن الحدّاد: إذا جاءنى زائرا حسنه ... أقام عليه رقيبا عتيدا. إذا ما بدا، سربلته العيون ... وخرّت وجوه إليه سجودا. هو البدر والغصن: خدّا وقدّا، ... كما أنه الظّبى: لحظا وجيدا. أتى زائرا وفؤادى خلىّ، ... فمرّ به مستهاما عميدا. وغادرنى بعده في غرام ... تضرّم بين ضلوعى وقودا!

وقال نصير الخبز أرزّى، شاعر «اليتيمة» عفا الله عنه: خليلىّ! هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشّى إلى عبد! أتى زائرا من غير وعد وقال لى: ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعد! وقال الوأواء الدمشقى: زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب! حتّى أتت ألسن الليالى ... معتذرات من الذّنوب. فيالها زورة أخذنا ... بها أمانا من الخطوب! وقال أبو عبد الله الحدّاد: يا زائرا، ملأ النّواظر نورا ... والنّفس لهوا والفؤاد سرورا! لو أستطيع، فرشت كلّ مسالكى ... حدقا وبيض سوالف ونحورا. وقال آخر: أهلا وسهلا بطارق طرقا، ... أحببت فيه السهاد والارقا! زار على غفلة الرقيب ويم ... ناه تدارى وشاحه القلقا. فبتّ منه معانقا صنما ... ينفح مسكا وعنبرا عبقا. لو شئت، أنشأت من ذوائبه ... ليلا، ومن نور وجهه فلقا! وقال أبو عبد الله الحامدىّ من شعراء «اليتيمة» : مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا! ... أهلا بمن لم يخن في العهد ميثاقا! أهلا بمن ساق لى طيف الأحبّة في ... ليل الدّجنّة، بل أهلا بما ساقا! يا زائرا زار من قرب على بعد، ... آنست مستوحشا! لا ذقت ماذاقا!

الله يعلم لو أنى استطعت، لقد ... فرشت ممشاك آماقا وأحداقا! يا ليل، عرّج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا! وقال مؤيد الدين الطغرائىّ: وزائرة وافت، فأجللت خدّها ... وقبّلت إكراما لموردها الأرضا! فيازورة جاءت على غير موعد، ... فقرّت عيون واشتفت أنفس مرضى! فلم أر إلّا ما ألذّ وأشتهى، ... ولم أر إلّا ما أودّ وما أرضى! على أنّها ولّت ولم أقض سنّة ... - من الوطر الممطول دهرا- ولا فرضا! وما سوّغتنا ليلة الوصل قرضها ... إلى أن بدا الإصباح يسترجع القرضا. وقال ابن سكّرة، من شعراء «اليتيمة» : أهلا وسهلا بمن زارت بلا عدة ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس! تستّرت بالدّجى عمدا، فما استترت ... وبات إشراقها ليلا على قبس! ولو طواها الدّجى عنّا، لأظهرها ... برق اللّثات وعطر النّحر والنّفس! ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها، قال شاعر الحماسة: ولمّا رأيت الكاشحين تتّبعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظرا شزرا، جعلت- وما بى من جفاء ولا قلى- ... أزوركم يوما وأهجركم شهرا! وقال مسلم بن الوليد: أقلل زيارتك الصّدي ... ق، يراك كالثّوب استجدّه! إنّ الصّديق يملّه ... أن لا يزال يراك عنده. إلّا الكرام ذوى النّهى، ... إنّ الكريم يديم عهده!

وقال آخر: إذا ما كثرت على صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه، فلا بدّ من ملل واقع، ... يغيّر ما كان من أنسه! وقال آخر: لئن تأخّرت عن مفروض خدمتكم ... تجشّما، فضميرى غير متّهم! سعى ودادى إليكم بالوفاء لكم، ... والسّعى بالقلب فوق السعى بالقدم! وقال ابن المعلم: لم أطو بحر نداك- مع قربى- قلى ... إلا مخافة موجه المتراكب. وعلمت أنّى إن أتيتك زائرا، ... ثقّلت، والتثقيل ليس بواجب. وقال المعوّج: ثلاثة منعتها من زيارتنا، ... وقد طوى الليل جفن الكاشح الحنق: نور الجبين، ووسواس الحلىّ، وما ... يمسّ أردانها من عنبر عبق. هب الجبين بفضل الثوب تستره، ... والحلى تنزعه، ما الشأن في العرق؟ وقال أبو فراس الحمدانىّ: لقد نافسنى الدّهر ... بتأخيرى عن الحضره. فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة! ومنها التأخر عن عيادة المرضى، قال ابن زريق الكوفىّ الكاتب: يا مريضا لسقمه، ... مرض العلم والوفا! لم يكن تركى العيا ... دة هجرا ولا جفا.

لم أطق أن أراك يا ... أكرم الناس مدنفا! طال خوفى عليك، وال ... حمد لله إذ كفى! وقال آخر: منعتنى عليك رقّة قلبى ... من دخولى عليك في العوّاد. لو بأذنى سمعت منك أنينا، ... لتفرّى على الأنين فؤادى. وقال آخر: فو الله! ليس انقطاعى جفا ... وفي كبدى منك نار تشبّ! ولكنّنى قطّ لا أشتهى ... أرى من أحبّ كما لا أحبّ! ومما قيل في المدامع، قال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب: فظلت كأنّى من وراء زجاجة ... إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر. وقال البحترىّ: ويحسن دلّها والموت فيه، ... وقد يستحسن السيف الصّقيل! وقفنا والعيون مثقّلات ... يعالج دمعها طرف كليل! نهته رقبة الواشين حتّى ... تعلّق: لا يغيض ولا يسيل! وقال السرىّ: بنفسى من ردّ التحية ضاحكا، ... فجدّد بعد اليأس في الوصل مطمعى! إذا ما بدا، أبدى الغرام سرائرى ... وأظهر للعذّال ما بين أضلعى. وحالت دموع العين بينى وبينه، ... كأنّ دموع العين تعشقه معى.

وقال الصولىّ: قد كان في طول البكالى راحة، ... وعنان سرّى في يد الكتمان. حتّى إذا الإعلان نبّه واشيا، ... رقأت دموعى خشية الإعلان! وقال بشّار: ماء الصّبابة، نار الشّوق تحدره ... فهل سمعتم بماء فاض من نار؟ وقال أبو هلال العسكرىّ: أشكو الهوى بدموع قادها قلق ... حتّى علقن بجفن ردّها الفرق. ففى الفؤاد سبيل للأسى جدد، ... وفي الجفون مقيل للكرى قلق. لهيب قلبى أفاض الدّمع من بصرى، ... والعود يقطر ماء وهو يحترق! وقال الصولىّ: أنشد أبو الحسن بن رجاء المبرّد يوما بيت ذى الرّمّة: «لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى شجىّ البلابل!» وقال: من قال في مثله، فقد ملح. وقال الحسن بن وهب: ابك! فما أكثر نفع البكا! ... والحبّ إشفاق وتعليل! افزع إليه في ازدحام الجوى ... ففيه مسلاة وتسهيل. وهو إذا انت تأمّلته ... حزن على الخدّين محلول! وقال العباس بن أحمد بن الأحنف: إنّى لأجحد حبّكم وأسرّه ... والدمع معترف به لم يجحد. والدمع يشهد أنّنى لك عاشق ... والناس قد علموا وإن لم يشهد!

وقال آخر: فلا تنكرن لون الدّموع فإنّما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب! وقال العسكرىّ: آفة السّر من دمو ... ع دوام دوامع! كيف يخفى مع الدّمو ... ع الهوامى الهوامع؟ ما رأينا أخا هوى ... سرّه غير ذائع! إنّ نيران حبّه ... باديات الطلائع! وقال خالد الكاتب: بكيت دما حتّى بقيت بلا دم، ... بكاء فتى فرد على شجن فرد! أأبكى الذى فارقت بالدّمع وحده؟ ... لقد جلّ قدر الدمع فيه إذا عندى! وقال آخر: غدت بأحبّتى كوم المطايا، ... فبان النوم وامتنع القرار. وكان الدّمع لى ذخرا معدّا، ... فأنفقت الذخيرة يوم ساروا! وقال آخر: طال عهدى بها فلمّا رأتنى، ... نظمت لؤلؤا على تفّاح! وقال آخر: إذ لا جواب لمفحم متحيّر ... إلا الدموع تصان بالأطراف. وقال آخر: تقول غداة البين عند وداعها: ... إلى الكبد الحرّى: فسر، ولك الصّبر! وقد سبقتها عبرة: فدموعها ... على خدّها بيض، وفي نحرها حمر! معناه: أن الدّموع إذا انحدرت إلى نحرها احمرّت من الطّيب.

قالوا: وأحسن ما قيل في صفة الدّموع إذا امتزجت بالدماء، قول أبى الشّيص: لهون عن الإخوان إذ سفر الضّحى ... وفي كبدى من حرّهنّ حريق. مزجت دما بالدّمع حتّى كأنما ... يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق. وقول أبى تمام: نثرت فريد مدامع لم تنظم، ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم! وصلت نجيعا بالدّموع، فخدها ... فى مثل حاشية الرّداء المعلم! ومن أجود ما قيل في بياض الدمع على حمرة الخدّ قول الصولىّ: كأنّ تلك الدّموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد! وهى أبيات تقدّمت في التوديع. ونحوه قول ابن الرومىّ: لمّا دنا البين وزاح الدّلّ، ... ودّعتها ودمعها منهلّ. وخدّها من قطره مخضلّ ... كأنه ورد عليه طلّ! وقال آخر: كأنّ الدّموع على خدّها ... بقيّة طلّ على جلّنار. ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير، فمن ذلك قول حميد بن ثور: أقلّب طرفى في السماء لعلّه ... يوافق طرفى طرفها حين تنظر! ومثله قول ابن المعلوط: أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو ... وإيّانا؟ فذاك لنا تدانى! بلى، وأرى السماء كما تراها، ... ويعلوها النهار كما علانى!

وقال جميل: وإنى لأرضى منك، يابثن، بالّذى ... لو استيقن الواشى لقرّت بلابله! بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المكذوب قد خاب آمله! وبالنّظرة العجلى، وبالحول ينقضى، ... أواخره لا نلتقى وأوائله! وقريب منه قول الآخر: يودّ بأن يمسى سقيما لعلّها ... إذا سمعت منه بشكوى تراسله! ويهتزّ للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوما عند سلمى شمائله! أخذ العسكرىّ المعنى فقال: وقلت: عساها إن مرضت تعودنى ... فأحببت لو أنّى غدوت مريضا! وزدت اتّساعا في المكارم والعلا ... ليصبح جاهى عندهنّ عريضا! وقال أبو الفضل بن عبد العزيز: يا من هجرت فلا تبالى! ... هل ترجع دولة الوصال؟ هل أطمع يا عذاب قلبى ... أن ينعم في هواك بالى؟ الطّرف كما عهدت باك ... والجسم كما ترين بالى! ما ضرّك أن تعلّلينى ... فى الوصل بموعد المحال! أهواك وأنت حظّ غيرى، ... يا قاتلتى، فما احتيالى؟ ومما قيل في النحول، فمن ذلك قول المتنبى: أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدنى، ... وفرّق الهجر بين الجفن والوسن! روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن.

كفى بجسمى نحولا أننى رجل ... لولا مخاطبتى إيّاك- لم ترنى! وقال آخر: أسرّ إذا بليت، وذاب جسمى ... لعلّ الريح تحملنى إليه! وقال ابن المعتزّ: ماذا ترى في مدنف ... يشكوك طول سقمه؟ أضنيته فما يطي ... ق ضعفه حمل اسمه، ولا يراك عائدا ... إلا بعين وهمه! وقال كشاجم: وما زال يبرى أعظم الجسم حبّها ... وينقصها حتّى لطفن عن النّقص. فقد ذبت حتّى صرت لو أنا زرتها، ... أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى. ومن أبلغ ما قيل في ذلك، قول ديك الجنّ: أنحل الوجد جسمه والحنين، ... وبراه الهوى فما يستبين! لم يعش أنّه جليد؛ ولكن ... دقّ جدّا، فما تراه المنون! وقال نصير بن أحمد: أنحلنى الحبّ فلو زجّ بى ... فى مقلة النائم، لم ينتبه! وكان لى فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت، تمنطقت به! وقال الحسن بن وهب: أبليت جسمى من بعد جدّته، ... فما تكاد العيون تبصره. كأنه رسم منزل خلق ... تعرفه العين، ثمّ تنكره!

ومما قيل في المحبوب إذا اعتلّ، قال العباس بن الأحنف: زعموا لى أنّها صارت تحمّ! ... ابتلى الله بهذا من زعم! اشتكت أكمل ما كانت، كما ... يكسف البدر إذا ما قيل تمّ! وقال أحمد بن إسحاق الطالقانىّ: لقد حلّت الحمّى بساحة خدّه ... فأبدلت التّفّاح بالسّوسن الغضّ! قال أبو هلال العسكرىّ: والأصل في ذلك قول عبد بنى الحسحاس. ونقل فى كتابه ديوان المعانى بسند رفعه قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه: إنى اشتريت لك عبدا حبشيا شاعرا. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لى فيه، فإن قصارى الشاعر منهم أن يهجو أعراضهم ويشبب بكريمتهم. فاشتراه بنو الحسحاس، فرئى يوما وهو ينشد: ماذا يريد السّقام من قمر ... كلّ جمال لوجهه تبع؟ ما يبتغى- خاب- من محاسنه؟ ... أما له في القباح متّسع؟ غيّر من لونه وصفّر ما ... ورّد منه الجمال والبدع. لو كان يبغى الفداء، قيل له: ... ها أنا دون الحبيب يا وجع! ثم يقول لنفسه: أحسنك والله! يريد أحسنت. وكان العبد كما حدس عثمان، فما زال يهجو مواليه ويشبّب بنسائهم، حتّى قتلوه. فضحكت منه امرأة وقد ذهبوا به ليقتلوه، فقال: فإن تضحكى منّى، فيا ربّ ليلة ... جعلتك فيها كالقباء المفرّج!

وقال لهم: فلقد تحدّر من جبين فتاتكم ... عرق على ظهر الفراش وطيب! وهو الذى مدح نفسه بقوله: إن كنت عبدا، فنفسى حرّة كرما؛ ... أو أسود اللون، إنى أبيض الخلق! ولم أورد هذه الواقعة هنا لأنه موضعها من كل وجه، وإنما الشىء بالشىء يذكر. وقال شاعر: لو لم تكن حمّاه مشغوفة ... تعشقه طورا وتهواه، ما عانقبت إذ أقبلت جسمه ... وقبّات إذ فارقت فاه! وقال آخر: لو كان كلّ مريض ... يزداد مثلك حسنا، لكان كلّ صحيح ... يودّ لو كان مضنى! وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ، من شعراء «اليتيمة» : ولى من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيع لا يلذّ له منام! مقبّلة وليس لها ثنايا، ... معانقة وليس لها التزام! كأنّ لها ضرائر من غذائى، ... فيغضبها شرابى والطّعام. إذا ما صافحت صفحات جسمى، ... غدا ألفا وأمسى وهو لام. ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء، فمن ذلك قول أبى تمام: أعقبك الله صحّة البدن، ... ما هتف الهاتفات في الغصن. كيف وجدت الدّواء؟ أوجدك الله ... شفاء به مدى الزّمن!

وقال ابن حجاج: يا من به تتباهى ... مجالس الخلفاء! ومن تقصّر عنه ... مدائح الشّعراء! يا سيّدى كيف أصبح ... ت بعد شرب الدّواء؟ خرجت منه تضاهى ... فى الحسن بدر السّماء! فى ثوب صحّة جسم ... مطرّز بالشّفاء. ومما قيل على لسان الورقاء- وكل مطوّقة عند العرب حمامة: كالدّبسى والقمرىّ والورشان وما أشبه ذلك. وجمعها حمام. يقال للذكر والأنثى منه حمامة. والحمامة تبكى، وتغنّى، وتنوح، وتغرّد، وتسجع، وتقرقر، وتترنّم. وإنما لها صوت سجيع لا يفهم: فجعله الحزين بكاء، والطّرب غناء. قال حميد بن ثور: مطوّقة خطباء تسجع كلّما ... دنا الصيف وانزاح الربيع فأنجما. تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متلوّما. فلم أر مثلى شاقه صوت مثلها، ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما! وقال مجنون بنى عامر: ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة ... فإنّى إلى أصواتكنّ حزين! فعدن؛ فلمّا عدن، كدن يمتننى ... وكدت بأسرار لهنّ أبين! فلم تر عينى مثلهنّ حمائما ... بكين، ولم تدمع لهنّ عيون!

وقال أبو الأسود الدؤلى: وساجع في فروع الأيك هيّجنى! ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا؟ أباكيا إلفه من بعد فرقته، ... أم جازعا للنّوى من قبل أن يقعا؟ يدعو حمامته، والطير هاجعة: ... فما هجعت له ليلى وما هجعا! شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا! كأنّه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزّبور، ونجم الصّبح قد طلعا! وقال جحدر العكلىّ: وقدما هاجنى فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان. تجاوبتا بلحن أعجمىّ ... على عودين من غرب وبان. فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دانى! وقال عوف بن محلّم: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد! ففيم تنوح؟ وقال ابن عبد ربه من ابيات: وكيف، ولى قلب اذا هبّت الصّبا ... أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟ ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون. وإنّ ارتياحى من بكاء حمامة ... كذى شجن داويته بشجون. كأنّ حمام الأيك لمّا تجاوبت، ... خزين بكى من رحمة لحزين! وقال ابن قلاقس: غناء حمام في معاطف بان ... إلى مذهب الحبّ القديم ثنانى.

تغنّى فأعطاف الغصون رواقص ... وأحداق أزهار الرّياض روانى. فذكّرنى شرخ الزمان فمدمعى ... سفوح وقلبى دائم الخفقان. وقال أعرابىّ: وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع. وهنّ على الأغصان من كلّ جانب ... نوائح، ما تخضلّ منها المدامع! وقال فتح الدين بن عبد الظاهر: نسب الناس للحمامة حزنا، ... وأراها في الحزن ليست هنا لك! خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت، وما الحزين كذلك! وقال ابن الرومىّ: أشجتك داعية مع الإشراق، ... هتفت بساق من ذؤابة ساق؟ أيكيّة تدعو، ولم أر باكيا ... ريب الزمان قرينها لفراق. تبدو أواميت [1] الشّجى في صوتها ... وترى عليها أنّة الإطراق. لو تستطيع، تسلّبت من طوقها ... لو كان منتحلا من الأطواق. ومما قيل في المراجعات، فمن ذلك قول وضّاح اليمن: قالت: ألا لا تلجن دارنا، ... إنّ أبانا رجل غائر! أما رأيت الباب من دوننا؟ ... قلت: فإنّى واثب طافر! قالت: فإن القصر من دوننا! ... قلت: فإنّى فوقه ظاهر!

_ [1] يطلق الامت في اللغة على الضعف والوهن ويجمع على إمات وأموت ولم تر جمعه على أواميت.

قالت: فإنّ الليث عال به ... قلت: فسيفى مرهف باتر! قالت: فهذا البحر ما بيننا ... قلت: فإنّى سابح ماهر! قالت: أليس الله من فوقنا؟ ... قلت: بلى! وهو لنا غافر. قالت: فإمّا كنت أعييتنا، ... فأت إذا ما هجع السّامر! واسقط علينا كسقوط النّدى، ... ليلة لا ناه ولا زاجر! وقال المؤمل بن أميل: وطارقات طرقننى رسلا، ... والليل كالطّيلسان معتكر. فقلن: جئنا إليك عن ثقة ... من عند خود كأنّها قمر! هل لك في غادة منعّمة ... يحار فيها من حسنها النّظر؟ فى الجيد منها طول إذا التفتت ... وفي خطاها إذا خطت قصر. فقمت أسعى إلى محجّبة ... تضىء منها البيوت والحجر. فقلت لمّا بدا تخفّرها: ... جودى، ولا يمنعنّك الخفر. قالت: توقّر، ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهر! والله لا نلت ما تحاول أو ... ينبت في بطن راحتى شعر! لا أنت لى قيّم فتجبرنى ... ولا أمير علىّ مؤتمر. قلت: ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدر. فاحتسبى الأجر في إنالته، ... ويا سرى قد تطاول العسر! قالت: فقد جئت تبتغى عملا ... تكاد منه السماء تنفطر. فقلت: لمّا رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكر: لا عاقب الله في الصّبا أبدا ... أنثى ولكن يعاقب الذّكر!

قالت: لقد جئتنا بمبتدع، ... وقد أتتنا بغيره النّذر. قد بيّن الله في الكتاب فلا ... وازرة غير وزرها تزر. قلت: دعى سورة لهجت بها ... لا تحرمنّا لذّاتنا السّور. وجهك وجه تمّت محاسنه، ... لا وأبى لا تمسّه سقر. وقال آخر: خطرت فقلت لها مقالة مغرم: ... ماذا عليك من السّلام فسلّمى. قالت: بمن تعنى فحبّك بيّن ... فى سقم جسمك؟ قلت: بالمتكلّم. فتبسّمت، فبكيت، قالت: لا ترع ... فلعلّ مثل هواك بالمتبسّم. قلت: اتّفقنا في الهوى، فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدّمى. فتضاحكت عجبا، وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنام، بى لم تحلم. وقال آخر: ولمّا نزلنا على زمزم، ... ونحن نريد طواف الإفاضه، بكيت، فقالت: علام البكا؟ ... فقلت: على الودّ أخشى انتقاضه. فقالت: ثكلتك من عاشق ... تشمّر ذيلك قبل المخاضه. فقلت: صدقت، ولكنّنى ... أعلّم نفسى طريق الرّياضه. ومما قيل في المردوف، قال بعض الشعراء: عيناك على سفك دمى أسرفتا ... والجسم نحيل. أطلق برضاك في الهوى أسرفتى ... حيران ذليل.

فى ريقك خمرتان قد حرّمتا ... من غير دليل. والعاشق ظمآن فيا حرّ! متى ... تسقيه قليل؟ وقال آخر: فى خدّك وردتان قد ركّبتا ... من فوق قضيب. فى قلبى جمرتان قد أضرمتا: ... نار ولهيب. حلّفتك بالإله يا خير فتى ... رفقا بكئيب. حيران يهيم بين حتّى ومتى ... والأمر عجيب. وقال آخر: يا بدر! عصيت في الهوى عذّالى ... طوعا لهواك. وانقدت لأمرك الكبير العالى ... ما قلّ وفاك!. إن كان رضاك سقم جسمى البالى ... صبرا لرضاك. عذّب جسدى بسائر الأحوال ... إلا بجفاك. وقال آخر: يا مرتحلا إلى الحمى مصرفه ... بالله عليك خذ معك كتاب، فيه خبرى. ... لى ثمّ رشا عساك تستعطفه إن هان عليك ... فى رد جواب، للمنتظر. إن عرّض بى، فقل: نعم أعرفه ... يشتاق اليك قد رقّ وذاب، بين البشر. ... ما يتركه هواك أو تتلفه والأمر اليك ... ما الهجر صواب، من مقتدر. ومما قيل في الجناس، قال ابو الفضل الميكالى: مواعيده بالوصل أحلام. نائم ... أشبّهها بالقفر أو بسرابه فمن لى بوجه لو تحيّر في الدجى ... أخو سفر في جنح ليل سرى به

وقال أيضا: صل محبّا، أعياه وصف هواه ... فضناه ينوب عن ترجمانه. كلّما راقه سواك، تصدّت ... مقلتاه بدمعه ترجمانه. وقال آخر: ما ضرّ من قد أباح قتلى ... فى حبّه لو أباح ريقه. أبى فؤادى السلوّ عنه ... لكنه ما أبى حريقه. وقال آخر: أقول والليل مرخىّ غياهبه ... والدّير يسمعنى حسّ النواقيس: يا نفس كم بين مسرور بلذّته ... وبين مبلى بتشتيت النوى قيسى. وقال آخر: يا من تنكّدت الدنيا لغيبته ... أساخط أنت عنى اليوم أم راضى؟ أمرضت بالهجر قلب المستهام فما ... عليك، بالوصل لو داويت أمراضى؟ وقال آخر: لقد راعنى بدر الدجى بصدوده ... ووكّل أجفانى برعى كواكبه. فيا عبرتى سحّى دما لفراقه ... ويا كبدى صبرا على ما كواك به! وقال آخر: قلت له: ماذا السواد الذى ... فيك تبدّى؟ قال: ذا غاليه. فقلت: قبّلنى إذا قبلة ... فقال: خذها قبلة غاليه. فقلت: ما تغلو على عاشق ... فى حبكم، ذى كبد غاليه.

وقال آخر: شافه كفّى رشأ ... بقبلة ما شفت. فقلت إذ قبّلها: ... يا ليت كفّى شفتى! وقال آخر: لم يكفكم أخذ قلبه سلبا ... حتى أخذتم عن طرفه وسنه. كم ليلة بات للغرام وكم ... يوم وشهر ما نامه وسنه. وقال آخر: يا من لحظاته أسود وثبت ... قد صحّ هواك في فؤادى وثبت. جرّدت لها سيوف صبرى فنبت ... يا من غرس الهوى بقلبى فنبت. وقال آخر: يا من بحشاشتى- إذا غاب- سكن ... هيّجت من الغرام ما كان سكن. يا من شرع الصدود في الحبّ وسنّ ... من بعدك مهجورك ما ذاق وسن. وقال آخر: أهوى قمرا سفك دمى حلّ له ... فى أىّ شريعة ومن حلّله. ما بلّل شعره وما حلّله ... إلا سمح البخيل وانحلّ له. وقال آخر: من بلّل صدغ قاتلى من سلسل؟ ... من أودع ثغره رحيقا سلسل؟ من علّلنى في حبّه؟ من سلسل؟ ... يا عاذل إن جهلت ما بى سل سل. وقال آخر: يا بانة لحبّها ... فى القلب أصل قد نبت.

سيوف صبرى عن سيو ... ف مقلتيك قد نبت. تلك لحاظ أعين ... أم أسد غيل وثبت؟ [1] لواحظ لو برزت ... فى يوم حرب، لسبت. وعقرب الصّدغ التى ... لكلّ قلب لسبت. أسناؤكم تاقت لها الن ... فوس يوما وصبت. لا سيّما إن حملت ... نشرك ريح وصبت. فخيلهم دون بلو ... غ السّول فينا قد كبت. أفدى حبيبا زارنى ... فكم عدوّ قد كبت. رعى حقوقى في الهوى ... عليه لمّا وجبت. وسكّن الأحشاء بال ... وصال لمّا وجبت. وقال أيضا: من لفتى، جار علي ... هـ طرفه فيما قضى؟ صبّ إذا الدهر قضى ... عليه بالبين، قضى. يبكى على دهر تول ... ى بالتدانى أو مضى. تمطر عيناه إذا ال ... برق الشآمى أو مضا. وقال آخر: رمى حرّ قلبى بهجرانه ... رشا مادرى قدر ما قد رمى. وقد كان قدّم إحسانه ... ولكنه قدّ ما قدّما. فتسليم أمرى به للقضا ... ذخرت به أجر ما أجرما.

_ [1] لعل هنا بيتا سقط من الأصل ولم نعثر عليه.

ومما قيل في الموشّحات، فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين: يد الإصباح، قدحت زناد الأنوار ... فى مجامر الزّهر. دهر جذلان، واعتدال ريعان ... فما الإظعان؟ عن طلّا وغزلان. راق الزمان، وشدت على البان ... ذات الجناح، وانثنت قدود الأشجار. فى الغلائل الخضر ... لنا أجساد، للسرور تنجذب كما تنقاد، لربيعها العرب. ... حتى الجماد، لا يفوته الطرب طافت بالراح، سحب فسكر النّوّار. ... من سلافة القطر إن انخلاعى، مع رشا وصهباء ... لدى بقاع، حكت وشى صنعاء. وللشّعاع، لهب على الماء ... وللرياح، فى متون تلك الأنهار. شبك من التّبر ... وريم المى، بات بيده صدرى كبدر تمّا، وسط غرّة الشهر. ... شدوت لمّا، راعنى سنا الفجر قل للصباح: إن تدن بطرد الأقمار. ... فمع الدجى نسرى وغصن مائل، الهلال أعلاه ... له من نابل، فى النفوس قتلاه. سيف الحمائل، غمده عذاراه ... طوع الجماع، إن يكن كثير النّفار. فهى عادة العفر وقال ابن بقى: ما بى شمول، إلا شجون ... مزاجها في الكأس، دمع هتون.

لله ما بذّر، من الدموع ... صبّ قد استعبر، من الولوع. أودى به جؤذر، يوم البقيع ... فهو قتيل؛ لابل طعين. بين الرجا والياس، له منون ... [خرجت للحين، كفّى بكفّى وحيل ما بينى، وبين إلفى. ... لا شك بالبين، يكون حتفى حان الرحيل، ولى ديون. ... إن ردها العباس، فهو الأمين] [1] أما ترى البدرا؟ بدر السعود ... قد اكتسى خضرا، من البرود. إذا انثنى نضرا، من الفدود ... أضحى يقول،: مت يا حزين. قد اكتسى بالياس، الياسمين ... قلت وقد شرّد، النوم عنّى وآيس العوّد، السقم منّى: ... صدّ فلما صدّ، قرعت سنّى جسمى نحيل، لا يستبين. ... يطلبه الجلّاس، حيث الأنين تجاوز الحدّا، قلبى اشتياقا ... وكلّف السهدا، من لا أطاقا. قلت وقد مدّا، ليلى رواقا ... ليلى طويل، ولا معين: يا قلب بعض الناس، أما تلين؟ وقال سراج الدين عمر الكتّانى الحلبىّ، يمدح الملك المنصور صاحب حماه: جسمى ذوى، بالكمد، والسهر، والوصب، من جانى ... ذى شنب، كالبرد، كالدّرر، كالحبب، جمانى.

_ [1] الزيادة من نفح الطيب.

لى غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف. يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف. والخدّ منه قفر ... والجسم منه ترف. قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف. ثم التوى، كالزرد، معبقرى، معقربى، ريحانى ... فى مذهب، مورّد، مدنّر، مكتّب، سوسانى. ظبى له مرتشف ... كالسلسبيل البارد. غصن نقا ينعطف ... من لين قدّ مائد. بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد. مقرطق مشنّف ... يختال في القلائد. بين اللّوى، وثهمد، كجؤذر، فى ربرب، غزلانى ... ذى ضرب، ذى غيد، ذى حور، ذى هدب، وسنانى. أما وحلى جيده! ... ورنّة الخلاخل! والضمّ من بروده ... قدّ قضيب مائل. والورد من خدوده، ... إذ نمّ في الغلائل. لا كنت من صدوده ... متصلا بعاذل! نار الجوى، لا تخمدى، واستعرى، وكذّبى، سلوانى ... وأسبلى، واطّردى، وانهمرى كالسّحب، أجفانى.

مولاى جفنى ساهر ... مؤرّق كما ترى. فلا خيال زائر ... يطرقنى ولا كرى. إنّى عليل صابر ... فما جزا من صبرا؟ إن سحّ دمعى الهامر ... فلا تلمه إن جرى. جال الهوى، فى جلدى، ومضمرى، أضرّبى، كتمانى ... مؤنّبى، اتّئد، لا تفتر. وجنّب، عن عانى. إن صال بالهجر وصد ... رحت بصبرى مرتدى. عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد. وكيف يخشى من قصد ... ملكا كريم المحتد. الملك المنصور قد ... سما سماء السّودد. ثم استوى، بأجرد، مضمّر، ومقضب، يمانى ... ذى شطب، مهنّد. وسمهرى. مضطرب، مرّانى. ملكا علت همّاته ... من فوق هام المشترى. وبخّلت راحاته ... سحّ السحاب الممطر. وعوّذت راياته ... بمحكمات السّور. بدر بدت هالاته ... من الصباح المسفر. تحت لوى، منعقد، بالظّفر، فى موكب، فرسانى ... كالأشهب، فى الأسعد، كالأقمر. فى أعذب، سيحانى.

الباب الرابع من القسم الأول من الفن الثانى في الأنساب

يا ملكا دون الورى ... تخطبه الممالك. ومالكا إذا سرى ... تحجبه الملائك. بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك. فاستجلها من عمرا ... ثغر مناها ضاحك. لا يجتوى: كالشّهد، كالسّكّر. كالضّرب، معانى ... كالسّحب، كالعسجد، كالجوهر، من حلب، كتّانى. انتهى ما أوردناه من الغزل والنسيب في هذا الموضع؛ وقد آن أن نأخذ في ذكر الأنساب وبالله التوفيق. الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الثانى في الأنساب قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) . ومعرفة أنساب الأمم مما افتخرت به العرب على العجم، لأنها احترزت على معرفة نسبها، وتمسكت بمتين حسبها؛ وعرفت جماهير قومها وشعوبها، وأفصح عن قبائلها لسان شاعرها وخطيبها؛ واتحدت برهطها وفصائلها وعشائرها، ومالت إلى أفخاذها وبطونها وعمائرها؛ ونفت الدعىّ فيها، ونطقت بملء فيها. وسأورد منها إن شاء الله تعالى ما يكتفى به، ويتمسك بأسبابه. وقد وقفت على المقدّمة التى وضعها الشريف «أبو البركات الجوّانىّ» فرفعت له علما، ونصبت له إلى المعالى سلما: لأنه أتقن أصولها، وحرّر فصولها؛ وأورد

الطبقة الأولى الجذم

فيها من الأنساب ما ينتفع به اللبيب، ويستغنى بوجوده الكاتب الأريب. فوجدته بدأ فيها بذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بآبائه، وشرح جملة من نسبه الطاهر وأبنائه. فرأيت أن أسرد النسب من أصله، وأبدأ بآدم عليه السلام، ثم بنسله؛ وأجعل العمدة على سرد عمود النسب المتصل بسيد البشر. وأذكر من ذلك ما اشتهر عند أهل الأنساب وانتشر؛ إلى أن أنتهى إلى اسمه الشريف فأجعله خاتمة النسب، وأتمسك من شريعته ومحبته بأوثق سبب. وأرجو ببركته بلوغ مآربى، ونجح مطالبى؛ وستر عيوبى، ومغفرة ذنوبى؛ وتزكية عملى، وسدّ خللى، والتجاوز عن سيئاتى، والمسامحة بفلتاتى ولفتاتى؛ والخيرة فى حركاتى وسكناتى. هذا والله رجائى من كرم ربى، وإن قل عملى وكثر ذنبى؛ وعلى الشريف العمدة فيما أوردته، والعهدة فيما نقلته؛ فمن تأليفه نقلت، وعلى مقالته اعتمدت. قال السيد الشريف نقيب النقباء أبو البركات بن أسعد بن على بن معمر الحسينى الجوّانى، النسابة رحمه الله: إن جميع ما بنت عليه العرب في نسبها أركانها، وأسست عليه بنيانها، عشر طبقات. الطبقة الأولى الجذم وهو الأصل إما إلى عدنان وإما إلى قحطان، والجذم القطع، يقال: جذم وجدم؛ وذلك لما كثر الاختلاف في عدد الآباء وأسمائهم فيما فوق ذلك، وشق على العرب تشعب المناهج فيه وتصعب المسالك؛ قطع الخوض فيما فوق قحطان ومعدّ وعدنان، واقتصر على ذكر ما دونهما، لاجتماعهم على صحته. ومنه قول سيدنا رسول الله

صلى الله عليه وسلم لما انتسب إلى معدّ بن عدنان: «كذب النسابون فيما فوق ذلك» لتطاول العهد. فمن كان من ولد قحطان، قيل يمنىّ. ومن كان من ولد معدّ بن عدنان، قيل خندفى، أو قيسى، أو نزارى، وإن كان الجميع داخلا في نزار، أعنى معدّ بن عدنان؛ وإنما كان بعد نزار جماجم استغنى بالنسبة إليها عن نزار بن معدّ بن عدنان؛ ولأن جمهور العلماء طبقوا النسب على ما قدّمناه أربع طبقات: خندفىّ، وقيسىّ، ونزارىّ، ويمنىّ. فقولهم: خندفى أى كل من يرجع إلى الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ وهو جمّاع خندف، فتوسعت العرب في ذلك إلى أن قالوا: إلياس هو خندف، لأن ولده وهم مدركة، وطابخة، وقمعة، أمهم خندف، وهى ليلى بنت حلوان بن عمران، بن إلحاف بن قضاعة، خندفت في طلب ولدها أى أسرعت، فقال لها إلياس: مالك تخندفين؟ أى تهرولين فسميت خندف، فرجع إلى خندف أبطن عدّة: كمزينة، والرّباب، وضبّة، وصوفة، والشّعيرا، وتميم، وهذيل، وأسد، والقارة، وكنانة، وقريش، فقيل لولد إلياس «خندف» ثم قيل لإلياس نفسه خندف إذ كان أبا لمن أمه خندف لا غير ولا ولد له إلا من خندف. ولذلك نظائر وأشباه في العرب، كما قيل لمالك بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر: «عائدة» لأن أم ولده عائدة بنت الحمس بن قحافة الخثعميّة. وكما قيل لعوف بن وائل بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر: «عكل» لأن أمة يقال لها عكل حضنت ولده. وكما قيل لعمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس: «مزينة» لأن أم ولده مزينة بنت كلب بن وبرة القضاعية.

وكما قيل لعمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار «جديلة قيس» لأن أم ولده جديلة بنت مرّ، أخت تميم بن مر، بن أدّ، بن طابخة. وكما قيل للحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «عاملة» لأن أم ولده عاملة بنت مالك بن وديعة القضاعية. وكما قيل لأشرس بن السكون بن أشرس بن كندة «تجيب» لأن أم ولده تجيب. بنت ثوبان المذحجيّة، وغير ذلك مما يطول الكلام باستقصائه والله أعلم. وأما قولهم قيسىّ، فالمراد به من ولد قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان، ويكون عيلان هاهنا أخا إلياس بن مضر، وكان [1] اسم إلياس عيلان. وقال الوزير ابن المغربى: هو الناسّ بتشديد السين فيكون مضر أعقب إلياس والناس. ومن العلماء من قال: إن عيلان كان حاضنا، حضن قيسا وليس بأب فيقول قيس عيلان بن مضر، مضاف إليه بغير ذكر البنوّة، كما قيل في فخذ من قضاعة سعد هذيم، وهذيم حاضن، وغير ذلك في العرب كثير والأوّل أصح. وهذا قيس بن عيلان بن مضر هو الذى قيل لقيس بن قيس والله أعلم. وذهب قوم إلى أن ولد معدّ بن عدنان كلهم يقال لهم: قيس وهو خطأ، وإنما هم يجوّزون ذلك على وجه بعيد ليميزوا بالعزوة إلى ذلك بين يمن وغيرها: فيقولون: قيس ويمن، فيظن السامع أنهما أخوان، وأين قيس من قحطان جدّ يمن: لأن قحطان أبا اليمن هو أخو الجدّ العشرين لقيس: وهو فالغ بن عابر، وقحطان بن عابر. وسيرد ذلك في سرد النسب بعون الله ومشيئته.

_ [1] لعله أو كان اسم إلياس الخ ليستقيم الكلام.

وبيانه هاهنا أن قيس بن عيلان، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان، ابن أد [1] ، بن أدد، بن إسماعيل الذبيح، بن إبراهيم الخليل، بن تارح: وهو آزر بن ناحور، بن ساروغ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر. ففالغ أخو قحطان، وقحطان هو الجد الذى ترجع إليه يمن كلها؛ وهو أحد جذمى النسب كما تقدّم. فقد بان أن قول من يقول قيس: ويمن قبيلة ليس بشىء، وإنما قال ذلك لولد معدّ بن عدنان إشارة لإعلام السائل إذا سأل المعدىّ من أىّ نسب هو، فكأنه يقول له من البطن التى منها قيس. وهذا بعيد وشاذ. ومما يؤكد بعده أنا إذا جوزنا ذلك لمن ينتسب إلى جمجمة فوق قيس كربيعة ابن نزار بن معدّ بن عدنان، وإياد بن نزار وغير ذلك وان كان بعيدا فكيف يجوز أن يطلق ذلك على قريش. فنقول: هم قيس، وإنما قريش بنو فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وإلياس هو عم قيس فيكون قريش دون قيس بهذه العدّة، فلا يجوز أن يقال: إن قريشا من قيس، وقيس إنما هو ابن عم الأب السادس من قريش: وهو مدركة؛ ولو كان عمّا له، لكان ربما يجوز على وجه التعارف عند العرب بأن العم أب كما أخبر الله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام فقال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ، والذى ذهب إلى أن العم أب قال: أنا أطلق على ولد معدّ بن عدنان قيسا لأن قيسا منهم، فأقول: قريش من قيس. وهذا بعيد من وجه أن قيسا ليس

_ [1] هكذا بالأصل. وفي كتاب الجوّانى المنقول منه هذا الفصل والموجود منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ناقصة الآخر (ابن أدّ بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل الذبيح الخ) .

بعم لقريش، وإنما هو ابن عم، ولا ترجع العزوة في الانتساب إلى ذيل الأعقاب، إنما يعزى لأعلى النسب؛ لا لأسفل العقب؛ ولو صح ذلك، لعزى الإنسان لابن ابن عمه وهذا لا يصح. فقد وضح أن العزوة إلى قيس لا تصح إلا لمن يرجع إليه بالولادة منه: لأن ربيعة وإيادا ابنى نزار أعلى منه، فلا يصح أن يعزوا إليه؛ وقريش وكنانة أسفل منه فلا يصح أن يعزوا إليه. وبالجملة فإنه ابن عم لهما، أعنى قريشا وكنانة، وأخ لهما أعنى ربيعة وإيادا؛ ولا يجوز أن يعزى الأب إلى ابنه إذ كانت النسبة في ذلك لا ترجع إلى الابن إنما ترجع إلى الأب. ولو اعتمد ذلك في الأنساب لاختلطت العزوة إلى كل أب بالأب الآخر فلم يتميز، ولم يقف عند حدّ دون الآخر. وهذا يؤول إلى الجهالة بالأبطن والأفخاذ والعشائر. وأمّا شهرة العزوة إلى قيس، فلما فيها من الجماجم والرءوس والقبائل والأرحاء وهى عند النسابين أكبر من تميم ومن بكر ابنى مرّ بن أد بن طابخة؛ إذ كان في قيس بنو عبس، وذبيان، وغطفان، وأعصر، وهوازن، وعدوان، وفهم: وهم جديلة قيس، وسليم، وثقيف، وعامر، وجشم، ونصر، وبكر، وسعد، وسلول، وربيعة، وكلاب، وقشير، وحبيب، وعقيل، وحريش، وخفاجة، وطهفة، وغير ذلك من الأفخاذ والعشائر التى تشرح في مواضعها بمشيئة الله وعونه. وأما نزار بن معدّ بن عدنان، ففيها من الأبطن والأفخاذ والعشائر: كبنى ربيعة الفرس، وضبيعة أضجم، وأكلب، وأسلم، ويقدم، وأجلان، وهميم، وعبد القيس، ودهن، والنّمر، وتغلب، ووائل، وبكر، وصعب، وعلى، وحبيب، وعنزة، وعنز،

ورفيدة، وإراشة، ويشكر، وعكابة، وعجل، ولجيم، وحنيفة، وزمّان، والدول [1] ، وشيبان، وذهل، ومازن، وسدوس، وبلىّ، وعوف، وبدر، ومعن، ودعمىّ، وزهرة، وحذافة. فأما أنمار بن نزار، فانقلب في يمن كما انقلبت قضاعة في غير ذلك من الأفخاذ والعشائر مما بين في موضعه إن شاء الله تعالى والحمد لله. وأما يمن، فهم أولاد قحطان، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح عليه السلام. وفيها عدّة جماجم وقبائل وأبطن وأفخاذ وعشائر: كسبإ، وطيئ، والأشعر، وحمير، وقضاعة، وغسّان، وأوس، والخزرج، والأزد، ولخم، وجذام، وعاملة، وخولان، وغافق، ومذحج، وحرب، وسعد العشيرة، ومعافر، وهمدان، وكندة، وكلب، ومهرة، وصنهاج [2] ، وبارق، وبجيلة، وثعلبة، ودرما، وزريق، وعنيز، وعتّاب، وبحتر، وجرم، ومراد، وعبس، وجعفىّ، وسلمان، وتجيب، وصدا، والنّخع، والصّدف، وحضرموت وغير وذلك. وكل ما ذكرناه فهو أبطن وأفخاذ وعشائر مختلطة، وما قصدنا فيها الترتيب، على طبقات النسب والتعقيب، وإنما جئنا من كل عزوة ببعض مشاهيرها التى تنسب إليها: ليتبين بعضها من بعض ويعلم غرضنا في تحرير ما قدمناه والله أعلم.

_ [1] بضم الدال وإسكان الواو وهو غير الدؤل الذى ينسب اليه أبو الأسود الدؤلى. [2] الذى في القاموس: وصنهاجة قوم بالمغرب من ولد صنهاجة الحميرى وفي تاج العروس: «قال ابن دريد بضم الصاد ولا يجوز غيره. قال شيخنا والمعروف عندنا الفتح خاصة في القبيلة بحيث لا يكادون يعرفون غيره» .

وأما عزوة العرب إلى يمن: وهم ولد قحطان، فلكونهم نزلوا اليمن؛ وكان منهم ملوك الحيرة وأصحاب سدّ مأرب فتيامنوا، فنسبوا إلى اليمن. وقيل: إنما قيل لهم: يمن بأيمن بن هميسع بن حمير، وهو جدّ الملوك التبابعة؛ والأوّل أولى. وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نسبه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن: مثل آل النّعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرّق، وآل العرنجج وهو حمير الأكبر بن سبإ كالتبابعة والأذواء وغيرهم. والعرب يطلبون العزّ ولو كان في شامخات الشواهق [1] [وبطون الأمالق البوالق فينتسبون الى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية وسكون النفوس الى نفيس الكثرة والعصبية بطريق دقيق في النظر لا على الظن المشتهر] : كما جرى لقضاعة بن معدّ ابن عدنان [2] [لما خلف على أمه الجرهمية بعد] مالك بن مرة بن عمرو بن زيد بن مالك ابن حمير أباه معد بن عدنان؛ فجاءت بقضاعة على فراش مالك بن مرة فنسبه العرب إلى زوج أمّه [3] [مالك بن مرة، عادة للعرب فيمن يولد على فراش زوج أمه] . وقيل إن اسم الجرهمية: قضاعة، فلما جاءت بولدها سمته باسمها. وقيل بل كان اسمه عميرا فلما تقضع عن قومه أى بعد سمى قضاعة. والعادة عند العرب أن تنسب الرجل إلى زوج أمّه؛ ألا ترى أنها قالت في عبد مناة بن كنانة: بنو على وهو على بن مسعود الأزدىّ وكان حضن بنى أخيه لأمّه وهم بكر وعامر ومرة أولاد عبد مناة بن كنانة، فغلب

_ [1] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» . [2] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» . [3] زيادات وجدت في نسخة الجوّانى المخطوطة ولم توجد في الأصل «الفوتو غرافىّ» .

والطبقة الثانية الجماهير، والتجمهر:

اسمه عليهم لما تزوّج أمّهم هند ابنة بكر بن وائل وخلف عليها بعد أخيه، فضم إليه بنى أخيه المذكورين مع أمّهم هذه، وهم صغار فربوا في حجره فنسبهم العرب إلى على. وسيأتى من هذا الباب أمثال له في مواضعها إن شاء الله تعالى. والطبقة الثانية الجماهير، والتجمهر: الاجتماع والكثرة؛ ومنه قولهم: جماهير العرب أى جماعتهم، ومنه ترجمة مجموع لغة العرب «الجمهرة» الكتاب الذى ألفه أبو بكر بن دريد وجمهرة «الأنساب» أى مجموعها والله أعلم. والطبقة الثالثة الشعوب، واحدها شعب؛ ويقال شعب؛ ويقال في القبيلة بالفتح وفي الجنبل بالكسر: وهو الذى يجمع القبائل وتتشعب منه، ويشبه بالرأس من الجسد؛ قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية. والطبقة الرابعة القبيلة ، وهى التى دون الشعب تجمع العمائر؛ وإنما سميت قبيلة لتقابل بعضها ببعض واستوائها في العدد؛ وهى بمنزلة الصدر من الجسد. والطبقة الخامسة العمائر، واحدها عمارة: وهى التى دون القبائل. وتجمع البطون؛ وهى بمنزلة اليدين. والطبقة السادسة البطون، واحدها بطن: وهى التى تجمع الأفخاذ.

والطبقة السابعة الأفخاذ،

والطبقة السابعة الأفخاذ، واحدها فخذ وفخذ، مثل كبد وكبد: وهى أصغر من البطن. والفخذ تجمع العشائر. والطبقة الثامنة العشائر، واحدها عشيرة: وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء. وسميت بذلك لمعاشرة الرجل إياهم، قال الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) . فدعا النبى صلى الله عليه وسلم علياء قريش إلى أن اقتصر على بنى عبد مناف؛ وهم يجتمعون معه في الجدّ الرابع. فمن هاهنا جرت السنة بالمعاقلة إلى أربعة آباء؛ وهم بمنزلة الساقين من الجسد اللتين يعتمد عليهما دون الأفخاذ. والطبقة التاسعة الفصائل ، واحدها فصيلة؛ وهم أهل بيت الرجل وخاصته؛ قال الله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) وهى بمنزلة القدم. والطبقة العاشرة الرهط، وهم رهط الرجل وأسرته: بمنزلة أصابع القدم. والرهط دون العشرة، والأسرة أكثر من ذلك، قال الله عز وجل: (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) . قال السيد أبو طالب في قصيدته المشهورة التى يمدح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضرت عند البيت رهطى وأسرتى ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل.

أصل النسب

ورهطه بنو عبد المطلب وكانوا دون العشرة. وأسرته من بنى عبد مناف الذين عاضدوه في نصرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. تمثيل التفصيل- عدنان جذم، قبائل معد جمهور، نزار بن معد شعب، مضر قبيلة، خندف عمارة: وهم ولد إلياس بن مضر، كنانة بطن، قريش فخذ، قصى عشيرة، عبد مناف فصيلة، بنو هاشم رهط. وحيث انتهى القول في ذكر الطبقات فلنأخذ الآن في بسط النسب وسرده فنقول وبالله التوفيق. أصل النسب (أبو البشر آدم عليه السلام) وآدم هو الجدّ الخمسون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمود النسب الطاهر المحمدىّ من آدم عليه السلام في ابنه شيث بن آدم عليهما السلام: وهو هبة الله، وأمّه حواء أمة الله. ولما قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، ولد شيث؛ وقال آدم عليه السلام: هذا هبة من الله وخلف صالح. وهو الذى بنى الكعبة- شرفها الله تعالى- بالطين والحجارة على موضع الخيمة التى كان الله تعالى وضعها لآدم من الجنة. وقال وهب: إن الله تعالى أنزل على شيث خمسين صحيفة، ورزق عدّة من البنين والبنات. والعقب منه في ابنه أنوش بن شيث وأمّه لبود ابنة آدم عليه السلام. وهو الذى غرس النخلة وزرع الحبة، ونطق بالحكمة؛ وتدعى أمّه محوايلة البيضاء.

والعقب منه في ابنه قينان بن أنوش، وله ولد اسمه أروى (أعنى لأنوش) ، اعقب وانقرض عقبه. والعقب من قينان في ابنه مهلائيل بن قينان ولم يرزق غيره. والعقب منه في ولده يارد بن مهلائيل. وكان ليارد اخوة. والعقب من يارد في ابنه أخنوخ بن يارد، وهو إدريس النبى عليه السلام، وأمّه تدعى بره. قيل سمى إدريس لدرسه الصحف الثلاثين التى أنزلها الله تعالى عليه؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم، وكان له إخوة انقرضوا. والعقب منه في ابنه متوشلخ بن أخنوخ، وأمّه بروخا. وعقبه في ابنه لملك بن متوشلخ، واسمه لامخ. والعقب منه في ابنه نوح النبىّ عليه السلام، وأمّه قينوش ابنة بركائل بن محوايل، وهو عليه السلام آدم الثانى: لأنه لا عقب لآدم عليه السلام إلا من نوح وولده. وإخوة نوح عليه السلام جماعة: منهم صالح بن ملك، وسقطان، ومنان، وترسيس، وصدفا؛ وكان لهم أولاد انقرضوا كلهم والعقب من نوح لا غير؛ ورزق ملك والد نوح عليه السلام نوحا، وله من العمر مائة واثنان وثمانون سنة؛ وتوفى وقد مضى من عمر نوح خمسمائة سنة. واختلف في عمر نوح: فقيل عاش ألف سنة إلا خمسين عاما: ستمائة قبل الطوفان وثلاثمائة وخمسين سنة بعده. وقيل بل لبث قبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في قصته في التاريخ. وعمود النسب من نوح فى ابنه سام بن نوح عليه السلام؛ وسام هو الجدّ الأربعون لسيدنا رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وأمّه عمردة. وإخوة سام حام، ويافث، وبوناطل، وسالوم وهو الذى غرق في الطوفان. وأما سام بن نوح، فإن الله تعالى جعل في ذرّيته الكتاب والنبوّة والملك والجمال والبياض، ونزلوا ما بين ساقيد إلى البحر، وما بين البحر إلى الشام: وهو وسط الأرض، والحرم وما حوله، والحرم إلى حضرموت، وإلى عمان، وإلى عالج والدهناء. والعقب من يافث بن نوح طرسوس، وهمذان، والجبال، والجزر، وفرنجة، والصقالبة الذين على تخوم القسطنطينية، واشكار، والترك، وقبرس، ويأجوج، ومأجوج، وكومر، والمصيصة، وأدنه، وروادنيم، وماسج، وخراسان، وباوال، ويونان، وبرجام، وكرد بن مرد بن يافث. قال: وهذه رواية العلماء بالنسب، وسنذكر خبر كرد بعد هذا في موضعه. ومن ولد يونان بن يافث الروم واليونانيون؛ كان منهم الفلاسفة وأهل الحكمة كالإسكندر وغيره. وولد بوناطل بن نوح: وهو الذى عقد الألوية للناس حين تفرقوا: الأرغار، والبعاس، والدكايك، والدمشق؛ وهم أمم لا يحصون خلف صين الصين. والعقب من حام بن نوح، الهند والسند والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر، ومصرايم أو اسمه مصر بن حام. وذكر صاحب الشجرة: أن مصرايم أعقب من ابنه لوديم، وأن لوديم أعقب قبط مصر بالصعيد، والبيهيم، والتفوحيم، والبرنسيم، والكشلوجيم، والقابدقابين، ومودشايا، وكوشابا، وهبورشابا

قال: وهؤلاء بأجمعهم ولد قوط بن حام، وأندلش، وكوشان؛ فولد قوط بن حام مصر، فولد مصر بن قوط قبط: وهم قبط مصر؛ وبهم سمّيت مصر مصر. قال: هذا قول شيوخنا. وذكر أهل التاريخ: أن مصر سمّيت بمصر بن بيصر بن حام؛ كل ذلك قد قيل وهو الأكثر عن العلماء. وقال أبو المنذر النسابة في روايته: إن السند والهند وما بينهما من البلاد قتلهم يوشع ابن نون إلا بقيّة منهم يسيرة لحقوا بأطراف بلاد السودان: وهم الذين ما بين مصر إلى بلاد السودان، ومنهم البربر والبجة. وذكر صاحب الشجرة: أن كوش أبو الحبش، وأنه كوش بن حام، وأنه أعقب من نمرود أبى ملوك بابل، ومن أحويلا وهو الواحات، ومن سفنا وهو أبو زغاوة، ومن سبإ، ومن سفخا: وهو أبو الدمدم، ومن رعما وهو أبو البقاقو من السودان، والعقب من زعما هذا من سبإ أبى الهند ومن دادان أبى السند. وذكر أبو المنذر النسابة أن كنعان بن حام أعقب من حماة، وحمص، واروادودى وطرابلس، وصيدون، وهى صيداء، وحاث، ونفوسة، وهوارة، ومزاتة، وامورا، وكركاسى، ومزانة من البربر. قال الجوّانىّ: وهذا كلّه بيّن الخلاف بين النسابين؛ ومن النسابين من يلحق لواتة وهم ولد برّ بالبربر هذا بن كنعان بن حام، ومن اللواتيّين من يقول فيهم: إنهم قيس، ويعبرون أنهم من ولد جابر بن بغيض، بن ريث، بن غطفان؛ وأنّ جابرا جدّهم عمّ فزارة. ومن لواتة ومزاتة من يزعم أنهم قوم ناقلة صاروا إلى بلد البربر، وأن البربر إنما هم هوّارة، وصنهاجة، وأن أباهم تزوّج امرأة منهم يقال لها: تصوين، فنسبوا إلى أمهم، وهوّارة تزعم أنهم قوم ناقلة من يمن جهلوا أنسابهم.

وولد لواتة بن برّ: وهو لواتة أربعة أفخاد: وهم زنّارة ومصّانا ونيطا وتطوفا؛ ولكلّ فخذ من هذه الأفخاذ عدّة عشائر، حصل الإضراب عن ذكرها رغبة فى الاختصار. فلنرجع إلى عمود النسب فنقول: إن عمود النسب الشريف من سام بن نوح في ابنه أرفخشذ بن سام؛ وأمه من بنات الملوك. وكان لسام من الأولاد غير أرفخشذ: إرم ولاوذ وأشوذ وغليم وماش (والموصل ولد وأبو الأرمن وخوزستان أولاد سام) [1] . وفيهم خلاف عند النسابين. والعقب من إرم بن سام من عوص وجاثر وماش وأهلوا وإيران أولاد إرم. فالعقب من أهلوا بن إرم بن سام: قادسان. والعقب من أكراد [2] جدّ القبيلة المعروفة بالأكراد، فى قول أكثر النّسّابين. ومن عشيرة القبيلة من يذكر أنهم من بنى عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العبسىّ كما نذكره في بنى هوازن. وفي الأكراد عدّة بطون: كالحلاليّة والمروانيّة وغيرهما. وقد ذكر بعض النسابين أن كرد بن مرد بن يافث بن نوح. وفي ذلك خلاف. والعقب من عوص بن إرم بن سام: عاد، وبه سمّيت عاد إرم. والعقب من ماش بن إرم بن سام من نبيط: وهو نبط سواد العراق.

_ [1] هكذا في الأصل بحروفه وجاء في «العبر» أن بنى أشوذ هم أهل الموصل وبنى غليم أهل خوزستان، ولعله الصواب. [2] لعله والعقب من إيران في كرد الخ، انظر «العبر» .

والعقب من جاثر بن إرم: ثمود وجديس. فالعقب من ثمود بن جاثر: فالج وهيلع وبنوق وأرام؛ من ولده صالح النبىّ عليه السلام ابن أسف بن كماشج بن أرام بن ثمود. والعقب من لاوذ بن سام: عمليق وهو أبو العمالقة والفراعنة والجبابرة بمصر والشام، وطسم بن لاوذ وأميم بن لاوذ. وفرعون موسى: هو الوليد بن مصعب ابن أشمير بن الهون بن عمليق بن لاوذ بن سام. وولد الفرس أشور [1] بن سام: تيرش وهم الفرس؛ وبهم سمّيت فارس؛ ومنهم الأكاسرة. وولد غليم بن سام: خوزان وهم الخوز الذين مساكنهم بلاد الأهواز مما يلى بحر الصين. فلنرجع إلى سرد عمود النسب فنقول: إن عمود النسب منه في شالخ [2] بن أرفخشذ وكان له من الأولاد غير شالخ مالك وقينان ابنا أرفخشذ. قال: وزعموا أن قينان أوّل من نظر في علم النجوم بعد الطوفان واستنبط ذلك من تنّور صفر كان فيه علمها قبل الطوفان، ودفن في الأرض فاستخرجه وعلم ما فيه. والعقب من شالخ في ابنه عابر بن شالخ، وعابر: هو هود النبىّ عليه السلام؛ وأمّه مرجانة وهو جماع النسب. وله من الأولاد: فالغ، وفيه عمود النسب، وهو أبو قريش وقحطان ويقطن. فولد يقطن بن عابر: جرهم بن يقطن، كانوا ولاة البيت الحرام فمكثوا ما شاء الله، ثم استحلّوا المحارم، وكثرت فيهم المآثم، فأخرجهم الله تعالى من جوار بيته، ورماهم بالفناء فلم يبق منهم أحد. وفيهم يقول القائل: وبادوا كما بادت بقيّة جرهم

_ [1] هكذا بالأصل وفي «العبر» : أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح. وفي ابن الأثير أنهم بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام. [2] وردت هكذا في كل المصادر التى يعتمد عليها في النسب ووردت في الكتاب المقدس في سفر التكوين (شالح) بالحاء المهملة.

وقحطان بن عابر هو أبو اليمن كلها، وجذم نسبها. وولد قحطان هم العرب المتعرّبة؛ إذ العرب ثلاث فرق: عاربة ومتعرّبة ومستعربة. فأما العاربة فهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح: وهم عاد، ثم ثمود، ثم أميم، ثم عبيل، ثم طسم، ثم جديس، ثم عمليق، ثم جرهم، ثم وبار. فعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، وطسم وعمليق وأميم: بنو لاوذ بن سام؛ وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم بن سام؛ ووبار وجرهم ابنا فالغ بن عابر: فهذه العرب العاربة. وأما المتعربة فهم بنو قحطان بن عابر الذين نطقوا بلسان العرب العاربة وسكنوا ديارهم. وأما المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم: وهم بنو عدنان بن أدّ. قال الشريف الجوّانى: وهذا مختصر من نسب اليمن. قال: إن العقب من قحطان ابن عابر من يعرب بن قحطان: وهو الذى زعمت يمن أن العرب إنما سميت عربا به وأنه أوّل من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلّها. وذكر بعض النسّابين أن حضرموت بن قحطان، وإليه ينسب كلّ حضرمىّ. وقيل. حضرموت من ولد حمير، وإنه حضرموت بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن ابن الهميسع بن حمير. قال: وعلى ذلك اعتماد شيوخنا في النسب. وقال آخرون: هو حضرموت بن يقطان بن عابر.

فولد يعرب بن قحطان: يشجب؛ فولد يشجب بن يعرب: سبأ واسمه عبد شمس؛ وإنما سمى بسبإ لأنه أوّل من سبى من العرب، فولد سبأ بن يشجب: حمير وكهلان. وقالت طائفة من النسّابين: ومراء بن سبإ. فولد مراء بن سبإ: شعبان قبيلة وصريحان قبيلة، ولهم عدد ومدد. وولد حمير بن سبإ بن يشجب: مالكا وعامرا وعوفا وسعدا ووائلة وعمرا وهميسعا. فأما عمرو بن حمير فهم آل ذى رعين ملوك اليمن: وهم بنو الحارث بن عمرو ابن حمير. ومن النسّابين من ينسب ذارعين الى أنه ولد زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير: وهم عشيرة ذى أصبح وعشيرة سيف بن ذى يزن. قال: وشيوخنا في النسب ينسبون التبابعة الملوك إلى أيمن بن هميسع بن حمير ولا خلاف عندهم فيه وأنهم يرجعون إلى أيمن. وأما عامر بن حمير، فمنه قبائل يحصب كلّها، وهو يحصب بن دهمان بن عامر بن حمير. قال: ومن شيوخ النسب من قال: يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الأصغر. وأما هميسع بن حمير فمن ولده: صنهاجة: القبيلة المشهورة المعقبة بالمغرب وفي ذلك خلاف؛ وهى من بنى زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير، وصنهاجة اسم الجدّ للقبيلة كلها: وهو صنهاجة بن المثنّى بن المسور بن يحصب بن ذى يزن بن ذى أصبح بن

زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهم حمير الاصغر بن سبإ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم، بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع المذكور. قال: وإلى ذى أصبح هذا يرجع الإمام مالك بن أنس الأصبحىّ. وقيل: ذو يزن ابن أسلم بن زيد، وذو أصبح بن مالك بن زيد. قال: ومن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس هذا الذى في عمود النسب ثلاث بطون غير سهل بن عمرو: وهم شعبان بن عمرو وحيران بن عمرو وحضرموت بن عمرو؛ وحضرموت هذا هى القبيلة التى ينسب إليها كلّ حضرمىّ وقد تقدّم ذكره. وأما سعد بن حمير، فمنه السّلف البطن المشهورة، وأسلم بطن: وهما ابنا ربيعة ابن سعد بن حمير. وأما وائلة بن حمير، فمنهم السّكاسك: وهم بنو زيد بن وائلة بن حمير، وهى غير سكاسك كندة. وأما مالك بن حمير فمن ولده قضاعة: وهم قضاعة بن مالك بن مرّة بن عمرو بن زيد بن مالك بن حمير البطن المشهورة على ما نذكره. وقيل: إنها من ولد معدّ بن عدنان وفي ذلك يقول القائل: أبوكم معدّ كان يكنى ببكره ... قضاعة ما كنّى به من تجمجما. ومن قضاعة ثلاث بطون: وهم عمران بن الحاف بن قضاعة وعمرو بن الحاف وأسلم بن الحاف بن قضاعة.

فأما البطن الأولى من قضاعة: وهم ولد عمران، فأعقب حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة من خمس قبائل: وهم تغلب الغلباء، ويقال: تغلبىّ قضاعىّ أو يمنىّ، يراد به هذا الأب؛ وتغلبىّ معدّىّ أو نزارىّ، فيراد به تغلب بن وائل بن قاسط الذى فى أسد بن ربيعة بن نزار؛ وعشم بن حلوان، وزبّان بن حلوان، وعمرو بن حلوان وهو سليح وتزيد بن حلوان (بالتاء باثنتين من فوق وفتحها) . والعقب من تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة: وبرة بن تغلب. والعقب من وبرة بن تغلب من خمس أفخاذ: كلب بن وبرة، وإليه ينسب كلّ كلبىّ، وفيهم عدة أفخاذ وعشائر: كبنى عوف وبنى ضمضم وبنى غليم وبنى زهير وبنى كنانة، والجميع عشائر يرجعون إلى عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب، وعرينة بن ثور بن كلب بن وبرة، وإليه يرجع كل عرنىّ، وأسد بن وبرة، والبرك ابن وبرة، والنّمر بن وبرة، والتغلب بن وبرة، وفهد، وضبع، ودبّ، وسيد، وسرحان، وذئب أولاد وبرة بن تغلب الغلباء. فمن أسد بن وبرة: بنو القين بن جسر بن شيع الله بن أسد، وتنوخ: وهو مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد؛ والى تنوخ هذا ينسب كلّ تنوخىّ؛ واليه يرجع أبو العلاء المعرّى الشاعر. وأعقب نمر بن وبرة بن تغلب في ثلاث أفخاذ: خشين، واليه يرجع كلّ خشنىّ وهو نمير، منهم أبو ثعلبة الخشنىّ الصحابىّ رضى الله عنه؛ ومشجعة بن تيم بن النّمر بن وبرة، واليه يرجع كلّ مشجعىّ، وغاضرة بن النّمر وعاتية بن النمر إلا أنهما دخيلان فى سليم. قالوا: عاتية وغاضرة ابنا سليم بن منصور.

وأما زبّان بن حلوان فأعقب من جرم بن زبّان، واليه يرجع كلّ جرمىّ. وفي جرم عدة بطون: منها ملكان بن جرم بفتح الميم واللام؛ بطن. وأما عمرو بن الحاف بن قضاعة فأعقب من ثلاث أفخاذ: بلىّ بن عمرو، وبهراء ابن عمرو، وحيدان، وقيل: حدّان بن عمرو؛ والى بلىّ هذا ينسب كلّ بلوىّ ككعب ابن عجرة البلوىّ، وبنو العجلان، وبنو أنيف، وبنو عصية [1] : وهم كلّهم حلفاء الأنصار: بنى عمرو بن عوف من الأوس وهى قبائل من بلىّ في الأنصار، منهم: المجذّر ابن ذياد وطلحة بن البرّاق، وأبو بردة بن نيار الصحابىّ بلوىّ حليف الأنصار واسمه هانئ. وأما بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فإليه ينسب كلّ بهرانىّ كالمقداد بن الأسود الكندىّ ولم يكن كنديّا ولكن كان بهرانيّا قضاعيّا: لأنه المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن لؤىّ بن ثعلبة ابن مالك بن الشّريد بن أبى أهون بن قيس بن دريم بن القين بن أهود بن بهراء. وإنما قيل المقداد بن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن زهرة تبنّاه لحلف كان بينهم فنسب اليه، وكان أبوه عمرو حليفا في كندة. وفي بهراء بطون. وأما حيدان، ويقال: حدّان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فمن بطونه خمس: عريب بن حيدان، وعريد بن جيدان، وتزيد بن حيدان؛ واليه تنسب الثياب التّزيدية، ومهرة بن حيدان. وإلى مهرة هذا ينسب كلّ مهرىّ، وفي مهرة أفخاذ، وحيادة بن حيدان.

_ [1] هكذا في الأصل، وفي الجوّانى: «غصينة» .

وأما أسلم بن الحاف بن قضاعة، فأعقب من فخذين: حوتكة وسود؛ فأما سود ابن أسلم بن الحاف، فأعقب من زيد وليث ابنى سود، وأعقب زيد بن سود من أربع بطون: جهينة، واليه يرجع كلّ جهنىّ، ونهد: رهط أبى عثمان النّهدىّ؛ واليه يرجع كلّ نهدىّ، وسعد هذيم، وعذرة؛ واليه يرجع كلّ عذرىّ أولاد زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقال ابن الكلبىّ: عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن كلب بن وبرة. فأما جهينة بن زيد، فرهط عقبة بن عامر الجهنىّ الصحابىّ. وفي جهينة الحرقة وهم بنو أحمس بن عامر بن مودعة بن جهينة. وفي نهد بن سود المقدّم ذكره: بنو حرقة بن خزيمة بن نهد. وفي عذرة بن زيد بن سود بن أسلم: بنو ضنّة بالنون بن عبد بن كبير بن عذرة بن زيد ابن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. ومن ولد ليث بن سود بن أسلم: بنو علّة بكسر العين مشدّدة اللام بن غنم بن سعد ابن زيد بن ليث بن سود، وفي سعد هذيم بن زيد بن سود: بنو علّة بن غنم ابن ضنّة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن أسلم. قال: فهذا نهاية الاختصار في نسب حمير. وهذا ولد كهلان أخيه. قال: وولد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر عليه السلام: زيدا، فولد زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن قحطان: مالكا وعريبا وهما فخذان. فالعقب من عريب بن زيد بن كهلان من يشجب.

والعقب من يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من زيد بن يشجب. والعقب من زيد هذا: أدد بن زيد بن يشجب. والعقب من أدّد في طيّئ بن أدد، واسمه جلهمة؛ وهو البطن العليا، واليه ينسب كل طائىّ، والأشعر بن أدد، واليه يرجع كل أشعرى، واسم الأشعر نبت، وإنما قيل له الأشعر: لأنه ولد أشعر الجسد، ومالك بن أدد وهو مذحج، واليه يرجع كلّ مذحجىّ. وقيل: إن مذحج أمّ مالك بن أدد فنسب اليها ولدها. وقيل: بل هى أكمة حمراء ولد عليها مالك، فعرف بها ولده. وقيل: بل اجتمعوا على الأكمة باليمن، والأكمة تسمى مذحج، فقالوا: تعالوا نجعل مذحجا أمّا. وذكر ابن عبد البرّ في روايته: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثر القبائل في الجنة مذحج» : ومذحج إحدى الجماجم التسع من جماجم العرب، سمّوا جماجم لأن ميلادها استوى بميلاد قبائل بإزائها من أفناء العرب، ثم تفرّعت منها قبائل اجتزأت بأسمائها والانتساب إليها فبعدت عنها واكتفت بانتسابها إليها. ومرّة بن أدد: أربع أبطن لأدد. والعقب من طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان من فخذين: فطرة والغوث ابنى طيئ. والعقب من فطرة بن طيّئ بن أدد من سعد بن فطرة. ومنه في خارجة بن سعد ومنه في جندب، ومنه في رومان بن جندب. والعقب من رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة من بطنين: ذهل وثعلبة، وهما الثّعلبتان وجماعة صغار.

والعقب من الغوث بن طيّئ من عمرو بن الغوث. والعقب من عمرو بن الغوث بن طيّئ من ثعل: بطن، ونبهان: بطن، وهناء ابن عمرو: بطن، وثعلبة بن عمرو: بطن، ومزروعة بن عمرو: بطن، وحسّان بن عمرو: بطن، وزيد بن عمرو: بطن، وخشين بن عمرو: بطن؛ وإلى نبهان هذا ينسب كل نبهانىّ. والعقب من نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من ابنيه: سعد ونائل، ومن بنى سعد بن نبهان: بنو اليسر بن ثعلبة بن نصر بن سعد بن نبهان: فخذ، وإلى هناء ابن عمرو هذا ينسب كلّ هنائىّ. والعقب من ثعل بن عمرو بن الغوث [1] . فأما سلامان فالعقب منه من عنيز وثعلبة ونبل [2] أولاد سلامان لصلبه؛ وعنيز هذا جدّ القبيلة المشهورة؛ وثعلبة هذا جدّ ثعلبة طائفة من العربان المجاورين للدّاروم من الشام [وهم] بطنان: درما وزريق، فالعقب من عنيز بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ من فخذين: فرير بن عنيز، له عدد، وعتود بن عنيز. والعقب من عتود، من معن وبحتر ابنيه، وإليهما يرجع كلّ معنىّ وبحترىّ، والشاعر البحترىّ منهم. والعقب من معن بن عتود من ثلاث: ثوب، وودّ، ومالك: بنى معن بن عتود.

_ [1] أسقط الناسخ الخبر وهو «من سلامان وجرول فأما الخ» كما يؤخذ مما يأتى في التفصيل فتنبه. [2] كذا بالأصل. ولعلها محرفة عن «نابل» أنظر نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب؛ للقلقشخدى. فى الكلام على بنى نابل.

والعقب من ثوب بن معن: غنم له عدد، وأبو حارثة فأعقب من غنم بن ثوب بن معن بن سلسلة الفخذ التى يرجع إليها كلّ بنى سلسلة المعنيّون. وأما بحتر بن عتود بن عنيز بن سلامان فالعقب منه في تدول بن بحتر. والعقب من تدول من ستة أفخاذ: وهم جدىّ، وسنام، وأيمن، وخيثم، وأعور، وسالم أولاد تدول. وأما ثعلبة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ فأعقب من عوف ابن ثعلبة، وأعقب عوف من فخذين: درما وزريق؛ ودرما هو عمرو بن عوف ودرما أمّه. فأعقب درما بن عوف بن ثعلبة بن سلامان من خمس أفخاذ: سلامة والأحمر وعمرو وقصير والأوس: أولاد درما. وأعقب زريق بن عوف بن ثعلبة من فخذين: لبنى والأشعث ولدى زريق. وأما جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ، فأعقب من ابنيه: معاوية وربيعة؛ فأعقب معاوية بن جرول من سنبس [1] : القبيلة المشهورة، وعدىّ ولوذان: أولاد معاوية. والعقب من سنبس بن معاوية بن جرول من ثلاث أفخاذ: عمرو، ولبيد، وعدىّ؛ فأما لبيد بن سنبس، فأعقب من حرمز، فأعقب حرمز من يحصب وجرم؛ وعقدة أولاد لبيد فخذان. وإلى لبيد هذا تنسب العرب السّنابسة الذين بالبحيرة من أعمال مصر؛ وهم من فخذ يقال لها: قنّة بن خلّاد. وأما عدىّ بن سنبس بن معاوية، فأعقب من أبان بن عدىّ، وهو فخذ.

_ [1] ضبط في الأصل بضم السين والباء وكذا في صبح الأعشى: وضبطه السويدىّ في سبائك الذهب بفتح السين. وذكر في القاموس أنه بالكسر وكذا هو في الصحاح واللسان وكتاب المعارف لابن قتيبة.

والعقب من ربيعة بن جرول بن أبى أحزم: هزومة، وأعقب هزومة من أحزم، وأعقب أحزم من عبشمس مكسور الباء متصلا. وأما مذجح: وهو مالك بن أدد بن زيد فأعقب من أفخاذ أربعة: سعد العشيرة، ومراد: هو يحابر، وعنس، ولميس، وجلد أولاد مالك وهو مذجح. وإلى مراد هذا ينسب كلّ مرادىّ، وسمّى مرادا لتمرّده، وإلى عنس ينسب كلّ عنسىّ، منهم عمّار بن ياسر الصحابىّ والأسود العنسىّ الكذّاب. والعقب من سعد العشيرة بن مالك من ثلاث عشرة فخذا: وهم زيد اللات، وعابد اللات، وعبد اللات، وجا [1] ، وجعفىّ، وجرد، وحكم، وأوس اللات، ونمرة، وأنس اللات، وسعد اللات، وعمرو، وصعب: أولاد سعد العشيرة لصلبه. فإلى جعفىّ هذا ينسب الجعفيّون، وإلى نمرة ينسب النمريّون؛ وفي نمرة فخذان: جدا، على وزن ندا، وسلهم ابنا نمرة. وأما جعفىّ فالعقب منه في فخذين: مرّان، وحريم ابنى جعفىّ بن سعد العشيرة، يرجع [2] بنو سلهم بن حكم فخذ بكسر السين والهاء. وأما صعب بن سعد العشيرة، فالعقب منه في زبيد، واسمه منبّه، وإليه يرجع كل زبيدىّ؛ وفيهم عدّة أفخاذ منهم بنو حرب وغيرهم. وقيل للفخذ زبيد وهم بنو منبّه الأكبر لأن منبّها الأصغر بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد قال: من يزبدنى رفده؟ فأجابه إلى ذلك أعمامه كلّهم بنو منبّه الأكبر، فقيل لهم جميعا زبيد. ومن بنى زبيد مازن بن منبّه.

_ [1] كذا بالأصل وصوابه «خارجة» . [2] كذا بالأصل والكلام مبنور.

والعقب من مراد بن مذجح من فخذين: ناجية وزاهر ابنى مراد بن مذجح. والعقب من ناجية: جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد: رهط هند بن عمرو الجملىّ الذى قتله ابن يثربى في يوم الجمل؛ وجمل هذه رهط سيفويه القاص. قال: وينزلون بنهر الملك؛ وعطيف بن ناجية بن مراد رهط فروة بن مسيك العطيفىّ الصحابىّ، وسلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد رهط عبيدة السّلمانىّ؛ وهو جاهلى إسلامىّ من كبار التابعين. ومن ناجية: قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد: رهط أويس القرنىّ نفعنا الله والمسلمين ببركته. وفي مراد، تجوب: وهو رجل من حمير، كان أصاب دما في قومه فلجأ إلى مراد فقال: جئت اليكم أجوب البلاد لأحالفكم؛ فقيل له: أنت تجوب، فسمّى به؛ وهو في مراد رهط عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ التّجوبىّ لعنه الله، قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وأمّا جلد بن مذحج، فأعقب منه علّة بن جلد؛ والعقب من علة من ثلاث أفخاذ: عمرو وعامر وحرب. فمن بنى حرب بن علة: رهاء: وهو رهاء بن منبّه بن حرب ابن علة: منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ الصحابىّ، ويزيد بن شجرة الرّهاوىّ، وصداء: وهو يزيد بن حرب بن علة، منهم زياد بن الحارث الصّدائىّ الصحابىّ. وأمّا عمرو بن علة بن جلد بن مذحج، فالعقب منه ثلاث أفخاذ: النّخع القبيلة المشهورة، وكعب، وعامر. فأمّا النّخع بن عمرو، فأعقب منه فخذان: مالك وعوف ابنا النّخع.

وأمّا كعب بن عمرو، فأعقب منه فخذان: الحارث، وهم بلحارث بن كعب ورعيل بن كعب. وأمّا عامر بن عمرو بن علة، فالعقب منه في فخذ واحدة: وهى مسلية بن عامر. وأمّا مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ، فأعقب من فخذين: مرهم والحارث ابنى مرّة بن أدد؛ فالعقب من الحارث من فخذين: عدىّ ومالك ولديه. فالعقب من مالك بن الحارث بن مرّة خولان بن عمرو بن مالك وإليه ينسب كلّ خولانىّ، ومعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب؛ وإليه ترجع المعافر في أنسابها، ولهم خطة بمصر، ومنهم فخذ بنى قرافة وهى أمّهم: وهم الذين عرفت بهم القرافة بمصر، ومسجدهم المسجد المعروف بمسجد الرحمة بالقرافة؛ وهم بنو عضّ بن سيف بن وائل بن الحرىّ بن المعافر بن يعفر. وأما عدىّ بن الحارث بن مرّة فأعقب من أربع أبطن لصلبه: وهم عفير ولخم: قبيلة؛ واسمه مالك بن عدىّ، وجذام بن عدىّ: قبيلة؛ واسمه عامر، والحارث بن عدىّ وهو عاملة: قبيلة، وإنما سمّيا لخما وجذاما: لأنّ أحدهما لخم وجه أخيه فسمّى لخما، واللخمة: اللطمة، وجذم الآخر إصبع أخيه فقطعها فسمّى جذاما: وهما القبيلتان المشهورتان؛ والحارث بن عدىّ وهو عاملة وإليه يرجع كلّ عاملىّ، وعاملة وهى بنت مالك بن وديعة بن قضاعة؛ وهى أمّ ولد الحارث المذكور. فأما عفير بن عدىّ بن الحارث فأعقب من ثور بن عفير، وثور هو كندة الملوك فأعقب كندة من فخذين: معاوية وأشرس ابنى ثور. والعقب من معاوية هذا من ابنيه مرتّع وزيد؛ فمن ولد مرتّع: بنو امرئ القيس وبنو الرائش وبنو معاوية

الأكرمين وبنو وهب. وبنو بدّا مشدّد، خمسة: بنو الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع. وإلى معاوية بن الحارث يرجع امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو ابن حجر آكل المرار بن معاوية المذكور الكندىّ الشاعر. والنسب إلى امرئ القيس بن الحارث بن معاوية المقدّم ذكره: مرقسىّ، مسموع عن العرب، وكلّ امرئ القيس غيره في العرب فالنسب مرئىّ بوزن مرعىّ. والعقب من أشرس بن ثور وهو: كندة بن عفير بن عدىّ: السّكون بن أشرس، والسّكاسك: وهو حميس السّكسك بن أشرس، وإليهما ينسب السّكونيون والسّكسكيّون؛ ومن السكونيّين معاوية بن حديج السكونىّ الصحابىّ، وحاشد بن أشرس، ومالك بن أشرس. والعقب من السكون بن أشرس من فخذين: شبيب وعقبة ابنى السّكون. أعقب شبيب بن السكون من أشرس وشكامة، فأعقب أشرس بن شبيب بن السّكون ابن أشرس من عدىّ وسعد: وهم تجيب البطن المشهورة؛ ولهم خطة بمصر، وعرفوا بتجيب: وهى أمّهم بنت ثوبان بن سليم بن رهاء بن منبّه بن حرب بن علة ابن جلد بن مذحج. والعقب من مالك بن أشرس بن شبيب المذكور: الصّدف، واسمه عمرو بن مالك، وإليه ينسب كلّ صدفىّ بالفتح كما قالوا: شقرىّ ونمرىّ وسلمىّ: فى شقرة تميم ونمر ابن قاسط وسلمة من الأنصار. ومن النسّابين من قال: الصدف هو سماك بن عمرو ابن دعمىّ بن حضرموت. وأما لخم بن عدى، فأعقب من فخذين وهما لصلبه: نمارة وجديلة، ويقال: جديلة؛ وذكر الوزير أبو القاسم بن المغربىّ أنه قيل فيها: جدبلة بالباء بواحدة.

والعقب من نمارة بن لخم بن عدىّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن مالك بن نمارة فخذ، وحبيب بن نمارة، وهو عمم [وعدىّ بن نمارة] [1] سمّى بذلك لأنّه أوّل من اعتمّ، وهو الذى عمّم ملوك العراق؛ ولهم إخوة صغار: كالوجفا بن نمارة وقبيصة وعمرو وعوف ومجن أولاد نمارة أعقبوا؛ ومن ينسب اليهم يعزى لجدّهم لخم وأمّهم نمارة. ومن بنى مالك بن نمارة الفخذ الأولى: بنو راشدة بن مالك بطن مشهورة. ومن بنى عدىّ بن نمارة؛ وهم عمم بن لخم: بنو نصر بن ربيعة من ربيعة بن نصر. ومن ولد نصر بن ربيعة: النعمان بن المنذر بن ماء السماء: وهى أمّه، بضدّ ما في غسّان، لأن غسّان عامرا ماء السماء أب فهو ثمّ «أب» وهاهنا «أمّ» ، وماء السماء هاهنا هو امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدىّ بن نصر بن ربيعة. قال: وفي ذلك خلاف. ومن بنى حبيب بن نمارة: بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة، ينتسب كلّ دارىّ إلى هذه البطن، وهم رهط تميم الدارىّ الصحابىّ المعروف بالمختطف، وقد انقرض تميم الدارىّ ولا عقب له. وأما جريلة [2] بن لخم ويقال: جزيلة، فأعقب من أراش وحجر وحليل ويشكر وعمرو، أولاد جزيلة بن لخم. فمن بنى أراش بن جزيلة أرش بن أراش لا غير؛ ويقال: أريش مصغّرا.

_ [1] الزيادة عن «السبائك» وتؤخذ أيضا من كلامه الآتى قريبا. [2] كذا في الأصل وفي السبائك أيضا بالزاى وأوردها القاموس في مادة (ج ز ل) وهو مخالف لما سلف له قريبا من قوله (جديلة) فتنبّه.

والعقب من أرش بن أراش من فخذين: غنم وحدس- بالحاء المهملة والدال المهملة المحرّكتين- والحمراء القبيلة؛ لها خطة بمصر، والأشعث فخذ، وهذه الحمراء فى غيرها من الحمراء من قضاعة، وفهم، وعدوان، والأزد، وهذيل بن مدركة وبنى الأزرق وهم من الروم؛ ومنهم سمّيت الحمراوات. فأعقب غنم بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من صعب وفهم وزرّ وعمرو: أولاد غنم. ومن شيوخ النسب من قال: إن النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن امرئ القيس. ابن المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عيينة بن أبى الحرام بن العمرّط بن غنم ابن عودة بن عبيد بن زرّ المذكور. والعقب من حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم من ربيعة ورميمة. والعقب من ربيعة بن حدس أربع عشائر: منارة، وسعد، وكعب، والهذيم: بنو ربيعة. والعقب من هذيم هذا من حداد وعامر والحارث: بنى الهذيم. والعقب من رميمة بن حدس بن أريش بن أراش بن جزيلة من عمرو وجدّه. والعقب من عمرو بن رميمة هذا: الحارث وصعب وعلامة وعدىّ والمنذر وثعلبة. فأما الحارث بن عمرو فأعقب من أبىّ بن الحارث، فأعقب أبىّ من كليب وعدىّ. والعقب من كليب بن أبىّ [بن] الحارث من أربع أفخاذ: فيض والحارث وغنم وعميت: أولاد كليب.

والعقب من فيض بن كليب من أربع أفخاذ: أبى الشتاء، ورقاش، وقحران، وصابى: أولاد فيض بن كليب. والعقب من الحارث بن كليب بن أبىّ من سعد وجدّه. وولد كعب بن غنم ثلاث أفخاذ: بنى قرقر بن كعب وبنى برّ بن كعب وبنى مرقّش بن كعب. ومن بنى برّ بن كعب: بنو واسع بن كعب: وهم بنو رومى وزهير وزير وحسان وبرّ: أولاد واسع، كلّ منهم فخذ. والعقب من عميت بن كليب بن أبىّ من دعجان وجدّه، ومن أفخاذه: مغالة بن دعجان: الفخذ المعروفة في آخرين. وأما حجر بن جزيلة بن لخم، فأعقب من ثلاث أفخاذ: أزدة وزغر وأذبّ. فأعقب أزدة من فخذين: منيع وعوف ابنى أزدة بن حجر. وأعقب زغر بن حجر من مالك بن دعن، وهو الذى استخرج يوسف الصدّيق عليه السلام من الجبّ، وله عقب. فهذا مختصر في نسب لخم. وأما جذام واسمه عامر، فالعقب منه في بطنين: حرام وحشم ابنى جذام. والعقب من حرام بن جذام من فخذين: إياس ومالك ابنى حرام بن جذام. والعقب من إياس بن حرام من ربيل بن إياس، ومن سعد بن إياس، فأعقب سعد هذا من أفصى، فأعقب أفصى بن سعد بن إياس من فخذين: زيد ومالك ابنى أفصى، وأعقب مالك هذا من سعد بطن المنسوب اليها بنو سعد جذام، وإن كان فى جذام عدّة سعود، لكن هذه ذات القعدد والبيت والصيت.

ومن ولد زيد بن أفصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام: سعد بن مالك بن زيد المذكور: بطن؛ ووائل بن مالك ولهبة؛ وإلى وائل بن مالك بن زيد: يرجع زيد [1] بن زنباع في نسبه. والعقب من مالك بن حرام بن جذام، من وائل وسعد. أعقب وائل بن مالك من حبيش وجمع ومازن. من ولد حبيش: شعيب النبىّ عليه السلام: وهو شعيب بن ثويب بن حبيش المذكور ابن وائل بن مالك بن حرام بن جذام. وأعقب سعد ابن مالك بن حرام بن جذام من غطفان: البطن الأكبر في جذام. وأعقب غطفان ابن سعد من يامة بن عنبس بن غطفان وغنم بن غطفان. وأعقب يامة بن عنبس ابن غطفان من علىّ بن يامة. وأعقب علىّ من كعب بن علىّ. وأعقب كعب بن علىّ من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبيد ومطرود وعوف؛ من ولد عبيد بن كعب هذا: الضّبيب بن قرط بن حفيد بن؟؟؟ ح [2] بن عبيد: فخذ. وأعقب مطرود الضبيب هذا من ثعلبة بن أميّة بن الضبيب: فخذ، وعمرو بن مالك بن الضبيب: فخذ. وأعقب مطرود بن كعب بن علىّ من خالد وعمرو ومبذول ونفاثة. فأعقب غنم بن غطفان بن سعد، من نضرة بن غنم في آخرين، فأعقب نضرة ابن غنم بن صبرة الفخذ المشهورة ابن نصر. والعقب من حشم بن جذام من بديل بن حشم. فالعقب من بديل: بكر وشنوءة ابنى بديل. والعقب من بكر هذا من سود بن بكر. والعقب من سعد: أسود وعمرو

_ [1] لعل الصواب «روح» . [2] كذا بالأصل ولم نعثر على صحّها في كتب الأنساب.

ابنا سود. والعقب من أسعد بن سود بن بكر بن بديل بن حشم بن جذام من فخذين: السلّم والهون ابنى أسعد. وفي سود أيضا: السلّم بن مالك بن سود بإسكان اللام فخذ. والعقب من عمرو بن سود من لهبة وحبيش وعدا: أولاد عمرو. فهذا مختصر من نسب جذام. وأما عائذة: وهم ولد الحارث بن عدىّ بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب وهو أخو جذام ولخم، فالعقب من الحارث بن عدىّ المذكور من فخذين: الزهد ومعاوية ابنى الحارث: وهما ابنا عاملة كما تقدّم؛ وزهد: فعل، من موهم: شىء زهيد أى قليل. والعقب من الزهد بن الحارث بن عدىّ من ثلاث أفخاذ: عوكلان وزحفان وسلمان: بنى الزهد. ومن بنى عوكلان المذكور السلّم بن ظبيان بن أبى عزم بن عوكلان المذكور. والعقب من معاوية بن الحارث بن عدىّ أخو الزهد خمس أفخاذ لصلبه: ثعل، وعجل، وسلمة، وقرّة، وثعلبة. قال: وهذا النهاية في اختصار نسب مرّة بن أدد. وأما الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، فأعقب من جماهير بن الأشعر وله عدد، وعبد الثريّا بن الأشعر وعبد شمس والأدغم ونعيم: أولاد الأشعر. وأعقب جماهير وهو جماهر بن الأشعر من ناجية بن جماهير له عدد. وأعقب ناجية من وائل بن ناجية وهو البيت. وهذا مختصر نسب الأشعريّين. ومنهم من الصحابة: أبو موسى وأبو عامر وأبو برزة؛ وهم فخذ متسع وفيه عدّة أفخاذ وعشائر يطول الكتاب بشرحها.

قال: وهذا نسب بنى مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. فالعقب من مالك بن زيد من بطنين: وهما نبت والخيار ابنا مالك. والعقب من نبت من الغوث ابنه. والعقب من الغوث بن نبت من عمرو والأزد؛ وإلى هذا الأزد ينسب كلّ أزدىّ. فمن ولد عمرو بن الغوث: بجيلة: وهم ولد أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان ابن عمر وأم الغوث وبجيلة بن أنمار: وهى بنت صعب بن سعد العشيرة بن مذحج، وقد قيل: بل هى أم ولد أنمار. والعقب من أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو بن مالك بن زيد: خمس قبائل: الغوث وعبقر وصهيبة ووداعة وأفتل: وهو خثعم: بنو أنمار بن أراش. قال: وذكر علماؤنا في النسب أن بجيلة هو عبقر والغوث وصهيبه، وسمّوا بذلك لأجل أمهم بجيلة، وأن خثعم هو أفتل وأمّه هند بنت الغافق الأزدىّ، وسمّى خثعم باسم جمل كان لآل أنمار أو لآل أفتل بن أنمار، وكانوا يسمّونه خثعم. ويقال: بل قيل خثعم لأنهم تخثعموا بالدم؛ والأوّل أقرب إلى الصحيح. والعقب من الغوث بن أنمار من ثلاث أفخاذ: وهم زيد وأحمس وقيس كندة: بنو الغوث. وفي أحمس هذا: أسلم بن أحمس: فخذ؛ وفي أسلم بن أحمس بن الغوث: دهن. معاوية بن أسلم بن أحمس؛ فخذ: رهط عمّار بن أبى معاوية الدّهنىّ الصحابىّ. والعقب من عبقر: بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو من ثلاث أفخاذ: قسر وعلقة وقطن: أولاد عبقر. وفي قسر: عرينة بن زيد بن قسر، يقال له: قسرىّ فى النسب، ويقال: عرنىّ. والى علقة يرجع كلّ علقىّ.

والعقب من صهيبة بجيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو: أتيد بن خطام بن صهيبة ابن أنمار: فخذ. والعقب من زرعة بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان بن عمرو من ثلاث أفخاذ: حزرق وسمط وحبيب: أولاد زرعة. والعقب من خثعم وهو أفتل بن أنمار بن أراش بن عمرو بن لحيان من ثلاث أفخاذ: شهران وربيعة وناهش: أولاد عقرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم. وفي ربيعة بن أفرس: بنو أكلب بن ربيعة. فهذا مختصر كاف في بجيلة وخثعم. وأما الأزد بن الغوث (واسمه دراء: مثل رداء وقيل: درء مثل درع،) فالعقب من ولده أربع أبطن: وهم مازن وغسّان؛ وغسّان ماء بسدّ مأرب باليمن وقيل: بالمشلّل نزاوا به فنسبوا اليه. والى غسّان هذا ينسب كلّ غسّانىّ، ونصر وعبد الله والهنو بنو الأزد بن الغوث. والى غسّان هذا يرجع الأنصار، وقد يكون من غسّان من ليس أنصاريّا كثيرا، ويكون من مازن من ليس غسّانيا. والذى نزل على غسان من الأزد بعض بنى امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول ابن مازن وماويّة وربيعة وامرؤ القيس: بنو عمرو بن الأزد، وكرز وعامر ابنا ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد. والعقب من عبد الله بن الأزد بن الغوث من ثلاث أفخاذ: الحارث وقرن وعدثان: أولاد عبد الله بن الأزد

والعقب من عدثان [1] هذا من عكّ وسود ومالك وغالب وكعب. ومن بنى سود ابن عدثان: طاحية بن سود: فخذ. والعقب من عك بن عدثان فخذان: الشاهد وصحار ابنا عكّ. والعقب من الشاهد بن عكّ: غافق، وإليه ينسب كلّ غافقىّ، قال: ولهم خطّة بمصر، وساعدة ابنا الشاهد. وقيل: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن الحارث ابن عدثان. والعقب من صحار بن عك بن عدثان: بولان وعبس وغسّان: أولاد صحار هذا. وأما نضر بن الأزد، فأعقب من مالك بن نصر من أربع قبائل: عبد الله وراسب وميدعان وأكفر من حمار: أولاد مالك بن نصر بن الأزد. والى راسب ينسب كلّ راسبىّ. وفي بنى مالك راسبيّون أخر يأتى ذكرهم إن شاء الله تعالى. والعقب من عبد الله بن مالك في كعب بن عبد الله. ومنه في الحارث بن كعب. والعقب من الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك من ثلاث أفخاذ: كعب ومالك ونبيشة وهو فاسخة. فمن ولد فاسخة بن الحارث بن كعب: بنو غراء بن شريق ابن فاسخة؛ ومن ولد مالك بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: بنو مجاعة وبنو الأرنب: ابنى مالك. والعقب من كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر: زهران وأحجن وعبد الله: أولاد كعب بن الحارث. والى زهران ينسب كلّ زهرانىّ.

_ [1] ورد في كل كتب النسب التى تحت أيدينا باسم (عدنان) بالنون وقال عنها صاحب القاموس ما يأتى: «وعك بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن الأزد، وليس ابن عدنان أخا معدّ» .

ومن أفخاذه: دهمان بن نصر بن زهران، وغاضرة بن زهران، ودوس بن عدثان من زهران، منهم: أبو هريرة الدوسىّ الصحابىّ؛ واسمه عمرو بن عامر، وفي اسمه خلاف. والعقب من أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر من ثلاث: أسلم ولهب وقرن، أولاد أحجن فمن أفخاذ أسلم هذا: بنو ثمالة وهو عوف بن أسلم بن أحجن: رهط محمد بن يزيد المبرّد النحوىّ؛ وفيه يقول عبد الصمد ابن المعدّل. سألنا عن ثمالة كلّ حىّ ... فقال القائلون: ومن ثماله؟ فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله. وأما ميدعان بن مالك بن نصر فمنه أربع أفخاذ: راسب واليه ينسب الراسبيّون أيضا، ومنهب وحبيب ومعاوية: بنو مالك بن ميدعان. فهذا مختصر نسب بنى نصر الأزديّين. وأما الهنو بن الأزد، فأعقب من سبع أفخاذ: الهون وبديد ودهنة وبرقا وعوجا وأفكه وحجر: أولاد الهنو. فأعقب الهون من فخذين: النّدب ونكل. وأما مازن بن غسّان بن الأزد فأعقب من فخذين لصليه: وهما عمرو وثعلبة العنقاء، سمّى بالعنقاء: لطول عنقه. فالعقب من عمرو بن مازن بن الأزد في عدّة أولاد، كلّهم في الأزد، من جماجمهم: عدىّ والعاص. فأما العاص فمن ولده: بنو بقيلة بن سنين بن زيد بن سعد بن عدىّ ابن نمير بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن، وسمّى بقيلة: لأنه لبس ثوبين أخضرين.

وأما عدىّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، فأعقب من عدّة أولاد، من جماجمهم: هند بن هند بن عمرو بن عدىّ وصبرة بن عمرو بن صبرة بن حارثة بن عدىّ ومسعود بن مازن بن ذئب بن عدىّ؛ اليه يرجع سطيح الكاهن وكلّ مسعودىّ فى الأزد، وجميع بنى عدىّ بن عمرو يعزون الى الأزد. وأعقب ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان من امرئ القيس البطريق بن ثعلبة؛ فأعقب امرؤ القيس البطريق: حارثة الغطريف؛ فأعقب الفطريف من عامر ماء السماء؛ فأعقب عامر ماء السماء من عمران وعمرو وهو مزيقياء سمّى بذلك: لأنه كان يمزّق في كلّ يوم [حلّتين] لئلا يلبسهما غيره. والعقب من عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة العنقاء بن مازن بن غسّان وهو السّراج بن الأزد بن الغوث فى ست أفخاذ: ثعلبة: بطن الأنصار، وحارثة: بطن خزاعة، وجفنة: بطن، وعمران من أزد عمان، ومحرّق: بطن، سمّى بذلك لأنه أوّل من حرّق بالنار، وكعب: أولاد عمرو مزيقياء واليهما يرجع نسب الأنصار. فأما الأوس بن ثعلبة بن عمرو فأعقب من مالك بن الأوس، وأعقب مالك من خمس قبائل: النّبيت، وعوف، وجشم، وامرئ القيس، ومرّة: أولاد مالك بن الأوس. قال: وسمّى النّبيت نبيتا لكثرة ولده، فأعقب النبيت من فخذين: الحارث وكعب وهو ظفر بن الخزرج بن النبيت الأوسىّ. فأعقب الحارث بن الخزرج بن النبيت من ابنيه: جشم وحابية. فأعقب جشم من رعوان وانقرض، ومن عبد الأشهل: ابنى جشم. وأعقب حابية بن الحارث من مجذعة وجويرة وجشم بنى حارثة. ومن بنى جشم بن حارثة: بنو خديج بن رافع بن عدىّ بن جشم، وطهر بن رافع بن عدى.

واما ظفر وهو كعب بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس- وبنو ظفر البطن المشهورة في الأوس- فأعقب من أربع أفخاذ: وهم بنو مرة وهيثم وعبد رداح وسواد: بنى ظفر بن الخزرج. ومن بنى سواد: بنو الحطيم بن عدىّ بن عمرو ابن سواد: فخذ؛ فهؤلاء بنو النبيت. أما عوف بن مالك بن الأوس، فأعقب من عمرو، وأعقب عمرو من لوذان، فجدّهم بنو السّميعة وثعلبة وحبيب وعوف: أولاد عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. والعقب من عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من بنيه: مالك وجلس وكلفة. فأعقب مالك بن عوف من بنيه: عزير ومعاوية وزيد. وأعقب زيد بن مالك هذا من ضبيعة: الفخذ المشهورة، وأميّة الفخذ المشهورة في الإسلام، وعبيد أولاد زيد. وبنو ضبيعة بن زيد بن مالك، يقال لولده: بنو كسر الذهب، منهم: بنو حارثة بن عامر بن مجمّع بن عطاف بن ضبيعة بن زيد: بطن معروفة. ومن أفخاذ كلفة بن عمرو بن عوف: جلاح بن حريش بن جحجبى من كلفة: بطن. وأما جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من خطمة: بطن؛ واسم خطمة عبد الله، وإنما سمّى خطمة: لأنه خطم رجلا بسيفه على خطمه فسمّى به، وأعقب خطمة بن جشم من ثلاث أفخاذ: الحارث وعامر ولوذان: بنى خطمة. وأما امرؤ القيس بن مالك بن الأوس، فأعقب من فخذين: بنى السلّم وبنى واقف، وإليه يرجع كلّ واقفىّ في الأوس. وأما مرّة بن مالك بن الأوس بن حارثة، فأعقب من ثلاث أفخاذ: عامر وسعيد ومازن. وهذا نهاية الاختصار في ولد الأوس.

وأما الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ: الحارث وعمرو وعوف وجشم وكعب: بنى الخزرج. والعقب من الحارث هذا من سبع أفخاذ: عوف وحرديش وجشم وصخر وجديم والخزرج وزيد: أولاد الحارث، ومن عوف بن الحارث بن الخزرج: خدرة وخدار ابنا عوف؛ ولخدرة يرجع أبو سعيد الخدرىّ، وهو فخذ بنى خدرة. وأما عمرو بن الخزرج فمن ولده: بنو النجّار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج: البطن المشهورة؛ واسم النجار: تيم الله يدعى العتر، وإليه يرجع حسّان بن ثابت ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدىّ بن عمرو بن مالك بن النجار الشاعر: أعنى بالشاعر حسّان، وقد انقرض عقب حسّان. وأما عوف بن الخزرج فمن أفخاذه: بنو غنم قوقل: فخذ، وهو أطم كان لبنى غنم، وسالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وغنم: رهط عبادة بن الصامت الصحابىّ. ومن بنى عوف بن الخزرج: سالم الحبلى بن غنم بن عوف، سمّى بذلك لعظم بطنه. وأما جشم بن الخزرج، فأعقب من فخذين: وهما تزيد وغصب ابناه لصلبه؛ فمن أفخاذ تزيد بن جشم هذا: بنو سلمة وربيعة ابنا سعد بن علىّ بن راشد بن ساردة ابن تزيد. وسلمة رهط معاذ بن جبل الصحابىّ بكسر اللام. وأما غصب بن جشم بن الخزرج، فمن أفخاذه: بنو زريق وبياضة: ابنى عامر ابن زريق بن عبد بن حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج.

وأما كعب بن الخزرج فمن أفخاذه: سعيد وقيس ابنا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة ابن أبى جذيمة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج؛ وقد انقرض قيس بن سعد بن عبادة. ومن كعب بن الخزرج المذكور غير طريف هذا: ثلاث أفخاذ أخر إخوة طريف ابن الخزرج هذا: وهم ثعلبة وعامر وعمرو؛ كان لعامر هذا ابن الخزرج بن ساعدة ابن كعب بن الخزرج الأوّل: بنو قسّيّة بن عامر وقد انقرضوا عن آخرهم. فهذا مختصر كاف في أنساب الأوس والخزرج. وأما حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: عمرو بن ربيعة بن حارثة وهو أبو خزاعة؛ وإنما قيل لهم خزاعة: لأنهم انخزعوا من بنى عمرو مزيقياء بن عامر، والانخزاع التقاعس والتخلّف، فأقاموا بمرّ الظّهران بجنبات الحرم وولّوا حجابة البيت دهرا وهم حلفاء بنى هاشم؛ وقد اختلف النسّابون في خزاعة بعد إجماعهم على أنهم ولد عمرو بن لحىّ وأنّ خزاعة هو كعب بن عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف، وهو ابن الياس بن مضر؛ وعمرو بن لحىّ: هو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [فيه] لأكثم بن أبى الجون الخزاعىّ: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، ما رأيت رجلا أشبه منه برجل منك» ، فقال أكثم: أيضرّنى شبهه يا رسول الله؟ فقال: «لا، لأنك مسلم وهو كافر» والقصب: الحشوة من الأمعاء وهو المصران؛ وكان عمرو بن لحىّ أوّل من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامى. قال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما: نزل القرءان بلغة الكعبين: كعب بن لؤىّ وكعب بن

عمرو بن لحىّ، وذلك أن دارهم كانت واحدة، وأفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء وعدىّ بن حارثة وعمرو بن حارثة. فأما عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مريقياء، قال شيخنا شيخ الشرف: عمرو هو خزاعة نفسه أعقب من خمس أفخاذ: كعب وسعد وعدىّ ومليح وهو لحىّ: بطن كثّير بن عبد الرحمن الشاعر، وعوف بن عمرو خزاعة. فأما كعب بن عمرو خزاعة بن ربيعة، فأعقب من ستّ أفخاذ: وهم منقذ وسلول وحبشيّة ومطرود ومازن وسعد: أولاد كعب بن عمرو خزاعة. فأما سلول بن كعب، وإليه ينسب كلّ سلولىّ، فأعقب من ثلاث أفخاذ: حبشيّة وعدىّ وحرمز، فأعقب حبشيّة بن سلول من قمير وضاطر وكليب وحليل وغاضرة: بنيه لصلبه. وأعقب عدىّ بن سلول من حبير وهينه وحريز: بنى عدىّ. وأما حبشيّة بن كعب بن عمرو خزاعة، فأعقب من ابنيه لصلبه: غاضرة وحرام. وأما سعد بن عمرو وهو خزاعة، فأعقب من ثلاث قبائل: بنى المصطلق، وبنى عامر وبنى الكاهن. وأما أفصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فإنه أعقب من أسلم: بطن في آخرين: وهم ملكان وزيد وعمرو وعدىّ وجهادة وحطّاب وسوادة وجريش وامرؤ القيس وصهيبة وجشم. فمن بنى أسلم بن أفصى: سلامان: فخذ، وهوزن: فخذ: ابنا أسلم بن أفصى، ومن ملكان، بالفتح، بن أفصى: غبشان بن ملكان: فخذ، منهم: ذو الشّمالين المقتول ببدر.

وأما عدىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من سعد بارق، نزل بماء بالسراة أيام سدّ مأرب يسمّى بارق، وقيل: هو جبل. وقيل: بل تبعوا البرق فسمّوا بذلك، وعمرو وعوف: بنى عدىّ. وأما عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من الأسد والحجر ابنيه لصلبه؛ فأعقب الأسد من ثلاث أفخاذ: العتيك وشهيل والحارث: بنى الأسد. فمن ولد العتيك: أسد بن الحارث بن العتيك: فخذ، ووائل بن الحارث، واليه ينسب المهلّب بن أبى صفرة. وأما الحجر بن عمران بن عمرو مزيقياء، فأعقب من أربع أفخاذ: زيد مناة ومرحوم وعمرو وسود: أولاده لصلبه؛ فأعقب عمرو بن الحجر من ابنه رباب. وأما كعب بن عمرو مزيقياء، فأعقب من خمس أفخاذ: السموءل وحنظلة وثعلبة ومالك وقاتل الجوع: أولاد كعب بن عمرو. وأما عمرو بن حارثة بن عمرو مزيقياء، فأعقب من ثلاث أفخاذ: حارثة والرّبعة وملادس: بنى عمرو. وأما جفنة بن عمرو مزيقياء، فهم ملوك الشام. والعقب من جفنة من ثلاث أفخاذ: كعب ورفاعة والحارث: بنى جفنة في آخرين. فالعقب من كعب بن جفنة بن مزيقياء، من أمام والحارث: ابنيه لصلبه؛ ومن ولد أمام: جبلة بن الأيهم بن عمرو بن جبلة بن الحارث الأعرج بن جبلة بن لحارث الأوسط بن ثعلبة بن الحارث الأكبر بن عمرو بن حجر بن هند بن أمام هذا ابن كعب بن جفنة بن عمرو مزيقياء. وقيل: بل هو جبلة بن الأيهم بن جبلة

ابن الحارث الأكبر بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وفيه اختلاف؛ وجبلة هو الذى تنصّر في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ومن رفاعة بن جفنة: السموءل ابن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة: بطن؛ وأعقب الحارث بن جفنة من المنذر ابن النعمان بن الحارث: بطن، ومن الحسحاس ومنارة: ابنى عوف بن الحارث: بطن. وجماعة من قبيلة الأرمن نصارى يزعمون أن جدّهم هيّر يرجع الى جفنة غسّان. وأما الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان، فالعقب من ولده في همدان: وهو أوسلة ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار المذكور. وقيل: هو الجبار بالجيم والباء الموحدة. والعقب من همدان: ابن مالك بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان هذا، ومن جشم: ابن بكيل وهو الحبك: فخذ، وحاشد ابنا جشم لصلبه. فأعقب الحبك من دومان وسوران وخيران. فمن ولد دومان بن الحبك وهو بكيل: أرحب ومرهنه: ابنا عامر بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان، اليه ينسب كلّ أرحبىّ. ومن حاشد ابن جشم بن خيران: سبيع: فخذ، ابن سبع بن صعب ابن خيران بن معاوية بن كبير بن خيران: وهو مالك بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران: رهط أبى إسحاق السّبيعىّ؛ وفي ذلك خلاف بين النسّابين فى الأسماء. وذكر بعض النّسابين أنّ ألهان بن مالك: أخا همدان بن مالك، اليه يرجع وينسب كلّ ألهانىّ: وهم قليل، ويام بن أحىّ بن نافع بن خيران وهو مالك بن زيد: رهط زبيد اليامىّ شيخ التّوّزىّ.

وذكر بعض النّسابين: أن الأوزاع، وهم من مزيدة بن زيد عددهم في همدان وهم من حمير، واليه يرجع كلّ أوزاعىّ. ومن ولد سدد بن زرعة وهو حمير الأصغر: الأوزاع بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سدد، والأوزاع بن زيد ابن سدد، والأوزاع بن سدد، والأوزاع بن شقران بن المعلّل بن سدد. قال: وهذه النهاية في اختصار أنساب اليمن. وقد احتوت على الغاية في حسن إيصال البطون وتبيينها في الترتيب؛ فلنرجع الى عمود النسب المحمدىّ فنقول: إن عمود النسب من عابر بن شالخ في ابنه: فالغ بن عابر؛ وأمّه ميشاخا؛ وكان له من الولد غير عمود النسب الجبابرة، مثل تميم وقينان وسيرى [1] ومدبّر وغيرهم انقرضوا كلّهم لم يعقب منهم إلا أرغو بن فالغ، وهو الجدّ الذى يرجع إليه كلّ قرشىّ وكلّ قيسى، وهو أحد شعبى النسب. والعقب من ولده في أرغو بن فالغ [1] وكان منه جبابرة انقرضوا. وعقبه في ابنه ساروغ بن أرغو. وكان له غير عمود النسب من العقب عشائر وأولاد جبابرة. منهم يعصم، ويعظم، ونعمان، وبعلاك، وبهران، وكاشم، وطولان، وغيرهم هلكوا دارجين. والعقب منه في ابنه ناحور بن ساروغ، فالعقب من ناحور في ابنه تارح: وهو آزر بن ناحور. ومن تارح غير عمود النسب: هاران بن تارح وناحور بن تارح، فولد هاران: لوطا النبىّ صلى الله عليه وسلم. وعمود النسب من آزر في ابنه:

_ [1] الاسمان المرقومان برقم 1 وردا في الأصل هكذا، وفي التوراة: (سترى) . (رعو بن فالج) .

إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام

إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام وهو الجدّ الحادى والثلاثون لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأمه أدبا بنت نمر بن أرغو بن فالغ بن عابر. وله من الولد غير إسمعيل عمود النسب: إسحاق عليه السلام ويشباق: وهو طالب، وسوّاح: وهو خاضع، وزمران: وهو نجدان، ومدان، ويقشان: وهو مصعب؛ فهؤلاء ولد إبراهيم عليه السلام لصلبه، والعقب منهم غير عمود النسب وهو إسماعيل لإسحاق لا غير. فولد إسحاق صلى الله عليه وسلم: يعقوب إسرائيل الله صلى الله عليه وسلم والعيص وهو عيصو، [1] ، ولدا في بطن واحد، فخرج عيصو أوّلا وخرج يعقوب بعده، ويده عالقة بعقبه فسمّى يعقوب. وأمّهما رفقا بنت [1] ناحور بن تارح بنت عمّ أبيهما إسحاق. فولد العيص بن إسحاق: رعوال [1] ويعوس وأليفاز ويعلام وقورح وروم. فولد أليفاز بن العيص: عمالق [1] وغيره. وولد رعوال بن العيص: ناجب وغيره. وولد روم بن العيص بن إسحاق: بنى الأصفر لأن روم كان رجلا أصفر في بياض فلذلك سمّيت الروم: بنى الأصفر. قال: وعمر عيصو مائة وسبعا وأربعين سنة. وكذلك يعقوب؛ ودفنا معا عند قبر ابيهما إبراهيم الخليل عليه السلام في مزرعة حبرون. وقيل: هى مزرعة عفرون كان إبراهيم اشتراها لقبره، وفيها دفنت سارة. ومن ولد العيص: أيوب النبىّ عليه السلام، قيل: هو أيوب بن أموص بن تارح ابن رفو بن عيصان بن إسحاق، وأمّه من ولد لوط بن هاران عليه السلام. وولد يعقوب عليه السلام: اثنى عشر سبطا. منهم يوسف النبى عليه السلام: عزيز مصر وصاحبها، وإخوته: كاد [1] وبنيامين ويهوذا ونفتالى وزبولون وشمعون

_ [1] الأسماء المنمرة بنمرة 1 وردت كذا في الأصل؛ وفي التوراة: عيسو. رفقة. رعوئيل. يعوش. عماليق. جاد.

ورأوبين، وكشاحا، ولاوى، ودان، وياشير [1] . جاء من ولد يهوذا: سليمان النبىّ عليه السلام، وجاء من سليمان: مريم ابنة عمران أمّ المسيح عليهما السلام. وجاء من لاوى بن يعقوب: موسى كليم الله وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن قاهث، وجاء من ولد هارون: يحيى بن زكريّا والياس واليسع والعزيز. وقد روى: أن الياس بن حضر نبىّ، وأنه المعنىّ بقوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ في قراءة نافع وابن عامر، وأن آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. والعقب من يوسف الصدّيق عليه السلام: أفرائيم ومنشّا [2] ابنيه لصلبه؛ فمن ولد أفرائيم: يوشع بن نون وصىّ موسى عليه السلام: وهو الذى ردّت عليه الشمس فى حربه: وهو يوشع بن نون بن عازر بن شوتالج بن داباد بن ناحب بن العاد ابن ناحب بن يارد بن شوتالج بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب. وفي ولد منشا ابن يوسف: موسى بن منشا بن يوسف. وولد لمنشا ابنة اسمها رحمة: وهى امرأة أيوب عليه السلام. قال: وزعم أهل التوراة أن الله تعالى نبّأه وأنه صاحب الخضر. وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب، فشا في الأسباط الكهانة فبعث الله تعالى موسى بن منشا يدعوهم الى عبادة الله تعالى، وهو قبل موسى بن عمران بثمانمائة سنة والله تعالى أعلم. ونرجع إلى عمود النسب؛ وهو من إبراهيم في ولده إسماعيل: الذبيح بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وأمه أم ولد، تدعى هاجر، من قبط مصر، من قرية يقال لها: أمّ العرب نحو الفرما.

_ [1] فى التوراة: أشير. [2] فى التوراة: منسّى.

واختلف العلماء فيما بين عدنان إلى إسماعيل في ذكر الآباء: فمن العلماء من ينسب اليمن إلى إسمعيل عليه السلام ويقولون: إنهم من ولد يمن بن نبت بن إسماعيل، وافترق باقى ولد إسماعيل في أقطار الأرض فدخلوا في قبائل العرب ودرج بعضهم فلم ينسب النسابون لهم نسبا إلا من كان من ولد قيدار ابنه عمود النسب. قال: واتفق أهل العلم بالنسب كما وجدوه في التوراة وكما حملوه عن علماء أهل الكتاب، وكما روى عن عبد الله بن عباس: أن النسب فيما بين آدم وإسماعيل صحيح على ما أوردناه لا خلف فيه بينهم ولا خلاف إلا في الأسماء لتنقل الألسنة، وإنما الخلاف فيما بين إسماعيل وعدنان، وذلك أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، فمن أجل ذلك حدث الاختلاف فيما حفظوه، فقال قوم برواية وقال آخرون برواية. قال: وهذه الرواية التى أوردها في هذا التأليف هى أحسن الروايات، وهى عمدة أكثر النسّابين الأجلّاء، وعليها كان يعتمد شيخ الشرف محمد بن أبى جعفر الحسينىّ العبيدلىّ النسابة، وهى رواية عبد الله بن عباس، واختيار أبى بكر محمد بن عبده العبقسىّ النسّابة الطرسوسى وغيره. وكان لإسماعيل عليه السلام من الولد غير قيدار عمود النسب أحد عشر ولدا: وهم مسّا ويطور ومسماع ودوماء، وقيل: هو الذى بنى دومة الجندل، ومبشام وإديال ونعابوا وتيما، وحداد ونافيس وقيدما. وعمود النسب من إسماعيل عليه السلام في ابنه قيدار بن إسماعيل، وأمّه هالة بنت الحارث بن مضاض الجرهمىّ ويقال: اسمها سلمى، وقيل: الحنفا، وقيل: هى أم أولاد إسماعيل كلهم.

والعقب منه في ابنه حمل بن قيدار؛ وأمه الغاضريّة بنت مالك الجرهمىّ. والعقب منه في نبت بن حمل وأمّه هامة بنت زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وتدعى حريرة. والعقب من نبت في ابنه سلامان بن نبت. والعقب من سلامان في ابنه الهميسع بن سلامان، أمّه حارثة بنت مراد بن زرعة ذى رعين الحميرىّ. والعقب منه في ابنه اليسع بن الهميسع. والعقب من اليسع في ابنه أدد بن اليسع، وأمّه حيّة من قحطان. والعقب منه في ابنه أدّ بن أدد، وأمّه النعجا بنت عمرو بن تبّع سعد ذى فائش الحميرىّ. والعقب منه في ابنه عدنان بن أدّ، وأمّه المتمطّرة بنت عدى الجرهميّة: وهو الجدّ الحادى والعشرون لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال أكثر النسّابين: إن العقب من عدنان غير معدّ عمود النسب من عكّ: وهو الحارث والذئب والنعمان والضحّاك لا عقب له: وهو المذهب الذى يقال فى المثل: «أحسن من المذهب» وعدىّ درج؛ والغنىّ وأبىّ وعدن: وهو صاحب عدن، وعمرو ونبت وأدّ وعدا انقلبت في اليمن. فأما عكّ بن عدنان فكلّ من كان منهم بالمشرق فهم ينسبون الى الأزد، والذى فى الأزد أيضا عكّ بن عدنان بالثاء المثلّثة ابن عبد الله بن الأزد.

وقال شيخ الشرف النسّابة: عكّ بن عدنان بالنون. وقال الأفطسىّ النسابة: عكّ بن الحارث بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وكلّ من كان منهم بالشام ومصر واليمن والمغرب فهم مقيمون على نسبهم في عدنان. وأما الذئب بن عدنان فيزعمون أن الأوس والخزرج من ولده. قال عبّاس بن مرداس: وعكّ بن عدنان الذين تلعّبوا ... بغسّان حتى طرّدوا كلّ مطرد نرجع. وعمود النسب من عدنان في ابنه معدّ بن عدنان، وأمّه مهدد بنت اللهمّ الجرهميّة. قال [1] النسابون في أولاده لصلبه فقالوا: إن ولده أحد عشر رجلا: وقالوا: ثمانية، وزاد آخرون، وقال قوم: لم يكن له غير نزار. قال: فالذى أورد له أحد عشر ولدا قال: والعقب من معدّ بن عدنان: عبيد الرّمّاح أعقب، وجنيد وجنادة وحيد وقبضة، وقيل: بل اسمه قنص انقرض، وقناصة وحيدان أعقب، وشطّ وعوف وسنام وقضاعة، قال العلماء: وكلّهم انتقلوا في اليمن وغيرها إلا نزارا. وقد قيل: إن حيدان هذا هو أبو مهرة: القبيلة. وقال النسّابون: والقحم أعقب، وسنام أعقب، وحبيب والضحّاك أعقب، وأود أعقب: أولاد معدّ. فأمّا عبيد الرّمّاح فانتسب في بنى مالك بن كنانة، ومنهم كان إبراهيم بن عربىّ صاحب اليمامة. وأمّا سنام بن معدّ فإنه انتسب في سعد العشيرة بن مالك في اليمن.

_ [1] لعله: قال واختلف النسابون الخ.

وأمّا حيدة بن معدّ فانتسب في الأشعريّين. وأمّا القحم بن معدّ فانتسب في مالك بن كنانة. وأمّا أود بن كعب فانتسب في مذحج. وأمّا قنص فانقرض عقبه، وقيل: كان منهم النعمان بن المنذر. وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: ذو القرنين عبد الله بن الضحاك بن معدّ بن عدنان. نرجع. وعمود النسب من معدّ بن عدنان في ابنه نزار بن معدّ وأمّه معانة بنت جوشم [1] الجرهميّة، ومنه غير مضر الذى هو عمود النسب ثلاث بطون: ربيعة الفرس وإياد وأنمار: بنو نزار. والصّريحان من ولد إسماعيل عليه السلام: مضر الحمراء وربيعة الفرس. وقولهم: ربيعة الفرس ومضر الحمراء، فزعموا أنه لما مات نزار تقسم بنوه ميراثه واستهمّوا عليه؛ وكان له فرس، مشهور فضله في العرب فأصابه ربيعة فقيل: ربيعة الفرس؛ وكان له ناقة حمراء، مشهورة الفضل بين العرب فأصابها مضر فقيل: مضر الحمراء؛ وكان له جفنة عظيمة يطعم فيها الطعام فأصابها إياد؛ وكان له قدح كبير يسقى فيه اللبن إذا أطعم فأصابه أنمار. هذا أحد ما قيل في ذلك، وسنذكر ما قيل في قسمة ميراث نزار وما اتفق لأولاده مع الأفعى الجرهمىّ في أمثال العرب في حرف الهمزة وفي قولهم: «إن العصا من العصيّة» ، وهو في الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفن في أوّل السفر الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

_ [1] كذا في الأصل وفي الطبرىّ: جرشم.

نرجع. فأمّا أنمار بن نزار فإنها انقلبت في اليمن، قال: كذا روينا عن شيوخنا فى النسب ومن قال: إنها انقلبت في اليمن يقول فيه: إنّ خثعم وبجيلة ابنا أنمار بن نزار، وإنما لحقا باليمن وانتسبا عن جهل منهما إلى أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث ابن النبيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأمّا إياد بن نزار وهى القبيلة التى يرجع اليها كلّ إيادىّ، فمنها فخذان: بنو دعمىّ ابن إياد، وبنو زهر بن إياد؛ ومن زهر بنو حذاقة بن زهر: عشيرة في إياد، اليها ينسب الحذاقيّون. وأما ربيعة الفرس بن نزار بن معدّ، فأعقب من ثلاثة أبطن: أسد، وهو البطن الأعظم من ربيعة، وضبيعة بن ربيعة، وأكلب. وضبيعة يقال له: ضبيعة الأضجم: لأنه كان مائل الفم. ومن أكلب أفخاذ: منها لصلبه: هرير وعوف ومعن ومبشّر وجليلة. والعقب من ضبيعة بن ربيعة بن نزار من ثلاث قبائل: جلّى وعوف وبدر: بنو أحمس بن ضبيعة؛ ومن بنى جلّى: بنو مجمّع الشعوب: ربيعة بن سلمة بن سعد بن بلال ابن بهثة بن حرب بن وهب بن جلّى: بطن. وأما أسد بن ربيعة فمنه ثلاث بطون: أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، وعنزة ابن اللهازم بن أسد، واسمه عمرو، وعميرة بن أسد؛ وإلى عنزة ينسب كلّ عنزىّ محرّك النون. والعقب من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: وهما أسلم ويقدم: ابنا يذكر ابن عنزة بن أسد. فمن أسلم فخذان: بنو صباح، وهو قمر الليل والنهار، وبنو حلّان:

ابنى العتيك بن أسلم. ومن يقدم بن يذكر فخذان: تيم ونصر: ابنا يقدم. ومن بنى تيم: بنو هميم بن عبد العزّى بن ربيعة بن تيم بن يقدم. والعقب من عميرة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذان: هما مبشّر وعدىّ: ابنا عميرة بن أسد بن ربيعة. وأما أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد، فمنه بطنان: هنب وعبد القيس: ابنا أفصى بن دعمىّ بن جديلة؛ وإلى عبد القيس هدا ينسب كلّ عبقسىّ. والعقب من عبد القيس بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة بن أسد من افصى بن عبد القيس، واللّبود بن عبد القيس. والعقب من أفصى بن عبد القيس من لكيز بن أفصى وشنّ بن أفصى. فمن لكيز بن أفصى ثلاث عشائر: وديعة وصباح ونكرة. فمن ولد نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس: دهن بن عذرة بن منبّه بن نكرة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس؛ وليس دهن هذا فخذ عمارة الدهنىّ، إنما فخذه دهن التى في بجيلة. والعقب من وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى من عمرو بن وديعة ودهن بن وديعة وغنم بن وديعة. والعقب من عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى- وقال لولده: العمور- أنمار وعجل ومحارب والدّيل: أولاد عمرو بن وديعة. والعقب من هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة من قاسط ابن هنب وعمرو بن هنب، فمن ولد عمرو بن هنب هذا: عتيب بن عمرو، ومن عتيب في دهن: فخذ، وخفاجة: ابنى عتيب.

والعقب من قاسط بن هنب من النمر بن قاسط؛ واليه ينسب كل نمرى، وعمرو وهو غفيلة بن قاسط: قبيلة، ومعاوية بن قاسط في عاملة، ووائل بن قاسط: البطن الأعظم من قاسط. فالعقب من النمر بن قاسط من تيم الله ويقال: تيم اللات، وأوس مناة: ابنى النمر؛ ومن النمر بن قاسط: بنو الضّحيان وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن سعد بن تيم الله ابن النمر. واليه كانت الرياسة واللواء والحكومة والمرباع. وقيل له الضحيان لأنه كان يحكم بين العرب في الضّحى. وأما وائل بن قاسط بن هنب، فأعقب من أربع أبطن: تغلب بن وائل: البطن المشهورة، اليها يرجع كلّ تغلبىّ معدّىّ. (وفي قضاعة أيضا تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة جدّ بنى كلب) ، وبكر بن وائل، وعنز بن وائل ساكنة النون كما ينسب في نزار إلى عنزة بن أسد كلّ عنزىّ محرّك النون، وعمرو بن وائل. فمن عنز بن وائل بن قاسط فخذان: وهما رفيدة بن عنز وأراشة بن عنز، وفيهما عدّة أفخاذ وعشائر. والعقب من بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من الحارث وعلىّ ويشكر وجشم وبدن: بنى بكر؛ وإلى علىّ هذا ينسب كلّ علوىّ في نزار؛ وإلى يشكر هذا ينسب كلّ يشكرىّ. والعقب من يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب من ثلاث قبائل لصلبه: وهم حرب وكنانة وكعب؛ فأعقب حرب بن يشكر من جشم وذهل: ولدى كنانة بن حرب؛ ومن بنى جشم بن حرب: بنو عصيم بن سعد بن عمرو بن جشم؛ وبنو الحمير: حبيّب بن كعب بن جشم، وإلى جشم هذا ينسب كلّ جشمىّ في نزار.

وأعقب كنانة بن يشكر من ذبيان بالكسر بضد ذبيان عبس الذى هو بالضمّ؛ وأعقب ذبيان من فخذ وائلة وعامر: ابنى ذبيان بن كنانة بن يشكر. فمن بنى عامر بن ذبيان: بنو جشم بن عامر: فخذ يقال لهم: الجشميّون أيضا. وأما بنو علىّ الوائلى فالعقب من علىّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمىّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة من صعب بن علىّ وحده؛ وإليه يرجع كلّ صعبىّ في نزار. والعقب من صعب من ثلاث بطون: عكابة ولحيم [1] ومالك: أولاد صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، فأعقب مالك بن صعب في بنى زمّان بن مالك: فخذ، وإليه ينسب كلّ زمّانىّ. وأما لحيم بن صعب، فأعقب من حنيفة بن لحيم: البطن المشهورة، ومن عجل ابن لحيم. قال الزبير بن بكّار: وحنيفة امرأة نسب إليها ولدها: وهى حنيفة بنت كاهل بن أسد بن خزيمة. فأعقب حنيفة من ثلاث قبائل: الدّؤل بن حنيفة: القبيلة المشهورة فى بنى حنيفة، ويقال في النسبة إليه: دؤلىّ كذا بضد النسبة الى دؤل كنانة، وعامر ابن حنيفة وعدىّ بن حنيفة؛ وفيهم عدّة عشائر وقبائل، والعزوة إلى حنيفة تغنى عنها؛ منها بنو يربوع بن الدؤل بن حنيفة إليه ينسب كلّ يربوعىّ: وهم قبيلة خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع المذكور أمّ أبى القاسم محمد بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه المعروف بابن الحنفيّة؛ وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لعلىّ «سيولد لك ولد وقد نحلته اسمى وكنيتى» .

_ [1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: «لجيم» بالجيم المعجمة.

قال: ولعبيد بن ثعلبة بن يربوع غير سلمة خمس أفخاذ لصلبه: مسلمة وشيبان وزيد ووهب وأرقم؛ ولهم عدد في بنى مسلمة المذكور: عمرو بن معدى كرب بن الحارث بن مسلمة، إليه ينسب كنز الدولة حامى أسوان. وأما عجل بن لحيم فأعقب من أربع أبطن: وهى سعد وكعب وهم قليل، وربيعة وضبيعة أولاد عجل؛ وإليه ينسب كلّ عجلىّ. وفيهم عدّة أفخاذ وعشائر، وإلى ضبيعة ينسب كلّ ضبعىّ. وأما عكابة بن صعب بن علىّ فأعقب من بطنين: ثعلبة وفيه العدد، وقيس: ابنى عكابة. والعقب من ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على من خمسة: قيس من اللهازم: بطن، ومالك وتيم الله من اللهازم: قبيلة أولاد ثعلبة بن عكابة، وشيبان وذهل وهما الذهلان: ابنا ثعلبة؛ وإلى شيبان هذا يرجع كلّ شيبانىّ، وإلى ذهل يرجع كلّ ذهلىّ. فأما قيس ابن ثعلبة فأعقب من ضبيعة وسعد: ابنيه لصلبه. والعقب من ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة بن عكابة من ربيعة وهو جحدر، وإليه يرجع كلّ جحدرىّ، وسعد وتيم وعباد ومالك: بطن. وأعقب تيم الله بن ثعلبة بن عكابة من سبع أفخاذ: وهم الحارث وذهل وعدىّ ومالك وعامر وزمّان وحاطبة؛ ومن بنى مالك بن تيم الله: بنو عائش بن مالك: فخذ. فأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة فأعقب من ثلاث بطون لصلبه: ذهل، وإليه يرجع الذهليّون، وتيم وثعلبة؛ وثعلبة هذا: هو الفخذ الذى ينسب إليه ويرجع أبو الصقر محمد بن إسماعيل وزير المعتمد. وفيه يقول ابن الرومىّ الشاعر:

قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلّا لعمرى ولكن منه شيبان وكم أب قد علا بابن له شرفا ... كما علا برسول الله عدنان وأعقب ذهل بن شيبان من أولاده لصلبه: وهم مرّة؛ وإليه يرجع المرّيون الشيبانيّون وأبو ربيعة ومحلّم وصبح [1] والحارث وعمرو: وهو جذرة وعوف وعبد غنم، ومن ولد أبى ربيعة بن ذهل: المزدلف: وهو عمرو بن أبى ربيعة: فخذ كبيرة. وفي مرة بن ذهل بن شيبان عدّة أفخاذ: وهم سعد ودبّ وسيّار وكثيّر وجندب وبجير وجسّاس ونضلة وهمّام: قبيلة الأحلاف أولاد مرة. قال: وهمام بن مرة ابن ذهل هو بيت ذهل وقعدد فخرهم. وأعقب لصلبه الأحلاف من مازن وعوف وثعلبة خمسين بيتا، وعمرو وعائشة والأسعد وحبيب: هؤلاء هم الأحلاف ومرّة وعبد الله والحارث. وأما ذهل بن ثعلبة وهو أحد الذهليين فمنه بطنان لصلبه: شيبان وعامر، فأعقب شيبان بن ذهل بن ثعلبة من سبع أفخاذ لصلبه: وهم سندوس ومازن وعمرو الأعمى وعلباء ومالك وعامر وزيد مناة. وإلى سدوس هذا ينسب كلّ سدوسىّ. ومن ولد مازن هذا: أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن. وإليه أيضا ينسب أبو عثمان المازنىّ النحوىّ وكلّ مازنىّ، وفي مذحج في بنى سليم: زبيد مازن المعروفة. نعود إلى باقى نسب وائل. وأما تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب، واسم تغلب دثار وكان أكثرهم نصارى، فالعقب منه في ثلاث أفخاذ لصلبه: عمران وهم قليل، وأوس وغنم؛ وفيه العدد

_ [1] كذا بالأصل وفي كتاب المعارف لابن قتيبة: صبيح.

ذكر نسب قيس وبطونها

والبيت؛ ومن قبائل غنم الخنّاقون: بكر ورزاح ومالك وعدىّ: بنو معاوية ابن عمرو بن غنم بن تغلب، والأراقم الستة: جشم ومالك وعمرو والحارث ومعاوية وثعلبة: أولاد بكر بن حبيب بن غنم بن عمرو بن تغلب، ومن جشم هذا: بنو عطيف مجزئة بن حارثة بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب: رهط سيف الدولة ابن حمدان. فهذا نهاية الاختصار في نسب بنى نزار. وعمود النسب منه في ابنه مضر بن نزار، وأمّه سودة بنت عكّ العدنانية. ومنه غير عمود النسب وهو الياس ابنه قيس بن عيلان بن مضر؛ واسم عيلان: الناس، وهو أخو الياس. ويقال: قيس عيلان بن مضر؛ وعيلان حاضن كان لقيس فنسب إليه كما نسب غير واحد من العرب إلى الحضان: كسعد هذيم حضنه هذيم فنسب إليه؛ والصحيح: أن عيلان بن مضر، واسمه الناس، وقيسا ولده. وقد قيل فى الناس: النّاس بتشديد السين. ذكر نسب قيس وبطونها والعقب من قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ثلاثة نفر: خصفة وسعد وعمرو. وقال قائلون: وبر بن قيس وإنه ولد طوائف من البربر، وفي ذلك خلاف عند النسّابين. فالعقب من خصفة هذا من بطنين: عكرمة ومحارب ابنى خصفة بن قيس. وقيل: إن خصفة بن عكرمة غلب اسمها عليه فنسب إليها كما قيل في خندف. أعقب عكرمة بن خصفة من منصور بن عكرمة: البيت الأوّل من بنى قيس، فيه العدد، وسعد بن عكرمة وأبى مالك وعامر: بنى عكرمة. أعقب منصور بن عكرمة من هوازن

ابن المنصور: القبيلة المشهورة، ومن سليم بن منصور: القبيلة المشهورة، وسلامان ابن منصور: قبيلة، ومازن بن منصور: قبيلة. فأما هوازن فأعقب من بكر بن هوازن لا غير، وأعقب بكر بن هوازن من ثلاث أفخاذ: معاوية بن بكر، وفيه العدد، وقسىّ وهو ثقيف، واسمه منبّه بن بكر، وإليه يرجع كلّ ثقفىّ؛ وسعد بن بكر؛ وإليه يرجع كلّ سعدىّ من عشيرة حليمة بنت أبى ذؤيب السعديّة: ظئر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى حليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصيّة بن نصر ابن سعد المذكور؛ واسم زوجها وهو والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة: الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملّان بن ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سعد؛ وكنيته أبو كبشة؛ وبه كانت العرب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبى كبشة. وقيل في أبى كبشة [أقوال] منها أن جدّه لأمّه السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة كان يكنى أبا كبشة فنسبوه إلى ذلك ليتمه وموت أبيه. وكان أيضا عمرو بن زيد أبو أسد النجارىّ أبو سلمى بن عبد المطلّب جدّ النبىّ صلى الله عليه وسلم يكنى: أبا كبشة. وقيل: بل لحظوا لقولهم: أبا كبشة يعنون أبا كبشة جرير بن غالب بن الحارث، وهو أبو قيلة أمّ وهب بن عبد مناف والد آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن قتيبة: إنه كان يعبد الشعرى دون العرب، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة الله دون عبادة الأصنام، شبّهوه فى شذوذه عنهم بشذوذ بعض أجداده من قبل أمّه بعبادة الشعرى وانفصاله منهم. وأما معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب من صعصعة بن معاوية: القبيلة العظمى، وجشم بن معاوية؛ وإليه ينسب

كلّ جشمىّ في هوازن. وله ثلاث أفخاذ: عصيمة وزمّان وبنو جشم ونصر ابن معاوية جدّ النصريّين القيسيّين. ومنه فخذان: بنو دهمان وبنو عوف: ابنى نصر، وجحش بن معاوية: فخذ، وسيّار بن معاوية: فخذ، وكلاب بن معاوية، ومنجاب ابن معاوية، وعمرو بن معاوية، وأدحيّة بن معاوية، ودحيّة بن معاوية، ودحوة ابن معاوية، والسّبّاق: وهو يعيش بن معاوية، وعوف بن معاوية، وجحاش بن معاوية: هؤلاء كلّهم أفخاذ قليلو العدد، يقال لهم: الهوازنيّون. وأما صعصعة بن معاوية فأعقب لصلبه عامر: القبيلة المشهورة، ومرّة: وهم سلول؛ وكلّ سلولىّ ينسب إلى مرّة هذا؛ وأمّ ولده سلول الشيبانيّة: وهى سلول ابنة شيبان بن ذهل بن ثعلبة؛ وولده عشرة أفخاذ: وهم عمرو وضبيعة ونهار وسحيم: وهو أعيا، وغاضرة وعديّة وجابر ومعاوية وجنى ودهى. وباقى ولد صعصعة لصلبه قبائل صغار: عبد الله وعائد وعمرو وقيس وكبير وسيار ومساور وزبيبة وربيعة وغالب ووائل ومازن وعوف ومنجور والحارث: خمس عشرة قبيلة؛ وفي هذه القبائل: بنو عادية وبنو عديّة بالضم، فأما بنو عادية فهى أم عبد الله عادية والحارث. وأما بنو عدية فهى أم قيس عدية وعوف عدية. والى عمرو بن صعصعة بن معاوية تعزى الطائفة المعروفة بالأكراد. ومن النسّابين من ذكرهم إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة المذكور. ومنهم من نسبهم إلى أكراد بن فارسان بن أهلوا بن إرم بن سام بن نوح، وعليه اعتمدوا. ومنهم من قال: كرد بن مرد بن يافث ابن نوح. وأما غامر بن صعصعة فأعقب من أربع بطون: وهم نمير وسواءة وهلال وربيعة.

فأما نمير بن عامر. واليه ينسب كلّ نميرىّ، ففيهم عدّة أفخاذ: بنو المقشّب: وهو ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير، وبنو خويلفة بن عبد الله بن الحارث ابن نمير، وبنو أسقع: وهو مالك بن عامر بن نمير. وأما سواءة بن عامر بن صعصعة فمنه عدّة أفخاذ: منها بنو حبيب بن سواءة وبنو جسّاس بن سواءة وبنو حرثان بن سواءة. وأما هلال بن عامر بن صعصعة فالبطن المشهور، وقد نزلوا المغرب من تلمسان إلى طرابلس، فأعقب هلال من إحدى عشرة قبيلة وهم أولاده لصلبه. أوّلهم البيت المقدّم عبد الله ونهيك وربيعة وعائذة وعبد مناف ورويبة وصخر وشعبة وشعيبة وناشرة وحضرة. وفي هلال عدّة أفخاذ وعشائر: كزغبة ورياح وفادع والأثيج وحوثة، وقرّة وغيرهم. فأعقب عبد الله: وهو البطن الأولى من بنى هلال من ثلاث أفخاذ: رويبة ابن عبد الله وحوثة وحارثة: ابنى عبد الله؛ فأعقب رويبة بن عبد الله من أربع عشائر: زغبة ورياح وهزوم ومعاوية: بنى رويبة بن عبد الله، فمن بنى الهزم بن رويبة بن عبد الله: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله أمّ المؤمنين زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ومن بنى رياح: بنو نجيّة بن علىّ ابن فادع: فخذ أعقب، إليه يرجع جنادة بن كامل مقدّم بنى هلال. وأما نهيك بن هلال فأعقب من خمس قبائل لصلبه: وهم معشر وأبو ربيعة وأبو معاوية وسهل وأبو جشم.

وأما عبد مناف بن هلال فأعقب من أربع قبائل: الحارث وعمرو وربيعة ويعمر: بنى عبد مناف لصلبه. فمن بنى ربيعة بن عبد مناف بن هلال: قرّة بن عمرو بن ربيعة: فخذ مشهورة كبيرة، إليه يرجع كلّ قرّىّ. ومن بنى عمرو بن عبد مناف بن هلال: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف أمّ المساكين زوج النبى صلى الله عليه وسلم أمّ المؤمنين. فهذا مختصر قبائل هلال. وأما ربيعة بن عامر بن صعصعة، فأعقب من خمس قبائل: وهم الحارث وكليب وعامر وكلاب وكعب: بنوه لصلبه. أما الحارث بن ربيعة فأعقب من فخذين لصلبه: عوف وعويف. وأما كليب بن ربيعة فأعقب من خمس أفخاذ لصلبه: أبان وجهم وجشم وخلف ومسروق. وأما عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فأعقب من أربع أفخاذ لصلبه: عمرو وعوف والبكّاء ومعاوية. وأما كلاب بن ربيعة بن عامر فأعقب من عشر أبطن، قال الشاعر: وإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت برىء من قبائلها العشر يعنى شمر بن ذى الجوشن الضّبابىّ، والعشر أبطن لصلب كلاب: وهم جعفر وأبو بكر واسمه عبيد، ومعاوية: وهو الضّباب بن كلاب وعامر وربيعة والأضبط وعمرو وعبد الله ورؤاس «قيل: بالفتح وواو بدل الهمز» ، وكعب. فأما جعفر بن كلاب فأعقب من أربعة أفخاذ لصلبه: مالك والأحوص وخالد وعتبة؛ وفيهم عدّة عشائر.

وأما أبو بكر عبيد بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ لصلبه: عبد وكعب وعبد الله. فأما عبد بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو قرط وبنو قريط. وأما كعب بن أبى بكر فمن العشائر التى لصلبه: بنو جحش بن كعب. وأما عبد الله بن أبى بكر فمن عشائره لصلبه: بنو المجنون: وهو ربيعة بن عبد الله. وأما معاوية بن كلاب وهو الضّباب فمنه ثلاث عشرة، قبيلة: وهم ضبّ ومضبّ وضباب؛ ولأجلهم عرف هذا البطن أعنى بنى معاوية بالضّباب، وحسيل وحسل وعمرو وأنس والأعور وزفر وأنيس ومالك وربيعة وزهير: أولاد عمرو بن معاوية. ومن ولد الأعور هذا شمر بن شرحبيل بن الأعور قاتل الحسين بن علىّ رضى الله عنه. وأما عامر بن كلاب فمنه أربع قبائل لصلبه: وهم بنو الأصمّ، وهم قليل، وبنو كعب وهو البيت من عامر بن كلاب وطريف بن عامر وعقيل بن عامر. فأعقب كعب بن عامر من الوحيد: وهو عامر بن كعب، من أفخاذه: خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، منه أمّ البنين بنت حزام بن خالد المذكور زوج علىّ بن أبى طالب، وهى أمّ ابنه العباس السقّاء؛ عرف بذلك لأنه سقى الحسين الماء بكربلا. وأما ربيعة بن كلاب فمنه ثلاثة أفخاذ لصلبه: وهم بجير وعبيد ونفيل أبو نمير. وأما الأضبط بن كلاب فتخذه: بنو ويرين الأضبط؛ ومن بنى وبر سبع عشائر: وهم وهب الأكبر ووهب الأصغر وواهب وإهاب ووهبان وخالد وأبو ربيعة: أولاد وبر بن الأضبط. وأما عمرو بن كلاب فمنه فخذان: نفيل وأبو عوف: ابنا عمرو بن كلاب.

وأما عبد الله بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: عامر وعمرو والصّموت: أولاده لصلبه. ومن عشائر الضموت بن عبد الله: ضبيعة الأغرّ بن عبد الله ابن الصموت. وأما رؤاس بن كلاب فأعقب من ثلاثة أفخاذ: بجاد وبجيد وعبيد: أولاده لصلبه؛ ومن بجيد: عفيّف بن بجيد: فخذ؛ وإلى رؤاس هذا ينسب كلّ رؤاسىّ. وأما كعب بن كلاب فأعقب من أربعة لصلبه: عامر ووهب وربيعة وأوس. فهذا مختصر بنى كلاب وأبطنها- نعود إلى باقى ولد ربيعة بن عامر. وأما كعب بن ربيعة بن عامر فأعقب من ستة أبطن لصلبه: وهم جعدة بن كعب: البطن المشهورة؛ إليها يرجع كلّ جعدىّ؛ وفيها عدّة قبائل وعشائر، وحبيب ابن كعب: البطن المشهورة؛ وإليها يرجع كلّ حبيبى؛ وفيها أفخاذ، وعبد الله بن كعب منه العجلان بن عبد الله: بطن، وربيعة بن عبد الله، ونهم بن عبد الله؛ وفيهم أفخاذ، وقشير بن كعب، وإليه يرجع كلّ قشيرىّ؛ وفيها عدّة أفخاذ وعشائر، والحريش بن كعب، وإليه يرجع كلّ حرشىّ: كعبد الله بن الشّخّير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش الحرشىّ الصحابىّ وغيره، وعقيل بن كعب: البطن المشهورة، إليها يرجع كلّ عقيلىّ بالضم. والعقب من عقيل بن كعب: بن ربيعة ابن عامر من خفاجة بن عمرو بن عقيل: البطن المشهورة، وعبد الله وربيعة ومعاوية وعامر وعبادة؛ كلّ هؤلاء أبطن. والعقب من خفاجة من أحد عشر فخذا لصلبه: وهم بنو معاوية دى القرح: فخذ، وبنو كعب دى النّويرة، وبنو الأقرع: فخذ، وبنو كعب الأصغر، وبنو عامر، وبنو مالك، وبنو الهيثم، وبنو الوازع؛

إليه ينسب كلّ وازعىّ، وبنو عمرو، وبنو حزن، وبنو خالد. والفخذ العظمى من بنى عقيل بعد بنى خفاجة: بنو يزيد بضم الياء بن عبد الله بن يزيد بن قيس بن حوثة بن طهفة بن حزن بن عبادة: عشيرة الأمير أبى المنيع شرف الدولة محمد بن مرداس؛ ودرج شرف الدولة، وهو ملك العرب. فهذا مختصر من نسب بنى عقيل، وهؤلاء هوازن وهم بكر، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان: وهو البطن المشهورة، فأعقب من بهثة بن سليم، وأعقب بهثة من خمسة أفخاذ لصلبه: معاوية وعوف وامرئ القيس والحارث وثعلبة. ومن بنى امرئ القيس بن بهثة: بنو عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس: بطن. وأما محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، فأعقب فخذين لصلبه: طريف وجسر، ويقال لبنى جسر: بنو علىّ لأن العقب من جسر بن محارب في علىّ بن جسر لا غير. انقضى ذكر بنى خصفة بن قيس بن عيلان. وأما سعد بن عيلان فأعقب من بطنين لصلبه: وهما غطفان، ومنبه: وهو أعصر؛ والعقب من ريث بن غطفان من أربع أبطن لصلبه: بغيض ومازن وأشجع وإليه يرجع كلّ أشجعىّ، وأهون: بنو ريث. والعقب من بغيض بن ريث [من عبس وذبيان] وهما القبيلتان المشهورتان. وذكر بعض النسّابين أنمار بن بغيض منهم أبو كبشة الأنمارىّ. وقيل: إن أبا كبشة الأنمارىّ إنما هو من مذحج.

والعقب من عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان من فخذين: قطيعة وورقة ابنى عبس. والعقب من قطيعة بن عبس من الحارث، ومعتمر: قبيلة قليلة، وعوف: قبيلة، وغالب: قبيلة الحطيئة، ومريطة: قبيلة من ولد خالد بن سنان نبىّ أهل الرّسّ بن جابر ابن غيث بن مريطة. والعقب من الحارث بن قطيعة بن عبس من جروة وعامر ومازن: قبيلة وذكوان وشدّاد: بنى الحارث بن قطيعة. ومن مازن بن الحارث أفخاذ: منهم جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن: فخذ؛ إليه يرجع الجذميون بالجيم: منهم عشيرة بنى زهير ابن جذيمة في آخرين. وأما ذبيان بن بغيض، فأعقب من فزارة: البطن المشهورة، وسعد؛ فأعقب فزارة بن ذبيان من مرّة وظالم ورومىّ، درج وشمخ وعدىّ ومازن: أولاد فزارة؛ وفيهم قبائل وعشائر وأفخاذ. وأما سعد بن ذبيان فمن بطونه المرّيون: بنو مرّة بن عوف بن سعد، وفيهم أفخاذ، وبنو عقال بن سعد: فخذ، وبنو بجالة بن ثعلبة بن سعد وبنو عجب بن ثعلبة وبنو رزام بن ثعلبة. وأما عبد الله بن غطفان بن سعد فالعقب منه في بهثة بن عبد الله وقطبة وعدىّ وعذرة وكلب وباعث وشبابة وغنم وعوف ومنبّه؛ عشرة أفخاذ. وأما أعصر: وهو منبّه بن سعد بن قيس فأعقب من باهلة: وهم ولد مالك بن أعصر، وهى باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة أخت بجيلة بن مذحج؛ ولد سعد

الياس بن مضر بن نزار

ابن مالك بن يعصر ومعن بن مالك بن يعصر فغلب اسمها عليهم ونسبوا إليها؛ وكلّ باهلىّ ينسب إلى باهلة وهم ولد مالك بن أعصر بن معن بن مالك، وغنىّ بن أعصر بن سعد بن قيس أعقب من غنم وجعدة، إليها ينسب كلّ غنوىّ والطّفاوة، اسمه الحارث بن أعصر إليه ينسب الطّفاويّون، وعامر بن أعصر. وأما عمرو بن قيس بن عيلان، فمنه بطنان لصلبه: وهما عدوان واسمه الحارث، وفهم: ابنا عمرو بن قيس؛ وإنما قيل له عدوان: لأنه عدا على أخيه فهم فقتله. وفهم وعدوان يقال لهما: جديلة قيس، وهى أمّهم جديلة بنت مرّ بن أدّ: أخت تميم بن مرّ. ومن قبائل عدوان: بنو يشكر وبنو دوس: ابنى عدوان: القبيلتان المشهورتان. هذا آخر مختصر نسب قيس بن عيلان بن مضر. فلنرجع إلى عمود النسب. وعمود النسب من مضر في ابنه: الياس بن مضر بن نزار وأمّه الرّباب بنت إياد المعدّية؛ ومنه غير عمود النسب (وهو مدركة) بطن واحد وهو طابخة بن الياس؛ قال: لأن قمعة بن الياس فيه خلاف كثير، وأكثر مشايخ النسب يذكرون أنه درج ولا عقب له؛ وذكر آخرون: أنه أبو خزاعة، وخزاعة ليست بأب ولا أمّ وإنما هم انخزعوا من مضر الى اليمن ببطن مرّ، وذلك حين أقبل بنو عمرو بن عامر يريدون الحجاز؛ ألا ترى قول عون بن أيّوب الأنصارىّ [1] : ولما هبطنا بطن مرّ تخزّعت ... خزاعة منّا في حلول كراكر حمت كلّ واد من تهامة واحتمت ... بصمّ القنا والمرهفات البواتر

_ [1] كذا بالأصل وفي اللسان أن القائل: حسان بن ثابت.

وقد أوردنا نسب خزاعة في بنى عمرو بن عامر ماء السماء الغسّانىّ في نسب اليمن، ومن قبائل طابخة بن الياس خمس: بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، وبنو ضبّة بن أدّ ابن طابخة، وبنو عمرو، وبنو خميس، وبنو عبد مناة: أولاد أدّ بن طابخة. فأما بنو مرّ بن أدّ بن طابخة، فمنه بنو تميم بن مرّ، وبنو ثعلبة بن مرّ: ظاعنة من الشّعيراء، وبنو صوفة: وهم ولد الغوث: وهو الرّبيط بن مرّ وبكر بن مرّ من الشعيراء، ومحارب بن مرّ، فهم عدّة أفخاذ وقبائل. وقبائل تميم: وهم ثلاث: زيد مناة والحارث وعمرو: أولاد تميم لصلبه. فمن قبائل زيد مناة بن تميم نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبنو سدوس بن دارم: قبيلة. وبنو عبد الله بن دارم: منهم عطارد: قبيلة حاجب بن زرارة بن عدس (وكلّ من عداه بفتح الدال) ابن زيد بن عبد الله بن دارم مجوس، وبنو أبان بن دارم: قبيلة. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة: قبيلة. وبنو كليب بن يربوع: قبيلة. وبنو رياح بن يربوع: قبيلة. وبنو غدانة بن يربوع: قبيلة. وبنو جارية بن سليط بن يربوع. وبنو البراجم: وهم ظليم وعمرو وقيس وغالب وكلفة: أولاد حنظلة بن مالك؛ فهؤلاء بنو حنظلة بن مالك؛ سموا براجم لتجمّعهم كالأصابع. ثم قبيلة الجوع: وهم ولد ربيعة بن مالك بن زيد مناة؛ والكردوسان من بنى زيد مناة: معاوية وقيس ابنا مالك بن زيد مناة بن تميم. ومن زيد مناة: بنو سعد بن زيد مناة، منه عدّة قبائل، منهم قبائل الأبناء: وهم عبشمس وعوافة وعوف وجشم ومالك وعمرو: بنو سعد بن زيد مناة. ومن بنى سعد بن زيد مناة: بنو الحرام: وهو من الخدعة بن كعب ابن سعد، وبنو حمّان بن عبد العزّى بن كعب بن سعد، وبنو الأعرج: وهو الحارث

ابن كعب بن سعد، وبنو قريع بن عوف بن كعب بن سعد، وبنو بهدلة بن عوف ابن كعب، وبنو برنيق بن عوف بن كعب، وبنو عطارد بن عوف بن كعب قليلون. ومن قبائل كعب بن سعد المذكور: بنو منقر بن عبيد بن مقاعس: وهو الحارث ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وهم المنقريّون. ومن بنى زيد مناة: بنو امرئ القيس بن زيد مناة. له عدد ومدد، منه ثلاثة أفخاذ: بنو عصيّة وبنو مالك وبنو الحارث: أولاد امرئ القيس المذكور. ومن بنى زيد مناة: بنو عامر الصحيح بن زيد مناة؛ فهؤلاء بنو زيد مناة بن تميم. وأما الحارث بن تميم فمنه شقرة بن الحارث: قبيلة، اسمه معاوية، وسمّى شقرة ببيت قاله: وقد أحمل الرمح الأصمّ كعوبه ... به من دماء القوم كالشقرات والشقرات: شقائق النعمان، والنعمان: الدم؛ والله أعلم. وأما عمرو بن تميم فمنه سبعة أفخاذ. وهم بنو مالك وبنو العنبر وبنو الهجيم وبنو أسيد وبنو الحبطة: وهو الحارث. وبنو القليب: وهو أليهة [وزن عليهة] وكعب: بنو عمرو ابن تميم؛ وولى كعب هذا البيت قبل قريش. فأما مالك بن عمرو بن تميم فمنه فخذان: مازن، منهم أوفى بن مطر المازنىّ جلىّ العرب، والحرماز: وهو الحارث بن مالك. فمن بنى مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: أنمار بن مازن: فخذ قليلون، ورألان بن مازن: قبيلة، وحرقوص بن مازن، ورزام بن مازن: قليل، وخزاعىّ بن مازن: قليل. وأما بلعنبر بن عمرو بن تميم فأعقب من ثلاثة: كعب وجندب ومالك: أولاد العنبر؛ وكلّ بلعنبرىّ ينسب إلى بلعنبر هذا: وهى قبيلة مشهورة.

وأما بلهجيم بن عمرو بن تميم وهو الهجيم فأعقب من خمسة: عامر وسعد وعمرو وربيعة وأنمار. ويقال لبلعنبر وبلهجيم: الخبطات [1] . وكذلك أخوهما الحارث الخبط؛ وهو الذى عرفوا بذلك من أجله، يقال: إنه أكل خبطا فسمّى به [2] . وأما أسيد بن عمرو بن تميم فأعقب من ستة لصلبه: عقيل ونمير وجروة: قبيلة، وعمرو والحارث. فمن بنى جروة بن أسيد بن هند بن أبى هالة: نبّاش ابن زرارة ابن وقدان بن حبيب بن سلامة بن غوىّ بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم: ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأمّه خديجة بنت خويلد. وأما الحارث الخبط بن عمرو بن تميم فمنه قبيلة سعد بن الحارث، وهى قبيلة الخبطات، ومشادة بن الحارث الخبط ونضلة بن الحارث الخبط: فهؤلاء بنو تميم فى مرّ بن أدّ بن طابخة. وأما بنو ضبة بن أدّ فثلاث قبائل: سعد وسعيد وباسل. ولسعد وسعيد المثل السائر «أسعد أم سعيد» . أما سعيد بن ضبة فقليل عددهم. وأما سعد بن ضبة فأعقب من اثنين: ثعلبة وبكر: ابنى سعد؛ فأما ثعلبة بن سعد، فمن قبائلها: بنو مسعود بن دلجة بن نعيم بن قرامة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد: قبيلة ينسب إليها كلّ مسعودىّ، وبنو مبذول بن عامر بن ربيعة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة

_ [1] كذا في الأصل الكوبريلى بإعجام الخاء. والصواب بالمهملة كما في كتب الأنساب واللغة، أنظر القاموس واللسان في مادة: ح ب ط. [2] إنه أكل خبطا فسمّى به كذا في الأصل، وجاء في القاموس: أن الذين سموا بهذا الاسم هم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاعوا في الطريق حتى أكلوا الخبط وهو الورق المضروب بالمخابط يجفف ويطحن، فسموا بسريّة الخبط أو جيش الخبط وعليه يكون اسم الحارث الحبط بالحاء المهملة.

ابن سعد: قبيلة. ومن بنى بكر بن سعد بن ضبة: صبح وبجالة: ابنا ذهل بن مالك ابن بكر بن سعد: فخذان، وعائذة [1] بن مالك بن بكر بن سعد: فخذ، ونصر بن عبد الله ابن بكر بن سعد: فخذ. وأما باسل بن ضبة فإنه خرج مغاضبا لابيه فوقع بأرض الدّيلم فتزوّج امرأة من الديلم، فولدت له الديلم بن باسل: جدّ القبيلة المشهورة؛ ومن رجالها في الجاهلية: زيد الفوارس بن حصين، وفي الإسلام ابن شبرمة القاضى. وأعقب من الديلم فخذان: الأبيض بن معاوية بن الديلم، وبجير بن معاوية بن الديلم. فأعقب الأبيض ابن معاوية من الضحاك ولار وشهريار وإيران وناشر: أولاد الأبيض بن معاوية ابن ديلم من بهرام بن الضحاك؛ وفيروز وزر بوران وبريانوس: أربعة أفخاذ. وأعقب بريانوس بن الضحاك من قابوس بن بريانوس. وأعقب قابوس من شاه مرد. وأعقب لار بن الأبيض من كامياد بن لار. وأعقب كامياد من ابنه جور. وأعقب بجير بن معاوية بن ديلم من باسل بن تيداذما، فأعقب تيداذما من دادوه. فهذه النهاية في اختصار نسب الديلم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا عمرو بن أدّ بن طابخة فهو مزينة، ومزينة أمه: وهى بنت كلب بن وبرة ابن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكلّ مزنىّ ينسب إلى مزينة هذا. ومن مزينة: عثمان وأوس: ولدا عمرو؛ فمن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بطنان: عدا ولاطم: ابنا عثمان. ومن مزينة: النعمان بن مقرّن وزهير بن أبى سلمى؛ وليس في العرب سلمى بالضمّ سواه، ورؤبة بن العجّاج. قال رسول الله

_ [1] وردت في بعض كتب الأنساب بالدال المهملة وفي بعضها بالذال المعجمة فتنبه.

مدركة بن الياس بن مضر

صلى الله عليه وسلم! «أسلم وغفار ومزينة وجهينة (أو قال: لمن كان من جهينة) خير من بنى تميم وبنى عامر بن صعصعة ومن الحليفين أسد وغطفان» . وأما عبد مناة بن أدّ بن طابخة فمنه ثور أطحل بن عبد مناة: بطن- رهط سفيان الثورىّ رحمه الله، (وأطحل جبل) ، وبنو الرباب: ولد تيم بن عبد مناة وعدىّ بن عبد مناة وعوف بن عبد مناة: سمّوا الرّباب: لأنهم غمسوا أيديهم في ربّ إذ تحالفوا على بنى تميم. قال: ومن النسّابين من يجعل الرباب بنى تميم وعدىّ وثور وعكل: وهم بنو عبد مناة وضبة بن أدّ. فأما عدىّ بن عبد مناة، فإليه ينسب كلّ عدوىّ ليس من عدىّ قريش؛ ومنهم: أبو قتادة العدوىّ: تابعىّ؛ وإلى عوف بن عبد مناة ينسب كلّ عوفىّ؛ ومنهم: عطيّة العوفىّ. قال: وشيخ الشرف النسابة يقول: إن عكلا هو عوف بن وائل ابن قيس بن عوف بن عبد مناة، وعكل: أمة لامرأة من حمير يقال لها: بنت ذى اللّحية، تزوّجها عوف بن وائل، فولدت له جشما وسعدا وعليّا، ثم هلكت، فحضنت عكل ولدها فغلبت عليهم ونسبوا اليها. وأما تيم بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة ففخذه: عمرو بن الحارث بن التيم بن عبد مناة وفيه العدد. انقضت خندف فلنرجع الى عمود النسب من الياس في ابنه: مدركة بن الياس بن مضر واسمه عمرو، وأمّه خندف: وهى ليلى بنت حلوان القضاعيّة؛ وإنما سمّى مدركة: لان أباه الياس خرج منتجعا، ومعه أهله وماله، فدخلت بين إبله أرنب، فنفرت

الإبل، فخرج أولاد الياس، فأدركها عمرو، فسمّاه أبوه الياس: مدركة؛ وخرجت ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أمّه تهرول فقال لها الياس: مالك تخندفين؟ والخندفة: الهرولة، فسمّيت خندف، وخرج عامر بن الياس أخو مدركة. فى طلب الأرنب فاصطادها وطبخها، فقال له أبوه الياس: أنت طابخة، ورأى عمرا أخاهما قد انقمع في الظلّة فهو يخرج رأسه منه، فقال له أبوه الياس: أنت قمعة. ومن مدركة غير عمود النسب: بنو هذيل بن مدركة، ومن هذيل: بطنان لصلبه: بنو لحيان وسعد؛ ومن قبائل سعد بن هذيل: بنو خناعة بن سعد، وبنو صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل؛ منهم: عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن قار بن مخزوم بن صاهلة الصحابىّ: أحد القرّاء رضى الله عنه. ومن شعراء هذيل: أبو ذؤيب الهذلىّ وأبو كبير وأبو المثلّم وغيرهم. وعمود النسب من مدركة في ابنه خزيمة بن مدركة، وأمّه سلمى بنت اسلم القضاعية؛ ومنه غير كنانة عمود النسب قبيلتان: وهما الهون وأسد. فأما الهون ابن خزيمة، فأعقب من عضل والدّيش ابنى بليغ بن الهون، وهم القارة: سمّوا قارة: لأن يعمر بن عوف بن الشدّاخ أحد بنى ليث لما أراد أن يفرّقهم في بطون كنانة، قال رجل منهم: دعوة قارة لا تنفرونا فنجفل مثل إجفال الظليم فسمّوا قارة: وهم رماة العرب وفيهم قيل «قد أنصف القارة من راماها» وسبب هذا المثل أن رجلين التقيا، أحدهما من القارة، فقال القارىّ للاخر: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال خصمه: قد اخترت المراماة، فقال القارىّ:

قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة تلقاها نردّ أولاها على أخراها ثم انتزع له سهما فصلّ فؤاده؛ وقيل غير ذلك. ومن أسد بن خزيمة أربع عشائر: بنو كاهل وصعب وعمرو ودودان: بنى أسد. فمن دودان: بنو عمرو بن دودان: قبيلة: وهم وجوه بنى أسد؛ منهم: زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ زوّجت النبىّ صلى الله عليه وسلم: وهى بنت عمّته أميمة بنت عبد المطلب. وبنو سعد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة. من شعرائهم: بشر بن أبى خازم الوالبىّ الجاهلىّ. وبنو قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: قبيلة، منهم: فخذ بنى نصر بن قعين، ومنهم بنو فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة ابن دودان: قبيلة. وبنو أعيا بن طريف: قبيلة، وبنو قيس بن طريف: قبيلة، وبنو كعب بن عمرو بن قعين: قبيلة، وبنو سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان: فخذ، وبنو ناشرة بن نصر بن سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان. وعمود النسب من خزيمة بن مدركة في ابنه كنانة بن خزيمة، وأمّه عوانة بنت سعد القيسية. وبنو كنانة أوّل عرب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه. ومن بنى كنانة غير عمود النسب وهو النضر: خمس قبائل لصلبه: بنو عبد مناة وعمرو وعامر وملكان ومالك منهم: بنو حداد بن مالك بن كنانة: فخذ. فأما عبد مناة بن كنانة، فمنهم: بنو بكر وبنو عامر وبنو مرة: بنى عبد مناة، ومن بنى بكر بن عبد مناة: بنو الدّئل بن بكر بن عبد مناة: رهط أبى الأسود الدؤلىّ:

وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدىّ بن الدئل بن بكر المدكور: وهو تلميذ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه في النحو، ويقال في النسبة إلى هذا الفخذ: دؤلى مهموز مفتوح. ومن بنى بكر: بنو الحارث بن بكر: فخذ، وبنو ليث بن بكر: فخذ؛ منهم: بنو حدج بن ليث بن بكر فخذ، وبنو ضمرة بن بكر: فخذ. منهم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر: رهط أبى ذرّ الغفارىّ: وهو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مذيل بن صعير بن حرام بن غفار، وقد انقرض أبو ذرّ الغفارىّ رضى الله عنه. وأما عامر بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: قين بن عامر: قبيلة أهل الغميصاء، قتلهم خالد بن الوليد رضى الله عنه. وأما مرّة بن عبد مناة بن كنانة، فمنه: بنو مدلج بن مرّة: قبيلة سراقة بن مالك ابن جعشم وهم المدلجيّون، قالوا: وهم قافة العرب وأعلمهم بالزجر والقيافة. وأما عمرو بن كنانة، فهم العمريّون. وأما عامر بن كنانة، فهم العامريّون، وأما ملكان بن كنانة فهم الملكانيّون، وأما مالك بن كنانة فمنه في الحارث، ومن الحارث فى ثعلبة، ومن ثعلبة في فخذين: بنو عامر وبنو غنم. أما غنم فمنه: فراس بن غنم: وهم الفراسيّون. ومن بنى غنم: أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم: وهى أم عائشة بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم. ومن عامر عشيرتان: بنو مخدج بن عامر بن ثعلبة المخدجيّون، وبنو فقيم بن عدىّ بن عامر النسأة. فهؤلاء أفخاذ كنانة؛ والله أعلم.

وعمود النسب من كنانة بن خزيمة في ابنه النّضر بن كنانة، واسمه قيس، وأمّه برّة بنت مرّ الأدّية، والنضر: الذهب؛ وكان له: يخلد [1] بن النضر، منه: بدر بن الحارث بن يخلد الذى سمّيت به بدر بدرا. قال: وليس له ولد باق والعقب من النضر بن كنانة في ابنه عمود النسب وهو: مالك بن النضر وأمه عكرشة بنت عدوان القيسيّة؛ ولا عقب لمالك إلا من عمود النسب وهو ابنه: فهر بن مالك وهو قريش، وأمّه جندلة بنت عامر الجرهميّة، وكلّ من لم يلده فهر فليس بقرشىّ. وقد قيل في تسميته بقريش أقوال: منها أنه اسم دابّة في البحر، وأنه اسم للقبيلة، وأحسن ما قيل فيه: إن التقريش: التفتيش، فكان يقرش عن خلّة كلّ ذى خلّة فيسدّها بفضله: فمن كان محتاجا أغناه، ومن كان عاريا كساه، ومن كان طريدا آواه، ومن كان خائفا حماه، ومن كان ضالا هداه. قال الحارث بن حلّزة اليشكرىّ عفا الله تعالى عنه: أيها الناطق المقرّش عنا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء؟ وقيل: التقرّش: التجمّع، وسمّيت قريش لتجمّعها، فإنها لما تجمّعت بمكة وجمعت خصائل الخير سمّيت قريشا؛ وتسمّى أيضا الحمس من الحماسة؛ وذلك أنها تحمّست فى دينها فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلأ نساؤنا سمنا، ولا تغزل وبرا، ولا نخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظّم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة.

_ [1] كذا بالاصل ووردت في مكان آخر منه «مخلد» .

وكانوا يقفون بالمزدلفة ومن سواهم من العرب يقال لهم: الحلّة: كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: نكرم البيت أن نطوف فيه بثيابنا التى اجترحنا فيها الآثام. قال: ومن بنى فهو غير غالب عمود النسب: بنو الحارث بن فهر وبنو محارب ابن فهر. فمن بنى الحارث بن فهر: قيس بن الخلج [1] بن الحارث. ويقال: الخلج بلاد قيس، سمّوا بذلك: لأنهم نزلوا الخلج بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. منهم آل هرمة الشاعر: وهم هرمة بن الهذيل بن ربيع بن عامر ابن صبح بن عدىّ بن قيس. ومن بنى الحارث بن فهر: أبو عبيدة أمين هذه الأمة: وهو عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن الحارث بن فهر، لا عقب له. ومن بنى محارب بن فهر: ضرار بن الخطّاب بن مرداس بن كثير بن حبيب بن شيبان بن محارب بن فهر وهو القائل: ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... وبالحرب سمّينا فنحن محارب وعمود النسب من فهر بن مالك في ابنه غالب بن فهر وأمّه ليلى بنت الحارث الهذلية، منه فخذ واحد غير عمود النسب، وهم الأدرميون: ولد تيم بن غالب. والأدرم: الناقص الذقن، وهم قليل وقد ولدوا في العرب ولادات. وعمود النسب من غالب بن فهر في ابنه لؤى بن غالب، وأمه عاتكة بنت مخلد الكنانية النضرية، وقيل بل هى سلمى بنت عمرو الخزاعية؛ وهو تصغير اللأى وهو ثور الوحش مهموز، وقال أبو حنيفة: اللأى البعرة، وقيل لؤىّ تصغير لأى وهو البطء: نقيض العجلة.

_ [1] وردت في القاموس بضمتين وفي كتاب المعارف لابن قتيبة بتسكين اللام.

وأنشد أبو أسامة: فدونكم بنى لأى أخاكم ... ودونك مالكا يا أمّ عمرو وقال ابن دريد: هو مشتقّ من لواء الجيش وهو مهموز، وإن كان من لوى الرمل فهو مقصور، قال امرؤ القيس: بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل واللوى: اعوجاج في ظهر الفرس. قال: ومن قبائل بنى لؤى غير كعب عمود النسب: بنو عامر وبنو أسامة وبنو خزيمة: وهم عائذة قريش وسعد، وإليه ينسب بنو نباتة بفتح النون وضمها: وهى أمّ سعد بن لؤىّ؛ بها يعرفون، وإليها ينسبون، وقيل: نسبوا إلى حاضنة لهم اسمها نباتة من بنى القين بن جسر بن شيع الله؛ ويقال: سبع الله ابن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. والحارث بن لؤىّ، وعوف وجشم: أولاد لؤىّ. فأما عامر بن لؤىّ، فمنهم ابن أمّ مكتوم الأعمى الذى نزل فيه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وهو مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ واسمه عمرو بن قيس بن زائدة ابن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤىّ؛ ومنهم عمرو ابن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، الذى قتله علىّ بن أبى طالب يوم الخندق. وأما بنو أسامة بن لؤىّ، فيزعم من نسب بنى ناجية إلى قريش أنهم يلقون بنى لؤىّ عند أسامة بن لؤىّ، وقد كان علىّ بن أبى طالب سباهم حين أقاموا على النصرانية ثم باعهم فيمن يريد، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيبانىّ بمائة ألف درهم، فقدّم منها

كعب بن لؤى بن غالب

ثلاثين ألفا وأعتقهم، فأنفذ علىّ عتقهم، وهرب مصقلة ببقيّة المال إلى معاوية. وقد قيل عن علىّ إنه قال: ما أعقب عمّى سامة بن لؤىّ. وأما خزيمة بن لؤىّ، فإليه ينسب القوم الذين يزعمون أنهم عائدة قريش. قال: وشيخ الشرف بن أبى جعفر النسابة يدفعهم عن النسب؛ وهم قوم تكثر بهم معاوية فأدخلهم في قريش، وعائدة هى ابنة الخمس بن قحافة بن خثعم، بها يعرفون: وهم بنو الحارث بن مالك بن عبيد بن خزيمة بن لؤىّ، وعائدة أمّ الحارث هذا؛ ويقال: الحارث بن مالك بن عوف بن حرب بن خزيمة بن لؤى، وهم بمالك خمس أفخاذ من عوف: بنو جذيمة، وبنو عامر، وبنو سلامة، وبنو معاوية: أولاد عوف، وعائدة مع بنى محلب بن ذهل بن شيبان، باديتهم مع باديتهم، وحاضرتهم مع حاضرتهم يد واحدة. فلنرجع إلى عمود النسب، وهو من لؤىّ بن غالب في ابنه: كعب بن لؤىّ بن غالب وأمّه مارية بنت كعب القضاعيّة. ومنه غير مرّة عمود النسب وهما بطنان: بنو عدىّ وبنو هصيص؛ فأما بنو عدىّ، فمنهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب. وسعيد بن زيد بن نفيل المذكور أحد العشرة. ومن بنى عدىّ: عبد الله بن مطيع ابن الأسود بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج بفتح العين وضمها، بن عدىّ بن كعب، وهو وأبوه من الصحابة، وهو الذى أمره أهل المدينة حين أخرجوا بنى أميّة منها فى وقعة الحرّة.

مرة بن كعب

وأما بنو هصيص بن كعب فمنه فخذان: بنو جمح وبنو سهم: ابنى عمرو بن هصيص. فأما بنو سهم: فمنهم عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص. وأما بنو جمح، فمنهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح: هاجر الهجرتين وشهد بدرا. ومنهم صفوان بن أميّة بن خلف بن وهب بن حذافة المذكور، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم! «أبا وهب» . ومنهم أبو محذورة: أوس بن معين ابن لوذان بن سعد بن جمح، مؤذن المسجد الحرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرجع إلى عمود النسب وهو كعب بن لؤى في ابنه: مرّة بن كعب وأمّه وحشيّة بنت شيبان الفهرية. ومنه غير كلاب الذى هو عمود النسب: بطنان وهما: بنو تيم، منهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه ويكنى بعتيق، ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنيسه في الغار بنصّ القرءان بقوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) فشهد له القرءان بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك بذلك شرفا، وصهره، وخليفته صلى الله عليه وسلم ورضى عن أبى بكر وأرضاه. ومن بنى تيم: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم أحد العشرة، وبنو يقظة بن مرّة، منهم: ام سلمة الصادقة: زوج النبى صلى الله عليه وسلم،

كلاب بن مرة بن كعب

وهى بنت أبى أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة، وخالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم الملقّب بسيف الله. قال وقد انقرض ولد خالد بن الوليد فلم يبق منهم أحد شرقا ولا غربا، وإن انتمى إليهم أحد فهو مبطل في انتمائه، وكلّ من ادّعى إليه، فقد كذب. قال الشريف: وكان شيخنا الفقيه مجلّى بن جميع بن نجاء الشافعىّ قاضى مصر يدعى إليه، وهو على كتبه بخطه وشافهنا به ولا صحّة لذلك وعمود النسب من مرّة بن كعب في ابنه: كلاب بن مرة بن كعب وأمّه هند بنت بهز بن حكيم. وقيل عروة. ومنه غير قصىّ عمود النسب: بطن واحد: وهم زهرة بن كلاب؛ منهم: السيّدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، ابن زهرة: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف بن الحارث ابن زهرة: أحد العشرة، وسعد بن أبى وقّاص. ويرجع عمود النسب منه في ابنه قصىّ بن كلاب بن مرّة. وأمّه فاطمة بنت سيل الأزديّة، واسمه زيد؛ ويدعى مجمّعا: لجمعه أمر قريش بالرحلتين وأوّل من جمع يوم الجمعة. وقيل: إنما سمّى قصىّ «مجمّعا» : لأنه لما أخرج خزاعة من مكة ورأى أنه من صريح ولد إسماعيل عليه السلام، وأنه أحقّ من خزاعة بالبيت الحرام، وبنى دار الندوة. وجعل بابها إلى البيت الحرام، وتجمّعت قريش بمكة، فسمى بذلك «مجمّعا» ، لأنه جمعهم ولم يجعل معهم غيرهم، وكان يجمعهم في دار الندوة.

وأما الرحلتان، فأوّل من سنّهما هاشم: فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشىّ فيكرمه، ويرحل في الصيف إلى الشام إلى غزّة، وبها مات؛ وربما وصل إلى أنقرة ويدخل على قيصر فيكرمه. وقد قال ابن الزّبعرى: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف سنّت إليه الرحلتان كلاهما: ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف [1] وأما أوّل من جمع يوم الجمعة فهو كعب بن لؤىّ، وكان يسمّى: يوم العروبة؛ فكان يجمعهم ويعظهم ويحثّهم على اتباع نبىّ من صلبه. وإنما سمّى قصيّا: لأن أمّه فاطمة بنت سعد بن سيل لما تقصّت به مع زوجها ربيعة بن جذام القضاعىّ، فأحملها إلى بلاده من أرض عذره من بلاد الشام سمّى بذلك. قال: ومنه غير عمود النسب وهو عبد مناف بطنان: بنو أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ، وبنو عبد الدار بن قصىّ. فأما بنو أسد، فمنهم خديجة بنت خويلد بن أسد: زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ ومنهم: الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد أحد العشرة وحوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما بنو عبد الدار بن قصىّ، فمنهم الحجبة، فيهم: بنو شيبة بن عثمان بن أبى طلحة عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار. وفي بنى عبد الدار: هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال. وهى مسألة في النسب يمتحن بها من يدّعى علم النسب: يقال له: من يعلم في بنى قصىّ جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف غيرهاشم بن عبد مناف بن قصىّ؟ نرجع إلى عمود النسب من قصىّ بن كلاب في ابنه:

_ [1] يلاحظ القارئ أن قافيتى البيتين غير متجانستين والعرب يفعلون ذلك في أشعارهم، ويسمى «الإقواء» وهو اختلاف إعراب القوافى.

عبد مناف بن قصى

عبد مناف بن قصىّ وأمّه حبّى بنت حليل الخزاعيّة، واسمه المغيرة والقمر. ومنه غيرهاشم عمود النسب ثلاث بطون: بنو المطّلب: وهو العيص، وبنو عبد شمس وبنو نوفل: أولاد عبد مناف. فمن بنى عبد شمس: أميّة الأصغر، يقال لولده: العبلات: لأن أمّ أميّة هذا عبلة بنت عبيد من البراجم بن تميم، وبنو أميّة الأكبر بن عبد شمس، منهم: ذو النورين: عثمان بن عفّان بن العاص بن أميّة بن عبد شمس أحد العشرة وزوج ابنتى النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى عنه. ومن بنى عبد شمس: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهارته خيرا. ومن بنى عبد المطّلب بن عبد مناف: رهط بن عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب البدرىّ، انقرض، وشافع ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب جدّ الشافعىّ رضى الله عنه: وهو محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع. ومن بنى نوفل: جبير بن مطعم ابن عدىّ بن نوفل، وكان ممّن قام في أمر الصحيفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكر له ذلك، وهم يد مع بنى أميّة. وعمود النسب من عبد مناف في ابنه هاشم بن عبد مناف، وأمّه عاتكة بنت مرّة السلميّة، واسمه عمرو العلا، وسمّى هاشما لكرمه وهشمه الثريد في الجدب مبتدئا بذلك، انقرض جميع ولده من الذكور إلا عمود النسب عبد المطّلب، وكان له أسد ابن هاشم، منه: فاطمة بنت أسد أمّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه؛ وهى أوّل هاشميّة تزوّجت هاشميّا فولدت له؛ وانقرض أسد إلا منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هى أمّى بعد أمّى . والعقب من هاشم في ابنه:

عبد المطلب بن هاشم

عبد المطّلب بن هاشم وأمه سلمى بنت زيد النجّارية: وهو شيبة الحمد، أعقب من غير عبد الله عمود النسب من بنى أبى طالب عبد مناف بن عبد المطّلب والعباس بن عبد المطّلب والحارث بن عبد المطّلب وأبا لهب بن عبد المطّلب وهو عبد العزّى. فأما بنو أبى طالب فهم ثلاث بطون: بنو علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب: وهم العلويّون، وبنو جعفر الطيّار: وهم الجعفريّون، وبنو عقيل بن أبى طالب: وهم العقيليّون. فالعلويّون خمس أفخاذ: بنو الحسن بن علىّ، وبنو الحسين بن علىّ، وبنو محمّد ابن الحنفيّة: وهم المحمّديون، وبنو العباس السقّاء بن علىّ: سمّى بذلك لأنه كان قد سقى أخاه الحسين الماء بالقربة في الطّفّ، وبنو عمر الأطراف بن علىّ. وفي كلّ فخذ منهم عدّة عشائر. وأما الجعفريّون فثلاث أفخاذ: بنو علىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وهم الزينبيّون، لأن أمّ علىّ هذا زينب بنت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت علىّ رضى الله عنه، وبنو إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبنو إسحاق العرضىّ بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب. والعرض: موضع بالمدينة. وفي كلّ فخذ عدّة عشائر. وأما العقيليّون، ففخذان: بنو محمّد ومسلم: ابنى عبد الله الأحول بن محمد بن عقيل بن أبى طالب: فهؤلاء بطون بنى طالب. وأما العباسيّون، فبطنان: بنو عبد الله الحبر ومعبد: ابنى العبّاس بن عبد المطلب.

فأما عبد الله، فمنه ثمانى أفخاذ: بنو عبد الله وانقرض، وبنو عيسى، وبنو عبد الصمد، وبنو داود، وبنو إسماعيل، وبنو صالح: صاحب الشام، وبنو سلمان: صاحب البصرة، وبنو محمد الكامل: جدّ الخلفاء أولاد علىّ السجّاد بن عبد الله بن العبّاس. وأما معبد، فمنه فخذان: بنو داود ومحمد: ابنى ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العبّاس: فهؤلاء بنو العباس بن عبد المطّلب. وأما الحارث بن عبد المطّلب، فمنه ثلاث أفخاذ: وهم الحارثيّون: بنو ربيعة، وبنو نوفل، وبنو أبى سفيان: أولاد الحارث بن عبد المطلب: فهؤلاء بنو الحارث. وأما أبو لهب عبد العزّى، فمنه فخذان: بنو عتبة وبنو معتّب: ولدى أبى لهب. وعمود النسب الشريف في عبد الله بن عبد المطّلب، وأمّه آمنة بنت عمرو المخزوميّة، ولا عقب لعبد الله بن عبد المطّلب إلّا من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمد النبىّ العربىّ، ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصىّ ابن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان ابن أدّ بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ابن تارح: وهو آزر بن ناحور ابن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر: وهو هود النبىّ عليه السلام؛ وهو جماع قيس ويمن ونزار وخندف بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ابن لمك بن متوشلخ [1] بن أخنوخ: وهو إدريس النبىّ عليه السلام ابن يارد بن مهلائيل [2]

_ [1] فى التوراة: متوشالخ. [2] فى التوراة: مهللئيل.

ابن قينان بن أنوش بن هبة الله شيث بن أبى البشر آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر أنبياء الله تعالى أجمعين. نسب كأنّ عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا وروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما خلق الله تعالى آدم، أهبطنى في صلبه إلى الأرض، وحملنى في صلب نوح في السفينة، وقذف بى في النّار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلنى من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجنى من بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قطّ» . والى هذا أشار العبّاس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عنه بقوله حيث يقول: من قبلها طبت في الجنان، وفي ... مستودع، حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد، لا بشر ... أنت، ولا مضغة، ولا علق بل نطفة، تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله، الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم، بدا طبق اللهم صلّ على أسعد الخلق سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم أفضل صلواتك وسلامك عدد خلقك، وأجر لطفك في أمورنا في الدنيا والآخرة، حسبنا الله ونعم الوكيل! كمل الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الثالث: «القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال» وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله وسلّم على أشرف الخلق أجمعين

فهرس الجزء الثالث من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويريّ القسم الثاني من الفن الثانى في الأمثال المشهورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل: في الأمثال 1 ما تمثل به من أقوال النبى صلّى الله عليه وسلم 2 ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه 4 ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه 5 ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه 6 ومن كلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه 6 ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما 6

... صحيفة ومن أمثال العرب المرتبة على حروف المعجم 6 حرف الهمزة 7 حرف الباء 19 حرف التاء 21 حرف الثاء 23 حرف الجيم 23 حرف الحاء 26 حرف الخاء 28 حرف الدال 30 حرف الذال 30 حرف الراء 31 حرف الزاى 33 حرف السين 34 حرف الشين 35 حرف الصاد 36 حرف الضاد 38 حرف الطاء 38 حرف الظاء 39 حرف العين 39 حرف الغين 42 حرف الفاء 43

... صحيفة حرف القاف 44 حرف الكاف 46 حرف اللام 48 حرف الميم 50 حرف النون 54 حرف الهاء 55 حرف الواو 56 ما جاء فيما أوله (لا) 57 حرف الياء 60 ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية 61 امرؤ القيس بن حجر 61 زهير بن أبي سلمى 61 النابغة الذبيانيّ 62 طرفة بن العبد 63 أوس بن حجر 63 بشر بن أبى خازم 64 المتلمس 64 الأفوه الأودىّ 64 تميم بن أبى مقبل 65 حميد بن ثور 65 عدىّ بن زيد 65

... صحيفة الأسود بن يعفر 66 علقمة بن عبدة 66 عمرو بن كلثوم 66 الحارث بن حلزة 66 حاتم الطائىّ 67 المرقّش الأصغر 67 النمر بن تولب 67 مهلهل بن ربيعة 67 طفيل الغنوىّ 68 عروة بن الورد 68 الاعشى (ميمون بن قيس) 68 لقيط بن معبد 68 تأبط شرا 69 المثقّب العبدىّ 69 الممزّق العبدىّ 69 أفنون التغلبىّ 69 الأضبط بن قريع 69 سويد بن أبى كاهل 69 ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين 70 لبيد بن ربيعة 70 كعب بن زهير 70

... صحيفة النابغة الجعدىّ 71 أمية بن أبى الصلت الثقفى 71 حسان بن ثابت 71 الحطيئة 71 متمم بن نويرة 72 أبو ذؤيب الهذلىّ 72 الخنساء 72 عمرو بن معديكرب 73 معن بن أوس 73 زياد بن زيد 73 أيمن بن خزيم 73 ومما يتمثل به من أشعار المتقدمين في صدر الاسلام 74 القطامىّ 74 الطرماح 74 الكميت بن زيد الأسدىّ 74 المساور بن هند 74 عدىّ بن الرقاع 75 الفرزدق 75 جرير 76 الأخطل 76 الصلتان العبدىّ 77

... صحيفة كثيّر عزّة 77 جميل 78 عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة 78 ومما يتمثل به من أشعار المحدثين 78 إبراهيم بن هرمة 78 بشار بن برد 79 أبو العتاهية 80 سلم بن عمرو الخاسر 81 صالح بن عبد القدوس 82 ابن ميادة 83 أبو نواس 83 أبو عيينة المهلبىّ 84 عبد الله بن أبى عتبة 84 العباس بن الأحنف 84 مسلم بن الوليد 85 منصور النمرىّ 85 العتابىّ 76 أشجع السلمىّ 87 الجرهمىّ 87 محمود الوراق 88 محمود بن حازم الباهلىّ 88

... صحيفة السموءل بن عادياء 89 محمد بن أبى زرعة الدمشقىّ 89 أبو الشيص 89 علىّ بن جبلة 89 اللجلاج الحارثىّ 89 عبد الصمد بن المعذّل 90 الحمدونىّ 90 العتبىّ 90 أبو سعيد المخزومىّ 91 دعبل بن علىّ الخزاعىّ 91 إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ 92 المؤمل بن أميل 92 إبراهيم بن العباس 92 أبو علىّ البصير 93 سعيد بن حميد 93 علىّ بن الجهم 93 ابن أبى فنن 93 يزيد بن محمد المهلبىّ 94 عمارة بن عقيل 94 أحمد بن أبى طاهر 94 أبو تمام حبيب بن أوس الطائىّ 94

... صحيفة أبو عبادة البحترىّ 96 ديك الجن 98 ابن الرومىّ 99 عبد الله بن المعتز 99 عبيد بن عبد الله بن طاهر 100 ابن طباطبا العلوىّ 101 منصور الفقيه 101 ابن بسام 102 جحظة 102 الصنوبرىّ 103 أبو الفتح كشاجم 104 ومما يتمثل به من أشعار المولدين 104 أبو فراس الحمدانىّ 104 أبو الطيّب المتنبى 104 السرىّ بن أحمد 107 أبو بكر محمد بن هاشم الخالدىّ 107 أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ 108 الخباز البلدىّ 108 أبو إسحاق الصابىء 108 عبد العزيز عمر بن نباتة 108 ابن لنكك البصرىّ 109

... صحيفة أبو الحسن عبد الله 109 أبو الفرج الببغاء 110 ابن سكرة الهاشمىّ 110 ابن الحجاج 110 ابو الحسن الموسوىّ النقيب 111 أبو طالب المأمونىّ 112 ابن العميد 112 الصاحب بن عبّاد 113 الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى 113 أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمىّ 113 بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ 114 إسماعيل الناشئ 114 أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ 115 الباب الثانى: في أوابد العرب 116 البحيرة 116 الوصيلة 116 السائبة 117 الحامى 117 الأزلام 117 الميسر 118

... صحيفة نكاح المقت 120 رمى البعرة 120 ذبح العتائر 120 عقد السلع والعشر 120 ذبح الظبى 121 حبس البلايا 121 خروج الهامة 121 إغلاق الظهر 121 التعمية والتفقئة 121 بكاء المقتول 122 رمى السن في الشمس 122 خضاب النحر 122 التصفيق 122 جز النواصى 122 كىّ السليم عن الجرب 123 ضرب الثور 123 كعب الأرنب 123 حيض السمرة 124 الطارف والمطروف 124 وطء المقاليت 124 تعليق الحلى على السليم 124

... صحيفة ذهاب الخدر 125 الحلأ 125 التعشير 125 عقد الرتم 125 دائرة المهقوع 126 شق الرداء والبرقع 126 نوء السماك 126 النسىء 126 وأد البنات 126 الباب الثالث: في أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطيرة والفراسة والذكاء 128 أخبار الكهنة 128 الزجر 134 الفأل والطيرة 143 الفراسة والذكاء 149 الباب الرابع: فى الكنايات والتعريض 152 الباب الخامس: في الألغاز والأحاجى 162 ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص 171

القسم الثالث من الفن الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة والندمان، والقيان، ووصف آلات الطرب وفيه خمسة أبواب .... صحيفة الباب الأوّل: في المدح وفيه ثلاثة عشر فصلا 173 ذكر ما قيل في الأفتخار 200 ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام 204 ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم 208 ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال 218 ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام 220 ذكر ما قيل في وفور العقل 230 ذكر ما قيل في حد العقل وماهيته وما وصف به 233 ذكر ما قيل في الصدق 237 ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة 239 ذكر ما قيل في التواضع 244 ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة 247 ذكر ما قيل في الشكر والثناء 248 ذكر ما قيل في الوعد والإنجار 254 ذكر ما قيل في الشفاعة 257 ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف 258

... صحيفة الباب الثانى: في الهجاء وفيه أربعة عشر فصلا 265 ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه 266 ومما قيل في الهجاء من النظم 271 ذكر ما قيل في الحسد 284 ذكر ما قيل في السعاية والبغى والغيبة والنميمة 289 ذكر ما قيل في البخل واللؤم 294 احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه 314 ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة 323 ذكر آداب الأكل والمؤاكلة 338 ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها 340 ذكر أخبار الأكلة 343 ذكر ما قيل في الجبن والفرار 346 ذكر ما قيل في الحمق والجهل 353 ذكر ما قيل في الكذب 359 ذكر ما قيل في الغدر والخيانة 364 ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة 365 ذكر ما قيل في الكبر والعجب 370 ذكر ما قيل في الحرص والطمع 376 ذكر ما قيل في الوعد والمطل 378 ذكر ما قيل في العىّ والحصر 381

الجزء الثالث

الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الثانى من الفن الثانى في الأمثال المشهورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، والمشهور من أمثال العرب، وأوابد العرب، وأخبار الكهنة، والزجر، والفأل، والطيرة، والفراسة، والذكاء، والكنايات، والتعريض، والأحاجى، والألغاز؛ وفيه خمسة أبواب. الباب الأوّل من هذا القسم (فى الأمثال) ضرب الله عزوجل الامثال في كتابه العزيز في آى كثيرة، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وتكرر ذكر الأمثال. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبى الصراط أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرّجوا» فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله تعالى، والأبواب: محارم الله، والداعى: القرآن.

وأول ما نبدأ به من ذلك ما تمثل به من أقوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال المبرّد: المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر، شبّه به حال الثانى بالأوّل والأصل فيه التشبيه. قال: وقولهم مثل بين يديه، إذا انتصب؛ معناه أشبه الصورة المنتصبة. وفلان أمثل من فلان، أى أشبه. والمثال: القصاص، لتشبيه حال المقتصّ منه بحال الأوّل. وقال ابن السّكّيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه. وقال إبراهيم النظّام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة. وقال ابن المقفّع: إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث. وأوّل ما نبدأ به من ذلك ما تمثّل به من أقوال سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم وهو مما لم يسبق إليه: «إيّاكم وخضراء الدّمن» فقيل له: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «المرأة الحسناء فى منبت السّوء!» «كلّ الصيد في جوف الفرا» قاله لأبى سفيان يتألّفه على الإسلام. «مات فلان حتف أنفه» . «لا ينتطح فيه عنزان» . «إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» المنبتّ: المنقطع عن أصحابه في السفر؛ والظهر: الدابّة، قاله في الغلوّ في العبادة.

«الآن حمى الوطيس» : ضربه في الحرب. «يا خيل الله اركبى» . «اشتدّى أزمة تنفرجى» . وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالعافية» . «الناس كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» . «النّاس كإبل، مائة لا تجد فيها راحلة» . «المؤمن هيّن ليّن، كالجمل الأنف إن انقيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ» . «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» . «أصحابى كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم» . «مثل أصحابى كالملح لا يصلح الطعام إلا به» . «أمّتى كالمطر، لا يدرى أوّله خير أم آخره» . «مثل أبى بكر كالقطر أين وقع نفع» . «عمّالكم كأعمالكم وكما تكونوا يولّى عليكم» . وقال لما كتب كتاب المهادنة بينه وبين سهيل بن عمرو: «والعقد بيننا كشرج العيبة» يعنى إذا انحلّ بعضه انحلّ جميعه. «المرأة كالضّلع العوجاء إن قوّمتها كسرتها، وإن داريتها استمتعت بها» . «المتشبّع بما لم يعطه كلابس ثوبى زور» . «الدالّ على الخير كفاعله» . «لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» .

ومن كلام أبى بكر الصديق رضى الله عنه

«وعد المؤمن كالأخذ باليد» . «مثل المؤمن كالنحلة، لا تأكل إلا طيّبا ولا تطعم إلا طيّبا» . «مثل المؤمن كالسّنبلة تميل أحيانا، وتعتدل أحيانا» . «مثل الجليس الصالح كالعطّار، إن لم تصب من عطره أصبت من ريحه، ومثل الجليس السوء كالكير إن لم يحرق ثوبك آذاك بدخانه» . «علم لا ينفع كنز لا ينفق منه» . وقال: «المؤمن مرآة أخيه» . «قد جدع الحلال أنف الغيرة» . «الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى» . «نيّة المرء خير من عمله» . «إن من الشّعر لحكمة وإن من البيان لسحرا» . «من كثّر سواد قوم فهو منهم» . «الأعمال بخواتمها» . «ساقى القوم آخرهم شربا» . «المرء على دين خليله فلينظر امرؤ من يخالّ» . «المستشير معان والمستشار مؤتمن» . ومن كلام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إن الله قرن وعده بوعيده: ليست مع العزاء مصيبة. الموت أهون مما بعده وأشدّ مما قبله.

ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه

ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغى، والنّكث، والمكر. ذلّ قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة. احرص على الموت توهب لك الحياة؛ قاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الرّدّة. كثير القول ينسى بعضه بعضا. وإنما لك ما وعى عنك. لا تكتم المستشار خبرا فتؤتى من قبل نفسك. خير الخصلتين لك أبغضهما إليك. صنائع المعروف تقى مصارع السوء. ومن كلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه من كتم سرّه كان الخيار في يده. أشقى الولاة من شقيت به رعيّته. اتقوا من تبغضه قلوبكم. أعقل الناس أعذرهم للناس. اجعلوا الرأس رأسين. أخيفوا الهوامّ قبل أن تخيفكم. لو أن الشكر والصبر بعيران لما بنيت أيهما ركبت. من لم يعرف الشرّ كان أجدر أن يقع فيه. ما الخمر صرفا بأذهب للعقول من الطبع. إلى الله أشكو ضعف الأمين وحبنة القوىّ. اقتصاد في سنّة خير من اجتهد في بدعة. لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلقا.

ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه

ومن كلام عثمان بن عفان رضى الله عنه ما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. الهدية من العامل اذا عزل، مثلها منه اذا عمل. أنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال؛ قاله يوم صعد المنبر فأرتج عليه. وقال يوم قتل: لأن أقتل قبل الدماء، أحبّ الىّ من أن أقتل بعد الدماء. ومن كلام علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه من رضى عن نفسه كثر الساخط عليه؛ ومن ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد؛ ومن بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم. رأى الشيخ خير من مشهد الغلام. الناس من خوف الذلّ في الذلّ. إن من السكوت ما هو ابلغ من الجواب. ومن كلام عبد الله بن عباس رضى الله عنهما لكل داخل دهشة فابدءوه بالتحية؛ ولكل طاعم حشمة فابدءوه باليمين. ومن أمثال العرب ما نقلته من كتاب «الأمثال» للميدانىّ. [والميدانىّ «1» : هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميدانىّ النيشابورىّ- والميدانىّ: بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة نسبة إلى ميدان زياد، وهى محلة بنيسابور؛ توفى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة] ووضعته على حروف المعجم. فمن ذلك ما جاء منها على حرف الهمزة:

حرف الهمزة

حرف الهمزة تقول العرب: «إنّ الموصّين بنو سهوان» قال الميدانىّ: يضرب لمن يسهو عن طلب شىء أمر به، وبنو سهوان: بنو آدم عليه السّلام حين عهد اليه فسها ونسى. وقولهم: «إنّ الرّثيئة تفثأ الغضب» قال: الرثيئة: اللبن الحامض يخلط بالحلو؛ والفثء: التسكين؛ وزعموا أن رجلا نزل بقوم وكان ساخطا عليهم، وكان جائعا فسقوه الرثيئة فسكن غضبه، فقال هذا المثل: يضرب في الهدية تورث الوفاق. وقولهم: «إن الحديد بالحديد يفلح» أى يستعان في الأمر الشديد بما يشاكله ويقاويه. وقولهم: «إن السلامة منها ترك ما فيها» فى اللّقطة وذمّ الدنيا «1» . والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها وقولهم: «إن العصا من العصيّة» يقال: إن أوّل من قال ذلك الأفعى الجرهمىّ، ذلك أن نزارا لما حضرته الوفاة جمع بنيه: مضر، وإيادا، وربيعة، وأنمارا، فقال: يا بنىّ! هذه القبة الحمراء- وكانت من أدم- لمضر؛ وهذه الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة؛ وهذه الخادم- وكانت شمطاء- لإياد؛ وهذه البدرة والمجلس لأنمار، فإن أشكل عليكم كيف تقسمون، فأتوا الأفعى الجرهمىّ ومنزله بنجران؛ فتشاجروا

فى ميراثه، فتوجهوا إليه، فبينماهم في سيرهم إذ رأى مضر أثر كلإ قد رعى، فقال: إن البعير الذى رعى هذا أعور، وقال ربيعة: إنه لأزور، وقال إياد: إنه لأبتر، وقال أنمار: إنه لشرود، فساروا قليلا، فإذاهم برجل يوضع «1» حمله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، وقال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم، وقال إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم، وقال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بعيرى، فدلونى عليه، فقالوا: والله ما رأيناه. فقال: هذا والله الكذب كيف أصدّقكم وأنتم تصفونه بصفته؟ فساروا حتى قدموا نجران؛ فلما نزلوا، نادى صاحب البعير، هؤلاء أصحاب جملى وصفوا لى صفته ثم قالوا: لم نره؛ فاختصموا إلى الأفعى، فقال لهم: كيف وصفتموه وأنتم لم تروه؟ فقال مضر: رأيته قد رعى جانبا وترك جانبا، فعلمت أنه أعور؛ وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والثانية فاسدة، فعلمت أنه أزرر لأنه أفسدها بشدّة وطئه؛ وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان ذيّالا لمصع به؛ وقال أنماره عرّفت أنه شرود، لأنه يرعى فى المكان الملتّف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرقّ منه؛ فقال الأفعى: ليسوا بأصحاب جملك فاطلبه، ثم سألهم: من أنتم؟ فأخبروه بخبرهم، وبما جاءوا له، فأكرمهم، وقال: أتحتاجون إلىّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم وذبح لهم شاة، وأتاهم بخمر؛ وجلس لهم الأفعى بحيث لا يرى؛ فقال ربيعة: لم أركاليوم أطيب لحما لولا أن شاتة غذيت بلبن كلبة؛ وقال مضر: لم أر كاليوم أطيب خمرا لولا أن حبلته نبتت على قبر؛ فقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرّى لولا أنه ليس لأبيه الذى يدعى له؛ فقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا من كلامنا، وكلامهم بأذنه، فدعا قهرمانة، فقال: ما هذه الخمر،

وما أمرها؟ قال: هى من حبلة غرستها على قبر أبيك؛ وقال للراعى: ما هذه الشاة؟ فقال: هى عناق أرضعتها بلبن كلبة وكانت أمّها ماتت؛ ثم أتى أمّه، فقال: اصدقينى، من أبى؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال وكان لا يولد له، فخفت أن يموت وليس له ولد، فأمكنت من نفسى ابن عمّ له كان نازلا عليه فولدتك، فرجع إليهم وقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال نزار فهو لمضر، فذهب بالإبل الحمر والدنانير، فسمّيت: مضر الحمراء. وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود فله كل شىء أسود، فصار لربيعة الخيل الدّهم وما شاكلها، فقيل: ربيعة الفرس. وأما الخادم الشمطاء فلصاحبها الخيل البلق والماشية، فسميت: إياد الشمطاء، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض فصدروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العصيّة، وإنّ خشينا من أخشن؛ فأرسلهما مثلا. وقولهم: «إن العوان لا تعلّم الخمرة» : يضرب للرجل المجرّب. وقولهم: «إنى لآ كل الرأس وأنا أعلم بما فيه» : يضرب للأمر تأتيه وأنت تعلم ما فيه مما تكره. وقولهم: «أنف في السماء، واست في الماء» : يضرب للمتكبر الصغير الشأن. وقولهم: «إن الذليل الذى ليست له عضد» أى أنصار وأعوان: يضرب لمن يخذله ناصره. وقولهم: «إن يدم أظلك فقد نقب خفىّ» لأفضل: ما تحت منّسم البعير: والخفّ: قائمته: يصريه المشكو إليه لشاكى أى أنا منه في مثل ما تشكوه.

وقولهم: «إن تسلم الجلّة فالنّيب هدر» الجلّة: جمع جليل يعنى العظام من الإبل، والنيب: جمع ناب وهى الناقة المسنّة؛ معناه إذا سلم ما ينتفع به هان ما لا ينتفع به. وقولهم: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر» يقال: إن بنى ثعلبة ابن سعد في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة: بل يغيب قبل طلوعها، فتراضوا برجل جعلوه بينهم، فقال رجل منهم: إن قومى يبغون علىّ، فقال العدل: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر؛ فذهبت مثلا: يضرب للأمر المشهور. وقولهم: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا» الإعصار: ريح شديدة تهبّ فيما بين السماء والأرض: يضرب للمدل بنفسه إذا صلّى بمن هو أدهى منه وأشد. وقولهم: «إنّك خير من تفاريق العصا» قالوا: قالته غنيّة الأعرابية لابنها، وكان عارما مع ضعفه، فواثب يوما فتى فقطع أذنه فأخذت ديتها، فزادت حسن حل ثم واثب آخر فقطع شفته فأخذت الدية فذكرته في أرجوزتها فقالت أحلف بالمروة حقّا والصّفا ... إنك أجدى «1» من تفاريق العصا فقيل لأعرابى: ما تفاريق العصا؟ فقال: العصا تقطع ساجورا والسواجير للكلاب والأسرى من الناس ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويقطع الوتد فيصير كل قطعة شظاظا وإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختىّ مهارا وهو

العود الذى يدخل في أنفه، واذا فرق المهار جاءت منه تواد وهى الخشبة التى تشدّ على خلف الناقة. وقولهم: «إنّه ليعلم من أين تؤكل الكتف» : يضرب للرجل الداهى؛ قال بعضهم: لم تؤكل الكتف من أسفلها؟ قال: لأنها تنقشر عن عظمها وتبقى المرقة مكانها ثابتة. وقولهم: «إنّك لا تجنى من الشّوك العنب» أى لا تجد عند ذى المنبت السوء جميلا؛ والمثل من قول أكثم قال: إذا ظلمت فاحذر الانتصار، فان الظلم لا يكسبك إلا مثل فعلك. وقولهم: «أخو الظّلماء أعشى بالليل» : يضرب لمن يخطئ حجته ولا يبصر المخرج مما وقع فيه. وقولهم: «إنّك لتكثر الحزّ وتخطئ المفصل» : يضرب لمن يجتهد فى السعى ثم لا يظفر بالمراد. وقولهم: «أوّل الشجرة النّواة» : يضرب للأمر الصغير يتولد منه الكبير. وقولهم: «إذا صاحت الدّجاجة صياح الدّيك فلتذبح» قاله الفرزدق فى امرأة قالت الشعر. وقولهم: «إذا رآنى رأى السّكين في الماء» : يضرب لمن يخافك جدّا.

وقولهم: «إنك ريّان فلا تعجل بشربك» : يضرب لمن أشرف على إدراك بغيته فيؤمر بالرفق. وقولهم: «أبطش من دوسر» هى إحدى كتائب النعمان أشدّها بطشا ونكاية؛ قال بعض الشعراء ضربت دوسر فيهم «1» ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر وقولهم: «أبرما قرونا» البرم: الذى لا يدخل مع القوم في الميسر لبخله، والقرون: الذى يقرن بين الشيئين؛ وأصله أن رجلا كان لا يدخل في الميسر ولا يرى اللحم فجاء إلى امرأته وبين يديها لحم تأكله فأقبل يأكل معها بضعتين يقرن بينهما فقالت له: أبرما قرونا: يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين. وقولهم: «الثّيّب عجالة الراكب» : يضرب في الحث على الرضا بيسير الحاجة عند إعواز جليلها. وقولهم: «البس لكلّ حالة لبوسها ... إمّا نعيمها وإمّا بوسها» أوّل من قال ذلك بيهس: وهو رجل من بنى غراب بن فزارة، وكان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم أناس من بنى أشجع، وهم في إبلهم فقتلوا منهم ستة وتركوا بيهسا لحمقه فقال: دعونى أتوصل معكم إلى أهلى فأقبل معهم. فلما كان من الغد نحروا جزورا في يوم شديد حرّ، فقال بعضهم: أظلو لحمكم لا يفسده الضّحّ، فقال

بيهس: لكن بالأثلاث «1» لحم لا يظلّل، فأرسلها مثلا؛ ثم فارقهم وأتى أمه فأخبرها الخبر فقالت: ما جاء بك من بين إخوتك وأنت أخبثهم، فقال: ما خيّرك القوم فتختارى، فأرسلها مثلا؛ ثم أعطته ثياب إخوته ومتاعهم، فقال: يا حبذا التراث لولا الذّلة، فأرسلها مثلا؛ وأخذ يوما يبرم سكينا، فقيل له: ما تصنع بها؟ فقال: أقتل بها قتلة إخوتى، فقيل له: إنك لأحمق، فقال: ما يؤمنك من أحمق في يده سكين، فأرسلها مثلا؛ ثم إنه مرّ بنسوة من قومه يصلحن امرأة يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته فكشف ثوبه عن استه وغطى به رأسه، فقيل له: ما تصنع؟ فقال: البس لكل حالة لبوسها، ... إما نعيمها وإما بوسها وقولهم: «الصيف ضيّعت اللبن» قال الأصمعىّ: معناه تركت الشىء فى وقته؛ وقال غيره: تركت الشىء وهو ممكن، وقال أبو عبيدة: أوّل من قاله عمرو بن عدس، وكان قد تزوّج دختنوس بعد ما كبر، فكان ذات يوم نائما في حجرها فجخف وسال لعابه فتأففته فانتبه وهى تتأفف منه، فقال: أتحبين أن أطلّقك؟ قالت: نعم، فطلقها، وتزوّجها فتى ضرير حسن الوجه، ففجأتهم ذات يوم غارة والفتى نائم فجاءت دختنوس فأنبهته وقالت له: الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، من الخوف حتى مات فرقا وسبيت دختنوس فبلغ عمرو الجبر مركب ولحقهم وقاتل حتى استنقذ

جميع ما أخذوا واستنقذها فوضعها قدّامه على السرج وردّها إلى أهلها، ثم اصابتهم سنة فبعثت إليه تقول: نحتاج اللبن فبعث إليها بلقحة وقال: الصيف ضيّعت اللبن. وقولهم: «اضطره السيل إلى معطشه» وهو أن رجلا عطش وكان قد أتى واديا له غور وماء شديد الجرية، فبقى في أصل شجرة لا يقدر أن ينزل فيأخذ به الماء، ولم يجد ماء فمات عطشا: يضرب لمن ألقاه الخير الذى كان فيه إلى شرّ. وقولهم: «إنّ الحماة أولعت بالكنّه ... وأو لعت كنّتها بالظّنّه» الحماة: أمّ الزوج؛ والكنّة: امرأة الابن والأخ؛ والظّنّة: التهمة؛ وبين الحماة والكنة عداوة مستحكمة: يضرب بها المثل في الشر يقع بين قوم هم أهل لذلك. وقولهم: «إن لله جنودا منها العسل» قاله معاوية: لما بلغه أن الأشتر سقى عسلا فيه سمّ فمات: يضرب عند الشماتة بمصاب العدوّ. وقولهم: «إن الهوى ليميل باست الراكب» أى من هوى شيئا مال نحوه قبيحا أو جميلا، كما قيل وما زرتكم عمدا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرّجل وقولهم: «إن الجواد قد يعثر» : يضرب لمن يكون الغالب عليه فعل الجميل ثم تكون منه الزلّة.

وقولهم: «إن الشفيق بسوء ظنّ مولع» : يضرب للمعنىّ بشأن صاحبه لأنه لا يكاد يظن به غير وقوع الحوادث كظنون الوالدات بالأولاد. وقولهم: «إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوء» : يضرب للرجل يعتذر من شىء فعله بالكذب. وقولهم: «أحاديث طسم وأحلامها» : يضرب لمن يخبرك بما لا أصل له. وقولهم: «أحشفا وسوء كيلة» : يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين. وقولهم: «الحق أبلج، والباطل لجلج» : معناه أن الحق واضح بيّن والباطل يتلجلج فيه أى يتردّد فلا يجد صاحبه مخرجا. وقولهم: «الحزم سوء الظّنّ بالناس» : هذا المثل قاله اكثم بن صيفىّ. وقولهم: «اختلط الخاثر بالزّبّاد» . الخاثر: ما خثر من اللبن، والزّبّاد: الزّبد: يضرب للقوم يقعون في التخليط من أمرهم. وقولهم: «أخطأت استه الحفرة» : يضرب لمن رام شيئا فلم ينله. وقولهم: «ادع الى طعانك، من تدعوه الى جفانك» أى استعمل في حوائجك من تخصّه بمعروفك. وقولهم: «أروغانا يا ثعال، وقد علقت بالحبال» ثعالة: الثعلب: يضرب لمن يراوغ وقد وجب عليه الحق.

وقولهم: «إرم فقد أفقته مريشا» يقال: أفقت السهم إذا وضعت فوقه فى الوتر: يضرب لمن تمكّن من طلبته. وقولهم: «أضرطا وأنت الأعلى؟» قاله سليك بن سلكة السعدىّ، وذلك انه بينا هو نائم إذ جثم عليه رجل من الليل وقال: استأسر فقال له سليك: الليل طويل وأنت مقمر، فأرسلها مثلا: ثم ضمه سليك بيديه ضمّة أضرطته، فقال له: أضرطا وأنت الأعلى فأرسلها مثلا: يضرب لمن يشكو في غير موضع الشكوى. وقولهم: «أضللت من عشر ثمانيا» : يضرب لمن يفسد أكثر ما يليه من الأمر. وقولهم: «أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة» : يضرب لمن يختار الهوان على الكرامة. وقولهم: «أكذب النّفس إذا حدّثتها» معناه لا تحدّث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبّطك. قال لبيد أكذب النفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل وقولهم: «أكبرا وإمعارا؟» أى أتجمع بين الكبر والفقر. وقولهم: «أمكرا وأنت في الحديد؟» هذا المثل قاله عبد الملك بن مروان لعمرو ابن سعيد لما قبض عليه وكبلّه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن لا تفضحنى بأن تخرجنى للناس فتقتلنى بحضرتهم فافعل، وإنما أراد عمرو بهذه المقالة أن يخالفه عبد الملك فيخرجه فيمنعه منه أصحابه، فقال: أنا أمية! أمكرا وأنت في الحديد. يضرب لمن أراد أن يمكر وهو مقهور.

وقولهم: «أهون هالك عجوز في هام سنة» : يضرب للشىء يستخفّ به وبهلاكه. قال الشاعر وأهون مفقود إذا الموت نابه ... على المرء من أصحابه من تقنّعا وقولهم: «أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل» أصله أن رجلا من العرب أغير على إبله فأخذت، فلما تواروا صعد أكمة وجعل يسبّهم ثم رجع إلى قومه فسألوه عن إبله، فقال هذا المثل. ويقال: إن أوّل من قاله كعب بن زهير بن أبى سلمى، وذلك أن الحارث بن ورقاء الصيداوىّ أغار على بنى عبد الله بن غطفان واستاق إبل زهير وراعيه، فقال زهير في ذلك قصيدته التى أوّلها بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزوّدوك اشتياقا أيّة سلكوا وبعث بها إلى الحارث فلم يردّ الإبل، فهجاه، فقال كعب ابنه: أو سعتهم سبّا وأودوا بالإبل، فذهبت مثلا: يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام. وقولهم: «أوردها سعد وسعد مشتمل» : هو سعد بن زيد مناة أخو مالك الذى يقال فيه: إنّك ابل من مالك، وذلك أن مالكا تزوّج بامرأة وبنى بها فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها، فقال مالك أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل

فضرب مثلا لمن قصّر في طلب الأمر. وقولهم: «إن الشّقىّ وافد البراجم» قاله عمرو بن هند الملك. وذلك أن سويد بن ربيعة التميمىّ قتل أخاه سعد بن هند وهرب فنذر عمرو ليقتلن بأخيه مائة من بنى تميم، فسار إليهم بجمعه فلقيهم الخبر فتفرّقوا في نواحى بلادهم فلم يجد إلا عجوزا كبيرة وهى حمراء بنت ضمرة، فلما نظر اليها قال: إنى لأحسبك أعجمية، قالت: لا والذى أسأله أن يخفض جناحك، ويهدّ عمادك، ويضع وسادك، ويسلبك بلادك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر، ساد معدّا كابرا عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، قال: فمن زوجك؟ قالت: هوذة ابن جرول، قال: وأين هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: لو كنت أعلم مكانه حال بينى وبينك، فقال عمرو: أما والله لولا أنى أخاف أن تلدى مثل أبيك وأخيك وزوجك لاستبقيتك، فقالت: والله ما أدركت ثارا، ولا محوت عارا، مع كلام كثير كلّمته به فأمر بإحراقها، فلما نظرت إلى النار، قالت: ألا فتى مكان عجوز! فذهبت مثلا، ثم مكثت ساعة فلم يفدها أحد، قالت: هيهات صارت الفتيان حمما، فذهبت مثلا ثم ألقيت في النار ولبث عمرو عامّة يومه لا يقدر على أحد، حتّى إذا كان آخر النهار أقبل راكب يسمى عمّارا توضع به راحلته حتى أناخ اليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا رجل من البراجم، قال: فما جاء بك إلينا؟ قال: سطع الدّخان وكنت طويت منذ أيام وظننته طعاما، فقال عمرو: إن الشقىّ وافد البراجم، فذهبت مثلا وأمر به فألقى في النار، قيل: إنه أحرق مائة من بنى تميم: تسعة وتسعين من بنى دارم، وواحدا من البراجم.

حرف الباء

وقال بعضهم: ما بلغنا أنه أصاب من بنى تميم غير وافد البراجم وإنما أحرق النساء والصبيان؛ قال حرير وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم ... وأدرك عمّارا شقىّ البراجم ولذلك عيّرت بنو تميم بحب الطعام؛ قال الشاعر إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش، فجىء بزاد بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشّىء الملفّف في البجاد تراه ينقّب الآفاق حولا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وهذا المثل يضرب لمن يوقع نفسه في هلكة طمعا. حرف الباء تقول العرب: «بلغ السيل الزّبى» هى جمع زبية وهى حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده لا يعلوها الماء فإذا بلغها السيل كان مجحفا: يضرب لمن جاوز الحدّ. وقولهم: «بين العصا ولحائها» اللحاء: القشر: يضرب للمتخالّلين المتفقين؛ ويروى: لا مدخل بين العصا ولحائها. وقولهم: «بينهم داء الضرائر» هى جمع ضرّة يضرب للعداوة إذا رسخت بين قوم. وقولهم: «بينهم عطر منشم» قال الأصمعىّ: منشم كانت عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها فاذا فعلوا ذلك كثرت

بينهم القتلى فكان يقال: أشأم من عطر منشم: يضرب في الشرّ العظيم، وفيه يقول زهير تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم. وقولهم: «به داء ظبى» : أى أنه لا داء به كما أن الظبى لا داء به، وقيل: ربما يكون بالظبى داء لا يعرف مكانه معناه أنّ به داء لا يعرف. وقولهم: «بلغت الدّماء الثّنن» الثّنة، الشعرات التى في مؤخّر رسغ الدابّة: يضرب عند بلوغ الشرّ النهاية. وقولهم: «برح الخفاء» أى زال من قولهم ما برح، والمعنى زال الشرّ فوضح الأمر، ويقال: الخفاء المتطأطىء من الأرض، والبراح المرتفع أى صار الخفاء براحا. وقولهم: «بنان كفّ ليس فيها ساعد» : يضرب لمن له همة ولا مقدرة له على ما في نفسه. وقولهم: «بات فلان يشوى القراح» : يعنى الماء الخالص لا يخالطه شىء: يضرب لمن ساءت حاله، وفقد ماله بحيث يشوى الماء شهوة للطبيخ. وقولهم: «بخ بخ ساق بخلخال» هى كلمة يقولها المتعجب من حسن الشىء وكماله. وأوّل من قال ذلك الورثة بنت ثعلبة، وذلك أنّ ذهل بن شيبان كان زوج الورثة وكانت لا تترك له امرأة إلا ضربتها فتزوّج رقاش بنت عمرو بن عثمان من بنى ثعلبة، فخرجت رقاش يوما وعليها خلخالان، فقالت الورثة ذلك، فذهبت مثلا.

حرف التاء

حرف التاء قولهم: «ترك الظّبى ظلّه» أى كناسه الذى يستظلّ به: يضرب لمن نفر من شىء فتركه تركا لا يعود له. وقولهم: «تركته على مثل ليلة الصّدر» وهى ليلة ينفر الناس من منى فلا يبقى منهم احد. وقولهم: «تركته أنقى من الرّاحة» أى على حال لا خير فيه كما لا شعر على الراحة: يضرب في اصطلام الدهر. وقولهم: «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» : أى لا تكون ظترا وإن آذاها الجوع. أوّل من قاله الحارث بن سليل الأسدىّ وكان حليفا لعلقمة بن حصفة الطائىّ فزاره فنظر إلى ابنته الزّبّاء وكانت من أجمل أهل دهرها، فقال: أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، ويمنح الراغب، فقال له علقمة: أنت كفء كريم يقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك، ثم انكفأ إلى أمها، فقال: إن الحارث سيّد قومه حسبا ومنصبا وبيتا، وقد خطب الينا الزبّاء فلا ينصرفنّ إلا بحاجته، فقالت المرأة لابنتها: أى الرجال أحب إليك الكهل الحججاح، الواصل المناح، أم الفتى الوضاح؟ قالت: بل الفتى الوضّاح، فقالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السنّ، الكثير المنّ، قالت يا أماه: إن الفتاة تحب الفتى، كحبّ الرّعاء أنيق الكلا، قالت: أى

بنية! إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، قالت: إن الشيخ يبلى شبابى، ويدنّس ثيابى، ويشمت بى أترابى. فلم تزل أمها بها حتى غلبتها على رأيها، فتزوّجها الحارث على مائة وخمسين من الإبل وخادم وألف درهم، فابتنى بها، ثم رحل بها إلى قومه فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهى إلى جانبه، إذ أقبل شباب من بنى أسد يعتلجون فتنفست الصّعداء، ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال: ما ببكيك؟ قالت: مالى وللشيوخ، الناهضين كالفروخ، فقال لها: ثكلتك أمّك! تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها، ثم قال لها: وأبيك، لرب غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقى بأهلك فلا حاجة لى فيك، وهذا المثل يضرب في صيانة الرجل نفسه عن خسيس المكاسب. وقولهم: «تجشّأ لقمان من غير شبع» : يضرب لمن يدّعى ما ليس يملك. وقولهم: «تخبر عن مجهوله مرآته» : أى منظره يخبر عن مخبره. وقولهم: «تشكو إلى غير مصمّت» : أى إلى من لم يهتم بشأنك. قال الشاعر إنك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت وقولهم: «تجاوز الرّوض إلى القاع القرق» : يضرب لمن يعدل بحاجته من الكريم إلى اللئيم، والقرق: المستوى. وقولهم: «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه» ويروى: لا أن تراه: يضرب لمن خبره خير من مرآه، أوّل من قاله: المنذر بن ماء السماء.

حرف الثاء

وقولهم: «تقطّع أعناق الرجال المطامع» : يضرب في ذمّ الطمع. وقولهم: «تقلّدها طوق الحمامة» كناية عن الخصلة القبيحة التى لا تزايله ولا تفارقه. حرف الثاء قولهم: «ثار حابلهم على نابلهم» الحابل: صاحب الحبالة، والنابل: صاحب النبل أى اختلط أمرهم: يضرب في فساد ذات البين وتأريث الشرّ في القوم. وقولهم: «ثور كلاب في الرّهان أقعد» : هو كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة القيسىّ كان يحمق، وذلك أنه ارتبط عجل ثور ليسابق عليه، والأقعد من القعيد وهو المختلف المتباطئ: يضرب لمن يروم ما لا يكون. حرف الجيم قولهم: «جرى المذكّيات غلاب» المذكّية من الخيل التى أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان والغلاب المغالبة: يضرب لمن يوصف بالتبريز على أقرانه فى حلبة الفضل؛ وأوّل من قاله نذكره إن شاء الله تعالى في حرب داحس والغبراء. وقولهم: «جزاء سنمّار» وهو الذى بنى الحورنق وتقدّم خبره في مبانى العرب. وقولهم: «جرحه حيث لا يضع الراقى أنفه» قالته جندلة بنت الحارث، وكانت تحت حنظلة بن مالك وهى عذراء، وكان حنظلة شيخا كبيرا فخرجت في ليلة

مطيرة فبصر بها رجل فوثب عليها وافتضّها، فصاحت وقالت: لسعت. قيل أين؟ قالت: حيث لا يضع الراقى أنفه: يضرب لمن يقع في أمر لا حيلة له في الخروج منه. وقولهم: «جعجعة ولا أرى طحنا» : يضرب لمن يعد ولا يفى. وقولهم: «جرى منه مجرى اللّدود» وهو ما يصبّ في أحد شقّى الفم من الدواء، يضرب لمن يبغض ويكره. وقولهم: «جماعة على أقذاء» . معناه اجتماع بالأبدان، وافتراق بالقلوب، وهو بمعنى قوله صلّى الله عليه وسلم «هدنة على دخن» : يضرب لمن يضمر أذى ويظهر صفاء. وقولهم: «جار كجار أبى دؤاد» يعنون كعب بن مامة فإنه كان إذا جاوره رجل فإن مات وداه، وإن هلك له بعير أو شاة أخلف عليه، فضربت به العرب المثل في حسن الجوار، قال طرفة إنّى كفانى من أمر هممت به ... جار كجار الحذّاقىّ الذى اتّصفا والحذاقىّ هو أبو دؤاد. وقولهم: «جدع الحلال أنف الغيرة» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة زفت فاطمة إلى علىّ رضى الله عنهما. وقولهم: «جوّع كلبك يتبعك» . أوّل من قال ذلك ملك من ملوك حمير كان جائرا على أهل مملكته يسلبهم ما في أيديهم وإن امرأته سمعت صوت السؤّال

فقالت: إنى لأرحم هؤلاء وإنى لأخاف أن يكونوا عليك سباعا، بعد ما كانوا لك أتباعا، فقال: جوّع كلبك يتبعك، ثم إنه غزابهم ولم يقسم عليهم شيئا فقالوا لأخ له: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك عنكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، فوافقهم على ذلك، ثم وثبوا على الملك فقتلوه، فمرّ به عامر بن جذيمة وهو مقتول، فقال: ربما أكل الكلب مؤدّبه اذا لم ينل شبعه، فأرسلها مثلا، والمثل يضرب في اللئام وما ينبغى أن يعاملوا به. وقولهم: «جاءتهم عوانا غير بكر» أى مستحكمة غير ضعيفة يريدون حربا أو داهية عظيمة. وقولهم: «جاء بصحيفة المتلّمس» إذا جاء بالداهية؛ وكان من خبر صحيفة المتلمس أن المتلمس وطرفة قدما على عمرو بن المنذر بن امرىء القيس فجعلهما فى صحابة قابوس بن المنذر أخيه وأمرهما بلزومه، وكان قابوس شابا يعجبه اللهو، فطال بقاؤهما عنده، فهجا طرفة عمرا بأبيات فبلغته فاستدعاهما فحباهما بحباء وكتب معهما إلى أبى كرب عامله على هجر أن يقتلهما، وقال: قد كتبت لكما بحباء ومعروف، فلما صدرا من عنده، قال المتلمس لطرفة: هل لك في كتابينا، فإن كان فيهما خير مضينا له، وإن كان شرّا اتقيناه، فأبى طرفة وقرأ المتلمس كتابه فإذا فيه السوءة فألقاه في الماء وقال لطرفة: ألق كتابك فأبى ومضى بكتابه، قال: ومضى المتلمس حتى لحق بملوك بنى جفنة بالشام وسار طرفة بكتابه، فلما انتهى إلى العامل قتله. وقولهم: «جندلتان اصطكّتا» : يضرب لقرنين يتصاولان.

حرف الحاء

وقولهم: «جزيته حذو النّعل بالنّعل» : للمكافأة. وقولهم: «جاءوا على بكرة أبيهم» أى جاءوا جميعا لم يتخلّف منهم أحد. وقيل: بل البكرة تأنيث البكر. بصفهم بالقلة أى بحيث تحملهم بكرة أبيهم. وقيل بل البكرة التى يستقى عليها، معناه جاءوا بعضهم يتلو بعضا كدوران البكرة على نسق واحد؛ وقيل: المراد بالبكرة الطريقة كأنهم جاءوا على طريقة أبيهم، وقال ابن الأعرابىّ: البكرة: جماعة من الناس أى بأجمعهم. وقولهم: «جاوز الحزام الطيّبين» : يضرب في تجاوز الحدّ. حرف الحاء قولهم: «حرّك لها حوارها تحنّ» الحوار: ولد الناقة، والجمع القليل أحورة والكثير حوران وحيران، معناه ذكّره بعض أشجانه يهج له، قاله عمرو بن العاص لمعاوية حين أراد أن يستنصر أهل الشام، أى أرهم دم عثمان على قميصه. وقولهم: «حلبتها بالساعد الأشدّ» أى أخذتها بالقوّة إذ لم يتأتّ بالرفق. وقولهم: «حذو القذّة بالقذّة» أى مثلا بمثل: يضرب في التسوية بين الشيئين؛ ومثله: حذو النّعل بالنّعل، وقد تقدّم. وقولهم: «حلب الدهر أشطره» معناه أنه اختبر الدّهر شطرى خيره وشرّه فعرف ما فيه.

وقولهم: «حسبك من غنى شبع ورىّ» ؛ قال امرؤ القيس إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأنّ قرون جلّتها العصىّ فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع ورىّ قال أبو عبيدة: يحتمل معنيين أحدهما أعط كل ما كان لك وراء شبعك وريّك، والآخر القناعة باليسير. وقولهم: «حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق» أى اكتف بالقليل عن الكثير. وقولهم: «حسبك من شرّ سماعه» أى اكتف بسماعه ولا تعاينه، قال: ويجوز أن يريد يكفيك سماع الشرّ وإن لم تقدم عليه ولم تنسب إليه، والمثل قالته فاطمة بنت الخرشب من بنى أنمار بن بغيض أمّ الربيع بن زياد، وذلك أن ابنها الربيع كان أخذ من قيس بن زهير بن جذيمة درعا، فتعرّض قيس لأمّ الربيع وهى على راحلتها فأراد أن يذهب بها ليرتهنها بالدرع، فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بنى زياد مصالحيك! وقد ذهبت بأمّهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا وشاءوا، وإن حسبك من شرّ سماعه، فذهبت كلمتها مثلا تقول: كفى بالمقالة عارا وإن كان باطلا. وقولهم: «حلّقت به عنقاء مغرب» : يضرب لما يئس منه؛ قال الشاعر إذا ما ابن عبد الله خلّى مكانه ... فقد حلّقت بالجود عنقاء مغرب قال الميدانىّ: والعنقاء طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم يقال: كان بأرض الرّس جبل يقال له: دمخ مصعّد في السماء، وكان يأتيه طائر عظيم لها عنق

حرف الخاء

طويلة؛ وهى من أحسن الطير؛ فيها من كل لون، وكانت تقع منتصبة وتنقضّ على الطير فتأكلها، فجاعت يوما وأعوزها الطير فانقضّت على صبىّ فذهبت به فسميت عنقاء مغرب: لأنها تغرب بكل ما تأخذه، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى جناحيها الكبيرين ثم طارت، فشكوا ذلك إلى نبيّهم: خالد بن صفوان، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها وسلّط عليها آفة! فأصابتها صاعقة فاحترقت فضربتها العرب مثلا. قال عترة بن الأخرس الطائىّ في مرثية خالد بن زيد لقد حلّقت بالجود عنقاء كاسر ... كفتخاء دمخ حلّقت بالحزوّر فما إن لها بيض فيعرف بيضها ... ولا شبه طير منجد أو مغوّر وقولهم: «حتّام تكرع ولا تنقع» كرع إذا تناول الماء بفيه من موضعه: يضرب للحريص في جمع الشىء. وقولهم: «حسبك من إنضاجه أن تقتله» : يضرب لطالب الثأر فيقول: لأقتلنّ فلانا وقومه أجمعين فيقال: لا تعدّ، حسبك أن تدرك ثأرك وطلبتك: ويضرب لمتجاوز الحدّ. حرف الخاء قولهم: «خير حالبيك تنطحين» : يضرب لمن يكافئ المحسن بالإساءة، ومثله: خير إناءيك تكفئين.

وقولهم: «خامرى أمّ عامر» معناه استترى؛ وأمّ عامر: الضبع، يشبه بها الأحمق، ومثله: خامرى حضاجر، أتاك ما تحاذر: وهو اسم للذكر والأنثى من الضباع. وقولهم: «خلالك الجوّ فبيضى واصفرى» قاله طرفة بن العبد، وكان فى سفر مع عمّه فنصب فحّا للقنابر ونثر حبّا فلم يصد شيئا، فلما تحملوا رأى القنابر يلقطن الحبّ الذى نثره لهنّ، فقال في ذلك يا لك من قنبرة بمعمر! ... خلالك الجوّ فبيضى واصفرى ونقّرى ما شئت أن تنقّرى ... قد رحل الصيّاد عنك فابشرى ورفع الفخّ فماذا تحذرى؟ ... لا بدّ من صيدك يوما فاصبرى! يضرب في الحاجة يتمكّن منها صاحبها. وقولهم: «خلع الدّرع بيد الزّوج» المثل لرقاش بنت عمرو بن تغلب بن وائل، وكان زوجها كعب بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، فقال لها: اخلعى؛ فقالت: خلع الدّرع بيد الزّوج، فقال: اخلعيه لأنظر إليك، فقالت: التجرّد لغير النكاح مثلة، فذهبت كلمتاها مثلين يضربان في وضع الشىء في غير موضعه. وقولهم «خلّ سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه» يضرب لمن كره صحبتك وزهد فيك. وقولهم: «خمر أبى الرّوقاء ليست تسكر» : يضرب للغنىّ الذى لا فضل له على أحد.

حرف الدال

حرف الدال قولهم: «دمّث لجنبك قبل النّوم مضطجعا» أى استعدّ للنوائب قبل حلولها؛ والتدميث: التليين. وقولهم: «دع امرءا وما اختار» : يضرب لمن لا يقبل النصح؛ قال الشاعر إذا المرء لم يدر ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أزينه! وأعجبه العجب فاقتاده ... وتاه به التّيه فاستحسنه، فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكى سنه! حرف الذال قولهم: «ذكّرنى فوك حمارى أهلى» أصله أن رجلا خرج يطلب حمارين ضلّاله، فرأى امرأة فأعجبته فنسى الحمارين، فلما أسفرت عن وجهها رآها فوهاء فقال: ذكّرنى فوك حمارى أهلى، وقال ليت النّقاب على النساء محرّم ... كى لا تغرّ قبيحة إنسانا وقولهم: «ذهبوا أيدى سبا» ويقال: تفرقوا، أى تفرّقوا تفريقا لا اجتماع معه. وقصة سبإ لمّا تفرقوا بسبب سيل العرم مشهورة؛ وسنذكرها إن شاء الله تعالى فى التاريخ.

حرف الراء

وقولهم: «ذهبوا شغر بغر، وشذر مذر، وخذع مذع» أى في كل وجه. وقولهم: «ذلّ بعد شماسه اليعفور» : يضرب لمن انقاد بعد جماحه؛ واليعفور: فرس. وقولهم: «ذهبت طولا، وعدمت معقولا» : يضرب للطويل بلا طائل. حرف الراء قولهم: «رمتنى بدائها وانسلّت» أصل هذا المثل: أن سعد بن زيد مناة تزوّج رهم ابنة الخزرج، وكانت من أجمل النساء، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فقالت لها أمّها: إذا ساببنك فابدئيهنّ بذلك، ففعلت رهم ذلك مع ضرّتها، فقالت: رمتنى بدائها وانسلّت، فذهبت مثلا: يضرب لمن يعيّر الآخر بما هو يعيّر به. وقولهم: «رماه بثالثة الأثافى» وهى قطعة من الجبل يوضع إلى جنبها حجران وينصب عليها القدر: يضرب لمن رمى بداهية عظيمة. وقولهم: «ربّ صلف تحت الراعدة» الصّلف: قلّة الخير، والراعدة: السحابة ذات الرعد: يضرب للبخيل مع السّعة. وقولهم: «رجع بخفّي حنين» أصله أن حنينا كان إسكافا بالحيرة وساومه أعرابىّ بخفّين فاختلفا حتى أغضبه، فلما ارتحل الأعرابىّ أخذ حنين الخفين فألقى أحدهما على طريق الأعرابىّ، ثم ألقى الآخر بموضع آخر على طريقه، فلما مرّ الأعرابىّ بالخف الأوّل قال: ما أشبه هذا بخف حنين ولو كانا خفين لأخذتهما،

ثم مرّ بالآخر فندم على ترك الأوّل فأناخ راحلته وانصرف إلى الأوّل وقد كمن له حنين، فأخذ الراحلة وذهب بها وأقبل الأعرابىّ إلى أهله ليس معه غير خفّى حنين، فذهبت مثلا: يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. وقولهم: «ربّ ساع لقاعد، وآكل غير حامد» أوّل من قاله النابغة الذّبيانى، وكان سبب ذلك أن وفدا وفد إلى النعمان وفيهم رجل من بنى عبس يقال له: شقيق، فمات عنده، فلما حبا النعمان الوفود بعث بحبائه إلى أهله، فقال النابغة فى ذلك أتى أهله منه حباء ونعمة ... وربّ امرىء يسعى لآخر قاعد وقولهم: «ربّ ملوم لا ذنب له» قاله أكثم بن صيفىّ، معناه قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه وهم لا يعرفون عذره؛ وقيل: إن رجلا قال للأحنف ابن قيس: أنا أبغض التمر والزبد، فقال: ربّ ملوم لا ذنب له. وقولهم: «ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى» : يضرب في النهى عن الإكثار مخافة الإهجار؛ ذكروا أن ملكا من ملوك حمير خرج إلى الصيد ومعه نديم له فوقفا على صخرة ملساء، فقال النديم: لو أن إنسانا ذبح على هذه الصخرة إلى أين كان يبلغ دمه، فأمر بذبحه، وقال: ربّ كلمة تقول لصاحبها دعنى. ومثله قولهم: «ربّ رأس حصيد لسان» : يضرب للأمر بالسكوت. وقولهم: «ردّ الحجر من حيث جاءك» : أى لا تقبل الضّيم وارم من رماك.

حرف الزاى

حرف الزاى قولهم: «زيّن في عين والد ولده» : يضرب في عجب الرجل برهطه. وقولهم: «زاحم بعود أو دع» اى لا تستعن إلا بأهل السنّ والتجربة. وقولهم: «زوج من عود، خير من قعود» ، قالته بعض نساء العرب، قالوا: كان ذو الإصبع العدوانىّ غيورا، وله بنات أربع، وكان لا يزوّجهنّ غيرة عليهنّ، فاستمع عليهنّ يوما وقد خلون يتحدّثن، فقالت إحداهنّ: لتقل كلّ واحدة منا ما في نفسها، ولنصدقنّ جميعا، فاشتهت كلّ واحدة من الثلاثة زوجا وصفت من جماله وكماله وسعة حاله، ثم أبت الصغرى أن تتكلّم، فقالوا: لا بدّ أن تقولى، وألحّوا عليها، فقالت: زوج من عود، خير من قعود، فزوّجهنّ. وقولهم: «زرغبّا تزدد حبّا» قاله معاذ بن صرم الخزاعىّ، وكانت أمّه من عكّ، وكان يكثر من زيارة أخواله، فأقام فيهم زمانا، ثم خرج يتصيّد مع بنى أخواله، فحمل على عير، فلحقه ابن خال له يقال له: الغضبان فتخاصما، فقال له الغضبان: والله! لو كان فيك خير لما تركت قومك، فقال: زر غبّا، تزدد حبّا، فأرسلها مثلا، وفي ذلك يقول الشاعر إذا شئت أن تقلى فزر متواليا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبّا وقال آخر عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا ألم تر أنّ القطر يسأم دائما ... ويسأل بالأيدى إذا هو أمسكا

حرف السين

حرف السين قولهم: «سبق السيف العذل» قاله ضبّة بن أدّ لمّا لامه الناس على قتل قاتل ابنه في الحرم، ويقال: إنه لخزيم بن نوفل الهمدانىّ. وقولهم: «سقط العشاء به على سرحان» أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فوقع على ذئب فأكله، وقال ابن الأعرابىّ: أضله أن رجلا من بنى غنىّ يقال له: سرحان ابن هزلة كان بطلا فاتكا فقال رجل! والله لأرعينّ إبلى هذا الوادى، فورد بإبله، فوجد سرحان فقتله، وأخذ إبله وقال أبلغ نصيحة: أنّ راعى أهلها ... سقط العشاء به على سرحان سقط العشاء به على متقمّر ... طلق اليدين معاود لطعان يضرب في طلب الحاجة يؤدّى صاحبها إلى التلف. ومثله قولهم: «سقط العشاء به على متقمّر» وهو الأسد. وقولهم: «سكت ألفا، ونطق خلفا» الخلف: الردىء من القول وغيره. وقولهم: «ساء سمعا فأساء جابة» أوّل من قاله سهيل بن عمرو أخو بنى عامر، وكان قد خرج بابنه أنس، فوقف بجزورة مكة، فأقبل الأخنس بن شريق الثّقفىّ فقال له: من هذا؟ فقال: ابنى! فقال: حياك الله يا فتى [أين أمّك؟] فقال: لا والله ما أمّى في البيت، ولكنها انطلقت إلى أمّ حنظلة تطحن دقيقا، فقال أبوه: ساء سمعا فأساء جابة، فأرسلها مثلا.

حرف الشين

وقولهم: «سحاب نوء ماؤه حميم» : يضرب لمن له لسان لطيف وليس وراءه خير. وقولهم: «سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة» : معناه حصول البعض مع الاحتياط خير من الكلّ مع التهوّر. حرف الشين قولهم: «شخب في الإناء وشخب في الأرض» : يضرب لمن يتكلّم فيصينب مرة ويخطئ أخرى. وقولهم: «شرق بالرّيق» أى ضرّه أقرب الأشياء إلى نفعه. وقولهم: «شنشنة أعرفها من أخزم» قاله أبو أخزم الطائىّ: وكان له ابن يقال له: أخزم، فمات وترك بنين، فوثبوا على جدّهم يوما فأدموه، وكان أبوهم عاقّا له فقال إنّ نبىّ ضرّ جونى بالدّم ... شنشنة أعرفها من أخزم والشنشنة: الطبيعة والعادة: يضرب في قرب الشبه. وقولهم: «شمّر ذيلا، وادّرع ليلا» : يضرب على الحثّ في الجدّ والطلب. وقولهم: «شنوءة بين يتامى رضّع» الشنوءة: ما يستقذر من القول والفعل: يضرب لقوم اجتمعوا على فجور وفاحشة ليس فيهم مرشد ولا ناه. وقولهم: «شيخ بحوران له ألقاب» وبعده ... الذئب والعقعق والغراب حوران بأرض الشام: يضرب لمن يظهر للناس العفاف، ومن حقّه أن يحترز منه.

حرف الصاد

وقولهم: «شغل الحلى أهله أن يعارا» : يضرب للمسئول شيئا هو إليه أحوج من السائل. وقولهم: «شبّ عمرو عن الطّوق» قاله جذيمة الأبرش، وعمرو هذا هو ابن أخته وهو عمرو بن عدىّ بن نصر. حرف الصاد قولهم: «صبرا على مجامر الكرام» قال ذلك يسار الكواعب، وكان عبدا أسود يرعى لأهله إبلا ضخمة، وكان معه عبد يراعيه، فمرّ أهله يوما سائرين بحذاء الإبل التى يرعاها، فعمد إلى لقوح فحلبها في علبة، حتّى ملأها ثم مشى بها، وكان أفجح الرّجّلين، حتى أتى بها ابنة مولاه يسقيها، وهى راكبة على جملها، فنظرت إلى رجليه فتبسمت، ثم شربت اللبن وجرته خيرا، فانطلق فرحا حتّى أتى صاحبه، فقصّ عليه القصة، فقال: اسخر بنفسك ولا تسخر ببنات الأحرار؛ فقال: والله لقد دحكت إلىّ دحكة لا أخيّبها، يريد: ضحكت، وكان أعجمىّ اللسان، ثم باتا فقام فحلب في علبة فملأها، ثم أتى ابنة مولاه، فنبّهها من نومها فاستيقظت وشربت، ثم اضطجعت وجلس يسار حيالها، فقالت: ما حاجتك؟ فقال: ما أعلمك بحاجتى! فقالت: لا والله! فما هى؟ قال: ذاك الرجل الذى دحكت إلىّ. فقالت: حيّاك الله، وقامت إلى سفط لها فأخرجت منه بخورا ودهنا طيبا، وعمدت إلى موسى كانت تحفّ به الشعر، وأخذت مجمرة فيها نار، فوضعت عليها البخور ووضعتها تحته، وطأطأت كأنها تصلح البخور، فعمدت إلى مذاكيره فمسحتها بالموسى، فلما أحس بحرارة الحديد. قال: صبرا على مجامر الكرام، ثم أومأت إلى أنها تدهنه وقالت:

إن هذا دهن طيب، إلا أن فيه حرارة فتصبّر عليه، فإن ريحك ريح الإبل وأنا أعافك، ثم أشمّته الدهن على الموسى، ورفعته فوضعته بين عينيه فاستلتت بها أنفه. وقالت: قم إلى إبلك يابن الخبيثة، فأتى صاحبه، فلما رآه. قال: أمقبل أنت أم مدبر؟ قال: أخزاك الله، أو قد عمى بصرك؟ إذ لا ترى أنفا ولا أذنين ... أما ترى وبّاصة العينين هذا أحد الأقوال في هذا المثل: يضرب لمن يؤمر بالصبر على ما يكره. ويقال: إن أعرابيا قدم الحضر بإبل، فباعها بمال كثير وأقام لحوائج له، ففطن قوم من جيرته لما معه من المال، فعرضوا عليه تزويج جارية وصفوها بالجمال والحسب طمعا في ماله، فرغب فيها فزوّجوه إياها، ثم اتخذوا طعاما وجمعوا الحىّ، وجلس الأعرابىّ في صدر المجلس، فأكلوا الطعام وأداروا الكؤوس وشرب الأعرابىّ، ثم أتوه بكسوة فاخرة، فلبسها وقدّموا له مجمرة فيها بخور لا عهد له به، وكان لا يلبس السراويل، فلما جلس على المجمرة، سقطت مذاكيره في النار، فظن أن ذلك سنّة لا بدّ منها، واستحيا أن يكشف ثوبه. فقال: صبرا على مجامر الكرام، فذهبت مثلا واحترقت مذاكيره، وتفرّق القوم، وارتحل إلى البادية وترك المرأة والمال، فلما وصل إلى قومه وقصّ عليهم القصة. قالوا: است لم تعوّد المجمر، فذهبت مثلا: يضرب لمن لا قديم له. وقولهم: «صار الزّجّ قدّام السّنان» : يضرب في سبق المتأخّر المتقدّم من غير استحقاق لذلك. وقولهم: «صرّح المحض عن الزّبد» : يضرب للأمر إذا انكشف وتبيّن.

حرف الضاد

وقولهم: «صفقة لم يشهدها حاطب» هو حاطب بن أبى بلتعة كان حازما، فباع بعض أهله بيعة غبن فيها حين لم يشهدها حاطب، فسارت مثلا لكلّ أمر ينبرم دون صاحبه. حرف الضاد قولهم: «ضربه ضرب غرائب الإبل» وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله: يضرب فى دفع الظالم عن ظلمه بأشدّ ما يمكن. وقولهم: «ضلّ الدّريص نفقه» الدّريص: ولد الفأرة واليربوع والهرّة وأشباه ذلك، ونفقه: حجره: يضرب لمن يعنى بأمره ويعدّ حجّة لخصمه، فينسى عند الحاجة. وقولهم: «ضلّ حلم امرأة فأين عيناها؟» أى هب أنّ عقلها ذهب فأين ذهب بصرها؟: يضرب في استبعاد عقل الحليم. وقولهم: «ضائف اللّيث قتيل المحل» : يضرب لمن اضطرّ لشىء فغرّر بنفسه في طلبه. حرف الطاء قولهم: «طويته على بلاله وعلى بللته» قال الشاعر وصاحب مرامق داجيته ... على بلال نفسه طويته ويقال: طويت السقاء على بللته إذا طويته وهو ند لأنه إن طوى يابسا تكسّر، وإن طوى نديّا عفن: يضرب للرجل يحمل على ما فيه من العيب؛ قال الشاعر

حرف الظاء

ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعلمت ما فيكم من الأذراب فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب والأذراب: جمع ذرب وهو الفساد. وقولهم: «طويته على غرّه» : غرّ الثوب: أثر كسره الأوّل: يضرب لمن يوكل إلى رأيه وما انطوى عليه. حرف الظاء قولهم: «ظالع يعود كسيرا» : يضرب للضعيف ينصر من هو أضعف منه. وقولهم: «ظئر رءوم، خير من أمّ سؤوم» : الظئر؛ الحاضنة، والرءوم: العطوف، والسؤوم: الملول: يضرب في عدم الشفقة وقلة الاهتمام. وقولهم: «ظاهر العتاب خير من باطن الحقد» معناه ظاهر. وقولهم: «ظلال صيف ما لها قطار» : يضرب لمن له ثروة ولا يجدى على أحد. حرف العين قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السّرى» أوّل من قاله خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رضى الله عنه. وكان باليمامة أن يسير إلى العراق، ونالته مشقة بسبب العطش، فأسرى حتى أدرك الماء فقال: عند الصباح يحمد القوم السرى: يضرب لمن يحمل المشقة رجاء الراحة. وقولهم: «عند جهينة الخبر اليقين» : يضرب في معرفة الشىء حقيقة.

وقولهم: «عير عاره وتده» أى أهلكه؛ وأصله أنّ رجلا أشفق على حماره فربطه إلى وتد، فهجم عليه السبع فلم يمكنه الفرار فأهلكه. وقولهم: «عند النّطاح يغلب الكبش الأجمّ» وهو الذى لا قرن له: يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعدّ له. وقولهم: «على أهلها تجنى براقش» قالوا: كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم فهربوا وهى معهم، فنبحت فاتبع القوم آثارهم بنباحها، فأدركوهم فقتلوهم، ففيها بقول حمزة بن بيض بل جناها أخ علىّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجنى وقيل في هذا المثل غير ذلك. وقولهم: «عسى الغوير أبؤسا» الغوير: تصغير غار، والابؤس: جمع بؤس وهو الشدّة، قالته الزّبّاء عند رجوع قصير من العراق، ومعه الرجال، وكان الغوير على طريقه، ومعناه لعل الشرّ يأتيكم من قبل الغار: يضرب للرجل يقال له: لعل الشرّ جاء من قبلك. وقولهم: «عشب ولا بعير» : يضرب للرجل له مال كثير ولا ينفقه على نفسه ولا على غيره. وقولهم: «عاد غيث على ما أفسد» : يضرب للرجل فيه فساد، وصلاحه أكثر. وقولهم: «عاد السهم الى النّزعة» أى رجع الحق إلى أهله.

وقولهم: «عصا الجبان أطول» لانه يفعل ذلك من فشله، يرى أن طولها أشدّ ترهيبا لعدوّه من قصرها. وقولهم: «على الخبير سقطت» المثل لمالك بن جبير العامرىّ، وتمثّل به الفرزدق حين لقى الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عند مقدمه من العراق وخروج الحسين إليه وقد قال له: ما وراءك؟ فقال: على الخبير سقطت؛ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أميّة، والنصر من السماء. وقولهم: «عادة السّوء شرّ من المغرم» معناه أن المغرم إذا أدّيته فارقك، وعادة السوء لا تفارق صاحبها. وقولهم: «عجعج لمّا عضّه الظّعان» أى صاح، والظعان: نسع يشدّ به الهودج: يضرب لمن يضجّ إذا لزمه الحقّ. وقولهم: «عند الرّهان تعرف السّوابق» : يضرب لمن يدّعى ما ليس فيه. وقولهم: «عاد الأمر إلى نصابه» : يضرب في الأمر يتولّاه أربابه. وقولهم: «عينك عبرى والفؤاد في دد» الدّد والدّدن والدّدا: اللعب واللهو: يضرب لمن يظهر حزنا لحزنك وفي قلبه خلاف ذلك. وقولهم: «عرفطة تسقى من الغوادق» ويروى: الغوابق؛ العرفطة: شجرة خشنة المسّ، والغوادق: السحاب الكثير الماء: يضرب للشّرّير يكرّم ويبجّل.

حرف الغين

حرف الغين قولهم: «غدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلوليّة» قاله عامر بن الطّفيل؛ وذلك أنه لما قدم على النبىّ صلّى الله عليه وسلم! وقدم معه أربد بن قيس اخو لبيد ابن ربيعة العامرىّ الشاعر لأمّه، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل، قال: «دعه، فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم» قال: تجعل لى الأمر بعدك، قال: «ليس ذاك إلىّ، إنما ذاك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء» قال: فتجعلنى على الوبر وأنت على المدر، قال: «لا» قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» ، قال: أو ليس ذلك إلىّ اليوم؟ وكان قد أوصى إلى أربد بن قيس: «إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف» فاخترط أربد سيفه شبرا فحبسه الله تعالى فلم يقدر على سلّه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولّى عامر بن الطّفيل هاربا وقال: يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يمنعك الله من ذلك» فسار عامر حتى نزل ببيت امرأة سلوليّة، فخرجت على ركبته غدّة عظيمة، فقال: غدّة كغدّة البعير وموت فى بيت سلوليّة، ثم مات على ظهر فرسه؛ وسلول أقلّ العرب وأذلّهم، فسار كلامه مثلا: يضرب في خصلتين إحداهما شرّ من الأخرى. وقولهم: «غرّنى برداك من خدافلى» ويروى: من غدافلى؛ أصل المثل

حرف الفاء

أن رجلا استعار بردى امرأة فلبسهما، ورمى بخلقان كانت عليه، فاسترجعت المرأة برديها فقاله: يضرب لمن ضيّع ماله طمعا في مال غيره. حرف الفاء قولهم: «فى وجه المال تعرف أمرته» أى نماءه وخيره؛ ويقال: أمرت أموال بنى فلان إذا نمت وكثرت: يضرب لمن يستدلّ بحسن ظاهره على حسن باطنه. وقولهم: «فى بيته يؤتى الحكم» زعمت العرب أن الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضبّ، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل، قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: فى بيته يؤتى الحكم، قالت: إنى وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: لطمته، قال: بحقّك أخذت، قالت: لطمنى، قال: حرّ انتصر، قالت: فاقض بيننا، قال: حدّث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة؛ فذهبت أقواله كلّها أمثالا. وقولهم: «فتى ولا كمالك» قاله متمّم بن نويرة في أخيه مالك لمّا قتل. وقولهم: «فى دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها» أوّل من قاله جارية من مزينة، قال الحكم بن صخر الثّقفىّ: خرجت منفردا فرأيت بإمّرة (وإمّرة موضع) ، جاريتين أختين لم أر كجمالهما، فكسوتهما وأحسنت إليهما، قال: ثم حججت من قابل ومعى أهلى، وقد اعتللت ونصل خضابى، فلمّا صرت بإمرة، إذا إحداهما قد جاءت، فسألت

حرف القاف

سؤال منكرة، قال فقلت: فلانة؟ قالت: فدّى لك أبى وأمّى، أنّى تعرفنى وأنكرك؟ قال فقلت: أنا الحكم بن صخر، قالت: رأيتك عام أوّل شابا سوقة، وأراك العام شيخا ملكا، وفي دون هذا ما تنكر المرأة صاحبها، فذهبت مثلا، قال قلت: ما فعلت أختك؟ قال: فتنفّست الصّعداء، وقالت: تزوّجها ابن عمّ لها وذهب بها، فذاك حيث تقول إذا ما قفلنا نحو نجد وأهلها ... فحسبى من الدنيا قفول إلى نجد قال قلت: أمّا إنى لو أدركتها لتزوّجتها، قالت: وما يمنعك من شريكتها فى حسنها وجمالها وشقيقتها؟ قال قلت: يمنعنى من ذلك قول كثيّر حيث يقول إذا وصلتنا خلة كى تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل فقالت: كثيّر بينى وبينك، أليس الذى يقول هل وصل عزّة إلا وصل غانية؟ ... فى وصل غانية من وصلها خلف قال: فتركت جوابها عيّا. وقولهم: «فاتكة واثقة برىّ» زعموا أن امرأة كثر لبنها وطفقت تهريقه، فقال لها زوجها: لم تهر يقينه؟ فقالت: فاتكة واثقة برىّ: يضرب للمفسد الذى وراء ظهره ميسرة. حرف القاف قولهم: «قطعت جهيزة قول كلّ خطيب» أصله أن قوما اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيّين، قتل أحدهما من الآخر قتيلا ليرضوا بالدية، فبينماهم فى ذلك، إذ جاءت أمة يقال لها: جهيزة، فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض

أولياء المقتول فقتله، فقالوا: قطعت جهيزة قول كلّ خطيب: يضرب لمن يقطع على الناس ما هم فيه بجهله. وقولهم: «قبل البكاء كان وجهك عابسا» : يضرب للبخيل يعتلّ بالإعدام. ومثله: «قبل النّفاس كنت مصفرّة» . وقولهم: «قلب الأمر ظهرا لبطن» : يضرب في حسن التدبير. وقولهم: «قد شمّرت عن ساقها فشمّرى» : يضرب في الحثّ على الجدّ فى الأمر. وقولهم: «قد يضرط العير والمكواة في النار» قاله عرفطة بن عرفجة سيّد بنى هزّان، وكان بينه وبين الحصين بن نبيت العكلىّ حروب ووقائع، فقتلت عكل رجلا من بنى هزّان، وأسر عرفطة بن عكل رجلين، فقال لهما: أيّكم أفضل لأقتله بصاحبنا؟ فجعل كلّ واحد منهما يخبر أنّ صاحبه أكرم منه، فأمر بقتلهما جميعا، فقدّم أحدهما للقتل، فجعل الآخر يضرط، فقال عرفطة: قد يضرط العير والمكواة في النار، فأرسلها مثلا: يضرب للرجل يخوّف بالأمر فيجزع قبل وقوعه. وهذا أحد الأقوال فيه؛ وقيل غير ذلك. وقولهم: «قد بيّن الصبح لذى عينين» : يضرب في ظهور الأمر كلّ الظهور. وقولهم: «قد أنصف القارة من راماها» القارة: قبيلة قد تقدّم ذكرها فى الأنساب. وقولهم: «قبل الرّماء تملأ الكائن» أى تؤخذ أهبة الأمر قبل وقوعه.

حرف الكاف

ومثله. «قبل الرّمى يراش السهم» : يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة اليها. وقولهم: «قلب له ظهر المجنّ» : يضرب لمن كان لصاحبه على مودّة، ثم حال عن عهده. وقولهم: «قد ألقى عصاه» إذا استقرّ من سفر أو غيره؛ يقال: إنه لما بويع لأبى العباس السفّاح، قام خطيبا فسقط القضيب من يده، فقام رجل من القوم وأنشد فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وقولهم: «قد ونى طرفاه» : يضرب لمن ذلّ وضعف عن أن يتمّ له أمر؛ قال النجاشىّ وإنّ فلانا والإمارة كالذى ... ونى طرفاه بعد ما كان أجدعا وقولهم: «قدّت سيورهم من أديمك» : يضرب للشيئين يستويان في الشبه قال الشاعر وقدّت من أديمهم سيورى وقولهم: «قد بلغ الشّظاظ الوركين» الشظاظ: عويد يجعل في عروة الجوالق: يضرب فيما جاوز الحدّ، وهو كقولهم: جاوز الحزام الطّبيين. حرف الكاف قولهم: «كان كراعا، فصار ذراعا» : يضرب للذليل الضّعيف صار عزيزا قويّا. وقولهم: «كلام كالعسل، وفعل كالأسل» : يضرب في اختلاف القول والفعل.

وقولهم: «كنت تبكى من الأثر العافى فقد لا قيت أخدودا» : يضرب لمن يشبكو القليل من الشرّ ثم يقع في الكثير. وقولهم: «كلّ ذات بعل ستئيم» هذا من أمثال أكثم بن صيفىّ؛ قال الشاعر أفاطم إنى هالك فتثبّتى ... ولا تجزعى، كلّ النساء تئيم أى ستفارق زوجها. وقولهم: «كلّ أزبّ نقور» قاله زهير بن جذيمة لأخيه أسيد، ونذكر الخبر فى وقائع العرب. وقولهم: «كلّ فتاة بأبيها معجبة» : يضرب في عجب الرجل بعشيرته ورهطه. وقولهم: «كلّ الصيد في جوف القرا» الفرا: الحمار الوحشى؛ أضل المثل أن ثلاثة نفر خرجوا متصيّدين، فاصطاد أحدهم أرنبا، والآخر ظبيا، والثالث حمارا، فتطاولا عليه بصيدهما، فقال: كلّ الصيد في جوف الفرأ: يضرب لمن يفضّل على أقرانه، وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقولهم: «كدمت غير مكدم» : يضرب لمن يطلب شيئا في غير مطلبه. وقولهم: «كالثور يضرب لمّا عافت البقر» : يضرب في عقوبة البرىء بذنب المجرم، ويأتى ذكر ذلك في أوابد العرب. وقولهم: «كالكبش يحمل شفرة وزنادا» : يضرب لمن يتعرّض للهلاك. وقولهم: «كالمستغيث من الرمضاء بالنار» : يضرب في الخلتين يجتمعان على الرجل.

حرف اللام

وقولهم: «كالقابس العجلان» : يضرب لمن عجّل في طلب حاجته. وقولهم: «كلاهما وتمرا» أوّل من قاله عمرو بن حمران الجعدىّ، وذلك أنه مرّ برجل وبين يديه زبد وسنام وتمر، فقال: أنلنى ممّا بين يديك، فقال: أيّما أحبّ إليك أزبد أم سنام؟ فقال: كلاهما وتمرا، فسارت مثلا. وقولهم: «كالباحث عن المدية» يقال: إن رجلا وجد صيدا، ولم يكن معه ما يذبحه به، فبحث الصيد بأظلافه في الأرض، فسقط على شفرة فذبحه بها: يضرب فى طلب الشىء يؤدّى صاحبه إلى تلف النفس. وقولهم: «كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع» : يضرب في أخذ البرىء بذنب الجانى، ويأتى ذكره في أوابد العرب. وقولهم: «كالمحتاض على عرض السراب» : يضرب لمن يطمع في محال. وقولهم: «كلّ لياليه لنا حنادس» : يضرب لمن لا يصل إليك منه إلا ما تكره. حرف اللام قولهم: «لو ذات سوار لطمتنى» معناه لو ظلمنى من كان كفؤا لى لهان علىّ، ولكن ظلمنى من هو دونى، وهو كقول بعضهم فلو أنى بليت بهاشمىّ ... خؤولته بنو عبد المدان لهان علىّ ما ألقى ولكن ... تعالى فانظرى بمن ابتلانى وقولهم: «لو غير ذات سوار لطمتنى» روى الأصمعىّ: أن حاتما الطائىّ مرّ ببلاد عنزة في بعض الأشهر الحرم فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة: أكلنى الإسار

والقمل، فقال: ويحك، أسأت إذ نوّهت باسمى في غير بلاد قومى، فساوم القوم به ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدىّ في القدّ مكانه، ففعلوا ذلك؛ ثم جاءته امرأة ببعير ليفصده فنحره فلطمته فقال: لو غير ذات سوار لطمتنى، يعنى أنى لا أقتصّ من النساء، ثم عرف، ففدى نفسه فداء عظيما. وقولهم: «لو ترك القطا ليلا لنام» قالته امرأة عمرو بن مامة، وقد نزل عليه قوم من مراد، فطرقوه ليلا، فأثاروا القطا، فرأته امرأته فنبّهته فقال: إنما هذا القطا، فقالت: لو ترك القطا ليلا لنام؛ فسار مثلا: يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته؛ وقيل: إن التى قالته له حذام بنت الريّان. وقولهم: «لبس له جلد النمر» : يضرب في إظهار العداوة وكشفها. وقولهم: «لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب» أصله أن رجلا من العرب كان يعبد صنما، فجاء ثعلب فبال عليه، فقال في ذلك: أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟ ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب وقولهم: «ليس هذا بعشّك فادرجى» : يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. وقولهم: «لم أجد لشفرتى محزّا» : يضرب عذرا في تعذّر الحاجة. وقولهم: «لو سئلت العارية أين تذهبين لقالت أكسب أهلى ذمّا» هذا من كلام أكثم بن صيفىّ: يضرب في سوء الجزاء للمنعم. وقولهم: «ليس من العدل، سرعة العذل» أى لا ينبغى أن تعجّل بالعذل قبل أن تعرف العذر.

حرف الميم

وقولهم: «ليس القدامى كالخوافى» : يضرب عند التفضيل. وقولهم: «لو كويت على داء لم أكره» أى لو عوتبت على ذنب ما امتعضت. وقولهم: «ليس على الشّرق طخاء يحجب» أى ليس على الشمس سحاب: يضرب في الامر المشهور الذى لا يخفى على أحد. وقولهم: «لأكوينّه كيّة المتلوّم» أى كيّا بليغا؛ والمتلوّم: الذى يتتبّع الداء حتى يعلم مكانه: يضرب في التهديد الشديد. وقولهم: «لأمر ما جدع قصير أنفه» قالته الزّبّاء لما رأت قصيرا مجدوعا؛ وخبره يأتى في باب المكايد. حرف الميم قولهم: «ما تنفع الشّفعة في الوادى الرّغب» الشّفعة: المطرة الهيّنة، والرّغب: الواسع: يضرب للذى يعطيك قليلا لا يقع منك موقعا. وقولهم: «ما وراءك يا عصام؟» يقال: أوّل من قال ذلك الحارث بن عمرو ملك كندة، وذلك أنه بلغه جمال ابنة عوف بن محلّم فأرسل إليها امرأة ذات عقل ولسان، يقال لها: عصام، وقال: اذهبى لتعلمينى بحالها، فلما انتهت إليها ونظرتها خرجت وهى تقول: «ترك الخداع، من كشف القناع» فذهبت مثلا، ثم عادت اليه، فقال لها: ما وراءك يا عصام؟ فقالت: «صرّح المحض عن الزّبد» فأرسلتها مثلا؛ وساق الميدانىّ على هذا المثل كلاما طويلا قالته عصام في وصف أعضاء المخطوبة.

وقولهم: «ما يوم حليمة بسرّ» هى حليمة بنت الحارث بن أبى شمر، كان أبوها وجّه جيشا إلى المنذر بن ماء السماء فأخرجت لهم طيبا في مركن فطيّبتهم؛ فلما انتهت إلى لبيد بن عمرو وذهبت لتخلّقه، قبّلها، فلطمته وأتت أباها، فقال لها: ويلك اسكتى عنه، فهو أرجاهم عندى ذكاء فؤاد، وإنى مرسله، فإن قتل فقد كفى الله شرّه؛ فسار إلى المنذر بالجيش، فقتلوا المنذر وكان يوما مشهورا، فقيل فيه: ما يوم حليمة بسرّ. وقولهم: «ما أشبه الليلة بالبارحة» أى ما أشبه بعض القوم ببعض. وقولهم: «مرعى ولا كالسّعدان» قالوا: السّعدان أخثر العشب لبنا، ومنابته السهول: يضرب مثلا للشىء يفضّل على أقرانه وأشكاله؛ وأوّل من قال المثل: خنساء بنت عمرو بن الشريد، وقيل: بل قالته امرأة من طيىء تزوّجها امرؤ القيس بن حجر الكندىّ فقال لها: أين أنا من زوجك الأوّل؟ فقالت: مرعى ولا كالسّعدان، أى إنك إن كنت رضا فلست كفلان. وقولهم: «ماء ولا كصدّاء» صدّاء: ركيّة عذبة؛ قال ضرار السعدىّ وإنى وتهيامى بزينب كالذى ... تطلّب من أحواض صدّاء مشربا معناه أنه لا يصل إليها إلا بالمزاحمة لفرط حسنها، كالذى يرد الماء فإنه يزاحم عليه لفرط عذوبته. وقولهم: «محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا» هو سالم بن دارة الغطفانىّ، ودارة: أمّه، وكان قد هجا بعض بنى فزارة فاغتاله زميل فقتله، ففيه يقول الكميت فلا تكثروا فيه الضّجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا

وقولهم: «ملكت فأسجح» الإسجاح: حسن العفو، أى ملكت الأمر فأحسن العفو؛ وقد تمثّل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض غزواته؛ ونذكر الخبر فى ذلك في المغازى. وقولهم: «من ينكح الحسناء يعط مهرها» أى من طلب حاجة بذل ماله فيها. وقولهم: «من سرّه بنوه ساءته نفسه» قاله ضرار بن عمرو الضبىّ: وكان ولده ثلاثة عشر رجلا، كلّهم قد غزا ورأس، فرآهم يوما وأولادهم، فعلم أنهم لم يبلغوا هذه الأسنان إلا مع كبر سنّه، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه، فأرسلها مثلا. وقولهم: «من أشبه أباه فما ظلم» معناه ظاهر. وقولهم: «من ير يوما يربه» قاله كلحب بن شؤبوب الأسدىّ، وكان يغير على طيىء وحده، فدعا حارثة بن لأم رجلا من قومه يقال له: عترم، فقال له: أما تستطيع أن تكفينى مؤونة هذا الخبيث؟ فقال: بلى، فأرسل عشرة عيون عليه، فعلموا مكانه فانطلق إليه عترم فوجده نائما في ظلّ أراكة فنزل ومعه آخر فأخذ كلّ واحد منهما بإحدى يديه فانتبه فنزع يده اليمنى من ممسكها وقبض على حق الآخر فقتله وبادر الباقون فأخذوه وشدّوه وثاقا وأتوا به حارثة، فقال له: يا كحب، إن كنت أسيرا فطالما أسرت، فقال: من ير يوما ير به، فأرسلها مثلا، وقال حوذة وهو ابن المقتول لحارثة: أعطينه أقتله بأبى، فقال: دونكه! وجعلوا يتكلّمون وهو يعالج كتافه حتى انحلّ، ثم وثب على رجليه فاتبعوه بالخيل فأعجزهم. وقولهم: «من سلك الجدد أمن العثار» الجدد: الأرض المستوية: يضرب فى طلب العافية.

وقولهم: «من يشترى سيفى وهذا أثره؟» قاله الحارث بن ظالم، وذلك انه لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بزهير بن جذيمة العبسىّ على ما نذكره إن شاء الله فى وقائع العرب وهرب، فوجّه النعمان فوارس في طلبه فأدركوه سحرا فعطف عليهم وقتل منهم جماعة وكرّوا عليه فجعل لا يقصد لجماعة إلا فرّقها وهو يقول: من يشترى سيفى وهذا أثره، فارتدعوا عنه وانصرفوا إلى النعمان. وقولهم: «من مال جعد وجعد غير محمود» قاله جعد بن الحصين أبو صخر ابن جعد الشاعر، وكان قد كبر فتفرّق عنه بنوه وأهله، وبقيت له جارية سوداء تخدمه، فعلقت بفتى من الحىّ يقال له: عرابة، فجعلت تنقل إليه ما في بيت جعد، ففطن جعد لذلك، فقال في ذلك أبلغ لديك بنى عمرو مغلغلة ... عمرا وعوفا وما قولى بمردود بأنّ بيتى أمسى فوق داهية ... سوداء قد وعدتنى شرّ موعود تعطى عرابة بالكفّين مجتنحا ... من الخلوق وتعطينى على العود أمسى عرابة ذا مال يسرّ به ... من مال جعد، وجعد غير محمود يضرب للرجل يصاب من ماله ويذمّ. وقولهم: «من مأمنه يؤتى الحذر» قاله أكثم بن صيفىّ. وقولهم: «من يمش يرض بما ركب» : يضرب للذى يضطرّ إلى ما كان يرغب عنه. وقولهم: «من يلق أبطال الرجال يكلم» قاله عقيل بن علقمة المرّى، وقد رماه عملّس ابنه بسهم فحلّ فخذيه، فقال أبياتا منها

حرف النون

إنّ بنىّ زمّلونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم وقولهم: «من لا يذد عن حوضه يهدّم» أى من لم يدفع عن نفسه يظلم، قاله زهير بن أبى سلمى. وقولهم: «مكره أخوك لا بطل» قاله أبو حنش خال بيهس: يضرب لمن يحمل على ما ليس من شأنه. وقولهم: «من نام لا يشعر بشجو الأرق» : يضرب لمن غفل عما يعانيه صاحبه من المشقّة. حرف النون قولهم: «نفس عصام سوّدت عصاما» هو عصام بن شهبر حاجب النعمان ابن المنذر: يضرب في نباهة الرجل من غير قديم؛ وقيل في هذا نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكا هماما وقولهم: «نظرة من ذى علق» أى من ذى هوى: يضرب لمن ينظر بودّ. وقولهم: «نزت به البطنة» : يضرب لمن لا يحتمل النّعمة؛ قال الشاعر فلا تكوننّ كالنازى ببطنته ... بين القرينين حتى ظلّ مقرونا

حرف الهاء

وقولهم: «نجوت وأرهنتهم مالكا» قال عبد الله بن همّام السّلولىّ فلمّا خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا يضرب لمن ينجو من هلكة نشب فيها شركاؤه وأصحابه. وقولهم: «نام عصام ساعة الرحيل» : يضرب لمن طلب الأمر بعد ما ولّى. حرف الهاء قولهم: «هدنة على دخن» . وقولهم: «هذا أوان شدّكم فشدّوا» . ومثله قولهم: «هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم» قال الأصمعىّ: زيم: اسم فرس: يضرب للرجل يؤمر بالجدّ. وقولهم: «هو على حبل ذراعك» أى الأمر فيه إليك: يضرب في قرب المتناول؛ وحبل الذراع: عرق في اليد. وقولهم: «هان على الأملس ما لا قى الدّبر» : يضرب في سوء اهتمام الرجل بشأن صاحبه. وقولهم: «هو بين حاذف وقاذف» لحاذف بالعصا، والقاذف بالحصى: يضرب لمن هو بين الشرّين. وقولهم: «هو على طرف الثّمام» الثمام: نبت ضعيف سهل المتناول تسدّ به خصاص البيوت، وربما حشيت به المخادّ؛ قالوا: إنه ينبت على قدر قامة الإنسان: يضرب في تسهيل الحاجة وقرب النجاح.

حرف الواو

وقولهم: «هى الخمر تكنى الطّلاء» : يضرب للأمر ظاهره حسن وباطنه على خلاف ذلك. حرف الواو قولهم: «وافق شنّ طبقة» قال الشرقىّ بن القطامىّ: كان رجل من دعاة العرب وعقلائهم يقال له: شنّ، فآلى أنه يطوف البلاد حتى يجد امرأة مثله فيتزوّجها، فبينا هو في بعض مسيره إذ وافقه رجل في الطريق فسارا جميعا، فقال له شنّ: أتحملنى أم أحملك؟ فقال: أنا راكب وأنت راكب، فكيف تحملنى أو أحملك؟! ثم سارا فانتهيا إلى زرع قد استحصد، فقال شنّ: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فقال: لم أر أجهل منك، نبتا مستحصدا فتقول: أكل أم لا! فسكت؛ ثم سارا حتى دخلا القرية فلقيا جنازة، فقال شنّ: أترى صاحب هذا النعش حيّا أم ميّتا؟ فقال له الرجل: ترى جنازة تسأل عنها أميّت صاحبها أم حىّ! فسكت عنه شنّ وأراد مفارقته فأبى أن يتركه وسار به إلى منزله، وكان للرجل بنت يقال لها: طبقة، فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه، فقال: ما رأيت أجهل منه، وحدّثها بحديثه، فقالت: يا أبت ما هذا بجاهل! قوله: أتحملنى أو أحملك؟ أراد أتحدّثنى أم أحدّثك، وأما قوله: أترى هذا الزرع أكل أم لا؟ فأراد هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا؟ وأما الجنازة فأراد هل ترك عقبا يحيا بهم ذكره أم لا؟ فخرج الرجل فقعد مع شنّ فحادثه، وقال له: أتحب أن أفسر لك ما سألتنى؟ قال نعم، ففسره، فقال شنّ: ما هذا من كلامك، فأخبرنى من صاحبه؟ فقال: ابنة لى، فخطبها إليه فزوّجه إياها وحملها إلى أهله، فلما رأوها قالوا: وافق شنّ طبقة، فذهبت مثلا: يضرب للمتوافقين؛

ما جاء في ما أوله (لا)

وقال الاصمعىّ: هم قوم كان لهم وعاء من أدم فتشنّن فجعلوا له طبقا فوافقه فقيل: وافق شنّ طبقه، ورواه أبو عبيدة في كتابه، وقال ابن الكلبىّ: طبقة: قبيلة من إياد كانت لا تطاق فأوقعت بها شنّ بن أفصى بن دعمىّ فانتصفت منها وأصابت فيها فضربتا مثلا وأنشد لقيت شنّ إيادا بالقنا ... طبقا، وافق شنّ طبقه وقولهم: «وجدت الناس اخبر تقله» أصله اخبر الناس تقلهم: يضرب فى ذمّ الناس وسوء معاشرتهم. وقولهم: «ولود الوعد عاقر الإنجاز» : يضرب لمن يكثر وعده ويقلّ نقده. وقولهم: «ودّع مالا مودعه» لأنه إذا استودعه غيره فقد ودّعه وغرّر به ولعله لا يرجع اليه. وقولهم: «ومورد الجهل وبىء المنهل» : يضرب في النّهى عن استعمال الجهل. ما جاء في ما أوّله (لا) قولهم: «لا مخبأ لعطر بعد عروس» ويقال: «لا عطر بعد عروس» أوّل من قاله امرأة من عذرة، يقال لها: أسماء بنت عبد الله، وكان لها زوج من بنى عمّها يقال له: عروس، فمات عنها، فتزوّجها رجل من قومها يقال له نوفل، وكان أعسر أبخر بخيلا ذميما، فلما دخل بها قال: ضمّى إليك عطرك، فقالت: لا عطر بعد عروس، فذهبت مثلا، ويقال: إن رجلا تزوّج امرأة، فلما أهديت إليه

وجدها تفلة فقال لها: أين الطّيب؟ فقالت: خبّأته، فقال لها: لا مخبأ لعطر بعد عروس: يضرب مثلا لمن لا يدّخر عنه نفيس. وقولهم: «لا يلدغ «1» المؤمن من حجر مرّتين» : يضرب لمن أصيب ونكب مرّة بعد أخرى، يقال هذا من امثال النبىّ صلّى الله عليه وسلم قاله لأبى عزّة الشاعر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أسره يوم بدر فمنّ عليه وأطلقه ثم أتاه يوم أحد فأسره، فقال: منّ علىّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» أى لو كنت مؤمنا لم تعد لقتالنا. وقولهم: «لا أطلب أثرا بعد عين» أوّل من قاله مالك بن عمرو العامرى «2» ، وكان من حديثه أن بعض ملوك غسّان كان يطلب في بنى عامر ذحلا فأخذ منهم مالكا وسماك ابنى عمرو العامرىّ فاحتبسهما زمانا ثم دعا بهما، فقال لهما: إنى قاتل أحدكم فأيكما أقتل؟ فجعل كلّ واحد منهما يقول: اقتلنى مكان أخى، فقتل سماكا وخلّى سبيل مالك، فقال سماك حين ظنّ أنه مقتول فأقسم لو قتلوا مالكا، لكنت لهم حيّة راصده برأس سبيل على مرقب ... ويوما على طرق وارده فأمّ سماك فلا تجزعى ... فللموت ما تلد الوالده وانصرف مالك إلى قومه فأقام فيهم زمانا ثم إنّ ركبا مرّوا وواحد منهم يتغنّى بقول سماك فأقسم لو قتلوا مالكا فسمعته أمّ سماك، فقالت: يا مالك، قبح الله الحياة بعد سماك، اخرج في الطلب فخرج فلقى قاتل أخيه يسير في ناس من قومه فقال:

من أحسّ لى الجمل الأحمر، فقالوا له وقد عرفوه: يا مالك اكفف ولك مائة من الإبل، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فذهبت مثلا. وقولهم: «لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا» أصله في الحرباء: يضرب لمن لا يدع حاجة إلا سأل أخرى. وقولهم: «لا ماءك أبقيت، ولا حرك أنقيت» ويروى: ولا درنك؛ اصله أنّ رجلا كان في سفر ومعه امرأته، وكانت عاركا فطهرت وكان معها ماء يسير فاغتسلت به فنفد ولم يكفها لغسلها فعطشا فقال هذا القول فسار مثلا، وقيل: إنّ الذى قاله الضبّ بن أروى الكلاعىّ قاله لامرأته عمرة بنت سبيع؛ قال الفرزدق وكنت كذات الحيض لم تبق ماءها ... ولا هى من ماء العذابة طاهر وقولهم: «لا ناقتى في هذا ولا جملى» المثل للحارث بن عبّاد حين قتل جسّاس بن مرّة كليبا وحاجت الحرب بين الفريقين واعتزلهما الحارث؛ قال الراعى وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لى في هذا ولا جمل يضرب عند التبرؤ من الظلم والإساءة. وقولهم: «لا ينتطح فيها عنزان» قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقولهم: «لا ينبت البقلة، إلا الحقلة» الحقلة: القراح، أى لا يلد الوالد. إلا مثله: ويضرب مثلا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس. وقولهم: «لا تدخل بين العصا ولحائها» : يضرب في المتخالّين المتصافيين. وقولهم: «لا يحزنك دم هراقه أهله» قال هذا المثل جذيمة: يضرب لمن يوقع نفسه فيما لا مخلص له منه.

حرف الياء

حرف الياء قولهم: «يداك أوكتا وفوك نفخ» أصله أن رجلا كان في جزيرة من جرائر البحر فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه، فلمّا توسّط البحر خرجت منه الريح فغرق فاستغاث برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ، فذهبت مثلا: يضرب لمن يجنى على نفسه الحين. وقولهم: «يشجّ ويأسو» : يضرب لمن يصيب في التدبير مرّة ويخطىء أخرى؛ قال الشاعر إنى لأكثر ممّا سمتنى عجبا ... يد تشجّ وأخرى منك تأسونى وقولهم: «يسرّ حسوا في ارتغاء» أصله أن الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرّغوة خاصّة فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن: يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجرّ النفع إلى نفسه؛ قال الكميت فإنى قد رأيت لكم صدودا ... وتحساء بعلّة مرتغينا وقولهم: «يمشى رويدا ويكون أوّلا» : يضرب للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة، وينشد فيه تسألنى أمّ الوليد جملا ... يمشى رويدا ويكون أوّلا وقولهم: «يصبح ظمآن وفي البحر فمه» : يضرب لمن يعاشر بخيلا مثريا. وقولهم: «يملأ الدّلو الى عقد الكرب» مأخوذ من قول عتبة بن أبى لهب من يساجلنى يساجل ماجدا ... يملا الدّلو إلى عقد الكرب. وهو الحبل الذى يشدّ في وسط العراقىّ: يضرب لمن يبالغ فيما يلى من الأمر.

ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية

وقولهم: «يكوى البعير من يسير الداء» : يضرب في حسم الأمر الضائر قبل أن يعظم ويتفاقم. وقولهم: «يعود على المرء ما يأتمر» ويروى: يعدو؛ معناه يعود على الرجل ما تأمره به نفسه فيأتمر، أى يمتثله ظنّا منه أنه رشد، وربما كان هلاكه فيه، ومنه قول امرئ القيس أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر ومما يتمثل به من أشعار الجاهلية امرؤ القيس بن حجر: قد تقدّم من شعره في الاستشهاد على أمثال العرب ما يستغنى عن إعادته في هذا المكان. ومن شعره والبرّ خير حقيبة الرّجل ... رضيت من الغنيمة بالإياب إن الشقاء على الأشقين مصبوب وقال أيضا وقاهم جدّهم بينى أبيهم ... وبالأشقين ما كان العتاب وقال فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب زهير بن أبى سلمى يقول ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه ... ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم

النابغة الذبيانى:

ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه ... مطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم وقال أيضا وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وقال أيضا والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر وقال أيضا فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء يقول: إنما الحقوق تصحّ بواحدة من هذه الثلاث: يمين أو محاكمة أو حجّة واضحة؛ وكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يتعجّب من معرفته بمقاطع الحقوق. النابغة الذّبيانى: اسمه زياد بن عمرو، ويكنى أبا أمامة؛ غلب عليه «النابغة» لأنه عبر برهة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله؛ وكذلك الجعدىّ؛ وقيل: إنما لقّب بالنابغة لقوله فقد نبغت لهم منّا شؤون وقيل في نسبه: زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرّة ابن عوف بن سعد بن ذبيان.

طرفة بن العبد

فمما يتمثّل به من شعره قوله فإنك كالليل الذى هو مدركى ... فإن مطيّة الجهل الشباب وقال ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أىّ الرجال المهذّب؟ وقال أيضا استبق ودّك للصديق ولا تكن ... قتبا يعضّ بغارب ملحاحا طرفة بن العبد يقول حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض ... ما أشبه الليلة بالبارحه وقال أيضا ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وقال أيضا وأعلم علما ليس بالشكّ أنه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل أوس بن حجر يقول فإنكما يا ابنى حباب وجدتما ... كمن دبّ يستخفى وفي الكفّ جلجل وقال أيضا وما ينهض البازى بغير جناحه ... ولا يحمل الماشين إلا الحوامل اذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وقال أيضا ولست بخابئّ أبدا طعاما ... حذار غد، لكلّ غد طعام

بشر بن أبى خازم

بشر بن أبى خازم يقول وأيدى الندى في الصالحين قروض ... كفى بالموت نأيا واغترابا المتلمس وهو جرير بن عبد المسيح يقول قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقال أيضا لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما كنت إلا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما وقال أيضا ولا يقيم على ذلّ يراقبه ... إلا الأذلّان عير السوء والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد الأفوه الأودىّ يقول إنما نعمة دنيا متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار وصروف الدهر في أطباقه ... حلقة فيها ارتفاع وانحدار بينما الناس على عليائها ... إذ هووا في هوّة منها فغاروا وقال أيضا والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... وساكن، بلغوا الأمر الذى كادوا تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت ... وإن تولّت فبالأشرار تنقاد لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

تميم بن أبى مقبل

تميم بن أبى مقبل يقول خليلىّ لا تستعجلا وانظرا غدا ... عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا وقال أيضا ما أنعم العيش! لو أن الفتى حجر ... تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم حميد بن ثور يقول أرى بصرى قد رابنى بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما ولن يلبث العصران يوما وليلة ... إذا طلبا- أن يدركا ما تيّمما عدى بن زيد يقول كفى واعظا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدى عن المرء لا تسأل وسل عن قريبه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدى وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد إذا ما رأيت الشرّ يبعث أهله ... وقام جناة الشرّ للشرّ فاقعد قال أيضا يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وقال قد يدرك المبطئ من حظّه ... والخير قد يسبق جهد الحريص وقال لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصارى وقال فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار؟

الأسود بن يعفر

الأسود بن يعفر يقول ماذا أؤمل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أرض تخيّرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ دؤاد أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذى الشّرفات من سنداد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد علقمة بن عبدة يقول فإن تسألونى بالنساء فإننى ... عليم بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب وقال أيضا وكلّ حصن وإن طالت إقامته ... على دعائمه لا بدّ مهدوم ومن تعرّض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بدّ مشئوم عمرو بن كلثوم يقول وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذى لا تصحبينا وإنّ غدا وإنّ اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا الحارث بن حلّزة يقول لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدرى من الناتج؟ واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شرّ اللبن الوالج

حاتم الطائى

حاتم الطائىّ يقول أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر وقد علم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال، كان له وفر وقال أيضا وأنت إذا أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذمّ أجمعا المرقّش الأصغر يقول ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما النمر بن تولب يقول يودّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل؟ وقال أيضا ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذى يهب الرغائب فارعب لا تغصبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب وقال فلا وأبى، الناس لا يعلمون ... ، للخير خير وللشرّ شرّ فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسرّ مهلهل بن ربيعة، واسمه عدىّ يقول أعزر على تغلب بما لقيت ... أخت بنى الأكرمين من جشم أنكحها ففدها الأراقم في ... جنب وكان الخباء من أدم لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون من ذلّة ولا عدم

طفيل الغنوى

طفيل الغنوىّ يقول إنّ النساء كأشجار نبتن معا ... منهن مرّ، وبعض المرّ مأكول إنّ النساء متى ينهن عن خلق ... فإنه واجب لا بدّ مفعول عروة بن الورد يقول وما شاب رأسى من سنين تتابعت ... علىّ ولكن شيّبتنى الوقائع وقال أيضا ومن يك مثلى ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح الأعشى: وهو ميمون بن قيس من بنى قيس بن ثعلبة يقول كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وقال أيضا تعالوا فإنّ الحكم عند ذوى النهى ... من الناس كالبلقاء باد حجولها وقال أيضا ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسىء ... يكن ما أثار النار في رأس كبكبا وقال أيضا عوّدت كندة عادة فاصبر لها ... اغفر لجاهلها وروّ سجالها لقيط بن معبد يقول قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمر من فزعا هيهات، ما زالت الأموال مذ أبد ... لأهلها- إن أصيبوا مرّة- تبعا

تأبط شرا:

تأبط شرّا: وهو ثابت بن جابر يقول لتقرعنّ علىّ السنّ من ندم ... اذا تذكّرت يوما بعض أخلاقى المثقّب العبدىّ يقول فإما أن تكون أخى بحقّ ... فأعرف منك غثّى من سمينى وإلا فاطرحنى واتّخذنى ... عدوّا أتّقيك وتتّقينى فإنى لو تعاندنى شمالى ... عنادك ما وصلت بها يمينى الممرّق العبدىّ يقول فإن كنت ماكولا فكن أنت آكلى ... وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق أفنون التغلبىّ يقول لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتّقى ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا الأضبط بن قريع السّعدىّ يقول قد يجمع المال غير آكله ... وبأكل المال غير من جمعه لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه وأقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه سويد بن أبى كاهل يقول ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنّى لى موتا لم يطع ويرانى كالشّجى في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع ويحيّينى إذا لاقيته ... وإذا يحلو له لحمى رتع انتهى ما يتمثل به من أشعار الجاهلية.

ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين

ومما يتمثل به من أشعار المخضرمين المخضرمون: هم الذين أدركوا الجاهليّه والإسلام. منهم لبيد بن ربيعة، وفاته سنة إحدى وأربعين، وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة يقول وإذا رمت رحيلا فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل واكذب النفس إذا حدثتها ... إنّ صدق النفس يزرى بالأمل وقال أيضا وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وقال أيضا كانت قناتى لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربّى في السلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السلامة داء وقال أيضا ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وقال أيضا إلى لحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر كعب بن زهير يقول ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل

النابغة الجعدى:

النابغة الجعدىّ: وهو قيس بن عبد الله، وقيل حسّان بن قيس بن عبد الله وبكنى النابغة: أبا ليلى، وهو أسنّ من الذبيانىّ، وطال عمره حتى أدرك أيّام بنى أمية، وهو الذى قال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم «لا يفضض الله فاك» فما سقطت له سنّ، وفي رواية: فكان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سنّ تنبت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقبل أكثر. ومما يتمثل به من شعره قوله ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا وقال أيضا كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدم أميّة بن أبى الصّلت الثقفى يقول تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا حسّان بن ثابت يقول وإن امراء يمسى ويصبح سالما ... من الناس- إلا ما جنى- لسعيد وقال أيضا ربّ حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطّى عليه النعيم ما أبالى أنبّ بالحزن تيس ... أم لحانى بظهر غيب لئيم؟ الحطيئة: واسمه جرول بن اوس بن مخزوم. وقيل: جرول بن أوس بن مالك ابن غطفان بن سعد ويكنى: أبا مليكة، والحطيئة لقب غلب عليه؛ قيل لقب به

متمم بن نويرة

لقصره وقربه من الأرض؛ وقيل: حبق في مجلس قومه فقال: إنما هى حطأة فسمّى الحطيئة. فمما يتمثل به من شعره قوله من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى وقال أيضا أقلّوا عليهم لا ابا لأبيكم ... من اللوم أوسدّوا المكان الذى سدّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا متمم بن نويرة يقول وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أبو ذؤيب الهذلىّ يقول وتجلّدى للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع واذا المنّية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع الخنساء: وهى تماضر بنت عمرو بن الشريد تقول ومن ظنّ ممن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا وقالت أيضا نهين النفوس وبذل النفوس ... عند الكريهة أبقى لها

عمرو بن معديكرب

عمرو بن معديكرب يقول إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال أيضا ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن ردّيت بردا إن الجمال مآثر ... ومكارم أورثن مجدا معن بن أوس يقول وفي الناس- إن رثّت حبالك- واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل وقال أيضا أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رمانى زياد بن زيد يقول ولا أتمنى الشرّ- والشرّ تازكى- ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب وقال أيضا هل الدهر والأيام إلا كما ترى؟ ... رزيّة مال أو فراق حبيب أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدىّ يقول إن للفتنة ميطا بيننا ... فرويد الميط منها تعتدل فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل انتهى ما يتمثل به من أشعار المخضرمين.

ومما يتمثل به من أشعار المتقدمين في صدر الإسلام

ومما يتمثل به من أشعار المتقدّمين في صدر الإسلام القطامىّ: واسمه عمير بن شييم يقول ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتّبعه اتّباعا أراهم يغمزون من آستركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ جانيهم سراعا وقال أيضا قد يدرك المتأنّى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأنّى وكان الرأى لو عجلوا والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل الطّرمّاح بن حكيم بن الحكم يقول لقد زادنى حبّا لنفسى أننى ... بغبض إلى كلّ امرىء غير طائل وأنى شقىّ باللئام ولن ترى ... شقيّا بهم إلا كريم الشمائل الكميت بن زيد الأسدىّ يقول إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأى للمضطرّ إلا ركوبها وقال أيضا فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها ... ويا حاطبا في حبل غيرك تحطب المساور بن هند يقول شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إن الشقىّ بكل حبل يخنق

عدى بن الرقاع

عدىّ بن الرقاع يقول وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنا به نطرى إلى الأمراء بل ما رأيت جبال أرض تستوى ... فيما عشيت ولا نجوم سماء كالبرق منه وابل متتابع ... جود وآخر ما يبصّ بماء والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء الفرزدق، واسمه همام بن غالب يقول فوا عجبا حتى كليب تسبّنى ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع وقال أيضا ترجّى ربيع ان يجىء صغارها ... بخير وفد أعيا عليك كبارها وقال أيضا فإن تنج منها، تنج من ذى عظيمة ... وإلا فإنى لا إخالك ناجيا وقال أيضا يمضى أخوك فلا تلقى له خلفا ... والمأل بعد ذهاب المال مكتسب وقال أيضا ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا وقال أيضا قل لنضر، والمرء في دولة السلطان ... أعمى مادام يدعى أميرا فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجال، عاد بصيرا وقال أيضا ولا يلين السلطان يكايدنا ... حتى بلين لصرس الماضغ الحجر

جرير:

وقال أيضا هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبرن ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم جرير: هو ابن الخطفى توفّى سنة عشر ومائة يقول إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للّئام نصور وقال أيضا زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع وقال أيضا وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وقال أيضا رأيتك مثل البرق يحسب ضوءه ... قريبا وأدنى ضوئه منك نازح وقال أيضا أمّا الرجال فجعلان ونسوتهم ... مثل القنافذ لا حسن ولا طيب الأخطل: واسمه مالك بن غياث بن غوث، وقال أبو الفرج الأصبهانى: اسمه غياث ابن غوث بن الصلت بن طارقة بن سيحان بن عمرو، ورفع نسبه إلى جشم بن بكر ويكنى: أبا مالك، قال: وقال المدائنى هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة. فمما يتمثّل به من شعره قوله والناس همّهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال

الصلتان العبدى

قال أيضا إنّ الصنيعة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر وأقسم المجد حقّا لا يخالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشّعر وقال أيضا وإذا دعونك يا أخىّ فإنه ... أحنى إليك مودّة ووصالا وإذا دعونك عمّهنّ فإنه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا وقال أيضا ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وقال أيضا يا مرسل الريح جنوبا وصبا ... إن غضبت قيس فزدها غضبا الصّلتان العبدىّ يقول وإن يك بحر الحنظليّين واحد ... فما يستوى حيتانه والضفادع وما يستوى صدر القناة وزجّها ... وما يستوى في الراحتين الأصابع كثيّر عزة: وهو كثّير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعىّ، توفّى سنة خمس ومائة يقول وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلت لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

جميل

وقال أيضا قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها وقال أيضا ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبّع جاهدا كلّ عترة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب جميل يقول فإن بك حرب بين فومى وبينها ... فإنى لها في كلّ نائبة سلم وقال أيضا ولربّ عارضة عينا وصلها ... بالجدّ تحلطه بقول الهازل فأجبتها في القول بعد تستّر ... حبّى بثينة عن وصالك شاغلى لو كان في قلبى كقدر قلامة ... وصلا وصلتك أو أتتك رسائلى عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة يقول ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشقت أكبادنا ممّا نجد واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد وقال أيضا لا تلمنى وأنت زيّنتها لى ... أنت مثل الشيطان للإنسان ومما يتمثّل به من أشعار المحدثين منهم إبراهيم بن هرمة يقول عجبت أثيلة أن رأتنى مخلقا ... تكلتك أمّك، أىّ ذاك يروع؟ قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع

بشار بن برد

وقال ايضا كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا بشّار بن برد يقول اذا كنت في كلّ الأمور معانتا ... صديقك لم تلق الذى لا نعاتبه فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ... مقارف دنب مرة ومجانبه إذا أنت لم نشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأىّ الناس نصفو مشاربه وقال أيضا ولا تجعل الشورى عليك غصاضة ... فإن لخوافى عدّة للقوادم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم؟؟ وقال أيضا كبكر تشهّى لذيذ النّكاح ... وتفرّق من صولة الناكج وقال أيضا أنت من قلبها محلّ شراب ... يشتهى شربه ويخشى صداعه وقال أيضا الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ وصاحب كالدّمّل للممدّ؟؟ ... حملته في رقعة من جلدى وقال أيضا وإذا جفوت قطعت عنك منافعى ... والدّرّ يقطعه جفاء الحالب وقال أيضا ولولا الذى خبّروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ

أبو العتاهية

وقال أيضا تأتى المقيم- وما سعى- حاجاته ... عدد الحصى، ويخيب سعى الناصب وقال أيضا أنا والله أشتهى سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشّاق وقال أيضا نرجو غدا، وغدا كحاملة ... فى الحىّ لا يدرون ماتلد وقال أيضا سقط الطير حيث ينتثر الحبّ ... وتغشى منازل الكرماء ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف ... ولكن يلذّ طعم العطاء وقال أيضا والصعب يمكن بعد ما جمحا ... ولن تبلغ العليا بغير الدراهم وقال أيضا ولا بدّ من شكوى إلى ذى مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع أبو العتاهية يقول أذلّ الحرص أعناق الرجال ... وكلّ غنّى في العيون جليل روائح الجنّة في الشباب ... وأىّ الناس ليس له عيوب وقال أيضا إنّ الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للدّين، أىّ مفسده!

سلم بن عمرو الخاسر:

وقال أيضا أنت ما استغنيت عن صاحبك ... الدهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه وقال أيضا ما يحرز المرء من أطرافه طرفا ... إلا تخوّنه النقصان من طرف وقال أيضا يصاد فؤادى حين أرمى ورميتى ... تعود إلى نحرى ويسلم من أرمى وقال أيضا ولربّ شهوة ساعة ... قد أورثت حزنا طويلا سلم بن عمرو الخاسر: وهو مولى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وهو بصرىّ لقّب الخاسر لأنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل: بل خلّف أبوه مالا فأنفقه في الأدب والشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقّب بذلك. فما يتمثّل به من شعره قوله من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسور لولا منى العاشقين ماتوا ... غمّا، وبعض المنى غرور وقال أيضا ولو ملكت عنان الريح تصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب وقال ايضا لا تسأل المرء عن خلائقه ... فى وجهه شاهد من الخبر

صالح بن عبد القدوس

صالح بن عبد القدّوس يقول ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والجاهل الآمل ما في غد ... كحفظه في اليوم أو أمسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه والحمق داء ماله حيلة ... ترجى كبعد النجم من لمسه وقال أيضا وإنّ عناء أن تفهّم جاهلا ... فيحسب جهلا انه منك أفهم متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وقال أيضا إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا وقال أيضا شرّ المواهب ما تجود به ... من غير محمدة ولا أجر وقال أيضا لا تجد بالعطاء في غير حقّ ... ليس في منع غير ذى الحقّ بخل إنما الجود أن تجود على من ... هو لل؟؟ منك والبذل أهل وقال أيضا يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله اقواما بأقوام وليس رزق الفتى من لطف حيلته ... لكن جدود بأرزاق وأقسام كالصّيد يحرمه الرامى المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامى

ابن ميادة:

وقال أيضا إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء منه أجلّ كلّ آت لا شك آت وذو الجه ... ل معنّى والغمّ والحزن فضل ابن ميّادة: هو الرّماح بن بى أبرد كنيته شرحبيل يقول وا عجبا من خالد كيف لا ... يخطئ فينا مرّة بالصواب وقال أيضا وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد وكأنّا للموت ركب مخبّون ... سراع لمنهل مورود أبو نواس الحسن بن هانئ يقول دع عنك لومى فإن اللوم إغراء ... ألا ربّ إحسان عليك ثقيل وقال وللرجاء حرمة لا تجهل ... وأىّ جدّ بلغ المازح وقال أيضا إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق وقال أيضا لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره وقال أيضا وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد! وقال أيضا صار جدّا ما مزحت به ... ربّ جدّ ساقه اللعب

أبو عيينة المهلبى

وقال أيضا كفى حزنا أنّ الجواد مقتّر ... عليه ولا معروف عند بخيل وقال أيضا وأوبة مشتاق بغير دراهم ... إلى أهله من أعظم الحدثان أبو عيينة المهلّبىّ يقول وكيف جحود القلب والعين تشهد ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وشتّان ما بين الولاية والعزل وقال أيضا وإذا تطاولت الرءوس ... فغطّ رأسك ثمّ طاطه عبد الله بن أبى عتبة المهلّبى يقول كل المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء وقال أيضا ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار العبّاس بن الأحنف يقول لو كنت عاتبة لسكّن روعتى ... أملى رضاك وزرت غير مراقب لكن مللت فما لصدّك حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتب وقال أيضا صرت كأنّى ذبالة نصبت ... تضىء للناس وهى تحترق وقال أيضا أرى الطريق قريبا حين أسلكه ... إلى الحبيب، بعيدا حين أنصرف

مسلم بن الوليد:

وقال أيضا كفى حزنا أنّ التباعد بيننا ... وقد جمعتنا والأحبّة دار وقال أيضا اقمنا مكرهين بها فلمّا ... ألفناها خرجنا مكرهينا وقال أيضا ولا خير في ودّ يكون بشافع ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا مسلم بن الوليد: هو مولى الأنصار، ثم مولى آل أبى أمامة: أسعد بن زرارة الخزرجى ولقّب صريع الغوانى، وممّا يتمثّل به من شعره قوله دلّت على عيبها الدنيا وصدّقها ... ما استرجع الدهر ممّا كان أعطانى وكان يقول أخذت معنى هذا البيت من التوراة. وقال أيضا يعدّ الفتى مر الليالى سليمة ... وهنّ به عما قليل عواثر وقال أيضا أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل منصور النمرىّ: هو منصور بن الزبرقان بن سلمة. وقيل منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك، مطعم الكبش الرّخم؛ سمّى بذلك لأنه أطعم ناسا نزلوا به ونحر لهم. ثم رفع رأسه فإذا هو برخم يحمن حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهنّ كبش ويرمى لهنّ ففعل ذلك ونزلن عليه فمزّقنه؛ وهو ابن مالك بن سعد بن عامر الضحيان، سمّى

العتابى:

بذلك لأنه كان سيد قومه وحاكمهم وكان يجلس لهم إذا أضحى النهار؛ وهو ابن سعد ابن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمىّ بن جديلة ابن أسد بن ربيعة بن نزار. فمما يتمثّل به من شعره قوله لعلّ لها عذرا وأنت تلوم ... ورب امرىء قد لام وهو مليم وقال أيضا ما كنت أوفى شبابى كنه عزّته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع وقال أيضا أقلل عتاب من استربت بودّه ... ليست تنال مودة بعتاب العتّابىّ: هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود ابن عمرو بن كلثوم الشاعر ابن مالك بن عتّاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. فمما يتمثل به من شعره قوله وإن عظيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود وقال أيضا ولله في عرض السموات جنّة ... ولكنها محفوفة بالمكاره وقال أيضا قلت للفرقدين، والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق

أشجع السلمى:

أشجع السّلمىّ: هو أشجع بن عمرو أبو الوليد، وقيل: أبو عمرو من أهل الرّقّة. فمما يتمثل به من شعره قوله نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب وقال ايضا سبق القضاء بكلّ ما هو كائن ... فليجهد المتقلّب المحتال وقال أيضا داء قديم في بنى آدم ... فتنة إنسان بإنسان وقال أيضا وعلى عدوك يا ابن عمّ محمد ... رصدان، ضوء الصبح والإظلام فاذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام الجرهمىّ وأعددته ذخرا لكل ملمة ... وسهم الرزايا بالذخائر مولع وقال أيضا إذا مامات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب وقال أيضا أرى الحلم في بعض المواطن دلة ... وفي بعضها عزّا يسوّد فاعله وقال أيضا ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل وقال أيضا العيش لا عيش إلا ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر

محمود الوراق:

وقال أيضا وهل حازم إلا كآخر عاجز ... اذا حل بالإنسان ما يتوقّع محمود الورّاق: هو محمود بن الحسن البغدادى مولى بنى زهرة، ويكنى أبا الحسن. فمما يتمثّل به من شعره قوله وإذا غلا شىء علىّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وقال أيضا ما كدت أفحص عن أخى ثقة ... إلّا ذممت عواقب الفحص وقال أيضا الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبرا فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لن يصبرا وقال أيضا إذا كان وجه العذر ليس بواضح ... فإنّ اطراح العذر خير من العذر محمود بن حازم الباهلىّ ألا إنما الدّنيا على المرء فتنة ... على كل حال أقبلت أم تولّت وقال أيضا وقائل كيف تفرّقتما ... فقلت قولا فيه إنصاف لم يك لى شكلا ففارقته ... والناس أشكال وألّاف

السموءل بن عادياء

السّموءل بن عادياء إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وقال أيضا إذا كنت ملحيّا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس محمد بن أبى زرعة الدّمشقى لا يؤنسنّك أن ترانى ضاحكا ... كم ضحكة فيها عبوس كامن وقال أيضا قد يمهن الهندىّ وهو حسام ... ويحثّ الجواد وهو جواد أبو الشيص: واسمه محمد بن رزين بن تميم بن نهشل، وأبو الشّيص لقب غلب عليه، وكنيته أبو جعفر وهو عمّ دعبل بن علىّ. فمما يتمثل به من شعره قوله اذا لم تكن طرق الهوى لى ذليلة ... تنكبتها وانحزت من جانب السّهل علىّ بن جبلة بن عبد الرحمن الأنبارىّ، وهو الملقّب العكوّك قال وأرى الليالى ما طوت من شرّتى ... ردّته في عظتى وفي إفهامى وعلمت انّ المرء من سنن الردى ... حيث الرميّة من سهام الرامى وقال أيضا وخافت على التطواف قومى وإنما ... تصاب غرار الوحش وهى رتوع اللجلاج الحارثىّ وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل

عبد الصمد بن المعذل

وقال أيضا اذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه عبد الصمد بن المعذّل ليس لى عذر وعندى بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع وقال أيضا وأعلم أن بنات الرجاء ... تحلّ العزيز محلّ الذليل وأن ليس مستغنيا بالكثير ... من ليس مستغنيا بالقليل وقال ايضا أرى الناس أحدوثة ... فكونوا حديثا حسن كان لم يكن ما أتى ... وما قد مضى لم يكن إذا وطن رابنى ... فكل بلاد وطن إذا عزّ يوما أخوك ... في بعض أمر فهن الحمدونىّ إن المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم العتبى قالت عهدتك مجنونا، فقلت لها: ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وقال أيضا وحسبك من حادث بامرىء ... يرى حاسديه له راحمينا

أبو سعيد المخزومى:

أبو سعيد المخزومى: واسمه عيسى بن خالد بن الوليد، والصحيح أنه أبو سعد لا سعيد. فمما يتمثل به من شعره قوله وكم رأينا للدهر من أسد ... بالت على راسه ثعالبه وقال أيضا إذا ضنّ الجواد بما لديه ... فما فضل الجواد على البخيل؟ وقال أيضا ليس لبس الطيالس ... من لباس الفوارس لا ولا حومة الوغى ... كصدور المجالس وظهور الجياد غير ... ظهور الطنافس ليس من مارس الخطوب ... كمن لم يمارس دعبل بن علىّ الخزاعىّ: هو أبو جعفر واسمه محمد ودعبل لقب غلب عليه، والدعبل: البعير المسنّ، وقيل: الناقة التى معها أولادها. فمما يتمثّل به من شعره قوله لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقال ايضا هى النفس ما حسّنته فمحسّن ... إليها وما قبّحته فمقبّح وقال أيضا جئنا به يشفع في حاجة ... فاحتاج في الإذن إلى شافع

إسحاق بن إبراهيم الموصلى

وقال أيضا تلك المساعى اذا ما أخرت رجلا ... أحب للناس عيبا كالذى عابه كذاك من كان هدم المجد عادته ... فإنه لبناء المجد عيّابه إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار المؤمل بن أميل إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر لا تسحبونى غنيّا عن مودّتكم ... إنى إليكم وإن أيسرت مفتقر إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول مولى يزيد بن المهلّب يكنى أبا إسحاق، وأصله من خراسان. فمما يتمثّل به من شعره قوله ورب أخ ناديته لملمة ... فألفيته منها أجلّ وأعظما وقال أيضا وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا وكنت أعدّك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وقال أيضا دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها وإن مقيمات بمنقطع اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها

أبو على البصير:

أبو علىّ البصير: وهو الفضل بن جعفر الكوفىّ يقول فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشّغل وقال أيضا لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... الى كرم وفي الدنيا كريم ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتها رعى الهشيم سعيد بن حميد يقول إنّ جهد المقلّ غير قليل ... وعلى المريب شواهد لا تدفع وقال أيضا وإنك كالدنيا تذمّ صروفها ... ونوسعها سبّا ونحن عبيدها علىّ بن الجهم يقول ولكلّ حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عمّا تحمد وقال أيضا وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضّل ولا عار إن زالت عن المرء نعمة ... ولكنّ عارا أن يزول التجمّل وقال أيضا ارض للسائل الخضوع وللقارف ... ذنبا مذلّة الأعذار ابن أبى فنن: هو أحمد بن صالح بن أبى معشر مولى المنصور يقول أرى الدهر يخلقنى كلّما ... لبست من الدهر ثوبا جديدا

يزيد بن محمد المهلبى

وقال أيضا سرّ من عاش ماله فإذا حاسبه ... الله سرّه الإعدام وقال أيضا ربّ أمر سرّ أخره ... بعد ما ساءت أوائله يزيد بن محمد المهلبىّ يقول لا عار إن ضامك دهر أو ملك وقال وإن الناس جمعهم كثير ... ولكن من تسرّ به قليل وقال أيضا ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا ان تعدّ معايبه عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقول فإن تلحظى حالى وحالك مرّة ... بنظرة عين عن هوى النفس تحجب ترى كلّ يوم مرّ من بؤس عيشتى ... عليك بيوم من نعيمك يحسب أحمد بن أبى طاهر يقول ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغرّر وقال أيضا حسن الفتى أن يكون ذا حسب ... من نفسه، ليس حسنه حسبه أبو تمام حبيب بن أوس الطائى يقول ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل ... لسان المرء من جذم الفؤاد وذى النقص في الدنيا بذى الفضل مولع

وقال ما أبّ من أبّ لم يظفر بحاجته ... ولم يعب طالب للنّجح لم يجب وقال أيضا ومن لم يسلّم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرّا عليه نوائبا وقال أيضا لأمر عليهم أن يتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال أيضا لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالى وقال أيضا واذا تأمّلت البلاد رأيتها ... تثرى كما تثرى الرجال وتعدم وقال أيضا واذا أمرؤ أهدى اليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وقال أيضا خلقنا رجالا للتجلد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم وقال أيضا ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأرزاق تجرى على الحجى ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم وقال أيضا أآلفة النحيب كم افتراق ... أطلّ فكان داعية اجتماع وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع

أبو عبادة البحترى،

وقال أيضا واذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما، أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وقال أيضا خشعوا لصولتك التى هى عندهم ... كالموت يأتى ليس فيه عار وقال أيضا ذاك الذى قرحت بطون جفونه ... مرها وتربة أرضه من إثمد وقال أيضا وتركى سرعة الصّدر اعتباطا ... يدلّ على موافقة الورود وقال أيضا ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهى مغانم وقال أيضا وإن أمرءا ضنّت يداه على أمرىء ... نيل يد من غيره لبخيل أبو عبادة البحترىّ، وهو الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملان بن جابر ابن مسلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبى حارثة بن جدى بن نزول بن بحتر الطائىّ. فمما يتمثل به من شعره قوله وأبرح ممّا حلّ ما يتوقّع وقال أيضا وليس تقترن النعماء والحسد

وقال أيضا إن المعنىّ طالب لا يظفر وقال أيضا أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر وقال أيضا يزين اللآلى في النظام ازدواجها وقال وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما وقال أيضا متى أحرجت ذا كرم تخطّى ... اليك ببعض أخلاق اللئيم! وقال أيضا والشىء تمنعه يكون بفوته ... أجدى من الشىء الذى تعطاه وقال أيضا تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذنوب ... اذا قدمن من الذنوب وقال أيضا واذا ما خفيت كنت حريّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسى وقال أيضا متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا تنتظر إلا خمول نبيه وقال أيضا وأرى النجابة لا يكون تمامها ... لنجيب قوم ليس بابن نجيب

وقال أيضا واذا ما الشريف لم يتواضع ... للأخلّاء فهو عين الوضيع وقال أيضا ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... الى المجد حتى عدّ ألف بواحد وقال أيضا ليس الذى يعطيك تالد ماله ... مثل الذى يعطيك مال الناس وتفاضل الأخلاق إن حصّلتها ... فى الناس حيث تفاضل الأجناس وقال أيضا لا ييأس المرء أن ينجّيه ... ما يحسب الناس أنه عطبه يسرّك الشىء قد يسوءوكم ... نوّه يوما بخامل لقبه وقال أيضا اذا محاسنى اللاتى أدلّ بها ... كانت ذنوبى فقل لى كيف أعتذر وقال أيضا وعطاء غيرك إن بذل ... ت عناية فيه عطاؤك ديك الجن، واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله ابن رغبان بن زيد بن تميم بن مجد من أهل حمص يقول وشافى النصح يعدل بالأشافى ... وليس القدر إلا بالأثافى وقال اذا شجر المودة لم تجده ... بغيث البرّ أسرع في الجفاف

ابن الرومى

وقال أيضا يرقد الناس آمنين وريب الد ... هر يرعاهم بمقلة لصّ ابن الرومىّ يقول وكم داخل بين الحميمين مصلح ... كما انغل بين العين والجفن مرود وقال أيضا هو باز صائد أرسلته ... فارجعوه سالما إن لم يصد وقال أيضا وما الحمد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن الى بعض اذا الأرض ردّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فهى الأرض ناهيك من أرض وقال أيضا واذا أتاك من الأمور مقدّر ... ففررت منه فنحوه نتوجّه وقال أيضا كيف ترضى الفقر عرسا لامرىء ... وهو لا يرضى لك الدنيا أمه! وقال أيضا عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب عبد الله بن المعتزّ يقول فإن العيون وجوه القلوب وقال أيضا أمّ الكرام قليلة الأولاد

عبيد بن عبد الله بن طاهر

وقال أيضا أبطأ فيض الدلاء أملؤها وقال أيضا اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها ... إذ لم تجد ما تاكله وقال أيضا ولا همّ إلا سوف يفتح قفله ... ولا حال إلا للفتى بعدها حال وقال أيضا لا تأمنوا من بعد خير شرّا ... كم غصن أخضر عاد جمرا وقال أيضا وإنى على إشفاق عينى من البكا ... لتجمح منى نظرة ثم أطرق كما حلّئت عن ماء برد طريدة ... تمدّ اليه جيدها وهى تفرق وقال أيضا وإشارته الى الديك صفّق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإما على الدجى أسفا عبيد بن عبد الله بن طاهر ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره؟ فكيف تراه بعد يمناه صانعا ... لمن ليس منه حين تدوى سرائره؟ وقال أيضا ألا قبّح الله الضرورة إنها ... تكلّف أعلى الخلق أدنى الخلائق!

ابن طباطبا العلوى:

وقال أيضا وكم قائل قد قال مالك راجلا؟ ... فقلت له من أجل أنك فارس! وقال أيضا ومن سرّه أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا ابن طباطبا العلوىّ: هو أبو الحسن محمد بن أحمد العلوى الأصبهانى يقول إنّ في نيل المنى وشك الردى ... وقياس القصد عند السرف كسراج دهنه قوت له ... فاذا غرّقته فيه طفى وقال أيضا لقد قال أبو بكر ... صوابا بعد ما أنصت خرجنا لم نصد شيئا ... وما كان لنا أفلت وقال أيضا يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاما وردّ من الصّبا أياما! منصور الفقيه المقرىء يقول يا من يخاف أن يكون ... ما أخاف سرمدا أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا! وقال أيضا الملح يصلح كلّ ما ... يخشى عليه من الفساد فاذا الفساد جرى علي ... هـ فحكمه حكم الرّماد وقال أيضا كلّ مذكور من الناس اذا ما ... فقدوه صار في حكم الرّماد

ابن بسام:

وقال أيضا كلّ مذكور من الناس ... اذا ما فقدوه صار في حكم حديث ... حفظوه ونسوه وقال أيضا كلّ من أصبح في دهرك ... ممن قد تراه هو من خلفك مقراض ... وفي الوجه مراه ابن بسّام: هو على بن محمد بن نصر بن منصور بن بسّام كنيته أبا الحسن يقول وكم أمنيّة جلبت منيّه وقال ولولا الضرورة ما جئتكم ... وعند الضرورة يؤتى الكنيف! وقال أيضا قل لأبى القاسم المرجّى ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعائب حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب وقال أيضا ربّ يوم بكيت منه فلما ... جزت في غيره بكيت عليه وقال أيضا قد يحمل الشيخ الكبي ... ر جنازة الطفل الصغير جحظة: هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك النديم يقول وللمساكين ايضا بالندى ولع

الصنوبرى

وقال أيضا وآفة التبر ضعف منتقده وقال أيضا متى يلتقى الميت والغاسل؟ وقال أيضا لا تعدنّ للزمان صديقا ... وأعدّ الزمان للأصدقاء وقال أيضا وما كذب الذى قد قال قبلى: ... اذا ما مرّ يوم مرّ بعضى وقال أيضا اذا الشهر حلّ ولا رزق لى ... فعدّى لأيامه باطل وقال أيضا واذا جفانى جاهل ... لم أستخر ما عشت قطعه وجعلته مثل القبور ... أزوره في كلّ جمعه الصنوبرىّ يقول محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار مخبرة بفضل العنبر وقال أيضا ربّ حال كأنها مذهب الدي ... باج صارت من رقة كاللاذ «1» وزمان مثل ابنة الكرم حسنا ... عاد عند العيون مثل الداذى «2» أو ما من فساد رأى الليالى ... أنّ شعرى هذا وحالى هذى!

أبو الفتح كشاجم:

أبو الفتح كشاجم: هو محمود بن الحسين بن السندىّ بن شاهك، وشاهك أمّه يقول يعاد حديثه فيزيد حسنا ... وقد يستقبح الشىء المعاد وقال أيضا شخص الأنام الى جمالك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيب واحد! ومما يتمثّل به من أشعار المولّدين: منهم أبو فراس الحمدانىّ غنى النفس لمن يع ... قل خير من غنى المال وفضل الناس في الأنف ... س ليس الفضل في الحال وقال أيضا ونحن أناس لا توسّط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالى نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر وقال أيضا وندعو كريما من يجود بماله ... ومن يبذل النفس النفيسة أكرم وقال أيضا وجميل العدوّ غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح! أبو الطيب المتنبّى يقول مصائب قوم عند قوم فوائد

وقال أيضا إن المعارف في أهل النّهى ذمم وقال أيضا وخير جليس في الزمان كتاب وقال أيضا وتأبى الطباع على الناقل وقال أيضا ومنفعة الغوث قبل العطب وقال أيضا ومن فرح النفس ما يقتل وقال أيضا اذا عظم المطلوب قلّ المساعد وقال أيضا أنا الغريق فما خوفى من البلل وقال أيضا فإن الرفق بالجانى عتاب وقال أيضا بغيض الىّ الجاهل المتعاقل وقال أيضا وكلّ امرىء يولى الجميل محبب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب

وقال أيضا اذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى وقال أيضا والأمر لله، ربّ مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد وقال أيضا وليس يصحّ في الأفهام شىء ... اذا احتاج النهار الى دليل وقال أيضا ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صاقته بدّ وقال وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام وقال أيضا وإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللّاتى سررن ألوف وقال أيضا واذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشهادة لى بأنى فاضل وقال أيضا وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... اذا لم يكن في فعله والخلائق! وقال أيضا وما يوجع الحرمان من كفّ حارم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق!

السرى بن أحمد بن السرى الموصلى

وقال أيضا إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال وقال أيضا وقيّدت نفسى في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا وقال أيضا ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن! السرىّ بن أحمد بن السرىّ الموصلىّ يقول اذا العبء الثقيل توزّعته ... أكفّ القوم هان على الرقاب وقال أيضا فإنك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النسيم على الرياض وقال أيضا إلى كم أحبّر فيك المديح ... ويلقى سواى لديك الحبورا؟ أبو بكر محمّد بن هاشم الخالدىّ يقول إن خانك الدهر فكن عائذا ... بالبيد والظّلماء والعيس ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رءوس أموال المفاليس وقال أيضا وأخ رخصت عليه حتى ملّنى ... والشىء مملول اذا ما يرخص ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص

أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدى [أخوه]

أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدىّ [أخوه] يقول يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار هذى المدام هى الحياة ... قميصها خرق وقار وقال أيضا صغير صرفت اليه الهوى ... وما خاتم في سوى خنصر الخبّاز البلدىّ: هو أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان، نسبة الى «بلد» وهى من بلاد الجزيرة التى منها الموصل يقول اذا استثقلت أو أبغضت خلّقا ... وسرّك بعده حتى التّناد فشرّده بقرض دريهمات ... فإن القرض داعية الفساد أبو إسحاق الصابىء يقول نعم الله كالوحوش وما تألف ... إلّا الأخاير النّساكا نفّرتها آثام قوم وصارت ... لأولى البرّ والتّقى أشراكا وقال أيضا ومن الظلم أن يكون الرضى سرا ... ويبدو الإنكار وسط النادى وقال أيضا الضبّ والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللبّ والذهب عبد العزيز عمر بن نباته يقول فلا تحقرنّ عدوّا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر

ابن لنكك البصرى:

وقال أيضا مثل خلعت على الزمان رداءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد وقال أيضا يهوى الثناء مبرّز ومقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان وقال أيضا ونبت بنا أرض العراق فما مجنّاها بمجنه ... غير الرحيل، كفى البلاد برحلة العجفاء هجنه ابن لنكك البصرىّ: هو أبو الحسين محمد بن محمد يقول وماذا أرجّى من حياة تكدّرت؟ ... ولو قد صفت كانت كأضغاث أحلام وقال أيضا عدنا في زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم وقال أيضا جار الزمان علينا في تصرّفه ... وأىّ دهر على الأحرار لم يجر عندى من الدهر مالو أنّ أيسره ... يلقى على الفلك الدوّار لم يدر أبو الحسن عبد الله بن محمد بن محمد السلامىّ يقول تبسّطنا على الأيام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب وقال أيضا والمرء ما شغلته فرصة لذة ... ناسى الحوادث آمن الحدثان

أبو الفرج الببغا

وقال وكان رقادى بين كأس وروضة ... فصار سهادى بين طرف وصارم وقال أيضا ركوب الهول أركبك المذاكى ... ولبس الدرع ألبسك الغلائل أبو الفرج الببّغا يقول ما الذل إلا تحمّل المنن ... فكن عزيزا إن شئت أو فهن وقال أيضا ومن طلب الأعداء بالمال والظبى ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام وقال أيضا ولم أر مذ عرفت محلّ نفسى ... بلوغ منى تساوى حمل منّ وقال أيضا أكلّ وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شىء لا يريب؟ ابن سكّرة الهاشمىّ: هو محمد بن عبد الله يقول وعلة الحال تنسى علّة الجسد وقال أيضا وقد ينبت الشوك بين الأقاحى وقال أيضا الموت أنصف حين عدّل قسمة ... بين الخليفة والفقير البائس ابن الحجّاج: هو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يقول وربّ كلام تستثار به الحرب

أبو الحسن الموسوى النقيب:

وقال أيضا خود تزفّ الى ضرير مقعد وقال أيضا واللوزة المرّة يا سادتى ... يفسد في الطّعم بها السكّر وقال أيضا ما زلت أسمع كم من واقف خجل ... حتى ابتليت فكنت الواقف الخجلا وقال أيضا وبى مرضان مختلفان حال ال ... عليلة منهما يمنى بحالى اذا عالجت هذا جفّ كبدى ... وإن عالجت ذاك ربى طحالى أبو الحسن الموسوىّ النقيب: هو محمد بن الحسين بن موسى يقول أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون ومنظر كان بالسرّاء يضحكنى ... يا قرب ما عاد بالضّراء يبكينى وقال أيضا والحرّ من حذر الهوا ... ن يزاول الامر الجسيما وهو العظيم وغير بد ... ع منه إن ركب العظيما وقال أيضا ما السؤدد المطلوب إلّا دون ما ... يومى اليه السؤدد المولود فاذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غالبا وتضعضع الجلمود وقال أيضا اشتر العزّ بما بيع ... فما العزّ بغالى

أبو طالب المأمونى

بالقصار البيض إن شئت ... أو السمر الطوال ليس بالمغبون عقلا ... مشتر عزّا بمال إنما يدّخر المال ... لحاجات الرجال والفتى من جعل الأقوال ... أثمان المعالى أبو طالب المأمونىّ يقول لى في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار وقال أيضا وما شرف الإنسان إلا بنفسه ... أكان ذووه سادة أم مواليا وقال اذا الغيث وفّى الروض واجب حقه ... وزاد فإن الغيث للروض ظالم ابن العميد: هو أبو الفضل محمد بن أبى عبد الله الحسين بن محمد* عرف بابن العميد، كان أبوه أبو عبد الله وزير مرداويج توفى ابن العميد بالرّىّ في محرّم سنة ستين وثلاثمائة يقول لن يصرف الدهر من سجيّته ... أرب أريب وحول ذى حيل أىّ معين صفا على كدر الدهر ... وأىّ النعيم لم يزل وقال أيضا من يشف من ذا بآخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء داوى جوى بجوى وليس بحازم ... من يستكفّ النار بالحلفاء

الصاحب بن عباد:

الصاحب بن عبّاد: هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد. توفى في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وعمره خمس وستون سنة وسمىّ بالصاحب لصحبة ابن العميد يقول بقدر الهموم تكون الهمم ... كم صارم جرّب في خنزير وقال أيضا لقد صدقوا والراقصات الى منى ... بأن مودّات العدا ليس تنفع ولو أنّنى داريت دهرى حيّة ... اذا استمكنت يوما من اللسع تلسع الحسن بن علىّ بن عبد العزيز القاضى يقول القلب يدرك ما لا يدرك البصر ... يتملك الأحرار بالإيناس وقال أيضا وما أعجبتنى قطّ دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد! وقال أيضا يقولون لى فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما اذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما وقال أيضا وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن مطلب الرزق ضيّق اذا لم يكن في الأرض حرّ يعيننى ... ولم يك لى كسب فمن أين أرزق؟ أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمىّ يقول ومن عجب الأيام ترك التعجب وقال أيضا لكلّ صناعة يوما مديل

بديع الزمان أبو الفضل الهمذانى، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد

وقال أيضا واذا مدة الشقىّ تناهت ... جاءه من شقائه متقاضى وقال أيضا عليك بإظهار التجلّد للعدا ... ولا تظهرن منها الدنوّ فتحقرا بديع الزمان أبو الفضل الهمذانىّ، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد توفّى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة مسموما وأوفى على الأربعين سنة يقول يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد! لست في سعيك الذى ... خضت فيه بقاصد إن دنياك هذه ... لست فيها بخالد بعض هذا فإنما ... أنت ساع لقاعد إسماعيل الناشىء يقول وللشباب نراعى حرمة الكتم وقال أيضا وكنت أرى أنّ التجارب عدّة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب وقال أيضا فركضا في ميادين التصابى ... أحقّ الخيل بالركض المعار وقال أيضا ولا تجزعنّ على أيكة ... أبت أن تظلّك أغصانها

أبو الفتح على بن محمد البستى

أبو الفتح علىّ بن محمد البستىّ يقول اذا مرّ بى يوما ولم أتخذ يدا ... ولم أستفذ علما فما ذاك من عمرى! وقال أيضا أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثمّ فيه لآخرين زكام! وقال أيضا لا ترج شيئا خالصا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث وقال أيضا ولم أر مثل الشكر جنّة غارس ... ولا مثل حسن الصبر جنّة لابس وقال أيضا ولن يشرب السمّ الزّعاف أخو الحجى ... مدلّا بدرياق لديه مجرّب وقال أيضا ما استقامت قناة رأيى إلا ... بعد أن عوّج المشيب قناتى وقال أيضا وطول جمام الماء في مستقرّه ... يغيّره لونا وريحا ومطعما وقال أيضا اذا حيوان كان طعمة ضدّه ... توقّاه كالفأر الذى يتّقى الهرا ولا شك أن المرء طعمة دهره ... فما باله يا ويحه يأمن الدهرا! وقال أيضا لا تحقر المرء إن رأيت به ... دمامة أو رثاثة الحلل فالنحل لا شك في ضؤولته ... يشتار منه الفتى خيّر العسل

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثانى فى أوابد العرب

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثانى فى أوابد العرب ومعنى الأوابد هاهنا: الدواهى؛ وهى مما حمى الله تعالى هذه الملّة الإسلاميّة منها، وحذر المؤمنين عنها. فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) وقال تعالى (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) وقال تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) وكانت للعرب أوابد جعلوها بينهم أحكاما ونسكا وضلالة وعادة ومداواة ودليلا وتفاؤلا وطيرة. فمنها: البحيرة: قالوا: كان أهل الوبر يعطون لآلهتهم من اللحم، وأهل المدر يعطون لها من الحرث، فكانت الناقة اذا أنتجت خمسة أبطن عمدوا الى الخامس ما لم يكن ذكرا فشقّوا أذنها، فتلك: البخيرة؛ فربما اجتمع منها هجمة من البحر فلا يجزّ لها وبر ولا يذكر عليها إن ركبت اسم الله، ولا إن حمل عليها شىء، فكانت ألبانها للرجال دون النساء. الوصيلة: كانت الشاة اذا وضعت سبعة أبطن عمدوا الى السابع، فإن كان ذكرا ذبح، وإن كانت أنثى تركت في الشاء، فان كان ذكرا وأنثى قيل: وصلت أخاها، فحرّما جميعا، وكانت منافعها، ولبن الأنثى منها للرجال دون النساء.

السائبة:

السائبة: كان الرجل يسيّب الشىء من ماله، إما بهيمة أو إنسانا، فتكون حراما أبدا، منافعها للرجال دون النساء. الحامى: كان الفحل اذا أدركت أولاده فصار ولده جدّا قالوا: حمى ظهره، اتركوه فلا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع ماء، ولا مرعى، فاذا ماتت هذه التى جعلوها لآلهتهم، اشترك في أكلها الرجال والنساء، وذلك قوله تعالى (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) قالوا: وكان أهل المدر والحرث اذا حرثوا حرثا، أو غرسوا غرسا، خطّوا في وسطه خطّا، فقسموه بين اثنين فقالوا: مادون هذا الخط: لآلهتهم؛ وما وراءه: لله؛ فإن سقط ممّا جعلوه لآلهتهم شىء فيما جعلوه لله وردّوه، وإن سقط مما جعلوه لله فيما جعلوه لآلهتهم أقرّوه، واذا أرسلوا الماء في الذى لآلهتهم. فانفتح في الذى سموه لله سدّوه، وإن انفتح من ذاك في هذا قالوا: اتركوه فإنه فقير اليه، فأنزل الله عزّوجلّ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) . الأزلام: قالوا: كانوا اذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه. ولا يدرون ما الامر فيه ولم يصحّ لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل؛ نعم لا خير، شرّ بطىء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فيها شىء فكانوا يحيلونها فمن خرج

الميسر:

سهمه فالحقّ له، وللحضر والسفر سهمان؛ فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: اللهم أيّهما كان خيرا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فاذا شكّوا فى نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق؛ فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا فهذه قداح الاستقسام. الميسر: قالوا في الميسر: إن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصّلونها على عشرة أجزاء؛ ثم يؤتى بالحرضة وهو رجل يتألّه عندهم لم يأكل لحما قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قدحا، سبعة منها لها حظّ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، بقدر ما لها من الحظّ إن فازت، وأربعة ينقل بها القداح، لا حظّ لها إن فازت، ولا غرم عليها إن خابت. فأما التى لها الحظّ: فأوّلها الفذّ في صدره حزّ واحد؛ فإن خرج أخذ نصيبا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضّريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس، وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المعلّى وله سبعة. قالوا: والمسبل يسمّى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب. وقد جمع الصاحب بن عبّاد هذه الأسماء ونظمها في أبيات فقال إنّ القداح أمرها عجيب ... الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحلس، ثم النّافس المصيب ... والمصفح المشتهر النجيب، ثم المعلّى حظّه الترغيب ... هاك فقد جاء بها الترتيب،

وأما الأربعة التى ينقل بها القداح فهى: السّفيح، والمنيح، والمضعف، والوغد. قال ابن قتيبة: والمنيح له موضعان: أحدهما لا حظّ له، والثانى له حظّ. فكأته الذى يمنح حظّه، وعلى ذلك دلّ قول عمرو بن قبيصة بأيديهم مقرومة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها قالوا: فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كلّ ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا سبعة، لا يكونون أكثر من ذلك، فإن نقصوا رجلا أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين فيأخذ فوزهما إن فازا، ويغرم عنهما إن خابا ويدعى ذلك: التّميم قال النابغة إنى أتمّم أيسارى وأمنحهم ... من الأيادى وأكسوا الجفنة الأدما فيعمدوا الى القداح؛ فتشدّ مجموعة في قطعة جلد ثم يعمد الى الحرضة فيلفّ على يده اليمنى ثوبا لئلا يجد مس قدح له في صاحبه هوى، فيحابيه في إخراجه، ثم يؤتى بثوب أبيض يدعى. المجول، فيبسط بين يدى الحرضة، ثم يقوم على رأسه رجل يدعى: الرقيب، ويدفع ربابة القداح الى الحرضة وهو محوّل الوجه عنها. والرّبابة: ما يجمع فيها القداح، فيأخذها ويدخل شماله من تحت الثوب، فينكر القداح بشماله، فاذا نهد منها قدح تناوله فدفعه إلى الرقيب. فإن كان مما لا حظّ له ردّ الى الرّبابة، فإن خرج بعده المسبل، أخذ الثلاثة الباقية، وغرم الذين خابوا ثلاثة أنصباء من جزور أخرى، وعلى هذه الحال يفعل بمن فاز ومن خاب، فربما نحروا عدة جزور ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا، وإنما الغرم على الذين خابوا ولا يحلّ

ومنها: نكاح المقت:

للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئا، فإن فاز قدح الرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطار فعلوا ذلك به. ومنها: نكاح المقت: كان الرجل اذا مات قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ) . ومنها: رمى البعرة: كانت المرأة في الجاهليّة اذا توفى عنها زوجها، دخلت حفشا، والحفش: الخصّ، ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا، حتى تمرّ لها سنة ثم تؤتى بدابة: حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به أى تمسح به، فقلّما تفتضّ بشىء إلا مات، ثم تخرج على رأس الحول، فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره ومعنى رميها بالبعرة: أنها ترى أن هذا الفعل هيّن عليها مثل البعرة المرميّة، فنسخ الإسلام ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) . ومنها: ذبح العتائر: قالوا: كان الرجل منهم يأخذ الشاة، وتسمّى العتير والمعتورة فيذبحها ويصبّ دمها على رأس الصنم، وذلك يفعلونه في رجب، والعتر قيل: هو مثل الذبح، وقيل: هو الصنم الذى يعتر له. قال الطرمّاح فخرّ صريعا مثل عاترة النسك أراد بالعاترة: الشاة المعتورة. عقد السّلع والعشر: وقد تقدم ذكره عند ذكر أسماء نيران العرب.

ومنها: حبس البلايا:

ذبح الظبى: كان الرجل ينذر أنه إذا بلغت إبله أو غنمه مبلغا فأذبح عنها كذا، فاذا بلغت ضنّ بها، وعمد الى الظّباء فيصطادها ويذبحها وفاء بالنذر؛ قال الشاعر عنتا باطلا وزورا كما يعتر ... عن حجرة الرّبيض الظباء ومنها: حبس البلايا: كانوا اذا مات الرجل يشدّون ناقته الى قبره، ويعكسون رأسها الى ذنبها، ويغطّون رأسها بولّية وهى البردعة، فإن أفلتت لم تردّ عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها، فلا يحتاج أن يمشى؛ قال أبو زبيد كالبلايا رءوسها في الولايا ... مانحات السّموم حرّ الخدود ومنها: خروج الهامة: زعموا أن الإنسان اذا قتل، ولم يطالب بثأره، خرج من رأسه طائر يسمّى: الهامة، وصاح على قبره: اسقونى! اسقونى! الى أن يطلب بثأره؛ قال ذو الإصبع يا عمرو إن لا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقونى ومنها: إغلاق الظهر: كان الرجل منهم اذا بلغت إبله مائة، عمد الى البعير الذى أمات به، فأغلق ظهره لئلا يركب، ويعلم أن صاحبه حمى ظهره، وإغلاق ظهره أن ينزع سناسن فقرته ويعقر سنامه. ومنها: التعمية والتفقئة: وكان الرجل إذا بلغت إبله ألفا فقأ عين الفحل يقول: إن ذلك يدفع عنها العين والغارة؛ قال الشاعر وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران فإن زادت عن ألف فقأ العين الأخرى، فهو التعمية.

ومنها: بكاء المقتول:

ومنها: بكاء المقتول: كان النساء لا يبكين المقتول إلا أن يدرك بثأره، واذا أدرك بثأره بكينه؛ قال شاعر من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا ينبنه ... يلطمن حرّ الوجه بالأسحار ومنها: رمى السنّ في الشمس: يقولون: إن الغلام اذا ثغر، فرمى سنّه فى عين الشمس بسبّابته وإبهامه وقال: أبدلينى أحسن منها، أمن على أسنانه العوج، والفلج، والثّعل؛ قال طرفة بدّلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر ومنها: خضاب النحر: كانوا اذا أرسلوا الخيل على الصّيد فسبق واحد منها، خضبوا صدره بدم الصّيد علامة له؛ قال الشاعر كأن دماء العاديات بنحره ... عصارة حنّاء بشيب مرجّل ومنها: التصفيق: كانوا اذا ضلّ الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومىء الى إنسان، وصفّق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، الىّ الىّ، عجّل؛ ثم يحرّك الناقة فيهتدى؛ قال الشاعر وأذّن بالتصفيق من ساء ظنّه ... فلم يدر من أىّ اليدين جوابها يعنى: يسوء ظنّه بنفسه اذا ضل. ومنها: جز النواصى. كانوا اذا أسروا رجلا، ومنّوا عليه فأطلقوه، جزّوا ناصيته ووضعوها في الكنانة؛ قال الحطيئة

ومنها: كى السليم عن الجرب:

قدنا سلول فسلّوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس يعنى بالنّبل: الرجال؛ وقالت الخنساء جززنا نواصى فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لا تجزّا ومنها: كىّ السليم عن الجرب: زعموا أن الإبل اذا أصابها العرّ فأخذوا الصحيح وكووه زال العرّ عن السقيم؛ قال النابغة وكلّفتنى ذنب امرىء وتركته ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى. ومنها: ضرب الثور: وزعموا أن الجنّ تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشرب؛ قال الأعشى وإنى وما كلفتمانى وربّكم ... ليعلم من أمسى أعق وأحوبا لكالثور والجنىّ يركب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا ليضربا وقال آخر كذاك الثور يضرب بالهراوى ... اذا ما عافت البقر الظّلماء. ومنها: كعب الأرنب: كانوا يعلّقونه على أنفسهم ويقولون: إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك أن الجنّ تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجنّ لأنها تحيض؛ قال الشاعر ولا ينفع التعشير إن حمّ واقع ... ولا زعرع يغنى ولا كعب أرنب

ومنها: حيض السمرة:

وقيل لزيد بن كثوة: أحقّ ما يقولون: إن من علّق على نفسه كعب أرنب لم يقربه جنّان الحىّ وعمّار الدار؟ فقال: إى والله! ولا شيطان الحماطة، الحماطة: شجرة التين؛ وجان العشرة، وغول العقر، وكلّ الخوافى، إى والله يطفىء نيران السّعالى. ومنها: حيض السّمرة: يزعمون أن الصبى اذا خيف عليه نظرة أو خطفة، فعلّق عليه سنّ ثعلب؛ أو سنّ هرة، أو حيض سمرة، أمن، فإن الجنيّة اذا أرادته لم تقدر عليه، فاذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت كانت عليه نفره ... ثعالب وهرره والحيض حيض السّمره ومنها: الطارف والمطروف: يزعمون أن الرجل اذا طرف عين صاحبه، فهاجت فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات وقال في كلّ مرة: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتى جاءتا من المدينة، بثلاث جئن من المدينة، الى سبع، سكن هيجانها. ومنها: وطء المقاليت: يزعمون أن المرأة المقلات اذا وطئت قتيلا شريفا بقى أولادها، وفي ذلك يقول بشر بن أبى خازم تظلّ مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر ومنها: تعليق الحلى على السليم: كانوا يعلّقون الحلى على الملسوع ويقولون إنه اذا علّق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرّعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم؛ قال النابغة يسهّد في وقت العشاء سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع

ومنها: ذهاب الخدر:

ومنها: ذهاب الخدر: يزعمون أن الرجل اذا خدرت رجله فذكر أحبّ الناس اليه ذهب عنه؛ قال كثيّر اذا خدرت رجلى دعوتك أشتفى ... بذكراك من مذل بها فيهون وقالت امرأة من كلاب اذا خدرت رجلى ذكرت ابن مصعب ... فإن قلت: عبد الله، أجلى فتورها وقيل ذلك لابن عمر وقد خدرت رجله فقال: يا محمّداه. ومنها: الحلأ: زعموا أنه اذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلا على رأسه ويمرّبين بيوت الحىّ، وينادى: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من هاهنا ثمرة، ومن هاهنا كسرة، ومن ثمّ بضعة لحم، فاذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمّى: الحلأ. ومنها: التعشير: يزعمون أن الرجل اذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها، فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشّر كما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها؛ قال عروة ابن الورد لعمرى لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إننى لجزوع! ومنها: عقد الرّتم: كان الرجل منهم اذا أراد سفرا، عمد الى رتم فعقده، والرتم: نبت، فإن رجع ورآه معقودا؛ زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رأه محلولا زعم أنها قد خانته؛ قال الشاعر هل ينفعنك اليوم إن همّت بهم ... كثرة ما توصى وتعقاد الرّتم؟ وقال آخر خانته لما رأت شيبا بمفرقه ... وغرّه حلفها والعقد للرّتم

ومنها: دائرة المهقوع:

ومنها: دائرة المهقوع: وهو الفرس الذى به الدائرة التى تسمّى: الهقعة، يزعمون أنه اذا عرق تحت صاحبه، اغتلمت حليلته وطلبت الرجال؛ قال الشاعر اذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرّا عجانها ومنها: شقّ الرداء والبرقع: زعموا أن المرأة اذا أحبّت رجلا أو أحبّها ثم لم تشقّ عليه رداءه، ويشقّ عليها برقعها، فسد حبّهما، فاذا فعل ذلك دام حبّهما؛ قال الشاعر اذا شق برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتى كلّنا غير لابس فكم قد شققنا من رداء محبّر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس ومنها: نوء السماك: كانوا يكرهونه ويقولون فيه داء الإبل؛ قال الشاعر ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سلما ومنها: النسيء: وقد تقدّم خبره في الفن الأوّل من الكتاب. ومنها: وأد البنات: وقد نهاهم الله عزوجلّ عنه في قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) . وكانوا يقتلوهنّ خشية الإملاق أو من الإملاق؛ وقد قيل: إنهم كانوا يقتلوهنّ خوف العار أو أن يسبين، فمن قتلهم خشية الإملاق ما روى عن صعصعة بن ناجية المجاشعىّ جد الفرزدق: أنه لما أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى كنت أعمل عملا في الجاهليّة، أفينفعنى ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد، فقصدته فاذا رجل جالس بفنائه، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بنى دارم، قال: هما عندى، وقد أحيا الله تعالى

بهما قوما من أهلك من مضر، واذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت؟ فان كان سقبا شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، (معنى قوله سقبا أى ذكرا، وحائلا أى أنثى) فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع الغرثب أولادها؟ قال قلت: احتكم، قال بالناقتين والجمل، قلت: لك ذلك، على أن تبلغنى الحمل وإياها ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لى سنّة على أن أشترى كلّ موءودة بناقتين عشراوين وجمل، فعندى الى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد أنقذتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله تعالى، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه؛ ففى ذلك يقول الفرزدق مفتخرا وجدى الذى منع الوائدين ... وأحيى الوئيد فلم توءد! وممن قتلهم خشية العار: قيس بن عاصم المنقرىّ وكان من وجوه قومه ومن ذوى الأموال فيهم وكان يئد بناته وسبب ذلك: أن النعمان بن المنذر لما منعته بنو تميم الإتاوة التى كانت تؤدّيها له جهّز اليهم أخاه الريّان بن المنذر، ومعه بكر بن وائل فغزاهم، فاستاق النعم وسبى الذرارى، فوفدت اليه بنو تميم فلما رآها أحب البقاء عليها، فقال النعمان ما كان ضرّ تميما لو تعمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس غيلان فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كلّ امرأة اختارت أباها ردّت اليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهن اخترن أباهن إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس لا يولد له ابنة إلا قتلها، فاعتلّ بهذا من وأد وزعم أنه حميّة.

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى فى أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطيرة والفراسة والذكاء،

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى فى أخبار الكهنة ويتصل به الزجر والفأل والطّيرة والفراسة والذكاء، أخبار الكهنة وكانت كهنة العرب لهم أتباع من الشياطين يسترقون السمع ويأتونهم بالأخبار، فيلقونها لمن يتبعهم، ويسألهم عن خفيّات الأمور حتى جاء الإسلام، فمنعت الشياطين من استراق السمع، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) فعند ذلك انقطعت الكهانة فلم يسمع في الإسلام بكاهن، وهذا من معجزات سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزوال الإشكال فى الوحى. فمن أخبار الكهنة، خبر سطيح الكاهن حين ورد عليه ابن أخته عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره خبر ما جاء لأجله، وذلك أنه لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فلما أصبح كسرى تصبّر تشجّعا ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرزبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم وأخبرهم الخبر فبيناهم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غمّا وسأل الموبذان وكان أعلمهم فقال: حادث يكون من قبل العرب، فكتب كسرى الى النّعمان ابن المنذر: أن وجّه الىّ رجلا عالما بما أريد أن

أسأله عنه فوجّه اليه عبد المسيح بن حسّان بن نفيلة الغسّانىّ فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرنى الملك فإن كان عندى منه علم، وإلّا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه فقال: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، فأرسله كسرى اليه فورد على سطيح وقد أشفى على الموت فسلّم عليه وحيّاه فلم يحر سطيح جوابا فأنشد يقول أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فازلمّ به شأو العنن؟ يا فاصل الخطّة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه الغضن أتاك شيخ الحىّ من آل سنن ... وأمّه من آل ذئب بن حجن أزرق ممهى الناب صرّار الأذن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن رسول قيل العجم يسرى بالوسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن يجوب في الأرض على ذات شجن ... ترفعنى وجنا وتهوى بى وجن حتى أتى عارى الجآجى والقطن ... تلفّه في الريح بوغاء الدّمن كأنما حثحث من حضنى ثكن ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى الى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانشرت في بلاد فارس، يا عبد المسيح اذا كثرت التلاوه، وبعث صاحب الهراوه، وفاض وادى السماوه، وغاصت بحيرة ساوه، وخمدت نار فارس؛ فليس الشام لسطيح شاما، ولا بابل للفرس مقاما، يملك فيهم ملوك وملكات، بعدد الشّرفات، وكلّ ما هو آت آت؛ ثم قضى سطيح لوقته، فثار عبد المسيح الى رحله وهو يقول

ومن أخبارهم:

شمّر فإنك ماضى العزم شمّير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير إن كان ملك بنى ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربّما ربّما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير منهم أخو الصّرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وشابور والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور وهم بنو الأمّ أمّا إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشرّ محذور فلما قصّ الخبر على كسرى قال: الى أن يملك منّا أربعة عشر تكون أمور؛ فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون الى زمن عثمان رضى الله عنه. ومن أخبارهم: أن سعدى بنت كريز بن ربيعة كانت قد تطرّقت وتكهّنت وهى خالة عثمان بن عفّان رضى الله عنه، روى عنه أنه قال: لما زوّج النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابنته رقيّة من عتبة بن أبى لهب وكانت ذات جمال رائع، دخلتنى الحسرة أو كالحسرة أن لا أكون سبقت اليها ثم لم ألبث أن انصرفت الى منزلى فألفيت خالتى فلما رأتنى قالت أبشر وحيّيت ثلاثا تترى ... ثمّ ثلاثا وثلاثا أخرى ثمّ بأخرى كى تتمّ عشرا ... أتاك خير ووقيت شرّا نكحت والله حصانا زهرا ... وأنت بكر ولقيت بكرا وافيتها بنت نفيس قدرا ... بنت نبىّ قد أشاد ذكرا قال عثمان: فعجبت من قولها، وقلت: مادا تقولين؟ فقالت عثمان يا ابن أخت يا عثمان ... لك الجمال ولك البيان

ومنها

هذا نبىّ معه البرهان ... أرسله بحقّه الدّيّان وجاءه التنزيل والفرقان ... فاتبعه لا تحتالك الأوثان فقلت: يا خالة! إنك لتذكرين ما قد وقع ذكره في بلدتنا فأثبتيه لى، فقالت: إن محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو الى الله، مصباحه مصباح، وقوله صلاح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطّاح، ذلّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلّت الصفاح، ومدّت الرماح، قال: ثم قامت فانصرفت ووقع كلامها في قلبى، وجعلت أفكر فيه، وذكر بعد ذلك إسلامه وتزويجه رقية؛ فكان يقال: أنهما أحسن زوجين اتفاقا وجمالا. ومنها أن هندا بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قريش، وكان له بيت الضيافة، خارجا من البيوت، تغشاه الناس من غير إذن؛ فخلا البيت ذات يوم واضطجع هو وهند فيه، ثم نهض لبعض حاجته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها ولّى هاربا وأبصره الفاكه فأقبل اليها فضربها برجله وقال لها: من هذا الذى خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا، ولا انتبهت حتى أنبهتنى! فقال لها: ارجعى الى أبيك، وتكلّم النتاء فيها، فقال لها أبوها: يا بنيّة! إن الناس قد أكثروا فيك، فأنبئينى نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته الى بعض الكهّان، فقالت: لا والله! ما هو علىّ بصادق؛ فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتى بأمر عظيم، فحاكمنى الى بعض كهّان اليمن؛ فخرج للفاكه في جماعة من بنى مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بنى عبد مناف، ومعهم هند ونسوة، فلما شارفوا البلاد، وقالوا: غدا نرد على الرجل، تنكّرت حال هند، فقال لها عتبة: إنى أرى

ومنها.

ما بك من تنكّر الحال، وما ذاك إلّا لمكروه عندك، فهلّا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟ فقالت: لا والله! ولكنّى أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب ولا آمنه أن يسمنى ميسما يكون علىّ سبة فقال: إنى سوف أختبره لك، فصفّر لفرسه حتى أدلى ثمّ أدخل في إحليله حبّة حنطة وأوكأ عليها بسير، فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحرلهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئا أختبرك به، فانظر ما هو؟ فقال ثمره، فى كمره. قال إنّى أريد أبين من هذا، قال: حبّة برّ، فى إحليل مهر، قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهنّ فيضرب بيده على كتفها ويقول لها، انهضى، حتى دنا من هند فقال لها: انهضى غير رسحاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا اسمه معاوية؛ فنهض اليها الفاكه فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده وقالت: اليك عنّى فو الله لأحرصنّ أن يكون من غيرك؛ فتزوّجها أبو سفيان. ومنها. أن أمية بن عبد شمس دعا هاشم بن عبد مناف الى المنافرة، فقال هاشم: إنّى أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، ننحرها بمكة أو الجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضى أميّة وجعلا بينهما الخزاعىّ الكاهن وخرجا اليه ومعهما جماعة من قومهما فقالوا: نخبأ له خبيئا فان أصابه تحاكمنا اليه، وإن لم يصبه تحاكمنا الى غيره، فوجدا أبا همهمة وكان معهم أطباق جمجمة، فأمسكها معه ثم أتوا الكاهن فأناخوا ببابه وكان منزله بعسفان: فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه. قال: أحلف بالضّوء والظلمه، وما بتهامة من تهمه، وما بنجد من أكمه، لقد خبأتم لى أطباق جمجمه، مع الفلندح أبى همهمه؛ فقالوا: صدقت احكم بين هاشم بن عبد مناف وبين أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أيّهما أشرف بيتا ونفسا، قال: والقمر الباهر،

ومنها:

والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أميّة الى المآثر، أوّلا منه وآخر؛ فأخذ هاشم لإبل ونحرها وأطعمها من حضر وخرج أميّة الى الشام فأقام بها عشر سنين؛ فيقال: إنها أوّل عداوة وقعت بين بنى هاشم وبين بنى أميّة. ومنها: أن بنى كلاب وبنى رباب من بنى نضر خاصموا عبد المطّلب في مال قريب من الطائف فقال عبد المطّلب: المال مالى فسلونى أعطكم، قالوا: لا، قال: فاختاروا حاكما قالوا: ربيعة بن حذار الأسدىّ فتراصوا به وعقلوا مائة ناقة في الوادى وقالوا: الإبل والمال لمن حكم له، وخرجوا وخرج مع عبد المطّلب حرب بن أميّة فلما نزلوا بربيعة بعث اليهم بجزائر فنحرها عبد المطّلب، وأمر فصنع جزرا وأطعم من أتاه، ونحر الكلابيّون والنضريّون ووشقوا فقيل لربيعة فقال: إنّ عبد المطلب امرؤ من ولد خزيمة فمتى يملق يصله بنو عمّه وأرسل اليهم أن اخبأوا لى خبيئا فقال عبد المطّلب: قد خبأت كلبا اسمه سوّار في عنقه قلادة، فى خرزة مزادة، وضممتها بعين جرادة، فقال الآخرون: قد رضينا ما خبأت وأرسلوا الى ربيعة فقال: خبأثمّ خبيئا حيّا قالوا: زد، قال: ذو برثن أغبر، وبطن أحمر، وظهر أنمر؛ قالوا: قربت، قال: سما فسطع، ثمّ هبط فلطع، فترك الأرض بلقع، قالوا: قربت فطبّق قال: عين جرادة، فى خرزة مزادة، فى عنق سوّار ذى القلادة، قالوا: زه زه أصبت فاحكم لأشدّنا طعانا، وأوسعنا مكانا، قال عبد المطلب: احكم لأولانا بالخيرات، وأبعدنا عن السو آت وأكرمنا أمهات، فقال ربيعة: والغسق والشفق، والخلق المتّفق، ما لبنى كلاب وبنى رباب من حقّ، فانصرف يا عبد المطّلب على الصواب، ولك فصل الخطاب؛ فوهب عبد المطّلب المال لحرب بن أميّة.

الزجر

وأخبار الكهنة كثيرة نذكر منها إن شاء الله تعالى في السيرة النبويّة جملة تقف عليها فى المبشرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في السفر الرابع عشر من كتاب الأصل. الزّجر قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في زجر الطير: إنّ العلماء بهذا الفنّ قالوا: اذا خرجت من منزلك تطلب حاجة، أو تخطب امرأة، فنعب غراب عن يمينك وعن يسارك أو سنح أو برح فامض فإنّك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى فإن تعب أمامك أو فوقك فارجع ففيها تأخير. وإن خرجت تريد خصومة فنعب فوق رأسك فامض فإنك مدرك حاجتك إن شاء الله تعالى. فإن خرجت تطلب دابّة فنعب عن يمينك أو يسارك على حائط مرتفع، فامض لحاجتك، فإن نعب أمامك فارجع. وإن خرجت تطلب مالا ضلّ عنك أو سرق، فنعب غراب على شجرة يابسة فلا تطلبه فقد استهلك وقد يأتيك بعضه، فإن نعب على جدار جديد أو شجرة خضراء فإنك تصيب مالك إن شاء الله تعالى. فإن خرجت تريد الضّالّ فنعب من ورائك، فارجع فليس لك في ذلك خيرة، وإن نعب عن يسارك فإنى خائف على نفسك إلا أن يشاء الله. فإن خرجت تريد الصيد فنعب من فوقك فارجع فإن نعب أمامك فامض فإنّك تدرك خيرا.

وإن خرجت تطلب سلطانا في طلب مال أو حاجة فنعب عن يمينك ثمّ طار ثمّ نعب أدركت منه طلبتك إن شاء الله تعالى. وإن خرجت تريد شراء شىء فنعب عن يمينك فإنه صالح، وإن نعب عن يسارك فلا خير فيه. وإن خرجت من منزلك فرأيت غرابا يمسح منقاره على الأرض فإنك تصيب أو تأتيك هديّة من مكان بعيد. وإن خرجت تطلب حاجة فنعب عن يمينك ثم قطع الطريق الى يسارك فنعب فإنك تدرك حاجتك عجلا إن شاء الله تعالى! فإن نعب فوق رأسك فارجع فإنى أخاف عليك بعض أعدائك. وإن خرجت تريد سلطانا فنعب غراب وهو مستقبل الشرق فامكث يومك ذلك فإنى أخاف عليك. فإن خرجت فرأيت غرابا ينفض ريشه؛ فإنه يأتيك خير عاجل. وإن خرجت تريد أرضا بعيدة فرأيت غرابا ينتفض فامض لحاجتك؛ فإنك تدرك أملك إن شاء الله تعالى. وإن خرجت تريد السلطان فوقع غراب على شىء فنعب ثلاث مرّات فامض لحاجتك؛ فهو خير عاجل وتيسير للحوائج إن شاء الله تعالى. وإن خرجت فرأيت غرابا ناشرا جناحيه يريد الطيران فامض، فإن نعب فارجع يومك. وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك فامض، وإن نعب فأجابه الآخر فهو جيّد صالح.

وإن خرجت تريد خصومة فنعب من فوقك أو شخّ فامض؛ فإنك تلقى في يومك ذلك ما تريد إن شاء الله تعالى. وإن خرج جماعة وفيهم رجل شريف فشخّ غراب على رأس الشريف، ثم أتوا ملكا فإنهم يصيبون خيرا إن شاء الله تعالى. وإن خرج يطلب حاجة الى سلطان فواجهه غراب فليمكث يومه ذلك ولا يمض فى تلك الحاجة، وإن نعب عن يمينه فقطع الطريق ثمّ وقع فهو يدرك حاجته. وإن خرج يريد السلطان أو بعث اليه وهو لا يدرى فرأى غرابا يطير قليلا؛ ثم يقع فيلقط من الأرض شيئا فليمض فإنّه يصيب سلطانا ويلى قوما، وإن رأى غرابا يبحث فى الأرض فإنّ بعض أهله يموت سريعا، وإن رآه ينقر في الأرض فذلك ملك. وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ وقع ثلاث مرات وهو ساكت لا ينعب، فذلك غمّ يصيبه إلا أن يدفع الله عزّوجلّ عنه. وإن خرج فرآه ينتفض ثم ينعب ثمّ يطير فذلك سلطان يناله ويتزوج؛ والعلم عند الله. وإن خرج فرأى غرابا يطير ثمّ يقع فذاك خير وسرور يأتيه. وإن خرج فرأى غرابا يطير نحو عين الشمس فذاك همّ يصيبه شديد. وإن خرج فلقى بقرا فليرجع فإن لقى من البغال شيئا لم يركب فليرجع والمركوبة صالحة لا بأس بها. وإن خرج يعود مريضا فنهق حمار عن يمينه أو عن يساره فالمريض صالح، وإن نهق خلفه فقد اشتدّ بالمريض مرضه وأنا خائف عليه.

وإن خرج يريد حاجة فاستقبله غلام يبكى وهو متلطّخ بعذرة وهو ذاهب والغلام راجع فليمض فإنّ حاجته تقضى، وإن استقبله غلام يعدو ويتلهّف فإن حاجته تعسر وتطول. وإن خرج في حاجته فرأى ورشانا يطير، يرتفع ويهبط فليمض فإن ذلك أنجح لحاجته، وإن رآه يطير مستعليا فليرجع، وإن رأى حمامة مسرولة تطير من فوق رأسه وتدور فإنّ حاجته مقضيّة بعد بطء ومطل، وإن رأى حمامة هابطة واقعة تقع وتطير فإنّ ذلك خير صالح وسرور إن شاء الله تعالى. وإن خرج من منزله فاستقبلته جنازة وجماعة فليرجع يومه ذلك ولا يعود لحاجته فإنّها غير مقضية، فإن كانت الجنازة قد جاوزته مدبرة فليذهب لحاجته؛ فإن ذلك صالح. وإن رأى نسوة الى المقابر وهنّ مقبلات نحوه فليقعد حتى يمضين عنه فإنّه أنجح لحاجته وإن رآهن مدبرات فليمض في حاجته فإنها مقضيّة. وإن خرج من داره قرأى في أرضها نملا كثيرا وفي حائطها فليمض لحاجته فذلك خير وسرور يناله. فإن رأى ذبابا كثيرا مجتمعا على حائط وهو يسمع لهنّ دبيبا فذاك مرض يصيبه في بدنه أو يصيب بعض أهله. ومن رأى ذرّا كثيرا وقردانا فذلك فرح ورزق عاجل يناله إن شاء الله تعالى. ومن رأى دجاجتين تقتتلان بنقر بعضهما فذاك يدل على أنّه يقع بينه وبين امرأته كلام وغضب. وإن خرج من منزله فرأى ورشانين يقتتلان في جوّ السماء رافعين وهابطين فيأتيه ما يسرّ به. وإن رأى كلبة والكلاب تطوف حولها ويتبع بعضها بعضا فإن كان عليه دين قضاه الله عنه وإن كانت له حاجة مهمة قضيت في وجهه ذلك وإن أراد شيئا يسّره الله له وإن أراد سفرا تهيّأ له ورجع سالما.

وإن خرج فرأى على رجل قربة ثمّ انشقت فليرجع الى منزله ويتعوّذ بالله من شرّ ذلك اليوم فإنّه مكروه جدّا. وإن خرج فرأى رجلا وهو يريد أن يملأ قربة فليمض في حاجته فإنه فرح وسرور وخير يناله عاجلا إن شاء الله تعالى. وإن خرج فرأى حمارا أو بغلا عليه راوية مملوءة فشأنه غير صالح وهو مكروه، وإن كان صاحب الراوية يريد أن يملأها فليمض فحاجته مقضية إن شاء الله تعالى. وإن خرج من منزله فرأى جملا عليه حطب أو بعض منافع الناس فهو من علامات النجاح في الخصومة والظفر العاجل إن شاء الله تعالى، فإن رآه غير محمول عليه وعليه صاحبه فإنّ ذلك خير يأتيه وينعى اليه بعض أهله من مكان بعيد. قال: وأرجو أن يدفع الله، فإن رآه مناخا يرغو فإن ذلك خير يأتيه ويخبر عن شىء ممّا يحبّ من تزويج أو غنيمة وهو صالح. وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد ورأى من يطلبه فإن ذلك نجاة من عدوّه وفرح قريب إن شاء الله تعالى. وإن خرج فرأى بعيرا قد شرد فاجتمع عليه الناس فإن ذلك يدلّ على ظفره بعدوّه وانتقامه منه فليحمد الله على ما رأى ويشكره. ومن خرج من منزله فرأى قردا يتقلّب والناس حوله فليمض لحاجته فإنّها مقضية. وإن خرج فرأى القرد يلعب والناس مجتمعون عليه وقد صار لعبه الى أن يتقلّب ظهرا لبطن في الأرض فليرجع من وجهه ذلك فليس بموفّق وهو مكروه.

وإن خرج من منزله فرأى غلمانا يلعبون بالأكرة ويتسابقون فليمض في وجهه ذلك فإنّه يصيب رفعة وشرفا وتمكنا من السلطان ويصيب مالا عظيما. وإن خرج فرآهم يلعبون بالصوالجة فهو رفعة ويدلّ على مال ردىء حرام يصيبه من سلطان ويركب أمرا عظيما من عمله فليتق الله. وإن رأى جوارى يلعبن بالطرق كأنهنّ يزففن عروسا فهو خير وسرور ودخول فى أمر شريف وإنّه يربح ربحا عظيما وهو خير الزجر. وإن خرج فرأى عصفورين يلقطان الحبّ فهو صالح، وإن رآهما يتسافدان فهو خير يناله في يومه، وإن رآهما مدبرين فليمض لحاجته فإنها مقضية إن شاء الله تعالى. وإن خرج فتعلق بثوبه شىء فليرجع؛ فإنى أكره له أن يذهب في حاجته تلك. وإن خرج فرأى حدأة تسفد حدأة وهى تصيح فهو نجاح فليمض لحاجته. وإن خرج فعثر فلا يذهبن في تلك الحاجة وليؤخّرها. ومن الزجر ما مخرجه مخرج الكهانة. فمن ذلك ما حكى أنّ أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ بينا هو يشرب مع إخوان له فى قصر عيلان بالطائف إذ سقط غراب على شرفة القصر فنعب نعبة فقال أميّة: بفيك الكثكث أى التراب فقال له أصحابه: ما يقول؟ قال يقول: إنّك اذا شربت الكأس التى بيدك متّ، ثم نعب نعبة أخرى، فقال أميّة كمقالته الأولى فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: يزعم أنّه يقع على هذه المزبلة في أسفل القصر فيستثير عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت، فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجى فمات، فأنكر أميّة ووضع الكأس من يده وتغيّر لونه فقال أصحابه: ما أكثر ما سمعنا

مثل هذا وكان باطلا وألحّوا عليه حتى شرب الكأس فمال فأغمى عليه ثم أفاق فقال: لا برىء فأعتذر، ولا قوىّ فأنتصر، ثم خرجت نفسه. وزعموا أن رجلا من كعب خرج في جماعة ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه فعطش فأناخ ليشرب فاذا غراب ينعب فأثار راحلته، ثم سار فلما أظهر أناخ ليشرب، فنعب الغراب وتمرّغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فاذا فيه أسود ضخم فقتله، ثم سار فاذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة فصاح به فوقع على صخرة فانتهى اليها فأثار كنزا، فلما رجع الى أبيه قال له: إيه ما صنعت؟ قال: سرت صدر يومى، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب، قال أثرها وإلا فلست يا بنى! قال: أثرتها، ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرّغ في التراب قال: اضرب السقاء وإلا لست يا بنى! قال: فعلت، فاذا أسود ضخم قال: ثم مه! قال: ثم رأيت غرابا على سدرة قال: أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على سلمة قال: أطره وإلا فلست يا بنى! قال: فعلت فوقع على صخرة قال: أحد يا بنىّ! فأحداه ومن الزجر: ما يروى أن كسرى أبرويز بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم حين بعث زاجرا ومصوّرا وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصوّر: إئتنى بصورته، فلما عاد اليه أعطاه المصوّر صورته صلّى الله عليه وسلم فوضعها كسرى على وسادته، وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: لم أر ما أزجره حتى الآن وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك. وقيل: إن كثيّرا تعشّق امرأة من خزاعة يقال لها: أمّ الحويرث، فشبّب بها فكرهت أن يفضحها كما فضح عزّة فقالت له: إنّك رجل فقير لا مال لك فابتغ مالا،

ثم تعال فاخطبنى كما يخطب الكرام قال: فاحلفى لى ووثّقى أنّك لا تتروّجين حتى أقدم عليك فحلفت ووثقت له فمدح عبد الرحمن بن الأزدىّ وخرج اليه؛ فلقى ظباء سوانح، ولقى غرابا يفحص التراب بوجهه فتطيّر من ذلك حتى قدم على حىّ من لهب فقال: أيّكم يزجر؟ قالوا: كلّنا! فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك! قالوا: ذلك الشيخ المنحنى الصلب، فأتاه فقصّ عليه القصّة فكره ذلك له وقال: قد ماتت أو تزوّجت رجلا من بنى عمّها فقال كثيّر تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين الى لهب! فيممت شيخا منهم ذا نحالة ... بصيرا يزجر الطير منحنى الصّلب! فقلت له: ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفحص الأرض بالترب؟ فقال: جرى الطير السنيح ببينها ... ونادى غراب بالفراق وبالسلب فإن لا تكن ماتت فقد حال دونها ... سؤال خليل باطن من بنى كعب قال: ثم مدح الرجل الأزدىّ فأصاب منه خيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوّجت رجلا من بنى عمّها فأخذه الهلاس فكشح جنباه بالنار؛ فلمّا اندمل من علّته ووضع يده على ظهره فاذا هو برقمتين فقال: ما هذا؟ قالوا: أخذك الهلاس وزعم الأطباء أنّه لا علاج لك إلا بالكشح بالنار فكشحت بها فأنشأ يقول عفى الله عن أمّ الحويرث ذنبها ... علام تعنّينى وتكمى دوائيا؟ ولو آذنونى قبل أن يرقموا بها ... لقلت لهم: أمّ الحويرث دائيا وحكى أن صاحب الروم بعث الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم رسولا وقال له: انظر أين تراه جالسا، ومن الى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة؛ فقدم

ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على نشز واضعا قدميه في الماء، وعن يمينه علىّ عليه السلام؛ فلما رآه صلّى الله عليه وسلم قال: «تحوّل فانظر ما أمرت به» فنظر ثم رجع الى صاحبه فأخبره الخبر فقال: ليعلونّ أمره وليملكنّ ما تحت قدمى وقال: بالنشز العلوّ وبالماء الحياة. ومن الزجر: ما روى عن أبى ذؤيب الهذلىّ قال: إنّه بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليل فأوجس أهل الحىّ خيفة عليه فبتّ بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها حتى اذا قرب السّحر غفوت فهتف لى هاتف يقول خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام قبض النبىّ محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتّسجام قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا فنظرت الى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قد مات أو هو ميّت من علّته، فركبت ناقتى وسرت حتى أصبحت فطلبت شيئا أزجره، فعنّ لى شيهم قد أرم على صلّ وهو يتلوّى عليه والشيهم يقضمه حتى أكله فزجرت ذلك شيئا مهمّا فقلت: تلوّى الصّلّ: انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أوّلت أكل الشيهم إياه: غلبة القائم على الأمر فحثثت ناقتى حتى اذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرنى بوفاته. ونعب غراب سانحا بمثل ذلك فتعوّذت من شرّ ما عنّ لى في طريقى، ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلّوا جميعا بالإحرام فقلت: مه! قالوا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجئت المسجد فأصبته خاليا فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجد وقد

الفأل والطيرة

خلا به أهله فقلت: أين الناس؟ فقيل: فى سقيفة بنى ساعدة صاروا الى الأنصار فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما، وأبا عبيدة، وسالما، وجماعة من قريش ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسّان بن ثابت، وكعب في ملإ منهم فأويت الى الأنصار فتكلموا فأكثروا وتكلّم أبو بكر فلله من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلّم بكلام لم يسمعه سامع إلّا انقاد له ومال اليه، وتكلم بعده عمر رضى الله عنه بكلام دون كلامه، ومدّ يده فبايعه، ورجع أبو بكر رضى الله عنه ورجعت معه، فشهدت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه قال: ولقد بايع الناس من أبى بكر رجلا حلّ قداماها ولم يركب ذنابابها وانصرف أبو ذؤيب الى باديته وثبت على إسلامه. ومنه: ما روى عن مصعب بن عبد الله الزّبيرىّ أنه حدّث عن رجل قال: شردت لنا إبل فأتيت حليسا الأسدىّ فسألته عنها فقال لبنت له: خطّى، فخطّت ونظرت ثمّ انقبضت وقامت منصرفة فنظر حليس في خطّها فضحك وقال: أتدرى لم قامت؟ قلت: لا، قال: رأت أنك تجد إبلك وأنّك تتزوّجها فاستحيت فقامت، فخرجت فأصبت إبلى ثمّ تزوجتها بعد. الفأل والطّيرة حكى أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة قال سعيد لابنه يحيى: أىّ شىء تجلّه؟ قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمّه كانت أمة فقال سعيد: إن صدق الطير ليكوننّ أكثركم ولدا فكان كذلك.

لما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيّوم قوم من العرب فسأل رجلا: ما اسمك؟ فقال منصور بن سعد: وأنا من سعد العشيرة، فتبسم تفاؤلا به وتيمّنا واستصحبه فظفر بمروان تلك الليلة. ومن الطّيرة: ما حكى عن بعضهم قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فصاح به رجل من خلفه: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفه: دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين، ولا يقف هذا الموقف أبدا! فالتفت اليه فاذا هو اللهبىّ؛ فقتل عمر قبل الحول. وحكى أنّ عمر رضى الله عنه خرج الى حرّة واقم فلقى رجلا من جهينة فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة! قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة! قال: ثم ممن؟ قال: من بنى ضرام! قال: وأين منزلك؟ قال: بحرّة ليلى! قال: وأين تريد؟ قال: لظى وهو موضع! فقال عمر: أدرك أهلك، فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا، قال: فأدركهم، وقد أحاطت بهم النار. وقال المداينىّ: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من الصعيد يقال لها: شكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال طالب بن مدرك! فقال: أوّه! ما أرانى راجعا الى الفسطاط أبدا؛ ومات في تلك القرية. وقيل: بينا مروان بن محمد في إيوان له ينفّذ الأمور، فانصدعت زجاجة الأموال، فوقعت الشمس منها على منكب مروان وكان هناك عياف فقال: صدع الزّجاج

أمر منكر على أمير المؤمنين، ثم قام فاتّبعه ثوبان مولى مروان. فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال. قلت: صدع الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندى واضح البرهان! قال: فما ورد لذلك شهران حتّى ورد خبر أبى مسلم. وقال إبراهيم بن المهدىّ: أرسل الىّ محمد الأمين في ليلة مقمرة من ليالى الصيف فقال: يا عمّى! إن الحرب بينى وبين طاهر قد سكنت فصر الىّ فإنى اليك مشتاق فجئته وقد بسط له على سطح، وعنده سليمان بن جعفر، وعليه كساء روذبارىّ، وقلنسوة طويلة، وجواريه بين يديه وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنّينى فقد سررت بعمومتى فاندفعت تغنّيه هم قتلوه كى يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه! بنى هاشم كيف التّواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه؟ هكذا غنته، وإنما هو وعند علىّ سيعه ونجائبه فغضب وتطيّر، وقال: ما قصّتك؟ ويحك! غنينى ما يسرّنى، فغنّت هذا مقام مطرّد ... هدمت منازله ودوره! فازداد تطيّرا، ثم قال: ويحك! انتهى وغنّى غير هذا فغنّت كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم فقال لها: قومى الى لعنة الله، فوثبت؛ وكان بين يديه قدح بلّور وكان لحبه إيّاه يسمّيه محمدا باسمه، فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصوانى فانكسر،

فأقبل علىّ وقال: أرى والله يا عمّ أن هذا آخر أمرنا، فقلت: كلّا! بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرّك، قال: ودجلة والله هادئة ما فيها صوت مجداف، ولا أحد يتحرّك؛ فسمعت هاتفا يهتف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) قال فقال لى: سمعت يا عمّ؟ فقلت: وما هو؟ وقد والله سمعته، فاذا الصوت قد عاد فقال: انصرف بيتك الله بخير فمحال أن لا تكون الآن قد سمعت ما سمعت، فانصرفت وكان آخر العهد به. وشبيه بهذا ما حكى عن علّوية المغنىّ قال: كنت مع المأمون لما خرج الى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بنى أميّة، ويتتبّع آثارهم، فدخلنا صحنا من صحونهم، مفروشا بالرخام الأخضر، وفيه بركة ماء فيها سمك، وأمامها بستان، فاستحسن ذلك وعزم على الصّبوح ودعا بالطعام والشراب، وأقبل علىّ فقال: غنّنى ونشّطنى، فكأنّ الله تعالى أنسانى الغناء كله إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس الرّقيّات لو كان حولى بنو أمية لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا من كلّ قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق قال: فنظر الىّ مغضبا، وقال: عليك وعلى بنى أميّة لعنة الله، ويلك! أقلت لك سرّنى أو سؤنى؟ ألم يكن لك وقت تذكر فيه بنى أميّة إلا هذا الوقت تعرّض بى؟ فتجلّدت عليه وعلمت أنّى قد أخطأت، فقلت: أتلومنى على أن أذكر بنى أميّة؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتى غلام مملوك له، ويملك ثلاثمائة ألف دينار [وهبوها له سوى الخيل والضياع والرّقيق «1» ] : وأنا عندكم أموت

جوعا، فقال: أو لم يكن لك شىء تذكّرنى به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرنى حين ذكرتهم، فقال: أعرض وتنبّه على إرادتى وغنّ فأنسانى الله كلّ شىء أحسنه إلا هذا الصوت الحين ساق الى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا فرمانى بالقدح فأخطأنى وانكسر القدح، وقال: قم الى لعنة الله وحرّ سقر! فركب، وكانت تلك الحال آخر عهدى به حتى مرض ومات بعد ذلك بقليل. ومثل ذلك ما حكى في قتلة المتوكل، وذلك أنه جلس يوم الأربعاء لأيام خلون من شوّال سنة تسع وأربعين ومائتين وقال للفتح بن خاقان: أحبّ أن نصطبح؛ فأحضر المغنّين وفيهم أحمد بن أبى العلاء فقال له: غنّ فغنّى يا عاذلىّ من الملام دعانى ... إنّ البليّة فوق ما تصفان زعمت بثينة أنّ فرقتنا غدا ... لا مرحبا بغد فقد أبكانى فتطّير المتوكّل منه، وقال: أحمد! كيف وقع لك أن تغنّى بهذا الشعر، قال: فشغل قلب ابن أبى العلاء لما أنكر عليه، ثم ذهب ليغنّى غيره، فغنّاه ثانية، فقال المتوكّل: نسأل الله خير هذا اليوم، وصرف المغنّين وقام لصلاة الظهر، فلمّا فرغ قال له الفتح: يا سيّدى أتمم يومك، فدعا بالشراب وقال: أين ابن أبى العلاء؟ فأحضر فقال له: غنّ، فأغمى عليه فأعاد البيتين فاغتمّ المتوكّل غاية الغمّ وقتل في الليلة الآتية من ذلك اليوم. قال القاضى أبو على الجوينىّ: حضرت بين يدى سيف الدولة أبى الحسن صدقة ابن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذى مات فيه

وقد أتى بديوان أبى نصر بن نباته فتصفّحه فوقع بيده وقال: يعزّى سيف الدولة أبا الحسن ويرثى ابنه أبا المكارم محمد، فأخذت المجلّد وأطبقته فعاد فتصفّحه فخرج ذلك، ومن القصيدة التى عناها قوله فإنّ بميّا فارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا تضمّنها أيدى فتى ثكلت به ... غداة ثوى أمالنا والأمانيا ولمّا عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا أباه نستفيد التعازيا حكى: أنّ أبا الشمقمق شخص مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلّد الموصل، فلما أراد الدخول اليها اندقّ لواؤه في أوّل درب منها، فتطيّر من ذلك وعظم عليه، فقال أبو الشمقمق ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذّلا لكنّ هذا الرمح ضعّف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا فسرّى عن خالد، وكتب صاحب البريد بذلك الى المأمون، فزاده ديار ربيعة وكتب اليه: هذا التضعيف الموصل متن رمحك، فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم. وقيل: لمّا توجّه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجلقىّ، وقع على الشمسية التى ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألحّ، كلما نفّر عاد، فتفاعل الناس له بذلك وسرّ هو به، فقال إنسان يعرف بملكدار: هذا جارح ومنقبض الكفّ وليس فيه بشرى بل ضدّها، وأقبل السلطان في جيشه فكانت الكسرة وقبض على المسترشد وقتل من بعد.

الفراسة والذكاء

خرج بعض ملوك الفرس الى الصيد، فكان أوّل من استقبله أعور فأمر بضربه وحبسه، ثم خرج وتصيّد صيدا كبيرا، فلمّا عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة، فقال الأعور: لا حاجة لى في صلتك، ولكن ائذن لى في الكلام، فقال: تكلّم! قال: لقيتنى فضربتنى وحبستنى، ولقيتك فصدت وسلمت فأيّنا أشأم؟ فضحك وخلاه. الفراسة والذكاء يقولون: عظم الجبين يدلّ على البله، وعرضه يدلّ على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، والحاجبان اذا اتصلا على استقامة دلّا على تخنيث واسترخاء، واذا تزججا نحو الصّدغين دلّا على طنز واستهزاء، والعين اذا كانت صغيرة الموق دلّت على سوء دخلة، وخبث شمائل، واذا وقع الحاجب على العين دلّ على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والطائرة على حدّة، والتى يطول تحديقها على قحة وحمق، والتى تكسر طرفها على خفّة وطيش، والشّعر على الأذن يدلّ على جودة السمع، والأذن الكبيرة المنتصبة تدلّ على حمق وهذيان. وحكى: أن أبا موسى الأشعرىّ وجّه السائب بن الأقرع في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الى مهرجا بعد أن فتحها ودخل دار الهرمزان بعد أن جمع السبى والغنائم، ورأى في بعض مجالس الدار تصاوير فيها مثال ظبى وهو مشير بإحدى يديه الى الأرض، فقال السائب: لأمر ما صوّر هذا الظبى هكذا، إن له لشأنا، فأمر بحفر الموضع الذى الإشارة اليه فأفضى الى موضع فيه حوض من رخام، فيه سفط جوهر فأخذه السائب وخرج به الى عمر رضى الله عنه.

وقيل: كان المعتضد يوما جالسا في بيت يبنى له وهو يشاهد الصّنّاع فرأى في جملتهم عبدا أسود منكر الخلق، شديد المرح، يصعد على السلاليم مرقاتين مرقاتين ويحمل ضعف ما يحمل غيره، فأنكر أمره، وأحضره وسأله عن سبب ذلك، فلجلج فقال لوزيره: قد خمّنت في هذا نخمينا ما أحسبه باطلا، إمّا أن يكون معه دنانير قد ظفر بها من غير وجهها، أو لصّا يتستّر بالعمل، ثم قال: علىّ بالأسود فأحضره وضربه، وحلف إن لم يصدقه ليضربنّ عنقه، فقال الأسود: ولى الأمان يا أمير المؤمنين، قال: نعم! إلّا ما كان من حدّ، فظن أنه قد أمّنه، فقال: كنت أعمل في أتّون الآجرّ، منذ سنين، فأنا منذ شهور جالس إذ مرّ بى رجل في وسطه كيس فتبعته وهو لا يعرف مكانى فحلّ الهميان وأخرج منه دينارا فتأمّلته فاذا كله دنانير فكتّفته وسددت فاه وأخذت الهميان وحملته على كتفى وطرحته في التّنور وطيّنت عليه، فلما كان بعد أيام أخرجت عظامه وطرحتها في دجلة والدنانير معى تقوّى قلبى قال: فأرسل المعتضد من أحضر الدنانير، واذا على الكيس: لفلان بن فلان، فنادى في المدينة، فحضرت امرأته وقالت: هذا زوجى وقد ترك طفلا صغيرا خرج في وقت كذا ومعه كيس فيه ألف دينار، فغاب الى الآن، فسلّم الدنانير اليها وأمرها أن تعتدّ، وضرب عنق الأسود وأمر أن يوضع فى الأتّون. وقيل: جلس المنصور في إحدى قباب المدينة فرأى رجلا ملهوفا مهموما يجول فى الطرقات، فأرسل من أتاه به فسأله عن حاله فأخبره أنّه خرج في تجارة فأفاد مالا ورجع الى منزله به، فدفعه الى امرأته، فذكرت المرأة أنّ المال سرق ولم يرنقبا ولا تسلّقا، فقال له المنصور: منذكم تزوّجتها؟ قال: منذ سنة، قال: فبكرا أو ثيّبا؟

قال ثيّبا، قال: فلها ولد من سواك؟ قال: لا، قال: شابّة أم مسنّة؟ قال: شابّة، فدعا المنصور بقارورة طيب، وقال: تطيّب بهذا، فهو يذهب همّك، فأخذها وانقلب الى أهله، ثم قال المنصور لأربعة من ثقاته: اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مرّبكم وعليه شىء من هذا الطّيب فأتونى به، وأشمهم من ذلك الطّيب، ومضى الرجل بالطّيب، فدفعه الى امرأته وقال: وهبه لى أمير المؤمنين، فلمّا شمّته بعثت به الى رجل كانت تحبّه وقد كانت دفعت اليه المال فتطيّب به، ومرّ مجتازا ببعض الأبواب، فأخذ وأتى به الى المنصور، فقال له: من أين استفدت هذا الطيب؟ فلجلج لسانه، فسلّمه الى صاحب شرطته وقال: أن احضر الدنانير وإلّا فاضربه ألف سوط، فما هو إلّا أن جرّد وهدّد، فأحضر الدنانير على حالتها فأعلم المنصور بذلك، فدعا صاحب الدنانير وقال: أرأيتك إن رددت عليك متاعك بعينه أتحكّمنى في امرأتك؟ قال: نعم! قال: خذ دنانيرك وقد طلّقت امرأتك وخبّره الخبر. ودخل شريك بن عبد الله القاضى على المهدىّ فأراد أن يبخّره فقال للخادم: ائت القاضى بعود، فذهب فجاء بالعود الذى يلهى به، فوضعه في حجر شريك، فقال شريك: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: عود أخذه صاحب العسس البارحة فأحببنا أن يكون كسره على يد القاضى، فقال شريك: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، ثم ضرب به الأرض فكسره ثم أفاضوا في حديث آخر حتى نسى الأمر ثم قال المهدىّ لشريك: ما تقول فيمن أمر وكيلا له أن يأتى بشىء فجاء بغيره فتلف ذلك الشىء؟ فقال: يضمن يا أمير المؤمنين، فقال للخادم: اضمن ما تلف.

الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الثانى فى الكنايات والتعريض

الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الثانى فى الكنايات والتعريض والكنايات لها مواضع؛ فأحسنها العدول عن الكلام القبيح الى ما يدلّ على معناه فى لفظ أبهى منه. ومن ذلك أن يعظّم الرجل فلا يدعى باسمه ويكنى بكنيته، أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه، وقد ورد في ذلك كثير من آى القرآن فمنها قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً) أى كنّياه. وقد كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: بأبى تراب؛ وقال البحترىّ يتشاغفن بالصغير المسمّى ... موضعات وبالكبير المكنّى وهذا يدل على أن المراد بالكنية التبجيل؛ وقول ابن الرومىّ بكت شجوها الدنيا فلما تبيّنت ... مكانك منها استبشرت وتثنّت وكان ضئيلا شخصها فتطاولت ... وكانت تسمّى ذلة فتكنّت وقال أبو صخر الهذلىّ أبى القلب إلا حبّه عامريّة ... لها كنية: عمرو، وليس لها عمرو ومن عادة العرب وشأنهم؛ استعمال الكنايات في الأشياء التى يستحيى من ذكرها، قصدا للتعفّف باللسان، كما يتعفّف بسائر الجوارح، قال الله عزوجلّ تأديبا لعباده (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فقرن عفّة البصر

بعفّة الفرج؛ وفي القرآن كنايات عدل بها عن التصريح تنزيها عن اللفظ المستهجن، كقوله تعالى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وقال أبو عبيد: هو كناية، شبّه النساء بالحرث، وقوله تعالى: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ، قيل: هو كناية عن الفروج، وفي موضع آخر: يوم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، وقوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) قال المفسرون: هذا تنبيه بأكل الطعام على عاقبة ما يصير اليه؛ وهو الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بدّ أن يحدث. ثم قال: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) وهذا من ألطف الكناية، ومنه قوله تعالى: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) * فالغائط: المطمئن من الأرض، وكانوا يأتونه لحاجتهم ويستترون به عن الأماكن المرتفعة. ومن لم ير الوضوء من لمس النساء جعل الملامسة هاهنا كناية عن الفعل. ومن الكنايات في كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو وإن كان قد ورد في الأمثال أشبه بالكناية- منها قوله صلّى الله عليه وسلم «إياكم وخضراء الدّمن» يريد بها المرأة الحسناء في المنبت السوء، وتفسير ذلك: أن الريح تجمع الدّمن، وهو البعر في البقعة من الأرض فأذا أصابه المطر نبت نبتا غضّا يهتزّ وتحته الدّمن الخبيث، يقول: فلا تنكحوا هذه المرأة الحسناء لجمالها، ومنبتها خبيث كالدّمن؛ فإن أعراق السوء تزرع أولادها؛ وقال زفر بن الحارث وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا!

وقوله صلّى الله عليه وسلم: «حمى الوطيس» قاله لما جال المسلمون يوم حنين، والوطيس: حفيرة تحتفر في الأرض شبيهة بالتنّور؛ وقال الحسن: لبث أيوب عليه السلام على المزبلة سبع سنين، وما على الأرض يومئذ خلق أكرم على الله منه، فما سأل الله العافية إلا تعريضا في قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) والعرب تكنى عن الفضلة المستقذرة بألفاظ كلّها كنايات، منها: الرّجيع والنّجو والبراز والغائط والعذرة والحشّ، فبعض هذه الألفاظ يراد بها نفس الحدث، وبعضها يراد بها المواضع التى يأتى اليها المحدث، وكذلك استعملوا في إتيان النساء: المجامعة، والمرافعة، والمباضعة، والمباشرة، والملامسة، والمماسّة، والخلوة، والإفضاء، والغشيان، والتغشّى، وكل هذه الألفاظ مذكورة في القرآن. وحكى: أن رجلا من بنى العنبر كان أسيرا في بكر بن وائل، وعزموا على غزو قومه، فسألهم رسولا الى قومه، فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم، وجىء بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إنى لعاقل! قال: ما أراك عاقلا! ثم أشار بيده الى الليل، فقال: ما هذا؟ قال: الليل! قال: أراك عاقلا. ثم ملأ كفّيه من الرمل فقال: كم هذا؟ قال: لا أدرى وإنه لكثير، قال: أيّما أكثر؟ النجوم أم النيران؟ قال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومى التحيّة، وقل لهم ليكرموا فلانا، يعنى أسيرا كان في أيديهم من بكر، فإن قومه لى مكرمون وقل لهم: إن العرفج قد أدبى، وشكّت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتى الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملى الأصهب بآية ما أكلت معهم حيسا، واسألوا عن خبرى أخى الحارث؛

فلما أدّى العبد الرسالة اليهم قالوا: قد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء، ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم؛ أمّا قوله: قد أدبى العرفج؛ يريد: أن الرجال قد استلاموا ولبسوا السلاح، وقوله: وشكّت النساء؛ أى اتخذن الشّكاء للسفر، وقوله: الناقة الحمراء؛ أى ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الصّمّان وهو الجمل الأصهب، وقوله: بآية ما أكلت معكم حيسا أى أخلاط من الناس وقد غزوكم؛ لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى مجالد ابن سعيد عبد الملك بن عمر قال: قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل الى عشرة أنا أحدهم من وجوه أهل الكوفة، فسمرنا عنده. ثم قال: ليحدثنى كلّ رجل منكم أحدوثة. وابدأ أنت يا أبا عمرو، فقلت: أصلح الله الأمير، أحديث الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحقّ، قلت: إن امرأ القيس آلى ألية أن لا يتزوّج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء فاذا سألهن عن هذا، قلن أربعة عشر، فبينا هو يسير في جوف الليل اذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة، كأنها البدر لتّمه، فأعجبته فسألها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة، فخطبها الى أبيها، فزوّجه إياها وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وعلى أن يسوق اليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس؛ ففعل ذلك، ثم إنه بعث عبدا له الى المرأة، وأهدى لها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلّة من قصب، فنزل العبد

على بعض المياه، فنشر الحلّة فلبسها فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتح النّحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حىّ المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع اليها هديّتها فقالت له: أعلم مولاك أنّ أبى ذهب يقرّب بعيدا، ويبعّد قريبا، وأنّ أمّى ذهبت تشقّ النفس نفسين، وأنّ أخى ذهب يراعى الشمس، وأنّ سماءكم انشقّت، وأنّ وعاءيكم نضبا، فقدم الغلام على مولاه فأخبره، فقال: أما قولها: أنّ ابى ذهب يقرّب بعيدا ويبعّد قريبا: فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه، وأما قولها: ذهبت أمّى تشق النفس نفسين: فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء؛ وأما قولها: ذهب أخى يراعى الشمس: فإن أخاها في سرح له يرعاه، فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به، وقولها: أن سماءكم انشقّت: فإن البرد الذى بعثت به انشقّ، وأما قولها: أن وعاءيكم نضبا: فإن النّحيين نقصا؛ فاصدقنى؛ فقال: يا مولاى! إنى نزلت بماء من مياه العرب، فسألونى عن نسبى، فأخبرتهم أنى ابن عمك، ونشرت الحلّة فلبستها وتجمّلت بها، فتعلّقت بسمرة فانشقّت، وفتحت النّحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك؛ ثم ساق مائة من الإبل، وخرج ومعه الغلام ليسقى الإبل، فعجز؛ فأعانه امرؤ القيس فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى المرأة بالإبل فأخبرهم أنه زوجها، فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فأكل ما أطعموه، قالت: اسقوه لبنا حازرا (وهو الحامض) فسقوه؛ فشرب، فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فنام. فلما أصبحت أرسلت اليه: أريد أن أسألك عن ثلاث، قال: سلى عما بدا لك، فقالت: لم تختلج شفتاك؟

قال: من تقبيلى إياك! قالت: لم تختلج فخذاك؟ قال: لتورّكى إياك! قالت: فلم يختلج كشحاك؟ قال: لالتزامى إياك! قالت: عليكم العبد! فشدّوا أيديكم به؛ ففعلوا؛ قال: ومرّقوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع الى حيّه واستاق مائة من الإبل وأقبل الى امرأته. فقيل لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدرى أزوجى هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا؛ فلما أتوه بذلك، قال: وأين الكبد والسّنام والملحاء؟ فأبى أن يأكل، فقالت: اسقوه لبنا حازرا، فأتى به، فأبى أن يشربه وقال: أين الصّريف والرّثيئة؟ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له؛ فأبى أن ينام وقال: افرشوا لى فوق التلعة الحمراء واضربوا عليها خباء، ثم أرسلت اليه: هلمّ شريطتى عليك في المسائل الثلاث، فأرسل اليها: سلينى عما شئت، فقالت: لم تختلج شفتاك؟ قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: فلم يختلج كشحاك؟ قال: للبس الحبرات؛ قالت: فلم يختلج فخذاك؟ قال: لركض المطهّمات؛ قالت: هذا زوجى لعمرى! فعليكم به، واقتلوا العبد فقتلوه، ودخل امرؤ القيس بالجارية؛ قال ابن هبيرة: حسبكم! فلا خير فى الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو ولن يأتينا أحد بأعجب منه، فقمنا فانصرفنا وأمر لى بجائزة. وقيل: بعث نشامة بن الأعور العنبرىّ الى أهله بثلاثين شاة ونحى صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاة، وأخذ من رأس النحى شيئا، فقال لهم الرسول: ألكم حاجة أخبره بها؟ فقالت امرأته: أخبره أنّ الشهر محاق، وأن جدينا الذى كان يطالعنا وجدناه مرثوما، فارتجع منه الشاة والسمن.

وقيل: أسرت طىّء غلاما، فقدم أبوه ليفديه، فاشتطّوا عليه. فقال أبوه: لا والذى جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلى طىّء! ما عندى غير ما بذلته، ثم انصرف وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه. كأنه قال: الزم الفرقدين على جبلى طىّء، ففهم الابن تعريضه وطرد إبلا لهم من ليلته ونجا. ومن التخليص المتوسّط اليه بالكناية؛ ما روى عن عدىّ بن حاتم بن عبد الله الطائىّ، أنه قال يوما في حق الوليد بن عقبة بن أبى معيط: ألا تعجبون لهذا؟ أشعر بركا يولّى مثل هذا المصر، والله ما يحسن أن يقضى في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلا سمّانى أشعر بركا إلا قام، فقام عدىّ بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن الذى يقوم فيقول: أنا سمّيتك أشعر بركا لجرىء، فقال له: اجلس يا أبا طريف! فقد برّأك الله منها، فجلس وهو يقول: ما برأنى الله منها. وقيل: كان شريح عند زياد بن أبيه وهو مريض، فلما خرج من عنده أرسل اليه مسروق رسولا وقال: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته يأمر وينهى، قال مسروق: إنه صاحب مرض، فارجع اليه واسأله ما يأمر وينهى، قال: يأمر بالوصيّة وينهى عن النّوح. خطب رجل الى قوم فجاءوا الى الشعبىّ يسألونه عنه، وكان به عارفا، فقال: هو والله ما علمت نافذ الطعنة، ركين الجلسة، فزوّجوه؛ فاذا هو خيّاط فأتوه فقالوا: غررتنا فقال: ما فعلت وإنه لكما وصفت.

وخطب باقلانىّ الى قوم وذكر أن الشعبىّ يعرفه فسألوه فقال: إنه لعظيم الرماد، كثير الغاشية. قيل: أخذ العسس رجلين فقال لهما: من أنتما؟ فقال أحدهما أنا ابن الذى لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا الى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود! وقال الآخر أنا ابن من تخضع الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه بالذلّ وهى صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها! فظنوهما من أولاد الأكابر، فلما أصبح سأل عنهما؛ فإذا الأول ابن طبّاخ والثانى ابن حجّام. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه للأحنف: أىّ الطعام أحبّ اليك؟ قال: الزّبد والكمأة. فقال: ما هما بأحبّ الطعام اليه، ولكنه يحبّ الخصب للمسلمين. وقال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام، ونم على أوطأ الفرش؛ كنّى عن إكبار الصيام، وإطالة القيام. ومن جيّد التورية وغريبها مع توخّى الصدق في موطن الخوف: قول أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رديفه عام الهجرة، فقيل له: من هذا يا أبا بكر؟ فقال: رجل يهدينى السبيل.

ورفع الى عبيد الله بن الحسن قاضى البصرة وصية لرجل بمال أمر أن تتّخذ به حصون. فقال: اشتروا به خيلا للسبيل، أما سمعتم قول النخعىّ ولقد علمت على تجنبى الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى قيل كان البراء بن قبيصة صاحب شراب؛ فدخل على الوليد بن عبد الملك، وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال فرس لى أشقر، ركبته فكبابى، فقال: لو ركبت الأشهب لما كبابك؛ يريد الماء. قال عبد الملك بن مروان لثابت بن الزبير: ما ثابت من الأسماء! ليس باسم رجل ولا امرأة، قال: يا أمير المؤمنين لا ذنب لى لو كان اسمى الىّ، لسمّيت نفسى زينب، يعرّض به؛ فإنه كان يعشق زينب بنت عبد الرحمن بن هشام فخطبها؛ فقالت: لا أوسّخ نفسى بأتى الذبّان. قال نميرىّ لفقعسىّ: إنى أريد إتيانك فأجد على بابك جروا، فقال له الفقعسىّ: اطرح عليه ترابا وادخل؛ أراد النميرىّ قول الشاعر ينام الفقعسىّ وما يصلّى ... ويخرى فوق قارعة الطريق وأراد الفقعسىّ قول الآخر ولو وطئت نساء بنى نمير ... على ترب لخبّثن الترابا قال عبد الله بن الزبير لامرأة عبد الله بن حازم السلمىّ: أخرجى المال الذى وضعته تحت استك، فقالت: ما ظننت أن أحدا يلى شيئا من أمور المسلمين يتكلّم بهذا، فقال بعض من حضر: أما ترون الخلع الخفىّ الذى أشارت اليه؟ فلما أخذ الحجّاج أمّ عبد الرحمن بن الأشعث تجنّب ما عيب على ابن الزبير، فكنّى عن المعنى فقال لها: عمدت الى مال الله فوضعته تحت ذيلك.

ماتت للهذلىّ أمّ ولد، فأمر المنصور الربيع بأن يعزّيه ويقول له: إن أمير المؤمنين يوجّه اليك بجارية نفيسة لها أدب وظرف تسليك عنها، وأمر لك بفرس وكسوة وصلة؛ فلم يزل الهذلىّ يتوقّعها، ونسيها المنصور، ثم حجّ ومعه الهذلىّ فقال له وهو بالمدينة: أحبّ أن أطوف الليلة في المدينة، وأطلب من يطوف بى فقال: أنا لها يا أمير المؤمنين؛ فطاف به حتى وصل الى بيت عاتكة فقال: يا أمير المؤمنين! وهذا بيت عاتكة الذى يقول فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذى أتعزّل فأنكر المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه؛ فلما رجع أمرّ القصيدة على خاطره فاذا فيها وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل فتذكّر الموعد وأنجزه واعتذر اليه. اجتمع الشعراء بباب أمير من أمراء العرب، فمرّ رجل بباز فقال رجل من بنى تميم لآخر من بنى نمير: هذا البازى! فقال النميرىّ: إنه يصيد القطا؛ عرّض الأوّل بقول جرير أنا البازى المطلّ على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا وأراد الآخر قول الطرمّاح تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت قال عمر بن هبيرة الفزارىّ لأيوب بن ظبيان النميرىّ وهو يسايره: غضّ من بغلتك! فقال: إنها مكتوبة، أراد بن هبيرة قول جرير فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا

الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الثانى فى الألغاز والأحاجى

وأراد النميرىّ قول ابن دارة لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وقيل: كان العزيز بن المعزّ العبيدىّ أحد الخلفاء بمصر يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبق طائر الخادم طائر الخليفة؛ فبعث الى وزيره ابن كلس اليهودىّ يستعلمه عن ذلك فاستحيى أن يقول: إن طائر الخليفة سبق، فكتب إليه يابن الذى طاعته عصمة ... وحبّه مفترض واجب طائرك السابق لكنّه ... جاء وفي خدمته حاجب جاءت امرأة إلى عمر رضى الله عنه فقالت: أشكو اليك زوجى، خير أهل الأرض إلا رجل سبقه لعمل، أو عمل مثل عمله، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسى؛ ثم أخذها الحياء فقالت: أقلنى يا أمير المؤمنين! فقال: جزاك الله خيرا! فقد أحسنت الثناء، فلما ولّت قال كعب بن شور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت اليك في الشكوى، فإنها كنّت بذلك عن عدم المباضعة. الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الثانى فى الألغاز والأحاجىّ قالوا: واشتقاق اللّغز من ألغز اليربوع ولغز: إذا حفر لنفسه مستقيما، ثم أخذ يمنة ويسرة ليوارى بذلك ويعمّى على طالبه. وللّغز أسماء فمنها: المعاياة، والعويص، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعانى، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية،

والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمّى، والممثّل، ومعنى الجميع واحد، واختلافها بحسب اختلاف وجوه اعتباراته، فانك إذا اعتبرته من حيث إن واضعه كأنه يعاييك، أى يظهر إعياءك وهو التعب، سميته: معاياة، وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه، سمّيته: عويصا، وإذا اعتبرته من حيث إنه قد عمل على وجوه وأبواب، سمّيته: لغزا، وفعلك له: إلغازا، واذا اعتبرته من حيث إن واضعه لم يفصح عنه قلت: رمز، وقريب منه الإشارة، وإذا اعتبرته من حيث إن غيرك حاجاك أى استخرج مقدار عقلك، سمّيته: محاجاة، وإذا اعتبرته من حيث إنه استخرج كثرة معانيه، سمّيته: أبيات المعانى، وإذا اعتبرته من حيث إنّ قائله قد يوهمك شيئا ويريد غيره، سميته: لحنا وسميت فعلك: الملاحن، وإذا اعتبرته من حيث إنه ستر عنك ورمس فهو: المرموس، والرمس: القبر، وإذا اعتبرته من أن معناه يؤوّل اليك، سميته: مؤوّلا، وسميت فعلك: تأويلا، وإذا اعتبرته من حيث إن صاحبه لم يصرّح بغرضه، سميته: تعريضا وكناية، وإذا اعتبرته من حيث إنه ذو وجوه، سميته: الموجّه، وسميت فعلك: التوجيه، وإذا اعتبرته من حيث إنه مغطّى عليك، سمّيته: معمّى. قال الحكيم أمير الدولة المعروف بابن التلميذ في الميزان ما واحد مختلف الأسماء؟ ... يعدل في الأرض وفي السماء يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الرشاد كلّ رائى أخرس لا من علّة وداء ... يغنى عن التصريح بالإيماء يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء يفصح إن علّق في الهواء.

قولة: مختلف الأسماء يعنى ميزان الشمس، والآصطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله: يحكم في السماء. وميزان الكلام: النحو، وميزان الشعر: العروض، وميزان المعانى: المنطق، وهذه الميزان والذراع والمكيال. وقال آخر فيه ما تقولون؟: فيما نزل من السماء، وعلّق في الهواء، له عين عمياء، وكفّ شلاء، ليس له إن عدل ثواب، ولا عليه إن جار عقاب، خلق من ثلاثة أجناس، تضعضعه الأنفاس، جسمه عار من غير لباس، أخرس اللسان، فى أذنه خرصان، مكرر الذكر فى القرآن، ينطوى اذا نام كالصّلّ، وفعله المستقبل معتلّ، وله في الآخرة أكبر محلّ. وقال أبو نصر الكاتب في الخاتم ومنكوح إذا ملكته كفّ ... وليس يكون في هذا مراء له عين تخلّلها صياء ... فإن كحلت فللميل العماء يظلّ طليعة للوصل هونا ... وللخاشى بزورته احتماء وقد أوضحته وأبت عنه ... ففسّره فقد برح الخفاء أراد بقوله: تخلّلها ضياء أى أنها مفتوحة وكحلها بالإصبع؛ وقد يبعث المحبوب بخاتمه علامة للزيارة أو رهنا عليها وهو أمان للجانى. وقال ابن الرومىّ في فتيلة السراج ما حيّة في رأسها درّة ... تسبح في بحر قليل المدى؟ إن غيّبت كان العمى حاضرا ... وإن بدت لاح طريق الهدى!

وقال السرىّ الرفّاء في شبكة الصيّاد وكثيرة الأحداق إلا أنها ... عمياء ما لم تنغمس في ماء وإذا هى انغمست أفادت ربّها ... ما لا ينال بأعين البصراء وقال آخر في النوم وحامل يحملنى ... وما له شخص يرى! إذا حصلت فوقه ... وهو لذيذ الممتطى! سريت لا أدرى أفى ... أرض سريت أم سما! وقال أبو العلاء المعرىّ في ركابى السرج خليلان نيطا في جوانب مجلس ... جداراه قدّام له ووراء! متى يضع الرّجلين ماش عليهما ... يزل عنه في وشك حفا وحفاء! قوله: خليلان لتشابههما، والمجلس: السرج، وجداراه: قربوسه ورادفته، والحفا مقصور: وجع الرّجل، وممدود: من مشى الرجل حافيا بغير نعل. وقال ابن القاسم عبد الصمد بن نائل في القفل مجامع يعقد عقد الكلبه ... إن رامه غيرك جرّ نكبه ينام كالأمرد لا كالقحبه ... حتى اذا شكّ القمدّ جنبه وعالج الجذبة بعد الجذبه ... وانحلّ بالحقنة لا بالشربه ألقى جنينا نتجته العزبه ... ثم إذا عاد إليه أشبه بعض حروف المعجم المنكبه ... يبغض وهو صادق المحبه يعتقد السّلم وينوى حربه ... وهو على ذاك طويل الصحبه

شبّهه بالمجامع: لدخول الفراش في بطنه، وقوله: يعقد عقد الكلبة: فى عسر المفارقة، وإن فتحه غيرك جرّ نكبة عليك لسرقة ما فيه، ينام كالأمرد: لانكبابه، والقمدّ: الذكر وهو المفتاح، والجنين: الفراش، وإذا عاد إليه أشبه حرف الكاف. وقال في اسم سعيد يبسم عن أوّل اسمه حبّى ... ثم بثانى حروفه يسبى ثم بحرفين لو بدا بهما ... أسدى يدا، صورة اسمها تنبى أربعة نصفها كجملتها ... فى العدّ لم تنتقص ولم تربى هذا وفيه اسم يوم اتّفقت ... مفاخر العجم فيه والعرب فأعمل الفكر في تأمله ... واركب به كلّ مركب صعب شبّه السين بالثغر، وثانيه العين وهى تسبى القلوب، والحرفان يد وهى أربعة في العدد وستّة في الصورة، وإذا أخذت السين والعين فهى أربعة وهى جملة العدد، وفيه عيد وهو يوم التفاخر بالزينة واللبوس. وقال ابن أبى البغل الكاتب في القلم اصمّ عن المنادى لا يجيب ... به تخبو وتشتعل الخطوب ضئيل الجسم «أعلم» ليس تخفى ... عليه غيوب ما تخفى القلوب تراه راجلا لا روح فيه ... ويحييه وينطقه الرّكوب يبين لسانه مكنّ سودا ... معارفه ويخرسه المشيب يقسّم في الورى بؤسى ونعمى ... ويحكم والقضاء له مجيب عجبت لسطوة فيه وضعف ... وكلّ أموره عجب عجيب أراد بقوله: أعلم: مشقوق الشّفة.

وقال أبو العلاء المعرّى في الملح وبيضاء من سرّ الملاح ملكتها ... فلما قضت إربى حبوت بها صحبى فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثّهم بعد الطعام على الشّرب قوله: سرّ أى خالصة، والملاح جمع ملح، والإرب: الحاجة. وقال آخر في عودى الغناء والبخور وما شيئان إسمهما سواء ... وأصلهما معا عند انتساب إذا حضراك بتّ قرير عين ... بلا طعم يلذّ ولا شراب وما أن يوجدان النفع إلّا ... بضرب أو بضرب من عذاب معنى اسمهما سواء ظاهر، وأصلهما خشب، والضّرب الأول: ضرب العود، والثانى: من العذاب وهو الإحراق. وقال آخر في الحرب ما ذات شوك لها جناح ... يختطف الناس عن قريب وهى عقيم ترى بنيها ... من بين مرد وبين شيب يأكل بعض البنين بعضا ... طلوع شمس الى غروب تصحيفها الداء غير شك ... قد يحسم الداء بالطبيب والداء معكوسه مكان ... يصلح للطائر النجيب يعرفها من يكون طبّا ... بالشعر والنحو والغريب هذا لغز معمى في الحرب، وشوكها: السلاح، وجناحاها: جانباها، وعقيم: لأنها لا تلد، وبنوها: رجالها. وأكلهم: قتلهم. وتصحيفها: الجرب، وعكسه: برح.

وقال آخر في الثدى وما أخوان مشتبهان جدّا ... كما اشتبه الغرابة والغراب يضمّهما على مرّ الليالى ... وما اجتمعا ولا افترقا إهاب لذاك وذا دموع هاملات ... ولكن كلّ دمعهما شراب يصونهما عن الأبصار دين ... ويضرب دون نيلهما حجاب هما: ثديا المرأة، ويضمّهما إهاب: وهو الجلد. وقال آخر في الفخّ وما ميّت كفّنته ودفنته ... فقام الى حىّ صحيح فأوثقه وقال آخر وهو لغز حلف الحبيب علىّ لا سمّيته ... فكنيته ولطفت خوف تغاضبه ظبى! اذا ما زارنى حلّ اسمه ... قلبى وذلك من عجيب عجائبه ويكون إن رحمته وخرمته ... وقلبته ما تشتهى من صاحبه ويكون إن صحّفت مبدأه الذى ... أصبحت تهواه لعين مراقبه وتراه بعد الجزم إن ميّزت في التصحيف ... مقلوبا أشدّ معائبه وحروفها فالنصف منها جذرها ... وحساب ذلك غير متعب حاسبه فاطلبه سادس سادس ثانيه ثا ... نيه وثالثه كذاك لطالبه وتمامه من بعد مثل حروفه ... فى البيت صحّ اسم الحبيب لقالبه

هو لغز في فرحة، والترخيم: حذف الآخر، والخرم: حذف الأوّل؛ فاذا رخم وخرم وقلب بقى: حر، واذا قلبت الفاء قافا بقى: قرحة لعين المراقب، واذا صحفته مقلوبا، وجزمت آخره صار: هجر، والنصف من حروفه اثنان، وهما جذر جميع حروفه، وقوله: فاطلبه سادس سادس: يعنى البيت السادس. وقال آخر في سلمى سل ماهرا بالقريض والأدب ... ما اسم فتاة قعيدة النّسب قد صرّح الشّعر باسمها فمتى ... فكّرت فيها ظفرت بالعجب الاسم: سلمى، وهو ظاهر في أول البيت. وقال آخر في الكرة ومضروبة تحيا إذا ما ضربتها ... وإن تركت من شدّة الضرب ماتت وقال أبو عبد الله بن المغلّس في السّراج وداع الى نفسه في الظلام ... وما سمعت أذنه صوته اذا هو بيّض وجه الطريق ... سوّد في وجهه بيته وقال آخر في الصّدى وساكن يسكن في الفلاة ... ليس من الوحش ولا النبات ولا من الجنّ ولا لحيّات ... ولا الخيام الشعر والأبيات ولا بذى جسم ولا حياة ... كلا! ولا يدرك بالصفات بلى! له صوت من الأصوات ... يسمع في الأحيان والأوقات

وقال ابن المغلّس في النخلة وقائمة أبدا لا تنام ... وما قعدت قطّ مذ قامت تعيش إذا غسلوا رجلها ... وإن حلقوا رأسها ماتت وقال آخر ما يقول سيدنا الشيخ: فى شىء نزل من السماء، وركض في الهواء، وخيّم في البيداء، نطق على نفسه فأفصح، وتكلّم فبيّن وأوضح، أفقر وأغنى، وأمات وأحيا، له شوارق من غير غضب، ورقصات على غير طرب، يسبق الفرس السريع، ويسبقه الطفل الرضيع، مختلف الألوان، يوجد في كلّ زمان، ما أكثر لغاته! وأعمّ في البشر ذكر صفاته! وهو خفيف ثقيل، كثير قليل، كبير صغير، طويل قصير، غال رخيص، قوىّ ضعيف، سريع بطىء، بارد حارّ، نافع ضارّ، أبيض أسود أزرق، قريب بعيد، قديم جديد، متحرّك ساكن، ظاهر باطن، يتجسّر ويتكسّر، ويتعوّج ويتدوّر، سلطانه في الشمال وبه يذلّ، وضعفه في الجنوب وبه يعزّ، نحيل يخفى جثّة الفيل في طيّه وعطفه. ويتخلّل جفن العين الرمدة برفقه ولطفه، يمشى على الحدق فلا يؤلمها، ويطأ القلوب فلا يكلمها، على أنّه يقطع الطريق، ويخيف الفريق، كم أهلك من قوم وما راق ولا سفك! يحمل ألف قنطار، ويعجز عن حمل دينار، وهو ليلىّ نهارىّ، عربىّ عجمىّ، برىّ بحرىّ، سهلىّ جبلىّ، رومىّ نوبىّ، هندىّ حبشىّ، صينىّ جاهلىّ إسلامىّ. كان مع آدم في الجنّة، وصحب نوحا في السفينة، وتوسّط النار مع إبراهيم، كم له مع موسى من خبر! ولموسى فيه من آية وأثر! حمل المسيح على غير ظهر، وما سر في برّ ولا بحر، أخرجه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من جسده، وفرّقه على صحابته، إذا نطقت به كان بعض أحد خلفاء بنى العباس السبعة وهو 1431.

ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص

وقال آخر ما شىء وجهه قمر، وقلبه حجر إن علّقته ضاع، وإن أدخلته السّوق أبى أن يباع، وإن فككته دعا لك، وإن ركبت نصفه هالك، وربّما كثر أموالك، وإن حذفت آخره، وشدّدت ثانيه، أورثك الألم عند الفجر، والضجر عند العصر: هو الدّملج الفضة. ومما يتصل بهذا الباب مسائل العويص فمن ذلك: امرأتان التقتا برجلين قالتا لهما: مرحبا بابنينا وزوجينا وابنى زوجينا، وذلك أن كلّ واحد منهما تزوّج بأم الآخر فهما ابناهما وزوجاهما وابنا زوجيهما. رجلان كلّ واحد منهما عمّ الآخر وابن أخيه، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم الآخر، فرزق كل واحد منهما ولدا فكل من الولدين عمّ الآخر وابن أخيه. رجلان كل واحد منهما خال الآخر وابن أخته، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة الآخر، فرزق كلّ واحد منهما ولدا فكلّ من ولديهما خال الآخر وابن أخته. رجل وامرأتان هو خال أحديهما، وهى خالته وعمّ الأخرى، وهى عمّته، وذلك: أنّ جدّته أمّ أبيه تزوّجت بأخيه لأمّه وأخته لأبيه تزوّجت بأب أمّه، فولدتا بنتين فبنت أخته خالته وهو خالها، وبنت جدّته عمّته وهو عمّها، وهذا أصل الأبيات المنظومة في ذلك ولى خالة وأنا خالها ... ولى عمّة وأنا عمّها

رجلان كلّ واحد منهما ابن خال الآخر وابن عمّته، وذلك: أنّ كل واحد من أبويهما تزوّج بأخت الآخر، فرزق كلّ منهما ولدا، فكل من ولديهما ابن خال الآخر وابن عمّته. رجلان كلّ واحد منهما عمّ والد الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بأم أب الآخر، فكلّ من أولادهما عمّ أب الآخر. رجلان كلّ واحد منهما عمّ أمّ الآخر، وذلك: أنّ كلّ واحد من أبويهما تزوّج بابنة ابن الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر. رجلان كل واحد منهما خال أمّ الآخر، وذلك: أن كلّ واحد من أبويهما تروّج بابنة بنت الآخر، فكلّ من أولادهما خال أمّ الآخر. رجلان احدهما عمّ الآخر والآخر خاله، وذلك: أن رجلين تزوّج أحدهما امرأة وتزوّج الآخر ابنة ابنها، فولد لكل منهما ولد فابن الأب عمّ ابن الابن، وابن الابن من أمّ امرأة الأب؛ هو أخوها وخال ابنها. رجلان أحدهما عمّ الآخر وخاله، والآخر ابن أخيه وابن أخته، وذلك: أن رجلا له أخ لأب وأخت لأمّ فزوّج أخاه لأبيه بأخته لأمّه فأولدها ولدا فهما كذلك.

القسم الثالث من الفن الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والندمان، والقيان، ووصف آلات الطرب

القسم الثالث من الفنّ الثانى فى المدح، والهجو، والمجون، والفكاهات، والملح، والخمر، والمعاقرة، والنّدمان، والقيان، ووصف آلات الطّرب وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى المدح، وفيه ثلاثة عشر فصلا حقيقة المدح وما قيل فيه، ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام، ما قيل في الإعطاء قبل السؤال، ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام، ما قيل في وفور العقل، ما قيل فى الصّدق، ما قيل في الوفاء والمحافظة، ما قيل في التواضع، ما قيل في القناعة والنّزاهة ما قيل في الشكر والثناء، ما قيل في الوعد والإنجاز، ما قيل في الشفاعة، ما قيل فى الاعتذار والاستعطاف. فأمّا حقيقية المدح، فقد عبّر عنها الحمدونىّ في «غاية الاختصار والإيجاز» بقوله: حقيقة المدح: وصف الموصوف بأخلاق يحمد صاحبها عليها، ويكون نعتا حميدا. قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) وقال عزّوجلّ: (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أصحابى كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» وقد أوّلوا الخبر المروىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب» قال العتبىّ هو المدح الباطل والكذب. وأمّا مدح الرجل بما هو فيه فلا بأس به، وممّا يعضد هذا أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وكعب بن زهير، وحسّان بن ثابت، وغيرهم؛ مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد أنه حثا في وجه أحد منهم ترابا. وقيل في حثو التراب معنيان: أحدهما التغليظ في الردّ عليه، والثانى يقال له: بفئك التراب. وللشعراء عادة في تجاوز قدر الممدوح فوق ما يستحقّه حتى إنّ ذلك أفضى بكثير منهم الى الكفر والخروج عن الحدّ أعاذنا الله من ذلك؛ وقال أنو شروان: من أثنى عليك بما لم توله فغير بعيد أن يذمّك بما لم تحبّه. وقال وهب بن منبّه: من مدحك بما ليس فيك، فلا تأمن أن يذمّك بما ليس فيك. وأنشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه قول زهير بن أبى سلمى في هرم بن سنان دع ذا! وعدّ القول في هرم ... خير الكهول وسيّد الحضر لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنوّر ليلة القدر ولأنت أوصل من سمعت به ... لنوائل الأرحام والصّهر ولنعم حشو الدّرع أنت اذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر فقال عمر رضى الله عنه: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

ولما حضر أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه الوفاة؛ قالت عائشة رضى الله عنها وهو يغمض وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فنظر اليها وقال: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال آخر ولو كنت أرضا كنت ميثاء سهلة ... ولو كنت ليلا كنت صاحبة البدر ولو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت يوما كنت تعريسة الفجر وقال محمّد بن هانئ أغير الذى قد خطّ في اللوح أبتغى ... مديحا له إنّى إذا لعنود وما يستوى وحى من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمتمّم بن نويرة صف لى أخاك فإنى أراك تمدحه، فقال: كان أخى يحبس المزاد بين الصّوحين في الليلة القرّة معتقلا للرمح الخطل، عليه الشّملة القلوب، يقود الفرس الحرون فيصيح ضاحكا مستبشرا: الخطل: الطويل المضطرب، والقلوب: التى لا تنضمّ على الرّحل لقصرها. وسأل عبد الله بن عباس صعصعة بن صوحان العبدىّ عن إخوته فقال: أما زيد فكما قال أخو عبس فتى لا يبالى أن يكون بوجهه ... إذا نال خلّان الكرام شحوب ثم قال: كان والله يا ابن عباس، عظيم المروءة، شريف الأبوّة، جليل القدر، بعيد الشرّ، كميش العروة، زين النّدوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر،

ذاكرا لله تعالى في طرفى النّهار وزلفا من الليل، الجوع والشّبع عنده سيّان، لا منافس فى الدنيا، ولا غافل عن الآخرة، يطيل السكوت، ويديم الفكر، ويكثر الاعتبار، ويقول الحق، ويلهج الصدق، ليس في قلبه غير ربه، ولا يهمه غير نفسه، فقال ابن عبّاس: ما ظنّك برجل سبقه عضو منه الى الجنّة؟ رحم الله زيدا! فأين كان عبد الله منه؟ فقال: كان عبد الله سيّدا شجاعا، شيخا مطاعا، خيره وساع، وشره دفاع. ليّن النحيزة، أحوذىّ الغريزة، لا ينهنه منهنه عمّا أراد، ولا يركب إلّا ما اعتاد، سمام العدى، فيّاض النّدى، صعب المقادة، جزل الرّفادة. أخو إخوان، وفتى فتيان، ثم أنشد شعر حسّان بن ثابت اذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا يرى بينها فصلا قضى فشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذى إربة في القوم جدّا ولا هزلا ودخل ضرار بن ضمرة الكنانىّ على معاوية بن أبى سفيان فقال له: صف لى عليّا فقال له: أو تعفينى؟ فقال: لا أعفيك؟ قال: أما إذ لا بدّ، فإنّه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فان تبسّم فعن مثل لؤلؤ منظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوىّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

وذكر عمرو بن معديكرب بنى سليم فقال: بارك الله على حىّ بنى سليم ما أصدق فى الهيجاء لقاءها! وأثبت في النوازل بلاءها! وأجزل في النائبات عطاءها! والله لقد قابلتهم فما أجبتهم، وهاجيتهم فما أفحمتهم، وسألتهم فما أبخلتهم. وقال بعض العرب: فلان حتف الأقران غداة النزال، وربيع الضّيفان عشيّة النزول. وقال آخر: فلان ليث اذا غدا، وبدر اذا بدا، ونجم اذا هدى. وسمّ إذا أردى. ودخل على النّعمان بن المنذر بن امرىء القيس ابن عمرو بن عدىّ اللّخمىّ فحيّاه بتحيّة الملوك ثم قال: أيفاخرك ذو فائش وأنت سائس العرب، وعروة الحسب والأدب، لأمسك أيمن من يومه! ولعبدك أكرم من قومه، ولقفاك أحسن من وجهه، وليسارك أجود من يمينه، ولظنّك أصدق من يقينه ولوعدك أثلج من رفده، ولخالك أشرف من جدّه، ولنفسك أمنع من جنده، وليومك أزهر من دهره، ولفترك أبسط من شبره، ثم قال أخلاق مجدك جلّت ما لها خطر ... فى البأس والجود بين الحلم والخفر متوّج بالمعالى فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر اذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلّى زمان المحل بالمطر فتهلّل وجه النعمان سرورا، ثم أمر أن يحشى فوه درّا وكسى أثواب الرضى وكانت حباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النّعمان: هكذا فليمدح الملوك. وذو فائش: هو سلامة بن يزيد بن سلامة من ولد يحصب بن مالك وكان النابغة

متّضلا به قبل اتصاله بالنّعمان، وله فيه مدائح كثيرة فاقتص الله تعالى من النّعمان ابن المنذر بعد ذلك لما حكى أنه دخل حسان بن ثابت على الجفنىّ فقال: انعم صباحا أيها الملك! السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدى ووالدتى فداؤك، أنّى ينافسك ابن المنذر؟ فو الله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمّك خير من أبيه، ولظلك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه، ثم قال قذالك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر ويسرى يديك اذا أعسرت ... كيمنى يديه فلا تمترى أخذ المعنى الحسن بن هانئ فقال بأبى أنت من غزال غرير ... بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا ونظر بعض الشعراء الى هذا المعنى فقال يمدح زبيدة ابنة جعفر بن أبى جعفر المنصور أم الأمين أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكفّ من الرّغاب فلما أنشد ذلك تبادر العبيد ليوقعوا به فقالت زبيدة: كفّوا عنه فلم يرد إلّا خيرا، ومن أراد خيرا فأخطأ خير ممّن أراد شرا فأصاب، إنّه سمع الناس يقولون: قفاك أحسن من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمين سواك، فقدّر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمل، وعرّفوه ما جهل؛ ومثله: مدح شاعر أميرا فقال أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه فقال له: من أين عرفتها؟ قال: قد جرّبتها فقال: أسوأ من شعرك، ما أتيت به من عذرك!

قال دخل خالد بن عبد الله العنبرىّ على عمر بن عبد العزيز لمّا ولى الخلافة فقال: يا أمير المؤمنين من تكن الخلافة قد زانته فأنت قد زيّنتها، ومن يكن شرّفته فقد شرّفتها، وأنت كما قال الشاعر وإذا الدّر زان حسن وجوه ... كان للدّر حسن وجهك زينا فقال عمر بن عبد العزيز: أعطى صاحبكم مقولا، ولم يعط معقولا. ولمّا دخل عبد الله المأمون بغداد تلقّاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين! بارك الله لنا في مقدمك، وزادك في نعمتك، وشكرك على رعيّتك، تقدّمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن نعاين مثلك، أمّا فيمن مضى فلا نعرفه، وأمّا فيمن بقى فلا نرجوه، فنحن جميعا ندعولك، ونثنى عليك. خصب لنا جنابك، وعذب شرابك، وحسنت نصرتك، وكرمت مقدرتك. جبرت الفقير، وفككت الأسير، فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر ما زلت في البذل للنوال وإط ... لاق لعان بجرمه علق حتى تمنّى البراء أنّهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق وقال رجل للحسن بن سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك، وإن قليلك أكثر من كثير غيرك. وقال الرشيد لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ قال: يا أمير المؤمنين! المديح كلّه دون قدرك، والشّعر فيك فوق قدرى. ولكنى أستحسن قول العتّابى ماذا عسى مادح يثنى عليك وقد ... ناداك في الوحى تقديس وتطهير فتّ الممادح إلا أن ألسننا ... مستنطقات بما تخفى الضمائير!

وقال رجل في خالد بن صفوان: قريع المنطق، جزل الألفاظ، عربىّ اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات، حلو الشمائل، كثير الطلاوة، صموتا قؤولا، يهنأ الجرب، ويداوى الدبر، ويفك المحزّ، ويطبق المفصل، لم يكن بالزمر في مروءته، ولا بالهذر في منطقه، متبوعا غير تابع، كأنّه علم في رأسه نار. وقيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ليستعدّ به؛ فلو أمرت به ان يصعد المنبر فجاءة لافتضح، قال: فأمر من أخذ بيده فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة؛ فمنها: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر، فأشبه منه صولته ومضاؤه. وأما البحر الزاخر، فأشبه منه جوده وعطاؤه. وأمّا القمر الباهر، فأشبه منه نوره وضياؤه. وأما الربيع الناضر، فأشبه منه حسنه وبهاؤه، ثم نزل. وقيل دخل رجل على المنصور فقال له تكلّم بحاجتك؛ فقال: يبقيك الله تعالى يا أمير المؤمنين! قال: تكلّم بحاجتك؛ فإنّك لا تقدر على مثل هذا المقام في كلّ حين. قال: والله يا أمير المؤمنين! ما أستقصر أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإنّ سؤالك لزين، وما بامرىء بذل اليك وجهه نقص ولا شين، فأحسن جائزته وأكرمه. وقال محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة: ما رأيت وجها أسمح، ولا حلما أرجح، ولا سجيّة أسمح، ولا بشرا أبدى، ولا كفّا أندى، ولا غرّة أجمل، ولا فضيلة أكمل،

ولا خلقا أصفى، ولا وعدا أوفى، ولا ثوبا أطهر، ولا سمتا أوفر، ولا أصلا أطيب، ولا رأيا أصوب، ولا لفظا أعذب، ولا عرضا أنقى، ولا بناء أبقى، ممّا خصّ الله به ثالث القمرين، وسراج الخافقين، وعماد الثّقلين المعتصم بالله. وقال بعض الكتّاب: إنّ من النعمة على المثنى عليك أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ولا يحذر أن يلحقه نقيصة الكذب، ولا ينتهى به المدح الى غاية، إلا وجد في فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أنّ الداعى لك لا يعدم كثرة المشايعين له، والمؤمنين معه. وقال آخر: إنى فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر الذى لا يخفى على كلّ ناظر، وأيقنت أنى حيث انتهى بى القول الى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك الى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك الى علم الناس بك. وقال أبو عبد الله محمد بن الخباط من رقعة طويلة في المظفّر في أوّلها: حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات؛ فإنه مذ كان أنور من الشمس ضياء، وأكمل من البدر بهاء، وأندى من الغيث كفّا، وأحمى من الليث أنفا، وأسخى من البحر بنا، وأمضى من النصل لسانا، وأنجبه المنصور فجرى على سننه، وأدّب فأخذ بسننه، وكانت الرياسة عليه موقوفة، والسياسة اليه مصروفة، قصرت الأوهام عن كنه فضله، وعجزت الأقلام عن وصف مثله، غير أن الفضائل لا بدّ من نشرها، والمكارم لا عذر في ترك شكرها. فهذه نبذة كافية مما ورد في المنثور فلنذكر ما ورد من المنظوم في ذلك.

قال أبو هلال العسكرىّ: سمعت أبا أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد يقول: امدح بيت قالته العرب قول النابغة الذبيانىّ يمدح النّعمان بن المنذر ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب بأنك شمس والملوك كواكب ... اذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب وهو مأخوذ من قول بعض شعراء كندة مدح عمرو بن هند تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كلّ ضوء والملوك كواكب وقال نصيب هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل يشبه البدر المضىء كواكب وقالوا: أبدع بيت قيل في المديح قول النابغة فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقوله: «أخلاق مجدك» - الأبيات وقد تقدمت- وقد تداول الناس قول النابغة فإنك كالليل الذى هو مدركى فقال الفرزدق فلو حملتنى الريح ثم طلبتنى ... لكنت كشىء أدركته مقادره وقول النابغة أبلغ، لأن الليل أعمّ من الريح، والريح يمتنع منها بأشياء، والليل لا يمتنع منه بشىء. وأخذ سلم الخاسر قول الفرزدق فقال فأنت كالدهر مبثوثا حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... فى كلّ ناحية ما فاتك الطلب

وقالوا: أجود شىء قيل في الحسن مع الشجاعة من شعر المتقدّمين والمحدّثين قول أبى العتاهية يمدح الرشيد بن المهدىّ وولده بنو المصطفى! هارون حول سريره ... فخير قيام حوله وقعود تقلّب ألحاظ المهابة بينهم ... عيون ظباء في قلوب أسود وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول أبى الطّمحان القينى أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدا كوكب يأوى اليه كواكبه وما زال منهم حيث كان مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه وهذه الأبيات من قصيدة مدح بها بجير بن أوس بن حارثة، ابن لأم الطائى، وكان أسيرا في يده، فلما مدحه بها أطلقه بعد أن جزّ ناصيته؛ وأوّل القصيدة اذا قيل: أىّ الناس خير قبيلة؟ ... وأصبر يوما لا توارى كواكبه؛ فإنّ بنى لأم بن عمرو أرومة ... علت فوق صعب لا تنال مراتبه! أضاءت لهم أحسابهم الأبيات. ومثله قول ابن أبى السّمط فتى لا يبالى المدلجون بنوره ... الى بابه أن لا تضىء الكواكب له حاجب من كلّ أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب ومثله قول الحطيئة نمشى على ضوء أحساب أضأن لنا ... كما أضاءت نجوم الليل للسارى ومثله قول الآخر وجوه، لو انّ المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى يرى الليل ينجلى

وقال عيسى بن أوس يمدح الجنيد بن عبد الرحمن الى مستنير الوجه طال بسؤدد ... تقاصر عنه الشاهق المتطاول مدحتك بالحق الذى أنت أهله ... ومن مدح الأقوام حقّ وباطل يعيش الندى مادمت حيّا فإن تمت ... فليس لحىّ بعد موتك طائل وما لامرىء عندى مخيلة نعمة ... سواك وقد جادت علىّ مخائل وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الأعشى فتى، لو ينادى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السارى لألقى المقالدا وهذا من الغلو وهو مذموم عند بعضهم. ومثله في الغلوّ قول طريح بن إسماعيل لو قلت للسيل: دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج لارتدّ أو ساخ أو لكان له ... فى جانب الأرض عنك منعرج ومن الغلوّ قول أبى تمّام في المعتصم بالله بيمن أبى إسحاق طالت يد العلى ... وقامت قناة الدين واشتدّ كاهله هو البحر من أىّ النواحى أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله تعوّد بسط الكفّ حتى لو انه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله وقال العسكرىّ وكيف يبيت الجار منك على صدى؟ ... وكفّك بحر لجّة الجود ساحله

وقال أبو هلال العسكرىّ يرفعه الى الأصمعىّ قال: سمعت أعرابيّا يقول: إنكم معاشر أهل الحضر، لتخطئون المعنى، إنّ أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول: كأنه الأسد، ويصف المرأة بالحسن فيقول: كأنها الشمس، ولم لا تجعلون هذه الأشياء بهم أشبه؟ ثم قال: والله لأنشدنّك شعرا يكون لك إماما. ثم أنشدنى اذا سألت الورى عن كلّ مكرمة ... لم تلف نسبتها إلا الى الهول فتى حوادا أعار النّيل نائله ... فالنّيل يشكر منه كثرة النّيل والموت يرهب أن يلقى منيّته ... فى شدّة عند لفّ الخيل بالخيل لو عارض الشمس ألفى الشمس مظلمة ... أو زاحم الصّمّ ألجاها الى الميل أو بارز الليل غطّته قوادمه ... دون الخوافى كمثل الليل في الليل أمضى من النجم إن نابته نائبة ... وعند أعدائه أجرى من السيل ومثله قول الآخر علّم الغيث الندى حتى اذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد فله الغيث مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد وقال اميّة بن أبى الصلت في عبد الله بن جدعان أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء فأرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء ونحوه قوله لكل قبيلة شرف وعزّ ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد

وقال ابن الرومىّ قوم يحلّون من مجد ومن شرف ... ومن غناء محلّ البيض واليلب حلّوا محلّهما من كلّ جمجمة ... نفعا ودفعا وإطلالا على الرتب قوم هم الرأس إذ حسّادهم ذنب ... ومن يمثّل بين الرأس والذنب وقال أبو هلال العسكرىّ فابشر فإنك رأس والعلى جسد ... والمجد وجه وأنت السمع والبصر لولاك لم تك للأيّام منقبة ... تسمو اليها ولا للدهر مفتخر وقال علىّ بن جبلة لولا أبو دلف لم تحى عارفة ... ولم ينؤ نوء مأمول بآمال يابن الأكارم من عدنان، قد علموا ... وتالد المجد بين العمّ والخال وناقل الناس من عدم الى جدة ... وصارف الدهر من حال الى حال أنت الذى تنزل الأيّام منزلها ... وتمسك الأرض عن خسف وزلزال وما مددت مدى طرف الى أحد ... إلا قضيت بآمال وآجال تزورّ سخطا فتمسى البيض راضية ... وتستهلّ فتبكى أوجه المال وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول زهير تراه اذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذى أنت سائله وعاب بعضهم هذا البيت وقال: جعل الممدوح يفرح بغرض يناله، وليس هذا صفة كبير الهمة، والجيّد قول أبى نوفل عمرو بن محمد الثقفىّ ولئن فرحت بما ينيلك إنه ... لبما ينيلك من نداه أفرح ما زال يعطى ناطقا أو ساكتا ... حتى ظننت أبا عقيل يمزح

ومثله قول أبى تمّام أسائل نصر لا تسله فإنّه ... أحنّ الى الإرفاد منك الى الرّفد وقالوا: أمدح بيت قالته العرب قول الحطيئة متى تأته تعشو الى ضوء ... تجد خير نار عندها خير موقد وقال القاسم بن حنبل من البيض الوجوه بنى سنان ... لو انك تستضىء بهم أضاءوا لهم شمس النهار اذا استقلّت ... ونور لا يغيّبه العماء هم حلّوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا فلو أنّ السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء وقالوا أيضا: أمدح بيت قيل قول الأوّل أيضا قوم، سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بعزّهم أو مجدهم قعدوا محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث، قول مروان بن أبى حفصة في معن ابن زائدة بنو مطر يوم اللقاء كأنّهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السّماكين منزل بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل هم القوم، إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

وقال العسكرىّ: وأنشد بعض أهل الأدب قول ابن أبى طاهر وقال: لو استعمل الإنصاف لكان هذا أحسن مدح قاله متقدّم ومتأخّر وهو إذا أبو أحمد جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضأت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر وإن مضى رأيه أو جدّ عزمته ... تأخّر الماضيان: السيف والقدر من لم يكن حذرا من حدّ صولته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر حلو، اذا أنت لم تبعث مرارته ... فإن أمرّ فحلو عنده الصّبر سهل الخلائق إلا أنه خشن ... لين المهزة إلا أنه حجر لا حيّة ذكر في مثل صولته ... إن صال يوما ولا الصّمصامة الذكر اذا الرجال طغت آراؤهم وعموا ... بالأمر ردّ اليه الرأىّ والنظر الجود منه عيان لا ارتياب به ... إذ جود كلّ جواد عنده خبر وقال: ومن المديح القليل النظير، قول علىّ بن محمد الأفوه أوفوا من المجد والعلياء في قلل ... شمّ، قواعدهنّ البأس والجود سبط اللقاء اذا شيمت مخائلهم ... بسل اللقاء اذا صيد الصناديد محسّدون، ومن يعلق بحبلهم ... من البريّة يصبح وهو محسود وقالوا: أمدح بيت قاله محدّث قول علىّ بن جبلة في أبى دلف إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومختضره فاذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره وهى من القصائد المشهورة، وأولها ... ذاد ورد الغىّ عن صدره وارعوى، واللهو من وطره

جاء منها في مدحه يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه الى حضره مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره إنما الدنيا أبو دلف ... ............... .... قال العسكرىّ: ومن المديح البارع قول بشار ألا أيها الطالب المبتغى ... نجوم السماء بسعى أمم سمعت بمكرمة ابن العلاء ... فأنشأت تطلبها لست ثم اذا عرض الهمّ في صدره ... لها بالعطاء، وضرب البهم فقل للخليفة إن ... نصيحا ولا خير في المتّهم اذا أيقظتك جسام الأمور ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم فتى، لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم يحبّ العطاء وسفك الدماء ... فيغدو على نعم أو نقم قال ومن المديح القليل النظير: قول أمامة بنت الجلّاح الكلبيّة اذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته ... بكلّ معدّىّ وكلّ يمانى وفي بهم جودا وحلما وسؤددا ... وباسا، فهذا الأسود بن قنان فتى، كالفتاة البكر، يسفر وجهه ... كأن تلالى وجهه القمران أغرّ أبرّ ابنى نزار ويعرب ... وأوثقهم عقدا بقول لسان وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا ... وأعلاهم فعلا بكلّ مكان.

وأضربهم بالسيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان كأنّ العطايا والمنايا بكفه ... سحابان مقرونان مؤتلفان ومن المديح البارع قول أبى تمّام رأيت لعيّاش خلائق لم تكن ... لتكمل إلّا في اللباب المهذّب له كرم لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤ برق خلّب أخو عزمات بذله بذل محسن ... الينا ولكن عذره عذر مذنب يهولك أن تلقاه في صدر محفل ... وفي نحر أعداء وفي قلب موكب وما ضيق أقطار البلاد أضافنى ... اليك ولكن مذهبى فيك مذهبى وهذى بنات المدح فاجرر ذيولها ... عليك وهذا مركب الحمد فاركب وقد أحسن التّنوخىّ في قوله وفتية من حمير حمر الظّبى ... بيض العطايا حين يسودّ الأمل شموس مجد في سموات على ... وأسد موت بين غابات أسل وقالت الخنساء في أخيها صخر طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا اذا القوم مدّوا بأيديهم ... الى المجد مدّ اليه يدا فنال الذى فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا فكلّفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ترى الحمد يهوى الى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا

قال آخر ومصعد هضبات المجد يطلعها ... كأنه لسكون الجأش منحدر مازال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق الى العلياء مختصر وقال إبراهيم بن العبّاس تلج السنون بيوتهم وترى لها ... عن بيت جارهم ازورار مناكب وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونزهة للراغب وقال أيضا اذا السّنة الشّهباء مدّت سماءها ... مددت سماء دونها فتحلّت وعادت بك الريح العقيم لدى القرى ... لقاحا فدرّت عن نداك وطلّت وقال ابن الرومىّ كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل فلو كان غيثا لعمّ البلاد ... ولو كان سيفا لكان الأجل ولو كان يعطى على قدره ... لأغنى النفوس وأفنى الأمل وقال أبو الحسن بن أبى البغل البغدادىّ يمدح أبا القاسم بن وهب وقد تقدّم ذكر بعضها لابن أبى طاهر اذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النّيّران: الشّمس والقمر وإن بدا رأيه أو جدّ عزمته ... تأخر المأضيان: السيف والقدر

ينال بالظنّ ما كان اليقين به ... والشاهدان عليه العين والأثر كأنّه وزمام الدهر في يده ... يدرى عواقب ما يأتى وما يذر وقال ذو الرمّة يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها ... ويختال أن تعلو عليها المنابر وما زلت تسمو للمعالى وتجتنى ... جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر الى أن بلغت الأربعين فألقيت ... اليك جماهير الأمور الأكابر فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز ... ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر وقال الشّريف الرّضىّ يا مخرس الدّهر عن مقالته ... كلّ زمان عليك متّهم شخصك في وجه كلّ داجية ... ضحى وفي كلّ مجهل علم وقال أبو الحسن السلامىّ اذا زرته لم تلق من دون بابه ... حجابا ولم تدخل عليه بشافع كماء الفرات الجمّ أعرض ورده ... لكلّ أناس فهو سهل الشرائع تراه اذا ما جئته متهللا ... تهلّل أبكار الغيوث الهوامع وقال محمد بن الحسين الآمدىّ من القوم لما استغرب المجدّ غيرهم ... من الناس أمسوا منه فوق الغرائب اذا سالموا كانوا صدور مراتب ... وإن حاربوا كانوا قلوب مواكب جواد متى ما رامت الريح شأوه ... كبت دون مرمى خطوه المتقارب وبحر ندى لو زاره البحر حدّثت ... عجائبه عن فعله بالعجائب

وقال الأصمعى: كنت بالبادية فرأيت امرأة على قبر تبكى وتقول فمن للسؤال ومن للنوال ... ومن للمقال ومن للخطب؟ ومن للحماة ومن للكماة ... اذا ما الكماة جثوا للرّكب؟ اذا قيل: مات أبو مالك ... فتى المكرمات قريع العرب [فقد مات عزّ بنى آدم ... وقد ظهر النّكد بعد الطرب «1» ] قال: فملت إليها، وسألتها عنه، فقالت: فديتك! هذا أبو مالك الحجّام، ختن أبى منصور الحائك، فما ظننت إلا أنّه من سادات العرب. وقال العماد الأصفهانىّ حيّيون يخفون إحسانهم ... ويعتذرون كان قد اساءوا اذا أظلم الدهر أعدوا عليه ... وإن أظلم الخطب يوما أضاءوا بمثلكم قد أقرّ الرجال ... فمثلكم لم تلده النّساء وللناس من حسن أيّامكم ... بدولتكم كلّ يوم هناء وقال ايضا فلأطوين على أغرّ محجّل ... عرض الفلاة الى أغرّ محجّب ليث الوغى غوث ورى غيث النّدى ... بدر النّدىّ، نعم! وصدر الموكب واذا استوى في دسته مالت له ... أعناق كل متوّج ومعصّب وتميت رأفته حقود عداته ... وتحلّ هيبته عقود المحتبى إنّ الممالك ما تزال برأيه ... فى صائب وبجوده في صيّب

يحبوك معتذرا اليك فيا له ... من محسن تعروه خجلة مذنب يزهى بأصل في العلاء مخيّم ... شرفا وفرع بالكرام مطنّب وقال أحمد بن محمد النامىّ له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب اذا ما علىّ أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلّب وأزهر يبيضّ الندى منه في الرضا ... وتحمرّ أطراف القنا حين يغضب أمير الندى ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوما للرغائب مرغب وقال أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكىّ سيّد شادت علاه له ... فى العلا آباؤه النجب وله بيت يمدّ له ... فوق مجرى الأنجم الطّنب حسبه بالمصطفى شرفا ... وعلىّ حين ينتسب رتبة في العز شامخة ... قصرت عن مثلها الرتب وقال ابن نباتة السعدىّ يرى الشمس أمّا والكواكب إخوة ... وينظر من بدر السماء الى ترب غنيت عن الآمال حين رأيته ... وأصبح من بين الورى كلّهم حسبى فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلا من السحب؟ وقال أبو حامد أحمد الأنطاكىّ لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات يرمى الخطوب برأى يستضاء به ... اذا دجا الرأى من أهل البصيرات فليس يلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفا في صدور السمهريّات

وقال أبو طالب المأمونىّ قد وجدنا خطا الكلام فساحا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا وعمدنا الى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا وصدعنا في أوجه الشّعر من بيض ... مساعيك بالندى أوضاحا كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مسمّاحا وأمان خرس بسطت لها في القول ... حتى أعدتهنّ فصاحا وبلاد جوامح رضتها بالعزم ... حتى أنسيتهنّ الجماحا شهرت منك آل سامان عضبا ... ينجح السعى غربه إنجاحا لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رواحا وقال أحمد بن محمد النامىّ أمير العلا إن العوالى كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنّة الخلد يمرّ عليك الحول، سيفك في الطّلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللّبد ويمضى عليك الدهر، فعلك للعلا ... وقولك للتقوى، وكفّك للرّفد وقال أيضا فتى، قسّم الايّام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد فسوّد يوما بالعجاج وبالردى ... وبيّض يوما بالفضائل والحمد وقال الصاحب بن عبّاد أيّها الآملون حطّوا سريعا ... برفيع العماد وارى الزناد

فهو إن جاد ذمّ حاتم طىء ... وهو إن قال فلّ قسّ إياد واذا ما ربا فأين زياد ... من علاه وأين آل زياد وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة فتى ملئت بردتاه علا ... ونبلا وفضلا ومجدا وخيرا اذا ضمّه الدّست ألفيته ... سحابا مطيرا وبدرا منيرا وإن أبرزته وغى خلته ... حساما بتورا وليثا هصورا وطورا معيدا وطورا مبيدا ... وطورا مجيرا وطورا أميرا ترى في ذراه لسان المنى ... طويلا وباع الليالى قصيرا تضمّ الأسرّة منه ذكاء ... وتحمل منه المذاكى ثبيرا وقال أبو الطيّب المتنبى بمشى الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتى وتبتدع من كان فوق محلّ الشمس موضعه ... فليس يرفعه شىء ولا يضع وقال أبو المعالى محمد بن مسعود الأصفهانىّ شاعر الخريدة قد حلّ في مدرج العلياء مرتبة ... مطامح الشهب عن غاياتها تقف أغرى بوصف معاليه الورى شغفا ... لكنه والمعالى فوق ما وصفوا إن ناصبته العدا فالدهر معتذر ... أو أنكروا فضله فالمجد معترف وقال السلامىّ شاعر اليتيمة يزور نائلك العافى وصارمك العاصى ... فتحويهما أيد وأعناق فى كلّ يوم لبيت المجد منك غنى ... وثروة ولبيت المال إملاق كم خضت من لجة للنفع زاخرة، ... ماء المنون بها- حاشاك- دفّاق

وقال المتنبى أنت الجواد بلا منّ ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا ملل وقال أبو الفرج الببغاء لا غيث نعماه في الورى خلّب البرق ... ولا ورد جوده وشل جاد الى أن لم يبق نائله ... مالا ولم يبق للورى أمل وقال محمد بن الحسن الحاتمىّ شاعر اليتيمة ومن عوّدته المكرمات شمائلا ... فليس له عنها- ولو شاء- ناقل وإن راسل الأعداء فالجود رسله ... اليهم وأطراف العوالى الرسائل عظمت، فهذا الدهر دونك همة، ... وجدت فهذا القطر عندك باخل وقال مؤيّد الدين الطغرائىّ لو دبّ رأيك في كعوب قنا ... ما مسّها طنب ولا خلل أو كان ضوءك للغزالة لم ... يحجب ضياء جبينها الطّفل أو كان لطفك في الحياة لما ... طافت بها الأسقام والعلل أنت الذى لولا علاه عفت ... طرق الهدى واستبهم السّبل فى كلّ شعب من رويّته ... شعب ومن آرائه شعل يرتدّ عنه جفن حاسده ... فكأنه بالنار يكتحل وجه كيوم الصحو مبتسم ... ويد كليل الدّجن تنهمل مسحت على الأنواء راحته ... فانساق منها العارض الهطل إن ضنّ غيث أو خبا قمر ... فجبينه ويمينه البدل

وقال ابن الرومىّ آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات- اذا دجون- نجوم فيها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم وقال أبو الطيّب المتنبّى قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم اذا تولّوا عداوة كشفوا ... وإن تولّوا صنيعة كتموا تظن من كثرة اعتذارهم ... أنهم أنعموا وما علموا إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم أو شهدوا الحرب لاقحا أخذوا ... من مهج الدار عين ما احتكموا أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متّهم وقال أيضا ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيّامه فيما يريد قيام وكلّ أناس يبتغون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام وقال أيضا هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم ولولا احتقار الأسد شبّهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهائم

وقال المشوّق الشامىّ شاعر اليتيمة يروح الى كسب الثناء ويغتدى ... اذا كان همّ الناس كسب الدراهم وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحقّ العطايا كان أوّل قائم يزيد ابتهاجا كلّما زار قاصد ... كأنّ به شوقا إلى كلّ قادم وقال السلامىّ شاعرها تشبّهه المدّاح في البأس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم ففى جيشه خمسون ألفا كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم وقال أبو طالب المأمونىّ من قصيدة يعمّم بالهندىّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم فلا ملك إلا ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم فرأيك نجم في دجى الليل ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كلّ ناجم وقال المشوّق الشامىّ ما زال يبنى كعبة للعلى ... ويجعل الجود لها ركنا حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبّلوا راحته اليمنى وقال المأمونىّ من قصيدة همام يبكّى المشرفيّة ساخطا ... ويضحك أبكار الأمانىّ راضيا ولو أنّ بحرا يستطيع ترقّيا ... اليه لأمّ البحر جدواه راجيا

ذكر ما قيل في الافتخار

ذكر ما قيل في الافتخار قالوا: أفخر بيت قالته العرب قول جرير إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا قال: دخل رجل من بنى سعد على عبد الملك بن مروان فقال له: ممن الرجل؟ قال: من الذين قال لهم الشاعر اذا غضبت عليك بنو تميم، البيت. قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول فيهم القائل يزيد بنو سعد على عدد الحصى ... وأثقل من وزن الجبال حلومها قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر بنات بنى عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غرّان قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا قال: فمن أيّهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّى بأنف الناقة الذنبا قال: اجلس، لا جلست، والله لقد خفت أن تفخر علىّ! وقالوا: أفخر بيت قالته العرب قول الفرزدق ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا الى الناس وقّفوا! وقال عمرو بن كلثوم وهو أبلغ ما قاله جاهلىّ في الافتخار ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العائفون اذا عصينا! ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا!

وقال إبراهيم بن العبّاس إما ترينى أمام القوم متّبعا، ... فقد أرى من وراء الخيل أتّبع يوما أبيح فلا أرعى على نشب ... وأستبيح فلا أبقى ولا أدع لا تسألى القوم عن حىّ صبحتهم ... ماذا صنعت؟ وماذا أهله صنعوا؟ وقالوا: من أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة وما أنا في نفسى ولا في عشيرتى ... بمهتضم حقّى ولا قارع سنّى ولا مسلم مولاى عند جناية ... ولا خائف مولاى من شرّ ما أجنى وأن فؤادى بين جنبىّ عالم ... بما أبصرت عينى وما سمعت أذنى وفضّلنى في الشّعر واللّبّ أننى ... أقول على علم وأعلم ما أعنى فأصبحت إذ فضّلت مروان وابنه ... على الناس قد فضّلت خير أب وابن وقال أبو هفان لعمرى لئن بيّعت في دار غربة ... بناتى إذ ضاقت علىّ المآكل فما أنا إلا السيف يأكل جفنه، ... له حلية من نفسه وهو عاطل قال أبو هلال العسكرىّ: ولا أعرف في الافتخار أحسن مما أنشده أبو تمام وهو فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتّامين للمتشتّم ولكننا نأبى الظّلام ونقتضى ... بكلّ رقيق الشفرتين مصمّم وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم ومن الافتخار قول السموءل بن عاديا من كلمته التى أوّلها اذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل

وقائلة ما بال أسرة عاديا ... تنادى وفيها قلّة وحمول تعيّرنا أمّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وأنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... اذا ما رأته عامر وسلول يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منّا سيد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل صفونا فلم نكدر وأخلص سرّنا ... إناث أطابت حملنا وفحول علونا الى خير الظهور وحطّنا ... لوقت الى خير البطون نزول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول اذا سيّد منا خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمّنا في النازلين نزيل وأيامنا مشهورة في عدوّنا ... لها غرر معلومة وحجول وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معوّدة أن لا تسلّ نصالها ... فنغمد حتى يستباح قبيل سلى إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول فإن بنى الديّان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول

وقال أبو هلال العسكرىّ من قصيدة وما ضاع مثلى حيث حلّت ركابه ... بلى حيث ضاع المجد مثلى ضائع ومثلى مخضوع له غير أنه ... اذا كان مجهول الفضائل خاضع ومثلى متبوع على كل حالة ... فإن ينقلب وجه الزمان فتابع وقال عبد الله بن المعتز سألتكما بالله هل تعلماننى؟ ... ولا تكتما شيأ فعندكما خبرى أأرفع نيران القرى لعفاتها ... وأصبر يوم الروع في ثغرة الثّغر؟ وأسأل نيلا لا يجاد بمثله ... فيفتحه بشرى ويختمه عذرى؟ ومن الافتخار قول بعض الشعراء، ويروى لحسّان بن ثابت من قصيدة أوّلها أنسيم ريحك أم خيار العنبر ... يا هذه، أم ريح مسك أزفر؟ قولى لطيفك أن يصدّ عن الحشى ... سطوات نيران الأسى، ثمّ اهجرى وانهى رماتك أن يصبن مقاتلى ... فينال قومك سطوة من معشرى إنّا من النّفر الذين جيادهم ... طلعت على كسرى بريح صرصر وسلبن تاجى ملك قيصر بالقنا ... واجترن باب الدّرب لابن الأصفر كم قد ولدنا من كريم ماجد ... دامى الأظافر أو ربيع ممطر خلقت أنامله لقائم مرهف ... ولبذل مكرمة وذروة منبر يلقى الرماح بوجهه وبصدره ... ويقيم هامته مقام المغفر ويقول للطّرف اصطبر لشبا القا ... فهدمت ركن المجد إن لم تصبر واذا تأمّل شخص ضيف مقبل ... متسربل سر بال ثوب أغبر أوما الى الكوماء هذا طارق ... نحرتنى الأعداء إذ لم تنحر

ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام

ذكر ما قيل في الجود والكرم وأخبار الكرام حقيقة الجود بذل المال، قال الله عزّوجلّ: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله استخلص هذا الدّين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزيّنوا دينكم بهما» وقال صلّى الله عليه وسلم: «تجاوزوا عن ذنب السّخىّ فإن الله عزّوجلّ آخذ بيده كلّما عثر وفاتح له كلّما افتقر» وقال صلّى الله عليه وسلم: «الجود من جود الله تعالى فجودوا يجود الله عليكم» . «ألا إن السخاء شجرة في الجنة أغصانها متدلية فى الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة» . «ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة» . وقال علىّ بن عبد الله بن عبّاس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء. وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره. وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا. ويقال: مراتب السخاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار، فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك بشىء، وهو أشرف درجات الكرم، وبه استحقّوا ثناء الله عزّوجلّ عليهم في قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) . ومن كلام ينسب الى جعفر بن محمّد: لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. الجود زكاة السّعادة، والإيثار على النفس موجب لاسم الكرم، وقال: لا يستحى من بذل القليل فإن الحرمان أقلّ منه. قال بعض الشّعراء أعط القليل ولا يمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود

وقال علىّ بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله. وقال الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما: أيّها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ قال: أن تعطى المال من لا تعرف؛ فإنّه لا يصير اليه حتى يتخطّى من تعرف. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: لو لم يكن في الكرم، إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمّى بها فهو الكريم عزّوجلّ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله عزوجل قد عوّدنى بعادة أن يتفضل علىّ، وعودته أن أتفضل على عباده، وأخاف أن أقطع العادة فيقطع عنى. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلّبىّ: إنك متلاف، قال: منع الجود، سوء ظنّ بالمعبود. قال الله تعالى: (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) . وقال أكثم بن صيفىّ حكيم العرب: ذلّلوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها الى المحامد، وعلّموها المكارم، ولا تقيموها على خلق تذمّونه من غيركم، وصلوا من رغب اليكم وتحلّوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل، تتعجلوا الفقر؛ أخذه شاعر فقال أمن خوف فقر تعجلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع؟ فصرت الفقير وأنت الغنىّ ... وما كنت تعدو الذى تصنع وكتب رجل من البخلاء الى رجل من الأسخياء يأمره بالإنفاق على نفسه ويخوّفه الفقر، فأجابه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) وإنى أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.

وكان سعيد بن العاصى يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين، إما لمصلح، فلا يقلّ عليه شىء، وإما لمفسد، فلا يبقى له شىء. أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد فاذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصّلاح قليله يتزيّد وقال أبو ذرّ رضى الله عنه: لك في مالك شريكان، الحدثان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظّا فافعل. وقال بزرجمهر الفارسىّ: إذا أقبلت عليك الدنيا، فانفق منها، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك، فانفق منها، فإنها لا تبقى؛ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال لا تبخلنّ بدنيا وهى مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف وإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن ظنّ بالله، ولو أن أهل البخل، لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم، ومذمّة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنّهم بربهم في الخلف، لكان عظيما؛ أخذه محمود الورّاق فقال من ظنّ بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظنّ المرء بالله وقيل لأبى عقيل البليغ العراقىّ: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة اليه؟ قال: رأيت رغبته في الإنعام، فوق رغبته في الشكر، وحاجته الى قضاء الحاجة، أشدّ من حاجة صاحبها.

وقال زياد: كفى بالبخيل عارا، أن اسمه لم يقع في حمد قطّ. وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما، فأصون له عرضه. أو لئيما، فأصون عرضى منه. وقال إبراهيم بن المهدىّ: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجفّ بيده قلم، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء: أخبرنى عن الحالة التى خفّفت عنك النّصب، وهوّنت عليك التعب، فى القيام بحوائج الناس، ما هى؟ قال: قد والله سمعت [تغريد الطّير بالأسحار، فى فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتار العيدان «1» ] وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قطّ، طربى من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب، لطالب شاكر؛ قال إبراهيم: فقلت، لله أبوك! لقد حشيت كرما. وكان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرىّ من أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوما ألأم من إخوتك، فقال لها: لمه؟ وأنّى قلت ذاك؟ فقالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله كرمهم، يأتوننا في حال القوّة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم. وحكى أن رجلا شيخا أتى سعيد بن سالم، وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع الشيخ زجّ عصاه التى يتوكأ عليها، على رجل سعيد حتّى أدماها، فما تأوّه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه، قيل له: كيف صبرت على هذا منه؟ فقال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن ذكر حاجته.

ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم

ذكر من انتهى اليهم الجود في الجاهلية وذكر شىء من أخبارهم والذى انتهى اليهم الجود في الجاهلية حاتم بن عبد الله بن سعد الطائىّ، وهرم بن سنان المرّىّ، وكعب بن مامة الإيادى، وضرب المثل بحاتم وكعب، والمشهور حاتم. وكعب هذا: هو الذى جاد بنفسه، وآثر رفيقه بالماء في المفازة، ولم يشهر له خبر غير هذا. وأما حاتم فأخباره مشهورة منها: أنه كان اذا اشتد البرد، أمر غلامه يسارا، فأوقد نارا في بقاع من الأرض، لينظر اليها من ضلّ عن الطريق، وفي ذلك يقول أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ عسى يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ قالوا: ولم يك حاتم يمسك غير سلاحه وفرسه، ثم جاد بفرسه في سنة أزمة. قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض، واغبرّ أفق السماء، وضنّت المراضع عن أولادها، لا تبضّ بقطرة، وأيقنّا بالهلاك، فو الله، إنّى لفى ليلة صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا، عبد الله، وعدىّ، وسفانة، فقام حاتم الى الصبيّين، وقمت الى الصبيّة، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلنى، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهوّرت النجوم، إذا بشىء قد رفع كسر البيت، فقلت: من هذا؟ فولّى، ثم عاد آخر الليل، فقال من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عوى الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك أبا عدىّ، فقال: أعجليهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين،

ويمشى بجانبها أربع كأنها نعامة حولها رئالها، فقام الى فرسه، فوجأ لبّته بمدية، فخر، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية الى المرأة، وقال: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوى، ونأكل، ثم جعل يأتيهم بينا بيتا، فيقول: هبّوا عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر الينا، لا والله إن ذاق منه مضغة وإنه لأحوج اليه منّا، فأصبحنا وما في الأرض إلا عظم أو حافر. وقيل: كان مبدأ الأمر لحاتم في الجود، أنه لما ترعرع، جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه، أنه يهلك طعامه، قال له: ألحق بالإبل، فخرج إليها، فوهب له جارية، وفرسا وفلوها. وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصّة كانت مع جدّه سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الإبل، طفق يبتغى الناس، فلا يجدهم، ويأتى الطريق، فلا يجد عليه أحدا، فبينا هو كذلك، إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم، فقالوا: يا فتى، هل من قرى؟ فقال: تسألوننى عن القرى؟ وقد ترون الإبل! وكان الذى بصر بهم، عبيد ابن الأبرص، وبشر بن أبى خازم، والنابغة الذّبيانىّ، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة، إن كنت لا بدّ متكلّفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكن رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرّقة، فظننت أن البلدان غير واحد، فأردت أن يذكر كلّ واحد منكم ما رأى، إذا أتى قومه فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن اليكم، فصار لكم الفضل علىّ، وإنى أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلى عن آخرها، أو تقوموا اليها فتقتسموها ففعلوا! فأصاب كل واحد تسعا وثلاثين بعيرا، ومضوا على سفرهم الى النعمان، وأن أبا حاتم أو جدّه، سمع بما فعل، فقال:

أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجدا وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيث شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك، قال: أبإبلى فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا، فخرج أبوه بأهله، وترك حاتما، ومعه جاريته وفرسه وفلوه. قال: فبينما حاتم يوما نائم، إذ انتبه، وحوله نحو مائتى بعير تجول وتحطم بعضها بعضا، فساقها الى قومه، فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك، فقد رزقت مالا، ولا تعودنّ الى ما كنت فيه من الإسراف، قال: فإنها نهب بينكم، فانتهبت؛ ثم أقبل ركب من بنى أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، وقد أرسلوا اليك برسالة، قال: وما هى؟ فأنشده الأسديّون شعرا، لعبيد، وأنشده الليثيّون شعرا للنابغة، ثم قالوا: إنا لنستحى أن نسألك شيئا وإنّ لنا لحاجة، قال: وما هى؟ قالوا: صاحب لنا راجل، فقال حاتم: خذوا فرسى هذه، فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية لتردّه، فقال حاتم: ما لحقكم من شىء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية. وأما هرم بن سنان، فمن أخباره: أنه آلى على نفسه أنه لا يسلّم عليه زهير إلا أعطاه فقلّ مال هرم، وكان زهير يمرّ بالنادى وفيه هرم فيقول: أنعموا صباحا ما خلا هرما، وخير القوم تركت؛ قالوا: وكان عبد الله بن جدعان، حين كبر، أخذت بنو تميم على يده، ومنعوه أن يعطى شيئا من ماله، فكان الرجل اذا أتاه يطلب منه، قال له: ادن منّى، فاذا دنا منه لطمه، ثم قال: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تميم من ماله؛ وفيه يقول الشاعر والذى إن أشار نحوك لطما ... تبع اللّطم نائل وعطاء

ومن أخبار الكرام: ما حكى أنّ خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق، كان يكثر الجلوس ثم يدعو بالبدر ويقول: إنما هذه الأموال ودائع العرب لا بدّ من تفرقتها، فقال ذلك مرّة، وقد وفد عليه أخوه أسد بن عبد الله من خراسان، فقام، فقال أيها الأمير إن الودائع تجمع لا تفرق، فقال: ويحك! إنها ودائع المكارم؛ وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظمآن فأرويناه، فقد أدّينا فيها الأمانة، ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابية في هروبه من سجن عمر بن عبد العزيز، وهو يريد البصرة، فقدّمت له عنزا فقبلها، ثم قال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال ثمانمائة دينار، قال: ادفعها اليها! فقال له ابنه: إنك تريد الرجال، ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهى بعد لا تعرفك، فقال: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفنى، فأنا أعرف نفسى، ادفعها إليها، فدفعها اليها. قال الأحنف: كثرت علىّ الدّيات بالبصرة، لما قتل مسعود، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين، فسألت: من المقصود هناك؟ فأرسلت الى قبّة، فاذا شيخ جالس بفنائها، مؤتزر بشملة، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له، فقال: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قلت: توفّى، قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذى كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات، قال: فأىّ خبر فى حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت الديات التى لزمتنا للأزد وربيعة، قال: أقم، فإذا راع قد أزاح عليه بألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر بمثلها، فقال: خذها، قلت: لا أحتاج اليها، فانصرفت بالألف، وو الله ما أدرى من هو الى الساعة. وروى عن معن بن زائدة، قال: لما هربت من المنصور، خرجت من باب حرب، بعد أن أقمت في الشمس أياما، وخففت لحيتى وعارضى، ولبست

جبّة صوف غليظة، وركبت جملا، وخرجت عليه لأمضى الى البادية، قال: فتبعنى أسود متقلد سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علىّ، فقلت: ما شأنك؟ فقال: أنت بغية أمير المؤمنين فقلت له: ومن أنا حتّى يطلبنى أمير المؤمنين؟ فقال معن بن زائدة فقلت: يا هذا! اتق الله وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معى، بأضعاف ما بذله المنصور، لمن جاءه بى فخذه ولا تسفك دمى، فقال: هاته، فأخرجته اليه، فنظر إليه ساعة، وقال: صدقت فى قيمته، لست قابله حتى أسألك عن شىء، فإن صدقتنى أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرنى هل وهبت قطّ مالك كلّه! قلت: لا، قال: فنصفه! قلت: لا، قال: فثلثه! قلت، لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت: إنى أظن قد فعلت هذا، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقى على أبى جعفر، عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك، ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، ولا تعجبك نفسك، ولتحقّر بعد هذا كلّ شىء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالعقد إلىّ، وخلّى خطام الجمل وانصرف، فقلت: يا هذا! قد والله فضحتنى، ولسفك دمى أهون علىّ مما فعلت، فخذ ما دفعته اليك، فإنى عنه في غنى، فضحك، ثم قال: أردت أن تكذّبنى في مقامى هذا، فو الله لا آخذه، ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى، فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن جاءنى به ماشاء، فما عرفت له خبرا، وكأنّ الأرض ابتلعته، وكان سبب غضب المنصور على معن ابن زائدة: أنه خرج مع عمرو بن يزيد بن عمرو بن هبيرة وأبلى في حربه بلاء حسنا.

ويقال: إن شاعرا أتى وهب بن وهب، وكان جوادا، فمدحه فهشّ وبش له وثنى له الوسادة وأضافه ورفده وحمله، فلما أراد الرّجل الرحلة، لم يخدمه أحد من غلمان وهب، فأنكر الرجل ذلك مع جميل فعله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنّا إنّما نعين النازل على الإقامة ولا نعين الراحل على الفراق. وكان الحارث بن هشام المخزومى في وقعة اليرموك، وبها أصيب فأثبتته الجراح، فاستسقى ماء، فأتى به، فلما تناوله، نظر الى عكرمة بن أبى جهل صريعا في مثل حاله، فردّ الإناء على الساقى، وقال: امض الى عكرمة بن أبى جهل، فمضى إليه، فأبى أن يشرب قبله، فرجع الى الحارث، فوجده ميتا، فرجع الى عكرمة، فوجده قد مات، فلم يشرب واحد منهما. وقد وصف الناس أهل الجود والكرم بمدائح، سنذكر ما استجودناه منها. فمن ذلك ما حكى عن أبى العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، قال: كان ببغداد فتى يجنّ ستة أشهر، فاستقبلته ببعض السكك ذات يوم، فقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال: فأنشدنى فأنشدته وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فكذا يكون أخادم وذبائح فضحك، ثم سكت ساعة، وقال: ألا قال؟ اذهبا بى إن لم يكن لكما عقر ... على ترب قبره فاعقرانى وانضحا من دمى عليه فقد كا ... ن دمى من نداه لو تعلمان ثم رآنى يوما بعد ذلك فتأمّلنى، وقال: ثعلب! قلت: نعم، قال: أنشدنى فأنشدته

أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا وإن ليثا شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا فضحك، وقال: ألا قال؟ علّم الجود النّدى حتّى إذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد فله الجود مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد وقال مسلم بن الوليد وهو مما يجوز إيراده في الشجاعة والكرم يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأول من أتى بهذا المعنى علقمة بن عبدة حيث قال تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... فأنت بها يوم اللّقاء خصيب وهذا مثل قول يزيد بن أبى يزيد الشيبانى: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كلتيهما. قالوا: وأجود ما قيل في ذلك قول أبى العتاهية يمدح العباس بن محمد لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها إن السماحة لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها فلم يثبه العباس، فقال هزرتك هزّة السيف المحلّى ... فلما أن ضربت بك انثنيت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت فلما سمع العباس الأبيات غضب، وقال: والله لأجهدنّ في حتفه، قال: فمرّ أبو العتاهية بإسحاق بن العباس، وقال له إسحاق: أنشدنى شيئا من شعرك فأنشده

ألا أيها الطالب المستغيث ... بمن لا يفيد ولا يرفد ألا تسأل الله من فضله ... فإن عطاياه لا تنفد إذا جئت أفضلهم للسؤا ... ل ردّ وأحشاؤه ترعد كأنّك من خشية للسؤا ... ل في عينه الحيّة الأسود فقرّ الى الله من لؤمهم ... فإنى أرى الناس قد أصلدوا وإنى أرى الناس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا ثم مضى، فقيل لإسحاق: إن هذا الشعر له في أبيك، فقال إسحاق: أولى له، لم عرّض نفسه وأحوج أبا العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقدرته؟ وقد أورد أبو الفرج الأصفهانىّ خبر هذه الأبيات، فقال: امتدح ربيعة الرّقّى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق اليها حسنا، وهى طويلة يقول فيها لو قيل للعباس: يا ابن محمّد ... قل «لا» وأنت مخلّد ما قالها ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمّها أو خالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها إن المكارم لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها قال: فبعث إليه بدينارين، وكان يقدّر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين، كاد أن يجن غضبا، وقال للرسول: خذ الدينارين فهما لك على أن تردّ إلىّ الرّقعة، من حيث لا يدرى العباس؛ ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، وأمر من كتب فى ظهرها

مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجرى في الكرام كما جريت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت فأنت المرء ليس له وفاء ... كأنى إذ مدحتك قد زنيت ثم دفعها إلى الرسول وقال: ضعها في الموضع الذى أخذتها منه، ففعل، فلما كان من الغد، أخذها العباس فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات، غضب، وقام من وقته، فركب إلى الرشيد، وكان أثيرا عنده يبجله ويقدّمه، وكان قد همّ أن يخطب اليه ابنته، فرأى الرشيد الكراهة في وجهه، فقال ما شأنك؟ قال: هجانى ربيعة الرقّى، فأحضره الرشيد، وقال له: يا ماص كذا وكذا من أمّه أتهجو عمّى، وآثر خلق الله عندى؟ لقد هممت أن أضرب عنقك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد امتدحته بقصيدة ما قال أحد مثلها من الشعراء في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء، وأكثرت الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضارها فعل، فلما سمع الرشيد ذلك، سكن غضبه، وأحب أن ينظر في القصيدة، فأمر العباس بإحضارها فتلكأ عليه، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين، إلا أمرت بإحضارها؟ فأحضرت، فإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها وأعجب بها، وقال: والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، ولقد صدق ربيعة فبرّ، ثم قال للعباس: كم أثبته عليها؟ فسكت العباس، وتغيّر لونه، وغصّ بريقه، فقال ربيعة: أثابنى عنها يا أمير المؤمنين دينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة عليه، فقال: بحياتى يا رقّى كم أثابك؟ فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابنى إلا بدينارين، فغضب الرشيد غضبا شديدا، ونظر في وجه العباس، وقال: سوءة لك! أيّة حال قعدت بك عن إثابته؟ أقلّة مال؟ فو الله لقد نولتك جهدى، أم

انقطاع المال عنك؟ فو الله ما انقطعت بك، ام أصلك؟ فهو الاصل الذى لا يدانيه شىء، أم نفسك؟ لا ذنب لى، بل نفسك والله فعلت بك ذلك، حتى فضحت أجدادك وفضحتنى، وفضحت نفسك، فنكس العباس رأسه، ولم ينطق، فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم، وخلعة، واحمله على بغلة، ثم قال له: بحياتى لا تذكره في شىء من شعرك تعريضا ولا تصريحا، وفتر الرشيد عما كان قد همّ به من أن يتزوج اليه وأظهر له بعد ذلك جفاء واطراحا. وقال محمد بن هانئ الواهب الألف إلا أنها بدر ... والطاعن الألف إلا أنها نسق تأتى عطاياه شتّى غير واحدة ... كما تدافع موج البحر يصطفق وقال الرضىّ الموسوىّ ريّان والأيام ظمآنة ... من النّدى نشوان بالبشر لا يمسك العدل يديه ولا ... تأخذ منه نشوة الخمر وقال أيضا ذخائره العرف في أهله ... وخزّان أمواله السائلونا وقال أمية بن أبى الصلت الثقفىّ يمدح عبد الله بن جدعان أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء؟ وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسناء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق السنىّ ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء

ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال

وقال الشمّاخ بن ضرار نزور امرأ يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد وأنت امرؤ، من تعطه اليوم نائلا ... بكفّك، لا يمنعك من نائل الغد ترى الجود لا يدنى من المرء حتفه ... كما البخل والإمساك ليس بمخلد مفيد ومتلاف، اذا ما سألته ... تهلّل، واهتزّ اهتزاز المهنّد متى تأته تعشو الى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد قال: ولما سمع عمر رضى الله عنه هذا البيت، قال: كذب، تلك نار موسى عليه السّلام. وقال السرىّ الرفّاء كالغيث والليث والهلال اذا ... أقمر بأسا وبهجة وندى ناس من الجود ما يجود به ... وذاكر منه كلما وعدا وقال أبو الفرج الوأواء من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين اثنين أنت اذا جدت ضاحكا أبدا ... وهو اذا جاد باكى العين وقال ابن نباتة السعدىّ من قصيدة لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله ... تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل ذكر ما قيل في الإعطاء قبل السؤال قال سعيد بن العاصى: قبح الله المعروف، اذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فما المعروف عوض من مسألة الرجل، اذا بذل وجهه، فقلبه خائف، وفرائصه ترعد، وجبينه يرشح، لا يدرى ايرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب، قد بات ليلته

يتململ على فراشه، يعاقب بين شقّيه، مرّة هكذا، ومرّة هكذا، من لحاجته؟ فخطرت بباله أنا أو غيرى، فمثّل أرجاهم في نفسه، وأقربهم من حاجته، ثم عزم علىّ، وترك غيرى، قد انتقع لونه، ودهب دم وجهه، فلو خرجت له مما أملك لم أكافئه، وهو على أمن منّى عليه، اللهم فإن كانت الدنيا لها عندى حظّ فلا تجعل لى حظّا في الآخرة. وقال أكثم بن صيفىّ: كلّ سؤال وإن قلّ، أكثر من كلّ نوال وإن جلّ. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لأصحابه: من كانت له إلىّ منكم حاجة، فليرفعها في كتاب، لأصون وجوهكم عن المسألة. وقال عبد العزيز بن مروان: ما تأمّلنى رجل قط، إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها. وقال حبيب عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها وقال أيضا ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهى إذا أفنيته عوض وقالوا: من بذل اليك وجهه، فقد وفّاك حقّ نعمته. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: ما الجود؟ فقال: التّبرع بالمال، والعطاء قبل السؤال. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه كريم على العلّات جزل عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال وما الجود من يعطى اذا ما سألته ... ولكنّ من يعطى بغير سؤال

ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام

وقال حبيب الطائىّ لئن جحدتك ما أوليت من كرم ... إنى لفى اللؤم أمضى منك في الكرم أنسى ابتسامك- والألوان كاسفة- ... تبسّم الصبح، فى داج من الظّلم رددت رونق وجهى في صفيحته ... ردّ الصّقال صفاء الصارم الخذم وما أبالى- وخير القول أصدقه- ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى ذكر ما قيل في الشجاعة والصبر والإقدام روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشجاعة غريزة يضعها الله فيمن يشاء من عباده، إن الله يحبّ الشجاع ولو على قتل حيّة» . وقالوا: حدّ الشجاعة سعة الصدر بالإقدام على الأمور المتلفة. وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال: جبلّة نفس أبيّة، قيل له: فما النجدة؟ قال: ثقة النفس عند استرسالها الى الموت، حتى تحمد بفعلها دون خوف. وقيل لبعضهم: ما الشجاعة؟ فقال: صبر ساعة. وقال بعض أهل التجارب: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل، فالفارس: الذى يشدّ اذا شدّوا، والشجاع: الداعى الى البراز والمجيب داعيه، والبطل: الحامى لظهور القوم اذا ولّوا. قال يعقوب بن السكّيت في كتاب الألفاظ: العرب تجعل الشجاعة في أربع طبقات، تقول: رجل شجاع، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بطل، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: بهمة، فاذا كان فوق ذلك، قالوا: اليس. وقال بعض الحكماء: جسم الحرب: الشجاعة، وقلبها: التدبير، ولسانها: المكيدة، وجناحها: الطاعة، وقائدها: الرفق، وسائقها: النصر.

قالوا: لما ظفر المهلّب بن أبى صفرة بالخوارج، وجّه كعب بن معدان الى الحجّاج، فسأله عن بنى المهلّب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشيخهم: قبيصة، ولا يستحيى الشجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك: سمّ ناقع، وحبيب: موت زعاف، ومحمد: ليث غاب، وكفاك بالمفضّل نجدة، قال: فكيف خلّفت جماعة الناس؟ قال: خلّفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلّب فيهم؟ قال: كانوا حماة السّرح نهارا، فاذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوّكم؟ قال: كنّا اذا أخذنا، عفونا، واذا اجتهدوا، اجتهدنا فيهم، فقال الحجّاج: (إنّ العاقبة للمتّقين) . وقالوا: أشجع بيت قالته العرب قول العباس بن مرداس السلمىّ أشدّ على الكتيبة لا أبالى ... أحتفى كان فيها أم سواها؟ وقد مدح الشعراء الشجاعة وأهلها، وأوسعوا في ذلك، فمن ذلك قول المتنبّى شجاع كأنّ الحرب عاشقة له ... اذا زارها فدّته بالخيل والرّجل وقال أيضا وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضا بلا رجل ما زال طرفك يجرى في دمائهم ... حتى مشى بك مشى الشارب الثمل وقال العماد الإصفهانىّ قوم إذا لبسوا الحديد الى الوغى ... لبس الحداد عدوّهم في المهرب المصدرون الدّهم عن ورد الوغى ... شقرا تجلّل بالعجاج الأشهب

وقال أبو الفرج الببغاء واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكرّ يخرق سجفها الممدودا وعلى الصّفاح من الكفاح وصدقه ... ردع أحال بياضها توريدا والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التليل وقودا وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا وأجلّ ما عند الفوارس حثّها ... فى طاعة الهرب الجياد القودا حتى إذا ما فارق الرأى الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا لم يغن غير أبى شجاع والعلا ... عنه تناجى النصر والتأييدا وقال أيضا وروى للبحترىّ من كلّ متّسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل يسعى به البرق، إلا أنه فرس ... فى صورة الموت إلا أنه رجل يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل وقال البحترىّ معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لو لاهم أن تميدا فإذا الجدب جاء كانوا غيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا وكأنّ الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارة أو حديدا وقال مسلم لو أنّ قوما يخلقون منيّة ... من بأسهم كانوا بنى جبريلا قوم إذا حمى الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا

ومما قيل في الصبر والإقدام

وقال آخر عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حرب والقنا آجام وبدور تمّ والشوائك في الوغى ... هالاتها والسابرىّ غمام جادوا بممنوع التلاد وجوّدوا ... ضربا تخدّ به الطّلا والهام وتجاورت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام وقال آخر قوم، شراب سيوفهم ورماحهم ... فى كلّ معترك دم الأشراف رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كلّ لكلّ جسيم أمر كاف يتحنّنون إلى لقاء عدوّهم ... كتحنّن الألّاف للألّاف ويباشرون ظبا السيوف بأنفس ... أمضى وأقطع من ظبا الأسياف وقال ابن حيّوس إن ترد خبر حالهم عن قريب ... فأتهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار النقع، ... خضر الأكناف حمر النصال ومما قيل في الصبر والإقدام قال الله عزوجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية فاذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا من ذكر الله وإن جلبوا وضجّوا فعليكم بالصمت» .

ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: ربّ حياة، سببها التعرّض للموت، وربّ منيّة، سبّبها طلب الحياة. وقالوا: أجمع كلمة قيلت في الصبر قول بعضهم: الصبر مطيّة النصر. وقال آخر: الصبر مطيّة لا تكبو، وإن عنف عليه الزمان. وقال آخر: الصبر شرية «1» ، تثمر أرية «2» . وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: إنك لتلقى نفسك في المهالك، فقال: إن لم آت الموت مسترسلا، أتانى مستعجلا، إنى لست آتى الموت من حبّه، وإنما آتيه من بغضه، وتمثّل بقول الحصين بن الحمام تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدّما وهى قصيدة مشهورة منها فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما نفلّق هاما من كرام أعزّة ... علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوما ذا كواكب مظلما صبرنا، وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما ولما رأيت الودّ ليس بنافعى ... عمدت الى الأمر الذى كان أحزما فلست بمبتاع الحياة بسبّة ... ولا مرتق من خشية الموت سلّما وقالت العرب: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة. وكذلك: إن من يقتل مدبرا، أكثر ممن يقتل مقبلا. وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت، توهب لك الحياة.

وقالت الحكماء: استقبال الموت، خير من استدباره. وقال العلوىّ محرّمة أكفال خيلى على القنا ... ودامية لبّاتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندقّ منها في الصدور صدورها وقال أبو تمّام قلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم ... جيش من الصبر لا يحصى له عدد اذا رأوا للمنايا عارضا لبسوا ... من اليقين دروعا مالها زرد ناوا عن المصرح الأدنى فليس لهم ... إلا السيوف على أعدائهم مدد وما زالت العرب يتمادحون بالموت قعصا، ويتسابّون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه، وأوّل من قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومدح أعرابىّ قوما فقال يقتحمون الحرب كأنما ... يلقونها بنفوس أعدائهم وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، وقال السموءل بن عادياء وما مات منا سيّد في فراشه ... ولا ظلّ منا حيث كان قتيل تسيل على حدّ الظّباة نفوسنا ... وليست على غير الظّباة تسيل وقال أيضا آخر وإنا لتستحلى المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرّة ما نذوقها

وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم صفّين، وقد قيل له: أتقائل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشىّ في إزار ورداء؟ فقال: أبا لموت تخوّفوننى؟ فو الله ما أبالى، أسقطت على الموت، أم سقط الموت علىّ؛ وقال لابنه الحسن: لا تدعونّ أحدا الى المبارزة، وإن دعيت اليها فأجب، فانّ الداعى اليها باغ، وللباغى مصرع. وقال رضى الله عنه بقية السيف أنمى عددا يريد أن السيف اذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى. وقال ابن عباس رضى الله عنه: عقمت النساء أن تأتى بمثل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، لعهدى به يوم صفّين، وعلى رأسه عمامة بيضاء، وهو يقف على شرذمة شرذمة من الناس، يحضّهم على القتال، حتى انتهى الىّ، وأنا في كنف من الناس، وفي أغيلمة من بنى عبد المطّلب، فقال: يا معشر المسلمين، تجلببوا السكينة، وكلّموا اللأمة، وأقلقوا السيوف في الأغماد، وكافحوا بالظّبا، وصلوا السيوف بالخطا، فإنكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنه عار في الأعقاب، ونار في الحساب، وطيبوا على الحياة أنفسا، وسيروا الى الموت سيرا سجحا «1» ، ودونكم هذا الرواق الأعظم، فاصبروا، فإن الشيطان راكب صعدته، قدّموا للوثبة رجلا، وأخّروا للنكوص أخرى، فصمدا صمدا، حتى يبلغ الحقّ أجله، والله معكم، ولن تترككم اعمالكم؛ ثم صدر عنا، وهو يقرأ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) . وكان معاوية بن أبى سفيان يتمثل يوم صفّين بهذه الأبيات أبت لى شميتى وأبى بلائى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح

وإقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيج وقولى كلّما جشأت لنفسى ... مكانك تحمدى أو تستريحى لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح وقال قطرىّ بن الفجاءة أمير الخوارج وقولى كلّما جشأت لنفسى ... من الأبطال ويحك لا تراعى فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذى لك لم تطاعى فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كلّ حىّ ... وداعيه لأهل الأرض داعى وقال عبد الله بن رواحة الأنصارىّ يا نفس إن لم تقتلى تموتى ... إن تسلمى اليوم فلا تفوتى أو تبتلى فطالما عوفيت ... هذى حياض الموت قد صليت وما تمنّيت فقد لقيت ... إن تفعلى فعلهما هديت وإن تولّيت فقد شقيت يريد بقوله فإن تفعلى فعلهما هديت فعل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى طالب رضى الله عنهما؛ وكانا قتلا في ذلك اليوم بموته. وكان علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، يخرج كلّ يوم بصفّين حتى يقف بين الصفين وينشد من أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر فيوم لا يقدر لا أرهبه ... ثمّ من المقدور لا ينجو الحذر

ومثله قول جرير من قصيدة أولها هاج الفراق لقلبك المهتاج منها قل للجبان إذا تأخر سرجه ... ما أنت من شرك المنية ناجى وقالت امرأة من عبد القيس أبوا أن يفرّوا والقنا في نحورهم ... ولم يبتغوا من خشية الموت سلّما ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما وقال حبيب بن أوس الطائىّ فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر غدا غدوة والحمد نسج ردائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر وقال قوم اذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أن المنيّة تخلق أنظر بحيث ترى السيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق وقال الببغاء يسعى الى الموت والقنا قصد ... وخيله بالرءوس تنتعل كأنه واثق بأنّ له ... عمرا مقيما وما له أجل وقال كعب بن مالك نصل السيوف اذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها اذا لم تلحق

ومثله لبعض بنى قيس بن ثعلبة لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم ... حدّ الظباة وصلناها بأيدينا ومثله قول الآخر إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا الى أعدائنا فنقارب ومثله قول ودّاك بن ثميل المازنىّ مقاديم وصّالون في الرّوع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمانى اذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأىّ مكان وقال أبو تمّام في سعة الخطو خطو، ترى الصارم الهندىّ منتصرا ... به، من المازن الخطّىّ منتصفا وقال آخر كأنّ سيوفه صيغت عقودا ... تجول على الترائب والنحور وسمر رماحه جعلت هموما ... فما يخطرن إلا في ضمير وأجود ما قاله محدّث في الصبر قول ابن الرومىّ أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف اذا ما لم يكن عنه مذهب؟ هناك يحقّ الصبر، والصبر واجب ... وما كان منه كالضرورة أوجب فشدّ امرؤ بالصبر كفّا فإنه ... له عصمة، أسبابها لا تقضّب هو المهرب المنجى لمن أحدقت به ... مكاره دهر ليس منهنّ مهرب لبوس جمال جنّة من شماتة ... شفاء أسى يثنى به ويثوّب

ذكر ما قيل في وفور العقل

فيا عجبا للشىء هذى خلاله ... وتارك ما فيه من الحظ أعجب وقد يتظّنى الناس أن أساهم ... وصبرهم فيهم طباع مركّب فإنهما ليسا كشىء مصرّف ... يصرّفه ذو نكبة حين ينكب فإن شاء أن يأسى أطاع له الأسى ... وإن شاء صبرا جاءه الصبر يجلب وليسا كما ظنوهما بل كلاهما ... لكلّ لبيب مستطاع مسبّب يصرّفه المختار منا فتارة ... يراد فيأتى، أو يزاد فيذهب اذا احتجّ محتجّ على النفس لم تكد ... على قدر يمنى لها تتعتّب وساعدها الصبر الجميل فأقبلت ... إليها له طوعا جنائب تجنب وإن هو منّاها الأباطيل لم تزل ... تقاتل بالعتب القضاء وتغلب فيضحى جزوعا إن أصابت مصيبة ... ويمسى هلوعا إن تعذّر مطلب فلا يعذرنّ التارك الصبر نفسه ... بأن قيل: إن الصبر لا يتكسّب ذكر ما قيل في وفور العقل قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال المفسرون: عبّر عن العقل بالقلب، لأنه محلّه وسكنه، وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ، وقال تعالى: (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) .* وقال تعالى: (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أوّل ما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتى وجلالى، ما خلقت خلقا أكرم على منك، بك آخذ، وبك أعطى، وبك أثيب، وبك أعاقب» .

وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى قسم العقل على ثلاثة أقسام، فمن كنّ فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه جزء منها، فلا عقل له» ، قيل: يا رسول الله، ما أجزاء العقل؟ قال: حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله» . وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدى صاحبه الى هدى، ويردّه عن ردّى، وما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه، حتى يكمل عقله» . وعن عمر رضى الله عنه أنه قال لتميم الدارىّ: ما السؤدد فيكم؟ قال: العقل، قال: صدقت، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما سألتك، فقال كما قلت، ثمّ قال: سألت جبريل ما السؤدد؟ فقال: العقل. وعن عايشة رضى الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، بأى شىء يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بالعقل، قلت: وفي الآخرة؟ قال بالعقل، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم! فقال: «يا عايشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله تعالى من العقل، فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» . وعن سعيد بن المسيّب: أن عمرو أبىّ بن كعب وأبا هريرة دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، قالوا: أليس العاقل من طهرت مروءته، وظهرت فصاحته، وجادت كفّه، وعظمت منزلته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين) إن العاقل هو التقىّ وإن كان في الدنيا خسيسا دنيا.

وورد في الأثر: «أنّ الله تعالى أنزل على آدم عليه السّلام العقل والدين والحياء، فاختار العقل، فقيل للدين والحياء: ارتفعا، قالا: لا، قال: أفعصيتما أمر ربّكما؟ قالا: ما عصينا أمر ربّنا، ولكنّا أمرنا أن نتبع العقل حيث كان» . وقال لقمان لابنه: إن غاية الشرف والسؤدد في الدنيا والآخرة، حسن العقل، لأن العبد إذا حسن عقله، غطّى ذلك عيوبه، وأصلح مساويه، ورضى عنه خالقه، وكفى بالمرء عقلا أن يسلم الناس من شرّه. وقيل: مكتوب في حكمة آل داود عليه السّلام: على العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شأنه. وقال بعض الحكماء: كلّ شىء يعز اذا قلّ، والعقل كلّما كان أكثر كان أعز وأغلى، ولو بيع، لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، وأوّل شرف العقل أنه لا يشترى بالمال. قال أبو عطاء السندىّ فإن العقل ليس له اذا ما ... تذكّرت الفضائل من كفاء وقالوا: العلم قائد، والعقل سائق، والنفس بينهما حرون، فاذا كان قائد بلا سائق هلكت، وان كان سائق بلا قائد أخذت يمينا وشمالا، فاذا اجتمعا أجابت طوعا أوكرها.

ذكر ما قيل في حد العقل وماهيته وما وصف به

ذكر ما قيل في حدّ العقل وماهيّته وما وصف به وقد اختلف الحكماء، فى حد العقل، فقيل: حدّه الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا، وقيل: النظر في العواقب، وقال المتكلمون: هو اسم لعلوم اذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على شهواته، وقيل: هو من عقل نفسه عن المحارم، وقال عمرو بن العاص: أن يعرف خير الخيرين، وشرّ الشرين. قال أبو هلال: ومن العجب أن العرب تمثّلت في جميع الخصال، بأقوام جعلوهم أعلاما فيها، فضربوا بها المثل اذا أرادوا المبالغة، فقالوا: أحلم من الأحنف، ومن قيس بن عاصم، وأجود من حاتم، ومن كعب بن مامة، وأشجع من بسطام، وأبين من سحبان، وأرمى من ابن تقن، وأعلم من دغفل، ولم يقولوا: أعقل من فلان، فلعلّهم لم يستكملوا عقل أحد، على حسب ما قال الأعرابىّ، وقد قيل له: حدّ لنا العقل، فقال: كيف أحدّه ولم أره كاملا في أحد قطّ. وقيل لحكيم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حدّ له. وقالوا: لكلّ شىء غاية وحدّ، والعقل لا غاية له ولا حدّ، ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطّيب. واختلفوا في ماهيّة العقل، كما اختلفوا في حدّه، فقال بعضهم: هو نور وضعه الله تعالى طبعا وغريزة في القلب، كالنور في العين وهو البصر، فالعقل نور في القلب، والبصر نور في العين، وهو ينقص ويزيد، ويذهب ويعود، وكما يدرك بالبصر شواهد

الأمور، كذلك يدرك بالعقل كثير من المحجوب والمستور، وعمى القلب كعمى البصر، قال تعالى: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الأعمى من عمى بصره، ولكن من عميت بصيرته» . وقال عبد الله بن عمر بن معاوية عن عمر بن عتبة المعروف بالعتبىّ: العقل عقلان، عقل تفرّد الله تعالى بصنعه، وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع، فاذا اجتمعا، قوّى كلّ واحد منهما صاحبه، تقوية النار في الظّلمة للبصر. نظم بعض الشعراء هذا اللفظ فقال، ويروى لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه رأيت العقل عقلان: ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع ... اذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع وأكثر الناس على أنّ العقل في القلب، ودليله قوله عزوجلّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العقل في القلب يفرق به بين الحقّ والباطل» . وقال بعضهم: هو في الدماغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وأما ما وصف به فقيل: العقل وزير رشيد، وظهير سعيد، من عصاه أرداه، ومن أطاعه أنجاه.

وقال سعيد بن جبير: لم تر عيناى أجلّ من فضل عقل يتردّى به الرجل إن انكسر جبره، وإن تصدّع أنعشه، وإن ذلّ أعزّه، وإن أعوج أقامه، وإن عثر اقاله، وإن افتقر أغناه، وإن عرى كساه، وإن غوى أرشده، وإن خاف أمّنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلّم صدقه، وإن أقام بين أظهر قوم اغتبطوا به، وإن غاب عنهم أسفوا عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشار قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطر قالوا: معذور. قال بعض الشعراء يعدّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب وإن حلّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وقال بعض الحكماء: إذا غلب العقل الهوى، صرف المساوىء الى المحاسن، فجعل البلادة حلما، والحدّة ذكاء، والمكر فطنة، والهذر بلاغة، والعىّ صمتا، والعقوبة أدبا، والجبن حذرا، والإسراف جودا. وقيل: لو صوّر العقل، لأضاء معه الليل، ولو صوّر الجهل، لأظلم معه النهار. قال المتنبّى لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى الى شرف من الإنسان وقد ندب الى صحبة العقلاء. قال الزّهرىّ: اذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل. قال ابن زرارة: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فإنّ العقل يقع على العقل. قال بعض الشعراء عدوّك ذو العقل أبقى عليك ... وأبقى من الوامق الأحمق

وقال آخر لله درّ العقل من راشد ... وصاحب في اليسر والعسر وحاكم يقضى على غائب ... قضيّة الشاهد للأمر وإنّ شيئا بعض أحواله ... أن يفصل الخير من الشرّ له قوّى، قد خصّه ربّه ... بخالص التقديس والطّهر وقال آخر إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... - وإن كان ذا قدر على الناس- هيّن وإن كان ذا عقل أجلّ لعقله، ... وأفضل عقل عقل من يتبيّن وقال آخر العقل حلّة فخر من تسر بلها ... كانت له نشبا يغنى عن النّشب وأفضل العقل ما في الناس كلّهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة العطب وقال ابن دريد وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شىء يقاربه فزين الفتى في الناس صحّة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه ويزرى به في الناس قلّة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه اذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه وقال آخر ما وهب الله لامرئ هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه هما جمال الفتى، فإن عدما ... فإنّ فقد الحياة أنفع به

ذكر ما قيل في الصدق

وقال آخر ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنّذل ولم أر من عدم أضرّ على الفتى ... اذا عاش بين الناس من عدم العقل ذكر ما قيل في الصدق قال الله عزّوجلّ مبشّرا للصادقين: (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تحرّوا الصدق، فإن الصدق يهدى الى البرّ، والبرّ يهدى الى الجنة، وإن المرء ليتحرّى الصدق، حتى يكتب صدّيقا» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه قال: جاء رجل الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما عمل أهل الجنّة؟ قال: الصدق، اذا صدق العبد برّ، واذا بر أمن، واذا أمن دخل الجنّة. قال: يا رسول الله ما عمل أهل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، واذا فجر كفر، واذا كفر دخل النار. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بم يعرف المؤمن؟ قال: بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه. ومن كلام علىّ رضى الله عنه: الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك. وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية، والمعروف أربح تجارة، والشكر أدوم نعمة. وقال بعضهم: رأيت أرسطا طاليس في المنام، فقلت: أىّ الكلام أحسن؟

فقال: ما صدق قائله، قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما استحسنه سامعه، قلت: ثمّ ماذا؟ قال: كل كلام جاوز هذا فهو ونهيق الحمار بمنزله. وقال الأحنف لابنه: يا بنىّ، يكفيك من شرف الصدق، أن الصادق يقبل قوله في عدوّه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يقبل قوله في صديقه ولا عدوّه، لكلّ شىء حلية، وحلية المنطق الصدق يدل على اعتدال وزن العقل. قال عامر بن الظّرب العدوانىّ في وصيّته: إنى وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا، من لزم الصدق وعوّده لسانه، فلا يكاد يتكلّم بشىء يظنّه، إلا جاء على ظنّه. وقالوا: ما السيف الصارم، فى كفّ الشجاع، بأعزّ من الصدق. وقيل: مرّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، بعجوز تبيع اللبن، فقال لها: يا عجوز، لا تغشّى المسلمين، ولا تشوبى لبنك بالماء، قالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم مرّ بها بعد ذلك، فقال يا عجوز، ألم أعهد إليك أن لا تشوبى لبنك بالماء؟ فقالت: والله ما فعلت يا أمير المؤمنين، فتكلّمت بنت لها من داخل الخباء، فقالت: يا أمّاه، أغشّا وحنثا جمعت على نفسك؟ فسمعها عمر فأعجبته، فقال لولده: أيّكم يتزوّجها؟ فلعلّ الله أن يخرج منها نسمة طيّبة، فقال ابنه عاصم: أنا أتزوّجها يا أمير المؤمنين، فزوّجها منه، فأولدها أمّ عاصم، تزوّجها عبد العزيز بن مروان فأولدها عمر ابن عبد العزيز. وروى أنّ بلالا لم يكذب منذ أسلم، فبلغ ذلك بعض من يحسده، فقال: اليوم أكذبه فسايره، فقال له: يا بلال ما سنّ فرسك؟ قال عظم، قال: فما جريه؟ قال:

ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة

يحضر ما استطاع، قال: فأين تنزل؟ قال: حيث أضع قدمى، قال: ابن من أنت» قال ابن أبى وأمى، قال: فكم أتى عليك؟ قال: ليال وأيام، والله أعلم بعدها، قال: هيهات، أعيت فيك حيلتى، ما اتعب بعد اليوم أبدا. ذكر ما قيل في الوفاء والمحافظة والأمانة قال الله عزّوجلّ: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) . وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) . وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) .* وروى: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه: عليك بصدق الحديث، ووفاء العهد، وحفظ الأمانة، فإنها وصيّة الأنبياء. كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، ختن «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، تاجرا تضاربه قريش بأموالهم، فخرج الى الشام سنة الهجرة، فلما قدم، عرض له المسلمون، وأسروه، وأخذوا ما معه، وقدموا به المدينة ليلا، فلما وصلوا الفجر، قامت زينب على باب المسجد، فقالت: يا رسول الله، قد أجرت أبا العاص وامعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت ودفع اليه ما أخذوه منه، وعرض عليه الإسلام، فأبى، وخرج الى مكّة، ودعا قريشا، فأطعمهم، ثم دفع اليهم أموالهم، ثم قال: هل وفيت؟ قالوا: نعم، قد أدّيت الأمانة ووفيت، قال: اشهدوا جميعا، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وما منعنى أن أسلم إلا أن يقولوا: أخذ أموالنا، ثمّ هاجر، فأقرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النكاح، وتوفّى في سنة اثنتى عشرة.

وقيل لمّا قوى أمر بنى العباس وظهر، قال مروان بن محمد لعبد الحميد بن يحيى كاتبه: إنّا نجد في الكتب، أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيظهر اليك هؤلاء القوم، يعنى ولد العباس، فصر اليهم، فإنى لأرجو أن تتمكن منهم، فتنفعنى فى مخلفى، وفي كثير من أمورى، فقال: وكيف لى بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك، وكلّهم يقول: إنى غدرت بك، وصرت الى عدوّك؟ وأنشد أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لى بعذر يوسع الناس ظاهره ثم قال ولؤم ظاهر لا شكّ فيه ... للأئمة وعذرى بالمعيب فلما سمع مروان ذلك، علم أنه لا يفعل، ثم قال له عبد الحميد: إن الذى أمرتنى به، لأنفع الأمرين لك، وأقبحهما بى، ولك علىّ الصبر معك، الى أن يفتح الله عليك، أو أقتل معك. والعرب تضرب المثل في الوفاء بالسموءل بن عادياء الأزدىّ، وقيل: إنه من ولد الكاهن بن هارون بن عمران، وكان من خبره، أن امرأ القيس بن حجر، أودعه أدراعا مائة، فأتاه الحارث بن ظالم، ويقال الحارث بن أبى شمر الغسّانىّ، ليأخذها منه، فتحصّن منه السموءل، فأخذ ابنا له غلاما وناداه: إما أن أسلمت إلىّ الأدرع، وإما أن قتلت ابنك، فأبى أن يسلمها، فقتل ابنه بالسيف، ففى ذلك يقول وفيت بأدرع الكندىّ، إنى ... اذا ما القوم قد غدروا وفيت وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدّم يا سموءل ما بنيت

وفيه يقول الأغشى كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... فى جحفل كسواد الليل جرّار الأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار قد سامه خطّتى خسف فقال له: ... قل ما بدا لك إنى سامع حار فقال: ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار فحار غير طويل ثم قال له: ... أقتل أسيرك إنّى مانع جارى ومن وفاء العرب، ما فعله هانىء بن مسعود الشّيبانىّ، حتى جرّ ذلك يوم ذى قار، وكان من خبره: أن النعمان بن المنذر لما خاف كسرى، وعلم أنه لا منجأ منه ولا ملجأ، رأى أن يضع يده في يده، فأودع ماله وأهله عند هانىء*، ثمّ أتى كسرى فقتله، وأرسل الى هانىء يطالبه بوديعة النعمان، وقال له: إن النعمان كان عاملى، فابعث الىّ بوديعته، وإلا بعثت اليك بجنود تقتل المقاتلة وتسبى الذّرّية، فبعث اليه هانىء: أن الذى بلغك باطل، وإن يكن الأمر كما قيل، فأنا أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردّها على من استودعه إياها، ولن يسلّم الحرّ أمانته، أو رجل مكذوب عليه، وليس ينبغى للملك أن يأخذه بقول عدوّ، فبعث كسرى اليه الجنود، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، وبعث معه الكتيبة الشّهباء والأساورة «1» ، فلما التقوا، قام هانىء بن مسعود، وحرّض قومه على القتال، وجرى بينهم حروب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، وسنذكرها إن شاء الله في وقائع العرب، فانتصر هانىء وانهزمت الفرس، وكانت وقعة مشهورة، قيل: وكان مرداس في سجن عبيد الله بن زياد بن أبيه، فقال له السجّان: أنا أحبّ أن أوليك حسنة، قال: فإن أذنت لك في الانصراف الى دارك أفتدلج علىّ؟ قال: نعم، فكان يفعل ذلك به،

فلما كان ذات يوم، قتل بعض الخوارج صاحب شرطة ابن زياد، فأمر أن يقتل من في السجن من الخوارج، وكان مرداس إذ ذاك خارجا، فقال له أهله: اتّق الله في نفسك، فإنك مقتول إن رجعت، فقال: ما كنت لألقى الله غادرا، وهذا جبّار، ولا آمن أن يقتل السجّان، فرجع وقال للسجّان: قد بلغنى ما عزم صاحبك عليه من قتل أصحابنا، فبادرت لئلا يلحقك منه مكروه، فقال له السجّان: خذ أىّ طريق شئت، فانج بنفسك. خرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلّب الى بعص جبابين «1» الشام، وإذا بامرأة جالسة عند قبر تبكى، فجاء سليمان ينظر اليها، فقال لها يزيد، وقد عجب سليمان من حسنها: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين؟ فنظرت إليهما، ثم نظرت الى القبر، وقالت فإن تسألانى عن هواى فإنه ... بحوماء هذا القبر يافتيان وإنى لأستحييه والتّرب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يرانى ومن أحسن الوفاء، ما حكى عن نائلة بنت القرافصة زوج عثمان بن عفّان رضى الله عنه: أن معاوية خطبها فردّته، وقالت: ما يعجب الرجال منّى؟ قالوا: ثنايا فكسرت ثناياها، وبعثت بها الى معاوية، فكان ذلك مما رغّب قريشا في نكاح نساء كلب. وامرأة هدبة لما قتل زوجها، قطعت أنفها وشفتيها، وكانت جميلة الوجه، لئلا يرغب فيها. وحيث ذكرنا الوفاء والمحافظة، فلنذكر بيعة خليفة ويمين، ذكرها بعض أهل الأدب فى تصنيفه، وهى: تبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين، بيعة طوع وإيثار ورضا واختيار واعتقاد وإضمار وإعلان وإسرار وإخلاص من طويتك وصدق من نيتك،

وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقها، ومعترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها، وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع كلمة الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء، على أن فلانا عبد الله وخليفته المفترض عليك طاعته، الواجب على الأمة إمامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن من أمره، ولا تميل، ولكنك ولىّ أوليائه، وعدوّ أعدائه، من خاصّ وعامّ، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك، على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها فى عنقك، لفلان أمير المؤمنين، على سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شىء منها، ولا تقعد عن نصرة له في الرخاء والشدّة، ولا تدع النّصح له في كل حال راهنة وحادثة، حتى تلقى الله موفيا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) عليك بهذه البيعة التى طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت ما شرط عليك فيها، من وفاء، ونصح، وموالاة، ومشايعة، وطاعة، وموافقة، واجتهاد، ومبالغة؛ عهد الله إن عهده كان مسئولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام، وعلى من أخذ من عباده من وكدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها، فلا تبدل، وتستقيم، فلا تميل، وإن نكثت هذه البيعة، وبدّلت شرطا من شروطها، أو عفيت رسما من رسومها، أو غيّرت

ذكر ما قيل في التواضع

حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، محتالا او متأولا، أو زغت عن السبيل التى يسلكها من لا يحتقر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود والعهود، فكلّ ما تملكه من عين أو ورق، أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة، والأموال المدّخرة، صدقة على المساكين، يحرّم عليك أن ترجع شيئا من ذلك الى مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه، أو سبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الإيمان، فكلّ ما تفيده عمرك من مال يقلّ خطره أو يجلّ فتلك سبيله الى أن تتوفاك [منيتك، أو يأتيك «1» أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر وأنثى أو تملكه الى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى، ونساؤك يوم يلزمك الحنث وما تتزوّج بعدهن مدة بقائك طوالق ثلاثا، طلاق الحرج والسنّة لا مثنويّة فيها ولا رجعة، وعليك المشى الى بيت الله الحرام، ثلاثين حجّة حافيا راجلا، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج اليه، وبرّأك من حوله وقوّته، وألجأك الى حولك وقوّتك والله عزوجلّ بذلك شهيد (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) * وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. ذكر ما قيل في التواضع قال الله تبارك وتعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . وقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال: هم المتواضعون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض متواضعا.

وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود المريض ويتبع الجنائز ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم حنين على حمار، خطامه ليف. وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدّقوا يزدكم الله» . وقال عروة ابن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف، وفي لفظ «سلّم الشرف» . وقال جعفر بن محمد: رأس الخير التواضع، فقيل له: وما التواضع؟ فقال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّا. وعن على رضى الله تعالى عنه ولم يذكر المراء فيه وزاد فيه: وتكره الرياء والسمعة. وقيل: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وقيل: التواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد، وقيل: التواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها. وقال عبد الله بن المعتز: متواضع العلماء أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر الاماكن ماء. وكان يحيى بن خالد يقول: لست أرى أحدا تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه اكبر مما نال من سلطانه. ومن التواضع المأثور ما روى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرّ ويده على المعلّى بن الجارود فلقيته امرأة من قريش، فقالت له: يا عمر، فوقف لها، فقالت له: كنا نعرفك مرّة عميرا ثم صرت بعد عمير عمر ثم صرت بعد عمر أمير المؤمنين فاتق الله يابن الخطّاب، فانظر في أمور الناس، فإنّه من خاف الوعيد، قرب عليه

البعيد، ومن خاف الموت، خشى الفوت، فقال لها المعلّى، إيّها، إليك يا أمة الله لقد ابكيت أمير المؤمنين، فقال له عمر أتدرى من هذه؟ ويحك! هذه خولة بنت حكيم التى سمع الله قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدى به. وقال عدىّ بن أرطاة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية، قال: ذلك أبعد من الكبر وأسرع الى الحاجة. وقال عمر رضى الله عنه وقد قيل له مثل هذا: أنجح للحاجة وأبعد من الكبر. أما سمعت قوله عزوجل؟ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) . وقد مدح الشعراء أهل التواضع، فمن ذلك قول أبى تمّام حبيب متبذّل في القوم وهو مبجّل ... متواضع في الحىّ وهو معظّم وقال آخر متواضع والنّبل يحرس قدره ... وأخو النباهة بالنباهة ينبل وقال البحترىّ دنوت تواضعا وعلوت مجدا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشّعاع وقال أبو محمد التيمىّ تواضع لما زاده الله رفعة ... وكلّ رفيع قدره متواضع وقال آخر دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... ففيك تواضع وعلوّ شان

ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة

ذكر ما قيل في القناعة والنزاهة جاء في تفسير قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أن المراد بالحياة الطيبة: القناعة. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القناعة مال لا ينفد» . وقال عليه السّلام: «ما عال من اقتصد» . ومن كلام على رضى الله عنه: كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما. وقال جعفر بن محمد: ثمرة القناعة الراحة. وقال على بن موسى: القناعة تجمع الى صيانة النفس، وعز القدرة طرح مؤونة الاستكثار والتعبّد لأهل الدنيا، ولا ملك طريق القناعة إلا رجلان، إما متقلّل يريد أجر الآخرة، أو كريم يتنزّه عن آثام الدنيا. وقال الراضى: القانع يعيش آمنا مطمئنا مستريحا مريحا، والشّره لا يعيش إلا تعبا نصبا في خوف وأذى. وقال بعض الحكماء: عزّ النزاهة أحبّ الىّ من فرح الفائدة، والصبر على العسرة أحبّ الىّ من احتمال المنّة. وقال أبو ذؤيب الهذلىّ والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ الى قليل تقنع وقال سالم بن وامضة غنى النفس ما يكفيك في سدّ فاقة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وقال أبو هلال العسكرى ألا إنّ القناعة خير مال ... لذى كرم يروح بغير مال

ذكر ما قيل في الشكر والثناء

وإن يصبر فإن الصبر أولى ... بمن عثرت به نوب الليالى تجمّل إن بليت بسوء حال ... فإن من التجمل حسن حال ذكر ما قيل في الشكر والثناء قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فالشكر مما يوجب الزيادة. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لا يزهّدك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشىء منه، وقد يدرك من شكر الشاكر، أكثر مما أضاع الكافر، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) *. ومما تعزيه الفرس الى إسفنديار: الشكر أفضل من النعمة لأنه يبقى وتلك تفنى. وقال موسى بن جعفر: المعروف لا يفكّه إلا المكافأة أو الشكر، وقال: قلّة الشكر تزهّد في اصطناع المعروف. وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر. وقيل: للشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان، ومكافأة اليد. قال الشاعر أفادتكما النّعماء منّى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجّبا وقال يحيى بن زياد الحارثىّ بن كعب حلفت بربّ العيس تهوى بركبها ... الى حرم ما عنه للناس معدل لما يبلغ الإنعام في النفع غاية ... على المرء إلا مبلغ الشكر أفضل ولا بلغت أيدى المنيلين بسطة ... من الطّول إلا بسطة الشكر أطول

ولا ثقلت في الوزن أعباء منّة ... على المرء إلا منّة الشكر أثقل فمن شكر المعروف يوما فقد أتى ... أخا العرف من حسن المكافاة من عل وقال رجل من غطفان الشكر أفضل ما حاولت ملتمسا ... به الزيادة عند الله والناس وقال أبو بجيلة شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضى ونبّهت لى ذكرى وما كان خاملا ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض وقال آخر سأشكر عمرا ما تراخت منيّتى ... أيادى لم تمنن وإن هى جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت وقال أبو تمام كم نعمة منك تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب من اللواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب وقال أبو عيينة بن محمد بن أبى عتبة المهلّبىّ ياذا اليمينين قد أوليتنى مننا ... تترى هى الغاية القصوى من المنن ولست أسطيع من شكر أجىء به ... إلا استطاعة ذى جسم وذى بدن لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أوفى من الشكر عند الله في الثّمن أخلصتها لك من قلبى مهذّبة ... حذوا على مثل ما أوليت من حسن

قالوا وأجود ما قيل في عظم النعمة وقصور الشكر من قديم الشّعر قول طريح ابن إسماعيل سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت لى ... فقصّرت مغلوبا وإنّى لشاكر لأنك تولينى الجميل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مغبوطا وترجع بالّتى ... لها أوّل في المكرمات وآخر وقال دعبل هجرتك لا عن جفوة وملالة ... ولا لقلى أبطأت عنك أبا بكر ولكنّنى لما رأيتك راغبا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر فملآن «1» لا آتيك إلا تعذّرا ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر وقال البحترىّ هاتيك أخلاق إسماعيل في تعب ... من العلا والعلا منهنّ في تعب أبث شكرى فأمسى منك في نصب ... أقصر فمالى في جدواك من أرب لا أقبل الدهر نيلا لا يقوم له ... شكرى ولو كان يسديه إلىّ أبى لما سألتك وافانى نداك على ... أضعاف شكرى فلم أظفر ولم أخب وقال أيضا إنى هجرتك إذ هجرتك وحشة ... لا العود يذهبها ولا الإبداء أخجلتنى بندى يديك فسوّدت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء وقطعتنى بالجود حتّى إنّنى ... متخوّف أن لا يكون لقاء صلة غدت للناس وهى] قطيعة ... عجبا وبرّ راح وهو جفاء ليواصلنّك ركب شعر سائر ... يرويه فيك لحسنه الاعداء

حتى يتمّ لك الثناء مخلّدا ... أبدا كما تمت لك النّعماء فتظلّ تحسدك الملوك الصّيدبى ... وتظلّ تحسدنى بك الشعراء وقال الحسن بن هانىء قد قلت للعباس معتذرا ... من عظم شكريه ومعترفا أنت امرؤ جلّلتنى نعما ... أوهت قوى شكرى فقد ضعفا لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتّى أقوم بشكرها سلفا وقال الحسين بن الضحّاك للواثق من أبيات ... إذا كنت من جدواك في كلّ نعمة فلا كنت إن لم أفن عمرى بشكركا وقال البحترىّ إذا أنا لم أشكر لنعماك جاهدا ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشّكرا وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إنى لشاكر أمسه ووليّه ... فى يومه ومؤمّل عنه غدا وقال آخر وكيف أنساك؟ لا نعماك واحدة ... عندى ولا بالذى أوليت من قدم وقال عبد الأعلى بن حمّاد: دخلت على المتوكّل، فقال لى: قد هممنا أن نصلك، فتدافعت الأمور، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغنى عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: من لم يشكر للهمّة، لم يشكر للنعمة، وأنشدته قول الباهلىّ لأشكرنّك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشىء بالقدر المحتوم مصروف

وقال ابن الرومىّ كم من يد بيضاء قد أسديتها ... تثنى إليك عنان كلّ وداد شكر الإله صنائعا أوليتها ... سلكت مع الأرواح في الأجساد وقال آخر وأحسن ما قال امرؤ فيك مدحة ... تلاقت عليها منّة وقبول وشكر كأن الشمس تعنى بنشره ... ففى كلّ أرض مخبر ورسول ومن كلام الحسن بن وهب: من شكر لك على درجة رفعته اليها، أو ثروة أفدته إيّاها، فإن شكرى لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكته، وقمت بين التّلف وبينه، ولكل نعمة من نعم الدنيا حدّ ينتهى إليه، ومدى توقف عليه، وغاية من الشكر يسمو اليها الطرف، خلا هذه النعمة التى فاتت الوصف، وطالت الشكر، وتجاوزت كلّ قدر، وأتت من وراء كلّ غاية، وردت عنّا كيد العدوّ، وأرغمت أنف الحسود، نلجأ منها الى ظلّ ظليل، وكنف كريم، فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهد المجهود. وقال الشريف الرضىّ ألبستنى نعما على نعم ... ورفعت لى علما على علم وعلوت بى حتّى مشيت على ... بسط من الأعناق والقمم فلأشكرنّ يديك ما شكرت ... خضر الرّياض مصانع الدّيم فالحمد يبقى ذكر كلّ فتى ... ويبين قدر مواقع الكرم والشكر مهر للصنيعة إن ... طلبت مهور عقائل النّعم

وقال أبو الحسن الكاتب المغربىّ سأشكر نعماك التى انبسطت بها ... يدى ولسانى فهو بالمجد ينطق وأثنى بما أوليتنى من صنيعة ... ومن منّة تغدو علىّ وتطرق وكلّ امرىء يرجو نداك موفّق ... وكلّ امرىء يثنى عليك مصدّق وقال ابن رشيق القيروانىّ خذ ثناء عليك غبّ الأيادى ... كثناء الرّبى على الأمطار سقط الشكر وهو موجب نعما ... ك سقوط الأنواء بالأثمار ومن المنعمين من رأى أن الشكر بإظهار النعمة، أبلغ منه بالنطق باللسان، وعاقب على ذلك بالحرمان. فمن ذلك مارواه أبو هلال العسكرىّ يسنده الى العتبىّ قال: أراد جعفر بن يحيى حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعىّ، فدفع الى خادم له كيسا فيه ألف دينار وقال: إنى سأنزل في رجعتى الى الأصمعىّ، ثم سيحدثنى ويضحكنى، فاذا ضحكت، فضع الكيس بين يديه، فلما رجع، ودخل إليه، رأى حبّا «1» مكسور الرّأس، وجرّة مكسورة العنق، وقصعة مشعبة، وجفنة أعشارا، ورآه على مصلّى بال، وعليه برنكان «2» أجرد، فغمز غلامه أن لا يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعى شيئا ممّا يضحك الثّكلان والغضبان إلا أورده عليه فلم يتبسم، ثمّ خرج، فقال لرجل يسايره: من استرعى الذئب ظلم، ومن زرع السّبخة حصد الفقر، إنى والله لما علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل، ما حفلت بنشره له باللسان، وأين يقع مديح اللسان

ذكر ما قيل في الوعد والإنجاز

من آثار العيان؟ إن اللسان قد يكذب، والحال لا تكذب، ولله در نصيب حيث يقول فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ثم قال: أعلمت أن ناووس أبرويز، أمدح لأبرويز من زهير لآل سنان؟ وقالت الحكماء: لسان الحال، أصدق من لسان الشكوى. وقد أجاد ابن الرومىّ في هذا المعنى فقال حالى تبوح بما أوليت من حسن ... فكلّ ما تدعيه غير مردود كلّى هجاء، وقتلى لا يحلّ لكم ... فما يداويكم منّى سوى الجود وقالوا: شهادات الأحوال، أعدل من شهادات الرجال. ذكر ما قيل في الوعد والإنجاز روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وعد المؤمن كأخذ باليد» . وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: الوعد مرض في الجود، والإنجاز دواءه. ومن كلامه: المسئول حرّ حتّى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز. وقال الزّهرىّ: حقيق على من أزهر بالوعد، أن يثمر بالفعل. وقال مسلم بن الوليد عن أبيه قال: سألت الفضل بن سهل حاجة، فقال: أشرّفك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإنى سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار، ولو كان المعطى لا يعد، لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال. وقال الأبرش الكلبىّ لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، لا تصنع إلىّ معروفا حتى تعدنى، فإنه لم يأتنى منك سيب على غير وعد، إلا هان علىّ قدره، وقلّ منّى

شكره، فقال له هشام: لئن قلت ذلك، لقد قال سيّد أهلك أبو مسلم الخولانىّ: أنجع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد، معروف منتظر من وعد لا يكدّر بالمطل. وكان يحيى بن خالد لا يقضى حاجة إلا بوعد. وقالت أعرابيّة لرجل: مالك تعطى ولا تعد، فقال: مالك والوعد؟ قالت ينفسح به البصر، وينشر فيه الأمل، وتطيب بذكره النفس، ويرخى به العيش، وتربح به المدح بالوفاء. قيل: كلّم منصور بن زياد يحيى بن خالد في حاجة لرجل فقال: عده عنّى قضاءها، قال: وما يدعوك أعزّك الله الى العدة مع وجود القدرة؟ فقال يحيى: هذا قول من لا يعرف موضع الصنائع من القلوب، إن الحاجة إن لم تتقدمها بوعد ينتظر به نجحها؛ لم تتجاذب الأنفس بسرورها، ولم تتلذذ بتأميلها، وإن الوعد تطعّم، والإنجاز طعام، وليس من فاجأه طعام، كمن وجد رائحته، وتمطّق له وتطعّمه، ثم طعمه، فدع الحاجة تحتّم بالوعد، ليكون لها عند المصطنع اليه حسن موقع، ولطف محلّ. وقال عيسى بن ماهان: إنى أحبّ أن أهب بلا وعد، وأحبّ أن أعد، لأخرج من جملة المخلفين، وأدخل في عدد الوافين، ويؤثر عنّى كرم المنجزين، فإن من سبق فعله وعده، وصف بكرم فرد، وسقط عنه جميع ما ذكرت. قال ذكر العباس المأمون فقال: إنه ألقح معروفه عندى بالوعد، ونتجه بالنّجح، وأرضعه بالزيادة، وشيّبه بالتعهد، وهرّمه باستتمامه من جهاته، وهنأه «1» بترك الامتنان به.

وشكا رجل جعفر بن يحيى لأبيه: أنه وعده وعدا ومطله به، فوقّع: يا بنىّ، أنتم معاقل الأحرار ومظانّ المطالب ومعادن الشكوى، فكونوا سواء في الأقوال والأفعال، فإن الحرّ، يدّخر وعد الحر ويعتقده وينفقه قبل ملكته، فإن أخفق أمله، كان سببا لذمّه واتّهامه وسوء ظنّه، حتّى يوارى قبح ذلك حسن يقينه، فأنجز الوعد، وإلا فأقصر القول، فإنه أعذر والسلام. قال: كلّم المأمون في الحسين بن الضحّاك الخليع أن يردّ عليه رزقه، فقال: أليس هو القائل في الأمين فلا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدّنيا طريدا مشردا فما زالوا يتلطفون معه في القول، إلى أن أذن له أن ينشده، فأنشده أبن لى فإنى قد ظمئت الى الوعد ... متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد؟ أعيذك من صدّ الملوك وقد ترى ... تقطّع أنفاسى عليك من الوجد فما لى شفيع عند حسنك غيره ... ولا سبب إلا التمسك بالودّ أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علىّ وقد أفردته بهوى وحدى رأى الله عبد الله خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد فقال له المأمون: هذه بتلك، وقد عفونا عنك فقال: يا أمير المؤمنين، فأتبع عفوك إحسانك، فأمر بردّ أرزاقه عليه، وكانت في كلّ شهر خمسمائة دينار، فقال المأمون: لولا أنى نويت عفوا عنه، وجعلت ذلك وعدا له من قبل، ما فعلته، وإنما ذكر الوعد في تشبيبه يذكرنيه. وقال بعض ملوك العجم: البخل بعد الوعد، يضعف قبحه على البخل قبله، فما قولك في أمر، البخل أحسن منه؟

ذكر ما قيل في الشفاعة

وقال بعض الشعراء ولى منك موعود طلبت نجاحه ... وأنت امرؤ لا تخلف الدهر موعدا وعوّدتنى أن لا تزال تظلّنى ... يد منك قد قدّمت من قبلها يدا فلو أن محدا أو ندى أو فضيلة ... تخلّد شيئا كنت أنت المخلّدا وقال بشار وعد الكريم يحثّ نائله ... كالغيث يسبق رعده مطره وقال ابن الرومىّ يتخطّى العداة عمدا الى البذ ... ل كسحّ الحيا بلا إيماض ذكر ما قيل في الشفاعة قال الله عزّوجلّ: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن عمره، فيقول له: جعلت لك جاها، فهل نصرت به مظلوما، أو قمعت به ظالما، أو أعنت به مكروبا» ؟ وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له» وقال: «الخلق عيال الله، فأحبّهم اليه، أنفعهم لعياله» . وقال: «الشفيع جناح الطلب» . وقيل: قصد ابن السمّاك الواعظ رجلا في حاجة لرجل سأله الشفاعة فيها، فقال ابن السّماك: إنى أتيتك في حاجة، وأن الطالب والمطلوب اليه عزيزان إن قضيت الحاجة، وذليلان إن لم تقض، فاختر لنفسك عزّ البذل، على ذلّ المنع، واختر لى عزّ النّجح، على ذلّ الردّ، فقضى حاجته.

ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف

قال أبو تمام واذا امرؤ أسدى اليك ضنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وقال رجل لبعض الملوك: إن الناس يتوسّلون اليك بغيرك، يسألون معروفك، ويشكرون غيرك، وأنا أتوسّل اليك بك، ليكون شكرى لك لا لغيرك. قال بعض الشعراء إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع ذكر ما قيل في الاعتذار والاستعطاف رأيت جماعة من أهل الأدب قد ألحقوا الاعتذار والاستعطاف بالمدح، كالحمدونىّ فى تذكرته، وغيره، فلذلك أضفته اليه، وجعلته من فصوله. قال الله عزّوجلّ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اعتذر اليه أخوه المسلم، فلم يقبل، لم يرد على الحوض» . وقال علىّ رضى الله عنه: أولى الناس بالعفو، أقدرهم على العقوبة. وقال: العفو زكاة الظّفر. وقال: اذا قدرت على عدوّك، فاجعل عفوك عنه شكر المقدرة عليه. وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقا. وقال: أوسع ما يكون الكرم بالمغفرة، اذا ضاقت بالذنب المعذرة. وقال جعفر بن محمد الصادق: شفيع المذنب إقراره، وتوبة المجرم الاعتذار. وقالوا ما أذنب من اعتذر، ولا أسى من استغفر.

وأوصى بعض الحكماء ولده فقال: يا بنىّ لا يعتذر اليك أحد من الناس، كائنا من كان، فى أى جرم كان، صادقا كان أو كاذبا، إلا قبلت عذره، فكفاك بالاعتذار برّا من صديقك، وذلّا من عدوّك. قال بعض الشعراء فإن كنت ترجو في العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر وقال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكرىّ: الاعتذار ذلّة، ولا بدّ منه، لأن الإصرار على الذنب، فيما بينك وبين خالقك هلكة، وفيما بينك وبين صديقك فرقه، وعند سائر الناس مثلبة وهجنة، فعليك به، اذا واقعت الذنب، وقارفت الجرم، ولا تستنكف من خضوعك وتذلّلك فيه، فربما استثير العزّ من تحت الذلة، واجتنى الشرف من شجرة النذلة، وربّ محبوب في مكروه، والمجد شهد يجتنى من حنظل. قال: ومما خصّ به الاعتذار أنّ الحقّ لا يثبت لباطله، والحقيقة لا تقوم مع تخييله وتمويهه، وأنّ ردّه لا يسع مع الكذب اللائح في صفحاته. وقالوا: لا عذر فى ردّ الاعتذار، والمعتذر من الذنب، كمن لا ذنب له، وهذه خصلة لا يشركه فيها غيره. قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردت عليه رقعة من جعفر ابن توّابة، نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأنا أحاكم الأيّام الى عدلك، وأشكو صروفها الى فضلك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، وحسن ملكتك، فإنها تؤخّرنى اذا قدّمت، وتحرمنى اذا قسّمت، فإن

أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت كثيرا، ولم أشكها الى أحد قبلك، ولا أعددت الانتصاف منها إلا الى فضلك، ولى مع ذمام المسألة لك، وحقّ الظّلام اليك، ذمام تأميلك، وقدم صدق في طاعتك، والذى يملأ من النّصفة يدى، ويفرغ الحقّ علىّ، حتى تكون لى محسنا، وأكون بك الى الأيام مقرّبا، أن تخلطنى بخواصّ خدمك الذين نقلتهم من حدّ الفراغ الى الشغل، ومن الخمول الى النباهة والذّكر، فإن رأيت أن تعذّبنى فقد استعديت اليك، وتنصرنى فقد عذت بك، وتوسع لى كنفك فقد أويت اليه، وتسمنى بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدى ولسانى فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أسلافك وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم، واقتفوت آثارهم اقتفاء جعلنى بين وحشىّ الكلام وأنيسه، ووقفنى منه على جادة متوسطة، يرجع اليها العالى، ويلحق بها المقصّر التالى، فعل إن شاء الله. قال: فعل إن شاء الله! قال: فجعل عبيد الله يرددها ويستحسنها؛ ثم قال: هذا أحقّ بديوان الرسائل. ومن الاستعطاف: ما حكى أن محمد بن الحنفيّة، جرى بينه وبين أخيه الحسين، كلام افترقا بسببه متغاضبين؛ فلما وصل محمد الى منزله، كتب الى الحسين رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن لك شرفا لا أبلغه، وفضلا لا أدركه، أبونا علىّ، لا أفضلك فيه ولا تفضلنى، وأمّى امرأة من بنى حنيفة، وأمّك فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمى ما وفين بأمّك، فاذا قرأت رقعتى هذه فالبس رداءك ونعليك وتعال لتترضّانى، وإياك أن أسبقك الى هذا الفضل الذى أنت أولى به منى والسلام. فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء الى محمد وترضّاه.

وقيل: وقّع جعفر بن يحيى في رقعة معتذرا: قد تقدمت طاعتك ونصيحتك، فإن ثبت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين. وقال شاعر إرض للسائل الخضوع وللقا ... رف ذنبا مذلّة الإعتذار قال أبو هلال العسكرىّ: لم يرو عن أحد قبل النابغة الذبيانىّ في الاعتذار شعر؛ فمن أجود ما روى له فيه، قوله حين سعى به المنخّل اليشكرىّ الى النّعمان، وزعم أنه غشى المتجرّدة حظيّة النعمان، وذلك حين وصفها النابغة في شعره فقال واذا لمست، لمست أخثم جاثما ... متحيّزا بمكانه ملء اليد واذا طعنت، طعنت في مستهدف ... رابى المحبّسة بالعبير مقرمد واذا نزعت، نزعت من مستحصف ... نزع الحزوّر بالرّشاء المحصد فقال المنخّل للنعمان: هذا وصف من ذاقها، فوقر ذلك في نفس النعمان، ثم وفد عليه رهط من بنى سعد بن زيد مناة من بنى قريع، فأبلغوه أن النابغة ما يزال يذكرها ويصف منها، فأجمع النعمان على الإيقاع بالنابغة، فعرّفه بذلك عصام حاجب النعمان، وهو الذى قيل فيه نفس عصام سوّدت عصاما فانطلق النابغة الى آل غسّان وكانوا قتلوا المنذر ولد النعمان، فزادهم لحاق النابغة بهم حشمة؛ ثم اتصلت بالنعمان كثرة مدائح النابغة لهم، فحسدهم عليه وأمّنه وراسله فى المصير اليه، فأتاه وجعل يعتذر ممّا قذف به ومن مدحه لآل غسّان فقال حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلّغت عنى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث! أىّ الرجال المهذب؟ فأن أك مظلوما، فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى، فمثلك يعتب يقول: مثلك يعفو ويحسن وإن كان عاتبا، وفي كرمك ما يفعل ذلك، ولك العتبى والرجوع الى ما تحبّ، ومنه قوله أيضا للنعمان أتانى أبيت اللّعن! أنك لمتنى ... وتلك التى تستكّ منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع فبتّ كأنّى ساورتنى ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السمّ ناقع لكلّفتنى ذنب امرىء وتركنه ... كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع الى أن قال فإن كنت لا ذو الضّغن عنى مكذّب ... ولا حلفى على البراءة نافع ولا أنا مأمون بشىء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة وقع فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك وسع وقال أيضا أنبئت أن أبا قابوس أوعدنى ... ولا قرار على زار من الأسد مهلا، فداء لك الأقواء كلّهم، ... وما أثمّر من مال ومن ولد لا تقذفنّى بركن لا كفاء به ... وإن تأثّفك «1» الأعداء بالرّفد ما قلت من سيىء ممّا أتيت به ... اذا فلا رفعت سوطى الى يدى قال: فخلع عليه النعمان خلع لرضى، وكنّ حبرات خضرا مطّرقّة بالجوهر.

قال العسكرىّ: ولم يسلك أحد طريقته فأحسن فيها كإحسان البحترىّ، فمن اعتذاراته قوله في قصيدته التى أوّلها لوت بالسلام بنانا خضيبا قال منها فديناك من أىّ خطب عرى ... ونائبة أو شكت أن تنوبا وإن كان رأيك قد حال فيّ ... وأوليتنى بعد شرّ قطوبا يريبنى الشىء تأتى به ... وأكبر قدرك أن أستريبا وأكره أن يتمادى علىّ سبيل اغترار ... فألقى شعوبا أكذّب نفسى بأن قد سخطت ... وما كنت أعهد ظنّى كذوبا ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا أيصبح ودّى في ساحتي ... ك طرقا «1» ومرعاى محلا جديبا وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض الدموع وأشجى القلوبا ولو كنت أعرف ذنبا لما كا ... ن خالجنى الشك في أن أتوبا سأصبر حتى ألاقى رضاك ... إما بعيدا وإما قريبا أراقب رأيك حتى يصحّ ... وأنظر عطفك حتى يثوبا وقوله عذيرى من الأيّام رنّقن مشربى ... ولقّيننى نحسا من الطير أشأما وأكسبننى سخط امرىء بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الصبح مظلما تبلّج عن بعض الرضى، وانطوى على ... بقية عتب شارفت أن تصرّما اذا قلت يوما: قد تجاوز حدّها ... تلبّث في أعقابها وتلوّها وأصيد إن نازعته الطرف رده ... قليلا، وإن راجعته القول جمجما

ثناه العدا عنى، فأصبح معرضا ... ووهّمه الواشون حتى توهّما وقد كان سهلا واضحا فتوعّرت ... رباه، وطلقا ضاحكا فتجهّما أمتّخذ عندى الإساءة محسن ... ومنتقم منى امرؤ كان منعما ومكتسب فيّ الملامة ماجد ... يرى الحمد غنما والملامة مغرما يخوّفنى من سوء رأيك معشر ... ولا خوف إلا أن تجور وتظلما أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبيّن، أو جرم إليك تقدما الست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما؟ أعد نظرا فيما تسخطت، هل ترى ... مقالا دنيئا أو فعالا مذمّما؟ وكان رجائى أن أؤوب مملّكا ... فصار رجائى أن أؤوب مسلّما حياء فلم يذهب بى الغىّ مذهبا ... بعيدا، ولم أركب من الأمر معظما ولم أعرف الذنب الذى سؤتنى له ... فأقتل نفسى حسرة وتندّما ولو كان ما خبّرته أو ظننته ... لما كان غروا أن ألوم وتكرما أذكّرك العهد الذى ليس سؤددا ... تناسيه، والودّ الصحيح المسلّما وما حمل الركبان شرقا ومغربا ... وأنجد في أعلى البلاد وأتهما أقرّ بما لم أجنه متنصّلا ... اليك، على أنى إخالك ألوما لى الذنب معروفا. فإن كنت جاهلا ... به، فلك العتبى علىّ وأنعما ومثلك، إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمّما وقال سعيد بن حميد لم آت ذنبا، فإن زعمت بأن ... أتيت ذنبا، فغير معتمد قد تطرف الكفّ عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرشد

الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثانى فى الهجاء،

وقال آخر وكنت اذا ما جئت أدنيت مجلسى ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر فمن لى بالعين التى كنت مرّة ... الىّ بها في سالف الدهر تنظر؟ وقال آخر اغتفر زلّتى لتحرز فضل ال ... عفو عنى ولا يفوتك أجرى لا تكلنى الى التوسّل بالعذ ... ر لعلّى أن لا أقوم بعدرى وقال بعض فضلاء الأندلس إنى جنيت ولم يزل أهل النهى ... يهبون للجانين ما يجنونه ولقد جمعت من الذنوب فنونها ... فاجمع من الصفح الجميل فنونه من كان يرجو عفو من هو فوقه ... فليعف عن ذنب الذى هو دونه الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثانى فى الهجاء، وفيه أربعة عشر فصلا ما قيل في الهجاء ومن يستحقّه. ما قيل في الحسد. ما قيل في السعاية والبغى. ما قيل في الغيبة والنميمة. ما قيل في البخل واللؤم وأخبار البخلاء واحتجاجهم.

ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه

ما قيل في التطفيل ويتّصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة. ما قيل في الجبن والفرار. ما قيل في الحمق والجهل. ما قيل في الكذب. ما قيل في الغدر والخيانة. ما قيل في الكبر والعجب. ما قيل في الحرص والطمع. ما قيل في الوعد والمطل. ما قيل في العىّ والحصر. ذكر ما قيل في الهجاء ومن يستحقه قال الله تعالى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فهذه رخصة لمن ظلم فى الانتصار. وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ يردّ على أبى سفيان بن الحارث ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة «1» فقد برح الخفاء هجوت محمّد، فأجبت عنه، ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء

لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء لسانى صارم لا عيب فيه ... وبحرى لا تكدّره الدّلاء فإنّ أبى ووالدتى وعرضى ... لعرض محمّد منكم وقاء ويستحقّ الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال والأنذال، وجعل اللؤم جلبابه وشعاره، والبخل وطاءه ودثاره، وسأذكر جماع ما اتصفوا به من سوء الفعال، وأسّسوا بنيانهم عليه من قبح الخلال. قال بعض الحكماء: أربعة من علامات اللؤم: إفشاء السرّ، واعتقاد الغدر، وغيبة الأحرار، وإساءة الجوار. وسأل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف عن خلقه، فتلكأ عليه وأبى أن يخبره فأقسم عليه فقال: حسود، كنود، حقود، فقال عبد الملك: ما في إبليس شرّ من هذه الخلال؛ فبلغ ذلك خالد بن صفوان فقال: لقد انتحل الشرّ بحذافيره، ومرق من جميع خلال الخير، وتأنق في ذمّ نفسه، وتجرّد في الدلالة على لؤم طبعه، وأفرط في إقامة الحجّة على كفره، وخرج من الخلال الموجبة رضى ربّه. قال أبو تمام تأنّست بذميم الفعل طلعته ... تأنّس المقلة الرمداء بالظلم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة، من كنّ فيه فهو منافق، من اذا حدّث كذب، واذا وعد أخلف، واذا عاهد غدر، واذا أؤتمن خان» . وقالوا: اللئيم كذوب الوعد، خؤون العهد، قليل الرفد، وقالوا: اللئيم اذا استغنى بطر، واذا افتقر قنط، واذا قال أفحش، واذا سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن

أسدى اليه صنيع أخفاه، وإن استكتم سرّا أفشاه، فصديقه منه على حذر، وعدوّه منه على غرر «1» . وإنّ للشعراء والبلغاء في الذّم والهجاء نظما ونثرا سنورد منه طرفا، ونشرح ما يجعل ضوء النهار على المقول فيه سدفا «2» . فمن ذلك ما قاله أحمد بن يوسف الكاتب في بنى سعيد بن مسلم بن قتيبة: محاسنهم مساوىء السّفل، ومساوئهم فضائح الأمم، وألسنتهم معقودة بالعىّ، وأيديهم معقولة بالبخل، وأعراضهم أعراض الذمّ؛ فهم كما قيل لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا وذمّ أعرابى قوما فقال هم أقلّ الناس ذنوبا الى أعدائهم، وأكثرهم تجرؤا على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. وذمّ أعرابىّ قوما فقال: قوم سلخت أقفاؤهم بالهجاء، وذبغت جلودهم باللؤم، فلباسهم في الدنيا الملامة، وفي الآخرة الندامة. وكان عيسى بن فرخان شاه يتيه على أبى العيناء حال وزارته، فلما صرف عن الوزارة لقى أبا العيناء في بعض السكك فسلّم عليه سلاما خفيفا، فقال أبو العيناء لقائده: من هذا؟ قال: أبو موسى، فدنا منه حتّى أخذ بعنان بغلته وقال: لقد كنت أقنع بإيمائك دون بنانك، وبلحظك دون لفظك، الحمد لله على ما آلت اليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة؛ ولئن كانت الدنيا أبدت صفحاتها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالإدبار عنك، ولله المنّة

إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزّهنا عن قول الزور فيك، وقد والله أسأت حمل النعمة، وما شكرت حقّ المنعم؛ ثم أطلق يده من عنانه، ورجع الى مكانه فقيل له: يا أبا عبد الله! لقد بالغت في السّبّ؛ فما كان الذنب؟ قال: سألته في حاجة أقلّ من قيمته، فردّنى عنها بأقبح من خلقته. قال بعض الأعراب: نزلت بذاك الوادى فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد، إقبال حظهم، إدبار حظ الكرام؛ ألمّ بهذا المعنى شاعر فقال أرى حللا تصان على رجال ... وأعراضا تذال ولا تصان يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان وسئل بعض البلغاء عن رجل فقال: هو صغير القدر، قصير الشّبر، ضيّق الصدر، لئيم النّجر «1» ، عظيم الكبر، كثير الفخر. وذمّ أعرابىّ رجلا فقال: هو عبد البدن، حرّ الثياب، عظيم الرّواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، ونفسه تضعه. وقال آخر: فلان غثّ في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته، سمج في هيئته، منقطع الى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما أنعم الله عليه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلّاف لجوج، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، لا ينصف الأصاغر، ولا يعرف حقّ الأكابر. وترجم الفتح بن عبد الله القيسىّ صاحب قلائد العقيان في كتابه عن أبى بكر بن ماجة المعروف بابن الصائغ فقال: هو رمد جفن الدّين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا، فما يشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا

يشرع، ناهيك به من رجل ما تطهّر من جنابه، ولا أظهر مخيلة إنابه، ولا استنجى من حدث، ولا أسجى فؤاده موارى في جدث، ولا أقرّ ببارئه ومصوّره، ولافرّ عن تباريه في ميدان تهوّره، الإساءة اليه أجدى من الإحسان، والبهيمة أهدى عنده من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم، ونبذه وراء ظهره، ثانى عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون له عند الله تبارك وتعالى فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهى والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، حمامة تمامه، واختلافه فطامه، قد محى الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسى الرحمن لسانه فما يمرّ له عليه اسم، وانتمت نفسه للضلال وانتسبت، ونفت يوما تجزى فيه كلّ نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، واستشعر كل كبر وزهو، وهو يعكف على سماع التلاحين، ويقف عليها كلّ حين، يعلن بذلك الاعتقاد، ولا يؤمن بشىء قادنا الى الله فى أسلس مقاد، مع منشإ وخيم، ولؤم أصل وخيم «1» ، وصورة شوّهها الله وقبحها، وطلعة لو رآها كلب لنبحها، وقدارة يؤذى البلاد نفسها، ووضارة يحكى الحداد دنسها وفند لا يعمر إلا كنفه، ولدد لا يقوّم إلا الصّفاد جنفه «2» . وكتب أحمد بن يوسف: أما بعد فإنى لا أعرف للمعروف طريقا أوعر من طريقه إليك، لأنه يحصل منك بين حسب دنىء، ولسان بذىء، وجهل قد ملك عليك طباعك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحوّره، وفي وليّه أن تكفّره.

ومما قيل في الهجاء من النظم

ومما قيل في الهجاء من النظم فمن ذلك قول جرير وهو أهجى بيت قالته العرب فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا ولو وضعت فقاح بنى نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا وقال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودّوا أنهم افتدوا منه بأموالهم، وشعر لم يسرّهم به حمر النّعم فقال أسماء بن خارجة: نحن يا أمير المؤمنين! قال: وما قيل فيكم: قال: قول الحارث بن ظالم وما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا فو الله يا أمير المؤمنين! إنى لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل إلىّ أن شعر قفاى قد بدا منها، وقول قيس بن الخطيم هممنا بالإقامة يوم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر فما يسرّنا أنّ لنا بها أو به حمر النّعم، فقال هانىء بن قبيصة النّميرىّ: أولئك نحن يا أمير المؤمنين! قال: ما قيل فيكم؟ قال قول جرير فغضّ الطّرف إنك من نمير والله لوددنا أننا افتديناه بأملاكنا، وقول زياد الأعجم لعمرك ما رماح بنى نمير ... بطائشة الصّدور ولا قصار فو الله ما يسرّنا به حمر النّعم قال العسكرىّ وذكر أن جريرا لما قال والتّغلبىّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا.

قال: قلت فيهم بيتا لو طعن أحدهم في استه لم يحكّها! وقالوا: مرت امرأة ببنى نمير فتغامزوا إليها فقالت: يا بنى نمير! لم تعملوا بقول الله ولا بقول الشاعر، يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ويقول الشاعر فغضّ الظّرف إنّك من نمير فحجلوا؛ وكان النّميرىّ إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من نمير، فصار يقول: من بنى عامر بن صعصعة. قال العسكرىّ: ولو قيل إنّ أهجى بيت قالته العرب قول الفرزدق لم يبعد وهو ولو ترمى بلؤم بنى كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسارى ولو يرمى بلؤمهم نهار ... لدنّس لؤمهم وضح النّهار وما يغدو عزيز بنى كليب ... ليطلب حاجة إلا يحار ومثله قول الآخر ولو أنّ عبد القيس ترمى بلؤمها ... على الليل لم تبد النجوم لمن يسرى وقالوا: أهجى بيت قالته العرب قول الأعشى تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وهذا البيت من أبيات ولها سبب نذكره الآن في هذا الموضع وإن كان خارجا عن مكانه وذلك: أن عامر بن الطّفيل بن مالك وعلقمة بن علائة تنازعا الزعامة فقال عامر: أنا أفضل منك! وهى لعمّى ولم يمت، وعمّه عامر بن مالك بن جعفر ابن كلاب وكان قد أهتر وسقط، وقال علقمة: أنا أفضل منك! أنا عفيف، وأنت

عاهر، وأنا وفىّ وأنت غادر، وأنا ولود وأنت عاقر، وأنا أدنى الى ربيعة، فتداعيا الى هرم بن قطنة؛ ليحكم بينهما فرحلا اليه ومع كل واحد منهما ثلاثمائة من الإبل، مائة يطعمها من تبعه، ومائة يعطيها للحاكم، ومائة تعقر إذا حكم؛ فأبى هرم بن قطنة أن يحكم بينهما مخافة الشّرّ وأبيا أن يرتحلا؛ فخلا هرم بعلقمة وقال له: أترجو أن ينفّرك رجل من العرب على عامر فارس مضر؛ أندى الناس كفّا، وأشجعهم لقاء، لسنان رمح عامر أذكر في العرب من الأحوص، وعمّه ملاعب الأسنة، وأمّه كبشة بنت عروة الرّحال، وجدّته أم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الضّحياء، وأمك من النّخع، وكانت أمّه مهيرة، وأمّ علاثة أخيذة من النّخع، ثم خلا بعامر فقال له: أعلى علقمة تفخر؟ أنت تناوئه؛ أعلى بن عوف بن الأحوص؛ أعفّ بنى عامر وأيمنهم نقيبة، وأحلمهم وأسودهم وأنت أعور عاقر مشئوم! أما كان لك رأى يزعك عن هذا! أكنت تظنّ أن أحدا من العرب ينفّرك عليه؟ فلما اجتمعا وحضر الناس للقضاء قال: أنتما كركبتى الجمل فتراجعا راضيين. قال العسكرىّ: والصحيح أنه توارى عنهما ولم يقل شيئا فيهما ولو قال: أنتما كركبتى الجمل لقال كل واحد منهما: أنا اليمنى، فكان الشرّ حاضرا؛ قال وسأله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد ذلك بحين: لمن كنت حاكما لو حكمت؟ فقال: أعفنى يا أمير المؤمنين! فلو قلتها لعادت جذعة. فقال عمر: صدقت! مثلك فليحكم. قال فارتحلوا عن هرم لما أعياهم نحو عكاظ فلقيهم الأعشى منحدرا من اليمن، وكان لمّا أرادها قال لعلقمة: اعقد لى حبلا فقال: أعقد لك من بنى عامر! قال: لا يغنى عنّى قال: فمن قيس! قال: لا، قال: فما أنا بزائدك، فأتى عامر بن الطفيل فأجاره من أهل السماء والأرض فقيل له: كيف تجيره من أهل السماء؟ قال: إن مات

وديته، فقال الأعشى لعامر: أظهر أنكما حكّتمانى ففعل؛ فقام الأعشى فرفع عقيرته (أى صوته) فى الناس فقال حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالى خسر الخاسر علقم لا لست الى عامر الناقض ... الأوتار والواتر واللابس الخيل بخيل اذا ... ثار عجاج الكبّة الثائر إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بنى عامر ساد وألفى رهطه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر قال وشدّ القوم في أعراض الإبل المائة فعقروها وقالوا: نفّر عامر، وذهبت بها الغوغاء، وجهد علقمة أن يردّها فلم يقدر على ذلك، فجعل يتهدّد الأعشى فقال أتانى وعيد الحوص من آل عامر ... فيا عبسه عمرو لو نهيت الأحاوصا فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج لا يوارى الدّعا مصا كلا أبويكم كان فرعا دعامة ... ولكنّهم زادوا وأصبحت ناقضا تبيتون في المشتا ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا يراقبن من جوع خلال مخافة ... نجوم العشاء العاتمات الغوامصا رمى بك في أخراهم تركك النّدى ... وفضّل أقواما عليك مراهصا فعضّ حديد الأرض إن كنت ساخطا ... بفيك وأحجار الكلاب الرّواهصا قال فبكى علقمه لما بلغه هذا الشعر وكان بكاؤه زيادة عليه في العار، والعرب تعيّر بالبكاء؛ قال مهلهل يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... ونحن أغلظ أكبادا من الإبل

وقال جرير بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكى من الذّل دوبل قال عبد الملك بن مروان لأمية: مالك وللشاعر إذ يقول إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الشدائد فقال: أصابه حدّ من حدود الله فأقمته عليه قال: فهلّا درأته عنه بالشّبهات؟ قال: كان أهون علىّ من أن أعطّل جدّا من حدود الله فقال: يا بنى أمية! أحسابكم أحسابكم، أنسابكم أنسابكم، لا تعرضوا للفصحاء فإن للشعر مواسم لا يزيدها الليل والنهار إلا جدّة، والله ما يسرّنى أنى هجيت ببيت الأعشى حيث يقول: تبيتون في المشتا الخ ولى الدنيا بحذافيرها ولو أن رجلا خرج من عرض الدنيا كان قد أخذ عوضا لقول ابن حرثان على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل وهذا البيت لزهير. وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الحضيئة؟؟ في الزّبرقان بن بدر دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى ولهذا الشعر حكاية نذكرها في أخبار الحطيئة في البخلاء. وقيل: أتفق جماعة من الشعراء على أن أهجى بيت قالته العرب، قول الفرزدق في جرير أنتم قرارة كلّ معدن سوءة ... ولكلّ سائلة تسيل قرار أخذه أبو تمام فقال وكانت زفرة ثم اطمأنت ... كذاك لكل سائلة قرار

وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الأخطل لجرير ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللّؤم والعار قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولى على النّار قالت بنو تميم: ما هجينا بشىء، هو أشدّ علينا من هذا البيت، وهو يتضمن وجوها شتّى من الذّم: جعلهم بخلاء بالقرى، وجعل أمّهم خادمهم، يأمرونها بكشف فرجها، وجعلهم يبخلون بالماء أن يطفئوا به النار، وجعل نارهم من قلّتها تطفى ببولة، وأغرى بينهم وبين المجوس، لتعظيم المجوس للنار، وإهانتهم لها إلى غير ذلك. وقالوا أهجى بيت قالته العرب قول الطرمّاح تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت وقيل أهجى بيت قالته العرب قول الأعرابىّ اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا وقال مسلم بن الوليد يهجو دعبل الخزاعىّ أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه ... عرض عززت به وأنت ذليل وكان سبب ذلك أنه كان بخراسان عند الفضل بن سهل، فبلغ دعبل ما هو فيه من الحظوة عنده، فصار إلى مرو، وكتب الى الفضل بن سهل لا تعبأن بابن الوليد فإنه ... يرميك بعد ثلاثة بملال إن الملول إذا تقادم عهده ... كانت مودّته كفىء ضلال

فدفع الفضل الرّقعة إلى مسلم، فلما قرأها قال: هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد يفسق به؟ فقال: لا، قال: كان يلقّب بميّاس، وكتب إليه مياس قل لى: أين أنت من الورى؟ ... لا أنت معلوم ولا مجهول أما الهجاء الخ، ومنه أخذ إبراهيم بن العباس فقال فكن كيف شئت وقل ما تشاء ... وأبرق يمينا وأرعد شمالا نجابك لؤمك منجا الذّباب ... حمته مقاذيره أن ينالا وأنشد لجاحظ ووثقت أنّك لا تسبّ ... حماك لؤمك أن تنالا وقال الآخر بذلّة والديك كسيت عزّا ... وباللؤم اجترأت على الجواب وقال آخر دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا ساء منك الصنيع فقل لعدوّك ما تشتهى ... فأنت المنيع الرفيع الوضيع وقال أبو نواس ما كان لو لم أهجه غالب ... قام له هجوى مقام الشرف يقول: قد أسرف في هجونا ... وإنما ساد بذاك السّرف عائب؟؟، لا تسع لتبنى العلا، ... بلغت مجدا بهجائى، فقف قد كنت مجهولا ولكننى ... نوّهت بالمجهول حتى عرف

وقال أبو هلال العسكرىّ أهنت هجائى يابن عروة، فانتحى ... علىّ ملام الناس في البعد والقرب وقالوا: أتهجو مثله في سقوطه؟ ... فقلت لهم: جرّبت سيفى في كلب وقال ابن لنكك وعصبة لمّا توسّطهم ... صارت علىّ الأرض كالخاتم كأنّهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعد إلى العالم يضحك إبليس سرورا بهم ... لأنهم عار على آدم وقالوا أهجى بيت قاله محدّث قول الآخر قبحت مناظرهم، فحين خبرتهم، ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر وقال العسكرىّ: ولست أعرف في الهجاء أبلغ من قول الأوّل إن يفجروا أو يغدروا، ... أو يبخلوا لم يحفلوا وغدوا عليك مرجّلين ... كأنّهم لم يفعلوا! ومن البليغ قول حسان أبناء حار، فلن تلقى لهم شبها ... إلا التيوس على أكتافها الشّعر إن نافروا نفروا، أو كاثروا كثروا، ... أو قامرو الربح عن أحسابهم قمروا كأنّ ريحهم في الناس إن خرجوا ... ريح الكلاب إذا ما مسّها المطر وقال أيضا أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا وإن أحقّ الناس أن لا تلومه ... على اللؤم من ألفى أباه كذلكا

وقال الآخر سل الله ذا المنّ من فضله ... ولا تسألنّ أبا واثله فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله وقال آخر ولو قيل للكلب: يا باهلىّ ... لأعول من قبح هذا النسب! وقال زياد: ما هجيت ببيت قطّ أشدّ علىّ من قول الشاعر فكّر، ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش في الجماهير وقال إبراهيم بن العباس ولما رأيتك لا فاسق ... تهاب ولا أنت بالزاهد وليس عدوّك بالمتّقّى ... وليس صديقك بالحامد أتيت بك السوق سوق الهوان ... فناديت: هل فيك من زائد؟ على رجل غادر بالصديق ... كفور لنعمائه جاحد فما جاءنى رجل واحد ... يزيد على درهم واحد سوى رجل حان منه الشقىء ... وحلّت به دعوة الوالد فبعتك منه بلا شاهد ... مخافة ردّك بالشاهد وأبت الى منزلى سالم ... وحلّ البلاء على الناقد وقال العسكرىّ إن كان شكلك غير متّفق ... فكذا خلالك غير مؤتلفه صوّرت من نطف قد اختلفت ... فأتت خلالك وهى مختلفه

من عصبة شتى اذا اجتمعوا ... شبّهت داركم بهم عرفه فورثت من ذا قبح منظره ... وورثت ذاك خناه أو صلفه وقال الحسن بن مطران شاعر اليتيمة كم غصت في مدحك فكرا على ... درّ نفيس غير مثقوب ولم يغض رأيك يوما على ... برّى، ولا رأى لمكذوب إن كان موعودك في الجود لى ... أكذب من موعود عرقوب فإنّ أخبارك في مدحتى ... أكذب من ذئب ابن يعقوب وقال أحمد بن محمد بن حامد شاعر الخريدة بليت بقوم ما لهم في العلايد ... ولا قدم تسعى لبذل الصنائع اذا نظرت عينى اليهم تنجّست ... برؤيتهم طهّرتها بالمدامع وقال المتنبّى إن أوحشتك المعالى ... فإنها دار غربه أو آنستك المخازى ... فإنها يك؟؟ أشبه وقال أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحجّاج ولقد عهدتك تشتهى ... قربى، وتستدعى حضورى وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل النفسا؟؟ بعد البخور يا خرية العدس الصحيح ... النّبى، والخبز الفطير فى جوف منحلّ الطبيعة ... والقوى شيخ كبير يجرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير يا؟؟ نتموة أبعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير

وفطائر عجنت بلا الملح ... الجريش ولا الخمير يا نتن رائحة الطبيخ ... إذا تغيّر في القدور يا عشّ بيض القمل فرّخ ... فى السوالف والشعور يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور يا بعض تدخين الحشا ... فى الصوم من تخم السّحور يا حرّ قولنج البطو ... ن وبردّ أعصاب الظهور يا ذلّة المظلوم أصبح ... وهو معدوم النصير يا سوء عاقبة التفقّد ... عند تشبيه الأمور يا كلّ شىء متعب ... متعقّد صعب عسير يا حيرة الشيخ الأصمّ ... ، وحسرة الحدث الضرير يا قعدة في دجلة ... والريح تلعب بالجسور يا قرحة السلّ التى ... هدّت شراسيف الصدور يا أربعاء لا تدو ... ربه مخافات الشهور يا هدّة الحيطان تنقض ... بالمعاول والمرور يا قرحة في ناظر ... غلظوا عليها بالذّرور فتسلّخت مع ما يليها ... في الجفون من البثور يا خيبة الأمل الذى ... أمسى يعلّل بالغرور يا غلمة المتخدّرا ... ت وراء أبواب القصور يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور يا ضجرة المحموم بالغدوات ... من ماء الشعير

يا شؤم إقبال الشتا ... ءأضرّ بالشيخ الفقير يا دولة الحسن التى ... خسفت بأيّام السّرور يا ضجّة الضّجر المصدّع ... بالتنازع والشّرور يا عثرة القلم المرشش ... بين أثناء السطور يا ليلة العريان غبّ ... عشيّة اليوم المطير يا نومعة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير يا فجأة المكروه في البيوم ... العبوس القمطرير يا نهمة الكلب الرضيع ... ونكهة الليث الهصور يا عيش عان موثق ... فى القيد مغلول أسير يا حدّة الرّمد الذى ... لا يستفيق من القطور يا غيشة الكنّاس من ... شمّ الذرائر والعبير يا حيرة العطشان وقت ... الظّهر في وسط الهبير من لى بأن تلقاك خيل ... بنى كلاب بلا خفير وأرى بعينى لحمك المطبوخ ... فى حرّ الهجير فى الأرض ما بين السباع ... وفي السما بين النّسور وقال المتنبّى يمشى بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم وجفونه ما تستقرّ كأنها ... مطروفة أو فتّ فيها حصرم وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم

ومما هجى به أهل الوقت على الإطلاق، فمن ذلك قول أبى هلال العسكرى.

واذا أشار مكلّما فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم يقلى مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمّم ومما يذمّ به الرجل أن يكون ثقيلا، فأبلغ ما قيل في ذلك قول بعضهم وثقيل أشدّ من غصص الموت ... ومن زفرة العذاب الأليم لو عصت ربّها الجحيم لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم وأبلغ ما قيل في هذا المعنى قول بشّار ولقد قلت حين وتّد في الأر ... ض ثقيل اربى على ثهلان كيف لم تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان ومما هجى به أهل الوقت على الإطلاق، فمن ذلك قول أبى هلال العسكرىّ. كم حاجة أنزلتها ... بكريم قوم أو لئيم فإذا الكريم من اللئيم ... أو اللئيم من الكريم سبحان ربّ قادر ... قدّ البريّة من أديم فشريفهم ووضيعهم ... سيّان في سفه ولوم قد قلّ خير غنيّهم ... فغنّيهم مثل العديم وإذا اختبرت حميدهم ... ألفيته مثل الذميم

ومما قيل في هجاء بعض العشيرة ومدح بعضهم،

ومما قيل في هجاء بعض العشيرة ومدح بعضهم، فمن ذلك قول أبى عيينة ليهجو خالد بن يزيد المهلّبىّ ويمدح أباه أبوك لنا غيث نعيش بفضله ... وأنت جراد ليس يبقى ولا يذر له أثر في المكرمات يسرّنا ... وأنت تعفّى دائبا ذلك الأثر لقد قنّعت قحطان خزيا بخالد ... فهل لك فيه يخزك الله يا مضر؟ وله في قبيصة بن روح، يفضّل عليه ابن عمّه داود بن يزيد بن حاتم أقبيص لست وإن جهدت ببالغ ... سعى ابن عمّك ذى النّدى داود شتّان بينك يا قبيص وبينه ... إن المذمّم ليس كالمحمود داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود ولربّ عود قد يشقّ لمسجد ... نصفا وسائره لحشّ يهودى وقال حسان في أبى سفيان بن الحارث أبوك أب حرّ وأمّك حرّة ... وقد يلد الحرّان غير نجيب فلا تعجبنّ الناس منك ومنهما ... فما خبث من فضّة بعجيب ذكر ما قيل في الحسد ومما يذمّ به الرجل، أن يكون حسودا، وقد أمر الله تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام، أن يتعوّذ من شرّ الحاسد إذا حسد قال ابن السمّاك

أنزل الله تعالى سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشرّ، فلما انتهى الى الحسد، جعله خاتما إذ لم يكن بعده في الشرّ نهاية. والحسد أوّل ذنب عصى الله تعالى به فى السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض، أما في السماء، فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض، فحسد قابيل لهابيل، وذهب بعض أهل التفسير في قوله عزّوجلّ إخبارا عن أهل النّار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أن المراد بالجنّ إبليس، وبالإنس قابيل، وذلك أن إبليس أوّل من سنّ الكفر، وقابيل أوّل من سنّ القتل، وأصل ذلك كلّه الحسد. وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، فقيل له: ومن يعادى نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدوّ نعمتى، مسخط لقضائى، غير راض بقسمتى. وقالت الحكماء: إذا أراد الله، أن يسلّط على عبد عدوّا لا يرحمه، سلّط عليه حاسدا. وكان يقال في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصّر دون الظّفر، وحسدك من لا ينام دون الشّقاء. وقالوا: ما ظنّك بعداوة الحاسد، وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه؟ قال أبو الطيب المتنبىّ سوى وجع الحساد داء فإنه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول ولا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتنيل

وقال الببّغاء ومن البلية أن تداوى حقد من ... نعم الاله عليك من أحقاده وقال علىّ رضى الله عنه لا راحة لحسود، ولا أخ لملول، ولا محبّ لسىء الخلق. وقال الحسن ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وغيره لا تنفد، ثم قال: لله درّ الحسد ما أعدله! يقتل الحاسد قبل أن يصل الى المحسود. وقال الجاحظ: من العدل المحض، والإنصاف الصحيح، أن تحطّ عن لحاسد نصف عقابه، لأن ألم جسمه، قد كفاك مؤنة شطر غيظك عليه. وقيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك، والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك، وفي الحديث: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» . وقال أرسطا طاليس: الحسد حسدان: محمود، ومذموم، فالمحمود أن ترى عالما فتشتهى أن تكون مثله، وزاهدا فتشتهى مثل فعله، والمذموم أن ترى علما وفاضلا فتشتهى أن يموتا، وقيل: الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه. قال منصور الفقيه ألا قل لمن كان لى حاسدا ... أتدرى على من أسأت الأدب أسأت على الله في فضله ... إذا أنت لم ترض ما قد وهب وقال المتنبّى وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب

ومما قيل من الشعر في تفضيل المحسود ومدحه، وهجاء الحاسد وذمه،

ومن أخبار الحسدة: ما حكى، أنه اجتمع ثلاثة نفر منهم، فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قطّ، فقال. الثانى: أنت رجل صالح، أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قطّ، فقال الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بى أحد خيرا قط. ومما قيل من الشعر في تفضيل المحسود ومدحه، وهجاء الحاسد وذمّه، قال بعض شعراء إن يحسدونى فإنى غير لائمهم ... قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا فذم لى ولهم ما ب؟؟ ى وما بهم ... ومات أكثرنا غمّا بما يجد وقال آخر إن الغراب وكان يمشى مشبة ... فيما مضى من سالف الاحوال حسد القطاة ورام يمشى مشيها ... فأصابه ضرب من العقّال وقال آخر حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنّه لدميم وقال البحترىّ لا تحسدوه فضل رتبته التى ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله وقال السّرىّ الرفّاء نالت يداه أقاصى المجد الّذى ... بسط الحسود إليه باعا ضيّقا

أعدّوه هل للسّماك جريرة ... فى أن دنوت من الحضيض وحلّقا؟ أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منها مملقا؟ وقال أبو تمام الطائىّ وإذا أراد الله نشر فضيلة ... يوما أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وقال البحترىّ ولن يستبين الدّهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد وقال محمد بن مناذر يا أيّها العاتبى وما بى من ... عتب ألا ترعوى وتزدجر! هل لك عندى وتر فتطلبه ... أم أنت ممّا أتيت معتذر؟ إن يك قسم الإله فضّلنى ... وأنت صلد ما فيك معتصر فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التّراب والحجر ماذا الذى يجتنى جليسك أو ... يبدو له منك حين يختبر اقرأ لنا سورة تذكّرنا ... فإن خير المواعظ السّور أوصف لنا الحكم في فرائضنا ... ما تستحقّ الأنثى أو الذّكر أو ارو فقها تروى القلوب به ... جاء به عن نبيّنا الأثر أو من أحاديث جاهليّتنا ... فإنها حكمة ومفتخر أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإن أمثالها لنا عبر أو غنّ صوتا تشجى النّفوس به ... وذنب ما قد أتيت مغتفر فإن تكن قد جهلت ذاك وذا ... ففيك للناظرين معتبر

ذكر ما قيل في السعاية والبغى والغيبة والنميمة

ذكر ما قيل في السّعاية والبغى والغيبة والنّميمة قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) . وقال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) . وقال تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يرفعن إلينا عورة أخيه المؤمن» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يراح القتّات رائحة الجنّة» . وفي لفظ «لا يدخل الجنّة قتّات» ؛ والقتّات: النّمّام. قال بعض الشعراء فلا تسعى على أحد ببغى ... فان البغى مصرعه وخيم وقال العتّابىّ بغيت فلم تقع إلا صريعا ... كذاك البغى مصرع كلّ باغى وسأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم، فقاموا، فلما تهيّأ الرجل للكلام، قال له: إياك أن تمدحنى فإنى أعلم بنفسى منك، أو تكذبنى، فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إلىّ بأحد، وإن شئت أقلتك، قال: أقلنى. قال: ولما ولى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق، ولم يكن في بنى أميّة ألبّ منه في حداثة سنّه، قال أهل دمشق: هذا غلام شابّ، ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا، فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير، عندى نصيحة، فقال له: يا ليت شعرى، ما هذه النصيحة التى ابتدأتنى بها من غير يد سبقت منّى إليك؟ فقال: جار لى عاص، متخلّف عن ثغره، فقال له: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك، ولا حفظت جوارك. إن شئت، نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا؛

لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا، عاقبناك، وإن شئت، أقلناك، قال: أقلنى، قال: اذهب حيث شئت، لا صحبك الله، ثم قال: يا أهل دمشق، ما أعظمتم ما جاء به الفاسق، إن السّعاية أحسب منه سجيّة، ولولا أنه لا ينبغى للوالى أن يعاقب، قبل أن يعاتب، كان لى فيه رأى، فلا يأتنى أحد منكم بسعاية على أحد، فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب بهّات؛ وسعى رجل برجل إلى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، فقال: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا، فأنت من هذه الآية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) وإن كنت صادقا، فأنت من هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) وإن شئت عفونا عنك، قال: العفو يا أمير المؤمنين، قال: على أن لا تعود. وكتب محمد بن خالد إلى ابن الزيّات: إن قوما صاروا إلىّ متنصّحين، فذكروا أن رسوما للسلطان قد عفت ودرست، وأنه توقّف عن كشفها إلى أن يعرف موقع رأيه فيها، فوقّع على رقعته: قرأت هذه الرّقعة المذمومة، وسوق السّعاة مكسد عندنا، وألسنتهم تكلّ في أيامنا، فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما فى ديوانك، فلم ترد للناحية لكشف الرسوم العافية، ولا لتحيى الأعلام الدثرة، وجنّبنى وتجنّب قول جرير وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحاب؟؟ بخزية وتركت عارا قالوا: وكان الفضل بن يحيى يكره السّعاة، فإذا أتاه ساع، قال له: إن صدقتنا، أبغضناك، وإن كدبتنا، عقبناك، وإن استقلتنا، أقلناك. وحكى صاحب العقد قال: قال العتبىّ، حدّثنى أبى عن سعيد القصرىّ، قال: نظر إلىّ عمرو ابن عينه ورجل يستم بين يدىّ رجلا، فقال لى: ويلك،

ومما قيل في الغيبة والنميمة،

وما قال لى ويلك قبلها: نزّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزّه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شرّ ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه، لسعد رادّها، كما شقى قائلها، وقد جعله الله تعالى شريك القائل، فقال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) . ومما قيل في الغيبة والنّميمة، روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قلت في الرجل ما فيه فقد اغتبته وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه» . اغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم، فقال له: أمسك عليه أيّها الرجل، والله لقد تلمظت بمضغة طالما لفظتها الكرام. وذكر في مجلسه رجل، فنال منه بعض جلسائه، فقال له: يا هذا أوحشتنا من نفسك، وأيأستنا من مودّتك، ودللتنا على عورتك. واغتاب رجل عند بعض الأشراف، فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك، بما تذكر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب، إنما يطلبها بقدر ما فيه منها، أما سمعت قول الشاعر لا تهتكن من مساوى الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، ودع منه ما تحبّ أن يدع منك.

وقال بعض الملوك لولده وهو ولىّ عهده: يا بنىّ ليكن أبغض رعيتك إليك، أشدّهم كشفا لمعايب الناس عندك، فإنّ في الناس معايب وأنت أحق بسترها، وإنما تحكم فيما ظهر لك، والله يحكم فيما غاب عنك، وأكره للناس ما تكرهه لنفسك، واستر العورة، يستر الله عليك، ما تحبّ ستره، ولا تعجّل الى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ، وإن قال قول نصح. ووشى واش برجل الى الإسكندر فقال له: أتحبّ أن نقبل منك ما قلت فيه، على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا، قال: فكفّ عن الشر، نكفّ عنك. وقال ذو الرّياستين: قبول النميمة، شرّ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دلّ على شىء، كمن قبله وأجازه. قال أبو الأسود الدّؤلىّ لا تقبلنّ نميمة بلّغتها ... وتحفظنّ من الذى أنباكها إن الذى أهدى إليك نميمة ... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأساورىّ لم يزل يذكرك، ويقول: الضآلّ، فقال عمرو: يا هذا! والله ما راعيت حقّ مجالسته، حتّى نقلت إلينا حديثه، ولا راعيت حقّى، حين أبلغتنى عن أخى ما أكرهه، اعلم أن الموت يعمّد، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا. وقال معاوية للأحنف في شىء بلغه عنه، فأنكره الأحنف: بلّغنى عنك الثقة، فقال الأحنف: إن الثقة لا يبلّغ.

قال بعض الشعراء لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنما سبّ الأمير المبلّغ وقال ابن المعتزّ: الساعى كاذب لمن سعى إليه، خائن لمن سعى عليه. وقالوا: النّمام، شرّ من الساحر، فإن النمام، يفسد في الساعة الواحدة، ما لا يفسد الساحر في المدة الطويلة. وقالوا: النميمة، من الخلال الذميمة، تذلّ على نفس سقيمة، وطبيعة لئيمة، مشغوفة بهتك الأستار، وإفشاء الأسرار. وقال بعض الحكماء: الأشرار يتتبعون مساوىء الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الألمة من الجسد، ويترك الصحيحة. وقالوا: لم يمش ماش، شرّ من واش. والساعى بالنميمة، كشاهد الزّور، يهلك نفسه، ومن سعى به، ومن سعى اليه. وقالوا: حسبك من شرّ سماعه. وقد لهج الشعراء بذمّ النمام، وجعلوه من أهاجيهم. قال بعض الشعراء من نمّ في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسّيل بالليل لا يدرى به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه وقال السّرىّ الرّفّاء أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشىء فيها ظاهرا وهو باطن

ذكر ما قيل في البخل واللؤم

وقال محمد بن شرف وناصب نحو أفواه الورى أذنا ... كالقعب يلقط فيها كلّ ما سقطا يظلّ يلتقط الأخبار مجتهدا ... حتى إذا ما وعاها زقّ ما لقطا وقال ابن وكيع ينمّ بسرّ مسترعيه لؤما ... كما نمّ الظلام بسرّ نار أنم من النّصول على مشيب ... ومن صافى الزّجاج على عقار وقال الحسن البصرىّ: لا غيبة في ثلاثة: فاسق مجاهر، وإمام جائر، وصاحب بدعة. وكتب الكسائىّ الى الرقاشىّ تركت المسجد الجامع ... والتّرك له ريبه وأخبارك تأتين ... على الأعلام منصوبه فإن زدت من الغيبة ... زدناك من الغيبه ذكر ما قيل في البخل واللؤم والبخل منع الحقوق وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ، وقال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خلّتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» . وقال بعض السلف: منع الجود، سوء ظن بالمعبود، وتلا (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وروى أبو بكر الخطيب في كتاب البخلاء، بإسناده عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «لما خلق الله تعالى جنّة عدن، قال لها: تزيّنى فتزينت، ثم قال لها: أظهرى أنهارك، فأظهرت عين السلسبيل، وعين الكافور، وعين التسنيم، ونهر الخمر، ونهر العسل، ونهر اللبن، ثم قال لها: أظهرى حورك، وحللك، وسررك وحجالك، ثم قال لها: تكلّمى، فقالت: طوبى لمن دخلنى، فقال الله عزّوجل: أنت حرام على كل بخيل» . وقال سقراط: الأغنياء البخلاء، بمنزلة البغال والحمير، تحمل الذهب والفضة، وتعتلف التّبن والشعير. وقالوا: البخل من سوء الظن، وخمول الهمّة، وضعف الرويّة، وسوء الاختيار، والزّهد في الخيرات. وقال الحسن بن علىّ رضى الله عنهما: البخل جامع للمساوىء والعيوب، وقاطع للمودّات من القلوب. وقالوا: حدّ البخل، منع المسترفد مع القدرة على رفده. وكان أبو حنيفة لا يقبل شهادة البخيل، ويقول محتجّا لذلك: إن البخيل يحمله بخله، على أن يأخذ فوق حقّه، مخافة أن يغبن، ومن كان هكذا لا يكون مأمونا.

وقال بشر بن الحارث الحافى: لا غيبة لبخيل، ولشرطىّ سخىّ أحبّ إلىّ من عابد بخيل. وقالوا: البخيل لا يستحقّ اسم الحرّية، فإن ماله يملكه. ويقال: لا مال للبخيل، وإنما هو لماله. وقال الحسن البصرىّ: لم أر أشقى بماله من البخيل؛ لأنّه في الدنيا يهتمّ بجمعه، وفي الآخرة يحاسب على منعه، غير آمن في الدنيا من همه، ولا ناج في الآخرة من إثمه، عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء. ودخل رحمه الله على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه، فرآه يصعّد بصره ويصوّبه الى صندوق في بيته، ثم التفت اليه، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في مائة ألف دينار في هذا الصندوق لم أودّ منها زكاة ولم أصل بها رحما؟ فقال له: ثكلتك أمك! ولم كنت تجمعها؟ قال لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وتكاثر العشيرة، ثمّ مات، فشهده الحسن، فلما فرغ من دفنه، ضرب بيده على القبر، ثم قال: انظروا إلى هذا، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه، وجفوة سلطانه، بما استودعه الله إيّاه، وعمّره فيه. انظروا اليه كيف خرج مذموما مدحورا! ثم التفت إلى وارثه، فقال: أيها الوارث لا تخدعنّ كما خدع صويحبك بالأمس، أتاك هذا لمال حلالا، فلا يكونن عليك وبالا، أتاك عفوا صفوا، ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، قطع فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، ولم تكدح لك فيه عين ولم يعرق لك فيه جبين، إن يوم القيامة يوم ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدا، أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيالها حسرة لا تقال، وتوبة لا تنال.

ومن أخبار البخلاء:

ومن أخبار البخلاء: قيل: بخلاء العرب أربعة، الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدّؤلىّ، وخالد بن صفوان، ونقلت عنهم أمور دلّت على بخلهم. أما الحطيئة: فقد حكى عنه: أنه مرّ به ابن الحمامة، وهو جالس بفناء بيته، فقال له: السلام عليكم، فقال: قلت ما لا ينكر، فقال: إنى خرجت من أهلى بغير زاد، قال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لى أن آتى بظلّ بيتك فأتفيّأ به؟ قال: دونك الجبل يفىء عليك، قال أنا ابن الحمامة، قال: انصرف وكن ابن أى طائر شئت. قال: واعترضه رجل وهو يرعى غنما، فقال له: يا راعى الغنم، وكان بيد الحطيئة عصا فرفعها، وقال: عجراء من سلم، فقال الرجل: إنما أنا ضيف، فقال: للأضياف أعددتها. وكان الحطيئة أحد الحمقى، أوصى عند موته، أن يحمل على حمار، وقال: لعلّى إن حملت عليه، لا أموت، فإنى ما رأيت كريما مات عليه قطّ. وقال: لكلّ جديد لذّة، إلا جديد الموت* فإنى رأيته غير لذيذ. وقيل له: أوص، فقال: أوصى أن مالى للذكور دون الإناث، قالوا: فإن الله ليس يقوله كذلك، قال: لكنى أقوله. وقالوا له: قل لا إله الا الله، فقال: أشهد أن الشمّاخ أشعر غطفان. ومن أخباره: أن الزّبرقان بن بدر، لقيه في سفر، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا حسب موضوع، أنا أبو مليكة، فقال له الزّبرقان: إنى أريد وجها، فصر إلى منزلى، وكن هناك، حتّى أرجع، فصار الحطيئة إلى امرأة الزّبرقان، فأنزلته وأكرمته، فجسده بنو عمّه، وهم بنو لأى، فقالوا للحطيئة: إن تحولت إلينا، أعطيناك مائة ناقة. ونشدّ الى كلّ طب من أطناب بيتك حلّة تحويه، وقالوا

لامرأة الزّبرقان: إن الزّبرقان إنما قدّم هذا الشيخ ليتزوّج بنته، فقدح ذلك فى نفسها، فلما أراد القوم النّجعة، تخلّف الحطيئة، فتغافلت عنه امرأة الزّبرقان، فاحتمله القريعيّون ووفّوا له بما قالوا، فمدحهم، وهجا الزّ برقان، فقال أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولا يرى طاردا للحرّ كالياس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فحكّم عمر، حسان ابن ثابت، فقال حسان: ما هجاه ولكن سلح عليه، فحبس عمر الحطيئة، فقال يستعطفه ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر؟ ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الآثر فأخرجه عمر، وجلس على كرسىّ، وأخذ بيده شفرة، وأوهم أنه يريد قطع لسانه، فضجّ، وقال: إنى والله يا أمير المؤمنين! قد هجوت أبى وأمّى وامرأتى ونفسى، فتبسّم عمر، ثم قال: ما الذى قلت؟ قال: قلت لأبى وأمّى ولقد رأيتك في النساء فسؤتنى ... وأبا بنيك فساءنى في المجلس وقلت لأبى خاصة فبئس الشيخ أنت لدى تميم ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالى

وقلت لأمّى خاصة تنحّى واجلسى منّى بعيدا ... أراح الله منك العالمينا؟ أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا؟ وقلت لامرأتى أطوّف ما أطوّف ثم آتى ... إلى بيت قعيدته لكاع وقلت لنفسى أبت شفتاى اليوم إلا تكلّما ... بسوء فما أدرى لمن أنا قائله أرى لى وجها شوّد الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله فخلّى عمر سبيله، وأخذ عليه أن لا يهجو أحدا، وجعل له ثلاثة آلاف اشترى بها منه أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إيّاه عن الهجاء ويتأسف وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... شتما يضرّ ولا مديحا ينفع ومنعتنى عرض البخيل فلم يخف ... شتمى وأصبح آمنا لا يجزع وأما حميد الأرقط: فكان هجّاء للضيف، فحاشا عليه، فنزل به ضيف ذات ليلة، فقال لامرأته: نزل بك البلاء، قومى فأعدى لنا شيئا، ففعلت، فجعل الضيف يأكل ويقول: ما فعل الحجاج بالناس؟ فلما فرغ، قال حميد يجرّ على الأطناب من جذل بيتنا ... هجفّ «1» لمخزون التّحيّة باذل يقول وقد ألقى المراسى للقرى ... أبن لى ما الحجّاج بالناس فاعل؟ فقلت: لعمرى ما لهذا أتيننا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل

تدبّر كفاه ويحدر حلقه ... الى الصدر ما حازت عليه الأنامل أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذى هو قائل فما زال عنه اللّقم حتّى كأنه ... من العىّ لمّا أن تكلّم باقل ونزل به أضياف، فأطعمهم تمرا وهجاهم، وادعى عليهم أنهم يأكلونه بنواه، فقال باتوا وجلّتنا «1» الصّهباء حولهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين فأصبحوا والنّوى ملقى معرّسهم ... وليس كلّ النّوى ألقى المساكين وأما خالد بن صفوان: فكان إذا أخذ جائزته، قال للدرهم: طالما سرت فى البلاد، أما والله لأطيلنّ حبسك، ولأديمنّ لبثك. وقيل له: مالك لا تنفق، فإن مالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه، قيل: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كلّه، قال: ولا أخاف أن أموت في أوله. وأما أبو الأسود الدؤلىّ: فعمل دكانا عاليا يجلس عليه، فكان ربما أكل عليه فلا يناله المجتاز، فمرّ به أعرابىّ على جمل، فعرض عليه أن يأكل معه، وظنّ أنه لا يناله، فأناخ الأعرابىّ بعيره، حتّى وازى الدكان، وأكل معه، فما جلس بعد ذلك على الدكان، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا، كنا أسوأ حالا منهم. وقال لبنيه: لا تطمعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم، حتّى يروكم في مثل حالهم. ووقف عليه أعرابىّ وهو يتغدّى، فسلّم عليه، فردّ عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعرض عليه، فقال الأعرابىّ: أما إنى قد مررت بأهلك، قال: كان ذلك طريقك، قال: وهم صالحون، قال: كذلك فارقتهم، قال:

وامرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدى بها، قال: ولدت، قال: ما كان بدّلها أن تلد، قال: ولدت غلامين، قال: كذلك كانت أمّها، قال: مات أحدهما، قال: ما كانت تقوى على رضاع اثنين، قال: ثمّ مات الآخر، قال: ما كان ليبقى بعد أخيه، قال: وماتت الأمّ، قال: جزعا على ولديها، قال: ما أطيب طعامك! قال: ذلك جزائى على أهله، قال: أفّ لك ما ألأمك! قال: من شاء سبّ صاحبه. ونظير هذه الحكاية: ما حكى أن أعرابيّا مرّ بآخر، فقال: من أين أقبلت يابن عمّ؟ قال: من الثّنيّة، قال: فهل أتيتنا منها بخبر؟ قال: سل عما بدا لك، قال: كيف علمك بيحيى؟ قال: أحسن العلم، قال: هل لك علم بكلبى نفّاع؟ قال: حارس الحىّ، قال: فبأمّ عثمان؟ قال بخ بخ، ومن مثل أمّ عثمان! لا تدخل من الباب إلا منحرفة بالثياب المعصفرات، قال: فبعثمان؟ قال: وأبيك فإنه جرو الأسد ويلعب مع الصبيان، وبيده الكسرة، قال: فبجملنا السقّاء؟ قال: إن سنامه ليخرج من الغبيط، قال فبالدار؟ قال: وأبيك، إنها لخصيبة الجناب، عامرة الفناء، ثم قام عنه، وقعد ناحية يأكل فلا يدعوه، فمرّ كلب، فصاح به، وقال: يابن عمّ، أين هذا الكلب من نفّاع؟ قال: يا أسفا على نفّاع! مات، قال: وما أماته؟ قال: أكل من لحم الجمل السقّاء، فاغتصّ بعظم منه فمات، قال: إنا لله، أو قد مات الجمل! فما أماته؟ قال: عثر بقبر أم عثمان، فانكسرت رجله. قال: ويلمّك! أماتت أم عثمان؟ قال: إى والله، أماتها الأسف على عثمان، قال ويلك! أمات عثمان؟ قال: إى وعهد الله! سقطت الدار عليه، فرمى الأعرابىّ

بطعامه ونثره وأقبل ينتف لحيته ويقول: إلى أين أذهب؟ فيقول الآخر الى النار، وأقبل يلتقط الطعام ويأكله ويهزأ به ويضحك، ويقول: لا أرغم الله إلا أنف اللئام. وكان أحيحة بن الجلاح من البخلاء، وكان إذا هبت الصّبا، طلع أطمة، ينظر الى ناحية هبوبها ثم يقول: هبى هبوبك، فقد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعا من عجوة، أدفع الى الوليد منها، خمس نمرات، فيردّ علىّ منها ثلاثا، أى لصلابتها بعد جهد ما يلوك منها. والعرب تضرب المثل في اللؤم بمادر، تقول: هو ألام من مادر، ويزعمون أنه بنى حوضا وسقى إبله، فلما أصدرها سلح في الحوض، لئلا يسقى غيره فيه. وكان عمر بن يزيد الأسدىّ مبخلا جدّا، فأصابه القولنج فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحل ما في بطنه، فلما أبرزه، قال للغلام: ما تصنع به؟ قال أصبّه، قال: لا ولكن ميّز الدّهن منه واستصبح به. وقال سلم بن أبى المعافى: كان أبى متنحيا عن المدينة، وكان الى جنبه مزرعة فيها قثّاء، وكنت صبيّا فجاءنى صبيان أقران لى، فكلّمت أبى ليهب لى درهما أشترى لهم به قثّاء، فقال لى: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل، فضرب بالمعاول، حتى استخرج، ثم طحن، ثم أدخل القدر وصبّ عليه الماء، وجمع بالزّئبق، ثم صفّى من رقّ، ثم أدخل النار فسبك، ثمّ أخرج فضرب، وكتب في أحد شقّيه: لا إله إلا الله، وفي الآخر: محمد رسول الله، ثم حمل الى أمير المؤمنين، فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكل به عوج القلانس صهب السّبال، ثم وهبه لجارية حسناء حميلة، وأنت والله أقبح من قرد، أو ززقه رجلا شجاعا وأنت والله أجبن من صرد، فهل ينبغى

لك أن تمسّ الدرهم إلا بثوب؟ ومثله قول سهل بن هارون، وقد قال له رجل هبنى ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك؟ قال: درهما واحدا، قال: يابن أخى لقد هوّنت الدرهم، وهو طابع الله في أرضه، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشردية المسلم، ألا ترى يابن أخى كيف انتهى الدرهم الذى هوّنته؟ وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟. وقال سليمان بن مزاحم، وقد وقع بيده درهم، فجعل يقلّبه، ويقول: فى شقّ، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي شقّ، قل هو الله أحد، ما ينبغى لهذا إلا أن يكون تعويذا أو رقية، ويرمى به في الصندوق. كان بعضهم إذا صار الدرهم في يده يخاطبه ويقول: بأبى وأمّى أنت، كم من أرض قطعت، وكيس خرقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع أخملت، لك عندى أن لا تعرى ولا تضحى، ثم يلقبه في كيسه، فيقول: اسكن على اسم الله، فى مكان لا تزول عنه، ولا تزعج منه. ومن البخلاء «مزبّد» وله حكاية يذكرها، قيل كان بالمدينة جارية جميلة مغنيّة. يقال لها: «بصبص» وكانت الأشراف تجتمع عند مولاها، فاجتمع يوما عنده محمّد بن عيسى الجعفرىّ وعبد الله بن مصعب الزّبيرىّ في جماعة من الأشراف، فتداكروا أمر مزبد وبخله، فقالت لحارية: أنا آخذ لكم منه درهما، فقال لها مولاها: أنت حرّة إن فعلت إن لم أسر لك مختقة بمائة دينار ونوب وسى بمائة دينار. وأجعل لك مجلسا بالعقيق أنحر فيه بدنة. فقالت: جىء به، وأرفع لغيره، حتّى أفعل، فقال: أنت حرّه إن معتك منه، ولأعاونته عليك إن حصلت

منه الدرهم، فقال عبد الله بن مصعب: أنا آتيكم به، قال عبد الله: فصلّيت الغداة في المسجد، فاذا أنا به قد أقبل، فقلت: يا أبا إسحاق، إنّا نحب أن نرى بصبص؟ قال: بلى والله، وامرأته طالق إن لم تكن له سنة يشتهى أن يلقاها، فقلت له: إذا صليت العصر، فاتنى هاهنا، فقال: امرأته طالق إن برح من هاهنا الى العصر، قال فانصرفت في حوائجى، فلما كان العصر جئت فوجدته، فأخذت بيده، وأتيتهم به، فأكل القوم وشربوا حتّى صلّيت العتمة، ثم تساكروا وتناوموا، فأقبلت بصبص على مزبّد، فقالت له: يا أبا إسحاق كأنّى والله في نفسك تشتهى أن أغنّيك الساعة لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا فقال لها: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إيّاه، ثم قالت له: كأنّى بك تشتهى أن أقوم من مجلسى فأجلس إلى جنبك فتدخل يدك فى جلبابى، فقال: امرأته طالق إن لم تكونى تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غدا قالت: فقم، فقام وجلس إلى جانبها وغنّت له، ثم قالت: أعلم أنك تشتهى أن أغنّيك أنا أبصرت باللّيل ... غلاما حسن الدّلّ كغصن البان قد أصبح ... مسقيّا من الطّلّ فقال لها: امرأته طالق أن لم تكونى نبيّة مرسلة، فغنته وقبّلها، ثم قالت: يا أبا إسحاق، هل رأيت قطّ أنذل من هؤلاء؟ يدعوننى ويدعونك، ويخرجوننى اليك ولا يشترون نقلا ولا ريحانا، كأنّى بك وفي جيبك درهم وأنت تقول: الساعة أخرجه،

وأعطيها إيّاه، وتشترى به ما تريد، فقام من جنبها وقال: أخطأت استك الحفرة، وانقطع عنك الوحى، ووثب وجلس ناحية، فانتبه القوم وعطعطوا «1» عليها وعلموا أن حيلتها لم تتمّ، وخرج من عندهم ولم يعد إليهم. وقال بعضهم: بتّ عند رجل من أهل الكوفة من الموسرين، وله صبيان نيام، فرأيته في الليل يقوم فيقلّبهم من جنب الى جنب، فلما أصبحنا سألته عن ذلك، فقال: هؤلاء الصبيان يأكلون وينامون على اليسار، فيمريهم الطعام، ويصبحون جياعا، فأنا أقلّبهم من اليسار الى اليمين لئلا ينهضم ما أكلوه سريعا. وكان زياد بن عبد الله الحارثىّ واليا على المدينة، وكان فيه بخل وجفاء، فأهدى اليه كاتب له سلالا فيها أطعمة، وقد تنوّق فيها فوافته وقد تغدّى، فقال: ما هذه؟ قالوا: غداء بعثه فلان الكاتب، فغضب، وقال: يبعث أحدهم الشىء في غير وقته، يا خيثم بن مالك! يريد صاحب شرطته، ادع لى أهل الصّفّة يأكلون هذا، فبعث خيثم الحرس يدعونهم، فقال الرسول الذى جاء بالسّلال: أصلح الله الأمير، لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر ما فيها، قال: اكشفوها فاذا طعام حسن من دجاج وفراخ وجداء وسمك وأخبصة وحلواء فقال: ارفعوا هذه السّلال، وجاء أهل الصّفّة، فأخبر بهم، فأمر بإحضارهم وقال: يا خيثم! اضربهم عشرة أسواط، فإنه بلغنى أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن الخلفاء من ينسب الى البخل، فمنهم عبد الملك بن مروان كان يلقب برشح الحجر ولبن الطير لبخله.

ومنهم هشام ابنه وكان ينظر في بيع الهدايا التى تهدى اليه. حكى عنه أن أعرابيّا أكل عنده فرفع اللّقمة الى فيه، فقال له هشام: فى لقمتك شعرة يا أعرابىّ، فقال: وإنك تلاحظنى ملاحظة من يرى الشّعرة، والله لا أكلت عندك أبدا، ثم قام وانصرف. ومنهم أبو جعفر المنصور كان يلقّب بأبى الدوانيق، لقّب بذلك لأنه لما بنى مدينة بغداد كان يباشرها بنفسه ويحاسب الصّناع، فيقول لهذا: أنت نمت القائلة، ولهذا: لم تبكّر، ولهذا: انصرفت قبل أن تكمّل اليوم، فيسقط لهذا دانقا، ولهذا دانقين، فلا يكاد يعطى لأحد أجرة كاملة، وكان يقول: يزعمون أنّى بخيل، وما أنا ببخيل، ولكن رأيت الناس عبيد المال، فمنعتهم عنه، ليكونوا عبيدا لى. ويحكى عنه أنه قال لطباخه: لكم ثلاثة وعليكم اثنتان، لكم الرءوس والأكارع والجلود، وعليكم الحبوب والتوابل. ومن حكاياته الدالة على بخله: أن صاحبه الربيع بن يونس قال له يوما: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وهم كثير، وقد طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم، فقال: اخرج إليهم وسلم عليهم، وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصف الأسد، فإنما هو كلب من الكلاب، ولا الحيّة، فإنما هى دويبة منتنة تأكل التراب، ولا الجبل فإنه حجر أصمّ، ولا البحر، فإنه عطن بضّ لجب، فمن ليس في شعره شىء من هذا فليدخل، ومن كان في شعره شىء منه فلينصرف، فأبلغهم فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فقال: أنا له يا ربيع فأدخلنى عليه: فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال له: يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك غيره فأنشده قصيدته التى منها له لحظات في حفافى سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل فأمّ الذى أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذى خوّفت بالثّكل ثاكل

فرفع له السّتر وأقبل عليه وأصغى إليه، فلما فرغ من إنشاده أمر له بعشرة آلآف درهم وقال له: يا إبراهيم، لا تتلفها طمعا في نيل مثلها منّا، فما كلّ وقت تصل إلينا، فقال إبراهيم: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم القيامة وعليها الجهبذ «1» . ودخل المؤمّل بن أميل على المهدىّ وكان بالرّىّ، وهو إذ ذاك ولىّ عهد أبيه المنصور، فامتدحه بأبيات يقول فيها هو المهدىّ إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير فهذا في الضياء سراج عدل ... وهذا في الظلام سراج نور ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسّرير وبعض الشهر يخفى ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور وجاء منها فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير فأعطاه عشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو ببغداد، فكتب الى المهدىّ يلومه ويقول له: إنما كان ينبغى أن تعطى الشاعر إذا أقام ببابك سنة، أربعة آلاف درهم، وأمره أن يوجهه إليه، فطلب فلم يوجد، وتوجه إلى بغداد، فكتب الى المنصور بذلك، فأمر بإرصاده فمسك، وقيل له أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته، قال المؤمل: فكاد قلبى ينخلع خوفا وفرقا، ثم أخذ بيدى وانطلق بى إلى الربيع، فأدخلنى على المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا المؤمّل

ابن أميل قد ظفر به، فسلمت عليه، فرد علىّ السلام، فسكن جأشى واطمأن قلبى وزال روعى، ثم قال لى: أتيت غلاما غرّا فخدعته فانخدع، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما أتيت ملكا جوادا كريما، فمدحته فحملته أريحيّته على أن وصلنى وبرّنى، فأعجبه ذلك، ثم قال: أنشدنى ما قلت فيه، فأنشدته، فقال: والله لقد أحسنت، لكن ما يساوى عشرين ألفا، يا ربيع، خذ المال منه، وأعطه منه أربعة آلاف درهم، فلما ولى المهدى الخلافة، قدم عليه المؤمّل، فأخبره بما كان بينه وبين أبيه، فضحك وردّ عليه ما أخذ منه. وحكى ابن حمدون في كتابه المترجم بالتذكرة: أن المنصور حجّ في بعض السنين فحدا به سالم الحادى يوما بقول الشاعر أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره يزينه حياؤه وخيره ... ومسكه يشوبه كافوره فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل، ثم قال: يا ربيع، أعطه نصف درهم، فقال سالم: لا غير، يا أمير المؤمنين، والله لقد حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لى بثلاثين ألف درهم، فقال المنصور: ما كان له أن يعطيك من بيت المال ما ذكرت، يا ربيع! وكلّ به من يستخرج منه هذا المال، قال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه ورجوعه بغير مؤنة، وكان سالم هذا يورد الإبل لثمان ولتسع ولعشر، فيحدو لها فيلهيها حدوه عن ورود الماء. ومن طريق ما حكى عنه: أن عبيد الله بن زياد الحارثىّ، كتب إليه رقعة بليغة يستميحه فيها، فوقّع عليها: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطره، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة.

وقد ذمّ الشعراء البخل وهجوا من اتصف به، فمن ذلك، وهو أبلغ ما قاله محدث، قول ابن الرومى الحابس الروث في أعفاج بغلته ... خوفا على الحبّ من لقط العصافير وقال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في البخل، قول ابن الرومىّ يقتّر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد رضيت لتشتيت أمواله ... يدى وارث ليس بالحامد وقال أبو تمام صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرّغيف فذاك البرّ من قسمه وإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه قد كان يعجبنى لو كان غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه وقال دعبل استبق ودّ أبى المقا ... تل حين تأكل من طعامه سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه وتراه من خوف النزيل ... به يروّع في منامه وقال أبو هلال العسكرىّ خبز الأمير عشيقه ... يغدو عليه يلاعبه وإذا بدا لجليسه ... أفضى إليه يعاتبه وتحوطه حرّاسه ... وتذبّ عنه كتائبه فالزّور يصفع عنده ... والضيف ينتف شاربه

وقال آخر فتى لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من درّ وشذر إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر ودون رغيفه قلع الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر وقال آخر إن هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لآكل من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلّتين من زنبيل ختمت كلّ سلّة برصاص ... وسيور قددن من جلد فيل فى جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل وقال العسكرىّ قلّ خير ابن قاسم ... فغناه كعدمه كادمن خشية القرى ... يختبى في حر امه جاز في اللؤم حدّه ... كأبيه وعمه كاد يعديك لؤمه ... لو تسمّيت باسمه وقال ايضا لك برمة نزّهتها ... من أن تدنّس بالدّسم بيضاء يشرق نورها ... كالبدر في غسق الظّلم لو كان عرضك مثلها ... كنت الممدّح في الأمم أو كان فعلمك مثل قو ... لك كنت تاريخ الكرم

وقال أيضا ضفت عمرا فجاءنى برغيف ... زادنى أكله على الجوع جوعا ثم ولىّ يقول وهو كئيب: ... لهف نفسى على رغيف أضيعا كان خدّاعة الضيوف ولكن ... ربما أصبح الخدوع خديعا كنت أنزلته محلّا رفيعا ... فغدا ذلك الرفيع وضيعا عجبا منه إذ أبيح حماه ... كيف لم يمتنع وكان منيعا وقال آخر أرى ضيفك في الدر ... وكرب الموت يغشاه على خبزك مكتوب: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» وقال بشّار وضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع وقال آخر نوالك دونه خرط القتاد ... وخبزك كالثّريا في البعاد ولو أبصرت ضيفا في منام ... لحرّمت المنام الى التّنادى أرى عمر الرغيف يطول جدّا ... لديك كأنّه من قوم عاد وما أهجوك أنك كفء شعرى ... ولكنّى هجوتك للكساد وقال العسكرىّ قد كان للمال ربّا ... فصار بالبخل عبده وصحّف الصّيف ضيفا فراح يلطم خدّه

وقال أبو نواس في إسماعيل بن نوبخت. بعد أن نصب إسماعيل في صحن داره طارمة، واصطبح فيها أربعين يوما ومعه جماعة، منهم أبو نواس، فبلغت نفقته اربعين ألف درهم، ثم قال بعد ذلك خبز إسماعيل كالوشى ... إذا ما شقّ يرفا عجبا من أثر الصنعة ... فيه كيف تخفى؟ إنّ رفّاءك هذا ... ألطف الأمة كفّا فإذا ألصق بالنصف ... من الجردق نصفا الطف الصنعة حتّى ... ما ترى مطعن إشفى «1» مثل ما جاء من التّنّور ... ما غادر حرفا وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا مزجه العذب بماء البئر ... كى يزداد ضعفا فهو لا يسقيك منه ... مثل ما يشرب صرفا وقال فيه على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... يصوّر في بسط الملوك وفي المثل يحدّث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمرّ ولا تحلى وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون وفي السّهل وما خبزه إلا كليب بن وائل ... ليالى «2» يحمى عزّه منبت البقل

وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل فإن خبز إسماعيل حلّ به الذى ... أصاب كليبا لم يكن ذاك عن ذلّ ولكن قضاء ليس يسطاع ردّه ... بحيلة ذى مكر ولا دهي ذى عقل وقال ابن الرومىّ بخيل يصوّم أضيافه ... ويبخل عنهم بأجر الصيام بدسّ الغلام فيوليهم ... هوانا فيشتم مولى الغلام فهم مفطرون وهم صائمون ... وما يطعمون وهم في أثام فيحتال بخلا لأن يفطرون ... على رفث القول دون الطّعام وقال أحمد بن كشاجم صديق لنا من أبرع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذى فضل دعانى كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتى إلى مثله مثلى فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلى ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلى فأقبلت أستلّ الغداء مخافة ... وألحاظ عينيه رقيب على فعلى أمدّ يدى سرا لأسرق لقمة ... فيلحظنى شزرا فأعبث بالبقل إلى أن جنت كفّى لحتفى جناية ... وذلك أن الجوع أعدمنى عقلى فجرّت يدى للحين رجل دجاجة ... فجرّت كما جرّت يدى رجلها رجلى وقدّم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمرّ ولا أحلى وقمت لو انّى كنت بيّت نيّة ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل

احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه

وقال آخر تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان احتجاج البخلاء وتحسينهم للبخل على قبحه قالت الحكماء: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته، كعنايتك باكتسابه. وقال أبو الأسود الدؤلىّ لبنيه: لا تجاودوا الله، فإنه أكرم وأجود، ولو شاء أن يغنى الناس كلّهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم ولا يصلح لهم إلا الغنى. وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بنى تغلب، إنّى لن أصلك حتّى أحرم من هو أقرب إلى منك، وإنه لم يبق من مالى وعرضى واهلى إلا ما منعته من الناس. وقيل: إن لقمان الحكيم، قال لابنه: يا بنىّ، أوصيك باثنتين لن تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. وقال أبو الأسود: إمساكك ما تبذل، خير من طلبك ما يبذل غيرك، وأنشد يلوموننى في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمّس وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد

وقال الجاحظ: قلت للحزامىّ: يا بخيل! قال: لا أعدمنى الله هذا الاسم، لأنه لا يقال لى: بخيل إلا وأنا ذو مال فسلّم لى المال، وسمّنى بأىّ اسم شئت، قلت: ولا يقال لك: سخىّ، إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لهذا الاسم المال والحمد، وجمع لذاك المال والذّمّ، فقال: بينهما فرق عجيب، وبون بعيد، إن في قولهم: بخيل، سببا لمكث المال في ملكى، وفي قولهم: سخىّ، سببا لخروجه عن ملكى، واسم البخل فيه حزم وذمّ واسم السخاء فيه تضييع وحمد، وما أقلّ غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوّه. وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك، أن لا يقيم عليك، ومن احتاج إليك أن لا يزول من عندك، ومن حبّك لصديقك وضنّك بمودّته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: «أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك» ، فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسباب الشكر، والمعين على الغدر شريك للغادر، كما أن المزيّن للفجور شريك للفاجر. وقال أبو حنيفة: لا خير فيمن لا يصون ماله ليصون به عرضه، ويصل به رحمه ويستغنى به عن لئام الناس. قال عبد الله بن المعتز أعاذل ليس البخل منّى سجيّة ... ولكن وجدت الفقر شرّ سبيل لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل وكان داود بن علىّ يقول: لأن يترك الرجل ماله لأعدائه، خير من الحاجة في حياته لأوليائه؛ قال الشاعر

مال يخلّفه الفتى ... للشامتين من العدا خير له من قصده ... إخوانه مسيرفدا وقال سفيان الثّورىّ: لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إلىّ من أن أحتاج إلى الناس؛ وقال: كان المال فيما مضى يكره، وأما اليوم فهو يزين المؤمن؛ وجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير! فقال: اسكت، فلولاها لتمندلتنا هؤلاء الملوك، ولكن من كان في يده منها شىء فليصلحه، فإنه زمان من احتاج فيه كان أوّل ما يبذل دينه. وقال المنصور لمحمد بن مروان التميمىّ: إنك لسيد لولا جمود فيك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى لأجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل. وكان محمد بن الجهم يقول: من وهب من عمله، فهو أحمق، ومن وهب بعد العزل، فهو مجنون، ومن وهب من جوائز ملوكه أو ميراثه، فهو مخذول، ومن وهب من كسبه وما استفاده بحيلة، فهو المطبوع على قلبه، المأخوذ ببصره وسمعه. وسأل رجل زياد بن أبيه، فأعطاه درهما، فقال: صاحب العراقين أسأله فيعطينى درهما؟ فقال له زياد: من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخصّ عباده عنده وأكرمهم لديه التمرة واللقمة، وما يكبر عندى أن أصل رجلا بمائة ألف درهم، ولا يصغر أن أعطى سائلا رغيفا، إن كان ربّ العالمين فعل ذلك. قال الشاعر يا ربّ جود جرّ فقر امرىء ... فقام للناس مقام الذليل فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل

وقال الشريف بن الهبّاريّة لأصوننّ درهمى ... فهو لا شكّ صائنى لم يعنّى ابن والدى ... وصحيحى أعاننى وقال أيضا لله درّ دراهمى ... فهى التى أعلت مكانى لولا الغنى عن صاحبى ... لأحلّنى دار الهوان وقال آخر كن بما أوتيته مغتبطا ... تستدم عيش القنوع المكتفى إن في نيل المنى وشك الرّدى ... واجتناب القصد عين السّرف كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طفى ومن ذلك رسالة كتبها سهل بن هارون، وقد عيب عليه أمور من البخل، فاعتذر عنها واحتجّ فقال: أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: يا بنى تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال، أقلّهم حياء من الفرار، وكانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمّة، فتأمّل عيّابا فإنه يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا أو تغرى مشفقا، وما أريد بما قلت إلا هدايتكم وتقويمكم وصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم، ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: (وَما أُرِيدُ

أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) فما كان أحقّكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم، على ما رعيناه من واجب حقّكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا، لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا، عبتمونى بقولى لخادمى: أجيدى العجين فيكون أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أملكوا العجين فإنه أحد الريعين، وعبتمونى حين ختمت على سلّ عظيم، وفيه شىء ثمين من فاكهة نفيسة، ومن رطبة غريبة، على عبدنهم، وصبىّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وليس بين أهل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوى- فى نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوى مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم فى العنوانات، ومن شاء أطعم كلبه الدّجاجة السمينة، وعلف حماره السّمسم المقشّر، وعبتمونى بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مدّ سويق، وختم على كيس فارغ، وقال طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شىء، وعبتم على من ختم على شىء، وعبتمونى أيضا، أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق، فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدّم باللحم طيب المرق، وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا طبخ أحدكم لحما، فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا،» وعبتمونى بخصف النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفريق من التضييع، والاجتماع مع الحفظ،

وقد كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقّع ثوبه، ويلطع أصابعه، ويقول: «لو أهدى إلىّ كراع لقبلت، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت» وقال صلّى الله عليه وسلم «من لم يستحى من الخلال، خفت مؤنته، وقلّ كبره» . وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق، وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنّى رأيته في يوم قائظ، يلبس خلقا، ويلبس الناس جديدا، فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه، مثل الجديد في موضعه، وقد جعل الله لكل شىء قدرا، وسمى له موضعا، كما جعل لكل زمان حالا، ولكل مقام مقالا، وقد أحيا الله بالسّم، وأمات بالغذاء، وأغصّ بالماء، وقتل بالدواء، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلّة العيال أحد اليسارين، وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة، ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية، وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدى لك دجاجة، قال: إن كان لا بدّ، فاجعلها بيوضا، وعبتمونى حين قلت: من لم يعرف مواضع السّرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالى، وقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية، وأشفّ من الكفاية، فلما صرت الى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء، وجدت في الأعضاء فضلا عن الماء، فعلمت أن لو كنت مكّنت الاقتصاد في أوائله لخرج أوّله على كفاية آخره، ولكان نصيب الأوّل كنصيب الآخر، فعبتمونى بذلك وشنعتموه علىّ، وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلا، فلم يرض

بذكر الماء حتى أردفه بالكلا، وعبتمونى انى قلت: لا يغترّن أحد بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوّته، وأن برى دخله أكثر من رزقه فيدعوه ذلك الى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، أو تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه، فلعلّه أن يكون معمّرا وهو لا يدرى وممدودا له في السن وهو لا يشعر، ولعلّه أن يرزق الولد على اليأس، وتحدث عليه آفات الكبر ما لا يخطر على باله، ولا يدركه عقله، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أضعف ما كان عن الطلب، وأقبح ما كان له أن يطلب، فعبتمونى بذلك، وقال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا، وعبتمونى بأن قلت: إن التلف والتبذير إلى مال المواريث، وأموال الملوك، وإن الحفظ الى المال المكتسب، والغنى المجتلب، والى ما يعرض فيه بذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع المال، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذلّ، وعبتمونى بأن زعمت أن كسب الحلال، مضمّن بالإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيّب يدعو إلى الطيّب، وأن الإنفاق في الهوى، حجاب دون الحقوق، وأن الإنفاق في الحقوق حجاب دون الهوى، فعبتم علىّ هذا القول، وقد قال معاوية بن أبى سفيان: لم أر تبذيرا قطّ، إلا وإلى جنبه حقّ مضيّع، وقال الحسن: إذا أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا في أىّ شىء ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف، وقلت لكم بالشفقة عليكم، وحسن النظر منّى إليكم، أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال

أحدكم آفة، لم يرجع إلى ثقة، فاحذروا النّقم، باختلاف الأمكنة، فإن البلية لا تجرى فى الجميع، وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في العبد، والأمة، والشاة، والبعير: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين، وقال ابن سيرين [لبعض البحريين «1» ] : كيف تصنعون في أموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض، سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر، ما حملنا أموالنا في البحر، فقال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهى صناع، وعبتمونى بأن قلت لكم عند إشفاقى عليكم: إن للغنى سكرا، والمال نزوة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره، فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال لخوف الفقر فقد أهمله، فعبتمونى بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا، من غنىّ أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر، وقد قال الشاعر في يحيى ابن خالد وهو تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما وعبتمونى حين زعمتم، أنّى أقدّم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس، قبل أن يعرف فضل العلم؛ فهو أصل، والأصل أحقّ بالتفضيل من الفرع، فقلتم، كيف هذا؟ وقد قيل لبعض الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ فقال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء، أكثر مما يأتى الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم، فقلت: حالهما هى القاضية بينهما، وكيف يستوى شىء حاجة العلماء إليه، وشىء يغنى فيه بعضهم عن بعض، وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتّخاذ الغنم، والفقراء باتّخاذ الدّجاج، وقال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه: إنى

لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدّؤلىّ يقول لولده: إذا بسط الله لك في الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض، وعبتمونى حين قلت: إن فضل الغنى عن القوت، إنّما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لى مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشىء، قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمنى عليه، لأن المال مخدوم، وقال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظّ فيه جسيما، والنفع عظيما، ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتأدّب الخلفاء، وتعليم الحكماء، لأصحاب الهوى، فلستم علىّ تردّون، ولا رأيى تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وأدركوا ما عليكم من قبل أن تدركوا مالكم، والسلام. ومن نوادر البخلاء، قال رجل لبعض البخلاء: لم لا تدعونى إلى طعامك؟ قال: لأنك جيّد المضغ سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيّأت أخرى، قال: يا أخى أتريد إذا أكلت عندك أن أصلّى ركعتين بين كلّ لقمتين؟. وقال آخر لبخيل: لم لا تدعونى إلى طعامك؟ قال: لأنك تعلّق، وتشدّق، وتحدق، أى تحمل واحدة في يدك، وأخرى في شدقك، وتنظر إلى الأخرى بعينك. وقال بعض البخلاء: أنا لا آكل إلا نصف الليل، قيل له: ولم؟ قال يبرد الماء، وينقمع الذّباب، وآمن فجأة الداخل، وصرخة السائل.

ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة

وطبخ بعض البخلاء قدرا، وجلس يأكل مع زوجته فقال: ما أطيب هذا الطعام! لولا كثرة الزّحام، فقالت: وأىّ زحام وما ثمّ إلا أنا وأنت؟ قال: كنت أحبّ أن أكون أنا والقدر. وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام، وأغلق الباب، فقال: يا مولاى، ليس هذا بحزم، وإنّما أغلق الباب، وأقدّم الطعام، فقال له: أنت حرّ لوجه الله. وعزم بعض إخوان أشعب عليه ليأكل عنده، فقال: إنّى أخاف من ثقيل يأكل معنا فينغّص لذّتنا، فقال: ليس عندى إلا ما تحبّ فمضى معه فبينما هما يأكلان، إذا بالباب قد طرق، فقال أشعب: ما أرانا إلا صرنا لما نكره، فقال صاحب المنزل: إنه صديق لى، وفيه عشر خصال، إن كرهت منها واحدة لم آذن له، فقال اشعب: هات، قال: أوّلها، أنه لا يأكل ولا يشرب، فقال: التسع لك ودعه يدخل، فقد أمنّا منه ما نخافه. ذكر ما قيل في التطفيل ويتصل به أخبار الأكلة والمؤاكلة والتطفيل من اللؤم، وهو التعرّض إلى الطعام، من غير أن يدعى إليه، وسنذكر تلو هذا الفصل آداب الأكل، والمؤاكلة، والاقتصاد في المطاعم، والعفّة عنها، وما يجرى هذا المجرى، وإن كان خارجا عنه، وإنما الشىء يذكر بالشىء، والعرب تقول للطفيلىّ: الوارش، والراشن، قيل: هو مشتق من الطّفل، وهو الظلمة لأن الفقير من العرب كان يحضر الطعام الذى لم يدع إليه مستترا بالظلمة، لئلا يعرف. وقيل: سمّى بذلك، لإظلام أمره على الناس، لا يدرى من دعاه. وقيل: بل

من الطّفل لهجومه على الناس كهجوم الليل على النهار، فيكون من الظلمة، ولذلك قيل: «أطفل من ليل على نهار» ، وأوّل من سمى بهذا الاسم: طفيل العرائس، وإليه ينسب الطّفيليّون، وكان يقول لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا، فلا يلتفت تلفّت المريب، ويتخيّر المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام، فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظنّ أهل الرجل أنه من أهل المرأة، وإن كان البوّاب غليظا فاحشا، فليبدأ به، ويأمره وينهاه من غير أن يعنّف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال. وأشهر من نسب إليه هذا الاسم، وكثرت عنه الحكايات، بنان الطّفيلىّ، وهو عبد الله بن عثمان، ويكنى أبا الحسن، ولقبه بنان، وأصله مروزىّ وأقام ببغداد، وكان نقش خاتمه، «مالكم لا تأكلون» . حكى أن رجلا سأله أن يدعو له، فقال: اللهم ارزقه صحة الجسم وكثرة الأكل، ودوام الشهوة، ونقاء المعدة، وأمتعه بضرس طحون، ومعدة هضوم، مع السعة والدّعة، والأمن والعافية؛ وقال يوصى بعض أصحابه: إذا قعدت على مائدة وكان موضعك ضيّقا فقل للذى يليك: لعلى ضيقت عليك فإنه يتأخر إلى خلف، ويقول: موضعى واسع، فيتسع عليك موضع رجل؛ وقال له طفيلىّ: أوصنى، فقال: لا تصادفنّ من الطعام شيئا، فترفع يدك عنه وتقول: لعلّى أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن، قال: زدنى، قال: إذا وجدت خبزا فيه قلّة، فكل الحروف، فإن كان كثيرا فكل الأوساط، قال: زدنى، قال: لا تكثر شرب الماء وأنت تأكل، فإنه يصدّك عن الأكل، ويمنعك من أن تستوفى، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فكل منه أكل من لم يره قط، وتزوّد منه زاد من لا يراه أبدا، قال: زدنى، قال: إذا وجدت الطعام، فاجعله زادك إلى الله تعالى،

وقال: إذا دعاك صديق لك، فاقعد يمنة البيت فإنّك ترى ما تحبّ، وتسودهم في كلّ شىء، وتسبقهم إلى كلّ خير، وأنت أوّل من يغسل يده والمنديل جافّ، والماء واسع، والخوان بين يديك يوضع، والنبيذ أوّل القنيّنة ورأسها تشربه، والنقل منتخب، يوضع بين يديك، وتكون أوّل من يتبخّر، فإذا أردت أن تقوم لحاجة لم تحتج أن تتخطّاهم، وأنت في كل سرور الى أن تنصرف. قال البديع الهمذانىّ في طفيليّين يشبههم ببنان خلفتم بنانا فكم من أديب ... من الغيظ عضّ عليكم بنانا إذا ما النهار بدا ضوءه ... غدوتم خماصا ورحتم بطانا ومنهم: عثمان بن درّاج، قيل له: كيف تصنع إذا لم يدخلك أهل العرس؟ قال: أنوح على الباب، فيتطيّرون فيدخلوننى. وحكى أبو الفرج الأصفهانى: أن عثمان هذا، كان يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابىّ أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له: ويحك! إنى أبخل بأدبك وعلمك، وأضنّ بك عما أنت فيه من التطفيل ولى وظيفة راتبة في كلّ يوم، فالزمنى وكن مدعوّا، أصلح لك مما تفعل، فقال: يرحمك الله فأين لذّة الجديد، وطيب التنقل كل يوم إلى مكان؟ وأين هو يناك ووظيفتك من احتفال العرس؟ وأين ألوانك من ألوان الوليمة؟ قال: فأما إذا ثبت ذاك: فإذا ضاقت عليك المذاهب فأتنى قال: أمّا هذا فنعم؛ قال: وقال له رجل: ما هذه الصّفرة التى في لونك؟ قال: من الفترة التى بين القصعتين، ومن خوفى في كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع؛ وقيل له مرة: هل تعرف بستان فلان؟ فقال: إى والله، وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا، قيل له: فلم لا تدخل اليه فتأكل من ثماره، وتقيل

تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال، وعثمان هذا الذى يقول لذّة التطفيل دومى ... وأقيمى لا تريمى أنت تشفين غليلى ... وتسلّين همومى ولهم أخبار وحكايات، منها: ما نقل عن نصر بن علىّ الجهضمىّ أنه قال: كان لى جار طفيلىّ، إذا دعيت إلى مدعاة ركب معى وجلس حيث أجلس، فيأكل وينصرف، وكان نظيفا عطرا، حسن اللباس والمركب، وكنت لا أعرف من أمره إلا الظاهر، فاتفق لجعفر بن القاسم الهاشمىّ حقّ دعا له أشراف البصرة ووجوهها، وهو يومئذ أمير البصرة، فقلت في نفسى: إن تبعنى هذا الرجل إلى دار الأمير لأخزيته، فلما كان يوم الحضور، جاءنى الرسول، فركبت، وإذا به قد تبعنى حتى دخل بدخولى، وارتفع حيث أجلست، فلما حضرنا الطعام، قلت: حدّثنا درست ابن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دخل إلى دار قوم بغير إذنهم، دخل سارقا، وخرج مغيرا، ومن دعى ولم يجب فقد عصى الله ورسوله» ، فظننت أنى قد أشرفت على الرجل وقصّرت من لسانه، فأقبل علىّ وقال: أعيذك بالله من هذا الكلام في دار الأمير، فإن الأشراف لا يحتملون التعريض باللؤم، وقد حظر الدين التعريض، وعزّر عليه عمر رضى الله عنه، ووليمة الأمير دعاء لأهل مصره فإنه سليل أهل السقاية، والرفادة، والمطعمين الأفضلين الذين هشموا الثّريد، وأبرزوا الجفان لمن غدا إليها، ثم لا توزع وأنت فى بيت من العلم معروف من أن تحدّث عن درست بن زياد وهو ضعيف عن أبان ابن طارق وهو متروك الحديث بحكم رفعه الله إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، والمسلمون

على خلافه، لأن حكم السارق القطع، والمغير يعزّر على ما يراه الإمام، وهذان حكمان لا ينفذان على داخل دارا في مجمع فيتناول لقما من فضل الله الذى آتى أهلها ثم لا يحدث حدثا حتى يخرج عنها، وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة» . حدّثنا بذلك أبو عاصم النبيل عن ابن جريح عن أبى الزبير عن جابر عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأين أنت عن هذا الحديث الصحيح الإسناد والمتن؟ قال نصر: فأصابتنى خجلة شديدة، فلما نظر الرجل إلى ما بى أكل ونهض قلبى، فلما خرجت وجدته واقفا على دابته بالباب، فلما رآنى تبعنى، ولم يكلّمنى ولم أكلّمه، إلا أننى سمعته يتمثل ومن ظنّ ممّن يلاقى الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا وقيل: مرّ طفيلىّ بسكة النّخع بالبصرة على قوم، وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم، وأخذ مجلسه مع من دعى، فأنكره صاحب المنزل، فقال له: لو تأنّيت أو وقفت حتّى يؤذن لك، أو يبعث إليك، فقال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل إليها، ووضعت الموائد ليؤكل ما عليها، وما وجّهت بهديّة فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، واطّراحها صلة، وقد جاء في الأثر: «صل من قطعك، وأعط من حرمك» ، ثم أنشد كلّ يوم أدور في عرصة الدّا ... ر أشمّ القتار «1» شمّ الذّباب فاذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب شتما ولكرة البوّاب مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هيّاب فترانى ألفّ بالرغم منه ... كلّ ما قدّموه لفّ العقاب

ووصف طفيلىّ نفسه فقال نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل قولنا: علّنا دعينا فغبنا ... أو أتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر نحن قوم نحبّ هدى رسول الله ... هديا به الصواب أصبنا فادعنا كلّما بسطت فإنّا ... لو دعينا إلى كراع أجبنا وقال آخر نحن قوم إن جفا النّا ... س وصلنا من جفانا لا نبالى صاحب الدّا ... ر نسينا أم دعانا وقال آخر وقد أقبل إلى طعام، من غير أن يدعى إليه فقال له صاحب الصنيع: من دعاك؟ فأنشد دعوت نفسى حين لم تدعنى ... فالحمد لى لا لك في الدّعوة وكان ذا أحسن من موعد ... إخلافه يدعو إلى جفوة وقد مدح أبو روح ظفر بن عبد الله الهروىّ طفيليّا ولم يسبق إليه، فقال إنّ الطفيلىّ له حرمة ... زادت على حرمة ندمانى لأنه جاء ولم أدعه ... مبتدئا منه بإحسان ودخل طفيلىّ إلى قوم فقالوا له: ما دعوناك! فما الذى جاء بك؟ فقال: إذا لم تدعونى ولم آت، وقعت وحشة، فضحكوا منه وقرّبوه.

وقيل: مرّ طفيلىّ على قوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام، فقالوا: لا والله! بل كرام، فثنى ركبته ونزل، وقال: اللهمّ اجعلهم من الصادقين، واجعلنى من الكاذبين. قال هشام أخوذى الرمّة لرجل أراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت أن لا تكون كلب الرّفاق فافعل. ونظر طفيلىّ إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل، فظنهم يدعون الى صنيع، فتلطف حتّى دخل في لفيفهم وصار كواحد منهم، فلما بلغوا صاحب الشّرطة، أمر بضرب أعناقهم، فقدّموا واحدا بعد واحد حتّى انتهوا إلى الطفيلىّ فلما قدّم للقتل التفت إلى صاحب الشّرطة، فقال له: إنّى والله ما أنا منهم، ولا أعلم بما يدينون، وإنما أنا طفيلىّ ظننتهم يذهب بهم إلى صنيع، فتلطّفت حتّى دخلت في جملتهم، فقال ليس هذا مما ينجيك، اضربوا عنقه، فقال: أصلحك الله، إن كنت عزمت على قتلى، فأمر السياف أن يضرب بطنى بالسيف، فإنه هو الذى أوقعنى في هذه الورطة، فضحك، وكشف عنه، فأخبر أنه طفيلىّ معروف، فخلّى سبيله. وحكى أن المأمون أمر أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له من أهل البصرة، فجمعوا، فأبصرهم طفيلىّ، فقال: ما اجتمعوا إلا لصنيع، فدخل في وسطهم ومضى بهم الموكّلون، حتّى انتهوا إلى زورق قد أعدّلهم، قال الطفيلىّ: هى نزهة، فدخل معهم الزّورق، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا، وقيّد معهم الطفيلىّ، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعوهم بأسمائهم رجلا رجلا، ويأمر بضرب أعناقهم، حتّى وصل إلى الطفيلىّ، وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندرى، غير أنّا وجدناه مع القوم، فجئنا به، فقال له المأمون:

ما قصّتك؟ ويلك! فقال يا أمير المؤمنين: امرأتى طالق إن كنت أعرف من أقاويلهم شيئا ولا مما يدينون به وإنما أنا رجل طفيلىّ، رأيتهم مجتمعين، فظننت صنيعا يدعون إليه، فضحك المأمون وقال: يؤدّب، وكان إبراهيم بن المهدىّ قائما على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، هب لى أدبه، وأحدثك بحديث عجيب عن نفسى، قال: قل يا إبراهيم، قال: يا أمير المؤمنين، خرجت من عندك يوما، فطفت في سكك بغداد متطرّفا، حتّى انتهيت إلى موضع كذا، فشممت من قتار أبازير قدور قد فاح، فتاقبت نفسى إليها، وإلى طيب ريحها، فوقفت إلى خياط، فقلت له: لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التّجار، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، فرميت بطرفى إلى الدار، فإذا شبّاك فيها مطلّ، وإذا كفّ قد خرج من الشّبّاك ومعصم، فشغلنى حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، فبهتّ ساعة، ثم أدركنى ذهنى، فقلت للخياط: أهو ممّن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده اليوم دعوة، وهو لا ينادم إلا تجّارا مثله مستورين، فإنى لكذلك، إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدّرب، فقال لى الخياط: هؤلاء منادماه، فقلت: ما اسماهما وما كناهما؟ فقال: فلان وفلان، فحرّكت دابتى وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان، وسايرتهما حتّى بلغنا الباب فأجلّانى وقدّمانى، فدخلت ودخلا، فلما رآنى صاحب المنزل معهما، لم يشكّ أنى منهما، فرحّب بى وأجلسنى في أفضل المواضع، فجىء يا أمير المؤمنين بمائدة عليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسى: هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكفّ، كيف إلى صاحبتها؟ ثم رفع الطعام، وجىء بالوضوء، ثم صرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا أشكل منزل، وجعل

صاحب المنزل يلطف بى، ويميل علىّ بالحديث، حتّى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية، كأنها بدر، تتثنى يا أمير المؤمنين كالخيزران، فأقبلت، وسلّمت غير خجلة وثنيت لها وسادة، فجلست عليها، وأتى بالعود فوضع في حجرها، فجسته فاستبينت حذقها في جسّها، ثم اندفعت تغنّى توهّمها طرفى فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظرى أثر تصافحها كفّى فتؤلم كفّها ... فمن مسّ كفّى في أناملها عقر فهيّجت يا أمير المؤمنين بلابلى، وطربت لحسن شعرها، ثم اندفعت تغنّى أشرت إليها هل عرفت مودّتى؟ ... فردّت بطرف العين إنى على العهد فحدت عن الإظهار عمدا لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد فصحت يا أمير المؤمنين، وجاءنى من الطرب ما لم أملك نفسى معه، ثم اندفعت فغنّت الصوت الثالث أليس عجيبا أن بيتا يضمّنى ... وإياك لا نخلو ولا نتكلّم! سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أكباد على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكفّ تسلّم فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حدقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، فقلت: بقى عليك يا جارية، فضربت بالعود على الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟ فندمت على ما كان منّى، ورأيت القوم قد تغيّروانى، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه ثم غنيّت

ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم البلى فبلينا؟ راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا فما استتممته يا أمير المؤمنين، حتّى قامت الجارية، فأكبّت على رجلىّ تقبّلهما، وقالت: معذرة يا سيدى، فو الله ما سمعت أحدا يغنّى هذا الصوت غناءك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم واستحثّوا الشرب فشربوا، ثم اندفعت أغنّى أفى الحقّ أن تمشى ولا تذكرنّنى ... وقد همعت عيناى من ذكرها الدّما إلى الله أشكو بخلها وسماحتى ... لها عسل منى وتبذل علقما فردّى مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما فطرب القوم حتّى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتّى تراجعوا، ثم غنّيت الثالث هذا محبّك مطويّا على كمده ... عبرى مدامعه تجرى على جسده له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدى، لا ما كنّا فيه منذ اليوم، وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحا، قال: يا سيدى، ذهب ما مضى من أيامى ضياعا، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ ولم يزل يلحّ علىّ، حتّى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسى، وقال: وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلا لملك! وإنى لجالس مع الخلافة ولا أشعر، ثمّ سألنى عن قصتى، فأخبرته حتّى بلغت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقال للجارية: قومى فقولى لفلانة تنزل، فلم تزل تنزل

جواريه واحدة واحدة، فأنظر إلى كفّها ومعصمها، وأقول: ليس هى هذه! حتّى قال: والله ما بقى غير أختى وأمّى، والله لأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، ابدأ بالأخت قبل الأمّ فعسى أن تكون هى، فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها، قلت: هى هذه فأمر! غلمانه، فساروا إلى عشرة مشايخ من جلّة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثمّ قال للمشايخ: هذه أختى فلانة، أشهدكم أنى قد زوّجتها من سيدى إبراهيم بن المهدىّ، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرّق الأخرى على المشايخ وصرفهم، ثم قال: يا سيدى، أمهّد بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك، فأحشمنى ما رأيت من كرمه، فقلت: أحضر عماريّة «1» وأحملها إلى منزلى، ففعل، فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين، يشير إلى ولده، فعجب المأمون من كرم الرجل وألحقه في خاصة أهله، وأطلق الطفيلىّ وأجازه. ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ وهو الذى حاز قصبات السبق في فن الأدب على أترابه، وفاز من البلاغة بقدحها المعلّى في عنفوان شبابه، رسالة وضعها في هذا الفنّ، وصار له بها على أهله غاية المنّ، مع نزاهة نفسه الأبيّة، وارتفاعه عن المطاعم الدنية، وإنما وضعها تجربة لخاطره، وضمها إلى فوائد دفاتره، وهى: هذا عهد عهده زارد بن لاقم، لبالع بن هاجم، استفتحه بأن قال: الحمد لله مسهل أوقات اللذّات وميسّرها، وناظم أسباب الخيرات ومكثّرها، وجاعل أسواق الأفراح قائمة على ساق، جابرة لمن ورد إليها بأنواع الإرفاد وأجناس الإرفاق، أحمده

على أن أحلّنا في منازل السادات، أرفع الدرجات، وأحلّ لنا من الأطعمة الفائقة الطيّبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهدينا إلى المقام الرفيع، وتخصنا بالمحل الجسيم المنيع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رب المكارم الجسام، ومعدن الجسارة والإقدام، الجامع بين فضيلتى الطعان والطعام، صلى الله عليه وعلى آله أهل السماحة والكرم والإكرام، صلاة تحلّ قائلها في غرفات الجنان في دار السلام، وبعد، فإن صناعة التطفيل صناعة مهوبة، وحرفة هى عند الظرفاء محبوبة، لا يلبس شعارها إلا كلّ مقدام، ولا يرفع خافق علمها إلا من عدّ في حرفته من الأعلام، ولا يتلو أساطير شهامتها إلا من ارتضع أفاويق الصّفاقة، ولا يهتدى لمنار علائها إلا من نزع عن منكبيه رداء الرّقاعة والحماقة، وكنت والفود غدافىّ الإهاب، والغصن ريّان من ماء الشباب، والقدّ يميس في حلّة النشاط، والقدم تذرع الأرض ذرع الاختباط، لا يقام سوق وليمة إلا وأنا الساعى إليها، ولا ترفع أعلام نار مأدبة إلا وكنت الواقف لديها، أتخذ الدروب شباكا للاصطياد، وحبائل أبلغ بها لذيذ الازدراد، قد جعلت المعطس حليف الهواء، والقلب نزيل الأهواء، فحيث عبقت روائح الأبازير من أعالى تلك القصور، وتمندلت تلك الشوارع بزعفران البرم والقدور، ألقيت عصا المسير على الباب، وخلبت بحسن أدبى قلب البواب، وأوسعت في وصولى ألف حيله، وجعلتها على ما عندى من حسن فنونها مخيله، فلا دعوة، إلا وكنت عليهم دعوة، ولا وليمة ختان، إلا وقد طلعت على أرجائها مثل الجان، ولا سماط تأنيب، إلا وكنت إليه الساعى المنيب، ولا مجمع ضيافة، إلا وكنت عليه أشد آفة، ولا ملاك عرس مشهود، إلا وانتظمت في سلك الشهود، يحسن فيّ قول القائل

لو طبخت قدر بمطمورة ... موقدها الشام وأعلى الثغور وأنت في الصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور واليوم قد مال القويم إلى الاعوجاج، وعزّ بازى الشيب غراب الشّعر الدّاج، وقيّد الزمن أقداما، ومنعت الشيخوخة إقداما، وصرت لحما على وضم، بعد أن كنت نارا على علم، وقد أفادتنى التّجربة من هذه الصناعة فنونا، وتلت علىّ من محاسنها متونا، وقد أبقيت لكل مجمع بابا، وفذلكت لكل مشهد حسابا، وقد اقتضى حسن الرأى أن أفوّض إليك أمرها، وأودع تأمور قلبك وحسّك سرّها، علمى بأنك الكيّس الفطن، بل الألمعىّ الذّرب المرن، لو عقدت أكلة الولائم بغاب ولجه، وأحسن بتأنّيه الجميل مدخله ومخرجه، وقد شاهدت من أعمالك الصالحة، ما يقال عند ذهابى: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد عهدت إليك، واستخرت الله في التعويل عليك، فمثلك من يخطب للمناصب، ويتسنّم ذروة المراتب، ودونك ما أنطق به من الوصايا، واحفظ ما يسرده لسان القلم من جميل المزايا، إياك وموائد اللئام، وانزل بساحات الكرام، واتخذ الشروع في الشوارع حرفة، وأظهر على مشيك صلافة وعفّة، وميّز بعينك حسن المساطب ونقش الستور، وجمال الخدء وقعود الصدور، واقصد الأبواب العالية، والأكلة المنقوشة الجالية، فإن دللت على مأدبة نصبها بعض الأعيان، وجمع إليها أصحابه الإخوان، فالبس من ثيابك الجميلة قشيبها، وضوّع بالمندل الرطب طيبها، وأتقن خبر صاحب الدار وأخباره، وقف في صدر الشارع من الحاره، فإذا رأيت الجمع وقد تهادوا بالهوادى والأقدام، وتهادوا فيما بينهم لذيذ الكلام، تقدّم إليهم بقلب قلب الأمور، وعلم بحسن تطلّعه وتضلّعه داء الجمهور، وقل لهم: رب الدار قد استبطأكم، فما الذى أبطأكم؟ حتّى إذا قاربوا صعود العتبة،

ولم تبق هنا لك معتبة، تقدّم رافعا لهم الستور، ومعرّفا بمقدار أولئك الصدور، فالأضياف، يعتقدون أنك غلام المضياف، وربّ الحلّة، يعتقد أنك رفيق السادة الجلّة، وإن ولجت مجتمع ختان، وقد نصبت فيه موائد الألوان، وذرفنت الأبواب، واكفهرّت وجوه الحجّاب، فاجعل تحت ضبنك المجمع، واخدع قلوبهم فمثلك من يخدع، وقل: رفيق الأستاذ ومعينه، ورجله التى يسعى بها بل يمينه، فحينئذ ترفع الستور، وتقدّم لك أطايب القدور، وإن رماك القدر على باب غفل عنه صاحبه، وسها في غلقه حاجبه، وقد مدّوا في أوانيه سماطا، وجعلوا لأوائل من يقدمه فراطا، وقد تقاربت الزبادى، وامتدت الأيادى، ورأيت السّماط روضة تخالفت ألوانها، وامتدّت أفنانها، والموائد فيما بينها أفلاك تدور بصحونها، بل بروج ثابتة تشعر بسكونها، فلج على غفلة من الرقيب، وابسط بنان الأكل وكفّ لسان المجيب، فإن قيل لك: أما غلق دونك باب؟ فقل: ما على الكرماء من حجاب، وإيّاك والإطالة على الموائد، فإنها مصايد الشوارد، وإياك والقذارة عليها، فإنها إمارة الحرمان لديها، وإن وقعت على وليمة كثيرة الطعام، قليلة الازدحام، كبّر اللقمة ولا تطل علكها، ومر الفكّ في سرعة أن يفكّها، فإنك ما تدرى ما تحدث الليالى والأيام، خيفة أن يعثر عليك بعض الأقوام، فتكتسى حلّة الخجل، وتظهر على وجهك صفرة الوجل، واجعل من آدابك، تطلعك الى أثوابك، ولا ترفع لمستجلّ وجها وجيها، وقل لمن يحادثك: إليه ولا تقل: إيها، وجاوب بنعم، فإنها معينة على اللّقم، واجعل لكل مقام ما يناسبه من الحيلة، ومل على أهل الولائم والمآدب ميلة وأىّ ميلة، واسأل عمن ورث من آبائه مالا، وقد جمعه بوعثاء السفر وعنائه حراما وحلالا، أهل يعقد مقاما؟ أم يبلغ من دنياه بالقصف مراما؟ فإن قيل: فلان الفلانىّ ربّ

هذه المثابة، وصاحب الدعوة المجابة، فكن ثالثة الأثافى لبابه، وانتظم في سلك عشرائه وأترابه، وتفقّد الأسواق خصوصا اللّحامين، ومواطن الطبخ ومساطب المطربين، ومجمع القراء ومعاهد محالّ الوعّاظ، وكلّ بقعة هى مظنّة فرح يعود عليك نفعه وكن أوّل داخل وآخر خارج، ومل إلى الزوايا، فهى أجمل ما لهذه الحرفة من المزايا، ونقّل ركابك في كلّ يوم، فتارة في سوق اللحم وتارة في سوق الثّوم؛ وغيّر الحلية، وقصّر اللحية، وابرز كلّ يوم في لباس، فهو أكثر للالتباس، وجدّد البهت حتى تتخذه عصاك، وتجعله ذريعة لمن عصاك، وأتقن الفنون المحتاج اليها من غنى ونجامة، وطب وشهامة، وتاريخ وأدب، وكرم أصل وحسب، وحالتى التوقيت والتنزيل، فاجعلهما دأبك، فإذا عرفوك، وحضر الجمع وكشفوك، فطرّز كلّ محفل بمحاسنن أقوالك، وكلّل جيد كلّ مأدبة بجواهر أفعالك، واعلم أنها صنعة دثرت معالمها، وقلّ عالمها، ولو لم أر على وجهك مخائل بشرها، وعلى أعطاف أردافك روائح نشرها، لما ألقيت إليك كتاب عهدها، ولا حملت لبابك راية مجدها، فتلقّ راية هذا العهد بساعد مساعد، وعضد في الولوج على الأسمطة معاضد، فوّضت اليك أمر من تحلّى بجواهرها المنظومة، ولبس حللها القشيبة المرقومة، وبسطت لسان قلمك في رقم عهودها، وأذنت لك أن تجريهم على سنن معهودها، وإياك أن تعهد إلا لمن ملك خصالها، وجاس خلالها، واستجلى هلالها، وأتقن أحوالها، ولاية عامّة، وكلمة مبرمة تامّة، حرس الله بك معقل الأدب واللطافة، ومحابك معالم الثقالة والكثافة.

ذكر آداب الأكل والمؤاكلة

ذكر آداب الأكل والمؤاكلة قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وروى أنّ داود عليه السّلام أمر مناديه فنادى: أيها الناس، اجتمعوا لأعلّمكم التقوى، فاجتمعوا فقام في محرابه، فبكى ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأيها الناس، لا تدخلوا هاهنا إلا طيّبا، ولا تخرجوا منه إلا طيّبا، وأشار إلى فيه. قيل: أوّل آداب الأكل، معرفة الحلال من الحرام، والخبيث من الطيّب. وأما الآداب في هيئة المؤاكلة وأفعالها، فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماعاب طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. وروى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشمّوا الطعام كما تشمّه البهائم، من اشتهى شيئا فليأكل، ومن كره فليدع» . وقال أنس: قدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن عشر، ودخل دارنا، فحلبنا له شاة، فشرب، وأبو بكر عن يساره، وأعرابىّ عن يمينه، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أعط أبا بكر، فقال صلى الله عليه وسلّم: «الأيمن فالأيمن» وفي هذا المعنى يقول الشاعر صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وروى عن أنس: أنه رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شرب جرعة، ثم قطع، ثمّ سمّى، ثم شرب جرعة، ثم قطع، ثم سمّى، ثم قطع الثالثة، ثمّ جرع مصّا، حتّى فرغ ثمّ حمد الله، وقد ندب إلى غسل اليد قبل الأكل فإنه ينفى الفقر، وينقّى اللّمم؛ ومن السّنة: البداءة باسم الله، وحمده عند الانتهاء.

روى عن عمر بن أبى سلمة أنه قال: مررت بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يأكل، فقال «اجلس يا بنىّ وسمّ الله، وكل بيمينك مما يليك» . وقال بعض السلف: إذا جمع الطعام أربعا، فقد كمل كلّ شىء، إذا كان حلالا، وذكر اسم الله عليه، وكثرت عليه الأيدى، وحمد الله حين يفرغ منه. وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال عند مطعمه ومشربه بسم الله خير الأسماء ربّ الأرض والسماء لم يضره ما أكل وما شرب» وفي حديث عائشة رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسى في أوّله، فليقل بسم الله في أوّله وآخره» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، فإنّ الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» . وروى: أنّ المسيح عليه السّلام كان إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثمّ قال: هكذا فاصنعوا بالفقراء. ووصف شاعر قوما فقال جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألمّ بهم وقوف قال سهل بن حصين: شهدت الحسن في وليمة، فطعم ثم قام، فقال: مدّ الله لكم في العافية، وأوسع عليكم في الرزق، واستعملكم بالشكر. وروى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تخللّوا فإنه نظافة والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنّة» . وفي حديث عمر رضى الله عنه: عليكم بالخشبتين: يعنى السّواك والحلال.

ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها

وكان بعضهم يقول لولده إذا رأى حرصه في الطعام: يا بنىّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الشهوة، ولا تنهس نهس السّباع، ولا تخضم خضم البراذين، فإن الله جعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة. وحكى عن بعض الكتاب قال: تغديت مع المأمون فالتفت إلىّ وقال: خلال قبيحة عند الجلوس على الطعام: كثرة مسح اليد، والانكباب على الطعام، وكثرة أكل البقل، ومعنى ذمّه هذه الخلال الثلاث: أنه إذا أكثر مسح اليد فإنما ذلك من غمسها فى الطعام، والانكباب يدلّ على شدّة الحرص وزيادة الشره والنّهم. قال الشاعر لقد سترت منك الخوان عمامة ... دجوجيّة ظلماؤها ليس تقلع وأما البقل، فإن الحاجة إلى البلغة منه، وفي الإكثار منه تشبّه بالبهائم، لأنه مرعاها. وقيل: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالأدب. وقيل لبعض الحكماء: أىّ الأوقات أحمد للأكل؟ فقال: أما من قدر فإذا اشتهى، وأما من لم يقدر فإذا وجد. ذكر الاقتصاد في المطاعم والعفّة عنها قال الله عزوجل: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وفي الحديث أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من زاره أخوه المسلم فقرّب إليه ما تيسر غفر له وجعل في طعامه البركة، ومن قرّب إليه ما تيسر فاستحقر ذلك كان في مقت من الله حتّى يخرج» . وقالت عائشة رضى الله عنها: أولم النبىّ صلّى الله عليه وسلم على بعض نسائه مدّين من شعير.

وقيل: كان عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول: اعملوا ولا تغملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضولها رجز، هذه طير السماء تغدو وتروح، ليس معها من أرزاقها شىء، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن قلتم: بطوننا أعظم من بطونها، فهذه الوحش تغدو وتروح، وليس معها من أرزاقها شىء والله يرزقها. وروى أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لما دخل شهر رمضان كان يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على لقمتين أو ثلاث، فقيل له، فقال: إنما هى أيّام قلائل يأتى أمر الله وأنا خميص، فقتل من ليلته. وفي الحديث عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قلّ طعمه صحّ بدنه وضفا قلبه، ومن كثر طعمه سقم جسمه وقسا قلبه» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما زيّن الله رجلا بزينة أفضل من عفاف بطنه» . قال حاتم أبيت خميص البطن مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذّم أن أتضلعا فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذّم أجمعا وقال بعضهم: رأيت مجنونا ببغداد، وهو على باب دار فيها صنيع والناس يدخلون، وكنت ممن دعى، فقلت: ألا تدخل فتأكل؟ فإن الطعام كثير، قال: وإن كثر فإنى ممنوع منه، فقلت: كيف والباب مفتوح، ولا مانع من الدخول؟ فقال: أآكل طعاما لم أدع إليه؟ لقد اضطرّنى إلى ذلك غير الجوع، فقلت: ما هو؟ قال: دناءة النفس وسوء الغريزة، قال الشاعر وإنّى لعفّ عن مطاعم جمّة ... إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها

وقال آخر وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي البطن انطواء فلا وأبيك ما في العيش خير ... وفي الدنيا إذا ذهب الحياء! قال الجنيد: مرّ بى الحارث بن أسد المحاسبىّ، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عمّ، تدخل الدار وتتناول شيئا؟ قال: نعم، فدخل، وقدّمت إليه طعاما حمل إلىّ من عرس، فأخذ لقمة فلاكها ونهض فألقاها في الدّهليز ومضى، فالتقيت به بعد أيام، فقلت له في ذلك، فقال: كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلى، ولكن بينى وبين الله تعالى علامة، أن لا يسوّغنى طعاما فيه شبهة، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فأخبرته، ثم قلت له: تدخل اليوم؟ قال: نعم، فقدّمت إليه كسرا كانت لنا فأكل وقال: إذا قدّمت لفقير شيئا، فقدّم مثل هذا. روى أن عمرو بن العاص قال لأصحابه يوم الحكمين: أكثروا لهم الطعام، فو الله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا؛ فلما وجد معاوية ما قال صحيحا، قال: البطنة تذهب الفطنة. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشرب، فإن القلوب تموت كالزّرع إذا كثر عليه الماء» . ودخل عمر رضى الله عنه على ابنه عاصم وهو يأكل لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا اليه، قال: ويحك! قرمت إلى شىء فأكلته، كفى بالمرء شرها أن يأكل كلّ ما يشتهى. قال ابن دريد: العرب تعيّر بكثرة الأكل، وأنشد لست بأكّال كأكل العبد ... ولا بنوّام كنوم الفهد

ذكر أخبار الأكلة

وقال عمر رضى الله عنه: ما اجتمع عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إدامان إلا أكل أحدهما وتصدّق بالآخر. وقال أبو سليمان الدارانىّ: خير ما أكون إذا لصق بطنى بظهرى، أجوع الجوعة فأخرج تزحمنى المرأة فما ألتفت إليها، وأشبع الشّبعة فأخرج فأرى عينىّ تطمحان. ذكر أخبار الأكلة قد نسب ذلك إلى جماعة من الأكابر وذوى الهمم، فمن ذلك ما حكاه الحمدونىّ فى تذكرته: أن معاوية بن أبى سفيان أتى بعجل مشوىّ، فأكل معه دستا من الخبز السميد، وأربع فرانىّ «1» ، وجديا حارا، وجديا باردا، سوى الألوان، ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلّاء الرطب، فأتى عليه، وقيل: إنه كان يأكل كل يوم أربع أكلات آخرهنّ أشدّهنّ، ثم يقول: يا غلام، أرفع، فو الله ما شبعت، ولكنى مللت. ومنهم عبيد الله بن زياد، كان يأكل في اليوم خمس أكلات آخرها جنبة بغل، ويوضع بين يديه بعد ما يفرغ من الطعام عناق «2» أو جدى فيأتى عليه وحده. ومنهم الحجّاج بن يوسف، قال سالم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده، وأنا غلام، فقالوا جاء الأمير، فدخل الحجاج وأمر بتنوّر، فنصب، وأمر رجلا يخبز خبز الماء ودعا بسمك، فأكل حتّى أتى على ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الماء. ومنهم سليمان بن عبد الملك، روى أنه شوى له أربعة وثمانون خروفا، فمدّيده إلى كلّ واحد منها فأكل شحم أليته ونصف بطنه، مع أربعة وثمانين رغيفا، ثم أذن للناس، وقدّم الطعام، فأكل معهم أكل من لم يذق شيئا.

وقال الشّمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، فجاء حتى ألقى صدره إلى غصن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شىء تطعمنى؟ قلت عندى جذع تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال: عجّل به، فأتيته به كأنه عكّة سمن، فجعل يأكل، وهو لا يدعو عمر، حتى بقى منه فخذ، قال: يا أبا حفص، هلمّ، قال: إنى صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل ويلك! ما عندك شىء؟ قلت: دجاجات ست، كأنهنّ رئلان النعام، فأتيته بهنّ فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك؟ قلت: سويق كأنه قراضة الذهب، فأتيته بعسّ «1» يغيب فيه الرأس، فشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جبّ، ثم قال: يا غلام! أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: نيّف وثمانون قدرا، قال: فأت بقدر قدر، وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، فوضع الخوان، وقعد يأكل مع الناس. ومن المشهورين بالأكل، هلال بن الأسعر المازنىّ، قال المعتمر بن سليمان: سألته عن أكله فقال: جعت مرة ومعى بعير لى فنحرته وأكلته إلا ما حملت منه على ظهرى، فلما كان الليل راودت أمة لى فلم أصل إليها، فقالت كيف تصل إلىّ وبينى وبينك جمل؟ فقلت له: كم بلّغتك هذه الأكلة؟ فقال: أربعة أيام. وحكى أبو سعيد منصور بن الحسن الأبىّ في كتابه المترجم بنثر الدّر: أن هلالا هذا أكل بعيرا، وأكلت امرأته فصيلا وجامعها، فلم يتمكن منها، فقالت له: كيف تصل إلى وبينى وبينك بعيران؟ وله حكايات ذكرها الحمدونىّ في التذكرة، والأبىّ فى نثر الدر تركناها اختصارا.

ومنهم محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، ذكر الجاحظ: أنه أكل يوما جنبى بكر شواء بعد طعام كثير. ومن المشهورين بالنهم، أحمد بن أبى خالد الأحول وزير المأمون، وكان المأمون إذا وجهه في حاجة، أمره أن يتغدى ويمضى فرفع إلى المأمون في المظالم: إن رأى أمير المؤمنين أن يجرى على ابن أبى خالد نزلا، فإنّ فيه كلبية، إلا أن الكلب يحرس المنزل بكسرة، وابن أبى خالد يقتل المظلوم، ويعين الظالم بأكلة، فأجرى عليه المأمون في كلّ يوم ألف درهم لمائدته، وكان مع ذلك يشره الى طعام الناس. ولما انصرف دينار بن عبد الله من الجبل، قال المأمون لاحمد بن أبى خالد: امض إلى هذا الرجل وحاسبه وتقدّم إليه يحمل ما يحصل لنا عليه وأنفذ معه خادما ينهى إليه ما يكون منه، وقال: إن أكل أحمد عند دينار عاد إلينا بما نكره، ولما اتصل خبر أحمد بدينار، قال للطباخ: إن أحمد أشره من نفخ فيه الروح، فإذا رأيته فقل له: ما الذى تأمر أن يتخذ لك؟ ففعل الطباخ، فقال أحمد: فراريح كسكرية بماء الرمان تقدّم مع خبز الماء بالسميد، ثم هات بعدها ما شئت، فابتدأ الطباخ بما أمر، وأخذ أحمد يكلّم دينارا، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: إن لنا قبلك ما لا قد حبسته علينا، فقال: الذى لكم ثمانية آلاف ألف، قال فاحملها، قال: نعم، وجاء الطباخ فاستأذن في نصب المائدة، فقال أحمد: عجّل بها فإنى أجوع من كلب، فقدّمت وعليها ما اقترح، وقدّم الدجاج وعشرين فروجا كسكرية فأكل أكل جائع نهم، ما ترك شيئا مما قدّم، فلما فرغ وقدّر الطباخ أنه قد شبع، لوّح بطيفورية فيها خمس سمكات شبابيط كأنها سبائك الفضة، فأنكر أحمد عليه إلا قدمها؟ وقال: هاتها، وأعاد أحمد الخطاب، فقال دينار: أليس قد عرفتك

ذكر ما قيل في الجبن والفرار

أن الباقى لكم عندى سبعة آلاف ألف؟ قال أحسبك اعترفت بأكثر منها، فقال: ما اعترفت إلا بها، فقال: هات خطك بما اعترفت به، فكتب بستة آلاف ألف فقال أحمد: سبحان الله! أليس قد اعترفت بأكثر من هذا؟ قال: ما لكم قبلى إلا هذا المقدار، فأخذ خطه بها وتقدّم الخادم، فأخبر المأمون بما جرى، فلما ورد أحمد ناوله الخط، فقال: قد عرفنا ما كان من الألف ألف بتناول الغداء؛ فما بال الألف ألف الأخرى، فكان المأمون بعد ذلك يقول: ما أعلم غداء قام على أحد بألفى ألف إلا غداء دينار، واقتصر على الخط ولم يتعقبه كرما ونبلا. ومنهم أبو العالية، حكى أن امرأة حملت فحلفت إن ولدت غلاما لأشبعنّ أبا العالية خبيصا، فولدت غلاما، فأطعمته، فأكل سبع جفان، فقيل له: إنها حلفت أن تشبعك خبيصا، فقال: والله لو علمت لما شبعت إلى الليل. ومنهم أبو الحسن بن أبى بكر العلّاف الشاعر دخل يوما على الوزير المهلّبى ببغداد، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذى كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدّم بين يديه، فأكله كلّه وهو يظن أنه لحم بقر، فلما خرج طلب الحمار، قيل له: قد أكلته، وعوّضه الوزير عنه ووصله، فهذا كاف في أخبار الأكلة. ذكر ما قيل في الجبن والفرار ومن أقبح ما هجى به الرجل أن يكون جبانا فرّارا، وقد نهانا الله عزّوجل عن الفرار، فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ

وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) . وقالت عائشة رضى الله عنها: إن لله خلقا، قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأفّ للجبناء، أفّ للجبناء. وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدى موضع إلا فيه طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشى حتف أنفى، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء. وقيل كتب زياد إلى ابن عباس: أن صف لى الشجاعة والجبن والجود والبخل فكتب إليه: كتبت تسألنى عن ضائع ركّبت في الإنسان تركيب الجوارح، اعلم أن الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، ولجبان يفرّ عن عرسه، وأن الجواد يعطى من لا يلزمه، وأن البخيل يمسك عن نفسه؛ وقال شاعر يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه وقالوا: الجبن غريزة كالشجاعة بضعها الله فيمن شاء من خلقه. قال المتنبى يرى الجبناء آن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وقالوا: حدّ الجبن الضنّ بالحياة، والحرص على النجاة. وقالت الحكماء في الفراسة: من كانت فزعته في رأسه، فذاك الذى يفرّ من أمّه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التى تؤويه. ويقال: أسرع الناس إلى الفتنة أقلّهم حياء من الفرار. وقال هانىء الشيبانىّ لقومه يوم ذى قار يحرّضهم على القتال: يا بنى بكر! هالك معذور، خير من ناج

فرور، المنيّة، ولا الدّنيّة، استقبال الموت خير من استدباره، الثغر في ثغور النحور، خير منه في الأعجاز والظهور، يا بنى بكر! قاتلوا، فما من المنايا بدّ، الجبان مبغّض حتّى لأمّه، والشجاع محبّب حتّى لعدوّه. ويقال: الجبن خير أخلاق النساء، وشرّ أخلاق الرجال. وقال يعلى بن منبّه لقومه حين فروا من علىّ يوم صفّين: إلى أين؟ قالوا: ذهب الناس، قال: أفّ لكم! فرارا واعتذارا! قال: ولما قوتل أبو الطيّب المتنبى ورأى الغلبة عليه فرّ، فقال له غلامه: أترضى أن يحدّث بهذا الفرار عنك؟ وأنت القائل الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم فكّر راجعا، وقاتل حتى قتل، واستقبح أن يعيّر بالفرار. وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به: أخبرنى عن أصحابى، أيهم كان أشدّ إقداما في المبارزة، قال: لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين، فقل لهم: يدبروا لأعرفك أيّهم كان أشدّ فرارا. وقال ابن الرّومىّ في سليمان بن عبد الله بن طاهر قرن سليمان قد أضرّ به ... شوق إلى وجهه سيدنفه لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه وقال حسّان بن ثابت يعيّر الحارث ابن هشام بفراره يوم بدر إن كنت كاذبة الذى حدثتنى ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ذاك لأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام ملأت به الفرجين فارمدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام

وقال أبو الفرج الأصفهانىّ: وكان أبو حيّة النميرىّ وهو الهيثم بن الربيع ابن زرارة جبانا بخيلا كذّابا، قال ابن قتيبة: وكان له سيف يسمّيه: لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق، قال: وكان أجبن الناس؛ قال: فحدثنى جار له، قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصّا، فأشرفت عليه، وقد انتضى سيفه، وهو واقف في وسط الدار يقول: أيها المغترّبنا، المجترىء علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذى سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إنى والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينا هو كذلك، إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذى مسخك كلبا، وكفانا حربا. ومن أبلغ ما قيل في الجبن من الشعر القديم، قول الشاعر ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأرنما «1» ومثله قول عروة بن الورد وأشجع قد أدركتهم فوجدتهم ... يخافون خطف الطير من كلّ جانب وقال آخر ما زلت تحسب كلّ شىء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا وقول أبى تمام موكّل بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفّة الطّرب

ومن أخبار الفرارين الذين حسنوا الفرار على قبحه

وقال ابن الرومىّ وفارس أجبن من صفرد «1» ... يحول أو يغور من صفره لو صاح في الليل به صائح ... لكانت الأرض له طفره يرحمه الرحمن من جبنه ... فيرزق الجند به النصره ومن أخبار الفرّارين الذين حسّنوا الفرار على قبحه قال صاحب كلبلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه، لأن النفقة فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال. وقالوا: من توقّى سلّم، ومن تهوّر ندم. وقال عبد الله بن المقفّع: الشجاعة متلفة، وذلك أن المقتول مقبلا أكثر من المقتول مدبرا، فمن أراد السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة. وليم بعض الجبناء على جبنه، فقال: أوّل الحرب شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى. وقال آخر: الحرب مقتلة للعباد، مذهبة للطارف والتّلاد. وقيل لجبان: لم لا تقاتل؟ فقال: عند النطاح يغلب الكبش الأجمّ «2» . وقالوا: الحياة أفضل من الموت، والفرار في وقته ظفر. وقالوا: الشجاع ملقّى، والجبان موقّى. قال البديع الهمذانىّ ما ذاق همّا كالشجاع ولا خلا ... بمسرّة كالعاجز المتوانى وقالوا: الفرار في وقته، خير من الثبات في غير وقته.

وقالوا: السّلم أزكى للمال، وأبقى لأنفس الرّجال. وقالوا: الحمام في الإقدام، والسلامة في الإحجام. وقال المتوكّل لأبى العيناء: إنى لأفرق من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، الكريم ذو فرق وإحجام، واللئيم ذو وقاحة وإقدام. وقيل لأعرابىّ: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إنى لأبغض الموت على فراشى في عافية، فكيف أمضى إليه ركضا؛ قال شاعر تمشى المنايا الى قوم فأبغضها ... فكيف أعدو إليها عارى الكفن؟ وقيل ليزيد: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت شخصا بالليل، فكن للإقدام عليه أولى منه عليك» فقال: أخاف أن يكون قد سمع الحديث قبلى، فأقع معه فيما أكره، وإنما الهرب خير. وسمع سليمان بن عبد الملك قارئا يقرأ (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا) فقال: ذلك القليل نريد. ولما فرّ أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسد يوم مرداء هجر بالبحرين من أبى فديك الخارجىّ إلى البصرة، ودخل عليه أهلها، فلم يدروا كيف يكلّمونه ولا ما يلقونه به من القول، أيهنئونه بالسّلامة أم يعزّونه بالفرار، حتى دخل عبد الله ابن الأهتم، فاستشرف الناس له، ثم قالوا: ما عسى أن يقول لمنهزم؟ فسلّم ثم قال: مرحبا بالصابر المخذول، الحمد لله الذى نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن الله علم حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك، فقال أميّة: ما وجدت أحدا أخبرنى عن نفسى غيرك. وقال الحارث بن هشام وأحسن في اعتذاره عن الفرار

الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا مهرى بأشقر مزبد وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّى مشهدى فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم سرمد وقال زفر بن الحارث وقد فرّ يوم مرج راهط عن رفيقيه أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا؟ فلم تر منّى زلّة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا وهى أبيات نذكرها إن شاء الله في التاريخ، ونظير ذلك قول عمرو بن معد يكرب من أبيات يخاطب بها أخته ريحانة، وقد فرّ من بنى عبس أجاعلة أمّ النّوير خزاية ... علىّ فرارى إذا لقيت بنى عبس وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الحماية بالأمس وعكس هذا البيت عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوىّ، وكان قد فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما حاصر الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة جعل يقاتل أهل الشّام ويرتجز أنا الذى فررت يوم الحرّة ... والشيخ لا يفرّ إلا مرّة فاليوم أجزى كرّة بفرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه ولم يزل يقاتل حتى قتل؛ قال الفرّار السّلمىّ. وفوارس لبّستها بفوارس ... حتى إذا التبست أملت بها يدى وتركتهم نقض الرّماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند هل ينفعنّى أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالهم: لا تبعد؟

ذكر ما قيل في الحمق والجهل

وقال آخر قامت تشجّعنى هند فقلت لها: ... إن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذى منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهى الموت عندى من له أرب للحرب قوم أضل الله سعيهم ... إذا دعبتهم إلى نيرانها وثبوا وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدّم، فقال وقالوا: تقدّم قلت: لست بفاعل ... أخاف على فخّارتى أن تحطّما فلو كان لى رأسان أتلفت واحدا ... ولكنه رأس إذا زال أعقما وأونتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما؟ ذكر ما قيل في الحمق والجهل قالوا: الحمق قلّة الإصابة، ووضع الكلام في غير موضعه، وقيل: هو فقدان ما يحمد من العاقل؛ وقيل لعمر بن هبيرة: ما حدّ الحمق؟ قال: لا حدّ له كالعقل. وروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله، لأنّه حرمه أعزّ الأشياء عليه وهو العقل» . وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى، أتدرى لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يا ربّ، قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاجتهاد. وقال الشعبىّ: إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة، كان أوّل ما يعدمه عقله. وقالوا: الحمق داء دواؤه الموت. وقد بيّن الله تعالى لحبيبه من لم يعقل بقوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) قيل: عاقلا، وبقوله (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) .

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أثنى قوم على رجل عند النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى بالغوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف عقل الرجل؟» فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وترتفع العباد غدا في الدرجات على قدر عقولهم» . ومن كلام لقمان لابنه: أن تكون أخرس عاقلا خير من أن تكون نطوقا جاهلا، ولكل شىء دليل، ودليل العقل النقل، ودليل النقل الصمت، وكفى بك جهلا أن تنهى الناس عن شىء وتركبه. وقال عيسى عليه السّلام: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالحت الأحمق فأعيانى؛ قال شاعر لكل داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها وقال آخر وعلاج الأبدان أيسر خطب ... حين تعتلّ من علاج العقول وقال آخر الحمق داء ما له حيلة ... ترجى كبعد النجم من مسّه وقيل: إذا قيل لك إن فقيرا استغنى، وغنيّا افتقر، وحيّا مات، أو ميتا عاش، فصدّق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدّق. وقالوا: الأحمق لتمنى أمّه أنّها به مشكلة، ولتمنى زوجه أنّها منه أرملة، ويتمنى جاره منه العزلة، ورفيقه منه الوحشة، وأخوه منه الفرقة.

وقال سهل بن هارون: وجدت مودّة الجاهل، وعداوة العاقل، أسوة في الخطر، ووجدت الأنس بالجاهل، والوحشة من العاقل، سيّين في العيب، ووجدت غشّ العاقل أقلّ ضررا من نصيحة الجاهل، ووجدت ظنّ العاقل أوقع بالصواب من يقين الجاهل، ووجدت العاقل أحفظ لما لم يستكتم من الجاهل لما استكتم. وقال لقمان لابنه: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال، وانظر إلى السيف ما أحسن منظره وأقبح أثره! وقال علىّ رضى الله عنه: قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل؛ وقال: صديق الجاهل في تعب. وقال آخر: لأنا للعاقل المدبر، أرجى شىء من الأحمق المقبل، وقال شاعر عدوّك ذو العقل خير من الصّديق ... لك الوامق الأحمق والبيت المشهور السائر ولأن يعادى عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق وقيل: الحمق يسلب السلامة، ويورث الندامة؛ وقد ذمّوا من له أدب بلا عقل. ووصف أعرابىّ رجلا فقال: هو ذو أدب وافر، وعقل نافر؛ قال شاعر فهبك أخا الآداب، أىّ فضيلة ... تكون لذى علم وليس له عقل؟ ومن صفات الأحمق وعلاماته، قيل: ما أعدمك من الأحمق فلا يعدمك منه كثرة الالتفات وسرعة الجواب، ومن علاماته الثقة بكلّ أحد.

ويقال: إنّ الجاهل مولع بحلاوة العاجل، غير مبال بالعواقب، ولا معتبر بالمواعظ، ليس يعجبه إلا ما ضرّه، إن أصاب فعلى غير قصد، وإن أخطأ فهو الذى لا يحسن به غيره، لا يستوحش من الإساءة، ولا يفرح بالإحسان. وقالوا: ستّ خصال تعرف في الجاهل، الغضب من غير شىء، والكلام في غير نفع، والفطنة في غير موضع، ولا يعرف صديقه من عدوّه، وإفشاء السرّ، والثّقة بكلّ أحد. وقالوا: غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله، والعاقل إذا تكلّم بكلمة أتبعها مثلا، والأحمق إذا تكلم بكلمة أتبعها خلفا، الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل. وقال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب. وقال وهب بن منبّه: كان يقال للأحمق إذا تكلّم: فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيّه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يعينه، ولا علم غيره ينفعه، تودّ أمّه أنها ثكلته، وتتمنى امرأته أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة. ويستدلّ على الأحمق بأشياء، قالوا: من طالت قامته، وصغرت هامته، وانسدلت لحيته، كان حقيقا على من يراه أن يقرئه عن عقله السلام. ويقال في التوراة: اللحية مخرجها من الدّماغ، فمن أفرط عليه طولها قلّ دماغه، ومن قلّ دماغه قلّ عقله، ومن قلّ عقله فهو أحمق. وقالت أعرابيّة لقاض قضى عليها: صغر رأسك، فبعد فهمك، وانسدلت لحيتك، فتكوسج عقلك، وما رأيت ميتا يقضى بين حيين غيرك.

وقال مسلمة بن عبد الملك لجلسائه: يعرف حمق الرجل في أربع، طول لحيته، وبشاعة كنيته، وإفراط شهوته، ونقش خاتمه، فدخل عليه رجل طويل اللحية، فقال: أمّا هذا فقد أتاكم بواحدة، فانظروا أين هو من الثّلاث؟ فقيل له: ما كنيتك؟ فقال: أبو الياقوت، فقيل له: ما نقش خاتمك؟ فقال: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) قيل: فأىّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الجلنجبين «1» ، فقال مسلمة: فيه ما بعد كنيته، مع طول لحيته، مع نقش خاتمه، شك لمعتبر. قال الشّعبىّ: خطب الحجاج يوم جمعة فأطال، فقام إليه أعرابىّ، فقال له: إن الوقت لا ينتظرك وإنّ الربّ لا يعذرك، فأمر به فحبس، فأتاه أهله يشفعون فيه وقالوا: إنه مجنون، فقال الحجاج: إن أقرّ بالجنون خليت سبيله، فأتوه وسألوه ذلك، فقال: لا والله، لا أقول إن الله ابتلانى وقد عافانى، فبلغ كلامه الحجاج، فعظم في نفسه وأطلقه. وقال الأصمعىّ: قلت لغلام من أبناء العرب: أيسرّك أن يكون لك مائة ألف وأنت أحمق؟ قال: لا والله، قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجنى علىّ حمقى جناية، فتذهب منّى، ويبقى حمقى. والعرب تضرب المثل في الحمق بعجل بن لجيم، ويزعمون أنّه قيل له: إنّ لكل فرس جواد اسما، وإنّ فرسك هذا سابق فسمّه، ففقأ عينه وقال: سميته الأعور، وفيه يقول الشاعر

رمتنى بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل؟ أليس أبوهم عار «1» عين جواده؟ ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل! ويضربون المثل في الحمق بهبنّقة القيسىّ، وهو يزيد بن ثروان، ويكنى أبا نافع، حكى أنه شرد له بعير، فقال: من جاء به فله بعيران، فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان. وقد رضى قوم بالجهل فقالوا: ضعف العقل أمان من الغمّ؛ وقالوا: ما سرّ عاقل قطّ؛ قال أبو الطيّب المتنبى ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم وقال حكيم: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء؛ وقال المغيرة بن شعبة: ما العيش إلّا في إلقاء الحشمة. وقال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل سبعة أجزاء احتاج الى جزء من جهل ليقدم على الأمور، فإنّ العاقل أبدا متوان مترقبّ متوقّف متخوّف؛ قال النابغة الجعدىّ ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا وقال آخر من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج أخذه آخر فقال من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذّة الجسور وقالوا: الجاهل ينال أغراضه، ويظفر بأرائه، ويطيع قلبه، ويجرى في عنان هواه، وهو برىء من اللوم، سليم من العيب، مغفور الزّلّات.

ذكر ما قيل في الكذب

وقالوا: الجاهل رخىّ الذرع، خالى البال، عازب الهمّ، حسن الظن، لا يخطر خوف الموت بفكره، ولا يجرى ألم الإشفاق على ذكره. وقالوا: الجهل مطيّة المراح والمسرة، ومسرح المزاح والفكاهة، وحليف الهوى والتصابى، وصاحبه في ذمام من عهدة اللوم والعتب، وأمان من قوارص الذمّ والسبّ؛ قال بعض الشعراء ورأيت الهموم في صحّة العقل ... فداويتها بإمراض عقلى وقالوا: لو لم يكن من فضيلة الجهل، غير الإقدام، وورود الحمام، إذ هما من الشجاعة والبسالة، وسبب تحصيل المهابة والجلالة، لكفاه؛ قال أبو هلال العسكرىّ: سألنى بعض الأدباء أىّ الشعراء أشدّ حمقا، قلت الذى يقول أتيه على إنس البلاد وجنّها ... ولو لم أجد خلقا لتهت على نفسى أتيه فلا أدرى من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسى فإن صدقوا أنى من الإنس مثلهم ... فما فيّ عيب غير أنّى من الإنس ذكر ما قيل في الكذب قال الله عزّوجلّ: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) . وقال: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) وقال في الكاذبين: (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النّار» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «الكذب مجانب

الإيمان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يجوز الكذب في جدّ ولا هزل» وقال: «لا يكون المؤمن كذّابا» . وقالت الحكماء: ليس لكاذب مروءة. وقالوا: من عرف بالكذب لم يحسن صدقه. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: خلف الوعد ثلث النفاق. وقال بعض الحكماء: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته. قال عمرو بن العلاء القارىء: ساد عتبة بن ربيعة وكان مملقا، وساد أبو جهل وكان حدثا، وساد أبو سفيان وكان بخّالا، وساد عامر بن الطّفيل وكان عاهرا، وساد كليب بن وائل وكان ظلوما، وساد عيينة وكان محمّقا، ولم يسد قطّ كذاب، فصلح السؤدد مع الفقر والحداثة والبخل والعهر والظلم والحمق، ولم يصلح مع الكذب، لأن الكذب يعمّ الأخلاق كلّها بالفساد. وقال يحيى بن خالد: رأيت شرّيب خمر نزع، ولصّا أقلع، وصاحب فواحش رجع، ولم أر كذابا رجع. ويقال: الكذب مفتاح كلّ كبيرة، والخمر جماع كل شرّ. وقيل: لا تأمننّ من يكذب لك أن يكذب عليك. وقيل: الكذب والنفاق والحسد أثافىّ الذّلّ.

وقال ابن عباس: حقيق على الله أن لا يرفع للكاذب درجة، ولا يثبّت له حجة. وقال سليمان بن سعد: لو صحبنى رجل وقال: لا تشترط على إلا شرطا واحدا لقلت: لا تكذبنى. وقال أبو حيان التّوحيدىّ: الكذب شعار خلق، ومورد رنق، وأدب سيّىء، وعادة فاحشة، وقلّ من استرسل فيه إلا ألفه، وقلّ من ألفه إلا أتلفه. وقال غيره: الكذب أوضع الرذائل خطة، وأجمعها للمذمّة والمحطّة، وأكبرها ذلّا فى الدنيا، وأكثرها خزيا في الآخرة، وهو من أعظم علامات النفاق، وأقوى الدلائل على دناءة الأخلاق والأعراق، لا يؤتمن حامله على حال، ولا يصدّق إذا قال. وقيل: لكل شىء آفة، والكذب آفة النطق. وقال بعض الكرماء: لو لم أدع الكذب تأثّما، لتركته تكرّما. وقال أرسطا طاليس: فضّل الناطق على الأخرس بالنطق، وزين النطق الصدق، فإذا كان الناطق كاذبا، فالأخرس خير منه. وقال بعض الحكماء لولده: يا بنىّ إياك والكذب، فأنه يزرى بقائله، وإن كان شريفا في أصله، ويذلّه وإن كان عزيزا في أهله. وقال الأحنف بن قيس: اثنان لا يجتمعان: الكذب والمروءة. وقال بزرجمهر: الكاذب والميت سواء، لأن فضيلة النطق الصدق، فإذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته. وقال معاوية يوما للأحنف: أتكذب؟ فقال: والله ما كذبت مذ علمت أن الكذب شين.

وقيل: لا يجوز للرجل أن يكذب لصلاح نفسه، فما عجز الصدق عن إصلاحه كان الكذب أولى بفساده. قال بعض الشعراء ما أحسن الصدق والمغبوط قائله ... وأقبح الكذب عند الله والناس وقالوا: احذر مصاحبة الكذّاب، فان اضطررت إليها فلا تصدّقه ولا تعلمه أنك كذبته، فينتقل عن مودّته، ولا ينتقل عن كذبه. وقال هرمس: اجتنب مصاحبة الكذاب، فإنك لست منه على شىء يتحصّل، وإنما أنت معه على مثل السّراب يلمع ولا ينفع. وقيل: الكذّاب شرّ من النّمّام، فإن الكذّاب يختلق عليك، والنّمام ينقل عنك. قال شاعر إن النّموم أغطّى دونه خبرى ... وليس لى حيلة في مفترى الكذب وقال آخر لى حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذّاب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله ووصف أعرابىّ كذابا فقال: كذبه مثل عطاسه، لا يمكنه ردّه. وقال بعض الأعراب: عجبت من الكذّاب المشيد بكذبه، وإنما هو يدلّ الناس على عيبه، ويتعرّض للعقاب من ربّه، فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادّة، إن قال حقا لم يصدّق، وإن أراد خيرا لم يوفّق، فهو الجانى على نفسه بفعاله، والدّالّ على فضيحتها بمقالة، فما صحّ من صدقه نسب إلى غيره، وما صحّ من كذب غيره نسب إليه.

ويقال: الكذب جماع النفاق، وعماد مساوىء الاخلاق، عار لازم، وذلّ دائم، يخيف صاحبه نفسه وهو آمن، ويكشف ستر الحسب عن لؤمه الكامن، وقال بعض الشعراء لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلّة الورع وقال الأصمعىّ: قيل لرجل معروف بالكذب. هل صدقت؟ قال: أخاف أن أقول: «لا» فأصدق. وآفة الكذب النسيان. قال شاعر ومن آفة الكذّاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا دهى إذا كان كاذبا وقال علىّ بن اللّحام شاعر اليتيمة تكذب الكذبة يوما ... ثم تنساها قريبا كن ذكورا يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا وقال أبو تمّام يا أكثر الناس وعدا حشوه خلف ... وأكثر الناس قولا حشوه كذب وقال أحمد بن محمّد بن عبد ربّه صحيفة أفنيت «ليت» بها و «عسى» ... عنوانها راحة الراجى إذا يئسا وعد له هاجس في القلب قد برمت ... أحشاء صدرى به من طول ما هجسا يراعة غرّنى منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكفّ مقتبسا فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا وقال آخر وتقول لى قولا أظنّك صادقا ... فأحىء من طمع اليك وأذهب فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب

ذكر ما قيل في الغدر والخيانة

ذكر ما قيل في الغدر والخيانة قال الله عزّوجلّ: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أمّن رجلا ثم قتله وجبت له النار وإن كان المقتول كافرا» وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين رفع لكل غادر لواء وقيل: هذه غدرة فلان» . وقالوا: من نقض عهده، ومنع رفده، فلا خير عنده. وقالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول. وقالوا: من علامات النفاق، نقض العهد والميثاق. وقالوا: لا عذر في الغدر. والعذر يصلح في كل المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن. وفي بعض الكتب المنزّلة: إن مما تعجّل عقوبته من الذنوب ولا يؤخر: الإحسان يكفر، والذّمة تحفر. قال شاعر أخلق بمن رضى الخيانة شيمة ... أن لا يرى إلا صريع حوادث ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها ... أبدا بغادر ذمّة أو ناكث وقالوا: الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النّصرة. ويقال: من تعدّى على جاره، دلّ على لؤم نجاره.

ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة

وذكر أن عيسى صلوات الله عليه مرّ برجل وهو يطارد حيّة وهى تقول له: والله لئن لم تذهب عنّى، لأنفخنّ عليك نفخة أقطّعك بها قطعا، فمضى عيسى عليه السّلام في شأنه، ثم عاد فرأى الحية في جونة الرجل محبوسة، فقال لها: ويحك! أين ما كنت تقولين؟ قالت: يا روح الله، إنه خلف لى وغدر، وإنّ سمّ غدره أقتل له من سمّى. ذكر أخبار أهل الغدر وغدراتهم المشهورة أعرف الناس في الغدر آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب، وقد عدّت لهم غدرات، فمنها: غدر قيس بن معد يكرب بمراد، وكان بينهم عهد أن لا يغزوهم إلى انقضاء شهر رجب، فوافاهم قبل الأمد بكندة، وجعل يحمل عليهم ويقول أقسمت لا أنزل حتّى يهزموا ... أنا ابن معد يكرب فاستسلموا فارس هيجا ورئيس مصدم فقتل قيس بن معد يكرب وارتد الأشعث عن الإسلام. وغدر الأشعث ببنى الحارث بن كعب، وكان قد غزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتى بعير، فأعطاهم مائة وبقى عليه مائة، فلم يؤدّها، وجاء الإسلام فهدم ما كان في الجاهليّة. وغدر محمد بن الأشعث بن قيس بمسلم بن عقيل بن أبى طالب، وغدر أيضا بأهل طبرستان وكان عبيد الله بن زياد ولّاه إياها، فصالح أهلها على أن لا يدخلها ورحل عنهم، ثم عاد إليهم غادرا، فأخذوا عليه الشّعاب، وقتلوا ابنه أبا بكر. وغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالحجّاج لما ولّاه خراسان، وخرج عليه وادعى الخلافة، وكان بينهم من الوقائع ما نذكره في التاريخ في أخبار الحجاج

إن شاء الله تعالى، وكانت الدائرة على عبد الرحمن، وكلّهم ورثوا الغدر عن معديكرب، فإنه غدر مهرة، وكان بينه وبينهم عهد إلى أجل، فغزاهم ناقضا لعهدهم، فقتلوه وبقروا بطنه وملأوه بالحصا. وغدرت ابنة الضّيزن بن معاوية بأبيها صاحب الحصن ودلّت سابور على طريق فتحه، ففتحه وقتل أباها وتزوّجها، ثم قتلها. وقد ذكرنا ذلك في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في المبانى. ومن ذلك ما فعله النعمان بسنمّار، وقد ذكرناه أيضا فى خبر بناء الخورنق. وممن اشتهر بالغدر عمرو بن جرموز: غدر بالزّبير بن العوّام، وقتله بوادى السباع، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في حرب الجمل. ومن الغدر الشنيع ما فعله عضل والقارة، روى أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما وخيرا فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقّهوننا في الدّين، ويقرئوننا القرءان، ويعلّموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة نفر من أصحابه، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوىّ، وخالد بن البكير حليف بنى عدىّ ابن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح أخو بنى عمرو بن عوف، وخبيب بن عدىّ أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدّثنة أخو بنى بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله لأمّه، وأمّر عليهم مرثد ابن أبى مرثد، وقيل أمّر عليهم عاصما، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع: - ماء لهذيل- غدروا بهم واستصرخوا عليهم هديلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلّا

الرجال في أيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، فأما مرثد وخالد وعاصم ومعتّب فقالوا: والله ما نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا، فقاتلوا حتى قتلوا، وأما زيد وخبيب وعبد الله فلانوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ الظّهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقدموا بخبيب وزيد الى مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجر بن أبى إهاب التميمىّ حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بالحارث، وأما زيد بن الدّثنة فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأمية بن خلف، وروى أن خبيبا لما حصل عند بنات الحارث استعار من إحداهن موسى يستحدّ بها فما راع المرأة إلا صبىّ لها يدرج، وخبيب قد أجلس الصبىّ على فخذه، والموسى في يده، فصاحت المرأة، فقال خبيب: أتحسبين أنى أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة: ما رأيت بعد أسيرا قطّ خيرا من خبيب، لقد رأيته وما بمكّة من ثمرة، وان في يده قطفا من عنب يأكله، إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا، ولما خرج بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذرونى أصلّى ركعتين، ثم قال: لولا أن يقال: جزع لزدت، وما أبالى على أى شقّى كان مصرعى، وهذه القصّة نذكرها إن شاء الله تعالى بما هو أبسط من هذا فى السّيرة النبويّة في سيرة مرثد إلى الرجيع. قيل: أغار خيثمة بن مالك الجعفىّ على حىّ من بنى القين فاستاق منهم إبلا فلحقوه ليستنقذوها منه، فلم يطمعوا فيه، ثم ذكر يدا كانت لبعضهم عنده، فخلّى عما كان فى يده، وولّى منصرفا، فنادوه وقالوا: إن المفازة أمامك، ولا ماء معك، وقد فعلت

جميلا، فانزل ولك الذّمام والحباء فنزل فلما اطمأنّ وسكن، واستمكنوا منه غدروا به فقتلوه، ففى ذلك تقول عمرة ابنته غدرتم بمن لو كان ساعة غدركم ... بكفّيه مفتوق الغرارين قاضب أذادكم عنه بضرب كأنّه ... سهام المنايا كلّهن صوائب وتلاحى بنو مقرون بن عمرو بن محارب، وبنو جهم بن مرّة بن محارب، على ماء لهم فغلبتهم بنو مقرون فظهرت عليهم، وكان في بنى جهم شيخ له تجربة وسنّ، فلما رأى ظهورهم، قال: يا بنى مقرون، نحن بنو أب واحد، فلم نتفانى؟ هلمّوا إلى الصلح، ولكم عهد الله تعالى وميثاقه وذمّة آبائنا، أن لا نهيجكم أبدا ولا نزاحمكم فى هذا الماء، فأجابتهم بنو مقرون إلى ذلك، فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح عدا عليهم بنو جهم فنالوا منهم منالا عظيما، وقتلوا جماعة من أشرافهم، ففى ذلك يقول أبو ظفر الحارثىّ هلّا غدرتم بمقرون وأسرته ... والبيض مصلته والحرب تستعر لما اطمأنوا وشاموا في سيوقهم ... ثرتم إليهم وعرّ الغدر مشتهر غدرتموهم بأيمان مؤكدة ... والورد من بعده للغادر الصّدر هذا ما قيل في الغدر. وأما الخيانة، فقد نهى الله تعالى عنها فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» . وقيل: من ضيّع الأمانة، ورضى بالخيانة، فقد برىء من الدّيانة.

وقال حكيم: لو علم مضيّع الأمانه، ما في النّكث والخيانه، لقصّر عنهما عنانه. وقالوا: من خان مان، ومن مان هان، وتبرّأ من الإحسان. قيل دخل شهر بن حوشب وهو من جلّة القرّاء وأصحاب الحديث على معاوية، وبين يديه خرائط فيها مال، قد جمعت لتوضع في بيت المال، فقعد على خريطة منها، وأخذها، ومعاوية ينظر إليه، فلما رفعت الخرائط، فقد من عددها خريطة، فأعلم الخازن بذلك معاوية، فقال: هى محسوبة لك فلا تسأل عن آخذها، ففيه يقول بعض الشعراء لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر؟ وقال المنصور لعامل بلغه عنه خيانته: يا عدوّ الله، وعدوّ أمير المؤمنين، وعدوّ المسلمين، أكلت مال الله، وخنت خليفة الله، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن عيال الله، وأنت خليفة الله، والمال مال الله، فمن أين نأكل إذا، فضحك وأطلقه، وأمر أن لا يولّى عملا بعدها. وسرق رجل في مجلس أنو شروان جاما من ذهب وهو يراه، فتفقّده الشرابىّ، فقال: والله لا يخرج أحد حتى يفتّش، فقال له أنو شروان: لا تتعرّض لأحد، فقد أخذه من لا يردّه، ورآه من لا ينمّ عليه. وحكى أنّ بعض التّجار أودع عند قاض بمعرّة النعمان وديعة، وغاب مدّة، فلما رجع، طالب بها، فأنكرها القاضى، فتشفع إليه برؤساء بلده في ردّها، فما زالوا به حتى أقرّبها، وادّعى أنها سرقت من حرزه، فاستحلفه المودع فحلف، فقال ابن الدّويدة في ذلك لا يصدق القاضى الخئون إذا ادّعى ... عدم الوديعة من حصين المودع

ذكر ما قيل في الكبر والعجب

إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعنى لو تعى! أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع وقال ابن الحجاج وأدعوهم إلى القاضى عساهم ... إذا وقع اليمين يحلّقونى وأضيع ما يكون الحقّ عندى ... إذا عزم الغريم على اليمين ذكر ما قيل في الكبر والعجب قال الله عزّوجلّ: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) . وقال تعالى: (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) . وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) . وقال: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) . وقال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) . وناهيك بهذا زجرا. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة، من في قلبه حبّة من خردل من كبر» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من تعظّم في نفسه، واختال في مشيته لقى الله عزّوجلّ وهو عليه غضبان» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» . وروى: أن عبد الله بن سلّام، مرّ بالسوق يحمل حزمة حطب، فقيل له: أليس قد أغناك الله عن هذا؟ قال: بلى! ولكنى أردت أن أقمع به الكبر، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من كبر» .

وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه. وقالوا: من قل لبّه، كثر عجبه. وقالوا: عجب المرء بنفسه، أحد حسّاد عقله. وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه فصرفه إلى الكبر. ومن كلام لابن المعتزّ: لما عرف أهل التقصير حالهم، عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس بفاعل. وقال أكثم بن صيفىّ: من أصاب حظا من دنياه، فأصاره ذلك الى كبر وترفّع، فقد علم أنه نال فوق ما يستحقّ، ومن أقام على حاله فقد علم أنه نال ما يستحقّ، ومن تواضع وغادر الكبر، فقد علم أنه نال دون ما يستحقّ. وقال على رضى الله عنه: عجبت للمتكبر الذى كان بالأمس نطفة، وهو غدا جيفة. وقيل: مرّ بعض أولاد المهلّب بمالك بن دينار وهو يخطر، فقال له: يا بنىّ، لو خفّضت بعض هذه الخيلاء! ألم يكن أحسن بك من هذه الشّهرة التى قد شهرت بها نفسك؟ فقال له الفتى: أو ما تعرف من أنا؟ قال: بلى! والله أعرفك معرفة جيّدة، أوّلك نطفة مذره، وآخرك جيفة قذره، وأنت بين ذلك حامل عذره، فأرخى الفتى ردينه وكفّ مما كان يفعله، وطأطأ رأسه، ومضى مسترسلا. وقال الواقدىّ: دخل الفضل بن يحيى ذات يوم على أبيه وهو يتبختر في مشيته، فقال له يحيى: يا أبا عبد الله، إن البخل والجهل مع التواضع، أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم؛ فيالها من حسنة غطّت على عيبين عظيمين، ويا لها

من سيّئة غطّت على حسنتين كبيرتين، ثم أومأ اليه بالجلوس وقال: احفظه يا عبد الله، فإنه أدب كبير أخذناه عن العلماء. ومن الكبر المستهجن ما روى: أن وائل بن حجر أتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأقطعه أرضا، وقال لمعاوية: اعرض هذه الأرض عليه واكتبها له، فخرج مع وائل في هاجرة شاوية، ومشى خلف ناقته، وقال له: أردفنى على عجز راحلتك، فقال: لست من أرداف الملوك، قال: فأعطنى نعليك، فقال: ما بخل يمنعنى يابن أبى سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلى، ولكن امش فى ظل ناقتى، فحسبك بها شرفا. وقيل: إن وائلا أدرك زمن معاوية ودخل عليه فأقعده معه على السرير وحدّثه. والعرب تجعل جذيمة الأبرش الغاية في الكبر، وروى: أنه كان لا ينادم أحدا ترفّعا وكبرا، ويقول: إنما ينادمنى الفرقدان. ومنه قول متمّم: وكنا كندمانى جذيمة حقبة قيل: إنما أراد الفرقدين، لا كما ذكره الرواة أنهما مالك وعقيل. وقيل: كان أبو ثوابة أقبح الناس كبرا، روى: أنّه قال لغلامه اسقنى ماء، فقال: نعم، قال: إنما يقول: «نعم» من يقدر على أن يقول: «لا» وأمر بضربه، ودعا أكّارا فكلمه، فلما فرغ دعا بماء، وتمضمض استقذارا لمخاطبته. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ولا تعجبا أن تؤتيا فتكلّما ... فما حشى الأقوام شرّا من الكبر

قال الجاحظ: المذكورون بالكبر من قريش، بنو مخزوم، وبنو أميّة، ومن العرب، بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس، وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدّون الناس إلا عبيدا، وأنفسهم إلا أربابا؛ والكبر في الأجناس الذليلة أرسخ، ولكن القلّة والذّلة مانعتان من ظهور كبرهم، ومن قدر من الوضعاء أدبى قدرة، ظهر من كبره ما لا خفاء به، ولم أر ذا كبر قطّ علا من دونه، إلا وهو يذلّ لمن فوقه بمقدار ذلك ووزنه. قال: أما بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، واختصاصهم بالتّيه، فإنهم أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولو كان في قوى عقولهم فضل عن قوى دواعى الحميّة فيهم، لكانوا كبنى هاشم في تواضعهم وإنصافهم من دونهم. وقال أبو الوليد الأعرابىّ. ولست بتيّاه إذا كنت مثريا ... ولكنه خلقى إذا كنت معدما وأن الذى يعطى من المال ثروة ... إذا كان نذل الوالدين تعظّما ومن المتكبرين، عمارة بن حمزة، حكى عنه: أنه دخل على المهدىّ، فلما استقر به الجلوس، قام رجل كان المهدىّ قد أعدّه له ليتهكّم به، فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟ قال: عمارة غصبنى ضيعتى، وذكر ضيعة من أحسن ضياع عمارة وأكثرها خراجا، فقال المهدىّ لعمارة: قم فاجلس مع خصمك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هو لى بخصم، إن كانت الضّيعة له، فلست أنازعه فيها، وإن كانت لى فقد وهبتها له، ولا أقوم من مجلس شرّفنى به أمير المؤمنين، فلما انصرف المجلس، سأل عمارة عن صفة الرجل، وما كان لباسه، وأين كان موضع

جلوسه، وكان من تيهه أنه إذا أخطأ يمرّ على خطئه تكبرا عن الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة، الخطأ أهون منه. ومنهم من أهلكه الكبر وأذلّه. كان خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسرىّ أميرا على العراق، وبلغ من هشام بن عبد الملك محلا رفيعا، فأفسد أمره العجب والكبر، وأدناه إلى الهلكة، وعذّب حتّى مات، وذلك أنه كان إذا ذكر هشام عنده، قال: ابن الحمقاء! فسمعها رجل من أهل الشام، فقال لهشام: إنّ هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة ابيك وإخوتك، يذكرك بأسوأ الذّكر، قال: لعله يقول: الأحول، قال: لا، ولكنّه يقول: ما لا تلتقى به الشّفتان، قال: لعله يقول: ابن الحمقاء، فأمسك الشامىّ، فقال هشام قد بلغنى كلّ ذلك عنه؛ وكان خالد يقول: والله ما إمارة العراق مما تشرّفنى، فبلغ ذلك هشاما، فكتب إليه: بلغنى أنك يابن النصرانية تقول: إن إمارة العراق لا تشرّفك وأنت دعىّ بجيلة القليلة الذليلة، والله إنى لأظن أن أول من يأتيك صيفىّ بن قيس فيشدّ يدك إلى عنقك، قال خالد بن صفوان بن الأهتم: لم تزل أفعال خالد حتى عزله هشام وعذّبه، وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطا قد شدّه به الصّبيان يجرّونه، فدخلت إلى هشام يوما، فحدّثته فأطلت، فتنفّس، وقال: يا خالد! كان أحبّ إلىّ قربا وألذّ عندى حديثا منك، يعنى خالد القسرى، قال: فانتهزتها ورجوت أن أشفع فتكون لى عند خالد يدا، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما يمنعك من استئناف الصّنيعة، فقد أدّبته بما فرط منه، فقال: هيهات! إن خالدا أوجف فأعجف، وأدلّ فأملّ، وأفرط فى الإساءة، فأفرطنا في المكافأة، فحلم الأديم، ونغل الجرح، وبلغ السّيل الزّبى، والحزام الطّبيين، ولم يبق فيه مستصلح، ولا للصّنيعة عنده موضع، عد إلى حديثك.

ومما هجى به أهل التكبر

ومنهم: من أفرط به الكبر إلى الكفر، حكى: أن سعيد بن زرارة مرّت به امرأة فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى مكان كذا؟ فقال لها: أمثلى يكون من عبيد الله. ومنهم: عبيد الله بن زياد بن ظبيان، قال له رجل من قومه وقد رأى منه ما أعجبه: كثّر الله فينا مثلك، فقال: لقد كلّفتم الله شططا. ومن أشعار المتكبّرين التيّاهين قول بعضهم أتيه على جنّ البلاد وإنسها الأبيات، وقد تقدّمت في الحمقى. وقال آخر ألقنى في لظى فإن أحرقتنى ... فتيقّن أن لست بالياقوت صنع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت قال ابن حبارة الحرّانىّ المنجنيقىّ يردّ عليه أيّها المدّعى الفخار دع الفخر ... لذى الكبرياء والجبروت نسج داود لم يفد ليلة الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السّمند «1» فى لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت وكذاك النّعام يلتقم الجمر ... وما الجمر للنّعام بقوت! ومما هجى به أهل التكبّر ، قول جعيفران يهجو سعيد بن مسلم بن قتيبة أمّ سعيد لم ولدتيه ... ملوّثا بالكبر والتّيه؟ ليتك إذ جئت به هكذا ... حين خريتيه أكلتيه

ذكر ما قيل في الحرص والطمع

ذكر ما قيل في الحرص والطمع قال الله عزّوجل لنهيّه صلّى الله عليه وسلم: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع من الشقاء الخ ... عدّ منها الحرص والأمل» وقال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم فأفسداها أشدّ من حرص المرء على المال «1» » . وقال: «يشيب ابن آدم وتشبّ منه اثنتان: «الحرص على المال، والحرص على العمر» وقال: «إيّاكم والطمع فإنه الفقر الحاضر» . ومن كلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفىّ، وكلما عظم قدر الشىء المتنافس فيه، عظمت الرّزية لفقده، والأمانىّ تعمى البصائر. أزرى بنفسه من استشعر الطمع، واستولت عليه الأمانىّ. وقال بعضهم: الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه. وقال قتيبة: إن الحريص استعجل الذّلة، قبل إدراك البغية. وقيل: لا راحة لحريص، ولا غنى لذى طمع. وقيل: إن كعبا لقى عبد الله بن سلام، فقال: يابن سلام، من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما أذهب العلم من قلوب العلماء بعد إذ علموه ووعوه؟ قال: الطمع، وشره النفس، وطلب الحوائج الى الناس. قال الأصمعىّ: سمعت أعرابيّا يقول: عجبت للحريص المستكبر، المستقلّ لكثير ما في يده، المستكثر

لقليل ما في يد غيره، حتّى طلب الفضل، بذهاب الأصل، فركب مفاوز البرارى، ولجج البحار، معرّضا نفسه للمات، وماله للآفات، ناظرا إلى من سلم، غير معتبر بمن عدم. قال يزيد بن الحكم الثّقفىّ. رأيت السّخىّ النفس، يأتيه رزقه ... هنيئا، ولا يعطى على الحرص جامع وكلّ حريص لن يجاوز رزقه ... وكم من موفّى رزقه وهو وادع وقالوا: مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. ويقال الحرّ عبد ما طمع ... والعبد حرّ ما قنع وقالوا: أخرج الطمع من قلبك، تحلّ القيد من رجلك. وقال عمرو بن مالك الحارثىّ الحرص للنفس فقر والقنوع غنى ... والقوت إن قنعت بالقوت يجزيها والنفس لو أن ما في الأرض حيز لها ... ما كان إن هى لم تقنع بكافيها وقال ابن هرمة وفي اليأس عن بعض المطامع راحة ... ويا ربّ خسر أدركته المطامع وقال هرمة بن خشرم وبعض رجاء المرء ما ليس نائلا ... عناء وبعض اليأس أعفى وأروح وقال مكنف بن معاوية التيمىّ ترى المرء يأمل ما لا يرى ... ومن دون ذلك ريب الأجل وكم آيس قد أتاه الرّجاء ... وذى طمع قد لواه الأمل وقال آخر طمعت فيما وعدتك المنى ... وليس فيما وعدت مطمع

ذكر ما قيل في الوعد والمطل

وثقت بالباطل من قولها ... وليس حقّا كلّ ما تسمع وإنما موعدها بارق ... فى كل حين خلّب يلمع ويضرب المثل في الطمع «بأشعب» . قيل له: ما بلغ من طمعك؟ فقال للقائل له: لم تقل هذا إلا وفي نفسك خير تصنعه بى؛ وقيل: إنه لم يمت شريف قطّ من أهل المدينة إلا استعدى أشعب على وصيّه أو وارثه وقال له: احلف أنه لم يوص لى بشىء قبل موته؛ ووقف على رجل يعمل طبقا من الخيزران، فقال له: وسّعه قليلا، قال الخيزرانىّ: كأنك تريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن ربما يشتريه بعض الأشراف فيهدى إلىّ فيه شيئا؛ وسأله سالم بن عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن طمعه، قال: قلت لصبيان مرة: اذهبوا، هذا سالم قد فتح بيت صدقة عمر حتى يطعمكم تمرا، فلما أحضروا ظننت أنه كما قلت لهم، فعدوت فى إثرهم؛ وقيل له: ماذا بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جارى فأثرد «1» عليه؛ وقيل له أيضا: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروسا بالمدينة تزفّ إلا كنست بيتى ورششته طمعا أن تزفّ إلىّ؛ وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، كلب أمّ حومل، تبعنى فرسخين، وأنا أمضغ كندرا «2» ، ولقد حسدته على ذلك. ذكر ما قيل في الوعد والمطل روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «العدة دين» . وقال بعض القرشيّين: من خاف الكذب، أقلّ من المواعيد. وقيل: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدّة الاعتذار.

وقالوا: خلف الوعد، خلق الوغد. وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ، إذا غدا عليكم الرجل أو راح مسلّما، فكفى بذلك تقاضيا. قال الشاعر اروح لتسليم عليك وأغتدى ... فحسبك بالتسليم منى تقاضيا كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا وقيل: الوعد إذا لم يشفعه إنجاز يحقّقه، كان كلفظ لا معنى له، وجسم لا روح فيه. وقالوا: الخلف ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف، لزمه ذمّ اللؤم «1» ، وذمّ الخلف، وذمّ العجز. قال بعض الشعراء وعدت فأكذبت المواعيد جاهدا ... وأقلعت إقلاع الجهام بلا وبل وأجررت لى حبلا طويلا تبعته ... ولم أدر أن اليأس في طرف الحبل وقال أبو تمّام وما نفع من قد مات بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها وما العرف بالتّسويف الا كخلّة ... تسلّيت عنها حين شطّ مزارها والعرب تضرب المثل بمواعيد عرقوب، وكان رجلا من العماليق وله في ذلك حكايات، فمنها: أنه أتاه أخ له، يسأله شيئا، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت، أتاه الرجل للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحا، فلما أبلحت، أتاه، فقال: دعها حتى تصير زهوا، فلما أزهت، قال: دعها حتى

تصير رطبا، فلما أرطبت، قال: دعها حتى تصير تمرا، فلما أتمرت، عمد إليها عرقوب، فجذّها ولم يعط أخاه منها شيئا. وفيه يقول الأشجعىّ وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب «1» وقال كعب بن زهير بن أبى سلمى كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل وقال السّكّيت للمهدىّ: يا أمير المؤمنين، لو كان الوعد يستنزل بالإهمال والسكون، لشكرتك القلوب بالضمير، ولنظرت إلى فضلك العيون بالأوهام، فقال المهدىّ: هذا جزاء التفريط فيما يكسب الأجر، ويدخر الشكر، وأمر بقضاء حاجته. وقال أعرابىّ: العذر الجميل، أحسن من المطل الطويل، فإن أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذّرت الحاجة فأفصح. وقال بعض كرماء العرب: لأن أموت عطشا، أحبّ إلىّ من أن أخلف موعدا. وقالوا: من وعد فأخلف، لزمته ثلاث مذمّات: ذمّ اللّؤم، وذمّ الخلف، وذمّ الكذب؛ وقال بعض الشعراء ولا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل قال بعض الأعراب: فلان له مواعيد عواقبها المطل، وثمارها الخلف، ومحصولها اليأس.

ذكر ما قيل في العى والحصر

وقال آخر: فلان له وعد مطمع، ومطل مؤيس، وأنت منه أبدا بين يأس وطمع، فلا بذل مريح، ولا منع صريح. وقال الثعالبىّ: أوّل من أخلف المواعيد ولم يف بشىء منها: إسماعيل بن صبيّح كاتب الرشيد، وما كان الرؤساء يعرفون قبله المواعيد الكاذبة ذكر ما قيل في العىّ والحصر قال الله عزّوجلّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وقال تعالى إخبارا عن فرعون عند افتخاره على موسى بالبيان: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) قال أهل التفسير: إن موسى عليه السّلام لما سمع هذا القول قال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) الآية، فقال الله تعالى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) . وقيل: حدّ العىّ معنى قصير، يحويه لفظ طويل. وقال أكثم بن صيفىّ: هو أن تتكلّم فوق ما تقتضيه حاجتك. وقالوا: الفقير الناطق، أغنى من الغنىّ الساكت. وقال كسرى: الصّمت خير من غىّ الكلام. وقالوا: فضّل الإنسان على ما عداه من الحيوان بالبيان، فإذا نطق ولم يفصح عاد بهيما. وقالوا: العىّ داء دواؤه الخرس. ومن علامات العىّ الاستعانة، وهى أن ترى المخاطب إذا كلّ لسانه عند مقاطع كلامه، يقول للمخاطب: اسمع منّى، أو سمعت لى، وافهم عنى، وأشباه ذلك.

ومنهم من يقول: قولى كذا، أعنى به كذا، ولا يريد التفسير، ولكنه يعيد كلامه بصيغة أخرى تكون غير مراده الأوّل ليفهم عنه. ومن عيوب اللسان، التّمتمة، والفأفأة، والعقلة، والحبسة، واللّفف، والرّتّة، والغمغمة، والطّمطمة، واللّكنة، والغنّة، واللّثغة. فالتمتمة، قال الأصمعىّ: إذا تعتع في التاء فهو تمتام، وإذا ردّد في الفاء فهو فأفاء، قال الراجز ليس بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام والعقلة: التواء اللسان عند الكلام؛ والحبسة: تعذّر النطق، ولم تبلغ حدّ الفأفاء ولا التمتام، ويقال: إنها تعرض أوّل الكلام، فإذا مرّ فيه انقطعت. واللّفف: إدخال بعض الكلام في بعص؛ قال الراجز كانّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق والرّتّة: اتصال بعض الكلام ببعض دون إفادة؛ والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبيّن لك تقطيع الحروف، ولا تفهم معناه؛ والطمطمة: أن يكون الكلام شبيها بكلام العجم، وهى حميريّة، وقالوا: هى إبدال الطاء بالتاء لأنهما من مخرج واحد، فيقول: السّلتان والشّيتان، وأشباه ذلك، قيل: وكانت في لسان زياد بن سلمى، وكان خطيبا شاعرا كاتبا؛ واللّكنة: إدخال بعض حروف العرب في حروف العجم، وتشترك فيها اللغة التركية والنبطيّة، وهى إبدال الهاء حاء، وانقلاب العين همزة، وكانت في لسان عبيد الله بن زياد، وصهيب الرومىّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل: إن مولى لزياد، قال له: أيها الأمير، أحدوا لنا همار وهش: يريد: أهدوا لنا حمار وحش، فلم يفهم زياد عنه، وقال: ويلك! ماذا تقول؟ قال: أحدوا لنا أيرا: يريد عيرا، فقال زياد: أرجعنا إلى الأول فهو خير؛ والغنّة:

أن يشرب الصوت الخيشوم؛ والخنّة: ضرب منها؛ والترخيم: حذف بعض الكلمة لتعذّر النطق بها؛ واللّثغة: إبدال ستة حروف بغيرها، وهى الهمزة والراء والسين والقاف والكاف واللام، فالتى تعرض للهمزة، فهى إبدالها عينا، فإذا أراد أن يقول: أنت، قال: عنت وهى مستعملة في لسان التّكرور، وأما التى تعرض فى الراء، فهى ستة أحرف، فمنهم من يجعلها غينا معجمة فيقول (عمغ) : يريد عمر، وهى غالبة على لسان أهل دمشق، وإذا اجتمعت الراء والغين في كلمة كقولهم: رغيف، قال: (غريف) ، وفغرت بمكان فرغت: فيبدلون كلّ حرف بالآخر، قيل: وكانت في لسان محمد بن شبيب الخارجىّ، وواصل بن عطاء المعتزلىّ، وكان لاقتداره على الكلام، وغزارة مادته، يتجنب النطق بها، وفيه يقول الشاعر من ابيات ويجعل البرّ قمحا في تصرّفه ... وجانب الرّاء حتى احنال للشّعر ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقا من المطر ومنهم من يجعلها عينا مهملة، فيقول في أزرق: أزعق، وهى في لسان عوامّ أهل دمشق، ومنهم من يجعلها ياء، فيقول في عمر: عمى، ومنهم من يبدلها بالظاء أخت الطاء، ومنهم من يبدلها همزة، فإذا أراد أن يقول: رأيت، قال: أأيت، وأما التى تعرض للسين، فإنهم يبدلونها ثاء، فيقولون: بثم الله، ويثرة الله: إذا أرادوا بسم الله، ويسرة الله، أو أشباه ذلك، وهى مستحسنة في الجوارى والغلمان. قال الشاعر وأهيف كالهلال شكوت وحدى ... إليه لحسنه وأطلت بثّى وقلت له فدتك النفس صلنى ... تحز فيّ الثواب فقال بثّى

وأما التى تعرض للقاف، فإن صاحبها يجعل القاف طاء، فإذا أراد أن يقول: قال، وقلت، نطق: بطال، وطلت، وهى نبطيّة، وكانت في لسان أبى مسلم صاحب الدعوة، وعبيد الله بن زياد؛ ومنهم من يجعلها كافا فيقول: كال وكلت؛ وأمّا التى تعرض للكاف، فمنهم من يجعلها همزة، فيقول: أأف، ومنهم من يبدلها تاء، فيقول: تان، إذا أراد: كان، وأما التى تعرض في اللام، فمنهم من يبدلها ياء، فيقول: اعتييت، بمعنى: اعتللت، ويقول في جمل: جمى، وإذا أقسم بالله، يقول: ويّاه، ومنهم من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة، فيقول في خوخ: حوح؛ وتستحسن في الغلمان والجوارى، ومنهم من يبدل الجيم ضادا، فإذا اجتمع لأحد فى كلمة جيم وضاد، مثل ضجر، ونضج، قال: جضر، ونجض. والحمد لله وحده! كمل الجزء الثالث من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى في أوّل الجزء الرابع منه: «الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى في المجون والنوادر والفكاهات والملح» والحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل

فهرس الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى .... صفحة الباب الثالث فى المجون والنوادر والفكاهات والملح 1 ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم 3 - ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم 3 - ذكر شىء من مجون الأعراب 7 - من نوادر القضاة 9 - من نوادر النحاة 13 - من نوادر المتنبئين 14 - من نوادر المغفلين والحمقى 16 - من نوادر النبيذيين 17 - من نوادر النساء والجوارى 18 - من نوادر العميان 22 - من نوادر السؤال 23 - من نوادر من اشتهر بالمجون 23 - من نوادر أشعب وأخباره 24 - من نوادر أبى دلامة 36 - من نوادر أبى صدقة 48 - من نوادر الأقيشر 52 - من نوادر ابن سيابة 56 - من نوادر مطيع بن إياس الكنانى وأخباره 57 - من نوادر أبى الشبل 63 - من نوادر حمزة بن بيض الحنفى 65 - من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه 68 - ذكر ما ورد في كراهة المزح 72 - من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه 74 الباب الرابع فى الخمر وتحريمها، وآفاتها، وجناياتها، وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها فى الجاهلية، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل في مبادرة اللذات، وما وصفت به المجالس، وما يجرى هذا المجرى 102 ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها 76 - ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبينته السنة 81 - ما قيل في إباحة المطبوخ 82 - آفات الخمر وجناياتها 83 - أسماء الخمر من حيث تعصر الى أن تشرب 86 - أخبار من تنزه عنها في الجاهلية وتركها ترفعا عنها 88

... صفحة ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها: 90 من حدّ فيها من الأشراف 90 - من شربها منهم واشتهر بها 92 - من افتخر بشربها وسبائها 103 ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر: 107 ما قيل فيها على سبيل المدح لها 107 - ما قيل في وصفها وتشبيهها 108 - ما قيل في أفعالها 112 - ما وصفت به غير ما قدّمناه 113 - ما قيل فيها اذا مزجت بالماء 115. ذكر ما قيل في مبادرة اللذات ومجالس الشراب وطيها: 118 ما وصفت به مجالس الشرب 119 - ما قيل في طىّ مجالس الشراب 121 ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها: 121 ما قيل في الراووق 122 - ما وصفت به زقاق الخمر 123 - ما وصفت به الأباريق 123 - ما وصفت به الكاسات والأقداح 124 الباب الخامس فى الندمان والسقاة 126 ما قيل في السقاة 129 الباب السادس فى الغناء والسماع وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة وما استدل به من رأى ذلك ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزهّاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان 160 ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والاباحة 133 - ما قيل في تحريم الغناء وما استدل به من رأى ذلك 133 - دليلهم من الكتاب العزيز 134 - دليلهم من السنة 134 - أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 135 - أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى 136 - ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة 137 - ما استدلوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية 138 - ما ورد في الضرب بالآلة 140 - فى اليراع 142 - فى القصب والأوتار 143 - فى المزامير والملاهى 145 - ذكر ما ورد في توهين

ما استدلوا به على تحريم الغناء والسماع 147 - ما احتجوا به من الآيات 147 - ما احتجوا به من الحديث 151 - ذكر أقسام السماع وبواعثه 167 - ذكر العوارض التى يحرم معها السماع 171 - العارض الأوّل 171 - الثانى في الآلة 172 - الثالث في نظم الصوت 172 - الرابع في المستمع 173 - العارض الخامس 174 - ذكر آثار السماع وآدابه 174 - من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم 190 - من سمع الغناء من الأئمة والعباد والزهاد 194 - من غنى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه 200 - من غنى من الخلفاء 200 - وممن غنى من خلفاء الدولة العباسية 201 - أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة ويد في هذا الفن 205 - من غنى من الأشراف والعلماء رحمهم الله 227 - من غنى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء 231 ذكر أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء: 239 أخبار سعيد بن مسجح 239 - أخبار سائب خاثر 243 - أخبار طويس 246 - أخبار عبد الله بن سريج 249 - أخبار معبد 262 - أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة 267 - أخبار محمد ابن عائشة 280 - أخبار ابن محرز 287 - أخبار مالك بن أبى السمح 288 - أخبار يونس الكاتب 292 - أخبار حنين 293 - أخبار سياط 295 - أخبار الأبجر 297 - أخبار أبى زيد الدلال 298 - أخبار عطرّد 302 - أخبار عمر الوادى 304 - أخبار حكم الوادى 305 - أخبار ابن جامع 306 - أخبار عمرو بن أبى الكنات 308 - أخبار أبى المهنأ مخارق 312 - أخبار يحيى بن مرزوق المكىّ 320 - أخبار أحمد بن يحيى المكى الملقب بطنين 321 - أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أمية 322 - أخبار يزيد حوراء 323 - أخبار فليح بن أبى العوراء 326 - أخبار إبراهيم الموصلى عفا الله عنه 328 - نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى 335.

الجزء الرابع

الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اللهم صل أفضل صلاة على أفضل خلقك سيدنا محمد وآله وسلّم. [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] [تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و ... ] الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح) وهذا الباب مما تنجذب النفوس اليه، وتشتمل الخواطر عليه؛ فإن فيه راحة للنفوس إذا تعبت وكلّت، ونشاطا للخواطر إذا سئمت وملّت؛ لأن النفوس لا تستطيع ملازمة الأعمال، بل ترتاح إلى تنقل الأحوال. فإذا عاهدتها بالنوادر فى بعض الأحيان، ولا طفتها بالفكاهات في أحد الأزمان، عادت إلى العمل الجدّ بنشطة جديدة، وراحة في طلب العلوم مديدة. وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلّت عميت» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أجمّوا «1» هذه القلوب والتمسوا لها طرق الحكمة، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان، والنفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جانحة إلى

اللهو، أمّارة بالسوء، مستوطنة بالعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل؛ فإن «1» أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه. وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه. وقال هشام بن عبد الملك: قد أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعما، وشممت الطّيب حتى ما أجد له رائحة، وأتيت النساء حتى ما أبالى أمرأة أتيت أم حائطا؛ فما وجدت شيئا ألذّ إلىّ من جليس تسقط بينى وبينه مؤنة «2» التحفّظ. وقال أحمد بن عبد ربه: الملح نزهة النفس، وربيع القلب، ومرتع السمع، ومجلب الراحة، ومعدن السرور. وقال أيضا: إن في بعض الكتب المترجمة أن يوحنّا وشمعون كانا من الحواريّين، فكان يوحنا لا يجلس مجلسا إلا ضحك وأضحك من حوله، وكان شمعون لا يجلس مجلسا إلا بكى وأبكى من حوله. فقال شمعون ليوحنا: ما أكثر ضحكك! كأنك قد فرغت من عملك! فقال له يوحنا: ما أكثر بكاك! كأنك قد يئست من ربك. فأوحى الله إلى عيسى بن مريم عليه السّلام: أنّ أحبّ السيرتين إلىّ سيرة يوحنا. والعرب إذا مدحوا الرجل قالوا: هو ضحوك السنّ، بسّام العشيّات «3» ، هشّ الى الضيف. وإذا ذمّته قالت: هو عبوس الوجه، جهم المحيّا، كريه المنظر، حامض الوجه «كأنما وجهه بالخل منضوح» . وكأنما أسعط خيشومه بالخردل. وقيل لسفيان: المزاح هجنة؛ فقال: بل سنّة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنى لأمزح ولا أقول إلا الحق» ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكر مزاحات رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر مزاحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد مزح رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك: أنه قال صلّى الله عليه وسلم لرجل استحمله: «نحن حاملوك على ولد الناقة» يريد: البعير. وقال صلّى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: «الحقى زوجك ففى عينه بياض» . فسعت المرأة نحو زوجها مرعوبة؛ فقال لها: مادهاك؟ فقالت: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّ في عينك بياضا؛ فقال: إن في عينى بياضا لا لسوء. وأتته عجوز أنصاريّة فقالت: يا رسول الله، ادع لى بالمغفرة. فقال لها: «أما علمت أنّ الجنة لا يدخلها العجز» ! فصرخت؛ فتبسّم صلّى الله عليه وسلم وقال لها: «أما قرأت (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) . ونظر عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أعرابىّ قد صلّى صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوّجنى بالحور العين؛ فقال عمر: يا هذا! أسأت النقد، وأعظمت الخطبة. ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم كان أشهرهم بالمزاح رضى الله عنهم نعيمان، وهو أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم البدريّين، وله رضى الله عنه مزاحات مشهورة، منها ما روى: أنه خرج مع أبى بكر الصّدّيق إلى بصرى، وكان في الحملة سويبط، وهو بدرىّ أيضا، وكان سويبط على الزاد؛ فجاءه نعيمان فقال له: أطعمنى؛ قال: لا، حتى يأتى أبو بكر. فقال نعيمان: والله لأغيظنّك. وجاء إلى أناس جلبوا ظهرا، فقال ابتاعوا منى غلاما عربيا فارها إلا أنه دعّاء، له لسان، لعله يقول: أنا حرّ؛ فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه،

لا تفسدوا علىّ غلامى. قالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم! هذا هو. فقالوا: قد اشتريناك. فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حرّ؛ فقالوا: قد أخبرنا خبرك، ووضعوا في عنقه حبلا وذهبوا به. فجاء أبو بكر رضى الله عنه فأخبر بذلك، فذهب هو وأصحابه، فردّوا القلائص على أربابها وأخذوه. وأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالقصة فضحك منها حولا. ومن مزاحاته: أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جرّة عسل اشتراها من أعرابىّ، وأتى بالأعرابىّ إلى باب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: خذ الثمن من هاهنا. فلما قسمها النبىّ صلّى الله عليه وسلم نادى الأعرابىّ: ألا أعطى ثمن عسلى؟! فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إحدى هنات نعيمان» . وسأله: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت برّك يا رسول الله، ولم يكن معى شىء. فتبسّم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابىّ حقّه. ومن مزاحاته أيضا: أنه مرّ يوما بمخرمة بن نوفل الزّهرىّ، وهو ضرير، فقال له: قدنى حتى أبول، فأخذ بيده حتى إذا كان في مؤخّر المسجد قال له: اجلس؛ فجلس مخرمة ليبول؛ فصاح الناس: يا أبا المسور، أنت في المسجد. فقال: من قادنى؟ فقيل له: نعيمان. قال: لله علىّ أن أضربه بعصاى إن وجدته. فبلغ ذلك نعيمان، فجاء يوما فقال لمخرمة: يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال نعم. قال: هو ذا يصلى. وأخذ بيده وجاء به إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه وهو يصلّى، فقال: هذا نعيمان؛ فعلاه مخرمة بعصاه؛ فصاح به الناس: ضربت أمير المؤمنين. فقال: من فادنى؟ قالوا: نعيمان؛ فقال: لا جرم لا عرضت له بسوء أبدا.

ومنهم ابن أبى عتيق، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهم. وكان ذا ورع وعفاف وشرف، وكان كثير المجون، وله نوادر مستظرفة، منها: أنه لقى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ما تقول فى إنسان هجانى بشعر، وهو: أذهبت مالك غير متّرك ... فى كل مؤنسة وفي الخمر «1» ذهب الإله بما تعيش به ... وبقيت وحدك غير ذى وفر فقال عبد الله بن عمر: أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح. فقال له عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن: والله أرى غير ذلك. فقال: وما هو؟ قال: أرى أن أنيكه. فقال ابن عمر: سبحان الله! ما تترك الهزل! وافترقا. ثم لقيه بعد ذلك فقال له: أتدرى ما فعلت بذلك الإنسان؟ فقال: أىّ إنسان؟ قال: الذى أعلمتك أنه هجانى. قال: ما فعلت به؟ قال: كل مملوك لى حرّ إن لم أكن نكته. فأعظم ذلك عبد الله بن عمر واضطرب له. فقال له: امرأتى والله التى قالت الشعر وهجتنى به. وكانت امرأته أمّ إسحاق «2» بنت طلحة بن عبيد الله. وقد مدح الشعراء اللعب في موضعه، كما مدح الجدّ في موضعه؛ فقال أبو تمّام: الجدّ شيمته وفيه فكاهة ... طورا ولا جدّ لمن لم يلعب وقال الأبيرد رحمة الله عليه: اذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله

ومن مجون عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ما حكى أنّ جاريته قالت له: إن فلانا القارىء، وكان يظهر النسك، قد قطع علىّ الطريق وآذانى ويقول لى: أنا أحبّك. فقال لها: قولى له: وأنا أحبّك أيضا، وواعديه المنزل؛ ففعلت وأدخلته المنزل؛ وكان عبد الله قد واعد جماعة من أصحابه ليضحكوا من الرجل. ودخلت الجارية الى البيت الذى فيه الرجل، فدعاها فاعتلّت عليه؛ فوثب إليها [فاحتملها «1» وضرب بها الأرض؛ فدخل عليه ابن أبى عتيق وأصحابه وقد تورّكها؛ فخجل وقام وقال: يا فسّاق، ما تجمّعتم هاهنا إلا لريبة. فقال له ابن أبى عتيق: استر علينا ستر الله عليك. ثم لم يرتدع عن العبث بها، فشكت ذلك الى سيّدها؛ فقال لها: هيّئى من الطعام طحن ليلة الى الغداة ففعلت، ثم قال لها: عديه الليلة، فإذا جاء فقولى له: إنّ وظيفتى الليلة طحن هذا كله، ثم اخرجى الى البيت واتركيه، ففعلت. فلما دخل طحنت الجارية قليلا، ثم قالت له: أدر الرحى حتى أفتقد سيّدى؛ فاذا نام وأمنّا أن يأتينا أحد، صرت إلى ما تحبّ، ففعل؛ ومضت الجارية الى مولاها، وأمر ابن أبى عتيق عدّة من مولياته أن يتراوحن على سهر ليلتهنّ ويتفقّدن أمر الطّحن ويحثثن عليه، ففعلن وجعلن ينادين الفتى كلما كفّ عن الطحن: يا فلانة إنّ مولاك مستيقظ والساعة يعلم أنك قد كففت عن الطحن، فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هى نامت وكفّت عن الطحن. فلم يزل كلما سمع ذلك الكلام منهن اجتهد في العمل والجارية تتفقّده وتقول له: استيقظ مولاى والساعة ينام فأصير الى ما تحبّ وهو يطحن، حتى أصبح وفرغ القمح. فأتته الجارية بعد فراغه فقالت له: قد أصبح فانج بنفسك. فقال: أو قد فعلتها يا عدوّة الله!

ذكر شىء من مجون الأعراب

وخرج تعبا نصبا، وأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت، وعاهد الله ألّا يعود الى كلام الجارية، فلم تر منه بعد ذلك شيئا تكرهه. قال: وتعشّى عبد الله ليلة ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر في الدار ووقع آخر وثالث؛ فقال للجارية: اخرجى فانظرى: أذّنوا المغرب أم لا؛ فخرجت وجاءت بعد ساعة، وقالت: قد أذّنوا وصلّوا. فقال الرجل الذى كان عنده: أليس قد صلّينا قبل أن تدخل الجارية؟ قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرجمنا الى الغداة، أفهمت؟! قال: نعم، قد فهمت. قال وسمع عبد الله بن أبى عتيق قول عمر بن أبى ربيعة. من رسولى الى الثّريّا فإنى «1» ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب فركب بغلته من المدينة، وسار يريد مكة، فلما بلغ ذا الحليفة «2» قيل له: أحرم؛ قال: ذو الحاجة لا يحرم، وجاء حتى دخل على الثريّا. فقال لها: ابن عمك يقول: ضقت ذرعا بهجرها والكتاب ثم ركب بغلته وعاد. ذكر شىء من مجون الأعراب سئل أعرابىّ عن جارية له يقال لها زهرة، فقيل له: أيسرّك أنك الخليفة وأن زهرة ماتت؟ فقال: لا والله! تذهب الأمة وتضيع الأمّة. وجد أعرابىّ مرآة وكان قبيح الصورة، فنظر فيها فرأى وجهه فاستقبحه، فرمى بها وقال: لشرّ ما طرحك أهلك. وقيل لأعرابىّ: لم يقال: باعك الله في الأعراب؟ فقال: لأنّا نجيع كبده، ونعرى جلده، ونطيل كدّه. وتزوّج أعرابىّ على كبر سنه، فقيل له

فى ذلك؛ فقال: أبادره باليتم، قبل أن يبادرنى بالعقوق. ومرّ أعرابىّ وفي يده رغيف برجل في يده سيف، فقال: بعنى هذا السيف بهذا الرغيف؛ فقال: أمجنون أنت؟ فقال الأعرابىّ: ما أنكرت منى؟ أنظر أيهما أحسن أثرا في البطن. وحكى أن المهدىّ خرج للصيد فغلبه فرسه حتى انتهى به الى خباء لأعرابىّ، فقال: يا أعرابىّ، هل من قرى؟ قال نعم، وأخرج له فضلة من خبز ملّة فأكلها وفضلة من لبن فسقاه، ثم أتى بنبيذ في زكرة «1» فسقاه قعبا «2» . فلما شرب قال: أتدرى من أنا؟ قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة؛ قال: بارك لك الله في موضعك. ثم سقاه آخر؛ فلمّا شربه قال: أتدرى من أنا؟ قال: نعم، زعمت أنك من خدم الخاصة؛ قال: بل أنا من قوّاد أمير المؤمنين؛ فقال له الأعرابىّ: رحبت بلادك؛ وطاب مزادك ومرادك. ثم سقاه قدحا ثالثا؛ فلما فرغ منه قال: يا أعرابىّ، أتدرى من أنا؟ قال: زعمت أخيرا أنك من قوّاد أمير المؤمنين؛ قال: لا ولكنى أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابىّ الزكاة فأوكاها «3» وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولنّ: إنك لرسول الله؛ فضحك المهدىّ. ثم أحاطت بهم الخيل، فنزل أبناء الملوك والأشراف؛ فطار قلب الأعرابىّ؛ فقال له المهدىّ: لا بأس عليك! وأمر له بصلة. فقال: أشهد أنك صادق، ولو ادّعيت الرابعة لخرجت منها. ودخل أعرابىّ على يزيد بن المهلّب وهو على فرشه والناس سماطان، فقال: كيف أصبح الأمير؟ قال يزيد: كما تحبّ. فقال الأعرابىّ: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكانى وأنا مكانك؛ فضحك يزيد.

ذكر شىء من نوادر القضاة

ذكر شىء من نوادر القضاة قيل: أتى عدىّ بن أرطاة شريحا القاضى ومعه امرأة له من أهل الكوفة يخاصمها اليه؛ فلما جلس عدىّ بين يدى شريح، قال عدىّ: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إنى امرؤ من أهل الشام؛ قال: بعيد الدار. قال: وإنى قدمت العراق؛ قال: خير مقدم. قال: وتزوّجت هذه المرأة؛ قال: بالرفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلاما؛ قال: ليهنك الفارس. قال: وقد أردت أن أنقلها إلى دارى؛ قال: المرء أحق بأهله. قال: كنت شرطت لها دارها؛ قال: الشرط أملك. قال: اقض بيننا؛ قال: قد فعلت. قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمّك. ودخل على الشعبىّ في مجلس قضائه رجل وامرأته، وكانت المرأة من أجمل النساء، فاختصما اليه، فأدلت المرأة بحجتها، وقويت بيّنتها. فقال للزوج: هل عندك من دافع؟ فأنشأ يقول: فتن الشّعبىّ لمّا ... رفع الطّرف إليها فتنته بدلال ... وبخطّى حاجبيها قال للجلواز «1» قرّب ... ها وقدّم شاهديها فقضى جورا على الخص ... م ولم يقض عليها قال الشعبىّ: فدخلت على عبد الملك بن مروان؛ فلما نظر إلىّ تبسّم وقال: فتن الشعبىّ لما ... رفع الطرف اليها ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضربا يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتى في مجلس الحكومة وما افترى به علىّ. قال: أحسنت!.

وأحضر رجل امرأته الى بعض قضاة البصرة، وكانت حسنة المنتقب، قبيحة المسفر؛ فمال القاضى لها على زوجها وقال: يعمد أحدكم الى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسىء اليها. ففطن الرجل لميله اليها فقال: أصلح الله القاضى، قد شككت فى أنها امرأتى، فمرها تسفر عن وجهها؛ فوقع ذلك بوفاق من القاضى، فقال لها: اسفرى رحمك الله؛ فسفرت عن وجه قبيح. فقال القاضى لمّا نظر الى قبح وجهها: قومى عليك لعنة الله! كلام مظلوم، ووجه ظالم. قيل: بينا رقبة بن مصقلة القاضى في حلقته، إذ مرّ به رجل غليظ العنق؛ فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، هذا أعبد الناس. فقال رقبة: إنى لأرى لهذا عنقا ما دقّقتها» العبادة. قال: فمضى الرجل وعاد قاصدا اليهم. فقال رجل لرقبة: يا أبا عبد الله، أخبره بما قلت حتى لا تكون غيبة؛ قال: نعم، أخبره أنت حتى تكون نميمة. ودخل رقبة الى المسجد الأعظم فألقى نفسه الى حلقة قوم، ثم قال: قتيل فالوذج رحمكم الله! قالوا: عند من؟ قال: عند من حكم في الفرقة وقضى في الجماعة، يعنى: بلال بن أبى بردة. واختصم رجلان الى إياس بن معاوية وهو قاضى البصرة لعمر بن عبد العزيز فى مطرف خزّو أنبجانىّ، وادّعى كل واحد منهما أن المطرف له وأن الأنبجانىّ لصاحبه. فدعا إياس بمشط وماء، فبلّ رأس كل واحد منهما، ثم قال لأحدهما: سرّح رأسك فسرّحه، فخرج في المشط عفر المطرف، وفي مشط الآخر عفر الأنبجانىّ؛ فقال: يا خييث! الأنبجانىّ لك، فأقرّ، فدفع المطرف لصاحبه. وقال رجل لإياس: هل ترى علىّ من بأس إن أكلت تمرا؟ قال لا. قال: فهل ترى علىّ من بأس ان أكلت معه كيسوما؟ قال لا. قال: فإن شربت عليهما ماء؟ قال: جائز.

قال: فلم تحرّم السكر، وإنما هو ما ذكرت لك؟ قال له إياس لو صببت عليك ماء هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فلو نثرت عليك ترابا هل كان يضرّك؟ قال لا. قال: فإن أخذت ذلك فخلطته وعجبته وجعلت منه لبنة عظيمة فضربت بها رأسك هل كان يضرّك؟ قال: كنت تقتلنى. قال: فهذا مثل ذاك. دعا الرشيد أبا يوسف القاضى فسأله عن مسألة فأفتاه؛ فأمر له بمائة ألف درهم. فقال] إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصبح! فقال: عجلّوها له. فقيل: إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة. فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتى والدروب مغلقة، فلما دعيت فتحت. فقال له الرشيد: بلغنى أنك لا ترى لبس السواد. فقال: يا أمير المؤمنين، ولم وليس في بدنى شىء أعزّ منه؟ قال: وما هو؟ قال: السواد الذى في عينىّ. وسأل الرشيد الأوزاعىّ عن لبس السواد، فقال: لا أحرّمه، ولكنى أكرهه. قال: ولم؟ قال: لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّى فيه محرم، ولا يكفّن فيه ميت. فالتفت الرشيد الى أبى يوسف وقال: ما تقول أنت في السواد؟ قال: يا أمير المؤمنين، النور في السواد. فاستحسن الرشيد ذلك. ثم قال: وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين، قال: وما هى؟ قال: لم يكتب كتاب الله إلا به؛ فاهتزّ الرشيد لذلك. تقدّم رجل الى أبى حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السّكونىّ قاضى المعتمد، وقدّم أباه يطالبه بدين له عليه، فأقرّ الأب بالدين، وأراد الابن حبس والده. فقال القاضى: هل لأبيك مال؟ قال: لا أعلمه. قال: فمذكم داينته بهذا المال؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: قد فرضت عليك نفقة أبيك من وقت المداينة؛ فحبس الابن وخلّى الأب.

كان عبد الملك بن عمر قاضى الكوفة، فهجاه هذيل الأشجعىّ بأبيات منها: اذا ذات دلّ كلّمته بحاجة ... فهمّ بأن يقضى تنحنح أو سعل فكان عبد الملك يقول: قاتله الله! والله لربما جاءتنى النحنحة وأنا في المتوضّأ فأذكر ما قال فأردّها. وقيل: شهد سلمى الموسوس عند جعفر بن سليمان على رجل، فقال: هو- أصلحك الله- ناصبىّ، رافضىّ، قدرىّ، مجبرىّ، يشتم الحجاج بن الزبير الذى يهدم الكعبة على علىّ بن أبى سفيان. فقال له جعفر: ما أدرى على أى شىء أحسدك: على علمك بالمقالات، أم على معرفتك بالأنساب! فقال: أصلح الله الأمير، ما خرجت من الكتّاب، حتى حذفت هذا كله ورائى. واستفتى بعض القضاة، وقد نسبت الى القاضى أبى بكر بن قريعة، فقيل له: ما يقول سيدنا القاضى أيده الله في رجل باع حجرا «1» من رجل، فحين رفع ذنبها ليقلّبه خرجت منها ريح مصوّتة اتصلت بحصاة ففقأت عين المشترى؟ أفتنا في الدية والردّ يرحمك الله. فأجاب: لم تجر العادة بمثل هذه البدائع، بين مشتر وبائع؛ فلذلك لم يثبت في كتب الفقهاء، ولم يستعمل في فتوى العلماء؛ لكن هذا وما شاكله يجرى مجرى الفضول، المستخرج من أحكام العقول، والقول فيه- وبالله العصمة من الزلل والخطل-: أن دية ما جنته الحجر ملغى في الهدر، عملا بقول النبىّ المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، «جرح العجماء جبار» ؛ لا سيما والمشترى عند كشفه لعورتها، استثار كامن سورتها. وعلى البائع لها ارتجاعها، وردّ ما قبض من ثمنها، لأنه دلّس حجرا مضيقا منجنيقها. وإذا كانت السهام طائشة، فهى من العيوب الفاحشة. وكيف يمتنع ردّها وأغراضها نواظر الحدق، وقلّما يستظهر المقلّبون الخيل بالدّرق.

ذكر شىء من نوادر النحاة

ذكر شىء من نوادر النّحاة قدّم رجل من النحاة خصما الى القاضى، وقال: لى عليه مائتان وخمسون درهما. فقال لخصمه: ما تقول؟ فقال: أصلح الله القاضى، الطلاق لازم له، إن كان له إلا ثلاثمائة، وإنما ترك منها خمسين ليعلم القاضى أنه نحوىّ. ومرّ أبو علقمة بأعدال قد كتب عليها: ربّ سلّم لأبو فلان؛ فقال لأصحابه: لا إله إلا الله! يلحنون ويربحون. وجاء رجل الى الحسن البصرىّ فقال: ما تقول في رجل مات فترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن: ترك أباه وأخاه. فقال: ما لأباه وأخاه؛ فقال الحسن: ما لأبيه وأخيه. فقال الرجل: إنى أراك كلما طاوعتك تخالفنى!. وقيل سكر هارون بن محمد ابن عبد الملك ليلة بين يدى الموفّق، فقام لينصرف فغلبه السكر فنام في المضرب. فلما انصرف الناس جاء راشد الحاجب فأنبهه وقال: يا هارون انصرف، فقال: هارون لا ينصرف، فأعاد راشد القول على هارون، فقال هارون: سل مولاك فهو يعلم أن هارون لا ينصرف. فسمع الموفّق فقال: هارون لا ينصرف؛ فتركه راشد. فلما أصبح الموفّق وقف على أن هارون بات في مضربه؛ فأنكر على راشد، وقال: يا راشد، يبيت في مضربى رجل لا أعلم به! فقال: أنت أمرتنى بهذا، قلت: هارون لا ينصرف. فضحك وقال: ما أردت إلا الإعراب وظننت أنت غيره. وقيل: قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك، فقيل له: تحفّظ من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمنى رجل بحجر أحبّ إلىّ من أن يسمعنى رجل لحنا. فأتاه العريان ذات يوم فسلّم عليه. فقال له مسلمة: كم عطاءك؟ قال: ألفين. فنظر الى رجل عنده وقال له: لحن العراقىّ؛ فلم يفهم الرجل عن مسلمة، فأعاد مسلمة القول على

ذكر شىء من نوادر المتنبئين

العريان وقال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فقال: ما الذى دعاك الى اللحن أوّلا والإعراب ثانيا؟ قال: لحن الأمير فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت. فاستحسن قوله وزاد في عطائه. ووقف نحوىّ على بقّال يبيع الباذنجان فقال له: كيف تبيع؟ قال: عشرين بدانق، فقال: وما عليك أن تقول: عشرون بدانق؟ فقدّر البقّال أنه يستر يده، فقال ثلاثين بدانق. فقال: وما عليك أن تقول: ثلاثون؟ فما زال على ذلك الى أن بلغ سبعين، فقال: وما عليك أن تقول: سبعون؟ فقال: أراك تدور على الثمانون وذلك لا يكون أبدا. ذكر شىء من نوادر المتنبئين قيل: ادّعى رجل النبوّة في أيام المهدى، فأدخل عليه؛ فقال له: الى من بعثت؟ فقال: ما تركتمونى أذهب الى من بعثت اليهم، فإنى بعثت بالغداة وحبستمونى بالعشىّ. فضحك المهدىّ منه وأمر له بجائزة وخلّى سبيله. وتنبأ رجل وادّعى أنه موسى بن عمران، فبلغ خبره الخليفة، فأحضره وقال له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران الكليم. قال: وهذه عصاك التى صارت ثعبانا! قال نعم. قال: فألقها من يدك ومرها أن تصير ثعبانا كما فعل موسى. قال: قل أنت (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كما قال فرعون حتى أصيّر عصاى ثعبانا كما فعل موسى. فضحك الخليفة منه واستظرفه. وأحضرت المائدة، فقيل له: أكلت شيئا؟ قال: ما أحسن العقل! لو كان لى شىء آكله، ما الذى كنت أعمل عندكم؟ فأعجب الخليفة وأحسن اليه. وادّعت امرأة النبوّة على عهد المأمون؛ فأحضرت اليه فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبيّة. فقال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد صلّى الله عليه

وسلم؟ قالت: نعم، كل ما جاء به فهو حق. فقال المأمون: فقد قال محمد صلّى الله عليه وسلم «لا نبىّ بعدى» . قالت: صدق عليه الصلاة والسلام، فهل قال: لا نبية بعدى؟ فقال المأمون لمن حضره: أمّا أنا فقد انقطعت، فمن كانت عنده حجة فليأت بها، وضحك حتى غطّى على وجهه. وادّعى رجل النبوّة؛ فقيل له: ما علامات نبوّتك؟ قال: أنبئكم بما في نفوسكم. قالوا: فما في أنفسنا؟ قال: فى أنفسكم أننى كذبت ولست بنبىّ. وتنبأ رجل في أيام المأمون، فأتى به إليه؛ فقال له: أنت نبىّ؟ قال نعم. قال: فما معجزتك؟ قال: ما شئت. قال: أخرج لنا من الأرض بطّيخة. قال: أمهلنى ثلاثة أيام. قال المأمون: بل الساعة أريدها. قال: يا أمير المؤمنين، أنصفنى، أنت تعلم أن الله ينبتها في ثلاثة أشهر، فلا تقبلها منى في ثلاثة أيام! فضحك منه، وعلم أنه محتال، فآستتابه ووصله. وادّعى آخر النبوّة في زمانه فطالبه بمعجزة، فقال: أطرح لكم حصاة في الماء فأذيبها حتى تصير مع الماء شيئا واحدا. قالوا: قد رضينا. فأخرج حصاة كانت معه فطرحها في الماء فذابت. فقالوا: هذه حيلة، ولكن أذب حصاة غيرها نأتيك بها نحن. فقال لهم: لا تتعصّبوا، فلستم أضلّ من فرعون، ولا أنا أعظم من موسى، ولم يقل فرعون موسى: لا أرضى بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندى تجعلها ثعبانا. فضحك المأمون منه وأجازه. وادّعى رجل النبوّة في أيام المعتصم، فأحضر بين يديه؛ فقال له: أنت نبى؟ قال نعم. قال: إلى من بعثت؟ قال: إليك. قال: أشهد إنك لسفيه أحمق. قال: إنما يذهب إلى كل قوم مثلهم. فضحك منه وأمر له بشىء.

ذكر شىء من نوادر المغفلين والحمقى

وادّعى آخر النبوّة في أيام المأمون؛ فقال له: ما معجزتك؟ قال: سل ما شئت؛ وكان بين يديه قفل، فقال: خذ هذا القفل فافتحه. فقال: أصلحك الله، لم أقل إنى حدّاد. فضحك منه واستتابه وأجازه. وادّعى آخر النبوّة، فطلب ودعى له بالسيف والنّطع؛ فقال: ما تصنعون؟ قالوا: نقتلك، قال: ولم تقتلوننى؟ قالوا: لأنك ادّعيت النبوّة. قال: فلست أدّعيها. قيل له: فأىّ شىء أنت؟ قال: أنا صدّيق. فدعى له بالسياط؛ فقال: لم تضربوننى؟ قالوا: لادّعائك أنك صدّيق؛ قال: لا أدّعى ذلك. قالوا: فمن أنت؟ قال: من التابعين لهم بإحسان. فدعى له بالدّرة. قال: ولم ذلك؟ قالوا: لادّعائك ما ليس فيك؛ فقال: ويحكم! أدخل إليكم وأنا نبىّ تريدون أن تحطّونى في ساعة واحدة الى مرتبة العوامّ! لا أقلّ من أن تصبروا «1» علىّ الى غد حتى أصير لكم ما شئتم. وادّعى آخر النبوّة، وسمّى نفسه نوحا، فنهاه صديق له عن ذلك فلم ينته؛ فأخذه السلطان وصلبه؛ فمرّ به صديقه الذى كان ينهاه، فقال: يا نوح! ما حصل لك من السفينة غير الدّقل. ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى قال بعضهم: رأيت ابن خلف الهمدانىّ في صحراء وهو يطلب شيئا، فقلت له: ما تبغى هاهنا؟ قال: دفنت شيئا ولست أهتدى اليه. قلت: فهلّا علّمت عليه بشىء! قال: جعلت علامتى قطعة من الغيم كانت فوقه، وما أراها الساعة. ونظر مرة في الحبّ (وهو الزير) فرأى وجهه، فعدا الى أمّه فقال: يا أمّى في الحبّ لصّ. فجاءت أمه وتطلّعت فيه، فقالت: إى والله ومعه قحبة. ورئى في وسط داره

ذكر شىء من نوادر النبيذيين

وهو يعدو عدوا شديدا ويقرأ بصوت عال. فسئل عن ذلك فقال: أردت أن أسمع صوتى من بعيد. ودخل إلى رجل يعزّيه، فقال: عظّم الله مصيبتكم، وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج. فضحك الناس. فقال: تضحكون مما قلت! وإنما أردت هاروت وماروت. وقيل: كتب المنصور إلى زياد بن عبد الله الحارثىّ، ليقسّم بين القواعد والعميان والأيتام مالا. فدخل عليه أبو زياد التميمىّ، وكان مغفّلا فقال: أصلحك الله! اكتبنى في القواعد، فقال له: عافاك الله، القواعد هنّ النساء اللّاتى قعدن عن أزواجهنّ. فقال: فاكتبنى في العميان. قال: اكتبوه منهم؛ فإن الله تعالى يقول: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . قال أبو زياد: واكتب ابنى في الأيتام؛ قال: نعم! من كنت أباه فهو يتيم. وسئل بعضهم عن مولده، فقال: ولدت رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام، فاحسبوا الآن كيف شئتم. ذكر شىء من نوادر النبيذيّين قال رجل لبعض أصحاب النبيذ: وجّهت إليك رسولا عشيّة أمس فلم يجدك؛ فقال: ذاك وقت لا أجد فيه نفسى. وقيل لبعضهم: كم الصلاة؟ فذكر الغداة والظهر. قالوا: فالعصر؟ قال: تعرف وتنكر. قالوا: فالعشاء؟ قال: يبلغها الجواد. قالوا: فالعتمة؟ قال: ما كانت لنا في حساب قطّ. شرب الأقيشر في حانوت خمّار حتى نفد ما معه، ثم شرب بثيابه وبقى عريانا، فجلس في تبن يستدفىء به. فمرّ رجل ينشد ضالّة؛ فقال الأقيشر: اللهم اردد عليه،

ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى

واحفظ علينا. فقال له الخمار: سخنت عينك، أىّ شىء يحفظ عليك ربّك! قال: هذا التبن، لئلا يأخذه صاحبه فأهلك من البرد. وباع بعضهم ضيعة له؛ فقال له المشترى: بالعشىّ أشهد عليك. فقال: لو كنت ممن يفرغ بالعشىّ ما بعت ضيعتى. ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى قال رجل: قلت لجارية أريد شراءها: لا يريبك شيبى؛ فإن عندى قوّة. فقالت: أيسرك أنّ عندك عجوزا مغتلمة! أدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه. فقالت التى دخلت أوّلا: يا أمير المؤمنين، إن الله فضّلنى على هذه بقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) . وقالت الأخرى: لا، بل الله فضّلنى عليها بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) . وعرض على المعتصم جاريتان بكر وثيّب؛ فمال إلى البكر. فقالت الثيب: ما بيننا إلا يوم واحد. فقالت البكر: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) . قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد. وقال المتوكل لجارية استعرضها: أنت بكر أم إيش؟ قالت: أنا إيش يا أمير المؤمنين. واستعرض رجل جارية فاستقبح قدميها. فقالت: لا تبال؛ فإنى أجعلهما وراء ظهرك. وقال الرشيد لبغيض جاريته: إنك لدقيقة الساقين. قالت: أحوج ما تكون إليهما لا تراهما.

وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن إسحاق: أن الرشيد أحضره مجلسه ذات ليلة، وقد مضى شطر الليل؛ قال: فأخرج جارية كأنها مهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال غنّينى؛ فغنته: جئن من الروم وقاليقلا «1» ... يرفلن في المرط ولين الملا مقرطقات بصنوف الحلى ... يا حبذا البيض وتلك الحلى فاستحسنه وشرب عليه. طلبت جارية محمود الورّاق للمعتصم بسبعة آلاف دينار، فامتنع من بيعها، واشتريت له بعد ذلك من ميراثه بسبعمائة دينار. فذكر المعتصم ذلك لها، فقالت: إن كان أمير المؤمنين ينتظر بشهواته المواريث فسبعون دينارا في ثمنى كثير، فكيف بسبعمائة! واستعرض رجل جارية فقال لها: فى يديك عمل؟ قالت: لا، ولكن في رجلىّ. وحكى أنّ بعض المجّان كان يعشق جارية أمجن منه. فضاق يوما، فكتب إليها: قد طال عهدى بك يا سيّدتى، وأقلقنى الشوق إليك. فإن رأيت أن تستدركى رمقى بمضغة علك وتجعليه بين دينارين وتنفذيه إلىّ لأستشفى به فعلت إن شاء الله. ففعلت ذلك وكتبت إليه: ردّ الظّرف من الظّرف، وقد سارعت إلى إنفاذ ما طلبت؛ فأنعم بردّ الطبق والمكبّة، واستعمل الخبر: «استدرّوا الهدايا بردّ الظّروف» . وطلب آخر من عشيقته خاتما كان معها؛ فقالت: يا سيّدى، هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود حتّى تعود.

وكتب رجل الى عشيقته: مرى خيالك أن يلم بى. فكتبت اليه: ابعث إلىّ بدينارين حتى آتيك بنفسى. قدّم بعضهم عجوزا دلّالة الى القاضى وقال: أصلح الله القاضى، زوّجتنى هذه امرأة، فلما دخلت بها وجدتها عرجاء. فقالت: أصلح الله القاضى! زوّجته امرأة يجامعها، ولم أعلم أنه يريد أن يحج عليها أو يسابق بها في الحلبة أو يلعب عليها بالكرة والصولجان!. كتب رجل الى عشيقته رقعة، قال في أوّلها: عصمنا الله وإياك بالتقوى. فكتبت اليه في الجواب: يا غليظ الطبع، إن استجاب الله دعاءك لم نلتق أبدا. قال عقيل بن بلال: سمعتنى أعرابيّة أنشد: وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريّانة القلب «1» فقالت: هلّا أثمت! أخزاك الله!. كان أبو نواس يوما عند بعض إخوانه؛ فخرجت عليه جارية بيضاء عليها ثياب خضر. فلما رآها مسح عينيه وقال: خيرا رأيت إن شاء الله تعالى. فقالت: وما رأيت؟ قال: ألك معرفة بعلم التعبير؟ قالت: ولا أعرف غيره. قال: رأيت كأنى راكب دابة شهباء، وعليها جلّ أخضر وهى تمرح تحتى. فقالت: إن صدقت رؤياك فستدخل فجلة. وقد روى أن هذه الحكاية اتفقت له مع عنان جارية الناطفىّ. وكان بعضهم جالسا مع امرأته في منظرة؛ فمرّ غلام حسن الوجه؛ فقالت: أعيذ هذا بالله؛ ما أحسنه وأحسن وجهه وقدّه! فقال الزوج: نعم، لولا أنه خصىّ. فقالت: لعنه الله ولعن من خصاه!.

قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتنى. فكتبت اليها: فإن تنفرى من قبح وجهى فإننى ... أريب أديب لا غبىّ ولا فدم فأجابتنى: ليس لديوان الرسائل أر يدك. وخطب ثمامة العوفىّ امرأة. فسألت عن حرفته؛ فكتب اليها يقول: وسائلة عن حرفتى قلت حرفتى ... مقارعة الأبطال في كل مازق وضربى طلى الأبطال بالسيف معلما ... إذا زحف الصفان تحت الخوافق فلما قرأت الشعر، قالت للرسول: قل له: فديتك! أنت أسد، فاطلب لك لبؤة؛ فإنى ظبية أحتاج الى غزال. خرجت حبّى المدنيّة في جوف الليل؛ فلقيها إنسان فقال لها: تخرجين في هذا الوقت! قالت: ما أبالى، إن لقينى شيطان فأنا في طاعته، وإن لقينى رجل فأنا فى طلبه. وجاءت الى شيخ يبيع اللبن، ففتحت ظرفا فذاقته ودفعته إليه وقالت: لا تعجل بشدّة؛ ثم فتحت آخر فذاقته ودفعته إليه. فلما أشغلت يديه جميعا، كشفت ثوبه من خلفه، وجعلت تصفق «1» بظاهر قدميها استه وخصييه، وتقول: يا ثارات ذات النّحيين، والشيخ يستغيث، فلم يخلص منها إلا بعد جهد. غاب رجل عن امرأته فبلغها أنه اشترى جارية، فاشترت غلامين. فبلغه ذلك فجاء مبادرا، وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أنّ الرحى الى بغلين أحوج من البغل الى رحيين! ولكن بع الجارية حتى نبيع الغلامين؛ ففعل ذلك ففعلت. ومثل ذلك ما حكى عن الأحنف: أنه اعتمّ ونظر في المرآة؛ فقالت له امرأته: كأنك قد هممت بخطبة امرأة! قال: قد كان ذلك. قالت: فإذا فعلت

ذكر شىء من نوادر العميان

فاعلم أن المرأة الى رجلين أحوج من الرجل الى امرأتين. فنقض عمته وترك ما كان قد همّ به. ذكر شىء من نوادر العميان قال إبراهيم بن سيابة لبشّار الأعمى: ما سلب الله من مؤمن كريمتيه إلا عوّضه عنهما: إمّا الحفظ والذكاء، وإمّا حسن الصوت. فما الذى عوّضك الله عن عينيك؟ قال: فقد «1» النظر لبغيض ثقيل مثلك! ونظير هذه الحكاية ما حكى عن بعضهم، قال: خرجت ليلة من قرية لبعض شأنى، فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرّة وبيده سراج، فلم يزل حتى انتهى إلى النهر، وملأ جرّته وعاد. قال: فقلت له: يا هذا، أنت أعمى، والليل والنهار عندك سواه، فما تصنع بالسراج؟ قال: يا كثير الفضول، حملته لأعمى القلب مثلك، يستضىء به لئلا يعثر في الظلمة، فيقع علىّ ويكسر جرّتى. قالوا: بلغ أبا العيناء «2» أنّ المتوكل يقول: لولا عمى أبى العيناء لاستكثرت منه؛ فقال: قولوا لأمير المؤمنين: إن كان يريدنى لرؤية الأهلّة ونظم اللآلىء واليواقيت وقراءة نقوش الخواتيم، فأنا لا أصلح لذلك؛ وإن كان يريدنى للمحاضرة والمنادمة والمذاكرة والمسامرة، فناهيك بى، فانتهى ذلك الى المتوكل فضحك منه، وأمر بإحضاره، فحضر ونادمه. تزوّج بعض العميان بسوداء؛ فقالت له: لو نظرت الى حسنى وجمالى وبياضى لازددت فيّ حبّا. فقال لها: لو كنت كما تقولين ما تركك لى البصراء.

ذكر شىء من نوادر السؤال

ذكر شىء من نوادر السؤّال سأل أبو عون رجلا فمنعه، فألحّ عليه فأعطاه؛ فقال: اللهم آجرنا وإياهم، نسألهم إلحافا ويعطوننا كرها، فلا يبارك الله لنا فيها ولا يؤجرهم عليها. وقف أعرابىّ سائل على باب وسأل؛ فأجابه رجل وقال: ليس هاهنا أحد. فقال: إنك أحد لو جعل الله فيك بركة. ووقف سائل على باب، وكانت صاحبة الدار تبول في البالوعة؛ فسمع السائل صوت بولتها فظنه نشيش المقلى، فقال: أطعمونا من هذا الذى تقلونه؛ فضرطت المرأة وقالت: حطبنا رطب ليس يشعل. ووقف سائل على باب وقال: تصدّقوا علىّ فإنى جائع. قالوا: إلى الآن لم نخبز. قال: فكفّ سويق. قالوا: ليس عندنا سويق. قال: فشربة من ماء فإنى عطشان. قالوا: ما أتانا السقاء. قال: فيسير دهن أجعله في رأسى. قالوا: من أين لنا دهن. فقال: يا أولاد الزنا، فما قعودكم هنا! قوموا واشحتوا «1» معى! ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون كان مزبّد ممن اشتهر بالمجون والنوادر، وله نوادر. فمنها ما قيل: إنه أخذه بعض الولاة وقد اتّهم بالشّرب، فاستنكهه، فلم يجد منه رائحة؛ فقال: قيّئوه. فقال مزبّد: ومن يضمن عشائى أصلحك الله؟ فضحك منه وأطلقه. وهبّت ريح شديد فصاح الناس: القيامة، القيامة! فقال مزبّد: هذه قيامة على الريق بلا دابة، ولا دجّال، ولا القائم، ولا عيسى بن مريم، ولا يأجوج ومأجوج. وقيل له:

ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

لم لا تكون كفلان؟ (يعنون رجلا موسرا) فقال: بأبى أنتم! كيف أشبّه بمن يضرط فيشمّت «1» وأعطس فألطم!. وقيل له: ما بال حمارك يتبلّد إذا توجّه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب. ونظرت امرأته وهى حبلى الى قبح وجهه، فقالت: الويل لى إن كان الذى في بطنى يشبهك. فقال لها: الويل لك إن لم يكن يشبهنى. وسمع رجلا يقول عن ابن عباس: من نوى حجّة وعاقه عائق، كتبت له. فقال مزبّد: ما خرج العام كراء أرخص من هذا. وممن اشتهر بالمجون أشعب. ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره هو أشعب بن جبير. واسمه شعيب، وكنيته أبو العلاء. وأمه أمّ الجلندح، وقيل: أمّ حميد حميدة «2» . وهى مولاة أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها. وكان أبوه قد خرج مع المختار بن أبى عبيد؛ فأسره مصعب بن الزبير؛ فقال له: ويلك! تخرج علىّ وأنت مولاى! وقتله صبرا. وقد قيل في ولائه: إن أباه مولى عثمان ابن عفّان رضى الله عنه، وإن أمه كانت مولاة أبى سفيان بن حرب، وإن ميمونة أمّ المؤمنين أخذتها لمّا تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكانت تدخل على أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فيستظر فنها؛ ثم صارت تنقل أحاديث بعضهنّ الى بعض، وتغرى بينهن. فدعا عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فماتت. وقد حكى

عن أشعب: أنه جلس يوما في مجلس فيه جماعة، فتفاخروا وذكر كل واحد منهم مناقبه وشرفه أو شجاعته أو شعره وغير ذلك مما يتمدّح به الناس ويتفاخرون؛ فوثب أشعب وقال: أنا ابن أمّ الجلندح، أنا ابن المحرّشة بين أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلم. فقيل له: ويلك! أو بهذا يفتخر الناس! قال: وأىّ افتخار أعظم من هذا! لو لم تكن أمّى عندهن ثقة لما قبلن روايتها في بعضهنّ بعضا. وقد حكى: أنها زنت، فحلقت، وطيف بها على جمل، فكانت تنادى على نفسها: من رآنى فلا يزنين. فقالت لها امرأة: نهانا الله عزوجل عنه فعصيناه، ونطيعك وأنت مجلودة محلوقة، راكبة على جمل!. ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبى طالب، وكفلته وتولّت تربيته عائشة بنت عثمان. وعمّر أشعب عمرا طويلا. وحكى عنه أنه قال: كنت مع عثمان رضى الله عنه يوم الدار لمّا حصر؛ فلما جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا كنت فيهم؛ فقال عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ. فلما وقعت في أذنى كنت والله أوّل من أغمد سيفه فعتقت. وكانت وفاته بعد سنة أربع وخمسين ومائة. وهذا القول يدل على أنه كان مولى عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناد رفعه الى إبراهيم بن المهدىّ عن عبيد ابن أشعب عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، وأن أباه كان من مماليك عثمان بن عفان. وعمّر أشعب حتى هلك في أيام المهدىّ. قال: وكانت فى أشعب خلال، منها: أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة، وأكثرهم نادرة، وكان أقوم أهل دهره لحجج المعتزلة، وكان امرأ منهم. وقال مصعب بن عبد الله: كان أشعب من القرّاء حسن الصوت بالقراءة، وكان قد نسك وغزا؛ وقد روى الحديث عن عبد الله بن جعفر. وقال الأصمعىّ: قال أشعب: نشأت أنا وأبى الزّناد

فى حجر عائشة بنت عثمان؛ فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة. وقال إسحاق ابن إبراهيم: كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغنّى أصواتا فيجيدها. وفيه يقول عبد الله ابن مصعب الزبيرى عفا الله عنه: اذا تمززت صراحيّة «1» ... كمثل ريح المسك أو أطيب ثم تغنّى لى بأهزاجه ... زيد أخو الأنصار أو أشعب حسبت أنى ملك جالس ... حفّت به الأملاك والموكب وما أبالى وإله العلا «2» ... أشرّق العالم أم غرّبوا ولأشعب نوادر مستظرفة وحكايات مستحسنة، وقد آن أن نذكرها. فمنها ما حكى أنه كان يقول: كلبى كلب سوء، يبصبص للأضياف، وينبح على أصحاب الهدايا. وقيل له: قد لقيت رجالا من أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلو حفظت أحاديث تتحدّث بها! فقال: أنا أعلم الناس بالحديث. قيل: فحدّثنا. قال: حدّثنى عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله عنهم قال: خلّتان لا تجتمعان في مؤمن إلا دخل الجنة، ثم سكت، فقيل له: هات، ما الخلتان؟ قال: نسى عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى. وكان أشعب يحدّث عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فيقول: حدّثنى عبد الله، وكان يبغضنى في الله. وكان أشعب يلازم طعام سالم بن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهم. فآشتهى سالم أن يأكل مع بناته فخرج الى البستان؛ فجاء أشعب الى منزل سالم على عادته؛ فأخبر بالقصة؛ فاكترى جملا بدرهم وجاء الى البستان. فلما حاذى الحائط وثب فصار عليه؛ فغطّى سالم بناته بثوبه وقال: بناتى بناتى! فقال أشعب: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) .

قال أشعب: جاءتنى جارية بدينار وقالت: هذا وديعة عندك؛ فجعلته بين ثنى الفراش. فجاءت بعد أيام وقالت: بأبى أنت! الدينار؛ فقلت ارفعى فراشى وخذى ولده فإنه قد ولد، وكنت قد تركت الى جنبه درهما، فأخذت الدرهم وتركت الدينار. وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر فأخذته، وفي الثالثة كذلك. وجاءت في الرابعة، فلما رأيتها بكيت؛ فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك فى النفاس. فقالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة! تصدّقين بالولادة ولا تصدّقين بالنفاس!. ومن أخباره المستظرفة ما حكاه المدائنىّ، قال: قال أشعب: تعلّقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عنّى الحرص والطلب إلى الناس؛ فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطنى أحد شيئا. فجئت الى أمى، فقالت: مالك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها بذلك؛ فقالت: والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك. فرجعت فجعلت أقول: يا ربّ أقلنى، ثم رجعت، فما مررت بمجلس لقريش ولا غيرهم إلا أعطونى، ووهب لى غلام؛ فجئت الى أمى بجمال موقرة من كل شىء. فقالت: ما هذا الغلام؟ فخفت أن أخبرها فتموت فرحا إن قلت: وهبوه لى. فقالت: أىّ شىء هذا؟ فقلت: غين. قالت: أىّ شىء [غين] «1» ؟ قلت: لام. قالت: أىّ شىء [لام] «2» ؟ [قلت: ألف. قالت: وأى شىء ألف «3» ] ؟ قلت: ميم. قالت: وأىّ ميم؟ قلت: غلام؛ فغشى عليها. ولو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا. قال: وجلس أشعب يوما الى جانب مروان بن أبان بن عثمان؛ فانفلتت من مروان ريح لها صوت؛ فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذى خرجت منه الريح. فلما انصرف مروان الى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية،

قال: دية ماذا؟ قال: دية الضرطة التى تحملتها عنك، وإلا شهرتك؛ فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحه عليه. وقال محمد بن أبى قبيلة: غذّى أشعب جديا بلبن أمّه وغيرها حتى بلغ غاية، ثم قال لزوجته أمّ ابنه وردان: إنى أحبّ أن ترضعيه بلبنك ففعلت. ثم جاء به الى إسماعيل بن جعفر بن محمد، فقال: تالله إنه لابنى، رضع بلبن زوجتى، قد حبوتك به، ولم أر أحدا يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إليه وأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب وقال: المكافأة؛ فقال: ما عندى والله اليوم شىء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما يئس أشعب منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع فشهق حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلنى. قال: ما معنا أحد يسمع، ولا عليك عين. قال: وثب ابنك إسماعيل على ابنى فذبحه وأنا أنظر اليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال: أمّا ما أريد فو الله مالى في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا وأدخله منزله وأخرج اليه مائتى دينار فقال: خذ هذه، ولك عندنا ما تحبّ. قال: وخرج الى إسماعيل وهو لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل في مجلسه. فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه؛ فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب! قتلت ولده؟ قال: فاستضحك وقال: جاءنى، وأخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وما صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعتنى راعك الله! فيقول: روعة ابنك بنا في الجدى أكثر من روعتك بالمائتى الدينار. قال المدائنىّ: دخل أشعب على الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، وعنده أعرابىّ قبيح المنظر، مختلف الخلقة؛ فسبّح أشعب حين رآه وقال للحسين: بأبى أنت وأمى، أتأذن لى أن أسلح عليه؟ فقال: إن شئت. ومع الأعرابىّ قوس وكنانة، ففوّق

نحوه سهما، وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها. فقال أشعب للحسين: جعلت فداك، أخذنى القولنج «1» . وعنه قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى. فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ فقال: لأن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أمتى غرّ محجّلون من آثار الوضوء «2» » وأنا أحب أن أكون أغرّ محجّلا مطلق اليمين. وقال: سمع أشعب حبّى المدنيّة تقول: اللهم لا تمتنى حتى تغفر لى ذنوبى؛ فقال لها: يا فاسقة! أنت لم تسألى الله تعالى المغفرة، وإنما سألته عمر الأبد! (يريد: أن الله لا يغفر لها أبدا) . وقال الزبير بن بكّار: كان أشعب يوما في المسجد يدعو، وقد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة «3» المجموعة. فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه: يا أشعب، إنما أنت تناجى ربك فناجه بوجه طليق. قال: فأرخى لحييه حتى وقعا على زوره «4» . قال: فأعرض عنه، وقال: ولا كلّ ذا. وقال مصعب: بلغ أشعب أنّ الغاضرىّ قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره، وأن جماعة استطابوه؛ فرقبهم حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم، فصار اليهم، ثم قال: قد بلغنى انك قد نحوت نحوى، وشغلت عنى من كان يألفنى؛ فإن كنت مثلى فافعل كما أفعل. ثم غضّن وجهه وعرّضه وشنّجه، حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل

وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف؛ ثم نزع ثيابه وتحادب، فصار في ظهره حدبة كسنام للبعير، وصار طوله مقدار شبر، ثم نزع سراويله، وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض، ثم خلّاهما من يده، وجعل يميس، وهما يخطان الأرض، ثم قام فتطاول وتمدّد وتمطّى، حتى صار كأطول ما يكون من الرجال. فضحك القوم حتى أغمى عليهم، وقطع بالغاضرىّ فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، لا أعاود ما تكره أبدا، إنما أنا عبدك وتخريجك؛ ثم انصرف أشعب وتركه. وقال الزبير بن بكّار: حدثنى عمّى، قال: لقى أشعب صديق لأبيه، فقال له: ويلك يا أشعب! كان أبوك الحى وأنت أقطّ «1» ، فإلى من خرجت تشبه؟ قال: إلى أمّى. وقال الهيثم بن عدىّ: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألوننى عن أحاديث الملوك؛ ويعطوننى عطاء العبيد. وقال مصعب بن عثمان: لقى أشعب سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له: يا أشعب، هل لك في هريس أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبى أنت وأمى. فمضى أشعب إلى منزله؛ فقالت له امرأته: قد وجّه عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك، قال: ويحك! إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعانى اليها، وعبد الله بن عمرو فى يدى متى شئت، وسالم إنما دعوته للناس فلتة، وليس لى بدّ من المضىّ اليه. قالت: إذا يغضب عبد الله. قال: آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله. فجاء إلى منزل سالم فجعل يأكل أكل متعالل. فقال له: كل يا أشعب، وابعث ما فضل

عنك إلى منزلك. قال: ذلك أردت، بأبى أنت وأمّى. قال: فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله ومشى أشعب معه. فقالت امرأته: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد الله لا يكلّمك شهرا؛ قال: دعينى وإياه، هاتى شيئا من زعفران؛ فأعطته، فأخذه ودخل الحمّام، فمسحه على وجهه وبدنه، وجلس في الحمام حتى صفّره، وخرج متوكأ على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو بن عثمان. فلما رآه حاجبه قال: ويحك! بلغت بك العلّة ما أرى. ودخل فأعلم صاحبه، فأذن له. فلما دخل عليه، إذا سالم بن عبد الله عنده، فجعل يزيد في الرعدة، ويقارب الخطو، وجلس وما كاد أن يستقلّ. فقال عبد الله: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك. فقال له سالم: ويلك! مالك؟ ألم تكن عندى آنفا وأكلت هريسة! قال: لقد شبّه لك، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: لعل الشيطان يتشبّه بك. قال أشعب: علىّ وعلىّ إن كنت رأيتك منذ شهر. فقال له عبد الله: اعزب ويلك عن خالى! أتبهته لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا. قال: بحياتى اصدقنى وأنت آمن من غضبى. قال: وحياتك لقد صدق؛ وحدّثه بالقصة؛ فضحك حتى استلقى على قفاه. وقال المدائنىّ والهيثم بن عدىّ: بعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أشعب بعد ما طلق امرأته سعدة، فقال له: يا أشعب، لك عندى عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتى سعدة. فقال له: أحضر المال حتى أنظر اليه، فأحضر الوليد بدرة، فوضعها أشعب على عنقه، وقال: هات رسالتك. قال: قل لها يقول لك: أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق

فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق قال: فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرش لها فرش وجلست وأذنت له؛ فدخل فأنشدها. فلما أنشد البيت الأوّل: أسعدة هل اليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق قالت: لا والله، لا يكون ذلك أبدا. فلما أنشد البيت الثانى: بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى ... بموت من حليلك أو طلاق قالت: كلّا إن شاء الله، بل يفعل الله ذلك به. فلما أنشد البيت الثالث: فأصبح شامتا وتقرّ عينى ... ويجمع شملنا بعد افتراق قالت: بل تكون الشماتة به. ثم قالت لخدمها: خذوا الفاسق. فقال: يا سيّدتى، إنها عشرة آلاف درهم. قالت: والله لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلّغتنى. قال: وما تهبين لى؟ قالت: بساطى الذى تحتى. قال: قومى عنه؛ فقامت، فطواه، ثم قال: هاتى رسالتك، جعلت فداك! قالت: قل له: أتبكى على لبنى وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع؟ فأقبل أشعب، حتى دخل على الوليد، فأنشده البيت. فقال: أوّه قتلتنى والله! فما ترانى صانعا بك يا ابن الزانية! اختر إمّا أنّ أدليك منكّسا في بئر، أو أرميك من فوق القصر منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودى هذا ضربة. قال له: ما كنت فاعلا بى شيئا من ذلك. قال: ولم؟ قال: لأنك لم تكن لتعذّب عينين قد نظرتا إلى سعدة! قال: صدقت يا ابن الزانية! وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده إلى إبراهيم بن المهدىّ عن ابن أشعب عن أبيه، قال: دعى ذات يوم بالمغنّيين إلى الوليد بن يزيد، وكنت نازلا معهم،

فقلت للرسول: خذنى فيهم؛ قال: لم أؤمر بك، إنما أمرت بإحضار المغنيين، وأنت بطّال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم؛ ثم اندفعت فغنّيت. فقال: لقد سمعت حسنا، ولكن أخاف. قلت: لا خوف عليك؛ ولك مع ذلك شرط. قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصبت فلك شطره؛ فأشهد علىّ الجماعة، ومضينا حتى دخلنا على الوليد، وهو لقس النفس؛ فغنّاه المغنّون في كل فنّ فلم يتحرّك ولم ينشط. فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره؛ فقال: بينه وبين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف ألّا يذكرها أبدا بمراسلة أو مخاطبة، فخرج على هذه الحال من عندها. فعاد الأبجر الينا، وجلس ثم اندفع يغنّى: فبينى فإنى لا أبالى وأيقنى ... أصعّد باقى حبّكم أم تصوّبا ألم تعلمى أنى عزوف عن الهوى ... إذا صاحبى من غير شىء تغضّبا فطرب الوليد وارتاح، وقال للأبجر: أصبت والله يا عبيد ما في نفسى، وأمر له بعشرة آلاف درهم وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشىء سوى الأبجر. فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر من يضر بنى مائة سوط الساعة بحضرتك! فضحك، ثم قال: قبّحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصّتى مع الرسول، وقلت له: إنه بدأنى بالمكروه في أوّل يومه فاتصل «1» علىّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدى مثلها. فقال: لقد لطّفت، بل أعطوه مائة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوض الخمسين التى أراد أخذها من أشعب، فقبضتها وانصرفت.

قال ابن زبنّج «1» : كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم «2» ، فبينا نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب، إذ أقبل أعرابىّ معه جمل، والأعرابىّ أشقر أزرق أزعر يتلظّى كأنه أفعى، والشرّبيّن في وجهه، ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره؛ فقال أبان: هذا والله من البادية «3» ، ادعوه لى، فدعوه له وقيل: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك؛ فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان بن عثمان عن نسبه، فانتسب له. فقال له أبان: حيّاك الله يا خال، اجلس، فجلس. فقال له: إنى أطلب جملا مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهى بهذه الصفة وهذه الهامة والصورة والورك والأخفاف، والحمد لله الذى جعل ظفرى به عند من أحبّه، أتبيعنيه؟ فقال: نعم أيها الأمير. قال: فإنى قد بذلت لك به مائة دينار؛ فطمع الأعرابىّ وسرّ بذلك وانتفخ، وبان الطمع في وجهه. فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إن خالى هذا من أهلك وأقاربك (يعنى: فى الطمع) فأوسع له مما عندك؛ قال: نعم، بأبى أنت وزيادة. فقال له أبان: يا خال، إنما زدتك في الثمن على بصيرة أنّ الجمل يساوى ستين دينارا، ولكنى بذلت لك مائة دينار لقلة النقد عندنا، وإنى أعطيك عروضا تساوى مائة دينار؛ فزاد طمع الأعرابىّ وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير. وأسرّ أبان الى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى، فقال له: أخرج ما جئت به؛ فأخرج جرد عمامة تساوى أربعة دراهم. فقال له: قوّمها يا أشعب. فقال: عمامة الأمير يشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء! خمسون دينارا. قال: ضعها بين يديه،

وقال لابن زبنّج: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدى الأعرابىّ؛ فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام. قال: هات قلنسوتى، فأخرج قلنسوة طويلة خلقا «1» قد علاها الوسخ والدّهن وتخرّقت تساوى نصف درهم. قال: قوّم؛ فقال: قلنسوة الأمير تعلو هامته، ويصلّى فيها الصلوات الخمس، ويجلس فيها للحكم! ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدى الأعرابىّ فاربدّ وجهه وحجظت عيناه وهمّ بالوثوب، ثم تماسك وهو مقلقل. ثم قال لأشعب: هات ما عندك؛ فأخرج خفّين خلقين قد نقبا وتقشّرا وتفتّتا، فقال: قوّم؛ فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما منبر النبىّ صلى الله عليه وسلم! أربعون دينارا، فقال: ضعهما بين يديه. ثم قال للأعرابى: أضمم اليك متاعك، وقال لبعض الأعوان: امض مع الأعرابىّ واقبض ما بقى لنا عليه من ثمن المتاع، وهو عشرون دينارا. فوثب الأعرابىّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرمى، ثم قال له: أتدرى في أى شىء أموت؟ قال لا؛ قال: لم أدرك «2» أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك! ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره؛ وضحك أبان حتى سقط، وضحك من كان معه. فكان الأعرابىّ بعد ذلك إذا لقى أشعب يقول له: هلمّ إلىّ يابن الخبيثة، حتى أكافئك على تقويمك «3» المتاع يوم قوّمت؛ فيهرب منه أشعب. وقال المدائنىّ: حدّثنى شيخ من أهل المدينة قال: كانت امرأة شديدة العين، لا تنظر الى شىء فتستحسنه إلا عانته؛ فدخلت على أشعب وهو في الموت، وهو

ذكر شىء من نوادر أبى دلامة

يقول لابنته: يا بنية، إذا أنا مت فلا تندبينى، والناس يسمعونك، وتقولين: وا أبتاه، أندبك للصوم والصلاة، للفقه والقرآن، فيكذّب الناس ويلعنوننى. ثم التفت فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمه وقال لها: يا فلانة، بالله إن كنت استحسنت شيئا مما أنا فيه، فصلى على النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولا تهلكينى؛ فغضبت المرأة وقالت: سخنت عينك! وفي أى شىء أنت مما يستحسن؟ أنت في آخر رمق! قال: قد علمت، ولكن قلت لئلا «1» تكونى قد استحسنت خفة الموت علىّ وسهولة النزع، فيشتدّ ما أنا فيه. فخرجت من عنده وهى تسبّه، وضحك من كان حوله من كلامه ومات. ذكر شىء من نوادر أبى دلامة هو أبو دلامة زند بن الجون. وزند بالنون. وهو كوفىّ، أسود، مولى لبنى أسد؛ كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال له قصاقص، فأعتقه. وأدرك آخر زمن بنى أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ونبغ في أيام بنى العباس، فانقطع الى أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور والمهدىّ، وكانوا يقدّمونه ويفضّلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان أبو دلامة ردىء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيّعا للفروض، متجاهرا بذلك؛ وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه. وله أخبار وأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أو حكاية مستظرفة. فمن ذلك أنه دخل على أبى جعفر المنصور، وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال، تدعم «2» بعيدان من

داخلها، وأن يعلّقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . فلما دخل عليه أبو دلامة في هذا الزىّ قال له المنصور: ما حالك؟ قال: شرّ حال يا أمير المؤمنين، وجهى في نصفى، وسيفى في استى، وقد صبغت بالسواد ثيابى ونبذت كتاب الله وراء ظهرى؛ ثم أنشد: وكنا نرجى منحة من إمامنا ... فجاءت بطول زاده في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان «1» يهود جلّلت بالبرانس فضحك منه المنصور وأعفاه وحذّره من ذلك، وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد. وحكى عنه: أنه كان واقفا بين يدى السفاح أو المنصور، فقال له: سلنى حاجتك؛ فقال أبو دلامة: كلب صيد؛ قال: أعطوه إياه. قال: ودابّة أتصيّد عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يقود الكلب ويتصيّد به؛ قال: أعطوه غلاما. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال «2» فلا بدّ لهم من دار يسكنونها؛ قال: أعطوه دارا تجمعهم. قال: فإن لم يكن ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعتك مائة جريب» عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: مالا نبات فيه. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافى بنى أسد. فضحك وقال: اجعلوا المائتين كلها عامرة. قال: فأذن لى أن أقبّل يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها، فإنى لا أفعل. قال: والله ما منعت عيالى شيئا أقلّ عليهم ضررا منها.

وروى: أنه دخل على المنصور فأنشده قصيدته التى يقول فيها: إنّ الخليط أجدّوا البين فانتجعوا ... وزوّدوك خبالا بئس ما صنعوا والله يعلم أن كادت، لبينهم ... يوم الفراق، حصاة القلب تنصدع عجبت من صبيتى يوما وأمّهم ... أمّ الدّلامة لمّا هاجها الجزع لا بارك الله فيها من منبّهة ... هبّت تلوم عيالى بعد ما هجعوا ونحن مشتبهو الألوان، أوجهنا ... سود قباح، وفي أسمائنا شنع إذا تشكّت إلىّ الجوع، قلت لها ... ما هاج جوعك إلا الرّىّ والشّبع أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا ... على الخليفة منه الرىّ والشبع «1» لا والذى يا أمير المؤمنين قضى ... لك الخلافة في أسبابها الرّفع ما زلت أخلصها كسبى فتأكله ... دونى ودون عيالى ثم تضطجع شوهاء مشنأة «2» فى بطنها ثجل «3» ... وفي المفاصل من أوصافها فدع «4» ذكّرتها بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتجع فاخر نطمت «5» ثم قالت وهى مغضبة «6» ... أأنت تتلو كتاب الله يا لكع!

أخرج تبغّ لنا مالا ومزرعة ... كما لجيراننا مال ومزدرع واخدع خليفتنا عنّا بمسألة ... إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع قال: فضحك أبو جعفر وقال: أرضوها عنه بمائتى جريب عامرة- ويروى ستمائة جريب عامرة وغامرة- فقال: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنّجف، وإن شئت زدتك. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: ولما توفّى السفّاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزّونه، فقال: أمسيت بالأنبار يابن محمد ... لم تستطع عن عقرها تحويلا وبلى عليك وويل أهلى كلّهم ... ويلا وعولا في الحياة طويلا فلتبكينّ لك السماء بعبرة ... ولتبكينّ لك الرجال عويلا مات الندى إذ متّ يابن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلا إنى سألت الناس بعدك كلّهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا ألشقوتى أخّرت بعدك للتى ... تدع العزيز من الرجال ذليلا؟ فلأحلفنّ يمين حقّ برّه ... تالله ما أعطيت بعدك سولا قال: فأبكى الناس قوله: فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعنّ لسانك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ أبا العباس أمير المؤمنين كان لى مكرما، وهو الذى جاء بى من البدو، كما جاء الله بإخوة يوسف اليه؛ فقل كما قال يوسف: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) . فسرّى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لى بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء (وأشار الى جماعة ممن حضر) فوثب سليمان ابن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبى

أيّوب الخازن [وهو مغيظ «1» ] : يا سليمان ادفعها اليه وسيّره الى هذا الطاغية (يعنى عبد الله بن علىّ، وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف) فوثب أبو دلامة وقال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج معهم، وو الله إنى مشئوم. قال المنصور: امض فإن يمنى يغلب شؤمك. فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبّ أن يجرّب ذلك منّى على مثل هذا العسكر، فإنى لا أدرى أيّهما يغلب: يمنك أو شؤمى؛ إلّا أنى بنفسى أوثق وأعرف وأطول تجربة. فقال: دعنى وهذا، فمالك من الخروج بدّ. قال: فإنى أصدقك الان، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت، وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل. فضحك المنصور وأمره أن يتخلّف مع عيسى بن موسى بالكوفة. وعن جعفر بن حسين اللهبىّ قال: حدثنى أبو دلامة قال: أتى بى المنصور او المهدىّ وأنا سكران، فحلف ليخرجنّى في بعث حرب؛ فأخرجنى مع روح بن حاتم المهلّبىّ لقتال الشّراة «2» . فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أنّ تحتى فرسك ومعى سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه! فضحك وقال: والله العظيم لأدفعنّ اليك ذلك ولآخذنّك بالوفاء بشرطك؛ فنزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفع ذلك إلىّ، ودعا بغيره فاستبدل به. فلمّا حصل ذلك في يدى قلت: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتا فاسمعها. قال: هات، فأنشدته: إنى استجرتك أن أقدّم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب فهب السيوف رأيتها مشهورة ... وتركتها ومضيت في الهرّاب ماذا تقول لما يجىء ولا يرى ... من بادرات الموت بالنّشّاب

فقال: دع هذا عنك، وبرز رجل من الخوارج يدعو الى المبارزة فقال: اخرج اليه يا أبا دلامة. فقال: أنشدك الله أيها الأمير في دمى. فقال: والله لتخرجنّ! فقلت: أيها الأمير، فإنه أوّل يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما تنبعث منى جارحة من الجوع، فمر لى بشىء آكله ثم أخرج؛ فأمر لى برغيفين ودجاجة؛ فأخذت ذلك وبرزت عن الصفّ. فلما رآنى الشارى أقبل نحوى وعليه فرو قد أصابه المطر فابتلّ، وأصابته الشمس فاقفعلّ «1» وعيناه تقدان، فأسرع إلىّ؛ فقلت: على رسلك يا هذا! فوقف؛ فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال لا. قلت: أنستحلّ أن تقتل رجلا على دينك؟ قال لا. قلت: أفتستحلّ ذلك قبل أن تدعو من تقاتله الى دينك؟ قال: لا، فاذهب عنى الى لعنة الله، فقلت: لا أفعل أو تسمع منى. قال: قل. فقلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة أو تعرفنى بحال تحفظك علىّ أو تعلم بينى وبين أهلك وترا؟ قال: لا والله؛ قلت: ولا أنا والله لك إلا على جميل [الرأى «2» ] ، فإنى لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أرادك. فقال: يا هذا، جزاك الله خيرا فانصرف. قلت: إنّ معى زادا أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتوكّد المودّة بيننا ويرى أهل العسكرين هوانهم علينا؛ قال: فافعل. فتقدّمت اليه حتى اختلفت أعناق دوابّنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودّعنى، ثم قلت له: إنّ هذا الجاهل، إن أقمت على طلب المبارزة ندبنى اليك فتتعب وتتعبنى، فإن رأيت ألّا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت؛ فانصرف وانصرفت. فقلت لروح: أمّا أنا فقد كفيتك قرنى، فقل لغيرى يكفيك قرنه كما كفيتك. وخرج آخر يدعو الى البراز؛ فقال لى: اخرج اليه، فقلت:

إنى أعوذ بروح أن يقدّمنى ... الى القتال فتخزى بى بنو أسد إن البراز الى الأقران أعلمه ... مما يفرّق بين الرّوح والجسد قد حالفتك المنايا إذ رصدت لها ... وأصبحت لجميع الخلق كالرّصد إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم ... فما ورثت اختيار الموت عن أحد لو أنّ لى مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فردا فلم أجد قال: فضحك روح وأعفانى. قال: وشرب أبو دلامة في بعض الحانات وسكر، فمشى وهو يميل، فلقيه العسس فأخذه؛ فقيل له: من أنت؟ وما دينك؟ فقال: دينى على دين بنى العبّاس ... ما ختم الطّين على القرطاس إذا اصطحبت أربعا بالكاس ... فقد أدار شربها براسى فهل بما قلت لكم من باس فأخذوه وخرقوا ثيابه وساجه «1» ، وأتى به الى أبى جعفر، فأمر بحبسه مع الدّجاج فى بيت. فلما أفاق جعل ينادى غلامه مرّة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو مع ذلك يسمع صوت الدّجاج وزقاء «2» الديك. فلمّا أكثر قال له السجّان: ما شأنك؟ قال: ويلك! من أنت؟ وأين أنا؟ قال: أنت في الحبس، وأنا فلان السجّان. قال: ومن حبسنى؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلسانى؟ قال: الحرس. فطلب أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل فأتاه؛ فكتب الى أبى جعفر المنصور يقول: أمير المؤمنين فدتك نفسى ... علام حبستنى وخرقت ساجى

أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... اذا برزت ترقرق في الزّجاج أقاد الى السجون بغير جرم ... كأنى بعض عمّال الخراج! فلو معهم حبست لكان سهلا ... ولكنى حبست مع الدجاج وقد كانت تخبّرنى ذنوبى ... بأنى من عقابك غير ناج على أنّى وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجى فاستدعاه المنصور وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقىء «1» معهم الى الصباح؛ فضحك وخلّى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله: وقد طبخت بنار الله؟ (يعنى الشمس) قال: لا والله، ما عنيت إلا نار الله الموقدة التى تطّلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرّض له. وروى عن المدائنىّ قال: دخل أبو دلامة على المهدىّ وعنده إسماعيل بن على وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بنى هاشم؛ فقال له المهدىّ: أنا أعطى الله عهدا إن لم تهج واحدا ممن في البيت، لأقطعنّ لسانك أو لأضربنّ عنقك. فنظر اليه القوم، وكلما نظر إلى أحد منهم غمزه بأنّ علىّ رضاك. قال أبو دلامة: فعلمت أنى قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء منّى ولا أدعى الى السلامة من هجاء نفسى، فقلت: ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فلست من الكرام ولا كرامه

إذا لبس العمامة كان «1» قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الذمامه فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه. قال: وخرج المهدىّ وعلىّ بن سليمان الى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء. فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدىّ سهما فأصاب ظبيا، ورمى علىّ بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله؛ فقال أبو دلامة: قد رمى المهدىّ ظبيا ... شكّ بالسهم فؤاده وعلىّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده فهنيئا لهما كلّ ... امرىء يأكل زاده فضحك المهدىّ حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية؛ فلقّب علىّ بن سليمان بعد ذلك صائد الكلب، فغلب عليه. قال: وتوفّيت حمادة بنت عيسى، وحضر المنصور جنازتها؛ فلما وقف على حفرتها قال لأبى دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: ابنة عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنة عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب وستر وجهه. قال الهيثم بن عدىّ رحمة الله عليه: حجّت الخيزران، فلما خرجت، صاح أبو دلأمة: جعلنى الله فداك، الله الله في أمرى! فقالت: من هذا؟ قالوا: أبو دلامة. فقالت: سلوه ما أمره؛ قالوا له: ما أمرك؟ قال: أدنونى من محملها؛ قالت أدنوه؛ فأدنى، فقال لها: أيها السيدة، إنى شيخ كبير وأجرك فيّ عظيم. قالت:

فمه! قال: تهبينى جارية من جواريك تؤنسنى، وترفق بى وتريحنى من عجوز عندى؛ قد أكلت رفدى، وأطالت كدّى؛ فقد عاف جلدى جلدها، وتشوّقت فقدها. فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلمّا رجعت تلقاها وأذكرها وخرج معها الى بغداد، فأقام حتى غرض «1» . ثم دخل على أمّ عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع اليها رفعة قد كتب بها الى الخيزران، فيها: أبلغى سيّدتى بالله ... يا أمّ عبيده أنّها أرشدها الله ... وإن كانت رشيده وعدتنى قبل أن تخرج ... للحج وليده فتأنّيت وأرسلت ... بعشرين قصيده كلما أخلقن أخلفت ... لها أخرى جديده ليس في بيتى لتمهيد ... فراشى من قعيده غير عجفاء عجوز ... ساقها مثل القديده وجهها أقبح من حو ... ت طرىّ في عصيده ما حياة مع أنثى ... مثل عرسى بسعيده فلما قرئت عليها، ضحكت ودعت بجارية من جواريها فائقة الجمال، فقالت لها: خذى كل مالك في قصرى، ففعلت؛ ثم دعت بعض الخدم وقالت له: سلّمها الى أبى دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله؛ فقال لامرأته: اذا رجع أبو دلامة فادفعيها اليه وقولى له: تقول لك السيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد أمرت لك بها. فقالت له نعم. فلما خرج الخادم دخل ابنها دلامة فوجد أمّه تبكى؛ فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت أن تبرّنى يوما من الأيام فاليوم.

قال: قولى ما شئت فإنى أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرّمها عليه وإلا ذهبت بعقله فجفانى وجفاك، ففعل ودخل الى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه، وخرج. فدخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟ قالت: فى ذلك البيت، فدخل اليها شيخ محطّم ذاهب، فمدّ يده اليها وذهب ليقبّلها؛ فقالت: مالك ويحك! تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيّدة؟ قالت: إنها بعثت بى الى فتى من هيئته وحاله كيت وكيت، وقد كان عندى آنفا ونال منى حاجته. فعلم أنه قد دهى من أمّ دلامة وابنها. فخرج أبو دلامة الى دلامة فلطمه ولبّبه «1» وحلف ألّا يفارقه إلا الى المهدىّ. فمضى به ملببّا «2» حتى وقف بباب المهدىّ، فعرّف خبره؛ وأنه جاء بابنه على تلك الحال. فأمر بإدخاله فلما دخل قال: مالك؟ قال: فعل بى هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه، ولا يرضينى إلا أن تقتله. قال: ويحك! وما فعل بك؟ فأخبره الخبر؛ فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟! فقال: علىّ بالسيف والنّطع. فقال له دلامة: قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين، فاسمع حجّتى. قال: هات! قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، هو يفعل بأمّى منذ أربعين سنة ما غضبت، وفعلت أنا بجاريته مرّة واحدة غضب وصنع بى ما ترى. فضحك المهدىّ أشدّ من ضحكه الأوّل، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة، وأنا أعطيك خيرا منها؛ قال: على أن تخبأها لى بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه؛ فتقدّم إلى دلامة ألّا يعاود مثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ثم وهب له جارية.

قال عبد الله بن صالح رحمه الله: جاء ابن أبى دلامة يوما الى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إنّ شيخى كما ترون قد كبر سنّه ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا الى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشىء يمسك رمقه ويبقى قوّته فيخالفنى فيه، وإنى أسألكم أنّ تسألوه قضاء حاجة لى أذكرها بحضرتكم فيها صلاح جسمه وبقاء حياته، فأسعفونى بمسألته معى. فقالوا: نفعل حبّا وكرامة؛ ثم أقبلوا على أبى دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حتى رضى ابنه وهو ساكت، قال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببليّة. فقالوا له: قل؛ فقال: إن أبى إنما قتله كثرة الجماع، فتعاونونى حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء فيكون أصحّ لجسمه وأطول لعمره. فعجبوا بما أتى به وضحكوا. ثم قالوا لأبى دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم فعرّفتكم أنه لم يأت بخير. قالوا: فما عندك في هذا؟ قال: قد جعلت أمّه حكما فيما بينى وبينه، فقوموا بنا اليها. فقاموا بأجمعهم ودخلوا اليها، وقصّ أبو دلامة القصة عليها وقال: قد حكّمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابنى هذا أبقاه الله قد نصح أباه ولم يأل جهدا، وما أنا إلى «1» بقاء أبيه أحوج منى الى بقائه، وهذا أمر لم يقع به تجربة منّا ولا جرى بمثله عادة لنا؛ وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فاذا عوفى ورأينا ذلك قد أثّر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فضحك أبوه والقوم وانصرفوا يعجبون من خبثهم جميعا. ومنهم أبو صدقة.

ذكر شىء من نوادر أبى صدقة

ذكر شىء من نوادر أبى صدقة هو أبو صدقة مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش، قال أبو الفرج: وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة، من أكثر الناس نادرة وأخفّهم روحا وأشدّهم طمعا وألحّهم مسألة، وهو من المغنّين الذين أقدمهم الرشيد من الحجاز في أيامه. قيل: إنه عوتب على كثرة إلحاحه في المسألة، فقال: وما يمنعنى من ذلك، واسمى مسكين وكنيتى أبو صدقة وابنتى فاقة وابنى صدقة، فمن أحقّ بهذا منى؟ وكان الرشيد يعبث به كثيرا؛ فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوما وابن أبى مريم المدينىّ: إذا رأيتمونى قد طابت نفسى، فليسأل كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتبوا أمرهم عن أبى صدقة؛ فقال لهم مسرور ما أمر به الرشيد. ثم أذن الرشيد لأبى صدقة قبل إذنه لهم. فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، لقد أضجرتنى بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وأحببت أن أتفرّج وأفرح، ولست آمن أن تنغص علىّ مجلسى بمسألتك، فإما أن تعفينى أن تسألنى اليوم حاجة وإلّا فانصرف. فقال له: لست من يومى هذا الى شهر أسألك حاجة. فقال له الرشيد: أمّا إذ شرطت لى هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هى ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتنى شيئا بعدها من هذا اليوم فلا لوم علىّ إن لم أصلك سنة بشىء. فقال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد: زدنى في الوثيقة. فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة وإن شئت ألفا إن سألتك في يومى هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. فدفع اليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنّين فدخلوا وشرب القوم. فلما طابت نفس الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتى،

وكثر إحسانك إلىّ حتى كبتّ أعدائى وقتلتهم، وليس لى بمكة دار تشبه حالى، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لى بمال أبنى به دارا وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائى وأزهق نفوسهم فعل. فقال له: وكم قدّرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. وقام إبراهيم الموصلىّ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت نعمتك علىّ وعلى الكبار من ولدى؛ وفي أصاغرهم من أحتاج [إلى «1» ] ختانه، وفيهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدما؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتى على ذلك فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقول في الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرّق يمينا وشمالا، فوثب قائما ورمى بالدنانير من كمّه وقال للرشيد: أقلنى أقال الله عثرتك. فقال الرشيد: لا أفعل. فجعل يستحلفه ويضطرب ويلّح والرشيد يضحك ويقول: مالى إلى ذلك سبيل، الشرط أملك. فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير ورمى بها بين يدى الرشيد وقال: هاكها قد رددتها عليك وزدتك أمّ صدقة فطلّقها واحدة إن شئت وإن شئت ألفا. وإن لم تلحقنى بجوائز القوم فألحقنى بجائزة هذا البارد عمرو الغزّال- وكانت جائزته ثلاثة آلاف دينار- فضحك حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف أخرى معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منذ خدمه إلى أن مات، رحمة الله عليهم. وروى أبو الفرج عن أبى إسحاق قال: مطرنا ونحن مع الرشيد بالرّقّة مع الفجر فاتّصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة سحر، فتشاغلنا عنه في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل كلّ واحد منا عن يومه الماضى وما صنع فيه؛ فيخبره إلى أن انتهى

إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره فقال له: كان عندى أبو زكّار الأعمى وأبو صدقة، وكان أبو زكّار كلّما غنّى صوتا، لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة؛ فإذا انتهى الدور اليه أعاده وحكى أبا زكّار فيه وحركاته وشمائله، ويفطن أبو زكّار لذلك فيجنّ ويموت غيظا ويشتم أبا صدقة كلّ الشتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك، إلى أن توسّطنا الشرب وسمئنا من عبثه به؛ فقلت له: دع هذا عنك وغنّ غناءك. فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طريا ما أذكر أنى طربت مثله منذ حين «1» وهو: فتنتنى بفاحم اللون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ وبوجه كأنه طلعة البد ... روعين في طرفها نفث سحر فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال: يا سيدى إنى قد بنيت دارا أنفقت عليها جميع مالى وما أعددت لها فرشا فآفرشها لى. فتغافلت عنه. وعاود الغناء فتعمّدت أن «2» قلت: أحسنت، فسألنى فتغافلت؛ فقال: يا سيدى، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحقّ أبيك عليك إلا أجبتنى عن كلامى ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت له: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحّة. فوثب من بين يدىّ، فقلت: إنه قد خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرّد منها خوفا من أن تبتلّ ووقف تحت السماء لا يواريه شىء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال: يا ربّ أنت تعلم أنى مله ولست نائحا، وعبدك الذى قد رفعته وأحوجتنى الى خدمته يقول لى: أحسنت لا يقول لى: أسأت، وأنا مذ جلست أقول له: بنيت ولا أقول له: هدمت، فيحلف

بك جرأة عليك أنى بغيض، فاحكم بينى وبينه فأنت خير الحاكمين. فغلبنى الضحك وأمرت به فتنحّى، وجهدت به أن يغنّى فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أنى أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له بما أفرشها. فقال له الرشيد: طيّب والله! الآن تمّ لنا به اللهو، أدعه فإنه اذا رآك سوف يتنجّزك الفرش لأنك حلفت له بحياتى فهو يقتضيك ذاك بحضرتى ليكون أوفق له؛ فقل له: أنا أفرشها لك بالبوارىّ «1» وحاكمه الىّ. ثم دعا به فحضر؛ فلما استقرّ في المجلس قال لجعفر: الفرش الذى حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به دارى، تقدّم به. فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبوارىّ وإن شئت فبالبردىّ من الحصر؛ فصاح واضطرب. فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسمّ النوع ولا حدّدت «2» القيمة؛ فاذا فرشها لك بالبردىّ أو بما دون ذلك فقد برّ فى يمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثّقت وضيّعت حقّك. فسكت ثم قال: نوفّر أيضا البردىّ والبوارىّ عليه أعزّه الله. وغنّى المغنّون حتى انتهى الدور اليه، فأخذ يغنّى غناء الملّاحين والبنّائين والسقّائين وما يجرى مجراه من الغناء. فقال له الرشيد: أى شىء هذا الغناء؟ قال: من فرش داره بالبوارىّ والبردىّ فهذا الغناء كثير منه، [وكثير «3» ] أيضا لمن هذه صلته. فضحك الرشيد وطرب وصفّق وأمر له بألف دينار من ماله، وقال له: افرش دارك بهذه. فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين لا آخذها أو تحكم لى على جعفر بما وعدنى وإلا متّ والله أسفا لفوات ما حصل في طمعى ووعدت به؛ فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار أخرى، فأمر له جعفر بها.

ذكر شىء من نوادر الأقيشر

ذكر شىء من نوادر الأقيشر «1» هو أبو معرض المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن معرض بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر. والأقيشر لقب غلب عليه لأنه كان أحمر الوجه أقيشر. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وعمّر الأقيشر عمرا طويلا، ولعله ولد في الجاهلية ونشأ في الإسلام، وكان أبعد بنى أسد نسبا. قال: وكان كوفيّا خليعا ماجنا مدمنا للخمر. وهو الذى يقول لنفسه: فإنّ أبا معرض إذ حسا ... من الرّاح كأسا على المنبر خطيب لبيب أبو معرض ... فإن ليم في الخمر لم يصبر، أحلّ الحرام أبو معرض ... فصار خليعا على المكبر يحبّ اللئام ويلحى الكرام ... وإن أقصروا عنه لم يقصر قال: وشرب الأقيشر في بيت خمّار بالحيرة، فجاءه الشّرط ليأخذوه، فتحرّز منهم وأغلق الباب وقال: لست أشرب فما سبيلكم علىّ؟ قالوا: قد رأينا العسّ فى كفّك وأنت تمثرب. فقال: إنما شربت من لبن لقحة لصاحب هذه الدار، فما برحوا حتى أخذوا منه درهمين. فقال: إنما لقحتنا باطية «2» ... فاذا ما مزجت كانت عجب لبن أصفر صاف لونه ... ينزع الباسور من عجب «3» الذّنب إنما نشرب من أموالنا ... فسلوا الشرطىّ ما هذا الغضب؟

وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن أبى عمرو الشيبانىّ وغيره قال: كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم، يجعل درهمين للشراب ودرهما للطعام ودرهمين في كراء بغل الى الحيرة. وكان له جاريكنى أبا المضاء، له بغل يكريه، فكان يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه الى الحيرة حتى يأتى به بيت الخمّار فينزل عنه ويربطه، ثم يجلس للشرب حتى يمسى ثم يركبه. وله في ذلك أشعار كثيرة. قال وتزوّج الأقيشر ابنة عمّ له يقال لها الرّباب، على أربعة آلاف درهم- ويقال: على عشرة آلاف درهم- فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا، فأتى ابن «1» رأس البغل وهو دهقان «2» الصين، وكان مجوسيّا، فسأله فأعطاه الصّداق كاملا؛ فقال: كفانى المجوسىّ همّ «3» الرّباب ... فدى للمجوسىّ خال وعمّ شهدت بأنك رطب «4» اللسان ... وأنك بحر جواد خضمّ وأنك سيد أهل الجحيم ... اذا ما تردّيت فيمن ظلم تجاور هامان» فى قعرها ... وفرعون والمكتنى بالحكم فقال له المجوسىّ: ويحك! سألت قومك فما أعطوك شيئا، وجئتنى فأعطيتك فجزيتنى هذا القول ولم أفلت من شرّك! قال: أو ما ترضى أن جعلتك مع الملوك وقرين أبى جهل؟. قال: ثم جاء الى عكرمة بن ربعىّ التميمىّ، فسأله فلم يعطه؟ شيئا؛ فقال فيه:

سألت ربيعة من شرّها ... أبا ثم أمّا فقالوا لمه فقلت لأعلم من شرّكم ... وأجعل للسبّ فيه سمه فقالوا لعكرمة المخزيات ... وماذا يرى الناس في عكرمة فإن يك عبدا زكا ماله ... فما غير ذا فيه من مكرمه قال الأصمعى: قال عبد الملك بن مروان للأقيشر: أنشدنى أبياتك في الخمر؛ فأنشده قوله: تريك القذى من دونها وهى دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب كميت اذا شجّت «1» وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب فقال له: أحسنت والله يا أبا معرض! لقد أجدت في وصفها، وأظنك قد شربتها. فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه ليريبنى معرفتك بها. قال: وكان الأقيشر يأتى إخوانا له فيسألهم فيعطونه، فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ومضى الى الحانة فدفعها الى صاحبها، وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل. فانضم اليه رفقاء له فلم يزل معهم حتى نفدت الدراهم؛ فأتاهم بعد إنفاقها فاحتملوه يوما ويوما. فلما أتاهم في اليوم الثالث نظروا اليه من بعيد، فقالوا لصاحب الحانة: اصعد بنا الى الغرفة، وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم، ففعل. فلما جاء الأقيشر أعلمه بما قالوا، فعلم أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا برهن، فطرح اليه بعض ثيابه وقال له: أقم لى ما أحتاج اليه، ففعل. فلما أخذ منه الشراب أخذ يقول: يا خليلىّ اسقيانى كأسا ... ثمّ كأسا حتى أخرّ نعاسا

إن في الغرفة التى فوق رأسى ... لأناسا يخادعون أناسا يشربون المعتّق الراح صرفا ... ثم لا يرفعون للزّور «1» راسا قال: فلما سمع أصحابه هذا الشعر، فدّوه بآبائهم وأمهاتهم، ثم قالوا له: إمّا أن تصعد الينا وإما أن ننزل اليك، فصعد اليهم. قال: وكان يختلف الى رجل من بنى تميم وكان يجرى عليه في كل شهر عشرة دراهم؛ فجاءه مرة فوجده قد أصيب بابنه، فردّته امرأته عنه، ثم عاد بعد ذلك بيومين فردّته عنه أيضا؛ فكتب اليه بيتى شعر ودفع الرقعة اليها وقال: أوصليها اليه؛ فقرأها، فاذا فيها: ألا أبلغ لديك أبا هشام ... فإن الريح أبردها الشّمال عداتك في الهلال عدات صدق ... فهل سمنت كما سمن الهلال فلما قرأ الرقعة أمر بردّه وقال: لقد سمنت وما بقى إلا الهزال إن تأخرت، فأمر له بها وزادها خمسة دراهم. وكان الأقيشر مع شرفه وشعره يرضيه اليسير ويسخطه. وأخباره كثيرة ونوادره مشهورة، وفيما أوردناه منها كفاية. ومات الأقيشر قتيلا. وقيل: إنه مدح عبد الله بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله فلم يعطه شيئا فهجاه؛ فزعموا أنّ غلمانا لعبد الله بن إسحاق قتلوه؛ فاجتمع بنو أسد وادّعوا عليه قتل الأقيشر؛ فاقتدى منهم بديته. وقال ابن الكلبىّ: كان الأقيشر مولعا بهجاء عبد الله بن إسحاق ومدح أخيه زكريا. فقال لغلمانه: ألا تريحوننى منه! فانطلقوا فجمعوا بعرا وقصبا

ذكر شىء من نوادر ابن سيابة

بظهر الكوفة وجعلوه في وسط إرة «1» ، وأقبل الأقيشر سكرانا من الحيرة على بغل أبى المضاء المكارى، فأنزلوه عن البغل وشدّوه رباطا ثم وضعوه في تلك الإرة وألهبوا النار في القصب والبعر فمات، ولم يعلم من قتله. والله أعلم. ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة هو إبراهيم بن سيّابة مولى بنى هاشم. كان يقال: إن جدّه حجام أعتقه بعض الهاشميين. قدّمه إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق لأنه مدحهما فرفعا من قدره وغنيّا بشعره ونوّها بذكره. وكان خليعا ما جنا حسن النادرة. وله نوادر نذكر منها نبذا فيما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ. منها مارواه عن إسحاق الموصلىّ قال: أتى إبراهيم ابن سيابة وهو سكران ابنا لسوّار بن عبد الله القاضى أمرد، فعانقه وقبّله؛ وكانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنه لم يقبّله تقبيل التسليم، وإنما قبّله شهوة؛ فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كلّ ما يكره، وهجره الغلام بعد ذلك؛ فقال: لئن لثمتك سرّا ... فأبصرتنى رحاص وقال في ذاك قوم ... على انتقاصى حراص هجرتنى وأتتنى ... شتيمة وانتقاص فهاك فاقتصّ منى ... إنّ الجروح قصاص وقد قيل: إنّ رحاص هذه كانت مغنّية كان الغلام يهواها، وإنه سكر ونام، فقبّله ابن سيّابة. فلما انتبه قال للمغنيّة: ليت شعرى! ما كان خبرك مع ابن سيّابة؟ فقالت له: سل عن خبرك أنت معه، وحدّثته بالقصة؛ فهجره الغلام، فقال هذا الشعر.

ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانى وأخباره

وقال إسحاق بن إبراهيم: كان ابن سيّابة عندنا يوما مع جماعة تتحدّث ونتناشد وهو ينشد شيئا من شعره، فتحرّك فضرط فضرب بيده على استه غير مكترث وقال: إما أن تسكتى حتى أتكلّم، وإما أن تتكلّمى حتى أسكت. وقال جعفر الكاتب: قال لى إبراهيم بن سيّابة الشاعر: اذا كان عند جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: قدم علىّ إبراهيم بن سيّابة بنيسابور فأنزلته علىّ، فجاء ليلة من الليالى فجعل يصيح: يا أبا أيّوب، فخشيت أن يكون قد غشيه شىء، فقلت: ما تشاء؟ فقال: أعيانى الشادن الربيب قلت بماذا؟ فقال: أكتب أشكو فلا يجيب فقلت: داره وداوه، فقال: من أين أبغى شفاء قلبى ... وإنما دائى الطبيب فقلت: لا دواء إذا إلا أن يفرّج الله عزّوجلّ عنك. فقال: يا رب فرّج إذا وعجّل ... فإنك السامع المجيب ثم انصرف. وقد تقدّمت هذه الحكاية. والسلام. ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو شاعر من مخضرمى الدولتين الأمويّة والعباسيّة. كان ظريفا خليعا ما جنا حلو العشرة مليح النادرة قال: وكان متهما فى دينه بالزندقة. وكان مولده ومنشؤه بالكوفة، وكان منقطعا الى الوليد بن عبد الملك، ثم اتصل بخدمة الوليد بن يزيد. وكان سبب ذلك ما حكى عن حكم

الوادىّ المغنّى، قال: غنّيت الوليد بن يزيد وهو غلام حديث السنّ بشعر مطيع بن أياس وهو: إكليلها ألوان ... ووجهها فتّان وخالها فريد ... ليس له جيران اذا مشت تثنّت ... كأنها ثعبان قد جدلت فجاءت ... كأنها عنان فطرب حتى زحف عن مجلسه الىّ، واستعادنى الصوت حتى صحل «1» صوتى؛ ثم قال: ويحك! من يقول هذا؟ فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك. قال: ومن هو؟ قلت: مطيع بن إياس. قال: وأين هو؟ قلت: بالكوفة؛ فأمر أن يحمل اليه مع البريد، فحمل اليه؛ فسأله عن الشعر فقال: من يقول هذا؟ فقال: عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: أدن منى، فدنا منه فضمّه الوليد اليه وقبّل فاه وبين عينيه، وقبّل مطيع رجليه والأرض بين يديه؛ ثم أدناه حتى جلس في أقرب المجالس اليه، واصطبح معه أسبوعا متوالى الأيام على هذا الصوت. وكان في خلال الدولة الأمويّة ينقطع الى أوليائها وعلمائها، ثم انقطع في الدولة العباسيّة الى جعفر ابن أبى جعفر المنصور فكان معه حتى مات جعفر. ومات مطيع في خلافة الهادى بعد ثلاثة أشهر مضت منها. وله نوادر وأخبار مستظرفة هذا موضع ذكرها، فلنقتصر هاهنا من أخباره عليها دون غيرها. قيل: سقط لمطيع حائط؛ فقال له بعض أصحابه: احمد الله على السلامة. قال: احمد الله أنت إذ لم ترعك هدته، ولم يصبك غباره، ولم تغرم أجرة بنائه.

ومن أخباره ما رواه أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده الى عبد الملك المروانىّ عن مطيع بن إياس، قال: قال لى حماد عجرد يوما: هل لك أن أريك «خشّة» صديقتى وهى المعروفة بظبية الوادى! قلت نعم. قال: إنك إن قعدت عندها «1» وخبثت عينك فى النظر أفسدتها علىّ. فقلت: لا والله لا أتكلّم بكلمة تسوءك ولأسرنّك. فمضى بى وقال: والله لئن خالفت ما قلت لأخرجنّك. قال: قلت: إن خالفت إلى ما تكره فاصنع بى ما أحببت. قال: امض بنا فمضينا، فأدخلنى على أحسن خلق الله وأظرفهم وأحسنهم وجها. فلما رأيتها أخذنى الزّمع «2» ؛ وفطن لى فقال: اسكت يابن الزانية، فسكتّ قليلا، فلحظتنى ولحظتها لحظة أخرى فغضب ووضع قلنسوته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قرد؛ فلما وضعها وجدت للكلام موضعا، فقلت: وإن السوءة السوءا ... يا حمّاد عن خشّه عن الأترجّة الغضّ ... ة والتفّاحة الهشّه فالتفت الىّ وقال: فعلتها يابن الزانية! فقالت له: أحسن، فو الله ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه! فقال لها: يا زانية! فسبّته وتثاورا، فشقّت قميصه وبصقت في وجهه وقالت له: ما يصادقك ويدع مثل هذا إلا زانية، وخرجنا وقد لقى كلّ بلاء، وقال لى: ألم أقل لك يابن الزانية: إنك ستفسد علىّ مجلسى! فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجونى ويسبنى ويشكونى الى أصحابنا؛ فقالوا لى: اهجه ودعنا وإياه؛ فقلت: ألا يا ظبية الوادى ... وذات الجسد الرادى وزين المصر والدار ... وزين الحىّ والنادى

وذات المبسم العذب ... وذات المبسم البادى أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد فحمّاد فتى ليس ... بذى عزّ فتنقادى ولا مال ولا طرف ... ولا حظّ «1» لمرتاد فتوبى واتقى الله ... وبتّى حبل عجراد فقد ميّزت بالحسن ... عن الخلق بإفراد وهذا البين قد حمّ ... فجودى لى بالزاد قال: فأخذ أصحابنا رقاعا فكتبوا الأبيات فيها وألقوها في الطريق، وخرجت أنا فلم أدخل عليهم ذلك اليوم، فلما رآها وقرأها قال لهم: يا أولاد الزنا فعلها ابن الزانية وساعدتموه؟ قال: وأخذها حكم الوادىّ فغنّى بها، فلم يبق بالكوفة سقّاء ولا طحّان ولا مكار إلا غنّى فيها ثم غبت مدّة وقدمت فأتانى فما سلّم علىّ حتى قال لى: أما بالله تستحي ... ين من خلّة حمّاد قتلتنى قتلك الله! والله ما كلمتنى حتى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له وسوء رأيها فيه وأسفه عليها وأغوه بها؛ فشتمنى ساعة. قال مطيع: ثم قلت له: قم امض بنا حتى أريك أختى- وكانت لمطيع صديقة يسمّيها أختى وتسمّيه أخى، وكانت مغنّية- فلما خرجت الينا، دعوت قيّمة لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاما وشرابا، وعرفتها أن الذى معى حمّاد فضحكت. ثم أخذت صاحبتى في الغناء وقد علمت بموضعه وعرفت، فكان أوّل ما غنّت: أما بالله تستحيين ... من خلّة حمّاد

فقال لها: يا زانية! وأقبل علىّ وقال: وأنت يا زانى يابن الزانية! أسررت هذا الى قيّمتها! فقلت: لا والله كذبت. وشاتمته صاحبتى ساعة ثم قامت فدخلت، وجعل يتغيّظ علىّ. فقلت: أنت ترى أنى أمرتها أن تغنّى بما غنّت؟ فقال: أرى ذلك وأظنّه ظنّا لا والله ولكنى أتيقنه. فحلفت له بالطلاق على بطلان ظنّه وانصرفنا. وحكى قال يحيى بن زياد المحاربىّ لمطيع وكان صديقا له: انطلق بنا الى فلانة صديقتى، فإن بينى وبينها مغاضبة لتصلح بيننا وبئس المصلح والله أنت. قال: فدخلا «1» عليها، فأقبلا يتعاتبان ومطيع ساكت، حتى اذا أكثر قال يحيى: ما يسكتك؟ أسكت الله نأمتك «2» ! قال مطيع: أنت معتلّة عليه وما زا ... ل مهينا لنفسه في رضاك فأعجب يحيى وهشّ له. فقال مطيع: فدعيه وواصلى ابن إياس ... جعلت نفسه الغداة فداك فقام يحيى اليه بوسادة في البيت فما زال يجلد بها رأسه ويقول: ألهذا جئت بك يابن الزانية! ومطيع يغوّث «3» حتى ملّ يحيى، والجارية تضحك منهما، ثم تركه. وروى عن محمد بن الفضل السكونىّ قال: رفع صاحب الخبر الى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق وأنه يلازم ابنه جعفر وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم أو ينسبوا الى مذهبه. فقال له المهدىّ: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحلّ للمحارم؛ قال: فأحضره وانهه «4» عن صحبة جعفر وسائر أهله؛ فأحضره المهدىّ وقال له: يا خبيث يا فاسق! لقد

أفسدت أخى ومن تصحبه من أهلى، والله لقد بلغنى أنهم يتقارعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، وقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أنى شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت اليه من الزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك! يا ربيع اضربه مائة سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدى؟ قال: لانك سكّير خميّر قد أفسدت أهلى كلّهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت لى وسمعت احتججت. فقال له: قل؛ فقال: أنا امرؤ شاعر، وسوقى إنما تنفق مع «1» الملوك وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطّرح «2» ، وقد رضيت منها مع سعتها للناس جميعا بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك غيره، وأصفيته على ذلك شكرى وشعرى؛ فإن كان ذلك غاليا عندك تبت منه. فأطرق المهدىّ ثم رفع رأسه فقال: قد رفع إلىّ صاحب الخبر أنك تتماجن على السؤّال، وتضحك منهم. قال: لا والله ما ذاك من فعلى ولا شأنى ولا جرى منّى قط إلا مرة واحدة؛ فإن سائلا أعمى اعترضنى وقد عبرت الجسر على بغلتى، فظنّنى من الجند فرفع عصاه في وجهى، ثم صاح: اللهم سخّر الخليفة لأن يعطى للجند أرزاقهم فيشتروا من التجار الأمتعة وتربح التجار عليهم فتدرّ أموالهم فتجب فيها الزكاة عليهم فيتصدّقوا علىّ منها. فنفرت بغلتى من صياحه ورفعه عصاه في وجهى حتى كدت أسقط في الماء. فقلت: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوسائط التى لا يحتاج إليها فإن هذه المسائل فضول. فضحك الناس منه ورفع علىّ في الخبر [قولى له هذا «3» ] . فضحك المهدىّ وقال: خلّوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضا وتبرأ ساحتى وأنصرف بلا جائزة! قال:

ذكر شىء من نوادر أبى الشبل

لا يجوز هذا، اعطوه مائتى دينار، ولا يعلم أمير المؤمنين فتجدّد عنده ذنوبه؛ وقال له: اخرج عن بغداد ودع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين، ثم عد إلىّ. فقال له: فأين أفصد؟ قال: أكتب الى سليمان بن علىّ فيولّيك عملا ويحسن اليك. قال: قد رضيت. فوفد الى سليمان بكتاب المهدىّ فولّاه الصدقة بالبصرة، وكان عليها داود بن أبى هند فعزله به. وأخباره في هذا الباب كثيرة أغضينا عن كثير منها. ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل هو عاصم بن وهب بن البراجم. مولده الكوفة. نشأ وتأدّب بالبصرة. وفد إلى سامرّاء «1» أيام المتوكل ومدحه. وكان طيّبا كثير الغزل والنوادر والمجون. فنفق عند المتوكل وخدمه واختصّ به وامتدحه بقوله: أقبلى فالخير مقبل ... واتركى قول المعلّل وثقى بالنّجح إن ... أبصرت وجه المتوكّل ملك ينصف يا ظا ... لمتى فينا ويعدل فهو الغاية والمأ ... مول يرجوه المؤمّل فأمر له بثلاثين ألف درهم. وله أخبار مستظرفة تتضمن شعرا ونوادر تدلّ على ظرفه سنذكر منها طرفا. فمن ذلك ما حكى عنه: أنه مدح مالك بن طوق، وقدّر أن يعطيه ألف درهم. فبعث اليه بصرة مختومة فيها مائة دينار، فظن أنها دراهم فردها اليه وكتب معها: فليت الذى جادت به كفّ مالك ... ومالك مدسوسان في است أمّ مالك

وكان الى يوم القيامة في استها ... فأيسر مفقود وأيسر هالك وكان مالك يومئذ أميرا على الأهواز. فلما قرأ الرقعة أمر بإحضاره فأحضر وقال: ما هذا؟ ظلمتنا واعتديت علينا. فقال: قدّرت عندك ألف درهم فوصلتنى بمائة درهم. فقال: افتحها؛ ففتحها فإذا فيها مائة دينار؛ فقال: أقلنى أيها الأمير. فقال: قد أقلتك ولك كل ما تحب أبدا ما بقيت وقصدتنى. قال: وكان له جار طبيب أحمق، فمات فرثاه فقال: قد بكاه بول المريض بدمع ... واكف فوق مقلتيه ذروف ثم شقّت جيوبهن القواري ... ر عليه ونحن نوح اللهيف يا كساد الخيار شنبر والأقراص ... طرّا ويا كساد السفوف كنت تمشى مع القوىّ فإن جا ... ضعيف لم تكترث بالضعيف لهف نفسى على صنوف رقاعا ... ت تولّت منه وعقل سخيف وقال أبو الشبل: كان خالد بن يزيد بن هبيرة يشرب النبيذ، وكان يغشانا، وكانت له جارية صفراء مغنية يقال لها لهب، كانت تغشانا معه، وكنت أعبث بها كثيرا. فقام مولاها يوما الى الخابية «1» يستقى نبيذا، فاذا قميصه قد انشقّ؛ فقلت فيه: قالت له لهب يوما وجاد لها ... بالشّعر في باب فعلان ومفعول أمّا القميص فقد أزرى «2» الزمان به ... فليت شعرى ما حال السراويل قال أبو الشبل: وكانت أمّ خالد هذا ضرّاطة تضرط على صوت العيدان وغيرها فى الإيقاع. فقلت فيه: فى الحىّ من لا عدمت خلّته ... فتى إذا ما قطعته وصلا

ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى

له عجوز بالحبق «1» أبصر من ... أبصرته ضاربا ومرتجلا نادمته مرّة وكنت فتى ... ما زلت أهوى وأشتهى الغزلا حتى إذا ما أمالها سكر ... يبعث «2» فى قلبها لها مثلا اتّكأت يسرة وقد خرفت «3» ... أشراجها كى تقوّم الرّملا فلم تزل إستها تطارحنى ... اسمع إلى من يسومنى العللا وقال محمد بن المرزبان: كنت أرى أبا الشبل كثيرا عند أبى، وكان إذا حضر أضحك الثكلى بنوادره. فقال له أبى يوما: حدّثنا ببعض نوادرك وطرائفك. قال نعم. من طرائف أمورى أن ابنى زنى بجارية سنديّة لبعض جيرانى، فحبلت وولدت؛ وكانت قيمة الجارية عشرين دينارا. فقال: يا أبت، الصبىّ والله ابنى، فساومت فيه فقيل لى: خمسون دينارا. فقلت له: ويلك! كنت تخبرنى وهى حبلى فأشتريها بعشرين دينارا ونربح الفضل بين الثمنين! وأمسكت عن المساومة بالصبى حتى اشتريته من القوم بما أرادوا. ثم أحبلها ثانيا فولدت ابنا آخر، فجاء يسألنى أن أبتاعه؛ فقلت: عليك لعنة الله، أى شىء حملك على أن تحبل هذه، هلا عزلت عنها! فقال: إنى لا أستحلّ العزل. ثم أقبل على جماعة عندى فجعل يقول: شيخ كبير يأمرنى بالعزل ويستحلّه. فقلت له: يابن الزانية! تستحلّ الزنا وتتحرّج من العزل! فضحكنا منه. ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى كان شاعرا من شعراء الدولة الأمويّة، وهو كوفىّ خليع ماجن. وكان منقطعا إلى المهلّب بن أبى صفرة وولده، ثم إلى أبان بن الوليد وبلال بن أبى بردة،

واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما. يقال: إنه أخذ بالشعر من مال وشاء ورقيق وحملان وغير ذلك ألف ألف درهم. وله نوادر، منها ما حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ عنه: أنه كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا. فوجّه اليه ليلة برسول وقال: خذه على أىّ حالة وجدته، وأحلفه وغلّظ عليه الأيمان على ذلك. فمضى الرسول فهجم عليه فوجده يريد أن يدخل الخلاء؛ فقال له: أجب الأمير، فقال: ويحك! إنى أكلت طعاما كثيرا وشربت نبيدا حلوا وأخذنى بطنى. فقال: والله ما تفارقنى أو أمضى بك اليه ولو سلحت في ثيابك. فجهد فى الخلاص فلم يقدر عليه. ومضى به، فوجده قاعدا في طارمة «1» له وجارية جميلة جالسة بين يديه، وكان يتحظّاها، تسجر «2» الندّ. فجلس حمزة يحادثه وهو يعالج ما هو فيه. قال حمزة: فعرضت لى ريح فقلت: أسرّحها وأستريح لعل ريحها لا يظهر مع هذا الندّ، فأطلقتها، فغلبت والله ريح البخور وغمرته. فقال: ما هذا يا حمزة؟ فقلت: علىّ عهد الله وميثاقه وعلىّ المشى والهدى إن كنت فعلتها! وما هذا إلا عمل هذه الجارية الفاجرة. فغضب، وخجلت الجارية فما قدرت على الكلام. ثم جاءتنى أخرى فسرّحتها، فسطع والله ريحها. فقال: ما هذا؟ ويلك! أنت والله الآفة. فقلت: امرأتى طالق ثلاثا إن كنت فعلتها. فقال: وهذه اليمين لازمة إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل هذه الجارية؛ وقال لها: ما قصّتك؟ ويلك! قومى إلى الخلاء إن كنت تجدين شيئا. فزاد خجلها، وطمعت فيها فسرّحت الثالثة فسطع من ريحها مالم يكن في الحساب. فغضب عبد الملك حتى كاد يخرج من جلده؛ ثم قال: يا حمزة، خذ بيد الزانية فقد وهبتها لك وامض، فقد نغّصت علىّ ليلتى. فأخذت بيدها

وخرجت. فلقينى خادم له فقال: ما تريد أن تصنع؟ فقلت له: أمضى بهذه الجارية. فقال: لا تفعل، فو الله لئن فعلت ليبغضنّك بغضا لا تنتفع به بعده أبدا، وهذه مائتا دينار خذها ودع هذه الجارية فإنه يتحظّاها، وسيندم على هبته إيّاها لك. فأبيت إلا بخمسمائة دينار. فقال: ليس غير ما ذكرت لك. فأخذتها وتركت الجارية. فلما كان بعد ثلاث دعانى عبد الملك. فلما قربت من داره لقينى الخادم وقال لى: هل لك في مائة أخرى وتقول مالا يضرّك ولعله ينفعك؟ قلت: وما ذاك «1» ؟ قال: إذا دخلت فادّع الفسوات الثلاث وانسبها إلى نفسك وانضح «2» عن الجارية ما قرفتها به. فأخذتها ودخلت على عبد الملك. فلما وقفت بين يديه قلت له: الأمان حتى أخبرك بخبر يسرّك ويضحكك. قال: لك الأمان. فقلت: أرأيت ليلة كذا وكذا وما جرى؟ قال نعم. قلت: فعلىّ وعلىّ إن كان فسا تلك الفسوات غيرى. فضحك حتى سقط على قفاه وقال: ويلك! فلم لم تخبرنى؟ قال فقلت: أردت بذلك خصالا، منها أنى قمت فقضيت حاجتى وقد كان رسولك منعنى من ذلك. ومنها أنى أخذت جاريتك. ومنها أنى كافأتك على أذاك لى بمثله. قال: وأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلّمتها الى فلان الخادم وأخذت مائتى دينار. فسرّ بذلك وأمر لى بمائتى دينار أخرى، وقال: هذه لجميل فعلك فيّ وتركك أخذ الجارية. قال حمزة: ودخلت اليه يوما وكان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه. فقال لى: يا حمزة، سابق غلامى هذا حتى يفوح صنانكما، فأيّكما كان صنانه أنتن فله مائة دينار. فطمعت في المائة ويئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام؛ فقلت: أفعل. وتعادينا ساعة فسبقنى، فسلحت في يدى ثم طليت إبطى بالسّلاح؛ وقد كان عبد الملك جعل بيننا حكما؛ فلمّا

ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه

دنا الغلام منه وشمّه وثب وقال: هذا والله لا يشاكله شىء. فصحت به: لا تعجل علىّ بالحكم، مكانك! ثم دنوت منه فألقمت أنفه إبطى حتى علمت أنه قد خالط دماغه وأنا ممسك رأسه تحت يدى؛ فصاح: الموت والله! هذا بالكنف أشبه منه بالإبط. فضحك عبد الملك ثم قال: أفحكمت له؟ قال نعم. فأخذت الدنانير. قال: ودخلت يوما على سليمان بن عبد الملك. فلما مثلت بين يديه قلت: رأيتك في المنام شتنت «1» خزّا ... علىّ بنفسجا وقضيت دينى فصدّق يا فدتك النفس رؤيا ... رأتها في المنام لديك عينى قال سليمان: يا غلام، أدخله خزانة الكسوة واشتن عليه كلّ ثوب خزّ بنفسجىّ، فخرجت كأنى مشجب «2» . ثم قال: كم دينك؟ قلت: عشرة آلاف؛ فأمر لى بها وما أعلم والله أنّى رأيت من ذلك شيئا. ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه هو محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، من بنى حنيفة أهل اليمامة. وأسر ياسر في سباء في خلافة المنصور. فلما صار في يد المنصور أعتقه؛ فهم موالى بنى هاشم. وكان أبو العيناء ضرير البصر، يقال: إنّ جدّه الأكبر لقى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى؛ فكلّ من عمى منهم فهو صحيح النسب. وهو ممن اشتهر بالمجون، وله نوادر وحكايات مستظرفة، ومراسلات عجيبة، سأورد منها طرفا، وأسطّر طرفا. فمن ذلك: أنّ بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو متّ لرقص الناس طربا وسرورا. فقال بديهة: أردت مذمّتى فأجدت مدحى ... بحمد الله ذلك لا بحمدك

فلا تك واثقا أبدا بعمد ... فقد يأتى القضاء بغير عمدك ثم قال: أجل! الناس قد ذهبوا، فلو رآنى الموتى لطربوا لدخول مثلى عليهم، وحلول عقلى لديهم، ووصول فضلى اليهم؛ فما زال الموتى يغبطونكم ويرحموننى بكم. وقال: واتّصلت أشغال أبى الصّقر الوزير، فتأخّر توقيعه عن أبى العيناء برسومه. فكتب اليه: رقعتى، أطال الله بقاء الوزير، رقعة من علم شغلك فاطّرح عدلك؛ وحقّق أمرك فبسط عدرك. أمّا والليل اذا عسعس، فالبنان لبنات الدّنان، وملامسات الحسان؛ وأمّا والصبح اذا تنفّس، فالبنان للعنان، ومؤامرات السلطان؛ فمن أبو العيناء القرنان «1» !. فوقّع أبو الصّقر تحت سطوره: لكل طعام مكان، ولكل معوز إمكان؛ وقد وقّعنا لك بالرسوم، وجعلنا لك حظّا من المقسوم؛ وكفينا أنفسنا عذرك الذى هو تعزير، ولسانك الذى هو تحذير. والسلام. ثم لقيه أبو العيناء في صدر موكبه فقال: طاعة شيمك لسلطان كرمك، ألزمتك الصبر على ذنوبى إليك، وتجنّى خلقى عليك. فقال أبو الصقر: كبير حسناتك، يستغرق يسير سيئاتك. فدعا له وانصرف شاكرا. قال: وبسط أبو العيناء لسانه على أهله في بعض الدواوين. فقال له فتى من أبناء الكتّاب كانت فيه جرأة: كلّ الناس لك يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبى علىّ البصير. فقال له أبو العيناء: قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلّقت الناس كلهم سواك؛ ذلك أدنى ألّا نعول، وفيك ما يروى الفحول، ويتجاوز السول. قال: ففضحه بهذا الكلام، فلم يجبه. قال: وكان في بنى الجراح فتى خليع ما جن فأراد العبث بأبى العيناء؛ فنهاه نصحاؤه فأبى؛ فقالوا: شأنك. فقال له:

يا أبا العيناء، متى أسلمت؟ فقال: حين آمن أهلك وأبوك الذين لم يؤدّبوك. فقال له الفتى: إذا قد علمت أنك ما أسلمت. فقال أبو العيناء: شهادتك لأهلك دعوى، وشهادتى عليهم بلوى، وسترى أىّ السلطانين أقوى، وأىّ الشيطانين أغوى؛ وسيعلم أهلك، ما جنى عليهم جهلك. قال: فأتاه أبوه فتبرّأ من ذمّته، ودفعه اليه برمّته. فقال له أبو العيناء: قد وهبت جوره لعدلك، وتصدّقت بحمقه على عقلك. ومن أخبار أبى العيناء أيضا: أنّ محمد بن عبيد الله بن خاقان حمله على برذون زعم أنه غير فاره، فكتب الى أبيه: أعلم الوزير أعزّه الله تعالى أنّ أبا علىّ محمدا أراد أن يبرّنى فعقّنى، وأن يركبنى فأرجلنى! أمر لى بدابّة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفا، وكالعاشق المجهود دنفا؛ يساعد أعلاه لأسفله «1» ، حباقه «2» مقرون بسعاله؛ فلو أمسك لترجّيت، أو أفرد لتعزّيت؛ ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد؛ تضحك من فعله النسوان، ويتناغى من فعله الصبيان؛ فمن صائح يصيح: داوه بالطباشير، ومن قائل يقول: نقّ له من الشعير. قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء فى الأمصار؛ فلو أعين بنطق، لروى بحقّ وصدق، عن جابر الجعفىّ، وعامر الشّعبىّ. وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذى اذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلنى ويريحنى بمركوب يضحكنى كما يضحك منى، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطّره العيب بقبحه ودمامته. ولست أردّ كرامه، سرجه ولجامه؛ لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه. فوجّه اليه عبيد الله برذونا من براذينه بسرجه ولجامه. ثم اجتمع محمد

ابن عبيد الله عند أبيه. فقال عبيد الله لأبى العيناء: شكوت دابّة محمد، وقد أخبرنى إنه ليشتريه منك الآن بمائة دينار، وما هذا ثمنه فلا يشتكى. فقال: أعزّ الله الوزير لو لم أكذب مستزيدا، لم أنصرف مستفيدا. وإنى وإياه لكما قالت امرأة العزيز: (الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصّادقين) . فضحك عبيد الله وقال: حجّتك الداحضة، بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة. ودخل أبو العيناء على أبى الصّقر وكان قد تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حمارى. قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فلم لم تأت على غيره؟ قال: أبعدنى عن الشراء قلّة يسارى، وكرهت ذلّة المكارى، ومنّة العوارى. قال: وصار يوما الى باب صاعد بن مخلد، فقيل له: هو مشغول يصلّى؛ فقال: لكلّ جديد لذّة. وكان صاعد نصرانيّا قبل الوزارة. وقال له صاعد يوما: ما الذى أخّرك عنّا؟ قال: بنتى. قال: وكيف؟ قال: قالت لى: يا أبت، قد كنت تغدو من عندنا فتأتى بالخلعة السّريّة، والجائزة السنيّة، ثم أنت الآن تغدو مسدفا، وترجع معتما، فإلى من؟ قلت: إلى أبى العلاء ذى الدرايتين. قالت: أيعطيك؟ قلت: لا، قالت: أفيشفّعك؟ قلت: لا. قالت: أيرفع مجلسك؟ قلت: لا. قالت: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا!. وقال له رجل من بنى هاشم: بلغنى أنك بغّاء. قال: ولم أنكرت ذلك مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم» ؟ قال: إنك دعىّ فينا. قال: بغائى صحّح نسبى فيكم. وسأل أبو العيناء الجاحظ كتابا الى محمد بن عبد الملك فى شفاعة لصاحب له؛ فكتب الكتاب وناوله الرجل؛ فعاد به الى أبى العيناء وقال: قد أسعف. قال: فهل قرأته؟ قال: لا، لأنه مختوم. قال: ويحك! فضّه لا يكون صحيفة المتلمّس. ففضّه فاذا فيه: موصّل كتابى سألنى فيه أبو العيناء، وقد عرفت

ذكر ما ورد في كراهة المزح

سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا. فإن أحسنت اليه فلا تحسبه علىّ يدا، وإن لم تحسن اليه لم أعدّه عليك ذنبا، والسلام. فركب أبو العيناء الى الجاحظ وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان. فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتى فيمن أعتنى به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبى قد شتمك فآعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه. وقال أبو العيناء: مررت يوما بدرب بسامرّاء؛ فقال لى غلامى: يا مولاى، فى الدرب حمل سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه وغطّيته بطيلسانى وصرت به الى منزلى. فلما كان من الغد جاءتنى رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس حمل، فأخبرنى صبيان دربنا أنك أنت سرقته، فأمر بردّه متفضّلا. قال أبو العيناء: فكتبت اليه: أى سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغّاء وأكذّبهم ولا أصدّقهم، وتصدّق أنت صبيان دربكم أنى سرقت الحمل!. قال فسكت وما عاودنى. ولأبى العيناء أخبار كثيرة وحكايات مشهورة قد أوردنا منها ما يدخل في هذا الباب وتركنا ما سواه. ذكر ما ورد في كراهة المزح روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مزح استخفّ به» . وقال حكيم: خير المزاح لا ينال، وشرّه لا يقال؛ سكرات الموت به محدقة، وعيون الآجال اليه محدّقة. وقال آخر: تجنّب شؤم الهزل ونكد المزاح؛ فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر، وفحلان إذا لقحا لم ينتجا غير ضرّ. وقالوا: المزاح يضع قدر الشريف، ويذهب هيبة الجليل. وقالوا: لا تقل ما يسوءك عاجله، ويضرّك آجله. وقالوا: إيّاك وما يستقبح من الكلام، فإنه ينفر عنك

الكرام، ويجسّر عليك اللئام. وقال عمر بن عبد العزيز: اتّقوا المزاح، فإنها حمقة تورث ضغينة. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إياك والمزاح؛ فإنه يذهب ببهاء الوجه ويحطّ من المروءة. قال شاعر: اكره لنفسك ما لغيرك تكره ... وافعل لنفسك فعل من يتنزّه وارفع بصمتك عنك سبّات الورى ... خوف الجواب فإنه بك أشبه ودع الفكاهة بالمزاح فإنها ... تودى وتسقط من بها يتفكّه وقيل: ألا ربّ قول قد جرى من ممازح ... فساق اليه الموت في طرف الحبل فإنّ مزاح المرء في غير حينه ... دليل على فرط الحماقة والجهل وقيل: فإياك إيّاك المزاح فإنه ... يجرّى عليك الطفل والرجل النّذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العزّ صاحبه ذلّا وقال بعض البلغاء: المزاح خرف، والاقتصاد فيه ظرف، والإفراط فيه ندامة. وقالوا: من كثر مزحه لم يسلم من استخفاف به أو حقد عليه. ويقال: أكثر أسباب القطيعة المزاح. وإن كان لا غنى للنفس عنه للجمام «1» ، فليكن بمقدار الملح فى الطعام. قال أبو الفتح البستىّ رحمه الله: أفد طبعك المكدود بالهمّ راحة ... تراح وعلّله بشىء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه

وقيل: امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحا تضاف به الى سوء الأدب لا تغضبنّ أخا إذا مازحته ... إن المزاح على مقدّمة الغضب وقيل: مازح صديقك ما أحبّ مزاحا ... وتوقّ منه في المزاح جماحا فلربما مزح الصديق بمزحة ... كانت لبدء عداوة مفتاحا وقال سعيد بن العاص لولده: يا بنىّ، اقتصد في مزحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجزّىء السفهاء. ويقال: المزاح أوّله فرح، وآخره ترح. قال أبو العتاهية: وترى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... فى بعض منطقه بما لا يغفر ويقول كنت ملاعبا وممازحا ... هيهات! نارك في الحشا تتسعّر ألقيتها وطفقت تضحك لاهيا ... وفؤاده مما به يتفطّر أو ما علمت ومثل جهلك غالب ... أنّ المزاح هو السّباب الأكبر فهذه نبذة مما قيل في الفكاهات والمجون، يفرح لها قلب المحزون، وتزول عنه الشجون. فلنذكر ما قيل مما يناسب هذا الباب من أشعار المزّاحين. ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه وسنورد في هذا الفصل من أشعار هذا الفن، ما رفلت معانيه في حلل أنفاسها على صفحات أطراسها، وأهلت مغانيه بما أودعه لسان القلم صدر قرطاسها من بديغ إيناسها. يضحك سامعه وإن كان ثكلا. ويستوفيه وإن كان عجلا. هذا مع ما فيه من فحش القول الذى إذا تأمّلته في موضعه كان أزين من عقود اللآلى،

وإن لمحته في غيره كان أقفر من ظلم الليالى. نسأل الله المسامحة لكاتبه وقائله، ومستمعه وناقله. فمن ذلك ما كتب به ابن حجاج لمن شرب دواء: يا أبا أحمد بنفسى أفديك ... وأهلى من سائر الأسواء كيف كان انحطاط جعسك «1» فى طاعة ... شرب الدواء يوم الدواء كيف أمسى سبال مبعرك النّد» ل غريقا في المرّة الصفراء وقال الحسن بن هانىء: للطمة يلطمنى أمرد ... تأخذ منّى العين والفكّا أطيب من تفّاحة من يدى ... ذى لحية محشوّة مسكا وقال أبو عبد الله محمد بن الحسن الحجاج: قومى تنحّى فلست من شانى ... قومى اذهبى لا يراك شيطانى لا كان دهر عليك حصّننى ... ولا زمان اليك ألجانى قعدت تفسين فوق طنفستى ... ما بين راحى وبين يحانى فما عدمنا من الكنيف وقد ... حضرت إلا بنات وردان «3» وقال أبو بكر محمد الخوارزمىّ: فسا الشيخ سهوا وفي كفّه ... شراب فلمناه لوما قبيحا فقال لى الدخل والخرج لى ... فأدخلت راحا وأخرجت ريحا وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: وبات في السطح معى صاحب ... من أكرم الناس ذوى الفضل أفسو فيفسو فهو لى مسعد ... وإنما أملى ويستملى

الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الثانى فى الخمر

الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر وتحريمها وآفاتها وجناياتها وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس وما يجرى هذا المجرى ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها أجمع الناس على أنّ الخمر المحرّمة في كتاب الله عزّوجلّ هى المتّخذة من عصير العنب بعد أن يغلى ويقذف بالزّبد من غير أن يمسّها نار. واذا انقلبت بنفسها وتخلّلت طهرت من غير أن يتسبّب في ذلك بشىء يلقى فيها. وطهارتها إذا غلبت عليها الحموضة وفارقتها النشوة. والخمر المتّخذة أيضا من التمر، لقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» . وفي حديث آخر: «من هاتين الشجرتين الكرمة والنخلة» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت عمر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة، من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير» . والخمر ما خامر العقل. ولا خلاف بين أحد من الأئمة في أن الخمر حرام، لما ورد في ذلك من الكتاب والسنة. أما ما ورد في كتاب الله عزّوجلّ فأربع آيات، منها ما يقتضى الإباحة، ومنها ما يقتضى الكراهة والتحريم. فأوّل ما نزل فيها بمكة قوله عزّوجلّ: (وَمِنْ

ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) . فكان المسلمون يشربونها يومئذ وهى حلال لهم. ثم أنزل الله عزّوجلّ بالمدينة: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) نزلت هذه الآية فى عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن ربكم تقدّم فى تحريم الخمر» . فتركها قوم للإثم الكبير وقالوا: لا حاجة لنا في شربها ولا في شىء فيه إثم كبير، وشربها قوم لقوله تعالى: (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) * . وكانوا يستمتعون بمنافعها ويتجنّبون مآثمها؛ الى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب، فقدّموا بعضهم ليصلّى بهم؛ فقرأ قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون الى آخر السورة بحذف «لا» فأنزل الله عزّوجلّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فحرّم السكر في أوقات الصلاة. فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن الله عزّوجلّ تقارب في النهى عن شرب الخمر وما أراه إلا سيحرّمها. فلما نزلت هذه الآية تركها قوم، وقالوا: لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة. وقال قوم: نشربها ونجلس في بيوتنا؛ فكانوا يتركونها وقت الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة؛ الى أن شربها رجل من المسلمين، فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول: تحيّا بالسلامة أمّ بكر ... وهل لى بعد رهطك من سلام ذرينى أصطبح بكرا فإنى ... رأيت الموت كفّت عن هشام وودّ بنو المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام

فى أبيات أخر. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء فزعا يجرّ رداءه، حتى انتهى اليه، ورفع شنّا كان في يده ليضربه؛ فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا؛ ثم نزلت آية التحريم وهى قوله عزّوجلّ: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . وروى أن هذه الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطّلب، وكان نزولها وتحريم الخمر في شهر ربيع الأوّل سنة أربع من الهجرة. وكان من خبر حمزة بن عبد المطّلب ما رواه مسلم بن الحجاج بن مسلم في صحيحه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: أصبت شارفا «1» مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مغنم يوم بدر، وأعطانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شارفا أخرى من الخمس. قال علىّ: فلما أردت أن أبتنى بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعدت رجلا صوّاغا من بنى قينقاع «2» يرتحل معى فنأتى بإذخر «3» أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به على وليمة عرسى. فبينا أنا أجمع لشارفىّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناختان الى جنب حجرة رجل من الأنصار ورجعت حين جمعت ما جمعت، فاذا شارفاى قد اجتبّت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك نفسى حين رأيت ذلك المنظر منهما [أن «4» ] قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنّته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشّرف النّواء

- لم يذكر مسلم في صحيحه من الشعر غير ما ذكرناه. والأبيات التى غنت بها: ألا يا حمز للشّرف «1» النّواء ... وهنّ معقّلات بالفناء ضع السكّين في اللّبّات منها ... فضرّجهنّ حمزة بالدماء وعجّل من شرائحها كبابا ... ملهوجة «2» على وهج الصّلاء وأصلح من أطايبها طبيخا ... لشربك من قديد أو شواء فأنت أبا عمارة المرجّى ... لكشف الضرّ عنها والبلاء - فقام حمزة بالسيف فاجتبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. فقال علىّ: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهى الذى لقيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك» ؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتىّ فاجتبّ اسنمتها وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشى واتّبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء الباب الذى فيه حمزة؛ فاستأذن فأذنوا له، فإذا هم شرب؛ فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلوم حمزة فيما فعل وإذا حمزة محمّرة عيناه؛ فنظر حمزة الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صعّد النظر الى ركبتيه ثم صعّد النظر الى سرّته ثم صعّد النظر فنظر الى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبى! فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وفي حديث آخر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعلىّ: «إنّ عمّك قد ثمل وهما لك علىّ» فغرمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

لعلىّ. فلما أصبح حمزة غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذر. فقال: «مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك» . قالوا: واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين، منهم «1» سعد بن أبى وقّاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه؛ فقام رجل من الأنصار فأخذ لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّة موضحة. فانطلق سعد الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكا اليه الأنصار. فقال عمر رضى الله عنه: اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا؛ فأنزل الله عزّوجلّ تحريم الخمر في سورة المائدة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) الآية الى (مُنْتَهُونَ) . فقال عمر: انتهينا يا ربّ. وقيل: إنها حرّمت بعد غزوة الأحزاب بأيام في ذى القعدة سنة خمس من الهجرة. والله أعلم. قال أنس رضى الله عنه: حرّمت ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر. قال: فأخرجنا الحباب الى الطريق فصببنا ما فيها، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا، كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت ريحها. وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ساقى القوم يوم حرّمت الخمر فى بيت أبى طلحة، وما شرابهم إلا فضيخ «2» البسر والتمر، فاذا مناد ينادى، فقال القوم: اخرج فانظر، فاذا مناد ينادى: ألا إنّ الخمر قد حرّمت، قال: فجرت في سكك المدينة. فقال لى أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان! قتل فلان! وهى في بطونهم، فأنزل الله عزّوجلّ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .

وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبينته السنة، فالأحاديث متضافرة

وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة فى تحريمها. فمن ذلك ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات وهو مدمن خمر لقى الله وهو كعابد وثن» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة مدمن خمر» . وأمّا من زعم أنها تباح للتّداوى بها فيردّ عليه ذلك ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن طارق بن سويد الجعفىّ سأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر فنهاه أوكره أن يصنعها، وقال: إنما أصنعها للدواء؛ فقال: «إنها ليست بدواء ولكنه داء» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم وقد سأله رجل قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذّرة يقال له المزر؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسكر هو» قال نعم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . فقالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» وفي لفظ: «حرمها في الآخرة فلم يسقها» وفي لفظ: «إلا أن يتوب» . وعن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: حرّمت الخمر قليلها وكثيرها وما أسكر من كلّ شراب. وعنه رضى الله عنه: من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرّم النبيذ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» أخرجه البخارىّ في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل» .

ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ

ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ والمطبوخ يسمّى الظّلاء وهو الذى طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. سمّى بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل في ثخنه «1» وسواده. وقد اختلف العلماء في المطبوخ، فقال بعضهم: كلّ عصير طبخ حتى ذهب نصفه فهو حلال إلا أنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلا أن السكر منه حرام. وحجتهم في ذلك ما روى: أن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتب إلى بعض عماله: أن ارزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعن عبد الله بن يزيد الخطمىّ قال: كتب الينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أمّا بعد، فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان في عود الكرم، فإن له اثنين ولكم واحد. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ نوحا عليه السّلام لمّا نازعه الشيطان في عود الكرم فقال: هذا لى، وقال: هذا لى؛ فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها. وسئل سعيد بن المسيّب: ما الشراب الذى أحلّه عمر رضى الله عنه؟ فقال: الذى يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحكى أن أبا موسى الأشعرىّ وأبا الدرداء كانا يشربان من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقى ثلثه. وعلى الجملة فمجموع هذه الأخبار في مثلّث «2» لم يسكر البتة. ودليل ذلك ما حكى عن عبد الله بن عبد الملك ابن الطفيل الخزرجىّ قال: كتب الينا عمر بن عبد العزيز: ألّا تشربوا من الطّلاء حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وكلّ مسكر حرام. هذا الذى عليه أكثر العلماء. وقال قوم: اذا طبخ العصير أدنى الطبخ صار حلالا، وهو قول إسماعيل بن عليّة

ذكر آفات الخمر وجناياتها

وبشر المرّيسىّ وجماعة من أهل العراق. وذهب بعضهم الى أن الطّلاء الذى رخّص فيه إنما هو الرّبّ «1» والدّبس. والله عزّوجلّ أعلم. ذكر آفات الخمر وجناياتها وآفات الخمر وجناياتها كثيرة، لأنها أمّ الكبائر. وأوّل آفاتها أنها تذهب العقل، وأفضل ما في الإنسان عقله، وتحسّن القبيح وتقبّح الحسن. قال أبو نواس الحسن ابن هانىء عفا الله عنه ورحمه وغفر له ما أسلف: اسقنى حتى ترانى ... حسنا عندى القبيح وقال أيضا: اسقنى صرفا حميّا ... تترك الشيخ صبيّا وتريه الغىّ رشدا ... وتريه الرّشد غيّا وقال أبو الطّيب: رأيت المدامة غلّابة ... تهيّج للمرء أشواقه تسىء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه وانفس ما للفتى لبّه ... وذو اللبّ يكره إنفاقه وقد متّ أمس بها ميتة ... وما يشتهى الموت من ذاقه قالوا: وإنما قيل لمشارب الرجل نديم، من الندامة؛ لأن الرجل معاقر الكأس اذا سكر تكلّم بما يندم عليه وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه «نادمه» لأنه فعل مثل فعله فهو نديم له، كما يقال: جالسه فهو جليس له. والمعاقر: المدمن، كأنه لزم عقر الشىء أى فناءه. وقد شهر أصحاب الشراب بسوء العهد وقلّة الحفاظ،

وقالوا: صاحب الشراب صديقك ما استغنيت عنه حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك. قال بعض الشعراء عفا الله تعالى عنه: أرى كلّ قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النّبيذ حريم اذا جئتهم حيّوك ألفا ورحّبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلّهم رثّ الوصال سئوم فهذا بيانى لم أقل بجهالة ... ولكننى بالفاسقين عليم قيل: سقى قوم أعرابيّة مسكرا، فقالت: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا نعم. قالت: فما يدرى أحدكم من أبوه. وقال قصىّ بن كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر فإنه يصلح الأبدان ويفسد الأذهان. وقيل لعدىّ بن حاتم: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: معاف الله! أصبح حليم قوم وأمسى سفيههم. وقيل لأعرابىّ: مالك لا تشرب النبيذ؟ قال: لا أشرب ما يشرب عقلى. وقيل لعثمان بن عفّان: ما منعك من شرب الخمر في الجاهليّة ولا حرج عليك؟ قال: إنى رأيتها تذهب العقل جملة وما رأيت شيئا يذهب جملة ويعود جملة. وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب ابن رباح: هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد المنادمة، فقال: أصلح الله الأمير! الشّعر مفلفل واللون مرمدّ، ولم أقعد اليك بكرم عنصر ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلى ولسانى؛ فإن رأيت ألّا تفرّق بينهما فافعل. ودخل نصيب هذا على عبد الملك ابن مروان فأنشده فاستحسن عبد الملك شعره فوصله؛ ثم دعا بالطعام فطعم معه. فقال له عبد الملك: هل لك [أن «1» ] تنادم عليه؟ قال: يا أمير المؤمنين، تأمّلنى. قال: قد أراك. قال: يا أمير المؤمنين، جلدى أسود وخلقى مشوّه ووجهى قبيح ولست

فى منصب، وإنما بلغ بى مجالستك ومؤاكلتك عقلى، وأنا أكره أن أدخل عليه ما ينقصه. فأعجبه كلامه وأعفاه. وقال الحسن: لو كان العقل عرضا لتغالى الناس في ثمنه؛ فالعجب لمن يشترى بماله شيئا ليشربه فيذهب عقله!. وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج بن يوسف في وفدة وفدها عليه وقد أكلا: هل لك في الشراب؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللت، ولكن أمنع أهل عملى، وأكره أن أخالف قول العبد «1» الصالح وهو قوله تعالى: (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) . وقالوا: للنبيذ حدّان، حدّ لا همّ معه، وحدّ لا عقل معه؛ فعليك بالأوّل واتقّ الثانى. ومن آفات الخمر افتضاح شاربها بريحها عند من يحتشم منه ويتّقيه ويخافه فلا يستطيع مع وجود ريحها إنكار شربها. والولاة تحدّ بالاستنكاه؛ لأن خمارها يثبت في الفم اليوم واليومين بعد تركها. فمن شربها ساعة وهو يحتشم من الناس أن يظهر ذلك عليه احتاج الى الانقطاع في بيته بعد زوال السكر وأوبة العقل حتى تزول الرائحة. وقد تحايل الذين يشربون الخمر على قطع ريحها من الفم وعالجوا ذلك بأدوية صنعوها يستعملونها بعد شربها. فأجود ما صنعوه من هذه الأدوية أن يؤخذ من المرّ والبسباسة «2» والسّعد «3» والجناح «4» والقرنفل أجزاء متساوية وجزءان من الصمغ، ويدقّ

ذكر أسماء الخمر من حين تعصر إلى أن تشرب

ذلك ويجبل «1» بماء الورد ويستعمل منه فإنه يقطع رائحة الخمر من الفم، كما زعموا. وقد نظم بعض الشعراء هذه المفردات في أربعة أبيات فقال: مرّ وبسباسة وسعد ... الى جناح وماء ورد ينظمها الصمغ إن تلاه ... قرنفل الهند نظم عقد أجزاؤها كلّها سواء ... والصمغ جزآن، لا تعدّى فيه لذى مرّة شفاء ... وصون عرض وحفظ ودّ ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب الخمر اذا عصر فاسم ما يسيل منه قبل أن تطأه الرجل: السّلاف؛ وأصله من السّلف وهو المتقدّم من كلّ شىء، وهو في مثل ذلك الخرطوم أيضا. ويقال للذى يعصر بالأقدام: العصير، والموضع الذى يعصر فيه: المعصرة. والنّطل: ما عصر فيه السلاف؛ ويقال للعاصر: الناطل، ثم يترك العصير حتى يغلى فاذا غلا فهو خمر، وقيل: سمّيت خمرا لأنها تخامر العقول فتخالطها. وقالوا: لأنها تخمر في الإناء، أى تغطّى وهى مؤنثة. ويقال لها: القهوة، لأنها تفهى عن الطعام والشراب، يقال: أقهى عن الطعام وأقهم عنه اذا لم يشتهه. ومن أسمائها: الشّمول، سمّيت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشّمال، وقيل: لأنها تشمل القوم بريحها. ومنها: السّلاف والسّلافة والخرطوم وقد تقدّم معناها. ومنها: القرقف لأن شاربها يقرقف اذا شربها، أى يرعد، يقال: قرقف وقفقف. وقال أبو عمرو: القرقف اسم للخمر غير صفة وأنكر قولهم سمّيت بها لأنها ترعد. ومنها: الراح لأنها تكسب صاحبها الأريحيّة أى خفة العطاء. ومنها: العقار لأنها عاقرت الدّنّ، وقيل: لأنها تعقر شاربها

من قول العرب: كلأ بنى فلان عقّار، أى يعقر الماشية. ومن أسمائها: المدامة والمدام لأنها داومت الظّرف الذى انتبذت فيه. والرحيق ومعناه الخالص من الغش. وقيل: الصافى. وقيل: العتيق. والكميت سمّيت بذلك للونها اذ كانت تضرب الى السواد. والجريال وهو صبغ أحمر سمّيت ذلك للونها أيضا. والسبيئة والسّباء وهى المشتراة وأصلها مسبوءة، يقال: سبأت الخمر اذا اشتريتها. والمشعشعة وهى الممزوجة. والصهباء وهى التى عصرت من العنب الأبيض. والشّموس شبّهت بالدابّة التى تجمح براكبها. والخندريس وهى القديمة. والحانيّة: منسوبة الى الحانة. والماذيّة: الليّنة يقال: عسل ماذى اذا كان ليّنا. والعانيّة: منسوبة الى عانة. والسّخامية: اللّينة من قولهم: قطن سخام أى ليّن وثوب سخام. قال الراجز: كأنه بالصّحصحان «1» الأنجل ... قطن سخامىّ بأيدى غزّل والمزّة والمزّاء لطعمها. والإسفنط، قال الأصمعىّ: هو بالرومية. والغرب ومعناه الحدّ؛ وغرب كلّ شىء حدّه. ولعلها سمّيت بذلك لحدّتها. والحميّا، وحميّا كلّ شىء سورته وحدّته. والمصطار: الخلّة ويقال: المضطار بالضاد أيضا. والخمطة: المتغيّرة الطعم. والمعتّقة: التى قد طال مكثها. والإثم: اسم لها لعله وقع عليها لما فى شربها من الإثم. والحمق كذلك. قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضلّ عقلى ... كذاك الإثم يفعل بالعقول والمعرق: الممزوج قليلا، يقال: عرق من ماء أى ليس بكثير. ومن أسمائها: القنديد والفيهج وأمّ زنبق والمقطّب والطّوس والسّلسال والسّلسل والزّرجون والكلفاء والجرباء والعانسة والطّابة والنّاجود والكأس والطّلاء، قال عبيد بن الأبرص:

ذكر أخبار من تنزه عنها في الجاهلية وتركها ترفعا عنها

هى الخمر صرفا تكنّى الطلا «1» ... ء كالذئب يسمى أبا جعدة والباذق والبختج: فارسيّان. والجهورىّ. والمقدىّ منسوبة الى قرية من قرى الشام. والمزاء من قولك: هذا أمزى من هذا أى أفضل. والنبيذ. والبتع: نبيذ العسل والسّكركة من الذرة. والجعة من الشعير. والفضيخ من البسر. والمزر من الحبوب ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها كان ممن تركها في الجاهلية عثمان بن عفان رضى الله عنه وعبد المطلب بن هاشم وعبد الله بن جدعان التيمىّ وكان سيّدا جوادا من سادات قريش، وسبب تركه لها أنه شرب مع أميّة بن أبى الصلت الثقفىّ فأصبحت عين أميّة مخضرّة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك؟ فقال: أنت صاحبها أصبتها البارحة، قال: وبلغ منّى الشراب ما أبلغ معه من جليسى هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: الخمر علىّ حرام، لا أذوقها أبدا، وقال فيها: شربت الخمر حتى قال صحبى ... ألست عن السّقاة بمستفيق؟ وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى التّرب السحيق وممّن حرّمها في الجاهليّة: قيس بن عاصم المنقرىّ، والسبب في ذلك أنه سكر فغمز عكنة ابنته أو أخته فهربت منه، فلما صحا أخبروه فحرّم الخمر على نفسه، وقال في ذلك: وجدت الخمر جامحة وفيها ... خصال تفضح الرجل الكريما فلا والله أشربها حياتى ... ولا أدعو لها أبدا نديما

ولا أعطى لها ثمنا حياتى ... ولا أشفى بها أبدا سقيما فإنّ الخمر تفضح شاربيها ... وتجشمهم بها أمرا عظيما اذا دارت حميّاها تعلّت ... طوالع تسفه الرجل الحليما ومنهم: عامر بن الظّرب العدوانىّ، قال: سأّلة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرّق ترب القبر أوصالى ومنهم: صفوان بن أميّة بن محرّث الكتامىّ وعفيف بن معديكرب الكندىّ والأسلوم بن نامى من همدان ومقيس بن عدىّ السهمىّ وكان سكر فجعل يخط ببوله: أنعامة أو بعيرا، فلما أفاق وأخبر بذلك حرّمها. ومنهم: العبّاس بن مرداس السلمىّ قيل له: لم تركت الشراب وهو يزيد فى جرأتك وسماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومى وأمسى سفيههم. ومنهم: سعيد بن ربيعة بن عبد شمس وورقة بن نوفل والوليد بن المغيرة. وقال زيد بن ظبيان: بئس الشراب شراب حين تشربه ... يوهى العظام وطورا يوهى «1» العصب إنى أخاف مليكى أن يعذّبنى ... وفي العشيرة أن يزرى على حسبى وقال رجل لسعيد بن سلّم: ألا تشرب النبيذ؟ فقال: تركت كثيره لله تعالى وقليله للناس.

ذكر من حد فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها

ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها فأما من حدّ فيها من الأشراف فالوليد بن عقبة بن أبى معيط وهو أخو عثمان بن عفّان لأمه، شهد عليه أهل الكوفة أنه صلّى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران ثم التفت اليهم فقال: وإن شئتم زدتكم، فجلده عبد الله بن جعفر بين يدى عثمان رضى الله عنه، وسنذكر الواقعة إن شاء الله تعالى بجملتها في الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس في التاريخ في خلافة عثمان رضى الله عنه. ومنهم: عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحدّه بها عمرو بن العاص سرّا، فلما قدم على أبيه جلده حدّا آخر علانية. ومنهم: عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب المعروف بأبى شحمة «1» ، حدّه أبوه فى الشراب فمات تحت حدّه. ومنهم: عاصم بن عمر بن الخطّاب، حدّه بعض ولاة المدينة. ومنهم: قدامة بن مظعون، حدّه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشهادة علقمة الخصىّ وغيره. ومنهم: عبد الله بن عروة بن الزبير، حدّه هشام بن إسماعيل المخزومىّ. ومنهم: عبد العزيز بن مروان، حدّه عمرو بن سعيد الأشدق. ومنهم: أبو محجن الثقفىّ واسمه عمرو بن حبيب، وكان مغرما بالشراب، حدّه عمر مرارا في الخمر، وحدّه سعيد بن أبى وقّاص مرارا وشهد القادسيّة وأبلى

بلاء حسنا، ثم حلف بعد القادسيّة ألا يذوق الخمر أبدا ومات تائبا عنها، وأنشد رجل عند عبد الله بن مسلم بن قتيبة قوله: اذا متّ فآدفنّى الى جنب كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفننّى في الفلاة فإننى ... أخاف اذا مامتّ أن لّا أذوقها فقال عبد الله: حدّثنى من رأى قبره بأرمينية بين شجرات كرم يخرج اليه الفتيان ويشربون عنده ويتناشدون شعره فاذا جاءت كأسه صبّوها على قبره. ومنهم: إبراهيم بن هرمة وكان مغرما بالشراب، حدّه جماعة من عمال المدينة فلما طال ذلك عليه رحل الى أبى جعفر المنصور، وقيل: إنما رحل الى المهدىّ وامتدحه بقصيدته التى يقول فيها: له لحظات في حفافى سريره ... اذا كرّها فيها عقاب ونائل له تربة بيضاء من آل هاشم ... اذا اسودّ من لؤم التراب القبائل فاستحسن شعره وقال له: سل حاجتك، فقال: تأمر لى بكتاب الى عامل المدينة ألّا يحدّنى على شراب، فقال له: ويلك! لو سألتنى عزل عامل المدينة وتوليتك مكانه لفعلت؛ قال: يا أمير المؤمنين، ولو عزلته ووليتنى مكانه أما كنت تعرلنى أيضا وتولّى غيرى! قال: بلى، قال: فكنت أرجع الى سيرتى الأولى فأحدّ، فقال المهدىّ لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها من التلطّف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه سأل مالا سبيل اليه، إسقاط حدّ من حدود الله عزّوجلّ، فقال المهدى: له حيلة اذا أعيتكم الحيل فيه، اكتبوا الى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكرانا فاضربه مائة سوط واجلد ابن هرمة ثمانين، فكان إذا شرب ومشى في أزقة المدينة يقول: من يشترى مائة بثمانين؟

وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء.

وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء. منهم: يزيد بن معاوية شهر بشربها، وكان يقال له: يزيد الخمور، روى هشام ابن الكلبىّ عن أبيه قال: وجّه معاوية جيشا الى أرض الروم فأصابهم الجدرىّ، وعند يزيد امرأته أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر فسكر وأنشأ يقول: إذا ارتفقت على الأنماط في غرف ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم فما أبالى الذى لاقت جيوشهم ... بالغذقذونة «1» من حمّى ومن موم «2» فبلغ الخبر معاوية، فقال: أنت هاهنا! إلحق بهم، وسيّره الى قتال الروم. ومنهم: عبد الملك بن مروان، وكان يسمّى: حمامة المسجد، لاجتهاده فى العبادة، هذا قبل أن يلى الخلافة، فلما أفضت الخلافة اليه شرب، فقال له سعيد بن المسيّب: بلغنى يا أمير المؤمنين، أنك شربت الطلاء، قال: إى والله والدماء. ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو صاحب حبابة «3» وسلّامة، وأخباره مشهورة. ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ذهب به الشراب كلّ مذهب حتى خلع وقتل؛ وله في ذلك حكايات وأشعار. منها: أنه سمع بشرّاعة بن الزّندبوذ الكوفىّ، وكان من أهل البطالة المشهورين باللعب واللهو وإدمان الشراب؛ فاستدعاه

ومنهم: المأمون بن الرشيد

بالكوفة الى دمشق فحمل اليه فلما دخل عليه قال له: يا شرّاعة، ما أرسلت اليك لأسألك عن كتاب الله ولا سنّة نبيّه، قال: لو سألتنى عنهما لوجدتنى فيهما حمارا، قال: وإنما أرسلت اليك لأسألك عن القهوة، قال: أنا دهقانها الخبير، ولقمانها الحكيم، وطبيبها الماهر؛ قال: فأخبرنى عن الشراب قال: سل عمّا بدا لك قال: ما تقول في الماء قال: لا بدّ منه، والحمار شريكى فيه. قال: فاللبن؟ قال: ما رأيته إلا استحييت من طول ما أرضعتنى أمّى به، قال: فالسّويق؟ قال: شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال: فشراب التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش. قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: حاموا به على الشراب، قال: فالخمر؟ قال: تلك والله صديقة روحى، قال: وأنت والله صديق روحى، قال: فأى المجالس أحسن؟ قال: ما شرب فيه على وجه السماء؛ ومن شعر الوليد: خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوى ما حييت عقالا دعوا لى سلمى والنبيذ وقينة ... وكأسا، ألا حسيى بذلك مالا أبا لملك أرجو أن أخلّد فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا ومنهم: المأمون بن الرشيد وشهر بالشراب وله فيه أخبار، منها: أنه شرب هو ويحيى بن أكثم القاضى وعبد الله بن طاهر، فتعامل «1» المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فأشار الى الساقى فأسكره، وكان بين أيديهم رزم من الورد والرياحين، فأمر المأمون فشقّ ليحيى لحد من الورد والرياحين وصيّروه فيه، وعمل بيتى شعر ودعا قينة فجلست عند رأس يحيى وغنّت بالشعر: دعوته وهو حىّ لا حياة به ... مكفّنا في ثياب من رياحين فقلت قم قال رجلى لا تطاوعنى ... فقلت خذ قال كفّى لا تواتينى

ومنهم: العباس بن على بن عبد الله بن العباس

فانتبه يحيى لرنّة العود وصوت الجارية فقال: يا سيّدى وأمير الناس كلّهم ... قد جارفى حكمه من كان يسقينى إنى غفلت عن الساقى فصيّرنى ... كما ترانى سليب العقل والدّين فانظر لنفسك قاض إننى رجل ... ألراح يقتلنى والرّوح يحيينى ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس وهو عمّ المنصور، كان يأخذ الكأس بيده ويقول: أما العقل فتتلفين، وأما المروءة فتمحقين، وأما الدّين فتفسدين، ويسكت ساعة ثم يقول: وأما النّفس فتسخّين، وأما القلب فتشجّعين، وأما الهمّ فتطردين، أفتراك منى تفلتين! ثم يشربها. ومنهم: بلال بن أبى بردة فضح بالشراب وفيه يقول يحيى بن نوفل الحميرىّ: وأما بلال فذاك الذى ... يميل الشراب به حيث مالا يبيت يمصّ عتيق الشراب ... كمصّ الوليد يخاف الفصالا ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السّكر فيه احولا لا ويمشى ضعيفا كمشى النزيف «1» ... تخال به حين يمشى شكالا ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ قاضى الكوفة وفضح بمنادمة سعد بن هبّار وفيه يقول حارثة بن بدر: نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبّار ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو الذى يقول: هاك فاشرب يا خليلى ... فى مدى الليل الطويل قهوة في ظلّ كرم ... سبيت من نهر نيل

ومنهم: حارثة بن زيد العدوانى

فى لسان المرء منها ... مثل لذع الزنجبيل إنما أذهب مالى ... طول إدمان الشّمول «1» وحنين العود تثني ... هـ يدا ظبى كحيل فالطويل العنق الأ ... هيف كالسيف الصقيل يا خليلىّ اسقيانى ... واهتفا بالشمس زولى قل لمن لامك فيها ... من نصيح أو عذول يبق بين الباب والدا ... ر على نعب الطلول وقيل لأبيه عبد العزيز بن عمر: إن بنيك يشربون الخمر، فقال: صفوهم لى، فقالوا: أما فلان إذا شرب خرق ثيابه وثياب نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وأما فلان فاذا شربها تقيّأ في ثيابه، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا: وأما آدم فإذا شربها فأسكن ما يكون لا ينال أحدا بسوء، قال: هذا لا يدعها أبدا. ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ رجل من تميم- دخل يوما على زياد ابن أبيه وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال: أصلح الله الأمير ركبت فرسى الأشقر «2» فجمح بى حتى صدمنى الحائط، فقال: أما إنك لو ركبت فرسك الأشهب «3» لم يصبك مكروه. ولحارثة فيها أشعار كثيرة وأخبار مع الأحنف ابن قيس، وكان الأحنف ينهاه عنها وهو لا ينتهى ويجيبه بشعر في مدحها وقيل: إن حارثة هذا أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسنّ في حال صباه وحداثته. ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ وهو الذى ربّى أبا نواس وأدّبه وعلّمه الفتوّة وقول الشعر. حكى أن المنصور قال له يوما: ادخل إلى محمد- يعنى المهدىّ- وحدّثه، فدخل عليه، فأوّل ما أنشده قوله:

ومنهم: أبو الهندى

قولا لعمرو لا تكن ناسيا ... وسقّنى لا تحبسن كاسيا واردد على الهيثم مثل الذى ... هجت به ويحك وسواسيا وقل لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسيا فبلغ ذلك المنصور، فقال: لا تعيدوه إليه أردنا أن نصلحه فأراد هو أن يفسده. ومنهم: أبو الهندىّ وهو عبد المؤمن بن عبد القدّوس بن شبث بن ربعىّ اليربوعىّ، حجّ به نصر بن سيّار فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله الحرام ومحل حرمه فدع الشراب، فلما زال عنه وضعه بين يديه وجعل يشرب ويبكى ويقول: رضيع مدام فارق الراح روعه ... فظلّ عليها مستهلّ المدامع أديرا علىّ الكأس إنى فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع ومرّ به نصر بن سيّار وهو يميل سكرا، فقال له: أفسدت شرفك، فقال: لو لم أفسد شرفى لم تكن أنت اليوم والى خراسان. ومنهم: سعيد بن وهب وكان شاعرا بصريّا. ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم صاحب الحسن بن هانىء وكان خليعا ماجنا مليح الشعر وهو الذى يقول: ألا إنما الدّنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولة بنصيب وعيشك بين المسمعات ممتّعا ... بفنّين من عرف وشدو مصبب وأنس وإنسان تلذّ بقربه ... وبدلة معشوق ويوم رقيب وعدّى ساعات النهار ورقبتى ... إلى الشمس لما آذنت بمعيب

ومنهم: يحيى بن زياد

ومنهم: يحيى بن زياد وهو الذى يقول: أعاذل ليت البحر خمر وليتنى ... مدى الدهر حوت ساكن لجّة البحر فأضحى وأمسى لا أفارق لجّة ... أروّى بها عظمى وأشفى بها صدرى طوال الليالى، ليس عنّى بناضب ... ولا ناقص حتى أصير الى الحشر ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء ممن اشتهر بالشراب واللهو والطرب ومنادمة القيان، وله في الخمر تشبيهات حسنة وحكايات ظريفة، نذكر هاهنا من أخباره طرفا: حكى أن مسلم بن الوليد عاتبه وقال: يا أبا نواس، قد خلعت عذارك وأطلت الإكباب على المجون حتى غلب على لبّك وما كذلك يفعل الأدباء! فأطرق ثم قال: فأوّل شربك طرح الرداء ... وآخر شربك طرح الإزار وما هنّأتك الملاهى بمثل ... إمانة مجد وإحياء عار وما جاد دهر بلذّاته ... على من يضنّ بخلع العذار فانصرف مسلم وقد أيس من فلاحه وهو يقول: جواب حاضر، من كهل فاجر. ومما يحفظ من أخباره، ويروى من أشعاره في ذلك: أنه بلغ إخوانه عنه أنه ترك الشراب واللذّات وأخذ في الزهد والصلاة في أوقاتها فاجتمعوا إليه وأقبلوا يهنّئونه، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل اليه أحد يهنئه إلا شرب بين يديه رطلا وأنشد: قالوا نزعت ولمّا يعلموا وطرى ... فى كلّ أغيد ساجى الطرف ميّاس كيف النزوع وقلبى قد تقسّمه ... لحظ العيون وقرع السنّ بالكاس لا خير في العيش إلا في المجون مع ال ... أكفاء والراح والريحان والآس

ومسمع يتغنّى والكئوس لها ... حثّ علينا بأخماس وأسداس يا مورى الزند قد أكبت قوادحه ... اقبس اذا شئت من قلبى بمقياس ما أقبح الناس في عينى وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس وحدّث الفضل بن سلمة عن الثورىّ، قال: خرج الحسن بن هانىء ومعه مطيط صاحبه، حتى أتيا دار خمّار. فقال الحسن لمطيط: ادخل بنا نمزح بهذا الخمّار. فدخلا فسلّما فردّ عليهما. فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة يا خمّار؟ فقال: عندى منها أجناس، فأيها تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: حجبت خيفة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصّيان وكأنّ الأكفّ تصبغ من ضو ... ء سناها بالورس والزعفران فملأ له الخمّار قدحا من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول؛ فشربه الحسن وقال: أحسن من هذا أريد. فقال له الخمار: أىّ جنس تريد؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: دفعتها أيدى الهواجر حتّى ... صيّرت جسمها كجسم الهواء فهى كالنّور في الإناء وكالنّا ... ر إذا ما تصير في الأحشاء فملا له الخمار قدحا من خمر كأنها العقيق. فشربه وقال: أرفع من هذا أريد. فقال: أىّ جنس؟ قال: التى يقول فيها الشاعر: وإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع كفعل ذى القدر فى لون ماء الغيث إلا أنها ... بين الضلوع كواقد الجمر فملأ له قدحا من خمر بيضاء، كأنها ماء المزن. فشرب الحسن وقال للخمار: أتعرفنى؟ قال: إى والله يا سيدى، أنا أعرف الناس بك. قال: من أنا؟ قال:

أنت الذى يسكر من غير وزن. فضحك الحسن وقال لمطيط: ادفع إليه ما بقى عندك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف. وقال الحسين بن الضحّاك: كنت مع أبى نواس بمكة عام حجّ، فسمع صبيّا يقرأ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) . فقال أبو نواس: فى مثل هذا يجىء للخمر صفة حسنة؛ ففكّر ساعة ثم أنشدنى: وسيّارة ضلّت عن القصد بعد ما ... ترادفهم أفق من الليل مظلم فأصغوا الى صوت ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكره يترنم فلاحت لهم منّا على النأى قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرّم إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حثّوا الركاب ويمموا قال: فحدّث بهذا الحديث محمد بن الحسين فقال: لا ولا كرامة، ما سرقه من القرآن ولكن من قول الشاعر: وليل بهيم كلّما قلت غوّرت ... كواكبه عادت لنا لتذيّل به الركب إمّا أومض البرق يمّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جهّل وقال أبو نواس فيها: ألا دارها بالماء حتى تلينها ... فما تكرم الصهباء حتى تهينها أغالى بها حتى اذا ما مللتها ... أهنت لإكرام النديم مصونها وقال أيضا: نبهته والليل ملتبس به ... وأزحت عنه حثاثة «1» فانزاحا قال ابغنى المصباح، قلت له اتّئد ... حسبى وحسبك ضوءها مصباحا

ومنهم: الثروانى،

فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا شكّ البزال» فؤادها فكأنها ... أبدت اليك بريحها تفاحا وقال أيضا: ردّا علىّ الكأس، إنكما ... لا تدريان الكأس ما تجدى خوّفتمانى الله جهدكما ... وكحيفتيه رجاؤه عندى لا تعذلا في الراح إنكما ... فى غفلة عن كنه ما تسدى لو نلت ما نلت ما مزجت ... إلا بدمعكما من الوجد ما مثل نعماها اذا اشتملت ... إلا اشتمال فم على خدّ إن كنتما لا تشربان معى ... خوف الإله شربتها وحدى وأخبار الحسن بن هانىء فيها كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. ومنهم: الثّروانىّ، كان شاعرا مطبوعا بليغا، من أهل الخلاعة المشهورين. وكان آخر أمره أن أصيب في حانة خمّار بين زقّى خمر وهو ميت. وهو القائل فيها: كرّ الشراب على نشوان مضطجع ... قد هب يشربها والدّيك لم يصح والليل في عسكر حمر بوارقه ... من النجوم، وضوء الصبح لم يضح والعيش لا عيش إلا أن تباكرها ... نشوان تقتل همّ النفس بالفرح حتى يظلّ الذى قد بات يشربها ... ولا مراح به يختال كالمرح

ومنهم: مطيع بن إياس.

ومنهم: مطيع بن إياس. وكان شاعرا أديبا ظريفا مشتهرا بالخلاعة واللعب. وكان أصحابه على ذلك، وهم يحيى بن زياد، ووالبة بن الحباب، وحمّاد عجرد. ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ. كان شاعرا فصيحا، لا يكاد يتقدّمه أحد لجزالة ألفاظه وحلاوة معانيه. وكان مولعا بالخمر مشتهرا بها مدمنا عليها، أكثر أشعاره فيها. فمن شعره: أخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب وقال أيضا: وكم قالوا تمنّ، فقلت كأسا ... يطوف بها قضيب في كثيب وندمانا يساقطنى حديثا ... كصدق الوعد أو غضّ الرقيب ومنهم: أبو هفّان. وكان شاعرا محسنا، وخليعا ماجنا. حكى أنه شرب مع أحمد بن أبى طاهر حتى فنى ما عندهما، وكانا بجوار العلاء بن أيّوب. فقال ابن أبى طاهر لأبى هفّان: تماوت حتى نحتال على أبى العلاء في أن ينيلنا شيئا. فمضى اليه ابن أبى طاهر فقال: أصلحك الله! نزلنا جوارك فوجب حقّنا عليك، وقد مات أبو هفّان وليس له كفن. فقال لوكيله: امض معه وشاهد أمره وادفع اليه كفنا. فأتاه فوجده ملقى عليه ثوب فنقر أنفه فضرط. فقال: ما هذا؟ فقال: أصلحك الله عجّلت له صعقة القبر فإنه مات وعليه دين؛ فضحك وأمر له بدنانير. ومنهم: الأقيشر. وكان مغرما بالشراب مدمنا عليه. وهو القائل: ومقعد قوم قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا

ومنهم: النعمان بن على بن نضلة.

كميت كأن العنبر الورد ريحه ... ومسحوق هندىّ من المسك أذفرا ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة. وكان عاملا لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه على ميسان، وكان مدمن الشراب. وهو القائل: ألا أبلغ الحسناء أنّ خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم «1» فإن كنت ندمانى فبالأكبر اسقنى ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلّم لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق «2» المتهدّم فبلغ الشعر عمر رضى الله عنه. فكتب اليه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أما بعد، فقد بلغنى قولك: لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدّم وايم الله لقد ساءنى! وعزله. فلمّا قدم عليه سأله، فقال: والله ما كان من هذا شىء، وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط. فقال عمر: أظنّ ذلك، ولكن لا تعمل لى عملا أبدا. فنزل البصرة، ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات رحمه الله. ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة. خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوّجك حتى تدع الخمر والزنا. فقال: أمّا الزنا فإنى أدعه، وأما الخمر فوجدى بها شديد. ثم اشتدّ وجده بالمرأة فعاود طلبها؛ فقالت: حتى يحلف بطلاقى يوم

وأما من افتخر بشربها وسبائها،

يزنى أو يشرب خمرا؛ فحلف لها وتزوّجها. ومكث حينا لا يشرب، الى أن مرّ بخمّار وعنده قوم يشربون وقينة تغنّيهم وهو على ناقة؛ فطرب اليهم وارتاح ورمى بثيابه الى الخمّار، وقال: أسقهم بها؛ ونحر لهم ناقته، ومكث أياما يطعمهم ويسقيهم حتى أنفد ما معه. ثم رجع الى امرأته، فلامته، فأنشأ يقول: أقلّى علىّ اللوم يا أمّ سالم ... وكفّى فإن العيش ليس بدائم أسرّك لما صرّع القوم نشوة ... خروجى منهم سالما غير غارم سليما كأنى لم أكن كنت منهم ... وليس الخداع من تصافى التنادم ثم قال لها: الحقى بأهلك، وعاد الى ما كان عليه. وأما من افتخر بشربها وسبائها «1» ، فقد كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه إلى عظيم غنائها، وتقرنه بمذكور بلائها. وشاهد ذلك قول امرىء القيس: كأنّى لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزّقّ الروىّ ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال فقرن جوده في سباء الزقّ ببسالته في كرّ الخيل. ولمّا أنشد أبو الطيب المتنبى سيف الدولة بن حمدان قصيدته التى يقول فيها: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم فقال له سيف الدولة: انتقدنا عليك يا أبا الطيّب هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه، وذكرهما، قال: وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين: كان ينبغى لامرىء القيس أن يقول:

كأنى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال ولم أسبأ الزقّ الروىّ للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال وأن تقول أنت: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم فقال: أيّد الله مولانا! إن كان صحّ أنّ الذى استدرك على امرىء القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، والثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك لأن البزّاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذى أخرجه من الغزليّة الى الثوبيّة. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في سباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء؛ وأنا لما ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه. ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه باكية قلت: ووجهك وضّاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله. وقال لقيط بن زرارة: شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ عفا الله عنه ورحمه: إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللّقاء

حكى أنّ حسّان بن ثابت عنّف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها وأنهم يضربون عليها ضرب الإبل ولا يرجعون عنها؛ فقالوا: إنا اذا هممنا بالإقلاع عنها ذكرنا قولك: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهها اللقاء فعاودناها. وقال الأخطل يخاطب عبد الملك بن مروان: اذا ما نديمى علّنى ثم علّنى ... ثلاث زجاجات لهنّ هدير خرجت أجرّ الذيل حتى كأننى ... عليك أمير المؤمنين أمير وقال آخر: إذا صدمتنى الكأس أبدت محاسنى ... ولم يخش ندمانى أذاى ولا بخلى ولست بفحّاش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلى وقال آخر: شربنا من الدّاذىّ «1» حتى كأننا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر ومثله للمنخّل اليشكرىّ: فإذا سكرت فإننى ... ربّ الخورنق والسدير وإذا صحوت فإننى ... ربّ الشّويهة والبعير وقال عنترة: وإذا سكرت فإننى مستهلك ... مالى، وعرضى وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلى وتكرّمى

أخذه البحترىّ وزاد عليه في قوله: وما زلت خلّا للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدورا يستحثّون أنجما تكرّمت من قبل الكؤس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله اذا سكر، والبحترى ذكر أن ممدوحه يتكرم قبل الكؤس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤس أن تزيده تكرّما. وكان الأعشى ميمون بن قيس مشهورا بتعاطى الخمر مشغوفا بها كثير الذكر لها فى شعره. ومن اشتهاره بها قال المفضّل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس اذا ركب، والنابغة اذا رهب، وزهير اذا رغب، والأعشى اذا طرب. وقصد الأعشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليسلم وامتدحه بقصيدته التى أوّلها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السليم مسهّدا فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنه يحرّم عليك الزنا والخمر. فقال: أمّا الزنا فقد كبرت فلا حاجة لى فيه، وأمّا الخمر فلا أستطيع تركها. وعاد لينظر في أمره، وقيل: إنه قال: أعود فأشربها سنة وأرجع، فمات قبل الحول. قالوا: ونظر الحسن بن وهب الى رجل يعبس في كأسه، فقال: ما أنصفتها، تضحك في وجهك وتعبس في وجهها. ومن ذلك قول الشريف الرضىّ: كالخمر يعبس حاسيها على مقة ... والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم وهو مأخوذ من قول عبد الله بن المعتزّ حيث يقول: ما أنصف النّدمان كأس مدامة ... ضحكت اليه فشمّها بتعبّس

ذكر شىء مما قيل فيها من جيد الشعر

ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر قد أوسع الشعراء في هذا المعنى وأطنبوا فيه وتنوّعوا. فمنهم من مدحها ومنهم من وصفها وشبّهها، ومنهم من ذكر أفعالها وتغزّل فيها. وسنورد في هذا الموضع نبذة مما طالعناه في ذلك؛ إذ لو أوردنا مجموع ما وقفنا عليه لطال، ولا تسعت فيه دائرة المقال. فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى حيث يقول: تالله ما أدرى بأيّة علّة ... يدعون هذا الراح باسم الراح؟ ألريحها ولروحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح؟ إن حرّمت فبحقّها من خمرة ... ما كان مثل حريمها بمباح أو حلّلت فبحقّها من نشوة ... تشفى سقام قلوبنا بصحاح وقال أيضا: خمر اذا ما نديمى ظلّ يكرعها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... فى فيه كذّبه في وجهه الشفق ومثله قول الطليق المروانىّ: فإذا ما غربت في فمه ... أطلعت في الخدّ منه شفقا وقال الناجم: وقهوة كشعاع الشمس صافية ... مثل السراب ترى من رقّة شبحا اذا تعاطيتها لم تدر من فرح ... راحا بلا قدح أعطيت أم قدحا؟

ومما قيل في وصفها وتشبيهها؛

وقال الناشى: يا ربّما كأس تناولتها ... تسحب ذيلا من تلاليها كأنها النار ولكنها ... منعّم والله صاليها ومما قيل في وصفها وتشبيهها؛ فمن ذلك ما قاله يزيد بن معاوية: ومدامة حمراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء فالخمر شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء وقال السروىّ: عنيت بالمدامة الشعراء ... وصفوها وذاك عندى عناء كيف تحصيل علمها وهى موت ... وحياة وعلّة وشفاء فهى في باطن الجوانح نار ... وهى في ظاهر المحاجر ماء حلوة مرّة فما أحد يد ... رى أداء خصوصها أم دواء وقال البحترىّ: اشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء من قهوة تنسى الهموم وتبعث ال ... شوق الذى قد ضلّ في الأحشاء يخفى الزجاحة لونها فكأنها ... فى الكفّ قائمة بغير إناء ولها نسيم كالرياض تنفّست ... فى أوجه الأرواح والأنداء وفواقع مثل الدموع تردّدت ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... فى صحن خدّ الكاعب الحسناء يسقيكها رشأ يكاد يردّها ... سكرى بفترة مقلة حوراء يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عودا وإبداء على الندماء وقال الوأواء الدمشقىّ: فآمزج بمائك نار كأسك واسقنى ... فلقد مزجت مدامعى بدماء

واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفى الهموم بعاجل السّراء لطفت فصارت من لطيف محلّها ... تجرى كجرى الروح في الأعضاء وكأنّ مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذ كيت وهواء وكأنها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام بجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء وقال أبو نواس: أقول لما تحاكيا شبها ... أيّهما للتشابه الذهب هما سواء وفرق بينهما ... أنهما جامد ومنسكب وله أيضا: إذا عبّ «1» فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا يدور بها ساق أغنّ ترى له ... على مستدار الأذن صدغا معقربا سقاهم ومنّانى بعينيه منية ... فكانت الى نفسى ألذّ وأطيبا ومثل البيت الأوّل قول ابن المعتزّ: كأنه قائم والكأس في يده ... هلال أوّل شهر غاب في شفق وقال ابن الرومىّ: ومهفهف تمّت محاسنه ... حتى تجاوز منتهى النفس أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس فكأنه والكأس في فمه ... قمر يقبّل عارض الشمس

وقال الحسين بن الضحّاك: كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك وقال آخر: واكتست من فضّة دررا ... خلتها من تحتها ذهبا ككميت اللون قلدها ... فارس من لؤلؤ حببا وقال آخر: تغشى «1» بياض شاربها ... فتخالها بيمين مختضب دارت وعين الشمس غائبة ... فحسبت عين الشمس لم تغب وقال آخر: حمراء ورديّة مشعشعة ... كأنها في إنائها لهب صهباء صرفا لو مسّها حجر ... من جامد الصخر مسّه طرب وقال آخر: قلت والراح في أكفّ النّدامى ... كنجوم تلوح في أبراج أمداما خرطتم لمدام ... أم زجاجا سبكتم لزجاج وقال الحسن بن وهب: وقهوة صافية ... كالمسك لمّا نفحا شربت من دنانها ... من كلّ دنّ قدحا فعدت لا تحملنى ... أعواد سرجى مرحا من شدة السكر الذى ... على فؤادى طفحا

وقال ابن المعتز: خليلىّ قد طاب الشراب المبرّد ... وقد عدت بعد النسك والعود أحمد فهات عقارا من قميص زجاجة ... كيافوتة في درّة تتوقّد يصوغ عليها الماء شبّاك فضة ... له حلق بيض تحلّ وتعقد وقال التنوخىّ: وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جارى اذا ما تأملته وهى فيه ... تأمّلت ماء محيطا بنار فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط تنافيهما والنّفار ولكن تجاوز سطحاهما ال ... بسيطان فأتلفا بالحوار كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال بالسّقى أو باليسار تدرّع ثوبا من الياسيمين ... له فرد كمّ من الجلّنار وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: حملت كفّه الى شفتيه ... كأسه والظلام مرخى الإزار فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار وقال آخر: قم فاسقنى قد تبلّج الغسق ... من قهوة في الزجاج تأتلق كأننا والكؤس نأخذها ... نشرب نارا وليس نحترق

وأما ما قيل في أفعالها،

وقال أبو نواس: غنّنا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطك «1» الجزاء الثمينا من سلاف كأنها كلّ شىء ... يتمنى مخيّر أن يكونا أكل الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لنا «2» بها المكنونا فإذا ما اجتليتها فهباء ... تمنع الكفّ ما تبيح العيونا ثم شجّت فاستضحكت عن لآل ... لو تجمّعن في يد لاقتنينا فى كؤس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا طالعات مع السقاة علينا ... فاذا ما غربن يغربن فينا لو ترى الشّرب حولها من بعيد ... قلت قوم من قرّة يصطلونا وقال ابن المعتزّ: وخمّارة من بنات المجوس ... ترى الدّنّ في بيتها شائلا وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا وأما ما قيل في أفعالها، فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ: وكأس كمعسول الأمانى شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلى اذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيبا كوقع النار في الحطب الجزل اذا اليد نالتها بوتر توفّرت ... على ضغنها «3» ثم استقادت من الرّجل

وأما ما وصفت به غير ما قدمناه،

ومثله قول ديك الجنّ واسمه عبد السلام: فقام تكاد الكأس تخضب كفّه ... وتحسبه من وجنتيه استعارها مشعشعة من كفّ ظبى كأنما ... تناولها من خدّه فأدارها فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها وقريب من المعنى الأوّل قول أبى بكر الخالدىّ: كانت لها أرجل الأعلاج «1» واترة ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب [أخذ «2» هذا المعنى أبو غالب الإصباعىّ الكاتب فقال: عقرتهم معقورة لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار] وقال آخر: أسروها وجه النهار من الدّنّ ... فأمسوا وهم لها أسراء وقال عبد الصمد بن بابك عفا الله عنه: عقار عليها من دم الصّبّ نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع معوّدة غصب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه، فمن ذلك قول أبى الفضل يحيى بن سلامة الحصكفىّ [والحصكفى نسبة الى حصن كيفا] : وخليع بتّ أعتبه ... ويرى عتبى من العبث

قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث قلت منها القىء، قال أجل ... طهرت عن مخرج الحدث قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث وسأسلوها فقلت متى ... قال عند الكون في الجدث وقال آخر: ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى اذا ملئت بصرف الراح خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح [وقريب من المعنى قول الآخر: وزنّا الكأس فارغة وملأى ... فكان الوزن بينهما سواء «1» ] وقال أبو نواس: قهوة أعمى عنها ... ناظرا ريب المنون عتّقت في الدنّ حتى ... هى في رقّة دينى ثم شجّت فأدارت ... فوقها مثل العيون حدقا ترنو الينا ... لم تحجّر بجفون ذهبا يثمر درّا ... كلّ إبّان وحين من يدى ساق عليه ... حلّة من ياسمين غاية في الظرف والشكل وفرد في المجون وقال: ذد بماء الكرم والعنب ... خطرات الهمّ والنّوب قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت ساما أبا العرب

ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء،

وهى تكسو كفّ شاربها ... دستبانات «1» من الذهب وقال تاج الملوك بن أيّوب: وكم ليلة فيها وصلنا غيوقنا ... وكم من صباح كان فيه صبوح تدار علينا من أكفّ سقاتنا ... عقار من الهمّ الطويل تريح تلوح لنا كالشمس في كفّ أغيد ... يلوح لعينى البدر حين يلوح مدام تحاكى خدّه ورضابه ... ونكهته في الطّيب حين تفوح ولكن لها أفعال عينيه في الحشا ... فكلّ حشا فيها عليه جريح وقال أيضا: والكأس أعطاها عقيقا أحمرا ... قان، فأعطيها لجينا يققا «2» من قهوة ما العيش إلا أن أرى ... مصطبحا في شربها مغتبقا أشربها شربا هنيئا من يدى ... غصن رشيق وغزال أرشقا ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء، فمن ذلك قول أبى نواس: وصفراء قبل المزج بيضاء بعده ... كأن شعاع الشمس يلقاك دونها ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقلّ جفونها ومنه أخذ ديك الجنّ فقال: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبى نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق وقال أبو هلال العسكرىّ: راح اذا ما الليل مدّ رواقه ... لاحت تطرّز حلّة الظلماء

حتى اذا مزجت أراك حبابها ... زهرات أرض أو نجوم سماء وقال أيضا: وكأس تمتطى أطراف كفّ ... كأنّ بنانها من أرجوان أنازعها على العلّات شربا ... لهنّ مضاخك من أقحوان يلوح على مفارقها حباب ... كأنصاف الفرائد والجمان وطالعنى الغلام بها سحيرا ... فزاد على الكواكب كوكبان ووافقها بخدّ أرجوان ... وخالفها بفرع أدجوان قوله: كأنصاف الفرائد والجمان مأخوذ من قول ابن الرومىّ: لها صريح كأنه ذهب ... ورغوة كاللآلىء الفلق وقال أبو نواس: فإذا علاها الماء ألبسها ... حببا «1» شبيه جلاجل الحجل حتى اذا سكنت جوانحها «2» ... كتبت بمثل أكارع النمل وهو مأخوذ من قول الأوّل، ويقال: إنه ليزيد بن معاوية: وكأس سباها التّجر من أرض بابل ... كرقّة ماء الحزن في الأعين النّجل اذا شجّها الساقى حسبت حبابها ... عيون الدّبا «3» من تحت أجنحة النمل وقال أبو نواس أيضا: قامت ترينى وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء واللهب

كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب وقال ابن المعتز: للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت وقال العسكرىّ: ذاب في الكأس عقيق فجرى ... وطفا الدّرّ عليه فسبح نصب الساقى على أقداحها ... شبك الفضّة تصطاد الفرح وقال ابن الساعاتىّ: وليلة بات بدر التّمّ ساقينا ... يدير في فلك من شربها شهبا بكر اذا فرعت بالماء كان بنا ... جدّا وإن كان في كاساتها لعبا حمراء من خجل حتى اذا مزجت ... لم تدر ما خجلا تحمرّ أم غضبا تزيد بالبارد السلسال جذوتها ... وما سمعت بماء محدث لهبا تكسو النديم إذا ما ذاقها وضحا ... حتى كأنّ شعاع الشمس قد شربا وقال آخر: فنبّهتنى وساقى القوم يمزجها ... فصار في البيت للمصباح مصباح قلنا على علمنا والشكّ يغلبنا ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درّ في سماء عقيق صببت عليها الماء حتى تعوّضت ... قميص بهار من قميص شقيق وقال آخر: حمراء ما اعتصموا بالماء حين طفت ... إلا وقد حسبوها أنها لهب

ذكر ما قيل في مبادرة اللذات ومجالس الشراب وطيها

وقال الخالديّان: فهاتها كالعروس محمرّة ال ... خدّين في معجر «1» من الحبب كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب نار حواها المزاج يلهبها ... الماء ودرّ يدور في لهب ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها قال أحمد بن أبى فنن: جدّد اللّدّات فاليوم جديد ... وامض فيما تشتهى كيف تريد واله ما أمكن يوم صالح ... إن يوم الشرّ- لا كان- عتيد وقال ديك الجنّ: تمتّع من الدنيا فإنك فانى ... فى أيدى حوادث عانى ولا تنظرنّ اليوم لهوا إلى غد ... ممن لغد من حادث بأمان فإنى رأيت الدهر يسرع بالفتى ... وينقله حالين مختلفان «2» فأمّا الذى يمضى فأحلام نائم ... وأمّا الذى يبقى له فأمانى وقال ابن المعتزّ من أبيات: وبادر بأيام السرور فإنها ... سراع وأيام الهموم بطاء وخلّ عتاب الحادثات لوجهها ... فإن عتاب الحادثات عناء تعالوا فسقّوا أنفسا قبل موتها ... ليأتى ما يأتى وهنّ رواء

ومما وصفت به مجالس الشرب؛

وقال أحمد الماردانىّ: عاقر الراح ودع نعت الطلل ... واعص من لامك فيها وعذل غادها واسع لها واغر بها ... وإذا قيل: تصابى، قل أجل إنما دنياك- فاعلم- ساعة ... أنت فيها وسوى ذاك أمل وقال ابن بسّام: واصل خليلك إنما ال ... دنيا مواصلة الخليل وانعم ولا تتعجّل ال ... مكروه من قبل النزول بادر بما تهوى فما ... تدرى متى وقت الرحيل وارفض مقالة لائم ... إن الملام من الفضول ومما وصفت به مجالس الشرب؛ فمن ذلك قول أبى نواس: فى مجلس ضحك السرور به ... عن ناجذيه وحلّت الخمر وقال ديك الجنّ: كأنما البيت بريحانة ... ثوب من السندس مشقوق وقال السرىّ: ألست ترى ركب الغمام يساق ... وأدمعه بين الرياض تراق وقد رقّ جلباب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق وعندى من الرّيحان نوع تجسّه ... وكأس كرقراق الخلوق «1» دهاق وذو أدب جلّت صنائع كفّه ... ولكن معانى الشعر منه دقاق له أبدا من نثره ونظامه ... بدائع حلى ما لهنّ حقاق

وأغيد مهتزّ، على صحن خدّه ... غلائل من صبغ الحياء رقاق أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق وقد نظم المنثور فهو قلائد ... علينا، وعقد مذهب وخناق وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ علينا كلّة ورواق تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب الكريم رشاق أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشيمتها غدر بنا وإباق مواصلة والورد في شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق فزر فتية، برد الشراب لديهم ... حميم اذا فارقتهم وغساق «1» قوله: أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهن له دون النطاق نطاق مأخوذ من قول المتنبّى: وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا وقال أبو هلال العسكرىّ: وليل ابتعت به لذّة ... وبعت فيه العقل والدّنيا أصاب فيه الوصل قلب الجوى ... وبات فيه الهمّ مسكينا وقد خلطنا بنسيم الصّبا ... نسيم راح ورياحينا وأكؤس الراح نجوم اذا ... لاحت بأيدينا هوت فينا تضحك في الكأس أباريقنا ... وحسبما تضحك تبكينا

ومما قيل في طى مجالس الشراب؛

ومما قيل في طىّ مجالس الشراب؛ فمن ذلك قول بعض الشعراء: حكم العقار اذا قصدت لشربها ... فى لذّة من مسمع «1» وقيان ألّا تعود لذكر ما أبصرت من ... أحدوثة من شارب سكران وقال آخر: إذا ذكر النبيذ فليس حقّا ... إعادة ما يكون على النبيذ إعادة ما يكون من السّكارى ... يكدّر صفوة العيش اللذيذ وقال آخر: تنازعوا لذّة الصهباء بينهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب لا يحفظون على السكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها من ذلك ما قيل في وصف معصرة الخمر: قال أبو الفرج الببّغاء: ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب فخلت قرارها بالرا ... ح بعض معادن الذهب وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب وجاش عباب واديها ... بمنهلّ ومنسكب وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب فياعجبا لعاصرها ... وما يفنى به عجبى وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب

ومما قيل في الراووق

وقال ابن المعتزّ يصف الدّنان: ودنان كمثل صفّ رجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا «1» وقال القطامىّ يصف جرار الخمر: واستودعتها رواقيد «2» مقيّرة «3» ... دكن الظواهر قد برنسن بالطّين مكافحات لحرّ الشمس قائمة ... كأنهنّ نبيط في تبابين «4» وقال العلوىّ الأصفهانىّ: مخدّرة مكنونة قد تقشّفت ... كراهبة بين الحسان الأوانس وأترابها يلبسن بيض غلائل ... هى العرى مغرور بها كلّ لابس مشعّثة مرهاء «5» ما خلت أننى ... أرى مثلها عذراء في زىّ عانس ومما قيل في الراووق ؛ قال بعض الشعراء: كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابه والبيت منه عطر ترابه ... كأنّ مسكا فتّقت عيابه وقال آخر: سماء لاذ «6» ، قطرها رحيق ... رحب الذّرى ينحطّ فيه الضّيق ماء عقيق لو جرى العقيق ... حتى اذا ألهبها التّصفيق صحنا الى جيراننا: الحريق

ومما وصفت به زقاق الخمر؛

ومما وصفت به زقاق الخمر؛ فمن ذلك قول الأخطل: أناخوا فجرّوا شاصيات «1» كانها ... رجال من السودان لم يتسربلوا وقال أبو الهندىّ وأجاد في شعره: أتلف المال وما جمعته ... طلب اللّذات من ماء العنب واستباء الزقّ من حانوتها ... شائل الرجلين معضوب «2» الذنب كلّما كبّ لشرب خلته ... حبشيّا قطعت منه الرّكب وقال ابن المعتزّ: وتراها وهى صرعى ... فرّغا بين الندامى مثل أبطال حروب ... قتلوا فيها كراما وقال العلوىّ الأصفهانىّ: عجبت من حبشىّ لا حراك به ... لا يدرك الثأر إلا وهو مذبوح طورا يرى وهو بين الشّرب مضطجع ... رخو الصّفاق «3» وطورا وهو مشبوح ومما وصفت به الأباريق ؛ فمن ذلك قول شبرمة بن الطفيل: كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... إوزّ بأعلى الطفّ عوج الحناجر وقال آخر: يا ربّ مجلس فتية نادمتهم ... من عبد شمس في ذرى العلياء وكأنما إبريقهم من حسنه ... ظبى على شرف أمام ظباء وقال ابن المعتزّ: وكأنّ إبريق المدام لديهم ... ظبى على شرف أناف مدلها

ومما وصفت به الكاسات والأقداح

لما استحثّته السّقاة جثى لها ... فبكى على قدح النديم وقهقها وقال إسحاق الموصلىّ: كأن أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام وقد شربوا حتى كأنّ رقابهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام وكلّهم نظروا الى قول علقمة بن عبدة: كأنّ إبريقهم ظبى على شرف ... مقدّم بسبا «1» الكتّان ملثوم وقال محمد بن هانىء من أبيات: والأباريق كالظباء العواطى ... أوجست نبأة الخيول العتاق مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق وهى شمّ الأنوف يشمخن كبرا ... ثم يرعفن بالدّم المهراق وقال أبو نواس عفا الله عنه: والكوب يضحك كالغزال مسبّحا ... عند الركوع بلثغة الفأفاء وكأنّ أقداح الرحيق إذا جرت ... وسط الظلام كواكب الجوزاء وقال بشّار بن برد: كأنّ إبريقنا والقطر من فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار ومما وصفت به الكاسات والأقداح ؛ فمن ذلك قول ابن المعتزّ: غدا بها صفراء كرخيّة ... تخالها في كأسها تتّقد وتحسب الماء زجاجا لها ... وتحسب الأقداح ماء جمد وقال ابن المعتزّ أيضا عفا الله عنه: وكأس تحجب الأبصار عنها ... فليس لناظر فيها طريق

كأن غمامة بيضاء بينى ... وبين الكأس تخرقها البروق وقال أبو الفرج الببّغاء: من كلّ جسم كأنه عرض ... يكاد لطفا باللحظ ينتهب كأنما صاغه النّفاق فما ... يخلص منه صدق ولا كذب وقال الرفّاء: كأنّ الكؤس بفضلاتها ... متوّجة بأكاليل نور جيوب من الوشى مزرورة ... يلوح عليها بياض النحور وقال آخر: وكأنما الأقداح مترعة الحشا ... بين الشروب كواكب الجوزاء وكأنها ياقوتة فضلاتها ... مخروطة من درّة بيضاء وقال المعوّج: يعاطيك كأسا غير ملأى كأنها ... إذا مزجت أحداق درع مزرّد كأنّ أعاليها بياض سوالف ... يلوح على توريد خدّ مورّد وقال أبو نواس: وكأنما الروض السماء ونهره ... فيه المجرّة والكؤس الأنجم وقال الثعالبىّ: يا واصف الكأس بتشبيهها ... دونك وصفا عالى القدر كأنّ عين الشمس قد أفرغت ... فى قالب صيغ من البدر وقال آخر: أقول للكأس إذ تبدّت ... بكفّ أحوى أغنّ أحور أخربت بيتى وبيت غيرى ... وأصل ذا كعبك المدوّر

الباب الخامس من القسم الثالث من الفن الثانى فى الندمان والسقاة

الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة [ومما قيل في الندمان] قال سهل بن هارون: ينبغى للنديم أن يكون كأنما خلق من قلب الملك يتصرّف بشهواته ويتقلّب بإرادته، لا يملّ المعاشرة، ولا يسأم المسامرة؛ إذا انتشى يحفظ، وإذا صحا يبقظ، ويكون كاتما لسرّه، ناشرا لبرّه. قالوا: فاخر كاتب نديما، فقال الكاتب: أنا معونة، وأنت مؤونة؛ وأنا للجدّ، وأنت للهزل؛ وأنا للشدّة، وأنت للرخاء؛ وأنا للحرب، وأنت للسلم. فقال النديم: أنا للنعمة، وأنت للخدمة؛ وأنا للحظوة، وأنت للمهنة؛ تقوم وأنا قاعد، وتحتشم وأنا مؤانس؛ تدأب لراحتى، وتشقى لما فيه سعادتى؛ فأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين. فلم يحر الكاتب جوابا. والله أعلم. وسئل إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ رحمه الله عن الندماء، فقال: واحد غمّ، واثنان همّ، وثلاثة قوام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستّة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة أضرب طبلك، وعشرة الق بهم من شئت. وقال الجمّاز: النبيذ حرام على اثنى عشر نفسا، من غنّى الخطأ، واتكأ على اليمين، وأكثر من أكل البقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع البمّ «1» ، وحبس أوّل قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت فيه.

قال أبو هلال العسكرىّ: ما أعاف النبيذ خيفة إثم ... إنما عفته لفقد النّديم ليس في اللهو والمدامة حظّ ... لكريم دون النديم الكريم فتخيّر قبل النبيذ نديما ... ذا خلال معطّرات النسيم وجمال إذا نظرت بديع ... وضمير إذا اختبرت سليم وقال آخر: أرى للكأس حقّا لا أراه ... لغير الكأس إلا للنديم هو القطب الذى دارت عليه ... رحى اللّذات في الزمن القديم وقال آخر: وندمان أخى ثقة ... كأنّ حديثه حبره «1» يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه مختبره ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنه ستره وقال آخر: ونديم حلو الحديث يجاري ... ك بما تشتهيه في ميدانك ألمعىّ كأنّ قلبك في أض ... لاعه أو كلامه في لسانك وقال يحيى بن زياد: ولست له في فضلة الكأس قائلا ... لأصرفه عنها «2» : تحسّ وقد أبى ولكن أحييّه وأكرم وجهه ... وأشرب ما أبقى وأسقيه ما اشتهى ولست إذا ما نام عندى بموقظ ... ولا مسمع يقظان شيئا من الأذى وقال آخر: ليس من شأنه إذا دارت الكأ ... س فأزرى إدمانها بالحلوم

قول ما يسخط النديم وإن أسخطه ... عند ذاك قول النديم وقال عبد الرحمن العطوىّ رحمه الله: اخطب لكأسك ندمانا تسرّ به ... أو لا فنادم عليها حكمة الكتب أخطبه حرّا كريما ذا محافظة ... ترى مودّته من أقرب النسب وقال أبو نواس: وندمان يرى عيبا عليه ... بأن يمشى وليس به انتشاء إذا نبّهته من نوم سكر ... كفاه مرّة منك النداء فليس بقائل لك: إيه دعنى ... ولا مستخبرا لك ما تشاء ولكن سقّنى ويقول أيضا ... عليك الصّرف إن أعياك ماء اذا ما أدركته الظهر صلّى ... ولا عصر عليه ولا عشاء يصلّى هذه في وقت هذى ... وكلّ صلاته أبدا قضاء وقال آخر: نبهت ندمانى فهبّوا ... بعد المنام لما استحبّوا هذا أجاب وذا أنا ... ب وذا يسير وذاك يحبو أنشدتهم بيتا يعلّم ... ذا الصبابة كيف يصبو «ما العيش إلا أن تحبّ ... وأن يحبّك من تحبّ» فتطرّبوا والأريحية ... شأنها طرب وشرب وقال أبو عبادة البحترىّ عفا الله تعالى عنه: ونديم نبّهته ودجى الليل ... وضوء الصباح يعتلجان قم نبادر بها الصيام فقد أق ... مر ذاك الهلال من شعبان

ومما قيل في السقاة

وقال أيضا: بات نديما لى حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح يساقط الورد علينا وقد ... تبلّج الصبح، نسيم الرياح إن لان عطفاه قسا قلبه ... أو ثبّت الخلخال جال الوشاح «1» أمزج كأسى بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح ومنهم من كره النديم وآثر الانفراد. قال إبراهيم الموصلىّ عفا الله تعالى عنه ورحمه: دخلت يوما على الفضل بن يحيى فصادفته يشرب وعنده كلب، فقلت له: تنادم كلبا! قال: نعم، يمنعنى أذاه، ويكفّ عنّى أذى سواه، ويشكر قليلى، ويحفظ مبيتى ومقيلى. وأنشد: وأشرب وحدى من كراهتى الأذى ... مخافة شرّ أو سباب لئيم انتهى وأستغفر الله العظيم. ومما قيل في السّقاة ؛ فمن ذلك قول الصنوبرىّ عفا الله عنه: ومورد الخدّين يخطر ... حين يخطر في مورّد يسقيك من جفن اللّجي ... ن اذا سقاك دموع عسجد حتى تظنّ النجم ين ... زل أو تظنّ الأرض تصعد فإذا سقاك بعينه ... وبفيه ثم سقاك باليد حيّاك بالياقوت ثم ... الدّرّ من تحت الزّبرجد

وقال ديك الجنّ: ومزر بالقضيب اذا تثنّى ... ومزهاة على القمر التمام سقانى ثم قبّلنى وأوما ... بطرف سقمه يشفى سقامى فبتّ له على الندمان أسقى ... مداما في مدام في مدام وقال ابن المعتزّ: تدور علينا الراح من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكى السقم مدنف كأنّ سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف وقال أيضا: بين أقداحهم حديث قصير ... هو سحر وما سواه الكلام فكأنّ السّقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام وقال أحمد بن أبى فنن: بكفّ مقرطق خنث ... تطيب بطيبه الرّيب تراها وهى في كفّي ... هـ من خدّيه تلتهب وقال الصنوبرىّ: وساق اذا همّ ندماننا ... بأن يزجى الكأس لم يزجه كلعبة عاج على فرشه ... وليث عرين على سرجه لطيف الممنطق مهتزّه ... ثقيل المؤزّر مرتجّه سقانى بعينيه أضعاف ما ... سقانى بكفّيه من غنجه وقال آخر: يا ساقى القوم إن دارت إلىّ فلا ... تمزج فإنى بدمعى مازج كاسى ويافتى الحىّ إن غنّيت من طرب ... فغنّ: واحربا من قلبه القاسى

وقال ابن المعتزّ: وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعانى مخطف الخصر ميّاس سقانى عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس وقال أيضا: قام كالغصن في النقا ... يمزج الشمس بالقمر وسقانى المدام ... والليل بالصبح مؤتزر والثريّا كنور غصن ... على الغرب قد نثر وقال البحترىّ: وفي القهوة أشكال ... من الساقى وألوان حباب مثل ما يضحك ... عنه وهو جذلان ويسكر مثل ما يسكر ... طرف منه وسنان وطعم الريق إن جاد ... به والصبّ هيمان لنا من كفّه راح ... ومن ريّاه ريحان وقال أبو القاسم الهبيرىّ الكاتب رحمة الله تعالى عليه: سقانا الراح ساق، كلّ راح ... سوى ألحاظ عينيه سراب يدير الكأس مبتسما علينا ... فما ندرى أثغر أم حباب؟ وقد سفر الدجى عن ثوب فجر ... منير مثل ما سفر النقاب فخلت الصبح في أثر التريّا ... بشيرا جاء في يده كتاب وقال أبو الشّيص: يطوف علينا به أحور ... يداه من الكأس مخضوبتان غزال تميل بأعطافه ... قناة تعطّف كالخيزران

وقال أبو بكر محمد بن عمّار: وهويته يسقى المدام كأنه ... قمر يطوف بكوكب في حندس متأرّج الحركات تندى ريحه ... كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس يسعى بكأس في أنامل سوسن ... ويدير أخرى في محاجر نرجس وقال المعوّج يصف ساقية: لا عيش إلا من كفّ ساقية ... ذات دلال في طرفها مرض كأنما الكأس حين تمزجها ... نجوم ليل تعلو وتنخفض وقال آخر يصف امرأة ساقية: وساقية كأنّ بمفرقيها ... أكاليلا على طبقات ورد لها طيب المنى وصفاء لون ... وحمرة وجنة ومذاق شهد وقال ديك الجنّ يصف ساقيا وساقية: أفديكما من حاملى قدحين ... قمرين في غصنين في دعصين رود منعّمة ومهضوم الحشا ... للناظرين منّى وقرّة عين قامت مؤنّثة وقام مؤنّثا ... فتناهبا الألحاظ بالنظرين صبّا علىّ الراح إن هلالنا ... قد صبّ نعمته على الثّقلين وإلىّ كأسكما على ما خيّلت ... بالتبر معجونا بماء لجين

الباب السادس من القسم الثالث من الفن الثانى فى الغناء والسماع،

الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع، وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة، وما استدلّ به من رأى ذلك؛ ومن سمع الغناء من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن التابعين ومن الأئمة والعبّاد والزّهاد، ومن غنّى من الخلفاء وأبنائهم والأشراف والقوّاد والأكابر، وأخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة الى العربيّة، ومن أخذ عنهم، ومن اشتهر بالغناء وأخبار القيان. ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة قد تكلم الناس في الغناء في التحريم والإباحة واختلفت أقوالهم وتباعدت مذاهبهم وتباينت استدلالاتهم؛ فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه، واستدلّ على تحريمه؛ ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقا وأباحه وصمّم على إباحته؛ ومنهم من فرّق بين أن يكون الغناء مجرّدا أو أضيف اليه آلة كالعود والطنبور وغيرهما من الالات ذوات الأوتار والدفوف والمعازف والقصب، فأباحه على انفراده وكرهه إذا انضاف إلى غيره وحرّم سماع الالات مطلقا. ولكل طائفة من أرباب هذه المقالات أدلّة استدلّت بها. وقد رأينا أن نثبت في هذا الموضع نبذة من أقوالهم على سبيل الاختصار وحذف النظائر المطوّلة فنقول وبالله التوفيق. أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك، فإنهم استدلّوا على التحريم بالكتاب والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة من علماء

أما دليلهم من الكتاب العزيز

المسلمين. أما دليلهم من الكتاب العزيز فقول الله عزّوجلّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) . وقوله عزّوجلّ: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) . وقوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) . وقوله تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) . وقوله سبحانه وتعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) ، وقوله: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) . قال ابن عباس: (سامدون) هو الغناء بلغة حمير، وقال مجاهد: هو الغناء بقول أهل اليمن، سمد فلان اذا غنّى. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال في هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) : إنه الغناء، ومن طريق آخر: إنه الغناء وأشباهه. وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هو- والذى لا إله إلا هو- الغناء. وعن مجاهد رضى الله عنه في قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: صوته الغناء والمزامير. وعنه في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الغناء. وأمّا دليلهم من السنّة، فما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله عزّوجلّ حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية. وروى أبو أمامة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث الله عزّوجلّ اليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» . وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان إبليس أوّل من ناح وأوّل من تغنّى» . وعن عبد الرحمن بن عوف رضى الله

وأما أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم،

عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة» . وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم، فقد روى عن عثمان بن عفّان رضى الله عنه أنه قال: ما تغنّيت قطّ. فتبرّأ من الغناء وتبحّح بتركه. وروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروى أنّ ابن عمر رضى الله عنهما مرّ على قوم محرمين ومعهم قوم ورجل يغنّى فقال: الا لا أسمع والله لكم، ألا لا أسمع والله لكم. وروى عن عبد الله ابن دينار قال: مرّ ابن عمر رضى الله عنهما بجارية صغيرة تغنّى، فقال: لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه. وعن إسحاق بن عيسى قال: سألت مالك بن أنس رضى الله عنه عما ترخّص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: ما يفعله عندنا إلا الفسّاق. وقال الشعبىّ: لعن المغنّى والمغنّى له. وقال الحكم بن عتيبة: حبّ السماع ينبت النفاق في القلب. وروى أن رجلا سأل القاسم بن محمد فقال: ما تقول فى الغناء، أحرام هو؟ فأعاد عليه؛ فقال له في الثالثة: اذا كان يوم القيامة فأتى بالحق والباطل أين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال القاسم: فأفت نفسك. وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من روّاد الفجور. وقال الضحّاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وقال يزيد ابن الوليد مع اشتهاره بما اشتهر به: يا بنى أميّة، إيّاكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر؛ فإن كنتم لا شكّ فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الزنا. وإنى لأقول ذلك فيه على أنه أحبّ إلىّ من كلّ لذّة، وأشهى الى نفسى من الماء الى ذى الغلّة الصادى، ولكن الحقّ أحقّ أن يقال.

وأما أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى

وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى فقد قال الإمام الشافعىّ رضى الله عنه فى كتاب أدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال: من استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته. قال القاضى حسين بن محمد: وأمّا سماعه من المرأة التى ليست بمحرم، فإن أصحاب الشافعىّ قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت بارزة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرّة أو مملوكة. وقال الشافعىّ: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تردّ شهادته. ثم غلّظ القول فيه وقال: هو دياثة. قال: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الى باطل كان سفيها فاسقا. وقال مالك بن أنس: اذا اشترى جارية فوجدها مغنّية كان له ردّها بالعيب، قال: وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده. وكره أبو حنيفة ذلك وجعل سماع الغناء من الذنوب. قال: وذلك مذهب سائر أهل الكوفة وسفيان الثورىّ، وحمّاد بن سلمة، وإبراهيم النّخعىّ، والشعبىّ وغيرهم لا خلاف بينهم في ذلك. قال: ولا يعرف أيضا بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه. وقال بعض الزهّاد: والغناء يورث العناد في قوم، ويورث التكذيب في قوم، ويورث القساوة في قوم. وقال بعضهم عن حاله عند السماع: أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا ... على طيب الغناء الى الصباح ودارت بيننا كأس الأغانى ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحى إذا لبّى أخو اللذّات فيه ... منادى اللهو حىّ على السماح ولم يملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ ملاح

ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة

هذا ملخص ما ذكروه في تحريم الغناء. وقد استدلّ من أباحه بما يناقض ما تقدّم على ما نذكر ذلك إن شاء الله في إباحة الغناء. ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة وقد تكلم الناس في إباحة الغناء وسماع الأصوات والنغمات والآلات، وهى الدفّ واليراع والقصب والأوتار على اختلافها من العود والطّنبور وغيره، وأباحوا ذلك واستدلّوا عليه وضعفّوا الأحاديث الواردة في تحريمه، وتكلّموا على رجالها وجرّحوهم وبسطوا في ذلك المصنّفات ووسّعوا القول وشرحوا الأدلّة. وطالعت من ذلك عدّة تصانيف في هذا الفنّ مجرّدة له ومضافة الى غيره من العلوم. وكان ممّن تكلّم فى ذلك وجرّد له تصنيفا الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدّسى رحمه الله تعالى، فقال في ذلك ما نذكر مختصره ومعناه: اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة الى الكافّة. قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . فبلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وسنّ وشرع، وأمر ونهى، كما أمر صلّى الله عليه وسلم. فليس لأحد بعده وبعد الخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بهم والاتباع لسنّتهم أن يحرّم ما أحلّ الله عزّوجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا بدليل ناطق من آية محكمة، أو سنّة ماضية صحيحة، أو إجماع من الأمة على مقالته.

ذكر ما استدلوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية

وأما الاستدلال بالموضوعات والغرائب والأفراد من رواية المكذّبين والمجرحين الذين لا تقوم بروايتهم حجّة، وبأقاويل من فسّر القرآن على حسب مراده ورأيه، فلا يرجع إلى قولهم ولا يسلك طريقهم؛ إذ لو جاز ذلك لم يكن قول أحد من الناس أولى من قول غيره، وإنما يلزم بقول من أيّد بالوحى والتنزيل، وعصم من التغيير والتبديل. قال الله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) . فعلمنا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر ولم ينه عن أمر إلا بوحى من الله تعالى. وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم اذا سئل عن أمر لم ينزل فيه وحى توقّف حتى يأتيه الوحى، وليست هذه المنزلة لغيره فيلزم قبول قوله. ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية قد استدلّوا على إباحة الغناء بأحاديث صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. منها ما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: دخل علىّ أبو بكر رضى الله عنه وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنّيتين؛ فقال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! وذلك يوم عيد. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندى جاريتان تغنّيان بغناء بعاث؛ فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهزنى وقال: مزمارة الشيطان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «دعهما» . فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدّرق والحراب، فإمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمّا قال: «تشتهين تنظرين» فقلت نعم.

فأقامنى وراءه، خدّى على خدّه وهو يقول: «دونكم يا بنى أرفدة «1» » حتى اذا مللت قال. «حسبك؟» قلت نعم. قال: «فاذهبى» . ومن طريق آخر عنها رضى الله عنها: أنّ أبا بكر رضى الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منّى تدفّفان وتضربان والنّبى صلّى الله عليه وسلّم متغشّ بثوبه؛ فانتهرهما أبو بكر؛ فكشف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» . وتلك الأيام أيام منى. وقالت عائشة: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يسترنى وأنا أنظر الى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعهم أمنا بنى أرفدة» (يعنى من الأمن) . قال أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد ابن حزم رحمه الله عند ذكر هذه الأحاديث: أين يقع إنكار من أنكر من إنكار سيّدى هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم، أبى بكر وعمر رضى الله عنهما! وقد أنكر عليه الصلاة والسلام عليهما إنكارهما، فرجعا عن رأيهما إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كانت جارية من الأنصار فى حجرى فزففتها؛ فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع غناء، فقال: «يا عائشة ألا تبعثين معها من يغنّى فإن هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء؛ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهديت عروسك» ؟ قالت نعم. قال: «فأرسلت معها بغناء فإن الأنصار يحبّونه» ؟ قالت لا. قال: «فأدركيها يا زينب» (امرأة كانت تغنّى بالمدينة) رواه أبو الزبير محمد بن الزبير بن مسلم المكّى عن جابر. وعنه أيضا قال: أنكحت عائشة رضى الله عنها ذات قرابة لها رجلا من الأنصار؛ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أهديتم الفتاة» ؟

وأما ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدف.

قالوا نعم. قال: «أرسلتم معها» ؟.- قال أبو طلحة راوى الحديث: ذهب عنى- فقالت لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيّانا وحيّاكم «1» » وروى عن فضالة بن عبيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة الى قينته» . قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط البخارى ومسلم، ولم يخرّجاه؛ وقد خرّجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينىّ فى سننه. قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى: ووجه الاحتجاج من هذا الحديث هو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثبت أن الله تعالى يستمع الى حسن الصوت بالقرآن كما يستمع صاحب القينة الى قينته، فأثبت دليل السماع إذ لا يجوز أن يقيس على استماع «2» محرّم. قال: ولهذا الحديث أصل فى الصحيحين أخرجاه عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أذن الله لشىء ما أذن «3» لنبىّ يتغنّى بالقرآن» . هذا ما ورد في السماع. وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ. روى عن محمد ابن حاطب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فصل ما بين الحلال والحرام

الدّفّ والصوت في النكاح» . قال الحافظ أبو الفضل رحمه الله تعالى: هذا حديث صحيح ألزم أبو الحسن الدارقطنىّ مسلما إخراجه في الصحيح، وقال: قد روى عنه (يعنى محمد بن حاطب) أبو مالك الأشجعىّ وسماك بن حرب وابن عون ويوسف بن سعد وغيرهم. قال: وأخرج هذا الحديث أبو عبد الرحمن النسائىّ وأبو عبد الله ابن ماجه في سننهما. وروى الحافظ أبو الفضل بسند رفعه إلى جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت دفّ فقال: «ما هذا» ؟ فقيل: فلان تزوّج. فقال: «هذا نكاح ليس بالسّفاح» . وقد ضعّف أبو الفضل إسناد هذا الحديث، وقال: إنما أخرجته على ضعف إسناده لأنه شاهد الحديث الصحيح المتقدّم. وروى أبو الفضل أيضا بسنده إلى خالد بن ذكوان عن الرّبيّع بنت معوّذ قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل علىّ صبيحة «1» بنى علىّ، فجلس على فراشى كمجلسك منّى، فجعلت جويريات يضربن بدفّ لهنّ ويندبن من قتل من آبائى يوم بدر إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبىّ يعلم ما في غد؛ فقال: «دعى هذا «2» وقولى الذى كنت تقولين قبله» . وهذا حديث صحيح أخرجه البخارىّ قال: وقد رواه حمّاد بن سلمة عن خالد بن ذكوان أتمّ من هذا، قال: كنّا بالمدينة يوم عاشوراء وكان الجوارى يضر بن بالدّفّ ويغنّين، فدخلنا على الرّبيع بنت معوّذ، فذكرنا لها ذلك، فقالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة عرسى وعندى جاريتان تغنّيان وتندبان آبائى الذين قتلوا يوم بدر، ونقولان فيما تقولان: وفينا نبىّ يعلم ما في غد، فقال: «أمّا هذا فلا تقولوه لا يعلم ما في غد إلا الله عزّوجلّ» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سافر سفرا، فنذرت

وأما ما ورد في اليراع،

جارية من قريش لئن ردّه الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدفّ. فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءت الجارية فقالت عائشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردّك الله تعالى أن تضرب في بيتى بدفّ؛ قال: «فلتضرب» . قال أبو الفضل: وهذا إسناد متّصل ورجاله ثقات، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله» . فلو كان ضرب الدف معصية لأمر بالتكفير عن نذرها أو منعها من فعله. وروى عن الشعبىّ قال: مرّ عياض الأشعرىّ في يوم عيد فقال: ما لى لا أراهم يفلّسون فإنه من السنّة!. والتفليس: الضرب بالدفّ. قاله هشيم. وأمّا ما ورد في اليراع، فقد احتجّ بعضهم بحديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وهو ما خرّجه أبو داود سليمان بن الأشعث السّجستانى في سننه قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله الغدانىّ، حدّثنا مسلم، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع، قال: سمع ابن عمر رضى الله عنهما مزمارا، فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لى: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا. قال: فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. قال أبو عبد الله اللؤلئىّ: سمعت أبا داود يقول: هذا الحديث منكر. وقال الحافظ محمد بن طاهر: هذا حديث خرّجه أبو داود في سننه هكذا وقد أنكره. وقد ورد من غير هذا الطريق أن ابن عمر رضى الله عنهما سمع راعيا وذكره. وفساد هذا الحديث من وجهين: أحدهما فساد طريق الإسناد؛ فإن سليمان هذا هو الأشدق الدمشقىّ تكلم فيه أهل النقل وتفرّد بهذا الحديث عن نافع ولم يروه عنه غيره. وقال البخارىّ: سليمان بن موسى عند، مناكير. والثانى

وأما ما ورد في القصب والأوتار.

قول عبد الله بن عمر لنافع رضى الله عنهم: أتسمع؟ ولو كان ذلك منهيّا عنه لم يأمره بالاستماع. وقوله: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. ولو كان حراما لنهاه عنه وصرح بتحريمه؛ لأنه الشارع المأمور بالبيان. قالت عائشة رضى الله عنها: علّقت على سهوة «1» لى سترا فيه تصاوير، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلوّن وجهه وهتكه. وسمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه يحلف بآبائه فنهاه عن ذلك. ورأى يزيد بن طخفة مضطجعا على بطنه فنهاه وقال: «هذه ضجعة يبغضها الله عزّوجلّ» . وسمع صلّى الله عليه وسلّم رجلا يلعن ناقته، فوقف فقال: «لا يتبعنا ملعون» ؛ فنزل عنها وأرسلها. قال الحافظ المقدسىّ: وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، فثبت فساد هذا الحديث إسنادا ومتنا. وأمّا ما ورد في القصب والأوتار. ويقال له التغيير، ويقال له القطقطة أيضا. ولا فرق بينه وبين الأوتار؛ إذ لم يوجد في إباحته وتحريمه أثر لا صحيح «2» ولا سقيم؛ وإنما استباح المتقدّمون استماعه لأنه مما لم يرد الشرع بتحريمه، وكان أصله الإباحة. وأمّا الأوتار، فالقول فيها القول في القصب، لم يرد الشرع بتحليلها ولا تحريمها. قال: وكل ما أوردوه في التحريم فغير ثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة سماعه. ومن الدليل على إباحته أن إبراهيم بن

سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتى بحلّه، وقد ضرب بالعود- وسنذكر خبره في ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى- ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، فكيف تسقط عدالة المستمع! ومكان يبالغ في هذا الأمر أتمّ مبالغة. وقد أجمعت الأئمة على عدالته واتفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه في الصحيح؛ وقد علم من مذهبه إباحة سماع الأوتار. والأئمة الذين رووا عنه أهل الحلّ والعقد في الآفاق إنما سمعوا منه ورووا عنه بعد استماعهم غناءه وعلمهم أنه يبيحه، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، سمع منه ببغداد بعد حلفه أنه لا يحدّث حديثا إلا بعد أن يغنّى على عود، وذلك أنه لا شك سمع غناءه ثم سمع حديثه. قال: وهذا أمر لم يرد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه نصّ يرجع إليه، فكان حكمه كحكم الإباحة. وإنما تركه من تركه من المتقدّمين تورّعا كما تركوا لبس اللّين وأكل الطّيب وشرب البارد والاجتماع بالنسوان الحسان؛ ومعلوم أن هذا كلّه حلال. وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكل الضبّ وسئل عنه أحرام هو؟ قال: «لا ولكن لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه» وأكل على مائدته صلّى الله عليه وسلم. وقد روى عن زيد بن ثابت رضى الله عنه أنه قال: إذا رأيت أهل المدينة اجتمعوا على شىء فاعلم أنه سنّة. وقد روى عن محمد بن سيرين رحمه الله أنّ رجلا قدم المدينة بجوار، فنزل على ابن عمر وفيهنّ جارية تضرب؛ فجاء رجل فساومه فلم يهو منهنّ شيئا. فقال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا؛ فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهنّ عليه؛ فأمر جارية قال: خذى، فأخذت العود حتى ظنّ ابن عمر أنه قد نظر الى ذلك؛ فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان، قال: فبايعه. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنى غبنت بسبعمائة درهم. فأتى

وأما ما ورد في المزامير والملاهى،

ابن عمر إلى ابن جعفر فقال: إنه قد غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه وإمّا أن تردّ عليه بيعه؛ فقال: بل نعطيها إياه. وهذه الحكاية ذكرها أبو محمد بن حزم واستدلّ بها على إباحته فقال: فهذا عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر رضى الله عنهما قد سمعا الغناء بالعود، وإن كان ابن عمر كره ما ليس من الجدّ فلم ينه عنه، وقد سفر «1» في بيع مغنّية كما ترى، ولو كان حراما ما استجاز ذلك أصلا. وأما ما ورد في المزامير والملاهى، قال الشيخ الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ: وأما القول في المزامير والملاهى، فقد وردت الأحاديث الصحيحة بجواز استماعها. فمن ذلك ما رواه بسند رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهليّة يفعلونه غير مرّتين كلّ ذلك يحول الله عزّ وجلّ بينى وبين ما أريده من ذلك ثم ما هممت بعدها بشىء حتى أكرمنى الله برسالته فإنى قلت لغلام من قريش ليلة وكان يرعى معى في أعلى مكة لو أنك أبصرت غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب قال أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أوّل دار من ديار مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا فقالوا فلان تزوّج فلانة بنت فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله عزّ وجلّ على أذنى فنمت فما أيقظى إلا مسّ الشمس فرجعت إلى صاحبى فقال ماذا فعلت قلت ما صنعت شيئا ثم خبّرته الخبر [فقال «2» ] ثم قلت له ليلة أخرى مثل

ذلك فقال أفعل فخرجت حتى دخلت مكة فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت تلك الليلة فسألت عنه فقالوا فلان نكح فلانة فجلست أنظر فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس فخرجت إلى صاحبى فأخبرته الخبر ثم ما هممت بسوء حتى أكرمنى الله تعالى برسالته» . قال الحافظ أبو الفضل: وكان هذا قبل النبوّة والرسالة ونزول الأحكام والفرق بين الحلال والحرام؛ فإن الشرع لمّا ورد أمره الله تعالى بالإبلاغ والإنذار فأقرّه على ما كان عليه في الجاهلية ولم يحرّمه كما حرّم غيره. قال: والدليل على أنه باق على الإباحة قول الله عز وجلّ: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) . ثم بيّن الدليل على ذلك بما رواه بسنده إلى جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، يخطب خطبتين. فكانت الجوارى إذا أنكحوهنّ يمرّون فيضربون بالدفّ والمزامير فيتسلّل «1» الناس ويدعون رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما، فعاتبهم الله عز وجل بقوله: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) . وقال: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه عن عبد الله بن حميد عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال. والله عز وجلّ عطف اللهو على التجارة وحكم المعطوف حكم ما عطف عليه، والإجماع على تحليل التجارة، فثبت أن هذا الحكم مما أقرّه الشرع على ما كان عليه في الجاهليّة لأنه غير محتمل أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرّمه، ثم يمرّ به على باب المسجد يوم الجمعة ثم يعاتب الله عز وجلّ من ترك رسوله صلى الله عليه وسلم قائما ثم خرج ينظر إليه ويستمع. ولم ينزل في تحريمه آية ولا سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّة، فعلمنا بذلك بقاءه على حاله.

ذكر ما ورد في توهين ما استدلوا به على تحريم الغناء والسماع

قال: ويزيد ذلك بيانا ووضوحا حديث عائشة رضى الله عنها في المرأة التى زفّتها وقد تقدّم ذكر الحديث. وروى أيضا بسند رفعه عن زوج درّة بنت أبى لهب قال: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين تزوّجت درّة فقال: «هل من لهو» . ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع قد ذكر الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى الأحاديث التى استدلوا بها على تحريمه وفسّروا بها الآيات والأحاديث التى استدلّوا بها على تحريمه ممّا قدّمنا ذكر ذلك في حججهم ومما لم نذكره مما يستدلّ به على تحريمه وكراهته وضعف رجالها. وتكلم الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله أيضا في ذلك ووهنّ احتجاجهم إذا ثبت الحديث على ما نذكر ذلك. قال الحافظ أبو الفضل: أمّا ما احتجّوا به من الآيات في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية. وما أوردوه في ذلك من الأسانيد إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، فنظرت في جميعها فلم أر فيها طريقا يثبت إلا واحدا منها رواه يوسف بن موسى القطّان عن جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: الغناء وأشباهه. وسائرها لا يخلو من رواية ضعيف لا تقوم بروايته حجّة. قال: ورأيت في بعضها رواية عطيّة العوفّى عن ابن عباس من حديث غير ثابت أصلا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال: باطل الحديث وهو الغناء

ونحوه؛ وهو أن رجلا من قريش اشترى جارية مغنّية فنزلت فيه. قال: وهذا وإن لم يصحّ عندى الاحتجاج بسندهم فيلزمهم قبوله لأنهم احتجّوا به فيكون فى حقّ هذا الرجل بعينه. وقد ورد في الآية تفسير ثالث يلزمهم قبوله على أصلهم، وذكر حديثا رفعه إلى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) «اللعب والباطل وتشحّ نفسه أن يتصدّق بدرهم» . قال: وهذا أيضا غير ثابت عندى وإنما أوردت هذين التفسيرين مناقضة لما أوردوه فيما تمسّكوا به. قال: ولن أركن إلى هذا أبدا ولا أقنع به ولا أحتجّ عليه ولا ألزمهم إياه، بل أقول صحّ عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما إجماع أهل السنّة على أن السنّة تقضى على الكتاب، وأن الكتاب لا يقضى على السنة، وقد جاءت السنّة الصحيحة: أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم استمع للغناء وأمر باستماعه، وقد أوردنا في ذلك من الأحاديث ما تقدّم إيراده. قال: وجواب ثان يقال لهؤلاء القوم المحتجين بهذه التفاسير: هل علم هؤلاء الصحابة الذين أوردتم أقاويلهم من هذه الآية ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو لم يعلمه؟ فإن قالوا: لم يعلمه وعلمه هؤلاء، كان جهلا عظيما بل كفرا. وإن قالوا: علمه، قلنا: نقل إلينا عنه في تفسير هذه الآية مثل ما نقل عن هؤلاء من الصحابة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومن المحال أن يكون تفسير قوله عز وجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) هو الغناء، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما كان معكنّ لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو» .

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ثلاثة ليس لها أصل: المغازى، والملاحم، والتفسير. وقال أبو حاتم محمد بن حسان في كتاب الضعفاء: الله عز وجلّ يؤتى رسوله صلّى الله عليه وسلم تفسير كلامه وتأويل ما أنزل عليه حيث قال: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . ومن المخلّ المحال أن يأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلم أن يبيّن لخلقه مراده حيث جعله موضع الإبانة عن كلامه ومفسّرا لهم حتى يفهموا مراد الله عز وجلّ فلا يفعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ بل أبان مراد الله عز وجلّ من الآى وفسّر لأمّته، ما تهمّ الحاجة إليه، وبيّن سنّته صلّى الله عليه وسلم. فمن تتبّع السنن وحفظها وأحكمها فقد عرف تفسير كتاب الله عز وجلّ وأغناه الله تعالى عن الكلبىّ وذويه، وما لم يبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمّته في معانى الأى التى أنزلت عليه مع أمر الله عز وجلّ له بذلك وجاز ذلك كان لمن بعده من أمّته أجوز، وترك التفسير لما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرى. قال: ومن أعظم الدلائل على أن الله تعالى لم يرد بقوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) القرآن كله أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم نزل عليه من الكتاب متشابه من الآى. فالآيات التى ليس فيها أحكام لم يبين كيفيتها لأمته. فلما فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم دلّ ذلك على أن المراد من قوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) كان بعض القرآن لا الكلّ. وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله في هذه الآية: وأمّا شراء لهو الحديث بالدّين استبدالا به ليضلّ به عن سبيل الله فهو حرام مذموم، وليس النزاع فيه.

وليس كل غناء بدلا عن الدّين مشترى به ومضلّا عن سبيل الله وهو المراد في الآية، ولو قرأ القرآن: ليضل به عن سبيل الله لكان حراما. حكى عن بعض المنافقين: أنه كان يؤمّ الناس ولا يقرأ إلا سورة «عبس» لما فيها من العتاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهمّ عمر بقتله [ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال «1» ] فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. وقال الثعلبىّ في أحد أقواله عن تفسير هذه الآية عن الكلبىّ ومقاتل: نزلت فى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول: إن محمدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. واحتجوا بقوله تعالى: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) قال ابن عباس: هو الغناء بلغة حمير، يعنى- السمود- قال الغزالىّ رحمه الله: فنقول ينبغى أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا، لأن الآية تشتمل عليه، فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وأراد به شعراء الكفّار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه. واحتجّوا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) . قال الثعلبىّ: قال الحسن، عن المعاصى. وقال ابن عباس: الحلف الكاذب. وقال مقاتل:

الشتم والأذى. وقال غيرهم: ما لا يحلّ من القول والفعل. قال: وقيل اللغو الذى لا فائدة فيه. واحتجّوا بقوله تعالى: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) . قال الثعلبىّ: أى القبيح من القول. وبقوله تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) . قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وبقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بدعائك إلى معصية الله تعالى. وكلّ داع إلى معصية الله تعالى فهو من جنود إبليس. وأما ما احتجّوا به من الحديث فإنهم احتجّوا بحديث روى عن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا تحلّ التجارة فيهنّ وأثمانهنّ حرام والاستماع إليهنّ حرام» . قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله: هذا حديث رواه عبيد الله بن زحر عن علىّ ابن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة، قال: والصحابة كلهم عدول. وأما عبيد الله ابن زحر وعلىّ والقاسم فهم في الرواية سواء لا يحتجّ بحديث واحد منهم إذا انفرد بالرواية عن ثقة فكيف إذا روى عن مثله. أما عبيد الله بن زحر فيقال: إنه من أهل مصر. قال أبو مسهر الغسّانى: عبيد الله بن زحر صاحب كلّ معضلة ليس على حديثه اعتماد. وقال عثمان بن سعيد الدارمىّ: قلت ليحيى بن معين: عبيد الله ابن زحر كيف حديثه؟ قال: كل حديثه ضعيف، قلت: عن على بن يزيد وغيره؟ قال نعم. وقال عباس الدّورىّ عن يحيى: عبيد الله بن زحر ليس بشىء. وقال أبو حاتم في كتاب الضعفاء والمتروكين: عبيد الله بن زحر منكر الحديث جدّا، روى الموضوعات عن الثّقات وإذا روى عن علىّ بن يزيد أتى بالظلمات، وإذا اجتمع

فى إسناد عبيد الله بن زحر وعلىّ بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الحديث إلا ممّا عملت أيديهم فلا يحلّ الاحتجاج بهذه الصحيفة. قال المقدسىّ: وهذا الحديث قد اجتمعوا في إسناده، قال: وأما علىّ بن يزيد فهو من أهل دمشق يكنى بأبى عبد الملك روى عن القاسم قال النّسائىّ في كتاب الضعفاء: علىّ بن يزيد متروك الحديث. وقال أبو عبد الرحمن بن حيّان: علىّ بن يزيد مطروح منكر الحديث جدّا. وأما القاسم بن عبد الرحمن ويكنى بأبى عبد الرحمن فقال يحيى بن معين: القاسم بن عبد الرحمن لا يسوى شيئا. وقال أحمد بن حنبل، وذكر القاسم مولى يزيد بن معاوية فقال: منكر الحديث. وقال أبو حاتم بن حسّان: القاسم يروى عنه أهل الشأم، كان يروى عن الصحابة المعضلات ويأتى عن الثقات بالأسانيد المقلوبات، حتى كان يسبق إلى القلب أنه المعتمد لها. قال المقدسىّ: فهذا شرح أحوال رواة الحديث الذى احتجّوا به في التحريم، هل تجوز روايته كما ذكره الأئمة حتى يستدلّ به في التحليل والتحريم. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرنى ربى عز وجلّ بنفى الطنبور والمزمار» وهو حديث رواه إبراهيم بن اليسع بن الأشعث المكىّ وإسماعيل بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، وإبراهيم هذا- قال البخارىّ-: منكر الحديث. وقال النسائىّ: المكّى ضعيف. واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ضرب الدّفّ ولعب الصّنج وصوت الزمّارة، وهو حديث رواه عبد الله بن ميمون عن مطر بن سالم عن علىّ قال: وعبد الله هو القدّاح ذاهب الحديث؛ ومطر هذا شبه المجهول.

واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المغنّيات والنوّاحات وعن شرائهنّ وبيعهنّ والتجارة فيهنّ وقال: «كسبهنّ حرام» . قال: وهذا حديث رواه علىّ بن يزيد الصّدائىّ عن الحارث بن نبهان عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث عن علىّ رضى الله عنه قال: والحارث بن نبهان ليس بشىء ولا يكتب حديث قاله يحيى بن معين. وقال البخارىّ: الحارث منكر الحديث. وقال أحمد بن حنبل: الحارث رجل صالح ولم يكن يعرف الحديث ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال النسائىّ: الحارث بن نبهان متروك الحديث. لم يروه عن أبى إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعى وغيره ولا رواه عنه غير علّى بن يزيد الصّدائىّ. وعلى هذا قال أحمد بن عدىّ: أحاديثه لا تشبه أحاديث الثقات. والحارث الذى روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الحارث بن عبد الله أبو زهير الخارفى «1» الأعور، أجمع أهل النقل على كذبه، والحمل في هذا الحديث على الحارث بن نبهان وإن كان في الإسناد من الضعفاء غيره. واحتجّوا بما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «صوتان ملعونان فى الدنيا والآخرة صوت مزمار عند نعمة وصوت ندبة «2» عند مصيبة» وهذا حديث رواه محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضى الله عنهما، ومحمد بن زياد هذا هو الطحّان اليشكرىّ. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عنه فقال: أعور كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيى بن معين:

أجمع الناس على طرح هؤلاء النفر لا يعتدّ بهم، منهم محمد بن زياد. وكان أبو يوسف الصّيدلانىّ يقول: قدم محمد بن زياد الرّقّة بعد موت ميمون بن مهران. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم: أنه ذكر خسفا ومسخا وقذفا يكون في هذه الأمة، قالوا: يا رسول الله إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: «نعم إذا أظهروا النّرد والمعازف وشرب الخمور ولبس الحرير» قال: وهذا حديث رواه عثمان بن مطر عن عبد الغفور عن عبد العزيز بن سعيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: وعثمان هو الشيبانىّ من أهل البصرة وكان ضريرا. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: متروك الحديث. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثنى ربّى عز وجلّ بمحق المزامير والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية والخمر وأقسم ربى عز وجلّ بعزّته ألا يشربها عبد في الدنيا» الحديث. قال: وهذا حديث رواه محمد بن الفرات عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن الحارث الأعور عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومحمد بن الفرات هذا من أهل الكوفة. قال أبو بكر بن أبى شيبة: هذا شيخ كذّاب. وقال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال النسائىّ: متروك. وقد تقدّم ذكر السبيعىّ والحارث الأعور، ومضى الكلام عليه. واحتجّوا بما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه مسندا: «إن الغناء ينبت النفاق في القلب» وهو حديث عبد الرحمن بن عبد الله العمرىّ ابن أخى عبيد الله ابن عمر عن أبيه عن سعيد بن أبى سعيد المقبرىّ عن أبى هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن هذا قال أحمد بن حنبل: ليس يسوى حديثه شيئا،

سمعت منه ثم تركناه وكان ولى قضاء المدينة، أحاديثه مناكير وكان كذّابا. قال النسائىّ: وهو متروك الحديث. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من استمع إلى قيان صبّ في أذنيه الآنك «1» » وهو حديث رواه أبو نعيم الحلبىّ عن عبد الله بن المنذر عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك. وأبو نعيم اسمه عبيد بن هشام «2» من أهل حلب ضعيف ولم يبلغ «3» عن ابن المبارك. مرسل. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله النائحة والمستمعة والمغنّى والمغنّى له» وهو حديث رواه عمرو بن يزيد المدائنىّ عن الحسن البصرىّ عن أبى هريرة، وعمرو هذا قال أبو أحمد «4» بن عدىّ: منكر الحديث، والحسن لم يسمع من أبى هريرة شيئا. وقال ابن عدىّ: هذا الحديث غير محفوظ. واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «النظر إلى المغنّية حرام وغناؤها حرام وثمنها حرام» وهو حديث يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل النوفلىّ المدنى «5» عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضى

الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويزيد الأوّل قال النسائىّ: متروك الحديث. وقال أحمد بن حنبل: عنده مناكير. وقال يحيى بن معين: يزيد بن عبد الملك ليس بذاك. واحتجّوا بما روى عن علىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا عملت أمتى خمس عشرة خصلة حلّ فيها البلاء» وذكرها وقال فى جملتها: «واتخذت القيان والمعازف» ، وهو حديث رواه فرج بن فضالة الشيبانىّ من أهل حمص عن يحيى بن سعيد الأنصارىّ عن محمد بن علىّ عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. قال عبد الرحمن بن مهدى: أحاديث الفرج عن يحيى بن سعيد منكرة. وقال يحيى بن معين: فرج ضعيف. وقال أبو حاتم «1» بن حسّان: فرج بن فضالة كان يقلب الأحاديث الصحيحة ويلصق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحلّ الاحتجاج به. واحتجّوا بحديث جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن فذكر حديثا قال فيه: «نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وصوت عند نعمة لعب ولهو ومزامير الشيطان» وهذا حديث رواه محمد ابن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عطاء عن جابر، وأنكر عليه هذا الحديث وضعّف لأجله. قال أبو حاتم بن حسّان: كان ردىء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ يروى الشىء على وجه الوهم ويستحق الترك. وتركه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين.

واحتجّوا بأنه صلّى الله عليه وسلم سمع صوتا فقال: «انظروا من هذا» فنظرت فإذا معاوية وعمرو يتغنّيان. الحديث، وفيه: «اللهمّ اركسهما في الفتنة ركسا» وهو حديث رواه يزيد «1» بن أبى زياد عن سليمان عن عمرو بن الأحوص عن أبى برزة الأسلمى. ويزيد هذا من أهل الكوفة، وكان الكذبة يلقّنونه على وفق اعتقادهم فيتلّقاها ويحدّث بها ضعفة أهل النقل، وقد روى هذا الحديث من طريق آخر ليس فيه معاوية هذا، وأنه ابن التابوت «2» . قال المقدسىّ: ولم يصحّ عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر أحدا من أصحابه إلّا تحير. واحتجّوا بما روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه رفع الحديث، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فى متّخذى القيان وشاربى الخمور ولا بسى الحرير» وهو حديث رواه زياد بن أبى زياد الجصّاص عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه. وزياد هذا متروك الحديث. واحتجّوا بحديث روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات وله قينة فلا تصلّوا عليه» وهو حديث روى بإسناد مجهول عن خارجة بن مصعب عن داود بن أبى هند عن الشعبىّ عن علىّ. وخارجة متروك الحديث من أهل سرخس.

واحتجّوا بما روى عبد الرحمن بن الجندىّ قال: قال عبد الله بن بسر «1» صاحب النبىّ صلّى الله عليه وسلم: يابن الجندىّ، فقلت: لبّيك يا أبا صفوان، قال: والله ليمسخنّ قوم وإنهم لفى شرب الخمور وضرب المعازف حتى يكونوا قردة أو خنازير. والحديث موقوف وابن الجندىّ مجهول. والنبىّ صلّى الله عليه وسلم سأل ربه ألّا يعذّب أمّته بما عذّب به الأمم قبلها فأعطاه ذلك. واحتجّوا بما روى عن أبى أمامة رضى الله عنه وقد تقدّم بعضه، وفيه زيادة أخرى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ بيع المغنّيات ولا شراؤهنّ ولا الجلوس إليهنّ» ثم قال: «والذى نفسى بيده ما رفع رجل عقيرته بغناء إلا ارتدف على ذلك «2» شيطان على عاتقه هذا وشيطان على عاتقه هذا حتى يسكت» وهذا حديث قد تقدّم أوّله من حديث عبيد الله بن زحر، وهذه الزيادة من رواية مسلمة بن علىّ الدمشقىّ عن يحيى بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبى أمامة. ومسلمة هذا، قال ابن معين: ليس بشىء. وقال البخارىّ: منكر الحديث. وقد تقدّم القول في القاسم بن عبد الرحمن. واحتجّوا بحديث روى عن عبد الله بن مسعود من رواية سلّام بن مسكين قال: حدّثنى شيخ سمع أبا وائل يقول: سمعت ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الغناء ينبت النفاق في القلب» هكذا رواه سلّام عن شيخ مجهول لا يعرف. ورواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن محمد ابن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود وقوله «3» ، ولم يذكر النبىّ صلّى

الله عليه وسلم. ورواه الثقات عن شعبة بن الحجاج عن مغيرة عن إبراهيم، قوله «1» ، ولم يذكر أحدا تقدّمه فيه وهذا أصحّ الأقاويل «2» فيه من قول إبراهيم. قال الغزالى رحمه الله تعالى: قول ابن مسعود: ينبت النفاق أراد به في حقّ المغنّى فإنه فى حقه ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروّج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودّد إلى الناس ليرغبوا في غنائه، وذلك أيضا لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع ينبت الرياء والنفاق في القلب ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصى فقط. بل المباحات التى هى مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا. ولذلك نزل «3» ابن عمر رضى الله عنهما عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مشيته، فهذا النفاق من المباحات. واحتجّوا بحديث روى عن صفوان بن أمية قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرّة فقال: يا نبىّ الله إن الله عز وجلّ كتب علىّ الشّقوة ولا أرانى أرزق إلّا من «4» دفّى بكفّى أفتأذن لى في الغناء من غير فاحشة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا إذن ولا كرامة ولا نعمة» وذكر حديثا طويلا، وهو حديث رواه عبد الرزاق بن همّام الصّنعانى عن يحيى بن العلاء عن بشر بن نمير عن مكحول قال: حدّثنى يزيد بن عبد الملك عن صفوان بن أمية. ويحيى بن العلاء هذا مدنىّ الأصل رازىّ. قال يحيى بن معين: يكنى ابا عمرو ليس بثقة. وقال عمرو بن على الصيرفىّ: يحيى بن العلاء متروك الحديث والله أعلم.

واحتجّوا بما روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمّارة، وهو حديث نقله سليمان بن أبى سليمان الداودىّ البصرىّ عن محمد ابن بشر عن أبى هريرة. وسليمان هذا متروك الحديث غير ثقة. واحتجّوا بقول عثمان رضى الله عنه: ما تغنّيت ولا تمنّيت «1» ولا مسست ذكرى بيمينى منذ بايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلم. وهذا حديث رواه صقر بن عبد الرحمن عن أبيه عن مالك بن مغول عن عبد الله بن إدريس عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك في حديث القفّ والصيد. قال المقدسىّ: هذا حديث لم أرفيه تحاملا، ورأيته ذكر من هذا أشياء لم يأت بها غيره توجب ترك حديثه والله أعلم. وقال الغزالىّ رحمه الله تعالى وذكر هذا الحديث: قلنا فليكن التمنّى ومسّ الذكر باليمين حراما إن كان هذا دليل تحريم الغناء، فمن أين ثبت أن عثمان كان لا يترك إلا الحرام. قال الحافظ أبو الفضل المقدسىّ رحمه الله تعالى: فهذه الأحاديث وأمثالها احتجّ بها من أنكر السماع جهلا منهم بصناعة علم الحديث ومعرفته، فترى الواحد منهم إذا رأى حديثا مكتوبا في كتاب جعله لنفسه مذهبا واحتجّ به على مخالفه، وهذا غلط عظيم بل جهل جسيم. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى وفيه من الزيادات ما هو منسوب الى الثعلبىّ والغزالىّ على ما بيّناه في مواضعه. وقد تكلم الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطوسىّ رحمه الله تعالى على السماع في كتابه المترجم ب «إحياء علوم الدين» وبيّن دليل الإباحة وذكر بعد ذلك آداب السماع وآثاره في القلب والجوارح فقال:

اعلم أن السماع هو أوّل الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمّى الوجد ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة فتسمّى الاضطراب، وإمّا موزونة فتسمّى التصفيق والرقص. ثم بدأ بحكم السماع وبيّن الدليل على إباحته ثم ذكر ما تمسّك به القائلون بتحريمه وأجاب عن ذلك بما نذكره أو مختصره إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: نقل أبو طالب المكّى إباحة السماع عن جماعة وقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وابن الزّبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم. وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابىّ وتابعىّ. قال: ولم يزل الحجازيّون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهى الأيام المعدودات التى أمر الله عز وجلّ عباده فيها بذكره كأيام التشريق. ولم يزل أهل المدينة ومكة مواظبين على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاضى وله جوار يسمعن [النّاس «1» ] التلحين قد أعدّهنّ للصوفية. قال: وكان لعطاء جاريتان تلحّنان وكان إخوانه يستمعون إليهما. قال: وقيل لأبى الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسرىّ السّقطىّ وذو النون يسمعون! فقال: كيف أنكر السماع وأجازه وسمعه من هو خير منّى. وقد كان عبد الله بن جعفر الطيّار يسمع. وإنما أنكر اللهو واللعب فى السماع. وروى عن يحيى بن معاذ أنه قال: فقدنا ثلاثة أشياء فلا نراها ولا أراها تزداد إلا قلّة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. قال الغزالىّ: ورأيت في بعض الكتب هذا بعينه محكيا عن المحاسبىّ وفيه ما يدلّ على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجدّه في الدّين وتشميره.

وحكى عن ممشاد الدّينورىّ أنه قال: رأيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله، هل تنكر من هذا السماع شيئا؟ فقال: «ما أنكر منه شيئا ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن» . قال الغزالىّ: وعن ابن جريح أنه كان يرخص في السماع فقيل له: تقدّمه يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو، قال الله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) * ؛ ثم بيّن الغزالىّ رحمه الله الدليل على إباحة السماع فقال: اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه وهذا أمر لا يعرف بمجرّد العقل بل بالسمع، ومعرفة الشرعيّات محصورة في النصّ أو القياس على المنصوص. قال: وأعنى بالنصّ ما أظهره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله أو فعله، وبالقياس المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله، فإن لم يكن فيه نصّ ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه ويبقى فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات، ولا يدلّ على تحريم السماع نصّ ولا قياس. قال: وقد دلّ القياس والنصّ جميعا على إباحة السماع. أما القياس فهو أن الغناء اجتمع فيه معان ينبغى ان يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيّب موزون مفهوم المعنى المحرّك للقلب. فالوصف الأعمّ أنه صوت طيّب، ثم الطيب ينقسم الى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وأصوات سائر الحيوانات. أما سماع الصّوت الطيّب من حيث إنه طيّب فلا ينبغى أن يحرّم بل هو حلال بالنصّ والقياس. أمّا القياس فإنه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السمع بإدراك ما هو مخصوص به. وللإنسان عقل وخمس حواس ولكلّ حاسّة إدراك. وفي مدركات تلك الحاسة

ما يستلذّ. فلذّة البصر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجارى والوجه الحسن وسائر الألوان الجميلة وهى في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشمّ الروائح الطيّبة وهى في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذّوق الطعوم اللذيذة كالدّسومة والحلاوة والحموضة وهى في مقابلة المرارة والمزازة المستبشعة. وللمسّ لذّة اللين والنعومة والملاسة وهى في مقابلة الخشونة والضّراسة. وللعقل لذّة العلم والمعرفة وهى في مقابلة الجهل والبلادة. فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذّة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمر وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسّة ولذّتها على سائر الحواس ولذّاتها. وأما النصّ فيدلّ على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله على عباده به إذ قال تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) فقيل: هو حسن الصوت. وفي الحديث: «ما بعث الله نبيّا إلا حسن الصوت» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشدّ أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وفي الحديث فى معرض المدح لداود عليه السّلام: «أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزّبور حتى كان يجتمع الإنس والجنّ والوحش والطير لسماع صوته، وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب من ذلك في الأوقات» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مدح أبى موسى الأشعرىّ: «لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود» وقوله تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن. ولو جاز أن يقال: إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون فى القرآن للزمه أن يحرّم سماع صوت العندليب لأنه ليس بقرآن. وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له، فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعانى الصحيحة! وإن من الشعر لحكمة. قال: فهذا نظر في الصوت من حيث إنه طيّب حسن.

الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيّب الموزون فإنّ الوزن وراء الحسن، فكم من صوت حسن خارج عن الوزن، وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة، فإنها إمّا أن تكون من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره. وإمّا أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان وإما غيره. فصوت العنادل والقمارىّ وذوات السجع من الطيور مع طيها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذّ سماعها. والأصل فى الأصوات حناجر الحيوانات. وإنما وضعت المزامير على صورة «1» الحناجر وهى تشبيه الصّنعة بالخلقة. وما من شىء توصّل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التى استأثر الله تعالى باختراعها، منه تعلّم الصّنّاع وبه قصدوا الاقتداء. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغى أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمىّ كالذى يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدّفّ وغيره. ولا يستثنى من هذا إلا الملاهى والأوتار والمزامير، إذ ورد الشرع بالمنع منها لا للذّتها إذ لو كان للذّة لقيس عليها كل ما يلتذّ به الإنسان ولكن حرّمت الخمور واقتضت ضراوة «2» الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء الى كسر الدّنان، فحرّم معها ما هو شعار أهل الشرب وهى الأوتار والمزامير فقط. وكان تحريمه من قبيل الإتباع كما حرّمت الخلوة «3» لأنها مقدّمة الجماع. وحرّم النظر الى الفخذ

لاتصاله بالسوأتين. وحرّم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى المسكر. وما من حرام إلا وله حرم يطيف به. وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووفاية له وحظارا «1» مانعا حوله كما قال صلّى الله عليه وسلم: «إن لكلّ ملك حمى وإنّ حمى الله محارمه» فهى محرّمة تبعا لتحريم الخمر. الدرجة الثالثة: الموزون المفهوم وهو الشعر، وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع بإباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما. والكلام المفهوم غير حرام. والصوت الطيب الموزون غير حرام. فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع؛ نعم ينظر فيما يفهم منه، إن كان فيه أمر محظور جرم نثره ونظمه وحرم التصويت «2» به سواء كان بألحان أو لم يكن. والحقّ فيه ما قاله الشافعىّ رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان مباحا، ومهما انضمّ مباح الى مباح لم يحرم إلا إذا تضمنّ المجموع محظورا لا تتضمّنه الآحاد، ولا محظور هاهنا. وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكمة» وساق رحمه الله في هذا الموضع الأحاديث الصحيحة التى تضمّنت إنشاد الشعر والحداء به وهى أشهر من أن يحتاج إلى سردها. ثم قال بعد سياق الأحاديث: ولم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وزمان الصحابة، وما هو إلا أشعار تؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة. ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره. بل ربما كانوا يلتمسون ذلك

تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ، فلا يجوز أن يحرّم من حيث إنه كلام مفهوم مؤدّى بأصوات طيّبة وألحان موزونة. الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرّك للقلب ومهيّج لما هو الغالب عليه، قال أبو حامد: فأقول: لله سبحانه وتعالى سرّ في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا. فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوّم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغى أن يظنّ أن ذلك لفهم معانى الشعر بل هذا جار فى الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك بفهم المعنى، وتأثيره مشاهد في الصبىّ في مهده فإنه يسكته الصوت الطيّب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه الى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخفّ معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوّة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه؛ فتراها إذا طالت عليها البوادى واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال اذا سمعت منادى الحداء تمدّ أعناقها وتصغى إلى الحادى ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها في شدّة السير وثقل الحمل وهى لا تشعر به لنشاطها فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدّينورى المعروف بالرّقى، قال: كنت في البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافنى رجل منهم وأدخلنى خباء فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيّدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدى البيت «1» وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه. فقال لى الغلام:

ذكر أقسام السماع وبواعثه

أنت ضيف ولك حقّ فتشفّع في حقّى إلى مولاى فإنه مكرم لضيفه فلا يردّ شفاعتك فعساه يحلّ القيد عنّى. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفّع فى هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرنى وأهلك جميع مالى؛ فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيّبا، وإنى كنت اعيش من ظهور هذه الجمال فحمّلها أحمالا ثقالا وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاث ليال في ليلة من طيب نغمته فلما حطّت أحمالها موّتت كلّها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفى فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهى، فما أظنّ أنى قط سمعت صوتا أطيب منه. قال: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحرّكه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على سائر البهائم فإن جميعها تتأثّر بالنغمات الموزونة. ومهما كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب. قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرّك ما هو فيه. ذكر أقسام السماع وبواعثه وأقسام السماع تختلف بآختلاف الأحوال: فإن منه ما هو مستحبّ وما هو مباح وما هو مكروه وما هو حرام. أما المستحبّ فهو لمن غلب عليه حبّ الله تعالى ولم يحرّك السماع منه إلا الصفات المحمودة. وأما المباح فهو لمن لا حظّ له من السماع إلا التلذّذ بالصوت الحسن، وأما المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين

ولكن يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو. وأما الحرام فهو لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليه شهوة الدنيا فلا يحرّك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة. وقد تكلم على هذه الأقسام الإمام أبو حامد الغزالىّ فقال رحمه الله ما مختصره ومعناه: الكلمات المسجعة الموزونة تعتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار فى القلب وهى سبعة مواضع: الأوّل: غناء الحجيج فإنهم يدورون أوّلا في البلاد بالطبل والغناء وذلك مباح لما فيه من التشويق إلى الحجّ وأداء الفريضة وشهود المشاعر. الثانى: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وهو مباح أيضا لما فيه من استثارة النفس وتحريكها على الغزو وإثارة الغضب على الكفّار وتحسين الشجاعة وتقبيح الفرار. الثالث: ما يرتجزه الشّجعان عند اللقاء في الحرب وهو مباح ومندوب لما فيه من تشجيع النفس وتحريك النشاط للقتال والتمدّح بالشجاعة والنجدة وقد فعله غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم علىّ بن أبى طالب وخالد بن الوليد وغيرهما. الرابع: أصوات النّياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج البكاء وملازمة الحزن والكآبة وهذا قسمان: محمود ومذموم. فأمّا المذموم فالحزن على ما فات. قال الله تبارك وتعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) . والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه يغضب الله جلّ جلاله «1» وتأسّف على ما لا تدارك فيه.

وأمّا المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه. والبكاء والتباكى والحزن والتحازن على ذلك محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك. ولذلك كانت نياحة داود عليه السّلام محمودة، فقد كان يحزن ويحزن ويبكى ويبكى حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه، وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيّب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرقّقة للقلب ولا أن يبكى ويتباكى ليتوصّل به الى بكاء غيره وإثارة حزنه. الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب ووقت الوليمة والعقيقة وعند الولادة والختان وعند حفظ القرآن، وكل ذلك معتاد لأجل إظهار السرور. قال: ووجه جوازه أنّ من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب وكل ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه، ويدلّ على هذا إنشادهم بالدفّ والألحان عند مقدم النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقولون: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى فإظهار هذا السرور بالنغمات والشعر والرقص والحركات محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم كما سيأتى في أحكام الرقص وهو جائز في قدوم كل غائب وكل ما يجوز الفرح به شرعا. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام. السادس: سماع العشّاق تحريكا للشوق وتهييجا للعشق وتسلية للنفس؛ فإن كان في حال مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذّة، وإن كان مع المفارقة فالغرض

تهييج الشوق. والشوق وإن كان مؤلما ففيه نوع لذّة إذا انضاف اليه رجاء الوصال؛ فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوّة لذّة الرجاء بحسب قوّة الشوق والحبّ للشىء المرجوّ، ففى هذا السماع تهييج للعشق وتحريك للشوق وتحصيل للذة الرجاء المقدّر في الوصال مع الإطناب في وصف حسن المحبوب. قال: وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سرّيته فيصغى إلى غنائها لتتضاعف لذّته في لقائها، فيحظى بالمشاهدة البصر وبالسماع الأذن ويفهم لطائف معانى الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذّة. فهذا نوع تمتّع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها، وما متاع الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وهذا منه. وكذلك إن غصبت منه جارية أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب فله أن يحرّك بالسماع شوقه وأن يستثير به لذّة رجاء الوصال. فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصل واللقاء. وأما من يتمثّل في نفسه صورة صبىّ أو امرأة لا يجوز له النظر إليها وكان ينزّل ما يسمع على ما يتمثّل في نفسه فهو حرام لأنه محرّك للفكر في الأفعال المحظورة ومهيّج للداعية إلى مالا يباح الوصول إليه لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. وقد سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: دخان يصعد الى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيّجه السماع. السابع: سماع من أحبّ الله سبحانه وتعالى وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شىء إلّا رآه فيه، ولا يقرع سمعه قارع إلّا سمعه منه أو فيه؛ فالسماع في حقه مهيّج لشوقه، ومؤكّد لعشقه وحبّه، ومور زناد قلبه، ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كلّ حسّه عن ذواقها؛ وتسمّى تلك الأحوال بلسان الصوفيّة وجدا- مأخوذ من الوجود- وللصوفية على هذا كلام يطول شرحه ليس هذا موضع إيراده. والله أعلم.

ذكر العوارض التى يحرم معها السماع

ذكر العوارض التى يحرم معها السماع قال أبو حامد رحمه الله تعالى: والسماع يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع وعارض في آلة السماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواطنه، لأن أركان السماع هى المسمع والمستمع وآلة السماع. العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبىّ الذى تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة، وليس ذلك لأجل الغناء بل لو كانت المرأة بحيث تفتن بصوتها في المحاورة فى غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضا، وكذلك الصبى الذى تخاف فتنته. فإن قلت: فهل تقول: إن ذلك حرام بكل حال حسما للباب، أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة. فأقول: هذه مسئلة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان: أحدهما: أن الخلوة بالأجنبيّة والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت منها الفتنة أو لم تخف لأنها مظنّة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصورة. والثانى: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم بل ينبغى أن يفصّل فيه الحال. وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين، فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أوّل هيجانها ولا تدعو إلى سماع الصوت. وليس تحريك النظر لشهوة المماسّة كتحريك السماع بل هو أشدّ. وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة،

العارض الثانى في الآلة

فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنّهم لم يؤمروا بالاحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات، فينبغى أن يتّبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه، هذا هو الأقيس عندى. قال: ويتأيّد بحديث الجاريتين المغنّيتين في بيت عائشة رضى الله عنها إذ يعلم أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم كان يسمع صوتهما ولم يحترز عنه ولكن لم تكن الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز. فإذا يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شابا وشيخا ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال. فإنا نقول: للشيخ أن يقبّل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك. والقبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور. والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام، فيختلف ذلك أيضا بالأشخاص. العارض الثانى في الآلة بأن تكون من شعائر أهل الشرب أو المخنّثين وهى المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدّفّ وإن كان فيه الجلاجل وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات. العارض الثالث في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شىء من الخنا والفحش والهجاء أو هو كذب على الله عز وجلّ أو على رسوله أو على الصحابة كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك القائل وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدى الرجال. وأمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائز. فقد كان حسان بن ثابت ينافح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهاجى الكفار، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك.

العارض الرابع في المستمع

فأمّا النسيب وهو التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القدّ والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن «1» ، وعلى المستمع ألّا ينزّله على امرأة معيّنة إلّا على من تحلّ له من زوجة أو جارية، فإن نزّله على أجنبية فهو العاصى بالتنزيل وإجالة الفكر فيه. ومن هذا وصفه فينبغى أن يجتنب السماع رأسا فإن من غلب عليه عشق نزّل كلّ ما يسمعه عليه سواء كان اللفظ مناسبا أو لم يكن، إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة فالذى غلب عليه عشق مخلوق ينبغى أن يحترز من السماع بأىّ لفظ كان، والذى غلب عليه حبّ الله تعالى فلا تضرّه الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعانى اللطيفة المتعلّقة بمجارى همته الشريفة. العارض الرابع في المستمع - وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غرّة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب من غيرها عليه، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حبّ شخص معيّن أو لم يغلب. فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصّدغ والخدّ والوصال والفراق إلا ويحرّك ذلك شهوته وينزّله على صورة معيّنة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتدّ بواعث الشرّ. وذلك هو النّصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذى هو حزب الله تعالى. والقتال فى القلب دائم بين جنود الشيطان وهى الشهوات، وبين حزب الله وهو نور العقل إلا في قلب قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكليّة. وغالب القلوب قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ الى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجه فكيف يجوز تكثير أسلحته وتشحيذ سيوفه وأسنّته، والسماع مشحّذ

العارض الخامس - أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله

لأسلحة جند الشيطان في حقّ مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن جميع السماع فإنه يستضريه والله أعلم. العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله فيكون السماع له محبوبا ولا غلبت عليه الشهوة فيكون في حقّه محظورا، ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذّات المباحة إلا أنه اتخذه ديدنه وهجيّراه وقصر عليه أكثر أوقاته، فهذا هو السفيه الذى تردّ شهادته فإن المواظبة على اللهو جناية. وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة؛ فبعض المباحات بالمداومة يصير صغيرة وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعا إذ فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن هذا القبيل اللّعب بالشّطرنج فإنه مباح، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة، ومهما كان الغرض اللعب والتلذّذ باللهو فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب؛ إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه. هذا ملخص ما أورده في أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته، ثم ذكر بعد ذلك آثار السماع وآدابه. ذكر آثار السماع وآدابه قال أبو حامد رحمه الله: اعلم أن أوّل درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد. ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. فلينظر إلى هذه المقامات الثلاثة: المقام الأوّل- فى الفهم، وهو مختلف باختلاف أحوال المستمع. وللمستمع أربعة أحوال:

إحداها - أن يكون سماعه بمجرد الطبع

إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع أى لا حظّ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات فهذا مباح وهو أخسّ رتب السماع؛ إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم. ولكل حيوان نوع تلذّذ بالأصوات الطيّبة. الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة وهو سماع الشباب وأرباب الشهوة ويكون تنزيلهم المسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم. وهذه الحالة أخسّ من أن يتكلّم فيها إلا ببيان خسّتها والنهى عنها. الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى وتقلّب أحواله في التمكّن منه «1» مرّة وبعده منه أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيّما المبتدئين. فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده، ومقصده معرفة الله تعالى ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسرّ وكشف الغطاء؛ وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته. فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو ردّ أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهّف على فائت أو تعطّش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال «2» أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار؛ فلا بدّ أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه، فيجرى ذلك مجرى القدّاح الذى يورى زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه، ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه، وتهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته،

الحالة الرابعة - سماع من جاوز الأحوال والمقامات

ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه؛ بل لكلّ كلام وجوه ولكلّ ذى فهم في اقتباس المعنى منه حظّ. وضرب الإمام الغزالىّ لذلك أمثلة يطول شرحها. الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذى يضاهى حاله حال النّسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ فى مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهنّ. وعن مثل هذه الحالة تعبّر الصوفية بأنه فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى؛ فكأنه فنى عن كلّ شىء إلا عن الواحد المشهود، وفنى أيضا عن الشهود فإنّ القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود. فالمستهتر بالمرئىّ لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته و [لا «1» ] إلى عينه التى بها رؤيته ولا إلى قلبه الذى به لذّته. فالسكران لا خبر له في سكره «2» ، والملتذّ لا خبر له في «3» التذاذه، إنما خبره من الملتذّ به فقط، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذى لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوّة البشريّة فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه كما روى عن أبى الحسن النورى أنه سمع هذا البيت: ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار «4» يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجرى من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله.

المقام الثانى - بعد الفهم والتنزيل الوجد.

قال أبو حامد: وهذه درجة الصدّيقين في الفهم والوجد وهى أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهى ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله. أعنى أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنّسوة التفات الى اليد والسّكّين. فيسمع بالله، ولله، وفي الله، ومن الله؛ وهذه رتبة من خاض لجّة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتّحد بصفاء التوحيد وتحقّق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شىء أصلا، بل خمدت بالكليّة بشريّته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا. قال: ولست أعنى بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه، ولست أعنى بالقلب اللحم والدم بل سرّ لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفيّة وراءها سرّ الرّوح الذى هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السرّ وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوّة، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها. وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصّور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان. قال: وهذه مغاصة من مغاصات علوم المكاشفة منها نشأ خيال من ادّعى الحلول والاتحاد. هذا ملخّص ما أورده في مقام الفهم والله سبحانه وتعالى أعلم. المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد. قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى: قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى: وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعنى الصوفيّة والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السّماع للأرواح فلنتقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه.

أما الصوفيّة، فقد قال ذو النون المصرىّ رحمه الله في السماع: إنه وارد حقّ جاء يزعج القلوب إلى الحقّ، فمن أصغى إليه بحقّ تحقّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق. فكأنه عبّر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذى يجده عند ورود وارد السماع، إذ سمّى السماع وارد حقّ. وقال أبو الحسين الدرّاج مخبرا عمّا وجده فى السماع: والوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بى السماع في ميادين البهاء، فأوجدنى وجود الحقّ عند العطاء، فسقانى بكأس الصفاء، فأدركت به منازل الرضاء، وأخرجنى إلى رياض النزهة والفضاء. وقال الشّبلىّ: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرّض للبليّة. وأقوال الصوفيّة في هذا النوع كثيرة. وأما الحكماء، فقال بعضهم: فى القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوّة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرّت وطربت إليها، فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم: نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأى واستجلاب العازب من الفكر وحدّة الكالّ من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل «1» رأى ونيّة فيصيب ولا يخطىء ويأتى ولا يبطىء. ثم ذكر المعنى الذى الوجد عبارة عنه فقال: هو عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد [حقّ «2» ] جديد عقيب السماع

يجده المستمع من نفسه. وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات؛ وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم والتنبيهات بل هى كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض. وهذه الأحوال يهيّجها السماع ويقوّيها فإن ضعفت بحيث لم تؤثّر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرّك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسمّ وجدا. وإن ظهر على الظاهر سمّى وجدا إما ضعيفا وإما قويّا بحسب ظهوره وتغييره الظاهر وتحريكه بحسب قوّة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوّة الواجد وقدرته على حفظ جوارحه، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغيّر الظاهر لقوّة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحلّ عقد التماسك. وإلى المعنى الأوّل أشار أبو سعيد بن الأعرابىّ حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع منشأ لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله؛ فإنّ الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه، والسماع منبّه. ومنها تغيّر الأحوال ومشاهدتها وإدراكها، فإنّ إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود. ومنها صفاء القلب، والسماع مؤثّر في تصفية القلوب، والصفاء سبب المكاشفة. ومنها انبعاث نشاط القلب بقوّة السماع فيقوى على مشاهدة ما كان تقصر عنه [قبل ذلك «1» ] قوّته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله، وهذا الاستكشاف من ملاحظة أسرار الملكوت. وكما أنّ حمل الجمل يكون بواسطة، فبواسطة هذه الأسباب يكون سبب الكشف؛ بل القلب إذا صفا تمثّل له الحقّ

فى صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبّر عنه بصوت الهاتف إذا كان فى اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من النبوّة؛ وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة. وذلك كما روى عن محمد بن «1» مسروق البغدادىّ أنه قال: خرجت يوما في أيام جهلى وأنا نشوان وكنت أغنّى هذا البيت: بطيزنا «2» باذكرم ما مررت به ... إلا تعجّبت ممن يشرب الماء فسمعت قائلا يقول: وفي جهنّم ماء ما تجرّعه ... خلق فأبقى له في الجوف أمعاء فقال: وكان ذلك سبب توبتى واشتغالى بالعلم. قال أبو حامد: فانظر كيف أثّر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثّل له حقيقة الحقّ فى صفة جهنم وفي لفظ منظوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر. وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب. ويشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السّلام فإنه يخيّل لأرباب القلوب بصور مختلفة، وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب؛ ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» . قال: فحاصل الوجد يرجع إلى مكاشفات وإلى حالات ينقسم كل واحد منهما إلى ما لا يمكن التعبير عنه عند الإفاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا. وضرب لذلك أمثلة، منها أن الفقيه قد تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم، فإذا كلّف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير عنه وإن كان من أفصح الناس، فيدرك بذوقه

الفرق ولا يمكنه التعبير عنه. وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق. ولا شك أنّ لوقوعه في قلبه سببا، وله عند الله تعالى حقيقة، ولا يمكنه الإخبار عنه لقصور فى لسانه بل لدقة المعنى أن تناله العبارة. وأمّا الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت [الذى يصبح فيه «1» ] قبضا أو بسطا ولا يعلم سببه، وقد يتفكر في شىء فيؤثّر في نفسه أثرا فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحسّ به. وقد تكون الحالة التى يحسّها سرورا يثبت فى نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور؛ أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحال حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود؛ بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختصّ به بعض الناس دون بعض، وهى حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها (أعنى التفرقة بين الموزون والمنزحف) ولا يمكنه التعبير عنها بما يتّضح به مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعانى المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم. فأمّا الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثّر في النفس تأثيرا عجيبا، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الأوتار، وقد يعبّر عنها بالشوق، ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه، فهذا عجيب. والذى اضطربت نفسه بسماع الأوتار والشاهين وما أشبهه ليس يدرى إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمرا ليس يدرى ما هو، حتى يقع ذلك للعوامّ ومن لا يغلب على قلبه لا حبّ آدمىّ ولا حبّ الله تعالى. وهذا له سرّ، وهو أنّ كل شوق فله ركنان: أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه. والثانى معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة

الوصول إليه. فإن وجدت الصفة التى بها الشوق ووجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوّقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها، أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة. ولو نشأ آدمىّ وحده حيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحسّ من نفسه بنار الشهوة ولا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء؛ فكذلك في نفس الآدمىّ مناسبة مع العالم الأعلى واللذّات التى وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا، إلا أنه لم يتخيّل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي يسمع [لفظ «1» ] الوقاع و [اسم «2» ] النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة. فالسماع يحرّك منه الشوق؛ والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقرّه الذى إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدرى ما هو فيدهش ويضطرب ويتحيّر ويكون كالمختنق «3» الذى لا يعرف طريق الخلاص. فهذا وأمثاله من الأحوال التى لا يدرك تمام حقائقها، ولا يمكن المتّصف بها أن يعبّر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره. قال: واعلم أيضا أنّ الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلّف يسمى التواجد. وهذا التواجد المتكلف، فمنه مذموم وهو الذى يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها؛ ومنه ما هو محمود وهو التوصّل الى الاستدعاء للاحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة؛ فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة؛ ولذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن،

فإن هذه الأحوال قد تتكلّف مباديها ثم تتحقّق أواخرها. وكيف لا يكون التكلّف سببا في أن يصير المتكلّف بالآخرة طبعا، وكل من يتعلّم القرآن أوّلا يحفظه تكلّفا ويقرؤه تكلّفا مع تمام التأمّل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطّردا حتى يجرى به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه الى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته. وذكر أبو حامد أمثلة نحو ذلك ثم قال: وكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغى أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغى أن يتكلّف اجتلابها بالسماع وغيره؛ فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردّد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرّر على نفسه الأوصاف المحبوبة إليه والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حدّ اختياره، واشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلّص، فكذلك حبّ الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغى أن يتكلّف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها، ومشاهدة أحوالهم، وتحسين صفاتهم في النفس، وبالجلوس معهم في السماع، وبالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحالة بأن يسّر له أسبابها؛ ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحبّين والمشتاقين والخاشعين؛ فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدرى. ويدلّ على إمكان تحصيل الحبّ وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: «اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من أحبّك وحبّ من يقرّبنى إلى حبّك» . فقد فزع «1» إلى الدعاء في طلب الحبّ. قال: فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال، وانقسامه الى ما يمكن الإيضاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلّف وإلى المطبوع.

المقام الثالث - فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذم.

المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ. قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل: الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان. قال الجنيد: السماع يحتاج الى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. قال الغزالىّ: ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه، فهذا معنى مراعاة الزمان، فيراعى فراغ القلب. والمكان قد يكون شارعا مطروقا أو موضعا كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيتجنّب ذلك. وأما الإخوان فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهّد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلا في المجلس واشتغل القلب به، وكذا إذا حضر متكبّر من أهل الدنيا فيحتاج إلى مراقبته ومراعاته، أو متكلّف متواجد من أهل التصوّف يرائى بالوجد والرقص وتمزيق الثوب، فكل ذلك مشوّشات، فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى. الثانى- وهو نظر للحاضرين، أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرّهم السماع فلا ينبغى أن يسمع في حضورهم؛ فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر. والمريد الذى لا يستفيد بالسماع أحد ثلاثة: أقلّهم درجة هو الذى لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع؛ فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه؛ فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو، ولا من أهل الذوق فيتنعّم بذوق السماع؛ فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو مضيّع لزمانه. الثانى: هو الذى له ذوق ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات والصفات البشريّة ولم ينكسر بعد انكسارا تؤمن غوائله، فربما يهيّج السماع منه داعية اللهو والشهوة فينقطع طريقه ويصدّه عن الاستكمال.

الأدب الثالث - أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل،

الثالث: أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حبّ الله تعالى، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل، وإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حقّ الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز، فيكون ضرره من تلك الخواطر التى هى كفر أعظم عليه من نفع السماع. قال سهل: كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل. فلا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوّث بحبّ الدنيا وشهوة المحمدة والثناء، ولا من يسمع لأجل التلذّذ والاستطابة بالطبع، فيصير ذلك عادة له ويشغله عن عبادته ومراعاة قلبه وتنقطع عليه طريقة الأدب؛ فالسماع مزلّة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه. الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرّزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد، مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله له من رحمته في سرّه، متحفّظا عن حركة تشوّش على أصحابه قلوبهم؛ بل يكون ساكن الظاهر، هادىء الأطراف متحرّزا عن التنحنح والتثاؤب، يجلس مطرقا رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه، متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنّع والتكلّف والمراءاة، ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ. فإن غلبه الوجد وحرّكه بغير اختيار فهو فيه معذور وغير ملوم؛ ومهما رجع إليه اختياره فليعد إلى هدوّه وسكونه. ولا ينبغى أن يستديمه حياء من أن يقال: انقطع وجده على القرب، ولا أن يتواجد خوفا من أن يقال: هو قاسى القلب عديم الصفاء والرقّة. قال: وقوّة الوجد تحرّك، وقوّة العقل والتماسك تضبط الظواهر. وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدّة قوّته، وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك. فلا

الأدب الرابع - ألا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه؛

تظنن أن الذى يضطرب بنفسه على الأرض أتمّ وجدا من الساكن باضطرابه، بل ربّ ساكن أتمّ وجدا من المضطرب؛ فقد كان الجنيد يتحرّك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرّك فقيل له في ذلك فقال: (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل فى الملكوت، والجوارح متأدّبة في الظاهر ساكنة. الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه؛ ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة؛ لأن التباكى استجلاب للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، وكل سرور مباح فيجوز تحريكه؛ ولو كان ذلك حراما لما نظرت عائشة رضى الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يزفنون «1» . وقد روى عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا لمّا ورد عليهم سرور أوجب ذلك [وذلك «2» ] فى قصة ابنة حمزة بن عبد المطلب لما اختصم فيها علىّ بن أبى طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضى الله عنهم، فتشاحّوا في تربيتها؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلّى: «أنت منّى وأنا منك» فحجل علىّ. وقال لجعفر: «أشبهت خلقى وخلقى» فحجل. وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» فحجل. الحديث. قال: والحجل «3» : الرقص، ويكون لفرح أو شوق، فحكمه حكم مهيّجه إن كان فرحه محمودا؛ والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، فإن كان مباحا فهو مباح، وإن كان مذموما فهو مذموم. نعم لا يليق ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب في أعين الناس

الأدب الخامس - موافقة القوم في القيام

فينبغى أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الخلق فيترك الاقتداء به. وأما تخريق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار. ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزّق ثوبه وهو لا يدرى لغلبة سكر الوجد عليه أو يدرى ولكن يكون كالمضطر الذى لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره، إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفّس فيضطرّ إليه اضطرار المريض الى الأنين؛ ولو كلّف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختيارىّ؛ فليس كلّ فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه؛ فالتنفّس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلّف الإنسان نفسه أن يمسك النفس ساعة اضطر من باطنه إلى أن يختار التنفّس، فكذلك الزعقة وتخريق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم. الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلّف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقام له الجماعة فلا بدّ من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتخريق «1» . فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذ المخالفة موحشة. ولكلّ قوم رسم؛ ولا بدّ من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر لا سيما إذا كانت أخلاقا فيها حسن المعاشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة. وقول القائل: إنّ ذلك بدعة لم تكن في الصحابة، فليس كلّ ما يحكم بإباحته منقولا عن الصحابة ولم ينقل النهى عن شىء من هذا. والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب، بل كان الصحابة لا يقومون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأحوال كما رواه أنس رضى الله عنه، وإن كان لم يثبت فيه نهى عامّ، فلا نرى

وأما أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم

به بأسا في البلاد التى جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام؛ فإنّ القصد منه الاحترام والإكرام وتطييب القلب به؛ كذلك سائر أنواع المساعدة إذا قصد بها طيبة القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها؛ بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فيه نهى لا يقبل التأويل. ومن الأدب ألّا يقوم للرقص «1» مع القوم إن كان يستثقل رقصه ويشوّش عليهم أحوالهم؛ إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذى يلوح للجمع منه أثر التكلّف؛ ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع؛ فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محكّ للصدق والتكلّف. سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالا غير أضداد. هذا ملخّص ما أورده الغزالىّ رحمه الله تعالى فى معنى السماع وقسمه الى هذه الأقسام التى ذكرناها. وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم فقد ذكرنا مسألة السماع وبيّن إباحته، فبدأ بذكر الأحاديث التى احتجّوا بها وضعّف رواتها نحو ما تقدّم وذكر الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وأنه قيل: إنه الغناء، فليس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من أصحابه رضى الله عنهم، فإنما هو قول بعض المفسّرين ممن لا يقوم بقوله حجّة؛ وما كان هكذا فلا يجوز القول به. ثم لو صحّ لما كان فيه متعلّق؛ لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) * وكلّ شىء اقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن. فإذا لم يصحّ في هذا شىء فقد قال الله عز وجلّ: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) . وقال تعالى:

(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعظم الناس جرما فى الإسلام من سأل عن شىء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» ، فصحّ أن كل شىء حرّمه الله عزّوجلّ علينا فقد فصّله لنا، وكل ما لم يفصّل تحريمه لنا فهو حلال. واستدلّ رحمه الله على إباحته بالأحاديث التى ذكرناها، حديث عائشة عن خبر أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما في غناء الجاريتين، واستدلّ أيضا بحديث نافع أن ابن عمر سمع مزمارا فوضع إصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ قلت لا، فرفع إصبعيه عن أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمع مثل هذا وصنع مثل هذا. قال: فلو كان حراما ما أباح عليه الصلاة والسلام لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه؛ ولكنّه عليه الصلاة والسلام كره لنفسه كلّ شىء ليس من التقرّب إلى الله عز وجلّ، كما كره الأكل متّكئا، والتنشّف بعد الغسل في ثوب يعدّ لذلك، والستر الموشّى على سهوة عائشة وعلى باب فاطمة رضى الله عنهما، وكما كره صلّى الله عليه وسلم أشدّ الكراهة أن يبيت عنده دينار أو درهم. وإنما بعث عليه الصلاة والسلام منكرا للمنكر، آمرا بالمعروف. فلو كان ذلك حراما لما اقتصر النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يسدّ أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه، ولم يفعل عليه الصلاة والسلام شيئا من ذلك بل أقرّه وتنزّه عنه، فصحّ أنه مباح وأن الترك له أفضل كسائر فضول الدنيا المباحة. قال: فإن قال قائل: قال الله تبارك وتعالى: (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ففى أىّ ذلك يقع الغناء؟ قيل له: حيث يقع التروّح في البساتين وصباغ ألوان الثياب؛ ولكلّ امرىء ما نوى فإذا نوى المرء ترويح نفسه وإجمامها لتقوى على طاعة الله فما أتى ضلالا. قال: ولا يحلّ تحريم شىء ولا إباحته إلا بنص من الله عز وجلّ أو من رسوله صلّى الله عليه وسلم، لأنه إخبار عن الله عز وجلّ، ولا يجوز

ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

عنه تعالى إلا بالنّص الذى لا شكّ فيه. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» . وقد تكلّم على إباحة السماع جماعة من العلماء. وفيما أوردناه من هذا الفصل كفاية. فلنذكر من سمع الغناء من الصحابة رضى الله عنهم. ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم قد روى أن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم سمعوا الغناء. منهم النعمان بن بشير الأنصارىّ الخزرجىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم: «بالأغانى» بسند رفعه إلى أبى السائب المخزومىّ وغيره، قال: دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزّبير فقال: والله لقد أخفقت أذناى «1» [من] الغناء فأسمعونى. فقيل له: لو وجّهت إلى عزّة الميلاء. فإنها من قد عرفت؛ فقال: إى وربّ هذه البنيّة «2» ! إنها لممن «3» يزيد النفس طيبا والعقل شحذا، ابعثوا إليها عن رسالتى، فإن أبت صرت إليها. فقال له بعض القوم: إنّ النّقلة تشتدّ عليها لثقل بدنها، وما بالمدينة دابّة تحملها. فقال النعمان: وأين النجائب عليها الهوادج؟ فوجّه إليها بنجيبة فذكرت علّة؛ فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا «4» . فقام هو مع خواصّ أصحابه حتى طرقوها، فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها وقال لها: غنّى، فغنّت:

أجدّ بعمرة غنيانها «1» ... فتهجر أم شأنها «2» شانها؟ وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها «3» قال: وهذا الشعر هو لقيس بن الخطيم في أمّ النعمان بن بشير، وهى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة؛ قال: فأشير الى عزّة أنها أمه فأمسكت؛ فقال: غنّنى فو الله ما ذكر إلا كرما وطيبا ولا تغنّى سائر اليوم غيره؛ فلم تزل تغنّيه هذا اللحن حتى انصرف. ومنهم حسان بن ثابت الأنصارىّ رضى الله عنه. روى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى محرز بن جعفر قال: ختن زيد بن ثابت بنيه وأو لم واجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامّة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كفّ بصره يومئذ وثقل سمعه فوضع بين يديه خوان ليس عليه غيره إلا عبد الرحمن ابنه، وكان يسأله كلما وضعت صحفة أطعام «4» يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جىء بشواء، فقال: أطعام يد أم يدين؟ فقال: بل طعام يدين، فأمسك يده؛ حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة وأقبلت عزّة الميلاء وهى إذا شابّة، فوضع في حجرها مزهر فضربت به وتغنّت، فكان أوّل ما ابتدأت به شعر حسان: فلا زال قصر بين بصرى وجلق «5» ... عليه من الوسمىّ جود ووابل فطرب حسان وجعلت عيناه تنضحان على خدّيه وهو مصغ لها.

وروى أيضا بسنده إلى خارجة بن زيد أنه قال: دعينا الى مأدبة في آل نبيط، فحضرنا وحضر حسان بن ثابت، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن، وكان إذا أتى بطعام سأل ابنه عبد الرحمن أطعام يد أم طعام يدين؟ (يعنى بطعام اليد الثريد؛ وطعام اليدين الشواء لأنه ينهش نهشا) فإذا قال: طعام يد أكل، واذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين مغنّيتين إحداهما «رائقة» والأخرى «عزّة» فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجيبا وغنّتا بقول حسان بن ثابت: انظر خليلى بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد قال: فأسمع حسان يقول: قد أرانى هناك «1» سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكن عنه البكاء واذا غنّتا يبكى. قال: وكنت أرى عبد الرحمن ابنه إذا سكتتا يشير إليهما أن غنّيا، فيبكى أبوه، فيقال: ما حاجته إلى بكاء أبيه!. وروى أيضا بسنده الى عبّاد بن عبد الله بن الزّبير عن شيخ من قريش قال: إنى وفتية من قريش عند قينة ومعنا عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت إذ استأذن حسان، فكرهنا دخوله وشقّ علينا؛ فقال لنا عبد الرحمن ابنه: أيسرّكم ألّا يجلس؟ قلنا نعم. قال: فمروا هذه إذا نظرت اليه أن تغنّى: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل قال: فغنّته، فو الله لقد بكى حتى ظنّنا أنه سيلفظ نفسه. ثم قال: أفيكم الفاسق؟ لعمرى لقد كرهتم مجلسى اليوم. وقام فانصرف. وهذا الشعر لحسان بن

ثابت وهو مما امتدح به جبلة بن الأيهم، وهو من قصيدة طويلة منها قوله في مدح آل جفنة: بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى الحارث بن عبد الله بن العباس: أنه بينما هو يسير مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه بطريق مكة في خلافته ومعه من معه من المهاجرين والأنصار، ترنّم عمر ببيت فقال له رجل من أهل العراق- ليس معه عراقىّ غيره-: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! قال: فاستحيا عمر وضرب راحلته حتى انقطعت من الرّكب. قال المقدسى: ويزيد ذلك وضوحا- وساق حديثا بسند رفعه الى يحيى بن عبد الرحمن- قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحجّ الأكبر، حتى اذا كان عمر بالرّوحاء «1» كلّم الناس رباح بن المعترف «2» ، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصّر عنّا الطريق؛ فقال: إنّى أفرق من عمر. قال: فكلّم القوم عمر. إنا كلّمنا رباحا أن يسمعنا ويقصّر عنا طريق المسير فأبى إلّا أن تأذن له. فقال له: يا رباح، أسمعهم وقصّر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع واحدهم بشعر ضرار بن الخطّاب؛ فرفع عقيرته يتغنّى وهم محرمون. وروى أيضا بسنده الى يزيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر رضى الله عنه مرّ برجل يتغنّى فقال: إن الغناء زاد المسافر. وروى سفيان الثّورى وشعبة كلاهما عن أبى إسحاق السّبيعىّ عن عامر بن سعد البجلىّ: أن أبا مسعود البدرىّ، وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في عرس

ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعباد والزهاد

وعندهم غناء، فقلت: هذا وأنتم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم! فقالوا: إنه رخّص لنا في الغناء في العرس والبكاء على الميّت في غير نوح. إلا أن شعبة قال: ثابت بن وديعة مكان ثابت بن يزيد، ولم يذكر أبا مسعود. وقال الإمام أبو حامد الغزالىّ رحمه الله تعالى عن أبى طالب المكّى: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السّلف صحابىّ وتابعىّ بإحسان. وروى الحافظ أبو الفضل المقدسىّ بسند رفعه إلى عمر بن أبى زائدة قال: حدّثتنى امرأة عمر «1» بن الأصمّ قالت: مررنا ونحن جوار بمجلس سعيد بن جبير ومعنا جارية تغنّى ومعها دفّ وهى تقول: لئن فتنتنى فهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم وألقى مفاتيح القراءة واشترى ... وصال الغوانى بالكتاب المنمنم فقال سعيد: تكذبين تكذبين. ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد قالوا: وقد سمع الغناء من الأئمة الإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى، وغيرهما من أصحابهما. روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علىّ المقدسىّ رحمه الله تعالى بسند رفعه إلى المريسىّ، قال: مررنا مع الشافعى وإبراهيم ابن إسماعيل على دار قوم وجارية تغنّيهم: خليلىّ ما بال المطايا كأنها ... نراها على الأعقاب بالقوم تنكص «2»

فقال الشافعىّ: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت قال الشافعىّ لإبراهيم: أيطريك هذا؟ قال لا. قال: فما لك حسّ! وروى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: كنت أحبّ السماع وكان أبى يكره ذلك، فواعدت ليلة ابن الخبّازة، فمكث عندى إلى أن علمت أنّ أبى قد نام، فأخذ يغنّى، فسمعت خشفة فوق السطح، فصعدت، فرأيت أبى فوق السطح يسمع ما يغنّى وذيله تحت إبطه وهو يتبختر كأنه يرقص. قال: وقد رويت هذه الحكاية أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل- وساق سندا إليه- قال: كنت أدعو ابن الخبّازة وكان أبى ينهانا عن الغناء، وكنت إذا كان عندى كتمته من أبى لئلا يسمع. فكان ذات ليلة عندى وهو يقول، فعرضت لأبى عندنا حاجة- وكانوا فى زقاق- فجاء وسمعه يقول، فوقع في سمعه شىء من قوله، فخرجت لأنظر فإذا بأبى يترّجح «1» ذاهبا وجائيا، فرددت الباب ودخلت. فلما كان من الغد قال أبى: يا بنىّ، إذا كان مثل هذا فنعم الكلام، أو معناه. قال أبو الفضل: وابن الخبّازة هذا هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الشاعر، وكان عاصر أحمد ورثاه حين مات. وروى أبو الفضل أيضا بسند رفعه الى [أبى] مصعب «2» الزّهرىّ أنه قال: حضرت مجلس مالك بن أنس فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال مالك: ما أدرى، أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه ولا ينكره إلا غبىّ جاهل أو ناسك عراقى غليظ الطبع. وقال أيضا: أخبرنا أبو محمد التميمىّ ببغداد قال: سألت الشريف أبا علىّ محمد بن أحمد بن أبى موسى الهاشمىّ عن السماع فقال: ما أدرى ما أقول فيه، غير أنى حضرت دار شيخنا أبى الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمى سنة سبعين وثلاثمائة

فى دعوة عملها لأصحابه؛ حضرها أبو بكر الأبهرىّ شيخ المالكية، وأبو القاسم الدّاركى شيخ الشافعية، وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسن ابن سمعون شيخ الوعّاظ والزهّاد، وأبو عبد الله محمد بن مجاهد شيخ المتكلّمين، وصاحبه أبو بكر الباقلانى في دار شيخنا أبى الحسن التميمىّ شيخ الحنابلة؛ فقال أبو علىّ: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتى في حادثة يشبه واحدا منهم، ومعهم أبو عبد الله غلام تامّ، وكان هذا يقرأ القرآن بصوت حسن، وربما قال شيئا. فقيل له: قل لنا شيئا؛ فقال لهم وهم يسمعون: خطّت أناملها في بطن قرطاس ... رسالة بعبير لا بأنقاس «1» أن زر فديتك لى من غير محتشم «2» ... فإنّ حبّك لى قد شاع في الناس فكان قولى لمن أدّى رسالتها ... قف لى لأمشى على العينين والراس قال أبو على: فبعد أن رأيت هذا لا يمكننى أن أفتى في هذه المسألة بحظر ولا إباحة. وممن أحبّ السماع والغناء وسمعه من الزهاد والعباد والعلماء أبو السائب المخزومىّ. روى أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده الى صفيّة بنت الزّبير بن هشام قالت: كان أبو السائب المخزومى رجلا صالحا زاهدا متقلّلا يصوم الدهر، وكان أرقّ خلق الله قلبا وأشدّهم غزلا. فوجّه غلامه «3» يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام الى العتمة. فلما جاء قال له: يا عدوّ نفسه، ما أخّرك إلى هذا الوقت؟ قال: اجتزت بباب فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هاته يا بنىّ، فو الله لئن كنت أحسنت لأحبونّك، وإن كنت أسأت لأضربنّك، فاندفع يغنّى بشعر كثير:

ولمّا علوا شغبا «1» تبيّنت أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائقى فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها ... الى بلد ناء قليل الأصادق فلم يزل يغنيّه ويستعيده الى نصف الليل. فقالت له زوجته: يا هذا، قد انتصف الليل وما أفطرت. فقال لها: أنت الطلاق إن أفطرنا على غيره. فلم يزل يغنّيه ويستعيده حتى أسحر. فقالت له: هذا السّحر وما أفطرنا. فقال لها: أنت الطلاق إن كان سحورنا غيره. ثم قال لابنه: يا بنىّ، خذ جبّتى هذه وأعطنى خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت، أنت شيخ وأنا شابّ وأنا أقوى على البرد منك، فقال له: يا بنىّ، ما ترك هذا الصوت للبرد علىّ سبيلا ما حييت. ويؤيد هذه الحكاية ما حكاه أبو طالب المكّى في كتابه، قال: كان بعض السامعين يقتات بالسماع ليقوى به على زيادة طيّه، كان يطوى اليوم واليومين والثلاثة، فإذا تاقت نفسه الى القوت عدل بها الى السماع، فأثار تواجده، فاستغنى بذلك عن الطعام. وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن أبى مليكة عن أبيه عن جدّه قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والعفّة، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنّية لبعض النّخاسين تغنّى: بانت ساعدو أمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا فهام الناسك وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاوس ولا ماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثّل: يلومنى فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالى أطار اللّوم أم وقعا

فبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال: ممن أخذتيه؟ قالت: من عزّة الميلاء؛ فابتاعها بأربعين ألف درهم. ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبرها فأعلمه إياه؛ فقال: أتحبّ أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال نعم. فدعا عزّة الميلاء فقال: غنيّه إياه. فغنّته، فصعق الرجل [وخرّ «1» ] مغشيّا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء! فنضح على وجهه. فلما أفاق قال له: أكلّ هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفى عليك أكثر. قال: أفتحبّ أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالنى حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبّها، فكيف يكون حالى إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها! فأخرجها إليه وقال: خذها فهى لك؛ وو الله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبّل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عينى، وأحييت نفسى، وتركتنى أعيش بين قومى، ورددت إلىّ عقلى، ودعا له دعاء كثيرا. فقال عبد الله: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام، احمل معه مثل ثمنها، ففعل. قال الغزالىّ رحمه الله في «إحياء علوم الدين» : كان ابن مجاهد لا يجيب دعوة إلا أن يكون فيها سماع. قال: وكان أبو الخير العسقلانىّ الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع، وصنّف فيه كتابا وردّ فيه على منكريه. وحكى عن بعض الشيوخ أنه قال: رأيت أبا العباس الخضر عليه السّلام، فقلت: ما تقول في هذا السماع الذى اختلف فيه أصحابنا؟ قال: هو الصّفا «2» الزّلّال الذى لا تثبت عليه إلا أقدام العلماء.

وروى الأصفهانىّ بسند رفعه إلى ابن كناسة قال: اصطحب شيخ مع شابّ فى سفينة في الفرات ومعهم مغنّية. فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية وهى تغنّى، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت فعلنا. فقال: أنا أصعد على أطلال «1» السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم؛ فصعد وأخذت المغنّية عودها وغنّت: حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفىّ كما ... ينساب «2» من مكمنه الأرقم فطرب الشيخ وصاح، ثم رمى بنفسه وبثيابه في الفرات وجعل يغوص ويطفو ويقول: أنا الأرقم أنا الأرقم! فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأى ما استخرجوه، وقالوا: يا شيخ، ما حملك على ما فعلت؟ فقال: إليكم عنّى، فإنى أعرف من معانى الشعر ما لا تعرفون. فقالوا له: ما أصابك؟ قال: دبّ من قدمى شىء إلى رأسى كدبيب النّمل ونزل من رأسى مثله، فلما اجتمعا على قلبى عملت ما عملت. وقال أحمد بن أبى داود: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله؛ فخرج المعتصم يوما إلى الشّمّاسيّة في حرّاقة، ووجّه في طلبى فصرت إليه. فلما قربت منه سمعت غناء حيّرنى وشغلنى عن كلّ شىء، فسقط سوطى عن يدى، فالتفتّ إلى غلامى أطلب منه سوطا؛ فقال لى: قد والله سقط منّى سوطى. فقلت له: أىّ شىء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته فحيّرنى، فما علمت كيف سقط، فإذا قصّته قصّتى. قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفزّ الناس منه

ذكر من غنى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه

فيغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم عليه. فلما دخلت عليه يومئذ أعلمته بالخبر، فضحك وقال: هذا عمّى كان يغنّينى: إنّ هذا الطويل من آل حفص ... أنشر المجد بعد ما كان ماتا فإن تبت مما كنت تناظر عليه من ذمّ الغناء سألته أن يعيده، ففعلت وفعل، فبلغ بى الطرب أكثر مما يبلغه من غيرى، ورجعت عن رأيى منذ ذلك اليوم. وعمّه الذى أشار إليه هو إبراهيم بن المهدىّ. ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه [أما من غنّى من الخلفاء] كان من غنّى من الخلفاء- على ما أورده أبو الفرج الأصفهانىّ في كتابه المترجم «بالأغانى» - ونسبت له أصوات جماعة، منهم عمر بن عبد العزيز قد نسبت له أصوات، ومنهم من أنكر ذلك. ولعلّ ما نقل عنه كان منه قبل الخلافة. وكان رحمه الله من أحسن الناس صوتا. فكان مما نسب إليه من الغناء: علق القلب سعادا ... عادت القلب فعادا كلّما عوتب فيها ... أو نهى عنها تمادى وهو مشغوف بسعدى ... وعصى فيها وزادا ومما نسب إليه من الغناء ما قيل إنه غنّاه من شعر جرير: قفا يا صاحبىّ نزر سعادا ... لو شك فراقها ودعا البعادا «1»

وممن غنى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دونت له صنعة، الواثق بالله

لعمرك إنّ نفع سعاد عنّى ... لمصروف ونفعى عن سعادا إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى «1» ... ومروان الذى رفع العمادا ومن ذلك ما قيل إنه غنّاه من شعر الأشهب بن رميلة «2» : ألا يا دين قلبك من سليمى ... كما قد دين قلبك من سعادا هما سبتا الفؤاد وهاضتاه «3» ... ولم يدرك بذلك ما أرادا قفا نعرف منازل من سليمى ... دوارس بين حومل أو عرادا ذكرت لها الشباب وآل ليلى ... فلم يزد الشباب بها مزادا فإن تشب الذوائب أمّ عمرو ... فقد لاقيت أياما شدادا وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله بن الرشيد. حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ قال: دخلت يوما دار الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت وترنّما لم أسمع أحسن منه. فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بى، فدخلت وإذا أنا بالواثق بالله. فقال: أىّ شىء سمعت؟ فقلت: الطلاق كامل لازم له وكلّ مملوك له حرّ، لقد سمعت ما لم أسمع مثله قطّ حسنا! فضحك وقال: وما هو؟ إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم وكثر فى حرم الله عز وجلّ ومهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أتحبّ أن تسمعه؟ قلت: إى والله الذى شرّفنى بخطابك وجميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود وأعط

إسحاق رطلا؛ فدفع الرطل إلىّ وضرب وغنّى في شعر لأبى العتاهية بلحن صنعه فيه: أضحت قبورهم من بعد عزّتهم ... تسفى عليها الصّبا والحرجف الشّمل لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل فشربت الرطل ثم قمت. فدعوت له، فاحتبسنى وقال: أتشتهى أن تسمعه بالله؟ فقلت: إى والله، فغنّانيه ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم. قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسّروا معك، فانصرفت بالمال. وقال أبو الفرج بسنده إلى عريب المأمونيّة قالت: صنع الواثق بالله مائة صوت ما فيها صوت ساقط. ولقد صنع فيّ هذا الشعر: هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدنى إليك فإن الحبّ أقصانى هذا كتاب فتى طالت بليّته ... يقول يا مشتكى بثّى وأحزانى قال: وكان الواثق بالله إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره فقال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز فاسمعه، وأمر من يغنّيه إياه. وكان إسحاق يأخذ نفسه بقول الحقّ في ذلك أشدّ أخذ، فإن كان جيّدا رضيه واستحسنه وإن كان فاسدا أو مطّرحا أو متوسّطا ذكر ما فيه. فإن كان للواثق فيه هوى سأله تقويمه وإصلاح فاسده وإلّا اطّرحه. وقال إسحاق بن إبراهيم: كان الواثق أعلم الناس بالغناء، وبلغت صنعته مائة صوت، وكان أحذق من غنّى بضرب العود، ثم ذكر أغانيه. وذكر أبو الفرج الأصفهانىّ منها أصواتا؛ منها: ولم أر ليلى غير موقف ليلة ... بخيف منّى ترمى جمار المحصّب ويبدى الحصى منها إذا خذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضّب

ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر.

ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعجاز نجم مغرّب وذكر أصواتا كثيرة غير هذا تركنا ذكرها اختصارا. قال: ولما خرج المعتصم إلى عمّوريّة استخلف الواثق. فوجّه الواثق إلى الجلساء والمغنّين أن يبكّروا إليه يوما حدّه لهم، ووجّه إلى إسحاق، فحضر الجميع. فقال لهم الواثق: إنى عزمت على الصّبوح، ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشىء الواحد، فاجلسوا معى حلقة، وليكن إلى جانب كلّ جليس مغنّ، فجلسوا كذلك. فقال الواثق: أنا أبدأ، فأخذ العود فغنّى وشربوا وغنّى من بعده، حتى انتهى إلى إسحاق وأعطى العود فلم يأخذه؛ فقال: دعوه. ثم غنوا دورا آخر؛ فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغنّ وفعل ذلك ثلاث مرّات. فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر بالناس فأدخلوا؛ فما قال لأحد منهم: اجلس. ثم قال: علىّ بإسحاق. فلما رآه قال: يا خوزى «1» يا كلب، أتبذّل لك وأغنّى فتترفّع علىّ! أترانى لو قتلتك كان المعتصم يقيدنى بك! ابطحوه، فبطح وضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا وحلف لا يغنّى سائر يومه سواه؛ فاعتذر وتكلّمت الجماعة فيه؛ فأخذ العود، وما زال يغنّى حتى انقضى مجلسه. وللواثق بالله في الغناء أخبار وحكايات يطول بذكرها الشرح. ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر. قال يزيد المهلّبىّ: كان المنتصر حسن العلم بالغناء، وكان إذا قال الشعر صنع فيه

ومنهم المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل.

وأمر المغنّين بإظهاره. فلما ولى الخلافة قطع ذلك وأمر بستر ما تقدّم منه؛ فلذلك لم تظهر أغانيه. ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل. ذكر أيضا أنه كان يغنّى أصواتا. فمما غنّى به في شعر عدىّ بن الرّقاع: لعمرى لقد أصحرت «1» خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب فمن يك منّا يبت آمنا ... ومن يك من غيرنا يهرب وهذه الأبيات من قصيدة لعدىّ بن الرّقاع قالها في الوقعة التى كانت بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزّبير وقتل فيها مصعب بن الزبير، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار عبد الله بن الزبير. ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله. هو ممن له يد في الغناء وصنعة حسنة. ومما نقل من أغانيه أنه غنّى في شعر الفرزدق: ليس الشفيع الذى يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذى يأتيك عريانا وقال «2» عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: إن المعتضد جمع النغم العشر في صوت صنعه في شعر دريد بن الصّمّة وهو: يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع قال: واستعلمنى هل هو صحيح القسمة والأجزاء أم لا، فعرّفته صحّته ودللته على ذلك حتى تيقّنه فسّر به. قال عبيد الله: وهو لعمرى من جيّد الصنعة ونادرها. قال: وقد صنع ألحانا في عدّة أشعار قد «3» صنع فيها الفحول من القدماء والمحدثين

وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفن.

وعارضهم بصنعته فأحسن وشاكل وضاهى فلم يعجز ولا قصّر، ولا أتى بشىء يعتذر منه. قال: فمن ذلك أنه صنع في قول الشاعر: أما القطاة فإنى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها فجاء في نهاية الجودة وهو أحسن ما صنع في هذا الشعر على كثرة الصنعة فيه واشتراك القدماء والمحدثين في صنعته مثل معبد ونشيط ومالك وابن محرز وسنان وعمر الوادى وابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وعلّويه. قال: وصنع في: تشكّى الكميت الجرى لمّا جهدته ... وبيّن لو يسطيع أن يتكلّما فما قصّر في صنعته ولا عجز عن بلوغ الغاية فيها مع أصوات له صنعها تناهز مائة صوت ما فيها ساقط ولا مرذول. فهؤلاء الذين لهم صنعة في الغناء من الخلفاء. وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ. فمنهم إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة بنت المهدىّ رحمهما الله تعالى، وإبراهيم يكنى أبا إسحاق أمّه شكلة أمة مولّدة كان أبوها من أصحاب المازيار يقال له: شاه أفرند «1» قتل مع المازيار وسبيت شكلة فحملت إلى المنصور فوهبها لمحيّاة أمّ ولده فربتها وبعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك، فلما كبرت ردّت إليها. فرآها المهدىّ فأعجبته فطلبها من محيّاة فأعطته إياها فولدت له إبراهيم.

قال أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم قال: كان إبراهيم بن المهدىّ أشدّ خلق الله إعظاما للغناء وأحرصهم عليه وأشدّهم منافسة فيه. قال: وكانت صنعته ليّنة فكان إذا صنع شيئا نسبه إلى غيره لئلا يقع عليه طعن أو تقريع فقلّت صنعته في أيدى الناس مع كثرتها. وكان إذا قيل له فيها شىء يقول: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا وأغنّى لنفسى لا للناس فأعمل ما أشتهى. قال: وكان حسن صوته يستر عوار ذلك. وكان الناس يقولون: لم ير في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وكان إبراهيم يجادل إسحاق ويأخذ عليه في مواطن كثيرة إلّا أنه كان لا يقوم له «1» ويظهر إسحاق خطأه. ووقع بينهما في ذلك بين يدى الرشيد وفي مجلسه كلام كثير أفضى إلى أمور نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار إسحاق بن إبراهيم. وكان إبراهيم بن المهدىّ في أوّل أمره يتستّر في الغناء بعض التستّر إلا أنه يذكره فى مجلس الرشيد أخيه. فلما كان من أمره في الوثوب على الخلافة ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة العباسيّة عند ذكرنا لخلافة المأمون بن الرشيد، ثم [لما «2» ] أمّته المأمون بعد هربه منه تهتّك بالغناء ومشى مع المغنّين ليلا إذا خرجوا من عند المأمون، وإنما أراد المأمون بذلك ليظهر للناس أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وأنه تهتّك فلا يصلح للخلافة. وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم فى الغناء وأحسنهم صوتا. وكان مع علمه وطبعه ومعرفته يقصّر عن الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته. فكان يحذف نغم الأغانى الكثيرة العمل حذفا شديدا

ويحقّقها على قدر ما يصلح له ويفى بأدائه فاذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك وابن ملك وإنما أغنّى على ما أشتهى وكما ألتذّ. فهو أوّل من أفسد الغناء القديم. وروى عن حمدون بن إسماعيل قال: قال إبراهيم بن المهدىّ: لولا أنّى أرفع نفسى عن هذه الصناعة لأظهرت منها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلى مثلى. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن جعفر بن سليمان الهاشمىّ قال: حدّثنا إبراهيم ابن المهدىّ قال: دخلت يوما على الرشيد وبى فضلة خمار «1» وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ فقال: بحياتى يا إبراهيم غنّ، فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما في رأسى من الفضلة فغنّيت: أسرى بخالدة «2» الخيال ولا أرى ... شيئا ألذّ من الخيال الطارق إن البليّة من تملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل ... مذ بنت قلبى كالجناح الخافق شوقا إليك ولم تجاز مودّتى ... ليس المكذّب كالحبيب الصادق فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا فقال ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائى وضعت العود ثم قلت: خذا في حقّكما ودعا باطلنا. وروى عن إبراهيم قال: كان الرشيد يحبّ أن يسمعنى فخلا بى مرّات إلى أن سمعنى، ثم حضرته مرّة

وعنده سليمان بن أبى جعفر فقال لى: عمّك وسيّد ولد المنصور بعد أبيك وقد أحبّ أن يسمعك، فلم يتركنى حتى غنّيت بين يديه: سقيا لربعك من ربع بذى سلم ... وللزمان به إذ ذاك من زمن إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا رسنى «1» فأمر لى بألف ألف درهم، ثم قال لى ليلة ولم يبق في المجلس عنده إلا جعفر ابن يحيى: أنا أحبّ أن تشرّف جعفرا بأن تغنّيه صوتا فغنّيته لحنا صنعته في شعر الدّارمىّ: كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت ... دينار عين من المضروبة العتق فأمر لى الرشيد بألف ألف درهم. وحكى عن إسحاق بن إبراهيم قال: لما صنعت صوتى الذى هو: قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا قد بلغت الذى أرد ... ت وإن كنت لاعبا واعترفنا بما ادّعي ... ت وإن كنت كاذبا فافعل الآن ما أرد ... ت فقد جئت تائبا اتصل خبره بإبراهيم بن المهدىّ فكتب إلىّ يسألنى عنه، فكتبت إليه الشعر وإيقاعه وبسيطه «2» ومجراه وإصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه فغنّاه ثم لقينى فغنّانيه، ففضلنى فيه بحسن صوته. وقال ابن أبى طيبة: كنت أسمع إبراهيم بن المهدىّ يتنحنح فأطرب.

وعن محمد بن خير عن عبد الله بن العباس الرّبيعىّ قال: كنّا عند إبراهيم بن المهدىّ ذات يوم وقد دعا كلّ محسن من المغنّين يومئذ وهو جالس يلاعب أحدهم بالشّطرنج فترنّم إبراهيم بصوت فريدة في شعر أبي العتاهية: قال لى أحمد ولم يدر ما بى ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا فتنفّست ثم قلت نعم حبّا ... جرى في العروق عرقا فعرقا وهو متكىء «1» ، فلما فرغ ترنّم به مخارق فأحسن فيه وأطربنا «2» وزاد على إبراهيم، فغنّاه إبراهيم وزاد في صوته على غناء مخارق. فلما فرغ ردّه مخارق وغنّاه بصوته كلّه وتحفّظ فيه وكدنا نطير سرورا. فاستوى إبراهيم جالسا وكان متّكئا وغنّاه بصوته كلّه ووفّاه نغمه وشذوره ونظرت إلى كتفيه تهتزّان وبدنه أجمع يتحرّك إلى أن فرغ منه ومخارق شاخص نحوه يرعد وقد انتقع لونه وأصابعه تختلج فخيّل إلىّ أن الإيوان يسير بنا، فلما فرغ منه تقدّم إليه مخارق فقبّل يده وقال: جعلنى الله فداك أين أنا منك! ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقيّة يومه في شىء من غنائه، والله لكأنما كان يتحدّث. وروى عن منصور بن المهدىّ قال: كنت عند أخى إبراهيم في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل بالشرب فى بيته ولم يمض، وأرسل إليه الأمين عدّة رسل فتأخّر. قال منصور: فلمّا كان من غد قال لى: ينبغى أن نعمل على الرواح إلى أمير المؤمنين فنترضّاه، فما أشكّ فى غضبه علينا. فمضينا فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على خير «3» الوحش وهو مخمور، وكان من عادته ألّا يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا، وكان طريقنا على

حجرة تصنع فيها الملاهى، فقال لى: اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا يحتاج إلى إصلاحه وتغييره عند الضرب به؛ ففعلت وجعلته فى كمّى. ودخلنا على الأمين وظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعد قال: أخرج عودك فأخرجته، فاندفع يغنّى: وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها لكى يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت الفتوّة من بابها وشاهدنا «1» الورد والياسمي ... ن والمسمعات بقصّابها «2» وبربطنا «3» دائم معمل ... فأىّ الثلاثة أزرى بها فاستوى الأمين جالسا وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عمّ وأحييت لى طربا. ودعا برطل فشربه على الرّيق وابتدأ «4» شربه. قال منصور: وغنّى إبراهيم يومئذ على أشدّ طبقة يتناهى إليها في العود، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط. ولقد رأبت منه شيئا عجيبا لو حدّثت به ما صدّقت: كان إذا ابتدأ يغنّى صغت الوحوش إليه ومدّت أعناقها، ولم تزل تدنو حتى تكاد تضع رءوسها على الدّكّان الذى كنّا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت عنّا حتى تنتهى إلى أبعد غاية يمكنها التباعد عنّا فيها، وجعل الأمين يعجب من ذلك. وانصرفنا من الجوائز بما لم ينصرف بمثله قطّ. وعن الحسن بن إبراهيم بن رباح قال: كنت أسأل مخارقا: أىّ الناس أحسن غناء؟ فكان يجيبنى جوابا مجملا، حتى

حقّقت عليه يوما فقال: كان إبراهيم المو صلّى أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدىّ أحسن غناء منى بعشر طبقات. ثم قال لى: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا. وإبراهيم بن المهدىّ أحسن الإنس والجنّ والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا!. وعن إسحاق بن إبراهيم قال: غنّى إبراهيم بن المهدىّ ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبى نواس، وهو: يا كثير النوح في الدّمن ... لا عليها بل على السّكن سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن «1» ظنّ بى من قد كلفت به ... فهو يجفونى على الظّنن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدّنيا من الفتن فأمر له بثلاثمائة ألف دينار. فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين. أجزتنى إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال: وهل هى إلا خراج بعض الكور «2» . هكذا رواه إسحاق، وقد حكيت هذه الحكاية عن محمد بن الحارث، وفيها أن إبراهيم لما أراد الانصراف قال: أو قروا زورق عمّى دنانير فأوقروه، فانصرف بمال جليل. قال: وكان محمد بن موسى المنجّم يقول: حكمت أنّ إبراهيم بن المهدىّ أحسن الناس كلهم غناء ببرهان، وذلك أنّى كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغنّى المغنّون ويغنّى، فإذا ابتدأ بالصوت لم يبق من الغلمان أحد إلا ترك ما في يديه وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما

وأما علية بنت المهدى،

كان فيه مادام يغنّى، حتى إذا أمسك وتغنّى غيره رجعوا إلى التّشاغل بما كانوا فيه ولم ينبعثوا إلى شىء. فلا برهان أقوى من هذا [فى مثل هذا من «1» ] شهادة الفطن به واتّفاق الطبائع مع اختلافها وتشعّب طرقها على الميل اليه والانقياد نحوه. ولإبراهيم بن المهدىّ أصوات معروفة. منها ما غنّاه بشعر مروان بن أبى حفصة: هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها أو تدفعون مقالة من ربكم ... جبريل بلّغها النبىّ فقالها طرقتك زائرة فحىّ خيالها ... زهراء تخلط بالدّلال جمالها وأمّا عليّة بنت المهدىّ، فقد قيل: ما اجتمع في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وروى عن أبى أحمد ابن الرشيد قال: كنت يوما بحضرة المأمون وهو يشرب، ثم قام وقال لى: قم؛ فدخل دار الحرم ودخلت معه، فسمعت غناء أذهل عقلى ولم أقدر أن أتقدّم ولا أتأخّر؛ وفطن المأمون لما بى فضحك وقال: هذه عمّتك عليّة تطارح عمّك إبراهيم. قال أبو الفرج: وأمّ عليّة أمّ ولد مغنّية يقال لها مكنونة، كانت من جوارى المروانيّة المغنيّة. والمروانيّة هذه ليست من آل مروان بن الحكم، وإنما هى زوجة الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس. وكانت مكنونة من أحسن جوارى المدينة وجها، وكانت رسحاء «2» ، وكانت حسنة البطن والصدر. فاشتريت للمهدىّ فى حياة أبيه بمائة ألف درهم؛ فغلبت عليه حتى كانت الخيزران تقول: ما ملك

أمّة أغلظ علىّ منها. ولما اشتريت للمهدىّ ستر أمرها عن أبيه المنصور حتى مات، وولدت للمهدىّ عليّة هذه. وكانت عليّة بنت المهدىّ من أجمل الناس وأظرفهم، نقول الشعر الجيّد وتصوغ فيه الألحان الحسنة. وكان في جبينها فضل سعة، فاتّخذت العصائب المكللّة بالجوهر لتستربها جبينها؛ فهى أوّل من أحدث ذلك. قال: وكانت عليّة حسنة الدّين، وكانت لا تغنّى ولا تشرب النبيذ إلّا إذا كانت معتزلة الصلاة؛ فإذا طهرت أقبلت على الصلاة وقراءة القرآن وقراءة الكتب. ولم تله بشىء غير قول الشعر في الأحيان، إلّا أن يدعوها الخليفة إلى شىء فلا تقدر على خلافه. وكانت رحمها الله تقول: ما حرّم الله شيئا إلا وقد جعل فيما حلّل منه عوضا، فبأىّ شىء يحتجّ عاصيه والمنتهك لحرماته!. وكانت تقول: لا غفر الله لى فاحشة ارتكبتها قطّ، وما أقول في شعرى إلّا عبثا. وعن سعيد بن هريم قال: كانت عليّة بنت المهدىّ تحبّ أن تراسل بالأشعار من تختصّه، فاختصّت خادما يقال له طلّ من خدم الرشيد، تراسله بالشعر. فلم تره أيّاما؛ فمشت على ميزاب وحدّثته ثم قالت في ذلك: قد كان ما كلّفته زمنا ... ياطلّ من وجد بكم يكفى حتى أتيتك زائرا عجلا ... أمشى على حتف إلى حتفى «1» فخلف عليها الرشيد ألّا تكلّم طلّا ولا تسمّيه باسمه، فضمنت له ذلك. واستمع عليها يوما وهى تقرأ آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) فأرادت أن تقول: (فَطَلٌّ) فقالت: فالذى نهى عنه أمير المؤمنين. فدخل

الرشيد فقبّل رأسها وقال: قد وهبت لك طلّا ولا أمنعك بعدها من شىء تريدينه. ولها في طلّ هذا عدّة أشعار صنعت فيها ألحانا، وكانت في بعضها تصحّف اسمه وتكنى عنه بغيره. وكانت أيضا تقول الشعر في خادم لها يقال له: رشأ وتكنى عنه بزينب. فمن شعرها فيه: وجد الفؤاد بزينبا ... وجدا شديدا متعبا أصبحت من كلف بها ... أدعى شقيّا منصبا ولقد كنيت عن اسمها ... عمدا لكى لا تغضبا وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمرا معجبا قالت وقد عزّ الوصا ... ل ولم أجد لى مذهبا والله لا نلت المودّة ... أو تنال الكوكبا فصحّفت اسمه في قولها: «زينبا» ؛ وهذا من الجناس الخطّى. قال: وكانت لأمّ جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعليّة إلى رشأ وحكت عنها ما لم تقل. فقالت عليّة: لطغيان خفّ مذ ثلاثين حجّة ... جديد فلا يبلى ولا يتخرّق وكيف بلى خفّ هو الدهر كلّه ... على قدميها في السماء «1» معلّق فما خرقت خفّا ولم تبل جوربا ... وأمّا سراويلاتها فتمزّق وروى عن أبى هفّان قال: أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال؛ فخلا معها يوما وأخرج كلّ قينة في داره واصطبح. وكان من حضر من جواريه الغناء والخدمة في الشراب زهاء ألفى جارية فى أحسن زىّ من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. واتّصل الخبر بأمّ جعفر

فعظم عليها ذلك؛ فأرسلت إلى عليّة تشكو إليها. فأرسلت إليها عليّة: لا يهولنّك هذا، والله لأردّنّه إليك. قد عزمت أن أضع شعرا وأصوغ فيه لحنا وأطرحه على جوارىّ، فلا تبقى عندك جارية إلّا بعثت بها إلىّ وألبسيهنّ أنواع الثّياب ليأخذن الصوت مع جوارىّ؛ ففعلت أمّ جعفر ما أمرتها به. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا وعليّة وأمّ جعفر قد خرجتا إليه من حجرتيهما معهما زهاء ألفى جارية من جوازيهما وسائر جوارى القصر عليهنّ غرائب اللّباس وكلهنّ في لحن واحد هزج صنعته عليّة وهو: منفصل عنّى وما ... قلبى عنه منفصل يا هاجرى اليوم لمن ... نويت بعدى أن تصل فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أمّ جعفر وعليّة وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قطّ. يا مسرور، لا تبقيّن في بيت المال درهما إلا نثرته. فكان ما نثر يومئذ ستة آلاف درهم، وما سمع بمثل ذلك اليوم. وروى عن عريب أنها قالت: أحسن يوم رأيته في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدىّ عند أخته عليّة وعندها أخوهما يعقوب بن المهدىّ، وكان أحذق الناس بالزّمر. فبدأت عليّة فغنّت من صنعتها وأخوها يعقوب يزمر عليها: تحبّب فإنّ الحبّ داعية الحبّ ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب تبصّر فإن حدّثت أنّ أخا هوى ... نجا سالما فارج النجاة من الحبّ إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وغنّى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب: لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا، كيف ينسى وجهك الحسن ولا خلا منك قلبى لا ولا جسدى ... كلّى بكلّك مشغول ومرتهن

يا فردة الحسن مالى منك مذكلفت ... نفسى بحبّك إلّا الهمّ والحزن نور تولّد من شمس ومن قمر ... حتى تكامل فيك «1» الروح والبدن قالت عريب: فما سمعت مثل ما سمعت منها قط وأعلم أنى لا أسمع مثله أبدا. وروى عن خشف الواضحيّة قالت: تماريت أنا وعريب في غناء عليّة بحضرة المتوكل أو غيره من الخلفاء. فقلت أنا: هى ثلاثة وسبعون صوتا، وقالت عريب: هى اثنان وسبعون صوتا. فقال المتوكل: غنيّا غناءها؛ فلم أزل أغنّى غناءها حتى مضى اثنان وسبعون صوتا، ولم أدر الثالث والسبعين. قالت: فقطع بى واستعلت عريب وانكسرت. قالت خشف: فلما كان الليل رأيت عليّة فيما يرى النائم، فقالت: يا خشف خالفتك عريب في غنائى. قلت: نعم يا سيّدتى. قالت: الصواب معك، أفتدرين ما الصوت الذى أنسيتيه؟ قلت: لا ولله، ولوددت أنّى فديت ما جرى بجميع ما أملك. قالت: هو: بنى الحبّ على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يعرف تأليف الحجج وقليل الحبّ صرفا خالصا ... لك خير من كثير قد مزج وكأنها قد اندفعت تغنّى به، فما سمعت أحسن مما غنّته، وقد زادتنى فيه أشياء في نومى لم أكن أعرفها، فانتبهت وأنا لا أعقل فرحا به. فباكرت الخليفة وذكرت له القصّة. فقالت عريب: هذا شىء صنعته أنت لما جرى أمس، وأمّا الصوت فصحيح. فحلفت للخليفة بما رضى به أنّ القصّة كما حكيت. فقال: رؤياك والله أعجب، رحم الله عليّة! فما تركت ظرفها حيّة ولا ميّتة. وأجازنى جائزة سنيّة.

وروى أبو الفرج أيضا بسنده إلى محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال: شهدت أبى جعفرا وأنا صغير وهو يحدّث جدّى يحيى بن خالد في بعض ما كان يخبره به من خلوته مع هارون الرشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدى أمير المؤمنين وأقبل فى حجره يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلها ودخلت وأغلق بابها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، ونقر الباب بيده نقرات فسمعنا حسّا، ثم أعاد النّقر ثانية فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثة فغنّت جارية ما ظننت والله أنّ الله جلّ وعزّ خلق مثلها فى حسن الغناء وجودة الضرب. فقال [لها «1» ] أمير المؤمنين بعد أن غنّت أصواتا: غنّى صوتى؛ فغنت صوته، وهو: ومخنّث شهد الزّفاف وقبله ... غنّى الجوارى حاسرا ومنقّبا لبس الدلال وقام ينقر دفّه ... نقرا أقرّ به العيون وأطربا إنّ النساء رأينه فعشقنه ... فيشكون شدّة ما بهنّ فأكذبا قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسى الحائط. ثم قال: غنّى: طال تكذيبى وتصديقى فغنّت: طال تكذيبى وتصديقى ... لم أجد عهدا لمخلوق إنّ ناسا في الهوى غدروا ... حسّنوا نقض المواثيق لا ترانى بعدهم أبدا ... أشتكى عشقا لمعشوق قال: فرقص الرشيد ورقصت معه؛ ثم قال: امض بنا، فإنى أخشى أن يبدو منّا ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلمّا صرنا إلى الدّهليز قال وهو قابض على يدى:

ومنهم أبو عيسى بن الرشيد.

هل عرفت هذه المرأة؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فإنّى أعلم أنك ستسأل عنها ولا تكتم ذلك وأنا أخبرك بها، هذه علية بنت المهدىّ. وو الله لئن لفظت به بين يدى أحد وبلغنى لأقتلنّك. قال: فسمعت جدّى يقول لأبى: فقد والله لفظت به؛ وو الله ليقتلنّك، فاصنع ما أنت صانع. وأخبار عليّة وأغانيها كثيرة، وقد ذكرنا منها ما يكتفى به. قال أبو الفرج: وكان مولد عليّة سنة ستين ومائة، وتوفّيت سنة عشرة ومائتين، وقيل: سنة تسع ومائتين، ولها خمسون سنة. وكانت عند موسى بن عيسى ابن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما. وكان سبب وفاتها أنّ المأمون ضمّها اليه وجعل يقبّل رأسها ووجهها مغطّى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمّت بعقب هذا أيّاما يسيرة وماتت. رحمها الله. ومنهم أبو عيسى بن الرشيد. هو أبو عيسى أحمد، وقيل: بل اسمه صالح «1» بن هارون الرشيد. وأمّه أمّ ولد بربريّة. كان من أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة وأمجنهم وأحدّهم نادرة وأشدّهم عبثا. وكان أبو عيسى جميل الوجه جدّا؛ فكان إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما كانوا يجلسون للخلفاء. وكانت عريب المأمونية تقول: ما سمعت غناء أحسن من غناء أبى عيسى بن الرشيد، ولا رأيت وجها أحسن من وجهه. وروى أنّ الرشيد قال يوما لأبى عيسى وهو صبىّ: ليت جمالك لعبد الله! (يعنى المأمون) فقال له: يا أمير المؤمنين، على أنّ حظّه منك لى. فعجب الرشيد من جوابه على صباه وضمّه إليه وقبّله.

قال أبو الفرج: وكان أبو عيسى جيّد الصّنعة، وله أغان منسوبة إليه ومعروفة به. منها: رقدت عنك سلوتى ... والهوى ليس يرقد وأطار السهاد نو ... مى فنومى مشرّد أنت بالحسن منك يا ... حسن الوجه يشهد وفؤادى بحسن وجهك ... يشقى ويكمد وله غير هذا من الأصوات. قال: وكان كثير البسط والمجون والعبث. وكان المأمون أشدّ الناس حبّا له، وكان يعدّه للأمر بعده ويذكر ذلك كثيرا. حتى لقد حكى عنه أنه قال يوما: إنه ليسهل علىّ أمر الموت وفقد الملك، ولا يسهل شىء منهما على أحد؛ وذلك لمحبّتى أن يلى أبو عيسى الأمر بعدى لشدّة حبّى إياه. وكانت وفاة أبى عيسى في سنة سبع ومائتين. روى عن عبد الله بن طاهر قال: حدّثنى من شهد المأمون ليلة وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلق على قفاه، فرأوه وجعلوا يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه؛ كأنه يسخط لورود الشهر، فما صام بعده. ونقل عنه أنه قال: دهانى «1» شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعدينى الإمام بقدرة ... على الشهر لاستعديت «2» جهدى على الشهر فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرّات حتى مات. ولمّا مات وجد المأمون عليه وجدا شديدا.

روى عن محمد بن عبّاد المهلّبىّ قال: لمّا مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت على المأمون فخلعت عمامتى ونبنتها ورائى- والخلفاء لا تعزّى في العمائم- فقال لى: يا محمد، حال القدر، دون الوطر. فقلت: يا أمير المؤمنين، كلّ مصيبة أخطأتك شوى «1» ، فجعل الله الحزن لك لا عليك!. قال: فركب المأمون إلى دار أبى عيسى فحضر جهازه وصلّى عليه ونزل في قبره. وامتنع من الطعام أياما حتى خيف أن يضرّ ذلك به. قال: وما رأيت مصابا حزينا قطّ أجمل أثرا في مصيبته ولا أحرق وجدا منه، صامت ودموعه تهمى على خدّيه من غير كلح «2» ولا استنثار. وروى عن أحمد بن أبى داود قال: دخلت على المأمون وقد توفّى أخوه أبو عيسى وهو يبكى ويمسح عينيه بمنديل، فقعدت الى جنب عمرو بن مسعدة وتمثّلت قول الشاعر: نقص من الدّنيا وأسبابها ... نقص المنايا من بنى هاشم فلم يزل على تلك الحال يبكى ثم يمسح عينيه، وتمثّل: سأبكيك ما فاضت دموعى فإن تغض ... فحسبك منّى ما تجنّ الجوانح «3» كأن لم يمت حىّ سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح ثم التفت إلىّ وقال: هيه يا أحمد! فتمثّلت بقول عبدة بن الطبيب: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما تحيّة من أوليته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما

ومنهم عبد الله بن موسى الهادى.

فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما فبكى ساعة، ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو! فقال: نعم يا أمير المؤمنين: بكّوا حذيفة لم تبكّوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق قال: فإذا عريب وجوار معها يسمعن ما يدور بيننا؛ فقالت: اجعلوا لنا معكم فى القول نصيبا. فقال المأمون: قولى، فربّ صواب منك كثير. فقالت: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر كأنّ بنى العبّاس يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر «1» فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحى، فناحت وردّ عليّها الجوارى. فبكى المأمون حتى قلت: قد فاضت نفسه وبكينا معه أحرّ بكاء، ثم أمسكت. فقال المأمون: اصنعى فيه لحنا على مذهب النّوح وغنّى به؛ ففعلت وغنّته إياه على العود. فو الذى لا يحلف بأعظم منه لقد بكينا عليه غناء أكثر مما بكينا عليه نوحا. ومنهم عبد الله بن موسى الهادى. قال أبو الفرج: كان له في الغناء صنعة حسنة، وله أصوات مذكورة، منها قوله: تقاضاك دهرك ما أسلفا ... وكدّر عيشك بعد الصّفا فلا تجزعنّ فإن الزمان ... رهين بتشتيت ما ألّفا ولما رآك قليل الهموم ... كثير الهوى ناعما مترفا ألحّ عليك بروعاته ... وأقبل يرميك مستهدفا

قال: وكان عبد الله هذا من أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء. وكان له غلام أسود يقال له «قلم» ، فعلّمه الضرب فحذق فيه؛ فاشترته منه أمّ جعفر بثلاثمائة ألف درهم. وروى عن سليمان بن داود كاتب أمّ جعفر قال: كنت جالسا مع عبد الله بن موسى الهادى، فمرّ به خادم لصالح بن الرشيد؛ فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمى لا تسل. فأعجبه حسنه وحسن منطقه، فقال لى: قم بنا حتى نشرب اليوم ونذكر هذا البدر، فقمت معه. فأنشدنى في ذلك اليوم: وشادن مرّ بنا ... يجرح باللّحظ المقل مظلوم خصر ظالم ... منه إذا يمشى الكفل اعتدلت قامته ... والطرف منه ما عدل بدر تراه أبدا ... طالع سعد ما أفل سألته عن اسمه ... فقال: إسمى لا تسل وطلعت في وجنتي ... هـ وردتان من خجل فقلت ما أخطا الذى ... سمّاك بل قال المثل لا تسألن عن شادن ... فاق جمالا وكمل وقال فيه: عزّ الذى تهوى وذلّ ... صبّ الفؤاد مختبل جدّ به الهجر وذا ال ... هجر اذا جدّ قتل من شادن ممنطق ... فاق جمالا وكمل تناصف الحسن به ... فلا تسل عن لا تسل

ومنهم عبد الله بن محمد الأمين.

وعن أحمد بن المكّى قال: دعانى عبد الله بن موسى يوما فقال لى: أتقوّم غلاما ضاربا مغنّيا قيمة عدل لا حيف فيها على البائع ولا على المشترى؟ فقلت نعم. فأخرج إلىّ ابنه القاسم، وكنت قد عرفت خبره وهو أحسن من القمر ليلة البدر، فأخذ عودا يضرب به؛ فأكببت على يديه أقبلّهما فقال لى عبد الله: أتقبّل يد غلام مملوك! فقلت: بأبى وأمى هو من مملوك! وقبّلت رجله أيضا. فقال: أمّا إذ عرفته فأحبّ أن تضاربه، ففعلت. فلما رأى الغلام زيادتى في الضرب عليه اغتمّ وأقبل على أبيه فقال له كالمعتذر إليه: يا أبت، أنا متلذّذ وهذا متكسّب. فضحكت وقلت: هو كذلك يا سيّدى. وعجبت من حدّة جوابه معتذرا على صغر سنه. قال عبد الله بن حبيب: كان عبد الله بن موسى الهادى معربدا، وكان قد أعضل» المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه؛ فأمر به أن يحبس في منزله فلا يخرج منه، وأقعد على بابه حرسا؛ ثم تذمّم من ذلك فأظهر له الرضا وصرف الحرس عن بابه. ثم نادمه فعربد عليه أيضا وكلّمه بكلام أحفظه. وكان عبد الله مغرما بالصيد؛ فأمر المأمون خادما من خواصّ خدمه يقال له حسن «2» فسمّه في درّاج؛ فلما أكله أحسّ بالسمّ، فركب في الليل وقال لأصحابه: هو آخر ما ترونى، ومات بعد أيام. وأكل معه خادمان، فمات أحدهما لوقته، وضنى الآخر ثم مات بعد مدّة. ومنهم عبد الله بن محمد الأمين. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كان عبد الله بن محمد الأمين ظريفا غزلا يقول شعرا ليّنا ويصنعه صنعة صالحة. وكان بينه وبين أبى نهشل بن حميد مودّة؛ فاعترض عبد الله جارية مغنّية

لبعض نساء بنى هاشم وأعطى بها مالا عظيما. وعرفت مولاتها منه رغبة فيها فزادت عليه في السّوم فتركها؛ فاشتراها أخ لأبى نهشل، فتبعتها نفس عبد الله، فسأل أبا نهشل أن يسأل أخاه النزول عنها؛ فسأله ذلك فوعده ودافعه. فكتب عبد الله إلى أبى نهشل: يابن حميد يا أبا نهشل ... مفتاح باب الحدث المقفل يا أكرم الناس ودادا وأر ... عاهم لحقّ ضائع مهمل أحسنت في ودّى وأجملت بل ... جزت فعال المحسن المجمل بيتك في ذى يمن شامخ ... تقصر عنه قنّتا يذبل خلفت فينا حاتما ذا النّدى ... وجدت جود العارض المسبل أىّ أخ أنت لذى وحدة ... تركته بالعزّ في جحفل نجوم حظّى منك مسعودة ... فيما أرجّى ليس بالأقل فصدّق الظنّ بما قلته ... وسهّل الأمر به يسهل لا تحرمنّى ولديك المنى ... بالله صيد الرّشأ الأكحل رميت منه بسهام الهوى ... وما درى ما الرّمى في مقتلى أدنيتنى بالوعد في صيده ... إدناء «1» عطشان من المنهل ثم تناسيت وأسلمتنى ... إلى مطال موحش المنزل تركتنى في لجّة عائما ... لا أعرف المدبر من مقبل صرّح بأمر واضح بيّن «2» ... لا خير في ذى لبس مشكل قال: فلم يزل أبو نهشل بأخيه حتى نزل له عنها. ولعبد الله هذا صنعة منها قوله:

ومنهم أبو عيسى بن المتوكل.

ألا يادير حنظلة المفدّى ... لقد أورثتنى سقما وكدّا أزفّ من الفرات اليك زقّا ... وأجعل حوله «1» الورد المندّى ومنهم أبو عيسى بن المتوكل. قال عبد الله بن المعتز: جمع لأبى عيسى بن المتوكل صنعة مقدارها أكثر من ثلاثمائة صوت، منها الجيّد الصنعة ومنها المتوسّط. وقال النّميرىّ: سمعت أبا عيسى بن المتوكل يقول: إذا أتممت صنعة ثلاثمائة وستين صوتا عدد أيام السنة تركت الصنعة. فلما أتمها ترك الصنعة. فمنها قوله في شعر علىّ بن الجهم: هى النفس ما حمّلتها تتحمّل ... وللدهر أيّام تجور وتعدل وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التجمّل قال أبو الفرج الأصفهانى: وهو لعمرى من جيّد الغناء وفاخر الصنعة، ولو لم «2» يصنع غيره لكفى. ومنهم عبد الله بن المعتز. هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله العباسىّ. قد وصفه أبو الفرج الأصفهانى فقال: وأمره مع قرب عهده بعصرنا مشهور فى فضائله وأدبه شهرة يشترك في أكثرها الخاصّ والعامّ، وشعره وإن كان فيه رقّة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين، فإنّ فيه أشياء كثيرة تجرى في أسلوب المجيدين، ولا تقصر عن مدى السابقين وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبّه فيها بفحول الجاهلية. وأطنب في وصفه وتقريظه، وهو فوق ما قال. ثم قال:

وكان عبد الله حسن العلم بصناعة الموسيقي والكلام على النّغم وعللها؛ وله فى ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر وبين بنى حمدون وغيرهم تدلّ على فضله وغزارة أدبه. وذكر منها شيئا ليس هذا موضع إيراده. ثم قال: ومن صنعة عبد الله بن المعتز في شعره: هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا ... والدار جامعة أزمان أزمانا قال أبو الفرج: ومن صنعته الظريفة الشكل مع جودتها: وابلائى من محضر ومغيب ... وحبيب منّى بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين إلّا ... شرقت قبل ايّها برقيب قال: ومن صنعته التى تظارف فيها وملح: زاحم كمّى كمّه فالتويا ... وافق قلبى قلبه فاستويا وطالما ذاقا الهوى فاكتويا ... يا قرّة العين ويا همّى ويا وحكى عن جعفر بن قدّامة قال: كان لعبد الله بن المعتز غلام يحبّه، فغضب الغلام عليه، فجهد أن يترضّاه، فلم يكن له فيه حيلة. ودخلت عليه فأنشدنى فيه: بأبى أنت قد تما ... ديت في الهجر والغضب واصطبارى على صدو ... دك يوما من العجب ليس لى إن فقدت وج ... هك في العيش من أرب رحم الله من أعا ... ن على الصّلح واحتسب قال: فمضيت إلى الغلام، فلم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضّيته له وجئته به؛ فمرّ لنا يومئذ أطيب يوم وأحسنه.

ذكر من غنى من الأشراف والعلماء رحمهم الله

ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله كان ممن غنى من الأشراف والعلماء على ما نقل إلينا من أخبارهم: عبد العزيز بن المطلب «1» . روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن على المقدسىّ رحمه الله بسند رفعه إلى محمد بن مسلمة قال حدّثنى أبى قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيا وهو يغنّى: فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها «2» بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وبالحسب المكنون صاف نجارها فإن برزت كانت لعينيك قرّة ... وإن غبت عنها لم يغمّك عارها «3» فقلت له: تغنّى أصلحك الله وأنت في جلالتك وشرفك! أما والله لأحدونّ بها ركبان نجد. قال: فو الله ما أكترث وعاد يتغنّى: فما ظبية أدماء خفّاقة الحشى ... تجوب بظلفيها بطون الخمائل بأحسن منها إذ تقول تدلّلا ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل تمتّع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيّام الشهور الأطاول

ومنهم ابراهيم بن سعد

قال: فندمت على قولى له، فقلت: أصلحك الله، أتحدّثنى في هذا بشىء! فقال: نعم، حدّثنى أبى قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- وأشعب يغنّيه: معقربة كالبدر سنّة «1» وجهها ... مطهّرة الأثواب والعرض وافر لها نسب زاك وعرض مهذّب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم رضى الله عنه: زدنى. فقال: ألّمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطّار ثوى في رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا فقال سالم: أما والله لولا أن تداوله الرّواة لأجزلت جائزتك، فلك من هذا الأمر مكان. ومنهم ابراهيم بن سعد «2» . هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزّهرىّ. كان من العلماء الثّقات المحدّثين. سمع أباه وابن شهاب الزهرىّ وهشام بن عروة وصالح بن كيسان ومحمد بن إسحاق بن يسار. روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد، وابناه يعقوب وسعد «3» ابنا إبراهيم وعبد الرحمن بن مهدىّ ويزيد بن هارون ويونس المؤدّب وأبو داود الطيالسىّ وسليمان بن داود الهاشمى وعبد العزيز الآدمىّ وعلىّ بن الجعد ومحمد بن جعفر الور كانىّ وأحمد بن حنبل وغيرهم. كان يبيح السماع

ويضرب بالعود ويغنّى عليه. وله في ذلك قصّة رواها أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ بسند رفعه إلى سعيد بن كثير بن عفير قال: قدم إبراهيم بن سعد الزهرىّ العراق سنة أربع وثمانين ومائة، فأكرمه الرشيد وأظهر برّه. وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله؛ فأتاه بعض أهل الحديث ليسمع منه أحاديث الزهرىّ، فسمعه يتغنّى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأمّا الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا. قال: إذا لا أفقد إلّا شخصك. علىّ وعلىّ ألّا أحدّث ببغداد ما أقمت حديثا واحدا حتى أغنّى قبله. وشاعت هذه الحكاية ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به فسأله عن حديث المخزوميّة التى قطعها النبىّ صلّى الله عليه وسلم في سرقة الحلىّ؛ فدعا بعود. فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا ولكن عود الطّرب، فتبسّم. ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعلك بلغك يا أمير المؤمنين حديث السّفيه الذى آذانى بالأمس وألجأنى إلى أن حلفت. قال نعم. فدعا له الرشيد بعود فأخذه وغنّى: يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا ... ملّ الثّواء لأن كان الرحيل غدا فقال له الرشيد: من كان من فقهائكم ينكر السماع؟ قال: من ربط الله على قلبه. قال: فهل بلغك عن مالك في هذا شىء؟ فقال: لا والله، إلا أن أبى أخبرنى أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بنى يربوع وهم يومئذ جلّة «1» ، ومالك أقلّهم في فقه وقدر، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنّون ويلعبون. ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنيهم: سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا

فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم، ومات إبراهيم في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. قال: وكان ابراهيم بن سعد يبالغ فيه إلى هذا الحدّ. وقد أجمعت الأئمة على ثقته وعدالته والرواية عنه. واتّفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه فى الصحيح. ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، بل قلّد قضاء بغداد على جلالتها، وقلّد أبوه القضاء بالمدينة على شرفها. وروى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلى قال: شهدت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة ينكر الغناء، فقال: من قنّعه الله خزيه: مالك بن أنس؛ ثم حلف أنه سمع مالكا يغنّى: سليمى أزمعت بينا ... فأين لقاؤها أينا فى عرس لرجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة. وروى أيضا بسنده إلى الحسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة، فخلا لى الطريق في نصف النهار، فجعلت أتغنّى: ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب قال: فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال: يا فاسق! أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة؛ ثم اندفع يغنّيه؛ فظننت أنّ طويسا قد نشر يغنّيه، فقلت: أصلحك الله! من أين لك هذا الغناء؟ قال: نشأت وأنا غلام أتبع المغنّين وآخذ عنهم؛ فقالت لى أمّى: يا بنىّ، إن المغنّى إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضرّ معه قبح الوجه. فتركت المغنّين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بى ما ترى. فقلت: فأعد جعلت فداءك. فقال: لا ولا كرامة! أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس! وإذا هو مالك ولم أعلم.

ومنهم محمد بن إسماعيل بن على بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.

ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما. كان عالما بالفقه والغناء جميعا. وكان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه، ووصفه أحمد بن يوسف بالغناء. فقال المأمون: ما أعجب ما اجتمع فيه العلم بالعلم والغناء!. ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء منهم أبو دلف العجلىّ. هو أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس أحد بنى عجل بن لجيم بن مصعب بن علىّ بن بكر بن وائل. كان محلّه من الشجاعة وبعد الهمة وعلوّ المحلّ عند الخلفاء وعظم الغناء في المشاهد وحسن الأدب وجودة الشعر محلا كبيرا ليس لكثير من أمثاله. قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وله صنعة حسنة. فمن جيّد صنعته قوله- والشعر له أيضا-: بنفسى يا جنان وأنت منّى ... مكان الرّوح من جسد الجبان ولو أنى أقول مكان نفسى ... خشيت عليك بادرة الزمان لإقدامى إذا ما الخيل حامت ... وهاب كماتها حرّ الطّعان قال: وكان أحمد بن أبى داود ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا؛ فأعلمه المعتصم أن أبا دلف صديقه يغنّى. فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك! فستر المعتصم أحمد بن أبى داود في موضع وأحضر أبا دلف وأمره أن يغنّى ففعل ذلك وأطال، ثم أخرج أحمد بن أبى داود عليه؛ فخرج والكراهة ظاهرة في وجهه. فلما رآه أحمد

قال: سوءة لهذا من فعل! أبعد [هذه «1» ] السنّ وهذا المحلّ تصنع «2» بنفسك ما أرى! فخجل أبو دلف وتشوّر «3» وقال: إنهم ليكرهونى على ذلك. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أهم أكرهوك على الإحسان فيه والإصابة!. قال: وكان أبو دلف ينادم الواثق. فوصف للمعتصم فأحبّ أن يسمعه، وسأل الواثق عنه فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا على نيّة الفصد غدا وهو عندى. وفصد الواثق فأتاه أبو دلف وأتته رسل الخليفة بالهدايا؛ فأعلمهم الواثق حصول أبى دلف عنده. فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة. فقام الواثق وكلّ من كان عنده حتى تلقّوه؛ وجاء حتى جلس، وأمر بندماء الواثق فردّوا إلى مجالسهم. وأقبل الواثق على أبى دلف فقال: يا قاسم، غنّ أمير المؤمنين. فقال: صوتا بعينه أو ما اخترت؟ قال: بل من صنعتك في شعر جرير. فغنّى: بان الخليط برامتين فودّعوا ... أو كلّما اعتزموا لبين تجزع كيف العزاء ولم أجد مذ غبتم ... قلبا يقرّ ولا شرابا ينقع فقال المعتصم: أحسن أحسن- ثلاثا- وشرب رطلا. ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال. ثم دعا بحمار فركبه، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه؛ فخرج معه فثبّت في ندمائه، وأمر له بعشرين ألف دينار. قال: وكان أبو دلف جوادا ممدّحا. وفيه يقول علىّ بن جبلة من قصيدة بقول فيها: ذاد ورد الغىّ عن صدره ... وارعوى واللهو من وطره ندمى أنّ الشباب مضى ... لم أبلّغه مدى أشره

حسرت عنّى بشاشته ... وذوى المحمود من ثمره ودم أهدرت من رشأ ... لم يرد عقلا على هدره جاء منها: دع جدا قحطان أو مضر ... فى يمانيه وفي مضره وامتدح من وائل رجلا ... عصر «1» الآفاق من عصره ومنها: المنايا في مقانبه ... والعطايا في ذرا حجره ملك تندى أنامله ... كانبلاج النّوء عن مطره مستهلّ عن مواهبه ... كابتسام الرّوض عن زهره ومنها: إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مستعير منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره وهذان البيتان اللذان أحفظا المأمون على علىّ بن جبلة حتى سلّ لسانه من قفاه. وقوله فيه: أنت الذى تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلّا قضيت بأرزاق وآجال تزورّ سخطا فتضحى البيض ضاحكة ... وتستهل فتبكى أعين المال وكان سبب مدح علىّ بن جبلة أبا دلف بقوله: إنما الدنيا أبو دلف

ما رواه أبو الفرج الأصفهانى بسنده عن علىّ بن جبلة قال: زرت أبا دلف بالجبل، فكان يظهر من برّى وإكرامى والتحفّى بى أمرا عظيما مفرطا حتى تأخرت عنه حياء، فبعث إلىّ معقلا وقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّى، وأظنّك قد استقللت برّى، فلا يغضبنك ذلك فإنى سأزيد فيه حتى ترضى. فقلت: والله ما قطعنى إلا الإفراط في البرّ، وكتبت إليه: هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر ولكننى لمّا أتيتك زائرا ... فأفرطت في برّى عجزت عن الشكر فم الآن لا آتيك إلّا مسلّما ... أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر فإن زدتنى برّا تزايدت جفوة ... ولم تلقنى طول الحياة إلى الحشر فلما قرأها معقل استحسنها وقال: أحسنت والله! أمّا إن الأمير يعجبه هذا من المعانى. فلما أوصلها إلى أبى دلف قال: قاتله الله! ما أشعره وأرقّ معانيه! وأجابنى لوقته- وكان حسن البديهة حاضر الجواب-: ألا ربّ طيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضّيافة بالبشر أتانى يرجّينى فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نائلى سترى وجدت له فضلا علىّ بقصده ... إلىّ وبرّا زاد فيه على برّى فزوّدته ما لا يدوم بقاؤه ... وزوّدنى مدحا يدوم على الدهر قال: وبعث بالأبيات وصيفا وبعث إلىّ معه بألف دينار. فقلت حينئذ: إنما الدنيا أبو دلف الأبيات. وروى أبو الفرج عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار قال: كنا عند أبى العبّاس المبرّد يوما وعنده فتى من ولد أبى البخترىّ وهب بن وهب، أمرد حسن الوجه،

وفتى من ولد أبى دلف البجلىّ شبيه به في الجمال. فقال المبرّد لابن أبى البخترىّ: أعرف لجدّك قصّة ظريفة من الكرم حسنة لم يسق إليها. قال: وما هى؟ قال: دعى رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذى يشربون منه؛ فقال فيهم: نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كان فعلك ذا في الطعام ... لزمت قياسك في المسكر ولو كنت تفعل فعل الكرام ... صنعت صنيع أبى البخترى تتّبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر فبلغت الأبيات أبا البخترىّ فبعث إليه ثلاثمائة دينار. قال ابن عمار: فقلت وقد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا. قال: وما فعل؟ قلت: بلغه أنّ رجلا افتقر من ثروة، فقالت له امرأته، افترض في الجند، فقال: إليك عنّى فقد كلّفتنى شططا ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف تمشى المنايا إلى قوم فأكرهها ... فكيف أمشى إليها عارى الكتف حسبت أنّ نفاد المال غيّرنى ... أو أنّ روحى في جنبى أبى دلف فأحضره أبو دلف وقال: كم أمّلت امرأتك أن يكون رزقك؟ قال: مائة دينار، قال: كم أمّلت أن تعيش؟ قال: عشرين سنة. قال: فذلك لك على ما أمّلت وأمّلت امرأتك في مالنا دون مال السلطان، وأمر بإعطائه إياه. قال: فرأيت وجه ابن أبى دلف يتهلّل وانكسر ابن أبى البخترىّ. وهذه الأبيات رويت لابن أبى فنن.

ومنهم أخوه معقل بن عيسى.

ومنهم أخوه معقل بن عيسى. كان فارسا شاعرا جوادا مغنّيا فهما بالنّغم والوتر، ذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبى دلف. وهو القائل لمخارق- وقد كان زار أبا دلف بالجبل ثم رجع الى العراق، وله في ذلك غناء-: لعمرى لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبعد عنك عيون فسر أو أقم، وقف عليك مودّتى ... مكانك من قلبى عليك مصون فما أوحش الدنيا إذا كنت نازحا ... وما أحسن الدنيا بحيث تكون ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله. فأمّا عبد الله فكان محلّه من علوّ المنزلة وعظم القدر والتمكّن عند الخلفاء ما هو مشهور مذكور فى أخبارهم. وتقلّد الولايات الكبيرة مثل مصر والجزيرة وما يلى ذلك، ثم نقل إلى خراسان. وله عطايا وهبات وصلات لا ينكرها أحد. ومحلّه من الشجاعة والإقدام معروف. وكان يعتنى بالغناء ويصنعه، إلا أنه كان يترفّع عن ذكره والاعتراف به ونسبته إليه. قال أبو الفرج: والأصوات التى غنّى فيها عبد الله بن طاهر كثيرة. وكان ابنه عبيد الله إذا ذكر شيئا منها من صنعته قال: الغناء للدار الكبيرة، وإذا ذكر شيئا من صنعة نفسه قال: الغناء للدار الصغيرة. فمن الأصوات التى صنع فيها عبد الله بن طاهر قوله: هلّا سقيتم بنى حزم «1» أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى الطاعن الطّعنة النجلاء يتبعها ... مضرّج بعد ما جادت بإزباد قال: فقد جاء به عبد الله صحيح العمل مزدوج النغم [بين «2» ] لين وشدّة على رسم

وأما عبيد الله،

الحذّاق القدماء. قال عبيد الله- وذكر صوتا من أصواته-: لمّا صنع أبى هذا الصوت لم يحبّ أن يسمع عنه شىء من الغناء ولا ينسب إليه؛ لأنه كان يترفّع «1» عن ذلك، وما جسّ بيده وترا قطّ ولا تعاطاه، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدّربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كثير. قال: وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع في أبيات أصواتا كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذتها عنه وغنّين بها وسمعها الناس منهنّ [وممن أخذ عنهنّ. فلما أن صنع هذا الصوت: هلا سقيتم بنى سهم أسيركم ... نفسى فداؤك من ذى غلّة صادى «2» ] نسبه إلى مالك بن أبى السمح. وكانت لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها راحة «3» ، وكانت ترغب إلى عبد الله لمّا ندبه المأمون إلى مصر، وكانت تغنّيه؛ وأخذت هذا الصوت عن جواريه، وأخذه المغنون عنها، وروى لمالك بن أبى السمح مدّة. ثم قدم عبد الله العراق، فحضر مجلس المأمون وغنّى الصوت بحضرته ونسب إلى مالك؛ فضحك عبد الله ضحكا كثيرا؛ فسئل عن القصة فصدق فيها «4» واعترف بصنعة الصوت. وكشف المأمون عن القصة؛ فلم يزل كلّ من سئل عنه يخبر عمن «5» أخذه، فينتهى بالقصة إلى راحة ويقف فلا يعدوها. فأحضرت راحة وسئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك. ويقال: إنه لم يعجب من شىء عجبه من حذق عبد الله بمذاهب الأوائل وحكاياتهم. وأمّا عبيد الله، ويكنى أبا أحمد. قال أبو الفرج الأصبهانى: له محلّ من الأدب والتصرّف في فنونه ورواية الشعر وقوله والعلم باللغة وأيام الناس

وعلوم الأوائل من الفلاسفة «1» فى الموسيقى والهندسة وغير ذلك [مما «2» ] يجلّ عن الوصف ويكثر ذكره. وله صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة [تدلّ على ما ذكرناه هاهنا من توصّله «3» ] إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النّغم كلها في صوت واحد تتّبعه هو «4» وأتى به على ما فصّله فيها وطلبه منها. وكان المعتضد بالله ربما أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء ويحضره أكابر المغنّين فيعدل عنهم إليه فيصنع فيه أحسن صنعة، ويترفّع عن إظهار نفسه بذلك فيومىء إلى أنه من صنعة جاريته ساجى «5» . وسنذكر ساجى إن شاء الله تعالى في أخبار القيان، وكانت تخريج عبيد الله وتأديبه. قال: ولمّا اختلّت حال عبيد الله كان المعتضد بالله يتفقّده بالصّلات. ومن أصوات عبيد الله التى جمع فيها النّغم العشر قوله في شعر إبراهيم بن علىّ بن هرمة: وإنك إذ أطمعتنى منك بالرّضا ... وأيأستنى من بعد ذلك بالغضب كممكنة من درّها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب وأخبار عبيد الله كثيرة سنذكر منها في هذا الباب في أخبار ساجى طرفا، ونورد منها إن شاء الله تعالى في فنّ التاريخ ما يناسب. وأستغفر الله العظيم.

ذكر أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء والغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمّونه «الركبانية» . وأوّل من نقل الغناء العجمىّ إلى العربىّ من أهل مكة «سعيد بن مسجح» ومن أهل المدينة «سائب خاثر» . وأوّل من صنع الهزج «طويس» . ولنبدأ بذكر أخبار هؤلاء ثم نذكر من أخذ عنهم إن شاء الله تعالى. ذكر أخبار سعيد بن مسجح هو أبو عثمان سعيد بن مسجح، مولى بنى جمح، وقيل: مولى بنى مخزوم، وقيل: مولى بنى نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكّى أسود- وقيل: أصفر- حسن اللّون. وقيل: كان مولّدا، يكنى أبا عيسى. وقيل: كان هو وابن سريح لرجل واحد. مغنّ متقدّم من فحول المغنّين وأكابرهم. وهو أوّل من وضع الغناء منهم، وأوّل من غنّى الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه مرّ بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزّبير، فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربىّ، ثم رحل إلى الشأم فأخذ ألحان الرّوم والبربطية والأسطو خوسيّة «1» ، وانقلب

إلى فارس فأخذ غناء كثيرا وتعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النّغم وألقى منها ما استقبحه من النّبرات والنّغم؛ وكان أوّل من فعل ذلك، وتبعه الناس بعد؛ وعلّم ابن سريج، وعلّم ابن سريح الغريض. قالوا: وكان في صباه فطنا ذكيّا، وكان مولاه معجبا به، فكان يقول: ليكونن لهذا الغلام شأن، وما يمنعنى من عتقه إلّا حسن فراستى فيه، ولئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، وإن متّ قبله فهو حرّ. فسمعه مولاه يوما يتغنّى بشعر ابن الرّقاع يقول: ألمم على طلل عفا متقادم ... بين الذّؤيب «1» وبين غيب النّاعم لولا الحياء وأنّ رأسى قد عسا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم فدعاه مولاه فقال: أعد يا بنىّ؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، وقال: إنّ هذا لبعض ما كنت أقول. ثم قال له: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فقلبتها في هذا الشعر. قال: فأنت حرّ لوجه الله. فلزم مولاه وكثر أدبه واتّسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به. فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال: يا بنىّ علّمه واجتهد فيه. وكان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه. وقد قيل: إنه إنما سمع الغناء من الفرس لمّا أمر معاوية ببناء دوره بمكة التى يقال لها «الرّقط» ، وكان قد حمل إليها بنّائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم؛ فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربىّ، ثم صاغ على نحو ذلك. وكان من قديم غنائه الذى صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص، وهو: أسلام إنك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح

إنى لأنصحكم وأعلم أنّه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح وهذا من أقدم الغناء العربىّ المنقول عن الفارسىّ. قال: وعاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك. ومن أخبار سعيد مارواه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إلىّ. فتوجّه ابن مسجح الى الشأم؛ فصحبه رجل له جوار مغنّيات في الطريق. فقال له: أين تريد؟ فأخبره الخبر وقال: أريد الشأم؛ فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمّه. فوقف ابن مسجح عليهم فسلّم، ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم» فقال له: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفى. فقالوا: لا، بل تجىء معنا أنت وضيفك. فذهبوا جميعا الى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إنى رجل أسود، ولعل فيكم من يقذرنى، فأنا أجلس وآكل ناحية وقام؛ فاستحيوا منه وبعثوا له بما أكل. فلما صاروا إلى الشّراب قال لهم مثل ذلك ففعلوا. ثم أخرجوا جاريتين، فجلستا على سرير قد وضع لهما فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا؛ وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلستا أسفل السرير عن يمينه وشماله وجلست هى على السرير. قال ابن مسجح: فتمثلت هذا البيت:

فقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بى الأمثال! فنظروا إلىّ نظرا منكرا، ولم يزالوا يسكّنونها. ثم غنّت صوتا. قال ابن مسجح: فقلت: أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتى! فقال لى الرجل الذى أنزلنى عنده: قم فانصرف إلى منزلى، فقد ثقلت على القوم. فذهبت أقوم. فتذمّم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك: فأقمت. فغنّت، فقلت: أخطأت والله وأسأت! ثم اندفعت فغنّيت الصوت؛ فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح. فقلت: إى والله، أنا هو، والله لا أقيم عندكم ووثبت؛ فوثب القرشيون: فقال هذا: تكون عندى، وقال هذا: تكون عندى، [وقال هذا: بل عندى «1» ] . فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيّدكم! (يعنى الرجل الذى أنزله منهم) وسألوه عما أقدمه. فأخبرهم. فقال له صاحبه: إنى أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا والله، ولكنى أنا حداء. فقال له: إنّ منزلى بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك. فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح؛ فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا: إنك يا معاذ يابن الفضّل «2» ... إن زلزل الأقدام لم تزلزل عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ «3» القرون الميّل للحق حتى ينتحوا للأعدل

ذكر أخبار سائب خاثر

فقال عبد الملك للقرشىّ: من هذا؟ فقال: رجل حجازىّ قدم علىّ. قال: أحضره، فأحضره. ثم قال له: [هل «1» ] تغنّى غناء الرّكبان؟ فغنّى. فقال له: هل تغنّى الغناء المتقن؟ قال نعم. قال: هيه، فغنّى؛ فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال: أقسم بالله إنّ لك في القوم اسما كبيرا، من أنت؟ ويلك! قال: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه «سعيد بن مسجح» ، قبض مالى عامل الحجاز ونفانى. فتبسّم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم؛ وأمّنه ووصله وكتب إلى عامله بالحجاز أن اردد إليه ماله، ولا تتعرّض اليه بسوء. والله أعلم. ذكر أخبار سائب خاثر هو أبو جعفر سائب خاثر بن يسار، مولى لبنى ليث. وأصله من فيء كسرى، واشتراه عبد الله بن جعفر فأعتقه. وقيل: بل كان على ولائه لبنى ليث، ولكنه انقطع إلى عبد الله بن جعفر ولزمه وعرف به. وهو أوّل من عمل العود بالمدينة وغنّى به. قال: وكان عبد الله بن عامر بن كريز سبىّ «2» إماء صنّاجات «3» فأتى بهنّ المدينة. فكنّ يلعبن في يوم الجمعة ويسمع الناس منهنّ، فأخذ عنهنّ. وقدم رجل فارسىّ يعرف بنشيط، فغنّى، فعجب عبد الله بن جعفر منه. فقال له سائب خاثر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسىّ بالعربيّة. ثم غدا على عبد الله بن جعفر وقد عمل في:

لمن الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر وخلا لها من بعد ساكنها ... حجج مضين ثمان أو عشر والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّبات والنحر قال ابن الكلبىّ: وهو أوّل صوت غنّى به في الإسلام من الغناء العربىّ المتقن الصّنعة. قال: ثم اشترى عبد الله بن جعفر نشيطا بعد ذلك؛ فأخذ عنه سائب خاثر الغناء العربىّ، وأخذ عنه ابن سريج وجميلة ومعبد وعزّة الميلاء وغيرهم. وقيل: إنه لم يكن يضرب بالعود وإنما كان يقرع بالقضيب ويغنّى مرتجلا. قال ابن الكلبى: وكان [سائب تاجرا «1» ] موسرا يبيع الطعام بالمدينة، وكان تحته أربع نسوة. وكان انقطاعه إلى عبد الله بن جعفر، وهو مع ذلك يخالط سروات الناس وأشرافهم لظرفه وحلاوته وحسن صوته. وكان قد آلى على نفسه ألّا يغنّى أحدا سوى عبد الله بن جعفر إلا أن يكون خليفة أو ولىّ عهد أو ابن خليفة؛ فكان على ذلك الى أن قتل، على ما نذكره. وأخذ عنه معبد غناء كثيرا. قال: وسمع معاوية غناء سائب خاثر مرارا، فالمرّة الأولى لمّا وفد عبد الله بن جعفر إلى معاوية وهو معه، فسأل عنه معاوية، فأخبره عبد الله خبره واستأذنه في دخوله عليه، فأذن له. فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته فغنّى: لمن الديار رسومها قفر ... الأبيات فالتفت معاوية إلى عبد الله وقال: أشهد لقد حسّنه. وقضى معاوية حوائجه وأحسن اليه ووصله. وقيل: أشرف معاوية ليلة على منزل يزيد، فسمع صوتا أعجبه، واستخفّه السماع فاستمع حتى ملّ؛ ثم دعا بكرسىّ فجلس عليه واشتهى الاستزادة، فاستمع بقيّة ليلته. فلما أصبح غدا عليه يزيد؛ فقال: يا بنىّ، من كان

جليسك البارحة؟ قال: أىّ جليس يا أمير المؤمنين؟ واستعجم عليه. فقال: عرّفنى به فإنه لم يخف علىّ شىء من أمرك. قال: هو سائب خاثر. قال معاوية: فأكثر له يا بنىّ من برّك وصلتك، فما رأيت بمجالسته بأسا. قال ابن الكلبىّ: وقدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم، فأمر حاجبه بالإذن للنّاس؛ فخرج ثم رجع فقال: ما بالباب أحد. فقال معاوية: وأين الناس؟ قال: عند عبد الله بن جعفر. فركب معاوية بغلته ثم توجّه اليهم. فلما جلس قال بعض القرشيّين لسائب خاثر: مطرفى هذا لك إن اندفعت تغنّى (وكان المطرف من خز) ؛ فقام بين السّماطين وغنّى فقال: لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى «1» ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فسمع منه معاوية وطرب وأصغى اليه حتى سكت وهو مستحسن لذلك، ثم انصرف، وأخذ سائب خاثر المطرف «2» . وكان مقتل سائب خاثر بالمدينة يوم الحرّة. قال: وكان يخشى على نفسه من أهل الشأم. فخرج اليهم وجعل يقول: أنا مغنّ، ومن حالى ومن قصتى كيت وكيت، وقد خدمت أمير المؤمنين يزيد وأباه قبله. فقالوا له: غنّ لنا، ففعل. فقام أحدهم فقال: أحسنت والله، ثم ضربه بالسيف فقتله. وبلغ يزيد خبره ومرّ به اسمه في أسماء من قتل فلم يعرفه وقال: من سائب خاثر؟ فعرّف به، فقال: ويله ما له وما لنا! ألم نحسن إليه ونصله ونخلطه بأنفسنا! فما الذى حمله على عداوتنا! لا جرم أنّ بغيه علينا صرعه. وقيل: إنه لمّا بلغه قتله قال: إنا لله! أو بلغ

ذكر أخبار طويس

القتل إلى سائب خاثر وطبقته! ما أرى أنه بقى بالمدينة أحد، وقال. قبحكم الله يأهل الشأم! تجدهم وجدوه في حائط أو حديقة مستترا فقتلوه. وقد قيل: إنه تقدّم يوم الحرّة وقاتل حتى قتل. والله أعلم. ذكر أخبار طويس هو عيسى بن عبد الله. وكنيته أبو عبد المنعم، وغيّرها المخّنثون فقالوا: أبو عبد النعيم. وطويس لقب غلب عليه، وقيل: اسمه طاوس، مولى بنى مخزوم. وكان أيضا يلقّب بالذائب؛ لأنه غنّى: قد برانى الحبّ حتى ... كدت من وجدى أذوب وهذا أوّل غناء غنّاه وهزج هزجه. وقد ضرب المثل به في الشؤم فقالوا: «أشأم من طويس» لأنه ولد يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر رضى الله عنه، وختن يوم مات عمر رضى الله عنه، وتزوّج يوم قتل عثمان، وولد له يوم مات علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وكان مخنّثا أحول طويلا؛ وقيل: إنه ولد ذاهب العين اليمنى. قالوا: وكانت أمّه تمشى بين نساء الأنصار بالنمائم. وطويس أوّل من صنع الهزج والرمل في الإسلام، وكان الناس يضربون به المثل فيقولون: «أهزج من طويس» . وكان لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدّفّ. وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها. حكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده إلى المدائنىّ قال: قدم ابن سريح المدينة، فجلس يوما في جماعة وهم يقولون له: أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مرّ بهم طويس فسمعهم وما يقولون، فاستلّ دفّه من حضنه ونقره وغنّى؛ فلما سمعه

ابن سريج قال: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا. وقال المدائنىّ، قال مسلمة «1» ابن محارب: حدّثنى رجل من أصحابنا قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل من أصحابنا فانتهينا إلى واد، فدعونا بالغداء، فمدّ الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، وكان قبل ذلك يأكل معنا؛ فخرجنا نسأل عن حاله فنلقى «2» رجلا طويلا أحول مضطرب الخلق في زىّ الأعراب؛ فقال لنا: ما لكم؟ فأنكرنا سؤاله لنا؛ فأخبرناه خبر الرجل فقال: ما اسم صاحبكم؟ فقلنا: أسيد؛ فقال: هذا واد قد أخّذت «3» سباعه فارتحلوا، فلو قد جاوزتم الوادى استمرّ «4» صاحبكم وأسد «5» وأكل. قلنا في أنفسنا: هو من الجنّ، ودخلتنا فزعة. ففهم ذلك وقال: ليفرخ روعكم فأنا طويس. فقال له رجل منّا: مرحبا بك أبا عبد النعيم، ما هذا الزّىّ؟! فقال: دعانى بعض أودّائى من الأعراب فخرجت إليهم وأحببت أن أتخطّى الأحياء فلا ينكرونى. فسأله رجل منّا أن يغنّينا؛ فاندفع ونقر بدفّ كان معه مربّع، فلقد خيّل لى أنّ الوادى ينطق معه حسنا. وتعجّبنا من علمه وما أخبرنا به من أمر صاحبنا. قال المدائنىّ: وكان طويس ولعا بالشعر الذى قالته الأوس والخزرج فى حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء؛ فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيّان فغنّى فيه طويس إلا وقع فيه شىء. فنهى عن ذلك، فقال: والله لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسّدونى التراب؛ وذلك لكثرة تولّع القوم به، وكان يبدى السرائر ويخرج الضغائن؛ وغناؤه يستحسن ولا يصبر عن حديثه.

وحكى الأصبهانىّ عفا الله عنه قال: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشى. فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب الله تعالى شيئا. فبعث إليه فاستقرأه أمّ الكتاب؛ فقال: والله ما معى بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمّهنّ! فقال: أتهزأ لا أمّ لك! فأمر به فقتل ببطحان «1» ، وقال: من جاءنى بمخنّث فله عشرة دنانير. فأتى طويس وهو في بنى الحارث بن الخزرج فأخبر بمقالة مروان؛ فقال: أما فضّلنى الأمير عليهم بفضل حتى جعل فيّ وفيهم شيئا واحدا!. ثم خرج حتى نزل السويداء (على ليلتين من المدينة في طريق الشأم) فنزلها، فلم يزل بها بقيّة عمره. وعمّر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك. ثم ساق الأصفهانىّ هذه القصة في موضع آخر بسند آخر قال: خرج يحيى بن الحكم وهو أمير على المدينة، فبصر بشخص في السّبخة مما يلى مسجد الأحزاب؛ فلما نظر إلى يحيى جلس؛ فاستراب به، فوجّه إليه أعوانه، فأتى به كأنه امرأة في ثياب مصبّغة مصقولة وهو ممتشط مختضب. فقال له أعوانه: هذا ابن نغاش المخنث. فقال: ما أحسبك تقرأ من كتاب الله تعالى شيئا! اقرأ أمّ القرآن؛ فقال: لو عرفت أمّهن عرفت البنات. فأمر به فضربت عنقه. وساق نحو ما تقدّم، إلا أنه قال: جعل في كل مخنّث ثلاثمائة درهم. وحكى أيضا بسند رفعه إلى صالح بن كيسان وغيره: أنّ أن بن عثمان لمّا أمّره عبد الملك على الحجاز أقبل، حتى [اذا «2» ] دنا من المدينة تلقّاه أهلها وخرج إليه أشرافها، فخرج معهم طويس. فلما رآه سلّم عليه، ثم قال له: أيها الأمير،

ذكر أخبار عبد الله بن سريج

إنى كنت قد أعطيت الله تعالى عهدا إن رأيتك أميرا لأخضبن يدى إلى المرفقين ثم أزدو «1» بالدّف بين يديك. ثم أبدى عن دفّه وتغنّى [بشعر ذى جدن الحميرىّ «2» ] : ما بال أهلك يا رباب ... خزرا كأنهم غضاب فطرب أبان حتى كاد يطير، ثم جعل يقول: حسبك يا طاوس! - ولم يقل له طويس لنبله في عينه- ثم قال له: اجلس، فجلس. فقال له أبان: قد زعموا أنك كافر. فقال له: جعلت فداءك! والله إنى لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم] وأصلّى الخمس وأصوم رمضان وأحجّ البيت. قال: أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان؟ - وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه- فقال طويس: جعلت فداءك! أنا والله مع جلائل نساء قومى أمسك بذيولهن يوم زفّت أمّك المباركة إلى «3» أبيك الطيب. فاستحيا أبان ورمى بطرفه الى الأرض. ذكر أخبار عبد الله «4» بن سريج هو أبو يحيى عبد الله بن سريج، مولى بنى نوفل بن عبد مناف. وقال ابن الكلبى: إنه مولى لبنى الحارث بن عبد المطلب. وقيل: إنه مولى لبنى ليث، ومنزله بمكة. وقال الحسن بن عتبة اللهبىّ: إنه مولى لبنى عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. وحكى أبو الفرج الأصبهانىّ أنه كان آدم أحمر ظاهر الدّم سناطا «5» ، فى عينيه قبل «6» ، وبلغ خمسا وثمانين سنة، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر.

ونقل أيضا عن ابن الكلبىّ أنه كان مخنّثا أحول أعمش، يلقّب وجه الباب. وكان لا يغنّى إلا متنقّبا، مسبل القناع على وجهه. قال: وكان أحسن الناس غناء، وكان يغنّى مرتجلا ويوقع بقضيب، وقيل: كان يضرب بالعود. وغنّى في زمن عثمان بن عفّان، ومات في خلافة هشام بن عبد الملك. وقيل: كان اسمه عبيد بن سريج من أهل مكة. وقال ابن جريج: كان عبيد بن سريج مولى آل خالد بن أسيد، وقيل: كان أبوه تركيا. وقيل: كان عوده على صنعة عيدان الفرس، وهو أوّل من ضرب به على الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم. فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائى، فضرب به فكان أحذق الناس. وأخذ الغناء عن سعيد بن مسجح، وقد تقدّم ذكر ذلك. وأوّل ما اشتهر بالغناء في ختان ابن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين. قال ابن سريج لأمّ الغلام: خفّضى عليك بعض المغرم والكلفة، فو الله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به. وكان معبد إذا أعجبه غناء نفسه قال: أنا اليوم سريجىّ. ومن أخباره أيضا أن عطاء بن أبى رباح لقيه بذى طوى وعليه ثياب مصبّغة وفي يده جرادة مشدودة الرّجل بخيط يطيرها ويجذبها كلما تخلّفت؛ فقال له عطاء: يا فتّان، ألا تكفّ عما أنت فيه! كفى الله الناس مئونتك. فقال له ابن سريج: وما على الناس من تلوبنى ثيابى ولعبى بجرادتى! فقال: تغنّيهم أغانيك الخبيثة. فقال له ابن سريج: بحقّ من تبعته من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليك إلّا سمعت منّى بيتا من الشعر، فإن سمعت منكرا أمرتنى بالإمساك عما أنا عليه، وأنا أقسم بالله وبحقّ هذه البنيّة إن أمرتنى

بعد استماعك منّى بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج وقال له: قل. فاندفع يغنّى بشعر جرير: إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا قال: فلما سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا وداخلته أريحيّة، فحلف ألّا يكلّم أحدا بقيّة يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلّى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعدها ولا تعرّض له. وحكى عنه أيضا أنّ عمر بن أبى ربيعة حجّ في عام من الأعوام ومعه ابن سريج، فلما رموا الجمرات تقدّما الحاجّ إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشأم والعراق، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان، فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدفّ فنقره وجعل يتغنّى وهم ينظرون إلى الحاجّ. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته وتغنّى بشعر لعمر بن أبى ربيعة، فسمعه الرّكبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت، أما تتّقى الله! قد حبست الناس عن مناسكهم، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردّد شيئا مما سمعته منك؟ قال: نعم ونعمة عين، فأيّها تريد؟ فاقترح صوتا فغنّاه. ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت؛ فاقترح صوتا آخر فغنّاه، فقال له: والثالث ولا أستزيدك، فغناه الثالث. وقال له ابن سريج: أبقيت «1» لك حاجة؟ قال نعم، تنزل لأخاطبك؛ فنزل إليه فإذا هو يزيد

ابن عبد الملك، فأعطاه حلّته وخاتمه وقال: خذهما ولا تخدع فيهما فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار؛ فعاد ابن سريج بهما فأعطاهما لعمر بن أبى ربيعة وقال: هما بك أشبه منهما بى، فأخذهما وعوّضه عنهما ثلاثمائة دينار؛ وغدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس وجعلوا يتعجّبون ويسألون عمر عنهما؛ فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز مرّ به فسمع ابن سريج وهو يغنّى، فقال: لله درّ هذا الصوت لو كان بالقرآن!. قال إبراهيم بن المهدىّ: كان ابن سريج رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون فلا يغنّيهم بما مدح به أعداؤهم ولا بما فيه عار عليهم أو غضاضة منهم. ومن أخباره ما حكاه أبو الفرج الأصبهانى بإسناده، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلىّ ابن سريج، فأشخصه إليه. فلما قدم مكث أياما لا يدعوه ولا يلتفت إليه، ثم ذكره فاستحضره، فدخل عليه وسلّم فأذن له بالجلوس واستدناه حتى كان قريبا منه؛ فقال: ويحك يا عبيد! لقد بلغنى عنك ما حملنى على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك. قال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين! «تسمع بالمعيدىّ لا أن تراه «1» » ، قال الوليد: إنى لأرجو ألا تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك؛ فاندفع يغنّى بشعر الأحوص: وإنّى إذا حلّت ببيش «2» مقيمة ... وحلّ بوجّ «3» جالسا أو تتهما

يمانية شطّت وأصبح نفعها ... رجاء وظنّا بالمغيب مرجّما أحبّ دنوّ الدّار منها وقد أبى ... بها صدع شعب الدار إلّا تثلّما بكاها وما يدرى سوى الظنّ ما بكى ... أحيّا يبكّى أم ترابا وأعظما فدعها وأخلف للخليفة مدحة ... تزل عنك بؤسى أو تفيدك مغنما «1» فإن بكفّيه مفاتيح رحمة ... وغيث حيا يحيا به الناس مرهما «2» إمام أتاه الملك عفوا ولم يثب ... على ملكه مالا حراما ولا دما تخيّره ربّ العباد لخلقه ... وليّا وكان الله بالناس أعلما ينال الغنى والعزّ من نال ودّه ... ويرهب موتا عاجلا من تشأما «3» فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه! فغنّاه بشعر عدى بن الرّقاع العاملىّ يمدح الوليد: طار الكرى وألمّ الهمّ فاكتنعا «4» ... وحيل بينى وبين النوم فامتنعا كان الشباب قناعا أستكنّ به ... وأستظلّ زمانا ثمّت انقشعا واستبدل الرأس شيبا بعد داجية ... فينانة ما ترى في صدغها نزعا «5» فإن تكن ميعة من باطل ذهبت ... وأعقب الله بعد الصّبوة الورعا فقد أبيت أراعى الخود رابية «6» ... على الوسائد مسرورا بها ولعا

برّاقة الثغر يشفى القلب لذّتها ... إذا مقبّلها في ريقها كرعا كالأقحوان بضاحى الروض صبّحه ... غيث أرشّ بتنضاح وما نقعا صلى الذى الصلوات الطيّبات له ... والمؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا على الذى سبق الأقوام ضاحية ... بالأجر والحمد حتى صاحباه معا هو «1» الذى جمع الرحمن أمّته ... على يديه وكانوا قبله شيعا عذنا بذى العرش أن نحيا ونفقده ... وأن نكون لراع بعده تبعا إن الوليد أمير المؤمنين له ... ملك أعان عليه الله فارتفعا لا يمنع الله «2» ما أعطى الذين هم ... له عباد ولا يعطون ما منعا فقال الوليد: صدقت يا عبيد، أنّى لك هذا؟ قال: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) *. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) * قال الوليد: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) . قال ابن سريج: (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) . قال الوليد: لعلمك والله أكثر وأعجب إلىّ من غنائك! غنّنى؛ فغنّاه بشعر عدىّ بن الرّقاع يمدح الوليد «3» فقال: عرف الدّيار توهما فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها «4»

[إلا رواسى كلهنّ قد اصطلى ... جمرا وأشعل أهلها إيقادها «1» كانت رواحل للقدور فعرّيت ... منهنّ واستلب الزمان رمادها وتنكّرت كلّ التنكّر بعدنا ... والأرض تعرف بعلها وجمادها «2» ] ولربّ واضحة العوارض حرّة «3» ... كالرّيم قد ضربت به أوتادها تصطاد بهجتها المعلّل بالصبا ... عرضا فتقصده ولن يصطادها «4» كالظّبية البكر الفريدة ترتعى ... من أرضها قفّاتها وعهادها «5» خضبت لها عقد البراق جبينها ... من عركها علجانها وعرادها «6» كالزّين في وجه العروس تبذّلت ... بعد الحياء فلاعبت أرآدها تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها ركبت به من عالج متحيّرا ... قفرا تريّث وحشه أولادها «7» فترى محانيه التى تسق الثرى ... والهبر يونق نبتها روّادها «8» بانت سعاد وأخلفت ميعادها ... وتباعدت عنا لتمنع زادها

إنى إذا ما لم تصلنى خلّتى ... وتباعدت عنّى اغتفرت بعادها «1» [إمّا ترى شيبى تقشّع لمّتى ... حتى علا وضح يلوح «2» سوادها فلقد ثنيت يد الفتاة وسادة ... لى جاعلا يسرى يدىّ وسادها وأصاحب الجيش العرمرم فارسا ... فى الخيل أشهد كرّها وطرادها وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها «3» نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها «4» فسترت عيب معيشتى بتكرّم ... وأتيت في سعة النعيم سدادها «5» وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن علم واحدة لكى أزدادها] صلّى الإله على امرىء ودّعته ... وأتمّ نعمته عليه وزادها وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... فسقى خناصرة الأحصّ فجادها «6» نزل الوليد بها فكان لأهلها ... غيثا أغاث أنيسها وبلادها أولا ترى أن البريّة كلّها ... ألقت خزائمها إليه فقادها ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها أعمرت أرض المسلمين فأقبلت ... وكففت عنها من يروم فسادها وأصبت في أرض العدوّ مصيبة ... عمّت أقاصى غورها ونجادها ظفرا ونصرا ما تناول مثله ... أحد من الخلفاء كان أرادها

فإذا نشرت له الثناء وجدته ... جمع المكارم طرفها وتلادها [غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها تأتيه أسلاب الأعزّة عنوة ... قسرا ويجمع للحروب عتادها وإذا رأى نار العدوّ تضرّمت ... سامى جماعة أهلها فاقتادها بعرمرم تبدو الرّوابى ذى وعى ... كالحرّة احتمل الضحى أطوادها «1» أطفأت نارا للحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها فبدت بصيرتها لمن يبغى الهدى ... وأصاب حرّ شديدها حسّادها وإذا غدا يوما بنفحة نائل ... عرضت له الغد مثلها فأعادها واذا عدت خيل تبادر غاية ... فالسابق الجالى يقود جيادها] فأشار الوليد إلى بعض الخدم فغطّوه بالخلع، ووضعوا بين يديه كيس الدنانير وبدر الدراهم، ثم قال الوليد: يا مولى بنى نوفل بن الحارث لقد أوتيت أمرا جليلا فقال ابن سريج: وأنت يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفا عاليا وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله، فأدام الله لك ما ولّاك وحفظك فيما استرعاك؛ فإنك أهل لما أعطاك، ولا ينزعه منك إذ رآك له موضعا. قال: يا نوفلىّ، وخطيب أيضا! قال ابن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلّمت، وبعزّك بيّنت، وكان قد أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصارىّ وعدىّ بن الرّقاع العاملىّ، فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج فأنزلا منزلا بجوار منزله. فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحبّ إلينا من قربك يا مولى بنى نوفل، وإن فى قربك لما يلذّنا ويشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلّة شكر!

فقال له عدىّ: كأنك يابن اللّخناء تمنّ علينا، [علىّ وعلىّ «1» ] إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار عند أمير المؤمنين، فقال الأحوص: أو لا تحتمل لأبى يحيى الزّلّة والهفوة، وكفّارة يمين خير من لجاج في غير منفعة. فتحوّل عدىّ وبقى الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج فأدخله بيتا وأرخى دونه سترا ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدىّ من كلمتيهما أن يغنّى، فلما دخلا وأنشداه مدائح لهما فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعود. فقال عدىّ: يا أمير المؤمنين، أتأذن لى أن أتكلّم؟ قال: قل يا عاملىّ، قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين ويبعث إلى ابن سريج يتخطّى رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشأم ترفعه أرض وتخفضه أخرى ليسمع غناءه! قال: ويحك يا عدىّ! أو لا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله، ولولا أنه فى مجلس أمير المؤمنين لقلت طائفة من الجنّ يتغنّون، فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عدىّ: حقّ لهذا أن يحمل! حقّ لهذا أن يحمل! ثلاثا، ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج وارتحل القوم. وروى أبو الفرج أيضا عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال: كان على مكة نافع بن علقمة الكنانىّ فشدّد في الغناء والمغنّين والنبيذ ونادى فى المخنّثين. فخرج فتية من قريش إلى بطن محسّر «2» وبعثوا برسول لهم، فجاءهم براوية من شراب الطائف، فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا، فقلت: هو علىّ لكم، فقال لى بعضهم: دونك هذه البغلة فاركبها وامض إليه، فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إيّاه؛ فقال لى: ويحك! وكيف لى بذلك

مع شدّة السلطان في الغناء وندائه فيه. فقلت له: أتردّهم؟ قال: لا والله! فكيف لى بالعود؛ فقلت: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود فأردفنى. فلما كنّا ببعض الطريق إذا بنافع بن علقمة قد أقبل؛ فقال لى: يابن بركة، هذا الأمير. فقلت له: لا بأس عليك! أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل. فلما حاذيناه عرفنى ولم يعرف ابن سريج، فقال لى: يابن بركة، من هذا أمامك؟ قلت: من ينبغى أن يكون! هذا ابن سريج؛ فتبسّم ثم تمثّل: فإن تنج منها يا أبان مسلّما ... فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب ثم مضى ومضينا. فلما كنّا قريبا من القوم نزل إلى شجرة يستريح. فقلت له: غنّنى مرتجلا؛ فرفع صوته فخيّل إلىّ أن الشجرة تنطق معه، فغنّى وقال: كيف الثّواء ببطن مكة بعد ما ... همّ الذين تحبّ بالإنجاد أم كيف قلبك إذ ثويت مخمّرا ... سقما خلافهم وكربك «1» بادى هل أنت إن ظعن الأحبّة غادى ... أم «2» قبل ذلك مدلج بسواد قال: فقلت: أحسنت والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ولو أن كنانة كلّها سمعتك لاستحسنتك «3» ، فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غرّه نافع. ثم قلت: زدنى وإن كان القوم متعلّقة قلوبهم بك؛ فغنّى وتناول عودا من الشجرة فوقّع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضّأن على العيدان إذا أخذتها عيدان الدّفلى «4» ، وغنّى: لا تجمعى هجرا علىّ وغربة ... فالهجر في تلف المحبّ سريع

من ذا فديتك يستطيع لحبه ... دفعا إذا اشتملت عليه ضلوع فقلت: بنفسى أنت والله، من لا يكلّ ولا يملّ! والله ما جهل من فهمك، اركب بنا فدتك نفسى. قال: أمهلنى كما أمهلتك أقض بعض شأنى. فقلت: وهل عما تريد مدفع!. فقام فصلّى ركعتين ثم ضرب بيده إلى الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ثم مضينا والقوم مستشرفون. فلما دنونا منهم إذا الغريض يغنّيهم: من خيل حىّ لا تزال مغيرة ... سمعت على شرف صهيل حصان فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت. فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى؟ جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءا «1» ! قال: أبكانى هذا المخنّث بحسن غنائه وشجا صوته، والله ما ينبغى لأحد أن يغنّى وهذا الصبىّ حىّ؛ ثم نزل واستراح وركب. فلما سرنا هنيهة اندفع الغريض يغنّى لهم بلحنه: يا خليلىّ قد مللت ثوائى ... بالمصلّى وقد سئمت البقيعا بلّغانى ديار هند وسعدى ... وارجعانى فقد هويت الرجوعا قال: ولصوته دوىّ في تلك الجبال. فقال ابن سريج: يابن بركة، أسمعت مثل هذا الغناء قط؟! قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يسحبون أعطافهم وجعلوا يقبلّون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثا، والغريض لا ينطق بحرف، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها، أعطها بعض شأنها «2» . فضرب بيده إلى جيبه «3» فأخرج منه مضرابا ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره- فما رأيت [يدا «4» ] أحسن من يده

ولا خشبة تخيّلت لى أنها جوهرة إلّا هى- ثم ضرب فلقد ضجّ «1» القوم جميعا؛ ثم غنّى فكلّ قال: لبّيك لبّيك! فكان ممّا غنّى به [واللحن له» ] هزج: لبّيك يا سيّدتى ... لبّيك ألفا عددا لبيك من ظالمة ... أحببتها مجتهدا قومى إلى ملعبنا ... نحك الجوارى الخرّدا وضع يد فوق يد ... نرفعها يدا يدا فكلّ قال: نفعل ذاك؛ فلقد رأيتنا نستبق أيّنا تقع يده على يده. ثم غنّى: ما هاج شوقك بالصّرائم ... ربع أحال لآل «3» عاصم ربع تقادم عهده ... هاج المحبّ على التقادم فيه النواعم والشبا ... ب النّاعمون مع النواعم من كل واضحة الجبين عميمة ريّا المعاصم ثم غنّى بقوله: شجانى مغانى الحىّ وانشقّت العصا ... وصاح غراب البين أنت مريض ففاضت دموعى عند ذاك صبابة ... وفيهنّ خود كالمهاة غضيض وولّيت محزون الفؤاد مروّعا ... كئيبا ودمعى في الرداء يفيض قال: فلقد رأيت جماعة من الطير وقعن بقربنا وما نحسّ من قبل ذلك منها شيئا. فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجالس، لقد سعد من أخذ بحظّه «4» منك وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك، غنّنا. فغنّى:

ذكر أخبار معبد

يا هند إنك لو علم ... ت بعاذلين تتابعا قال: فبدرت من بينهم فقبّلت عينيه، فتهافت القوم عليه يقبّلونه، ولقد رأيتنى وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه. وكانت وفاة ابن سريج بالعلّة التى أصابته من الجذام بمكة في خلافة سليمان ابن عبد الملك أو في خلافة الوليد، ودفن في موضع يقال له «دسم «1» » . رحمة الله عليه وعفا عنه وغفر له. والحمد لله ربّ العالمين. حكى أنه لما احتضر نظر إلى ابنته نبكى فبكى وقال: إنه من أكبر همّى أنت وأخشى أن تضيعى بعدى. فقالت: لا تخف فما غنّيت شيئا إلا وأنا أغنّيه. فقال: هاتى، فاندفعت فغنّت وهو مصغ إليها. فقال: قد أصبت ما في نفسى وهوّنت علىّ أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلى فزوّجه إيّاها؛ فأخذ أكثر غناء أبيها وانتحله. ذكر أخبار معبد هو معبد بن وهب، وقيل: ابن قطنىّ مولى ابن قطن؛ وقيل: إن قطنا مولى العاص بن واقصة «2» المخزومىّ، وقيل: مولى معاوية بن أبى سفيان. غنّى معبد فى أيام بنى أميّة في أوائلها، ومات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق. قال أبو الفرج الأصفهانى: إنه لمّا مات خرجت سلامة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وأخذت بعمود السرير والناس ينظرون إليها وهى تندبه وتقول شعر الأحوص:

قد لعمرى بتّ ليلى ... كأخى الداء الوجيع ونجىّ الهمّ منّى ... بات أدنى من نجيعى كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعى قد خلا من سيّد كا ... ن لنا غير مضيع لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع وكان معبد قد علّمها هذا الصوت فندبته به. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا «1» ؛ وهو إمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر ونشيط الفارسىّ مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز (بطن من بنى سليم) . وفي معبد يقول الشاعر: أجاد طويس والسّريجىّ بعده ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد وحكى أبو الفرج أيضا: أن الوليد بن يزيد اشتاق إلى معبد، فوجّه اليه البريد إلى المدينة فأحضره. فلما بلغ الوليد قدومه أمر ببركة ملئت ماء ورد وخلط بمسك وزعفران، ثم جلس الوليد على حافة البركة وفرش لمعبد مقابله وضرب بينهما ستر ليس معهما ثالث. وجىء بمعبد فقيل له: سلّم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلّم فردّ عليه من خلف السّجف، ثم قال له: أتدرى لم وجّهت إليك؟ قال: والله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. فقال له معبد: أأغنّى ما حضر أو ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: [بل «2» ] غنّ: مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء

فغنّاه. فرفع الجوارى السّجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها، ثم خرج منها، فاستقبله الجوارى بثياب غير الثياب التى كانت عليه، ثم شرب وسقى معبدا ثم قال له: غنّنى يا معبد: يا ربع مالك لا تجيب متيّما ... قد عاج نحوك زائرا ومسلّما جادتك كلّ سحابة هطّالة ... حتى ترى عن زهرة «1» متبسّما لو كنت تدرى من دعاك أجبته ... وبكيت من حرق عليه إذا دما قال: فغنّاه. وأقبل الجوارى فرفعن السّتر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك الثياب، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: غنّنى يا معبد: عجبت لمّا رأتنى ... أندب الربع المحيلا واقفا في الدار أبكى ... لا أرى إلّا الطلولا كيف تبكى لأناس ... لا يملّون الذّميلا «2» كلما قلت اطمأنت ... دارهم جدّوا «3» الرحيلا قال: فلما غنّاه ألقى نفسه في البركة ثم خرج فردّوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا وقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد حظوة عند الملوك فليكتم أسرارهم. فقال: ذلك ممّا لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائى به. فقال الوليد: يا غلام احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصّل «4» له في بلده وألفى دينار لنفقة طريقه؛ فحملت إليه كلّها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة. وقد قيل: إنه أعطاه في ذلك المجلس خمسة عشر ألف دينار.

وقال أبو الفرج بسند رفعه: إن معبدا كان قد علّم جارية من جوارى الحجاز الغناء تدعى «طيبة «1» » وعنى بتخريجها؛ فاشتراها رجل من أهل العراق وأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها وذهبت به كلّ مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان؛ فأخذ جواريه أكثر غنائها عنها. فكان لمحبّته إيّاها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر الأغانى من أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه وبلغ معبدا خبره. فخرج من مكة حتى أتى البصرة؛ فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك الوقت واليوم إلى الأهواز. فجاء معبد في طلب سفينة تحمله إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، فركب فيها وكلاهما لا يعرف الآخر؛ وانحدرت السفينة. فلما صاروا بفهم نهر الأبلّة «2» ، أمر الرجل جواريه بالغناء فغنّين، إلى أن غنّت إحداهنّ صوتا من غناء معبد فلم تجد أداءه؛ فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو! ألا تمسك «3» وتلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلّم حتى غنّت من غنائه فأخلّت ببعضه؛ فقال لها معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا كثيرا. فغضب الرجل وقال له: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك معبد. وغنّى الجوارى

مليّا؛ ثم غنّت إحداهنّ صوتا من غنائه فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقومين «1» على أداء صوت واحد! فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة! فأقسم بالله إن عاودت لأخرجنّك من السفينة. فأمسك معبد، حتى سكتت الجوارى سكتة، فاندفع يغنّى الصوت الأوّل حتى فرغ منه. فصاح الجوارى: أحسنت والله يا رجل، فأعده. قال: لا والله ولا كرامة. ثم اندفع يغنّى الثانى؛ فقلن لسيّدهن: ويحك! هذا والله أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلنا نأخذه منه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. قال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ وأنا خائف مثله منه، وقد استقبلناه بالإساءة، فاصبرن حتى نداريه. قال: ثم غنّى الثالث فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فقبّل رأسه، وقال: يا سيّدى أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: وهبك لم تعرف موضعى، قد كان ينبغى لك أن تتثبّت ولا تسرع إلى سوء العشرة وجفاء القول. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه، وكان معبد قد أجلس في مؤخّر السفينة. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ قال: أخذنه من جارية كانت لى، كانت قد أخذت الغناء عن أبى عبّاد معبد وكانت تحلّ منى مكان الروح من الجسد، ثم استأثر الله بها وبقى هؤلاء الجوارى وهنّ [من «2» ] تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد وأفضّله على المغنّين جميعا، وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: وإنك لأنت هو! أفتعرفنى؟ قال لا. قال: فصكّ معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا «3» والله معبد وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو الله لا قصّرت في جواريك

ذكر أخبار الغريض وما يتصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

هؤلاء ولأجعلنّ لك في كل واحدة خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجوارى على يده ورجليه يقبّلونها ويقولون: كتمتنا نفسك حتى جفوناك في المخاطبة وأسأنا عشرتك وأنت سيّدنا ومن تتمنّى أن تلقاه. ثم غيّر الرجل أثواب معبد وخلع عليه عدّة خلع وأعطاه في ذلك الوقت ثلاثمائة دينار وطيّبا وهدايا مثلها، وانحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده حتى رضى حذق جواريه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز. ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة هو عبد الملك، وكنيته أبو زيد «1» ، وقيل: أبو مروان. والغريض لقب لقّب به؛ لأنه [كان «2» ] طرىّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر، فلقّب بذلك. والغريض: الطّرىّ من كل شىء. وقال ابن الكلبى: شبّه بالإغريض وهو الجمّار ثم ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف فقيل: الغريض. وهو من مولّدى البربر. وولاؤه للثريّا (صاحبة عمر بن أبى ربيعة) وأخواتها الرّضيّا وقريبة وأم عثمان بنات علىّ بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر. قالوا: وكان يضرب بالعود وينقر بالدّفّ ويوقع بالقضيب. وكان قبل الغناء خيّاطا. وأخذ الغناء في أوّل أمره عن عبيد بن سريج، لأنه كان قد خدمه؛ فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه ويفوقه بحسن وجهه، وحسده، فاعتلّ عليه وشكاه الى مولياته، وكنّ دفعنه اليه ليعلّمه الغناء، وجعل يتجنّى عليه ثم طرده. فعرّف مولياته غرض ابن سريج فيه وأنه حسده؛ فقلن له: هل لك أن تسمع

نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال نعم. فأسمعنه المراثى فآحتذاها وخرّج غناءه عليها. وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. فلما كثر غناؤه عدل الناس إليه لما كان فيه من الشّجا «1» ؛ فكان ابن سريج لا يغنّى صوتا إلا عارضه فيه فيغنّى فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتدّ عليه وحسده، فغنّى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى قصّرت الغناء وحذفته. قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أبيك وأمّك. قال: ولم يفضّل ابن سريج عليه إلا بالسّبق، وأما غير ذلك فلا. وقال بعضهم: كان الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. وحكى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى أيّوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال: حدّثنى بعض مولياتى وقد ذكرن الغريض فترحّمن عليه وقلن: جاءنا يوما فحدّثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفناه بعد ذلك حقيقة. قالت: وكان ابن سريج بجوارنا فدفعناه إليه ولقّن الغناء، وكان من أحسن الناس صوتا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته. فلما رأى ذلك ابن سريج نحّاه «2» عنه. فكان بعض مولياته تعلّمه النّياحة فبرّز فيها. فجاءنى يوما فقال: نهتنى الجنّ أن أنوح وأسمعتنى صوتا عجيبا، فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه منى، فاندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر لمرّار الأسدىّ: حلفت لها بالله ما بين ذى الغضا ... وهضب القنان «3» من عوان ومن بكر

أحبّ إلينا منك دلّا وما نرى ... به عند ليلى من ثواب ولا أجر قالت: فكذّبناه وقلنا: شىء فكّر فيه وأخرجه على هذا الجنس. فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيع وتقطيع، فقد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه. فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سمرنا فيه ليلتنا والغريض يغنّينا بشعر عمر بن أبى ربيعة حيث يقول: أمن آل زينب جدّ البكور ... نعم فلأىّ هواها تصير إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا ذعرتنا وأفزعتنا. فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبح أبنى عليه غنائى؛ فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها، فصدّقناه تلك الليلة. وكانت وفاة الغريض باليمن في خلافة سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز، وكان قد هرب من نافع بن علقمة لمّا ولى مكة من مكة إلى اليمن واستوطنها ومات بها. وللغريض أخبار مستظرفة وحكايات مستحسنة قد رأينا أن نثبت في هذا الموضع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصبهانىّ في كتابه المترجم بالأغانى في أخبار الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومىّ، بعد أن ساق قطعة من أخباره مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأنه كان يهواها ويشبّب بها في شعره، ثم قال في أثناء ذلك: لمّا قدمت عائشة بنت طلحة مكة أرسل إليها الحارث وهو أمير مكة يومئذ، وكان وليها من قبل عبد الملك بن مروان، فأرسل إليها: إنى أريد السلام عليك؛ فإذا خفّ ذلك عليك أذنت، وكان الرسول الغريض.

فأرسلت إليه: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك. فلما أحلّت خرجت سرّا على بغلتها، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ومعه كتاب الحارث إليها، وفيه: ما ضرّكم لو قلتم سددا ... إنّ المطايا عاجل غدها ولها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها لو أتممت أسباب نعمتها ... تمّت بذلك عندنا يدها فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله!. ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم فاسمعى، ثم اندفع يغنّى في هذا الشعر. فقالت عائشة: والله ما قلنا «1» إلا سددا ولا أردنا إلا أن نشترى لسانه؛ واستحسنت الشعر، وأمرت للغريض بخمسة آلاف درهم وأثواب، [وقالت «2» ] : زدنى. فغنّى في قول الحارث أيضا حيث يقول: زعموا بأنّ البين بعد غد ... فالقلب ممّا أحدثوا يجف والعين منذ أجدّ بينهم ... مثل الجمان دموعها تكف نشكو وتشكو ما أشتّ بنا ... كلّ بوشك البين معترف ومقالها ودموعها سجم ... أقلل حنينك حين تنصرف فقالت عائشة: يا غريض، بحقّى عليك أهو أمرك أن تغنّينى في هذا الشعر؟ قال: لا وحياتك يا سيّدتى؛ فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت: غنّنى فى [غير «3» ] شعره؛ فغنّاها بشعر عمر بن أبى ربيعة- وكان عمر قد سأله ذلك- فقال: أجمعت خلّتى مع الهجر بينا ... جلّل الله ذلك الوجه زينا أجمعت بينها ولم نك منها ... لذّة العيش والشباب قضينا

فتولّت حمولها واستقلّت ... لم تنل طائلا ولم تقض دينا ولقد قلت يوم مكّة لمّا ... أرسلت تقرأ السلام علينا أنعم الله بالرسول الذى أر ... سل والمرسل الرسالة عينا قال: فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا وأنعم بابن أبى ربيعة عينا، لقد تلطّفت «1» حتى أدّيت إلينا رسالته، وإنّ وفاءك له لمما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك. وكان عمر سأل الغريض أن يغنّيها بشعره هذا لأنه كان قد ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها وكره إغفال ذكرها. فقال له عمر بن أبى ربيعة: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفّى له، وأمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم. ثم انصرف الغريض من عندها، فلقى عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان وقد كانت حجّت فى تلك السنة؛ فقال لها جواريها: هذا الغريض. فقالت لهنّ: علىّ به؛ فجئن به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت علىّ وسألتنى عن الخبر، فقصصته «2» عليها. فقالت: غنّنى بما غنّيتها به، ففعلت؛ فلم أرها تهشّ لذلك؛ فغنيتها معرّضا ومذكّرا بنفسى في شعر مرّة بن محكان السّعدىّ يخاطب امرأته وقد نزل به أضياف: أقول والضيف مخشىّ ذمامته «3» ... على الكريم وحقّ الضيف قد وجبا يا ربّة البيت قومى غير صاغرة ... ضمّى إليك رحال القوم والقربا فى ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا

فقالت وهى مبتسمة: نعم وقد وجب حقّك يا غريض، فغنّنى؛ فغنّيتها: يا دهر قد أكثرت فجعتنا «1» ... بسراتنا ووقرت «2» فى العظم وسلبتنا ما لست «3» مخلفه ... يا دهر ما أنصفت في الحكم لو كان لى قرن أناضله ... ما طاش عند حفيظة سهمى لو كان يعطى النّصف «4» قلت له ... أحرزت قسمك فاله عن قسمى فقالت: نعطيك النّصف فلا يضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك، وأمرت له بخمسة آلاف درهم وثياب عدنيّة وغير ذلك من الألطاف. قال الغريض: فأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر وقصصت عليه القصة؛ فأمر لى بمثل ما أمرتا لى جميعا؛ وأتيت ابن أبى ربيعة فأعلمته بما جرى، فأمر لى بمثل ذلك. فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به: نظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة- وهما أجمل نساء عالمهما- وبما أمرتا لى به، والمنزلة عند الحارث- وهو أمير مكة- وابن أبى ربيعة وما أجازانى به جميعا من المال. ولنصل هذا الفصل بشىء من أخبار عائشة بنت طلحة؛ لأن الشىء بالشىء يذكر. هى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمّها أمّ كلثوم بنت أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وكانت عائشة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمنى بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلى عليهم فما كنت لأستره، وو الله ما في وصمة يقدر أن يذكرنى بها أحد.

قال أبو الفرج الأصبهانىّ: وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بنى تيم، هنّ أشرس خلق الله خلقا وأحظاهنّ عند أزواجهنّ. قال: وآلت عائشة من زوجها مصعب بن الزبير، فقالت: أنت علىّ كظهر أمّى، وقعدت في غرفة وهيّأت ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلّمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرّقيّات فسألها كلامه. فقالت: كيف بيمينى؟ فقال: هاهنا الشّعبىّ فقيه أهل العراق فاستفتيه. فدخل الشّعبىّ عليها فأخبرته؛ فقال: ليس هذا بشىء؛ فأمرت له بأربعة آلاف درهم. وحكى أبو الفرج أنّ مصعب بن الزبير لمّا عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق وسعيد بن العاص إلى عزّة الميلاء- وكانت عزّة هذه يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء- فقالوا لها: إنّا خطبنا فانظرى لنا. فقالت لمصعب: يابن أبى عبد الله، ومن خطبت؟ قال: عائشة بنت طلحة. قالت: فأنت يابن أبى أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان بن عفّان. قالت: فأنت يابن الصّدّيق؟ قال: أمّ الهيثم بنت زكريا بن طلحة. فقالت: يا جارية، هاتى منقلىّ (تعنى خفّيها) ، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك، كنّا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك، فديتك، فألقى ثيابك؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتجّ كلّ شىء منها. فقالت لها عزّة: خذى ثوبك. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتى. فقالت عزّة: وما هى؟ فديتك! قالت: تغنّينى صوتا. فاندفعت تغنّى لحنها في شعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذرىّ: خليلىّ عوجا بالمحلّة من جمل ... وأترابها بين الأصيفر فالحيل نقف بمغان قد عفا رسمها اليلى ... تعاقبها الأيام بالرّيح والوبل

فلو درج النّمل الصغار بجلدها ... لأندب أعلى جلدها مدرج النّمل وأحسن خلق الله جيدا ومقلة ... تشبّه [فى النسوان بالشادن الطّفل «1» ] فقبّلت عائشة ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وطرائف من أنواع الفضّة، فدفعته إلى مولاتها. وأتت النّسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهنّ. ثم أتت القوم فى السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يابن أبى عبد الله، أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، محطوطة «2» المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن، ضخمة السّرّة، مسرولة الساق، يرتجّ ما بين أعلاها إلى قدميها؛ وفيها عيبان، أمّا أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخفّ: عظم الأذن والقدم. وكانت عائشة بنت طلحة كذلك. ثم قالت عزّة: وأمّا أنت يابن أبى أحيحة فإنى والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط! ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردّة، وإن استشرتنى أشرت عليك. قال: هات. قالت: عليك بوجه تستأنس به. وأمّا أنت يابن الصدّيق: فو الله ما رأيت مثل أمّ الهيثم، كأنها خوط بانة تنثنى، أو كأنها جانّ يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد طرفيها لفعلت، ولكنها شختة الصدر «3» وأنت عريض الصدر، فاذا كان كذلك كان قبيحا، لا والله حتى يملأ كلّ شىء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوّجوهنّ. وحكى أبو الفرج أيضا: أنّ مصعب بن الزبير إنما تزوّجها بعد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر. وقال: وكانت عائشة بنت طلحة تشبّه بخالتها عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، فزوّجتها عائشة من ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وهو

أوّل من تزوّجها. ولم تلد عائشة بنت طلحة من أحد من أزواجها غيره، ولدت له عمران وبه كانت تكنى «1» ، وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، ولكلّ من هؤلاء عقب. وأنا من عقب طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر من ولده ليث ابن طلحة. وليس هذا موضع سرد نسبى فأسرده. قال أبو الفرج: وصارمت عائشة بنت طلحة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن وخرجت من داره مغضبة تريد عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. فرآها أبو هريرة فسبّح الله تعالى وقال: كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة قريبا من أربعة أشهر. وكان عبد الله قد آلى منها؛ فأرسلت عائشة إليه: إنى أخاف عليك الإيلاء؛ فضمّها إليه وكان موليا منها «2» . فقيل له: طلّقها؛ فقال: يقولون طلّقها لأصبح ثاويا ... مقيما علىّ الهمّ، أحلام نائم وإنّ فراقى أهل بيت أحبّهم ... لهم زلفة عندى لإحدى العظائم وتوفّى عبد الله بعد ذلك وهى عنده، فما فتحت فاها عليه؛ وكانت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها تعدّ هذا عليها في ذنوبها التى تعدّدها. ثم تزوّجها بعده مصعب بن الزبير، فمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. وكانت عائشة تمتنع على مصعب في غالب الأوقات. فحكى أنه دخل عليها يوما وهى نائمة ومعه ثمانى لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت: نومتى كانت أحبّ الىّ من هذا اللؤلؤ. ولم تزل حالها معه على مثل ذلك حتى شكا ذلك الى كاتبه ابن أبى فروة. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لى. قال: نعم! افعل ما شئت. فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت: أفى

مثل هذه الساعة؟ قال نعم؛ فأذنت له فدخل. فقال للأسودين: احفرا هاهنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرنى هذا الظالم أن أدفنها حيّة، وهو أسفك خلق الله لدم حرام. قالت عائشة: فأنظرنى أذهب اليه؛ قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجدّ منه بكت وقالت: يابن أبى فروة، إنك لقاتلى ما منه بدّ؟ قال: نعم، وإنى لأعلم أن الله عزّوجلّ سيخزيه بعدك، ولكنّه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أى شىء غضبه؟ قال: من امتناعك عليه وقد ظنّ أنك تبغضينه وتتطلّعين إلى غيره، فقد جنّ. فقالت: أنشدك الله إلّا عاودته. قال: أخاف أن يقتلنى؛ فبكت وبكى جواريها. فقال لها: قد رققت لك وحلف لها إنه يغرّر بنفسه، وقال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن له عنّى أنى لا أعود أبدا. قال: فمالى عندك؟ قالت: قيام بحقّك ما عشت. قال: فأعطينى المواثيق فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما. وأتى مصعبا فأخبره. فقال: استوثق منها بالأيمان؛ فاستوثق منها ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب. قال: وكان مصعب من أشدّ الناس إعجابا بها. ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا وديانة «1» وجمالا وهيئة وشارة وعفّة. وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطّيب والمجامر، وخلعت على كلّ امرأة منهن خلعة من الوشى والحزّ ونحو ذلك، ودعت عزّة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفته؛ ثم قالت لعزّة: هات يا عزّة فغنّينا. فغنّتهن في شعر امرىء القيس فقالت: وثغر أغرّ شنيب اللّثات ... لذيذ المقبّل والمبتسم

وما ذقته غير ظنّ به ... وبالظنّ يقضى عليك الحكم وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهنّ والستور مسبلة، فصاح بها: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة: أمّا أنت فلا سبيل لنا اليك مع من عندك، وأمّا عزّة فتأذنين لها أن تغنّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزّة اليهم فغنّتهم هذا الصوت مرارا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزّة، إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها. قال: ولم تزل عند مصعب حتى قتل عنها. فخطبها بشر بن مروان، وقدم عمر ابن عبيد الله بن معمر التّيمى من الشأم فنزل الكوفة، فبلغه أن بشرا خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولى لابنة عمّى: ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك: أنا خير لك من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك أحقّ بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا. فتزوّجته فبنى عليها بالحيرة، فمهّدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع؛ فأصبح ليلة بنى بها عن تسعة. فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص، فديتك! قد كملت في كلّ شىء حتى في هذا. وقيل إنه لمّا تزوّجها حمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهر، وخمسمائة ألف هديّة، وقال لمولاتها: لك علىّ ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقى في الدار وغطّى بالثياب؛ وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا؟ أفرش أم ثياب؟ قالت: انظرى إليه؛ فنظرت فاذا هو مال، فتبسّمت. فقالت الجارية: أجزاء من حمل هذا المال أن يبيت عزبا! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزيّن له وأستعدّ. قالت: وماذا؟ فو الله لوجهك أحسن من كلّ زينة وما تمدّين يديك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فراش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذنى له.

فقالت: افعلى. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدنى إليه طعام فأكل الطعام كلّه حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضّأ فأخبر به، فقام فتوضّأ وقام يصلّى حتى ضاق صدرى ونمت، ثم قال: أعليكم آذن؟ قلت: نعم فادخل، فأدخلته وأسبلت السّتر عليهما. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا؟ قلت: نعم والله ما رأيت مثلك! فضحك وضرب بيده على منكب عائشة وقال لها: كيف رأيت ابن عمّك؟ فضحكت وغطّت وجهها وقالت: قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر ومكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله ثمانى سنين حتى مات سنة اثنتين وثمانين. ولما مات ندبته قائمة، ولم تندب أحدا قبله من أزواجها إلا جالسة. فقيل لها في ذلك فقالت: إنه كان أكرمهم علىّ وأمسّهم بى رحما، فأردت ألّا أتزوّج بعده. وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة لا تتزوّج بعده أبدا. ولم تتزوّج عائشة بنت طلحة بعد زوجها عمر بن عبيد الله. ومن أخبار عائشة بنت طلحة أيضا ما رواه أبو الفرج الأصبهانىّ بسنده إلى يزيد ابن عياض، قال: استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحجّ، فأذن لها وقال: ارفعى حوائجك واستظهرى، فإن عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت وتجهزت بهيئة جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها «1» وفرّق جماعتها؛ فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها، فقالوا: هذه جاريتها «2» . ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم فسألت عنها،

فقالوا: هذه ما شطتها. ثم جاءت مواكب على هذا لحاشيتها، ثم أقبلت في ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج؛ فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى. قال: ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام بن عبد الملك، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء مطرها ومنع السلطان الحقّ. قال: فأنا أصل رحمك وأعرف حقّك. ثم بعث إلى مشايخ بنى أميّة فقال: إن عائشة عندى فاسمروا عندى الليلة فحضروا؛ فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وآثارها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا أسمته. فقال لها هشام: أمّا الأوّل فلا أنكره، وأمّا النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذته «1» عن خالتى عائشة رضى الله عنها؛ فأمر لها بمائة ألف درهم وردّها إلى المدينة. قال: ولما تأيّمت عائشة كانت تقيم «2» بمكة سنة وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها هناك فتتنزه وتجلس فيه بالعشيّات، فتتناضل بين [يديها «3» ] الرّماة. فمرّ بها النّميرىّ الشاعر، فسألت عنه فانتسب لها؛ فقالت: ائتونى به، فجىء به. فقالت له: أنشدنى مما قلت في زينب؛ فامتنع وقال: بنت عمّى وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك لمّا فعلت؛ فأنشدها قوله: نزلن بفخّ «4» ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرحمن معتمرات يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى ... ويخرجن جنح اللّيل معتجرات «5» ولما رأت ركب النّميرىّ راعها ... وكنّ من ان يلقينه حذرات تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات

ذكر أخبار محمد بن عائشة

- وزينب هذه هى زينب بنت يوسف الثّقفىّ أخت الحجّاج، وكان النميرىّ يهواها ويشبّب بها، وله معها أخبار يطول شرحها ليس هذا موضع إيرادها- قال: فقالت له عائشة لما أنشدها هذا الشعر: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيّبا ودينا وتقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: علىّ به؛ فجاء فقالت له: أنشدنى من شعرك في زينب؛ قال: فأنشدك من قول الحارث فيك. فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمّه، هات؛ فأنشدها: ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بلبّك مطلع الشرق وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق ما صبّحت زوجا بطلعتها ... إلا غدا بكواكب الطّلق بيضاء من تيم كلفت بها ... هذا الجنون وليس بالعشق فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أنى إذا صبّحت زوجا بوجهى غدا بكواكب الطّلق، وأنى غدوت مع أمير تزوّجنى الى الشرق، أعطوه ألف درهم واكسوه حلّتين ولا تعد لإنياننا يا نميرىّ؛ والله أعلم [ولنرجع إلى أخبار المغنّين «1» ] . ذكر أخبار محمد بن عائشة يكنى أبا جعفر ولم يكن له أب يعرف فنسب الى أمه؛ وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر. وعائشة أمه مولاة لكثير بن الصّلت الكندىّ حليف قريش، وقيل: هى مولاة لآل المطلب بن [أبى «2» ] وداعة السّهمى. وقال ابن عائشة- وقد سأله

الوليد بن يزيد فقال: يا محمد ألبغية أنت «1» ؟ -: كانت أمى يا أمير المؤمنين ماشطة وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالت «2» : ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبى. قالوا: وكان ابن عائشة يفتن كلّ من سمعه، وكان فتيان [من «3» ] المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته. وأخذ عن معبد ومالك بن أبى السّمح، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما. وكان تيّاها سيىء الخلق، إن قال له إنسان: تغنّ قال: ألمثلى يقال هذا! فإن غنّى وقال له إنسان: أحسنت، سكت؛ فكان قليلا ما ينتفع به. وكان ابن عائشة منقطعا إلى الحسن بن الحسن، وكان الحسن مكرما له. فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة «4» ، فامتنع ابن عائشة؛ فأقسم عليه وأظهر الجدّ. فلما عاين ما ظهر عليه قال: أخرج طائعا لا كارها؛ فأمر له ببغلة فركبها ومضيا الى البغيبغة، فنزلا الشّعب ثم أكلوا. وقال له: غنّنى، فاندفع فغنّاه صوتا فاستحسنه. فقال ابن عائشة: والله لا غنّيتك في يومى هذا شيئا. فأقسم الحسن ألّا يفارق البغيبغة ثلاثة أيام. فاغتمّ ابن عائشة ليمينه وندم. فلما كان في اليوم الثانى قال له: غنّ فقد برّت يمينك؛ فنظر إلى ناقة تقدم جماعة إبل فاندفع يغنّى: تمرّ كجندلة المنجنيق ... يرمى بها السّور يوم القتال وهى أبيات لأميّة بن أبى عائذ الهذلىّ يصف حمارا وحشيّا؛ والبيت «يمر» بالياء. وقيل: سال العقيق مرّة فدخل عرصة سعيد بن العاص [الماء «5» ] حتى ملأها،

فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فجلس على قرن البئر. فبينا هم كذلك إذ طلع الحسن على بغلة ومعه غلامان أسودان، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذى عليه ابن عائشة، ففعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يابن عائشة قال: بخير. قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان. قال: أتعرفهما؟ قال نعم. قال: فهما حرّان لئن لم تغنّنى مائة صوت لآمرنّهما بطرحك في البئر، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأقطعنّ أيديهما «1» . فاندفع ابن عائشة وغنّى بشعر الهذلىّ: ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا رهبوا وقالوا من فتى للحر ... ب يرقبنا ويرتقب «2» فكنت فتاهم فيها ... إذا تدعى لها تثب ذكرت أخى فعاودنى ... صداع الرأس والوصب كما يعتاد ذات البوّ ... بعد سلوّها الطّرب على عبد بن زهرة بتّ ... طول الليل أنتحب وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفيه إلى حمّاد الراوية: أن الوليد بن يزيد استقدمه من العراق إلى الشأم على دوابّ البريد. وكان ممّا حكاه عنه قال: قدمت عليه فأذن لى، فدخلت فإذا هو على سرير ممهّد وعليه ثوبان أصفران وعنده معبد ومالك بن أبى السّمح وأبو كامل مولاه، فاستنشدنى: أمن المنون وريبها «3» تتوجّع

فأنشدته حتى أتيت على آخرها. ثم قال: يا مالك، غنّنى: ألا هل هاجك الأظعا ... ن إذ جاوزن مطّلحا فغنّاه. ثم قال: غنّنى: جلا أميّة عنّى كلّ مظلمة ... سهل الحجاب وأوفى بالذى وعدا فغنّاه. ثم قال: غنّنى: أتنسى «1» إذ تودّعنا سليمى ... بفرع بشامة، سقى البشام! فغنّاه؛ ثم أتاه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، الرجل الذى طلبت بالباب، فأذن له فدخل شابّ لم أر أحسن وجها منه. فقال له: غنّنى: وهى إذ ذاك عليها مئرر ... ولها بيت جوار من لعب فغنّاه، فنبذ إليه الثوبين، ثم قال: غنّنى: طاف الخيال فمرحبا ... ألفا برؤية زينبا فغضب معبد وقال: يا أمير المؤمنين، إنّا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تركتنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبىّ. فقال: يا أبا عبّاد، ما جهلت قدرك ولا سنّك، ولكن هذا الغلام طرحنى في مثل الطّناجير من حرارة غنائه. قال حماد: فسألت عن الغلام فقيل لى: هو ابن عائشة. وحكى عن شيخ من تنوخ قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده وقد غنّاه: إنى رأيت صبيحة النّفر ... حورا نفين عزيمة الصبر مثل الكواكب في مطالعها ... بعد العشاء أطفن بالبدر

وخرجت أبغى الأجر محتسبا ... فرجعت موفورا من الوزر فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، اسقنا بالسماء السابعة «1» ، ثم قال: أحسنت والله يا أميرى، أعد بحقّ عبد الشمس فأعاد، ثم قال: أحسنت يا أميرى والله، أعد بحق أميّة فأعاد، ثم قال: أعد بحق فلان حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتى فأعاده؛ فقام فأكبّ عليه، فلم يبق عضو من أعضائه إلّا قبّله؛ ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقى مجرّدا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة وقال: اركبها بأبى أنت وانصرف، فقد تركتنى على مثل المقلى من حرارة غنائك. فركبها على بساطه وانصرف. وحكى أيضا أن ابن عائشة انصرف من عند الوليد وقد غنّاه: أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد اعيتنى «2» المعاقل والحصون فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصّار «3» كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادى القرى، وكان يشتهى الغناء ويشرب النبيذ، فقال لغلامه: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغنّى، فدنا منه فقال: جعلت فداءك! أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا أنا مولى لقريش وعائشة أمى، وحسبك هذا. قال: وما هذا الذى أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه فكفر وترك الصلاة وأمر لى بهذا المال وهذه الكسوة. قال: جعلت فداءك! فهل تمنّ علىّ أن تسمعنى ما أسمعته إيّاه؟ فقال: ويلك!

أمثلى يكلّم بهذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقنى بالباب. وحرّك ابن عائشة بغلته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسى رهان. ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا ان يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه. فقال لغلامه: أدخله، فلما دخل، قال له: ويلك! من أين صبّك الله علىّ! قال: أنا رجل من أهل وادى القرى أشتهى هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذاك؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها الى أهلك. فقال له: جعلت فداءك! والله إن لى بنيّة ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإن لى زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتنى جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الحالة والفقر اللّذين عرّفتكهما وأضعفت لى هذا لكان الصوت أعجب إلىّ. فتعجّب ابن عائشة وغنّاه الصوت، فجعل يحرّك رأسه ويطرب له طربا شديدا حتى ظنّ أن عنقه ستنقصف؛ ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث؛ فلم يزل به حتى صدقه الحديث، فطلب الرجل، فطلب حتى أحضر إليه ووصله صلة سنيّة وجعله من ندمائه ووكلّه بالسّقى؛ فلم يزل معه حتى قتل رحمه الله. وعن علىّ بن الجهم الشاعر قال: حدّثنى رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم مهجّرا «1» فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إنى أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس هاهنا فلم يذهب أحد ولم يجئ. فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا؛ ثم اندفع يغنّى: جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء بنفسى من تذكّره سقام ... أعانيه ومطلبه عناء

قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها، فكادت الفتنة أن تقع. فأتى به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدوّ الله! أردت أن تفتن الناس! قال: فأمسك عنه وكان تيّاها؛ فقال له هشام: ارفق بتيهك. فقال: يحقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها! فضحك هشام وخلّى سبيله. واختلف في وفاة ابن عائشة وسببها. فقيل: كانت وفاته في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل: فى أيام الوليد بن يزيد وهو أشبه، لأنه قد تقدّم أنه نادم الوليد وغنّاه. والذى يقول: إنه توفّى في أيام هشام يزعم أنه نادم الوليد في أيام ولايته العهد. وكانت وفاته بذى خشب، وهو على أميال من المدينة. قيل: كان سبب وفاته أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشأم؛ فلما نزل قصر ذى خشب جلس على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: أعده فأبى، وكان لا يردّد صوتا لسوء خلقه. فأمر به فطرح من أعلى السطح فمات. وقيل: بل قام من الليل يبول وهو سكران فسقط من السطح فمات. وقيل: بل كان قد رجع من عند الوليد بن يزيد، فلما قرب من المدينة نزل بذى خشب، وكان والى المدينة إبراهيم بن هشام المخزومىّ وكان في قصره هناك، فدعاه فأقام عنده ذلك اليوم. فلما أخذوا في الشّرب أخرج المخزومىّ جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهنّ؛ فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به من القصر، وكانوا يشربون في سطح القصر، فلما قام رماه الخادم فمات. وقيل: بل أقبل من الشأم فنزل بقصر ذى خشب فشرب فيه ثم صعد إلى أعلى القصر فنظر إلى نسوة يمشين في ناحية الوادى، فقال لأصحابه: هل لكم فيهنّ؟ فقالوا: وكيف لنا بهنّ! فلبس ملاءة مدلوكة ثم قام على شرفة من شرفات القصر وتغنّى بشعر ابن أذينة: وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا

ذكر أخبار ابن محرز

تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا فأقبلن عليه، فطرب واستدار فسقط فمات، عفا الله تعالى عنه ورحمه. وقيل: بل مات بالمدينة. وأوّل هذه الأبيات: سليمى أزمعت بينا ... وأين لقاؤها أينا وقد قالت لأتراب ... لها زهر تلاقينا تعالين فقد طاب ... لنا العيش تعالينا فأقبلن إليها مس ... رعات يتهادينا إلى مثل مهاة الرم ... ل تكسو المجلس الزّينا إلى خود منعّمة ... حففن بها وفدّينا تمنّين «1» مناهنّ فكنّا ما تمنّينا ذكر أخبار ابن محرز هو مسلم، وقيل: عبد الله بن محرز. ويكنى أبا الخطاب. مولى عبد الدار بن قصىّ. وكان أبوه من سدنة الكعبة، وأصله من الفرس. وكان يسكن المدينة مرّة ومكة مرّة. فكان إذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلّم الضرب من عزّة الميلاء ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلّم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشأم فتعلّم ألحان الروم «2» وأخذ غناءهم. وأسقط من ذلك مالا يستحسن من غناء الفريقين ونغمهم وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض وألّف منها الأغانى التى صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صنّاج العرب.

ذكر أخبار مالك بن أبى السمح

وقيل: إنه أوّل من أخذ الغناء عن ابن مسجح. وهو أوّل من غنّى بالرّمل وما غنّى قبله. وكان ابن محرز قليل الملابسة للناس، فأخمل ذلك ذكره. وأخذ أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه فأخذه الناس عنها. ومات بعلّة الجذام، وكان ذلك سبب امتناعه من معاشرة الخلفاء ومخالطة الناس. وحكى أنه رحل إلى العراق، فلما بلغ القادسيّة لقيه حنين فقال له: كم منّتك نفسك من العراق؟ قال: ألف دينار؛ قال: هذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف واحلف ألّا تعود، ففعل. فلما شاع ما فعل حنين لامه أصحابه: فقال: والله لو دخل العراق ما كان لى معه خبزا آكله ولاطّرحت ثم سقطت إلى آخر الدهر. ولم أقف من أخبار ابن محرز على أكثر من هذا فأورده. والسلام. ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح هو أبو الوليد مالك بن أبى السّمح. واسم أبى السمح جابر بن ثعلبة الطائى. وأمّه قرشيّة من بنى مخزوم؛ وقيل: بل أمّ أبيه [منهم» ] ؛ وقيل فيه: مالك بن أبى السمح بن سليمان. وكان أبوه منقطعا إلى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ويتيما في حجره أوصى به أبوه إليه. وكان مالك أحول طويلا. وأخذ الغناء عن جميلة ومعبد وعمر، وأدرك الدولة العباسيّة. وكان منقطعا إلى بنى سليمان بن علىّ، ومات في خلافة أبى جعفر المنصور. وروى الأصفهانىّ بسنده إلى الوردانىّ، قال: كان مالك بن أبى السمح المغنّى من طيىء، فأصابتهم حطمة «2» فى بلادهم بالجبلين،

فقدمت به أمّه وبإخوة له وأخوات أيتام لا شىء لهم. وكان يسأل الناس على باب حمزة بن الزبير. وكان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم. فسمع مالك غناءه فأعجبه واشتهاه. وكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل ولا يطوف بالمدينة ولا يطلب من أحد شيئا ولا يريم موضعه «1» ، فينصرف إلى امه ولم يكسب شيئا فتضربه، وهو مع ذلك يترنّم بألحان معبد فيؤدّيها نغما بغير لفظ. وجعل حمزة كلما غدا أو راح رآه ملازما لبابه؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام إلىّ فأدخله الغلام اليه؛ فقال له حمزة: من أنت؟ قال: غلام من طيئ أصابتنا حطمة بالجبلين فهبطنا إليكم ومعى أمّ لى وإخوة، وإنى لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبنى ولزمت بابك من أجله. قال: فهل تعرف منه شيئا؟ قال: أعرف لحنه كلّه ولا أعرف الشعر. فقال: إن كنت صادقا إنك لفهم. ودعا بمعبد فأمره أن يغنّى صوتا فغنّاه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال نعم. قال: هاته؛ فاندفع فغنّاه فأدّى نغمه بغير شعر «2» ، يؤدّى مدّاته وليّاته وعطفاته ونبراته ومتعلقاته لا يخرم منه حرفا. فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك وخرّجه فليكوننّ له شأن. قال معبد: ولم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك وإلّا عداك إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه. فقال معبد: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرتنى به. قال حمزة لمالك: كيف [وجدت «3» ] ملازمتك لبابنا؟ قال: أرأيت إن قلت فيك غير الذى أنت له مستحقّ من الباطل أكنت ترضى بذلك؟ قال لا. قال: وكذلك لا يسرّك أن تحمد بما لم تفعل؛ قال نعم. قال: فو الله ما شبعت على بابك شبعة قط، ولا انقلبت إلى أهلى منه بخير. فأمر له ولأمّه ولإخوته بمنزل

وأجرى عليهم رزقا وكسوة وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجالسه، وأمر معبدا أن يطارحه فلم ينشب أن مهر. فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذى قتله هدبة بن خشرم- والشعر لأخى زيادة-: أبعد الذى بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذى تراب وجندل أذكّر بالبقيا على من أصابنى ... وذلك أنّى جاهد غير مؤتلى «1» فلا يدعنى قومى لزيد بن مالك ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل وإلّا أنل ثأرى من اليوم أو غد ... بنى عمّنا فالدّهر ذو متطوّل أنختم علينا كلكل الحرب «2» مرّة ... فنحن منيخوها «3» عليكم بكلكل فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورقّقه وأصلحه، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه. ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إنى قد صنعت غناء في شعر سمعت أهل المدينة ينشدونه وقد أعجبنى، فإن أذن الأمير غنّيته. قال: هات؛ فغنّى اللحن الذى نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد بطريقته. قال: لا تعجل أيها الأمير واسمع منّى شيئا ليس من غناء معهد ولا طريقته؛ فغنّاه اللحن الذى تشبّه فيه بنوح المرأة. فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلّة كانت عليه قيمتها مائتا دينار. ودخل معبد فرأى حلّة حمزة على مالك فأنكرها. وعلم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، وأمر مالكا فغنّاه الصوتين. فغضب معبد لمّا سمع الصوت الأوّل وقال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلّم غنائى فيدّعيه

لنفسه. فقال حمزة: لا تعجل واسمع غناء [صنعه «1» ] ليس من شأنك ولا غنائك، وأمره أن يغنّى الصوت الآخر فغنّاه، فأطرق معبد. فقال له حمزة: والله لو انفرد بهذا لضاهاك ثم تزايد على الأيام، وكلما كبر وزاد شخت أنت وانتقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل. فقال له معبد وهو منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه. فقام مالك على رجليه وقبّل رأس معبد وقال له: يا أبا عبّاد، أساءك ما سمعت منى؟ والله لا أغنّى لنفسى شيئا أبدا ما دمت حيّا! وإن غلبتنى نفسى فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا وارض عنّى. فقال له معبد: أتفعل هذا وتفى به؟ قال: إى والله وأزيد. فكان مالك إذا غنّى صوتا وسئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسى شيئا قط، وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه. وحضر مالك بن أبى السّمح عند يزيد بن عبد الملك مع معبد وابن عائشة فغنّوه، فأمر لكلّ واحد منهم بألف دينار. وحكى عن ابن الكلبىّ قال: قال الوليد بن يزيد لمعبد: قد آذتنى ولولتك هذه، وقال لابن عائشة: قد آذانى استهلالك هذا، فاطلبا لى رجلا يكون مذهبه متوسّطا بين مذهبيكما. فقالا له: مالك بن أبى السمح؛ فكتب فى إشخاصه إليه وسائر من بالحجاز من المغنّين. فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغنّاه فلم يعجبه. فلما انصرف قال له الغمر: إنّ أمير المؤمنين لم يعجبه شىء من غنائك، فقال له: جعلنى الله فداك! اطلب لى الإذن عليه مرّة أخرى، فإن أعجبه شىء ممّا أغنّيه وإلا انصرفت إلى بلادى. فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر له؛ فأذن له فشرب مالك

ذكر أخبار يونس الكاتب

ثلاث صراحيّات «1» صرفا، ودخل على الوليد وهو يخطر في مشيته، فلما بلغ باب المجلس وقف ولم يسلّم وأخذ بحلقة الباب ثم رفع صوته فغنّى: لا عيش إلا بمالك بن أبى السّمح ... فلا تلحنى ولا تلم أبيض كالبدر أو كما يلمع ال ... بارق في حالك من الظّلم فليس يعصيك إن رشدت ولا ... يهتك حقّ الإسلام والحرم يصيب من لذّة الكرام ولا ... يجهل آى الترخيص في اللّمم يا ربّ ليل لنا كحاشية ال ... برد ويوم كذاك لم يدم نعمت فيه ومالك بن أبى السّمح ... الكريم الأخلاق والشّيم فطرب الوليد ورفع يديه حتى بان إبطاه وقام فاعتنقه، ثم أخذ في صوته ذلك فلم يزالوا فيه أياما، وأجزل له العطيّة حين أراد الانصراف. قال: ولما أتى مالك على قوله: «أبيض كالبدر» قال الوليد: أحول كالقرد أو كما يرقب السّارق ... فى حالك من الظّلم قالوا: وكان مالك بن أبى السمح مع الوليد بن يزيد يوم قتل هو وابن عائشة. قال ابن عائشة: وكان مالك من أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا؛ قلت: وما يريدون منّا؟ قال: وما يؤمنّك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسّنوا أمرهم بذلك!. ذكر أخبار يونس الكاتب هو يونس بن سليمان بن كرد بن شهريار من ولد هرمز، مولى «2» لعمرو بن الزبير، ومنشؤه ومنزله بالمدينة، وكان أبوه فقيها فأسلمه في الديوان وكان من كتابه. وأخذ

ذكر أخبار حنين

الغناء عن معيد وابن سريج وابن محرز والغريض، وكان أكثر روايته عن معبد. ولم يكن في أصحاب معبد أحذق منه ولا أقوم بما أخذ عنه منه. وله غناء حسن، وصنعة كثيرة، وشعر جيّد. وهو أوّل من دوّن الغناء. وله كتاب في الأغانى نسبها إلى من غنّى فيها. وخرج إلى الشأم في تجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأحضره والوليد إذ ذاك ولىّ العهد. قال: فلما وصلت إليه سلّمت عليه، فأمرنى بالجلوس، ثم دعا بالشراب والجوارى. قال يونس: فمكثنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب، وغنّيته فأعجب بغنائى إلى أن غنّيته: إن يعش مصعب فنحن بخير ... قد أتانا من عيشنا ما نرجّى ثم تنبهت فقطعت الصوت وأخذت أعتذر من غنائى بشعر في مصعب، فضحك ثم قال: إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره ولا عداوة بينى وبينه وإنما أريد الغناء، فأمض الصوت؛ فعدت فيه فغنّيته ولم يزل يستعيده حتى أصبح فشرب مصطبحا وهو يستعيدنى هذا الصوت ولا يتجاوزه. فلما مضت ثلاثة أيام قلت: جعلنى الله فداك إنى رجل تاجر خرجت مع تجّار وأخاف أن يرتحلوا فيضيع مالى، فقال: أنت تغدو غدا، وشرب باقى ليلته وأمر لى بثلاثة آلاف دينار. فحملت إلىّ وغدوت إلى أصحابى. فلما استخلف بعث إلىّ فأتيته فلم أزل معه حتى قتل. ذكر أخبار حنين هو حنين بن بلوع الحيرى. واختلف في نسبه، فقيل: هو من العباديّين من تميم، وقيل: إنه من بنى الحارث بن كعب، وقيل: إنه من قوم بقوا من طسم وجديس، فنزلوا في بنى الحارث بن كعب فعدّوا فيهم. ويكنى أبا كعب. وكان شاعرا مغنّيا من فحول المغنّين، وكان يسكن الحيرة ويكرى الجمال إلى الشأم، وكان

نصرانيّا. وعن المدائنىّ قال: كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان «1» ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطرّبين ورأوا رشاقته وحسن قدّه وحلاوته وخفّة روحه استحلوه وأقام عندهم، فكان يسمع الغناء ويصغى له، حتى شدا منه أصواتا فاستمعه الناس، وكان مطبوعا حسن الصوت. واشتهر غناؤه وشهر بالغناء ومهر فيه وبلغ فيه مبلغا كبيرا. ثم رحل إلى عمر «2» بن داود الوادى وإلى حكم الوادىّ وأخذ منهما وغنّى لنفسه واستولى على الغناء في عصره، وهو الذى بذل لابن محرز خمسمائة دينار حتى رجع عن العراق، كما قدّمناه في أخبار ابن محرز. وبلغ من الناس بالغناء مبلغا عظيما، حتى قيل له فيما حكى: إنك تغنّى منذ خمسين سنة فما تركت لكريم مالا ولا دارا ولا عقارا إلا أتيت عليه. فقال: بأبى أنتم! إنما هى أنفاسى أقسمها بين الناس، أفتلوموننى أن أغلى بها الثمن. وحكى المدائنىّ قال: حجّ هشام بن عبد الملك وعديله الأبرش الكلبىّ؛ فوقف له حنين بظهر الكوفة ومعه عود وزامر له. فلما مرّ به هشام عرض له فقال: من هذا؟ قيل: حنين؛ فأمر به هشام فحمل في محمل على جمل وعديله زامره وسيّره أمامه، فغنّاه: أمن سلمى بظهر الكوفة ... الآيات والطّلل تلوح كما تلوح على ... جفون الصّيقل الخلل فأمر له هشام بمائتى دينار وللزّامر بمائة دينار. وحكى أن خالد بن عبد الله القسرىّ حرّم الغناء بالعراق في أيامه ثم أذن للناس يوما في الدخول عليه عامّة؛ فدخل عليه حنين في جملة الناس ومعه عود تحت ثيابه

ذكر أخبار سياط

فقال: أصلح الله الأمير! كانت لى صناعة أعود بها على عيالى فحرّمها الأمير فأضرّ ذلك بى وبهم. فقال: وما كانت صناعتك؟ فكشف عن عوده وقال: هذا. فقال له خالد: غنّ؛ فعرك «1» أوتاره وغنّى: أيّها الشّامت المعيّر بالدهر ... أأنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير قال: فبكى خالد وقال: قد أذنت لك وحدك خاصّة، ولا تجالس سفيها ولا معربدا. فكان إذا دعى قال: أفيكم سفيه أو معربد؟ فإذا قالوا لا، دخل. وقال بشر بن الحسين بن سليمان بن سمرة بن جندب: عاش حنين بن بلوع مائة سنة وسبع سنين. ذكر أخبار سياط هو عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب، وسياط لقب غلب عليه. وهو مكىّ مولى خزاعة. كان مقدّما في الغناء رواية وصنعة، مقدّما في الطرب. وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وعنه أخذا، وأخذ هو عن يونس الكاتب. وكان سياط زوج أمّ ابن جامع. قيل: وإنما لقّب سياط بهذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يغنّى: كأنّ مزاحف الحيّات فيها «2» ... قبيل الصبح آثار السّياط حكى أن إبراهيم الموصلىّ غنّى صوتا لسياط، فقال ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت؟ قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك خبزا يأكله، سياط.

وحكى أن سياطا مرّ بأبى ريحانة في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه سمل ثوب رقيق رثّ؛ فوثب إليه أبو ريحانة المدنىّ وقال: بأبى أنت يا أبا وهب! غنّنى صوتك في شعر ابن جندب: فؤادى رهين في هواك ومهجتى ... تذوب وأجفانى عليك همول فغنّاه إياه، فشقّ قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا. فقال له رجل: ما أغنى عنك هذا من شقّ قميصك؟! فقال: يابن أخى، إن الشعر الحسن من المغنّى المحسن ذى الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمّام محمّى. فقال له رجل: أنت عندى من الذين قال الله تعالى فيهم: (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فقال: بل أنا ممّن قال الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) . وقد حكيت هذه الحكاية أيضا من طريق آخر: أنّه لمّا غنّاه هذا الصوت شقّ قميصه حتى خرج منه وبقى عاريا وغشى عليه واجتمع الناس حوله، وسياط واقف يتعجّب مما فعل، ثم أفاق فقام إليه. فقال له سياط: مالك «1» يا مشئوم! أىّ شىء تريد؟ قال: غنّنى بالله عليك يا سيدى: ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل مثل القضيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجذب متنه فيميل «2» إن كان شأنكم الدّلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل فغنّاه، فلطم وجهه حتى خرج الدّم من أنفه ووقع صريعا. ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له في ذلك فقال نحو ما تقدّم. قال: ووجّه إليه سياط بقميص وسراويل وجبّة وعمامة.

ذكر أخبار الأبجر

وكانت وفاة سياط في أيام موسى الهادى. ودخل عليه ابن جامع وقد نزل به الموت فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم لا تزد في غنائى شيئا ولا تنقص منه، فإنما هو ثمانية عشر صوتا دعه رأسا برأس. وقيل: بل كانت وفاته فجأة، وذلك أنه دعاه بعض إخوانه فأتاهم وأقام عندهم وبات؛ فأصبحوا فوجدوه ميّتا في منزلهم؛ فجاءوا إلى أمه وقالوا: يا هذه إنا دعونا ابنك لنكرمه ونسرّ به ونأنس بقربه فمات فجأة، وها نحن بين يديك، فاحكمى ما شئت، وناشدناك الله أن [لا «1» ] تعرّضينا للسلطان أو تدّعى علينا ما لم نفعله. قالت: ما كنت لأفعل، وقد صدقتم، وهكذا مات أبوه فجأة، وتوجّهت معهم فحملته إلى منزله ودفنته. ذكر أخبار الأبجر هو عبيد الله بن القاسم بن منبّه «2» ، ويكنى أبا طالب. وقيل: اسمه محمد بن القاسم، والأبجر لقب غلب عليه. وهو مولى لكنانة ثم لبنى ليث بن بكر «3» . وكان يلقّب بالحسحاس. وكان مدنيّا منشؤه مكة أو مكيّا منشؤه المدينة. قال عورك اللهبىّ: لم يكن بمكة أحد أظرف ولا أسرى ولا أحسن هيئة من الأبجر؛ كانت حلته بمائة دينار وفرسه بمائة دينار ومركبه بمائة دينار؛ وكان يقف بين المأزمين ويرفع عقيرته، فيقف الناس له فيركب بعضهم بعضا. وروى الأصفهانىّ بسنده إلى اسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ قال:

ذكر أخبار أبى زيد الدلال

جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم فإذا عسكر جرّار [قد أقبل «1» ] فى آخر الليل وفيه دوابّ تجنب ومنها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب، فاندفع يغنّى: عرفت ديار الحىّ خالية قفرا ... كأن بها لمّا توهّمتها سطرا فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا وصاح صائح: ويحك أعد الصوت! فقال: لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار؛ وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر. فنودى: أين منزلك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا لأبجر، ومنزلى على زقاق باب الخرّازين «2» . فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت ثياب وشى وغير ذلك، ثم أتى به الوليد، فأقام وراح مع أصحابه عشيّة التّروية وهو أحسنهم هيئة، وخرج معه أو بعده إلى الشأم. وحكى عن عمرو بن حفص بن أمّ كلاب «3» ، قال: كان الأبجر مولانا وكان مكيّا، وكان إذا قدم من مكة نزل علينا. فقال لنا يوما: أسمعونا غناء ابن عائشتكم هذا؛ فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار. فغنّى ابن عائشة؛ فقال الأبجر: كلّ مملوك له حرّ إن غنّيت معك إلّا بنصف صوتى، ثم أدخل إصبعه في شدقه وغنّى فسمع صوته من في السوق، فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما. ذكر أخبار أبى زيد الدّلال هو أبو زيد ناقد مدنىّ، مولى عائشة بنت سعيد بن العاص، وكان مخنّثا. قال إسحاق:

لم يكن في المخنّثين أحسن وجها ولا أنظف ثوبا ولا أظرف من الدّلال. قالوا: ولم يكن بعد طويس أظرف منه ولا أكثر ملحا. وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثّكالى، وكان ضاحك السنّ، ولم يكن يغنّى إلّا غناء مضعّفا (يعنى كثير العمل) . وقال أيّوب بن عباية: شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدّلال وأحاديثه طوّلوا رقابهم وفخروا به، فعلمت أن ذلك لفضيلة كانت عنده. قالوا: وكان مبتلى بالنّساء والكون معهنّ، فكان يطلب فلا يقدر عليه. وكان صحيح الغناء حسن الجرم. قالوا: وإنما لقّب بالدلال لشكله وحسن ظرفه ودلّه وحلاوة منطقه وحسن وجهه. وكان مشغوفا بمخالطة النساء يكثر وصفهنّ للرجال. وكان يشاغل كلّ من يجالسه عن الغناء بأحاديث النساء كراهة منه للغناء. وكان إذا غنّى أجاد، كما حكاه ابن الماجشون عن أبيه قال: غنّانى الدّلال يوما بشعر مجنون بنى عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسى. واستحضره سليمان بن عبد الملك من المدينة سرّا وغنّاه وأقام عنده شهرا ثم صرفه إلى الحجاز مكرما. قال الأصمعىّ: حجّ هشام بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة نزل رجل من أشرف أهل الشأم وقوّادهم بجنب دار الدّلال، فكان الشامىّ يسمع غناء الدلال ويصغى إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت، ثم بعث إلى الدّلال: إمّا أن تزورنا وإمّا أن نزورك. فبعث إليه الدّلال بل تزورنا. فبعث الشامىّ ما يصلح ومضى إليه بغلامين من غلمانه كأنهما درّتان مكنونتان. فغنّاه الدّلال، فاستحسن الشامىّ غناءه فقال: زدنى؛ قال: أو ما يكفيك ما سمعت! قال: لا والله ما يكفينى. قال: فإنّ لى حاجة.

قال: وما هى؟ قال: تبيعنى أحد هذين الغلامين أو كليهما، فقال: اختر أيّهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامىّ: هو لك؛ فقبله منه الدلال، ثم غنّاه وغنّى: دعتنى دواع من أريّا فهيّجت ... هوى كان قدما من فؤاد طروب لعل زمانا قد «1» مضى أن يعود لى ... فتغفر أروى عند ذاك ذنوبى سبتنى أريّا يوم نعف محسّر ... بوجه جميل للقلوب سلوب فقال له الشامىّ: أحسنت. ثم قال له: أيّها الرجل الجميل، إن لى [إليك «2» ] حاجة، قال الدّلال: وما هى؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة وضيئة جعدة في بياض مشربة حمرة حسنة الهامة سبطة أسيلة الخدّ عذبة اللّسان لها شكل [ودلّ «3» ] تملأ العين والنفس. فقال له الدّلال: قد أصبتها لك، فما لى عندك إن دللتك عليها؟ قال: غلامى هذا. قال: إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لى؟ قال نعم. قال: فأتى امرأة كنّى عن اسمها، فقال لها: جعلت فداءك! نزل بقربى رجل من قوّاد هشام، له ظرف وسخاء، وجاءنى زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة ما وقعت عينى على مثلهما ولا يطول لسانى بوصفهما، فوهب لى أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلىّ فنفسى ذاهبة. قالت: وتريد ماذا؟ قال: طلب منى وصيفة على صفة لا أعلمها إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إيّاها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إنى قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع. قالت: شأنك، لا يعلم هذا أحد. فمضى الدّلال وأتى بالشامىّ. فلما صار إلى المرأة وضع له كرسىّ وجلس. فقالت له المرأة: أمن العرب أنت؟ قال نعم. قالت:

من أيّهم؟ قال: من خزاعة. قالت: مرحبا بك وأهلا! أىّ شىء طلبت؟ فوصف لها الصّفة. قالت: قد أصبتها؛ وأسرّت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت فقالت: اخرجى، فخرجت وصيفة ما رأى [الراءون «1» ] مثلها. فقالت لها: أقبلى فأقبلت، ثم قالت: أدبرى فأدبرت تملأ العين والنفس، فما بقى منها شىء إلا وضع يده عليه. فقالت له: أتحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال نعم. قالت: ائتزرى؛ فضمّها الإزار وظهرت محاسنها الخفيّة؛ فضرب بيده إلى عجيزتها وصدرها. ثم قالت: أتحب أن نجرّدها لك؟ قال نعم. قالت: [أى حبيبتى «2» ] وضحّى؛ فألقت الإزار فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمنّى. قال: بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غدا حتى نبايعك فلا تنصرف إلا عن رضا، فانصرف من عندها. فقال له الدّلال: أرضيت؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه فى الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثانى. فلما كان من الغد قال له الشامىّ: امض بنا. فمضيا حتى قرعا الباب، فأذن لهما فدخلا فسلّما، فرحّبت المرأة بهما ثم قالت للشامىّ: أعطنا ما تبذل؛ فقال: ما لها عندى ثمن إلا وهى أكثر منه، فقولى أنت يا أمة الله. قالت: بل قل أنت، فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف [دينار «3» ] . قالت: والله لقبلة منها خير من ثلاثة آلاف [دينار «4» ] . قال: أربعة آلاف [دينار «5» ] . قالت: غفر الّه لك أعطنا أيّها الرجل. قال: والله ما معى غيرها- ولو كان لزدتك- إلا رقيق ودوابّ. قالت: ما أراك إلا صادقا، أتدرى من هذه؟ قال: تخبرينى. قالت: هذه

ذكر أخبار عطرد

ابنتى فلانة بنت فلان وأنا فلانة بنت فلان، قم راشدا. فقال للدّلال: خدعتنى. قال: أو ما ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال: أمّا هذا فنعم. وخرجا من عندها. والدّلال أحد من خصى من المخنّثين بالمدينة لمّا أمر سليمان بن عبد الملك عامله على المدينة أبا بكر بن عمرو بن حزم بخصيهم. ذكر أخبار عطرّد هو أبو هارون «1» عطرّد، مولى الأنصار [ثم مولى «2» ] بنى عمرو بن عوف، وقيل: إنه مولى مزينة. مدنىّ كان ينزل قباء. وكان جميل الوجه حسن الغناء طيّب الصوت جيّد الصنعة حسن الزىّ والمروءة فقيها قارئا للقرآن. وقيل: إنه كان معدّل الشهادة بالمدينة. وأدرك دولة بنى أميّة وبقى إلى أوّل أيام الرشيد. وكان يغنّى مرتجلا. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: لمّا استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة فأمره بإشخاص عطرّد المعنّى إليه، ففعل. قال عطرّد: فدخلت على الوليد وهو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة ولكنّها يدور الرجل فيها [سباحة «3» ] . قال: فو الله ما تركنى أسلّم حتى قال: أعطرّد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ما زلت إليك مشتاقا يا أبا هارون، غنّنى:

حىّ الحمول بجانب العزل «1» ... إذ لا يشاكل شكلها شكلى الله أنجع ما طلبت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل إنى بحبلك واصل حبلى ... وبريش نبلك رائش نبلى وشمائلى ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقا مثلى قال: فغنّيته إياه، فو الله ما أتممته حتى شقّ حلّة وشى كانت عليه لا أدرى كم قيمتها، فتجرّد منها كما ولدته أمّه، وألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت أنها قد نقصت نقصانا بيّنا، وأخرج منها وهو كالميت سكرا، فأضجع وغطّى؛ فأخذت الحلّة وقمت وانصرفت إلى منزلى متعجّبا من فعله. فلما كان في غد، جاءنى رسوله فى مثل الوقت فأحضرنى. فلما دخلت عليه قال: يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: غنّنى: أيذهب عمرى هكذا لم أنل به ... مجالس تشفى قرح قلبى من الوجد وقالوا تداو إنّ في الطبّ راحة ... فعلّلت نفسى بالدواء فلم يجد فغنّيته إيّاه، فشقّ حلّة وشى كانت تلمع عليه بالذّهب احتقرت والله الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت نقصانها وأخرج كالميت سكرا، فألقى وغطّى ونام؛ وأخذت الحلّة وانصرفت. فلما كان اليوم الثالث، جاءنى رسوله فدخلت إليه وهو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلّمنى من وراء الستور وقال: يا عطرّد! قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! قال: كأنى بك الآن قد أتيت إلى المدينة فقمت في مجالسها وقعدت وقلت: دعانى أمير المؤمنين فدخلت عليه فاقترح علىّ فغنّيته فأطربته فشقّ ثيابه وأخذت سلبه وفعل وفعل! وو الله يابن الزّانية إن تحرّكت شفتاك بشىء مما جرى لأضربنّ عنقك يا غلام أعطه ألف دينار؛ خذها

ذكر أخبار عمر الوادى

وانصرف إلى المدينة. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لى في تقبيل يده ويزوّدنى نظرة منه وأغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بى ولا بك إلى ذلك، فانصرف. قال عطرّد: فخرجت من عنده وما علم الله أنّى ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بنى هاشم مدّة. ودخل عطرّد على المهدىّ وغنّاه. قيل: ودخل على الرشيد وغنّاه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر أخبار عمر الوادىّ هو عمر بن داود بن زاذان. وجدّه زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفّان. وأخذ الغناء عن حكم، وقيل: بل أخذ حكم عنه. وهو من أهل وادى القرى. قدم الحرم وأخذ من غناء أهله فحذق وصنع فأجاد. وكان طيّب الصوت شجيّا مطربا. وهو أوّل من غنّى من أهل وادى القرى، واتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدّم عنده جدّا، وكان يسمّيه «جامع لذّاتى ومحيى طربى» . وقتل الوليد وهو يغنّيه، وكان آخر الناس به عهدا. قال: وكان يجتمع مع معبد ومالك بن أبى السّمح وغيرهما من المغنّين عند الوليد بن يزيد، فلا يمنعه حضورهم من تقديمه والإصغاء إليه والاختصاص به. وفي عمر هذا يقول الوليد بن يزيد: إنما فكّرت في عمر ... حين قال القول واختلجا إنه للمستنير به ... قمر قد طمّس السّرجا ويغنّى الشعر ينظمه ... سيّد القوم الذى فلجا أكمل الوادىّ صنعته ... فى كتاب الشعر فاندمجا أراد الوليد بن يزيد بقوله: «سيّد القوم» نفسه.

ذكر أخبار حكم الوادى

ذكر أخبار حكم الوادىّ هو أبو يحيى الحكم بن ميمون، وقيل: الحكم بن يحيى بن ميمون. مولى الوليد بن عبد الملك، كان أبوه حلّاقا «1» يحلق رأس الوليد، فاشتراه فأعتقه. وكان حكم طويلا أحول، يكرى الجمال ينقل [عليها «2» ] الزيت من الشأم إلى المدينة. وقيل: كان أصله من الفرس. وكان واحد عصره في الحذق، وكان يغنّى بالدّفّ ويغنّى مرتجلا. وعمّر عمرا طويلا، غنّى الوليد بن عبد الملك، وغنّى الرشيد، ومات في الشّطر من خلافته. وأخذ الغناء عن عمر الوادىّ، وقد قيل: إن عمر أخذ عنه. قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى: أربعة بلغت في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصّر عنه غيرهم: «معبد» فى الثقيل، و «ابن سريج» فى الرّمل، و «حكم» فى الهزج، و «إبراهيم» فى الماخورىّ. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وزار حكم الوادىّ الرشيد، فبرّه ووصله بثلاثمائة ألف درهم، وخيّره فيمن يكتب له بها عليه؛ فقال: اكتب لى بها على إبراهيم بن المهدىّ- وكان إبراهيم إذ ذاك عاملا له بالشأم- فقدم عليه حكم بكتاب الرشيد؛ فأعطاه ما كتب له به، ووصله بمثل ذلك، إلّا أنه نقصه ألف درهم من الثلاثمائة ألف وقال له: لا أصلك بمثل ما وصلك أمير المؤمنين. قال إبراهيم بن المهدىّ: وأقام عندى ثلاثين يوما أخذت عنه فيها ثلاثمائة صوت، كلّ صوت أحبّ إلى من الثلاثمائة ألف التى وهبتها له. وقيل: إنه لم يشتهر بالغناء حتى صار إلى بنى العبّاس، فانقطع إلى محمد بن أبى العباس، وذلك في خلافة المنصور، فأعجب به واختاره على المغنّين وأعجبته أهزاجه. وكان يقال: إنه أهزج الناس. ويقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره؛ فلامه ابنه على ذلك وقال: أبعد الكبر تغنّى غناء المخنّثين! فقال له: اسكت

ذكر أخبار ابن جامع

فإنّك جاهل، غنّيت [الثقيل «1» ] ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنّيت الأهزاج منذ سنتين فكسبتك ما لم تر مثله قطّ. والله أعلم. ذكر أخبار ابن جامع هو أبو القاسم إسماعيل بن جامع بن عبد الله بن المطلب بن أبى وداعة ابن صبيرة بن سهم بن هصيص بن كعب بن لؤىّ. قالوا: وكان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله تعالى، كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلّى الصبح ثم يصفّ قدميه حتى تطلع الشمس، فلا يصلّى الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله. وكان حسن السّمت، كثير الصلاة. وكان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مرّيسيّا «2» فى زىّ أهل الحجاز. وروى عنه أنه قال: لولا أن القمار وحبّ الكلاب قد شغلانى لتركت المغنّين لا يأكلون الخبز. قال ابن جامع: أخذت من الرشيد ببيتين غنّيته إياهما عشرة آلاف دينار. قالوا: وكان إبراهيم بن المهدىّ يفضّل ابن جامع فلا يقدّم عليه أحدا. قال: وكان ابن جامع منقطعا إلى موسى الهادى في أيام أبيه، فضربه المهدىّ وطرده. فلما مات المهدىّ بعث الفضل بن الربيع إلى مكة فأحضر ابن جامع في قبّة ولم يعلم به أحدا. فذكره موسى الهادى ذات ليلة فقال لجلسائه: أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد عرفتم موقعه منى؟ فقال الفضل بن الربيع: هو والله عندى يا أمير المؤمنين وأحضره إليه. فوصل الفضل في تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولّاه حجابته.

وحكى أنه دخل على الهادى فغنّاه فلم يعجبه؛ فقال له الفضل: تركت الخفيف وغنّيت الثقيل. قال: فأدخلنى عليه أخرى فأدخله؛ فغنّاه الخفيف، فأعطاه ثلاثين ألف دينار. قال أحمد بن يحيى المكىّ: كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن. وأحبّ الرشيد أن يسمع ذلك، فقال للفضل بن الربيع: ابعث بخريطة فيها نعى أمّ ابن جامع- وكان برّا بأمّه- ففعل. فقال الرشيد: يابن جامع، فى هذه الخريطة نعى أمّك؛ فاندفع ابن جامع يغنّى بتلك الحرقة والحزن الذى فى قلبه: كم «1» بالدروب وأرض السّند من قدم ... ومن جماجم صرعى ما بها قبروا بقندهار «2» ومن تكتب منيّته ... بقندهار يرجّم دونه الخبر قال: فو الله ما ملكنا أنفسنا، ورأيت الغلمان يضربون برءوسهم الحيطان والأساطين، وأمر له الرشيد بعشرة آلاف دينار. وروى أبو الفرج بسنده إلى عبد الله بن علىّ بن عيسى بن ماهان قال: سمعت يزيد يحدّث عن أمّ جعفر أنه بلغها أنّ الرشيد جالس وحده وليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين، فأرسلت إليه: يا أمير المؤمنين، إنّى لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع. فأرسل إليها: عندى ابن جامع. فأرسلت إليه: أنت تعلم أنى لا أتهنّأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركنى فيه، ما كان عليك أن أشركك فى هذا الذى أنت فيه! فأرسل إليها: إنى صائر إليك الساعة. ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال للخادم: امض إليها واعلمها أنّى قد جئت. وأقبل الرشيد؛ فلما نظر

ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنات

إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنّها قد قامت تستقبله؛ فوجّه إليها: إن معى ابن جامع، فعدلت إلى بعض المقاصير. وجاء الرشيد وصيّر ابن جامع في بعض المواضع التى يسمع منه فيها، ثم أمر ابن جامع فاندفع يغنّى: ما رعدت رعدة ولا برقت ... لكنها أنشئت لنا خلقه «1» الماء يجرى ولا نظام «2» له ... لو يجد الماء مخرقا خرقه بتنا وباتت على نمارقها ... حتى بدا الصبح عينها أرقه أن قيل إن الرحيل بعد غد ... والدّار بعد الجميع مفترقه فقالت أمّ جعفر للرشيد: ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين! ثم قالت لمسلم خادمها: ادفع إلى ابن جامع بكل بيت مائة ألف درهم. فقال الرّشيد: غلبتينا يابنة أبى الفضل وسبقتينا إلى برّ ضيفنا وجليسنا. فلما خرج حمل الرشيد إليها مكان كل درهم دينارا. ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات «3» قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أبو عثمان، وقيل: أبو معاذ عمرو بن أبى الكنّات، مولى بنى جمح. وهو مكىّ مغنّ حسن الصوت، من طبقة ابن جامع وأصحابه. وفيه يقول الشاعر: أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات

قال محمد بن عبد الله بن فروة: قلت لإسماعيل بن جامع يوما: هل غلبك أحد من المغنّين قط؟ قال: نعم، كنت ليلة ببغداد إذ جاءنى رسول أمير المؤمنين هارون الرشيد فأمرنى بالرّكوب، فركبت حتى صرت إلى الدار، فإذا أنا بالفضل بن الربيع ومعه زلزل العوّاد وبرصوما؛ فسلّمت وجلست يسيرا. فطلع خادم فقال للفضل: هل جاء؟ قال لا. قال: فابعث إليه. ولم يزل المغنّون يدخلون واحدا واحدا حتى كنّا ستّة أو سبعة. ثم طلع الخادم فقال: هل جاء؟ فقال لا؛ فقال: قم فابعث فى طلبه؛ فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبى الكنّات. فسلّم وجلس إلى جنبى، فقال لى: من هؤلاء؟ قلت: مغنّون، هذا «زلزل» وهذا «برصوما» . فقال: لأغنّينّك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان. ثم طلع الخصىّ فدعا بكراسىّ، وخرج الجوارى. فلما جلسن قال الخادم: شدّوا فشدّوا عيدانهم؛ ثم قال: يغنّى ابن جامع، فغنّيت سبعة أو ثمانية أصوات؛ قال: اسكت، وليغنّ إبراهيم الموصلىّ؛ فغنّى مثل ذلك أو دونه ثم سكت، وغنّى القوم كلّهم واحدا بعد واحد حتى فرغوا. ثم قال لابن أبى الكنّات: غنّ؛ فقال لزلزل: شدّ طبقتك فشدّ؛ ثم قال له: شدّ فشدّ، ثم أخذ العود من يده فجسّه حتى وقف على الموضع الذى يريده، ثم قال: على هذا. وابتدأ الصوت الذى أوّله «ألالا» ؛ فو الله لقد خيّل إلىّ أن الحيطان تجاوبه؛ ثم رجّع النّغمة فيه؛ فطلع الخصىّ فقال: اسكت لا تتمّ الصوت فسكت. ثم قال: يجلس عمرو بن أبى الكنّات وينصرف سائر المغنّين؛ فقمنا بأسوأ حال وأكسف بال، ولا والله ما زال كلّ واحد منّا يسأل صاحبه عن كلّ ما يرويه من الغناء الذى أوّله «ألالا» طمعا في أن يعرفه وأن يوافق غناءه فما عرفه منا أحد. وبات عمرو عند الرشيد ليلته وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية.

وقال موسى بن أبى المهاجر: خرج ابن جامع وابن أبى الكنّات حين دفع الإمام «1» من عرفة، حتى إذا كانوا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم اندفع يغنّى، فركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا به واستغاثوا: يا هذا، الله الله! اسكت عنا يجز الناس؛ فضبط ابن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة. قال علىّ بن الجهم: حدّثنى من أثق به قال: واقفت ابن أبى الكنّات على جسر بغداد أيام الرشيد فحدّثته بحديث اتّصل بى عن ابن عائشة أنه وقف في الموسم فى أيام هشام، فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما تصنع؟ فقال: إنى لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب منهم أحد ولم يجئ. فقلت له «2» : من هذا الرجل؟ قال: أنا، ثم اندفع فغنّى فحبس الناس، فاضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها. فقال ابن أبى الكنّات وكان معجبا بنفسه: أنا أفعل كما فعل وقدرتى على القلوب أكثر من قدرته. ثم اندفع فغنّى الصوت الذى غنّى فيه ابن عائشة، وهو: جرت سنحا فقلت لها أجيزى ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء بنفسى من تذكرّه سقام ... أعالجه ومطلبه عناء قال: فغنّاه، وكنا إذ ذاك على جسر بغداد، وكان على دجلة ثلاثة جسور، فانقطعت الطّرق وامتلأت الجسور بالناس فآزدحموا عليها واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس. فأخذ فأتى به الرشيد؛ فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس! قال: لا والله يا أمير المؤمنين ولكنّه بلغنى أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله. فأعجبه ذلك،

وأمر له بمال وأمره أن يغنّى فغنّى؛ فسمع شيئا لم يسمع مثله، فآحتبسه عنده شهرا يستر يده، وكلّ يوم يستأذن له في الانصراف فلا يأذن له حتى تمّم شهرا، وانصرف بأموال جسيمة. وقال عثمان بن موسى: كنّا على شراب يوما ومعنا عمرو بن أبى الكنّات إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبّون أن يجيئكم؟ قلنا: منصور الحجبىّ. فقال: أمهلوا حتى يكون الوقت الذى ينحدر فيه إلى سوق البقر. فمكثنا ساعة ثم اندفع يغنّى: أحسن الناس فاعلموه غناء ... رجل من بنى أبى الكنّات عفت الدّار فالهضاب اللّواتى ... بين «1» ثور فملتقى عرفات فلم نلبث أن رأينا منصورا من بعد قد أقبل يركض دابّته نحونا. فلما جلس إلينا قلت له: من أين علمت بنا؟ قال: سمعت صوت عمرو وأنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابّتى حتى صرت إليكم. قال: وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال. وقال يحيى بن يعلى بن سعيد: بينا أنا ليلة في منزلى في الرّمضة بأسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبى الكنّات كأنّه معى، فأمرت الغلام فأسرج لى دابّتى وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض ببطن عرفة يغنّى: خذى العفو منى تستديمى مودّتى ... ولا تنطقى في سورتى حين أغضب

ذكر أخبار أبى المهنأ مخارق

ولا تنقرينى نقرة الدّفّ مرّة ... فإنّك لا تدرين كيف المغيّب فإنى رأيت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق هو أبو المهنّأ مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار مولى الرشيد. وقيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى؛ وإنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضى إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك؛ فدسّ الرجل الذى راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى. فلما فرغ ناووس من الطبخ مدّ الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمنى؛ فغرف بالمغرفة من المرق وصبّها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أوّلا ثم نتفرّغ للموتى؛ فلقّب ناووسا لذلك. قال: وكان مخارق لعاتكة بنت شهدة، وهى من المغنّيات المحسنات المتقدّمات فى الضرب. نشأ مخارق بالمدينة؛ وقيل: كان منشؤه بالكوفة. وكان أبوه جزارا مملوكا، وكان مخارق وهو صبىّ ينادى على ما يبيعه أبوه من اللحم. فلما بان طيب صوته علّمته مولاته طرفا من الغناء، ثم أرادت بيعه، فاشتراه إبراهيم الموصلىّ منها وأهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه. وقيل: اشتراه إبراهيم من مولاته بثلاثين ألف درهم وزادها ثلاثة آلاف درهم. قال: ولما اشتراه قال له الفضل بن يحيى: ما خبر غلام بلغنى أنك اشتريته؟ فقال: هو ما بلغك. قال: فأرنيه، فأحضره، فغنّى بين يديه؛ فقال له: ما أرى فيه الذى رأيت. قال: تريد أن يكون في الغناء مثلى في ساعة واحدة! فقال: بكم تبيعه؟ قال: اشتريته بثلاثين ألف درهم، وهو حرّ لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار. فغضب

الفضل وقال: إنما أردت ألّا تبيعه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّى ثلاثة وثلاثين ألف دينار. فقال إبراهيم: أنا أصنع بك خصلة واحدة، أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه [وأعلّمه «1» ] ، فإن أعجبك إذا علمته أتممت لى باقى المال وإلا بعته بعد، وكان الرّبح بينى وبينك. فقال الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّى المال الذى قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه، وغضب. فقال إبراهيم له: فأنا أهبه لك على أنه يساوى ثلاثة وثلاثين ألف دينار؛ قال: قد قبلته؛ قال: وقد وهبته لك. وغدا إبراهيم على الرشيد؛ فقال له: يا إبراهيم، ما غلام بلغنى أنك وهبته للفضل؟ قال: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا. قال: فوجّه إلى الفضل يأمره بإحضاره. فوجّه به إليه، فغنّى بين يديه؛ فقال له: كم يساوى؟ قال إبراهيم: يساوى خراج مصر وضياعها. قال: ويحك! أتدرى ما تقول! مبلغ هذا المال كذا وكذا! قال: وما مقدار هذا المال في غلام لم يملك أحد مثله قطّ! قال: فالتفت الرشيد إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يمينى أنى لا أسأل أحدا من البرامكة شيئا. فقال مسرور: فأنا أمضى إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا كان عندى فهو عندك. فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل واستوهبه منه، فوهبه له. وقيل: بل إبراهيم هو الذى أهداه للرشيد؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلّمه حتى بلغ ما بلغه. قال: وكان مخارق يقف بين يدى الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغنّى وهو واقف. فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدى الرشيد: كأنّ نيراننا «2» فى جنب قلعتهم ... مصبّغات على أرسان قصّار «3»

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... جواثما «1» ترتمى بالنّفط والنّار فطرب الرشيد واستعاده مرارا؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة. فأقبل الرشيد على ابن جامع دون غيره. فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدّمه إلى الخلاء، فلما جاء قال له: مالى أراك منكسرا؟ فقال له: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت! فقال مخارق: قد والله أخذته. فقال: ويحك! إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت! فقال: دعنى وخلاك ذمّ، وعرّفه أنّى أغنّى به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإلىّ يعود. فقال إبراهيم للرشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجّبا من هذا الصوت بغير ما يستحقّه وأكثر مما يستوجبه! فقال: لقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء. قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر. وقال: فإنّ عبدك مخارقا يغنيه. فنظر إلى مخارق؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هاته؛ فغنّاه وتحفّظ فيه فأتى بالعجائب، وطرب الرشيد حتى كاد يطير؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال: ويلك! ما هذا؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكلّ محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قطّ من غيره وأنه صنعه وأنها حيلة جرت عليه. فأقبل على إبراهيم وقال: اصدقنى بحياتى؛ فصدقه عن قصّة مخارق. فقال لمخارق: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم. وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ عن هارون بن مخارق، قال: كان أبى إذا غنّى هذا الصوت: يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا ... زدت الفؤاد على علّاته وصبا ربع تبدّل ممن كان يسكنه ... عفر الظباء وظلمانا به عصبا

يبكى ويقول: أنا مولى هذا الصوت. فقلت له: كيف يا أبت؟ فقال: غنّيته مولاى الرشيد، فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: تعتقنى يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار؛ فقال: أنت حرّ لوجه الله تعالى، فأعد الصوت فأعدته؛ فبكى وشرب رطلا، ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: ضيعة تقيمنى غلّتها «1» ؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر لى بمنزل وفرس وخادم؛ فقال: ذلك لك، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقبّلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتى أن يطيل الله بقاءك ويديم عزّك ويجعلنى من كل سوء فداءك؛ فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاى. ويروى أيضا عن الحسين بن الضحّاك عن مخارق أنّ الرشيد قال يوما للمغنّين وهو مصطبح: من منكم يغنّى: يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: هاته؛ فغنّيته فطرب وشرب ثم قال: علىّ بهرثمة؛ فقلت في نفسى: ماذا يريد منه! فجاء هرثمة فقال له: مخارق الشّارىّ الذى قتلناه بنواحى الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّأ؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل الرشيد علىّ فقال: قد كنّيتك أبا المهنّأ لإحسانك؛ وأمر لى بمائة ألف درهم؛ فانصرفت بها وبالكنية. قال أبو عبد الله بن حمدون: كنّا عند الواثق وأمّه عليلة. فلما صلّى المغرب دخل إليها وأمر ألا نبرح، فجلسنا في صحن الدار، وكانت ليلة مقمرة وأبطأ الواثق علينا؛ فاندفع مخارق يغنّى، فاجتمع علينا الغلمان، وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه

أحد، ومشى في المجلس الى أن توسّط الدار؛ فلما رأيته بادرت إليه؛ فقال لى: ويلك! هل حدث في دارى شىء؟ فقلت: لا يا سيّدى. قال: فما بالى أصيح فلا أجاب؟ فقلت: مخارق يغنّى والغلمان قد اجتمعوا اليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه. فقال: عذر والله لهم يابن حمدون وأىّ عذر! ثم جلس وجلسنا بين يديه الى السّحر. وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم. وقال محمد بن عبد الملك الزيّات: قال لى الواثق: ما غنّانى مخارق قط إلا قدّرت أنه من قلبى خلق. وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه؟ انظروا الى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السّماط، فكانوا يتفقّدونهم وهم وقوف فكلّهم يسمع الغناء من المغنّين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه، فاذا تغنّى مخارق خرجوا عن صورهم فتحرّكت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذى يقفون من ورائه. وحكى أنّه خرج مرّة الى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون الى مكة؛ فنظر إلى كثرتهم وازدحامهم، فقال لأصحابه الذين معه: قد جاء في الخبر أنّ ابن سريج كان يغنّى في أيام الحجّ والناس يمشون فيستوقفهم بغنائه، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنّه لم يكن ليفضلنى إلّا بصنعته دون صوته؛ ثم اندفع يؤذّن، فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا. قالوا: وجاء أبو العتاهية الى باب مخارق وطرقه فخرج اليه؛ فقال له: يا حسّان هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، أصبب في أذنى شيئا يفرح به قلبى وتتنّعم به نفسى- وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدىّ- فقال: انزلوا، فنزلوا، فغنّاهم. فقال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهى طربا. قال: وجعل أبو العتاهية

يبكى، ثم قال: يا دواء المجانين، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك، فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما، ولو كان شرابا لكان ماء الحياة. وقال أبو الفرج عن عمر بن شبّة قال: حدّثنى بعض آل نوبخت قال: كان أبى وعبد الله بن أبى سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدّوابّ فى الجانب الغربىّ ببغداد يتحدّثون، وإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهّم؛ فقال: فيم كنتم؟ فأخبروه. فقال: دعونا من وسواسكم هذا، أىّ شىء لى عليكم إن رميت بنفسى بين قبرين من هذه القبور وغطّيت وجهى وغنّيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب منّى واتّبع صوتى؟ فقال عبد الله: إنى لأحبّ أن أرى هذا، فقل ما شئت. فقال مخارق: فرسك الأشقر الذى طلبته منك فمنعتنيه. قال: هو لك إن فعلت ما قلت. قال: فرمى بنفسه بين قبرين وتغطّى بردائه، ثم اندفع يغنّى بشعر أبى العتاهية: نادت بوشك رحيلك الأيّام ... أفلست تسمع أم بك استصمام ومضى أمامك من رأيت وأنت لل ... باقين حتى يلحقوك أمام مالى أراك كأنّ عينك لا ترى ... عبرا تمرّ كأنهنّ سهام تمضى الخطوب وأنت منتبه لها ... فإذا مضت فكأنها أحلام قال: فرأيت الناس يأتون إلى المقبرة أرسالا بين راكب وراجل وصاحب شغل ومار في الطريق حتى لم يبق أحد. ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقى أحد؟ قلنا: لا، وقد وجب الرّهن. فقام فركب حماره، وعاد الناس إلى صنائعهم؛ وقال لعبد الله: أحضر الفرس؛ قال: على أن تقيم عندى؛ قال نعم! فسلّم الفرس إليه وبرّه وأحسن رفده.

وروى عن يحيى المكىّ قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله إيّاها، وكان المسئول ضنّ بها، وسنحت ظباء بالقرب منه؛ فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت علىّ به خدود هذه الظباء أتدفع إلىّ القوس؟ قال نعم! فاندفع يغنّى: ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء مرّت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه تنظر إليه مصغية إلى صوته. فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها؛ وناوله الرجل القوس، فأخذها وقطع الغناء [فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها «1» ] . وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلت على أبى وهو جالس بين بابين له ومخارق بين يديه وهو يغنّيه: يا ربع بشرة إن أضرّبك البلى ... فلقد رأيتك آهلا معمورا قال: فرأيت أبى ودموعه تجرى على خدّيه من أربعة أماكن وهو ينشج أحرّ نشيج. فلما رآنى قال: يا إسحاق، هذا والله صاحب اللّواء غدا إن مات أبوك. وروى عن مخارق قال: رأيت وأنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة، فدعانى فقال لى: غنّنى يا مخارق؛ فقلت: أصوتا تقترحه أو ما حضر؟ فقال: ما حضر. فغنّيته:

دعى القلب لا يزدد خبالا مع الذى ... به منك أو داوى جواه المكتّما وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما فقال لى: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب ودفعه الىّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة [عليه «1» ] وصار في يدى علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياى إبراهيم الموصلىّ؛ فقال لى: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لواء صنعتك فانت ما حييت رئيس أهلها. وقال أحمد بن حمدون: غضب المعتصم على مخارق فأمر أن يجعل في المؤذّنين ويلزمهم ففعل ذلك؛ وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب، فأذّنت العصر، فدخل الى السّتر حيث يقف المؤذّن للسلام، ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فبكى حتى جرت دموعه وبكى كلّ من حضر، ثم قال: أدخلوه علىّ وأقبل علينا؛ ثم قال: سمعتم هكذا قط! هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه!. فدخل اليه فقبّل الأرض بين يديه؛ فدعاه المعتصم اليه فأعطاه يده فقبّلها وأمره بإحضار عوده فأحضره، وأعاده الى مرتبته. وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. وكانت وفاته في أوّل خلافة المتوكّل؛ وقيل: بل في آخر خلافة الواثق. وغنّى خمسة من الخلفاء: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق. رحمهم الله تعالى.

ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكى

ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ هو أبو عثمان يحيى بن مرزوق المكىّ، مولى بنى أميّة، وكان يكتم ذلك لخدمته للخلفاء من بنى العبّاس؛ وكان إذا سئل عن ولائه انتمى الى قريش، ولم يذكر البطن الذى ولاؤه له، ويستعفى من يسأله عن ذلك. قال الأصفهانىّ: وعمّر يحيى المكىّ مائة وعشرين سنة، وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح العقل والسمع والبصر. وكان قدم مع الحجازيّين الذين قدموا على المهدىّ في أوّل خلافته فبقى بالعراق. وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وفليح يفزعون اليه في الغناء القديم فيأخذونه عنه، ويعابى بعضهم بعضا بما يأخذونه منه. فإذا خرجت لهم الجوائز أحذوه «1» منها ووفّروا نصيبه. وله صنعة عجيبة نادرة متقدّمة. قال: وله كتاب في الأغانى ونسبها وأجناسها كبير جليل مشهور، إلّا أنّه كالمطروح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته؛ والعمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحّح كثيرا مما أفسده وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه، وحقّق ما نسبه من الأغانى الى صانعه. قال: وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت. قال أحمد بن سعيد: كانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد. وسئل ابنه أحمد عن صنعة أبيه فقال: الذى صحّ عندى منها ألف صوت وثلاثمائة صوت، منها مائة وسبعون صوتا، غلب «2» فيها على الناس جميعا من تقدّم منهم و [من «3» ] تأخّر، فلم يقم له أحد فيها.

ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكى الملقب بطنين

قال أحمد بن يحيى قال لى إسحاق: يا أبا جعفر لأبيك مائة وسبعون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرّابح. والله أعلم. ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين «1» هو أبو جعفر أحمد بن يحيى المكىّ، وكان يلقّب طنينا «2» . وهو أحد المحسنين المبرّزين الرّواة للغناء المحكمى الصنعة. كان إسحاق يقدّمه ويؤثره ويشدو «3» بذكره ويجهر بتفضيله. قال أبو الفرج: وكتابه المجرّد في الأغانى ونسبها أصل من الأصول المعوّل عليها. قال: وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته أحد الضّرّاب الموصوفين المتقدّمين. قال علىّ بن يحيى: قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ- وقد جرى ذكر أحمد ابن يحيى المكىّ-: يا أبا محمد لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى مملوكا كم كان يساوى؟ قال: أخبرك عن ذلك، انصرفت ليلة من دار الواثق فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت اليه فإذا أحمد عنده. فلما قاموا لصلاة العشاء الآخرة قال لى الحسن بن وهب كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنّى صوتا؛ فقال لى الحسن: كم يساوى أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوى ثلاثين ألف دينار. ثم تغنّى صوتا آخر؛ فقلت للحسن: يا أبا علىّ أضعفها. ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد: غنّنى لولا الحياء وأنّ السّتر «4» من خلقى ... إذا قعدت إليك الدهر لم أقم

ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أمية

أليس عندك سكر «1» للتى جعلت ... ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم فغنّاه فأحسن فيه كلّ الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت: يا أبا علىّ، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذى أسمعكما تقولانه ولست أدرى ما معناه؟ فقال: نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدرى. وقال محمد بن عبد الله بن مالك: سألنى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما: من بقى من المغنّين؟ قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى. فقال: صالح كيّس؛ ومن أيضا؟ قلت: أحمد بن يحيى المكىّ. قال: بخ بخ! ذاك المحسن المجمل الضارب المغنّى، القائم بمجلسه لا يحوج أهل المجلس الى غيره. وكانت وفاته في أوّل خلافة المستعين. ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة يكنّى أبا العباس. وكان موسى الهادى يسمّيه أبا الغريض. قال أبو الفرج: وهو حسن الصنعة غزيرها؛ وفيه يقول الشاعر: يا وحشتى بعدك يا هاشم ... غبت فشجوى بك لى لازم» اللهو واللّذّة يا هاشم ... ما لم تكن حاضره ماتم وقال الأصبهانىّ بسند رفعه إلى هاشم: أصبح موسى أمير المؤمنين يوما وعنده جماعة فقال: يا هاشم غنّنى: أبهار قد هيّجت لى أوجاعا فإن أصبت مرادى فيه فلك حاجة مقضية. قال: فغنّيته، وهو: أبهار قد هيّجت لى أوجاعا ... وتركتنى عبدا لكم مطواعا

ذكر أخبار يزيد حوراء

بحديثك الحسن الذى لو كلّمت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا وإذا مررت على البهار منضّدا ... فى السوق هيّج لى إليك نزاعا والله لو علم البهار بأنها ... أضحت سمّيته لصار ذراعا فقال: أصبت وأحسنت، سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر بأن يملأ هذا الكانون دراهم- وكان بين يديه كانون عظيم- فأمر به فملىء فوسع ثلاثين ألف درهم. فلمّا حصّلتها قال لى: يا ناقص الهمة، والله لو سألت أن أملأه لك دنانير لفعلت. فقلت: أقلنى يا أمير المؤمنين. قال: لا سبيل الى ذلك ولم يسعدك الجدّ به. وقد رويت هذه الحكاية في موضع آخر، وذكر أنّ الذى غنّاه غير هذا الشعر، وأن الكانون وسع ستّ بدر، فدفعها اليه. ذكر أخبار يزيد حوراء هو رجل من أهل المدينة من موالى بنى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويكنى أبا خالد. مغنّ محسن كثير الصنعة، من طبقة ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ. وكان ممن قدم على المهدىّ في خلافته فغنّاه. وكان حسن الصوت حلو الشمائل. فحسده إبراهيم الموصلىّ على شمائله وإشاراته في الغناء، فاشترى عدّة جوار وشاركه [فيهنّ «1» ] ، وقال له: علّمهنّ، فما رزق الله تعالى من ربح فيهنّ فهو بيننا. وأمرهنّ أن يجعلن وكدهنّ «2» أخذ إشاراته ففعلن ذلك. فكان إبراهيم يأخذها عنهنّ هو وابنه ويأمرهنّ بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك.

قال عبد الله بن العباس الرّبيعىّ: كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف منه ولا أشكل، وما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه. وكان يتعصّب لإبراهيم الموصلىّ على ابن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبّه على مواضع تقدّمه [وإحسانه «1» ] ، ويبعث بابنه إسحاق [إليه «2» ] يأخذ عنه. وحكى أبو الفرج بسند رفعه الى يزيد حوراء قال: كلّمنى أبو العتاهية في أن أكلّم المهدى في عتبة؛ فقلت: إن الكلام لا يمكننى، ولكن قل شعرا أغنّيه به؛ فقال: نفسى بشىء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهدىّ يكفيها إنى لأيأس منها ثم يطمعنى ... فيها احتقارك للدّنيا وما فيها قال: فعملت فيه لحنا وغنّيته. فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبى العتاهية؛ فقال: ننظر فيما سأل؛ فأخبرت بذلك أبا العتاهية. ثم مضى شهر فجاءنى فقال: هل حدث خبر؟ قلت لا. قال: فاذكرنى للمهدىّ. فقلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه به وتذكّره وعده حتى أغنّيه به؛ فقال: ليت شعرى ما عندكم ليت شعرى ... فلقد أخّر الجواب لأمر ما جواب أولى بكل جميل ... من جواب يردّ من بعد شهر قال يزيد: فغنّيت المهدىّ، فقال: علىّ بعتبة فأحضرت؛ فقال: إن أبا العتاهية كلّمنى فيك، فما تقولين ولك عندى وله ما تحبّان مما [لا «3» ] تبلغه أمانيكما؟ فقالت:

قد علم أمير المؤمنين ما أوجب الله علىّ من حقّ مولاتى، وأريد أن أذكر هذا لها. قال: فافعلى. قال: فأعلمت أبا العتاهية. ومضت أيام فسألنى معاودة المهدىّ؛ فقلت: قد عرفت الطريق، فقل ما شئت حتى أغنّيه به؛ فقال: أشربت قلبى من رجائك ما له ... عنق يخبّ إليك بى ورسيم وأملت نحو سماء جودك ناظرى ... أرعى مخايل برقها «1» وأشيم ولقد تنسّمت الرّياح لحاجتى ... فإذا لها من راحتيك نسيم ولربما استيأست ثم أقول لا ... إن الذى وعد النّجاح كريم قال يزيد: فغنّيته الشعر، فقال: علىّ بعتبة فجاءت؛ فقال: ما صنعت؟ فقالت: ذكرت ذلك لمولاتى فكرهته وأبت أن تفعل، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد. قال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه. فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال: قطّعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حلّ ومن ترحال ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلى ... وبنات وعدك يعتلجن ببالى ولئن طمعت لربّ برقة خلّب ... مالت بذى طمع ولمعة آل وقد حكى أبو الفرج أيضا هذه الحكاية واختصرها، ولم يذكر الأبيات التى منها أشربت قلبى من رجائك ماله إلا أنّه غيّر قوله: «أشربت قلبى» بقوله: «أعلمت نفسى من رجائك» . وقال: فصنع فيه يزيد لحنا وغنّاه المهدىّ. فدعا بأبى العتاهية وقال له: أما عتبة فلا سبيل إليها، لأن مولاتها قد منعت منها، ولكن هذه خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة فحملت إليه، فأخذها وانصرف.

ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء

وحكى عن حماد بن إسحاق قال: قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، وكانت تمرّ بى جارية تختلف الى الزرقاء تتعلّم منها الغناء. فقلت لها يوما: افهمى قولى وردّى جوابى وكونى عند ظنّى؛ فقالت: هات ما عندك. فقلت: بالله ما اسمك؟ فقالت: ممنّعة. فأطرقت طيرة من اسمها مع طمعى فيها، ثم قلت: بل باذلة ومبذولة إن شاء الله فاسمعى منّى. فقالت وهى تتبسّم: إن كان عندك شىء فقل. فقلت: ليهنك منّى أنّنى لست مفشيا ... هواك إلى غيرى ولو متّ من كربى ولا ما نحا خلقا سواك محبّة ... ولا قائلا ما عشت من حبكم حسبى فنظرت إلىّ طويلا ثم قالت: أنشدك الله، أعن فرط محبّة أم اهتياج غلمة [تكلمت «1» ] ؟ فقلت: لا والله إلا عن فرط محبّة. فقالت: فو الله ربّ الناس لا خنتك الهوى ... ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبى فثق بى فإنى قد وثقت ولا تكن ... على غير ما أظهرت لى يا أخا الحبّ قال: فو الله لكأنما أضرمت في قلبى نارا. فكانت تلقانى في الطريق الذى كانت تسلكه فتحدّثنى فأتفرّج بها؛ ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبنى وتلاطفنى دهرا طويلا. ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء هو رجل من أهل مكّة مولى لبنى مخزوم، وهو أحد مغنّى الدولة العبّاسية؛ له محلّ كبير من صناعته، وهو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرّشيد التى بنى أبو الفرج الأصفهانى كتابه المترجم بالأغانى عليها. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى: ما سمعت أحسن من غناء فليح وابن جامع. وكان المهدى لا يغنّيه مغنّ

إلا من وراء الستارة إلا فليح فإن الستارة كانت ترفع بينه وبين المهدىّ. وهو أوّل مغنّ نظر وجه المهدىّ. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدىّ قال: كتب إلىّ جعفر بن يحيى وأنا عامل الرشيد على [جند «1» ] دمشق: قد قدم علينا فليح بن أبى العوراء، فأفسد علينا بأهزاجه وخفيفه كلّ غناء سمعناه قبله. وأنا محتال لك في تخليصه إليك لتسمع منه كما أسمعنا. فلم ألبث أن ورد على فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار؛ فورد علىّ منه رجل أذكرنى لقاؤه الناس وأخبرنى أنه قد ناهز المائة. فأقام عندى ثلاث سنين، وأخذ جوارى عنه كلّ ما كان معه من الغناء، وانتشر بعض غنائه بدمشق. وروى أيضا بسنده إلى أحمد بن يحيى المكّىّ عن فليح بن أبى العوراء قال: كان بالمدينة فتى يعشق ابنة عمّ له، فوعدته أنها تزوره؛ وشكا إلىّ أنها تأتيه ولا شىء عنده؛ فأعطيته دينارا للنفقة. فلما زارته قالت له: من يلهينا؟ قال: صديق لى، ووصفنى لها؛ ودعانى فأتيته؛ وكان أوّل ما غنّيته: من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا فقامت إلى ثوبها فلبسته لتنصرف. فتعلّق بها وجهد كلّ الجهد في أن تقيم فم تفعل وانصرفت. فأقبل يلومنى في أن غنّيتها ذلك الصوت. فقلت: والله ما هو شىء اعتمدت به مساءتك ولكنّه شىء اتّفق. قال: فلم نبرح حتى عاد رسولها ومعه صرّة فيها ألف دينار، فدفعها إلى الفتى وقال: تقول لك ابنة عمّك: هذا مهرى، فادفعه إلى أبى واخطينى، ففعل وتزوّجها.

ذكر أخبار إبراهيم الموصلى عفا الله عنه

ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه هو إبراهيم بن ماهان بن ميمون، وأصله من فارس، ومولده في سنة خمس وعشرين ومائة بالكوفة، ووفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة. قالوا: ومات ماهان وترك إبراهيم صغيرا، فكفله آل خزيمة بن خازم، فكان ولاؤه لبنى تميم. وكان السبب فى نسبه إلى الموصل أنه لما كبر واشتدّ وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء وطلبه؛ فاشتدّ أخواله بنو عبد الله بن دارم عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب منهم إلى الموصل فأقام بها سنة؛ فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلىّ، فغلب عليه «1» ثم ارتحل إلى الرّىّ في طلب الغناء، فطال مقامه هناك، وأخذ الغناء الفارسى والعربى. قال إسحاق: حدّثنى أبى قال: أوّل شىء أعطيته بالغناء أنى كنت بالرىّ أنادم أهلها بالسويّة لا أرزؤهم شيئا ولا أنفق إلا من بقية مال كان معى. فمرّ بنا خادم أبو جعفر المنصور إلى بعض عمّاله برسالة، فسمعنى عند رجل من أهل الرّىّ فشغف بى وخلع علىّ دوّاج «2» سمّور له قيمة، ومضى بالرّسالة فرجع وقد وصله العامل بسبعة آلاف درهم وكسوة كثيرة، فجاءنى إلى منزلى الذى كنت أسكنه، فأقام عندى ثلاثة أيام ووهب لى نصف الكسوة [التى معه «3» ] وألفى درهم. وكان ذلك أوّل مال كسبته من الغناء. فقلت: والله لا أنفق هذه الدراهم إلّا على الصناعة التى أفادتنيها. ووصف لى رجل بالأبلّة «4»

اسمه: «جوانويه «1» » وكان حاذقا، فخرجت إليه، وصحبت فتيانها وأخذت عنهم وغنّيتهم فشغفوا بى. قال إبراهيم: ولما أتيت «جوانويه» لم أصادفه في منزله فأقمت حتى جاء. فلما رآنى احتشمنى وكان مجوسيا؛ فأخبرته بصناعتى والحال التى قصدته فيها؛ فرحّب بى وأفرد لى جناحا في داره ووكّل بى جارية «2» ، فقدّمت لى ما أحتاج إليه. فلما كان العشاء عاد إلى منزله ومعه جماعة من الفرس ممن يغنّى؛ فنزلت إليه فجلسنا وأخذوا فى شأنهم وضربوا وغنّوا؛ فلم أجد في غناء أحد منهم فائدة؛ وبلغت النّوبة إلىّ فضربت وغنّيت؛ فقاموا جميعا إلى فقبّلوا رأسى وقالوا: سخرت بنا، نحن إلى تعليمك إيّانا أحوج منك إلينا. فأقمت على تلك الحال أياما حتى بلغ [محمد بن «3» ] سليمان بن علىّ خبرى، فوجّه إلىّ فأحضرنى وأمرنى بملازمته. فقلت: أيها الأمير، لست أتكسّب بهذه الصناعة وإنما ألتذّ بالغناء فلذلك تعلّمته، وأريد العود الى الكوفة؛ فلم أنتفع بذلك عنده وأخذنى بملازمته وسألنى: من أين أنا؟ فانتسبت الى الموصل، فلزمتنى وعرفت بها. ولم أزل عنده مكرّما، حتى قدم عليه خادم المهدىّ. فلما رآنى عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عنّى. فلما قدم الخادم على المهدىّ سأله عمّا رأى في طريقه ومقصده، فأخبره بما رأى، حتى انتهى إلى ذكرى فوصفنى له. فأمره المهدىّ بالرّجوع وإشخاصى إليه، فجاء وأشخصنى إلى المهدىّ، وحظيت عنده وقدّمنى. قال: وما سمع المهدىّ قبلى أحدا من المغنّين سوى فليح بن أبى العوراء وسياط؛ فإن الفضل بن الربيع وصفهما له.

قال: وكان المهدىّ لا يشرب، فأرادنى على ملازمته وترك الشّرب، فأبيت عليه. وكنت أغيب عنه الأيام، فاذا جئته جئته منتشيا؛ فغاظه ذلك منّى وضربنى وحبسنى؛ فحذقت القراءة والكتابة في الحبس. ثم دعانى يوما فعاتبنى على شربى فى منازل الناس والتبذّل معهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلّمت «1» هذه الصناعة للذّتى وعشرة إخوانى ولو أمكننى تركها تركتها وجميع ما أنا فيه لله تعالى. فغضب غضبا شديدا وقال: لا تدخل على موسى وهارون، فو الله لئن دخلت عليهما لأفعلنّ وأصنعنّ. فقلت نعم. ثم بلغه أنّى دخلت عليهما وشربت معهما وكانا مشتهرين «2» بالنّبيذ، فضربنى ثلاثمائة سوط وستين سوطا. فقلت له وأنا أضرب: إن جرمى ليس من الأجرام التى يحلّ بها سفك دمى، وو الله لو كان سرّ ابنيك تحت قدمىّ ما رفعتهما عنه ولو قطعتا، ولو فعلت ذلك كنت في حالة أبان العبد «3» الساعى. فلما قلت ذلك ضربنى بالسيف في جفنه «4» فشجّنى، فسقطت مغشيّا علىّ. وقال لعبد الله ابن مالك: خذه إليك واجعله في مثل القبر. فدعا عبد الله بكبش فذبحه وسلخه وألبسنى جلده ليسكن الضّرب عنى، ودفعنى الى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركىّ، فجعلنى في قبر ووكّل بى جارية. فتأذّيت بنزّ كان في القبر وببقّ «5» . فقلت للجارية: أصلحى لى مجمرة وكندرا «6» ليذهب عنى هذا البقّ ففعلت. فلما دخّنت أظلم القبر وكادت نفسى تذهب، ثم خفّ ذلك وزال البقّ، وإذا حيّتان مقبلتان نحوى من شقّ في القبر تدوران حولى، فهممت أن آخذ واحدة بيدى اليمنى

والأخرى بيدى اليسرى، فإمّا علىّ وإمّا لى، ثم كفيتهما، فدخلتا في الثّقب الذى خرجتا منه. فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله، ثم أخرجت منه. وأحلفنى المهدىّ بالطّلاق والعتاق وكلّ يمين لا فسحة لى فيها ألّا أدخل على ابنيه موسى وهارون أبدا ولا أغنّيهما، وخلّى سبيلى. قال إبراهيم: وقلت وأنا في الحبس: ألا طال ليلى أراعى النجوم ... أعالج في السّاق كبلا ثقيلا بدار الهوان وشرّ الديار ... أسام بها الخسف صبرا جميلا كثير الأخلّاء عند الرخاء ... فلما حبست أراهم قليلا لطول بلائى ملّ الصديق ... فلا يأمننّ خليل خليلا قال: فلمّا ولى موسى الهادى الخلافة استتر إبراهيم منه ولم يظهر له بسبب الأيمان التى حلف بها للمهدىّ. فلم يزل يطلبه حتى أتى به فلما عاينه قال: يا سيّدى، [فارقت «1» ] أمّ ولدى أعز الخلق علىّ؛ ثم غنّاه: يابن خير الملوك لا تتركنّى ... غرضا للعدوّ يرمى حيالى فلقد في هواك فارقت أهلى ... ثم عرّضت مهجتى للزوال ولقد عفت في هواك حياتى ... وتغرّبت بين أهلى ومالى قال إسحاق بن إبراهيم: فموّله الهادى وخوّله؛ وبحسبك أنه أخذ منه مائة ألف وخمسين ألف دينار في يوم واحد، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضّة. قال حمّاد بن إسحاق قال لى أبى: والله ما رأيت أكمل مروءة من جدّك، وكان له طعام يعدّ أبدا في كل وقت. فقلت لأبى: كيف كان يمكنه ذلك؟ قال: كان له في كل يوم ثلاث شياه،

واحدة مقطّعة في القدور، وأخرى مسلوخة معلّقة، وأخرى قائمة في المطبخ؛ فإذا أتاه قوم طعموا ممّا في القدور، فإذا فرغت القدور قطّعت الشّاة المعلّقة ووضعت فى القدور وذبحت القائمة وأتى بأخرى فأقيمت في المطبخ. وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجرى وسوى كسوته. ولقد كان مرّة عندنا من الجوارى الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهنّ واحدة إلا ويجرى عليها من الطعام والكسوة والطّيب مثل ما يجرى لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة الى مولاها وصلها وكساها. ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها. وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: اشترى الرشيد من أبى جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة ثم أرسل الى الفضل بن الرّبيع وقال له: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها على صفة وليست كما ظنّنا وما قربتها، وقد ثقل علىّ الثمن وبينك وبينه ما بينكما؛ فاذهب اليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار. قال: فأتاه الفضل، فخرج اليه وتلقّاه؛ فقال له: دعنى من هذه الكرامة التى لا مؤنة فيها، قد جئتك فى أمر، ثم أخبره الخبر. فقال له إبراهيم: إنما أراد أن يبلو قدرك عندى. قال: هو ذاك؟ قال: فمالى في المساكين صدقة إن لم أضعفه لك، قد حططتك اثنى عشر ألف دينار. فرجع الفضل اليه بالخبر؛ فقال: ويحك! احمل اليه المال بجملته، فما رأيت سوقة أنبل «1» منه نفسا. قال إسحاق: وكنت قد أتيت أبى فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى ولا هو قليل يتغافل عنه، قال لى: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كملا ما أخذته إلا وهو كاره ولحقد ذلك، وكنت أكون

عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل وانبسطت نفسه وعظم قدرى عنده، وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار. فلما حمل اليه المال بكماله دعانى وقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم «1» أنت؟ فقلت: أنت، جعلنى الله فداك. قال: وإبراهيم أوّل من علّم الجوارى المثمّنات الغناء فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ ورفع من أقدارهنّ. ومن أخباره مع الرشيد ما روى عن إسحاق قال حدّثنى أبى قال: إنّ الرشيد غضب علىّ فقيّدنى وحبسنى بالرّقّة وجلس للشرب يوما في مجلس قد زينه وحسّنه. فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيب؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلىّ عنه. فأمره باحضارى؛ فأحضرت في قيودى، ففكّت عنّى بين يديه، وأمرهم فناولونى عودا؛ ثم قال: غنّ يا إبراهيم؛ فغنّيته: تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات فاستعاده وشرب وطرب وقال: هنأتنى وسأهنئك بالصلة، وقد وهبت لك الهنىء والمرىء «2» ، فانصرفت؛ فلما أصبحت عوّضت منهما مائتى ألف درهم. قال إبراهيم: دخلت على موسى الهادى فقال لى: يا إبراهيم، غنّ من الغناء ما ألذّ وأطرب عليه ولك حكمك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلنى زحل ببرده رجوت ذلك؛ فغنيّته: وإنى لتعرونى لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر

فضرب بيده إلى جيب درّاعته «1» فحطّه ذراعا؛ ثم قال: أحسنت والله! زدنى؛ فغنّيت: فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر فضرب بيده الى درّاعته فحطها ذراعا آخر وقال: زدنى ويلك! أحسنت والله ووجب حكمك؛ فغنّيت: هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر فرفع صوته وقال: أحسنت والله! لله أبوك! هات ما تريد. فقلت: يا سيّدى عين مروان بالمدينة. فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان وقال: يابن اللخناء! أردت أن تشهرنى بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكم عليه فتجعلنى سمرا وحديثا! يا إبراهيم الحرّانى «2» ، خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كلّ ما فيه فخلّه وإياه. فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار. وهذا الشعر لأبى صخر الهذلىّ، وأوّله: عجبت لسعى الدّهر بينى وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدّهر فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر ويا هجر ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه «3» الهجر وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر

ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى

أما والذى أبكى وأضحك والذى ... أمات وأحيا والذى أمره الأمر لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى كان لإبراهيم الموصلىّ مع البرامكة أخبار مستحسنة، سنورد منها طرفا. منها ما حكى عن مخارق قال: أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام وأعلمنا أنه يشتغل فيها مع الحرم. فمضى الجلساء أجمعون الى منازلهم وقد أصحبت السماء متغيّمة تطشّ طشيشا خفيفا. فقلت: والله لأذهبنّ الى أستاذى إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، وأمرت من عندى أن يسوّوا لنا مجلسا الى وقت رجوعى. فجئت الى إبراهيم، فدخلت اليه، فإذا هو جالس في رواق له والستارة منصوبة والجوارى خلفها؛ فدخلت أترنّم ببعض الأصوات وقلت له: ما بال السّتارة لست أسمع من ورائها صوتا؟ فقال: اقعد ويحك! إنى أصبحت فجاءنى خبر ضيعة تجاورنى قد والله طلبتها زمانا وتمنيتها ولم أملكها، وقد أعطى بها مائة ألف درهم. فقلت له: ما يمنعك منها؟ فو الله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر. قال: صدقت، ولكن لست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال. فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم؟ قال «1» : والله ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه! ثم قال: اجلس، خذ هذا الصوت. ثم نقر بقضيب على الدّواة وألقى علىّ هذا الصوت: نام الخلّيون من همّ «2» ومن سقم ... وبتّ من كثرة الأحزان لم أنم

يا طالب الجود والمعروف مجتهدا ... اعمد ليحيى حليف الجود والكرم قال: فأخذت الصوت وأحكمته. ثم قال لى: انصرف الى الوزير يحيى بن خالد فإنك تجد الناس على بابه قبل أن يفتح الباب، ثم تجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل اليه أحد، فإنه ينكر مجيئك ويقول: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟ فحدّثه بقصدك إيّاى وما ألقيت إليك من خبر الضيعة وأعلمه أنى قد صنعت هذا الصوت وأعجبنى ولم أر أحدا يستحقه إلا جاريته فلانة، وأنى ألقيته عليك [حتى أحكمته «1» ] لتطرحه عليها؛ فسيدعوها ويأمر بالستارة فتنصب ويوضع لها كرسىّ ويقول لك: اطرحه عليها بحضرتى؛ فافعل وأتنى بما يكون بعد ذلك من الخبر. قال مخارق: فجئت الى باب يحيى بن خالد فوجدته كما وصف. وسألنى فأعلمته بما أمرنى به؛ ففعل كل شىء قاله لى إبراهيم وأحضر الجارية فألقيته عليها. ثم قال لى: تقيم عندنا يا أبا المهنّأ أو تنصرف؟ فقلت: بل أنصرف، أطال الله بقاءك، فقد علمت ما أذن لنا فيه. فقال يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرة آلاف درهم واحمل الى أبى إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة. فحملت عشرة الآلاف معى، وأتيت منزلى وقلت: أسرّ يومى هذا وأسرّ من عندى. ومضى الرسول بالمال الى إبراهيم؛ فدخلت منزلى ونثرت على من عندى دراهم من تلك البدرة وتوسّدتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومى كلّه. فلما أصبحت قلت: والله لآتينّ أستاذى ولأعرفنّ خبره؛ فأتيته فوجدته كهيئته بالأمس ملى مثل ما كان عليه، فترنّمت وطربت فلم يتلقّ ذلك بما يجب؛ فقلت: ما الخبر؟ ألم يأتك المال بالأمس؟! فقال: بلى، فما كان خبرك أمس؟ فأخبرته بما كان وقلت: ما تنتظر؟ فقال: ارفع السّجف، فرفعته فإذا عشر بدر؛ فقلت: فأىّ شىء بقى عليك في أمر

الضيعة؟ فقال: ويحك! ما هو والله إلا أن دخلت منزلى حتى شححت عليها وصارت مثل ما حويت قديما. فقلت: سبحان الله! فتصنع ماذا؟ قال: قم حتى ألقى عليك صوتا صنعته يفوق ذاك. فقمت فجلست بين يديه؛ فألقى علىّ: ويفرح بالمولود من آل برمك ... بغاة النّدى، والسيف والرمح والنصل وتنبسط الآمال فيه لفضله ... ولا سيما إن كان والده الفضل قال مخارق: فلما ألقى علىّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قطّ وصغر في عينى الأوّل، فأحكمته. ثم قال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع جواريه اليوم؛ فاستأذن عليه وحدّثه بحديثنا وما كان من أبيه إلينا، وأعلمه أنى صنعت هذا الصوت وكان عندى أرفع منزلة من الصوت الأوّل الذى صنعته بالأمس، وأنى ألقيته عليك حتى أحكمته ووجّهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته. فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه؛ وسألنى عن الخبر، فأعلمته بخبرى وما وصل إلىّ وإليه من المال؛ فقال: أخرى الله إبراهيم! ما أبخله على نفسه! ثم دعا خادما فقال له: اضرب السّتارة، فضربها؛ فقال لى: ألقه. فلما ألقيته وغنّته الجارية لم أتمّه حتى أقبل يجرّ مطرفه، ثم قعد على وسادة دون الستارة وقال: أحسن والله أستاذك وأحسنت أنت يا مخارق. ولم أبرح حتى أحكمته الجارية؛ فسرّ بذلك سرورا عظيما وقال: أقم عندى اليوم. فقلت: يا سيّدى إنما بقى لنا يوم واحد، ولولا أنّنى أحبّ سرورك لم أخرج من منزلى. فقال: يا غلام، احمل مع أبى المهنّأ عشرين ألف درهم وإلى أبى إسحاق مائتى ألف درهم. فانصرفت إلى منزلى بالمال، وفتحت بدرة ونثرت منها على الجوارى وشربت وسررت أنا ومن عندى يومنا. فلما أصبحت بكّرت إلى إبراهيم أتعرّف خبره وأعرّفه خبرى، فوجدته على الحال

التى كان عليها أوّلا وآخرا؛ فدخلت أترنّم وأصفّق. فقال لى: أدن؛ فقلت: ما بقى عليك؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب؛ فرفعته فاذا عشرون بدرة مع تلك العشر. فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: ويحك! ما هو إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدّم. فقلت: والله ما أظن أحدا نال من هذه الدولة ما نلت! فلم تبخل على نفسك بشىء تمنيته دهرا وقد ملّكك الله أضعافه! ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت. فألقى علىّ صوتا أنسانى صوتى الأوّلين وهو: أفى كلّ يوم أنت صبّ وليلة ... إلى أمّ بكر لا تفيق فتقصر أحبّ على الهجران أكناف بيتها ... فيالك من بيت يحبّ ويهجر إلى جعفر سارت بنا كلّ جسرة ... طواها سراها نحوه والتهجّر إلى واسع للمجتدين فناؤه ... تروح عطاياه عليهم وتبكر - وهو شعر مروان بن أبى حفصة يمدح جعفر [بن يحيى «1» ]- قال مخارق: ثم قال لى إبراهيم: هل سمعت مثل هذا قطّ؟ فقلت: ما سمعت قط مثله! فلم يزل يردّده علىّ حتى أخذته، ثم قال لى: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأبيه وأخيه. قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك وأخبرته بما كان وعرضت عليه الصوت؛ فسرّ به ودعا خادما فأمره أن يضرب السّتارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسىّ؛ ثم قال: هات يا مخارق؛ فألقيت الصوت عليها حتى أخذته؛ فقال: أحسنت يا مخارق وأحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيّدى، هذا آخر أيامنا، وإنما جئت لموقع الصوت منّى حتى ألقيته على الجارية. فقال: يا غلام، احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلىّ ثلاثمائة ألف درهم. فصرت إلى منزلى بالمال وأقمت ومن عندى مسرورين نشرب طول يومنا ونطرب. ثم بكّرت إلى إبراهيم

فتلقّانى قائما، ثم قال لى: أحسنت يا مخارق! فقلت: ما الخبر؟ قال: اجلس فجلست؛ فقالت لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم عليه «1» ثم رفع السّجف فإذا المال. فقلت ما خبر الضّيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة «2» وهو متكىء عليها فقال: هذا صكّ الضّيعة اشتراها يحيى بن خالد وكتب إلىّ: «قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء هذه الضّيعة من مال يحصل لك ولو حويت الدنيا كلّها، وقد ابتعتها من مالى» . ووجّه إلىّ بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، وإذا خنكرت «3» فخنكر لمثل هؤلاء، ستمائة ألف، وضيعة بمائة ألف، وستون ألف درهم لك، حصّلنا ذلك أجمع وأنا جالس في مجلسى لم أبرح منه، متى يدرك مثل هؤلاء!. وروى عنه قال: أتيت الفضل بن يحيى يوما فقلت له: يا أبا العبّاس، جعلت فداك! هب لى دراهم فإن الخليفة قد حبس برّه. فقال: ويحك يا أبا إسحاق ما عندى ما أرضاه لك. ثم قال: هاه! إلا أنّ هاهنا خصلة، أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، ووجّه [الينا «4» ] بخمسين ألف دينار يشترى لنا بها محبّتنا. فما فعلت ضياء جاريتك؟ قلت: عندى جعلت فداك. قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها «5» منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار؛ فقبّلت رأسه ثم انصرفت. فبكّر علىّ رسول صاحب اليمن ومعه صديق له ولى، فقال: جاريتك فلانة [عندك «6» ] ؟ قلت: عندى. قال: اعرضها علىّ فعرضتها عليه؛ فقال: بكم؟ فقلت: بخمسين ألف دينار ولا أنقص منها دينارا واحدا، وقد أعطانى الفضل بن يحيى أمس هذه العطيّة،

فقال: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلّمة؟ وكان مشترى الجارية أربعمائة دينار، فلما وقع في أذنى ذكر ثلاثين ألف دينار أرتج علىّ ولحقنى زمع «1» ، وأشار علىّ صديقى الذى معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية حدث أو بى أو بالفضل «2» بن يحيى، فسلّمتها وأخذت المال. ثم بكّرت على الفضل، فإذا هو جالس وحده. فلما نظر إلىّ ضحك وقال لى: يا ضيّق العطن والحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار. فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو الله لقد دخلنى شىء أعجز عن وصفه وخفت أن تحدث بى حادثة أو بالجارية أو بالمشترى أو بك أعاذك الله من كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار. فقال: لا ضير، يا غلام جىء بجاريته، فجىء بها، فقال: خذ بيدها وانصرف بارك الله لك فيها، ما أردنا إلّا منفعتك ولم نرد الجارية. فلما نهضت قال لى: مكانك، إن رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفّذنا كتبه، وقد ذكر أنه قد جاء بثلاثين ألف دينار يشترى لنا بها ما نحبّ، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فانصرفت بالجارية. وبكّر علىّ رسول صاحب أرمينية ومعه صديق لى آخر، فقاولنى بالجارية؛ فقلت: لن أنقصها من ثلاثين ألف دينار. فقال لى: معى عشرون ألف دينار مسلّمة خذها بارك الله لك فيها. فدخلنى والله مثل الذى دخلنى في المرّة الأولى وخفت مثل خوفى الأوّل، فسلّمتها وأخذت المال. وبكّرت على الفضل، فإذا هو وحده. فلما رآنى ضحك وضرب برجله ثم قال: ويحك، حرمت نفسك عشرة آلاف دينار. فقلت: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرّة الأولى. فقال: لا ضير، [أخرج «3» ] يا غلام جاريته فجىء بها؛ فقال: خذها، ما أردناها وما أردنا إلا

منفعتك. فلما ولّت الجارية صحت بها: ارجعى فرجعت؛ فقلت: أشهدك جعلت فداك هى حرّة لوجه الله تعالى، وإنى قد تزوّجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لى في يومين خمسين ألف دينار فما جزاؤها إلا هذا. فقال: وفّقت إن شاء الله تعالى. وأخباره مع البرامكة كثيرة وصلاتهم له وافرة. وقد ذكرنا منها ما فيه غنية عن زيادة. فلنذكر وفاة إبراهيم. كانت وفاته ببغداد في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في يوم وفاته العباس بن الأحنف الشاعر، وهشيمة الخّمارة؛ فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلّى عليهم، فخرج وصلّى عليهم. قال إسحاق: لمّا مرض إبراهيم مرض موته ركب الرشيد حمارا ودخل على إبراهيم يعوده وهو جالس في الأبزن «1» ، فقال له: كيف انت يا إبراهيم؟ فقال: أنا والله يا سيّدى كما قال الشاعر: سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المدواى والحميم فقال الرشيد: إنّا لله! فخرج، فما بعد حتى سمع الواعية «2» عليه.

صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:

صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين: هذا آخر الجزء الرابع من نهاية الأرب في فنون الأدب. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى: كمل الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بآلنويرى عفا الله عنهم. تمّ الجزء الرابع من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوّله ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ

فهرس الجزء الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ (تابع) أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسية الى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء .... صفحة ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم 1 ذكر أخبار علّويه 9 ذكر أخبار معبد اليقطينى (صوابه: القطنى) 13 ذكر أخبار محمد الرّف 17 ذكر أخبار محمد بن الأشعث 19 ذكر أخبار عمرو بن بانه 21 ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى 22 ذكر أخبار وجه القرعة 30 ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر 32 ذكر أخبار أحمد بن صدقة 33 ذكر أخبار أبى حشيشة 35 ذكر أخبار القيان وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهن فى الإسلام 38

ذكر أخبار جميلة (مولاة بنى سليم) 41 ذكر أخبار عزّة الميلاء 50 ذكر أخبار سلّامة القسّ 52 ذكر أخبار حبابة 58 ذكر أخبار خليدة المكية 64 ذكر أخبار متيّم الهاشمية 65 ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (فى الأغانى طبع بلاق: شاجى) 69 ذكر أخبار دقاق 70 ذكر أخبار قلم الصالحية 71 ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس 73 ذكر أخبار جوارى ابن رامين (وهن سلّامة الززقاء، وربيحة، وسعدة) 75 ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ 78 ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ 82 ذكر أخبار بذل 88 ذكر أخبار ذات الخال 91 ذكر أخبار دنانير البرمكية 93 ذكر أخبار عريب المأمونية 95 ذكر أخبار محبوبة 112 ذكر أخبار عبيدة الطّنبورية 114 الباب السابع: فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ الى معرفته، وما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطرب 117

ذكر ما يحتاج اليه المغنّى ويضطر الى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر 117 ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب 122 القسم الرابع: فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب 127 الباب الأوّل: فى التهانى والبشائر 127 ذكر شىء مما هنىّء به ولاة المناصب 127 ومما هنّىء به من اتصل بزوجة ذات جمال وحسب وأصالة وأدب 131 ومما هنّئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا 132 ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم 135 ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والنسلية 136 ذكر نبذة من التهانى العامة والبشائر التامة 140 ومما قيل فى التهانى بالفتوحات وهزيمة جيوش الأعداء 145 الباب الثانى: فى المراثى والنوادب 164 ذكر شىء من المراثى والنوادب 168 ومما قيل فى شواذّ المراثى 217 الباب الثالث: فى الزهد والتوكل 230 ذكر بيان حقيقة الزهد 231

وأما العلم الذى هو المثمر لهذا الحال 233 وأما العمل الصادر عن حال الزهد 235 ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا 237 ذكر بيان ذم الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب 242 ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه 256 ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريّات الحياة 260 ذكر بيان علامات الزهد 272 ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته 275 أما فضيلته 275 وأما حقيقته 275 ذكر بيان أعمال المتوكلين 278 أما جلب النافع 278 وأما حفظ النافع 281 وأما دفع الضار عن النفس والمال 281 وأما إزالة الضرر 282 الباب الرابع: فى الأدعية 284 وأما ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء 287 وأما ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلة والإنابة 287 وأما ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء 288 وأما ما ورد فيمن تجاب دعواتهم 289 ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء 290 ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها 292

ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح والغدوّ والرواح والصلاة والصوم والجماع والنوم والورد والصدر والسفر والحضر وغير ذلك 304 فأما ما يقال عند المساء والصباح 304 وأما ما يقال عند النوم 306 وأما ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما 306 وأما ما يقال عند النداء 308 وأما ما يقال عند الدخول الخلاء 308 وأما ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء 308 وأما أدعية الصلاة 310 وأما ما يدعى به فى نفس الصلاة 310 وأما ما يدعى به بعد التسليم 313 وأما ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن 315 وأما ما يقال عند زيارة القبور 316 وأما ما يقال عند الإفطار من الصوم والأكل والشرب 317 وأما ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس 318 وأما ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق 319 وأما ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابة 321 وأما ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر 322 وأما ما يقال فى الخوف والشدائد 323 وأما ما يقال فى الغضب والفزع 324 وأما ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرّية 324 وأما ما يقال فى الزواج والجماع 327 وأما ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج 327

وأما ما يقال فى ردّ الضالّة 329 ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم 330 كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصية كل اسم منها وترتيب ذلك إلى عشرة أنماط 331 النمط الأوّل 331 النمط الثانى 331 النمط الثالث 332 النمط الرابع 333 النمط الخامس 334 النمط السادس 334 النمط السابع 335 النمط الثامن 336 النمط التاسع 337 النمط العاشر 337 وأما ما ورد فى الاسم الأعظم 337 صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصلين الفتوغرافيين 339

الجزء الخامس

الجزء الخامس [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] [القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها] [تتمة الباب السادس في الغناء والسماع] تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، وقد تقدّم نسبه فى أخبار أبيه. وكان الرشيد يولّع به فيكنيه أبا صفوان. قال أبو الفرج الأصفهانى فى ترجمة إسحاق: وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحلّه من الرواية، وتقدّمه فى الشعر، ومنزلته فى سائر المحاسن [1] أشهر من أن يدلّ عليها بوصف. قال: فأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له فى سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له فى هذا نظير. لحق بمن مضى فيه وسبق من قد بقى، وسهّل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا وقدوتهم ورأسهم ومعلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ والعامّ، ويشهد له به الموافق والمفارق. على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدّهم بغضا له لئلا يدعّى اليه ويسمّى به. وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر [2] به عندهم من الغناء لوليّته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به وأعفّ وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة. وقد روى الحديث ولقى أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة [وهشيم بن بشير [3]] وإبراهيم بن سعد وأبى معاوية الضرير وروح

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «المجالس» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لولا ما سبق إسحاق على ألسنة الناس وشهرته ... الخ» . [3] زيادة عن الأغانى.

ابن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته للغناء أضنّ خلق الله به وأشدّهم بخلا على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه ومتعصّبا له فضلا عن غيرهم. قال: وهو صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله. وقال محمد بن عمران الجرجانى: كان والله إسحاق غرّة فى زمانه، وواحدا فى عصره علما وفهما وأدبا ووقارا وجودة رأى وصحّة مودّة. وكان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، ولا تمجّ الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غنّاك أطربك. وما كانت خصلة من الأدب، ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته أو مناوأته فيه. حكى أبو الفرج عن إسحاق قال: دعانى المأمون وعنده إبراهيم بن المهدىّ وفى مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن شماله. فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته. فقال المأمون: أسمعت خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لإبراهيم بن المهدىّ: هل تسمع خطأ؟ قال لا. قال: فأعاد علىّ السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفى الجانب الأيسر. فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فى هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجوارى اللاتى على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثانية [1] ، فأمسكن وضربت الثانية [2] ، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ. فقال المأمون عند ذلك

_ [1] فى الأغانى: «الثامنة» . [2] فى الأغانى: «الثامنة» .

لإبراهيم بن المهدىّ: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا عرف الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألّا تماريه؛ قال: صدقت. وقال ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّانى إسحاق قطّ إلا ظننت أنه قد زيد فى ملكى، ولا سمعته قط يغنّى غناء ابن سريح إلا ظننت أنّ ابن سريح قد نشر، وإنى ليحضرنى غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندى بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندى رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننت أنه يتقدّمه ينقص. وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التى لم يحظ أحد بمثلها. ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ له بشطر ملكى. وحكى عن أحمد بن المكّى عن أبيه قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه، ولا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم جميعا ويفضلهم ويتقدّم عليهم. قال: وهو أوّل من أحدث المجتثّ ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب، وكان فى حلقه نبوّ عن الوتر. وحكى قال: سأل إسحاق الموصلىّ المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراد الغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك. ثم سأله بعد مدّة طويلة أن يأذن له فى الدخول مع الفقهاء فأذن له؛ قال: فكان يدخل ويده فى يد قاضى القضاة يحيى بن أكثم. ثم سأل إسحاق المأمون فى لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه فى المقصورة؛ قال: فضحك المأمون وقال: ولا كلّ هذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسئلة بمائة ألف دينار [1] وأمر له بها.

_ [1] فى الأغانى: «درهم» .

وكان لإسحاق مع إبراهيم بن المهدىّ مخاطبات ومنازعات ومحاورات بسبب الغناء، وكان الرشيد ينصر إسحاق على إبراهيم أخيه. من ذلك ما حكاه إسحاق قال: كنت عند الرشيد يوما، وعنده ندماؤه وخاصّته وفيهم إبراهيم بن المهدىّ؛ فقال لى الرشيد: غنّ: شربت مدامة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت فغنيته. فأقبل علىّ إبراهيم بن المهدىّ فقال لى: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت. فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنّه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمى حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتى وصناعة أبى، وهى التى قرّبتنا منك واستخدمتنا لك فأوطاتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بغير علم لم نجد بدّا من الإفصاح والذبّ؛ فقال: لا غرو ولا لوم عليك. وقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهدىّ علىّ وقال: ويحك يا إسحاق! أتجترئ علىّ وتقول لى ما قلت يا ابن الفاعلة! لا يكنى. فداخلنى ما لم أملك نفسى معه، فقلت له: أنت تشتمنى ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لى يا ابن الزانية. أو ترانى كنت لا أحسن أن أقول: يا ابن الزانية! ولكن قولى فى ذمّك ينصرف كله إلى خالك الأعلم [1] ، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه- قال إسحاق: وكان بيطارا- قال: ثم سكتّ، وعلمت أن إبراهيم سوف يشكونى إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: إنك تظن أن الخلافة [2] تصير اليك، فلا تزال تتهدّدنى بذلك وتعادينى كما تعادى سائر أولياء أخيك حسدا

_ [1] الأعلم: الذى بشفته العليا أو فى جانبيها شق. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن الخلافة لك ... »

له ولولده على الأمر! وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفّ بأوليائهم شفّيا، وأرجو ألا يخرجها الله من الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها. فإن صارت إليك- والعياذ بالله تعالى من ذلك- فحرام علىّ حينئذ العيش! والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدالك! قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، شتمنى إسحاق وذكر أمّى واستخفّ بى. فغضب وقال لى: ويلك! ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر. فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يربدّ الى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسّرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: لا ذنب له، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انفضّ المجلس وانصرف الناس أمر الرشيد بألّا أبرح. وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيرى، فساء ظنّى وهمّتنى نفسى. فأقبل علىّ وقال: يا إسحاق، أترانى لم أفهم قولك ومرادك! قد والله زنّيته ثلاث مرات! أترانى لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت! ويلك لا تعد! حدّثنى عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتصّ لك منه فأضربه وهو أخى يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قد قتلنى هذا الكلام، وإن بلغه ليقتلنّى، وما أشك أنه قد بلغه الآن. فصاح بمسرور وقال له: علىّ بإبراهيم فأحضر، وقال لى: قم فانصرف. فقلت لجماعة من الحدم- وكلهم كان لى محبّا وإلىّ مائلا ولى مطيعا-: أخبرونى بما يجرى؛ فأخبرونى من غد أنه لمّا دخل عليه وبّخه وجهّله وقال له: أتستحفّ بخادمى وصنيعتى وابن خادمى وصنيعتى وصنيعة أبى فى مجلسى! وتقدم علىّ وتستخفّ بمجلسى وحضرتى! هاه هاه هاه! وتقدم على هذا وأمثاله! وأنت مالك وللغناء! وما يدريك ما هو! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذى غذّى به وعلّمه وهو من صناعته! ثم تظن أنك

تخطّئه فيما لا تدريه، ويدعوك الى إقامة الحجة عليه [1] فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه! هذا مما يدلّ على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذّتك على مروءتك [2] وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل. ألا تعلم، ويحك، أن هذا سوء أدب وقلّة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والردّ القبيح! ثم قال: والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا برىء من المهدىّ إن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من دابّته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به. والله! والله! والله! فلا تعرض له وأنت أعلم [3] ! قم الآن فاخرج؛ فخرج وقد كاد يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت على الرشيد وإبراهيم عنده [فأعرضت عن إبراهيم [4]] فجعل ينظر إلىّ مرة وإليه مرة ويضحك؛ ثم قال: إنى لأعلم محبّتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقّه وبرّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد مستطيلة منبسطة ولسان منطلق. ثم قال لى: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه وقام إلىّ وأصلح الرشيد بيننا. قال أبو الفرج: وكان إسحاق جيّد الشعر، كان يقول الشعر وينسبه للعرب. فمن ذلك قوله: لفظ الخدور إليك حورا عينا ... أنسين ما جمع الكناس قطينا فإذا بسمن فعن كمثل غمامة ... أو أقحوان الرمل بات معينا وأصحّ ما رأت العيون محاجرا [5] ... ولهنّ أمراض ما رأيت عيونا

_ [1] فى الأغانى: عليك. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه وغلبت لذتك الخ» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأنت أعلم ولا تعرض له» . [4] زيادة عن الأغانى. [5] كذا بالأغانى، وفى الأصل: «جوارحا» .

فكأنما تلك الوجوه أهلّة ... أقمرن بين العشر والعشرينا وكأنهنّ إذا نهضن لحاجة ... ينهضن بالعقدات من يبرينا وأشعاره فى هذا النوع كثيرة. روى عن الأصمعىّ قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس [1] النفس؛ فأنشده إسحاق: وآمرة بالبخل قلت لها اقصرى ... فذلك شىء ما إليه سبيل أرى الناس خلّان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل وإنى رأيت البخل يزرى بأهله ... فأكرمت نفسى أن يقال بخيل ومن خير حالات التى لو علمته ... إذا نال خيرا أن يكون ينيل [2] فعالى فعال المكثرين تجمّلا ... ومالى كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأى أمير المؤمنين جميل! قال: فقال الرشيد: لا تخف [3] إن شاء الله؛ ثم قال: لله درّ أبيات تأتينا بها ما أشدّ أصولها، وأحسن فصولها، وأقلّ فضولها! وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها مائة ألف درهم. قال الأصمعىّ: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم منّى. قال أبو عبد الله بن حمدون: سأل المتوكل عن إسحاق، فعرّف أنه كفّ وأنه بمنزله ببغداد، فكتب فى إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير وأعطاه

_ [1] لقست نفسه (من باب فرح) : غئت وخبثت. [2] كذا فى الأغانى وكتب الأدب. وفى الأصل: ومن خير خلات الفتى قد علمته ... إذا قال خيرا أن يقال نبيل [3] كذا فى الأغانى: وفى الأصل: «لا كيف ان شاء الله» .

مخدّة وقال: بلغنى أن المعتصم دفع إليك فى أوّل يوم جلست بين يديه مخدّة، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ مثل إكرامه. ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى. فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبى محمد عودا؛ فجىء به فاندفع يغنّى بشعره: ما علّة الشيخ عيناه بأربعة ... تغرورقان بدمع ثم ينسكب قال ابن حمدون: فما بقى غلام من الغلمان الوقوف [على الحير [1]] إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] . ثم انحدر المتوكل الى الرّقة وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها؛ فغنّاه إسحاق: أأن هتفت ورقاء فى رونق الضّحى ... على فنن غضّ النبات من الرّند بكيت كما يبكى الوليد ولم تزل ... جليدا وأبديت الذى لم تكن تبدى فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة: طربت إلى أصيبية صغار ... وذكّرنى الهوى قرب المزار فكم أعطاك لمّا أذن لك فى الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار [2] ؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] وأذن له بالانصراف [3] . وكان آخر عهده بإسحاق. توفى بعد ذلك بشهرين. وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين. وكان يسأل الله تعالى ألا يبتليه بالقولنج [4] لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى فى منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنّك

_ [1] زيادة عن الأغانى. والجير: اسم قصر بسرّ من رأى بناه المتوكل وأنفقى على عمارته وأربعة آلاف ألف درهم. [2] فى الأغانى: «درهم» . [3] عبارة الأغانى: «وأذن له بالانصراف الى بغداد. وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق الخ» [4] مرض يصيب المعدة يعسر معه خروج الثفل والريح.

ذكر أخبار علويه

تموت بضدّه، فأصابه ذرب فى شهر رمضان، فكان يتصدّق فى كل يوم يمكنه صومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات فى الشهر. ولما نعى إلى المتوكل غمّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته. رحمه الله تعالى. ذكر أخبار علّويه هو أبو الحسن على بن عبد الله بن سيف. وجدّه سيف من الصّغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفّان واسترقّ منهم جماعة اختصهم لخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان علىّ هذا مغنّيا حاذقا، ومؤدّبا محسنا، وصانعا متقنا، وضاربا متقدّما، مع خفّة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر. وكان إبراهيم الموصلىّ علّمه وخرّجه وعنى بتحذيقه جدّا، فبرع وغنّى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكّل ومات بعد إسحاق الموصلى بيسير. وكان سبب وفاته أنه خرج عليه جرب، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء، فشرب الطلاء واطّلى بالدواء، فقتله ذلك. قال: وكان علّويه أعسر، فكان عوده مقلوب الأوتار: البمّ أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزّير؛ فكان عوده إذا كان فى يد غيره يكون مقلوبا، وإذا أخذه كان فى يده اليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا. وكان إسحاق يتعصّب له فى أكثر أوقاته على مخارق. وقال حماد ابن إسحاق: قلت لأبى: أيّما أفضل عندك مخارق أم [1] علّويه؟ فقال: يا بنىّ، علّويه أعرقهما فهما بما يخرج من رأسه، وأعلمهما بما يغنّيه ويؤدّيه، ولو خيّرت [2] بينهما من يطارح جوارىّ، أو شاورنى من يستنصحنى لما أشرت إلا بعلّويه؛ لأنه يؤدّى

_ [1] فى الأصل: «أو» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «خيرنى» .

الغناء، [و] [1] إذا صنع شيئا صنعه صنعة محكمة، ومخارق لتمكّنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدّى صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيّه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه. وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدّثنى أبى قال: اجتمعت مع إسحاق يوما فى بعض دور بنى هاشم، وحضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته: ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلىّ فهلّا نفس ليلى شفيعها! فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت! فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق وعينيه وجلس [2] بين يديه وسرّ بقوله سرورا كثيرا؛ ثم قال: أنت سيدى وابن سيدى [وأستاذى [3]] وابن أستاذى، ولى إليك حاجة. قال: قل، فو الله إنى أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل أنا عندك أم مخارق؟ فإنى أحبّ أن أسمع منك فى هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرّفنى به. فقال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، فلا ترد أن يجرى فى هذا شىء. قال: سألتك بحقّى عليك وبتربة أبيك وبكل حقّ تعظّمه إلا حكمت! فقال: ويحك! والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأمّا إذا أبيت إلا ذكر ما عندى، فلو خيّرت أنا من يطارح جوارىّ ويغنّينى لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيّتما بين يدى خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه وقام وقال: أفّ من رضاك وغضبك! وكان الواثق بالله يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلّى كلّ سابق نادر

_ [1] زيادة نراها لازمة. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وصلى» . [3] زيادة من الأغانى.

وثانى كل أوّل، وأصل كل متقدّم. وكان يقول: [غناء] [1] علّويه مثل نقر الطست يبقى ساعة فى السمع بعد سكوته. وقال عبد الله بن طاهر: لو اقتصرت على رجل واحد يغنّينى لما اخترت سوى علّويه؛ لأنه إن حدّثنى ألهانى، وإن غنّانى أشجانى، وإن رجعت إلى رأيه كفانى. وقال محمد بن عبد الله بن مالك: كان علّويه يغنّى بين يدى الأمين، فغنّى فى بعض غنائه: ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرّض بك ويستبطئ المأمون فى محاربته إياك؛ فأمر به فضرب خمسين سوطا وجرّ برجله حتى أخرج، وجفاه مدّة؛ حتى سأل كوثرا أن يترضّاه له فترضّاه له وردّه إلى الخدمة وأمر له بخمسة آلاف درهم [2] . فلما قدم المأمون تقرّب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحبّ، وقال: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرّض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا يقدر بعد ذلك على تلافى ما فرط منه؛ ثم قرب من المأمون بعد ذلك. قال علّويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقينى عبد الله بن إسماعيل المراكبى مولى عريب فقال: أيها الظالم المعتدى، أما ترحم ولا ترقّ! عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك فى نومها فى كل ليلة ثلاث مرات. قال [علّويه: فقلت أمّ الخلافة زانية] [1] ومضيت معه. فحين دخلت قلت: أستوثق من الباب فإنى أعرف الناس بفضول الحجّاب؛ وإذا عريب جالسة على كرسىّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتنى قامت فعانقتنى وقبّلتنى وقالت: أىّ شىء تشتهى؟

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «دينار» .

فقلت: قدرا من هذه القدور؛ فأفرغت قدرا بينى وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبّت رطلا فشربت نصفه وسقتنى نصفه؛ فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر. ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة فى شعر لأبى العتاهية أعجبنى، أفتسمعه [1] وتصلحه؟ فغنّت: عذيرى من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لى ولا إن صرت طوع يديه وإنّى لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فصيّرناه مجلسنا. وقالت: قد بقى فيه شىء؛ فلم أزل أنا وهى حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّى أنت أيضا فيه لحنا ففعلت، وجعلنا نشرب على اللحنين ثلاثا [2] . ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجونى، فدخلت على المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفّق وأغنّى بالصوت؛ فسمع المأمون والمغنّون ما لم يعرفوه فاستطرفوه، وقال المأمون: ادن يا علّويه وردّده، فردّدته عليه سبع مرات. فقال لى فى آخرها عند قولى: «يروق ويصفو إن كدرت عليه» : يا عليوه خذ الخلافة وأعطنى هذا الصاحب. وقال علّويه: قال إبراهيم الموصلىّ يوما: إنى قد صنعت صوتا وما سمعه منى أحد بعد، وقد أحببت أن أنفعك به وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، وو الله ما فعلت هذا بإسحاق قطّ، وقد خصصتك به، فآنتحله وادّعه، فلست أنسبه إلى نفسى، وستكسب به مالا. فألقى علىّ: إذا كان لى شيئان يا أمّ مالك ... فإنّ لجارى منهما ما تخيّرا فأخذته عنه وادّعيته، وسترته طول أيام الرشيد خوفا من أن أتّهم فيه وطول أيام الأمين، حتى حدث عليه ما حدث وقدم المأمون من خراسان، وكان يخرج

_ [1] كذا بالأغانى؛ وليس فى الأصل همزة الاستفهام. [2] فى الأغانى: «مليا» .

ذكر أخبار معبد اليقطينى

إلى الشّمّاسيّة فيتنزّه، فركبت يوما فى زلالى [1] وجئت أتبعه، فرأيت حرّاقة علىّ بن هشام، فقلت للملّاح: اطرح زلالى على الحرّاقة ففعل، واستؤذن لى فدخلت وهو يشرب مع الجوارى، وما كانوا يحجبون جواريهم، فغنيّته الصوت فاستحسنه جدّا وطرب عليه، وقال: لمن هذا؟ فقلت: هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك؛ فأزداد به عجبا وطربا، وقال للجارية: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسرّ بذلك وطرب، وقال لى: ما أجد لك مكافأة على هذه الهديّة إلا أن أتحوّل عن هذه الحرّاقة بما فيها وأسلمه إليك؛ فتحوّل إلى أخرى وسلّمت لى بخزانتها وجميع آلاتها وكل شىء فيها؛ فبعت ذلك بمائة ألف وخمسين ألف درهم، واشتريت ضيعتى الصالحيّة. وقال علّويه: خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها فى رقعة بخطّه وهى: خرجت إلى صيد الظّباء فصادنى ... هناك غزال أدعج العين أحور غزال كأنّ البدر حلّ جبينه ... وفى خدّه الشّعرى المنيرة تزهر فصاد مؤادى إذ رمانى بسهمه ... وسهم غزال الإنس طرف ومحجر فيا من رأى ظبيا يصيد، ومن رأى ... أخا قنص يصطاد قهرا ويقسر قال: فغنّيته فأمر لى بعشرين [2] ألف درهم. ذكر أخبار معبد اليقطينى قال أبو الفرج: كان معبد هذا غلاما مولّدا من مولّدى المدينة، أخذ الغناء عن جماعة من أهلها، واشتراه بعض ولد علىّ بن يقطين. وأخذ الغناء بالعراق عن إسحاق وابن جامع وطبقتهما، وخدم الرشيد ولم يخدم غيره من الخلفاء، ومات فى أيامه.

_ [1] زلال (على وزن غراب مضاف الى ياء المتكلم) : ضرب من سفن دجلة كالحراقة والطيار. [2] فى الأغانى: «عشرة آلاف» .

وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ حكاية عنه أحببت أن أذكرها فى هذا الموضع، وهى ما رواه بسنده إلى محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ، قال حدّثنى معبد الصغير المغنّى مولى على بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة أحدّثهم وألازمهم. فبينا أنا ذات يوم فى منزلى إذا أتانى آت فدقّ بابى، فخرج غلامى ثم رجع إلىّ فقال لى: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك؛ فأذنت له، فدخل شابّ ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيّا منه من رجل دنف عليه آثار السّقم [ظاهرة] [1] . فقال لى: إنى أحلول لقاءك منذ مدّة ولا أجد إلى ذلك سبيلا، وإن لى حاجة. فقلت: وما هى؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع فى بيتين قلتهما لحنا تغنّينى به. فقلت: هاتهما؛ فأنشدنى: والله يا طرفى الجانى على بدنى ... لتطفئنّ بدمعى لوعة الحزن أو لأبوحنّ [2] حتى يحجبوا سكنى ... فلا أراه وقد أدرجت فى كفنى قال: فصنعت فيه لحنا ثم غنيّته إياه، وأغمى عليه حتى ظننته قدمات، ثم أفاق فقال: أعد، فديتك! فنا شدته الله فى نفسه وقلت: أخشى أن تموت؛ فقال: هيهات! أنا أشقى من ذلك. وما زال يخضع لى ويتضرّع حتى أعدته، فصعق صعقة أشدّ من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت. فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عنى، قد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته، ولست أحبّ أن أشرك فى دمك. فقال: [يا] [1] هذا، لا حاجة لى فى الدنانير، وهذه مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ وقال: أعد الصوت علىّ مرة أخرى وحلّ لك دمى! فشرهت نفسى فى الدنانير،

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] كذا فى الاغانى، وفى الأصل: «أو لا توجن» ولا معنى له.

وقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هى؟ قلت: أولاهن أن تقيم عندى وتتحرّم بطعامى. والثانية أن تشرب أقداحا من النهيذ تطبّب [1] قلبك وتسكّن ما بك. والثالثة أن تحدّثنى بقصّتك. قال: أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذّر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره فى معناه وهو يشرب ويبكى، ثم قال: الشرط أعزّك الله! فغنيّته صوته فجعل يبكى أحرّ بكاء وينشج أشدّ نشيج وينتحب. فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شدّ قلبه، كررت عليه صوته مرارا. ثم قلت: حدّثنى حديثك، فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزّها فى ظاهرها وقد سال العقيق فى فتية من أقرانى وأخذانى، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة [2] منا، وبصرت منهن بفتاة كأنها قضيب قد طلّه الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن حتى تفرّق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبى جرحا بطيئا اندماله؛ فعدت إلى منزلى وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد فلم أر لها ولا لصواحبها أثرا، ثم جعلت أتتبّعها فى طرق [3] المدينة وأسواقها، وكأنّ الأرض أضمرتها فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس منى أهلى. وخلت بى ظئرى فاستعلمتنى حالى وضمنت لى كتمانها والسعى فيما أحبّه منها، فأخبرتها بقصتى؛ فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع وهى سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن؛ فإذا فعلن ورأيتها أتبعها حتى أعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها وأسعى لك فى تزويجها. فكأنّ نفسى اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت وتراجعت إلىّ نفسى. وجاء مطر بعقب ذلك وسال العقيق

_ [1] فى الأغانى: «تشد» . [2] ناحية. [3] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «طريق المدينة» .

وخرج الناس وخرجت مع إخوانى اليه، فجلسنا مجلسنا الأوّل بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسى رهان؛ فأومأت إلى ظئرى فجلست، وأقبلت على إخوانى فقلت: لقد أحسن القائل: رمتنى بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول: بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنّا ... نرى فرجا يشفى السّقام قريبا فسكتّ عن الجواب خوفا من أن يظهر منى ما يفضحنى وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئرى حتى عرفت منزلها، وصارت إلىّ فأخذت بيدى ومضينا إليها، فلم نزل نتلطّف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، حتى شاع حديثى وحديثها وظهر ما بينى وبينها، فحجبها أهلها وسدّوا أبوابها؛ فما زلت أجهد فى لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت ذلك إلى أبى لشدّة ما نالنى وسألته خطبتها لى. فمضى أبى ومشيخة أهلى إلى أبيها فحطبوها؛ فقال: لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقّق قول الناس فيها بتزويجه إياها؛ فانصرفت على يأس منها ومن نفسى. قال معبد: فسألته أن ينزل بجوارى، وصارت بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى ليشرب فأتيته، فكان أوّل صوت غنيّته صوتى فى شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طربا شديدا، وقال: ويحك! إن لهذا الصوت حديثا فما هو؟ فحدّثته، فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده؛ فقال: هى فى ذمتى حتى أزوّجك إياها؛ فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدّثه الحديث، فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر بأن أغنيّه الصوت

ذكر أخبار محمد الرف

فغنيته إياه وشرب عليه وسمع حديث الفتى؛ فأمر من وقته بكتاب الى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته؛ فلم تمض إلا مسافة الطريق حتى أحضروا. فأمر الرشيد بإحضار أبى الجارية إليه فأحضر، وخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألّا يخالف أمره؛ فأجابه وزوّجها إياه؛ وحمل الرشيد إليه ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة طريقه، وأمر للفتى بألف دينار ولى بألف دينار، وأمر جعفر لى وللفتى بألف دينار. وكان المدينىّ بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى. ذكر أخبار محمد الرف هو محمد بن عمرو مولى بنى تميم، كوفىّ المولد والمنشأ. والرفّ [1] لقب غلب عليه. وكان مغنيّا ضاربا صالح الصّنعة مليح النادرة. وكان أسرع خلق الله أخذا للغناء وأصحّهم أداء له وأذكاهم. وكان اذا سمع الصوت مرتين أو ثلاثا أدّاه لا يكون بينه وبين من أخذه عنه فرق فيه. وكان متعصّبا على ابن جامع مائلا إلى إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق، وكانا يرفعان منه ويقدّمانه ويأخذان له الصّلات من الخلفاء. وكانت فيه عربدة إذا سكر. فعربد بحضرة الرشيد مرة، فأمر بإخراجه ومنعه من الدخول إليه وجفاه وتناساه. قال أبو الفرج: وأحسبه مات فى خلافته أو خلافة الأمين. ومن أخباره فى جودة الأخذ وسرعة الحفظ ما رواه حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنّى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد: جسور على هجرى جبان عن الوصل ... كذوب عدات يتبع الوعد بالمطل مقدّم رجل فى الوصال مؤخّر ... لأخرى يشوب الجدّ فى ذاك بالهزل

_ [1] ورد فى أكثر أصول الأغانى المخطوطة والمطبوعة «الرف» بالراء المهملة، وورد فى بعض المواضع من أصول الأغانى «الزف» بالزاى المعجمة.

يهمّ بنا حتى إذا قلت قد دنا ... وجاذبنى عطفاه مال إلى البخل يزيد امتناعا كلما زدت صبوة ... وأزداد حرصا كلما ضنّ بالبذل فأحسن فيه ما شاء وأجمل، فغمزت عليه محمد الرفّ وفطن لما أردت، واستحسنه الرشيد وشرب عليه واستعاده مرتين أو ثلاثا. ثم قمت إلى الصلاة وغمزت الرف فجاءنى، وأومأت إلى مخارق وعلويّه وعقيد فجاءونى؛ فأمرته بإعادة الصوت فأعاده وأدّاه كأنه لم يزل يرويه؛ ولم يزل يكرره على الجماعة حتى غنّوه. ثم عدت إلى المجلس؛ فلما انتهى الدور إلىّ ابتدأت فغنيّته قبل كل شىء غنيّته. فنظر إلى ابن جامع محدّدا طرفه؛ وأقبل علىّ الرشيد وقال: أكنت تروى هذا الصوت؟ قلت: نعم يا سيّدى. فقال ابن جامع: كذب والله ما أخذه إلا منى الساعة. فقلت: هذا صوت أرويه قديما، وما فيمن حضر [أحد] [1] إلا وقد أخذه منّى. وأقبلت عليهم فقلت لهم: غنّوه؛ فغنّاه علّويه ثم عقيد ثم مخارق. فوثب ابن جامع فجلس بين يديه فحلف بحياته وبطلاق امرأته أنّ اللحن صنعه منذ ثلاث ليال وما سمع به قبل ذلك الوقت. فأقبل الرشيد علىّ وقال: بحياتى اصدقنى عن القصّة، فصدقته، فجعل يضحك ويصفّق ويقول: لكل شىء آفة، وآفة ابن جامع الرفّ. قال إسحاق بن إبراهيم: كان محمد الرفّ أروى خلق الله تعالى للغناء وأسرعهم أخذا لما سمعه، ليست عليه فى ذلك كلفة، إنما يسمع الصوت مرة واحدة وقد أخذه. وكنا معه فى بلاء إذا حضر، فكان [2] كل من غنّى منّا صوتا فسأله عدو له أو صديق بأن يلقيه عليه فبخل ومنعه إياه وسأل محمد الرفّ أن يأخذه فما هو إلا أن يسمعه مرّة واحدة حتى أخذه وألقاه على من سأله. قال: وكان أبى يبرّه ويصله ويجديه من

_ [1] زيادة من الأغانى. [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وكل من غنى الخ» .

ذكر أخبار محمد بن الأشعث

كل جائزة وفائدة تصل إليه. وكان محمد الرفّ مغرى بابن جامع خاصّة من بين المغنّين ليخله، وكان لا يفتح ابن جامع فاه بصوت إلا وضع عينه عليه وصغى بسمعه إليه حتى يحكيه. وكان فى ابن جامع بخل شديد لا يقدر معه على أن يسعفه ببرّ ورفد. وساق نحو ما تقدّم إلا أنه قال: إن الرّف أخذ الصوت لأوّل مرة وألقاه على إسحاق فأخذه عنه فى ثلاث مرار. قال حماد: وللرفّ صنعة يسيرة، وذكر منها أصواتا. ذكر أخبار محمد بن الأشعث قال أبو الفرج: كان محمد بن الأشعث القرشىّ ثم الزّهرىّ كاتبا، وكان من فتيان أهل الكوفة وظرفائهم، وكان يقول الشعر ويغنّى فيه. فمن ذلك قوله فى سلّامة زرقاء ابن رامين: أمسى لسلّامة الزرقاء فى كبدى ... صدع يقيم طوال الدهر والأبد لا يستطيع صناع القوم يشعبه ... وكيف يشعب صدع الحبّ فى الكبد إلّا بوصل التى من حبّها انصدعت ... تلك الصدوع من الأسقام والكمد وكان ملازما لابن رامين ولجاريته سلّامة الزرقاء، فشهر بذلك، فلامه قومه فى فعله فلم يحفل بمقالتهم؛ وطال ذلك منه ومنهم، حتى رأى بعض ما يكره فى منزل ابن رامين، فمال الى سحيقة جارية زريق ابن منيح مولى عيسى بن موسى، وكان زريق شيخا كريما نبيلا، يجتمع إليه أشراف أهل الكوفة من كل حىّ، وكان الغالب على منزله رجلا من ولد القاسم بن عبد الغفار العجلىّ كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين؛ فتلازما على ملازمة زريق. وفى ذلك يقول محمد بن الأشعث:

يابن رامين بحت بالتصريح ... فى هواى سحيقة ابن منيح قينة عفّة ومولى كريم ... ونديم من اللّباب الصريح ربعىّ مهذّب أريحىّ ... يشترى الحمد بالفعال الرّبيح نحن منه فى كل ما تشتهى الأن ... فس من لذّة وعيش نجيح عند قوم من هاشم فى ذراها ... وغناء من الغزال المليح فى سرور وفى نعيم مقيم ... قد أمنّا من كل أمر قبيح فاسل عنّا كما سلوناك إنّى ... غير سال عن ذات نفسى وروحى حافظ منك كل ما كنت قد ض ... يّعت مما عصيت فيه نصيحى فالقلى ما حييت منى لك الده ... ر بودّ لمنيّتى ممنوح يابن رامين فالزمن مسجد الح ... ىّ بطول الصلاة والتسبيح قال عمر بن نوفل وهو راوى هذه الأبيات: فلم يدع ابن رامين شريفا بالكوفة إلا تحمّل به على ابن الأشعث وهو يأبى أن يرضى عنه وأن يعاود زيارته، حتى تحمّل عليه بالجحوانىّ، وهو محمد بن بشر بن جحوان الأسدىّ وكان يومئذ على الكوفة، فكلّمه فرضى عنه وعاد إلى زيارته، ولم يقطع منزل زريق. وقال فى سحيقة: سحيقة أنت واحدة القيان ... فما لك مشبه فيهنّ ثانى فضلت على القيان بفضل حذق ... فحزت على المدى قصب الرّهان سجدن لك القيان مكفّرات ... كما سجد المجوس لمرزبان ولا سيما إذا غنّت بصوت ... وحرّكت المثالث والمثانى شربت الخمر حتى خلت أنى ... أبو قابوس أو عبد المدان فإعمال اليسار على الملاوى ... ومن يمناك ترجمة البيان

ذكر أخبار عمرو بن بانة

ولمحمد بن الأشعث أصوات له فيها غناء. منها: رحبت بلادك يا أمامه ... وسلمت ما سجعت حمامه وسقى ديارك كلما ... حنّت الى السّقيا غمامه إنّى وإن أقصيتنى ... شفق [1] أحبّ لك الكرامه وأرى أمورك طاعة ... مفروضة حتى القيامه وله غير ذلك من الأصوات. ذكر أخبار عمرو بن بانة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف. وكان أبوه صاحب ديوان ووجها من وجوه الكتّاب، ونسب إلى أمه. وكان مغنّيا محسنا، وشاعرا صالح الشعر، وصنعته صنعة متوسّطة، وكان مرتجلا. قال: وكتابه فى الأغانى أصل من الأصول. وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدىّ فى الغناء، ويخالف إسحاق ويتعصّب عليه تعصّبا شديدا ويواجهه بنفسه. وهو معدود فى ندماء الخلفاء ومغنّيهم، على ما كان به من الوضح. وفيه يقول الشاعر: أقول لعمرو وقد مرّ بى ... فسلّم تسليمة جافيه لئن فضّلوك بفضل الغنا ... ءفقد فضّل الله بالعافيه وقال أحمد بن حمدون: كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ عنه الغناء، حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه [عمرو [2]] لم يشكّ فى أنه هو الذى أخذ عنه، لحسن حكايته. وكان محظوظا ممن يعلّمه، ما علّم أحدا قطّ إلا خرج نادرا مبرّزا. وله أخبار مع الخلفاء وإنعام منهم عليه، منهم المتوكل على الله. رحمه الله.

_ [1] فى الأغانى: «سفها» . [2] زيادة عن الأغانى.

ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى

ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعىّ هو أبو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع، على ما يدّعيه أهله، ابن يونس بن أبى فروة. وآل أبى فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذا كفله يونس، فلما خدم المنصور ادّعى إليه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان شاعرا مطبوعا ومغنّيا محسنا جيّد الصنعة نادرها. قال: وهو أوّل من غنّى بالكنكلة فى الإسلام. وكان سبب دخوله فى الغناء على ما رواه أبو الفرج بسنده إليه قال: كان سبب دخولى فى الغناء وتعلّمى إياه أنّى كنت أهوى جارية لعمّتى رقيّة بنت الفضل ابن الربيع، وكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندى، فيكون ذلك سبب منعى منها؛ فأظهرت لعمّتى أنى أشتهى أن أتعلّم الغناء ويكون ذلك فى ستر عن جدّى- وكان جدّى وعمّتى على حال من الرقّة علىّ والمحبّة لى لا نهاية وراءها، لأن أبى توفّى فى حياة جدّى الفضل- فقالت: يا بنىّ، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبى، إن منعت منها متّ غمّا- قال: وكان لى فى الغناء طبع قوىّ- فقالت لى: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحبّ منعك من شىء، وإنى كارهة أن تحذق فى ذلك وتشتهر فتسقط ويفتضح أبوك وجدّك. فقلت: لا تخافى من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به. ولازمت الجارية لمحبتى إياها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا وأقرّت لى بذلك، وبلغت ما كنت أريد من الجارية، وصرت ألازم مجلس جدّى. ثم لم يكن يمرّ لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزّبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، وكنت سريع الأخذ، إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا

وقد صحّ لى. وأحسست فى نفسى قوّة فى الصناعة، فصنعت أوّل صوت صنعته فى شعر العرجىّ: أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها ... وأدنت على الخدّين بردا مهلهلا ثم صنعت: أقفر من بعد خلّة شرف ... فالمنحنى فالعقيق فالجرف وعرضتهما على الجارية التى كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت: لا يجوز أن يكون فى الصنعة فوق هذا. وكان جوارى الحارث بن بسخنّر وجوارى أبيه يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جوارى عمّتى وجوارى جدّى ويأخذن أيضا ما ليس عندهن، فأخذنهما منّى، وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتى. ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيّدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفا من عمّتى وحذرا أن يبلغ جدّى أنها ذكرتنى؛ فانتهرها الرشيد فأخبرته القصّة؛ فوجّه من وقته فدعا بجدّى فقال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغنّى ثم يبلغ فى الغناء المبلغ الذى يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جوارى القيان فلا تعلمنى بذلك، كأنك رفعت قدره عن خدمتى فى هذا الشأن! فقال له جدّى: وحقّ ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا برئ من بيعتك وعلىّ العهد والميثاق [1] والعتق والطلاق إن كنت علمت بشىء من هذا قط إلا منك الساعة. [فمن هذا من ولدى؟ قال: عبد الله بن العباس هو [2] ، فأحضرنيه. الساعة [3]] . فجاء جدّى وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعانى؛ فلما خرجت إليه شتمنى

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «والبيان» . [2] لعل العبارة: «هو عبد الله ابن العباس» . [3] زيادة عن الأغانى.

وقال: [يا كلب [1]] بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذنى! ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجوارى فى دارى، ثم تجاوزهن إلى جوارى الحارث بن بسخنّر، فاشتهرت، وبلغ أمير المؤمنين فتنكّر لى ولا منى، وفضحت آباءك فى قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنّين! فبكيت مما جرى علىّ وعلمت أنه صدقنى؛ فرحمنى وضمّنى إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتى فى أبيك مصيبتين، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهى موصولة بحياتى، ومصيبة [2] باقية العار علىّ وعلى أهلى بعدى، وبكى وقال: عزّ علىّ يا بنىّ أنّى أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ؛ وليست لى فى هذا الأمر حيلة لإنه أمر قد خرج عن يدى. وقال: جئنى بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة فى هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفردا وعرّفته خبرك واستعفيته لك. فأتيت بعود وغنّيته غناء قديما؛ فقال: لا، بل صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيّته إياهما، فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بنىّ وخاب أملى فيك. فوا حزنا عليك وعلى أبيك! فقلت: ليتنى متّ قبل ما أنكرته أو أخرست! ومالى حيلة! لكنى وحياتك يا سيّدى- وإلا فعلىّ عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها [حالف [3]] لازمة [لى [3]]- لا غنيّت أبدا إلا لخليفة أو ولىّ عهد. فقال: قد أحسنت فيما نبهت [4] عليه من هذا. فركب وأمر بى فأحضرت، ووقفت بين يدى الرشيد وأنا أرعد؛ فاستدعانى واستدنانى حتى صرت أقرب الجماعة إليه، ومازحنى

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: مصيبته، ولعلها: مصيبتك. [3] زيادة عن الأغانى. [4] الذى فى أساس البلاغة: «تنبهت على الأمر: تفطنت له» .

وأقبل علىّ وسكّن منى [1] ، وأمر جدّى بالانصراف؛ وأما إلى الجماعة فحدّثونى وسقيت أقداحا [2] وغنّى المغنون جميعا؛ وأومأ إلىّ إسحاق بعينه أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أملح وأجمل بك. فلما جاءت النّوبة إلىّ أخذت عودا ممن كان إلى جنبى وقمت قائما واستأذنت فى الغناء؛ فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا؛ فغنيّت لحنى الأوّل، فطرب واستعاده ثلاث مرّات وشرب عليه ثلاثة أنصاف. ثم غنيّت الثانى فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرور وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابى وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك كله معى. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولىّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعانى وأمرنى أن أغنّى، فأعرّفه يمينى فيستأذن الخليفة فى ذلك، فإن أذن لى فى الغناء علم أنه ولىّ عهد وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعانى فى ايام المعتصم وسأله أن يأذن لى فى الغناء، فأذن لى ثم دعانى من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّى وأسرار الخلفاء قبلى! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك! لا يبلغنى أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فو الله لئن امتنعت لأضربن عنقك! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلّق من كان عندك يومئذ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة. فقمت وأنا لا أعقل جزعا منه؛ فأعتقت جميع ما كان بقى عندى من مماليكى الذين حلفت يومئذ وهم فى ملكى ثم تصدّقت بجملة، واستفتيت فى يمينى أبا يوسف القاضى حتى خرجت منها؛ وغنيّت بعد ذلك إخوانى جميعا حتى اشتهر أمرى، وبلغ المعتصم خبرى فتخلّصت منه.

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأقبل على الجماعة وشكر منى الخ» . [2] فى الأغانى: «وسقيت الجماعة وغنى الخ» .

وروى أبو الفرج أيضا عن الصّولىّ عن الحسين بن يحيى قال: قلت لعبد الله ابن العباس: إنه بلغنى لك خبر مع الرشيد أوّل ما شهرت بالغناء فحدّثنى به؛ فقال: نعم! أوّل صوت صنعته: أتانى يؤامرنى فى الصّبو ... ح ليلا فقلت له غادها فلما دار [1] لى وضربت عليه بالكنكلة، عرضته على جارية [2] لنا يقال لها راحة، فاستحسنته، وأخذته عنى. وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلى، فسمعها يوما تغنيّه وتناغى [3] به جارية من جواريه، فآستعادها إياه فأعادته؛ فقال: لمن هذا الصوت؟ قالت: صوت قديم. قال: كذبت، لو كان قديما لعرفته. وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له أنه من صنعتى، فعجب من ذلك. ثم غناه يوما بحضرة الرشيد ليغرب به على المغنّين؛ فاستحسنه الرشيد، فقال له: لمن هذا يا إبراهيم؟ فأمسك عن الجواب وخشى أن يكذبه فينمى إليه الخبر من غيره، وخاف من جدّى إن يصدقه؛ فقال له: مالك لا تجيبنى؟ قال: ما يمكننى يا أمير المؤمنين. فاستراب بالقصّة، فأقسم الرشيد أنه إن لم يعرّفه عاقبه عقوبة توجعه، وتوهّم أنه لعليّة بنت المهدىّ أو لبعض حرمه فأستطير غضبا. فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه وبينه سرّا. فدعا لوقته بالفضل بن الربيع وقال له: أيصنع ولدك غناء يرويه الناس ولا تعرّفنى! فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا فى وقته ذلك. وساق باقى الخبر نحو ما تقدّم. قال عبد الله بن العباس: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنّيه وقد استعادنى صوتا فأعدته، فآستحسنه محمد بن عبد الملك [وقال: [4]] هذا والله

_ [1] فى الأغانى: «تأتى لى» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «على جارة» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «تغانى» . [4] زيادة نراها لازمة.

يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه وإصغائك إليه؛ فقال: أجل! هذا والله مولاى وابن موالىّ لا يعرفون غير ذلك. فقال: ليس كل مولى يا أمير المؤمنين مولى لمواليه، ولا كل مولى يتجمّل بولائه يجمع ما جمعه عبد الله من ظرف وأدب وصحّة عقل وفضل علم وجودة شعر. فقال له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لحسن محضره، فقلت فى أضعاف كلامى: وأفرط الوزير، أعزّه الله تعالى، فى وصفى وتقريظى بكل شىء حتى وصفنى بجودة الشعر، وليس ذلك عندى، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة. ولو كان عندى أيضا شىء من ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ويحكيه فى هذا المجلس الرفيع المشهور [1] . فقال: والله يا أخى لو عرفت مقدار قولك: يا شادنا رام إذ م ... رّ فى الشّعانين [2] قتلى يقول لى: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلى لما قلت هذا القول. والله لو لم يكن لك شعر فى عمرك إلا قولك: «كيف يصبح مثلى» لكنت شاعرا مجيدا. وهذا الشعر قاله عبد الله بن العباس فى نصرانية كان يهواها ولا يصل إليها إلا إذا خرجت إلى البيعة. وله معها أخبار وأشعار له فيها أصوات. منها قوله: إنّ فى القلب من الظّبى كلوم ... فدع اللّوم فإنّ اللّوم لوم حبذا يوم الشّعانين وما ... نلت فيه من نعيم لو يدوم إن أكن أعظمت أن همت به ... فالذى تركب من عذلى عظيم لم أكن أوّل من سنّ الهوى ... فدع العذل فذا داء قديم

_ [1] لعله «المشهود» . [2] الشعانين: عيد للنصارى قبل الفصح بأسبوع.

وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبير قال: كنا عند أبى عيسى بن الرشيد فى زمن ربيع وعندنا مخارق وعلّويه وعبد الله بن العباس الربيعىّ وعبد الله بن الحارث بن بسخنّر ونحن مصطبحون فى طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتّح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيّمة غيما مطبقا وقد بدأت ترشّ رشّا ساكبا، فنحن فى أكمل نشاط وأحسن يوم، إذ خرجت قيّمة دار أبى عيسى فقالت: يا سيّدى، قد جاءت عساليج؛ قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه. قال: فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة والأدب فى يدها عود فسلّمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست. وغنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، لم تدع أحدا ممن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته فأدّته على غاية الإحكام؛ فطربنا واستحسنّا غناءها وخاطبناها بالاستحسان؛ وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر اليها. فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتى يا عبد الله! فقال: لا والله يا سيّدى وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء. فقال له: ويحك! فهذا والله هو العشق وسببه. ورب جدّ جرّه اللعب. قال: وشربنا؛ فلما غلب النبيذ على عبد الله غنّى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنّى فيما بينها هزجا فى شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو: نطق المكتوم منّى فبدا ... كم ترى المكتوم منّى لا يضح سحر عينيك إذا ما رنتا ... لم يدع ذا صبوة أو يفتضح ملكت قلبا فأمسى غلقا ... عندها صبا بها لم يسترح [1]

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: ملكت نفسى وأمسى علقا ... عندنا صبا بها لم يسترح

بجمال وغناء حسن ... جلّ عن أن ينتقيه [1] المقترح أورث القلب هموما ولقد ... كنت مسرورا بمرآه فرح ولكم مغتبق همّا وقد ... باكر اللهو بكور المصطبح فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، صح والله قولى لك فى عساليج وأنت تكابر حتى فضحك السّكر. فجحد وقال: هذا غناء كنت أرويه. فخلف أبو عيسى أنه ما قاله وما غنّاه إلا فى يومه؛ وقال له: احلف بحياتى أنّ الأمر ليس هو كذلك! فلم يفعل. فقال أبو عيسى: والله لو كانت لى لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى ابن معاذ، وو الله إن باعوها لأملّكنّك إياها ولو بكل ما أملك! ووحياتى لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك. ثم دعا بحافظتها وخادما من خدمه فوجّه بها معهما إلى منزله. والتوى عبد الله قليلا وتجلّد ثم انصرف. واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقيّة بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت. قال: وقالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغنى أنك عشقت جارية اسمها عساليج، فأعرضها علىّ، فإما أن عذرتك أو عذلتك؛ فوجّه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هى يا سيّدتى، فاسمعى وانظرى ثم مرينى بما شئت أطعك. فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله، أتشاور فىّ! فو الله ما شاورت فيك لمّا سحبتك. فقالت بذل: أحسنت والله يا صبيّة! ولو لم تحسنى شيئا و [لا [2]] كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقى لهذه الكلمة. ثم قالت لعبد الله: ما ضيّعت، احتفظ بصاحبتك هذه. وقال حمدون بن إسماعيل: دخلت يوما على عبد الله بن العباس الربيعىّ وخادم له يسقيه، وبيده عود وهو يغنّى:

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن يقنفيه» . [2] التكملة عن الأغانى.

ذكر أخبار وجه القرعة

إذا أصطبحت ثلاثا ... وكان عودى نديمى والكأس تضحك [1] ضحكا ... من كفّ ظبى رخيم فما علىّ طريق ... لطارقات الهموم فما رأيت أحسن مما حكى حاله فى غنائه ولا سمعت أحسن مما غنّى. ومن صنعته وشعره قوله: صدع البين الفؤادا ... إذ به الصائح نادى بينما الأحباب مجمو ... عون إذ صاروا فرادى فأتى بعض بلادا ... وأتى بعض بلادا كلما قلت تناهى ... حدثان [2] الدّهر زادا ذكر أخبار وجه القرعة هو أبو جعفر محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور، ويلقّب وجه القرعة، أحد المغنّين الحذّاق الضّرّاب الرواة. أخذ الغناء عن إبراهيم الموصلىّ وطبقته. وكان حسن الأداء طيّب الصوت لا علّة فيه، إلا أنه كان إذا غنّى الهزج خاصّة خرج لا لسبب يعرف، إلا أنه [إن [3]] تعرّض للحنين فى جنس من الأجناس فلا يصح له البتة. وروى أبو الفرج بسنده عن محمد الهاشمىّ أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ عند عمه هارون بن عيسى وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن

_ [1] فى الأغانى: «تغرب» . [2]- هذه رواية الأغانى. وفى الأصل: كلما قلت تناهت ... حادثات الدهر زادا [3] زيادة عن الأغانى.

حمزة وجه القرعة، وكان شرس الأخلاق أبىّ النفس، وكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به؛ فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتى به فغنّى: مرّ بى سرب ظباء ... رائحات من قباء زمرا نحو المصلّى ... يتمشّين حذائى فتجاسرت وألقي ... ت سرابيل الحياء وقديما كان لهوى ... وفنونى بالنساء قال: وكان يحسنه ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة أرطال، ثم قال: أحسنت يا غلام! هذا الغناء لى وأنت تتقدّمنى فيه! ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه. وقال أيضا: كنا فى البستان المعروف ببستان خالص النصرانىّ ببغداد، ومعنا محمد ابن حمزة وجه القرعة وهو يغنينا: يا دار أقفر رسمها ... بين المحصّب والحجون يا بشر إنى فاعلمى ... والله مجتهداً يمينى ما إن صرمت حبالكم ... فصلى حبالى أو ذرينى فإذا برجل راكب على حمار يؤمّنا وهو يصيح: أحسنت والله! فقلنا: أصعد إلينا كائنا من كنت؛ فصعد وقال: لو منعتمونى من الصعود لما امتنعت؛ ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق. فقال: يا أبا جعفر، أعد علىّ صوتك فأعاده، وشرب رطلا من شرابنا وقال: لولا أنى مدعوّ الخليفة لأقمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذى هو أحسن من النزهة غبّ المطر. وله مع إسحاق بن إبراهيم ومخارق أخبار شهدا له فيها بحسن الصنعة؛ وكفاه ذلك فضلا فى صناعته.

ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر [1]

ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر [1] قال أبو الفرج الأصفهانى: هو من أهل الرّىّ، مولى المنصور، من ولد بهرام شوبين مرزبان الرىّ. قال: وهو مرتجل قليل الصّنعة حسن الغناء والنغم بقوّة وشجا واقتدار شديد على الغناء، وكان فى زمانه أحد المعدودين فى حسن الأدب وتمام المروءة وحسن الزّىّ والآلة، وكان عظيم التّيه رفيع الهمة، وكانت له منزلة عند المأمون. قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم ومعه عدّة من المغنّين، فجلس يوما والمعتصم والعباس معه من حيث لا نراهم وهم يسمعون غناءنا؛ فغنّى المغنّون جميعا وغنّيت هزجا لإسماعيل بن جامع، فبعث إلىّ المأمون بأصل شاهشفرم [2] وقد لفّ أصله بمنديل حرير؛ فجاءنى به الغلام وقال: أعد الصوت؛ فأخذته وشممته ووثبت فأعدته قائما، ووضعت الأصل بين يدى وشربت رطلا وقلت للمغنّين: حكم لى أمير المؤمنين بالحذق والغناء. فقالوا: وكيف؟ قلت: دفع إلىّ لواء الغناء من بينكم. فقالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع إلىّ فقال: هو كما ذكرت. قال أبو العنبس بن حمدون: كان محمد بن الحارث أحسن خلق الله شمائل وإشارة إذا غنّى. وقال أحمد بن حمدون: صنع محمد بن الحارث [هزجا فى هذا الشعر [3]] : أمسيت عبدا مسترقّا ... أبكى الألى سكنوا دمشقا أعطيتهم قلبى فمن ... يبقى بلا قلب فأبقى!

_ [1] كذا فى تصحيح كتاب الأغانى للأستاذ الشقيطى المطبوع بمصر سنة 1334 هـ. وبسختر هو أحد الأعاجم من مرازبة الرى موالى المنصور الخليفة العباسىّ الثانى. وفى الأصل: «بشخير» وهو تحريف. [2] فى مفردات ابن البيطار: «شاهسفرم» وهو ضرب من النبات عطر الرائحة. [3] التكملة من الأغانى.

ذكر أخبار أحمد بن صدقة

وطرحه على المسدود الطّنبورىّ فوقع له موقعا حسنا؛ واستحسنه محمد منه فقال: أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم؛ قال: قد فعلت. فكان المسدود يغنّيه ويدّعيه، وإنما هو لمحمد بن الحارث. قال محمد: لمّا قدم المأمون من خراسان لم يشتق مغنّيا بمدينة السلام غيرى. فبعث إلىّ فكنت أنادمه سرّا، ولم يظهر للندماء حتى ظفر بإبراهيم بن المهدىّ؛ فلما عفا عنه ظهر للندماء. ولمحمد بن الحارث شعر، منه قوله: ومن ظنّ أنّ التّيه من فضل قدره [1] ... فإنى رأيت التيه من صغر القدر ولو كان ذا عزّ ونفس أبيّة ... لغضّ الغنى منه وعزّ عن الفقر رأى نفسه لا تستقلّ بحقّها ... فتاه لنقص النفس أو قلّة الشكر ذكر أخبار أحمد بن صدقة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: هو أحمد بن صدقة بن أبى صدقة. كان أبوه حجازيّا مغنّيا، قدم على الرشيد وغنّى له. وقد ذكرنا أخباره فى النوادر من كتابنا هذا، فلا حاجة بنا إلى إعادتها. وكان أحمد طنبوريّا محسنا مقدّما حاذقا حسن الغناء محكم الصّنعة. قال: وله غناء كثير فى الأرمال والأهزاج وما يجرى مجراها من غناء الطّنبوريّين. وكان ينزل الشأم. ووصف للمتوكل فأمر بإحضاره، فقدم عليه فغنّاه، فاستحسن غناءه وأجزل صلته. واشتهاه الناس وكثر من يدعوه؛ فكسب بذلك أكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافا. وروى أبو الفرج عن أحمد بن صدقة قال: اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب، فقلت له: أنشدنى بيتين من شعرك حتى أغنّى فيهما. فقال: وأىّ حظّ لى فى ذلك!

_ [1] فى الأصل: «من فضل قدرة» .

تأخذ أنت الجائزة وأحصل أنا على الإثم! فخلفت أنى إن أخذت بشعره فائدة جعلت له فيها حظّا، وأذكرت به الخليفة وسألته فيه. فقال: أمّا الحظّ من جهتك فأنت أنذل من ذلك، ولكن عسى أن تفلح فى مسئلة الخليفة؛ وأنشدنى: تقول سلا، فمن المدنف ... ومن عينه أبدا تذرف! ومن قلبه قلق خافق ... عليك وأحشاؤه ترجف! فلما جلس المأمون للشرب دعانى، وكان قد غضب على حظّية له، فحضرت مع المغنّين. فلما طابت نفسه وجّهت إليه بتفّاحة من عنبر عليها مكتوب بالذهب: «يا سيّدى سلوت» ، وما علم الله أنى عرفت شيئا من خبرهما. وانتهى الدّور إلىّ فغنيّت البيتين؛ فاحمرّ وجه المأمون وانقلبت عيناه وقال: يابن الفاعلة، لك علىّ وعلى حرمى صاحب خبر! فوثبت وقلت: يا سيّدى، ما السبب؟ قال: من أين عرفت قصّتى مع جاريتى حتى غنيّت فى معنى ما بيننا؟ فحلفت أنى لم أعرف شيئا من ذلك، وحدّثته بحديثى مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله: «أنت أنذل من ذلك» ضحك وقال: صدق، وعجب من هذا الاتّفاق؛ وأمر لى بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها. وروى عنه أيضا قال: دخلت على المأمون فى يوم الشعانين [1] وبين يديه عشرون وصيفة جلب روميّات مزنّرات قد تزيّنّ بالديباج الرومىّ، وعلّقن فى أعناقهن صلبانا من الذهب، وفى أيديهن الخلوص والزيتون. فقال لى المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت فى هؤلاء أبياتا فغنّ بها، ثم أنشدنى:

_ [1] الشعانين: عيد من أعياد النصارى ويسمى: «الزيتونة» يعملونه فى سابع أحد من صومهم. ومعنى الشعانين: التسبيح.

ذكر أخبار أبى حشيشة

ظباء كالدّنانير ... ملاح فى المقاصير جلاهنّ الشّعانين ... علينا فى الزّنانير وقد زرفنّ [1] أصداغا ... كأذناب الزرازير وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزّنابير فحفظته وغنيّته؛ فلم يزل يشرب والوصائف يرقصن بين يديه بأنواع الرقص من الدّستبندا [2] إلى الإيلىّ حتى سكر، وأمر لى بألف دينار، وأمر بأن ينثر على الجوارى ثلاثة آلاف دينار، فقبضت الألف ونثرت ثلاثة آلاف الدينار فانتهبتها معهنّ. قال: ولم يزل أحمد بالعراق حتى بلغه موت بنيّة له بالشأم، فشخص نحو منزله، وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه. ذكر أخبار أبى حشيشة قال أبو الفرج: أبو حشيشة لقب غلب عليه، وهو محمد بن أبى أميّة، ويكنى أبا جعفر. وكان أهله جميعا متّصلين بإبراهيم بن المهدىّ، وكان هو من بينهم يغنّى بالطّنبور أحسن الناس غناء. وخدم جماعة من الخلفاء، أوّلهم المأمون ومن بعده إلى المعتمد. قال: وكان أكثر انقطاعه إلى أبى أحمد بن الرشيد أيام حياته. وكان أبوه وجدّه وأخواله كتّابا. قال أحمد بن جعفر جحظة فى ترجمة أبى حشيشة: وكان له صنعة تقدّم فيها كلّ طنبورىّ لا أحاشى أحدا فى ذلك. قال: فمنها:

_ [1] زرفن صدغيه: جعلهما كالزرفين، وهو حلقة الباب. [2] الدستبندا: نوع من أنواع رقص المجوس يأخذ بعضهم بيد بعض ويدورون ويرقصون.

كأنّ هموم الناس فى الأرض كلّها ... علىّ وقلبى بينهم قلب واحد ولى شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدّع للحبّ من غير شاهد قال جحظة: ورأيته بين يدى المعتمد على الله وقد غنّاه من شعر علىّ بن محمد ابن نصر: حرمت بذل نوالك ... واسوءتا من فعالك! لمّا ملكت وصالى ... آيستنى من وصالك فوهب له مائتى دينار. قال: وغنّى يوما عند ابن المدبّر بحضرة عريب؛ فقالت له: أحسنت يا أبا جعفر! ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا (تعنى علّويه ومخارقا) . وقال أبو الفرج: إنّ أبا حشيشة ألّف كتابا جمع فيه أخباره مع من عاشر وخدم من الخلفاء؛ قال: وهو تاب مشهور. قال: أوّل من سمعنى من الخلفاء المأمون، وصفنى له مخارق، فأمر بإشخاصى إليه، وأمر لى بألف درهم أتجهّز بها. فلما وصلت إليه أدنانى وأعجب بى؛ وقال للمعتصم: هذا أثر خدمك وخدم آبائك وأجدادك يا أبا إسحاق. وذكر ما كان يشتهيه عليه كلّ خليفة، فقال: كان المأمون يشتهى من غنائى: كان ينهى فنهى حتى [سلا [1]] ... وانجلت عنه غيايات الصّبا خلع اللهو وأضحى مسبلا ... للنّهى فضل قميص وردا قال: وكان المعتصم يشتهى علىّ: أسرفت فى سوء الصّنيع ... وفتكت بى فتك الخليع

_ [1] آخر الشطر الأوّل من البيت مفقود من الأصل، ولم نوفق اليه حين التصحيح. فلعل الكلمة التى وضعناها تكون قريبة من الأصل.

وولعت بى متمرّدا ... والعذر فى طرق الولوع صيّرت حبّك شافعا ... فأتيت من قبل الشّفيع قال: وكان الواثق يختار من غنائى: يا تاركى متلذّذ ال ... عذّال جذلان العداة انظر إلىّ بعين را ... ض نظرة قبل الممات خلّيتنى بين الوعي ... د وبين ألسنة الوشاة! ماذا يرجّى بالحيا ... ة منغّص روح الحياة! قال: وكان المتوكل يحبّنى ويستخفّنى، وكانت أغانيه التى يشتهيها علىّ كثيرة. منها: أطعت الهوى وخلعت العذارا ... وباكرت بعد المراح العقارا ونازعك الكأس من هاشم ... كريم يحبّ عليها الوقارا فتى فرّق الحمد أمواله ... يجرّ القميص ويرخى الإزارا رأى الله جعفر خير الأنام ... فملّكه ووقاه الحذارا قال: وكان المستعين يشتهى علىّ: وما أنس لا أنس منها الخشوع ... وفيض الدّموع وغمز اليد وخدّى مضاف إلى خدّها ... قياما الى الصبح لم نرقد قال: واشتهى علىّ المعتمد: قلبى يحبّك يا منى ... قلبى ويبغض من يحبّك لأكون فردا فى هوا ... ك، فليت شعرى كيف قلبك؟

ذكر أخبار القيان

قال حجظة: وكانت وفاة أبى حشيشة بسرّ من رأى. وسببها أنه اصطبح عند قلم غلام الفضل بن كاوش فى يوم بارد؛ فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارّا، فأتاه بفجليّة باردة وقال: تساعدنى وتأكل معى، فأكل منها فحمد قلبه فمات. ذكر أخبار القيان وأوّل من غنّى من النساء ومن اشتهر بالغناء منهنّ فى الإسلام قالوا: أوّل من غنّى الغناء العربىّ جرادتا ابن جدعان. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: قال ابن الكلبىّ: كان لابن جدعان أمتان يسمّيان الجرادتين يغنّيان فى الجاهليّة، وسمّاهما جرادتى عباد [1] ؛ ووهبهما عبد الله بن جدعان لأميّة بن أبى الصّلت الثّقفىّ وكان قد امتدحه. وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب. كان سيّدا جوادا؛ فرأى أميّة ينظر الى الجرادتين وهو عنده فأعطاه إياهما. وقد قيل فى سبب إعطائه إياهما: إن أميّة بن أبى الصّلت قدم عليه؛ فقال له عبد الله: أمر ما أتى بك! فقال أميّة: كلاب غرماء قد نجتنى ونهشتنى. فقال له عبد الله: قدمت علىّ وأنا عليل وحقوق لحقتنى ولزمتنى، فأنظرنى قليلا وقد ضمنت قضاء دينك فلا أسألك عن مبلغه، قال: فأقام أميّة أياما ثم أتاه فقال: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسّناء كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء تبارى الريح مكرمة ومجدا ... إدا ما الكلب أحجره الشّتاء

_ [1] فى الأغانى: «جرادتى عاد» .

إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه [1] الثناء إذا خلّفت عبد الله فاعلم ... بأنّ القوم ليس لهم جزاء فأرضك كلّ مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لهم سماء وهل تخفى السماء على بصير! ... وهل بالشمس طالعة خفاء! فلمّا أنشده أميّة هذا الشعر كانت عنده قينتان، فقال لأميّة: خذ أيّتهما شئت، فأخذ إحداهما وانصرف [2] ؛ فمرّ بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها، وقالوا له: لقد ألفيته عليلا، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ محتاج إلى خدمتها، كان [3] ذلك أقرب لك عنده وأكثر من كل حقّ ضمنه. فوقع الكلام من أميّة موقعا وندم؛ فرجع إليه ليردّها عليه. فلما أتاه بها، قال ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها؛ وذكر لأميّة ما قال القوم. فقال أميّة: والله ما أخطأت يا أبا زهير. قال: فما الذى قلت فى ذلك؟ فقال: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل وما كلّ العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين فقال عبد الله لأمية: خذ الأخرى؛ فأخذهما جميعا وخرج. فلما أن صار إلى القوم بهما أنشأ يقول: ومالى لا أحيّيه وعندى ... مواهب قد طلعن من النّجاد لأبيض من بنى عمرو بن تيم ... وهم كالمشرفيّات الحداد لكلّ قبيلة هاد ورأس ... وأنت الرأس تقدم كلّ هاد

_ [1] فى الأصل: «تعرّضه» . [2] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «قال لأمية: خذ إحداهما أيهما شئت فأخذها وانصرف الخ» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فكان ... » بزيادة الفاء.

عماد الخيف قد علمت معدّ ... وإنّ البيت يرفع بالعماد له داع بمكّة مشمعلّ ... وآخر فوق دارته ينادى إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد وكان سبب قول أميّة بن أبى الصلت هذا الشعر أنّ عبد الله بن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ؛ فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ. قال: وبم يصنع؟ قيل: لباب البرّ يلبك مع عسل النحل. قال: أبغونى غلاما يصنعه؛ فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه، ثم قدم به مكة؛ فأمره أن يصنع الفالوذ ففعل، ثم وضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضره الناس. وكان فيمن حضر أميّة بن أبى الصلت فقال الأبيات. وقال فيه أيضا: ذكر ابن جدعان بخي ... ر كلّما ذكر الكرام من لا يخون ولا يعقّ ... ولا يبخّله الأنام يهب النجيبة والنجي ... ب له الرّحالة والزّمام وابن جدعان ممن ترك شرب الخمر فى الجاهليّة، وقد تقدّم ذكره. وهجاه دريد ابن الصّمّة بشعر؛ فلقيه بعد ذلك عبد الله بسوق عكاظ، فحيّاه وقال: هل تعرفنى يا دريد؟ قال لا. قال: فلم هجوتنى؟ قال: ومن أنت؟ قال: عبد الله بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت أثرا كريما فأحببت أن أضع شعرى موضعه. فقال له عبد الله: لئن كنت هجوت لقد مدحت؛ وكساه وحمله على ناقة برحلها، فقال دريد: إليك ابن جدعان أعملتها ... مخفّفة للسّرى والنّصب فلا خفض حتى تلاقى امرأ ... جواد الرّضا وحليم الغضب وجلدا إذا الحرب مرّت به ... يعين عليها بجزل الحطب

ذكر أخبار جميلة

وجلت البلاد فما إن أرى ... شبيه ابن جدعان وسط العرب سوى ملك شامخ ملكه ... له البحر يجرى وعين الذهب وأخبار ابن جدعان كثيرة وسيادته فى الجاهليّة مشهورة، ليس هذا موضع إيرادها، وإنما أوردنا ما أوردنا منها فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، فالشىء بالشىء يذكر. فلنرجع إلى أخبار القيان. ذكر أخبار جميلة هى جميلة مولاة بنى سليم، ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز، وكان لها زوج من موالى بنى الحارث بن الخزرج، وكان ينزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها فقيل لها: مولاة الأنصار. وقد قيل: إنها كانت لرجل من الأنصار ينزل بالسّنح. وقيل: كانت مولاة الحجّاج بن علاط السّلمىّ. قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهى أصل من أصول الغناء، أخذ عنها معبد وابن عائشة وحبابة وسلّامة وعقيلة والعتيقة وغيرهم. وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطاة: إنّ الدّلال وحسن الغنا ... ء وسط بيوت بنى الخزرج وتلكم جميلة زين النساء ... إذا هى تزدان للمخرج إذا جئتها بذلت ودها ... بوجه منير لها أبلج قال: وكانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء. وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنّين. قال: وسئلت جميلة: أنّى لك هذا الغناء؟ قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكنّ أبا جعفر سائب خاثر كان جارنا، وكنت أسمعه يغنّى ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات وبنيت عليها غنائى، فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء، فعلمت وألقيت؛ فسمعنى مولياتى يوما وأنا

أغنّى سرّا، ففهمننى ودخلن علىّ وقلن: قد علمنا ما تكتمين وأقسمن علىّ؛ فرفعت صوتى وغنيّتهن بشعر زهير بن أبى سلمى: وما ذكرتك إلا هجت لى طربا ... إنّ المحبّ ببعض الأمر معذور ليس المحبّ كمن إن شطّ غيّره ... هجر الحبيب، وفى الهجران تغيير فحينئذ شاع أمرى وظهر ذكرى وقصدنى الناس وجلست للتعليم؛ فكان الجوارى يكثرن عندى، وربما انصرف أكثرهن ولم يأخذن شيئا سوى [1] ما سمعننى أطارح غيرهن، وقد كسبت لموالىّ ما لم يخطر لهم ببال، وأهل [2] ذلك كانوا وكنت. وقد أقرّ لجميلة كلّ مكىّ ومدنىّ من المغنّين. قال: ولما قدم ابن سريح والغريض وابن مسجح وسلم بن محرز المدينة واجتمعوا هم ومعبد وابن عائشة حكّموها بينهم؛ واجتمعوا عندها، وصنع كل منهم صوتا وغناه بحضرتها- وقد ذكر الأصفهانىّ الأصوات- فلما سمعت الأصوات قالت: كلّكم محسن مجيد فى غنائه ومذهبه. قال ابن عائشة: ليس هذا بمقنع. قالت: أمّا أنت يا أبا يحيى فتضحك الثّكلى بحسن صوتك ومشاكلته النفوس. وأمّا أنت يا أبا عبّاد فنسيج وحده بتأليفك [3] وحسن نظمك وعذوبة غنائك. وأمّا أنت يا أبا عثمان فلك أوّليّة هذ الأمر وفضله. وأمّا أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح. وأمّا أنت يا أبا الخطّاب فلو قدّمت أحدا على نفسى لقدّمتك. وأمّا أنت يا مولى العبلات فلو ابتدأت قدّمتك عليهم. ثم سألوها جميعا أن تغنّيهم لحنا كما غنّوا، فغنّتهم، فكلهم أقرّوا لها وفضّلوها. وكانت جميلة قد آلت أنها لا تغنّى أحدا إلا فى منزلها. فكان عبد الله بن جعفر

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولم يأخذن شيئا مما سمعننى» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأصل» . [3] فى الأغانى: «بجودة تأليفك» .

يأتيها فى مجلسها فيجلس عندها وتغنّيه. فأرادت أن تكفّر عن يمينها وتأتيه فتغنّيه فى بيته؛ فقال: لا أكلّفك ذلك. وروى الأصفهانىّ أنّ ابن أبى عتيق وابن أبى ربيعة والأحوص بن محمد الأنصارىّ أتوا منزل جميلة واستأذنوا عليها فأذنت لهم. فلما جلسوا سألت عن عمر، فقال لها: إنى قصدتك من مكة للسلام عليك؛ فقالت: أهل الفضل أنت. قال: وقد أحببت أن تفرّغى لنا نفسك اليوم وتخلى مجلسك؛ قالت: أفعل. فقال لها الأحوص: أحبّ ألّا تغنّى إلا بما نسألك؛ فقالت: ليس المجلس لك، القوم شركاؤك؛ فقال: أجل. قال عمر: فإنى أرى أن نجعل الخيار إليها. قال ابن أبى عتيق: وفّقك الله. فدعت بعود فغنّت: تمشى الهوينى إذا مشت فضلا ... مشى النّزيف [1] المخمور فى الصّعد تظلّ من بعد بيت جارتها ... واضعة كفّها على الكبد يا من لقلب متيّم سدم ... عان رهين مكلّم كمد أزجره وهو غير منزجر ... عنها بطرف مكحّل السّهد قال راوى هذه الحكاية: فلقد سمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة. فقال عمر: لله درّك يا جميلة! ماذا أعطيت! أنت أوّل الغناء وآخره! ثم سكتت ساعة وأخذت العود فغنّت، فطرب القوم وصفّقوا بأيديهم وفحصوا بأرجلهم وحرّكوا رءوسهم، وقالوا: نحن فداؤك من المكروه، ما أحسن ما غنيّت وأجمل ما قلت!. وأحضر الغداء فتغدّى القوم بأنواع من الأطعمة ومن الفواكه، ثم دعت بأنواع الأشربة؛ فقال عمر: لا أشرب، وقال ابن أبى عتيق مثل ذلك؛ فقال الأحوص: لكنّى

_ [1] النزيف: السكران.

أشرب، وما جزاء جميلة أن يمتنع من شرابها! فقال عمر: ليس ذاك كما ظننت. فقالت جميلة: من شاء أن يحملنى بنفسه ويخلط روحه بروحى فعل، ومن أبى ذلك عذرناه، ولم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه والأنس بمحادثته. قال ابن أبى عتيق: ما يحسن بنا إلا مساعدتك. فقال عمر: إنى لا أكون أخسّكم، افعلوا ما شئتم تجدونى سامعا مطيعا. فشرب القوم أجمع؛ فغنّت بشعر ابن أبى ربيعة: ولقد قالت لجارات لها ... كالمها يلعبن فى حجرتها خذن عنى الظلّ لا يتبعنى ... ومضت تسعى إلى قبّتها لم تعلّق رجلا فيما مضى ... طفلة غيداء فى حلّتها لم يطش قطّ لها سهم ومن ... ترمه لا ينج من رميتها فصاح عمر ثم شقّ جيب قميصه إلى أسفله، ثم ثاب اليه عقله فندم واعتذر وقال: لم أملك من نفسى شيئا. وقال القوم: قد أصابنا الذى أصابك وأغمى علينا غير أننا قد فارقناك فى تخريق الثّياب. فدعت جميلة بثياب فجعلتها على عمر فقبلها ولبسها، وانصرف القوم إلى منازلهم. وكان عمر نازلا على ابن أبى عتيق، فوجّه إلى جميلة بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب كانت معه فقبلتها جميلة، وانصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا. وروى أبو الفرج بأسانيد رفعها إلى يونس الكاتب والزبير بن بكّار عن عمه مصعب قالا: حجّت جميلة فخرج معها من الرجال المغنّين والنساء والأشراف وغيرهم جماعة ذكرهم أبو الفرج، منهم من المغنّين هنب وطويس والدّلال ومعبد ومالك بن أبى السّمح وابن عائشة ونافع الخير ونافع بن طنبورة وغير هؤلاء ممن ذكرهم؛ ومن النساء المغنّيات جماعة ذكرهنّ: منهن الفرهة وعزّة الميلاء وحبابة وسلّامة وخليدة وعقيلة والشّماسيّة وفرعة ونبيلة ولذّة العيش وسعيدة والزّرقاء؛ ومن غير المغنّين من

الأشراف ابن أبى عتيق والأحوص وكثيّر عزّة ونصيب؛ وجماعة من الأشراف الرجال والنساء. وحج معها من القيان مشيّعات لها ومعظّمات لقدرها خمسون قينة وجّه بهنّ مواليهنّ معها وأعطوهنّ النفقات وحملوهنّ على الإبل فى الهوادج والقباب وغير ذلك؛ فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهنّ درهما فما فوقه حتى يرجعن. قال: وتخاير من خزج معها فى اتخاذ أنواع اللّباس العجيب والهوادج والقباب. قال: ولما قاربوا مكة تلقّاهم سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز والهذليّون وجماعة من المغنّين من أهل مكة وفتيان كثير [1] ؛ ومن غير المغنّين عمر بن أبى ربيعة والحارث ابن خالد المخزومىّ والعرجىّ وجماعة من الأشراف. فدخلت جميلة مكة وما بالحجاز مغنّ حاذق ولا مغنيّة إلا وهو معها وجماعة من الأشراف [ممن سمّينا وغيرهم من الرجال والنساء، وخرج أبناء أهل مكة من [2]] الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم. فلما قضت حجّها سألها المكيّون أن تجعل لهم مجلسا؛ فقالت: للغناء أم للحديث؟ فقالوا: لهما جميعا. قالت: ما كنت لأخلط جدّا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء. فقال عمر بن أبى ربيعة: أقسمت على من كان فى قلبه حبّ لسماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإنى خارج معها. فخرجت فى جمع كثير من الأشراف وغيرهم أكثر من جمعها بالمدينة. فلما قدمت المدينة تلقّاها الناس والأشراف من الرجال والنساء، فدخلت بأحسن مما خرجت منها، وخرج الرجال والنساء فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها وإلى القادمين معها. فلما دخلت إلى منزلها وتفرّق الناس إلى منازلهم ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم، أتاها الناس مسلّمين، وما استنكف من ذلك صغير ولا كبير. فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبى ربيعة: إنى جالسة لك ولأصحابك، فإذا شئت فعد الناس.

_ [1] فى الأغانى: «وقيان كثيرة لم يسمين» . [2] زيادة عن «الأغانى» .

فغصّت الدار بالأشراف من الرجال والنساء، وابتدأت جميلة فغنّت بشعر لعمر بن أبى ربيعة: هيهات من أمة الرّحمن منزلنا [1] ... إذا حللنا بسيف البحر من عدن واحتلّ أهلك أجيادا فليس لنا [2] ... إلا التّذكّر أو حظّ [3] من الحزن لو أنها أبصرت بالجزع عبرته ... وقد تغرّد قمرىّ على فنن إذا رأت غير ما ظنّت بصاحبها ... وأيقنت أنّ لحجا ليس من وطنى ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفى وكلانا ثمّ ذو شجن وقولها للثّريّا وهى باكية ... والدمع منها على الخدّين ذو سنن بالله قولى له من غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث فى اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت [4] بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن فكلهم استحسن الغناء، وضجّ القوم لحسن ما سمعوا، وبكى عمر حتى جرت دموعه على ثيابه ولحيته. ثم أقبلت على ابن سريج فقالت: هات، فغنّى صوته بشعر لعمر: أليست بالّتى قالت ... لمولاة لها ظهرا أشيرى بالسّلام له ... إذا ما نحونا نظرا وقولى فى ملاطفة ... لزينب نولّى عمرا وهذا سحرك النّسوا ... ن قد خبّرننى الخبرا

_ [1] كذا فى الأغانى وديوان عمر بن أبى ربيعة. وفى الأصل: «منزلها» . [2] كذا فى الأغانى والديوان. وفى الأصل: «فليس لهم» . [3] كذا فى الأغانى والديوان. وفى الأصل: «همّ» . [4] فى الأصل: إن كنت حاولت دينا أو نعمت به

ثم قالت لسعيد بن مسجح: هات يا أبا عثمان، فاندفع فغنّى. ثم قالت: يا معبد هات، فاندفع فغنّى فاستحسنته. ثم قالت: هات يابن محرز، فإنى لم أؤخّرك لخساسة بك ولا جهلا بالذى يجب فى [1] الصناعة، ولكنى رأيتك تحبّ من الأمور كلّها أوسطها وأعدلها. فجعلتك حيث تحب واسطة بين المكيّين والمدنيّين، فغنّى. ثم قالت للغريض: هات يا مولى العبلات؛ فغنّى بشعر عمرو بن شأس الأبيات، وفى آخرها: أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان فقد ظلم فقالت: أحسن عمرو بن شأس ولم تحسن، إذ أفسدت غناءك بالتعريض، وو الله ما وضعناك إلا موضعك ولا نقصناك من حظّك، فبماذا أهنّاك! ثم أقبلت على الجماعة فقالت: يا هؤلاء اصدقوه وعرّفوه نفسه ليقنع [2] بمكانه. فأقبل القوم عليه وقالوا: يا أبا زيد، قد أخطأت إن كنت عرّضت. فقال: قد كان ذلك، ولست بعائد؛ وقام إلى جميلة فقبّل طرف ثوبها واعتذر، فقبلت عذره وقالت: لا تعد، وأقبلت على ابن عائشة فقالت: يا أبا جعفر، هات، فغنّى، فقالت: حسن ما قلت. ثم أقبلت على نافع وبديح فقالت: أحبّ أن تغنيّا جميعا بصوت ولحن واحد، فغنيا. ثم أقبلت على الهذلّيين الثلاثة فقالت: غنّوا صوتا واحدا، فاندفعوا فغنّوا. ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت: هات يا نقش الغضارة ويا حسن اللسان؛ فاندفع فغنّى، فقالت: حسن والله. ثم قالت: يا مالك هات، فإنى لم أؤخّرك لأنك فى طبقة آخرهم، ولكن أردت أن أختم بك، يومنا تبرّكا بك، وكى يكون أوّل مجلسنا كآخره ووسطه كطرفه؛ فإنك عندى ومعبدا فى طريقة واحدة ومذهب واحد،

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من الصناعة» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ليقع» .

لا يدفع ذلك إلا ظالم ولا ينكره إلا عاضل للحق، والحقّ أقول، فمن شاء أن ينكر؛ فسكت القوم كلهم إقرارا بما قالت. فاندفع فغنّى: عدوّ لمن عادت وسلم لسلمها ... ومن قرّبت سلمى أحبّ وقرّبا هبينى امرأ إمّا بريئا ظلمته ... وإمّا مسيئا تاب بعد وأعتبا أقول التماس العذر لمّا ظلمتنى ... وحمّلتنى ذنبا وما كنت مذنبا ليهنك إشمات العدوّ بهجرنا ... وقطعك حبل الودّ حتى تقضّبا فقالت جميلة: يا مالك، ليت صوتك قد دام لنا ودمنا له! وقطعت المجلس، وانصرف عامّة الناس وبقى خواصّهم. قال: ولما كان فى اليوم الثانى حضر القوم جميعا. فقالت لطويس: هات يا أبا عبد النّعيم، فغنّى: قد طال ليلى وعادنى طربى ... من حبّ خود كريمة الحسب غرّاء مثل الهلال آنسة ... أو مثل تمثال صورة الذّهب صادت فؤادى بجيد مغزلة ... ترعى رياضا ملتفّة العشب فقالت جميلة: حسن والله يا أبا عبد النعيم. ثم قالت للدّلال: هات يا أبا يزيد، فغنّى، فاستحسنت غناءه. ثم قالت لهنب: إنا نجلّك اليوم لكبر سنّك ورقّة عظمك؛ فقال: أجل. ثم قالت لبرد الفؤاد ونومة الضّحى: هاتيا جميعا لحنا واحدا، فغنيّا، فقالت: أحسنتما. ثم قالت لفند وزجة [1] وهبة الله: هاتوا جميعا صوتا واحدا، إنكم متفقون فى الأصوات؛ فاندفعوا فغنّوا. ثم غنّت جميلة بشعر الأعشى: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلّت الغور فالجدّين فالفرعا واستنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا

_ [1] فى الأغانى: «رحمة» .

تقول بنتى وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبى الأوصاب والوجعا وكان شىء إلى شىء فغيّره ... دهر ملحّ على تفريق ما جمعا قال: فلم يسمع شىء أحسن من ابتدائها بالأمس وختمها فى اليوم؛ وقطعت المجلس وانصرف قوم وأقام آخرون. فلما كان فى اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجوارى، فضربن كلّهنّ، وضربت هى فضربت على خمسين وترا فزلزلت الدار. ثم غنّت على عودها وهنّ يضربن على ضربها: فإن خفيت كانت لعينك قرّة ... وإن تبد يوما لم يعمّمك عارها من الخفرات البيض لم تر غلظة ... وفى الحسب الضّخم الرفيع نجارها فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها بأطيب من فيها إذا جئت موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطيب نارها فدمعت أعين كثير منهم حتى بلّوا ثيابهم وتنفّسوا الصّعداء، وقالوا: بأنفسنا أنت يا جميلة! ثم قالت للجوارى: اكففن فكففن؛ وقالت: يا عزّ غنّى، فغنّت بشعر لعمر: تذكّرت هندا وأعصارها ... ولم تقض نفسك أوطارها تذكّرت النفس ما قد مضى ... وهاجت على العين عوّارها لتمنح رامة منّا الهوى ... وترعى لرامة أسرارها إذا لم نزرها حذار العدا ... حسدنا على الزّور زوّارها فقالت جميلة: يا عزّ، إنك لباقية على الدهر، فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء. ثم قالت لحبابة وسلّامة: هاتيا لحنا واحدا، فغنّتا فاستحسن غناؤهما. ثم أقبلت على خليدة فقالت: بنفسى أنت! غنّى فغنّت، فاستحسن منها

ذكر أخبار عزة الميلاء

ما غنّت. ثم قالت لعقيلة والشّمّاسيّة: هاتيا، فغنّتا. ثم قالت لفرعة ونبيلة ونديمة ولذة العيش هاتين، فغنّين، فقالت: أحسنتنّ. وقالت لسعيدة والزّرقاء: غنيا، فغنّتا. ثم قالت للجماعة فغنّوا؛ وانقضى المجلس وعاد كل إنسان إلى وطنه. فما رئى مجلس ولا جمع أحسن من هذه الأيام الثلاثة. وقد ذكر أبو الفرج ما غنّى به كل واحد منهم فأوردنا بعضه وتركنا بعضه اختصارا. وأخبار جميلة كثيرة، قد ذكر منها أبو الفرج الأصفهانىّ جملة تدلّ على أنها كانت مبجّلة عند الأشراف معظّمة عند المغنّين؛ يأخذون عنها ويأتمرون بأمرها، ويسعون إليها، وينطقون إذا استنطقتهم، ويكفّون إذا استكفّتهم؛ وفيما قدّمناه دلالة على ذلك والله أعلم. ذكر أخبار عزّة الميلاء قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عزّة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهى أقدم من غنّى الغناء الموقع من نساء الحجاز، وماتت قبل جميلة. قال: وقد أخذ عنها معبد ومالك بن أبى السّمح وابن محرز وغيرهم من المكيّين والمدنيّين. وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهنّ جسما. وسمّيت الميلاء لتمايلها فى مشيتها. وقال معبد: كانت من أحسن النساء ضربا [1] بعود، مطبوعة على الغناء، لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغنّى أغانى القيان القدماء [2] مثل شيرين وزرياب وخولة والرّباب وسلمى ورائقة [3] ؛ وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب؛

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «صوتا بعود» . [2] فى الأغانى: «من القدائم» . [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ورائعة» بالعين المهملة.

خاثر المدينة غنيّا أغانى بالفارسيّة [1] ، فأخذت عزّة عنهما نغما وألّفت [2] عليها ألحانا عجيبة؛ فهى أوّل من فتن أهل المدينة بالغناء وحرّض رجالهم ونساءهم عليه. وقال الزّبيرىّ. وجدت مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزّة قالوا: لله درّها! ما كان أحسن غناءها، وأطلّ صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهى، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها!. وكانت جميلة تقول مثل ذلك فيها. وكان ابن سريح فى حداثة سنّه يأتى المدينة فيأخذ عنها ويتعلّم منها؛ وكان بها معجبا، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المتفضّلة على كل من غنّى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء. وكان ابن محرز يقيم بمكة ثلاثة أشهر ثم يأتى المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزّة، وكان يأخذ عنها. وقد تقدّم ذلك فى أخباره. وكان طويس أكثر ما يأوى إلى منزل عزّة، وكان فى جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هى سيّدة من غنّى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهى من أهله، وتنهى عن الشرّ وهى تجانبه، فناهيك بها! ما كان أنبلها وأنبل مجلسها!. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عامّا فكأنّ الطير على رءوس أهل مجلسها، فمن تكلّم أو تحرّك نقر رأسه. وقال صالح بن حسّان الأنصارىّ: كانت عزّة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة. وكان عبد الله بن جعفر وابن أبى عتيق وعمر بن عبد الله بن أبى ربيعة يغشونها

_ [1] كذا بالأغانى. وفى الأصل: «أغانى الفارسية» . [2] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وألقت عليهما» الخ.

ذكر أخبار سلامة القس

فى منزلها فتغنّيهم. وغنّت عمر بن أبى ربيعة لحنا لها فى شىء من شعره، فشقّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطّاب؛ قال: إنى سمعت والله ما لم أملك معه نفسى ولا عقلى. وكان حسّان بن ثابت معجبا بها، وكان يقدّمها على سائر قيان المدينة. وقد ذكرنا خبرها مع النعمان بن بشير وحسّان بن ثابت، وأن كلّ واحد منهما سمع غناءها، فبكى حسّان بن ثابت واستعاد النعمان بن بشير صوتها مرارا؛ وتقدّم أيضا من أخبارها فى خبر عائشة بنت طلحة وأخبار جميلة ما يستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. فلنذكر من سواها. ذكر أخبار سلّامة القسّ كانت سلّامة القسّ هذه مولّدة من مولّدات المدينة، وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبى السّمح ومن دونهم، فمهرت فيه. وإنما سمّيت سلّامة القسّ لأنّ رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبى عمّار بن جشم بن معاوية- وكان منزله بمكة، وهو من قرّاء أهل المدينة، كان يلقّب بالقسّ لعبادته- شغف بها وشهر بحبها. وكان سبب ذلك أنه سمع غناءها على غير تعمّد منه فبلغ منه كلّ مبلغ. فرآه مولاها فقال: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها: أنا أقعدها حيث تسمع غناءها ولا تراها. فلم يزل به حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ قال لا. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنّت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا والله أحبّك. فقال: وأنا والله الذى لا إله إلا هو أحبّك. فقالت: والله أشتهى أن أعانقك وأقبّلك. فقال: والله وأنا أشتهى مثل ذلك. قالت:

وأشتهى والله أن أضاجعك وأضع بطنى على بطنك وصدرى على صدرك قال: وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ والله إنّ المكان لخال. قال: يمنعنى منه قول الله عزّ وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ، فأنا أكره أن تحول مودّتى إياك عداوة يوم القيامة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النّسك، ولم يعد إليها بعد ذلك. وكان يشبّه بعطاء بن أبى رباج. وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله: إنّ التى طرقتك بين ركائب ... تمشى بمزهرها وأنت حرام لتصيد قلبك أو جزاء مودّة ... إنّ الرّفيق له عليك ذمام باتت تعلّلنا وتحسب أننا ... فى ذاك أيقاظ ونحن نيام حتى إذا سطع الضياء لناظر ... فإذا وذلك [1] بيننا أحلام قد كنت أعذل فى السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتى به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضّلالة والهدى أقسام وقوله أيضا فيها: ألم ترها- لا يبعد الله دارها- ... إذا رجّعت فى صوتها كيف تصنع! تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل من صوتها يترجّع وقوله فيها: ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلّامة اليوم مقصر ألا ليت أنّى حيث صارت بى النّوى ... جليس لسلمى كلّما عجّ مزهر

_ [1] كذا فى الأصل. ولعلها: «فاذا بذلك» .

وله من قصيدة طويلة أوّلها: سلّام هل لى منكم ناصر ... أم هل لقلبى عنكم زاجر قد سمع الناس بوجدى بكم ... فمنهم اللائم والعاذر فى أشعار كثيرة يطول الشرح بذكرها. ومدحها الأحوص أيضا بشعر كثير. وقال فيها أيضا ابن قيس الرّقيّات. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ قال: كانت سلّامة وريّا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهنّ غناء؛ فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيّات عندهما. فقال لهما ابن قيس الرقيّات: إنى أريد أن أمدحكما بأبيات فأصدق فيها و [لا [1]] أكذب. فإن أنتما غنيّتمانى بذلك وإلّا هجوتكما ولم أقربكما أبدا. قالتا: فما قلت؟ قال: قلت: لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا ... فلم يتركا للقسّ عقلا ولا نفسا فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال ... هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا تكنّان أبشارا رقاقا وأوجها ... عتاقا وأطرافا مخضّبة ملسا فغنّته سلّامة فاستحسنه. وقال ابن قيس الرقيّات للأحوص: يا أخا الأنصار، ما قلت؟ قال قلت: سلّام هل لمتيّم تنويل ... أم قد صرمت وغال ودّك غول لا تصرمى عنّى ولاءك إنه ... حسن لدىّ وإن بخلت جميل أزعمت أنّ مودّتى وصبابتى ... كذب وأنّ زيارتى تقليل [2] فغنّت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيّات: أحسنت والله! ما أظنك إلا عاشقة لهذا الجلف. فقال له الأحوص: وما الذى أخرجك إلى هذا؟ قال: حسن غنائها

_ [1] التكملة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «تعليل» .

بشعرك، فلولا أنّ لك فى قلبها محبّة مفرطة ما جاء هكذا [1] حسنا على هذه البديهة. فقال الأحوص: على قدر حسن شعرى على شعرك هكذا حسن الغناء به. وما هذا [منك] [2] إلا حسد، وليس ذلك إلا ما حسدت عليه. فقالت سلّامة: لولا أنّ الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردّها أحد. قال الأحوص: فأنت [من ذلك [2]] آمنة. قال ابن قيس الرقيّات: كلّا! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. فتفرّقا على ذلك. ثم مشى ابن قيس الرقيّات إلى الأحوص فاعتذر إليه فقبل عذره. ومن شعر الأحوص فيها: سلّام إنّك قد ملكت فأسجحى ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح منّى على عان أطلت عناءه ... فى الغلّ عندك والعناة تسرّح إنّى لأنصحكم وأعلم أنه ... سيّان عندك من يغشّ وينصح وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح وحكى أبو الفرج قال: لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّى المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد؛ فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء والرّثاء [3] . فصاح فى ذلك وأجّل أهله ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبى عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلى حتى أدخل على سلّامة القسّ. فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلى حتى جئتكم لأسلّم عليكم. فقالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علىّ الليلة. فقالوا: نخاف ألّا يمكنك شىء.

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل،: «ما جاء هذا ... » . [2] زيادة عن الأغانى. [3] فى الأغانى: «والزنا» .

قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا فى السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذن له، فسلّم عليه وذكر غيبته وأنه جاء ليقضى حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والرّثاء، وقال: أرجو ألّا تكون [عملت [1]] عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار علىّ به أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول فى امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجنى من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال قال: فإنى أدعها لك ولكلامك. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغى أن يترك تركتها؛ قال نعم فجاءه بها. وقال: احملى معك سبحة وتخشّعى ففعلت. فلما دخلت على عثمان سلّمت عليه وجلست وحدّثته، فإذا هى من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها؛ وحدّثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال ابن أبى عتيق: اقرئى للأمير. فقرأت؛ فقال لها: احدى ففعلت. وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها فى صناعتها! فلم يزل ينزله شيئا فشيئا حتى أمرها بالغناء فغنّته. فقام عثمان من مجلسه وقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس تقرّ سلّامة وتخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعا. فتركهم جميعا وأصبح الناس يتحدّثون بذلك. ثم اشترى يزيد بن عبد الملك سلّامة، وكانت لمصعب بن سهيل الزّهرىّ، وقيل: لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف. وكانت حبابة جارية آل لاحق؛ فاشتراهما جميعا؛ فاشترى سلّامة بعشرين ألف درهم، وتسلّمها رسل يزيد فخرجوا بها وشيعّها

_ [1] زيادة عن الأغانى.

الناس. فلما نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك قالت للرّسل: إنّ لى قوما كانوا يغشوننى ويسلّمون علىّ، ولا بدّ لى من وداعهم والسلام عليهم؛ فأذن للناس عليها، فأتوا حتى ملؤا رحبة القصر والفناء؛ ووقفت هى بينهم بارزة ومعها العود فغنّت: فارقونى وقد علمت يقينا ... ما لمن ذاق ميتة من إياب إنّ أهل الحصاب قد تركونى ... موزعا مولعا بأهل الحصاب أهل بيت تتايعوا [1] للمنايا ... ما على الدّهر بعدهم من عتاب كم بذاك الحجون من حىّ صدق ... من كهول أعفّة وشباب سكنوا الجزع جزع بيت أبى مو ... سى إلى النخل من صفىّ السّباب فلى الويل بعدهم وعليهم ... صرت فردا وملّنى أصحابى قال: فلم تزل تردّد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها؛ فما شئت أن ترى باكيا نبيلا إلا رأيته. قالوا: وكانت حبابة عند يزيد متقدّمة على سلّامة، وكانت حبابة تنظر الى سلّامة بتلك العين الجليلة المتقدّمة وتعرف فضلها عليها؛ فلما رأت أثرة يزيد لها ومحبّته إيّاها استخفّت بها. فقالت لها سلّامة: أى أخيّة، نسيت فضلى عليك! ويلك! أين تأديب الغناء! أين حق التعليم! أنسيت قول جميلة لك وهى تطارحنا: خذى إحكام ما أطارحك من أختك سلّامة، فلا تزالين بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا!. فقالت: صدقت والله لا عدت لشىء تكرهينه أبدا. وماتت حبابة وعاشت سلّامة بعدها دهرا.

_ [1] كذا فى ديوانه والأغانى ج 1 ص 321 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصول: «تتابعوا» بالباء الموحدة.

ذكر أخبار حبابة

ولما مات يزيد أحضرها ابنه الوليد وأمرها بالغناء، فتنغصّت من ذلك وبكت، ثم غنّته. فقال: رحم الله أبى وأطال عمرى وأمتعنى بحسن غنائك!. يا سلّامة، بم كان أبى يقدّم حبابة عليك؟ قالت: لا أدرى والله. قال: لكننى أدرى ذلك، بما قسم الله عزّ وجلّ لها. قالت: يا سيّدى أجل. وهى إحدى من اتّهم بهنّ الوليد من جوارى أبيه. ذكر أخبار حبابة كانت حبابة جارية مولّدة من مولّدات المدينة لرجل من أهلها يعرف بابن دبابة، [1] وقيل: بل كانت لآل لا حق المكيّين، وقيل: كانت لرجل يعرف بابن مينا. وكانت تسمّى العالية [2] ، فسماها يزيد بن عبد الملك لما اشتراها حبابة. وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء طيّبة الصوت ضاربة بالعود. أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك بن أبى السّمح ومعبد وعن جميلة وعزّة الميلاء. وكان يزيد بن عبد الملك يقول: ما تقرّ عينى بما [3] أوتيت من الخلافة حتى أشترى سلّامة جارية مصعب بن سليم وحبابة جارية ابن لاحق المكيّة. فأرسل فاشتريتا له. فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الأوّل: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وكان يزيد بن عبد الملك فى خلافة أخيه سليمان قد قدم المدينة فتزوّج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن على ابن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مثل ذلك، واشترى العالية [2] بأربعة آلاف

_ [1] فى الأغانى: «يعرف بابن رمانة وقيل: ابن مينا وهو خرجها وأدّبها» . [2] كذا فى الأغانى طبع بولاق والطبرى طبع ألمانيا. وفى الأصل: «الغالية» بالغين المعجمة. [3] كذا فى الأغانى، وفى الأصل: «لم يقر عينى ما أوتيت الخ» .

دينار. فبلغ ذلك سليمان فقال: لأحجرنّ عليه. فبلغ يزيد ذلك فاستقال مولى حبابة؛ ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية. فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لا بدّ طالبها ومشتريها. فلما حصلت عندها قالت له: هل بقى عليك شىء من الدنيا لم تنله؟ قال: نعم، العالية. قالت: أو رأيتها؟ قال نعم. قالت: أفتعرفها؟ قال نعم. فرفعت الستر فرآها، فقالت: هذه هى؟ قال نعم؛ قالت: هى لك، وخرجت عنهما. فسمّاها حبابة وعظم قدر سعدة عنده. ويقال: إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطّئ لابنها عنده فى ولاية العهد. قال: وارتفع قدر حبابة عند يزيد وتمكّن حبّها فى قلبه تمكنا عظيما. وكان أوّل ذلك أنه أقبل يوما الى البيت الذى هى فيه فقام من وراء الستر فسمعها تترنّم وتغنّى: كان لى يا يزيد حبّك حينا ... كاد يقضى علىّ لمّا التقينا فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكن ذلك لمكانه؛ فألقى نفسه عليها وحرّكت منه. قال: وأراد يزيد بن عبد الملك أن يتشبّه بعمر بن عبد العزيز، وقال: بماذا صار عمر أرجى لربه منى!. وقيل: بل لامه مسلمة بن عبد الملك على الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الإماء عن النظر فى الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظّلامات يصيحون وأنت غافل! قال: صدقت والله، وهمّ أن يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياما، فشقّ ذلك عليها فأرسلت الى الأحوص أن يقول أبياتا فى ذلك، فقال: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا بكيت الصّبا جهدى فمن شاء لامنى ... ومن شاء آسى فى البكاء وأسعدا

وإنّى وإن فنّدت فى طلب الصّبا ... لأعلم أنّى لست فى الحبّ أوحدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا فما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا قال: فلما كان فى يوم الجمعة تعرّضت له حبابة عند خروجه الى الصلاة، فلقيته والعود فى يدها، فغنّت البيت الأوّل، فغطى وجهه وقال: مه لا تفعلى. ثم غنّت «وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى» فعدل إليها وقال: صدقت، قبّح الله من لامنى فيك! يا غلام، مر مسلمة فليصلّ بالناس. وأقام معها يشرب وهى تغنيّه وعاد الى حاله، وقال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص. فاستدعاه واستنشده الشعر فأنشده الأبيات. ثم أنشده قصيدته التى أوّلها: يا موقد النّار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم وهى قصيدة طويلة، فقال له يزيد: ارفع حوائجك؛ فكتب إليه فى نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره فأمر له بها. وقد قيل فى أمر هذه الأبيات: إن حبابة لمّا بعثت الى الأحوص فى عمل الشعر قالت له: إن رددت أمير المؤمنين عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل الأحوص عليه واستأذنه فى الإنشاد؛ فقال: ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له فأنشده الأبيات. فلما سمعها وثب حتى دخل على حبابة وهو يتمثّل: وما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا قالت: ما ذاك [1] يا أمير المؤمنين؟ فقال: أبيات أنشدنيها الأحوص، فسلي ما شئت. قالت: ألف دينار تعطيها الأحوص؛ فأعطاه ألف دينار.

_ [1] فى الأغانى: «فقالت ما ردّك يا أمير المؤمنين» .

قال: وقال يزيد يوما لسلّامة وحبابة: أيّكما غنّتنى ما فى نفسى فلها حكمها. فغنّت سلّامة فلم تصب ما فى نفسه؛ وغنّت حبابة بشعر ابن قيس الرّقيّات: حلق من بنى كنانة حولى ... بفلسطين يسرعون الرّكوبا جزعت [1] أن رأت مشيبى عرسى ... لا تلومى ذوائبى أن تشيبا فأصابت ما فى نفسه، فقال: احتكمى. قالت: تهب لى سلّامة ومالها. قال: اطلبى غيرها؛ فأبت غيرها؛ فقال: أنت أولى بها ومالها، فلقيت سلّامة من ذلك أمرا عظيما. فقالت حبابة: لا ترين إلّا خيرا. فجاءها يزيد فسألها أن تبيعه إيّاها بحكمها. فقالت: أشهدك الآن أنها حرّة، فاخطبها الآن أزوّجك مولاتى. قال: وغنّت حبابة يوما يزيد: ما أحسن الجيد من مليكة والّ ... لبّات إذ زانها ترائبها يا ليتنى ليلة- إذا هجع النا ... س ونام الكلاب- صاحبها فى ليلة لا يرى بها أحد ... يسعى علينا إلّا كواكبها فطرب يزيد، وقال: هل رأيت قطّ أطرب منّى؟ قالت: نعم، ابن الطيار معاوية ابن عبد الرحمن بن جعفر. فكتب يزيد الى عبد الرحمن بن الضحّاك فحمله إليه. فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا وأخبرته بالقصة؛ فإذا أدخلت عليه وتغنّيت فلا تظهرنّ طربا حتى أغنّى الصوت الذى غنيّته؛ فقال: سوءة على كبر السنّ! فدعاه يزيد وهو على طنفسة خزّ، ووضع لمعاوية مثلها، وجاءوا بجامين فيهما مسك، فوضع أحدهما بين يدى يزيد والآخر بين يدى معاوية. قال معاوية: فلم أدر كيف أصنع، فقلت: أنظر كيف يصنع فأصنع مثله؛ فكان يقلّبه فتفوح

_ [1] فى الأغانى: «هزئت» .

ريحه وأفعل مثل ذلك. فلما جىء بحبابة وغنّت، فلما غنّت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور ويقول: الدّخن بالنّوى يعنى اللّوبيا! وأمر له يزيد بصلات فى دفعات مبلغها ثمانية آلاف دينار. وحكى أيضا أنها غنّت يوما يزيد فطرب، ثم قال: هل رأيت أطرب منّى؟ قالت: نعم، مولاى الذى باعنى. فغاظه ذلك، فكتب فى حمله مقيّدا. فلما وصل أمر يزيد بإدخاله عليه فأدخل يرسف فى قيوده، وأمر يزيد حبابة أن تغنّى فغنّت: تشطّ بنا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فاحترقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: لعمرى إن هذا لأطرب [1] الناس! وأمر بحلّ قيوده ووصله بألف دينار ووصلته حبابة، وردّه الى المدينة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسنده الى غانم الأزدىّ قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشأم ومعه حبابة، فقال: زعموا أنه لا يصفو لأحد يوما عيشه الى الليل لا يكدّره شىء عليه، وسأجرّب ذلك؛ ثم قال لمن معه: إذا كان غد لا تخبرونى بشىء ولا تأتونى بكتاب. وخلا هو وحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمّانة فشرقت بحبّة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتى تغيّرت وأنتنت وهو يشمّها ويرشفها. فعاتبه على ذلك ذووه وأقر باؤه وصديقه وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك، فأذن لهم فى غسلها ودفنها، فأخرجت فى نطع، وخرج معها لا يتكلّم حتى جلس على قبرها. فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثيّر:

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «إن مثل هذا يطرب الناس» .

فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتّجلّد وكلّ خليل راءنى فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد فما بقى إلا خمس عشرة ليلة ومات، فدفن الى جنبها. وروى أيضا عن مسلمة بن عبد الملك قال: لمّا ماتت حبابة جزع عليها يزيد، فجعلت أسكّنه وأعزّيه وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلّمنى حتى دفنها. فلمّا بلغ إلى بابه التفت إلىّ وقال: فإن تسل عنك النفس ... البيت، ثم دخل بيته فمكث أربعين يوما ثم هلك. قال: وروى المدائنىّ أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إيّاها؛ فقال: لا بدّ أن تنبش حتى أنظر إليها، فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغيّرت تغيّرا قبيحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اتّق الله تعالى! ألا تراها كيف صارت! فقال: ما رأيت قطّ أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاء مسلمة ووجوه أهله [1] ، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها؛ وانصرف، وكمد كمدا شديدا حتى مات، فدفن إلى جانبها. وروى عن عبد الله بن عروة بن الزّبير قال: خرجت مع أبى إلى الشأم زمن يزيد بن عبد الملك. فلما ماتت حبابة وأخرجت، لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشى، فحمل على منبر على رقاب الرجال. فلمّا دفنت قال: لم أصلّ عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: ننشدك الله يا أمير المؤمنين، إنما هى أمة من الإماء وقد واراها الثرى. فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرّة واحدة؛ قال: فو الله ما استتمّ دخول الناس حتى قال الحاجب: اخرجوا رحمكم الله. ولم ينشب يزيد أن مات كمدا.

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وركبه أهله» .

ذكر أخبار خليدة المكية

ذكر أخبار خليدة المكّيّة قال أبو الفرج: هى مولاة لابن شمّاس، كانت هى وعقيلة وربيحة يعرفن بالشّمّاسيّات. وقد أخذت الغناء عن ابن سريج ومالك ومعبد. وروى أبو الفرج بسنده إلى الفضل بن الربيع أنه قال: ما رأيت ابن جامع يطرب لغناء كما يطرب لغناء خليدة المكيّة. وكانت سوداء، وفيها يقول الشاعر: فتنت كاتب الأمير رباح ... يا لقومى خليدة المكّيّه وغنّت هشام بن عروة يوما، فلما سمعها قال: اكتبى على صدرك (قل هو الله أحد) وبين يديك المعوّذتين لا تصيبك العين. وقال عمر بن شبّة: بلغنى أنّ محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان أرسل إلى خليدة المكيّة أبا عون مولاه يخطبها عليه. فاستأذن فأذنت له وعليها ثياب رقاق لا تسترها، ثم وثبت فقالت: إنما ظننتك بعض سفهائنا، ولكنّنى ألبس لك ثياب مثلك ففعلت. وقال: قد أرسلنى إليك مولاى، وهو من تعلمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عثمان بن عفّان ومن علىّ وهو ابن عمّ أمير المؤمنين، يخطبك. قالت: قد نسبت فأبلغت، فاسمع نسبى أنا بأبى [أنت] [1] ! إن أبى بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا ومات فى رجله قيد وفى عنقه سلسلة على الإباق والسّرقة، وولدتنى أمى على غير رشدة وماتت وهى آبقة، فأنا من تعلم. فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا أو زنا صراحا فهلمّ الينا فنحن له. فقال: إنه لا يدخل فى الحرام. فقالت: لا ينبغى أن يستحيى من الحلال، فأمّا نكاح السرّ فلا والله لا فعلته ولا كنت عارا على القيان. قال: فأتيت محمدا فأخبرته؛ فقال:

_ [1] التكملة عن الأغانى.

ذكر أخبار متيم الهشامية

ويحك! أتزوّجها مغنّية وعندى بنت طلحة بن عبيد الله! لا! ولكن ارجع إليها فقل لها: تختلف إلىّ أردّد بصرى فيها لعلّى أسلو، فرجعت إليها فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت: أمّا هذا فنعم، لسنا نمنعه. ذكر أخبار متيّم الهشاميّة قال أبو الفرج: كانت متيّم مولّدة صفراء من مولّدات البصرة، وبها نشأت وتدرّبت [1] وغنّت. وأخذت عن إسحاق وأبيه قبله وعن طبقتهما من المغنّين. وكانت من تخريج بذل وتعليمها. واشتراها علىّ بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنّين. وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا. وكانت تقول: الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها. وحظيت عند علىّ بن هشام حظوة شديدة، وتقدّمت جواريه جمع عنده، وهى أمّ ولده كلهم. حكى أبو الفرج قال: كان عند علىّ بن هشام برذون أشهب قرطاسىّ فى نهاية الحسن والفراهة وكان به معجبا، وكان إسحاق بن إبراهيم يشتهيه شهوة شديدة ويعرّض لعلىّ مرارا فى طلبه فلم يسمح به. فسار إسحاق إلى علىّ يوما وقد صنعت متيم: فلا زلن حسرى ظلّعا، لم حملنها ... إلى بلد ناء قليل الأصادق فاحتبسه علىّ وبعث إلى متيّم يأمرها أن تجعل صوتها فى صدر غنائها ففعلت، فأطربت إسحاق إطرابا شديدا، وجعل يستعيده ويستوفيه ليزيد فى طربه [2] وهو يصغى إليه ويتفهّمه حتى صحّ له. ثم قال لعلىّ: ما فعل البرذون الأشهب؟ قال: على ما عهدت من حسنه وفراهته. قال: اختر الآن منّى خلّة من اثنتين: إمّا أن

_ [1] فى الأغانى: «وتأدّبت» . [2] عبارة الأغانى: «وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد فى إطرابه إسحاق وهو يصغى ... » .

طبت لى نفسا [به [1]] وحملتنى عليه، وإمّا أن أبيت فأدّعى والله هذا الصوت [لى [1]] وقد أخذته، أفتراك تقول: إنه لمتيّم وأقول: إنه لى، فيؤخذ قولك ويترك قولى؟ فقال: لا والله ما أظنّ هذا ولا أراه؛ يا غلام، قد البرذون إلى منزل إسحاق، لا بارك الله لك فيه!. وحكى أن علىّ بن هشام مولاها كلّمها بشىء فأجابته جوابا لم يرضه، فدفع [يده] فى صدرها، فغضبت ونهضت وتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب إليها: فليت يدى بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكفّ وساعد فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التّنادى بعائد قال: وعتبت عليه مرّة فتمادى عتبها، فترضّاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الملال، وربّ هجر دعا إلى صبر، وإنما سمّى القلب قلبا لتقلّبه؛ وقد صدق عندى العباس بن الأحنف حيث يقول: ما أرانى إلا سأهجر من لي ... س يرانى أقوى على الهجران ملّنى [2] واثقا بحسن وفائى ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان قال: فخرجت إليه من وقتها ورضيت. وروى عن يحيى المكّى قال: قال لى علىّ بن هشام: لمّا قدمت جدّتى شاهك من خراسان، قالت: اعرض جواريك علىّ؛ فعرضتهن عليها. ثم جلسنا على الشراب وغنّتنا متيّم، فأطالت جدّتى الجلوس، فلم أنبسط إلى جوارى كما كنت أفعل، فقلت هذين البيتين: أنبقى على هذا وأنت قريبة ... وقد منع الزّوّار بعض التكلّم سلام عليكم لا سلام مودّع ... ولكن سلام من حبيب متيّم

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: قد حدا بى إلى الجفاء وفائى

وكتبت بهما فى رقعة ورميتها إلى متيّم؛ فأخذتها ونهضت لصلاة الظهر، ثم عادت وقد صنعت فيه لحنا فغنّته. فقالت شاهك: ما أرانا إلا قد ثقّلنا عليكم اليوم؛ وأمرت الجوارى فحملوا محفّتها، وأمرت للجوارى بجوائز ساوت بينهن، وأمرت لمتيّم بمائة ألف درهم. قال: ومرّت متيّم فى نسوة وهى متخفّية بقصر على بن هشام بعد أن قتله المأمون. فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس به وقد علاه التراب والغبرة وطرحت فى أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثّلت: يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنّنى ... بكيت عيشى فيك إذ ولّى قد كان لى فيك هوى مرّة ... غيّبه الترب وما ملّا فصرت أبكى بعده جاهدا [1] ... عند ادّكارى حيث قد حلّا والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يناشدنها [ويقلن [2]] : الله الله فى نفسك! فإنك الآن تؤخذين. فبعد لأى مّا احتملت تتهادى بين امرأتين حتى جاوزت الموضع. وحكى عنها قالت: بعث إلىّ المعتصم بعد قدومه بغداد؛ فلما دخلت أمر بالعود فوضع فى حجرى، وأمرنى بالغناء فغنّيت: هل مسعد لبكائى ... بعبرة أو دماء وذاك شىء قليل ... لسادتى النّجباء

_ [1] فى الأغانى: «فصرت أبكى جاهدا فقده» . [2] زيادة عن «الأغانى» .

- وهذا الشعر لمراد جارية علىّ بن هشام ترثيه- فقال: اعدلى عن هذا الصوت؛ فغنيّت: ذهبت عن الدنيا وقد ذهبت عنّى فدمعت عيناه وقال: غنّى غير هذا؛ فغنيّت: أولئك قومى بعد عزّ وثروة [1] ... تفانوا فإلّا تذرف العين أكمد فبكى بكاء شديدا، ثم قال: ويحك! لا تغنّى فى هذا المعنى شيئا. فغنيّته: لا تأمن الموت فى حلّ وفى حرم ... إنّ المنايا بجنبى [2] كلّ إنسان واسلك طريقك هونا غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يمنى لك المانى فقال: والله إنى لأعلم أنك إنما أردت بما غنيّت ما فى قلبك لصاحبك [وأنّك] لم تريدينى، ولو أعلم أنك تريديننى لقتلتك، ولكن خذوها! فأخذوا بيدى فأخرجت. وهذه متيّم هى التى كان يهواها عبد الصمد بن المعذّل، وأظنّ ذلك قبل اتصالها بعلىّ بن هشام، وهى إذ ذاك عند رجل من وجوه البصرة. قال: وكانت لا تخرج إلا متنقّبة. فحكى المبرّد وغيره: أنها قدمت يوما إلى ابن عبيد الله بن الحسين العنبرىّ القاضى، فآحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمر بها أن تسفر ففعلت. فقيل لعبد الصمد: لو رأيت متيّم وقد أسفرها القاضى لرأيت شيئا عجيبا! فقال: ولمّا سرت عنها القناع متيّم ... تروّح منها العنبرىّ متيّما رأى ابن عبيد الله وهو محكّم ... عليها لها طرفا عليه محكّما

_ [1] فى الأغانى: «ومنعة» . [2] فى الأغانى: «تغشى» .

ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

وكان قديما كالح الوجه عابسا ... فلما رأى منها السفور تبسّما فإن يصب قلب العنبرىّ فقبله ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما فبلغ قوله يحيى بن أكثم؛ فكتب إليه: عليك لعنة الله! أىّ شىء أردت منّى حتى أتانى شرّك من البصرة! فقال لرسوله: قل له: متيّم أقعدتك على طريق القافية. ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال أبو الفرج: كانت ساجى إحدى المحسنات المبرّزات المتقدّمات، وهى تخريج مولاها عبيد الله. وكان مهما صنع من الغناء نسبه إليها، وكان قد بلغ من ذلك الغاية، ولكنه كان يترفّع عن ذكره ويكره أن ينسب إليه. حكى أبو الفرج عن أحمد بن جعفر جحظة قال: كتب المعتضد إلى عبيد الله ابن عبد الله بقمّ [1] أن يأمر جاريته ساجى بزيارته ففعل. قال جحظة: فحدّثنى من حضر ذلك المجلس من المغنيّات قالت: دخلت علينا وما فينا إلا من ترفل فى الحلىّ والحلل وهى فى أثواب ليست كأثوا بنا فاحتقرناها؛ فلما غنّت احتقرنا أنفسنا؛ ولم تزل تلك حالنا حتى صارت فى أعيننا كالجبل وصرنا كلا شىء. ولمّا انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة. ودخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن خبرها وما رأت مما استظرفت وسمعت واستغربت؛ فقالت: ما استحسنت هناك شيئا ولا استغربته من غناء ولا غيره إلّا عودا من عود محفورا فإنى استظرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن تدخل إلى دار الخليفة ولا تمدّ عينها إلى شىء تستظرفه وتستحسنه إلّا عودا!

_ [1] قم: مدينة كبيرة بين أصبهان وساوة.

ذكر أخبار دقاق

قالوا: وكان المعتضد إذا استحسن شيئا بعث به إلى ساجى فتغنّى فيه. وكانت صنعتها فى عصره تسمّى غناء الدار. وماتت ساجى فى حياة مولاها وكان عليلا، فرثاها ببيتين فقال: يمينا يقينا لو بليت بفقدها ... وبى نبض عرق للحياة وللنّكس لأوشكت قتل النفس قبل فراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسى ذكر أخبار دقاق قال أبو الفرج: كانت دقاق مغنيّة محسنة متقنة الأداء والصنعة جميلة الوجه. أخذت الغناء عن أكابر مغنّى الدّولة العبّاسية. وكانت ليحيى بن الربيع، فولدت له ابنه أحمد. ومات يحيى فتزوّجت بعده بعدّة من القوّاد والكتّاب فماتوا وورثتهم، ثم انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض. وكانت مشهورة بالظّرف والمجون. قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ: وكانت تواصل جماعة كانوا يميلون إليها وترى كلّ واحد منهم أنها تهواه. وكانت أحسن أهل عصرها وجها وأشأمهم على من تزوّجها أو رابطها. فقال فيها إبراهيم بن المهدىّ: عدمتك يا صديقة كلّ خلق ... أكلّ الناس ويحك تعشقينا وكيف إذا خلطت الغثّ منهم ... بلحم سمينهم لا تبشمينا قال أبو هفّان: خرج يحيي بن الربيع إلى بعض النواحى وترك جاريته دقاق فى داره؛ فعملت [بعده [1]] الأوابد. فقال موسى [2] الأعمى [فيه [1]] :

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى: «أبو موسى» .

ذكر أخبار قلم الصالحية

قل ليحيى نعم صبرت على المو ... ت ولم تخش ريب سهم المنون كيف قل لى أطقت ويحك يا يح ... يى على الضّعف منك حمل القرون يشير بقوله: «سهم ريب المنون» إلى شؤمها. ذكر أخبار قلم الصالحيّة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت قلم الصالحيّة مولّدة صفراء حلوة حسنة الغناء والضّرب حاذقة، قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق ويحيى المكّى وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب [أخى أحمد بن عبد الوهاب [1]] كاتب صالح بن الرشيد، وقيل: بل كانت لابنه [2] . قال: وكانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا، فاشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار. قال أحمد بن الحسين بن هشام: كانت قلم إحدى المغنّيات المحسنات المتقدّمات، فغنّى بين يدى الواثق لحن لها فى شعر محمد بن كناسة، وهو: فىّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسى على سجيّتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فسأل: لمن الصنعة؟ فقيل: لقلم الصالحيّة جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزّيات فأحضره وسأله: من صالح بن عبد الوهاب؟ فأخبره. قال: وأين هو؟ قال: ببغداد. قال: ابعث وأشخصه وليحضر معه جاريته قلم. فكتب فى إشخاصهما، فقدما على الواثق، فدخلت عليه، فأمرها بالجلوس والغناء، فغنّت فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك وردّها اليه. ثم غنّى بعد ذلك زرزر الكبير فى مجلس

_ [1] زيادة عن الأغانى. [2] فى الأغانى «لأبيه» .

الواثق بشعر الغناء فيه لها؛ فقال الواثق: لمن هذا الغناء؟ فقال: لقلم الصالحيّة؛ فبعث إلى ابن الزيّات بإشخاصها ففعل، فدخلت على الواثق فأمرها بالغناء، فغنّته من صنعتها فأعجبه غناؤها، وبعث الى صالح فأحضره وقال له: إنّى قد رغبت فى هذه الجارية فاستم فى ثمنها سوما يجوز أن تعطاه. فقال: أمّا إذ وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة، وقد أهديتها الى أمير المؤمنين، فإنّ من حقها علىّ إذا تناهيت فى قضائه أن أصيّرها ملكه، فبارك الله له فيها. فقال الواثق: قد قبلتها، وأمر ابن الزيّات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، وسمّاها اعتباطا. فلم يعطه ابن الزيّات المال ومطله به؛ فوجّه إلى قلم من أعلمها بذلك؛ فغنّت الواثق صوتا وقد اصطبح؛ فقال لها: بارك الله فيك وفيمن ربّاك. فقالت: يا سيّدى وما نفع من ربّانى منّى إلّا التعب والغرم والخروج منّى صفرا! فقال: أو لم نأمر له بخمسة آلاف دينار؟ قالت: بلى! ولكنّ ابن الزيّات لم يعطه شيئا. فدعا بخادم من خاصّة الخدم ووقعّ إلى ابن الزيّات بحمل خمسة آلاف الدينار إليه وبخمسة آلاف أخرى معها. قال صالح: فصرت مع الخادم إليه فقرّ بنى وقال: أمّا خمسة الالاف الأولى فقد حضرت، وخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها اليك بعد جمعة. قال: فقمت، ثم تناسانى كأنه لم يعرفنى. فكتبت إليه أقتضيه؛ فبعث إلىّ: اكتب لى قبضا بها وخذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب إليه قبضا فلا يحصل لى شىء. قال: فاستترت فى منزل صديق لى. فلما بلغه استتارى خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إلىّ بالمال وأخذ كتابى بالقبض. قال: فابتعت بالمال ضيعة وتعلّقت بها وجعلتها معاشى، وقعدت عن عمل السلطان، فما تعرّضت لشىء بعدها.

ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس

ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس قال أبو الفرج: كانت جارية من مولّدات المدينة حلوة الوجه حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنّين. وكان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان، يغشاه الأشراف ويسمعون غناء جواريه. ثم اشتريت للمهدىّ، وهو ولىّ عهد، بسبعة عشر ألف دينار. وقيل: إنها ولدت له عليّة بنت المهدىّ وقيل: أمّ عليّة غيرها. قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير يأتيها فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان قريش فيسمعون منها. فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا إلى الحجّ ومرّ بالمدينة يذكر بصبص: أراحل أنت أبا جعفر ... من قبل أن تسمع من بصبصا هيهات أن تسمع منها إذا ... جاوزت العيس بك الأعوصا فخذ عليها مجلسى لذّة ... ومجلسا من قبل أن تشخصا أحلف بالله يمينا ومن ... يحلف بالله فقد أخلصا لو أنها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا فبلغ الشعر أبا جعفر المنصور، فغضب ودعاه، ثم قال: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم [1] النساء وشققتم معهنّ العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيّات! فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم. وقال هارون بن محمد بن عبد الملك وهو ابن ذى الزوائد فيها: بصبص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبدّلت فأنت الهلال سبحانك اللهمّ ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «كادتكم» .

إذا دعت بالعود فى مشهد ... وعاونت يمنى يديها الشّمال غنّت غناء يستفزّ الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدّلال قال: وهوى محمد بن عيسى الجعفرىّ بصبص فهام بها وطال ذلك عليه؛ فقال لصديق له: قد شغلتنى هذه عن صنعتى وكلّ أمرى، وقد وجدت مسّ السّلوّ عنها، فاذهب بنا إليها حتى أكاشفها ذلك وأستريح. فأتياها؛ فلما غنّتهما قال لها محمد بن عيسى: أتغنّين: وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم فى دياركم السّلام فقالت: لا، ولكنى أغنّى: تحمّل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحيا وازداد بها كلفا ولها عشقا؛ فأطرق ساعة ثم قال لها: أتغنّين: وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذى أتنصّل قالت: نعم، وأغنّى أحسن منه: فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل فتقاطعا فى بيتين وتواصلا فى بيتين، وما شعر بهما أحد. قال: وحضر أبو السائب المخزومىّ مجلسا فيه بصبص، فغنّت: قلبى حبيس عليك موقوف ... والعين عبرى والدمع مذروف والنفس فى حسرة بغصّتها ... قد شفّ أرجاءها التساويف إن كنت بالحسن قد وصفت لنا ... فإنّنى بالهوى لموصوف يا حسرتا حسرة أموت بها ... إن لم يكن لى إليك معروف قال: فطرب أبو السائب ونعر وقال: لا عرف الله من لا يعرف لك معروفك، ثم أخذ قناعها عن رأسها ووضعه على رأسه وجعل يبكى ويلطم ويقول

ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهن سلامة الزرقاء، وربيحة، وسعدة

لها: بأبى أنت! والله إنى لأرجو أن تكونى عند الله أفضل من الشّهداء لما توليناه من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه! يا لله ما يلقى العاشقون!. وقال عثمان بن محمد الليثىّ: كنت يوما فى منزل ابن نفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان فى القوم فتى يحبها، فسألته حاجة فقام ليأتيها بها، فنسى أن يلبس نعله ومضى حافيا. فقالت له: يا فلان، نسيت نعلك؛ فرجع فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأوّل: وحبّك ينسينى عن الشىء فى يدى ... ويشغلنى عن كلّ شىء أحاوله فأجابته فقالت: وبى مثل ما تشكوه منّى وإنّنى ... لأشفق من حبّ لذاك تزايله ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهنّ سلّامة الزّرقاء، وربيحة، وسعدة قال أبو الفرج: وابن رامين هو عبد الملك بن رامين مولى عبد الملك بن بشر ابن مروان. وكان له جوار مغنّيات مجيدات، وهنّ سلّامة الزرقاء، وربيحة، وسعدة. وفيهنّ يقول إسماعيل بن عمّار قصيدته التى أوّلها: هل من شفاء لقلب لجّ محزون ... صبا وصبّ إلى رئم ابن رامين إلى ربيحة إن الله فضّلها ... بحسنها وسماع ذى أفانين نعم شفاؤك منها أن تقول لها ... قتلتنى يوم دير اللّجّ [1] فآحيينى أنت الطبيب لداء قد تلبّس بى ... من الجوى فانفثى فى فىّ وارقينى نفسى تأبى لكم إلّا طواعية ... وأنت تحمين أنفا أن تطيعينى

_ [1] دير اللج: هو بالحيرة مما بناه النعمان بن المنذر.

ومنها: لم أنس سعدة والزّرقاء يومهما ... باللّجّ شرقيّه فوق الدكاكين يغنّيان ابن رامين ضحاءهما ... بالمسجحىّ وتشبيب المحبّين فما دعوت به فى عيش مملكة ... ولم نعش يومنا عيش المساكين وهى أبيات طويلة، وله فيهنّ غيرها. قال: واشترى جعفر بن سليمان بن علىّ سلّامة الزرقاء بثمانين ألف درهم؛ وقيل: إنه اشترى ربيحة بمائة ألف درهم، والأوّل أصح. وقيل: إنّ الذى اشترى ربيحة محمد بن سليمان، واشترى صالح بن علىّ سعدة بتسعين ألف درهم. وقيل: اشترى معن بن زائدة إحداهنّ. قال: وكانت سلّامة الزرقاء عاقلة شكلة. قال: ولمّا اشتراها جعفر ومضت لها مدّة عنده، سألها يوما: هل ظفر منك أحد قطّ ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة؟ فخشيت أن يبلغه شىء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه شىء، فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادىّ الصيرفى، فإنه قبّلنى قبلة وقذف فى فىّ لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم. فلم يزل جعفر بن سليمان يحتال له حتى وقع به فضربه بالسّياط حتى مات. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى خبر يزيد بن عون هذا بسند رفعه إلى عبد الرحمن بن مقرون أنه اجتمع هو وروح بن حاتم عند ابن رامين، وأن الزرقاء خرجت عليهم فى إزار ورداء [قهويّين [1]] مورّدين، كأنّ الشمس طالعة بين رأسها وكعبها. قال: فغنّتنا ساعة؛ ثم جاء الخادم الذى كان يأذن لها- وكان الإذن عليها دون مولاها- فقام على الباب وهى تغنّى، حتى إذا قطعت الغناء نظرت إليه فقالت: مه! قال: يزيد بن عون العبادىّ الصيرفىّ الملقّب بالماجن على الباب. قالت:

_ [1] زيادة عن الأغانى.

ائذن له. فلما استقبلها طفر ثم أقعى بين يديها، فوجدت والله له، ورأيت أثر ذلك، وتنوّقت تنوّقا [1] خلاف ما كانت تفعل بنا. فأدخل يده فى ثوبه فأخرج لؤلؤتين فقال: انظرى يا زرقاء، جعلت فداك! ثم حلف أنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بك؟ قال: أردت أن تعلمى. فغنّت صوتا ثم قالت: يا ماجن هبهما لى! قال: إن شئت والله فعلت. قالت: قد شئت. قال: فاليمين التى حلفت بها لازمة [لى [2]] إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتىّ. فقال ابن رامين للغلام: ضع لى ماء ثم خرج عنا؛ فقالت: هاتهما. فمشى على ركبتيه وكفّيه وهما بين شفتيه وقال: هاك؛ فلما ذهبت تتناولهما جعل يصدّ عنها يمينا وشمالا ليستكثر منها؛ فغمزت جارية على رأسها، فخرجت كأنها تريد حاجة ثم عطفت عليه؛ فلما دنا وذهب ليروغ دفعت منكبيه وأمسكتهما حتى أخذت الزرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه ورشح جبينها عرقا حياء منا. ثم تجلّدت علينا فأقبلت عليه [3] وقالت: المغبون فى استه عود. فقال: فأمّا أنا فلا أبالى، والله لا يزال طيب هذه الرائحة فى أنفى وفى ما حييت. قال: واجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفّع. فلما تغنّت الزّرقاء وسعدة بعث معن فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، وبعث روح فجىء ببدرة فصبّها بين يديها، ولم تكن عند ابن المقفّع دراهم، فبعث فجاء بصكّ ضيعة، وقال: هذه عهدة ضيعتى خذيها، فأمّا الدراهم فما عندى منها شىء. وشربت زرقاء دواء فأهدى لها ابن المقفّع ألف درّاجة [4] . وعن إسحاق بن إبراهيم قال: كان روح بن حاتم بن المهلّب كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزّرقاء، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه؛ فقال لها:

_ [1] تنوق فى الأمر: تأنق فيه. [2] زيادة عن الأغانى. [3] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «علينا» . [4] نوع من الطيور.

ذكر أخبار عنان جارية الناطفى

إنّ روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع وقد غمر مولاى ببرّه! قال: احتالى له. فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته. فلما أصبح سأل عنه، فقالت: غسلناه. فظنّ أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله فآستحيا من ذلك فانقطع عنهم؛ وخلا وجهها لابن جميل. ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عنان مولّدة من مولّدات اليمامة، وبها نشأت وتأدّبت، واشتراها الناطفىّ وربّاها. وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة، وكان فحول الشعراء يساجلونها ويعارضونها فتنتصف منهم. ولها مع أبى نواس الحسن بن هانئ وغيره من الشعراء والفضلاء معاياة ومراجعات، نذكر منها طرفا. قال أبو حبش: قال لى النّاطفىّ: لو جئت إلى عنان فطارحتها! فعزمت على الغدوّ إليها، وبتّ ليلتى أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فأنشدتها: أحبّ الملاح البيض قلبى وربّما ... أحبّ الملاح الصّفر من ولد الحبش بكيت على صفراء منهنّ مرّة ... بكاء أصاب العين منّى بالعمش فقالت عنان: بكيت عليها إنّ قلبى يحبّها ... وإنّ فؤادى كالجناحين ذو رعش تعنّيتنا بالشعر لمّا أتيتنا ... فدونك خذه محكما يا أبا حبش وقال مروان بن أبى حفصة: لقينى الناطفىّ فدعانى إلى عنان، فانطلقت معه. فدخل إليها قبلى فقال: جئتك بأشعر الناس مروان بن أبى حفصة؛ فوجدها

عليلة فقالت: إنى عن مروان لفى شغل. فأهوى إليها بسوط فضربها، وقال لى: ادخل؛ فدخلت وهى تبكى، فرأيت الدموع تتحدّر من عينيها؛ فقلت: بكت عنان فجرى دمعها ... كالدّرّ إذ يسبق من خيطه فقالت مسرعة: فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه قال مروان: فقلت: أعتق ما أملك إن كان فى الجنّ والإنس أشعر منها. وقال أحمد بن معاوية قال لى رجل: تصفّحت كتبا فوجدت فيها بيتا جهدت جهدى أن أجد من يجيزه فلم أجد. فقال لى صديق لى: عليك بعنان جارية الناطفىّ؛ فأتيتها فأنشدتها البيت وهو: وما زال يشكو الحبّ حتى رأيته ... تنفّس من أحشائه وتكلّما فلم تلبث أن قالت: ويبكى فأبكى رحمة لبكائه، ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما وقال موسى بن عبد الله التميمىّ: دخل أبو نواس على الناطفىّ وعنان جالسة تبكى، وقد كان الناطفىّ ضربها، فأومأ إلى أبى نواس أن حرّكها بشىء؛ فقال أبو نواس: عنان لو جدت لى فإنّى من ... عمرى فى (آمن الرّسول [1] بما) فقالت: فإن تمادى ولا تماديت فى ... قطعك حبلى أكن كمن ختما فقال أبو نواس: علّقت من لو أتى على أنفس ال ... ماضين والغابرين ما ندما

_ [1] لعله يريد من اقتباس هذه الآية، وهى قبيل آخر سورة البقرة، أن يدل على أنه فى آخر مرحلة من حياته وأنه لم يبق من عمره إلا بمقدار ما تقع هذه الآية من السورة المذكورة.

فقالت: لو نظرت عينها إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما وقال أبو جعفر النّخعىّ: كان العبّاس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفىّ. فجاءنى يوما فقال لى: امض بنا إلى عنان. فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له؛ فجلسنا قليلا؛ ثم ابتدأ العبّاس فقال: قال عبّاس وقد أج ... هد من وجد شديد ليس لى صبر على الهج ... ر ولا لذع الصّدود لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد فقالت عنان: من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصّدود بعد وصل لك منّى ... فيه إرغام الحسود! فاتّخذ للهجر إن شئ ... ت فؤادا من حديد ما رأيناك على ما ... كنت تجنى بجليد فقال عبّاس: لو تجودين لصبّ ... راح ذا وجد شديد وأخى جهل بما قد ... كان يجنى بالصّدود ليس من أحدث هجرا ... لصديق بسديد ليس منه الموت إن لم ... تصليه ببعيد قال: فقلت للعبّاس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسى بتتايهى عليها. فلم أبرح حتى ترضّيتها له. وقال الأصمعىّ: بعثت الىّ أمّ جعفر أنّ امير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أربع لأن أجد للقول

فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له؛ إذ دخلت يوما فرأيت فى وجهه أثر الغضب فانخزلت. فقال: مالك يا أصمعىّ؟ قلت: رأيت فى وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فلعن الله من أغضبه! فقال: هذا الناطفىّ، والله لولا أنّى لم أجر فى حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كل جبل منه قطعة! ومالى فى جاريته من أرب غير الشعر. قال الأصمعىّ: فذكرت رسالة أمّ جعفر فقلت: أجل، والله ما فيها غير الشعر، أفيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق! فضحك حتى استلقى. واتّصل قولى بأمّ جعفر فأجزلت لى الجائزة. وقال يعقوب بن إبراهيم: طلب الرشيد من الناطفىّ جاريته، فأبى أن يبيعها بأقلّ من مائة ألف دينار. فقال الرشيد: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ الدينار بسبعة دراهم، فامتنع عليه، فأمر أن تحمل إليه. فذكروا أنها دخلت مجلسه فى هيئتها؛ فقال لها الرشيد ويلك! إن هذا قد اعتاص علىّ فى أمرك. فقالت: ما منعك أن توفيه وترضيه؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، وأمرها بالانصراف. فتصدّق الناطفىّ حين رجعت إليه بثلاثين ألف درهم. فلم تزل فى قلب الرشيد حتى مات مولاها. فلما مات بعث الرشيد مسرورا الخادم، فأخرجها الى باب الكرخ وأقامها على سرير وعليها رداء سندىّ قد جلّلها، فنودى عليها فيمن يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها، فقالوا: هذه كبد رطبة وعلى الرجل دين، فأشاروا ببيعها. وكانت تقول وهى على المصطبة: أهان الله من أهاننى وأرذل من أرذلنى! فوكزها مسرور بيده. وبلغ بها مسرور مائتى ألف درهم؛ فجاء رجل فقال: علىّ زيادة خمسة وعشرين ألف درهم؛ فوكزه مسرور وقال: أتزيد على أمير المؤمنين! فبلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم وأخذ مالها. قال: ولم يكن فيها عيب يعاب، فطلبوا

ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدى

لها عيبا لا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها فى ظفره شيئا. قال: وأولدها الرجل الذى اشتراها ولدين، ثم خرج بها الى خراسان فمات هناك وماتت بعده. ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ قال أبو الفرج: كانت شارية مولّدة من مولّدات البصرة. يقال: إنّ أباها كان من بنى سامة بن لؤىّ المعروفين ببنى ناجية، وإنه جحدها. وكانت أمّها أمة، فدخلت فى الرقّ. وقيل: إن أمّها كانت تدّعى أنها بنت محمد بن زيد من بنى سامة ابن لؤىّ، وقيل: إنها كانت تدّعى أنها من بنى زهرة، وقيل: بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بنى هاشم فأدّبتها وعلّمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدىّ، فأخذت عنه غناءه كلّه أو أكثره. وبذلك يحتجّ من يقدّمها على عريب ويقول: إنّ إبراهيم خرّجها، وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه وبمعرفة ما يأخذها به؛ ولم تلق عريب ذلك، لأن المراكبىّ لم يكن يقارب إبراهيم فى العلم ولا يقاس به فى بعضه فضلا عن سائره. قال: ولما عرضتها مولاتها الهاشميّة للبيع ببغداد عرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ فأعطى فيها ثلاثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك ولم يردها. فجىء بها الى ابراهيم بن المهدىّ فساوم بها؛ فقالت له مولاتها: إن إسحاق بن إبراهيم أعطى بها ثلاثمائة دينار وأنت أحقّ بها. فقال: زنوا لها ما قالت فوزن لها. ثم دعا بقيّمته فقال: خذى هذه الجارية ولا تزيّنيها سنة، وقولى للجوارى يطرحن عليها. فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها وسمع منها؛ فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم؛ فلما أتاه أراه إيّاها وأسمعه غناءها، وقال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك؟ قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار وهى رخيصة بها. فقال له إبراهيم: أتعرفها؟

قال لا. قال: هذه الجارية التى عرضتها الهاشميّة بثلاثمائة دينار فلم تقبلها. فعجب إسحاق من حالها وما صارت إليه. وقد حكى عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدىّ أنها عرضت ببغداد على إبراهيم فأعجب بها إعجابا كبيرا، [فلم يزل يعطى بها حتى [1]] بلغت ثمانية آلاف درهم. قال: ولم يكن عند أبى درهم ولا دانق؛ فقال لى: ويحك! قد والله أعجبتنى هذه الجارية إعجابا شديدا، وليس عندنا شىء. فقلت له: بع ما تملكه حتى الخزف وتجمع ثمنها. فقال لى: [قد تذكّرت فى شىء [1]] ، اذهب إلى علىّ بن هشام فأقرئه منّى السلام، وقل له: قد عرضت على جارية وقد أخذت بمجامع قلبى، وليس عندى شىء، فأحبّ أن تقرضنى عشرة آلاف درهم. فقلت: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم نكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم! فقال: إذا اشتريتها بثمانية آلاف درهم فليس لنا بدّ من أن نكسوها ونقيم لها ما تحتاج إليه. قال: فصرت إلى علىّ بن هشام وأبلغته الرسالة؛ فدعا بوكيل له وقال: ادفع إلى خادمه عشرين ألف درهم، وقل له: أنا لا أصلك، ولكن هى لك حلال فى الدنيا والآخرة. قال: فصرت إلى أبى بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم. قال: وكانت أمّها خبيثة، وكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهى ذهبت إلى عبد الوهاب بن علىّ، ودفعت إليه رقعة يوصلها إلى المعتصم تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم. وحكى عن يوسف بن إبراهيم المصرىّ صاحب إبراهيم بن المهدىّ أنّ إبراهيم وجّه به إلى عبد الوهاب بن علىّ فى حاجة كانت له. قال: فلقيته وانصرفت من عنده؛ فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتنى امرأة؛ فلما نظرت فى وجهى

_ [1] زيادة عن الأغانى. وفى الأصل: «إعجابا كبيرا فبلغت» .

سترت وجهها، فأخبرنى شاكرىّ أن المرأة امّ شارية جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم وقلت له: إنى رأيت أمّ شارية فى دار عبد الوهاب، وهى من تعلم، وما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لى: اشهدك أنّ جاريتى شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدىّ، ثم أشهد ابنه هبة الله على مثل ما أشهدنى، وأمرنى بالركوب إلى ابن أبى دواد وإحضار من قدر عليه من الشهود المعدّلين عنده؛ فأحضر أكثر من عشرين شاهدا. وأمر بإخراج شارية فاخرجت. فقال لها: استرى وجهك؛ فجزعت من ذلك، فأعلمها أنما أمرها بذلك لخير يريده لها ففعلت. فقال لها: تسمّى؛ فقالت: أنا أمتك. فقال لهم: تأمّلوا وجهها ففعلوا. ثم قال: فإنى أشهدكم أنها حرّة لوجه الله تعالى، وأنى قد تزوّجتها وأصدقتها عشرة آلاف درهم؛ يا شارية أرضيت؟ قالت: نعم يا سيّدى، قد رضيت، والحمد لله تعالى على ما أنعم به علىّ. فأمرها بالدخول، وأطعم الشهود وطيّبهم وانصرفوا. قال: فما أحسبهم تجاوزوا دار ابن أبى دواد حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علىّ، فأقرأ عمّه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض علىّ طاعتك وصيانتك عن كلّ ما يسوءك، إذ كنت عمّى وصنو أبى. وقد رفعت [امرأة [1]] إلىّ قصّة ذكرت فيها أن شارية ابنتها، وأنها امرأة من قريش من بنى زهرة، واحتجّت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة. فإن كانت هذه المرأة صادقة فى أنّ شارية بنتها، وأنها من بنى زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة. والأشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك وتصيّرها عند من تثق به من أهلك، حتى يكشف عما قالته هذه المرأة. فإن ثبت ذلك أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، وكان فى ذلك الحظ لك فى دينك ومروءتك. وإن لم يصح ذلك

_ [1] التكملة عن الأغانى (ج 14 ص 110 طبع بولاق) .

أعيدت الجارية إليك وقد زال عنك القول الذى لا يليق بك ولا يحسن. فقال إبراهيم: فديتك، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أينكر على [ابن [1]] العباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟! فقال عبد الوهاب لا. فقال: أبلغ أمير المؤمنين- أبقاه الله- السلام، وأخبره أنّ شارية حرّة، وأنى قد تزوّجتها بشهادة جماعة من العدول. وقد كان الشهود أعلموا ابن أبى دواد بالقصة، فركب إلى المعتصم وحدّثه بالحديث معجبا له منه؛ فقال: ضلّ سعى عبد الوهاب. ثم دخل عبد الوهاب على المعتصم. فلما رآه يمشى فى صحن الدار سدّ المعتصم أنفه وقال: يا عبد الوهاب، أنا أشمّ رائحة صوف محرق، وأحسب عمّى لم يقنعه ردّك على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ما ظنّ أمير المؤمنين وأسمج. قال: ثم ابتاع إبراهيم من بنته ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها؛ فكان عتقه إياها وهى فى ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة فحلّت له، فكان يطؤها بملك اليمين وهى تتوهّم أنها زوجته. فلما توفّى طلبت شارية مشاركة أمّ محمد بنت خالد زوجة إبراهيم فى الثّمن، فأظهرت خبرها؛ فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة بخمسة آلاف وخمسمائة دينار فحوّلت الى داره، وكانت فى ملكه حتى توفّى. وقال ابن المعتز: وقد قيل: إنّ المعتصم ابتاعها بثلاثمائة دينار؛ وملكها إبراهيم ولها سبع سنين وربّاها تربية الولد. قال: وحدّثت شارية أنها كانت مع إبراهيم فى حرّاقة قد توسّط بها دجلة فى ليلة مقمرة، فاندفعت فغنّت: لقد حثّوا الجمال ليه ... ربوا منّا فلم يئلوا

_ [1] زيادة عن الأغانى.

فوثب إليها فأمسك فاها فقال: أنت والله أحسن من الغريض وجها وغناء، فما يؤمننى عليك! أمسكى. ويقال: إنها لم تضرب بالعود إلا فى أيام المتوكل لمّا اتّصل الشرّ بينها وبين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت بعد ذلك. قال ابن المعتز: وحدّث محمد بن سهل بن عبد الكريم المعروف بسهل الأحول، وكان قاضى الكتّاب فى زمانه، كان يكتب لإبراهيم وكان ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. قال: فعاتبته على ذلك، فلم يجبنى بشىء. ثم دعانى بعد أيام وبين يديه مائدة لطيفة، فأحضر الغلام سفّودا فيه ثلاثة فراريج، فرمى إلىّ بواحدة فأكلتها وأكل اثنتين، ثم شرب رطلا وسقانى؛ ثم أتى بسفّود آخر ففعل كما فعل وشرب [كما شرب [1]] وسقانى؛ ثم ضرب ستر إلى جانبه فسمعت حركة العيدان؛ ثم قال: يا شارية تغنّى، فسمعت شيئا ذهب بعقلى. فقال: يا سهل، هى التى عاتبتنى فى أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا والله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار! وحكى عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: أمرنى المعتز بالله ذات يوم بالمقام عنده فأقمت، ومدّت الستارة وخرج من كان يغنّى وراءها وفيهنّ شارية، ولم أكن سمعتها قبل ذلك فاستحسنت ما سمعت منها؛ وقال لى المعتز: يا عبيد الله، كيف ما تسمع منها عندك؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب؛ فاستحسن ذلك، وأخبرها به فاستحسنته. قالوا: وكانت شارية أحسن الناس غناء منذ توفّى المعتصم إلى آخر خلافة الواثق. وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ لم يطأ شارية، وإن الذى افتضّها المعتصم. وكان إبراهيم يسمّى شارية بنتى.

_ [1] زيادة عن الأغانى.

وقال يعقوب بن بيان: كانت شارية لصالح بن وصيف. فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده بسبب قتل المعتز، أودع شارية جوهره، فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبرىّ، وكان أنظف خلق الله طعاما وأسراهم مائدة، وأوسخهم كلّ شىء بعد ذلك، وكان له بسرّ من رأى منزل وفيه بستان كبير، وكانت شارية تسمّيه أبى، وتزوره فى منزله فتحمل معها كل شىء تحتاج إليه حتى الحصير تقعد عليه. وكانت من أكرم الناس. عاشرها أبو الحسن علىّ بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاق [1] فى وقت فاقترض منها على غير رهن عشرة آلاف دينار فأقرضته، ومكثت أكثر من سنة ما أذكرته بها ولا طالبته بردّها. قال يعقوب بن بيان: وكان الناس بسرّ من رأى متحازبين، فقوم مع شارية، وقوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه فى هؤلاء، ولا أصحاب هذه فى هؤلاء. وكان [أبو الصقر [2]] إسماعيل بن بلبل عريبيّا؛ فدعا علىّ بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر وعنده عريب وجواريها. فاتصل الخبر بشارية فبعثت بجواريها إلى علىّ ابن الحسين بعد يوم أو يومين، وأمرت إحداهنّ- قال: وما أدرى [من [2]] هى: مهرجان أو مطرب أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاث- أن تغنّيه: لا تعودنّ بعدها ... فترى كيف أصنع فلما سمع الغناء ضحك وقال: لست أعود. قال: وكان المعتمد قد وثق بشارية فلم يكن يأكل إلا طعامها؛ فمكثت دهرا تعدّ له كلّ يوم جونتين، فكان طعامه منهما فى أيام المتوكل.

_ [1] يقال: أضاق الرجل اذا ذهب ماله وافتقر. [2] زيادة عن الأغانى.

ذكر أخبار بذل

وقال أبو الفرج: حدّثنى جحظة قال: كنت عند المعتمد يوما فغنّت شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدىّ ولحنه: يا طول علّة قلبى المعتاد ... إلف الكرام وصحبة الأمجاد ما زلت آلف كلّ قرم ماجد ... متقدّم الآباء والأجداد فقال لها: أحسنت والله! فقالت: هذا غنائى وأنا عارية، فكيف لو كنت كاسية! فأمر لها بألف ثوب من جميع أصناف الثياب الخاصّة، فحمل ذلك إليها. فقال لى علىّ بن الحسين بن يحيى المنجم: اجعل انصرافك معى، ففعلت. فقال لى: هل بلغك أنّ خليفة أمر لمغنّية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية؟ قلت لا. فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان فى دفاتر عظام، فتصفّحناها كلها فما وجدنا أحدا قبله فعل مثل ذلك. انقضت أخبار شارية. ذكر أخبار بذل قال أبو الفرج: كانت بذل صفراء مولّدة من مولّدات المدينة وربّيت بالبصرة، وهى إحدى المحسنات المتقدّمات الموصوفات بكثرة الرواية. يقال: إنها كانت تغنّى ثلاثين ألف صوت. قال: ولها كتاب فى الأغانى منسوب الأصوات [غير مجنّس [1]] يشتمل على اثنى عشر ألف صوت، يقال: إنها عملته لعلىّ بن هشام. قال: وكانت حلوة الوجه ظريفة ضاربة متقدّمة. وابتاعها جعفر بن موسى الهادى؛ فأخذها منه محمد الأمين وأعطاه مالا جزيلا. وأخذت بذل عن أبى سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم وطبقتهم.

_ [1] زيادة عن الأغانى.

وقال جحظة عن أبى حشيشة: وكانت أحسن الناس غناء فى دهرها، وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة، وكانت أروى خلق الله للغناء. وكانت لجعفر بن موسى الهادى؛ فوصفت لمحمد الأمين، فبعث إلى جعفر فسأله أن يزيره إياها فأبى؛ فأتاه الأمين إلى منزله فسمع ما لم يسمع مثله قطّ؛ فقال لجعفر: يا أخى، بعنى هذه الجارية. فقال له: يا سيّدى، مثلى لا يبيع جارية. قال: هبها لى. قال: هى مدبّرة [1] . فاحتال الأمين عليه حتى أسكره وأمر بحمل بذل إلى الحرّاقة وانصرف بها. فلما أفاق جعفر سأل عنها، فأخبر بالخبر، فسكت. فبعث إليه محمد من الغد، فجاء وبذل جالسة فلم يقل شيئا. فلما أراد جعفر أن ينصرف قال الأمين: أوقروا حرّاقة ابن عمىّ دراهم فأوقرت، فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم. وبقيت بذل عند الأمين إلى أن قتل؛ ثم خرجت فكان ولد جعفر وولد الأمين يدّعون ولاءها؛ فلما ماتت ورثها ولد الأمين. وقال محمد بن الحسن الكاتب: إن الأمين وهبها من الجوهر ما لم يملك أحد مثله، فسلّم لها بعد مقتل الأمين، فكانت تبيع منه الشىء بعد الشىء بالمال العظيم؛ فكانت على ذلك مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة. قال: ورغب إليها وجوه القوّاد والكتّاب والهاشمييّن فى التزويج فأبته، وأقامت على حالها حتى ماتت. وحكى أبو حشيشة قال: كنت يوما عند بذل وأنا غلام، وذلك فى أيّام المأمون وهو ببغداد، وهى فى طارمة [2] لها تمتشط؛ فخرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أنّ الخليفة يمرّ على ذلك الموضع؛ فرجعت إليها فقلت: يا سيّدتى، الخليفة يمرّ على

_ [1] دبر العبد اذا قال له: أنت حر بعد موتى. [2] الطارمة: بناء من خشب كالقبة. معرب.

بابك. فقالت: انظروا أىّ شىء هذا، إذ دخل بوّابها فقال: علىّ بن هشام بالباب. فقالت: وما أصنع به! فقامت إليها جاريتها وشيك [1] ، وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره فى حوائجها، فأكبّت على رجلها وقالت: الله! الله! أتحتجبين على علىّ بن هشام! فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه. فقال: إنى جئتك بأمر سيّدى أمير المؤمنين، وذلك أنه سألنى عنك فقلت له: لم أرها منذ أيام؛ فقال: هى عليك غضبى، فبحياتى لا تدخل منزلك حتى تدخل إليها فتسترضيها!. فقالت: إن كنت جئتنا بأمر الخليفة فأنا أقوم، فقامت فقبّلت رأسه ويديه؛ وقعد ساعة وانصرف. فقالت: يا وشيك، هاتى الدواة وقرطاسا ففعلت، فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثنى عشر ألف صوت- وقيل: سبعة آلاف صوت- ثم كتبت إليه: يا علىّ بن هشام، تقول: استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها! وقد كتبت هذا وأنا ضجرة، فكيف لو فرّغت لك قلبى كلّه!. وختمت الكتاب وقالت لها: امضى به إليه. فما كان أسرع من أن جاء رسوله (خادم أسود يقال له مخارق) بالجواب يقول فيه: يا سيّدتى، لا والله ما قلت الذى بلغك، ولقد كذب علىّ عندك، إنما قلت: لا ينبغى أن يكرن فى الدنيا أكثر من أربعة آلاف صوت، وقد بعثت إلىّ بديوان لا أؤدّى شكرك عليه أبدا؛ وبعث إليها بعشرة آلاف درهم وتخوت فيها بزّ [2] ووشى وملح وتختا مطبقا فيه أنواع الطيب. وقيل: إن إبراهيم بن المهدىّ كان يعظّمها، ثم يرى أنه يستغنى عنها بنفسه. فصارت إليه، فدعت بعود فغنّت فى طريقة واحدة وانقطاع واحد وإصبع واحدة مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا، ثم وضعت العود وانصرفت، ولم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرّعه إليها فى الرجوع إليه.

_ [1] فى الأغانى (ج 15 ص 145 طبع بلاق) : «وشيكة» . [2] فى الأغانى: خز.

ذكر أخبار ذات الخال

وقال أحمد بن سعيد المالكىّ: إن إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ خالف بذلا فى نسبة صوت غنّته بحضرة المأمون؛ فأمسكت عنه ساعة ثم غنّت ثلاثة أصوات فى الثقيل الثانى واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه. فقالت للمأمون: هى والله لأبيه أخذتها من فيه، فإذا كان لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره! فاشتدّ ذلك على إسحاق حتى رئى ذلك فيه. وقال حماد بن إسحاق: غنّت بذل بين يدى أبى: إن ترينى ناحل البدن ... فلطول الهمّ والحزن كان ما أخشى بواحدتى ... ليته والله لم يكن قال: فطرب أبى طربا شديدا وشرب رطلا وقال لها: أحسنت يا بنتى، والله لا تغنّين صوتا إلا شربت عليه رطلا. انتهت أخبار بذل. ذكر أخبار ذات الخال قال أبو الفرج الأصبهانىّ: واسم ذات الخال خشف، وكانت لأبى الخطّاب النحاس المعروف بقرين مولى العبّاسة بنت المهدىّ. وكانت ذات الخال من أجمل النساء وأكملهنّ، وكان لها خال فوق شفتها العليا، وقيل: على خدّها. وكان إبراهيم الموصلى يتعشّقها، وله فيها أشعار كثيرة كان يقولها ويغنّى فيها حتى شهرها بشعره وغنائه. واتصل خبرها بالرشيد، فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال لها ذات يوم: أسألك عن شىء، فإن صدقتنى وإلا صدقنى غيرك وكذّبتك. قالت: أصدقك. قال: هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلىّ شىء قط؟ وأنا أحلّفه أن يصدقنى. قال: فسكتت ساعة ثم قالت: نعم! مرّة واحدة؛ فأبغضها. وقال يوما فى مجلسه:

أيّكم لا يبالى أن يكون كشخانا [1] حتى أهبه ذات الخال؟ فبدر حمويه الوصيف فقال: أنا؛ فوهبها له. ثم اشتاقها الرشيد يوما فقال: ويلك يا حمويه! وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك! فقال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا. فمضى فآستعدّ لذلك واستعار لها من بعض الجوهريين بدنة [2] وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار، فأخرجها إلى الرشيد وهى عليها. فلما رآه أنكره وقال: ويلك يا حمويه! من أين لك هذا؟! ما ولّيتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك منّى هذا القدر! فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر، فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها، وحلف ألّا تسأله فى يومه ذلك حاجة إلّا قضاها؛ فسألته أن يولّى حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب له عهده بذلك، وشرط على ولىّ العهد أن يتممها له إن لم تتمّ فى حياته. قال الأصفهانىّ: ولإبراهيم الموصلىّ فى ذات الخال شعر كثير غنّى فيه. فمنه قوله: أذات الخال قد طال ... بمن أسقمته الوجع وليس إلى سواكم فى الّ ... ذى يلقى له فزع أما يمنعك الإسلا ... م من قتلى ولا الورع وما ينفكّ لى فيك ... هوى تغترّه خدع ومنها: جزى الله خيرا من كلفت بحبّه ... وليس به إلا التّموّه [1] من حبّى وقالوا قلوب الغانيات رقيقة ... فما بال ذات الخال قاسية القلب

_ [1] الكشخان: الديوث. [2] البدنة: قميص لا كمين له تلبسه النساء. [1] فى الأغانى (ج 15 ص 83 طبع بولاق) : «اتموّه» .

ذكر أخبار دنانير البرمكية

وقالوا لها هذا حبيبك معرضا ... فقالت لهم إعراضه أيسر الخطب فما هى إلا نظرة بتبسّم ... فتنشب رجلاه ويسقط للجنب وله فيها أشعار كثيرة غير ما أوردناه. ذكر أخبار دنانير البرمكيّة قال أبو الفرج: كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكىّ، وكانت صفراء مولّدة، من أحسن الناس وجها، وأظرفهم وأكملهم أدبا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر، ولها كتاب مجرّد فى الأغانى مشهور. وكان اعتمادها فى غنائها على ما أخذته من بذل، وهى خرّجتها؛ وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم. وكانت تغنّى غناء إبراهيم فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق؛ فكان يقول ليحيى: متى فقدتنى ودنانير باقية فما فقدتنى. وقال أحمد بن المكىّ: كانت دنانير لرجل من أهل المدينة، كان قد خرّجها وأدّبها، وكانت أروى الناس للغناء القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة. فلما رآها يحيى وقعت من قلبه موقعا فاشتراها. وشغف بها الرشيد حتى كان يصير إلى منزل مولاها فيسمعها، فألفها واشتدّ إعجابه بها، ووهب لها هبات سنيّة. منها أنه وهب لها فى ليلة عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، فردّته عليه فى مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعرفت أمّ جعفر الخبر فشكته إلى عمومته وأهله، فصاروا جميعا اليه فعاتبوه؛ فقال: مالى فى هذه الجارية أرب فى نفسها، وإنما أربى فى غنائها؛ فاسمعوها، فإن استحقّت أن تؤلف لغنائها وإلّا فقولوا ما شئتم. فلمّا سمعوها عذروه؛ وعادوا إلى أمّ جعفر وأشاروا عليها ألّا تلحّ فى أمرها؛ فقبلت ذلك، وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهنّ أمّ المأمون وأمّ المعتصم وأمّ صالح.

وقال عمر بن شبّة: إنّ دنانير أصابتها العلّة الكلبية فكانت لا تصبر عن الطعام ساعة واحدة، وكان يحيى يتصدّق عنها فى كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت لا تصومه. وبقيت عند البرامكة مدّة طويلة. وقال إسحاق وأحمد بن الطيّب: إنّ الرشيد دعا بدنانير بعد البرامكة، فأمرها أن تغنّى. فقالت: يا أمير المؤمنين، إنى آليت ألّا أغنّى بعد سيّدى أبدا. فغضب وأمر بصفعها فصفعت، وأقيمت على رجليها وأعطيت العود؛ فأخذته وهى تبكى أحرّ بكاء، واندفعت فغنّت: يا دار سلمى بنازح السّند ... من الثّنايا ومسقط اللّبد لمّا رأيت الديار قد درست ... أيقنت أنّ النعيم لم يعد قال: فرقّ لها الرشيد، وأمر بإطلاقها، فانصرفت. وقال أبو عبد الله بن حمدون: إنّ عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير وشغف بها فردّته؛ فاستشفع إليها بمولاه صالح بن الرشيد وببذل والحسن بن محرز فلم تجب، وأقامت على الوفاء لمولاها. فكتب اليها عقيد: يا دنانير قد تنكّر عقلى ... وتحيّرت بين وعد ومطل شغفى شافعى إليك وإلّا ... فاقتلينى إن كنت تهوين قتلى أنا بالله والأمير وما آ ... مل من موعد الحسين وبذل ما أحبّ الحياة يا حبّ إن لم ... يجمع الله عاجلا بك شملى فلم يعطفها ذلك عليه، ولم تزل على حالها حتى ماتت. ولعقيد هذا فيها أشعار فيها غناء. وكان عقيد حسن الغناء؛ وله فيها أصوات؛ منها قوله: هذى دنانير تنسانى وأذكرها ... وكيف تنسى محبّا ليس ينساها أعوذ بالله من هجران جارية ... أصبحت من حبّها أهذى بذكراها

ذكر أخبار عريب [1] المأمونية

قد أكمل الحسن فى تركيب صورتها ... فارتجّ أسفلها واهتزّ أعلاها قامت لتمشى فليت الله صوّرنى ... ذاك التراب الذى مسّته رجلاها والله والله لو كانت، إذا برزت، ... نفس المتيّم فى كفّيه ألقاها ذكر أخبار عريب [1] المأمونيّة قال أبو الفرج الأصفهانىّ: كانت عريب مغنّية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخطّ والمذهب فى الكلام، ونهاية فى الحسن والجمال والظّرف وحسن الصوت وجودة الضّرب وإتقان الصّنعة والمعرفة بالنّغم والأوتار والرواية للشعر؛ لم يتعلّق بها أحد من نظرائها، ولا رئى فى النساء- بعد القيان الحجازيّات مثل جميلة وعزّة الميلاء وسلّامة الزرقاء ومن جرى مجراهنّ على قلّة عددهنّ- نظير لها. قال: وكان فيها من الفضائل التى وصفناها ما ليس لهنّ مما يكون فى مثلها من جوارى الخلفاء ومن نشأ فى قصور الخلفاء وغذى برقيق العيش الذى لا يدانيه عيش الحجاز والمنشأ بين العامّة والعرب الجفاة. قال: وقد شهد لها من لا تحتاج مع شهادته الى غيره؛ فروى عن حمّاد بن إسحاق قال قال أبى: ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة ووجها، ولا أخفّ روحا، ولا أحسن خطابا بارعا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد، ولا أجمع لخصلة

_ [1] ورد هذا الاسم مضبوطا فى الأغانى ج 21 ص 184 طبع ليدن والمحاسن والأضداد للجاحظ ص 199 طبع ليدن (بضم أوّله وفتح ثانيه) . ولكن رأينا فى الأغانى من الشعر ما يؤيد أن ضبطه بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ ومن هذا الشعر: لقد ظلموك يا مظلوم لما ... أقاموك الرقيب على عريب ولو أولوك إنصافا وعدلا ... لما أخلوك أنت من الرقيب ومن هذا الشعر أيضا: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا

حسنة لم أرها فى امرأة غيرها قطّ. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم، فقال: صدق أبو محمد، هى كذلك. قلت: أفسمعتها؟ قال: نعم، هناك (يعنى فى دار المأمون) . قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد فى الحذق؟ قال يحيى: هذه مسئلة الجواب فيها على أبيك، هو أعلم منّى بها. فأخبرت أبى بذلك، فضحك ثم قال: أما استحييت من قاضى القضاة أن تسأله عن مثل هذا! وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: استدعانى المأمون يوما فدخلت عليه، فسألنى عن صوت وقال لى: أتدرى لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك. فأمر جارية من وراء السّتارة أن تغنّيه، فضربت فإذا هى قد شبّهته بالقديم؛ فقلت: زدنى معها عودا آخر، فإنه أثبت لى؛ فزادنى عودا آخر. فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا صوت محدث لامرأة ضاربة. قال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: إنى لمّا سمعت لينه عرفت أنه محدث من غناء النساء، ولمّا رأيت جودة مقاطعه علمت أنّ صاحبته ضاربة حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشكّ. قال: صدقت، الغناء لعريب. وقال ابن المعتزّ: قال علىّ بن يحيى: أمرنى المعتمد على الله أن أجمع غناء عريب الذى صنعته، فأخذت منها دفاترها وصحفها التى كانت قد جمعت فيها غناءها، فكتبته فكان ألف صوت، وقد قيل أكثر من ذلك. وقد وصفها أبو الفرج الأصفهانىّ وأطنب فى وصفها وتفضيلها، واستدلّ على ذلك وبسط القول فيه. وأمّا ما قيل فى نسبها وسنّها وكيف تنقّلت بها الحال إلى أن اتصلت بالمأمون، فقد روى عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى، وأنّ البرامكة لما نهبوا سرقت وهى صغيرة فبيعت. قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ:

إن أمّ عريب كانت تسمّى فاطمة، وكانت يتيمة؛ فتزوّجها جعفر بن يحيى بن خالد؛ فأنكر عليه أبوه، وقال له: تتزوّج بمن لا يعرف لها أمّ ولا أب! اشتر مكانها ألف جارية. فأخرجها جعفر وأسكنها فى دار فى ناحية باب الأنبار سرّا من أبيه، ووكّل بها من يحفظها، وكان يتردّد إليها؛ فولدت عريب فى سنة إحدى وثمانين ومائة. وكانت سنوها إلى أن ماتت ستّا وتسعين سنة. قال: وماتت أمّ عريب فى حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانيّة وجعلها داية [1] لها. فلما حدثت بالبرامكة تلك الحادثة باعتها من سنبس النخّاس، فباعها من المراكبىّ. قال ابن المعتزّ: وأخبرنى يوسف بن يعقوب قال: كنت إذا نظرت قدمى عريب شبّهتهما بقدمى جعفر بن يحيى. قال: وسمعت من يحكى أنّ بلاغتها فى كتبها ذكرت لبعض الكتّاب، فقال: وما يمنعها من ذلك وهى بنت جعفر بن يحيى! هذا ملخص ما حكاه أبو الفرج فى نسبها. وأمّا أخبارها مع من ملكها وكيف تنقّلت بها الحال، فقد حكى ابن المعتزّ عن الهشامىّ أنّ مولاها خرج بها إلى البصرة فأدّبها وخرّجها وعلّمها الخطّ والنحو والشعر والغناء، فبرعت فى ذلك أجمع، وتزايدت حتى قالت الشعر. وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدىّ من قوّاد خراسان، وقد قيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان العرض؛ فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه. فركبه دين فاستتر عنده؛ فمدّ عينه الى عريب وكاتبها فأجابته، ودامت المواصلة بينهما وعشقته؛ ثم انتقل من منزل مولاها. فلم تزل تحتال حتى اتّخذت سلّما من سبّ [2] ، وقيل: من خيوط غلاظ، وكان قد اتخذ لها موضعا، ثم لفّت ثيابها وجعلتها فى فراشها بالليل ودثّرتها

_ [1] الداية: الظئر المرضعة والمربية. [2] السب: شقة كتان رقيقة. وفى الأصل: «سقب» . وفى الأغانى: «عقب» . فلعلهما محرفان عما أثبتناه.

بدثارها، ثم تسوّرت الحائط وهربت، وأتته فمكثت عنده؛ ومولاها لا يتهمه بشىء من أمرها. فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبىّ يهجو أباه ويعيّره بها- وكان كثيرا ما يهجوه-: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا ركبت والليل داج ... مركبا صعبا مهيبا فارتقت متّصلا بالنّ ... جم أو منه قريبا صبرت حتى إذا ما ... أقصد النوم الرّقيبا مثّلث بين حشايا ... ها، لكى لا تستريبا خلفا منها إذا نو ... دى لم يلف [1] مجيبا ومضت يحملها الخو ... ف قضيبا وكثيبا محّة لو حرّكت خف ... ت عليها أن تذوبا فتدلّت لمحبّ ... فتلقّاها حبيبا جذلا قد نال فى الدّن ... يا من الدّنيا نصيبا أيّها الظبى الذى تس ... حر عيناه القلوبا والذى يأكل بعضا ... بعضه حسنا وطيبا كنت نهبا لذئاب ... فلقد أطمعت ذيبا وكذا الشاة إذا لم ... يك راعيها لبيبا لا يبالى وبأ المر ... عى إذا كان خصيبا ولقد أصبح عبد اللّ ... هـ كشخانا جريبا

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لم تلق» .

قد لعمرى لطم الخدّ ... وقد شقّ الجيوبا وجرت منه دموع ... بلّت الذّقن الخضيبا قال ابن المعتزّ: وحدّثنى محمد بن موسى بن يونس: أنها ملّته بعد ذلك فهربت منه، فكانت تغنّى عند أقوام عرفتهم ببغداد وهى مستترة متخفّية. فلمّا كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخى المراكبىّ ببستان كانت فيه مع قوم تغنّى، فسمع غناءها فعرفه؛ فبعث إلى عمّه وأقام هو مكانه، فلم يبرح حتى جاء عمّه وكبسها، فأخذها وضربها مائة مقرعة وهى تصيح: يا هذا، لم تقتلنى! لست أصبر عليك، أنا امرأة حرّة، فإن كنت مملوكة فبعنى، لست أصبر على الضّيق. فلما كان من الغد ندم على فعله وصار إليها فقبّل رأسها ويدها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم. ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها. قال: وكان الأمين فى حياة أبيه طلبها منه فلم يجبه إلى ذلك. فلما أفضت إليه الخلافة جاء المراكبىّ ومحمد راكب ليقبّل يده؛ فأمر بمنعه ودفعه، ففعل ذلك الشاكرىّ [1] ؛ فضربه المراكبىّ وقال: أتمنعنى من تقبيل يد مولاى! فجاء الشاكرىّ لمّا نزل محمد الأمين فشكاه؛ فأمر بإحضار المراكبىّ فأمر بضرب عنقه، فسئل فى أمره فعفا عنه وحبسه، وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع؛ وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له. فلمّا قتل محمد الأمين هربت عريب الى المراكبىّ فكانت عنده. قال ابن المعتزّ: وأمّا رواية إسماعيل بن الحسن خال المعتصم فإنها تخالف هذا، وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبىّ إلى محمد بن حامد الخاقانىّ المعروف بالخشن أحد قوّاد خراسان، وكان أشقر أصهب أزرق العين. وفيه تقول عريب ولها فيه غناء:

_ [1] الشاكرىّ: الأجير والمستخدم، وهو معرب جاكر. (عن القاموس) .

بأبى كلّ أصهب ... أزرق العين أشقر جنّ قلبى به ولي ... س جنونى بمنكر وقال إسحاق بن إبراهيم: لمّا نمى إلى الأمين خبر عريب بعث فى إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا، فغنّت بحضرة إبراهيم بن المهدىّ، فطرب الأمين واستعادها، وقال لإبراهيم: كيف سمعت؟ قال: سمعت يا سيّدى حسنا، وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا وطيبا. فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل، فاشتطّ مولاها فى السّوم ثم أوجبها له بمائة ألف درهم. وانتقض أمر الأمين وشغل عنها فلم يأمر لمولاها بشىء حتى قتل بعد أن افتضّها؛ فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى ابن حامد؛ فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم المراكبىّ من محمد بن حامد، فأمر المأمون بإحضاره وسئل عنها فأنكرها. فقال له المأمون: كذبت، وقد سقط إلىّ خبرك، وأمر صاحب الشّرط أن يجرّده فى مجلس الشّرط ويضع عليه السّياط حتى يردّها فأخذه. فبلغها الخبر، فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرّد ليضرب، وهى مكشوفة الوجه وهى تصيح: إن كنت مملوكة فليبعنى، وإن كنت حرّة فلا سبيل علىّ. فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضى فعدّلت عنده. وتقدّم إليه المراكبىّ مطالبا بها، فسأله البيّنة على ملكه إياها فعاد متظلّما إلى المأمون وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد فى رقيق. وتظلمت زبيدة بنة جعفر إليه وقالت: من أغلظ ما جرى علىّ، بعد قتل ابنى، هجوم المراكبىّ على دارى [1] وأخذ عريب منها. فقال المراكبىّ: إنما أخذت ملكى، لأنه لم ينقدنى الثمن. فأمر المأمون بدفعها إلى محمد ابن عمر الواقدىّ، وكان قد ولّاه القضاء بالجانب الشرقىّ، فأخذها من قتيبة بن زياد

_ [1] فى الأصل: «داره» وهو تحريف.

وأمر ببيعها ساذجة؛ فآشتراها المأمون بخمسين ألف درهم، وقيل: اشتراها بخمسة آلاف درهم. ودعا عبد الله بن إسماعيل وقال له: لولا أنّى حلفت ألّا أشترى مملوكا بأكثر من هذا لزدتك، ولكنى سأولّيك عملا تكسب فيه أضعاف هذا الثمن، ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعا سنيّة. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا الأحياء، وأمّا أنا فإنى لا محالة ميّت؛ لأن هذه الجارية كانت حياتى. وخرج فاختلط وتغيّر عقله ومات بعد أربعين يوما. وذهبت بالمأمون كلّ مذهب ميلا إليها ومحبّة لها، حتى قيل: إن المأمون قبّل رجلها فى بعض الأيام وإنها قالت أثر ذلك: والله يا أمير المؤمنين، لولا ما شرّفها الله به من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها! ولكن لله علىّ ألّا أغسلها لغير وضوء أو طهر إلا بماء الورد ما عشت. فكانت تفعل ذلك إلى أن ماتت. وحكى علىّ بن يحيى المنجّم أنّ المأمون لمّا مات بيعت فى ميراثه- ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها- فاشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فهى مولاته. وقيل: إنه لمّا مات محمد الأمين تدلّت عريب من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدىّ. وحكى إبراهيم بن رباح قال: كنت أتولّى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق ابن إبراهيم الموصلىّ عريب، فأمره أن يشتريها له، فاشتراها بمائة ألف درهم؛ فأمرنى المأمون بحملها، وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم، ففعلت ذلك؛ فلم أدر كيف أثبتها، فكتبت فى الدّيوان أنّ مائة الألف خرجت فى ثمن جوهرة، ومائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلّالها. فجاء الفضل بن مروان الى المأمون وقد رأى ذلك وأنكره، وسألنى عنه فقلت: نعم، هو ما رأيت. فسأل المأمون عن ذلك فقال: وهبت لدلّال وصائغ مائة ألف درهم! وغلّظ القصّة؛ فأنكرها

المأمون، ودعانى فدنوت وأخبرته أنّ المال الذى خرج فى ثمن عريب وصلة إسحاق، وقلت: أيّما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت، أم أثبت فى الديوان أنها خرجت ثمن مغنيّة وصلة مغنّ. فضحك المأمون وقال: الذى فعلت أصوب. ثم قال للفضل ابن مروان: يا نبطىّ، لا تعترض على كاتبى هذا فى شىء. ولعريب أخبار قد بسط أبو الفرج الأصبهانىّ القول بها فى كتابه الذى ترجمه «تحف الوسائد فى أخبار الولائد» ، وذكر أيضا نتفا من أخبارها فى كتابه المترجم «بالأغانى» . منها خبرها مع محمد بن حامد المعروف بابن الخشن، وأخبار لها مع المأمون، وأخبار مع صالح المنذرىّ الخادم، وإبراهيم بن المدبّر، وغير ذلك من أخبارها. وقد رأينا أن نثبت لمعا من ذلك. أما أخبارها مع محمد بن حامد- وهو أحد من كانت تعشقه وتهواه وتخاطر بنفسها فى الاجتماع به- فمنها ما روى عن ابن عبد الملك الضرير أنها لمّا صارت فى دار المأمون احتالت حتى وصلت إليه، وكانت تلقاه فى الوقت بعد الوقت حتى حملت منه وولدت بنتا؛ فبلغ ذلك المأمون فزوّجه إياها. وقال محمد بن موسى: اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنّين وعريب معه على مصلاة؛ فأومأ إليها محمد بن حامد بقبلة؛ فاندفعت فغنّت ابتداء: رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليمانى المسهّم تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة. فقال المأمون للندماء: أيّكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقنى لأضربنّ عنقه! فقال محمد بن حامد: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت عنك. فقال: كيف استدلّ أمير المؤمنين على ذلك؟ فقال: ابتدأت صوتا، وهى لا تغنّى

ابتداء إلا لمعنّى، فعلمت أنها لم تبتدئ هذا الصوت إلا لشىء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابته بطعنة. وقد حكى أنّ المأمون قال فى هذه الواقعة عن محمد بن حامد: نكشخنه قبل أن يكشخننا [1] ؛ فزوّجه إياها، واشترط عليه أن يحضرها إلى مجلسه فى أوقات عيّنها له المأمون. وقال حمدون: كنت ليلة فى مجلس المأمون ببلاد الروم بعد العشاء الآخرة فى ليلة ظلماء ذات رعود وبروق؛ فقال لى المأمون: اركب الساعة فرس النّوبة وسر إلى عسكر أبى إسحاق، (يعنى المعتصم) ، فأدّ إليه رسالتى وهى كيت وكيت. فركبت فلم تثبت معى شمعة، وسمعت وقع حافر دابّة فرهبت ذلك فجعلت أتوقّاه حتى صكّ ركابى تلك الدابّة، وبرقت بارقة فأبصرت وجه الراكب فإذا عريب؛ فقلت: عريب؟ قالت: نعم، حمدون؟ قلت نعم. ثم قلت لها: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد. قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: يانكس، عريب تجىء فى هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة راجعة إليه تقول لها: أىّ شئ عملت معه! صلّيت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه! يا أحمق، تحادثنا وتعاتبنا وآصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنّينا وانصرفنا. قال: فأخجلتنى وغاظتنى وافترقنا. ومضيت فأدّيت الرسالة؛ ثم عدت إلى المأمون وأخذنا فى الحديث وتناشدنا الأشعار، فهممت أن أحدّثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشىء من الشعر فأنشدته: ألا حىّ أطلالا لقاطعة الحبل ... ألوف تساوى صالح القوم بالرّذل فلو أنّ من أمسى بجانب تلعة ... الى جبلى طىّ فساقطة النعل

_ [1] كشخنه وكشخه: شتمه بالكشخنة وهى الدّياثة وعدم الغيرة.

جلوس إلى أن يقصر الظّلّ عندها ... لراحوا وكلّ القوم منها على وصل فقال لى المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب وتظنّ أنّا فى حديثها؛ فأمسكت عما أردت أن أخبره به، وخار الله لى فى ذلك. وقال محمد بن عيسى الواثقىّ: قال لى محمد بن حامد ليلة: أحبّ أن تفرّغ لى مضربك، فإنى أريد أن أجيئك فأقيم عندك؛ ففعلت وأتانى. فلما جلس جاءت عريب فدخلت وجلسنا؛ فجعل محمد يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا! فقالت لى: يا محمد، هذا عندك رأى! ثم أقبلت عليه فقالت: يا عاجز، خذ بنا فيما نحن فيه، واجعل سراويلى مخنقتى وألصق خلخالى بقرطى، فإذا كان غد فاكتب بعتابك فى طومار حتى أكتب اليك بعذرى فى مثله، ودع عنك هذا الفضول؛ فقد قال الشاعر: دعى عدّ الذنوب إذا التقينا ... تعالى لا نعدّ ولا تعدّى فأقسم لو هممت بمدّ شعرى ... إلى باب [1] الجحيم لقلت مدّى وقال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شرّ حتى كادا يخرجان إلى القطيعة، وكان فى قلبها منه أكثر مما فى قلبه منها. فلقيته يوما فقالت: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى ما كان وأقرحه. فقالت: استبدل تسل. فقال لها: لو كانت البلوى باختيار لفعلت! فقالت: لقد طال إذا تعبك. فقال: وما يكون! أصبر مكرها! أما سمعت قول العبّاس بن الأحنف: تعب يطول مع الرّجاء لذى الهوى ... خير له من راحة فى الياس لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندى كبعض النّاس قال: فذرفت عيناها، واعتذرت اليه واعتنقته، واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه.

_ [1] فى الأغانى: «الى نار الجحيم» .

وحكى أحمد بن جعفر بن حامد قال: لمّا توفّى عمّى محمد بن حامد، صار جدّى إلى منزله، فنظر إلى تركته وجعل يقلّب ما خلّف، ويخرج إليه منها الشىء بعد الشىء، إلى أن أخرج إليه سفط مختوم؛ ففضّ الخاتم وفتحه، فاذا فيه رقاع عريب إليه؛ فجعل يتصفّحها ويبتسم، فوقعت فى يده رقعة فقرأها ووضعها بين يديه، وقام لحاجته؛ فقرأتها فإذا فيها: ويلى عليك ومنكا! ... أوقعت فى الحقّ شكّا زعمت أنّى خؤون ... جورا علىّ وإفكا إن كان ما قلت حقّا ... أو كنت أزمعت تركا فأبدل الله ما بى ... من ذلّة الحبّ نسكا قال: وهذا الشعر لعريب. وامّا أخبارها مع المأمون وإخوته وغير ذلك من أخبارها- قال صالح ابن علىّ بن الرشيد المعروف بزعفرانة: تمارى خالى أبو علىّ والمأمون فى صوت، فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهى محمومة، فسألها عن الصوت؛ فقالت فيه بعلمها. فقال لها: غنّيه. فولّت لتجىء بالعود؛ فقال: غنّيه بلا عود. فاعتمدت من الحمّى على الحائط وغنّت، وأقبلت عقرب فرأيتها وقد لسبت يدها مرّتين أو ثلاثا، فما نحّت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت؛ ثم سقطت وقد غشى عليها. قال عثمان بن العلاء عن أبيه: عتب المأمون على عريب فهجرها [1] أياما؛ ثم اعتلّت فعادها فقال: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فهجرته» .

الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذمّ بدء الغضب حمد عاقبة الرضا. فخرج المأمون إلى جلسائه فحدّثهم بالقصة؛ ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النّظام لم يكن كثيرا! وقال أحمد بن أبى دواد: جرى بين المأمون وبين عريب كلام، فكلّمها المأمون بشىء غضبت منه فهجرته أياما. فدخلت على المأمون، فقال: يا أحمد، اقض بيننا. فقالت عريب: لا حاجة لى فى قضائه ودخوله بيننا، وأنشأت تقول: ونخلط الهجر بالوصال ولا ... يدخل [1] فى الصّلح بيننا أحد وكانت قد تمكّنت من المأمون وأخذت بمجامع قلبه، وذهب به حبّها كلّ مذهب؛ وقد قدّمنا أنه قبّل رجلها. وكانت عريب تهوى أبا عيسى بن الرشيد أخا المأمون، وكان المثل يضرب بحسنه وحسن غنائه، وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بنى هاشم وأصفته من الخلفاء وأولادهم سواه. ولم تزل عريب مبجّلة عند الخلفاء محبوبة اليهم مكرّمة لديهم إلى أن غضب عليها المعتصم والواثق وانحرفا عنها. وكان سبب ذلك أن المعتصم وجد لها كتابا إلى العبّاس بن المأمون ببلد الروم تقول فيه: اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا الأعور الليلىّ هاهنا (تعنى الواثق، وكان المعتصم استخلفه ببغداد) . ولعمرى إنّ هذا من الأمور العظيمة التى لا تحتمل من الأولاد والإخوة فكيف من أمة مغنّية! ولو لم تكن لها عندهم المكانة العظمى والمحلّ الكبير لما أبقوها بعد الاطّلاع من باطن حالها على هذه الطّويّة. وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان، وتصوغ فى ذلك الشعر تغنّيه لحنا فيكون أجود من لحنه.

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «ولا يصلح» .

قال: وكانت عريب تتعشّق صالحا المنذرىّ الخادم، فتزوّجته سرّا. فحكى عنها أنّ بعض الجوارى دخلت عليها يوما؛ فقالت لها عريب: ويحك! تعالى إلىّ! فجاءت؛ فقالت: قبّلى هذا الموضع منّى، فإنك تجدين ريح الجنّة، وأومأت إلى سالفتها، ففعلت ثم قالت لها: ما السبب فى هذا؟ قالت: قبّلنى الساعة صالح المنذرىّ فى هذا الموضع. قال: ووجّهه المتوكل إلى مكان بعيد فى حاجة؛ فقالت عريب فيه: أمّا الحبيب فقد مضى ... بالرّغم منّى لا الرّضا أخطأت فى تركى لمن ... لم ألق [1] منه عوضا وكانت عريب تهوى إبراهيم بن المدبّر ويهواها، ولها معه أخبار وحكايات، وبينهما أشعار وفكاهات. فمن مكاتباتها إليه ما روى عن ابن المعتز قال: كتبت إليه تدعو له فى شهر رمضان: أفديك بسمعى وبصرى، وأهلّ الله عليك هذا الشهر باليمن والمغفرة، وأعانك على المفترض منه والمتنفّل، وبلّغك مثله أعواما، وفرّج عنك وعنّى فيه [2] . وكتبت فى شىء بلغها عنه: وهب الله لنا بقاءك ممتّعا بالنّعم. ما زلت أمس فى ذكرك، فمرّة بمدحك، ومرّة بأكلك وبذكرك بما فيك لونا لونا. اجحد ذنبك الآن، وهات حجج الكتّاب ونفاقهم. فأمّا خبرنا أمس فإنا شربنا من فضل نبيذك على تذكارك رطلا، وقد رفعنا حسابنا إليك، فارفع حسابك إلينا، وخبّرنا من زارك أمس وألهاك، وأىّ شىء كانت القصّة على جهتها. [ولا تخطرف [3] فتحوجنا إلى كشفك والبحث عليك وعن حالك] ، وقل الحق، فمن صدق [نجا [4]] . وما أحوجك إلى تأديب، فإنك لا تحسن أن [5] تودّ. [والحقّ أقول إنه يعتريك كزاز [6]

_ [1] كذا فى الأغانى (ج 18 ص 184 طبع بلاق) . وفى الأصل لم ألف عنه معرضا [2] فى الأصل: «فيك» . [3] تخطرف الشىء: جاوزه. [4] التكلملة عن الأغانى. [5] كذا فى الأغانى (ج 19 ص 122 طبع بلاق) . وعبارة الاصل: «وما أحوجك الى تأديب فانك لا تحسن أن تؤدبه» : [6] الكزاز: تشنج يصيب الإنسان من البرد الشديد.

شديد يجوز حدّ البرد. وكفاك بهذا من قولى عقوبة. وإن عدت سمعت أكثر منه [1]] . والسلام. ولما نكب عبد الله بن يحيى بن خاقان ابن المدبّر وحبسه، كتبت إليه كتابا تتشوّقه وتخبره استيحاشها له واهتمامها بأمره، وأنها قد سألت الخليفة فى أمره فوعدها ما تحبّ. فأجابها عن كتابها، وكتب فى آخر الجواب: لعمرك ما صوت بديع لمعبد ... بأحسن عندى من كتاب عريب تأمّلت فى أثنائه خطّ كاتب ... ورقّة مشتاق ولفظ خطيب وراجعنى من وصلها ما استفزّنى ... وزهّدنى فى وصل كلّ حبيب فصرت لها عبدا مقرّا بملكها ... ومستمسكا من ودّها بنصيب وقال أبو عبد الله بن حمدون: اجتمعت أنا وإبراهيم بن المدبّر وابن ميّادة والقاسم بن زرزر فى بستان بالمطيرة فى يوم غيم ورذاذ يقطر أحسن قطر ونحن فى أطيب عيش وأحسن يوم، فلم نشعر إلا بعريب قد أقبلت من بعيد؛ فوثب إبراهيم من بيننا فخرج حافيا حتى تلقاها، وأخذ بركابها حتى نزلت، وقبّل الأرض بين يديها. وكانت قد هجرته مدّة لشىء أنكرته عليه. فجاءت وجلست وأقبلت عليه متبسمة، ثم قالت: إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك. فآعتذر وشفعنا له فرضيت. وأقامت عندنا يومئذ وباتت، واصطبحنا من غد وأقامت عندنا. فقال إبراهيم: بأبى من حقّق الظنّ به ... وأتانا زائرا مبتديا كان كالغيث تراخى مدّة ... وأتى بعد قنوط مرويا طاب يومان لنا فى قربه ... بعد شهرين لهجر مضيا فأقرّ الله عينى و؟؟؟ ... سقما كان لجسمى مبليا

_ [1] التكملة عن الأغانى.

وقال فيها أيضا: ألا يا عريب وقيت الرّدى ... وجنّبك الله صرف الزّمن فإنّك أصبحت زين النساء ... وواحدة النّاس فى كلّ فنّ فقربك يدنى لذيذ الحياة ... وبعدك ينفى لذيذ الوسن فنعم الأنيس ونعم الجليس ... ونعم السمير ونعم السّكن وقال أيضا فيها وفى جاريتين بدعة وتحفة: إنّ عريبا خلقت وحدها ... فى كلّ ما يحسن من أمرها ونعمة لله فى خلقه ... يقصّر العالم فى شكرها أشهدنى جاريتاها على ... أنّهما محسنتا دهرها فبدعة تبدع فى شجوها ... وتحفة تتحف فى زمرها يا ربّ أمتعها بما خوّلت ... وامدد لها يا ربّ فى عمرها وقال علىّ بن العباس بن أبى طلحة الكاتب: كنت عند إبراهيم بن المدبّر، فزارته بدعة وتحفة، وأخرجتا رقعة من عريب؛ فقرأها فإذا فيها: بنفسى أنت وسمعى وبصرى، وقلّ ذلك لك. أصبح يومنا هذا طيبا- طيّب الله عيشك- قد احتجبت سماؤه، ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، وكأنه أنت فى رقّة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك أبدا منك! ولم يصادف حسنه وطيبه منّا نشاطا ولا طربا لأمور صدّتنى عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيه لك من السرور بشرحها. وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتسرّ بهما، سرّك الله وسرّنى بك!. فكتب إليها: كيف السرور وأنت نازحة ... عنّى! وكيف يسوغ لى الطرب! إن غبت غاب العيش وانقطعت ... أسبابه وألحّت الكرب

وأنفذ الجواب [1] [اليها] . فلم تلبث أن جاءت على حمار مصرىّ، فبادر إليها وتلقاها حافيا حتى جاء بها إلى صدر المجلس، يطأ الحمار بساطه وما عليه، حتى أخذ بركابها فأجلسها فى مجلسه وجلس بين يديها. ثم قال: ألا ربّ يوم قصر الله طوله ... بقرب عريب، حبّذا هو من قرب بها تحسن الدّنيا وينعم عيشها ... وتجتمع السّرّاء للعين والقلب وقال إبراهيم بن اليزيدىّ: كنت مع المأمون فى بلد الروم. فبينما أنا أسير فى ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبى قبّة، إذ برقت برقة فإذا فى القبّة عريب. فقالت: يا إبراهيم بن اليزيدىّ. فقلت: لبّيك! قالت: قل فى هذا البرق أبيانا ملاحا لأغنّى فيها. فقلت: ماذا بقلبى من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق من قبل الأردنّ أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق فارقته وهو أعزّ الخلق ... علىّ والزّور خلاف الحقّ ذاك الذى يملك منّى رقّى ... ولست أبغى ما حييت عتقى فتنفّست نفسا ظننته قد قطع حيازيمها؛ فقلت: ويحك! على من هذا التنفس؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن. فقلت: هيهات! ليس هذا كله على الوطن. فقالت: ويلك! أظننت أنك تستفزّنى! والله لقد نظرت نظرة مريبة فى مجلس فادّعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.

_ [1] فى الأصل: «وابتدأ الجواب فلم تلبث» . والتصويب والزيادة عن الأغانى (ج 19 ص 125 طبع بلاق) .

وقال أبو العبيس بن حمدون: غضبت عريب على بعض جواريها، فجئت إليها وسألتها أن تعفو عنها؛ فقالت- فى بعض ما تقوله مما تعتدّ به عليها من ذنوبها-: يا أبا العباس، إن كنت تشتهى أن ترى زناى وصفاقة وجهى وجرأتى على كلّ عظيمة أيّام شبابى، فانظر إليها واعرف أخبارها. قال: وكانت فى شبابها يقدّم إليها البرذون فتطفر عليه بلا ركاب. وقال أبو العبّاس بن الفرات: حدّثتنى بدعة جارية عريب: أنّ عريب كانت تجد فى رأسها بردا وكانت تغلّف رأسها بستين مثقالا مسكا وعنبرا، وتغسله من جمعة إلى جمعة، فإذا غسلته جدّدت غيره، وتقتسم الجوارى غسالة رأسها. وقال علىّ بن المنجّم: دخلت يوما على عريب مسلّما عليها، فلما جلست هطلت السماء بمطر عظيم. فقالت: أقم عندى اليوم حتى أغنّيك أنا وجوارىّ، وابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابّى فردّت، وجلسنا نتحدّث. فسألتنى عن خبرنا بالأمس فى مجلس الخليفة ومن كان يغنيّنا، وأىّ شىء استحسنّاه من الغناء. فأخبرتها أنّ صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخورىّ. فقالت: وما هو؟ فقلت: تجافى ثم تنطبق ... جفون حشوها الأرق وذى كلف بكى جزعا ... وسفر القوم منطلق به قلق يململه ... وكان وما به قلق جوانحه على خطر ... بنار الشّوق تحترق فوجّهت رسولا إلى بنان، فحضر وقد بلّته السماء؛ فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه، وقدّم له طعام فأكل، وجلس يشرب معنا. فسألته عن الصوت فغنّاها إياه. فأخذت دواة ورقعة وكتبت:

ذكر أخبار محبوبة

أجاب الوابل الغدق ... وصاح النّرجس الغرق وقد غنّى بنان لنا: ... «جفون حشوها الأرق» فهاك الكأس مترعة ... كأنّ ختامها حدق قال: فما شربنا بقيّة يومنا إلا على هذه الأبيات. وأخبار عريب كثيرة، قد وضع عبد الله بن المعتز فيها ديوانا. وفيما أوردناه من أخبارها كفاية لا تحتمل المختصرات أكثر منها. والله تعالى أعلم. ذكر أخبار محبوبة قال أبو الفرج: كانت مولّدة من مولدات البصرة، شاعرة، سريعة الخاطر، مطبوعة، لا تكاد فضل الشاعرة اليمانية تتقدّمها، وكانت أجمل من فضل وأعفّ، وكانت تغنّى غناء غير فاخر. وقال علىّ بن الجهم: كانت محبوبة لعبد الله بن طاهر أهداها إلى المتوكّل فى جملة أربعمائة جارية. وكانت بارعة الحسن والظّرف والأدب، مغنّية محسنة، فحظيت عند المتوكل حتى كان يجلسها خلف السّتارة وراء ظهره إذا جلس للشّرب، فيدخل رأسه إليها فيراها ويحدّثها فى كل ساعة. وقال علىّ بن يحيى المنجّم: كان علىّ بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جدّا، فلا يكتمه شيئا من سرّه مع حرمه وأحاديث خلواته. فقال له يوما: إنّى دخلت على قبيحة فوجدتها قد كتبت اسمى على خدّها بغالية، فلا والله ما رأيت شيئا أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذاك الخدّ؛ فقل فى هذا شيئا- قال: وكانت محبوبة حاضرة الكلام من وراء الستارة- فدعا علىّ بن الجهم بدواة، فإلى أن أتى بها وابتدأ يفكّر قالت محبوبة على البديهة من غير فكرة ولا رويّة:

وكاتبة فى الخدّ بالمسك جعفرا ... بنفسى مخطّ المسك من حيث أثّرا لئن كتبت فى الخدّ سطرا بكفّها ... لقد أودعت قلبى من الحبّ أسطرا فيامن لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسرّ وأظهرا! ويا من هواها فى السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا قال: فبقى علىّ بن الجهم واجما لا ينطق بحرف، وأمر المتوكّل بالأبيات فبعثت إلى عريب وأمرها أن تغنّى فيها. قال علىّ بن الجهم: فتحيّرت والله وتقلّبت خواطرى، فو الله ما قدرت على حرف واحد أقوله. وقال أيضا: غاضب المتوكل يوما محبوبة وهجرها ومنع جواريها جميعا من كلامها؛ ثم نازعته نفسه إليها وأراد ذلك، ثم نازعته العزّة منها وامتنع من ابتدائها، وامتنعت من ابتدائه دلالا عليه لمحلّها منه. قال علىّ: فبكّرت إليه يوما؛ فقال لى: يا علىّ، إنى رأيت البارحة فى نومى كأنّى صالحت محبوبة. فقلت: أقرّ الله عينك يا أمير المؤمنين وأنامك على خير وأيقظك على سرور! أرجو أن يكون هذا الصلح فى اليقظة. فبينا هو يحدّثنى وأحدّثه إذا بوصيفة قد جاءت فأسرّت إليه شيئا، فقال: أتدرى ما أسرّت إلىّ هذه؟ قلت لا. قال: حدّثتنى أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهى فى حجرتها تغنّى، أفلا تعجب من هذا؟ أنا مغاضبها وهى متهاونة بذلك، لا تبدؤنى بصلح ثم لا ترضى حتى تغنّى فى حجرتها؛ فقم بنا حتى نسمع ما تغنّى. ثم قام وتبعته حتى انتهى إلى حجرتها، وإذا هى تغنّى: أدور فى القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمنى حتى كأنّى أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصنى فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارنى فى الكرى وصالحنى حتى إذا ما الصّباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمنى

ذكر أخبار عبيدة الطنبورية

فعجب المتوكل، وأحسّت بمكانه فأمرت بخدمها فخرجوا وتنحيّنا، وخرجت إليه فحدّثته أنها رأته فى منامها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنّت فيها؛ فحدّثها هو أيضا رؤياه واصطلحا. فلما قتل المتوكل سلاه جميع جواريه غيرها؛ فإنها لم تزل حزينة هاجرة لكل لذّة حتى ماتت. ولها فيه مراث. حكى أبو الفرج: أنّ وصيفا بعد قتل المتوكل أحضرها يوما وأحضر الجوارى، فجئن وعليهن الثياب الملوّنة المذهبة والحلىّ وقد تزيّنّ وتعطّرن، وجاءت محبوبة وعليها ثياب بيض غير فاخرة حزنا على المتوكل. فغنّى الجوارى جميعا وشربن، وطرب وصيف وشرب. ثم قال: يا محبوبة، غنّى؛ فأخذت العود وغنّت وهى تبكى: أىّ عيش يطيب لى ... لا أرى فيه جعفرا ملكا قد رأته عي ... نى قتيلا معفّرا كلّ من كان ذا هيا ... م وحزن فقد برا غير محبوبة التى ... لو ترى الموت يشترى لاشترته بملكها ... كلّ هذا لتقبرا إنّ موت الكثيب أص ... لح من أن يعمّرا فاشتدّ ذلك على وصيف وأمر بقتلها؛ فاستوهبها بغا منه فوهبها له. فأعتقها وأمر بإخراجها وأن تكون حيث تختار من البلاد. فخرجت إلى بغداد من سرّ من رأى، وأخملت ذكرها طول عمرها؛ وما طمع فيها أحد. رحمها الله تعالى. ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة قال أبو الفرج الأصفهانى: كانت عبيدة الطّنبوريّة من المحسنات المتقدّمات فى الصّنعة والأدب، شهد لها بذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ؛ قال: وحسبها

بشهادته. قال: وكان أبو حشيشة يعظّمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذيّة. وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم صوتا، وكانت لا تخلو من عشق. قال: ولم يعرف فى الدنيا امرأة أعظم صنعة منها فى الطّنبور. وكانت لها صنعة عجيبة. فمنها فى الرمل: كن لى شفيعا إليكا ... إن خفّ ذاك عليكا وأعفنى من سؤالى ... سواك ما فى يديكا يا من أعزّ وأهوى ... مالى أهون لديكا قال: وحضرت يوما عند علىّ بن الهيثم اليزيدىّ وعنده عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام؛ فجاءه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فأخبره خبرهم. فقال له إسحاق: إنى كنت أشتهى أن أسمع عبيدة، ولكنها إن عرفتنى وسألتمونى أن أغنّى بحضرتها انقطعت ولم تصنع شيئا، فدعوها على جبلّتها [1] ؛ فوافقوه على ذلك، ودخل وكتموها أمره، وكانت لا تعرف إسحاق. وقدّم النبيذ، فغنّت لحنا لها: قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب له ودّى ولى منه ... دواعى الهمّ والكرب أواصله على سبب ... ويهجرنى بلا سبب ويظلمنى على ثقة ... بأنّ إليه منقلبى قال: فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم تغنّت وشرب، حتى والى بين عشرة أنصاف؛ قال علىّ بن الهيثم: وشربنا معه. وقام إسحاق ليصلّى؛ فقال لها هارون: ويحك يا عبيدة! ما تبالين والله متى متّ! قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله. قال: إسحاق بن إبراهيم، فلا

_ [1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فدعوها على حملتها» .

تعرّفيه أنك قد عرفتيه. فلما جاء إسحاق ابتدأت تغنّى فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بيّنا. قال: أعرّفتموها من أنا؟ فقلت: نعم، عرّفها هارون. فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف؛ فإنه لا خير فى عشرتكم الليلة ولا فائدة لى ولا لكم؛ وقام فانصرف. وقال ملاحظ غلام أبى العبّاس: اجتمع الطّنبوريّون عند أبى العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة. فقالوا للمسدود: غنّ؛ فقال: لا والله، لا تقدّمت على عبيدة وهى الأستاذ، فما غنّى حتى غنّت. وقال محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ: سمعت إسحاق يقول: الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان. هذا ما أمكن إيراده فى هذا الباب من أخبار من اشتهر بالغناء، وأخبار القيان، وهو مختصر مما أورده أبو الفرج الأصفهانى- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم بالأغانى من أخبارهم. ولم نلتزم استيعابهم بل ذكرنا أكثرهم وأشهرهم بالغناء، وذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية. فلنذكر خلاف ذلك.

الباب السابع من القسم الثالث من الفن الثانى فيما يحتاج إليه المغنى ويضطر إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطرب

الباب السابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطّرب ذكر ما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر قال مالك بن أبى السّمح: سألت ابن أبى إسرائيل عن المحسن المصيب من المغنّين، فقال: هو الذى يشبع الألحان، ويملا الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفى النّغم الطّوال، ويحسن مقاطع النّغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النّبرات، ويستوفى ما يشاكلها من النّقرات. فعرضت ما قال على معبد، فاستحسنه وقال: ما يقال فيه أكثر من هذا. وقد رويت هذه المقالة عن ابن سريج. وقال إبراهيم الموصلىّ: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب مله مطرب يحرّك ويستخفّ، وضرب ثان له شجى ورقّة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة. وقال: كان هذا كله مجموعا فى غناء ابن سريج. وقال أبو عثمان الناجم: بحوحة الحلق الطيّب تشبه مرض الأجفان الفاترة. وأمّا ما قيل فى الغناء وما وصفت به القيان. حكى أنّ بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسيّة، فلم يدر ما هو غير أنه شوقه لشجاه وحسنه؛ فقال فى ذلك، وقيل إنه لأبى تمّام:

حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسى من عناها ومسمعة بحار السّمع فيها ... ولم تصممه، لا يصمم صداها مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدى فلم أجهل شجاها فكنت كأننى أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات وما رآها وقال كشاجم فى بحّة حلق المغنّى: أشتهى فى الغناء بحّة حلق ... ناعم الصوت متعب مكدود كأنين المحبّ أضعفه الشو ... ق فضاهى به أنين العود لا أحبّ الأوتار تعلو كما لا ... أشتهى الضرب لازما للعمود وأحبّ المحنبات [1] كحبّى ... للمبادى موصولة بالنّشيد كهبوب الصّبا توسّط حالا ... بين حالين شدّة وركود وقال الناجم: شدو ألذّ من ابتدا ... ء العين فى إغفائها أحلى وأشهى من منى ... نفس وصدق رجائها وقال محمد بن بشير: وصوت لبنى الأحرا ... ر أهل السّيرة الحسنى شج يستغرق الأوتا ... ر حتى كلّها تفنى فما أدرى اليد اليسرى ... به أشقى أم اليمنى؟

_ [1] فى ديوان كشاجم طبع بيروت وفى نسختين مخطوطتين منه أيضا محفوظتين بدار الكتب المصرية: «وأحب المجنبات» .

وقلنا لمغنّيه ... وقد غنّى على المثنى ألا يا ليت هذا الصو ... ت حتى الصّبح لا يفنى فقد أيقظت اللذّا ... ت عينا لم تزل وسنى وما أفهم ما يعنى ... مغنّيه إذا غنّى ولكنّى من حبّى ... له أستحسن المعنى وقال الثّعالبىّ: غناؤك يهزم جيش الكروب ... وعيناك للناس عذر الذنوب فويل القلوب إذا ما رنوت ... وإمّا شدوت فويل الجيوب وقال أيضا: وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها فى وصفك العجب العجيبا رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا وقال عكاشة يصف قينة: من كفّ جارية كأنّ بنانها ... من فضّة قد طرّفت عنّابا وكأنّ يمناها إذا نطقت به ... تلقى على يدها الشّمال حسابا وقال ابن الرومىّ: وقيان كأنها أمّهات ... عاطفات على بنيها حوانى مطفلات وما حملن جنينا ... مرضعات ولسن ذات لبان كلّ طفل يدعى بأسماء شتّى ... بين عود ومزهر وكران [1] أمّه دهرها تترجم عنه ... وهو بادى الغنى عن التّرجمان

_ [1] فى الأصل: «ذكران» وهو تحريف.

وقال أيضا: كأنما رقة مسموعها ... رقّة شكوى سبقت دمعه غنّت فلم تحتج إلى زامر ... هل تحوج الشمس إلى شمعه كأنما غنّت لشمس الضّحى ... فألبستها حسنها خلعه وقال الناجم: ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلّا وثقنا باللهو والفرح لها غناء كالبرء فى جسد ... أضناه طول السّقام والتّرح تعبدها الرّاح فهى ما صدحت ... إبريقنا ساجد على القدح وقال أيضا: ما تغنّت إلّا تكشّف همّ ... عن فؤاد وأقشعت أحزان تفضل المسمعين طيبا وحسنا ... مثل ما يفضل السّماع العيان وقال أبو عبادة البحترىّ: وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التّصابى، صحاح فطربنا لهنّ قبل المثانى ... وسكرنا لهنّ قبل الراح وقال كشاجم وهو أبو الفتح محمود: أفدى التى أهدت لنا ... شمس الضّحى والليل حالك مملوكة جلّت فلي ... س تفى بقيمتها الممالك عرضت فأعطت عودها ... ضربا يعرّض للمهالك وتبعتها فتصرّفت ... بالضّرب فى كلّ المسالك ويئست من إدراكها ... فجعلت صوتى عند ذلك: قصرت يدى عنك الغدا ... ة، فكيف لى بيد تنالك

وقال أيضا: بدت فى نسوة مثل ال ... مها أدمجن إدماجا يجاذبن من الأردا ... ف كثبانا وأمواجا ويسترن من الأبشا ... ر فى الدّيباج ديباجا وقضبانا من الفضّ ... ة قد أثمرت العاجا وقد لاثت من الكور ... على مفرقها تاجا فلما طفن بالمجل ... س أفرادا وأزواجا تجاوبن فغنّين ... ك أرمالا وأهزاجا وحرّكن من الأوتا ... ر إمساكا وإدماجا فلا لوم على قلب ... ك إن هيّج فاهتاجا وقال علىّ بن عبد الرحمن بن يونس المنجّم فى عوّادة: غنّت فأخفت صوتها فى عودها ... فكأنما الصوتان صوت العود غيداء تأمر عودها فيطيعها ... أبدا ويتبعها اتّباع ودود أندى من النّوار صبحا صوتها ... وأرقّ من نشر الثّنا المعهود فكأنما الصوتان حين تمازجا ... ماء الغمامة وابنة العنقود وقال أبو عون الكاتب: تشدو فيرقص بالرءو ... س لها ويزمر بالكئوس وقال الناجم: طفقت تغنّينا فحلنا أنّها ... لسرورنا بغنائها تعنينا وقال أبو هلال العسكرىّ: وهيّجت لى من شجو ومن فرح ... أيد نثرن على الأوتار عنّابا لا عيب فى العيش إلّا خوف غيبتكم ... إنّ السرور إذا ما غبتمو غابا

ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب

وقال هارون بن علىّ المنجّم: غصن على دعص نقّا منهال ... سعى بكأس مثل لمع الآل وفاتنات الطّرف والدّلال ... هيف الخصور رجّح الأكفال يأخذن من طرائف الأرمال ... ومحكم الخفاف والثّقال تجرى مع النّاس بلا انفصال ... مثل اختلاط الخمر بالزّلال تدعو إلى الصّبوة كلّ سال ... تصرع كلّ فاتك بطّال بين حرام اللهو والحلال ... أكرم من مصارع الأبطال وقال شاعر يذمّ مغنّيا: ومغنّ بارد النّغ ... مة مختلّ اليدين ما رآه أحد فى ... دار قوم مرّتين صوته أقطع للّذّ ... ات من سطوة بين وقال ابن الرومىّ: فظلت أشرب بالأرطال لا طربا ... عليه بل طلبا للسّكر والنّوم ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب فمن ذلك ما وصف به العود. نظم أبو الفتح محمود المعروف بكشاجم قول الحكماء: إنّ العود مركّب على الطبائع الأربع، فقال: شدت فجلت أسماعنا بمخفّف ... يحدّثها عن سرّها وتحدّثه مشاكلة أوتاره فى طباعها ... عناصر منها أحدث [1] الخلق محدثه فللنار منه الزّير والبمّ أرضه ... وللريح مثناه وللماء مثلثه

_ [1] فى ديوان كشاجم: «ألف الخلق» .

وكلّ امرئ يرتاح منه لنغمة ... على حسب الطّبع الذى منه يبعثه شكاضرب يمناها فظلّت يسارها ... تطوّقه طورا وطورا ترعّثه فما برحت حتى أرتنا مخارقا ... يجاوبه فى أحسن النّقر عثعثه وحتى حسبت البابليّين [2] ألقيا ... على لفظها السّحر الذى فيه تنفثه وقال آخر: جاءت بعود تناغيه فيسعدها ... انظر بدائع ما تأتى به الشّجر غنّت على عوده الأطيار من طرب ... رطبا، فلما ذوى غنّت به البشر فلا يزال عليه أو به طرب ... يهيجه الأعجمان: الطير والوتر وقال آخر: سقى الله أرضا أنبتت عودك الذى ... ذكت منه أنفاس وطابت مغارس تغنّت عليه الورق والعود أخضر ... وغنّت عليه الغيد والعود يابس وقال آخر: لا تحسب العود إن غنّتك شادنة ... جاءتك بالطّيف فيه نغمة الوتر وإنما الطير ألقت عنده خبرا ... فعذّبوه فنمّ العود بالخبر وقال آخر: فكأنه فى حجرها ولد لها ... ضمّته بين ترائب ولبان طورا تدغدغ بطنه فإذا هفا ... عركت له أذنا من الآذان وقال الناجم: إذا احتضنت عودها عابث ... وناغته أحسن أن يعربا تدغدغ فى مهل بطنه ... فيسمعنا مضحكا معجبا

_ [1] يريد هاروت وماروت اللذين ورد ذكرهما فى القرآن الكريم.

وقال الحمدونىّ: وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدى ضمير سواه فى الحديث كما ... يبدى ضمير سواه الخطّ بالقلم وقال كشاجم: جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى مخفّف خفّت النفوس به ... كأنما الزّهر حوله نبتا دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف الكفّين شبّكتا لو حرّكته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا يا حسن صوتيهما كأنّهما ... أختان فى صنعة تراسلتا وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها، وعنه تنوب إن سكتا وقال أيضا: وجارية مثل شمس النّهار ... أو البدر بين النجوم الدّرارى أتتك تميس بقدّ القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار وترفل فى مصمت أبيض ... تلوّن من خدّها الجلّنارى وتحمل عودا فصبح الجواب ... يشارك أرواحنا فى المجارى له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السّوار فجادت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار فما أمهلته ولا نهنهته ... من الظّهر حتى تقضّى النهار ولمّا تغنّت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجوارى: لئن عشت عند هزار اللّقاء ... لقد متّ عند هزار الإزار

وقال أيضا: وكثيرة النّغمات تحسبها ... فى كلّ عضو أوتيت حلقا غنّت فظلت إخالنى طربا ... أسمو إلى الأملاك أو أرقى وتكلّمت أوتارها فأنا ... فيها أخبّر بالذى ألقى تحكى أنينى وهى شاكية ... مما أجنّ وتشتكى عشقا وترى لها عودا تعانقه ... وكلامه وكلامها وفقا لو لم تحرّكه أناملها ... كان الهواء يفيده نطقا جسّته عالمة بحالته ... جسّ الطبيب لمدنف عرقا فحسبت يمناها تحرّكه ... رعدا، وخلت يسارها برقا وقال أيضا: تميس من الوشى فى حلّة ... تجرّر من فضل أذيالها وتحمل عودا فصيح الجواب ... يضاهى اللّحون بأشكالها له عنق مثل ساق الفتاة ... ودستانة مثل خلخالها فظلّت تطارح أوتاره ... بأهزاجها وبأرمالها وتعمل جسّا لجسّ العروق ... وتلوى الملاوى بأمثالها وقال آخر يصف الطّنبور: مخطف الخصر أجوف ... جيده نصف سائره أنطقته يدا فتى ... فاتر اللّحظ ساحره فجلا عن ضميره ... ما حوى فى خواطره

وقال سيف الدين المشدّ فى دفّ: وطاريّة قرعت طارها ... وغنّت عليه بصوت عجيب فعاينت شمس الضّحى أقبلت ... وبدر تقدّمها عن قريب وقال أيضا يصف شبّابة: وعارية من كلّ عيب، حبيبة ... إلى كل قلب بات بالبين مجروحا لها جسد ميت يعيش بنفخة ... متى داخلته الريح صارت به روحا تعيد الذى يلقى عليها بلذّة ... تزيد فؤاد الصّبّ وجدا وتبريحا وتنطق بالسحر الحلال عن الهوى ... وتوحى إلى الأسماع أطيب ما يوحى

القسم الرابع من الفن الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب

القسم الرابع من الفنّ الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى التهانى والبشائر والتهانى تنقسم إلى قسمين وتنحاز فى جهتين: خصوص وعموم. فالخصوص هو ما يتعلّق بالرجل من منصب يليه، ونعمة تواليه؛ وولد رزقه، وشفاء من مرض أقلقه وأرّقه؛ وقدوم من سفر، وزواج قضى به الأرب والوطر. والعموم هو ما يتعلّق بالجمهور، ويتساوى فيه الملك والمملوك والآمر والمأمور: من انصباب غيث عمّ الرّبا والوهاد، وجريان نيل شمل بريّه البلاد وآمن العباد؛ وهزيمة عدوّ زاد فى عدوانه وتمادى فى طغيانه، وفتوح حصن أمن أهله بتشييد أركانه وإتقان بنيانه. ذكر شىء مما هنّئ به ولاة المناصب كتب بعض الفضلاء تهنئة بخلافة فقال: أمّا بعد، فإن أولى النعم بالدوام، وأرجاها للبقاء والتمام، وأجدرها بالخلود، وأقربها إلى المزيد، وأحراها بالسلامة على نوب الأيام وتصاريف الأحداث، نعمة نشأت بفنائه، وسكنت ذراه فحمدت مثواه، وساسها أولياؤها بحسن المجاورة وكرم المصاحبة سياسة الحانى الشفيق، وكفلوها كفالة الحدب الرفيق؛ فنمت وتمّت، وخصّت وعمّت؛ ثم اعترضها من ريب الزمان ما هاج سواكنها، وأزعج كوامنها؛

وأصارها إلى الوحشة بعد الأنس، والنّفرة بعد الإلف، تتقلقل تقلقل العوادى، وتشرد شرود الضوالّ، لافظة لها الأقطار ونابية بها المحالّ؛ إلى أن أعادها الله تعالى بلطفه إلى مغناها المعروف، وربعها المألوف؛ واستقرّت بعد الاضطراب، وفاءت بعد الاغتراب. وتلك نعمة الله عند سيّدنا أمير المؤمنين، لما جدّد له من كرامته، واصطفاه له من خلافته، وطوّقه إياه من إمامته؛ وردّه إليه من تدبير الملك، واعتمد عليه من سياسة الأنام؛ فأحيا به السّنن القاصرة، وأزال به الرسوم الجائرة؛ ونهج به سبيل العدل، وأقام به منار الفضل. وقال طريح بن إسماعيل الثّقفىّ فى المنصور لمّا أفضت الخلافة إليه: لمّا أتى الناس أنّ ملكهم ... إليك قد صار أمره سجدوا واستبشروا بالرضا تباشرهم ... بالخلد لو قيل إنهم خلدوا كنت أرى أنّ ما وجدت من الفر ... حة لم يلق مثله أحد حتى رأيت العباد كلّهم ... قد وجدوا فيك مثل ما أجد قد طلب الناس ما بلغت فما ... نالوا ولا قاربوا ولا جهدوا يرفعك الله بالتّكرّم والتق ... وى فتعلو وأنت تقتصد وقال زيد السّندىّ يهنئ الوزير يعقوب بن كلّس بوزارة العزيز بمصر: إنّ الوزارة لم تزل بك صبّة ... تهواك لم يخطر سواك ببالها خطبت فلم تعط القياد لطالب ... وأبت على طلّابها بوصالها وقال ابن بشر الصّقلّىّ الكاتب يهنّئ الحسن بن إبراهيم التّسترىّ بوزارة مصر، وقد وزر للمستنصر فى سنة أربع وخمسين وأربعمائة: بيومك طارت فى البلاد البشائر ... وطابت بمرجوع الحديث المحاضر وأصبحت الأمصار أمنا وغبطة ... أسرّتها مهتزّة والمنابر وقام خطيب الحمد فى كل موقف ... يعدّد ما تملى عليه المآثر

ومنها: لقد عاشرت منك الوزارة ما جدا ... له كنف لا يجتويه المعاشر فسيح امتداد الظّلّ بين رحابه ... وبين المعالى آهل الرّبع عامر «فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر» وما زلت ملحوظا لها ومؤهّلا ... لذا الأمر مذ شدّت عليك المآزر وقال آخر: كلّما رمت أن أهنّيك وقتا ... بمحلّ من العلا ترتقيه شمت مقدارك الذى أعجز الوا ... صف أعلى من الذى أنت فيه وكتب الحمدونىّ أخو صاحب التّذكرة يهنّئ بالسلامة من حريق وقع فى دار الخلافة: الدّنيا- أعزّ الله أنصار الخدمة الشريفة- دار الامتحان والاختبار، ومجاز الابتلاء والاعتبار؛ ولله فيما نزّله فيها إلى عباده من نعمه، وتخوّلهم من مواهبه وقسمه، عادات يقتضيها بالغ حكمته، وماضى إرادته ومشيئته؛ ليستيقظ الذاهل، ويعترف الجاهل؛ ويزداد العالم اللبيب اعتبارا، ويستفيد العاقل الأريب تفكّرا واستبصارا؛ فلا يغفل عن واجب الشكر إذا سيقت النعمة إليه، ولا يلهو عن استدعاء المزيد منها بالاعتراف إذا أسبغت عليه؛ وهو أن البارى سبحانه إذا تابع آلاءه إلى عبد ووالاها، [وجرّدها [1]] له من الشوائب وأخلاها؛ أماط عن مشاربها أكدار الدنيا المطبوعة على الكدر، وغمر مساربها بالأمن من طوارق الغير؛ خيف عليها الانتقاض والزوال، وتوقّع لها الانتهاء والانتقال. ومن ذلك الخبر المروىّ: أنه لما أنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) ابتهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم إلا عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فإنه بكى. فقالوا:

_ [1] زيادة يقتضيها سياق الكلام. ولعل هذه الكلمة أو ما فى معناها سقطت من الناسخ.

ما يبكيك وقد أكمل الله لنا ديننا برحمته، وأتمّ لنا سابغ نعمته؟ فقال: يبكينى أنه ماتم أمر إلا بدا نقصه. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريب. وإذا كانت مشوبة برائع يتخلّل صفوها، وطارق يجهم فى بعض الأوقات عفوها [1] ؛ كان ذلك صارفا عنها عين الكمال، مؤذنا بطول الآجال؛ حاكما لها بتراخى عمر البقاء، دالّا على الصعود بها إلى درج المكث الطويل والارتقاء؛ وحكمه حكم المرض الذى تصحّ به الأجساد، وتمحّص ذنوب من يسلّط عليه من العباد: فلا يبهج الأعداء سوء ظنونهم ... فلله صنع فى الذى ساء ظاهر فكم طالب شيئا به الشرّ كامن ... وكم كاره أمرا به الخير وافر فلله الحمد الذى جعل ما جرت به الأقدار من الألم الواقع ظاهره، الوجل لوقعه ناظره؛ لعنايته جلّت عظمته عنوانا، وعلى دوام نعمته دليلا واضحا وبرهانا. وإليه الرغبة فى أن يجعل الديار وساكنيها، والناس فى أقاصى الدّنيا وأدانيها؛ لشريف الحوزة التى بها صلاح العالم فداء، وعنها للمكروه وقاء. فكل حادث مع دوام هذه الأيام الزاهرة جلل، وكل غمر [2] من نوائب الدهر ما دافع لطف الله عنها وشل. وقال أبو عبادة البحترىّ يهنّئ الفتح بن خاقان بسلامته من الغرق: بعدوّك الحدث الجليل الواقع ... ولمن يكايدك الحمام الفاجع قلنا: لعا لمّا عثرت ولا تزل ... نوب الليالى وهى عنك رواجع ولربما عثر الجواد وشأوه ... متقدّم ونبا الحسام القاطع لن [3] تظفر الأعداء منك بزلّة ... والله دونك حاجز ومدافع إحدى الحوادث شارفتك فردّها ... صنع الإله ولطفه المتتابع

_ [1] العفو: الفضل والمعروف وخيار الشىء وأجوده. [2] الغمر: الماء الكثير. وفى الأصل: «وكل غم» وهو تحريف، لأنه يريد المقابلة بينه وبين «وشل» بعده. [3] كذا فى ديوان البحترى. وفى الأصل: «إن تظفر» .

حتى برزت لنا وجأشك ساكن ... من نجدة وضياء وجهك ساطع ما حال لون عند ذاك ولاهفا ... عزم ولا راع الجوانح رائع وقال المتنبّى يهنّئ بعافية: المجد عوفى إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم وما أخصّك فى برء [1] بتهنئة ... إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا ومما هنّئ به من اتّصل بزوجة ذات جمال وحسب، وأصالة وأدب. وقلما تقع التهنئة بذلك إلامين صديقين صحّ بينهما الالتئام، وسقطت بينهما مؤنة الاحتشام؛ وتساويا فى الرتبة، واتّحدا فى الصحبة. فمن ذلك ما كتب به الوزير أبو الحسن العامرىّ إلى بعض إخوانه وقد ابتنى بأهل: بأيمن طائر وأتمّ سعد ... يكون من الكريمين اجتماع أما إنّه المجد اليفاع، والحسن المطاع، تعارفت الطباع، فالتأمت الأنفس الشّعاع؛ كما التقى الثّريّان، واقترن النيّران؛ كما حاصر الرئم الضيغم، وهاصر النسيم الغصن المنعّم؛ كما راق فوق المعطف الصارم العضب، كما التقت الصهباء والبارد العذب؛ بل كما فازت القداح، ونظم الوشاح؛ واعتنق شنّ طبقه، واعتلق الرّوض عبقه. فحبّذا النّسب شابكه الصّهر، والحسب عاقده التّقى والبرّ؛ على حين جرت الأيامن، واكتنف الحرم الآمن. وبالبنين والرّفاء، والنعيم والصّفاء، والثروة والنماء والزمن الرّغد والعزّة القعساء الشّماء؛ على الوفاق، والوئام والاتّساق؛ والحظوظ والجدود، والفسطاط الممدود، وهصر العيش الأملود، والالتئام وتتابع البشرى بالفارس المولود. ومالى تأوّدت أعطافا، وتأنّقت أوصافا! وتهلّلت جذلا، وبسطت فى الدعاء مذلا [2] ! أهنأنى الأرب، أم صفا لى المشرب! وقد غبت عن اليوم المشهود،

_ [1] كذا فى ديوان المتنبى. وفى الأصل: «وما أخصك فى قون» . [2] كذا فى الأصل.

وعطّلت سدّة الإذن للوفود، ولم أقم فى السّماط، سافرا عن وجه الاغتباط؛ أتلقّى الوالج بمبرور التحيّة، وأفدّى الخارج بحكم السرور والأريحيّة؛ وأتخدّم رفع الوحى والإيماء، وأتقدّم من المصافاة والموالاة فى الغفير الجمّاء، كلا! ولا شهدت ليلة الزّفاف، وما حلت من محاسنها الأفواف؛ حيث دارت المنى سلافا؛ وصارت العلا دوحة ألفافا؛ وأبدى رونق السيف جلاء، وأبرز عقيلة الحىّ هداء؛ هنالك حلّت النعماء، ونهلت الأظماء؛ فياله منظرا، ووعدا منتظرا؛ لو ناجيته من كثب، وكرعت منه فى المنهل الأعذب! بلى! إنه [1] وقع، فشفى ونفع؛ والرّكب سنح، فنعم ما منح؛ أهداها حملا، فكأنما أسداها أملا؛ أثلج الفؤاد، وأورى الزّناد، وفى بالنفس أو كاد؛ وملت [2] عن قراه، نفس جذلت بسراه، وأرجت لذكراه. ولله ما أحظاه مقدما وأعلاه فى الإحسان قدما، لو وهبت لمقتضاه من الكرامة دما. وقد كان فى الحق أن أهاجر، وأعصى الناهى والزاجر؛ فابسط لى عذرا، وأعدّنى لك ذخرا، وطب مدى الدهر خبرا وخبرا. ومما هنئ به من رزقه الله ولدا وزاده به قوّة وعددا. فمن ذلك ما كتب به الأستاذ ابن العميد فى فصل يهنئ عضد الدولة بن بويه وقد ولد له ابنان توءمان: وصل كتاب الأمير بالبشرى التى أبت النعمة بها أن تقع مفردة، وامتنعت العارفة فيها أن تسنح موحدة، حتى تيسّرت منحتان فى وطن، وانتظمت موهبتان فى قرن، وطلع من النجيبين أبى القاسم وأبى كاليجار- أدام الله عزّهما- طالعا ملك، ونجما سعد، وشهابا عزّ، وكوكبا مجد؛ فتأهلت بهما رباع المحاسن، ووطّئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرّة والمنابر. وفهمته وشكرت

_ [1] فى الأصل: «ان» وهو غير واضح. [2] وردت هذه الكلمة هكذا بالأصل؟

الله تعالى شكر من نادى الامال فأجابته مكتّبة، ودعا الأمانى فجاءته [1] مصحبة [2] ، وحمدته حمدا مكافئا جسيم ما أتاح وعظيم ما أفاد؛ واكتنفنى من السرور ما فسح مناهج الغبطة، وسهّل موارد البهجة؛ وأشعت ما ورد إشاعة شرحت صدور الأولياء بمسارّها، وأزعجت قلوب الأعداء عن مقارّها؛ وسألت الله إتمام ما آذن [3] به الأميران السيّدان من سعادة لا يهتدى إليها الاختيار علوّا، ولا ترتقى اليها الأفكار سموّا؛ وسلطان تضيق البحار عن اتساعه، وتنخفض الأفلاك عن ارتفاعه؛ ويبلّغهما أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرقا مع السابقين إخوتهما مساعى الفضل، ويشيدا قواعد الفخر، ويرجما صروف الدهر، ويضبطا أطراف الأرض، وهو تعالى قريب مجيب. ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن الجدّ الأندلسىّ: إنّ أحقّ ما انبسط فيه للتهنئة لسان، وتصرّف فى ميادين معانيه بيان وبنان؛ أمل رجّى فتأبّى زمانا، واستدعى فلوى عنانا؛ وطاردته الأمانىّ فأتعبها حينا، وغازلته الهمم فأشعرها حنينا؛ ثم طلع غير مرتقب، وورد من صحبة المناجح فى عسكر لجب؛ وكان كالمشير إلى ما بعده من مواكب الآمال، والدليل على ما وراءه من كواكب الإقبال؛ أو كالصّبح افترّت عن أنوار الشمس مباسمه، والبرق تتابعت إثر وميضه غمائمه. وفى هذه الجملة ما دلّ على المولود، المؤذن بترادف الحظوظ وتضاعف السعود. فياله نجم سعادة، طلع فى أفق سيادة؛ وغصن سناء، تفرّع عن دوحة علاء. لقد تهلّلت وجوه المحاسن باستهلاله، وأقبلت وفود الميامن لاستقباله؛ ونظمت له قلائد التّمائم، من جواهر المكارم؛ وخصّ بالثّدىّ الحوافل، بلبان الفضائل. وما كان منبت الشرف بإفراد

_ [1] فى الأصل: «فجعلته» . [2] مصحبة: منقادة. [3] فى الأصل: «ما أدنا» .

تلك الأرومة الكريمة إلا مقشعرّ الرّبا، مغبرّ الثرى، متهافت أغصان الرضا. فأمّا وقد اهتزّ أيكة السّيادة قضيب، ونشأ من نبتة النّجابة نجيب؛ فأخلق بذلك المنبت أن تعاوده نضرته، وترفّ عليه حبرته؛ ويراجعه رونقه وبهاؤه، وتضاحكه أرضه وسماؤه. فالحمد لله على ما أتاحه من انثناء الأمل من جماحه، واختيال الجذل فى حلبة غرره وأوضاحه. وهو المسئول أن يهبك منه صنعا يحسن فى مثله الحسد، ويتمنّى لفضله النسل والولد، بعزّته. وقال أبو هلال العسكرىّ: قد زاد فى عدد الكرام كريم ... محض صريح فى الكرام صميم عالى المحلّة لا يزال كأنه ... للفرقدين وللسّماك نديم فلأمره التتميم كيف تصرّفت ... حالاته، ولشأنه التفخيم فابشر فقد وافاك يوم رزقته ... حظّ بتخليد السرور زعيم فرع تكفّل دهره بتمامه ... حتى يكّر الدهر وهو أروم إنّ الهلال يصير بدرا كاملا ... ويهدّ سدّ اللّيل وهو بهيم وهو الوجيه إذا تبدّى وجهه ... وغدا إذا نزل العظيم عظيم فلأهله شرف به متوطّد ... ولهم به شرف أشمّ عميم فاقرر به عينا فإنّ خلاله ... تصفو وتسلس أو يقال نسيم ولجدّه التصميم حيث تلاحقت ... أقرانه ولشأوه التّقديم ومن كلام الصاحب بن عبّاد تهنئة ببنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء؛ وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار؛ والمبشّرة بإخوة يتنافسون، ونجباء يتلاحقون. فلو كان النّساء كمثل هذى ... لفضّلت النّساء على الرّجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال فادّرع يا سيّدى اغتباطا، واستأنف نشاطا؛ فالدنيا مؤنّثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها؛ والأرض مؤنّثة ومنها خلقت البرية؛ وفيها كثرت الذّرّيّة؛ والسماء مؤنّثة وقد تزيّنت بالكواكب، وحليت بالنجم الثّاقب؛ والنّفس مؤنّثة وهى قوام الأبدان، وملاك الحيوان؛ والجنّة مؤنّثة وبها وعد المتّقون، وفيها ينعم المرسلون. فهنيئا هنيئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت؛ وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقى الأبد، وكما عمّر لبد. ومن كلام أبى المكارم بن عبد السلام من شعراء الخريدة: هذا شعيب النبىّ بابنته صفوراء استأجر موسى كليم الله. وهذا سيّد المرسلين، أبقى الله بفاطمة ابنته نسله إلى يوم الدّين. وهذه أمّ الكتاب سمّيت الفاتحة، وهى لأبواب مناجاة الرحمن فاتحة. وهذه محكمات القرآن، بها ثبتت شرائع الإيمان. وهذه سورة النساء وسمّيت بهنّ وهى من الطّوال، ولا سورة من القصار سمّيت بالرجال. على أنّ الدّنيا بأسرها مؤنّثة والملوك من خدّامها، والشّمس مؤنّثة والضّياء والبهاء من تمامها؛ والنفس تؤنّث وبها فضّل الناس، والحياة تؤنّث وهى أساس الحواس؛ والعين تؤنّث وبها يتوسّل الى علم الدقائق؛ واليد تؤنّث وهى المتصدّية لتحبير الأشياء، والعضد تؤنّث وبها استعانة سائر الأعضاء؛ والسماء تؤنّث وهى تزجى الأمطار، والأرض تؤنّث وهى مجمع أطايب الثّمار، والجنّة تؤنّث وبها وعد الأبرار الأخيار؛ والعين (أعنى الذهب) تؤنّث وبها يدفع الهلك، والقوس تؤنّث وبها عزّ الملك. ومما هنّئ به فى المواسم والقدوم- قال ابن الرومى تهنئة بعيد الفطر: قد مضى الصّوم صاحبا محمودا ... وأتى الفطر صاحبا مودودا ذهب الصّوم وهو يحكيك نسكا ... وأتى الفطر وهو يحكيك جودا

وقال آخر: رأى العيد وجهك عيدا له ... وإن كنت زدت عليه جمالا وكبّر حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا رأى منك ما منه أبصرته ... هلالا أضاء ووجها تلالا وقال ابن الرومىّ يهنّئ بعيد أضحى وهو يوم نوروز: عيدان: أضحى ونوروز كأنهما ... يوما فعالك من بؤس وإنعام كذاك يوماك: يوم سيبه ديم ... على العفاة، ويوم سيفه دامى وقال أبو إسحاق الصّابى: يا سيّدا أضحى الزما ... ن بأنسه منه ربيعا أيّام دهرك لم تزل ... للنّاس أعيادا جميعا حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا وقال الشّريف الرّضىّ تهنئة بقدوم: قدم السّرور بقدمة لك بشّرت ... غرر العلا وعوالى التّيجان قلقت ظبا الأسياف منك بفرحة ... فتكاد تنهضها من الأجفان قد كان هذا الدهر يلحظ جانبى ... عن طرف ليث ساغب ظمآن فالآن حين قدمت عدن صروفه ... يرمقننى بنواظر الغزلان ومما قيل من شواذّ التهانى وهى الجمع بين التهنئة والتعزية، والبشارة والتسلية- فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن صالح للرشيد، وكان من يحسده قد قال للرشيد عنه: إنه يعدّ كلامه. فأنكر الرشيد ذلك وقال: بل هو طبع. وجلس فى بعض الأيام ودخل عبد الملك؛ فقال الرشيد للفضل: قل له: ولد لأمير المؤمنين

فى هذه الليلة ابن ومات له ابن. فقال الفضل له ذلك. فدنا عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، سرّك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرّك، وجعلها واحدة بواحدة، ثواب الشاكر وأجر الصابر. فقال الرشيد: أهذا الذى زعموا أنه يتصنّع الكلام! ما رأى الناس أطبع من عبد الملك فى الفصاحة. ومن ذلك ما حكاه ثمامة بن أشرس قال: لمّا دخل المأمون بغداد بعد قتل الأمين دخلت عليه زبيدة بنة جعفر أمّ الأمين، فجلست بين يديه وقالت: الحمد لله! إن أهنّئك بالخلافة فقد هنّأت بها نفسى قبل أن أراك، وإن كنت فقدت ابنا خليفة لقد اعتضت ابنا خليفة. وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أمّ ملأت عينها منك. وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ، وإمتاعا بما وهب. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه، ما تراها أبقت فى الكلام لبلغاء الرجال! وقال عبد الله بن الحسن الجعفرىّ السمرقندىّ يهنّئ العزيز بخلافة مصر ويرثى أباه المعزّ: قد أصبح الجوهر العلوىّ منتقلا ... فى خير من كان من خير الورى بدلا يا منحة كملت فى محنة عظمت ... لو لاك فى الدّهر ما نال امرؤ أملا صنع من الله فى خطب أتيح لنا ... عمّ البلاد وعمّ السّهل والجبلا كان الزمان بمن أبقى ومن أخذت ... صروفه مدنبا طورا ومنتصلا قام العزيز بما أفضى المعزّ به ... إليه مضطلعا بالعبء محتملا فقام أحفظ مسترعى رعى فكفى ... من بعد خير إمام قوم الميلا كالسيف منصلتا والبحر مندفقا ... والبدر مؤتلقا والغيث محتفلا ومنها: فى طلعة البدر من شمس الضّحى عوض ... وظلمة الّليل يجلو جنحها ابن جلا

وما الأئمّة إلا أنجم زهر ... يبدو لنا كوكب إن كوكب أفلا إنّ المعزّ الذى لا خلق يشبهه ... إلّا العزيز ابنه إن قال أو فعلا ملك وجدنا التّقى والعدل عدّته ... إذا الملوك استعدّوا الكيد والحيلا سمت الى العالم النّورىّ همّته ... ففارق القمّ الأرضىّ وانتقلا وراجعت نفسه فى القدس عنصرها ... ولم يزل بحبال الله متّصلا لم يرض خلقا من الدّنيا يجاوره ... إلّا الملائك فى الفردوس والرّسلا لولا نزار وعين الله تحرسه ... كنّا بفقد معدّ أمّة هملا فإن مضى كافل [1] الدّنيا وما ضمنت ... فذا ابنه كافل عنه بما كفلا وإن هوى الجبل الراسى فذا جبل ... راس لنا بعده، أعظم به جبلا! عمّت خلافته الدّنيا برونقها ... كأنه الشّمس فيها حلّت الحملا ملك أغرّ وأيّام محجّلة ... ودولة كلّ وقت تقهر الدّولا أضحت ملوك بنى الدّنيا له خولا ... وما حوت كلّ دار منهم نفلا يأيّها الملك المأمول نائله ... ومن هو الغاية القصوى لنا أملا كان السرير سرير الملك منخفضا ... حتى ارتقيت ذراه فارتقى وعلا ومن ذلك ما كتب به عامل الى المصروف به: قد قلّدت العمل بناحيتك، فهنأك الله بتجدّد [2] ولايتك، فأنفذت خليفتى لخلافتك، فلا تخله من هدايتك، إلى أن يمنّ الله بزيارتك. فأجابه: ما انتقلت عنّى نعمة صارت إليك، ولا خلوت من كرامة اشتملت عليك. وإنى لأجد صرفى بك ولاية ثانية وصلة وافية؛ لما أرجو لمكانك من حسن الخاتمة ومحمود العاقبة. والسلام.

_ [1] فى الأصل: «كامل الدنيا» . [2] فى الأصل: «تجدد» من غير حرف الجر.

وكتب إبراهيم بن عيسى الكاتب يهنّئ إبراهيم بن المدبّر بالعزل عن عمل: ليهنئ أبا إسحاق أسباب نعمة ... مجدّدة بالعزل، والعزل أنبل شهدت لقد منّوا عليك وأحسنوا ... لأنك بعد العزل أعلى وأفضل آخر: إنّ الأمير هو الّذى ... يضحى أميرا عند عزله إن زال سلطان الولا ... ية فهو فى سلطان فضله وكتب أبو إسحاق الصّابى الى رجل زوّج أمّه: قد جعلك الله- وله الحمد- من أهل التحصيل، والرأى الأصيل؛ وصحّة الدّين، وخلق ذى اليقين. فكما أنّك لا تتّبع الشهوة فى محظور تحلّه، فكذلك لا تطيع الأنفة فى مباح تحظره. وتأدّى إلىّ من اتّصال الوالدة- يسّر الله لها فى مدّتك، وأحسن بالبقيّة منها إمتاعك- بأبى فلان، أعزّه الله، ما علمت فيه أنّك بين طاعة للدّيانة توخّيتها، ومشقّة تجشّمتها؛ وأنّك جدعت أنف الغيرة بها، وأضرعت خدّ الحميّة فيها، وأسخطت نفسك بإرضائها، وعصيت هواك لرأيها. فنحن نهنّيك بعزيمة صبرك، ونعزّيك عن فائت مرادك؛ ونسأل الله الخيرة لك فيه، وأن يجعلها أبدا معك فيما شئت وأبيت، وتجنّبت وأتيت. وقال كاتب متقدّم فى مثل ذلك: الرضا بما يبيحه حكم الله أولى من الامتعاض فيما تحظره أنفة الحميّة. ولا قبح فيما أحلّ الله، كما لا جمال فيما حرّم الله. فعرّفك الله الخيرة فيما اختارته من طهارة العفاف ونبل الحصانة، وعطفك من برّها على ما تؤدّى به حقّها، وما لزمك من المعروف فى مصاحبتها.

ذكر نبذة من التهانى العامة والبشائر التامة

وكتب الصّاحب بن عبّاد تهنئة بزواج أمّ وتعزية بموت أب، فقال: الأيّام- أطال الله بقاءك- تجرى على أنحاء مختلفة، وشعب متفرّقة؛ وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسرّ، وينفع ويضرّ. وبلغنى من نفوذ قضاء الله فى شيخك- رحمه الله- ما أزعجنى، وأبهم طرق السلوة دونى، وإن كان من خلّفك غير خارج عن مزيّة الأحياء، ولا حاصل فى زمرة الأموات. والله يأسو كلمك، ويسدّ ثلمك. وقد فعل ذلك بأن أتاح الله لك بعد أبيك أبا لا يقصر عنه شفقة عليك وحنوّا، وإيثارا لك وبرّا. وقد لعمرى وفّقت حين وصلت بحبلك حبله، وأسكنت الكبيرة- حرسها الله تعالى- ظلّه؛ لئلا تفقد من الماضى- عفا الله عنه- إلّا شخصه. فالحمد لله الذى أرشدك لما يعيد الشّمل مجتمعا بعد فراقه، والعدد موفورا بعد انتقاصه؛ حمدا يقضى لك بالمسرّة، ويحسم دونك مراد الوحشة، ويلقّيك ثواب ما قضيته من الحق، وتحمّلته فيه من الأوق [1] ؛ إنه فعّال لما يريد. فهذه نبذة كافية فى التهانى الخاصة؛ فلنذكر العامّة. ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة ولنبدأ من ذلك بما قيل فى البشارة بوفاء النيل، لما فيه من عموم المنافع الشاملة، وشمول النّعم الكاملة، والخصب الذى يتساوى فى الانتفاع به الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير. فمن ذلك ما كتب به المولى الفاضل، الصدر الكبير الكامل، ذو المناقب والمآثر، والفضائل وللفاخر، شهاب الدين محمود الحلبىّ:

_ [1] الأوق: الثقل.

وسرّه بنبأ النيل الذى عمّ نيلا، وجرّ على وجه الأرض ملاءة ملأته، فشمّر المحل للرّحلة ذيلا، وجرّد على الجدب سيف خصبه فسال محمرّ دمه على وجه الصّعيد سيلا، وجرى وسرى فى ضياء إشراقه وظلمة تراكمه إلى الأرض التى بارك به حولها، فجلّ من أجراه نهارا وسبحان من أسرى به ليلا. صدرت هذه المكاتبة إليه- أعزّه الله تعالى- ونعم الله قد عمّت، وآلاؤه مع تحقّق المزيد قد تمّت، وموادّ فضله قد أمّت الأقطار فقامت صلاة الصّلات إذ أمّت؛ وكلمة الخصب قد نمت فى الآفاق، فوشت بمكنون حديثها للأرض ونمّت؛ والخصب قد أقبل على الجدب فلم يكن له بمقاومته قبل، وطوفان الرّحمة قد طبق الوهاد، فلم يغن المحل أن قال: سآوى منه إلى جبل. والسيل قد بلغ فى تتبّع بقايا القحط الزّبى، والنّيل قد عمّ بنيله الأرض حتى كلّل مفارق الآكام وعمّم رءوس الرّبا؛ وحمى الأرض من تطرّق المحول إليها فأصبحت منه فى حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أنّ ابن الستة عشر بلغ إلى الهرم، وبثّ جوده فى الوجود فلو صوّر نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم؛ وتلقّت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى إذ لم تدر أياقوتا تشاهد منه أم قوتا. وجرى فى الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه ظهور الشّمس فألقى على الأرض أشعّة سعادته؛ وأقبلت به على الخلق بوادر الإقبال، وركب الناس منه فى سفن النجاح والنجاة فهى تجرى بهم فى موج كالجبال. وبلّغ الله به المنافع فزعزع الشّمّ ولم يتجاسر على الجسور، وأمن الناس به طروق المحل المطرود به عنهم فضرب بينهم بسور، وأقطع الخصب الأرض كلها فله فى كل بقعة مثال مرئىّ ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سرايا جوده عارضا مغضبا على المحل ما يخطر إلّا وسيفه مشهور؛ وأودع بطن الثّرى موادّ ثرائه، واستقبل الورى بوجه ما تأمّله امرؤ

صادى الجوانح إلا ارتوى من مائه، وأظهر الله به مثال ما سلف من كرامة أصفيائه؛ إذ جعل تحت كل نخلة من سراه سريّا، وجلا به عن الأمّة ظلم الغمّة إذ أطلع منه فى أوّل مطالعه المرتقبة محيّا بدريّا. وذلك أنه لما كان فى اليوم الفلانىّ وفى النّيل المبارك ستة عشر ذراعا، ومدّ بحسن صنع الله إلى مصالح البلاد يدا صناعا؛ وركبنا إلى المقياس الذى تعلم به مواقع الرحمة فى كلّ يوم، وتهدى منه واردات السرور إلى كلّ قوم؛ ووقفنا به لابسين من رحمة الله تعالى أحسن لباس، آنسين من أنوار رحمة الله التى أزالت اليأس وأذهبت الباس، ناظرين إلى أثر رحمة الله التى أحيت الأرض بعد موتها، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وجرى الأمر فى التخليق على أجمل عادات البدور، وعلّقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار، بل للإشاعة والظهور؛ واستقرّ حكم المسرّة على السّنن المعهود، وعاد للناس عيد سرورهم إذ ذاك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وركب مولانا السلطان إلى سدّ الخليج والماء قد استطال عليه، وسرت سرايا أمواجه إليه، وصدمه بقوّة فاندفع منكسرا بين يديه؛ فانجبرت القلوب بكسره، واستوفت الأنفس السّرور بأسره، وأيقن كل ذى عسر بحصول يسره؛ وساق الله به الماء إلى الأرض الجرز فأحياها وحيّاها، ورقّ لوجهها المغبرّ فستر بردائه المحمرّ صفحة محيّاها. كل ذلك وهو- بحمد الله تعالى- آخذ فى الازدياد، جار على وفق المراد إلى حدّه المعتاد، سالك ببلاغه سبيل أهل البلاغة إذ يهيمون فى كلّ واد. وها هو الآن يرتفع إلى كلّ ربوة على جناح النّجاح، ويخيف السّبل وما عليه حرج ويقطع الطّرق وليس عليه جناح. فليأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى التى عمّ بشرها، ووجب على كل مؤمن شكرها؛ ويتحقق أنّ هذه بوادر خير تسرى إليه على ركائب السّحائب، وطلائع خصب هى لديه أقرب غائب وأسرع آئب. والله تعالى يعزّ أنصاره، ويوالى مبارّه، بمحمد وآله.

وكتب أيضا فى مثل ذلك:

وكتب أيضا فى مثل ذلك: ضاعف الله نعمة المجلس العالى، وبشّره بما أجرى الأمّة عليه من عوائد كرمه، وسره بما يسره من خصوص برّه وعموم نعمه، وهنّاه بما سنّاه [1] من هرب جيش المحل بعد قدم وثباته وثبات قدمه، وأورد على سمعه من أنباء نصرة الخصب ما يتحقّق به أن لم يبق فى الأرض علم إلا تحت علمه، وأنه ذبح الجدب بسيف مدده الذى أنبأ بحمرة عندمه عن دمه، وبثّ سراياه فى الأقطار، على متون القطار، مرهفا على بقايا المحل سيوف بروقه ونبال ديمه؛ وضرب قباب موجه على المسالك، فلو هبّت بينها عاصفة جدب تعثّرت بأطناب خيمه، ولعب على ما شمخ من الرّبا، فعجب له من كامل يلعب وقد بلغ إلى هرمه! صدرت هذه المكاتبة تقصّ عليه من نعم الله أحسن القصص، وتهدى إليه من موادّ فضله ما يخصّ الشأم وأهله منه بأوفى الأقسام وأوفر الحصص، وتحثّه على شكر الله تعالى الذى به ينتهز من مزيد برّه أعظم الحظوظ وأفضل الفرص، وتعلم أنّ الله نصر جيش الرخاء بمدد لطفه على اليأس الذى تولّى الشيطان أمره فلمّا تراءت الفئتان نكص، وأنعم على خلقه بما أرخصته عزائم كرمه بهم، فوجب أن تقابل نعمه بعزائم الشكر دون الرّخص؛ وذلك أن الله تعالى أجاب دعوة المضطرّ، وأفاض برّه العميم على الغنىّ والفقير والقانع والمعترّ؛ وأحيا الأرض بعد موتها، وتدارك برحمته دنيا الدّهماء بعد أن أشرفت على فوتها؛ وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب موادّ نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم حتى كاد ما يشرب بفروق ساقه يتناول الماء بفمه؛ وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له فى الترفّع من محلّه فسجد على التّرب شكرا وتيمّم الصعيد وإن لم يبق به الآن على وجه

_ [1] سناه: سنه وسهله.

الأرض صعيد؛ وأسرى منه ركائب السرور إلى الأقطار ففى كلّ ناد من هديره حاد وفى كل برّ من بروره بريد، وذكّر بإحياء الأرض بعد موتها إحياء أمواتها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، ونشر ألويته على الثّرى لأهل الأرض بشرا بين يدى رحمته، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ؛ وأقبل بعد نقص عامه الماضى بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بل الأجل، وحزم أدرك الجدب بوجه قبل أن يقول: سآوى إلى جبل، واستظهار على كلّ ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل؛ ومهّد الأرض التى كانت ترقبه فهو لها المنتظر على الحقيقه، ووطئ بطن القرى فنتج الخصب بينهما وذبح المحل فى العقيقه؛ وقطع الطّرق فآمن بذلك كلّ حاضر وباد ورائح وغاد، واتّبعه الرّىّ لا الرّوىّ حتى أضحى كالشعراء يهيم فى كل واد؛ وعمت بركاته على الأرض «فتركن كل قرارة كالدرهم» من الخصب مرتعا، وأربى على ريّه فيما [1] سلف من السنين، فأضحى كهوى ابن أبى ربيعة «يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا» ؛ وتجعّد على الآكام فخيّل للعيون أنها تسيل، وشيّب مفارق الرّبا ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل. وكأنّ ما بقى من المحل قد جعل بينه وبينه سدّا، وتستّر منه ورآه وهو يملى ويعدّ له عدّا؛ فصدمه بقلبه وجعله دكّا إذ جاء أمر ربه وأدركه وملكه، وسفك دمه فجرى مستطيلا إذ سفكه؛ ووفى بما وعد من ظفره، وأتى لنصرة الخصب من مكان بعيد فأسفر عن النّجح وجه سفره، وأسبل على مقياسه ستر السرور لإخفاره ذمّة الجدب لا لخفره، وبشّر مصره بنصرة سرايا السحائب

_ [1] فى الأصل: «وأربى على ريه ما سلف من السنين» وظاهر أنه غير مستقيم. ويجوز أن يكون الأصل: «وأربى ريه على ما سلف» فحدث فيه تقديم وتأخير من الناسخ.

ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء.

فى أقطار الممالك لأنها من أشياعه ونفره. ولما كان اليوم الفلانى علّق الستر وخلّق المقياس، وكسر الخليج فكان فى كسره جبر للخليقة ومنافع للناس؛ وذلك بعد أن وفّى النيل المبارك ستة عشر ذراعا، وصرف فى مصالح البلاد يدا تضنّ بالبذل خرقا وتكفى بحسن التدبير ضياعا، [وبثّ فى أرجاء الأعمال بحارا تحسب بتلاطم الأمواج ركاما وبمضاعفة الفجاج [1] سراعا] . وهو بحمد الله آخذ فى ازدياده إلى حدّه، جار على اعتياده فى المشى على وجه الثرى وخدّه؛ يتتبّع أدواء المحل تتبّع طبيب خبير، ويعكس بيت أبى الطّيّب فتمسى وبسطها تراب، ويصبّحها وبسطها حرير. وقد وثقت الأنفس بفضل الله العميم، وأصبح الناس بعد قطوب اليأس تعرف فى وجوههم نضرة النّعيم؛ تيمّنا ببركة أيّامنا التى أعادت إليهم الهجوع، وأعاذتهم مما ابتلى به غيرهم من الخوف والجوع. فليأخذ المجلس العالى حظّه من هذه البشرى التى خصّت وعمّت، ووثقت النفوس بمزيد النعمة إذ قيل: تمّت؛ ويذيعها فى الأقطار، ويعرّفهم قدر ما منح الله جيوش الإسلام من فضله الذى يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار؛ ويستقبل نعم الله التى سيسم الأرض وسميّها ويولى النعم وليّها ويأتى بالبركات أتيّها حتى تغصّ بالنعم تلك الرّحاب، ويظنّ لعموم رىّ البلاد الشاميّة أنّ نيل مصر وصل إليها على السّحاب؛ ويقيم منار العدل الذى هو خير بالأرض من أن تمطر، ويعفّى آثار الظلم حتى لا تكاد تظهر. ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء. فمن ذلك ما كتب به المهلّب بن أبى صفرة إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فى حرب الأزارقة:

_ [1] وردت هذه الجملة هكذا بالأصل!

أمّا بعد، فالحمد لله الذى لا تنقطع موادّ نعمته من خلقه حتى تنقطع موادّ السّكر. وإنّا وعدوّنا كنا على حالتين: يسرنّا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم؛ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم؛ حتى بلغ الكتاب أجله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. وكتب الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة حين ولّى العراق من قبل عبد الله ابن الزبير إليه يخبره بهزيمة الخوارج: أمّا بعد، فإنا مذ خرجنا نؤمّ هذا العدوّ فى نعم من الله متّصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم؛ نقدم ويحجمون، ونجدّ ويرحلون، إلى أن حللنا بسوق الأهواز. والحمد لله رب العالمين. ثم كتب إليه بعد هذا الكتاب [1] : أمّا بعد، فإنا لقينا الأزارقة بجدّ وحدّ، وكانت فى الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيّات صادقة وأبدان شداد وسيوف حداد؛ فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا دريئة رماحنا وضريبة سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز؛ وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأوّلها. والسلام. وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون لمّا فتح بغداد وقتل محمدا الأمين: أمّا بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النسب واللّحمة، لقد فرّق الله بينهما فى الولاية والحرمة؛ لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن الأمر الجامع للمسلمين. قال الله عز وجل: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ . ولا صلة لأحد فى معصية الله، ولا قطيعة فى ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل المخلوع

_ [1] فى الكامل المبرد (ص 640 صبع أوربا) ان هذا الكتاب من المهك الى الحارث.

وردّاه الله رداء نكبة، وأحمد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظر من صادق وعده. والحمد لله المتولّى لأمير المؤمنين بنعمته، والراجع إليه بمعلوم حقّه، والكائد له ممن ختر عهده ونكث عقده؛ حتى ردّ له الألفة بعد تفريقها، وأحيا الأعلام بعد دروس أثرها، ومكّن له فى الأرض بعد شتات أهلها. ولمّا فتح المعتصم عمّوريّة أكثر الشعراء من ذكر هذا الفتح؛ فمن ذلك قول أبى تمام حبيب بن أوس الطائى من قصيدته التى يقول فى أوّلها: السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب والعلم فى شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشّهب جاء منها: فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشّعر أو نثر من الخطب فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض فى أثوابها القشب ومنها: وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدّت صدودا عن أبى كرب بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب من عهد إسكندر أو قبل ذاك فقد ... شابت نواصى اللّيالى وهى لم تشب حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض الحليبة كانت زبدة الحقب أتهم الكربة السوداء سادرة ... منها وكان اسمها فرّاجة الكرب لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الحرب أشار فى هذا البيت إلى فتح أنقرة.

ومنها: لبّيت صوتا زبطريّا هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرّد العرب قيل: كانت الروم لمّا فتحت زبطرة صاحت امرأة من المسلمين: وا محمداه! وا معتصماه! فلما بلغه الخبر ركب لوقته يؤمّ الشأم، وصاح: لبّيك! لبّيك! ولم يرجع إلى أن فتح أنقرة وعمّوريّة. ومنها: خليفة الله جازى الله سعيك عن ... جرثومة الدّين والإسلام والحسب إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير منقضب فبين أيّامك الّلاتى نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النّسب وكتب أبو عبيد [عبد] الله البكرى إلى المعتمد على الله المؤيّد بنصر الله يهنّئه بالفتح الذى كان فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة: أطال الله بقاء سيّدى ومولاى الجليل القدر، الجميل الذكر، ذى الأيادى الغرّ، والنعم الزّهر؛ وهنأه ما منحه من فتح ونصر، واعتلاء وقهر. بطالع السعد يا مولاى أبت، وبسانح اليمن عدت، وبكنف الحرز عذت، وفى سبيل الظّفر سرت، وبقدم البرّ سعيت، وبجنّة العصمة أتيت، وبسهم السّداد رميت فأصميت. صدر عن أكرم المقاصد وأشرف المشاهد، وعود بأجلّ ما ناله عائد وآب به وارد؛ فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردّت ماضى العمر، وأكبت [1] وارى الكفر؛ وهزّت أعطاف الأيام طربا، وسقت أقداح السرور نخبا، وثنت آمال الشرك كذبا، وطوت أحشاء الطاغية رهبا؛ فذكرها زاد الراكب، وراحة اللّاغب؛ ومتعة الحاضر، ونقلة المسافر.

_ [1] أكبت: جعلته لا يورى. وفى الأصل: «أكفت» . ولعله تحريف من الناسخ.

بها تنقض الأحلاس فى كلّ منزل ... وتعقد اطراف الحبال وتطلق شملت النعمة وجبرت الأمة، وجلت الغمّة؛ وشفت الملّة، وبرّدت الغلّة، وكشفت العلّة. كان داء الإشراك سيفك واشت ... دّت شكاة الهدى وكان طبيبا فغدا الدّين جديدا، والإسلام سعيدا، والزمان حميدا؛ وعمود الدين قائما، وكتاب الله حاكما؛ ودعوة الإيمان منصورة، وعين الملك قريرة. فهنأ الله مولانا وهنأنا هذه المنح البهيّة مطالعها، الشّهيّة مواقعها؛ المشهورة آثارها، المأثورة أخبارها؛ ونصر الله أعلامه ففى البرّ تحلّ وتعقد، وعضد حسامه فبالقسط يسلّ ويغمد؛ وأيّد مذاهبه فبالتّحزّم تسدى وتلحم، وأمّر كتائبه ففى الله تسرج وتلجم. فكم فادح خطب كفاه، وظلام كرب جلاه، وميّت حقّ أحياه، وحىّ باطل أرداه! وكم جاحم ضلالة أطفأ ناره، وناجم فتنة قلّم أظفاره، ومفلول سنّة أرهف شفاره، ومستباح حرمة حمى ذماره. فلله هذه المساعى الكريمة والمنازع القويمة، المتبلّجة عن ميمون النّقيبة ومحمود العزيمة؛ فقد تمثّل بها العهد الأوّل والقرن الأفضل الذى أخرج للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ والذى سطع هذا السّراج، وانتهج هذا المنهاج؛ فلا زالت الفتوح تتوالى عليه، وصنائع الله تتّصل لديه، إدالة من مشاقّيه وإذالة لمحاربيه، وإبادة لمناوئيه. وإن أجلّ هذه النعم فى الصدور، وأحقّها بالشكر الموفور؛ ما منّ الله به من سلامة مولاى التى هى جامعة لعزّ الدّين وصلاح كافّة المسلمين، بعد أن صلى من الحرب نيرانها، فكان أثّبت أركانها وأصبر أقرانها: وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنّك فى جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا ... ووجهك والإسلام أنّك سالم

فلله الحمد والإبداع والإلهام، وله المنّة وعلينا متابعة الشكر والدوام. وقد فازت الكفّ الكليم، بأعلى قداح المكلوم لدى المقام الكريم؛ وإنها لهى التالية للإصبع الدامية فى المنزلة العالية. بصرت بالراحة العليا [1] فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التّعب ومن كلام القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ جواب كتاب ورد عليه يخبر فيه بانتصار المسلمين. ابتدأه بقوله عز وجل: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . وصلت بشرى المجلس السامى- أعلاه الله وشيّده، وأسعده وأصعده، وشكر مشهده وأنجح مقصده، وملأ بالحسنات أمسه ويومه وغده، وأهلك وعادى أعداءه وحسّده، واجتبّ بسيفه زرع الكفّار وذراه وحصده- بما منّ الله سبحانه من نصرة المسلمين عند لقاء عدوّهم؛ وما وليهم الله من القوّة والإظهار، وما قذف فى قلوب الكفر من الخوف والحذار؛ وشرح القضيّة شرحا شرح الصدور، واستوى فيها الغيّاب مع الحضور؛ فكانت البشارة منه وكانت المباشرة له، وما كلّ من بشّر باشر، ولا كلّ من غار غاور؛ ولا كلّ من خبّر عن السيوف لقيها بوجهه، ولا كلّ من حدّث عن الرماح عانقها بصدره. فنفعه الله بالإسلام كما نفع الإسلام به، وأتمّ النعمة عليه كما أتمّها فيه؛ وتقبّل جهاده الذى جلا فيه الكربات، وابتغى فيه القربات. ويتوقّع إن هان العدوّ فى العيون، وظهر منه غير ما كان فى الظنون، أن يكسر الله بكم مصافّه، ويفتح عليكم بلاده، ويطهّر بسيوفكم الشام، ويسرّ بنصركم الإسلام، ويشرّف بيوم نصركم الأيّام. والخير يغتنم إذا عنّت فرصه، ويصاد إذا أمكن الصائد قنصه، والجهاد فرض على المطيق تقتضيه عزائمه ولا تقتضيه رخصه. وقد حضر المولى وحضر كلّ خير، وحضر من رأيه ما يكفى

_ [1] فى ديوان أبى تمام: «الكبرى» .

أمر العدوّ ولو لم يكن إلا رأيه لا غير؛ فكيف وفى يده من العضب، مثل ما فى صدره من القلب؛ كلاهما حديد لا تكلّ مضاربه، ولا تخونه ضرائبه، ولا تفنى إذا عدّدت عجائبه. فكم له من يوم أغرّ محجّل الأطراف، وليلة فى سبيل الله دهماء الأهوال بيضاء الأوصاف؛ والنفوس واثقة بأن الظّفر على يده يجرى، والمبشّر من جهته يسرّ ويسرى. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. وكتب أيضا فى مثل ذلك: ورد كتاب المجلس- نصر الله عزمته، وشكر همّته، وأتمّ عليه نعمته، وصرف به وعنه صرف كلّ دهر وملمّته ومؤلمته، وأعان أولياءه على أن يؤدّوا خدمته، ويستوهبوا له فضل الله ورحمته، وأجزل قسمه من الخير الذى يحسن بين محبّيه قسمته- سافرا عن مثل الصباح السافر، متحدّثا عن روض أفعاله بلسان النسيم السّحرىّ الساحر، حاملا حديث بيضه وسمره حديث السامر. وهنّأ بالفتح وهو المهّنأ به، وكيف لا يهنّأ بالفتح من هو فاتحه! وكيف لا يشرح خبره من هو فاتح كلّ صدر وشارحه! ولقد دعا له لسان كلّ مسلم وساعدت لسانه جوارحه؛ وعلم أنه باشر الحرب وتولّى كبرها، وأخمد جمرها، ولقى أقرانها، وافترس فرسانها، وجبّن شجعانها، وشجّع جبانها؛ وأنفق الكريمين على النفس: النّفس والمال، وحفظ على الإسلام الطّرفين: الفاتحة والمآل. وإذا تأمل المجلس الدنيا علم أن الذى يبقى بها أحاديث، وإذا نظر إلى المال علم أن الذى فى الأيدى منه مواريث؛ فالحازم من ورث ماله ولم يورثه لغيره، والسعيد من لم يرض لنفسه من الحديث إلا بخيره. وما يخفى عن أحد ما فعله، ولا ما بذله، ولا ما هان عليه، ولا ما أهان الله كرائم المال بيديه؛ ولقد حلّت نعمة الله فى محلّها لديه، وكان كفأها الكريم الذى أصدقها ما فى كفّيه. هذا ثنائى وهاتيكم مناقبكم ... يا أعين النّاس ما أبعدت إسهادى

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً ، بل هو سبحانه يوفى عباده مثاقيل الذّرّ، وللصابرين عنده الأجر بغير حساب لجلالة قدر الصبر. والمجلس صبّر نفسه على المشقّات فليبشر بثوابها، وكثّر أعمال البرّ فهو يدخل الجنّة بفضل الله من جميع أبوابها. وكما يهنّأ المجلس بالافتتاح فهو يهنّأ بالجراح؛ ولا يغسل ثوب العمل إلا الدم المسفوح، وكل جرح إنما هو باب إلى الجنة مفتوح. والحمد لله على أن أمتع الأمّة بنفسه التى بذلها، وقد باعها له وأبقاها لنا وقبلها. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وكتب المرحوم علاء الدين علىّ بن القاضى محيى الدين بن الزكىّ إلى أخيه بهاء الدين مبشّرا بفتح صفد، وكان هذا الفتح فى يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة أربع وستين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار دولة الترك فى أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس: يقبّل اليد الكريمة، ويبثّ ما يعالجه من لواعج الأشواق التى تركته بين الأصحاب مدلّها، وسلبت لبّه فلا أعلم عليه من دلّها؛ وينهى أن المملوك فارق كريم جنابه وتوجّه إلى صفد المحروسة فوصل إليها فى تاريخ كذا، ووافاها والحصن قد تزعزعت أركانه، والكفر قد انهدم بنيانه، وشمّر عن ساق الهزيمة شيطانه؛ وحماة الحرب قد وقفت فى مراكزها، وكماة الهيجاء قد استعدّت لأخذ فرص النصر ومناهزها؛ والرماح قد اهتزّت شوقا الى لقائهم، والسيوف قد آلت أنها لا توافق على مقامهم، والمجانيق تزور حماهم وتلك الزيارة لشقائهم؛ وتدمّر بحجارتها عليهم تدميرا، وتريهم من بأسها يوما عبوسا قمطريرا، وتصير بهم إلى الهلاك وتعدهم جهنّم وساءت مصيرا؛ والقسىّ ترسل اليهم المنايا فى أجنحة السهام، وقد أحدقت بهم كماة الترك كأنها ظباء

بأعلى الرقمتين قيام؛ فمن نازع بقوسه وهو لمهج الكافرين منازع، ومن متدرّع بنحره نحو المنايا يسارع، ومن وارد منهل المنيّة وآخر فى إثره كارع، ومن متدرّع وحاسر علما أن ليس لقضاء الله دافع؛ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وما سلك بهم إلا صراطا مستقيما، وما اشترى أنفسهم وأموالهم إلا بالجنّة وأعدّ لهم أجرا كريما. والسلطان- عزّ نصره- قد شحذ شبوات عزمه، وفوّق سديد سهمه ليفوز بجزيل سهمه؛ وهو يرتّب عساكره، ويهيّئ ميامنه ومياسره، وينفذ أوائله ويقدّم أواخره، ويحثّ صناديده، ويثبت رعاديده؛ ويسعر همّة مساعره، ويذكى نار الحرب فى مجامره؛ ويقابل الأبراج ببروج يهدمونها، ويكل بالنّقوب نقباء يحفرونها، ويعد للمؤمنين مغانم كثيرة يأخذونها؛ ويعدّ لكل مقام رجالا، ويرتّب لكل مقاتل من المسلمين قتالا، ويبسط لهم بقتل الكافرين آمالا؛ حتى قامت الحرب على ساق، وضاق بأهل الشقاق الخناق؛ وبلغت الأرواح منهم التّراقى، ودارت عليهم كؤوس المنايا فانتشى المسقّى والساقى؛ وأحدقت بهم الجياد تصهل، وسحب القسىّ تهطل، وكواذب الآمال تعدهم وتمطل؛ وخرصوا لأنفسهم الفرج فكذّبتهم أسنّة الخرصان، ونظروا إلى الحياة بعين الطمع فكحلتهم بنات الحنيّة المرنان؛ فلما أشرب [1] العجز نفوسهم، واستوى فى الشّورى مرءوسهم ورئيسهم؛ ومنوا بالمنايا من كل جانب، وسمح كلّ منهم بالمال والذهب مذ علم أنّه ذاهب؛ وتحقّقوا أن لا ملجأ من السيف إلا إليه، ولا معوّل بعد المعوّل إلا عليه، وتيقّنوا أن لا مقام لهم ولا مقرّ، وقال الكافر يومئذ أين المفرّ. والمسلمون مثابرون على العمل الصالح يرفعونه، ومبادرون أجل عدوّهم يمزّقون منه كل ما يرقعونه؛ وإذا بصيحة كالصيحة التى تأخذهم وهم ينظرونها، أو الصعقة التى ينتظرونها، إذ أمرّت السيوف على رقابهم وهم يبصرونها؛

_ [1] فى الأصل: «اشراب» وهو غير واضح.

فارتجّت أرجاء الحصن بالاصطخاب، ووقع الاختلاف بينهم والاضطراب؛ وقيل: إن الكافر قد طلب الأمان، وإنه ركب ظهر المذلّة مذ ناوله الجزع العنان، وإن الكفر قد ذلّ للإيمان، وإن شيطانه قد نكص على عقبه لما تراءت الفئتان؛ فأمسكت المجانيق عن ضربها، وكفّت الحنايا عن إرسال شهبها، وأقصرت ليوث الحرب الضارية عن وثبها. فما كان إلّا هنيهة وقد خرج رسول منهم حيث لا تنفع الرسائل، واخترق وشيج القنا وشوك النّصال وظبا المناصل، ورأى كثرة هالته فكادت تنقدّ تحت الذعر منه المفاصل، ومشى إلى السلطان خاضعا وأعيا على السّماطين يقوم كلما عوّجته الأفاكل. وقبّل كمّا قبّل التّرب قبله ... وكلّ كمىّ واقف متضائل وأدّى الرسالة وإذا هى كما قال أبو الطيب دروع، ورجع إلى أهله وفى قلبه من جيش الإسلام- كثره الله- صدوع. فأقبل من أصحابه وهو مرسل ... وعاد إلى أصحابه وهو عاذل فأبوا لنصيحته قبولا، وقالوا: قاتلك الله رسولا؛ لقد خرجت عن سنّة إخوانك، وألقيت إلى المسلمين فاضل عنانك، ولم ترقب رضا أقسّتك [1] ورهبانك. والرعب قد خرج به عن قومه وآله، وهو يناشدهم الله فى أموالهم وأنفسهم وينشدهم بلسان حاله: أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشد إلا ضحى الغد فلما استحكمت مرّة عصيانهم، وأبوا إلا مغالاة فى طغيانهم؛ ولم يسمحوا بتسليم ذلك الحصن الحصين، وقالوا: إنه على حفظ أرواحنا لقوىّ أمين؛ أرسلت عليهم من المجانيق حجارة كالمطر، إلا أنها ترمى بشرر كالقصر فتهدم قصورا كالشرر؛

_ [1] فى الأصول: «أقسائك» وهو تحريف.

فزعزعت منها بروجا وبدنا، وقالت: هذا جزاؤكم وإن عدتم عدنا، ولنتبعنّ بعدها آثاركم ونقلع منكم قلاعا ومدنا. فلما أكذبهم الحصن فى آمالهم، وأراهم الله قرب آجالهم؛ وكان ذلك فى اليوم الأغرّ يوم الجمعة والفتح، سلكوا فى التسليم عادة لم يسلكوها، ورأوا من الجزع خطّة ملكتهم ولم يملكوها؛ فأجمعوا أمرهم وشركاءهم إلا أنه كان عليهم غمّة، وطلبوا الذّمام ومن قبلها كانوا لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة؛ فألقوا إلى الإسلام يومئذ السلم، ورأوا نور الله الظاهر أشهر من نار على علم؛ فخرجوا من الحصن زرافات وأوزاعا، مهطعين إلى الداعى كيوم يخرجون من الأجداث سراعا. فلو تراهم نحو المنايا يركضون، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. جرت الرياح على مقرّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد وصدق الله المؤمنين وعده، وكان بصدق وعده حقيقا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً . فلما كان يوم السبت نادى فيهم السيف بالرحيل، ولم يتزوّدوا من متاع الدنيا إلا القليل؛ وقام النصر على منابر الهامات خطيبا، وكثر القتل فصار المهنّد الصقيل خضيبا؛ وأجرى أودية من دمائهم، ولم يغادر بقيّة من ذمائهم؛ واستوى العبيد منهم والأرباب، وصار فرسانهم فرانس الذئاب، واستمرءوا المرعى الوخيم فرعاهم الذّباب؛ ووجدوا غبّ البغى علينا، وقلنا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ؛ وآب المسلمون بخير عميم، وفتح عظيم وأجر كريم؛ وجعل الله الجنّة جزاء للسالمين منهم والذاهبين، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ . فليأخذ حظّه من هذه البشرى فإن لها من النصر العزيز ما بعدها، ومن المغانم الكثيرة ما ينجز للأمّة المحمديّة وعدها؛ ويثق بأن

له إن شاء الله من ثواب هذه الغزوة أوفر نصيب، وأن سهم عزمه فى نحور الأعداء إن شاء الله مصيب؛ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بالمدينة قوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» . والله لا يخليه من أجرها، ولا يحرمه وافر برّها؛ ويتحفه من مقربات التهانى بما تكون له هذه بمنزلة العنوان فى الكتاب، والآحاد فى الحساب؛ وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأوّل قبل طلوع طلعة الشمس؛ وأن يديم على الإسلام والمسلمين حياة مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين، ويؤيّده بالملائكة المقربين، ما دامت السموات والأرضون، إن شاء الله تعالى. ومن إنشاء المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر كتاب كتبه عن السلطان الملك الأشرف خليل إلى الملك المظفّر يوسف بن عمر صاحب اليمن قرين كتاب السلطان الملك المنصور المسيّر إليه بالهناء بفتح طرابلس الشأم: أعز الله نصرة المقام وأوفد عليه كلّ بشرى أحسن من أختها، وكل تهنئة لا يجلّيها إلا هو لوقتها، وكل مبهجة يعجز البيان والبنان عن ثبتها ونعتها، وتتبلّج فتودّ الدّرر والدرارى لو زفّت هذه إلى تراقيها وسمت هذه إلى سمتها؛ وصبّحه منها بكل هاتفة أسجع من هواتف الحمائم، وبكلّ عارفة أسرع من عوارف الزّهر عند عزائم النسائم، وبكل عاطفة أعنّة الإتحاف بالإيجاف الذى شكرت الصّفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم، والغزو الذى لا تخصّ تهامة ببشراه بل جميع النجود والتهائم، وذوو الصوارم والصرائم، وأولو القوى والقوائم، وكلّ ثغر عن ابتهاج أهل الإسلام باسم، وكلّ برّبرّ بتوصيل ما ترتّب عليه من ملاحم، وكلّ بحر عذب يمون كلّ غاز لا يحبس عن جهاد الكفار فى عقر الدار الشكائم، وكلّ بحر ملح كم تغيّظ من مجاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم. المملوك يجدّد

خدمة يقتفى فيها أثر والده، ويجرى فى تبليغها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحا تحفّ به من هنا ومن هنا تحف محامده؛ ويصف ولاء قد جعله أجمل عقوده وأكمل عقائده، ويشفعهما بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده؛ ويطلع العلم الكريم أن من سجايا المتعرّضين إلى الإعلان بشكر الله فى كلّ ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفرض لهم من أجر غزوكم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر؛ أن يقدروا تلك النعمة حقّ قدرها من التحدّث بنعمتها، والتنبيه لسماع نغمتها؛ وإرسال أعنّة الأقلام فى ميادين الطروس، وإدارة حرباء وصف خير حرب إلى مواجهة خير الشموس. ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد- خلّد الله سلطانه- قد أصبحت ذكرى للبشر، ومواقفه للنصر فكم جاءت هى والقدر على قدر؛ وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو الأسمار، وهذه جادّة يستطيب منها حسن الحدو السّفّار، فكم قاتلت من يليها من الكفّار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصورا بالمهاجرين والأنصار. ولما أذلّ الله ببأسها طوائف التتار فى أقاصى بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجهوهم الوجم، وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصرت بهم هممهم حتى صاروا يخافون الصبح إذا هجم والظن اذا رجم، وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأحجم من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلامية عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّل الذّيل، ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل. وانتهت نوبة القتل بهم والإسار إلى «التّكفور ليفون» ملك الأرمن الذى كان يحمى سرحهم ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم؛ وتعتزّ طرابلس الشأم بأنه خال إبرنسها الكافر، ولسان مشورته السفير ووجه تدبيره

السافر؛ وطالما غرّ وأغرى، وجرّ وأجرى، وضرّ وأضرى؛ فلما توكّل مولانا السلطان وعزم وعزم فتوكّل، وتحقّق أن البلاء به قد نزل، وما تشكّك أن ذلك فى ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل؛ وأنّ يومه فى الفتك سيكون أعظم من أمسه وأعظم منهما معاداة غده، وأن نصر الله لن يخلفه صادق موعده، أكل يده ندامة على ما فرّط فى جنب الله؛ وساق الحتف لنفسه بيده فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لها غير الهلك من خمار. وكانت طرابلس هى ضالّة الإسلام الشريدة، وإحدى آبقاته من الأعوام العديدة؛ وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت فى تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها، ومرّت وهى لا تغازل ملكا بطرفها وكلما تقادم عهدها تكثرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها؛ إذ البحر لها جلباب والسحاب لها خمار، وليس بها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها فى سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخط، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلا شطّ واشتط؛ قدّر الله أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه اليها كلّ خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد أحرسته عيونها وتلك المخاوف كلّهن أمان، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان؛ وفى خدمته جنود لا تستبعد مفازة، وكم راحت وغدت وفى نفوسها للأعداء حزازة؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا ترافق بها غير الرياح الهوج؛ وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل، واندفعوا فى تلك الأوعار اندفاع الأوعال، ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق ولا بجبل شاهق فقال: هذا منخفض أو عال؛ وشرعوا فى التحصيل لما يوهى ذلك التحصين، وابتناء كلّ سور أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأى الرصين؛ فما لبثوا إلا مقدار ما قيل

لهم: دونكم والاحتطاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب؛ حتى جرّوها بأسرع من جرّ النّفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السفينة لا تجرى على يبس. وفى الحال نقلت إليها فرأوا من متوقّلها [1] من يمشى بها على رجلين ومنهم من يمشى على أربع، ووجّهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدّامها منها إصبع؛ وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق وبين الحجارة من الأسوار، فكم نقبت ونقّبت من فلذة كبدها عن أسرار؛ وأوقدت نيران المكايد ثمّ فكم حولها من صافن ومن صافر. وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر. وما برحت سوق أهل الإيمان فى نفاق على أهل النّفاق، وأكابرهم تساق أرواحهم الخبيثة إلى السّياق. وكان أهل عكّاء قد أنجدوهم من البحر بكلّ برّ، ورموا الإسلام بكل شرر وكل شرّ؛ فكان السهم الذى يخرج منها لا يخرج إلا مقترنا بسهام. وشرفات ذلك الثغر كالثنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفترّ عن ابتسام؛ وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدّمة إلا وهو يرى بين أولئك. واستمرّ ذلك من مستهلّ شهر ربيع الأول إلى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، فزحف عليها فى بكرة ذلك النهار زحفا يقتحم كلّ هضبة ووهده، وكلّ صلبة وصلده، حتى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازا وفى الحقيقة فتحها وحده. وطلعت سناجق الإسلام الصّفر على اسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسّابة خلال ديارها؛ فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكا، وما كان يكون له فى فتحها شريك وقد نفى عنها شركا؛ وكلما قيل: هذه طرابلس فتحت قال النصر بمن قتل فيها من النّجد الواصلة وأكثر عكا [2] وأهل عكا؛ وأعاد الله قوّة الكفر بها أنكاثا،

_ [1] توقل فى الجبل: صعد. [2] كذا وردت هذه الكلمات بالأصل، وهى كما يظهر قلقة غير واضحة.

وكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة فى يوم ثلاثاء واستردّت فى يوم الثلاثا. ولما عمّت هذه البشائر [و] وكل بها مولانا السلطان إلى كلّ من يستجلى حسان هذه العرائس، ويستحلى نفيس هذه النفائس؛ سيّر مولانا السلطان إلى مولانا بشرى فقعقع بها البريد، لتتلى بأمر مولانا على كل من ألقى السمع وهو شهيد، وكما عمّ السرور بذلك كلّ قريب قصد أن يعمّ الهناء كل بعيد. وأصدر المملوك هذه الخدمة يتحجّب بين يدى نجواها، ويتوثّب بعد هذه المفاتحة لكلّ سانحة يحسن لدى المولى مستقرّها ومثواها. لا برح المقام يستبشر لكماة الإسلام بكل فضل وبكلّ نعمى، ويفرح لسرح الكفر إذا انتهك ولسفح الملك إذا يحمى، ولسمع الشّرك إذا يصمّ ولقلبه إذا يصمى. وكتب المولى محيى الدين أيضا عن نفسه مطالعة إلى السلطان الملك المنصور يهنّئه بهذا الفتح: هنّئت يا ملك البسيطه ... فتحا به النّعمى محيطه وبقيت يا خير الملو ... ك بسيفك الدّنيا محوطه يقبّل الأرض ويبتهل إلى دعاء صالح يقدّمه بين يدى بشره وبشراه، وكلّ مقام محمود من الإجابة يحوّله فى سرّه ونجواه؛ ويهنّىء بهذا الفتح الذى كم مضى ملك وفى قلبه منه حسره، وما ادّخر الله إلا لمولانا السلطان أجره وفخره. فالحمد لله على هذا النصر العزيز وهذا الفتح المبين، والظفر الذى أعطاه الله إيّاه فى شهر وقد أقامت جموع الكفر حتى حازت بعضه فى مدّة سبع سنين. وله الشكر على أن جعل الكفر من بعد قوة أنكاثا، وجعل أخذ مدينة طرابلس من الكفّار فى يوم الثلاثاء وكان أخذها من المسلمين فى يوم الثلاثاء؛ وله المنّة فى ردّ هذه الأخيذة، وجعلها بين يدى مولانا السلطان منبوذة. ثم المنّة لله على أن سطر فى سيرة مولانا السلطان هذه

السّنة، وجعلها ما بين نومة عين وانتباهتها فى أقرب من سنة، وردّ إباقها على المسلمين بعد أن أقامت هاربة عند الكفار مائة سنة وستّا وثمانين سنة؛ والله يلحق بها فى الفتح أخواتها من المدن، ولا يلبث إن شاء الله هاديا بها بعدها مثل عكّاء وصور وصيدا حتى يراهنّ الى قبضته قد عدن، إن شاء الله تعالى. وكتب إلى الأمير حسام الدين طرنطاى عن الأمير بدر الدين بيدرا فى ذلك: المملوك يهنئ بهذا الفتح الذى كادت به هذه الغزوة تزهو على غيرها من الغزوات وتتيه، وأشرقت الأرض بنور ربها ابتهاجا بما أمضاه الله منه وما سيمضيه، وبما سيعطيه حتى يرضيه، وذلك أن فتح طرابلس التى طالما شمخت بأنفها على الملوك، وكم أبت على مستفتح فما قال لغيره إباؤها: لله أبوك؛ وأخّر الله مدّتها إلى خير الأزمان، وفتحها على يدى سلطاننا الذى حقّق الله به آمالا تنفذ إلا منه بسلطان. فالحمد لله الذى عضد هذا الملك من مولانا بخير من دبّره، وحماه منه بأقطع حسام جرّده الله لنقض ما أمرّه؛ وما من فتوح ولا أمر ممنوح إلا ومولانا منضّد عقوده، ومجهّز بريده، ومطلع سعوده؛ ورافع علمه، وممضى سيفه ومرضى قلمه. فأمتع الله الأمة من مولانا السلطان بسلطان يستردّ لهم الحقوق ويتقاضى الديون، وأمتع الله سلطانها من مولانا بمن آراؤه أقفال الممالك وسيوفه مفاتيح الحصون. ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة الشريفة إلى النائب بقلعة الجبل عند كسرة التتار بمرج الصّفّر فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة: وبشّره بالفتح الذى أعاد الله به الأمة خلقا جديدا، والنصر الذى أنزل الله فيه من الملائكة أنصارا للملّة وجنودا، والظفر الذى أطفأ الله به من نار الكفر ما لم يكن

يرهب خمودا، والغزوة التى زلزل الله بها جبال أهل الشرك وقد تدفّقت على الأرض أمثال البحار عددا وعديدا. المملوك يقبّل اليد العالية التى لها من هذه النّصرة وإن لم تبلغها أجر الرامى المسدّد سهمه، المعجّل من التهانى غنمه، الموفّر من المحامد الجزيلة قسمه؛ ويهنّىء المولى بهذا الفتح الذى مدّ الله به على الأمة جناح رحمته وفضله، ومنّ على أيّامنا الزاهرة فيه بالشأم وأهله، وبرز فيه الإسلام كلّه للشرك كلّه. ولله الحمد الذى أعز دينه ونصره، وحصد بسيوف الإسلام عدوّ دينه بعد أن حصره؛ وأباد جيوش الشّرك وهم مائة ألف أو يزيدون، وأفنى أحزاب أهل الكفر وكانوا أمثال الرمال لا يعدّون؛ وينهى أنّ علمه الكريم قد أحاط بما كان من أمر هذا العدوّ المخذول ودخوله إلى البلاد المحروسة بجيوشه وكتائبه وجموعه وجنوده من أشياع أهل الكفر وأحزاب الشرك. ولما تواصلت الأخبار بقربه، واستعداده بحزبه، ومهاجمته البلاد، وإيقاع الرّعب فى قلوب أهلها بالتنوّع فى الفساد؛ ساق الرّكاب الشريف فى طلبه يطوى المراحل، ويقطع فى كلّ يوم منزلتين بل منازل. ولما حلّ الركاب الشريف بمرج الصّفّر على مرحلة من دمشق المحروسة فى يوم السبت مستهلّ شهر رمضان المعظّم زيّنت العساكر المنصورة للقاء حال وصولها، واستعدّت للحرب دون تشاغل بأسباب نزولها؛ فوافى العدوّ المخذول فى مائة ألف من جيوش تسيل كالرمال، وتعلو الجبال بأشدّ من الجبال؛ وحين وصلوا حملوا على الميمنة بجملتهم، وقصدوا إزاحتها عن موقفها بحملتهم؛ فتلقّتهم الجيوش المنصورة بنفوس قد بايعت الله على لقاء عدوّ الله وعدوّها، ووثقت بما أعد الله لها من الجزاء فى رواحها فى سبيله وغدوّها؛ وصدمتهم صدمة كسرت حدّهم، وأوهنت شدّتهم وشدّهم؛ وأزالت طمعهم، وأبانت ظلعهم؛ وسالت [1] عليهم الجيوش المنصورة من

_ [1] فى الأصل. «وأسالت» .

كلّ جانب، وحميت الحرب بين الكتائب الإسلاميّة وبين تلك الكتائب؛ ودخل الليل ونار الحرب تشتعل، والجياد من المحاجر تحفى وبالجماجم تنتعل؛ فأووا إلى جبال اعتصموا بهضابها، واحتموا بتوعّر مسالكها وضيق عقابها؛ وأحاطت بهم الجيوش المنصورة لحوسهم [1] لا لحفظهم، وتضمّ أطرافهم لا لحبّهم بل لبغضهم؛ فكانوا- بعد كثرة من قتل منهم فى المعركة الأولى أو فرّ من أوّل الليل- جمعا يناهز الأربعين ألف فارس، فأصبحوا يعاودون القتال، وينزلون إلى أطراف الجبال للنّزال؛ والجيوش المنصورة تلزمهم من كل جانب، وتحكّم فى أبطالهم القنا والقواضب. وجرت فى أثناء ذلك حملات ظهر فى كلّ منها خسارهم، وشهد عندهم بما يكابدون قتلهم وإسارهم؛ وبعد ذلك نزلوا من جانب واحد يطلبون الفرار، ويتوقّعون القتل إن تعذّر الإسار؛ فساقت خلفهم الجيوش المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها؛ وتقاذفت بمن نجا منهم الفلوات، وغرّقتهم أمواج السّراب قبل أمواج الفرات؛ فأخذوا قنصا باليد من بطون الأودية ورءوس الشّعاب، ولم يحصل أحد منهم على الغنيمة بالإياب؛ وقتل أكثر مقدّمى التمانات [2] وفرّ كبيرهم وأنّى له الفرار، وبين يديه مفاوز إن سلك منها تناولته بأرماح من العطش القفار. فليأخذ المولى حظّه من هذه البشرى التى تنبىء عن الفتح العظيم والفضل العميم، والنّصرة التى حفظ الله بها على الإسلام البلاد والثغور والأموال والحريم؛ ويكتب إلى البلاد بمضمونها، ويسرّ قلوب أهل الثغور بمكنونها؛ ويستنهض المولى الأمّة لشكر الله عليها، ومن ذا الذى يقوم بشكر ذلك! ويعرّفهم مواقع هذه النّصرة التى أنجد الله فيها الإسلام بالملائك؛ ويتقدّم أمره بضرب البشائر بكلّ مكان، ويشهر فى جميع الثغور أن عدوّ

_ [1] فى الأصل: «لحرسهم» بالراء. والحوس: القتل. [2] فى أحد الأصول: «التومانات» .

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب

الله وعدوّ الإسلام دخل فى خبر كان؛ وأن الله تعالى كسر جيوش التتار كسرا لا يجبر صدعه، ولا يتأتّى إن شاء الله تعالى جمعه. والله تعالى يسمعه من التهانى كلّ ما يسرّ الإسلام وأهله، ويشكر قوله فى مصالح الإسلام وفعله؛ إن شاء الله تعالى. الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب والمراثى إنما جعلت تسلية لمن عضّته النوائب بأنيابها، وفرّقت الحوادث بين نفسه وأحبابها؛ وتأسية لمن سبق الى هذا المصرع، ونهل من هذا المشرع؛ ووثوقا باللّحاق بالماضى، وعلما أنّ حادثة الموت من الديون التى لا بدّ لها من التقاضى؛ وأنه لا سبيل إلى الخلود والبقاء، ولا بدّ لكلّ نفس من الذّهاب ولكلّ جسد من الفناء. قال الله تعالى فى محكم تنزيله مخاطبة لرسوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ. فليرض من فجع بخليله وشقيقه، وصاحبه وصديقه؛ وأهله وولده، وجمعه وعدده، وماله ومدده؛ نفسه الجامحة فى ميادين أسفها وبكائها، الجانحة إلى طلب دوائها من مظانّ أدوائها؛ بزمام الصبر الجميل، لينال الأجر الكريم والثواب الجزيل؛ فقد أثنى الله تعالى على قوم بقوله: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ؛ وقال تعالى إخبارا عن لقمان فى وصيّته لابنه: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وليسترجع من أصابته مصيبة أو نزلت به بليّة، وطرقته حادثة أو ألّمت به رزيّة؛ لما جعل الله تعالى للمسترجع بفضله ومنّته، من صلاته عليه ورحمته؛ قال الله عز وجل:

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ . وليتأسّ الفاقد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وليقتد بأصحابه رضى الله عنهم ليفوز بثواب الصابر ويحوز أجر الشاكر. وباب الرّثاء فهو باب فسيح الرّحاب والنوادى، فصيح اللسان فى إجابة المنادى ذى القلب الصادى؛ متباين الأسلوب، مختلف الأطراف متباعد الشعوب؛ منه ما يصمى القلوب بنباله، ومنه ما يسلّيها بلطيف مقاله؛ ومنه ما يبعثها على الأسف، ومنه ما يصرفها عن موارد التلف. وقد أكثر الشعراء القول فى هذا الباب، وارتقوا الذّروة العلياء من هذه الهضاب؛ ووجدوا مكان القول ذا سعة فقالوا، وأصابهم هجير اللوعة فمالوا إلى ظلّه وقالوا. قال الأصمعىّ: قلت لأعرابىّ: ما بال المراثى أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة. وعلى الجملة فالموت هو المصيبة التى لا تدفع، والرزيّة التى لا تردّ بكثرة الجموع ولا تمنع؛ والحادثة التى لا تنصرف بالفداء وإن جلّ مقداره، والنازلة التى لا تتأخر عن وقتها بالدعاء وإن عظمت فى غيرها آثاره؛ وهو أحد الأربعة التى فرغ منها، وصرفت وجوه المطامع عنها. وقد قالت الحكماء: أعظم المصائب كلّها انقطاع الرجاء. وقالوا: كل شىء يبدو صغيرا ثم يعظم إلا المصيبة فإنها تبدو عظيمة ثم تصغر. وقالوا: لا يكون البكاء إلا من فضل، فإذا اشتدّ الحزن ذهب البكاء. قال شاعر: فلئن بكيناه لحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للصّبر فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر وقيل: مرّ الأحنف بامرأة تبكى ميّتا ورجل ينهاها؛ فقال: دعها فإنها تندب عهدا وسفرا بعيدا. قيل لأعرابيّة مات ابنها: ما أحسن عزاءك؟ قالت:

إنّ فقدى إيّاه آمننى كلّ فقد سواه، وإنّ مصيبتى به هوّنت علىّ المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول: كنت السواد لمقلتى ... فعمى عليك النّاظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ليت المنازل والدّيا ... ر حفائر ومقابر إنّى وغيرى لامحا ... لة حيث صرت لصائر وقد نقل أبو الفرج الأصفهانى: أن بعض هذا الشعر لإبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يرثى ابنا له فقال: أنت السواد لمقلة ... تبكى عليك وناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ولم يزد على هذين البيتين شيئا. أخذ الحسن بن هانىء معنى البيت الأوّل فقال فى الأمين: طوى الموت ما بينى وبين محمد ... وليس لما تطوى المنيّة ناشر وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لى شىء عليه أحاذر لئن عمرت دور بمن لا نحبّه ... لقد عمرت ممّن نحبّ المقابر وقيل: من أحسن ما قيل فى التّعازى أنّ أعرابيّا مات له ثلاثة بنين فى يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه، فجعل يتحدّث كأن لم يفقد أحدا؛ فليم على ذلك، فقال: ليسوا فى الموت ببديع، ولا أنا فى المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع، فعلام تلوموننى، وهذه ثلاثة الأقسام لا رابع لها!. وعزّى أعرابىّ رجلا فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. وقيل: لمّا دفن على بن أبى طالب رضى الله عنه فاطمة رضى الله عنها تمثّل على قبرها بهذين البيتين:

لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الذى دون الممات قليل وإن افتقادى واحدا بعد واحد ... دليل على ألّا يدوم خليل وعزّى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه الأشعث بن قيس عن ابنه فقال: إن تحزن فقد استحقّت ذلك منك الرّحم، وإن تصبر ففى الله خلف من كلّ هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور؛ سرّك الله وهو بلاء وفتنة، وحزنك وهو ثواب ورحمة. وعزّى أكثم بن صيفىّ حكيم العرب عمرو بن هند الملك عن أخيه فقال: أيها الملك، إنّ أهل هذه الدار سفر لا يحلّون عقد الرحال إلا فى غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن ويدعك؛ فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم للقادر! وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد أصله! واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشرّ من الشر فاعله. وقال ابن السّماك: المصيبة واحدة، فإن كان فيها جزع فهى اثنتان. وقال أبو على الرّازى: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسّما إلا يوم مات ابنه علىّ؛ فقلت له فى ذلك؛ فقال: إنّ الله أحبّ أمرا فأحببت ما أحبّ الله. وقال صالح المرّىّ: إن تكن مصيبتك فى أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعا فبئست المصيبة مصيبتك. وقال علىّ بن موسى للفضل بن سهل يعزّيه: التهنئة بآجل الثواب أولى من التّعزية على عاجل المصيبة. وعزّى الرشيد رجل فقال: كان لك الأجر يا أمير المؤمنين لا بك، وكان العزاء لك لا عنك. أخذه الآخر فقال: كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد

ذكر شىء من المراثى والنوادب

وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك وقد اشتدّ به الألم: كيف تجدك يا بنىّ؟ قال: أجدنى فى الموت، فاحتسبنى، فإنّ ثواب الله خير لك منى. قال: والله يا بنىّ لأن تكون فى ميزانى أحبّ إلىّ من أن أكون فى ميزانك. قال: وأنا والله لأن يكون ما تحبّ أحب إلىّ من أن يكون ما أحبّ. وعزّى شبيب بن شبّة أبا جعفر المنصور بأخيه أبى العباس السفّاح فقال: جعل الله ثواب ما رزئت لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا؛ وختم لك بعافية تامّة، ونعمة عامّة؛ فثواب الله خير لك منه، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل. ودخل البلاذرىّ على علىّ بن موسى الرّضا يعزّيه بآبنه فقال: أنت تجلّ عن وصفنا، ونحن نقصر عن عظتك، وفى علمك ما كفاك، وفى ثواب الله ما عزّاك. فهذه نبذة فى التعازى كافية، وجنّة لمن تحصّن بها من ذوى الفجائع واقية. فلنذكر المراثى. ذكر شىء من المراثى والنوادب ولنبدأ من ذلك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشىء مما قيل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاة ولده إبراهيم عليه السلام: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا عليك حزنا هو أشدّ من هذا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ» . ذكره الجوّانىّ النسابة فى شجرة الأنساب، وذكره غيره مختصرا. ومنه ما روى أن فاطمة رضى الله عنها وقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وقالت:

إنّا فقد ناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحى والكتب فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكتب ووقف علىّ رضى الله عنه على قبره صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك؛ وإنّ المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل. وقد ألّم الشعراء بهذا المعنى؛ فقال إبراهيم بن إسماعيل فى علىّ ابن موسى الرّضا: إنّ الرزيّة يابن موسى لم تدع ... فى العين بعدك للمصائب مدمعا والصبر يحمد فى المواطن كلّها ... والصبر أن نبكى عليك ونجزعا ووقف أعرابىّ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا؛ وقلت عن ربّك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا؛ فما بقيت عين إلا سالت. ودخل عمر بن الخطاب على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما فى مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لقد كلّفت القوم بعدك تعبا، وولّيتهم نصبا؛ فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللّحاق بك!. وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها وأبوها يغمّض: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه، فقالت: لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان وقال: قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ

مِنْهُ تَحِيدُ . ثم قال: انظروا ملاءتىّ فاغسلوهما وكفّنونى فيهما، فإن الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت. ووقفت رضى الله عنها على قبره رضى الله عنه فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك؛ إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك؛ فإنا لنتنجّز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك. أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدّين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه. فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لك، ولا زارية على القضاء فيك. ثم انصرفت. ولما قبض رضى الله عنه سجّى عليه بالثوب، فارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله فى كتابه صدّيقا فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجّتك، ولم تضعف بصيرتك؛ ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل الذى لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا فى بدنك،

قويّا فى أمر الله، متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله؛ جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا لأحد عندك هوادة؛ فالقوى عندك ضعيف حتى تأخذ الحقّ منه، والضعيف عندك قوىّ حتى تأخذ الحقّ له. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك. فانظر إلى هذا الأسلوب العجيب، وتأمّل هذا النّمط الغريب؛ الذى جمع بين سلاسة الألفاظ وإيجازها، وإصابة المعانى وإعجازها. ولا يستكثر على من أنزل القرآن بلغتهم، أن يكون هذا القول من بديهتهم. ولنذكر لمعة من رسائل البلغاء والفضلاء، ولمحة من أشعار الأدباء والشعراء. فمن ذلك رسالة كتبها الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ، إلى الوزير الفقيه أبى القاسم الهورينى يعزّيه عن أخيه، ابتدأها بأن قال: لا بدّ من فقد ومن فاقد ... هيهات ما فى الناس من خالد كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد إذا لم يكن بدّ من تجرّع الحمام، وتشتّت النّظام، وانصداع شمل الكرام؛ فمن الاتفاق السعيد والقدر الحميد أن يرث أعمار البنية الكريمة مشيّد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكنانة على معلّاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها. وفى هذه النّبذة إشارة إلى من فرط من الإخوة النبلاء، ودرج من السادة النّجباء؛ فإنهم وإن كانوا فى رتبة الفضل صدورا، وغدوا فى سماء النّبل بدورا؛ فإنّ شمس علائك أبهر أضواء وأزهر أنوارا، وظلّ جنابك على بنيهم ومخلّفيهم أندى آصالا وأبرد أسحارا. نعى إلىّ- أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك! - الوزير

أبو فلان، بردّ الله ثراه، وكرّم مثواه؛ فكأنّما طعن ناعيه فى كبدى، وظعن باكيه بذخيرة جلدى. لا جرم أنّى دفعت إلى غمرة من التّلدّد لو صدم بها النجم لحار، أودهم بها الحزم لخار؛ ثم ثابت إلىّ نفسى وقد وقذها الجزع، وعضّها الوجع؛ فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشّعاع، وها أنا عند الله أحتسبه جماع فضائل، وجمال محافل؛ وحديقة مكارم صوّحت، وصحيفة محاسن درست وانمحت. وما اقتصرت من رسم التعزية المألوف، على القليل المحذوف؛ إلا لعلمى بأن المعزّى لا يورد عليك غريبا، ولا يسمعك من مواعظه عجيبا؛ فبك يقتدى اللّبيب، وعلى مثالك يحتذى الأديب، وإلى غرضك فى كل موطن يوفى [1] المصيب؛ وفى تجافى الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك؛ ما يدعو إلى حسن التعزية. لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك. ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى: ورد الخبر بمصرع فلان الذى عزّ على المعالى، وعزّيت به الليالى؛ وسقط به نجم الشرف وهوى، وجفّ به روض الكرم وذوى؛ ونقصت الأرض من أطرافها، ورجفت الجبال من أعرافها؛ وبكت عليه السماء فإنّ يده كانت من سحبها، وتناثرت له النجوم فإنّ عزمه كان من شهبها؛ واظلمت فى عينى الدنيا الظالمة، وتجرّعت منها كأسا لا تسيغها النفس كاظمة؛ وتقسّمت الأيام فريقين فى مودّتى وعداوتى، فآها على السالفة ولا مرحبا بالقادمة؛ وأصبحت أخوض الماء وأحشائى تتقطّع غليلا، وأرى الناس كثيرا بعينى وبقلبى قليلا. وما النّاس فى عينىّ إلّا حجارة ... لبينك والأعراس إلا مآتم

_ [1] كذا بالأصول. ولعله محرف عن: «يرمى» .

فقد استوحشت الدنيا لفقده، وارتابت بنفسها من بعده، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده؛ وانصرف ذوو الأبواب عن بابه، واجتنبت الآمال مغنى جنابه، وبكت الرياض على آثار سحابه. فإن يمس وحشا بابه فلربّما ... تناطح أفواجا عليه المواكب ومن إنشائه أيضا رحمه الله تعالى: ما شككت- أطال الله بقاءك- حين ورد النعى بالمصائب التى قصمت الظهور بمكروهها، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها؛ أنّ السماء على الأرض قد انطبقت، وأنّ الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت؛ والحياة لم يبق فى طولها طائل، والصبر بهجير اللوعة ظلّ منسوخ زائل؛ وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها؛ وغاب الإسلام قد غاب منه أىّ ليث، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أىّ غيث. فإنّا لله وإنا اليه راجعون، رضا بحكمه، وتجلّدا على ما رمى به الحادث من سهمه، وطبّا للقلوب على مضض البلاء وكلمه، وفرارا من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه. وسقى الله ذاك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحاب كصوب يديه، ورحمه رحمة تحفّ بجانبيه. وآها للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح، ثم آها للصباح الطّلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح؛ ووا أسفا لتلك الذخيرة التى فذلكت بها الأيّام ذخائرى، والسريرة التى طالما صنتها أن تمرّ بسرائرى؛ شفقا عليها من سهام دهر بالذخائر مولعة، وسترا لها من عين زمان على السرائر موقعة. ولئن صحب قلبى بعده أضلعى، وتحمّلت بعد فقده على ظلعى؛ فإنّا غدا على أثره، وإن كنّا اليوم على خبره. وقصر الحياة الى قصور، كما أن محصول غرورها غرور. والتأدّب بأدب الله أولى ما خفّف به المسلوب عن منكبه، وطريق السّلوان لابدّ أن يراجعه عزم منكبّه. فأنشدها الله إلا جعلت مصيبتها مصيبة على الشامت بما تلبسه من صبر يلبس عليه

المصيبة فيشبّهها بنعمة، وبما تستشعره من تجلّد فى النازلة ينزل عليها صلوات من ربّها ورحمة. ولن ترى أعجب من مصاب لا ترى به إلا مصابا، وساكن ترب لم يبق بعده إلا من سقى بدمعه ترابا؛ اشترك فيه الأمّتان العرب والعجم، وعزّى به العزيزان المجد والكرم، واستباح الدهر به الصيد فى الحرم. وتشابه الباكون فيه فلم يبن ... دمع المحقّ لنا من المتعمّل وكتب أيضا فى مثل ذلك: أخّرت مكاتبة الحضرة- مدّ الله فى عمرها وفى صبرها وفى أجرها، وألهمها التسليم لحكم من هو غالب على أمرها- إلى أن تنقضى نبوة الخطب، وتضع الأنفاس أوزارها للحرب، ويخرج ماء الجفن نار القلب؛ وتراجع الخواطر إلى عاداتها، وتنظر فى الدنيا التى ما صحبت إلا على عادياتها ومعاداتها؛ فتكون الحضرة عرفت من غير تعريف، ووقفت على الحزم من غير توقيف؛ وتوفّر عليها الثواب بغير مشارك، ورجعت إلى فهم مدرك وصواب مدارك. وتأخير التعزية عن البادرة خلاف ما شرع فيها، ولكن إنما يحتاج أن يثبّت من صبره هاف، ويرمّ من تجلّده عاف. وقد علم الله اهتمامى واغتمامى بفقد شيخها رحمه الله وعدمها منه من لا عوض عنه إلا ثواب الله الذى يهوّن الوقائع، ويوطّن على الروائع. وأسباب التعزية غير واحدة، منها أنه إنما درج فى السنّ التى هى معترك المنايا، ومنها أنه ما خرج عن الدنيا الى أن رأى منها خلفا يهوّن الرزايا؛ ومنها أنه لقى الله بعمل صالح هو بمشيئة الله نجاته، ومنها أنه فارقها على الرضا عنها ويكفيها مرضاته، وعلى الدعاء المقبول لها ونعمت الجنن دعواته. ولكن للألّاف لا بدّ حسرة ... إذا جعلت أقرانها تنقطع ومنها أن الحزن لو أطيع والحزم لو أضيع لما أفضى إلى مراد، ولا أعاد ميّتا قبل المعاد. وأحقّ متروك ما يأثم طالبه، ويؤجر مجانبه.

عن الدهر فاصفح إنه غير معتب ... وفى غير من قد وارت التّرب فاطمع والحضرة تعلمنى من لا حقة رجوعها إلى الله بعد الاسترجاع، ومن تسليم خاطر الحزن إلى حكم الله ما يسرّ خاطر الاستطلاع؛ وحسبه- أبقاه الله تعالى- من كل هالك، ولا يجزع المحاسب من فذالك، ومثله من أخذ بعزائم الله فيما هو آخذ وتارك. جبر الله مصابه، وعظّم ثوابه، وسقى الماضى وروّى ترابه، ولا تذهب النفس حسرة لما شهدت العين ذهابه. وتخطّفته يد الرّدى فى غيبتى ... هبنى حضرت فكنت ماذا أصنع ومن إنشاء الشيخ ضياء الدين أحمد بن محمد القرطبىّ ما كتب به الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ يعزّيه فى مملوك توفّى له، وكان الصاحب قد جزع لفقده. ابتدأ كتابه بأن قال: فدى لك من يقصّر عن مداكا ... فلا أحد إذا إلا فداكا إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة، وسنّة فى الأسى مستحسنة؛ وإنما الأنفس ودائع مستودعة، وعوار مسترجعة، ومواهب بيد الفناء مستنزعة. فالعمر نوم والمنيّة يقظة ... والمرء بينهما خيال سارى وما برح ذوو العزمات يتلقّون واردات المصائب بصبرهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. وإنّ يد الله لمليّة بفيض المواهب، وفى الله عوض من كل بائن وخلف من كل ذاهب. وإذا سلم مولانا فى نفسه وولده، فلا بأس إذا تطرّقت يد الردى إلى ملك يده. فأنت جوهرة الأعناق، ما ملكت ... كفّاك من طارف أو تالد عرض

والحمد لله الذى جعل المصيبة عندك لا بك، والرزيّة لك لا فيك. إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا واذا تخطّتكما المنيّة فلها فى سواكما الخيار، ولنا القدح المعلّى إذا أورى زند هذا الاختيار. ولا بدّ فى مشرع المنيّة من مفقود وفاقد. كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد وهذا فقد وهبه الله لمولانا من حيث إنه أخذه منه، وأبقاه له من حيث رآه ذاهبا عنه؛ فهو بالأمس عارية مردودة، واليوم ذخيرة موجودة؛ وكان عطيّة مسلوبة وهو الآن نعمة موهوبة؛ كنت له وهو الآن لك، وفزت به والسعيد من فاز بما ملك. وهذه دار دواؤها داؤها، وبقاؤها فناؤها؛ طالبها مطلوب، وسالبها مسلوب؛ وإن لنا فيمن سلف لعزاء، ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء؛ ولا بدّ من ورود هذا المشرع، وملاقاة هذا المصرع. ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن بعض النوّاب إلى الأمير عزّ الدّين الحموىّ النائب- كان بدمشق- تعزية بولده: أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم العالى، ولا هدمت له الخطوب ركنا، ولا فجأت له الحوادث حمّى ولا طلبت عليه إذنا، ولا هصرت أيدى الأقدار من عروشه الناضرة غصنا، ولا أذاقته الأيّام بعد ما مرّ أسفا على من يحبّ ولا حزنا، ولا سلبه الجزع رداء الصّبر الذى يخصّه بجزيل الأجر وإن شركه فى الأسى والأسف كلّ منا. المملوك يقبّل اليد الكريمة، وينهى أنه اتّصل به النبأ الذى صدع قلبه، وشغل بالبكاء طرفه وبالأسف لسانه وبالحزن لبّه؛ وهو ما قدّره الله تعالى من وفاة المولى الأمير ركن الدين عمر- تغمده الله برضوانه- الذى اختار الله له ما لديه، وارتضى له البقاء

الدائم على الفانى فنقله إليه؛ على أن الدين فقد منه ركنا شديدا، ورأيا سديدا، وعزما وحزما معينا مفيدا، وأميرا أردنا أن يعيش سعيدا، فأبى الله إلا أن يموت شهيدا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان للرجاء فى اعتضاد الدولة القاهرة به أىّ مجال، وللآمال فى الانتظار ببأسه ظنون تحقّق أن الغلبة للدّين دائما مع أن الحروب سجال؛ وللمواكب بطلوع طلعته أىّ إشراق، وللعيون عن مشاهدة كماله وأبهة جلاله أىّ إغضاء وأىّ إطراق. ولله أىّ بدر هوى من أفق بروجه [1] عن فلك، وأىّ شمس ما رأته الجوارى الكنّس إلا قلن: حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك؛ وأىّ حصن كانت منه ثمار الشجاعة تجتنى، وأىّ أسد براثنه الصوارم وأجماته القنا. لقد فتّ فى عضد الدين مصابه، وأذهب صحّة الأنس به وحلاوة وجوده أوصاب فقده وصابه؛ وكادت الصوارم أن تشقّ عليه غمودها، والرّايات أن تقطّع عليه ذوائبها وتغيّر بنودها، والرماح أن تعرض على النار لتقصف لا لتثقّف قدودها؛ والجياد أن تتعثّر للحزن بذيولها، وتعتاض بالنّوح عن صهيلها. ولو أنصف لأكنّته القلوب فى ضمائرها، ولو قبل الفداء لسمحت فيه النفوس بالنفائس ولو كانت الحياة من ذخائرها؛ أو لو كان الحتف مما يدافع بالجنود تحطّمت دونه القنا فى دروع عساكرها، ولكنه السبيل الذى لا محيد عن طريقه، والمعرّس الذى لا بدّ لكل حىّ من النزول على فريقه؛ وهو الغاية التى تستنّ إليها النفوس استنان الجياد، والحلبة التى كنّا نحن وهذا الدارج نركض إليها ولكنّ السابق كان الجواد؛ على أن المتأخّر لا بدّ له من اللّحاق، وماذا عسى يسرّ البدر بكماله وهو يعلم أن وراءه المحاق! وفى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يعلم أن كلّ رزء بعده جلل، وإذا انتقل العبد إلى الله تعالى غير مفتون فى دينه ولا مثقل الظهر من الأوزار حمد فى غد ما فعل؛ وغبط بقدومه

_ [1] فى الأصل: «من أفق سروجه» .

على أكرم الأكرمين مسرورا، ولقى الله وقد جعل فى قلبه نورا وفى سمعه نورا وفى بصره نورا. والمولى أعزه الله تعالى أولى من تلقّى أمر الله بالتسليم والرضا، وقابل أقداره بأن الخيرة فيما قدّر وقضى؛ وحمد الله على ما وهب من بقاء إخوته الذين فيهم أعظم خلف، وأجمل عوض يقال به للدّهر الذى اعتذر بدوام المسرّة فيهم: عفا الله عمّا سلف؛ وعلم أنّ الخطب الذى هدّ ركن الدين باحترابه واجتراحه، قد صرفه إلى الأمد عن الإلمام بساحة شهابه والتعرّض إلى حمى فخره والنظر إلى حىّ صلاحه؛ ففى بقائهم ما يرغم العدا، ويعزّ حزب الهدى؛ ويقيم كلّا منهم فى خدمة الدولة القاهرة بين يدى المولى مقام الشّبل المنتمى للأسد، وينهضهم من مصالح الإسلام مع ما يعلمه منهم من حسن الثّبات من الوالد وسرعة الوثبات من الولد. والله تعالى يجزل له من الأجر أوفاه، ويحفظ عليه- وقد فعل- أخراه؛ ويجعله للإسلام ذخرا، ولا يسمعه مع طول البقاء بعدها تعزية أخرى. ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء فى رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها: ألا يا صخر إن أبكيت عينى ... لقد أضحكتنى دهرا طويلا دفعت بك الجليل وأنت حىّ ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقالت أيضا فيه: الا هبلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر! وماذا يوارى القبر تحت ترابه ... من الجود! يا بؤس الحوادث والدهر! فشأن المنايا إذ أصابك ريبها ... لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى

وقالت: يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأبكيه لكلّ غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وما يبكون مثل أخى ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسّى وقالوا: أرثى بيت قالته العرب قول متمّم بن نويرة فى أخيه مالك، وكان قد قتله خالد بن الوليد فى الرّدّة. وكان متمم قدم العراق، فأقبل لا يرى قبرا إلا بكى؛ فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكى على قبر بالعراق! فقال: لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقى لتذراف الدموع السّوافك أمن أجل قبر بالملا أنت نائح ... على كلّ قبر أو على كلّ هالك وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللّوى فالدّكادك فقلت له: إن الشّجا يبعث الشجا ... فدعنى فهذا كلّه قبر مالك معناه قد ملأ الأرض مصابه عظما، فكأنه مدفون بكلّ مكان. وهو أبلغ ما قيل فى تعظيم ميّت. وقيل أرثى بيت قالته العرب قول المحدث: على قبره بين القبور مهابة ... كما قبلها كانت على صاحب القبر وقيل: بل قول الآخر: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر وقالوا: بل بيت غيره: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما وقال الأصمعى: أرثى بيت قالته العرب قول الشاعر: ومن عجب أنّ بتّ مستشعر الثّرى ... وبتّ بما زوّدتنى متمتّعا ولو أننى أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتى ننطوى فى الثرى معا

ومن أحسن الرثاء قول حسين بن مطير الأسدىّ: ألمّا بمعن ثم قولا لقبره: ... سقتك الغوادى مربعا ثم مربعا فتى عيش فى معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا أيا قبر معن كنت أوّل حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة مضجعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا! بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا ولمّا مضى معن مضى الجود والنّدى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا قال أبو هلال العسكرىّ: هذه الأبيات أرثى ما قيل فى الجاهلية والإسلام. وقال بكر بن النّطّاح يرثى معقل بن عيسى: وحدّثنى عن بعض ما قال أنه ... رأت عينه فيما ترى عين نائم كأن النّدى يبكى على قبر معقل ... ولم تره يبكى على قبر حاتم ولا قبر كعب إذ يجود بنفسه ... ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم فأيقنت أن الله فضّل معقلا ... على كل مذكور بفضل المكارم وقال آخر: لعمرك ماوارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثيابا وأعظما ومثله لمنصور النّمرىّ: فإن تك أفنته الليالى وأوشكت ... فإن له ذكرا سيبقى اللياليا وقال التميمىّ فى منصور بن زياد: أمّا القبور فإنّهنّ أوانس ... بفناء قبرك والدّيار قبور عمّت صنائعه فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلّهم مأجور يثنى عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير

ردّت صنائعه إليه حياته ... فكانه من نشرها منشور فالناس مأتمهم عليه واحد ... فى كل دار رنّة وزفير وقال ابن القزّاز المغربىّ: سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتى ... ولا أنّ وجدى فيك كفء تندّمى وقلّ لعينى أن تفيض دموعها ... عليك ولو أنّ الذى فاض من دمى وقال الخريمىّ وأعددته ذخرا لكلّ ملمّة ... وسهم الرّزايا بالذخائر مولع وإنى وإن اظهرت منّى جلادة ... وصانعت أعدائى عليه لموجع ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع وقال أبو هلال العسكرىّ: على الرغم من أنف المكارم والعلا ... غدت داره قفرا ومغناه بلقعا ألم تر أنّ البأس أصبح بعده ... أشلّ وأن الجود أصبح أجدعا فمرّا على قبر المسوّد وانظرا ... إلى المجد والعلياء كيف تخشّعا فإن يك واراه التراب فكبّرا ... على الجود والمعروف والفضل أربعا ولا تسأما نوحا عليه مكرّرا ... ونوحا لفقد العارفات مرجّعا فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تضعضعا ولا تحسبا أنّى أواريه وحده ... ولكنّنى واريته والنّدى معا وقال أيضا: ألست ترى موت العلا والفضائل ... وكيف غروب النجم بين الجنادل! فما للمنايا أغفلت كلّ ناقص ... ونقّبن فى الآفاق عن كلّ فاضل! على الرغم من أنف العلاسيق للرّدى ... بكل كريم الفعل حر الشمائل

على أنّ من أبقته ليس بخالد ... وليس امرؤ يرجو الخلود بعاقل رأيت المنايا بين غاد ورائح ... فما للبرايا بين ساه وغافل! ولم أر كالدنيا حبيبا مضرّة ... ولم أر مثل الموت حقّا كباطل وقال الرّقاشىّ فى البرامكة: ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وقلّ الذى يحدى ومن كان يحتدى فقل للمطايا: قد أمنت من السّرى ... وطىّ الفيافى فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفرى من بعده بمسوّد وقل للعطايا بعد فضل: تعطّلى ... وقل للرزايا كل يوم: تجدّدى ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا ... أصيب بسيف هاشمىّ مهنّد وقال آخر: سأبكيك للدّنيا وللدّين، إننى ... رأيت يد المعروف بعدك شلّت ربيع إذا ضنّ الغمام بمائه ... وليث إذا ما المشرفيّة سلّت وقال عبد الله بن المعتزّ: ألست ترى موت العلا والمحامد ... وكيف دفنّا الخلق فى قبر واحد وللدّهر أيّام يسئن عوامدا ... ويحسنّ إن أحسنّ غير عوامد وقال أبو الطيّب المتنّبى: إنى لأعلم- واللبيب خبير- ... أن الحياة وإن حرصت غرور ما كنت أعلم قبل دفنك [1] فى الثرى ... أن الكواكب فى التّراب تغور خرجوا به ولكلّ باك حوله ... صعقات موسى يوم دكّ الطّور

_ [1] كذا فى ديوان المتنبى طبع مطبعة هندية سنة 1898. وفى الأصل: «قبل تنزل فى الثرى» على حذف أن المصدرية.

حتى أتوا جدثا كأنّ ضريحه ... فى قلب كلّ موحّد محفور نبكى عليه وما استقرّ قراره ... فى اللحد حتى صافحته الحور ومنها: صبرا على المكروه [1] فيه تكرّما ... إنّ العظيم على العظيم صبور ولكلّ مفجوع سواكم مشبه ... ولكلّ مفقود سواه نظير وقال آخر: كفى حزنا أنّى تخلّفت بعده ... أدور مع الباكين فى عرصاته وصارت يمينى ما حلفت بقبره ... وكانت يمينى قبلها بحياته وقال آخر: وكنت أخاف الدّهر ما كان باقيا ... فلما تولّى مات خوفى على الدّهر وقال آخر: ولما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر وإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر وقال آخر: فو الله لو أسطيع قاسمته الرّدى ... فمتنا جميعا أو يقاسمنى عمرى ولكنما أرواحنا ملك غيرنا ... فما لى فى نفسى ولا فيه من أمر أحمّله ثقل التّراب وإننى ... لأخشى عليه الثقل من موطئ الذّرّ وما انا بالوافى وقد عشت بعده ... وربّ اعتراف كان أبلغ من عذر وقال آخر: يا راحلا لم يبق لى ... من بعده فى العيش نفعا

_ [1] فى الديوان: «صبرا بنى إسحاق فيه تكرما» .

ضاقت علىّ الأرض في ... ك وضقت بالإخوان ذرعا ورعيت فيك النّجم يا ... من كان يحفظنى ويرعى أبكيك بالشعر الذى ... قد رقّ حتى صار دمعا وقال تاج الملوك بن أيّوب يرثى أخاه: لو كان يشفى الدمع غلّة واجد ... لشفى غليلى فيض دمعى الهامر هيهات لا برد الغليل وقد ثوى ... من كان من عددى وخير ذخائرى يا للرّجال لنكبة قد أذهبت ... جلد الجليد وحسن صبر الصابر طرقت فتى الملك المعظّم فانثنى ... من بعد بهجته كربع داثر ومنها: جبل هوى فارتجّت الدنيا له ... فكأنما ركبت جناحى طائر ومنها: من للنّوائب يوم تفترس الورى ... قسرا بأنياب لها وأظافر أضحى وحيدا فى التراب كأنّه ... ما سار بين مواكب وعساكر قد كان لا تعصى البريّة أمره ... فانقاد ممتثلا لأمر الآمر مولاى دعوة واله غادرته ... وقفا على نوب الزمان الغادر هل من سبيل للزيارة عندها ... هيهات حال الموت دون الزائر لو كان خصمك غير حادثة الرّدى ... لرددته بذوابل وبواتر أو كان يدرك ثأر من أودى به ... ريب المنون لكنت أوّل ثائر لكنّه الموت الذى قهر الورى ... من حيث لا تثنيه قدرة قادر وقال كمال الدين بن النبيه يرثى الأمير على ابن الخليفة الناصر لدين الله: الناس للموت كخيل الطّراد ... فالسابق السابق منها الجوادّ

والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذى العباد والموت نقّاد، على كفه ... جواهر يختار منها الجياد والمرء كالظلّ ولا بدّ أن ... يزول ذاك الظلّ بعد امتداد لا تصلح الأرواح إلّا إذا ... سرى إلى الأجسام هذا الفساد أرغمت يا موت أنوف القنا ... ودست أعناق السيوف الحداد كيف تخرّمت أميرا وما ... أنجده كلّ طويل النّجاد مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنما فى كلّ قلب زناد نازلة عمّت فمن أجلها ... سنّ بنو العباس لبس السّواد مأتمة فى الأرض لكن لها ... عرس على السبع الطّباق الشّداد طرقت يا موت كريما فلم ... يقنع بغير النفس للضيف زاد قصمته من سدرة المنتهى ... غصنا فشلّت يد أهل العناد يا ثالث السّبطين خلّفتنى ... أهيم من همّى فى كلّ واد يا نائما فى غمرات الرّدى ... كحلت اجفانى بميل السّهاد ويا ضحيع التّرب أسقمتنى ... كأنما فرشى شوك القتاد دفنت فى الترب ولو أنصفوا ... ما كنت إلا فى صميم الفؤاد خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهى البيت وأنت العماد فى العلم [1] والحلم بكم يقتدى ... إذا دجا الخطب وضلّ الرشاد وأنت لجّ البحر ما ضرّه ... أن سال من بعض نواحيه واد ولما مات الإخشيد محمد بن طغج رثاه جماعة من الشعراء منهم محمد بن الحسن ابن زكريا فقال:

_ [1] كذا فى ديوان ابن النبيه طبع مصر. وفى الأصلين: «فالعلم والحلم» .

فى الرزايا روائع الأوجال ... والبرايا دريئة الأجال وكذا الليل والنهار اعتبار ... للورى فى تفكّر الأحوال كلّ شىء وإن تمادى مداه ... قصره للفناء أو للزّوال وأرى كلّ عيشة لأناس ... كونها مؤذن بوشك انتقال كل ذى جدّة- إذا ما الجديدا ... ن ألّحا عليه- مود بال ما لخلق من المنون مفرّ ... لا ولا دون بطشها من مآل كان [1] غيث الأيّام إن أخلف الغي ... ث أطلّت سحابه بانهمال فجعتنا بواهب لا نراه ... يخلق الوجه عنده بابتذال فجعتنا ببهجة الأرض فى الأر ... ض وشمس الضّحى وبدر اللّيالى فجعتنا بمن حمى حرمة الإس ... لام من حادث ومن ختّال فجعتنا بالباسل البطل السا ... مى غداة الوغى إلى الأبطال فجعتنا بالواهب المجزل المر ... تاح حين السؤال للسّؤال عجب إذ دنت إليه المنايا ... وحمى عزّه المنيع العالى أين من يشترى المدائح والشك ... ر بأسنى وفر وأوفى نوال قطع الموت وصلنا منه كرها ... والردى قاطع لكل اتّصال رحمة الله والسلام عليه ... فى الضّحى والعشاء والاصال وسقى الله حفرة ضمّنته ... شكر واه من الحيا هطّال ثم خرج من الرثاء إلى مدح ابنه فقال: إن خبا بدره فقد لاح للأمّ ... ة لمّا خبا طلوع الهلال نوره مشرق مضىء مدى الده ... ر منير وليس ذا اضمحلال

_ [1] فى الأصول: «كل» .

وقال أبو الطيب المتنبّى يرثيه: هو الزمان مشتّ بالذى جمعا ... فى كل يوم نرى من صرفه بدعا لو كان ممتنع تغنيه منعته ... لم يصنع الدهر بالإخشيد ما صنعا ذاق الحمام فلم تدفع كتائبه ... عنه القضاء ولا أغناه ما جمعا لقد نعى من نعاه كلّ مفتخر ... وكلّ جود لأهل الأرض حين نعى لله ما حلّ بالإسلام حين ثوى! ... لقد وهى شعب هذا الدّين فآنصدعا فمن تراه يقود الخيل ساهمة ... سدّ الفضاء وملء الأرض ما وسعا ترى الحتوف غلوقا فى أسنّته ... لدى الوغى وشهاب الموت قد لمعا لو كان يسطيع قبر ضمّه لسعى ... إليه شوقا ليلقاه وإن شسعا فليعجب الناس من لحد تضمّن من ... تضمّن الرزق بعد الله فاضطلعا لو يعلم اللحد ما قد ضمّ من كرم ... ومن فخار ومن نعماء لاتّسعا يا لحده إن تضق عنه فلا عجب ... فيه الحجا والنّهى والبأس قد جمعا يا لحد طل إنّ فيك البحر محتبسا ... واللّيث منهصرا والجود مجتمعا يا يومه لم تخصّ الفجع أسرته ... كلّ الورى بردى الإخشيد قد فجعا يا يومه لم تدع صبرا لمصطبر ... ولم تدع مدمعا إلا وقد دمعا اردى الرّفاق ردى الإخشيد فآنقرضوا ... فما ترى منهم فى الأرض منتجعا يأيها الملك المخلى مجالسه ... أحميت أعيننا الإغماض فامتنعا ومنها: لئن مضيت حميد الأمر مفتقدا ... لقد تركت حميد الأمر متّبعا ثم خرج من الرثاء إلى مدح ولد الإخشيد: ثبت الجنان فلا نكس ولا ورع ... تلقاه مؤتزرا بالحزم مدّرعا

أعطت أبا القاسم الأملاك بيعتها ... ولو أبت أخذت أسيافه البيعا وانقاد أعداؤه ذلّا لهيبته ... وظلّ متبوعهم من خوفه تبعا أضحت به همم الغلمان عالية ... كأنّ مولاهم الإخشيد قد رجعا وقال مهلهل بن يموت يرثيه أيضا: أىّ عزّ مضى من الإسلام! ... أىّ ركن أضحى حديث انهدام! ذاق موتا محمد بن طغج ... هو ليث الشّرى وغيث الغمام فقد الناس مولى الإنعام ... فهم سائمون كالأنعام مات ربّ العلا وراعى الرعايا ... والسرايا وكافل الأيتام أين ما كنت فيه من عزّك البا ... ذخ والمرتقى عزيز المرام! أين ذاك الحجاب والملك والهي ... بة أين الزّحام وقت الزّحام! من أمير وقائد وخطير ... ورئيس وماجد وهمام كلّهم مطرق لديك من الهي ... بة خوف الإجلال والإعظام أين تلك الخيام حولك إن عرّ ... ست والأسد حول تلك الخيام من عديد وعدّة لك ما بي ... ن قعود فيها وبين قيام لم يطق جمعهم دفاع الرّدى عن ... ك ولم يمنعوك منع اعتصام أسلمتك الخيول قسرا وقد كن ... ت عليها سورا على الإسلام خانك السيف وهو يصدر عن أم ... رك مستعديا بغير احتجام خذل الرمح وهو عونك لوحا ... ن لقاء وثار نقع قتام لم تردّ القسىّ عنك سهام ال ... حتف والحتف عندها فى السهام ما وقتك الحراب حرب المنايا ... حين وافاك جيشها من أمام

لم يحصّنك ما اقتنيت من الآ ... لات من جوشن ولا من لام [1] حكم الموت فيك من بعد ما كن ... ت ترى حاكما على الحكّام فقدتك الفسطاط وجدا مدى الده ... ر ومن بعدها بلاد الشام فجعت يثرب ومكّة والبي ... ت إلى زمزم أجل والمقام عمّ فيك المصاب فاشترك العا ... لم فى الرّزء منه والآلام حسبنا الله عزّ من حكم يج ... رى على الحاكمين بالأحكام كلّ شىء إلى زوال، ومن ذا ... نال ملك الدنيا بغير اخترام أين أين الملوك فى سالف الدّه ... ر دهتهم حوادث الأيّام أين من قد كانوا يخافون فى البأ ... س ويرجون للعطايا الجسام ليس يبقى إلا الإله تعالى ... من له الملك ثابتا بالدّوام أيّهذا الأمير بل يا أبا القا ... سم يابن السّميدع القمقام ارض حكم الإله فى الملك الما ... ضى وسلّم لنافذ الأحكام وهناك الذى بلغت من الأم ... ر وما حزته بحسن انتظام ما كمثل الذى رزئت ولا مث ... ل الذى قد ملكت فى ذا العام أنت مثل الإخشيد فانهض بما ملّ ... كت بالجدّ منك والإعتزام وقال بعض الشعراء يرثى الوزير يعقوب بن كلّس وزير العزيز بن المعزّ خليفة مصر: إن التصبر فى الأمور جميل ... إلا عليك فما إليه سبيل يا حاملا ثقل العلا وكأنه ... لعلوّ همّته بها محمول يا واهبا فوق المنى وكأنه ... لسخائه مما يجود بخيل

_ [1] لام: مخفف «لأم» جمع «لأمة» وهى الدرع.

جاء منها: يا ترب لا تأكل لسانا طالما ... والى به التحميد والتهليل يا ترب لا تعنف بكفّ طالما ... قد كان يؤلم ظهرها التقبيل ومنها: يا دهر تعلم ما جنيت على الورى؟! ... خطب لعمرك إن علمت جليل ما كان ضرّك لو مهلت بمثله ... يا دهر إنك بعدها لعجول ومن المراثى المشهورة التى عنى بها، واتصلت أسباب الشارحين بسببها، المرثية العبدونيّة التى نظمها الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون يرثى بها بنى مسلمة المعروفين ببنى الأفطس، وهى من أمهات القصائد ووسائط القلائد؛ فإنه ذكر فيها عدّة من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممن أبادهم الدهر بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جنّة تقيهم من وثباته؛ ودبّت [عليهم [1]] الأيام بصروفها، وسقتهم المنيّة بكأس حتوفها. وها نحن نذكرها ونزيدها تبيانا بشرح من استبهمت أخباره، وخفيت على المطالع آثاره. وأوّل القصيدة: الدّهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة ... عن وقفة بين ناب الليث والظّفر فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... فالبيض والسّمر مثل البيض والسّمر ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضّراب وبين الصارم الذّكر فلا تغرّنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السّهر

_ [1] زيادة يقتضيها السياق.

ما للّيالى- أقال الله عثرتنا ... من اللّيالى وخانتها يد الغير- فى كلّ حين لها فى كلّ جارحة ... منّا جراح وإن زاغت عن البصر تسرّ بالشىء لكن كى تغرّ به ... كالأيم [1] ثار إلى الجانى من الثمر كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها! وسل ذكراك من خبر هوت «بدار:» وفلّت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأملاك ذا أثر «دارا» الذى ذكره هو دارا بن دارا آخر ملوك الفرس؛ وقاتله الإسكندر. وسنذكر إن شاء الله أخبارهما فى فنّ التاريخ. واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبنى يونان من أثر «بنو ساسان» هم الفرس الأخر ولهم دولة مشهورة انقرضت فى الإسلام. و «بنو يونان» أيضا من الملوك أرباب الدول المشهورة، ومن مشاهير ملوكهم الإسكندر بن فيلبس. وسترد إن شاء الله أخبارهم. وأتبعت أختها طسما، وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض المرر أخت «طسم» جديس، وهما أبناء عمّ كثر نسلهما وهم العرب العاربة. وسنذكر أخبارهما إن شاء الله فى وقائع العرب. و «عاد» هم قوم هود. و «جرهم» هو ابن عوف بن زهير بن أنس بن الهميسع بن حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقيل: إن العمالقة من ولد جرهم. أراد بذكرهم أنهم كلّهم أبادهم الموت. وما أقالت ذوى الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوى الغايات من مضر

_ [1] الأيم: الأفعى.

«اليمن» كلّهم باتفاق العلماء بالأنساب من ولد قحطان، ومنهم ملوك نذكرهم إن شاء الله فى التاريخ. و «مضر» بن نزار بن معدّ بن عدنان. وقدّ تقدم ذكرهم فى الأنساب. ومزّقت سبا فى كلّ قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر «سبأ» الذى أشار إليه هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وإنما قيل فيه سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. وكان له عشرة أولاد سكن الشام منهم أربعة وهم: لخم وغسّان وجذام وعاملة، وسكن اليمن منهم ستة: كندة ومذحج والأزد وأنمار [والأشعر وعمرو [1]] ؛ وقد ذكر الله عزّ وجل تمزيقهم بقوله: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . وسنذكر أخبار سيل العرم وسدّ مأرب. وأنفذت فى كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر «كليب» الذى ذكر هو كليب بن ربيعة بن الحارث الذى ضرب به المثل فقيل: «أعزّ من كليب وائل» . وأشار ابن عبدون فى هذا البيت إلى ما كان من قتل جسّاس بن مرّة كليبا وما وقع بين بكر وتغلب من الحروب التى نشرحها إن شاء الله فى وقائع العرب. وقوله: «ورمت مهلهلا بين سمع الأرض والبصر» كأنه أراد ما حكى أنه قتل فى موضع لم يطّلع عليه أحد، وهو مثل؛ يقال: فعل كذا وكذا بين سمع الأرض وبصرها إذا فعله خاليا. ولم تردّ على الضّلّيل صحّته ... ولا ثنت أسدا عن ربّها حجر «الضّلّيل» الذى أشار إليه هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو، والحارث هو آكل المرار؛ وسمّى امرؤ القيس بالضلّيل لأنه ترك ملكه وتوجّه إلى قيصر يطلب منه

_ [1] التكملة عن قلائد الجمان فى التعريف بقبائل عرب الزمان للعلامة القلقشندى مؤلف كتاب صبح الأعشى. وفى الأصل بيان.

جيشا يأخذ به ثأر أبيه من بنى أسد. وإشارته إلى الصحّة لقول امرئ القيس فى قصيدته السينيّة: وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة ... لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه ... ليلبسنى من دائه ما تلبّسا و «الطّماح» رجل من بنى أسد أرسله قيصر إلى امرئ القيس بحلّة مسمومة، فلما لبسها تقطّع ومات بأنقرة. وإشارته إلى أسد لأن بنى أسد كانوا قتلوا حجر ابن الحارث يوم ماقط. ودوّخت آل ذبيان وإخوتهم ... عبسا وعضّت بنى بدر على النّهر أشار إلى ما كان بين عبس وذبيان من الحروب بسبب داحس والغبراء. وسير ذلك فى وقائع العرب إن شاء الله تعالى. وألحقت بعدىّ بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشّعر أراد عدىّ بن أيوب بن زيد مناة بن تميم الشاعر. وأحمر العينين والشعر هو النّعمان بن المنذر. وكان عدىّ هذا ترجمانا لأبرويز وكاتبه بالعربيّة، فلما مات قابوس بن المنذر تلطّف عدىّ وتحيّل على أبرويز حتى ولّى النعمان إمرة العرب وقدّمه على إخوته وكان أدمّهم، ثم اتهمه النعمان أنه وشى به فاحتال عليه حتى ظفر به وحبسه ثم قتله بالعراق؛ فتلطّف ابنه زيد بن عدىّ وتوصّل حتى خدم أبرويز على عادة أبيه، وأوقع بين أبرويز والنعمان حتى قتله أبرويز، على ما يرد إن شاء الله تعالى فى التاريخ. والله أعلم. وأشرفت بخبيب فوق فارعة ... وألصقت طلحة الفيّاض بالعفر أشار إلى خبيب بن عدىّ الأنصارىّ وهو بدرىّ وأسر فى السريّة التى خرج فيها مرثد بن أبى مرثد فانطلق به المشركون إلى مكّة واشتراه حجر بن إهاب التميمىّ

حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن نوفل ليقتله بأبيه، وكان خبيب قتل الحارث أبا عقبة يوم بدر، فصلبه عقبة على خشبة بالتّنعيم وقتله. وطلحة الفيّاض هو طلحة ابن عبد الله التميمىّ أحد العشرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومزّقت جعفرا بالبيض، واختلست ... من غيله حمزة الظّلام للجزر «جعفر» الذى ذكره هو جعفر بن أبى طالب أخو علىّ رضى الله عنهما قتل فى غزوة مؤتة. «حمزة» هو ابن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم أحد قتله وحشىّ غلام جبير بن مطعم؛ وجعله ظلّاما للجزر وصفه بالكرم. وبلّغت يزدجرد الصّين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع التّرك والخزر ولم تردّ مواضى رستم وقنا ... ذى حاجب عنه سعدا فى ابنة الغير «يزدجرد» الذى ذكر هو ابن شهريار آخر الملوك الساسانيّة. ورستم هو الأرمينىّ وهو الذى قاتل سعد بن أبى وقّاص وقتل يوم القادسيّة، على ما ياتى شرح ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى. وخضّبت شيب عثمان دما، وخطت ... إلى الزبير، ولم تستحى من عمر أشار فى هذا البيت إلى مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوّام رضى الله عنهم. وسترد إن شاء الله أخبارهم. وما رعت لأبى اليقظان صحبته ... ولم تزوّده إلا الضّيح فى الغمر «أبو اليقظان» هو عمّار بن ياسر العنسىّ قتل بصفّين وكان مع علىّ؛ وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . ولما قتل كانت الراية يومئذ بيده فعطش فدعا بشربة من الماء فأتى بضيحة [1] فشربها ثم قال: أخبرنى

_ [1] الضيحة: الشربة من الضياح أو الضيح بالفتح فيهما وهو اللبن الرقيق الممزوج بالماء.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللّبن آخر شربة أشربها فى الدنيا؛ فقتل يومئذ رضى الله عنه. وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتى شمر أشقاها هو عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ، أشقاها الذى يخضب هذه من هذه» وأشار إلى لحية علىّ ورأسه. والحسين الذى ذكره هو الحسين بن علىّ. وشمر هو شمر ابن ذى الجوشن وهو الذى أرسله عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يحرّضه على قتل الحسين؛ وقيل: إن شمرا لم يباشر قتل الحسين، والذى قتله سنان بن [1] أنس النّخعى، وشمر فهو المجهز والمحرّض على قتله، فلذلك ذكره. وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر عمرو الذى أشار إليه هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، أمير مصر لمعاوية بن أبى سفيان. وخارجة رجل من سهم بن عمرو. وكان من خبره أن الخوارج كانت قد اجتمعت على قتل علىّ ومعاوية وعمرو، فكان الذى انتدب لقتل عمرو زادويه مولى بنى العنبر، ورصده إلى ليلة المعاد التى اتفقوا على الفتك بهم فيها؛ فاشتكى عمرو تلك الليلة من بطنه ولم يخرج للصلاة واستخلف خارجة ليصلّى بالناس؛ فلما قام فى المحراب وثب عليه زادويه وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله؛ وأخذ زادويه وأدخل على عمرو، فسمع الناس

_ [1] كذا فى الطبرى طبع أوربا (ق 2 ص 362، 366، 367) وابن الأثير طبع أوربا (ج 4 ص 66- 68) . وفى الأصل: «ابن أبى أنس» .

يخاطبونه بالإمرة، فقال: أو ما قتلت عمرا؟ قيل له: [لا [1]] إنما قتلت خارجة؛ فقال: «أردت عمرا وأراد الله خارجة» . فلذلك قال: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة وفى ابن هند وفى ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر ابن هند الذى أشار إليه هو معاوية بن أبى سفيان، أراد ما كان بينه وبين الحسن بن علىّ فى أمر الخلافة. وأراد بالبيت الثانى ما وقع الاختلاف فيه من أن الحسن مات مسموما وأنّ معاوية وعد زوجة الحسن جعدة بنت قيس الكندىّ بمائة ألف درهم ويزوّجها لابنه يزيد إن قتلت الحسن، ففعلت وسمّته. ولما مات الحسن وفّى لها بالمال وقال: حبّ حياة يزيد منعنى تزويجه منك؛ وقيل: مات الحسن حتف أنفه. والله أعلم. وعمّمت بالرّدى فودى أبى أنس ... ولم تردّ الردى عنه قنا زفر أبو أنس هو الضحاك بن قيس الفهرى. يشير إلى ما وقع بينه وبين مروان ابن الحكم بمرج راهط، وكان الضحاك يدعو لابن الزبير فقتل الضحّاك، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار مروان. وكان زفر بن الحارث الكلابىّ مع الضحّاك ففرّ عنه. وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر أشار إلى عبيد الله بن زياد ابن أبيه عامل يزيد بن معاوية على العراق، وهو الذى جهّز عمر بن سعد لحرب الحسين بن علىّ رضى الله عنهما. وقوله «يبؤ بشسع له» أخذه من قول مهلهل حين قتل يجير بن الحارث وقال: بؤبشسع نعل كليب.

_ [1] زيادة من شرح القصيدة العبدونية لابن بدرون، طبع ليدن سنة 1846 م.

وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة ... كانت به مهجة المختار فى وزر [1] أشار إلى مصعب بن الزبير بن العوّام وقتله. والشاهقة هى الكوفة. جعلها شاهقة لمنعتها وكثرة رجالها. وأراد ما كان بين مصعب وعبد الملك بن مروان من الحرب التى قتل فيها مصعب. والمختار الذى ذكره هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود ابن عمرو الثّقفىّ. أشار إلى ما كان بينه وبين مصعب من الحرب وقتل المختار. وسنورد كلّ هذه الوقائع إن شاء الله فى التاريخ. ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... راعت عياذته بالبيت والحجر أراد عبد الله بن الزبير، وكان يسمّى العائذ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت، وقتله الحجّاج بن يوسف الثقفىّ لما وجّهه عبد الملك لحربه. ولم تدع لأبى الذّبّان قاضيه ... ليس اللّطيم لها عمرو بمنتصر أبو الذّبّان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، سمّى بذلك لبخره. وقوله «قاضيه» لأنه كان مظفّرا على أعدائه فإنه غلب من كان يناوئه فى سلطانه مثل عبد الله ومصعب ابنى الزبير، وعمرو بن سعيد، وعبد الرحمن بن الأشعث، ما منهم إلا من قتل وحكم فيه قاضيه وهو سيفه، ولم يغن ذلك عنه لمّا أتته منيّته. وأما اللّطيم فهو عمرو بن سعيد الأشدق، سمّى بذلك لميل كان فى فمه فقيل له من أجله لطيم الشيطان، وقتله عبد الملك بن مروان. وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر الوليد هذا هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الذى يقال له الجبّار العنيد. أشار إلى ظفر يزيد بن الوليد بن عبد الملك به وقتله. و [قوله [2]] :

_ [1] الوزر: الملجأ والمعتصم. [2] من عادته أن يذكر هذه الكلمة. فلعلها سقطت من الناسخ.

.............. .... ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر أراد بذلك ما كان عليه الوليد من الاشتهار باللهو واللّعب. ولم تعد قضب السفّاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر السفّاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو أوّل خلفاء الدولة العباسيّة. يشير إلى ظفره بمروان بن محمد وقتله، وانقراض دولة بنى أميّة وقتلهم على يديه. وأسبلت عبرات للعيون على ... دم بفخّ [1] لآل المصطفى هدر أشار فى هذا البيت إلى ذكر من قتل بفخّ وهم الحسين بن علىّ بن حسن بن حسن بن على، والحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علىّ، وعبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، على ما نذكره فى التاريخ إن شاء الله تعالى. وأشرقت جعفرا والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذّكر أشار فى هذا البيت إلى قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ونكبة البرامكة فى أيام الرشيد. وأخفرت فى الأمين العهد، وانتدبت [2] ... لجعفر بآبنه والأعبد الغدر الأمين هو محمد بن هارون الرشيد. يشير إلى ما كان بينه وبين أخيه المأمون وإلى العهد الذى كان الرشيد كتبه بينهما. وجعفر الذى أشار إليه هاهنا هو المتوكل ابن المعتصم. أراد ما كان من قتل باغر التركى له بمواطأة من ابنه المنتصر، على ما نورده فى أخباره. وروّعت كلّ مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كلّ منصور ومنتصر

_ [1] فخ: واد بمكة. [2] كذا فى شرح القصيدة العبدونية لأبن بدرون. وفى الأصل: «وانتبدت» .

المأمون هو عبد الله بن الرشيد وهو أوّل من لقّب بالمأمون، ولقّب به بعد ذلك ولد من أولاد المعتمد بن عبّاد ويحيى بن ذى النون صاحب طليطلة. والمؤتمن فأوّل من لقب به مروان بن الحكم على قول من يقول إنه كان لبنى أميّة ألقاب، ثم لقّب به القاسم بن الرشيد. وكان الرشيد لما كتب العهد بين الأمين والمأمون جعل ابنه المؤتمن بعد المأمون، وجعل أمر المؤتمن إلى اخيه المأمون إذا أفضت الخلافة إليه إن شاء أمضاه وإن شاء خلعه؛ فلما أفضت الخلافة إلى المأمون أزال المؤتمن فارتاع لذلك. وتلقّب بالمؤتمن محمد بن ياقوت مولى المعتضد صاحب فارس. وتلقّب به سلامة الطّولونى، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبى عامر ثم تسمّى بالمنصور. وأما المنصور فأوّل من لقّب به هشام بن عبد الملك بن مروان على تلك الرواية، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله بن علىّ العباسى، ثم أبو طاهر إسماعيل ابن القائم بن المهدى صاحب إفريقيّة، ثم محمد بن أبى عامر بالأندلس، وتلقّب به ابن زيرى الصّنهاجى، وتلقّب به سابور صاحب بطليوس، وعبد الله بن محمد ابن مسلمة التّجيبىّ، وحفيده يحيى بن محمد بن عبد الله، وعبد العزيز بن أبى عامر؛ ثم تلقّب به جماعة من الملوك بعد نظم هذه المرثية. وأما المنتصر فهو محمد ابن المتوكّل؛ وممّن تلقّب بالمنتصر مدرار بن اليسع صاحب سجلماسة. وكلّ هؤلاء أبادهم الموت. وأعثرت آل عبّاس- لعا لهم- ... بذيل زبّاء [1] من بيض ومن سمر أشار فى هذا البيت إلى ما كان من تغلّب الأتراك والدّيلم على خلفاء الدولة العباسيّة حتى لم يبق لهم إلا اسم الخلافة، على ما سيرد فى أخبارهم. وقوله:

_ [1] الزباء: الداهية الشديدة.

بذيل زباء من بيض ومن سمر تنبيها على كثرة عدد المتغلّبين على الأمر وقدرتهم على السّلاح. ولا وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكّد للمعتزّ من مرر المستعين هو أحمد بن المعتصم العبّاسى. أشار إلى ما كان من قيام المعتزّ على المستعين وهرب المستعين من سامرّا إلى بغداد. والمعتزّ هو أبو عبد الله محمد بن المتوكّل، وسترد أخبارهم إن شاء الله تعالى: وأوثقت فى عراها كلّ معتمد ... وأشرقت بقذاها كلّ مقتدر المعتمد هو أبو العباس بن المتوكّل، وهو أوّل من لقّب بهذا اللقب، وتلقّب به محمد بن عبّاد بإشبيلية. والمقتدر هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وهو أوّل من لقّب بالمقتدر، ثم لقّب به أحمد بن سليمان بن هود الجذامىّ بسرقسطة. ثم أخذ ابن عبدون فى رثاء بنى الأفطس فقال: بنى المظفّر والأيّام ما برحت ... مراحلا والورى منها على سفر سحقا ليومكم يوما ولا حملت ... بمثله ليلة فى مقبل العمر من للأسرّة أو من للأعنّة أو ... من للأسنّة يهديها إلى الثّغر من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضّرر أو رفع كارثة أو دفع آزفة ... أو قمع حادثة تعيا على القدر من للظّبى [1] وعوالى الخطّ قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعىّ والحصر وطوّقت بالثنايا [2] السّود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر

_ [1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من للعدى ... » . [2] كذا فى شرح ابن بدرون طبع ليدن سنة 1846. وفى الأصلين: «فطرّفت بالثنايا ... » . ولعل المراد بالثنايا ما يعلو السيوف من الصدأ لإهمالها بعد موت أصحابها. وفى هامش شرح ابن بدرون إشارة الى أنه فى نسخة أخرى «وطوّقت بالمنايا السود ... » الخ.

ويح السّماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدّين والدّنيا على عمر سقت ثرى الفضل والعبّاس هامية ... تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر ثلاثة ما ارتقى [1] النّسران حيث رقوا ... وكلّ ما طار من نسر ولم يطر ثلاثة ما رأى العصران مثلهم ... فضلا ولو عزّزا بالشمس والقمر ومرّ من كل شىء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر من للجلال الذى عمّت مهابته [2] ... قلوبنا وعيون الأنجم الزّهر أين الإباء الذى أرسوا قواعده ... على دعائم من عزّ ومن ظفر أين الوفاء الذى أصفوا مشاربه ... فلم يرد أحد منها على كدر كانوا رواسى أرض الله منذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر كانوا مصابيحها فمذ خبوا غبرت ... هذى الخليقة يالله فى سدر كانوا شجا الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد فى خطا الخضر من لى ولا من بهم إن أطبقت محن ... ولم يكن وردها يفضى إلى صدر من لى ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر من لى ولا من بهم إن عطّلت سنن ... وأخفتت ألسن الأيام والسّير على الفضائل إلّا الصبر بعدهم ... سلام مرتقب للأجر [3] منتظر يرجو عسى، وله فى أختها طمع ... والدّهر ذو عقب شتّى وذو غير، قرّطت آذان من فيها بفاضحة ... على [4] الحسان حصى الياقوت والدّرر

_ [1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «رقا» . [2] فى شرح ابن بدرون: «غضت مهابته» . [3] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «مرتقب للأمر ... » . [4] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من الحسان ... » .

ومن أجود الرثاء وأصنعه وأتقنه وأبدعه مراثى أبى تمام حبيب بن أوس الطائى؛ فمن ذلك ما قاله يرثى به غالب بن السّعدىّ: هو الدّهر لا يشوى وهنّ المصائب ... وأكثر آمال الرّجال كواذب فيا غالبا لا غالب لرزيّة ... بل الموت لا شك الذى هو غالب وقلت: أخى، قالوا: أخ من قرابة؟ ... فقلت لهم إن الشّكول أقارب نسيبى فى رأى وعزم ومنصب [1] ... وإن باعدتنا فى الأصول المناسب كأن لم يقل يوما: كأنّ، فتنثنى ... إلى قوله الأسماع وهى رواغب [2] ولم يصدع النادى بلفظة فيصل ... سنانيّة فى صفحتيها التّجارب [3] ومنها: مضى صاحبى واستخلف البثّ والأسى ... علىّ، فلى من ذا وهذاك صاحب عجبت لصبرى بعده وهو ميّت ... وكنت امرأ أبكى دما وهو غائب على أنّها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب وقال يرثى محمد بن الفضل الحميرىّ: ريب دهر أصمّ دون العتاب ... مرصد بالأوجال والأوصاب جفّ درّ الدنيا فقد أصبحت تك ... تال أرواحنا بغير حساب لو بدت سافرا أهينت ولكن ... شغف الخلق أنّها فى النّقاب إن ريب الزمان يحسن أن يه ... دى الرّزايا إلى ذوى الأحساب فلهذا يجفّ بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الرّوابى

_ [1] فى ديوان أبى تمام: «ومذهب» . [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «وهى لواعب» . [3] فى الديوان: ولم يصدع النادى بخطبة فيصل ... سنانية قد دربتها التجارب وقال فى الأصل: ويروى، ثم وضع تحت بعض الكلمات ما هو مذكور فى رواية الديوان.

جاء منها: ذهبت يا محمد الغرّ من أيّ ... امك الواضحات أىّ ذهاب عبّس اللحد والثرى منك وجها ... غير ما عابس ولا قطّاب أطفأ اللحد والثرى لبّك المس ... روج فى وقت ظلمة الألباب وتبدّلت منزلا ظاهر الجد ... ب يسمّى مقطّع الأسباب منزلا موحشا وإن كان معمو ... را بجلّ الصديق والأحباب يا شهابا خبا لآل عبيد الله ... أعزز بفقد هذا الشّهاب ومنها: أنزلته الأيّام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله فى الرّكاب حين تمّ الشّباب [1] واغتدت الدن ... يا إليه مفتوحة الأبواب وحكى الصارم المحلّى سوى أنّ ... حلاه جواهر الآداب قصدت نحوه المنيّة حتى ... وهبت حسن وجهه للتراب وقال يرثى إسحاق بن أبى ربعىّ: أىّ ندى بين الثرى والجيوب [2] ... وسؤدد لدن ورأى صليب يا بن أبى ربعىّ استقبلت ... من يومك الدنيا بيوم عصيب شقّ جيوبا من أناس لو اس ... تطاعوا لشقّوا ما وراء الجيوب كنت على البعد قريبا فقد ... صرت على قربك غير القريب راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدى ملاء القلوب قد علمت ما رزئت، إنما ... يعرف فقد الشّمس بعد المغيب

_ [1] فى الديوان: «سامى الشباب» . [2] كذا فى الأصل. وفى بعض نسخ الديوان: «الجنوب» وفى بعض آخر: «الجبوب» . والجبوب: الأرض الغليظة.

إذا البعيد الوطن انتابه ... حلّ إلى نهى وواد خصيب أدنته أيدى العيس من ساحة ... كأنها مسقط رأس الغريب أظلمت الآمال من بعده ... وعرّيت من كل حسن وطيب كانت خدودا صقلت برهة [1] ... واليوم صارت مألفا للشّحوب كم حاجة صارت ركوبا به ... ولم تكن من قبله بالرّكوب حلّ عقاليها كما أطلقت ... من عقد المزنة ريح الجنوب إذا تيمّمناه فى مطلب ... كان قليبا ورشاء القليب ونعمة منه تسربلتها ... كأنها طرّة برد قشيب من اللّواتى إن ونى شاكر ... قامت لمسديها مقام الخطيب متى تنخ ترحل بتفضيله ... أو غاب يوما حضرت بالمغيب فما لنا اليوم ولا للعلا ... من بعده غير الأسى والنّحيب وقال يرثى أحمد بن هارون القرشىّ: دأب عينى البكاء، والحزن دابى ... فاتركينى- وقيت ما بى- لمابى سأجزّى بقاء أيام عمرى ... بين بثّى وعبرتى واكتئابى فيك يا أحمد بن هارون خصّت ... ثم عمّت رزيّتى ومصابى فجعتنى الأيّام فى الصادق النّط ... ق فتى المكرمات والآداب بخليل دون الأخلّاء [لا [2]] بل ... صاحبى المصطفى على أصحابى أفلمّا تسربل المجد واجتا ... ب من الحمد أيّما مجتاب وتراءته أعين النّاظريه ... قمرا باهرا ورئبال غاب

_ [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «صقلت مرة» . [2] التكملة عن الديوان

وعلا عارضيه ماء النّدى الجا ... رى وماء الحجا وماء الشباب أرسلت نحوه المنيّة عينا ... قطّعت منه أوثق الأسباب وقال يرثى أبا الصقر: لو صحّح الدمع لى أو ناصح الكمد ... لقلّما صحبانى الرّوح والجسد خان الصفاء أخ خان الزمان له ... أخا فلم يتخوّن جسمه الكمد تساقط الدمع أدنى ما بليت به ... للوجد إذ لم تساقط مهجة ويد فو الذى رتكت [1] تطوى الفجاج له ... سفائن البرّ فى خدّ الثرى تخد لأنفدنّ أسى إن لم أمت أسفا ... وينفد العمر بى أو ينفد الأمد عنّى إليك فإنى عنك فى شغل ... لى منه يوم سيبلى مهجتى وغد وإن بجريّة [2] نابت جأرت لها ... إلى ذرى جلدى فاستؤهل الجلد هى النوائب فاشجى أوفعى عظة ... فإنها شجر [3] أثمارها رشد هبّى ترى قلقا من تحته أرق ... يحدوهما كمد يعنو [4] له الجسد صمّاء سمّ العدا فى جنبها ضرب ... وشرب كأس الردى فى ظلّها شهد هناك أمّ النّهى لم تود من حزن ... ولم تجد لبنى الدنيا بما تجد لو يعلم الناس علمى بالزمان وما ... عائت يداه لما ربّوا ولا ولدوا لا يبعد الله ملحودا أقام به ... شخص الحجا وسقاه الواحد الصّمد يا صاحب القبر، دعوى غير متّئب [5] ... إن قال أودى النّدى والبدر والأسد

_ [1] رتك (من باب ضرب) : عدا فى مقاربة خطو. [2] فى الديوان: «وإن بجيرية» بالتصغير، والبجرية: الداهية. [3] فى الديوان: «فانها فرض» : جمع فرضة وهى موضع الاستقاء. [4] كذا فى الديوان. ويعنو: يذل ويخضع. وفى الأصل: «يحنو له الجسد» . [5] متئب: مستح أو منخذل.

بات الثرى بأخى جذلان مبتهجا ... وبتّ يحكم فى أجفانى السّهد لهفى عليك وما لهفى بمجدية ... ما لم يزرك بنفسى حرّ ما أجد أمسى أبو الصقر يعفو الترب أحسنه ... دونى ودلو الرّدى فى مائه يرد ويل لأمّك أقصر إنه حدث ... لم يعتقد مثله قلب ولا خلد [1] غال الزمان شقيق [2] الجود لم يقه ... أهل ولم يفده مال ولا ولد حين ارتوى الماء وافترّت شبيبته ... عن مضحك للمعالى ثغره برد وقيل: أحمدها، بل قيل: أمجدها ... بل قيل: أنجدها إن فرّت النّجد رؤد الشباب كنصل السيف لا جعد ... فى راحتيه ولا فى عوده أود سقى الحبيس ومحبوسا ببرزخه ... من السّمىّ كغيث الودق يطّرد بحيث حلّ أبو صقر فودّعه ... صفو الحياة ومن لذّاتها الرّغد بحيث حلّ فقيد المجد مغتربا ... ومورثا حسرات ليس تفتقد وقال يرثى عمير بن الوليد: أعيدى النّوح معولة أعيدى ... وزيدى فى بكائك ثم زيدى وقومى حاسرا فى حاسرات ... خوامش للنّحور وللخدود هو الخطب الذى ابتدأ الرّزايا ... وقال لأعين الثّقلين جودى ألا رزئت خراسان فتاها ... غداة ثوى عمير بن الوليد ألا رزئت بمسئول منيل ... ألا رزئت بمتلاف مفيد ألا إنّ النّدى والجود حلّا ... بحيث حللت من حفر الصّعيد بنفسى أنت من ملك رمته ... منيّته بسهم ردّى سديد

_ [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل «حلد» . [2] فى الديوان: «رضيع الجود» .

تجلّت غمرة الهيجاء عنه ... خضيب الوجه من دمه الجسيد فيابحر المنون ذهبت منه ... ببحر الجود فى السّنة الصّلود ويا أسد المنون فرست منه ... غداة فرسته أسد الأسود أبا لبطل النّجيد فتكت [1] منه ... نعم وبقاتل البطل النّجيد تراءى للطّعان وقد تراءت ... وجوه الموت من حمر وسود فيالك وقعة جللا أعادت ... أسى وصبابة جلد الجليد ويا لك ساعة أهدت غليلا ... الى أكبادنا أبد الأبيد ألا أبلغ مقالتى الإمام ال ... خليفة والأمين بن الرشيد بأن أميرنا لم يأل عدلا ... ونصحا فى الرّعايا والجنود أفاض نوال راحته عليهم ... وسامح بالطّريف وبالتّليد وأضحى دونهم للموت حتى ... سقاه الموت من مقر هبيد [2] وما ظفروا به حتى قراهم ... قشاعم أنسر وضباع بيد بطعن فى نحورهم رشيق ... وضرب فى رءوسهم عتيد فيا يوم الثلاثاء اصطبحنا ... غداة منك هائلة الورود ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا ... بفقد فيك للسّند العميد وكم أسخنت فينا من عيون ... وكم أعثرت فينا من جدود فما زجرت طيورك عن سنيح ... ولا طلعت نجومك بالسّعود ألا يأيها الملك المردّى ... رداء الموت فى جدث جديد حضرت فناء بابك واعترانى ... شجى بين المخنّق والوريد

_ [1] فى الديوان: «فتكت منا» . [2] المقو: السم أو الصبر أو شبهه. والهبيد: الحنظل.

رأيت به مطايا مهملات ... وأفراسا صوافن بالوصيد فكنت عتاد إما فكّ عان ... وإما قتل طاغية عنود رأيت مؤمّليك عدت عليهم ... عواد صعّدتهم فى كؤود وأضحت عند غيرك فى هبوط ... حظوظ كنّ عندك فى صعود وأصبحت الوفود إليك وقفا ... على أن لا مفاد لمستفيد فكلّهم أعدّ اليأس وقفا ... عليك ونصّ راحلة القعود لقد سخنت عيون الجود لمّا ... ثويت وأقصدت غرر القصيد وقال يرثى محمد بن حميد الطّوسىّ: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر توفّيت الآمال بعد محمد ... وأصبح فى شغل عن السّفر السّفر وما كان إلا مال من قلّ ماله ... وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر وما كان يدرى المجتدى جود كفّه ... إذا ما استهلّت أنه خلق العسر ألا فى سبيل الله من عطّلت له ... فجاج سبيل الله واثّغر الثغر [1] فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دما ضحكت عنه الأحاديث والذّكر [فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففى بأسه شطر وفى جوده شطر [2]] فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الشّلّ [3] واعتلّت عليه القنا السّمر وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر ونفس تعاف العار حتى كأنه ... هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر

_ [1] الإثغار: أن يلقى الصبى ثغره على أسنانه. [2] زيادة من الديوان. [3] شل الأعداء بسيفه: طردهم بين يديه. وفى الديوان: «من الضرب» .

فأثبت فى مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر غدا غدوة والحمد نسج رداثه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر كأنّ بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا ... ويبكى عليه الجود والبأس والشعر وأنّى لهم صبر عليه وقد مشى ... إلى الموت حتى استشهدا هو والصّبر! فتى كان عذب الروح لا عن غضاضة ... ولكنّ كبرا أن يكون له كبر [1] فتى سلبته الحيل وهو حمى لها ... وبزّته نار الحرب وهو لها جمر وقد كانت البيض المآثير فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر أمن بعد طىّ الحادثات محمدا ... يكون لأثواب العلا أبدا نشر! [إذا شجرات العرف جذّت أصولها ... ففى أىّ فرع يوجد الورق النّضر! [2]] لئن أبغض الدهر الخؤن لفقده ... لعهدى به ممّن يحبّ له الدهر لئن غدرت فى الرّوع أيامه به ... لما زالت الأيام شميتها الغدر لئن ألبست فيه المصيبة طيئ ... لما عرّيت منها تميم ولا بكر كذلك ما ننفكّ نفقد هالكا ... يشاركنا فى فقده البدو والحضر سقى الغيث غيثا وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيها سحاب ولا قطر وكيف احتمالى للسّحاب صنيعة ... بإسقائها قبرا وفى لحده البحر ثوى فى الثّرى من كان يحيا به الثّرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر

_ [1] رواية الديوان: فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرا أن يقال به كبر [2] زيادة من الديوان.

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر عليك سلام الله وقفا فإننى ... رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر وقال يرثى إدريس بن بدر السّامىّ: دموع أجابت داعى الحزن همّع ... توصّل منا عن قلوب تقطّع عفاء على الدنيا طويل فإنها ... تفرّق من حيث ابتدت تتجمّع تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستثنى غروب الشمس من حيث تطلع لها صيحة فى كل روح ومهجة ... وليست لشىء ما خلا القلب تسمع أإدريس ضاع المجد بعدك كلّه ... ورأى الذى يرجوه بعدك أضيع وغودر وجه العرف أسود بعد ما ... يرى وهو كالبكر الكعاب تصنّع وأصبحت الأحزان لا لمبرّة ... تسلّم شزرا والمعالى تودّع وضلّ بك المرتاد من حيث يهتدى ... وضرّت بك الأيام من حيث تنفع وأضحت قريحات القلوب من الجوى ... تقيظ [1] ولكن المدامع تربع [2] عيون حفظن الليل فيك محرّما ... وأعطينك الدمع الذى كان يمنع وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع وقالوا عزاء: ليس للموت مدفع ... فقلت: ولا للحزن للمرء مدفع لإدريس يوم ما تزال لذكره ... دموعى وإن سكّنتها تتفرّع ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الدهر ما يتوقّع غدا ليس يدرى كيف يصنع معدم ... درى دمعه من وجده كيف يصنع وماتت نفوس الغالبيّين كلهم ... وإلا فصبر الغالبيّين أجمع

_ [1] تقيظ: يشتد حرها. وفى الأصل والديوان: «تقاظ» . [2] تربع: تخصب.

غدوا فى زوايا نعشه وكأنما ... قريش قريش حين مات مجمّع [1] ولم أنس سعى الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقيم ويظلع وتكبيره خمسا عليه معالنا ... وإن كان تكبير المصلّين أربع وما كنت أدرى يعلم الله قبلها ... بأن النّدى فى أهله يتشيّع وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى ... به ما يقال فى السّحابة تقلع - هذا مأخوذ من قول مسلم: فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار- ألم تك ترعانا من الدّهر إن سطا ... وتحفظ من أموالنا ما نضيّع وتبسط كفّا فى الحقوق كأنما ... أناملها فى البأس والجود أذرع وتلبس أخلاقا كراما كأنها ... على العرض من فرط الحصانة أدرع وتربط جأشا والكماة قلوبهم ... تزعزع خوفا من قنا تتزعزع وأمنيّة المرتاد يحضرك النّدى ... فيشفع فى مثل الفلا [2] فيشفّع فأنطق فيه حامد وهو مفحم ... وأفحم فيه حاسد وهو مصقع ألا إنّ فى ظفر المنيّة مهجة ... تظلّ لها عين العلا وهى تدمع هى النفس إن تبك المكارم فقدها ... فمن بين أحشاء المكارم تنزع ألا إنّ أنفا لم يعد وهو أجدع ... لفقدك عند المكرمات لأجدع وإن امرأ لم يمس فيك مفجّعا ... بملحوده، فى عقله لمفجّع وقال يرثى القاسم بن طوق بن مالك: جوى ساور الأحشاء والقلب واغله ... ودمع يضيم [3] العين والجفن هامله

_ [1] مجمع: لقب قصى بن كلاب بن مرة وهو الجد الخامس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقب بذلك لجمعه قريشا للرحلتين: رحلة الصيف ورحلة الشتاء. [2] فى ديوان أبى تمام: فيشفع ... فى ملء الملا فيشفع [3] كذا بالأصل. ولعله محرّف عن «يطم» بمعنى يملا.

وفاجع موت لا عدوّ يخافه ... فيبقى، ولا يبقى صديقا يجامله وأىّ أخى عزّ [1] وذى جبرية ... ينابذه أو أىّ، رام يناضله إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه ... وبثّت على طرق النفوس حبائله! فلو شاء هذا الدهر أقصر شرّه ... كما أقصرت عنّا لهاه ونائله سنشكوه إعلانا وسرّا ونيّة ... شكيّة من لا يستطيع يقاتله فمن مبلغ عنّى ربيعة أنّه ... تقشّع طلّ الجود عنها ووابله وأنّ الحجا منها استطارت صدوعه ... وأنّ الندى منها أصيبت مقاتله مضى للزّيال القاسم الواهب اللهى ... ولو لم يزايلنا لكنّا نزايله ولم يعلموا أنّ الزمان يريده ... بفجع ولا أنّ المنايا تراسله ومنها: طواه الردى طىّ الرّداء وغيبّت ... فضائله عن قومه وفواضله طوى شيما كانت تروح وتغتدى ... وسائل من أعيت عليه وسائله فيا عارضا للعرف أقلع مزنه ... ويا واديا للجود [2] جفّت مسايله وقال يرثى محمد بن حميد وأخاه [3] قحطبة: بأبى وغير أبى- وذاك قليل- ... ثاو عليه ثرى النّباج مهيل

_ [1] فى الديوان: «وأى أخى عزاء أو جبرية» . [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ويا واديا للعرف» . [3] كذا فى الجزء الثالث من شرح ديوانه لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (573 أرب) وكان محمد هو الأكبر والآخر قحطبة. وفى الأصل: «وقال يرثى محمد بن حميد ويسمى قحطبة، وقيل: فحطبة أخوه» والصحيح ما أثبتناه وهو أن قحطبة أخوه ويؤيد هذا قول أبى تمام من مرثية أخرى يرثى بها بنى حميد الطوسى: ذكرت أبا نصر بفقد محمد ... وقحطبة ذكرى طويل البلابل ومنها: للعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة ... ولكنهم كانوا ثلاث قبائل

خذلته أسرته كأنّ سراتهم ... جهلوا بأن الخاذل المخذول أكّال أشلاء الفوارس بالقنا ... أضحى بهنّ وشلوه مأكول كفّى، فقتل محمد لى شاهد ... أن العزيز مع القضاء ذليل ومنها: هيهات لا يأتى الزمان بمثله ... إنّ الزمان بمثله لبخيل ما أنت بالمقتول صبرا إنّما ... أملى غداة نعيّك المقتول ومنها: من ذا يحدّث بالبقاء ضميره! ... هيهات! أنت على الفناء دليل يا ليت شعرى بالمكارم كلّها ... ماذا، وقد فقدت نداك، تقول؟ ومنها: يا يوم قحطبة لقد أبقيت لى ... حرقا أرى أيّامها ستطول ليث لو انّ الليث قام مقامه ... لانصاع [1] وهو يراعة إجفيل لمّا رأى جمعا قليلا فى الوغى ... وأولو الحفاظ من القليل قليل لاقى الكريهة وهو مغمد روعه ... فيها ولكن بأسه [2] مسلول ومشى إلى الموت الزّؤام كأنما ... هو من محبّته إليه خليل ومنها: أضحت عراص محمد ومحمد ... وأخيهما وكأنهنّ طلول أبنى حميد ليس أوّل ما عفا ... بعد الأسود من الأسود الغيل ما زال ذاك الصبر وهو عليكم ... بالموت فى ظلّ السيوف كفيل ستبسلون كأنّما مهجاتهم ... ليست لهم إلا غداة تسيل

_ [1] انصاع: انفتل راجعا مسرعا. [2] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ولكن سيفه» .

ألفوا المنايا فالقتيل لديهم ... من لم يخلّ [1] العيش وهو قتيل إن كان ريب الدهر أثكلنيكم ... فالموت أيضا ميّت مثكول وقال يعزّى مالك بن طوق: أمالك إنّ الحزن أحلام حالم ... ومهما تدم فالحزن ليس بدائم امالك إفراط الصبابة تارك ... حنا واعوجاجا فى قناة المكارم تأمّل رويدا هل تعدّن سالما ... إلى آدم أم هل تعدّ ابن سالم! متى ترع هذا الموت عينا بصيرة ... تجد عادلا منه شبيها بظالم فإن تك مفجوعا بأبيض لم تكن ... تشدّ على جدواه عقد التمائم بفارس دغمىّ وهضبة وائل ... وكوكب عتّاب وحمزة هاشم شجا الريح فازدادت حنينا لفقده ... وأحدث شجوا فى بكاء الحمائم فمن قبله ما قد أصيب نبيّنا ... أبو القاسم النور المبين بقاسم وخبّر قيس بالجليّة فى ابنه ... فلم يتغيّر وجه قيس بن عاصم وقال علىّ فى التعازى لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم: أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر، أم تسلو سلوّ البهائم؟ خلقنا رجالا للتجلّد والأسى ... وتلك الغوانى للبكا والمآتم وأىّ فتى فى الناس أحرض [2] من فتى ... غدافى خفارات الدموع السّواجم وهل من حكيم ضيّع الصبر بعدما ... رأى الحكماء الصبر ضربة لازم فلا برحت تسطو ربيعة منكم ... بأرقم عطّاف وراء الأراقم

_ [1] فى نسخة من الديوان: «من لا تجلى الحرب وهو قتيل» وفى نسخة أخرى منه: «من لم يخل الحرب ... » . [2] من حرض ككرم: طال همه وسقمه وفسد.

فأنت وصنواك الشقيقان إخوة ... خلقتم سعوطا للانوف الرواغم ثلاثة أركان، وما انهدّ سؤدد ... إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم وقال يرثى عمير بن الوليد: كفّ الندى أمست بغير بنان ... وقناته أضحت بغير سنان جبل الجبال غدت عليه ملمّة ... تركته وهو مهدّم الأركان أنعى عمير بن الوليد لغارة ... بكر من الغارات أو لعوان أنعى فتى الفتيان غير مكذّب ... قولى، وأنعى فارس الفرسان عثر الزمان ونائبات صروفه ... بمقيلنا عثرات كلّ زمان لم يترك الحدثان يوم سطابه ... أحدا نصول به على الحدثان قد كنت حشو الدرع ثم أراك قد ... أصبحت حشو اللحد والأكفان شغلت قلوب الناس ثم عيونهم ... مذ متّ بالخفقان والهملان واستعذبوا الأحزان حتى إنّهم ... يتحاسدون مضاضة الأحزان ما يرعوى أحد الى أحد ولا ... يشتاق إنسان الى إنسان أأصاب منك الموت فرصة ساعة ... فعدا عليك وأنتما أخوان! فمن الذى أبقى ليوم تكرّم ... ومن الذى أبقى ليوم طعان [1] ! وقال يرمى ابنا له: كان الذى خقت أن يكونا ... إنّا إلى الله راجعونا أمسى المرجّى أبو علىّ ... موسّدا فى الثرى يمينا حين استوى وانتهى شبابا ... وحقّق الرأى والظنونا

_ [1] كذا بالأصل. والذى بالديوان: فمن الذى يبغى ليوم كريهة ... ومن الذى يدعى ليوم طعان

أصبت فيه وكان عندى ... على المصيبات لى معينا كنت كثيرا به عزيزا ... وكنت صبّا به ضنينا دافعت إلا المنون عنه ... والمرء لا يدفع المنونا آخر عهدى به صريعا ... للموت بالداء مستكينا إذا شكا غصّة وكربا ... لا حظ أو راجع الأنينا يدير فى رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا يشخص طورا بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا ثم قضى نحبه وأمسى ... فى جدث للثرى دفينا باشر برد الثرى بوجه ... قد كان من قبله مصونا بعيد دار قريب جار ... قد فارق الإلف والقرينا بنىّ يا واحد البنينا ... غادرتنى مفردا حزينا هوّن رزئى بك الرزايا ... علىّ فى الناس أجمعينا آليت أنساك ما تجلّى ... صبح [1] نهار لمصبحينا وما دعا طائر هديلا ... ورجّعت واله حنينا تصرّف الدهر بى صروفا ... وعاد لى شأنه شؤونا وحزّ فى اللحم بل براه ... واجتثّ من طلحتى فنونا أصاب منّى صميم قلبى ... وخفت أن يقطع الوتينا والمرء رهن بحالتيه ... فشدّة مرّة ولينا

_ [1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «شمس نهار» .

ومما قيل فى شواذ المراثى:

ومما قيل فى شواذّ المراثى: من ذلك ما قالته جليلة بنت مرّة أخت جسّاس زوج كليب لما قتل أخوها جسّاس زوجها كليبا؛ وكان نساء الحىّ لما اجتمعن للمأتم قلن لأخت كليب: رحّلى جليلة عنك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب، فقالت لها: أخرجى عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهى تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد حليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين ذلك [1] غرس الأحقاد، وتفّتت الأكباد. فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح وإغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة، ابا لبدن تدع لك وائل [2] دم ربّها! قال: ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدى وفراق الشامت! ويل [غدا [3]] لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة! وبلغ قولها جليلة فقالت: وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها وترقّب وترها! [أسعد الله أختى، ألا قالت: نفرة الحياء وخوف الأعداء [3]] ثم أنشأت تقول: يابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلى باللوم حتى تسألى فإذا أنت تبينت الذى ... يوجب اللوم فلومى واعذلى إن تكن أخت امرئ ليمت على ... جزع منها عليه فافعلى جلّ عندى فعل جسّاس فيا ... حسرتا عما انجلت أو تنجلى فعل جسّاس على ضنّى به ... قاطع ظهرى ومدن أجلى

_ [1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 216 طبعة بلاق) . وفى الأصل: «وبين رزأين: غرس الأحقاد ... » . [2] فى الكامل لابن الأثير: «تدع لك تغلب ... » . [3] زيادة من الكامل لابن الأثير.

لو بعين فقئت [1] عين سوى ... أختها وانفقأت لم أحفل تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ أذى ما تفتلى [2] إنّنى قاتلة مقتولة ... فلعلّ الله أن يرتاح لى يا قتيلا قوّض الدهر به ... سقف بيتىّ جميعا من عل ورمانى فقده [3] من كثب ... رمية المصمى به المستأصل هدم البيت الذى استحدثته ... وبدا [4] فى هدم بيتى الأوّل يا نسائى دونكنّ اليوم قد ... خصّنى الدهر برزء معضل مسّنى فقد كليب بلظى ... من ورائى ولظى مستقبلى ليس من يبكى ليومين كمن ... إنما يبكى ليوم ينجلى درك الثائر شافيه وفى [5] ... دركى ثارى ثكل المثكل ليته كان دمى فاحتلبوا ... دررا منه دما من أكحلى ولما مات معاوية بن أبى سفيان اجتمع الناس بباب يزيد فلم يقدروا على الجمع بين التهنئة والتعزية، حتى أتى عبد الله بن همّام فقال: يا أمير المؤمنين، أجزل الله أجرك على الرزيّة. وبارك لك فى العطيّة، وأعانك على الرعية؛ فقد رزئت عظيما، وأعطيت جسيما؛ فآشكر الله على ما أعطيت، واصبر على ما رزيت؛ فقد فقدت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله؛ ففارقت جليلا، وأعطيت جزيلا؛ إذ قضى معاوية نحبه؛ ووليت الرياسة، وأعطيت السياسة؛ فأورده الله موارد السرور، ووفّقك فى جميع الأمور:

_ [1] فى رواية أخرى أشار اليها هامش الأصل: «فديت عين سوى» . [2] افتلى الصغير: رباه. [3] فى رواية أشير اليها فى هامش الأصل: «ورمانى قتله ... » . [4] فى الكامل لابن الأثير (ج 1 ص 389 طبع أوربا) : «وانثنى فى هدم ... » . [5] فى الكامل لابن الأثير: «يشتفى المدرك بالثأر وفى ... » .

فاشكر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذى بالملك حاباكا [1] [أصبحت تملك هذا الخلق كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا [2]] لارزء أعظم فى الأقوام قد علموا ... مما رزئت، ولا عقبى كعقباكا وفى معاوية الباقى لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا ففتح للناس باب الرثاء وجروا على منواله. وقال أبو نواس الحسن بن هانىء يعزّى الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنّئه بالأمين: تعزّ أبا العبّاس عن خير هالك ... بأكرم حىّ كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهنّ مساو مرّة ومحاسن وفى الحىّ بالميت الذى غيّب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن وقال أبو تمام يرثى المعتصم ويهنىء الواثق: ما للدموع تروم كلّ مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام يا حفرة المعصوم تربك مودع ... ماء الحياة وقاتل الإعدام إن الصفاتح منك قد نضدت على ... ملقى عظام لو علمت عظام فتق المدامع أن لحدك حلّه ... سكن الزمان وممسك الأيام ومصرّف الملك الجموح كأنه ... قد زمّ مصعبه له بزمام هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام دخلت على ملك الملوك رواقه ... وتسرّبت لمقوّم القوّام

_ [1] رواية الكامل للبرد: (ص 785 طبع ليبزج سنة 1864) : اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر بلاء الذى بالملك أصفاكا [2] زيادة من الكامل.

مفتاح كلّ مدينة قد أبهمت ... غلقا ومخلى كلّ دار مقام ومعرّف الخلفاء أنّ حظوظها ... فى حيّز الإسراج والإلجام أخذ الخلافة عن أسنّته التى ... منعت حمى الآباء والأعمام فلسورة الأنفال فى ميراثه ... آثارها ولسورة الأنعام ما دام هارون الخليفة فالهدى ... فى غبطة موصولة بدوام إنّا رحلنا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام لله أىّ حياة انبعثت لنا ... يوم الخميس وبعد أىّ حمام أودى بخير إمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمام تلك الرزيّة لا رزيّة مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام جاء منها: نقض كرجع الطّرف قد أبرمته ... يابن الخلائف أيّما إبرام ما إن رأى الأقوام شمسا قبلها ... أفلت فلم تعقبهم بظلام أكرم بيومهم الذى ملّكتهم ... فى صدره وبعامهم من عام ثم أخذ فى مدح الواثق. وفى هذه الواقعة يقول ابن الزيّات: قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالتّرب والطين اذهب فنعم المعين كنت على الد ... نيا ونعم الظهير للدين لن يجبر الله أمّة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون ومن أشدّ الرثاء صعوبة على الشاعر وأضيقه مجالا أن يرثى امرأة أو طفلا. وقد أخذ على المتنبىّ فى قوله يرثى أمّ سيف الدولة بن حمدان: سلام الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال

وقالوا: ما له ولهذه العجوز يصف جمالها! ووبّخه الصاحب بن عبّاد فى قوله فيها: رواق العز فوقك مسبطّر ... وملك علىّ ابنك فى كمال قال أبو الحسن علىّ بن رشيق الأزدى فى كتابه المترجم بالعمدة وبالأغانى [1] أيضا: أشدّ ما هجّن هذه اللفظة وجعلها مقام قصيدة من الهجاء أنه قرنها «بفوقك» فجاء عملا تامّا لم يبق فيه إلا الإفضاء. وإن يكن المتنبى أخطأ فى هذا فلقد أجاد فى غيره؛ والفاضل من عدّت سقطاته، وحفظت هفواته وفلتاته؛ وانظر إلى قوله فى أخت سيف الدولة: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب أجلّ قدرك أن تدعى مؤنّثة ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب وقوله أيضا: ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضّلت النساء على الرجال مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زفّ [2] الرئال ومن جيّد ما رثى النساء به وأشدّه تأثيرا فى القلب وإثارة للحزن قول ابن عبد الملك ابن الزيّات فى أمّ ولده: ألا من رأى الطفل المفارق أمّه ... بعيد الكرى عيناه تبتدران رأى كلّ أمّ وابنها غير أمّه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيدا فى الفراش تحثّه ... بلابل قلب دائم الخفقان

_ [1] لم يذكر أبو الفرج فى النسخ التى تحت أيدينا من كتابه الأغانى شيئا عن المتنبى مع أنه كان من معاصريه. [2] الزف: ريش النعام. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعام.

ومنها بعد أبيات: ألا إنّ سجلا واحدا قد أرقته ... من الدمع أو سجلين قد شفيانى فلا تلحيانى إن بكيت فإنما ... أداوى بهذا الدمع ما تريان وإنّ مكانا فى الثّرى خطّ لحده ... لمن كان من قلبى بكلّ مكان أحقّ مكان بالزيارة والهوى، ... فهل أنتما إن عجت منتظران؟ فهبنى عزمت الصبر عنها لأنّنى ... جليد فمن بالصبر لابن ثمان ضعيف القوى لا يعرف الأجر حسبة ... ولا يأنسى بالناس فى الحدثان ألا من أمنّيه المنى وأعدّه ... لعثرة أيّام وصرف زمان ألا من إذا ما جئت أكرم مجلسى ... وإن غبت عنه حاطنى ورعانى فلم أر كالأقدار كيف تصيبنى ... ولا مثل هذا الدهر كيف رمانى وقال أبو تمّام يرثى جارية له: ألم ترنى خلّيت عينى وشانها ... ولم أحفل الدنيا ولا حدثانها لقد خوّفتنى النائبات صروفها ... ولو أمّنتنى ما قبلت أمانها وكيف على نار الليالى معرّسى ... إذا كان شيب العارضين دخانها أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكى زمانى زمانها عنان من اللذّات قد كان فى يدى ... فلما مضى الإلف استردّت عنانها منحت الدّمى هجرى فلا محسناتها ... أودّ ولا يهوى فؤادى حسانها يقولون: هل يبكى الفتى لخريدة ... متى ما أراد اعتاض عشرا مكانها! وهل يستعيض المرء من خمس كفّه ... ولو صاغ من حرّ الّلجين بنانها! وقال أبو الفتح كشاجم يعزّى بابنة: تأسّ يا أبا بكر ... لموت الحرّة البكر

فقد زوّجتها القبر ... وما كالقبر من صهر وعوّضت بها الأجر ... وما كالأجر من مهر زفاف أهديت فيه ... من الخدر إلى القبر فتاة أسبغ الله ... عليها أفضل السّتر ورزء أشبه النعم ... ة فى الموقع والقدر وقد يختار فى المكرو ... هـ للمرء وما يدرى فقابل نعمة الله ... وما أولاك من شكر وعزّ النفس عمّا فا ... ت بالتسليم والصبر وقال أبو مروان بن أبى الخصال الأندلسىّ فى مثل ذلك: ألا يا موت كنت بنا رءوفا ... فجدّدت الحياة لنا بزوره حمدت لفعلك المأثور لمّا ... كفيت مؤونة وسترت عوره فأنكحنا الضريح بغير مهر ... وجهّزنا الفتاة بغير شوره وقال أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ فى ابنين لعبد الله بن طاهر ماتا صغيرين فى يوم واحد من قصيدة: نجمان شاء الله ألّا يطلعا ... إلا ارتداد الطّرف حتى يأفلا إنّ الفجيعة بالرياض نواضرا ... لأجلّ منها بالرياض ذوابلا لو ينسآن لكان هذا غاربا ... للمكرمات وكان هذا كاهلا لهفى على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا لغدا سكونهما حجا وصباهما ... حلما وتلك الأريحيّة نائلا إنّ الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا

وقال أبو الحسن الأنبارى فى محمد بن بقيّة وزير عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة ابن بويه لما صلبه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه عند خلع بختيار، وهى من نوادر المراثى: علوّ فى الحياة وفى الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة مددت يديك نحوهم جميعا [1] ... كمدّهما إليهم بالهبات ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات لعظمك فى النفوس بقيت ترعى ... بحرّاس وحفّاظ ثقات وتشعل عندك النيران ليلا ... كذلك كنت أيّام الحياة ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكّن من عناق المكرمات ركبت مطيّة من قبل زيد ... علاها فى السنين الذاهبات أشار فى هذا البيت إلى زيد بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب لمّا قتل وصلب فى أيّام هشام بن عبد الملك. ومما يدخل فى هذا الباب ويلتحق به ما يطرأ من الحوادث التى تعمّ بها البليّة، وتشمل بسببها الرزيّة، كاستيلاء أهل الكفر على بلد من بلاد الإسلام، وهزيمتهم لجيشه اللهام؛ فمن ذلك ما كتب به القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى إلى الأمير عزّ الدين سامة لما استعاد الفرنج- خذلهم الله تعالى- مدينة بيروت: ابتدأ كتابه بأن قال بعد البسملة: قال الله سبحانه فى كتابه العزيز مسلّيا لنبيّه الكريم

_ [1] كذا بالأصل. وفى احدى النسخ: «اقتفاء» وهو محرف عن «احتفاء» .

صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ، فإذا كان من الناس من خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكيف لا يخون الناس الناس! وأين الموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرون فى البأساء والضرّاء وحين الباس: وقد كانوا إذا عدّوا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل والمولى- أعزّه الله بنصره، وعوّضه أحسن العوض من أجره، وكتب له ثواب تسليمه إليه وصبره- ليس بأوّل من وثق بمن خان، وقضيّة بيروت بأوّل مقدور قال الله له: كن فكان؛ والقدر السابق لا يدفعه الهمّ اللاحق، ومن الخجلات المستعارة خجلة الواثق، والموثوق به لائق به الخجل الصادق؛ ومعاذ الله أن ينكس المجلس رأسه حياء، أو أن يسخط لله قضاء؛ أو أن يأسف على مال نقله من مودعه الذى لا يؤمن من الآفات عليه، إلى مودع الله الذى يحفظه إلى أن يأتيه به أحوج ما كان إليه؛ والحمد لله الذى جعل مصائبنا فى الدنيا فوائدنا فى الأخرى، ثم الحمد لله الذى جعل البادرة للعدوان والعاقبة للتقوى. وقد علم الله أنى مقاسمه ومساهمه، ومضمر من الهمّ بما اتفق من هذا المقدور ما مقدّره عالمه؛ غير أنه لا حيلة لمن لا حيلة له إلا الصبر، وإن صبر جرى عليه القدر وجرى له الأجر، وإن لم يصبر جرى عليه القدر وكتب عليه الوزر؛ وكل ما ذهب من صاحبه قبل أن يذهب صاحبه فقد أنعم الله عليه، حيث أخرج ما فى يديه وأبقى يديه؛ والمال غاد ورائح، والمال بالحقيقة هو العمل الصالح؛ وإن اجتمع موصلها بحضرته فهو ينهى ما عندى، ويؤدّى حقيقة ودّى؛ ورأية الموفّق. وقال أبو المظفّر الأبيوردىّ [1] لما استولى الفرنج على البيت المقدّس فى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قصيدة منها:

_ [1] وتنسب هذه الأبيات أيضا فى النجوم الزاهرة (ج 5 ص 151 طبع دار الكتب المصرية) القاضى زين الدين أبى سعد الهروىّ.

مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم وشرّ سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبّت نارها بالصوارم فإيّها بنى الإسلام! إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذّرى بالمناسم أتهويمة فى ظلّ أمن وغبطة ... وعيش كنوّار الخميله ناعم! وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كلّ نائم وإخوانكم بالشأم يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكى أو بطون القشاعم يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمّى ... توارى حياء حسنها بالمعاصم بحيث السيوف البيض محمّرة الظّبى ... وسمر العوالى داميات اللهاذم وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظلّى لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سنّ نادم سللن بأيدى المسلمين قواضيا ... ستغمد منهم فى الطّلى والجماجم يكاد بهنّ المستجنّ بطيبة ... ينادى بأعلى الصوت: يا آل هاشم أرى أمّتى لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدّين واهى الدعائم ويجتنبون النار خوفا من العدا ... ولا يحسبون العار ضربة لازم أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضى على ذلّ كماة الأعاجم! فليتهم إذ لم يذودوا حميّة ... عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا فى الأجر إذ حمى [1] الوغى ... فهلّا أتوه رغبة فى المغانم!

_ [1] فى الأصل: «جمش» ولعلها محرفة عن «حمس» بالحاء والسين المهملتين وهو (بالتخفيف والتشديد) بمعنى اشتداد الأمر واضطرام النار، وهى رواية ابن الأثير. وما أثبتناه رواية النجوم الزاهرة لابن ثغرى بردى.

لئن أذعنت تلك الخياشيم للثرى ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم دعوناكم والحرب ترنو ملحّة ... إلينا بألحاظ النسور القشاعم تراقب فينا غارة عربيّة ... تطيل عليها الروم عضّ الأباهم فإن أنتم لم تغضبوا عند هذه ... رمتنا إلى أعدائنا بالجرائم وقال علاء الدين علىّ الأوتارىّ الدمشقىّ فى مثل ذلك لما استولى التتار على دمشق فى سنة تسع وتسعين وستمائة: لك علم بما جرى يا سهادى ... من جفونى على افتقاد رقادى لم أجد عند شدّتى مؤنسا لى ... غير سهدى ملازما لسوادى وحبيب العين الرقاد جفاها ... مذ رآها خليفة الأنكاد أحسن الله يا دمشق عزاك ... فى مغانيك يا عماد البلاد وبرستقا نير بيك مع الم ... زّة مع رونق بذاك الوادى وبأنس بقاسيون وناس ... أصبحوا مغنما لأهل الفساد طرقتهم حوادث الدهر بالقت ... ل ونهب الأموال والأولاد وبنات محجّبات عن الشم ... س تناءت بهنّ أيدى الأعادى وقصور مشيّدات تقضّت ... فى ذراها الأيام كالأعياد وبيوت فيها التّلاوة والذك ... ر وعالى الحديث بالإسناد حرّقوها وخرّبوها وبادت ... بقضاء الإله ربّ العباد وكذا شارع العقيبة والقص ... ر وشاغورها وذاك النادى أصبحوا اليوم مثل أمس تقضّى ... وبكتهم سماؤهم والغوادى ولكم سورها حوى من معنى ... مقرح القلب والحشى والفؤاد إن بكى لا يفيده أو تشكّى ... وجد المشتكى حليف سهاد

يشتكى فوق ما اشتكاه بأضعا ... ف فيغدو وهمه فى ازدياد فالغلا والجلا مع الجوع والعر ... ى ونهب الأفوات والأزواد والحصار الشديد والحبس والخو ... ف مع السادة العراة المكادى [1] وبوزن الأموال من غير وجد ... بآعتساف الغتم [2] الغلاظ الشداد كاتر آقچاكبر خوار أنت ياغيه ... لمحمود غازان قاآن البلاد [3] يا ترى هل لكربنا من مجير ... أم لتشديد أسرنا من مفادى لهف نفسى على جيوش تولّت ... ثم ولّت جريحة الأكباد كلّ ندب عضب حمىّ كمىّ ... أمجد أصيد شجاع جواد إن سطا فى هباته كان بحرا ... أو سطا خلته من الآساد أو بدا حاملا تخل عنتريّا ... أو غدا سابق الجواد فغادى إن أتانى مبشّر بلقاهم ... حاز روحى ومهجتى وقيادى ولثمت التراب شكرا وعفّر ... ت خدودى على بلوغ مرادى لست أرجو غير البشير شفيعا ... عند ربّى فى المنّ بالإنجاد فهو الصادق الذى وعد الدي ... ن بنصر جار على الاباد غير أنّ الفساد يكسب ذلّا ... ويعمّى الفساد طرق السّداد وارتكاب الفساد يورث فقرا ... وخراب البيوت عقبى الفساد يا حبيب الإله لا تتخلّى ... عن عضاة غمرتهم بالأيادى

_ [1] المكادى: جمع «مكدى» اسم مفعول من كداه بمعنى حبسه. [2] الغتم: جمع أغتم وهو من لا يفصح. [3] عرضنا هذا البيت على العالم الجليل موسى افندى جار الله نزيل القاهرة الآن لشرحه بما يأتى: كاتر: هات. آقچا: النقود. كبرخوار: كافر حقير غير كتابىّ. ياغيه: العدوّ الباغى. قا آن: كبير الملوك. ومعنى البيت: هات أيها الكافر الحقير الخراج أنت عدوّ لقاآن (خاقان) البلاد محمود غازان. وهذا البيت لا تتفق أوزانه مع التفاعيل الشعرية.

يا حبيب الإله قد مسّنا الض ... رّ فجد بالإسعاف والإسعاد يا حبيب الإله تبنا إلى الل ... هـ وأنت العماد حتّى المعاد من لأسرى كسرى حيارى دهتهم ... دهمتهم جياد أهل العناد واضع اللقط فى الحساب عناه ... - لو يعش- حصر كثرة الأعداد منهم الطفل والصبيّة والشا ... بّ ينادى، فمن يجيب المنادى! وينادى عليهم برغيف ... وبنزر بخس بسوق الكساد عوّضوا عن سرورهم بغرور ... وقصور البلاد سكنى البوادى وبأهل الوداد شرّ أناس ... وبلين المهاد شوك القتاد أىّ عين عليهم ليس تبكى ... أىّ قلب عليهم غير صادى! فلأنت الرحيم قلبا ولبّا ... ولأنت الهادى لسبل الرّشاد ولأنت البديع خلقا وخلقا ... ولأنت السميع للإنشاد ولأنت الظّراز فى كلّ معنى ... ولسيف المقال شبه النّجاد ولأنت الحاوى فنون صفات ... دون حصر لها فناء المداد ولأنت الممدوح من فوق عرش ... بعد ماذا يقول قسّ الإيادى جلّ قصد الفصيح بالنظم معنى ... نشر فضل الممدوح بين العباد فإذا كان منشئ المدح ربّى ... عاد مدح الفصيح جمع سواد فعليك الصلاة يرجو بها الأم ... ن علىّ من سائر الأنكاد وحيث انتهينا من المرائى والنوادب إلى هذه الغاية، فلنذكر نبذة من الزهد والتوكّل.

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل وهذا الباب- وفّقنا الله وإياك لقصدنا، وألهمنا سلوك سبيل رشدنا؛ واستعملنا فى مراضيه، وجنّبنا عن الالتفات بالقول والفعل إلى معاصيه- من هذا الفنّ هو واسطة عقده، وعضد زنده، وقائم مرهفه وحدّ فرنده؛ وشبا سنانه، ومثنى عناته، وإنسان حدقته، وحدقة إنسانه؛ وكيف لا وهو للنفس درّة تاجها، وطبيب علاجها، وواضح منهاجها؛ ودليلها المرشد إذا ضلّ الدليل، ومنجيها من الهول الأعظم إذا فرّ المرء من الأخ والأمّ والأب والابن والصاحبة والخليل. فتأمله أيها المطالع بعين قلبك قبل ناظرك، واتخذه من أحصن جنتّك وأعدّ عددك وأنفس ذخائرك؛ ورض به نفسك إذا جمحت، وسكّن به آمالك إذا مالت إلى المطالع وجنحت. واعلم أن الدنيا ظلّ زائل، وعدوّ قد نصب لك الشّباك ومدّ الحبائل، وأنك لا بدّ مسئول عما اكتسبته منها، فليت شعرى ما أعددت لجواب المسائل؟ فهى العدوّ الذى أشبه بالصديق، والغادر الماكر الذى ما أخوفنى أنّ مكره بى وبك سيحيق. فاقتصر على القليل منها، واعلم أنك سترحل فى غد عنها؛ وأن الموت نازل بك فلا ينفعك ما جمعته من مال وخول، ولا يصحبك من الدنيا إلا ما قدّمته لآخرتك من صالح العمل؛ وأنّ مالك سيقتسمه من لعلّه لا يشكرك عليه، وماذا ينفعك شكره أن لو فعل! وغاية ما ينالك من دنياك، وإن بلغت منها مناك، وطال بها مداك؛ أن تتمتّع بزهرتها، وتنال من لذّتها؛ وقد علمت بالمشاهدة من حالك وحال غيرك ما يؤول أمر ملاذّها إليه فى العاجل، وما يتوقّع لمن اقتصر من دنياه عليها فى الآجل؛ فالمأكل والمشرب صائران إلى ما علمته وإنما تحصل اللذّة

ذكر بيان حقيقة الزهد

بهما قبل الزدراد؛ والمنكح والمركب فأنت وهما فى الموت والفناء على ميعاد، والملابس فستخلقها الأيام بعد الجدّة، والمساكن فستعفّى الليالى آثارها ولو بعد مدّة. فإذا علمت أن مآل الدنيا إلى الزوال، وقصاراها إلى الانتقال؛ وملاذّها إلى هذه الغاية، والعمر فيها وإن طال سريع النهاية؛ فتقلّل منها حسب طاقتك، واقتصر على ما تسدّ به بعض خلّتك وفاقتك؛ واعمل لآخرتك التى لا ينقضى أمدها، ولا يفنى من النعيم الدائم مددها. وقد أمرتك الخير وليتنى به لو ائتمرت، وأوضحت لك سبيل الرشاد وليتنى به لو مررت. أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ... وما استقمت فما قولى لك: استقم! وسأورد إن شاء الله على سمعك من هذا الباب ما إن تمسّكت به كان سببا لإرشادك، وذخيرة تجدها فى يوم معادك. ذكر بيان حقيقة الزهد قال الإمام الأوحد العالم زين الدين حجّة المتكلّمين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين: إعلم أن الزهد فى الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين. وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات؛ لأن أبواب الإيمان كلّها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل. وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال، إذ به يظهر الحال الباطن، وإلا فليس القول مرادا بعينه؛ وإذا لم يكن صادرا عن حال سمّى إسلاما ولم يسمّ إيمانا. والعلم هو السبب فى الحال يجرى مجرى المثمر، والعمل يجرى مجرى الثمرة. فأما الحال فنعنى بها ما يسمّى زهدا، وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشئ إلى ما هو خير منه؛ فكلّ من عدل عن شئ إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنّما عدل

عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته فيه. فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمّى [زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمّى [1]] رغبة وحبّا. فإذا يستدعى حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه [2] هو خير من المرغوب عنه. وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛ فمن رغب عما ليس مطلوبا فى نفسه لا يسمّى زاهدا، فتارك التراب والحجارة والحشرات لا يسمّى زاهدا، لأن ذلك ليس فى مظنّة الرغبة، وإنما يسمّى زاهدا تارك الدراهم والدنانير. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة؛ فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه، وبالإضافة إلى العوض رغبة وحبّا؛ ولذلك قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وشروه بمعنى باعوه، ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحبّ إليهم من يوسف فباعوه طمعا فى العوض. فإذا كلّ من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد فى الدنيا، وكلّ من باع الاخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن فى الاخرة؛ ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن زهد فى الدنيا؛ كما خصّص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصّة، وإن كان هو الميل فى وضع اللسان. قال: ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصوّر إلا بالعدول إلى شىء هو أحبّ منه، وإلا فترك المحبوب بغير الأحبّ محال. والذى يرغب عن كلّ ما سوى الله تعالى حتى الفردوس ولا يحبّ إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق. والذى يرغب عن كل حظّ ينال فى الدنيا ولم يزهد فى مثل تلك الحظوظ فى الآخرة بل طمع فى الحور العين

_ [1] زيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «إليه» .

والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضا زاهد ولكنّه دون الأوّل. والذى يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذى يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع فى الأكل ولا يترك التجمّل فى الزينة، فلا يستحقّ اسم الزهد مطلقا؛ ودرجته فى الزّهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصى فى التائبين، وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصى صحيحة؛ فإنّ التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التى هى حظّ النفس. والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمّى زاهدا، وإن كان زهد فى المحظور وانصرف عنه، ولكنّ العادة تخصّص هذا الاسم بتارك المباحات. فإذا الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله عدولا إلى الله، وهى الدرجة العليا. وكما يشترط فى المرغوب فيه [1] أن يكون خيرا عنده؛ فيشترط فى المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يتبيّن زوال الرغبة؛ ولذلك قيل لابن المبارك: يا زاهد؛ فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيم زهدت! وأمّا العلم الذى هو المثمر لهذا الحال فهو العلم يكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ، كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه؛ وما لم يتحقّق هذا العلم لا يتصوّر أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى، أى لذّتها خير فى نفسها وأبقى. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع والمعاملة؛ حتّى إنّ من قوى يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال الله عز وجل:

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «المرغوب اليه» .

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... الآية، ثم بيّن أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ . فليس يحتاج من العلم فى الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أنّ الآخرة خير وأبقى؛ وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إمّا لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة فى الحال عليه ولكونه مقهورا فى يد الشيطان، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان فى التسويف يوما فيوما إلى أن يختطفه الموت، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت. قال: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عزّ وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ؛ فنبّه على أنّ العلم بنفاسته هو المرغّب عن عوضه. قال: ولمّا لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن محبوب فى أحبّ منه قال رجل: اللهمّ أرنى الدنيا كما تراها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هذا ولكن قل اللهمّ أرنى الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك» . وهذا لأن الله يراها حقيرة كما هى، وكلّ مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير، والعبد يراها حقيرة فى حقّ نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له [1] ، ولا يتصوّر أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض [مثلا [2]] ، لأنّه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس؛ والله تعالى غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه، فيرى الكلّ فى درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله، ويراها متفاوتة بالإضافة إلى غيره، والزاهد هو الذى يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره.

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الى ما هو خير منه» . [2] زيادة عن الاحياء.

وأمّا العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ، لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذى هو خير بالذى هو أدنى. فكما أنّ العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع [1] وإخراجه عن اليد وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلّية وهى الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها، فيخرج من القلب حبّها ويدخل حبّ الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب، ويوظّف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف من الطاعات، وإلّا كان كمن سلّم المبيع ولم يأخذ الثمن. فإذا وفّى شرط الحالتين فى الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذى بايع به، فإن الذى بايعه بهذا البيع وفىّ بالعهد؛ فمن سلّم حاضرا فى غائب وسلّم الحاضر وأخذ يسعى فى طلب الغائب سلّم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد. وما دام ممسكا للدّنيا فلا يصح زهده أصلا، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فى بنيامين وإن كانوا قد قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك، ولا وصفهم أيضا بالزهد فى يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع. فعلامة الرغبة الإمساك، وعلامة الزهد الإخراج. فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط، ولست زاهدا مطلقا؛ وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصوّر منك الزهد، لإنّ ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه. وربما يستهو يك الشيطان بغروره ويخيّل [إليك [2]] أنّ الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها، فلا ينبغى أن تتدلّى بحبل

_ [1] كذا بالإحياء. وفى الأصل: «هو بدل البيع» . [2] زيادة عن الإحياء.

غروره دون أن [تستوثق [1] و] تستظهر بموثق غليظ [2] من الله تعالى؛ فإنّك إذا لم تجرّب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها؛ فكم من ظانّ بنفسه كراهة المعاصى عند تعذّرها فلما تيسّرت له أسبابها من غير مكدّر ولا مخوف من الخلق وقع فيها. وإذا كان هذا غرور النفس فى المحظورات فإيّاك أن تثق بوعدها فى المباحات. والموثق الغليظ الذى تأخذه عليها أن تجرّبها مرّة بعد مرّة فى حال القدرة، فاذا وفّت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما، ولكن تكون من تغيّرها على حذر، فإنها سريعة النقض للعهد، قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع. وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما تركت فقط وذلك عند القدرة. قال: وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء والفتوّة وعلى سبيل استمالة القلوب ولا على سبيل الطمع، فذلك كلّه من محاسن العادات ولا مدخل له فى العبادات، إنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة. [فأمّا كل نوع من الترك فإنه يتصوّر ممن لا يؤمن بالآخرة [1]] فذلك قد يكون مروءة وفتوّة وسخاء وحسن خلق، وحسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العالجة، وهى ألذّ وأهنأ من المال؛ بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة عفوا وصفوا وهو قادر على التنعّم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم وفوات حظّ للنفس، فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحبّا لما سوى الله، ويكون مشركا فى حبّ الله غير الله؛ أو تركها طمعا فى ثواب آخر فترك التمتّع بأشربة الدنيا طمعا فى أشربة الجنّة، وترك التمتّع بالسرارى والنسوان طمعا فى الحور العين، وترك التفرّج فى البساتين طمعا فى بساتين الجنّة وأشجارها، وترك التزيّن والتجمّل بزينة الدنيا طمعا فى زينة الجنّة، وترك المطاعم اللذيذة طمعا

_ [1] زيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «بموثق عليك» .

ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا

فى فواكه الجنّة وخوفا من أن يقال له: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فآثر فى جميع ذلك ما وعد به فى الجنّة على ما تيسّر له فى الدنيا عفوا صفوا، لعلمه بأن ما فى الآخرة خير وأبقى؛ وما سوى هذه فمعا ملات دنيويّة لا جدوى لها فى الآخرة أصلا. وحيث قدّمنا هذه المقدّمة من أحوال الزهد فى الحال والعلم فلنذكر بيان فضيلة الزهد وذم الدنيا. ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا قال الله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فنسب الزهد الى العلماء ووصف أهله بالعلم، وذلك غاية الثناء. وقال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا جاء فى التفسير: على الزهد فى الدنيا. وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا . قيل: معناه أيّهم أزهد فى الدنيا، فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ... إلى قوله: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت الله عليه أمره وفرّق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله له أمره وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم العبد قد أوتى [1] منطقا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقّن الحكمة» . وقال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ؛ ولذلك

_ [1] الذى فى الإحياء: «اذا رأيتم العبد وقد أعطى صمتا وزهدا فى الدنيا فاقتربوا منه فانه يلقى الحكمة» .

قيل: من زهد فى الدنيا أربعين يوما اجرى الله ينابيع الحكمة فى قلبه وأطلق بها لسانه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أردت أن يحبّك الله فازهد فى الدنيا» فجعل الزهد سببا للمحبّة؛ فمن أحبّه الله فهو فى أعلى الدرجات، فينبغى أن يكون الزهد فى أفضل المقامات. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وقيل له: ما هذا الشرح؟ قال: «إن النّور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح» . قيل: يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: «نعم التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حقّ الحياء» قالوا: إنا نستحيى من الله، فقال: « [ليس كذلك [1]] تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون» . فبيّن أن ذلك يناقض الحياء من الله. وقدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّا مؤمنون. قال: «وما علامة إيمانكم؟» فذكروا الصبر على البلاء، والشكر على الرخاء، والرّضا بمواقع القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء. قال: «إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون» ؛ فجعل الزهد تكملة إيمانهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ فى أصحابه بإبل عشار حفّل وهى الحوامل، وكانت من أحبّ أموالهم إليهم وأنفسها عندهم، لأنها تجمع بين اللحم واللبن والوبر والظّهر، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضّ بصره. فقيل له: يا رسول الله، هذه أنفس أموالنا، لم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهانى الله عن ذلك، ثم تلا قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.

_ [1] التكملة من الإحياء.

وروى مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تستطعم الله فيطعمك؟ قالت: وبكيت لما رأيت به من الجوع. فقال: «يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربّى أن يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولى العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلّفنى ما كلّفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ والله مالى بدّ من طاعته وإنّى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا حول ولا قوّة إلا بالله» . وروى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة: البس ليّن الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر. فقال: يا حفصة، ألست تعلمين أنّ أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ قالت بلى. قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلّا جاعوا عشيّة، ولا شبعوا عشيّة إلا جاعوا غدوة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لبث فى النبوّة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرّبتم إليه [يوما [1]] طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشقّ ذلك عليه حتى تغيّر لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض؟ ناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام على عباءة مثنيّة فثنيت له ليلة أربع

_ [1] زيادة عن الإحياء.

طاقات فنام عليها، فلما استيقظ قال: «منعتمونى قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها بآثنتين كما كنتم تننونها» ؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجفّ ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بنى ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه إلى عنقه فصلّى كذلك؟ فما زال [يقول [1]] حتى أبكاها، وبكى عمر رضى الله عنه وانتحب حتى ظننّا أنّ نفسه ستخرج. وفى بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنّه قال: كان لى صاحبان سلكا طريقا، فإن سلكت غير طريقهما سلك بى طريق غير طريقهما، وإنّى والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلّى أدرك معهما عيشهما الرّغيد. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان الأنبياء قبلى يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى فى بطنه من الهزال» . وفى حديث عمر رضى الله عنه أنه لمّا نزل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبّا للدّنيا! تبّا للدّينار والدرهم!» فقلنا: نهانا الله عن كنز الذهب والفضّة قأىّ شىء ندّخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليتّخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته» . وفى حديث حذيفة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من آثر

_ [1] زيادة من الإحياء.

الدنيا على الآخرة ابتلاه الله تعالى بثلاث: همّا لا يفارق قلبه أبدا وفقرا لا يستغنى أبدا وحرصا لا يشبع أبدا» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستكمل العبد الإيمان حتّى يكون ألّا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف وحتى تكون قلة الشىء أحبّ إليه من كثرته» . وقال المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقيل له: يا نبىّ الله، لو أمرتنا أن نبتنى بيتا نعبد الله فيه! قال: اذهبوا فابنوا بيتا على الماء. فقالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء! قال: وكيف تستقيم عبادة مع حبّ الدنيا!. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربّى عرض علىّ أن يجعل لى بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا ربّ ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضّرع إليك وأدعوك وأمّا اليوم الذى أشبع فيه فأحمدك وأثنى عليك» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشى وجبريل معه فصعد على الصّفا، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: والذى بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمد كفّ سويق ولا سفّة دقيق. فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة من السماء أفظعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن هذا إسرافيل قد نزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل فقال: إنّ الله عز وجلّ سمع ما ذكرت، فبعثنى بمفاتيح الأرض وأمرنى أن أعرض عليك إن أحببت أن أسيّر [1] معك جبال تهامة زمرّدا وياقوتا وذهبا وفضّة فعلت، وإن شئت نبيّا ملكا وإن شئت نبيّا عبدا. فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله. فقال: «نبيّا عبدا» ثلاثا . وقال صلى الله عليه وسلم: «اذا أراد الله بعبد خيرا زهّده فى الدنيا ورغّبه فى الآخرة وبصّره بعيوب نفسه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية فليزهد فى الدنيا» .

_ [1] كذا فى الإحياء، وفى الأصل: «أن تسير ... » .

ذكر بيان ذم الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب

وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن ترقّب الموت ترك اللذّات ومن زهد فى الدنيا هانت عليه المصائب» . والأحاديث فى ذلك كثيرة وفيما ذكرناه منها كفاية. فلنذكر ما جاء من ذلك فى الأثر. قيل: جاء فى الأثر: لا تزال لا إله إلّا الله تدفع عن العباد سخط الله ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم. وفى لفظ آخر: ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين. وعن بعض الصحابة رضى الله عنهم أنه قال: تابعنا الأعمال كلّها فلم نرفى أمر الآخرة أبلغ من زهد الدنيا. وقال بعض الصحابة لصدر التابعين: أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خيرا منكم. قيل: ولم ذاك؟ قال: كانوا أزهد فى الدنيا منكم. وقال عمر رضى الله عنه: الزهادة فى الدنيا راحة القلب والجسد. والآثار أيضا فى ذلك كثيرة فلا نطوّل بسردها. ذكر بيان ذمّ الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب وقد ورد فى كتاب الله عز وجلّ كثير فى ذمّ الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة؛ وهو أيضا مقصود الأنبياء ولذلك بعثوا، فلا حاجة إلى الاستشهاد بالايات لظهورها. فلنذكر نبذة من الأخبار والآثار الواردة فى ذلك، وذلك من جملة ما اختاره الغزالىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين. فمن ذلك ما روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه مرّ على شاة ميّتة فقال: «أترون أن الشاة هينّة على أهلها» ؟ قالوا: من هوانها عليهم ألقوها. قال: «والذى نفسى بيده للدنيا أهون على

الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة [ماء [1]] » . وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «حبّ الدنيا أسّ كلّ خطيئة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور!» . وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال: «هلمّوا إلى الدنيا وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت فقال هذه الدنيا» وهذه إشارة إلى أن زينتها ستخلق مثل تلك الخرق، وأن الأجسام التى ترى بها ستصير عظاما بالية. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تتّخذوا الدنيا ربّا فتتّخذكم عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيّعه، فإنّ صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال أيضا: يا معشر الحواريّين، إنى قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدى، فإنّ من خبث الدنيا أن الله عصى فيها، وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها. ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كلّ خطيئة حبّ الدنيا. وربّ شهوة أورثت حزنا طويلا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله جلّ ثناؤه لم يخلق خلقا أبغض اليه من الدنيا وإنه منذ خلقها لم ينظر اليها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت!» . وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادى من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين له» . وقال صلى الله

_ [1] التكملة عن الإحياء.

عليه وسلم: «من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله فى شئ وألزم الله قلبه أربع خصال همّا لا ينقطع عنه أبدا وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا وفقرا لا يبلغ غناه أبدا وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا» . وقال أبو هريرة رضى الله عنه: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعا بما فيها» ؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بيدى وأتى بى واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس ناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال: «يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل آمالكم هى اليوم عظام بلا جلد ثم هى صائرة رمادا وهذه العذرات هى ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها فى بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت الرياح تصفّقها وهذه العظام عظام دوابّهم التى كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك» . قال: فما برحنا حتى اشتدّ بكاؤنا. وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لا ينظر إليها وتقول يوم القيامة: يا ربّ اجعلنى لأدنى أوليائك نصيبا اليوم فيقول اسكتى يا لا شئ إنى لم أرضك لهم فى الدنيا أأرضاك لهم اليوم،! وقال صلى الله عليه وسلم: «ليجيئنّ أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار» . قالوا: يا رسول اللهّ، مصلين؟ قال: «نعم [كانوا [1]] يصلّون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عرض لهم من الدنيا شئ وثبوا عليه» . وقال صلى الله عليه وسلم فى بعض خطبه: «المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه

_ [1] التكملة عن الإحياء.

لهرمه فإنّ الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة والذى نفسى بيده ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار» . قال صلى الله عليه وسلم: «احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» . وقال عليه السلام لأصحابه: «هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا ألا إنه من رغب فى الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتّجبّر ولا الغنى إلا بالفخر والبخل ولا المحبّة إلا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبّة وصبر للذّلّ وهو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صدّيقا» . وقال عيسى بن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا! كيف يموت ويتركها، ويأمنها وتغرّه، ويثق بها وتخذله! وويل للمغترّين! كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبّون، وجاءهم ما يوعدون! وويل لمن الدنيا همّه، والخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه!. وقيل له: علّمنا علما واحدا يحبّنا الله عليه، قال: أبغضوا الدنيا يحبّكم الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة» . ومن الآثار فى ذلك ما حكاه داود بن هلال قال: مكتوب فى صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا، ما أهونك على الأبرار الذين تصنّعت وتزّينت لهم! إنى قذفت فى قلوبهم بغضك والصدود عنك، وما خلقت خلقا أهون علىّ منك، كلّ شأنك صغير، وإلى الفناء تصيرين، قضيت عليك يوم خلقتك الّا تدومى لأحد ولا يدوم أحد لك

وإن بخل بك صاحبك وشحّ عليك. طوبى للأبرار الذين أطلعونى من قلوبهم على الرضا، ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة! طوبى لهم! ما لهم عندى من الخير إذا وفدوا إلىّ من قبورهم [إلا [1]] النور يسعى أمامهم والملائكة حافّون بهم حتى أبلّغهم ما يرجون من رحمتى. وقال عمّار بن سعيد: مرّ عيسى بن مريم عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى فى الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريّين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل الله تعالى فأوحى اليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز، ثم نادى يأهل القرية، فأجابه مجيب: لبّيك يا روح الله. فقال: ما حالكم وما قصّتكم؟ قال: بتنا فى عافية وأصبحنا فى الهاوية. قال: وكيف ذاك؟ قال [2] : لحبّنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصى. قال: وكيف كان حبّكم للدنيا؟ قال: حبّ الصبىّ لأمّه، إذا أقبلت فرح بها، وإذا أدبرت حزن وبكى عليها. قال: فما بال أصحابك لا يجيبونى؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدى ملائكة غلاظ شداد. قال: فكيف أجبتنى من بينهم؟ قال: لأنّى كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابنى معهم، فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدرى أنجو منها أم أكبّ فيها. فقال المسيح للحواريّين: لأكل الخبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. قيل: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يا موسى لا تركننّ إلى حبّ الدنيا فلن تأتينى بكيرة هى أشدّ منها.

_ [1] زيادة عن الإحياء (ج 3 ص 188) [2] فى الأصل وفى الإحياء: «قالوا» والسياق يقتضى الإفراد.

وقال لقمان لابنه: يا بنىّ، إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكّل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجيا. وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح فى شىء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك ويكون له أهل بعدك؛ وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك فى أكلة، وصم [عن [1]] الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعضهم: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة، ويبعد الأمنيّة. قيل: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به تعب، ومن فاته نصب. وفى ذلك قيل: ومن يحمد الدنيا لعيش يسرّه ... فسوف لعمرى عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها، فإنّ عيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل، إمّا بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منيّة قاضية. وقال أبو حازم: إيّاكم والدنيا، فإنّه بلغنى أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظّما للدنيا فيقال: هذا عظّم ما حقّره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية، فالضيف يرتحل والعارية مردودة. وفى ذلك قيل: وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

_ [1] الزيادة عن الإحياء.

وزار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمّها، فقالت: أمسكوا عن ذكرها، فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحبّ شيئا أكثر من ذكره. وقال رجل لعلىّ رضى الله عنه: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا؛ فقال: وما أصف لكم من دار من صحّ فيها ما أمن، ومن سقم فيها ندم [1] ، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن؛ فى حلالها الحساب، وفى حرامها العذاب. وقال الحسن بعد أن تلا قوله تعالى فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا* : من قال ذا؟ من خلقها من هو أعلم بها. إيّاكم وما شغل من الدنيا فإنّ الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضا: مسكين ابن آدم رضى بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حلّه حوسب به، وإن أخذه من حرام عذّب به. ابن آدم يستقلّ ماله ولا يستقلّ عمله، يفرح بمصيبته فى دينه ويجزع من مصيبته فى دنياه. وقال داود الطائىّ: يآبن آدم، فرحت ببلوغ أملك، وإنّما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوّفت بعملك، كأنّ منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما فى الدنيا شىء يسرّك إلا وقد ألصق الله إليه شيئا يسوءك وقال الحسن: أهينوا الدنيا، فو الله ما هى لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضا: إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه عطيّة من الدنيا ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه؛ وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطا.

_ [1] كذا فى الأصلين. وفى الإحياء (ج 3 ص 192) : «من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم» .

قال الجنيد: كان الشافعىّ رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحقّ فى الدين، وعظ أخا له فى الله تعالى وخوّفه بالله فقال: يا أخى، إنّ الدنيا دحض مزلّة، ودار مذلّة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر؛ شملها على الفرقة موقوف، وغتاها إلى الفقر مصروف؛ الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار؛ فافزع إلى الله وارض برزق الله. لا تستسلف من دار بقائك فى دار فنائك، فإن عيشك فىء زائل، وجدار مائل؛ أكثر من عملك، وقصّر من أملك. وهذا من أبلغ المواعظ والترغيب. ومن المواعظ ما قاله أبو الدرداء رضى الله عنه: والله لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصّعدات [تجأرون و [1]] تبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلّا ما لا بدّ لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شرّ من البهائم التى لا تدع هواها مخافة مما فى عاقبته. ما لكم لا تحابّون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين [الله [1]] ؛ ما فرّق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البرّ لتحاببتم. ما لكم تناصحون [2] فى أمر الدنيا ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبّه ويعينه على أمر آخرته! ما هذا إلا من قلّة الإيمان فى قلوبكم. لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرّها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الاخرة لأنها أملك بأموركم. فإن قلتم: حبّ العاجلة غالب؛ فإنّا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل مما تكدّون أنفسكم بالمشقّة والاحتراف فى طلب أمر لعلكم لا تدركونه.

_ [1] زيادة عن الإحياء. [2] فى الأصلين: «ما لكم لا تناصحون فى أمر الدنيا» بدخول لا النافية والسياق يقتضى حذفها. وفى الإحياء: «ما لكم تناصحون فى أمر الدنيا ولا تناصحون فى أمر الآخرة ولا يملك أحدكم ... » .

فبئس القوم أنتم! ما حقّقتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم. فإن كنتم فى شكّ مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأتونا لنبيّن لكم ولنريكم من النور ما تطمئنّ اليه قلوبكم. والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم؛ إنكم لتبيّنون صواب الرأى فى دنياكم وتأخذون بالحزم فى أموركم. ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، يتبين ذلك فى وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمّونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامّتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبيّن ذلك فى وجوهكم [1] ولا يتغيّر حال بكم!. إنى لأرى الله قد تبرّأ منكم. يلقى بعضكم بعضا بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم [2] على الغلّ، ونبتت مراعيكم على الدّمن، وتصافيتم على رفض الأجل. ولو ددت أن الله أراحنى منكم وألحقنى بمن أحبّ رؤيته، ولو كان حيّا لم يصابركم. فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم؛ وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيرا. والله أستعين على نفسى وعليكم. وكتب الحسن البصرىّ إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى: أمّا بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنّة إليها عقوبة؛ فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإنّ الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها؛ لها فى كلّ حين قتيل؛ تذلّ من أعزّها، وتفقر من جمعها؛ هى كالسّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه. فكن فيها كالمداوى جراحته، يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدّة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدّارة الختّالة الخدّاعة التى قد تزيّنت بخدعها وفتنت بغرورها، وحلت بامالها، وسوّفت بخطّابها؛

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ثم لا يتبين ذلك فى وجوههم» . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «فأصبحتم على الغل ... » .

فأصبحت كالعروس المجلوّة [1] ، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلّهم قالية؛ فلا الباقى بالماضى معتبر، ولا الآخر بالأوّل مزدجر، والعارف بالله عز وجلّ حين أخبره عنها مدّكر؛ فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى ونسى المعاد، فشغل لبّه حتى زلّت [به [2]] قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألّمه، وحسرات الفوت بغصّته؛ وراغب [3] فيها لم يدرك فيها ما طلب، ولم يروّح نفسه من التعب؛ فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسرّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإنّ صاحب الدنيا كلما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه؛ السارّ فيها أهلها غارّ، والنافع فيها غدّار [4] ضارّ؛ وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان. لا يرجع منها ما ولّى وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر؛ أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ومن البلاء على حذر. فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت الدنيا أيقظت النائم ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجلّ عنها زاجر وفيها واعظ! فما لها عند الله جل ثناؤه قدر، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبيّك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها إذ كره أن يخالف على الله أمره، أو يحبّ ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها [5] عن الصالحين اختبارا. وبسطها

_ [1] فى الأصل: «المجلية» والفعل واوى كما فى القاموس. [2] زيادة عن الإحياء. [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «ومن راغب بزيادة «من» والسياق يأباها. [4] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «والنافع فيها غدا ضارّ» . [5] زواه زيّا وزويّا: نحّاه.

لأعدائه اغترارا؛ فيظنّ المغرور المقتدر عليها أنه أكرم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شدّ الحجر على بطنه. ولقد جاءت الرواية عنه عن ربّه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبّا بشعار الصالحين. فإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامى الجوع، وشعارى الخوف، ولباسى الصوف، وصلائى فى الشتاء مشارق الشمس، وسراجى القمر، ودابّتى رجلاى، وطعامى وفاكهتى ما تنبت الأرض، أبيت ليس لى شىء وأصبح وليس لى شىء وليس على الأرض أغنى منّى. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحقّ الناس بذمّ الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقّع آفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرّقه، أو تأتى سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدبّ إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشىء هو ضنين به من أحبابه. فالدنيا أحقّ بالذمّ، هى الآخذة لما تعطى، الراجعة فيما تهب. بينا هى تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا هى تبكى له إذ بكت عليه، وبينا هى تبسط كفّه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد. تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفّره فى التراب غدا؛ سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقى، تجد فى الباقى من الذاهب خلفا، وترضى بكلّ من كلّ بدلا. وعن وهب بن منبّه أنه قال: لمّا بعث الله عز وجلّ موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يرو عنّكما لباسه الذى لبس من الدنيا، فإنّ ناصيته بيدى ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفّس إلا بإذنى، ولا يعجبنّكما ما متّع به منها فإنما هى زهرة الدنيا وزينة المترفين. فلو شئت أن أزيّنكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أنّ قدرته

تعجز عمّا أوتيتما لفعلت، ولكنّى أرغب بكما عن ذلك فأزوى ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائى، إنى لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة؛ وما ذاك لهوانهم علىّ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفّرا. إنما يتزيّن لى أوليائى بالذّلّ والخضوع والخوف والتقوى تنبت فى قلوبهم فتظهر على أجسادهم، فهى ثيابهم التى يلبسون، ودثارهم الذى يظهرون، وضميرهم الذى يستشعرون، ونجاتهم التى بها يفوزون، ورجاؤهم الذى إيّاه يأملون، ومجدهم الذى به يفخرون، وسيماهم التى بها يعرفون. فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلّل لهم قلبك ولسانك. واعلم أنّ من أخاف لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة. وخطب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوما [خطبة [1]] فقال فيها: اعلموا أنكم ميّتون، ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيّون بها، فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا؛ فإنّها بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة؛ وكلّ ما فيها إلى زوال، وهى بين أهلها دول وسجال؛ لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرها نزّالها؛ بينا أهلها فى رخاء وسرور، إذا هم منها فى بلاء وغرور؛ أحوال مختلفة، وتارات متصرّفة؛ العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتقصيهم بحمامها؛ وكلّ حتفه فيها مقدور، وحظّه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا، وأشدّ منكم بطشا وأعمر ديارا، وأبعد آثارا؛ فأصبحت أصواتهم هامدة وخامدة من بعد طول تقلّبها، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية؛ استبدلوا بالقصور المشيّدة، والسّرر والنمارق الممهّدة، الصخور

_ [1] زيادة عن الإحياء.

والأحجار المسندة، فى القبور اللاطئة الملحدة؛ فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، وأهل محلّة متشاغلين؛ لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان؛ على ما بينهم من قرب المكان والجوار، ودنوّ الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلى، وأكلتهم الجنادل والثرى؛ وأصبحوا بعد الحياة أمواتا، وبعد غضارة العيش رفاتا؛ فجع بهم الأحباب، وسكنوا التراب، وظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات! كلّا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون؛ فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة فى دار المثوى، وارتهنتم فى ذلك المضجع، وضمّكم ذلك المستودع؛ فكيف بكم لو قد عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحصّل ما فى الصدور؛ ووقفتم للتحصيل، بين يدى الملك الجليل؛ فطارت القلوب، لإشفاقها من سالف الذنوب؛ وهتكت عنكم الحجب والأستار، وظهرت منكم العيوب والأسرار؛ هنالك تجزى كلّ نفس ما كسبت. إن الله عز وجلّ يقول: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ؛ وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً . جعلنا الله وإيّاكم عاملين بكتابه، متّبعين لأوليائه، حتّى يحلّنا وإيّاكم دار المقامة من فضله، إنه حميد مجيد. ومما يلتحق بهذا الفصل ويدخل فيه، خطبة قطرىّ بن الفجاءة وسترد فى كلام البلغاء فى باب الكتابة. وقال بعضهم: يأيها الناس، اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغترّوا بالأمل ونسيان الأجل؛ ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدّارة خدّاعة،

قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة؛ العيون اليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة. فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئنّ إليها خذلت. فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنّها دار كثرت بوائقها، وذمّها خالقها؛ جديدها يبلى، وملكها يفنى؛ وعزيزها يذلّ، وكثيرها يقلّ؛ وحيّها يموت، وخيرها يفوت. فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم؛ قبل أن يقال: فلان عليل، أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، أو على الطبيب من سبيل؛ فيدعى لك الأطبّاء، ولا يرجى لك الشفاء؛ ثم يقال: فلان أوصى، ولماله أحصى؛ ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلّم إخوانه، ولا يعرف جيرانه؛ وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك [1] ، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك؛ وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك؛ وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت الكلام فلا تنطق؛ ثم حلّ بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها الى السماء؛ فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك؛ فغسّلوك وكفّنوك؛ فانقطع عوّادك، واستراح حسّادك؛ وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك. وقال بعض الحكماء: الأيام سهام، والناس أغراض، والدهر يرميك كلّ يوم بسهامه، ويتخرّمك بلياليه وأيّامه، حتّى يستغرق جميع أجزائك؛ فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيّام بك، وسرعة الليالى فى بدنك! لو كشف لك [2] عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كلّ يوم يأتى عليك، واستثقلت ممرّ الساعات بك؛ ولكنّ تدبير الله فوق تدبير الاعتبار؛ وبالسلوّ عن غوائل الدنيا وجد طعم لذّاتها، وإنّها

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «وثبت نفسك ... » . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «لو كشفت عما ... » .

ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه

لأمرّ من العلقم إذا عجمها الحكيم؛ وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتى به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ. اللهم أرشدنا للصواب. وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: أيها الناس، إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدّقون [به [1]] فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذّبون به إنكم لهلكى [2] ؛ إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار الى دار تنقلون. عباد الله، إنكم فى دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو نعمة تسرّون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه خالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل. ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه فأمّا درجاته فقد قال الغزالىّ رحمه الله: إنها تتفاوت بحسب تفاوت قوّته على درجات ثلاث: الأولى وهى السفلى منها: أن يزهد فى الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة ولكنّه يجاهدها ويكفّها، وهذا يسمّى التزهّد، وهو مبدأ الزهد فى حقّ من يصل الى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد. والمتزهّد يذيب أوّلا نفسه ثم كسبه، والزاهد يذيب أوّلا كسبه ثم يذيب نفسه فى الطاعة لا فى الصبر على ما فارقه. والمتزهّد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها فى قليل أو كثير. الثانية: الذى يترك الدنيا طوعا [3] لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذى يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشقّ عليه ذلك وإن كان يحتاج

_ [1] زيادة عن الإحياء. [2] الذى فى الإحياء: «وان كنتم تكذبون به فإنكم هلكى» . [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «طاعة» .

إلى انتظار قليل. ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه، فيكاد يكون معجبا بنفسه وبزهده، ويظنّ بنفسه أنّه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه؛ وهذا أيضا نقصان. الثالثة وهى العليا: أن يزهد طوعا ويزهد فى زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء، فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا. [والدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخسّ من خزفة بالإضافة إلى جوهرة [1]] ؛ فهذا هو الكمال فى الزهد، وسهبه كمال المعرفة. وأما أقسامه فمنها ما هو مضاف إلى المرغوب فيه والمرغوب عنه؛ فأما المرغوب فيه فهو على ثلاث درجات: الأولى وهى السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدى العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار. وفى الخبر: «إن الرجل ليوقف فى الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرقه لصدرت رواء» ؛ فهذا زهد الخائفين وكأنّهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإنّ الخلاص من الألم يحصل بمجرّد العدم. الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة فى ثواب الله ونعيمه واللّذّات الموعودة فى جنّته من الحور والقصور وغيره، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا فى وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له. الدرجة الثالثة وهى العليا: ألا يكون له رغبة إلا فى الله وفى لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الالام ليقصد الخلاص منها، ولا إلى اللذّات ليقصد نيلها والظفر بها،

_ [1] زيادة من الإحياء.

بل هو مستغرق الهمّ بالله تعالى، وهو الموحّد الحقيقىّ الذى لا يطلب غير الله تعالى، لأنّ من طلب غير الله فقد عبده؛ وكلّ مطلوب معبود، وكلّ طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفىّ؛ وهذا زهد المحبّين وهم العارفون، لأنه لا يحبّ الله تعالى خاصّة إلا من عرفه؛ وكما أنّ من عرف الدينار والدرهم وعلم أنّه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحبّ إلا الدينار، فكذلك من عرف الله تعالى وعرف لذّة النظر الى وجهه الكريم، وعرف أن الجمع بين تلك اللذّة وبين لذّة التنعّم بالحور العين والنظر الى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحبّ إلّا لذّة النظر ولا يؤثر غيره. قال: ولا تظنّن أن أهل الجنّة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذّة الحور والقصور متّسع فى قلوبهم، بل تلك اللذّة بالإضافة إلى لذّة نعيم الجنّة كلذّة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى الاستيلاء على عصفور واللعب به؛ والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبىّ الطالب للّعب بالعصفور التارك للذّة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذّة الملك لا لأن اللعب بالعصفور فى نفسه أعلى وألذّ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق. وأمّا المرغوب عنه، فقد كثرت فيه الأقاويل. قال الغزالىّ رحمه الله: لعلها تزيد على مائة قول، وأشار إلى كلام محيط بالتفاصيل فقال: المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل، ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمع للجمل. أما الإجمال فى الدرجة الأولى: فهو كلّ ما سوى الله فينبغى أن يزهد فيه حتّى يزهد فى نفسه أيضا.

والإجمال فى الدرجة الثانية: أن يزهد فى كل صفة للنفس فيها متعة، وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغير ذلك. وفى الدرجة الثالثة: أن يزهد فى المال والجاه وأسبابهما، إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس. وفى الدرجة الرابعة: أن يزهد فى العلم والقدرة والدينار والدرهم [والجاه [1]] ، إذ الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم، والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة. قال: وأعنى به كلّ علم وقدرة مقصودهما ملك القلوب؛ إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها، كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها. قال: فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فتكاد تخرج ما فيه الزهد عن الحصر. وقد ذكر الله تعالى فى آية واحدة سبعة منها فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا . ثم ردّه فى آية أخرى إلى خمسة فقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ . ثم ردّه فى موضع آخر إلى اثنين فقال: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ؛ فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس فى الدنيا، فينبغى أن يكون الزهد فيه. قال: فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلّها.

_ [1] زيادة عن الإحياء.

ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة

وقال أبو سليمان الدارانىّ: سمعنا فى الزهد كلاما كثيرا، والزهد عندنا ترك كلّ شى يشغلك عن الله عز وجلّ، وقرأ قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، قال: هو القلب الذى ليس فيه غير الله. فهذا بيان أقسامه بالإضافة إلى المرغوب فيه وعنه. وأما أحكامه فتنقسم إلى فرض ونفل وسلامة. فالفرض هو الزهد فى الحرام، والنفل هو الزهد فى الحلال، والسلامة هو الزهد فى الشبهات. فهذه درجاته وأقسامه وأحكامه على سبيل الاختصار. ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة قال الغزالىّ رحمه الله: اعلم أنّ ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهمّ؛ فالفضول كالخيل المسوّمة- إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفّه بركوبها وهو قادر على المشى- وغير ذلك مما لا ينحصر. ثم حصر المهمّ الضرورىّ فتميّز ما عداه أنّه فضول. قال: والمهمّ أيضا يتطرّق إليه فضول فى مقداره وجنسه [1] وأوقاته على ما يشرحه من قوله. قال: والمهمّات ستّة أمور، وهى: المطعم، والملبس، والمسكن وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه يطلب لأغراض. فالمهمّ الأوّل المطعم. ولا بدّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ولكن له طول وعرض ووقت. فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه قد لا يقنع به، وهو لا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقلّ درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدّته وخوف المرض. ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدّخر [2] من غدائه لعشائه؛ وهذه الدرجة العليا.

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وحسنه ... » . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ولم يدخر» بالواو.

والثانية: أن يدّخر لشهر أو أربعين يوما. والثالثة: أن يدّخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهّاد. ومن ادّخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهدا محال؛ لأنّ من أمّل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جدّا فلا يتمّ منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدى الناس، كداود الطانىّ فإنه ورث عشرين دينارا فأمسكها وأنفقها عشرين سنة، فهذا لا يضادّ الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد. وأمّا عرضه فبالإضافة الى المقدار، وأقل درجاته فى اليوم والليله نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مدّ- وهو ما قدّره الله تعالى فى إطعام المساكين فى الكفّارة- وما وراء ذلك فهو اتساع واشتغال بالبطن. ومن لم يقدر على الاقتصار على مدّ لم يكن له من الزهد فى البطن نصيب. وأمّا بالإضافة إلى الجنس فأقلّه ما يقوت وهو الخبز من النّخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البرّ غير منخول؛ فاذا ميّزت النّخالة منه وصار حوّارى فقد دخل فى التنعّم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلا عن أوائله. وأمّا الأدم، فأقلّه الملح أو البقل والخلّ، وأوسطة الزيت أو يسير من الأدهان، وأعلاه اللحم وذلك فى الأسبوع مرّة أو مرّتين؛ فإن صار دائما أو أكثر من مرّتين فى الأسبوع خرج من آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهدا فى البطن أصلا. وأمّا بالإضافة إلى الوقت فأقلّه فى اليوم والليلة مرّة وهو أن يكون صائما ثم يفطر فى وقت الإفطار؛ وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب؛ وأعلاه أن ينتهى إلى أن يطوى ثلاثة أيام وأسبوعا وما زاد عليه. وانظر الى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى كيفيّة زهدهم فى المطاعم وتركهم الأدم واقتصارهم على ما يمسك الرمق. قالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله

عنها: كانت تأتى علينا أربعون ليلة وما يوقد فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار. قيل لها: فبم كنتم تعيشون؟ قالت: بالأسودين التمر والماء. وجاء أهل قباء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بشربة من لبن مشوبة بعسل، فوضع القدح من يده وقال: «أما إنّى لست أحرّمه ولكنّى أتركه تواضعا لله تعالى» . وأتى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل فى يوم صائف فقال: اعزلوا عنّى حسابها. وقال يحيى بن معاذ الرازىّ. الزاهد الصادق قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث أدرك؛ الدنيا سجنه، والقبر مضجعه، والخلوة مجلسه، والاعتبار فكرته، والقرآن حديثه، والربّ أنيسه، والذكر رفيقه، والزهد قرينه، والحزن شأنه، والحياء شعاره، والجوع إدامه، والحكمة كلامه، والتراب فراشه، والتقوى زاده، والصمت غنيمته، والصبر معتمده، والتوكّل حسبه، والعقل دليله، والعبادة حرفته، والجنّة مبلغه إن شاء الله تعالى. المهم الثانى الملبس. وأقلّ درجاته ما يدفع الحرّ والبرد ويستر العورة، وهو كساء يتغطّى به؛ وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان؛ وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حدّ الزهد. وشرط الزهد ألّا يكون له ثوب يلبسه اذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود فى البيت؛ فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع أبواب الزهد. هذا من حيث المقدار. وأما الجنس، فأقلّه المسوح الخشنة، وأوسطه الصوف الخشن، وأعلاه القطن الغليظ. وأما من حيث الوقت، فأقصاه ما يستر سنة، وأقلّه ما يبقى يوما، وقد رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر [وإن كان يتسارع الجفاف إليه [1]] ؛ وأوسطه ما يتماسك

_ [1] زيادة من الإحياء.

عليه شهرا وما يقاربه. فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل، وهو مضادّ للزهد إلا إذا كان المطلوب خشونته وقد يتبع ذلك قوّته ودوامه. فمن وجد زيادة من ذلك فينبغى أن يتصدّق به؛ فإن أمسكه لم يكن زاهدا بل كان محبّا للدنيا. ولينظر إلى أحوال الأنبياء صلى الله عليهم والصحابة رضى الله عنهم كيف تركوا الملابس. قال أبو بردة: أخرجت لنا عائشة رضى الله عنها كساء ملبّدا وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذين. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحبّ المتبذّل الذى لا يبالى ما لبس» . وفى الخبر: «ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبا» . واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا بأربعة دراهم وكان إزاره أربعة أذرع ونصفا، واشترى سراويل بثلاثة دراهم، وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت تسمّى حلّة لأنهما ثوبان من جنس واحد. وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليّين. ولبس صلى الله عليه وسلم يوما واحدا ثوبا سيراء [1] من سندس قيمته مائتا درهم، فكان أصحابه يلمسونه ويقولون: يا رسول الله، أنزل هذا عليك من الجنّة! تعجّبا، وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية، فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به، ثم حرّم لبس الحرير والديباج. وقد صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى خميصة [2] لها علم فلمّا سلّم قال: «شغلنى النظر الى هذه اذهبوا بها الى أبى جهم وأتونى بأنجبانيّته [3] » (يعنى كساءه) فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم. وكان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد فصلّى

_ [1] السيراء (بكسر السين وفتح التحتية ممدودا) : ضرب من البرود فيه خطوط صفر. [2] الخميصة: ثوب خز أو صوف معلم. [3] الأنبجانىّ: نسبة الى منبج (كمجلس) موضع بالشأم، يقال فى النسبة اليه منبجانى وأنبجانى بفتح بائهما على غير قياس.

فيه؛ فلما سلّم قال: «أعيدوا الشّراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإنّى نظرت إليه فى الصلاة» . وعن جابر رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضى الله عنها وهى تطحن بالرحا وعليها كساء من وبر الإبل [1] ، فلما نظر إليها بكى وقال: «يا فاطمة تجرّعى مرارة الدنيا لنعيم الأبد» . فأنزل الله عليه (ولسوف يعطيك ربّك فترضى) . [وقد أوصى أمته عامّة باتباعه إذ قال: «من أحبنى فليستنّ بسنّتى» . وقال: «عليكم بسنتى وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ» . وقال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [2]] . وأوصى رسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضى الله عنها خاصة وقال لها: «إن أردت اللّحوق بى فإيّاك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعى ثوبا حتى ترقعيه» . وعدّ على قميص عمر رضى الله عنه اثنتان [3] وعشرون رقعة بعضها من أدم. وفى الخبر: «من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعا لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقّا على الله أن يدّخر له من عبقرىّ الجنّة فى أتخات الياقوت» . وقال عمر رضى الله عنه: اخلولقوا واخشوشنوا، وإيّاكم وزىّ العجم كسرى وقيصر. وقال الثورىّ وغيره: البس من الثياب ما لا يشهّرك عند العلماء ولا يحقّرك عند الجهّال. وقال بعضهم: قوّمت ثوبى سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانيق. والأخبار فى التقلّل من اللباس كثيرة فلا نطوّل بسردها. المهم الثالث المسكن. وللزهد فيه أيضا ثلاث درجات، أعلاها ألّا يطلب موضعا خاصا لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصّفّة، وأوسطها أن يطلب

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «من أجلة الابل ... » . [2] زيادة عن الإحياء. [3] كذا بالأصل. وفى الإحياء (ج 4 ص 223 طبع بلاق) : «اثنتا عشرة رقعة» .

موضعا خاصّا لنفسه مثل كوخ مبنىّ من سعف أو خصّ أو ما يشبهه، وأدناها أن يطلب حجرة مبنيّة إما بشراء أو إجارة. فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم تكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد. فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكليّة حدّ الزهد فى المسكن. قال: والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى. وأقلّ الدرجات فيه معلوم، وما زاد عليه فهو من الفضول، والفضول كله من الدنيا، وطالب الفضول والساعى له بعيد من الزهد. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبد شرّا أهلك ماله فى الماء والطين» . وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: مرّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصّا فقال: «ما هذا» قلنا: خصّ لنا قد وهى؛ قال: «أرى الأمر أعجل من ذلك» . واتخذ نوح عليه السلام بيتا من قصب؛ فقيل له: لو بنيت! فقال: هذا كثير لمن يموت. وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز [1] وهو فى بيت من قصب قد مال عليه؛ فقيل له: لو أصلحته! فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة» . وفى الخبر: «كلّ نفقة للعبد يؤجر عليها إلا ما أنفقه فى الماء والطين» . وجاء فى تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً أنه الرياسة والتطاول فى البنيان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكنّ من حرّ وبرد» . ونظر عمر رضى الله عنه

_ [1] كذا فى كتابى الخلاصة والتهذيب فى أسماء الرجال. وفى الأصلين: «محيريز» .

فى طريق الشأم الى صرح قد بنى بجصّ وآجرّ، فكبّر وقال: ما كنت أظنّ أن يكون فى هذه الأمّة من يبنى بنيان هامان لفرعون. وكان ارتفاع بناء السلف قامة وبسطة. قال الحسن: كنت اذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدى الى السقف. وقال عمرو بن دينار: اذا علىّ العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: الى أين يا أفسق الفاسقين. وقال الفضيل: إنّى لا أعجب ممن بنى وترك ولكنّى أعجب ممن نظر اليه ولم يعتبر. وقال ابن مسعود: يأتى قوم يرفعون الطين، ويضعون الدين، ويستعملون البراذين، يصلّون الى قبلتكم، ويموتون على غير دينكم. المهم الرابع أثاث البيت. وللزهد فيه أيضا درجات، أعلاها حال عيسى عليه السلام إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز؛ فرأى إنسانا يمشط لحيته بأصابعه؛ فرمى بالمشط. ورأى آخر يشرب من النهر بكفّيه فرمى بالكوز. وهذا حكم كلّ أثاث فإنه إنما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال فى الدنيا والآخرة. وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقلّ الدرجات وهو الخزف فى كلّ ما يكفى فيه الخزف، ولا يبالى أن يكون مكسور الطرف اذا كان المقصود يحصل به. وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح فى نفسه، ولكن يستعمل الآلة الواحدة فى مقاصد كالذى معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها. وكان السلف يستحبّون استعمال آلة واحدة فى أشياء للتخفيف. وأعلاها أن يكون له بعدد كلّ حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس؛ فإن زاد فى العدد أو فى نفاسة الجنس خرج من جميع أبواب الزهد وركن الى طلب الفضول. ولينظر الى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضى الله عنهم. قالت عائشة رضى الله عنها: كان

ضجاع [1] رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف. وقال الفضيل: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا عباءة مثنيّة ووسادة حشوها ليف. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمول [2] بشريط، فجلس فرأى أثر السرير فى جنبه عليه السّلام فدمعت عينا عمرّ. فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما الذى أبكاك يابن الخطاب» ؟ قال: ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيّه ورسوله نائم على سرير مرمول بالشريط! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى يا عمر أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة» ! قال: بلى يا رسول الله. قال: «فذلك كذلك» . ودخل رجل على أبى ذرّ فجعل يقلّب بصره فى بيته فقال: يا أبا ذرّ، ما أرى فى بيتك متاعا ولا غير ذلك من الأثاث! فقال: إن لنا بيتا نوجّه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا. فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. ولما قدم عمير بن سعد أمير حمص على عمر قال له: ما معك من الدنيا؟ فقال: معى عصاى أتوكّأ عليها وأقتل بها حيّة إن لقيتها، ومعى جرابى أحمل فيه طعامى، ومعى قصعتى آكل فيها وأغسل فيها رأسى وثوبى، ومعى مطهرتى أحمل فيها شرابى ووضوئى للصلاة، فما كان بعد هذا من

_ [1] كذا فى الأصلين والإحياء، ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى لسان العرب ونهاية ابن الأثير «ضجعة» وقالا فى تفسيره: «الضجعة بالكسر من الاضطجاع وهو النوم كالجلسة من الجلوس وبفتحها المرة الواحدة، والمرادّ ما كان يضطجع عليه فيكون فى الكلام مضاف محذوف تقديره كانت ذات ضجعته أو ذات اضطجاعه فراش أدم ... » . [2] الرمل: النسج، والسرير المرمول هو الذى ينسج له شريط ويجعل ظهرا له (عن القاموس) . وقد ورد الحديث فى نهاية ابن الأثير وفى لسان العرب: «واذا هو جالس على رمال سرير» وفى رواية أخرى «على رمال حصير» . والرمال كحطام وركام ما رمل أى نسج. والمراد أن هذا السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن عليه وطاء سوى الحصير.

الدنيا فهو تبع لما معى. فقال عمر: صدقت، رحمك الله. وقدم رسول الله صلى الله وسلم من سفر، فدخل على فاطمة رضى الله عنها فرأى على باب منزلها سترا وفى يديها قلبين من فضّة فرجع. فدخل عليها أبو رافع وهى تبكى، فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأله أبو رافع فقال: «من أجل الستر والسّوارين» : فأرسلت بهما بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: قد تصدّقت بهما فضعهما حيث ترى. فقال: «اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصّفّة» . فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدّق بهما عليهم. فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بأبى أنت قد أحسنت» . وقال الحسن: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه، وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبا قطّ، كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه. المهم الخامس المنكح. قال الغزالىّ: وقد قال قائلون: لا معنى للزهد فى أصل النكاح ولا فى كثرته؛ وإليه ذهب سهل بن عبد الله وقال: قد حبّب إلى سيّد الزاهدين النساء فكيف نزهد فيهنّ! ووافقه ابن عيينة، وقال: كان أزهد الصحابة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرّيّة. قال الغزالىّ: والصحيح ما قاله أبو سليمان الدارانىّ إذ قال: كلّ ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم. والمرأة قد تكون شاغلا عن الله. قال: وكشف الحقّ فيه أنّه قد تكون العزوبة أفضل فى بعض الأحوال فيكون ترك النكاح من الزهد. وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب فكيف يكون تركه من الزهد! وإن لم يكن عليه آفة فى تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح احترازا عن ميل القلب إليهنّ والأنس بهنّ بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد. وإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازا من لذّة النظر والمضاجعة

والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلا؛ فإن الولد مقصود لبقاء نسله، وتكثير أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من القربات. واللذّة التى تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضرّه إذا لم تكن هى المقصد والمطلب؛ وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازا من لذّة الأكل والشرب، وليس ذلك من الزهد فى شئ؛ لأن فى ترك ذلك فوات بدنه، فكذلك فى ترك النكاح انقطاع نسله؛ فلا يجوز أن يترك النكاح زهدا فى لذّته من غير آفة أخرى. قال: وأكثر الناس تشغلهم كثرة النسوان، فينبغى أن يترك الأصل إن كان يشغله، وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدة غير جميلة وليراع قلبه فى ذلك. قال أبو سليمان: الزهد فى النساء أن تختار المرأة الدّون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة. وقال الجنيد: أحبّ للمريد المبتدى ألّا يشغل قلبه بثلاث وإلّا تغيّر حاله: التكسّب، وطلب الحديث، والتزوّج. فقد ظهر أن لذّة النكاح كلذّة الأكل والشرب، فما شغل عن الله تعالى فهو محذور فيهما جميعا. المهم السادس: ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه. [أمّا الجاه [1]] فمعناه ملك القلوب بطلب محلّ فيها ليتوصّل به إلى الاستعانة فى الأغراض والأعمال. وكلّ من لا يقدر على القيام بنفسه فى جميع حاجاته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة فى قلب خادمه؛ لأنه إن لم يكن له عنده محلّ وقدر لم يقم بخدمته. وقيام القدر والمحلّ فى القلوب هو الجاه. قال: وإنما يحتاج إلى المحلّ فى القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو لخلاص من ظلم. فأمّا النفع فيغنى عنه المال؛ فإنّ من بخدم بأجرة خدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه فى قلب من يخدم

_ [1] الزيادة عن الإحياء.

بغير أجرة. وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه فى بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه فلا يقدر على دفع شرّهم إلا بمحلّ له فى قلوبهم أو محلّ له عند السلطان. وقدر الجاه فيه لا ينضبط. والخائض فى طلب الجاه سالك طريق الهلاك. بل حق الزاهد ألّا يسعى لطلب المحل فى القلوب أصلا؛ فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهّد له من المحلّ فى القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفّار فكيف بين المسلمين. وأمّا التوهّمات والتقديرات التى تحوج [1] إلى زيادة فى الجاه على الحاصل بغير كسب فهى أوهام كاذبة؛ إذ من طلب الجاه لم يخل عن أذى فى بعض الأحوال؛ فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه. فإذا طلب المحلّ فى القلوب لا رخصة فيه أصلا، واليسير منه داع إلى الكثير، وضراوته أشدّ من ضراوة الخمر، فليحترز من قليله وكثيره. وأمّا المال، فهو ضرورىّ فى المعيشة أعنى القليل منه. فإن كان كسوبا، فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغى أن يترك الكسب، هذا شرط الزهد؛ فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حدّ ضعفاء الزهّاد وأقويائهم جميعا. وإن كانت له ضيعة ولم تكن له قوّة يقين فى التوكّل فأمسك منها مقدار ما يكفى ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدّق بكلّ ما يفضل عن كفاية سنة؛ ولكن يكون من ضعفاء الزّهاد. قال: وأمر المنفرد فى جميع ذلك أخف من أمر المعيل. وقد قال أبو سليمان: لا ينبغى أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه؛ فإن أجابوا وإلّا تركهم

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «تخرج ... » .

وفعل بنفسه ما شاء. قال: والذى يضطرّ الإنسان إليه من الجاه والمال ليس بمحدود؛ فالزائد منه على الحاجة سمّ قاتل، والاقتصار على قدر الضرورة دواء نافع، وما بينهما درجات متشابهة، فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سمّا قاتلا فهو مضرّ، وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنّه قليل الضرر. والسمّ محظور شربه، والدواء فرض تناوله، وما بينهما مشتبه أمره. فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه، ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه، ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وردّ نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرقة الناجية لا محالة. والمقتصر على [قدر [1]] الضرورة والمهمّ لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين، والشرط من جملة المشروط. وقد روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما. فأوحى الله تعالى إليه: لو سألت خليلك لأعطاك. فقال: يا ربّ، عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا. فأوحى الله إليه: ليس الحاجة من الدنيا. فعلى هذا يكون قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال فى الآخرة؛ وهو أيضا فى الدنيا كذلك، يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة فى كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذّلّ فيه؛ وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلوه، وربما يكونون أعداء له، وقد يستعينون به على المعاصى فيكون هو معينا لهم عليها. ولذلك شبّه جامع الدنيا ومتّبع الشهوات بدود القزّ إذ لا يزال ينسج على نفسه حيّا [2] ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه؛ فكذلك كلّ من اتبع شهوات الدنيا. قال الشاعر:

_ [1] الزيادة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ينسج على نفسه حتى يقتلها ثم يروم» .

ذكر بيان علامات الزهد

كدود كدود القزّ ينسج دائما ... ويهلك غمّا وسط ما هو ناسجه قال: ولما انكشف لأولياء الله تعالى أنّ العبد مهلك نفسه بأعماله واتبّاعه هوى نفسه إهلاك دود القزّ نفسه رفضوا الدنيا بالكلّيّة؛ حتى قال الحسن: رأيت سبعين بدريّا كانوا فيما أحلّ الله لهم أزهد منكم فيما حرّم الله عليكم. وفى لفظ آخر: كانوا بالبلاء أشدّ فرحا منكم بالخصب والرخاء، لو رأيتموهم قلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم قالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم قالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد علىّ قلبى. فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده، والذين أمات حبّ الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم فقال: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ؛ وقال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ؛ وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ؛ فأحال ذلك كلّه على الغفلة وعدم الفكر. وقال بعضهم: ما من يوم ذرّ شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون فى الآفاق بأربعة أصوات: ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق: يا باغى الخير هلّم، ويا باغى الشرّ أقصر. ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا. ويقول اللذان بالمغرب أحدهما: لدوا للموت وابنوا للخراب؛ ويقول الآخر: كلوا وتمتّعوا لطول الحساب. ذكر بيان علامات الزهد قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: اعلم أنه قد يظنّ أنّ تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد. فكم

من الرّهابين [1] من ردّوا أنفسهم كل يوم الى نزر يسير من الطعام ولازموا ديّرا لا باب له، وإنما مسرّة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له؛ فذلك لا يدلّ على الزهد دلالة قاطعة؛ بل لا بدّ من الزهد فى المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد فى [2] جميع حظوظ النفس من الدنيا؛ بل قد يدّعى جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخوّاص فى وصف المدّعين إذ قال: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلّا ينظر إليهم بالعين التى ينظر بها الى الفقراء فيحقروا فيعطوا كما يعطى المساكين ويحتجّون لأنفسهم باتّباع العلم وأنّهم على السنّة وأنّ الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها، وإنما يأخذون [ما يأخذون [3]] بعلّة غيرهم؛ هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق. وكلّ هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوها حالا لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. هذا كلام الخوّاص. قال الغزالىّ رحمه الله: فإذا معرفة الزهد أمر مشكل، [بل حال الزهد على الزاهد مشكل [2]] ؛ فينبغى أن يعوّل فى باطنه على ثلاث علامات: العلامة الأولى: ألّا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، كما قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، بل ينبغى أن يكون بالضدّ من ذلك وهو أن يحزن لوجود المال ويفرح لفقده. العلامة الثانية: أن يستوى عنده ذامّه ومادحه؛ فالأولى علامة الزهد فى المال، والثانية علامة الزهد فى الجاه.

_ [1] الرهابين: جمع رهبان وهو الكثير الخوف. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «حتى يكمل الزهد بل فى جميع ... الخ» . [3] زيادة من الإحياء.

العلامة الثالثة: أن يكون أنسه بالله عز وجل، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب من حلاوة المحبّة، إما محبّة الدنيا وإما محبّة الله، وهما فى القلب كالماء والهواء فى القدح؛ فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان؛ وكلّ من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره. وقد قال أهل المعرفة: إذا تعلّق الإيمان بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة جميعا وعمل لهما، وإذا بطن الإيمان فى سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا ولم ينظر إليها ولم يعمل لها. وقد ورد فى دعاء آدم عليه السلام: اللهمّ إنّى أسألك إيمانا يباشر قلبى. وقال أبو سليمان: من شغل بنفسه شغل عن الناس، وهذا مقام العاملين. ومن شغل بربّه شغل عن نفسه، وهذا مقام العارفين. والزاهد لا بدّ أن يكون فى أحد هذين المقامين. وبالجملة فعلامة الزهد استواء الفقر والغنى والعزّ والذّلّ والمدح والذمّ، وذلك لغلبة الأنس بالله. ويتفرّع عن هذه العلامات علامات أخر مثل أن يترك الدنيا ولا يبالى من أخذها. وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هى فلا يقول: أبنى رباطا أو أعمر مسجدا؛ وهذا من كلام الأستاذ أبى علىّ الدقّاق. وقال ابن خفيف: علامته وجود الراحة فى الخروج من الملك. وقال الجنيد: علامته خلوّ القلب عمّا خلت منه اليد. وقال أحمد بن حنبل وسفيان: علامة الزهد قصر الأمل. وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكّل وألبس برد الزهد وأقعد مع الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السرّ إلى حدّ لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف فى نفسك؛ فأمّا ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح. قالوا: ولا يتمّ الزهد إلا بالتوكّل؛ فلنذكر التوكّل.

ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته

ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته أمّا فضيلته فقد قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وقال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ . وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ؛ وناهيك بذلك مقاما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أريت الأمم فى الموسم فرأيت أمّتى قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتنى كثرتهم وهيئتهم فقيل لى أرضيت قلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب قيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يتطيّرون ولا يسترقون وعلى ربّهم يتوكّلون» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله عز وجلّ كفاه الله تعالى مئونة رزقه [1] من حيث لا يحتسب ومن انقطع الى الدنيا وكله الله اليها» . وأمّا حقيقة التوكل فقد قال الغزالىّ رحمه الله: التوكّل مشتقّ من الوكالة يقال: وكل أمره إلى فلان أى فوّضه إليه واعتمد عليه [فيه [2]] . ويسمّى الموكول [3] إليه وكيلا، ويسمّى المفوّض اليه متّكلا عليه ومتوكّلا عليه مهما [4] اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتّهمه فيه [بتقصيره ولم يعتقد فيه عجزا ولا قصورا [5]] . ثم قال بعد أن ضرب لذلك أمثلة يطول شرحها: واعلم أن حالة التوكّل فى القوّة والضعف ثلاث درجات: الأولى: أن يكون حاله فى حقّ الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله فى الثقة بالوكيل.

_ [1] فى الإحياء (ج 4 ص 242) : «كفاه الله كل مئونة ورزقه ... » . [2] الزيادة عن الإحياء. [3] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الموكل اليه ... » . [4] كذا فى الأصل والإحياء. ولعلها: «ما اطمأنت ... » . [5] زيادة عن الإحياء.

الثانية وهى أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل فى حق أمّه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ولا يعتمد [1] إلا إياها؛ فإن رآها تعلّق فى كلّ حال بها، وإن نابه أمر فى غيبتها كان أوّل سابق إلى لسانه: يا أمّاه، وأوّل خاطر يخطر على قلبه أمه لوثوقه بكفالنها وكفايتها وشفقتها. الثالثة وهى أعلاها: أن يكون بين يدى الله تعالى فى حركاته وسكناته مثل الميّت بين يدى الغاسل يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير. قال: وهذا المقام فى التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطى ابتداء أفضل مما يسأل. وقد تكلّم المشايخ فى التوكّل وبيان حدّه واختلفت عباراتهم وتكلّم كلّ واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حدّه. قال أبو موسى الدّيلى: قلت لأبى يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعى عن يمينك ويسارك ما تحرّك لذلك سرّك. فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب، ولكن لو أن أهل الجنة فى الجنّة يتنّعمون، وأهل النار فى النار يعذبون، ثم وقع بك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكّل. وسئل أبو عبد الله القرشىّ عن التوكّل فقال: التعلّق بالله تعالى فى كلّ حال. فقال السائل: زدنى؛ فقال: ترك كلّ سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون [الحق [2]] هو المتولّى لذلك. وهذا مثل توكّل إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا؛ إذ كان سؤاله يفضى الى سبب فترك ذلك ثقة بأن الله يتولّى ذلك.

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «يغتنم» . [2] زيادة عن الإحياء.

قال أبو سعيد الخرّاز: التوكّل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب. أشار بالأوّل إلى فزعه إلى الله تعالى وابتهاله وتضرّعه بين يديه كاضطراب الطفل بيديه إلى أمّه؛ وبالثانى إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به [1] . وقال أبو علىّ الدقّاق: التوكّل على ثلاث درجات: التوكّل ثم التسليم ثم التفويض، فالمتوكّل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. وقال: التوكّل بداية، والتسليم وسائط، والتفويض نهاية. وقال: التوكّل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحّدين. وسئل ابن عطاء عن حقيقة التوكّل فقال: ألّا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقّ مع وقوفك عليها. وقال أبو نصر السرّاج: شرط التوكّل ما قاله أبو تراب النّخشبىّ وهو طرح البدن فى العبودية وتعلّق القلب بالربوبيّة والطّمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر [2] ، وإن منع صبر. وكما قال ذو النّون: التوكّل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوّة. وقال أبو بكر الدقّاق: التوكّل ردّ العيش إلى يوم واحد وإسقاط همّ غد. وسئل ذو النون: ما التوكّل؟ فقال: خلع الأرباب، وقطع الأسباب. فقال السائل: زدنى؛ فقال: إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الرّبوبيّة. وقال مسروق: التوكّل الاستسلام لجريان [3] القضاء والأحكام. وقال أبو عثمان: التوكّل الاكتفاء بالله مع الاعتماد عليه. وقيل: التوكل الثقة بما فى يد الله واليأس مما فى يد الناس. وقيل: التوكّل فراغ السرّ عن التفكّر فى التقاضى فى طلب الرزق.

_ [1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «وبالثانى الى سكون القلب الى التوكل وثقة به» . [2] فى الأصلين: «سكن» والسياق يقتضى ما أثبتناه. [3] فى الأصل: «بجريان» بالباء ولم نجد هذا الفعل يتعدى بالباء

ذكر بيان أعمال المتوكلين

ذكر بيان أعمال المتوكلين قال الغزالىّ رحمه الله: قد يظنّ أن معنى التوكّل ترك الكسب [بالبدن [1]] وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم؛ وهذا ظنّ الجهّال، فإنّ ذلك حرام فى الشرع؛ والشرع قد أثنى على المتوكّلين فكيف ينال مقام من مقامات الدّين بمحظورات الدّين! بل إنما يظهر تأثير التوكّل فى حركة العبد وسعيه بعمله إلى مقاصده. وسعى العبد باختياره إمّا أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود [2] عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادّخار، أو لدفع ضارّ لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضارّ قد نزل به كالتداوى من المرض. فمقصود حركات العبد لا يعدو هذه الحالات الأربع التى هى جلب النافع أو حفظه أو دفع الضارّ أو قطعه. ثم ذكر شرط التوكّل ودرجاته فى كل واحد منها، وقرن ذلك بشواهد الشرع، فقال ما مختصره ومعناه: امّا جلب النافع، فالأسباب التى بها يجلب النافع على ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظنّا يوثق به، وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامّة ولا تطمئنّ إليه. فالدرجة الأولى: المقطوع به كالطعام إذا وضع بين يدى الرجل وهو جائع محتاج إلى تناوله فامتنع من مدّ يده إليه وقال: أنا متوكّل، وشرط التوكل ترك السعى، ومدّ اليد إليه سعى وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك على أسفله؛ فهذا جنون وليس من التوكّل فى شىء، فإنه إن انتظر أنّ الله تعالى يخلق فيه شبعا دون الخبز أو يسخّر ملكا يمضغه ويوصله الى معدته فهذا رجل جهل سنّة الله

_ [1] الزيادة عن الإحياء (ج 4 ص 253 طبعة بلاق) . [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «معبود عنه» .

تعالى؛ وكذلك لو لم يزرع الأرض وطمع أنّ الله تعالى يخلق نباتا من غير بذر أو تلد زوجه من غير مباضعة كمريم، فكلّ ذلك جنون؛ بل يجب عليه أن يعلم أن الله تعالى خالق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة، وأنّه الذى يطعمه ويسقيه، وأن يكون قلبه واعتماده على فضل الله تعالى لا على اليد والطعام، فليمدّ يده ويأكل فإنه متوكل. والدرجة الثانية: الأسباب التى ليست متعيّنة، ولكن الغالب أن المسبّبات لا تحصل دونها واحتمال حصولها دونها بعيد كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى التى لا يطرقها الناس إلا نادرا ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطا فى التوكّل، بل استصحاب الزاد فى البوادى سنّة الأوّلين مع الاعتماد على فضل الله عز وجل لا على الزاد؛ ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل وهو فعل الخواصّ. قال الغزالىّ: فإن قلت: فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس إلى التّهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراما بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها حتى صبرت عن الطعام أسبوعا أو ما يقاربه بحيث إنه لا يناله ضيق قلب ولا تشويش خاطر. والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوّت بالحشيش وما يتّفق من الأشياء الخسيسة، فإنه لا يخلو غالب الأمر فى البوادى فى كلّ أسبوع أن يلقاه آدمى أو ينتهى إلى محلّة أو قرية أو الى حشيش يتقوّت به؛ وعلى هذا كان يعوّل الخوّاص ونظراؤه من المتوكّلين. وقد كان الخوّاص مع توكّله لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة، ويقول: هذا لا يقدح فى التوكّل. وأمّا لو انحاز الى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى إهلاك نفسه.

وأمّا القاعد فى البلد بغير كسب فليس ذلك حراما، لأنه لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخّر عنه. فإن أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام. فإن فتح باب البيت وهو بطّال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج له أولى، ولكن ليس فعله حراما إلّا أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب. وإن كان مشغول القلب بالله غير متطلّع إلى الناس ولا إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزق، بل تطلّعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكّل، فإن الرزق يأتيه لا محالة. فلو هرب العبد من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه. قال ابن عباس رضى الله عنهما: اختلف الناس فى كلّ شىء إلا فى الرزق والأجل [فإنّهم [1]] أجمعوا أن لا رازق ولا مميت إلا الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكّلتم على الله تعالى حقّ توكّله لرزقكم [2] كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال» . وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدّخر والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا، فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله تعالى لها هذا الخلق [للرزق [1]] . وقال أبو يعقوب السوسى: المتوكّلون تجرى أرزاقهم على أيدى العباد بلا تعب منهم وغبرهم مشغولون مكدودون. وقال بعضهم: العبيد كلّهم فى رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذلّ كالسّؤال، وبعضهم يأكل بتعب كالتجّار، وبعضهم بامتهان كالصنّاع، وبعضهم بعزّ كالصوفيّة، يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة. والدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التى يتوهّم إفضاؤها إلى المسبّبات من غير ثقة ظاهرة، كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه،

_ [1] زياة عن الإحياء. [2] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «لرزقتم ... » .

وذلك يخرج بالكلّيّة عن درجات التوكّل كلّها، وهو الذى الناس كلّهم فيه من التكسّب بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح. هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى فى جلب النافع، وذكر لذلك أمثلة ونظائر تركناها اختصارا. وأمّا حفظ النافع فهو التعرض لأسباب الادّخار، فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله فى الادّخار ثلاث أحوال: الأولى: أن يأخذ قدر حاجته فى الوقت فيأكل إن كان جائعا، ويلبس إن كان عاريا، ويشترى مسكنا مختصرا إن كان محتاجا، ويفرّق الباقى فى الحال ولا يدّخر منه إلا ما أرصده لمحتاج؛ فهذا هو الموفى بموجب التوكّل تحقيقا، وهى الدرجة العليا. الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكّل: أن يدّخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكّلين أصلا. الحالة الثالثة: أن يدّخر لأربعين يوما فما دونها، فهذا يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود فى الآخرة للمتوكّلين. وقال الخوّاص: لا يخرج بأربعين يوما ويخرج بما زاد عليها. وامّا دفع الضارّ عن النفس والمال فقد قال الغزالىّ رحمه الله: ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر. أمّا فى النفس فكالنوم فى الأرض المسبعة أو فى مجارى السيل من الوادى أو تحت الجدار المائل أو السقف المتكسّر، فإنّ ذلك منهىّ عنه وصاحبه قد عرّض نفسه إلى الهلاك بغير فائدة. وأمّا فى المال فلا ينقص التوكّل إغلاق باب البيت عند الخروج منه ولا أن يعقل البعير. فهذه أسباب عرفت بسنّة الله تعالى، فقد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه

قال: جاء رجل على ناقة فقال: يا رسول الله، أدعها وأتوكل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل» . وأمّا إزالة الضرر فقد قال الغزالىّ رحمه الله تعالى: إن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع؛ وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء وسائر أبواب الطبّ؛ وإلى موهوم كالكىّ والرّقية. أمّا المقطوع به فليس من التوكّل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت. وأمّا الموهوم، فشرط التوكل تركه، إذ بتركه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكّلين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتوكّل من استرقى واكتوى» . وقال سعيد بن جبير: لدغتنى عقرب فأقسمت علىّ أمّى لتسترقينّ، فناولت الراقى يدى التى لم تلدغ. وأمّا الدرجة الوسطى وهى المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطبّاء ففعل ذلك لا يناقض التوكّل بخلاف الموهوم، وتركه ليس بمحظور بحلاف المقطوع به. وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالتداوى وقال: «ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلّا السام» يعنى الموت؛ وتضافرت الأحاديث بالأمر بالدواء. ومنهم من رأى أن ترك التداوى قد يحمد فى بعض الأحيان إذا اقترن به أحد أسباب ستة: الأوّل: أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، وتحقّق ذلك إما برؤيا صادقة أو بحدس وظنّ أو بكشف محقّق

كحال أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه لمّا قيل له فى مرض موته: لو دعونا لك طبيبا! فقال: الطبيب نظر إلىّ وقال إنّى فعّال لما أريد. وكان رضى الله عنه من المكاشفين؛ والدليل على ذلك أنّه قال لعائشة رضى الله عنها فى أمر الميراث: إنما هنّ أختاك؛ وما كان لها إلا أخت واحدة وكانت امرأته حاملا فولدت أنثى؛ فلا يبعد أن يكون كوشف بانتهاء أجله؛ ومحال أن ينكر التداوى وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. الثانى: أن يكون المريض مشغولا بحاله وبخوف عاقبته واطّلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرّغ قلبه للتداوى شغلا بحاله، كحال أبى ذرّ لمّا رمدت عيناه، فقيل له: لو داويتهما! فقال: إنّى عنهما مشغول. فقيل له: لو سألت الله أن يعافيك! فقال: أسأل فيما هو أهمّ علىّ منهما. وكحال أبى الدرداء فإنه قيل له فى مرضه: ما تشتكى؟ قال: ذنوبى. قيل: فما تشتهى؟ قال: مغفرة ربى. قالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضنى. ويكون حال هذا كالمصاب بموت عزيز من أحبابه أو كالخائف من ملك فيشغله ذلك عن ألم الجوع. الثالث: أن تكون العلّة مزمنة والدواء الذى يؤمر به بالإضافة إلى علّته موهوم كالكىّ والرقية، فتركه للتوكّل كالربيع بن خيثم فإنه أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت! فقال: لقد هممت ثم ذكرت عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا وكان فيهم الإطبّاء فهلك المداوى والمداوى ولم تغن الرّقى شيئا. أى إن الدواء غير موثوق به. الرابع: أن يقصد العبد ترك التداوى استيفاء للمرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى وليجرّب نفسه فى القدرة على الصبر. الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرا، وترك التداوى خوفا من أن يسرع زوال

الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية

المرض ورغب فى مضاعفة الأجر. فقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حمّى يوم كفّارة سنة» . السادس: أن يستشعر العبد فى نفسه مبادئ البطر والطّغيان بطول مدّة الصحّة، فيترك التداوى خوفا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان أو طول الأمل والتسويف فى تدارك الفائت وتأخير الخيرات؛ فإن الصحة تحرّك الهوى وتبعث على الشهوات وتدعو إلى المعاصى، وأقلّها أن تدعو إلى التنعّم فى المباحات وهو تضييع الأوقات وإهمال الربح العظيم فى مخالفة النفس وملازمة الطاعات. وإذا أراد الله بعبد خيرا لم يخله عن التنبيه بالأمراض والمصائب؛ ولذلك قيل: لا يخلو المؤمنون من علّة أو قلّة أو ذلّة. قال: فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة فى زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدا فيها لا من حيث رأوا التداوى نقصانا، وكيف يكون ذلك نقصانا وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فهذه نبذة كافية فى مقامى الزهد والتوكل. فلنذكر الأدعية. الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية وهذا الباب- يقبل الله منا ومنك وفينا وفيك صالح الدعوات، وجعلنا وإيّاك ممن اعتمد على كرمه ومنّته فى الحركات والسكنات؛ ووفّقنا للتضرع والسكون إلى فضله، وعاملنا بما هو من أهله لا ما نحن من أهله- هو مشرع الظمآن إلى موارد الكرم العذبة، ومفزع الحيران إذا ألّمت به الضائقة وحصرته الكربة؛ فبه يتوسّل الى الله تعالى فى مطالب الدنيا والآخرة، ويتوصّل إلى النعم الوافية والخيرات الوافرة؛ كيف لا وقد

أمرنا الرب العظيم بالدعاء والإنابة، ووعدنا وهو الوفىّ الكريم بالقبول والإجابة؛ وترادفت بفضله الأخبار الصحيحة، وجاءت بشرفه الآثار الصريحة؛ على ما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى واضحا، وتعوّل عليه مقيما وظاعنا وغاديا ورائحا. فلازمه فى سائر أحوالك، وتعاهده فى بكرك وآصالك؛ فستجنى إن شاء الله منه ثمار غرسك، وتجد حلاوة ذلك فى قلبك وأنسه فى نفسك. واعلم أن للدعاء، كما قال ابن عطاء، أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا. قال: فإن وافق أركانه قوى، وإن وافق أجنحته طار فى السموات، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعه من الأسباب. وأجنحته الصدق. ومواقيته الأسحار. وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى للعبد يوم القيامة أكنت ترى لبعض دعائك الإجابة ولا ترى لبعضه فيقول نعم فيقول له أما إنك ما دعوتنى بدعوة إلا وقد استجبت لك فيها أليس دعوتنى يوم كذا وكذا فرأيت الإجابة فيقول نعم ويقول ودعوتنى يوم كذا وكذا فلم تر الإجابة فيقول نعم فيقول فإنى ادّخرتها لك فى الجنة فلا يبقى له دعوة إلا بيّنها له حتى يتمنّى المؤمن أن دعواته كلها كانت ذخائره فى الآخرة» . وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» قال: وقرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس شىء أكرم على الله من الدعاء» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدعاء ينفع

مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدّعاء» . وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيّى كريم يستحيى إذا بسط الرجل إليه يديه أن يردّهما صفرا ليس فيهما شىء» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة المسلم لا تردّ إلا بإحدى ثلاث ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إمّا أن يستجيب الله له فيما دعا أو يدّخر له فى الآخرة أو يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا» . وعن أنس رضى الله عنه قال: قيل يا رسول الله: إنا ندعو بدعاء كثير منه ما نرى إجابته ومنه ما لا نرى إجابته فقال: «والذى نفسى بيده ما من أحد يدعو بدعوة إلا استجيب له أو صرف عنه مثلها شرّا» . قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر؟ قال: «الله أكثر وأكثر» ثلاث مرات. وعنه رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل فى الليل والنهار عتقاء من النار ولكلّ مسلم ومسلمة فى كلّ يوم وليلة دعوة مستجابة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول من ذا الذى دعانى فلم أجبه وسألنى فلم أعطه واستغفرنى فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين» . وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتح الله على عبد باب الدعاء فليكثر فإنّ الله يستجيب له» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فتح له باب فى الدعاء فتحت له أبواب الإجابة» . وعن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ الآية فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنّك

أمرت بالدعاء وتوكّلت بالإجابة لبّيك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنّك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أنّ وعدك حق ولقاءك حقّ والجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّك تبعث من فى القبور» . هذا مما ورد فى الحثّ على الدعاء. وأمّا ما ورد فى نفع الدعاء ودفعه للبلاء؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أنواع البرّ كلّها نصف العبادة والنصف الآخر الدعاء» . وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفع حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم لا ينزل وإن الدعاء ليردّ القضاء المبرم وإن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فلا يزال أحدهما يدفع صاحبه إلى يوم القيامة» . وعن سلمان الفارسىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يردّ القضاء إلا الدعاء ولا يزيد فى العمر إلا البرّ» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدّين ونور السموات والأرض» . وأمّا ما ورد فى الإلحاح فى الدعاء وهيئة الذّلّة والإنابة؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ الملحّين فى الدعاء» . وعن أبى هريرة

رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب ساه لاه» . وعن أنس رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض [1] إبطيه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا جعل باطن كفّيه إلى وجهه. وعنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سلوا الله ببطون أكفّكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم عز وجل حيىّ كريم يستحيى أن يرفع العبد يديه فيردّهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع أحدكم يده فليقل يا حىّ لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين ثلاث مرات ثم إذا ردّ يده فليفرغ ذلك الخير على وجهه» . وعن عمر رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا مدّ يديه فى الدعاء لم يردّهما حتى يمسح بهما وجهه. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإخلاص هكذا ورفع إصبعا واحدا من اليد اليمنى والدعاء هكذا وجعل بطونهما مما يلى السماء والابتهال هكذا ومدّ يديه شيئا وجعل ظهر الكفّ مما يلى السماء» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» . وأمّا ما ورد من كراهية استعجال الإجابة ورفع البصر والسجع فى الدعاء قال تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل

_ [1] فى الأصلين هكذا: «بيان» والتصحيح عن الإحياء (ج 1 ص 287) .

فيقول قد دعوت فلم يستجب لى» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» . قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: «يقول قد دعوت الله مرارا فلا أراه يستجيب لى» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء فى الصلاة إلى السماء أو لتخطفنّ أبصارهم» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: إيّاك والسجع فى الدعاء فإنّى شهدت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك. وأمّا ما ورد فيمن تجاب دعواتهم. قال الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ . وقال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خمس دعوات لا تردّ دعوة الحاجّ حتّى يصدر ودعوة الغازى حتى يرجع ودعوة المظلوم حتى ينتصر ودعوة المريض حتى يبرأ ودعوة الأخ لأخيه بالغيب وأسرع هؤلاء الدعوات إجابة دعوة الأخ لأخيه بالغيب» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهنّ دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم» . وفى حديث آخر: «دعوة الصائم بدل دعوة الوالد» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنّك تأتى قوما أهل كتاب فاتّق دعوة المظلوم» . وعنه صلى الله وسلم: «الإمام العادل لا تردّ دعوته» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم إمام مقسط ودعوة الصائم ودعوة المظلوم تفتح لها أبواب السماء ويقول الله عز وجل لأنصرنّك ولو بعد حين» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبى لأمته» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء

«أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب» . وعن أبى الدرداء، رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب تعدل سبعين دعوة مستجابة ويوكّل الله عز وجل ملكا يقول آمين ولك مثل ما دعوت» . وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب إلّا قال له ملك عن يمينه وملك عن شماله ولك مثله» . وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حامل القرآن له دعوة مستجابة» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخلت على المريض فسله يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» . وعن أنس رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة لأن الله تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول لأن الله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة لأن الله تعالى يقول: ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة لأن الله تعالى يقول: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ » ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء قال الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ . وقال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الله حين يبقى ثلث اللّيل إلى السماء الدّنيا فيقول من يسألنى فأعطيه ومن يدعونى فأستجيب له ومن يستغفرنى فأغفر له» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء ويستجاب دعاء المسلم عند إقامة الصلاة وعند

نزول الغيث وعند زحف الصفوف فى سبيل الله وعند رؤية الكعبة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا فاءت الأفياء وهبّت الرياح فارفعوا إلى الله حوائجكم فإنّها ساعة الأوّابين إنه كان للأوّابين غفورا» . وعن أبى أمامة قال قلت: يا رسول الله، أىّ الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل وأدبار المكتوبات» . وعن ابن عمر قال: أفضل الساعات مواقيت الصّلاة فادعوا فيها. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة إن فيه لساعة لا يوافقها عبد يصلّى يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إيّاه» . وقد اختلف فى ابتداء وقت هذه الساعة فقيل: أوّل ساعة من طلوع الشمس، وقيل: آخر ساعة من غروبها، وقيل: عند جلوس الإمام على المنبر، وقيل: من الزوال إلى ابتداء الصلاة، وقيل: من بعد العصر إلى الغروب، وقيل: إنها تنتقل فى ساعات اليوم كما تنتقل ليلة القدر فى شهر رمضان. روى عن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرىّ قال: قال لى عبد الله بن عمر رضى الله عنهم: أسمعت أباك يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة يقول: «هى ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» . وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فى الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه» . فقلت: يا أبت، أىّ ساعة هى؟ قال: «إذا تدلّى نصف الشمس للغروب» . فكانت فاطمة رضى الله عنها إذا كان يوم الجمعة تأمر غلاما لها يقال له زيد يرصد لها الشمس، فإذا تدلّى نصف الشمس للغروب أعلمها، فتقوم فتدخل المسجد فتدعو حتى تغرب الشمس وتصلّى. وحيث ذكرنا هذه المراتب فلنذكر الأدعية المنصوص عليها.

ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها

ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها قد أورد الشيخ أبو العباس أحمد بن علىّ بن يوسف القرشىّ البونى رحمه الله تعالى دعوات الساعات فى اللّمعة النورانيّة [1] فبدأ بيوم الأحد وذكر دعاء كل ساعة منه، ثم ذكر يوم الاثنين فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الأحد، ثم ذكر يوم الثلاثاء فقال: ساعة كذا يدعى فيها بدعاء ساعة كذا من يوم الاثنين وكذلك فى بقيّة ساعات الأيام والليالى، يذكر كلّ ساعة ويحيل فى دعائها على ساعة من اليوم أو الليلة التى قبلها. فرأيت أن الراغب فى الدعاء يحتاج فى معرفته إلى كشف طويل وتحقيق إلى أن يصل إلى تلك الساعة من يوم الأحد، وربما تعذّر ذلك على كثير من الناس، فرتّبت الأدعية على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه ليسهل على المتناول طريقها ويدنو من المحاول تحقيقها؛ فقلت وبالله التوفيق: دعاء يدعى به فى الساعة الأولى من يوم الأحد، وفى الثامنة من ليلة الاثنين، وفى العاشرة من يوم الاثنين، وفى الخامسة من ليلة الثلاثاء، وفى السابعة من يوم الثلاثاء، وفى الثانية من ليلة الأربعاء وفى الرابعة من يوم الأربعاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الخميس وفى الأولى من يوم الخميس، والحادية عشرة من ليلة الجمعة والعاشرة من يوم الجمعة، وفى الثامنة من ليلة السبت وفى السابعة من يوم السبت، وفى الخامسة من ليلة الأحد، وهو: «ربّ اغمسنى فى بحر [من [2]] نور هيبتك حتى أخرج منه وفى وجهى شعاعات هيبة تخطف أبصار الحاسدين من الجنّ والإنس فتعميهم عن رمى سهام الحسد فى قرطاس

_ [1] فى الأصلين: «اللمحة النورانية» وصحة الاسم ما ذكرناه. وفى دار الكتب المصرية منه نسختان خطيتان تحت رقمى (1993 و 85 م تصوّف) . [2] زيادة عن اللمعة النورانية.

نعمتى، واحجبنى عنهم بحجاب النور الذى باطنه النور وظاهره النار. أسألك باسمك النور وبوجهك النور يا نور النور أن تحجبنى فى نور اسمك بنور اسمك حجابا يمنعنى من كلّ نقص يمازج منّى جوهرا أو عرضا إنّك نور الكلّ ومنوّر الكل بنورك» . قال البونى: تدعو بهذا الدعاء ثمانيا وأربعين مرّة فى هذه الساعة على وضوء بعد صلاة ركعتين فيما يتعلق بسؤال الهيبة وإقامة الكلمة وقهر العدوّ. ويناسب هذا الدعاء من القرآن قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية، قال: من قرأ هذه الآية هذا العدد المتقدّم فى بيت مظلم وعيناه مغلقتان شاهد أنوارا عجيبة تملا قلبه، وإن استدام ذلك تشكّلت له فى عالم الحسّ. وهو ذكر يصلح لأرباب الهمم وأهل الخلوات، وكاتبه وحامله تظهر له زيادات فى قوى نفسه وقهر عدوّه وخصمه لم يكن يعهدها من قبل؛ ومن أمكنه أن يداوى به العلل الكائنة فى الرأس خصوصا من البرودة وجد تأثير ذلك لوقته. دعاء يدعى به فى الساعة الثانية من يوم الأحد والتاسعة من ليلة الاثنين وفى الحادية عشرة من يوم الاثنين، وفى السادسة من ليلة الثلاثاء وفى الثامنة من يوم الثلاثاء، وفى الثالثة من ليلة الأربعاء وفى الخامسة من يوم الأربعاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الخميس وفى الثانية من يوم الخميس، وفى الحادية عشرة من يوم الجمعة، وفى التاسعة من ليلة السبت وفى الثامنة من يوم السبت، وفى السادسة من ليلة الأحد وهو: «ربّ فرّحنى بما ترضى به عنّى فرحا يبهجنى بجميل المسارّ، حتى لا ينبسط شىء من وجودى إلا بما بسطه جودك العلىّ. ربّ فرّحنى بنيل المراد منك بفناء إرادتى منّى حتى لا يكون فى كونى إرادة إلا إرادتك محفوظة من عوارض التكوين، وأبهج

بذلك فى سرّ سماء الأفراح فى الوجودين برزق الباطن والظاهر، إنك باسط الرزق والرحمة يا ذا الجود الباسط يا ذا البسط والجود» . هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة أذهب الله تعالى عن قلبه الحزن وعن صدره الحرج والضّيق، ونفى عنه كل همّ وغمّ، وبه يدعو المسجونون والمأسورون والمحزونون فيفرّج الله تعالى عنهم، وذلك بعد صلاة تسليمتين؛ والآيات [1] المناسبة لهذا القسم فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ الآية. قال البونى: ويقدّم على ذكر هذه الآيات [1] : اللهم اجعلنى من الفرحين بما آتاهم الله من فضله، يقول ذلك [2] بعد الذكر الأوّل مثل العدد المذكور، فيرى المهموم من فضل الله تعالى به عجبا، ويزداد [به [3]] ذو السرور سرورا لا يعرف سببه. ويصلح هذا الذكر لأرباب الفيض من أهل الخلوات فإنّهم يستروحون منه أنسا فى خلواتهم ومخاطبات بألفاظ مختلفة بقدر الفيض والمقام والسبب، يعرف ذلك من كانت له إحاطة بكشف أسرار الدعوات والأسماء. دعاء يدعى به فى الساعة الثالثة من يوم الأحد، والعاشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية عشرة من يوم الاثنين، وفى السابعة من ليلة الثلاثاء وفى التاسعة من يوم الثلاثاء، وفى الرابعة من ليلة الأربعاء وفى السادسة من يوم الأربعاء، وفى الأولى من ليلة الخميس وفى الثالثة من يوم الخميس، وفى الأولى من ليلة الجمعة وفى الثانية عشرة من يوم الجمعة، وفى العاشرة من ليلة السبت وفى التاسعة من يوم السبت، وفى السابعة من ليلة الأحد. وهو:

_ [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «والآية» . [2] الذى فى اللمعة النورانية: «يضاف بعد الذكر الأوّل مثل هذا العدد المذكور» . [3] زيادة من اللمعة النورانية.

«ربّ قلّبنى فى أطوار معارف أسمائك تقليبا تشهدنى به فى ذرّات وجودى ما أودعته ذرّات [1] وجودى الملك والملكوت حتّى أعاين سريان سرّ قدرك [2] فى معالم المعلومات، فلا يبقى معلوم إلا وبيدى سرّ دقيقة منه مجذوبة بيد الكمال ونور الطوع؛ وأذهب [3] ظلمة الإكراه حتى أتصرّف فى المهج بمبهجات المحبّة إنك أنت المحبّ المحبوب يا مقلّب القلوب» . قال: من دعا بهذا الاسم والذكر ستّ عشرة مرة بعد صلاة ثلاث تسليمات قلب الله قلبه عن كل خاطر فيه نقص [4] إلى كلّ خاطر فيه كمال [فى حقّه [5]] ، ويصلح لأرباب الاستخارات، وفيه لسرعة قضاء الحاجات معنى بديع. والآيات [6] المناسبة له قَوْلُهُ الْحَقُّ [وَلَهُ الْمُلْكُ ، وقوله تعالى [5]] : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ إلى آخر الآية، وقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً الآية؛ وما يناسب ذلك من القرآن. وهو ذكر يصلح لأرباب القلوب من تكرار الخواطر والوساوس، وله فى تقلّب الأحوال أمور عجيبة عظيمة لمن فهم ذلك؛ وكذلك من كتب الذكر كله وعلّقه عليه عصمه الله فى تقلّباته من الآفات حتى فى أمور دنياه وآخرته.

_ [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى أحد الأصلين: «ما أودعته فى دورات» وفى الأصل الآخر: «ما أودعته من ذوات ... » . [2] فى إحدى نسخ اللمعة المخطوطة: «سر قدرتك ... » . [3] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «مجذوبة بيد كمال يبدو الكمال ونور الطلوع أذهب» الخ [4] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «قلب الله قلب كل من خاطره فيه نقص ... » . [5] زيادة من اللمعة النورانية. [6] كذا فى اللمعة النورانية: وفى الأصلين: «والآية ... » .

دعاء يدى به فى الساعة الرابعة من يوم الأحد، وفى الحادية عشرة من ليلة الاثنين وفى الأولى من يوم الاثنين، وفى الثامنة من ليلة الثلاثاء وفى العاشرة من يوم الثلاثاء، وفى الخامسة من ليلة الأربعاء وفى السابعة من يوم الأربعاء، وفى الثانية من ليلة الخميس وفى الرابعة من يوم الخميس، وفى الثانية من ليلة الجمعة والأولى من يوم الجمعة، وفى الحادية عشرة من ليلة السبت وفى العاشرة من يوم السبت، وفى الثامنة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ قابلنى بنور اسمك مقابلة تملأ وجودى ظاهرا وباطنا حتى تمحو منّى حظوظ الأشكال كلها فيبدو لى فى وجودى ومن وجودى سرّ ما كتبه قلم تقديرك من كل مستودع فى مستقرّ ومستقرّ فى مستودع فلا يخفى علىّ ما غاب عنّى فأنظرنى بك وأنظر من سواى بنور اسمك [1] فأرى الكمال المطلق فى الملك المطلق، يا مودع الأنوار قلوب عباده الأبرار يا سريع يا قريب» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات ست عشرة مرة ثم قصد أىّ حاجة أراد، أسرع الله تعالى قضاءها ونمّى له ما يملكه من مال أو جاه أو حال أو مقام. ومن خاصّة هذا الذكر وضع البركة فى أىّ شىء وضع عليه. ويصلح هذا الذكر لطالبى المكاشفات من أرباب الخلوات فإنهم اذا داوموا هذا الذكر ألقى اليهم الخاطر الصحيح. قال: وإن أضيف له يا سريع يا قريب يا مبين ظهر له ما يريد من كشف العواقب فى الأفعال المرتبطة بعالم الغيب والشهادة. دعاء يدعى به فى الساعة الخامسة من يوم الأحد، وفى الثانية عشرة من ليلة الاثنين وفى الثانية من يوم الاثنين، وفى التاسعة من ليلة الثلاثاء وفى الحادية عشرة

_ [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «أنيتك» .

من يوم الثلاثاء، وفى السادسة من ليلة الأربعاء وفى الثامنة من يوم الأربعاء، وفى الثالثة من ليلة الخميس وفى الخامسة من يوم الخميس، وفى الثالثة من ليلة الجمعة وفى الثانية من يوم الجمعة، وفى الثانية عشرة من ليلة السبت وفى الحادية عشرة من يوم السبت، وفى التاسعة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ أسألك مددا روحانيّا تقوى به قواى الكلّية والجزئيّة حتى أقهر بمبادئ نفسى كلّ نفس قاهرة فتنقبض لى رقابها انقباضا تسقط به قواها، فلا يبقى فى الكون ذو روح إلّا ونار القهر أخمدت ظهوره، يا شديد يا ذا البطش يا قهّار يا جبّار أسألك بما أودعته عزرائيل من قوى أسمائك القهريّة فانفعلت له النفوس بالقهر أن تكسونى [1] ذلك السرّ فى هذه الساعة حتى أليّن به كلّ صعب، وأذلّ به كلّ منيع بقوّتك يا ذا القوّة المتين» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى ساعة من هذه الساعات تسعا وثمانين مرة، ثم دعا على ظالم أخذ لوقته، وذلك بعد صلاة خمس تسليمات بالفاتحة لا غير. ويناسب هذا الدعاء من آى القرآن العظيم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ . قال: فى هذا الذكر قمع الجبابرة، وقطع دابر الظالمين، وخراب ديار الماردين، وما شابه ذلك. وهو ذكر يليق بالسالكين فى مبادئ الرياضات والمنتهين فى مقامات التجلّى إلى الخلوة؛ وهو من الأسرار العجيبة، ولا يذكره من غلبته الشيخوخة إلّا وجد فى قلبه خفقانا بالخاصيّة، ولا يذكره محموم إلا برئ من حمّاه لوقته، وإن كتبه وعلّقه عليه دامت صحّته. دعاء يدعى به فى الساعة السادسة من يوم الأحد، وفى الأولى من ليلة الاثنين وفى الثالثة من يوم الاثنين، وفى العاشرة من ليلة الثلاثاء وفى الثانية عشرة من يوم

_ [1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وا كسنى ... » .

الثلاثاء، وفى السابعة من ليلة الأربعاء وفى التاسعة من يوم الأربعاء، وفى الرابعة من ليلة الخميس وفى السادسة من يوم الخميس، وفى الرابعة من ليلة الجمعة وفى الثالثة من يوم الجمعة، وفى الأولى من ليلة السبت وفى الثانية عشرة من يوم السبت، وفى العاشرة من ليلة الأحد. وهو: «رب صفّنى [من كدرات الأغيار [1]] صفاء من صفّته يد عنايتك من نقص التكوين [2] حتى ينجلى فى مرآة قلبى ومستوى نفسى كلّ اسم انطبع فى قوّة جبرائيل فقوى به على كشف ما فى اللوح من أسرار أسمائك ومجامع رسائلك، فكلّ نفس منفوسة امتدّت لها من دقائقه [3] دقيقة طرفها منه والثانى لمن هو به، ومجامع هذه الدقائق [3] فى دقيقة [3] الاسم الجبرائيلى العالم العليم العّلام، يا ذا الكرم الذى علّم بالقلم، فموادّ الوحى والإلهام والتحديث والفهم تسرى بنفحة منه فى هذه الساعة إلى مثلها. إلهى منطقنى بالدقيقة العظمى منه حتى أتلقّى عنك بما به تلقّى [عنك جبرائيل [1]] مما أملأ به وجودى بلا ميل لغلبة حتى أتلذّذ بمصافاتك تلذّذ جبريل برسائلك، إنك علّام الغيوب» . قال: من دعا به خمسا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ألهم رشده فى عواقب أموره. والاسم اللائق بهذا الدعاء يا علّام الغيوب يا عالم الخفيّات وما شاكل هذا النمط من الأسماء، ومن القرآن العظيم وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ الآية. قال: وهو من الكبريت الأحمر وبعضه من الدّرياق الأكبر. وهذا الذكر للذى فتح عليه باب من المعارف فإنّه مهما استدامه ألهم قلبه إلى علوم جليلة، ويخاطب

_ [1] زيادة من اللمعة النورانية. [2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من نقص التلوين ... » . [3] كذا فى الأصلين بالدال فى هذه الكلمات. وفى اللمعة النورانية بالراء فيها جميعا.

فى نفسه بإلقاءات [1] من وحى الإلهام، ويخاطبه الحيوان بمعنى يفهمه فيستفيد علوما عظيمة، يعرف ذلك أرباب المنازلات لفهم الحديث. دعاء يدعى به فى الساعة السابعة من يوم الأحد، وفى الثانية من ليلة الاثنين وفى الرابعة من يوم الاثنين، وفى الحادية عشرة من ليلة الثلاثاء وفى الأولى من يوم الثلاثاء، وفى الثامنة من ليلة الأربعاء وفى العاشرة من يوم الأربعاء، وفى الخامسة من ليلة الخميس وفى السابعة من يوم الخميس، وفى الخامسة من ليلة الجمعة وفى الرابعة من يوم الجمعة، وفى الثانية من ليلة السبت وفى الأولى من يوم السبت، وفى الحادية عشرة من ليلة الأحد. وهو: «ربّ أوقفنى موقف العزّ حتّى لا أجد فىّ ذرّة ولا رقيقة ولا دقيقة إلا وقد غشّاها من عزّ عزّتك ما منعها من الذّلّ لغيرك، حتى لا أشهد ذلّ من سواى لعزّتى بك مؤيّدا برقيقة من الرعب يخضع لها [2] كلّ شيطان مريد، وجبّار عنيد؛ وأبق علىّ ذلّ العبوديّة فى العزّة بقاء يبسط لسان الاعتراف، ويقبض لسان الدعوى، إنّك العزيز الجبّار المتكبّر القّهار» . قال: من دعا بهذا الدعاء فى هذه الساعة أو فى ساعة من هذه الساعات ستّ عشرة مرة بعد صلاة [3] وحضور قلب نصر على أىّ عدوّ قصده ظاهرا وباطنا. دعاء يدعى به فى الساعة الثامنة من يوم الأحد، وفى الثالثة من ليلة الاثنين وفى الخامسة من يوم الاثنين، وفى الثانية عشرة من ليلة الثلاثاء، وفى الثانية من يوم

_ [1] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «بألقاب» . [2] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى نسخة أخرى منها: «حتى يخضع له ... » . وفى الأصلين: «حتى يخضع به ... » . [3] فى هامش إحدى نسخ اللمعة النورانية: «ثلاث تسلمات ... » وكتب عليها كلمة «صح» وأشار الى موضعها بعد كلمة «صلاة» .

الثلاثاء، وفى التاسعة من لبلة الأربعاء وفى الحادية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السادسة من ليلة الخميس وفى الثامنة من يوم الخميس، وفى السادسة من ليلة الجمعة وفى الخامسة من يوم الجمعة، وفى الثالثة من ليلة السبت وفى الثانية من يوم السبت، وفى الثانية عشرة من ليلة الأحد. وهو: «إلهى أطلع على وجودى شمس شهودى منك فى الأكوان والألوان حتى أمشى بما أشهدتنى فى آفاق الملكوت فأكشف منه معنى كلمة التكوين فينفعل لى كلّ مكوّن انفعاله للكلمة بإذنك الذى سخّرت به ما فى الوجودين بلا ظلمة وضع ولا ظلمة طبع، إنك منوّر الكلّ بكلّك ومنوّر الأنوار بنورك الذى صدوره عن اسمك النور والظاهر والحى والقيّوم، كلّ شىء هالك إلّا وجهه» الآية. قال البونى: لا يذكر أحد هذا الذكر فى ساعة من هذه الساعات تسعا وأربعين مرة إلا كساه الله نورا يجد ذلك فى نفسه، وييسّر عليه المقسوم من الرزق، وتسرى كلمته فى الأسباب سريانا عجيبا. وهو ذكر يصلح لأرباب المكاشفات يثبت لهم ما يكاشفون. دعاء يدعى به فى الساعة التاسعة من يوم الأحد، وفى الرابعة من ليلة الاثنين وفى السادسة من يوم الاثنين، وفى الأولى من ليلة الثلاثاء وفى الثالثة من يوم الثلاثاء، وفى العاشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية عشرة من يوم الأربعاء، وفى السابعة من ليلة الخميس وفى التاسعة من يوم الخميس، وفى السابعة من ليلة الجمعة وفى السادسة من يوم الجمعة، وفى الرابعة من ليلة السبت وفى الثالثة من يوم السبت، وفى الأولى من ليلة الأحد. وهو: «سيّدى أدخلنى فى بواطن رياض اسمك من الباب الخاصّ الذى لا يحجب بنور ولا بظلمة ولا بشىء منه ولا بشىء خارج عنه، وأطلق يد قواى فى نيل النعمة،

وألهمنى تحقيق ذوق كلّ مذوق منه حتى أكون بك فيه وأكون فيه بك مبتهجا منك وبك، ربّ إنك لطيف عطوف رحيم رحمن» . قال: هذا الذكر بخاصيّة فيه يجلب الفرح ويذهب الحزن ويطيب الوقت ويجلو الكرب؛ ومن دعا به أربعين مرة فى ساعة من هذه الساعات على طهارة [1] واستقبال فرّج به كربه وانجلى غمّه. دعاء يدعى به فى الساعة العاشرة من يوم الأحد، وفى الخامسة من ليلة الاثنين وفى السابعة من يوم الاثنين، وفى الثانية من ليلة الثلاثاء وفى الرابعة من يوم الثلاثاء، وفى الحادية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الأولى من يوم الأربعاء، وفى الثامنة من ليلة الخميس وفى العاشرة من يوم الخميس، وفى الثامنة من ليلة الجمعة وفى السابعة من يوم الجمعة، وفى الخامسة من ليلة السبت وفى الرابعة من يوم السبت، وفى الثانية من ليلة الأحد. وهو: «يا من نسبة العلوم إلى علمه نسبة لا شىء لشىء لا يتناهى، أظهرت الحروف بالقلم فكان لها صريف فى ألواح الملكوت قام لها مقام مخارج الحروف من الحلق والصدر واللها واللسان، كلّ جنس صدر عنه اسم لا يعلم تركيبه سوى ملك قلمك؛ وكلّ نوع صدر عنه مركّبا، فلوح إسرافيل أظهره بقوّة ما فى آحاد كليّاته من جزئيّات تراكيبه، أسألك بهذا السرّ الخفىّ الذى وقف العقل دونه وتقدّم إليك السرّ بسرّ أودعته فيه يوم إمكان وجوده، أسألك كشف حجاب الغيب حتى أعاين الغيب [2] بما به حىّ الرّوح الباقى، يا حىّ، ياه يا هو، يا أنت يا مهيمن يا خالق يا بارىء أنت هو» .

_ [1] فى هامش إحدى نسختى اللمعة النورانية: «وصلاة ثلاث تسليمات» وكتب عليها كلمة «صح» وموضعها بعد كلمة «طهارة» . [2] فى اللمعة النورانية: «المغيب» .

قال البونى: هذا الذكر من ذكره فى ساعة من هذه الساعات مائة مرة يسّر له قضاء أىّ حاجة قصدها بغير مشقّة. دعاء يدعى به فى الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد، وفى السادسة من ليلة الاثنين وفى الثامنة من يوم الاثنين، وفى الثالثة من ليلة الثلاثاء وفى الخامسة من يو الثلاثاء، وفى الثانية عشرة من ليلة الأربعاء وفى الثانية من يوم الأربعاء، وفى التاسعة من ليلة الخميس وفى الحادية عشرة من يوم الخميس، وفى التاسعة من من ليلة الجمعة وفى الثامنة من يوم الجمعة، وفى السادسة من ليلة السبت وفى الخامسة من يوم السبت، وفى الثالثة من ليلة الأحد. وهو: «يا من لوجوده العلىّ باعتبار حكمته إلى كلّ موجود حصل من وجوده [1] اسم يليق به هو مفتاحه الخاصّ، ومعناه المغيّب، وحقيقته الوجودية وسرّه القابل؛ فما فى الأكوان جوهر فرد من جواهر آحاد العالم العلوىّ والسّفلىّ إلا ومقاليد أحكامه متعلّقة باسم من أسمائه، واجتماعها برقائقها بيد اسمك الذى استأثرت به عن جميع خلقك فلم يظهر لهم إلا ما ناسب الأفعال، فأسماؤك إلهى لا تحصى، ومعلوماتك لا نهاية لها، أسألك غمسة فى بحر هذا النور حتى أعود إلى الكمال الأوّل فأتصرّف فى الكون باسم الكمال تصرّفا ينفى النقص بالوقوف على عبوديّة النقص، إنّك المعزّ المذلّ اللطيف الخبير العدل المجيب» . قال: من ذكر هذا الذكر ستّ عشرة مرة فى ساعة من هذه الساعات ثم سأل الله تعالى فيها رزقا [2] ، ويتسير أسباب، وسكون بحر هائج [3] ، وسلطان غاصب، ونفس

_ [1] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «من جوده ... » . [2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصل: «ثم سأل الله تعالى فمن سأله فيها رزقا ... » . [3] كذا فى إحدى نسخ اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «بحر هائل» .

متمرّدة من شيطانى الإنس والجنّ وما ناسب ذلك إلّا أجيب له لوقته، وذلك على طهارة وصلاة [1] وجمع همة فى موضع خال من الأصوات. دعاء يدعى به فى الساعة الثانية عشرة من يوم الأحد، والسابعة من ليلة الاثنين والتاسعة من يوم الاثنين، وفى الرابعة من ليلة الثلاثاء وفى السادسة من يوم الثلاثاء، وفى الأولى من ليلة الأربعاء وفى الثالثة من يوم الأربعاء، وفى العاشرة من ليلة الخميس وفى الثانية عشرة من يوم الخميس، وفى العاشرة من ليلة الجمعة وفى التاسعة من يوم الجمعة، وفى السابعة من ليلة السبت وفى السادسة من يوم السبت، وفى الرابعة من ليلة الأحد. وهو: «تعاليت يا من تقاصر كلّ فكر عن حصر مغنى من معانى أسمائه، فكل علوّ ورفعة فمن ذلك [2] العلوّ والرفعة صدوره ظاهرا وباطنا؛ تقدّس مجدك يا من أستار عرشه أظهر فيها كبرياءه ومجده، أسألك بالصفات التى لا تعلّق لها بموجود، يا ذا العظمة والكبرياء والجلال والجمال والبهاء، أسألك الأنس بمقابلات سرّ القدر أنسا يمحو آثار وحشة الفكر حتى يطيب وقتى بك فأطيب بوقتى لك، فلا يتحرّك ذو طبع لمخالفتى إلا صغر لعظمتك وقصم بكبريائك، إنك جبّار الأرض والسماء، وقاهر الكلّ بقهرك يا مجيب» . قال البونى: من ذكر هذا الذكر سبعا وعشرين مرة فى ساعة من هذه الساعات ودعا [بما يريد [3]] كفى لوقته [شرّ ما يحاذره [3]] . فهذه دعوات ساعات الأيّام واللّيالى.

_ [1] فى إحدى نسخ اللمعة بعد كلمة «صلاة» بين الأسطر: «ثلاث تسليمات» . [2] كذا فى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «فمن دون ذلك العلو» الخ. [3] الزيادة عن إحدى نسختى اللمعة النورانية.

ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدو والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك.

ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدوّ والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك. فأمّا ما يقال عند المساء والصباح؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه وقد سأله فقال: يا رسول الله مرنى بشىء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال: «قل اللهمّ عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض ربّ كلّ شىء ومليكه أشهد أن لا إله إلّا أنت أعوذ بك من شرّ نفسى وشرّ الشيطان وشركه قلهن إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا [2] محمد صلى الله عليه وسلم وملّة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر واللّيل والنهار وما سكن فيهما من شىء لله وحده لا شريك له اللهم اجعل أوّل هذا النهار لنا صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا أسألك خير الدنيا وخير الآخرة يا أرحم الراحمين» . وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور» . وإذا أمسى قال: «اللهم بك أمسينا وبك نحيا وبك نموت» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يصبح أو يمسى اللهم أنت ربّى لا إله إلّا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شرّ ما صنعت أبوء

_ [1] فى كتاب الأذكار للنووى (ص 39) : «كذا وقع فى كتاب ابن السنى، ثم قال هو غير متبع. ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره فيتعلمه» اه.

لك [1]] بنعمتك [عليك [1]] وأبوء بذنبى فاغفرلى إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شىء قدير بعد ما يصلّى الغداة عشر مرّات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكنّ له عدل رقبتين من ولد إسماعيل وكنّ له حجابا من الشيطان حتّى يمسى فإن قالها حين يمسى كان له مثل ذلك وكنّ له حجابا من الشيطان حتى يصبح» ، وفى رواية: «من قالها فى يوم مائة مرّة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيّئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتّى يمسى ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ومن قال سبحان الله وبحمده فى اليوم مائة مرة حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يمسى أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم تضرّه لدغة عقرب حتى يصبح» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح فى أوّل يومه أو فى أوّل ليلته باسم الله الذى لا يضرّ مع اسمه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم ثلاثا لم يضرّه شىء فى ذلك اليوم أو تلك الليلة» . وعنه صلى الله عليه وسلم. «من قال إذا أصبح باسم الله العلىّ الأعلى الذى لا ولد له ولا صاحبة ولا شريك أشهد أنّ نوحا رسول الله وأنّ إبراهيم خليل الله وأنّ موسى نجىّ الله وأنّ داود خليفة الله وأنّ عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وأنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيّين لا نبىّ بعده لم تلسعه حيّة ولا عقرب ولم يخف من سلطان ولا كاهن ولا ساحر حتى يمسى وإذا قالها إذا أمسى لم يخف شيئا من ذلك حتى يصبح» .

_ [1] زيادة عن صحيح البخارى.

وأمّا ما يقال عند النوم؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وإذا أخذت مضجعك فتوضّا وضوءك للصّلاة ثم اضطجع على شقّك الأيمن ثم قل أسلمت وجهى إليك وفوّضت أمرى اليك وألجأت ظهرى إليك رهبة ورغبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيّك الذى أرسلت فإن متّ من ليلتك متّ على فطرة الإسلام واجعلهنّ آخر ما تتكلّم به» . قال البراء بن عازب: فردّدتها على النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت قلت: ورسولك قال: «ونبيك الذى أرسلت» . وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من اللّيل يقول: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهنّ أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنّة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكّلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لى ما قدّمت وما أخّرت [1] وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى لا إله إلا أنت» . وأمّا ما يقال عند دخول المنزل والمسجد والخروج منهما؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذ ولج الرجل بيته فليقل باسم الله اللهم إنّى أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله توكّلنا ثم ليسلّم على أهله» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل الرجل بيته فقال باسم الله قعد الشيطان على الباب وقال ما من مقيل فهل من غداء فاذا أتى بغدائه فقال باسم الله

_ [1] كذا فى رواية الأذكار للنورى من رواية الصحيحين. وقد ورد فى الأصل بدون ما الموصولة إلا فى الفعل الأوّل دون الأفعال الباقية.

قال ما من غداء ولا مقيل» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الرجل من بيته فقال سبحان الله قال الملك هديت واذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله قال الملك وقيت فإذا قال توكّلت على الله يقول الملك كفيت يقول الشيطان عند ذلك كيف أعمل بمن كفى وهدى ووقى» . وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته صباحا قطّ إلا قال: «اللهم إنّى أعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ أو أظلم أو أجهل أو يجهل علىّ» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم خرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج باسم الله آمنت بالله اعتصمت بالله توكّلت على الله لا حول ولا قوّة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شرّ ذلك المخرج» . وعن أبى سعيد رضى الله عنه قال فضيل بن مرزوق- أحسبه رفعه- قال: «من قال حين يخرج إلى الصّلاة اللهم إنى أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاى هذا إنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت خوف سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذنى من النّار وأن تغفر ذنوبى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكلّ الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يفرغ من صلاته» . وعن فاطمة [1] رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: «باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى وافتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب فضلك» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إنى أسألك من فضلك» .

_ [1] وضع على حاشية إحدى النسخ «لعلها بنت قيس» ووضعت هذه الزيادة فى نسخة أخرى فى صلب الكاب. والظاهر أنها فاطمة الزهراء رضى الله عنها؛ فقد روى هذا الحديث الإمام النووى فى كتاب الأذكار عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن جدّته اه وجدته هى فاطمة الزهراء.

وأمّا ما يقال عند النداء؛ فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم تردّ دعوة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع المؤذّن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربّا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سمع المؤذّن فقال اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته حلّت له شفاعتى يوم القيامة» .- وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا علىّ فإنه من صلّى علىّ مرّة صلى الله عليه بها عشرا» . وأمّا ما يقال عند دخول الخلاء؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث» وإذا خرج قال «غفرانك» . وفى لفظ إذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى» . وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إنّى أعوذ بك من الرّجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج قال: «الحمد لله الذى أذهب عنّى الأذى وعافانى» . وأمّا ما يقال عند الوضوء وغسل الأعضاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ

إذا توضّأت فقل باسم الله والصلاة على رسول الله» . وعن محمد بن الحنفيّة قال: دخلت على والدى علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهما- وإذا عن يمينه إناء من ماء، فسمّى ثم سكب على يمينه ثم تمضمض فقال: اللهم حصّن فرجى واستر عورتى ولا تشمت بى الأعداء؛ ثم تمضمض واستنشق وقال: اللهم لقّنّى حجّتى ولا تحرمنى رائحة الجنّة. ثم غسل وجهه وقال: اللهم بيّض وجهى يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهى يوم تبيضّ الوجوه. ثم سكب على يمينه فقال: اللهم أعطنى كتابى بيمينى والخلد بشمالى. ثم سكب على شماله وقال: اللهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا تجعلها مغلولة إلى عنقى. ثم مسح برأسه وقال: اللهم غشّنا برحمتك فإنّا نخشى عذابك، اللهم لا تجمع بين نواصينا وأقدامنا. ثم مسح عنقه فقال: اللهم نجّنا من مقطّعات [1] النيران وأغلالها. ثم غسل قدميه فقال: اللهم ثبّت قدمىّ على الصراط المستقيم يوم تزلّ فيه الأقدام. ثم استوى قائما فقال: اللهم كما طهّرتنا بالماء فطهّرنا من الذنوب، ثم قال بيده هكذا، يقطر الماء من أنامله، ثم قال: يا بنىّ، افعل كفعلى هذا فإنه ما من قطرة تقطر من أناملك إلا خلق الله منها ملكا يستغفر لك إلى يوم القيامة. يا بنىّ؛ من فعل كفعلى هذا تساقطت عنه الذنوب كما يتساقط الورق عن الشجر يوم الريح العاصف. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا توضّأت فقل اللهم إنى أسألك تمام الوضوء وتمام مغفرتك ورضوانك» . وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من توضّأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء» . وعن

_ [1] المقطعات من الثياب: شبه الجباب، وفى التنزيل: (قطعت لهم ثياب من نار) أى قطعت وخيطت وجعلت لبوسالهم. (عن لسان العرب) .

علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا فرغت من وضوئك فقل أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوّابين واجعلنى من المتطهّرين تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمّك وتفتح لك ثمانية أبواب الجنة فيقال ادخل من أيّها شئت» . وأمّا ادعية الصلاة، فهى إمّا أن تقع قبلها أو فيها أو بعدها. فأمّا ما يقال قبلها فقد روى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها بأىّ شىء كان نبىّ الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت: إذا قام يفتتح صلاته يقول: «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلفت فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» . وأمّا ما يدعى به فى نفس الصلاة، فقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ثم يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا كبّر فى الصلاة سكت هنيّة قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، ما تقول فى سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس واغسلنى من خطاياى بالثلج والماء والبرد» . وعن جبير بن مطعم رضى الله عنه أنه رأى

النبىّ صلى الله عليه وسلم يصلّى قال: فكبّر فقال «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد لله كثيرا ثلاث مرات وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» . قال راويه عمرو بن مرّة: نفخه: الكبر، ونفثه: السحر، وهمزه: الموتة، وهى الجنون. وعن علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبّر ثم قال: «وجّهت وجهى للّذى فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربّى وأنا عبدك ظلمت نفسى واعترفت بذنبى فاغفرلى ذنوبى جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت واصرف عنى سيّئها لا يصرف سيّئها إلا أنت لبّيك وسعديك والخير كلّه فى يديك [والشرّ ليس إليك [1]] وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك» . فإذا ركع قال: «اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعى وبصرى ومخّى وعظمى وعصبى» . فإذا رفع رأسه قال: «سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شىء بعد» . فإذا سجد قال: «اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهى للّذى خلقه وصوّره فأحسن صوره وشقّ سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين» . فإذا فرغ من الصلاة وسلّم قال: «اللهم اغفرلى ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به منّى أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلا أنت» . وقد ورد فى لفظ آخر أنه يقول: اللهم اغفر لى إلى آخر الدعاء بين التشهّد والتسليم. وعن حذيفة رضى الله عنه قال: صلّيت مع رسول الله

_ [1] زيادة من كتاب الأذكار للنووى (ص 21) .

صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول فى ركوعه: «سبحان ربّى العظيم» ، وفى سجوده: «سبحان ربّى الأعلى» . وفى لفظ أنه كان يقول ذلك ثلاث مرات. وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى سجوده وركوعه: «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكّلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «من قال وهو ساجد ثلاث مرّات ربّ اغفرلى لم يرفع رأسه حتّى يغفر له» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التشهّد كما يعلّمنا السّورة من القرآن، وكان يقول: «التحيّات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله» . وروى: «السلام» فى الموضعين. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: كنّا نقول فى الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله السلام على فلان. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم فى الصلاة فليقل التحيّات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبىّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كلّ عبد صالح فى السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخيّر فى المسألة ما شاء» . وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة عليه. وقد سأله كعب بن عجرة عنها فقال: «قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك

على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهّد فليتعوّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وشرّ المسيح الدجّال» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله: علّمنى دعاء أدعو به فى الصلاة وفى بيتى قال: «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك إنّك أنت الغفور الرحيم» . وروى بعد قوله من عندك: «وارحمنى إنك أنت التوّاب الرحيم» . وأمّا ما يدعى به بعد التسليم؛ فقد روى عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كلّ صلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كلّ شىء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وعن عبد الله ابن الزّبير رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير لا حول ولا قوّة إلا بالله ولا نعبد إلا إيّاه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» . وفى طريق آخر: «له الدين وهو على كل شىء قدير» . وعن أمّ سلمة رضى عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الصبح قال: «اللهم إنى أسألك علما نافعا ورزقا طيّبا وعملا متقبّلا» . وعن أنس رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم:

«من قال حين ينصرف من صلاته سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم ثلاث مرات فإنه مغفور له» . وعن أبى أمامة الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسىّ دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد بسط كفّيه فى دبر صلاته ثم يقول إلهى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إله جبريل وميكائيل وإسرافيل أسألك أن تستجيب دعوتى وتعصمنى فى دينى فإنى مبتلى وتنالنى برحمتك فإنّى مذنب وتنفى عنى الفقر فإنى مستمسك إلّا كان حقّا على الله ألّا يردّ يديه خائبتين» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال دبر كلّ صلاة الحمد لله ثلاثا وثلاثين مرّة وسبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرّة وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» . وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . وعن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما قال: علّمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ فى الوتر، وفى لفظ: فى قنوت الوتر: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت وتولّنى فيمن تولّيت وبارك لى فيما أعطيت وقنى شرّ ما قضيت إنك تقضى ولا يقضى عليك وإنّه لا يذلّ من واليت تباركت ربّنا وتعاليت» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: «اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإيمان ومن توفّيته منا فتوفّه على

الإسلام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلّنا بعده» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ اذا صلّيت على جنازة رجل فقل اللهم هذا عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماض فيه حكمك خلقته ولم يكن شيئا مذكورا نزل بك وأنت خير منزول به اللهم لقّنه حجّته وألحقه بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وثبّته بالقول الثابت فإنه افتقر إليك واستغنيت عنه كان يشهد أن لا إله إلّا الله فاغفر له وارحمه ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده اللهم إن كان زاكيا فزكّه وإن كان خاطئا فاغفر له. وإذا صلّيت على جنازة امرأة فقل اللهم أنت خلقتها وأنت أحييتها وأنت أمتّها تعلم سرّها وعلانيتها جئناك شفعاء لها فاغفر لها وارحمها ولا تحرمنا أجرها ولا تفتنّا بعدها. وإذا صلّيت على جنازة طفل فقل اللهم اجعله لوالديه سلفا واجعله لهما ذخرا واجعله لهما رشدا واجعله لهما نورا واجعله لهما فرطا وأعقب لوالديه الجنّة ولا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده» . وعن عوف بن مالك رضى الله عنه قال: سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وصلّى على جنازة يقول: «اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وقه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار» . قال عوف رضى الله عنه: فتمنّيت لو كنت أنا الميّت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا ما يقال عند رؤية الجنازة والتلقين والدفن، وما فى ذلك من الأجر؛ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من رأى جنازة فقال الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما كتب له عشرون

حسنة فى كلّ يوم من يوم يقولها إلى يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعتم موتاكم فى القبر فقولوا بآسم الله وعلى ملّة رسول الله» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان اذا سوّى على الميّت التراب قال: «اللهم أسلمه إليك الأهل و؟؟؟ والعشيرة وذنبه عظيم فاغفر له» . وعن سعيد بن عبد الله الأودىّ قال: شهدت أبا أمامة وهو فى النّزع فقال: إذا أنا متّ فاصنعوا بى كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا فقال: «إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يستوى قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله وأنّك رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما نقعد عند من لقّن حجّته فيكون الله حجيجه دونهما» . فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمّه؟ قال: «فينسبه إلى حوّاء يا فلان ابن حوّاء» . وأمّا ما يقال عند زيارة القبور؛ عن عائشة رضى الله عنها أنّها تبعت النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى زيارة البقيع فقال لها: «قولى السّلام على أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المقابر قال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله العافية لنا ولكم» .

وأمّا ما يقال عند الإفطار من الصوم، والأكل والشرب؛ روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبّل منّا إنك أنت السميع العليم» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قال اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وعليك توكّلت كتب له من الأجر بعدد من صام ذلك اليوم» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحدكم لتوضع مائدة بين يديه فما تكاد أن ترفع حتى يغفر له» . قيل يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: «لأنه يسمّى الله إذا وضعت المائدة وأكل ويحمد الله إذا رفعت» . وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نسى أحدكم أن يذكر اسم الله فى أوّل طعامه فليقل باسم الله أوّله وآخره» . وعنه صلى الله عليه وسلم «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذى أطعمنى هذا الطعام ورزقنيه بغير حول منّى ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل قال: «الحمد لله الذى أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجا» . ومن رواية أنس: «الحمد لله الذى أطعمنى وسقانى وهدانى وكلّ بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوّة اللهم لا تنزع منّا صالحا أعطيتناه ولا صالحا رزقتناه واجعلنا لك من الشاكرين» . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وأشبعنا وآوانا وكفانا» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا شربت ماء فقل الحمد لله الذى سقانا ماء عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا تكتب شاكرا» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل بيت قال لهم: «أفطر عندكم

الصائمون وأكل طعامكم الأبرار ونزلت عليكم الملائكة» ؛ وروى: «وصلّت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده» . وأمّا ما يقال عند لباس الثوب وإلباسه؛ وعند النظر فى المرآة والتسريح وفى المجلس؛ روى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استجدّ ثوبا- سمّاه باسمه قميصا أو إزارا أو عمامة- يقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه اللهم إنى أسألك من خيره [1] وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا لبست ثوبا فقل باسم الله الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأستغنى به عن الناس لم يبلغ الثوب رقبتك حتى يغفر لك يا علىّ من لبس ثوبا جديدا وكسا أسماله [2] عريانا أو مسكينا كان فى جوار الله وأمنه وحفظه ما دام عليه منه سلك [3] » . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا فقال الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنيه من غير حول منّى ولا قوّة غفر له [4] ما تقدّم من ذنبه وما تأخر [5] » . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا نظر فى المرآة يقول: «الحمد لله رب العالمين الذى خلقنى وسوّى خلقى وجعلنى بشرا سويّا ولا حول ولا قوّة إلا بالله» . قال ابن عباس رضى الله عنهما: فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لا يمس

_ [1] الذى فى أذكار النووى؛ «أسألك خيره ... » بدون كلمة «من» . [2] فى الأصول: «أو كسا أسماله ... » وظاهر أن السياق يقتصى الواو دون «أو» . وقد ورد ما يشبه هذا الحديث فى أذكار النووى (ص 11) وأداة العطف فيه «ثم» . [3] السلك: الخيط. [4] فى الأصل: «إلا غفر له» بزيادة «إلا» وهى غير موجودة فى أذكار النووى. [5] كلمة «وما تأخر» غير موجودة فى أذكار النووى.

وجه من قالها سوء أبدا. وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا نظرت فى المرآة فقل اللهم كما حسّنت خلقى فأحسن خلقى وارزقنى» . وعن الرّضى علىّ بن موسى عن أبيه عن آبائه أبا فأبا رضى الله عنهم عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أمرّ المشط على رأسه ولحيته فى كل يوم سبع مرّات وقال فى كلّ مرة سبحان الله العظيم وبحمده لا حول ولا قوّة إلا بالله العلىّ العظيم لم يقارنه ذنب» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس فى مجلس كثر لغطه فيه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان فى مجلسه ذلك» . وأمّا ما يقال فى المرض والرّقى والوسواس والحريق؛ عن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: «باسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن [1] ربّنا» . وعن عثمان بن أبى العاص الثقفىّ رضى الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبى وجع قد كاد يبطلنى فقال لى صلى الله عليه وسلم: «اجعل يدك اليمنى عليه ثم قل باسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرّ ما أجد سبع مرات [2] » ، ففعلت ذلك فشفانى الله تعالى. وعنه صلى

_ [1] كذا فى الأصول. وفى صحيح مسلم: «باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا باذن ربنا وقال ابن أبى شيبة: يشفى وقال زهير: ليشفى به سقيمنا» . وفى أذكار النووى (ص 61) : «وروينا فى صحيحى البخارى ومسلم وسنن أبى داود وغيرها، إلى أن قال: باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا باذن ربنا، وفى رواية ترية أرضنا وريقة بعضنا» اهـ. فما فى الأصول هنا يوافق بعض الروايات. [2] الذى فى صحيح مسلم: «عن عثمان بن أبى العاصى الثقفى أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده فى جسده منذأ سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذى تألم من وقل باسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» .

الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض وضع يده اليمنى على خدّه وقال: «أذهب الباس، ربّ الناس واشف أنت الشافى شفاء لا يغادر سقما» . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قرأ فى أذن مبتلى فأفاق، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما قرأت فى أذنه» ؛ قال: قرأت (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا) إلى آخر السورة. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ رجلا موقنا قرأبها على جبل لزال» . وعن ابن عمر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى صاحب بلاء فقال الحمد الذى عافانى مما ابتلاك به وفضّلنى عليك وعلى كثير ممن خلق الله عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان أبدا ما عاش» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أرقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين فأضع يدى على صدره وأقول: أذهب الباس، ربّ الناس؛ بيدك الشفاء ولا كاشف له إلا أنت. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما رفع الحديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذه الكلمات دواء من كلّ داء أعوذ بكلمات الله التامّة وأسمائه كلها عامّة من السامّة والهامّة وشرّ العين اللّامّة ومن شرّ حاسد إذا حسد ومن شرّ أبى قترة [1] وما ولد ثلاثون من الملائكة أتوا ربّهم عز وجل فقالوا وصب بأرضنا فقال خذوا تربة من أرضكم وامسحوا بوصبكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ عليها صفدا [1] أو كتمها أحدا فلا أفلح أبدا» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: من اشتكى ضرسه فليأخذ التراب من موضع سجوده ثم يمسح يده على الموضع الذى يشتكى، ثم يقول: باسم الله، والشافى الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه أتاه رجل فذكر له أن

_ [1] أبو قترة: إبليس. [2] الصفد (بفتحتين) : العطاء.

أباه احتبس بوله وأصابته حصاة منعته البول فعلّمه رقية سمعها من النبىّ صلى الله عليه وسلم وهى: «ربّنا الله الذى فى السماء تقدّس اسمك أمرك فى السماء والأرض كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا [1] وخطايانا أنت ربّ الطيّبين فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على الوجع فيبرأ» ؛ فأمره برقيه بها فرقاه بها فبرئ. وعن علىّ رضى الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتمّا، فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذى أراه فى وجهك؟ قال: «الحسن والحسين أصابتهما عين» . فقال: يا محمد، صدّق العين فإن العين حقّ. ثم قال: أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات؟ فقال: «وما هنّ يا جبريل» ؛ فقال: «قل اللهمّ ذا السلطان العظيم، ذا المنّ القديم، ذا الوجه الكريم، والكلمات التامّات، والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجنّ وأعين الإنس» . فقالها النبىّ صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «عوّذوا أنفسكم بهذا التعوّذ فإنّه لم يتعوّذ المتعوذّون بمثله» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أمان لك من الحرق أن تقول سبحانك ربّى لا إله إلّا أنت عليك توكّلت وأنت ربّ العرش العظيم» . وعنه أيضا رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ أمان لك من الوسواس أن تقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً . وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً » . وأمّا ما يقال عند دخول السوق وشراء الجارية والدابّة؛ روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل السوق قال: «اللهم إنّى أسألك من خير

_ [1] الحوب: الإثم.

هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا دخلت السوق فقل حين تدخل باسم الله وبالله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله يقول الله عز وجل عبدى هذا ذكرنى والناس غافلون اشهدوا أنّى قد غفرت له» . وعن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ورفع له ألف ألف درجة» أو قال: «وبنى له بيتا فى الجنّة» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفاد أحدكم الجارية أو المرأة أو الدابّة فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة وليقل اللهم إنّى أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما جبلت عليه فإن كان بعيرا فليأخذ بذروة سنامه» . وأمّا ما يقال عند هبوب الرياح وفى الرعد والمطر؛ عن أبىّ بن كعب رضى الله عنه أن الريح هاجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّها فإنها مأمورة ولكن قل اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أمرت به وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها وشرّ ما أمرت به» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد أو البرق قال. «اللهم لا تقتلنا غضبا ولا تقتلنا بغتة وعافنا قبل ذلك» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» . وعن أنس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا فى الاستسقاء

حتى يرى بياض إبطيه. وعن كعب بن مرّة السلمىّ رضى الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا عاجلا غير رائث نافعا غير ضارّ» . وقال: فما جمّعوا [1] حتى أحيوا [2] . فأتوه فشكوا إليه المطر فقالوا: يا رسول الله قد تهدّمت البيوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه: «اللهم حوالينا ولا علينا» ، فجعل السحاب يتقطّع يمينا وشمالا. وعن عائشة رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا فى أفق السماء ترك العمل وإن كان فى صلاة، ثم يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من شرّها» ؛ فإن رأى مطرا قال: «اللهم صيّبا هنيئا» . وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهم صيّبا نافعا» . وأمّا ما يقال فى الخوف والشدائد؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تخوّف الرجل من السلطان فليقل اللهم ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم كن لى جارا من فلان بن فلان يسمّى الذى يريد وشرّ الجنّ والإنس وأحزابهم وأتباعهم أن يفرط علىّ أحد منهم أو يطغى عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من خاف من السلطان أو غيره فليفزع إلى هذه الدعوة الله أكبر وأعزّ من خلقه جميعا الله أكبر وأعزّ مما أخاف وأحذر وأعوذ بالله الذى لا إله إلّا هو ممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلّا بإذنه من شرّ فلان

_ [1] جمعوا: شهدوا الجمعة. [2] أحيوا: حيث ما شيتهم وحسن حالها أو صاروا فى الخصب (عن القاموس) .

ابن فلان يا ربّ كن لى جارا من شرّه عزّ جارك وجلّ ثناؤك ولا إله إلا أنت العلىّ العظيم يقولهنّ ثلاث مرات إلّا أعاذه الله من شرّ ذلك» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا اشتدّ بك أمر فكبّر ثلاثا وقل الله أكبر وأعزّ من كل شىء والله أكبر أعزّ من خلقه وأقدر وأعزّ مما أخاف وأحذر اللهم أدرأ بك فى نحره وأعوذ بك من شرّه فإنك تكفى بإذن الله عز وجل» . وأمّا ما يقال فى الغضب والفزع؛ عن سليمان بن صرد رضى الله عنه قال: استبّ رجلان عند النبىّ صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّى لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إذا فزع أحدكم فليقل أعوذ بكلمات الله التامّة من غضبه وعذابه [1] ومن شرّ عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنّها لم تضرّه» . قال فكان عبد الله يعلّمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها فى صكّ وعلّقها عليه. وفى لفظ: «إذا فزع أحدكم فى النوم فليقل ... » يعنى الكلمات؛ وفى طريق: كان خالد بن الوليد رجلا يفزع فى نومه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «إذا اضطجعت للنوم فقل ... » يعنى الكلمات، فقالها فذهب ذلك عنه. وأمّا ما يقال فى السفر وركوب الدابّة والسفينة ودخول القرية؛ عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا توصّأ

_ [1] ذكر هذا الحديث فى أذكار النووى مرات ولم تذكر فيه كلمة «وعذابه» .

فأسبغ وضوءه وصلّى ركعتين، ويقول وهو فى مجلسه مستقبل القبلة: «الحمد لله الذى خلقنى ولم أك شيئا ربّ أعنّى على أهوال الدنيا والآخرة ومن مصيبات الليالى والأيّام فى سفرى فاحفظنى وفى أهلى فاخلفنى» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ما استخلف العبد فى أهله إذا هو شدّ عليه ثياب سفره خيرا من أربع ركعات يصلّيهنّ [1] فى بيته يقرأ فى كل واحدة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثم يقول اللهم إنّى أتقرّب بهنّ اليك فاجعلهنّ خليفتى فى أهلى ومالى قال فهو [2] خليفته فى أهله وماله وولده ودور حول داره حتى يرجع إلى داره» . وعن أنس رضى الله عنه قال: لم يرد النبىّ صلى الله عليه وسلم سفرا قطّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: «بك انتشرت إليك وجّهت [3] وبك اعتصمت أنت ثقتى ورجابى اللهم اكفنى ما يهمّنى وما لا أهتمّ به وما أنت أعلم به منّى اللهم زوّدنى التقوى واغفر لى ذنبى ووجّهنى إلى الخير أينما توجّهت» . وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ركبتم الإبل فتعوّذوا بالله واذكروا اسم الله عليه فإنّ على سنام كلّ بعير شيطانا» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره يريد السفر كبّر ثلاثا ثم قال: «سبحان الذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنا إلى ربّنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك فى سفرنا هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن لنا سفرنا هذا واطو عنّا بعده اللهم أنت

_ [1] كذا فى شرح الإحياء طبع المطبعة الميمنية (ج 6 ص 403) . وفى الأصل «يضعهن» . [2] ورد هذا الحديث فى كتاب منتخب كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال الموضوع بهامش الجزء الثالث من مسند الامام أحمد بن حنبل طبع مصر سنة 1313 هـ (ج 3 ص 39) مع شىء يسير جدّا من النقص أو الزيادة. وفيه «فاجعلهن خليفتى فى أهلى ومالى فهن خليفة» الخ. [3] كذا فى الأصلين. وقد روى هذا الحديث فى منتخب كنز العمال: «اللهم لك انتشرت واليك توجهت وبك اعتصمت اللهم أنت ثقتى وأنت رجائى اللهم اكفنى ما أهمنى وما لا أهتم له وما أنت أعلم به اللهم زودنى التقوى» الخ.

الصاحب فى السفر والخليفة فى الأهل والمال والولد» ، وإذا رجع صلى الله عليه وسلم قالهن وزاد فيهن: «آئبون تائبون لربّنا حامدون» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من حجّ أو عمرة فأشرف على شرف كبّر ثلاثا ثم قال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير آئبون تائبون لربّنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وكلّ شىء هالك إلّا وجهه له الحكم وإليه ترجعون اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر وكابة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمّتى من الغرق إذا ركبوا السّفن أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون باسم الله مجريها ومرساها إن ربّى لغفور رحيم» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل اللّيل قال: «يا أرض ربّى وربّك الله أعوذ بالله من شرّك وشرّ ما فيك وشرّ ما يدبّ عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحيّة والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ إذا نزلت منزلا فقل باسم الله اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ترزق خيره ويدفع عنك شرّه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامّات كلّها من شرّ ما خلق لم يضرّه شىء حتى يرتحل من منزله ذلك» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا أردت الدخول إلى مدينة أو قرية فقل حين تعاينها اللهم إنّى أسألك خير هذه القرية وخير ما كتبت فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما كتبت فيها اللهم ارزقنى خيرها وأعوذ بك من شرّها

وحبّبنا إلى أهلها وحبّب أهلها إلينا» . وعن صهيب رضى الله عنه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلّا قال: «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن وربّ الأرضين السبع وما أقللن وربّ الرياح وما ذرين وربّ الشياطين وما أضللن أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأراد أن ينزل قرية عدل إليها وقال: «الله أكبر ثلاثا اللهم ارزقنا خيرها واصرف عنّا وباءها وحبّبنا إلى صالح أهلها وحبّبهم إلبنا» . وأمّا ما يقال فى الزواج والجماع؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج أحدكم ثم دخل على أهله فليقل اللهمّ بارك لى فى أهلى وبارك لأهلى فىّ وارزقنى منها وارزقها منى واجمع بيننا ما جمعت فى خير وإذا فرّقت بيننا ففرّق فى خير» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال اللهم جنّبنى الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنى فإن قضى بينهما ولد لم يضرّه الشيطان [1] » ، أو قال: «لم يسلّط عليه» . وأمّا ما يقال فى قضاء الدّين ونجاح الحوائج؛ عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من

_ [1] كذا فى الأصلين. وفى أذكار النورى (ص 125) عن رواية صحيحى البخارى ومسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره» وفى رواية البخارى: « ... لم يضره شيطان أبدا» .

الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة مالى أراك جالسا فى المسجد فى غير وقت صلاة» ؟ قال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلّمك كلاما إذا قلته أذهب الله همّك عنك وقضى عنك دينك» ! قال: بلى يا رسول الله. قال: «قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إنى أعوذ بك من الهمّ [1] والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال» ؛ قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همّى وقضى عنّى دينى. وعن معاذ ابن جبل رضى الله عنه أنّه تخلّف عن صلاة من الصلوات ففقده النبىّ صلى الله عليه وسلم. فلما جاءه قال: «ما خلّفك عن الصلاة يا معاذ» ؟ قال: ليوحنّا اليهودىّ علىّ دين فخشيت إن خرجت أن يلزمنى فلا أنا وصلت إليك ولا أنا كنت فى أهلى. فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلّمك [2] كلمات إذا قلتهنّ قضى الله عنك دينك ولو كان مثل الأرض أو مثل صبر [3] ذهبا أو ورقا قضاه الله عنك» ! قلت: بلى يا رسول الله قال: «قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شىء قدير. تولج اللّيل فى النّهار وتولج النّهار فى اللّيل وتخرج الحىّ من الميّت وتخرج الميّت من الحىّ وترزق من تشاء بغير حساب. رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما تعطى منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء أسألك بعزّتك ورحمتك أن تقضى عنّى دينى» . وعن عبد الله بن أبى أوفى الأسلمىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له

_ [1] كذا فى أذكار النورى (ص 39) . وفى الأصلين: « ... من الجبن والحزن ... » . [2] كذا فى نزل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار طبع مطبعة الجوائب (ص 264) . وفى الأصلين: «ألا أكلمك ... » . [3] صبر (بفتح فكسر) : جبل من جبال اليمن مطل على قلعة «تعز» المدينة المشهورة بها. (عن تاج العروس) .

حاجة إلى الله أو إلى أحد من بنى آدم فليتوضّأ وليحسن الوضوء وليصلّ ركعتين ثم ليثن على الله عز وجل ويصلّ على النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم ليقل لا إله إلا الله الحكيم الكريم سبحان الله ربّ العرش العظيم والحمد لله ربّ العالمين أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كلّ برّ والسلامة من كلّ ذنب لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها» . وعن علىّ رضى الله عنه قال: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علىّ إذا خرجت من منزلك تريد حاجة فاقرأ آية الكرسىّ فإنّ حاجتك تقضى إن شاء الله تعالى» . وعنه رضى الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكّر فى طلبها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من بيته آخر سورة آل عمران وآية الكرسىّ وإنّا أنزلناه فى ليلة القدر وأمّ الكتاب فإنّ فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة» . وأمّا ما يقال فى ردّ الضالّة؛ عن مكحول رضى الله عنه أنه كان يدعو فى الضالّة: اللهم هادى ورادّ الضّوالّ اردد علىّ ضالّتى ولا تعنّنى بطلبها ولا تفجعنى بمصيبتها فإنها من رزقك وعطائك. وكان يقول فى الآبق: اللهم ضيّق عليه البلاد واجعله فى أضيق من ضرورة الحمل [1] حتى تردّه . دعاء الاستخارة؛ عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد الأمر: «اللهم خر لى واختر لى» . وعن جابر

_ [1] كذا فى الأصل. وقد راجعنا كثيرا من كتب الحديث والأدعية فلم نوفق له. وفى كتاب الفوائد فى الصلات والعوائد المطبوع بالمطبعة الكاستلية سنة 1296 هـ (ص 28) وردت العبارة الآتية فى عزيمة العبد الآبق وهى: «اللهم إنى أسألك يا مالك السموات والأرض ومن فيهن أن تجعل اللهم السماء والأرض وما فيهما على عبد فلان بن فلانة أضيق من حلقة حتى يرجع الى مولاه برحمتك يا أرحم الراحمين» .

ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم

ابن عبد الله رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إنّى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علّام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فآقدره لى [ويسّره لى ثم بارك لى فيه [1]] وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى- أو قال فى عاجل أمرى وآجله- فا [صرفه عنّى [1] وا] صرفنى عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم رضّنى به ويسمّى حاجته» . ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد إنّه وتر يحبّ الوتر من أحصاها دخل الجنة هو الله الذى لا إله إلّا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلىّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوىّ، المتين، الولىّ، الحميد،

_ [1] زيادة عن كتاب الأذكار للنووى (ص 65) .

النمط الأول

المحصى، المبدئ، المعيد، المحيى، المميت، الحىّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصّمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالى، المتعال، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنى، المغنى، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادى، البديع، الباقى، الوارث، الرشيد، الصّبور. وقد نبّه البونى رحمه الله فى اللّمعة النورانية على كيفية العلم والعمل بأسماء الله الحسنى وخاصيّة كل اسم منها، ورتّب ذلك وجعله عشرة أنماط فقال: النمط الأوّل من نظم الأسماء اسمه الله، والإله، والربّ، والخالق، والبارىء، والمصوّر، والمبدئ والمعيد، والمحيى، والمميت. قال البونى: هذا النمط عشرة أسماء لا تكون إلّا أذكارا للذاكرين [على اختلاف [1]] أحوالهم. فالله والإله ذكر الأكابر والمولّهين فى الغالب. والربّ، والخالق، والبارئ ذكر الأكابر من السالكين المريدين [2] . والمصوّر، والمبدئ، والمعيد، والمحيى، والمميت ذكر عباد الله المتعبّدين والمتبصّرين [3] . النمط الثانى الأحد، الواحد، الصمد، الفعّال، البصير، السميع، القادر، المقتدر، القوىّ، القائم. قال: هذه الأسماء العشرة سلك واحد فى تقارب الأذكار؛ وهذا القسم فيه أذكار السالكين المتعلّقين بأسرار التوحيد ذكرهم الأحد والواحد. وأمّا الصمد

_ [1] الزيادة عن اللمعة النورانية. [2] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية: من المسلكين المربين: [3] فى إحدى نسختى اللمعة: «المعتبرين والمتبصرين» .

النمط الثالث

فذكر يصلح للمرتاضين [1] بالجوع، فذاكره لا يحسّ بألم الجوع البتّة ما لم يدخل عليه ذكرا [2] غيره. والفعّال اسم للمغلوبين بالخواطر والوساوس وكثرة الأفكار واغتمام القلب [بهذا السبب [3]] ؛ فمهما ذكره من هذه صفته تقلّبت [4] أفكاره إلى ما يقع له به سرور وفرح. وأما السميع والبصير فتنزيه جليل، وهو ذكر يصلح للملحّين فى الدعاء فإنه ربما أسرعت لهم الإجابة. وأمّا القادر، والمقتدر، والقوىّ، والقائم فذكر يصلح لأصحاب الإعياء والحرف الثقيلة؛ ولو علم سرّه من يعانى الأثقال واستدامه لم يحسّ بثقل فيما يتعاطاه البتّة؛ ومن نقشها [5] فى فص خاتم وتختّم به أدرك ذلك لوقته؛ ومن ضعف عن شىء ما وعلّقه عليه وذكره قوى لوقته. النمط الثالث الحىّ [6] ، القيّوم، الرحمن، الرحيم، الملك القدير [7] ، العلىّ، العظيم، الكبير، المتعال. قال: هذا القسم من الأسماء يحتوى على أذكار المراقبين، وفيه أعمال جليلة البرهان. فالحىّ القيّوم اسمان جليلان، ذكر لأهل الحضرة، وهو من أذكار إسرافيل وملائكة الصّور أجمعين، يصلح أن يذكر من مبادئ الفجر إلى طلوع الشمس، يجد ذاكره من الزيادة والخشية والتطلّع إلى طلب الفضائل ما لم

_ [1] فى نسختى اللمعة النورانية: «للمتريضين» . [2] كذا فى إحدى نسخى اللمعة. وفى الأخرى والأصلين: «ما لم يدخل عليه ذكر غيره» . [3] الزيادة عن اللمعة النورانية. [4] فى نسختى اللمعة النورانية: «نقلت» . [5] فى الأصلين ونسختى اللمعة النورانية: «ومن نقشهم» بميم الجمع. وظاهر أن قواعد اللغة لا تقتضيها [6] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى الأصلين وفى نسخة أخرى من اللمعة: «يا حى يا قيوم الرحمن» الخ [7] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى منها وفى الأصلين: «القدوس» ووجد بأحد الأصلين كلمة «القدير» فوق كلمة القدوس.

النمط الرابع

يعهده قبل؛ ومن نقش الاسمين عند طلوع الشمس [من يوم الجمعة [1]] مستقبل القبلة على ذكر وأمسكه عنده أحيا الله ذكره إن كان خاملا [2] ، وأحيا رزقه إن كان قليلا. وأمّا الرحمن الرحيم فأذكار شريفة للمضطرّين وأمان للخائفين لا ينقشه أحد فى خاتم فى يوم جمعة آخر النهار فيرى ما يكرهه مادام عليه. ومن أكثر من ذكره كان ملطوفا به فى كل أموره. وأمّا الملك والقديرف [ذكر [3]] يذكر عند كل ذى ملك وقدرة فإنه ما من ملك يستديم هذا الذّكر فى عموم أوقاته إلّا ثبت ملكه وانبسطت قدرته؛ ويصلح للسالك الذى تغلبه شهوات نفسه؛ فإنه ما يستديم ذكره من هذا مقامه إلا بعث الله إليه قوّة ملكيّة تؤيّده وتنصره على من يخالفه من عوالمه. وأما العلىّ العظيم فللتنزيه. والكبير المتعال مناسب للتنزيه أيضا، وهما اسمان لائقان [4] بأهل التعظيم من أرباب الأحوال ليس للعامّة فى الذكر [5] بهما قسم. النمط الرابع المهيمن، المقيت، العزيز، الجبّار، المتكبّر، المحيط، الحفيظ، الفاطر، المجيد ذو الجلال. قال البونى: أمّا المهيمن، والمقيت فللعلم والاستيلاء [6] والمراقبة فى الجزئيات والكليات. والعزيز، والجبّار، والمتكبّر فمن أسماء صفات الذات اللازمة للخوف والرهبة والعظمة، لا يذكرها [7] ذليل إلا عزّ، ولا حقير إلا ارتفع، ولا بين يدى جبّار إلا ذلّ وخضع، ولا يذكرها [7] ملك من ملوك الأرض إلا وجد

_ [1]- هذه الكلمة ساقطة من نسختى اللمعة. [2] كذا فى نسختى اللمعة. وفى الأصلين: «أحيا الله ذكره وإن كان خاملا وأحيا رزقه وإن كان قليلا» . [3] زيادة عن نسختى اللمعة النورانية. [4] كذا فى نسختى اللمعة النورانية. وفى الأصلين: «وهما اسمان يليق» . [5] فى الأصلين: «بهم» . [6] فى نسختى اللمعة النورانية: «فللعلم بالأشياء» . [7] فى الأصلين ونسختى اللمعة بميم الجمع، وقواعد اللغة تقتضى ما وضعناه.

النمط الخامس

فى نفسه ذلّة وانكسارا. وأما الحفيظ فإنه اسم سريع الإجابة للخائفين فى الأسفار. وأما المحيط، والمجيد، والفاطر، وذو الجلال، فأسماه التنزيه وزيادات فى التوحيد. النمط الخامس العليم، الحكيم، البديع، النور، القابض، الباسط، الأوّل الآخر، الظاهر، الباطن. قال: هذا القسم من الأسماء جليل القدر عظيم الشأن. فأمّا العليم، والحكيم فللتوحيد الخاص، لا يصلحان إلا لمن أبهم عليه أمر من كشف سرّ من أسرار الله تعالى يعسر على الفكر إدراكه، فإنه إذا استدام ذكر العليم الحكيم يسّر الله عليه علم [1] ما سأل وعرّفه الحكمة فيه، ومنه اسمه البديع أيضا [مثل ذلك] . وأمّا النّور، والباسط، والظاهر، فذكر أرباب المكاشفات. ومن أراد أن ينظر شيئا فى منامه فليذكر هذه الأسماء على طهارة وهو فى فراشه إلى أن ينام على هذا الذكر، ويعمل همّته فيما يريده فإنه يمثّل له فى نومه كشف ذلك. وأمّا القابض، والأوّل، والآخر، والباطن، فكلها أسماء للتعظيم والتوحيد. النمط السادس الحليم، الرءوف، المنّان، الكريم، ذو الطّول، الوهّاب، الغفور، الغافر، العفوّ، المجيب. قال: هذا النّمط من الأسماء عليه مدار إبقاء الوجود ودفع الأضداد وجمع المتفرّق. أما الحليم، والرءوف، والمنّان، فذكر للخائفين؛ ما داومه من يخاف شيئا إلا أوجده الله تعالى برد الطّمأنينة وسكّن روعه. قال البونى: وذكر [لى [2]] من له

_ [1] هكذا فى الأصلين. والذى فى نسختى اللمعة: «علمه فيما يناله، وعرفه الحكمة فيما سأل» . [2] زيادة عن اللمعة النورانية.

النمط السابع

اطلاع أنه من استدام هذا الذكر إلى أنّ يغلب عليه حال منه على خلوّ معدة ثم أمسك النار لم تعد عليه، ولو تنفّس حينئذ على قدر تغلى سكن غليانها بإذن الله تعالى، ولا يكتبها [1] أحد ويقابل بها من يخاف منه إلّا أطفأ الله شرّه عند رؤيته، ولا يستديم هذا الذكر من غلبته شهوته إلا نزع الله منه النزوع إليها فى أثناء ذكره. وأما الكريم، الوهّاب، وذو الطّول؛ فلا يستديم على هذا الذكر من قدر عليه رزقه ومسّته حاجة إلا يسّر الله عليه من حيث لا يشعر، ومن نقش هذه الأسماء وعلّقها عليه لم يدر كيف ييسّر الله عليه المطالب من غير عسر. وأما الغفور، والغافر، والعفوّ، فنظم متقارب لسؤال دفع المؤلم خصوصا من آلام الدين والدنيا. وأمّا المجيب، فيذكر فى آخر الدعوات. النمط السابع الكافى، الغنىّ، الفتاح، الرزاق، الودود، اللطيف، الواسع، الشهيد، نعم المولى ونعم النصير. قال: هذا النّمط من الأسماء جليل القدر، به ينزّل الله الرغائب من كل مفضول به على أحد من عباده. فاسمه الكافى، والغنىّ، والفتاح، والرزّاق لا يذكر أحد هذه الأسماء الأربعة وهو يتمنّى شيئا لم تبلغه أمنيّته إلا بلغه بإذن الله تعالى من جهة لا يعتمد عليها لم تخطر بباله. لا يذكر أحد هذا الذكر على القليل إلا كثّره الله ولا على طعام إلا ظهرت فيه زيادة، ولا يذكره من هو فى رتبة وهمّته طالبة أعلى منها إلا يسّر الله له الوصول إليها. وأمّا الودود، واللطيف، والواسع، والشهيد، فنمط جليل النظم لأرباب الهجوع والخلوة؛ واللطيف خصوصا لتفريج الكرب فى أوقات الشدائد لا يضاف إليه غيره؛ لا يذكره من يؤلمه شىء فى نفسه وبدنه إلا أزاله الله عنه أثناء الذكر.

_ [1] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «ولا يكتبهم أحد ويقابل بهم الخ» .

النمط الثامن

النمط الثامن الشديد، ذو القوّة، المتين، السريع، الرقيب، المقتدر، القاهر، الوارث، الباعث، القوىّ [1] . هذا النمط من الأسماء عظيم الشأن. فأمّا الشديد، وذو القوّة، والقاهر، والمقتدر، فهى أسماء القهر لا يذكرها [2] ضعيف الهمّة إلا قويت نفسه، ولا يدعو بها () أحد على ظالم فى احتراق [3] الشهر فى السابعة من الليل فى بيت مظلم حاسر الرأس على الأرض لا حائل بينه وبينها مائة [4] مرة يقول فى آخرها: يا شديد خذلى بحقّى من فلان [5] ؛ ولا يشخّص [6] شيئا فالله أعلم بما يعمل. قال: وقد جرّب مئين من المرّات. ولا ينقشها [2] أحد فى خاتم ويتختّم به إلا ألبسه الله تعالى مهابة يدركها من نفسه ويدركها غيره منه، ويرتاع منه كل جبّار عنيد عند رؤيته، حتى كأن الجبال على كاهله ما دام ينظر إلى من هو معه. وأمّا السريع، والرقيب، والمتين، فذكر لأرباب المراقبة فى الأفعال تنفتح لهم بذلك مكاشفات وأسرار. وأمّا الوارث، والباعث، فلحكمة الاعتبار والتصديق بآثار القدرة.

_ [1] فى إحدى نسختى اللمعة النورانية بدل اسم القوى بين السطور اسم «الشكور» . ولم يرد فى نسخة اللمعة الثانية شىء بعد كلمة الباعث. [2] فى الأصلين ونسختى اللمعة: «لا يذكرهم ... ولا يدعو بهم» ، وكذلك ما عليه رقم (2) . [3] فى المخصص (ج 9 ص 31) : وامتحاق القمر احتراقه يوم المحاق آخر الشهر لأن الشمس تمحق الهال فيه ولا تبينه. [4] كذا فى إحدى نسختى اللمعة. وفى نسخة أخرى والأصلين: «لا حائل بينه وبينها يقول فى آخرها مائة مرة: يا شديد خذ لى الخ» . [5] فى الكلام حذف يدل عليه السياق بأن يقدر: «إلا استجيب له» . [6] كذا فى الأصلين وإحدى نسختى اللمعة. وفى أخرى: «ولا تنجسنى» .

النمط التاسع

النمط التاسع التوّاب، الشاكر، الولىّ، الحسيب، الوكيل، القريب، الصادق، البرّ، الباقى، الخلّاق. قال: هذا القسم مرتّب على سلوك مقامات السالكين؛ فالتوّاب للتائبين، والشاكر للشاكرين، والولىّ للأولياء، والحسيب لأهل الكفاية، والوكيل للمتوكّلين، والقريب من أهل القرب، والصادق مع الصادقين، والبرّ مع أهل البرّ، والباقى مع الشهداء، والخلّاق لذوى الاعتبار. وللمشايخ فى هذا الميدان مجال رحب بحسب اختلاف أحوالهم. النمط العاشر الهادى، الخبير، المبين، علّام الغيوب، ذو الجلال والإكرام، القدّوس، السلام، المؤمن، وينتظم فى ذلك المعزّ، والمذلّ، وما فى آخر سورة الإخلاص. قال: فالهادى، والخبير، والمبين، لمن أراد كشف عواقب الأمور بجوع وسهر؛ ويذكر هذه الأسماء وعلى رأس مائة من أعداد الذكر يقول: اهدنى يا هادى، وخبّرنى يا خبير، وبيّن لى يا مبين؛ ويسمّى ما يريده وذلك فى جوف الليل، فإذا أدركه النوم مثّل له كشف ما أراده من أىّ نوع شاء. هذا مختصر ما قاله البونى فى ترتيب أسماء الله الحسنى. وأمّا ما ورد فى الاسم الأعظم؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقول: اللهم إنى أسألك أنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد، الصمد، الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل من

الأنصار يقال له أبو عيّاش [1] الزّرقىّ يصلّى، فدنوت منه، فدعا فى صلاته: اللهم إنى أسألك- بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام- أن تغفر لى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى» . وعن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم فى هاتين الايتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ » وفاتحة سورة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . وعن أبى أمامة واسمه صدىّ بن عجلان الباهلىّ رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسم الله الأعظم لفى ثلاث سور من القرآن فى البقرة وآل عمران وطه» . قال فآلتمستها فوجدت فى البقرة آية الكرسى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، وفى طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. والأدعية المختارة كثيرة وقد أتينا منها بما فيه كفاية لمن توجّه إلى الله تعالى وسأله. ولنختم هذا الباب بما ختم به البخارىّ كتابه: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.

_ [1] فى أحد الأصلين: «أبو العباس» وفى الآخر: «أبو عياس» بالسنين المهملة وهو محرف عن أبى «عياش» الزرقىّ الأنصارى وهو صحابى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث صلاة الخوف بعسفان كما فى تهذيب التهذيب.

صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين:

صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين: تمّ الجزء الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبىّ بعده محمد وآله وسلّم يتلوه إن شاء الله الجزء السادس صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصل الثانى الفتوغرافى: كمل السفر الخامس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهّاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التّيمىّ القرشىّ، عرف بالنّويرىّ، عفا الله عنهم. ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الأحد المبارك لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس القسم الخامس من الفن الثانى فى الملك وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعية وما يجب للرعيّة عليه إن شاء الله تعالى. الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيّه وآله وصحبه، وسلّم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فهرس الجزء السادس من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج اليه وفيه أربعة عشر بابا الباب الأوّل- فى شروط الإمامة الشرعية والعرفية 1 الباب الثانى- فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضل به على غيره 5 ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم وكرم أخلاقهم 7 الباب الثالث- فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير 9 الباب الرابع- فى وصايا الملوك 16 الباب الخامس- فيما يجب على الملك للرعايا 33 ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الامام العادل 33 ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته 39 ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرفق بالرعيّة 41 الباب السادس- فى حسن السياسة وإقامة المملكة، ويتصل به الحزم والعزم الخ 43

فأما ما قيل فى حسن السياسة أو اقامة المملكة 43 وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة 45 ذكر ما قيل فى الحلم 48 ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به 50 ذكر ما قيل فى العفو 57 ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام 65 الباب السابع- فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد الخ 69 ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى 69 ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته 74 ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته 76 ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة 77 ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الاشارة 78 الباب الثامن- فى حفظ الأسرار والحجاب 81 ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار 81 ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه الى صديقه 84 ومما وصف به كتمان السرّ 84 ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان 86 ذكر ما قيل فى الحجاب 87 ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب 90 الباب التاسع- فى الوزراء وأصحاب الملك 92 ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير اليه 92 ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج اليه 93 ذكر صفة الوزارة وشروطها وأقسامها 98

ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه 121 فأما حقوق الملك على وزيره فهى ثلاثة 121 وأما حقوق الوزير على سلطانه فثلاثة 122 ذكر وزارة التنفيذ 124 ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه 128 ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء 129 أما حقوق الوزارة 129 وأما عهودها ووصاياها 131 ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم 141 أما صفاتهم 141 وأما وصايا أصحاب السلطان 143 ذكر ما يحتاج اليه نديم الملك وما يأخذ به نفسه وما يلزمه 146 وأما الآداب فى محادثة السلطان 148 وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس 150 ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم 150 الباب العاشر- فى قادة الجيوش والجهاد ومكايد الحروب ووصف الوقائع والرباط وما قيل فى أوصاف السلاح 151 ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم 151 وأما ما يلزم قائد الجيش 152 وأما وصايا أمير الجيش 167 ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده 171 ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها 176 ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها الخ 188 فأما ما ورد فى الجهاد وفضله 188

وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال 189 وأما أسماء غبار الحرب 190 وأما ما قيل فى الحروب والوقائع 190 ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر 197 ذكر ما ورد فى المرابطة 199 ما ذكر قيل فى السلاح وأوصافه 200 ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف 202 ومن أسماء أجزاء السيف 207 ومما يضاف الى السيف 208 ومن أسماء قرابه وآلته 209 وأما ما وصفته به الشعراء 209 وأما ما قيل فى الرمح من الحديث والأسماء والنعوت والأوصاف 214 أسماء الرمح ونعوته 215 ومن أسماء ما يعقد عليه 218 وأما اذا حمله الرجل وطعن به 218 وأما ما وصفته به الشعراء 220 وأما ما قيل فى القوس العربية 222 وأما أسماء القوس ونعوتها 223 وأما الوتر فمن أسمائه الخ 226 وأما أصوات القوس 227 ذكر ما قيل فى تركيب القوس ومبدإ عملها الخ 228 وأما ما قيل فى السهم 230 وأما أسماء النصل 234 وأما أوعية السهام 235

وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر 236 ذكر ما قيل فى الجنّة 239 فأما الترس 239 وأما ما وصف به حامل الترس 240 وأما البيضة وأسماؤها 240 وأما ما قيل فى الدرع 241 الباب الحادى عشر- فى القضاة والحكام 48 الشروط التى تلزم فيمن يتولّى القضاء 248 ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء والشروط 252 ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام 254 ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حق نفسه اذا دعى للولاية أو خطبها 258 وأما كاتب القاضى وبطانته 260 وأما ما يعتمده فى جلوسه 261 ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء 263 الباب الثانى عشر- فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل 265 ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهلية والإسلام 266 ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها 270 وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام 271 ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة 274 ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها اليهم الخ 275 بيان أصول الدعوى وما يتخذ فيها: فإن اقترن بالدعوى ما يقوّيها 276 وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها 281

وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف 284 ذكر توقيعات متولّى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام 287 الباب الثالث عشر- فى نظر الحسبة وأحكامها 291 شروط ناظر الحسبة 291 ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع وفيه تسعة أوجه 292 ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه الخ 293 وأما ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة 295 ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام 296

الجزء السادس

الجزء السادس [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعيّة وما يجب للرعية عليه ، ويتصل به ذكر الوزراء وقادة الجيوش وأوصاف السلاح وولاة المناصب الدينية والكتّاب والبلغاء وفيه أربعة عشر بابا الباب الأوّل من هذا القسم فى شروط الإمامة الشرعيّة والعرفيّة أما الشروط الشرعية، فقد ذكر منها الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين ابن الحسن بن محمد بن الحليم الحليمىّ الجرجانى الشافعىّ [1]- رحمه الله- فى كتابه المترجم ب «المنهاج» لمعة واضحة البيان، حسنة التّبيان؛ اكتفينا بإيرادها عما سواها، واقتصرنا عليها دون ما عداها؛ لجمعها أكثر الشروط مع إيجاز اللفظ وإصابة الغرض، على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. قال الحليمىّ: إذا أراد أهل الاجتهاد نصب إمام حين لا إمام لهم، فأول شرائطه أن يكون من قريش. والثانية أن يكون عالما بأحكام الدين من الصلاة وأخذ

_ [1] توفى سنة 403 هـ وكتابه المنهاج يقع فى نحو ثلاثة مجلدات فيه أحكام كثيرة ومسائل فقهية وغيرها مما يتعلق بأصول الإيمان وآيات الساعة وأحوال القيامة. عن كشف الظنون.

الصدقات ومصارفها والقضايا والجهاد بالمسلمين وقسم الغنائم والنظر فى حدود الله تعالى إذا رفعت إليه فيقيمها أو يدرأها وغير ذلك. والثالثة أن يكون عدلا فى دينه وتعاطيه ومعاملاته. فأما اشتراط النسب؛ فلما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأئمة من قريش ... » وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «قدّموا قريشا ولا تقدّموها ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى» . وأما اشتراط العلم بأحكام الصلاة والزكاة والجهاد والقضاء والحدود والأموال التى يتولّاها الأئمة، فإنه لا يمكنه أن يقوم بحقّها والواجب فيها إلا بعد العلم، لتكون معالم الدنيا قائمة، وأحكام الله تعالى بين عباده جارية. فإذا لم [يكن [1]] عنده من العلم ما يتوصّل به إلى ما يحتاج الإمام إليه فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة. وينبغى أن يكون شجاعا شهما، لأن رأس أمور الناس الجهاد؛ فإذا كان من يتولّى أمورهم جبانا فشلا منعه ذلك من مجاهدة المشركين وحمله على أن يترك كثيرا من حقوق المسلمين فكان ضررهم به أكثر من نفعهم. وأما اشتراط العدالة، فلأن الإمام إذا كان يتولّى حقوق الله تعالى وحقوق المسلمين فمنصبه منصب الأمانة ائتمان له على الحقوق؛ ولا يجوز أن يؤتمن على حقوق الله تعالى من ظهرت خيانته لله ولعباده، ولأن الفاسق ناقص الإيمان فلا يجوز أن يشرف بالتّولية على المسلمين الذين فيهم من هو كامل الإيمان وأقرب إلى كماله منه، كما لا يجوز أن يولّى شيئا من أمور المسلمين كافر، ولأن الفاسق لا يرضى للشهادة فكان بألّا يرضى للحكم وهو أرفع منزلة من الشهادة أولى، وإذا لم يرض للحكم كان بألّا يرضى للإمامة التى هى أجمع من الحكم أولى، والله أعلم، ولأنه إذا لم يكن يصلح

_ [1] زيادة يقتضيها السياق.

نفسه، إما تضييعا لها أو عجزا عن إصلاحها، فهو فى حقّ غيره أكثر تضييعا ولإصلاحه أشدّ عجزا، ومن كان بهذه المنزلة فهو أبعد الناس من موقف الأئمة. فصل- وإذا اجتمعت هذه الشرائط التى ذكرناها فى رجل، فإن كان الإمام الذى تقدّمه ولّاه فى حياته ما يتولّاه إما استخلافا عند عجزه عن القيام بما عليه فيه، وإما انخلاعا إليه منه فلا اعتراض فى ذلك عليه، وإن كان أوصى له بالولاية بعد موته فالأظهر جواز ذلك. قال: فإن لم يكن لمن جمع شرائط الإمامة عهد من إمام قبله واحتيج إلى نصب إمام للمسلمين فاجتمع أربعون عدلا من المسلمين أحدهم عالم يصلح للقضاء بين الناس، فعقدوا لرجل جمع الشرائط التى تقدّم ذكرها بعد إمعان النظر والمبالغة بالاجتهاد، ثبتت له الإمامة ووجبت طاعته. وينبغى أن يبدأ العالم الذى بينهم بالعقد ثم الذين ليسوا فى العلم والرأى مثله. فصل- قال: وإذا لم يجدوا من قريش من توجد فيه شرائط الإمامة- وهذا بعيد جدّا وإنما هى مسائل توضع لاحتمال الوقوع- فعند ذلك يكون الإمام من أقرب القبائل إلى قريش، فيكون من كنانة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشا من كنانة» ؛ فإن لم يوجد فيهم كان من أقرب العرب من كنانة، حتى إذا استوفى بنو إسماعيل لم يعدل إلى بنى إسحاق، وإن كانوا أقرب لأنهما ابنا إبراهيم، ولكن الى جدّهم من العرب، ثم الأقرب فالأقرب. فصل- وإذا وجد قرشىّ عالم غير عدل وقرشىّ عدل غير عالم وكنانىّ عالم عدل، قال الحليمىّ: الأشبه عندى أن يقدّم القرشىّ العدل، فإن أشكل عليه شىء عمل فيه برأى أهل العلم. فصل- وإذا خلع الإمام نفسه ولم يولّ أحدا مكانه، فإن كان الإمام صالحا للإمامة بالإطلاق فذلك منه غير نافذ، لأنه نصب ناظرا للمسلمين، وخلعه نفسه فى هذه

الحالة ضرر عليهم، لأنه يدعهم بلا إمام ويعرّضهم للاجتهاد فى نصب غيره، وقد يصيبون فى ذلك أو يخطئون. فصل- وإذا أمّر الإمام أمراء واستقضى قضاة ثم مات، كان أمراؤه وقضاته على أعمالهم كما كانوا فى حياته ولا ينعزلون، وليسوا كالوكيل ينعزل بموت الموكّل، لأن الوكالة نيابة، والولاية شركة. هذا ما قاله الحليمىّ، والله تعالى أعلم. فهذه الشرعية التى لا بدّ منها فى حقّ الإمام. وأما الشروط العرفية والاصطلاحية، وهى ما ينبغى أن يأتيه الملك من جميل الفعال، ويذره من قبيح الخصال. قال معاوية بن أبى سفيان: مهما كان فى الملك فلا ينبغى أن تكون فيه خمس خصال: لا ينبغى أن يكون كذّابا، فإنه إذا كان كذّابا فوعد بخير لم يرج، وإن وعد بشرّ لم يخف؛ ولا ينبغى أن يكون بخيلا، فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ ولا ينبغى أن يكون حديدا، فإنه إذا كان حديدا مع القدرة هلكت الرعيّة؛ ولا ينبغى أن يكون جسودا، فإنه إذا كان حسودا لم يشرّف أحدا، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ ولا ينبغى أن يكون جبانا، فإنه إذا كان جبانا اجترأ عليه عدوّه. وقال ابن المقفّع: ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته؛ وليس له أن يكذب، لأنه لا يقدر على استكراهه على غير ما يريد؛ وليس له أن يبخل، لأنه أقلّ الناس عذرا فى خوف الفقر؛ وليس له أن يكون حقودا، لأن خطره أعظم من المجازاة.

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالة على علو هممهم وكرم شميهم

وقالت الحكماء: يجب على الملك أن يتلبّس بثلاث خصال: تأخيره العقوبة فى سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث؛ فإن له فى تأخير العقوبة إمكانا، وفى تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة فى الطاعة من الرعية، وفى الأناة انفساح الرأى وإيضاح الصواب. وقالوا: ينبغى للملك أن يأنف أن يكون فى رعيّته من هو أفضل منه دينا، كما يأنف من أن يكون منهم من هو أنفذ منه أمرا. وقيل: لا ينبغى للملك أن يسرع إلى حبس من يكتفى له بالجفاء والوعيد. وقالوا: ينبغى للملك أن تعرفه رعيّته بالأمانة، ولا يعجّل بالعقاب ولا بالثواب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجى. وقال بعض حكماء الفرس: أحزم الملوك من غلب جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده. الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضّل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالّة على علوّ هممهم وكرم شميهم قال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذى عليه مدار الدّين والدنيا؛ وهو حمى الله فى بلاده، وظلّه الممدود على عباده، به يمنع حريمهم، وينصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويؤمّن خائفهم.

وقال بعض البلغاء: الملك من تبيضّ آثار أياديه، وتسودّ أيّام أعاديه؛ وتخضرّ مواقع سيبه، وتحمرّ مواضع سيفه؛ وتصفرّ وجوه [1] حسّاده، وتروق أعين أنداده. وقال سهل بن هارون: الملك صبىّ الرضا، كهل الغضب؛ يأمر بالقتل وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الجدّ بالهزل، ويتجاوز فى العقوبة قدر الذنب، وربما أحفظه الذنب اليسير، وربما أعرض صفحا عن الخطب الكبير؛ أسباب الموت والحياة متعلّقة بطرف لسانه، لا يعرف ألم العقوبة فيبقى، ولا يؤنّب على بادرة فينتهى، يخطئ فيصوّب ويصيب فيفترض، مفتون الهوى فظّ الخليقة أخرق العقوبة، لا يمنعه من ذى الخاصّة به ما يعلم من عنايته [2] وطول صحبته أن يقتله بخطرة من خطرات موجدته، ثم لا ينفكّ ان يخطب إليه موضعه، فلا الثانى بالأوّل يعتبر، ولا الملك عن مثل ما فرط منه يزدجر. قال عمرو بن هند: الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفّهون بالأيدى لا بالألسن. قال معبد بن علقمة: وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم وأما ما يفضّل به الملك على غيره، فقد قيل: تميّز الملك على غيره إنما يكون بفضيلة الذات لا بفضيلة الآلات. وفضل ذات الملك بخمس خصال: رحمة تشمل رعيّته، ويقظة تحوطهم، وصولة تذبّ عنهم، ولين يكيد به الأعداء، وحزم ينتهز به الفرص، فهذه فضيلة الذات.

_ [1] الذى بالأصل: وجوده، وهو تحريف ظاهر. [2] بالأصل «عناية» وأضفناه الى الضمير ليشاكل تاليه.

ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدة كيدهم، وقوة أيدهم

وأما فضيلة الآلات، فإتخاذ المبانى الوثيقة العليّة، والملابس الأنيقة السنيّة، والذخائر النفيسة، والمطاعم الشهيّة، والمراكب البهيّة. وقالت أمّ ملك طخارستان لنصر بن سيّار: ينبغى للملك أن يكون على ستة أشياء خاصّة به: وزير يثق به ويفضى إليه بسرّه، وحصن إذا فزع يأوى إليه، وسيف إذا نزل به أمر لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة إذا نابته نائبة استعان بها، وامرأة جميلة إذا دخل عليها أذهبت همّه، وطبّاخ إذا لم يشته الطعام عمل له ما يشتهيه. ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدّة كيدهم، وقوّة أيدهم قيل للإسكندر وهو يحارب دارا: إن دارا فى ثمانين ألفا؛ فقال: إن القصّاب لا يهوله كثرة الغنم. واصطنع أنو شروان رجلا؛ فقيل له: إنه لا قديم له؛ فقال: اصطناعنا إيّاه بيته وشرفه. ولما رهن حاجب ابن زرارة قوسه عند كسرى [قال [1]] : لولا أنهم عندى أقلّ من القوس لم أقبلها. قال النّعمان بن المنذر يعفو الملوك عن الكث ... ير من الذنوب لفضلها ولقد تعاقب فى اليس ... ير وليس ذاك لجهلها لكن ليرجى عفوها ... ويخاف شدّة نكلها ومن كلام معاوية: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع. وكان يقول: إنى لآنف أن يكون فى الأرض جهل لا يسعه حلمى، وذنب لا يسعه

_ [1] زيادة يقتضيها سياق الكلام.

عفوى، وحاجة لا يسعها جودى. وقال معاوية أيضا: إنى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أوسع من حلمى، وما غضبى على من أملك، أو ما غضبى على من لا أملك! يريد: إنى إذا كنت مالكا للمذنب فإنى قادر على الانتقام منه، فلم ألزم نفسى الغضب! وإن لم أكن أملكه فليس يضرّه غضبى، فلم أغضب عليه فأضرّ نفسى ولا أضرّه! ومن كلام السّفّاح: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤنا خالون من حسن آثارنا!. ومن كلام المأمون: إنما تطلب الدنيا لتملك، فإذا ملكت فلتوهب. وكان يقول: إنما يستكثر من الذهب والفضّة من يقلّان عنده. ومن كلام العبّاس بن محمد للرشيد: إنما هو درهمك وسيفك، فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك؛ فقال: يا عمّ، والله ما للملك غير هذا. كما قيل: لم أر شيئا صادقا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف يقضى له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف قيل: لمّا أشير على الإسكندر بتبييت الفرس قال: لا أجعل غلبتى سرقة. وقيل [له [1]] : لو تزوّجت ببنت دارا! فقال: لا تغلبنى امرأة غلبت أباها. ومن كلام أنوشروان: إن الملك إذا كثرت أمواله مما يأخذ من رعيّته كان كمن يعمر سطح بيته مما يقتلع من قواعد بنيانه. وكان يقول: وجدنا للذّة العفو ما لم نجد للذّة العقوبة. ومن كلام المنصور: يحتمل الملوك كلّ شىء إلا ثلاثة: القدح فى الملك، وإفشاء السرّ، والتعرّض للحرم.

_ [1] زيادة يقتضيها السياق.

الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير

الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير وأما الطاعة فواجبة على سائر الرعيّة، لأن الله تعالى قرن طاعة أولى الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ونصّ على ذلك فى محكم تنزيله فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فبأمره تبارك وتعالى وجبت، وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم تأكّدت وترتّبت. روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن يعصنى فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعنى ومن يعص الأمير فقد عصانى» وهذا الحديث ثابت فى صحيح مسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو أمّر عليكم بعد حبشىّ كأنّ رأسه زبيبة» . فقد تبيّن بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الإمام على كلّ مسلم. وأما النصيحة، فلما روى عن تميم الدّارىّ رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدّين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة» ؛ قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين» أو قال: «أئمة المسلمين وعامّتهم» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل رضى لكم ثلاثا وسخط لكم ثلاثا رضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله عز وجل أمركم» . وقال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الخيرىّ رحمه الله: فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد فى القول والعمل، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد والبلاد بصلاحهم، وإيّاك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرّا ويزداد البلاء بالمسلمين،

وإيّاك أن تأتيهم أو تتصنّع لإتيانهم أو تحبّ أن يأتوك، واهرب منهم ما استطعت. وفى كتاب للهند أن رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة فى الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمال ما يسوء موقعه منك فى جنب صلاح العامّة وتلافى الخاصّة لكان خرقا منّى أن أقول، ولكنّا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا مشمول ببقائك، وأنفسنا معلّقة بنفسك لم نجد بدّا من أداء الحقّ إليك وإن أنت لم تسلنى ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثّه فقد أخلّ بنفسه. وأنا أعلم أنّ كلّ ما كان من كلام يكرهه سامعه، لم يتشجّع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له، فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك، لأنه ما كان فيه من نفع فإنما هو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة فى الرأى وتصرّف فى العلم، وإنما يشجّعنى ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقا بمعرفتك بنصحى لك وإيثارى إيّاك على نفسى. وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغيّر الناس له: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقنى الأمن منك، وتسكتنى الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا، أم أقول مشفقا؟ قال: قل، مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ فقتل بعد ذلك بأيام. وقالوا: ينبغى لمن صحب السلطان ألّا يكتم عنه نصيحته وإن استقلّها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويعرّفه بعيب غيره، ليعرف به عيب نفسه. دخل الزّهرىّ على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا

رعيّة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات؛ قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبىّ؟ قال: نبىّ خليفة؛ قال: فإن الله تعالى يقول لنبيّه داود عليه السلام: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) ؛ فهذا يا أمير المؤمنين وعيده لنبىّ خليفة، فما ظنّك بخليفة غير نبىّ! قال: إن الناس ليعرّوننا من ديننا. خطب المنصور فقال فى خطبته ما كأنّه تفسير ما أدمجه فيثاغورث وإيضاحه، وهو: معشر الناس، لا تضمروا غشّ الأئمة فإنه من أضمر ذلك أظهره الله على سقطات لسانه، وقلبات أحواله وسحنة وجهه. قال: خرج الزّهرىّ يوما من مجلس هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهنّ رجل عند هشام بن عبد الملك، دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، احفظ عنّى أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك، قال: هاتهن؛ فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرّنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن الأعمال جزاء فاتّق العواقب، وأن الأمور بغتات فكن على حذر؛ قال عيسى بن دأب: فحدّثت الهادى بها وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علىّ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أسغ لقمتك؛ فقال: حديثك أعجب إلىّ. وقال ابن المقفّع: اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التّبخيل [1] ويعدّه منهم شفقة ويحمدهم عليه وإن كان جوادا، فإن كنت [2] مبخّلا غششت صاحبك بفساد مروءته،

_ [1] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل «التبخل» . والتبخيل: المطالبة بالبخل. [2] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل: «كان ... » .

وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك؛ فالرأى تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج [من العيب واللائمة فيما تترك [1]] من تبخيل صاحبك، فلا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شىء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه. وأما تعظيمه وتوقيره والأدب فى خدمته والتمسّك بجماعته، فلما روى عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «السلطان ظلّ الله فى الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله» . وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبّوا السلطان فإنه [2] فىء الله فى أرضه» . وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه كائن بعدى سلطان فلا تذلّوه فمن أراد أن يذلّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وليس بمقبول توبته حتى يسدّ الثّلمة التى ثلم ثم يعود فيكون فيمن يعزّه» . وقد روى عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررت ببلد ليس فيه سلطان فلا تدخله فإنما السلطان ظلّ الله ورمحه [3] فى الأرض» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهليّة» وعن أبى رجاء العطاردىّ قال: سمعت ابن عبّاس يرويه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم

_ [1] الزيادة عن الأدب الكبير. [2] فى الأصل: «فانهم فىء الله ... » بميم الجمع وما ذكرناه عن الجامع الصغير. [3] فى الأصل «السلطان ظل وريحه فى الأرض» والتصويب عن الجامع الصغير والنهاية لابن الأثير، ثم شرحه صاحب النهاية بكلام طويل ملخصه: أن الظل يلجأ اليه عند الحر، والرمح يدفع به شر العدوّ وأذاه.

قال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهليّة [1] » رواه البخارىّ. فقد تبيّن لك من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب تعظيم السلطان وتوقيره. وقال بزرجمهر: من جالس الملوك بغير أدب فقد خاطر بنفسه. وقال ابن المقفّع: من خدم السلطان فعليه بالملازمة من غير معاتبة. وقال: إن سأل السلطان غيرك فلا تكن المجيب عنه، فإن استلابك الكلام خفّة منك واستخفاف بالسائل والمسئول؛ وما أنت قائل إن قال لك: ما إيّاك سألت! أو قال لك المسئول عند المسئلة [يعاد له بها [2]] : يا هذا، دونك فأجب؟ وإذا لم يقصد الملك بمسئلته رجلا بعينه وعمّ بها جميع من عنده فلا تبادرنّ بالجواب، ولا تسابق الجلساء ولا تواثب بالكلام مواثبة، فإنك إن سبقت القوم الى الجواب صاروا لكلامك خصوما فتعقّبوه بالعيب له والطعن فيه، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخلّيته للقوم عرضت قولهم على عينك، ثم تدبّرته وفكّرت فيه وفيما عندك، ثم هيّأت من تفكيرك ومما سمعت جوابا مرضيا، ثم استدبرت به أقاويلهم حتى [3] تصغى إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم. فإن لم يبلغك الكلام واكتفى بغيرك وانقطع الحديث فلا يكوننّ من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإن صيانة القول خير من سوء موضعه. وقال: إذا كلّمك السلطان فاستمع لكلامه واصغ إليه، ولا تشغل طرفك بنظر، ولا أطرافك بعمل،

_ [1] نص ما فى البخارى: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فانه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» . [2] الزيادة عن الأدب الكبير، والمراد من الجملة: ماذا أنت قائل اذا أعاد السائل السؤال على المسئول الأول دون التفات الى جوابك. [3] فى الأدب الكبير «حين» بدل «حتى» .

ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذا من نفسك وتعهدها به. وقال: لا تشكونّ إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطّلعت عليه منه من رأى أنت تكرهه، فإنك تكون قد فطّنتهم لهواه والميل عليك معه. وقال: لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فى المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى [1] ألّا تكتمهم سرّك ولا تستطلعهم ما كتموك، وتخفى ما أطلعوك عليه عن الناس كلهم [حتى تحمى نفسك الحديث به [2]] ، وعلى الاجتهاد فى طلب رضاهم، والتلطّف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم [3] ، والتصديق لمقالتهم، [والتزيين [2] لرأيهم] ، وقلّة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءوا، وترك الانتحال لما فعلوا اذا أحسنوا [4] ، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن السّتر لمساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كان قريبا، والاهتمام بأمورهم وإن لم يهتمّوا، والحفظ لأمورهم وإن ضيّعوا، والذكر لأمورهم وإن نسوا، والتخفيف بمؤنتك عنهم، والاحتمال لكل مؤنة لهم، والرضا منهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك بالمجهود. فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا ائتمنوك، ذليلا إذا صرموك، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنّك تتعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك تتأدّب منهم، وتشكرهم ولا تحمّلهم الشكر، وإلّا فالبعد منهم كلّ البعد. ومن الآداب العرفية فى صحبة الملوك وخدمتهم، ألّا يسلّم على قادم بين أيديهم، وإنما استسنّ ذلك زياد بن أبيه، وذلك أن عبد الله بن عبّاس قدم على

_ [1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وعلم» بدل «وعلى ... » وهو تحريف. [2] زيادة عن الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «والتثبت بحجتهم» . [4] الجملة من «وقلة الامتعاض ... اذا أحسنوا» منقولة عن الأدب الكبير، وهى فى الأصل: «وقلة الانتحال لما فعلوا إذا أساءوا» ففيه تحريف شوّه المعنى وأضاعه.

معاوية بن أبى سفيان وعنده زياد، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّبه ولم يكلّمه زياد بكلمة، فابتدأه ابن عبّاس وقال: ما حالك يا أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؛ قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدى أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عبّاس: ما ترك الناس التحيّة بينهم عند أمرائهم؛ فقال له معاوية: كفّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت. وقالوا: كن على التماس الخطإ بالسكوت بين يدى السلطان أحرص منك على التماسه بالكلام. وقالوا: مساءلة الملوك عن أحوالهم من تحيّة النّوكى. وقالوا: لا تسلّم على الملك، فإنه إن أجابك شقّ عليه، وإن لم يحبك شقّ عليك. وقال الفضل بن الربيع: سنتان مهملتان عند الملوك: السلام والتشميت، لأنهم يصانون عن كلّ ما يقتضى جوابا. وقيل: لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقلّ بما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغتّر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغيّر لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا أكرموه. وقال فيلسوف: إذا قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السّنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبىّ، وكلّمه بما يشتهى. قال الصاحب بن عبّاد إذا ولّاك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب فما السلطان إلا البحر عظما ... وقرب البحر محذور العواقب وقال أبو الفتح البستىّ: أجهل الناس من كان مدلّا على السلطان مذلّا للإخوان.

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك

قال الشّعبىّ: قال لى ابن عبّاس قال لى أبى: إنى أرى هذا الرجل- يعنى عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنى موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا؛ قال الشّعبىّ فقلت لابن عباس: كلّ واحدة خير من ألف؛ قال: إى والله ومن عشرة آلاف!. الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك كتب أرسطا طاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعيّة بالإحسان إليها تظفر بالمحبّة منها، فإنّ طلبك الناس بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك؛ [واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب [1]] ؛ واعلم أن الرعيّة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل. وهذا مخالف لما حكى عن معاوية أن رجلا أغلظ عليه فحلم عنه؛ قيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وكتب إلى الإسكندر: اعلم أنك غير مستصلح رعيّتك وأنت مفسد، ولا مرشدهم وأنت غاو، ولا هاديهم وأنت ضالّ؛ وكيف يقدر الأعمى على الهدى، والفقير على الغنى، والذليل على العزّ!. وقال أنو شروان: ثمانية أشياء هى أساس الملك، يأتى بأربعة، ويحذر أربعة؛ فالذى يأتى به: النصح فى الدين، وكفاء [2] الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم. والذى يحذره: غشّ الوزير، وسوء التدبير، وخبث النيّة، وظلم الرّعية. وقال أردشير لأصحابه: إنى إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.

_ [1] زيادة عن العقد الفريد. [2] مصدر كافأه: جازاه.

وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعنّ على جندك سعة يستغنون بها عنك فيطغوا، ولا تضيّق عليهم ضيقا يضجّون به منك، ولكن أعطهم عطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم فى الرجاء، ولا تبسط لهم فى العطاء. وكتب إليه أيضا من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما، وأن سخط سيفك مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفادة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس فى غضبك من قولك أن يخطىء، ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإنّ الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب. وكتب إليه أيضا من الحبس: اختر لولايتك امرأ كان فى وضيعة فرفعته، وذا شرف كان مهملا فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتّضع لها، ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحدا ممن يقع فى خلدك [1] أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإيّاك أن تستعمله ضرعا غمرا، كثيرا إعجابه بنفسه، قليلا تجربته فى غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السّنّ من جسمه. قال لقيط الإيادىّ: فقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا ما زال يحلب درّ الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا حتّى استمرّت على شزر [2] مريرته [3] ... مستحصد الرأى لا قحما [4] ولا ضرعا [5]

_ [1] الخلد: البال والقلب والنفس. [2] الشزر: الصعوبة والشدّة. [3] المريرة: العزيمة. [4] القحم: الكبير السن جدّا. [5] الضرع: الصغير السن.

وكتب سابور بن أردشير فى عهده إلى ولده: ليكن وزيرك مقبول القول عندك، قوىّ المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته، من الخشوع لأحد أو الضراعة أو المداهنة لأحد فى شىء مما تحت يده، لتبعثه الثّقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشّك وانتقاصك حقّك. وإن أورد عليك رأيا يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبه الظّنين، ولا تردّه عليه بالتّجهّم فيفتّ ذلك فى عضده، ويقبضه عن إبثاثك كلّ رأى يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرّفه ما تخوّفت من ضرر الرأى الذى انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأى فيه. واحذر كلّ الحذر أن تنزل هذه المنزلة سواه ممن يطيف بك من خدمك وخاصّتك، وأن تسهّل لأحد منهم سبيل الانبساط بالنطق عندك والإفاضة فى أمور ولايتك ورعيّتك، فإنه لا يوثق بصحّة رأيهم، ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السرّ إليهم. وقال ابن المقفّع: عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوى [1] النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلن سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والعقل [والسّن [2]] والمروءة فى ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخفّ به شانئ. واعلم أن رأيك لا يتّسع لكل شىء ففرّغه لمهمّ ما يعنيك، وأن مالك لا يتّسع للناس فاخصص به أهل الحق [3] ، وأن كرامتك لا تطيق العامّة فتوخّ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما [4] بين عملك ودعتك. واعلم أن ما شغلت [5] من رأيك بغير المهمّ أزرى بك، وما صرفت من مالك فى الباطل

_ [1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «من رأى ذوى النصيحة» وظاهر أن كلمة «رأى» مقحمة لغير فائدة. [2] الزيادة عن الأدب الكبير ورسائل البلغاء. [3] فى رسائل البلغاء: «وأن مالك لا يغنى الناس كلهم فاختصّ به ذوى الحقوق» . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «فأحسن قسمتك ... » . [5] فى الأصل: «ما شغلت به الخ» وظاهر أن كلمة «به» مقحمة.

فقدته حين تريده للحقّ، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك فى العجز عن أهل الفضل. وكتب عبد الله بن عبّاس إلى الحسن بن علىّ لمّا ولّاه الناس أمرهم بعد علىّ رضى الله عنهما: أن شمّر للحرب، وجاهد عدوّك، واشتر من الضّنين [1] دينه بما لا يثلم دينك، ووال [2] أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: يجب على الوالى أن يتعهّد أموره ويتفقّد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسىء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسىء، وفسد الأمر وضاع العمل. وقال بعض الحكماء: الملك المنعم إذا أفاض المكارم [3] واغتفر الجرائم ارتبط بذلك خلوص نيّة من قرب منه وهم الأقل، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض. ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهد كتبه علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولّاه مصر، فأحببت أن أورده على طوله وآتى على جملته وتفصيله، لأن مثل هذا العهد لا يهمل، وسبيل فضله لا يجهل؛ وهو: هذا ما أمر [به [4]] عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به فى كتابه من فرائضه وسننه التى

_ [1] فى الأصل هكذا: «واستر الصين» وهو محرف عما أثبتناه عن عيون الأخبار والعقد الفريد. [2] وال: ناصر وصادق. [3] فى الأصل «المكاره» وسياق الكلام يقتضى ما وضعنا. [4] زيادة عن نهج البلاغة (طبع بيروت ج 2 ص 50- 68) ، وكذلك كل ما وضع بين هذين القوسين [] فى ثنايا هذا الكتاب.

لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا بالعدول عنها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه؛ وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات ويزعها [1] عند الجمحات، فإن النفس لأمّارة بالسوء. ثم اعلم يا مالك أنى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحلّ لك؛ فإن الشّحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت [أ] وكرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم؛ والطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم [2] ؛ فإنهم صنفان: إما أخ فى الدّين، وإما نظير لك فى الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذى تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالى الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك؛ وقد استكفاك أمرهم [3] وابتلاك [بهم] . فلا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا قوّة لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ [4] بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولنّ: إنى مؤمّر امر فأطاع، فإن ذلك إدغال فى القلب ومنهكة للدّين وتقرّب من الغير. فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته [منك] على ما لا تقدر عليه من نفسك [5] ، فإن ذلك يطامن إليك من

_ [1] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وينزعها ... » . [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وتغتنم أكلها» . [3] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «استكفاك أمره» . [4] بجح: كفرح لفظا ومعنى. [5] فى الأصل: « ... وقدرته على ما لا يقدر عليك من نفسه» ولعل فيه تحريفا جعله غير واضح، وما وضعناه عن نهج البلاغة.

طماحك، ويكفّ عنك من غربك ويفىء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة [1] الله فى عظمته والتشبّه به فى جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار ويهين كلّ مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شىء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد] . وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحق وأعمّها فى العدل وأجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامة يجحف برضا الخاصّة، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالى مؤنة فى الرخاء، وأقلّ معونة فى البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإن عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأمة؛ فليكن صغوك لهم وميلك معهم. وليكن أبعد رعيّتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس، فإن فى الناس عيوبا الوالى أحقّ بسترها، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله حكم على ما غاب عنك منها. فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك. أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصحّ لك. ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ وإن تشبّه بالناصحين. ولا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا فيضعفك عن الأمور، ولا حريصا فيزيّن لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله. واعلم أن شرّ وزرائك من كان

_ [1] فى الأصل: «مساومة الله» وما هنا عن نهج البلاغة.

للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم فى الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظّلمة. [وأنت واجد منهم خير الخلف] ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤنة وأحسن لك معونة [1] ، وأحنى عليك عطفا وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم للحق، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله تعالى لأوليائه [2] واقعا من هواك [حيث وقع] . ثم رضهم على ألّا يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتدنى إلى العزّة. ولا يكوننّ المحسن والمسىء عندك بمنزلة واحدة، فإن فى ذلك تزهيدا لأهل الإحسان فى الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شىء أدعى إلى حسن ظن وال برعيّته من إحسانه إليهم وتخفيف المؤنات عنهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. وليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحقّ من حسن ظنّك به من حسن بلاؤك عنده، [وإن أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده] . ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيّة، ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر [3] مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، [ولا غنى ببعضها عن بعض] ، فمنها جنود

_ [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «معاونة» . [2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «مما كره الله لأولئك ... » وهو تحريف. [3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «ولكن ... » وهو تحريف.

[الله] ، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من [أهل] الذّمّة ومسلمة [1] الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السّفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله سهمه، ووضع على حدّه فريضته فى كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عهدا منه محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة وزين [2] الولاة وعزّ الدّين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلا بهم. [ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذى يقوون به فى جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم] . ثم لا قوام لهذين الصّنفين إلا بالصّنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجّار وذوى الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقومون به فى أسواقهم، ويكفونهم من الرّفق [3] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رفدهم ومعونتهم؛ وفى الله لكلّ سعة؛ ولكلّ على الوالى حقّ بقدر ما يصلحه. [وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحقّ والصبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل] . فولّ من جنودك أنصحهم فى نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك، [وأنقاهم] ، جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح الى العذر ويرفق بالضعفاء وينبو عن [4] الأقوياء، [و] ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم ألحق بذوى الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة أهل النّجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف؛ ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما. ولا يتفاقمنّ فى نفسك شىء قوّيتهم به، ولا تحقرنّ

_ [1] مسلمة الناس: المسلمون منهم. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «زى الولاة ... » وهو تحريف [3] الرفق بالفتح: النفع. [4] يقال نبا عنه وعليه: اذا لم ينقد له.

لطفا تعاهدهم به وإن قلّ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم فى معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّا واحدا فى جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطّف عليك قلوبهم؛ [وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل فى البلاد وظهور مودّة الرعيّة؛ وإنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدرهم] ، ولا تصحّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلّة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح فى آمالهم [1] وواصل فى حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذّكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الجبان إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى. ولا تضمّنّ [بلاء] امرئ الى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه. ولا يدعونّك شرف امرئ الى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ فالرادّ الى الله هو الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ الى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك فى نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه [2] الخصوم، ولا يتمادى فى الزّلّة، ولا يحصر [3] من الفىء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف [نفسه] على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم فى الشّبهات،

_ [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وافسح فى أموالهم ... » . [2] أمحكه: أغضبه أو جعله محكان كسكران: عسر الخلق. [3] يحصر: يضيق صدره.

وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند إيضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء؛ وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه؛ وافسح له فى البذل ما يريح علّته وتقلّ معه حاجته الى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر فى ذلك نظرا بليغا؛ فإن هذا [الدّين] قد كان أسيرا فى أيدى الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به [1] الدنيا. ثم انظر فى أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهما جمّاع من شعب الجور والخيانة. وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم فى الإسلام المتقدّمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصحّ أعراضا، وأقلّ فى المطامع إسرافا، وأبلغ فى عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك فى السرّ لأمورهم حدوة [2] لهم على استعمال الأمانة والرّفق بالرعيّة. وتحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة فى بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذّلة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التّهمة. وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ صلاحهم وصلاحه صلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد

_ [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «وتطلب منه الدنيا» . [2] حذوة لهم أى سوق لهم وحثّ.

ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب [أو بالّة [1]] أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم؛ ولا يثقلنّ عليك شىء خفّفت به المؤنة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك فى عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك [2] باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك [3] لهم والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت [فيه] عليهم من بعد، احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر. واستعمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعيّة والمثوبة من الله عزّ وجلّ والرضا من الإمام. ثم انظر فى حال الكتّاب فولّ أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التى تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود [4] صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك فى خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر [5] به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك [عليك] وإصدار جوابها على الصواب منها عنك، وفيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه [6] فى الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن

_ [1] أى شكوا ثقل المضروب عليهم من مال الخراج، أو نزول علة سماوية، أو انقطاع شرب (الشرب بالكسر: الماء) فيما يسقى بالأنهار، أو بالّة وهو ما يبل الأرض من مطروندى فيما يسقى بالمطر، وإحالة الأرض: تحولها وتغيرها. [2] التبجح: الفرح والسرور. [3] إجمامك لهم: تركك إياهم حتى اذا ما استراحوا تقوّوا على معونتك. [4] كذا فى الأصل ولعله محرف عن «وجوه» . [5] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولا تقصر بك ... » . [6] فى الأصل: «قدر نفسك ... » وكذلك فعلا يعجز ويجهل بتاء الخطاب، والسياق يقتضى ما وضعناه عن نهج البلاغة.

اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّن منك، فإن الرجال يتعرّفون [1] لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم؛ وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شىء؛ ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين [2] قبلك، فآعمد لأحسنهم كان فى العامّة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها. ومهما كان فى كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجّار وذوى الصناعات، وأوص بهم خيرا المقيم [منهم و] المضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح فى برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقّد أمورهم بحضرتك وفى حواشى بلادك. واعلم أن [فى] كثير منهم ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا واحتكارا للمنافع فى المبايعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع [من] الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف. ثم الله الله فى الطبقة السّفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و [أهل] البؤسى والزّمنى، فإن [فى] هذه الطبقة قانعا ومعترّا، فاحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلّات صوافى [3] الإسلام فى كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذى للأدنى. وكلّ قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك

_ [1] قال الأستاذ الإمام: أى يتوسلون إليها لتعرفهم. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولكن اختبرهم بهؤلاء الصالحين» . [3] صوافى جمع صافية: أرض الغنيمة.

عنهم بطر [1] فإنك لا تعذر بتضييع [ك التافه لإحكامك] الكثير المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم ولا تصعّر خدّك لهم؛ وتفقّد أمور من لا يصل إليك [منهم] ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم؛ ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه وتعالى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلّ فأعذر إلى الله تعالى فى تأدية حقّه إليه [2] . وتعهّد أهل اليتم وذوى الرّقّة فى السنّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسئلة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل؛ [والحق كله ثقيل] وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرّغ لهم [فيه شخصك] وتجلس لهم فيه مجلسا عامّا فتتواضع فيه لله الذى خلقك وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع [3] فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها [4] [حقّه] من القوىّ غير متعتع» . ثم احتمل الخرق منهم والعىّ، ونحّ عنك الضّيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع فى إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بدّ [لك] من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما لا يغنى عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكلّ يوم عمله فإن لكلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله

_ [1] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فلا يشغلنك عنهم نظر ... » . [2] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فى تأدية حقه اليك ... » . [3] التعتعة فى الكلام: التردد فيه من عجز وعىّ والمراد أنه غير خائف، تعبيرا باللازم. [4] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «لم يؤخذ للضعيف منها ... » الخ.

أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلّها لله إذا صلحت فيها النّيّة وسلمت منها الرعيّة. وليكن فى خاصّة ما تخلص لله به [دينك] إقامة فرائضه التى هى له خاصّة، فأعط الله من بدنك [1] فى ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله تعالى من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت فى صلاتك للناس فلا تكوننّ مفّرا ولا مضيّعا؛ فإن فى الناس من به العلّة وله الحاجة؛ وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجّهنى إلى اليمن كيف أصلّى بهم؟ قال: «كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما» . وأما بعد هذا فلا يطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضّيق وقلّة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل. وإنما الوالى بشر لا يعرف ما يوارى عنه الناس من الأمور؛ وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب. وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل فى الحقّ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ وإما امرؤ مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك! مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف فى معاملة. ثم إن للوالى خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول [وقلة إنصاف فى معاملة] ، فاحسم مادّة ذلك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصّتك

_ [1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «من ذلك ... » .

قطيعة، ولا يطمعنّ [من] ك [فى] اعتقاد عقدة تضرّ [1] بمن يليها من [الناس فى] شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك فى الدنيا والآخرة. وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وكن فى ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصّتك حيث وقع؛ وابتغ [2] عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبّة ذلك محمودة. وإن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر [3] لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن فى ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ. ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك [و] لله فيه رضا، فإن فى الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن احذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإن العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم واتّهم فى ذلك حسن الظن. فإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة وألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شىء الناس [4] أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود؛ وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا [5] من عواقب الغدر. فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخيسنّ بعهدك ولا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقىّ. وقد جعل الله عهده وذمّته أمنا قضاه بين العباد برحمته، وحرما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة [6] ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدا

_ [1] كذا فى نهج البلاغة: وفى الأصل: «ولا تطمعنّ فيك اعتقاد عقدة فيضر ... » وهى مضطربة النسج ولا تؤدى المعنى المراد. والعقدة: الضّيعة، واعتقادها: امتلاكها واقتناؤها. [2] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «واتبع ... » وهو تحريف. [3] الإصحار بالأمر: إظهاره. [4] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «فانه ليس من فرائض الله شىء إلا الناس ... الخ» . [5] كذا فى نهج البلاغة. واستوبل الشىء اذا تركه لو خامنه وان كان محبّا له، وفى الأصل «لما استولوا عليه ... » . [6] كذا فى نهج البلاغة «والمدالسة» : الخيانة، وفى الأصل «مخالة» .

تجوز فيه العلل. ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة. ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله طلبة فلا تستقيل فيها [1] دنياك ولا آخرتك. إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شىء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم [بين العباد] فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوّينّ [2] سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. فلا عذر لك عند الله ولا عندى فى قتل العمد، لإن فيه قود البدن. فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك [أو سيفك] أو يدك بعقوبة؛ فإن فى الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّى إلى أولياء المقتول حقّهم. وإيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان فى نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإيّاك والمنّ على رعيتك بإحسانك، والتزيّد فيما كان [من فعلك] ، وأن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المنّ يبطل الإحسان، والتزيّد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس. قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.

_ [1] كذا فى نهج البلاغة وعليه يكون معنى الجملة: لا تطلب أن تقال منها لا فى دنياك ولا فى آخرتك. وفى الأصل: لا تستقلّ دنياك ولا آخرتك. وهذه العبارة غير واضحة المعنى الا اذا زيدت عليها كلمة بها، والمراد لا تقوم بحملها دنياك ولا آخرتك. والطلبة اسم من المطالبة. [2] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «فلا تقومن» .

وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط [1] فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت؛ فضع كلّ أمر موضعه وأوقع كلّ عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة [2] ، والتغابى عما يعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم. املك حميّة أنفك وسورة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك [3] حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أو فريضة فى كتاب الله، فتقتدى بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا، واستوثقت به من الحجّة لنفسى عليك لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كلّ ذى رغبة: أن يوفّقنى [4] وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء فى العباد وجميل الأثر فى البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لى ولك بالسعادة والشهادة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. تمّ العهد بعون الله تعالى. وقيل: ينبغى للملك أن يسوق العنف باللطف، والتوفير بالتوقير، ولا يتخذ أعوانا إلا أعيانا، ولا أخلّاء إلا أجلّاء، ولا ندماء إلا كرماء، ولا جلساء إلا ظرفاء.

_ [1] كذا فى نهج البلاغة. وفى الأصل: «التثبت» والمراد بالتسقّط: التهاون. [2] أسوة بمعنى سواء، قال فى اللسان: القوم أسوة فى هذا الأمر أى حالهم فيه واحدة. [3] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وأن تحكم بذلك فى نفسك» . [4] أن يوفقنى، مفعول «أسأل» وفى الأصل: «وتوفيقى ... » وما هنا نقلناه عن نهج البلاغة.

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا ويجب على الملك أن يبسط لرعيّته من العدل بساطا، ويبنى لهم من الأمن فسطاطا، وينشر عليهم ألوية حلم خفقت ذوائبها، ويسلسل لهم أنهار برّ امتدّت دوائبها [1] ؛ ويكفّ عنهم أكفّ المظالم، ويوكف عليهم سحائب المكارم. وأهمّ ما قدّم من ذلك «العدل» . ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الإمام العادل والعدل واجب على كل من استرعى رعيّة من إمام وغيره؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ، وقال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقال تعالى وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وقال تعالى يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى وقال تعالى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة فى حكومة خير من عبادة ستين سنة» وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا [2] كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته فالإمام الذى على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهى

_ [1] لعله «ذنائبها» جمع ذناب وهو مسيل ما بين التعلتين. [2] نصه فى البخارى ومسلم يختلف عن الأصل فى بعض ألفاظ لا تخرجه عن معناه.

مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيّده وهو مسئول عنه فكلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيّته» قال بعض الشعراء: فكلّكم راع ونحن رعيّة ... وكلّ سيلقى ربّه فيحاسبه وقالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم. يقال: إنّ جمشيد [1] أحد ملوك الفرس الأول، لما ملك الأقاليم عمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرطة وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا [2] ، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل، فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام. وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فله الوزر وعليك الصبر. وقال أردشير لابنه: يا بنىّ إن الملك والعدل أخوان لا غنى لأحدهما عن صاحبه، فالملك أسّ والعدل حارس، فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، يا بنىّ اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيّتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدّين، وبرّك لمن عناه ما عناك من ذوى العقول. وقال بعض الحكماء: يجب على السلطان أن يلتزم العدل فى ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفى باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان؛ ومدار السياسة كلّها على العدل والإنصاف، فلا يقوم السلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما.

_ [1] فى الأصل: «حمشيد» بالحاء المهملة، وصوابه جمشيد بالجيم المعجمة، ومعناه: شعاع القمر. [2] الوحا: العجلة والإسراع، ويمدّ.

وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: كلّكم يترشّح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من له سيف مسلول، ومال مبذول؛ وعدل تطمئنّ إليه القلوب. وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إن للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا؛ فحائط الإسلام الحقّ وبابه العدل؛ ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان؛ وليس شدّة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسّوط، ولكن قضاء بالحقّ وأخذ بالعدل. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عمّاله يستأذنه فى تحصين مدينة؛ فكتب إليه: حصّنها بالعدل ونقّ طريقها من الظلم. وقال معاوية: إنّى لأستحيى أن أظلم من لا يجد علىّ ناصرا إلا الله. وقال المهدىّ للربيع بن الجهم [1] وهو وال على أرض فارس: يا ربيع، انشر الحقّ والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعيّة؛ واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجورهم من ظلم الناس لغيره. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الظلم. وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقيل: سأل الإسكندر حكماء بابل، فقال: أيّما أبلغ عندكم، الشجاعة أم [2] العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.

_ [1] فى العقد الفريد ج 1 ص 13: «ابن أبى الجهم» . [2] فى الأصل «أو» والمقام يقتضى «أم» .

ولما جىء بالهرمزان ملك خوزستان أسيرا إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لم يزل الموكّل به يقتفى أثر عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى وجده بالمسجد نائما متوسّدا درّته، فلما رآه الهرمزان قال: هذا هو الملك؟ قيل: نعم؛ فقال له: عدلت فأمنت فنمت، والله إنى قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التّيجان فما هبت أحدا منهم هيبتى لصاحب هذه الدّرّة. وقالوا: إذا عدل الإمام خصب الزمان. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: إن الأرض لتزّيّن فى أعين الناس إذا كان عليها إمام عادل، وتقبح إذا كان عليها إمام جائر. وحكى أن كسرى أبرويز نزل متنكّرا بامرأة، فحلبت له بقرة فرأى لها لبنا كثيرا، فقال لها: كم يلزمك فى السنة على هذه البقرة للسلطان؟ فقالت: درهم واحد؛ فقال: وأين ترتع وبكم منها ينتفع؟ فقالت: ترتع فى أراضى السلطان، ولى منها قوتى وقوت عيالى؛ فقال فى نفسه: إن الواجب أن أجعل إتاوة على البقور [1] فلأصحابها نفع عظيم؛ فما لبث أن قالت المرأة: أوّه! إن سلطاننا همّ بجور؛ فقال أبرويز: لمه؟ فقالت: لأن درّ البقرة انقطع، وإن جور السلطان مقتض لجدب الزمان؛ فأقلع عما كان همّ به. وكان يقول بعد ذلك: إذا همّ الإمام بجور ارتفعت البركة. وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر.

_ [1] هكذا فى الأصل. والذى فى كتب اللغة التى تحت أيدينا من جموع هذا الاسم: بقر وأبقر وأبقار وأباقر وبقّار وأبقور، وله أسماء جمع وهى باقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة، ولعل ما فى الأصل جمع لبقر والقياس لا يأباه فإن من النحويين من ذهب الى أن فعلا يجمع قياسا على فعول كأسد وأسود وذكر وذكور.

وقال الفضل: لو كان عندى دعوة مستجابة لم أجعلها إلا فى الإمام، فإنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمنت العباد؛ فقبّل ابن المبارك رأسه وقال: لا يحسبنّ هذا غيرك. وقال قدامة: حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذى هو ضدّه لا يقوم إلا به؛ وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم احتاجوا إلى استعمال العدل فى اقتسامهم وإلا أضرّ ذلك بهم. صفة الإمام العادل- كتب عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة إلى الحسن ابن أبى الحسن البصرىّ أن يكتب له بصفة الإمام العادل؛ فكتب إليه الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كلّ فاسد، وقوّة كلّ ضعيف، ونصفة كلّ مظلوم، ومفزع كلّ ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعى الشفيق [على إبله [1]] والحازم الرفيق الذى يرتاد لها أطيب المراعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرّ والقرّ. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحانى على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلّمهم كبارا، يكسب لهم فى حياته، ويدّخر لهم بعد وفاته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كلأمّ الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربّته طفلا، تسهر لسهره وتسكن لسكونه، وترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتّم بشكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصىّ اليتامى، وخازن المساكين، يربىّ صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد لله ويقودهم. فلا تكن

_ [1] زيادة عن العقد الفريد (جزء أوّل ص 14) .

يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله كعبد ائتمنه سيّده واستحفظه ماله وعياله، فبدّد المال وشرّد العيال فأفقر أهله وأهلك ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجربها عن الخبائث والفواحش، فكيف [إذا أتاها من يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف [1]] إذا قتلهم من يقتصّ لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلّة أشياعك [2] عنده وأنصارك عليه؛ فتزوّد له وما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذى أنت به، يطول [فيه [1]] ثواؤك، ويفارقك أحبّاؤك، ويسلمونك فى قعره فريدا وحيدا؛ فتزوّد له ما يصحبك يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما فى القبور، وحصّل ما فى الصّدور؛ فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها؛ فالآن يا أمير المؤمنين وأنت فى مهل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل؛ لا تحكم يا أمير المؤمنين فى عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلّط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرّنك الذين ينعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيّبات من دنياهم بإذهاب طيباتك فى آخرتك. ولا تنظرنّ إلى قدرك [3] اليوم، ولكن انظر الى قدرك [3] غدا وأنت مأسور فى حبائل الموت، وموقوف بين يدى الله تعالى فى مجمع الملائكة والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحىّ القيّوم. إنى يا أمير المؤمنين إن لم أبلغ فى عظتى ما بلغه أولو النّهى قبلى، فلم آلك شفقة ونصحا؛ فأنزل كتابى هذا إليك كمداوى حبيبه يسقيه

_ [1] زيادة عن العقد الفريد، جزء أوّل ص 14 [2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل «امتناعك» [3] كذا فى الأصل. وفى العقد الفريد: قدرتك.

ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته

الأدوية الكريهة لما يرجو له بذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وحيثما ذكرنا العدل وصفة الإمام العادل فلنذكر الظلم وسوء عاقبته. ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته قال الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . وقال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ ؛ قيل: هذا تعزية للمظلوم ووعيد للظالم. وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً . وقال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . وقال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ* . وقال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر» وفى لفظ آخر: «أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذابا إمام جائر» . وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [1] » وفى لفظ: «فإنها مستجابة» . ويقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقيقا على الله أن يزيلها. وقال الأحنف: إذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله على عقوبتك، وانتقام الله لهم، وذهاب ما آتيت إليهم [2] عنهم. وقال يوسف بن أسباط: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله.

_ [1] فى الجامع الصغير: «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب» . [2] أى ما سقته إليهم من الظلم.

وروى فى الحديث: «إن الله تعالى يقول وعزّتى لأجيبنّ دعوة المظلوم وإن كان كافرا» . وقال: «ما من عبد ظلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: يا ربّ؛ عبدك، ظلمت فلم أنتصر إلا بك إلا قال الله لبّيك عبدى لأنصرنّك ولو بعد حين» . وقيل: الظلم أدعى شىء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة. وقال ابن عبّاس: ليس للظالم عهد، فإن عاهدته فانقضه، فإن الله تعالى يقول: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ . وأجمعوا على أن المظلوم موقوف على النّصرة لقوله تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ . والظالم مدرجة العقوبة وإن تنفّست مدّته. وقيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان الرجل يظلم فى الجاهلية فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا يرى ذلك فى الإسلام؛ فقال: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، وإن موعدكم الآن الساعة، والسّاعة أدهى وأمرّ. وقيل: تندمل من المظلوم جراحه، إذا انكسر من الظالم جناحه. وقالوا: الجور آفة الزمان، ومحدث الحدثان؛ وجالب الإحن، ومسبّب المحن؛ ومحيل الأحوال، وممحق الأموال؛ ومخلى الديار، ومحيى البوار. وهو مأخوذ [1] من قولهم: جار عن الطريق إذا نكب عنها، فكأنه عدل عن طريق العدل وحاد عن سبيله. وفى الإسرائيليّات أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى عليه السّلام: يا موسى، قل لبنى إسرائيل: تجنّبوا الظلم؛ وعزّتى وجلالى إن له عندى مغبّة؛ قال: يا رب وما مغبته؟ قال: يتم الولد، وتقليل العدد، وانقطاع الأمد، والثّواء فى النار. وقد أوردنا فى ذلك ما يكتفى به من يعلم أن الله تعالى مسائله ومحاسبه، ومناقشه غدا ومطالبه؛ وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وموقف المظلوم لطلب حقّه ممن

_ [1] فى الأصل: «وهو مأخوذ به ... الخ» وظاهر أن كلمة «به» هنا مقحمة لغير حاجة.

ذكر ما قيل فى حسن السيرة والرفق بالرعية

ظلمه بملء فيه؛ وربما يعجّل له العقوبة فى دنياه، ويضاعف عليه العذاب فى أخراه، ويريه عاقبة بغيه فى يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه. نسأل الله تعالى أن يحمينا أن نظلم أو نظلم، وأن يجعلنا ممن فوّض أمره إليه وسلّم، ولا يمتحننا بمكروه، فهو بضعفنا عن حمله أدرى، وبعجزنا أعلم، بمنّه وكرمه. ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرّفق بالرعيّة قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطى حظّه من الرفق فقد أعطى حظّه من الخير كلّه، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من الخير كلّه» . ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما: أشيرا علىّ؛ فقال له سالم: اجعل الناس أبا وأخا وابنا، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك أوّل خليفة يموت. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدىّ بن أرطاة: أما بعد، فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعيّة عندك. وقال المنصور لابنه المهدىّ: يا بنىّ لا تبرم أمرا حتى تفكّر فيه، فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيئاته؛ واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية [1] لا يصلحها إلا العدل؛ وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.

_ [1] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) وفى الأصل: «والطاعة» .

وقال خالد بن عبد الله القسرىّ [1] لبلال بن أبى بردة: لا يحملنّك فضل المقدرة على شدّة السّطوة، ولا تطلب من رعيّتك إلا ما تبذله لها، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وقيل: لما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام، استعمل ابنه عبد العزيز على مصر، وقال له حين ودّعه: أرسل حكيما ولا توصه؛ انظر أى بنىّ [2] إلى أهل عملك؛ فإن كان لهم عندك حقّ غدوة فلا تؤخّره إلى عشيّة، وإن كان لهم عشيّة فلا تؤخّره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلّها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإيّاك أن يظهر لرعيّتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدّقوك فى الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلىّ يأتك رأيى فيه إن شاء الله. وإن كان بك غضب على أحد من رعيّتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة، فإنّ أوّل من جعل السجن كان حليما ذا أناة؛ ثم انظر إلى أهل الحسب والدّين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا وأستخلف الله عليك.

_ [1] فى الأصل: «خالد البصرى» والتصويب عن العقد الفريد. [2] كذا فى العقد الفريد (ج ص 17) ، وفى الأصل: «أى شىء» وهو تحريف.

الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام

الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام فأما ما قيل فى حسن السياسة وإقامة المملكة؛ قالوا: من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسة. ويقال: إذا صحّت السياسة تمّت الرياسة. كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه [بسيرته [1]] فكتب إليه: إنّى أيقظت رأيى وأنمت هواى، وأدنيت السّيد المطاع فى قومه، وولّيت الحرب الحازم فى أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكلّ خصم من نفسى قسما، أعطيته حظّا من لطيف عنايتى ونظرى، وصرفت السيف إلى النّطف [2] المسىء، [والثواب الى المحسن البرىء [1]] ؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظّه [من [1]] الثواب. وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ فقال: هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها، واقتياد قلوب العامّة مع الإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع [3] . وقيل: بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر فكتب اليه: قد بلغت من حسن السياسة مبلغا لم يبلغه ملك فى زمانك، فأفدنى الذى بلغت به ذلك؛ فكتب إليه: لم أهزل فى أمر و [لا [4]] نهى ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية وأثبت على

_ [1] زيادة عن العقد الفريد، ج 1 ص 10 [2] النطف: المريب. [3] فى الأصل: «أهل الصناعات» والتصويب عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10) والصنائع جمع صنيعة، يقال: فلان صنيعة فلان إذا اصطنعه وخرّجه وأدّبه وربّاه. [4] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10 طبع دار الكتب المصرية) .

العناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودّا لم يشبه كذب، وعمّمت القوت، ومنعت الفضول. وقيل: إن أنوشروان كان يوقّع فى عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبّة، وامزج للعامّة الرغبة بالرهبة. ولما قدم سعد العشيرة فى مائة من أولاده على ملك حمير سأله عن صلاح الملك؛ فقال: معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعيّة طائعة؛ ففى المعدلة حياة الإمام، وفى الهيبة نفى للظّلّام وفى طاعة الرعية حسن التئام. وقال أبو معاذ للمتوكّل: إذا كنتم للناس أهل سياسة فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل، وسوسوا لئام الناس بالذّلّ يصلحوا على الذلّ، إن الذلّ يصلح النّذل. وقال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم [1] ثلاث سياسات، طبقة هم خاصّة الأشراف، تسوسهم باللين والعطف، وطبقة هم خاصّة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والعنف، وطبقة هم العامّة، تسوسهم بالشدّة واللين. وقال معاوية بن أبى سفيان: إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، [ولا أضع [2]] سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين العامّة شعرة ما [3] ما انقطعت؛ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا جذبوها أرخيتها وإذا أرخوها جذبتها. وقال المأمون: أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيّته، فأسقط مواقع حجّتها عنه وقطع مواقع حجّته عنها.

_ [1] فى الأصل «يسوسهم» بالياء وكذلك بقية الأفعال فى هذه الجملة، وظاهر أن الخطاب هو الذى يستقيم معه اللفظ والمعنى. [2] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 10) . [3] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 10) وعيون الأخبار (مجلد 1 ص 9) . والكثير فى جواب «لم» المنفى بما عدم اقترانه باللام.

وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة؛ قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله، وغلب رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ فقال: التفكّر فى العواقب. وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد: يا بنىّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعيّة أو تملكه الرعيّة إلّا حزم أو توان. وقالوا: ينبغى للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزّلل، فإنّ من استصغر الصغير يوشك أن يقع فى الكبير، فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصّحّة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تنبثق من الجداول الصغار. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قطّ بحزم فلمت نفسى فيه وإن كانت العاقبة علىّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضعيّت الحزم فيه فحمدت نفسى وإن كانت العاقبة لى. وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة فى الأمر؟ فقال: إصداره إذا أورد بالحزم؛ قال: وهل بينهما فرق؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الحزم المشيّد رافد وقيل لملك سلب ملكه: ما الذى سلبك ملكك؟ فقال: [دفع شغل [1]] اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن [2] عقله. والمخدوع [عن عقله [1]] : من بلغ قدرا لا يستحقّه أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وفى كتب للهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمغارة [3] إن بعد، والكمين

_ [1] زيادة من العقد الفريد (ج 1 ص 18) . [2] فى الأصل: «من عقله» . [3] كذ فى الأصل، ولعله «المغاورة» بمعنى الإعارة.

إن انكشف، والاستطراد إن ولّى. وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أنّ رجلا يساوى به فى المنزلة والرأى والهمّة والمال واتّبع فليصرعه، فإن لم يفعل فهو المصروع. وقيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. وقيل: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. قال البحترىّ: فتى لم يضيّع وجه حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقّبا ومثله قول آخر: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا وقيل: من لم ينظر فى العواقب فقد تعرّض لحادثات النوائب. قال الشاعر: ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تبار وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه وإنزالهم منازلهم واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلا أو إلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين، سارعوا الى ذلك، واستحالوا [1] محاسن أمور المملكة، وهجّنوا محاسن رأيه؛ ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحا، وكاذب قد اتّهم أمينا، ومحتال قد أغضب بريئا. وليس ينبغى للملك أن يفسد أهل الثقة فى نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغى فى فضل حلمه وبسطة علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وألّا يرتاح [2] إلى إفسادهم، فلم يزل جهّال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجّارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.

_ [1] كذا فى الأصل. ولعله: «أحالوا» بمعنى غيّروا. [2] فى الأصل «ألا يريح» ولعل الصواب ما وضعناه.

وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السّحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين. وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكّؤ فى بيعته: أما بعد، فإنى أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابى فاعتمد أيّهما شئت والسلام. وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانىّ إلى الحسن بن عمر التّغلبىّ [1] : أما بعد، فإنه بلغنى من قطع الفسقة الطريق [ما بلغنى [2]] ، فلا الطريق تحمى، ولا اللصوص تكفى، ولا الرعية ترضى، وتطمع بعد هذا فى الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وايم الله لتكفينّ من قبلك أو لأوجّهنّ إليك رجالا لا تعرف مرّة من جشم، ولا عديّا من رهم [3] . ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم والى خراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسّان [4] كان بالبصرة [منه [5]] ما كان، ثم صار لصّا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابى هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله وولّى الضّبىّ.

_ [1] فى الأصل: الثعلبى وهو تحريف إذ هو الحسن بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوى التغلبى. انظر ابن الأثير طبع أوربا ج 7 ص 127 و 172. [2] زيادة يقتضيها السياق وفى العقد الفريد «ما بلغ» (ج 1 ص 20) . [3] كذا فى العقد الفريد «رهم» بالراء وهو بطن من بطون العرب وفى الأصل: «دهم» . [4] فى الأصل: «حيّان» والتصويب عن العقد الفريد والطبرىّ. [5] زيادة يقتضيها المقام.

ذكر ما قيل فى الحلم

ذكر ما قيل فى الحلم الحلم دفع السيئة بالحسنة. وقيل: تجرّع الغيظ [1] . وقيل: الحلم دعامة العقل، وقال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وقال علىّ رضى الله عنه: حلمك عن السفيه يكثر أنصارك عليه. وقيل: ليس الحليم من إذا ظلم حلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فإذا قدر غفر [2] . وقيل: الحليم من لم يكن حلمه لفقد النّصرة أو لعدم القدرة. وهو جوهر فى الإنسان يصدر عن صدر سالم من الغوائل والأذى، صاف [3] من شوائب الكدر والقذى؛ لا يستطاع تعلّما، ولا يدرك تبصّرا وتفهّما؛ كما قال أبو الطيّب: وإذا الحلم لم يكن فى طباع ... لم يحلّم تقادم الميلاد [4] ويدلّ على ذلك أنه غريزة فى الإنسان. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشجّ عبد القيس: «يا أبا المنذر إن فيك خصلتين [5] يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة» فقال: يا رسول الله، أشىء جبلنى الله عليه أم شىء اخترعته من قبل

_ [1] فى الأصل: «الغليظ» . [2] عبارة الإحياء فى شطر هذه الجملة الأخيرة «ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا» . [3] فى الأصل: «صاف عن شوائب ... الخ» واللغة تقتضى «من» . [4] ورد هذا البيت فى ديوان المتنبى هكذا: وإذا الحلم لم يكن عن طباع ... لم يكن عن تقادم الميلاد [5] فى الإحياء للغزالىّ «خلقين يحبهما ... » (ج 3 ص 122) طبع المطبعة الميمنية.

نفسى؟ قال: «بل شىء جبلك الله عليه» ؛ قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلق يرضاه الله ورسوله. ومن الناس من يقول: إن الحلم ليس غريزة ولا طبيعة بل مكتسب مستفاد، تتمرّن النفس الأبيّة عليه، وتنقاد حبّا فى المحمدة إليه. وقالوا: الحلم بالتحلّم كما أن العلم بالتعلّم. ويدلّ على ذلك ما حكى عن جعفر الصادق أنه كان عنده عبد سيّئ الخلق، فقيل له: أما تأنف [من [1]] مثل هذا عندك وأنت قادر على الاستبدال به؟ فقال: إنما أتركه لأتعلّم عليه الحلم. ويحكى عنه أنه كان إذا أذنب إليه عبد أعتقه؛ فقيل له فى ذلك؛ فقال: أريد بفعلى هذا تعلّم الحلم. قال الشاعر: وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السّخط لم يتحلّم كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند القتر لم يتحشّم [2] وروى عن سرىّ السّقطىّ أنه قال: الحلم على خمسة أوجه: حلم غريزىّ، وهو هبة من الله للعبد، يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطى من حرمه، ويحسن لمن أساء إليه؛ وحلم تحالم، يكظم غيظه رجاء الثواب وفى القلب كراهية؛ وحلم كبر، لا يرى المسىء أهلا أن يجاريه؛ وحلم مذموم، رياء وسمعة وهو حاقد ساكت يرائى به جلساءه؛ وحلم مهانة وذلّة وعجز وضعف نفس وصغر همّة. وقال أبو هلال العسكرىّ: أجمع كلمة سمعناها فى الحلم ما سمعت عمّ أبى يقول: الحليم ذليل عزيز؛ وذلك أن صورة الحليم صورة الذليل الذى لا انتصار له، واحتمال السفيه والتغافل عنه فى ظاهر الحال ذلّ وإن لم يكن به. وقيل: « [الحليم [3]] مطيّة الجهول» لاحتماله جهله وتركه الانتصاف منه. وقال الأوّل البيتين وقد تقدّما.

_ [1] زيادة يقتضيها استعمال اللغة، ولعلها سقطت من الناسخ. [2] يتحشم: يتذمّم ويستحى. [3] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ (ج 1 ص 108 مخطوط ومحفوظ بدار الكتب المصرية) .

ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به

ولهذا [1]] قال شيخ من الأعراب وقد قيل له: ما الحلم؟ فقال: الذى تصبر عليه. وقال: الحلم عقال الشرّ، وذلك أن من سمع مكروهة فسكت عنها انقطعت عنه أسبابها، وإن أجاب اتصلت بأمثالها [2] . وقالوا: الحلم والأناة توءمان ينتجهما علوّ الهمة. ومن كلام النبوّة: «كاد الحليم أن يكون نبيّا» . ورأى حكيم رقّة من ملك فقال: أيها الملك! ليس التاج الذى يفتخر به عظماء الملوك فضّة ولا ذهبا، ولكنه الوقار المكلّل بجواهر الحلم، وأحق الملوك بالبسطة، من حلم عند ظهور السّقطة. وقال معاوية لابنه يزيد: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة، فإذا أمكنتك فعليك بالصفح، فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور. وقال أيضا: أفضل ما أعطى الرجل الحلم. وقال: ما وجدت لذّة هى عندى ألذّ من غيظ أتجرّعه وسفه بحلم أقمعه. وقالوا: الحلم مطيّة وطيئة تبلّغ راكبها قاصية المجد، وتملّكه ناصية الحمد. وقال أبو هلال: ومن أشرف نعوت الإنسان أن يدعى حليما، لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلا وعالما ومصطبرا محتسبا وعفوّا وصافحا ومحتملا وكاظما. وهذه شرائف الأخلاق وكرائم السجايا والخصال. ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به كان ممن اشتهر بالحلم الأحنف بن قيس. قيل له: ممّن تعلّمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقرىّ، رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، حتى أتى بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك؛

_ [1] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرى. [2] زيادة عن ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ وفى الأصل: «بأسبابها» .

قال: فو الله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: يابن أخى أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك؛ ثم قال لابن له آخر: قم يا بنىّ فوار أخاك وحلّ كتاف ابن عمك وسق إلى أمّك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. وقد ساق أبو هلال هذه القصة بسند وزاد فيها زيادة حسنة نذكرها، فقال: إن قيس بن عاصم لما فرغ من حديثه التفت إلى بعض بنيه، فقال: قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه. فبدأ بإطلاق القاتل قبل دفن المقتول. وقال فى خبره: ثم اتّكأ على شقّه الأيسر وقال: إنى امرؤ لا يعترى خلقى [1] ... دنس يفنّده ولا أفن [1] من منقر فى بيت مكرمة ... والفرع ينبت فوقه الغصن خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع [2] لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهمو لحفظ جواره فطن وقيل: قتل للأحنف بن قيس ولد وكان الذى قتله أخ للأحنف، فجىء به مكتوفا ليقيده؛ فلما رآه الأحنف بكى، وأنشد: أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخى حين أدعوه وذا ولدى وممن اشتهر بالحلم «معاوية بن أبى سفيان» . حكى أن رجلا خاطر [3] رجلا أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين!

_ [1] رواه فى العقد الفريد (ج 1 ص 17) : إنى امرؤ لا يطّبى حسبى ... دنس يهجّنه ولا أفن وفى عيون الأخبار لابن قتيبة (مجلّد 1 ص 286 طبع دار الكتب المصرية) : إنى امرؤ لا شائن حسى ... دنس يغيّره ولا أفن [1] الأفن: النقص. [2] فى العقد الفريد، وعيون الأخبار «أعفّة» . [3] يقال: خاطره على الأمر: راهته عليه.

ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمّك هند! ففعل ذلك؛ فلما انفتل معاوية عن [1] صلاته قال له: يا أخى، إن أبا سفيان كان محتاجا إلى ذلك منها؛ فخذ ما جعلوه لك. فأخذه؛ ثم خاطره آخر بعد ذلك أن يقوم إلى زياد وهو فى الخطبة فيقول: أيها الأمير، من أمّك، ففعل؛ فقال زياد: هذا يخبرك، وأشار إلى صاحب الشّرطة، فقدّمه وضرب عنقه؛ فلما بلغ ذلك معاوية قال: ما قتله غيرى، ولو أدّبته على الأولى ما عاد إلى الثانية. قيل: ودخل خريم الناعم على معاوية بن أبى سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أىّ ساقين! لو أنهما على جارية! فقال له خريم: فى مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين؛ فقال: واحدة بواحدة والبادئ أظلم. وقيل: خاطر رجل على أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو فى الخطبة فيقول له: أيها الأمير، من أمّك؛ ففعل؛ فقال عمرو: النابغة بنت عبد الله أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ؛ فاشتراها عبد الله بن جدعان فوهبها للعاصى بن وائل فولدت له فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه. وقيل: أسمع رجل عمر بن عبد العزيز بعض ما يكره؛ فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّنى الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله منّى غدا، انصرف إذا شئت. حكى صاحب العقد عن ابن عائشة أن رجلا من أهل الشأم دخل المدينة، قال: فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابّة منه، قال: فمال قلبى إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علىّ بن أبى طالب، فامتلأ قلبى بغضا له وحسدت عليّا أن يكون له ولد مثله، فصرت إليه فقلت: أنت

_ [1] فى الأصل: «من» وهذا يخالف الاستعمال اللغوى، فإنه يقال: انفتل عن كذا إذا انصرف عنه.

ابن أبى طالب؟ قال: أنا ابن ابنه؛ قلت: قلت فيك وفى أبيك أشتمهما، فلما انقضى كلامى، قال: أحسبك غريبا؛ فقلت: أجل؛ قال: فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاونّاك؛ فانصرفت وما على الأرض أحبّ إلىّ منه. حدّث زياد عن مالك بن أنس قال: بعث إلىّ أبو جعفر المنصور وإلى ابن طاوس؛ فأتينا فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة [1] بأيديهم السيوف يضربون بها الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، ثم أطرق عنا طويلا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال: حدّثنى عن أبيك؛ قال: نعم، سمعت أبى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله فى حكمه فأدخل عليه الجور فى عدله» ؛ فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى من دمه؛ ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظنى يابن طاوس؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ؛ قال مالك: فضممت ثيابى من ثيابه مخافة أن يملأنى دمه؛ فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا وبيته، ثم قال: يابن طاوس ناولنى هذه الدواة؛ فأمسك؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها؛ فلما سمع ذلك قال: قوما عنّى؛ فقال ابن طاوس: ذلك ما كنّا نبغى منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله.

_ [1] الجلاوزة جمع جلواز بكسر الجم: الشّرطى.

وقيل: دخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة؛ فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك الرشيد؛ وذكر قوله فلم يعجب المأمون، فقال: لقد تتيّست فيها وتتيّس مالك؛ فقال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون، وقام الحارث وندم على ما كان منه؛ فلم يستقرّ فى منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشرّ ولبس ثياب أكفانه، ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّ به المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه وقال له: يا هذا، إنّ الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ منّى، قال لنبيّه موسى صلى الله عليه وسلم إذا أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فقال الحارث بن مسكين: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب وأستغفر الربّ؛ فقال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت. وقد مدح الشعراء ذوى الحلم، فمن ذلك قول بعضهم: لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا- وإن عزّوا- لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة [1] ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام وقال آخر: لقد أسمع القول الذى هو كلّما ... تذكّرنيه النفس قلبى يصدّع فأبدى لمن أبداه منّى بشاشة ... كأنّى مسرور بما منه أسمع وما ذاك من عجز به غير أنّنى ... أرى أنّ ترك الشرّ للشرّ أدفع وقال مهيار: وإذا الإباء المرّ قال لك: انتقم ... قال خلائقك الكرام: بل احلم

_ [1] مسفرة: مشرقة سرورا.

شرع من العفو [1] انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدّم حتّى لقد ودّ البرىء لو انّه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم وقال آخر: فدهره يصفح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه كأنّه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه وقال آخر: أسد على أعدائه ... ما إن يذلّ ولا يهون فإذا تمكّن منهم ... فهناك أحلم ما يكون وقال محمود الورّاق: إنّى وهبت لظالمى ظلمى ... وغفرت زلّته على علمى ورأيته أسدى إلىّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمى فكأنّما الإحسان كان له ... وأنا المسىء إليه فى الحكم ما زال يظلمنى وأرحمه ... حتّى بكيت له من الظلم وقال آخر: وذى رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمى عنه حين [2] ليس له حلم إذا سمته وصل القرابة سامنى ... قطيعتها، تلك السفاهة والإثم فداويته بالحلم، والمرء قادر ... على سهمه ما كان فى كفّه السهم لأستلّ منه الضّغن حتّى سللته ... وإن كان ذا ضغن يضيق به الحزم

_ [1] كذا فى ديوان مهيار. وفى الأصل: «المجد» . [2] كذا فى الأصل، ورواية الأمالى (ج 2 ص 103 طبع بولاق) : «وهو ليس......» والأبيات من قصيدة طويلة لمعن بن أوس.

وقد كره بعضهم الحلم فى كل الأمور، فمن ذلك ما أنشد المبرّد: أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإنّ الجهل أعفى وأروح وقال آخر: ترفّعت عن شتم العشيرة إنّنى ... رأيت أبى قد عفّ عن شتمهم قبلى حليم إذا ما الحلم كان جلالة [1] ... وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلى وقال آخر: إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم وقال الأحنف: آفة الحلم الذّلّ. وقال: لا حلم لمن لا سفيه له. وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلّوا. وقال النابغة الجعدىّ: ولا خير فى حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا ولا خير فى جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد [2] الأمر أصدرا ولما أنشد هذين البيتين النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «أجدت لا يفضض [3] الله فاك» ؛ قال: فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفضّ له ثنيّة. وقال كعب بن زهير: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل

_ [1] كذا فى ديوان المعانى لأبى هلال العسكرىّ؛ وفى الأصل: «إذا ما الجهل كان حلالة» ، ورواية الأغانى (ج 13 ص 56 طبع بولاق) : «حليما إذا ما الحلم كان مروءة» . [2] كذا فى جمهرة أشعار العرب (طبع مطبعة بولاق الأميرية) وفى الأغانى أيضا (ج 4 ص 131) . وفى الأصل: «حليم اذا هاجه الأمر أصدرا» . [3] كذا فى الأغانى (ج 4 ص 131 طبع بولاق) وفى الأصل: «لا تفضض» ونصه فى العقد الفريد (ج 1 ص 218) ، كما فى الأغانى ولم يذكر لفظ: «أجدت» .

ذكر ما قيل فى العفو

ذكر ما قيل فى العفو قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وقال تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وقال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى . وقال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ . وقال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلق فى صعيد واحد حيث يسمعهم الداعى وينفذهم البصر [1] ينادى مناد من تحت العرش ألا من كان له على الله حقّ فليقم فلا يقوم إلا من عفا عن مجرم» . وفى لفظ «ينادى مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من إمام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنّة بغير حساب» . وقال معاذ بن جبل: لما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لى: «يا معاذ ما زال جبريل يوصينى بالعفو فلولا علمى بالله لظننت أنه يوصينى بترك الحدود» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عفا عن مظلمة صغيرة أو كبيرة فأجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقرّبين يوم القيامة» . وعن علىّ بن الحسين أنه قال: إذا [2] كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم أهل الفضل فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة وهم سائرون فيقولون لهم:

_ [1] فى الأصل: «وينفدهم الصبر» والتصويب عن الإحياء (ج 3 ص 126 طبع المطبعة الميمنية) . [2] فى الإحياء أن هذا حديث رواه البيهقىّ فى الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال البيهقىّ: فى إسناده ضعف. انظر (ج 8 ص 32) من شرح الإحياء (طبع المطبعة الميمنية) .

أين تريدون؟ فيقولون: الجنة؛ فيقولون لهم: قبل الحساب؟ فيقولون: نعم؛ فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل؛ فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسىء إلينا عفونا؛ فيقولون: يحقّ لكم أن تكونوا من أهل الجنّة فنعم أجر العاملين. وقيل لأبى الدّرداء: من أعزّ الناس؟ فقال: الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزّكم الله تعالى. قيل: حدّ العفو ترك المكافأة عند القدرة قولا وفعلا. وقيل: هو السكون عند الأحوال المهيّجة للانتقام. قال الأحنف: إياك وحميّة الأوغاد؛ قيل: وما هى؟ قال: يرون العفو مغرما والتحمّل مغنما. وقيل لبعضهم: هل لك فى الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال: وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو. وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّى؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفّى يلحقها ذمّ الندم. وقيل للإسكندر: أىّ شىء أنت أسرّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلىّ بأكثر من إحسانه، وعفوى عمّن أساء بعد قدرتى عليه. قال أشجع: يعفو عن الذنب العظ ... يم وليس يعجزه انتصاره صفحا عن الجانى علي ... هـ وليس حاط به اقتداره

وقال المتنبّى: فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا وقال قابوس وشمكير [1] : العفو عن المذنب من واجبات الكرم. وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلى قبيحات الصّور. وقال المنصور لولده المهدىّ: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّى، وقد تقدّم ذكر الدليل. وقال الشاعر: لذّة العفو إن نظرت بعين ال ... عدل أشفى من لذّة الإنتقام هذه تكسب المحامد والأج ... ر وهذى تجىء بالآثام قال عمر بن حبيب العدوىّ [2] : كنت فى وفد أهل البصرة لما قدموا على المنصور يسألونه أن يولّى عليهم قاضيا، فبينا نحن عنده إذ جىء برجل مصفّد بالحديد، يده مغلولة فى عنقه، فوقف بين يديه فساءله طويلا، ثم بسط له نطع وأمر بضرب عنقه، والرجل يحلف وهو يكذّبه، ولم يتكلّم أحد من الجمع، فقمت وكنت أحدثهم سنّا فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أتأذن لى فى الكلام؟ فقال: قل؛ قلت: يروى عن ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد على الحوض» ، وقد اعتذر إليك فاقبل منه عذره؛ فقال: يا غلام اضرب عنقه؛ قلت: إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عبّاس أنه قال: قال رسول الله صلى الله

_ [1] فى ابن خلكان (ج 1 ص 606 ما نصه: «الأمير قابوس: الأمير شمس المعالى أبو الحسن قابوس بن أبى طاهر وشمكير بن زيار بن وردان شاه الجيلىّ أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. وهذا موافق تماما لما جاء فى «قاموس الأعلام التركى» لصاحبه «شمس الدين سامى بك» فقد قال تحت عنوان «قابوس: إنه هو الأمير شمس المعالى أبو الحسن بن أبى طاهر وشمكير الجيلى» . وفى الأصل: «وشمكرى» . وفى اليتيمة للثعالبى (ج 3 ص 288) : «قابوس بن وشمكير......» . [2] فى الأصل: العدى، بدون واو. والتصويب عن الطبرىّ.

عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ليقم كل من كان له عند الله يد فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه المسلم» ، فقال: آلله [1] أبى حدّثك؟ فقلت: آلله إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو جعفر: صدق، حدّثنى أبى عن جدّى عن ابن عباس بهذا؛ [فقال [2]] : يا غلام خلّ له السبيل، وأمر له بجائزة وولّانى قضاء البصرة. وقيل: أتى المأمون برجل يريد أن يقتله وعلىّ بن موسى الرّضا جالس، فقال ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول: إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزّا؛ فعفا عنه. وكان المأمون مؤثرا للعفو كأنّه غريزة له؛ وهو الذى يقول: لقد حبّب إلىّ العفو حتى إنى أظنّ أنى لا أثاب عليه. وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب، فقال له المأمون: أنت الذى فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا الذى أسرف على نفسه واتكل على عفوك؛ فعفا عنه. قال: ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدىّ أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: ولىّ الثّأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك؛ قال المأمون: إنى شاورت أبا إسحاق والعبّاس فى قتلك فأشارا علىّ به؛ قال: أمّا أن يكونا قد نصحاك فى عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا، ولكن أبيت أن تستجلب [3] النصر إلا من حيث عوّدك الله، ثم استعبر باكيا؛ فقال له المأمون:

_ [1] فى حاشية الأمير على المغنى: (ج 1 ص 18 طبع مصر) : أن من معانى الهمزة القسم مثل «آلله لأفعلنّ» نظرا الى أنها الهاء المبدلة من التاء. [2] زيادة يقتضيها السياق. [3] كذا فى عيون الأخبار ص 100 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصل: «أبيت أن لا تستجلب من حيث الخ» .

ما يبكيك؟ قال: جذلا إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته، ثم قال: إنه وإن كان جرمى بلغ سفك دمى فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلّغانى عفوه، ولى بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب؛ قال المأمون: لو لم يكن فى حق نسبك ما يبلّغ الصفح عن جرمك لبلّغك إليه حسن تنصّلك. فكان تصويب إبراهيم لرأى أبى إسحاق والعباس ألطف فى طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما. ثم قال المأمون لإسحاق بن العبّاس: لا تحسبنّى أغفلت إجلابك مع ابن المهدىّ وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره؛ فقال: والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمى إليك، ولرحمى أمسّ من أرحامهم، وقد قال [لهم [1]] رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنّة ومتمثّل بها؛ قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم فى إسلامك فى دار خلافتك؛ قال يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر، هذا كتاب الله بينى وبينك، يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [إلى [2]] وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، فهى للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس وريت بك زنادى، وعفا عنه. وقال أحمد بن أبى دواد: ما رأيت رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يجب أن يفعله إلا تميم ابن جميل، فإنه كان تغلّب على شاطئ الفرات فظفر به، ووافى به الرسول باب المعتصم فى يوم الموكب فى حين جلوسه للعامّة

_ [1] زيادة يقتضيها حسن السياق ولعلها سقطت سهوا من الناسخ. [2]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد.

فأدخل عليه، فما مثل بين يديه دعا بالنّطع والسيف فأحضرا، وجعل تميم بن جميل يصعّد النظر إلى ذلك ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، فرأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به أو حجّة فأدل بها؛ فقال: أمّا إذ قد أذنت لى يا أمير المؤمنين بالكلام فإنى أقول: الحمد لله الذى أحسن كلّ شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، [ثم جعل [1] نسله من سلالة من ماء مهين] ، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدّين، ولأم بك شعث الأمّة، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح بك سراج الحقّ؛ يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك، ثم أنشد: أرى الموت بين السيف والنّطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفّت [2] وأكبر ظنّى أنك اليوم قاتلى ... وأىّ امرئ مما قضى الله يفلت! ومن ذا الذى يدلى بعذر وحجّة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعزّ على أبناء تغلب موقف ... يسلّ علىّ السيف فيه وأسكت وما جزعى من أن أموت وإننى ... لأعلم أنّ الموت شىء مؤقّت ولكنّ خلفى صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت كأنى أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن متّ موّتوا وكم قائل: لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت

_ [1]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 238. وفى الأصل: من حيث لا ... ) .

قال: فتبسّم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل! اذهب فقد غفرت لك الهفوة وتركتك للصّبية. وحكى: أن عبد الملك بن مروان غضب على رجل فهرب منه، فلما ظفر به أمر بقتله؛ فقال له الرجل: إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبّه من العفو، فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل، والله يحبّ المحسنين؛ فعفا عنه. وحكى عن محمد بن حميد الطّوسىّ أنه كان يوما على غدائه مع جلسائه إذا بصيحة عظيمة على باب داره، فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجّة؟ من كان على الباب فليدخل؛ فخرج الغلام ثم عاد إليه وقال: إن فلانا أخذ وقد أوثق بالحديد والغلمان ينتظرون أمرك فيه؛ فرفع يده من الطعام؛ فقال رجل من جلسائه: الحمد لله الذى أمكنك من عدوّك، فسبيله أن تسقى الأرض من دمه؛ وأشار كلّ من جلسائه عليه بقتله على صفة اختارها، وهو ساكت؛ ثم قال: يا غلام، فكّ عنه وثاقه ويدخل إلينا مكرّما، فأدخل عليه رجل لادم فيه؛ فلما رآه هشّ إليه ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام، وبسطه بالكلام ولقّمه حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة، وأمر بردّه إلى أهله مكرّما ولم يعاتبه على جرم ولا جناية، ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم: إنّ أفضل الأصحاب من حضّ الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم؛ وحسّن لصاحبه أن يجازى الإحسان بضعفه، والإساءة بصفحه؛ إنا إذا جازينا من أساء الينا بمثل ما أساء فأين موقع الشكر على النعمة فيما أتيح من الظفر! إنه ينبغى لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد، فإنّ ذاك أدوم للنعمة وأجمع للألفة؛ إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ الآية.

وقيل: بعث بعض الملوك فى رجل وجد عليه فظفر به، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إنّ الغضب شيطان فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيىء، فلا يضيق علىّ ما يسع الرعيّة من حلمك وعفوك؛ فعفا عنه وأطلق سبيله. وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إنّ القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجلّ عن العقوبة، ونحن مقرّون بالذنب، فإن تعف عنّى فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبنى فأهل ذلك أنا؛ فعفا عنه. وقيل: أتى الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا، حتى قدّم شابّ منهم فقال: والله يا حجّاج إن كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت فى العفو؛ فقال الحجاج: أفّا لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل. وأتى الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجّاج عن السّنّة خيرا، فإنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ، فهذا قول الله تعالى فى كتابه، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجّاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبرونى ما أخبرنى به هذا المنافق! وأمسك عمن بقى.

ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام

ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام ومن الناس من يرجّح عقوبة المذنب على ذنبه، ومقابلة المسىء بما يستحقّه من نكاله وضربه؛ ورأى أن العفو عن المجرم موجب لتكراره، والإحسان إلى المسىء مقتض لإصراره؛ وقال: إنّ طباع اللؤم التى حملته على ذلك لا ترتدع بالإحسان، ومرارة الذنب التى استحلاها لا تغيّرها حلاوة الغفران. وأخذ فى ذلك بالكتاب والحديث، وقابل على الذنب القديم بالعذاب الحديث؛ قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ . وقال تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أبى عزّة، لما كان يتعرّض له من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلب عقبة بن أبى معيط يوم بدر إلى شجرة؛ فقال: يا رسول الله، أنا من بين قريش! قال: «نعم» ؛ قال: فمن للصبية؟ قال: «النار» . وقيل: إنه أوّل مصلوب صلب فى الإسلام. وكان النّضر بن الحارث بن كلدة شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أسيرا يوم بدر، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتل صبرا بيد علىّ بن أبى طالب. وقال علىّ رضى الله عنه: الخير بالخير والبادئ أفضل، والشرّ بالشرّ والبادئ أظلم. وقال: «ردّ [1] الحجر من حيث جاءك» فالشرّ لا يدفع إلا بالشرّ؛ وأنشد: لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّنى ... إلى الجهل فى بعض الأحايين أحوج ولى فرس للخير بالخير ملجم ... ولى فرس للشرّ بالشرّ مسرج فمن رام تقويمى فإنّى مقوّم ... ومن رام تعويجى فإنّى معوّج وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الله فى تدبيره، وظنّ أن رحمة الله دون رحمته، فإنّ الله تعالى يقول: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقال:

_ [1] ورد هذا المثل فى مجمع الأمثال للميدانى ومعناه: لا تقبل الضيم وارم من رماك.

وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وقال أكثم بن صيفىّ: من تعمّد الذنب فلا ترحمه دون العقوبة، فإنّ الأدب رفق، والرفق يمن. قال أبو الطيّب المتنبّى: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت فى الحلم طرق المظالم وقالوا: تواضع للمحسن إليك وإن كان عبدا حبشيّا، وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حرّا قرشيّا. وقال الشعبىّ: يعجبنى الرجل إذا سيم هوانا دعته الأنفة [1] إلى المكافأة، وجزاء سيّئة سيّئة مثلها. ورفع كلامه إلى الحجّاج بن يوسف الثقفىّ فقال: لله درّه! أىّ رجل بين جنبيه! وتمثّل بقول الشاعر: ولا خير فى عرض امرئ لا يصونه ... ولا خير فى حلم امرئ ذلّ جانبه وقال رجل لابن سيرين: إنّى وقعت فيك فاجعلنى فى حلّ؛ قال: ما أحبّ أن أحلّ لك ما حرّم الله عليك. وقالوا: من ترك العقوبة أغرى بالذنب، ولولا السيف كثر الحيف. قال الشاعر: إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره وإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى اليوم الذى أنت قادره وقارب إذا ما لم تكن لك [2] حيلة ... وصمّم إذا أيقنت أنّك عاقره وقيل: استؤمر عبد الله بن طاهر بن الحسين فى رجلين كانا فى السجن، أحدهما ضعيف والآخر عليل، فوقّع: الضعيف يقوى والعليل يبرأ، فإن يكن

_ [1] فى الأصل: «اذا سيم هو انا ودعته إلى الأنفة ... » ولعله تحريف من الناسخ. [2] فى الاصل: «وقارب اذا لم تكن له حيلة» وهو تحريف.

فى الحبس ممن يؤمن شرّه غيرهما فليفرج عنه ودعهما فى موضعهما، فإنه من أطلق مثلهما على الناس فهو شرّ منهما وشريكهما فى فعلهما. وكتب رجل إلى المأمون- وكان قد طال حبسه-: أغفلت يا أمير المؤمنين أمرى، وتناسيت ذكرى، ولم تتأمّل حجّتى وعذرى، وقد ملّ من صبرى الصبر، ومسّنى فى حبسك الضّرّ. فأجابه المأمون: ركوبك مطية الجهل، صيّرك أهلا للقتل، وبغيك علىّ وعلى نفسك نقلك من سعة الدنيا إلى قبر من قبور الأحياء، ومن جهل الشكر على المنن قلّ صبره على المحن، فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلّاتك، على قدر صبرك على كثير جناياتك؛ فإن حصل فى نفسك كفّ عن معصيتى، وعزم على طاعتى، وندم على مخالفتى، فلن تعدم مع ذلك جميلا من بيتى [1] والسلام. وقيل لأعرابىّ: أيسرّك أن تدخل الجنّة ولا تسيىء إلى من أساء إليك؟ قال: بل يسرّنى أن أدرك الثار وأدخل النار. قال البحترىّ: تذمّ الفتاة الرّؤد شيمة بعلها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها ويقال: إنما هو مالك وسيفك، فازرع بملك من شكرك، واحصد بسيفك من كفرك. قال الشاعر: قطّ العدا قطّ اليراعة وانتهز ... بظبا السيوف سوائم الأضغان إنّ البيادق إن توسّع خطوها ... أخذت إليك مآخذ الفرزان وقالوا: العفو يفسد من اللئيم، بقدر ما يصلح من الكريم. وقال معاوية ابن يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم قطّ؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليّا إلا أعقبنى ندما على ما فعلت. قال بعض الشعراء: متى تضع الكرامة من لئيم ... فإنّك قد أسأت إلى الكرامه

_ [1] كذا فى الأصل ولعله: «برّى» .

وقالوا: جنّب كرامتك اللئام، فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن أساءوا لم يشعروا. ومن رسالة لأبى إسحاق الصابى فى حقّ من نزع يده من الطاعة [1] : وكان الذى أثمره الجهاد، ودلّ عليه الارتياد؛ اليأس من صلاح هذه الطوائف الناشئة على اعتياد المعاصى والاستئناس بالدواهى، والثقة بأنّ أودها لا يتقوّم، وزيغها لا يتسدّد، وخلائقها لا تنصرف عمّا ضربت العادة عليه بسياجها، واستمرّت به على اعوجاجها، إذ كانت العادة طبيعة ثانية، وسجيّة لازمة؛ كذلك زعمت الحكماء، وبرهنت عليه العلماء. قال بعض الشعراء: ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدار ما وهبا [2] وأنصف الناس فى كلّ المواطن من ... سقى الأعادى بالكأس التى شربا وليس يظلمهم من بات يضربهم ... [بحدّ [3]] سيف به من قبلهم ضربا فالعفو إلّا عن الأعداء مكرمة ... من قال غير الذى قد قلته كذبا قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد ... رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا هم جرّدوا السيف فاجعلهم به جزرا [4] ... هم أوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا

_ [1] فى الأصل: «من نزع يده من الطاعة منها» وظاهر أن كلمة «منها» مقحمة لغير حاجة. [2] كذا فى تاريخ أبى الفدا طبع دار الطباعة العامرة الشاهانية بالقسطنطينية وفى الأصل «ما طلبا» وقائل هذه القصيدة أبو أذينة يحرّض ابن عمه الأسود بن المنذر على قتل جماعة من ملوك الشام كان قد أسرهم وأراد أن يعفو عنهم. [3] زيادة عن تاريخ أبى الفدا. [4] الجزر بالتحريك: ما يذبح من الشاء واحدتها جزرة بالتحريك أيضا. وفى أبى الفدا: «فاجعلهم له جزرا» .

الباب السابع من الفن الثانى

ومنها: لا عفو عن مثلهم فى مثل ما طلبوا ... لكنّ ذلك كان الهلك والعطبا علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا الباب السابع من الفن الثانى فى المشورة وإعمال الرأى والاستبداد ومن يعتمد على رأيه وذكر من كره أن يستشير ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى قد امر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة من هو دونه من أصحابه فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ؛ ذهب المفسّرون إلى أن الله تعالى لم يأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم ولكن ليعلم ما فى المشاورة من البركة. وقيل: أمره بذلك تألّفا لهم وتطييبا لنفوسهم. وقيل: ليستنّ بذلك المسلمون. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار» . وقيل: الخطأ مع الاستشارة أحمد من الإصابة مع الاستبداد. وقيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار ربّه واجتهد رأيه، فقد قضى ما عليه، وأمن من رجوع الملامة إليه؛ ويفعل الله فى أمره ما يشاء. وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقيل: الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة، والاستبداد عن

الاستخارة. وقيل: لما همّت ثقيف بالارتداد بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، استشاروا عثمان بن [أبى [1]] العاصى وكان مطاعا فيهم؛ فقال: لا تكونوا آخر العرب إسلاما وأوّلهم ارتدادا؛ فنفعهم الله تعالى برأيه. وقال العتبىّ لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم [2] ! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره فكأنّا ألف حازم. وسئل بعض الحكماء: أىّ الأمور أشد تأييدا للعقل، وأيها أشدّ إضرارا به؟ فقال: أشدّها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت. وأشدّها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة. وقال بعض الحكماء: إذا استبدّ الرجل برأيه عميت عليه المراشد. وقال الفضل بن سهل: الرأى يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسدّ ثلم الرأى. وقالوا: من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه. وقال بعض البلغاء: إذا أشكلت عليك [الأمور [3]] ، وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأى العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء؛ ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد [4] ؛ فلأن تسأل وتسلم خير من أن تستبدّ وتندم. وقال حكيم لابنه: يا بنىّ، إنّ رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما ووجدت هواك يقظان، فإيّاك أن تستبدّ برأيك، فإنّه حينئذ هواك. ويقال: تعوّذ من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة، ومن عثرات البغى باستقالة الاستخارة.

_ [1] الزيادة عن الكامل لابن الأثير، والطبرى، ومعجم ياقوت. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 25) وأدب الدنيا والدين (ص 304) وفى الأصل «صوابك» . [3] زيادة عن «أدب الدنيا والدين» ص 306. [4] فى الأصل «ولا تستنكف من الاستبداد ... الخ» والتصويب عن أدب الدنيا والدين ص 306.

وقال ابن المقفّع: لا يقذفنّ فى روعك [1] أنّك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة [إلى رأى غيرك [2]] فتنقطع بذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الفخر ولكن الانتفاع. قال بشّار: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى نصيح أو نصيحة حازم ولا تحسب الشّورى عليك غضاضة ... فإن الخوافى [3] رافدات القوادم قال الأصمعىّ: قلت لبشار: إن الناس يعجبون من أبياتك فى المشورة؛ فقال: يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، وخطإ يشارك فى مكروهه؛ فقلت: أنت والله فى قولك أشعر منك فى شعرك. وهذان البيتان من قصيدة كان بشّار بن برد قد كتب بها إلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن يمدحه بها ويحرّضه على أبى جعفر المنصور، فمات إبراهيم قبل وصول القصيدة إليه، فخاف بشار من اشتهارها فقلبها [4] وجعل التحريض على أبى مسلم [5] الخراسانىّ فقال: أبا مسلم ما طيب عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم وإنما كان قال: أبا جعفر ما طيب عيش بدائم قال فيها بعد هذين البيتين المقدّمين: وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإنّ الحزم ليس بنائم

_ [1] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 31 طبع دار الكتب المصرية) وفى الأصل: «لا تنفذن فى روعاتك ... » . [2] زيادة عن عيون الأخبار. [3] الخوافى: ريشات فى جناح الطائر اذا ضم جناحيه خفيت. والقوادم: ريشات فى مقدم جناح الطائر. يريد: أن الضعيف قد يمد القوى بالمعونة. [4] فى الأغانى: «فقلب الكنية» . [5] فى الأصل: «وجعل التحريض فيها على أبى موسى ... » والتصويب عن الأغانى ج 3 ص 56 طبع بولاق.

وما خير كفّ امسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم وحارب إذا لم تعط إلّا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم وأدن على [1] القربى المقرّب نفسه ... ولا تشهد الشّورى امرأ غير كاتم فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم إذا كنت فردا هرّك [2] القوم مقبلا ... وإن كنت أدنى لم تفز بالعزائم وما قرع [3] الأقوام مثل مشيّع [4] ... أريب ولا جلّى العمى مثل عالم وقال الهيثم: ما رأيت ابن شبرمة قطّ إلا وهو متهيئ كأنه يريد الركوب، فذكر ذلك له وأنا حاضر؛ فقال: إنّ الرجل لا يستجمع له رأيه حتى يجمع عليه ثيابه، ثم قال: أتى رجل من الحىّ فقال لدهقان: يا هذا، إنه ربما انتشر علىّ أمرى فى الرأى فهل عندك مشورة؟ فقال: تهيّأ والبس ثيابك ثم اهمم بما تريد، فهو أجمع لرأيك، فليس من أحد يفعل ذلك إلا اجتمع له رأيه. وقال أفلاطون: إذا استشارك عدوّك فجرّد له النصيحة، لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك. وقيل: إذا أردت أن تعرف الرجل فشاوره، فإنك تقف من مشورته على جوره وعدله، وحبّه وبغضه، وخيره وشرّه. وقيل: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش فى غزاة بدر نزل صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من مياه بدر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله،

_ [1] فى عيون الأخبار (المجلد الأوّل ص 32) : «وأدن من القربى ... » . [2] يقال: فلان هرّه الناس اذا كرهوا ناحيته. والعزائم: الحاجات التى يعتزم المرء فعلها. يريد أنك اذا انفردت برأى نفسك ولم تستعن بآراء ذوى التجارب باعدك الناس وأصغروا من شأنك، وان كنت أدنى القوم شأنا لم تفز بحاجاتك التى اعتزمت عليها. [3] كذا فى الأغانى (ج 3 ص 56) وفى الأصل: «وما قارب ... » . [4] المشيّع: الشجاع كأنه شيع بغيره أو بقوة قلبه.

أرايت هذا المنزل [أمنزل [1]] أنزلكه الله عز وجل ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والميكدة؟ قال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة» ؛ فقال: يا رسول الله، فإنّ هذا ليس [لك [1]] بمنزل فارحل [2] بالناس حتى نأتى أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ثم نعوّر [3] ما سواه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل [القوم [1]] فنشرب ولا يشربوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى» ؛ وفعل ما أشار به الحباب. وقال بزرجمهر: أفره ما يكون من الدوابّ لا غنى به عن السوط، وأعقل ما يكون من النساء لا غنى بها عن الزوج، وأدهى ما يكون من الرجال لا غنى به عن المشورة. وقيل: كانت اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على الأمر يستشيرون فيه، وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به، لمعان شتّى: منها لئلا يقع بين المشاورين منافسة تذهب أصالة الرأى وصحّة النظر، لأن من طباع المشتركين فى الأمر التنافس والتغالب والطعن من بعضهم على بعض، وربما أشار أحدهم بالرأى الصواب وسبق إليه فحسده الآخرون فتعقّبوه بالإعراض والتأويل والتهجين وكدّروه وأفسدوه. ومنها أنّ فى اجتماعهم على المشورة تعريض السرّ للإضاعة والشناعة والإذاعة؛ ولذلك قالت الفرس: إنما يراد الاجتماع والكثرة والتناصر فى الأمور التى يحتاج فيها إلى القوّة، فأمّا الآراء والأمور الغامضة فإنّ الاجتماع يفسدها ويولّد فيها التضاغن والتنافس.

_ [1] الزيادة عن الطبرى جزء خامس ص 1309 من القسم الأول طبع ليدن. [2] فى الطبرى وسيرة ابن هشام: «فانهض» . [3] نعوّر: نطمّه ونردمه بالتراب حتى ينضب الماء.

ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته

ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته قال بعض الحكماء: عليك بمشورة من حلب أشطر دهره، ومرّت عليه ضروب خيره وشرّه؛ وبلغ من العمر أشدّه، وأورت التجربة زنده. وقيل: استشار زياد رجلا؛ فقال الرجل: حقّ المستشار أن يكون ذا عقل وافر، واختبار متظاهر، ولا أرانى كذلك. قال إبراهيم بن العبّاس: يمضى الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها فيظلّ يصدرها ويوردها ... فيعمّ حاضرها وغائبها وإذا الحروب علت بعثت لها ... رأيا تفلّ به كتائبها رأيا إذا نبت السيوف مضى ... قدما بها فسقى مضاربها وقال آخر: ألمعىّ يرى بأوّل رأى [1] ... آخر الأمر من وراء المغيب لا يروّى ولا يقلّب كفّا ... وأكفّ الرجال فى تقليب وقال آخر [2] . الألمعىّ الذى يظنّ بك الظّ ... نّ كأن قد رأى وقد سمعا وكانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدّمها فى السن، ولأنها لا تتبع حسناتها بالأذى [3] والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التى عرفت بها عواقب الأمور، حتى

_ [1] فى ديوان ابن الرومىّ: بأول ظنّ. [2] القائل هو أوس بن حجر؛ وهذا البيت من قصيدة له فى الرثاء ذكرها القالى فى أماليه (ج 3 ص 35) مطلعها: أيّتها النفس أجملى جزعا ... إن الذى تحذرين قد وقعا [3] فى الأصل: «إلا بالأذى ... » والسياق يقتضى حذف «إلا» .

كأنّها تنظرها عيانا، وطرأ عليها من الحوادث التى أوضحت لها طريق الصواب وبيّنته تبيانا؛ ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها. ولذلك قال علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: رأى الشيخ خير من مشهد [1] الغلام. ومن أمثالهم «زاحم بعود أودع» [2] . قال بعض الشعراء: لئن فقدوا الشباب فربّ عقل ... أفادوه على مرّ الليالى خبت نار الذكاء فأجّجوها ... بآراء أحدّ من النّصال وقد عدل قوم عن ذلك، وسلكوا فى خلافه أوضح الطّرق وأنهج المسالك؛ وقالوا: بل رأى الشباب هو الرأى الصائب، وفهمهم الفهم الثاقب؛ ونجم سعدهم الطالع، وسحاب جدّهم الهامع؛ وإن لهم من الفطنة أوفر نصيب، وإنّ سهم رأيهم الرائش [3] المصيب؛ وإن عقولهم سليمة من العوارض، وأذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض. ولذلك قالت الحكماء: عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبّان، فإن لهم أذهانا تفلّ القواصل [4] ، وتحطّم الذوابل. وقالوا: آراء الشّباب خضرة نضرة لم يهتصر [5] غصنها هرم، ولا أذوى زهرتها قدم، ولا خبا من ذكائها بطول المدّة ضرم. قال شاعر: عليكم بآراء الشّباب فإنّها ... نتائج ما لم يبله قدم العهد فروع ذكاء تستمدّ من النّهى ... بأنور فى اللّأواء [6] من قمر السعد

_ [1] كذا فى عيون الأخبار، وفى الأصل: «من جلد الغلام» . [2] كذا فى مجمع الأمثال للميدانى، وفى الأصل: «أو فدع» بزيادة الفاء. والعود: المسنّ من الإبل، أى لا تستعن إلا بأهل السن والتجربة فى الأمور. [3] الرّائش: السهم ذو الريش. [4] قواصل جمع قاصل، والقاصل: السيف القطاع. [5] يهتصر الغصن: يعطفه ويكسره من غير انفصال. [6] اللأواء: الشدة.

ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته

وقال آخر: رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على عدد السّنينا ولو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا وقال آخر: أدركت ما فات الكهول من الحجا ... فى عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فلا يقال لك: اتّئد ... وإذا قضيت فلا يقال لك: اعدل ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمّت به النوازل؛ مع وفور عقله وحزمه، والتمسّك بنصحه وفهمه. قال قسّ بن ساعدة الإيادىّ لابنه: لا تشاور مشغولا وإن كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان عاقلا، فالهمّ يعقل العقل فلا يتولّد منه رأى ولا تصدق به رويّة. وقال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتّى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتّى يطلق، ولا المقلّ حتى يجد، ولا الراغب حتّى ينجح. وقالوا: لا تشاور المعزول، فإنّ رأيه مفلول. وقيل: لا تدخل فى مشورتك بخيلا فيقصّر بفعلك، ولا جبانا فيخوّفك، ولا حريصا فيعدك ما لا يرجى؛ فإنّ البخل والجبن والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظنّ بالله. قال الشاعر وأنفع من شاورت من كان ناصحا ... شفيقا فأبصر بعدها من تشاور وليس بشافيك الشفيق ورأيه ... عزيب ولا ذو الرأى والصدر واغر

ذكر ما قيل فى الأناة والروية

ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة كانت العرب تحمد الأناة فى الرأى وإجالة الفكرة فيه وعدم التسرّع. وكان عبد الله بن وهب الرّاسبىّ [1] يقول: إيّاى والرأى الفطير [2] ! وكان يستعيذ [بالله [3]] من الرأى الدّبرىّ؛ وهو الذى يسنح بعد الفوت. وأوصى إبراهيم بن هبيرة ولده فقال: لا تكن أوّل مشير، وإيّاك والرأى الفطير؛ ولا تشيرنّ على مستبدّ، فإنّ التماس موافقته لؤم والاستماع منه خيانة. وكان عامر بن الظّرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأى يغبّ حتّى يختمر، وإيّاكم والرأى الفطير! يريد الأناة فى الرأى والتثبّت فيه. قال شاعر: تأنّ وشاور فإنّ الأمو ... ر منها مضىء ومستغمض فرأيان أفضل من واحد ... ورأى الثلاثة لا ينقض وقال آخر: الرأى كاللّيل مسودّ جوانبه ... والليل لا ينجلى إلا بإصباح فاضمم مصابيح آراء الرّجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح وقال المتنبّى: الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّل وهى المحلّ الثانى فإذا هما اجتمعا لنفس حرّة [4] ... بلغت من العلياء كلّ مكان وقال طاهر بن الحسين: اعمل صوابا تنل بالحزم مأثرة ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير

_ [1] فى الأصل «الرياشى» والتصويب عن الطبرى (ص 2478 من القسم الأوّل) ، والكامل للمبرد (ص 543) ؛ والعقد الفريد (ج 1 ص 25) . [2] الرأى الفطير: الذى أعجل به قبل أن يختمر. [3] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 25) . [4] كذا فى ديوان المتنبى وفى الأصل «لنفس مرة» .

ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة

فإن هلكت برأى أو ظفرت به ... فأنت عند ذوى الألباب معذور وإن ظفرت على جهل وفزت به ... قالوا: جهول أعانته المقادير ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول السّبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بن الوليد بهم: يا بنى حنيفة بعدا كما بعدت عاد وثمود، والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّى أسمع جرسه وأبصر غبّه، ولكنّكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنّى لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح، وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم [الله [1]] التوبة ولا أخذكم [على [1]] غرّة، ولقد أمهلكم حتّى ملّ الواعظ وهرأ [2] الموعوظ، وكنتم كأنّما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفى أيديكم من تكذيبى التصديق ومن نصحى الندامة، وأصبح فى يدى من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما كان غير مردود، وما بقى غير مأمون. ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة ومن الناس من آثر الاستبداد برأيه وكره أن يستشير. قال عبد الملك بن صالح: ما استشرت أحدا قطّ إلا تكبّر علىّ وتصاغرت له، ودخلته العزّة ودخلتنى الذّلّة. فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل فى العيون مهيب فى الصدور. واعلم أنك متى استشرت تضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك. وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه، وآراء نصحائه. فإيّاك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب، واستبهمت لديك المسالك؛ وأنشد: فما كلّ ذى نصح بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب

_ [1] زيادة عن عيون الأخبار والعقد الفريد. [2] هرأ فى منطقه كمنع: أكثر فى خطأ، أو قال الخنا والقبيح. وفى الأصل والعقد الفريد: «وهرى الموعوظ» .

وقال المهلّب بن أبى صفرة: لو لم يكن فى الاستبداد بالرأى إلّا صون السّرّ وتوفير العقل لوجب التمسّك به. وقال بزرجمهر: أردت نصيحا أثق به فما وجدت غير فكرى، واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشىء أضوأ من نور قلبى. وقال علىّ بن الحسين: الفكرة مرآة ترى المؤمن سيئاته فيقلع عنها، وحسناته فيكثر منها، فلا تقع مقرعة التقريع عليه، ولا تنظر عيون العواقب شزرا إليه. وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتّى مدحه ابن هرمة بقوله: يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتجى [1] الأدنين فيما يحاول فاستوى جالسا وقال: أصبت والله! واستعاده، وما استشار بعدها. قالوا: وعلى المستبدّ أن يتروّى فى رأيه، فكلّ رأى لم تتمخّض به الفكرة ليلة فهو مولود لغير تمام. قال شاعر: إذا كنت ذا رأى فكن ذا أناءة ... فإنّ فساد الرأى أن تتعجّلا وما العجز إلّا أن تشاور عاجزا ... وما الحزم إلا أن تهمّ فتفعلا قال بعض جلساء هارون الرشيد: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أنّى رأيت الرشيد يوما وقد تنفّس تنفّسا منكرا فأنشدت فى إثر تنفّسه: واستبدّت [2] مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ وممّا مدح به ذوى الرأى قول بعض الشعراء: بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كلّ أمر عواقبه وأين مفرّ الحزم منه وإنما ... مرائى الأمور المشكلات تجاربه

_ [1] يقال: انتجاه إذا أفضى اليه بسره وخصه به. [2] كذا فى ديوان عمر بن أبى ربيعة المطبوع بليبرج. وفى الأصل «فاستبدت» بالفاء.

وقال البحترىّ فى سليمان بن عبد الله: كأنّ آراءه والحزم يتبعها ... تريه كلّ خفىّ وهو إعلان ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان وقال أيضا: كأنّه وزمام الدّهر فى يده ... يرى عواقب ما يأتى وما يذر وقال آخر: يرى العواقب فى أثناء فكرته ... كأنّ أفكاره بالغيب كهّان وقال آخر: بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الخطب الخطير وأحزم ما يكون الدهر يوما ... إذا عجز المشاور والمشير ومن الناس من كره أن يشير، فمنهم عبد الله بن المقفّع؛ وذلك أنّ عبد الله ابن علىّ استشاره فيما كان بينه وبين المنصور؛ فقال: لست أقود جيشا، ولا أتقلّد حربا، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيرى أولى بالمشورة فى هذا المكان. واجتمع رؤساء بنى سعد إلى أكثم بن صيفىّ يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب؛ فقال: إنّ وهن الكبر قد فشا فى بدنى، وليس معى من حدّة الذّهن ما أبتدئ به الرأى، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإنّى إذا مرّ بى الصواب عرفته. وسيأتى خبر كلامه فى وقائع العرب؛ وإنما أوردناه فى هذا الموضع لدخوله فيه والتئامه به، ومناسبته له، لا على سبيل السهو والتّكرار لغير فائدة.

الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب

الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار قال الله تعالى إخبارا عن نبيّه يعقوب بن إسحاق حين أوصى يوسف ابنه عليهم السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . وقالت الحكماء: صدرك أوسع لسرّك. وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان فى إفشاء السرّ سفك الدّم. وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه، فلم يبده لصديق فيوشك أن يصير عدوّا فيذيعه. وقالوا: ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك. وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرّا فأفشاه فلمته، لأنّى كنت أضيق صدرا حين استودعته منه حين أفشاه. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه: إذا كان لى سرّ فحدّثته العدا ... وضاق به صدرى فللنّاس أعذر هو السّرّ ما استودعته وكتمته ... وليس بسرّ حين يفشو ويظهر وقال آخر: فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقا ... فإنّك إن أودعته منه أحمق إذا ضاق صدر المرء عن كتم سرّه ... فصدر الذى يستودع السّرّ أضيق

وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج: لا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكل نصيح نصيحا فإنّى رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إنّ أمير المؤمنين أسرّ إلىّ حديثا [ولا [1] أراه يطوى عنك ما يبسطه لغيرك] أفلا أخبرك به؟ فقال: [لا! [1]] ، يا بنىّ إنّه من كتم سرّا كان الخيار له، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا. وفى كتاب التاج: أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: إنّه لا ينبغى للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به، فإنّه أموت للسرّ وأحزم للرأى وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ فإن إفشاء السّرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأنّ الواحد رهن بما أفشى إليه، والثانى [2] مطلق عنه ذلك الرهن، والثالث [3] علاوة فيه. فإذا كان السرّ عند واحد كان أحرى ألّا يظهره رهبة ورغبة. وإن كان عند اثنين كان الملك على شبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتّهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم. وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجّة عليه. وقال علىّ رضى الله عنه: الظّفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأى، والرأى بتحصين السرّ. وقيل: من حصّن سرّه فله من تحصينه إيّاه خلّتان: إمّا الظفر بما يريد، وإما السلامة من العيب والضرر إن أخطأه الظفر. وقيل: كلّما كثر خزّان السرّ ازداد ضياعا.

_ [1] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 40 طبع دار الكتب المصرية) . [2] فى العقد الفريد «والاثنان مطلق عنهما» . [3] فى العقد الفريد «والثلاثة» (ج 1 ص 26) .

ويقال: إذا انتهى السرّ من الجنان إلى عذبة اللسان، فالإذاعة مستولية عليه. وقال عمرو بن العاص [1] : القلوب أوعية للأسرار، والشّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلّ امرئ مفتاح سرّه. قال شاعر: صن السرّ عن كلّ مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر أسيرك سرّك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته. ويقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه. وقال آخر: كتمانك سرّك يعقبك السلامة، وإفشاؤه يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السرّ أيسر من الندامة [2] على إفشائه. قال شاعر: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند الناس أفشى وأضيع وقال آخر: تبوح سرّك ضيقا به ... وتحسب كلّ أخ يكتم وكتمانك السرّ ممن تخاف ... ومن لا تخافنّه أحزم إذا ذاع سرّك من مخبر ... فأنت متى لمته ألوم وكان يقال: لا تظهر كوامن صدرك بإذاعة سرّك، فيمكربك حاسدك، ويظهر عليك معاندك. قال عمر بن أبى ربيعة: فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما ... معى فتحدّث غير ذى رقبة أهلى فقلت لها ما بى لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّى ليس يحمله مثلى

_ [1] فى كتاب أدب الدنيا والدين (ص 311) تنسب هذه الكلمة الى عمر بن عبد العزيز. [2] كذا فى المحاسن والاصاد. وفى الأصل: «من التبذل به على إفشائه» .

ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه إلى صديقه- قال الله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ . وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع. قال بعض الشعراء: وأبثثت عمرا بعض ما فى جوانحى ... وجرّعته من مرّ ما أتجرّع فلا بدّ من شكوى إلى ذى حفيظة [1] ... إذا جعلت أسرار نفسى تطلّع وقال حبيب: شكوت وما الشكوى لمثلى عادة ... ولكن تفيض الكأس [2] عند امتلائها وقال أبو الحسن بن محمد البصرىّ: تعب الهوى بمعالمى ورسومى ... ودفنت حيّا تحت ردم همومى وشكوت همّى حين ضقت، ومن شكا ... همّا يضيق به فغير ملوم ومما وصف به كتمان السرّ- قيل: أسرّ رجل إلى صديق له حديثا، فلما استقصاه قال: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسرّ؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. ومن جيّد ما قيل فى كتمان السرّ قول الأوّل: تلاقت حيازيمى على قلب حازم ... كتوم لما ضمّت عليه أضالعه [3] أؤاخى رجالا لست أطلع بعضهم ... على سرّ بعض، إنّ قلبى واسعه

_ [1] الحفيظة: اسم من المحافظة والحفاظ. [2]- هذه هى الرواية المشهورة فى البيت، وفى الأصل «تفيض النفس» . [3] فى الأصل: «أصابعه» والسياق يقتضى ما وضعنا.

قال قيس بن الخطيم: إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنثّ [1] وتكثير الحديث قمين وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنّنى ... كتوم لأسرار العشير أمين يكون له عندى إذا ما ضممته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين وقال أبو إسحاق الصابى: لسرّ صديقى مكمن [2] فى جوانحى ... تمنّع أن تدنو إليه المباحث تغلغل منّى حيث لا تستطيعه ... كؤوس النّدامى والأنيس المحادث إذا الفحص آلى جاهدا أن يناله ... تراجع عنه وهو خزيان حانث فقل لصديقى اذا [3] لم السّر آمنا ... إذا لم يكن ما بيننا فيه ثالث وهذا البيت مأخوذ من قول جميل: ولا يسمعن سرّى وسرّك ثالث ... ألا كلّ سرّ جاوز اثنين ضائع [4] وقال الصابى أيضا: وللسرّ فيما بين جنبىّ مكمن ... خفى قصىّ عن مدارج أنفاسى أضنّ به ضنّى بموضع حفظه ... فأجميه عن إحساس غيرى وإحساسى فقد صار كالمعدوم لا يستطيعه ... يقين ولا ظنّ لخلق من الناس كأنّى من فرط احتياطى أضعته ... فبعضى له واع وبعضى له ناسى

_ [1] النثّ: الإفشاء. [2] فى الأصل «ممكن» وهو تحريف. [3] كذا فى الأصل، وفيه تحريف واضح، ولم نوفق الى أصل هذا الشعر فى مصدر آخر. ولو قيل: قل لصديقى كن على السر آمنا لاستقام به الوزن والمعنى. [4] فى حماسة البحترى طبع «ليدن» ص 217. «ذائع» وفيها ينسب الشعر الى قيس بن منقلة الخزاعىّ.

ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان

وقال كثيّر: كريم يميت السرّ حتى كأنّه ... إذا استنطقوه عن حديثك جاهله رعى سرّكم مستودع القلب والحشا ... شفيق عليكم لا تخاف غوائله وأكتم نفسى بعض سرّى تكرّما ... إذا ما أضاع السرّ فى الناس حامله ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ الآية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية. وقيل: استأذن رجل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت فقال: أألج؟ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم [لخادمه [1]] : «أخرج إلى هذا وعلّمه الاستئذان وقل له يقول السلام عليكم أأدخل» . وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلّا فارجع» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الأولى إذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع [2] . وقال زياد بن أبيه لعجلان حاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الأدب؛ قال: فمن تؤخّر؟ قال: الذين لا يعبأ الله بهم؛ قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء فى الصيف وكسوة الصيف فى الشتاء.

_ [1] زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 27) [2] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «إما تأذنوا وإما رجع» .

ذكر ما قيل فى الحجاب

وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانبا؛ فقيل له: إنّك لتتباعد من الآذن جهدك؛ فقال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب. قال بعض الشعراء: رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا ونحن جلوس ساكنون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقيل لمعاوية: إنّ آذنك ليقدّم معارفه فى الإذن على وجوه الناس؛ قال: وما عليه! إنّ المعرفة لتنفع فى الكلب العقور والجمل الصّؤول، فكيف رجل حسيب ذو كرم ودين! ونظر رجل إلى روح بن حاتم وهو واقف فى الشمس عند باب المنصور، فقال له: لقد طال وقوفك فى الشمس؛ فقال: ذلك ليطول جلوسى فى الظلّ. ذكر ما قيل فى الحجاب قال خالد بن عبد الله القسرىّ أمير العراق لحاجبه: إذا أخذت مجلسى فلا تحجبنّ عنى أحدا، فإنّ الوالى يحتجب عن الرعيّة لإحدى ثلاث: إمّا لعىّ يكره أن يطّلع عليه، وإما لبخل يكره أن يسأل شيئا، وإما لريبة لا يحبّ أن تظهر منه. وقال زياد لحاجبه: ولّيتك حجابتى وعزلتك عن أربع: المنادى إلى الصلاة والفلاح، [لا تفرّجنّه عنّى فلا سلطان لك عليه [1]] ، وطارق الليل [لا تحجبه فشرّ ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء به تلك الساعة [1]] ، ورسول الثّغر فإنّه إن أبطأ ساعة فسد عمل سنة فأدخله علىّ وإن كنت فى لحافى، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.

_ [1] زيادة عن العقد الفريد ج 1 ص 27

وقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفّان رضى الله عنه وقد اشتغل بمصلحة للمسلمين فحجبه؛ فقال له رجل وأراد إغراءه: يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضرىّ فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومى من أقف ببابه فيحجبنى. واستأذن أبو الدّرداء على معاوية بن أبى سفيان فحجبه؛ فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه بابا مفتوحا إن دعا أجيب وإن سأل أعطى. قال محمود الورّاق: شاد الملوك قصورهم فتحصّنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا [1] فى قبح وجه الحاجب فإذا تلطّف فى الدخول إليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضّراعة طالبا من طالب قال أبو مسهر: أتيت إلى باب أبى جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان، فحجبنى فكتبت إليه: إنى أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك لى الأستار والحجب وقد علمت بأنى لم أردّ ولا ... والله ما ردّ إلّا العلم والأدب فأجابه ابن عبدكان: لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب وقف إلى باب محمد بن منصور رجل من خاصّته فحجب عنه، فكتب إليه: على أىّ باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذى أنا حاجبه

_ [1] تنوّقوا: جوّدوا وبالغوا.

وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشمييّن، فطلب الإذن؛ فقيل له: تكون لك عودة [1] ؛ فقال: لئن عدت بعد اليوم إنّى لظالم ... سأصرف وجهى حين تبغى المكارم متى يظفر الغادى إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم ونظيره قول العمانىّ [2] : قد أتيناك للسلام مرارا ... غير منّ بنا [3] بتلك المرار [4] فإذا أنت فى استتارك باللي ... ل [على [5]] مثل حالنا بالنّهار وقال أبو تمّام: سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتّى يلين قليلا فما خاب من لم يأته متعمّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم أجد للإذن عندك موضعا ... وجدت إلى ترك المجىء سبيلا وقال آخر: أتيتك للتسليم لا أننى امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك فألفيت بوّابا ببابك مغرما ... بهدم الذى وطّدته من فضائلك وقال العمانىّ: إذا ما أتيناه فى حاجة ... رفعنا الرّقاع له بالقصب له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب وقال آخر: يا أبا موسى وأنت فتى ... ماجد حلو ضرائبه [6]

_ [1] فى الأصل: «يكون له دعوة» وهو تحريف والتصويب عن العقد الفريد (ج 1 ص 28) [2] فى العقد الفريد: «العتابى» . [3] لعله «منا» ويؤيد هذا رواية العقد الفريد. [4] فى العقد الفريد: «غير من منا بذاك المزار» . [5] زيادة من العقد الفريد ج 1 ص 28 [6] ضرائب: جمع ضريبة، وهى الطبيعة والسجية.

ذكر ما قيل فى النهى عن شدة الحجاب

كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه وقف عبد الله بن العباس بن الحسين العلوىّ على باب المأمون يوما، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق؛ فقال عبد الله لقوم معه: إنه لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، فأمّا الفترة بعد النّظرة، والتوقّف بعد التعرّف، فلا أفهمه، ثم تمثّل: وما عن رضا كان الحمار مطيّتى ... ولكنّ من يمشى سيرضى بما ركب وانصرف؛ فبلغ المأمون كلامه، فصرف الحاجب وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دوابّ. وحجب بعض الهاشميّين فرجع مغضبا فردّ فلم يرجع، وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب قيل: لا شىء أضيع للمملكة وأهلك للرعيّة من شدّة الحجاب، لأنّ الرعيّة إذا وثقت بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، وإذا وثقت بصعوبته هجمت على الظلم. وهذا مخالف لوصيّة زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع لكثرة نظرها إليها. قال سعيد بن المسيّب: نعم الرجل عبد العزيز لولا حجابه! وعن علىّ رضى الله عنه: إنما أمهل فرعون مع دعواه ما ادّعاه لسهولة إذنه وبذل طعامه. وقال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لابنه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ الآن يزعم أنه ابن بلال مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولى شيئا من أمور المسلمين ثم حجب عنه حجبه الله يوم القيامة؛ فقال لحاجبه: الزم بيتك. فما رئى على بابه بعده حاجب.

وقال عمرو بن العاص لابنه وقد ولّى ولاية: انظر حاجبك فإنّه لحمك ودمك، ولقد رأيتنا بصفّين وقد أشرع قوم رماحهم فى وجوهنا يريدون نفوسنا مالنا ذنب إليهم إلا الحجاب. وقيل: ولّى المنصور حجابته الخصيب [1] فقال: إنّك بولايتى عظيم القدر، وبحجابتى عظيم الجاه، فبقّها على نفسك، ابسط وجهك للمستأذنين، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شىء أوقع بقلوبهم من سهولة الإذن وطلاقة الوجه. قال سليمان بن زيد النابلسىّ: سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنّه لا بدّ أن سيلين خذوا حذركم من نبوة الدّهر إنّها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين وقال آخر: كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار فى ذمّته قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الذمّ [2] على نعمته وقال أعرابىّ: لعمرى إن حجبتنى العبيد ... ببابك ما تحجب القافيه سأرمى بها من وراء الحجاب ... فتعدو عليك بها داهيه تصمّ السميع وتعمى البصير ... وتسأل من مثلها العافيه وقال جعفر المصرىّ: [و] تفضّل علىّ بالإذن إن جئ ... ت فإنّى مخفّف فى اللقاء ليس لى حاجة سوى الحمد والشّك ... ر فدعنى أقريك حسن الثناء

_ [1] فى الأصل: «للخصيب» ولعله تحريف، فان الفعل ينصب المفعولين بنفسه. [2] كذا فى عيون الأخبار (مجلد 1 ص 85) وهو الأنسب بالسياق، وفى الأصل: «وسلط الدهر»

الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك

الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك ذكر ما قيل فى الوزارة وشروطها واشتقاقها وما يحتاج الوزير إليه قال الله عزّ وجلّ إخبارا عن موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد [1] أعظم أجرا من وزير صالح يكون مع إمام فيأمر بذات الله تعالى» . قالت الحكماء: أعرف الملوك يحتاج إلى الوزير، وأشجع الرجال يحتاج إلى السلاح، وأجود الخيل يحتاج الى السّوط، وأحدّ الشّفار يحتاج الى المسنّ. وقالوا: صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء، ولا يصلح الملك إلا لأهله، ولا تصلح الوزارة إلا لمستحقّها. وقالوا: أفضل عدد الملوك صلاح للوزراء الكفاة، لأن فى صلاحهم صلاح قلوب عوامّهم لهم. وقالوا: خير الوزراء أصلحهم للرعيّة، وأصدقهم نيّة فى النصيحة، وأشدّهم ذبّا عن المملكة، وأسدّهم بصيرة فى الطاعة، وآخذهم لحقوق الرعيّة من نفسه وسلطانه. وقالوا: الوزير الخيرّ لا يرى أنّ صلاحه فى نفسه وسلطانه كائن صلاحا حتى يتّصل بصلاح الملك ورعيّته، وتكون عنايه فيما عطّف الملك على عامّته، وفيما

_ [1] ورد هذا الحديث فى «قوانين الوزارة» للماوردى هكذا: «ما من رجل من المسلمين أعظم أجرا من وزير صالح مع إمام يطيعه ويأمره بذات الله تعالى» .

ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه

استعطف قلوب العامّة على الطاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبير، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه. وإذا تطرّقت الحوادث ودهمت العظائم كان للملك عدّة وعتادا، وللرعيّة كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابّا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه [1] من صلاح نفسه دونها. ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه أما اشتقاقها فقد اختلف فى معناه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه مشتقّ من الوزر وهو الثّقل، لأنه يحمل عن الملك أثقاله. والثانى أنّه مشتقّ من الأزر وهو الظّهر، لأن الملك يقوى بوزيره كقوّة البدن بظهره. والثالث أنه مشتقّ من الوزر- وهو الملجأ- ومنه قوله تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ أى لا ملجأ؛ لأن الملك يلجأ الى وزيره ومعونته. وأما صفة الوزير وما يحتاج إليه، فقد قال أقضى القضاة أبو الحسن على ابن محمد بن محمد بن حبيب الماوردىّ فى كتابه المترجم «قوانين الوزارة» ما معناه: إن الوزير فى منصب مختلف الأطراف، يدبّر غيره من الرعايا ويتدبّر بغيره من الملوك، فهو سائس ومسوس يقوم بسياسة رعيّته وينقاد لطاعة سلطانه، فيجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكره جاذب لمن يسوسه، وشطره مجذوب بمن يطيعه؛ لأن الناس بين سائس، ومسوس، وجامع بينهما، و [له [2]] هذه المرتبة الجامعة؛ فهو يجمع ما اختلف من أحكامها، ويستكمل ما تباين من أقسامها؛ وبيده تدبير مملكة صلاحها

_ [1] فى الأصل: «يعينه فى صلاحها ما لا يعينه من ... » وظاهر أنه تحريف. [2] زيادة أصلها فى قوانين الوزارة: «ولك هذه الرتبة الجامعة» والكلام هناك لمخاطب وهاهنا لغائب.

مستحقّ [1]] عليه، وفسادها منسوب إليه؛ يؤاخذ بالإساءة ولا يعتدّ له بالإحسان، تلان له المبادئ [بالإرغاب [1]] وتشدّد [2] عليه الغايات بالإعتاب [3] ، مستظهرا ليكفى [4] اعتداد الإحسان إليه، ويسلم من غبّ المؤاخذة له، ويلزمه ضدّها فى حقّ سلطانه ألّا يعتدّ عليه بصلاح ملكه، لأنّه للصلاح مندوب، ولا يعتذر إليه من اختلاله [5] ، لأن الاختلال إليه منسوب. والوزير مباشر لتدبير ملك له أسّ هو الدّين المشروع، ونظام هو الحقّ المتبوع. فإن جعل الدّين قائده، والحقّ رائده؛ تذلّل له كلّ صعب، وسهل عليه كلّ خطب؛ لأن للدّين أنصارا وأعوانا، إن قعدت عنه أجسادهم لم تقعد عنه قلوبهم. وحسبه أن [تكون [6]] القلوب معه، فإن للدّين سلطانا قد انقادت اليه إمامته، واستقرّت عليه زعامته [7] . فإن جعله ظهيرا [8] له فى أموره، وعونا له على تدبيره، يجد من القلوب خشوعا، ومن النفوس خضوعا؛ فما اعتزت مملكة إليه إلا صالت، ولا التحفت بشعاره إلا طالت. ولن يستغزر الوزير موادّه إلا بالعدل والإحسان، ولن يستنزرها بمثل الجور والإساءة؛ لأن العدل استثمار دائم، والجور استئصال منقطع. وليس يختصّ بالأموال دون الأقوال والأفعال؛ فعدله فى الأموال أن تؤخذ بحقّها وتدفع إلى مستحقّها؛ لأنه فى الحقوق سفير مؤتمن، وكفيل مرتهن؛ عليه غرمها، ولغيره غنمها. وعدله فى الأقوال ألّا يخاطب الفاضل بخطاب المفضول، ولا العالم بخطاب الجهول؛ ويقف فى الحمد والذّمّ على حسب الإحسان والإساءة، ليكون

_ [1] الزيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] فى الأصل «تشد» وما أثبتناه عن قوانين الوزارة. [3] كذا فى قوانين الوزارة وهو ما يقتضيه السجع. وفى الأصل: «بالإعنات» . [4] فى هذه الجملة كلها شىء من الغموض. [5] كذا فى «قوانين الوزارة» وفى الأصل: «ولا يعتذر إليه من إضلاله لأن الإضلال ... الخ» [6] فى قوانين الوزارة: «دعامته» . [7] الزيادة عن «قوانين الوزارة» . [8] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ظهرا» .

إرغابه وإرهابه وفق أسبابهما من غير سرف ولا تقصير؛ فلسانه ميزانه، فليحفظه من رجحان أو نقصان. وعدله فى الأفعال ألّا يعاقب إلا على ذنب، ولا يعفو إلا عن إنابة، ولا يبعثه السّخط على اطّراح المحاسن، ولا يحمله الرضا على العفو عن المساوئ. وليكن وفاؤه بالوعد حتما [1] ، وبالوعيد حزما؛ لأن الوعد حقّ عليه لغيره يسقط فيه اختياره، والوعيد حقّ له على غيره فهو فيه على خياره. فمن أجل ذلك لم يجز إخلاف الوعد وإن جاز إخلاف الوعيد. قال بعض الشعراء: وإنى إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدى لكن ينبغى أن يقرن بخلف الوعيد عذرا حتى لا يهون وعيده؛ ليكون نظام الهيبة محفوظا، وقانون السياسة فيه مضبوطا؛ وليظهره إن خفى ليكون بإخلاف وعيده معذورا، وبعفوه عنه مشكورا. ولتكن أفعاله أكثر من أقواله؛ فإن زيادة القول على الفعل دناءة وشين، وزيادة الفعل على القول مكرمة وزين. ولا يجعل لغضبه سلطانا على نفسه يخرجه عن الاعتدال الى الاختلال؛ فلن يسلم بالغضب رأى من زلل، ولا كلام من خطل؛ لأن ثورته طيش معرّ، ونفرته بطش مضرّ؛ لأنه يخرج عن التأديب الى الانتقام، وعن التقويم الى الاصطلام [2] . قال ابن عبّاس: لم يمل إلى الغضب إلّا من أعياه سلطان الحجّة. وقال بعض السّلف: إيّاك وعزّة الغضب، فإنها تفضى بك الى ذلّ الاعتذار. وقال بعض الحكماء: من كثر شططه، كثر غلطه. قال بعض الشعراء: ولم أر فى الأعداء حين اختبرتهم ... عدوّا لعقل المرء أعدى من الغضب

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «جسيما» . [2] الاصطلام: القطع والاستئصال.

وليكن غضبه تغاضبا يملك به عزمه، ويقوّم به خصمه، فيسلم من جور غضبه ويقف على اعتدال تغاضبه. فقد قيل فى بعض صحف بنى إسرائيل: إذا كان الرجل ذا غضب تواترت عليه الوضائع [1] ، فكلّما اشتدّ غضبه ازداد بلاء. وقد يقترن بالغضب لجاج يساويه فى معرّته، ويشاركه فى مضرّته؛ لأن فى اللّجاج التزام الخطأ واطّراح الصواب. فليدع عنه لجاج الخصم الألدّ، وليتجنّب عواقب المدل الفدم [2] . وليتابع الرأى فيما اقتضاه؛ فلأن ينتفع بالرأى خير من أن يستضرّ بالّلجاج. فقد قال بعض الحكماء: من استعان بالرأى ملك، ومن كابر الأمور هلك. وقال ابن المقفّع: دع اللّجاج فإنه يكسر عزائم العقول. وقيل: الظّفر لمن احتجّ، لا لمن لجّ. وليأخذ الوزير أموره بالجدّ دون الهزل. فالجدّ والهزل ضدّان متنافران؛ لأن الجدّ من قواعد الحقّ الباعث على الصلاح، والهزل من مرح الباطل الداعى إلى الفساد؛ فصار فرق ما بين الجدّ والهزل هو فرق ما بين الحقّ والباطل. وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينهما [3] ؛ فمتى انفرد بأحدهما كان للآخر تاركا. وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك [4] بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، واستعمل الجدّ ينقد إليك الحقّ ويفارقك الباطل. ولا تعدل إلى الهزل فيتبعك الباطل وينافرك الحقّ. وقلّما انثلمت هيبة الجدّ أو تكاملت هيبة الهزل. والهيبة أسّ السلطنة.

_ [1] الوضائع: الأثقال. [2] الفدم: الغليظ الأحمق الجافى وفى الأصل «المدل الندم» وفى قوانين الوزارة: «النذل الفدم» . وما أثبتناه مختارا من الأصل ومن قوانين الوزارة هو المناسب للسياق. [3] كان الظاهر أن تكون الجملة: وتنافر الضدين يمنع من الجمع بينهما، أو: وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينها، ليوافق الضمير مرجعه. [4] فى قوانين الوزارة: «فقاتل هواك ... » وكلتا الكلمتين يستقيم بها المعنى.

حكى عن عمرو بن مرّة أن رجلا من قريش قال لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه: لن لنا فقد ملأت قلوبنا مهابة؛ فقال عمر: أفى ذلك ظلم؟ قال: لا؛ قال: فزادنى الله فى صدوركم مهابة. وقال حكيم الهند: ليكن [فيك [1]] مع طلاقتك تشدّد، لئلّا يجترأ عليك بالطلاقة وينفر منك بالتشدّد. والهزل إنما يكون من سخف أو بطر يجلّ عنهما من ساس الرعايا ودبّر الممالك. وسأل ملك الهند الإسكندر [وقد دخل بلاده [2]] : ما علامة [دوام [3]] الملك؟ قال: الجدّ فى كلّ الأمور؛ قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيها. وليس الكبر والعنف جدّا، ولا التواضع واللطف هزلا. قالوا: وإن استكدّ الجدّ خاطره فلا بأس أن يستروح ببعض الهزل ليستعين به على مصابرة الجدّ، لكن يكون فى زمان راحته وأوقات خلوته بمقدار دوائه من دائه، فإن الكلال ملال [4] . وليكن ذلك كما قال بعض الشعراء: أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة ... يجمّ وعلّله بشىء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطى الطعام من الملح وكذلك فليتحرّ الصدق ويتجنّب الكذب، فإنّهما ضدّان متنافران تختلف عللهما وتفترق نتائجهما؛ فالصدق من لوازم العقل وهو أسّ الدّين وقوام الحقّ؛ والكذب من غرائز الجهل وهو زور يقترن بغرور، إن التبست أوائله انهتكت [5] أواخره، وإن جرّ التباسه نفعا عاد انهتاكه ضررا، فلن يسلم من معرّة زوره، ومضرّة غروره. وقد قدّمنا من مدح الصدق فى باب المدح، وذمّ الكذب فى باب الهجاء، ما فيه غنية عن تكراره. وحيث ذكرنا هذه المقدّمة فى اشتقاق الوزارة وما يحتاج الوزير إليه فلنذكر صفة الوزارة وشروطها.

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ملول» . [5] كذا فى قوانين الوزارة، والمصدر الآتى يعينه، وفى الأصل «انتهكت» .

ذكر صفة الوزارة وشروطها

ذكر صفة الوزارة وشروطها قال أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ: والوزارة ضربان: وزارة تفويض تجمع بين كفايتى السيف والقلم، ووزارة تنفيذ تختصّ بالرأى والحزم. ولكل واحدة منهما حقوق وشروط. فأما وزارة التفويض فهى: الاستيلاء على التدبير بالعقد، والحلّ، والتقليد والعزل. فأما العقد فيشتمل على شرطين: تنفيذ [1] وإقدام. [وأما الحلّ [2]] فيشتمل على شرطين: دفاع وحذر. وكلّ شرط من هذه الأربعة الشروط يشتمل على فصول. فأما الشرط الأول، وهو التنفيذ، فهو أسّ [3] الوزارة وقاعدة النيابة، وهو الأخصّ بكفاية القلم فى مصالح الملك واستقامة الأعمال. ويشتمل على أربعة أقسام: الأوّل- تنفيذ ما صدرت به أوامر الملك. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما أن يتصفّحها من زلل فى ابتدائها، ويحرسها من خلل فى أثنائها [4] ؛ ليردّه عن زللها باللطف، ويقوّى عزمه على صوابها بالإحماد. وقد قال أفلاطون: أوّل رياضة الوزير أن يتأمّل أخلاق الملك ومعاملته، فإن كانت شديدة فظّة عامل الناس بدونها، وإن كانت ليّنة مطلقة عاملهم بأقوى منها، ليقرب من العدل فى سعيه. والثانى:

_ [1] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» وهو ما يقتضيه سياق التقسيم الآتى. وفى الأصل: «دفاع وإقدام» . [2] التكملة عن قوانين الوزارة، ومكانها فى الأصل بياض. [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «فالشرط الأول وهو التنفيذ وهو أس ... الخ» . [4] فى الأصل: «فى انتهائها» وما أثبتناه هنا عن قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه المعنى، إذ لا معنى للحراسة فى الانتهاء.

تعجيل إمضائها للوقت المقدّر لها حتى لا يقف فيوحش، [لأن وقوف أوامره يوحش [1]] وهو مندوب للتنفيذ دون الوقوف. وقد قال حكيم الهند: العجلة فى الأمر خرق، وأخرق منه التفريط فى الأمر بعد القدرة عليه. ودرك [2] هذا التنفيذ عائد على الملك دون الوزير. القسم الثانى- تنفيذ ما اقتضاه رأى الوزير من تدبير المملكة. فعليه فى إمضائه حقّان: أحدهما أن يراعى [3] أولى الأمور فى اجتهاده، وأصوبها فى رأيه، لأنه مندوب لأصلحها ومأخوذ بأصوبها. والثانى أن يطالع الملك به إن جلّ، ويجوز أن يطويه إن قلّ، ليخرج عن الاستبداد المنفّر، ويسلم من الحقد المؤثّر. وقال حكيم الهند: الأحقاد مؤثّرة حيث كانت، وأخوفها ما كان فى أنفس الملوك، لأنهم يدينون بالانتقام ويرون التطلّب بالوتر مكرمة وفخرا. فإن عارضه الملك فى رأيه بعد المطالعة به لم يستوحش من معارضته، لأنه مالك مستنيب، وظانّ مستريب؛ وقابل بين رأيه ومعارضته، واستوضح من الملك أسباب المعارضة بلطف إن خفيت، فإن وضح صوابها توقّف عن رأيه وشكره على استدراك زلله وتلافى خلله وقد منّ عليه ولم يؤنّب. وإن كان الصواب مع الوزير تلطّف فى إيضاح صوابه، وكشف علله وأسبابه. فإن ساعده على إمضائه أمضاه؛ وكان درك تنفيذه عائدا على الوزير دون الملك. وإن لم يساعده عليه توقّف انقيادا لطاعته؛ وكان درك وقوفه عائدا على الملك دون الوزير. والقسم الثالث- تنفيذ ما صدر عن خلفائه على الأعمال التى فوّضها إلى آرائهم ووكلها إلى اجتهادهم. فإن تفرّدوا بتنفيذها أمضاها لهم ولم يتعقّبها عليهم ما لم

_ [1] زيادة عن قوانين الوزارة. [2] الدّرك: التبعة. [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «أن يكون» .

يتحقّق زللهم فيها؛ وكان درك تنفيذها عائدا على العمّال دون الوزير. وإن وقفوها على تنفيذ الوزير فعليه فى تنفيذها حقّان: أحدهما أن يستكشف عن أسبابها، ليعلم خطأها من صوابها. والثانى تقوية أيديهم ونفى الارتياب عنهم، فإن ظهور الارتياب مجشّة [1] للقلوب. فإن نفّذها لهم حين لم يتحقّق زللهم فيها كان درك تنفيذها عائدا على الوزير دون العمّال. والقسم الرابع- تنفيذ أمور الرعايا على ما ألفوه من عادات ومعاملات اختلفوا فيها حين ائتلفوا بها، لأنّ الناس مجبولون على الحاجة إلى أنواع لا يقدر الواحد أن يقوم بجميعها، فخولف بين هممهم لينفرد كلّ قوم بنوع منها فيأتلفوا بها، فيقوم الزرّاع بمزارعهم، ويتشاغل الصنّاع بصنائعهم، ويتوفّر التجّار على متاجرهم. وعليه فى تنفيذها لهم حقّان: أحدهما ألّا يعارض صنفا منهم فى مطلبه، والثانى ألّا يشاركه فى مكسبه. وربما كان للسلطان رأى فى الاستكثار من أحد الأصناف فينقل إليه من لم يألفه فيختلّ النظام بهم فيما نقلوا عنه وفيما نقلوا إليه. وربما ضنّ السلطان عليهم بمكاسبهم فتعرّض لها أو شاركهم فيها فاتّجر مع التجار وزرع مع الزرّاع. وهذا وهن فى حقوق السياسة وقدح فى شروط الرياسة من وجهين: أحدهما أنه إذا تعرّض لأمر، قصرت فيه يد من عداه؛ فإن تورك عليه لم ينهض به، وإن شورك فيه ضاق على أهله. وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما عدل وال اتّجر فى رعيّته» . والثانى لأن الملوك أشرف الناس منصبا فخصّوا بموادّ السلطنه، لأنها أشرف الموادّ مكسبا. فإن زاحموا العامّة فى رذل [2] مكاسبهم أوهنوا الرعايا ودنّسوا

_ [1] كذا فى الأصل، والمجشة بكسر الميم: الرحا، من جش الشىء: دقه وكسره، وفى «قوانين الوزارة» : «فإن ظهور الارتياب لخيبة» . [2] فى قوانين الوزارة: «فى درك مكاسبهم» .

الممالك؛ وعاد وهنهم عليها فاختلّ نظامها، واعتلّ مرامها. وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال «إذا اتّجر الراعى هلكت الرعيّة» . وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: أىّ ملك تطنّف [1] نفسه إلى المحقّرات فالموت أكرم له. فهذا ما اشتمل عليه الشرط الأوّل. وأما الشرط الثانى من شروط وزارة التفويض، فهو الدفاع. وهو أسّ السلطنة وقانون السياسة والأخصّ بكفاية السيف فى تدبير الملك وضروب المصالح. ويشتمل على أربعة أقسام: أحدها الدفاع عن الملك من الأولياء، والثانى الدفاع عن المملكة من الأعداء، والثالث دفاع الوزير عن نفسه من الأكفاء، والرابع دفاعه عن الرعية من خوف [2] واختلال. فالقسم الأول فى دفاعه عن الملك من أوليائه- ويكون بثلاثة أسباب: أحدها أن يقودهم إلى طاعته بالرغبة، ويكفّهم عن معصيته بالرهبة؛ فإن الرغبة والرهبة إذا تواليا على النفس ذلّت لهما وانقادت خوفا وطمعا، وبهما تعبّد الله الخلق فى وعده ووعيده. والثانى أن يقوم بكفايتهم حتى لا ينفروا بالقوّة أو يتفرّقوا بالضعف؛ وكلاهما قدح فى الملك. والثالث أن يحفظهم من الإغواء، ويحرسهم من الإغراء؛ وذلك بأمرين: أحدهما البحث عن أخبارهم حتى يعلم سليمهم من سقيمهم. والثانى بإبعاد المفسدين عنهم حتى لا يتعدّى إليهم فسادهم؛ فإن الكفّ بحسب الكشف.

_ [1] تطنفت نفسه الى الشىء: أشفت وأشرفت عليه. وفى قوانين الوزارة «تطلعت» بدل «تطنفت» . [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » وهو تحريف.

والقسم الثانى فى دفاعه عن المملكة من أعدائها- وأعداء الممالك [1] من انفرد بملك أو امتنع بقوّة. وهم ثلاثة أصناف: أكفاء مماثلون، وعظماء متقدّمون، وناجمة منافسون. فأما الأكفاء المماثلون فيدفعون بالمقاربة والمسالمة. وأما العظماء المتقدّمون فيدفعون بالملاطفة والملاينة. وأما الناجمة المنافسون فيدفعون بالسوط والمخاشنة. والقسم الثالث فى دفاع الوزير عن نفسه من أكفائه- ويكون بعد استصلاح الطرفين: الأعلى وهو الملك، والأدنى وهم الأعوان. وأكفاؤه ثلاثة: واتر، وموتور، ومنافس. فأما الواتر- فقد بدأ بشرّه وجاهر بعداوته؛ وكلاهما بغى مؤنس [2] بالنصر عليه. وللوزير فى ترته حقّان: حقّ فى مقابلته على ما قدّم من ترته، وحق فى استدفاع ما جاهر به من عداوته. فأما حقه فى المقابلة، فإن عفا الوزير عنها كان بالفضل جديرا، وإن قابل كان فى المقابلة معذورا. وقد قيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفى [لأن لذّة العفو يتبعها الحمد ولذة التشفى يعقبها الندم [3]] . قال الشاعر: فإنّك تلقى فاعل الشّرّ نادما ... عليه ولم يندم على الخير فاعله وأما حقّه فى استدفاع شرّه، فقد أيقظته مجاهرته، وأوهن كيده مظاهرته. وقد قيل فى منثور الحكم: أوهن الأعداء كيدا أظهرهم بعداوته. فاحذر بادرته وادفع [4] عداوته. ودفعها مختلف باختلاف طباعه فى انثنائه بالرغبة وتقويمه بالرهبة.

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه السياق، فان الكلام فى أعداء المملكة. وفى الأصل: «وأعداء الملك» . [2] مؤنس: يوقع فى القلب أنسا وطمأنينة بالظفر به. [3] زيادة عن قوانين الوزارة. [4] كان ينبغى أن تكون الجملة «فليحذر ... وليدفع ... » لأن الكلام هنا لغائب هو الوزير. لكنها منقولة من قوانين الوزارة- والكلام فيه لمخاطب- من غير تغيير.

وأما الموتور- فقد بودئ بالإساءة فصبر عليها، وجوهر بالعداوة فأخفاها؛ فله ترة مظلوم ووثبة مختلس، فتتوقّى ترة ظلامته بالاستعطاف، ووثبة مخالسته بالاحتراز. وأما المنافس- فهو طالب رتبة إن نال منها سدادا من عوز ياسر، وإن ضويق فيها نافر. فليرخ [1] الوزير له عنان الأمل، وليخفض [2] له جناح منافسته بالاستنابة والعمل؛ ليندفع بالمياسرة عن المنافرة. وليغالط [3] به الأيام، فإن الساعات تهدم الأعمار، ولا يجعل له فراغا يتشاغل فيه بمساءته، ويجعله عذرا فى السعى على منزلته. فإن ساق القضاء إليه حظّا كان له مصطنعا، يرعى له حقوق الاصطناع. فقد قيل: [من [4]] علامة الإقبال، اصطناع الرجال. فإن صدّه القضاء عن إرادته وعجّزه القدر عن طلبته كفى الوزير منه ما خافه [وقد أحسن [5]] ، ووصل إلى ما أراده [وقد أجمّ [6]] ، وأوجب بإحسانه شكرا، وأقام بإجمامه عذرا، اجتذب بهما قياد منافسه إلى طاعته، وصرفه بهما عن التعرّض لمنافسته. فهنالك يجعله قبلة رجائه؛ إذ لم يحظ بخير إلّا منه، ولم يقض من زمان وطرا إلّا به. وقد قيل فى منثور الحكم: من استصلح الأضداد، بلغ المراد.

_ [1] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [2] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [3] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب. [4] زيادة عن قوانين الوزارة. [5] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة. [6] زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله: «وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة.

وربما تعرّض لعداوة الوزير من قصّر عن رتبة منافسته. فليعطه [1] من رجائه طرفا، وليقبض [2] من زمامه طرفا، وليختبره [3] فيهما، فسيقف على صلاحه أو فساده. فإن صلح سوعد، وإن فسد بوعد. فقد قال أردشير بن بابك: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وقد قيل فى منثور الحكم: علّة المعاداة، قلّة المبالاة. والقسم الرابع فى الدفاع عن الرعية من خوف [4] واختلال- فالخوف من نتائج الخرق [5] ، والاختلال من نتائج الإهمال؛ وكلاهما من سوء السّيرة وفساد السياسة، [لتردّدهما بين تفريط وإفراط، وخروجهما عن العدل إلى تقصير أو إسراف [6]] . وهم قوام الملك المستمدّ، وذخيرة المستعدّ. وليس يستقيم ولن يستقيم ملك فسدت فيه أحوال الرعايا، لأنّه منهم بمنزلة الرأس من الجسد لا ينهض إلا بقوّته ولا يستقلّ إلا بمعونته. وعلى الوزير لهم ثلاثة حقوق: أحدها أن يعينهم على صلاح معايشهم ووفور مكاسبهم، لتتوفّر بهم موادّه، وتعمر بهم بلاده. والثانى أن يقتصر منهم على حقوقه، ويحملهم فيها على إنصافه، ليكونوا على الاستكثار أحرص، وفى الطاعة أخلص؛ ولا يكلهم فى مقادير الحقوق الى غيره، ليكونوا له أرجى وعليه أحنى.

_ [1] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [2] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [3] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة. [4] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف ... » . [5] فى الأصل: «فالحزف من نتائج الخوف» . وبما أثبتناه يستقيم الكلام، فان الخرق يلزمه مجاوزة الحد والخروج عما يقضى به العدل، وهو بهذا المعنى إفراط وإسراف يقابله الاهمال الذى هو التفريط والتقصير. وفى الحق أن خوف الرعية نتيجة لازمة للخرق بهذا المعنى. على أن صورة ما أثبتناه أقرب شىء لصورة الأصل. [6] زيادة عن قوانين الوزارة.

والثالث أن يحوطهم بكفّ الأذى عنهم، ومنع الأيدى الغالبة منهم؛ ليكون لهم كالأب الرءوف ويكونوا له كالأولاد البررة؛ فإنّه كافل مسترعى ومسئول مؤاخذ. ولله عليه فيهم حقّ، وللسلطان عليه فيهم [1] تبعة. فليغتنم الوزير بهم شكر إحسانه، ويجمّل بعدله فيهم آثار سلطانه. وأما الشرط الثالث من شروط وزارة التفويض وهو الإقدام، فهو فى السياسة أوفى شطريها [2] ، وفى الوزارة أكفى [3] نظريها؛ لظفر الإقدام، وخيبة الإحجام. وقد قيل فى منثور الحكم: بالإقدام تثبت الأقدام. وإنما يجب الإقدام إذا ظهرت أسبابه، وقصدت أبوابه. قال الشاعر: إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدى ثم يجمع بعدهما بين حزمه وعزمه. فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأى، والعزم تنفيذها للوقت المقدّر لها. فإذا تكاملت شروط الإقدام من هذه الوجوه الأربعة- وهى: ظهور أسبابه، وقصد أبوابه، والحزم، والعزم- لم يمنع من الظّفر، إلا عوائق القدر. والإقدام ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإقدام على اجتلاب المنافع، والثانى على دفع المضارّ. فأما الإقدام على اجتلاب المنافع فضربان: أحدهما استضافة ملك، والثانى استزادة موادّ. فأما استضافة الملك فتكون بالحزم والعزم إذا اقترنا برغبة أو رهبة. ولأن تكون بالاغتيال والاحتيال، أولى من أن تكون بالقتال. وأما استزادة الموادّ فتكون بالعدل والإحسان إذا اقترنا برفق ومياسرة لتكثر بهما العمارة وتتوفّر بهما الزراعة؛ فإنّ الأرض كنوز الملك يستخرجها أعوان متطوّعون يقنعهم

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «منهم تبعة» . [2] فى قوانين الوزارة: «أو فى شرطها» . [3] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الاصل «أو فى نظريها» .

الكفّ عنهم ويقطعهم العسف بهم. وأما الإقدام على دفع المضارّ فضربان: أحدهما. دفع ما اختلّ من الملك. وله سببان: إهمال أو عجز. والثانى دفع ما نقص من الموادّ. وله سببان: نفور أو جور. فيحتاج الوزير أن يدفع ضرر كلّ واحد منهما بالضدّ [من سببه، فإن علاج كل داء بضده [1]] من الدواء. فإن كان اختلال الملك من الإهمال أيقظ له عزمه، وإن كان من العجز استعمل فيه حزمه. وإن كان نقص الموادّ من النفور استنجد فيه رهبته، وإن كان من الجور أظهر فيه معدلته. فإن كان حدوث ذلك فى الملك صدر عن الوزير كان مؤاخذا بتفريطه فى الابتداء، ومستدركا لتقصيره فى الانتهاء؛ فيجبر إساءته بإحسانه، ويمحو قبيحه بجميله. وإن كان حدوثه من غيره كانت جريرة الإساءة على من أحدثه، وكان حمد الإحسان للوزير. وأما الشرط الرابع من شروط وزارة التفويض وهو الحذر- فيتعيّن على الوزير أن يكون حذرا، لأنّ الدهر ثائر بطوارقه، ومنافر بنوائبه، يغدر إن وفى، ويفتك إن هفا. قال عبد الحميد: أصاب الدنيا من حذرها، وأصابت الدنيا من أمنها. وقال عبد الملك بن مروان: احذروا الجديدين، فللأقدار أوقات تغضى عنها الأبصار. فإذا صادفت طوارق الدهر غرّا مسترسلا صار هدفا لسهامه الصوائب، وغرضا لمنافرة الحوادث والنوائب. وقد قال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس، زال عنه العزّ واستولى عليه العجز؛ وإن قدّم لطوارقه حذر المتيقّظ، وتلقّاها بعدّة المتحفّظ، ردّ بادرتها بعزم ذى حزم قد حلب أشطر دهره، وقام بواضح عذره. قال بعض الشعراء: إنّ للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت الدّهورا

_ [1] التكملة عن «قوانين الوزارة» .

ثم هو بعد حذره مستسلم لقضاء لا يردّ؛ وقدر لا يصدّ. وقد روى عن أبى الدّرداء رضى الله عنه عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: «احذروا الدنيا فإنّها أسحر من هاروت وماروت» . وقيل لبعض الحكماء: من السعيد؟ قال: من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه. قال بعض الشعراء: وحذرت من أمر فمرّ بجانبى ... لم يبكنى ولقيت ما لم أحذر وللحذر حدّ يقف عنده إن زاد [عليه [1]] صار خورا، كما أن للإقدام حدّا إن زاد عليه صار تهوّرا. والزيادة على الحدود، نقص فى المحدود. ولهما زمان إن خرجا عنه صار الحذر فشلا، والإقدام خرقا. وعيارهما معتبر بحزم العاقل ويقظة الفطن. قال بعض الحكماء: ليعرفك السلطان عند افتتاح التدبير بالحذر، وعند وقوع الأمر بالجدّ. والحذر يلزم من أربعة أوجه: أحدها الحذر من الله تعالى فيما فرض. والثانى [الحذر [2]] من السلطان فيما فوّض. والثالث الحذر من الزمان فيما اعترض. والرابع الحذر من [غلبة [3]] الأعداء ومكر الدّهاة. فأما الحذر من الله تعالى- فهو عماد الدّين الباعث على الطاعة. والحذر منه هو الوقوف عند أوامره، والانتهاء عن زواجره؛ فيعمل بطاعته فيما أمر، وينتهى عن معصيته فيما حظر. فلن يرى قليل الحذر إلا متجوّزا فى دينه طائحا فى غلوائه، لا يرى رشدا فى العاجل، وهو على وعيد فى الآجل؛ مع نفور النفوس منه وسراية الذّم فيه. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: العزّة والقوّة يعظمان القلب، وأفضل منهما خوف الله تعالى؛ لأن من لزم خشية الله لم يخف الوضيعة ولم يحتج إلى ناصر. وقال علىّ رضى الله عنه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجىء ما اتّقى.

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

وأما الحذر من السلطان، فهو وثّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظنّ ويؤاخذ بالارتياب؛ فالثقة به عجز، والاسترسال معه خطر. والحذر منه فى حالتى السّخط والرضا أسلم؛ لأنّه يستذنب إذا ملّ حتى يصير المحسن عنده كالمسىء. فليستخلص [1] رأيه بالنصح، ويستدفع تنكّره بالحذر. وقال بعض الحكماء: اصحب السلطان بثلاث: الحذر، ورفض الدولة، والاجتهاد فى النصح. والحذر منه يكون بثلاثة أمور: أحدها ألّا يعوّل على الثقة به فى الإدلال والاسترسال، فما جرّت الثقة إلا ندما. وقد قيل: الخرق الدالّة على السلطان، والوثبة قبل الإمكان. [فاقبض نفسك إذا قدّمك، وتواضع له إذا عظّمك، واحتشمه [2] إذا آنسك، ولن له إذا خاشنك، واصبر على تجنّيه [إذا غالظك [3]] ؛ فهو على التّجنى أقدر، فكن على احتماله أصبر؛ فربّما كانت مجاملته لك مكرا، وتجنّيه عليك غدرا [4]] . فقد قيل فى بعض الصحف الأولى: حبّ الملك وهواه يشبه الطّلّ على العشب. فلا تجعل له فى إظهار تنكّره عذرا؛ فربما اعترف بالحق فوفّى، ورقّ بالصبر فكفّ. وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة: صاحب السلطان كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركوبه أشدّ خوفا. والثانى من حذره منه أن يساعده على مطالبه، ويوافقه على محابّه [ومآربه [5]] ، ولا يصدّه عن غرض إذا لم يقدح فى دين ولا عرض، ولا يتوقّف عن إجابته

_ [1] فى الأصل: «فيستخلص ... » والسياق يقتضى الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . [2] ورد فى الأساس: «أنا أحتشمك منك أى أستحيى» وفى اللسان وشرح القاموس أحتشم منه وعنه ولا يقال: احتشمه. فعبارة الأصل هاهنا صحيحة على ما فى الأساس. [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4]- هذه الجملة التى بين القوسين المربعين نقلها صاحب الأصل عن قوانين الوزارة من غير تغيير فى الضمائر، وعادته فى النقل عنه أن يغير الضمير من الخطاب الى الغيبة، لأن قوانين الوزارة يوجه الكلام لمخاطب، والأصل هنا يوجهه لغائب، كما هو واضح. [5] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

وإن شغله ما هو أهمّ؛ فإن الملك لا يقيم لوزيره عذرا إذا وجده فى أغراضه مقصّرا، وإن كان على مصالح ملكه متوفّرا؛ فإنّه اتخذه لنفسه ثم لملكه؛ وقد يقدّم حظّ نفسه على مصلحة ملكه، لغلبة الهوى ونازع الشهوة. فليكن متوفّرا على مراده ليسلم اعتقاده له. فإن قدحت أغراضه فى دين أو عرض سلّ الوزير نفسه من وزرها وتحفّظ من شينها [1] بالتلطّف فى كفّه عنها بما يعتاضه بدلا منها، ليسهل عليه إقلاعه عنها. فإن ساعده الملك عليها سلم دينهما، وزال شينهما. فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله خزائن للخير والشرّ مفاتيحها الرجال فطوبى لمن جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشرّ وويل لمن جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير» . وقال الشاعر: ستلقى الذى قدّمت للشّرّ محضرا ... وأنت بما تأتى من الخير أسعد وإن أصرّ الملك عليها فليلن [2] الوزير فى متاركته، ويحجم عن مساعدته؛ وهو خداع يتدلّس بالمغالطة ويخفى بالحزم؛ فليستنجد فيه عقله، ويستعمل فيه حزمه؛ ليسلم من تنكّره، ويخلص من وزره. فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من شرار الناس عند الله يوم القيامة عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره» . والثالث من حذره منه أن يذبّ عن نفسه وملكه بما استطاع من مال ونفس؛ فإنّه [عن نفسه [3]] يذبّ، ولها يربّ [4] ؛ فإنّه لا يصلح حاله مع فساد حال ملكه وهو فرع من أصله. وهو [5] يسترسل لثقته به، ويستسلم لتعويله عليه؛ فليقابل ثقته بأمانته، واستسلامه بكفايته، ولا

_ [1] كذا فى «قوانين الوزارة» ويرجحه ما يأتى من قوله «سلم دينهما وزال شينهما» وفى الأصل «من شبهتها» . [2] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» ، وفى الأصل «فليكن ... » . [3] زيادة من قوانين الوزارة يقتضيها السياق. [4] يرب: يصلح. [5] الضمير فى «وهو يسترسل ... » يرجع الى الملك.

يلجئه أن يباشر دفع الخوف والحذر، فيلجئه إلى ما هو أخوف وأحذر؛ لأن الوزير يخاف الملك ويخاف ما يخافه، فيتوالى عليه خوفان، ويتمالأ عليه خطران. قال شاعر: إنّ البلاء يطاق غير مضاعف ... فإذا تضاعف صار غير مطاق وأما حذره من زمانه، فلأنّه يتقلّب بألوانه، ويخشن بعد ليانه، فيسلب ما أعطى ويفرّق ما جمع. وقد روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنظروا دور من تسكنون وأرض من تزرعون وفى طرق من تمشون» . وقال بعض الحكماء: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها. وقال بعض البلغاء: إن الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب؛ لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة؛ تصلح جانبا بإفساد جانب، وتسرّ صاحبا بمساءة صاحب؛ فالكون فيها على خطر، والثّقة بها على غرر. وقال قيس بن الخطيم: ومن عادة الأيّام أنّ خطوبها ... إذا سرّ منها جانب ساء جانب [والحذر [1]] من الزمان يكون من أربعة أوجه: أحدها: ألّا يثق بمساعدته، ولا يركن إلى مياسرته، فيغفل عن الحذر والاستعداد، فربّما انعكس فافترس، وغافص [2] فاختلس. وقد قيل: للدهر صروف، لست عنها بمصروف. قال أبو العتاهية: إنّ الزمان وإن ألا ... ن لأهله لمخاشن فخطوبه [3] المتحرّكا ... ت كأنّهنّ سواكن

_ [1] فى الأصل بياض، والتكملة عن «قوانين الوزارة» . [2] غافصه: فاجأه وأخذه على غرّة منه. [3] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «بخطوبه» .

والثانى: أن ينتهز فرصة مكنته [1] بفعل الجميل، وغرس الصنائع، وإسداء العوارف؛ ليكون ذلك ذخيرة له فى النوائب، وخلفا فى العواقب؛ ولا يلهيه استكفاؤه عن الاستظهار، ولا يمنعه استغناؤه عن الاستكثار. فقد قيل: المرء ابن يومه، فلينتبه من نومه. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» . قال سعيد بن سلم: إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردّه شدّة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدّه والثالث: أن يكفّ نفسه عن القبيح ويقبض يده عن الإساءة، ليكفى رصد التّرات، وغوائل الهفوات؛ فيأمن من وجله، ويسلم من زلله؛ ولا يتطاول بالقدرة فيغفل وهو مطلوب، ويأمن وهو مسلوب. والرابع: أن يستعدّ لآخرته، ويستظهر لمعاده، ولا يغترّ بالأمل فيخونه الفوت، ولا تلهيه الدنيا فتصدّه عن الآخرة. فقلّ من لا بسها فسلم من تبعاتها؛ لهفوات غرورها، [وعواقب [2] شرورها] . روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور» . وقيل فى منثور الحكم: طلاق الدنيا مهر الجنّة. وأما حذره من أهل الزمان- فلأن الإنسان محسود بالنعمة، مغبوط بالسلامة. والناس على أربعة أطوار متباينة:

_ [1] المكنة بفتح فكسر: التمكن. [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

أحدها [1]] خيّر عاقل يسالم بخيره، ويساعد بعقله؛ فالظّفر به سعادة، والاستعانة به توفيق. فليجتهد [2] ألّا يفوته وإن كان قليل الوجود، ليحظى بخيره ويسعد بعقله. وقلّ أن يكون الخيّر العاقل إلا متحلّيا بالعلم متزيّنا بالأدب. فإذا أظفره الزمان بمن تكاملت فضائله، وتهدّبت خصائله، فليتّخذه [2] ذخيرة نوائبه، وعدّة شدائده، يجده كفيل صلاحها، وزعيم نجاحها. والطور الثانى: شرّير جاهل يضرّ بشرّه، ويضلّ بجهله. فليحذر مخالطته، فهى أضر من السّمّ، وأنفذ من السهم. وشرّه بجهله منتشر يضعف إن تورك، ويقوى إن شورك؛ فليكفف شرّه بالإبعاد، ولا يعزّه بالتقريب، فيلحقه ضررى شرّه وجهله. وضرر الجهل أعمّ من ضرر الشر؛ لأن قانون الشر معلوم، وقانون الجهل غير معلوم. والطور الثالث: خيّر جاهل يسالم بخيره، ويضل بجهله؛ فليقاربه [3] ، إن شاء، لخيره، ولا يستعمله لجهله؛ ليكون بخيره موسوما، ومن جهله سليما. والطور الرابع: شرّير عاقل وهو الداهية المكر، يستعمل للخطوب إذا حزبت [4] . فليكن على حذر من مكره، ويتاركه فى الدّعة على استدفاع لشره. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يؤيّد هذا الدّين بالرجل الفاجر» . ومثل هذا يستكفّ بمعونة تمدّه، ومراعاة ترضيه؛ فإنّه كالسّبع الضارى إن أجعته هاج، وإن أشبعته سكن؛ ليكون مذخورا للحاجة؛ فإن للزمان خطوبا لا تدفع إلا بشرار أهله؛ كما قال حذيفة بن اليمان لرجل: أيسرّك أن تغلب شرّ الناس؟ قال: نعم؛ قال:

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [3] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [4] حزبه الأمر: نابه واشتدّ عليه.

إنك لن تغلبه حتى تكون شرّا منه. فيعدّ لخطوب الشرّ إن طرقت؛ فإنّه بها أخبر، وعلى دفعها أقدر، ولأهلها أقهر؛ ف «إنّ الحديد بالحديد يفلح» . فيستكفّ إلى حينها بما يدفع عادية شرّه، ويقطع غائلة مكره، وإن كانت ضراوة الشر أجذب، وطباع النفوس أغلب. فإن وجد الوزير من هذا الداهية فتورا فى همّته، وقصورا فى منّته [1] كانت سراية مكره أنزر، وتأثيره فى الخطوب أيسر. وإن كان عالى الهمّة قوىّ المنّة يتطاول إلى معالى الأمور، كانت سراية مكره أوفر، وتأثيره فى الخطوب أكثر. فليعطه [2] فى كل حال من أمريه من الحذر والسكون بحسب ما تقتضيه همّته، وتبعث عليه منّته؛ ليكون قانونه معه مستقيما، [ومن دهاء مكره [3] سليما] ؛ لا يناله خور من سرف، ولا استرسال من تقصير؛ فقد جعل الله تعالى لكل شىء قدرا. فهذا تفصيل ما اشتمل عليه العقد والحلّ. وأما التقليد والعزل، وهو الشطر الثانى من شروط وزارة التفويض، فالتقليد على ضربين: تقليد تقرير، وتقليد تدبير. فأما تقليد التقرير، فهو فيما يستأنف إنشاء قواعده، ويبتدأ تقرير رسومه. وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون فى حاضر يقدر الوزير على مباشرته، فالوزير أخصّ بتقريره، وأحقّ بتنفيذه؛ لأنها أصول مؤبّدة وهى من خواصّ نظره. فإن قلّد عليها واستناب

_ [1] المنة: القوة. [2] السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر. [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

فيها، كان تقصيرا منه إن جلّ، ومعذورا فيه إن قلّ. ولم يكن لمن قلّده تنفيذ تقريره إلا عن إذنه، وإلا كان عزلا خفيّا؛ لأنه يصير ملتزما وقد كان ملزما، ومحكّما [1] وقد كان حاكما. والثانى: أن يكون التقليد فيما بعد عنه ويمكن استئماره [2] فيه، فيجوز أن يستنيب فى تقريره، ويكون موقوفا على إمضاء الوزير وتنفيذه. ولا يجمع المستناب بين الأمرين، ليكون التقليد مقصورا على التقرير، والوزير مختصا بالتنفيذ. فإن جمع المستناب بين التقرير والتنفيذ كان فيه متجوّزّا، إلا أن يؤمر به فيصير الآمر متجوّزا، إلا أن يكون اضطرارا يزول معه حكم الاختيار. والثالث: أن يكون التقليد [3] فيما بعد عنه ويتعذّر استئماره فيه، فيجوز أن [يستنيب [4] فيه من] يجمع بين تقريره وتنفيذه إذا تكاملت فى المستناب ثلاثة شروط: أحدها الكفاية التى ينهض بها فى التقرير. والثانى الهيبة التى يطاع بها فى التنفيذ. والثالث الأمانة التى يكفّ بها عن الاسترشاء والخيانة، بعد تكامل الشروط المعتبرة فى جميع الولايات، وهى ثلاثة: العقل، والديانة، والمروءة. فلا فسحة فى تقليد من أخلّ ببعضها، لقصوره عن حقها، وخروجه من أهلها؛ وإنما يختلف ما سواها باختلاف الولايات، وإن كانت هذه مستحقّة فى جميعها. وقد قال كسرى أبرويز: من اعتمد على كفاة السوء لم يخل من رأى فاسد وظنّ كاذب وعدوّ غالب. وقد قال بعض الحكماء:

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «لأنه ملزم وقد كان ملزما، ومحكم ... الخ» . [2] الاستثمار: المشاورة. [3] كذا فى قوانين الوزارة، والتقليد هو موضوع الكلام، وفى الأصل: «التنفيذ ... » . [4] التكلمة عن «قوانين الوزارة» .

لا تستكفينّ مخدوعا عن عقله؛ والمخدوع [1] من بلغ به قدرا لا يستحقه، أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وأما تقليد التدبير، فهو النظر فيما استقرّت رسومه، وتمهّدت قواعده. وهو مشترك بين الوزير وبين الناظر فيه؛ لكن [2] يختصّ الوزير بمراعاته، والناظر بمباشرته؛ ليستظهر [3] الوزير بالمراعاة، ولا يتبذّل [4] بالمباشرة. وهو ضربان: أحدهما تدبير الأجناد. والثانى تدبير الأموال. فأما تدبير الأجناد، فلا يستغنى الوزير عن تقليد سفير فيه وإن كانوا يلاقونه؛ ليحفظ بالسفير حشمة وزارته ولا يقف أغراض أجناده، وقد انصان عن لغط كلامهم، وجفوة طباعهم. والأغلب على تدبيرهم الرأى والسياسة. فيعتبر فى هذا المختار لهذا التقليد ستة شروط: أحدها: الهيبة التى تقودهم إلى طاعته، لأنه يقوم بتدبير ذوى سطوة، فيحتاج إلى قوّة الهيبة. والثانى: أن يكون من ذوى الرأى والسياسة، ليقودهم برأيه إلى الصواب ويقفهم بسياسته على الاستقامة. والثالث: أن يكون متوصّلا إلى استعطاف القلوب، واجتماع الكلمة، ليسلموا من اختلاف أو منافرة.

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «فالمخدوع ... » بالفاء وظاهر أن حسن السياق يقتضى الواو. [2] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «لكى يختص ... » . [3] يستظهر: يحتاط ويستوثق. [4] فى الأصل «يتبدّل» بالدال. والسياق يقتضى ما وضعناه.

والرابع: أن يكون بينه وبين الأجناد مناسبة فى الطباع ومشاكلة فى الأخلاق يمتزجون [بها [1]] فى الموافقة و [لا [2]] يختلفون [فيها [3]] فى المباينة [4] . والخامس: أن يكون سليم الباطن صحيح المعتقد؛ لأنه يصير أخصّ بهم، ويصيرون أطوع له. والسادس: ما اختلف باختلاف الحال، فإن كان فى زمان السلّم اعتبر فيه الأناة والسكون؛ وإن كان فى زمان الحرب اعتبر فيه الإقدام والسّطوة، ليكون مطبوعا على ما يضاهى حال زمانه. فإذا ظفر بمن استكملها- وبعيد أن يظفر به إلا أن يعان بالتوفيق- وجب تقليده، ولزمت مناصفته فى الحقوق التى له وعليه، ليدوم ويستقيم. فقد قيل فى منثور الحكم: من قضيت واجبه، أمنت جانبه. وأما تدبير الأموال، فالوزير مصون عن مباشرتها، وإنما يحفظ دخلها بالهيبة والاستظهار، ويضبط خرجها بالحاجة والاضطرار. وللتقليد على كل حال [5] منهما شروط. فشروط التقليد على مباشرة دخلها خمسة: أحدها: أن يكون مطبوعا على العدل، لينصف وينتصف. والثانى: أن يكون متديّنا بالأمانة، ليستوفى ويوفّى. والثالث: أن يكون كافيا، ليضبط بكفايته، ولا يضيع بعجزه. والرابع: أن يكون خبيرا بعمله يعرف وجوه موادّه، وأسباب زيادته.

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [4] فى «قوانين الوزارة» : « ... فيها بالمباينة» . [5] فى قوانين الوزارة: «على كل واحد منهما» .

والخامس: أن يكون رفيقا بمعامليه غير عسوف ولا أخرق. حكى ان الإسكندر كتب إلى معلّمه أرسطاطاليس ليستشيره فى عمّاله؛ فكتب إليه: إنّ من كان له عبيد فأحسن فى سياستهم فولّه الجند، ومن كان له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج. وأما شروط التقليد على مباشرة خرجها، بعد الأمانة التى هى مشروطة فى كلّ ولاية، فمعتبرة بأحوال الخرج. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان راتبا عن رسوم مستقرّة كأرزاق الجيوش والحواشى، فللتقليد عليه شرطان: معرفة مقاديرها، ومعرفة مستحقّيها. والثانى: ما كان عارضا عن أوامر تقدّمتها والناظر مأمور بها كالصّلات وحوادث النّفقات، فللتقليد عليه شرطان: وقوفها على الأوامر، ومعرفة أغراض [1] الآمر. والثالث: ما كان عارضا فوّض إلى رأى الناظر ووكل إلى تقريره كالمصالح والنّفقات، فالتقليد عليه أوفى شروطا لوقوفها على اجتهاده وتقديره، فيحتاج مع الأمانة إلى ثلاثة شروط: أحدها: معرفة وجوه الخرج، حتى لا يتصرف فى غير حقّ. والثانى: الاقتصاد فيه، حتى لا يفضى إلى سرف ولا تقصير. والثالث: استصلاح الأثمان والأجور من غير تحيّف [2] ولا غبن.

_ [1] كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «ومعرفة أغراض الأوامر» . [2] التّحيّف: التنقّص.

وأما العزل فضربان: أحدهما: ما كان عن غير سبب فهو خارج عن السياسة؛ لأن للأفعال والأقوال أسبابا إذا تجرّدت عنها [1] صار الفعل عبثا والكلام لغوا لا يقتضيه رأى حصيف، ولا توجبه سياسة لبيب. وقد قيل: العزل أحد الطّلاقين. فكما أنه لا يحسن الطلاق بغير سبب، كذلك لا يحسن العزل بغير سبب. وإذا لم يثق الناظر باستدامة نظره مع الاستقامة، عدل عنها إلى النظر لنفسه، فعاد الوهن على عمله. وما يكون هذا العزل إلا عن فشل أو ملل. والضرب الثانى: أن يكون العزل لسبب دعا إليه. وأسبابه تكون من ثمانية أوجه: أحدها: أن يكون سببه خيانة ظهرت منه، فالعزل لها من حقوق السياسة مع استرجاع الخيانة والمقابلة عليها بالزواجر المقوّمة. ولا يؤاخذ فيها بالظنون والتّهم. فقد قيل: من يخن يهن. والوجه الثانى: أن يكون سببه عجزه وقصور كفايته، فالعمل بالعجز [مضاع [2]] ؛ وهو نقص فى العاجز وإن لم يكن ذنبا له؛ فلا يجوز فى السياسة إقراره على العمل الذى عجز عنه. ثم روعى عجزه بعد عزله، فإن كان لثقل ما تقلّده من العمل جاز أن يقلّد ما هو أسهل، وإن كان لقصور منّته وضعف حزمه لم يكن أهلا لتقليد ولا عمل.

_ [1] كذا فى الأصل. والذى يؤخذ من كتب اللغة أن «تجرّد» يتعدّى ب «من» . [2] التكملة عن «قوانين الوزارة» .

والوجه الثالث: أن يكون سببه اختلال العمل من عسفه أو خرقه. فهذا السبب زائد على الكفاية، وخارج عن السياسة. والوزير المقلّد فيه بين خيارين: إما أن يعزله بغيره، وإما أن بكفّه عن عسفه وخرقه. ويجوز أن يكون مرصدا لتقليد ما تدعو [1] السياسة فيه الى العسف لمن شاقّ ونافر. فقد قيل: لكلّ بناء أساس، ولكلّ تربة غراس. والوجه الرابع: أن يكون سببه انتشار العمل به من لينه وقلّة هيبته. فهذا السبب موهن للسياسة. والوزير فيه بين خيارين: إما أن يعزله بمن هو أقوى وأهيب، وإما أن يضمّ إليه من تتكامل به القوّة والهيبة. وخياره فيه معتبر بالأصلح. ويجوز أن يقلّد بعد صرفه ما لا يستضرّ فيه بضعفه. والوجه الخامس: أن يكون سببه فضل كفايته وظهور الحاجة إليه فيما هو أكبر من عمله. فهذا أحمد وجوه العزل وليس بعزل فى الحقيقة، وإنما هو نقل من عمل إلى ما هو أجلّ منه، فصار بهذا العزل زائد الرتبة. وقد قال بعض البلغاء: الناس فى العمل رجلان: رجل يجلّ به العمل لفضله ورياسته؛ ورجل يجلّ بالعمل لتقصيره ودناءته، فمن جلّ به العمل ازداد تواضعا وبشرا، ومن جلّ بالعمل ازداد ترفّعا وكبرا. والوجه السادس: أن يكون سببه وجود من هو أكفأ [2] منه. فيراعى حال الأكفأ، فإن كان فضل كفايته مؤثّرا فى زيادة العمل به كان عزل الناظر به من لوازم

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «ما تدعو إليه السياسة فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «إليه» مقحمة لغير حاجة. [2] استعمال «أكفأ» بمعنى أكثر اضطلاعا بالأمر، من الخطأ المشهور، وكذلك كفء وأكفاء فى هذا المعنى، وانما الصواب لغة فى كل هذا: أكفى، وكاف، وكفاة، من الكفاية التى هى الاضطلاع بالأمر وحسن القيام به.

السياسة ولم يسغ فيها إقراره على عمله؛ وإن لم يؤثّر فى زيادة العمل كان عزل الناظر من طريق الأولى فى تقديم الأكفاء وتخيّر الأعوان، وإن جاز فى السياسة إقرار الناظر على عمله لنهوضه به. والوجه السابع: أن يكون سببه أن يخطب عمله من الكفاة من يبذل زيادة فيه. فلا يجوز عزله ببذل الزيادة حتى يكشف عن سببها، فربما تخرّص [1] بها الباذل لرغبة فى العمل، أو لعداوة فى العامل. فإن لم يظهر لها بعد الكشف موجب لم يجز فى السياسة عزله بهذا البذل الكاذب؛ وكان الباذل جديرا بالإبعاد لابتدائه بالإدغال [2] . فإن ظهر موجب الزيادة لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون لتقصير الناظر؛ فيجب عزله. والوزير بعد عزله بين خيارين: إما أن يقلّد الباذل أو غيره من الكفاة. والثانى أن يكون موجبها فضل كفاية الباذل؛ فيجب عزله بالباذل دون غيره. والثالث أن يكون سببها عسف الباذل وخرقه، فلا يجوز فى السياسة عزل الناظر ولا تقريب الباذل، فربما مال إلى الزيادة من تغاضى عن العدل، فعزل وقلّد فصار هو العاسف المجازف. والوجه الثامن: أن يكون سببه أن الناظر مؤتمن، فيخطب عمله ضامن. فتضمين الأعمال خارج عن قوانين السياسة العادلة، لأن المؤتمن عليها إذا كان كافيا استوفى ما وجب، وكفّ عما لم يجب؛ وهذا هو العدل. والضامن إن ضمنها بمثل ارتفاعها لم يؤثر، وإن ضمنها بأكثر منه تحكّم فى عمله، وكان بين عسف أو هرب، لأنه ضمن ليغنم لا ليغرم. وحكى أن المأمون عزم على تضمين السّواد، وعنده عبيد الله

_ [1] تخرص: افترى وكذب. وفى الأصل «فربما تحرص ... » ، وفى قوانين الوزارة «فربما يخرجه ... » . وما وضعناه يظهر أنه المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل يكون محرفا عنه. [2] الإدغال هنا: الوشاية والخيانة.

ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه

ابن الحسن العنبرىّ القاضى؛ فقال له: [يا أمير المؤمنين [1]] إن الله قد دفعها إليك أمانة، فلا تخرجها من يدك قبالة [2] . فعدل عن الضّمان. فهذا تفصيل ما تعلّق بوزارة التفويض من عقد وحل وتقليد وعزل. فلنذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه. ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه فأما حقوق السلطان على وزيره فهى ثلاثة: أحدها: قيامه بمصالح ملكه، وهى أربع: عمارة بلاده، وتقويم أجناده، وتثمير أمواله، وحياطة رعيّته. والثانى: قيامه بمصالح نفسه، وهى أربع: إدرار [3] كفايته، وتحمّل عوارضه، وتهذيب حاشيته، وإعداد ما يستدفع به النوائب. والثالث: قيامه بمقاومة أعدائه، وذلك بأربعة أشياء: تحصين الثّغور، واستكمال العدّة، وترتيب العساكر، وتقدير الحدود. فيجب على الوزير أن يؤدّى حقوق سلطانه، ويوفّى شروط ائتمانه؛ ويحذر بادرة مؤاخذته إن قصّر، وسطوة انتقامه إن فرّط؛ لأن بادرة الانتقام، أسرع من ظهور الإنعام؛ [لأن الانتقام يصدر عن طيش الغضب، والإنعام يصدر عن أناة الكرم [4]] . وقد قيل فى حكم الفرس: ما أضعف طمع صاحب

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] القبالة: الكفالة. من قبل (من باب نصر وضرب وسمع) بمعنى كفل. ومعناها هنا: أن يعطى السلطان عاملا أو أن يقبل العامل عملا من أعمال السلطان يستغله فى مقابل مقدار معين من المال يتكفل بأدائه إليه. [3] كذا بالاصل، وفى قوانين الوزارة «إدراك» . [4] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

السلطان فى السلامة. وذلك أنّه إن عفّ جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة المتنصّحين. فلزم لذلك أن يكون حذره أغلب من رجائه، وخوفه أكثر من أمنه. ولئن تكدّر بهما العيش فهما إلى السلامة أدعى. وأما حقوق الوزير على السلطان فثلاثة: أحدها: معونته على نظره. وذلك بأربعة أشياء: تقوية يده، وتنفيذ أمره، وإطلاق كفايته، وألّا يجعل لغيره عليه أمرا. وقد قال سابور بن أردشير فى عهده إلى ابنه هرمز: ينبغى للوزير أن يكون قوىّ الأمر، مقبول القول، يمنعه مكانه منك، من الضراعة لغيرك، وتبعته الثّقة بك، على بذل النصيحة لك، ويشجّعه ما يعرف من رأيك، على مقاومة أعدائك؛ وأحذّرك أن تنزل بهذه المنزلة من سواه من خدمك. والثانى: أن يثق منه بأربعة أشياء: ألّا يؤاخذه بغير ذنب، وألّا يطمع فى ماله من غير خيانة، وألّا يقدّم عليه من هو دونه، وألّا يمكّن منه عدوّا. وقد عهد ملك إلى ابنه فقال: يا بنىّ، إنّك لن تصل إلى إحكام ما تريده من تدبير ملكك إلا بمعونة وزرائك وأعوانك، فأعنهم على طاعتك بمياسرتك، وعلى معونتك بمساعدتك. والثالث: أن يحفظ منزلته من أربعة أشياء: [الأوّل [1]] ألّا يرتاب بباطنه وظاهره سليم، فيؤاخذ بالظن، ويعجز عن دفعه باليقين؛ فليس يؤاخذ بضمائر القلوب، إلّا علّام الغيوب. قيل لكسرى قباذ: إنّ قوما من خواصّك قد فسدت سرائرهم؛ فوقّع: أنا أملك الأجساد دون النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. والثانى: ألّا يستبدل به ونظره مستقيم، فيقلّ نفعه، ويضعف

_ [1] زيادة يقتضيها السياق.

نشاطه، ولا يجهد نفسه فى النهوض بما كلّفه؛ فإن داعى الطبع أبلغ من مصنوع التكلّف. وقد اتّخذه لاستقامة وجدها به. فإذا أضاع حقّه بالاستبدال ظلم نفسه، وكان من غيره على خطر. وقد قال كسرى: الوزارة أبعد الأمور من أن تحتمل غير أهلها. لأن الوزير من الملك بمنزلة سمعه وبصره ولسانه وقلبه، لأنه مغلق الأبواب، مستور عن الأبصار؛ ليحفظه فى أمواله، ويستر خلله فى أفعاله؛ وحقيق بمن [1] كان بهذه المنزلة أن يكون محفوظا. والثالث: ألّا يؤاخذه بدرك ما جرّه القضاء وساقه القدر، فيجعله غرضا فى معارضة خالقه. وهل الوزير فيه إلا كالملك! فأفعال الله عزّ وجلّ لا تكون ذنوبا لعباده. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوى العقول عقولهم حتى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره» [2] . والرابع: ألّا يحمّله ما ليس فى قدرته، ولا يكلّفه ما ليس فى طاقته، فلا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها. وما ذاك إلّا من دواعى التّجنّى، ومبادئ التنكّر. فهذه حقوق الوزير على سلطانه. وهى مقابلة لحقوق السلطان على وزيره. لكنّ حقوق الوزير موضوعة على المسامحة فى أكثرها، وحقوق السلطان موضوعة على المؤاخذة بأقلها؛ لاستطالته عليه بالقدرة وقصوره عنه بالنيابة. وحيث ذكرنا هذه الحقوق الداخلة فى وزارة التفويض فلنذكر وزارة التنفيذ.

_ [1] فى الأصل «وحقيق على من ... » . [2] هكذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة وفى مسند الفردوس للديلمىّ. وفى الجامع الصغير زيادة نصها: «فإذا مضى أمره ردّ إليهم عقولهم ووقعت الندامة» .

ذكر وزارة التنفيذ

ذكر وزارة التنفيذ قال الماوردىّ ما معناه: إنّ لوزارة التنفيذ أربعة قوانين: فالأوّل من قوانينها: السّفارة بين الملك وأهل مملكته، لأن الملك معظّم بالحجاب، مصون عن المباشرة بالخطاب؛ فاقتضى ذلك اختصاصه بسفير محتشم ووزير معظّم مطاع فيما يورده عنه من الأوامر والنواهى، ويهاب فيما يتحمله إليه من المطالب والمباغى. ليكون للملك لسانا ناطقا، وأذنا واعية. وهذه السّفارة مختصّة بخمسة أصناف: أحدها: السّفارة بين الملك وأجناده، فيحملهم على أوامره ونواهيه، ويتنجّز لهم من [1] الملك ما استوجبوه أو سألوه. ويحتاج فى سفارته معهم أن يجمع بين اللّين والعنف، والخشونة واللّطف، ليقتادهم [2] إلى طاعته بالرغبة والرهبة. والثانى: السفارة بين الملك وعمّاله، فيستوفى مناظرة العمّال ويتصفّح أحوال الأعمال؛ ليستدرك خللا إن كان، ويستديم صلاحا إن وجد. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال الرّهبة خاصّة؛ ليكفّهم عن الخيانة، ويبعثهم على الأمانة. والثالث: السّفارة بين الملك ورعيّته، ليتصدّى لإنصافهم، ويصغى إلى ظلاماتهم؛ فيمضى ما تيسّر له، وينهى ما تعسّر عليه. ويحتاج فى هذه السفارة إلى استعمال اللّين واللّطف؛ ليصلوا إلى استيفاء الظّلامة، ويستدفعوا ذلّ الاستضامة.

_ [1] فى الأصل «عن الملك» . [2] فى الأصل: «لا يفتادهم ... » وظاهر أنه تحريف. وفى «قوانين الوزارة» لانقيادهم ... » وهذا أيضا لا يتفق مع السياق.

والرابع: السفارة فى استيفاء حقوق السّلطنة التى للملك وعليه، من غير مباشرة قبض ولا إقباض [1] . ويحتاج فى هذه السفارة إلى الرهبة فيما يستوفيه للملك، وإلى اللّطف فيما يتنجّزه منه. والخامس السفارة فى اختيار العمّال، ومشارفة الأعمال؛ لينهى حال من يرى تقليده وعزله من غير أن يباشر تقليدا ولا عزلا؛ لانّ التقليد والعزل داخل فى وزارة التفويض خارج عن وزارة التنفيذ. وشروط هذه السفارة: أن يكون جيّد الحدس، صحيح الاختيار، قليل الاغترار، عارفا بكفاة [2] العمّال ومقادير الأعمال، ليحمد اختياره، ويقلّ عثاره. والثانى من قوانينها: أن يمدّ الملك برأيه ومشورته؛ فإن الملك مع جزالة رأيه وصحّة رويّته محجوب الشخص عن مباشرة الأمور، فصار محجوب الرأى عن الخبرة بها. فاحتاج إلى بارز الشخص بالمباشرة، ليكون بارز الرأى بالخبرة؛ فليس الشاهد كالغائب، ولا المخبر كالمعاين. والوزير أحقّ بهذه المرتبة. وله فى المشورة حالتان: إحداهما: أن يبتدئه الملك بالاستشارة، فيلزمه أن يشير فيها برأيه سواء اختصّت بملكه أو تعدّت إلى غيره. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما: اجتهاد رأيه فى إيضاح الصواب. والثانى: إبانة صحّته بتعليل الجواب ليكون مجيبا ومحتجّا؛ فيكفى توهّم الزّلل ويسلم من ظنّة الارتياب.

_ [1] قبض وإقباض: أى تسلم وتسليم. والموجود فى كتب اللغة التى بين أيدينا متعديا من هذه المادة «قبّض» بالتضعيف. ويصح «إقباض» على القول بأن تعدية الفعل بالهمزة قياسية. [2] كفاة: جمع كافى، من الكفاية وهى الاضطلاع بالأمر.

والحالة الثانية: أن يبتدئ الوزير بالمشورة على الملك، فله فيها حالتان: إحداهما: ألّا يقع بمشورته اجتلاب نفع ولا استدفاع ضرر. فهذا تجوّز من الوزير، وتبسّط على الملك؛ إن أنكره فبحقه، وإن احتمله فبفضله. والثانية: أن يتعلّق بمشورته اجتلاب نفع، أو استدفاع ضرر. فإن اختصّ بالمملكة كان من حقوق الوزارة، وإن تجاوزها كان من نصح الوزير. وعليه أن يذكر سبب ابتدائه، ويوضّح صواب رأيه. ويلزمه فيما يؤدّى به من الاستشارة ويبدأ به من المشورة، أن يكتمه عن كل خاصّ وعامّ؛ لأمرين: أحدهما: أن الرأى لا يجب أن يظهر إلا بالأفعال دون الأقوال؛ لأن ظهوره بالفعل ظفر، وظهوره بالقول خطر. وقد قيل: من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه. والثانى: أنه من أسرار الملك التى يجب أن تكتم فى الصدور، وتصان عن الظهور؛ ليجمع بين تأدية الأمانة وطلب السلامة؛ فإن فى إفشاء سرّ الملك خطرا به وبمن أفشاه. وقلّما تعفو الملوك عن مفشى أسرارها؛ لتردّده بين خيانة وجناية. والثالث من قوانينها: أن يكون عينا للملك ناظرة، وأذنا سامعة، ينهى ما شاهد على حقّه، ويخبر بما سمع على صدقه؛ لأنه قد سوهم فى الملك وميّز بالاختصاص، وندب للمصالح؛ فهو القائم مقام الملك فى مشاهدة ما غاب، وسماع ما بعد. وعليه فى ذلك ثلاثة حقوق: أحدها: أن يديم الفحص عن أحوال المملكة حتى يعلم ما غاب كعلمه بما حضر، وما خفى كعلمه بما ظهر؛ فلا يتدلّس عليه حقّ أمر [1] من باطله، ولا يشتبه

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «حق امرئ ... » .

عليه صدق قوى من كذبه. فإن قصّر فيها حتى خفيت، أو استرسل فيها حتى تدلّست كان مؤاخذا بجرم التقصير، وجريرة الضرر. والثانى: أن يعجّل مطالعة الملك بها ولا يؤخّرها، وإن جاز تأخير العمل بها؛ لأن عليه الإنهاء، وليس عليه العمل. وإذ كان من الملك بمنزلة عينه وأذنه اللتين يتعجّل [العلم [1]] بهما، وجب أن يجرى معه على حكمهما؛ ليستدرك الملك ما يجب تعجيله، ويقدّم الرّويّة فيما يجوز تأخيره. فإن أخّر الوزير إعلام الملك بها وقد حسم ضررها، كان للنصيحة مؤدّيا، ومن الملك على وجل. والثالث: أن يوضّح له حقائق الأمور، ويساوى فيها بين الصغير والكبير، فلا يمايل [2] قريبا، ولا يتحيّف بعيدا، ولا يعظّم من الأمور صغيرا، ولا يصغّر منها عظيما. فإن خاف من صغار الأمور أن تصير كبارا، أو كبارها أن تعود صغارا، أخبر بحقائقها فى المبادئ، وذكر ما تؤول إليه فى العواقب؛ ليكون بالمبادئ مخبرا، وفى الغايات مشيرا. فإن أخبر بالغايات وأعرض عن ذكر المبادئ، كان تدليسا، وكان بالإنكار حقيقا وبالذمّ جديرا. والرابع من قوانينها: أن يفتدى راحة الملك بتعبه، ويقى دعته بنصبه؛ ولا يغيب إذا أريد، ولا يسأم إذا أعيد؛ لأنه لسان الملك إذا نطق، وعينه إذا رمق، ويده إذا بطش؛ فلا يبعد عن دعائه، ولا يضجر من ندائه؛ لأن عوارض الملك من هواجس أفكاره وتقلّب خاطره. وقد يتجدّد مع الأوقات ما لا [3] تعرف أسبابه، ولا تتعيّن

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] مايله: مالأه وساعده. [3] كذا فى قوانين الوزارة. وهو الذى ينسجم به الكلام. وفى الأصل: ما لم تعرف ... » .

ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه.

أوقاته؛ فليكن هذا [1] الوزير على رصد منها. وربما ملّ الوزير الملازمة فأعقبته أسفا إذا فارقها، لأن فى ملازمته للملك نصبا يقترن بعزّ، وفى متاركته راحة تؤول إلى ذلّ. فليختر لنفسه ما وافقها من عز يجتذبه بالكدّ، أو ذلّ يؤول إليه بالدّعة. فإنه إن صبر على ما أراده الملك ظفر بإرادته من الملك، وهو على الضدّ إن خالفها. وقد قال أنوشروان: ما استنجحت الأمور بمثل الصبر، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. وقيل: من خدم السلطان خدمه الإخوان. فيطّرد على هذا التعليل أنّ من تنكّر له السلطان، تنكّر له الإخوان. هذه قوانين وزارة التنفيذ. ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه. وتتميز وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وتختلف من ستة أوجه: أحدها: أن الملك يقلّد وزير التفويض فى حقوقه وحقوق رعيته، ويقلّد وزير التنفيذ فى حقوقه خاصة دون حقوق رعيته؛ لأنّ وزير التفويض تنفّذ الأمور برأيه، ووزير التنفيذ يمضيها بأمر الملك وعن رأيه. والثانى: أن وزارة التفويض تفتقر إلى عقد يصح به نفوذ أفعاله، ووزارة التنفيد لا تفتقر إلى عقد، لأنه فيها مأمور بتنفيذ ما صدر عن أمر الملك. والثالث: أن وزير التفويض مأخوذ بدرك ما أمضاه، ووزير التنفيذ غير مؤاخذ بدركه. والرابع: أن وزير التفويض لا ينعزل إلا بالقول أو ما فى معناه دون المتاركة، [لأنّه قد تملّك بها مباشرة الأمور [2]] ، ووزير التنفيذ ينعزل بالمتاركة لأنه مأمور.

_ [1] ظاهر أن كلمة «هذا» هنا قلقة فى مكانها إلا أذا أريد الإشارة الى الوزير الذى سيق الكلام فيه وهو وزير التنفيذ دون وزير التقليد. [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء

والخامس: أن وزير التفويض لا ينعزل إن كفّ وترك، حتى يستعفى ويعفيه الملك منها، لأنه مستودع الأعمال فلزمه ردّها إلى مستحقّها، ووزير التنفيذ يجوز أن ينعزل بعزل نفسه بالكفّ والمتاركة، لأنه لا شىء بيده فيؤخذ بردّه. والسادس: أن وزير التفويض يفتقر إلى كفاية بالسيف والقلم، لنهوضه بما أوجبهما، ووزارة التنفيذ غير مفتقرة إليهما لقصورها عنهما. ويعتبر فى وزير التنفيذ ستة أوصاف: وهى الأبّهة والمنّة والهمّة والعفّة والمروءة وجزالة الرأى. وهذه الأوصاف معتبرة فى كل مدبّر ذى رياسة. ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء أما حقوق الوزارة- فهى أن تقلّد لمن اجتمعت فيه ثمانية أوصاف، وهى التى ذكرها الماوردىّ فى قوانين الوزارة، وبيّنها بالنص والتعيين لا بالتعريض والإشارة: فأحدها: أن يكون بأعباء الوزارة ناهضا، وفى مصالح المملكة راكضا؛ يقدّم حظّ الملك على حظ نفسه ويعلم أن صلاحه مقترن بصلاحه؛ فلن تستقيم أحوال الوزير مع اختلال أحوال الملك، لأن الفروع إنما تستمدّ من أصولها. والثانى: أن يكون على الكدّ والتعب قادرا، وفى السخط والرضا صابرا؛ لا ينفر ان أوحش، فإن نفوره عطب. وليتوصل إلى راحته بالتعب، والى دعته بالنصب. وقد قيل: علّة الراحة قلّة الاستراحة. وقال عبد الحميد: أتعب قدمك، فكم تعب قدّمك!. فإن تشاغل الوزير براحته، ومال إلى لذّته، سلبهما بالتنكّر، وعدمهما بالتغيّر.

والثالث: أن يكون لإحسان الملك شاكرا، ولإساءته عاذرا، يشكر على يسير الإحسان، ويعذر على كثير الإساءة، ليستمدّ بالشكر إحسانه، ويستدفع بالعذر إساءته. فإن عدل عنهما، كان منه على ضدّهما. فقد قيل: أحق الناس بالمنع الكفور، وبالصنيعة الشّكور. والرابع: أن يظهر محاسنه إن خفيت، ويستر مساويه إن ظهرت، لأنه بمحاسنه موسوم وبمساويه مقروف، يشاركه فى حمد محاسنه، ويؤاخذ بذمّ مساويه. وربما استرسل الملك لثقته بالاحتجاب، فارتكب بالهوى ما يصان عن إذا عته، فكان الوزير أحقّ بستره عليه، لأنه الباب المسلوك منه إليه. والخامس: أن تخلص نيّته فى طاعته، ويكون سرّه كعلانيته، فإن القلوب جاذبة تملك أعنة الأجساد؛ فإن اتفقا، وإلا فالقلب أغلب، وإلى مراده أجذب. والقلوب تنمّ على الضمائر فتهتك أستارها وتذيع أسرارها. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فى [1] ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهى القلب» . والسادس: ألّا يعارض الملك فيمن قرّب واستبطن، ولا يماريه فيمن حطّ ورفع؛ فإنه يتحكّم بقدرته ويأنف من معارضته. فربما انقلب بسطوته إذا عورض، ومال بانتقامه إذا خولف. فبوادر الملك تسبق نذيرها، وتدحض أسيرها؛ فإن سلم من الخطر لم يسلم من الضجر.

_ [1] كذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة. غير أن الأصل لم تذكر به كلمة «الجسد» فى الموضعين، ونصه فى البخارىّ من حديث طويل «ألا وإنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب» وفى النهاية لابن الأثير «إنّ فى ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» .

والسابع: أن يتقاصر عن مشاكلة الملك فى رتبته، ويقبض نفسه عن مثل هيئته، فلا يلبس مثل ملابسه، ولا يركب مثل مراكبه، ولا يستخدم مثل خدمه؛ فإن الملك يأنف إن موثل، وينتقم إن شوكل، ويرى أن ذلك من أمواله المحتاجة، وحشمته المستباحة. وليقتصر على نظافة لباسه وجسده من غير تصنّع، فإن النظافة من المروءة، والتّصنّع للنساء؛ ليكون بالسلامة محفوظا، وبالحشمة ملحوظا. والثامن: أن يستوفى للملك ولا يستوفى عليه، ويتأوّل له ولا يتأول عليه؛ فإن الملك إذا أراد الإنصاف كان عليه أقدر، وإن لم يرده فيد الوزير معه أقصر؛ وإنما أراد الوزير عونا لنفسه ولم يرده عونا عليها. فإن وجد إلى مساعدته سبيلا سارع إليها، وإن خاف ضررها وانتشار الفساد بها تلطّف فى كفّه عنها إن قدر. فإن تعذّر عليه تلطّف فى الخلاص منها؛ ولا يجهر بالمخالفة. سئل بعض حكماء الروم عن أصلح ما عوشر به الملوك، فقال: قلة الخلاف وتخفيف المؤنة. والملوك لا يصحبون [1] إلا على اختيارهم، ولا يتمسّكون إلا بمن وافقهم على آرائهم. وإذا روعيت أحوال الناس وجدوا لا يأتلفون إلا بالموافقة، فكيف الملوك! قال شاعر: الناس إن وافقتهم عذبوا ... أو لا فإنّ جناهم مرّ كم من رياض لا أنيس بها ... تركت لأنّ طريقها وعر وأما عهودها ووصاياها- فلم أر فيما طالعته فى هذا المعنى أشمل ولا أكمل ولا أنفع ولا أجمع من كلام لأبى الحسن الماوردىّ؛ فلذلك أوردته بفصّه، وأتيت على أكثر نصّه.

_ [1] فى الأصل: «لا تصحب» وهو وإن صح الا أنه لا يتناسب مع الضمائر التى بعده.

قال الماوردى: فأما العهود الموقظة فسأقول، وأرجو أن يقترن بالقبول: اجعل أيها الوزير لله تعالى على سرّك رقيبا يلاحظك من زيغ فى حقه، واجعل لسلطانك على خلوتك رقيبا يكفّك عن تقصير فى أمره؛ ليسلم دينك فى حقوق الله تعالى، وتسلم دنياك فى حقوق سلطانك، فتسعد فى عاجلتك وآجلتك. فإن تنافى اجتماعهما لك فقدّم حقّ الله تعالى على حق الملك. فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه [فآثروا [1] ما يبقى على ما يفنى] » وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس» . قال: حقّ [2] عليك أيها الوزير أن تكون بأمور الناس خبيرا، وإلى أحوالهم متطلّعا، وبهم على نفسك وعليهم مستظهرا، لأنهم من بين من تسوسه أو تستعين به، لتعلم ما فيهم من فضل ونقص وعلم وجهل وخير وشرّ، وتتحرّز من غرور المتشبه [3] وتدليس المتصنّع؛ فتعطى كل واحد حقّه، ولا تقصّر بذى فضل، ولا تعتمد على ذى جهل. فقد قيل: من الجهل صحبة ذوى الجهل، ومن المحال مجادلة ذوى المحال. وافرق بين الأخيار والأشرار، فإنّ ذا الخير يبنى، وذا الشرّ يهدم. واحذر الكذوب فلن ينصحك من غشّ نفسه؛ ولن ينفعك من ضرّها. ولا تستكفين عاجزا فيضيّع العمل، ولا شرها فيضرّك باحتجانه [4] . ولا تعبأ بمن لا يحافظ على المروءة، فقلما تجد فيه خيرا؛ لزهده فى صيانة النفس وميله إلى خمول القدر. وبعيد ممن أسقط حق

_ [1] تتمة الحديث عن قوانين الوزارة وعن الجامع الصغير. [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «حقيق» وهو غير ملائم لما هنا. [3] كذا فى قوانين الوزارة، ولعل المتشبه: من يظهر بغير ما فطر عليه من صفات ومواهب، بأن يظهر مظهر ذى الكفاية والفضل وليس به. وفى الأصل: «المشيه» وهو تحريف. [4] احتجن المال: ضمه لنفسه واحتواه.

نفسه أن يقوم بحق غيره، وصعب على من ألف إسقاط التكلف أن يحول عنه. وقد قيل فى حكم الهند: ذو المروءة يرتفع بها، وتاركها يهبط؛ والارتقاء صعب والانحطاط هين، كالحجر الثقيل الذى رفعه عسير وحطّه يسير. وقال بعض البلغاء: أحسن رعاية ذوى الحرمات، وأقبل على أهل المروءات؛ فإن رعاية [ذوى [1]] الحرمة تدلّ على كرم الشيمة، والإقبال على ذوى المروءة يعرب عن شرف الهمة [2] . إختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته؛ فتعمل بما علمت من إقرار الكافى وصرف العاجز، وحمد المحسن وذمّ المسىء. فقد قيل: من استكفى الكفاة، كفى العداة. فإن التبست عليك [أمورهم [3]] أوهنت الكافى وسلّطت العاجز، وأضعت المحسن وأغريت المسىء. ولأن يكون العمل خاليا فتصرف إليه فكرك أولى من أن يباشره عاجز أو خائن فيقبح بهما أثرك. فاحذر العاجز فإنه مضيّع، وتوقّ الخائن فإنه يكدح لنفسه. قال شاعر: إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شرّ مسند اقتصر فى أعوانك بحسب حاجتك إليهم. ولا تستكثر منهم لتكثر بهم. فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتّفاق يستأكل به العمل. وليكن أعوانك وفق أعمالك، فإنه أنظم للشّمل وأجمع للعمل وأبلغ فى الاجتهاد وأبعث على النصح. قال ابن الرومى: عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب

_ [1] التكملة عن قوانين الوزارة. [2] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «والإقبال على ذوى المروءة يعرف من شرف المروءة» . [3] التكملة عن قوانين الوزارة.

فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف وكم قليل مستطاب فما اللّجج الملاح بمرويات ... وتلقى الرّىّ فى النّطف العذاب هذّب نفسك من الدنس تتهذب جميع أتباعك. ونزّه نفسك عن الطمع تتنزه جميع خلفائك. وتوقّ الشره فلن يزيدك إلا حرصا إن أجديت، ونقصا إن أكديت [1] ، وهما معرّة ذى الفضل ومضرّة أولى الحزم. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتربت [2] الساعة ولا يزداد الناس فى الدنيا إلا حرصا ولا تزداد منهم إلا بعدا» . رض نفسك عن الطمع يتنزه جميع عمّالك، وتنتظم بك جميع أعمالك [3] . ولا تكل إلى غيرك ما تختصّ بمباشرته [4] طلبا للدّعة، فتعزل عنه نفسك وتؤثر به غيرك؛ فتكون من وفائه على غدر، ومن نفسك على تقصير. قال بزرجمهر: إن يكن الشغل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة. وقال عبد الحميد: ما زانك ما أضاع زمانك، ولا شانك ما أصلح شانك. اجعل زمان فراغك مصروفا إلى حالتين: إحداهما راحة جسدك وإجمام خاطرك، ليكونا عونا لك على نظرك. والثانية أن تفكر بعد راحة جسدك وإجمام خاطرك فيما قدّمته من أفعالك، وتصرّفت فيه من أعمالك: هل وافقت الصواب

_ [1] أجدى: أصاب الجدوى وظفر بما يريد. والجدوى: العطية. وأكدى: أخفق ولم يظفر بحاجته، أى ان الشره يزيد صاحبه مع الفوز حرصا، ومع الإخفاق نقصا. [2] نصه فى الجامع الصغير: «اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا» . وفى مسند الفردوس للديلمىّ كرواية الاصل إلا أنه يتفق مع رواية الجامع الصغير فى «على الدنيا» بدل «فى الدنيا» . [3] كذا فى الاصل والذى فى قوانين الوزارة: «رض نفسك بمشارفة الأعمال يرهبك جميع عمالك وينتظم به جميع أعمالك» . [4] فى قوانين الوزارة: «ما يختص بمباشرتك ... » .

فيه فتقوّيه وتجعله مثالا تحتذيه، أو نالك فيها زلل فتستدرك منه ما أمكن، وتنتهى عن مثله فى المستقبل. فقد قيل: من فكّر أبصر. وقال بعض البلغاء: من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ. اخفض جناحك لمن علا، ووطّئ كنفك لمن دنا، وتجاف [عن [1]] الكبر تملك من القلوب مودّتها، ومن النفوس مساعدتها. فقد قيل لحكيم الروم: من أضيق الناس طريقا، وأقلّهم صديقا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه، واستطال عليهم بنفسه. ولذلك قيل: التواضع فى الشرف، أشرف من الشرف. كن شكورا فى النعمة، صبورا فى الشدّة، لا تبطرك السراء، ولا تدهشك الضراء؛ لنتكافأ أحوالك، وتعتدل خصالك؛ فتسلم من طيش البطر وحيرة الدّهش. فقد قال بعض الحكماء: اشتغل بشكر النعمة عن البطر بها. وقيل فى أمثال الهند: العاقل لا يبطر بمنزلة أصابها ولا شرف وإن عظم، كالجبل الذى لا يتزلزل وإن اشتدّت الرياح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذى تحرّكه أدنى ريح. استدم مودّة وليّك بالإحسان [إليه [2]] ، واستسلّ سخيمة عدوّك بعد الاحتراز منه، وداهن من يجاهرك بعداوتك. فقد قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: مداجاة الأعداء، ومؤاخاة الأكفاء. ولا تعوّل على التهم والظنون [واطّرح الشك باليقين [3]] . فقد قيل: لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. قال شاعر: إذا أنت لم تبرح تظنّ وتقتضى ... على الظن أردتك الظنون الكواذب واختبر من اشتبهت حاله عليك، لتعلم معتقده فيك، فتدرى أين تضعه منك؛ فإن الألسن لا تصدق عن القلوب؛ لما يتصنّعه المداجى ويتكلّفه المداهن. وشهادات

_ [1] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [2] زيادة عن «قوانين الوزارة» . [3] زيادة عن «قوانين الوزارة» .

القلوب أصدق، ودلائل النفوس أوثق. فإن وقفت بك الحال على الارتياب، اعتقدت المودّة فى ظاهره، وأخذت بالحزم فى باطنه. وإذا أقنعك الإغضاء عن الاختبار فلا تتخطّه، فأكثر الأمور تمشى على التغافل والإغضاء. فقد قال أكثم بن صيفىّ: من تشدّد نفرّ، ومن تراخى تألّف، والسّرو [1] فى التغافل. ولقلما جوهر المغضى وقوطع المتغافل، مع انعطاف القلوب عليه، وميل النفوس إليه. وهذا من أسباب السعادة وحسن التوفيق. شاور فى أمورك من تثق منه بثلاث خصال: صواب الرأى، وخلوص النية، وكتمان السرّ. فلا عار عليك أن تستشير من هو دونك إذا كان بالشورى خبيرا؛ فإن لكل ذى عقل ذخيرة من الرأى وحظّا من الصواب، فتزداد برأى غيرك [وإن كان رأيك [2]] جزلا، كما يزداد البحر بموادّه من الأنهار وإن كان غزيرا. وقد يفضل المستشير على المشير؛ ويظفر المشير بالرأى، لأنها ضالّة يظفر بها من وجدها من فاضل ومفضول. وعوّل على استشارة من جرّب الأمور وخبرها، وتقلّب فيها وباشرها، حتى عرف مواردها ومصادرها، فلن يخفى عليه خيرها وشرها، ما لم يوهنه ضعف الهرم. واعدل عن استشارة من قصد موافقتك متابعة لهواك، أو اعتمد مخالفتك انحرافا عنك، وعوّل على من توخّى الحق لك وعليك. فقد قيل فى قديم الحكم: من التمس الرّخص من الإخوان فى الرأى، ومن الأطبّاء فى المرض، ومن الفقهاء فى الشّبه، أخطأ الرأى، وزاد فى المرض، واحتمل الوزر. ولا تؤاخذ من استشرت بدرك [3] الرأى

_ [1] فى الأصل «والسرور فى التغافل» وفى «كتاب التاج فى أخلاق الملوك» طبع المطبعة الأميرية ص 57 و 103: «السر والتغافل» فكلمة «السرور» فى الأصل محرفة عن السرو. والسرو: السخاء فى مروءة. [2] التكملة عن قوانين الوزارة. [3] الدرك: التبعة.

إن زلّ، فما عليه إلا الاجتهاد وإن حجزته الأقدار عن الظّفر. فقد قيل فى منثور الحكم: من كثر صوابه لم يطّرح لقليل الخطأ. اختر لأسرارك من تثق بدينه وكتمانه، وتسلم من إذاعته وإدلاله، ولو قدرت ألّا تودع سرك غيرك، كان أولى بك وأسلم لك؛ لأنك فيها بين خطر أو حذر. وقد قيل فى منثور الحكم: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون. تثبّت فيما لا تقدر على استدراكه؛ فقلّما تعقب العجلة إلا ندما. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تأنّى أصاب أو كاد ومن عجل أخطأ أو كاد» . وقيل فى حكمة آل داود: من كان ذا تؤدة وصف بالحكمة. وقدّم ما قدرت عليه من المعروف، فقلما يعقب الريث إلا فواتا؛ فإن للقدرة غاية، ولنفوذ الأمر نهاية [1] ، فاغتنمها فى مكنتك تسعد بما قدّمته، ويسعد بك من أعنته. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب. وقال بعض الحكماء: من أخّر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها. واحذر قبول المدح من المتملّقين، فإن النّفاق مركوز فى طباعهم، ويداجونك بهيّن عليهم [2] ؛ فإن نفّقوا عليك غششت نفسك، وداهنت حسّك؛ وأنت أعرف بنفسك من غيرك فيما تستحق به حمدا أو ذمّا. فناصح نفسك بما فيها، فإنك أعلم بمحاسنها ومساويها. فقد قيل فيما أنزل الله تعالى من الكتب السالفة: «عجب لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح! وعجب لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف

_ [1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «ولنفوذ القدر ... » . [2] كذا فى قوانين الوزارة. ولعل المراد بالهين عليهم: المدح الذى لا يكلفهم شيئا. وفى الأصل: «ويد اخوتك تهون عليهم» وهو ظاهر التحريف.

يغضب!» . وقال بعض البلغاء: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذره أن يكفر نعمك فيما أسديت إليه. ففوّض مدحك إلى أفعالك، فإنها تمدحك بصدق إن أحسنت، وتذمّك بحقّ إن أسأت. ولا تغترّ بمخادعة اللسان الكذوب. فقد قيل: أبصر الناس من أحاط بذنوبه، ووقف على عيوبه. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: لا ترغب فى الكرامة التى تنالها من الناس كرها، ولكن فى التى تستحقّها بحسن الأثر وصواب التدبير. اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، تكن أيّامك سعيدة، وأفعالك محمودة، والناس بك مسرورين، ولك أعوانا مساعدين؛ ويبقى بعدك [فى الدنيا [1]] جميل أثرك، وفى الآخرة جزيل أجرك. واستعذ بالله من صدّها فتعدل بك إلى ضدّها، فإن الولايات كالمحكّ تظهر جواهر أربابها، فمنهم نازل مرذول ومنهم صاعد مقبول. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا جوار نعم الله فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم» . وتعرّض رجل ليحيى بن خالد وهو على الجسر بكتاب وسأله أن يختمه؛ فقال: يا غلام اختم كتابه ما دام الطين رطبا، ثم أنشد: إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... وجد فلكلّ [2] خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدرى السكون متى يكون إذا نلت من سلطانك حظّا، وأوجبت عليه بخدمتك حقّا، فلا تستوفه، ودع لنفسك بقيّة يدّخرها لك ويراها حقا من حقوقك، ويكون كفيل أدائها إليك. فإن استوفيتها برئ وصرت إلى غاية ليس بعدها إلا النقصان. قال الشاعر: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ

_ [1] زيادة من قوانين الوزارة. [2] فى قوانين الوزارة: «فإن لكل ... » .

واعلم أنك مرصد لحوائج الناس، لأنّ بيدك أزمّة الأمور وإليك غاية الطلب، فكن عليها صبورا، تكن بقضائها مشكورا؛ ولا تضجر على طالبها وقد أمّلك، ولا تنفر عليه إذا راجعك؛ فما يجد الناس من سؤالك بدّا. ولخير دهرك أن ترى مرجوّا. قال أبو بكر بن دريد: لا تدخلنّك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسئولا لا تجهن بالردّ وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا وقد قيل فى الصحف الأولى: القلب الضيق لا تحسن به الرياسة، والرجل اللئيم لا يحسن به الغنى. ولئن كانت الحوائج كالمغارم لمن استثقلها فهى مغانم لمن وفّق لها. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عظمت [1] نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل مؤنة الناس عرّض تلك النعمة للزوال» . واذا جعلت الوزارة غايات الأمور إليك، وحوائج الناس واقفة عليك، والقدرة لك مساعدة، لانبساط يدك ونفوذ أمرك، صرت بالتوقّف والإعراض مخلّا بحقوق نظرك، وآسفا على فوات مكنتك. فقد قال بهرام جور فى عهده الى ملوك فارس: إنكم بمكان لا مصرف للناس عن حوائجهم إليكم، فلتتّسع صدوركم كاتّساع سلطانكم. قال علىّ بن الجهم: إذا جدّد الله لى نعمة ... شكرت ولم يرنى جاحدا

_ [1] كذا فى الأصل وقوانين الوزارة. ونصه فى الجامع الصغير: «ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدّت عليه مؤنة الناس فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال»

ولم يزل الله بالعائدات ... على من يعود [1] بها عائدا أيا جامع المال وفّرته ... لغيرك إذ لم تكن خالدا! فإن قلت أجمعه للبنين ... فقد يسبق الولد الوالدا وإن قلت أخشى صروف الزمان ... فكن فى تصاريفه واحدا فاجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك كصلاح نفسك. ومل إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنزا فى شدائدك، وحرزا فى نوائبك. احذر دعوة المظلوم وتوقّها، ورقّ لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزّة على البطش فتزداد ببطشك ظلما، وبعزتك بغيا. وحسبك بمنصور عليك الله ناصره منك. كن عن الشهوات [2] عزوفا تنفكّ من أسرها، فإنّ من قهرته الشهوة كان لها عبدا، ومن استعبدته ذلّ بها. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار لها عن الشهوات» . وقيل لبعض حكماء الروم: ما الملك الأعظم؟ قال: أن يغلب الإنسان شهوته. وكن بالزمان خبيرا تسلم من عثرته؛ فإنّ الاغترار به مرد. وقدم لمعادك ليبقى عليك ما ذخرته، فلن تجد إلا ما قدّمته؛ وإنك لتجازى بما صنعت. واستقلّ الدنيا تجد فى نفسك عزّا، فترضى اذا سخطت، وتسرّ اذا حزنت؛ فلن يذلّ إلا طالبها، ولن يحزن إلا صاحبها. فقد قال بعض الحكماء: ليكن طلبك الدنيا اضطرارا،

_ [1] فى قوانين الوزارة: «على من يجود بها عائدا» . [2] فى الأصل وقوانين الوزارة: «كن للشهوات عزوفا» وعزف وما اشتق منه يتعدى الى المعمول بالحرف «عن» .

ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم

وفكرك فيها اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا. وقال عبد الحميد: طالب الدنيا عليل، ليس يروى له غليل. اجعل صالح عملك ذخرا لك عند ربك، وجميل سيرتك أثرا مشكورا فى الناس بعدك، ليقتدى بك الأخيار، ويزدجر بك الأشرار، تكن بالثواب حقيقا، وبالحمد جديرا. فقد قيل: الاغترار بالأعمار من شيم الأغمار. فلن يبقى بعدك إلا ذكرك فى الدنيا، وثوابك فى الآخرة؛ فاظفر بهما تكن سعيدا فيهما؛ فإنّ الدنيا كأحلام النائم يستحليها فى غفوته، ويلفظها بعد يقظته. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: احرص على العمل الصالح لأنه لا يصحبك غيره. انتهى كلام الماوردىّ. وقد بالغ- رحمه الله- فى عهده، وجاد بعظيم برّه وجزيل رفده؛ وأوضح ما إن استمسك به الوزير كفاه، وإن حذا على مثاله كان ذخيرة لدينه ومعونة لدنياه. فليتمسّك به من رفل من الوزارة فى حللها، وارتقى من الرياسة الى شواهقها المنيعة وقللها؛ وأفاضت عليه السياسة برودها، وطوّقته السعادة عقودها. وليأخذ نفسه به ويرضها عليه؛ وليجعله نصب عينه فيما فوّض من أمور العالم اليه؛ ليفوز بسعادة الدنيا وثواب الآخرة، ويلتحق غدا بذوى الوجوه الناضرة، التى هى إلى ربها ناظرة. وإن عدل عنه وعمل بضدّه فوا خيبة مسعاه، وسوء منقلبه ومثواه، وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ. ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم أما صفاتهم فقد ذكر «الحمدونىّ» فى «تذكرته» ما لا بدّ منه لصاحب السلطان وجليسه، ومحادثه وأنيسه؛ ولا يستغنى عنه وزراؤه وندماؤه، وخواصّه وأولياؤه؛ فقال: من صحب الملوك وقرب منهم فينبغى أن يكون جامعا للخلال المحمودة. فأوّلها العقل،

فإنه رأس الفضائل. والعلم، فإنه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك بأهل الجهل. والودّ، فإنه خلق من أخلاق الناس يولّده العقل فى الإنسان لذوى ودّه. والنصيحة، وهى تابعة للودّ وهو الذى يبعث عليها. والوفاء، فلا تتم الصحبة إلا به. وحفظ السرّ، وهو من صدق الوفاء. والعفّة عن الشهوات والأموال. والصرامة، وهى شدّة القلب فإن الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النّكول، ولا ينال الجسيم من الأمور إلا الشجاع النّدب [1] النجد. والصدق، فإنه من لا يصدق يكذب، ومضّرة الكذب لا تتلافى. وحسن الزىّ والهيئة، فإن ذلك يزيد فى بهاء الملك. والبشر فى اللقاء، فإنه يتألّف به قلب من يلاقيه، وفى الكلوح تنفير عن غير ريبة. والأمانة فيما يستحفظ. ورعاية الحق فيما يستودع. والعدل والإنصاف، فإن العدل يصلح السرائر ويجمّل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه اذا دعته الى أمر لا يحسن ركوبه. وينبغى له أن يجانب أضداد هذه الخلال؛ وألّا يكون حسودا فإنّ الحسد يفسد ما بينه وبين الناس؛ وليفرّق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل؛ وأن يخلو من اللّجاج والمحال فإن ذلك يضرّ بالأفعال اذا وقع فيها اشتراك؛ وألّا يكون بذّاخا ولا متكبرا، فإن البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعى المقت؛ وألّا يكون حريصا، فإن الحرص من ضيق النفس وشدّة البطش والبعد عن الصبر. وينبغى ألّا يكون فدما [2] وخما [3] ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقى الملوك، وأبدا تكون صفة للمقت من غير جرم. وينبغى لمن صحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه، لا كما يفعل الأعمار الجهّال بخدمة الملوك، فإن

_ [1] الندب: الخفيف فى الحاجة. والنجد (بفتح أوّله وتثليث ثانيه) الشجاع الماضى فيما يعجز غيره. [2] الفدم: الغنىّ عن الكلام فى ثقل ورخاوة وقلة فهم، أو الأحمق الجافى. [3] الوخم: الرجل الثقيل.

أحدهم كلما ازداد عملا نقص من ساعات نصبه [1] وعمله فزادها فى ساعات شهوته وعبثه. فهذه الصفات، فلنذكر الوصايا. وأما وصايا أصحاب السلطان- فهى متقاربة من وصايا الوزراء غير متفاوتة. وفيها ما يضطرّ الوزير إليه، على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه. قالت الحكماء: إذا نزلت من الملك بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر من الدعاء له فى كلّ كلمة، فإن ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلّمه على رءوس الناس فلا تأل عما وقّره وعظّمه. وإذا أردت أن يقبل قولك فصحّح رأيك ولا تشوبنّه بشىء من الهوى، فإن الرأى يقبله منك العدوّ، والهوى يردّه عليك الصديق. وتبصّر ما فى الملك من الأخلاق التى يحبّ ويكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحبّ ويكره إلى ما تحب وتكره [2] ، فإنها رياضة صعبة قد تحمل على التنائى [3] والقلى. فقلما تقدر على ردّ رجل عن المكابرة والمناقضة وإن لم يكن جمع به عزّ السلطان، فكيف إذا جمح به! ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزيّنه له وتقوّيه عليه؛ فإذا قويت المحاسن كانت هى التى تكفيك المساوى. وإذا استحكمت منه ناحية [4] من الصواب

_ [1] فى الأصل: «نصيبه» وما وضعناه هو المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل تحريف. [2] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «وتبصر فان فى الملك من الأخلاق التى يحب ويكره، ثم لا تكاثره بالتحول عما..» وفيها تحريف. وقد أثبتنا ما ترى استنادا الى ما فى الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير، وهو المناسب للسياق، وفى الأصل: « ... على الإباء ... » . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «واذا استحكمت منه ما أحب من ... » .

كان ذلك الصواب هو الذى يبصّره [مواقع الخطإ [1]] بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك فى نفسه؛ فإنّ الصواب يؤيّد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض. وإذا كنت له مكابرا لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد. ولا يكونن طلبك ما عند السلطان بالمسألة! ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به وإن طالت الأناة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإذا لم تستبطئه كان أعجل له. ولا تخبرنّ الملك أنّ لك عليه حقا، وأنك تعتدّ [2] عليه بلاء. وإن استطعت ألّا ينسى حقك وبلاءك فافعل. وليكن ما تذكّره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألّا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره الأوّل؛ فإنّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسى الأوّل؛ فإنّ أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا عمن رضوا عنه فى يومهم وساعتهم. واعلم أن أكثر الناس عدوّ لصاحب السلطان ووزيره وذوى المكانة عنده، لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس [3] على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه؛ غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حسّاده أحباء [4] الملك الذين يشاركونه فى المنزلة والدخول، وهم حضور، وليسوا كعدوّ الملك النائى عنه الكاتم لعداوته؛ فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له. فالبس لهؤلاء الاعداء كلهم سلاح الصحّة والاستقامة ولزوم المحجّة [5] فيما تسرّ وتعلن. ثم روّح عن قلبك حتى كأنك لا عدوّ لك ولا حاسد. جانب

_ [1] زيادة عن الأدب الكبير. [2] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «وأن تعتدّ عليه بلاء» . [3] نفس عليه مكانه من باب «فرح» لم يره أهلاله. [4] أحباء (جمع حبأ كسبب) : جلساء الملك وخاصته. [5] كذا فى بعض نسخ الأدب الكبير. والمحجة: جادّة الطريق أى معظمه ووسطه. وفى الأصل: «ولزوم الحجة» والسياق يعين ما اخترناه.

المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثنينّ عليه خيرا. فإذا رأيته قد بلغ فى الإعتاب مما [1] سخط عليه [فيه [2]] ما ترجو أن يلين له الملك، واستيقنت أن الملك قد تحقق مباعدتك إياه وشدّتك عليه، فضع عند ذلك عذره عند الملك، واعمل فى إرضائه بالرفق واللطف. وإذا أصبت الجاه عند الملك وكانت لك خاصة منزلة، فلا يحدثن لك ذلك تغيّرا على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنك لا تدرى متى [3] ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم [4] . وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزينه به، فإن الذى أنت بذلك آخذ أفضل من الذى أنت به معط. (واعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعدّه منهم شفقة ونظرا ويحمدهم عليه وإن كان جوادا. فإن كنت مبخّلا فقد غششت [5] صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك. فالرأى لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج، بألا يعرف منك ميلا إلى شىء من هواك [6] ) . فهذه نبذة من وصايا أصحاب السلطان يكتفى بها اللبيب، ويتمسك بها الأريب. وقد قدّمنا فى شروط الوزارة ما يحتاج صاحب السلطان إلى استعما فى خدمته. فلنذكر ما يحتاج إليه نديم الملك ومؤاكله.

_ [1] كذا فى الأدب الكبير. والإعتاب: رجوع المعتوب عليه الى ما يرضى العاتب، كالعتبى، وفى الأصل: « ... فى الإعتاب فيما ... » . [2] زيادة من الأدب الكبير. [3] كذا فى الأدب الكبير. وفى الأصل: «فانك لا تدرى حتى ترى ... » . [4] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل: «فتذل له» . [5] فى الأدب الكبير: «شنت صاحبك ... » . [6] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى صفحة 11 من هذا الجزء بتغيير يسير عما هنا.

ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه.

ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه. قالوا: مما يزيد النديم فى المحلّ تقدّما، وعند ملكه تمكّنا، أن يكون عالما بكل ما يتنافس الملوك ويتغالون فيه، من الرقيق المثمّن، وقيمة الجوهر النفيس، والآلات المحكمة، وأنواع الطيب والفرش، إلى غير ذلك من معرفة الخيل والسلاح. ولذلك قال الواصف نفسه [1] للفضل بن يحيى بن خالد يرغّبه فى اختصاصه بمنادمته فى شعر طويل: لست بالناسك المشمّر ثوبي ... هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح أبصر الناس بالجواهر [2] والخي ... ل وبالخرّد الحسان الملاح قالوا: ومن أبرد من النديم مجلسا وأكسف منه بالا إذا عرض على الملوك شىء من هذه الأعلاق فلم يحر جوابا ولا وجد عنده منه علما!. ويستظرف من نديم السلطان أن يصف اللون الغريب من الطعام، والصوت البديع من الشعر، واللحن الشجى من الغناء. وقالوا: من لم يدر عشرة أصوات من الغناء ويحسن من غرائب الطبيخ عشرة ألوان، لم يكن عندهم ظريفا [3] كاملا، ولا نديما جامعا [4] . وأما ما يأخذ به نفسه- فقد قالوا: ينبغى أن يكون نديم السلطان معتدل الأخلاق، سليم الجوارح، طيّب المفاكهة والمحادثة، عالما بأيام الناس ومكارم

_ [1] الواصف نفسه: هو أبان بن عبد الحميد اللاحقّى. [2] فى ديوان أبى نواس (طبع المطبعة العمومية بمصر سنة 1898 م) : «أبصر الناس بالجوارح ... » . [3] فى الأصل: «ظرفا» . [4] فى الأصل: «خائعا» وهو تحريف.

أخلاقهم، راوية للنادر من الشعر والمثل السائر، متصرّفا فى كل فنّ، قد أخذ من الخير والشر بنصيب؛ فإن مالت شهوة الملك إلى ضرب ما وجد عنده منه علما. ويلزمه أيضا أن يحضر فى الزىّ الظاهر الذى يعرف به، ويشهد فيه المجالس الحافلة من غير أن يتشهر [1] . فإن شاء الملك أن يغيّر حاله وزيّه ويكرمه بشىء من ثيابه، حسن أن يلبس ذلك من وقته حتى ينقضى المجلس، ولم يحسن أن يجلس فيه ظاهرا فى مجلس ثان؛ لأنه شىء اختاره الملك فى ساعة بعينها لا فى كل أوقاته. وأما العمامة والخفّ فلا يخلو منهما. والغرض من ذلك إجلال السلطان عن مشاركته فيما اتسع له من التبدّل والتخيّر فى الزىّ الذى لا ثقل عليه منه، والانفراد به عمن هو دونه. وهذه كانت عادة ملوك الأعاجم؛ لأنهم رسموا لكل طبقة من طبقات أهل مملكتهم برسم من الزىّ ليتميزوا به، ولا يتشبه سوقة بملك، ولا مشروف بذى الشرف، ولا تابع برئيس [2] . ومما يجب أن يأخذ به نفسه الإسراع فى الخطو إذا كان بحيث يراه الملك، ليكون مشيه إرقالا ولا يكون اختيالا. ومما يلزمه أن يتحفّظ منه ويروض به نفسه ألّا يصبّحه ولا يمسّيه ولا يشمّته ولا يستخبره. وإنما ترك ذلك كله لما فيه من تكلّف الجواب. وأوّل من سنّ ذلك وحمل الناس عليه الفضل بن الربيع.

_ [1] يتشهر: من الشهرة وهى ظهور لشىء فى شنعة. ولم نجد هذا الفعل الذى ورد بالأصل فى كتب اللغة التى بين أيدينا، فلعله تحريف عن «يشتهر» أو «يشهر» . [2] الذى فى الأصل: «ولا يتشبه سوقة بملك ولا مشروف بذى الشرف ولا تابع بدنىء الشرف ولا تابع برئيس» والذى ظهر لنا أن «ولا تابع بدنىء الشرف» زيادة وقعت سهوا من الناسخ.

وأما الآداب فى محادثة السلطان- فقد قالوا: من حق الملك إذا حضر سمّاره ومحدّثوه ألّا يبتدئه أحد حديثا. فإن بدأ هو بالحديث صرف من حضره ذهنه وفكره نحوه. فإن كان يعرف الحديث الذى حدّث به الملك استمعه استماع من لم يدره [1] ولم يعرفه، وأظهر السرور بفائدة الملك والاستبشار بحديثه؛ فإن فى ذلك أمرين: أحدهما ما يظهر من حسن أدبه. والآخر أن يعطى الملك حقه بحسن الاستماع. وإن كان لم يعرفه فالنفس إلى فوائد الملوك والحديث عنهم أتوق [2] منها إلى فوائد السّوقة ومن أشبهها. وقد كان روح بن زنباع يقول: إذا أردت أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإصغاء إليه إذا حدّث. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما غلبنى أحد قطّ غلبة رجل يصغى إلى حديثى. ومن حق الملك إذا قرّب إنسانا أو أنس به حتى يهازله ويضاحكه، ثم دخل عليه، أن يدخل دخول من لم يجر بينهما أنس قط، وأن يظهر من الإجلال والتعظيم أكثر مما كان عليه؛ فإن أخلاق الملوك ليست على نظام. ومجالستهم ومحادثتهم تحتاج إلى سياسة وتحفّظ من [3] وضع الحديث والمثل والشعر فى موضعه. وإذا حدّث الملك بحديث وفرغ منه فنظر إلى بعض جلسائه، فقد أذن له أن يحدّثه بنظير ذلك الجنس من الحديث، وليس له أن يأخذ فى غير جنس حديثه. فإذا فرغ من ذلك الحديث فليس له أن يصله بحديث آخر وإن كان شبيها للحديث الأوّل. فإن رأى الملك قد

_ [1] الذى فى التاج (طبعة المطبعة الأميرية ص 53) : «استماع من لم يدر فى حاسة سمعه قط ولم يعرفه» . [2] فى «التاج» : «أقرم وأشهى منها ... » . [3] من وضع الحديث ... الخ: «من» بيانية، وليست متعلقة ب «تحفظ» فان ذلك يؤدى الى خطأ فى المعنى.

أقبل عليه بوجهه وأصغى إلى حديثه فليمض فيه حتى يكمله ويأتى على آخره. وليس له- إن قطع الملك استماع حديثه بشغل يعرض له- أن يمرّ على كلامه، ولكن ينصت مطرقا. فإن اتصل شغل الملك، ترك الحديث. فإن فرغ ونظر إليه، فقد أذن له فى إتمامه وإعادته، وإلّا فلا. ومن حق الملك ألّا يضحك بحضرته، لأن الضحك جرأة عليه؛ وألّا يعاد عليه الحديث مرتين وإن طال بينهما الدهر، إلا أن يذكره الملك، فإن ذكره فقد أذن له فى إعادته. وكان روح بن زنباع يقول: أقمت مع عبد الملك بن مروان سبع عشرة سنة من أيامه ما أعدت عليه حديثا. وكان الشّعبىّ يقول: ما حدّثت بحديث مرتين لرجل بعينه قط. وكان أبو العبّاس السفّاح يقول: ما رأيت رجلا أغزر علما من أبى بكر الهذلىّ لم يعد علىّ حديثا قط. وكان أبو بكر الهذلىّ يقول: حدّثت المنصور بأكثر من عشرة آلاف حديث، فقال لى ليلة- وقد حدّثته عن يوم ذى قار وقد اضطررت إلى التكرار-: أتعيد الحديث؟ فقلت: ما هذا مما مر يا أمير المؤمنين؛ فقال: أما تذكر ليلة الرعد والأمطار وأنت تحدّث بحديث يوم ذى قار فقلت لك: ما يوم ذى قار بأصعب من هذه الليلة؟ ومن حق المحادثة وواجب المؤانسة ترك المراء؛ هذا مع الأكفاء فكيف مع الملوك والرؤساء! وقالوا: المماراة تفسد الصداقة القديمة، وتحلّ العقدة الوثيقة وتكسب الإحنة والبغضاء. وقال الصاحب بن عبّاد: للمحدّث على السامع ثلاث: كتمان السر، وإصغاء الذهن، وترك التحفّظ. هذا ما يلزم نديم الملك. وأما مؤاكله، فقد اصطلح الناس على إجلال رؤسائهم وملوكهم عن غسل أيديهم بحضورهم، واستجازوا ذلك مع نظرائهم ومن يسقط التحفّظ بينهم وبينهم.

ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم

وربما تجمّل الرئيس فقال لمؤاكله: اغسل يدك مكانك ولا تبرح. فالغبىّ يغتنم ذلك ويفعل، والفطن يأباه ويسلك سبيل الأدب، فيخفّ على القلب. هذا بعد الطعام. وأما قبله فجائز أن يغسل اليد بحضرة الرئيس. وأما الخلال فلا يستعمل بحضرته البتة. وأما آداب الأكل بين يدى الرئيس- ألّا يخلط طعاما بطعام، ولا يغمس اللقمة بالخل ثم يضعها فى الطعام، ونحو ذلك. هذا ما يلزم نديم الملك ومؤاكله. وقد ذكرنا مما يجب للملك على رعيته من المناصحة والأدب والتوقير والتعظيم فيما تقدّم ما يدخل فى هذا الباب، فلا فائدة فى تكراره. فلنذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك. ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم قد نهت الحكماء عن صحبة الملوك وقالوا: إن الملوك إذا خدمتهم ملّوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك. وإنهم يستعظمون فى الثواب ردّ الجواب، ويستقلّون فى العقاب ضرب الرقاب. وإنهم ليعثرون على العثرة اليسيرة من خدمهم فيبنون لها منارا، ثم يوقدون لها نارا، ويعتقدونها ثارا. وقال ابن المقفّع: إن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فصن عنه نفسك، واعتزله جهدك؛ فإنه من يأخذه السلطان بحقه يحل بينه وبين لذّة الدنيا وعمل الآخرة. وقال العتّابىّ وقد قيل له: لم لا تقصد الأمير فتخدمه؟ فقال: لأنى أراه يعطى الواحد لغير حسنة ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدرى أىّ الرجلين أكون، ولست [1] أرجو منه مقدار ما أخاطر به. وقال لامرأته:

_ [1] فى الأصل: «وليس» .

الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى

أسرّك أنى نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد فقالت: بلى والله! فقال: وأن أمير المؤمنين أغصّنى ... مغصّهما بالمرهفات البوارد فقالت: لا والله! فقال: ذرينى تجئنى ميتتى مطمئنّة ... ولم أتجشّم هول تلك الموارد فإنّ جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات فى بطون الأساود الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب، ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح. ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم قال الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الحليمىّ الجرجانىّ الشافعىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» ما مختصره ومعناه: إذا أنفذ الإمام جيشا أو سريّة فينبغى أن يؤمّر عليهم رجلا صالحا أمينا محتسبا، لأن القوم إليه ينظرون. فإذا لم يكن خيّرا فى نفسه كانت أعماله بحسب سريرته وكانت أعمال القوم بحسبها مضاهية لها، فإن رأوا منه كسلا كسلوا، وإن رأوا منه فشلا فشلوا، وإن ثبت ثبتوا، وإن رجع رجعوا، وإن جنح إلى السلّم جنحوا، وإن جدّ جدّوا؛ فهم

فى تبعه كالمأموم مع الإمام. والعدوّ إنما يفرق من رئيس القوم، فإذا سمع بذى ذكر كان ذلك أهيب له من أن يسمع بخامل لا صيت له. واذا سمع بشجاع غير فرّار كان آيس من مقاومته، منه إذا سمع بفشئل جبان. وإذا سمع بليّن يطمع فى خداع مثله كان أجرأ [1] على استقباله، منه إذا سمع بصلب فى الدّين شديد فى البأس. فيكون [2] ما يكون من العدوّ من الإقدام والإحجام بحسب ما يبلغه من حال رأس المسلمين. فلهذين السببين وجب أن يكون الرأس مستصلحا جامعا لأسباب الغناء والكفاية. والله تعالى أعلم. واما ما يلزم قائد الجيش- قال أبو الحسن الماوردىّ فى كتابه المترجم ب «الأحكام السلطانية» ما معناه: إن أمير الجيش يلزمه ستة أحكام: الأوّل منها- مسيره بالجيش. وعليه فى السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرّفق بهم فى السير الذى يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوّة أقواهم. ولا يجدّ السير فيهلك الضعيف ويستفرغ جلد القوىّ. فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا [3] فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . والثانى أن يتفقّد خيلهم التى يجاهدون عليها وظهورهم التى يمتطونها، فلا يدخل فى خيل الجهاد قحما [4] كبيرا، ولا ضرعا [5] صغيرا، ولا حطما [6] كسيرا، ولا أعجف رازحا [7] هزيلا؛ لأنها لا تغنى، وربما

_ [1] فى الأصل: «أحرى» والمعنى يقتضى ما أثبتنا. [2] فى الأصل: «ليكون» باللام، ولكن الفاء هى المناسبة للسياق. [3] فى الجامع الصغير «فأوغل ... » وبقية الحديث كما هنا. [4] القحم (بالفتح) : الكبير السن جدا. [5] الضرع: المهر الذى لا يقوى على العدو. [6] الحطم: الفرس الذى تهدّم لطول عمره. [7] الرازح: الساقط من الإعياء.

كان ضعفها وهنا. ويتفقّد ظهور المطايا والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على المسير ويمنع من أن تحمّل زيادة على طاقتها. والثالث أن يراعى من معه من المقاتلة. وهم صنفان: مسترزقة، وهم أصحاب الديوان من أهل الفىء بحسب الغناء والحاجة؛ ومتطوّعة، وهم الخارجون عن الديوان من البوادى والأعراب وسكّان القرى والأمصار الذين خرجوا فى النّفير الذى ندب الله اليه بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قيل معناه: شبّانا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل ركبانا ومشاة، وقيل ذا عيال وغير [ذى [1]] عيال. وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفىء. والرابع أن يعرّف على الفريقين العرفاء وينقّب عليهم النقباء، ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربوا [2] عليه اذا دعاهم. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فى مغازيه. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا به مميّزين. فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين: «يا بنى عبد الرحمن» وشعار الخزرج: «يا بنى عبد الله» وشعار الأوس: «يا بنى عبيد الله» وسمّى خيله: «خيل الله» . والسادس أن يتصفّح الجيش ومن فيه، فيخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف بالمسلمين أو عينا عليهم للمشركين. فقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبىّ بن سلول فى بعض غزواته لتخذيله المسلمين. قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أى لا يفتن بعضكم [3] بعضا. والسابع ألّا يمايل [4] من ناسبه

_ [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل والأحكام السلطانية «ويقربون» والظاهر أنه معطوف على «ليعرف ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو المتعين، لأنه تفسير لقوله «وقاتلوا ... » وهو لمخاطب، فيكون مفسره كذلك. وفى الأصل «بعضهم» . [4] يمايل: يمالئ.

أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه فى النسب أو خالفه فى رأى ومذهب، فيظهر من المباينة ما تفرّق به الكلمة الجامعة تشاغلا بالتقاطع والاختلاف. فقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد فى الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم العدّة، ووكلهم فيما أضمروه من النفاق إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قيل فيه: الدولة، وقيل: القوّة. والثانى- تدبير الحرب. قال الماوردىّ: والمشركون فى دار الحرب صنفان، صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتأبّوا [1] عليها. فأمير الجيش مخيّر فى قتالهم بين أن يبيّتهم ليلا ونهارا بالقتل والتحريق، وبين أن ينذرهم الحرب ويصافّهم فى القتال. والصنف الثانى لم تبلغهم دعوة الإسلام وهم قليل جدّا، إلا أن يكونوا وراء من يلى هذه البلاد الإسلامية من الترك والروم فى مبادئ بلاد المشرق وأقاصى المغرب، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرّة وبياتا، وأن يبدأهم بالقتال قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوّة وظهور الحجة ما يقودهم إلى الإجابة. فإن أقاموا على الكفر بعد ظهورها لهم، حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة. قال الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ معناه إلى دين ربّك بالنبوّة والقرآن. فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بحججه وقتلهم غرّة وبياتا، ضمن ديات نفوسهم. وهى على الأصح من مذهب الشافعى كديات المسلمين. وقيل: بل تكون كديات الكفار على اختلافها. وإذا تقابلت الصفوف فى الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلّم بما

_ [1] كذا فى الاحكام السلطانية، وفى الأصل: «وقاتلوا عليها» .

يشتهر به فى الصفوف ويتميّز به من بين الجيش، وأن يركب الأبلق إن كانت خيول الناس دهما أو شقرا. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت [1] » . ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعى إليه؛ فقد دعا أبىّ بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز اليه فقتله النبى صلى الله عليه وسلم. ويجوز أيضا للمقاتل من المسلمين أن يدعو إلى البراز [2] لما فيه من إظهار القوّة فى دين الله تعالى بعد أن يعلم من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة خصمه ويقدر على دفع عدوّه. ولا يجوز ذلك لزعيم الجيش، فإنه إذا طلب البراز وفقد، أثّر ذلك فى المسلمين؛ وربما يفضى بهم عدمه إلى الهزيمة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما برز لثقته بنصر الله وإنجاز وعده، وليس ذلك لغيره. ويجوز لأمير الجيش إذا حضّ على الجهاد أن يعرّض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أنّ قتله فى المعركة مما يحرّض المسلمين على القتال حميّة له. حكى موسى بن إسحاق أن النبىّ صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرّض الناس على الجهاد ونفّل كلّ امرئ [منهم [3]] ما أصاب، وقال: «والذى نفسى بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ؛ فقال عمير بن الحمام من بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: نج نج! ما بقى

_ [1] اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا. وفى الأصل «تسوّموا ... » وما أثبتناه رواية النهاية لابن الأثير واللسان. [2] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «إلى البراز يوم أحد لما فيه ... الخ» وظاهر أن كلمة «يوم أحد» زيدت هاهنا سهوا من الناسخ. [3] الزيادة عن الطبرى قسم أوّل ج 5 ص 1321 طبع أوربا. ونفل الإمام الجند: جعل لهم ما غنموا.

بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء القوم، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وتقدّم وقاتل القوم حتى قتل- رحمه الله- وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا [1] التّقى وعمل المعاد والصبر فى الله على الجهاد ... وكلّ زاد عرضة النّفاد غير التّقى والبرّ والرشاد ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربا وغير محارب. واختلف فى قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والديارات. فمن منع من قتلهم قال: إنهم موادعون. ومن قال بقتلهم وإن لم يقاتلوا [قال [2]] : لأنهم ربما أشاروا برأى يكون فيه إنكاء للمسلمين. وقد قتل دريد بن الصّمّة فى حرب هوازن- وهو يوم حنين- وقد جاوز مائة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله؛ وكان يقول حين قتل: أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلمّا عصونى كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم لا أننى غير مهتدى [3] ولا يجوز قتل النساء والولدان فى حرب ولا غيرها ما لم يقاتلوا؛ لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء- والعسفاء: المستخدمون، والوصفاء: المماليك-. فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا مقبلين ولم يقتلوا مدبرين. وإذا تترّسوا فى الحرب بنسائهم وأطفالهم عمد قتلهم

_ [1] فى الأصل: «الى» والتصويب عن الأحكام السلطانية والطبرى. [2] زيادة يقتضيها سياق الكلام. [3] فى ديوان الحماسة لأبى تمام، شرح التبريزى طبع مدينة «بن» بأوربا: « ... وقد أرى غوايتهم وأننى غير مهتدى» .

وتوقّى قتل النساء والأطفال، [فان لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النّساء والأطفال [1]] جاز، ولو تترّسوا بأسرى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم، فإن أفضى الكفّ عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين، توصّلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرّزوا أن يعمدوا قتل مسلم؛ ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها؛ ومنع بعض الفقهاء من عقرها. وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرس نفسه، لأن الخيل من القوّة التى أمر الله تعالى بإعدادها فى جهاد عدوّه. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. ولا احتجاج بعقر جعفر بن أبى طالب فرسه يوم مؤتة، فإنه اقتحم بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضى الله عنه، وهو أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه فى الإسلام، وهو إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به، فعقره لها خشية أن يتقوّى بها المشركون على المسلمين، فصار عقرها كعقر خيولهم. والثالث- ما يلزم أمير الجيش فى سياستهم. والذى يلزمه فيها عشرة أشياء: أحدها: حراستهم من غرّة يظفر بها العدوّ منهم، وذلك بأن يتتبّع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط سوادهم بحرس يأمنون به على نفوسهم ورحالهم [2] ، ليسكنوا فى وقت الدّعة ويأمنوا ماوراءهم فى وقت المحاربة. والثانى: أن يتخيّر لهم موضع نزولهم لمحاربة العدوّ، وذلك أن يكون أوطأ الأرض مكانا وأكثرها مرعى وماء [3] وأحرسها أكنافا وأطرافا، ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش [إليه [4]] من زاد وعلوفة تفرّق عليهم فى وقت الحاجة، لتسكن نفوسهم

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل «رجالهم» والتصويب عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «ودماء» وهو تحريف، والتصحيح عن الأحكام السلطانية. [4] التكملة من الأحكام السلطانية.

إلى مادة يستغنون بها عن السعى فى تحصيلها، وتتوفّر دواعيهم على منازلة العدوّ. والرابع: أن يعرف أخبار عدوّه حتى يقف عليها، ويتصفّح أحوالهم [حتى يخبرها [1]] ليسلم من مكرهم ويلتمس الغرّة فى الهجوم عليهم. والخامس: ترتيب الجيش فى مصافّ الحرب، والتعويل فى كل جهة على من يراه كفئا [لها، ويتفقد الصفوف من الخلل فيها، ويراعى كل جهة [2]] يميل العدوّ عليها بمدد يكون عونا لها. والسادس: أن يقوّى نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيّل إليهم من أسباب النصر، ليقلّ العدوّ فى أعينهم فيكونوا عليه أجرأ. قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ . والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله إن كانوا من أهل الآخرة، وبالجزاء والنّفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا. والثامن: أن يشاور ذوى الرأى فيما أعضل، ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل؛ ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل. وقد تقدّم ذكر ما فى المشورة من البركة والخير. والتاسع: أن يأخذ جيشه بما أوجب الله تعالى من حقوقه وأمر به من حدوده، حتى لا يكون منهم تجوّز فى دين الله [ولا تحيف [3] فى حق] ، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انهوا جيوشكم عن الفساد فإنه ما فسد جيش قطّ إلا قذف الله فى قلوبهم الرّعب وانهوا جيوشكم عن الزنا فإنه ما زنى جيش قط إلا سلّط الله عليهم الموتان [4]

_ [1] الزيادة عن الأحكام السلطانية ص 41. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] التكملة عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: « ... إلا سلط الله عليهم الوتان والموتان» ولعل كلمة «الوتان» زيدت سهوا من الناسخ، فإنها كلمة مهملة. وقد ورد الحديث فى الأحكام السلطانية خاليا منها كما أوردناه. والموتان (بالضم ويفتح) : الموت الكثير الوقوع.

وانهوا جيوشكم عن الغلول [1] فإنه ما غلّ جيش قطّ إلا قذف الله الرعب فى قلوبهم» . وقال أبو الدرداء: يأيها الناس، عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم. والعاشر: ألّا يمكّن أحدا من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة ليصرفه [2] الاهتمام بها عن مصابرة العدوّ وصدق الجهاد. روى عن نبىّ من أنبياء الله تعالى أنه قال: «لا يغزون معى من بنى بناء لم يكمله ولا رجل تزوّج امرأة لم يدخل بها ولا رجل زرع زرعا لم يحصده [3] » . والرابع- ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد. وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم فى حق الله تعالى؛ والثانى ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم. فأما اللازم لهم فى حق الله تعالى فأربعة أشياء. أحدها: مصابرة العدوّ عند التقاء الجمعين بألّا ينهزم عنه من مثليه فما دون ذلك. وقد كان الله عز وجل فرض فى أوّل الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا . ثم خفّف الله عنهم عند قوّة الإسلام وكثرة أهله فأوجب على كل مسلم لاقى العدوّ أن يقاتل رجلين منهم، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فحرّم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرّف لقتال فيولّى لاستراحة أو لمكيدة ويعود الى قتالهم؛ وإما أن يتحيّز الى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم. قال الله تعالى:

_ [1] الغلول: الخيانة فى المغنم. [2] كذا بالأصل، ويظهر أن سياق الكلام يقتضى «فيصرفه» بالفاء. [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ولا رجل زرع زرعا ليحصده» .

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قال: وسواء قربت الفئة التى يتحيز إليها أو بعدت. فقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لفلّ [1] القادسيّة حين انهزموا اليه: أنا فئة كل مسلم. ويجوز اذا زادوا على مثليه ولم يجد الى المصابرة سبيلا أن يولّى عنهم غير متحرّف لقتال ولا متحيّز الى فئة. هذا مذهب الإمام الشافعى رحمه الله. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل هل يجوز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز انهزامه عنهم وإن قتل، للنص. وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يولّى ناويا أن يتحرّف لقتال أو يتحيّز الى فئة ليسلم من القتل ومن إثم الخلاف؛ فإنه إن عجز عن المصابرة فلا يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التفصيل، والنصّ فيه منسوخ، وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز وخاف القتل. والثانى من حقوق الله تعالى: أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيكون بهذا الاعتقاد حائزا لثواب الله تعالى ومطيعا له فى أوامره ونصرة دينه ومستنصرا على عدوّه [ليستسهل ما لاقى [2]] فيكون أكثر ثباتا وأبلغ نكاية. ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المتكسّبين لا من المجاهدين. والثالث من حقوق الله تعالى: أن يؤدّى الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغلّ منها شيئا حتى تقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة وكانوا على العدوّ يدا، لأن لكل واحد منهم فيها حقا. قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ . والرابع من حقوق الله تعالى: ألّا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابى فى نصرة الله تعالى [ذا مودّة [3]] ، فإن حق الله

_ [1] قوم فلّ: منهزمون. [2] زيادة من الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل فى مكان التكملة غير واضح، وهى عن «الأحكام السلطانية» .

أوجب ونصرة دينه ألزم. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ . نزلت الآية فى حاطب بن أبى بلتعة وقد كتب كتابا إلى أهل مكة حين همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه بالخبر وأنفذه مع سارّة- مولاة لبنى المطلب- فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأنفذ عليّا والزبير فى أثرها، فأدركاها وأخذا الكتاب من قرون رأسها، فدعا النبىّ صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: «ما حملك على ما صنعت» ؛ فقال: والله يا رسول الله إنى لمؤمن بالله ورسوله، ما كفرت ولا بدّلت ولكنى امرؤ ليس لى فى القوم أصل ولا عشيرة وكان لى بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم [1] عليهم؛ فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبيّنا فى أثناء السيرة النبوية عند ذكرنا لغزوة الفتح، فتأمله هناك تجده. وأما ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم فأربعة أشياء. أحدها: التزام طاعته والدخول فى ولايته؛ لأن ولايته عليهم انعقدت، وطاعته بالولاية وجبت. والثانى: أن يفوّضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لا تختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم. قال الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فجعل تفويض الأمر إلى وليّه سببا إلى حصول العلم وسداد الأمر. فإن ظهر لهم صواب خفى عليه بيّنوه له وأشاروا به عليه. والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته. فإن توقّفوا عما أمرهم به أو أقدموا على ما نهاهم عنه ورأى تأديبهم على المخالفة بحسب أفعالهم، فعل.

_ [1] فى الأصل «فطالعتهم بذلك» وما أثبتناه عن تاريخ الكامل لابن الأثير (ج 3 ص 184 طبع مدينة «ليدن» ) وعن الطبرى (القسم الأوّل ص 1627 طبع أوربا) وعن السيرة النبوية لابن هشام (ص 810 طبع أوربا) وعن شرح القسطلانى فانه بعد أن شرح رواية البخارى للحديث فى كتاب الجهاد قال «وفى رواية ابن إسحاق: وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم» .

ولا يغلّظ فينفّر. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ . والرابع: ألّا ينازعوه فى الغنائم إذا قسمها فيهم، ويتراضوا به بعد القسمة. والخامس من أحكامها: مصابرة الأمير على قتال العدوّ ما صبر وإن تطاولت به المدّة. ولا يولّى عنهم وفيه قوّة. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . قيل فى تأويل هذه الآية: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطوا بملازمة [1] الثغر. فإذا كانت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهى لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال: إحداهن- أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام مالنا وعليهم ما علينا، ويقرّوا على ما ملكوا من بلاد وأموال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» . وتصير بلادهم إذا أسلموا دار إسلام يجرى عليها حكم الإسلام. ولو أسلم منهم فى معركة الحرب طائفة، قلّت أو كثرت، أحرزوا بالإسلام ما ملكوا فى دار الحرب من أرض ومال. فإن ظهر على دار الحرب لم تغنم أموال من أسلم. وقال أبو حنيفة: يغنم ما لا ينقل من أرض ودار، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع. والخصلة الثانية- أن يظفّره [2] الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم، فيسبى دراريهم ويغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل فى الأسر [3] منهم. ويكون مخيّرا فى الأسرى

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «ورابطوا ملازمة الثغر» . [2] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يستقيم به الكلام. وفى الأصل: «ان ظفره الله ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يلتئم مع ما بعده. وفى الأصل: «من لم يحصل فى القتل ... » .

فى استعمال الأصلح من أربعة أمور. أحدها: أن يقتلهم صبرا بضرب العنق. والثانى: أن يسترقّهم ويجرى عليهم أحكام الرّقّ من بيع أو عتق. والثالث: أن يفادى بهم على مال أو أسرى. والرابع: أن يمنّ عليهم ويعفو عنهم. قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ معناه الأسر [1] . ثم قال: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. والخصلة الثالثة- أن يبذلوا مالا على المسالمة والموادعة، فيجوز أن يقبله منهم ويوادغهم عليه. وهو على ضربين. أحدهما: أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرّا. فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب، فيقسم بين الغانمين، ويكون ذلك أمانا لهم فى الانكفاف [2] عن قتالهم فى هذا الجهاد، ولا يمنع من جهادهم فيما بعد. والضرب الثانى: أن يبذلوه فى كل عام، فيكون خراجا مستمرّا، ويكون الأمان به مستقرّا. والمأخوذ منهم فى العام الأوّل غنيمة تقسم بين الغانمين، وما يؤخذ فى الأعوام المستقبلة يقسم فى أهل الفىء. ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال، لاستقرار الموادعة عليه. وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام، كان له بعقد الموادعة الأمان على نفسه وماله. فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم [3] الجهاد كغيرهم من أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يكون منعهم من مال الجزية والصلح نقضا لأمانهم، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد بمنعهم منه كالديون.

_ [1] فى الأصل: «معناه بالأسر، بزيادة الباء. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «فى الانكفاء ... » . [3] فى الأصل: «ولزوم الجهاد ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.

والخصلة الرابعة- أن يسألوا الأمان والمهادنة؛ فيجوز اذا تعذّر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادتهم على المسالمة فى مدّة مقدّرة تعقد الهدنة [عليها اذا كان الامام قد أذن له فى الهدنة [1]] أو فوّض اليه الأمر. فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين. ويقتصر فى مدّة الهدنة على أقلّ ما يمكن، ولا يجاوز بأكثرها عشر سنين. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد عليها، ولهم الأمان فيها الى انقضاء مدّتها لا يجاهدون فيها من غير إنذار. [فإن نقضوه صاروا حربا يجاهدون من غير إنذار [1]] فقد نقضت قريش صلح الحديبية، فسار اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محاربا. واذا نقضوا عهدهم فلا يجوز قتل من فى أيدينا من رهائنهم. وقد نقض الروم عهدهم فى زمان معاوية وفى يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلّوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر. وإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجب [2] إطلاقهم ما لم يحاربوا. فإن حاربونا وجب إطلاق رهائنهم وإبلاغ الرجل منهم مأمنهم وإيصال النساء والأطفال والذرارى الى أهليهم. ويجوز أن يشترط لهم فى عقد الهدنة ردّ من أسلم من رجالهم اليهم. فإذا أسلم أحدهم ردّ اليهم إن كانوا مأمونين على دمه، ولم يردّ إليهم [3] إن لم يؤمنوا عليه. ولا يشترط ردّ من أسلم من نسائهم، لأنهنّ ذوات فروج محرّمة. فإن شرط ردّهن لم يجز أن يرددن [4] ؛ ودفع الى أزواجهنّ مهورهنّ اذا طلبن. ولا تجوز المهادنة لغير ضرورة تدعو الى عقدها، وتجوز الموادعة أربعة أشهر فما دونها ولا يزيد عليها.

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأحكام السلطانية «لم يجز إطلاقهم ... » . [3] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «ولم يردّ عليهم ... » . [4] فى الأصل: «لم يجز أن يردوا» ومرجع الضمير مؤنث.

وأما الأمان الخاصّ فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة وحرّ وعبد؛ لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم» يعنى عبيدهم. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال. والسادس من أحكامها- السيرة فى نزال العدوّ وقتاله. يجوز لأمير الجيش فى حصار العدوّ أن ينصب عليهم العرّادات [1] والمجانيق. فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا. ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم، ويضع عليهم البيات والتحريق. واذا رأى فى قطع نخلهم وشجرهم صلاحا ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا فى السلم صلحا لما ينالهم من الضعف، فعل. ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا. فقد قطع النبى صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سببا لإسلامهم، وأمر فى حرب بنى النّضير بقطع نوع من النخل يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللّحاء، وكانت النخلة منها أحبّ اليهم من الوصيف [2] ، فحزنوا لقطعها، وجاء المسلمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [3] أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ . ويجوز أن يعوّر [4] عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم النساء والأطفال؛ لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم. واذا استسقى منهم عطشان فالأمير مخيّر فى سقيه أو منعه. ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم [5] تكفينه. ولا يجوز أن يحرق بالنار منهم حيّا ولا ميتا. روى عن النبىّ صلى الله عليه

_ [1] العرادات: واحدها: عرّادة وهى أصغر من المنجنيق ترمى بالحجارة المرمى البعيد. [2] الوصيف: العبد. [3] اللينة: واحدة اللين وهو كل شىء من النخل سوى العجوة. [4] عوّر الماء: سدّه. [5] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «ولم يكره» .

وسلم أنه قال: «لا تعذّبوا عباد الله بعذاب الله» وقد أحرق أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه قوما من أهل الردّة. قال الماوردى: ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه. ومن قتل من شهداء المسلمين زمّل فى ثيابه ودفن ولم يغسّل ولم يصلّ عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهداء أحد: «زمّلوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدّم والريح ريح المسك» . وإنما فعل ذلك بهم مكرمة لهم وإجراء لحكم الحياة عليهم. قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . ولا يمنع الجيش فى دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابّهم غير محتسب به عليهم. ولا يتعدّوا القوت والعلوفة الى ما سواهما من ملبوس ومركوب. فإن دعتهم الضرورة الى ذلك، كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه، مسترجعا منهم فى المغنم إن كان باقيا، ومحتسبا عليهم من سهمهم إن كان مستهلكا. ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السّبى إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء. فإن وطئها قبل القسمة عزّر ولا يحدّ، لأنّ له فيها سهما؛ ووجب عليه مهر مثلها يضاف الى الغنيمة. فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت أمّ ولد له إن ملكها. وإن وطئ من لم تدخل فى السبى حدّ، لأن وطأها زنا؛ ولم يلحق به ولدها إن علقت. وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة واحدة، لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم. واذا عقدت عموما عاما بعد عام لزمه معاودة الغزو فى كل وقت يقدر على الغزو فيه، ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر الاستراحة. و [أقل ما يجزيه أن [1]] لا يعطّل عاما من جهاد.

_ [1] زيادة من الأحكام السلطانية.

ولهذا الأمير، اذا فوّضت اليه الإمارة على المجاهدين، أن ينظر فى أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوّع. ولا ينظر فى أحكام غيرهم ما كان سائرا الى ثغره. فإذا استقرّ فى الثغر الذى تقلّده، جاز أن ينظر فى أحكام جميع أهله من مقاتلة ورعيّة. وإن كانت إمارته خاصة أجرى عليها حكم الخصوص. وأما وصايا أمير الجيش- قال الحليمىّ: ويوصى الإمام أمير السريّة والجند بتقوى الله وطاعته والاحتياط والتيقّظ، ويحذّرهم الشّتات والفرقة والإهمال والغفلة، ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه وينصحوا له، ولا يخذل [1] بعضهم بعضا، وإن أظفرهم الله على العدوّ لا يغلّوا ولا يخونوا، ولا يعقروا من دوابّ المشركين التى لا تكون تحتهم، ولا يقتلوا امرأة لا تقاتلهم ولا وليدا، وأنهم إن وصلوا إلى قرية لا يدرون حالها، أمسكوا عنها وعن أهلها ولا يبيّتونهم ولا يشنّون الغارة عليهم حتى يعلموا حالهم؛ إلى غير ذلك من الآداب التى يحتاجون إلى معرفتها مما يلزم ويحلّ أو يحرم من أمر القتل والأسر والمغنم والقسم وعزل الخمس ومن يسهم له أولا يسهم ومن يرضخ [له [2]] ، والفرق بين الفارس والراجل ونحو ذلك. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرّاح أنه بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: «باسم الله وفى سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا» . فإذا بعثت جيشا أو سريّة فمرهم بذلك.

_ [1] يخذل: يجوز أن يقرأ بتخفيف الذال فيكون من الخذلان، وبتشديدها فيكون من التخذيل. والخذلان: ترك النصرة. والتخذيل: التثبيط والحمل على ترك النصرة. [2] يقال: رضخ له من ماله اذا أعطاه عطية قليلة. فالزيادة التى وضعناها تقتضيها اللغة.

وقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الرّدّة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلّاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإنّ فى العرب غرّة، وأقلل من الكلام فإنما لك ماوعى عنك، واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله فى سريرتهم؛ وأستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول عند عقد الألوية: باسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا فى سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين. ولا تجبنوا عند اللّقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزّحفان وعند شنّ الغارات. وكتب عمر الى سعد بن أبى وقّاص ومن معه من الأجناد: أما بعد فإنى آمرك ومن معك بتقوى الله على كلّ حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ وأقوى المكيدة فى الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصى منكم من عدوّكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوّة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم. فإن استوينا فى المعصية كان لهم الفضل علينا فى القوّة. وإلّا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا. واعلموا أن عليكم فى مسيركم حفظة [من [1]] الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم. ولا تعملوا بمعاصى الله وأنتم فى سبيل الله. ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فرب قوم قد سلّط عليهم شرّ منهم كما سلّط على بنى

_ [1] زيادة من العقد الفريد.

إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفرة المجوس (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين فى مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص [1] قوّتهم؛ فإنهم سائرون الى عدوّ مقيم حامى الأنفس والكراع [2] . وأقم بمن معك فى كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يجمّون [3] فيها أنفسهم ويرمّون [4] أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمّة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ [5] أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمّة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها؛ فما صبروا لكم ففوا لهم [6] . ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدوّ فأذك [7] العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق فى بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدوّ أن تكثر الطلائع وتبثّ السّرايا بينك وبينهم [فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم [8]] . وانتق للطلائع أهل الرأى والبأس من أصحابك،

_ [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «لا ينقص» . [2] الكراع: الخيل. [3] يجمون أنفسهم: يتركونها لترتاح وتقوى. [4] يرمون: يصلحون. [5] «ولا يرزأ» فى الأصل غير معجمة، وأثبتناها بالياء طبقا لما فى العقد الفريد، على أن تكون معطوفة على صلة الموصول قبلها. ويحتمل أن تكون بتاء الخطاب. [6] فى العقد الفريد: «فما صبروا لكم فتولوهم خيرا» . [7] إذكاء العيون والطلائع: بثها. [8]- هذه الجملة التى بين القوسين وردت فى الأصل هكذا: «فتنقطع للسرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع بالطلائع عوراتهم» وفى بعض هذه الكلمات تحريف جعل الجملة غير مستقيمة، فأثبتناها كما وردت فى العقد الفريد (ج 1 ص 50) .

وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن [1] لقوا عدوّا كان أوّل ما تلقاهم القوّة من رأيك. واجعل أمر [2] السّرايا الى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخصّ بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصّتك. ولا تبعث طليعة ولا سريّة فى وجه تتخوّف عليها فيه ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدوّ فاضمم اليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال [3] ، حتى تبصر عورة عدوّك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنيعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات جهدك. ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّك وعدوّ الله. والله ولىّ أمرك ومن معك، وولىّ النصر لكم على عدوّكم؛ والله المستعان. وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيّره الى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس الذى إن وجد ربحا تجر، وإلّا تحفّظ برأس المال؛ ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة؛ وكن من احتيالك على عدوّك أشد حذرا من احتيال عدوّك عليك. وكان زياد بن أبيه يقول لقوّاده: تجنّبوا اثنتين لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية. وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: اذا غزوتم فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا.

_ [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «وإن لقوا ... » . [2] فى الأصل: «أهل السرايا ... » والتصويب عن العقد الفريد [3] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «ما لم يستكرهوك القتال»

ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدو إلى انفصال الحرب والظفر بعدوهم

وكان أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدعوة يقول لقوّاده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظّفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. وقالت الحكماء: لا تستصغرنّ أمر عدوّك اذا حاربته، لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر؛ والضعيف المحترس من العدوّ القوىّ أقرب الى السلامة من القوىّ المغترّ بالضعيف. ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدوّ الى انفصال الحرب والظفر بعدوّهم قال الشيخ أبو عبد الله الحسين الحليمىّ فى منهاجه: اذا مضى الجيش باسم الله فلقوا العدوّ فليتعوّذوا بالله تعالى، وليقولوا: اللهم إنا ندرأ بك [2] فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. فإذا قاتلوا فليقولوا: اللهم بك نصول ونجول. وليقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . وليقولوا: اللهم منزّل الكتاب وسريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. وإن حصبوهم فليقولوا: «شاهت الوجوه» . وإن رموهم فليقولوا: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. وإن بيّتهم العدوّ فليكن شعارهم (حم) * لا ينصرون (حم عسق) يفرّق أعداء الله، وبلغت حجة الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وليقولوا إذا دخل العدوّ ديارهم: ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا . وليقولوا اذا صافّوهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ . وليقولوا:

_ [1] فى الأصل: «من حيث» وظاهر أن السياق يقتضى ما أثبتنا. [2] فى الأصل «انا ندروك ... » وهو تحريف. ومنه الحديث- كما فى نهاية ابن الأثير فى مادة (درأ) -: «اللهم إنى أدرأ بك فى نحورهم» .

فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . وليقولوا: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ . وليقولوا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . وليقولوا: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. وإن صبحوا دارهم فليقولوا: الله أكبر، هزم العسكر، إذا نزلنا ساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) . وإن بيّتوهم فليقولوا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ . وإن جاءوهم نهارا فليقولوا: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ . وليقولوا فى عامّة أحوالهم وأوقاتهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وليقولوا: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً . إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً . وإن كان العدوّ يهودا فليقل المسلمون فى وجوههم: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا . وليقولوا: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . وليقرءوا المعوّذتين غدوة وعشيّا. وإن وقعت هزيمة فتبعهم العدوّ فليتحصّنوا منهم بقراءة قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً . وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وإن هزموا العدوّ فليقولوا على آثارهم: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . وليقولوا: ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ . وإن لجّ العدوّ وثبتوا فليقولوا: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ . وليقولوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ . وليقولوا: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ

الْبَعِيدُ . وليقولوا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً . وليقولوا: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وليقولوا: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً . وليقولوا: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ . وليقولوا: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . وليقولوا إذا حملوا على العدوّ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) . بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ . وليقولوا: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً . وليقولوا: أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . وليقولوا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وليقولوا: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا . وليقولوا: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . وإن حمل العدوّ عليهم فليقولوا لأنفسهم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ . وليقولوا: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ . وإذا دنوا منهم فليقولوا: انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . وليقولوا: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً . وليقولوا: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ . وليقولوا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً . وإن لحق العدوّ مدد فليقل المسلمون: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ . وليقولوا:

وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. وإن لحق المسلمين مدد فليقولوا: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . وإذا تحصّنوا من العدوّ بموضع فليقولوا إن قصدوهم: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً . وليقولوا: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً . وإن تحصّن العدوّ منهم بموضع فليقولوا إن قصدوه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا . وليقولوا: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ* . وليقولوا إذا خافوهم: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وليقولوا: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً . وليقولوا: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ . وليقولوا: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ . وليقولوا: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وليقولوا: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ . وإن حاصروا العدوّ وأحدقوا بهم فليقولوا: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً . وليقولوا: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ . وإن حاصرهم العدوّ وأحاط بهم فليقولوا: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ . وليقولوا: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ . وليقولوا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي

كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ . وإن رماهم العدوّ بالنار فليقولوا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ . فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ . وليقولوا: الله أكبر، الله ربنا، ومحمد نبينا، وأنت يا نار لغيرنا. وليقولوا: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ . وإن رموا العدوّ بالنار فليقولوا معها: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً. وليقولوا: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . وليقولوا: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ . وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* . وليقولوا: إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى. وليقولوا: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ . وإن رموا العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ . وإن رماهم العدوّ بالمنجنيق فليقولوا: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وليقولوا: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ . وليقولوا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً . وإذا دخلوا أرض العدوّ فليقولوا: باسم الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً . وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً . ويقولوا إذا كانت الريح تصفّق فى وجوه العدوّ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. وإن كانت الريح تهبّ على وجوه المسلمين فليقولوا: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ،

ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها

ويقولوا: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ، ويقولوا: اللهم إنا نسألك من خير ما تأتى به الرياح، ونعوذ بك من شر المساء والصباح. وإن بارز مسلم مشركا فليقرأ عليه: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . وليقل: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. وليقل: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ . وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا . وإذا التقى الصفّان فليدع أمير السريّة ويسأل الله النصر والفتح ويؤمّن الناس على دعائه؛ فإنها من ساعات الإجابة. ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة [1] » . وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول: «الحرب خدعة» . وكان مالك بن عبد الله الخثعمىّ وهو على الصافّة [2] يقوم فى الناس، اذا أراد أن يرحل، فيحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول: إنى دارب بالغداة درب كذا؛ فتتفرّق الجواسيس عنه بذلك، فإذا أصبح سلك بالناس طريقا غيرها. فكانت الروم تسميّه الثعلب. وقال المهلّب لبنيه: عليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغ من النجدة. وسئل بعض أهل التمرّس بالحروب: أىّ المكايد فيها أحزم؟ فقال: إذ كاء العيون [3] ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق،

_ [1] فى النهاية لابن الأثير « ... يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال فالأول معناه أن الحرب ينقضى أمرها بخدعة واحدة من الخداع أى أن المقاتل اذا خدع مرة واحدة لم نكن لها إقالة، وهى أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثانى هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تقى لهم كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة أى كثير اللعب والضحك» . [2] الصافة: الجماعة تقام وتصف للحرب. [3] إذكاء العيون: بث الجواسيس.

والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء [1] لمستنصح ولا استنصاح لمستغشّ، وإشغال [2] الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وقال حكيم: اللّطف فى الحيلة، أجدى للوسيلة. وقيل: من لم يتأمّل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله، والتّثبّت يسهّل طريق الرأى إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة. ويقال: إن سعيد بن العاص صالح أهل حصن من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلّهم إلا رجلا واحدا. وقيل: لما أتى بالهرمزان أسيرا الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم [3] ؛ فقال له عمر رضى الله عنه: أعرض عليك الإسلام نصحا لك فى عاجلك وآجلك؛ فقال: إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب فى الإسلام رهبة؛ فدعا عمر بالسيف، فلما همّ بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء هى أفضل من قتلى على الظمأ؛ فأمر له بشربة من ماء؛ فلما أخذها الهرمزان قال: يا أمير المؤمنين، أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم؛ فرمى بها وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج؛ قال: صدقت، لك التوقّف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده؛ فقال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟ قال: كرهت أن يظنّ بى أنى إنما أسلمت خوفا من السيف؛ فقال عمر: ألا إنّ لأهل فارس عقولا استحقّوا بها ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر ببرّه وإكرامه.

_ [1] فى الأصل: «من غير إفضاء..» . [2] فى الأصل: «واشتغال الناس ... » . [3] هو رستم بن فرخزاد، كان من أعظم رجال فارس وقائد جيوش يزدجرد ملك ساسان فى وقعة القادسية التى انتصر فيها المسلمون حينما أرسل سعد بن أبى وقاص لفتح ايران فى خلافة عمر رضى الله عنه. وقد قتل رستم فى هذه الوقعة.

ونظير هذه القصة ما فعل الأسير الذى أتى به الى معن بن زائدة فى جملة الأسرى فأمر بقتلهم؛ فقال: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن؟ فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلّى عنهم. ومن المكايد المشهورة حكاية قصير مع الزّبّاء، وسنذكرها إن شاء الله فى التاريخ فى أخبار ملوك العرب، وواقعة ملك الهياطلة مع فيروز بن يزدجرد، ونذكرها أيضا فى أخبار ملوك الفرس. ومن المكايد خبر عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة مع معاوية بن أبى سفيان، وكان معاوية قد كتب اليهما واستقدم عمرا من مصر والمغيرة من الكوفة؛ فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضعف واستأذنه أن تأتى الطائف أو المدينة، وأنا اذا دخلت عليه سأسأله ذلك فإنه يظن أنّا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة على معاوية فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو وسأله ذلك؛ فقال معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شرّا، ارجعا الى عمليكما. وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد، فإنه قد كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وقرب أجلى، وسفّهنى رجال قريش، فرأى أمير المؤمنين فى عمله موفّق. فكتب اليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فإن سنّك أكلت عمرك. وأما اقتراب أجلك، فإنى لو كنت أستطيع أن أدفع المنيّة عن أحد لدفعتها عن آل أبى سفيان. وأما ما ذكرت من العمل ف ضحّ قليلا يدرك الهيجا [1] حمل وأمّا ما ذكرت من سفهاء قريش، فإنّ حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل. فاستأذن معاوية

_ [1] وكذا فى اللسان. وضح قليلا: تأنّ قليلا ولا تعجل. وهو شطر بيت ورد فى شرح القاموس هكذا: لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت اذا حان الأجل وقائل البيت حمل بن بدر، وقيل حمل بن سعدانة الصحابى.

فى القدوم فأذن له؛ فلما وصل اليه قال له معاوية: كبرت سنك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شىء، ولا أظنّنى إلا مستبدلا بك. قال: فانصرف والكآبة تعرف فى وجهه؛ فقيل له: ما تريد أن تفعل [1] ؟ فقال: ستعلمون ذلك. ثم أتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست فى زمن أبى بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس، ولو نصبت لنا علما من بعدك نصير اليه! مع أنى كنت قد دعوت أهل العراق الى يزيد فركنوا اليه حتى جاءنى كتابك؛ قال: يا أبا محمد، انصرف الى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك، وأعاده على البريد يركض. وقيل: جاء بازيار [2] لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازيا له انحط على عقاب له فقتلها؛ فقال: اذهب فاقطف رأسه، فإنى لا أحبّ الشىء أن يجترئ على ما فوقه. وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن الى جانبه. قال الشعبىّ: وجّهنى عبد الملك بن مروان الى ملك الروم، فلما قدمت عليه ودفعت اليه كتاب عبد الملك، جعل يسألنى عن أشياء فأخبره بها، فأقمت عنده أياما، ثم كتب جواب كتابى، فلما انصرفت دفعته الى عبد الملك، فجعل يقرؤه ويتغيّر لونه، ثم قال: يا شعبىّ، علمت ما كتب به إلىّ الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كانت الكتب مختومة ما قرأتها وهى اليك؛ فقال: إنه كتب إلىّ: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به إلىّ فيملّكون غيره؛ فقال: قلت يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك؛ قال: فسرّى عنه، ثم قال: إنه حسدنى عليك فأراد أن أقتلك. قال: ولمّا ظفر الجنيد بن عبد الرحمن- وهو يلى خراسان فى أيام هشام- بصبيح الخارجىّ وبعدّة من أصحابه فقتلهم جميعا إلا رجلا أعمى [قال هذا الرجل [3]] أنا أدلّك

_ [1] تكررت فى الأصل جملة «فقيل له ما تريد أن تفعل» سهوا من الناسخ. [2] البازيار: القيم على البزاة أو المتجربها. [3] زيادة يقتضيها السياق.

على أصحاب صبيح وأجازيك على ما صنعت، وكتب له قوما؛ فأمر الجنيد بقتلهم حتى قتل مائة؛ فقال الأعمى عند ذلك: لعنك الله باجنيد! أتزعم أنه يحلّ لك دمى وأنّى ضالّ ثم تقبل قولى فى مائة قتلتهم! لا! والله ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلا، وما هم إلا منكم. فقدّمه الجنيد وقتله. وكان معاوية بن أبى سفيان من الدّهاة؛ وله أخبار فى الدّهاء تدلّ على بعد غوره وحدّة ذهنه. فمنها [1] أن يزيد ابنه سمع بجمال زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلّام القرشىّ، وكانت من أجمل النساء فى وقتها وأحسنهنّ أدبا وأكثرهنّ مالا، ففتن بها يزيد؛ فلما عيل صبره ذكر ذلك لبعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصىّ خاصّا بمعاوية واسمه رفيق، فذكر رفيق ذلك لمعاوية وقال له: إنّ يزيد قد ضاق ذرعه بها. فبعث معاوية الى يزيد فاستفسره عن أمره؛ فبثّ له شأنه؛ فقال: مهلا يا يزيد؛ فقال له: علام تأمرنى بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين مروءتك وحجاك [وتقاك] ؟ فقال: قد عيل الصبر، ولو كان أحد [ينتفع فيما يبتلى] به من الهوى [بتقاه، أو يدفع ما أقصده بحجاه] لكان أولى الناس به داود حين ابتلى به؛ فقال: اكتم يا بنىّ أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ولا بدّ مما هو كائن. وأخذ معاوية فى الاحتيال فى تبليغ يزيد مناه، فكتب الى زوجها عبد الله بن سلّام، وكان قد استعمله على العراق: أن أقبل حين تنظر كتابى لأمر [2] فيه حظّك إن شاء الله تعالى فلا تتأخر عنه. فأغذّ السير وقدم، فأنزله معاوية منزلا كان قد هيّىء له وأعدّ فيه نزله؛ وكان عند معاوية يومئذ بالشأم أبو هريرة وأبو الدّرداء، فقال لهما معاوية: إنّ الله قد قسم بين عباده قسما [ووهبهم نعما] أوجب عليهم فيها شكره وحتّم عليهم حفظها، فحبانى

_ [1] أورد صاحب «كتاب الإمامة والسياسة» هذه القصة بزيادات كثيرة واختلاف فى العبارات عما هنا. وقد أثبتنا من هذه الزيادات ما يستقيم به الكلام، وهو ما وضعناه بين القوسين. [2] فى الأصل: «والأمر ... » وما أثبتناه عن كتاب الامامة والسياسة.

منها عز وجل بأتمّ الشرف وأفضل الذكر، وأوسع علىّ الرزق، وجعلنى راعى خلقه، وأمينه فى بلاده، والحاكم فى أمر عباده، ليبلونى أأشكرأم أكفر. وأوّل ما ينبغى للمرء أن يتفقّد وينظر من استرعاه الله أمره، ومن لا غنى به عنه. وقد بلغت لى ابنة أريد إنكاحها والنظر فى اختيار من يباعلها، لعل من يكون بعدى يقتدى فيه بهديى ويتبع فيه أثرى. فإنه [1] قد يلى هذا الملك بعدى من يغلب عليه الشيطان ويرقيه الى تعضيل [2] بناتهم فلا يرون لهم كفؤا ولا نظيرا، وقد رضيت لها ابن سلّام القرشىّ، لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه؛ فقالا له: إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما اختصّه منها لأنت؛ فقال لهما معاوية: فاذكرا له ذلك عنى، وقد كنت جعلت لها فى نفسها شورى، غير أنى أرجو ألّا تخرج من رأيى إن شاء الله. فخرجا من عنده وأتيا عبد الله بن سلّام وذكرا له القصة. ثم دخل معاوية على ابنته وقال لها: اذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وحضّاك على المسارعة الى اتباع رأيى فيه، فقولى لهما: إنه كفء كريم وقريب حميم، غير أنّ تحته زينب بنت إسحاق، وأخاف أن يعرض لى من الغيرة ما يعرض للنساء فأتناول منه ما يسخط الله تعالى فيه فيعذّبنى عليه، ولست بفاعلة حتى يفارقها. فلما اجتمع أبو هريرة وأبو الدرداء بعبد الله وأعلماه بقول معاوية، ردّهما اليه يخطبان له منه، فأتياه؛ فقال: قد علمتما رضائى به وحرصى عليه، وكنت قد أعلمتكما الذى جعلت لها فى نفسها من الشّورى، فادخلا عليها واعرضا عليها الذى رأيت لها. فدخلا عليها وأعلماها؛ فقالت لهما ما قاله معاوية لها. فرجعا الى ابن سلّام وأعلماه بما قالته. فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب أشهدهما بطلاقها وأعادهما الى ابنة معاوية.

_ [1] عبارة الإمامة والسياسة: «فانى قد تخوّفت أن يدعو من يلى هذا الأمر من بعدى زهو السلطان وسرفه الى عضل نسائهم ... الخ» . [2] تعضيل البنات: حبسهنّ عن الزواج ظلما. وفى الأصل: «الى تعطيل بناتهم» .

فأتيا معاوية وأعلماه بما كان من فراق عبد الله زوجته رغبة فى الاتصال با بنته؛ فأظهر معاوية كراهة فعله وفراقه لزينب وقال: ما استحسنت له طلاق امرأته ولا أحببته، فانصرفا فى عافية ثم عودا إليها وخذا رضاها. فقاما ثم عادا اليه، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها [1] عن رضاها تبرّيّا من الأمر، وقال: لم يكن لى أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى فى نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلّام امرأته ليسرّها، وذكرا من فضله وكمال مروءته وكرم محتده؛ فقالت لهما: إنه فى قريش لرفيع القدر، وقد تعرفان أن الأناة فى الأمور أرفق لما يخاف من المحذور، وإنى سائلة عنه حتى أعرف دخلة أمره وأعلمكما بالذى يزيّنه الله لى، ولا قوّة إلا بالله؛ فقالا: وفّقك الله وخار لك. وانصرفا عنها، وأعلما عبد الله بقولها؛ فأنشد: فإن يك صدر هذا اليوم ولّى ... فإنّ غدا لناظره قريب وتحدّث الناس بما كان من طلاق عبد الله زينب وخطبته ابنة معاوية، ولا موه على مبادرته بالطلاق قبل إحكام أمره وإبرامه. ثم استحثّ عبد الله أبا هريرة وأبا الدرداء؛ فأتياها وقالا لها: اصنعى ما أنت صانعة واستخيرى الله، فإنه يهدى من استهداه؛ فقالت: أرجو، والحمد لله، أن يكون [2] الله قد خار [لى] ، وقد استبرأت [3] أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسى، ولقد اختلف من استشرته فيه، فمنهم الناهى عنه و [منهم] الآمر به، واختلافهم أوّل ما كرهت. فلما بلّغاه كلامها علم أنه مخدوع، وقال: ليس لأمر الله رادّ، ولا لما لا بدّ [4] منه

_ [1] فى الأصل: « ... وسؤالهما ... » . [2] فى كتاب الامامة والسياسة: «الحمد لله أرجو أن يكون ... » . [3] فى الأساس: «استبرأت الشىء: طلبت آخره لأقطع الشبهة عنى» . والمعنى هنا أنها استقصت جميع أموره حتى عرفته كل المعرفة. [4] فى الأصل: «ولا لما لا يدنيه صاد» ولعله تحريف عما وضعناه، وأن الياء والدال من «يدنيه» محرّفتان عن «بد» وبقية الكلمة محرّفة عن «منه» . ويؤيد هذا أن عبارة «الامامة والسياسة» «ولا لما لا بد أن يكون منه صاد» .

صادّ؛ فإن المرء وإن كمل له حلمه واجتمع له عقله واستدّ رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأى ولا كيد. ولعل ما سرّوا به واستجذلوا [1] [له] لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره. وذاع أمره وفشا فى الناس، وقالوا: خدعه معاوية حتى طلّق امرأته، وإنما أرادها لابنه، وقبّحوا فعله. فتمّت مكيدته هذه؛ لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره وبضدّ تقديره. وذلك أنه لما انقضت أقراء زينب، وجّه معاوية أبا الدرداء الى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد؛ فخرج حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فسلم عليه الحسين وسأله عن سبب مقدمه؛ فقال: وجّهنى معاوية خاطبا على ابنه يزيد زينب بنت إسحاق؛ فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها وقصدت الإرسال اليها اذا انقضت أقراؤها، فلم يمنعنى من ذلك إلا تخيّر مثلك [2] ، فقد أتى الله بك، فاخطب- رحمك الله- علىّ وعليه، لتتخيّر من اختاره الله لها، وهى أمانة فى عنقك حتى تؤدّيها اليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه؛ فقال: أفعل إن شاء الله. فلما دخل عليها أبو الدرداء قال: أيتها المرأة، إنّ الله خلق الأمور بقدرته، وكوّنها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله مستحاص، ولا للخروج عن أمره مستناص؛ فكان مما [3] سبق لك وقدّر عليك الذى كان من فراق عبد الله بن سلّام إيّاك، ولعل ذلك لا يضرّك ويجعل الله فيه خيرا كثيرا؛ وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولىّ عهده والخليفة من بعده

_ [1] كذا فى «كتاب الامامة والسياسة» وفى الأصل: «ما سوّلوا به واستخذلوا» . [2] فى الأصل وفى «كتاب الامامة والسياسة» : «فلم يمنعنى من ذلك الا تخيير مثلك ... » وظاهر أن الذى يلتئم مع السياق انما هو التخير وهو الانتقاء، اذ المراد هنا انتقاء الرسول الذى يحسن القيام بهذه السفارة. [3] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: «فكان ما سبق لك ... » .

يزيد بن معاوية، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، وقد بلغك شأنهما وسناؤهما وفضلهما، وقد جئتك خاطبا عليهما، فاختارى أيّهما شئت؛ فسكتت طويلا ثم قالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءنى وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك واتّبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك، فأمّا إذ كنت أنت المرسل فقد فوّضت أمرى بعد الله إليك وجعلته فى يديك، فاخترلى أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض فى أمرى بالتحرّى ولا يصدّنّك عن ذلك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيّا، ولا أنت عما طوّقتك غبيّا؛ فقال: أيتها المرأة، إنما علىّ إعلامك وعليك الاختيار لنفسك؛ قالت: عفا الله عنك! إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لى عنك، فلا تمنعك رهبة أحد عن قول الحق فيما طوّقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حمّلتك؛ والله خير من روعى وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة قال: أى بنيّة، إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلىّ وأرضى عندى، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع شفتيه على شفتى حسين، فضعى شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه؛ قالت: قد اخترته وأردته ورضيته. فتزوّجها الحسين وساق لها مهرا عظيما. فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه ولام أبا الدرداء شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى يركب خلاف ما يهوى. وأما عبد الله ابن سلّام فإنّ معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده، لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه، ولم يزل يجفوه حتى عيل صبره وقلّ ما فى يديه. فرجع الى العراق، وكان قد استودع زينب قبل طلاقه لها مالا عظيما ودرّا كثيرا، فظن أنها تجحده لسوء فعله بها وطلاقها من غير شىء كان منها، فلقى حسينا فسلّم عليه، ثم قال: قد علمت ما كان من خبرى وخبر زينب، وكنت قد استودعتها مالا ولم أقبضه، وأثنى عليها وقال له:

ذاكرها أمرى واحضضها على ردّ مالى. فلما انصرف الحسين إليها قال لها: قد قدم عبد الله بن سلّام وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك فى حسن صحبتك وما آنسه قديما من أمانتك، فسرّنى ذلك وأعجبنى، وذكر أنه كان قد استودعك مالا، فأدّى إليه أمانته وردّى عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا ولم يطلب إلا حقا؛ فقالت: صدق، استودعنى مالا لا أدرى ما هو، فادفعه اليه بطابعه؛ فأثنى عليها حسين خيرا وقال: ألا أدخله عليك حتى تتبرّئى إليه منه كما دفعه اليك؟ ثم لقى عبد الله وقال: ما أنكرت مالك، وإنها زعمت أنه بطابعك، فادخل اليها وتسلّم مالك منها؛ فقال: أو ما تأمر من يدفعه إلىّ؟ قال: لا! بل تقبضه منها كما دفعته إليها. ودخل عليها حسين وقال: هذا عبد الله قد جاء يطلب وديعته؛ فأخرجت اليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت: هذا مالك؛ فشكر وأثنى. وخرج حسين عنهما، وفضّ عبد الله ابن سلّام خواتم بدرة [1] وحثى لها من ذلك وقال: خذى فهو قليل منى؛ فاستعبرا جميعا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به؛ فدخل الحسين عليهما وقد رقّ لهما فقال: أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أنى لم أستنكحها رغبة فى مالها ولا جمالها، ولكنى أردت إحلالها لبعلها. فسألها عبد الله أن تصرف الى حسين ما كان قد ساق إليها من مهر؛ فأجابته الى ذلك؛ فلم يقبله الحسين وقال: الذى أرجو إليه من الثواب خير لى. فلما انقضت أقراؤها تزوّجها عبد الله، وحرمها الله تعالى يزيد بن معاوية. ومن مكايد معاوية أن رجلا من قريش أسر فحمل الى صاحب القسطنطينية، فكلّمه ملك الروم، فجاو به القرشىّ بجواب لم يوافقه؛ فقام اليه رجل من بطارقة صاحب القسطنطينية فوكزه، فقال القرشىّ: وا معاوياه! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا. فوصل

_ [1] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: « ... خواتم برده ... » وهو تحريف من الناسخ.

الخبر الى معاوية فطوى عليه واحتال فى فداء الرجل. فلما وصل اليه سأله عن أمره مع صاحب القسطنطينية وعن اسم البطريق الذى وكزه؛ فلما عرفه أرسل الى رجل من قوّاد صور [1] الذين كانوا قوّاد البحر ممن عرف بالنّجدة وغزو الروم، وقال له: أنشئ مركبا يكون له مجاديف فى جوفه، واستعمل السفر الى بلاد الروم، وأظهر أنك إنما تسافر لبلادهم على وجه السرّ والاستتار منا، وتوصّل إلى صاحب القسطنطينية ومكّنه من المال واحمل إليه الهدايا والى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان (يعنى الذى لطم الرجل القرشىّ) واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلّمك وقال لك: لأىّ معنى تهادى أصحابى وتتركنى، فاعتذر إليه وقل له: أنا رجل أدخل الى هذه المواضع مستترا ولا أعرف [إلا [2]] من عرّفت به، فلو عرفت أنك من وزراء الملك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكنى اذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك. ففعل القائد ذلك. ولما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه [3] وأربى فى هديته على أصحابه، ولم يزل حتى اطمأن إليه العلج. فلما كان فى إحدى سفراته قال له البطريق: كنت أحبّ أن تجلب إلىّ من بلاد المسلمين وطاء ديباج يكون على ألوان الزهر؛ قال: نعم. فلما انصرف أخبر معاوية بما طلبه البطريق؛ فأمر له ببساط على ما وصف، وقال: اذا دخلت وادى القسطنطينية فأخرجه وابسطه على ظهر المركب وتربّص فى الوادى حتى يصل الخبر الى ذلك العلج، وابعث له فى السرّ وتحيّن خروجه الى ضيعته التى له على ضفّة وادى القسطنطينية، فإذا وصلت الى حدّ ضيعته فابتدئ بها، لعلّ يحمله الشره على الدخول إليك؛ فاذا حصل عندك فى المركب فمر الرجال بإشارة تكون بينك

_ [1] صور: مدينة عظيمة وكانت ثغرا من ثغور بحر الشام. [2] تكملة نرى أن استقامة الكلام تتوقف عليها. [3] يقال: ألطفه بكذا اذا برّه به.

وبينهم أن يستعملوا المجاديف التى فى جوف المركب، وكرّبه راجعا الى الشأم. ففعل ما أمره به معاوية. وصادف وصول ذلك القائد وجود البطريق [1] فى ضيعته، فبسط ذلك البساط على ظهر المركب ووصل الى عرض ضيعة العلج؛ فلما عاين البساط حمله الشّره والحرص الى أن دخل المركب، فلما صار فى المركب أشار [القائد] الى رجاله فرجعوا بالمركب بعد أن أوثق البطريق ومن معه، وسار بهم حتى قدم على معاوية. فأحضر معاوية البطريق ووقفه بين يديه، وأحضر القرشىّ وقال: هذا صاحبك؟ قال: نعم؛ قال: قم فاصنع به ما صنع بك ولا تزد؛ فقام القرشىّ فوكزه كما كان فعل به العلج. ثم قال معاوية للبطريق: ارجع الى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتصّ من أصحاب بساطك، وقال للذى ساقه: انصرف به الى أوّل أرض الروم وأخرجه، واترك له البساط وكل ما سألك أن تحمله اليه من هديّة. فانصرف به الى فم وادى القسطنطينية، فوجد ملك الروم قد صنع سلسلة على فم الوادى ووكّل بها الرجال، فلا يدخل أحد الى الوادى إلا بإذنه؛ فأخرج العلج ومن معه وما معه. فلما وصل الى ملكه ووصف له ما صنع به معاوية قال: هذا ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان. وهذه الواقعة محاسنها تستر مساوى ما تقدّمها. وهذا الباب متّسع، ستقف إن شاء الله فى التاريخ الذى أوردناه فى كتابنا هذا [على [2]] ما تكتفى به وتطّلع منه على المكايد. وحيث انتهينا الى هذه الغاية فى أوصاف قادة الجيوش، فلنذكر الآن فضيلة الجهاد ووصف الجيوش والوقائع.

_ [1] فى الأصل: «وصادف وصول ذلك القائد والبطريق ... » . [2] زيادة يقتضيها الكلام.

ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به

ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به فأما ما ورد فى الجهاد وفضله. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ . وقال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وأثنى الله تعالى على المجاهدين ووعدهم الجنة فى آى كثير. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه فقال له يا رسول الله: دلّنى على عمل يعدل الجهاد قال: «لا أجده» . وقال أبو هريرة رضى الله عنه: إن فرس المجاهد ليستنّ فى طوله فيكتب له حسنات [1] . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فى الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين فى سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» . وفى لفظة: «الرّوحة والغدوة فى سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسرّه أن يرجع الى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسرّه أن يرجع

_ [1] يستر: يعدو من المرح والنشاط من غير أن يكون عليه أحد. والطول: حبل طويل جدا تشدّ به قائمة الدابة ويمسك صاحبه بطرفه ويرسلها ترعى.

وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال -

الى الدنيا فيقتل مرة أخرى» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذى نفسى بيده لولا أنّ رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عنى ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة تغزو فى سبيل الله والذى نفسى بيده لوددت أنّى أقتل فى سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اغبرّتا [1] قدما عبد فى سبيل الله فتمسّه النار» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنّة تحت ظلال السيوف» . والأحاديث الصحيحة متضافرة بفضيلة الجهاد وما أعدّ الله للمجاهدين والشهداء. وقد ترجم على ذلك البخارىّ وغيره. وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال- قالوا: الكتيبة: ما جمع فلم ينتشر. والحضيرة: العشرة فمن دونهم. والمقنب والمنسر من الثلاثين الى الأربعين. والهيضلة: جماعة غير كثيرة. والرّمّازة: التى تموج من نواحيها. والجحفل: الجيش الكثير. والمجر: أكثر ما يكون. وقال الثعالبىّ فى فقه اللغة عن أبى بكر الخوارزمىّ عن ابن خالويه: أقلّ العساكر الجريدة؛ ثم السريّة وهى من الأربعين الى الخمسين؛ ثم الكتيبة وهى من مائة الى ألف [2] ؛ ثم الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل؛ ثم الخميس وهو من أربعة آلاف الى اثنى عشر ألفا؛ والعسكر يجمعها.

_ [1] كذا ورد بالأصل بعلامة التثنية فى الفعل وهى رواية أبى ذر عن الحموى والمستملى، وهى لغة. وفى صحيح البخارى: «ما اغبرت قدما عبد ... » بدون ألف التثنية فى الفعل وهى أفصح. أنظر شرح البخارى للقسطلانى ج 5 ص 58 طبع بولاق سنة 1293 هـ. [2] الذى فى فقه اللغة طبع بيروت سنة 1885: «أقل العساكر الجريدة وهى قطعة جردت من سائرها لوجه. ثم السرية وهى من خمسين الى أربعمائة. ثم الكتيبة وهى من أربعمائة الى الألف ... ) .

ولأسماء العساكر نعوت فى الكثرة وشدّة الشوكة. فأما نعوتها فى الكثرة- فانه يقال: كتيبة رجراجة؛ جيش لجب؛ عسكر جرّار؛ جحفل لهام؛ خميس عرمرم. وأما نعوتها فى شدّة الشوكة مع الكثرة- فإنه يقال: كتيبة شهباء اذا كانت بيضاء من الحديد؛ وخضراء إذا كانت سوداء من صدإ الحديد؛ وململمة إذا كانت مجتمعة؛ ورمّازة إذا كانت تموج من نواحيها؛ ورجراجة إذا كانت تتمخّض ولا تكاد تسير؛ [وجرّارة إذا كانت لا تقدر على السير [1]] إلا رويدا من كثرتها. وأما أسماء مواضع القتال- فمنها: الحومة؛ والمعركة؛ والمعترك؛ والمأقط؛ والمأزم، والمأزق. وأما أسماء غبار الحرب- النّقع والعكوب: هو الغبار الذى يثور من حوافر الخيل وأخفاف الإبل. الرّهج والقسطل: غبار الحرب. الخيضعة: غبار المعركة. وأما ما قيل فى الحروب والوقائع، وشىء مما وصفت به- قالوا: أبلغ ما قيل فى صفة الحرب قول الأوّل: كأنّ الأفق محفوف بنار ... وتحت النار آساد تزير وقول الآخر: ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر وقوف على جمر صبرنا له حتّى تجلّى، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصبر

_ [1] التكملة من فقه اللغة.

وقال البحترىّ يصف جيشا اتّبع مقدّمه: حمر السيوف كأنما ضربت لهم ... أيدى القيون صفائحا من عسجد فى فتية طلبوا غبارك إنه ... رهج ترفّع عن طريق السّودد كالرمح فيه بضع عشرة فقرة ... منقادة خلف السّنان [1] الأصيد وقول النابغة الجعدىّ: تبدوكوا كبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام وقال أبو الفرج الببّغاء: وموشيّة بالبيض والزّغف والقنا ... محبّرة الأعطاف بالضّمّر القبّ بعيدة ما بين الجناحين فى السّرى ... قريبة ما بين الكمينين [2] فى الضرب من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولّى نسجه عثير التّرب يعاتب نشوان القنا صاحى الظّبا ... إذا التقيا فيها على قلّة الشّرب أعادت علينا الليل بالنّقع فى الضّحى ... وردّت علينا الصبح فى الليل بالشهب تبلّج عن شمسى نزار ويعرب ... وتفترّ عن [3] طودى علا تغلب الغلب موقّرة يقتاد ثنى زمامها ... بصير بأدواء الكريهة فى الحرب أصحّ اعتزاما من خؤون على قلى ... وأنفذ حكما من غرام على صبّ وقال محمد بن أحمد بن عبد ربه: ومعترك تهزّ به المنايا ... ذكور الهند فى أيدى ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرف البصير

_ [1] فى الأصل: «فرقة ... خلف اللسان» وهو تحريف. والتصويب من ديوان البحترى. [2] فى يتيمة الدهر: «ما بين الكميين ... » . [3] فى الأصل: «تبلح ... ويقتر ... » .

وخافقة الذوائب قد أنافت ... على حمراء ذات شبا طرير [1] تحوّم حولها عقبان موت ... تخطّفت القلوب من الصدور بيوم راح فى سربال ليل ... فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو فى قتام ... رنوّ البكر من خلف الستور فكم قصّرت من عمر طويل ... وكم طوّلت من عمر قصير وقال أيضا: ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤوس دماء من كلى ومفاصل يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل وقال التّنوخىّ شاعر اليتيمة: فى موقف وقف الحمام ولم يزغ ... عن ساحتيه وزاغت الأبصار فقنا تسيل من الدماء على قنا [2] ... بطوالهن تقصّر الأعمار ورءوس أبطال تطاير بالظّبا ... فكأنها تحت الغبار غبار وقال ابن الخيّاط الأندلسىّ: سيوف اذا اعتلّت جهات بغورة [3] ... فمنهنّ فى أعناقهن تمائم وكلّ خميس طبّق الجوّ نقعه ... وضيّق مسراه الجياد الصلادم

_ [1] المراد بالحمراء: القناة. والشبا: جمع شباة، وشباة كل شىء: حده. والطرير: المحدّد. [2] القنا الأولى: حفائر الماء. والقنا الثانية: الرماح. [3] كذا بالأصل: وفى كلمة «بغورة» تحريف لم نوفق الى تصحيحه. ولعله: جهات ثغوره، أو جهات بثورة، أو جهات بغارة.

كأنّ نهار النقع إثمد عينه ... وأشفار عينيه الشّفار الصوارم تعدّ عليه الوحش والطير قوتها ... اذا سار والتفّت عليه القشاعم والبيت الأوّل مأخوذ من قول المتنبى: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم وقال الحمّانىّ: وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك منا برهن بطون الأكفّ ... وأغمادهن رءوس الملوك وقال حسّان: إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها قال رجل من بنى تميم لرجل عبادىّ: لم يكن لآل نصر بن ربيعة صولة فى الحرب. فقال: لقد قلت بطلا، ونطقت خطلا؛ كانوا والله إذا أطلقوا [1] عقل الحرب رأيت فرسانا تمور كرجل الجراد [2] ، وتدافع كتدافع الأمداد؛ فى فيلق حافتاه الأسل، يضطرب عليها الأجل؛ إذا هاجت لم تتناه دون إرادتها [3] ، ومنتهى غايات طلباتها؛ لا يدفعها دافع، ولا يقوم لها جمع جامع؛ وقد وثقت بالظفر لعزّ أنفسها، وأيقنت بالغلبة لضراوة عادتها؛ خصّت بذلك على العرب أجمعين. قال جرير: لقومى أحمى للحقيقة منكم ... وأضرب للجبّار والنقع ساطع وأوثق عند المردفات عشيّة ... لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع [4]

_ [1] فى الأصل: «انطلقوا» . [2] رجل الجراد: الجماعة منه. [3] فى الأصل: «دون إدارتها» وظاهر أنه تحريف. [4] لامع: من لمع بالسيف: أشار به ولوّح.

ومن رسالة للفقيه الوزير أبى حفص عمر بن الحسن الهوزنى [1] قال فيها: وكتابى على حالة يشيب [2] لشهودها مفرق الوليد، كما تغيّر [3] لورودها وجه الصعيد؛ بدؤها ينسف الطريف والتالد، ويستأصل الولد والوالد؛ تذر النساء أيامى، والأطفال يتامى؛ فلا أيّمة إذ لم تبق أنثى، ولا يتيم والأطفال فى قيد الأسرى؛ بل تعمّ الجميع جمّا جمّا فلا تخصّ، وتزدلف إليهم قدما قدما فلا تنكص؛ طمت حتى خيف على عروة الإيمان الانفضاض، وطمّت حتى خشى على عمود الإسلام الانقضاض، وسمت حتى توقّع لجناح الدين الانهياض. وفى فصل منها: وكأن الجمع فى رقدة أهل الكهف، أو على وعد صادق من الصّرف والكشف. ومنها: وإن هذا الأمر له ما بعده، إلا أن يسنّى [4] الله على يديك دفعه وصدّه. وكم مثلها شوهاء نهنهت فانثنت ... وناظرها من شدّة النّقع أرمد فمرّت تنادى: الويل للقادح الصّفا ... لبعض القلوب الصخر أو هى أجلد [5] !

_ [1] فى الذخيرة لابن بسام ج 2 ص 48 (نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2348 أدب) : «هو أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد الرحمن أبى سعيد الداخل بجزيرة الأندلس وهو كان صاحب صلاة الجماعة بقرطبة على عهد عبد الرحمن بن معاوية وهشام الرضى ابنه، وهوزن الذى نسب اليه وغلب اسمه عليه بطن من ذى الكلاع الأصغر» . وفى الأصل «الهونى» وهو تحريف. [2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل شيب. [3] كذا فى الأصل: وفى الذخيرة: «كما يقت؟؟؟» . [4] كذا فى الذخيرة، ويسنى: يسهل. وفى الأصل: «ينشى» . [5] فى خامش الذخيرة «لعلها أصلد» .

وأبقت ثناء كاللطائم [1] نشّرت، ... تبيد الليالى وهو غضّ يجدّد [2] وفى فصل منها فى الحرب: والحرب فى اجتلائها حسناء عروس تطّبى [3] الأغمار بزّتها، وفى بنائها شمطاء عبوس تختلى الأعمار غرّتها [4] ؛ فالأقلّ للهبها وارد، والأكثر عن شهبها حائد؛ فأخلق بمجيد عن مكانها، وعزلة فى ميدانها؛ فوقودها شكّة السلاح، وقتارها متصاعد الأرواح؛ فإن عسعس ليلها مرّة لانصرام، أو انجبس وبلها ساعة لانسجام؛ فيومها غسق يردّ الطّرف كليلا، ونبلها صيّب [5] يزيد الخوف غليلا. وقال فيها: أعبّاد ضاق الذّرع واتّسع الخرق ... ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق ودونك قولا طال وهو مقصّر ... وللعين معنى لا يعبّره النطق إليك انتهت آمالنا فارم مادهى ... بعزمك يدمغ هامة الباطل الحق [6] وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها، ولا أرجأ الدليل من ناط الأمور بأربابها؛ ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب فى طىّ المكاره مدرج؛ فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبّق مضاربها فكأن قد أمكنك الحزّ؛ ولا غرو أن يستمطر الغمام فى الجدب، ويستصحب الحسام فى الحرب!.

_ [1] اللطائم: جمع لطيمة، وهى دعاء المسك. [2] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وهو غض مجرّد» وهو تحريف. [3] تطبى الأغمار: تستميلهم. [4] تختلى: تقطع. والغرة: الغرور. [5] كذا فى الذخيرة، وفى الأصل: «وليلها صب» [6] كذا ورد هذا البيت فى الذخيرة، وورد فى الأصل هكذا: اليك انتهت أيامنا فارم ما دهى ... بعزمك يدفع هامة الباطل الحق

ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من جواب كتبه وصف فيه وقعة، كتب: ورد على المملوك كتاب المولى يذكر الرّجفة التى سرى منها الى أسماع الأولياء قبله ما سرى الى عيون الأولياء بحضرته؛ وتعاظمهم الفادح الذى هم راسبون فى غماره ساهون فى غمرته؛ ووصف عظم أثرها ورائع منظرها ومطعن هدّتها [1] ، ومزعج واقعتها وفظيع روعتها؛ واضطراب الجبال وخشوعها، وانشقاق الأبنية وصدوعها؛ وسجود الحصون الشّمّ، وخضوع الصخور الصّمّ؛ وجأر العباد إلى ربهم لما مسّهم من الضرّ، ولياذهم بقصده لما دهاهم من الأمر؛ فوصف عظيما بعظيم، ومثّل مقاما ما عليه صبر مقيم؛ وأنذر بانتقام قائم إلا أنه كريم، وجبّار إلا أنه حليم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون نقولها واضعين الخدود تذلّلا، وإنا فى سبيل الله وإنا إليه نائبون تخلّصا ونضمّنها بالقلوب إخلاصا وتبتّلا؛ وعرف المملوك ما وسع الخلق من معروفه وإرفاقه، وجبر الحصون من عمارته منازل التوحيد وأوكاره، بأمواله التى وقفها فى سبيل الله وهانت عليه إذ كان على يد البرّ إخراجها، وكرمت لديه إذ طالبت بها خطرات الشهوات واعتلاجها؛ واستقرضها من الأرض خراجا ثم وفّاها ما اقترض بعمرانها، واستخرجها من بطنانها ثم أعادها الى ظهرانها؛ وأرساها للإسلام بقواعد حصونها، وأسناها فى يد المسلمين بوثائق رهونها؛ ولم يزل الله يختصّه بكل حسنة متوضحة، ويوفّقه لكل صالحة مصلحة؛ وينعم عليه بالنية الصادقة، وينعم منه بالموهبة السابغة السابقة؛ فإن نزلت نازلة من وقائع الأقدار، وإن [1] عرضت عارضة من عوارض الأيام، تلقّاها حامدا، وأسا جرحها جاهدا، وعوّل على ربه قاصدا، وأنفق فيما أصبح منه عادما ما أمسى له واجدا.

_ [1] كذا فى الأصل.

ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر

ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر عن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: حدّثتنى أمّ حرام أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يوما فى بيتها، فاستيقظ وهو يضحك؛ قالت: يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال: «عجبت من قوم من أمتى يركبون البحر كالملوك على الأسرّة» ؛ فقلت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت منهم» ، ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثا؛ قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم، فيقول: «أنت من الأوّلين» ، فتزوّج بها عبادة بن الصّامت فخرج بها الى الغزو، فلما رجعت قرّبت دابّة لتركبها فوقعت فاندقّت عنقها. وفى حديث آخر: «يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله مثلهم كمثل الملوك على الأسرة» ، قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلنى منهم؛ فقال: «اللهم اجعلها منهم» وأنه قال مثل ذلك ثانية؛ فقالت: أدع الله أن يجعلنى منهم؛ قال: «أنت من الأوّلين ولست من الآخرين» . وساق نحوه. ومما قيل فى القتال فى البحر- قال العسكرى فى ديوان المعانى: لم يصف أحد من المتقدّمين والمتأخّرين القتال فى المراكب إلا البخترىّ، وعدّوا قصيدته هذه من عيون قصائده وفضّلوها على كثير من الشعر، وهى: غدوت على «الميمون» صبحا وإنما ... غدا المركب الميمون تحت المظفّر [أطلّ بعطفيه ومرّ كأنما ... تشرّف من هادى حصان مشهّر [1]] إذا زمجر النّوتىّ فوق علاته ... رأيت خطيبا فى ذؤابة منبر

_ [1] زيادة من ديوان البحترى.

إذا عصفت [1] فيه الجنوب اعتلى له ... جناحا عقاب فى السماء مهجّر إذا ما انكفا فى هبوة الماء خلته ... تلفّع فى أثناء برد محبّر وحولك ركّابون للهول عاقروا ... كؤوس الرّدى من دارعين وحسّر تميل المنايا حيث مالت أكفّهم ... إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم ... ليقلع إلا عن شواء مقتّر صدمت بهم صهب العثانين دونهم ... ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر [يسوقون أسطولا كأنّ سفينه ... سحائب صيف من جهام وممطر [2]] كأنّ ضجيج البحر بين رماحهم ... إذ اختلفت ترجيع عود مجرجر تقارب من زحفيهم فكأنما ... تؤلّف من أعناق وحش منفّر فما رمت [3] حتى أجلت الحرب عن طلى ... مقطّعة فيهم وهام مطيّر على حين لا نقع يطرّحه [4] الصّبا ... ولا أرض تلفى للصريع المقطّر وكنت ابن «كسرى» قبل ذاك وبعده ... مليئا [5] بأن توهى صفاة ابن «قيصر» جدحت له الموت الذّعاف فعافه ... وطار على ألواح شطب مسمّر [6] مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها ... عليه ومن يول الصّنيعة يشكر وحيث ذكرنا الجهاد وفضله والوقائع والحروب، فلنذكر ما قيل فى المرابطة فى سبيل الله.

_ [1] كذا فى ديوان البحترى، وفى الأصل: «اذا ما علت» . [2] زيادة من الديوان. [3] فمارمت: لم تبرح مكانك. [4] رواية الديوان: « ... تطوحه الصبا» . [5] الملىء بالأمر: المضطلع به القدير عليه. [6] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «مشمر» بالشين المعجمة وهو تحريف.

ذكر ما رود فى المرابطة

ذكر ما رود فى المرابطة قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . والمرابطة فى سبيل الله تعالى تنزل [1] من الجهاد والقتال منزلة الاعتكاف فى المساجد من الصلاة، لأنّ المرابط يقيم فى وجه العدوّ متأهّبا مستعدّا، حتى اذا أحسّ من العدوّ بحركة أو غفلة نهض فلا يفوته ولا يتعذّر عليه، كما أن المعتكف يكون فى موضع الصلاة مستعدّا، فإذا دخل الوقت وحضر الإمام قام الى الصلاة. قال الحليمىّ: ولا شك أن المرابطة أشقّ من الاعتكاف. على أن صرف الهمة إلى انتظار الصلاة قد سمّى رباطا لما جاء فى الحديث فيما يكفّر الخطايا «وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرّباط» . وقد ورد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أحاديث تحثّ على الرباط، فمنها أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من مات مرابطا فى سبيل الله أومن من عذاب القبر ونما له أجره الى يوم القيامة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه أجر المرابطة ويؤمن من الفتّان ويقطع له برزق الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات مرابطا فى سبيل الله مات شهيدا ووقاه الله فتانى القبر وأجرى عليه أحسن عمله وغدى عليه وريح برزق من الجنة» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا استشاط العدوّ فخير جهادكم الرباط» . وسنّة المرابطة فى سبيل الله أن يعدّ من الخيل والسلاح ما يحتاج إليه، إذا كان انتظار الوقعة من غير استعداد لها يعرّض للهلاك. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ . وجاء فى الحديث:

_ [1] فى الأصل «تتنزل» .

ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه

«إن القوّة الحصن ومن رباط الخيل الحجورة [1] » الإناث. وروى عقبة بن عامر أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هو الرمى [2] » ؛ وقد يجوز أن يكون اللفظ جامعا للحصن والرمى لأن كليهما قوّة. والله تعالى أعلم. ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه والسّلاح ما قوتل به. والجنّة اسم لما اتّقى به، كالدّرع والتّرس ونحوهما. وقال العتبىّ: بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى عمرو بن معديكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف «بالصّمصامة» فبعث اليه به؛ فلما ضرب به وجده دون ما بلغه عنه، فكتب اليه فى ذلك؛ فأجابه يقول: إنما بعثت الى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث له بالساعد الذى يضرب به. وسأله عمر يوما عن السلاح فقال: ما تقول فى الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك فانقصف؛ قال: فما تقول فى التّرس؟ قال: هو المجنّ وعليه تدور الدوائر؛ قال: فالنّبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب؛ قال: فما تقول فى الدّرع؟ قال: مثقلة للراجل مشغلة للراكب وإنها لحصن حصين؛ قال: فما تقول فى السيف؟

_ [1] الحجورة: جمع حجر بالكسر، وهى الأنثى من الخيل. فذكر «الإناث» تفسير من المؤلف أو ممن نقل عنه المؤلف. [2] كذا فى الأصل، وفى صحيح مسلم بإسناده الى عقبة بن عامر أنه كان يقول: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى ألا إن القوة الرمى» .

قال: هنالك قارعتك أمك عن الثّكل [1] ؛ قال: [بل [2]] أمّك! [قال: [3]] بل أمك يا أمير المؤمنين! فعلاه أمير المؤمنين بالدّرّة. وقيل: بل قال له- لما قال عمر بل أمك- قال: أمى يا أمير المؤمنين «والحمّى أضرعتنى لك» أراد أن الإسلام قيدنى، ولو كنت فى الجاهليّة لم تكلمنى بهذا الكلام. وهو مثل تضربه العرب إذا اضطرّت للخضوع. ومثل ذلك قول الأغرّ النهشلىّ لابنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه فقال: يا بنىّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتّق الرمح فإنه رشاء المنيّة، ولا تقرب السهام فإنها رسل تعصى وتطيع. قال: فبم أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد أملاء [4] الأكفّ كأنها ... رءوس رجال حلّقت فى المواسم فعليك بها وألصقها بالأعقاب والسّوق.

_ [1] رواية عيون الأخبار (المجلد الأول ص 130) كرواية الأصل، غير أن اسم الإشارة فيه «ثم» وفى الأغانى (ج 14 ص 137 طبع بولاق) : «قال: عنه قارعتك لأمك الهبل ... » . ولعله يريد- على رواية الأصل وعيون الأخبار- أن يصف السيف بأنه أقتك أنواع السلاح وأروعها، فسلك الى هذا سبيل الكناية فعبر بجملة لازمها يدل على ما يريد أبلغ دلالة إذ يقول: هنالك، أى اذا ذكر السيف أو تقارعت السيوف، قارعته أمه ودافعته عن الثكل والهلاك إشفاقا عليه، فان الاشفاق أعظم ما يكون على المنازل اذا كان السلاح السيف، لأن ضرباته صائبة وقاتلة. [2] زيادة عن عيون الأخبار طبع دار الكتب المصرية المجلد الأول ص 130 [3] زيادة يقتضيها سياق الكلام. [4] فى الأصل: «جلاميد ملء للأكف ... » وفيه تحريف. وما أثبتناه عن الكامل للمبرد طبع أوربا ص 333 وأساس البلاغة مادة «ملأ» وفيه يقال: «حجر ملء الكف وأحجار أملاء الأكف» ثم استشهد على ذلك بهذا البيت. وفى عيون الأخبار: «جلاميد يملأن الأكف ... » .

ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف

ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف وقد أوردتها على حروف المعجم على ما أورده صاحب كتاب خزائن السلاح. فمن ذلك «إبريق» وهو الشديد البريق «أبيض» . «أذوذ» وهو القاطع. «إصليت» وهو الصقيل. «أغلف» إذا كان فى غلافه. «أنيث» وهو الذى يتّخذ من حديد غير ذكر. «باتر» أى قاطع. «بتّار» وهو اسم لسيف كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم. «بصروىّ [1] » منسوب لبصرى. قال الشاعر: صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطّردا من نسج داود محكما «بوادر [2] » أى قواتل. «بارقة» وهى السيوف التى تبرق. «جنثىّ» ؛ قال الشاعر: ولكنها سوق يكون بياعها ... بجنثيّة قد أخلصتها الصّياقل «جراز» أى قاطع. «جمّاد» بمعناه؛ وفيه يقول الأزهرىّ: لسمعتم من حرّ وقع سيوفنا ... ضربا بكلّ مهنّد جمّاد «حسام» أى قاطع. «حدّاد» من الحديد. «حداد» من الحداد كأنه أشار الى لونه. «خشيب» أى صقيل، و [هو [3]] من أسماء الأضداد. «خشيف» أى ماض. «خذيم» أى قاطع. «خضعة» وهى السيوف القواطع. «ددان» أى لا يقطع [4] . «ذالق» أى سلس الخروج من غمده. «ذلوق» مثله. «ذكر» أى ذو ماء. «ذو الكريهة» وهو الماضى فى الضّريبة. «ذو الفقار» سيف رسول الله صلى الله

_ [1] يجوز فى النسبة لمثل «بصرى» قلب ألفها واوا، كما ورد بالأصل، وحذفها كما فى اللسان. ومن الحذف قول الشاعر: يفلون بالقلع البصرىّ هامهم [2] البوادر: جمع بادرة وهى شباة السيف. [3] زيادة يقتضيها حسن السياق. [4] ويطلق على القطاع أيضا.

عليه وسلم. «ذو هبّة» اى ذو هزّة ومضاء. «ذرب» أى محدّد. «ذو النّون» [سيف مالك بن زهير [1]] . «ذو ذكرة» وهو الصارم. «رسوب» وهو الذى يغيب فى الضّريبة «رداء [2] » . «سيف» وجمعه أسياف وسيوف وأسيف. قال الشاعر: كأنهم أسيف بيض يمانية ... عضب مضاربها باق [3] بها الأثر «سراط» و «سراطى» أى قاطع. «سقّاط» وهو الذى يسقط من وراء الضريبة. «سريجىّ» منسوب الى قين يقال له سريج. «شلحاء» . «صقيل» . «صارم» أى قاطع. «صفيحة» وهو العريض. «صمصام» وهو الذى لا ينثنى. «صمصامة» مثله، وهو سيف عمرو بن معديكرب؛ وفيه يقول [4] : خليل لم أخنه ولم يخنّى ... على الصّمصامة السيف السلام وقال أيضا: خليل لم أهبه على قلاه [5] ... ولكنّ المواهب للكرام

_ [1] الزيادة عن لسان العرب. [2] ومنه قول الشاعر: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا [3] كذا فى اللسان (مادة أثر) وغيره من كتب الأدب واللغة، وفى الأصل: بيض مضاربها يبقى بها الأثر [4] فى الأصل «وفيه يقول الشاعر» ولعل كلمة «الشاعر» زيدت سهوا من الناسخ، فان قائل هذا الشعر هو عمرو بن معديكرب الذى يرجع اليه الضمير فى «يقول» قاله حين وهب سيفه. قال فى اللسان مادة (صمم) بعد أن ذكر البيت الأول: قال ابن برى صواب إنشاده: على الصمصامة ام سيفى سلامى وبعده ... ثم ذكر البيتين. وعلى تصويب ابن برى لا يكون فى الشعر اقواء. والإقواء: اختلاف حركة الروىّ. [5] فى اللسان «لم أهبه من قلاه» وكتب بهامشه: «قوله من قلاه الذى فى التكملة عن قلاه ... » .

حبوت به كريما من قريش ... فسرّ به وصين عن اللئام «صنيع» [مجرّب مجلوّ [1]] ؛ قال الشاعر [2] : بأبيض من أميّة مضرحىّ ... كأنّ جبينه سيف صنيع «طبع» وهو الصّدئ قال جرير: وإذا هززت قطعت كلّ ضريبة ... وخرجت لا طبعا ولا مبهوزا «عضب» أى قاطع. «عقيقة» أى صقيل؛ قال الشاعر [3] : حسام كالعقيقة فهو كمعى [4] ... سلاحى لا أفلّ ولا فطارا «عجوز» . «عراض» أى لدن المهزّة «عطاف» ؛ قال الشاعر: ولا مال لى إلا عطاف ومدرع ... لكم طرف منه حديد ولى طرف وجمعه عطف. «فطار» أى مشقق. «فلوع» أى قاطع. «فسفاس [5] » أى كهام. «قصّال» أى قطاع. «قاطع» . «قرن» . «قضيب» أى قاطع وجمعه قضب. «قاضب» مثله. «قرضاب» أى يقطع العظام. «قرضوب» مثله. «قشيب» قريب

_ [1] الزيادة عن لسان العرب. [2] هو عبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاصى يمدح معاوية، كما فى لسان العرب. [3] هو عنترة، كما فى اللسان. [4] الكمع: الضجيع. والعقيقة: شعاع البرق أو البرق اذا رأيته وسط السحاب كأنه سيف مسلول. وقد تطلق على السيف تشبيها له بالبرق أو شعاعه. أما العقيقة فى البيت فلا يمكن أن يراد بها السيف لأن السيف مشيه بها. والأفل: وصف مدح لما ضرب به كثيرا، وذمّ لما به من الخلل وهو المراد هنا. والفطار: المتشقق الذى لا يقطع. [5] ومثل الفسفاس: القسقاس.

عهد بالجلاء. «قلعىّ «منسوب الى قلعة [1] موضع بالبادية. «قساسى» منسوب الى معدن بأرمينية يقال له قساس. قال الشاعر: إنّ القساسىّ الذى يعصى [2] به ... يختضم الدارع فى أثوابه «قضم» وهو الذى طال عليه الدهر فتكسّر حدّه. «كهام» أى كليل. «كليل» أى كلّ حدّه. «لهذم» هو السيف الحادّ، ويسمى به السنان أيضا. «لخيف» وكان من أسياف [3] رسول الله صلى الله عليه وسلم «لجّ» . «مرهف» أى محدود رقيق. «مصمّم» وهو الذى يمرّ فى العظام. «مقطع» . «مخذم» أى قاطع «مجذر» . «مأثور» وهو الذى له أثر. «مذكّر» مثل ذكر. «محتفد» سريع القطع. «مخصل» . «مخضل» أى مصلت من غمده. «مقصل» أى قاطع. «مخفق» أى عريض. «مدجّل» المطلىّ بالذهب. «مهذم» قاطع. «معلوب» وهو سيف الحارث بن ظالم؛ وفيه يقول الكميت: وسيف الحارث المعلوب أردى ... حصينا فى الجبابرة الرّدينا «مشمل» أى صغير. «مغول» سيف رقيق يكون غمده كالسوط وهو الذى يتّخذ كالعكّاز. «مهو» . وهو الرقيق أيضا؛ قال صخر الغىّ:

_ [1] فى المخصص: «ابن دريد: قلعىّ منسوب الى حديد أو معدن، غيره: هو منسوب الى قلعة- وهو موضع» . وفى اللسان: «وفى الحديث وسيوفنا قلعية. قال ابن الأثير: منسوبة الى القلعة بفتح القاف واللام وهى موضع بالبادية تنسب السيوف إليه» . وقد ورد بالأصل «قلع» . [2] كذا فى اللسان فى مادتى «قسس» و «خضم» . وفى الأصل: « ... يقضى به» . [3] لم نجد فى مصدر آخر ما يؤيد ما هنا بل الذى فى البخارى وكتب اللغة أن «اللخيف» (كأمير وزبير) اسم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبارة ابن الأثير فى النهاية- ونقلها عنه صاحب اللسان وغيره- «كان اسم فرسه عليه الصلاة والسلام اللخيف، كذا رواه البخارى ولم يتحققه والمعروف بالحاء المهملة وروى بالجيم» .

وصارم أخلصت خشيبته ... أبيض مهو فى متنه ربد «مفقّر [1] » أى الذى فيه حزوز مطمئنّة عن متنه. «مهنّد» وهو الذى طبع من حديد الهند. «مشرفىّ» منسوب الى المشارف، وهى قرى من أرض العرب تدنو من الرّيف. «مطبّق» الذى يقطع المفاصل؛ قال الشاعر: يصمّم أحيانا وحينا يطبّق «منصل» . «مشطّب» أى الذى فى متنه طرائق. «مصلت» المسلول من غمده. «مفلع» أى قاطع. «معضد» هو الممتهن فى قطع الشجر وغيره. «معضاد» وهو الممتهن أيضا. «مذاهب» سيوف تموّه بالذهب. «نصل» . «نهيك» أى قاطع. «نون» هو اسم سيف بعض العرب؛ قال الشاعر: سأجعله مكان النّون منّى ... وما اعطيته عرق الخلال [2] معناه: سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان ذلك السيف، وما أعطيته عن مودّة بل أخذته عنوة. «نواحل» السيوف التى رقّت ظباتها قدما من كثرة المضاربة. «هذام» السيف القاطع. «هزهاز» هو الكثير الاهتزاز. «هندوانىّ» هو المطبوع من حديد الهند. «هندىّ» منسوب الى الهند. «وقيع» الذى شحذ بالحجر. «يمانى» منسوب الى اليمن.

_ [1] كذا فى المخصص وغيره من كتب اللغة. وفى الأصل «مفقم» . وهو تحريف. [2] الخلال: المصادقة والمودة مصدر خاله خلالا ومخالة. والعرق الجزاء. قال صاحب اللسان فى مادة (عرق) بعد كلام فى تفسير مفردات البيت ونسبته الى الحارث بن زهير: «والنون اسم سيف مالك بن زهير، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك يوم قتله، وأخذه الحارث من حمل بن بدر يوم قتله، وظاهر بيت الحارث يقضى بأنه أخذ من مالك سيفا غير «النون» بدلالة قوله: «سأجعله مكان النون» أى سأجعل هذا السيف الذى استفدته مكان النون. والصحيح فى إنشاده: «ويخبرهم مكان النون منى» لأن قبله: سيخبر قومه حنش بن عمرو ... اذا لاقاهم وابنا بلال

ومن أسماء أجزاء السيف- «أثر» أثره: إفرنده وما يرى عليه مما يشبه الغبار أو مدبّ النمل؛ قال عيسى بن عمر [1] : جلاها الصّيقلون فأخلصوها ... خفافا كلّها يتقى بأثر «إفرند» وشيه وأثره. «جربّان» هو حدّه. «حرف» مثله. «ذباب» حدّ طرفه وقيل: حدّه مطلقا. «رئاس» قائمه؛ قال الشاعر: ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا «ربد» ما تراه عليه شبه غبار أو مدب نمل؛ قال الشاعر: أبيض مهو فى متنه ربد «زرّ» قال مجرّس [2] بن كليب فى بعض كلامه: أما وسيفى وزرّيه، ورمحى ونصليه. والزرّ: الحدّ. «سطام» : حدّه. «سيلان» : هو ما يدخل منه فى النّصاب [3] . «سفن» : جلدة قائمه. «شطب» : طرائق فى إحدى متنيه. «شفرة» : حدّه، وشفرتاه: حدّاه. «صفح» : عرضه. «ظبة» : حدّه. وظبتاه: حدّاه. «عجوز» : نصل السيف؛ قال أبو المقدام: وعجوز رأيت فى فم كلب ... جعل الكلب للأمير جمالا والكلب من أجزاء السيف وهو البرجق [4] . «عير» هو الناشز فى وسط السيف. «غرار» : ما بين ظبتيه وبين العير من وجهى السيف جميعا، وجمعه: أغرّة. وقيل:

_ [1] فى اللسان أن هذا البيت لخفاف بن ندبة وأنشده عيسى، وفسره بقوله: أى كلها يستقبلك بفرنده. ويتقى مخفف من يتقى أى اذا نظر الناظر اليها اتصل شعاعها بعينه فلم يتمكن من النظر اليها. [2] فى الأصل: «قال هجرى ... » وهو تحريف. والتصويب من اللسان مادة «زر» . [3] نصاب السيف: مقبضه. [4] كذا بالأصل، ولم نوفق الى تفسيره أو صحته. وفى المخصص: «الكلب: المسمار فى قائم السيف الذى فيه الذؤابة» . وفى اللسان: «والكلب: مسمار مقبض السيف ومعه آخر يقال له العجوز» .

الغراران: شفرتا السيف. «غرب» غربه: حدّه. «فرند» : مثل «إفرند» . «فلول» الفلول فى حدّه، والواحد منها فلّ. «قيعة» هى التى على طرف قائمه من حديد أو فضة. «مضرب» : الذى يضرب به منه، وهو نحو شبر من طرفه. «مقبض» المقبض: حيث تقبض عليه الأكف. «نون» والنون: شفرة السيف. قال الشاعر: بذى نونين قصّال مقطّ «وشى» وهو فرنده وأثره، وقد تقدّم بيانه. ومما يضاف الى السيف- فأما اذا احتاج الى الشّحذ- يقال: «استوقع» واذا ضرب به فلم يعمل يقال: «أحاك» . واذا سلّ من قرابه يقال: «استلّ» . «اصلت» . «امتشن» . «امتعط» . «امتحط [1] » . «انتضى» . «اخترط» «جلط» . «جرّد» . «سلّ» . «شهر» «معط» . «نضى» . «شمت» : اذا سللت وأغمدت [2] . واذا خرج السيف من غير سلّ يقال: «اندلق» . واذا أغمض السيف من غير سلّ [3] يقال: «أغمدت» السيف. «أقربت» . «شمت» «قربت» . وأما اذا تقلّد به الرجل يقال: اعتطف؛ وفيه يقول الشاعر: من يعتطفه على مئزر ... فنعم الرّداء على المئزر ويقال: «تقلّد» .

_ [1] ومثل «امتحط» «امتخط» بالخاء المعجمة. [2] أى أنه يستعمل فى الضدّين. [3] كذا بالأصل، ويظهر أن فيه تحريفا وسهوا من الناسخ، ولعل صوابه: «وأما اذا أغمد السيف يقال ... الخ» فوقع تحريف فى «أغمد» وزيدت «من غير سل» سهوا.

ومن أسماء قرابه وآلته- يقال: «جفن» . «جربّان» . «جلبّان» «خلل» وهى بطائن كانت تغشّى بها أجفان السيوف. «غمد» . حمائله- يقال فيها «حمائل» واحدتها «حميلة» . «قراب» «محمل» . «نجاد» . حليته- يقال «رصائع» وهى حلق مستديرات تحلّى بها السيوف. «قبيعة» وقد تقدّم ذكرها. «نعل» وهو ما يكون أسفل القراب من فضّة أو حديد [1] . والنعل مؤنثة؛ قال الشاعر: ترى سيفه لا تنصف الساق نعله ... أجل لا وإن كانت طوالا محامله وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو عبادة البحترىّ: يتناول الرّوح [2] البعيد مناله ... عفوا، ويفنح فى القضاء المقفل ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل، ومصقول وإن لم يصقل يغشى الوغى [3] فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل مصغ الى حكم الرّدى، فاذا مضى ... لم يلتفت، واذا قضى لم يعدل متوقّد يبرى [4] بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل

_ [1] فى الأصل: «من فضة أو حرير» وقد أثبتنا ما فى كتب اللغة. [2] كذا فى ديوان البحترى (طبع مطبعة الجوائب بالقسطنطينية سنة 1300 هـ) وفى الأصل «تتناول الرمح ... » . [3] كذا فى الديوان، وفى الأصل: «يغشى الورى ... » . [4] فى الديوان: «متألق يفرى ... » .

واذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... واذا أصيب فما له من مقتل وقال أبو الهول: حسام غداة الرّوع ماض كانه ... من الله فى قبض النفوس رسول كأنّ جنود الذّرّ كسّرن فوقه ... عيون جراد بينهنّ ذحول كأنّ على إفرنده موج لجّة ... تقاصر فى صحصاحه وتطول اذا ما تمطّى الموت فى يقظاته ... فلا بدّ من نفس هناك تسيل وإن لا حظ الأبطال أو صافح الطّلى ... تشحّط يوما بينهن قتيل وقال عبد الله بن المعتزّ: ولى صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلا لسفك دماء ترى فوق متنيه الفرند كأنه ... بقيّة غيم رقّ دون سماء وقال أيضا: وسط الخميس بكفّه ذكر ... عضب كأنّ بمتنه نمشا ضافى الحديد كأنّ صيقله ... كتب الفرند عليه أو نقشا وقال ابن الرومىّ: خير ما استعصمت به الكفّ عضب ... ذكر هزّه أنيث المهزّ ما تأمّلته بعينك إلّا ... أرعدت صفحتاه من غير هزّ مثله أفزع الشّجاع الى الدّر ... ع فغالى بها على كلّ بزّ ما يبالى أصمّت شفرتاه ... فى محزّ أم حادتا عن محزّ وقال ابن المعتزّ: ولقد هززت مهنّدا ... عضب المضارب مرهفا

واذا تولّج هامة ال ... جبّار سار فأوجفا عضب المضارب كالغدي ... ر نفى القذى حتّى صفا وقال أيضا: فى كفّه عضب اذا هزّه ... حسبته من خوفه يرتعد وقال آخر: جرّدوها فألبسوها المنايا ... عوضا عوّضت من الأغماد وكأنّ الآجال ممن أرادوا ... وظباها كانت على ميعاد وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: وذى شطب تقضى المنايا بحكمه ... وليس لما تقضى المنيّة دافع فرند اذا ما اعتنّ [1] للعين راكد ... وبرق اذا ما اهتزّ بالكفّ لامع يسلّل أرواح الكماة انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع اذا ما التقت أمثاله [2] فى وقيعة ... هنالك ظنّ النفس بالنفس واقع وقال أيضا: بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النمل فى القاع يرتدّ طرف العين عن حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع وقال أبو مروان بن أبى الخصال: وصقيل مدارج النمل فيه ... وهو مذ كان ما درجن عليه أخلص القين صقله فهو ماء ... يتلظّى السعير فى صفحتيه

_ [1] اعتن: ظهر. [2] كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 68) وفى الأصل: «اذا ما التقت أرواحه ... » .

وقال أحمد بن الأعمى الأندلسىّ: موتى فان خلعت أكفانها علمت ... أنّ الدروع على الأبطال أكفان نفسى فداؤك لا كفأ ولا ثمنا ... ولو غدا المشترى منها وكيوان والتّبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى، ولكن مقادير وأوزان وقال عبد العزيز بن يوسف شاعر اليتيمة: بيض تصافح بالأيدى مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما ضحكن من خلل الأغماد مصلتة ... حتى اذا اختلفت ضربا بكين دما وقال الشريف الموسوىّ شاعرها: ونصل السيف تسلم شفرتاه ... ويخلق كلّ أيام قرابا وقال مؤيّد الدين الطغرائى: وأبيض طاغى الحدّ يرعد متنه ... مخافة عزم منك أمضى من النّصل عليم بأسرار المنون كأنما ... على مضربيه أنزلت آية القتل تفيض نفوس الصّيد دون غراره ... وتطفح [1] عن متنيه فى مدرج النمل خلعت عليه نور وجهك فارتدى ... بنور كفاه أن يحادث [2] بالصّقل وقد أكثر الشعراء تشبيه الفرند بالنمل، وأصل ذلك من قول امرئ القيس: متوسّدا عضبا مضاربه ... فى متنه كمدبّة النمل وقال الطغرائى: وأبيض لولا الماء فى جنباته ... تلسّن من حدّيه نار الحباحب أضرّ به حبّ الجماجم والطّلى ... فغادره نضوا نحيل المضارب

_ [1] كذا فى ديوان الطغرائى (نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 1528 أدب) وفى الأصل: «وتصفح ... » . [2] يحادث: يجلى.

وقال إسحاق بن خلف: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح وقال ابن المعتز: وجرّد من أغماده كلّ مرهف ... اذا ما انتضته الكفّ كاد يسيل ترى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفّس فيه القين وهو صقيل وقال منصور النمرىّ يصف سيفا: ذكر برونقه الفرند كأنما ... يعلو الرجال بأرجوان ناقع وترى مضارب شفرتيه كأنها ... ملح تناثر من وراء الدارع ولما صار الصّمصامة (سيف عمرو بن معديكرب) الى موسى الهادى أذن للشعراء أن يصفوه، فبدأهم ابن يامين [1] فقال: حاز صمصامة الزّبيدىّ من دو ... ن جميع الأنام موسى الامين سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر المتن بين حدّيه نور ... من فرند تمتدّ فيه العيون أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم شابت به الذّعاف القيون فاذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين وكأنّ الفرند والرّونق الجا ... رى فى صفحتيه ماء معين وكأنّ المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون ما يبالى من انتضاه لضرب ... أشمال سطت به أم يمين فأمر له ببدرة، وأخرج الشعراء.

_ [1] فى العقد الفريد: «ابن أنيس» .

ومن الإفراط فى وصف السيف قول النابغة: يقدّ السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقد بالصّفّاح نار الحباحب فذكر أنه يقدّ الدرع المضاعف والفارس والفرس ويصل الى الأرض فيقدح النار. وقال النّمر بن تولب: تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والقيدين والهادى ومن رسالة لأبى محمد بن مالك القرطبىّ جاء منها فى وصف السيوف، قال: وكأنما باضت على رءوسهم نعائم الدّوّ، وبرقت فى أكفّهم بوارق الجوّ؛ ولكنها اذا ما هزّت فبوارق، واذا صبّت فصواعق؛ من كل ذى شطب كأنما قرى نمل، علون منه قرى نصل؛ فإذا أصاب فكلّ شىء مقتل، واذا حزّ فكلّ عضو مفصل؛ أمضى فى الأشباح، من الأجل المتاح؛ عضب المتن صقيل، يكاد اذا انتضى يسيل؛ ويكاد مبصره يغنى عن الورد، اذا اخترط من الغمد؛ ما لم يخله ريعان سراب، فى صحصحان يباب، لاشتباه فرنده بحباب فى شراب، أو حباب [1] فى سراب؛ فلما رأيت جفنه قد انطوى على جمر الغضى، وماء الأضى [2] ؛ وانتظم على خصره الجنح، ورونق الصّبح؛ قلت سبحان مكور الليل على النهار، والجامع بين الماء والنار. وأما ما قيل فى الرمح، من الحديث، والأسماء، والنعوت، والأوصاف. عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقى تحت ظلّ رمحى وجعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمرى» . هذا ما ورد فيه من الحديث.

_ [1] الحباب (بالفتح) : الفقاقيع التى تعلو الماء، والحباب (بالضم) جمع حبابة، وهى دويبة سوداء مائية. [2] الأضى: جمع لأضاة، وهى مستنقع الماء.

وأما الأسماء، والنعوت، والأوصاف- فمن ذلك: «أسمر» وهو الدقيق «ألّة» وهو أصغر من الحربة، وفى سنانها عرض. وجمعها الإلال. «أمّ اللواء» . «أزنىّ» منسوب الى ذى يزن. «أقصاد» وهو المكسر. «ثلب» وهو المثلّم. «حادر» أى غليظ. «حربة» . «خرصانة [1] » . «خرص» . «خطّار» أى ذو اهتزاز «خال» أى لواء الجيش. «خطّى» هو ما ينسب من الرماح الى الخطّ، وهو موضع باليمامة. «خطل» وهو المضطرب. «خوّار» وهو الخفيف. «رمح» «رعّاش» وهو الشديد الاضطراب. «ردينىّ» منسوب الى امرأة اسمها ردينة «راش» أى خوّار. «زاعبىّ [2] » وهو الذى اذا هزّ تدافع كلّه. «رواعف» . «زاعبيّة» منسوبة الى زاعب: رجل، وقيل بلد. «سمهريّة» هى القنا الصّلبة منسوبة الى سمهر، كان رجلا يقوّم الرماح. «شراعىّ» هو الرمح الطويل. «شطاط [3] » القناة المعتدلة. «صدق» هو الصّلب من الرماح. «صعدة» وهى القناة المستوية من أصل نبتها التى لا تحتاج الى تثقيف، والجمع صعاد. «صمع» هى الصلبة اللطيفة العقد. «ضلع» هو الرمح المعوّج. «ضليع» هو الرمح المائل. «ضب [4] » اعوجاج

_ [1] كذا بالأصل: ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده وانما الموجود «خرصان» جمع «خرص» . [2] فى الأصل «راعبىّ» ومقتصى وضعه قبل «رواعف» يدن على انه من حرف الراء. غير أنا لم نجد فى كتب اللغة ما يؤيده. وفى اللسان: «والزاعبىّ من الرماح الذى اذا هز تدافع كله كأن آخره يجرى فى مقدّمه، والزاعبية رماح منسوبة الى زاعب: رجل أو بلد ... الى أن قال: وقال الأصمعىّ: الزاعبى الذى اذا هز كأن كعو به يجرى بعضها فى بعض للينه وهو من قولك: مر يزعب بحمله اذا مر مرا سهلا ... » وفى الأساس: «رمح زاعبى ورماح زاعبية نسبت الى رجل من الخزرج كان يعمل الأسنة، عن المبرد؛ وقيل: هى العسالة التى اذا هزت تدافعت كالسيل الزاعب يزعب بعضه بعضا أى يدفعه، وياء النسبة للنسبة الى الزاعب لمعنى التشبيه به أو للتأكيد كياء الأحمرى» . كل هذا يدل على أن ما فى الأصل محرّف وأن موضعه بعد «رواعف» ليكون من حرف الزاى. [3] شطاط (وزان سحاب وقتال) : الطول واعتدال القامة أو حسن القوام، ويقال: امرأة شطّة وشاطّة بينة الشطاط. أما ما ذكره المؤلف من اطلاق المصدر على القناة فلم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا ما يؤيده. [4] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر ما يؤيده. والذى فى كتب اللغة «والطنب بفتحتين: اعوجاج فى الرمح» فلعل ما فى الأصل محرّف عنه.

فى الرمح. «عنزة» وهى أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيها زجّ كزحّ الرمح. «عكّازة» نحوها. «عاسل» هو الرمح الشديد الاضطراب. «عسّال» . «عسول» . «عرّات» : مثل عاسل. «عشوزنة» القناة الصّلبة. «عرّاص» هو الرمح المضطرب. «عتلّ» هو الرمح الغليظ. «قناة» وجمعها قنى وقنوات وقنّى وقناء. «قصد» أى مكسّر. «لدن» اذا هو تدافع كله. «متثنّى» كان من رماح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. «مدعس [1] » . «مطرد» أى صغير. «منجل» أى واسع الطعن. «مزجّ» هو صغير كالمزراق. «مزراق» هو أخفّ من العنزة. «متلّ» رمح قوىّ يصرع به؛ قال لبيد: أعطف الجون بمربوع متلّ «مسمّح» هو الذى ثقّف. «مخموس» هو الذى طوله خمسة أذرع؛ قال عبيد [يذكر ناقته [2]] : هاتيك تحملنى وأبيض صارما ... ومذرّبا فى مارن مخموس «مربوع» هو الذى طوله أربعة، وقيل الذى ليس بطويل ولا قصير. «معرّن» هو الرمح المسمّر السنان بالعران وهو المسمار. «مرّانة» . «مثقّفة» وهى الرماح التى ثقّفت أى سوّيت. «مدريّة» وهى التى كانت تركب فيها القرون [المحدّدة [3]] مكان الأسنة، وقيل: إنها نسبت الى قرية باليمن يقال لها مدر. «نيزك» وهو رمح قصير، يقال: إنه فارسىّ وعرّب. «هزع» أى مضطرب. «وشيج» وهى شجرة الرماح. وشج [4] » نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. «يزنىّ» مثل «أزنىّ» .

_ [1] السنان المدعس: الغليظ الشديد الذى لا ينثنى. [2] الزيادة عن اللسان. [3] الزيادة عن اللسان. [4] لعل أصل العبارة: وشيج وهو شجر الرماح، أو الوشيج نوع منه ينبت فى الأرض معترضا. فوقع فيها حذف وتحريف، وإلا فان ما فى الأصل لا يتفق مع شىء مما فى كتب اللغة. قال فى القاموس وشرحه: «ومن المجاز تطاعنوا بالوشيج أى بالرماح، والوشيج شجر الرماح، وقيل هو ما نبت من القنا والقصب معترضا ... الخ» .

ومن أسماء السنان- «أعجف» وهو الرقيق. «أشهب» اذا جلى «أذلق» وهو الحادّ. «حرب [1] » يقال حرّبت السنان اذا حددته. «خرص» وهو اسم للسنان وللرمح أيضا. «خزق [2] » . و «خازق» يقال فى أمثال العرب: «أمضى من خازق» . «ذرب» يقال: ذربته أى حددته. «ذلق» مثله. «رغب [3] » . «زرق» . «سيحف» هى نصال قصار عراض؛ قال الشّنفرى: لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا ... اذا آنست أولى العدىّ اقشعرّت [4] «سنان» وجمعه أسنّة. «صلّبىّ» سنان مسنون. «عامل» . «عذار» وعذار السنان شفرتاه «عير» الناتئ فى وسطه. «قارية» حدّ السنان. «لهذم» هو السنان الحادّ القاطع. «مصلّب» أى مسنون. و «مطحر [5] » و «محدّد» و «مطرور» مثله. «مذرّب» أى محدّد؛ قال كعب: بمذرّبات بالأكفّ نواهل ... وبكلّ أبيض كالغدير مهنّد «نصل» وجمعه نصول ونصال. «نحيض [6] » يقال: نحضته اذا رقّقته.

_ [1] كذا فى الأصل ولم نجد فى مصدر آخر «حربا» وصفا كما يقتضيه السياق هنا. [2] لم نجد فى كتب اللغة أسماء أو وصفا للرمح يقرب من هذه الصيغة، وإنما الموجود: «خزقة اذا طعنه طعنا خفيفا» فلعله من اطلاق المصدر على آلته. [3] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها فى مصدر آخر. [4] كذا فى اللسان (مادة سحف) والمخصص، وفى الأصل: هى وصفة فيها ثمانون سيخفا ... اذا آنست أولى العدا اقشعرت ويكاد التحريف ينال- كما هو ظاهر- كل كلمات البيت. الوفضة: الجعبة من الأدم. وفد فى اللسان: «أولى العدىّ: أوّل من يحمل من الرجالة» . [5] سياق الكلام هنا يدل على أن «مطحر» : مسنون. وفى القاموس: «ونصل مطحر كمكرم: مطوّل» . [6] فى الأصل «نحض» وهو تحريف وانما هو فعيل بمعنى مفعول، كما فى القاموس.

ومن أسماء ما يعقد عليها- «أمّ» الأمّ: العلم الذى يتبعه الجيش. «بند» هو العلم الكبير، وهو فارسىّ معرّب. «حقيقة» هى الراية؛ قال عامر بن الطّفيل: أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر «خفق [1] » خفقت الراية اذا اضطربت. «علم» الراية، وقيل: الذى يعقد على الرمح. «عقاب» العقاب: العلم الضخم. «غاية» وهى الراية. «لواء» وهو دون الأعلام والبنود. «عذبة» خرقة تعقد على رأس الرمح. وأما اذا حمله الرجل وطعن به- يقال: «اعتقل الرمح» اذا جعله بين ركابه وساقه. «أقرن» اذا رفع رأس رمحه. «اقتلع» اذا أخذ الرمح ليحمل به. «امتعط» و «انتزع» مثل اقتلع. «أشرع» اذا قابل به خصمه «بوّأ» يقال: بوّأت الرمح اذا سدّدته «تيممّ» تيممه اذا قصده دون غيره؛ قال الخليل بن أحمد: يمّمته الرمح شزرا ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد [2] ومثل «تميم» «جعب» . «جحل» «جحدل» . «جعفل» ؛ قال الشاعر: جعفلتها لما أبت أن تخضعا «جوّر» مثله «جدّل» يقال: طعنه فجدّله أى رماه الى الأرض. «جرجم» يقال: جرجمه اذا صرعه. «حفز» أى طعن. «خطّار» هو الطعّان بالرمح؛ قال الشاعر: مصاليت خطّارون بالرمح فى الوغى

_ [1] لعله أراد أن يذكر الفعل، فان الوصف منه «خفّاق» و «خافق» . [2] فى الأمالى لأبى على الفالى واللسان (مادة صمد) : علوته بحسام ثم قلت له ... ......... الح:

«خار» يقال طعنه فخار، أى أصاب خورانه وهو مجرى الرّوث. «دعس» اذا طعن. «دسر» أى طعن طعنة قويّة. «رامح» أى ذو رمح، لا فعل له. «رصع» اذا طعن. «رمح» مثله. «ركز» اذا غرز رمحه فى الأرض. «زجّ» اذا طعن بالزّجّ «سلق» اذا طعنه فوقع على ظهره. «سرّ» اذا طعنه فى سرّته؛ قال الشاعر: نسرّهم إن همو أقبلوا ... وإن أدبروا فهمو من نسبّ أى نطعنهم فى سبّاتهم [1] . «شجر» اذا طعن. «شكّ» اذا طعنه فخرقه. «طعن» . «قرطب» اذا طعن فصرع. «قعف» اذا طعنه فقعفه. «قعر» مثله. «قطّر» أى طعنه فألقاه على قطريه وهما جانباه؛ قال الهذلىّ: مجدّلا يتسقّى جلده دمه ... كما يقطّر جذع الدّومة القطل والقطل المقطوع. «قدع» يقال: تقادعوا اذا تطاعنوا. «لهز» اذا طعنه فى صدره. «لزّه» اذا طعنه. «مداعسة» وهى المطاعنة. «مسامحة» وهى الملاينة والمساهلة. «منادسة» المنادسة: المطاعنة. و «رماح نوادس» ؛ قال الكميت: ونحن صبحنا آل نجران غارة ... تميم بن مرّ والرماح النّوادسا «مدعس» أى طعّان. «مداعس» مثله. «مزجوج» الذى طعن بالزّجّ. «مكوّر» هو الذى طعن بارمح؛ قال الفرزدق: حملت عليه حملة فطعنته ... فغادرته فوق الفراش مكوّرا «جائفة [2] » يقال طعنه طعنة جائفة اذا وصلت الى جوفه. «نجلاء» هى الطعنة الواسعة. «نكت» يقال: طعنه فنكته إذا وقع على رأسه. «هرّع» يقال: هرّع

_ [1] السبات: جمع سبة، وهى الدبر. [2] كذا فى المخصص وسائر كتب اللغة التى بين أيدينا. وفى الأصل: «مجيفة» .

القوم الرماح اذا شرعوها ومضوا بها. «وخض» يقال: وخضه إذا طعنه طعنا لا ينفذ؛ قال الشاعر: وخضا الى النّصف وطعنا أرصعا وأما ما وصفته به الشعراء- فمن ذلك ما قاله أبو تمّام حبيب بن أوس الطائىّ: أنهبت أرواحه الأرماح إذا شرعت ... فما تردّ لريب الدهر عنه يد كأنها وهى فى الأوداج [1] والغة ... وفى الكلى تجد الغيظ الذى تجد من كلّ أزرق نظّار بلا نظر ... الى المقاتل ما فى متنه أود كأنه كان خدن الحبّ مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد وقال مؤيّد الدين الطغرائى: وخفّاقة طوع الرياح كأنها ... كواسر دجن ألثقتها [2] الأهاضيب تميد بها نشوى القدود كأنها ... قدود العذارى يزدهيهنّ تطريب يرنّحها سقيا الدماء [3] كأنها ... مدام وآثار الطّعان أكاويب

_ [1] كذا فى ديوان أبى تمام (طبع الآستانة) وفى الأصل: «فى الأرواح» . [2] ألثقتها: بللتها وندتها. والأهاضيب: جمع أهضوبة وهى المطرة. قال الركاض الدبيرى يخاطب دارين: ولا زال يجرى السيل فى عرصتيكما ... اذا جف ندّته أهاضيب هيدب والهيدب: السحاب المتدلى الذى يدنو مثل هدب القطيفة. يريد الطغرائى أن يشبه الرايات فى خفوقها واضطرابها بانتقاض الكواسر فى يوم دجن وقد بالها القطر. [3] كذا فى ديوان الطغرائى، نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1528 أدب، وفى الأصل «سقيا الماء» وهو تحريف.

بها هزّة بين ارتياح ورهبة ... وللنصر مرتاح وللهول مرهوب لها العذبات الحمر تهفو كأنها ... ضرام بمستنّ العواصف مشبوب اذا نشرت فى الرّوع لاحت صحائف ... عليهن عنوان من النصر مكتوب طوالع، طرف الجوّ منهن خاسئ ... حسير وقلب الأرض منهن مرعوب وقال آخر: ومطّرد لدن الكعوب كأنما ... تغشّاه منباع [1] من الزيت سائل أصمّ اذا ما هزّ مارت سراته ... كما مار ثعبان الرمال الموائل [2] له رائد ماضى الغرار كأنه ... هلال را فى ظلمة الليل ناحل وقال حوبة [3] بن حويّة يصف السنان: فأعدّ أزرق فى القناة كأنه ... فى طخية الظلماء ضوء شهاب وقال دعبل: وأسمر فى رأسه أزرق ... مثل لسان الحيّة الصادى وقال آخر: جمعت ردينيّا كأنّ سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: بكلّ ردينىّ كأن سنانه ... شهاب بدا فى ظلمة الليل ساطع

_ [1] منباع: سائل. [2] رخ أصم: مكتنز. ومارت سراته: اضطرب أعلاه. وفى الأصل: «مالت سراته» وهو غير مناسب للسياق ولا للتشبيه فى الشطر الثانى؛ فلعله تحريف. الموائل: الطالب للنجاة خشية أن يصيبه مكروه. [3] كذا بالأصل.

تقاصرت الآجال فى طول متنه ... وعادت به الآمال وهى فجائع وساءت ظنون الحرب فى حسن ظنّه [1] ... فهن لحبّات القلوب قوارع وقال أبو محمد بن مالك القرطبىّ من رسالة جاء منها فى وصف الرمح: ومن كل مثقّف الكعوب، أصمّ الأنبوب؛ كأنما سلب من الروم زرقتها، واجتلب من العرب سمرتها؛ وأخذ من الذئب عسلانه، ومن قلب الجبان خفقانه، ومن رقراق السّراب لمعانه؛ واستعار من العاشق نحوله، ومن العليل ذبوله. قال أبو تمام: مثقّفات سلبن الروم زرفتها ... والعرب أدمتها والعاشق القضفا [2] واما ما قيل فى القوس العربية- روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو متقلّد قوسا عربية، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «هكذا جاءنى جبريل اللهم من استطعمك بها فأطعمه ومن استنصرك بها فانصره ومن استرزقك بها فارزقه» . وقال: «مامدّ الناس أيديهم الى شىء من السلاح إلا وللقوس عليه فضل» . والقوس [3] مؤنثة. وتصغيرها قويس. وجمعها أقوس وأقواس وقياس وقسىّ. ولها أجزاء وأسماء. فأما أجزاؤها- فكبدها: ما بين طرفى العلاقة. ويليه الكلية. ويلى الكلية: الأبهر. ثم الطائف، وهما طائفان: الأعلى والأسفل. والسّية: ما عطف من طرفيها.

_ [1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: « ... فى كل ظنة» . [2] القضف هنب: النحافة. [3] وقد تذكر، وسيأتى المؤلف ينص على هذا.

ويدها: أعلاها. ورجلها: أسفلها. والعجس والمعجس: مقبضها. وإنسيّها: ما أقبل على الرامى. ووحشيّها ما كان الى الصّيد. والفرض والفرضة: الحزّة التى يقع فيها طرف الوتر المعقود وهو السية [1] . وما فوق الفرضة: الظّفر والكظر. وأما أسماء القوس ونعوتها- فمنها: «بانية [2] » أى بانية على وترها اذا التصقت به. «جشو [3] » هى القوس الغليظة وقيل الخفيفة؛ قال أبو ذؤيب: ونميمة من قانص متلبّب ... فى كفه جشو أجشّ وأقطع «جلهق [4] » وجمعها جلاهق، وهى قسىّ البندق. «حنّانة» التى تحنّ عند الإنباض؛ قال الشاعر: وفى منكبى حنّانة عود نبعة ... تخيّرها لى سوق بكّة بائع [5] «حاشكة» وهى القوس البعيدة الرمى. «حنيرة» وهى القوس بغير وتر، وفى الحديث: «لو صلّيتم حتى تكونوا كالحنائر [ما نفعكم حتى تحبّوا آل رسول الله صلى الله عليه

_ [1] فى الأصل: «وهو السيسرة» وهو تحريف. قال فى أساس البلاغة: «وأوقع الوتر فى فرض قوسك وفرضتها، وهو الحز فى سيتها» . [2] فى اللسان (مادة بين) : «الجوهرى: البائنة القوس التى بانت عن وترها كثيرا، وأما التى قد قربت من وترها حتى كادت تلصق به فهى البانية بتقديم النون، قال: وكلاهما عيب ... » وظاهر من تفسير المؤلف هنا أن المراد «البانية» بتقديم النون. وفى الأصل: «بايتة» وهو تحريف. [3] الذى فى كتب اللغة «قوس جشء» بالهمز و «الجشو» بالواو لغة فيه. [4] ظاهر كلام المؤلف أن «جلهق» مفرد جمعه «جلاهق» والذى فى كتب اللغة: الجلاهق بضم الجيم: القوس، ولم يذكروا له هذا المفرد الذى ذكره. [5] ضبط هذا البيت فى اللسان (مادّة حنّ) باضافة «منكى» الى حنانة على أنه تثنية منكب وعلى أن المراد ب «عود نبعة» السهم. وإذ كنا لم نوفق الى القصيدة التى منها هذا البيت لنعرف موضعه من السياق، وإذ كان ضبطه على ما فى اللسان غير واضح. وإذ كان العود يطلق على القوس كما يطلق على السهم، رأينا أن نضبطه كما ترى، على أن يكون «عود نبعة» بدلا من حنانة.

وسلم [1]] » . «حدلاء» هى القوس التى تطامنت [2] [سيتها] . «حصوب» وهى التى اذا رمى عنها انقلب وترها. «رهيش» التى اذا رمى عنها اهتزّت وضرب وترها أبهرها. «زفيان [3] » هى السريعة الإرسال للسهم. «زوراء» سمّيت بذلك لميلها. «شسيب» وهو من أسمائها. «شريجة» . «شدفاء» سمّيت بذلك لاعوجاجها. «صفراء» . «صريع» «ضروح» وهى الشديدة الحفز والدفع للسهم. «طحور» البعيدة الرمى. «طروح» مثل ضروح. «طلاع الكف» اذا كان مقبضها يملأ الكفّ. «عاتك» هى القوس التى احمرّت من الفدم، ومثله العاتكة. «عاتق [4] » هى التى تغيّر لونها. «عطوى» هى المؤاتية السهلة؛ قال الشاعر: له نبعة عطوى كأنّ رنينها ... بألوى تعاطته [5] الأكفّ المواسح «عراضة» وهى العريضة. «عبهر» هى القوس الممتلئة العجس «عطافة» «عطيفة» . «عطفى» القوس المعطوفة؛ قال أسامة الهذلىّ: فمدّ ذراعيه وأجنأ [6] صلبه ... وفرّجها عطفى مرير ملاكد

_ [1] تتمة الحديث من نهاية ابن الأثير. [2] تطامنت سيتها: انحفضت أى مع ارتفاع السية الأخرى. والزيادة التى وضعناها ضرورية وسيذكرها المصنف فى تفسير «محدلة» التى معناها معنى «حدلاء» . فلعل هذه الزيادة التى أثبتناها سقطت هنا سهوا من الناسخ. ومثل محدلة وحدلاء أيضا حدال كغراب. [3] كذا فى المخصص وكتب اللغة. وفى الأصل «زفنان» وهو تحريف. [4] ومثل عاتق: عاتقة. [5] كذا فى اللسان (مادة عطا) وفى الأصل: «تعاطيه» ولعله تحريف من الناسخ. قال فى اللسان: «وأراد بالألوى الوتر» . وتعاطنه: تنازعته. [6] أجنأ صلبه: أحنى ظهره. ومرير: ذو مرة أى قوىّ. والملاكد: المعالج الملازم من قولهم: بات يلاكد الغل: أى يعالجه.

«عطوف» هى المعطوفة السّيتين إحداهما على الأخرى. «عتلة [1] » والعتلة: القوس الفارسية، وجمعها عتل. «عوجاء» وهو من أسمائها. «عثوث» وهى القوس المرنّة. قال كثيّر: هتوفا اذا ذاقها النّازعون ... سمعت لها بعد حبض عثاثا [2] «عطل» هى التى لا وتر عليها. «غلفاء» التى فى غلافها. «فرع» و «فرعة» وهما من جياد القسىّ. «فجّاء» توصف بذلك اذا بان وترها عن كبدها. «فجواء» مثلها. «فلق» اذا كانت مشقوقة [3] ولم تكن قضيبا. «فرج» اذا تنفّجت سياتها [4] . «قوس قعساء [5] » والقعس هو نتوء باطن القوس من وسطها ودخول ظاهرها. «قؤود» وهى السّلسة المنقادة. «كبداء [6] » هى التى يملأ كبدها الكفّ. «كزّة» وهى القصيرة. «مسحنة» وهى الحسنة المنظر. «مطحر» التى ترمى بسهمها صعدا. «محدلة» التى تطامنت سيتها مثل الحدلاء. «مروح» وهى القوس الحسنة التى يمرح من رآها عجبا بها. ويقال ممراح وممرح أى نشيط. «مهوك» القوس الليّنة. «مسيحة [7] » وهو من أسمائها. «معطّفة» هى القوس المعطوفة السّيتين. «مطعمة» ؛ قال الشاعر:

_ [1] كذا فى المخصص واللسان، ومنه قول أمية: يرمون عن عتل كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمىّ إعجالا وفى الأصل: «عتكة» بالكاف. وهو تحريف. [2] ذاق القوس: جذب وترها لينظر ما شدتها. والنازعون: الرماة. والحبض: الصوت الضعيف وعثاث: مصدر عاث فى غنائه اذا رجّع وترنّم. [3] مشقوقة: أى أن تكون أحد شقى قضيب. [4] تنفجت سياتها: ارتفعت. يريد سيتيها إذ ليس للقوس إلا سيتان. [5] فى الأصل: «قوس قعس» . [6] فى الأصل: «كبد» . [7] كذا فى المخصص واللسان (مادة مسح) وفى الأصل: «مسيح» .

وفى الشّمال من الشّريان مطعمة ... كبداء فى عجسها [1] عطف وتقويم وقيل سمّيت بذلك لأنها تطعم. «معطوفة» . «ما سخيّات» هى أقواس تنسب الى ما سخة [2] رجل من الأزد كان قوّاسا؛ قال الشّمّاخ بن ضرار: فقرّبت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيّات القسىّ الموتّرا [3] «ناترة» وهى التى تقطع الوتر لصلابتها، وجمعها نواتر. «نفوح» هى الشديدة الدفع للسهم. «همزى [4] » مثلها. وأما الوتر- فمن أسمائه: «حبجر» وهو الوتر الغليظ، وكل غليظ كذلك؛ قال الشاعر: أرمى عليها وهى شىء بجر [5] ... والقوس فيها وتر حبجر وهى ثلاث أذرع وشبر «سرعان» وهو الوتر القوىّ؛ قال الشاعر: وعطّلت قوس اللهو من سرعانها ... وعادت سهامى بين أحنى وناصل [6] «شرعة» الشرعة: الوتر الرقيق، وقيل مادام مشدودا. «فرو [7] » . «هجار» . «وتر» .

_ [1] قال فى اللسان، بعد أن ذكر البيت وشرح «كبداء» ،: «وصواب إنشاده: فى عودها عطف يعنى موضع السيتين وسائره مقوّم» . يريد أن العطف والتقويم فى عود القوس لا فى عجسها، وأن المعطوف من عودها هو موضع السيتين. [2] كذا فى اللسان والقاموس وأساس البلاغة. وفى الأصل «ماسخ» . [3] المبراة: الناقة فى أنفها برة، وهى حلقة من فضة أو صفر تجعل فى أنفها. والموتر: المشدود الوتر. [4] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «همزاء» وهو تحريف. [5] بجر: عجب. [6] فى الأصل «بين أحنى ونواضل» وهو تحريف، والتصويب عن لسان العرب مادة «سرع» . والأحنى: الأحدب. والناصل: السهم ذو النصل، والذى خرج منه نصله، وهذا هو المراد هنا. [7] كذا بالأصل. ولم نجد فى المصادر التى بأيدينا ما يؤيده.

وأما أصوات القوس- يقال: «أرنّت» اذا رمى عنها فصوّتت. «أنبض» . «أنضب [1] » . «حضب» وجمعه أحضاب. «رجّعت» . «زجوم» . الزّجوم التى ليست شديدة الإرنان. «سجعت» اذا مدّت حنينها على جهة واحدة. «عجّاجة» . «عزفت» . «عداد» هو صوت الوتر. «عوّلت [2] » مثل أرنّت. «كتوم» وهى التى لا ترنّ «مرنان» وهى التى اذا رمى عنها صوّتت؛ قال الشنفرى: اذا زلّ عنها السهم رنّت كأنها ... مرزّأة ثكلى تحنّ وتعول «نأمت» أى صوّتت. «هتفى» . «هتّافة» . «هزج» و «هزّجت» اذا صوّتت عند إنباض الرمى عنها؛ قال الكميت: لم يعب ربّها ولا الناس منها ... غير إنذارها عليها الحميرا بأهازيج من أغانيّها الجشّ [3] ... وإتباعها النحيب [4] الزفيرا وقال الشّماخ: اذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز وقال آخر: وهى اذا أنبضت عنها تسجع ... ترنّم الثّكلى أبت لا تهجع وقال آخر: تسمع عند النّزع والتوتير [5] ... فى سيتيها رنّة الطّنبور

_ [1] أنبض القوس وأنضبها اذا جذبها لتصوّت. [2] فى الأصل: «عوّكت» وهو تحريف. [3] الجش: جمع جشاء من الجشة وهى غلظ الصوت. [4] فى أساس البلاغة: وإتباعها الحنين الزفيرا [5] النزع: رمى السهم عن القوس. والتوتير: شدّ وتر القوس. وفى الأصل: «عند النزع والوتير» .

ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى

واذا وتر القوس أو أخذ عنها وترها- يقال: «حظرب قوسه» اذا شدّ توتيرها. «طحمر» اذا وترها. «متّن» مثله. «وتر» . «عطّل» يقال: عطّل القوس اذا أخذ عنها الوتر. وأما اذا حمل القوس أو اتّكأ عليها- يقال: «تنكّب القوس» اذا ألقاها على منكبه. «تأتّب» يقال: تأتّب قوسه اذا جعلها على ظهره. «متقوّس» اذا كان معه قوس. «انكب» والأنكب الذى لا قوس معه. «ارتكز» إذا وضعها بالأرض واعتمد عليها. هذا ما قيل فى القوس من الأسماء والصفات اللغوية؛ فلنذكر تركيب القوس ومبدأ عملها. ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى أما تركيب القوس- فقد أجمع الرّماة أنها مبنية على طبائع الإنسان الأربع وهى: العظم، ونظيره فى القوس الخشب. واللحم، ونظيره فى القوس القرون. والعروق والعصب، ونظيرها فى القوس العقب. والدم، ونظيره فى القوس الغراء. وأما مبدأ عملها ومن رمى بها- اختلف الناس فى القوس ومبدإ عملها ومن رمى عنها، فقال بعض أهل العلم: إن القوس جاء بها جبريل الى آدم عليه السلام

وعلّمه الرمى عنها، وتوارثه ولده الى زمن نوح عليه السّلام. وذكرت الفرس فى كتاب الطبقات الأربع: أنّ أوّل من رمى عنها جمشيد الملك الفارسىّ، وقيل إنه كان فى زمن نوح عليه السّلام، وتوارثه بعده ولده طبقة بعد طبقة. وقال آخرون: إن أوّل من رمى عنها النّمرود، وخبره مشهور فى رميه نحو السماء وعود سهمه اليه وقد غمس من الدم. وسنذكر ذلك ان شاء الله تعالى مبيّنا فى قصة إبراهيم عليه السّلام. ورمى عنها بعد النمرود سامن اليمانى ثم كند بن سامن ثم رستم من المجوس ثم اسفنديار وغيرهم. وقيل إن أوّل من وضعها بهرام جور بن سابور ذى الأكتاف، وهو من الملوك الساسانيّة، وإنه عملها من الحديد والنّحاس والذهب، ولم يكن رآها قبل ذلك، فلم تطاوعه فى المدّ فعملها من القرون والخشب والعقب [1] . وهذا القول مردود على قائله، لأن الفرس الأول لم تزل تفتخر بالرمى فى الحروب والصيد، ولم ينقل أن الرمى انقطع فى دولة ملك منهم. والله تعالى أعلم. وأما معنى الرمى- ومعنى الرمى عند العرب هو القصد، وذلك أنهم يقولون: رميت ببصرى الشىء، أى قصدت اليه به؛ قال ابن الرومى: نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت! ... وقع السّهام ونزعهن أليم وقال العبّاس بن الأحنف: قالت ظلوم سميّة الظلم ... مالى رأيتك ناحل الجسم يا من رمى قلبى فأقصده ... أنت العليم بموضع السهم

_ [1] العقب: عصب المتنين والساقين والوظيفين.

وأما معناه عند العجم، فقد حكى عن بهرام أنه قال: معنى رميت الشىء أى [1] رمته فوصلت اليه. وهو مقارب لمعناه عند العرب، لأنه إنما أراد بما رامه القصد له. هذا ما قيل فى القوس. فلنذكر ما قيل فى السهم، ثم نذكر بعد ذلك ما قيل فيهما من النظم والنثر. وأما ما قيل فى السهم- روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة [نفر [2]] الجنة صانعه يحتسب فى صنعته الخير والرامى به والممدّ [3] به» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا» . وعنه صلى الله عليه وسلم وقد مرّ على نفر من أسلم [4] ينتضلون فقال: «ارموا بنى إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بنى فلان» ، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون» ؛ فقالوا: كيف نرمى وأنت معهم! قال: «ارموا وأنا معكم كلّكم» . وعن حمزة بن أبى أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفّوا لنا: «اذا أكثبوكم [5] فعليكم بالنّبل» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلّم الرمى ثم تركه فهو نعمة تركها» .

_ [1] كذا بالأصل، وظاهر أن الكلمة «أى» التفسيرية هاهنا لا معنى لها بل وجودها محل بالتركيب. [2] زيادة من هذا الجزء (صفحة 238 من خطبة القاضى شهاب الدين محمود الحلبى) ومن الجامع الصغير. [3] الممدبه: من أمده بالشىء: أعطاه إياه. وفيما يأتى فى خطبة الحلبى وفى الجامع الصغير. «ومنبله» بدل «الممدبه» والمنبل: من أنبله الشىء أعطاه إياه وناوله. [4] أسلم: قبيلة مشهورة. [5] أكثبوكم: قاربوكم ودنوا منكم فمكنوكم منهم.

ومما يدلّ على تعظيم قدر الرامى ما روى عن عبد الله بن شدّاد قال: سمعت عليّا يقول: ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يفدّى رجلا بعد سعد، سمعته يقول: «إرم فداك أبى وأمّى» . وسعد هذا هو سعد بن مالك. وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له كان فى يوم أحد. وللسهم أسماء وصفات ونعوت نطقت بها العرب- منها: «أقذّ» ، والأقذ: الذى لا ريش عليه. «أهزع» وهو السهم الذى يبقى فى الكنانة وحده لأنه أردأ ما فيها، ويقال هو أجودها وأفضلها؛ ويقال: ما فى جفيره أهزع، قال العجّاج: لا تك كالرامى بغير أهزعا [1] وقال آخر: فأرسل سهما له أهزعا ... فشكّ نواهقه [2] والفما «أفوق» هو المكسور الفوق [3] . «أمرط» هو الذى سقط قذذه. «أغضف [4] » وهو الغليظ [الريش [5]] . «أصمع» وهو الرقيق. «ثجر» وهى سهام غلاظ. «ثلث» وهو سهم من ثلاثة، ومثله ثليث وثمين وسبيع وسديس وخميس. «جبّاع» وهو الذى بغير نصل. «جمّاع» سهم مدوّر الرأس يتعلم به الصبىّ الرمى. «حشر» يقال: سهم حشر، وسهام حشر أى دقاق. «حاب» وهو الذى يزحف فى [الأرض ثم يصيب [6]] الهدف. «حابض» وهو الذى يقع بين يدى راميه. «حظاء» هى سهام صغار، والواحدة: حظوة، وتجمع على حظوات، وتصغيرها: حظيّات. «حسبان» سهام

_ [1] فى المخصص: «يأيها الرامى بغير أهزعا» . [2] النواهق: مخارج النهاق من ذى الحافر، أو العظام الناتئة فى مجرى دمعه من الخدّ. [3] الفوق: موضع الوتر. [4] فى الأصل: «أعضف» وهو تحريف. [5] زيادة عن القاموس. [6] التكملة من كتب اللغة.

صغار يرمى بها عن القسىّ الفارسيّة، والواحدة حسبانة. «خازق» وهو السهم الذى يصيب القرطاس. «خشيب» وهو حين يبرى البرى الأوّل. «خلط» وهو السهم الذى ينبت عوده على عوج فلا يزال يتعوّج وإن قوّم. «دالف» وهو الذى يصيب ما دون الغرض ثم ينبو عن موضعه، والجمع دلّف. «دابر» وهو الذى يخرج من الهدف. «رقميّات» سهام تنسب الى موضع بالمدينة. «زالج» وهو الذى يتزلّج من القوس أى يسرع، وكلّ سريع زالج. «زاحف» وهو الذى يقع دون الغرض ثم يزحف اليه. «زمخر» وهو النّشّاب واحدته زمخرة، ويقال: هو الطويل منه. «سهم سندرىّ» نوع من السهام منسوب الى السّندرة وهى شجرة. «سروة» سهم صغير، والجمع سراء. «شارف» سهم طويل دقيق، وقيل الذى طال عهده. «شاخص» أى جاز الغرض من أعلاه. «شارم» وهو الذى يشرم جانب الغرض. «صادر» هو النافذ. «صنيع» . «عبر» هو الموفور الريش. «عموج» هو الذى يتلوّى فى ذهابه وهو الاعوجاج فى السير. «عصل» السهام المعوجّة. «عفر [1] » . «عائر» وهو السهم الذى لا يدرى من أين أقبل. «غرب» يقال: سهم غرب [2] ، وهو الذى يأتى ولا يعلم المصاب به من أين يأتى. «فالج» هو السهم الفائز. «قطع» هو السهم العريض. «قدح» قبل أن يراش ويركّب نصله. «قطبة» سهم صغير يرمى به. «قطيع» قبل أن يبرى حين يكون قضيبا، والجمع قطع. «قترة» سهم صغير لا حديد فيه. «كتّاب» سهم صغير مدوّر الرأس مثل «جمّاح» . «كثّاب» سهم صغير؛ قال الشاعر: رمت عن كثب قلبى ... ولم ترم بكثّاب

_ [1] كذا فى الأصل، ولم نوفق اليه فى مصدر آخر. [2] يصح فى «سهم غرب» الإضافة والوصفية.

«لأم» وهو السهم. «معبر» وهو السهم الموفور الريش. «منزع» هو السهم مطلقا، ويقال: المنزع: الذى يرمى أبعد ما يكون؛ قال الأعشى: فهو كالمنزع المريش من الشّو ... حط غالت به يمين المغالى «مريش» ذو الريش. «مخلّق» هو المصلح. «مصراد» هو النافذ. «مقتعل» هو الذى لم يبر بريا جيّدا؛ قال لبيد: فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقتعل «مطحر» هو البعيد الذّهاب؛ قال أبو ذؤيب: فرمى فألحق [1] صاعديّا مطحرا ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع «مرماة» سهم صغير. «منجاب» هو الذى لا ريش عليه ولا نصل. «مغلق» اسم لكل سهم. «مرّيخ» سهم طويل له أربع قدذ. «منجوف» هو السهم العريض. «مراط [2] » التى تمرّط ريشها. «مقزّع» الذى ريش بريش صغار. «مرتدع» الذى اذا أصاب الهدف انفضخ [3] عوده. «معراض» ذو ريش يمشى عرضا، وقيل سهم طويل له أربع قذذ دقاق فاذا رمى به اعترض. «متصمّع» هو المنضمّ الريش من الدم، وقيل الملطّخ بالدم. «مشقص» سهم له نصل عريض. «معقص» الذى ينكسر نصله ويبقى سنخه فى السهم. «نكس» هو الذى انكسر فوقه فجعل أسفله أعلاه. «نواقر» هى السهام التى تصيب. «نشّاب» . «نجيف» هو العريض النصل، والجمع نجف؛ قال الهذلىّ: نجف بذلت لها خوافى ناهض ... حشر القوادم كاللّفاع الأطحل «هزاع» هو الذى يبقى فى الكنانة وحده مثل الأهزع.

_ [1] فى اللسان (مادة طحر) : «فأنفذ» . [2] هذا على أن «مراطا» جمع «مرط» بضمتين، ويقال أيضا: سهم مراط، كما يقال: سهم مرط. [3] انفضخ عوده: انكسر.

وأما أسماء النصل- فمنها: «رهب» وهو النصل الرقيق، والجمع رهاب. «رهيش» مثله. «قطع» هو النصل العريض، وجمعه أقطاع، وقيل: نصل صغير، وقيل: السهم القصير. «قطبة» نصل الهدف. «مرماة» هو النصل المدوّر. «معبلة» نصل طويل عريض، وقيل حديدة مصفّحة لا عير [1] لها. «نضىّ» هو نصل السهم. «وقيع» هو النصل المحدّد؛ قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحى ... وفى البجلىّ معبلة وقيع فهذه أسماء السهم والنصل. واذا أصاب السهم يقال- «ارتزّ السهم» اذا ثبت فى القرطاس «أصاب» . «أقصد» اذا قتل مكانه؛ قال الأخطل: فإن كنت قد أقصدتنى إذ رميتنى ... بسهميك فالرامى يصيب ولا يدرى [2] «بصّر» اذا طلى رأسه بالبصيرة وهى الدم. «تاز» يقال: تاز السهم اذا أصاب الرميّة فاهتزّ فيها. «خزق» اذا أصاب. «خسق» مثله. «خصل» اذا وقع بلزق القرطاس، وقيل: [الخصل] الإصابة [3] ؛ ويقال: تخاصل القوم اذا تراهنوا فى الرمى، وأحرز فلان خصل فلان اذا غلب. «دبر» اذا خرج عن الهدف. «زهق» اذا جاوز الهدف. «شظف» اذا دخل بين الجلد واللحم. «صرد» يقال: صرد السهم

_ [1] العير فى النصل: الناتئ منه فى وسطه. [2] فى الأصل: « ... أقصدتنى فرميتنى ... بسهمك ... » . وقد أثبتنا ما فى اللسان مادة «قصد» . ومعنى لا يدرى: لا يختل. يقال: درى الظباء وادّراها وتدرّاها اذا ختلها أى تخفى لها. [3] فى المخصص: «ومن قال: الخصل: الإصابة فقد أخطأ» .

من الرميّة اذا نفذ منها. «صاف» مثل «ضاف» [و [1]] «طاش» اذا لم يصب. «عصّل» اذا التوى فى الرمى. «عظعظ [2] » اذا لم يقصد الرميّة. «قحز» اذا وقع بين يدى الرامى. «مرق» اذا نفذ من الرميّة. «نصل» اذا ثبت نصله فى الشىء فلم يخرج. «نضا» بمعنى ذهب. «نفذ» أى من الرميّة. وأما ما يضاف الى الرامى- يقال: «أذلق» عبارة عن سرعة الرمى. «أشخص» اذا مرّ سهمه برأس الغرض. «انتضل» يقال: انتضل القوم وتناضلوا اذا تراموا للسّبق. «تيمّم» اذا قصد نحو جهة بالسهم. «تنعير» اذا أدار السهم على ظفره ليعرف قوامه من عوجه. «تنفيز» مثله. «رمى» معروف. «رشق» اذا رمى القوم بأجمعهم فى جهة واحدة. «زلخ» الزّلخ رفع اليد فى السهم الى أقصى ما يقدر عليه. «سعر» اذا رمى. «عقّى [3] » بالسهم اذا رمى به فى الهواء وارتفع فى طيرانه. «غلا» اذا رمى أقصى الغاية. «لعط» اذا رمى فأصاب. «لتأ» يقال: لتأ بالسهم اذا رمى به. «ناشب» والناشب هو الرامى. «ندب» اذا رمى فى جهة واحدة. «نجف» اذا برى السهم. وأما أوعية السهام- «جعبة» وجمعها جعاب. «جفير» وهو أوسع من «الكنانة» . «ظفرة [4] » اذا كانت ممتلئة. «عيبة» مثل جعبة. «قرن» . «نثل» يقال: نثلت كنانتى اذا استخرجت ما فيها.

_ [1] معنى «صاف» و «ضاف» لم يصب، فزدنا الواو العاطفة ليشركا «طاش» فى تفسيره. [2] فى الأصل: «غطغط» وهو تحريف. [3] ومثل عقى: عق. [4] كذا بالأصل، ولم نوفق اليها أو الى ما يقرب منها فى مصدر آخر.

وأما ما وصف به القوس والسهم من النظم والنثر- قال عتّاب بن ورقاء وحطّ عن منكبه شريانة ... مما اصطفى بارى القسىّ وانتقى أمّ بنات عدّها صانعها ... ستّين فى كتابه مما برى ذات رءوس كالمصابيح لها ... أسافل مثل عراقيب القطا إن حرّكت حنّت الى أولادها ... كحنّة الواله من فقد الطّلا حتى اذا ما قرنت ببعضها ... لانت ومال طرفاها وانثنى وقالوا: أجود ما شبّه به فوق السهم قول الشاعر: أفواقها حشو الجفير كأنها ... أفواه أفرخة من النّغران [1] ومن إنشاء المولى القاضى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب: خطبة عملها لرامى نشّاب، وهى: الحمد لله الذى جعل سهم الجهاد الى مقاتل أعداء دينه مسدّدا، وحكم الجلاد بإصابة الغرض فى سبيله مؤيّدا، وسيف الاجتهاد فى نكاية من كفر به وبرسوله على الأمد مجرّدا، وركن الإيمان بإعداد القوّة- وهى الرمى فيما ورد عن نبيّه- على كرّ الجديدين مجدّدا؛ الذى أعاد رداء الجهاد فى مواطن الصّبر بالنصر معلما، وأباد أهل الإلحاد بأن جعل لحماة دينه فى أرواحهم أقساما وفى مقاتلهم أسهما، وأزال بأيدى القسىّ من معاقل أهل الكفر [2] حكم كماتهم الذين ارتقوا منها خشية الموت سلّما، وأفاء على الإسلام من النصر ما فاء به كلّ دين له خاضعا وآل اليه مستسلما، وأبان حكم الأدب فى تجرّد العبد من القوّة إلا به بقوله عز من قائل:

_ [1] النغران: طير كالعصافير حمر المناقير. [2] فى الأصل «أهل الكف» وهو تحريف.

وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى . نحمده على نعمه التى لم يزل بها قدح الدين فائزا وسهمه مصيبا، ومننه التى ما برح بها جدّ الكفر [1] مدبرا فلا يجد له فى إصابة نصل أو نصر نصيبا، وآلائه التى لا تنفكّ بها سوام السّهام ترد من وريد [2] الشرك منهلا [3] عذبا وترود من حبّ القلوب مرعى خصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تدنى النصر وإن بعد مداه، وتدمى النّصل الذى على راميه إرساله الى المقاتل وعلى الله هداه، وتسمى القدر لمن ناضل عليها فيفوز فى الدنيا والآخرة بما قدّمت يداه؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى نصر بالرّعب على من كفر، ورسوله الذى رمى جيش الشّرك بقبضة من تراب فكان فيها الظّفر، ونبيّه الذى نفر الى أهل بدر بنفر من أصحابه فجمع الله النصر والفخر لأولئك النّفر؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آمنوا بما أنزل عليه وجاهدوا بين يديه، واختصّوا بالذبّ عنه بمزايا القرب حتى سعد سعد بما جمع له، حين أمره بالرمى، فى التفدية بين أبويه، وخصّ بعموم الرّضوان عمّه العبّاس الذى أقرّ الله بإسلامه ناظريه، وبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باستخلاف بنيه فى الأرض فيما أسرّ به اليه. وبعد، فإنّ الرّمى أفضل ما أعدّ للعدا، وأكمل ما أفيض به على أهل الكفر رداء الرّدى؛ وأبلغ ما يبعث الى المقاتل من رسل المنون، وأنفع ما يقتضى به فى الوغى [4] من أعداء الدّين الدّيون، وأسرع ما تبلّغ به المقاصد فيما يرى قريبا وهو أبعد ما يكون؛ وأنكى ما تقذف به عن الأهلّة شهب الحتوف، وأسبق ما تدرك به الأغراض قبل

_ [1] فى الأصل: «جد الفكر» وهو تحريف. [2] فى الأصل: «رويد الشرك» . [3] فى الأصل: «منها ... » وهو تحريف. [4] فى الأصل «من الوغى» .

أن تعرف بها الرماح أو تشعر [1] بمكانها السيوف؛ ما طلع فى سماء النّقع قوسه إلّا سحّ وبل النّبل، ولا استبقت الآجال وسهمه إلا كان له فى بلوغها السّبق من بعد والسّبق من قبل. ومن شرف قدره الذى دلّ عليه كلام النبوّة، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نبّه على أنه المراد بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ . ومن أسباب فضله الذى أصبح بها قدره ساميا، وفخره ناميا، وقطره فى أفق النصر هاميا، ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم لفتية ممن أسلم من أسلم: «ارموا يا نبى اسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» . ومما عظمت به على الأمة المنّة، وغدت فيه نفوس أرباب الجهاد بالفوز فى الدنيا والآخرة مطمئنّة، قوله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا الرمى فإنّ ما بين الغرضين روضة من رياض الجنّة» . ومن فضل الرمى الذى لا يعرف [2] التأويل، ما نقل من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم فى سبيل الله أخطأ أو أصاب فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل» . ومما يرفع قدر السهم [ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «إن الله يدخل بالسهم [3]] الواحد ثلاثة نفر الجنّة صانعه يحتسب فى صنعته الخير وراميه ومنبله» . ومما حضّهم به على الرمى ليجتهدوا فيه ويدأبوا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا» . ومن خصائص السّهم أنه ذو خطوة فى الهواء وحكم نافذ فى الماء، وتصرّف حتّى فى الوحش السانح فى الأرض والطير المحلّق فى السماء؛ يكلّم بلسان من حديد؛ ويبطش عن باع مديد؛ إن رام غرضا طار إليه بأجنحة النّسور، وإن حمى معلما أصاب الحدق وصان الثّغور؛ يوجد بصره حيث فقد، واذا انفصل عن أمّه لم يسر من كبد إلا الى كبد؛ أنجز [4] فعله على ما فيه من إخلاف الطباع، وشرفت

_ [1] فى الأصل: «أو ما تشعر ... » . [2] فى الأصل: «الذى لا يصرف» . [3] تكملة للكلام فلعلها، أو شيئا بمعناها، سقطت سهوا من الناسخ. [4] فى الأصل: «أنجد فعله» .

ذكر ما قيل فى الجنة

أجناسه بكونها أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ومن خصائص القوس أنها عقيم ذات بنين، صامتة وهى ظاهرة الأنين؛ لها كبد وهى غير مجوّفة، ويد لا تملك شيئا وهى فى الأرواح متصرّفة؛ ورجل ما نقلت قدما، وقبضة ما عرفت إثراء ولا عدما؛ فهى نون ما ألف الماء، وهلال ما سكن السماء، وقاتلة ما باشرت الدّماء. ولما كان أهل هذه الفضيلة يتفاوتون فى مواهبها، ويتباينون فى مذاهبها؛ ويبلغ أحدهم بصنعته ما يبلغه الآخر بقواه، ويصل بإتقانه إلى ما لا يدركه من وجود التساوى سواه؛ وكان فلان ممن له فى هذا الشأن الباع المديد والساعد الشديد، والإتقان الذى يتصرّف به فى الرمى كيف يشاء ويضع به السّهم حيث يريد؛ كأنما سهمه بذرع الفضاء موكّل، أو للجمع بين طرفى الأرض مؤهّل، أو لسبق البروق معدّ اذا لمعت فى حواشى السّحاب المفوّفة وخطرت فى هدّاب الدّمقس المفتّل. وله المواقف التى تشقّ سهامه فيها الشّعر، وتبلغ بها من الأغراض المتباعدة ما يشقّ إدراكه على النّظر؛ فمنها أنه لما كان فى اليوم الفلانى فعل كذا وكذا. ووصف ما فعله. هذا شىء مما قيل فى السلاح فلنذكر الجنن. ذكر ما قيل فى الجنّة والجنّة: ما اتّقى بها كالتّرس، والبيضة، والدّرع. فأما التّرس- فمن أسمائه: «بصيرة» . «ترس» . «جوب» . «جنّة» . «حجفة» وهى الترس الصغير، وجمعها حجف. «درقة» وجمعها درق. «عنبر [1] » وهو الترس. «فرض» وهو الخفيف؛ قال الهذلىّ:

_ [1] فى الأصل: «عنتر» وهو تحريف»

أرقت له مثل لمع البشير ... يقلّب بالكفّ فرضا خفيفا «قفع» والقفع جنن كالمكابّ تتّخذ من الخشب يدخل الرجال تحتها إذا زحفوا على الحصون، ويسمّونها فى زماننا الحنويّات. «قراّع [1] » وهو الترس الصّلب. «كنيف» وهو الساتر لأنه مشتقّ من الاكتناف. «لاى [2] » . «مجنّ» . «مجنأ» . «مجول» . «مطرق» . «مجنب» . «يلب» . قال الشاعر: عليهم كلّ سابغة دلاص ... وفى أيديهم اليلب المدار ويسمى مقبض الترس صنارة. وأما ما وصف به حامل الترس- يقال: «تارس» و «ترّاس» إذا كان معه التّرس. «ومحاجف» وهو صاحب الحجفة فى القتال. وأما البيضة- فمن أسمائها: «بيضة» وهى واحدة البيض من الحديد. «جمّاء غفير» وهو البيضة من الحديد والجماعة من الناس. «خيضعة» . قال لبيد: والضاربون الهام تحت الخيضعه «دومص [3] » . «ربيعة» . «عمامة» وجمعها عمائم وعمام. «عرمة» . «مغفر» وهو زرد على قدر الرأس.

_ [1] فى الأصل «فراع» وهو تحريف. [2] كذا بالأصل، ولم نوفق الى ما يؤيدها أو الى ما قد تكون محرّفة عنه. [3] كذا فى كتب اللغة، وفى الأصل: «دمص» .

ومن أسماء أجزائها- «سابغ» وهو الذى يستر العنق. «قونس» وهو أعلى البيضة من الحديد. قال حسين بن الضّحّاك [1] : بمطّرد لدن صحاح كعوبه ... وذى رونق عضب [2] يقدّ القوانسا وأمّا ما يوصف به لابسها- يقال: «مقنّع» والمقنّع هو الذى يلبس بيضة ومغفرا. هذا ما قاله صاحب كتاب خزائن السلاح. وقال غيره: من أسمائها «التّركة» وهى المستديرة، وجمعها التّرك والترائك [3] . وأما ما قيل فى الدرع- وهو يؤنّث ويذكّر. وله أسماء: منها «بصيرة» ، «جارن» وجمعه جوارن. «جوشن» . «حلقة» وهى الدروع. «خدباء» وهى الدرع الليّنة؛ قال الأصمعىّ: خدباء يحفزها نجاد مهنّد «درع» . «دلاص» . «دلامص» . وهو الدرع البّراق. «دخاس» أى متقاربة الحلق. «درمة» . «ذائلة» وهى الطويلة الذّيل، «زغفة» . «سلوقيّة» . «سابريّة»

_ [1] فى شرح القاموس واللسان (مادة قنس) ينسب هذا البيت الى حسيل بن سجيح الضبىّ، وقد ذكر اللسان قبله: وأرهبت أولى القوم حتى تنهنهوا ... كما ذدت يوم الورد هيما خوامسا [2] كذا فى اللسان، وفى الأصل: «عذب» [3] ظاهر كلام المؤلف أن الترك والترائك جمعان لتركة، وليس الأمر كذلك بل الترائك جمع لتريكة، وهى من أسماء البيضة أيضا.

وجمعها سابريّات، وهى الرقيقة النّسج. «سابغة» وهى الواسعة. «سكّ» ضيّقة الحلق، «سرد» اسم جامع للدروع. «سنوّر» ؛ قال لبيد يرثى قتلى هوازن: وجاءوا به فى هودج ووراءه ... كتائب خضر فى نسيج السّنوّر «صموت» التى إذا صبّت لم يسمع لها صوت. «فضفاضة» أى واسعة. «قضّاء» أى خشنة المس؛ قال النابغة: ونسج سليم كلّ قضّاء ذائل «لأمة» وجمعها لؤم. «لبوس» . «ماذيّة» . «مضاعفة» وهى التى نسجت حلقتين حلقتين. «موضونة» أى منسوجة. «مسرّدة» و «مسرودة» أى مثقوبة. «نثرة» وهى الواسعة. «نثلة» . «يلب» وهى الدرع اليمانية تتّخذ من الجلود؛ قال عمرو بن كلثوم: علينا البيض واليلب اليمانى ومن أسماء أجزاء الدرع- «الحرباء» وهى مسامير الدروع؛ قال لبيد: أحكم الجنثىّ من عوراتها ... كلّ حرباء إذا أكره صلّ «ريع» ريع الدرع: فضول كمّيها على أطراف الأنامل؛ قال قيس بن الخطيم الأنصارىّ: مضاعفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيرها عيون الجنادب «قتير» : رءوس المسامير فى الدروع. وأمّا ما يوصف به لابس الدرع- يقال: «خشخاش» : جماعة عليهم سلاح ودروع؛ قال الكميت:

فى حومة الفيلق الجأواء إذ ركبت ... قيس وهيضلها الخشخاش إذ نزلوا [1] «خرساء» يقال: كتيبة خرساء، التى لا يسمع لها صوت من وقارهم [2] فى الحرب، وقيل التى صمتت من كثرة الدروع. «دارع» هو لابس الدرع، «كافر» ، يقال: قد كفر فوق درعه أى ستره إذا لبس فوقه [ثوبا [3]] . «مسبغ» يقال: رجل مسبغ: عليه درع سابغة. وأمّا اذا لم يكن عليه درع ولا مغفر- «نثر» أى نثر درعه عنه إذا ألقاها، ولا يقال: «نثلها» . ويقال: «أحمر» أى لا سلاح معه. «أعزل» . «حرض» . «عطل» وجمعه أعطال. وقد وصف الشعراء الدروع فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله امرؤ القيس: ومسرودة النّسج موضونة ... تضاءل فى الطّىّ كالمبرد تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتىّ على الجدجد [4] قال ثعلب: فنهنهته حتّى لبست مفاضة ... دلاصا كلون النّهى ريح وأمطرا وقال البحترىّ: يمشون فى زرد [5] كأنّ متونها ... فى كل معركة متون نهاء [6]

_ [1] الفيلق الجأواء: بينة الجأى، وهى التى يعلوها لون السواد لكثرة ما عليها من الدروع. والهيضل: الجيش العظيم. [2] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا الكتيبة مرادا بها الأفراد. [3] زيادة يقتضيها السياق. [4] الأتىّ: السيل. والجدجد: الأرض الصلبة المستوية. [5] فى ديوان البحترى: «يمشون فى زغف ... » . [6] نهاء: جمع نهى، والنهى: الغدير.

بيض تسيل على الكماة فضولها ... سيل السّراب بقفرة بيداء وإذا الأسنّة خالطتها خلتها ... فبها خيال كواكب فى ماء قال محمد بن عبد الله السلامىّ: يا ربّ سابغة حبتنى نعمة ... كافأتها بالسّوء غير مفنّد أضحت تصون عن المنايا مهجتى ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد وقال عبد الله بن المعتزّ: كم بطل بارزنى فى الوغى ... عليه درع خلتها تطّرد كأنّها ماء عليه جرى ... حتى إذا ما غاب فيه جمد وقال آخر: وأرعن [1] ملموم الكتائب خيله ... مضرّجة أعرافها ونحورها عليها مذالات [2] القيون كأنّها ... عيون الأفاعى سردها وقتيرها وقال آخر: وزنت كتائبها الجبال وسربلت ... حلق الحديد فأظهرته عنادها فتخال موج ابحر فى جنباتها ... والبرق لمع قتيرها وسرادها وقال سلم الخاسر: كأنّ حباب الغدر ما مر عليهم [3] ... وما هو إلّا السابغات الموائر وقال ابن المعتز: بحيث لا غوث إلّا صارم ذكر ... وجنّة كحباب الماء تغشانى

_ [1] الأرعن: الجيش المضطرب لكثرته. [2] المذالات: الدروع الطويلة، من أذال الرجل ثوبه أو درعه أطال ذيلها. [3] الغدر: جمع غدير. مار عليهم: ماج واضطرب.

وقال محمد بن عبد الملك: نهنهت أولاها بضرب صادق ... هتن كما شقّ الرداء المعلم وعلىّ سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم وقال المتنبّى: تخطّ فيها العوالى ليس تنفذها ... كأنّ كلّ سنان فوقها قلم وقال كلثوم: كأن سنا الماذىّ فوق متونهم ... مواقد نار لم تشب بدخان ومن الرسائل الشاملة لأوصاف السلاح- فمن ذلك ما أجابنى به المولى الفاضل تاج الدين بن عبد المجيد اليمانى، وقد كتبت إليه ألتمس رسالة من كلامه فى أوصاف السلاح، وذلك فى شهور سنة سبع وسبعمائة. كتب: أمرتنى- أعزك الله، وأعلى فى مراتب السعود جدودك- أن أبعث اليك بشىء من كلامى يتضمّن وصف سلاح متنوّع الأجناس، مرهوب بالسطو [1] والباس؛ فامتثلت مرسومك وبادرت الى ذلك، لما يتّجه علىّ من حقوقك الواجبة، ومن مفترضات خدمك اللازبة؛ وأنشأت لك هذه النّبذة مرتجلا فيها، ورتّبتها على التهيّؤ لمراتب القتال، وقدّمت الدرع، وتلوته بالقوس وأعقبته بالرمح، وختمته بالسيف. فمن ذلك فى وصف درع: خليق بمثله أن يفاض عليه مثل هذه الفضفاضه، وأن يبلغ بها من نيل الأعداء أمانيه وأغراضه؛ وأن يتّخذها جنّة تقيه سوء المزاريق فى حومة القتال، وأن

_ [1] فى الأصل: «مرهوب بالسطا» . ولم نجد فى كتب اللغة التى بأيدينا أن سطوة تجمع على سطا، وانما تجمع على سطوات.

يتدرّعها فتخال عليه غديرا صافحت صفحته يد الشّمال؛ إن نشرت على الجسد غطّت الكعبين، وإن طويت فكالمبرد فى يد القين؛ حميدة الملبس ميمونة المساعى، مسرودة النسج فى عيون الأفاعى؛ داووديّة النّسب تبّعيّة المعزى، قد تقاربت فى الحلق وتناسبت فى الأجزا. وأعددت للحرب فضفاضة ... تضاءل فى الطىّ كالمبرد دلاص ولكن كظهر النّون لا يستطيعها سنان، وموضونة ولكن يحيّر البصر فيها عند العيان: أموج بحر يتلاطم فى جوانبها أم حباب غدران. مشفوعة بقوس طلعت هلالا فى سماء المعارك، ومجرّة تنقضّ منها نجوم المهالك؛ ووكرا تسرح منه نسور المعاطب، وأمّا تفرّق أولادها لإحراز الغرض من كلّ جانب؛ تصرع بسهامها كلّ رامح ونابل، وتبكى ومن العجب أن يبكى القتيل القاتل؛ تطيعك فى أوّل النّزع وتعصيك فى آخره، وترسل سهما فلا يقنع من العدوّ إلا بسواد ناظره؛ إذا أنبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلى قد أصيب وحيدها تهابها الأقران، وتتحاماها الشجعان، ويؤمن بمرسلها كلّ شيطان من الإنس والجان. ووصف الرمح فقال: وإنّ أولى ما اعتقل مولانا من الخطّىّ ما سلب الرّوم زرقتها، والعرب سمرتها؛ وأشبه العاشق ذبولا واصفرارا، وخالط الضّرغام فى غيله فهو يلقى من بأسه عند المطاعنة أخبارا؛ وهزّه الفارس فالتقى طرفاه، وخيّل لرائيه أنّ ثعلبه [1] قد فغرفاه؛ إن حمله الدارع قلت غصنا على غدير، وإن هزّه الفارس وألقاه قلت حيّة على وجه الأرض تسير؛ فهو كالرّشاء لكن لا يرضى قليبا غير القلب، أو كالعدوّ الذى لا يهوى إلّا إزالة ما فى شغف [2] القلوب من حبّ.

_ [1] الثعلب: طرف الرمح الداخل فى جبة السنان. والجبة: رأس الرمح فى أسفل السنان. [2] فى الأصل «شغوف القلوب» والشغاف، وهو سويداء القلب أو غشاؤه، انما يجمع على شغف.

له رائد ماضى الغرار كأنّه ... هلال بدا فى ظلمة الليل ناحل طالما رجع سوسنه عند المطاعنة شقيقا، ومزّق نجمه [1] جلا بيب ظلمة القسطل والعثير تمزيقا؛ له النّسب العالى فى المعالى والمرّان، لأن سنانه سنا لهب لم يتّصل بدخان؛ مقرونا بسيف ما تأمّله الرائى إلا وأرعدت صفحتاه من غير هزّ، أو صمّمت شفرتاه فى محزّ فلا ينبو حتى يفرى ذلك المحزّ؛ يرى فوق متنيه بقيّة غيم يستشفّ منها لون السماء، وفى صفحة فرنده نار تتأجّج فى خلال لجّة من الماء؛ كأنّ صيقله كتب على فرنده أو نقش، أو كأنّ القين تنفّس فيه وهو صقيل فألبسه حلّة من نمش؛ حلّت بساحته المنايا فهى فيه كوامن، وتبؤأت مقاعده الأمانى فلإدراكها من فعله قرائن؛ إذا توغّل [فى] هامة الجبّار سار وأوجف، ومتى استوطن جثة الجرم [2] أوهى مبانيها وأشرف. ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل يغشى الوغى فالتّرس ليس بجنّة ... من حدّه والدّرع ليس بمعقل متوقّد يفرى بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها فى يذبل وإذا أصاب فكلّ شىء مقتل ... وإذا أصيب فماله من مقتل

_ [1] فى الأصل: «مجمه» . [2] كذا بالأصل. ولعلها جثة الجريم، والجريم: ذو الجرم الضخم.

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام وحيث ذكرنا الإمام وما يجب له وعليه وقواعد المملكة، فلنذكر القضاة والحكّام. قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً . وقال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ . وقال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، الى غير ذلك من الآى. ولا يجوز أن يقلّد القضاء إلا من اجتمع فيه ثمانية شروط، وهى: الذكوريّة، والبلوغ، والعقل، والحرّيّة، والإسلام، والعدالة، وسلامة السمع والبصر، والعلم بأحكام الشريعة. ولكل شرط من هذه الشروط فوائد نشرح ما تلخّص منها إن شاء الله. أما الذكورية- فلقوله عز وجل: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قيل: المراد بالتفضيل هنا العقل والرأى، ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النّساء ناقصات عقل ودين» ، ولنقص النساء عن [رتب [1]] الولايات. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضى المرأة فيما تصحّ فيه شهادتها دون ما لا تصحّ فيه. وجوّز الطبرىّ قضاءها فى جميع الأحكام. والإجماع يردّ ذلك.

_ [1] الزيادة عن «الأحكام السلطانية» .

وأما البلوغ- فلأن غير البالغ لا يجرى عليه قلم، ولا يتعلّق بقوله على نفسه حكم، فكان أولى ألّا يتعلّق به على غيره. وأما العقل-[فهو مجمع على اعتباره، و [1]] لا يكتفى فيه بالعقل الذى يصحّ معه التكليف من العلم بالمدركات الضروريّة، حتى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، ليتوصّل بذكائه الى وضوح ما أشكل، وحلّ ما أبهم وأعضل. وأما الحرّيّة- فنقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرّقّ لمّا منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. وكذلك الحكم فيمن لم تكمل حرّيته كالمدبّر والمكاتب [2] ومن رقّ بعضه. ولا يمنع الرقّ من الفتيا والرواية. وأما الإسلام- فلقوله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا . وهو شرط فى قبول الشهادة. ولا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار. ورأى أبو حنيفة جواز تقليده القضاء بين أهل دينه. وقد جرى العرف فى تقليد الكافر؛ وهو تقليد زعامة ورياسة لا تدخل تحته الأحكام والإلزام بقضائه، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم. واذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ. وأما العدالة- فهى معتبرة فى كل ولاية. ومعناها أن يكون الرجل صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقّيا للمآثم، بعيدا من الرّيب، مأمونا

_ [1] لم يظهر الخظ فى الأصل الفتوغرافى، وهذه التكملة من كتاب الأحكام السلطانية. [2] المدبر: العبد الذى يعلق سيده عتقه على موته بأن يقول له: أنت حر بعد موتى. والمكاتب: العبد الذى يكاتب على نفسه بثمنه فاذا أدّاه عتق.

فى حالتى الرضا والغضب، مستعملا لمروءة مثله فى دينه ودنياه. فإذا تكاملت هذه الأوصاف فيه، فهى العدالة التى تجوز بها شهادته وولايته. وإذا لم يكن كذلك فلا تسمع شهادته و [لا [1]] تنفّذ أحكامه. وأما سلامة السمع والبصر- فليصحّ بها إثبات الحقوق، ويفرّق بها بين الطالب والمطلوب، ويميّز المقرّ من المنكر، ليظهر له الحق من الباطل، والمحقّ من المبطل. وأما العلم بأحكام الشريعة- فالعلم بها يشتمل على معرفة أصولها وفروعها. وأصول الأحكام فى الشرع أربعة: أحدها- علمه بكتاب الله عز وجل على الوجه الذى يصح به معرفة ما تضمّنه من الأحكام ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وعموما وخصوصا، ومجملا ومفسّرا. والثانى- علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها فى التواتر والآحاد، والصّحة والفساد، وما كان على سبب أو إطلاق. والثالث- علمه بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتّبع الإجماع ويجتهد رأيه مع الاختلاف. والرابع- علمه بالقياس الموجب لردّ الفروع المسكوت عنها الى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا الى العلم بأحكام النوازل ويميّز الحقّ من الباطل. فاذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة فى أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد فى الدين، وجاز له أن يفتى ويقضى. وإن أخلّ بها أو بشىء منها، خرج من أن

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية.

يكون من أهل الاجتهاد، ولم يجز أن يفتى ولا أن يقضى. فان قلّد القضاء فحكم بصواب أو خطإ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردودا، وتوجّه الحرج عليه وعلى من قلّده. وجوّز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، ويستفتى فى أحكامه وقضاياه. هذا معنى ما قاله أقضى القضاة أبو الحسن على الماوردىّ. وقال الحسين الحليمىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» : وينبغى للإمام ألّا يولّى الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبّت، والى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلا أمينا نزها عن المطاعم الدنيّة، ورعا عن المطامع الرديّة؛ شديدا قويّا فى ذات الله، متيقّظا متخوّفا من سخط الله؛ ليس بالنّكس الخوّار فلا يهاب، ولا المتعظّم الجبّار فلا ينتاب؛ لكن وسطا خيارا. ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتعرّف بحالته وطريقته؛ ويقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير؛ ويرزقه من بيت المال- إن لم يجد من يعمل بغير رزق- ما يعلم أنه يكفيه؛ ولا يقصّر به عن كفايته، فيتطّلع الى أموال الناس ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام من كفايته، فتختلّ بذلك القواعد. وإذا رزق [الإمام] القاضى فلا يصيب وراء ذلك من رعيّته شيئا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل من أعمالنا ورزقناه شيئا فما أصاب بعد ذلك- أو مما سوى ذلك- فهو سحت» . وإن أهدى إليه شىء، لم يكن له قبوله. فإن كان للمهدى قبله خصومة فأهدى ليحكم له أو لئلّا يحكم عليه، فهذا هو الرّشوة، وهو سحت. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّاشى والمرتشى والرائش؛ وهو الذى يمشى بينهما. وإن أهدى اليه المحكوم له بعد الحكم تشكّرا، لا يقبله؛ لأنّ ما فعل كان واجبا عليه.

ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط

قال: ويقوّى الامام يده ويشدّ أزره، ويكفّ العمال وغيرهم عن معارضته ومزاحمته، ويأمرهم جميعا بطاعته، ولا يرخص لأحد منهم فى الامتناع عليه اذا دعاه، والخروج عن أحكامه إن أمره أو نهاه، فيما يتصل بالانقياد للحكم. ويتوقّى أن يقال فى مجلسه: هذا حكم الله، وهذا حكم الديوان؛ فإن هذا من قائله إشراك بالله؛ إذ لا حكم إلا لله. قال الله عز وجل: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. وقال تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ . وقال تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً . وقال: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قال: وإن سمع بذلك واليه فأقرّه عليه كان مثله؛ قال الله عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ . فاذا كان هذا فى العقود معهم فكيف بإقرارهم والاستحسان لهم. ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط قال الماوردىّ: وولاية القضاء تنعقد بما تنعقد به الولايات: من انعقادها مع الحضور باللفظ مشافهة، ومع الغيبة بمراسلة أو مكاتبة. لكن لا بدّ مع المكاتبة أن يقترن بها من شواهد الحال ما يدلّ عليها عند المولّى وأهل عمله. والألفاظ التى تنعقد بها الولاية ضربان: صريح وكناية. فالصريح أربعة ألفاظ وهى: قد وليّتك، وقلّدتك، واستخلفتك، واستنبتك. فاذا أتى المولىّ بأحد هذه الألفاظ انعقدت الولاية بالقضاء وغيره من الولايات، ولا يحتاج مع هذا الصريح إلى قرينة أخرى، إلا أن يكون تأكيدا لا شرطا.

وأما شروطها فأربعة

وأما الكناية فهى سبعة ألفاظ. وهى: قد اعتمدت عليك، وعوّلت عليك، ورددت إليك، وجعلت إليك، وفوّضت اليك، ووكلت اليك، وأسندت اليك. فهذه الألفاظ [لما تضمّنته من الاحتمال [1]] تضعف عن حكم الصريح حتى يقترن بها فى عقد الولاية ما ينفى عنها الاحتمال [2] وتصير فى حكم الصريح، مثل قوله: فانظر فيما وكلته اليك، واحكم فيما اعتمدت فيه عليك. فتصير الولاية بهذه القرينة مع ما تقدّم من الكناية منعقدة. ثم تمامها موقوف على قبول المولّى، فإن كان التقليد مشافهة فقبوله على الفور لفظا، وإن كان بمراسلة أو مكاتبة، جاز أن يكون على التراخى. واختلف فى صحة القبول بالشروع فى النظر، فجوّزه بعضهم وجعله كالنطق، ومنعه آخرون حتى يكون نطقا؛ لأن الشروع فى النظر فرع لعقد الولاية، فلم ينعقد قبولها به. فهذه الألفاظ التى تنعقد بها الولاية. وأما شروطها فأربعة أحدها- معرفة المولّى للمولّى أنه على الصفة التى [يجوز أن يولّى معها، فان لم يعلم أنه على الصفة التى [3]] تجوز معها تلك الولاية لم يصحّ تقليده؛ فلو عرفها بعد التقليد استأنفها، ولا يعوّل على ما تقدّمها. والثانى- معرفة المولّى بما عليه المولّى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التى يصير بها مستحقّا لها، وأنه قد تقلّدها وصار مستحقّا للاستنابة فيها. إلا أنّ هذا الشرط معتبر فى قبول المولّى وجواز نظره، وليس بشرط فى عقد تقليده وولايته، بخلاف الشرط المتقدّم. وليس يراعى فى هذه المعرفة المشاهدة بالنظر، وانما يراعى انتشارها بالخبر الشائع.

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن بها عقد الولاية فينفى عنها الاحتمال» . [3] التكملة من الأحكام السلطانية.

ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرف من الأحكام

والثالث- ذكر ما تضمّنه التقليد من ولاية القضاء بصريح التسمية. والرابع- ذكر تقليد البلد الذى عقدت الولاية عليه ليعرف به العمل الذى يستحقّ النظر فيه، ولا تصحّ الولاية مع الجهل به. فاذا انعقد التقليد تمّت الولاية بهذه الشروط والألفاظ. واحتاج المولّى الى شرط زائد على شروط العقد، وهو إشاعة تقليده فى أهل عمله ليدعنوا بطاعته وينقادوا الى حكمه. وهو شرط فى لزوم الطاعة وليس بشرط فى نفوذ الحكم. فاذا صحّت عقدا ولزوما بما وصفناه، صحّ فيها نظر المولّى والمولّى [كالوكالة، لأنهما معا استنابة. ولم يلزم المقام عليها من جهة المولّى ولا من جهة المولّى. وكان للمولّى عزله [1]] عنها متى شاء، وللمولّى عزل نفسه متى شاء؛ غير أنّ الأولى بالمولّى ألّا يعزله إلا بعذر، وألّا يعتزل المولّى إلا من عذر؛ لما فى الولاية من حقوق المسلمين. واذا عزل أو اعتزل وجب إظهار العزل كما وجب إظهار التقليد، حتى لا يقدم على إنفاذ حكم ولا يغترّ بالترافع اليه خصم. فإن حكم بعد العلم بعزله لم ينفذ حكمه، وإن حكم غير عالم بعزله كان فى نفوذ حكمه وجهان، كاختلافهما فى عقود التوكيل. وحيث ذكرنا ما تصح به الولاية وتنعقد به من الألفاظ والشروط، فلنذكر ما يشتمل عليه النظر فى الأحكام. ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام قال الماوردىّ: اذا كانت ولاية القاضى عامّة وهو مطلق التصرّف فى جميع ما تضمّنته، فنظره يشتمل على عشرة أحكام:

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية.

أحدها- فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إمّا صلحا عن تراض يراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم باتّ يعتبر فيه الوجوب. والثانى- استيفاء الحقوق ممن امتنع من القيام بها وإيصالها الى مستحقّها من أحد وجهين: إقرار أو بينة. واختلف فى جواز حكمه فيها بعلمه، فجوّزه مالك والشافعىّ فى أصحّ قوليه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه فى ولايته، ولا يحكم بما علمه قبلها. والثالث- ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس، حفظا للأموال على مستحقّيها، وتصحيحا لأحكام العقود فيها. والرابع- النظر فى الوقوف بحفظ أصولها وتثمير فروعها وقبض غلّتها وصرفها فى سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، وإن لم يكن تولّاه. والخامس- تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع ولم يحظره. فان كانت لمعيّنين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كانت فى موصوفين كان تنفيذها أن يتعيّن مستحقّوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض. فان كان فيها وصىّ راعاه، وإن لم يكن تولّاه. والسادس- تزويج الأيامى بالأكفاء اذا عدم الأولياء ودعين [1] الى النكاح. ولم يجعله أبو حنيفة- رحمه الله- من حقوق ولاية القاضى، لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية طبع مدينة «بن» وهو الذى يناسب المقام. وفى الأصل «ودعون ... » .

والسابع- إقامة الحدود على مستحقّيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرّد باستيفائه من غير طالب اذا ثبت بإقرار أو بيّنة؛ وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقّه. وقال أبو حنيفة: لا يستوفيهما معا إلا بخصم مطالب. والثامن- النظر فى مصالح عمله من الكفّ عن التّعدّى فى الطّرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة والأبنية؛ وله أن يتفرّد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد. وهى من حقوق الله تعالى التى يستوى فيها المستعدى والمستعدى إليه، فكان تفرّد الولاة بها أخصّ. التاسع- تصفّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه فى إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السّلامة والاستقامة، وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة [1] . ومن ضعف منهم عمّا يعانيه، كان مولّيه بين خيارين يأتى أصلحهما: إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى، وإما أن يضمّ اليه من يكون اجتماعهما عليه أنفذ وأمضى. والعاشر- التسوية فى الحكم بين القوىّ والضعيف، والعدل فى القضاء بين المشروف والشريف؛ ولا يتّبع هواه فى تقصير بحق أو ممايلة لمبطل. قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «والجناية» .

وقد استوفى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فى عهده الى أبى موسى الأشعرىّ شروط القضاء وبيّن أحكام التقليد حين ولّاه القضاء، قال: أما بعد، فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة. فافهم إذا أدلى اليك. [وأنفذ اذا تبيّن لك [1]] فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له. وآس [2] بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك، حتّى لا يطمع شريف فى حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن لرجع الى الحق؛ فإنّ الحق قديم، ومراجعة الحقّ خير من التّمادى فى الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنّة. ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهى اليه؛ فإن أحضر بينة أخذت له بحقّه، وإلّا استحللت القضية عليه؛ فان ذلك أنفى للشكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حد، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا فى ولاء أو نسب. فإن الله قد تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان [3] ؛ وإياك والغلق [4] والضّجر والتأففّ بالخصوم، فإنّ استقرار الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر. والسلام.

_ [1] التكملة من صبح الأعشى (ج 10 ص 193 طبع المطبعة الأميرية بالقاهرة) . [2] آس بين الناس: أى سوّ بينهم واجعل كل واحد منهم أسوة خصمه، أى حاله مثل حاله. [3] كذا فى صبح الأعشى. وفى الأصل «فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ورد البينات» . وفيه تحريف. وورد فى المصدر الذى نقل عنه الأصل وهو الأحكام السلطانية: «فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات» . وفى البيان والتبيين للجاحظ (ج 2 ص 24 طبع مطبعة الفتوح الأدبية بمصر) : «فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات» . [4] الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر.

ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حق نفسه اذا دعى إلى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية

ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية قال الحليمىّ: واذا دعا الإمام رجلا الى القضاء، فينبغى له أن ينظر فى حال نفسه وحال الناس الذين يدعى الى النظر فى مظالمهم. فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة، وعلم أنه إن لم يقبل صار الأمر الى من لا يكون للمسلمين مثله، فأولى به أن يجيب الى ما يدعى اليه ويقبله ويحسن النية فى قبوله؛ ليكون عمله لوجه الله تعالى. وإن وجد من يقوم مقامه ويسدّ مسدّه فهو بالخيار؛ والتمسّك أفضل. فأمّا إن لم يعلم من نفسه الاستقلال، أو لم يأمن أن يكون منه سوء التمسّك وقلة التمالك، فلا ينبغى له أن يجيب. وهكذا إن كان هناك من هو خير منه علما وعقلا وخلقا. وإن عرض الأمر عليه فلا ينبغى له أن يتسارع الى ما يدعى اليه، لينظر ما الذى يكون من الآخر. قال: واذا دعا الإمام رجلا الى عمل من أعماله، قضاء أو غيره، والرجل ممن يصلح له، فأبى، فإن وجد الإمام من يقوم مقامه فى ذلك أعفاه، وإن لم يجد من يقوم مقامه أجبره عليه اقتداء بعمر بن الخطّاب رضى الله عنه؛ فإنه دعا سعيد بن عامر الجمحىّ فقال: إنى مستعملك على أرض كذا وكذا؛ فقال: لا تفتنّى؛ فقال عمر: والله لا أدعك، قلّدتموها [1] عنقى وتتركونى! قال: واذا كان عند الرجل أنه يصلح للقضاء فأراد أن يطلبه، أو دعاه الإمام إليه فأراد أن يجيبه، فلا ينبغى له أن يبادر بما فى نفسه من طلب أو إجابة حتى يسأل

_ [1] فى الأصل: «تقلدتموها» .

أهل العلم والفضل والأمانة ممن خبره وعلم حاله، ويقول: إنى أريد القضاء، فما ترون فى أمرى؟ وهل تعرفون صلاحى لذلك أولا؟ فإن ذلك من المشورة التى أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بها، فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وقد قدّمنا فى باب المشورة من فضيلتها ما فيه غنية عن تكراره. قال: وإذا سأل عن نفسه فينبغى للمسئول أن ينصح له ويصدقه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الدّين النّصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» ولأن المستشار مؤتمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من غشّنا فليس منّا» . واذا أراد تقلّد القضاء فليستخر الله تعالى ويسأله التوفيق والتسديد. فإذا تقلّد فينبغى أن يوكّل المتميّزين الثّقات الأمناء من إخوانه وأهل العناية بنفسه، ويسألهم أن يتفقّدوا أحواله وأموره، فإن رأوامنه عثرة نبّهوه عليها ليتداركها. قال: وأيّما حاكم نصب بين ظهرانى قوم فينبغى لهم أن يسمعوا له ويطيعوا، ويترافعوا اليه اذا اختلفوا وتنازعوا، ليفصل بينهم؛ فإذا فصل انقادوا لفصله واستسلموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً . وقال تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ . وذمّ الله تعالى قوما امتنعوا من الحكم فقال: ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين

وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قال: واذا ارتفع أحد الخصمين الى حاكم وسأله إحضار خصمه فدعاه الحاكم فعليه أن يجيبه؛ فإذا حضرا فلا يخرجا عن أمر الحاكم؛ فأيّهما خرج فهو عاص؛ فإنما يقضى الحاكم بحكم الله. وللحاكم أن يؤدّبه بما يؤدّيه اجتهاده. وأيّما حاكم أو وال دعا رجلا من رعيّته ولم يعلم لم يدعوه، فعليه إجابته؛ وإن علم أنه لدعوى رفعت عليه من مدّع، فإن كان ذلك المدّعى حضر مع رسول الحاكم فأرضاه، سقط عنه الذّهاب الى الحاكم، وإن كان لم يحضر [هو] ولا وكيل له، فليذهب ليجيب؛ ولا يسعه التخلّف مع ترك الدّفع إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون المدّعى كاذبا وقد أعدّ شهودا زورا لا يقدر على دفع شهادتهم، فخشى إن حضر أقيمت الشهادة عليه فحبس وأخذ منه المال قهرا، أو يفرّق بينه وبين امرأته، فله أن يهرب أو يتوارى؛ فهذا موضع عذر وضرورة فلا يقاس عليه غيره. والله تعالى أعلم. وأما كاتب القاضى وبطانته- قال الحليمىّ: وإذا افتتح القاضى عمله واحتاج الى أعوان يعملون له من كاتب وأصحاب مسائل وقاسم، فلا يتّخذنّ إلا كاتبا مسلما عدلا أمينا فطنا متيقّظا؛ لأنه بطانته ولا يغيب عنه من أمره وأمر المترافعين اليه شىء، وأمينه وأمين المتخاصمين على ما يثبته ويخطّه. ولا يجوز أن يكون من غير أهل الدين، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. وكذلك القاسم ينبغى أن يكون أمينا بصيرا بالفرائض والحساب، لأنّ القاسم شعبة

من شعب الحكم، فينبغى أن يكون من يتولّاه فى العدالة والأمانة والعلم الذى يحتاج اليه كمن يتولّى جميع شعبه. وكذلك أصحاب المسائل هم أمناء القاضى على الشهادات التى تتعلّق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغى أن يأمن عليها إلا المستحقّ لأن يؤتمن، ولا يثق فيها إلا بمن يستوجب بحسن أحواله الثقة به. وينبغى للقاضى أن ينزّه نفسه ومن حوله ويشدّد عليهم ولا يرخّص لهم فى أمر ينقمه منهم أو يخشى أن يتطرّقوا به الى غيره ويرتقوا الى ما فوقه. وقد كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شىء، جمع أهله فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم النّىء، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال: ولا ينبغى للإمام ولا القاضى أن يقدّم أقاربه على عامّة المسلمين، ولا يسوّغهم ما لا يسوّغ غيرهم، ولا ينظر لهم بما لا ينظر به لغيرهم، ولا يستعملهم ويولّيهم. وأما ما يعتمده فى جلوسه- فقد قال الحليمىّ أيضا: واذا أراد الحاكم الجلوس للحكم فليجلس وهو فارغ القلب لا يهمّه إلا النظر فى أمور المتظلّمين. وإن تغيّرت حاله بغضب أو غمّ أو سرور مفرط أو وجع أو ملالة [1] أو اعتراء نوم أو جوع فليقم الى أن يزول ما به ويتمكّن من رأيه وعقله ثم يجلس. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى [2] القاضى بين اثنين وهو غضبان» ؛ وعنه

_ [1] فى الأصل: «أو ملامة» . [2] فى صحيح البخارى: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» .

صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى القاضى إلّا وهو شعبان ريّان» . هكذا نقل الحليمىّ فى «منهاجه» ، وهذه سنّة السلف. قال: والقاضى فى جلوسه بالخيار: إن شاء أن يخرج بالغداة اذا طلعت الشمس فيقضى حوائج الناس أوّلا فأوّلا حتى لا يزد حموا على بابه، فعل؛ وإن شاء أقام فى [1] بيته يتأهّب ويستعدّ بمطالعة بعض الكتب أو بالاجتهاد والتأمّل الى أن يجتمع الخصوم ثم يخرج، فعل. وينبغى أن يكون عند الحاكم من يحفظ نوب الناس فيقدّم الأوّل فالأوّل، ويجلسهم مجالسهم. وإن رأى القاضى أن يحضر مجلسه درّة تطرح على أعين الناس لينتهوا بها فإن استوجب أحد من الخصوم تعزيرا أقيم عليه بها، فعل. روى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنّ درّته كانت تكون معه، وكذلك جماعة من قضاة السّلف رحمهم الله. وأمّا فى عصرنا هذا فقد كان شيخنا الإمام العلّامة القدوة مفتى الفرق بقيّة المجتهدين تقىّ الدّين أبو الفتح محمد ابن الشيخ الإمام مجد الدّين أبى الحسين علىّ بن وهب ابن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد- رحمه الله- منع نوّابه من أن يضربوا بالدّرّة فى أثناء ولايته قاضى القضاة بالديار المصريّة، وقال: إنه عار يلحق ولد الولد. وكان سبب منعه- رحمه الله ورضى عنه- لذلك أن بعض نوّابه بالأعمال عزّر بعض أعيان البلاد التى هو ينوب بها بالدرّة فى المسجد الجامع وقال له عقيب ضربه وإسقاطه: قد ألحقتك بأبيك وجدّك، وكانت هذه الحادثة فى سنة سبع وتسعين وسمائة أو ما يقاربها، ففارق ذلك الرجل بلاده ووطنه؛ فلما اتّصل الخبر بقاضى القضاة شقّ عليه ومنع نوّابه من الضرب بها.

_ [1] كذا بالأصل، والمناسب «أن يقيم» بدل «أقام» ليست جواب الشرط بل هى متعلق المشيئة.

ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه

نعود الى حال القاضى. قال: وينبغى للقاضى أن يعدل بين الخصمين من حين يقدمان عليه الى أن تنقضى خصومتهما فى مدخلهما عليه وجلوسهما عنده وقيامهما بين يديه، سواء كانا فاضلين فى أنفسهما أو ناقصين، أو أحدهما فاضلا والآخر ناقصا؛ لقوله عز وجل: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما ، ولما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين [1] فليعدل بينهم فى لحظه ولفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر» . وفى رواية: «من ولى قضاء المسلمين فليعدل بينهم فى مجلسه وكلامه ولحظه» . وفى رواية: «اذا ابتلى أحدكم بالقضاء [بين المسلمين [2]] فليسوّ بينهم فى المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» . قال: واذا اختصم اثنان الى القاضى فينبغى أن يأمرهما بالاصطلاح. وشروط القضاء كثيرة يعرفها العلماء، فلا حاجة الى الزيادة والإسهاب فى ذلك؛ وإنما أوردنا ما قدّمناه فى هذا الباب منها حتى لا يخلى كتابنا منه. ولنختم هذا الباب بما ورد من التزهيد فى القضاء. ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه قد ورد فى تقلّد القضاء أحاديث وآثار تزهّد فيه، بل تكاد توجب الفرار منه: من ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكّين» ؛ وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد حكم بين الناس إلّا جىء به يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنّم فإن أمر به

_ [1] كذا فى الجامع الصغير. وفى الأصل: «من ابتلى بالقضاء بالمسلمين» . [2] سقطت هذه الكلمة فى الأصل سهوا من الناسخ.

هوى به فى النار سبعين خريفا» . وعن أبى ذرّ قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستّة أيام: «اعقل أبا ذرّ ما أقول لك» فلما كان اليوم [1] السابع قال: «أوصيك بتقوى الله فى سرّ أمرك وعلانيته واذا أسأت فأحسن ولا تسأل أحدا شيئا وإن سقط سوطك [2] ولا تؤمّن أمانة ولا تولّين يتامى ولا تقضين بين اثنين» . وقال عثمان بن عفّان رضى الله عنه لابن عمر: اذهب فكن قاضيا؛ قال: أو يعفينى أمير المؤمنين؟ قال: فإنى أعزم عليك؛ قال: لا تعجل علىّ؛ [قال: [3]] هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عاذ بالله فقد عاذ معاذا» . قال: نعم، قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضى؟ قال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان قاضيا يقضى بجور كان من أهل النار ومن كان قاضيا يقضى بجهل كان من أهل النار ومن كان قاضيا عالما يقضى بالعدل فبالحرى أن ينقلب كفافا» فما أصنع بهذا! وقال بعضهم: ذكرنا أمر القضاء عند عائشة رضى الله عنها، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالقاضى العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة الحساب ما يتمنّى أنه لم يقض بين اثنين فى تمرة قطّ» . وقال صعصعة بن صوحان: خطبنا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بذى قار وعليه عمامة سوداء فقال: يأيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من وال ولا قاض إلّا يؤتى به يوم القيامة حتّى يوقف بين يدى الله تعالى على الصراط ثم ينشر الملك

_ [1] كذا «فى مسند أحمد» (ج 5 ص 181 طبعة المطبعة الميمنية بمصر) . وفى الأصل: «ثم كان فى اليوم ... » . [2] فى الأصل «وان سقط سقوطك» والتصويب عن «مسند أحمد» . ورواية آخر الحديث هنا تختلف عن رواية «مسند أحمد» بزيادة ونقص وتغيير فى بعض الكلمات. غير أن ما هنا من زيادة أو تغيير وارد متفرقا فى أحاديث أخرى لأبى ذر فى مسند أحمد. [3] زيادة ترى أن الكلام يتوقف عليها.

الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل

سيرته فيقرؤها على رءوس الأشهاد- الخلائق- فإن كان عادلا نجّاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة صار بين كلّ عضو من أعضائه مسيرة مائة سنة ثم يتخرّق به الصراط فما يلتقى قعر جهنم إلّا بوجهه وحرّ جبينه» . وجاء فى الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم مثل ذلك. وفيما ذكرنا مقنع وغنية عن بسط الكلام فيه. فلنذكر ولاية المظالم. الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل وللناظر فيها شروط ذكرها الماوردىّ فقال: من شروط الناظر فى المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفّة، قليل الطّمع، كثير الورع؛ لأنه يحتاج فى نظره الى سطوة الحماة، وتثبّت القضاة، فاحتاج الى الجمع بين صفتى الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر فى الجهتين. فان كان ممن يملك الأمور العامّة، كالخلفاء أو ممن فوّض اليه الخلفاء النظر فى الأمور العامّة كالوزراء والأمراء، لم يحتج للنّظر فيها الى تقليد وتولية وكان له بعموم ولايته النظر فيها. وإن كان ممن لم يفوّض اليه عموم النظر، احتاج الى تقليد وتولية اذا اجتمعت فيه الشروط المتقدّمة. وهذا إنما يصحّ فيمن يجوز أن يختار لولاية العهد، أو لوزارة التفويض اذا كان نظره فى المصالح عامّا. فإن اقتصر على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون دون هذه الرّتبة فى القدر والخطر، بعد ألّا يأخذه فى الحقّ لومة لائم، ولا يستشفّه الطمع الى الرّشوة.

ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهلية والإسلام

ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام والنظر فى المظالم قديم، كان الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذى لا يعمّ الصّلاح إلا بمراعاته، ولا يتمّ التناصف إلا بمباشرته؛ وكانوا ينتصبون لذلك بأنفسهم فى أيّام معلومة لا يمنع عنهم من يقصدهم فيها من ذوى الحاجات وأرباب الضرورات. وسبب تمسكهم بذلك أنّ أصل قيام دولتهم ردّ المظالم. وذلك أن كيومرث أوّل ملوكهم- وقيل: إنه أوّل ملك ملّك من بنى آدم- كان سبب ملكه أنه لمّا كثر البغى فى الناس وأكل القوىّ الضعيف وفشا الظلم بينهم، اجتمع أكابرهم ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه، وملّكوه؛ على ما نورده- إن شاء الله- فى [فنّ] التاريخ فى أخبار ملوك الفرس. وكانت قريش فى الجاهلية، حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت الرياسات وشاهدوا من التّغالب والتجاذب ما لم يكفّهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفا على ردّ المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم. وكان سبب ذلك أنّ رجلا من اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة، فاشتراها منه رجل من بنى سهم، قيل: إنه العاص بن وائل، فلواه بحقّه؛ فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه؛ فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته: يال قصىّ لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنّفر وأشعث محرم لم تقض حرمته ... بين المقام [1] وبين الحجر والحجر أقائم من بنى سهم بذمّتهم ... أو ذاهب فى ضلال مال معتمر

_ [1] كذا فى الأغانى (ج 16 ص 64 طبع بولاق) وفى الأصل: «بين الاله ... » .

وأن قيس بن شيبة [1] السلمى باع متاعا من [2] أبىّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بنى جمح فلم يجره؛ فقال قيس: يال قصىّ كيف هذا فى الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق [3] الكرم أظلم لا يمنع منّى من ظلم فأجابه العبّاس بن مرداس: إن كان جارك لم تنفعك [4] ذمّته ... وقد شربت بكأس الذّلّ أنفاسا فأت البيوت وكن من أهلها صددا [5] ... لا تلق ناديهم فحشا ولا باسا وثمّ كن [6] بفناء البيت معتصما ... تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسا قرمى قريش وحلّا فى ذوائبها ... بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا ساقى الحجيج، وهذا ياسر فلج [7] ... والمجد يورث أخماسا وأسداسا فقام العبّاس وأبو سفيان حتى ردّا عليه ماله. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا فى بيت عبد الله بن جدعان على ردّ المظالم بمكة، وألّا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم بحقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل النبوّة وهو ابن خمس وعشرين سنة، فعقدوا حلف الفضول؛ فقال رسول الله صلى الله عليه

_ [1] كذا فى الأغانى والأحكام السلطانية، وفى الأصل. «قيس بن نشبة ... » . [2] فى الأصل: «على أبىّ ... » ولكن بقية الكلام تقتضى أن يكون كما أثبتناه نقلا عن الأغانى. [3] فى الأحكام السلطانية: «وأحلاف الكرم» . [4] فى الأغانى: «لم تنفك ذمته ... » . [5] صددا: قريبا. [6] كذا فى الأغانى وفى الأصل «ولا تكن ... » وهو لا يستقيم به المعنى، وفى الأحكام السلطانية: «ومن يكن ... » وآثرنا ما فى الأغانى، لمناسبة تاء الخطاب فى «تلق» كما ورد فى الأصل. [7] الفلج بالفتح كالفالج: الفائز، ولعله حرك هاهنا للضرورة.

وسلم ذاكرا للحال: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت اليه [فى الإسلام [1]] لأجبت وما أحبّ أنّ لى به حمر النّعم وأنّى نقضته وما يزيده الإسلام إلا شدّة» . وقال بعض قريش فى هذا الحلف: تيم بن مرة إن سألت وهاشم ... وزهرة الخير فى دار ابن جدعان متحالفين على النّدى ما غرّدت ... ورقاء فى فنن من الأفنان [2] فهذا كان أصل ذلك وسببه فى الجاهلية. وأمّا فى الإسلام- فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المظالم فى الشّرب الذى تنازعه الزّبير بن العوّام ورجل من الأنصار فى شراج [3] الحرّة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقال: «اسق يا زبير ثم أرسل الى جارك» ، فقال له الأنصارىّ: أن كان ابن عمتك! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسق ثم احتبس حتى يرجع [4] الماء الى الجدر» ، فقال الزّبير: والله إنّ هذه الآية

_ [1] زيادة من الكامل لابن الأثير ونهاية ابن الأثير وغيرهما، وفى الأغانى وكتاب «ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 78 أدب م) : «اليوم» . [2] فى الأغانى: «ورقاء فى فنن من جزع كتمان» وسياق الأغانى للبيتين يدل على أنهما موضوعان من غير خبير بالشعر. قال: «قال وحدّثنى محمد بن الحسن عن عيسى بن يزيد بن دأب قال: أهل حلف الفضول: هاشم وزهرة وتيم، قال فقيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟ قال نعم، قال أنشدنى بعض أهل العلم قول بعض الشعراء- ثم ذكر البيتين على ما ذكرنا من روايته فى البيت الثانى، ثم قال- فقيل له وأين كتمان؟ فقال: واد بنجران. فجاء ببيتين مضطربين مختلفى النصفين ... » . [3] انشراج: جمع شرج بالفتح، وهو مسيل الماء من الحرة الى السهل. [4] فى اللسان (مادة شرج) : « ... فقال يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر» .

أنزلت فى ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) . وقد قيل فى هذا الحديث إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أوّلا الى الاقتصار على بعض حقّه على طريق التوسّط والصّلح، فلمّا لم يرض الأنصارىّ بذلك وقال ما قال، استوفى النبىّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقّه. ويصحّح هذا القول ما جاء فى آخر الحديث: «فاستوعى [1] له حقّه» يعنى للزبير. ثم لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم أحد، وإنما كانت المنازعات تجرى بين الناس فيفصلها حكم القضاء. فإن تجوّز من جفاة الأعراب متجوّز، ثناه الوعظ إن تدبّره، وقاده العنف إن أبى وامتنع، فاقتصروا على حكم القضاء، لانقياد الناس اليه والتزامهم بأحكامه. ثم انتشر الأمر بعد ذلك وتجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم يكفّهم زواجر المواعظ، فاحتاجوا فى ردع [2] المتغلّبين وإنصاف المظلومين من الظالمين الى النظر فى المظالم؛ فكان أوّل من انفرد للمظالم وجعل لها يوما مخصوصا يجلس فيه للناس وينظر فى قصصهم ويتأمّلها عبد الملك ابن مروان، فكان اذا وقف فيها على مشكل ردّه الى قاضيه أبى إدريس الأودىّ فنفّذ فيها أحكامه، فكان عبد الملك هو الآمر وأبو إدريس هو المباشر. ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة واغتصاب الأموال فى دولة بنى أميّة، الى أن أفضت الخلافة الى عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- فانتصب بنفسه للنظر فى المظالم، وراعى السنن العادلة، وردّ مظالم بنى أميّة على أهلها؛ فقيل له- وقد شدّد عليهم فيها وأغلظ-: إنا نخاف عليك، من ردّها، العواقب؛ فقال: كل ما أتقّيه وأخافه دون

_ [1] استوعى له حقه: استوفاه له كله. [2] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الاصل «الى ردّ المتغلبين» .

ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها

يوم القيامة لا وقيته. ثم جلس لها جماعة من خلفاء الدولة العبّاسيّة، فكان أوّل من جلس منهم المهدىّ، ثم الهادى، ثم الرشيد، ثم المأمون؛ وآخر من جلس لها منهم المهتدى. ثم انتصب لذلك جماعة من ملوك الإسلام أرباب الدول المشهورة بأنفسهم وأقاموا لها نوّابا، ومنهم من بنى لها مكانا مخصوصا بها سمّاه «دار العدل» على ما نورد ذلك- إن شاء الله- فى فنّ التاريخ. ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها ومن يجتمع عندهم ويحضر مجلسهم، وما يختص بنظرهم وتشمله ولايتهم قال الماوردىّ: فإذا نظر فى المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلّمون، ويراجعه فيه المتنازعون؛ ليكون ما سواه من الأيام لما هو موكول اليه من السياسة والتدبير؛ إلا أن يكون من عمّال المظالم المتفرّدين بها، فيكون مندوبا للنظر فى جميع الأيام. وليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب. ويستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغنى عنهم، ولا ينتظم أمره إلا بهم؛ وهم الحماة والأعوان، لجذب القوىّ وتقويم الجرىء. والصنف الثّانى: القضاة والحكّام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما يجرى فى مجالسهم بين الخصوم. والصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل. والصنف الرابع: الكتّاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجّه لهم أو عليهم من الحقوق. والصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حقّ وأمضاه من حكم. فاذا استكمل مجلس المظالم بهذه الأصناف الخمسة، شرع حينئذ فى نظره.

وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام:

وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام: الأوّل- النظر فى تعدّى الولاة على الرعيّة وأخذهم بالعسف فى السّيرة، فهذا من لوازم النظر فى المظالم، فيكون لسير الولاة متصفّحا، وعن أحوالهم مستكشفا، ليقوّيهم إن أنصفوا، ويكفّهم إن عسفوا. والثانى- جور العمال فيما يجبونه من الأموال؛ فيرجع فيه الى القوانين العادلة فى الدواوين، فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها. وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه الى بيت المال أمر بردّه، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه منهم لأربابه. والثالث- كتّاب الدواوين، لأنهم أمناء المسلمين على بيوت أموالهم فيما يستوفونه ويوفونه منها؛ فيتصفّح أحوال ما وكل اليهم، فإن عدلوا عن حق فى دخل أو خرج الى زيادة أو نقصان، أعاده الى قوانينه، وقابل على تجاوزه. وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والى المظالم فى تصفّحها الى متظلّم. والرابع- تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخيرها عنهم وإجحاف النّظّار بهم؛ فيرجع الى ديوانه فى فرض العطاء العادل فيجريهم عليه. وينظر فيما نقصوه أو منعوه، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال. كتب بعض ولاة الأجناد الى المأمون أنّ الجند شغبوا ونهبوا. فكتب اليه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا. وعزله عنهم وأدرّ عليهم أرزاقهم.

والخامس- ردّ الغصوبات. وهى على ضربين: أحدها غصوب سلطانية قد تغلّب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها أو غير ذلك. ويجوز أن يرجع فى ذلك عند تظلّمهم الى ديوان السلطنة، فإذا وجد فيه ذكر قبضها عن مالكها عمل بمقتضاه وأمر بردّها اليه، ولم يحتج فيه الى بيّنة تشهد به، وكان ما وجده فى الديوان كافيا، كالذى حكى عن عمر بن عبد العزيز أنّه خرج ذات يوم الى الصلاة فصادفه رجل ورد من اليمن متظلّما، فقال: تدعون حيران مظلوما ببابكم ... فقد أتاكم بعيد الدار مظلوم فقال له: وما ظلامتك؟ قال: غصبنى الوليد بن عبد الملك ضيعتى؛ فقال يا مزاحم ائتنى بدفتر الصّوافى؛ فوجد فيه: أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان؛ فقال: أخرجها من الدفتر، وليكتب بردّ ضيعته اليه ويطلق له ضعف نفقته. والضرب الثانى، ما تغلّب عليه ذوو الأيدى القويّة وتصرّفوا فيه تصرّف الملّاك بالقهر والغلبة؛ فهذا موقوف على تظلّم أربابه. ولا ينتزع من غصّابه إلا بأحد أربعة أمور: إما باعتراف الغاصب وإقراره؛ وإما بعلم والى المظالم، فيجوز أن يحكم عليه بعلمه؛ وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه؛ وإما بتظاهر الأخبار التى ينتفى عنها التواطؤ ولا تختلج فيها الشكوك؛ لأنه لمّا جاز للشهود أن يشهدوا فى الأملاك بتظاهر الأخبار، كان حكم ولاة المظالم بذلك أحقّ. والسادس- مشارفة الوقوف. وهى ضربان: عامة وخاصة. فأما العامة فيبدأ بتصفّحها وإن لم يكن لها متظلّم، ليجريها على سبلها ويمضيها على شروطها واقفها اذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إمّا من دواوين الحكّام المندوبين لحراستها، وإما من دواوين السّلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية،

وإما من كتب قديمة تقع فى النفس صحّتها وإن لم يشهد الشهوذ بها، لأنه ليس يتعيّن الخصم فيها، فكان الحكم فيها أوسع منه فى الوقوف الخاصّة. وأما الوقوف الخاصة، فإنّ نظره فيها موقوف على تظلّم أهلها عند التنازع فيها، لوقوفها على خصوم متعيّنين. فيعمل عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم، ولا يجوز أن يرجع فيها الى ديوان السلطنة ولا إلى ما يثبت من ذكرها فى الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدّلون. والسابع- تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة، لضعفهم عن إنفاذه وعجزهم عن المحكوم عليه، لتعزّزه وقوّة يده أو علوّ قدره وعظم خطره، لكون [1] ناظر المظالم أقوى يدا وأنفذ أمرا، فينفّذ الحكم على ما يوجبه عليه الحاكم [2] بانتزاع ما فى يده، أو بإلزامه الخروج مما فى ذمّته. والثامن- النظر فيما عجز عنه الناظرون فى الحسبة من المصالح العامّة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدّى فى طريق عجز عن منعه، [والتّحيفّ فى حقّ لم يقدر على ردّه [3]] ، فيأخذهم بحق الله تعالى فى ذلك، ويأمر بحملهم على موجبه [4] . والتاسع- مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحجّ والجهاد من تقصير فيها أو إخلال بشروطها؛ فإنّ حقوق الله تعالى أولى أن تستوفى، وفروضه أحقّ أن تؤدّى.

_ [1] فى الأصل: «ليكون ... » وفى الأحكام السلطانية: «فيكون ... » ، وظاهر أن ما أثبتناه هو المناسب للسياق. [2] فى الأحكام السلطانية: «فينفذ الحكم على من توجه اليه بانتزاع ... » . [3] زيادة عن الأحكام السلطانية. [4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل. «على واجبه» .

ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة

والعاشر- النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين. ولا يخرج فى النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم بما لا يحكم به الحكّام والقضاة. ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة قال الماوردىّ: والفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة من عشرة أوجه: أحدها- أنّ لناظر [1] المظالم من فضل الهيبة وقوّة اليد ما ليس للقضاة بكف الخصوم عن التجاحد ومنع الظّلمة من التغالب والتجاذب. والثانى- أنّ نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب الى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه أفسح مجالا وأوسع مقالا. والثالث- أنّه يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب، بالآثار الدالّة أو شواهد الحال اللّائحة ما يضيق على الحكّام، فيصل به الى ظهور الحقّ، ومعرفة المبطل من المحقّ. والرابع- أنه يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه [2] بالتقويم والتهذيب. والخامس- أنّ له من التأنّى فى ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم واستبهام حقوقهم، ليمعن فى الكشف عن أسبابهم وأحوالهم، ما ليس للحكّام، اذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخّره الحاكم، ويسوغ أن يؤخّره متولّى المظالم.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «لنظر المظالم ... » . [2] فى الأصل: «من بان عداوته» وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.

ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان

والسادس- أنّ له ردّ الخصوم اذا أعضلوا [1] الى وساطة الأمناء، ليفصلوا التنازع بينهم صلحا عن تراض، وليس للقاضى ذلك إلا عن رضا الخصمين بالرّدّ. والسابع- أنه يفسح فى ملازمة الخصمين اذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن فى إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفيل، لتنقاد الخصوم الى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب. والثامن- أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة فى شهادة المعدّلين. والتاسع- أنه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم اذا بذلوا أيمانهم طوعا، ويستكثر من عددهم، لتزول عنه الشّبهة وينتفى الارتياب، وليس ذلك للحاكم. والعاشر- أنه يجوز له أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم فى تنازع الخصوم؛ وعادة القضاة تكليف المدّعى إحضار بيّنة ولا يسمعونها إلا بعد مسألته. فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاء فى التشاجر والتنازع؛ وهما فيما عداهما متساويان. ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان قال الماوردىّ: لم تخل حال الدّعوى عند الترافع فيها إلى والى المظالم من ثلاثة أحوال: إمّا أن يقترن بها ما يقوّيها، أو يقترن بها ما يضعفها، أو تخلو من

_ [1] أعضلوا: ضاقت عليه الحيل فيهم.

الأمرين. فإن اقترن بها ما يقوّيها، فلما يقترن بها من القوّة ستّة أحوال تختلف بها قوّة الدّعوى على التدريج. فأوّل أحوالها- أن يظهر معها كتاب فيه شهود معدّلون حضور. والذى يختص به نظر المظالم فى مثل هذه الدعوى شيئان. أحدهما: أن يبتدئ الناظر فيها باستدعاء الشهود للشهادة. والثانى: الإنكار على الجاحد بحسب حاله وشواهد أحواله. فاذا حضر الشهود، فإن كان الناظر فى المظالم ممن يجلّ قدره، كالخليفة أو وزير التفويض أو أمير الإقليم، راعى من أحوال المتنازعين ما تقتضيه السياسة: من مباشرته النّظر بينهما إن جلّ قدرهما، أو ردّ ذلك الى قاضيه بمشهد منه إن كانا متوسّطين، أو على بعد منه إن كانا خاملين. حكى أنّ المأمون كان يجلس للمظالم فى يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلسه فتلقّته امرأة فى ثياب رثّة، فقالت: يا خير منتصف يهدى له الرّشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد تشكو إليك عميد [1] الملك أرملة ... عدا عليها فما تقوى به أسد فابتزّ منها ضياعا بعد منعتها ... لمّا تفرّق عنها الأهل والولد فأطرق المأمون يسيرا ثم رفع رأسه وقال: من دون ما قلت عيل الصّبر والجلد ... وأقرح القلب هذا الحزن والكمد هذا أوان صلاة الظّهر فانصرفى ... وأحضرى الخصم فى اليوم الذى أعد المجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ... أنصفك منه وإلّا المجلس الأحد

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية وفى الأصل: «عقيد الملك» وورد هذا البيت فى العقد الفريذ (ج 1 ص 12) هكذا: تشكو اليك عميد القوم أرملة ... عدا عليها فلم يترك لها سبد

فانصرفت، وحضرت فى يوم الأحد أوّل الناس؛ فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العبّاس بن أمير المؤمنين؛ فقال المأمون لقاضيه يحيى ابن أكثم، وقيل بل قال لوزيره أحمد بن أبى خالد: أجلسها معه وانظر بينهما؛ فأجلسها معه ونظر بينهما بحضرة المأمون، فجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجّابه؛ فقال المأمون: دعها فإنّ الحقّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردّ ضياعها اليها. والحال الثانية فى قوّة الدعوى- أن يقترن بها كتاب فيه من الشهود المعدّلين من هو غائب. فالذى يختصّ بنظر المظالم فى مثل هذه الدّعوى أربعة أشياء [1] . أحدها: إرهاب المدّعى عليه [فر [2]] بّما يعجّل من إقراره بقوّة الهيبة ما يغنى عن سماع البيّنة. والثانى: التّقدّم [3] بإحضار الشّهود اذا عرف مكانهم ولم يدخل الضّرر الشاقّ عليهم. والثالث: التقدّم بملازمة المدّعى عليه ثلاثا، ويجتهد رأيه فى الزيادة عليها بحسب الحال من قوّة الأمارة ودلائل الصحّة. والرابع: أن ينظر فى الدعوى، فإن كانت مالا فى الذمة كلّفه إقامة كفيل، وإن كانت عينا قائمة كالعقار، حجر عليه فيها حجرا لا يرفع به حكم يده، وردّ استغلالها الى أمين [4] يحفظه على مستحقّه منهما. فإن تطاولت المدّة ووقع اليأس من حضور الشهود، جاز لمتولّى المظالم أن يسأل المدّعى عليه عن دخول يده مع تجديد إرهابه، فإن أجاب بما يقطع التنازع أمضاه، وإلّا فصل بينهما بموجب الشّرع ومقتضاه.

_ [1] وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «فالدعوى تختص بنظر المظالم فى هذه الدعوى باربعة أشياء» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. وتوجد من الأحكام السلطانية نسخة أخرى، يشير اليها هامش النسخة التى بين أيدينا، بها ما بالأصل، فلعل المؤلف نقل عنها. [3] تقدم إليه بكذا: أمره به. [4] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل وفى نسخة أخرى من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة التى بأيدينا «الى أمين الشهود» .

والحال الثالثة فى قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود حضور لكنهم غير معدّلين عند الحاكم، فيتقدّم ناظر المظالم بإحضارهم وسبر أحوالهم؛ فإن كانوا من ذوى الهيئات وأهل الصّيانات، فالثقة بشهادتهم أقوى؛ وإن كانوا أرذالا فلا يعوّل عليهم لكن يقوّى إرهاب الخصم بهم؛ وإن كانوا أوساطا فيجوز له أن يستظهر بإحلافهم، إن رأى ذلك، قبل الشهادة أو بعدها. ثم هو فى سماع شهادة هذين الصّنفين بين ثلاثة أمور: إما أن يسمعها بنفسه فيحكم بها، وإما أن يردّ [الى [1]] القاضى سماعها ويؤدّيها القاضى اليه، وإما أن يردّ سماعها الى الشهود المعدّلين وهم يخبرونه بما وضح عندهم. والحال الرابعة من قوّة الدعوى- أن يكون فى الكتاب المقترن بها شهود موتى معدّلون، فالذى يختصّ بنظر المظالم فيها ثلاثة أشياء. أحدها: إرهاب المدّعى عليه بما يضطرّه الى الصّدق والاعتراف [بالحق [2]] . والثانى: سؤاله عن دخول يده، لجواز أن يكون من جوابه ما يتّضح به الحقّ [3] . والثالث: أن يكشف عن الحال من جيران الملك ومن جيران المتنازعين فيه، ليتوصّل بهم الى وضوح الحقّ ومعرفة المحقّ. فإن لم يصل اليه بواحد من هذه الثلاثة، ردّها الى وساطة محتشم مطاع، له بهما معرفة وبما يتنازعانه خبرة. فإن حصل تصادقهما أو صلحهما بوساطته، وإلّا فصل الحكم بينهما على ما يوجبه حكم القضاء. والحال الخامسة فى قوّة الدعوى- أن يكون مع المدّعى خطّ المدّعى عليه [بما تضمّنته الدعوى، فنظر المظالم فيه يقتضى سؤال المدّعى عليه [4]] عن الخطّ وأن

_ [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] الجملة فى الأصل هكذا: «لجواز أن يكون جوابه بما يتضح به الحق» وعبارة الأحكام السلطانية التى أثبتناها أوضح. [4] التكملة عن الأحكام السلطانية.

يقال [1] له: هذا خطّك؟ فإن اعترف به، سئل بعد اعترافه به عن صحة ما تضمّنه، فإن اعترف بصحته، صار مقرّا وألزم حكم إقراره. وإن لم يعترف بصحته [فمن ولاة المظالم من حكم عليه بخطّه اذا اعترف به وإن لم يعترف بصحته [2]] ، وجعل ذلك من شواهد الحقوق اعتبارا بالعرف. والذى عليه محقّقوهم وما يراه الفقهاء أنه لا يجوز للناظر منهم أن يحكم بمجرّد الخطّ حتى يعترف بصحّة ما فيه؛ فإن قال: كتبته ليقرضنى وما أقرضنى، أو ليدفع إلىّ ثمن ما بعته وما دفع، فهذا مما قد يفعله الناس أحيانا. فنظر المظالم فى مثله أن يستعمل الإرهاب بحسب الحال ثم يردّ الى الوساطة؛ فإن أفضت الى الصلح، وإلا بتّ الحاكم [3] بينهما بالتحالف. وإن أنكر الخطّ، فمن ولاة المظالم من يختبر الخطّ بخطوطه التى يكتبها ويكلّفه من كثرة الكتابة ما يمنع من التصنّع فيها، ثم يجمع بين الخطين، فإذا تشابها حكم به عليه. والذى عليه المحقّقون منهم أنهم لا يفعلون ذلك للحكم به ولكن للإرهاب. [وتكون الشّبهة مع إنكاره للخط أضعف منها مع اعترافه به، وترتفع الشبهة إن كان الخط منافيا لخطه ويعود الإرهاب على المدّعى، ثم يردّان الى الوساطة [4]] فإن أفضت الى الصلح وإلّا بتّ القاضى [الحكم [5]] بينهما بالأيمان. والحال السادسة من قوّة الدعوى- إظهار الحساب بما تضمّنته الدعوى، وهذا يكون فى المعاملات. ولا يخلو حال الحساب من أحد أمرين:

_ [1] فى الأصل «يقول» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأحكام السلطانية: «وإلا بت القاضى الحكم بينهما بالتحالف» . [4] وردت هذه الجملة التى بين القوسين والتى نقلناها عن الأحكام السلطانية فى الأصل هكذا: «وترتفع الشبهة وإن كان منافيا فيعود الإرهاب على المدعى ثم يرد الى الوساطة» . [5] التكملة عن الأحكام السلطانية.

إمّا أن يكون حساب المدّعى أو المدّعى عليه. فإن كان حساب المدّعى فالشّبهة فيه أضعف. ونظر المظالم فى مثله أن يراعى نظم الحساب، فإن كان مخنلّا يحتمل فيه [1] الإدغال كان مطّرحا، وهو بضعف الدعوى أشبه منه بقوّتها. وإن كان نظمه متّسقا ونقله صحيحا، فالثقة به أقوى، فيقتضى من الإرهاب بحسب شواهده، ثم يردّان الى الوساطة، ثم الى الحكم الباتّ. وإن كان الحساب للمدّعى عليه، كانت الدعوى به أقوى، فلا يخلو أن يكون منسوبا الى خطه [أو خط كاتبه، فإن كان منسوبا الى خطه [2]] فلناظر المظالم أن يسأله عنه: أهو خطه؟ فإن اعترف به، قيل: أتعلم ما هو؟ فإن أقرّ بمعرفته، قيل: أتعلم صحته؟ فإن أقرّ بصحته، صار بهذه الثلاثة مقرّا بمضمون الحساب، فيؤخذ بما فيه. وإن اعترف أنه خطّه وأنه يعلم ما فيه ولم يعترف بصحته، وجعل الثقة بهذا أقوى من الثقة بالخط المرسل، لأن الحساب لا يثبت فيه قبض ما لم يقبض [3] ، وقد تكتب الخطوط المرسلة بقبض. والذى عليه المحققون منهم- وهو قول الفقهاء- أنه لا يحكم عليه بالحساب الذى لم يعترف بصحته، لكن يقتضى من فضل الإرهاب به أكثر مما اقتضاه الخط المرسل. ثم يردّان الى الوساطة ثم الى الحكم الباتّ. وإن كان الخط منسوبا الى كاتبه، سئل المدّعى عليه قبل سؤال كاتبه، فإن اعترف بما فيه أخذ به، وإن لم يعترف، سئل عنه كاتبه وأرهب، فإن أنكره ضعفت

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «فان كان مما يحمل الإدغال ... » . والإدغال: من دغل فى الأمر: أدخل فيه ما يفسده ويخالفه. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «لأن الحساب لا يكتب قيض ولم يقبض» .

الشّبهة [1] ، وإن اعترف بصحته صار شهادة على المدّعى عليه، فيحكم عليه بشهادته إن كان عدلا، ويقضى بالشاهد واليمين. فهذه حال الدعوى إذا اقترن بها ما يقوّيها. وأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها- فلما اقترن بها من الضعف ستة أحوال تنافى أحوال القوّة، فينقل الإرهاب بها من جنبة المدّعى عليه الى جنبة المدّعى. فالحال الأولى- أن يقابل الدعوى بكتاب شهوده حضور معدّلون يشهدون بما يوجب بطلان الدعوى، وذلك من أربعة أوجه. أحدها: أن يشهدوا على المدّعى ببيع ما ادّعاه. والثانى: أن يشهدوا على إقرار الذى انتقل الملك عنه للمدّعى قبل إقراره له [2] . والثالث: أن يشهدوا على المدّعى [3] أنه لا حقّ له فيما ادّعاه. والرابع: أن يشهدوا للمدّعى عليه بأنه مالك لما ادّعاه عليه. فتبطل دعواه بهذه الشهادة، ويؤدّبه متولّى المظالم بحسب حاله. فإن ذكر أنّ الشهادة عليه بابتياع كانت على سبيل الرهن؛ فهذا قد يفعله الناس أحيانا ويسمّونه بينهم بيع الأمانة [4] ؛ ويقتضى ذلك الإرهاب

_ [1] عبارة الأحكام السلطانية فى هذه المسألة وردت هكذا: «وان لم يعترف يسأل عنه كاتبه، فان أنكره ضعفت الشبهة بإنكاره، وأرهب إن كان متهما ولم يرهب إن كان مأمونا. وإن اعترف به وبصحته ... » . [2] ما ذكره المؤلف هاهنا منقول عن نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش النسخة المطبوعة فى مدينة «بن» وبين النسختين اختلاف فى الترتيب وبعض الكلمات. وقد ذكر الوجه الثانى هنا فى الأحكام السلطانية هكذا «والثالث أن يشهدوا على اقرار أبيه الذى ذكر انتقال الملك عنه أن لا حق له فيما ادعاه» . [3] فى الأحكام السلطانية: «أن يشهدوا على إقراره (المدعى) بأن لا حق له ... » . [4] اختصار المؤلف هنا جعل الكلام غير واضح الارتباط. وعبارة الأحكام السلطانية- على ما فيها من مخالفة فى بعض الكلمات لما فى الأصل، وقد يكون ما فى الأصل هو الصواب- وردت هكذا: «فان ذكر أن الشهادة عليه بالابتياع كانت على سبيل رهب وإلجاء، وهذا قد يفعله الناس أحيانا، فينظر فى كتاب الابتياع: فان ذكر فيه أنه من غير رهب ولا إلجاء ضعفت شبهة هذه الدعوى، وإن لم يذكر ذلك فيه قويت شبهة الدعوى، وكان الارهاب فى الجهتين بمقتضى شواهد الحالين» .

فى الجهتين. ويرجع الى الكشف من الجيرة؛ فإن ظهر له ما يوجب العدول عن ظاهر الكتاب عمل بمقتضاه، وإن لم يتبيّن وأبهم الأمر أمضى الحكم بما شهد به شهود الابتياع. فإن سأل [1] إحلاف المدّعى عليه أن ابتياعه كان حقّا ولم يكن على سبيل الرهن، فقد اختلف الفقهاء فى جواز إحلافه: فمنهم من أجازه ومنهم من منعه. ولوالى المظالم أن يعمل من القولين بما تقتضيه شواهد الحال. وكذلك لو كانت الدعوى بدين فى الذمّة فأظهر المدّعى [عليه [2]] كتاب براءة [منه، فذكر المدّعى أنه أشهد على نفسه [3]] قبل القبض ولم يقبض، كان إحلاف المدّعى عليه على ما تقدّم ذكره. والحال الثانية- أن يكون شهود الكتاب عدولا غيّبا، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب كقوله: لا حقّ له فى هذا الملك، لأنى ابتعته منه ودفعت اليه الثمن، وهذا كتاب عهدتى بالإشهاد عليه. فيصير المدّعى عليه مدّعيا. وله [زيادة [4]] يد وتصرّف، فتكون الأمارة أقوى وشاهد الحال أظهر، [فإن لم يثبت بها الملك [5]] فيرهبهما والى المظالم بحسب ما تقتضيه شواهد أحوالهما. ويأمر بإحضار الشهود إن أمكن، ويضرب لحضورهم أجلا يردّهما فيه إلى الوساطة، فإن أفضت الى صلح عن تراض، استقرّ به الحكم وعدل عن سماع الشهادة إن حضرت. وإن لم ينبرم بينهما الصلح، أمعن فى الكشف من جيرانهما وجيران الملك. وكان لمتولّى نظر المظالم رأيه، فى زمن الكشف، فى خصلة من ثلاث، على ما يؤدّى اليه اجتهاده بحسب الأمارات وشواهد الأحوال: إمّا أن يرى انتزاع الضّيعة من يد المدّعى عليه ويسلّمها الى المدّعى الى أن تقوم البيّنة عليه بالبيع؛ وإما أن يسلّمها الى أمين تكون فى يده ويحفظ استغلالها على مستحقّه؛ وإما أن يقرّها فى يد المدّعى عليه

_ [1] ظاهر أن مرجع الضمير هاهنا المدعى. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية. [3] التكملة عن الأحكام السلطانية. [4] التكملة عن الأحكام السلطانية. [5] التكملة عن الأحكام السلطانية.

ويحجر عليه فيها وينصب أمينا لحفظ استغلالها. فإن وقع الإياس من حضور الشهود وظهور الحقّ بالكشف، فصل الحكم بينهما على ما تقتضيه أحكام القضاء. فلو سأل المدّعى عليه إحلاف المدّعى، أحلفه له، وكان ذلك بتّا للحكم بينهما. والضرب الثانى: أن [لا [1]] يتضمّن إنكاره اعترافا بالسبب ويقول: هذا الملك أو الضيعة لا حق له فيها. وتكون شهادة الكتاب على المدّعى على أحد وجهين: إما على إقراره أنه لا حق له فيها، وإما على إقراره أنها ملك للمدّعى عليه؛ فالضّيعة مقرّة فى يد المدّعى عليه لا يجوز انتزاعها منه. فأمّا الحجر عليه فيها وحفظ استغلالها مدّة الكشف والوساطة فمعتبر بشواهد الحال واجتهاد والى المظالم فيما يراه بينهما، الى أن يثبت الحقّ لأحدهما. والحال الثالثة- أنّ شهود الكتاب المقابل لهذه الدعوى حضور غير معدّلين، فيراعى والى المظالم فيهم ما قدّمناه فى جنبة المدّعى من أحوالهم الثلاث، ويراعى حال إنكاره هل تضمّن اعترافا بالسبب أم لا؛ فيعمل [والى المظالم فى ذلك [2] ب] ما قدّمناه، تعويلا على اجتهاد رأيه فى شواهد الأحوال. والحال الرابعة- أن يكون شهود الكتاب موتى معدّلين، فليس يتعلّق به حكم إلا فى الإرهاب المجرّد، ثم يعمل فى بتّ الحكم على ما تضمّنه الإنكار من الاعتراف بالسبب أم لا. والحال الخامسة- أن يقابل المدّعى عليه بخط المدّعى بما يوجب [3] إكذابه فى الدعوى، فيعمل فيه بما قدّمناه فى ذلك. وكذلك أيضا فى الحال السادسة من إظهار الحساب، فالعمل فيه على ما قدّمناه.

_ [1] زيادة من الأحكام السلطانية. [2] زيادة من الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «بما وجب ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.

وأما إن تجرّدت الدعوى من أسباب القوّة والضعف، فلم يقترن بها ما يقوّيها ولا ما يضعفها، فنظر والى المظالم فى ذلك أن يراعى أحوال المتنازعين فى غلبة الظن. ولا يخلو حالهما فيه من ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون غلبته فى جنبة المدّعى. والثانى: أن تكون فى جنبة المدّعى عليه. والثالث: أن يعتدلا فيه. فإن كانت غلبة الظن فى جنبة المدّعى وكانت الرّيبة متوجّهة الى المدّعى عليه، فقد تكون من ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون المدّعى مع خلوّه من حجّة مضعوف اليد مستلان الجانب والمدّعى عليه ذا بأس وقدرة. فاذا ادّعى عليه غصب ملك أو ضيعة، غلب فى الظنّ أنّ مثله مع لينه واستضعافه لا يتجوّز فى دعواه على من كان ذا بأس وسطوة. والثانى: أن يكون ممن اشتهر بالصدق والأمانة والمدّعى عليه ممن اشتهر بالكذب والخيانة، فيغلب [فى الظن [1]] صدق المدّعى فى دعواه. والثالث: أن تتساوى أحوالهما، غير أنه عرف للمدّعى يد متقدّمة وليس يعرف لدخول يد المدّعى عليه سبب، فالذى يقتضيه نظر المظالم فى هذه الأحوال شيئان. أحدهما: إرهاب المدّعى عليه لتوجّه الريبة. والثانى: سؤاله عن سبب دخول يده وحدوث ملكه. وأما إن كانت غلبة الظنّ فى جنبة المدّعى عليه بانعكاس ما قدّمناه وانتقاله من جانب المدّعى الى المدّعى عليه، فمذهب مالك- رحمه الله- أنه إن كانت دعواه فى مثل هذه الحال لعين قائمة، لم يسمعها إلا بعد ذكر السبب الموجب لها، وإن كانت فى مال فى الذمة، لم يسمعها إلا أن تقوم البيّنة للمدّعى أنه كان بينه وبين المدّعى عليه معاملة. والشافعىّ وأبو حنيفة- رحمهما الله- لا يريان ذلك [2] . ونظر المظالم

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية. [2] فى الأحكام السلطانية «والشافعىّ وأبو حنيفة رضى الله عنهما لا يريان ذلك فى حكم القضاة، فاما نظر الظالم الموضوع على الأصلح فعلى الجائز دون الواجب فيسوغ فيه مثل ... » .

موضوع على فعل الجائز دون الواجب، فيسوغ فيه مثل هذا عند ظهور الريبة. فان وقف الأمر على التحالف فهو غاية الحكم الباتّ الذى لا يجوز دفع طالب عنه فى نظر القضاء ولا نظر المظالم. فإن فرّق المدّعى دعاويه وأراد أن يحلف المدّعى عليه فى كل مجلس على بعضها قصدا لإعناته وبذلته، فالذى يوجبه حكم القضاء ألّا يمنع من تبعيض الدعاوى وتفريق الأيمان، والذى ينتجه نظر المظالم أن يؤمر المدّعى بجمع دعاويه عند ظهور الإعنات منه وإحلاف الخصم على جميعها يمينا واحدة. فأمّا اذا اعتدلت حالة المتنازعين وتقابلت شبهة [1] المتشاجرين ولم يترجح أحدهما بأمارة ولا ظنّة، فينبغى أن يساوى بينهما فى العظة؛ وهذا مما يتّفق عليه القضاة وولاة المظالم. ثم يختصّ ولاة المظالم، بعد العظة، بالإرهاب لهما معا لتساويهما، ثم بالكشف عن أصل الدعوى وانتقال الملك. فإن ظهر بالكشف ما يعرف به المحقّ منهما من المبطل عمل بمقتضاه، وإن لم يظهر بالكشف ما ينفصل به تنازعهما ردّهما الى وساطة من وجوه الجيران وأكابر العشائر؛ فان تحرّر [2] ما بينهما، وإلا كان فصل القضاء بينهما هو خاتمة أمرهما. وربما ترافع [3] الى ولاة المظالم فى غوامض الأحكام ومشكلات الخصام ما يرشده اليه الجلساء ويفتحه [4] عليه العلماء، فلا ينكر عليهم الابتداء به؛ ولا بأس بردّ الحكم فيه الى من يعلمه منهم.

_ [1] فى الأحكام السلطانية: «بينة المتشاجرين ... » . [2] فى الأحكام السلطانية: «فإن نجز بها ما بينهما» . [3] كذا فى الأصل والأحكام السلطانية، ولعلها «رفع» . [4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل، «ويقبحه ... » وهو تحريف.

فقد حكى أنّ امرأة أتت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجى يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله؛ فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك! فجعلت تكرّر عليه القول، وهو يكرّر عليها الجواب؛ فقال له كعب بن سور الأزدىّ [1] : يا أمير المؤمنين، هذه امرأة تشكو زوجها فى مباعدته إياها عن فراشه؛ فقال له عمر رضى الله عنه: كما فهمت كلامها فاقض بينهما؛ فقال كعب: علىّ بزوجها، فأتى به؛ فقال له: امرأتك هذه تشكوك؛ فقال الزوج: أفى طعام أو شراب؟ قال كعب: لا فى واحد منهما؛ فقالت المرأة: يأيّها القاضى الحكيم أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده زهّده فى مضجعى تعبّده ... نهاره وليله ما يرقده فلست من أمر النّساء أحمده ... فاقض القضا يا كعب لا تردّده فقال الزوج: زهّدنى فى قربها وفى الحجل ... أنّى امرؤ أذهلنى ما قد نزل فى سورة النّحل وفى السّبع الطّول ... وفى كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إنّ لها حقّا عليك يا رجل ... نصيبها فى أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: إنّ الله سبحانه وتعالى قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام ولياليهنّ تعبد فيهن ربّك، ولها يوم وليلة. فقال عمر رضى الله عنه

_ [1] كذا فى الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 440 طبع مدينه ليدن) والطبرى فى غير موضع (طبع ليدن أيضا) والكامل للمبرد (طبع ليبسج) . وفى الأصل: «كعب بن سور الأسدى» .

ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتب عليها من الأحكام

لكعب: ما أدرى من أى أمريك أعجب! أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما! [اذهب [1]] فقد ولّيتك القضاء بالبصرة. وهذا القضاء من كعب والإمضاء من عمر إنما كان حكما بالجائز دون الواجب؛ لأن الزوج لا يلزمه أن يقسم للزوجة الواحدة ولا يجيبها الى الفراش اذا أصابها دفعة واحدة. فدلّ هذا على أن لوالى المظالم أن يحكم بالجائز دون الواجب. ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام قال الماوردىّ: اذا وقّع ناظر المظالم فى قصص المتظلّمين اليه بالنظر بينهم، لم يخل حال الموقّع اليه من أحد أمرين: إما أن يكون واليا على ما وقّع به اليه أو غير وال عليه. فان كان واليا عليه، كتوقيعه الى القاضى بالنظر بينهما، فلا يخلو حال ما تضمّنه التوقيع من أحد أمرين: إمّا أن يكون إذنا بالحكم، أو إذنا بالكشف والوساطة. فإن كان إذنا بالحكم، جاز له الحكم بينهما بأصل الولاية، ويكون التوقيع تأكيدا لا يؤثّر فيه قصور معانيه. وإن كان إذنا بالكشف للصّورة أو التوسّط بين الخصمين [فإن كان فى التوقيع بذلك نهيه عن الحكم فيه لم يكن له أن يحكم بينهما [2]] وكان هذا النهى عزلا عن الحكم بينهما، وكان على عموم ولايته فيمن عداهما [3] . وإن لم ينهه فى التوقيع عن الحكم بينهما غير أنّه أمره بالكشف، فقد قيل: يكون نظره [4] على عمومه فى جواز حكمه بينهما؛ لأن أمره ببعض ما اليه لا يكون منعا من غيره؛

_ [1] زيادة عن الأحكام السلطانية. [2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «فقد نهاه عن الحكم فيه ولم يكن له أن يحكم بينهما» وهو لا يستقيم مع سياق الكلام. وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل: «فيما عداهما» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: «يكون وطره ... » وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.

وقيل بل يكون ممنوعا من الحكم بينهما مقصورا على ما تضمّنه التوقيع من الكشف والوساطة؛ لأنّ فحوى التّوقيع دليل عليه. ثم ينظر، فإن كان التوقيع بالوساطة، لم يلزمه إنهاء الحال اليه بعد الوساطة، وإن كان بكشف الصورة، لزمه إنهاء حالها اليه؛ لأنه استخبار منه فيلزمه إجابته عنه. فهذا حكم توقيعه الى من اليه الولاية. وأما إن وقع الى من لا ولاية له، كتوقيعه الى فقيه أو شاهد، فلا يخلو حال توقيعه من ثلاثة أحوال: أحدها أن [يكون بكشف الصورة، والثانى أن يكون بالوساطة، والثالث أن يكون بالحكم. فإن كان التوقيع [1]] بكشف الصورة، فعليه أن يكشفها وينهى منها ما يصحّ أن يشهد به، ليجوز لناظر المظالم الحكم به. فإن أنهى ما يجوز أن يشهد به، كان خبرا لا يجوز أن يحكم به، ولكن يجعله ناظر المظالم من الأمارات التى يغلّب بها [حال [2]] أحد الخصمين فى الإرهاب وفضل الكشف. فإن كان التوقيع بالوساطة، توسّط بينهما. فإن أفضت الوساطة الى صلح الخصمين لم يلزمه إنهاؤها، وكان شاهدا فيها، متى استدعى للشهادة أدّاها. وإن لم تفص الوساطة الى صلحهما، كان شاهدا عليهما فيما اعترفا به عنده، يؤدّيه الى الناظر فى المظالم اذا طلب للشّهادة. وإن كان التوقيع بالحكم بينهما، فهذه ولاية يراعى فيها معانى التوقيع، ليكون نظره محمولا على موجبه. واذا كان كذلك فللتوقيع حالتان: إحداهما- أن يحال فيه الى إجابة الخصم الى ملتمسه، فيعتبر حينئذ فيه ما سأل الخصم فى قصّته ويصير النظر مقصورا عليه، فان سأل الوساطة أو كشف الصورة، كان التوقيع [موجبا له، وكان النظر مقصورا عليه. وسواء خرج التوقيع [3]]

_ [1] عن الأحكام السلطانية. [2] عن الأحكام السلطانية. [3] عن الأحكام السلطانية.

مخرج الأمر كقوله: «أجبه الى ملتمسه» ، أو خرج مخرج الحكاية كقوله: «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ؛ لأنه لا يقتضى ولاية يلزم حكمها، فكان [1] أمرها أخف. وإن سأل المتظلّم فى قصته الحكم بينهما، فلا بدّ أن يكون الخصم فى القصّة مسمّى والخصومة مذكورة، لتصحّ الولاية عليها. فإن لم يسمّ الخصم ولم تذكر الخصومة، لم تصح [الولاية [2]] ، لأنها ليست ولاية عامّة فيحمل على عمومها [3] ، ولا خاصة للجهل بها. وإن سمّى رافع القصّة خصمه وذكر خصومته، نظر فى التوقيع بإجابته الى ملتمسه: فإن خرج مخرج الأمر فوقّع «أجبه الى ملتمسه واعمل بما التمسه» صحّت ولايته فى الحكم بينهما، وإن خرج مخرج الحكاية للحال فوقّع «رأيك فى إجابته الى ملتمسه موفّقا» ، فهذا التوقيع خارج فى الأعمال السّلطانية مخرج الأمر، والعرف باستعماله فيها معتاد. وأمّا فى الأحكام الدينيّة، فقد جوّزته طائفة من الفقهاء اعتبارا بالعرف، ومنعت طائفة أخرى من جوازه وانعقاد الولاية به حتى يقترن به أمر تنعقد ولايته به [4] ، اعتبارا بمعانى الألفاظ. فلو كان رافع القصّة سأل التوقيع بالحكم بينهما فوقّع بإجابته الى ملتمسه، فمن يعتبر العرف المعتاد، صحّت الولاية [عنده [5]] بهذا التوقيع، ومن اعتبر معانى الألفاظ لم تصحّ [عنده [6]] به. والحالة الثانية من التوقيعات- ألّا [7] يقتصر فيه على إجابة الخصم الى ما سأل، ويستأنف فيه الأمر بما تضمنه، فيصير ما تضمنه التوقيع هو المعتبر فى الولاية.

_ [1] فى الأصل: «وكان ... » ولكن حسن السياق يقتضى ما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [2] الزيادة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل «فيحتمل عمومها» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «حتى يقترن به أمر ينعقد بولايته» . [5] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام. [6] زيادة وضعناها لاستقامة الكلام. [7] فى الأصل: «ان لم ... » .

وإذا كان كذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كمال، وحال جواز، وحال يخرج عن الأمرين. فأما الحال التى يكون التوقيع فيها كاملا فى صحة الولاية، فهو أن يتضمّن شيئين: أحدهما الأمر بالنظر، والثانى الأمر بالحكم، فيذكر فيه: «انظر بين رافع هذه القصّة وبين خصمه، واحكم بينهما بالحقّ وموجب الشرع» . [فاذا كانت كذلك [1]] جاز، لأن الحكم لا يكون إلا بالحقّ الذى يوجبه حكم الشرع. وإنما يذكر ذلك فى التوقيعات وصفا لا شرطا. فإن كان التوقيع جامعا لهذين الأمرين من النظر والحكم، فهو النظر الكامل، ويصحّ به التقليد والولاية. وأمّا الحال التى يكون بها التوقيع جائزا مع قصوره عن حال الكمال، فهو أن يتضمّن الأمر بالحكم دون النّظر، فيذكر فى توقيعه: «احكم بين رافع هذه [القصّة [2]] وبين خصمه» ، أو يقول: «اقض بينهما» ، فتصحّ الولاية بذلك؛ لأن الحكم بينهما لا يكون الا بعد تقدّم النّظر، فصار الأمر به متضمّنا للنظر، لأنه لا يخلو منه. وأمّا الحال التى يكون التوقيع بها خاليا من كمال وجواز، فهو أن يذكر فيه: «انظر بينهما» ؛ فلا تنعقد بهذا التوقيع ولاية، لأن النظر بينهما قد يحتمل الوساطة الجائزة ويحتمل الحكم اللازم؛ وهما فى الاحتمال سواء، فلم تنعقد به مع الاحتمال ولاية. فإن ذكر فيه: «انظر بينهما بالحق» فقد قيل: إنّ الولاية به منعقدة، لأنّ الحق مالزم؛ وقيل لا تنعقد به، لأن الصلح والوساطة حقّ وإن لم يلزم. فهذه نبذة كافية فيما يتعلّق بنظر المظالم. وقد يقع لهم من الوقائع والمخاصمات والقرائن ما لم نذكره، فيجرى الحال فيها بحسب الوقائع والقرائن؛ وانما هذه أصول سياسية وقواعد فقهيّة فيحمل الأمر من أشباهها على منوالها، ويحذى فى أمثالها على مثالها. والله الموفّق.

_ [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] التكملة عن الأحكام السلطانية.

الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها

الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها قال أبو الحسن الماوردىّ- رحمه الله-: والحسبة هى أمر بالمعروف اذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر اذا ظهر فعله. قال الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. [شروط ناظر الحسبة] ومن شروط ناظر الحسبة أن يكون حرّا، عدلا، ذا رأى وصرامة وخشونة فى الدّين، وعلم [1] بالمنكرات الظاهرة. واختلف الفقهاء [من [2]] أصحاب الشافعىّ: هل يجوز له أن يحمل الناس، فيما ينكره من الأمور التى اختلف الفقهاء فيها، على رأيه واجتهاده، أم لا، على وجهين: أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنّ له أن يحمل ذلك [3] على رايه واجتهاده؛ فعلى هذا يجب أن يكون المحتسب عالما من أهل الاجتهاد فى أحكام الدين، ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه. والوجه الثانى- أنه ليس له أن يحمل الناس على رأيه ولا يقودهم الى مذهبه، لتسويغ [4] اجتهاد الكافّة فيما اختلف فيه. فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد اذا كان عارفا بالمنكرات المتّفق عليها.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وعالم ... » . [2] زيادة عن الأحكام السلطانية. [3] المناسب أن يكون بدل «ذلك» «الناس» . [4] فى الأصل: «بتسويغ ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.

ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوع

ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع قال: والفرق بين المحتسب والمتطوّع من تسعة أوجه: أحدها- أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل فى فرض الكفاية. والثانى- أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذى لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره؛ وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذى يجوز أن يتشاغل عنه بغيره. والثالث- أنه منسوب الى الاستعداء اليه فيما يجب إنكاره؛ وليس المتطوّع منسوبا الى الاستعداء. والرابع- أنّ على المحتسب إجابة من استعداه؛ وليس على المتطوّع إجابته. والخامس- أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل الى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته؛ وليس على المتطوّع بحث ولا فحص. والسادس- أنّ له أنّ يتّخذ على الإنكار أعوانا، لأنه عمل هو له منصوب، واليه مندوب، ليكون له أقهر، وعليه أقدر؛ وليس للمتطوّع أن يندب لذلك عونا. والسابع- أنّ له أن يعزّر فى المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود؛ وليس للمتطوّع أن يعزّر عليها. والثامن- أنّ له أن يرزق على حسبته من بيت المال؛ ولا يجوز للمتطوّع أن يرزق على إنكار منكر.

ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه

والتاسع- أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشّرع، كالمقاعد فى الأسواق وإخراج الأجنحة، فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه اليه اجتهاده؛ وليس هذا للمتطوّع. فهذا هو الفرق بين متولّى الحسبة وبين المتطوّعة، وإن اتّفقا على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه قال: واعلم أنّ الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم. فأمّا ما بينها وبين القضاء، فهى موافقة للقضاء من وجهين، ومقصّرة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين. أما الوجهان فى موافقتها أحكام القضاء- فأحدهما جواز الاستعداء اليه. وسماعه دعوى المستعدى على المستعدى عليه [1] من حقوق الآدميين، وليس فى عموم الدعاوى. وإنما يختصّ بثلاثة أنواع من الدعوى: أحدها: أن يكون فيما تعلّق ببخس وتطفيف فى كيل أو وزن. والثانى: فيما تعلّق بغشّ أو تدليس فى مبيع أو ثمن. والثالث: فيما تعلّق بمطل وتأخير لدين مستحقّ مع المكنة. وإنما جاز نظره فى هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى دون ما عداها، لتعلّقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب الى إقامته. وليس له أن يتجاوز ذلك الى الحكم الناجز والفصل الباتّ. فهذا أحد وجهى الموافقة.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «وسماعه دعوى المستعدى عليه على المستعدى» وهو تحريف.

والوجه الثانى- أنّ له إلزام المدّعى عليه الخروج من الحقّ الذى عليه. وليس هذا على العموم فى كل الحقوق، وإنما هو خاصّ فى الحقوق التى جاز له سماع الدعوى فيها اذا وجبت باعتراف وإقرار مع الإمكان واليسار، فيلزم المقرّ الموسر الخروج منها ودفعها الى مستحقّها، لأنّ فى تأخيره لها منكرا هو منصوب لإزالته. وأما الوجهان فى قصورها عن أحكامه: فأحدهما- قصورها عن سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى فى العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى ولا أن يتعرّض للحكم فيها لا فى كثير الحقوق ولا قليلها من درهم فما دونه، إلا أن يردّ ذلك اليه بنصّ صريح [يزيد على إطلاق الحسبة [1]] فيجوز له. ويصير بهذه الزيادة جامعا بين القضاء والحسبة، فيراعى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد. وإن اقتصر به على مطلق الحسبة، فالقضاة والحكّام أحقّ بالنظر فى قليل ذلك وكثيره. والوجه الثانى- أنها مقصورة على الحقوق المعترف بها. فأمّا ما تداخله جحد وإنكار، فلا يجوز له النظر فيها، لأن الحكم فيها يقف على سماع بيّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيّنة على إثبات حقّ، ولا أن يحلف يمينا على نفيه؛ والقضاة والحكّام لسماع البينات وإحلاف الخصوم أحقّ. وأما الوجهان فى زيادتها على أحكام القضاء- فأحدهما: أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرّض لتصفّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم مستعد؛ وليس للقاضى أن يتعرّض لذلك إلا بعد حضور خصم

_ [1] التكملة من الأحكام السلطانية.

وأما ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة

يجوز له سماع الدعوى منه. فإن تعرّض القاضى لذلك فقد خرج عن منصب ولايته وصار متجوّزا فى قاعدة نظره. والثانى- أنّ للناظر فى الحسبة من سلاطة السّلطنة واستطالة الحماة فيما تعلّق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأنّ الحسبة موضوعة على الرّهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسّلاطة والغلظة تجوّزا فيها ولا خرقا. والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخصّ، وخروجه عنهما الى السّلاطة تجوّز وخرق، لأنّ موضوع كلّ واحد من المنصبين مختلف، فالتجاوز فيه خروج عن حدّه. وأمّا ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة وأمّا ما بين الحسبة والمظالم- فبينهما شبه مؤتلف، وفرق مختلف. فأما الشّبه الجامع بينهما فمن وجهين: أحدهما- أنّ موضوعهما على الرّهبة المختصّة بسلاطة السّلطنة وقوّة الصّرامة. والثانى- جواز التعرّض فيهما لأسباب المصالح والتّطلّع الى إنكار العدوان الظّاهر. وأمّا الفرق بينهما فمن وجهين: أحدهما- أنّ النّظر فى المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر فى الحسبة موضوع لما رفّه عنه القضاة؛ ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالى المظالم أن يوقّع الى القضاة والمحتسبة، ولم يجز للقاضى أن يوقّع الى والى المظالم وجاز له أن يوقّع الى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقّع الى واحد منهما. فهذا فرق. والثانى- أنه يجوز لوالى المظالم أن يحكم، ولا يجوز ذلك للمحتسب. وحيث قدّمنا هذه المقدّمة فى أوضاع الحسبة، فلنذكر ما تشتمل عليه ولايتها.

ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام

ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام ونظر الحسبة يشتمل على فصلين: أحدهما أمر بمعروف، والثانى نهى عن منكر. فأمّا الأمر بالمعروف فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بحقوق الله عز وجل. والثانى ما تعلّق بحقوق الآدمييّن. والثالث ما كان مشتركا بينهما، على ما سنوضح ذلك. فأما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان: أحدهما- ما يلزم الأمر به فى الجماعة دون الانفراد، كترك الجمعة فى وطن مسكون؛ فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد، فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها ويؤدّب على الإخلال بها. وإن كانوا عددا قد اختلف فى انعقاد الجمعة بهم، فله ولهم أربعة أحوال: إحداها- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد، فواجب عليه أن يأمرهم بإقامتها، وعليهم أن يسارعوا الى أمره بها، ويكون فى تأديبهم على تركها ألين منه فى تأديبهم على ترك ما انعقد الإجماع عليه. والحال الثانية- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على أنّ الجمعة لا تنعقد بهم، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها ولا بالنهى عنها لو أقيمت. والحال الثالثة- أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها: فلا يأمر بإقامتها لأنه لا يراه، ولا ينهى عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم.

والحال الرابعة- أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم ولا يراه القوم، فهذا مما فى استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى، أم لا؟ فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على وجهين: أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بالمصلحة، لئلّا ينشأ الصغير على تركها فيظنّ أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه؛ فقد راعى زياد بن أبيه مثل هذا فى صلاة الناس فى جامعى البصرة والكوفة، فإنهم كانوا اذا صلّوا فى صحبه فرفعوا من السّجود مسحوا جباههم من التّراب، فأمر بإلقاء الحصى فى صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظنّ الصغير اذا نشأ أنّ مسح الجبهة من أثر السجود سنّة فى الصلاة. والوجه الثانى- أنه لا يتعرّض لأمرهم بها، لأنه ليس له حمل الناس على اعتقاده [1] ، ولا أن يأخذهم فى الدين برأيه، مع تسويغ الاجتهاد فيه، وأنّهم يعتقدون أنّ نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة. فأمّا أمرهم بصلاة العيد فله أن يأمرهم بها. وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللازمة أو من الحقوق الجائزة؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعى فيها: هل هى مسنونة أو من فروض الكفاية. فإن قيل: إنها مسنونة، كان الأمر بها ندبا؛ وإن قيل: إنها من فروض الكفاية، كان الأمر بها حتما. فأمّا صلاة الجماعة فى المساجد وإقامة الأذان فيها للصلوات، فمن شعائر الإسلام وعلامات متعبّداته التى فرّق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشّرك. فإذا أجمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات فى مساجدهم وترك الأذان

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «على انعقاده» وهو تحريف.

فى أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبا الى أمرهم بالأذان والجماعة فى الصلوات. وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه، أو مستحبّ له يثاب على فعله. فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان والإقامة لصلاة، فلا اعتراض للمحتسب عليه اذا لم يجعله عادة وإلفا، لأنها من النّدب الذى يسقط بالأعذار، إلا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفا وعادة، ويخاف تعدّى ذلك الى غيره فى الاقتداء به، فيراعى حكم المصلحة فى زجره عمّا استهان به من سنن عبادته. ويكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذى روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابى أن يجمعوا حطبا وآمر بالصلاة فيؤذّن لها وتقام ثم أخالف الى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقّها عليهم» . وأما ما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم، فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكّر بها ويؤمر بفعلها [1] . ويراعى جواب المأمور عنها، فإن قال: تركتها لنسيان، حثّه على فعلها بعد ذكره ولم يؤدّبه. وإن تركها لتوان أدّبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا. ولا اعتراض على من أخّرها والوقت باق، لاختلاف الفقهاء فى فضل التأخير. ولكن لو اتّفق أهل بلد على تأخير صلاة الجماعات الى آخر وقتها والمحتسب يرى فضل تعجيلها، فهل له أن يأمرهم بالتعجيل أولا. فمن رأى أنه يأمرهم بذلك، راعى أنّ اعتياد تأخيرها وإطباق جميع الناس عليه مفض الى أن الصغير ينشأ وهو يعتقد أن هذا هو الوقت دون ما قبله؛ ولو عجّلها بعضهم ترك من أخّرها منهم وما يراه من التأخير.

_ [1] مرجع الضمير «الفرد» .

فأمّا الأذان والقنوت فى الصّلوات اذا خالف فيه رأى المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهى وإن كان يرى خلافه، اذا كان ما يفعل مسوّغا فى الاجتهاد. وكذلك الطهارة اذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه [1] رأى المحتسب: من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بماء تغيّر بالمذرورات الطاهرات، أو الاقتصار على مسح أقلّ الرأس، والعفو عن قدر الدرهم من النّجاسة، فلا اعتراض له فى شىء من ذلك بأمر ولا نهى. وفى اعتراضه عليهم فى الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء الى استباحته على كل الأحوال، وأنه ربما آل الى السكر من شربه. ثم على نظائر هذا المثال تكون أوامره بالعرف فى حقوق الله تعالى. وأما الأمر بالمعروف فى حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص. فأمّا العام- فكالبلد اذا تعطّل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوى الحاجات فكفّوا عن معونتهم، فإن كان فى بيت المال مال، لم يتوجّه عليهم فيه أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم ولا بمعونة بنى السبيل فى الاجتياز بهم؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال دونهم؛ وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم. فأما اذا أعوز بيت المال، كان الأمر ببناء سورهم، وإصلاح شربهم، وعمارة مساجدهم وجوامعهم، ومراعاة بنى السبيل فيهم متوجّها الى كافّة ذوى المكنة منهم ولا يتعيّن أحدهم فى الأمر به. فإن شرع ذوو المكنة فى عمله ومراعاة بنى السبيل، وباشروا القيام به، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به. ولا يلزمهم الاستئذان فى مراعاة بنى السبيل، ولا فى بناء ما كان مهدوما. ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من

_ [1] فى الأصل: «على وجه سائغ مخالف فيها» وقد أثبتنا ما فى الأحكام السلطانية لوضوح استقامته.

المسترمّ والمستهدم [1] ، لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلا باستئذان ولىّ الأمر دون المحتسب، ليأذن لهم فى هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته. هذا فى السّور والجوامع. وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها. وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه، وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه. فأمّا اذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم، فإن كان المقام فى البلد ممكنا وكان الشّرب وإن فسد مقنعا، تاركهم وإيّاه. وإن تعذّر المقام فيه، لتعطّل شربه واندحاض سوره، نظر: فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله، لم يجز لولىّ الأمر أن يفسح فى الانتقال عنه، [وكان حكمه حكم النوازل اذا حدثت: فى قيام كافّة ذوى المكنة به [2]] ، وكان تأثير المحتسب فى مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة فى عمله. وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام، كان أمره أيسر وحكمه أخفّ. ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته، لأن السلطان أحقّ أن يقوم بعمارته. وإن أعوزه المال، فيقول لهم المحتسب: ما دام عجز السلطان عنه أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما ينصرف فى مصالحه التى يمكن معها دوام استيطانه. فإن أجابوا الى التزام ذلك، كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار، ويقول: ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه، ومن أعوزه المال أعان بالعمل. حتى اذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعين [3] اجتماعها بضمان كل واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا، شرع حينئذ فى عمل المصلحة وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به. وإن عمّت هذه المصلحة،

_ [1] المسترم: ما دعا الى رمّه وإصلاحه من البناء. والمستهدم: ما يريد أن يتهدم وينقض. [2] وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «وان كان حكمه حكم النوازل اذا حدثت فى قيامه وكافة ذوى المكنة به» وقد اثبتنا ما ورد فى الأحكام السلطانية لاستقامته. [3] فى الأحكام السلطانية: «أو يلوح ... » .

لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتى يستأذن السلطان فيها، لئلا يصير بالتفرّد مفتاتا [عليه [1]] ، اذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته. فإن قلّت وشقّ استئذان السلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه، جاز شروعه فيها من غير استئذان. هذا أمر العامّ. فأمّا الخاص- فكالحقوق اذا مطلت والديون اذا أخّرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة اذا استعداه أصحاب الحقوق. وليس له أن يحبس عليها، لأن الحبس حكم. وله أن يلازم عليها، لأنّ لصاحب الحقّ أن يلازم. وليس له الأخذ بنفقات الأقارب، لافتقار ذلك الى اجتهاد شرعىّ فيمن يجب له وعليه، الا أن يكون الحاكم قد فرضها فيجوز أن يأخذ بأدائها؛ وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصغار لا اعتراض له فيها حتى يحكم بها الحاكم؛ ويجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام بها على الشروط المستحقّة فيها. فأمّا قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر بها أعيان الناس وآحادهم، ويجوز أن يأمر بها على العموم، حثّا على التعاون بالبرّ والتقوى. ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف فى حقوق الآدميين. وأما الأمر بالمعروف- فيما كان مشتركا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهن اذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد اذا فورقن. وله تأديب من خالف فى العدّة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء. ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه ولحوق نسبه، أخذه بأحكام الآباء جبرا

_ [1] زيادة عن الأحكام السلطانية.

وعزّره على النفى أدبا. ويأخذ السّادة بحقوق العبيد والإماء، وألّا يكلّفوا من الأعمال ما لا يطيقون. وكذلك أرباب البهائم يأخذهم بعلوفتها اذا قصّروا فيها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. ومن أخذ لقيطا فقصّر فى كفالته، أمره أن يقوم بحقوق التقاطه: من التزام كفالته أو تسليمه الى من يلتزمها ويقوم بها. وكذلك واجد الضّوالّ اذا قصّر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها الى من يقوم بها، ويكون ضامنا للضالّة بالتقصير ولا يكون به ضامنا للّقيط. واذا سلّم الضالّة الى غيره ضمنها، ولا يضمن اللقيط بالتسليم. ثم على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف فى الحقوق المشتركة. وأما النهى عن المنكرات- فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان من حقوق الله تعالى. والثانى ما كان من حقوق الآدميين. والثالث ما كان مشتركا بين الحقّين. فأما النهى عنها فى حقوق الله تعالى- فعلى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بالعبادات. والثانى ما تعلّق بالمحظورات. والثالث ما تعلّق بالمعاملات. فأما المتعلق بالعبادات- فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة، والمتعمّد تغيير أوصافها المسنونة، مثل من يقصد الجهر فى صلاة الإسرار والإسرار فى صلاة الجهر، أو يزيد فى الصلاة أو فى الأذان أذكارا غير مسنونة، فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها اذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع. وكذلك اذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته، أنكره عليه اذا تحقّق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتّهم والظنون. وكذلك لو ظنّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابة أو يترك الصلاة والصيام، لم يؤاخذه بالتّهم ولم يقابله بالإنكار. لكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذّر من عذاب الله تعالى على

إسقاط حقوقه والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل فى شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله اذا التبست أحواله؛ فربما كان مريضا أو مسافرا. ويلزمه السؤال اذا ظهرت منه أمارات الرّيب. فإن ذكر من الأعذار ما تحتمله حاله، كفّ عن زجره وأمره بإخفاء أكله، لئلا يعرّض نفسه للتّهمة. ولا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله، لأنه موكول الى أمانته. وإن لم يذكر عذرا، جاهر بالإنكار عليه وأدّبه أدب زجر. واذا علم عذره فى الأكل، أنكر عليه المجاهرة به، لتعريض نفسه للتّهمة ولئلا يقتدى به من ذوى الجهالة من لا يميّز حال عذره من غيره. وأمّا الممتنع من إخراج زكاته، فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصّدقة بأخذها [1] منه جبرا أخصّ من المحتسب. وإن كان من الأموال الباطنة، فيحتمل أن يكون المحتسب أخصّ بالإنكار عليه من عامل الصدقة، لأنه لا اعتراض للعامل [2] فى الأموال الباطنة؛ ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخصّ، لأنه لو دفعها اليه أجزأه. ويكون تأديبه معتبرا بشواهد حاله فى الامتناع من إخراج زكاته. وإن ذكر أنه يخرجها، سرّا وكل الى أمانته فيها. وإن رأى رجلا يتعرّض لمسألة الناس وطلب الصّدقة وعلم أنه غنىّ إما بمال أو عمل، أنكره عليه وأدّبه. ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس، أعلمه تحريمها على المستغنى عنها، ولم ينكر عليه، لجواز أن يكون فى الباطن فقيرا. واذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوّة على العمل، زجره وأمره أن يتعرّض للاحتراف بعمله؛ فإن أقام على المسألة عزّره حتى يقلع عنها. واذا دعت

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «يأخذ منه» وهو تحريف. [2] فى الأصل: «فانه لا اعتراض على العامل ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.

الحال، عند إلحاح من حرّمت عليه [المسألة [1]] بمال أو عمل، أن ينفق على ذى المال جزءا من ماله، ويؤاجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته، لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم، والحكّام به أحقّ، فيرفع أمره الى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن فيه. واذا وجد فيمن يتصدّى للعلوم الشرعيّة من ليس من أهلها من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به فى سوء تأويل أو تحريف، أنكر عليه التّصدّى لما ليس [هو [2]] من أهله، وأظهر أمره لئلا يغترّ به. وإن أشكل عليه أمره، لم يقدم عليه بالإنكار إلا بعد الاختبار. وكذلك لو ابتدع بعض المنتسبين الى العلم قولا خرق به الإجماع وخالف النصّ وردّ قوله [3] علماء عصره، أنكره عليه وزجره فإن أقلع وتاب، وإلّا فالسلطان بتهذيب الدّين أحقّ. وإذا تفرّد [4] بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل الى باطن بدعة بتكلّف له أغمض معانيه، أو انفرد بعض الرّواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل، كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه. وهذا إنما يصحّ منه إنكاره اذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد والحقّ من الباطل. وذلك بأحد وجهين: إما أن يكون بقوّته فى العلم واجتهاده فيه، فلا يخفى ذلك عليه؛ وإمّا باتّفاق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه، فيستعدونه فيه، فيعوّل فى الإنكار على أقاويلهم، وفى المنع منه على اتّفاقهم. وأمّا ما تعلّق بالمحظورات- فهو أن يمنع الناس من مواقف الرّيب ومظانّ لتّهم. فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دع ما يريبك الى

_ [1] زيادة عن الأحكام السلطانية. [2] زيادة عن الأحكام السلطانية. [3] فى الأصل: «وردّ قول علماء عصره أنكر ... » وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأحكام السلطانية. «واذا تعرّض ... » .

ما لا يريبك» . فيقدّم الإنكار، ولا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار. وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة فى طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الرّيب، لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. وإن كانت الوقفة فى طريق خال، فخلوّ المكان ريبة، فينكرها؛ ولا يعجّل فى التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم. وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الرّيب، وإن كانت أجنبيّة فخف الله تعالى من خلوة تؤدّيك الى معصية الله. وليكن زجره بحسب الأمارات. وليستخبر. فقد حكى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بينا هو يطوف بالبيت اذ رأى رجلا يطوف وعلى عنقه امرأة مثل المهاة حسناء جميلة، وهو يقول: عدت لهذى جملا ذلولا ... موطّا أتّبع السّهولا أعدلها بالكفّ أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا أرجو بذاك نائلا جزيلا فقال له عمر: يا عبد الله، من هذه التى وهبت لها حجّك؟ فقال: امرأتى يا أمير المؤمنين! وإنها حمقاء مرغامه، أكول قامّه، لا يبقى لها خامّه [1] ؛ فقال له: مالك لا تطلّقها؟ فقال: إنها حسناء لا تفرك، وأمّ صبيان فلا تترك، قال: فشأنك بها. فلم يقدم عمر رضى الله عنه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الرّيبة أقرّه على فعله. واذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان من المسلمين، أراقها وأدّبه؛ وإن كان ذمّيّا أدّب على إظهارها، واختلف فى إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة الى

_ [1] المرغامة: المغضبة لبعلها. وقامّة: من قمّ ما على الخوان اذا لم يدع عليه شيئا. وخامّة: من خمّ اللحم وغيره اذا تغير وفسد.

أنها [لا [1]] تراق عليه، لأنها عنده من أموالهم المضمونة فى حقوقهم. وذهب الشافعىّ الى إراقتها عليهم، لأنها لا تضمن عنده فى حقّ المسلم ولا الكافر. وأمّا المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبى حنيفة أنه من الأموال التى يقرّ المسلمون عليها، فمنع من إراقته [2] ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعىّ أنه ليس بمال كالخمر وليس فى إراقته غرم. فيعتبر ناظر الحسبة شواهد الحال فيه فينهى فيه [3] عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه، إلا أن يأمر بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد، لئلا يتوجّه عليه غرم إن حوكم فيه. وأمّا السكران اذا تظاهر بسكره وسخف بهجره، ادّبه على السكر والهجر، تعزيرا لا حدّا، لقلة مراقبته وظهور سخفه. وأما المجاهرة بإظهار الملاهى المحرّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتخرج [4] عن حكم الملاهى، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهى. وأمّا الّلعب فليس يقصد بها المعاصى، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير [تقارنه معصية، بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه [1]] ؛ وبحسب ما تقتضيه

_ [1] التكملة عن الأحكام السلطانية. [2] فى الأصل «اراقتها» . [3] فى الأصل: «فينهى منه» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية. [4] فى الأصل: «تخرج ... » من غير لام، وقد أثبتناها استنادا على الأحكام السلطانية الذى فيه: «لتزول» بدل «تخرج» .

شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. وقد كانت عائشة رضى الله عنها فى صغرها تلعب بالبنات بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها. وأمّا ما لم يظهر من المحظورات [1] ، فليس للمحتسب أن يبحث عنها ولا أن يهتك الأستار فيها؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم حدّ الله عليه» . فإن استتر أقوام لارتكاب محظور يخشى فواته مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها، فيجوز له فى مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. وأمّا ما هو دون هذه الرتبة، فلا يجوز التجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه. وإن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليها بالدخول. وأمّا ما تعلّق بالمعاملات المنكرة، كالرّبا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه مع تراضى المتعاقدين به اذا كان متّفقا على حظره، فعلى والى الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه. وامره بالتأديب مختلف بحسب الأحوال وشدّة الحظر. فأما ما اختلف الفقهاء فى حظره وإباحته، فلا مدخل له فى إنكاره، إلا أن يكون مما يضعف الخلاف فيه وكان ذريعة [الى محظور متّفق عليه- كربا النّقدين: الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة الى ربا النّساء المتّفق على تحريمه- فهل يدخل فى إنكاره، أم لا. وكذلك فى عقود الأنكحة ينكر منها ما اتّفق الفقهاء على حظرها،

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «وأما ما لم يظهر بالمحظورات» .

ولا يتعرّض لما اختلف فيه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة الى محظور متفق عليه، كالمتعة فربما صارت ذريعة الى استباحة الزنا، ففى إنكاره لها وجهان. ومما يتعلّق بالمعاملات غشّ المبيعات وتدليس الأثمان، فينكره ويمنع منه ويؤدّب عليه بحسب الحال فيه؛ فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منّا من غشّ» وفى لفظ: «من غشّنا فليس منّا» . فإن كان هذا الغشّ تدليسا على المشترى وهو مما يخفى عليه، فهو أغلظ الغشوش تحريما وأعظمها مأثما، والإنكار عليه أغلظ والتأديب أشدّ. وإن كان مما لا يخفى على المشترى، كان أخفّ مأثما وألين إنكارا. وينظر فى المشترى: فإن كان اشتراه ليبيعه من [1] غيره، توجه الإنكار على البائع لغشّه، وعلى المشترى لابتياعه؛ لأنه قد يبيعه من لم [2] يعلم بغشه؛ وإن كان المشترى اشتراه ليستعمله، خرج من جملة الإنكار، واختص الإنكار بالبائع وحده. وكذلك فى تدليس الأثمان. ويمنع من تصرية [3] المواشى وتحفيل ضروعها عند البيع، للنّهى عنه وأنه نوع من التدليس. ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس فى المكاييل والموازين والصّنجات [4] ، لوعيد الله تعالى عليه بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ

_ [1] فى الأصل وفى نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش التى بأيدينا: «ليبيعه على غيره» . وقد أثبتناه ما فى النسخة التى بأيدينا لأنه هو الذى يقتضيه المقام. [2] فى الأصل: «قد يبيعه على من ... » . [3] مصدر صرّى الناقة أو الشاة اذا حبس اللبن فى ضرعها ليكثر. [4] الصنجة والسنجة والسين أفصح: ما يوزن به كالأوقية والرطل، وجمعها صنجات كما أثبتنا استنادا الى ما فى الأحكام السلطانية وهو الوارد فى كتب اللغة، وفى الأصل: «الصنوج» .

يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . وليكن الأدب عليه أظهر، والمعاقبة فيه أكثر. ويجوز له اذا استراب بموازين السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها [1] . ولو كان على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلا به، كان أحوط وأسلم. فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع عليه طابعه، توجّه الإنكار عليهم إن كان مبخوسا، من وجهين: أحدهما مخالفته فى العدول عن مطبوعه؛ وإنكاره لذلك من الحقوق السلطانية. والثانى للبخس والتطفيف؛ وإنكاره من الحقوق الشرعية. وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص، فإنكاره لمجرّد حق السلطنة للمخالفة. وإن زوّر قوم على طابعه، كالبهرج على طابع الدنانير والدراهم، فإن قرن التزوير بغشّ، كان التأديب مستحقّا من الوجهين، وهو أغلظ وأشدّ؛ وإن سلم من الغش كان الإنكار لحق السلطنة خاصّة. واذا اتّسع البلد حتى احتاج أهله الى عدّة من الكيّالين والوزّانين والنّقّاد، تخيّرهم ناظر الحسبة، ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثّقات. وكانت أجورهم من بيت المال إن اتّسع لها، فإن ضاق عنها قدّرها لهم، حتى لا تجرى [بينهم فيها [2]] استزادة أو نقصان، فيكون ذلك ذريعة الى الممايلة أو التّحيّف فى مكيل أو موزون. فإن ظهر من أحد ممن اختاره للكيل والوزن تحيّف فى تطفيف أو ممايلة فى زيادة، أدبّ وأخرج منهم ومنع من أن يتعرّض للوساطة بين الناس. وكذلك القول فى اختيار الدلّالين، يقرّ منهم الأمناء ويمنع الخونة. واذا وقع فى تطفيف تخاصم، جاز أن ينظر المحتسب فيه إن لم يقترن به تجاحد وتناكر، فإن أفضى الى تجاحد وتناكر، كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة،

_ [1] فى الأصل: «ويعتبرها» ، والتصويب عن الأحكام السلطانية. [2] زيادة عن الأحكام السلطانية.

لأنهم أحق بالأحكام، وكان التأديب فيه الى المحتسب. فإن ولّاه الحاكم جاز، لاتّصاله بحكمه. ومما ينكره المحتسب فى العموم ولا ينكره فى الخصوص والآحاد، التّبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التى لا تعرف فيه وإن كانت معروفة فى غيره. فإن تراضى بذلك اثنان، لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع، ويمنع من عموم التعامل بها، لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورا. هذا ما يتعلّق بالنهى فى حقوق الله تعالى. وأما النهى فى حقوق الآدميين المحضة- مثل أن يتعدّى رجل فى حد لجاره، أو حريم لداره، أو وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار، لأنه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به؛ فإن خاصمه فيه الى المحتسب، نظر فيه، ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر، وأخذ المتعدّى بإزالة تعدّيه؛ وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحقّ. ولو أقرّ الجار جاره على تعدّيه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدّى فيه ثم عاد وطالب بذلك، كان ذلك له، وأخذ المتعدّى بعد العفو عنه بهدم ما بناه. وإن كان قد ابتدأ البناء ووضع الأجذاع بإذن الجار ثم رجع الجار فى إذنه، لم يؤخذ البانى بهدمه. وإن انتشرت أغصان شجرة الى دار جاره، كان للجار أن يستعدى المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة، ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها فى داره؛ ولا تأديب عليه لأن انتشارها ليس من فعله. ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الارض حتى دخلت فى قرار أرض الجار، لم يؤخذ بقلعها ولم يمنع الجار من التصرّف

فى قرار أرضه وإن قطعها. واذا نصب المالك تنّورا فى داره فتأذّى الجار بدخانه، لم يعترض عليه ولم يمنع منه. وكذلك لو نصب فى داره رحى أو وضع فيها حدّادين أو قصّارين، لم يمنع منه. واذا تعدّى مستأجر على أجير فى نقصان أجره أو زيادة عمل، كفّه عن تعدّيه؛ وكان الإنكار عليه معتبرا بشواهد حاله. ولو قصّر الأجير فى حق المستأجر فنقصه من العمل أو استزاده فى الأجرة، منعه منه وأنكره عليه اذا تخاصما اليه؛ فإن اختلفا وتناكرا، كان الحاكم بالنظر بينهما أحقّ. ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع فى الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعى عمله فى الوفور والتقصير، ومنهم من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعى عمله فى الجودة والرّداءة. فأمّا من يراعى عمله فى الوفور والتقصير فكالطبّ والتعليم، لأن الطب إقدام على النفوس يفضى التقصير فيه الى تلف أو سقم. وللمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا [1] ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصّر وأساء من التّصدّى لما تفسد به النفوس وتخبث به الآداب. وأما من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، فمثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصبّاغين، لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعى أهل الثقة والأمانة منهم فيقرّهم ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره، لئلا يغترّ به من لا يعرفه. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر فى أحوال هؤلاء من ولاة الحسبة؛ وهو الأشبه، لأن الخيانة تابعة للسّرقة.

_ [1] عبارة الأصل: «والمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها فيكون نقلهم عنه ... » وفيها تحريف واضح. والتصويب عن الأحكام السلطانية.

وأمّا من يراعى عمله فى الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة. ولهم أن ينكروا عليهم فى العموم فساد العمل ورداءته وان لم يكن فيه مستعد؛ وأما فى عمل مخصوص اعتمد الصانع فيه الفساد والتدليس، فاذا استعداه الخصم، قابل عليه بالإنكار والزجر، وإن تعلّق بذلك غرم روعى حال الغرم، فإن افتقر الى تقدير أو تقويم، لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه، لافتقاره الى اجتهاد حكمىّ؛ وكان القاضى بالنظر فيه أحقّ. وإن لم يفتقر الى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الذى لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب. ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها فى رخص ولا غلاء؛ وأجازه مالك- رحمه الله- فى الأقوات مع الغلاء. وأما النهى فى الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس. ولا يلزم من علىّ بناءه أن يستر سطحه، وإنما يلزمه ألّا يشرف على غيره. ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين. فإن ملكوا أبنية عالية أقرّوا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين وأهل الذمة. ويأخذ أهل الذمة بما شرط فى ذمتهم [1] من لبس الغيار والمخالفة فى الهيئة وترك المجاهرة بقولهم فى عزير والمسيح. ويمنع عنهم من تعرّض لهم من المسلمين بسبّ أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه.

_ [1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «من ذمتهم» .

وإذا كان فى أئمة المساجد السّابلة والجوامع الحافلة [1] من يطيل الصلاة حتى يعجز الضعفاء وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أطال الصلاة بقومه: «أفتّان أنت يا معاذ» . فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها، لم يجز أن يؤدّبه عليها، ولكن يستبدل به من يخفّفها. وإذا كان فى القضاة من يحجب الخصوم اذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم اذا تحاكموا اليه، حتى تقف الاحكام ويتضرّر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه، مع ارتفاع الأعذار، بما ندب له من النظر بين المتحاكمين وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصّر فيه. واذا كان فى سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه، كان منعهم والانكار عليهم موقوفا على استعداء العبيد، فاذا استعدوه منع حينئذ وزجر. وان كان فى أرباب المواشى من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه، أنكره المحتسب عليهم ومنعهم منه وإن لم يكن فيه مستعد اليه. فإن ادّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه، جاز للمحتسب أن ينظر فيه، لأنه وإن افتقر الى اجتهاد فهو عرف يرجع فيه الى عرف الناس، وليس باجتهاد شرعىّ. وللمحتسب الاجتهاد فى العرف. واذا استعداه العبد من امتناع سيّده من كسوته ونفقته، جاز له أن يأمره بهما [2] ويأخذه بالتزامهما. ولو استعداه من تقصير سيّده فيهما، لم يكن له فى ذلك نظر ولا إلزام؛ [لأنه يحتاج فى التقدير الى اجتهاد شرعىّ، ولا يحتاج فى الزام [3]] الأصل الى اجتهاد شرعىّ، لأن التقدير غير منصوص عليه [ولزومه منصوص عليه [4]] .

_ [1] فى الأصل «والجوامع الحفلة» . [2] فى الأصل «بها» بضمير المفرد. [3] التكملة من الأحكام السلطانية. [4] التكملة من الأحكام السلطانية.

وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها. وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح. واذا حمل فيها الرجال والنساء، حجز بينهم بحائل. واذا اتّسعت السفن، نصب للنساء مخارج للبراز لئلا يتبرّجن عند الحاجة. واذا كان فى أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النساء، راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحقّقها منه، أقرّه على معاملتهن. وإن ظهرت منه الرّيبة وبان عليه الفجور، منعه من معاملتهن، وأدّبه على التعرّض لهن. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة، لأنه من توابع الزنا. وينظر والى الحسبة فى مقاعد الأسواق، فيقرّ منها ما لا ضرر على المارّة فيه، ويمنع ما استضرّوا به. ولا يقف منعه على الاستعداء اليه. واذا بنى قوم فى طريق سابل، منع منه وإن اتّسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبنىّ مسجدا؛ لأن مرافق الطّرق للسلوك لا للأبنية. واذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية فى مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقا لينقلوه حالا بعد حال، مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة، ومنعوا منه إن استضرّوا به. وكذلك القول فى إخراج الأجنحة والسوابيط [1] ومجارى المياه وآبار الحشوش [2] ، يقرّ ما لم يضرّ، ويمنع ما ضرّ. ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضرّ وما لم يضر، لأنه من الاجتهاد العرفىّ [دون الشرعىّ. والفرق بين الاجتهادين أنّ الاجتهاد الشرعىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالعرف. ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع من الاجتهاد [3] فيه] .

_ [1] السوابيط: جمع ساباط، والساباط: سقيفة بين دارين. [2] الحشوش: جمع حش مثلث الحاء، والحش: البستان. يطلق على بيت الخلاء كما هنا لما كان من عادتهم من التغوّط فى البساتين. [3] زيادة عن الأحكام السلطانية.

ولناظر الحسبة أن يمنع من ينقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا فى ملك أو مباح، إلا من أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنهم فيها بنقلهم منها. واختلف فى جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوّزه الزّبيرىّ وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين وغيرهم. ويؤدّب عليه؛ وإن استحقّ فيه قود أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع. ويمنع من خضاب الشّيب بالسواد إلا لمجاهد فى سبيل الله تعالى. ويؤدّب من يصبغ [1] به [للنساء] . ولا يمنع من الخضاب بالحنّاء والكتم [2] . ويمنع من التكسّب بالكهانة، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطى. وهذا فصل يطول شرحه، لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى. وفيما تقدّم منها كفاية؛ والأحوال تؤخذ بنظائرها وأشباهها، فلا نطوّل بسردها. وفقنا الله وإياك لصالح العمل، وجنّبنا موارد الخطأ ومصادر الزلل؛ وأعان كلّ وال على ما ولّاه، وكلّ راع على ما استرعاه، بمنّه وكرمه ولطفه.

_ [1] فى الأصل: «تصنع به» وهو تحريف، والتصويب والزيادة عن الأحكام السلطانية. [2] الكتم بالتحريك: من نبات الجبال، ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا وله ثمر كثمر الفلفل. كمل الجزء السادس من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه- إن شاء الله تعالى- فى الجزء السابع الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى الكتابة وما تفرّع منها

[مقدمة الجزء السابع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد تم بمعونة الله وحسن توفيقه تصحيح السفر السابع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب. وقد بذلنا وسعنا، وغاية جهدنا، في سبيل إظهاره للقرّاء سليما من التحريف والتصحيف، اللذين ملئت بهما أصوله التي بين أيدينا، وهى نسخة واحدة، مأخوذة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ- فلم ندع فيه- بحسب الطاقة- لفظا محرّفا إلا أصلحناه، ولا كلاما ناقصا غير متصل الأجزاء إلا رجعنا اليه فى مظانه وأكملناه ولا علما من الأعلام إلا عنينا بتحقيقه وضبطه، ولا لفظا غريبا إلا فسرناه، ولا عبارة غامضة المعنى إلا أوضحنا الغرض منها، ولا بيتا يستغلق فهمه على القارئ إلا شرحناه ونسبناه إلى قائله، ولا اسم مكان أو بلد إلا نقلنا باختصار ما كتبه العلماء عنه، ولا لفظا يلتبس على القارئ إلا ضبطناه بما يزيل التباسه. ومما هو جدير بالذكر والشكر هذه العناية الكبيرة التى كان يبذلها عن طيب نفس ذلك المدير الحازم، والمربى الفاضل، حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد أسعد بك برادة مدير دار الكتب المصرية، فقد كان حفظه الله يختلف إلينا

فى أكثر الأيام، ويبذل لنا من نصائحه الغالية وارشاداته القويمة ما يبعث فى نفوسنا الجدّ في العمل، والسعى فى إتقانه، ولا يفوتنا فى هذه الكلمة أن نشكر أيضا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير السيد محمد على الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية بالدار لما كان يبذله لنا من الإعانة على عملنا بمعلوماته الثمينة عن البحوث ومراجعها، والكتب وأغراضها ومكان الفائدة منها، والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه إنه قريب مجيب. مصححه أحمد الزين.

فهرس الجزء السابع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى يتضمن ما يشتمل عليه من الأبواب والفصول ورسائل الكتاب وخطب البلغاء .... صفحة الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتاب أصل الكتابة 1 وأما شرفها 1 وأما فوائدها 2 ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام 4 ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والايجاز الخ 4 فأما البلاغة 4 وأما الفصاحة 6 ذكر صفة البلاغة 7 ومن أمثالهم فى البلاغة 9 فصول من البلاغة 10 جمل من بلاغات العجم وحكمها 11 صفة الكاتب وما ينبغى أن يأخذ به نفسه 12 وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه 13

وأما ما قيل فى حسن الخط وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب 14 ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة 19 ذكر شىء مما قيل فى القلم 20 ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية 27 وأما الأمور الخاصة التى تزيد معرفتها قدره الخ 35 فأما علوم المعانى والبيان والبديع 35 وأما الحقيقة والمجاز 37 وأما التشبيه 38 وأما الاستعارة 49 فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله 52 فصل فى أقسام الاستعارة 56 وأما الكناية 59 وأما التعريض 60 وأما التمثيل 60 وأما الخبر وأحكامه 61 وأما التقديم والتأخير 63 فصل فى مواضع التقديم والتأخير- أما التقديم 69 وأما التأخير 70 وأما الفصل والوصل 70 وأما الحذف والاضمار 75 فصل فى حذف المبتدا والخبر 77 فصل- الإضمار على شريطة التفسير الخ 79 وأما مباحث إن وإنما. أما إنّ 80 وأما إنما 83

فصل- اذا دخل ما وإلا على الجملة المشتملة على المنصوب الخ 84 وأما النظم 87 وأما التجنيس- فمنه المستوفى التام 90 ومنه المختلف 91 ومنه المذيّل 91 ومنه المركّب 92 ومن أنواع المركب المرفق 92 ومنه المزدوج 93 ومن أجناس التجنيس المصحف 93 ومنه المضارع 94 ومنه المشوّش 94 ومنه تجنيس الاشتقاق 95 ومما يشبه المشتق 95 ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف 96 ومنها التجنيس المخالف 97 ومنها تجنيس المعنى 97 وأما الطباق 98 وأما المقابلة 101 وأما السجع 103 وأما الترصيع 104 وأما المتوازى 104 وأما المطرّف 105 وأما المتوازن 105 فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها 107

وأما رد العجز على الصدر 109 وأما الإعنات 113 وأما المذهب الكلاميّ 114 وأما حسن التعليل 115 وأما الالتفات 116 وأما التمام 118 وأما الاستطراد 119 وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم 121 وأما تأكيد الذم بما يشبه المدح 122 وأما تجاهل العارف 123 وأما الهزل الذى يراد به الجدّ 124 وأما الكنايات 124 وأما المبالغة 124 وأما عتاب المرء نفسه 125 وأما حسن التضمين 126 وأما التلميح 127 وأما إرسال المثل 127 وأما ارسال مثلين 128 وأما الكلام الجامع 128 وأما اللف والنشر 129 وأما التفسير 129 وأما التعديد 130 وأما تنسيق الصفات 131 وأما الإيهام 131

وأما حسن الابتداءات 133 وأما براعة التخليص 135 وأما براعة الطلب 135 وأما براعة المقطع 135 وأما السؤال والجواب 136 وأما صحة الأقسام 136 وأما التوشيح 137 وأما الإيغال 138 وأما الإشارة 140 وأما التذييل 140 وأما الترديد 141 وأما التفويف 141 وأما التسهيم 142 وأما الاستخدام 143 وأما العكس والتبديل 144 وأما الرجوع 144 وأما التغاير 145 وأما الطاعة والعصيان 146 وأما التسميط 147 وأما التشطير 147 وأما التطريز 148 وأما التوشيع 148 وأما الاغراق 149 وأما الغلوّ 149

وأما القسم 150 وأما الاستدراك 151 وأما المؤتلفة والمختلفة 151 وأما التفريق المفرد 152 وأما الجمع مع التفريق 153 وأما التقسيم المفرد 153 وأما الجمع مع التقسيم 154 وأما التزاوج 154 وأما السلب والإيجاب 154 وأما الاطراد 155 وأما التجريد 156 وأما التكميل 157 وأما المناسبة 158 وأما التفريع 160 وأما نفى الشىء بإيجابه 163 وأما الإيداع 164 وأما الإدماج 164 وأما سلامة الاختراع 164 وأما حسن الاتباع 165 وأما الذم فى معرض المدح 166 وأما العنوان 166 وأما الإيضاح 169 وأما التشكيك 169 وأما القول بالموجب 170

وأما القلب 171 وأما التندير 172 وأما الإسجال بعد المغالطة 173 وأما الافتنان 173 وأما الإبهام 174 وأما حصر الجزئىّ والحاقة بالكلىّ 174 وأما المقارنة 175 وأما الإبداع 175 وأما الانفصال 177 وأما التصرف 177 وأما الاشتراك 178 وأما التهكم 179 وأما التدبيج 180 وأما الموجّه 181 وأما تشابه الأطراف 181 وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة فالاقتباس الخ 182 وأما الاستشهاد بالآيات 183 وأما الحل 183 ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز 185 واذا كتب فى التهانى بالفتوح 193 وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلق بذلك 201 ذكر شىء من الرسائل المنسوبة الى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم- فمن ذلك الرسالة المنسوبة الى أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه إلى علىّ وما يتصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم 213

ومن كلام عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها 230 ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها 232 ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه 233 ومن كلام الأحنف بن قيس 237 ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية 241 خطبة الحجاج لما قدم البصرة 244 خطبته بعد وقعة دير الجماجم 245 ومن مكاتباته إلى المهلب بن أبى صفرة وأجوبة المهلب له 246 ومن كلام قطرى بن الفجاءة- خطبته فى ذم الدنيا 250 ومن كلام أبى مسلم الخراسانى 253 ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين- خطبة ليوسف بن عمر 255 خطبة لخالد بن عبد الله القسرى 255 خطبة لأبى بكر بن عبد الله لما ولى المدينة 256 ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة 259 ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم- فمن ذلك رسالة ابن زيدون التى كتبها على لسان ولادة الى إنسان استمالها الى نفسه عنه 271 وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور 290 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال 303 ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجد 304 ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخياط 306 ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى 306 ومن كلام أبى الوليد بن طريف 308 ومن كلام ذى الوزارتين أبى المغيرة بن حزم 310 ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور 311

الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء وقد رتبناها على حروف المعجم إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطىّ، أساس البلاغة للزمخشرى، الأمالى لأبى علىّ القالى، أقرب الموارد، أدب الكتاب للصولى، إرشاد السارى لشهاب الدين القسطلانى. البيان والتبيين للجاحظ. تحرير التحبير لابن أبى الإصبع، تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدى، تاريخ ابن جرير الطبرى، تاريخ أبى الفداء، تهذيب التهذيب فى أسماء الرجال للحافظ ابن حجر، تمام المتون فى شرح رسالة ابن زيدون للصفدى. الحماسة لأبى تمام، حسن التوسل إلى صناعة الترسل لشهاب الدين محمود الحلبي. خزانة الأدب لابن حجة الحموى، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للخزرجى. دلائل الإعجاز للجرجانىّ، ديوان أبى تمام، ديوان أبى الطيب المتنبى، ديوان أبى نواس، ديوان لبيد بن ربيعة، ديوان البحترى، ديوان امرئ القيس، ديوان أبى فراس الحمدانى، ديوان حسان بن ثابت رضى الله عنه. الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة لابن بسام. رسائل بديع الزمان الهمذانى. زهر الآداب للحصرى. سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة.

شذور العقود لابن الجوزى، شرح الباعونية، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد، شرح رسائل بديع الزمان الهمذانى، شروح تلخيص المفتاح، شرح ديوان أبى تمام للخطيب التبريزى، شرح شواهد المبانى. الشفاء للقاضى عياض، الشعر والشعراء لابن قتيبة، شرح ديوان امرئ القيس للبطليوسى. صبح الأعشى للقلقشندى، الصحاح للجوهرى، الصناعتين لأبى هلال العسكرى. العقد الفريد لابن عبد ربه، العمدة لابن رشيق القيروانى. فهرست ابن النديم. القاموس المحيط للفيروزبادى. لسان العرب لابن منظور. المفضليات للضبى، المعجب فى تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد بن على التميمى، المثل السائر لابن الأثير الجزرى، مجمع الأمثال للميدانى، المحاسن والأضداد للجاحظ، المشتبه فى أسماء الرجال للحافظ الذهبى، المصباح المنير للفيومى، معاهد التنصيص فى شرح شواهد التلخيص لعبد الرحيم العباسى، معجم الأدباء لياقوت، مختار الصحاح مغنى اللبيب لابن هشام، المقتضب من جمهرة النسب لياقوت، المضاف والمنسوب للثعالبى، محاضرة الأبرار لابن العربى، معلّقات العرب. نقد الشعر لقدامة بن جعفر، النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. وفيات الأعيان لابن خلكان، الوافى بالوفيات للصفدى. يتيمة الدهر للثعالبى.

الجزء السابع

الجزء السابع من نهاية الأرب فى فنون الأدب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] [تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ] الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى الكتابة وما تفرّع من أصناف الكتّاب ولنبدأ باشتقاق الكتابة، ولم سمّيت الكتابة كتابة، ثم نذكر شرفها وفوائدها، ثم نذكر ما عدا ذلك من أخبار المحترفين بها، وما يحتاج كلّ منهم إليه، فنقول وبالله التوفيق والإعانة: أصل الكتابة مشتقّ من الكتب وهو الجمع، ومنه سمّى الكتاب كتابا، لأنه يجمع الحروف، وسمّيت الكتيبة كتيبة، لأنها تجمع الجيش، وقد ورد فى المعارف: أن حروف المعجم أنزلت على آدم عليه السلام فى إحدى وعشرين صحيفة، وسنذكر من ذلك طرفا عند ذكرنا لأخبار آدم عليه السلام فى فنّ التاريخ، فهذا اشتقاقها. وأما شرفها - فقد نص الكتاب العزيز عليه، فقال تعالى- وهو أوّل ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بغار حراء «1» فى شهر رمضان المعظّم-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) «2» وقال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وقال تعالى فى وصف الملائكة: (كِراماً كاتِبِينَ) ، الى غير ذلك من الآى.

وأما فوائدها:

ومن شرف الكتابة نزول الكتب المتقدّمة مسطورة فى الصّحف كما ورد فى الصحف المنزلة على شيث وإدريس ونوح وابراهيم وموسى وداود وغيرهم صلّى الله عليهم كما أخبر به القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وقال تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ، وما ورد فى الأخبار الصحيحة والأحاديث الصريحة أنه مكتوب على العرش وعلى أبواب الجنة ما صورته: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكفى بذلك شرفا. وأمّا فوائدها: فمنها رسم المصحف الكريم الموجود بين الدّفّتين فى أيدى الناس، ولولا ذلك لاختلف فيه ودخل الغلط وتداخل الوهم قلوب الناس. ومنها رقم الأحاديث المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم التى عليها بنيت الأحكام، وتميّز الحلال من الحرام، وضبط كتب العلوم المنقولة عن أعلام الإسلام وتواريخ من انقرض من الأنام فيما سلف من الأيام. ومنها حفظ الحقوق، ومنع تمرّد ذوى العقوق؛ بما يقع عليهم من الشّهادات ويسطّر عليهم من السجلّات التى أمر الله تعالى بضبطها بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) . ومنها المكاتبة بين الناس بحوائجهم من المسافات البعيدة، إذ لا ينضبط مثل ذلك برسول «1» ، ولا تنال الحاجة «2» به بمشافهة قاصد، ولو كان على ما عساه عليه يكون من البلاغة والحفظ لوجود المشقّة، وبعد الشقّة.

ومنها ضبط أحوال الناس،

ومنها ضبط أحوال الناس، كمناشير الجند، وتواقيع العمّال، وإدرارات أرباب الصّلات فى سائر الأعمال، إلى ما يجرى هذا المجرى، فكان وجودها فى سائر الناس فضيلة، وعدمها نقيصة إلا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانها إحدى معجزاته لأنه صلّى الله عليه وسلم أمّىّ [أتى] «1» بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء، وفلّ حدّ المؤرّخين من غير مدارسة كتب ولا ممارسة تعليم، ولا مراجعة لمن عرف بذلك واشتهر به. والكتابة العربية أشرف الكتابات لأن الكتاب العزيز لم يرقم بغيرها خلافا لسائر الكتب المنزّلة. وهذه الكتابة العربية أوّل «2» من اخترعها على الوضع الكوفىّ سكّان مدينة الأنبار «3» ، ثم نقل هذا القلم إلى مكة فعرف بها، وتعلّمه من تعلّمه، وكثر فى الناس وتداولوه، ولم تزل الكتابة به على تلك الصورة الكوفيّة إلى أيام الوزير أبى «4» علىّ بن مقلة، فعرّبها تعريبا غير كاف، ونقلها نقلا غير شاف، فكانت كذلك إلى أن ظهر علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن «5» البوّاب، فكمّل تعريبها، وأحسن تبويبها؛ وأبدع نظامها، وأكمل التئامها؛ وحلّاها بهجة وجمالا، وأولاها بل أولى بها منّة وإفضالا؛ وألبسها من رقم أنامله حللا، وجلاها للعيون فكان أوّل من أحسن فى ترصيعها وترصيفها عملا؛ ولا زال يتنوّع فى محاسنها، و «6» يتنوّع فى ترصيع عقود

[ثم الكتابة بحسب من] يحترفون بها على أقسام:

ميامنها؛ حتى تقرّرت على أجمل قاعدة، وتحرّرت على أكمل فائدة؛ وسنزيد ما قدّمناه من هذه الفصول وضوحا وتبيانا، ونقيم على تفصيل مجملها وبسط مدمجها أدلّة وبرهانا. [ثم الكتابة «1» بحسب من] يحترفون بها على أقسام: وهى كتابة الإنشاء، وكتابة الديوان والتصرّف، وكتابة الحكم والشروط، وكتابة النّسخ، وكتابة التعليم؛ ومنهم من عدّ فى الكتابة كتابة الشرط «2» ، ولم نرد ذكرها تنزيها لكتابنا عنها، ولا حكمة فى إيرادها. ولنبدأ بذكر كتابة الإنشاء وما يتعلّق بها. ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه من البلاغة والإيجاز والجمع فى المعنى الواحد بين الحقيقة والمجاز؛ والتلعب بالألفاظ والمعانى والتوصّل إلى بلوغ الأغراض والأمانى ولنبدأ من ذلك بوصف البلاغة وحدّها والفصاحة: فأما البلاغة - فهى أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما فى نفسه. ولا يسمّى البليغ بليغا إلا إذا جمع المعنى الكثير فى اللفظ القليل، وهو المسمّى إيجازا. وينقسم الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وهو أن يحذف شىء من الكلام وتدلّ عليه القرينة، كقوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) والمراد أهل القرية وكقوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) والمراد ولكن البرّ برّ من اتقى، وكقوله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) والمراد من قومه، وقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) والمراد لا يطيقونه؛ ونظائر هذا وأشباهه كثير.

وإيجاز قصر، وهو تكثير المعنى وتقليل الالفاظ، كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما جمع فيه شرائط الرسالة: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) وسمع أعرابىّ رجلا يتلوها فسجد وقال: سجدت لفصاحته، ذكره أبو عبيد. وقوله تعالى مما جمع فيه مكارم الأخلاق: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فجمع فى ثلاث كلمات بين العنوان والكتاب والحاجة؛ وقوله تعالى: (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فجمع فى هذا على لسان النملة بين النداء والتنبيه والأمر والنهى «1» والتحذير والتخصيص والعموم والإشارة والإعذار؛ ونظير ذلك ما حكى عن الأصمعىّ أنه سمع جارية تتكلّم فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أو يعدّ هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبى صلّى الله عليه وسلم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال: والله إنّ له لحلاوة «2» ، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق «3» ، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.

وأما الفصاحة

وسمع آخر رجلا يقرأ: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) فقال: أشهد أنّ مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: البيان اسم جامع لكل ما كشف لك من قناع المعنى، وهتك الحجاب عن الضمير، حتى يفضى السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائنا ما كان. وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللّفظ محيطا بمعناك كاشفا عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون سليما من التّكلّف، بعيدا من سوء الصنعة، بريئا من التعقيد، غنيّا عن التأمّل. وقال آخر: خير البيان ما كان مصرّحا عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقّيه، وموجزا ليخفّ على اللسان تعاهده. وقال أعرابىّ: البلاغة التقرّب من معنى البغية، والتّبعّد من وحشىّ الكلام وقرب المأخذ، وإيجاز فى صواب، وقصد إلى الحجة، وحسن الاستعارة. قال على رضى الله عنه: البلاغة الإفصاح عن حكمة مستغلقة «1» ، وإبانة علم مشكل. وقال الحسن بن على رضى الله عنهما: البلاغة إيضاح الملتبسات، وكشف عورات الجهالات، بأحسن ما يمكن من العبارات. وأما الفصاحة - فهى مأخوذة من قولهم: أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرّغوة. وقالوا: لا يسمّى الفصيح فصيحا حتى تخلص لغته عن اللّكنة الأعجميّة ولا توجد الفصاحة إلا فى العرب. وعلماء العرب يزعمون أن الفصاحة فى الألفاظ، والبلاغة فى المعانى، ويستدلّون بقولهم: لفظ فصيح، ومعنى بليغ.

ذكر صفة البلاغة

ومن الناس من استعمل الفصاحة والبلاغة بمعنى واحد فى الألفاظ والمعانى والأكثرون عليه. ذكر صفة البلاغة قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار؛ قال السائل «1» : ليس هذا أريد؛ قال: فما بصّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إنّا «2» معشر النبيّين بكاء» - أى قليلوا الكلام، وهو جمع بكىء- وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: فكأنك تريد تخيّر اللفظ فى حسن إفهام؛ قال: نعم؛ قال: إنّك إن أردت تقرير حجّة الله فى عقول المتكلمين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين المعانى فى قلوب المستفهمين بالألفاظ الحسنة رغبة فى سرعة استجابتهم، ونفى الشّواغل عن قلوبهم بالمواعظ الناطقة عن الكتاب والسّنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب. وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل. وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل.

وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لبعض البلغاء: من البليغ؟ قال: الذى إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرّك كلّ نفس بما أودع. وقالوا: لا يستحقّ الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه الى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك. وسأل معاوية صحارا «1» العبدىّ: ما هذه البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ «2» . وقال الفضل: قلت لأعرابىّ: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز فى غير عجز والإطناب فى غير خطل. وقال قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة وهو مطابقة اللفظ المعنى لا زائدا ولا ناقصا؛ والإشارة وهو أن يكون اللفظ كاللّمحة الدالّة؛ والدليل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه. قال بعض الشعراء: يكفى قليل كلامه وكثيره ... بيت إذا طال النّضال مصيب وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد: البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدّلالة، وكل وجه منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره، وربّ إشارة أبلغ من لفظ.

ومن أمثالهم فى البلاغة

وقال رجل للعتّابىّ: ما البلاغة؟ قال: كلّ ما أبلغك حاجتك، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ؛ قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع الكلام: إسمع منّى، وافهم عنّى، أو يمسح عثنونه «1» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته، أو يسعل من غير سعلة، أو ينبهر «2» فى كلامه قال بعض الشعراء: ملىء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع ومن كلام أحمد بن اسماعيل الكاتب المعروف بنطاحة «3» ، قال: البليغ من عرف السقيم من المعتلّ، والمقيّد من المطلق، والمشترك من المفرد، والمنصوص من المتأوّل، والإيماء من الإيحاء، والفصل من الوصل، والتلويح من التصريح. ومن أمثالهم فى البلاغة قولهم: يقلّ الحزّ «4» ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذى يقلّ الكلام ويصيب نصوص المعانى «5» بالجزّار الرفيق الذى يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله؛ وقولهم: يضع الهناء مواضع النّقب، أى لا يتكلّم إلا فيما يجب الكلام فيه. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب. وقولهم: قرطس «6» فلان فأصاب الغرّة، وأصاب عين القرطاس «7» . كلّ هذه أمثال للمصيب فى كلامه الموجز فى لفظه.

فصول من البلاغة

فصول من البلاغة قيل: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها، قال: من كان فى يده شىء من مال عبد الله بن حازم فلينبذه، ومن كان فى فيه فليلفظه، ومن كان فى صدره فلينفثه. فعجب الناس من حسن ما فصّل. وكتب المعتصم إلى ملك الروم جوابا عن كتاب تهدّده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) . وقيل لأبى «2» السّمّال الأسدىّ أيام معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهى. وقيل لشبيب بن شبّة عند باب الرشيد: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا، والخارج راضيا. وقال حسّان بن ثابت فى عبد الله بن عباس رضى الله عنهم: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلا «3» كفى وشفى ما فى النفوس فلم يدع ... لذى إربة فى القول جدّا ولا هزلا قال سهل بن هارون: البيان ترجمان العقول، وروض القلوب؛ البلاغة ما فهمته العامّة، ورضيته الخاصّة؛ أبلغ الكلام ما سابق معناه لفظه؛ خير الكلام ما قلّ وجلّ، ودلّ ولم يملّ؛ خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.

جمل من بلاغات العجم وحكمها

وقال ابن المعتزّ: البلاغة أن تبلغ المعنى ولم تطل سفر الكلام؛ خير الكلام ما أسفر عن الحاجة؛ أبلغ الكلام ما يؤنس مسمعه، ويوئس «1» مضيّعه؛ أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقلّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه؛ البلاغة ما أشار اليه البحترىّ حيث قال: وركبن اللّفظ القريب فأدركن ... به غاية المراد البعيد جمل من بلاغات العجم وحكمها قال أبرويز لكاتبه: إذا فكّرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية، ولا تقصّرن عن التحقيق فإنها هجنة فى المقالة، ولا تلبسن كلاما بكلام، ولا تباعدنّ معنى عن معنى، واجمع الكثير مما تريد فى القليل مما تقول. ووافق كلامه قول ابن المعتزّ: ما رأيت بليغا إلا رأيت له فى المعانى إطالة وفى الألفاظ تقصيرا. وهذا حثّ على الإيجاز. وقال أبرويز أيضا لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع إن التمس إليها «2» خامسة لم توجد، وإن نقص منها واحدة لم تتمّ وهى: سؤالك الشىء، وسؤالك عن الشىء، وأمرك بالشىء، وخبرك عن الشىء؛ فإذا طلبت فأنجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق. وقال بهرام جور: الحكم ميزان الله فى الأرض. ووافق ذلك قول الله تعالى: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) وقال أنوشروان لابنه هرمز: لا يكون عندك لعمل البرغاية فى الكثرة، ولا لعمل الإثم غاية فى القلّة. ووافق من كلام العرب قول الأفوه: والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلّما زاد

[صفة الكاتب] وما ينبغى أن يأخذ به نفسه

وقال أزدشير بن بابك: من لم يرض بما قسم الله له طالت معتبته، وفحش حرصه، ومن فحش حرصه ذلّت نفسه، وغلب عليه الحسد، ومن غلب عليه الحسد لم يزل مغموما فيما لا ينفعه، حزينا على ما لا يناله. وقال: من شغل نفسه بالمنى لم يخل قلبه من الأسى. وقال بعضهم: الحقوق أربعة: حقّ لله، وقضاؤه الرضا بقضائه، والعمل بطاعته، وإكرام أوليائه؛ وحقّ لنفسك، وقضاؤه تعهّدها بما يصلحها ويصحّها ويحسم موادّ الأذى عنها؛ وحقّ للنّاس، وقضاؤه عمومهم بالمودّة، ثم تخصيص كلّ امرئ منهم بالتوقير والتفضيل والصّلة؛ وحقّ للسلطان، وقضاؤه تعريفه بما خفى عليه من منفعة رعيّة، وجهاد عدوّ، وعمارة بلد، وسدّ ثغر. وقال بزرجمهر: إلزام الجهول الحجّة يسير، وإقراره بها عسير. [صفة الكاتب «1» ] وما ينبغى أن يأخذ به نفسه قال إبراهيم بن محمد الشيبانىّ: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة وخفة اللهازم «2» ، وكافة اللحية، وصدق الحسّ، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة، وملاحة الزّىّ. وقال: من كمال آلة الكاتب أن يكون بهىّ الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحسّ حسن البيان، رقيق حواشى اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسلك مستفره «3» المركب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثّة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية

وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه،

عظيم الهامة؛ فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. قال بعض الشعراء: وشمول كأنما اعتصروها ... من معانى شمائل الكتّاب هذا ما قيل فى صفة الكاتب. وأما ما ينبغى للكاتب أن يأخذ به نفسه، فقد قال إبراهيم الشيبانىّ: أوّل ذلك حسن الخط الذى هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحى الفكر، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم «1» على بعد المسافة ومستودع السرّ، وديوان الأمور. وقد قيل فى قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : إنه الخطّ الحسن. وقد اختلف الكتّاب فى نقط الخطّ وشكله، فمنهم من كرهه قال سعيد بن حميد الكاتب: لأن يشكل الحرف على القارئ أحبّ إلىّ من أن يعاب الكاتب بالشكل. وعرض خطّ على عبد الله بن طاهر فقال: ما أحسنه لولا أنه أكثر شونيزه «2» ونظر محمد بن عبّاد إلى أبى عبيد وهو يقيّد البسملة فقال: لو عرفته ما شكلته. ومنهم من حمده فقال: حلّوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصّنوها من شبه التصحيف والتحريف. وقيل: إعجام الكتب يمنع من استعجامها «3» ، وشكلها يصونها عن إشكالها.

وأما ما قيل فى حسن الخط وجودة الكتابة ومدح الكتاب والكتاب.

قال الشاعر «1» : وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشكل فى أغصانه «2» ثمره «3» . وأما ما قيل فى حسن الخطّ وجودة الكتابة ومدح الكتّاب والكتاب. قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: الخط الحسن يزيد الحقّ وضوحا. وقال: حسن الخطّ إحدى البلاغتين. وقال عبيد الله بن العباس: الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى: الخطّ سمط «4» الحكمة، به تفصّل شذورها، وينتظم منثورها؛ وقال أبو هلال العسكرىّ: الكتب عقل شوارد الكلم ... والخطّ خيط فى يد الحكم والخطّ نظّم كلّ منتثر ... منها وفصّل كلّ منتظم والسيف وهو بحيث تعرفه ... فرض عليه عبادة القلم. وقد اختلف الناس فى الخطّ واللفظ، فقال بعضهم: الخطّ أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر، والخطّ يفهم الحاضر والغائب. قالوا: ومن أعاجيب الخطّ كثرة اختلافه والأصل فيه واحد، كاختلاف صور الناس مع اجتماعهم فى الصبغة. قال الصّولى «5» : سئل بعض الكتاب عن الخطّ متى

يستحقّ أن يوصف بالجودة؟ قال: اذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه؛ واستقامت سطوره، وضاهى سعوده حدوره؛ وتفتّحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه؛ وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاسه «1» ، ولم تختلف أجناسه؛ وأسرع الى العيون تصوّره، والى القلوب ثمره «2» ؛ وقدّرت فصوله، [واندمجت «3» وصوله، وتناسب دقيقه وجليله] ؛ وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه؛ وخرج عن [نمط «4» الورّاقين] ، وبعد عن تصنّع المحرّرين؛ [وقام لكاتبه «5» مقام النسبة والحلية] وكان حينئذ كما قلت فى صفة الخطّ: اذا ما تخلّل قرطاسه ... وساوره القلم الأرقش «6» تضمّن من خطّه حلّة ... كمثل الدنانير أو أنقش حروف تكون لعين الكليل ... نشاطا ويقرؤها الأخفش «7» وقال ابن المعتزّ: إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا وقيل لبعضهم: كيف رأيت ابراهيم الصّولىّ؟ فقال: يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرّ بالأقلام فى الكتب

وقال آخر «1» : أضحكت قرطاسك عن جنّة ... أشجارها من حكم مثمره مسودّة سطحا ومبيضّة ... أرضا «2» كمثل الليلة المقمره وقال آخر: كتبت فلولا أن هذا محلّل ... وذاك حرام قست خطّك بالسحر فو الله ما أدرى أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر فان كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درّا فهو من لجج البحر وقال آخر: وكاتب يرقم فى طرسه ... روضا به ترتع ألحاظه فالدرّ ما تنظم أقلامه ... والسحر ما تنثر ألفاظه وقال آخر: وشاذن من بنى الكتّاب مقتدر ... على البلاغة أحلى الناس إنشاء فلا يجاريه فى ميدانه أحد ... يريك سحبان فى الإنشاء إن شاء وقال آخر: إن هزّ أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كمىّ هزّ عامله «3» وإن أمرّ على رقّ «4» أنامله ... أقرّ بالرّق كتّاب الأنام له

وقال أبو الفتح كشاجم: واذا نمنمت بنانك خطّا ... معربا عن بلاغة وسداد عجب الناس من بياض معان ... تجتنى من سواد ذاك المداد وقال الممشوق «1» الشامىّ شاعر اليتيمة: لا يخطر الفكر فى كتابته ... كأنّ أقلامه لها خاطر القول والفعل يجريان معا ... لا أوّل فيهما ولا آخر قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: الكتاب نعم الذّخر والعقدة «2» ، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النّشرة «3» والنّزهة، ونعم المستغلّ والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدّخيل، والوزير والنّزيل؛ والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشى ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا، إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره وعجبت من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، وببارد حارّ ومن لك بطبيب أعرابىّ، وبرومىّ «4» هندىّ، وفارسىّ يونانىّ، وبقديم مولّد، وبميت ممتع، ومن لك بشىء يجمع لك الأوّل والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب

والرفيع والوضيع، والغثّ والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضدّه؛ وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل فى ردن «1» ؟ وروضة تقلّب فى حجر؟ ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحيا، ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى، «آمن من الأرض» وأكتم للسر من صاحب السرّ، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، وأحضر لما استحفظ من الأمّيين، ومن الأعراب المعربين، بل من الصّبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتّع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنتقص والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادات وافرة لم تستعتب «2» ، والطينة لينة فهى أقبل ما تكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون للعلوق، حين هذه الخصال لم يلبس جديدها، ولم تتفرّق قواها، وكانت كقول الشاعر: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا وقال ذو الرمّة لعيسى بن عمر: اكتب شعرى، فالكتاب أعجب إلى من الحفظ لأن الأعرابىّ ينسى الكلمة قد تعب فى طلبها يوما أو ليلة، فيضع موضعها كلمة فى وزنها «3» لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام. قال: ولا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقلّ خيانة، ولا أقلّ إبراما وإملالا، ولا أقل خلافا وإجراما ولا أقلّ غيبة، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ صلفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد فى جدال، ولا أكفّ عن قتال من كتاب؛ ولا أعلم شجرة أطول عمرا، ولا أجمع «4» أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى

ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة

ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد فى كل إبان «1» من كتاب؛ ولا أعلم نتاجا فى حداثة سنة وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب؛ وقد قال الله تبارك اسمه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فوصف نفسه تعالى جدّه بأن علّم بالقلم، كما وصف به نفسه بالكرم، واعتد بذلك من نعمه العظام، وفى أياديه الجسام. ذكر شىء مما قيل فى آلات الكتابة قال ابراهيم بن محمد الشّيبانىّ فيما يحتاج إليه الكاتب: من ذلك أن يصلح الكاتب آلته التى لا بدّ منها، وأداته التى لا تتمّ صناعته إلا بها، وهى دواته، فلينعم «2» ربّها وإصلاحها، ثم يتخير من أنابيب «3» القصب أقلّه عقدا وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواءا، ويجعل لقرطاسه سكّينا حادّا لتكون عونا له على برى أقلامه، ويبريها من جهة نبات القصبة، فان محلّ القلم من الكاتب كمحلّ الرمح من الفارس. وقد خصّ الفضلاء القلم بأوصاف كثيرة، ومزايا خطيرة فلنذكر منها طرفا.

ذكر شىء مما قيل فى القلم

ذكر شىء مما قيل فى القلم قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. وقال الحكماء: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرّ القلوب. وقالوا: عقول الرجال تحت أسنّة أقلامها. بنوء «1» الأقلام يصوب غيث الحكمة. القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسبكه «2» اللّب. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم. وقال المأمون: لله درّ القلم كيف يحوك وشى المملكة!. وقال ثمامة بن أشرس: ما أثّرته الأقلام، لم تطمع فى درسه الأيام. بالأقلام تدبّر الأقاليم. كتاب المرء عنوان عقله، ولسان فضله. عقل الكاتب فى قلمه. وقال ابن المعتزّ: القلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة كأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتّح نوّار بستان. وقال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال: منها جودة برى القلم وإطالة جلفته «3» ، وتحريف قطّته، وحسن التأتّى لامتطاء الأنامل، وإرسال المدّة بعد إشباع الحروف، والتحرّز عند فراغها من الكسوف، وترك الشكل على الخطإ والإعجام على التصحيف.

وقال العتّابىّ: سألنى الأصمعىّ فى دار الرشيد: أىّ الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؟ فقلت له: ما نشف «1» بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور، الفضّيّة الكسور؛ قال: فأى نوع من البرى أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطّة التى عن يمين سنها برية تؤمن معها المحبّة عند المدة والمطّة، للهواء فى شقّها فتيق، والريح فى جوفها خريق «2» ، والمداد فى خرطومها رقيق. قال العتابىّ: فبقى الأصمعى شاخصا إلىّ ضاحكا، لا يحير مسألة ولا جوابا. وكتب على بن الأزهر إلى صديق له يستدعى منه أقلاما: أما بعد: فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التى غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم «3» ؛ فحلّت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب؛ وجدنا الأقلام الصّحريّة «4» أجرى فى الكواغد «5» وأمرّ فى الجلود، كما أنّ البحريّة منها أسلس فى القراطيس، وألين فى المعاطف وأشد لتعريف «6» الخط فيها، ونحن فى بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت فى أن تتقدّم فى اختيار «7» أقلام صحريّة، وتتنوّق «8» فى اقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانّها ومنابتها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمّن «9» باختيارك منها الشديدة الصّلبة

النقيّة الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيقة الأجواف «1» ، الرزينة المحمل فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الحفا، وأن تقصد بانتقائك للرقاق القضبان المقوّمات المتون، الملس المعاقد «2» ، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا وهى قائمة على أصولها، لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم تأخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر «3» الشتاء وعفن الأنداء؛ فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعا ذراعا قطعا رقيقا، ثم عبأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية، «4» [ووجّهتها مع من يؤدّى الأمانة فى حراستها وحفظها وإيصالها] وتكتب معها بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى. وأهدى ابن الحرون «5» إلى بعض إخوانه أقلاما وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة- أبقاك الله- أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة أتحفتك من آلتها بما يخفف حمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجلّ خطره، وهى أقلام من القصب النابت فى الصحراء الذى نشف بحرّ الهجير [فى قشره «6» ] ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ فهى كاللآلئ المكنونة فى الصدف، والأنوار المحجوبة فى السدف «7» ؛ تبريّة القشور، درّية الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشى المحبّر، ورونقا «8» كاالديباج «9» المنيّر.

ومن كتاب لأبى الخطاب الصابى- يصف فيه أقلاما أهداها فى جملة أصناف- جاء منه: وأضفت إليها أقلاما سليمة من المعايب، مبرّأة من المثالب؛ جمّة المحاسن بعيدة عن المطاعن؛ لم يربها طول ولا قصر، ولم ينقصها ضعف ولا خور؛ ولم يشنهالين ولا رخاوة، ولم يعبها كزازة «1» ولا قساوة؛ فهذه «2» آخذة بالفضائل من جميع جهاتها، مستوفية للمادح بسائر صفاتها؛ صلبة المعاجم، ليّنة المقاطع؛ موفية القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان؛ قد استوى فى الملاسة خارجها وداخلها، وتناسب فى السلاسة عاليها وسافلها؛ نبتت بين الشمس والظلّ، واختلف عليها الحرّ والقر؛ فلفحها «3» وقدان الهواجر، وسفعتها [سمائم «4» ] شهر ناجر «5» ؛ ووقذها الشّفّان «6» بصرده، وقذفها الغمام ببرده؛ وصابتها الأنواء بصيّبها، واستهلّت عليها السحائب بشآبيبها «7» ؛ فاستمرّت مرائرها «8» على إحكام، واستحصد سحلها «9» بالإبرام؛ جاءت شتّى «10» الشيات، متغايرة الهيئات، متباينة المحالّ والبلدان؛ تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها؛ فمن أنابيب ناسبت رماح الخط فى أجناسها، وشاكلت الذهب فى ألوانها، وضاهت

الحرير فى لمعانها؛ بطيئة «1» الحفا، نمرة «2» القوى؛ لا يشظيها «3» القطّ، ولا يشعّث «4» بها الخط؛ ومن مصريّة بيض، كأنها [قباطىّ «5» مصر نقاء، وغرقئ البيض صفاء؛ غذاها الصعيد من ثراه بلبّه] وسقاها النيل من نميره وعذبه؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء؛ تستقيم شقوقها فى أطوالها، ولا تنكّب عن يمينها ولا شمالها؛ تقترن بها صفراء كأنها معها عقيان «6» قرن بلجين، أو ورق خلط بعين؛ تختال فى صفر ملاحفها، وتميس فى مذهب مطارفها «7» ؛ بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس «8» ، ومن منقوشة تروق العين، وتونق النّفس؛ ويهدى حسنها الأريحيّة إلى القلوب، ويحلّ الطرب لها حبوة الحكيم اللبيب؛ كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع؛ [ومن بحريّة موشيّة الليط «9» ] رائقة التخليط «10» ؛ كأنّ داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء

معلم، وكأنّ خارجها أرقم، أو متن واد مفعم، نثرت ألوانا تزرى بورد الخدود، وأبدت قامات تفصح بأود القدود. وقد أكثر الشعراء القول فى وصف القلم، فمن ذلك قول أبى تمّام الطائىّ: لك القلم الأعلى الذى بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل لعاب الأفاعى القاتلات لعابه ... وأرى «1» الجنى اشتارته أيد عواسل له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره فى الشرق والغرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل إذا ما امتطى الخمس الّلطاف وأفرغت ... عليه شعاب «2» الفكر وهى حوافل أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام والجحافل إذا استغزر الذهن الجلىّ «3» وأقبلت ... أعاليه فى القرطاس وهى أسافل وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنّى وسمينا خطبه وهو ناحل وقال آخر: قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات وقال ابن المعتزّ: قلم ما أراه أم فلك يجرى ... بما شاء قاسم ويسير «4» خاشع فى يديه يلثم قرطا ... سا كما قبّل البساط شكور

ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم ... حتف وعيش تضم تلك السطور نقشت بالدجى نهارا فما أدرى ... أخطّ فيهن أم تصوير وقال محمد «1» بن علىّ: فى كفه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغبا إن شاء أو رهبا السيف والرمح خدّام له أبدا ... لا يبلغان له جدّا ولا لعبا تجرى دماء الأعادى بين أسطره ... ولا يحس له صوت إذا ضربا فما رأيت مدادا قبل ذاك دما ... ولا رأيت حساما قبل ذا قصبا وقال ابن الرومىّ: لعمرك ما السيف سيف الكمىّ ... بأخوف من قلم الكاتب له شاهد إن تأمّلته ... ظهرت على سره الغائب أداة المنيّة فى جانبيه ... فمن مثله رهبة الراهب ألم تر فى صدره كالسنان ... وفى الردف كالمرهف القاضب؟ وقال الرفّاء «2» : أخرس ينبيك بإطراقه ... عن كل ما شئت من الأمر يذرى على قرطاسه دمعه ... يبدى لنا السرّ وما يدرى كعاشق أخفى هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجرى تبصره فى كل أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعرى يرى أسيرا فى دواة وقد ... أطلق أقواما من الأسر

[ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته من الأمور الكلية من كتاب حسن التوسل

وقال آخر: وذى عفاف راكع ساجد ... أخو صلاح دمعه جارى ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد فى خدمة البارى وقال ابن الرومىّ: إن يخدم القلم «1» السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شىء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم وقال أبو الطيّب الأزدىّ: قلم قلّم أظفار العدى ... وهو كالإصبع مقصوص الظّفر أشبه الحيّة حتى أنه ... كلما عمّر فى الأيدى قصر وقال أبو الحسن بن عبد الملك بن صالح الهاشمىّ: وأسمر طاوى الكشح أخرس ناطق ... له زملان «2» فى بطون المهارق. [ «3» ذكر ما يحتاج الكاتب الى معرفته من الأمور الكلية [من كتاب حسن التوسل] قال شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبىّ فى كتابه «حسن التوسل» فأوّل ما يبدأ به من ذلك حفظ كتاب الله تعالى، ومداومة قراءته، وملازمة درسه

وتدبّر معانيه حتى لا يزال مصوّرا فى فكره، دائرا على لسانه، ممثّلا فى قلبه، ذاكرا له فى كل ما يرد عليه من الوقائع التى يحتاج الى الاستشهاد به فيها، ويفتقر الى اقامة الأدلّة القاطعة به عليها؛ وكفى بذلك معينا له فى قصده، ومغنيا له عن غيره، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ؛ وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس فى محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجنّ عن الاتيان بسورة من مثله؛ ومن ذلك أن سائلا قال لبعض العلماء: أين تجد فى كتاب الله تعالى قولهم: الجار قبل الدار؟ قال: فى قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة. وأين قول العرب: «القتل أنفى للقتل» لمن أراد الاستشهاد فى هذا المعنى من قوله عزّ وجلّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ . وأكثر الناس على جواز الاستشهاد بذلك ما لم يحوّل عن لفظه، ولم يغيّر معناه. فمن ذلك ما روى فى عهد أبى بكر رضى الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وأوّل عهده بالآخرة، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن برّ وعدل فذلك ظنّى به، وان جار وبدّل فلا علم لى بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. وروى أن عليا رضى الله عنه قال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً.

وكتب فى آخر كتاب الى معاوية: وقد علمت مواقع سيوفنا فى جدّك وخالك وأخيك وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. وقول الحسن بن على عليه السلام لمعاوية: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وروى مثل ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما.- وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد، فان الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ورسولا الى الناس أجمعين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. وكتب محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على الى المنصور فى صدر كتاب لمّا حاربه: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ الى قوله: مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ . ونقض عليه المنصور فى جوابه عن قوله: «إنه ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ. ونقل عن الحسن البصرىّ رحمه الله ما يدل على كراهية ذلك، فقال حين بلغه أن الحجاج أنكر على رجل استشهد بآية: أنسى نفسه حين كتب الى عبد الملك ابن مروان: بلغنى أن أمير المؤمنين عطس فشمّته من حضر فردّ عليهم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ؟ واذا صحت هذه الرواية عن الحسن فيمكن أن يكون انكاره على الحجاج لأنه أنكر على غيره ما فعله هو. وذهب بعضهم الى أن كل ما أراد الله به نفسه لا يجوز أن يستشهد به إلا فيما يضاف الى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . وقوله تعالى: بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ونحو ذلك مما يقتضيه الأدب مع الله سبحانه وتعالى. ومن شرف الاستشهاد بالكتاب العزيز إقامة الحجة، وقطع النزاع، وارغام الخصم كما روى أن الحجاج قال لبعض العلماء: أنت تزعم أن الحسين رضى الله عنه من ذرية

ويتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية - صلوات الله وسلامه على قائلها

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتنى على ذلك بشاهد من كتاب الله عز وجل، وإلا قتلتك؛ فقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ الى قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وعيسى هو ابن بنته؛ فأسكت الحجاج. وقد تقوم الآية الواحدة المستشهد بها فى بلوغ الغرض وتوفية المقاصد ما لا تقوم به الكتب المطوّلة، والأدلّة القاطعة؛ وأقرب ما اتفق من ذلك أن صلاح الدين رحمه الله كتب الى بغداد كتابا يعدّد فيه مواقفه فى إقامة دعوة بنى العباس بمصر، فكتب جوابه بهذه الآية: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ] وكتب أمير المسلمين يعقوب بن عبد المؤمن الى الأذفونش «1» ملك الفرنج جوابا عن كتابه اليه- وكان قد أبرق وأرعد فكتب فى أعلاه-: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ومما جوّزوا الاستشهاد به ما لا يقصد به إلا التلويح الى الآية دون اطّراد الكلام نحو قول القاضى الفاضل مما كتب به الى الخليفة عن الملك الناصر صلاح الدين فى الاستصراخ [وتهويل أمر «2» الفرنج] : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وها هى فى سبيلك مبذوله، وأخى وقد هاجر اليك هجرة يرجوها مقبوله. وأما تغيير شىء من اللفظ أو إحالة معنى عما أريد به فلا يجوز، وينبغى العدل عنه ما أمكن. ويتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحاديث النبوية- صلوات الله وسلامه على قائلها - وخصوصا فى السير والمغازى والأحكام، والنظر فى معانيها وغريبها وفصاحتها

ويتلو ذلك قراءة ما يتفق من كتب النحو

وقفه ما لا بدّ من معرفته من أحكامها، ليحتج بها فى «1» مكان الحجة، ويستدل بموضع الدليل، فإن الدليل على المقصد إذا استند الى النص سلّم له، والفصاحة اذا طلبت غايتها فإنها بعد كتاب الله فى كلام من أوتى جوامع الكلم. وينبغى أن يراعى فى الحلّ لفظ الحديث ما أمكن، وإلا فمعناه. ويتلو ذلك قراءة ما يتفق من كتب النحو التى يحصل بها المقصود من معرفته العربية، فإنه لو أتى الكاتب من البلاغة بأتمّ ما يكون ولحن ذهبت محاسن ما أتى به وانهدمت طبقة كلامه، وألغى جميع [ما حسّنه «2» ] ، ووقف به عند ما جهله. ويتعلق بذلك [قراءة «3» ] ما يتهيأ من مختصرات اللغة، كالفصيح، وكفاية المتحفظ وغير ذلك من كتب الألفاظ ليتسع عليه مجال العبارة، وينفتح له باب الأوصاف فيما «4» يحتاج الى وصفه، ويضطر الى نعته. ويتصل بذلك حفظ خطب البلغاء من الصحابة وغيرهم، ومخاطباتهم ومحاوراتهم ومراجعاتهم ومكاتباتهم، وما ادّعاه كلّ منهم لنفسه أو لقومه، وما نقضه عليه خصمه، لما فى ذلك من معرفة الوقائع بنظائرها، وتلقّى الحوادث بما شاكلها والاقتداء بطريقة من فلج «5» على خصمه، واقتفاء آثار من اضطر الى عذر، أو إبطال دعوى أو اثباتها، والأجوبة الدامغة؛ فتأمله فى موضعه فإنك ستقف منه على ما استغنى به عن ذلك.

ثم النظر فى أيام العرب ووقائعهم وحروبهم،

ثم النظر فى أيام العرب ووقائعهم وحروبهم، وتسمية الأيام التى كانت بينهم، ومعرفة يوم كل قبيلة على الأخرى، وما جرى بينهم فى ذلك من الأشعار والمنافسات، لما فى ذلك من العلم بما يستشهد به من واقعة قديمة، أو يرد عليه فى مكاتبة من ذكر يوما مشهورا، أو فارسا معيّنا. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى فنّ التاريخ على ما ستقف عليه؛ فإن صاحب هذه الصناعة إذا لم يكن عارفا بأيام العرب، عالما بما جرى فيها لم يدر كيف يجيب عمّا «1» يرد عليه من مثلها، ولا ما يقول إذا سئل عنها، وحسبه ذلك نقصا فى صناعته وقصورا. ثم النظر فى التواريخ ومعرفة أخبار الدول، لما فى ذلك من الاطلاع على سير الملوك وسياساتهم، وذكر وقائعهم ومكايدهم فى حروبهم، وما اتفق لهم من التجارب؛ فإن الكاتب قد يضطرّ إلى السؤال عن أحوال من سلف، أو يرد عليه فى كتاب ذكر واقعة بعينها، أو يحتجّ عليه بصورة قديمة فلا يعرف حقيقتها من مجازها؛ وقد أوردنا فى فن التاريخ ما لا يحتاج الكاتب معه إلى غيره من هذا الفن. ثم حفظ أشعار العرب ومطالعة شروحها، واستكشاف غوامضها والتوفّر على ما اختاره العلماء بها «2» منها، كالحماسة، والمفضّليّات، والأصمعيّات، وديوان الهذليّين، وما أشبه ذلك، لما فى ذلك من غزارة الموادّ، وصحّة الاستشهاد، والاطلاع على أصول اللّغة، ونوادر العربيّة؛ وقد كان الصدر الأول يعتنون بذلك غاية الاعتناء، وقد حكى أن الإمام الشافعىّ رحمه الله كان يحفظ ديوان هذيل؛ فإذا أكثر المترشّح للكتابة من حفظ ذلك وتدبّر معانيه سهل عليه حلّه، وظهرت له مواضع

الاستشهاد به، وساقه الكلام إلى إبراز ما فى ذخيرة حفظه منه، ووضعه فى مكانه ونقله فى الاستشهاد والتضمين الى ما كأنه وضع له، كما اتفق للقاضى أبى بكر «1» الأرّجانىّ فى تضمين أنصاف أبيات العرب فى بعض قصائده، فقال: وأهد الى الوزير المدح يجعل ... «لك المرباع «2» منها والصفايا» ورافق رفقة حلّوا إليه ... «فآبوا «3» بالنهاب وبالسبايا» وقل للراحلين الى ذراه ... «ألستم «4» خير من ركب المطايا» ولا تسلك سوى طرقى فإنّى ... «أنا «5» ابن جلا وطلّاع الثّنايا» وقال بديع الزمان الهمذانىّ: أنا لقرب دار مولاى «كما طرب التشوان مالت به الخمر» ومن الارتياح إلى لقائه كما انتفض العصفور بلله القطر» ومن الامتزاج بولائه «كما التقت الصهباء والبارد العذب» ومن الابتهاج بمزاره «كما اهتزّ تحت البارح «6» الغصن الرطب» . وكما قال ابن القرطبىّ وغيره فى رسائلهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

وكذلك حفظ جانب جيد من شعر المحدثين،

وكذلك حفظ جانب جيّد من شعر المحدثين، كأبى تمّام ومسلم ابن الوليد والبحترىّ وابن الرومىّ والمتنبىّ، للطف مأخذهم، ودوران الصناعة فى كلامهم، ودقّة توليد المعانى فى أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة والكتابة. وكذلك النظر فى رسائل المتقدّمتين دون حفظها لما فى النظر فيها من تنقيح القريحة، وإرشاد الخاطر، وتسهيل الطرق، والنسج على منوال المجيد، والاقتداء بطريقة المحسن، واستدراك ما فات «1» القاصر، والاحتراز مما أظهره النقد، وردّ ما بهرجه السبك؛ فأمّا النهى عن حفظ ذلك فلئلا يتّكل الخاطر على ما فى حاصله، ويستند الفكر إلى ما فى مودعه، ويكتفى بما ليس له، ويتلبّس بما لم يعط «كلابس ثوبى زور» ؛ وأمّا من قصد المحاضرة بذلك دون الإنشاء فالأحسن به حفظ ذلك وأمثاله. وكذلك النّظر فى كتب الأمثال الواردة عن العرب نظما ونثرا كأمثال الميدانىّ والمفضّل بن سلمة الضبىّ وحمزة الأصبهانىّ وغيرهم، وأمثال المحدثين الواردة فى أشعارهم، كأبى العتاهية وأبى تمّام والمتنبىّ، وأمثال المولّدين؛ وقد أوردنا من ذلك فى باب الأمثال جملا. وكذلك النّظر فى الأحكام السّلطانيّة، فإنه قد يأمر بأمر فيعرف منها كيف يخلص قلمه على حكم الشريعة المطهّرة من تولية القضاء والحسبة وغير ذلك؛ وقد قدّمنا فى هذا الكتاب من ذلك طرفا جيّدا. قال: فهذه أمور كليّة لا بدّ للمترشّح لهذه الصناعة من التصدّى للاطلاع عليها، والإكباب على مطالعتها، والاستكثار منها

قال: وأما الأمور الخاصة التى تزيد معرفتها قدره، ويزين العلم بها نظمه ونثره،

لينفق من تلك الموادّ، وليسلك فى الوصول إلى صناعته تلك الجواد «1» ، وإلا فليعلم أنه فى واد والكتابة فى واد. قال: وأمّا الأمور الخاصّة التى تزيد معرفتها قدره، ويزين العلم بها نظمه ونثره، فإنّها من المكمّلات لهذا الفنّ وإن لم يضطرّ إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقّحة، والبديهة المجيبة، والرويّة المتصرّفة، لكنّ العالم بها متمكّن من أزمّة المعانى، يقول عن علم، ويتصرّف عن معرفة، وينتقد بحجّة، ويتخيّر بدليل، ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب؛ فمن ذلك علم المعانى والبيان والبديع، والكتب المؤلّفة فى إعجاز الكتاب العزيز، ككتب الجرجانىّ والرمّانىّ والإمام فخر الدين السكّاكىّ والخفاجىّ وابن الاثير وغيرهم؛ وذكر فى كتابه جملا بهذه المعانى [وأورد أيضا أمورا أخرى تتصل بذلك «2» من خصائص] الكتابة وهى الاقتباس والاستشهاد والحلّ، وأتى على ذلك بشواهد وأمثلة، وسأذكر فى هذا الكتاب ملخّص ما اورده فى ذلك باختصار «3» وزيادة عليه. فأمّا علوم المعانى والبيان والبديع، فمنها: ذكر الفصاحة، والبلاغة والحقيقة والمجاز، والتشبيه، والاستعارة، والكناية، والخبر وأحكامه، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والإضمار، ومباحث إنّ وإنّما، والنظم والتجنيس، والطباق، والمقابلة، والسجع، وردّ العجز على «4» الصدر، والإعنات «5»

والمذهب الكلامىّ، وحسن التعليل، والالتفات، والتمام، والاستطراد، وتأكيد المدح بما يشبه الذّم، وتأكيد الذّم بما يشبه المدح، وتجاهل العارف، والهزل الذى يراد به الجدّ، والكنايات، والمبالغة، وإعتاب المرء نفسه، وحسن التضمين والتلميح، وإرسال المثل، وإرسال مثلين، والكلام الجامع، واللّفّ والنشر والتفسير، والتعديد- ويسمّى سياقة الأعداد- وتنسيق الصفات، والإيهام- ويقال له: التورية- والتخييل، وحسن الأبتداءات، وبراعة التخليص، وبراعة الطلب وبراعة المقطع، والسؤال والجواب، وصحة الأقسام، والتوشيح، والإيغال، والإشارة والتذييل، والترديد، والتفويف، والتسهيم، والاستخدام، والعكس، والتبديل والرجوع، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والتشطير، والتطريز، والتوشيع والإغراق، والغلوّ، والقسم، والأستدراك، والمؤتلفة والمختلفة، والتفريق المفرد والجمع مع التفريق، والتقسيم المفرد، والجمع مع التقسيم، والتزاوج، والسّلب والإيجاب والاطّراد، والتجريد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، ونفى الشىء بإيجابه والإيداع «1» ، والإدماج، وسلامة الاختراع، وحسن الاتّباع، والذّمّ فى معرض المدح والعنوان، والإيضاح، والتشكيك، والقول بالموجب، والقلب، والتندير، والإسجال بعد المغالطة، والافتنان، والإبهام، وحصر الجزئى وإلحاقه بالكلّى، والمقارنة والإبداع، والانفصال، والتصرّف، والاشتراك، والتهكّم، والتدبيج، والموجّه وتشابه الأطراف. هذا مجموع ما أورده منها، واستشهد «2» عليه بأدلّة، وأورد أمثلة سنشرح منها ما يكتفى به اللّبيب، ويستغنى به اللّبيب «3» .

أما الفصاحة والبلاغة،

أما الفصاحة والبلاغة، فقد تقدّم الكلام فيهما فى أوّل الباب، فلا فائدة فى إعادته. وأما الحقيقة والمجاز- فالحقيقة فى اللّغة فعيلة بمعنى مفعولة، من حقّ الأمر يحقّه بمعنى أثبته، أو من حققته إذا كنت منه على يقين. والمجاز من جاز الشىء يجوزه إذا تعدّاه، فإذا عدل بالّلفظ عما يوجبه أصل اللّغة وصف بأنه مجاز على أنهم قد جازوا به موضعه الأصلىّ، أو جاز هو مكانه الذى وضع فيه أوّلا، لأنه ليس بموضع أصلىّ لهذا الّلفظ ولكنّه مجازه ومتعدّاه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعدّاه [إلى] مكانه الأصلىّ. ولهما حدود فى المفرد والجملة، فحدّهما فى لامفرد: أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهى حقيقة، كالأسد للحيوان المفترس، ولايد للجارحة ونحو ذلك. وإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهى مجاز، كالأسد للرّجل الشجاع واليد للنّعمة أو للقوّة، فإن النعمة تعطى باليد، والقوّة تظهر بكمالها فى اليد. وحدّهما فى الجملة: أن كلّ جملة كان الحكم الذى دلّت عليه كما هو فى العقل «1» فهى حقيقة كقولنا: خلق الله الخلق؛ وكلّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه فى العقل بضرب من التأويل فهى مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شىء يضاهى الفاعل، كالمفعول به فى قوله عزّ وجلّ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* ومِنْ ماءٍ دافِقٍ ؛ أو المصدر، كقولهم: شعر شاعر؛ أو الزمان، كقول النعمان بن بشير لمعاوية: وليلك عمّا ناب قومك نائم؛ أو المكان، كقولك: طريق سائر؛ أو المسبّب، كقولهم: بنى الأمير المدينة؛ أو السبب، كقوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً . فمجاز المفرد

وأما التشبيه

لغوىّ، ويسمّى مجازا فى المثبت، ومجاز الجملة عقلىّ، ويسمّى مجازا فى الإثبات. قال: فالمجاز قد يكون فى الإثبات وحده، وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقىّ كما ذكرناه، وقد يكون فى المثبت وحده، كقوله تعالى: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جعل خضرة الأرض ونضرتها حياة، وقد يكون فيهما جميعا، كقولك: أحيتنى رؤيتك، تريد سرّتنى، فقد جعلت المسرّة حياة «1» وهو مجاز فى المثبت وأسندتها إلى الرؤية وهو مجاز فى الإثبات. قال: واعلم أنهم تعرّضوا فى اعتبار كون اللّفظ مجازا إلى اعتبار شيئين: الأوّل أن يكون منقولا عن معنى وضع اللّفظ بإزائه، وبهذا يتميّز عن اللّفظ المشترك. الثانى أن يكون هذا النقل لمناسبة بينهما، فلا توصف الأعلام المنقولة بأنّها مجاز إذ ليس نقلها لتعلّق نسبة [بين «2» ] المنقول عنه ومن له العلم، وإذا تحقّق الشرطان سمى مجازا، وذلك مثل تسمية النعمة والقوّة باليد، لما بين اليد وبينهما من التعلّق وكما قالوا: رعينا الغيث، يريدون النبت الذى الغيث سببه، وصابتنا السّماء، يريدون المطر، وأشباه ذلك ونظائره. وأما التشبيه - فهو الدّلالة على اشتراك شيئين فى وصف هو من أوصاف الشىء فى نفسه، كالشجاعة فى الأسد، والنّور فى الشمس. وهو ركن من أركان البلاغة لإخراجه الخفىّ الى الجلىّ، وإدنائه البعيد من القريب. وهو حكم إضافىّ لا يوجد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.

ثم التّشبيه على أربعة أقسام: تشبيه محسوس [بمحسوس «1» ] ، وتشبيه معقول [بمعقول «2» ] ، وتشبيه معقول بمحسوس، وتشبيه محسوس بمعقول. فأما تشبيه محسوس بمحسوس فلاشتراكهما إمّا فى المحسوسات الأولى: وهى مدركات السمع والبصر والذّوق والشمّ واللّمس، كتشبيه الخدّ بالورد والوجه بالنهار، [وأطيط الرّحل «3» بأصوات الفراريح] والفواكه الحلوة بالسكّر والعسل ورائحة بعض الرياحين بالمسك والكافور، والّليّن الناعم بالحرير، والخشن بالمسح» . أو فى المحسوسات الثانية «5» : وهى الأشكال المستقيمة والمستديرة، والمقادير، والحركات كتشبيه المستوى المنتصب بالرّمح، والقدّ اللّطيف بالغصن، والشّىء المستدير بالكرة والحلقة، والعظم بالجبل، والذاهب على الاستقامة بنفوذ السهم. أو فى الكيفيّات الجسمانيّة، كالصلابة والرخاوة. أو فى الكيفيّات النفسانيّة، كالغرائز والأخلاق. أو فى حالة إضافية، كقولك: هذه حجّة كالشّمس، وألفاظ كالماء فى السّلاسة وكالنّسييم فى الرقّة، وكالعسل فى الحلاوة. وربّما كان التشبيه بوجه عقلىّ، كقول فاطمة بنت الخرشب الأنماريّة حين وصفت بنيها الكملة فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. وأما تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الوجود العارى عن الفوائد بالعدم، وتشبيه الفوائد التى تبقى بعد عدم الشّىء بالوجود، كقول الشاعر: رب حىّ كميّت ليس فيه ... أمل يرتجى لنفع وضرّ وعظام تحت التراب وفوق ... الأرض منها آثار «6» حمد وشكر

وأمّا تشبيه المعقول بالمحسوس فهو كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. وأما تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز، لأن العلوم العقليّة مستفادة من الحواسّ ومنتهية إليها، ولذلك قيل: من فقد حسّا فقد علما، فإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيه به يكون جعلا للفرع أصلا والأصل فرعا ولذلك لو حاول محاول المبالغة فى وصف الشمس بالظهور والمسك بالثناء «1» فقال: الشمس كالحجّة فى الظّهور، والمسك كالثّناء فى الطّيب، كان ذلك سخفا من القول فأمّا ما جاء فى الشعر من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدّر المعقول محسوسا، ويجعل كالأصل «2» المحسوس على طريق المبالغة، فيصحّ التشبيه حينئذ وذلك كما قال الشاعر: وكأنّ النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهنّ ابتداع فإنّه لما شاع وصف السنّة بالبياض والإشراق، واشتهرت البدعة وكلّ ما ليس بحقّ بالظلمة «3» تخيّل الشاعر أن السنن كأنها من الأجناس التى لها إشراق ونور، وأن البدع نوع من الأنواع الّتى لها اختصاص بالسواد والظلمة، فصار ذلك كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه، وهو لا يتمّ إلا بتخييل ما ليس بمتلوّن [متلوّنا «4» ] ثم يتخيّله أصلا فيشبّه به، وهذا هو الّذى تؤوّل فى قول أبى طالب الرّقّىّ:

ولقد ذكرتك والظلام كانّه ... يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق فإنّه لمّا كانت الأوقات التى تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كما يقال: اسودّت الدنيا فى عينه، جعل يوم النوى كأنه أشهر بالسواد من الظلام، فعرّفه به وشبّه، ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق لأنّ من لم يعشق عندهم قاسى القلب والقلب القاسى يوصف بشدّة السواد، فأقامه أصلا، فقس على هذا المثال. قال: واعلم أنّ ما به المشابهة قد يكون مقيّدا بالانتساب إلى شىء، وذلك إما الى المفعول به كقولهم: «أخذ القوس باريها» وإلى ما يجرى مجرى المفعول به وهو الجارّ والمجرور كقولهم لمن يفعل ما لا يفيد: «كالراقم على الماء» وإمّا الى الحال، كقولهم: «كالحادى وليس له بعير» وإما الى المفعول والجارّ والمجرور معا، كقولهم: «هو كمن يجمع السيفين فى غمد» و «كمبتغى الصيد فى عرينة الأسد» ، ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً فإنّ التشبيه لم يحصل من مجرد الحمل، بل لأمرين آخرين، لأن الغرض توجيه الذّم إلى من أتعب نفسه فى حمل ما يتضمّن المنافع العظيمة ثم لا ينتفع به لجهله، وكقول لبيد: وما النّاس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلّوها وغدوا «1» بلاقع فإنّه لم يشبّه الناس بالديار، وإنّما شبّه وجودهم فى الدنيا وسرعة زوالهم بحلول أهل الدّيار فيها، ووشك رحيلهم منها. قال: وكلّما كانت التقييدات أكثر كان التشبيه أو غل فى كونه عقليّا، كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ . فإن التشبيه منتزع من مجموع هذه الجمل من غير أن يمكن

ومن المتأخرين من ذكر فى التشبيه سبعة أنواع:

فصل بعضها عن بعض، فإنّك لو حذفت منها جملة واحدة من أىّ موضع كان أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه. قال: ثم ما به المشابهة إن كان مركّبا فإنّه على قسمين: الأوّل ما لا يمكن إفراد أحد أجزائه بالذّكر، كقول القاضى التنوخىّ: كأنّما المرّيخ والمشترى ... قدّامه فى شامخ الرّفعه منصرف باللّيل من دعوة ... قد أسرجت قدّامه شمعه فإنّك لو اقتصرت على قوله: كأنّ المرّيخ منصرف من دعوة، أو كأن المشترى شمعة لم يحصل ما قصده الشاعر، فإنّه إنّما قصد الهيئة التى يلبسها المرّيخ من كون المشترى أمامه. الثانى ما يمكن إفراده بالذّكر ويكون إذا أزيل منه التركيب صحيح التشبيه فى طرفيه إلّا أن المعنى يتغيّر، كقول أبى طالب الرقىّ: وكأنّ أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فلو قلت: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، وجدت التشبيه مقبولا ولكن المقصود من الهيئة المشبّه بها قد زال. قال: وربّما كان التشبيه فى أمور كثيرة لا يتقيّد بعضها عنها ببعض، وإنّما يكون مضموما بعضها إلى بعض وكلّ واحد منها منفرد بنفسه، كقولك: زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء والبدر بهاء؛ وله خاصيتان: إحداهما أنه لا يجب فيه الترتيب، والثانية أنّه إذا سقط البعض لم يتغيّر حكم الباقى. ومن المتأخرين من ذكر فى التشبيه سبعة أنواع: الأوّل التشبيه المطلق، وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير عكس ولا تبديل كقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وقوله تعالى:

الثانى التشبيه المشروط،

وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. وقول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط» . الثّانى التّشبيه المشروط، وهو أن يشبّه شيئا بشىء لو كان بصفة كذا، ولولا أنّه بصفة كذا، كقوله: اشبّه وجه ملوانا بالعيد المقبل لو كان العيد تبقى ميامنه وتدوم محاسنه، وكقوله: وجه هو كالشمس لولا كسوفها، والقمر لولا خسوفه وكقول البديع: قد كان يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا وكقول الآخر «1» : عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثّاقبات أفول. الثالث تشبيه الكناية، وهو أن يشبّه شيئا بشىء من غير أداة التشبيه، كقول المتنبّى: بدت قمرا وماست خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا وقول الواوا «2» الدّمشقىّ: فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد. الرابع تشبيه التسوية، وهو أن يأخذ صفة من صفات نفسه، وصفة من الصفات المقصودة، ويشبّههما بشىء واحد، كقوله:

الخامس التشبيه المعكوس،

صدغ الحبيب وحالى ... كلاهما كالّليالى و «1» ثغره فى صفاء ... وأدمعى كاللآلى. الخامس التشبيه المعكوس، وهو أن تشبّه شيئين كلّ واحد منهما بالآخر كقول الشاعر: الخمر تفاح جرى ذائبا ... كذلك التفاح خمر جمّد فاشرب على جامد ذوبه «2» ... ولا تبع لذّة يوم بغد وكقول الصّاحب بن عبّاد: رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنّه خمر ولا قدح ... وكأنّه قدح ولا خمر وكقول بعضهم فى النثر: كم من دم أهرقناه فى البرّ، وشخص أغرقناه فى البحر؛ فأصبح البرّ بحرا من دمائهم، والبحر برّا بأشلائهم. السادس تشبيه الإضمار، وهو أن يكون مقصوده التّشبيه بشىء فدلّ ظاهر لفظه أنّ مقصوده غيره، كقول المتنبّى: ومن كنت جارا له يا علىّ ... لم يقبل الدرّ إلّا كبارا فيدلّ ظاهره على أنّ مقصوده الدرّ، وإنّما غرضه تشبيه الممدوح بالبحر. السابع تشبيه التفضيل، وهو أن يشبّه شيئا بشىء ثمّ يرجع فيرجّح المشبّه على المشبّه به، كقوله: حسبت جماله بدرا مضيئا ... وأين البدر من ذاك الجمال

وأما تشبيه شىء بأربعة أشياء

وكقول ابن هندو «1» : من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف فى الحكم بين شيئين أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وذاك إن «2» جاد دامع العين. قال: وقد تقدّم تشبيه شىء بشىء. فأمّا تشبيه شىء بشيئين فكقول امرئ القيس: وتعطو «3» برخص غير شثن كأنّه ... أساريع رمل «4» أو مساويك إسحل. وأمّا تشبيه شىء بثلاثة أشياء فكقول البحترىّ: كأنّما يبسم عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح. وأمّا تشبيه شىء بأربعة أشياء فكما قال المولى شهاب الدّين أبو الثناء محمود الحلبىّ الكاتب: يفترّ طرسك عن سطور جادها ال ... فكر السليم بصوب مسك أذفر فكأنّما هو روضة أو جدول ... أو سمط درّ أو قلادة عنبر. وأمّا تشبيه شىء بخمسة أشياء فكقول الحريرىّ: يفترّ عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب. وأمّا تشبيه شيئين بشيئين فكقول امرئ القيس: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى

وأما تشبيه ثلاثة بثلاثة

وأمّا تشبيه ثلاثة بثلاثة فكقول الآخر: ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقدّ خمر ودرّ وورد ... ريق وثغر وخد. وأمّا تشبيه أربعة بأربعة فكقول امرئ القيس: له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل وكقول أبى نواس: تبكى فتذرى الدّر من نرجس ... وتلطم الورد بعناب، وأمّا تشبيه خمسة بخمسة فكقول أبى الفرج الواوا الدمشقى «2» : قالت متى البين يا هذا فقلت لها ... إمّا غدا زعموا أولا فبعد غد فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد وشبّه قاضى القضاة نجم الدين بن البارزىّ سبعة أشياء بسبعة أشياء وهى: يقطّع بالسّكين بطّيخة ضحى ... على طبق فى نجلس لان صاحبخ كشمس ببرق قدّ بدر أهلة ... لدى هالة فى الأفق شتّى كواكبه. قال: والغرض من التشبيه قد يكون بيان إمكان وجود الشىء عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بيّنا، كقول ابن الرّومىّ: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان وكقول المتنبى: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال

أو بيان مقداره، كما إذا حاولت نفى الفائدة عن فعل إنسان قلت: هذا كالقابض على الماء، لأن لخلوّ الفعل عن الفائدة مراتب مختلفة فى الإفراط والتفريط والوسط، فإذا مثّل بالمحسوس عرفت مرتبته، ولذلك لو أردت الإشارة إلى تنافى الشيئين فأشرت إلى ماء ونار فقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثيره زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك إذا قلت فى وصف طول يوم: كأطول ما يتوهّم، أو لا آخر له، أو أنشدت «1» قوله: فى ليل «2» صول تناهى العرض والطول ... كأنّما ليله بالليل موصول لم تجد فيه «3» من الأنس ما تجده فى قوله: ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنّا واصطفاق المزاهر وما ذاك إلّا للتشبيه بالمحسوس، وإلّا فالأوّل أبلغ، لأن طول الرمح متناه وفى الأوّل حكمت أنّ ليله موصول باللّيل، وكذلك لو قلت فى قصر اليوم: كأنّه ساعة، أو كلمح البصر، لوجدته دون قوله: ظللنا عند دار أبى أنيس ... بيوم مثل سالفة «4» الذّباب وقوله: ويوم كإبهام القطاة مزيّن ... إلىّ صباه غالب لى باطله. قال: وقد يكون غرض التشبيه عائدا على المشبه به، وذلك أن تقصد على عادة التخييل أن توهم فى الشىء القاصر عن نظيره أنه زائد، فتشبّه الزائد به، كقوله:

وبدا «1» الصباح كأنّ غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح وهذا أبلغ وأحسن وأمدح من تشبيه الوجه بالصباح، لأن تشبيه الوجه بالصباح أصل متّفق عليه لا ينكر ولا يستكثر، وإنما الذى يستكثر تشبيه الصباح بالوجه. قال: ثم الغرض بالتشبيه إن كان الحاق الناقص بالزائد امتنع «2» عكسه مع بقاء هذا الغرض، وإن كان الجمع بين شيئين فى مطلق الصورة والشكل واللون صحّ العكس كتشبيه الصبح بغرّة الفرس الأدهم لا للمبالغة فى الضياء، بل لوقوع منير فى مظلم وحصول بياض قليل فى [سواد] كثير. قال: والتشبيه قد يجىء غريبا يحتاج فى إدراكه الى دقّة نظر، كقول ابن المعتزّ: والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل والجامع الاستدارة والإشراق مع تواصل الحركة التى تراها للشمس إذا أنعمت التأمّل فى اضطراب نور الشمس، ويقرب منه قول الآخر: كأن شعاع الشمس فى كلّ غدوة ... على ورق الأشجار أوّل طالع دنانير فى كفّ الأشلّ يضمّها ... لقبض «3» وتهوى [من «4» ] فروج الأصابع وكقول المتنبىّ: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بودقة «5» أليت ... يجول فيها ذهب ذائب

وأما الاستعارة

ومن لطيف ما جاء فى هذا المعنى من التشبيه قول الأخطل فى مصلوب: أو قائم من نعاس فيه لوثته «1» ... مواصل لتمطّيه من الكسل شبّهه بالمتمطّى «2» ، لأنّ المتمطّى يمدّ يديه وظهره ثم يعود إلى حالته الأولى، فزاد فيه أنّه مواصل لذلك، وعلّله بالقيام من النعاس لما فى ذلك من الّلوثة والكسل. قال: والتشبيه ليس من المجاز، لأنه معنى من المعانى، وله ألفاظ تدلّ عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه، وإنّما هو توطئة لمن يسلك سبيل الاستعارة والتمثيل، لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له، والذى يقع منه فى حيّز المجاز عند أهل هذا الفنّ هو الذى يجىء على حدّ الاستعارة، كقولك لمن يتردّد فى الأمر [بين «3» ] أن يفعله أو يتركه: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» والأصل فيه أراك فى تردّدك كمن يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وأما الاستعارة - فهى ادعاء معنى الحقيقة فى الشىء للمبالغة فى التشبيه مع طرح ذكر المشبّه من البيّن «4» لفظا وتقديرا. وإن شئت قلت: هو جعل الشّىء الشّىء [أو جعل «5» الشىء للشىء] لأجل المبالغة فى التشبيه. فالأوّل كقولك: لقيت أسدا وأنت تعنى الرجل الشجاع. والثانى كقول لبيد: إذ «6» أصبحت بيد الشمال زمامها أثبت اليد للشمال مبالغة فى تشبيهها بالقادر فى التصرف فيه على ما يأتى بيان ذلك.

وحدّ الرّمانىّ الاستعارة فقال: هى تعليق العبارة على غير ما وضعت له فى أصل الّلغة على سبيل النقل للإبانة. وقال ابن المعتزّ: هى استعارة الكلمة من شىء قد عرف بها إلى شىء لم يعرف بها. وذكر الخفاجىّ كلام الرّمانىّ وقال: وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً استعارة، لأن الاشتعال «1» للنار، ولم يوضع فى أصل اللغة للشيب فلما نقل اليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ فى الرأس شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأوّل كان بمنزلة النار التى تسرى فى الخشب حتى تحيله إلى غير [حالته «2» ] المتقدّمة؛ فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة فى الوضع للبيان، ولا بدّ من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها «3» ، لأنها الأصل، وليس يخفى على المتأمّل أن قوله عزّ وجلّ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة هذا المعنى. ولا بدّ للاستعارة من حقيقة هى أصلها، وهى مستعار منه، ومستعار، ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له. قال: وأمّا قولنا مع طرح ذكر المشبّه، فاعلم أننا اذا طرحناه كقولنا: رأيت أسدا، وأردنا الرجل الشجاع فهو استعارة بالاتفاق، وإن ذكرنا معه الصيغة الدالّة على المشابهة كقولنا: زيد كالأسد أو مثله أو شبهه فليس باستعارة؛ وإن لم نذكر الصيغة وقلنا: زيد أسد فالمختار أنه ليس باستعارة إذ فى اللفظ ما يدلّ على أنّه ليس بأسد فلم تحصل

المبالغة، فاذا قلت: زيد الأسد فهو أبعد عن الاستعارة، فإنّ الأوّل خرج بالتنكير عن أن يحسن فيه كاف التشبيه، فإنّ قولك: زيد كأسد كلام نازل بخلاف الثانى. قال ضياء الدين بن الأثير: وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرّقوا بينهما، وذلك خطأ محض. قال: وسأوضح وجه الخطإ فيه وأحقق القول فى الفرق بينهما فأقول: أمّا التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره لأنّه لا خلاف فيه، ولكن نذكر التشبيه المضمر الأداة فنقول: إذا ذكر المنقول والمنقول اليه على أنّه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه: زيد أسد، أى كالأسد، فأداة التشبيه فيه مضمرة مقدرة، وإذا أظهرت حسن ظهورها، ولم تقدح فى الكلام الذى أظهرت فيه، ولم تزل عنه فصاحته؛ وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه «1» دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه، وإذا ظهرت زال عن ذلك الكلام ما كان متّصفا به من الحسن والفصاحة. قال: ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول: قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو: فرعاء «2» إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص وهذا لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيه، فلا يقال: عجل [قدّ «3» ] كالقضيب وأبطأ [ردف] كالدّعص؛ فالفرق إذن بين التشبيه المضمر أداة التشبيه فيه وبين

فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله

الاستعارة أن التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، والاستعارة لا يحسن ذلك فيها. والاستعارة أخصّ من المجاز إذ قصد المبالغة شرط فى الاستعارة دون المجاز، وأيضا فكلّ استعارة من البديع وليس كلّ مجاز منه. والحقّ أن المعنى يعار أوّلا ثم بواسطته يعار اللّفظ؛ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان التشبيه مقرّرا بينهما ظاهرا، وإلا فلا بدّ من التصريح بالتشبيه، فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قول النّبى صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل النخلة «1» » أو «كمثل «2» الخامة» لكنت كالملغز التارك لما «3» يفهم. وكلّما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنا بحيث تكون ألطف من التصريح بالتشبيه، فإنّك لو رمت أن تظهر التشبيه فى قول ابن المعتزّ: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا احتجت أن تقول: أثمرت أصابع راحته التى هى كالأغصان لطالب الحسن. شبه العنّاب من أطرافها المخضوبة، وهذا ممّا لا خفاء بغثاثته. وربّما جمع بين عدّة استعارات إلحاقا للشكل بالشكل لإتمام التشبيه فتريد الاستعارة به حسنا، كقول امرئ القيس فى صفة اللّيل: فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فصل فيما تدخله الاستعارة وما لا تدخله قال: الأعلام لا تدخلها الاستعارة لما تقدّم فى المجاز. وأما الفعل فالاستعارة تقع أوّلا فى المصدر، ثم تقع بواسطة ذلك فى الفعل، فإذا قلت: نطقت الحال بكذا

فهذا إنّما يصحّ لأنّك وجدت الحال مشابهة للنطق فى الدلالة على الشىء، فلا جرم [أنك «1» ] استعرت النطق لتلك الحالة ثم نقلته إلى الفعل. والأسماء المشتقّة فى ذلك كالفعل؛ فظهر أنّ الاستعارة إنّما تقع وقوعا أوّليّا فى أسماء الأجناس. ثم الفعل إذا كان مستعارا فاستعارته إمّا من جهة فاعله، كقوله: نطقت الحال بكذا ولعبت بى الهموم، وقول جرير: تحيى الروامس «2» ربعها فتجدّه ... بعد البلى وتميته الأمطار وقول أبى حيّة: وليلة مرضت من كل ناحية ... فما تضىء لها شمس ولا قمر أو من جهة مفعوله، كقول ابن المعتز: جمع الحقّ لنا فى إمام ... قتل الجوع «3» وأحيى السماحا أو من جهة مفعوليه، كقول الحريرى: وأقرى المسامع إمّا نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا أو من جهة أحد مفعوليه، كقول الشاعر «4» : نقريهم لهذميّات نقدّ بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد أو من جهة الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ.

قال: ويتصل بهذا ترشيح الاستعارة وتجريدها، أما ترشيحها فهو أن ينظر فيها إلى المستعار، ويراعى جانبه، ويوليه ما يستدعيه، ويضمّ إليه ما يقتضيه، كقول كثير: رمتنى بسهم ريشه الهدب لم يصب ... بظاهر «1» جسمى وهو فى القلب جارح وكقول النابغة: وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب فالمستعار فى كل واحد منهما وهو الرمى والإراحة منظور اليهما فى لفظ السهم والعازب، وكما أنشد صاحب الكشّاف «2» : ينازعنى ردائى عند عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لى الشطر الذى ملكت يمينى ... ودونك فاعتجر منه بشطر أراد بردائه سيفه، ثم نظر إلى المستعار فى لفظ الاعتجار. وأما تجريدها فهو أن يكون المستعار له منظورا إليه، كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فإن الإذاقة لمّا وقعت عبارة عما يدرك من أثر الضرر «3» والألم تشبيها له بما يدرك من الطعم المرّ البشع، واللباس عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قال: فأذاقها الله ما غشيها من ألم الجوع والخوف، وكقول زهير: لدى أسد شاكى «4» السلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم فلو نظر الى المستعار لقال: أسد دامى المخالب أو دامى البراثن، ونظر زهير فى آخر البيت الى المستعار أيضا، ومنه قول كثّير: غمر الرداء اذا تبسّم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال

استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ووصفه «1» بالغمر الذى هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء. قال: ويقرب من ذلك الاستعارة بالكناية، وهى أن لا يصرّح بذكر المستعار بل بذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقولهم: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس. وكقول أبى ذؤيب: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع تنبيها على أنّ الشجاع أسد، والمنيّة سبع، والعالم «2» بحر، وهذا وإن كان يشبه الاستعارة المجرّدة إلّا أنّه أغرب وأعجب، ويقرب منه قول زهير: ومن يعص أطراف الزجاج «3» فإنه ... يطيع العوالى ركّبت كلّ لهذم أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح رضى بأحكام الحرب، وذلك أنهم كانوا اذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدّامها مكان الأسنّة، واذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنّة؛ وقد يسمّى هذا النوع المماثلة أيضا. قال: وقد ينزلون الاستعارة منزلة الحقيقة، وذلك أنهم يستعيرون الوصف المحسوس للشىء المعقول ويجعلون كأنّ تلك الصفة ثابتة لذلك الشىء فى الحقيقة، وأنّ الاستعارة لم توجد أصلا، مثاله استعارتهم العلوّ لزيادة الرجل على غيره فى الفضل والقدر والسلطان ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوّا مكانيّا «4» ، كقول أبى تمّام:

فصل فى أقسام الاستعارة

ويصعد حتى يظنّ الحسود ... بأنّ له حاجة فى السماء وكقوله أيضا: مكارم لجت فى علوّ كأنّما ... تحاول ثأرا «1» عند بعض الكواكب ولذلك يستعيرون اسم شىء لشىء من نحو شمس أو بدر أو أسد ويبلغون الى حيث يعتقد أنه ليس هناك استعارة، كقول ابن العميد: قامت تظلّلنى من الشمس ... نفس أعزّ علىّ من نفسى قامت تظلّلنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس وكقول آخر: أيا شمعا يضىء بلا انطفاء ... ويا بدرا يلوح بلا محاق فأنت البدر ما معنى انتقاصى؟ ... وأنت الشمع ما معنى احتراقى «2» ؟ [ «3» فلولا أنه أنسى نفسه أن هاهنا استعارة لما كان لهذا التعجب معنى، ومدار هذا النوع على التعجب] وقد يجئ على عكسه، كقول الشاعر «4» : لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زرّ أزراره على القمر. فصل فى أقسام الاستعارة قال: وهى على نوعين: الأوّل أن تعتمد نفس التشبيه، وهو أن يشترك شيئان فى وصف وأحدهما أنقص من الآخر، فتعطى الناقص اسم الزائد مبالغة فى تحقّق ذلك الوصف له

والثانى أن تعتمد لوازمه عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا،

كقولك: رأيت أسدا وأنت تعنى رجلا شجاعا، وعنّت لنا ظبية وأنت تريد امرأة. والثانى أن تعتمد لوازمه عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا، وإنما ثبت كماله فى المستعار منه بواسطة شىء آخر فتثبت ذلك الشىء للمستعار له مبالغة فى إثبات المشترك، كقول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرّة «1» ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها وليس هناك مشار اليه يمكن أن يجرى اسم اليد عليه كما جرى الأسد على الرجل لكنّه خيّل الى نفسه أن الشمال فى تصريف الغداة على حكم طبيعة الإنسان المتصرّف فيما زمامه ومقادته بيده، لأن تصرف الإنسان إنما يكون باليد فى أكثر الأمور فاليد كالآلة التى تكمل بها القوّة على التصرف، ولما كان الغرض إثبات التصرف- وذلك مما لا يكمل إلا عند ثبوت اليد- أثبت اليد «2» للشمال تحقيقا للغرض، وحكم الزمام فى استعارته للغداة حكم اليد فى استعارتها للشمال، وكذلك قول تأبّط شرّا: اذا هزّه فى عظم قرن تهلّلت ... نواجذ «3» أفواه المنايا الضواحك لمّا شبّه المنايا عند هزّة السيف بالمسرور- وكمال الفرح والسرور إنما يظهر بالضحك الذى تتهلّل فيه النواجذ- أثبته تحقيقا للوصف المقصود، وإلّا فليس للمنايا ما ينقل اليه اسم النواجذ، وهكذا الكلام فى قول الحماسىّ: سقاه الردى سيف إذا سلّ أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كلّ مرقب

قال: اذا عرف هذا فالنوع الأول على أربعة أقسام:

ومن هذا الباب قولهم: فلان مرخى العنان، وملقى الزمام. قال: ويسمّى هذا النوع استعارة تخييليّة، وهو كإثبات الجناح للذلّ فى قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. قال: اذا عرف هذا فالنوع الأوّل على أربعة أقسام: الأوّل- أن يستعار المحسوس للمحسوس، وذلك إما بأن يشتركا فى الذات ويختلفا فى الصفات، كاستعارة الطيران لغير ذى جناح فى السرعة، فإن الطيران والعدو يشتركان فى [الحقيقة «1» وهى] الحركة الكائنة» إلّا أن الطيران أسرع. أو بأن يختلفا فى الذات ويشتركا فى صفة إما محسوسة كقولهم: رأيت شمسا ويريدون إنسانا يتهلّل وجهه، وكقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع الانبساط، ولكنّه فى النار أقوى؛ وإمّا غير محسوسة كقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ المستعار له الريح، والمستعار منه المرء والجامع المنع من ظهور النتيجة. الثانى- أن يستعار شىء معقول لشىء معقول لاشتراكهما فى وصف عدمىّ أو ثبوتىّ وأحدهما أكمل فى ذلك الوصف، فيتنزّل الناقص منزلة الكامل كاستعارة اسم العدم للوجود إذا اشتركا فى عدم الفائدة، أو استعارة اسم الوجود للعدم اذا بقيت آثاره المطلوبة منه، كتشبيه الجهل بالموت لاشتراك الموصوف «3» بهما فى عدم الإدراك والعقل، وكقولهم: فلان لقى الموت اذا لقى الشدائد، لاشتراكهما فى المكروهيّة، وقوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ والسكوت والزوال أمران معقولان.

الرابع - أن يستعار اسم المعقول للمحسوس

الثالث- أن يستعار المحسوس للمعقول كاستعارة النور الذى هو محسوس للحجّة، واستعارة القسطاس للعدل، وكقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فالقذف والدمغ مستعاران، وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ استعارة لبيانه عما أوحى اليه كظهور ما فى الزجاجة عند انصداعها، وكلّ خوض فى القرآن العزيز فهو مستعار من الخوض فى الماء، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ جعل لهما طاعة وقولا. الرابع- أن يستعار اسم المعقول للمحسوس على ما تقدّم ذكره فى التشبيه كقوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ فالشهيق والغيظ مستعاران، وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها والأقوال فى الاستعارة كثيرة، وقد أوردنا فيها ما يستدلّ به عليها. وأما الكناية قال: اللفظة إذا أطلقت وكان الغرض الأصلىّ غير معناها فلا يخلو: إما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالّا على ذلك الغرض الأصلىّ وإما أن لا يكون كذلك. فالأوّل هو الكناية، ويقال له: الإرداف أيضا. والثانى المجاز. فالكناية عند علماء البيان أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعانى لا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة، ولكن يجىء الى معنى هو تاليه «1» وردفه فى الوجود فيومى به اليه، ويجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد وكثير رماد القدر، يعنون به أنه طويل القامة، كثير القرى، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ كنى بنفى قبول التوبة عن الموت على الكفر.

وأما التعريض -

وقول الشاعر «1» : بعيدة مهوى الفرط إما لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم أراد يذكر طول جيدها [فأتى بتابعه «2» وهو بعد مهوى القرط] ، وكقول ليلى الأخيليّة: ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما كنت عن جوده بخرق القميص من جذب العفاة له عند ازدحامهم لأخذ العطاء، وأمثال ذلك. قال: والكناية تكون فى المثبت كما ذكرنا، وقد تكون فى الإثبات وهى ما إذا حاولوا إثبات معنى من المعانى لشىء فيتركون التصريح بإثباته له، ويثبتونه لما له به تعلّق، كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، وقول الشاعر «3» : إن المروءة والسماحة والندى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج. قال: واعلم أن الكناية ليست من المجاز لأنك تعتبر فى ألفاظ الكناية معانيها «4» الأصلية، وتفيد بمعناها معنى ثانيا هو المقصود، فتريد بقولك: كثير الرماد حقيقته «5» وتجعل ذلك دليلا على كونه جوادا، فالكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف. وأما التعريض- فهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر، كقولك: ما أقبح البخل! لمن تعرّض ببخله، وكقول محمد بن عبد الله بن الحسن: لم يعرق فى أمّهات الأولاد، يعرّض بالمنصور بأنه ابن أمة، وأمثال ذلك. وأما التمثيل - فإنما يكون من باب المجاز اذا جاء على حدّ الاستعارة، مثاله قولك للمتحيّر «6» : فلان يقدّم رجلا ويؤخر أخرى، فلو قلت: إنه فى تحيّره كمن يقدّم

وأما الخبر وأحكامه

رجلا ويؤخر أخرى لم يكن من باب المجاز، وكذلك قولك لمن أخذ فى عمل لا يتحصّل منه مقصود: أراك تنفخ فى غير ضرم، وتخطّ على الماء. قال: وأجمعوا على أن للكناية مزيّة على التصريح لأنك اذا أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها فهو كالدعوى التى [معها «1» ] شاهد ودليل، وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها. وأما الخبر وأحكامه - فقد قال: الخبر هو القول المقتضى تصريحه نسبة معلوم الى معلوم بالنفى أو الإثبات. وتسمية أحد جزئيه بالخبر مجازيّة. ثم المقصود من الخبر إن كان هو الإثبات المطلق فيكون بالاسم، كقوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وإن لم يتمّ ذلك إلا بإشعار زمانه فيكون بالفعل، كقوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فإن المقصود لا يتمّ بكونه معطيا للرزق [بل بكونه معطيا للرزق «2» ] فى كل حين وأوان، والإخبار بالفعل أخصّ من الإخبار بالاسم، واذا أنعمت النظر وجدت الاسم موضوعا على أن تثبت به المعنى للشىء من غير إشعار بتجدّده شيئا فشيئا، بل جعل الانطلاق أو البسط مثلا صفة ثابتة ثبوت «3» الطول أو القصر فى قولك: زيد طويل أو قصير، بخلاف ما إذا أخبرت بالفعل فإنه يشعر بالتجدّد وأنه يقع جزءا فجزءا، وإذا أردت شاهدا على ذلك فتأمّل هذا البيت: لا يألف «4» الدرهم المضروب صرّتنا ... إلا «5» يمرّ عليها وهو منطلق

فجاء بالاسم، ولو أتى بالفعل لم يحسن هذا الحسن. والفعل المتعدى الى جميع مفعولاته خبر واحد، حتى اذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم الجمعة خلف المسجد ضربا شديدا تأديبا له كان الخبر «1» شيئا واحدا وهو إسناد الضرب المقيّد بهذه القيود الى زيد، فظهر من ذلك [أن «2» ] قولك: جاءنى رجل مغاير لما دلّ عليه قولك: جاءنى رجل ظريف، وإنك لست فى ذلك [إلا «3» ] كمن يضمّ معنى الى معنى. وحكم المبتدإ «4» والخبر أيضا كذلك، فقول بشّار: كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه خبر واحد. وإذا قلت: الرجل خير من المرأة فاللام فيه قد تكون للعموم أو للخصوص بأن ترجع الى معهود، أو لتعريف الحقيقة مع قطع النظر عن عمومها وخصوصها. واذا قلت: زيد المنطلق، أو زيد هو المنطلق أفاد انحصار المخبر به فى المخبر عنه، فان أمكن الحصر ترك على حقيقته، وإلّا فعلى المبالغة. واذا قلت: المنطلق زيد فهو إخبار عما عرف بما لم يعرف، فكأن المخاطب عرف أن انسانا انطلق ولم يعرف صاحبه، فقلت: الذى تعتقد انه منطلق زيد. وأما الذى «5» - فهو للإشارة الى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذى أبوه منطلق، وهو تحقيق قولهم: إنه يستعمل لوصف المعارف بالجمل. والتصديق والتكذيب يتوجهان الى خبر المبتدا لا إلى صفته، فاذا

وأما التقديم والتأخير

كذّبت القائل فى قوله: زيد بن عمرو كريم، فالتكذيب لم يتوجه الى كونه ابن عمرو بل الى كونه كريما. وأما التقديم والتأخير - قال: اذا قدّم الشىء على غيره فإما أن يكون فى نيّة التأخير، كما اذا قدّم الخبر على المبتدإ؛ وإما أن يكون فى نية التأخير ولكن انتقل الشىء من حكم الى آخر، كما اذا جئت الى اسمين جاز أن يكون كلّ واحد منهما مبتدأ فجعلت أحدهما مبتدأ، كقولك: زيد المنطلق، والمنطلق زيد. قال الجرجانىّ: قال صاحب الكتاب: كأنهم يقدّمون الذى بيانه أهمّ لهم وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم، مثاله: أن الناس اذا تعلق غرضهم بقتل خارجىّ مفسد ولا يبالون من صدر القتل منه، وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدّم ذكر الخارجىّ [فيقول «1» ] قتل الخارجىّ زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجىّ لأنه يعلم أن قتل الخارجىّ هو الذى يعنيهم، وإن كان قد وقع قتل من رجل يبعد فى اعتقاد الناس وقوع القتل من مثله قدّم المخبر ذكر الفاعل فيقول: قتل زيد رجلا لاعتقاد الناس فى المذكور خلاف ذلك. انتهى كلام الجرجانىّ. قال: ولنذكر ثلاثة مواضع يعرف بها ما «2» لم يذكر: الأوّل الاستفهام - فإذا أدخلته على الفعل وقلت: أضربت زيدا؟ كان الشكّ فى وجود الفعل، وإذا أدخلته على الاسم وقلت: أأنت ضربت زيدا؟ كان الفعل محقّقا والشكّ فى تعيين الفاعل. وهكذا حكم النكرة، فإذا قلت: أجاءك رجل؟ كان المقصود: هل وجد المجىء من رجل؟ فإذا قلت: أرجل جاءك؟ كان ذلك سؤالا عن جنس من جاء بعد الحكم بوجود المجىء من إنسان؛ وقس عليه

الخبر فى قولك: ضربت زيدا، وزيدا ضربت، وجاءنى رجل، ورجل جاءنى؛ ثم الاستفهام قد يجىء للانكار، فإن كان [فى «1» ] الكلام فعل ماض وأدخلت الاستفهام عليه كان لانكاره، كقوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ وإن أدخلته على الاسم فإن لم يكن الفعل مترددا بينه وبين غيره كان لانكار أنه الفاعل، ويلزم منه نفى ذلك الفعل، كقوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أى لو كان إذن لكان من الله، فلمّا لم يوجد منه دلّ على أن لا إذن، كما تقول: متى كان هذا، فى ليل أم «2» نهار؟ أى لو كان لكان فى ليل أو نهار، فلما لم يوجد فى واحد منهما لم يوجد أصلا، وعليه قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ* . وإن كان مردّدا بينه وبين غيره كان إما للتقرير والتوبيخ، وعليه قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ . وإمّا لانكار أنه الفاعل مع تحقيق الفعل، كقولك لمن انتحل شعرا: أأنت قلت هذا؟. وان كان الفعل مضارعا، فإن أدخلت حرف الاستفهام عليه كان إمّا لانكار وجوده، كقوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ . أو لانكار أنه يقدر على الفعل، كقول امرئ القيس: أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال. أو لإزالة طمع من طمع فى أمر لا يكون، فيجهّله فى طمعه، كقولك: أيرضى عنك فلان وأنت على ما يكره؟. أو لتعنيف من يضيّع الحق، كقول الشاعر: أتترك «3» إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنى إذن للئيم

الثانى فى التقديم والتأخير فى النفى

أو لتنديم الفاعل، كما تقول لمن يركب الخطر: أتخرج فى هذا الوقت؟. وإن أدخلته على الاسم فهو لإنكار صدور الفعل من ذلك الفاعل إما للاستحقار كقولك: أأنت تمنعنى؟. أو للتعظيم كقولك: أهو يسأل الناس؟. أو للمبالغة إما فى كرمه، كقولك: أهو يمنع سائله؟؛ وإما فى خساسته، كقولك: أهو يسمح بمثل هذا؟. وقد يكون لبيان استحالة فعل ظنّ ممكنا، كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وكذلك إذا أدخلته على المفعول، كقوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وأَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وأَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ. الثانى فى التقديم والتأخير فى النفى - إذا أدخلت النفى على الفعل فقلت: ما ضربت زيدا فقد نفيت عن نفسك ضربا واقعا بزيد، وهذا لا يقتضى كون زيد مضروبا. وإذا أدخلته على الاسم فقلت: ما أنا ضربت زيدا اقتضى من باب دليل الخطاب كون زيد مضروبا، وعليه قول المتنبى: وما أنا وحدى قلت ذا الشعر كلّه ... ولكن لشعرى فيك من نفسه شعر ولهذا يصح أن تقول: ما ضربت إلا زيدا، وما ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس، ولا يصح أن تقول: ما أنا ضربت إلا زيدا، وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد من الناس. أما الأوّل فلأنّ نقض النفى بإلّا يقتضى أن تكون ضربته، [وتقديمك «1» ضميرك وإيلاءه حرف النفى يقتضى ألا «2» تكون ضربته] فيتدافعان.]

الثالث فى التقديم والتأخير فى الخبر المثبت

وأما الثانى فلأن أوّل الكلام يقتضى أن يكون زيد مضروبا، وآخره يقتضى ألا يكون مضروبا فيتناقضان. إذا عرف هذا فى جانب الفاعل فإنه مثله فى جانب المفعول، فإذا قلت: ما ضربت زيدا لم يقتض أن تكون ضاربا لغيره، وإذا قلت: ما زيدا ضربت اقتضى ذلك، ولهذا صحّ ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس ولا يصح [ما «1» ] زيدا ضربت ولا أحدا من الناس. وحكم الجار والمجرور حكم المفعول، فإذا قلت: ما أمرتك بهذا لم يقتض أن تكون قد أمرته بشىء غير هذا، وإذا قلت: ما بهذا أمرتك اقتضاه. وإذا قدّمت صيغة العموم على السلب وقلت: كلّ ذا لم أفعله، برفع كلّ كان نفيا عامّا، ويناقضه الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه كنت كاذبا. وإن قدّمت السلب وقلت: لم أفعل كلّ ذا كان نفيا للعموم ولا ينافى الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه لم تكن كاذبا، ومن هذا ظهر الفرق بين رفع كلّ ونصبه فى قول أبى النجم: قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علىّ ذنبا كلّه لم أصنع فإن رفعته كان النفى عامّا، واستقام غرض الشاعر فى تبرئة نفسه من جملة الذنوب، وإن نصبته كان النفى نفيا للعموم، وهو لا ينافى إتيان بعض الذنب فلا يتم غرضه. الثالث فى التقديم والتأخير فى الخبر المثبت - ما تقدّم فى الاستفهام والنفى قائم هنا، فإذا قدّمت الاسم وقلت: زيد فعل وأنا فعلت فالقصد الى الفاعل، إما لتخصيص ذلك الفعل به، كقولك: أنا شفعت فى شأنه مدّعيا الانفراد بذلك

أو لتأكيد إثبات الفعل له لا للحصر، كقولك: هو يعطى الجزيل، لتمكّن فى نفس السامع أن ذلك دأبه دون نفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فإنه ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم، وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وكقول درنى بنت عبعبة «1» : هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما وقول الآخر: همو يفرشون اللّبد كلّ طمرّة «2» ... وأجرد سبّاح يبذ «3» المغالبا قال: والسبب فى هذا التأكيد أنك إذا قلت مثلا: زيد، فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه فيحصل للسامعه تشوّق إلى معرفته، فإذا ذكرته قبلته النفس [قبول العاشق معشوقه «4» ] فيكون ذلك أبلغ فى التحقيق ونفى الشكّ والشبهة، ولهذا تقول لمن تعده: أنا أعطيك أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر، وذلك إذا كان من شأن من يسبق له وعد أن يعترضه الشك فى وفائه، ولذلك يقال فى المدح: أنت تعطى الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد، ومن هاهنا تعرف الفخامة فى الجمل التى فيها ضمير الشأن والقصّة كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ* وأن فيها ما ليس فى قولك: فإن الأبصار لا تعمى، وإن الكافرين لا يفلحون؛ وهكذا

فى الخبر المنفىّ، فإذا قلت: أنت لا تحسن هذا، كان أبلغ من قولك لا تحسن هذا، فالأوّل لمن هو أشدّ إعجابا بنفسه وأكثر دعوى بأنه يحسن. قال: واعلم أنه قد يكون تقديم الاسم كاللازم نحو قوله: يا عاذلى دعنى من عذلكا ... مثلى لا يقبل من مثلكا وقول المتنبى: مثلك يثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع عن غربه وقول الناس «1» : مثلك يرعى الحق والحرمة، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه إلى إنسان سوى الذى أضيف اليه وجىء به للمبالغة، وقد عبّر المتنبى عن هذا المعنى فقال: ولم أقل مثلك أعنى به ... سواك يا فردا بلا مشبه. وكذلك حكم «غير» اذا سلك فيه هذا المسلك، كقول المتنبى: غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا أى لست ممن ينخدع ويغترّ، ولو لم يقدّم «2» مثلا وغيرا فى هذه الصور لم يؤدّ هذا المعنى. قال: ويقرب من هذا المعنى تقديم بعض المفعولات على بعض فى نحو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ فإن تقديم شركاء على الجن أفاد أنه ما ينبغى لله شركاء لا من الجنّ ولا من غيرهم، لأن شركاء مفعول ثان لجعلوا، ولله متعلّق به والجنّ مفعوله الأوّل، فقد جعل الإنكار على جعل الشريك لله على الإطلاق من غير اختصاص بشىء دون شىء، لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة عن مجراها على شىء كان

فصل فى مواضع التقديم والتأخير

الذى تعلق بها من المنفىّ «1» عاما فى كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة، فإذا قلت: ما فى الدار كريم، كنت نفيت الكينونة فى الدار عن كل شىء يكون الكرم صفة له، وحكم الإنكار «2» أبدا حكم النفى، فأما إذا أخرت شركاء فقلت: وجعلوا الجنّ شركاء [لله «3» فيكون جعل الشركاء مخصوصا غير مطلق فيحتمل أن يكون المقصود بالإنكار جعل الجنّ شركاء] لا جعل غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فقدّم شركاء نفيا لهذا الاحتمال. فصل فى مواضع التقديم والتأخير قال: أما التقديم فيحسن فى مواضع: الأول أن تكون الحاجة إلى ذكره أشدّ، كقولك: قطع اللّصّ الأمير. الثانى: أن يكون ذلك أليق بما قبله من الكلام أو بما بعده، كقوله تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ فإنه أشكل بما بعده وهو قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* وبما قبله وهو: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ*. الثالث: أن يكون من الحروف التى لها صدر الكلام، كحروف الاستفهام والنفى، فإنّ الاستفهام طلب فهم الشىء، وهو حالة إضافية فلا تستقلّ بالمفهومية فيشتدّ اتصاله بما بعده. الرابع: تقديم الكلىّ على جزئياته، فإن الشىء كلما كان أكثر عموما كان أعرف فإن الوجود لما كان «4» أعمّ الأمور كان أعرفها عند العقل. الخامس: تقديم الدليل على المدلول.

وأما التأخير فيحسن فى مواضع:

وأما التأخير فيحسن «1» فى مواضع: الأوّل: تمام الاسم كالصلة والمضاف اليه. الثانى: توابع الأسماء. الثالث: الفاعل. الرابع: المضمر، وهو أن يكون متأخرا لفظا وتقديرا، كقولك: ضرب زيد غلامه أو مؤخرا فى اللفظ مقدّما فى المعنى كقوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ أو بالعكس كقولك: ضرب غلامه زيد؛ وإن تقدّم لفظا ومعنى لم يجز كقولك: ضرب غلامه زيدا. الخامس: ما يفضى إلى اللّبس، كقولك: ضرب موسى عيسى، أو أكرم هذا هذا، فيجيب فيه تقديم الفاعل. السادس: العامل الذى هو ضعيف عمله، كالصفة المشبّهة والتمييز وما عمل فيه حرف أو معنى، كقولك: هو حسن وجها، وكريم أبا، وتصبب عرقا، وخمسة وعشرون درهما، وإن زيدا قائم، وفى الدار سعد جالسا. ولا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه، فلا تقول: كانت زيدا الحمّى تأخذ إذا رفعت اخمّى بكانت «2» للفصل بين العامل وما عمل فيه، فإن أضمرت الحمّى فى كانت صحت المسألة. وأما الفصل والوصل - فهو العلم بمواضع العطف والاستئناف، والتهدّى إلى كيفيّة إيقاع حروف العطف فى مواقعها، وهو من أعظم أركان البلاغة، حتى إن

بعضهم حدّ البلاغة بأنها معرفة الفصل والوصل. وقال عبد القاهر: إنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معانى البلاغة. قال: اعلم أن فائدة [العطف «1» ] التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ثم من الحروف العاطفة ما لا يفيد إلا هذا القدر وهو الواو، ومنها ما يفيد «2» فائدة زائدة كالفاء وثمّ وأو، وغرضنا هاهنا متعلق بما لا يفيد إلا الاشتراك فنقول: العطف إما أن يكون فى المفردات، وهو يقتضى التشريك فى الإعراب، وإما أن يكون فى الجمل، وتلك الجملة إن كانت فى قوّة المفرد كقولك: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح، فقد أشركت بينهما فى الإعراب [والمعنى «3» ] لاشتراكهما فى كون كل واحد منهما تقييدا للموصوف، ولا يتصور أن يكون اشتراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الاشتراك فيه، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حاله الأوّل عساه يعرف حاله الثانى، يدلك على ذلك أنك اذا عطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره لم يستقم، فلو قلت: خرجت اليوم من دارى، وأحسن الذى [يقول «4» ] بيت كذا قلت ما يضحك منه، ومن هاهنا عابوا على أبى تمّام قوله: لا والذى هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم. وإن لم تكن فى قوّة المفرد فهى على قسمين: الأوّل أن يكون معنى إحدى الجملتين لذاته متعلقا بمعنى الأخرى «5» كما إذا كانت كالتوكيد لها أو كالصفة، فلا يجوز إدخال العاطف عليه، لأنّ التوكيد والصفة

متعلقان بالمؤكّد والموصوف لذاتهما، والتعلق الذاتىّ يغنى عن لفظ يدل على التعلق، فمثال التوكيد قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فلا ريب فيه توكيد لقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ كأنه قال: هو ذلك الكتاب، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، وكذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ ولم يقل: ويخادعون، لأن المخادعة ليست شيئا غير قولهم: آمنّا مع أنهم غير مؤمنين، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ولم يقل تعالى: وكأن، وأمثال [ذلك] فى القرآن العزيز كثيرة. القسم الثانى ألا يكون بين الجملتين تعلق ذاتىّ، فإن لم يكن بينهما مناسبة فيجب ترك العاطف أيضا، لأن العطف للتشريك ولا تشريك، ومن هاهنا أيضا عابوا على أبى تمّام البيت المتقدّم، لا والذى هو عالم ... ، إذ لا مناسبة بين مرارة النوى وبين كرم أبى الحسين، ولذلك لم يحسن جواز العاطف. وإن كان بينهما مناسبة فيجب ذكر العاطف. ثم إن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئين فالمناسبة بينهما إما أن تكون بالذى أخبر بهما، أو بالذى أخبر عنهما، أو بهما كليهما؛ وهذا الأخير هو المعتبر فى العطف. قال: ونعنى بالمناسبة أن يكونا متشابهين، كقولك: زيد كاتب وعمرو [شاعر «1» ] [أو متضادّين تضادّا على الخصوص، كقولك زيد طويل وعمرو «2» ] قصير، وكقولك: العلم حسن والجهل قبيح، فلو قلت: زيد طويل والخليفة قصير لا اختل معنى عند

ما لا يكون لزيد تعلق بحديث الخليفة، ولو قلت: زيد طويل وعمرو شاعر لا اختل لفظا، إذ لا مناسبة بين الطويل القامة والشاعر. وإن كان المحدّث عنه فى الجملتين شيئا واحدا، كقولك: فلان يقول ويفعل ويضرّ وينفع، ويأمر وينهى، ويسىء ويحسن، فيجب إدخال العاطف فإن الغرض جعله فاعلا لأمرين، فلو قلت: يقول يفعل بلا عاطف لتوهّم أن الثانى رجوع عن الأوّل. وإذا أفاد العاطف الاجتماع ازداد الاشتراك «1» ، كقولك: العجب من أنك أحسنت وأسأت، والعجب من أنك تنهى عن شىء وتأتى مثله، وكقوله: لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا فإن المعنى جعل الفعلين فى حكم واحد، أى لا تطمعوا أن تروا إكرامنا إيّاكم يوجد مع إهانتكم إيّانا. قال: وقد يجب إسقاط العاطف فى بعض المواضع لاختلال المعنى عند إثباته كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ كلام مستأنف، وهو إخبار من الله تعالى، فلو أتى بالواو لكان إخبارا عن اليهود بأنهم وصفوا أنفسهم بأنهم يفسدون فيختل المعنى، وكذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وأمثال ذلك كثيرة؛ واذا كان كذلك فلا حاجة الى العاطف بخلاف قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فإن كل واحدة من الجملتين خبر من الله تعالى.

قال: ومما يجب ذكره هاهنا الجملة اذا وقعت حالا فإنها تجىء مع الواو تارة وبدونها أخرى فنقول: الجملة اذا وقعت حالا فلا بدّ أن تكون خبريّة تحتمل الصدق والكذب، وهو «1» على قسمين: الأوّل وله أحوال: الأولى: أن يجمع لها بين الواو وضمير صاحب الحال، كقولك: جاء زيد ويده على غلامه، ولقيت زيدا وفرسه سابقه، وهذه الواو تسمّى واو الحال. الثانية: أن تجىء بالضمير من غير واو، كقولك: كلمته فوه الى فىّ، وهو فى معنى مشافها، والرابط الضمير، فلو قلت: كلّمته الى فىّ فوه، ولقيته عليه جبّة وشى لم يكن من باب وقوع الجملة حالا، لأنه يمكننا أن نرفع فوه وجبة بالجارّ والمجرور فيرجع الكلام الى وقوع المفرد حالا، والتقدير كلّمته كائنا الى فىّ فوه، ولقيته مستقرّة عليه جبّة وشى، وعليه قول بشّار: اذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها ... غدوت مع البازى علىّ سواد. الثالثة: أن تجىء الواو من غير ضمير وهو كثير، كقولك: لقيتك والجيش قادم وزرتنا والشتاء خارج. ويجوز أن يجمع بين حالين مفرد وجملة اذا أجزنا وقوع حالين كقولك: لقيتك راكبا والجيش قادم، فالجملة حال من التاء أو من الكاف، والعامل فيها لقيت، أو من ضمير «راكبا» و «راكبا» هو العامل فيها. القسم الثانى الجملة الفعلية، ولا بدّ أن تكون ماضيا أو مضارعا أما الماضى فلا بدّ معه من الإتيان بالواو وقد أو بأحدهما، كقولك: تكلمت وقد

وأما الحذف والإضمار

عجلت، وجاء زيد قد ضرب عمرا، وجئت وأسرعت فى المجىء، قال الله تعالى: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ولم يجز البصريّون خلوّه عنهما، وقالوا فى قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وفى قول أبى صخر الهذلىّ: وإنى لتعرونى لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر: إن قد مقدّرة فيهما، فإنّ الشىء اذا عرف موضعه جاز حذفه. وأما المضارع فإن كان موجبا فلا يؤتى معه بالواو «1» ، فتقول: جاءنى زيد يضحك، ويجىء عمرو يسرع، واجلس تحدّثنا بالرفع أى محدّثا لنا، لأنه بتجرّده عما يغير معناه أشبه اسم الفاعل اذا وقع حالا. وإن كان منفيا جاز حذف الواو مراعاة لأصل الفعل الذى هو الإيجاب وجاز إثباتها، لأن الفعل ليس هو الحال، فإن معنى قولك: جلس زيد ولم يتكلّم جلس زيد غير متكلّم، فجرى مجرى الجملة الإسمية، فالحذف كقولك: جاء زيد ما يفوه ببنت شفة، قال الله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ فقوله: لا يمسّنا فى موضع نصب على الحال من ضمير المرفوع فى أحلّنا، والإثبات كقولك: جلس زيد ولم يتكلّم، قال الله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً . قال: وشبهوا به الفعل الماضى فقالوا: جاء زيد ما ضرب عمرا، وجاء زيد وما ضرب عمرا. وأما الحذف والإضمار - فقد قال: الأفعال المتعدّية التى ترك ذكر مفعولاتها على قسمين: الأوّل: ألا يكون له مفعول معيّن، فقد يترك مفعوله لفظا وتقديرا ويجعل حاله كحال غير المتعدّى، كقولهم: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ وينفع

والمقصود إثبات المعنى فى نفسه للشىء من غير التعرّض لحديث المفعول، فكأنك قلت: بحيث يكون منه حلّ وعقد وأمر ونهى ونفع وضرّ، وعليه قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى هل يستوى من له علم ومن لا علم له من غير أن ينص على معلوم، وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى الى قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وبالجملة فمتى كان الغرض بيان حال الفاعل فقط فلا تعدّ الفعل، فإنّ تعديته تنقض الغرض. ألا ترى أنك اذا قلت: فلان يعطى الدنانير كان المقصود بيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا بيان حال كونه معطيا؟. الثانى: أن يكون له مفعول معلوم إلا أنه يحذف فى اللفظ لأغراض: الأوّل: أن يكون المراد بيان حال الفاعل وأنّ ذلك الحال «1» دأبه لا بيان المفعول كقول طفيل: جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت ... بنا نعلنا فى الواطئين فزلّت أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمنا ... تلاقى الّذى لاقوه منّا لملّت هم خلطونا بالنفوس «2» وألجؤا ... الى حجرات أدفأت وأظلّت والأصل أن تقول: لملّتنا وألجؤونا وأدفأتنا وأظلّتنا، فحذف المفعول المعيّن من هذه المواضع الأربعة، وكأنه «3» قد أبهم ولم يقصد قصد شىء يقع عليه، كما تقول: قد ملّ فلان، تريد قد دخل عليه الملال من غير أن تخصّ شيئا بل لا تزيد على أن تجعل

فصل فى حذف المبتداء والخبر

الملال من صفته، فلذلك الشاعر جعل هذه الأوصاف من دأبهم، ولو أضاف الى مفعول معيّن لبطل هذا الغرض، وعليه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ الى قوله تعالى: فَسَقى لَهُما فقد حذف المفعول فى أربعة مواضع، فإن ذكره ربما يخلّ بالمقصود، فلو قال تعالى مثلا: تذودان غنمهما لتوهّم أنّ الإنكار إنما جاء من ذودهما الغنم لا من مطلق الذّود، كقولك: ما لك تمنع أخاك؟ فإنّ الإنكار من منع الأخ لا من مطلق المنع. الثانى: أن يكون المقصود ذكره إلا أنك لا تذكره إيهاما بأنك لا تقصد ذكره كقول البحترىّ: شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه، أو يسمع واع أخباره، ولكنه تغافل عن ذلك إيذانا بأن فضائله يكفى فيها أن يقع عليها بصر أو يعيها سمع حتى يعلم أنه المتفرّد بالفضائل، فليس لحسّاده وعداه أشجى من علم بأن هنا مبصرا وسامعا. الثالث: أن يحذف لكونه بيّنا، كقولهم: أصغيت اليك، أى أذنى، وأغضيت عليك، أى جفنى. فصل فى حذف المبتداء والخبر قال: قد يحسن حذف المبتدإ حيث يكون الغرض أنه قد بلغ فى استحقاق الوصف بما جعل وصفا له الى حيث يعلم بالضرورة أن ذلك الوصف ليس إلا له سواء كان فى نفسه كذلك، أم «1» بحسب دعوى الشاعر على طريق المبالغة، فذكره

يبطل هذا الغرض، ولهذا قال الإمام عبد القاهر: ما من اسم يحذف فى الحالة التى ينبغى أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره، فمن حذف المبتدإ قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أى هذه سورة، وقول الشاعر: لا يبعد الله التلبّب «1» والغارات ... إذ قال الخميس نعم أى هذه نعم، قال عبد القاهر: ومن المواضع التى يطّرد فيها حذف المبتدإ بالقطع «2» والاستئناف أنهم يبدعون بذكر الرجل ويقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأوّل ويستأنفون كلاما [آخر «3» ] واذا فعلوا ذلك «4» أتوا فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدإ، مثال ذلك قوله: وعلمت أنّى يوم ذاك ... منازل كعبا ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمرّوا خلقا «5» وقدا وقال الحطيئة: هم حلوا من الشرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب «6» الشفاء وأمثلة ذلك كثيرة.

فصل الإضمار على شريطة التفسير

ومن حذف الخبر قوله تعالى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أى لولا أنتم مضلونا وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لولا علىّ لهلك عمر، أى لولا علىّ حاضر أو مفت. فصل الإضمار على شريطة التفسير كقولهم: أكرمنى وأكرمت عبد الله أى أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله، ومما يشبه ذلك مفعول المشيئة اذا جاءت بعد لو، فإن كان مفعولها أمرا عظيما أو غريبا فالأولى ذكره، كقوله: ولو «1» شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فإن بكاء الإنسان دما عجيب، وإن لم يكن كذلك فالأولى حذفه، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى والتقدير لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، وكذلك قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ومَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. قال: واعلم أنه قد تترك الكناية الى التصريح لما فيه من زيادة الفخامة كقول البحترىّ: قد طلبنا فلم نجد لك فى السّو ... دد والمجد والمكارم مثلا المعنى قد طلبنا لك مثلا، ثم حذف، لأن هذا المدح إنما يتم بنفى المثل، فلو قال: قد طلبنا لك مثلا فى السّودد والمجد فلم نجده لكان قد أوقع نفى الوجود على ضمير المثل، فلم يكن فيه من المبالغة ما اذا أوقعه على صريح المثل، فإن الكناية لا تبلغ مبلغ

وأما مباحث إن وإنما

الصريح، ولهذا لو قلت: وبالحق أنزلناه وبه نزل، وقل هو الله أحد وهو الصمد لا تجد من الفخامة ما تجده فى قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ وعلى ذلك قول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شىء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا. وأما مباحث إنّ وإنما - فإنه قال: أما إنّ فلها فوائد: الأولى أن تربط الجملة الثانية بالأولى، وبسببها يحصل التأليف بينهما حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغا واحدا، ولو أسقطتها كان الثانى نائيا عن الأوّل، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقد تتكرر فى كلام واحد، كقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . ثم متى أسقطت «إنّ» من الجملة التى أدخلتها عليها، فإن كانت الجملة الثانية إنما تذكر لإظهار فائدة ما قبلها كما فى الآيات المذكورة احتجت إلى الفاء، وإلا فلا، كما فى قوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فلو قلت: فالمتقون لم يكن كلاما، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فى موضع خبر إنّ، فدخول الفاء يوجب عطف الخبر على المبتدإ، وهو غير جائز عند أكثر النحويين.

الثانية: أنك ترى لضمير الشأن والقصة فى الجملة الشرطية مع «إن» من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هى لم تدخل عليها،

الثانية: أنك ترى لضمير الشأن والقصة فى الجملة الشرطيّة مع «إنّ» من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هى لم تدخل عليها، كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. الثالثة: أنها تهيّئ النكرة وتصلحها لأن يحدّث عنها، كقوله «1» : إنّ شواء ونشوة ... وخبب «2» البازل الأمون فلولا هى لم يكن كلاما؛ وإن كانت النكرة موصوفة جاز حذفها ولكن دخولها أصلح، كقول حسّان: إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان. الرابعة: أنها قد تغنى عن الخبر، كما اذا قيل لك: الناس «3» إلب عليكم فهل لكم أحد؟ فقلت: إنّ زيدا وإنّ عمرا، أى لنا، قال الأعشى» : إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ فى السّفر «5» إذ مضوا مهلا.

الخامسة: قال المبرد: اذا قلت عبد الله قائم، فهو إخبار عن قيامه،

الخامسة: قال المبرّد: اذا قلت عبد الله قائم، فهو إخبار عن قيامه، فاذا قلت: إنّ عبد الله قائم، فهو جواب عن إنكار منكر لقيامه، سواء كان المنكر هو السائل أو الحاضرين؛ والدليل على أنّ إنّ «1» إنما تذكر لجواب السائل أنهم ألزموها الجملة من المبتدإ والخبر، نحو: والله إنّ زيدا لمنطلق، فالحاجة إنما تدعو الى «إنّ» اذا كان للسامع ظنّ يخالف ذلك، ولذلك تراها تزداد حسنا اذا كان الخبر بأمر يبعد «2» ، كقول أبى نواس: عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى نفسك فى الياس. ومن لطيف مواقعها أن يدّعى على المخاطب ظنّ لم يظنّه ولكن [صدر «3» ] منه فعل يقتضى ذلك الظنّ، فيقال له: حالك تقتضى أن تكون قد ظننت ذلك، كقول الشاعر «4» : جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بنى عمّك فيهم رماح أى مجيئك هذا مدلّا بنفسك مجىء من يعتقد أنه ليس مع أحد رمح غيره. وقد تجىء اذا وجد أمر كان المتكلّم يظنّ أنه لا يوجد، كقولك للشىء الذى يراه المخاطب ويسمعه: إنه كان من الأمر ما ترى، إنه كان منى إليه «5» إحسان فقابلنى بالسوء كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذى ظننت، وعليه قوله عز وجل حكاية عن أمّ مريم: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وحكاية عن نوح: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ.

وأما إنما

وأما إنما - فتارة تجىء للحصر بمعنى أنّ هذا الحكم لا يوجد فى غير المذكور وهى بمنزلة ليس إلا، كقوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وقوله: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. وتارة تجىء لبيان أن هذا الأمر ظاهر عند كلّ حدّ، سواء كان كذلك أم «1» فى زعم المتكلّم، ومنه قول الشاعر «2» : إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظّلماء مدّعيا أن ذلك مما لا ينكره أحد من الناس. قال: واعلم أنه يستعمل للتخصيص ثلاث عبارات: الأولى: إنما جاء زيد؛ الثانية: جاءنى زيد لا عمرو، والفرق أنّ فى الأولى يفهم إيجاب الفعل من زيد ونفيه عن غيره دفعة واحدة، ومن الثانية دفعتين، ثم إنهما كلتيهما «3» يستعملان لإثبات التخصيص لا لنفى التشريك؛ وفيه نظر. الثالثة: ما جاءنى إلا زيد، وهى بأصل الوضع تفيد نفى التشريك، ولهذا لا يصحّ ما زيد إلّا قائم لا قاعد، لأنك بقولك: إلا قائم نفيت عنه كلّ صفة تنافى القيام، فيندرج فيه نفى القعود، فاذا قلت بعده: لا قاعد كان تكرارا لأن لفظة «لا» موضوعة لأن ينفى بها ما أوجب الأوّل لا لأن يعاد «4» بها نفى ما نفى أوّلا، ويصح إنما زيد قاعد لا قائم، لأن صيغة «إنما» بأصل وضعها تدلّ على تخصيص الحكم بالمذكور،

فصل إذا دخل ما وإلا على الجملة المشتملة على المنصوب

وأما نفى الشّركة فهو لازم من لوازمها، فليس له من القوّة ما لما يدلّ عليه بوضعه، ولهذا يصحّ: زيد هو الجائى «1» لا عمرو، فثبت أنّ دلالة الأوّليّين على التخصيص أقوى، ودلالة الثالثة على نفى التشريك [أقوى «2» ] ، لكن الثالثة قد تقام مقام الأوّليّين فى إفادة التخصيص، كما اذا ادعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه، فقلت له: ما قلت الآن إلا ما قلته قبل، وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ليس المعنى أنى لم أزد على ما أمرتنى به شيئا، ولكن المعنى أنّى لم أدع مما أمرتنى به [أن «3» ] أقوله شيئا. قال: وحكم «غير» حكم «إلّا» فاذا قلت: ما جاءنى غير زيد احتمل أن يكون المراد نفى أن يكون جاء معه إنسان آخر، وأن يكون المراد تخصيص الحكم بالمذكور لا نفيه عما عداه. فصل إذا دخل ما وإلّا على الجملة المشتملة على المنصوب كان المقصود بالذكر «4» ما اتصل بإلّا متأخّرا عنها، فاذا قلت: ما ضرب عمرا إلا زيد، فالمقصود المرفوع، واذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرا، فالمقصود المنصوب، واذا قلت: ما ضرب [إلا «5» ] زيد عمرا، فالاختصاص للضارب، واذا قلت: ما ضرب إلا زيدا عمرو، فالاختصاص للمضروب، فاذا قلت: لم أكس إلا زيدا جبّة، فالمعنى تخصيص

زيد من بين الناس بكسوة الجبّة، وإن قلت: لم أكس إلا جبّة زيدا، فالمعنى تختصّ كسوة الجبّة من بين الناس بزيد؛ وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور، كقول السيد الحميرىّ: لو خيّر المنبر فرسانه ... ما اختار إلّا منكم فارسا. وكذلك حكم المبتدإ والخبر والفعل والفاعل، كقولك: ما زيد إلا قائم، وما قام إلا زيد. وأما إنما فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر، فاذا قلت: إنما ضرب زيدا عمرو فالاختصاص فى الضارب، وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالغرض بيان المرفوع وهو أن الخاشين هم العلماء، ولو قدّم المرفوع لصار المقصود بيان المخشىّ منه، والأوّل أتمّ، ومنه قول الفرزدق: أنا الذائد الحامى الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلى فإن غرضه أن يحصر المدافع بأنه هو لا المدافع عنه؛ ولو قال: إنما أنا أدافع عن أحسابكم، توجّه التخصيص الى المدافع عنه؛ [وحكم المبتدا والخبر «1» ] اذا أدخلت عليهما إنما، فإن قدّمت الخبر فالاختصاص للمبتدا، وإن لم تقدّمه فللخبر، فاذا قلت: إنما هذا لك فالاختصاص فى «لك «2» » ، بدليل أنك بعده تقول: لا لغيرك، فاذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص فى «هذا» ، بدليل أنك بعده تقول: لا ذاك، وعليه قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فالاختصاص فى الآية الأولى للبلاغ والحساب، وفى الثانية فى الخبر الذى هو على الذين دون المبتدإ الذى هو السبيل.

وإذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أن ذلك الفعل لا يصح إلا من المذكور، كقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* ؛ ثم قد يجتمع معه حرف النفى، إما متأخرا عنه كقولك، إنما يجىء زيد لا عمرو: قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وقال لبيد: فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل «1» وإما مقدّما «2» عليه، كقولك: ما جاءنى زيد وإنما جاءنى عمرو، فها هنا لو لم تقل: إنما، وقلت: ما جاءنى زيد وجاءنى عمرو لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وإذا أدخلتها فإن الكلام مع من غلط فى الجائى أنه زيد لا عمرو. قال: واعلم أنّ أقوى ما تكون «إنّما» اذا كان لا يراد بالكلام الذى بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، فإنا نعلم أنه ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار ويقال لهم: إنهم من فرط العناد فى حكم من ليس بذى عقل، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وإِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ والتقدير إنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كمن لم تكن له أذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار، وهذا الغرض لا يحصل دون «إنما» لأن من شأنها تضمين الكلام معنى النفى بعد الإثبات، فإذا أسقطت لم يبق إلا إثبات الحكم للمذكورين، فلا يدلّ على نفيه [عن «3» ] غيرهم إلا أن يذكر فى معرض مدح الإنسان بالتيقّظ والكرم وأمثالهما، كما يقال: كذلك يفعل العاقل، هكذا يفعل الكريم.

تنبيه

تنبيه قال: كاد تقرّب الفعل من الوقوع، فنفيها ينفى القرب، فإن لم يكن فى الكلام دليل على الوقوع فيفيد نفى الوقوع ونفى القرب منه، كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَراها [أى لم «1» يراها] ولم يقارب وأيتها، وكقول ذى الرمد: إذا عير النأى المحبين لم يكد «2» ... رسيس الهوى من حب مية يبرح المعنى أن براح حبّها «3» لم يقارب الكون فلا عن أن يكون. وأما النظم - فهو عبارة عن توخى معانى النحو فيما بين الكلم، وذلك أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو بأن تنظر فى كل باب إلى قوانينه والفروق التى بين معانى اختلاف صيغه «4» ، وتضع الحروف مواضعها وتراعى شرائط التقديم والتأخير، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع حروف العطف على اختلاف معانيها، وتعتبر الإصابة فى طريق التشبيه والتمثيل. وقد أطبق العلماء على تعظيم شأن النظم، وأن لا فضل مع عدمه ولو بلغ الكلام فى غرابة معناه إلى ما بلغ، وأنّ سبب فساده [ترك «5» ] العمل بقوانين النحو واستعمال الشىء فى غير موضعه. ثم قال: الجمل الكثيرة إذا نظمت نظما واحدا فهى على قسمين: الأوّل: أن لا يتعلّق البعض بالبعض ولا يحتاج واضعه إلى فكر ورويّد فى استخراجه، بل هو كمن عمد إلى اللآلئ ينظمها فى سلك، ومثاله قول الجاحظ

فى مصنّفاته: جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعروف نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب اليك التثبّت، وزيّن فى عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحقّ، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ الطمع، وعرّفك ما فى الباطل من الذّلة، وما فى الجهل من القلّة. وكقول النابغة للنّعمان وتفضيله إياه على ذى فائش يزيد «1» بن أبى جفنة، وكقول حسّان ابن ثابت للحارث الجفنّى يفضّله على النعمان بن المنذر، وكقول ضرار بن ضمرة لمعاوية فى وصف علىّ؛ وقد تقدّم شرح أقوالهم فى الباب الأوّل من القسم الثالث من هذا الفن فى المدح، وهو فى السفر الثالث فلا حاجة بنا الى إعادته. وهذا النظم لا يستحق الفضل إلا بسلامة معناه وسلامة «2» ألفاظه، إذ ليس فيه معنى دقيق لا يدرك إلا بثاقب الفكر. قال: وربما ظنّ بالكلام أنه من هذا الجنس ولا يكون منه، كقول الشاعر: سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير فإن الحسن فيه ليس مجرّد الاستعارة، بل لما فى الكلام «3» من التقديم والتأخير، ولهذا لو أزلت ذلك وقلت: سالت شعاب الحىّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره، فإنه يذهب بالحسن والحلاوة.

الثانى: أن تكون الجمل المذكورة يتعلّق بعضها ببعض، وهناك تظهر قوّة الطبع، وجودة القريحة، واستقامة الذّهن. ثم [ليس] «1» لهذا الباب قانون يحفظ، فإنه يجىء على وجوه شتّى: منها الإيجاز، وهو العبارة عن الغرض بأقلّ ما يمكن من الحروف، وهو على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف، وقد تقدّم الكلام على ذلك وذكر أمثلته عند ذكر الفصاحة. ومنها التأكيد- وهو تقوية المعنى وتقريره، إما بإظهار البرهان، كقول قابوس: يا ذا الذى بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر وفى السماء نجوم ما لها «2» عدد ... وليس يخسف إلا الشمس والقمر وإما بالعزيمة، كقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وكقول الأشتر النّخعىّ: بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس إن لم أشنّ على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس يريد معاوية بن أبى سفيان، وكقول أبى نواس. لا فرّج الله عنّى إن مددت يدى ... إليه أسأله من حبّك الفرجا

وأما التجنيس

وكقول أبى تمّام: حرمت مناى منك إن كان ذا الذى ... تقوّله الواشون حقّا كما قالوا. أو بالتّكرار، كقولهم: الله الله، والأسد الأسد، وكقول الحادرة «1» : أظاعنة وما تودّعنا هند ... وهند أتى من دونها النأى والبعد وهذا فى التنزيل كثير، والعلم فيه سورة الرحمن. وأما التجنيس - فهو يتشعّب منه شعب كثيرة: فمنه المستوفى التامّ- وهو أن يجىء المتكلّم بكلمتين متفقتين لفظا، مختلفتين معنى، لا تفاوت فى تركيبهما، ولا اختلاف فى حركاتهما، كقول الغزّىّ: لم يبق غيرك إنسان يلاذبه ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا وقول عبد الله بن طاهر: وإنّى للثّغر المخوف لكالئ ... وللثغر يجرى ظلمه «2» لرشوف وكقول البستىّ: سما وحمى بنى سام وحام ... فليس كمثله سام وحامى وذكر التّبريزىّ أن التجنيس المستوفى كقول أبى تمّام: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله وقال: وإنما عدّ من هذا الباب لاختلاف المعنين، لأن احدهما فعل، والآخر اسم.

ومنه المختلف

ومنه المختلف - ويسمّى التجنيس الناقص- وهو مثل الأوّل فى اتفاق حروف الكلمتين إلا أنه يخالفه: إما فى هيئة الحركة، كقوله صلّى الله عليه وسلم «اللهم كما حسّنت خلقى فحسّن خلقى» ؛ وكقول معاذ رضى الله عنه: الدّين يهدم الدّين؛ وكقولهم: جبّة البرد جنّة البرد؛ وكقولهم: الصديق الصدوق أوّل العقد وواسطة العقد؛ وكقول المعرّى: لغيرى زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكرى ابن سبيل أو بالحركة والسكون، كقولهم: البدعة شرك الشّرك. أو بالتخفيف والتشديد كقولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرّط. ومنه المذيّل - ويقال له: التجنيس الزائد والناقص أيضا- وهو أن تجىء بكلمتين متجانستى اللفظ متّفقتى الحركات، غير أنهما يختلفان بحرف، إما فى آخرهما كقولك: فلان حام حامل لأعباء الأمور، كاف كافل لمصالح الجمهور؛ وقولهم: أنا من زمانى فى زمانه، ومن إخوانى فى خيانه «1» ؛ وقولهم: فلان سال عن إخوانه «2» ، سالم من زمانه؛ ومن النظم قول أبى تمّام: يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب وقول البحترىّ: لئن صدفت عنّا فربّت أنفس ... صواد إلى تلك النفوس الصوادف وإما من أوّلهما، كقوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) ومن النظم ما أنشده عبد القاهر: وكم سبقت منه إلىّ عوارف ... ثنائى من تلك العوارف وارف وكم غرر من برّه ولطائف ... لشكرى على تلك اللطائف طائف.

ومنه المركب وهو على ضربين:

ومنه المركب وهو على ضربين: الأوّل: ما هو متشابه لفظا وخطا، كقولهم: همّتك الهمّة الفاتره، وفى صميم قلبك ألفاتره، ومن النظم قول البستىّ: إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه وقول الآخر: عضّنا الدهر بنابه ... ليت ما حلّ بنابه وقول طاهر البصرى: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أودعانى رهنا بما أودعانى. الثانى: ما هو متشابه لفظا لا خطا ويسمّى التجنيس [المفروق] «1» ، كقوله: كنت أطمع فى تجريبك، ومطايا الجهل تجرى بك؛ ومن النظم قول الشاعر: لا تعرضنّ على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت فى تهذيبها فإذا عرضت القول غير مهذّب ... عدّوه منك وساوسا تهذى بها وأمثال ذلك كثيرة. ومن أنواع المركّب المرفوّ، وهو أن تجمع بين كلمتين إحداهما أقصر من الأخرى، فتضمّ الى القصيرة حرفا من حروف المعانى أو من حروف الكلمة المجاورة لها حتى يعتدل ركنا التجنيس، كقولهم: يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسك؛ ويقرب منه قول الهمذانىّ: إن لم يكن لنا حظّ فى درك درّك، فخلّصنا من شرك شرّك؛

ومنه المزدوج

وقول الحريرىّ: إن أخليت منّا مبارك مبارّك، فخلّصنا من معارك معارّك؛ ومن النظم قول البستىّ: فهمت كتابك يا سيّدى ... فهمت ولا عجب أن أهيما ومنه قول الآخر: ذو راحة وكفت ندى وكفت ردى ... وقضت بهلك عداته وعداته كالغيث فى إروائه وروائه ... والليث فى وثباته وثباته. ومنه المزدوج - ويقال له التجنيس المردّد والمكرر أيضا- وهو أن يأتى فى أواخر الأسجاع وقوافى الأبيات بلفظتين متجانستين إحداهما نميمة الأخرى وبعضها، كقولهم: الشراب بغير النّغم غمّ، وبغير الدّسم سمّ؛ وقول البستىّ: أبا العباس لا تحسب لشينى «1» ... بأنّى من حلى الأشعار عارى فلى طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الأحجار جارى اذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلى زند على الأدوار وارى. ومن أجناس التجنيس المصحّف - ويقال له تجنيس الخط أيضا- وهو أن تأتى بكلمتين متشابهتين خطّا لا لفظا، كقوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ وقوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقوله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالأبكار فإنهنّ أشدّ حبّا وأقلّ خبّا» وقول [النبىّ صلّى الله عليه «2» وسلم] لعلىّ رضى الله عنه: قصّر من ثيابك فإنه أبقى وأنقى وأتقى.

ومنه المضارع

وكقول أبى فراس: من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف. ومنه المضارع - ويسمّى المطمّع- وهو أن يجاء بالكلمة ويبدأ بأختها على مثل أكثر حروفها، فتطمع فى أنها مثلها، فتخالفها بحرف؛ ويسمى المطرّف وهو أن تجمع بين كلمتين متجانستين لا تفاوت بينهما إلا بحرف واحد من الحروف المتقاربة، سواء وقع آخرا أوحشوا، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير» ومنه قول الحطيئة: مطاعين فى الهيجا مطاعيم فى الدّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ وقول البحترىّ: ظللت أرجّم فيك الظنون ... أحاجمه أنت أم حاجبه؟ وإن كان التفاوت «1» بغير المتقاربة سمّى التجنيس اللاحق، كقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ وقول البحترىّ: هل لما فات من تلاق تلافى ... أم لشاك من الصبابة شافى. ومنه المشوّش - وهو كل تجنيس يتجاذبه طرفان من الصنعة «2» فلا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه، كقولهم: فلان مليح البلاغة، صحيح البراعة «3»

ومنه تجنيس الاشتقاق

ومنه تجنيس الاشتقاق - ويسمّى الاقتضاب أيضا، ومنهم من عدّه أصلا برأسه، ومنهم من عدّه أصلا فى التجنيس- وهو أن يجىء بألفاظ يجمعها أصل واحد فى اللغة، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وقوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ومن النظم قول أبى تمّام: عممت الخلق بالنّعماء حتى ... غدا الثقلان منها مثقلين وقول المطرّزى: وإنى لأستحيى من المجد أن أرى ... حليف غوان أو أليف أغانى «1» وقول الصاحب بن عبّاد: وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل فى الأمم فقلت ذرينى على غصّتى ... فإن الهموم بقدر الهمم وقول آخر: إن ترى الدنيا أغارت ... ونجوم السعد غارت فصروف الدهر شتّى ... كلّما جارت أجارت ومما يشبه المشتقّ «2» - ويسمّيه بعضهم المشابه «3» ، وبعضهم المغاير - قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ وقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ

ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف

وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ وقوله تعالى: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ ومن النظم قول البحترىّ: واذا ما رياح «1» جودك هبّت ... صار قول العذّال فيها هباء. ومن أجناس التجنيس تجنيس التصريف - وهو ما كان كالمصحّف [إلا] «2» فى اتحاد الكتابة، ثم لا يخلو من أن تتقارب «3» فيه الحروف باعتبار المخارج أو لا تتقارب فإن تقاربت سمّى مضارعا، وإن لم تتقارب سمّى لاحقا. مثال الأوّل قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وقول قسّ بن ساعدة الإيادىّ: «من مات فات» وقول الشاعر: فيالك من حزم وعزم طواهما ... جديد البلى تحت الصفا والصفائح وهذا البيت يشتمل على المضارع والمتمّم؛ ومثال الثانى قول على رضى الله عنه: الدنيا دار ممرّ، والآخرة دار مقرّ، وقول عبد الله بن صالح وقد وصف اليمن: ليس فيه إلا ناسج برد، أو سائس «4» قرد.

ومنها التجنيس المخالف

ومنها التجنيس المخالف - وهو أن تشتمل كلّ واحدة من الكلمتين على حروف الأخرى دون ترتيبها، كقول أبى تمّام: بيض الصفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشك والريب وقول البحترىّ: شواجر أرماح تقطّع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها وقول المتنبىّ: ممنّعة منعّمة رداح ... يكلّف لفظها الطير الوقوعا فإن اشتملت كل كلمة على حروف الأخرى، وكان بعض هذه قلب حروف هذه خصّ باسم جناس العكس، كقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق» وقول عبد الله بن رواحة يمدح [النبى «1» ] صلّى الله عليه وسلم: تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى نوره الظّلما. ومنها تجنيس المعنى - وهو أن تكون إحدى الكلمتين دالّة على الجناس بمعناها دون لفظها، وسبب استعمال هذا النوع أن يقصد الشاعر المجانسة لفظا ولا يوافقه الوزن على الإتيان باللفظ المجانس فيعدل إلى مرادفه، كقول الشاعر يمدح المهلّب ويذكر فعله بقطرىّ بن الفجاءة، وكان قطرىّ يكنى أبا نعامة: حدا بأبى أم الرّئال فأجفلت ... نعامته من عارض متلّبب «2» أراد أن يقول: حدا بأبى نعامة فأجفلت نعامته أى روحه، فلم يستقم له فقال: بأبى أمّ الرّئال، وأمّ الرّئال هى النعامة، وكقول الشّماخ:

وأما الطباق

وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة «1» حرون أروى: اسم امرأة. والموقّفة الحرون من الوحش: أروى، وبها سميت المرأة فلم يمكنه أن يأتى باسمها فأنى بصفتها، وقد صرح بذلك المعرّى فى قوله: أروى النّياق كأروى النّيق «2» يعصمها ... ضرب يظلّ له السّرحان مبهوتا وبعضهم لا يدخل هذا فى باب التجنيس. قال: وإنما يحسن التجنيس إذا قلّ، وأتى فى الكلام عفوا من غير كدّ «3» ولا استكراه، ولا بعد ولا ميل إلى جانب الرّكّة ولا يكون كقول الأعشى: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعنى ... شاو «4» مشلّ شلول شلشل شول ولا كقول مسلم بن الوليد: سلّت وسلّت ثم سلّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا ولا كقول المتنبىّ: فقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلّهن قلاقل. وأما الطّباق - قال: المطابقة أن تجمع بين ضدّين مختلفين، كالإيراد والإصدار والليل والنهار، والسواد والبياض؛ قال الأخفش وقد سئل عنه: أجد قوما يختلفون

فيه، فطائفة- وهم الأكثر- يزعمون أنه الشىء وضدّه، وطائفة تزعم أنه اشتراك المعنيين فى لفظ واحد، كقول زياد الأعجم: ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام ثم قال: وهذا هو التجنيس بعينه، ومن ادعى أنه طباق فقد خالف الأصمعىّ والخليل، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك؟ فقال: سبحان الله! وهل أعلم منهما بالشعر وتمييز خبيثه من طيّبه؟. ويسمونه المطابقة والطّباق والتضادّ والتكافؤ وهو أن تجمع بين المتضادّين مع مراعاة التقابل، فلا تجىء باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم، مثاله قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وقوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ* وقوله صلّى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع» ومن النظم قول جرير: وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شرّ عنكم بشماليا وقول البحترىّ: وأمّة كان قبح الجور يسخطها ... حينا فأصبح حسن العدل يرضيها وقوله أيضا: تبسّم وقطوب فى ندى ووغى ... كالبرق والرعد وسط العارض البرد وقول دعبل: لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقول ابن المعتز: مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلا أنّ تلك ذوابل

فإنّ هاتا للحاضر، وتلك للغائب، فكانتا متقابلتين؛ وقد تجىء المطابقة بالنفى [والإثبات «1» ] كقول البحترىّ: تقيّض «2» لى من حيث لا أعلم النوى ... ويسرى إلىّ الشوق من حيث أعلم. وقال الزكىّ بن أبى الإصبع المصرىّ فى الطباق: وهو على ضربين: ضرب يأتى بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتى بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ [الحقيقة «3» ] سمّى طباقا وما كان بلفظ المجاز سمّى تكافؤا، فمثال التكافؤ قول أبى الأشعث العبسىّ من إنشادات قدامة: حلو الشمائل وهو مرّ باسل ... يحمى الذّمار صبيحة الإرهاق لأن «4» قوله: حلو ومرّ خارج مخرج الاستعارة، إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسّة الذوق. ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق: وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالى فى سماء عجاج وقد جمع دعبل فى بيته المتقدّم بين الطباق والتكافؤ، وهو: لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة. قال: هكذا قال ابن أبى الإصبع، وفيه نظر، لأنه إذا كان الطباق عنده هو التضادّ من حقيقتين، والتكافؤ التضادّ من مجازين، فليس فى البيت ما شرطه.

وأما المقابلة

قال: ومما جمع بين طباقى السلب والإيجاب قول الفرزدق من إنشادات ابن المعتزّ: لعن الإله بنى كليب إنّهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار. وذكر فى آخر الباب طباق الترديد، وهو أن يردّ آخر الكلام المطابق إلى أوّله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو ردّ الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى: لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا. وأما «1» المقابلة - وهى أعم من الطباق، وذكر بعضهم أنها أخص، وذلك أن تضع معانى تريد الموافقة بينها وبين غيرها أو المخالفة، فتأتى فى الموافق بما وافق، وفى المخالف بما خالف أو تشرط شروطا وتعدّ أحوالا فى أحد المعنيين فيجب أن تأتى فى الثانى بمثل ما شرطت وعددت [فى الأوّل «2» ] ، كقوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ومثاله من النظم قول الشاعر: فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفىّ ومطوىّ على الغلّ غادر! وقول آخر: تقاصرن واحلولين لى ثم إنه ... أتت بعد أيام طوال أمرّت

وقول زهير بن أبى سلمى: حلماء فى النادى إذا ما جئتهم ... جهلاء يوم عجاجة ولقاء. ومن فساد ذلك أن يقابل الشىء بما لا يوافقه ولا يخالفه، كقول أبى عدىّ القرشىّ: يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنيا وغيث لجود فليس قوله: غيث لجود موافقا لقوله: زين الدنيا ولا مخالفا له وكقول الكميت: وقد رأينا بها حورا منعّمة ... بيضا تكامل فيها الدّلّ والشّنب فالشنب لا يشاكل الدّلّ. وقول آخر: رحماء بذى الصلاح وضرّا ... بون قدما لهامة الصّنديد. قال: وقد ذكر بعض أئمة هذا الفن تفصيلا فى المقابلة فقال: فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ؛ وقول النابغة: فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا؛ ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول الشاعر «1» : ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقول أبى نواس: أنا استدعيت عفوك من قريب ... كما استعفيت سخطك من بعيد؛

وأما السجع

ومن مقابلة أربع بأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى المقابل بقوله تعالى: «اسْتَغْنَى» * قوله تعالى: «وَاتَّقى» * لأن معناه: زهد فيما عند الله واستغنى بشهوات الدنيا عن نعم الآخرة، وذلك يتضمّن عدم التقوى، ومنه قول النابغة: إذا وطئا سهلا أثارا عجاجة ... وإن وطئا حزنا تشظّى الجنادل؛ ومن مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبّى: أزورهم وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى وبياض الصبح يغرى بى قابل أزور بأنثنى، وسواد ببياض، والليل بالصبح، ويشفع بيغرى، ولى بقوله: بى. وأما السجع - فهو أن كلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة «1» الأعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض أن يجانس بين قرائن، ويزاوج بينها، ولا يتمّ ذلك إلا بالوقف، ألا ترى الى قولهم: «ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت» فلو ذهبت تصل لم يكن بدّ من إعطاء أواخر القرائن ما يقتضيه حكم الإعراب، فتختلف أواخر القرائن، ويفوت الساجع غرضه، واذ رأيناهم يخرجون الكلمة عن أوضاعها للازدواج فيقولون: أتيتك بالغدايا والعشايا، وهنأنى الطعام ومرأنى، وأخذه ما قدم وما حدث، «وانصرفن مأزورات غير مأجورات» ، يريد الغدوات، وأمرأنى وحدث، وموزورات، مع أن فيه ارتكابا لمخالفة اللّغة [فما الظنّ بأواخر «2» الكلم المشبّهة بالقوافى] .

قال: والسجع أربعة أنواع وهى: الترصيع والمتوازى والمطرف والمتوازن.

قال: والسجع أربعة أنواع وهى: الترصيع والمتوازى والمطرّف والمتوازن. أما الترصيع - فهو أن تكون الألفاظ مستوية الأوزان متّفقة الأعجاز، كقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اقبل توبتى، واغسل حوبتى» وقولهم: فلان يفتخر بالهمم العالية، لا بالرمم الباليه؛ وقولهم: عاد تعريضك تصريحا، وتمريضك تصحيحا؛ ومن النظم قول الخنساء: حامى الحقيقة محمود الخليقة مهدىّ ... الطريقة نفّاع وضرّار جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عقّاد ألوية للخيل جرّار وقد يجىء مع التجنيس، كقولهم: اذا قلّت الأنصار، كلّت الأبصار؛ وما وراء الخلق الدّميم، إلا الخلق الذميم؛ ومن النظم قول المطرّزى «1» : وزند ندى فواضله ورىّ ... ورند ربا فضائله نضير ودرّ جلاله أبدا ثمين ... ودرّ نواله أبدا غزير. وأما المتوازى - فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اتفاق الحرف الأخير منهما، كقوله عزّ وجلّ: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ.

وأما المطرف

وقول الحريرىّ: ألجأنى حكم دهر قاسط، الى أن أنتجع أرض واسط «1» . وقوله: وأودى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت. وأما المطرّف - فهو أن يراعى الحرف الأخير فى كلمتى قرينتيه من غير مراعاة الوزن، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً وقولهم: جنابه محطّ الرحال، ومخيّم الآمال. وأما المتوازن - فهو أن يراعى فى الكلمتين الأخيرتين من القرينتين الوزن مع اختلاف الحرف الأخير منهما، كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ وقولهم: اصبر على حرّ القتال، ومضض النّزال «2» ، وشدّة المصاع، ومداومة المراس؛ فإن راعى الوزن فى جميع كلمات القرائن أو أكثرها، وقابل الكلمة منها بما يعادلها وزنا كان أحسن، كقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وقول الحريرىّ: اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى الأسود؛ ويسمّى هذا فى الشعر الموازنة، كقول البحترىّ: فقف مسعدا فيهنّ إن كنت عاذرا ... وسر مبعدا عنهنّ إن كنت عاذلا

قال: ومما هو شرط الحسن فى هذا المحافظة على التشابه، وهو اسم جامع للملاءمة والتناسب. فالملاءمة: تأليف الألفاظ الموافية بعضها لبعض على ضرب من الاعتدال كقول لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يعود رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وبعضهم يعدّ التلفيق من باب الملاءمة، وهو أن تضمّ الى ذكر الشىء ما يليق به ويجرى مجراه، أى تجمع الأمور المناسبة، ويقال له: مراعاة النظير أيضا، كقول ابن سمعون للمهلّبىّ «1» : أنت أيها الوزير إبراهيمىّ الجود، إسماعيلىّ الوعد، شعيبىّ التوفيق، يوسفىّ العفو، محمدىّ الخلق. وكقول أبى الفوارس «2» الحمدانىّ: أأخا «3» الفوارس لو رأيت مواقفى ... والخيل من تحت الفوارس تنحط «4» لقرأت منها ما تخطّ يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنّة تنقط

فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها

وكقول آخر: وكم سائل بالغيب عنك أجبته ... هناك الأيادى الشّفع والسّودد الوتر عطاء ولا منّ وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعزّ ولا كبر وقول ابن حيّوس «1» : يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر والتناسب: هو ترتيب المعانى المتآخية التى تتلاءم ولا تتنافر، كقول النابغة: والرفق «2» يمن والأناة سعادة ... فاستأن فى رزق تنال نجاحا واليأس عمّا فات يعقب راحة ... ولرب مطمعة تعود ذباحا ويسمّى التشابه أيضا، وقيل: التشابه أن تكون الألفاظ غير متباينة بل متقاربة فى الجزالة والرّقة والسّلاسة، وتكون المعانى مناسبة لألفاظها من غير أن يكسو «3» اللفظ الشريف المعنى السخيف، أو على الضدّ، بل يصاغان معا صياغة تناسب وتلائم. فصل فى الفقر المسجوعة ومقاديرها قال: قصر الفقرات يدلّ على قوّة التمكّن وإحكام الصناعة، وأقلّ ما تكون كلمتان، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وأمثال ذلك فى الكتاب العزيز كثيرة، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر، وكان بديع الزمان يكثر من

ذلك فى رسائله، كقوله: كميت «1» نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر. قالوا: لكن التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه الى ما يرد متزايدا على سمعه. فأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى ولكن لا بقدر كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فيقلّ الالتذاذ بسماعها، فإن زادت القرائن على اثنين فلا يضرّ تساوى القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة عليهما وإن زادت الثانية عن الأولى يسيرا، [والثالثة «2» على الثانية] فلا بأس، لكن لا يكون أكثر من المثل، ولا بدّ من الزيادة فى آخر القرائن، مثاله فى القرينتين: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ومثاله فى الثالثة قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وأقصر الطّوال ما كان من «3» إحدى عشرة لفظة وأكثرها غير مضبوط، مثاله من إحدى عشرة لفظة: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ والتى «4» بعدها من ثلاث عشرة كلمة؛ ومثاله من عشرين لفظة قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.

وأما رد العجز على الصدر

وأما ردّ العجز على الصدر - فهو كل كلام منثور أو منظوم يلاقى آخره أوّله بوجه من الوجوه، كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى وقولهم: «القتل أنفى للقتل» و «الحيلة ترك الحيلة» وقولهم: طلب ملكهم فسلب ما طلب، ونهب ما لهم فوهب ما نهب. وهو فى النّظم على أربعة أنواع: الأوّل: أن يقعا طرفين، إما متفقين صورة ومعنى، كقوله: سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعى الندى بسريع وقوله: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران؛ أو متفقين صورة لا معنى، وهو أحسن من الأوّل، كقول السّرىّ: يسار من سجيّتها المنايا ... ويمنى من عطيّتها اليسار وقول الآخر: ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منّا النفوس ذوائب؛ أو معنى لا صورة «1» ، كقول عمر بن أبى ربيعة: واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد وقول السّرىّ: ضرائب أبدعتها فى السّماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا

الثانى: أن يقعا فى حشو المصراع الأول وعجز الثانى،

وقول الآخر: ثلبك أهل الفضل قد دلّنى ... أنك منقوص ومثلوب أولا صورة ولا معنى ولكن بينهما مشابهة اشتقاق، كقول الحريرى: ولاح يلحى على جرى العنان الى ... ملها فسحقا له من لائح لاحى الثانى: أن يقعا فى حشو المصراع الأوّل وعجز الثانى، إما متفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام: ولم يحفظ مضاع المجد شىء ... من الأشياء كالمال المضاع وقول آخر: أمّا القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور أو صورة لا معنى، كقول الثعالبىّ: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل فالأوّل جمع بلبل، والثانى جمع بلبلة وهى الهمّ [والثالث «1» جمع بلبلة الإبريق] وقول الزمخشرىّ: وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا ... لأنهم «2» لا يعلمون وأعلم فمذ أفلح الجهّال أعلم «3» أننى ... أنا الميم والأيام أفلح «4» أعلم

الثالث: أن يقعا فى آخر المصراع الأول وعجز الثانى،

أو معنى لا صورة، كقول امرئ الفيس: إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شىء سواه بخزّان وقول أبى تمّام: دمن ألّم بها فقال سلام ... كم حلّ عقدة صبره الإلمام وقول أبى فراس: وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الأحبّة ما أشابا؛ أو فى الاشتقاق فقط، كقول أبى فراس: منحناها الحرائب «1» غير أنا ... إذا جرنا منحناها الحرابا؛ الثالث: أن يقعا فى آخر المصراع الأوّل وعجز الثانى، إما متّفقين صورة ومعنى كقول أبى تمّام: ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما؛ أو صورة لا معنى، كقول الحريرىّ: فمشغوف بآيات المثانى ... ومفتون برنّات المثانى؛ أو معنى لا صورة، كقول البحترىّ: ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع؛ الرابع: أن «2» يقعا فى أوّل المصراع الثانى والعجز، إما متّفقين صورة ومعنى كقول الحماسىّ:

فإلّا يكن إلا معلّل «1» ساعة ... قليلا فإنى نافع لى قليلها أو صورة لا معنى، كقول أبى دؤاد: عهدت «2» لها منزلا داثرا ... وآلا على الماء يحملن آلا فالأوّل الأتباع «3» ، والثانى أعمدة الخيام، وكقول آخر: رماك زمان السّوء من حيث لا ترى ... فرامى ولم يظفر بما هو راما أو معنى لا صورة، كقول أبى تمّام: ثوى فى الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر «4» صرف الدهر نائله الغمر وقد كانت البيض البواتر فى الوغى ... بواتر فهى الآن من بعده بتر قال: ومن نوادر هذا الباب بيتا الحريرىّ اللذان سمّاهما المطرّفين، وهما: سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه والمكرمهما اسطعت لا تأته ... لتبتغى السّودد والمكرمه. قال: فإن لم يقع فى العجز فليس من هذا الباب، كقوله: ونبّئتهم يستنصرون بكاهل ... وللّؤم فيهم كاهل وسنام

وأما الإعنات

وكقول الأفوه الأودىّ: وأقطع الهوجل مستأنسا ... بهوجل عيرانة «1» عنتريس فالهوجل الأوّل: الفلاة، والثانى: الناقة السريعة. وأما الإعنات - ويقال له التضييق والتشديد ولزوم ما لا يلزم- فهو أن يعنت نفسه فى التزام ردف أو دخيل أو حرف مخصوص قبل حرف الروىّ، أو حركة مخصوصة، كقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهم بك أحاول، وبك أصاول» وقوله عليه الصلاة والسلام «شرّ ما فى المرء شحّ هالع، أو جبن خالع «2» » وقوله عليه الصلاة والسلام: «زرغبّا تزدد حبّا» وقول عمر رضى الله عنه: لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا؛ وقول المعرّى: ضحكنا وكان الضّحك منا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا يحطّمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له السّبك وقول آخر: يقولون فى البستان للعين لذّة ... وفى الخمر والماء الذى غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلّها ... ففى وجه من تهوى جميع المحاسن وقد التزم ابن الرومىّ الفتح قبل حرف الروىّ- وكان أولع الناس بذلك- فقال: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وأما المذهب الكلامى

وإلا فما يبكيه فيها «1» وإنّها ... لأوسع ممّا كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سيلاقى من أذاها يهدّد وأمثال ذلك فى الشعر كثيرة. وأما المذهب الكلامىّ - فهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام نحو قوله عز وجل: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ومنه قول النابغة يعتذر إلى النّعمان: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلّغت عنّى جناية ... لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولكنّنى كنت امرءا لى جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان اذا ما مدحتهم ... أحكّم فى أموالهم وأقرّب كفعلك فى قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا يقول: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلىّ قوم فمدحتهم، فكما أنّ مدح من أحسنت إليه لا يعدّ ذنبا فكذا مدحى لمن أحسن إلىّ لا يعدّ ذنبا. قال ابن أبى الإصبع، ومن شواهد هذا الباب قول الفرزدق: لكلّ امرئ نفسان نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للنّدى ... إذا قلّ من أحرارهنّ شفيعها يقول: لكلّ إنسان نفسان: نفس مطمئنة تأمره بالخير، ونفس أمّارة تأمره بالشرّ، والإنسان يعاصى الأمارة مرّة ويطيعها أخرى، وأنت إذا أمرتك الأمّارة

وأما حسن التعليل

بترك النّدى شفعت المطمئنة إليها فى النّدى فى الحالة التى يقلّ فيها الشفيع فى النّدى من النفوس، فأنت أكرم الناس. وأما حسن التعليل - فهو أن يدّعى لوصف علّة مناسبة له باعتبار لطيف وهو أربعة أضرب: لأنّ الصفة إمّا ثابتة قصد بيان علّتها، أو غير ثابتة أريد إثباتها فالأولى إمّا لا يظهر لها فى العادة علّة، كقوله: لم يحك نائلك السحاب وإنّما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء «1» أو يظهر لها علّة، كقوله: ما به قتل أعاديه ولكن ... يتّقى إخلاف ما ترجو الذئاب «2» فإنّ قتل الأعداء فى العادة لدفع مضرّتهم لا لما ذكره. والثانية إما ممكنة «3» ، كقوله: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجّى حذارك «4» إنسانى من الغرق فإن استحسان إساءة الواشى ممكن، لكن لمّا خالف الناس فيه عقّبه بما ذكر. أو غير ممكنة، كقوله: لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته ... لما أتت وعليها عقد منتطق. «5»

وأما الالتفات

قال: وألحق به ما بنى على الشكّ، كقول أبى تمّام: ربّا شفعت ريح الصّبا لرياضها ... إلى المزن حتى جادها وهو هامع كأنّ السحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع وقد أحسن ابن رشيق فى قوله: سألت الأرض لم كانت مصلّى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا فقالت غير ناطقة لأنى ... حويت لكلّ إنسان حبيبا. وأما الالتفات - فقد فسّره قدامة بأن قال: هو أن يكون المتكلّم «1» آخذا فى معنى فيعترضه إما شكّ فيه وإما ظنّ أنّ رادّا يردّه عليه، أو سائلا له عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلّى الشكّ، أو يؤكّده، أو يذكر سببه، كقول الرمّاح بن ميّادة: فلا صرمه يبدو ففى اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه كأنه توهّم أن فلانا يقول: ما تصنع بصرمه؟ فقال: لأن فى اليأس راحة. وأما ابن المعتزّ فقال: الالتفات انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله فى القرآن العزيز الإخبار بأنّ الحمد لله رب العالمين، [ثم قال «2» ] : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومثاله فى الشعر قول جرير: متى كان الخيام بذى «3» طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام؛

أو انصراف المتكلّم عن المخاطبة [الى الإخبار «1» ] ، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ومثال ذلك فى الشعر قول عنترة: ولقد نزلت فلا تظنّى غيره ... منّى بمنزلة المحبّ المكرم ثم قال مخبرا عنها: كيف المزار وقد تربّع أهلها، بعنيزتين ... «2» وأهلنا بالغيلم؛ أو انصراف المتكلّم من الإخبار إلى التكلّم، كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ ؛ أو انصراف المتكلّم من التكلّم إلى الإخبار، كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ «3» يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ* وقد جمع امرؤ لاقيس لاالتفاتات الثلاثة فى ثلاثة أبيات متواليات، وهى قوله: تطاول ليلك بالإثمد «4» ... ونام الخلىّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر «5» الأرمد وذلك من نبإ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود

وأما التمام

يخاطب فى البيت الأوّل، وانصرف إلى الإخبار فى البيت الثانى، وانصرف عن الإخبار الى التكلّم فى البيت الثالث على الترتيب. وأما التمام - وهو الذى سماه الحاتمىّ التتميم، وسماه ابن المعتز اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمّمه، وشرح حدّه بأنه الكلمة التى إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تامّ؛ وهو على ضربين: ضرب فى المعانى وضرب فى الألفاظ، فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى والذى فى الألفاظ هو تتميم الأوزان، والأوّل هو الذى قدّم حدّه، ومثاله قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى * [تتميم، وقوله «1» : وَهُوَ مُؤْمِنٌ* ] تتميم ثان فى غاية البلاغة، ومن هذا القسم قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يصلى لله كل يوم اثنتى عشرة ركعة من غير الفريضة إلا ابتنى الله له بيتا فى الجنة» فوقع التتميم فى هذا الحديث فى ثلاثة مواضع: قوله عليه السلام: مسلم، ولله، ومن غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر «2» : أناس إذا لم يقبل الحقّ منهم ... ويعطوه عادوا «3» بالسيوف القواضب. وأما الذى فى الألفاظ فهو الذى يؤتى به لإقامة الوزن بحيث لو طرحت الكلمة استقلّ معنى البيت بدونها؛ وهو على ضربين: أحدهما مجىء الكلمة لا تفيد غير إقامة

وأما الاستطراد

الوزن فقط، والثانى: مجيئها تفيد مع إقامة الوزن نوعا من الحسن، فالأوّل من العيوب والثانى من المحاسن؛ قال: والكلام هنا فى الثانى، ومثاله قول المتنبىّ: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنّتى لظننت فيه جهنّما فإنه جاء بقوله يا جنتى لإقامة الوزن، وقصد بها دون غيرها مما يسدّ مسدّها أن يكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لا تحصل بغيرها. وأما الاستطراد - وهذه التسمية ذكر الحاتمىّ فى حلية المحاضرة أنه نقلها عن البحترىّ، وقيل: أن البحترىّ نقلها عن أبى تمّام، وسماه ابن المعتز: الخروج من معنى إلى معنى، وفسّره بأن قال: هو أن يكون المتكلّم فى معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمّن مدحا أو قدحا أو وصفا ما، وغالب وقوعه فى الهجاء، ولا بد من [ذكر «1» ] المستطرد به باسمه بشرط أن لا يكون تقدّم له ذكر. فمن أوّل «2» ما ورد فى ذلك من النظم قول السموءل بن عادياء: وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول ومنه قول حسّان: إن كنت كاذبة الذى حدّثتنى ... فنجوت منجا الحارث بن هشام ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة «3» ولجام

وقول أبى تمّام فى وصف حافر «1» الفرس بالصلابة: أيقنت «2» إن لم تثبّت أنّ حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول ابن الزّمكدم أربعة استطرادات متوالية: وليل كوجه البرقعيدىّ «3» ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومى فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد «4» ودينه على أولق «5» فيه التفات «6» كأنه ... أبو صالح «7» فى خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش «8» وضوء جبينه وقول البحترىّ فى الفرس أيضا: ما إن يعاف قذّى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول ومما جمع المدح والهجاء قول بكر بن النّطّاح: فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب

وأما تأكيد المدح بما يشبه الذم

ومما جاء «1» به على وجه المجون قول بعضهم: اكشفى وجهك الذى أوحلتنى ... فيه من قبل كشفه عيناك غلطى فى هواك يشبه عندى ... غلطى فى أبى علىّ بن زاكى ومما جاء فى النسيب «2» على وجه التشبيه قول امرئ القيس: عوجا على الطلل المحيل لعلّنا ... نبكى الديار كما بكى ابن حمام «3» . وأما تأكيد المدح بما يشبه الذمّ - فهو ضربان: أفضلهما أن يستثنى من صفة ذمّ منفيّة عن الشىء صفة مدح «4» بتقدير دخولها فيها، نحو قوله تعالى: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشىء ببيّنة، وأن الأصل فى الاستثناء الاتصال، فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج الشىء ممّا قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد. والثانى: أن يثبت لشىء صفة مدح ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش» وأصل الاستثناء فى هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا، لكنه باق على حاله لم يقدّر

وأما تأكيد الذم بما يشبه المدح

متصلا فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثانى من الوجهين المذكورين، ولهذا كان الأوّل أفضل. ومن أمثلة الأوّل قول النابغة الذّبيانى: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب ومن أحسن ما قيل فى ذلك قول حاتم الطائىّ: ولا تشتكينى جارتى غير أننى ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها ومن الثانى قول النابغة الجعدىّ: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا ومن أحسن ما ورد فى هذا الباب قول بعضهم «1» : ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا ... أضرّ بنا والبأس «2» من كلّ جانب فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عاتب. وأما تأكيد الذمّ بما يشبه المدح - فهو ضربان: أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفيّة عن الشىء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيها كقولك: فلان لا خير فيه إلّا أنه يسىء «3» إلى من أحسن اليه. والثانى: أن تثبت للشىء صفة ذمّ وتعقّب بأداة استثناء تليه صفة ذمّ له أخرى كقولك: فلان فاسق إلّا أنه جاهل، وتحقيق القول فيها على قياس ما تقدّم.

وأما تجاهل العارف

وأما تجاهل العارف - فهو سؤال المتكلّم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذمّ، أو ليدلّ على شدّة التدلّه فى الحبّ، أو لقصد التعجّب أو التوبيخ أو التقرير؛ وقال السكاكىّ: هو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة «1» كالتوبيخ، كما فى قول الخارجيّة وهى ليلى بنت طريف: أيا شجر الخابور «2» مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف والمبالغة فى المدح، كقول البحترىّ: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحى أو الذمّ، كما قال زهير: وما أدرى ولست «3» إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء أو التدلّه فى الحبّ، كقوله: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر «4» وقول البحترىّ: بدا فراع فؤادى حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك.

وأما الهزل الذى يراد به الجد

وأما الهزل الذى يراد به الجدّ - فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان أو مدحه فيخرج ذلك مخرج المجون، كقول الشاعر «1» : إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضبّ. وأما الكنايات - فهى أن يعبّر المتكلّم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن وعن الفاحش بالطاهر، وقد تقدّم الكلام على ذلك فى باب الكناية والتعريض وهو الباب الرابع من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث من كتابنا هذا. وأما المبالغة - وتسمّى التبليغ والإفراط فى الصفة- فقد حدّها قدامة بأن قال: هى أن يذكر المتكلّم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد فى معنى ما ذكره ما يكون أبلغ فى معنى قصده، كقول عمير «2» بن كريم التغلبىّ: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا ومن أمثلة المبالغة المقبولة قول امرئ القيس يصف فرسا: فعادى عداء «3» بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل يقول: إنه أدرك ثورا وبقرة فى مضمار واحد ولم يعرق. وقول المتنبى: وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب

وأما عتاب المرء نفسه

ولا يعاب فى المبالغة إلا ما خرج عن حدّ الإمكان، كقوله: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التى لم تخلق «1» وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها ملكت بها كفّى فأنهرت «2» فتقها ... يرى قائما من دونها ما وراءها فإنّ ذلك من جيّد المبالغة إذ لم يكن قد خرج مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية فى وصف الطعنة، ومن أحسن ذلك وأبلغه قول أحد شعراء الحماسة: رهنت يدى بالعجز عن شكر برّه ... وما بعد «3» شكرى للشكور مزيد ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكنّ ما لا يستطاع شديد. وأما عتاب المرء نفسه - فهو من أفراد ابن المعتزّ، ولم ينشد عليه سوى بيتين ذكر أن الآمدىّ «4» أنشدهما عن الجاحظ وهما: عصانى قومى فى الرشاد الذى به ... أمرت ومن يعص المجرّب يندم فصبرا بنى بكر على الموت إننى ... أرى عارضا ينهلّ بالموت والدم قال: ولا يصلح أن يكون شاهدا لهذا الباب إلا قول أحد شعراء الحماسة: أقول لنفسى فى الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلّد والصبر

وأما حسن التضمين

وقول الآخر: فقدتك من نفس شعاع «1» فإننى ... نهيتك عن هذا وأنت جميع وما ناسب ذلك من الأمثلة. وأما حسن التضمين - فهو أن يضمّن المتكلّم كلامه كلمة من آية أو حديث أو مثل سائر أو بيت شعر؛ ومن إنشادات ابن المعتزّ عليه: عوّذ لما بتّ ضيفا له ... أقراصه منّى بياسين فبتّ والأرض فراشى وقد ... غنّت قفا نبك مصارينى فضمّن بيته الأوّل كلمة من السورة بتوطئة حسنة، وبيته الثانى مطلع قصيدة امرئ القيس. ومما ضمّن معنى حديث النبىّ صلّى الله عليه وسلم قول الآخر: وأخ «2» مسّه نزولى بقرح ... مثلما مسّنى من الجوع قرح بتّ ضيفا له كما حكم الدهر ... وفى حكمه على الحرّ قبح قال لى مذ نزلت وهو من السكرة ... بالهمّ طافح ليس يصحو: لم تغرّبت؟ قلت: قال رسول الل ... هـ والقول منه نصح ونجح: «سافروا تغنموا» فقال: وقد قال ... تمام الحديث: «صوموا تصحّوا» ومن تضمين الشعر قول بعضهم: وقفنا بأنضاء حكتنا «3» لواغب ... «على مثلها من أربع وملاعب» وهو مطلع قصيدة لأبى تمام،

وأما التلميح

ومنه قول الغزّى: طول حياة ما لها طائل ... نغّص عندى كلّ ما يشتهى أصبحت مثل الطفل فى ضعفه ... تشابه المبدأ والمنتهى فلا تلم سمعى إذا خاننى ... «إنّ الثمانين وبلّغتها» المراد من التضمين هاهنا تمام البيت: ... قد أحوجت سمعى إلى ترجمان وإنما تركه لأن أوّل البيت يدلّ عليه لاشتهاره، وهذا قد أكثر المتأخرون من استعماله فى أشعارهم، وضمّنوا البيت الكامل بعد التوطئة له. وأما التلميح - وهو من التضمين، وإنما بعضهم أفرده- فهو أن يشير فى فحوى الكلام إلى مثل سائر، أو بيت مشهور، أو قضية معروفة من غير أن يذكره، كقول الشاعر: المستغيث بعمرو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار أشار إلى قضيّة كليب حين استغاث بعمرو بن الحارث؛ ومنهم من يسمّى ذلك اقتباسا، وإيراد المثل كما هو تضمينا. وأما إرسال المثل - فهو كقول أبى فراس: تهون علينا فى المعالى نفوسنا ... ومن يخطب العلياء لم يغله «1» المهر وكقول المتنبىّ: تبكّى عليهنّ البطاريق فى الدجى ... وهنّ لدينا ملقيات كواسد بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد.

وأما إرسال مثلين

وأما إرسال مثلين - فهو الجمع بين مثلين، كقول لبيد: ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل وابيات زهير بن أبى سلمى التى فيها ومن ومن، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى باب الأمثال، وهو الباب الأوّل من القسم الثانى من هذا الفنّ، وهو فى السّفر الثالث. وأما الكلام الجامع فهو أن يكون البيت كلّه جار يا مجرى مثل واحد كقول زهير: ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يصانع فى أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم «1» ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكقول أبى فراس: إذا كان غير الله فى عدّة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد وكقول المتنبىّ: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم وقوله: ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ وقوله: ومن البليّة عذل من لا يرعوى ... عن جهله وخطاب من لا يفهم وقوله: إنا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال.

وأما اللف والنشر

وأما الّلفّ والنشر - فهو أن يذكر اثنين فصاعدا ثم يأتى «1» بتفسير ذلك جملة مع رعاية الترتيب ثقة بأن السامع يردّ إلى كل واحد منها ما له، كقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ؛ ومن النظم قول الشاعر: ألست أنت الذى من ورد نعمته ... وورد راحته أجنى وأغترف وقد لا يراعى فيه الترتيب ثقة بأن السامع يردّ كل شىء إلى موضعه سواء تقدّم أو تأخر، كقول الشاعر: كيف أسلو وأنت حقف «2» وغصن ... وغزال لحظا وقدّا وردفا. وأما التفسير - وهو قريب منه- فهو أن يذكر لفظا ويتوهّم أنه يحتاج إلى بيانه فيعيده مع التفسير، كقول أبى مسهر: غيث وليث [فغيث «3» ] حين تسأله ... عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام ومنه قول الشاعر: يحيى ويردى بجدواه وصارمه ... يحيى العفاة ويردى كلّ من حسدا ومن ذلك أن يذكر معانى ويأتى بأحوالها من غير أن يزيد أو ينقص كقول الفرزدق: لقد جئت قوما لو لجأت إليهمو ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج «4» المقوّم لكنه لم يراع شرط اللّفّ والنشر

وأما التعديد

وقول آخر: فوا حسرتا حتى متى القلب موجع ... بفقد حبيب أو تعذّر إفضال فراق حبيب مثله يورث الأسى ... وخلّة حرّ لا يقوم بها مالى «1» ومنه قول ابن شرف: سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل ومن احسن ما فى هذا الباب قول ابن الرومىّ: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم وفساد ذلك أن يأتى بإزاء الشىء بما لا يكون مقابلا له، كقول الشاعر: فيأيها الحيران فى ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغى من العدا تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفّيه بحرا من الندى فأتى بالندى بإزاء بغى العدا، وكان يجب أن يأتى بإزائه بالنصر أو العصمة أو الوزر وما جانسه، أو يذكر فى موضع البغى الفقر والعدم وما جانس ذلك. وأما التعديد - ويسمّى سياقة الأعداد- فهو إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد، فإن روعى فى ذلك ازدواج أو جناس أو تطبيق أو نحو ذلك كان غاية فى الحسن، كقولهم: وضع فى يده زمام الحلّ والعقد، والقبول والردّ، والأمر والنهى، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والإعطاء والمنع؛ ومن النظم قول المتنبىّ: الخيل والليل والبيداء تعرفنى ... والضرب والطعن والقرطاس والقلم.

وأما تنسيق الصفات

وأما تنسيق الصفات - فهو أن يذكر الشىء بصفات متوالية، كقوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الآية، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وقول النبى صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون» ؛ ومن النظم قول أبى طالب فى النبى صلّى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقول المتنبىّ: دان بعيد محبّ مبغض بهج ... أغرّ حلو ممرّ ليّن شرس. وأما الإيهام - ويقال له التورية والتخييل- فهو أن يذكر ألفاظا لها معان قريبة وبعيدة، فإذا سمعها الإنسان سبق إلى فهمه القريب، ومراد المتكلّم البعيد مثاله قول عمر بن أبى ربيعة: أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هى شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يمانى فذكر الثريا وسهيلا ليوهم السامع أنه يريد النجمين، ويقول: كيف يجتمعان والثريّا من منازل القمر الشاميّة، وسهيل من النجوم اليمانيّة؟ ومراده الثريّا التى كان يتغزّل بها لمّا زوّجت بسهيل؛ ومن ذلك قول المعرّى: إذا صدق الجدّ افترى العمّ للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال

فإنّ وهم السامع يذهب إلى الأقارب، ومراده بالجدّ: الحظّ، وبالعمّ: الجماعة من الناس، وبالخال: المخيلة، ومن ذلك قول الحريرىّ فى [وصف «1» الإبرة والميل فى] المقامة الثامنة: وقوله أيضا: يا قوم كم من عاتق «2» عانس ... ممدوحة الأوصاف فى الأنديه قتلتها لا أتقى وارثا ... يطلب منّى قودا أو ديه يريد بالعاتق العانس: الخمر، وبقتلها: مزجها، كما قال حسّان: إن التى عاطيتنى فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل وأمثال ذلك كثيرة. وعند علماء البيان: التخييل تصوير حقيقة الشىء للتعظيم، كقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والغرض منه تصوير عظمته والتوقيف «3» على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما نحن حفنة من حفنات ربّنا» قال الزمخشرى: ولا يرى باب فى علم البيان أدقّ ولا ألطف من هذا الباب.

وأما حسن الابتداءات

وأما حسن الابتداءات - قال: هذه تسمية ابن المعتزّ، وأراد بها ابتداءات القصائد، وفرّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وهو أن يأتى الناظم أو الناثر فى ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدلّ على مراده فى القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده؛ والكاتب أشدّ ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتنى كلامه على نسق واحد دلّ عليه من أوّل علم بها مقصده «1» ، إما فى خطبة تقليد، أو دعاء كتاب، كما قيل لكاتب: اكتب إلى الأمير بأن بقرة ولدت حيوانا على شكل الإنسان، فكتب: أما بعد حمد الله خالق الإنسان فى بطون الأنعام وكقول أبى الطيّب فى الصلح الذى وقع بين كافور وبين ابن مولاه: حسم الصلح ما اشتهته الأعادى ... وأذاعته ألسن الحسّاد وأمثال ذلك. قال: وينبغى أن لا يبتدئ بشىء يتطيّر منه، كقول ذى الرّمّة: ما بال عينك منها الماء ينسكب وقول البحترى: لك الويل من ليل تقاصر آخره وكقول المتنبىّ: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وكقوله: ملثّ «2» القطر أعطشها ربوعا ... وإلّا فاسقها السّمّ النقيعا

قال: وينبغى أن يراعى فى الابتداءات ما يقرب من المعنى إذا لم تتأت له براعة الاستهلال، وتسهيل اللفظ وعذوبته وسلاسة ألفاظه، وقيل: إن أحسن ابتداء ابتدأت به العرب قول النابغة: كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب ومن أحسن ما ابتدأ به مولّد قول إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إنّ عهدى بالنوم عهد طويل ويحسن أن يبتدئ فى المديح بمثل قول أبزون العمانىّ: على منبر العلياء «1» جدّك يخطب ... وللبلدة العذراء سيفك يخطب وقول المتنبىّ: عدوّك مذموم بكلّ لسان ... وإن كان من أعدائك القمران وقول التّيفاشى: ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على وفى التشبيب كقول أبى تمّام: على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب وفى النسيب كقول المتنبىّ: أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدمع خلقة فى المآقى وفى المراثى كقول أبى تمّام: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر.

وأما براعة التخليص

وأما براعة التخليص - فهو أن يكون التشبيب أو النسيب ممزوجا بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه، كقول مسلم بن الوليد: أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك تنشر نصبت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر وكقول المتنبىّ: نودّعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبى الهيجاء فى قلب فيلق. وأما براعة الطلب - قال: وهو أن تكون ألفاظ الطلب مقترنة بتعظيم الممدوح، كقول أميّة بن أبى الصّلت: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء وكقول المتنبىّ: وفى النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتى بيان عندها وخطاب. وأما براعة المقطع - فهو أن يكون آخر الكلام الذى يقف عليه المترسّل أو الخطيب أو الشاعر مستعذبا حسنا، لتبقى لذّته فى الأسماع، كقول أبى تمام: أبقت بنى الأصفر المصفّر كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب وكقول المتنبىّ: وأعطيت الذى لم يعط خلق ... عليك صلاة ربّك والسلام وكقول الغزّى: بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل.

وأما السؤال والجواب

وأما السؤال والجواب - فهو كقول أبى فراس: لك جسمى تعلّه ... فدمى لم تطلّه «1» ؟ قال إن كنت مالكا ... فلى الأمر كلّه وأمثال ذلك. وقد أوردنا منه فى باب الغزل ما فيه كفاية. وأما صحة الأقسام - فهو عبارة عن استيفاء أقسام المعنى الذى هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا؛ ومثال ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وليس فى رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع فى المطر؛ وقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ فلم يبق قسما من أقسام الهيئات حتى أتى به؛ وقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» ولا رابع لهذه الأقسام؛ ووقف أعرابىّ على حلقة الحسن البصرىّ فقال: رحم الله من تصدّق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت؛ فقال الحسن: ما ترك الأعرابىّ منكم أحدا حتى عمّه بالمسألة؛ ومن أمثلة هذا الباب فى الشعر قول بشّار: فراح فريق فى الإسار ومثله ... قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه

وأما التوشيح

وأصله قول عمرو بن الأهتم: إشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير ومن جيد صحة الأقسام قول الحماسىّ: وهبها كشىء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيّبته المقابر فاستوفى جميع أقسام المعدوم؛ وقول أبى تمّام فى الأفشين لما احترق بالنار: صلّى لها حيّا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجّار ومن قديم ما فى ذلك من الشعر قول زهير: وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عمى ومن النادر فى صحة الأقسام قول عمر بن أبى ربيعة: تهيم إلى نعم فلا الشّمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلى ولا أنت تصبر. وأما التوشيح - فهو أن يكون معنى الكلام يدلّ على لفظ آخره، فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزّل أوّل الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح. وقال قدامة: هو أن يكون فى أوّل البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدّم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه «1» ، كقول الراعى النّميرىّ:

وأما الإيغال

فإن وزن الحصى فوزنت قومى ... وجدت حصى ضريبتهم «1» رزينا فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وعرف القافية والروىّ، علم آخر البيت؛ ومن أمثلته ما حكى عن عمر بن أبى ربيعة أنه أنشد عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما: تشطّ غدا دار أحبابنا فقال له عبد الله: وللدار بعد غد أبعد فقال له عمر: هكذا والله قلت، فقال له عبد الله: وهكذا يكون. وأما الإيغال - فمعناه أن المتكلّم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائدا على معنى الكلام، وأصله من أوغل فى السير إذا بلغ غاية قصده بسرعة. وفسّره قدامة بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتى بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها أفاد معنى زائدا على معنى البيت، كقول ذى الرّمّة: قف العيس فى آثار ميّة واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل «2» فتمّم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدا، وكذلك صنع فى البيت الثانى فقال: أظنّ الذى يجدى عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصّل فإنه تمّم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية، فأتى بها تفيد معنى زائدا لو لم يؤت بها لم يحصل.

وحكى عن الأصمعىّ أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذى يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرا، وينقضى كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعانى امرئ القيس حيث قال: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع «1» الذى لم يثقّب ونحو زهير حيث يقول: كأنّ فتات العهن فى كلّ منزل ... نزلن به حبّ الفنا «2» لم يحطّم ومن أبلغ ما وقع فى هذا الباب قول الخنساء: وإنّ صخرا لتأتمّ العفاة «3» به ... كأنه علم فى رأسه نار ومنه قول ابن المعتزّ لابن طباطبا العلوى: فأنتم «4» بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمّه المسلم ومن أمثلة ذلك من شعر المتأخرين قول الباخرزىّ: أنا فى فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترنى فقلت لها وأين فؤادى وقول آخر: تعجّبت من ضنى جسمى فقلت لها ... على هواك فقالت عندى الخبر.

وأما الإشارة

وأما الإشارة - فهى أن يشتمل اللفظ القليل على معان كثيرة بإيماء إليها، وذكر لمحة تدلّ عليها كقوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) . وكقول امرئ القيس: فإن تهلك شنوءة «1» أو تبدّل ... فسيرى إنّ فى غسّان خالا بعزّهمو عززت وإن يذلّوا ... فذلّهمو أنا لك ما أنالا وكقوله أيضا: فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل فى نعيم نحسه متغيّب. وأما التذييل - وهو ضدّ الإشارة- فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكّد عند من فهمه، كقوله: إذا ما عقدنا له ذمّة ... شددنا العناج «2» وعقد الكرب وقول آخر: ودعوا نزال فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ويقرب منه التكرار، كقول عبيد: هل لا سألت جموع كن ... دة يوم ولّوا أين أينا؟

وأما الترديد

وكقول آخر: وكانت فزارة تصلى بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا. وأما الترديد - فهو أن تعلّق لفظة فى البيت بمعنى، ثم تردّها فيه بعينها وتعلّقها بمعنى آخر، كما قال زهير: من يلق يوما على علّاته هرما ... يلقى السماحة منه والندى خلقا وكقول آخر: وأحفظ مالى فى الحقوق وإنه ... لجمّ وإنّ الدهر جمّ عجائبه وكقول أبى نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسّته سرّاء. وأما التفويف - فهو مشتقّ من الثوب المفوّف، وهو الذى فيه خطوط بيض، وهو فى الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتّى من المدح أو الغزل أو غير ذلك من الأغراض، كلّ فنّ فى سجعة منفصلة عن أختها مع تساوى الجمل فى الوزنيّة، وتكون فى الجمل الطويلة والمتوسّطة والقصيرة؛ فمثال ما جاء منه فى الجمل الطويلة قول النابغة الذّبيانىّ: فلله عينا من رأى أهل قبّة ... أضرّ لمن عادى وأكثر نافعا وأعظم أحلاما وأكبر سيّدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا ومثال ما جاء منه بالجمل المتوسطة قول أبى الوليد بن زيدون: ته أحتمل، واستطل أصبر، وعزّ أهنّ ... وولّ أقبل، وقل أسمع، ومر أطع ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبىّ: أقل أنل أقطع آعل علّ سلّ أعد ... زد هشّ بشّ تفضّل أدن سرّ صل.

وأما التسهيم

وأما التسهيم - فهو مأخوذ من البرد المسهّم، وهو المخطّط الذى لا يتفاوت ولا يختلف، ومنهم من يجعل التسهيم والتوشيح شيئا واحدا، ويشرك بينهما بالتسوية، والفرق بينهما أنّ التوشيح لا يدلّك أوّله إلا على القافية فحسب، والتسهيم تارة يدلّ على عجز البيت، وتارة على ما دون العجز؛ وتعريفه أن يتقدّم من الكلام ما يدلّ على ما يتأخر، تارة بالمعنى، وتارة باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذى الكلب، فإن الحذّاق بمعنى الشعر وتأليفه يعلمون أن معنى قولها: فأقسم يا عمرو لو نبّهاك يقتضى أن يكون تمامه: إذن نبّها منك داء عضالا دون غيره من القوافى، كما لو قالت مكان «داء عضالا» : ليثا غضوبا، أو أفعى قتولا، أو سمّا وحيّا، أو ما يناسب ذلك، لأن الداء العضال أبلغ من جميع هذه الأشياء وأشد، إذ كلّ منها يمكن مغالبته أو التوقّى منه، والداء العضال لا دواء له، فهذا مما يعرف بالمعنى؛ وأما ما يدلّ فيه الأوّل على الثانى دلالة لفظيّة فهو قولها «1» بعده: إذن نبّها ليث عرّيسة ... حفيتا حفيدا نفوسا ومالا فإن الحاذق بصناعة الكلام إذا سمع قولها: «حفيتا مفيدا» تحقّق أن هذا اللفظ يقتضى أن يكون تمامه: «نفوسا ومالا» ؛ وكذلك قولها: فكنت النهار به شمسه

وأما الاستخدام

يقتضى أن يكون [بعده «1» ] : وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا ومن ذلك قول البحترىّ: وإذا حاربوا أذلّوا عزيزا يحكم السامع بأن تمامه: وإذا «2» سالموا أعزّوا ذليلا وكذلك قوله: احلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامى فليس الذى حلّلته بمحلّل يعرف السامع أن تمامه: وليس الذى حرّمته بحرام. وأما الاستخدام - فهو أن يأتى المتكلّم بلفظة لها معنيان، ثم يأتى بلفظتين يستخدم كلّ لفظة منهما فى معنى من معنى تلك «3» اللفظة المتقدّمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية من كون كل واحد من البابين «4» مفتقرا إلى لفظة لها معنيان، والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد المعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالها معا، ومن أمثلته قول البحترىّ: فسقى الغضى والسّاكنيه وإن همو ... شبّوه بين جوانح وقلوب

وأما العكس والتبديل

فإن لفظة الغضى محتملة للموضع والشجر، والسّقيا صالحة لهما، فلّما قال: «والساكنيه» استعمل أحد معنى اللفظ، وهو دلالته بالقرينة على الموضع، ولمّا قال: «شبّوه» استعمل المعنى الآخر، وهو دلالته بالقرينة على الشجر؛ ومن ذلك قول الشاعر «1» : إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا أراد بالسماء الغيث، وبضميره النّبت. وأما العكس والتبديل - فهو أن يقدّم فى الكلام أحد جزئيه ثم يؤخّر؛ ويقع على وجوه: منها أن يقع بين طرفى الجملة، كقول بعضهم: عادات السادات، سادات العادات؛ ومنها أن يقع بين متعلّقى فعلين فى جملتين، كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ* ومنه بيت الحماسة: فردّ شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا؛ ومنها أن يقع بين كلمتين فى طرفى جملتين، كقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ وقول أبى الطيّب: ولا مجد فى الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال فى الدنيا لمن قلّ مجده. وأما الرجوع - فهو أن يعود المتكلّم على «2» كلامه السابق بالنقض لنكتة كقول زهير: قف بالديار التى لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والدّيم

وأما التغاير

كأنه لمّا وقف على الديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من التغيّر فقال: «لم يعفها القدم» ثم تاب إليه عقله وتحقّق ما هى عليه من الدروس، فقال: بلى عفت وغيّرها الأرواح والدّيم؛ ومنه بيت الحماسة: أليس «1» قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلّا ليس منك قليل. وأما التغاير - فهو أن يغاير المتكلّم الناس فيما عادتهم أن يمدحوه فيذمّه أو يذمّوه فيمدحه؛ فمن ذلك قول أبى تمّام يغاير جميع الناس فى تفضيل التكرّم على الكرم: قد بلونا أبا سعيد حديثا ... وبلونا أبا سعيد قديما فوردناه سائحا وقليبا ... ورعيناه بارضا وجميعا «2» فعلمنا أن ليس إلا بشقّ النفس ... صار الكريم [يدعى «3» ] كريما وهو مغاير لقوله على العادة المألوفة: لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر ومنه قول ابن الرومىّ فى تفضيل القلم على السيف: إن يخدم القلم السيف الذى خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شىء يعادله ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم

وأما الطاعة والعصيان

كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم وغايره المتنبىّ على الطريق المألوف فقال: حتى رجعت وأقلامى قوائل لى ... المجد للسيف ليس المجد للقلم اكتب بها أبدا قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم. وأما الطاعة والعصيان - فإنه قال: هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعرّى عند نظره فى شعر أبى الطيّب، وسمّاه بهذه التسمية، وقال: هو أن يريد المتكلّم معنى من المعانى «1» التى للبديع فيستعصى عليه لتعذّر دخوله فى الوزن الذى هو آخذ فيه فيأتى موضعه بكلام غيره يتضمّن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير «2» الذى قصده، كقول المتنبىّ: يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد فإنه أراد «3» أن يقول: يردّ يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، حتى إذا قال: ويعصى الهوى فى طيفها وهو راقد يكون فى البيت مطابقة، فلم يطعه الوزن، فأتى بقادر فى موضع مستيقظ لتضمّنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظا وزيادة، فقد عصاه فى البيت الطباق وأطاعه الجناس بين قادر وراقد، وهو جناس العكس؛

وأما التسميط

وأنكر ابن أبى الإصبع أن يكون هذا الشاهد من باب الطاعة والعصيان، لأنه كان يمكنه أن يقول عوض قادر: ساهر، وإنما المتنبىّ قصد أن يكون فى بيته طباق معنوىّ، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كلّ ساهر قادرا، وأن يكون فيه جناس العكس. وقال: إن شاهد الطاعة والعصيان عنده أن تعصيه إقامة الوزن مع إظهار مراده، فتطيعه لفظة من البديع يتمّم بها المعنى وتزيده حسنا، كقول عوف بن محلّم: إن الثمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعى إلى ترحمان فإنه أراد أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعى إلى ترجمان، فعصاه الوزن وأطاعه لفظة من البديع وهى التتميم، فزادته حسنا وكمّلت مراده، وكلّ التتميم من هذا النوع. وأما التسميط - فهو أن يجعل المتكلّم مقاطيع أجزاء البيت أو القرينة على سجع يخالف قافية البيت أو آخر القرينة، كقول مروان بن أبى حفصة: هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا فإن أجزاء البيت مسجّعة على خلاف قافيته فتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء المسجّعة بمنزلة حبّ العقد. وأما التشطير - فهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرّع كلّ شطر من الشطرين، ولكنه يأتى بكلّ شطر من بيته مخالفا لقافية الآخر، كقول مسلم ابن الوليد: موف على مهج فى يوم ذى رهج ... كأنّه أجل يسعى إلى أمل وكقول أبى تمّام: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب فى الله مرتغب.

وأما التطريز

وأما التطريز - فهو أن يبتدئ الشاعر بذكر جمل من الذوات غير مفصّلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب تعداد جمل تلك الذوات تعداد تكرار واتحاد، لا تعداد تغاير، كقول ابن الرومىّ: أمور كمو [بنى «1» ] خاقان عندى ... عجاب فى عجاب فى عجاب قرون فى رءوس فى وجوه ... صلاب فى صلاب فى صلاب وكقوله: وتسقينى وتشرب من رحيق ... خليق أن يشبّه بالخلوق كأنّ الكأس فى يدها وفيها ... عقيق فى عقيق فى عقيق. وأما التوشيع - فهو مشتقّ من الوشيعة، وهى الطريقة فى البرد، وكأنّ الشاعر أهمل البيت كلّه إلا آخره، فأتى فيه بطريقة تعدّ من المحاسن؛ وهو عند أهل هذه الصناعة أن يأتى المتكلّم أو الشاعر باسم مثنّى فى حشو العجز، ثم يأتى بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنّى، يكون الآخر منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه كأنهما تفسير لما ثنّاه «2» ، كقول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل» ومن أمثلة ذلك فى النظم قول الشاعر: أمسى وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثى لى المشفقان الأهل والولد قد خدّد الدمع خدّى من تذكّركم ... واعتادنى المضنيان الوجد والكمد وغاب عن مقلتى نومى لغيبتكم ... وخاننى المسعدان الصبر والجلد لم يبق غير خفىّ الرّوح فى جسدى ... فدى لك الباقيان الرّوح والجسد.

وأما الإغراق

قال ابن أبى الإصبع: وما بما قلته فى هذا الباب من بأس، وهو: بى «1» محنتان ملام فى هوى بهما ... رثى لى القاسيان الحبّ والحجر لولا الشفيقان من أمنيّة وأسا «2» ... أودى بى المرديان الشوق والفكر قال: ويحسن أن يسمى ما فى بيته مطرّف التوشيع، إذ وقع المثنّى فى أوّل كلّ بيت وآخره. وأما الإغراق - وهو فوق المبالغة ودون الغلوّ، ومن أمثلته قول ابن المعتزّ: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين، يعنى أنها استفرغت جهدها فى العدو فما ضربناها إلا ظلما، فمن أجل ذلك خرجت من الوحشيّة إلى الطّيريّة؛ ولو لم يقل: «ظالمين» لما حسن قوله: «فطارت» ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة، وقد عدّ من الإغراق لا المبالغة قول امرئ القيس: تنوّرتها من أذرعات «3» وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالى. وأما الغلوّ - فمنهم من يجعله هو والإغراق شيئا واحدا، ومن شواهده قول مهلهل: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور «4»

وأما القسم

ومثله قول المتنبىّ فى وصف الأسد: ورد «1» إذا ورد البحيرة شاربا ... بلغ الفرات زئيره والنّيلا قالوا: ومن أمثلة الغلوّ قول النّمر بن تولب فى صفة السيف: تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والساقين والهادى. وأما القسم - فهو أن يريد الشاعر الحلف على شىء فيأتى فى الحلف بما يكون مدحا [له «2» ] وما يكسبه فخرا، أو يكون هجاء لغيره، أو وعيدا، أو جاريا مجرى التغزل والترقق؛ فمثال الأوّل قول «3» مالك بن الأشتر النّخعىّ: ... بقّيت وفرى وانحرفت عن العلا وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى النظم، فإنها تضمّنت فخرا له، ووعيدا لغيره؛ وكقول أبى علىّ البصير يعرّض بعلىّ بن الجهم: أكذبت أحسن ما يظنّ مؤملى ... وعدمت ما شادته لى أسلافى وعدمت عاداتى التى عوّدتها ... قدما من الإخلاف والإتلاف وغضضت من نارى ليخفى ضوءها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافى إن لم أشنّ على علىّ (غارة «4» ) ... تضحى قذى فى أعين الأشراف وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدوح مدحا، كقول القائل: إن كان لى أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التى لا تكفر

وأما الاستدراك

ومما جاء من القسم فى النسيب قول الشاعر: فإن لم تكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى ومما جاء فى الغزل قول الآخر: لا والذى سلّ من جفنيه سيف ردى ... قدّت له من عذاريه حمائله ما صارمت مقلتى دمعا ولا وصلت ... غمضا ولا سالمت قلبى بلابله. وأما الاستدراك - فهو على قسمين: قسم يتقدّم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلّم وتوكيد، وقسم لا يتقدّمه ذلك؛ فمن أمثلة الأوّل قول القائل: وإخوان تخذتهمو دروعا ... فكانوها ولكن للاعادى وخلتهمو سهاما صائبات ... فكانوها ولكن فى فؤادى وقالوا قد صفت منّا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادى وقول الأرّجانىّ: غالطتنى إذ كست جسمى ضنى ... كسوة أعرت من الجلد العظاما ثم قالت أنت عندى فى الهوى ... مثل عينى صدقت لكن سقاما وأما القسم الثانى الذى لا يتقدّم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد فكقول زهير: أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله. وأما المؤتلفة والمختلفة - فهو أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتى بمعان مؤتلفة فى مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة لا ينقص بها الآخر، فيأتى لأجل الترجيح بمعان تخالف التسوية، كقول الخنساء فى أخيها وأبيها- وراعت حقّ الوالد بما لم ينقص الولد-

وأما التفريق المفرد

جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاقبان ملاءة الحضر «1» وهما وقد برزا كأنهما ... صقران [قد «2» ] حطّا الى وكر حتى اذا نزت القلوب وقد ... لزّت هناك العذر «3» بالعذر وعلا هتاف الناس: أيّهما ... قال المجيب هناك: لا أدرى برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجرى أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر وأوّل من سبق الى هذا المعنى زهير «4» حيث قال: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا وتداوله الناس، فقال أبو نواس: ثم جرى الفضل فانثنى قدما ... دون مداه بغير ترهيق فقيل راشا سهما تراد به ال ... غاية والنّصل سابق الفوق «5» . وأما التفريق المفرد - فهو كقول الشاعر: ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء.

وأما الجمع مع التفريق

وأما الجمع مع «1» التفريق - فهو أن يشبّه شيئين بشىء ثم يفرّق بين وجهى الاشتباه، كقول الشاعر: فوجهك كالنار فى ضوئها ... وقلبى كالنار فى حرّها. وأما التقسيم المفرد «2» - فهو أن يذكر قسمة ذات جز أين أو أكثر، ثم يضمّ الى كلّ واحد من الأقسام ما يليق به، كقول ربيعة الرّقىّ: يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم لشتّان ما بين اليزيدين فى الندى ... يزيد سليم والأغرّ بن حاتم فهمّ الفتى الأزدى إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسىّ جمع الدارهم فلا يحسب التمتام «3» أنّى هجوته ... ولكننى فضّلت أهل المكارم وكقول ابن حيّوس: ثمانية لم تفترق إذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذبّ عن ناظر شفر يقينك «4» والتقوى، وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى، وسيفك والنصر

وأما الجمع مع التقسيم

وقول آخر: لملتمسى الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العليا، وللمعدم الغنى ... وللمذنب الرّحمى، وللخائف الأمن ويجوز أن يعدّ هذا من الجمع مع التقسيم. وأما الجمع مع التقسيم - فهو أن يجمع أمورا كثيرة تحت حكم، ثم يقسّم بعد ذلك، أو يقسّم «1» ثم يجمع، مثال الأوّل قول المتنبىّ: حتى أقام على أرباض خرشنة «2» ... تشقى به الروم والصّلبان والبيع للسّبى ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا فجمع فى البيت الأوّل أرض العدوّ وما فيها من معنى الشقاوة، وذكر التقسيم فى البيت الثانى. ومثال الثانى قول حسّان: قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهمو ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الحوادث فاعلم شرّها البدع. وأما التزويج - فهو أن يزاوج بين معنين فى الشرط والجزاء، كقول البحترىّ: إذا ما نهى الناهى ولجّ بى الهوى ... أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر. وأما السلب والإيجاب - فهو أن يوقع [الكلام «3» ] على نفى شىء وإثباته فى بيت واحد، كقوله:

وأما الاطراد

وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول وكقول الشّمّاخ: هضيم الحشى لا يملأ الكفّ خصرها ... ويملأ منها كلّ حجل «1» ودملج. وأما الاطّراد - فهو أن يطرد الشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفا، لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتى منسوقة غير منقطعة من غير ظهور كلفة على النّظم كاطّراد الماء وانسجامه «2» ، وذلك كقول الأعشى: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذى ترجو حباءك وائل وكقول دريد: قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب وهذا أحسن من الأوّل، لاطّراد الأسماء فى عجز البيت. وقال ابن أبى الإصبع: وقد أربى على هؤلاء بعض القائلين حيث قال: من يكن رام حاجة بعدت عنه ... وأعيت عليه كلّ العياء فلها أحمد المرجّى ابن يحيى بن ... معاذ بن مسلم بن رجاء لو لم يقع فيه الفصل بين الأسماء بلفظة المرجّى. ومنه ما كتب الشيخ مجد الدين بن الظّهير الحنفىّ على إجازة: أجاز ما قد سألوا ... بشرط أهل السّند محمد بن أحمد بن ... عمر بن أحمد فلم يفصل «3» بين الأسماء فى البيت بلفظة أجنبيّة.

وأما التجريد -

وأما التجريد- فهو أن ينتزع الشاعر أو المتكلّم من أمر ذى صفة أمرا آخر مثله فى تلك الصفة مبالغة فى كمالها فيه؛ وهو أقسام: منها نحو قولهم: لى [من «1» ] فلان صديق حميم، أى بلغ من الصداقة حدّا صحّ معه أن يستخلص منه صديق آخر؛ ومنها نحو قولهم: لئن سألت لتسألنّ به البحر، ومنه قول الشاعر: وشوهاء تعدو بى إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفنيق المرحّل أى تعدو بى ومعى من استعدادى للحرب لابس لأمة؛ ومنها نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ لأن جهنم- أعاذنا الله منها- هى دار الخلد، لكن انتزع منها مثلها وجعل فيها معدّا للكفار تهويا لأمرها؛ ومنها نحو قول الحماسىّ: فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة ... نحو الغنائم أو يموت كريم وعليه قراءة من قرأ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ بالرفع، بمعنى فحصلت سماء وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة، وقيل: تقدير الأوّل أو يموت منّى كريم، والثانى: فكانت منها وردة كالدّهان، وفيه نظر؛ ومنها نحو قوله: يا خير من يركب المطىّ ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا ونحو قول الآخر: إن تلقنى- لا ترى غيرى يناظره- ... تنس «2» السلاح وتعرف جبهة الأسد ومنها مخاطبة الإنسان غيره وهو يريد نفسه، كقول الأعشى: ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل

وأما التكميل -

وقول المتنبىّ: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال ومنه قول الحيص بيص: إلام يراك المجد فى زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر كتمت بصيت الشّعر علما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنك فارس ال ... كلام ومحيى الدّراسات الغوابر. وأما التكميل- فهو أن يأتى المتكلّم أو الشاعر بمعنى من مدح أو غيره من فنون الكلم وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم مثلا غير كامل أو بالبأس دون الحلم، ومثال ذلك قول كعب بن سعد الغنوىّ: حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم فى عين العدوّ مهيب قوله: «إذا ما الحلم زيّن أهله» احتراس لولاه لكان المدح مدخولا، إذ بعض التغاضى قد يكون عن عجز، وإنما يزين الحلم أهله اذا كان عن قدرة، ثم رأى أن يكون «1» مدحه بالحلم وحده غير كامل، لأنه اذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوّه فقال: «فى عين العدوّ مهيب» ؛ ومنه قول السّموءل بن عادياء: وما مات منّا سيّد فى فراشه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل لأنّ صدر البيت [وإن «2» ] تضمّن وصفهم بالإقدام والصبر ربّما أوهم العجز «3»

وأما المناسبة -

[لأن «1» ] قتل الجميع يدلّ على الوهن والقلّة فكملّه بأخذهم للثأر، وكمّل حسنه بقوله: «حيث كان» فإنه أبلغ فى الشجاعة؛ ومن ذلك فى النسيب قول كثيّر: لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... فى الحسن عند موفّق لقضى لها لأن قوله: «عند موفق» تكميل للمعنى، إذ ليس كلّ من يحاكم إليه موفقا؛ ومنه قول المتنبىّ: أشدّ من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع فى الندى منها هبوبا. وأما المناسبة- فهى على ضربين: مناسبة فى المعنى، ومناسبة فى الألفاظ فالمعنويّة أن يبتدئ المتكلّم بمعنى، ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ فقال تعالى فى صدر الآية التى الموعظة فيها سمعيّة: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ، وقال بعد ذكر الموعظة: أَفَلا يَسْمَعُونَ وقال فى صدر الآية التى موعظتها مرئية: أَوَلَمْ يَرَوْا* وقال بعد الموعظة: أَفَلا يُبْصِرُونَ. ومن أمثلة المناسبة المعنويّة قول المتنبىّ: على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأنّ النّبل فى صدره وبل فإنّ بين لفظة السّباحة ولفظتى الموج والوبل تناسبا صار البيت به متلاحما؛ وقول ابن رشيق: أصحّ وأقوى ما رويناه فى الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم فإنه وفّى المناسبة حقّها فى صحة العنعنة برواية السيول عن الحيى عن البحر، وجعل الغاية فيها جود الممدوح. والمناسبة اللفظيّة: توخّى الإتيان بكلمات متزنات، وهى على ضربين: تامّة وغير تامّة فالتامّة: أن تكون الكلمات مع الاتّزان مقفّاة، فمن شواهد التامّة قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ومن الحديث النبوىّ- صلاة الله وسلامه على قائله- قول النبى صلّى الله عليه وسلم للمحسن والحسين- رضى الله عنهما-: «أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّه، ومن كل عين لامّه» ولم يقل: «ملمّه» وهى القياس لمكان المناسبة اللفظيّة التامّة؛ ومن شواهد الناقصة قوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبّكم إلىّ وأقربكم منّى مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا» ومما جمع بين المناسبتين قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إنى أسألك رحمة تهدى بها قلبى، وتجمع بها أمرى، وتلمّ بها شعثى، وتصلح بها غايتى، وترفع بها شاهدى، وتزكىّ بها عملى، وتلهمنى بها رشدى، وتردّ بها ألفتى، وتعصمنى بها من كلّ سوء، اللهم إنى أسألك العون فى القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» فناسب صلّى الله عليه وسلم بين قلبى وأمرى، وغايتى وشاهدى مناسبة غير تامّة، لأنها فى الزّنة دون التقفية، وناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامّة فى الزّنة والتقفية؛

وأما التفريع

ومن أمثلة المناسبتين قول أبى تمّام: مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ «1» إلا أنّ تلك ذوابل فناسب بين مها وقنا مناسبة تامّة، وناسب بين الوحش والخطّ، وأوانس وذوابل مناسبة غير تامّة. وأما التفريع - فهو أن يصدّر المتكلّم أو الشاعر كلامه باسم منفىّ ب «ما» خاصّة، ثم يصف الاسم المنفىّ بمعظم أوصافه اللائقة به فى الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلا يفرّع منه جملة من جارّ ومجرور متعلّقة [به «2» ] تعلّق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفىّ الموصوف كقول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب «3» شرق ... مؤزّر بعميم النبت مكتهل يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقول عاتكة المرّية: وما طعم ماء أىّ ماء تقوله «4» ... تحدّر من غرّ طوال الذوائب بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب

نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيب تراه لعائب بأطيب ممن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب وقد وقع الأصل والفرع لأبى تمّام فى بيت واحد، وهو: ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظرى من خدّها الترب ومما ورد فى النثر رسالة ابن القمّىّ التى كتبها إلى سبإ بن أحمد صاحب صنعاء: وأمّا حال عبده بعد فراقه فى الجلد، فما أمّ تسعة من الولد؛ ذكور، كأنهم عقبان وكور؛ اخترم منهم ثمانيه، فهى على التاسع حانيه، فنادى النذير فى البادية، ياللعادية ياللعادية؛ فلما سمعت الداعى «1» ، ورأت الخيل سواعى؛ أقبلت تنادى ولدها: الأناة الأناه، وهو يناديها: القناة القناه بطل كأنّ ثيابه فى سرحة «2» ... يحذى نعال السّبت «3» ليس بتوأم فلما رمقته يختال فى غضون الزّرد الموضون «4» أنشأت تقول: أسد أضبط يمشى ... بين طرفاء «5» وغيل لبسه من نسج داود ... كضحضاح «6» المسيل

عرض له فى البادية أسد هصور، كأنّ ذراعه مسد معصور فتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنّع فلما سمعت الرّعيل، برزت من الصّرم «1» بصبر قد عيل؛ فسألت عن الواحد فقيل: لحده اللّاحد «2» فكرّت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا عبثن به فلم يتركن إلا ... أديما قد تمزق أو كراعا بأشدّ من عبده تأسّفا، ولا أعظم كمدا وتلهّفا. قال: وذكر ابن أبى الإصبع فى التفريع قسما ذكره فى صدر الباب، وقال: إنه هو الذى استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة هى إما اسم أو صفة، ثم يكرّرها فى البيت مضافة إلى أسماء وصفات تتفرع عليها جملة من المعانى فى المدح وغيره، كقول المتنبىّ: أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضّراب أنا ابن الطّعان أنا ابن الفيافى أنا ابن القوافى ... أنا ابن السّروج أنا ابن الرّعان «3» طويل النّجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السّنان حديد اللّحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان.

وأما نفى الشىء بإيجابه -

وأما نفى الشىء بإيجابه- فهو أن يثبت المتكلّم شيئا فى ظاهر كلامه وينفى ما هو [من «1» ] سببه مجازا، والمنفىّ فى باطن الكلام حقيقة هو الذى أثبته كقول امرئ القيس: على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه «2» العود النّباطىّ جرجرا فظاهر هذا الكلام يقتضى إثبات منار لهذه الطريق، ونفى الهداية «3» به مجازا وباطنه فى الحقيقة يقتضى نفى المنار جملة، والمعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار ما اهتدى به، فكيف ولا منار لها، كما تقول لمن تريد أن تسلبه الخير: ما أقلّ خيرك! فظاهر كلامك يدلّ على إثبات خير قليل، وباطنه نفى الخير كثيره وقليله. وقول الزبير بن عبد المطلب يمدح عميلة بن عبد الدار «4» - وكان نديما له-: صحبت بهم طلقا يراح الى الندى ... اذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره ضعيف بحثّ الكأس قبض «5» بنانه ... كليل على وجه النديم أظافره فظاهر هذا أنّ للممدوح مفاقر لم تحتضره إذا انتشى، وأنّ له أظافر يخمش بها وجه نديمه خمشا ضعيفا، وباطن الكلام فى الحقيقة نفى المفاقر جملة، والأظافر بتّة.

وأما الإيداع

وأما الإيداع - قال: وأكثر الناس يجعلونه من باب التضمين، وهو منه إلّا أنه مخصوص بالنثر، وبأن يكون المودع نصف بيت، إما صدرا أو عجزا فمنه قول علىّ رضى الله عنه فى جواب كتاب لمعاوية: ثم زعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فلم تكن الجناية عليك، حتى تكون المعذرة إليك وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وأما الإدماج - فهو أن يدمج المتكلم غرضا له فى جملة معنى من المعانى قد نحاه ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض فى كلامه لتتمّة معناه الذى قصده، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد- وكان ابن عبيد الله «1» قد اختلّت حاله- فكتب الى ابن سليمان: أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إن المهمّ المقدّم فأدمج شكوى الزمان فى ضمن التهنئة، وتلطّف فى المسألة مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال. وأما سلامة الاختراع- فهو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق اليه ولم يتبعه أحد فيه، كقول عنترة فى الذباب: هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح «2» المكبّ على الزناد الأجذم وكقول عدى بن الرّقاع فى تشبيه ولد الظبية: تزجى أغنّ كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها

وأما حسن الاتباع -

وكقول النابغة فى وصف النسور: تراهنّ خلف القوم زورا «1» عيونها ... جلوس الشيوخ فى مسوك «2» الأرانب وكقول أبى تمّام: لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالى وقوله: ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب وقول ابن حجاج: وإنّى «3» والمولى الذى أنا عبده ... طريفان «4» فى أمر له طرفان بعيدا ترانى منه أقرب ما ترى ... كأنى يوم العيد فى رمضان. وأما حسن الاتباع- فهو أن يأتى المتكلّم إلى معنى قد اخترعه غيره فيتّبعه فيه اتباعا يوجب له استحقاقه، إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة نظمه، أو سهولة سبكه «5» ، أو إيضاح معناه، أو تتميم نقصه، أو تحليته بما توجبه الصناعة، أو بغير ذلك من وجوه الاستحقاقات؛ كقول شاعر جاهلىّ فى صفة جمل: وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقى من معاهدها ذكر

وأما الذم فى معرض المدح

وقلت له ذلفاء ويحك سبّبت ... لك الضرب فاصبر إنّ عادتك الصبر فأحسن ابن المعتز اتّباعه حيث قال يصف خيله: وخيل طواها القود «1» حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبّل صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل واتّبع أبو نواس جريرا فى قوله: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهمو غضابا فقال أبو نواس- ونقل المعنى من الفخر إلى المدح-: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد وقول النّميرىّ فى أخت الحجّاج: فهنّ اللواتى إن برزن قتلننى ... وإن غبن قطّعن الحشى حسرات فاتّبعه ابن الرومىّ فقال: ويلاه إن نظرت وإن هى أعرضت ... وقع السهام ونزعهنّ أليم. وأما الذمّ فى معرض المدح - فهو أن يقصد المتكلّم ذمّ إنسان فيأتى بألفاظ موجّهة، ظاهرها المدح، وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول بعضهم فى الشريف بن الشّجرىّ: يا سيّدى والذى يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر ما فيك من جدّك النبىّ سوى ... أنك لا ينبغى لك الشعر. وأما العنوان - فهو أن يأخذ المتكلّم فى غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتى لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدّمة، وقصص سالفة؛ كقول أبى نواس:

يا هاشم بن حديج ليس فخركمو ... بقتل صهر رسول الله بالسّدد أدرجتمو فى إهاب العير جثّته ... لبئس ما قدّمت أيديكمو لغد إن تقتلوا ابن أبى بكر فقد قتلت ... حجرا بدارة ملحوب «1» بنو أسد ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ... قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد وربّ كنديّة قالت لجارتها ... والدمع ينهلّ من مثنى «2» ومن وحد ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية ... عن ثأره وصفات النّؤى والوتد فقد أتى أبو نواس فى هذه الأبيات بعدّة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبى بكر، وقتل حجر أبى امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند كندة فى ضمن هجو من أراد هجوه، وعيّر «3» المهجوّ بما أشار اليه من الأخبار الدالّة على هجاء قبيلته؛ ومثل ذلك قول أبى تمام فى استعطاف مالك بن طوق على قومه: رفدوك فى يوم الكلاب «4» وشقّقوا ... فيه المزاد بجحفل غلّاب «5» وهمو بعين أباغ «6» راشوا للعدا ... سهميك عند الحارث الحرّاب

وليالى الثّرثار «1» والحشّاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب «2» فمضت كهولهمو ودبّر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب وقال بعد ذلك: لك فى رسول الله أعظم أسوة ... وأجلّها فى سنّة وكتاب أعطى المؤلّفة القلوب رضاهمو ... [كملا] وردّ أخائذ الأحزاب «3» والجعفريّون استقلّت ظعنهم ... عن قومهم وهمو نجوم كلاب حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشطّ بهم عن الأحباب ورأوا بلاد الله قد لفظتهمو ... أكنافها رجعوا إلى جوّاب فأتوا كريم الخيم مثلك صافحا ... عن ذكر أحقاد وذكر «4» ضباب فانظر الى ما أتى به أبو تمّام فى هذه الأبيات من العنونات من السيرة النبوية وأيام العرب، وأخبار بنى جعفر بن كلاب، ورجوعهم الى ابن عمهم جوّاب؛ وكقوله أيضا لأحمد بن أبى دؤاد:

وأما الإيضاح -

تثبّت إنّ قولا كان زورا ... أتى النعمان قبلك عن زياد وأرّث «1» بين حىّ بنى جلاح ... لظى حرب وحىّ بنى مصاد وغادر فى صدور الدهر قتلى ... بنى بدر على ذات الإصاد «2» فأتى بعنوان يشير به الى قصة النابغة حين وشى به الى النعمان، فجرّ ذلك من الحروب ما تضمّنت أبياته. وأما الإيضاح- وهو أن يذكر المتكلّم كلاما فى ظاهره لبس، ثم يوضحه فى بقيّة كلامه، كقول الشاعر: يذكّرنيك الخير والشّرّ كلّه ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل فإن الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع بجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعد: فألقاك عن مكروهها متنزّها ... وألقاك فى «3» محبوبها ولك الفضل أوضح المعنى المراد، وأزال اللّبس، ورفع الإشكال والشك. وأما التشكيك- فهو أن يأتى المتكلّم فى كلامه بلفظة تشكّك المخاطب هل هى فضلة أو أصليّة لا غنى للكلام عنها؟ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ فإن لفظة بدين تشكّك السامع هل هى فضلة أو أصليّة؟ فالضعيف النظر يظنّها فضلة لأن لفظة تداينتم تغنى عنها، والناظر فى علم البيان يعلم أنها أصليّة

وأما القول بالموجب -

لأن لفظة الدّين لها محامل، تقول: داينت فلانا المودّة، يعنى جازيته، ومنه: «كما تدين تدان» ومنه قول رؤبة: داينت أروى والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا وكلّ هذا هو الدّين المجازىّ الذى لا يكتب ولا يشهد عليه، ولمّا كان المراد من الأية تمييط الدّين المالىّ الذى يكتب ويشهد عليه، وتيسير «1» ، أحكامه، أوجبت البلاغة أن يقول: «بدين» ليعلم حكمه. وأما القول بالموجب- فهو ضربان: أحدهما أن تقع صفة فى كلام مدّع شيئا يعنى به نفسه، فثبتت تلك الصفة لغيره من غير تصريح بثبوتها له، ولا نفيها «2» عنه، كقوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم كنوا بالأعزّ عن فريقهم، وبالأذلّ عن فريق المؤمنين، فأثبت الله عزّ وجلّ صفة العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرّض لثبوت حكم الإخراج بصفة العزّة ولا لنفيه. والثانى حمل كلام المتكلّم مع تقريره على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلّقه كقول الشاعر «3» :

وأما القلب -

قلت: ثقّلت إذ أتيت مرارا ... قال «1» : ثقّلت كاهلى بالأيادى قلت: طوّلت قال: «2» [لى] بل تطوّلت: ... وأبرمت قال: حبل الوداد ومنه قول الأرّجانى: غالطتنى إذ كست جسمى ضنى البيتين، وقد تقدّم الاستشهاد بهما فى الاستدراك. وللمولى شهاب الدين محمود الحلبىّ الكاتب فى ذلك: رأتنى وقد نال منّى النّحول ... وفاضت دموعى على الخدّ فيضا فقالت: بعينىّ هذا السّقام ... فقلت: صدقت، وبالخصر أيضا وقول محاسن الشّوّاء: ولما أتانى العاذلون عدمتهم ... وما فيهمو إلا للحمى قارض وقد بهتوا لمّا رأونى شاحبا ... وقالوا: به عين فقلت: وعارض. وأما القلب- فهو أن يكون الكلام أو البيت كيفما انقلبت حروفه كان بحاله لا يتغيّر، ومنه فى التنزيل قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وقولهم: ساكب كاس؛ ومنه قول العماد الأصفهانىّ للقاضى الفاضل: سر فلا كبابك الفرس، وجواب القاضى الفاضل له: دام علا العماد، وهى أوّل قصيدة للأرّجانىّ، مطلعها: «دام علا العماد» ، ومن ذلك قول الأرّجانىّ: مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم

وأما التندير -

وأما التندير- فهو أن يأتى المتكلّم بنادرة حلوة، أو نكتة مستظرفة يعرّض فيها بمن يريد ذمّه بأمر، وغالب ما يقع فى الهزل، فمنه قول أبى تمام فيمن» سرق له شعرا: من بنو بحدل، من ابن الحباب «2» ... من بنو تغلب غداة الكلاب من طفيل، من عامر، أم من الحا ... رث، أم من عتيبة بن شهاب إنما الضّيغم الهصور أبو الأش ... بال هتّاك كلّ خيس «3» وغاب من عدت خيله على سرح شعرى ... وهو للحين راتع فى كتاب يا عذارى الكلام صرتنّ من بع ... دى سبايا تبعن فى الأعراب لو ترى منطقى أسيرا لأصبح ... ت أسيرا ذا عبرة واكتئاب طال رغبى إليك مما أقاسي ... هـ ورهبى يا ربّ فاحفظ ثيابى ومن ذلك ما قاله شهاب الدين بن الخيمىّ يعرّض بنجم الدين بن اسرائيل لمّا تنازعا فى القصيدة المعروفة لابن «4» الخيمىّ التى أوّلها: يا مطلبا ليس لى من غيره أرب فقال من قطعة منها: هم العريب بنجد مذ عرفتهمو ... لم يبق لى معهم مال ولا نشب فما ألمّوا بحىّ أو ألمّ بهم ... إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا لم يبق منطقه قولا يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب.

وأما الإسجال بعد المغالطة -

وأما الإسجال بعد المغالطة- فهو أن يقصد الشاعر غرضا من ممدوح فيشترط لحصوله شرطا، ثم يقدّر وقوع ذلك الشرط مغالطة ليسجّل به استحقاق مقصوده، كقول بعضهم: جاء الشتاء وما عندى لقرّته ... إلا ارتعادى وتصفيقى بأسنانى فإن هلكت فمولانا يكفّننى ... هبنى هلكت فهبنى بعض أكفانى. وأما الافتنان- فهو أن يأتى الشاعر بفنّين متضادّين من فنون الشعر فى بيت واحد، مثل التشبيب والحماسة، [والمديح «1» ] والهجاء، والهناء والعزاء فأما ما جمع فيه بين التشبيب والحماسة فكقول عنترة: إن تغد فى دونى القناع فإننى ... طبّ «2» بأخذ الفارس المستلئم وكقول أبى دلف- ويروى لعبد الله بن طاهر-: أحبّك يا جنان وأنت منّى ... محلّ الرّوح من جسد الجبان ولو أنى أقول محلّ روحى ... لخفت عليك بادرة الطّعان. وأما ما جمع فيه بين تهنئة وتعزية فقد تقدّم ذكر ذلك فى بابى التهانى والتعازى ومنه فيما لم نورده هناك ما كتب به المولى شهاب الدين محمود الكاتب تهنئة وتعزية لمن رزق ولدا ذكرا فى يوم ماتت له فيه بنت: ولا عتب على الدهر فيما اقترف، فقد أحسن الخلف؛ واعتذر بما وهب عما سلب، فعفا الله عمّا سلف.

وأما الإبهام

وأما الإبهام - بباء موحّدة فهو أن يقول المتكلّم كلاما مبهما يحتمل معنيين متضادّين، كقول بعضهم فى الحسن بن سهل لما تزوّج المأمون ببنته بوران: بارك الله للحسن ... ولبوران فى الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من فلم يعرف مراده «ببنت من» هل أراد به الرفعة أو الضعة؟ ومنه قول بشّار فى خياط أعور اسمه عمرو: خاط عمرو لى قباء ... ليت عينيه سواء فأبهم المعنى فى الدعاء له بالدعاء عليه. وأما حصر الجزئىّ وإلحاقه بالكلىّ - فهو كقول السّلامىّ: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمى فى الظلام وصارمى ... ثلاثة أشباه «1» كما اجتمع النّسر وبشّرت آمالى بملك هو الورى ... ودار هى الدنيا، ويوم هو الدهر. فأما حصر أقسام الجزئىّ فإن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك؛ وأما جعله الجزئىّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر.

وأما المقارنة

وأما المقارنة - فهى أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة أو غير ذلك بوصل يخفى أثره إلّا على مدمن النظر فى هذه الصناعة، وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطيّة، كقول بعض «1» شعراء المغرب: وكنت إذا استنزلت من جانب الرضى ... نزلت نزول الغيث فى البلد المحل وإن هيّج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار فى الحطب الجزل فإنه لاءم بين الاستعارة والتشبيه المنزوع الأداة «2» فى صدرى بيتيه وعجزيهما. وأما ما قرنت به الاستعارة من المبالغة فمثاله قول النابغة الذّبيانىّ: وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنيّة قاطع فإن فى كل من صدر البيت وعجزه استعارة ومبالغة، وإنما التى فى العجز أبلغ. ومما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة قول تميم بن مقبل: لدن غدوة حتى نزعنا عشيّة ... وقد مات شطر الشمس والشّطر مدنف فإنه عبّر بموت شطر الشمس عن الغروب، واستعار الدّنف للشطر الثانى. وأما الإبداع - فهو أن يأتى فى البيت الواحد من الشّعر، أو القرينة الواحدة من النثر بعدّة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله، وربما كان فى الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع، ومتى لم تكن كلّ كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع قال ابن أبى الإصبع: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كآية استخرجت منها أحدا وعشرين ضربا من المحاسن، وهى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ

وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ : وهى المناسبة التامّة فى «ابلعى» و «أقلعى» ؛ والمطابقة بذكر الأرض والسماء؛ والمجاز فى قوله: «يا سماء» ، فإن المراد- والله أعلم- يا مطر السماء؛ والاستعارة فى قوله تعالى: «أَقْلِعِي» ؛ والإشارة فى قوله تعالى: «وَغِيضَ الْماءُ» فإنه عبّر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة؛ والتمثيل فى قوله تعالى: «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» * فإنه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له؛ والإرداف فى قوله: «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ» فإنه عبّر عن استقرارها بهذا المكان استقرارا متمكّنا بلفظ قريب من لفظ المعنى؛ والتعليل، لأن غيض الماء علّة الاستواء؛ وصحة التقسيم إذ استوعب الله تعالى أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذى ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها؛ والاحتراس فى قوله تعالى: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» إذ الدعاء عليهم يشعر أنهم مستحقّو الهلاك احتراسا من ضعيف العقل يتوهّم أن العذاب شمل من يستحقّ ومن لا يستحقّ، فتأكّد بالدعاء كونهم مستحقّين؛ والإيضاح فى قوله: «لِلْقَوْمِ» * ليبيّن أن القوم الذين سبق ذكرهم فى الآية المتقدّمة حيث قال: (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) هم الذين وصفهم بالظلم ليعلم أن لفظة القوم ليست فضلة وأنه يحصل بسقوطها لبس فى الكلام؛ والمساواة لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها؛ وحسن النّسق، لأنه تعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب؛ وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كلّ لفظة لا يصلح موضعها غيرها؛ والإيجاز، لأنه سبحانه وتعالى اقتصّ القصّة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخلّ منها بشىء فى أقصر عبارة؛ والتسهيم، لأن أوّل الآية الى قوله: «أَقْلِعِي»

وأما الانفصال -

يقتضى «1» آخرها؛ والتهذيب، لأنّ مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة، سليمة من التعقيد والتقديم والتأخير؛ والتمكّن، لأن الفاصلة مستقرّة فى قرارها، مطمئنّة فى مكانها؛ والانسجام، وهو تحدّر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء؛ وما فى [مجموع «2» ] الآية من الإبداع، وهو الذى سمّى به هذا الباب. فهذه سبع عشرة لفظة تضمّنت أحدا وعشرين ضربا من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها. وأما الانفصال- فهو أن يقول المتكلّم كلاما يتوجّه عليه فيه دخل لو اقتصر عليه، فيأتى بما يفصله عن ذلك الدّخل، كقول أبى فراس: ولقد نبّيت إبليس ... إذا راك يصدّ ليس من تقوى ولكن ... ثقل فيك وبرد والفرق بين هذا وبين الاحتراس خلوّ «3» الاحتراس من الدّخل عليه من كلّ وجه. وأما التصرف- فهو أن يتصرّف المتكلّم فى المعنى الذى يقصده، فيبرزه فى عدّة صور: تارة بلفظ الاستعارة، وطورا بلفظ التشبيه، وآونة بلفظ الإرداف وحينا بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل: وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فإنه أبرز المعنى بلفظ الاستعارة، ثم تصرّف فيه فأتى بلفظ التشبيه فقال:

وأما الاشتراك

فيالك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل «1» ثم تصرّف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك «2» بأمثل. وأما الاشتراك - فمنه ما ليس بحسن ولا قبيح، وهو الاشتراك فى الألفاظ مثل اشتراك الأبيرد وأبى نواس فى لفظة الاستعفاء، فإن الأبيرد قال فى مرثية أخيه: وقد كنت أستعفى الإله إذا اشتكى ... من الأجر لى فيه وإن عظم الأجر وقال أبو نواس: ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر «3» حتى ما تقلّ جفونها ومنه الحسن، وهو الاشتراك فى المعنى، كقول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلّل «4» وقول ذى الرّمّة: كحلاء فى برج صفراء فى دعج «5» ... كأنها فضّة قد مسّها ذهب

وأما التهكم -

فوقع «1» الاشتراك بينهما فى وصف المرأة بالصّفرة، غير أنّ الأوّل شبّه الصفرة بيضة النعامة، والآخر وصفها بالفضّة المموّهة؛ ومن الاشتراك المعنوىّ ما ليس بحسن ولا معيب، كقول كثير: وأنت التى حببت كلّ قصيرة ... إلىّ وما تدرى بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا، شرّ النساء البحاتر «2» فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأوّل لكان الاشتراك معيبا لكنه لما أتى بالبيت الثانى زال العيب، ولم يبلغ رتبة الحسن لما فيه من التضمين. وأما التهكّم- فالفرق بينه وبين الهزل الذى يراد به الجدّ أن التهكّم ظاهره جدّ وباطنه هزل، والهزل الذى يراد به الجدّ على العكس منه، فمن التهكّم قول الوجيه الذروىّ فى ابن أبى حصينة من أبيات: لا تظنّن حدبة الظّهر عيبا ... فهى فى الحسن من صفات الهلال وكذاك القسىّ محدودبات ... وهى أنكى من الظّبا والعوالى وإذا ما علا السّنام ففيه ... لقروم الجمال أىّ جمال وأرى الانحناء فى مخلب البازى ... ولم يعد مخلب الرئبال كوّن الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الإفضال فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال ما رأتها النساء إلا تمنّت ... أنها حلية لكلّ الرجال

وأما التدبيج

ثم ختمها بقوله: وإذا لم يكن من الهجر بدّ ... فعسى أن تزورنا «1» فى الخيال وكقول ابن الرومىّ: فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل. وأما التدبيج - وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد بها الكناية أو التورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، فمن ذلك قول الحريرىّ فى بعض مقاماته: فمذ ازورّ المحبوب الأصفر واغبرّ العيش الأخضر، اسودّ يومى الأبيض، وابيضّ فودى «2» الأسود، حتى رثى لى العدوّ الأزرق، فحبّذا الموت الأحمر. وهذا التدبيج بطريق التورية. وقال بعض المتأخّرين يصف موقف السلطان الملك الناصر بمصاف شقحب «3» الكائن بينه وبين التتار فى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة: وما زال بوجهه الأبيض، تحت علمه الأصفر، يكابد الموت الأحمر، تجاه العدوّ الأزرق، الى أن حال بينهما الليل الأسود، وبكّر فى غرّة نهار الأحد الأشعل وامتطى السبيل الأحوى الى أن حلّ بالأبلق. يريد بالأبلق: القصر الظاهرىّ الذى بالميدان الأخضر بظاهر مدينة دمشق؛ ومن أمثلة هذا الباب «4» قول ابن حيّوس الدّمشقى:

وأما الموجه -

إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو قتال تلق بيض الوجوه سود مثار النّقع ... خضر الأكناف حمر النّصال. وأما الموجّه- فهو الذى «1» يمدح بشىء يقتضى المدح بشىء آخر، كقول المتنبىّ: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدنيا بأنك خالد وكقوله أيضا: عمر العدوّ إذا لاقاه فى رهج ... أقلّ من عمر ما يحوى إذا وهبا فأوّل البيتين وصف بفرط الشجاعة، وآخر الأوّل بعلوّ الدرجة، وآخر الثانى بفرط الجود. وأما تشابه الأطراف- فهو أن يجعل الشاعر [قافية «2» ] بيته الأوّل أوّل البيت الثانى، وقافية الثانى أوّل الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه، ومن أحسن ما قيل فيه قول ليلى الأخيليّة تمدح الحجّاج: إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذى بها ... غلام اذا هزّ القناة سقاها سقاها فروّاها بشرب سجالها ... دماء رجال يحلبون صراها «3» . هذا ما أورده فى حسن التوسّل من علوم المعانى والبيان والبديع، وقد أتينا على أكثره بنصّه لما رأيناه من حسن تأليفه، وبديع ترصيفه، وأنّ اختصاره لا يمكن

وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة - فالاقتباس والاستشهاد والحل:

إلا عند الإخلال بفائدة لا يستغنى [عنها «1» ] فلم نحذف منه إلا ما تكرر من الأمثلة والشواهد، لاستغنائنا بما أوردناه عمّا حذفناه، فالنسبة فيه إلى فضائله وفضله والعمدة على شواهده ونقله؛ فلقد أحسن التأليف، وأجاد التعريف، واحتمل التوقيف؛ وحرّر الشواهد، وأوضح السّبيل حتى صار الغائب عن هذه الصناعة إذا طالع كتابه كالشاهد؛ وأبدع فى صناعة البديع، وبيّن علم البيان بحسن الترصيف والترصيع؛ واعتنى بألفاظ المعانى فصرّف أعنّتها ببنانه، وأبان مشكلها فأحسن فى بيانه؛ وحلّ من التعقيد عقالها الذى عجز غيره عن حلّه، وسهّل للأفهام مقالها فأبرزته الألسنة من محرّم اللفظ إلى حلّه؛ فله المنّة فيما ألّف، والفضل بما صنّف. وأما ما يتصل بذلك من خصائص الكتابة- فالاقتباس والاستشهاد والحل: [فالاقتباس «2» ] هو أن يضمن الكلام «3» شيئا من القرآن أو الحديث، ولا ينبّه عليه للعلم به، كما فى خطب ابن نباتة، كقوله: فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدّقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ . وكقوله أيضا: يوم يبعث الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لجهنّم وقودا، يوم تكونون «شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا» يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. ومن ذلك ما أورد المولى شهاب الدين محمود فى تقليد عن الإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بالسلطنة، جاء منه: وجمع بك شمل الأمة بعد أن «كاد يزيغ

وأما الاستشهاد بالآيات -

قلوب فريق منهم» ، وعضّدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضى الله عنهم؛ وخصّك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم فارهون، وأظهرك على الذين «ابتغوا الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون» وأمثال ذلك. وأما الاستشهاد بالآيات- فهو أن ينبّه عليها، كقول الحريرىّ: فقلت وأنت أصدق القائلين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ونحو ذلك. وفى الأحاديث بالتنبيه عليها أيضا، كقول المولى شهاب الدين محمود فى خطبة تقليد حاكمىّ: ونصلى على سيدنا محمد الذى استخرجه الله من عنصر أهله وذويه، وشرّف قدر جدّه بقوله فيه: «إنّ عمّ الرجل صنو أبيه» وسرّه بما أسرّ إليه من أنّ هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه. وأمثال ذلك [لا تحصر «1» ] . [وأما الحلّ «2» ]- وهو باب متّسع المجال، وملاك أمر المتصدّى له أن يكون كثير الحفظ [للأحاديث «3» النّبويّة والآثار والأمثال والأشعار لينفق منها وقت الاحتياج اليها] . قال: وكيفيّة الحلّ أن يتوخّى هدم البيت المنظوم، وحلّ فرائده من سلكه، ثم يرتّب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكّن لم يحصره الوزن، ويبرزها فى أحسن سلك، وأجمل قالب، وأصحّ سبك، ويكمّلها بما يناسبها من أنواع البديع إن أمكن ذلك من غير كلفة، ويتخيّر لها القرائن، واذا تم معه المعنى المحلول فى قرينة واحدة يغرم له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه، وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء، فإن كان نسيبا وتأتّى له أن يجعله مديحا فليفعل، وكذلك غيره

من الأنواع؛ واذا أراد الحلّ بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت عنها ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحلّ وعدّ معيبا؛ واذا حلّ باللفظ فلا يتصرّف بتقديم ولا تأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة نظام الفصاحة فى ذلك، واجتناب ما ينقص المعنى ويحطّ رتبته؛ وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرّف فيه. قال: ومما وقع التصرّف فيه بزيادة على المعنى قول ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ فى ذكر العصا التى يتوكّأ عليها الشيخ الكبير: وهذه لمبتدا ضعفى خبر، ولقوس ظهرى وتر، واذا كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإنّ حملها دليل على السّفر. والمحلول فى ذلك قول بعضهم: كأنّنى قوس رام وهى لى وتر وقول الآخر: فألقت عصاها واستقرّت بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر. وأما ما يحتاج فيه الى مؤاخاة القرينة المحلولة بمثلها أو ما يناسبها فكما قال المولى شهاب الدين محمود فى تقليد: فكم ملّ ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النّقع مما يثيره؛ وحديد الهند مما يلاطمه والأجل مما يسابقه الى قبض الأرواح ويزاحمه. والقرينتان الأوليان نصفا بيتين للمتنبّى، فأضاف الى كل قرينة ما يناسبها، وهذا من أكثر ما يستعمل فى الكتابة، ولا ينبغى للكاتب أن يعتمد فى جميع كتابته على الحلّ، فيتّكل خاطره على ذلك، ويذهب رونق الطبع السليم، وتقلّ مادّة الانسجام بل يكون استعمال ذلك كاستعمال البديع اذا أتى عفوا من غير تكلّف ليكون كالشاهد

ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز

على صحة الكلام، والدالّ على الاطلاع، وكالرّقم فى الثوب، والشّذرة فى القلادة والواسطة فى العقد، إذ لا ينبغى للكاتب أن يخلى كلامه من نوع من أنواع المحاسن. ويقرب من هذا النوع التلميح، وقد تقدّم ذكره فى بعض أبواب البديع، والذى يقع فى بعض استعماله فى مثل ذلك مثل قول الحريرىّ: وإنّى والله لطالما لقيت الشتاء بكافاته، وأعددت الأهبة له قبل موافاته. يشير الى بيتى ابن سكّرة: جاء الشتاء وعندى من حوائجه وهى مشهورة. فإذا عرف الكاتب هذه العلوم، وأتى الصناعة من هذه الأبواب تعيّن عليه أمور أخر نذكرها الآن. ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسّك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز قال إبراهيم بن محمد الشّيبانىّ: فإن احتجت الى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتّاب والأدباء والخطباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلّا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه، ولكلّ طبقة من هذه الطّباق معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها فى مراسلتك إيّاهم فى كتبك، وتزن كلامك فى مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنك متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجرى شعاع بلاغتك فى غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك فى غير سلكه، فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا [لائقا بمن «1» كاتبته، وملامسا لمن راسلته] ، فإن إلباسك المعنى

- وإن صحّ وشرف- لفظا مختلفا عن قدر المكتوب اليه لم تجربه عادته تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم يلحق «1» المكتوب اليه، ونقص ما يجب له «2» ، كما أنّ فى اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجّة أدبهم. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: فامتثل هذه المذاهب، واجر [على هذا «3» ] القوام، وتحفّظ فى صدور «4» كتبك وفصولها وافتتاحها وخواتمها، وضع كل معنى فى موضع يليق به، وتخيّر لكلّ لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك فى موضع ذكر البلوى بمثل: «نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه» وأشباه ذلك؛ وفى موضع ذكر المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ؛ وفى موضع ذكر النعمة: «الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا» وما يشاكل ذلك، فإن هذه المواضع مما يتعيّن على الكاتب أن يتفقّده ويتحفّظ منه، فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كلّ معنى فى موضعه، ويعلّق كلّ لفظة على طبقتها فى المعنى. قال: واعلم أنه لا يجوز فى الرسائل استعمال ما أتت به آى القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ [بالعامّ «5» ] والعامّ بالخاصّ، لأن الله تعالى إنما خاطب

بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جلّ ثناؤه- أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء «1» على اللغة لا علم لهم بلسان العرب؛ وكذلك ينبغى للكاتب أن يتجنّب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس، فإنه إن ذهب ليكاتب على معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وكقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ احتاج أن يبيّن أن معناه: اسأل أهل القرية، وأهل العير، وبل مكركم باليل والنهار؛ قال: وكذلك لا يجوز أيضا فى الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز فى الأشعار الموزونة، لأن الشاعر مضطرّ، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافى، فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها، واغتفروا «2» فيه سوء النّظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار فى موضع الإظهار، وذلك كله غير سائغ فى الرسائل، ولا جائز فى البلاغات؛ فمما أجيز فى الشعر من الحذف قول الشاعر: قواطنا مكّة من ورق الحما يريد الحمام، وكقول الآخر: صفر الوشاحين صموت الخلخل يريد الخلخال، وكقول الحطيئة: فيها الرماح وفيها كلّ سابغة ... جدلاء مسرودة من فعل «3» سلّام يريد سليمان، وكقول الآخر: وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «4»

يريد ثعلبة بن سيّار «1» ، وكقول الآخر: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل [أراد ولكن «2» ] قال: وكذلك لا ينبغى فى الرسائل أن يصغّر الاسم فى موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: دويهية تصغير داهية، وجذيل وعذيق، تصغير جذل وعذق «3» . قال لبيد: وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفّر منها الأنامل قال: فتخيّر فى الألفاظ أرجحها وزنا، وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها فى مكانها، وأدر الكلام فى أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه، ولا تجعل اللفظة قلقة فى موضعها، نافرة عن مكانها، فإنك متى فعلت ذلك هجّنت الموضع الذى حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذى أردت إصلاحه فإنّ وضع الألفاظ فى غير أماكنها، والقصد بها إلى غير مظانّها، إنما هو كترقيع الثوب الذى إن لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حدّ الجدّة، وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر: إنّ الجديد إذا ما زيد فى خلق ... يبين للناس أنّ الثوب مرقوع انتهى ما أورده ابن عبد ربّه. وقال المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ: ومما يتعيّن على الكاتب استعماله، والمحافظة عليه، والتمسّك به، إعطاء كلّ مقام حقّه، فإذا كتب فى أوقات

الحروب إلى نوّاب الملك عنه، وإلى مقدّمى الجيوش والسّرايا، فليتوخّ الإيجاز والألفاظ البليغة الدالّة على القصد من غير تطويل ولا بسط يضيّع المقصد، ويفصل الكلام بعضه من بعض، ولا تهويل لأمر العدو يضعف به القلوب، ولا تهوين لأمر يحصل به الاغترار. وذكر لذلك أمثلة من إنشائه. قال: فمن ذلك صورة كتاب أنشأته الى مقدّم سريّة كشف- ولم أكتب به- وهو: لا زال أخفّ فى مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى فى مطالبه من زورة طيف، وأسرع فى تنقّله من سحابة صيف، وأروع للعدا فى تطلّعه من سلّة سيف، حتى يعجب عدوّ الدّين فى الاطّلاع على عوراته من أين دهى وكيف؟ ويعلم [أنّ «1» ] من أوّل قسمته الّلقاء حصل عليه فى مقاصده الحيف «2» ؛ أصدرناها إليه نحثّه على الركوب بطائفة أعجل من السّيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصى الخيل؛ وأقدم من النّمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروغ فى مخاتلة العدا من الذئب الحذر؛ على خيل تجرى ما وجدت فلاه، وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناه؛ تتسنّم الجبال الصّمّ كالوعل «3» ، وإذا جارتها البروق غدت وراءها تمشى الهوينا كما يمشى الوجى «4» الوجل ... وليكن كالنجم فى سراه، وبعد ذراه؛ إن جرى فكسهم، وإن خطر فكوهم؛ وإن طلب فكالليل الذى هو مدرك، وإن طلب فكالجنّة التى لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتى على عدوّ الدّين من كل شرف،

ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف فى الإقامة عليه إلا إذا علم أن الخير فى السّرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرّز منهم بصرهم وسمعهم؛ وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدّها العزم أن ترى العدوّ الحقير جليلا؛ بل ترى الأمر على فصّه، وتروى الخبر على نصّه؛ وإن وجد مغرّرا فليأخذ خبره، إن قدر على الإتيان بعينه وإلّا فليذهب أثره؛ ولا يهيج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ [عليه «1» ] عين عدوّ مهما «2» ظهر له أن [المصلحة «3» فى إغفائها] ؛ وليكشف من أمورهم ما يبدى عند الملتقى عورتهم، ويخمد فى حالة الزّحف فورتهم؛ وليجعل قلبه فى ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسريّة كشفه والله تعالى يمدّه بلطفه، ويحفظه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه. واذا كتب عن الملك فى أوقات حركات العدوّ الى أهل الثغور يعلمهم بالحركة للقاء العدوّ، فليبسط القول فى وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطىّ المراحل، ومعالجة العدوّ، وتخييل أسباب النصر، والوثوق بعوائد الله فى الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التيقظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم، وما أشبه ذلك، ويبرزه فى أمتن «4» كلام وأجلّه وأمكنه، وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرقّة، ويبالغ فى وصف الإنابة إلى الله تعالى، واستنزال نصره وتأييده، والرجوع إليه فى تثبيت

الأقدام، والاعتصام به فى الصبر، والاستعانة به على العدوّ، والرغبة إليه فى خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخّرهم، وانتظار العرضيّات فى خلفهم، لما فى ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم واستشعار الوهن والخوف منهم، وليسلك فى مثل ذلك كما سلك المولى شهاب الدين محمود فى نحو ما كتب فى صدر كتاب سلطانىّ إلى بعض نوّاب الثغور عند حركة العدوّ، فإنه قال: أصدرناها ومنادى النّفير قد أعلن: يا خيل «1» الله اركبى، ويا «2» ملائكة الرحمن اصحبى ويا وفود الظّفر والتأييد اقربى؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرّعب إلى العدا والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان فى مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى؛ والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت الى موارد القلوب فتشوقت الى الارتواء من قلبها «3» ؛ والكماة قد زأرت كالليوث إذا دنت من «4» فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها؛ والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها؛ والنفوس قد أضرمت الحميّة نار غضبها، وعداها «5» حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها؛ والنصر قد أشرقت

فى الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله فى إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله؛ والألسن باستنزال نصر الله لهجه والأرجاء بأرواح القبول أرجه، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمّة مبتهجه والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّ بل عن مكانه؛ والنّيات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعه والخواطر مطمئنّة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه؛ وما بقى إلا طىّ المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل؛ والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين: من عذاب واصب، وهمّ ناصب؛ وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السيوف التى [إن «1» ] أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم؛ واصطلامهم «2» على أيدى العصابة المؤيّدة بنصر الله فى حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التى تدمّر كل شىء بأمر ربها؛ فليكن مرتقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذى إن فرّ أدركته من ورئه، وإن ثبت أخذته من بين يديه؛ وليجتهد فى حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المتخوّفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإنّ الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلاميّة وأهمّها؛ فكأنه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه؛ وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرّأ منه الشيطان الذى دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب للفلا وضباعها، وبين عقّبان الجوّ

ونسوره؛ ثقة من وعد الله الذى تمسّكنا منه باليقين، وتحقّقنا أن الله ينصر من ينصره وأن العاقبة للمتقين. قال: وزيادة البسط فى ذلك ونقصها بحسب المكتوب إليه. وإذا كتب فى التهانى بالفتوح، فليس إلّا بسط الكلام، والإطناب فى شكر نعم الله، والتبرّؤ من الحول والقوّة إلّا به، ووصف ما أعطى من النصر، وذكر ما منح من الثّبات، وتعظيم ما يسّر من الفتح؛ ثم ما وصف بعد ذلك من عزم وإقدام وصبر وجلد عن الملك وعن جيشه حسن وصفه، ولاق ذكره، وراق التوسيع فيه، وعذب بسط الكلام فيه؛ ثم كلّما اتسع مجال الكلام فى ذكر الواقعة ووصفها كان أحسن [وأدلّ على البلاغة، وأدعى لسرور المكتوب إليه، وأحسن «1» ] لموقع المنّة عنده، وأشهى إلى سمعه، وأشفى لغليل تشوّقه إلى معرفة الحال على جليّته، ولا بأس «2» بتهويل [أمر «3» ] العدوّ، ووصف جمعه وإقدامه، فإن تصغير أمره تحقير للظّفر به؛ وقد ذكرنا فى باب التهانى من ذلك ما تقدّم شرحه، فلنذكر فى هذا الموضع من كلامه فيه ما لم نورده فى باب التهانى؛ قال: وإن كان المكتوب إليه ملكا صاحب مملكة منفردة تعيّن أن يكون البسط أكثر، والإطناب أمدّ، والتهويل أبلغ، والشرح أتمّ؛ فمن ذلك فصل كتبته فى جواب ابن الأحمر صاحب غرناطة من جزيرة الأندلس، قال: أما بعد حمد الله الذى أيّدنا بجنوده، وأنجز لنا من نصر الأمّة صادق وعوده وخصّنا من استدامة الفتوح بمزايا مزيده، وأيّدنا بنصره، ونصرنا بتأييده، والصّلاة

والسلام على سيدنا محمد أشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وأكرم عبيده، وأعزّ من دعا الأمم وقد أنكرت خالقها الى الإقرار بتوحيده، وعلى آله وصحبه الذين أشرق أفق الدين منهم بكواكب سعوده؛ فإنا أصدرناها ونعم الله تعالى بنا مطيفه، ومواقع نصره عندنا لطيفه، وجنود تأييده لممالك الأعداء الى ممالكنا الشريفة مضيفه، وثغور الإسلام بذبّنا عن دين الله منيره، وبإعلائنا منار الهدى منيفه؛ ونحن نحمد الله على ذلك حمدا نستدرّ به أخلاف الظّفر، ونستديم به موادّ التأييد على من كفر؛ ونستمدّ به عوائد النصر التى كم أقدمها علينا إقدام، وأسفر لنا عنها وجه سفر؛ ونهدى إليه ثناء تعبق بنشر الرياض خمائله، وتنطق بمحض الوداد مخايله، وتشرق على أفق مفاخره غدواته وأصائله؛ يشافه مجده بمصونه «1» ، ويصارح فخره بمكنونه، ويجلو على حضرته العليّة عقائل الشّرف من أبكار الهناء وعونه؛ ونبدى لعلمه الكريم ورود كتابه الجليل مسفرا عن لوامع صفائه، منبئا بجوامع ودّه ووفائه؛ مشرقا بلآلئ فرائده، محدقا بروض كرمه الذى سعد رأى رائده؛ محتويا على سروره بما بلغه من أنباء النّصرة التى سارت بها إليه سرعان الرّكبان، وذلّت بعزّ ما تلى منها عليه عبّاد الصلبان؛ وطبّق ذكرها المشارق والمغارب، ومزّقت مواكب أعداء الله التّتار وهم فى رأى العين أعداد الكواكب، وخلطت التراب بدمائهم حتى لم يبح بها التيمّم، ومزجت بها الفرات حتى ما تحلّ لشارب؛ وهى النّصرة التى لا يدرك الوصف كنهها، ولا تعرف لها البلاغة مشبها فتذكر شبهها؛ ولا يتّسع نطاق النطق لذكرها، ولا تنهض الألسنة على طول الأبد بشكرها؛ فإنّ التّتار المخذولين اقبلوا كالرّمال، واصطفوا كالجبال؛ وتدفّقوا كالبحار الزّواخر، وتوالوا كالأمواج التى لا يعرف لها الأوّل من الآخر؛ فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بدّدت شملهم، وعلّمت الطير أكلهم؛ وحصرتهم

فى الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها وأسرفت فى الاقتضاء؛ وحصدت منهم سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، ومزّقت بقيّتهم فى الفلوات فكانوا كرماد اشتدّت به الرّيح فى يوم عاصف؛ وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج إلا من لا يؤبه له من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيّدة من الفلوات الى الفرات بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم؛ وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسره، وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الأسره، وأماته الرّعب من جيوشنا المنصورة فجاءه، واستولى عليه الوجل فجاءه من أمر الله ما جاءه؛ وقعد أخوه بعده مكانه، والخوف من عساكرنا يضعضع أركانه، والفرق من جيوشنا يفرّق أعوانه، ويمزّق إخوانه، ويوهى سلطانه ويبرّئ منه شيطانه؛ فلاذ بالالتجاء الى سلمنا، وعاذ بإسناد الرجاء الى كفّنا عنه وحلمنا؛ فكرّر رسله ورسائله مستعطفا، ووالى كتبه ووسائله مستعفيا من حربنا ومستسعفا؛ وهاهو الآن وجنوده يتوسّلون بالخضوع الى مراحمنا، ويتوصّلون ببذل الطاعة الى مكارمنا؛ ويسألون صفح الصّفاح الإسلاميّة عن رقابهم، ويبدون ما أظهره الله عليهم من الذلّ الذى جعلته تلك النّصرة خالدا فى أعقابهم؛ وسيوفنا تأبى قبول وسائلهم، وتصرّ على نهز سائلهم، وتمنع من الكفّ عن مقاتلهم، وتأنف أن تغمد إلّا فى قمم محاربهم ومقاتلهم؛ ونحن على ما نحن من الأهبة لغزوهم فى عقر دارهم، وانتزاع مواطن الخلافة وغيرها من ممالك الإسلام من بين نيوبهم وأظفارهم؛ مستنصرين بالله على من بقى فى خطّ «1» المشرق منهم، قائمين فيهم بفرض الجهاد الذى لولا دفاع الله به لم يمتنع خطّ المغرب عنهم؛ «ولينصرنّ الله من ينصره» ، ولو عددنا نعم الله علينا حاولنا عدّ ما لا نحصيه ولا نحصره.

وإن اضطرّ أن يكتب بمثل ذلك الى ملك غير مسلم لكنّه غير محارب، فالحكم فى ذلك أن يذكر من أسباب المودّة ما يقتضى المشاركة فى المسارّ، وأنّ أمر هذا العدد مع كثرته أخذ بأطراف الأنامل، وآل أمره الى ما آل، ويعظّم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر، وتلك عوائد نصر الله، وانتقامه «1» ممّن عادانا؛ فمن ذلك ما أنشأه المشار اليه لبعض ملوك البحر- ولم يكتب به- وهو: صدرت هذه المكاتبة مبشّرة له بما منحنا الله من نصرة أجزل الصفاء منها سهمه، وأكمل الوفاء من التهنئة بها قسمه؛ وخصّه الوداد بأجلّ أجزائها، وأجلسه الاتحاد على أسرّة مسرّتها إذا أجلس العناد غيره على بساط عزائها؛ علما بأنه الصديق الذى تبهجه مسارّ صديقه، والصاحب الذى يرى مساهمة صاحبه فى بشرى الظّفر بأعدائه أدنى حقوقه؛ وذلك أنه قد علم ما كان من أمر هؤلاء التّتار فى حركاتهم الذميمة، وعزماتهم التى ما احتفلوا لها إلا وكان أحدّ سلاحهم فيها الهزيمة، وغاراتهم التى ما حشدوا لها إلّا وقنعوا فها بالإياب من الغنيمه؛ وأنهم ما أقدموا علينا إلا وعدموا، ولا سلكوا الينا إلّا وهلكوا؛ حتى إنّ الأرض الى الآن لم تجفّ من دمائهم، وإنّ الفرات يكاد يشفّ «2» للمتأمّل عن أشلائهم؛ وأن الشيطان بعد ذلك جدّد طمعهم، وسكّن هلعهم؛ وأنساهم مصارع إخوانهم، وأسلاهم بما زيّن لهم من بلوغ أوطارهم عن أوطانهم؛ وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وتلك الوقائع التى أصبتم فيها قد لا يجرى الأمر فيها على القياس؛ وحسّن لهم المحال وغرّهم وجرّأهم على قصد البلاد المحروسة، وفى الحقيقة استجرّهم؛ فحشدوا جموعهم

وجمعوا حشودهم، واستفرغوا فى الاستنفار والاستظهار طاقتهم ومجهودهم؛ ومالأهم على ذلك من المجاورين من أبطن شقاقه، وكنتم نفاقه، وأنساه الشيطان ما سلف من تنفيسنا عنه وقد لازم الحتف خناقه؛ ونحن فى ذلك نوسعهم إمهالا؛ ونبسط لهم فى التّوغل آمالا، ونأخذا أمرهم بالأناة استدرجا لهم لا إهمالا؛ الى أن بعدوا عن مواطن الهرب، وحصل من استدراجهم الأرب؛ فوثبنا عليهم وثوب الليث إذا ظفر بصيده، ونهضنا نحوهم نهوض الحازم إذا وقع [عدوّه «1» ] فى أحبولة كيده؛ وصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة فللت غربهم، وأبطلت طعنهم وضربهم، وصبغت بدمائهم تربهم؛ وحكّمت السيوف فى مقاتلهم، [ومكّنت الحتوف من صاحب رأيهم ومقاتلهم «2» ] ؛ وسلّطت العدم على وجودهم، وحطّتهم عن سروجهم الى مصارعهم أو قيودهم؛ «فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين» ، وعادوا على عادتهم خاسئين، ورجعوا على أعقابهم خاسرين؛ وما أغنى عنهم جمعهم، وما أفادهم بصرهم فيما شاهدوه من قبل ولا سمعهم؛ فركن من بقى منهم الى الفرار، وعاذ ببرد الهرب من لهب تلك السيوف الحرار وظنّ من انهزم منهم أنه فات الرماح، فتناولته بأرماح من العطش القفار؛ فولّوا والرعب يزلزل أقدامهم، والذّعر يقلّل إقدامهم؛ والصّفاح تتخطّفهم من ورائهم والجراح تطمع الطّير فى أكلهم حتى تقع على أحيائهم؛ حتى أصبحوا هشيما تلعب «3» بهم الصّبا والدّبور، أو أحياء يئس منهم أهلهم «كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» وصفحنا عمّن نافقنا ووافقهم ولولا ذلك لما نجا، ورجا عواطفنا فى الإبقاء على نفسه، فأجابه حلمنا- وعلمنا أنه فى القبضة- الى ما رجا؛ فليأخذ الملك حظّه من

هذه البشرى التى تسرّ قلب الولىّ المحبّ بوادرها، وتشرح صدر الحفىّ «1» المحقّ مواردها ومصادرها؛ والله تعالى يبهجه عنا بسماع أمثالها، ويديم سروره بما جلوناه عليه من مثالها «2» . قال: فإن كان المكتوب إليه متّهما بممالأة العدوّ كتب اليه بما يدلّ على التقريع والتهكّم، وإبراز التهديد فى معرض الإخبار، كما كتب المشار اليه عن السلطان الى متملّك سيس «3» - وكان قد شهد الوقعة مع العدوّ- قال منه: بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه فى الإصرار على مخالفته ونقض عهده وأسلاه بسلامة نفسه عمّن روّعته السيوف الإسلاميّة بفقده؛ صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذى دلّاه بغروره، وحمله التمسّك بخداعه على مجانبة الصواب فى أموره؛ وأنهم استنجدوا بكلّ طائفه، وأقدموا على البلاد الإسلاميّة بنفوس طامعة وقلوب خائفه؛ وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون «4» المخادعة بالموادعه، ويسرّون المصارمة فى المسالمه؛ ويظهرون فى الظاهر أمورا، ويدبّرون فى الباطن أمورا، ويعدون كل طائفة من أعداء الدين مثله ويمنّونهم «وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا» ؛ وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معالجتهم عاملين؛ وحين تبيّن مرادهم وتكمّل احتشادهم؛ استدرجناهم الى مصارعهم، واستجريناهم «5» ليقربوا فى القتل من مضاجعهم، ويبعدوا فى الهرب عن مواضعهم؛ وصدمناهم بقوّة أو صدمة

لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها الى ذلك الجبل، وهل تعصم من أمر الله حيل؟ فحصرناهم فى ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رأى ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السيف الذى نهل من دمائهم حتى روى وأكل من لحومهم حتى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم فى الفلوات رعبها، ويفرّقهم فى القفار طعنها المتدارك وضربها؛ ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحىّ منهم أنّ وطنه كالدنيا التى ليس للميت اليها رجوع؛ ولعله قد رأى ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كل ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم له عليه برهانا؛ وقد علم أنّ أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيره، وأنهم ما أقدموا إلا ونصر الله عليهم فى مواطن كثيره؛ وما ساقتهم الأطماع فى وقت إلا الى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ فى وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم؛ ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التى كان فى مهاد أمنها، ووهاد يمنها؛ وحماية عفوها، وبرد رأفتها التى كدّرها بالمخالفة بعد صفوها؛ يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمى أهل ملّته بالحذر من الحركات التى ما نهضوا اليها إلا وجرّوا ذيول الخسار؛ ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التى كان من سطواتها فى أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل اليه أمر ذلك الضّمان؛ وجرّ لنفسه بموالاة التتار عناء كان عنه فى غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغول فى حومة السيوف التى تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا؛ واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره «فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه» وما هو والوقوف فى هذه المواطن التى تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسره وأنّى لضعاف النّقاد قدرة على الثّبات لوثبات الأسود الضارية واللّيوث الكاسره؛

لقد اعترض بين السهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره؛ وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق أسلافه التى ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التى بذلوا نفوسهم ونفائسهم فى الوصول اليها؛ ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمّتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا مهما «1» استقاموا، ونسلك بهم حكم من فى أطراف البلاد من رعايانا الذين هم فى قبضتنا نزحوا أو أقاموا؛ ونحن نتحقّق أنه ما بقى ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يهوّر «2» نفسه فى موارد الهلاك، وهل يرجع الى الموت «3» [من] ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبذل السيوف الإسلاميّة مصونه، ويبادر الى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل؛ ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده فى جملة ما يحمل منها الينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا، وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر فى بلاده بين يدينا؛ ويكون هو السبب فى تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع «4» بيته من أصله؛ وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه؛ واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه؛ واقتلاع «5» قلاعه، وإحراق

ربوعه ورباعه «1» ، وتعجيل رؤية ما أوعد «2» به قبل سماعه، ومن لقازان بأن يجاب الى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما فى يده من الممالك؛ ليقنع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة فى يده من الخيل والخول، ويعيش فى الأمن ببعض ما نسمح له به، ومن للعور «3» بالحول؛ والسيوف الآن مصغية الى جوابه لتكفّ إن أبصر سبل الرشاد، أو تتعوّض برءوس حماته وكماته عن الأغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون. وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلّق بذلك- فالأحسن فيها بسط الكلام، وتعتبر كثرته وقلّته بحسب الرتب، ويجب أن يراعى فيها أمور: منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال، أو قدر النعمة، أو لقب صاحب التقليد أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيّا من هذه الأحوال، ولا بعيدا منها، ولا مباينا لها، ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق المقصد من أوّل الخطبة

الى آخرها؛ قال: ويحسن أن يكون الكلام فى التقليد منقسما إلى أربعة أقسام متقاربة المقادير، فالرّبع الأوّل الخطبة، والثانى ذكر موقع الإنعام فى حقّ المقلّد، وذكر الرتبة وتفخيم أمرها، والثالث فى أوصاف المقلّد وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت، وسمعة وشجاعة إن كان نائبا، ووصف العدل والرأى وحسن التدبير، والمعرفة بوجوه الأموال، وعمارة البلاد، وصلاح الأحوال، وما يناسب ذلك إن كان وزيرا؛ وكذلك فى كلّ رتبة بحسبها، والرابع فى الوصايا؛ ومنها [أن يراعى «1» ] المناسبة وما تقضيه الحال، فلا يعطى أحدا فوق حقّه، ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله، ويراعى أيضا مقدار النعمة والرتبة، فيكون وصف المنّة على مقدار ذلك. ومنها أن لا يصف المتولّى بما يكون فيه تعريض بالمعزول وتنقّص له، فإنّ ذلك مما يوغر الصدور، ويؤرّث الضغائن فى القلوب، ويدلّ على ضعف الآراء فى اختيار الأوّل، وله أن يصف الثانى بما يحصل به المقصود من غير تعريض بالأوّل؛ ومنها أن يتخيّر الكلام والمعانى، فإنه مما يشيع ويذيع، ولا يعذر «2» المقصّر فى ذلك بعجلة ولا ضيق وقت، فإنّ مجال الكلام عليه متّسع، والبلاغة تظهر فى القليل والكثير، والأمر الجارى فى ذلك على العادة معروف، لكن تقع أشياء خارجة عن العادة، نادرة الوقوع، فيحتاج الكاتب فيها الى حسن التصرّف على ما تقتضيه الحال؛

فمن ذلك تقليد [من «1» ] إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ كتبه لمتملّك سيس بإقراره على ما قاطع النهر من بلاده، وهو: الحمد لله الذى خصّ أيامنا الزاهرة باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنفوس التى جعلها النصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا على من أناب الى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا [لمن تمسّك «2» بولائنا] أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب، إذ ربما صحّت الأجسام بالعلل؛ نحمده على نعمه التى جعلت عفونا ممن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل اليه منيبا بوجه الأمل مثيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له فى التمسّك بمراحمنا نصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرا الأعناق ممن أطمعه الغرور فى انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها، وانقطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هى العليا، فلا تزال أعناق جاحديها فى قبضة أوليائها وتحت أقدامها؛ ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق الى كلّ أمّه، المنعوت فى الكتب المنزّلة بالرأفة والرحمه، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس منهنّ الرعب الذى كان يتقدّمه الى من قصده، ويسبقه مسيرة شهر الى [من «3» ] أمّه، المنصوص

فى الصحف المحكمة على جهاد أمته، الذى لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعته بذمته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته الى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربهم ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ ما زوى الله له من ذلك؛ صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا فى الآفاق ومنجدا؛ ما استفتحت ألسنة الأسنّة النصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد، فإنه لمّا آتانا الله ملك البسيطه، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطه؛ ومكّن لنا فى الآفاق «1» ، وأنهضنا من الجهاد فى سبيله بالسنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض [فيه «2» ] جيوشنا من أمثلة يوم العرض؛ وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا التى هى على من كفر بالله وكفر النعمة دعوة نوح وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة فانتصر بالأب والابن والرّوح؛ وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلم، وبذلت كرائم بلادها رغبة فى الالتجاء من عفونا الى ظل أعلى من علم؛ وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذلّة والخضوع وتوصّل من كان منهم يبدى القوّة بالإخلاص الذى رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدروع؛ عاهدنا الله تعالى ألّا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا؛ ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نجلى عن ظلّ برّنا لاجيا؛ علما أنّ ذلك شكر للقدرة التى جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنه حيث كان فى قبضتنا كما نشاء

نجمع عليه الأنامل؛ اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجئ للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا؛ فيكون هو الجانى على نفسه، والجانى على موضع رمسه؛ ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله؛ وحسّن له التمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون فى ديارهم، مأسورون فى حبائل إدبارهم؛ عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته سرايانا المنصورة من يديهم؛ ليس منهم إلا من له عند سيوفنا ثار، ومن يعلم أنه لا بدّله عندنا من خطّتى خسف: إما القتل أو الإسار؛ وحين تمادى المذكور فى غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه؛ أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت فى عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك؛ وألحقت رواسى جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وما كرّ وأعلمهم أن الساعة موعدهم «والسّاعة أدهى وأمرّ» وأخلقهم ما ضمن لهم من العون وقال لهم: «إنّى برىء منكم إنّى أرى ما لا ترون» ؛ وكان الملك فلان ممّن يريد طرق النجاة فلم ير إليها بسوى الطاعة سبيلا، ويأمل أسباب النجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده؛ وأراه الإقبال كيف تثبت قدمه فى الملك الذى زلّت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على ما لم يبق غضبنا فى يد أخيه منه إلا الأسى والأسف؛ وحسّنت له الثقة بكرمنا كيف يجمل الطلب، وعلّمته الطاعة كيف تستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا وإنما الدنيا لمن غلب؛ وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا؛ فلجأ منا الى

ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد؛ وحرم يأوى آمله إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا فى يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال التى كانت عليه؛ اقتضى إحساننا أن نغضى له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه وحلّت سطوات عساكرنا عراه؛ وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه؛ وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله؛ وسلكت كماتنا فملكت دارسه واهله؛ وأن نبقى مملكة البيت الذى مضى سلفه فى الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن الذى أهمل «1» السعى فى مصالحه بيديه؛ ليتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه؛ ويتحقّقوا أنّ أثقالهم بحسن توصّله الى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله الى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت وأنّ سيوفنا التى كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسنا وكفّت وأنّ سطواتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت [عنهم بملاطفته «2» وعفت] ؛ فرسم أن يقلّد كيت وكيت من المملكة الفلانية، ويستقرّ بيده استقرار لا ينازع فى استحقاقه ولا يعارض فيما سبق من إعطائه وإطلاقه؛ ولا يطالب عنه بقطيعه «3» ، [ولا يطلب منه بسببه غير طويّة مخلصة ونفس مطيعه] ؛ ولا يخشى عليه يدا جائره، ولا سريّة فى طلب الغرّة سائره؛ ولا يطرق كناسه أسد جيوش مفترسه، ولا سباع نهاب مختلسه؛ بل تستمرّ بلاده المذكورة فى ذمام رعايتنا، وحصانة عنايتنا؛ وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا؛ لا تطمح اليها عين معاند، ولا يمتدّ اليها إلّا ساعد

مساعد، وعضد معاضد؛ فليقابل هذه النعمة بشكر الله الذى هداه الى الطاعه وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعه؛ وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّه، وإضفاء ملابس الطاعة التى لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّه؛ واستمرار المناصحة فى السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف «1» عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه؛ واستدامة هذه النعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النيّة التى لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها. ومن تقليد كتبه المشار اليه أيضا لسلامش بمملكة الروم حين ورود كتابه يسأل ذلك قبل حضوره، أوّله: الحمد لله الذى أيّدنا بنصره، وأمدّنا من جنود الظّفر بما لم يؤت ملك فى عصره، وجعل مهابتنا قائمة فى جهاد عدوّ الدين، إن قرب مقام كسره، وإن بعد مقام حصره، ونشر دعوة ملكنا فى الأقطار كلّها اذا اقتصرت دعوة غيرنا من ملوك الأمصار على مصره، وأنجد من نادانا بلسان الإخلاص من جنود الله وجنودنا بالجيش الذى لم تزل أرواح العدا بأسرها فى أسره، وعضد من تمسّك بطاعة الله وطاعتنا من إجابة عساكرنا بما هو أقرب الى مقاتل عدوّه من بيضه المرهفة وسمره، وأعاد بنا من حقوق الدّين كلّ ضالّة ملك ظنّ العدوّ أنّ أمره غالب عليها والله غالب على أمره؛ فجنودنا إلى نصرة من دعاها بالإيمان أقرب من رجع نفسه اليه، وأسرع من ردّ «2» الصدى جوابه عليه؛ وأسبق الى عدوّ

الدين من مواقع عيانه، وأقدر على التصرّف فى أرواح أهل الشّرك من تصرّف الكمىّ فى عنانه؛ وأذب عن حمى الدين من الجفون عن نواظرها، وأضرى على نفوس المعتدين من أسود عنت الفرائس «1» لكواسرها؛ قد عوّدها النصر الإلهىّ ألّا تسلّ ظباها فتغمد حتى تستباح ممالك، وضمن لها الوعد المحمّدىّ أنها الطائفة الذين لا يزالون ظاهرين الى يوم القيامة حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك؛ نحمده على نعمه التى لم نزل نصون بها حمى الدين ونصول، ونقلّد بيمنها من لجأ إلينا سيف نصر يصدع به ليل العدا ولو أن النجوم نصول، ونورد بآسمها من انتصر بنا مورد عزّ يحرّمه «2» لمع الأسنّة فوقه، فليس لظمآن من العدا إليه وصول؛ وبعد، فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميّزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا انتصاره فى الدين بالنّفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر واقتناصه، وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمنا الشريف يئس العدوّ من استخلاصه؛ وأجيبت كتبه فى الاستنجاد بسرعان «3» الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع أمداد جيوشنا التى تنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفّق أمواج عساكرنا التى تنشد طلائعها ملوك العدا: «أين الفرار ولا مفرّ لهارب» وتألّق بروق النصر من خفق ألويتنا الشاهدة بأن قبيلنا «إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب» .

ومنه: وفوّضت إليه مراسمنا الحكم فى الرعايا بالعدل والإحسان، وقلّدته «1» أوامرنا من عقود النظر فى تلك الممالك [ما تودّ جباه الملوك «2» ] لو حلّت «3» بدرّها معاقد التيجان، وعلّقت «4» به من الأوامر ما بنا تنفذ مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة لا تنفذ إلا بسلطان؛ من ألقى الله الإيمان فى قلبه، وهداه إلى دين الإسلام فأصبح فيه على بيّنة من ربّه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأنقذه بطاعته من موارد الهلاك بعد أن كان قد أذن بحرب من الله ورسوله، ولقد خسر الدين «5» والدنيا والآخرة من أذن من الله بحربه؛ وأيقظه من طاعتنا التى أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذى كان فيه كسراب بقيعة «6» لم يجده شيئا، وأنّ الذى انتقل إليه وجد الله عنده؛ وأنهضه من موالاتنا بما حتّم به النّهوض على كل من كان مسلما، وأخرجه بنور الهدى من عداد أعدائه الذين تركهم خوفنا «كأنّما أغشيت وجوههم قطعا من اليّل مظلما» ؛ وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام فبطاعتنا يتمّ الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة فمن اغتصب منها شيئا انتزعه الله لنا بجنوده المسوّمة من يديه؛ فلجأ من أبوابنا العالية الى الظلّ الذى يلجأ اليه كلّ ذى منبر وسرير، ورجا من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التى ما رمينا بها

عدوّا إلا ظنّ أن الرمال تسيل والجبال تسير؛ وتحيز منّا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التى هو يعلم كيف تسلّها على العدا الأحلام؛ ومتّ إلينا بذمّة الإسلام وهى عندنا أبرّ الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من عرف «1» بإعاذته «2» النظرات الصادقة أنه كان يحسب الشحم فيمن شحمه ورم؛ وعقد بنا بناء رجائه، وهل لمسلم عن ملك الإسلام من معدل؟ وأنزل بنا ركائب آماله، وهل بعد رامة لمرام «3» من منزل؟ فتلقّت نعمنا كرائم قصده بالترحيب، وأحلّت وفادة انتمائه «4» بالحرم الذى شأوه بعيد ونصره قريب؛ وتسارعت إلى نصرته جنودنا التى أيّامها مشهورة فى عدوّها، وآثارها مشكورة فى رواحها وغدوّها، وأعلامها منصورة فى انتزاحها ودنوّها؛ وتتابعت يتلو بعضها بعضا تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم؛ تقدم عليه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أنّ طلائعها عنده وساقتها بالصعيد؛ ولما كان فلان هو الذى أراد الله به من الخير ما أراد، ووطّد له بعنايته أركان الرشاد؛ وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته، فما أمسى للإسلام عدوّا حتى أصبح هو ومن معه له سلما؛ «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» ، وبكرمه العميم فليفسحوا صدورهم ويشرحوا، وبإرشاده الجلىّ وهدايته فليدعوا قومهم الى ذلك وينصحوا؛ وحين وضحت له هذه الطرق أرشدته من خدمتنا الشريفة الى الطاعة، ودلّته على

موالاة ملك الإسلام التى من لم يتمسّك [بها «1» ] فقد فارق الجماعة؛ فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم بطاعة أولى الأمر، وحثّ على ملازمة الجماعة فى وقت يكون المتمسّك فيه بدينه كالقابض على الجمر؛ وهذا فعل من أراد الله به خيرا، وسعى من يحسن فى دين الله سيرة وسيرا؛ ولذلك اقتضت آراؤنا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالإمجاد، وإنفاذ سهمه فى أهل العناد بالإسعاف والإسعاد؛ وأرسلنا الجيوش الإسلاميّة كما تقدّم شرحه يطئون الصّحاصح، ويستقربون المدى النازح، ويأخذون كلّ كمىّ فلو استطاع السّماك لم يتسمّ بالرامح، ويحتسبون الشّقّة فى طلب عدوّ الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح؛ فرسم بالأمر الشريف- لا زال يهب الدّول، ويقلّد أجياد العظماء ما تودّ لو تحلّت ببعض فرائده تيجان الملوك الأوّل- أن تفوّض إليه نيابة الممالك الفلانيّة تفويضا يصون به قلاعها، [ويصول «2» بمهابته على من حاول انتزاعها من يده واقتلاعها] ؛ ويجريها على [ما «3» ] ألفت مما لكنا من أمن لا يروّع سربه، ولا يكدّر شربه؛ ولا يوجد فيه باغ تخاف السبيل بسببه، ولا من يجرّد سيف بغى وطن جرّده قتل به؛ وليحفظ من الأطراف ما استودعه الله وهذا التقليد الشريف حفظه، وليعمل فى قتال محاربيه من العدا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.

ومنه: وليعلم أن جيوشنا فى المسير إليه متى قصدت عدوّا سابقت خيولها خيالها، وجارت جيادها ظلالها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها؛ وها هى قد تقدّمت ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار فى سبيل الله لخاضت، أو تصدم الجبال لصدمت. ومنه: والشرع الشريف مهمّه المقدّم، وأمره السابق على كلّ ما تقدّم؛ فليعل مناره، ويستشفّ من أموره أنواره؛ وينفّذ أحكامه، ويعاضد حكّامه؛ ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من أحكامه جاحدا؛ فقد برئت الذمّة من دمه حتى يفىء الى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله؛ فإن الله يهدى إليه من أناب «وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده» . وأما الرسائل التى تتضمّن أوصاف السلاح وآلات الحرب وأوصاف الخيل والجوارح وأنواع الرياضات وما أشبه ذلك، فالكاتب فيه مطلق العنان، مخلّى بينه وبين فصاحته، موكول إلى اطّلاعه وبلاغته؛ وقد تقدّم من أوصاف السلاح ما فيه كفاية لمن يريد ذلك. وأما الخيل والجوارح وما يلتحق «1» بذلك من الفهود والضّوارى فلا غنية للكاتب عن معرفته جيادها، والأمارات الدالّة على فراهتها، وكلّ طير من الجارح وأفعاله واستطالته، وكيفيّة فعله، وتمكّنه من الطير والوحش؛ وسنورد إن شاء الله تعالى فى فنّ الحيوان الصامت- وهو الفنّ الثالث من هذا الكتاب- ما يقتدى الكاتب بمثاله، وينسج على منواله.

ذكر شىء من الرسائل المنسوبة إلى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأول وبلاغتهم

وأما الرسائل التى تعمل رياضة للخواطر وتجربة للقرائح، كالمفاخرات بين الفواكه والأزهار، ووصف الرياحين والأنهار والغدران والسّواقى والجداول والبحار والمراكب وأمثال ذلك، فقد تقدّم منها فى الفنّ الأوّل من هذا الكتاب ما وقفت أو تقف عليه، وسنورد منها إن شاء الله تعالى فى الفن الرابع فى النبات ما تجده هناك. وأما الرسائل الإخوانيّة وما يتجدّده من الأمور ويطرأ من الحوادث وغير ذلك، فسنورد إن شاء الله تعالى منها فى هذا الباب ما انتجبناه من رسائل الكتّاب والبلغاء المشارقة والمغاربة على ما تقف عليه؛ ولنبدأ من ذلك بذكر شىء من كلام الصحابة والصدر الأوّل. ذكر شىء من الرسائل المنسوبة إلى الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وشىء من كلام الصدر الأوّل وبلاغتهم قدّمنا أنّ الكاتب يحتاج فى صناعته إلى حفظ مخاطبات الصحابة رضى الله عنهم، ومحاوراتهم ومراجعاتهم، فأحببنا أن نورد من ذلك فى هذا الموضع ما ستقف إن شاء الله عليه؛ فمن ذلك الرسالة المنسوبة إلى أبى بكر الصّدّيق إلى علىّ، وما يتّصل بها من كلام عمر بن الخطاب وجواب علىّ رضى الله عنهم، وهذه الرسالة قد اعتنى الناس بها وأوردها [فى] المجاميع، ومنهم من أفردها فى جزء، وقطع بأنها من كلامهم رضى الله عنهم، ومنهم من أنكرها ونفاها عنهم، وقال: إنها موضوعة، واختلف القائلون بوضعها، فمنهم من زعم أنّ فضلاء الشّيعة وضعوها، وأرادوا بذلك الاستناد إلى

[أن «1» ] عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه إنما بايع أبا بكر الصّدّيق بسبب ما تضمّنته؛ وهذا الاستناد ضعيف، وحجّة واهية، والصحيح أن عليّا بن أبى طالب رضى الله عنه بايع بيعة رضى باطنه فيها كظاهره، والدليل على ذلك أنه وطئ من السّبى الذى سبى فى خلافة أبى بكر، واستولد منه محمد بن الحنفيّة، ولا جواب لهم عن هذا؛ ومنهم من زعم أن فضلاء السنّة وضعوها، والله أعلم؛ وعلى الجملة فهذه الرسالة لم نوردها فى هذا الكتاب إثباتا لها أنها من كلامهم رضى الله عنهم ولا نفيا، وإنما أوردناها لما فيها من البلاغة، واتّساق الكلام، وجودة الألفاظ، وها نحن نوردها على نص ما وقفنا عليه قال أبو حيّان علىّ بن محمد التوحيدىّ البغدادىّ: سمرنا ليلة عند القاضى أبى حامد بن بشر المرورّوذىّ ببغداد، فتصرّف فى الحديث كلّ متصرّف- وكان غزير «2» الروايه، لطيف الدرايه- فجرى حديث السّقيفة، فركب كلّ مركبا، وقال قولا، وعرّض بشىء، ونزع إلى فنّ؛ فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبى بكر الصّدّيق إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما وجواب علىّ عنها، ومبايعته إياه عقب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة: لا والله، فقال: هى والله من بنات الحقائق، ومخبّآت الصنادق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبى محمد المهلّبىّ فى وزارته، فكتبها عنّى بيده، وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدلّ على علم وحلم وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدّة غوص؛ فقال له

العبّادانىّ «1» : أيها القاضى، لو أتممت المنّة علينا بروايتها سمعناها «2» ، فنحن أوعى لها عنك من المهلّبىّ، وأوجب ذماما عليك؛ فاندفع وقال: حدّثنا الخزاعىّ بمكّة، عن أبى «3» ميسرة قال: حدّثنا محمد بن فليح «4» عن عيسى بن دأب «5» [نبّأ «6» صالح بن كيسان ويزيد بن رومان، قالا: حدّثنا هشام بن عروة، نبّأ] أبو النفّاح «7» قال: سمعت

مولاى أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبى بكر رضى الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرّها، ويسّر خيرها؛ بلغ أبا بكر عن علىّ تلكّؤ وشماس، وتهمّم «1» ونفاس، وتهمّم ونفاس، فكره أن يتمادى الحال فتبدو العوره، وتشتعل الجمره، وتفرّق ذات البين، فدعانى، فحضرته فى خلوة، وكان عنده عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وحده، فقال: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعزّ الله بك الإسلام، وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمكان المحوط، والمحلّ المغبوط، ولقد قال فيك فى يوم مشهود: «لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة» ولم [تزل «2» ] للدّين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى، ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا؛ قد أردتك لأمر له خطر مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف؛ ولئن لم يندمل جرحه بيسارك «3» ورفقك، ولم تجبّ حيّته برقيتك، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس؛ واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرّ منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك، فتأتّ له يا أبا عبيدة، وتلطّف فيه، وانصح لله عزّ وجلّ، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذه العصابة غير آل جهدا، و [لا] قال حمدا؛ والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصّرك، إن شاء الله؛ امض إلى علىّ واخفض له جناحك، واغضض

عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبى طالب، ومكانه ممّن فقدناه بالأمس صلّى الله عليه وسلّم مكانه، وقل له: البحر مغرقه، والبرّ مفرقه؛ والجوّ أكلف، والليل أغذف «1» ؛ والسماء جلواء، والأرض صلعاء؛ والصّعود متعذّر، والهبوط متعسّر؛ والحقّ عطوف رءوف، والباطل عنوف «2» عسوف، والعجب قدّاحة «3» الشرّ، والضّغن رائد البوار، والتعريض سجال «4» الفتنة، والقحة ثقوب «5» العداوة، وهذا الشيطان متّكئ على شماله، متحبّل «6» بيمينه، نافخ حضنيه «7» لأهله، ينتظر الشّتات والفرقة، ويدبّ بين الأمّة بالشّحناء والعداوة، عنادا لله عز وجلّ أوّلا، ولآدم ثانيا، ولنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلى بالغرور، ويمنّى أهل الشرور، يوحى إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم صلّى الله

عليه، وعادّة له منذ أهانه الله تعالى فى سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعضّ الناجذ على الحقّ، وغضّ الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدوّ الله بالأشدّ فالأشدّ، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عزّ وجلّ فى ابتغاء رضاه؛ ولا بدّ الآن من قول ينفع اذا ضرّ السكوت وخيف غبّه، ولقد أرشدك من أفاء ضالّتك، وصافاك من أحيا مودّته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك، ما هذا الذى تسوّل لك نفسك، ويدوى «1» به قلبك، ويلتوى عليه رأيك، ويتخاوص «2» دونه طرفك، ويسرى فيه ظعنك، ويترادف معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ أمثلى تمشى إليه الضّراء وتدبّ له الخمر «3» ؟ أو مثلك ينقبض عليه الفضاء ويكسف «4» فى عينه القمر؟ ما هذه القعقعة «5» بالشّنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك والله جدّ عارف باستجابتنا إلى الله عزّ وجلّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبّتنا لله «6» عزّ وجلّ ولرسوله ونصرة لدينه، فى زمان أنت فيه فى كن الصّبا،

وخدر الغرارة، وعنفوان الشّبيبة [غافلا «1» عما] يشيب ويريب «2» ، لا تعى ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التى إليها عدل بك، وعندها حطّ رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل، ونحن فى أثناء ذلك نعانى أحوالا تزيل الرواسى، ونقاسى أهوالا تشيب النّواصى؛ خائضين غمارها، راكبين تيّارها؛ نتجرّع صابها، ونشرج «3» عيابها؛ ونحكم أساسها، ونبرم أمراسها؛ والعيون تحدّج «4» بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشّفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا تنتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، و [لا «5» ] ندفع فى نحر أمر إلّا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلى شىء إلّا بعد جرع العذاب معه، ولا نقيم منارا إلا بعد الإياس من الحياة عنده، فادين فى جميع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأب والأمّ، والخال والعمّ، والمال والنّشب، والسّبد واللّبد «6» ، والهلّة والبلّة «7» ، بطيب أنفس، وقرّة أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحّة عقول، وطلاقه أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيّات أسرار، ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا،

ولولا سنّك لم تكن عن شىء منها ناكلا؛ كيف وفؤادك مشهوم «1» ، وعودك معجوم! والآن قد بلغ الله بك، وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلّص «2» أردانك؛ ودع التقعّس «3» والتجسّس لمن لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛ فالأمر غضّ، والنفوس فيها مضّ «4» ؛ وإنك أديم هذه الأمّة فلا تحلم «5» لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا؛ والله لقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر فقال لى: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه لا لمن يحاحش «6» عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن ينتفج «7» إليه، هو لمن يقال: هو لك، لا لمن يقول: هو لى» ولقد شاورنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصّهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت: أين أنت من علىّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنّه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفّت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك فى ذلك حوجاء ولا للوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد

رائحة سواك، وكنت إذ ذاك خيرا لك منك الآن لى؛ ولئن كان عرّض بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك، وإن تلجلج فى نفسك شىء فهلمّ فالحكم مرضىّ، والصواب مسموع، والحقّ مطاع؛ ولقد نقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما عند الله عزّ وجلّ وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حدب، يسرّه ما يسرّها، ويسوءه ما يسوءها «1» ، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها، أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه «2» إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمزيّة، وأفرده بحالة؟ أتظنه صلّى الله عليه وسلّم ترك الأمة سدى بددا، عباهل مباهل «3» ، طلاحى «4» ، مفتونة بالباطل، معنونة «5» عن الحقّ، لا ذائد ولا رائد، ولا ضابط ولا حائط ولا رابط، ولا ساقى ولا واقى، ولا هادى ولا حادى «6» ؛ كلا، والله ما اشتاق الى ربه تعالى، ولا سأله المصير الى رضوانه وقربه إلّا بعد أن ضرب المدى «7» ، وأوضح

الهدى، وأبان الصّوى «1» ؛ وأمّن المسالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع «2» ، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشّرك بإذن الله تعالى، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة فى ذات الله، وتفل فى عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عزّ وجلّ؛ وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك فى بقعة واحدة، ودار جامعة، إن استقالونى «3» لك، وأشاروا عندى بك، فأنا واضع يدى فى يدك، وصائر الى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى فادخل فى صالح ما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم «4» ، والمرشد لضالّتهم، والرادع لغوابتهم، فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى، والتناصر على الحق، ودعنا نقض هذه الحياة بصدور بريئة من الغلّ، سليمة من الضغائن «5» والحقد، ونلق الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن؛ وبعد، فالناس ثمامة «6» فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق «7» نفسك بنا خاصّة منهم، واترك ناجم الحقد

حصيدا، وطائر الشرّ واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف «1» ، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة: فلما تأهّبت للنهوض قال عمر رضى الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلى معك دور من القول، فوقفت وما أدرى ما كان بعدى إلّا أنه لحقنى بوجه يبدى تهلّلا، وقال لى: قل لعلىّ: الرّقاد محلمه، والهوى مقحمه؛ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ، وحقّ مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم؛ وإنّ أكيس الكيسى من منح الشارد تألّفا، وقارب البعيد تلطّفا؛ ووزن كلّ شىء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه؛ ولم يجعل فتره مكان شبره دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى، ولا خير فى علم مستعمل فى جهل، ولا خير فى معرفة مشوبة بنكر، ولسنا كجلدة رفغ «2» البعير بين العجان «3» والذّنب، وكلّ صال فبناره، وكلّ سيل فإلى قراره؛ وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعىّ «4» وشىّ، ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق، وقد جدع الله بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنف كلّ ذى كبر، وقصم ظهر كلّ جبّار، وقطع لسان كلّ كذوب «فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال» ما هذه الخنزوانة «5» [التى «6» ] فى فراش «7»

رأسك؟ ما هذا الشجا المعترض فى مدارج أنفاسك؟ ما هذه القذاة التى تغشّت ناظرك؟ وما هذه الوحرة «1» التى أكلت شرا سيفك؟ وما هذا الذى لبست بسببه جلد النّمر، واشتملت عليه بالشّحناء والنّكر، ولسنا فى كسرويّة كسرى، ولا فى قيصريّة قيصر، تأمّل لإخوان فارس وأبناء الأصفر؛ قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرعى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا؛ بل نحن نور نبوّة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمه، وعنوان نعمه، وظلّ عصمه؛ بين أمّة مهديّة بالحق والصدق، مأمونة على الرّتق والفتق، لها من الله إباء أبىّ، وساعد قوىّ؛ ويد ناصره، وعين ناظره؛ أتظن ظنّا يا علىّ أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمّة، خادعا لها، أو متسلّطا [عليها] ؟ أتراه حلّ عقودها [وأحال عقولها «2» ] ؟ أتراه جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا؛ ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؟ لا والله، سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأزّ دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلّغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويدا أوجب عليه شكرها وأمّة نظر الله به لها، والله تعالى أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة، وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقّك فيما أتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمسّ من قرابتك، وسنّ أعلى من سنّك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها أصل فى الجاهليّة وفرع فى الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقه، ولا تذكر فيها

فى مقدّمة ولا ساقه؛ ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع «1» ؛ ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلاقة نفسه وعيبة سرّه، ومفزع رأيه، وراحة كفّه، ومرمق طرفه؛ وذلك كلّه بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار شهرة مغنية عن الدليل عليه، ولعمزى إنك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة «2» ، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح، وهذا فرق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون؛ ومهما شككت فى ذلك فلا تشكّ أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعه، فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك فى الأمل طول، وفى الأجل فسحة، فستأكله مريئا «3» أو غير مرىء، وستشر به هنيئا أو غير هنىء، حين لا رادّ لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلّا من كان طامعا فيك، يمصّ إهابك، ويعرك أديمك، ويزرى على هديك، هنالك تقرع السنّ من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك، ودارج قوّتك، فتودّ أن لو سقيت بالكأس التى أبيتها، ورددت إلى حالتك التى استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجوّ لسرّائها وضرّائها، وهو الولىّ الحميد، الغفور الودود.

قال أبو عبيدة: فمشيت متزمّلا «1» أنوء كأنما أخطو على رأسى فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمّة، حتى وصلت إلى علىّ رضى الله عنه فى خلاء، فأبثثته «2» بثّى كلّه، وبرئت إليه منه، ورفقت به؛ فلمّا سمعها ووعاها، وسرت فى مفاصله حميّاها؛ قال: حلّت معلوطة «3» ، وولت مخروّطة «4» ، وأنشأ يقول: إحدى لياليك فهيسى هيسى ... لا تنعمى الليلة بالتعريس نعم يا أبا عبيدة، أكلّ هذا فى أنفس القوم يحسّون به، ويضطبعون «5» عليه؟ قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندى، إنما أنا قاض حقّ الدّين، وراتق فتق المسلمين، وسادّ ثلمة الأمّة، يعلم الله ذلك من جلجلان «6» قلبى، وقرارة نفسى؛ فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كان قعودى فى كسر هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذنى «7» به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فراقه، وأودعنى من الحزن لفقده، وذلك أننى لم أشهد بعده مشهدا إلا جدّد علىّ حزنا، وذكّرنى شجنا، وإن الشوق [إلى] اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرّق [منه]

رجاء ثواب معدّ لمن أخلص لله عمله، وسلّم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه؛ على أنى ما علمت أن التظاهر علىّ واقع، ولى عن الحقّ الذى سبق لى دافع، وإذ قد أفعم الوادى بى، وحشد النادى من أجلى، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وسرّنى، وفى النفس كلام لولا سابق عقد، وسالف عهد، لشفيت نفسى بخنصرى وبنصرى، وخضت لجته بأخمصى ومفرقى، ولكنى ملجم الى أن ألقى ربّى، وعنده أحتسب ما نزل «1» بى، وإنى غاد إلى جماعتكم، مبايع لصاحبكم، صابر على ما ساءنى وسرّكم، «ليقضى الله أمرا كان مفعولا» . قال أبو عبيدة: فعدت الى أبى بكر رضى الله عنه، فقصصت القول على غرّه «2» ، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وبكّرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ إذا علىّ يخترق الجماعة إلى أبى بكر رضى الله عنهما، فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميّتا «3» ، واستأذن للقيام فمضى، وتبعه عمر مكرما له، مستثيرا لما عنده، فقال علىّ رضى الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارها له، ولا أتيته فرقا، ولا أقول ما أقول تعلّة، وإنّى لأعرف منتهى طرفى، ومحطّ قدمى، ومنزع قوسى، وموقع سهمى، ولكن قد أزمت على فأسى «4» ثقة بربّى فى الدنيا والآخرة. فقال له عمر رضى الله عنهما: كفكف غربك، واستوقف سربك؛ ودع العصا بلحائها، والدّلاء على رشائها، فإنّا من خلفها وورائها؛ إن قدحنا أورينا، وإن

متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا، ولقد سمعت أماثيلك التى لغّزت» فيها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت [على «2» ] مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت؛ وزعمت أنك قعدت فى كسر بيتك لما وقذك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعمّ وأعظم من ذلك، وإنّ من حقّ مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان فى بقائها، هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا فى صبح نهار لم نلتق فى مسائه؛ وزعمت أن الشوق الى اللّحاق به كاف عن الطمع فى غيره، فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم؛ وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرّق منه، فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه؛ وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر وقع عليك، وأىّ حقّ لطّ دونك؟ قد سمعت وعلمت ما قالت الأنصار بالأمس سرّا وجهرا، وتقلّبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرتك، أو أشارت بك، أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه: إنك تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم «3» فى نفسه؟ أتظنّ أن الناس ضلّوا من أجلك، وعادوا كفّارا زهدا فيك وباعوا الله تعالى تحاملا عليك؟ لا والله، لقد جاءنى عقيل بن زياد الخزرجىّ [فى نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجىّ «4» ] وقالوا: إن عليّا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة، فأنكرت عليهم،

ورددت القول فى نحورهم حين قالوا: إنه ينتظر الوحى، ويتوكّف «1» مناجاة الملك، فقلت: ذلك أمر طواه الله تعالى بعد نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أكان الأمر معقودا بأنشوطة «2» ، أو مشدودا بأطراف ليطة «3» ؟ كلّا والله، لا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا شوكاء إلّا وقد تفتّحت؛ ومن أعجب شأنك قولك: لولا سالف عهد، وسابق عقد، لشفيت غيظى، وهل ترك الدّين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو لسان؟ تلك جاهليّة قد استأصل الله شأفتها، واقتلع جرثومتها؛ وهوّر «4» ليلها، وغوّر سيلها؛ وأبدل منها الرّوح والرّيحان، والهدى والبرهان؛ وزعمت أنك ملجم، ولعمرى إنّ من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه. فقال علىّ رضى الله عنه: مهلا مهلا يا أبا حفص، والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغى حولا عنه؛ وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشّقاق؛ وفى الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكّل فى كلّ الحوادث؛ ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللّبان «5» ، فصيح اللسان. فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وتوفيقه. قال أبو عبيدة رضى الله عنه: فانصرف علىّ وعمر رضى الله عنهما، وهذا أصعب ما مرّ علىّ بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ومن كلام عائشة أم المؤمنين بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما،

ومن كلام عائشة أمّ المؤمنين بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما، وهو مما اتصل إلينا بالرواية الصحيحة، والأسانيد الصريحة، عن محمد بن أحمد ابن [أبى «1» ] المثنّى، عن جعفر بن عون، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أنه بلغها أنّ أقواما يتناولون أبا بكر رضى الله عنه، فأرسلت الى أزفلة من الناس، فلمّا حضروا أسدلت أستارها، وعلت وسادها، ثم قالت: أبى وما أبيه! أبى والله لا تعطوه الأيدى، ذاك طود منيف، وظلّ مديد؛ هيهات، كذبت الظّنون، أنجح «2» إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم «سبق الجواد إذا استولى على الأمد» فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفكّ عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلمّ شعثها، حتى حليته «3» قلوبها، ثم استشرى فى دين الله، فما برحت شكيمته فى ذات الله عزّ وجلّ حتى اتّخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدّمعة، وقيد الجوانح، شجىّ النّشيج، فانعطفت اليه نسوان مكّة وولدانها يسخرون منه، ويستهزئون به، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت قسيّها، وفوّقت سهامها، وامتثلوه «4» غرضا فما فلّوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومرّ على سيسائه، حتى اذا ضرب الدّين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كلّ فرقة أرسالا

وأشتاتا، اختار الله لنبيّه ما عنده، فلمّا قبض الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم نصب «1» الشيطان رواقه، ومدّ طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله، وبغى الغوائل، وظنّت رجال أن قد أكثب «2» نهزها، ولات حين الذى يرجون، وأنّى والصّدّيق بين أظهرهم؟ فقام حاسرا مشمّرا، فجمع حاشيتيه، ورفع قطريه، فردّ رسن الإسلام على غربه، ولم شعثه بطبّه، وأقام أوده بثقافه، فابذعرّ النفاق بوطئه، وانتاش الدّين فنعشه، فلمّا أراح الحقّ على أهله، وقرّر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء فى أهبها، أتته منيّته، فسدّ ثلمته بنظيره فى الرحمة، وشقيقه فى السّيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطّاب، لله درّ أمّ حفلت «3» له، ودرّت عليه! لقد أوحدت به، ففنّخ الكفرة وديّخها، وشرّد الشّرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت جنينها «4» ، ترأمه ويصدف عنها، وتصدّى له ويأباها، ثم وزّع فيها فيئها، وودّعها كما صحبها؛ فأرونى ما ترتابون؟ وأىّ يومى أبى تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه وقد نظر لكم؟ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله، هل أنكرتم مما قلت شيئا؟ قالوا: اللهمّ لا.

ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها

ذكر شرح غريب رسالتها رضى الله عنها الأزفلة: الجماعة. وتعطوه: تناوله. والطّود: الجبل. والمنيف: المشرف. وأكديتم: خبتم ويئس من خيركم. وونيتم: فترتم وضعفتم. والأمد: الغاية. ويريش: يعطى ويفضل. والمملق: الفقير. ويرأب: يجمع. والشّعب: المتفرّق. ويلمّ: يضمّ. واستشرى: جدّ وانكمش. والشّكيمة: الأنفة والحميّة. والوقيذ: العليل. والجوانح: الضلوع القصار التى تقرب من الفؤاد. والشجىّ: الحزين. والنّشيج: صوت البكاء. وانعطفت: انثنت. وامتثلوه: مثلوه «1» . والغرض: الذى يقصد للرّمى. وفلّوا: كسروا. والصّفاة: الصخرة الملساء. وقصفوا: كسروا. وسيساؤه: شدّته، والسّيساء: عظم الظهر، والعرب تضربه مثلا لشدّة الأمر، قال الشاعر «2» : لقد حملت قيس بن عيلان حربنا «3» ... على يابس السّيساء محدودب الظّهر والجران: الصّدر. ورست: ثبتت. ومرج: اختلط. وماج أهله: اضطربوا وتنازعوا. وبغى الغوائل، معناه وطلب البلايا. وأكثب: قرب. والنّهز: اختلاس الشىء والظفر به مبادرة. ولات حين الذى يطلبون «4» ، معناه: وليست الساعة «5» حين ظفرهم. وقولها: فجمع «6» حاشيتيه ورفع قطريه، معناه تحزم

ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه

للأمر وتأهّب له. والقطر: الناحية. والطبّ: الدواء. والأود: العوج. والثّقاف: تقويم الرماح وغيرها. وابذعرّ: تفرّق. وانتاش الدّين، أى أزال عنه ما يخاف عليه. ونعشه: رفعه. وأراح الحقّ على أهله، أى أعاد الزكاة التى منعتها العرب فقاتل عليها حتى ردّت الى حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرّر الرءوس على كواهلها، معناه وقى المسلمين القتل. والكاهل: أعلى الظهر وما يتصل به. وحقن الدماء فى أهبها، معناه أنه حقن دماء المسلمين فى أجسادهم. والأهب: جمع إهاب، وأصل الإهاب الجلد، فكنت به عن الجسد. وقولها: لله درّ أمّ حفلت له، أى جمعت له اللبن. وقولها: أوحدت به، معناه جاءت به منفردا لا نظير له. وقولها: ففنّخ الكفرة، معناه أذلّها. وديّخها: صغّر بها «1» . وبعج الأرض وبخعها، معناه شقّها واستقصى غلّتها «2» . وشذر مذر، معناه تفريقا، يقال: شذر مذر، وشغر بغر، بمعنى واحد. وقولها: حتى قاءت أكلها، معناه أخرجت خبزها. وترأمه: تعطف عليه. وتصدّى له: تعرّض له. ومن كلام على بن أبى طالب رضى الله عنه ما كتب به إلى معاوية بن أبى سفيان جوابا عن كتابه- وهو من محاسن الكتب- كتب رضى الله عنه: أما بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده به من أصحابه، فلقد خبأ «3» لنا الدهر منك عجبا،

أفطفقت تخبرنا بآلاء الله عندنا؟ فكنت فى ذلك كناقل التمر الى هجر، أو داعى مدره الى النّضال؛ وزعمت أنّ أفضل الناس فى الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، وإن نقص «1» لم يلحقك قلّه؛ وما أنت والفاضل والمفضول، والسائل والمسئول؟ وما الطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز «2» بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد «حنّ «3» قدح ليس منها» ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها، ألا تربع على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، وإنك لذهاب فى التّيه، روّاغ عن الفضل «4» ، ألا ترى- غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدّث- أن قوما استشهدوا فى سبيل الله من المهاجرين- ولكلّ فضل- حتى إذا استشهد شهيدنا (هو حمزة) قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه؛ ألا ترى أن قوما قطّعت أيديهم فى سبيل الله- ولكلّ فضل- حتى إذا فعل بأحدنا ما فعل بواحدهم قيل: الطيّار فى الجنة، وذو الجناحين (هو جعفر) ولولا [ما «5» ] نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الدّنية «6» فإنا

صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، وعادىّ» طولنا على قومك أن خلطناهم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ولستم هناك، وأنّى يكون ذلك كذلك؟ ومنّا النبىّ ومنكم المكذّب «2» ، ومنّا «3» أسد الله، ومنكم أسد «4» الأحلاف، ومنا سيدا «5» شباب أهل الجنة، ومنكم صبية «6» النار، ومنا خير نساء «7» العالمين، ومنكم حمّالة «8» الحطب؛ فإسلامنا قد سمع، وجاهليّتنا لا تدفع، كتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا و [هو «9» ] قوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ* وقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فنحن مرّة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة؛ ولما احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم؛ وزعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فتكون المعذرة إليك. «وتلك شكاة ظاهر «10» عنك عارها»

وقلت: إنى كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش «1» حتى أبايع، ولعمر الله [لقد «2» ] أردت أن تذمّ فحمدت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة فى ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا فى دينه، ولا مرتابا فى يقينه، وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها، ولكنى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها؛ ثم ذكرت ما كان من أمرى وأمر عثمان، [فلك «3» ] أن تجاب عن هذه لرحمه «4» منك، فأيّنا كان أعدى له، وأهدى الى مقاتله؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أمن استنصره فتراخى عنه، وبثّ المنون إليه، حتى [أتى «5» ] قدره عليه؟ كلّا والله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وما كنت أعتذر من أنّى كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادى وهدايتى له «فربّ ملوم لا ذنب له» وقد يستفيد الظّنّة «6» المتنصّح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت «وما توفيقى إلّا بالله عليه توكّلت» ؛ وذكرت أنه ليس لى ولأصحابى إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بنى عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين؟ «لبث «7» قليلا يلحق الهيجا

ومن كلام الأحنف بن قيس

حمل» فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل نحوك فى جحفل من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم، قد صحبتهم ذرّية بدرية، وسيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها فى أخيك وخالك وجدك «1» وأهلك «وما هى من الظّالمين ببعيد» . ومن كلام الأحنف بن قيس حين وبّخه معاوية بن أبى سفيان بتخذيله عائشة رضى الله عنها، وأنه شهد صفّين، وقال له: فعلت وفعلت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إنّ القلوب النى أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التى قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبر من غدر، لنمدّنّ باعا من ختر «2» ، ولئن شئت لتسصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك؛ قال معاوية: أفعل. وجلس معاوية يوما وعنده وجوه الناس، وفيهم الأحنف، فدخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليّا رضى الله عنه، فأطرق الناس، وتكلّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل آنفا ما قال لو علم أن رضاك فى لعن المرسلين للعنهم، فاتّق الله، ودع عليّا فقد لقى الله، وأفرد فى حفرته، وخلا بعمله، وكان والله- ما علمنا- المبرّز بسبقه، الطاهر فى خلقه؛ الميمون النّقيبه، العظيم المصيبة. قال معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدنّ المنبر فلتلعننّه طائعا أو كارها؛ فقال الأحنف: إن تعفنى فهو خير، وإن تجبرنى على ذلك فو الله لا تجرى به شفتاى؛ فقال معاوية: قم فاصعد؛ قال: أما والله لأنصفنّك فى القول والفعل؛ قال معاوية: وما أنت

قائل إن أنصفتنى؟ قال: أصعد فأحمد الله وأثنى عليه وأصلّى على نبيّه، ثم أقول: أيها الناس، إنّ معاوية أمرنى أن ألعن عليّا، ألا وإنّ عليّا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادّعى كلّ واحد منهما أنه مبغىّ عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله؛ ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك ورسلك وجميع خلقك الباغى منهما على صاحبه، والفئة الباغية على المبغىّ عليها، آمين يا ربّ العالمين؛ فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر. وأتى الأحنف مصعب بن الزبير يكلّمه فى قوم حبسهم فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا فى باطل فالحقّ يخرجهم، وإن كانوا حبسوا فى حقّ فالعفو يسعهم؛ فحلّاهم. ولما قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف، خرج الآذن فقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليكم الّا يتكلّم أحد إلّا لنفسه، فلما وصلوا اليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته «1» أن دافّة (أى الجماعة) دفّت «2» ، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، وكلّهم بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرّه؛ فقال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الغائب والشاهد. ولما خطب زياد بن أبيه بالبصرة قام الأحنف فقال: لله الأمير! قد قلت فأسمعت، ووعظت «3» فأبلغت؛ أيها الأمير، إنما السّيف بحدّه، والقوس بشدّه، والرجل بمجده؛ وإنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء؛ ولن نثنى حتى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى.

ولما حكّم أبو موسى الأشعرىّ أتاه الأحنف فقال له: يا أبا موسى، إنّ هذا مسير له ما بعده من عزّ الدنيا أو ذلّها آخر الدهر، ادع القوم إلى طاعة علىّ، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا، ويختار أهل العراق من قريش الشام من أحبّوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنيّة، وأن يقعدك على صدر المجلس، فإنها خديعة، وأن يضمّك وإيّاه بيت فيكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكلّم لتكون عليه بالخيار، فالبادئ مستغلق «1» ، والمجيب ناطق؛ فما عمل أبو موسى إلّا بخلاف ما قال الأحنف وأشار به، فكان من الأمر ما كان؛ فلقيه الأحنف بعد ذلك فقال له: أدخل والله قدميك فى خفّ واحدة. وقال بخراسان: يا بنى تميم، تحابّوا [تجتمع «2» كلمتكم] وتباذلوا «3» تعتدل أموركم، وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح دينكم، ولا تغلّوا «4» يسلم لكم جهادكم. ولمّا قدمت الوفود على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قام هلال بن بشر «5» فقال: يا أمير المؤمنين: إنا غرّة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا؛ وإنك إن تصرفنا بالزيادة فى أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا، يزدد بذلك

الشريف تأميلا، وتكن «1» لهم أبا وصولا؛ وإن تكن مع ما نمت «2» [به «3» ] من وسائلك، وندلى [به «4» ] من أسبابك كالجدل «5» لا يحلّ ولا يرتحل، نرجع بأنوف مصلومة» ، وجدود عاثرة، فمحنا «7» وأهالينا بسجل مترع (أى الدّلو الملآنة) من سجالك المترعة. وقام زيد بن جبلة فقال: يا أمير المؤمنين، سوّد الشريف، وأكرم الحسيب، وازرع عندنا من أياديك ما تسدّ به الخصاصة، وتطرد به الفاقة؛ فإنا بقفّ «8» من الأرض يابس «9» الأكناف، مقشعرّ الذّروة، لا متّجر «10» ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع. فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان، فاتق الله فيما لا يغنى عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا، واجعل بينك وبين رعيّتك من العدل والإنصاف شيئا يكفيك وفادة الوفود، واستماحة الممتاح، فإنّ كلّ امرئ إنما يجمع فى وعائه إلا الأقلّ ممن عسى أن تقتحمه الأعين فلا يوفد إليك.

ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية، -

ومن كلام أمّ الخير بنت الحريش البارقيّة،- وكانت من الفصحاء- حكى أنها لما وفدت على معاوية قال لها كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زوّرته «1» قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لسانى حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت، قال: لا أشاء ذلك، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيّكم حفظ كلام أمّ الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظى سورة الحمد، قال: هاته، قال: نعم، كأنّى بها يا أمير المؤمنين عليها برد زبيدىّ، كثيف الحاشية، وهى على جمل أرمك «2» ، وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضّفر «3» ، وهى كالفحل يهدر فى شقشقته تقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إن الله قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة؛ فأنّى «4» تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزّحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عزّ وجلّ يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ثم رفعت رأسها إلى السماء وهى تقول: اللهمّ قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمّة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألّف القلوب على الهدى، وردّ الحقّ إلى أهله؛ هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل،

والوصىّ الوفىّ، والصّدّيق الأكبر؛ إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحديّه، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بنى عبد شمس؛ ثم قالت: قاتلوا أئمّة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون؛ صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم، وثبات من دينكم، وكأنّى بكم غدا قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة، فرّت من قسورة، لا تدرى أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضّلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، و «عمّا قليل ليصبحنّ نادمين» ، حين تحلّ بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، إنه والله من ضلّ عن الحقّ وقع فى الباطل، ومن لم يسكن الجنّة نزل النار؛ أيها الناس، إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطئوا «1» مدّة الآخرة فسعوا لها؛ والله أيها الناس، لولا أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما «2» اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون- رحمكم الله-؟ عن ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته، وأبى ابنيه، خلق من طينته، وتفرّع عن نبعته، وخصّه بسرّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبّه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين؛ فلم يزل كذلك يؤيّده الله بمعونته، ويمضى على سنن استقامته، لا يعرّج لراحة اللذّات؛ وهو مفلّق الهام، ومكسّر الأصنام؛ إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون؛ فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزى بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن، فيا لها وقائع زرعت فى قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا! وقد اجتهدت فى القول، وبالغت فى النصيحة، وبالله التوفيق؛ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فقال معاوية: والله يا أمّ الخير ما أردت بهذا إلا قتلى، والله لو «1» قتلتك ما حرجت فى ذلك؛ قالت: والله ما يسوءنى يا ابن هند أن يجرى الله ذلك على يدى من يسعدنى الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين فى عثمان بن عفّان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس «2» وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون؛ فقال: إيها «3» يا أمّ الخير، هذا والله أصلك الذى تبنين عليه؛ قالت: لكن الله يشهد «وكفى بالله شهيدا» ما أردت بعثمان نقصا، ولقد كان سبّاقا الى الخيرات، وإنه لرفيع الدّرجات؛ قال: فما تقولين فى طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول فى طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتى من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنّة؛ قال: فما تقولين فى الزّبير؟ قالت: يا هذا لا تدعنى كرجيع الضّبع يعرك فلى المركن «4» ؛ قال: حقا لتقولنّ ذلك، وقد عزمت عليك؛ قالت: وما عسيت أن أقول فى الزّبير ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحواريّه، وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ولقد كان سبّاقا الى كلّ مكرمة فى الإسلام؛ وإنى أسألك بحق الله يا معاوية- فإن قريشا تحدّث أنك من أحلمها- أن تسعنى بفضل حلمك، وأن تعفينى من هذه المسائل، وامض الى ما شئت من غيرها؛ قال: نعم وكرامة، قد أعفيتك، وردّها مكرّمة الى بلدها.

وممن اشتهر بالفصاحة والبلاغة زياد بن أبيه، والحجاج بن يوسف الثقفى،

وممن اشتهر بالفصاحة والبلاغة زياد بن أبيه، والحجّاج بن يوسف الثّقفى، وسنذكر نبذة من كلامهما فى التاريخ عند ذكرنا لأخبارهما لمّا ولى كلّ منهما العراق، وما خطب الناس به، ولنذكر فى هذا الموضع من كلام الحجّاج ما لم نورده هناك قيل: لما قدم الحجّاج البصرة خطب فقال: أيها الناس، من أعياه داؤه، فعندى دواؤه؛ ومن استطال أجله، فعلىّ أن أعجّله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله؛ ومن استطال ماضى عمره قصّرت عليه باقيه؛ إن للشّيطان طيفا. وللسّلطان سيفا؛ فمن سقمت سريرته، صحّت عقوبته؛ ومن وضعه ذنبه. رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة؛ ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه؛ إنى أنذر ثم [لا] أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعّد ثم لا أعفو، إنما أفسدكم ترنيق «1» ولاتكم، ومن استرخى لببه «2» ساء أدبه، إنّ الحزم والعزم سلبانى سوطى، وأبدلانى [به] سيفى، فقائمه فى يدى، ونجاده فى عنقى، وذبابه قلادة لمن عصانى، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيحرج من الباب الذى يليه إلا ضربت عنقه. قال مالك بن دينار: ربّما سمعت الحجّاج يذكر ما صنع فيه أهل العراق وما صنع بهم، فيقع فى نفسى أنهم يظلمونه لبيانه وحسن تخليصه للحجج.

وخطب الحجّاج بعد وقعة دير الجماجم «1» فقال: يا أهل العراق، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدّم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء «2» والشّغاف «3» ، ثم أفضى الى المخاخ والأصماخ «4» ، ثم ارتفع فعشّش، ثم باض ففرّخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، واتخذتموه دليلا تتّبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا «5» تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة؛ أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابى بالأهواز؟ حيث رمتم المكر «6» ، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر «7» ، وظننتم أنّ الله خذل «8» دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفى، تتسلّلون لو اذا، وتنهزمون سراعا، ثم يوم الزاوية [وما يوم «9» الزاوية] ! بها كان «10» فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوص وليّكم «11» عنكم إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها

ومن مكاتباته إلى المهلب بن أبى صفرة وأجوبة المهلب له

[النوازع «1» إلى أعطانها] ؛ لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوى الشيخ على بنيه؛ حتى عظّكم «2» السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم دير الجماجم، وما دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم؛ بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويصرف الخليل عن خليله؛ يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والثّورة بعد الثّورات؛ إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم «3» وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة؛ [يا أهل العراق «4» ] هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزّكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا اتّبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟ يا أهل العراق، قلّما شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر كاذب «5» إلا كنتم أتباعه وأنصاره؛ يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ، ولم تزجركم الوقائع. ثم التفت الى أهل الشام فقال: يا أهل الشام، أنا لكم كالظّليم «6» الرامح عن فراخه «7» ، ينفى عنها المدر، ويباعد عنها الفجر، ويكنّها من المطر؛ ويحميها من الضّباب، ويحرسها من الذئاب؛ يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرّداء، وأنتم العدّة والحذاء. ومن مكاتباته الى المهلّب بن أبى صفرة وأجوبة المهلّب له كتب الحجاج إليه وهو فى وجه الخوارج: أما بعد، فإنه بلغنى أنك قد أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ، وإنى ولّيتك وأنا أرى مكان عبد الله

ابن حكيم المجاشعىّ، وعبّاد بن حصين الحبطىّ، واخترتك وأنت رجل من الأزد، وأنا أقسم إن لم تلقهم فى يوم كذا أشرعت «1» إليك صدر الرمح. فأجابه المهلّب: ورد علىّ كتابك تزعم أنى أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ لعجز؛ وزعمت أنك ولّيتنى وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعبّاد بن حصين، ولو ولّيتهما لكانا مستحقّين لذلك فى فضلهما وغنائهما؛ وأنك اخترتنى وأنا رجل من الأزد، ولعمرى إنّ شرّا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقرّ فى واحدة منهنّ؛ وزعمت أنّى إن لم ألقهم فى يوم كذا أشرعت إلىّ صدر الرمح، فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجنّ «2» . ووجّه إليه الحجّاج يستبطه فى مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصّنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعزّ ناصرا وأكثر عددا، وما أظنّ بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اتخذتهم أكلا، ولإبقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلّا أنكرتنى، والسلام. فقال المهلّب للجرّاح: يا أبا عقبة، والله ما تركت حيلة إلّا احتلتها، ولا مكيدة إلّا عملتها، وليس «3» العجب من إبطاء النصر، وتراخى الظّفر، ولكن العجب أن يكون الرأى لمن يملكه دون من يبصره «4» ؛ ثم ناهضهم ثلاثة أيّام يغاديهم، ولا يزالون كذلك الى العصر حتى قال الجرّاح: قد اعتذرت؛ وكتب الى الحجّاج: أتانى كتابك

يستبطئ لقاء القوم، على أنك لا تظنّ بى معصية ولا جبنا، وقد عاتبتنى معاتبة الجبان، وأوعدتنى وعيد العاصى، فسل الجرّاح والسلام. فكتب إليه الحجّاج: أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلى ويرجعون بعذرك، وذاك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى «1» ، ويجمّ الناس، ثم تلقاهم فتحمل منهم مثل ما يحملون منك من وحشة القتل وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجدّ لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم، ولعمرى ما أنت والقوم سواء، لأنّ من ورائك رجالا، وأمامك أموالا، وليس للقوم إلّا ما معهم، ولا يدرك الوجيف بالدّبيب، ولا الظّفر بالتعذير «2» . فكتب إليه المهلّب: أمّا بعد، فإنى لم أعط رسلك على قول الحق أجرا، ولم أحتج منهم مع المشاهدة الى تلقين؛ وذكرت أنّى أجمّ القوم، ولا بدّ من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب؛ وذكرت أن فى الإجمام «3» ما ينسى القتلى، ويبرئ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروح لم تتقرّف «4» ؛ ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا، ونطلب اذا هربوا، فإن تركتنى فالداء «5» بإذن الله محسوم، وإن أعجلتنى لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهى الى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس.

وخطب عبد الملك بن مروان،

وقال المهلّب لبنيه: يا بنىّ تباذلوا «1» تحابّوا، فإن بنى الأمّ يختلفون، فكيف بنى العلّات «2» ؛ إنّ البرّ ينسأ فى الأجل، ويزيد فى العدد، وإنّ القطيعة تورث القلّة، وتعقب النار بعد الذّلّة؛ واتقوا زلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ رجله فينتعش، ويزلّ لسانه فيهلك؛ وعليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنّها أبلغ من النّجدة. ولمّا استخلف ابنه المغيرة على حرب الخوارج، وعاد هو الى عند «3» مصعب ابن الزّبير، جمع الناس فقال لهم: إنى قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقّة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وتبجيلا وبرّا، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فو الله ما أردت صوابا قطّ إلا سبقنى إليه. وخطب عبد الملك بن مروان، فلما بلغ الغلظة قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلا مهلا يا بنى مروان، تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنهون، وتعظون ولا تتعظون؛ أفنقتدى بسيرتكم فى أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا، فأنّى وكيف، وما الحجّة، وما المصير من الله؟ أنقتدى بسيرة الظّلمة الفسقة الجورة الخونة، الذين اتخذوا مال الله دولا، وعبيده خولا؟ وإن قلتم: اسمعوا نصيحتنا، وأطيعوا أمرنا، فكيف ينصح لغيره من يغشّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممّن سمعتموها، فعلام وليّناكم أمرنا، وحكّمناكم فى دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أنّ فينا من هو أنطق منكم باللغات، وأفصح بالعظات؟

ومن كلام قطرى بن الفجاءة -

فتخلّوا عنها، وأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، ينتدب إليها آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين شرّدتموهم فى البلاد، ومزّقتموهم فى كل واد، بل تثبت فى أيديكم لانقضاء المدّة، وبلوغ المهلة، وعظم المحنة؛ إنّ لكلّ قائم قدرا «1» لا يعدوه، ويوما لا يخطوه، وكتابا بعده يتلوه، «لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها» «وسيعلم الّذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون» . ثم التمس الرجل فلم يوجد. ومن كلام قطرىّ بن الفجاءة- وكان من البلغاء الأبطال، فمن ذلك خطبته المشهورة التى قال فيها: أما بعد، فإنى أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزيّنت بالغرور؛ لا تقوم «2» نضرتها، ولا تؤمن فجيعتها؛ غرّارة ضرّارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة «3» ، أكّالة غوّالة؛ لا تعدو اذا تناهت الى أمنيّة أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً مع أن امرا لم يكن معها «4» فى حبرة (أى السرور) ، إلا أعقبته بعدها حسرة، ولم يلق من سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تصله «5» غيثة رخاء، إلّا هطلت عليه مزنة بلاء؛ وحريّة اذا أصبحت له منتصرة، أن

تمسى [له «1» ] خاذلة متنكّره؛ وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبا «2» ، فإن أتت امرأ من غصونها «3» ورقا أرهقته من نوائبها تعبا، ولم يمس منها امرؤ فى جناح أمن إلا أصبح منها «4» فى قوادم خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها؛ لا خير من شىء من زادها إلا التقوى، من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكى عينه؛ كم واثق بها قد فجعته، وذى حلم تنبّه إليها قد صرعته، وذى احتيال فيها قد خدعته؛ وكم ذى أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا، وذى نحوة قد ردّته ذليلا، ومن «5» ذى تاج قد كبّته لليدين والفم؛ سلطانها دول، وعيشها رنق (أى الماء الكدر) وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها «6» رمام، وقطافها «7» سلع؛ حيّها بعرض موت، وصحيحها «8» بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام؛ وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب وجارها محروب؛ مع أنّ وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع، والوقوف بين يدى الحكم العدل «ليجزى الّذين أساؤا بما عملوا ويجزى الّذين أحسنوا بالحسنى»

ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعمارا، وأوضح منكم آثارا؛ وأعد عديدا، وأكثف جنودا، وأشدّ عقودا، تعبّدوا «1» للدنيا أىّ تعبّد، وآثروها أىّ إيثار، وظعنوا «2» بالكره والصّغار، فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب «3» ؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع؛ وقد رأيتم تنكّرها لمن رادها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، الى آخر المسند «4» ؛ هل زوّدتهم إلا السّغب، وأحلّتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلا الظّلمة، أو أعقبتهم إلّا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ، فإنما هى كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله [تعالى] : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. وذكر الذين قالوا: من أشد منا قوّة ثم قال: لموا الى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يرعون «5» ضيفانا، وجعل الله لهم من الضريح أكنانا «6» ، ومن الوحشة ألوانا، ومن الرّفات جيرانا «7» ؛ وهم فى جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن

ومن كلام أبى مسلم الخراسانى صاحب الدولة،

أخصبوا «1» لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا؛ [جمع «2» ] وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد؛ متناءون «3» ، لا يزورون ولا يزارون؛ حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم؛ لا يرجى نفعهم، ولا يخشى دفعهم؛ وكما قال الله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ فاستبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسّعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنّور ظلمة، ففارقوها كما دخلوها، حفاة عراة فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم الى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ فاحذروا ما حدّركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإيّاكم بطاعته، ورزقنا وإيّاكم أداء حقّه. ومن كلام أبى مسلم الخراسانى صاحب الدولة «4» ، قيل له: ما كان سبب خروج الدولة عن بنى أميّة؟ فقال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألّفا لهم، فلم يصر العدوّ بالدّنوّ صديقا، وصار الصديق بالبعاد عدوّا. وقيل له فى حداثته: إنا نراك تأرق كثيرا ولا تنام، كأنك موكّل برعى الكواكب، أو متوقع الوحى فى «5» السماء، فقال: والله ما هو ذاك، ولكن لى رأى جوّال، وغريزة

تامّة، وذهن صاف، وهمّة بعيدة، ونفس تتوق الى معالى الأمور، مع عيش كعيش الهمج والرّعاع، وحال متناهية من الاتّضاع، وإنى لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر، ولا تتلافى بأرق؛ قيل له: فما الذى يبرد غليلك، ويشفى إجاج «1» صدرك؟ قال: الظّفر بالملك؛ قيل له: فاطلب؛ قال: إن الملك لا يدرك إلا بركوب الأهوال؛ قيل: فاركب الأهوال؛ قال: هيهات، العقل مانع من ركوب الأهوال؛ قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة، وتذوب كمدا؟ قال: سأجعل من عقلى بعضه جهلا، وأحاول به خطرا، لأنال بالجهل ما لا ينال إلّا به، وأدبّر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوّته، وأعيش عيشا يبين مكان حياتى فيه من مكان موتى عليه، فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أبو الكون. وكتب إليه عبد الحميد بن يحيى كتابا عن مروان بن محمد، وقال لمروان: قد كتبت كتابا إن نجع فذاك، وإلّا فالهلاك، وكان لكبر حجمه يحمل على جمل، نفث فيه حواشى صدره، وضمّنه غرائب عجره وبجره «2» ، فلمّا ورد على أبى مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلّا قدر ذراع فإنه كتب عليه: محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... ليوث الوغى يقدمن من كلّ جانب فإن يقدموا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كلّ عاتب وردّه، فأيس الناس من معالجته. وقيل: إنه شجر بينه وبين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه، فاحتمله أبو مسلم وقال: مه، لسان سبق، ووهم أخطأ، والغضب شيطان،

ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين

وأنا جرّأتك علىّ باحتمالك، فإن كنت للذنب متعمّدا فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبا فالعفو يسعك؛ فقال له صاحب مرو: عظم ذنبى يمنع قلبى من الهدوء؛ فقال ابو مسلم: يا عجبا، أقابلك بإحسان وأنت تسىء، ثم أقابلك بإساءة وأنت تحسن! فقال صاحب مرو: الآن وثقت بعفوك. ومن كلام جماعة من أمراء الدولتين خطب يوسف بن عمر فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه؛ ولعلّه من باطل جمعه، ومن حقّ منعه؛ أصابه حراما، وورّثه عدوّا؛ واحتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربّه آسفا لاهفا «خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين» . وقام خالد بن عبد الله القسرىّ «1» على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: أيها الناس، نافسوا فى المكارم، وسارعوا الى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمّا، ولا تعتدّوا «2» بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحدكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء؛ واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم؛ فلا تملّوا النعم فتحوّل نقما؛ واعلموا أنّ أفضل المال ما أكسب أجرا، وأورث ذكرا؛ ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوّها قبيحا، تنفر عنه القلوب، وتغضّ عنه الأبصار؛ أيها الناس، إنّ أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن

قيل لما ولى أبو بكر بن عبد الله المدينة وطال مكثه عليها

قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته؛ والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. قيل لما ولى أبو بكر بن عبد الله «1» المدينة وطال مكثه عليها كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس فى يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيها الناس، إنى قائل قولا، فمن وعاه وأدّاه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدو «2» من ذمامها، إن قصرتم عن تفصيله «3» ، فلن تعجزوا عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم؛ فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة «وعلى الله قصد السّبيل» «ولو شاء لهداكم أجمعين» فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغى ترشدوا، «وتوبوا إلى الله جميعا أيّه المؤمنون لعلّكم تفلحون» والله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، ف «اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها» جعلنا الله وإيّاكم ممّن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله؛ وإنّ الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالدّين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا على

الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصّهم به، وانتخبهم له، فصدّقوه ونصروه، وعزّروه ووقّروه، فلم يقدموا إلّا بأمره، ولم يحجموا إلّا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال- وقوله الحقّ-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الى قوله: مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً* فمن غاظوه «1» كفر وخاب، وفجر وخسر، وقال الله عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الى قوله: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إيّاه فيهم، فلا حقّ له فى الفىء، ولا سهم له فى الإسلام فى آى كثيرة من القرآن؛ فمرقت مارقة من الدّين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين «2» ؛ وتشعّبوا أحزابا، أشابات وأوشابا «3» ؛ فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ* أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ؛ ما لى أرى عيونا خزرا «4» ، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا «5» ؟ شجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء؛ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ كلّا والله، بل هو

الهناء «1» والطّلاء حتى يظهر العذر «2» ، ويبوح السرّ، ويضح الغيب، ويسوّس «3» الجنب؛ فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى؛ ويحكم، إنى لست أتاويّا «4» أعلم، ولا بدويّا أفهّم؛ قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا وأظهرا؛ فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أنّ قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرّوا الكفر فى قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ببعض «5» ] ، وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم، ويصغون إليهم؛ مهلا مهلا قبل وقوع القوارع، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا «6» ، فلست أعتنش «7» آئبا ولا تائبا، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فأسروا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصرّ أنها موعظة بين يدى نقمة؛ ولست أدعوكم الى أهواء تتبع، ولا الى رأى يبتدع؛ إنما أدعوكم إلى الطريقة المثلى، التى فيها خير الآخرة والأولى؛ فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمى فعن قصده؛ فهلمّ إلى الشرائع الجدائع «8» ، ولا تولّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير،

ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة

«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» إيّاكم وبنيّات «1» الطريق، فعندها الترنيق والرّهق «2» ، وعليكم بالجادّة، فهى أسدّ وأورد، ودعوا الأمانىّ فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى، ولله الآخرة والأولى، و «لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى» رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. هذا ما اتفق إيراده من رسائل وخطب بلغاء الصحابة- رضى الله عنهم- وكلام التابعين وغيرهم مما يحتاج الكاتب الى حفظه. وأما رسائل المتقدّمين والمعاصرين التى يحتاج الى النظر اليها دون حفظها- فهى كثيرة جدا، سنورد من جيّدها ما تقف عليه إن شاء الله. ذكر شىء من رسائل وفصول الكتاب والبلغاء المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة وهذه الرسائل والفصول كثيرة جدّا، وقد قدّمنا منها فيما مرّ من كتابنا هذا ما حلا ذكره، وفاح نشره؛ وأنس به سامعه، وأيس من الإتيان بمثله صانعه، وأوردنا فى كل باب وفصل منه ما يناسبه، وسنورد إن شاء الله فى فنّى الحيوان والنبات عند ذكر كلّ حيوان أو نبات يستحقّ الوصف ما سمعناه وطالعناه من وصفه نظما ونثرا، مع ما يندرج فى فنّ التاريخ من الرسائل والفصول والأجوبة والمحاورات

عند ذكر الوقائع، وإنما نورده ثمّ وإن كان هذا موضعه ليكون الكلام فيه سياقة، وترد الوقائع يتلو بعضها بعضا، فلا ينقطع الكلام على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه فى مواضعه، فلنورد فى هذا الموضع ما هو خارج عن ذلك النّمط من كلامهم، ولنبدأ بذكر شىء من المكاتبات البليغة الموجزة؛ من ذلك ما كتب به عبد الحميد بن يحيى بالوصاة على إنسان فقال: حقّ موصل هذا الكتاب عليك كحقّه علىّ إذ رآك موضعا لأمله، ورآنى أهلا لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فحقّق أمله. ومنه ما حكى أن المأمون قال لعمرو بن مسعدة: اكتب الى فلان كتاب عناية بفلان فى سطر واحد، فكتب: هذا كتاب واثق بمن كتب اليه، معتن بمن كتب له «1» ، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله. وكتب عمرو بن مسعدة الى المأمون يستعطفه على الجند: كتابى الى أمير المؤمنين ومن قبلى من أجناده وقوّاده فى الطاعة على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أرزاقهم، واختلّت أحوالهم. فأمر بإعطائهم رزق ثمانية أشهر. وكتب أحمد بن يوسف الى المأمون يذكّره بمن على بابه من الوفود فقال: إنّ داعى نداك، ومنادى جدواك، جمعا ببابك الوفود، يرجون نائلك العتيد؛ فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلى» بخدمة؛ وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه «3» ، ويحتوش ظنونهم بطوله فعل. فوقّع المأمون فى كتابه: الخير متّبع، وأبواب الملوك مواطن لذوى الحاجات،

فأحص أسماءهم، واجل موائنهم «1» ، ليصير الى كلّ امرئ منهم قدر استحقاقه، ولا تكدّر معروفا بالمطل والحجاب، فإنّ الأوّل يقول: فإنك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به طرف الهوان ولم يجلب مودّة ذى وفاء ... كمثل البذل أو بسط اللسان. وكتب محمد «2» إلى يحيى بن هرمة «3» - وكان عامله على أصفهان، وقد تظلّم منه أهلها-: يا يحيى «4» ، قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك؛ فإمّا عدلت، وإمّا اعتزلت. وكتب أبو بكر الخوارزمىّ جوابا عن هديّة: وصلت التّحفة، ولم يكن لها عيب إلّا أنّ باذلها «5» مسرف فى البرّ، وقابلها مقتصد فى الشكر؛ والسّرف مذموم إلّا فى المجد، والاقتصاد محمود إلّا فى الشكر والحمد. وكتب ملك الروم إلى المعتصم يتوعّده ويتهدّده، فأمر الكتّاب أن يكتبوا جوابه، فكتبوا فلم يعجبه مما كتبوا شىء، فقال لبعضهم: اكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم،

ومن كلام بديع الزمان أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانى -

أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ «1» لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» . ومن كلام بديع الزّمان أبى الفضل أحمد بن الحسين الهمذانىّ- قيل: ذكر الهمذانىّ فى مجلس أبى الحسين بن فارس فقال ما معناه: إنّ البديع قد نسى حقّ تعليمنا إيّاه، وعقّنا وشمخ بأنفه عنّا، فالحمد لله على فساد الزمان، وتغيّر نوع الإنسان؛ فبلغ ذلك البديع، فكتب الى أبى الحسين: نعم أطال الله بقاء الشيخ الإمام، إنّه «2» الحمأ المسنون، وإن ظنّت الظنون؛ والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم؛ وارتبكت «3» الأضداد، واختلط الميلاد؛ والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحا؟ أفى الدّولة العبّاسيّة وقد رأينا آخرها وسمعنا أوّلها؛ أم المدّة المروانيّة وفى أخبارها «لا تكسع الشّول بأغبارها «4» » ؛ أم السنين الحربيّة «5»

والسيف يعمل «1» فى الطّلى ... والرّمح يركز فى الكلى ومبيت حجر «2» فى الفلا والحرّتان «3» وكربلا «4» أم البيعة الهاشميّة [وعلىّ يقول «5» : ليت] العشرة [منكم «6» ] براس، من بنى فراس؛ أم الأيّام الأمويّة «7» والنّفير إلى الحجاز، [والعيون إلى «8» الأعجاز] ؛ أم الإمارة العدويّة «9» وصاحبها يقول: هلمّوا «10» إلى النزول؛ أم الخلافة التّيميّة «11» وهو «12» يقول: طوبى لمن

مات فى نأنأة «1» الإسلام؛ [أم «2» ] على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكنى «3» يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؛ أم فى الجاهليّة ولبيد يقول: [وبقيت «4» فى خلف «5» كجلد الأجرب أم قبل ذلك وأخو عاد يقول] : بلاد بها كنا وكنا نحبّها ... إذ الناس ناس والزمان زمان أم قبل ذلك ويروى لآدم عليه السلام: تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح أم قبل ذلك والملائكة تقول لبارئها: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ما فسد الناس، ولكن اطّرد القياس؛ ولا أظلمت الأيام، إنما امتدّ الإظلام؛ وهل يفسد الشىء إلّا عن صلاح؛ ويمسى المرء إلّا عن صباح؟ ولعمرى إن كان كرم العهد كتابا يرد، وجوابا يصدر، إنّه لقريب المنال، وإنّى على توبيخه لى لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لالائه. وكتب بديع الزمان يستعطفه: إنّى خدمت مولاى، والخدمة رقّ بغير إشهاد، وناصحته، والمناصحة للودّ أوثق عماد؛ ونادمته، والمنادمة رضاع ثان؛ وطاعمته، والمطاعمة [نسب «6» ] دان، وسافرت معه، والسّفر والأخوّة رضيعا لبان، وقمت بين

ومن كلام أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد

يديه، والقيام والصلاة شريكا عنان «1» ؛ وأثنيت عليه، والثناء عند الله بمكان؛ وأخلصت له، والإخلاص مشكور بكلّ لسان. ومن كلام أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد - وكان وزيرا كاتبا- كتب عن ركن الدّولة بن بويه كتابا لمن عصى عليه: كتابى وأنا مترجّح بين طمع فيك، وإياس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك» ؛ فإنك تدلى بسابق خدمة، وتمتّ بسالف حرمة؛ أيسرها يوجب رعاية، ويقتضى محافظة وعناية؛ ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية؛ وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كلّ ما يرعى لك؛ لا جرم أنّى وقفت بين ميل إليك، وميل عليك؛ أقدّم رجلا لصمدك «3» ، [وأؤخّر «4» ] أخرى عن قصدك؛ وأبسط يدا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية نحو «5» استبقائك واستصلاحك؛ وأتوقّف عن امتثال بعض المأمور فيك ضنا بالنعمة عندك، ومنافسة فى الصّنيعة لديك؛ وتأميلا [لفيئتك «6» ] وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك؛ فقد يعزب العقل ثم يؤوب، ويغرب اللّبّ ثم يثوب، ويذهب العزم ثم يعود، ويفسد الحزم ثم يصلح، ويضاع الرأى ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثمّ يصفو؛ وكلّ ضيقة فإلى رخاء، وكلّ غمرة فإلى انجلاء؛ وكما أنك أتيت من إساءتك ما لم تحتسبه أولياؤك، فلا تدع «7» أن تأتى من إحسانك ما لم ترتقبه أعداؤك؛ وكما

استمرّت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبيح ما صنعت، وسوء ما آثرت؛ وسأقيم على رسمى فى الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء والمطاولة ما أمكن، طمعا فى إنابتك، وتحكيما «1» لحسن الظنّ بك؛ فلست أعدم فيما أظاهره من إعذارك، وأرادفه من إنذارك، احتجاجا عليك، واستدراجا لك؛ وإن يشإ الله يرشدك، ويأخذ بك الى حظّك ويسدّدك؛ فإنه على كلّ شىء قدير. وفى فصل منه: وزعمت أنك فى طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسّطها، وإن كنت كذلك فقد عرفت حالتيها، وحلبت شطريها، فناشدتك الله لما صدقت عما أسألك: كيف وجدت ما زلت عنه، وتجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأوّل فى ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل؛ وهواء ندىّ «2» ، وماء روىّ، ومهاد وطىّ؛ وكنّ كنين، ومكان مكين، وحصن حصين؛ يقيك المتالف، ويؤمنك «3» المخاوف؛ ويكنفك من نوائب الزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان؛ عززت «4» به بعد الذّلّة، وكثرت بعد القلّة؛ وارتفعت بعد الضّعة، وأيسرت بعد العسر، وأثريت بعد المتربة، واتّسعت بعد الضيق، وأطافت «5» بك الولايات، وخفقت فوقك الرايات؛ ووطئ عقبك الرجال، وتعلّقت بك الآمال؛ وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار اليك؛

وكتب الصاحب أبو القاسم كافى الكفاة فى وصف كتاب:

ويذكر على المنابر اسمك، وفى المحاضر ذكرك؛ ففيم أنت الآن من الأمر؟ وما العوض مما ذكرت وعددت، والخلف عمّا وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفّك، وغمست فى خلافها يدك؟ وما الذى أظلّك بعد انحسار ظلّها عنك؟ أظلّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من الّلهب؟ قل: نعم، فذاك والله أكنف ظلالك فى العاجلة، وأروحها فى الآجلة؛ إن أقمت على المحادّة والعنود «1» ، ووقفت على المشاقّة والجحود. ومنه: تأمّل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كلامى فستنكرها «2» ، والمس جسدك فانظر هل يحسّ، واجسس عرقك هل ينبض، وفتّش ما حنى عليه اضلاعك هل تجد فى عرضها قلبك؟ وهل حلا بصدرك أن تظفر بفوت مزيح «3» أو موت مريح؟ ثمّ قس غائب أمرك بشاهده، وآخر شأنك بأوّله. وكتب الصاحب أبو القاسم كافى الكفاة فى وصف كتاب: ومن هو الذى لا يحبّه وهو علم الفضل، وواسطة الدهر؛ وقرارة الأدب والعلم، ومجمع الدّراية والفهم؛ أمن يرغب عن مكاثرة بمن «4» ينسب الربيع الى خلقه، ويكتسب محاسنه من طبعه، ويتوشّح بأنواره، ويتوضّح بآثار لسانه ويده؟ وصل كتابه، فارتحت لعنوانه قبل عيانه، حتى اذا فضضت ختامه أقبلت الفقر تتكاثر، والدّرر تتناثر؛ والغرر تتراكم، والنّكت تتزاحم؛ فإذا حكمت للفظة بالسّبق أتت أختها تتنافس «5» ،

واقبلت لديها تتفاخر؛ حتى استعفيت من الحكومة، ونفضت يدى من غبار الخصومة؛ وأخذت أقول: كلّكنّ صوادر عن أصل واحد فتسالمن، وأرفاد عن معدن رافد «1» فتصالحن، وقد ولّيت النظر بينهما من كمل لنسج برودهما، ووفّى بنظم عقودهما؛ على أننى يا مولاى أنشأت هذه الأحرف وحولى أعمال وأشغال لا يسلم معهما فكر، ولا يسلم بينهما طبع؛ وتناولت قلما كالابن العاقّ، بل العدوّ المشاقّ؛ اذا أردته استقال، واذا قوّمته مال؛ واذا حثثته وقف، واذا وقفته انحرف؛ أحدل «2» الشّقّ؛ متفاوت البرى، معدوم الجرى؛ محرّف القطّ، مثبّج «3» الخطّ؛ ثم رأيت العدول عنه ضربا من الانقياد لأمره، والانخراط فى سلكه، فجهدته على رغمه، وكددته على صعره؛ لا جرم أنّ جناية اللّجاج بادية على صفحات الحروف لا تخفى، وعادية المحك «4» لائحة على وجوه السطور تتجلّى. وكتب: والله يعلم أنى أخبرت بورود كتابه واستفزّنى الفرح قبل رؤيته، وهزّ عطفى المرح أمام مشاهدته؛ فما أدرى، أسمعت بورود كتاب، أم ظفرت برجوع شباب؟ ثم وصل بعد انتظار له شديد، وتطلّع الى وصوله طويل عريض؛ فتأمّلته فلم أدر ما تأمّلت، أخطّا مسطورا، أم روضا ممطورا، أم كلاما منثورا، أم وشيا منشورا؟ ولم أدر ما أبصرت فى أثنائه، أأبيات شعر، أم عقود درّ؟ ولم أدر ما جملته، أغيث حلّ بوادى ظمآن، أم غوث سبق إلى لهفان؟. وكتب: وصل كتاب القاضى فأعظمت قدر النعمة فى مطلعه، وأجللت محلّ الموهبة بموقعه؛ وفضضته عن السحر حلالا، والماء زلالا؛ وسرّحت الطّرف منه

وقال أبو الفرج الببغاء من رسالة إلى عدة الدولة أبى تغلب

فى رياض رقّت حواشيها، وحلل تأنق واشيها؛ فلم أتجاوز فصلا إلّا إلى أخطر «1» منه فضلا، ولم أتخطّ «2» سطرا إلا الى أحسن منه نظما ونثرا. وكتب أيضا: وصل كتابك فجعلت وصوله عيدا أؤرّخ به أيّام بهجتى، وأفتتح به مواقيت غبطتى؛ وعرفت من خبر سلامتك ما سألت الله الكريم أن يصله بالدوام، ويرفعه على أيدى الأيام. وكتب أيضا: وصل كتابه- أيّده الله- يضحك عن أخلاقه الأرجة، ويتهلّل عن عشرته العطرة؛ ويخبر عن عافية الله لمن «3» رأيت شمل الحرّيّة به منتظما، وشعب المروءة له ملتئما؛ ويحمل من أنواع برّه ما أقصر عن ذكره، ولا أطمع فى شكره؛ ويؤدّى من لطيف اعتذاره فى أثناء عتبه، ما تزداد أسباب المودّة تمهيدا به؛ وفهمته، ورغبت إلى الله بأخلص طويّة، وأمحض نيّة «4» . وقال أبو الفرج الببغاء من رسالة إلى عدّة الدّولة أبى تغلب جاء منها: أصحّ دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة- أطال الله بقاء سيّدنا- ما شهدت العقول بصحّته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله على الدّنيا والدّين بما أولاهما من اختيار سيّدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظلّ عدله؛ مفصحة بتكامل الإقبال، مبشّرة بتصديق الامال محروسة ضمن الشكر الوفىّ لها ... على الزيادة نيل السّؤل والدّرك

وكتب أبو الحسن على بن القاسم القاشانى:

تحقّق العصر أنّ الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك واستخلف الفلك الدوّار همّته ... فلوونى أغنت الدنيا عن الفلك مأمون الهفوات، متناصر «1» الصفات؛ ربعىّ «2» النّفاسة، حمدانىّ السياسة، ناصرىّ الرياسة؛ عطاردى الذّكاء، موفّق الآراء؛ شمسىّ التأثير، قمرىّ التصوير، فلكىّ التدبير؛ للصّدق كلامه، وللعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه؛ وللحسام غناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه دعوته فأجابتنى مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب وجدته الغيث مشغوفا «3» بعادته ... والروض يحيا بما فى عادة السّحب لوفاته النسب الوضّاح كان له ... من فضله نسب يغنى عن النسب إذا دعته ملوك الأرض سيّدها ... طرّا دعته المعالى سيّد العرب. وكتب أبو الحسن «4» علىّ بن القاسم القاشانىّ: ما أرتضى نفسى لمخاطبة مولاى إذا كنت منفىّ الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف مع كلال الحدّة، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة؛ والمعوّل على النيّة، وهى لمولاى بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة، وهى بالولاء المحض معروفة؛ ولا مجال للعتب عن هذه الأحوال، للعذر وراء هذه الخلال.

وقال محمد بن العباس الخوارزمى:

وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ: الحمد لله الذى جعل الشيخ يضرب فى المحاسن بالقدح المعلّى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى، ولم يجعل فيه موضعا للولا، ولا مجالا لإلّا؛ فإن الاستثناء إذا اعترض فى المدح انصب ماؤه، وكدّر صفاؤه، وانطلق فيه حسّاده وأعداؤه؛ ولذلك قالوا: ما أحسن الظّبى لولا خنس «1» أنفه! وما أحسن البدر لولا كلف وجهه! وما أطيب الخمر لولا الخمار! وما أشرف الجود لولا الإقتار! وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر! وما أطيب الدنيا لو دامت ما أعلم الناس أنّ الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتى على النّشب. ذكر شىء من رسائل فضلاء المغاربة ووزرائهم وكتابهم ممن ذكرهم ابن بسام فى كتابه المترجم بالذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة منهم ذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون، فمن كلامه رسالة كتبها على لسان محبوبته ولّادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصرىّ الى إنسان استمالها إلى نفسه عنه، وهى: أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله؛ البيّن سقطه، الفاحش غلطه؛ العاثر فى ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره؛ الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش فى «2» الشهاب؛ فإنّ العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب؛ وإنك راسلتنى مستهديا من صلتى ما صفرت منه أيدى أمثالك، متصدّيا من

خلّتى لما قرعت فيه «1» أنوف أشكالك؛ مرسلا خليلتك مرتادة، مستعملا عشيقتك فوّادة؛ كاذبا نفسك [أنك «2» ] ستنزل عنها إلىّ، وتخلف بعدها علىّ ولست» بأوّل ذى همّة ... دعته لما ليس بالنائل ولا شكّ فى أنها قلتك إذ لم تضنّ بك، وملّتك إذ لم تغر عليك، فإنها أعذرت فى السّفارة لك، وما قصرت فى النيابة عنك؛ زاعمة أنّ المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانيّة اسم أنت جسمه وهيولاه؛ قاطعة أنّك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت فى مراتب الجلال، واستوليت «4» على محاسن الخلال؛ حتى خيّلت أنّ يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه، وأنّ امرأة العزيز رأتك فسلت عنه؛ وأنّ قارون أصاب بعض ما كنزت، والنّطف «5» عثر على فضل

ما ركزت «1» ؛ وكسرى حمل غاشيتك «2» ، وقيصر رعى ماشيتك؛ والإسكندر قتل دارا «3» فى طاعتك، وأردشير «4» جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك؛ والضّحّاك «5» استدعى مسالمتك، وجذيمة «6» الأبرش تمنّى منادمتك؛ وشيرين «7» نافست بوران «8» فيك؛

وبلقيس «1» غايرت الزّباء «2» عليك؛ وأنّ مالك «3» بن نويرة إنما ردف لك؛ وعروة «4» بن جعفر إنما رحل إليك؛ وكليب «5» بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزّتك؛ وجسّاسا «6» إنما قتله بأنفتك؛ ومهلهلا «7» إنما طلب ثأره بهمّتك؛ والسموءل «8» إنما وفى عن عهدك،

والأحنف «1» إنما احتبى فى بردك؛ وحاتما «2» إنما جاد بوفرك، ولقى الأضياف ببشرك؛ وزيد «3» بن مهلهل إنما ركب بفخذيك، والسّليك «4» بن السّلكة إنّما عدا على رجليك، وعامر «5» بن مالك [إنما لاعب الألسنة بيديك «6» ؛ وقيس بن زهير] إنما استعان بدهائك «7» ، وإياس «8» بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك؛ وسحبان «9» إنما تكلّم بلسانك،

وعمر «1» بن الأهتم إنما سحر ببيانك؛ وأنّ الصلح بين بكر وتغلب «2» تمّ برسالتك، والحمالات فى دماء عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك «3» ؛ وأن احتيال هرم «4» لعامر وعلقمة حتى رضيا كان عن رأيك؛ وجوابه لعمر وقد سأله عن أيّهما كان ينفّر «5» وقع بعد مشورتك؛

وأنّ الحجّاج «1» تقلّد ولاية العراق بجدّك، وقتيبة «2» فتح ماوراء النهر بسعدك؛ والمهلّب «3» أو هى شوكة الأزارقة بأيدك، وأفسد ذات بينهم بكيدك؛ وأنّ هرمس «4» أعطى بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون «5» أورد على أرسطوطاليس ما حدّث عنك؛

وبطلميوس «1» سوّى الأسطرلاب بتدبيرك، وصوّر الكرة على تقديرك؛ وأبقراط «2» علم العلل والأمراض بلطف حسّك، وجالينوس «3» عرف طبائع الحشائش بدقة نظرك «4» ؛ وكلاهما قلّدك فى العلاج، وسألك عن المزاج؛ واستوصفك تركيب الاعضاء، واستشارك فى الداء والدواء؛ وأنك نهجت لأبى معشر «5» طريق القضاء، وأظهرت

جابر «1» بن حيّان على سرّ الكيمياء؛ وأعطيت النظّام «2» أصلا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندىّ «3» رسما استخرج به الدقائق؛ وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار توليدك وابتداعك؛ وأن عبد الحميد «4» بن يحيى بارى أقلامك، وسهل «5» بن

هارون مدوّن كلامك؛ وعمر «1» بن بحر مستمليك، ومالك «2» بن أنس مستفتيك؛ وأنك الذى أقام البراهين، ووضع القوانين؛ وحدّ الماهيّة، وبيّن الكيفيّة والكميّة؛ وناظر فى الجوهر والعرض، وبيّن الصحّة من المرض؛ وفكّ المعمّى، وفصل بين الاسم والمسمّى؛ وضرب وقسّم، وعدل وقوّم؛ وصنّف الأسماء والأفعال، وبوّب الظّرف والحال؛ وبنى وأعرب، ونفى وتعجّب؛ ووصل وقطع، وثنّى وجمع؛ وأظهر وأضمر، وابتدأ وأخبر؛ واستفهم وأهمل وقيّد، وأرسل وأسند، وبحث ونظر، وتصفّح الأديان، ورجّح بين مذهبى مانى وغيلان «3» ؛ وأشار بذبح الجعد «4» ، وقتل بشار «5»

ابن برد؛ وأنك لو شئت خرقت العادات، وخالفت المعهودات؛ فأحلت البحار عذبة، وأعدت السّلام «1» رطبة؛ ونقلت غدا فصار أمسا، وزدت فى العناصر فكانت خمسا؛ وأنك المقول فيه: «كلّ الصيد «2» فى جوف الفرا» و: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد «3» والمعنىّ بقول أبى تمّام: فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع والمراد بقول أبى الطيّب: ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها ف «كدمت غير «4» مكدم» ونفخت فى غير فحم؛ ولم تجد لرمح مهزّا، ولا لشفرة محزّا؛ بل رضيت من الغنيمة بالإياب، وتمنّيت الرجوع بخفىّ حنين، لأنى قلت لها: «لقد هان من بالت عليه الثعالب «5» » وأنشدت: على «6» أنها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب

ونخرت «1» وكفرت، وعبست وبسرت «2» ؛ وأبدأت وأعدت، [وأبرقت وأرعدت «3» ] و «هممت ولم أفعل وكدت [وليتنى «4» ] » ولولا [أنّ] للجوار ذمّة، وللضيافة حرمة؛ لكان الجواب فى قذال الدّمستق «5» ، ولكنّ النعل حاضرة إن عادت العقرب، والعقوبة ممكنة إن أصرّ المذنب؛ وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك، ملؤها حبيبها، وحسن فيها من تودّ، وكانت إنما حلّتك بحلاك «6» ، ووسمتك بسيامك؛ ولم تعرك شهاده، ولا تكلّفت لك زياده؛ بل صدقتك سنّ بكرها «7» فيما ذكرته عنك، ووضعت الهناء «8» مواضع النّقب فيما نسبته إليك؛ ولم تكن (كاذبة فيما أثنت «9» به عليك) ،

فالمعيدىّ «1» تسمع به لا أن تراه، هجين «2» القذال، أرعن السّبال؛ طويل العنق والعلاوة «3» ، مفرط الحمق والغباوة؛ جافى الطبع، سيّئ الجابة «4» والسّمع؛ بغيض الهيئة، سخيف الذّهاب والجيئة؛ ظاهر الوسواس، منتن الأنفاس؛ كثير المعايب، مشهور المثالب؛ كلامك تمتمة، وحديثك وغمغمة؛ وبيانك فهفهة، وضحكك قهقهة؛ ومشيك هرولة، وغناك مسألة؛ ودينك زندقة، وعلمك مخرقة مساو «5» لو قسمن على الغوانى ... لما أمهرن إلا بالطّلاق حتى إنّ باقلا «6» موصوف بالبلاغة إذا قرن بك، وهبنّقة «7» مستحقّ لاسم العقل إذا نسب منك «8» ، وأبا غبشان «9» محمود منه سداد الفعل إذا أضيف إليك،

وطويسا «1» مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك؛ فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم؛ والخيبة منك ظفر، والجنّة معك سقر؛ كيف رأيت لؤمك لكرمى كفاء، وضعتك لشرفى وفاء؟ وأنّى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنّما تقع على ألّافها؟ وهلّا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن نادى المؤمن والكافر لا يتراءيان، وقلت: الخبيث والطيّب لا يستويان «2» ، وتمثلت: أيها «3» المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان وذكرت أنّى علق لا يباع ممن زاد، وطائر لا يصيده من أراد، وغرض لا يصيبه إلا من أجاد؛ ما أحسبك إلا كنت قد تهيّأت للتهنئة، وترشّحت للترفئة؛ أولى لك، لولا أنّ جرح العجماء «4» جبار، للقيت ما لقى من الكواعب يسار «5» ؛ فما همّ إلا بدون

ما هممت به، ولا تعرّض «1» إلا لأيسر ما تعرّضت له؛ أين ادّعاؤك رواية الأشعار، وتعاطيك حفظ السّير والأخبار؟ بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح فى أكفائها الحبطات «2» وهلّا عشّيت «3» ولم تغترّ، وما أمّنك «4» أن تكون وافد البراجم، أو ترجع بصحيفة المتلمّس «5» ، وأفعل بك ما فعله عقيل بن علفة «6» بالجهنىّ إذ جاءه خاطبا فدهن اسنته بزيت وأدناه من قرية «7» النمل؟ ومتى كتر تلاقينا، واتصل ترائينا؛ فيدعونى اليك

ما دعا ابنة «1» الخسّ الى عبدها من طول السواد، وقرب الوساد؟ وهل فقدت الأراقم «2» فأنكح فى جنب «3» ، أو عضلنى «4» همّام بن مرّة فأقول: «زوج من عود، خير من قعود» ؟ ولعمرى لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن» هذه الحطّة، وما رضيت بهذه الخطّة؛ ف «النار ولا العار» و «المنيّة ولا الدّنيّة» والحرّة تجوع ولا تأكل بثدييها: فكيف وفى أبناء قومى منكح ... وفتيان هزّان «6» الطوال الغرانقة ما كنت لأتخطّى المسك الى الرّماد، ولا لأمتطى الثّور دون الجواد؛ فإنما يتيمّم من لا يجد ماء، ويرعى الهشيم من عدم الجميم «7» ، ويركب الصّعب من لا ذلول

له؛ ولعلك «1» إنما غرّك من علمت صبوتى اليه، وشهدت مساعفتى له، من أقمار العصر، ورياحين المصر؛ الذين هم الكواكب علوّ همم، والرياض طيب شيم من تلق منهم تقل: لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى «2» فيحنّ «3» قدح ليس منها؛ ما أنت وهم؟ وأين تقع منهم؟ وهل أنت إلّا واو عمرو فيهم، وكالوشيظة «4» فى العظم بينهم؟ وان كنت إنما بلغت قعر تابوتك «5» ، وتجافيت لقميصك عن بعض قوتك؛ وعطّرت أردانك، وجررت هميانك؛ واختلت فى مشيتك، وحذفت فضول لحيتك؛ وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك؛ ودققت خطّ عذارك، واستأنفت عقد إزارك؛ رجاء الا كتتاب «6» فيهم، وطمعا فى الاعتداد منهم؛ فظننت عجزا، وأخطأت استك الحفرة؛ والله لو كساك محرّق «7»

البردين، وحلّتك مارية «1» بالقرطين؛ وقلّدك عمرو «2» بالصّمصامة، وحملك الحارث «3» على النّعامة؛ ما شككت فيك، ولا تكلمت بملء فيك؛ ولا سترت أباك، ولا كنت إلا ذاك؛ وهبك ساميتهم فى ذروة المجد والحسب، وجاريتهم فى غاية الظرف والأدب؛ ألست تأوى الى بيت قعيدته لكاع؟ اذ كلّهم عزب خالى الذراع؛ وأين من أنفرد به، ممن لا أغلب إلا على الأقلّ الأخسّ منه؟ وكم بين من يعتمدنى بالقوّة الظاهرة، والشهوة الوافرة؛ والنفس المصروفة الىّ، واللذة الموقوفة علىّ؛ وبين آخر قد نزحت بيره، ونضب غديره؛ وذهب نشاطه، ولم يبق إلا ضراطه؛ وهل كان يجمع لى فيك إلا الحشف «4» وسوء الكيلة. ويقترن علىّ بك إلا الغدّة والموت فى بيت سلوليّة «5» ؟ تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرجال (وهذا الشعر لأبى العتاهية يخاطب به سلم بن عمرو، ويلومه على حصرصه، ويتلوه) : هب الدنيا تصير اليك عفوا ... أليس مصير ذاك الى زوال ما كان أحقّك بأن تقدر بذرعك، وتربع على ظلعك؛ ولا تكون براقش «6» الدالّة

على أهلها «1» ، وعنز السوء المستثيرة لحتفها؛ فما أراك إلا قد سقط العشاء بك على السّرحان «2» ، وبك لا بظبى أعفر «3» ، قد أعذرت إن أغنيت شيّا، وأسمعت لو ناديت حيّا؛ وقرعت عصا العتاب، وحذّرت سوء العقاب. «إنّ العصا قرعت لذى الحلم» «والشىء «4» تحقره وقد ينمى» . فإن بادرت بالندامة، ورجعت على نفسك بالملامة؛ [كنت «5» ] قد اشتريت العافية لك بالعافية منك؛ وإن قلت: «جعجعة ولا طحنا» و «ربّ صلف تحت الراعدة «6» » وأنشدت: لا يؤيسنّك من مخبّأة ... قول تغلّظه وإن جرحا فعدت لما نهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه؛ بعثت من يزعجك إلى الخضراء «7» دفعا، ويستحثّك نحوها وكزا وصفعا؛ فاذا صرت «8» بها عبث أكّاروها «9»

بك، وتسلّط نواطيرها «1» عليك؛ فمن قرعة معوجّة تقوّم فى قفاك، وفجلة منتنة يرمى بها تحت خصاك؛ لكى تذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك. فمن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى «2» . وقال أيضا فى رقعة خاطب بها ابن جهور- وهى من رسائله المشهورة- أوّلها: يا مولاى وسيّدى الذى ودادى له، واعتدادى به، واعتمادى عليه- أبقاك الله ماضى حدّ العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة- إن سلبتنى أعزّك الله لباس إنعامك، وعطّلتنى من حلى إيناسك، وغضضت عنى طرف حمايتك؛ بعد أن نظر الأعمى الى تأميلى لك، وسمع الأصمّ ثنائى «3» عليك، وأحسّ الجماد باستنادى اليك؛ فلا غرو قد يغصّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منيّة المتمنّى فى أمنيّته «والحين «4» قد يسبق جهد الحريص» وإنّى لأتجلّد، وأرى الشامتين أنّى لا أتضعضع «5» ، وأقول:

هل أنا إلّا يد أدماها سوارها، وجبين عضّه «1» إكليله، ومشرفىّ «2» الصقه بالأرض صاقله، وسمهرى «3» عرضه على النار مثقّفه، وعبد ذهب «4» سيّده مذهب الذى يقول: فقسا ليزدجروا «5» ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم والعتب «6» محمود عواقبه، والنّبوة «7» غمرة ثم تنجلى، والنكبة «سحابة صيف عن قريب تقشّع «8» » وسيّدى إن أبطأ معذور «9» . فإن يكن الفعل الذى ساء واحدا ... فأفعاله اللاتى سررن ألوف «10» فليت شعرى ما الذنب الذى أذنبت ولم يسعه العفو؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل؟ أو مسيئا فأين الفضل؟ وما أرانى إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لى نوح: «اركب معنا» فقلت: «سآوى إلى جبل يعصمنى

من الماء» وتعاطيت فعقرت «1» ، وأمرت ببناء صرح لعلّى أطّلع إلى إله موسى «2» ، وعكفت على العجل «3» ، واعتديت فى السّبت «4» ، وشربت من النهر الذى ابتلى به جنود طالوت «5» ، وقدت الفيل لأبرهة «6» ، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة «7» ، وتأوّلت فى بيعة العقبة «8» ،

ونفرت الى العير ببدر «1» ، وانخذلت «2» بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر فى بنى قريظة «3» ، وجئت بالإفك على عائشة «4» ، وأبيت «5» من إمارة أسامة،

وزعمت أن خلافة أبى بكر كانت فلتة «1» ... وروّيت رمحى من كتيبة خالد «2» ومزّقت الأديم الذى باركت يد الله فيه «3» ، وضحّيت بالأشمط الذى عنوان السجود به «4» ، وكتبت الى عمر بن سعد [أن] جعجع «5» بالحسين، وبذلت لقطام.

ثلاثة آلاف وعبدا وقينة ... وضرب علىّ بالحسام المخذّم «1» وتمثّلت عند ما بلغنى من وقعة الحرّة «2» : ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل «3» قد قتلنا القرن «4» من أشياخهم ... وعدلناه ببدر فاعتدل «5» ورجمت الكعبة «6» ، وصلبت العائذ بها على الثنيّة؛ لكان فيما جرى علىّ ما يحتمل أن يسمّى نكالا، ويدعى ولو على المجز عقابا. وحسبك من حادث بامرئ ... يرى حاسديه له راحمينا

فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق؛ والله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصاغية «1» ، ولا نصبت «2» لك بعد التشيّع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمّتى، وعاث فى مودّتى «3» ؟ وأنّى غلبنى المغلّب، وفخر علىّ الضعيف «4» ، ولطمتنى غير ذات سوار «5» ؟ وما لك لم تمنع منى قبل أن أفترس، وتدركنى ولمّا أمزّق «6» ، [أم كيف لا تتضرّم «7» جوانح الأكفاء حسدا لى على الخصوص بك، وتتقطّع أنفاس

النّظراء منافسة فى الكرامة عليك] وقد زاننى اسم خدمتك، [وزهانى وسم نعمتك «1» ] وأبليت [البلاء «2» ] الجميل فى «3» سماطك، وقمت المقام المحمود على بساطك. ألست الموالى فيك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجما «4» وهل لبس الصباح إلا بردا طرّزته بمحامدك، وتقلّدت الجوزاء إلا عقدا فصّلته بمآثرك، وبثّ المسك إلا حديثا أذعته «5» بمفاخرك؛ «ما يوم حليمة «6» بسرّ» وحاش لله أن أعدّ من العاملة الناصبة، وأكون كالذّبالة المنصوبة تضىء للناس وهى تحترق. وفى فصل منه: ولعمرى ما جهلت [أن] «7» الرأى فى أن أتحوّل إذا بلغتنى الشمس، ونبا بى المنزل، وأضرب عن المطامع التى تقطع أعناق الرجال، ولا أستوطئ العجز فيضرب بى المثل: «خامرى «8» أمّ عامر» وإنى مع المعرفة بأن الجلاء

سباء، «1» والنّقلة مثلة، لعارف أن الأدب الوطن الذى لا يخشى «2» فراقه، والخليط الذى لا يتوقّع زواله «3» ؛ والنّسب «4» الذى لا يخفى، [والجمال [الذى] لا يخفى؛ ثم ما قران السّعد للكواكب أبهى أثرا، ولا أسنى خطرا، من اقتران غنى النفس به، وانتظامها نسقا معه؛ فإنّ الحائز لهما، الضارب بسهم فيهما- وقليل ما هم «5» -] أينما توجّه ورد منهل برّ، وحطّ «6» فى جناب قبول، وضوحك قبل إنزال رحله «7» ، وأعطى حكم الصبىّ على أهله وقيل له: أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق غير أنّ الموطن محبوب، والمنشأ مألوف؛ واللبيب يحنّ إلى وطنه، [حنين النجيب «8» إلى عطنه] ؛ والكريم لا يجفو أرضا فيها قوابله، ولا ينسى بلدا فيه مراضعه؛ وأنشد قول الأوّل: أحبّ بلاد الله ما بين منعج «9» ... إلىّ وسلمى «10» أن يصوب سحابها

بلاد بها «1» عقّ الشّباب تمائمى ... وأوّل أرض مسّ جلدى ترابها هذا إلى مغالاتى فى تعلّق «2» جوارك، ومنافستى فى الحظّ من قربك، واعتقادى أنّ الطمع فى غيرك طبع «3» ، والغنى من سواك عناء، والبدل منك أعور «4» ، والعوض لفاء «5» . وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... ضنّا به نظرى إلى الأمراء «6» «كلّ الصّيد فى جوف الفرا» و «فى كلّ شجر نار، واستمجد المرخ «7» والغفار» ؛ فما هذه البراءة ممن تولّاك، والميل عمّن يميل إليك؟ وهلّا كان هواك فيمن هواه فيك، ورضاك لمن رضاه لك؟

يا من «1» يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شىء بعدكم عدم أعيذك ونفسى من أن «2» أشيم خلّبا، واستمطر جهاما «3» ، وأكدم غير مكدم، وأشكو شكوى الجريح إلى العقبان والرّخم؛ وإنما أبسست «4» لك لتدرّ، وحرّكت لك الحوار «5» لتحنّ؛ وسريت لك «6» ليحمد المسرى «7» إليك؛ بعد اليقين من أنك إن شئت عقد أمرى تيسّر، ومتى أعذرت فى فكّ أسرى «8» لم يتعذّر؛ وعلمك يحيط بأنّ المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه تعود به صدقة. واذا امرؤ «9» أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله لعلّى ألقى العصا بذراك «10» ، وتستقرّ بى النوى فى ظلّك، فتستلذّ جنى شكرى من غرس عارفتك، وتستطيب عرف ثنائى من روض صنيعتك؛ وأستأنف التأدّب

بأدبك «1» ، والاحتمال على مذهبك؛ فلا أوجد للحاسد مجال لحظة، ولا أدع للقادح مساغ لفظة؛ والله ميسّرك «2» من إطلابى هذه الطّلبة «3» ، وإشكائى «4» من هذه الشكوى لصنيعة تصيب بها طريق المصنع، ويد تستودعها أحفظ مستودع؛ حسبما أنت خليق له، وأنا منك حرىّ به؛ فذلك بيده، وهيّن «5» عليه. وشفعها بأبيات فقال: الهوى فى طلوع تلك النجوم ... والمعنى فى هبوب ذاك النسيم سرّنا عيشنا الرقيق الحواشى ... لو يدوم السرور للمستديم وطر ما انقضى إلى أن تقضّى ... زمن ما ذمامه بالذّميم زار مستخفيا وهيهات أن يخ ... تفى البدر فى الظلام البهيم فوشى الحلى إذ مشى وهفا الطّي ... ب إلى حيث كاشح بالنّميم أيها المؤذنى بظلم الليالى ... ليس يومى بواحد «6» من ظلوم

ما ترى البدر إن تأمّلت والشم ... س هما «1» يكفان دون النجوم وهو الدهر ليس ينفك ينحو ... بالمصاب العظيم نحو العظيم بوّأ الله جهورا أشرف السّؤد ... د فى السّرّ «2» واللّباب الصميم واحد سلّم الجميع له الفض ... ل وكان الخصوص وفق العموم قلّد الغمر ذا التجارب «3» فيه ... واكتفى جاهل بعلم عليم ومنها فى ذكر اعتقاله: سقم لا أعاد منه وفى الع ... ائد أنس يفى ببرء السقيم نار بغى سرت إلى جنّة الأر ... ض بياتا فأصبحت كالصريم بأبى أنت إن «4» تشأتك بردا ... وسلاما كنار إبراهيم للشفيع الثناء «5» ، والحمد فى صو ... ب الحيا للرياح لا للغيوم ثم قال: هاكها أعزّك الله يبسطها الأمل، ويقبضها الخجل؛ لها ذنب التقصير، وحرمة الإخلاص، فهب ذنبا لحرمة، واشفع نعمة بنعمة؛ لتأتى الإحسان من جهاته، وتسلك الفضل من طرقاته؛ إن شاء الله تعالى.

ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال من جواب لابن بسام

ومن كلام أبى عبد الله محمد بن أبى الخصال من جواب لابن بسّام - وكان قد كتب إليه يسأله إنفاذ بعض رسائله ليضمّنها كتابه الذى ترجمه بالذخيرة، فكتب: وصل من السيّد المسترقّ، والمالك المستحقّ- وصل الله أنعمه لديه، كما قصر الفضل عليه- كتابه البليغ، واستدراجه المريغ «1» ؛ فلولا أن يصلد «2» زند اقتداحه، ويردّ طرف افتتاحه؛ وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه؛ للزمت معه قدرى، وظنّ بسرّه صدرى؛ لكنه بنفثة سحره يستنزل العصم فتجنب «3» ، ويقتاد الصّعب فيصحب، ويستدرّ الصخور فتحلب؛ ولما جاءنى كتاب ابتداه، وقرع سمعى نداه؛ فزعت «4» إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر؛ فطاردت من الفقر أو ابد قفر، وشوارد عفر، تغبر «5» فى وجه سائقها، ولا يتوجّه اللّحاق إلى وجيهها ولاحقها «6» ؛ فعلمت أنها الإهابة والمهابة، والإجابة والاسترابة؛ حتى أيأستنى الخواطر،

ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجد،

وأخلفتنى المواطر، إلا زبرجا «1» يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا؛ [وأنى لمثلى والقريحة مرجاة «2» ] والبضاعة مزجاة؛ ببراعة الخطاب، ويراعة الكتاب، ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا اللسان؛ ما فاز لمثلى فيه قدح، ولا تحصّل لى فى سوقه ربح؛ ولكنه جوّ خال، ومضمار جهّال؛ وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النّتف الأخيرة؛ وأرى أنها قد بلغت مداها، واستوفت حلالها؛ وإنما أخشى القدح فى اختيارك، والإخلال «3» بمختارك؛ وعذرا اليك- أيدك الله- فإنى خطّطت والنوم مغازل، والقرّ نازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجّاج. ثم أخذ فى وصف السراج كما ذكرناه فى الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الأوّل فى السّفر الأوّل من هذا الكتاب. ومن كلام الوزير الفقيه أبى القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ «4» ، من رسالة خاطب بها ذا الوزارتين أبا بكر المعروف بابن القصيرة- وقد قربت بينهما المسافة ولم يتفق اجتماعهما-: لم أزل- أعزك الله- استنزل قربك براحة الوهم، عن ساحة النجم؛ وأنصب لك شرك المنى، فى خلس الكرى «5» ، وأعلّل فيه نفس الأمل، بضرب سابق المثل:

ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول «1» فما ظنّك به وقد نزل على مسافة يوم [وطالما نفر عن حبالة نوم «2» ] ، ودنا حتى همّ بالسلام، وقد كان من خدع الأحلام، وناهيك «3» من ظمئى وقد حمت حول المورد الخصر، وذممت الرّشاء «4» بالقصر، ووقف بى ناهض القدر، وقفة العير بين الورد والصّدر؛ فهلّا وصل ذلك الأمل بباع، وسمح الزمن باجتماع؛ وطويت بيننا رقعة الأميال، كما زويت مراحل «5» أيّام وليال؛ وما كان على الأيّام لو غفلت قليلا، حتى أشفى بلقائك غليلا، وأتنسّم من روح مشاهدتك نفسا بليلا؛ ولئن أقعدتنى بعوائقها عن لقاء حرّ، وقضاء برّ؛ وسفر قريب، وظفر غريب؛ فما تحيّفت «6» ودادى، ولا ارتشفت مدادى؛ ولا غاضت كلامى، ولا أحفت أقلامى «7» ؛ وحسبى بلسان النّبل «8» رسولا، وكفى بوصوله أملا وسولا؛ ففى الكتاب بلغة الوطر، ويستدلّ على العين بالأثر؛ على أنى إنما وحيت «9» وحى المشير باليسير، وأحلت فهمك على المسطور فى الضمير؛ وإن فرغت للمراجعة ولو بحرف، أو لمحة طرف؛ وصلت صديقا، وبللت ريقا؛ وأسديت يدا، وشفيت صدى؛ لا زالت أياديك بيضا، وجاهك عريضا؛ ولياليك أسحارا، ومساعيك أنوارا.

ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخياط

ومن كلام أبى عبد الله محمد بن الخيّاط من رقعة طويلة الى الحاجب المظفّر، أوّلها: حجب الله عن الحاجب المظفّر أعين النائبات، وقبض دونه أيدى الحادثات. وجاء منها: ورد له كتاب كريم جعلته عوض يده البيضاء فقبلته، ولمحته بدل غرّته الغرّاء فأجللته؛ كتاب ألقى عليه الحبر «1» حبره، وأهدى اليه السحر فقره؛ أنذر «2» ببلوغ المنى، وبشّر بحصول الغنى؛ تخيّر له البيان فطبّق مفصله، ورماه البنان «3» فصادف مقتله؛ ووصل معه المملوك والمملوكة اللذان سمّاهما هديّة، وتنزّه كرما أن يقول عطيّة؛ همّة ترجم السّماكين، ونعمة تملأ الأذن والعين؛ وما حرّك- أيده الله- بكتابه ساكنا بحمده، ولا نبّه نائما عن قصده؛ كيف وقد طلعت الشمس التى صار بها المغرب شرقا، وهبّت الريح التى صار بها الحرمان رزقا؛ صاحب لواء الحمد، وفارس ميدان المجد. وهى رقعة طويلة قد ذكرنا منها فى المديح فصلا لا فائدة فى إعادته. ومن كلام أبى حفص عمر بن برد الأصغر الأندلسى، فمن ذلك أمان كتبه لمن عصى وعاود الطاعة: أما بعد، فإن الغلبة لنا والظهور عليك جلباك «4» إلينا على قدمك، دون عهد ولا عقد يمنعان من إراقة دمك؛ ولكنا بما وهب الله لنا من الإشراف على سرائر «5»

ومن كلامه يعاتب بعض إخوانه:

الرّياسة، والحفظ لشرائع السياسة؛ تأمّلنا من ساس جهتك قبلنا فوجدنا يد سياسته خرقاء، وعين حراسته عوراء، وقدم مداراته شلّاء، لأنه غاب عن ترغيبك فلم ترجه، وعن ترهيبك فلم تخشه؛ فأدتك حاجتك إلى طلاب المطامع الدنيّة، وقلّة مهابتك الى التهالك على المعاصى الوبيّة؛ وقد رأينا أن تظهر فضل سيرتنا فيك، وتعتبر بالنظر فى أمرك، فمهّدنا لك الترغيب لتأنس إليه، وظلّلنا لك الترهيب لتفرق منه، فإن سوّت الحالتان طبعك، وداوى الثّقاف والنار عودك، فذلك بفضل الله عليك، وبإظهاره حسن السياسة فيك؛ وأمان الله تعالى مبسوط منّا، ومواثيقه بالوفاء معقودة علينا؛ وأنت الى جهتك مصروف، وبعفونا والعافية منا مكنوف، إلّا أن تطيش الصّنيعة عندك فتخلع الرّبقة، وتمرق من الطاعة، فلسنا بأوّل من بغى عليه، ولست بأوّل من تراءت لنا مقاتله من أشكالك إن بغيت، وانفتحت لنا أبواب استئصاله من أمثالك إن طلبت. ومن كلامه يعاتب بعض إخوانه: أظلم لى جوّ صفائك، وتوعّرت علىّ طرق إخائك؛ وأراك جلد الضمير على العتاب، غير ناقع الغلّة من الجفاء؛ فليت شعرى ما الذى أقصى بهجة ذلك الودّ، وأذبل زهرة ذلك العهد؛ عهدى بك وصلتنا تفرق من اسم القطيعة، ومودّتنا تسأل عن صفة العتاب ونسبة الجفاء، واليوم هى آنس بذلك من الرضيع بالثدى، والخليع بالكأس؛ وهذه ثغرة إن لم تحرسها المراجعة، وتذك فيها عيون الاستبصار «1» توجّهت منها الحيل على هدم ما بنينا، ونقض ما اقتنينا؛ وتلك نائحة الصفاء، والصارخة «2» بموت الإخاء؛ لا أستند «3» أعزك الله من الكتاب إليك- وان رغم أنف

ومن كلام أبى الوليد بن طريف

القلم، وانزوت أحشاء القرطاس، وأجرّ «1» فم الفكر، فلم يبق فى أحدها إسعاد لى على مكاتبتك، ولا بشاشة عند محاولة مخاطبتك- لقوارص «2» عتابك، وقوارع ملامك [التى أكلت أقلامك «3» ] ، وأغصّت «4» كتبك، وأضجرت رسلك، وضميرى طاو لم يطعم تجنيا عليك، ونفسى وادعة لم تحرّك ذنبا إليك، وعقدى مستحكم «5» لم يمسسه وهن فيك؛ وأنا الآن على طرف الإخاء معك، فإما أن تبهرنى بحجّة فأتنصّل «6» عندك، وإما أن تفى بحقيقة فأستديم خلّتك «7» ، وإما أن تأزم «8» على يأسك فأقطع حبلى منك؛ كثيرا ما يكون عتاب المتصافين حيلة تسبر المودّة بها، وتستثار دفائن «9» الأخوة عنها، كما يعرض الذهب على اللهب، ويصفّى المدام بالفدام «10» ، وقد يخلص الودّ على العتب خلوص الذهب على السبك، فأما إذا أعيد وأبدى وردّد وتوالى فإنه يفسد غرس الإخاء، كما يفسد الزرع توالى الماء. ومن كلام أبى الوليد بن طريف من جواب عن المعتمد الى ذى الوزارتين ابن يحفور صاحب شاطبة بسبب أبى بكر بن عمّار:

وقفت «1» على «2» الإشارة الموضوعة من قبلك على إخلاص دلّ «3» على وجوه السلامة، المستنام فيها الى شرف محتدك وصفاء معتقدك أكرم استنامة؛ بالشفاعة فيمن أساء لنفسه حظّ الاختيار، وسبّب لها سبب النكبة والعثار؛ بغمطه لعظيم النعمة؛ وقطعه لعلائق العصمة؛ وتخبّطه فى سنن غيّه واستهدافه، وتجاوزه فى «4» ارتكاب الجرائم وإسرافه؛ حتى لم يدع للصلح موضعا، وخرق ستر الإبقاء بينه وبين مولى النعمة عنده فلم يترك فيه مرقعا؛ وقد كان قبل استشراء رأيه، وكشفه لصفحة المعاندة، وإبدائه غدره فى جميع جناياته مقبولا، وجانب الصفح له معرّضا مبذولا؛ لكن عدته جوانب الغواية، عن طرق الهداية؛ فاستمرّ على ضلاله، وزاغ عن سنن اعتداله؛ وأظهر المناقضة، وتعرّض بزعمه الى المساورة والمعارضة؛ فلم يزل يريغ «5» الغوائل، وينصب الحبائل؛ ويركب فى العناد أصعب المراكب، ويذهب منه فى أوعر المذاهب؛ حتى علقته تلك الأشراك التى نصبها، وتشبّثت به مساوى المقدّمات التى جرّها وسبّبها؛ فذاق وبال فعله، «ولا يحيق المكر السّىّء إلّا بأهله» ولم يحصل فى الأنشوطة التى تورّطها، والمحنة التى اشتملت عليه وتوسّطها؛ إلا ووجه العفو له قد أظلم، وباب الشفاعة فيه قد ابهم «6» ؛ ومن تأمّل أفعاله الذميمة، ومذاهبه اللئيمة؛ رأى أنّ الصفح عنه بعيد، والإبقاء عليه داء حاضر عتيد. وفى فصل منه: ففوّق لمناضلة الدولة نباله، وأعمل فى مكايدها جهده واحتياله؛ ثم لم يقتصر على ذلك بل تجاوزه الى إطلاق لسانه بالذمّ الذى صدر عن

ومن كلام ذى الوزارتين أبى المغيرة بن حزم من رسالة.

لؤم نجاره، والطعن الشاهد بخبث طويّته وإضماره؛ ومن فسد هذا الفساد كيف يرجى استصلاحه، ومن استبطن مثل غلّه كيف يؤمّل فلاحه؛ ومن لك بسلامة الأديم «1» النّغل، وصفاء القلب الدّغل؛ وعلى ذلك فلا أعتقد عليك فيما عرضت به من وجه الشفاعة غير الجميل، ولا أتعدّى فيه حسن التأويل؛ ولو وفدت شفاعتك فى غير هذا الأمر الذى سبق فيه السيف العذل، وأبطل عاقل «2» الأقدار فيه الإلطاف والحيل؛ لتلقّيت بالإجلال، وقوبلت ببالغ المبرّة والاهتبال «3» . ومن كلام ذى الوزارتين أبى «4» المغيرة بن حزم من رسالة. لم أزل أزجر للقاء سيّدى السانح، وأستمطر الغادى والرائح «5» ؛ وأروم اقتناصه ولو بشرك المنام، وأحاول اختلاسه ولو بأيدى الأوهام؛ وأعاتب الأيّام فيه فلا تعتب، وأقودها اليه فلا تصحب؛ حتى إذا غلب الياس، وشمت الناس؛ وضربت بى الأمثال، فقيل: أكثر الآمال ضلال؛ تنبّه الدهر من رقدته، وحلّ من عقدته؛ وقبل منّى، وأظهر الرضى عنّى؛ وقال: دونك ما طمح «6» فقد سمح «7» ، وإليك فقد دنا ما قد جمح؛ فطرت بجناح الارتياح، وركبت الى الغمام كواهل الرّياح؛ وقلت: فرصة تغتنم، وركن يستلم؛ وطرقت روضة [العلم «8» ] عميمة الأزهار، فصيحة الأطيار؛

ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور إلى بعض إخوانه -

ريّا الجداول، باردة الضحى والأصائل؛ وطفت بكعبة الفضل مصونة الحبر «1» ، ملثومة الحجر؛ عزيزة المقام، معمورة المشعر الحرام؛ فما شئنا من محاضرة، تجمع بين الدنيا والآخرة؛ بين يدى نثر يدنى الإعجاز، ونظم ما أشبه الصدور بالأعجاز؛ وحديث تثقّف العقول بآرائه «2» ، وتروّى بصافى مائه؛ فحين شمخ بالظّفر أنفى، واهتزّ لنيل الأمل عطفى- والدهر يضحك سرّا، ويتأبّط شرّا؛ وقد أذهلنى الجذل عن سوء ظنّى به، وأوهمنى نزوعه «3» عن ذميم مذهبه- أتت ألوانه، وفسا «4» ظربانه؛ ونادى: ليقم من قعد، وينتبه من رقد؛ إنما فترت تلك الفترة، ليكون ما رأيت عليك حسرة؛ وسمحت لك مرّة، لتذوق من الأسف عليها كأسامرّة؛ فرأيت وقد غطّى على بصرى، وعقلت وكنت فى عمياء من خبرى؛ وقلت: هو الذى أعهده من لؤمه، وأعرفه من شؤمه؛ فما وهب، إلا وسلب؛ ولا أعطى، إلا ساعات كإبهام القطا؛ فيا له من قادر ما ألأم قدرته، وذابح ما أحدّ شفرته! ولو تسلّط علينا، من يظهر شخصه إلينا، لأدركته رماحنا، [وعصفت به رياحنا «5» ] ؛ لكنه أمير من وراء سجف، يسعى بلا رجل ويصول بلا كفّ. ومن كلام الوزير الكاتب أبى محمد بن عبد الغفور الى بعض إخوانه- وكان قد وصف له امرأة ومدحها وحضّه على زواجها، وكان لذلك الصديق امرأة سوداء- فأجابه ابن عبد الغفور:

بينما كنت ناظرا من المرآة فى شعر أحمّ «1» ، ورأس أجمّ، لا أخاف معه الذم؛ إذ تقدّم رسولك إلىّ، يخطب بنت فلان علىّ؛ ويرغّب منها فى سعة مال، وبراعة جمال؛ ويقسم إنها لبرة بالزوج بريكة، لا تحوجه عند النوم الى أريكة؛ ولو يسّرت- وعياذا بالله- لهذا النكاح، لرزقت قبل الولد منها آلة النّطاح «2» ؛ ولا حاجة لى بعد الدّعة والسكون، [الى حرب زبون، وقراع بالقرون «3» ] ، ولو حملت الىّ تاج كسرى وكنوز قارون؛ فاطلب لهذه السّلعة المباركة مشتريا غيرى، ولا تسقها ولو فى النوم الى ... «4» ؛ وابتعها ولو بأرفع الأثمان إلى نفسك، وأضف عاجها النفيس الى أبنوس «5» عرسك؛ ولا عذر لها فى النّشوز والإعراض، فإنما يحسن السواد الحالك بالبياض؛ والله يمدّك بقرنين قبل الحين، ويضع لك صنعتين «6» وبيلين، فيسقطك بهذا النكاح الثانى للفم كما أسقطت بالأوّل لليدين. كمل السفر السابع من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنويرى رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الثامن منه، وأوّله: ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل

فهرس الجزء الثامن من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل محيى الدين أبى على عبد الرحيم البيسانى 1 ذكر شىء من رسائل الإمام الفاضل ضياء الدين أبى العباس أحمد بن أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر بن عبد المنعم الأنصارى القرطبىّ 51 ذكر شىء من إنشاء المولى القاضى الفاضل محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 101 ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد علاء الدين علىّ بن فتح الدين محمد بن محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر 126 ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى 149 ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب 163 ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق به ويحتاج الكاتب الى معرفته والاطلاع عليه الحجة البالغة والأجوبة الدامغة 166 هفوات الأمجاد وكبوات الجياد 175 ذكر شىء من الحكم 181 ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل 189 ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك 191 ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمى ديوانا ومن سمّاه بذلك 195 ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات 195

... صفحة ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأوّل من وضعها فى الإسلام 196 وأما دواوين الأموال 198 ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش 200 وأما مباشرة الخزانة 213 وأما مباشر بيت المال 217 وأما مباشر أهراء الغلال 219 ذكر مباشرة البيوت السلطانية:- فيحتاج مباشر الحوائج خاناه الى أمور 221 وأما الشراب خاناه 224 وأما الطشت خاناه 225 وأما الفراش خاناه 226 وأما السلاح خاناه 227 ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها وما يحتاج اليه مباشروها 228 ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمة وما ورد فيها من الأحكام الشرعية الخ:- أما الأحكام الشرعية 234 وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم 241 وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشية 241 وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج إلى عمله 242 ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره 245 أما الديار المصرية وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها الخ 246 وأما جهات الخراجىّ بالشأم وكيفيتها وما يعتمد عليه مباشروها 255 ومن أبواب الخراجىّ الخ 261

وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله:- أما المراعى 262 وأما المصايد 262 وأما الأحكار 264 وأما أقصاب السكّر ومعاصرها:- قاعدتها الكلية التى لا تكاد تختلف فى الديار المصرية 264 ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل 267 وأما أقصاب الشأم 271 ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها:- تعليق اليوميّة 273 ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم:- فأما الختم 275 وأما التوالى:- توالى الغلال 276 ولهم أيضا توال يسمونها توالى الارتفاع 277 ولهم أيضا توالى الاعتصار 278 وأما الأعمال 278 فأما أعمال الغلال والتقاوى 278 وأما عمل الاعتصار 278 وأما عمل المبيع 280 وأما عمل المبتاع 281 وأما عمل الجوالى 281 وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات 282 وأما السياقات 282 فأما سياقة الأسرى والمعتقلين 283 وأما سياقة الكراع 283 وأما سياقة العلوفات 284

... صفحة وأما سياقات الأصناف والزرد خاناه والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات 284 وأما الارتفاع 285 ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم 287 ومن وجوه المضاف الغريبة الخ 287 وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام 290 وان انفصل الكاتب أثناء السنة الخ 292 ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات-: محاسبة أرباب النقود الجيشية والمكيلات الخ 293 ومنها محاسبات أرباب الأجر والاستعمالات 294 ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها الخ 294 ويلزمه رفع المؤامرات 296 ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق 296 ومما يلزمه رفعه فى كل سنة تقدير الارتفاع 297 ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشية 297 وأما المقترحات 297 ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله-: اما المشدّ أو المتولّى 298 وأما الناظر على ذلك 299 وأما صاحب الديوان 300 وأما مقابل الاستيفاء 300 وأما المستوفى 301 وأما المشارف 304 وأما الشاهد 304 وأما العامل 304

بيان ليس لدينا من نسخ هذا الجزء غير نسخة واحدة مأخوذة بالتصوير الشمسى ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2570 تاريخ، وهى المشار اليها فى بعض حواشى هذا الجزء بحرف (ا) ، وقطعتين من نسختين أخريين أخذتا بالتصوير الشمسى وحفظتا بدار الكتب المصرية: إحداهما تحت رقم 416 (معارف عامة) ؛ وهى المشار اليها فى بعض حواشى الجزء بحرف (ب) وتنتهى فى السطر التاسع من صفحة 69 من هذا الجزء؛ وقد نبّهنا الى موضع انتهائها فى حواشيه؛ والثانية تحت رقم 551 (معارف عامة) ، وهى المشار اليها فى بعض الحواشى بحرف (ج) وتبتدئ من السطر السادس من صفحة 101 وتنتهى فى السطر السادس من صفحة 113 وقد نبهنا على موضع انتهائها فى الحواشى أيضا. وليس التحريف فى هاتين القطعتين بأقلّ منه فى النسخة الأولى، فإن التحريف فى جميع هذه الأصول يكاد يكون متفقا، كما يتبين ذلك مما كتبناه فى بعض الحواشى إذ نقول: «فى كلا الأصلين» أو «فى كلتا النسختين كذا؛ وهو تحريف» أو «تصحيف» . وعلى كل حال فقد بذلنا ما نستطيع فى إصلاح المحرّف والمصحّف من كلماته، وتكميل الناقص من جمله؛ وتحقيق أعلامه وضبطها، وضبط الملتبس من ألفاظه، وتفسير غريبه، وإيضاح الغامض من عباراته، وشرح ما أشكل من أبياته ونسبتها الى قائليها، وشرح ما فيه من أسماء البلاد والأمكنة، والتنبيه على ما فى هذا الجزء- ولا سيّما فى كتابة الديوان- من الكلمات العاميّة، والألفاظ الاصطلاحية التى لم ترد فيما لدينا من كتب اللغة، وبيان المراد منها؛ فإن المؤلف قد استعمل بعض

هذه الكلمات جريا على مصطلح كتّاب الدواوين فى استعمالها؛ كما أننا لم ندع التنبيه أيضا على ما استعمله المؤلف فى هذا الباب (أى كتابة الديوان) من مخالفات لغويّة فى صيغ الجموع وتعدية الأفعال، كأن يعدّى الفعل بنفسه ومقتضى اللغة أن يتعدّى بالحرف، أو العكس، أو أن يعدّيه بحرف واللغة تقتضى تعديته بحرف آخر؛ وغير ذلك مما استعمله المؤلف متّبعا فيه اصطلاح كتّاب الدواوين فى ذلك العهد ولم نجده فى كتب اللغة التى بين أيدينا؛ ولم نغيّر بعض هذه الاستعمالات، بل أبقينا الأصل فيها على حاله لعلمنا أنها ترد كثيرا فى عبارات كتّاب الدواوين، وأوّلنا ما يستطاع تأويله منها. أمّا الصعوبات التى صادفناها فى تصحيح هذا الجزء فإننا لم نكد نجد صفحة من أصوله التى بين أيدينا خالية من عدّة كلمات وعبارات محرّفة أو مصحّفة غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى زمن طويل، وبحث غير قليل، وتحفّظ من الخطإ، وحسن اختيار فى المحو والإثبات، وتفهّم لما يقتضيه السياق من المعانى والأغراض، ومعرفة بأساليب الكتّاب ومصطلحاتهم فى كل عصر، ليكون المحو والإثبات تابعين لما تقتضيه هذه الأساليب وتلك المصطلحات وخبرة بالكتب وأغراضها، ومكان الفائدة منها، لئلا يضيع الزمن فى البحث عنها وتصفّح جملتها. أمّا طريقتنا فى التصحيح فقد كنّا نقف بالكلمة المحرّفة أو العبارة المغلقة فنحملها على ما يستطاع حملها عليه من المعانى، ونقلّبها على ما تحتمله من الوجوه، ونقرأ مادّة الكلمة فيما لدينا من كتب اللغة، ونرجع إلى ما نعرفه من مظانّها، فاذا لم يستقم المعنى بعد ذلك قلّبنا حروفها بين التحوير والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والزيادة،

والإعجام والإهمال، حتى يستقيم المعنى ويظهر الغرض، منبهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللفظ ووجه اختيار غيره وإثباته مكانه. وقد تمّ طبع هذا الجزء فى عهد المدير الحازم، والمربىّ الفاضل، الأستاذ «محمد أسعد براده بك» مدير دار الكتب المصرية. فلا يسعنا فى هذا المقام إلا أن نشكره الشكر الجزيل على ما بذله ويبذله من العناية الصادقة بهذه الكتب، وما يسديه إلى مصححيها من الإرشادات القوية، والاراء السديدة. كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ «السيد محمد الببلاوى» مراقب إحياء الاداب العربيّة على حسن معاونته بما لديه من المعلومات الواسعة عن الكتب وأغراضها، والبحوث ومظانّها. ونسأل الله سبحانه حسن المعونة والتوفيق فى العمل. مصحّحه أحمد الزين

أسماء أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء وهى مرتبة على حروف المعجم ومبين فيها ما هو مطبوع فى غير مصر وما هو مخطوط أو مأخوذ بالتصوير الشمسى، ورقمه فى دار الكتب المصرية. أساس البلاغة، لجار الله أبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى. الأغانى، لأبى الفرج على بن الحسين الأصفهانى. إرشاد الأريب الى معرفة الأديب، وهو معجم الأدباء لأبى عبد الله ياقوت الرومى الحموى. أعيان العصر وأعوان النصر، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1091 تاريخ. الأمالى، لأبى علىّ القالى. الإرشاد الشافى على متن الكافى فى العروض والقوافى، وهو الحاشية الكبرى للسيد محمد الدمنهورى. أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد، لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى، لشهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلانى. إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطى، طبع أوربا.

الأحكام السلطانية، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب المعروف بالماوردى طبع أوربا ومصر. الأوائل، لأبى هلال العسكرى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2705 تاريخ. الأطعمة المعتادة، المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 51 علوم معاشية؛ ولم يعلم مؤلّفه. بدائع الزهور فى وقائع الدهور، المشهور بتاريخ مصر، لمحمد بن أحمد المعروف بابن إياس المصرى. تاريخ العينى، المسمى بعقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان، للحافظ بدر الدين محمود، المعروف بالعينى المأخوذ منه بالتصوير الشمسى نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1584 تاريخ. تاج العروس، وهو شرح القاموس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الحسينى الواسطى الزبيدى. تاج اللغة وصحاح العربية، لأبى نصر اسماعيل بن حمّاد الجوهرىّ الفارابى. التذكرة الصفدية، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، المحفوظ منها بدار الكتب المصرية بعض أجزاء مخطوطة تحت رقم 420 أدب. تاريخ أبى الفداء، وهو المختصر فى أخبار البشر، للملك المؤيد أبى الفداء، المعروف بصاحب حماة. تاريخ ابن الأثير، وهو المسمى بالكامل، لعز الدين على بن أبى الكرم المعروف بابن الأثير الجزرىّ، طبع ليدن. تاريخ الأمم والملوك، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، طبع أوربا.

تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى، طبع بغداد. التحفة السنية فى أسماء البلاد المصرية، لشرف الدين يحيى المعروف بابن الجيعان. الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى. الجامع لديوان الأدب، فى اللغة، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 25 لغة تأليف أبى ابراهيم اسحاق بن ابراهيم الفارابى. حاشية الخضرى، على شرح ابن عقيل على الفية ابن مالك. حاشية الصبّان، على شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك. الحاوى الكبير، فى الفقه، لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى المعروف بالماوردى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 82 فقه شافعى. خريدة القصر وجريدة أهل العصر، للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى. وهذا الكتاب مأخوذ منه بالتصوير الشمسى بعض أجزاء محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 4255 أدب. الخراج، ليحيى بن آدم بن سليمان القرشى. الخراج، لأبى يوسف يعقوب صاحب الإمام أبى حنيفة. خطط المقريزى، وهو المسمى بالمواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار. ديوان الشريف الرضىّ. ديوان جرير. ديوان الحماسة، لأبى تمّام حبيب بن أوس الطائى.

ديوان أبى الطيّب المتنبىّ. دائرة المعارف، للبستانى. درّة الغوّاص فى أوهام الخواصّ، تأليف أبى محمد القاسم بن على الحريرى. الروضتين فى أخبار الدولتين، لشهاب الدين أبى شامة المقدسى. روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، للسيد محمود بن عبد الله الألوسى البغدادى. زهر الآداب وثمر الألباب، لأبى اسحاق ابراهيم بن على المعروف بالحصرى القيروانى. سقط الزند، لأبى العلاء المعرّى. سيرة ابن هشام، وهو عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرىّ. سرح العيون، شرح رسالة ابن زيدون، لجمال الدين أبى بكر محمد بن محمد المعروف بابن نباتة المصرىّ. شرح التنوير على سقط الزند، لأبى يعقوب يوسف بن طاهر النحوىّ. شرح ديوان أبى تمّام حبيب بن أوس الطائى، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى؛ وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 50 أدب ش. شرح حماسة أبى تمّام، لأبى زكريا يحيى بن على المعروف بالخطيب التبريزى. شرح ديوان أبى الطيّب المتنبىّ، وهو المسمى بالتبيان لأبى البقاء عبد الله بن الحسين المعروف بالعكبرى. شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل، لشهاب الدين الخفاجى.

شرح كافية ابن الحاجب فى النحو، لرضىّ الدين محمد بن الحسن الإسترابادى النحوىّ. صبح الأعشى فى كتابة الإنشا، لشهاب الدين القلقشندى. صحيح البخارى. الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد، لكمال الدين أبى الفضل الإدفوى. طبقات الشعراء، تأليف أبى عبد الله محمد بن سلّام الجمحىّ البصرىّ، طبع أوربا. الطبقات الكبرى، لأبى محمد بن عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى. عيون الأخبار، لأبى محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينورى. العقد الفريد، لأحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبىّ. الفاضل من كلام القاضى الفاضل، اختيار جمال الدين أبى بكر المعروف بابن نباتة المصرىّ، وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 3882 أدب. القاموس، لمجد الدين الفيروزابادى. قوانين الدواوين، للأسعد بن مماتى. لسان العرب، لأبى الفضل جمال الدين المعروف بابن منظور الإفريقىّ المصرىّ. لزوم ما لا يلزم، لأبى العلاء المعرّى. مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار، لشهاب الدين المعروف بابن فضل الله العمرى القرشى؛ وهذا الكتاب مأخوذة منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2568 تاريخ. مغنى اللبيب، لجمال الدين بن هشام الأنصارى.

ملخّص تاريخ الخوارج، للشيخ محمد شريف سليم. المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى، لأبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى وهذا الكتاب محفوظة منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1113 تاريخ. المصباح المنير، لأحمد بن محمد المقرى الفيومى. المغرب فى ترتيب المعرب، لأبى الفتح ناصر بن عبد السيد المطرّزى. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى. المستطرف فى كل فن مستطرف، لشهاب الدين أحمد الأبشيهى. معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، لأبى الفتح عبد الرحيم العباسى. معيد النعم ومبيد النقم، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقى الدين السبكى، طبع أوربا. المعرّب والدخيل، للشيخ مصطفى المدنى، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 64 لغة. المعرّب من الكلام الأعجمى، لأبى منصور موهوب المشهور بالجواليقى، طبع أوربا. معجم البلدان، لياقوت، طبع أوربا. مقدّمة ابن خلدون. المعجم الفارسى الإنجليزى، تأليف ستاين جاس. مفاتيح العلوم، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمىّ، طبع أوربا.

مناقب الليث بن سعد، للحافظ أبى الفضل شهاب الدين أحمد الشهير بابن حجر العسقلانى. المخصّص، فى اللغة، لأبى الحسن على بن اسماعيل المعروف بابن سيده. مفردات الأدوية والأغذية، لضياء الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد الأندلسى المعروف بابن البيطار. نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، للأمير أبى المحاسن جمال الدين المعروف بابن تغرى بردى المأخوذ منه نسخة بالتصوير الشمسى محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1343 تاريخ. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لشمس الدين المعروف بابن خلّكان. يتيمة الدهر فى شعراء أهل العصر، لأبى منصور عبد الملك بن محمد الثعالبى النيسابورى.

الجزء الثامن

الجزء الثامن [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] [تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و ... ] [تتمة الباب الرابع عشر في الكتابة وما تفرع من أصناف الكتاب] [تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام] [تتمة ذكر كتابة الإنشاء وما اشتملت عليه] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر نبذة من كلام القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين أبى علىّ عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف [أبى المجد «1» علىّ] بن «2» الحسن بن الحسين ابن أحمد بن اللّخمىّ الكاتب المعروف بالبيسانىّ- رحمه الله تعالى- إليه انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرّت أبناء البيان واعترفت، ومن بحر علمه رويت ذو والفضائل واغترفت؛ وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها «3» ، وبين يديه استقرّت «4» بها نواها؛ فهو كاتب الشرق والغرب فى زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل فى مصره وغير مصره؛ ورافع علم البيان لا محاله، والفاصل بغير إطاله؛ وقد أنصف بعض الكتّاب فيه، ونطق من تفضيله بملء فيه؛ حيث قال:

كلّ فاضل بعد الفاضل فضله، وكلّ قد عرف له فضله؛ وستقف إن شاء الله من كلامه على السحر الحلال، فتروى صداك من ألفاظه بالعذب الزّلال؛ فمن ذلك قوله: وافينا «1» قلعة نجم [وهى «2» نجم] فى سحاب، وعقاب فى عقاب «3» ؛ وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة اذا خضبها الأصيل كان الهلال لها «4» قلامه. ومن رسائله ما كتب به الى النظام أمير حلب: ورد كتاب المجلس السامى- حرس الله به نظام المجد [وأطلق فيه «5» لسان الحمد] ، ودامت مساعيه مصافحة ليد السعد، وأحسن له التدبير فى اليومين: من قبل ومن بعد- فمرحبا بمقدمه، وأهلا بمنجمه؛ والشوق تختلف وفود «6» صروفه، وتتنوّع صنوف ضيوفه؛ فلا بد أن تتبعّض اذا تبعّضت المسافات، وتبرد وتخمد اذا عبّدت «7» ودنت الطّرقات؛ ولو بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السائر، بالكتاب الصادر، والخيال الزائر، بالحبيب العاذر، والنسيم الخاطر، من رسائل الخواطر؛ وقد وجدت عندى أنسا لا أعهده؛ وعددت نقص البعد أحد اللقاءين، كما كنت أعدّ زيادة البعد أحد النأيين؛ فزاده الله من القلوب

حظوه، ولا أخلاه من بسط يد وقدم فى حظّ وحظوه «1» ؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار اليه وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدى وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطرى وما أعدّه اليوم خاطرا؛ ومما أسرّ به أن يكون فى الخدمة السلطانية- أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها- من يكثّر قليلى، ويشفى فى تقبيل الأرض غليلى، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلى؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان لأروانى، ولو استضاء بلمعة فى الشرق وأنا فى الغرب لأرانى؛ كما أنّ الصّديق اذا مسّته نعمة وجب عنها شكرى، واذا وصلت اليه يد منعم وصلتنى وتغلغلت الىّ ولو كنت فى قبرى. ومنها: وأعود الى جواب الكتاب، الأخبار لا تزال غامضة إلى أن يشرحها، ومقفلة إلى أن يفتحها؛ بخلاف حالى مع الناس، فإن القلوب لا تزال سالمة إلا أن يجرحها، والهموم خفيفة إلا أن يرجّحها؛ والحقّ من جهته ما تحقّق، وما استنطق بشكر من أنطق؛ وفى الخواطر فى هذا الوقت موجود يجعلها [فى «2» ] العدم، ويخرجها من الألم الى اللّم «3» ، ويعادى بين الألسنة والأسماع وبين العيون والقلم؛ وكلّما قلّت الحيلة المشكوك فى نجحها، فتح الله باب الحيلة المطموع فى فتحها؛ وهى من فضل الله سبحانه والاستجارة بالاستخاره، فتلك تجارة رابحة وكلّ تجارة لا تخلو من خساره؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن [بنيه «4» ] حلّى زماننا، وشنوف إيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رءوسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛

ولو تفرّغت العزمة الفلانية لهذا الكلب العدوّ فترجم كلبه، وتكفّ غربه؛ وتذيقه وبال أمره، وتطفئ شرار شرّه، وتعجّل له عاقبة خسره؛ فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وفلّ جموعهم وفضّهم؛ وما وجد من يكفى فيه ويكفّه، ويشفى الغليل منه بما يشفّه «1» ؛ ولو جعل السلطان- عزّ نصره- غزو هذا الطاغية مغزاه «2» ، وبلاده مستقرّ عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه؛ ولأبقى ذكرا، وأجرى فى الصحيفة أجرا؛ ولأطفأ الحقد الواقد، بالحديد البارد، وغنم المغنم البارد، وسدّد الله ذلك العزم الصادر والسهم الصارد «3» ؛ فلا بدّ أن يجرى سيّدنا هذا الذكر، ولو لما أحتسبه أنا من الأجر؛ وما أورده المجلس عن فلان من صفو شربه، وأمن سربه؛ واستقراره تحت الظلّ الظليل السلطانى- جعله الله ساكنا، وأحلّه منه حرما آمنا- ومن معافاته فى نفسه وولده وجماعته، وأهل ولائه وولايته، فقد شكرت له هذه البشرى، وفرحت بما يسّر الله ذلك المولى له من اليسرى؛ غير أنى أريد أن أسمع أخباره منه لا عنه وبمباشرته لا باستنابته، فلا عرفت مودّته من المودّات الكسالى، ولا أقلامه إلا بلبس السواد- على أنها مسرورة سارّة لا ثكالى؛ واذا قنع صديقه منه بفريضة حجيّة، لا تؤدّى إلا فى ساعة حوليّه، فإن يبخل بها ذلك الكريم فقد انتحل الاسم الآخر- أعاذه الله منه، وصرف عنه لفظه كما صرف معناه عنه؛ وللمودّة عين لا يكحلها اذا رمدت إلا إثمد مداد الصديق، وما فى الصبر وسع لصحبة أيام العقوق بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغنى أنّ ولد المذكور نزع «4» وترعرع، ونفع

وأينع؛ وخدم فى المجلس السلطانىّ، فسررت بأن تجمع فى خدمته الأعقاب والذّرارى؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يدها سحابا ولا من جنابها ربيعا؛ وقد فتح سيّدنا بابا من الأنس ونهجه، وأوثر ألّا يرتجه؛ بمكاتباته التى يده فيها بيضاء، ويد الأيام عندى خضراء؛ بحيث لا يستوفى على الحساب، فى كل جواب؛ وأنا فى هذه الأحوال أوثر العزلة وأبدأ فيها بلسانى وقلمى، وأتوخّى أن أشبّه حالة وجودى بعدمى؛ فإنى أرى من تحتها أروح ممن فوقها، ومن خرج منها أحظى ممن أقام بها؛ وللمودّات مقرّ ما هو إلا الألسنه، والقلوب قضاة لا تحتاج الى بيّنه. وكتب [جوابا «1» ] أيضا الى آخر وهو: وقفت على كتاب الحضرة- يسر الله مطالبها وجمّل عواقبها، وصفّى من الأكدار مشاربها، وحاط من غير الأيّام جوانبها، ووسّع فى الخيرات سبلها ومذاهبها؛ ووقاها ووقى ولدها، وأسعدها وأسعد يومها وغدها؛ وجمع الشمل بها قريبا، وأحدث لها فى كلّ حادثة صنعا غريبا- من يد الحضرة الفلانيّة- لا عدمت يدها ومدّها، وأدام الله سعدها- وشكرت الله على [ما «2» ] دلّ عليه هذا الكتاب من سلامة حوزتها «3» ، ودوام نعمتها؛ وسبوغ كفايتها؛ وسألته سبحانه أن يصحّ جسمها، ويميط همّى وهمّها؛ فهما همان لا يتعلّقان إلا بخدمة المخدوم- أجارنا الله فيه من كلّ هم، وأجرى بتخصيصه السعد الأعمّ، واللّطف الأتمّ- وعرفت ما أنعمت بذكره من المتجدّدات بحضرته، ومن الأمور الدالّة على سعادته وقوّته؛ وللأمور أوائل وأواخر، وموارد ومصادر؛ فنسأل الله سبحانه أن يجعل

العواقب لكم، والمصادر إليكم، والنعمة عندكم، والنّصرة خاصّة بسلطانكم، والكفاية مكتنفة بجماعتكم «1» ؛ وقد قاربت الأمور بمشيئة الله أن تسفر وجوهها، والخواطر أن يستروح مشدوها «2» ، «إنّ الله لذو فضل على النّاس» وفى كلّ أقدار الله الخيرة، وفى حكمته أنه جعل الخيرة محجوبة تحت أستار الأقدار؛ وقد علم الله تقسّم فكرى لما هى عليه من المشقّات المحمولة بالقلب والجسد، والأمور الحاضرة فى اليوم والمستقبلة فى غد؛ وهى فى جانب الخير، والخير يعمّ الوكيل لصاحبه، ومن أصلح جانبه مع الله كان الله جديرا بإصلاح جانبه. ومنه: وعليه السلام الطيّب الذى لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق؛ وكتبها الكريمة إن تأخّرت فمأموله، وان وصلت فمقبوله؛ وان أنبأت بسارّ فمشهوره وان أنبأت بشرّ فمستوره؛ وخادمها فلان يخدم مجلسها خدمة الخادم لمخدومه، ويكرر التسليم على وجهه الكريم المحفوف من كلّ قلب بحبّه، ومن كلّ سلام بتسليمه. وكتب أيضا: وصل كتاب الحضرة- وصل الله أيّامها بحميد العواقب، وبلوغ المآرب، وصحبت الدهر [على خير «3» ما صحبه صاحب] ، وأنهضنا بواجب طاعته، فإنه بالحقيقة الواجب- وكلّ واجب غيره غير واجب- من يد فلان، فرجوت أن يكون طليعة للاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذى هو كعود الشباب لو يعود الشباب؛ وأعلمنى من سلامة جسمها، وقلبها من همّها؛ ما شكرت الله عليه، واستدمت العادة الجميلة منه، وسألته أن يوزعها «4» شكر النعمة فيه؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلّها

تشهد بتوفيق سلطاننا، وبأيّامه التى تعود بمشيئة الله بإصلاح شانه وشاننا؛ والذى مدّه ظلّا، يمدّه فضلا؛ فالفضل الذى فى يديه، فى يخلق الله الذى أحالهم فى الرزق عليه؛ فكيفما دعونا لأنفسنا، وكيفما كانت أسنّة رماحه فهى نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التى هى أيام أعيادنا، ولا لياليه التى هى ليالى أعراسنا. ومن أجوبته: ورد على الخادم- أدام الله أيام المجلس وصفّاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذى هو كالظاهر كلاهما المستقيم؛ ولا تزال الأخبار عنّا محجمه، والأحاديث مستعجمه؛ والظنون مترجّحه «1» ، والأقوال مسقمة ومصحّحه؛ الى أن يرد كتابه فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويتّضح الحالى ويفتضح العاطل؛ ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير ناقل «2» ؛ فتدعو له الألسنة والقلوب وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب؛ والشجاعة شجاعتان: شجاعة فى القلب وشجاعة فى اللسان؛ وكلتاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مروىّ ومسموع؛ وذخائر الملوك هم الرجال، وآراء الحزماء هى النصال، ومودّات القلوب هى الأموال، ومجالس آرائهم هى المعركة الأولى التى هى ربما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يمدّ المسلمين به حال تجمّعهم على جهاد الكفّار، ويلهمهم أن يبذلوا فى سبيله النفس والسيف والدّرهم والدينار؛ ويزيل ما فى طريق المصالح من الموانع، ويفطم السيوف عن الدّماء الإسلاميّة ويحرّم عليها المراضع؛ ويجعل للمجلس فى ذلك اليد العليا، والطريقة المثلى، ويجمع له بين خيرى الآخرة والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها

وتمادى غيبته عن مباشرة شانها؛ على ما لم يشهد مثله فى أوقات السكون فكيف فى أوقات القلق، على من يحفظ الله به من فى البلاد من الجموع ومن فى الطّرقات ومن الرّفق؛ والأمير الولد صحيح فى جسمه وعزمه، متصرّف فى مصالحه على عادته ورسمه؛ جعله الله نعم الخلف المسعود، وأمتعه بظلّ المجلس الممدود، فى العمر الممدود؛ وعرف الخادم أن المجلس ناب عنه مرّة بمجلس فلان ويشكر على ما سلف من ذلك المناب، ويستزيد ما يستأنفه من الخطاب؛ والبيت الكريم أنا فى ولائه وخدمته كما قيل: إنّ قلبى لكم لكالكبد الحرّى ... وقلبى لغيركم كالقلوب يسرّنى أن يمدّ الله ظلّهم، وأن يجمع شملهم؛ كما يسوءنى أن تختلف آراؤهم ولا تنتظم أهواؤهم؛ وهذا المولى يبلغنى أنه سدّ وساد، وجدّ وجاد، وخلف من سلف من كرام هذا البيت من الآباء والأجداد؛ واشتهرت حسن رعايته لمن جعله الله من الرعايا وديعه، وحسن «1» عنايته بمن جعله الله له من الأجناد شيعه؛ وإذ بلغنى ذلك سررت له ولابنه ولجدّه، وعلمت أنه لم يمت من خلّفه لإحياء مجده؛ ومن استعمله بحسن فقد أراد الله به حسنا، ومن أحسن إلى خلق الله كان الله له محسنا؛ إن الله أكرم الأكرمين، وأعدل العادلين؛ وكتب المجلس السامى ينعم بها متى خفّ أمرها، وتيسّر حملها، وتفرّغ وقته لها؛ والثقة حاصلة بالحاصل من قلبه، وعاذرة وشاكرة فى المبطئ «2» والمسرع من كتبه؛ ورأيه الموفّق إن شاء الله تعالى. وكتب: ورد كتاب الحضرة السامية- أحسن الله لها المعونه، ويسّر لها العواقب المأمونه، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونه- بخبر خروج الخارج

من قلعة كذا، وما صرّح به من الخوف الذى ملأ الصدور، والاستحثاث فى مسير العسكر المنصور؛ وكلّ ضيقة «1» وردت على القلوب ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه وأذكى لها اليقين سرجه؛ ولم تشرك معه غيره مستعانا، ولم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما الضّيقة وإن كانت منذرة إلا مبشّره، والخطة وإن كانت وعرة إلا ميسّره؛ لا جرم أن هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان- نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته- فاستنهض العساكر، وقوتل العدوّ الكافر؛ فنفّس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم، بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ تتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويزول من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره بين المسلمين من الخلاف؛ ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان [من فساد «2» ] أعدائه فى أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذى هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول. ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التى شحنها «3» ، والحصون التى حصّنها؛ والأسلحة التى نقلها إليها، والأفوات التى ملأ بها عيون مقاتلتها وأيديها؛ فإن الله يمنّ عليه بأن يسّره لهذه الطاعه، ورزقه لها الاستطاعه؛ فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه وفتح عليه بابا من الخير وصرفه عنه؛ لا جرم أنه وفّى قوما أجرهم بغير حساب، ووقف

قوما بموقف مناقشة الحساب، الذى المصرف عنه إلى ما بعده من العذاب؛ الآن والله ملّك الملك العادل ماله الذى أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذى رزقه؛ وشتّان بين الهمم: همّة ملك ذخر ماله فى رءوس القلاع لتحصين الأموال، وهمّة ملك أودع ماله فى أيدى المقاتلة لتحصين القلاع يبنى الرجال وغيره يبنى القرى ... شتّان بين مزارع ورجال والحمد لله الذى جعل ماله له مسرّه، يوم يرى الذين يكنزون الذهب والفضّة المال عليهم حسره؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمّة إن كان عند «1» الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه؛ إلا تلقّاه شاكرا لهذا السلطان شاهدا بما يولى هذه الأمّة من الإحسان، «وفى ذلك فليتنافس المتنافسون» سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم [القيام «2» ] بمفترض برّه ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أنّ الحضرة تفرد لى شطرا من [زمانها المهم، لكتاب تلقيه «3» الىّ، وخبر سارّ تورده علىّ؛ وأنا أفرد شطرا من] زمانى لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله فى جميع أمرها، فإن الذّاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها؛ ورأيه الموفّق فى أن يجرينى على كنف العادة، و [لا «4» ] يقطع عنى هذه المادّة؛ إن شاء الله تعالى. وكتب: ورد كتاب المجلس السامى- نصر الله عزائمه، وأمضى فى رءوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واستردّ به حقوق الإسلام من

الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته فى سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه- وكان العهد به قد تطاول، والقلب فى المطالبة ما تساهل، ولمحت أشغاله بالطاعة التى هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل؛ فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل فى سبيل الله ما أنفقه وعافى الجسم الذى أنضاه فى جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا فى طاعة من خلقها، وجسما فى طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التى أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النفقات التى تجرى على أيديكم مهور الحور فى دار القرار؛ قال الله سبحانه فى كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وأما فلان وما يسّره الله له، وهوّنه عليه، من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقّات واحتماله، وإقدامه فى موقف الحقائق قبل رجاله؛ فتلك نعمة الله عليه، وتوفيقه الذى ما كلّ من طلبه وصل اليه؛ وسواد العجاج فى تلك المواقف، بياض ما سوّدته الذنوب من الصحائف «يا ليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما» فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك المرجفات «1» ؛ وقد علم الله سبحانه وتعالى منّى ما علم من غيرى من المسلمين من الدعاء الصالح فى الليل إذا يغشى، ومن الذكر الجميل لكم فى النهار إذا تجلّى؛ والله تعالى يؤيّد بكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التى لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم؛ ويعيدكم إليها سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنه على كل شىء قدير. وكتب: وصل كتاب الحضرة السامية- أيد الله عزمها، وسدّد سهمها وجعل فى الله همّها، ووفّر فى الخيرات قسمها- مبشّرا بالحركة الميمونة السلطانيّة

إلى العدوّ خذله الله، ومسير المسلمين- نصرهم الله- تحت أعلامه أعلاها الله؛ ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود اليه؛ وهذه مقدّمة لها ما بعدها، وهى وان كانت نصرة من الله فما نقنع بها وحدها فالهمّة العالية [السلطانيّة] للحرب التى تسلب الأجسام رءوسها، والسيوف حدّها؛ فإن الجنّة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجّه الى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أن الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثمن وتشترى بالشهوات؛ والحضرة السامية نعم القرين ونعم المعين، وفرض ذى اللهجة المبين، أن يستجيش ذا القوة المتين، وكلمة واحدة فى سبيل الله أنمى من ألوف المقاتلة والمئين؛ والله تعالى يوسّع إلى الخيرات طرقها، ويطلق بها منطلقها، ويمتع الإخوان بخلقها الكريم فما منهم إلا من يشكر خلقها؛ ورأيها الموفّق فى إجرائى على العادة المشكورة من كتبها، وإمطارى من خواطرها، لا عدمت صوب سحبها. ومن كتاب كتبه الى القاضى محيى الدين بن الزكىّ: بعد أن أصدرت هذه الخدمة الى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه؛ وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصالح وأوائله، وعادى الله عدوّه ودلّ سهامه على مقاتله-[ورد كتاب «1» منه فى كذا وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيّدنا يقابله] بمثله، ولا العتاب فإن سيدنا يساجله بأفيض من سجله؛ ولا ألقى عليه من قولى قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليّا

جليلا؛ فقد شبّ «1» عمرو عن الطّوق، وشرف البراق عن السّوق؛ وذلك العمرو «2» ما برح محتنكا «3» والطّوق للصّبىّ، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنّبىّ؛ ومع هذا فلا تقلّص عنّى هذه الوظيفه، واعتقدها من قرب الصحيفه؛ فإنك تسكّن بها قلبا أنت ساكنه وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه. وكتب إلى العماد: كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه ولا قطع عنه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدنيا خطّ قلمه وخطو قدمه؛ وأعاذنا الله بنعمة وجوده من شقوة عدمه- تأخّرت وشقّ علىّ تأخّرها، وتغيّرت علىّ عوائدها والله يعيذها مما يغيّرها؛ ثم جاءت ببيت ابن حجاج: غاب ما غاب ووافا ... نى على ما كنت أعهد «4» وأجبته ببيت الرّضىّ: ومتى تدن النوى بهم ... يجدوا قلبى كما عهدوا كتابة لا ينبغى ملكها إلا لخاطره السليمانىّ، وفيض لا يسند إلا عن «5» نوح قلمه

الطّوفانىّ، أوجبت على كل بليغ أن يتلو، «ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانىّ» وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل ألّا يتعاطى ما لم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيّدنا ويقول حطّه؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة فقد كدت أسكر لما استخرجته من تلك المحاسن التى لو أن الزمان الأصم يسمع لأسمعته، ولو أن الحظّ الأشم يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنه لا يشنأ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقيّة التى مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسّرت راحة جسمه، فينبغى أن يقتدى به قلبه فى راحة من همّه؛ وأعراض الدنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلا فهذه الدنيا وهدة إليها مصاب المصائب؛ والحال التى هو الآن عليها عاكف [إلا «1» ] من علم يدرسه، وأدب يقتبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه؛ هى خير الأحوال، فالواجب الشكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها؛ وما ينقص شىء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ فلا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدى التى لا تؤدّى، ولا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدّى، وهى إحدى ما تعلّقت به الشهوات من اللذّات، وهو ينعم بها على عادته فى كفّ ضراوة القلب ودفع عاديته؛ موفّقا إن شاء الله تعالى. وكتب إلى القاضى محى الدين بن الزكىّ أيضا: كان كتابى تقدّم الى المجلس السامى- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه ونعمة يسره؛ وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جدّه وأصعده، وأحضره أمثال العام المقبل وأشهده؛ ولا زال يلبس الأيّام ويخلعها، ويستقبل الأهلّة ويودّعها

وهو محروس فى دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدهر بدرع يقينه، كاشف لليل الخطب بنور جبينه، وليوم الجدب بفيض يمينه؛ وأعماله مقبوله، ودعواته على ظهر الغمام محموله؛ والدنيا ترعاه وهى تأتى «1» برغمها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدى عدّة من المسافرين، ولثقتى بهم ما قدّرت «2» أسماءهم، ولضيق صدرى بتأخير كتب المجلس ما حفظتها. وجاء منها: وما كأنا إلا أن دعونا الله سبحانه دعوة الأوّلين أن يباعد بين أسفارنا، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا؛ فأجيبت الدّعوه، ولا أقول لسابق الشّقوه، ولكن للاحق الحظوه؛ فإن مكابدة الأشواق الى الأبرار، تسوق الى الجنّة ولا تسوق إلى النار، وأقسم اننى بالاجتماع به فى تلك الدار، أبهج منى بالاجتماع به لو أتيح فى هذه الدار؛ فعليه وعلىّ من العمل ما يجمع هنا لك سلك الشمل ويصل جديد الحبل؛ فثمّ لا يلقى العصا إلا من ألقى هنا «3» العصيان، وهناك لا تقرّ العين إلا ممن سهرت منه هاهنا العينان؛ فلا وجه لجمع اسمى مع اسمه فى هذه الوصيّة مع علمى بسوء تقصيرى، وخوفى من سوء مصيرى، ولكن ليزيد سيّدنا من وظائفه وعوارفه،- فكلّ فعله تفضّل من فضله- ما يخلّصنى بإخلاصه فإننى أستحق شفاعته لشفعة جوار قلبى لقلبه، وهذا معنى ما بعث على شغل الكتّاب به، مع علمى باستقرار نفسه النفيسة، إلا أنه- أبقاه الله- قد أبعد عهدى من كتبه ما يقع التفاوض فيه، والمراجعة عنه؛ والخواطر فى هذا الوقت منقبضه، والشواغل لها معترضه، وأيام العمر فى غير ما يفرض من الدنيا للآخرة

منقرضه؛ ومتجدّد نوبة بيروت قد غمّت كلّ قلب، وهاجت المسلمين أشواقا الى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كلّ ذاكر، وأخذ الناس فى الترحّم على أوّل هذا البيت والدعاء للحاضر والآخر- وليس إن شاء الله بآخر، فما ادّخر المولى لهذه الحرب مجهودا، ولا فلّلت عسكرا مجرورا ولا مالا ممدودا فإن كان ذنبى أنّ أحسن مطلبى ... إساة ففى سوء القضاء لى العذر ومنه: وسيّدنا يستوصى «1» بالدار بدمشق فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار؛ وأنا أعلم أن سيّدنا فى هذا الوقت مشدوه الخاطر عن الوصايا، ومشغول اللسان بتنفيذ ما ينفّذه مما هو منتصب له من القضايا؛ فما فى وقته فضلة ولكن فضل، وسيّدنا يحسن فى كلّ قضيّة من بعد كما أحسن من قبل؛ فهو الذى جعل بينى وبين الشام نسبا [وأنشأنى فيه الى أن ادّخرت «2» عقارا ونشبا] فعليه أن يرعى ما أقناه «3» ، وينفى الشّوك عن طريق اليد إلى جناه؛ والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره؛ يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعى يومه ما يكذّبه فيه غده؛ وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّى ألفاظا مجهولة ما كنت أسمح بأن أعرفها، وكشف مستورا من أسباب الحرج ما يسرّنى أن أكشفها لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وأسوأ خلقا من السيّىء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق؛ وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت الكتاب عليه لينشر، والسرّ عند سيّدنا ميت وهو يقضى حقّه بأن يقبر.

وكتب: أدام الله أيام المجلس وخصه من لطفه بأوفر نصيب، ومنحه من السعادة كلّ عجيب وغريب، وأراه ما يكون عنه بعيدا مما يؤمّله أقرب من كلّ قريب- الخادم يخدم وينهى وصول كتاب كريم تفجّرت فيه ينابيع البلاغه، وتبرّعت [له «1» ] بالحكم أيدى البراعه؛ وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب ولأعدائه كلّ شهاب واصب «2» ، وتجلّى فما الغيد الكواعب؛ وما العقود فى التّرائب، وتفرّق منه جيش الهمّ فانظر ما تفعل الكتب فى الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظما، وما كحل به إلا ناظره الذى عشى عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره- صلّى الله عليه وسلّم- حين نجا أعظم يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التى تنهلّ بالأنواء وتجزل سوابغ النعماء؛ وتعطى أفضل عطاء يسرّها فى القيامه، وتحوز به أفضل أنواع الكرامه؛ فأما شوقه لعبده فالمولى- أبقاه الله- قد أوتى فصاحة لسان، وسحب ذيل العىّ على سحبان؛ ولو أنّ للخادم لسانا موات «3» ، وقلبا يقال له هى «4» هات؛ لقال

ما عنده، وأذكر عهده وودّه؛ وباح بأشواقه، وذمّ الزمن على اعتياقه؛ وأما تفضّله بكذا فالخادم ما يقوم بشكره، ولا يقدّره حقّ قدره؛ وقد أحال «1» مكافأة المجلس على ملىء «2» قادر، ومسرّة خاطرة عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنىّ يملأ إناه، ويوضح هداه؛ ولا يخلى المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده إن شاء الله تعالى. ومن مكاتباته يتشوّق الى إخوانه وأودّائه، ومحبّيه وأوليائه- كتب إلى بعضهم: أأحبابنا هل تسمعون على النوى ... تحيّة عان أو شكيّة عاتب ولو حملت ريح الشّمال إليكم ... كلاما طلبنا مثله فى الجنائب أصدر العبد هذه الخدمة وعنده شوق يغور به وينجد، ويستغيث من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد؛ ويتعلّل بالنسيم فيغرى ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السّلوان فيعيدها الوجد فى قبضة الإطراق؛ أسفا على زمن تصرّم، ولم يبق إلا وجدا تضرّم، وقلبا فى يد البين المشتّ يتظلّم ليالى نحن فى غفلات عيش ... كأنّ الدّهر عنّا فى وثاق فلا تنفّس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيّده بشكره، ولا سار فى قفر إلا شبّه برحيب صدره، ولا أطلّ على جبل إلا احتقره بعلىّ قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتّحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنّهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره

سقى الله تلك الدار عودة أهلها ... فذلك أجدى من سحاب وقطره لئن جمع الشّمل المشتّت شمله ... فما بعدها ذنب يعدّ لدهره فكيف ترى أشواقه بعد عامه ... اذا «1» كان هذا شوقه بعد شهره بعيد قريب منكم بضميره ... يراكم «2» اذا ما لم تروه بفكره ترحّل عنكم جسمه دون قلبه ... وفارقكم فى جهره دون سرّه اذا ما خلت منكم مجالس ودّه ... فقد عمرت منكم مجالس شكره فيا ليل لا تجلب عليهم بظلمة ... وطلعة بدر الدين طلعة بدره ونسأل الله تعالى أن يمنّ بقربه ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح والزمن المناظر «3» بالقرب «4» مسامح؛ هنالك تطلق أعنّة الآمال الحوابس، ويهتزّ مخضرّا من السعود عود يابس وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... بأحسن ما كنا عليه بآيس وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه؛ ولكنه خاف أن يجنى ذنبا عظيما ويؤلم قلبا كريما ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا راض له بقليل «5»

وحاشى «1» جلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمه القوىّ فى حلبة الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه إلا أرقّ من مدامع غرماء الجفاء من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تقلقل الأحشاء وكتب أيضا فى مثل ذلك: كتب مملوك المولى الأجلّ عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكّر الأيام التى عذبت «2» قصارا، والليالى التى طابت فكأنما خلقت جميعها أسحارا وبى غمرة للشوق من بعد غمرة ... أخوض بها ماء الجفون غمارا وما هى إلا سكرة بعد سكرة ... اذا هى زالت لا تزال خمارا رحلتم وصبرى والشباب وموطنى ... لقد رحلت أحبابنا تتبارى ومن لم تصافح عينه نور شمسه ... فليس يرى حتى يراه نهارا سقى الله أرض الغوطتين «3» مدامعى ... وحسبك سحبا قد بعثت غزارا وما خدعتنى مصر عن طيب دارها ... ولا عوضتنى بعد جارى جارا أدار الصّبا لا مثل ربعك مربع ... أرى غيرك الربع الأنيس قفارا

فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة ... ولا خلت دار الملك بعدك دارا وما ضرّ اليد الكريمة التى أياديها بيض فى ظلمات الأيّام، وأفعالها لا يقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنّة والأقلام؛ لو قامت للمودّة بشرطها، ومحت «1» خطّ الأسى بخطّها؛ وكتبت ولو شطر سطر ففرّغت قلبا من الهمّ مشحونا، وأطلقت صبرا فى يد الكمد مسجونا؛ ونزّهت ناظر المملوك فى رياض منثورة الحلى، وحلّت عهوده بمكارم مأثورة العلا وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا ... ولكنه من غاب غاب نصيبه ولو غيركم يرمى الفؤاد بسهمه ... لما كان ممن قد أصاب يصيبه وما لى فيمن فرق الدهر أسوة ... كأن محبّا ما نآه حبيبه والمملوك مذ حطّت مصر أثقاله، وجهّز الشام رحاله؛ وألقت النوى عصاها وحلّت الأوبة عراها؛ يكتب فلا يجاب، ويستكشف «2» الهمّ بالجواب فلا ينجاب يا غائبا بلقائه وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب ومتى يصفّى الله ورد الحياة من التكدير، ويتحقّق بلقائه أحسن التقدير «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» . وزمان مضى فما عرف الأوّل ... إلا بما جناه الأخير أين أيّامنا بظلّك والشّم ... ل جميع والعيش غضّ نضير

وحوشى المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الرّى على «1» سربه، وأن ينسيه بإغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه الى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه «2» ؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتّحت عن الورد كمائمه، وكما توضّحت عن القطر غمائمه اذا سار فى ترب «3» تعرّف تربها ... بريّاه والتفّت عليها لطائمه «4» وقد تبع الخلق الكريم فى الإغباب والجفوه، وأعدت عزائمه قلبه فاستويا فى الغلظة والقسوه ان كنت أنت مفارقى ... من أين لى فى الناس أسوه وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمسارّه، وزمنه مقصورا على أوطاره- فما الذى شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطّعت وعوائقه قد ارتفعت؛ وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده قد عادت بعد الغضاضة رميما إن عهدا لو تعلمان ذميما ... أن تناما عن مقلتى أو تنيما وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا ينساه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده. وكتب أيضا: أكذا كلّ غائب ... غاب عمّن يحبّه غاب عنه بشخصه ... وسلا عنه قلبه

ولو أن لى يدا تكتب، او لسانا يسهب؛ أو خاطرا يستهلّ، أو فؤادا يستدلّ؛ لوصفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفّس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعاره من قبسه؛ أو ذكر محبّ حبيبا خاله خطر فى خلده، وتفادى من أن يخطر به ذكر جلده حتى كأنّ حبيبا قبل فرقته ... لا عن أحبّته ينأى ولا بلده بالله لا ترحموا قلبى وإن بلغت ... به الهموم فهذا ما جنى بيده ولولا رجاؤه أنّ أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرياح، وزيارة طيف يخلعها الصباح؛ لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم مسرّته أمدا؛ ولكنه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه أو عساه غنى فى يد الأحلام لا أستفيده ... ودين على الأيّام لا أتقاضاه ومن غرائب هذه الفرقه، وعوارض هذه الشّقة؛ أنّ مولاى قد بخل بكتابه وهو الذى يداوى به أخوه غليل اكتئابه، ويستعديه على طارق الهمّ إذا لجّ فى انتيابه كمثل يعقوب ضلّ يوسفه ... فاعتاض عنه بشم أثوابه وهب أنّ فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو فى ناضر عيش رائق؛ فما الذى عرض لمولانا حتى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبى لسهام إعراضه غرضا؟ بى منه ما لو بدا للشمس ما طلعت ... من المكاره أو للبرق ما ومضا «1» وما عهدته- أدام الله سعادته- إلا وقد استراحت عواذله، وعرّى «2» به أفراس

الصّبا ورواحله؛ إلا أن يكون قد عاد إلى تلك اللّجج، ومرض قلبه فما على المريض حرج؛ وأيّا «1» ما كان ففى فؤادى اليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسى أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها وانى لمشتاق اليك وعاتب ... عليك ولكن عتبة لا أذيعها والأخ النّظام- أدام الله انتظام السعد ببقائه، وأعدانى على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية إثر التحيّه، ووالهفى على تلك السجيّة السخيّة؛ وردت منها البابلىّ معتّقا، وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا خلائق إما ماء مزن بشهدة ... أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا «2» وقد اجتمعت آراء الجماعة على هجرانى، ونسوا كلّ عهد غير عهد نسيانى وما كنتم تعرفون الجفا ... فبالله ممّن تعلّمتم. وكتب أيضا: إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبت رفعته وبسط بسطته، ومكن قدرته، وكبت حسدته- فى وصف أشواقه إلى الأيام التى كانت قصارا وأعادت الأيام بعدها طوالا، والليالى التى جمعت من أنوار وجهه شموسا ومن رغد العيش فى داره ظلالا وجدت اصطبارى بعدهنّ سفاهة ... وأبصرت رشدى بعدهنّ ضلالا وإن أخذ فى ذكر ما ينطق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقده جنانه من من ثناء فصيح «3»

تعاطى منالا لا ينال بعزمه ... وكلّ اعتزام عن مداه طليح ولكنه يعدل عن هذين إلى الدعاء بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفى سماء الملّة بدرا، وفى ظلمات الحوادث فجرا؛ وأن يجمع الشّمل بمجلسه وعراص الآمال مطلوله «1» وسهام القرب على نحور البعد مدلوله، وعقود النوى بيد اللّقاء محلوله؛ «وما ذلك على الله بعزيز» . فقد «2» يجمع الله الشّتيتين بعد ما ... يظنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا وما رمت به النوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مواميها «3» ؛ إلا استنجد شوقه من الجفون هاميا، واستدعى من الزّفرة ما يعيد مسلكه من الجوانح داميا، وصدر عن منهل الماء العذب النمير ظاميا، وتعلّل بالأمانى فى الاجتماع «وآخر «4» ما يبقى الإياس الأمانيا «5» » والسلوة أن الطريق بحمد الله أسفرت «6» عن فضل اجتهاده، وفضيلة جهاده؛ ونصرة الإسلام، وإعلاء الأعلام؛ وخدمة المجلس الفلانى- أعزّ الله نصره، وأسعد بها جدّه، وبلغ بها قصده، وأمضى فى الكفر حدّه؛ وأورى بها للإسلام قدحا، وشرفت حديثا وشرحا، وأجهدت الأعداء إثخانا «7» وجرحا

وأبقى بها فى جبهة الدهر أسطرا ... اذا ما انمحى خطّ الكواكب لا تمحى اذا جاء نصر الله فالفتح بعده، وقد جاء نصر الله فليرقب الفتحا فأما الخادم فيودّ ألّا يزال لشرف محصّلا، ولتلك اليد الكريمة مقبّلا، وللغرّة المتهلّلة كالصباح مستقبلا محيّا اذا حيّاك منه بنظرة ... فتحت به بابا من اللطف مقفلا ويرى أن خير أوقاته ما كان فيه بالحاشية الفلانيّة مكاثرا، وتحت ظلال ألويتها سائرا فثمّ ترى معنى السعادة ظاهرا ... وثمّ ترى حزب الهداية ظاهرا والخادم يؤثر من المجلس المواصلة بالمراسم «1» [التى يعدّ أيامها «2» من المواسم] ، ويقابل بها أوجه المسارّ طلقة المباسم؛ ويرتقبها ارتقاب الصّوّام للأهلّه، والرّوّاد لمواقع السحائب المنهلّة. وكتب عن الملك الناصر صلاح الدين الى تقى الدين بن عبد الملك: سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلى بجنوب الغوطتين جنون وما ذكرتها النفس إلا استفزّنى ... الى طيب ماء النّير بين «3» حنين وقد كان شكّى فى الفراق مروّعى ... فكيف أكون اليوم وهو يقين

كم جهد ما تسلّى القلوب، وتسرّى «1» الكروب؛ لا سيّما إذا كان الذى فارقته أعلق بالأكباد من خلبها «2» ، وأقرب الى القلوب من حجبها؛ وهل يستروح إلا أن يفضّ ختام الدمع، ويخترق حجاب السمع، ويستغيث بسماء العيون ذات الرّجع «3» ، لتجود أرض الخواطر ذات الصدع؛ وهنا لك أوفى ما يكون الشوق جندا، وأورى ما يورى الوجد زندا إلى زفرة أو عبرة مستباحة ... لهذى مراح عنده ولذى مغدى وقد علم الله أنّى مذ فارقته ما دعانى الذكر إلا لبّيته بجواب من ماء الغليل غير قليل ولا ذكرت خلقه الجميل إلا ورأيت الصبر الجميل غير جميل وغير كثير فيه وجد كثير ... ولوعة قيس والتياح «4» جميل أهيم برسم فيك للمجد واضح ... وهاموا برسم للغرام محيل «5» وقد كتبت اليه حتى كاد يشيب له المداد، لو لم يخلع عليه الناظر حلّة السواد وحبّة الفؤاد، فما ردّ، وجار عن خلقه الكريم فإنه قطّ ما ودّ «6» وصدّ؛ وأوثر منه ألّا يحكم الفراق علىّ فيشتطّ، ولا يمكن اللوعة من مهجتى فتخبط «7» فجد لى بدرّ من بحارك إننى ... من الدمع فى بحر وليس له شطّ

بكفّ بها للحرب والسلم آية ... فيحيى لديها الخطّ أو يقتل «1» الخطّ ونسأل الله الرغبة فى اجتماع لا يكدر ورده، ولا ينثر عقده، ولا يعزب عن آفاق الوفاق سعده وما كان حكمى أن أفارق أرضكم ... ولكنّ حكم الله لسنا نردّه وكتب عنه أيضا إلى عز الدين فرّوخ شاه «2» : أحبابنا لو رزقت الصبر بعدكم ... لما رضيت به عن قربكم عوضا إنى لأعجب أنّى بعد فرقتكم ... ما صحّ جسمى إلا زادنى مرضا أنبيكم عن يقين أنّ قلبى لو ... أضحى مكان جناحى طائر نهضا هذا ولو أنه بالعهد فيك وفى ... لكان حين قضى الله الفراق قضى كتبت- أطال الله بقاء المولى الولد- عن قريحة قريحه «3» ، وإنسان مقلة جريح فى جريحه، ولوعة صريحه، وذكرة اذا ذكر الصبر كانت طريحه وليل بطىء طلوع الصبا ... ح شوقا الى القسمات «4» الصّبيحه أبحت فؤادى وأنت المباح «5» ... وما كان من حقّه أن تبيحه وما أصحبت «6» فى قتال العذول ... أعنّة قلب عليهم جموحه

معنّى بريح شمال الشآم ... لقد عذّب الله بالريح روحه فلا روّح الله من قربكم ... فؤادى بخطرة يأس مريحه ولولا التعلّل بأبنية المنى الخادعه، والنزول بأفنية الاسا «1» الواسعه؛ لتصدّعت أكباد وتفطّرت، وتجدّلت «2» أفراس دموع وتقطّرت «3» يا صاحبى إنّ الدموع تنفّست ... فدع الدموع تبيح ما قد أضمرت قد كنت أكتم عن وشاتى سرّها ... ولقد جرى طرف الحديث كما جرت لله ليلات قرنّ نجومها ... بل بدرها بوجوه عيش أقمرت أغلت على السّلوان شوقكم فما ... باعت كما أمر الغرام من اشترت ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّه، والطلعة العزيزة العزّيّه؛ ما ظفرت بشخصه نوما ولا بكتابه يوما فوا عجبا حتى ولا الطيف طارقا! ... وأعجب له «4» فى الحرب نثر كتائب بكفّ أبت «5» فى السّلم نظم كتاب ... يحاسبنى فى لفظة بعد لفظة ومعروفه يأتى بغير حساب ولو رضيت- وكلّا- بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا؛ لما رضى به لخلقه الرّضى، ولأخذ بقول الرّضىّ:

هبونى «1» أرضى فى الإياس بهجركم ... أترضى لمن يرجوك ما دون وصله والرغبة مصروفة العنان إلى الله أن يبيح من اللقاء منيعا، وينتج من اللّطف صنيعا لو تأخذون بساعة ... من وصلكم عمرى جميعا لرغبت فى أن تشترى ... ان كنت ترضى أن تبيعا ومفارقين مع الصّبا ... عزما «2» فهل أرجو الطلوعا «3» أقسمت لو رجعوا لأع ... قبنى الصّبا معهم رجوعا هبكم منعتم [قربكم «4» ] ... ولبستم بعدا منوعا أفتمنعون بكم ضلو ... عاقد شفين بكم ولوعا «5» ما غايتى إلا الدمو ... ع وأستقلّ لك الدموعا وكتب [أيضا رحمه «6» الله تعالى] يتشوق: فيا رب إن البين أنحت صروفه ... علىّ وما لى من معين فكن معى على قرب عدّالى وبعد أحبّتى ... وأمواه أجفانى ونيران أضلعى هذه تحيّة القلب المعذّب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذّب؛ أصدرتها الى المجلس وقد وقدت فى الحشى نارها، الزّفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها وفى الفؤاد ثارها:

لو زارنى منكم خيال هاجر ... لهدته فى ظلماته أنوارها أسفا على أيّام الاجتماع التى كانت مواسم لسرور الأسرار، ومباسم لثغور الأوطار؛ وتذكّرا لأوقات عذب مذاقها، وعذّب فراقها «1» ؛ وروّحت بكرها، وزوّعت ذكرها والله ما نسيت نفسى حلاوتها ... فكيف أذكر أنّى اليوم أذكرها ومذ فارقت الجناب النّورىّ- لا زال جنى جنابه نضيرا، وسنا سنائه «2» مستطيرا؛ وملكه فى الخافقين خافق الأعلام، وعزّه على الجديدين جديد الأيام؛ لم أقف منه على كتاب يخلف سواد سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظرى، ويقدم «3» ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سواد «4» خاطرى ولم يبق فى الأحشاء إلا صبابة «5» ... من الصبر تجرى فى الدموع البوادر وأسأله المناب «6» بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض؛ حيث تلتقى وفود

الدنيا والآخره، وتغمر البيوت العامرة المنن الغامره؛ ويظلّ الظلّ غير منسوخ بهجيره، وينشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره تظاهر فى الدنيا بأشرف ظاهر ... فلم ير أنقى منه غير ضميره كفانى عزّا أن أسمّى بعبده ... وحسبى هديا أن أسير بنوره فأىّ أمير ليس يشرف قدره ... إذا ما دعاه صادقا بأميره وإننى فى السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدى تهانئ تملأ يدى، ويودع بها عندى مسرّة تقتدح فى الشكر زندى عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة ... وما هو مثل الورد فى قصر العهد وأنا أرتقب كتابه ارتقاب الهلال لتفطر عين عن الكرى صائمه، وترد نفس على موارد الماء حائمه. وكتب أيضا يتشوّق: لا عتب أخشاه لقطع كتابكم ... واسمع فعذرى بعده لا يعتب مهما وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب كتب عبد حضرة مولاه- حرس الله سمّوه، وأدام مزيد علائه ونموّه «1» ، وقرن بالمسارّ رواحه وغدوّه، وكبت حاسده وأهلك عدوّه- عن سلامة ما استثنى فيها الدهر إلا ألم فراقه، وعافية موصولة بمرض قلب لا أرجو موعد إفراقه «2» لو لم يكن إنسان عينى سابحا ... لخشيت حين بكيت من إغراقه

وعندى اليه «1» وجد يكلم الضلوع، ويتكلّم بألسنة الدموع؛ والنفس قريبة استعبار، لذكر أوقات السرور القصار، وأنوارها التى يكاد سنا برقها يخطف الأبصار «2» . شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار «3» إذ العيش غضّ وريق، والمهج لم يتقسّمها التفريق، ولا سار منها إلى بلد فريق وبقى فى بلد فريق، ولا سقاها كؤوس وجد للجفون المترعة تريق ثملت منها ومالى ... سوى الغرام رحيق وإلى الله الشكوى من شوق فى الصّميم، وصبر راحل وغرام لا يريم، كأنه غريم زعموا أنّ من تباعد يسلو ... لا ومحيى العظام وهى رميم ولقد استغرب وصول الرفاق وقد صفرت من كتابه الكريم عيابهم، ولو زاره لعدّه تحفة الخصيص «4» بالتخصيص، وأدرك به بغية الحريص، ورأى للدّهر المذنب مزيّة التمحيص، وصال به على نوائب الأيام المنتابه صولة لا يجد عنها من محيص وحسبتنى لوصوله ... يعقوب بشّر بالقميص

هنالك يرتع فى تلك الرّياض التى غصونها أسطارها، وشكلها أطيارها، وألفاظها نوّارها، ومعانيها ثمارها، وبلاغتها أنهارها، وجزالتها تيارها إن أظلمت للنفس فيها ليلة ... قمر المعانى عندنا سمسارها «1» ويتلقّاه قبل يده بقلبه، ويكاد يسبق ضميره إلى أكله وشربه ويظنّه والطرف معقود به ... شخص الرقيب «2» بدا لعين محبّه وإذا ضنّ مولاه بمأثوره، جاد عليه بميسوره؛ ... «3» فكأنّنى أهديت للشمس السّنا ... وطرحت ما بين المصاحف دفترا وعلى كلّ حال فيسأله أن يواصله من مراسمه بما ينتظره ناظره ليجد نورا، وقلبه ليستشعر به سرورا، وخاطره ليجعله بينه وبين الهمّ سورا؛ وألّا يخلى رفقة من كتاب ولو بالقلائد القلائل من درر أقلامه، ودرارىّ كلامه. وكتب: لو استعار الخادم- أدام الله نعمة المجلس- أنفاس البشر كلاما، وأغصان الشجر أقلاما؛ وبياض النهار أطراسا، وسواد الليل أنفاسا «4» ؛ ما عبّر عن الوجد الذى عبّرت عنه عبراته، ولا عن الشوق الذى لا يستثير مثله معبدا «5»

إذا هزجت «1» فى الثقيل الأوّل نبراته «2» ؛ أسفا على ما عدمه فى هذه الطريق، من ذلك المحيّا الطّليق، والخلق الذى هو بكل مكرمة خليق، والصفات التى يحسن بها كلّ حسن ويليق، ويعذر كلّ جفن يسفح ذخيرته شوقا إليها ويريق قفا أو خذا فى العذل أىّ طريق ... فما أنا من سكر الهوى بمفيق أما والهوى إنّ الهوى لأليّة ... يعظّمها فى الحبّ كلّ مشوق لو أنّ الهوى مما تصحّ هباته ... لقاسمت منه قلب كلّ صديق وما زار ناظر خادمه الكرى إلا تمثّل له مولاه طيفا يهمّ أن يتعلّق بأذياله، وقبل تمويه ناظره على قلبه فى وصاله وودّ أن سواد الليل مدّ له ... وزاد فيه سواد القلب «3» والبصر ولقد وجد طعم الحياة لبعده مرّا، وقال بعده للذّتى العين والقلب: مرّا وها هو يرجو فى غد [وعد «4» ] يومه ... لعلّ غدا يأبى «5» لمنتظر عذرا وإلى الله سبحانه وتعالى يرغب أن يجعله بالسلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا «6» ، وعنان الصّروف عن فنائه مصروفا، ووفود الرجاء على أرجائه عكوفا؛ وأن يمتع الوجه «7» بوصفه الذى هو أشرف من كلّ وجه موصوفا

من كان يشرك فى علاك فإنّنى ... وجّهت وجهى نحوهنّ حنيفا وقد «1» كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه؛ ويجتنى ثمر السرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخّر ولم يحدث له التأخير ظنّا، ولا صرفه [عن] أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا ولو تصرف السحب الغزاز عن الثّرى ... لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى وهو ينتظر من الأمر والنهى ما يكون عمله بحسبه، ويثبت له عهد الخدّام بنسبه ومن عجب أنّى أحنّ إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معى وتطلبهم عينى وهم فى سوادها ... ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى. وكتب أيضا: كتبت والعبرات تمحو السطور، ويوقد ماؤها نار الصدور ويهتك «2» وجدا كان تحت السّتور، ويرسل من بين أضلعى نفس الموتور قد ذكرنا عهودكم بعد ما طالت ... ليال من بعدها وشهور عجبا للقلوب كيف أطاقت ... بعدكم! ما القلوب إلّا صخور وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدى وقدا لا بردا، ولا تعرّضت لنفحات النسيم إلا أهدى إلىّ جهدا، ولا زارنى طيف الخيال إلا وجدنى قد قطعت طريقه سهدا، ولا خطف «3» لى البارق الشّامىّ إلا باراه قلبى خفوقا ووقدا وأيسر ما نال منّى الغليل ... ألا أحسّ من الماء بردا

فسقى الله داره ما شربت [من «1» ] الغمام، وأيّامنا بها وبدور ليالى تلك الأيّام تمام ذمّ اللّيالى «2» بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام «3» وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والربيع أو أبهر نورا، والنجم أو أعلى طورا، والماء الزلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلى، وجعلت سطوره قبلى «4» بل قبلى «5» ، ووردت منه موردا أهلا به وعلى الإظماء «6» أنشده ... لو بلّ من غللى أبللت من عللى إلا أنه- أبقاه الله- ما عزّزه «7» بثان، ... ولا آنس غريبه، وإنى وإيّاه غريبان وكم ظلّ أو كم بات عندى كتابه ... سمير ضمير أو جنان جنان وأرغب إليه- لا زالت الرّغبات اليه-، وأسأله- لا خيّم السؤال إلا لديه-؛ أن يلاطف بكتابه قلبى، ويمثّل لى بمثاله أيّام قربى

والله لولا أنّنى ... أرجو اللّقا لقضيت نحبى هذا وما فارقتكم «1» ... لكنّنى فارقت قلبى. وكتب جواب كتاب ورد عليه: شكرت لدهرى جمعه الدار مرّة ... وتلك يد عندى له لا أضيعها وطلعة مولانا يطالع عبده ... وكلّ ربوع كان فيها ربوعها فؤاد سقاه لا يعود غليله ... وعين رأته لا تفيض دموعها ورد على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وأثبته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام أسقامه وأصمته؛ ولا أخلى الدنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- وهو كتاب ثان يثنى إليه عنان الثناء، ويصف لى حسن العهد على التّناء، ويستنهض الأدعية الصالحة فى الأطراف والآناء، ويبشّر الخادم بأنه وإن كان بعيد الدار فإنه بمثابة المقيم فى ذلك الفناء، وأن هذه الخدمة التى أنعم الله عليه بها وثيقة الأساس على الدهر شامخة البناء؛ فقام له قائما على قدمه، وسجد فى الطّرس ممثّلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه فى ذمّة كرمه؛ وصارت له نجران «2» علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبله، ودعا بنى الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها فكأنّما يدعوهم إلى

ملّه؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد «1» على البعاد، ولا يخله من هذا الرأى الجميل الذى هو ملجأ الاستناد؛ وعقد الاعتقاد؛ والخادم لا ينفكّ متطلّعا لأخبار المولى فترده مفضلة ومجمله، ومفصّلة ومجمله؛ ويعرف منها ما يعرف به موقع اللطف بالمولى فى أحواله، ومكان النجح فى آماله؛ وأنّه بحمد الله فى نعمة منه- لا غيّر الله ما به منها، ولا صرفها عنه ولا صرفه عنها- فيجدّد لله الشكر والحمد، ويبلّغه ما يبلغه منها المراد والقصد؛ ونسأل الله ألّا يخلى الدولة الناصريّة منه ناصرا لسلطانها، وعينا لأعيانها؛ وسيفا فى يد الإسلام يناضل عن حقّه، وفرعا شريفا يشهد مرآه بشرف عرقه؛ والرأى أعلى فى إجرائه على ما عوّد من هذا الإنعام، وزيادته شرفا بالاستنهاض- إن صلح له- والاستخدام. ومن جواب آخر: ورد كتاب المجلس- أدام الله واردات الإقبال على آماله، و [لا] سلبت «2» الأيام نعمتى جميله وإجماله، ولا انحطّ قدر بدره عن درجتى تمامه وكماله، وأحسن جزاءه عن ميثاق «3» الفضل الذى نهض باحتماله- ووقفت منه على ما لا يجد الشكر عنه محيدا، وآنست «4» به القلب الذى كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطّلة «5» وحللت قصرا مشيدا؛ ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، وتلك الغاية ليست فى وسعى، ولا تعلم نفس إلا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعى، ولا تتناول يد إلّا ما وسعه ذرعها، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعى ولا استقلّ بها ذرعى.

ومن آخر: خلّد الله أيّام المجلس، وعضّد الملّة الحنيفيّة منه بحاميها، والأركان الإسلاميّة من سيفه بشائدها وبانيها، وأمتع الدولة المحمديّة بعزمته التى حسنت الكفاية بها، فلا غرو أن تحسن الكفاية فيها؛ ولا عدمت الدنيا نضرة بأيّامه النّضيره، والدين نصرة بأعلامه النصيره؛ المملوك يقبّل التراب الذى يوما يستقرّ بحوافر «1» سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله- فلا زال فى يوم السلم جوده سحابا صائبا، ويوم الحرب شهابا ثاقبا- وينهى أنه وردت عليه المكاتبة التى استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنّة فإنها أذهبت ما بالنفوس من حزنها، وتلقّى المملوك قبلها «2» بالسجود والتقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التعطيل؛ واكتحل من داء السهد بإثمدها «3» ، وأدار على الايّام كأس مرقدها «4» ، وأسمعته نغم النّعم التى هى أعجب إلى النفس من نغمات معبدها، وأطالت الوقوف عليها ركاب طرفه [فما وقوف ركاب «5» طرفة] ببرقة «6» ثهمدها؛ وضرع إلى من يشفّع وسائل المتضرّعين،

ويملأ مواقع آمال المتوقّعين؛ أن يغلّ عنه كلّ يد للخطوب بسيطه، ويفكّ به كلّ ربقة «1» للأيّام بأعناق بنيها «2» محيطه. ومن آخر: رفع الله عماد الإسلام ببقاء المجلس، وبسط ظلّه على الخلق، وملّك يده الكريمة قصب السّبق، وجمع بتدبيره بين ناصيتى الغرب والشرق؛ وألّف لقدرته طاعتى الجهر والسرّ، وصرّف بعزمته زمامى النّهى والأمر، وأحرز لجدّه مسّرّتى الأجر والنصر، وقطّ «3» بفتكته شوكتى النفاق والكفر- وردت على المملوك مكاتبة كريمة رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ اليد اليها كما تمدّ إلى الغمائم؛ وفضّها، بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها؛ وكاد المملوك يتأمّلها لولا أنّ دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تلوّن بتلوّن الأيّام فى فراقه، فلو فاض لعصفر «4» الكتاب وخلّقه «5» ؛ فلا أعدمه الله المولى حاضرا وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحلّه» فى جانب السعادة ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولاه جانبا. ومن آخر: ورد كتابه ووقفت على ما أودعه من فضل خطّ وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنا لها من الأكفاء وإن كنا «7» من الخطّاب، وآثار أقلام

تناضل عن الملّة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق «1» لما تحوزه من حقّ السّبق وخصل «2» الخصال؛ فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسطة تلمه، وثبوت قدمه؛ فإنه الآن عين الآثار، وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أنّ الخطوب تصحب فيه خواطر النّسيان؛ وليّن اهتصر الدهر سطوا «3» ، واختصر خطوا «4» ؛ وإنه سيف يمان إن قدم عهدا، فقد حسن فرندا «5» ، وخشن حدّا؛ وأجرى نهرا، وأورى شررا؛ واخضرّ خميله، وقطع الأيّام جميله؛ وضارب الأيّام فأجفلت «6» عن مضاربه ضرائبها «7» ، وشردت عن عزمه غرائبها؛ ولبسها حتى أنهجت «8» بواليا، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها لياليا؛ لا جرم أن صحيفته البيضاء شعار شعره، وروضة علمه الغنّاء «9» قد جلت أنوار نوره، وزواهر زهره؛ فالزمان لا يعدو عليه بزمانة تعدو، ولا يتجاوز أوقاته إلّا موسومة بمحاسنه ولا يعدو؛ حتى يمتّ إليه «10» عدوّ يلتفت «11» أمس، ويروى اليوم

أنّ قرابته من فضله أمسّ؛ والله يعلم أنّنى لأرى له ولا أرى فيه، وأسدّ عنه كلّ خرق تعجز عنه يد رافيه؛ ضنّا بالصدور أن تخلو من صدر كقلبها، ومحاماة عن حقوق تقدمته التى أوجبها أن تعارض بسلبها. ومن آخر: وصل كتاب الحضرة فجعل مستقرّه النّعمة فى الصدور، وأخرجتنى ظلمات خطّه إلى نور السرور؛ ووقفت وكأنّى واقف على طلل من الأحبّة قد بكى عليه السحاب بطلّه، وابتسم له الروض عن أخبار أهله وآثار منهلّه؛ فلم أزل أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزّه العين والقلب بين حسنها وجناها؛ وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له لجما، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا، والوقوف عليه حلما؛ إلى أن قضت النفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنت «1» بما ظنّه سحابا ما ظنّه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء. ومن آخر: فلمّا وقف على الكتاب جدّد العهد بلثمه ما لم يصل إلى اليد [التى «2» ] بعثته، وشفى القلب بضمّه عوضا عن الجوانح التى نفثته وأين المطامع من وصله ... ولكن أعلّل قلبا عليلا. ومن آخر: وصل كتابه، وكان من لقائه طيفا إلا أنه أنس بالضّحى، وأثار حرب الشوق وكان قطب الرّحى تخطّى إلىّ الهول والقفر دونه ... وأخطاره لا أصغر الله ممشاه.

ومن كلامه رحمه الله يصف بلاغة كتاب، قال: كتاب إلى نحرى ضممته، وذكرت به الزمن الذى ما ذممته، وأكبرت قدره فحين تسلّمته [استلمته «1» ] والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء نفسى فحين لحظته حفظته؛ وجمعت بينه وبين مستقرّه من صدرى، واستطلت به مع قصره على حادثات دهرى، وجعلت سحره بين سحرى «2» ونحرى، واستضأت به ورشفته فهو نهارى وهو نهرى؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدى، وإن أردت السكر بلا إثم أدرت كأسه فى خلدى؛ فلله أنامل رقمته، ما أشرف آثارها! وخواطر أملته، ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير؛ وإمارة لها سرير، ومسرّة أنالها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير؛ حتى أدبرت عنى جيوش الأسى مفلوله، وقصرت عنّى يد الهمّ مغلوله؛ وملئت منّى مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودّا؛ وحطّ الأمل بربعى رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله؛ ولبست من الإقبال أشرف خلعه، ووردت من القبول أغزر شرعه، وانتجعت من رياض الرجاء أرجى نجعه. وقال أيضا من آخر: هذا من عفو الخواطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطّيّة «3» خطّه فجاءت تعسل «4» ، وحشد حشود بلاغته فأتت من كل حدب «5» تنسل!.

ومن آخر: ورتع فى رياض بلاغته التى لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات فى الطروس التى لم يطمثهنّ «1» إنس قبله ولا جانّ؛ وغنى بتلك المحاسن غنى خيرا من المال، واعتقد «2» فيها كنوزا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال. وقال أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعانى وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أننى ما تعبت فى استخراج جواهرها؛ بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إلىّ فما حاولتها؛ واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه؛ نكتا استقلت أجسادها بالارواح، وزهيت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح؛ فيا لله من بدائع وروائع، ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهى الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع ويقرّط «3» الألسن؛ فكأنه طرف طرف «4» صوبه مدرار، وعلم علم منصوب فى رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنّا، وفضح الدّرّ إذ كان أبرع معنى، وأسنى حسنا، وأدنى مجنى، وأغنى مغنى؛ فما ضره تأخير زمانه، مع تقدّم بيانه؛ ولا من سبقه فى عصره، مع أنه قد سبق فى شعره.

ومن آخر: ولله هو من كتاب لمّا وقفت عليه الغلّة شفاها، ورأت وردها كلّ ماء غيره سفاها «1» ، ووطّأ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلّب «2» الجنوب على سفاها «3» ؛ فلا عدم ودّها الذى به عن كلّ مودّة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها فى الذّرا وتعلى قدرها فى الذّروه، ولا فقد مما ينعم به أىّ نعمه، ولا مما ينشيه أىّ نشوه. ومن آخر: كتاب كريم تبسّم إلىّ ضاحكا، وظنّ مداده أنه قد جلا سطره علىّ حالكا؛ فما هو إلّا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء «4» ليلة الوصل اشتملت على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده. ومن آخر: كتاب تقارعت الجوارح عليه فكادت تتساهم، فقالت اليد: أنا أولى به، شددت على مولاه ومولاى عقد خنصرى، ورفعت اسمه فوق منبرى؛ وقبضت عليه قبضتى، وبسطت فى بسط راحته وقت الدّعاء راحتى؛ وقالت العين: أنا أولى به، أنا وعاء شخصه، والىّ يرجع القلب فى تمثيله ونصّه «5» ؛ وأنا سهرت بعد رحيله وحشة، وأنا إذا ذكر هجير القلب عللته «6» رشّة بعد رشّة؛ فقال القلب: طمعتها فى حقّى لأنى غائب، وهل أنت لى يايد إلّا خادم؟ وهل أنت لى

يا عين إلا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكره وبه أذكركما، وأحضره ولخدمته أحضركما؛ فاليد استخدمها مرّة فى الكتابة إليه، ومرّة فى شدّ الخنصر عليه؛ ومرّة فى الإشارة الى فضله، ومرّة فى الدعاء بكلّ صالح هو من أهله؛ والعين استخدمتها فى ملاحظة وجهه آئبا، وفى توقع لقائه غائبا «1» ؛ وفى السهد شوقا الى قربه، والمطالعة لما يخرج أمرى بكتبه من كتبه؛ فهنالك سلّمتا واستجرّتا «2» ، وألقتا واستأخرتا؛ وكدت أرشف نقسه «3» لأنقله الى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج الى الاستمداد من هداه. ومن كلامه رحمه الله تعالى ما ركّب نصف قرائنه على نصف بيت نحو قوله: وصل كتاب مولاى بعد ما ... أصات «4» المنادى للصلاة «5» فأعتما فلما استقرّ لدىّ، «تجلّى الذى من جانب البدر أظلما» فقرأته، «بعين اذا استمطرتها أمطرت دما» وساءلته، «فساءلت مصروفا عن النطق أعجما» ولم يردّ جوابا، «وماذا عليه لو أجاب المتيّما» وردّدته قراءة، «فعوجلت دون الحلم أن أتحلما» وحفظته، «كما يحفظ الحرّ الحديث المكتّما» وكرّرته، «فمن حيثما واجهته قد تبسّما» وقبّلته، «فقبّلت درّا فى العقود منظّما» وقمت له، «فكنت بمفروض

المحبّة قيّما» وأخلصت لكاتبه، «وليس «1» على حكم الحوادث محكما» ولم أصدّفه «2» ، «ولكنّه قد خالط اللحم والدما» وأرّخت وصوله، «فكان لأيام المواسم موسما» وداويت عليل «حشا ضرّ ما فيه من النار ضرّما» وشفيت غليل «فؤاد أمنّيه وقد بلغ الظما» فأما تلك الأيام التى «حماها من «3» اللوم المقام على الحمى» والليالى العذاب التى «ملأن نحور الليل بيضا «4» وأنجما» [فإنّى «5» لأذكرها، «بصبر كما قد صرّمت قد تصرّما» ] وأرسل «6» الزفره «فلو «7» صافحت رضوى لرضّ «8» وهدّما» وأرسل العبره، «كما أنشأ «9» الأفق السحاب المديّما «10» » وأخطب السلوه، «فأسأل معدوما وأقفل «11» معدما»

فأما الشكر فإنما «أفضّ به مسكا عليك مختما» وأقوم منه بفرض «أرانى به دون البريّة أقوما» وأوفّى واجب قرض، «وكيف توفّى الأرض قرضا من السما» . وقال أيضا: وصل «1» كتاب الحضرة بعد أن عددت الليالى لطلوع صديعه «2» «وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا» ، وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء لفصل ربيعه «فما للنوى ترمى بليلى المراميا» ! واستروحت إلى نسيم سحره، «إذا الصيف ألقى فى الديار المراسيا» ومددت يدى لاقتطاف ثمره، «فلله ما أحلى وأحمى المجانيا «3» !» ووقفت على شكواه من زمانه، «فبث لشكواه من الدهر شاكيا» وعجبت لعمى الحظّ عن مكانه «وقد جمع الرحمن فيه المعانيا» وتوقّعت له دولة يعلو بها الفضل «إذا هزّ من تلك اليراع عواليا» ورتبة يرتقى صهوتها بحكم العدل «فربّ مراق يعتددن مهاويا» وإلى الله أرغب فى إطلاع سعوده، «زواهر فى أفق المعالى زواهيا» وفى إنهاض عثرات جدوده، «فقد أعثرت بعد النهوض المعاليا» . وقال أيضا: وصل من الحضرة كتاب به ماء الحياة ونقعة ال ... حيا فكأنى إذ ظفرت به الخضر ووقف عبدها منه على عقود هى الدرّ الذى أنت بحره ... وذلك ما لا يدّعى مثله البحر

ورتعت منه فى رياض [يد «1» ] تجنى وعين وخاطر ... تسابق فيها النّور والزهر والثّمر «2» وكرعت منه فى حياض تسرّ مجانيها اذا ما جنى الظما ... وتروى مجاريها اذا بخل القطر وما زلت منه أنشد كانّى سار فى سريرة ليلة ... فلمّا بدا كبّرت إذ طلع الفجر ووافى على ما كنت أعهد ف خلت بأنّ العين من سحب كفّه ... فمن ذى ومن ذى [فيه «3» ] ينثر الدرّ وأسترجع فائت الدنيا من مورده وما كان عندى بعد ذنب فراقه ... بأنّى أرى يوما به يعد الدهر ونفّس عن النفس بأبيض ثماده «4» ، ... وعن العين بأسود إثمده به لهما سبح طويل فهذه ... على خاطر برد وفى خطر «5» بدر وجدّد اليه أشواقا جديدها يمرّ به ثوب الجديدين دائما ... فيبلى ولا تبلى وإن بلى الدهر وذكّر أياما لا يزال يستعيدها وهيهات أن يأتى من الدهر فائت ... فدع عنك هذا الأمر قد قضى الأمر.

ذكر شىء من رسائل الشيخ الإمام الفاضل ضياء الدين

وكلام «1» القاضى الفاضل- رحمه الله- كثير، بأيدى الناس منه عدّة مجلّدات، أخبرنى من أثق بقوله من القضاة الحكام الأعيان أنه يزيد على خمسين مجلّدا قد جمعت، أما ما لم يجمعه الناس فكثير جدا؛ وقد نقل بعض من أرّخ، أنه وجد للقاضى الفاضل مسوّدات كتب صدرت عنه وأجوبة تزيد اذا جمعت على مائة مجلّد، ولا يحتمل الحال أن نورد له أكثر مما أوردناه، ورسائله المختارة كثيرة قد يكون فيها أجود مما اخترناه ونحوه، وإنما أوردنا له ما حضر فى هذا الوقت، إذ لم يمكن البحث عن كلامه والاستقصاء، وإن كان كلّ رسائله مختارة رحمه الله. ذكر شىء من رسائل الشيخ الإمام الفاضل ضياء الدين أبى العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العابد القدوة أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر «2» بن عبد المنعم الأنصارىّ القرطبىّ رحمه الله،- وكانت وفاته بقنا من أعمال قوص فى سنة اثنتين وسبعين وستمائة- كتب إلى شيخنا الإمام العلّامة تقىّ الدين محمد ابن الشيخ الإمام الحبر مجد الدين أبى الحسن علىّ بن وهب بن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد رحمهم الله تعالى: تخدم المجلس العالى صفات يقف الفضل عندها، ويقفو الشرف مجدها، وتلتزم المعالى حمدها؛ وسمات يبتسم ثغر الرياسة منها، وتروى أحاديث السيادة عنها؛ الصدرىّ الرئيسىّ المفيدىّ؛ معان استحقّها بالتمييز، واستوجبها بالتبريز، وسبكته الإمامة لها فألفته خالص الإبريز؛ ومعال أقرّته فى سويدائها، وأطلعته فى سمائها،

وألبسته أفضل صفاتها وأشرف أسمائها؛ العلّامىّ الفاضلىّ التقوىّ؛ نسب اختص به اختصاص التشريف، لا تعريفا «1» فالشمس تستغنى عن التعريف؛ لا زالت إمامته كافلة بصون الشرائع، واردة من دين الله وكفالة أمّة رسول الله أشرف الموارد وأعذب الشرائع «2» ، آخذة بآفاق سماء الشرف فلها قمراها والنجوم الطّوالع «3» ، قاطعة أطماع الآمال عن إدراك فضله وما زالت تقطّع أعناق الرجال المطامع «4» ، صارفة عن جلاله مكاره الأيام صرفا لا تعتوره القواطع، ولا تعترضه الموانع؛ وينهى ورود عذرائه التى «لها الشمس خدن «5» والنجوم ولائد» وحسنائه التى «لها الدرّ لفظ والدّرارى «6» قلائد» ومشرّفته التى «لها من براهين البيان شواهد» وكريمته التى «لها الفضل ورد والمعالى موائد «7» ووديعته التى «لها بين أحشائى وقلبى معاهد» وآيته الكبرى التى دلّ فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد وأنك سيف سلّه الله للهدى ... وليس لسيف سلّه الله غامد

فلمثلها يحسن صوغ السوار، ولفضلها يقال: «أناة أيها الفلك المدار» وإنها فى العلم أصل فرع نابت، والأصل علّة النشأة والقرار، وفرع أصل «1» ثابت، والفرع فيه الورق والثمار؛ هذه التى وقفت قرائح الفضلاء على استحسانها، وأوقفتنى «2» على قدم التعبّد لإحسانها، وأيقنت أنّ مفترق الفضائل مجتمع فى إنسانها، وكنت أعلم علمها بالأحكام الشرعية فاذا هى فى النثر ابن مقفّعها، وفى القصائد أخو حسّانها؛ هذه وأبيك أمّ الرسائل المبتكره، وبنت الأفكار التى هذّبتها الآداب فهى فى سهل الإيجاز البرزة «3» وفى صون الإعجاز المخدّره، والمليئة ببدائع البدائه، فمتى تقاضاها متقاض لم تقل: «فنظرة الى ميسرة» ؛ والبديعة التى لم توجّه اليها الآمال فكرها لاستحالة غير مسبوق بالشعور، ولم تسم اليها مقل الخواطر لعدم الإحاطة بغيب الصدور قبل الصدور، والبديهة التى فصّل البيان كلماتها تفصيل الدرر بالشذور؛ إنّ كلمها ليميس فى صدورها وإعجازها، ويختال فى سطورها وإعجازها، وتنثال «4» عليها أغراض المعانى بين إسهابها وإيجازها؛ فهى فرائد ائتلفت من أفكار الوائلىّ والإيادىّ، وقلائد انتظمت انتظام الدرارىّ، ولطائم «5» فضّت عن العنبر الشّحرىّ «6» والمسك الدارىّ «7» ؛ لا جرم أن غوّاصى الفضائل ظلوا فى غمراتها خائضين، وفرسان

الكلام أضحوا فى حلباتها راكضين، وأبناء البيان تليت عليهم آياتها «فظلّت أعناقهم لها خاضعين» . ما إن لها فى الفضل مثل كائن ... وبيانها أحلى البيان وأمثل فالعجز عنها معجز «1» متيقّن ... ونبيّها بالفضل فينا مرسل ما ذاك إلا أنّ ما يأتى به ... وحى الكلام على اليراعة ينزل بزغت شمسا لا ترضى غير صدره فلكا، وانقادت معانيها طاعة لا تختار سواه ملكا، وانتبذت بالعراء فلا تخشى إدراك الإنكار ولا تخاف دركا، وندّت شواردها فلا تقتنصها الخواطر ولو نصبت هدب الجفون شركا فللأصائل «2» فى عليائها سمر ... إن الحديث عن العلياء أسمار «3» وللبصائر هاد من فضائلها ... يهدى أولى الفضل إن ضلّوا وإن جاروا بادى الإبانة لا يخفى على أحد ... «كأنه علم فى رأسه نار» أعجب بها من كلم جاءت كغمام الظّلال على سماء الأنهار! وسرت كعليل النسيم عن أندية الأسحار، وجليت محاسنها كلؤلؤ الطلّ على خدود الأزهار، وتجلّت كوجنة الحسناء فى فلك الأزرار، وأهدت نفحة الروض متأوّد الغصن بليل الإزار، فأحيتنا بذلك النفس المعطار، وحيّتنا بأحسن [من «4» ] كأسى لمى وعقار، وآسى ريحان وعذار؛

ولؤلؤى حبب وثغر، وعقيقى شفة وخمر، وربيعى زهر ونهر، وبديعى نظم ونثر؛ ولم أدر ما هى أثغور ولائد؟ أم شذور قلائد؛ أم توريد خدود، أم هيف قدود؛ أم نهود صدور، أم عقود نحور؛ أم بدور ائتلفت فى أضوائها، أم شموس أشرقت فى سمائها؟ جمعن شتيت الحسن من كلّ وجهة ... فحيّرن أفكارى وشيّبن مفرقى وغازلها قلبى بودّ محقّق ... وواصلها ذكرى بحمد مصدّق وما كنت عشّاقا لذات محاسن ... ولكن من يبصر جفونك يعشق ولم أدر والألفاظ منها شريفة ... الى البدر تسمو أم إلى الشمس ترتقى إنما هى جملة إحسان يلقى الله الرّوح من أمره على قلبها، أو روضة بيان «تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها» ؛ أو ذات فضل اشتملت على ذوات الفضائل، وجنت ثمر العلوم فأجنتها بالضحى والأصائل؛ أو نفس زكت فى صنيعها، ونفث روح القدس فى روعها؛ فسلكت سبل البيان ذللا، وعدمت مماثلا فأضحت فى أبناء المعالى مثلا؛ وسرت الى حوز الأمانى والأنام نيام، فوهب لها واهب النعم أشرف الأقسام؛ فجادت فى الإنفاق، ولم تمسك خشية إملاق، وقيّدت نفسها فى طلق «1» الطاعة فجاءها توقيع التفضيل على الإطلاق أبن لى معزاها أخا الفهم إنها ... الى الفضل تعزى أم الى المجد تنسب هى الشمس إلّا أنّ فكرك مشرق ... لإبدائها عندى وصدرى مغرب وقد أبدعت فى فضلها وبديعها ... فجاءت الينا وهى عنقاء مغرب «2»

فأعرب عن كلّ المعانى فصيحها ... بما عجزت عنه نزار ويعرب ومذ أشرقت قبل التناهى بأوجها ... عفا فى سناها بدر تمّ وكوكب تناهت علاء والشباب رداؤها ... فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب لئن كان ثغرى بالفصاحة باسما ... فثغرك بسّام الفصاحة أشنب وإن ناسبتنى بالمجاز بلاغة ... فأنت إليها بالحقيقة أنسب ومذ وردت سمعى وقلبى فإنها ... لتؤكل حسنا بالضمير وتشرب وإنى لأشدو فى الورى بثنائها ... كما ناح فى الغصن الحمام المطرّب وتشهد أبناء البيان إذا انتدوا ... بأنى من قسّ الإيادى أخطب وإنّى لتدنينى الى المجد عصبة ... كرام حوتهم «1» أوّل الدهر يثرب وانّى إذا خان الزمان وفاءه ... وفىّ على الضراء حرّ مجرّب إباء أبت نفسى سواه وشيمة ... قضى لى بها فى المجد أصل مهذّب ونفس أبت الا اهتزازا إلى العلا ... كما اهتزّ يوم الرّوع رمح ومقضب «2» ولى نسب فى الأكرمين تعرّفت ... إليه المعالى فهو ريّان «3» مخصب «4» نمته أصول فى العلاء أصيلة ... لها المجد خدن والسيادة مركب تلاقى عليه المطعمون تكرّما ... اذا احمرّ «5» أفق بالمجرّة «6» مجدب من اليمنيّين الذين سما بهم ... الى العزّ بيت فى المعالى مطنّب

قروا تبّعا بيض المواضى ضحاءه «1» ... وكوم «2» عشار بالعشيّات تضهب «3» فرحّله الجود العميم ومنصل «4» ... له الغمد شرق والذوائب مغرب وهم «5» نصروا والدين عزّ نصيره ... وآووا وقد كادت يد الدين تقضب وخاضوا غمار الموت فى حومة الوغى ... فعاد نهارا بالهدى وهو غيهب أولئك قومى حسبى الله مثنيا ... عليهم وآى الله تتلى وتكتب هذه اليتيمة أيدك الله ملحتها الإحماض «6» ، وتحليتها «7» الألفاظ فى أبعاض الاعتراض لتسرح مقل «8» الخواطر فى مختلفات الأنواع، ويتنوع «9» الوارد على القلوب والأسماع، وإلا فلا تماثل فى الأدوات، وان وقع التماثل فى الذوات، كالجمع بين النّوريّة فى

السراج والشمس، واشتمال الإنسانيّة على «1» القلامة والنفس، والتوارد الإدراكىّ بين كلّىّ بالعقل، وجزئىّ بالحسّ «2» ؛ وكالعناصر فى افتقار الذوات اليها، وان تميّزت الحرارة عليها؛ وكالمشاركة الحيوانيّة فى البضعة اللسانيّة، واختصاص الناطقيّة بالذات الإنسانيّة؛ فسيّدنا ثمر الروض ونسيمه، وسواه ثراه وهشيمه، وزهره وأنداؤه، وغيره شوكه وغثاؤه؛ والبدر وإشراقه، وسواه هلاليّته ومحاقه؛ اشتراك فى الأشخاص، وامتياز فى الخواصّ؛ ومشابهة فى الأنواع والأجناس، ومغايرة فى العقول والحواسّ؛ كالورد والشّقيق، والقهرمان «3» والعقيق؛ تماثلا فى الجواهر والأعراض، وتغايرا فى تمييز الأغراض؛ فسيّدنا من كلّ جنس رئيسه، ومن كلّ جوهر نفيسه؛ وأما حسناء المملوك على مذهبهم فى تسمية القبيح بالحسن، والحسن بالقبيح، والضرير بالبصير والأخرس بالفصيح؛ فما صدّت ولا صدّت يمنى» كاسها. ولا شذّت فى مذهب ولائه عن اطّراد قياسها، ولا زوت عن وجه جلالته وجه إيناسها، ولا جهلت أنه فى العلوم الشرعيّة ابن أنسها، وفى المعانى الأدبيّة أبو نواسها؛ ولا خفى عنها أن سيّدنا مجرى اليمين «5» ، وفى وجه السيادة إنسان المقلة وغرّة الجبين، والدرّة فى تاج الجلالة

والشّذرة فى العقد الثمين؛ وأنه الصدر الذى يأرز «1» العلم إلى صدره، وتقترح «2» عقائل المعانى من فكره، وتأتمّ الهداة ببدره، وتنتمى «3» الهداية الى سرّه، وانّها فى الإيمان بمحمديّته أمّ عمارة «4» لا أمّ عمره؛ وانّه غاية فخارها؛ ونهاية إيثارها، [وآية نهارها «5» ] ومستوطن إفادتها بين شموس فضائله وأقمارها؛ فكيف تصدّ وفيه كلّيّة أغراضها، ومنه علّيّة جملتها وأبعاضها، وفى محلّه قامت حقائق جواهرها وأعراضها؛ لكنّها توارت بالحجاب، ولاذت بالاحتجاب؛ وقرب بالمجلس الكمالى ليكمّل ما بها من نقص كمال وكمال عيب، وتجمع بين حقيقتى إيمان الشهادة والغيب، وتعرض على الرأى التقوىّ سليمة الصدر نقيّة الجيب، وأشهد أنها جاءت تمشى على استحياء وليست كبنت شعيب «6» ؛ هذا ولم تشاهد وجه حسنائه، ولا عاينت سكينة «7» حسينه وهند «8»

أسمائه، ولا قابلت نيّر فضله وبدر سمائه؛ أقسم لقد كان يصرفها الوجل، ويقيّدها الخجل؛ عالمة أنّ البحر لا يساجل، والشمس لا تماثل؛ والسيف لا يخاشن، والبدر لا يحاسن؛ والأسد لا يكعم «1» ، والطّود لا يزحم؛ والسحاب لا يبارى، والسيل لا يجارى؛ وأنّى تبلغ الفلك هامة المتطاول، «وأين الثريّا من يد المتناول» ؛ تلك عوارف استولت على المعالى استيلاءها على المعالم، وشهدت لها الفضائل بالسيادة شهادة النبوّة بسيادة قيس بن عاصم «2» ؛ ولا خفاء بواضح هذا الصواب، عند مقابلة البداية بالجواب؛ فالشمس أوضح من ضياء الأنجم ... ما البيّن الأعلى كداج مظلم يا مثريا من كلّ علم نافع ... أيقاس مثر فى العلوم بمعدم أو كفت «3» فضلك فى رذاذ غمائمى ... ما للرذاذ يد بنوء المرزم «4» وانصبّ بحرك فى ربيع «5» خواطرى ... ما للربيع وفيض بحر أعظم وسللت سيف العلم أبيض مخذما ... كالبرق يلمع فى غمام مثجم «6» فللت حدّى معضد «7» فى راحتى ... ما للكهام وحدّ أبيض مخذم «8»

يا سابقا جهدى «1» مصلّى عفوه ... ما للسّكيت «2» يد بعفو مظهم «3» بذّ السوابق فى العلوم وحازها ... بالكسب منه والتراث الأعظم العلم علم محمد وكفى به ... وعلىّ الباب المبلّغ فاعلم ما كنت أوّل محجم عن مورد ... عذبت موارده لقرن مجحم «4» سابقت سبّاقا شأوت «5» بيانهم ... ببديع نثر أو بليغ منظّم وسقيت بالكأس الكبيرة منهما ... لما سقوا بالأصغر المتثلّم حتى اذا سابقته وهو «6» ابن بح ... رأو أبو بحر إليه ينتمى طارت فضائله إلى عليائها ... بجناح فتخاء «7» ونسر قشعم وسما به العلم الأجلّ محلّه ... حتى توقّل «8» فى المحلّ الأعظم ومشى حضارا «9» فانثنيت مقصّرا ... أتجول خيلى فى مقرّ الهيثم «10»

لا عار إن عضلت بدائه فكرتى ... بابن المقفّع أو بنجل الأهتم «1» يا أعلم الفضلاء لست مقاولا ... فصحى بناتك «2» باللسان الأعجم لو حاولت فكرى مساواة لها ... يوما لجاءت بالغراب الأعصم «3» أقتصر فللبيان فى بحر فضائله سبح طويل، وللسعى فى غاياته معرّس ومقيل، وللمحامد ببثينة محاسنه صبابة جميل، وإنّى وإن كنت كثّير عزّة ودّه، إلا أنّى فى حلبة الفضل لست من فرسان ذلك الرّعيل؛ لا سيّما وقد وردت مشرع ألفاظه التى راقت معانيها، ورقّت حواشيها، وأدنت ثمرات الفضل من يمين جانيها؛ فجاءت كالنسيم العليل، والشذا من نفحة الأصيل، والشراب البارد والظلّ الظليل طبع تدفّق رقّة وسلاسة ... كالماء عن متن الصفاة يسيل كالمقلة الحسناء زان جفونها ... كحل وأخرى زانها التكحيل والروضة الغناء يحسن عرفها ... وتزاد حسنا والنسيم عليل والخاطر التقوىّ كمّل ذاته ... علما وليس لكامل تكميل والله تعالى يبقيه جامعا للعلوم جمع الراحة بنانها، رافعا له رفع القناة سنانها، حافظا له حفظ العقائد أديانها، والقلوب إيمانها

ليضحى نديما للمعالى كأنه ... نديما صفاء مالك وعقيل «1» ويصبح ظلّ الفضل من فىء ظلّه ... على كنف الإسلام وهو ظليل وينشأ أبناء العلوم وكلّهم ... بحسنائه فى العاشقين جميل دلالته فى الفضل من ذات نفسه ... وليس على شمس النهار دليل وكتب- رحمه الله تعالى- رسالة الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ «2» عند ما ورد عليه كتاب يذكر أن رسول الخليفة وصل يلتمس إجابة الملك المعزّ «3» أوّل ملوك الترك إلى صلح الملك الناصر صلاح الدين يوسف «4» - وقد كان الناس يذكرون أن الملك الناصر يريد أن يهجم بعساكره على الديار المصرية، وأنه لا يجيب إلى الصلح، [فلما «5» ] جاء الرسول بذلك ظهر للناس خلاف ما ظنّوه-:

لأمرك أمر الله بالنجح عاضد ... فصل آمرا فالدهر سيف وساعد وقل ما اقتضت علياك فالعزّ قائم ... بأمرك والمجد المؤثّل «1» قاعد ونم وادعا فالجدّ يقظان حارس ... لمجدك والعادى لبأسك راقد فما تبرم الأيّام ما الله ناقض ... ولا تنقض الأيّام ما الله عاقد وقد برزت بكر المكارم والعلا ... وفى جيدها من راحتيك قلائد فحفّت بها الأملاك وهى مواهب ... وسارت بها الرّكبان وهى محامد وزفّت لها النعماء وهى مصادر ... رفعنا لها الأمداح «2» وهى موارد فنثّرها الإحسان وهى لآلئ ... ونظّمها الإفضال وهى فرائد فلا زلت محروس العلا يا ابن صاعد ... وجدّك فى أفق السيادة صاعد تسرّ بك الدنيا ويبتهج الورى ... وتستوكف النّعمى وتحوى المقاصد ورد كتاب كريم، ونبأ عظيم؛ لم تجر ينبوعه جياد الأقلام، ولم تجد بنوئه عهاد الأيام، ولم تظفر بمثله أعياد الإسلام؛ فتلى على عذبات «3» المنابر، وجلى على آماق الأبصار وأحداق البصائر؛ وكانت بشراه البكر العوان «4» ، لما ابتدأت «5» به من البشارة

ولما تلده من البشائر، وطليعة المسارّ التى واجهت الآمال ووجه السعد سافر، ومقدّمة الأمن التى لا يسرّ بها إلا مؤمن ولا يساء بها إلّا كافر؛ وتحيّة الله التى أحيت قلوب العباد، ومنّة «1» الله التى سكنت لها السيوف فى الأغماد، ونعمة الله التى عمّت كلّ حاضر وباد؛ ورحمة الله التى رحم بها هذه الأمّة وما زال بالمؤمنين رحيما، وفضل الله على هذه الملّة «2» وكان فضل الله عليها عظيما؛ وسعادة سارت بها الأيام الى المقام المعزّىّ بين الخبب والتقريب، ومركب عزّ قدّمته عناية الله تقدمة الجنيب، وكتابا عنايته «3» هذا عطاء الله، وعنوانه «نصر من الله وفتح قريب» ، وسلّم «4» جلّل وجه الإسلام برد لباسه القشيب، وسلامة جنت يمين الإيمان ثمر غصنها الرطيب، وعزّ ألبس الملك خلع شبابه بعد ما خلع غبار الوقائع [عليه «5» ] رداء المشيب، وشمس سعادة منذ طلعت فى أفقها لم تجنح للمغيب، ولطف خفىّ قعد له كلّ حمد وقام به كلّ خطيب، ومملكة تسمعها الأيّام: قفا نضحك بمسارّ الإنعام لا قفا نبك من ذكرى حبيب، وغنيمة باردة حازتها يد الملك ولسان السنان غير ناطق وكفّ السيف غير خضيب بتسديد «6» رأى لو رأته أميّة ... لما احتفلت «7» يوما بقتل شبيب «8»

الى غير ذلك من فكرة صاحبيّة شرفيّة سكن الملك تحت ظلالها ونام، وقعد بأمرها وقام؛ وتحرّكت لها العزائم، وسكنت لها الصوارم، واستنزلت العصم وذعرت العواصم، وهمم إذا سمت سامت السماء واذا همّت أهمت الغمائم، وعزّ تحت ظل ظلاله الشرف مقيم وفى خدمته المجد قائم، وعزم استيقظ له جفن النصر والسيف فى جفنه نائم، وسيف حزم على عاتق الملك منه نجاد وفى يد جبّار السموات منه قائم؛ وآراء استفتح عقائلها فأنجبت «1» ، ورمى غرض إصابتها فأكثبت، (أى أصابت «2» ) وأعمل رائدها فاستيقظت له الهمم والأنام نيام، وجلس فى صدور رياستها والعالمون قيام، وتدبير أحكم بإبرام النقض ونقض الإبرام، وذعر به رابض الأسد وأنس به نافر الآرام؛ وأجال به خيله فى مسارى الأرقم، ومقرّ الهيثم، وأمضاه فى مضايق خطبه فأغناه عن سنّ السّنان وشفة اللهذم؛ هذا ولما «3» صدقت عزائم المملكة التى نظم الله قلادة ملكها فليس لها انتثار، ولمعت كواكب أسلها «4» فى ليل الرّهج وسماء الغبار، وبنت حوافر خيلها سورا من متراكم النّقع المثار، وحصّنتها يد الله بما أظهرته من

كامن الغيب وأخفته «1» من طلائع الأقدار، وحضنتها «2» رعاية الله وله من القدر أعوان ومن الملائكة أنصار فعمّت عموم اللّيل واللّيل مظلم ... وجاءت مجىء الصبح والصبح مشرق ومدّت غماما من سنابك خيلها ... بسلّ المواضى المشرفيّات يبرق فى كتائب إذا سارت سوابقها ملأت عرض الغبراء، واذا نشرت خوافقها سترت وجه الخضراء؛ وكادت تذعر الآساد بمواضى حتوفها، وتسكن المنايا تحت ظلال سيوفها؛ لا سيما إذا أنجمت «3» أنجم عواليها، ولمعت بروق مواضيها؛ وجاءت خيلها كالصخر الأصمّ والطود الأشم أعجازها وهواديها؛ من كلّ كميت «4» حلو فى الإزار، بين الشّقرة والاحمرار، كأنه ورديّة العقار يحسّ وقع الرزايا وهى نازلة ... فينهب الجرى نفس الحادث «5» المكر وكلّ أشقر «6» كأنما قدّ أديمه من لهب النار، معار رداء الحسن، وأحقّ الخيل

بالركض المعار «1» ، لا تعلق به المذاكى «2» يوم رهان ولا تشقّ له الحوادث وجه غبار كأنما لبس ثوبا من خالص النّضار عتاق لو جرت والريح شأوا ... لفاتته وأوثقه «3» إسار غدت ولها حجول من لجين ... وراحت وهى من علق نضار وكلّ أدهم كريم النّجار، غذىّ اللّبان «4» الغزار، كأنما فصّلت ثيابه من سواد الليل وصيغت حجوله من بياض النهار بأغرّ يبتسم الصباح بوجهه ... حسنا ويسفر عن محيّا مسفر خلع الظلام عليه فضل ردائه ... وثنى من التحجيل ثوب مقصّر وكلّ أشهب أفرغ فى قالب الكمال، وجيهىّ» الأب أعوجىّ «6» الخال، إن مشى ضاق بزهوه فسيح المجال، وإن سعى رأيت البرق ملجما بالثريّا مسرجا بالهلال، كأنّما انتعل خدّ الجنوب واشتمل بثوب «7» الشّمال

من الجياد التى لم تبد فى رهج ... إلّا أرتك بياض الصبح فى غسق ولا جرين مع النّكباء «1» فى طلق «2» ... إلّا احتقرت التماع البرق فى الأفق وكلّ مطهّم إن ركض قلق السماط لركضه، وخلت بعضه منفصلا عن بعضه وإن مشى رأيت الطود فى سمائه والرياح فى أرضه؛ وإن خطا ظننته يرتع فى روض المجرّة ويكرع فى حوض الغمام، وخلته الأشمّ من ابنى شمام «3» ، همّه جهة الأمام وصوته حركة اللجام، كأنه قطعة من سماء أو ظلّة من غمام جرى «4» والريح فى طلقى رهان ... فقامت دونه ومضى أماما ومدّ من السنابك ثوب غيم ... ولم أر قبلها ثوبا غماما عليها كلّ كمىّ لابس الحرب ولابسته «5» ، ومارسها ومارسته؛ وكتبت عليه المواضى فى صدره كتابا أعجمته أطراف الأسل، وجنى ثمر الحديد أحلى عنده من العسل وسار إلى مهج الأبطال كسيف القضاء وحثّ «6» الأجل؛ له حنكة الأشيب ونجدة الغلام، وصنعة الضرب الفدّ والطعن التّؤام، والفتكات التى تطلع صبح الصوارم

فى ليل القتام، والفعلات التى لها فتكات الأورق «1» فى النّقد وصولات الأسد فى السّوام يمشى الى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى «2» الكعوب كمشى الكاعب الفضل «3» يحسن فى بحار الدروع سبح «4» الفوارس، بين بدور اليلب «5» ونجوم القوانس «6» ؛ من كلّ سابغة لا تصل إليها ألسنة الحداد، كأنها أثواب الأراقم خيطت بأعين الجراد؛ كفيلة بحماية الأنفس وصيانة المهج، تنير مسالك لابسها فى دياجى الرّهج، إنما هى البحر ولا حرج «7» اذا ما مشوا فى السابغات حسبتهم ... سيولا وقد سالت بهنّ الأباطح وكلّ أبيض هندىّ تألّفت من الملح أبعاضه، البرد جسمه والبرق إياضه؛ المفارق مغاربه والأجفان مطالعه، والأنفس موارده والمنايا منابعه؛ لو أثمر لأنبت رءوسا ولو تفجّر لسال نفوسا، ولو تكشّف صافى حديده لرأيت فيه عبوسا

سليل «1» النار دقّ ورقّ حتى ... كأنّ أباه أورثه السّلالا ودبّت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا وكل أسمر اذا انتحى فهو صاح واذا انثنى فهو نشوان، واذا ورد دم القلب فهو ظمآن القناة ريّان السنان؛ اذا خطب النواصى وخط «2» ، واذا كتبت المواضى نقط؛ واذا قصرت يد القرن طال، واذا صليت نار الحرب العوالى صال توهّم كلّ سابغة غديرا ... فرنّق «3» يشرب الحلق الدّخالا «4» وكلّ صفراء رقشاء «5» الأديم، كانها أرقم الصّريم «6» ؛ لها فلك بالرزيّة دائر، وسهم بالمنيّة طائر، إن ركب فهو مقيم وإن نزل فهو سائر؛ مع عزائم بنت على «7» الدولة سورا، وجعلت بينها وبين الذين لا يؤمنون بالدولة المعزّيّة حجابا مستورا؛ على أنها غنيمة لم تحتج إلى الإيجاف والإيضاع، وطلبة ألفاها على طرف الثمام «8» وحبل الذراع «9» ؛ وعناية جاءت على اختيار المراد ومراد الاختيار، ونعمة كرّت هى والتوفيق فى قرن

وجرت والسعادة فى مضمار، ومنحة ركضت بها الى المقام المعزّىّ سوابق الأقدار ومعنى خفى من نعم الله لم تلجه عقائل الأفكار؛ واذا سبقت عناية الله فليس لأمر حتمه الله رافع، واذا لحظت السعادة امرأ وقفت دونه آمال المطالب وتقطّعت خلفه أعناق المطامع، واستولت يمينه على آفاق سماء «1» الشرف فلها قمراها والنجوم الطوالع، وهذه مواهب لا تدركها دقائق الأسطرلاب «2» ولا درج الشمس ولا رصد الطوالع لعمرك ما تدرى الضّوارب بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع. وينهى «3» أنّ حاملها من عقدت عليه الملوك خناصرها، واختصّ منها بالصحبة ناصرها؛ وله فضل لا يذاد عن منهل العلم سوامه، ولا تجهل فى مسالك الشرف

أعلامه؛ وله نفس سمت حتى أخذت سماء السيادة بيمينها، وهمّة اذا رأيت ذاتها الكريمة توسّمت الرّياسة فى جبينها، وأبوّة لا تتّجر من المعالى إلّا فى ثمينها؛ وقد أكلته السنة بل السنوات، وترادفت عليه الملمّات بل المؤلمات؛ وقد صيّر الجناب الزينىّ لما يحاوله ذريعه، وورد المنهل الرّحب وإنه لعذب الشريعه، وقد أصاب به مولانا طريق المصنع فألبسه ثياب الصنيعه؛ ومولانا أولى من أولاه شرف جلاله ونظر اليه بعين كريمة يقابل بها ما يقابله من كرم خلاله؛ فالإبريز قد يشتبه إلّا على نقّاده، والغيث قد يخلف إلا «1» على روّاده، والماء قد يأجن إلا على ورّاده؛ وسيّدنا مصعبىّ الهمم وهذا ابن قيس «2» رقيّاته، ومهلبىّ الشّيم وهذا حبيب أبنائه «3» ، وواثقىّ الإحسان وهذا فى الجلالة ابن [أبى «4» ] دواده وفى الأدب ابن زيّاته «5» ؛ فليضعه حيث

ومثل صدر هذه الرسالة لبعض الكتاب المتقدمين:

وضعته السيادة صدرا، وليطلعه كما أطلعته الفضائل بدرا؛ وليصرف اليه عناية تعلّق بها الحمد علاقة غيلان «1» بميّه، والحكم «2» بأميّه؛ وهو يعلم- أدام الله أيامه- أن المناصب عرائس، والصنائع قلائدها، والولايات مآدب، والمكارم موائدها، والليالى- كما علمت- حبالى، والسيّئات والحسنات ولائدها؛ وخير من لبس ثوب نعمة كاهل هذا الإمام، وإن الحسنة اليه لأشرف مواهب الأيام، فاغتنمها فإنّها غاية الأغتنام؛ وأعيذ مولانا بالله أن يجعل نظره إليه لمحا، أو يضرب عنه الذكر صفحا، أو يكون مولانا روضة ثم لا يجد هذا الصدر منها نفحا، ومطلع آفاق الشرف ثم لا يستوضح هذا الملتمس من أفقها صبحا. ومثل صدر هذه الرسالة لبعض الكتاب المتقدّمين «3» : الحمد لله مقلّب القلوب، وعالم الغيوب؛ الجاعل بعد عسر يسرا، وبعد عداوة ودّا، وبعد تحارب اجتماعا، وبعد تباين اقترابا؛ رأفة منه بعباده ولطفا، وتحنّنا عليهم وعطفا؛ لئلا يستتمّهم «4» التتايع، فى التدابر والتقاطع؛ وليكونوا بررة إخوانا، وعلى الحقّ أعوانا؛ لا يتنكّبون منهجا، ولا يركبون من الشبهة ثبجا؛ بغير دليل يهديهم

ولنعد إلى كلام الشيخ ضياء الدين بن القرطبى

قصد المسالك، ولا مرشد يذودهم عن درك المهالك؛ أحمده على نعمه التى لا يحصى الواصفون إحصاءها، ومننه التى لا تحمل الخلق أعباءها؛ حمدا يتجدّد على ممرّ الأزمان والدهور، ويزيد على فناء الأحقاب والعصور؛ وإنّ أحقّ ما استعمله العاملون ولحق به التالون، وآثره المؤمنون، وتعاطى بينهم المسلمون؛ فيما ساء وسرّ، ونفع وضرّ؛ ما أصبح به الشّمل ملتئما، والأمر منتظما؛ والفتق مرتتقا؛ والسيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا؛ فحقنت به الدماء، وسكنت معه الدهماء، وانقمع به «1» الأعداء؛ واتصل به السرور، وأمنت معه الشرور؛ وليس بذلك أولى، والى إحراز الثواب به أدنى من الصلح الذى أمر الله تبارك وتعالى به، وخصّ وعمّ ورغّب «2» . ولنعد الى كلام الشيخ ضياء الدين بن القرطبى فمن ذلك ما كتب به أيضا الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ جوابا عن كتاب شفاعة يوصى على أخيه نجم الدين، فأجابه الشيخ: يخدم الجناب الشرفىّ- رفع الله قدره بين أوليائه، وأطاب ذكره فى مقام عليائه؛ وأطال عمره مقترنا بعزّه، وأقرّه فى كنف سلامته وكهف حرزه- وردت الأوامر المطاعه، المقابلة بالسمع والطاعه؛ فى حق أخى المملوك مولانا نجم الدين، فتلقّى راية طاعتها بيمينه، وأقرّها من تعظيمه فى أسرّة جبينه، وأحلّها من شرف الامتثال فى مستودع دينه؛ وقابل حاملها بأوفر ترحيبه، وأقرب تقريبه؛ وواجهه بإجلال الأخوّه، وخلال «3» البنوّه؛ وأحلّه كنف قلبه، وأودعه بين شغاف «4» القلب وخلبه «5» ، وأعاده الى معهود ولائه وحسبه؛ وقرّر له

فى كلّ شهر عشرة دنانير وهى نهاية قدرته، وأعلمه أنّها أعود نفعا من ولايته وأقرب عونا من إمرته؛ وعاهد الله ألا يتعرّض لجنديّة أبدا، ولا يمدّ لطلب ولاية يدا؛ ولا يقف بين يدى الأمراء بعدها، ولا يتجاوز بجلالة أبويه حدّها، ولا يهمل شرف نسبته التى لم تصاعر «1» [لها «2» ] الأيّام خدّها؛ وأخذ عليه عهود الله والمملوك فى الوفاء مهما عهدها؛ وقد توجّه الى المشارع الصاحبيّة التى استعذب وردها والمكارم الشرفيّة التى ألف حمدها، والصنائع الإحسانيّة التى وجد فى مرارة الفقر حلوها وفى حرارة الغربة بردها؛ وعاود عشّ الفضل الذى منه درج، وبيت الكرم الذى اليه دخل ومنه «3» خرج، وسماء الإحسان التى أطلعت نجم إمامته فعرّج عليها وإليها عرج، وبحر المعروف الذى اذا أطنب لسان ثنائه قالت شواهد بيانه: «حدّث عن البحر ولا حرج» ؛ ومولانا يضعه تحت كنفه، ويرفعه لله ولسلفه، ويقابله الجناب الشرفىّ بما عرفه من شرفه؛ ويعينه على جاريه الذى هو مادّة رفقه، وأوّل ما أجراه الله على يد مولانا من رزقه؛ بكتاب يجزل له العزمات وينميها «4» ، ويسكن روح الحياة فى جسد فاقته ويبقيها؛ فهو ذو ضرّاء لا تسدّها إلا القناعه، وذو فاقة لا ترفعها إلا السّعة التى تمدّ باعه؛ والله يجعل مولانا وقاية لمن لجأ إليه، وإعانة لمن اعتمد عليه؛ إن شاء الله تعالى.

وكتب إليه أيضا شفاعة فى بعض الأعيان

وكتب إليه أيضا شفاعة فى بعض الأعيان فقال: وينهى أنّ الله تعالى متولّى سرائر عباده، ومجازيهم على مخالفة أمره وإن كان على وفق مراده؛ أعدّ دارى ثوابه وعقابه، وحذّر أولى العقوبة من أليم عذابه؛ ثم عمّت رحمته فشفّع فى العصاه، وعفا عن الجناه؛ فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ثم بذلت عوارف الإحسان، وعواطف الحنان؛ حتى شفع الى خلقه، فى العفو عن حقّهم وحقّه؛ صفة كرم رحمانيّه، وصلة عفو إحسانيّه، وصنائع الطاف ربانيّه، فشفع إلى الصدّيق فى مسطح، فقال: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فقدّم موجبات العطف بما قدّم من القرابة والمسكنة والمهاجرة، ثم تلقّاها من أجر الآخرة بكرم المجازاة وربح المعاملة، وحسن جزاء المنعم، تعريفا بمواقع الإحسان، وتكريما لنوع الإنسان؛ ومملوك مولانا فلان الذى أنزل حاجته بعبدك «1» ، وقصده قبل قصدك؛ وأسكن حريمه مجاورا لحريمه وتشفّع به إلى صدر الزمن وكريمه، واستوهبه الذنب وإن كان معترفا بعظيمه؛ والصنع الجميل ثمرة الأيام، والفضل أثبتته ألسن الأقلام؛ ولله لحظات تلحظ عباده ويرحم الراحمين، ويجزى المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ وإن مولانا «2» عقال الشرف وذو الفضل الانف «3» ، والعارف فى صنائع الإحسان كيف تؤكل الكتف؛ وقد أحلته

وكتب إلى قاضى القضاة تاج الدين بن خلف:

على ملاءة «1» أياديك، وألبسته ملاءة معاليك، وأحللته بضمان الله كنف ناديك؛ وأنت الكريم أخلاقا ونسبا، والطّيّب أعراقا وأبا، والصّدر الذى إذا سامته الأيّام خطّة ضيم ابى، وإذا أوطأته مهانة «2» وخسفا نبا؛ وأحقّ من قبل هذه الشفاعة كرمك «3» وأولى من رعاها شيمك، والمعالى جنود الشرف وأحقّ علم رفع «4» عليها علمك؛ والله تعالى يبقيه للأنام ملاذا، وللأمل معاذا، ويهب عزمه مضاء وقلمه نفاذا؛ إن شاء الله تعالى. وكتب الى «5» قاضى القضاة تاج الدين بن خلف: يخدم الجناب التاجىّ- أدام الله شرف الملّة ببقائه، وأعلى كلمة الأمّة بعلائه وأجرى ألسنة الأقلام بثنائه، ورفع ألوية أوليائه بولائه- وينهى ورود مشرّفته الّتى تجلّت فى سماء السيادة حسنا، وسهلت لفظا وجزلت معنى، وغدا لسان الإحسان عليها يثنى، وعنان الفضائل اليها يثنى؛ وقد أخذت برقاب المعانى، وأطربت إطراب المثانى، وبعثت روح الحياة الى روح الأمانى، وثنت إلى فضلها الأوّل عنان الثانى فحىّ «6» هلا بالمكرمات وبالعلا ... وحىّ هلا بالفضل والسّؤدد المحض

لا جرم أنّ المملوك سجد لله ثم لجلالة «1» ذلك الاستغفار، وقبول كلمات الاعتذار؛ وعلم أنّ مولانا لبس حلّة التواضع لتمام شرف الاصطناع، وليحوز أقسام السيادة بالصدر الرّحب والخلق الوساع «2» سجيّة «3» نفس شرّف الله مجدها ... بما شاء من فضل لديها ومن حلم وسؤدد آباء وكسب سيادة ... تضمّ إلى عزّ العلا شرف العلم هذا مع إساءتنا التى تسوّد وجوه الأمل، ويقضى كفرها- لولا إيمان مولانا- بإحباط العمل، على أنها ملازمة المعلولات للعلل وما كنت جانى فتنة غير أنّها ... إذا وقعت أردت مسيئا ومحسنا ولو رشقتنى مصميات سهامها ... لألفت لها حكما من الله بيّنا وإن جلال الله يشهد أنّنى ... بذلت من الوسع الذى كان ممكنا وحذّرت حتى لم أجد متحرّزا «4» ... وأسمعت لكن لم أجد ثمّ أذّنا «5» وكانت صعاب «6» تقتضيها مشيئة ... وهل لقضاء الله ردّ إذا دنا وأما إشارة مولانا إلى الحاجب الذى هو لمولانا أشرف من حاجب بن زراره بما «7» أودعه أثناء تلك الكلم من لطيف الإشارة وشريف العباره؛ فجزاء مولانا على الله فى جبره لقلب المملوك المنصدع، وصلة أمله المنقطع.

وكتب إلى الصاحب قاضى القضاة بدر الدين السنجارى -

وكتب إلى الصاحب قاضى القضاة بدر الدين السنجارى- وهو يوم ذلك متولى الحكم والوزارة بالديار المصرية: لا زال الإسلام يستضىء ببدره، والإيمان يأرز «1» إلى صدره، والشرف يتضاءل عند قدر جلالته وجلالة قدره، والآمال والآجال مصرّفة بين بسطة نعمته وسطوة قهره، هذه على ذكره وهذه على شكره، والمكارم والمحامد تتعلّق وتتألّق هذه بنشره وهذه ببشره، والعزم والرأى إذا فلّ أو فال «2» استغاث واستضاء هذا بنصره وهذا بفكره ولا غرو أن تثنى الوزارة جيدها ... إلى ناظم فى جيدها عقد فخره الى أحوذىّ «3» الرأى إن ناب معضل ... أراك جلىّ الأمر إيحاء سرّه إذا استغزر الذهن «4» الذكىّ تضاءلت ... له فكرتا قيس «5» الذكاء وعمره «6»

فيطلع رأيا واضحا من سداده ... كما انشقّ برد الليل عن ضوء فجره إلى سؤدد أجرت معاليه خيله ... سوابق غرّا «1» فى بهيمات دهره وكم سابق أجرى إلى غاية العلا ... ولكن طوى سبقا ملاءة حضره بحلم تجلّى فى أسرّة وجهه ... وجود تجلّى من طلاقة بشره يمينا لقد أضحت جلالة قدرها ... على شرف المقدار من دون قدره سطّرها المملوك بعد ما لبست الوزارة حلّة فخرها، وسحبت ذيل افتخارها، وبدا معصم شرفها فى حلية سوارها، وتجلت معانيها بين شموس فضلها وأقمارها، وجنينا الغضّ من زهرها، والطيّب من ثمرها، وحمدنا جميل تأثيرها وحميد آثارها وحيّت على بعد المدى نفثاتها ... بأطيب من رند «2» الرّبا وعرارها «3» واجتلى المملوك حسناء إحسانها فما ضارعتها البدور مذ فارقت سرارها، ولا الأنجم ولو نظم الفلك أنوارها، ولا الروضة وقد عقدت الغمائم إزارها «4» ، ولا أطلال ميّة وقد دبجت يد الأنواء «5» أزهارها، ولا أردان عزّة «وقد أوقدت بالمندل «6» الرطب

وكتب إلى الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد المعروف بابن حناء:

نارها» ؛ صلة جاءت كبرد الشباب «1» ، وبرد الشراب؛ اقتضابا قبل السؤال، وابتداء الآمال؛ والمملوك يحضر عقيبها ليجتلى وجه المنعم قريبا، ويجتنى غصن النّعم رطيبا ومتى لم أقم بشكرك للنا ... س خطيبا فلا وقيت الخطوبا وكتب الى الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء «2» الدين على بن محمد المعروف بابن حنّاء «3» : رفع الله قدر الجناب الصاحبىّ التاجىّ فى شرف الأقدار، وأجرى بإرادته وسعادته سوابق الأقدار، وألبسه حلية الشرف التى هى على رأس رياسته تاج وفى معصم سيادته سوار، وحلّة النعم التى ينكمش «4» لأجلها ردن المساءة وينسحب بمثلها ذيل المسار، وأمضى عزائم آرائه التى اذا سطت يوم البأس نفذت نفوذ

السهم ومضت مضاء الغرار «1» ، واذا سرت فى ليل الخطب هدت هداية النجم ووضحت وضوح النهار، وأرضى همّته التى اذا همّت أغنت عن الأبيض المرهف والأسمر الخطّار، واذا أمّت شأت «2» ناصية الحنفاء «3» وبذّت قاصية الخطّار «4» ؛ وأرهف أقلامه التى اذا أجراها أثبتت خال النّقس، فى وجنة الطرس، وطرّزت بالظلماء أردية الشمس؛ واذا هزّها أنست هزّ العوامل، وأصابت من الأمر الكلى والمفاصل، وإذا أمضاها لنعمة أو لنقمة فللجانى لعاب الأفاعى القواتل، وللعافى أرى «5» الجنى اشتارته أيد عواسل؛ ولا زال ربعه مربعا للجلال ومصيفا، ومرتعا لسوام الآمال وخريفا، ومشرعا وارد الظلال وريفا؛ وحرما آمنا تجبى اليه ثمرات الحمد وتجنى منه ثمرات الرّفد، وتقف المعالى عليه «وقوف مطايا الشوق بالعلم «6» الفرد» ؛ فإنه الربع الذى وقفت به الآمال وقوف غيلان «7» بدارميّه، وعكفت [عليه «8» ] المحامد «9»

عكوف توبة على حبّ الأخيليّة «1» ؛ والجناب [الذى «2» ] فاءت ظلاله وفاضت مواهبه وجاءت مذانبه «3» ، وجادت سحائبه، وجلّت شيمه وتجلّت غياهبه؛ فى روض المعالى الذى فاحت سائمه، وناحت حمائمه، ومنشإ المجد حيث شاب فأرخيت ذوائبه وشبّ فقطّعت تمائمه، وبيت الرياسة الذى اذا دنوت حباك بإكرامه واذا نأيت حيّتك مكارمه، وصدر السيادة الذى خضعت له الأعناق هيبة «لأبلج لا تيجان إلا عمائمه» ولا زال بدرا فى سماء سيادة ... يشار إليه فى الورى بالأنامل بسيط مساعى المجد يركب نجده ... من الشرف الأعلى وبذل الفواضل إذا سيل «4» أغنى السامعين جوابه ... وان قال لم يترك مقالا لقائل محدّد أيام الحياة فكلّها ... لطالب علم أو لقاصد نائل وينهى ولاء مخبوءا بسويداء قلبه، موضوعا بين شغافه وخلبه؛ وثناء مسموعا فى محافل الأنام، معلنا «5» فى صحائف الحمد بألسنة الأقلام، جديدا على ذهاب الليالى واختلاف الأيام؛ ودعاء سابق أراعيل «6» الرياح، ووضحت أنوار إجابته وضوح

الصباح، وطار الى ملإ القبول بقادمة كقادمة الجناح؛ وتحية اذا واجهت وجه الجهام أمطر، واذا هزّت أعطاف الكهام» أثّر؛ أرقّ من النسيم السّحرى، وأعطر من العنبر الشّحرىّ؛ وأصفى من ماء المناقع «2» ، وأحلى من «جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «3» » يرى ذلك فى شرع المروءة واضحا واجبا «4» ... ؛ تحيّة من أولى النعمة فشكرها وعرف العارفة وما أنكرها، وآمن بيده البيضاء من غير سوء ومذ آمن بها ما كفرها؛ كيف لا وقد امتزج بحبها لحمه ودمه، وسبّح بحمدها قلمه وفمه، وجرت شيم حمده على أعرق جيادها والخيّر من سبقت به إلى شكر المنعم شيمه؛ لا سيّما وقد جنى الطّيب من ثمارها، وورد العذب من أنهارها «5» ؛ فلا أعدم الله مولانا صنائع الإحسان الذى انعقدت عليه كلمة الإجماع، وأنشده لسان المحامد عن شرف الاصطناع فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع «6» ولا زال اللطف صدى صوته إذا دعا، والنجح قرين مساعيه أنّى سعى، وحاكم الفضل يصدّق دعواه حوز كلّ فضيلة كيف ادّعى؛ حضر المملوك مهنّئا نفسه بهنائه، ساعيا فى خدمته سعى الأجدل «7» فى هوائه، والنجم فى سمائه؛ من ملازمة

وجهه الذى ألقى الله عليه محبّة منه فاستنار، واكتسى حلّة الحياء فألبسته حلّة الوقار؛ واجتلته المقل فرأت رونق الخفر عليه باديا، وائتمت به الهداة فألفته نجما فى سماء السيادة هاديا؛ وقالت الأمانى فى ظلّه فأنشأ جوده قائلا: نزلت على آل المهلّب شاتيا «1» ورأيته والناس مؤمنون من ليث «2» عليه مهابة فكانوا الكروان «3» أبصرن بازيا «4» ؛ أبّهة الجلاله، وجلالة الأصاله؛ وأصالة الشرف، وشرف الفضل الأنف، ورياسة ورّثها خير سلف لخير خلف، وشيم علّمته فى المعالى كيف تؤكل الكتف؛ فصادف ركابه العالى قد استقلّ، وحلّ من دارة العزّ حيث حلّ؛ فأقام رجاء أن يعاين أسرّة جبينه، ويقبّله كتقبيل الندى فى يمينه؛ وحين جنحت الشمس الى مستقرّ الأنوار وطوى الفلك بيد القدرة رداء النهار، وأشرف اليوم من خشية «5» طيّه على شفا جرف هار؛ وثوّب «6» داعى العصر وحيعل، وعاين نيّر الفلك فى وجه السماء كعين الأقبل «7» ؛

ثنى عنانه إلى مثوى قراره، وانثنى يسابق أدهم ليله بأشهب نهاره؛ وعلى الرغم أخفق مسعاه، ولم يقل «1» قلبه الشوق الذى دعاه؛ لكن سار وأقام خالص ولائه وعاد بعد ما أودع الحفظة مرفوع دعائه؛ فعرّف الله مولانا بركات هذا الشهر الذى سارت به إلى إحسانه مطايا أيامه، وجعله مثبتا لحسناته ممحّيا «2» لآثامه، وحلّاه بالمقبول «3» من صيامه والمشهور من قيامه؛ وأراه صدر برّه أثلج، ووجه بدره أبلج، وثغر ابتسامه عن رضوان القبول أفلج؛ ورقّاه درج تضاعف حسناته، ولقّاه من كرم الله مذخور إحسانه وموعود هباته؛ وأراه الأمل فى بنيه، وأرانا فيهم ما رأينا فيه؛ فهو غاب «4» العلم وهم أغصانه وشجره، ومطهّم السابقين وهم حجوله وغرره؛ وانى لألمح «5» من مخايل شرفهم وشرف مخايلهم، وشمائل شيمهم وشيم شمائلهم؛ نجابة «6» تضعهم من الرّياسة فى أنفها، ومن السيادة بمكان شنفها؛ فهم جذوة فضل مبرقه، ودوحة علم مورقه ونبعة سيادة معرقه، وشموس معال فى أفق كلّ شرف مشرقه؛ سمت بهم أصالة النسب، وفضيلة الأدب المكتسب، وجمعوا بين شرف العمومة والخؤولة فى كرم المنتسب؛ فللعلا ألسن تثنى محامدها على الحميد من فعلهم وشيمهم، وللندى مواهب عزيت مذاهبها «7» الى العليّين من كرمهم وهممهم؛ لا زالت محاسنهم قلائد الأجياد وأيّامهم مواسم الأعياد، وحرمهم المخصب بالمكارم سواء العاكف فيه والباد؛ إن شاء الله تعالى.

وكتب إلى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم -

وكتب الى القاضى شمس الدين الأصفهانى الحاكم- وكان بالأعمال القوصيّة- رحمهما الله تعالى-: أوضح الله صنائع المجلس فى بهيم الآمال غررا، ونظم أياديه فى أجياد الأيّام دررا، وصفّى مشارع أمانيّه إن كان مشرع الأمانىّ كدرا، ولا زال الإسلام يشدو بحمده مفتخرا، والأيّام تتلو مجده سورا، والشرع المحمدىّ يكون بمضائه فى ذات الله منتصرا فقد نشرت يمناك أردية العلا ... تحلّى بلاد الله بالدين «1» والعلم وأمضيت أمر الله فى شرع أحمد ... وقيّدت شكر الله فى مطلق الحكم وترضى كلا الخصمين فى السّخط والرضا ... كأنك تعطى الخصم ما كان للخصيم الى غير ذلك من محاسن وضحت وضوح النجم فى الليل البهيم، وسرت الى الحمد سرى المجدّ الى الشرف الصميم، وحدّثت عن مساعيه فجاءت بالنثر البديع والدرّ النظيم، وأثنت عليه ثناء وارف الروض على واكف الوبل بألسنة النسيم وهزّت جناحى فضله وجلاله ... الى درك العلياء من غاية المجد وقالت معاليه لى المجد كلّه ... فما ابنة ذى «2» البردين والفرس الورد

فلا عدمه الإسلام إماما فاضلا، وحكما فاصلا، وساعيا الى غايات الفضائل واصلا، وفاعل حسنات صيّر الحاصل من ثنائه باقيا والباقى من عمله الصالح حاصلا؛ المجلس- أدام الله أيامه- يعلم أن الأيام مسّتنى بحدّ شباتها، ورمتنى عن قوس أذاتها، وجنتنى الحنظل من شجراتها، والمرّ من ثمراتها، وأضرمت من نار ألمى ما لم تطفئه مقلتى بفيض عبراتها كأنى لم أطلع بأفق سمائها ... ولم أتقلّب فى ثياب سماتها ولم أك منها فى سويداء قلبها ... مخايل من هدى العلا وهداتها - أستغفر الله- فإنها استرجعت ما لم يكن مستحقّا، وأبقت إن شاء الله لمجلسه السامى ما كان حقّا، وأسكنته «1» - أدام الله نعمته- وفلك السعادة شرقا ومطلع الشمس أفقا، وأحلّته «2» من كنف السيادة قلبا ومن رأس الرّياسة فرقا وتطلعه الآمال خير غمامة ... فتلمعه برقا وتوكفه ودقا وتبقيه للدين الحنيفىّ عصمة ... وللهدى والإضلال إن أبهما فرقا وتبرزه فى صدر كلّ فضيلة ... كما بذّ شأو الفاضلين بها سبقا حضر مملوك مولانا الولد [وقد «3» ] رفع من المحامد الشمسيّة لواء، والتزم العبوديّة والإخلاص ولاء، وعمر الأفنية ودادا والأندية ثناء؛ وقال: أحسن مولانا حين أساءت الأيام، وأولى نعمة حاتمية وإنها أشرف الإنعام

وما لى لا أثنى عليه بصالح ... وأشكره والشكر بعض حقوقه وأملأ من حسن الثنا كلّ مسمع ... وإنّى لأخشى بعد إثم عقوقه ثم سار وقلبى يتبعه، ودمعى يشيعه، ولسانى يستحفظه الله ويستودعه؛ وعليه من الديون ما أحاط به إحاطة الجفون بمقلها، والأغماد بمنصلها «1» ؛ لتوالى هذه المغارم التى طمّ جداها «2» ، والمظالم التى عم رداها، والمحنة التى ملكتنى يداها؛ من خراج طمى بحر ظلمه، وزاد على حدّ «3» الجور رسمه وخصصت من بين هذا العالم بوسمه «4» ؛ للزوم قام بوصفى فتبعه لازمه، ومعنى وجب لذاتى فاستحال عدمه؛ وقد كان المملوك وولده فيما سلف يجودان بما يجدان لقانع ومعترّ، وغنىّ ومضطرّ؛ صيانة للأعراض من أعراض اللّوم، ورغبة فى صلة حمد الأمس بفائد «5» اليوم؛ وسجيّة نفس تأنف من علاقة الذم؛ وإن كان هذا فيما لا يجب فالقياس فيما يجب انبعاث النفس اليه من حتم المروءة أمضى» ، والدّين بأداء الواجب أقضى؛ لانه

مؤيّد بإبرام الشرع، وقد صحّ هذا القياس بجامعيّة الأصل والفرع؛ لكن ضاقت «1» يد القدرة عن نفاذها، واعتاضت من وابل الثروة برذاذها؛ واذا توافرت القرائن أفادت فوق ما تفيد غلبات الظنون من مدار الشرعيّات عليها، وانتهاء غالب الأحكام إليها؛ وقد كان المملوك حرّك عزائم سيّدنا قاضى القضاة- شرّف الله قدره، وأدام على الإسلام أمره- إلى تحرّيها «2» العلوم الكريمة بما هى عالمه، وحكمها بما هى حاكمه؛ ليكون «3» له مستند يدفع أقوال المتعرّضين، ويصرف اعتراض المعترضين؛ ولئلّا يقف له واقف فيجرى قلمه الشريف بأمر جازم يجب الوقوف على مثاله، والمسارعة إلى امتثاله؛ فيعزّ استدراك الأمر بعد إحكامه، ويكون السعى فى معارضته كالنقض لأحكامه؛ فكتب بما يقف مولانا عليه، وتشير مروءته وديانته اليه؛ ويقرّر مع نائبه «4» ما يقف عنده، ولا يتجاوز حدّه؛ غير ذاكر عن مولانا منعا ينفّر عنه الرّواه «5» ، ولا مشنّع «6» بكتّاب سيّدنا قاضى القضاه؛ بل يكون كالشافع، اذا صمّم الخصم اعتذر بما هو لهذه المصالح كالجامع؛ ليكون المملّك «7» فى إرضائه بحسب الإمكان ويرى الخصم ما أخذه بعد اليأس نوعا من الإحسان؛ فالنفوس اذا منعت كلّ المنع طلبت كلّ الطلب، وتعلّقت فى درك أغراضها بكل سبب؛ وإذا أخذت بالكلام

وكتب إلى شهاب الدين محمود متولى سمهود من عمل قوص -

البيّن «1» ، وعوملت بالسهل «2» الليّن؛ بعد درء سورتها «3» بالمنع، ودفع شهوتها بالدفع؛ اتّسق حكم الأشياء وانتظم، وانشعب صدع هذا الجرح والتأم؛ وجرى الأمر على سداد بحفظ النظام وحفظ الحرمة والحفظ للشارع، ولذلك قال: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم» لا سيما مع شهادات ضروراتهم؛ بسط الله يمين سيدنا فى المعالى كما بسط لسانه فى المعالم، وقيّد عليه لسان المحامد كما أطلق يده بالمكارم «4» ؛ وعليه تحية الله التى توالى عليه نفحاتها، وتهدى إلى آماله العالى [من «5» ] مقترحاتها. وكتب إلى شهاب الدين محمود متولى سمهود «6» من عمل قوص- وكان بينهما مودّة، فاستدعاه للسلام عليه- فكتب: إلينا فإنا قد حللنا بأرضكم ... على فرط شوق لابن عثمان دائم وزرناك محمودا كما زار أحنف «7» ... لنيل الأمانى ربع قيس بن عاصم «8»

ولسنا بغاة للندى والتماسه ... وان كنت معروف الندى والمكارم ولكن وفاء بالإخاء لمن وفى ... وقد خان حتى حدّ سيفى وقائمى وجدتك ذخرى والزمان محاربى ... كما كنت عونى والزمان مسالمى فلا غرو أن أثنى اليك أعنّتى ... كما قد ثنت يمناى خنصر خاتمى يهدى الى المجلس السامى الشرفىّ تحيّة الله التى تحملها أنفاس النسيم معطّرة بعرف الرياض، مكلّلة بأندية الكرم الفيّاض؛ تغاديه فى السحر والمقيل، وتراوحه فى الطّفل والأصيل، وتشاهد محاسنه «1» المقل أحسن من محاسن بثينة فى وجه جميل؛ وأثنيته «2» التى تنتظم فى الأجياد انتظام القلائد، وترد على الأسماع ورود الهيم «3» على عذاب الموارد؛ ويوليه «4» من حبّه مزيّة الاختصاص، ومن موالاته السوانح التى لا تمتد إليها يد الاقتناص؛ فهو نسيم الأنس، ومسرّة النفس، وذخر اليوم والأمس؛ مصعبىّ الهمم، مهلّبى الشيم «5» ، حاتمىّ الكرم؛ فاق أخلاقا، وراق أعراقا؛ وسما نفسا، وطلع فى سماء الشرف شمسا وألفيته فى نفسه وولائه ... وحسن معانيه كما انتظم الدرّ وضاع شذا أنفاسه فانتشقته ... على النأى منه مثلما ابتسم الزهر ولاحت معاليه بآفاق مجده ... كما لاح فى ليل التّمام لنا بدر

لا حرم إتيانى «1» اليه، وإيثار تسليمى عليه؛ مع أنى كنت أعهد له خلوة حلوة مع الله ووقفة على بابه، والتجاءه فى جنح الليل إلى جنابه، ودمعة يرسلها إذا استرسل فى محرابه؛ وضراعة يتابعها خشوعه، وزفرة يشتمل عليها قلبه وتفرّق عنها ضلوعه فيا ليت شعرى هل أقامت بثينة ... على عهدها أم قد ثنتها الشواغل وهل ذلك الودّ الذى كان بيننا ... بوادى الخزامى مثل ما كان أوّل «2» وكتب اليه- رحمهما الله- يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات «3» - وقد أوردنا بعض هذه الرسالة فى الفن الأوّل فى السواقى، ونوردها فى هذا الموضع بجملتها لتكون متتابعة يتلو بعضها بعضا-: والسيف يندب فى الوغى فيهزّه ... ندب الكمىّ الى مضاء غراره والحرّ أولى بانتداب خلاله ... لمؤمّل فيه قضا أوطاره فلذلك حرّكت العزائم العالية المولويّة الشرفيّة- أدام الله علاها، ورفع لواها وأودع أسماع الأنام ثناها؛ ولا زالت مرفّهة السرائر، منوّرة الضمائر، سائرة فى قطب المعالى سير الفلك الدائر، آخذة بحظها من شرف المفاخر، جامعة بين درك إحسان

الله فى اليوم الأوّل واليوم الآخر- تحريك الطّسميّة «1» عزائم الأسود بن عفار «2» وبعثتها إلى إنالة الأمل انبعاث الهمم العربيّة يوم ذى قار «3» ، واستجشت عزائمها استجاشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزائم الأنصار، واستنجدتها استنجاد العثمانيّة بالهاشميّة يوم الدار «4» ، واستحثثتها سرعة الإجابة استحثاث أدهم الليل أشهب النهار؛ فإنها

للتى ثنيت عليها خنصر الاعتماد، وصرفت اليها عقيدة الاعتداد «1» ، وجعلتها من القلب فى سويدائه ومن المقلة فى السواد، واعتمدت عليها اعتماد بكر على الحارث بن عباد «2» ؛ لا جرم أنها والحمد لله تعالى ساعية لآمالى متى استسعيتها، وصدى صوتى متى دعوتها وفاتحة كتاب المحامد متى تلوتها؛ وأعيذها بالله أن تنكب عن قضائها «3» ، أو تقف دون غاية انقضائها؛ وإنها لأورق «4» فرعا من أفنان السّلمه «5» ، وأعراق أصلا فى الوفاء من أصل السّلمه «6» ، وأرشق سهما فى كنانة سلمه «7» وأوثق فى حفاظ المودّة من ابن شبرمه «8» ؛ يقين

أحطت بأنبائه، إحاطة رسول ابن داود «1» يوم إنبائه؛ فلا أشكّ فى «2» شرف نفسها وسموّ نجمها ووضوح شمسها، وزيادة يومها فى الوفاء على أمسها «3» ، كما لا تشكّ الإياديّة فى فصاحة قسّها، ولا العامريّة فى علاقة قيسها؛ وقد توجّه اليه حاملها لحمل السهام التى أسهمت له من الموالاة «4» أوفر أقسامها، ونشرت رداء ذكره على أفئدة قلوبها وألسنة أقلامها؛ عند اشتداد الحاجة إليها، وجرّ ثقل السواقى عليها؛ وحركة الحرّ التى حلّت شمسه برج حملها «5» ، وتوالت جيوش جنوده بين صدور ظباها وأطراف أسلها؛ تجفّف أنداء الثرى، وتعيد عنبر «6» الأرض عثيرا، وتشيب مفارق نباتها، وتذيق الممات «7» أكباد حبّاتها؛ فاستنصر العزائم العالية المولوية الشرفيّة فى إطفاء لهبه واقتضينا إعانته قبل انتضاء «8» قضبه، وبعثنا لمحلّ الهمة الشرفيّة قبل سطوته على قضبه «9» وقصبه؛ لتجرى جداولها على صفحة الثرى مستفيضه، وتجنى ثمرات رياضها من

أنداء همّته أريضه «1» ؛ وتغازل مقل النفوس لحظات أزهارها، وتفتن أفنان «2» فنونها بنوح بلبلها وهزارها، ويبوح شذا الروض عن «3» سرّها وآثارها «4» ؛ هذا مع أنّها خطبت حسن إحسانه، وتقلّدت جميل برّه وجزيل امتنانه؛ والربيع منمنم العذار، موشّى الإزار؛ قد لبس رداء شبابه، وماس فى خضر ترابه وخضل ربابه «5» ؛ يهزّ أعطاف سنائه «6» ، ويخطر فى برد هوائه وبرد مائه، فكلّل وجنات نوره ببرد أندائه؛ والثرى عنبرىّ الأديم، سحرىّ النسيم، رندىّ الشميم؛ موشّح بقلائد غدرانه، مغازل بعيون نرجسه بسّام بثغر أقحوانه؛ لا يغرّد «7» ذبابه ولا يطرّب، ولا يصرّ «8» بسحراته الجندب؛ تطلع شمسه محتجبة فى ضبابها «9» ، مقنّعة من سحابها؛ جارية فى أثناء حبكها «10» ، جائلة فى أدنى فلكها؛ تسعى فتسرع، وتكاد أن تغرب حين تطلع؛ والجوّ معقود الأزرار، فاختىّ «11»

الإزار؛ غيمه منسكب، ونوره منسحب؛ وليله يضمّ أطراف نهاره، ويلفّ وجهه فى حاشية إزاره؛ ينفى القذاة «1» عن مائه، ويجمع الحواسّ على جلوائه «2» ، ويعشى المقل من ضوء سنائه فلو أن ليلى زارنى طيف أنسها ... وماء شبابى قاطر فى ذوائبى ضممت عليها البرد ضمّة آلف ... وألصقت أحشائى بها وترائبى ولكن أتتنى بعد ما شاب مفرقى ... وودّعت أحبابى له وحبائبى والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة «3» الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرمح، مقوّمة تقويم القدح؛ غير مشعثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف، ولا مسوّسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها بامتلاء خصورها، وتساوى [بين «4» ] هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الخدود؛ مع مليات «5» أخذت النار فيها مأخذها فاسودّت، وتطاولت عليها مدّة الجفاف فاشتدّت؛ وترامت بها مدّة القدم، كأنها فى حيّز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه فى هيجاء السّلم، وتحكى «6» صلابة آرائه فى نفاذ الرأى ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بقبضها «7» ، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمدّ يد أيدها «8» فى اقتضاء إرادتها، وتطلع

طلوع الأنجم فى فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أوّل التوديع؛ على أنها تؤذن بحقائق الاعتبار، وتجرى جرى الفلك المدار فى فناء الأعمار تمرّ كأنفاس الفتى فى حياته ... وتسعى كسعى المرء أثناء عمره يفارق خلّ خلّه وهو سائر ... على مثل حال الخلّ فى إثر سيره ويعلمه التّدوار لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمرّه فمن أدركت أفكاره سرّ أمرها ... فقد أدركت أفكاره سرّ أمره ومن فاته الإدراك أدركه الردى ... إذا جرّعت أنفاسه كأس مرّه هذه آخر خطوات القلم، ومنتهى خطرات الكلم؛ فقم فى سرعة وصولها وتعجيل رسولها بعزم [غدا] ينسى لمروان عزمه ... براهط «1» إذ جاشت عليه القبائل غير معتمد عليه، ولا مفوّض أمرا اليه؛ فلم أعتمد عليه اعتماد الصّوفه «2» ، وإنما هو العماد عند أهل الكوفة «3» ؛ وإنما هو حمار سير، وذنب طير؛ يحمل ورقة مطويّة عن

ذكر شىء من إنشاء المولى [القاضى الفاضل البارع الأصيل] الأجل محيى الدين عبد الله [بن عبد الظاهر] رحمه الله تعالى

علمه، مزويّة عن فهمه؛ «كما يحمل الزّند الشرار إلى العظم» والله تعالى يحلّه من السعادة أشرف آفاقها، ويحرسه فى طفل الشمس وإشراقها ويجريه من ألطافه نحو غاية ... تبلّغه الألطاف حلو مذاقها ويلبسه فخر السيادة والعلا ... كما لبست أسماء «1» فخر نطاقها إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من إنشاء المولى [القاضى «2» الفاضل البارع الأصيل] الأجل محيى الدين عبد الله [بن عبد «3» الظاهر] رحمه الله تعالى كان رحمه الله من أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر؛ وأكابر أعيان الدّول والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول؛ له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى؛ فقصائده مدوّنة «4» مشهوره، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطوره؛ وكلامه كاد يكون «5» لأهل هذه الصناعة وعليهم

حجّه، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّه؛ وهو رحمه الله ممن عاصرته «1» ولسوء الحظ لم أشاهد محيّاه الوسيم، ولم أفز بالنظر إلى طلاقة وجهه الكريم؛ والذى أورده من كلامه هو ممّا نقلته من خطّه، وتلقّيته ممّن سمعه من لفظه؛ فمن كلامه- رحمة الله عليه- ما كتبه عن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحىّ- رحمه الله- إلى ملك الغرب، كتب: تحيّات الله التى تتابع وفودها وتتوالى، وتشرق نجومها وتتلالا، وتنفق إسرافا ولا تخاف من ذى العرش إقلالا؛ تخصّ الحضرة السنيّة السّريّة، العالميّة العادليّة المستنصريّه؛ ذخيرة أمير المؤمنين، وعصمة الدنيا والدين، وعدّة الموحّدين؛ لا زالت سماؤها بالعدل مغدقة الأنواء مشرقة الأنوار، ورياضها بالفضل مورقة الأغصان مونقة الثمار؛ ولا برحت ضوالّ الأمانى فى أبوابها تنشد، وقصائد القصود «2» فى اتصافها تنشد؛ وسرى الآمال عند صباح أمرها يحمد، وأحاديث الكرم عن جودها ترسل والى وجودها تسند؛ وسلامه الذى يكاثر نسيم الروض الأنيق، ويفاخر جديده عتيق «3» المسك وأين الجديد من العتيق؛ يغاديان تلك الأنداء «4» المباركة مغاداة الغوادى

من «1» وابل المطر، ويراوحانها مراوحة الرّقّة للأصل والبكر؛ حيث العزّة القعساء يمتدّ رواقها، والنعمة الغرّاء تخصف «2» أوراقها، والدّيمة الوطفاء «3» يتوالى إغداقها، ويتتالى إغراقها؛ وحيث العدل منشور الجناح، والحقّ مشهور السلاح، والإنصاف مبرور الأقسام لطالبه باق لا يزاح؛ سجيّة تتوارث توارث الفخار، ومزيّة تستأثر بالهداية استئثار النجوم بالأنوار، وشيم تستصحب استصحاب الأهلّة للإبدار؛ فلذلك يتلفّت الأمل اليها تلفّت السارى الى تبلّج الصباح، ويرتاح الى تلقّى إحسانها ارتياح الظامئ إلى ارتشاف الماء القراح؛ ويحتمى بها فى المطالب احتماء الليث بالغابه، ويستمدّ إسعافها استمداد الحديقة من السحابة؛ ويهزّ عدلها كما هزّ الكمىّ المرهف، وينبّه فضلها تنبيه النسيم جفن الزهر الأوطف «4» ؛ فيناجى بالجؤور «5» ، ويلتمس لها حسن الصنع الذى لا يزال مبتسم الثغور؛ فمما قصّ عليه من مناجاته، وطوى عليه طويّة مفاوضاته؛ أنّ القاضى زين الدين بن حباسة من بيت أسلف سلفه جميلا، وغدا هو على مكارمه دليلا؛ وكان له غلام قد سيّر معه جملة «6» ... والاحتفال الحفىّ «7» مسئول

فى تقدّم يجيب النجاح داعيه، ويغدو الفلاح مراوحه ومغاديه؛ واعتناء يستخلص حقّه ممن عليه اعتدى، ويرى من قبسه نورا يجد به هدى؛ فببارقة يضىء لديه الحالك، وبلمحة يهتدى «بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابك «1» » ؛ وما هو إلا رسم يرسم به وقد قرب البعيد، وآب الشريد؛ وخاف الخائف، وكفّ الجانف «2» ؛ وجمعت الضّوالّ، وضاق على المختزل «3» واسع المجال؛ مهابة قد سكنت القلوب، وسياسة قوى الطالب بها وضعف المطلوب، وعزّة لا يزال الرجاء ينيب إليها فيما ينوب؛ وأىّ مطلب تناجى فيه الآلاء المباركة فلا يصحب قياده، ويستسقى له مزن ولا تعاهد عهاده «4» ؛ وأىّ ذاهب لا يسترجع به ولو أنه عشيّات «5» الحمى، وأى فائت لا يردّ ولو أنه زمن الشبيبة المعسول اللّمى؛ وحسب العانى أن يحطّ برحابها رحاله، أو أن يوفد إلى أبوابها آماله؛ وقد تبادرت إليه المناجح متسابقه، وانتظمت لديه المصالح متناسقه؛ فحينئذ يفعم إناء تأميله، ويستوعب الإحسان لجملة «6» قصده وتفصيله؛ ويناديه

وكتب رسالة صيدية عن السلطان الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين الحلى نائب السلطنة بالقلعة:

السعد من تلك البقعة المباركه، فيوافيه التوفيق بصحائف القبول تحملها الملائكه؛ أمتع الله ببركاتها التى امتدّ رواقها، وأنار الحالك إشراقها؛ ولا زالت يراوحها تسليم عطر النفحه، وتصافحها تحيّات جميلة الصفحة؛ بمنّه وكرمه. وكتب رسالة صيديّة عن «1» السلطان الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين الحلّىّ «2» نائب السلطنة بالقلعة: هذه المكاتبة إلى المجلس لا توارت شموس أنسه، ولا أذبلت ثمار غرسه ولا برح غده فى السعد مربيا على يومه ويومه على أمسه؛ تتضمّن إعلامه بأنا خرجنا إلى الصيد المبارك بجنود تملا السهل والجبل، وتستحيى الشمس منها فتستتر فى سحابها من كثرة الخجل؛ تسير على الأرض منها جبال، وتأوى الرمال منها الى أورف ظلال؛ وتوجّهنا إلى جهة الطّرّانة «3» وإذا بحشود «4» الوحوش قد توافدت، وعلى مناهل المناهج قد تواردت؛ والأجل يسوقهم، والبيد تعقّهم» ، والمنايا تعوقهم؛

ولم تزل أيدى الخيل تجمعهم فى صعيد، وتطوى بهم سطورا فى طروس البيد؛ حتى أحاطت بهم إحاطة الفلك بالنجوم الزواهر، والأجفان بالعيون النواظر؛ وجرّدت السيوف فظنّتها غدرا، ورميت النبال فحسبتها شررا؛ وعزلت «1» الرماح بالسهام وحيّتها السّلام «2» بالسّلام، وسكنت نهارا من العجاج فى ظلام؛ وضاقت عليها الأرض بما ربحت، وأدركت المنيّة منها ما طلبت؛ وراسلتها المنايا، وأهدت اليها رياحين تحايا؛ فمن صريع وصديع وطريح وطريد، وجريح ومقبل وشريد، وقائم وحصيد؛ ولم تسلم فى هذا اليوم غير غزالة السماء فإنها استترت بالغيوم، وخافت أن يكون الهلال قد نصب فخّا لصيدها وصيد غيرها من النجوم؛ والموت «3» أسر كلّ مهاة مهابه، ونال الحتف من كل طلا «4» طلابه؛ وفتكت الظّبا بالظّبى، وقالت السهام لأجيادها: مرحبا؛ وثنينا الأعنّة والشفار قد أنهلت، والظهور قد أثقلت؛ والكنس «5» خاوية على عروشها، والبيد قد أوحشت من وحوشها؛ وما نشتمل عليه من محبّة المجلس وإيثاره، ونجده من الوحشة له مع دنوّ داره؛ وسروره بما عساه لنا يتجدّد، وحبوره بما يرد من جهتنا وهذا لا نشكّ فيه ولا نتردّد؛ أوجب أن نخصّه به ونتحفه، ونصفه له على جليّته إذ كنّا بالتخصيص به لن ننصفه؛ وقد بعثنا إليه منه قسما، ولم تنس عند ذكرنا أنفسنا له اسما.

وكتب عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى صاحب اليمن جواب كتاب عزّى فيه السلطان عن ولده الملك الصالح علاء «1» الدّين علىّ- وكان الكتاب الذى ورد فى ورق أزرق، وسيّره فى كيس اطلس أزرق، والعادة أن يكون فى كيس أطلس أصفر-: أعزّ الله نصرته وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح، وجرح الجوارح، وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت «2» به من تلقاء صنعاء اليمن الطوائح، وكتب له جزاء المصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح «3» ؛ المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها «4» وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم لولا زرقة طرسه؛ وزرقة لبسه، لقال: «وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم» ؛ يتضمّن ما كان حدث من رزء تلافاه الله بناسيه، وتوافى هو والصبر فتولّى التسليم تبيين عاسيه «5»

وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا: هذا تثبّت قد انتبذ «1» ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلّا وشاهدنا حولنا من ذرّيّتنا- والحمد لله- فلذ؛ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كلّ باب، ووفّانا الله أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله حسن الاستنامة إلى قضائه والاستكانة إلى عطائه عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به: هذا مولى مولود؛ وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالى بالصدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هى توالت أو تولّت، ولا بالجفون إن ألقت ما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت؛ ويخاف من الدهر من لم يحلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا تنتابه الخطوب الخطره؛ على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح- رضى الله عنه- وإن كان منكيا «2» والنائج بشجوه وإن كان مبكيا، والنائج «3» بذلك الأسف وإن كان لنار الأسى مذكيا؛ فإن وراء ذلك من تثبيت الله ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به يرفا؛ وبكتاب الله وبسنة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عندنا حسن اقتداء نضرب به عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع الله- والمنّة لله- نعطى لمن يؤنّب ويؤبّن «4» أذنا ولا نعيرها لمن يلحى؛ إذ الولد الذاهب مرّ فى رضوان الله تعالى سالكا

طريقا لا عوج فيها ولا أمتا «1» ، وانتقل سارّا بارّا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ولا نعتا؛ وان كان نفعنا «2» فى الدنيا فها نحن بالصدقات والترحّم عليه ننفعه، وان كان الولد عمل أبيه- وقد رفع الله روح ولدنا فى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح «والعمل الصّالح يرفعه» ؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، [ما «3» ] يهوّن ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء [ما «4» ] بين المرء وبين قلبه يحول، ومله عن تخيّل أسف فى الخاطر يجول اذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول «5» ولنا بحمد الله ذرّيّة درّيّة «6» ، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة اذا سيّد منهم خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول «7»

ما منهم الا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدا وأن تسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ «1» الخبر «والشمس طالعة إن غيّب القمر» لا سيّما من الدين به إذ هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف «2» ؛ وعلى كلّ حال لا عدم إحسان المولى الذى يتنوّع فى برّه، ويعاجل قضاء الحقوق فتساعف مرسومه فى توصيله طاعة بحره وبرّه؛ وله الشكر على مساهمة المولى فى الفرح والترح، ومشاركته فى الهناء إذا سنح، وفى الدمع اذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب مثل ذلك عن علمها، ولا يعزى الى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التجارب التى مخضت له من هذه وهذه الزّبده، وعرضت عليه منهما الهضبة والوهده؛ والرغبة الى الله تعالى فى أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمه وكما لم يجعلها للظهور قاصمة فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمه «3» ، وان يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمه؛ وأن يحبّب الينا كلّ ما يلهى عن الأموال والأولاد من غزو وجهاد، وأن يجعلنا ليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وألّا تقصف رماحنا إلا فى فود أو فى فؤاد، ولا تحوّل

ومن إنشائه رحمه الله تقليد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بولاية عهد السلطنة

سروج خيلنا من ظهر جواد فى السّرايا إلّا إلى ظهر جواد، وألا تشقّ لدينا إلا أكباد أكناد «1» ، ولا تجزّ «2» غير شعور ملوك التتار تتوّج «3» بها رءوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد «4» ؛ والله يشكر للمولى سعى مراثيه التى لولا لطف الله بما صبّرنا «5» به لأقامت الجنائز، واستخفّت «6» النحائز، ولهوت بالنفوس فى استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى [بفادحه] ، ولا خاطره بسانحة من الحزن ولا بارحه ولا أسمعه بغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه؛ بمنّه وكرمه. ومن إنشائه رحمه الله تقليد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بولاية عهد السلطنة من أبيه السلطان الملك المنصور- سقى الله عهدهما صوب الرحمة- وهو: الحمد لله الذى لم يزل له السمع «7» والطاعة فيما أمر، والرضا والشكر فيما هدم من الأعمار وما عمر، والتفويض فى التعويض «8» إن غابت الشمس وبقى القمر

نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الاركان، نابت الأغصان، كلّ روضة من رياضه ذات أفنان؛ لا تزعزعه ريح عقيم «1» ، ولا يخرجه رزء عظيم عن الرضا والتسليم، ولا يعتبط «2» من جملته كريم إلا ويغتبط من أسرته بكريم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيد قائلها لله تفويضا، وتجزل له تعويضا وتحسن له على «3» الصبر الجميل فى كل خطب جليل تحريضا؛ ونشهد أن محمدا عبده الذى أنزل فى التسلية به: «وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل» والنبىّ الذى أوضح الله به المناهج وبيّن السّبل؛ صلّى الله عليه وعلى آله ما تجاوبت المحابر والمنابر فى «4» البكر والأصل؛ وما بدّدت عقود ونظّمت، ونسخت آيات وأحكمت ونقضت أمور وأبرمت، وما عزمت «5» آراء فتوكّلت وتوكلت فعزمت؛ ورضى الله عن أصحابه الذين منهم من كان للخليقة نعم الخليفة، ومنهم من لم يدرك أحد فى تسويد النفس الحصيفة «6» ولا فى تبييض الصحيفة مدّه ولا نصيفه «7» ، ومنهم من يسرّه الله

لتجهيز جيش العسرة «1» فعرف الله ورسوله معروفه، ومنهم من عمل صالحا أرضى ربه فأصلح فى ذريّته الشريفه؛ وبعد، فإن من الطاف الله بعباده، واكتناف عواطفه ببلاده «2» ؛ أن جعلنا كلّما وهى للملك ركن شديد شيّدنا ركنا عوضه، وكلّما اعترضت للمقادير جملة بدّلنا آية مكان آية وتناسينا تجلّدا تلك الجملة المعترضه؛ فلم نحوج اليوم لأمسه وإن كان حميدا، ولا الغارس لغرسه وإن كان ثمره يانعا وظلّه مديدا؛ فأطلعنا فى أفق السلطنة كوكب سعد «3» كان لحسن الاستخلاف معدّا، ومن لقبيل المسلمين خير ثوابا وخير مردّا، ومن بشّر الله به الأولياء المتقين وينذر به من الأعداء قوما لدّا، ومن لم يبق [إلّا به «4» ] أنسنا بعد ذهاب الذين نحبّهم [وبقى «5» ] كالسيف

فردا، والذى ما أمضى حدّه [فى «1» ] ضريبة إلا قدّ البيض «2» والأبدان قدّا، ولا جهّز «3» راية كتيبة إلا أغنى «4» غناء الذاهبين ... وعدّ «5» للأعداء عدّا ولا بعثه جزع فقال: «كم من أخ لى صالح» إلا لقيه ورع فقال: «وخلقت يوم خلقت «6» جلدا» ؛ وهو الذى بقواعد السلطنة الأدرى وقوانينها الأعرف، وعلى الأولياء الأعطف وبالرعايا الأرأف، والذى ما قيل لبناء ملك: هذا عليه قد وهى إلا وقيل: هذا بناء مثله منه أسمى ملكا وأشرف، والذى ما برح النصر يتنسّم من مهابّ

تأميله والفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسّم الثغور من تبسّمه النجاح، وينقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئبّ الى ملاحظة جبين عهده الوضّاح ويتّفق اشتقاق النعوت فيقول التسلّى للتملّى سواء الصالح والصلاح؛ والذى ما برح لشعار السلطنة الى توقّله «1» وتنقّله أتمّ حنين، وكأنّما كوشفت الإمامة العبّاسيّة بشرف مسمّاه فيما تقدّم من زمن من سلف من حين «2» ، فسمّت ووسمت باسمه أكابر الملوك [وأخاير «3» السلاطين] فخوطب كلّ منهم مجازا لا كهذه الحقيقة ب «خليل» أمير المؤمنين؛ والذى كم جلا بهاء جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن رأيه «4» ويمن آرائه يهيم وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش ولا ينكر الخليل اذا قيل عنه: إنه إبراهيم «5» ؛ ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيره، وتلقى البنان سلاحها ذهلا وهى لا تدرى لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره؛ والذى ألهم الله الأمّة بجوده ووجوده صبرا جميلا، وآتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأمينا وتأميلا، وعظم فى القلوب والعيون، بما من برّه سيكون، فسمّته الأبوّة الشريفة ولدا «6» وسمّاه الله: خليلا؛ ولمّا تحتّم من تفويض أمر الملك اليه ما كان الى

وقته المعلوم قد تأخّر، وتحيّن «1» حينه فكمل بزيادة «2» كزيادة الهلال حين بادر تمامه فأبدر؛ اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور، والمراقبة لمصالح الأمور، والمصاقبة «3» لمناحج البلاد والثغور، والمقاربة «4» من فواتح كل أمر ميسور؛ أن نفوّض اليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظّمه، المكّرمة المفخّمة المنظّمة؛ وأن تبسط يده المنيفة لمصافتحها بالعهود، وتحكيمها فى العساكر والجنود، وفى البحور والثغور وفى التّهائم والنجود؛ وأن يعقد بسيفها وقلمها كلّ قطع ووصل، وكلّ فرع وأصل وكلّ نصر ونصل؛ وكلّ ما يحمى سرحا، ويهمى منحا، وفى المثيرات فى الإعداء «5» على الأعداء نقعا وفى المغيرات صبحا؛ وفى المنع والإطلاق، وفى الإرفاد «6» والإرفاق وفى الخميس إذا ساق «7» ، وفى الخمس «8» اذا انساق، وفى السيوف «إذا بلغت التّراقى وقيل: من راق» ، وفى الرماح إذا التفّت الساق منها بالساق؛ وفى المعاهدات والهدن

وفى الفداء بما عرض من عرض وبالبدن للبدن «1» ، وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن، وفى جميع ما تستدعيه بواعثه فى السرّ والعلن، وتسترعيه «2» نوافثه من كبت وكتب متفرّقين أو فى قرن؛ عهدا مباركة عوذه «3» وتمائمه، وفواتحه وخواتمه، ومناسمه «4» ومواسمه، وشروطه ولوازمه [على «5» عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفى يد جبّار السموات قائمه] لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لبرمه «6» ، ولا داحض لما أثبتته الأقلام من مكنون علمه. ويزيده «7» مرّ الليالى جدّة ... وتقادم الأيام حسن شباب

وتلزم السنون والأحقاب، استيداعه حتى «1» الذّرارىّ والأعقاب؛ فلا سلطان ذا قدر وقدره، وذا أمر وإمره؛ ولا نائب فى مملكة قربت أو بعدت، ولا مقدّم جيوش أتهمت أو أنجدت؛ ولا راعى ولا رعيّه، ولا ذا حكم فى الأمور الشرعيّه؛ ولا قلم إنشاء ولا قلم حساب، ولا ذوى أنساب ولا ذوى أسباب؛ إلا وكلّ داخل «2» فى قبول عقد هذا العهد الميمون، ومتمسّك بمحكم آيات كتابه المكنون والتسليم لنصّه الذى شهدته من الملائكة الكرام الكاتبون؛ وأمست بيعته بالرضوان محفوفه، والأعداء يدعونها تضرّعا وخيفه، فليشكروا الصنع الذى بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد صار سلطانهم يقيم لهم من ولاة العهد خليفة بعد خليفه؛ وأمّا الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف- أعزّك الله- بها الدّرب ولسماع شدوها وحدوها الطّرب، الذى للّغو لا يضطرب؛ فعليك بتقوى الله فإنها ملاك سدادك، وهلاك أضدادك؛ وبها يراش جناح نجاحك، ويحسن اقتداء اقتداحك؛ فاجعلها دفين جوانح تأمّلك ووعيك، ونصب عينى أمرك ونهيك؛ والشرع الشريف فهو قانون الحقّ المتّبع، وناموس «3» الأمر المستمع؛ وعليه مدار إيعاء كلّ إيعاز «4» ، وبه يتمسّك من أشار «5» وامتاز، وهو جنّة والباطل نار

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ؛ فلا تخرج فى كلّ حال عن لوازمه وشروطه ولا تنكب عن معلّقه ومنوطه؛ والعدل، فهو مثمّر غروس الأموال، ومعمر بيوت الرجاء والرجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال؛ فاجعله جامع أطراف مراسمك، وأفضل أيّام مواسمك؛ وسم به فعلك، وسمّ به فرضك ونفلك؛ ولا تفرد به فلانا دون فلان ولا مكانا دون مكان، واقرنه «1» بالفضل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ؛ وأحسن التخويل، وأجمل «2» التنويل، وكثّر لمن حولك التموين والتمويل؛ وضاعف الخير فى كلّ مضاف لمقامك، ومستضيف «3» بإنعامك، حتى لا تعدم فى كلّ مكان وكلّ زمان من النعماء ضيافة الخليل «4» ؛ والثغور، فهى للممالك مباسمها فاجعل نواجذها تفترّ عن أحسن ثنايا الصّون، ومراشفها شنبة «5» الشّفاه «6» بحسن العون؛ ومنها بما يحمى السّرح منها، وأعنها بما يدفع المكاره عنها؛ فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كلّ مارّ من الأعداء مارد؛ وأمراء الجيوش، فهم السّور الواقى بين يدى كلّ

سور، وما منهم إلّا بطل بالنصر مشهور كما سيفه مشهور؛ وهم ذخائر الملوك وجواهر السلوك، وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك؛ وما منهم إلا من له حرمات «1» سلفت، وحقوق عرفت، وموات على استلزام «2» الرعاية للعهود وقفت؛ فكن لجنودهم «3» متحبّبا، ولمرابعهم مخصبا، ولمصالحهم مرتّبا، ولآرائهم مستصوبا وللاعتضاد بهم مستصحبا، وفى حمدهم مطنبا، وفى شكرهم مسهبا؛ والأولياء المنصوريّين الذين هم كالأولاد، ولهم سوابق أمتّ من سوابق الإيجاد «4» ؛ وهم من عملت استكانة «5» من «6» قربنا، ومكانة من قلبنا، وهم المساهمون فيما ناب، وما برحوا للدولة الظفر والناب؛ فأسهم لكلّ منهم من احترامك نصيبا، وأدم لهم ارتياحك، وألن «7» جماحك وقوّ بهم سلاحك، تجد منهم ضروبا، وتر كلّا منهم فى أعدائك ضروبا؛ وكما أنّا نوصيك بجيوش الإسلام، كذلك نوصيك بالجيش الذى له المنشآت فى البحر كالأعلام؛ فهو جيش الأمواه والأمواج، المضاف الى الأفواج من جيش الفجاج؛ وهو الجيش السّليمانىّ فى إسراع السّير، وما سمّيت شوانيه «8» غربانا إلا ليجمع بها لنا

ما اجتمع لسليمان صلّى الله عليه وسلّم من تسخير الريح والطير؛ وهى من الديار المصريّة على ثبج البحر الأسوار، فإن قذفت قذفت الرعب فى قلوب الأعداء وإن أقلعت «1» قلعت منهم الآثار؛ فلا تخله من تجهيز جيشه، وسكّن طيش البحر بطيشه؛ فيصبح لك جيشان كلّ منهما ذو كرّ وفرّ، هذا فى برّ بحر وهذا ببحر برّ؛ وبيوت العبادات فهى التى الى مصلّى سميّك خليل الله تنتهى محاريبها، وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدعوات وتأويبها «2» ؛ فوفّها نصيبها المفروض غير منقوص، ومر برفعها وذكر اسم الله فيها حسب الأمر المنصوص؛ وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات» الواجبات من حيث أنها كلّها بيوت لله هذه للصّلاة وهذه للصلات؛ وهذه كهذه فى رفع المنار، وجمع المبارّ، واذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار؛ فاصرف اليها اجتهادك فيما يعود [عليها] بالتثمير، كما يعود على تلك بالتنوير؛ وعلى هذه بإشحانها «4» بأنواع الصروف، كإشحان «5» تلك باستواء الصفوف؛ فإنها إذا أصبحت مصونه، احتملت بحمد الله المعونه

وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونه، فتكمّل هذه لكلّ ولىّ دنياه كما كمّلت تلك لكل ولىّ دينه؛ وحدود الله، فلا يتعدّاها أحد، ولا يرأف فيها ولد بوالد ولا والد بولد؛ فأقمها وقم فى أمرها حتى تنضبط أتم الضبط، ولا تجعل يد القتل مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كلّ البسط، فلكلّ من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحدّ حدّه فلا يتجاوز أحد ذلك الحدّ ولا يخرج عن ذلك الشرط؛ والجهاد فهو الدّيدن المألوف من حين نشأتنا ونشأتك فى بطون الأرض وعلى ظهور الخيل فمل على الأعداء كل الميل، وصبّحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل، وارمهم بكلّ شمّرىّ «1» قد شمّر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذّيل «2» ؛ واذهب بهم فى ذلك كلّ مذهب، وأبن «3» بنجوم الخرصان «4» كلّ غىّ وغيهب وتكثّر «5» فى غزوهم من الليل بكلّ أدهم ومن الشّفق بكلّ أحمر وأشقر [ومن الأصيل بكلّ أصفر «6» ] ومن الصبح بكلّ أشهب، وانتهب «7» أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب

وأوّل ما ينهب؛ ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده، وأن ينصر بك جيوش الإسلام فى كلّ إنجاد وإتهام وما النصر إلا من عنده؛ وبيت الله المحجوج من كلّ فجّ، المقصود من كل نهج؛ يسّر سبيله، ووسّع الخير وأحسن تسبيله «1» ، وأوصل من برّك لكلّ من الحرمين ما هو «2» له، لتصبح ربوعه بذلك مأهوله؛ واحمه ممّن يرد فيه بإلحاد بظلم، وطهّره من كلّ مكس «3» وغرم؛ ليعود نفعك على البادى والعاكف، ويصبح واديه وناديه مستغنيين بذلك عن السحاب الواكف؛ والرّعايا، فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولاستلزام «4» العمارة شروع «5» ؛ فمتى جادهم غيث أعجب الزّرّاع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنّماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلّاتهم، وتوافرت زكواتهم، وتنوّرت مشكاتهم «والله يضاعف لمن يشاء» ؛ هذا عهدنا للسيّد الأجلّ الولد الملك الأشرف صلاح الدنيا والدّين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين- أعزّنا الله ببقائه- فليكن

بعروته متمسّكا، وبنفحته متمسّكا «1» ؛ وليتقلّد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كلّ فتح منه بخير إقليد «2» ، وها نحن قد كثّرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته: من تتويج مفرّق وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففى كلّ ذلك تبجيل وتمجيد؛ والله تعالى يجعل استخلافه للمتقين إماما، وللدين قواما، وللمجاهدين اعتصاما، وللمعتدين انقصاما، ويطفئ بمياه سيوفه نار كلّ خطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميّه صلّى الله عليه وسلّم بردا وسلاما؛ إن شاء الله تعالى. وكلامه رحمه الله كثير ورسائله مشهورة، وبيد الناس من إنشائه ما لو استقصيناه لطال وانبسط، وقد قدّمنا فى كتابنا هذا من كلامه فى باب التهانى بالفتوح ما تجده فى موضعه ونختم كلامه بشىء من أدعية الملوك، وهى: ومكّن الله له فى الأرض، وجعل طاعته واجبة وجوب الفرض، وأيّد آراءه بالملائكة فى الحلّ والعقد والإبرام والنقض. آخر: وأنجز له من النصر صادق وعده، وجعل الملوك من عبيده والملائكة من جنده، ومتّعه بما وهبه من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده. آخر: وحفظه بمعقّبات من أمره، وحمى حمى الدين بقصار بيضه وطوال سمره، وجعل قدر مملكته فى الدهر كليالى قدره، وألبس أولياءه من طاعته ما يجرّون أذيال فخره.

آخر: ولا زالت الدنيا بعدله مخضرّة الوهاد والرّبا، والامال بفضله قائلا لها النجح: مرحبا، والأقدار لنصره مسدّدة السهام مرهفة الظّبا، والأيّام لا تعدم من جميل أثره وجليل تأثيره فعلا مطربا، ووصفا مطيّبا. وجعلت ملكه موصولا بحبل لا يحلّ عقده، وحرمه محروسا بسيف التوفيق لا يفلّ حدّه. ولا زالت راياته ألسنة تنذر أعداءه بالفرار، وتبشّر أولياءه بالقرار، وآراؤه أعلاما عالية المنار واضحة الأنوار. وأنجز له عداته فى عداته، وجعل النصر والتوفيق مصاحبين لآرائه وراياته. وأناله النصر الذى يغنيه عن الحيلة والحول، وعقد السعد بعرا «1» ما يمضيه من الفعل والقول، وبوّأ أولياءه جنّة من النصر ما فيها غائلة وجنّة من العزّ ما فيها غول. وقصم بمهابته كلّ جبّار عنيد، وعصم كلّ من يأوى من رجائه إلى ركن شديد. وآتاه من التأييد سلطانا نصيرا، وجعل جيشه أكثر قوى وأقوى نفيرا. ولا زالت الآمال بسحابه مخضرّة الرّبا والوهاد، والتأييد بتمكينه مناديا فى كلّ ناد، والدنيا بملكه مسرورة الأسرار «2» حالية الأجياد، والأقدار لأمره متكفّلة بالنفاد «3» . وطرّز بأيامه ملابس السّير، وأحلّ أمره أعلى هضبات النصر والظّفر، وحلّى أجياد الممالك من عدله وبذله بأشرف الدّرر، ولا برح القدر يوافق قصوده «4» فيقول للقدر:

ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد السالك

«لقد جئت على قدر» . وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها «1» ، وعمر بعدله الآفاق وعمّها، وأوضح مناهج كرمه لمن قصدها وأمّها، وأنجز عداته فى عداته فأصماها وأصمّها. وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله، وحمى حمى الدين بنصره وفضله، وكسا الدنيا بملكه حلّة فخار معلمة بإحسانه وعدله، وجعل أقاليم الأرض معمورة بسلطانه مغمورة بعطائه وبذله. ذكر شىء من إنشاء المولى الماجد السالك من طريقى الفضل والفضائل أوضح الطرق وأنهج المسالك، المفصح بلسان براعته والموضح بأنوار بلاغته ما أبهم واستبهم من ليل العىّ الحالك، المتصرّف بقلمه وكلمه لوثوق «2» ملوك الإسلام بديانته وأمانته وأصالته ونزاهته فى الأقاليم والثغور والحصون والممالك، العامر بفضله وفضائله والغامر بجوده ونائله باطن وظاهر من أمّله وأمّ له من زائر وقاطن ومارّ وسالك؛ فينفصل هذا عن بابه وهو بجوده مغمور، وهذا عن مجلسه وقلبه بولائه لما أولاه من إحسانه معمور؛ وهذا وهو ينفق الجمل من ماله، وذاك وهو يجود على المعدم من فضل نواله؛ والآخر وقد امتلأ صدره سرورا، وأشرق وجهه بهجة ونورا؛ وانطلق لسانه من عقاله بعد تقييده، وانبسط أمله لطلب الفضائل لمّا ظفر بمعدنها بعد تعقيده «3» ؛ فتجده وقد اعتلق «4» منه جملا واعتنق جمالا، وأنفق الدّرر بعد ضنّه بالأصداف فهو لا يخشى عدما ولا يخاف إقلالا؛ والمولى المعنىّ

بهذه المعالى التى ابتسمت ثغورها، وتحلّت نحورها؛ والمكارم التى جادت سحائبها وامتدّت مذانبها «1» ، وترادفت مواهبها، واتّسعت مذاهبها؛ والفضائل التى لجنابه الكريم تعزى ولفضله العميم تنتسب، والسيادة التى شادها لنفسه لاستغنائه عمّا مهدته له آباؤه النّجب، والمراد بهذه الأوصاف التى خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقى منه وتنتخب «2» هو لسان الدولة ويمينها، وسفير المملكة وأمينها؛ وجامع أشتات الفضائل، وناظم أخبار الأواخر وسير الأوائل؛ وسيّد الرؤساء وجليس الملوك، ومؤلّف كتاب نظم السلوك؛ المولى المالك علاء الدين علىّ ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن المولى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، ذو الفضائل والمآثر، والنسب العريق والأصل الطاهر، والسبب الوثيق والفضل الباهر؛ فهذه نبذة من أوصافه أثبتناها، ولمعة من محاسنه أوردناها، أسام لم تزده معرفة وإنما لذّة ذكرناها؛ وله- أعزّه الله وأوفر نعمه لديه، وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه؛ وأرانا فى نجله الكريم ما رأيناه فى سلفه وفيه، وأنطق الواصف لمحاسنهم بملء فيه- من الرسائل البليغه، والتّقاليد البديعه؛ والعهود التى عاهدتها البلاغة ألا تتعدّاها فوفت بعهدها، وأقسمت معانيها أنها لم تقصد سواه من قبل لعلمها أنّ غيره لا يوفّيها حقّ قصدها؛ وسنورد إن شاء الله من كلامه ما هو بالنسبة الى مجموعه نبذة يسيره، ونرصّع فى كتابنا هذا من فضائله لمعة خطيره؛ ونرفع بما نضعه فيه من كلامه قدر هذا التصنيف، ونطرّز به

أردان هذا التأليف، ولا نحتاج إلى التعريف بمكانه وتمكّنه من هذه الصناعة فالشمس تستغنى عن التعريف؛ ونحن الآن نعتذر من التقصير فى الانتهاء إلى وصف محاسنه، ونعترف بالعجز عن إدراك كنه مناقبه الشريفة وميامنه؛ ونأخذ فى ذكر كلامه لنمحو ذنب التقصير بحسن الإخبار «1» ، ونسأل الصفح عن اختصارنا واجب حقّه ونرجو قبول كلمات الاعتذار فمن إنشائه ما كتبه عن الخليفة المستكفى بالله أبى الربيع سليمان- جمّل الله به الدين، وأيّد ببقائه الإسلام والمسلمين- للسلطان الملك المظفّر ركن الدين بيبرس المنصورىّ فى شوّال سنة ثمان وسبعمائة، ابتدأه بأن قال: هذا عقد شريف انتظمت به عقود مصالح الممالك، وابتسمت ثغور الثغور ببيعته التى شهدت بصحّتها الكرام الملائك؛ وتمسّكت النفوس بمحكم عقده النّضيد ومبرم عهده «2» النظيم، ووثقت الآمال ببركة ميثاقه فتقرأه الألسنة مستفتحة فيه بقول الله الكريم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذى جعل الملّة الإسلاميّة تأوى من سلطانها الى ركن شديد، وتحوى من مبايعة «3» مظفّرها كلّ ما كانت ترومه من تأييد التأييد، وتروى أحاديث النصر عن ملك لا يملّ من نصرة الدّين الحنيفىّ وإن ملّ الحديد من الحديد؛ مؤتى ملكه من يشاء من عباده وملقى مقاليده للولىّ الملىّ «4» بقمع أهل عناده؛ ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه

مرهوبا مرغوبا، وموليه [ومولّيه «1» ] من غدا محبوّا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا وباسط أيدى الرغبات لمن حكم له كمال وصفه ووصف كماله بأن يكون مسئولا مخطوبا ومفوّض «2» أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطّيّه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا؛ والحمد لله مجرى الأقدار برفع الأقدار، ومظهر سرّ الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسيّة بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار، جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار «3» ، ودافع لاواء «4» الأضرار، بجميل الالتجاء الى ركن أمسى بقوّة الله تعالى عالى المنار وافى المبارّ، بادى الآثار الجميلة فى «5» الإيثار؛ والحمد لله على أن قلّد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلّها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيّد الكتائب الإيمانيّة بمن لم تزل عواليه تبلّغها من ذرا الأمانىّ معاليها؛ يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة [لا] تبرح الألسن ترويها، والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها؛ ويشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكمل نبىّ وأفضل مبعوث، وأشرف مورّث لأجلّ موروث؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تنمو بركاتها وتنمّ «6» ، وتخصّ حسناتها وتعمّ؛ ورضى الله عن عمّه العباس بن عبد المطلب جدّ أمير المؤمنين، وعن أبنائه الأئمّة المهديّين؛ الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم

ذرا المنابر؛ أما بعد، فإن الله تعالى لمّا عدق «1» لمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور وعقد له البيعة فى أعناق أهل الإيمان فزادتهم نورا على نور؛ وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمّه، وكشف بمصابرته من بأس العدا غمام كلّ غمّه؛ وأنزل عليه السكينة فى مواطن النصر والفتح المبين، وثبّته عند تزلزل الأقدام وثبّت به قلوب المؤمنين؛ وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتمّ نعمته عليه كما أتمّها على أبويه من قبله؛ بايع الله تعالى على أن يختار للتمليك على البرايا، والتحكيم فى الممالك والرّعايا؛ من أسّس بنيانه على التقوى، وتمسّك من خشية الله سبحانه بالسبب الأقوى؛ ووقف عند أوامر الشرع الشريف فى قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالى عزمه وحزمه؛ وكان المقام الأشرف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنىّ، سلطان الإسلام والمسلمين، سيّد الملوك والسلاطين؛ ناصر الملّة المحمّديّه، محيى الدولة العباسيّه (أبو الفتح بيبرس) قسيم أمير المؤمنين- أعزّ الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلغ فى دوام دولته الأمل- هو الملك الذى انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك [اليه «2» ] وتخويله؛ وحكم التوفيق والاتفاق بترقّيه إلى كرسىّ السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقى اليه أمير المؤمنين أزمّة عهوده؛ والذى كم خفقت قلوب الأعادى عند رؤية رايات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره؛ واهتزّت أعطاف المنابر شوقا للافتخار باسمه، واعتزّت الممالك بمن زاده الله بسطة فى علمه وجسمه؛ وهو الذى ما برح

مذ نشأ يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويساعد فى كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده، ويبدى فى الهيجاء صفحته للصّفاح فيقيه الله ويبقيه ليجعله ظلّه فى الأرض على عباده وبلاده، فيردى الأعداء فى مواقف تأييده فكم عفّر من خدّ لملوك الكفر تحت سنابك جياده؛ ويشفى بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين، ويسقى ظماء أسنّته فيرويها من مورد ورود «1» المشركين؛ ويطلع فى «2» سماء الملك من غرر رأيه نيّرات لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسّن به انمالك وتحصّن به الثغور؛ فما من حصن أغلقه «3» الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرّته الميمونة صباحه، ولا عزّ أمل لأهل الإسلام إلّا وكان فى رأيه المسدّد نجاحه، ولا حصل خلل فى قطر «4» من الممالك إلّا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه؛ ولا اتّفق مشهد غزو إلا والملائكة بمضافرته فيه أعدل شهود، ولا تجدّد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد، «والجود بالنفس أقصى غاية الجود» كم أسلف فى غزو الأعداء من يوم أغرّ محجّل، وأنفق ماله ابتغاء مرضات الله فحاز النصر المعجّل والأجر

المؤجّل؛ وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كلّ داثر، وحثّه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكلّ تال وذاكر، «إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر» ؛ وهو الذى ما زالت الأولياء تتخيّل مخايل السلطنة فى أعطافه معنى وصوره، والأعداء يرومون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعّة أنواره «ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره» ؛ طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا، وتطفّلت «1» عليه «2» فغدا لها رعاية لذمّة الوفاء مجانبا؛ حتى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع وحكم له بالصعود فى درج الملك الى المحلّ الأعلى والمكان الأرفع، وأدّى له من المواهب ما هو على اسمه فى ذخائر الغيوب مستودع؛ فعند ذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (المستكفى بالله) جعل الله الخلافة [كلمة «3» ] باقية فى عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشريفى حسبه ونسبه- وعهد إلى المقام العالى السلطانىّ بكلّ ما وراء سرير خلافته، وقلّده جميع ما هو متقلّده من أحكام إمامته؛ وبسط يده فى السلطنة المعظّمه، وجعل أوامره هى النافذة وأحكامه [هى «4» ] المحكّمه؛ وذلك بالدّيار المصريّة والممالك الشاميّه، والفراتيّة والحلبيّة «5» والساحليّه، والقلاع والثغور المحروسة والبلاد الحجازيّة واليمانيّه؛ وكلّ ما هو من الممالك الإسلاميّة الى خلافة أمير المؤمنين منسوب، وفى أقطار إمامته محسوب؛ وألقى إلى أوامره أزمّة البسط والقبض

والإبرام والنقض، والرفع والخفض، وما جعله الله فى يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنّة وفرض؛ وفى كلّ هبة وتمليك، وتصرّف فى ولاية أمير «1» المؤمنين من غير شريك؛ وفى تولية القضاة والحكام، وفصل القضايا والأحكام؛ وفى سائر التّحكّم فى الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية فى التأييد لكلّ مقام محمود؛ وفى قهر الأعداء الذين نرجو بقوّة الله تعالى أن يمكّنه من نواصيهم، ويحكّم قواضبه فى استنزالهم من صياصيهم، واستئصال شأفة عاصيهم؛ حتى يمحو الله بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشّرك المدلهمّه، وتغدو سراياه فى اقتلاع قلاع الكفر مستهمّه «2» ؛ وترهبهم خيل بعوثه وخيالها فى اليقظة والمنام، ويدخل فى أيّامه أهل الإسلام مدينة السلام بسلام؛ تفويضا تامّا عامّا منضّدا منظّما، محكما محكّما؛ أقامه مولانا أمير المؤمنين فى ذلك مقام نفسه الشريفه، واستشهد الكرام الكاتبين فى ثبوت هذه البيعة المنيفه؛ فليتقلّد المقام الأشرف السلطانىّ- أعزّ الله نصره- عقد هذا العهد الذى لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها ولا انفصال؛ فقد عوّل أمير المؤمنين على يمن أرائك «3» التى ما برحت الأمّة بها فى المعضلات تستشفى، واستكفى بكفايتك وكفالتك فى حياطة الملك فأضحى وهو بذلك (المستكفى) ؛ وهو يقصّ عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينصّ لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم اذا أخذ

غيرك فيه بالرّخص؛ فإن نبّهت على التقوى فطالما تمسّكت منها بأوثق عروه، وإن هديت الى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروه؛ وإن استرهفنا «1» عزمك الماضى الغرار، واستدعينا حزمك الذى أضاء به دهرك وأنار «2» واستنار؛ فى إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند أمره ونهيه فى كل حكم وتصريف؛ فما زلت- خلّد الله سلطانك- قائما بسننه وفرضه، دائبا فى رضى الله تعالى بإصلاح عقائد عباده فى أرضه؛ وما برح سيفك المظفّر للأحكام الشرعيّة خادما، ولموادّ الباطل حاسما، ولأنوف ذوى الزّيغ والبدع مرغما؛ وكلّ ما نوصيك به من الخير فقد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتدّا فيه ساعدك ممتدّا إليه باعك؛ غير أننا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى فى الاقتداء بالتذكرة فى كتابه المبين، وأوجبها نصّ قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ، ويندرج تحت أصولها فروع يستغنى بدقيق ذهنه الشريف عن نصّها، وبفكره الثاقب عن قصّها؛ فأعظمها للملّة نفعا، وأكثرها للباطل دفعا؛ الشرع الشريف، فليكن- أعزّ الله نصره- عاملا على تشييد قواعد أحكامه، وتنفيذ أوامر حكّامه؛ فالسعيد من قرن أمره بأمره، ورضى فيه بحلو الحق ومرّه؛ والعدل، فلينشر لواءه حتى يأوى اليه الخائف وينكفّ بردعه حيف كلّ حائف؛ ويتساوى فى ظلّه الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير؛ ويمسى الظلم فى أيامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره؛ وأهمّ ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظائم «3» ، وأشرعت له الأسنّة وأرهفت من أجله الصوارم؛ أمر الجهاد الذى جعله الله سبحانه حصنا للإسلام وجنّه، واشترى

وكتب تقليدا مظفريا للأمير سيف الدين سلار المنصورى بنبابة السلطنة الشريفة

فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة؛ فجنّد له الجنود وجمّع له الكتائب واقض فى مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضى القواضب؛ واغزهم فى عقر الدار، وأرهف سيفك البتّار، لتأخذ منهم للمسلمين بالثار؛ والثغور والحصون، فهى سرّ الملك المصون، وهى معاقل النفوس «اذا دارت رحى الحرب الزّبون «1» » ؛ فلتقلّد أمرها لكفاتها، وتحصّن حماها بحماتها، وتضاعف لمن بها أسباب قوّتها ومادّة أقواتها؛ وأمراء الإسلام، وجنود الإيمان، فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك؛ وحزبك الغالب، وفريقك الذى تفرق منه قلوب العدوّ فى المشارق والمغارب؛ فليكن المقام العالى السلطانىّ- نصره الله تعالى- لأحوالهم متفقّدا وببسط وجهه لهم متودّدا؛ حتى تتأكّد لمقامه العالى طاعتهم، وتتجدّد لسلطانه العزيز ضراعتهم؛ وأما غير ذلك من المصالح فما برح تدبيره الجميل لها ينفّذ ورأيه الأصيل بها يشير، ولا يحتاج مع علمه بغوامضها الى إيضاحها «ولا ينبئّك مثل خبير» والله تعالى يخصّ دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجّل والفتح القريب؛ بمنّه وكرمه. وكتب تقليدا مظفّريّا للأمير سيف الدين سلار المنصورىّ بنبابة السلطنة الشريفة فى سنة ثمان وسبعمائة، وهو: الحمد لله الذى شيّد ركن الإسلام بسيفه المنتضى، وجدّد للملك مزيد التأييد بكافله الذى ما برح وفاؤه للملوك الأواخر والأوائل مرتضى، وأنجز من وعوده الاتفاق والتوفيق ما كان من ذمّة الدهر مقتضى، جامع شمل الأوامر والنواهى بتفويضها

الى من تبيت العدا من مهابته على جمر الغضى، ومنيل المنى بمواهبه التى تحوز موادّ الاختيار وتجوز أمد الرضا، وملقى مقاليد التدبير الى من أضحى جميل التأثير اذا تصرّف فى الرفع والخفض حكم القضا، ومصرّف أزمّة الأمور فى يد من غدا ثابت العزمات فى الأزمات، فما أظلم خطب إلا انجلى بمصابيح آرائه وأضا؛ نحمده على أن عضّد دولتنا بالكافل الكافى الذى اختاره الله لنا على علم، ومنح أيّامنا موالاة الولىّ الذى جمعت فيه خلّتان يحبّهما الله ورسوله: وهما الأناة والحلم؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مشرقة الأنوار، مغدقة سحبها بأنواء المنن الغزاز؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه الله لإقامة شعائر الإيمان، وخصّ ملّته فى الدنيا والآخرة باليمن والأمان؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أضحى بفضل السّبق للإيمان به صدّيقه وصديقه، وأمسى لفرط الألفة أنيسه فى الغار ورفيقه؛ ومنهم من ضافره فى إظهار النبوّة ووازره «1» ، وظاهره على إقامة منارها بإطفاء كل تائرة وإخماد كلّ نائره «2» ؛ ومنهم من ساعد وساعف فى تجهيز جيش العسره «3» ، وأحسن وحسّن مع إخوانه المؤمنين الصحبة والعشره؛ ومنهم من كان سيفه الماضى الحدّ، ومهنّده الذى كم فلّ بين يديه الجموع فما اعترض إلا قطّ «4» ولا اعتلى إلا قدّ؛ وسلّم تسليما كثيرا؛ أما بعد، فان الله تعالى لما هنّأ لنا مواهب الظّفر، وهيّأ لنا من الملك موادّ إدراك المنى وبلوغ الوطر، وأيدنا من أنصارنا بكلّ ذى فعل أبرّ ووجه أغرّ؛ وشدّ أزرنا بمضافرة سيف يزهى الملك بتقليده، وأمدّنا بمؤازر تتصرّف المنى والمنون

بين وعده ووعيده؛ وجب علينا أن نحوط دولتنا بمن لم تزل حقوق مودّته بحسن الثناء حقيقه، وعهود محبّته فى ذمام الوفاء متمكّنة وثيقه، وطريقته المثلى فى المحاسن والإحسان مشهورة ولا نرى مثلا لتلك الطريقه؛ وتقلّد كفالة ممالكنا للولىّ الذى ما برح يتلقّى أمورنا بفسيح صدره، ويتوقّى حدوث كلّ ما نكرهه فينهض فى دفعه بصائب رأيه وثاقب فكره؛ وكان الجناب الكريم العالى الأميرىّ الكبيرىّ العالمىّ العادلىّ الكافلىّ المؤيّدىّ الزعيمىّ الغياثىّ «1» المسندىّ الممهّدىّ المثاغرىّ المظفّرىّ المنصورىّ السّيفىّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيّد أمراء العالمين؛ سند الممالك، مدبّر الدّول، مقدّم العساكر، أمير الجيوش، كهف الله، حصن الأمّة، نصرة الملوك والسلاطين، (سلار المنصورىّ) نائب السلطنة المعظّمة، وكافل الممالك الاسلامية،- أعز الله نصره- هو واسطة عقد الأولياء، وسيف الدولة الفاتك بالأعداء، والذى أسلف فى نصرة الإسلام حقوقا غدت مرقومة فى صحف الفخار، واستأنف فى مصالح الأمّة المحمديّة تدبيرات أظهر بها أسباب التأييد على الأعداء والاستظهار؛ كم أصلح بيمن سياسته ذات البين، وكم أبهج ببركة تأتّيه «2» وتأنّيه كلّ قلب وأقرّ كلّ عين؛ وكم ساس من ملك فأضحى ثابت الأساس، وجعل شعاره دفعا للباس ونفعا للناس؛ ما عوهد إلا وأوفى، ولا عوند إلا وعفّ وعفا، ولا استشفى فى طبّ معضلة إلا وشفى، ولا استدرك تدبيره فارط «3» أمر كان على شفا؛ فما يومه فى الفضل بواحد، ولا أحد لمثل محاسنه الجميلة بواجد؛ لعزماته فى مواقف الجهاد السوابق

الغرّ المحجّله، ولتدبيراته فى مصالح العباد والبلاد المنافع المعجّلة والمؤجّله؛ وهو الذى خافت مهابته الكتائب، وأمّلت مواهبه الرغائب «1» ، ولعبت «2» سطواته للعدا خيالا فى المراقد وخيلا فى المراقب، وامتطى من الشهامة كاهلها فأحجم عنه لمّا أقدم كلّ محارب، وصدق من نعته بالسيف، فلو لم ينعت به لقيل: هذا سيف يفتك بالضّريبة ولا تفلّ له مضارب؛ وكم لقى بصدره الألوف من التتار- خذلهم الله- والمنايا قد بلغت من النفوس المنى، وأمضى سيفه فى الحروب وما شكا الضنى؛ وحمل حملة فرّق بها كلّ شمل للكفّار اجتمع، وقطع أعناق العدافى رضى الله تعالى ولا ينكر السيف إذا قطع؛ ووصل من العلياء إلى غاية تزاحم الكواكب بالمناكب، وتفرّد بأمر الجيوش فأضحى بدر الكتائب وصدر المواكب؛ إذا جاش الجيش ثبت عند مشتجر الرماح، وإذا أظلم ليل النّقع وضحت أسارير جبينه وضوح الصباح، وإذا أقدم فى كتيبة «رأيت البرّ بحرا من سلاح» واذا رفعت راياته يوم الوغى كبّرت بالظّفر على ألسنة الرماح، وإذا كان فى جحفل كانت عزائمه للقلب قلبا وصوارمه جناحا للجناح، وإذا قدر فى السلم عفا لكنه فى الحرب قليل الصفح بيّن الصّفاح؛ وهو الذى ما برحت أيدى انتقامه تهدم من أهل الشرك العمائر والأعمار، وبروق سيوفه تذهب بالنفوس لا بالأبصار، ويمن يمينه وصبح جبينة هذا يستهلّ بالأنواء وذا بالأنوار؛ اقتضى حسن الرأى الشريف أن نوفى حقوق مودّته التى أسلفها لنا فى كل نعمى وبوسى، وأن نضاعف علوّ مكانه من أخوّتنا ليكون منا كهرون

من موسى؛ فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الركنى- لا برح يوفى بعهود الأولياء ويفى، ويمنح من أخلص النّية فى ولائه البرّ الخفىّ والفضل الحفى- أن تكون كلمة الجناب الكريم العالى الأميرىّ السيفىّ المشار إليه- أعزّ الله نصره- نافذة فى كفالة الممالك الإسلاميّة، متحكّمة فى نيابة السلطنة المعظّمة، وأوامره المطاعة فى إمرة الجيوش وحياطة الثغور التى غدت بدوام كفالته متبسّمة؛ على أجمل عوائده «1» ، وأكمل قواعده؛ نيابة ثابتة الأساس، نامية الغراس؛ لا يضاهى فيها ولا يشارك، ولا يخرج شىء من أحوالها عن رأيه المبارك؛ فليبسط نهيه وأمره فى التدبير والإحكام، وليضبط الممالك حتى لا تسامى ولا تسام؛ وليطلع من آرائه فى سماء الملك نجوما بها فى المصالح يهتدى، وليرفع من قواعده ما يخفض به قدر العدا؛ وليضاعف ما ألفته الأمّة من عدله، وليجر على أكرم عاداته من نشر إنصافه وشمول فضله، وليعضّد جانب الشرع المطهّر فى عقده وحلّه، وتحريمه وحلّه؛ ولينفذ كلمته على ما هو من ديانته مألوف، وليستكثر من الافتداء بأحكامه فى النهى عن المنكر والأمر بالمعروف؛ وأمراء الإسلام وجنوده، فهم ودائع سرّه، وصنائع شكره، وطلائع نصره، وما منهم إلا من غذى بلبان «2» درّه، وغدا [من «3» ] ثناء «4» عصره متقلدا لعقود درّه؛ فليستخدم حنوّه عليهم وإشفاقه، وليوال إليهم برّه وإرفاده وإرفاقه؛ والوصايا كثيرة لكنها منه تستملى، والتنبيهات على المصالح منه تستفاد نقلا وعقلا، وما زلنا نستضئ فى المهمّات بيمن آرائه التى جمعت للمصالح شملا؛ فمثله لا يدلّ على صواب وهو المتفرّد بالسداد، والخبير بتفريج كرب الخطوب والسيوف

ومن انشائه أيضا أعزه الله تعالى مقامة عملها فى سنة اثنتين وسبعمائة،

غامضة الجفون فى الأغماد؛ والله تعالى يمتعنا من بركة كفالته بالخلّ الموافى «1» والأخ المواسى، ويشدّ أزر سلطاننا من مضافرته بمن أمسى جبل الحلوم «2» الرواسى؛ إن شاء الله تعالى. ومن انشائه أيضا أعزه الله تعالى مقامة عملها فى سنة اثنتين وسبعمائة، على لسان من التمسها منه، فقال: حكى أليف الغرام، وحليف السّقام؛ وقتيل العيون، وصريع الجفون؛ وفريسة الأسود، والمصاب بنبال الحدق السود؛ عن قصّته فى هواه، وقضيته التى كان فى أوّلها غناه، وفى آخرها عناه «3» ؛ قال: لم أزل فى مدّة العمر أترقّب حبيبا أتلذّذ بحبّه، وأتنعّم بقربه؛ وأحيا بانعطافه، وأسكر من ريقه بسلافه؛ وأستعذب العذاب فيه، وأرشف خمر الرضاب من فيه، وأقتطف ورد السرور من وجنتيه وأجتنيه؛ وأكتسى به لطفا، وأكتسب بمصاحبته ظرفا؛ حتى ظفرت يداى بمن رقّ وراق، ولطفت حدائق معانيه حتى كادت تخفى عن الأحداق لطفت معانيه فهبّ مع الصّبا ... ورقيبه بهبوبه لا يعرف قد جمع أوصاف المحاسن والمعانى، وفاق كلّ مليح فليس له فى الحسن ثانى؛ أما قوامه، فقد ملك الفؤاد فأضحى ملكا عادلا، واستباح النفوس من اعتداله فلا غرو إن أضحى لها قاتلا

عجبا لقدّك ما ترنّح مائلا ... إلا وقد سلب الغصون شمائلا وأما لحاظه فقد غنيت عن الكحل بالكحل، وأذابت حبّات القلوب فى حبّ تلك المقل وإذا رأيت الطرف يعمل فى الحشا ... عمل الأسنّة فالقوام مثقّف إلى غير ذلك من وجه كالبدر فى تمامه، يعلوه من شعره ما يصير به كالبدر تحت غمامه قمر تبلّج وجهه فى حندس ... من شعره فأضاء منه الحندس ومقبّل أشهى من الراح، وأعطر من زهر الربا تفتّحت أكمامه عند الصباح ومقبّل عذب كأنّ ... رضابه برد وراح وخدّ أمسى شقيق الشّقيق «1» ، ومبسم يرشف من شفاهه العقيق الرحيق شفة كمحمرّ العقيق ... ومبسم مثل الأقاح «2» وصدغ سال على خدّه القانى، وامتدّ كدمع محبّه الأسير العانى صبّ له دمع كصدغك سائل ... فعساك يا مثرى الجمال تواسى وخصر لطف ودقّ، وعلاه كثيب ردف فأثقله حتى ضنى ورقّ يا ردفه رفقا على خصره ... بينكما حرمة جيران الى غير ذلك من أنواع حسن قصر عن وصفها قلمى، وعجز عن حصرها كلمى؛ وأشفقت من شرحها خوفا أن أنمّ عليه، أو أذكر ما تفرّد به من الحسن فأكون

قد أشرت اليه؛ وأنا قد تدرّعت ثوب الكتمان، وتستّرت حتى غاض من الدمع وأغضى الطرف وسكت اللسان يقولون من هذا الذى متّ فى الهوى ... به كلفا يا ربّ لا علموا الذى غير أنّى قد متعت بذكر ملاحته فؤادى، ولا بدّ أن أوردها مجملة لأكمد «1» بلفظها «2» المعادى حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلّا وجنتاه وريقه هلال ولكن أفق قلبى محلّه ... غزال ولكن سفح عينى عقيقه بديع التثنّى راح قلبى أسيره ... على أن دمعى فى الغرام طليقه أقرّ له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه من التّرك لا يصبيه وجد إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير «3» يشوقه ولا حلّ فى حىّ تلوح قبابه ... ولا ساق فى ركب يساق وسيقه «4» ولا بات صبّا للفريق «5» وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه يهدّد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه على خدّه جمر من الحسن مضرم ... يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوّار الأقاحى بريقه

قال الراوى: فأعلمته ما خامر قلبى من هواه، وبذلت نفسى ابتغاء لرضاه بثثت له سرّى ونحن بروضة ... فمالت لتصغى للحديث غصون فتلقّى ضراعتى بالرّحب والإقبال، وسفر عن وجه الرضا فبشّرت نفسى ببلوغ الآمال؛ وقلت «1» : تذلّلت فى الشكوى إليه فرقّ لى ... حنوّا لدمعى فى الهوى وتذلّلى غزال لبست السّقم خلعة جفنه ... على أننى فيه خلعت تجمّلى تعدّل بالأعذار حتى خدعته ... بسحر الرّقى أفديه من متعلّل فراقب إغفاء الرقيب وهجعة السّمير ... وراعى حين غفلة عذّلى ووافى أخا الأشواق حلف صبابة ... أسير هوى من وجده فى تململ فلم أر روضا كان أحسن بهجة ... - لعمر الهوى- من وجهه المتهلّل فأعظمت مسراه وقبّلت خاضعا ... ثرى خطوه شكرا الفضل التطوّل وانعطف علىّ انعطاف الغصن الرطيب، وتمازجت قلوبنا حتى أشكل علىّ أينا «2» الحبيب؛ وفزت منه ببديع جمال تلذّ به النفوس، ورشفت من رضابه أحلى ما ترشفه الأفواه من شفاه الكؤوس تعلّقته صائدا للقلوب ... بألحاظه سالبا للنّهى بديع الجمال إذا ما بدا ... ترى فيه للعين مستنزها «3» فكم فيه للعين من روضة ... وكم فيه للنفس من مشتهى

يا حسنه لمّا أتى بوعد وعلى غير وعد، ويا لذاذة قربه ويا حرارة ما ذقناه بعدها من هجر وصدّ؛ فلم نزل على ذلك مدّة أغفى الدهر عنّا فيها، أقضّى حياة طابت تلذّذا وترفيها رعى الله محبوبا نعمت بوصله ... وقد بعدت عنّا الغداة عيون حتى شعر بنا الدهر الخؤون، ورمانى بسهم فرقة أبعدت المنى وجلبت المنون؛ وعلم بما كتمناه الرقيب، وعجز عن داء قلبى الطبيب لو كان للعشاق حظّ فى الهوى ... ما كان يخلق فى الزمان فراق فتجرّعت بعد الشّهد علقما، ولم أستطع أفتح «1» من الحزن فما؛ وهمت فى ساحة الشوق والالتياح «2» ، وفضحتنى الأدمع التى طال بها على المحبّين الافتضاح لا جزى الله دمع عينىّ خيرا ... وجزى الله كلّ خير لسانى نمّ دمعى فليس يكتم شيئا ... ووجدت اللسان ذا كتمان كنت مثل الكتاب أخفاه طىّ ... فاستدلّوا عليه بالعنوان فاذا هو مرّ المذاق، وأمنع الدمع فيقول: وهل خبأتنى لأعظم من يوم الفراق أبى الوجد أن يخفيه قلب متيّم ... يكابده والدمع يبديه والضّنى

وكم ذاب القلب حسره، وتفتّتت الكبد فى تلك الفتره؛ على خلوة أبثّ فيها حزنى، وأفسح فيها المجال الذى ضاق به عطنى؛ فلم أظفر بخلوة فى لمحة بصر، ولا فزت بذكر كلمة أفرّج بها ما عرض من حصر تعرّضت من شوق إليه فأعرضا ... ولولا الهوى لم أمنح الحبّ مبغضا وبحت إليه أنّ عندى رياضة «1» ... عليه وما تلك الرّياضة عن رضا قضى حبّه أنّى إذا عزّ فى الهوى ... أذلّ وإنى قد رضيت بما قضى لقلبى من عينيه سقم وصحّة ... فكم مرّة فى الحبّ داوى وأمرضا مضى لى به عيش بكيت لفقده ... وهيهات أن يرتدّ عيش إذا مضى وبليت «2» برقيب قد سلب الله من قلبه الإيمان، وسلّطه علىّ بغلظ الطباع وفظاظة اللسان؛ كأنه شيطان لا بل هو بعينه، لكنّه أربى عليه فى بهتانه ومينه؛ يحاقّ «3» على الكلمة الواحده، ولا يسمح بأن طرفى يمتدّ إلى تلك المحاسن التى غدت القلوب بها واجده؛ يودّ لو غطّى على بصرى، ويبدلنى مغيبى من محضرى؛ لا يفتر عن اللّوم والعذل، ولا يرى أن يقضى ساعاته إلّا فى بذل الحيل؛ يرغب فى شتات شملى، وانقطاع وصلى؛ وليس لى فى دفعه حيله، ولا فى الانتقام منه وسيله؛ وما زال حتى أحال الحبيب عن وداده، وكدر ما صفا من حسن ظنّه واعتقاده؛ وأنا أروض نفسا كادت تذوب، وأتسلّى بأيام وصاله وأقول: لعلها ترجع وتؤوب لئن ذقت مرّ الصبر أو ملح أدمعى ... لقد أعذبت تلك المذاقات منهلى

فلم يقنع الدهر لى بذلك، ولا رضى بالصدّ والعذل والهجر الذى هو أعظم المهالك؛ حتى قضى بالفرقة والبعاد، ورمتنى النوى بسهم فلم يخطئ الفؤاد؛ وكنت أتعلّل بالنظر، وأقول: مشاهدة هذا الوجه القمرىّ عندى أكبر وطر؛ حتى منعت الوصال والمشاهده، وندبت قلبى القريح بأدمع عينى الجامده أحباب قلبى لقد قاسيت بعدكم ... نوائبا صيرتنى فى الهوى مثلا وقد تعجّبت أنّى بعد فرقتكم ... أحيا وأيسر ما لاقيت «1» ما قتلا وانقطعت عنّى الرسائل، وذهبت لذاذة ما اعتدته من تلك الوسائل هل مخبر عنكم يعيش بقربه ... ميت الرجا والصبر بعد إياس أحبابنا قسما بساعة وصلنا ... لم أكتحل من بعدكم بنعاس غبتم فعندى بالفراق مآتم ... فمتى تعود بعودكم أعراسى وذوى غصن السرور بعد أن كان رطيبا، وفقدت لنداء ألمى مجيبا؛ وأغلقت باب الدّعه، وأسبلت هواطل أدمعى قائلا للأجفان: لا تخشى فأنت متفقة من سعه؛ ولولا التعلّل بالذكرى، والتأمّل «2» فى حسنه «3» الذى تشكّل فى مرآة القلب فسرّ سرّا؛ لقلت: كأنّك قد ختمت على ضميرى ... فغيرك لا يمر على لسانى ولى عين تراك وأنت تنآى ... كما ترنو إليك وأنت دانى وأقرب ما يكون هواك منّى ... إذا ما غاب شخصك عن عيانى

شغلت عن الورى بصرى وسمعى ... كأنهما بحبّك مفردان فهأنا لا أعاين ما بدا لى ... سواك ولا أصيخ لمن دعانى ثم إنّى فارقت الحياه، وبذلتها راغبا فى هواه؛ ولم أزل كذلك الى أن ظهرت آثار قربه، وسرى النسيم عطرا فعلمت قرب ركبه وأذكرنى ذاك الصّبا «1» زمن الصّبا ... وما الشوق إلا ما تجدّد بالذكر فكاد قلبى يطير للقائه، ولولا تستّره بحجب الفؤاد لخرج من قوّة برحائه؛ وتذكرت كيف يكون اللقاء والاجتماع، والرقباء قد أزمعوا على المنع والدّفاع، وقلت: فارقنى على غير رضا، وجفانى من غير ذنب، ونآى عنّى من غير وداع؛ وهأنا فى غيابه وحضوره، وسخطه وسروره؛ لا أحول عن ودّه، ولا أرى إلا الوفاء بعهده هيهات ما وجدى عليك بزائل ... فإلام يطنب فى الملامة عاذلى ناشدتك العهد القديم ومنا ... بلوى الصّريم وبانه المتمايل «2» هل تعلمنّ سوى هواك وسيلة ... تدنى رضاك وقد جهلت وسائلى أدنيتنى حتى إذا تيّمتنى ... بمحاسن ومعاطف «3» وشمائل وبحسن وجه لو تجلّى فى الدجى ... سجد الصباح لضوئه المتكامل ونواظر سحّارة لجفونها ... فضل الصناعة «4» لا لساكن بابل «5»

ووقعت من قلبى بودّ قد جرى «1» ... مجرى دمى بجوانحى ومفاصلى قاطعتنى وسمعت قول حواسدى ... وصرمت من بعد الوصال حبائلى «2» ولرب ليل بتّ فيه مسهّدا ... فردا أسامر لوعتى وبلابلى أطوى على حرّ الغرام أضالعا ... يطوين فيه «3» على قداح «4» النابل «5» وهأنا أترقّب وصله، وأتوقّع عدله. أتراه من جور الصبابة ينصف ... ويرقّ للعانى عليه ويعطف صبّ يرى السّلوان عنه محرّما ... فله إليه تولّه وتلهّف يا أهل كاظمة «6» وحقّ هواكم ... قسما بكم وبغيركم لا يحلف مشتاقكم ألف الصبابة فيكم ... فكأنه لسواكم لا يعرف فعدوه منكم بالوصال تعلّة ... ولكم بأن تعدوا الوصال ولا تفوا وحياتكم «7» يرعاكم فى بعدكم ... ولقربكم فى بعدكم «8» يتشوّف

ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل الصدر الكبير الكامل؛ البارع الأصيل، الأوحد النبيل؛ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى

وليس لى ما أمت به إلا صدق الغرام، والإقدام فى حبّه «1» على ارتكاب «2» الحمام جدّد عهود تواصل وتلاق ... واستبق لى رمقا فليس بباق واشفع إلى ما رقّ من ترف الصّبا ... من وجنتيك برقّة الأخلاق ما حقّ ذى قلب صفا لك ودّه ... تقطيعه بقطيعه وفراق مع ذا وذا كيف استهنت فكن أنا ال ... موثوق «3» بى مولاى فى الميثاق قال الراوى: فسمع شكواى وما أشكى «4» ، وقابل رقّتى بجفوة بها القلب أنكى «5» والطرف أبكى؛ ولفق أعذارا، وأقسمت عليه أن يزور فلم ير لقسمى إبرارا هذا ما اتّفق إيراده من كلامه- أدام الله علوّه- فى هذا الموضع، وسنورد إن شاء الله من كلامه أيضا ما تقف عليه فى آخر فن الحيوان فى السفر الذى يليه إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من إنشاء المولى الفاضل الصدر الكبير الكامل؛ البارع الأصيل، الأوحد النبيل؛ تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى هو الذى أتقن صناعة الأدب فى غرّة شبابه، وبرزّ على من اكتهل فى طلبها وشاب فى الترقّى الى رتبها، فما ظنّك بأترابه؛ وجارى «6» ذوى الفضل فى «7» الأقطار اليمنيّة

فطلع مجلّى «1» الحلبة، وبارى نجباء الأفاضل بالمملكة التّعزّيّة «2» وكان المؤمّل «3» منهم بالنسبة إليه أرفعهم رتبه؛ وسما إلى سماء البلاغة فكان نجمها الزاهر، وارتقى إلى أفلاك البراعة فكان نيّرها الباهر، ورام من سواه الارتقاء إلى محلّه والمناوأة «4» لفضله فغدا وهو فى ذيول حيرته عاثر؛ فعند ذلك علموا عجزهم عن إدراك غاياته، واعترفوا بالتقصير عن مجاراته ومباراته؛ وحين لم يجد لفضله مجاريا، ولا عاين لفضائله مباريا؛ صار بها كالغريب وإن كان فى أهله ووطنه، والفريد «5» مع كثرة أبنائه وإخوان زمنه؛ فسمت «6» به نفسه إلى طلب العلوم من مظانّها، والاحتواء عليها فى إبّانها؛ واللّحاق بأعيان أهلها، والاختلاط بمن ارتدى بأردية فضلها؛ ورؤية من توشّح بقلائدها، وترشّح لبذل فوائدها ونظم فرائدها؛ ففارق الأقطار اليمنيّة وهى تسأله التأنّى، وتبذل لرضاه الرغبة والتمنّى؛ وهو لا يجيب مناديها ولا يعرّج على ناديها، ولا يميل الى حاضرها ولا ينظر الى باديها؛ وصرف وجهه عنها، ونفض يده منها؛ والتحق «7» بالديار

المصريّه، وانبتّ «1» فى طلب العلوم بأجمل سريرة وأحسن سيرة وأخلص نيّه؛ فبلغ فيها «2» مناه، وأدرك بها ما تمنّاه؛ وغدا وثغر فصاحته بالعلوم أشنب، وبرد بلاغته بالآداب مذهب تناهى علاء والشباب رداؤه ... فما ظنّكم بالفضل والرأس أشيب ولما عاينه أعيان أهل هذا الوادى، وشاهدوه يبكّر فى طلب العلوم ويغادى؛ تلقّوه بالإكرام والترحيب، وقابلوه بالتبجيل والتقريب، وأنزلوه بالمحلّ الأرفع والفناء الخصيب؛ وعاملوه بمحض الوداد، وساواه شبابهم بالإخوة ومشايخهم بالأولاد؛ وخلطوه بالنفس والمال، وظهر له فى ابتداء أمره بقرائن الأحوال حسن المآل؛ فأصبح من عدول المصر، وأمسى وهو من أعيان العصر؛ فشكر عاقبة مسيره وحمد صباح سراه، وأجابه لسان الفضائل بالتّلبية لمّا دعاه؛ ثم ارتحل الى الشأم فجعل دمشق مقرّ وطنه، وموطن سكنه؛ ومحلّ استفادته وإفادته، ونهاية رحلته وغاية إرادته؛ فعامله أهلها بفوق «3» ما فى نفسه، فحمد يومه بها على أمسه؛ وغدا لأهل المصرين شاكرا، ولمناقبهم تاليا ولمحاسنهم ذاكرا؛ وله من النظم ما رقّت حواشيه، وراقت معانيه؛ ومن النثر ما عذب وصفا، وكمل بلاغة ولطفا؛ وحسن إعجازا، وتناسب صدورا وأعجازا؛ وقد قدّمنا من كلامه فى هذا الكتاب ما باسمه ترجمناه، ولفضائله نسبناه؛ مما تقف عليه فى مواضعه، وتغتذى بلبان مراضعه؛ فلنورد له

فمن إنشائه كتاب عن الخليفة المستكفى بالله أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان لملك اليمن -

فى هذا الباب غير ما تقدّم إيراده وما تأخّر، ونأخذ لتصنيفنا من بلاغته بالنصيب الأوفى والحظّ الأوفر. فمن إنشائه كتاب عن الخليفة المستكفى بالله أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان لملك «1» اليمن- عمله تجربة لخاطره عند ما رسم بمكاتبته، ابتدأه بأن قال: أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبتداها؛ وموفّق من اختاره الى محجّة صواب لا يضلّ سالكها، ولا تظلم عند اختلاف الأمور العظام مسالكها؛ وملهم من اصطفاه اقتفاء آثار السنن النبويّه، والعمل بموجب القواعد الشرعيّه؛ والانتظام فى سلك من طوّقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سدّته الجليلة برودها؛ وملّكته أقاصى البلاد، وناطت بأحكامه السديدة أمور العباد؛ وسارت تحت خوافق أعلامه الملوك الأكاسره، وسرت «2» بأحكامه النيّرة مناجح الدنيا ومصالح الآخره؛ وتبختر «3» كلّ منبر من ذكره فى ثوب من السيادة معلم، وتهلّلت من ألقابه الشريفة أسارير كلّ دينار ودرهم؛ يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببنى العباس منوطه، وجعلها كلمة باقية فى عقبه الى يوم

القيامة محوطه؛ ويصلّى على ابن عمه محمد الذى أحمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة فذادوا عن مواردها، وتجهّزوا «1» لتشييد المعالم الدينيّة فأقاموها على قواعدها؛ صلاة دائمة الغدوّ والرواح، متصلا أوّلها بطرّة الليل وآخرها بجبين الصباح؛ هذا وإن الذين الذى فرض الله على الكافّة الانضمام الى شعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب فى غربه؛ جعل الله حكمه بأمرنا منوطا، وفى سلك أحكامنا مخروطا «2» ؛ وقلّدنا من أمر الخلافة سيفا طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده «3» ؛ وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلاميّة فإلى حرمنا تجبى ممراتها، ويرفع الى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها؛ يخلّف الأسد إن مضى فى غابه شبله، ويلفى فى الخبر والخبر مثله؛ ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل حرمنا الشريف محلّ الرحمة والرافه؛ وأقعدنا على سدة خلافة طالما أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة الغطاريف» من أسلافنا؛ وألبسنا خلعة هى من سواد السؤدد مصبوغه، ومن

سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغه؛ وأمضينا على سدّتنا أمور الخاصّ والعامّ، وقلّدنا أرباب الكفاية كلّ إقليم من عملنا ممن تصلح سياسته على الدوام؛ واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا، وبها سدة مقامنا لما كانت فى هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة «1» الإمام، وثانية دار السلام؛ تعيّن علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا؛ مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا؛ فتصفّحناها فوجدنا «2» قطر اليمن، خاليا من ولايتنا فى هذا الزمن، والعادة مستمرّة بأن لم تزل نوّابنا فى بلاد اليمن «3» ؛ عرّفنا هذا الامر من اتخذناه للممالك الإسلاميّة عينا وقلبا، وصدرا ولبّا؛ وفوّضنا اليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها قياما أقعد الأضداد، وأحسن فى ترتيب ممالكنا نهاية الإصدار وغاية الإيراد؛ وهو السلطان الأجلّ السيّد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جاريه، وسحائب الإحسان من أفق راحته ساريه؛ فلم يعدّ جوابا لما رسمناه، ولا عذرا عما ذكرناه؛ إلا تجهيز شرذمة من حجافله المنصوره، وتعيين أناس من فوارسه المذكوره؛ يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون

بتغيّرات الأحوال؛ يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه؛ لا يشربون سوى الدماء مدامه، ولا يلبسون غير التّرائك «1» عمامه؛ ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره «2» صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا وأنبت ساعة نزولهم عن صهوات خيلهم قنا؛ ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن نكاتب من بسط يده فى ممالكها، وملك جميع مسالكها؛ واتخذ أهلها خولا، وأبدى فى خلال ديارها من عدم سياسته خللا؛ فبرز مرسومنا الشريف النبوىّ أن نكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرّف فى جميع أمور دولتها؛ فطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفّر يوسف بن عمر الذى له شبهة «3» تمسّك بأذيال المواقف المستعصميّة «4» ، وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقّق الحال بين النفى والإثبات؟ أصدرناها إلى الرّحاب التّعزّيّه «5» ، والمعالم اليمنيّه؛ تشعر من تولّى فيها فاستبدّ، وتولّى كبره فلم يعرّج على أحد؛ أنّ أمر اليمن ما برحت حكّامنا ونوّابنا تحكم فيه بالولاية الصحيحه، والتفويضات التى هى غير جريحه «6» ؛ وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور ما تمشى به الجمال وئيدا «7» ، وتقذفه بطون الجوارى «8» الى ظهور

اليعملات «1» وليدا؛ وتطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال معاهده ومقاصده «2» ؛ ولك أسوة بوالدك السلطان الملك المظفّر، هلّا اقتفيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دوّنته أيدى الزمن من أخباره؛ واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك: منها «3» - وهى العظمى التى ترتّب عليها ما ترتّب- قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه واد غير ذى زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرّق إليه بمنع؛ وكفتك الآية «4» دليلا على ما صنعت، وبرهانا على ما فعلت؛ ومنها انصبابك «5» على تفريغ مال بيت المال فى شراء «6» لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث؛ ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلوّ تلك الأماكن من أمر عقدنا وحلّنا؛ ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولا اتسعت فيه [دائرة «7» ] المقال؛ رسمنا بها والسيف يودّ لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يحب لو فات القلم واهتزّ بتلك الروابى قدّه؛ والكتائب المنصورة تختار لو بدرت «8» عنوان الكتاب و [أهل «9» ] العزم والحزم يودّون اليك إعمال الرّكاب؛ والجوارى المنشآت قد

تكوّنت من ليل ونهار، وبرزت كصور الفيلة «1» لكنها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا «2» الى مكاتبتك إلا للإنذار، وما جنحنا لمخاطبتك الا للإعذار؛ فأقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم فى سلك من استخلفناه على أعمالنا فأخذ بيمينه ما أعطى من كتاب؛ وصن بالطاعة نفوس من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون فى سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك؛ فلسنا نشنّ الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبّه؛ ودان الله «3» بما يجب من الدّيانه، وتقلّد عقود الصلاح والتحف بمطارف «4» الأمانه؛ ولسنا ممن يأمر بتجريد سيف الا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا؛ [فأصدرنا «5» ] مرسومنا هذا اليه يقصّ عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدّة دولته، وشيّد قواعد صولته؛ ويستدعى منه رسولا إلى مواقفنا الشريفه، ورحاب ممالكنا المنيفه؛ لينوب عنه فى قبول الولاية مناب نفسه، وليجنى بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتنا ومن سعادة المرء أن يجنى ثمار غرسه؛ بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخفّ حملا، وتغالى «6» فى القيمة «7» رتبة وحسن مثلا؛ واشرط على نفسك فى كل

سنة قطيعة «1» ترفعها الى بيت المال، وإيّاك ثم إيّاك أن تكون عن هذا الأمر ممن مال؛ ورتّب جيشا مقيما تحت لواء علم السلطان الأجلّ الملك الناصر للقاء العدوّ المخذول التتار، ألحق الله أوّلهم بالهلاك وآخرهم بالبوار؛ وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهوره، وتواريخ سيرهم المذكوره؛ واحترص «2» على أن يخصك من هذا المشرب السائغ أوفى نصيب، و [أن تكون «3» ] ممن جهّز جيشا فى سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو غير مصيب؛ ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلّة أعلامنا المنصوره، شاكرا برّ موافقنا المبروره؛ وإن أبى حالك «4» إلا أن استمررت على غيّك، واستمرأت مرعى بغيك؛ فقد منعناك التصرّف فى البلاد، والنظر فى أحكام العباد؛ حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرّات حصونك، وتعجّل حينئذ ساعة منونك؛ وتمسى لهوادى قلاعك عقودا، ولعرائس حصونك نهودا؛ وما علّمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهّمناك غير ما حدسه «5» لبّك؛ فلا تكن كالصغير تزيده كثرة التحريك نوما، ولا ممن غرّه الإمهال يوما فيوما؛ وقد أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفّقا إن شاء الله تعالى؛ والحمد لله وحده.

ومن إنشائه تقليد السلطان الملك الناصر لما ترك الديار المصرية وأقام بالكرك -

ومن إنشائه تقليد السلطان الملك الناصر لما ترك الديار المصرية وأقام بالكرك «1» - وكتب له بذلك من ديوان الإنشاء عن الملك المظفّر ركن الدين، فلم يمكن الكاتب الإطناب، ولا وسعه «2» غير الاختصار، فلم يرضه الكتاب، وعمل جماعة منهم فى ذلك تجربة لخواطرهم ولم يكتب بشىء منها فعمل هو-: الحمد لله مدبّر الأمر على ما يشاء فى عباده، ومنقّل الحال على حكم اختياره ووفق مراده، ومجرى أسباب الممالك على يد من اختاره من عباده لإصدار الأمر وإيراده، ومجيب من أصبح قاصدا بابه الشريف والزهادة فيما حوله من اعتقاده، ومعزّ من أضحى له من حقونا «3» ركن استند إليه الدهر فى استناده، يلبّى دعوة مرامه حيث كان من بلاده؛ ويجيب داعى نداه وإن بعد فيكون أقرب من سرّه الى فؤاده؛ يذبّ عن حوزة نسائه ببيض مرهفاته وسمر صعاده، ويحمى بيضة جاهه بالغلب من أشياعه والجرد من جياده؛ نحمده على أن جعل موالاتنا لهذا البيت الشريف المنصورىّ تستديم عهوده، وتلتحف من المحافظة على مراضيه الشريفة فى كلّ حال بروده؛ وترد من القيام بواجب حقّه أعذب منهل شرعه الصفاء وسنّه، وأكّد موالاته الوفاء وحسن الوفاء من شعار أهل السّنّة؛ ونشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع أعلام الهدى بكلمها، وتخمد نار الشرك بنور هداية

علمها وعلمها، وتطهّر أديم البسيطة من أرجاس الكفرة بالحدّين من غربى «1» صمصامها وقلمها، وتروى كلّ قطر أصبح ما حلا من قطرى عدلها ونعمها؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى كانت الزهادة ملاك أمره و [الملوك «2» ] تحت وطأة أقدامه، والملائكة يحفّونه من حوله «3» ومن أمامه، ومعادن الذهب تعرض عليه فيساوى لديه لزهادته بين نضاره ورغامه؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تحاكى أرج الصّبا وقد سرى عن خزامه «4» ، وتضاهى فتيق «5» المسلك وقد تنفّس عن ختامه، مشفوعة إلى يوم القيامة برضوانه وسلامه؛ وبعد، فإنه لما كان المقام العالى الملكىّ الفلانىّ هو الذى ربّته الممالك فى حجرها وليدا، وخوّلته السلطنة الشريفة من نفائس ذخائرها طارفا وتليدا؛ وبوّأته من مراتب العز أقصى غاية لا ترام، وأبادت بمرهفه البتّار جمع التتار الطّغام؛ واستخدمت لطاعته جيشين: جيش نهار بكّر فيه مواليه على أعدائه بسابق خيله ومرهف حسامه، وجيش ليل تبسط أولياء دولته أكفّهم للدعاء ببقائه فى جنح ظلامه؛ طالما هزّت المنابر أعطافها طربا عند ذكر اسمه، وازدادت وسامة الدّينار حسنا لمّا شرّفها بحسن

وسمه ورسمه؛ وتلت أوصاف بأسه ألسنة خرصانه «1» ، ورجعت سوابق الهمم عن التطاول للمطاولة فى ميدانه، وقالت فوارس الحروب لمّا رأت كرّه: هذا سباق لسنا من رهانه؛ كم فرّق بجيشه اللهام «2» جيشا أرمد جفن الشمس بقتامه، ونصر الأحزاب يوم الكريهة بالعاديات من خيله والمرسلات من سهامه، فالدهر يشكر مواقف إقدامه، والعدل ينشر منشور فضله وسديد أحكامه؛ والممالك تثنى على عليائه بالسداد، والمسالك تهدى لسالكها ما خصّها به من أمنها المعتاد؛ والناس فى ظلّ عدل لياليه [خلقت «3» ] كما شاءوا أسحارا، والوحش والغنم كلّ منهما قد جعل صاحبه جارا؛ ومواطن العلوم أمست تطرّز بمحاسن أوصافه، وحكّام الشرع الجليل أضحت تميس فى حلل عدله وإنصافه؛ والأماكن التى تشدّ لها الرحال يفترّ ثغرها عن عدله، والمشاعر المعظّمة قد حمى حوزتها بالسهم من نصله والشهم من رجله «4» ؛ تنقّل فى مراتب الملك صغيرا الى أن اشتدّ بالعزم القوىّ كاهله، واستوطن ربع العزّ مذ كان يجتلى بدوره وتجتليه عقائله؛ فلم تبق له مأربة إلا قضاها، ولا حالة إلا ابتلاها، ولا غمّة إلا جلاها، ولا آية شكر إلا تلاها؛ الى أن قمع بحدّ

سيفه كلّ مجترى، وقال للسحابة كما قيل: امطرى «1» ؛ رأى «2» أن الموارد الدنيويّة لا بدّ لها من مصادر، وأن أوائل الأمور تستدعى الأواخر، وأن للزهادة فى الدنيا وإن عظم قدرها الشأن الكبير، وأن الانقطاع الى الله تعالى منهل صفو لا يقبل شوائب التكدير؛ وقوى عزمه فى الرّحلة عن مقرّ ملكه الى أعزّ حصونه المنيعه، بل الى أجلّ معاقله الشامخة الرفيعه؛ قاصدا بها الانفراد، عالما بأن الله يطلع على خفيّات الفؤاد؛ فرحل ركابه العالى ونظام المملكة من حسن الهيئة قائم على ساق، وقلوب كفّال الممالك الشريفة متّفقة على الاتفاق؛ واثقا بأن للملك من أولياء بيته الشريف كلّ ولىّ عهد لا تخفر لديه الذمم، وكلّ سلطان أفق «3» تضؤل دون عزمه الهمم؛ يحمى بيضة خدره من كلّ متطاول إليها، ويقصّر أسباب الحرص من كلّ شأن «4» عليها؛ واختار الانفراد، وتيقّن أنّا لا نعدل عمّا أراد؛ ونصب عمد خيامه الشريفة على سفح روض الكرك النّضر، وحلّ منه رأس شاهقة نبتها خضر؛ ورغب فى الزهادة وشعارها، واستوت «5» عنده الدنيا فى حالتى إقبالها وإدبارها؛ فاقتضى اعتناؤنا الشريف أن نبلّغه من مآربه الشريفة أقصى المرام، وأن نساعده فى كلّ أمر يعرف منه الموافقة منّا على الدوام؛ وأن ننظم الأمر فى سلك الإرادة على مراده، وأن نبادر إلى راحة سرّه الشريف وفؤاده؛ ولسوف نعامل مقامه العالى بكلّ احترام يصل

ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب

إليه تفصيلا وإجمالا، ونراعى معه أدب أسلافه الكرام حالا فحالا، وإنّا لا نخليه من تجهيز مثال يتضمّن من محاسنه سيرا وأمثالا، ولولا عرف السلطنة ونظام المملكة يقتضيان ذلك ما جهّزنا إلى بابه الشريف مثالا، فلذلك خرج الأمر الشريف بكذا وكذا. هذا ما اتفق إيراده فى هذا الفصل من رسائل الكتّاب، وكتّاب العصر- أعزّهم الله تعالى- كثير، وكلامهم مشهور، ومدوّن بأيدى الناس ومحفوظ فى صدورهم، ولم نشترط أن نورد لجميعهم فنلتزم الشرط، ولو فعلنا ذلك لطال الكتاب وخرج عن شرطه، وانما خصصنا هؤلاء بالذكر لتعلّقنا بهم، واتصال سببنا فى الوداد بسببهم. ذكر شىء من الأبيات الداخلة فى هذا الباب «1» فمن ذلك قول بعض الشعراء: إنّى لعظم تشوّقى ... وشديد وجدى واكتئابى أصبحت أحسد من يفو ... ز بقربكم حتى كتابى وقال آخر: وما تأخّر كتبى عنك من ملل ... طوبى «2» لودّك يا بن السادة النّجب لكن حسدت كتابى أن يراك وما ... أراك فاخترت إمساكى عن الكتب

[وقال «1» آخر] : عقت الرسائل طامعا أن نلتقى ... فأبى الزمان يتيح لى ما أطلب وتأخّرت كتبى فقلت أعاتب ... فى ذاك أنت علىّ أم متعتّب «2» فإذا «3» وجدتك فى الضمير ممثّلا ... أبدا تناجينى إلى من أكتب وقال آخر: الكتب تكتب للبعي ... د وانت من قلبى قريب فإذا وجدتك فى الفؤا ... د فمن أكاتب أو أجيب وقال آخر: لو أنّ كتبى بقدر الشوق واصلة ... كانت إليك مع الأنفاس تتّصل لكنّنى والذى يبقيك لى أبدا ... على جميل اعتقادى فيك أتّكل وقال آخر: وفى الكتب نجوى من يعزّ لقاؤه ... وتقريب من لم يدن منه مزار فلم تخلنى «4» منها وتعلم أنّها «5» ... لعينى وقلبى قرّة وقرار وقال آخر: سألتك عوّذنى بكتبك إنّ لى ... شياطين شوق لا تفارق مضجعى إذا استرقت أسرار فكرى تمرّدا ... بعثت إليها فى الدجى شهب أدمعى

وقال آخر: أتبخل بالقرطاس والخط عن أخ ... وكفّاك أندى بالعطايا من المزن لعمرى لقد قوّى جفاؤك ظنّتى ... وأوهن تأميلى وما كان ذا وهن وقال آخر: أظنّ القراطيس فى مصركم ... تخوّنها ريب دهر خؤون فلو أنها صفحات الخدو ... د يكتب فيها بماء الجفون لما أعوزتك ولكن جفوت ... فألقيت شأنى خلال الشؤون وقال المتنبّى فى جواب كتاب ورد عليه: بكتب الأنام كتاب «1» ورد ... فدت يد كاتبه كلّ يد يعبّر عما له عندنا ... ويذكر من شوقه ما نجد وقال أبو الفتح البستىّ: لمّا أتانى كتاب منك مبتسم ... عن كل فضل وبرّ غير محدود حكت معانيه فى أثناء أسطره ... آثارك البيض فى أحوالى السود وقال آخر: طلع الفجر من كتابك عندى ... فمتى باللقاء يبدو الصباح وقال آخر: ولمّا أتانى بعد هجر كتابكم ... وفيه شفاء الواله الدنف المضنى سررت به حتى توهّمت أنه ... كتابى وقد أعطيته بيدى اليمنى

ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق به، ويحتاج الكاتب إلى معرفته والاطلاع عليه الحجة البالغة والأجوبة الدامغة.

وقال آخر: نفسى الفداء لغائب عن ناظرى ... ومحلّه فى القلب دون حجابه لولا تمتّع مقلتى بلقائه ... لوهبتها لمبشّرى بكتابه وقال آخر: ورد الكتاب مبشّرا ... نفسى بأوقات «1» السرور وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور مثل السوالف والخدو «2» ... د البيض زينت بالشعور أنزلته منّى بمنزلة ... القلوب من الصدور وقال آخر فى كتاب عدم فلم يصل إليه: نبّئت أنّ كتابا ... أرسلته مع رسول ملأته منك طيبا ... فضاع قبل الوصول ومما يتصل بهذا الباب ويلتحق «3» به، ويحتاج الكاتب إلى معرفته والاطلاع عليه الحجّة البالغة والأجوبة الدامغة. فمن ذلك فى التنزيل قوله عزّ وجل: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وقال تعالى فى الدّلالة على إثبات نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ* أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرف فى قريش بالصادق الأمين وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ولمّا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر قريش لو قلت لكم إنّ خيلا تطلّع عليكم من هذا الجبل كنتم تصدّقونى «1» ؟ قالوا: نعم؛ قال:

فإنّى «نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» فلمّا أقرّوا بصدقه خاطبهم بالإنذار، ودعاهم إلى الإسلام. فهذه حجج من الكتاب والسنّة لا جواب عنها ولمّا انتهى إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم السّقيفة أنّ الأنصار قالت: منّا أمير ومنكم أمير؛ قال علىّ: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ قالوا: وما فى هذا من الحجة عليهم؟ قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ولمّا قال الحباب بن المنذر فى يوم السّقيفة أيضا: أنا جذيلها «1» المحكّك وعذيقها «2» المرجّب، إن شئتم كررناها جذعة «3» ، منّا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجرىّ شيئا فى الأنصارىّ ردّه عليه الأنصارىّ، وإن عمل الأنصارىّ شيئا فى المهاجرىّ ردّه عليه المهاجرىّ؛ أراد عمر الكلام، فقال أبو بكر رضى الله عنه: على رسلك «4» ، نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس حسبا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة «5» فى العرب، وأمسّهم رحما بالرسول صلّى الله

عليه وسلّم، أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم، وأنتم إخواننا فى الدّين، وشركاؤنا فى الفىء، وأنصارنا على «1» على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا، نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب الا لهذا الحىّ من قريش. قالوا: قد رضينا وسلّمنا. قال بعض اليهود لعلى رضى الله عنه: ما دفنتم «2» نبيّكم حتى اختلفتم؛ فقال: انما اختلفنا عليه «3» لا فيه، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. وقال حاطب بن أبى بلتعة: لما بعثنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الى المقوقس ملك الإسكندريّة بكتابه، أتيته وأبلغته الرسالة، فضحك ثم قال: كتب إلىّ صاحبك يسألنى أن أتّبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبيا أن يدعو الله فيسلّط علىّ البحر فيغرقنى فيكتفى مؤنتى، ويأخذ ملكى؟ قلت: ما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه فى حبل، وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليلا من شوك، وحملوا خشبته التى صلبوه عليها على عاتقه، ثم أخرجوه وهو يبكى حتى نصبوه على الخشبة ثم طعنوه حيّا بحربة حتى مات- على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فينجيه ويهلكهم، ويكتفى مؤنتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم؟ وما منع يحيى بن زكريّا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله فقتله وبعث برأسه اليها حتى وضع بين يديها أن يسأل الله أن يحميه ويهلكهم؟ فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما تخرج الحكم إلّا من عند الحكماء.

وخطب معاوية بن أبى سفيان ذات يوم وقال: إن الله تعالى يقول: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فما نلام نحن؛ فقام اليه الأحنف بن قيس فقال له: يا معاوية، إنا والله ما نلومك على ما فى خزائن الله، وإنّما نلومك على ما آثرك الله [به «1» ] «2» علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه. وقال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! قال: قومك أشدّ حماقة إذ قالوا: «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» أفلا قالوا: اهدنا له. وقيل: مرّت امرأة من العرب بمجلس من مجالس بنى نمير، فرماها جماعة منهم بأبصارهم، فوقفت ثم قالت: يا بنى نمير، لا أمر الله تعالى أطعتم، ولا قول الشاعر سمعتم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) وقال الشاعر «3» : فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فما اجتمع منهم بعد ذلك اثنان فى مجلس. وقيل: استعمل عتبة بن أبى سفيان رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من أزد شنوءة، فأتى الأزدىّ عتبة فقال: أمرت من كان مظلوما ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم

ثم ذكر ظلامته، فقال عتبة: إنّى أرى أعرابيّا جافيا، والله ما أحسبك تدرى كم تصلّى فى اليوم والليلة؛ فقال: إن أنبأتك ذلك تجعل لى عليك مسألة؟ قال: نعم؛ فقال الأعرابىّ: إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع ثم صلاة الفجر لا تضيّع قال: صدقت فاسأل؛ فقال: كم فقار ظهرك؟ فقال: لا أدرى؛ قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فأمر بردّ ظلامته عليه. وقال الحجّاج بن يوسف ليحيى بن سعيد بن العاصى «1» : بلغنى أنّك تشبه إبليس فى قبح وجهك؛ قال: وما ينكر الأمير من أن يكون سيّد الإنس يشبه سيّد الجنّ؟. وقال لسعيد بن جبير: اختر لنفسك أىّ قتلة شئت؛ قال: اختر أنت فإنّ القصاص أمامك. وحكى أن حويطب «2» بن عبد العزّى بلغ عشرين ومائة سنة، ستين فى الجاهليّة وستين فى الإسلام، فلما ولى مروان بن الحكم المدينة دخل عليه حويطب، فقال له مروان: لقد تأخّر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك «3» الاحداث؛ فقال: والله لقد «4» هممت

بالإسلام غير مرّة كلّ ذلك يعوقنى أبوك عنه «1» وينهانى، ويقول: أتدع دين آبائك «2» [لدين «3» محدث] ؟! أما أخبرك عثمان ما كان قد لقى من أبيك حين أسلم. وقيل: لمّا ظفر الحجّاج بابن الأشعث وأصحابه أمر بضرب أعناقهم، حتى أتى على رجل من تميم، فقال التميمىّ: أيها الأمير، والله لئن «4» أسأنا فى الذنب ما «5» أحسنت فى العقوبة؛ فقال الحجاج: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله تعالى يقول: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فو الله ما مننت ولا فاديت «6» ؛ فقال الحجّاج: أفّ «7» لهذه الجيف، أما كان منهم من يحسن مثل هذا؟ وأمر بإطلاق من بقى وعفا عنهم. وحكى أن الرشيد سأل موسى بن جعفر فقال: لم قلتم إنّا ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجوّزتم للناس أن ينسبوكم اليه ويقولوا: يا [بنى «8» ] نبىّ الله وأنتم

بنو علىّ، وانما ينسب الرجل إلى أبيه دون جدّه؛ فقرأ «1» : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) وليس لعيسى أب، وانما لحق بذرّيّة الأنبياء من قبل أمّه؛ وكذلك ألحقنا بذرّيّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمّنا فاطمة- عليها السلام- وأزيدك يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ولم يدع صلّى الله عليه وسلّم فى مباهلة «2» النصارى غير فاطمة والحسن والحسين «3» ، وهما «4» الأبناء. قيل: لما ولّى يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغر الناس سنّه، فقال له رجل: كم سنّ القاضى- أعزّه الله-؟ فقال: سنّ عتّاب «5» بن أسيد حين ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضاء مكّة. فجعل جوابه احتجاجا. قال يزيد بن عروة: لمّا مات كثير لم تتخلّف بالمدينة امرأة ولا رجل عن جنازته، وغلب النساء عليها، وجعلن يبكينه ويذكرن عزّة فى ندبهنّ له؛ فقال

أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر: أفرجوا «1» لى عن جنازة كثيّر لأرفعها، فجعلنا ندفع النساء عنها ومحمد بن علىّ يقول: تنحّين يا صويحبات يوسف؛ فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله، لقد صدقت، إنّا لصويحباته، ولقد كنّا له خيرا منكم له؛ فقال أبو جعفر [لبعض مواليه «2» ] : احتفظ بها حتى تجيئنى «3» بها إذا انصرفت؛ قال: فلما انصرف أتى بها وكأنّها شررة النار؛ فقال لها محمد بن علىّ: إيه «4» ، أنت القائلة: إنّكنّ ليوسف خير منّا؟ قالت: نعم، تؤمّننى غضبك يا بن رسول الله؟ فقال: أنت آمنة من غضبى فأنبئينى؛ فقالت: نحن دعوناه إلى اللّدّات من المطعم والمشرب والتمتّع والتنعّم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه فى الجبّ وبعتموه بأنجس الأثمان، وحبستموه فى السجن؛ فأيّنا كان عليه أحنى، وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درّك! لن تغالب امرأة إلّا غلبت؛ ثم قال لها: ألك بعل؟ فقالت: لى من الرجال من أنا بعله؛ فقال أبو جعفر: ما أصدقك! مثلك من تملك الرجل «5» ولا يملكها؛ فلمّا انصرفت قال رجل من القوم: هذه فلانة «6» بنت معقب «7» . وقال المأمون ليحيى بن أكثم: من الذى يقول: قاض يرى الحدّ فى الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس

ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد

فقال: يا أمير المؤمنين، هو «1» الذى يقول: شاهدنا «2» يرتشى وحاكمنا ... يلوط والراس شرّ ما راس لا أحسب الجور ينقضى و «3» على الأمّة ... وال من آل عبّاس قال ومن هو؟ قال: أحمد بن [أبى «4» ] نعيم؛ فأمر بنفيه إلى السّند «5» . وحكى أنّ أهل الكوفة تظلّموا إلى المأمون من عامل ولّاه عليهم؛ فقال: ما علمت فى عدد عمّالى أعدل ولا أقوم بأمر الرعيّة ولا أعود بالرفق عليهم منه؛ فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فاذا كان الأمر على هذه الصفة فينبغى أن تعدل فى ولايته بين أهل البلدان، وتسوّى بنا «6» أهل الأمصار، حتى يلحق أهل كلّ بلد من عدله وإنصافه مثل الذى لحقنا، فاذا فعل أمير المؤمنين ذلك فلا يخصّنا منه أكثر من ثلاث سنين؛ فضحك المأمون وعزل العامل عنهم. ولنصل هذا الفصل بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد «7» وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحقّ الأدب تعرّض فى هذا الفصل الى ذكر قصص

الأنبياء- صلوات الله عليهم- كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهت ذلك منه، ونزّهت كتابى عنه- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فكانت هذه هفوة من المسلمين غفرها الله وعفا عنها. وقال الأحنف بن قيس: الشريف من عدّت سقطاته. وقال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث «1» أىّ الرجال المهذّب وقالوا: كلّ صارم ينبو، وكلّ جواد يكبو. وكان الأحنف بن قيس حليما سيّدا يضرب به المثل، وقد عدّت له سقطات فمن ذلك أنه نظر الى خيل لبنى مازن فقال: هذه خيل ما أدركت بالثار، ولا نقصت الأوتار «2» ؛ فقال له سعيد بن القاسم المازنىّ: أمّا يوم قتلت أباك فقد أدركت بثارها؛ فقال الأحنف: لشىء ما قيل: «دع الكلام حذر الجواب» - وكانت بنو مازن قتلت [أبا «3» ] الأحنف فى الجاهليّة. ومنها أنه لمّا خرج مع مصعب بن الزبير أرسل اليه مائة ألف درهم، ولم يرسل الى زبراء «4» جاريته بشىء، فجاءت حتى وقفت بين يدى الأحنف، ثم أرسلت عينيها؛

فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لى لا أبكى عليك إذ لم تبك على نفسك، أقعدتها وتذر مرو الرّوذ «1» تجمع بين غارين «2» من المسلمين؛ فقال: نصحتنى والله فى دينى إذ لم أتنبّه لذلك؛ ثم أمر بفسطاطه فقوّض، فبلغ ذلك مصعبا فقال: ويحكم، من دهانى فى الأحنف؟ فقيل: زبراء، فبعث إليها بثلاثين ألف درهم، فجاءت حتى أرخت عينيها بين يديه؛ فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: عجبت لأحوالك فى «3» أهل البصرة، تزفّهم كما تزفّ العروس، حتى اذا ضربت بهم فى نحور أعدائهم أردت أن تفتّ فى أعضادهم؛ قال: صدقت والله، يا غلام دع الفساطيط؛ فاضطرب العسكر بمجىء «4» زبراء مرّتين. ومن سقطاته التى عدّت عليه أن عمرو بن الأهتم «5» دسّ إليه رجلا ليسفّهه، فقال له: يا أبا بحر، من كان أبوك فى قومه؟ قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم ولم يتخلّف عنهم؛ فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف إلى أنه من قبل عمرو، فقال:

ما كان مال أبيك؟ قال: كانت له صرمة «1» يمنح منها ويقرى، ولم يكن أهتم سلّاحا. وقيل: إن الحسن «2» سئل عن قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) فقال: إن كان لسريّا، وإن كان لكريما؛ فقيل له: من هو؟ قال: المسيح؛ فقال له حميد «3» بن عبد الرحمن: أعد نظرا، إنما السرىّ: الجدول؛ فأنعم «4» له، وقال: يا حميد، غلبنا عليك الأمراء. ومات ولد طفل لسليمان «5» بن علىّ، فأتاه الناس بالبصرة يعزّونه وفيهم شبيب بن شيبة وبكر «6» بن حبيب السّهمىّ؛ فقال شبيب: أليس يقال: إنّ الطفل لا يزال

محبنظئا «1» بباب الجنّة حتى يدخل أبواه؟ فجاء بظاء معجمة؛ فقال له بكر «2» بن حبيب: محبنطئا، بطاء مهملة؛ فقال شبيب: إلّا أنّ من بين لابتيها يعلم أنّ القول كما أقول «3» ؛ فقال بكر: وخطأ ثان، ما للبصرة لابتان «4» ، أذهبت إليه «5» بالمدينة؟. (من بين لابتيها: أى «6» حرتيها) . قيل: جلس محمد بن عبد الملك» يوما للمظالم، وحضر فى جملة الناس رجل زيّه زىّ الكتّاب، فجلس بإزاء محمد، ومحمد ينقد الأمور وهو لا يتكلّم، ومحمد يتأمّله؛ فلما خفّ المجلس قال له: ما حاجتك؟ قال: جئتك- أصلحك الله- متظلّما؛ قال: ممّن؟ قال: منك، ضيعة لى فى يد وكيلك يحمل إليك غلّتها، ويحول بينى وبينها؛ قال: فما تريد؟ قال: تكتب بتسليمها إلىّ؛ قال: هذا يحتاج فيه إلى شهود وبيّنة وأشياء كثيرة؛ فقال له الرجل: الشهود هم البيّنة، وأشياء كثيرة عىّ منك؛ فخجل محمد وهاب الرجل، وكتب له بما أراد.

ووصف ذو «1» الرّمّة لعبد «2» الملك بن مروان بالذكاء وحسن الشعر، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه أنشده قصيدة أفتتحها بقوله: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» وكانت عينا عبد الملك تدمعان دائما، فظنّ أنه عرّض به، فغضب وقال: مالك ولهذا السؤال يا بن اللّخناء؟ وقطع إنشاده، وأمر بإخراجه. ودخل أبو النجم «3» على هشام بن عبد الملك وأنشده أرجوزته التى أوّلها: «الحمد لله الوهوب المجزل «4» » حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس عند الغروب: «وهى على الأفق كعين الأحول» ، واستدرك سقطة لسانه، وقطع إنشاده، وعلم أنها زلّة، لأنّ هشاما كان أحول، فقال له هشام كمّل إنشادك ويلك وأتمم البيت، وأمر بوجء «5» عنقه وإخراجه من الرّصافة «6» .

ذكر شىء من الحكم

قال المدائنىّ: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام فى زمن المهدىّ، فأخذ وحمل إليه، فلمّا مثل بين يديه اعتذر، فرأى منه المهدىّ نبلا وفضلا، فعفا عنه وخلطه بجلسائه؛ ثم قال له يوما: أنشدنى شيئا من شعر زهير، فأنشده قصيدته التى أوّلها: «لمن الديار بقنّة «1» الحجر» حتى أتى على آخرها؛ فقال المهدىّ: مضى من يقول مثل هذا؛ فقال السّمرىّ: وذهب والله من يقال «2» فيه مثله؛ فاستشاط «3» المهدىّ غضبا، وأمر أن يجرّ برجله، وألّا يؤذن له بعدها. ولنختم ما ذكرناه من أمر كتابة الإنشاء بشىء من الحكم. ذكر شىء من الحكم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحكمة ضالّة المؤمن» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: لكلّ جواد كبوه، ولكلّ حكيم هفوه؛ ولكلّ نفس ملّة «4» ، فاطلبوا لها طرائف الحكمة. ومن الحديث النبوىّ- صلوات الله تعالى وسلامه على قائله- ممّا يدخل فى هذا الفصل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه عمله» . «خير الأمور أوسطها» «5» . «كلّ ميسّر لما خلق له» .

«زر غبّا تزدد حبّا» . «الوحدة خير من قرين السوء» . «البركة فى الحركة» . «صلوا أرحامكم ولو بالسلام» . «من كثر سواد قوم فهو منهم» . «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» . «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى النفس» . وقال أبو بكر الصّدّيق- رضى الله عنه-: صنائع المعروف تقى مصارع السوء. وقال علىّ بن أبى طالب: استغن عمّن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأفضل على من شئت فأنت «1» أميره. قال بعض الشعراء: وإذا ما الرجاء أسقط بين الناس ... فالناس كلّهم أكفاء وقال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلّا فى ثلاثة مواضع: لا يعرف الحليم إلّا وقت الغضب، ولا الشجاع إلا فى الحرب اذا لاقى الأقران، ولا أخوك إلا عند حاجتك. وقال عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه: أحبّكم إلينا قبل أن نختبركم «2» أحسنكم صمتا، فإذا تكلّم فأبينكم منطقا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا. وفى رواية: أحبّكم إلينا أحسنكم اسما، فإذا رأيناكم فأجملكم منظرا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبرا. وخطب علىّ رضى الله عنه يوما فقال فى خطبته: وأعجب ما فى الإنسان قلبه، له أمداد «3» من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإذا سنح له الرجاء هاج به

الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نسى التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد ما لا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع أقعده الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مفسد. ومن كلامه- رضى الله عنه-: فرض الله تعالى الإيمان تطهيرا من الشّرك، والصّلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة سببا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحجّ تقوية للبدن، والجهاد عزّ للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ «1» ، والنهى عن المنكر ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل، ومجانبة السرقة إيجادا «2» للعفّة، وترك الزنى تصحيحا للنّسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل، والشهادات استظهارا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام أمانا من المخاوف، والإمامة نظاما للأمّة، والطاعة تعظيما للإمامة «3» . وقال فرفوريوس «4» : لو تميزت الأشياء بأشكالها لكان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والعزّ مع القناعة، والأمن «5» مع العفاف، والسلامة مع الوحدة.

وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن «1» ، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنّجدة محتاجة إلى الجدّ. وقال حكيم يونانىّ: السعادات كلّها فى سبعة أشياء: حسن الصورة، وصحّة الجسم، وطول العمر، وكثرة العلم، وسعة ذات اليد، وطيب الذكر، والتمكّن من الصديق والعدوّ. وقال بعض الأدباء- وقد سئل عن العيش- فقال: فى الغنى فإنى رأيت الفقير لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له السائل: زدنى، قال: فى الصحّة، فإنى رأيت المريض لا يلتذّ بعيش أبدا؛ فقال له: زدنى، قال: فى الأمن، فإنى رأيت الخائف لا يلتذّ بعيش أبدا؛ قال: زدنى؛ قال: لا أجد مزيدا. وهذا الكلام مأخوذ من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح آمنا فى سربه «2» ، معافى فى بدنه، عنده «3» قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . وقال فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلّا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.

وقالوا: المنظر يحتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقربى إلى المودّة، والمعرفة إلى التجارب، والشرف إلى التواضع، والنجدة إلى الجدّ «1» . وقال علىّ رضى الله عنه: يغلب المقدار على التقدير، حتى تكون الآفة فى التدبير. أخذه ابن الرومىّ فقال: غلط الطبيب علىّ غلطة مورد ... عجزت موارده «2» عن الإصدار والناس يلحون الطبيب وإنّما ... غلط الطبيب إصابة المقدار وقال: اذا انقضت المدّه، كان الهلاك فى العدّة. وقال القدماء: لا خير فى القول إلّا مع الفعل، ولا فى المنظر إلّا مع المخبر، ولا فى المال إلّا مع الجود، ولا فى الصديق إلّا مع الوفاء، ولا فى الفقه إلّا مع الورع، ولا فى الصدقة إلّا مع حسن النيّة، ولا فى الحياة إلّا مع الصحّة، ولا فى السرور إلّا مع الأمن. قال بعض بنى تميم: حضرت مجلس الأحنف بن قيس وعنده قوم مجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الكرم، منع الحرم؛ ما أقرب النّقمة من أهل البغى! لا خير فى لذّة تعقب ندما؛ لن يهلك من قصد، ولن يفتقر من زهد؛ ربّ هزل قد عاد جدّا؛ من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه؛ دعوا المزاح فإنه

يؤرّث «1» الضغائن؛ وخير القول ما صدّقه الفعل؛ احتملوا من أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم؛ أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك؛ أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك؛ وإيّاكم ومشاورة النساء؛ واعلم أنّ كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم؛ ومن الكرم، الوفاء بالذمم؛ ما أقبح القطيعة بعد الصّلة؛ والجفاء بعد اللّطف، والعداوة بعد الودّ! لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل؛ واعلم أنّ لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، فأنفق فى حقّ ولا تكوننّ خازنا لغيرك؛ واذا كان الغدر موجودا فى الناس فالثقة بكلّ أحد عجز؛ اعرف الحقّ لمن عرفه لك؛ واعلم أنّ قطيعة الجاهل، تعدل صلة العاقل، قال: فما رأيت كلاما أبلغ منه، فقمت وقد حفظته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ومن كلام علىّ رضى الله عنه: من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره؛ ومن سلّ سيف البغى قتل به؛ ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها؛ ومن هتك حجاب أخيه انهتكت عورات بيته «2» ؛ ومن نسى خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبّر على الناس زلّ؛ ومن سفه على الناس شتم؛ ومن خالط العلماء وقّر، ومن خالط الأنذال حقر؛ ومن أكثر من شىء عرف به؛ والسعيد من وعظ بغيره؛ وليس مع قطيعة الرحم تقى، ولا مع الفجور غنى؛ رأس العلم الرفق، وآفته الخرق؛ كثرة الزيارة تورث الملالة. وقال موسى بن جعفر: ما تسابّ «3» اثنان إلّا انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل.

وقال آخر: ما تسابّ اثنان إلا غلب ألأمهما. وقال الحسن بن علىّ بن موسى الرّضا: اعلم أن للحباء «1» مقدار فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدارا فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقدارا فإن زاد عليه فهو بخل. قال مهدىّ بن أبان: قلت لولّادة العبديّة- وكانت من أعقل النساء-: إنّى أريد الحج فأوصينى، قالت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم؟ فقلت: ما شئت؛ فقالت: جد تسد، واصبر تفز؛ قلت: أيضا؛ قالت: لا يبعد غضبك حلمك، ولا هواك علمك؛ وق دينك بدنياك، وق عرضك بعرضك؛ وتفضّل تخدم، واحلم تقدّم؛ قلت: فبمن أستعين؟ قالت: بالله؛ قلت: من الناس؛ قالت: الجلد النشيط، والصالح الأمين؛ قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرّب الكيّس، أو الأديب الأريب؛ قلت: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق المسلّم، أو المؤاخى «2» المتكرّم؛ ثم قالت: يا بناه، إنك تفد إلى ملك الملوك فانظر كيف يكون مقامك بين يديه. وقال حكيم: من الذى بلغ جسيما فلم يبطر «3» ، واتّبع الهوى فلم يعطب؛ وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته.

وقال: الاعتبار يفيدك «1» الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك. وكان يقال: عليكم بالأدب فإنه صاحب فى السّفر، ومؤنس فى الوحدة، وجمال فى المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة. وقال بعضهم: احذر كلّ الحذر من أن يخدعك «2» الشيطان فيمثّل لك التوانى فى صورة التوكّل، ويورثك الهوينى «3» بالإحالة على القدر، فإن الله تعالى أمر بالتوكّل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الإعذار، فقال تعالى: «خُذُوا حِذْرَكُمْ» * «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» . وقال آخر: لا تجاهد الطلب جهاد الغالب، ولا تتّكل على القدر اتّكال المستسلم، فإنّ ابتغاء الفضل «4» من السنّة، والإجمال فى الطلب من العفّة، وليست العفّة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا. وقالوا: عشر خصال فى عشرة أصناف أقبح منها فى غيرهم: الضيق فى الملوك، والغدر فى الأشراف، والكذب فى القضاة، والخديعة فى العلماء، والغضب فى الأبرار، «5» والحرص فى الأغنياء، والسّفه «6» فى الشيوخ، والمرض فى الأطبّاء، والزّهو فى الفقراء، والفجور فى القرّاء «7» .

ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل قول الأضبط بن قريع:

وقالوا: ثمانية إذا أهينوا «1» فلا يلوموا إلّا أنفسهم: الآتى طعاما لم يدع إليه، والمتأمّر على ربّ البيت فى بيته، وطالب المعروف «2» من غير أهله، وراج منن الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين لم يدخلاه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس مجلسا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه. ومن الأبيات المناسبة لهذا الفصل قول الأضبط بن قريع: لكلّ ضيق من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا بقاء معه فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه لا تحقرنّ «3» الفقير علّك أن ... تركع «4» يوما والدهر قد رفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه وقال أحيحة: فما يدرى الفقير متى غناه ... ولا يدرى الغنىّ متى يعيل «5» ولا تدرى إذا أزمعت أمرا ... بأىّ الأرض يأتيك المقيل

وقال الصّلتان العبدىّ «1» : أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرّ «2» الغداة ومرّ العشى إذا ليلة هرّمت «3» يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى نروح ونغدو لحاجتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضى تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقى وقال المتنبّى: ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال وقد جمع من شعر أبى الطيّب فى ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس فى الحكمة؛ فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم «4» دون بلوغ الشهوة. قال المتنبّى: وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت فى مرادها الأجسام وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكىّ والفصد اللّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبّى إلى شعره فقال:

ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك

لعلّ عتبك محمود عواقبه ... فربّما صحّت الأجساد بالعلل وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدّها عن ذلك إحدى علّتين: إمّا علّة دينيّة خوف معاد، أو علّة سياسيّة خوف سيف قال المتنبّى: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم هذا ما اتفق إيراده فى هذا الباب من أمر كتابة الإنشاء، وكلام الصحابة والخلفاء، وذوى الفصاحة من الأمراء، وبلاغات الخطباء والفصحاء، ورسائل الفضلاء والبلغاء، وفقر الكتّاب والأدباء، وحكم أوائل الحكماء؛ وهو ممّا يضطرّ الكاتب إليه، ويعتمد فى الاطلاع على ما خفى من أمر هذه الصناعة عليه؛ وهى إشارات إلى مجموعها، ورشفات من ينبوعها؛ وباب يتوصّل منه إلى رحابها، وسلّم يرتقى عليه إلى هضابها، ومسيل عذب يتّصل بعبابها؛ فقد وضح لك أيّها الطالب السبيل، وظهر لك أيّها الراغب قيام الدليل؛ وفيما أوردناه كفاية لمن تمسّك بهذه الصناعة ورغب فيها، وغنية لمن تأمّل مقاصدها وتدبّر معانيها؛ فلنذكر كتابة الديوان والتصرّف. ذكر كتابة الديوان وقلم التصرف وما يتصل بذلك قد ذكرنا فى أوّل هذا الباب فى السفر السابع من هذا الكتاب اشتقاق الكتابة، ولم سمّيت بذلك، وذكرنا أيضا أصلها وشرفها وفوائدها، فلا حاجة إلى إعادته فى هذا الموضع، فلنذكر الآن ما يتعلّق بقلم الديوان والتصرّف والحساب؛ وإن كنا قدّمنا ذكر كتّاب الإنشاء لما هم بصدده من الصدارة والوجاهه، والنبالة والنباهه؛ والفصاحة والصباحه، والنزاهة والسماحه؛ والأمانة والديانه، والسيادة والصيانه؛

ولما تصدّوا له من كتم أسرار الدّول، وتردّوا به من محاسن الأواخر ومآثر الأول، والتحفوا به من مطارف الفضائل والمكارم، وتحلّوا به من صفات الأفاضل والأكارم؛ الى غير ذلك من مناقبهم الجمّه، وأياديهم التى وضحت غررا فى ليالى الخطوب المدلهمّه؛ فكتّاب الحساب أكثر تحقيقا، وأقرب إلى ضبط الأموال طريقا، وأدلّ برهانا، وأوضح بيانا، قال الله تعالى فى كتابه العزيز: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وذهب بعض المفسرين لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، أى كاتب حاسب. وروى البخارىّ عن أبى حميد الساعدىّ قال: «استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد «1» على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللّتبيّة «2» فلمّا جاء حاسبه» فقد صحّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاسب؛ وبكتّاب الحساب تحفظ الأموال وتضبط الغلال؛ وتحدّ قوانين البلاد؛ وتميّز الطوارف من التّلاد؛ لم يفخر كتّاب الإنشاء بمنقبة إلا فخروا بمناقب، ولا سموا إلى مرتبة إلّا وقد رقوا إلى مراتب؛ ولا تميّزوا برسالة «3» إلّا ولهؤلاء فيها القدح المعلّى، ولا نسبوا إلى نباهة إلّا ومحلّهم فيها

المحلّ الأرفع ومقامهم المقام الأعلى؛ ولا اتصفوا بكتمان سرّ إلّا اتصف هؤلاء بمثله، ولا شهروا ببذل برّ إلا وهؤلاء هم أعيان أهله؛ ثم اختصّ كتّاب التصرف بأمور منع أولئك منها، وأطلقت أقلامهم فى أقلام «1» حبست أقلام أولئك عنها؛ وارتقوا إلى قلل مراتب كبت جيادهم عن إدراك غايتها، وتسنّموا ذرا مناصب لا تمتدّ الآمال «2» إلى أكثر من نهايتها؛ ولسنا نقيمهم فى محلّ المناظره، ولا نوقفهم فى موقف المكاثرة والمفاخره؛ بل لكلّ طائفة فضل لا ينكر، وفضائل هى أشهر من أن تملى وتسطّر؛ ولمّا انتهيت فى كتابى هذا إلى باب الكتابة، أردت أن أضرب عن ذكر كتابة التصرّف صفحا، ولا أعيرها من النظر لمحا، وأقتصر على كتابة الإنشاء جريا على عادة من صنّف، وقاعدة من ألف؛ فسألنى بعض إخوانى أن أضع فى ذلك ملخّصا يعلم منه المباشر كيف المباشره، ويستضىء به فيما يسترفعه «3» أو يرفعه من ضريبة وموافره «4» ؛ فأوردت «5» هذه النّبذة إزالة «6» لسؤاله، وتحقيقا لآماله؛ وذكرت من صناعة الكتابة ما هو بالنسبة الى مجموعها قطرة من بحرها، وشذرة من عقود درّها؛ ممّا «7» لا بدّ للمبتدى من الإحاطة بعلمه، والوقوف عند رسمه؛ وحين وضعت ما وضعت من هذه الصناعة لم أقف قبل ذلك على كتاب فى فنّها

مصنّف، ولا انتهيت إلى فصل «1» مترجم بها أو مؤلّف؛ ولا لمحت فى ذلك إشاره، ولا سمعت من لخّص فيها عباره؛ ولا من تفوّه فيها ببنت شفة ولسان، ولا من صرّف ببنان «2» بلاغته فى ميادينها العنان؛ حتى أقتدى بمثاله، وأنسج «3» على منواله؛ وأسلك طريقه فى الإجاده، وأحذو حذوه فى الإفاده؛ بل وجدتها مقفلة الباب، مسبلة الحجاب؛ قد اكتفى كلّ كاتب فيها بعلمه، واقتصر على حسب فهمه؛ فراجعت فيها الفكره، وعطفت بالكرّة بعد الفرّه؛ ثم قرعت بابها ففتح بعد غلقه «4» ، ورفعت حجابها ففتق بعد رتقه؛ وامتطيت صهوتها «5» فلانت بعد جماحها، وارتقيت ذروتها فظهر للفكرة طريق نجاحها؛ فشرعت عند ذلك فى تأليف ما وضعته «6» ، وترصيف «7» ما صنّفته؛ وبدأت باشتقاق تسمية الديوان، ولم سمّى ديوانا، ثم ذكرت ما تفرّع من كتابة الديوان من أنواع الكتابات، وأوّل ديوان وضع فى الإسلام، وسبب وضعه، ثم ذكرت ما يحتاج اليه كلّ مباشر من كيفيّة المباشرة وأوضاعها، وما استقرّت عليه القواعد العرفيّة، والقوانين الاصطلاحيّة، وما يرفعه كلّ مباشر ويسترفعه «8» ، والأوضاع الحسابية، على ما ستقف إن شاء الله تعالى عليه، وترجع فيما أشكل من أمورها إليه.

ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمى ديوانا ومن سماه بذلك

ذكر اشتقاق تسمية الديوان ولم سمّى ديوانا ومن سمّاه بذلك قد اختلف فى تسمية الديوان ديوانا على وجهين: أحدهما أنّ كسرى اطّلع ذات يوم على كتّاب ديوانه، فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه: أى مجانين؛ فسمّى موضعهم بهذا الاسم، ثم حذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا للاسم، فقيل: ديوان. والثانى أن الديوان بالفارسيّة اسم للشياطين، فسمّى الكتّاب باسمهم لحذقهم بالأمور «1» ، ووقوفهم على الجلىّ والخفىّ، وجمعهم لما شذّ «2» وتفرّق، واطلاعهم على ما قرب وبعد، ثم سمّى مكان جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان. هذا ما قيل فى تسميته «3» على ما حكاه الماوردىّ فى الأحكام السلطانيّة؛ والله أعلم. ذكر ما تفرّع عن كتابة الديوان من أنواع الكتابات هذه الكتابة تنقسم إلى أقسام ووظائف: أصول وفروع، وهى: مباشرة الجيوش، ومباشرة الخزانة، وبيت المال، وأهراء «4» الغلال، ومباشرة البيوت، ومباشرة الهلالىّ «5» ، ومباشرة الخراجىّ، ومباشرة الأقصاب والمعاصر ومطابخ السكّر؛ ويحتاج مباشر كلّ وظيفة من هذه الوظائف إلى معرفة قواعد يأتى ذكرها إن شاء الله تعالى؛ ولنبدأ بذكر مباشرة الجيوش.

ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأول من وضعها فى الإسلام

ذكر مباشرة ديوان الجيش وسبب وضع الدواوين وأول من وضعها فى الإسلام وديوان الجيش هو أوّل ديوان وضع فى الإسلام «1» ، وضعه عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فى خلافته؛ وقيل: بل وضع فى عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدلّ على ذلك أن البخارىّ- رحمه الله- ترجم على هذا بقوله: باب كتابة الإمام الناس، قال: حدّثنا محمد بن يوسف، قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش عن أبى وائل عن حذيفة: قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اكتبوا لى من تلفّظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل» وقد روى البخارىّ أيضا بسنده عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: «جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّى اكتتبت «2» فى غزوة كذا وكذا، وامرأتى حاجّة؛ قال: ارجع فاحجج مع امرأتك» واختلف الناس فى سبب وضعه فى أيّام عمر، قال قوم: سببه أنّ أبا هريرة- رضى الله عنه- قدم بمال من البحرين، فقال له عمر رضى الله عنه: ماذا

جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر وقال: أتدرى ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف خمس مرات؛ فقال عمر: أطيّب «1» هو؟ فقال: لا أدرى؛ فصعد عمر رضى الله عنه المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا [لكم عدّا «2» ] ؛ فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا لهم، فدوّن أنت [لنا «3» ] ديوانا. وقال آخرون: بل سببه أنّ عمر- رضى الله عنه- بعث بعثا وعنده الهرمزان «4» ، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف رجل منهم وأخلّ «5» بمكانه فمن أين يعلم صاحبك «6» ؟ فأثبت لهم ديوانا؛ فسأله عن الديوان حتى فسّره له. وروى [عابد بن يحيى] عن [الحارث «7» ] بن نفيل أن عمر رضى الله عنه استشار المسلمين فى تدوين الدواوين، فقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: تقسم فى كلّ سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا؛ وقال عثمان بن عفّان- رضى الله عنه-: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر؛ فقال خالد بن الوليد: قد كنت بالشأم

وأما دواوين الأموال

فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا، وجنّدوا جنودا، [فدوّن «1» ديوانا، وجنّد جنودا] فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبى طالب ومخرمة «2» بن نوفل وجبير بن مطعم- وكانوا من كتّاب قريش- فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدءوا ببنى هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم قوم أبى بكر، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة «3» ، ثم رفعوا ذلك إلى عمر رضى الله عنه، فلمّا نظر فيه قال: لا، [ما «4» ] وددت أنّه كان هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله؛ فشكره العباس رضى الله عنه على ذلك؛ وكان ذلك فى المحرّم سنة عشرين من الهجرة، وقيل فى سنة خمس عشرة،- والله أعلم-؛ فلما استقرّ ترتيب الناس فى الدواوين على قدر «5» النسب المتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّل بينهم فى العطاء على قدر السابقة فى الإسلام. وسنذكر إن شاء الله فى خلافة عمر رضى الله عنه ما فرضه من العطاء لكلّ طائفة على ما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه من فنّ التاريخ؛ وهو فى السفر السابع عشر من كتابنا هذا؛ فهذا كان سبب وضع ديوان الجيش. وأما دواوين الأموال - فإنها كانت بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كانت عليه قبل الإسلام، فكان ديوان الشأم بالروميّة لأنه كان من ممالك

وأما ديوان العراق -

الروم؛ وكان ديوان العراق بالفارسيّة لأنه كان من ممالك الفرس؛ فلم يزل أمرهما جاريا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان، فنقل ديوان الشأم إلى العربيّة فى سنة إحدى وثمانين من الهجرة؛ وكان سبب نقله- على ما حكاه المدائنىّ- أن بعض كتّاب الروم فى ديوانه أراد ماء لدواته، فبال فى الدواة، فبلغه ذلك فأدّبه، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربيّة، فسأله أن يعينه بخراج الأردن «1» سنة، ففعل وولّاه الأردنّ، وكان خراجه مائة ألف وثمانين ألف دينار، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان ونقله، وأتى به عبد الملك فدعى سرجون «2» كاتبه فعرضه عليه فغمّه وخرج كئيبا، فلقيه قوم من كتّاب الروم، فقال لهم: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم. وأما ديوان العراق- فكان سبب نقله إلى العربيّة أنّ كاتب الحجّاج بن يوسف كان زاذان فرّوخ، وكان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربيّة والفارسيّة، فأوصله زاذان فرّوخ إلى الحجّاج، فخفّ على قلبه، فقال صالح لزاذان فرّوخ «3» إنّ الحجّاج قد قرّبنى ولا آمن أن يقدّمنى عليك؛ فقال: لا تظنّ ذلك فهو إلىّ أحوج منّى إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيرى؛ فقال له صالح: والله لو شئت أن أحوّل الحساب إلى العربيّة لفعلت؛ فقال: فحوّل منه ورقة أوسطرا حتى أرى، ففعل؛ ثم قتل زاذان فرّوخ فى حرب عبد الرحمن بن الأشعث، فاستخلف

ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش على ما استقر فى زماننا هذا من المصطلح

الحجّاج صالحا مكانه، فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فرّوخ فأمره أن ينقله، فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلا حتى نقله إلى العربيّة، فلمّا عرف مردانشاه بن زاذان فرّوخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر للحجّاج العجز عنه، فلم يفعل؛ فقال له: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسيّة. وكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول: لله درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب!. هذا ما حكى فى ابتداء نقل الدواوين، فلنرجع إلى الجيش وما يحتاج إليه مباشره. ذكر ما يحتاج اليه كاتب الجيش على ما استقر فى زماننا «1» هذا من المصطلح يحتاج كاتب الجيش إلى أن يرصّع «2» أسماء أرباب الإقطاعات والنقود والمكيلات من الأمراء على اختلاف طبقاتهم، والمماليك السلطانيّة، وأجناد الحلقة، وأمراء التّركمان والعربان؛ ويضع لذلك جريدة مقفّاة على حروف المعجم يثبت فيها أسماءهم، ويذكر الاسم وابتداء إمرته أو جنديّته فى أىّ سنة كانت من السنين الهلاليّة لاستقبال ما يكتب من مغلّ السنة الخراجيّة، وعمن انتقل إليه الإقطاع؛

ويرمز قبالة كلّ اسم إلى عبرة «1» إقطاعه رمزا لا تصريحا، ويشير فى جندىّ الحلقة إلى مقدّمه، ويعيّن فى اسم التّركمانىّ أو البدوىّ ما قدّمه إلى الإصطبلات السلطانيّة والمناخات من الخيل والجمال، وفى عربان مصر المقرّر عليهم فى مقابلة الإقطاعات من التّقادم «2» وإقامة خيل البريد فى المراكز، وغير ذلك من نقل الغلال، وما هو مقرّر عليهم فى ابتداء أمرهم عند خروج الإقطاعات بأسمائهم، وغير ذلك على جارى العادة، فإن انتقل أحد منهم من إقطاع إلى غيره فى ذلك العمل بعينه وضع تحت إقطاعه الأوّل ما صورته: ثم انتقل إلى غيره بمقتضى منشور تاريخه كذا عن فلان المنتقل إلى غيره، أو المتوفّى، أو المفارق، أو غير ذلك؛ فإن كان على سياقته فى إقطاعه الأوّل قال: على سياقته؛ وضبط تاريخ الأوّل؛ وإن كان لاستقبال مغلّ أو شىء من مغلّ ميّزه، واحتاج إلى محاسبة ربّ الإقطاع على إقطاعه الأوّل؛ والمحاسبات غالبا إنما تقع بعد وفاة الأمير أو الجندىّ، أو انفصاله بوجه من وجوه الانفصالات، وأما ما دام فى الخدمة فهى يتلو بعضها بعضا؛ وصورة المحاسبة أن يقيم تاريخ منشوره إلى تاريخ انفصاله أو نقلته، ويعقد على ذلك جملة، ويوجب له عن نظير خدمته استحقاقا، وينظر إلى ما قبضه من المغلّات فيجمعها، فإن كان قبضه نظير خدمته فلا شىء له ولا عليه، وإن زاد قبضه على مدّة خدمته استعاد منه ما زاد بنسبته، وإن كانت خدمته أكثر من قبضه أفرج له عن نظير ما فضل له؛ ومن العادة فى غالب الأوقات أن يسقط من استحقاق أرباب الإقطاعات فى كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم، وهى التفاوت بين السنة الشمسيّة والقمريّة، ويبرز له ما بقى

ويحتاج إلى بسط جريدة إقطاع صورتها:

ويعطيه المثل من نسبة البارز، وقد سومح بذلك فى بعض الأوقات دون بعض؛ وهذه الجريدة تسمّى الجريدة الجيشيّة. ويحتاج إلى بسط جريدة إقطاع صورتها: أنه يرصّع «1» الأعمال كلّ عمل وبلاده وضياعه وكفوره وقراه وجزائره وجروفه وجهات الهلالىّ والجوالى، وغير ذلك من معالمه وحدوده «2» والجهات المستظهر بها والبذول «3» ، وسائر ما هو متعلّق بذلك المكان؛ ويذكر عبرة «4» البلد الجيشيّة، وما استقرّ عليه حال متحصّلها أخيرا، وإن كان بالشأم ذكر العبرة الجيشيّة ومتحصّل البلد لثلاث سنين: مبقلة «5» ومتوسّطة ومجدبة، ثم يشطب «6» قبالة كلّ جهة أسماء مقطعيها، وما هو باسم كلّ واحد منهم، ليتحرّر «7» له بذلك هل استوعب الإقطاع جملة النواحى والجهات، ويتميّز له ما بقى من المحلولات؛ وإن انتقل ربّ إقطاع من إقطاع إلى غيره بادر بشطبه لوقته فى موضعه لئلا يدخل عليه الوهم «8» والاختلاف.

ويحتاج إلى أن يتعاهد مباشرى المعاملات والبرور

ويحتاج إلى أن يتعاهد مباشرى المعاملات والبرور «1» بطلب الكشوف الجيشيّة فى كل ثلاث سنين ويشطبها «2» على ما عنده لتتحرّر «3» عنده العبر «4» ، ويتميّز له ما تعيّن من الزيادة والنقص. ويحتاج أيضا إلى بسط جريدة ثالثة بأسماء أرباب النقود والمكيلات خاصّة، لأنه يحتاج أن يفرج لكلّ منهم فى كلّ سنة عن نقده ومكيله بمقتضى ما شهد به منشوره، وعادة قبضه وجهته، أو ممّا تعيّن بقلم الاستيفاء إن كان، فإذا أفرج لكلّ منهم شطب «5» تاريخ إفراجه قبالة اسمه لتنضبط له بذلك تواريخ قبوضهم ويأمن من التّكرار والغلط؛ وهذه الجريدة هى فرع من الجريدة الجيشيّة، فإنه يبسطها منها. ويحتاج فى أجناد «6» الحلقة السلطانيّة إلى أن يضيف كل جماعة منهم إلى مقدّم مشهور من أعيانهم ممن هو متميّز الإقطاع، ويقيم عليهم نقيبا يعرف مساكنهم ومظانّهم، فإذا طلبوا جمعهم، أو طلب أحد منهم أحضره، ويسمّى هذا المقدّم: مقدّم الحلقة؛ ويضيف كلّ جماعة من أمراء الطّبلخاناه «7» وأمراء العشرات،

ومقدّمى الحلقة، ومضافيهم إلى مقدّم كبير من أمراء المائة، ويسمّى هذا الأمير: مقدّم الألف؛ ويحتاج إلى أن يضع لهاتين الطائفتين «1» جريدة عدّة، يضع فيها اسم مقدّم الألف وعدّته من غير تفصيل لأسمائهم وقبالة اسمه عبرة «2» إقطاعه، ما هو لخاصّه، وما هو لأصحابه؛ ثم أمراء الطّبلخاناه كلّ أمير وعدّته، وعبرة إقطاعه، على ما تقدّم فى مقدّم الألف، ويرتّبهم فى التقديم والتأخير على مراتبهم؛ ثم أمراء العشرات كذلك؛ ثم يذكر مقدّمى الحلقة فيعيّن اسم المقدّم ونسبته وأتباعه إن كان له أتباع، وعبرة إقطاعه، ثم يذكر مضافيه من الحلقة على هذا الحكم، ويرتّبهم بحسب مراتبهم، يبدأ فى كلّ تقدمه باسم المقدّم، ويختم باسم النقيب، ليسهل عليه طلب كلّ جندىّ من مقدّمه، ويطلبه مقدّمه من نقيبه؛ وإن انتقل أمير أو جندىّ من مقدّم ألف أو مقدّم حلقة وانضاف إلى مقدّم آخر نقله لوقته لئلّا يضطرب عليه حالهم، ويلتبس أمرهم؛ وكذلك أيضا يفعل فى المماليك السلطانيّة من إضافة كلّ جماعة منهم إلى مقدّم من أعيانهم، ويميّز أرباب الوظائف منهم: من السلاحداريّة «3» والحربداريّة والرّمحداريّة والجمقداريّة «4» والزّردكاشيّة «5»

والبندقداريّة «1» ومن السّقاة «2» والجمداريّة «3» والخزنداريّة «4» والحرّاس «5» والبشمقداريّة «6» وغيرهم؛ ويضيف كلّ جماعة من كلّ طائفة منهم إلى متعيّن من جملتهم، ويجمع عدّة كلّ طائفة ويقدّم عليهم أمثلهم؛ وأمّا المماليك الكتابيّة «7» أرباب الجامكيّات «8» فينسب كلّ جماعة منهم إلى طبقة مقدّمها من الطواشيّة، وينسب المماليك البرجيّة «9»

ويحتاج أيضا إلى أوراق أخر تتضمن أسماء أمراء الميمنة وأمراء الميسرة، والجالس

الى مساكنهم ومقدّمهم، والبحريّة «1» إلى مراكزهم ومقدّمهم، والأوشاقيّة الّذين إقامتهم بالإسطبل إلى المقدّم عليهم من الطواشيّة، ويرجع سائر المماليك السلطانيّة إلى مقدّمهم الكبير، ولا يكون فى الغالب إلّا من الطواشيّة الأمراء. ويحتاج أيضا الى أوراق أخر تتضمن أسماء أمراء الميمنة وأمراء الميسرة، والجالس - وهو المقدّم- أمام قلب الجيش، وهذه الأوراق تكون جمليّة يستغنى فيها بذكر مقدّمى الألوف دون مضافيهم. ويتلو هذه الأوراق أوراق أخر- تتضمّن أسماء الأمراء الذين جرت عادتهم بصحبة ركاب السلطان فى الصّيد والركوب للمتنزّهات وفى الميادين للّعب بالكرة، وفى غير ذلك؛ هذا ما يحتاج إليه فى الأمراء والمماليك السلطانيّة ورجال الحلقة. وأما أجناد الأمراء فإنّ مباشر الجيش يسترفع «2» من دواوينهم أوراقا بعدّة أجناد كلّ أمير منهم، يصدرها كاتب عدّة «3» الأمير على عدّة نسخ بحسب المباشرين للجيش، ويقول فى صدرها ما مثاله: عرض رفعه «4» المملوك فلان الفلانىّ على ما استقرّ عليه الحال إلى آخر كذا، والعدّة خاصّته، وكذا كذا طواشيّا؛ ويشرح أسماء

الجند، وما أقطع باسم كلّ منهم من إقطاع ونقد ومكيل، مبتدئا برأس المدرّج ومن يليه فى الجند، ثم مماليك الأمير وألزامه، ويختمهم بالنقيب، ثم يعيّن فى آخر المدرّج ما بقى الخاصّ الأمير من النواحى والجهات، وما عليه منه لأصحابه من نقد ومكيل إن كان؛ ويلزمه عمل مسير على نواحى الإقطاع يشطب «1» كلّ جهة بأسماء من أقطعت لهم، وما بقى منها للخاصّ إن كان فإن كان منشور الأمير قد عيّن فيه ما هو لخاصّه وما هو لأصحابه فليس له أن يقتطع من المعيّن لجنده ما يضيفه لخاصّه، ولا يمنع أن يقطع من خاصّه زيادة لأصحابه؛ وهذه القاعدة لاحقة بقواعد الفقه، فإنّ له التصرّف فى ماله دون مال غيره، وله أن يميّز بعضهم على بعض بحسب أحوالهم ومراتبهم؛ فإذا رفعت إليه هذه الأوراق عرض جند كلّ أمير فى مجلس ولىّ الأمر بمشهد من الأمراء وغيرهم، فمن أجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه «2» قبالة اسمه، ويعيّن فى حلاه سنّه ولونه وقامته، ثم يذكر حلية وجهه، ويصف ما يتميّز به عن غيره من أثر فى وجهه أو غير ذلك؛ ومن ردّه ولىّ الأمر من العرض طولب الأمير بإقامة غيره، فإذا أقامه وعرضه وأجاز ولىّ الأمر عرضه حلّاه عند ذلك، وعيّن تاريخ عرضه إن كان عرضه بعد يوم العرض الشامل؛ ويرقم المباشر بقلمه على رأس أوراق العرض تاريخ عرض الجند؛ وتستحقّ هؤلاء الجند الإقطاعات والنقود والهلالىّ من تاريخ عرضهم وتدوينهم فى الديوان، والأمير من تاريخ منشوره؛ فإن مات جندىّ منهم أو فارق الخدمة أقام الأمير عوضه، وعرضه على ولىّ الأمر، وأثبت اسمه بالديوان؛ وإن قطعه الأمير فلا يخلو قطعه: إمّا أن يكون لسبب كالعجز ونحوه فله ذلك، وإما أن يكون بغير سبب فلا يخلو:

ويحتاج الكاتب إلى تحرير شواهده وحفظها،

إما أن يكون قطعه له فى قرب زمن إدراك المغلّ فلولىّ الأمر منعه من ذلك، أو فى غير وقت المغلّ، فإن عرض من هو أكفى منه وأقدر على الجنديّة أجيز، وإن عرض من هو دونه منع أميره من ذلك، وألزم باستمرار الكافى أو إقامة من يماثله فى الكفاية والقدرة؛ وإذا عرض الأمير أصحابه فى السنة الثانية جدّد كاتبه أوراقا بالعرض نظير الأولى، وشطب «1» كاتب الجيش حلى «2» الجند من العرض الأوّل، ثم يقابلها بالصورة الجديدة «3» فى وقت العرض الثانى، فإن وافقت وطابقت أجازه، وإن اختلفت الحلى وتباينت ردّه وطالع ولىّ الأمر به ليقع الإنكار على من تجاسر على فعل ذلك لما فيه من التلبيس؛ فهذه هى القواعد التى استقرّت فى زماننا والله أعلم. ويحتاج الكاتب إلى تحرير شواهده وحفظها، فإن كان بين يدى السلطان ورسم له بإقطاع أمير أو جندىّ كتب مثالا بالإقطاع، وكتب السلطان أو نائبه بقلمه أعلى المثال ما مثاله: يكتب؛ وعيّن ناظر الجيش بقلمه تحت خطّ السلطان أو نائبه ما مثاله: رسم أن يكتب باسم فلان لاستقبال مغلّ سنة كذا، ولاستقبال كذا من مغلّ سنة كذا؛ وخلّد الكاتب هذا الشاهد عنده، وكتب مثالا ثانيا مربّعا بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ- ويدعو للسلطان- أن يقطع ويقرّر باسم فلان الفلانىّ- وينعته بما يستحقّ- ما رسم له به الآن من الإقطاع والنقد والمكيل إن كان فيه نقد أو مكيل فى السنة، خارجا

عن الجوالى «1» والمواريث الحشريّة «2» والرّزق «3» الإحباسيّة، إن كان الإقطاع بالديار المصريّة؛ وإن كان بالشام قال: خارجا عن الملك والوقف، ثم يقول: خبز «4» فلان الفلانىّ، إن كان عن أحد؛ وإن كان من الخاصّ أو مستجدّا أو مستظهرا به عيّنه، ويذكر خاصّته وعدّته وأتباعه، أو بمفرده، ثم يعيّن جهات إقطاعه، ويثبت هذا المثال الثانى فى الديوان، وتشمله علامة السلطان ونائبه، ثم يخلّد بديوان الإنشاء، وهو شاهد الموقّع، ويكتب منشوره بمقتضى ذلك المثال، وتشمله علامة السلطان وخطّ نائبه ووزيره بالامتثال، ويثبت بديوان الجيش ثم بالدواوين؛ وإن كان الكاتب فى جهة خارجة عن باب الملك من الممالك الشاميّة وأمره النائب بإقطاع أحد كتب مثالا بالإقطاع، وكتب النائب بأعلاه: يكتب، ثم يكتب عليه الناظر نحو ما تقدّم، وهو شاهد الكاتب، ثم يكتب المثال الثانى فى ورقة مربّعة بما مثاله: رسم بالأمر الشريف العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ أن يقطع ويقرّر باسم فلان ما رسم له به الآن من الإقطاع، ويعيّن خبز «5» من كان وسبب حلّه عنه، إما بوفاة، أو بمفارقة، أو بانتقال إلى غيره، أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لإخراج الإقطاع عنه،

ويحتاج إلى ضبط أسماء من توجه بدستور إلى جهة من الجهات،

ويكتب نائب السلطنة عليه بالتّرجمة، ويترجم عليه الناظر بقلمه تحت خطّ النائب بما مثاله: المملوك فلان يقبّل الأرض وينهى أن هذا مثال كريم باسم فلان المرسوم إثباته فى جملة الأمراء والمماليك السلطانيّة، أو البحريّة، أو رجال الحلقة المنصورة، أو رجال التّركمان، أو العربان، أو الجبليّة بالمملكة الفلانيّة، أو بالجهة الفلانيّة «1» بما رسم له به الآن من الإقطاع عن فلان، والعدّة خاصّته «2» ، وكذا كذا طواشيا، أو بحسب ما يكون لاستقبال ما عيّن فيه على ما شرح باطنه، والأمر فى ذلك معذوق «3» بإمضائه أو بما يؤمر به من الأبواب. ثم يثبت بديوان الجيش، ويجهّز إلى باب السلطان، فإذا وصل إلى الباب كتب عليه الناظر ومن معه من الرّفاق بالمقابلة، وقوبل به، ثم تشمله علامة السلطان أو نائبه بالكتابة، ويخلّده كاتب الجيش بالباب عنده، ويكتب مثالا من جهته على ما تقدم، فإذا خرج المنشور الشريف ووصل الى تلك المملكة شمل خطّ نائبها بالامتثال، وكتب عليه ناظر الجيش ورفقته بالثبوت تحت خط ناظر الجيش بالباب ورفاقه، ثم يثبت بالدواوين، ويفرج لربّ الإقطاع على حكمه، ويثبت إفراجه، ويسلّم اليه إقطاعه؛ فهذه شواهد المناشير والأمثلة. وأما غيرها من شواهد الكشوف فعلى حسب الوقائع؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ويحتاج إلى ضبط أسماء من توجّه بدستور «4» إلى جهة من الجهات، ويراعى انقضاء مدّة الدّستور، ثم يكشف عنه، ويطالب مقدّمه به،

ويحتاج إلى أنه مهما انحل من الإقطاعات،

وكذلك من توجّه إلى الحجاز وغيره، وكذلك من تخلّف عن العود مع الجيش المجرّد فى المهمّات، فيراعى ذلك حسب الطاقة والإمكان، وإن تعذّرت عليه معرفة من تأخّر بعينه يستعلم «1» أخبارهم مجملة من مقدّميهم ونقبائهم. ويحتاج إلى أنه مهما انحلّ من الإقطاعات، أو تعيّن من تفاوت المدد عمّن درج «2» وفارق «3» وانتقل «4» ، أو ما تعيّن فى خلال المدد بين منفصل ومتّصل يحرّر ذلك، ويكتب به حوطة «5» جيشيّة يضمّنها اسم ربّ الإقطاع المتّصل ونواحى إقطاعه ونقده ومكيله إن كان، ويعيّن استقبال الحوطة، ويميّز ما استحقّه الديوان من المغلّ، وتصدر الى ديوان التصرّف بعد شمولها بالعلامة وثبوتها، ويطالب المستوفى «6» بكتابة رجعة بوصول ذلك إليه ليبرأ من عهدته، ويلزم المثبتون التعريف بذلك وإضافة ما يتحصّل منه، فإن أخّر كاتب الجيش إصدار الحوطات الى ديوان التصرّف حتى يفوت الزمن الذى يمكن فيه تحصيل ما فيها، كان تحت دركه «7» وتبعته؛ والله أعلم.

ويحتاج مباشر الجيش إلى مراجعة جرائده:

ويحتاج مباشر الجيش إلى مراجعة جرائده: الجيشيّة والإقطاعيّة وأوراق العدّة فى كلّ وقت من غير احتياج إلى كشف، لتكون على خاطره أسماء الجند ونواحى إقطاعهم، فإنه بصدد أن يسأل عن شىء من ذلك بين يدى ملك أو نائب، فإن أخّر الجواب بالجملة «1» إلى أن يكشف عنه ربّما ينسب إلى عجز فيتعيّن أن يكون على خاطره من جليّات الأحوال ما يجيب به فى المجلس على الفور، ولا يتأتّى له ذلك إلا بمراجعة حسابه ومداومة النظر فيه، والناظر إلى ذلك أحوج من غيره من المباشرين، لأنه المسؤول والمخاطب فى غالب الأوقات؛ والله أعلم بالصواب. ويحتاج أيضا إلى معرفة الحلى «2» واختلافها على ما نذكره فى فصل الوراقة «3» ، ولا بدّ له من معرفة الأوضاع التى اصطلح عليها كتّاب الجيوش فى كتابة الحلىّ من الاختصار؛ فهذه أمور كليّة لا بدّ لمباشر الجيش من معرفتها وإتقانها. ويتجنّب «4» مباشر الجيش أن يرقم بقلمه عدّة جيش تصريحا، لما يتعيّن من إخفاء عدّته وذكر تكثيره، فإنه إن وضع ذلك بقلمه لا يأمن من الاطّلاع عليه

وأما مباشرة الخزانة

فيشيع «1» ويذيع، وقد يتّصل بالعدوّ والمعاند «2» والمناوئ فيترتّب عليه من الفساد ما يترتّب وهذا باب يجب على كاتب الجيش الاحتفال «3» به، والاحتراز من الوقوع فيه، وكتمانه عن سائر الناس؛ وإن دعته الضرورة الى تسطير ذلك خشية «4» أن يسأله ولىّ الأمر عن شىء منه، فليكن وضعه لذلك رمزا خفيّا يصطلح عليه مع نفسه لا يعرفه إلا هو، أو من له دربة بمباشرة الجيش. ويتجنّب أن يكشف عبرة «5» إقطاع أو متحصّله، أو يذكر ذلك لأحد إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ثم يذكره باللفظ دون الخط، ووجوه الاحتراز كثيرة، وهى بحسب الوقائع، فيتعيّن على مباشر الجيش ملاحظة ذلك والاحتراز من الوقوع فيما ينتقد عليه، أو يصل سبب ضرر منه إليه؛ هذا ما أمكن إيراده مما يحتاج مباشر الجيش إلى اعتماده؛ والله أعلم. وأما مباشرة الخزانة - فالعمدة فيها على العدالة والأمانة، لأن خزائن الملوك فى هذا العصر لسعتها، وكثرة حواصلها، وعظم ذخائرها لا تنضبط بسياقه، فإنه لو طولب كاتب الخزانة بعمل سياقه لحواصلها عن سنة احتاج إلى أن ينتصب لكتابتها سنة كاملة لا يشتغل فيها بغيرها، فإذا تحرّرت سياقه السنة فى آخر السنة الثانية وكشفها مباشر الأصل وحرّرها فى مدّة أخرى من السنة الثالثة فاتت المصلحة المستقبلة، وتعطّل على المباشر ما بعد تلك السنة، لاشتغاله بنظر «6» تلك السّياقة، فإذا تقرّر عجز

منها ضبط ما يصل إليه من حمول الأموال والأصناف،

الكاتب عن عمل السّياقة بهذه المقدّمة فقد تعيّن أنّ «1» العمدة فى مباشرتها على الأمانة والعدالة؛ ومع ذلك فيحتاج كاتبها إلى أمور: منها ضبط ما يصل «2» إليه من حمول الأموال والأصناف، ويقابل ما يصل منها على رسائله، ويحرّره بالوزن والذّرع والعدد والأحمال على اختلاف أجناسه وأنواعه وأوصافه، ويميّز ما يصل إليه من الأقاليم والثغور والأعمال والممالك، وما يصل من الهدايا والتّقادم «3» على اختلافها، فيضيف كلّ نوع إلى نوعه، وصنف إلى صنفه؛ وكذلك يحرّر ما يبتاعه من الأصناف التى تدعو الضرورة اليها وجرت العادة بابتياعها. ومنها معرفة عوائد «4» أرباب الصّلات والإنعام، ومصاريف «5» أرباب المناصب عند ولاياتهم، وما جرت عليه عوائدهم «6» من الإنعام فى خلال مباشراتهم بالأسباب الموجبة لذلك وغير الأسباب، وعوائد أرباب التّقادم والصنّاع وغيرهم. ومنها ضبط ما يصل إلى الخزانة من تقادم الملوك والنوّاب، ويقابل ما يصل منها فى الوقت الحاضر على ما تقدّم، ويحرّر زيادته من نقصه، ويكون ذلك على خاطره،

ومنها ضبط ما جرت به العادة من كسا أرباب العوائد المقررة فى كل سنة

فإن سأله ولىّ الأمر عنه أجابه، وإلّا فلا يبدؤه؛ ويضبط عادات مهاداة الملوك وما جهّز إلى كلّ منهم فى السنين الخالية، وما كان قد وصل من هداياهم، وما جرت عليه عادات رسلهم وقصّادهم «1» من التشاريف والإنعام. ومنها ضبط ما جرت به العادة من كسا أرباب العوائد «2» المقرّرة فى كلّ سنة على اختلاف طبقاتهم من أرباب الرتب والمناصب والمماليك السلطانيّة وغيرهم، وتواريخ صرف الكسوة اليهم. ومنها تجهيز ما جرت العادة بأن يجهّز فى خزائن الصحبة عند استقلال ركاب السلطان من مقرّ ملكه، إما إلى الصيد والنزهة، وإما لكشف ممالكه «3» عند انتقاله من مملكة إلى أخرى، أو فى حروبه عند ملاقاة الأعداء، فيجهّز ما جرت به العادة فى ذلك، ولا يزيد عليه إلا بمرسوم ولىّ الأمر، ولا يستكثر من استصحاب صنف من الأصناف عند توجّهه إلى معدن ذلك الصنف ومظنته، ولا إلى الخزانة منه بحمله «4» ، بل يستصحب منه ما يكون معه ذخيرة واحتياطا، إذ لو طلب الملك ذلك الصنف فى مسيره قبل وصوله إلى معدن ذلك الصنف كان معه منه ما يسدّ به الضرورة، ولا يعتذر بأنه ما استصحبه معه بحكم توجّهه إلى معدنه، وأنه فعل ذلك للمصلحة الظاهرة، فإن الملوك لا تحتمل مثل ذلك، ولا تصبر على أن يفقد

ومنها ضبط ما يتسلمه الصناع

من ذخائرها ما تطلبه؛ ويستكثر من استصحاب الصنف المعدوم فى ذلك الوجه الذى يتوجّه إليه، ويحمل منه ما يعلم أنه يكفيه فى مسيره وعوده؛ والله أعلم. ومنها «1» ضبط ما يتسلّمه الصّنّاع من مزركش وخيّاط وفرّاء ونجّاد «2» وسرّاج وخردفوشى «3» وغيرهم بالوزن والذّرع والعدد، ويحرزه عند استعادته من صانعه. ومنها تحرير ما يصل إليه من الأقمشة من دار الأعمال وما جرت به العادة أن يحمل منها فى كلّ مدّة ليطالب به إن تأخّر عن وقته؛ وإن قلّ صنف من الأصناف عنده يبادر بمطالعة وزير المملكة أو مدبّرها بذلك ليخلص من عهدته، وعلى وزير المملكة ومدبّرها طلب ذلك الصنف من مظانّه وحمله إلى الخزانة. وأما ملبوس الملك المختصّ بنفسه وعادته فى التفصيل والحبس «4» والطّول والسّعة فهو أمر متعلّق برأس نوبة الجمداريّة «5» ، وهو المقدّم عليهم، فعليه أن يحضر إلى الخزانة ويختار من الأقمشة ما يعلم أنه ملائم لخاطر السلطان وموافق لغرضه، فيفصّل منه ما يراه على ما يراه من أنواع التفصيل، وعلى معلّم الخيّاطين الدّرك فى طوله وسعته وهندامه، ولا يستغنى المباشر عن معرفة ذلك، ولا يستغنى أيضا عن معرفة

وأما مباشر بيت المال

قيم الأشياء على اختلافها وعادة التفصيل والتّرفئة «1» والجندرة «2» والحشو ليشارك ربّ كل صنعة فى صناعته بنظره ولسانه، ولا يكون فى ذلك مقلّدا جملة، بل يشاركهم فيما هم فيه، وعليهم الدّرك دونه فيما لعلّه يعرض فى ذلك من خلل إن وقع، لأن هذه الصناعات زائدة على وظيفته ولازمة لأولئك؛ فأيّما رجل اجتمعت فيه هذه الأوصاف تعيّن على ولىّ الأمر ندبه لمباشرة الخزانة، وقرّر له كفايته، وألزمه إن امتنع. وأما مباشر بيت المال - فعمدته على ضبط ما يدخل إليه وما يخرج منه، ويحتاج فى ضبط ما يصل إليه من الأموال إلى أن يقيم لكلّ عمل من الأعمال وجهة من الجهات أوراقا مترجمة باسم العمل أو الجهة، ووجوه أموالها، فإذا وصل إليه المال وضع الرسالة الواصلة قريبة من ذلك العمل «3» ، ثم شطبها «4» بما يصحّ عنده من الواصل إليه، وذلك بعد وضعه فى تعليق المياومة، فإن صحّ الواصل صحبة الرسالة كتب لمباشر ذلك العمل رجعة بصحّته، وإن نقص ضمّن رجعته: من جملة كذا؛ واستثنى بالعجز والردّ، وبرز بما صحّ، وأعاد الردّ على مباشر ذلك العمل وأثبت فى بيت المال ما صحّ فيه، فإن كان العجز عن اختلاف الصّنج «5» عيّنه فى رجعته

ولا شىء على مباشر العمل، وإن كان مع اتفاقها فلا يعتدّ لمباشر العمل أو الجهة إلا بما صحّ فى بيت المال. ويحتاج كاتب بيت المال إذا عمل جامعة لسنة إلى أن يضمّ كلّ مال وصل إليه إلى ما هو مثله، من الخراج والجوالى والأخماس وغير ذلك بحسب ما يصل اليه، ويفصّل جملة كلّ مال بنواحيه التى وصل منها، ويستشهد فيه برسائل الحمول، ويضيف إلى جملة ما انعقد عليه صدر الجامعة من الأموال ما انساق عنده من الحاصل إلى آخر السنة التى قبلها، ويفذلك «1» [بعد «2» ذلك] ، ويعرف ما لعلّه صرفه من نقد بنقد فى تواريخه، ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ ثم يشرع فى الخصم، فيبدأ منه بما حمله إلى المقام على يد من حمل على يده وتسلّمه، من الخزنداريّة «3» والجمداريّة وغيرهم إن كان، ثم يذكر ما نقله إلى الخزانة ويستشهد فيه برجعاته، وما نقله إلى الحوائج خاناه والبيوت والعمائر وغيرها بمقتضى استدعاءات «4» هذه الجهات ووصولات مباشريها، وفى أرباب الجامكيّات «5» والرواتب والصّلات بمقتضى الاستئمارات «6» والتواقيع السلطانيّة؛ فإذا تكامل الحمل والمصروف عقد عليهما جملة وساق ما بقى إلى الحاصل؛ والله أعلم. وطريق مباشر بيت المال فى ضبط المصروف أن يبسط جريدة على ما يصل إليه من الاستدعاءات «7» والوصولات من الجهات، وأسماء أرباب الاستحقاقات

وأما مباشر أهراء الغلال

والجامكيّات والرواتب والصّلات، وما هو مقرّر لكلّ منهم فى كلّ شهر بمقتضى تواقيعهم أو ما شهدت به الاستثمارات القديمة المخلّدة فى بيت المال، ويشطب «1» قبالة كل اسم ما صرفه له على مقتضى عادته إما نقدا من بيت المال، أو حوالة تفرّع «2» على جهة تكون مقرّرة له فى توقيعه، ويوصل إلى تلك الجهة ما فرّعه عليها، وكذلك إذا أحال ربّ استحقاق غير ثمن مبيع «3» أو غيره على جهة عادتها تحمل إلى بيت المال سوّغ «4» ذلك المال فى بيت المال، وأوصله إلى تلك الجهة، والتسويغ «5» فى بيت المال هو نظير المجرى «6» ؛ وإذا وصل إليه استدعاء من جهة من الجهات أو وصول وضعه فى جريدته، وخصمه بما يقبضه لربّه، ويشهد عليه بما يقبضه، ويورد جميع ذلك فى تعليق المياومة. وأما مباشر أهراء «7» الغلال - فمبنىّ أمره أيضا على ضبط ما يصل إليه، وما يصرف من حاصله؛ ويحتاج فى مبدإ مباشرته إلى تحرير ما انساق من حواصل الغلال بأصنافها، وإن أمكنه تمييز ذلك بيّنه، ويكون أتقن لعمله؛ ثم يبسط جريدة يرصّع «8» فيها أسماء نواحى الخاصّ السلطانىّ التى تصل الغلال منها إلى الأهراء

فإذا جاءته رسالة من جهة «1» من تلك الجهات وضعها تحت اسم الجهة وعبر «2» ما وصل قرينها، فإن صحّ صحّتها كتب لتلك الجهة رجعة بالصّحة، وإن نقص فلا يخلو: إما أن يكون المركب أو الظهر الذى حمل ذلك الصنف قد سفّر من ديوان الأصل، أو سفّره مباشر العمل من جهته، فإن كان قد سفّر من ديوان التسفيرات طالب مباشر الأهراء مقدّم رجال المركب والأمين المسفّر عليه بالعجز، وألزمهما بحمله، فإن كان قد سفّر من الأعمال كان درك ذلك على من سفّره، ومباشر الأهراء بالخيار بين أن يطالب محضر الغلّة بالعجز، أو يرجع على مباشر العمل به، ويكون مباشر العمل هو المطالب لمن سفّره، والأولى طلب محضر الغلّة، فإنه إذا أطلقه ورجع إلى المباشر الذى سفّره فقد يعود إلى العمل وقد لا يعود، فإن لم يعد كان مباشر الأهراء قد أضرّ بمباشر العمل، لأنه ألزمه الغرم «3» مع قدرته وتمكّنه من استرجاعه ممن عدا عليه، ويكون هو أيضا ممن شارك فى التفريط؛ وإن وصلت إليه الغلّة متغيّرة تغيّرا ظهر له منها أنها خلطت بغيرها، إما بوصول عين تلك الغلّة اليه، أو بقرينة الحال التى يعلم منها أن تلك الغلة لا يوجد مثلها من فلّاح، ولا يعتدّ بها من خراج السلطنة لظهور غلثها «4» ، أو وصلت إليه الغلّة مبلولة بللا ظاهر التزيد عند الكيل وتتميّز «5» نظير ما أخذ منها، فله أن يعمل لذلك معدّلا، وهو أن يكيل منها جزءا معلوما ويغربله حتى يصير مثل العين التى عنده، أو بتخفيف ذلك حتى يعود إلى حالته

ذكر مباشرة البيوت السلطانية

الأولى، ويحرّر العجز على هذا الحكم، ويطالب به محضر الغلّة؛ وينبغى له أن يبدأ بصرف ما وصل إليه من الغلال المبلولة ولا يخلطها بغيرها، فإنها بعد بللها لا تحمل طول البقاء؛ هذا ما يعتمده فى القبض. وأما فى المصروف، فإن كان لصاحب جراية أو صلة أو إنعام أو تقا «1» لفلّاح صرف ذلك من عرض حاصله، ويراعى فى صرف التّقاوى أن «2» تكون من أطيب الغلال وأفضلها، لأنه يجنى ثمرة ذلك عند استيفاء الخراج؛ وإن كان ما يصرفه مما ينقله إلى الطواحين برسم المخابز، أو للاسطبلات والمناخات برسم العليق غربله، وحرّر نقصه، وأورده فى جامعته من الفذلكة «3» واستقرار الجملة؛ ومباشرة الأهراء مناسبة فى أوضاعها لمباشرة بيت المال. ذكر مباشرة البيوت السلطانية وهى الحوائج خاناه، والشراب خاناه، والطشت خاناه، [والفراش خاناه «4» ] ، والسلاح خاناه؛ وأمر «5» البيوت معذوق «6» بأستاذ الدار. فيحتاج مباشر الحوائج خاناه إلى أمور: منها ما يحتاج إليه من راتب السّماط العامّ والطارئ- وهو الطعام الثانى الذى يمدّ بعد قيام السلطان من المجلس العامّ، ويأكله

خواصّ الملك ومن يحضره بين يدى السلطان، وهو أخصّ من السّماط الأوّل- وطارئ الطارئ وهو الطعام الثالث الذى يمدّ بعد رفع الطارئ، ومنه يأكل الملك وخواصّه، وقد يأكل السلطان من الطارئ الذى قبله؛ فيحرّر ما يحتاج إليه من لحوم وتوابل وخضراوات وأبازير «1» وتحال وقلوب «2» وطيب وبخور وأحطاب وغير ذلك؛ ولذلك عندهم معدّل قد عرفوه فلا يتجاوزه، فإنه إن صرف زيادة عنه بغير سبب ظاهر خرج عنه «3» وكان تحت دركه. ومنها معرفة مقادير الأسمطة فى أوقات المهمّات والأعياد ليجرى الأمر فيها على العادة، ولا يتجاوزها إلا بمرسوم. ومنها تعاهد أسماء الحوائج خاناه، فيستدعى ما يراه قد قلّ عنده منها قبل نفاده بوقت يمكن فيه تحصيله، فإن أخّر طلب ذلك إلى أن ينفد، أو طلبه فى وقت ولم يبق عنده منه ما يكفيه إلى أن يأتيه ذلك الصنف من بلد آخر كان المباشر تحت درك إهماله «4» ، ومتى طلب ذلك فى وقته وطالع ولىّ الأمر به فقد خلص من عهدته. ويحتاج إلى بسط أسماء من يعامل «5» بالحوائج خاناه من قصّاب وحيوانىّ وطيورىّ وغيرهم، ويحصر «6» لكلّ منهم ما أحضره فى كلّ يوم، فإذا اجتمع له من ذلك

ما يقتضى محاسبته جرّد له محاسبة ضمّ فيها كلّ صنف إلى صنفه وثمّنه، إما بتعريف الحسبة، أو بعادة استقرّت له، وأحاله بمبلغ ما وجب له على بيت المال، أو استدعى من بيت المال ما ينفق منه «1» وأشهد عليه بقبض ذلك. ويحتاج أيضا إلى بسط أسماء أرباب الرواتب السلطانيّة وأرباب الصّلات، وما لكلّ منهم فى كلّ يوم، وخصمه بقبوضهم مياومة أو مشاهرة، صنفا أو حوالة؛ ويراعى حال من مرض من المماليك السلطانيّة ونقل من اللّحم إلى المزاوير «2» أو المساليق «3» فيقطع مرتّبه من اللحم فى مدّة مرضه، ونظير ذلك من التوابل فى مدّة مرضه. ويحتاج إلى معرفة عادات الرّسل الواردين، والأضياف «4» المتردّدين، ومرتّب الصدقة فى شهر رمضان، وعادات الأضاحى والصّلات فى عيد النحر، فيجرى الأمر على حكم العادة؛ ويضبط جميع ما يصل إليه من ديوان المتجر ومطابخ السكّر وغيرها، ويكتب لهم بما يحملونه إليه من الأصناف؛ ويضبط أيضا ما استقرّ فى كلّ ليلة من الوقود من شمع وزيت، ويصرف على ما استقرّ عنده، وإذا سلّم شمع الوقود إلى الطّشتداريّة وزنه عليهم، وعبره «5» عند إعادته فى بكرة النهار ليتميّز له النقص؛

وأما الشراب خاناه

ويضبط غير ذلك مما يصل إليه وينزل عنده من عادات من قنع «1» وتبتّل، وغير ذلك من جميع ما يرد وما يرتّب ويزاد ويقطع. وأما الشراب خاناه - وهى بيت يشتمل على أنواع المشروب من المياه على اختلافها، والسكّر والأشربة والدّرياقات «2» والسّفوفات والمعاجين والأقراص والأقسما «3» والفقّاع «4» والبلح والأبقال والحلويّات «5» والجوارشات «6» والفواكه، وما يجرى هذا المجرى؛ وأمر هذا البيت الخاصّ «7» معذوق «8» بأمير مجلس، والعامّ بأستاذ الدار؛ فيحتاج مباشر هذه الوظيفة الى ضبط ما يصل إليه من جميع هذه الأصناف،

وأما الطشت خاناه

وما يستعمله من ذلك فى عقد الأشربة والحلويّات، وما يعقده للمشروب وما يصرفه من ذلك، ومعرفة عادات الأسمطة والطّوارئ والرواتب المقرّرة فى كلّ يوم، فيجرى الأمر فيها على العادة المستقرّة، وما يستدعيه السلطان على حسب الاتفاق، وما يصرف للمرضى من المماليك السلطانيّة من أنواع الأشربة والمعاجين وغيرها بمقتضى أوراق الأطبّاء؛ هذا ما يعتمد عليه مباشرها والله أعلم. وأما الطّشت «1» خاناه - فهى بيت تكون فيه آلة الغسل والوضوء، وقماش «2» السلطان البياض «3» الذى لا بدّ له من الغسل، وآلة الحمّام، وآلات الوقود؛ فيكون فى هذا البيت من الآلات: الطّشوت والأباريق والسخّانات والطاسات والكراسىّ والستائر واللّبابيد «4» المختصّة بالحمّامات والسّجادات والنّمرقات «5» والمناشف وفوط الخدمة ومقاعد الجلوس من الجوخ والبسط، وغير ذلك، والمباخر وأنواع البخورات والطّيب والغوالى «6» وماء الورد والممسّك، وغير ذلك من الأصناف التى تلائم هذا البيت؛ ويستدعى ما يحتاج اليه برسم هذا البيت من الحوائج خاناه والخزانة؛ والله أعلم.

وأما الفراش خاناه

وأما الفراش خاناه - فيكون فيها أنواع الفرش والخيام والخركاهات «1» والتّخوت وقصور الخشب التى تنصب فى الدهاليز، وحمّامات الخشب التى تنقل على الظّهر فى الأسفار، وما يتعلّق بذلك من اللّبابيد «2» وشلائت «3» النوم وغير ذلك؛ وهو بيت متّسع فيه حواصل كثيرة لها قيم جليلة تحتاج الى ضبط ومعرفة، فإن «4» مباشر هذا البيت يحتاج الى معرفة ما يحتاج الى استصحابه فى أسفار السلطان لخاصّته «5» ولمماليكه على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وما ينصب برسم آدر «6» السلطان ومن يتبعها من الخدّام وما ينصب برسم البيوت السلطانيّة الخزائن فما دونها، وما ينصب لأرباب الوظائف من المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين الذين يكونون فى صحبة الرّكاب السلطانىّ، ومن غير المباشرين حتى الكلاب السلطانيّة والكلابزيّة «7» والجوارى؛ ويميّز بين خيام «8» الصيد والنّزه والأسفار والحروب، وغير ذلك من الحركات التى يحتاج فيها إلى استصحاب الخيام

وأما السلاح خاناه

ولكلّ حركة منها ما جرت به العادة من خيام المقام والسّفر «1» ؛ ويعرض ما يسلّمه للفرّاشين عليهم، ويضبط صفاته عند السّفر، ويستعيده منهم عند العود بعرض ثان، وكذلك ما يسلّمه لأرباب الوظائف؛ ويضبط أيضا ما يتسلّمه الصّنّاع الذين يفصّلون الخام الجديد وغيره من آلات الفراش خاناه: من قماش بياض «2» ومصبوغ وغزل وجلود ومشمّعات وشعر وأخشاب، وغير ذلك، ويعرف عوائدهم «3» فى الأجر، ويحاسبهم على ما يستحقّونه من الأجر بحسب أعمالهم فيحيلهم بمبلغه. وأما السلاح خاناه - فهى من أعظم البيوت وأهمّها، وأمرها راجع الى أمير سلاح؛ وعلى المباشر فيها «4» حفظ ما يدخل إليها، وضبط ما يخرج منها مما يتسلّمه السلاح داريّة والزّردكشيّة «5» والحرب داريّة والرّمح داريّة من أنواع السلاح وأصنافه إذا ركب السلطان أو جلس فى المجلس العامّ، واستعادته منهم، وإعادته لهم، والاعتداد لهم بما أنعم به السلطان وذهّبه مما كان بأيديهم؛ ويوصل ما يصل إلى السلاح خاناه من خزائن السلاح وغيرها، وما يصل اليه من سيوف الأمراء الذين يرسم باعتقالهم، وما يحمل اليه من سلاح من توفّى من الأمراء على جارى العادة. «ويميّز «6» ذلك من غيره» وعليه أن ينبّه أمير سلاح على ما عنده من العدد التى يخشى عليها التلف

ذكر جهات أموال الهلالى ووجوهها وما يحتاج إليه مباشرها

بتطاول المدّة ليأمر بكشفها وإصلاحها: من مسح ودهان وصقل وجلاء وشحذ «1» وتثقيف وخرز، وغير ذلك. وجميع ما قدّمنا ذكره من البيوت ليس بشىء من صناعة الكتابة العلميّة، بل العمليّة خاصّة، فإن علوم الكتابة إنما تظهر فى نظم الحسبانات، ولا نظم فيما قدّمناه؛ والعمدة فى صناعة الكتابة على مباشرة الهلالىّ والخراجىّ على ما يأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر جهات أموال الهلالىّ ووجوهها «2» وما يحتاج إليه مباشرها والهلالىّ عبارة عمّا تستأدى أجوره مشاهرة، كأجر الأملاك المسقّفة من الآدر «3» والحوانيت والحمّامات والأفران وأرحية «4» الطواحين الدّائرة بالعوامل «5» ، والراكبة على المياه المستمرّة الجريان، لا الطواحين التى تدور بالمياه الشّتويّة فى بعض نواحى الشام، فإنها تجرى مجرى الخراجىّ، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى موضعه؛ ومما نورد فى أبواب الهلالىّ عداد الأغنام والمواشى، ومن الهوائىّ «6» الجهات الهلاليّة المضمونة والمحلولة؛ والذى يعتمد عليه مباشره أن يتخيّر لكلّ جهة من يستأجرها بقيمتها، وما لعلّه يتعيّن

من الحيطة «1» ، ويلزم المستأجر بكتابة إجارة شرعيّة لمدّة معلومة بأجرة معيّنة؛ ويخلّدها فى ديوانه؛ وإن كانت الجهة هوائيّة ألزم ضامنها بكتابة حجّة بمبلغ الضّمان، وطالبه بمن يكفله من الضّمّان الأملئاء «2» القادرين بالمال «3» فى الذمّة، فإن تعذّر فبالوجه «4» ؛ فإذا خلّدت الحجّة عنده كتب له من ديوانه تقريرا عيّن له فيه استقبال مدّة ضمانه، ومبلغ الضمان وأقساطه مبسوطة «5» أو منجّمة «6» ، ويذكر فيه ما يستأديه من رسوم تلك الجهة على ما تشهد به الضرائب المخلّدة فى الدّيوان، وسلّم اليه؛ فإذا تكاملت عنده إجارات الأملاك وحجج الضّمان بسط على ذلك جريدة يشرح فيها الجهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال مدة إيجاره «7» أو ضمانه، ومبلغ الأجرة أو الضّمان فى السنة والشهر واليوم؛ وإنما ذكرنا اليوم لما يتحصّل من أقساط أيّام سلوخ «8» الشهور الناقصة، ولما كانت العادة جارية به من استخراج قسط يوم التعديل من سائر ضمّان الجهات

الهوائيّة، وهو قسط يوم واحد فى سلخ ثلاث سنين يؤخذ من الضّمان خالصا للديوان زيادة على الأقساط، وهذا يستأدى فى بعض أقاليم الشأم؛ وإنما أوردناه خشية الإخلال به؛ ويكون بسطه لذلك فى يمنة القائمة إلى الشطر المكسور المعتاد الذى يتخلّله خيط الجريدة؛ فإن اتّفق فى جهة زيادة فى أثناء السنة قرّرها فى تعليق المياومة، ووضعها فى الجريدة بما صورته: ثم استقرّت باسم فلان لاستقبال التاريخ الفلانىّ بكذا وكذا، العبرة «1» كذا، والزيادة كذا؛ ويحاسب المستأجر أو الضامن المنفصل عمّا استحقّ عليه إلى حين انفصاله، ويلزمه بالقيام به، وذلك بعد أن يعرض على الضامن المستقرّ ما زاد عليه، فإن اختار قبول الزيادة على نفسه قبل ذلك منه، وكان ذلك له، فإن زيدت عليه فى الوقت زيادة ثانية لم يكن له الاستمرار فى الجهة إلا بزيادة على تلك الزيادة الثانية؛ وإذا انقضت مدّة مستأجر وضامن وأراد الخروج من تلك الجهة، فإن كان قد غلّق «2» ما عليه من الأجرة أو الضّمان لم يكن للمباشر إلزامه بالاستمرار بها، وإن انطرد «3» عليه باق كثيرا كان أو قليلا لزمه استئناف عقد جديد نظير العقد الأوّل؛ هذا اصطلاحهم فى الديوان، ولهم اصطلاحات أيضا نحن نذكر ما تيسّر منها، إذ لا تمكن الإحاطة بجميعها لاختلاف أحوال المباشرات، ولو استقصينا ذلك لطال؛ فمن اصطلاحاتهم أن المباشر يسلّم للمستأجر الطاحون عند أذان المغرب من اليوم الذى حصل فيه الإيجار أو الزيادة لاستقبال

اليوم الثانى، ويسلّم الحمّام من وقت التسبيح، ويسلّم بقيّة الجهات لاستقبال غرّة النهار؛ وإذا دخل ضامن نيلة «1» قوّم للمنفصل ماله بالخوابى من مياه الأصباغ المختلفة بالقيمة العادلة، ولا يمكّن من أخذ ذلك من المصبغة لما فيه من الإضرار بهما، أما ضرر المنفصل فلفساد المياه، وأما ضرر المتصل فلأنه يتعطّل مدّة إلى أن تختمر له مياه غيرها، ولا يمكّن ضامن المصبغة المنفصل من أخذ خابية وإن كانت ملكه، بل القيمة عنها؛ هذا اصطلاحهم؛ وليحترز مباشر الجهات الهلاليّة من قبول زيادة بسطا فى جهة منجّمة قد مضت أقساطها الخفيفة «2» وبقيت الأقساط الكبار، لما يحصل فى ذلك من التّفاوت والنقص على الدّيوان مع وجود الزيادة الظاهرة، مثال ذلك أن تكون جهة مضمونة فى كلّ سنة بأربعة آلاف درهم منجّمة، قسط ستة شهور ألف درهم، وقسط الستة شهور الثانية ثلاثة آلاف، فانقضت الستّة الأول، وحصلت زيادة فى الجهة فى أوّل الستّة «3» الثانية مبلغ خمسمائة درهم فى السنة على أن تكون قسطين، فيصير بمقتضى البسط قسط الستّة شهور الثانية ألفين ومائتين وخمسين درهما، وهى على الضامن المنفصل بثلاثة آلاف، فتكون هذه الزيادة على هذا الحكم نقصا؛ فيراعى المباشر ذلك، فإنه متى وقع فيه خرج عليه وكان مخرجا لازما؛ ومهما استخرجه المباشر من مستأجر أو ضامن أو أجراه بوصول «4» لربّ استحقاق أو ثمن صنف، أو غير ذلك من وجوه المصارف أورده فى تعليق المياومة، وصورة وضعه لذلك أن يرصّع «5» المحضر أو المجرى عن يمنة القائمة، ويخصم عن يسرتها قبالة

المجرى، فيقول فى يمنتها: من جهة فلان كذا، وفى مقابلته: ينصرف فى كذا؛ ثم يشطب «1» المحضر والمجرى من تلك الجهة فى يسرة قائمة الجريدة التى بسطها قبالة كلّ اسم استخرج منه أو أجرى عليه، يفعل ذلك فى مدّة السنة، ويرمز على تعليقه إشارة الخدمة على الجريدة، وصورته [له «2» ] ؛ وكذلك اذا كتب وصولا رمز عليه إشارة الكتابة، وصورته له؛ فإذا انقضت السّنة عمل محاسبة كلّ جهة بما استخرجه من مستأجرها أو ضامنها وأجراه عليه، وعقد على ذلك جملة، فان كان المستخرج والمجرى نظير الأجرة أو الضّمان فقد تغلّقت «3» تلك الجهة عن تلك السنة، وإن زاد المستخرج على الأجرة أورده فى حسابه مضافا، ويسمّيه: زائد مستخرج، على ما يأتى بيانه فى كيفيّة الأوضاع الحسابيّة، واعتدّ «4» له بذلك فى السنة المستقبلة؛ وإن تعيّن للضامن أو المستأجر اعتداد بما يجب الاعتداد به كباطلة الحمّامات من انقطاع المياه عنها أو وقوفها فيها، وإصلاح القدور، وعطل العمائر، وبطالة الطواحين لانقطاع المياه وانكسار الأحجار أو السهام أو العدد، أو حصول جائحة «5» أرضيّة أو سمائيّة كانقطاع الأجلاب «6» عن الجهات الهوائيّة بسبب مداومة الأمطار، أو سقوط الثلوج، أو طروق عدوّ للبلاد، أو حادثة عطّلت تلك الجهة بسببها اعتدّ له بقسط تلك المدّة محسوبا

«هذا «1» إذا شرط ذلك فى تقريره «2» » على ما يأتى شرح ذلك؛ هذا ما يعتمد عليه المباشر للجهات الهلاليّة فى أصولها. وأما مضافاتها فلا فرق بينها وبين سائر الأموال، وسيرد الكلام إن شاء الله على ذلك مفصّلا؛ وقد اصطلح بعض مباشرى الجهات على إيراد أحكار البيوت والحوانيت، وريع البساتين التى تستخرج أجورها «3» مشاهرة، ومصايد السمك، ومعاصر الشّيرج «4» والزيت فى مال الهلالىّ؛ ومنهم من يوردها فى أبواب الخراجىّ، وهو الأليق، وإنما نبّهنا عليه لبيان الاختلاف فيه، ولا أرى فى إيراد ريع البساتين فى مال الهلالىّ وجها، بل يتعيّن ألّا يرد إلا فى أبواب الخراجىّ؛ وإن قال قائل منهم: قد يكون فى أرض البستان مسكن يستحقّ أجرة، قلنا: إن أمكن إفراد ذلك المسكن بأجرة معيّنة تقيّد أمواله فى أموال الهلالىّ دون البستان، وان تعذّر إفراده وأوجرا بعقد واحد فالمسكن هنا فرع البستان، والفرع يتبع الأصل ولا ينعكس، هذا ما خلّصناه من حال مال الهلالىّ «5» ، فلنذكر الجوالى.

ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمة و ...

ذكر الجزية الواجبة على أهل الذمّة و ... ما ورد فيها من الأحكام الشرعيّة وأوّل من ضربها وقرّرها على الرءوس وما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا من استخراجها وموضع إيرادها فى الحساب ونسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة وما يلزم مباشرها من الأعمال وما يحتاج إليه والله أعلم أما الأحكام الشرعيّة فالأصل فى وجوبها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وقد ورد فى هذه الآية تأويلات ذكرها أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ- رحمه الله- فى الأحكام السلطانيّة، نحن نذكرها على ما أورده، قال: أما قوله: «الّذين لا يؤمنون بالله» فأهل الكتاب [وإن «1» ] كانوا معترفين بأن الله سبحانه واحد، فيحتمل [نفى «2» ] هذا الإيمان بالله تأويلين، أحدهما: لا يؤمنون بكتاب الله سبحانه وهو القرآن، والثانى: لا يؤمنون برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن تصديق الرّسل إيمان بالمرسل؛ وقوله: «وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» * يحتمل تأويلين، أحدهما: لا يخافون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا معترفين بالثواب والعقاب، والثانى: لا يصدّقون بما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب؛ وقوله تعالى: «وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» يحتمل تأويلين،

أحدهما: ما أمر الله سبحانه بنسخه من شرائعهم، والثانى: ما أحلّه لهم وحرّمه عليهم؛ «ولا يدينون دين الحقّ» فيه تأويلان، أحدهما: ما فى التوراة والإنجيل من اتّباع الرسول- وهو قول الكلبىّ-، والثانى: الدخول فى دين الإسلام- وهو قول الجمهور-، وقوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» * فيه تأويلان، أحدهما: من أتباع «1» الذين أوتوا الكتاب، والثانى: من الّذين ملّتهم الكتاب، لأنهم فى اتّباعه كإيتائه «2» ؛ وقوله: «حتّى يعطوا الجزية» فيه تأويلان، أحدهما: حتى يدفعوا الجزية، والثانى حتى يضمنوها، لأنه بضمانها يحب الكفّ عنهم؛ وفى الجزية تأويلان، أحدهما: أنها من الأسماء المجملة التى لا يعرف منها ما أريد بها إلا أن يرد بيان «3» ، والثانى: أنها من الأسماء العامّة التى يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خصصه دليل؛ واسمها مشتق من الجزاء، وهو إما جزاء على كفرهم، أو جزاء على أماننا لهم؛ وفى قوله: «عن يد» [تأويلان، أحدهما: عن غنى «4» وقدرة، والثانى: أن يعتقدوا أن لنا فى أخذها منهم يدا وقدرة عليهم؛ وفى قوله] : «وهم صاغرون» تأويلان، أحدهما: أذلّاء مساكين «5» ، والثانى: أن تجرى عليهم أحكام الإسلام. وقال غيره: الصّغار أن يضرب على فكّ الذمىّ برءوس الأنامل عند قيامه بالجزية ضربا لطيفا غير مؤلم. وقال الماوردىّ:

فيجب على ولىّ الأمر أن يضرب الجزية على رقاب من دخل فى الذمّة من أهل الكتاب ليقرّوا بها فى دار الإسلام؛ ويلتزم لهم ببذلها حقّين: أحدهما الكفّ عنهم، والثانى الحماية لهم، ليكونوا بالكفّ آمنين، وبالحماية محروسين؛ روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: آخر ما تكلّم به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «احفظونى فى ذمّتى «1» » قال الماوردىّ: ولا تؤخذ من مرتدّ ولا دهرىّ ولا عابد وثن، وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان من العجم، ولم يأخذها منهم إذا كانوا عربا «2» ؛ وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل، وتجرى المجوس مجراهم فى أخذ الجزية منهم؛ وتؤخذ من الصابئين «3» والسامرة» اذا وافقوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم وان خالفوهم فى فروعه، ولا تؤخذ منهم إن خالفوا اليهود والنصارى فى أصل معتقدهم؛ ومن جهلت حاله أخذت جزيته، ولا تؤكل ذبيحته؛ والجزية تجب على الرجال الأحرار «5» العقلاء، ولا تجب على صبىّ ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، لأنهم أتباع وذرارىّ؛ ولو تفرّدت امرأة منهم [عن «6» ] أن تكون تبعا لزوج أو نسيب لم تؤخذ منها الجزية، لأنها تبع لرجال قومها وإن كانوا أجانب

منها؛ ولو تفرّدت امرأة فى دار الحرب فبذلت الجزية للمقام فى دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته، وكان ذلك منها كالهبة لا يؤخذ منها إن امتنعت؛ ولا تؤخذ الجزية من خنثى مشكل، فإن زال «1» إشكاله وبان رجلا أخذت منه فى مستقبل أمره وماضيه؛ واختلف الفقهاء فى قدر الجزية، فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف: أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما وضرب «2» يؤخذ منه اثنا عشر درهما، [فجعلها مقدّرة الأقلّ والأكثر «3» ] ومنع من اجتهاد الولاة فيها. وقال مالك: لا يقدّر أقلّها ولا أكثرها، وهى موكولة إلى اجتهاد الإمام فى الطرفين. وذهب الشافعىّ إلى أنها مقدّرة الأقلّ بدينار لا يجوز الاقتصار على أقلّ منه، وعنده أنها غير مقدّرة الأكثر، يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة، ويجتهد رأيه فى التسوية بين جميعهم، أو التفضيل «4» بحسب أحوالهم، فإذا اجتهد رأيه فى عقد الجزية معهم على مراضاة أولى الأمر منهم صارت لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرنا بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغيّره «5» الى زيادة عليه أو نقصان منه.

ويشترط عليهم فى عقد الجزية شرطان: مستحقّ ومستحبّ، أما المستحقّ فستة «1» أشياء: أحدها ألّا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له، والثانى ألّا يذكروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتكذيب له ولا ازدراء به، والثالث ألّا يذكروا دين الإسلام بذمّ له ولا قدح فيه، والرابع ألّا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح، والخامس ألّا يفتنوا «2» مسلما عن دينه ولا يتعرّضوا لماله ولا دمه «3» ، والسادس ألّا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم؛ فهذه الستة حقوق ملتزمة بغير شرط، وإنما تشترط إشعارا لهم، وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، فيكون انتهاكها بعد الشرط نقضا لعهدهم. وأما المستحبّ فستة أشياء: أحدها تغيير هيآتهم بلبس الغيار «4» وشدّ الزّنّار «5» ، والثانى ألّا يعلموا على المسلمين فى الأبنية، ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم، والثالث ألّا يسمعوهم أصوات نواقيسهم، ولا تلاوة كتبهم، ولا قولهم فى عزير والمسيح، والرابع ألّا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم، والخامس أن يخفوا «6» دفن موتاهم ولا يجهروا بندب عليهم ولا نياحة، والسادس أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقا وهجنا، ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير؛ قال: فهذه الستة المستحبّة

لا تلزم بعقد الذّمّة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا للعهد، لكن يؤخذون «1» بها إجبارا «2» ، ويؤدّبون «3» عليها زجرا، ولا يؤدّبون إن لم يشترط ذلك عليهم، ويحتاط «4» به. [وتجب الجزية عليهم «5» ] فى كل سنة مرّة واحدة بعد انقضائها «6» بالشهور الهلاليّة، ومن مات منهم فى أثناء السنة أخذ من تركته بقدر ما مضى منها، ومن أسلم كان ما لزم من جزيته دينا فى ذمّته يؤخذ منه؛ وأسقطها أبو حنيفة بإسلامه وموته؛ ومن بلغ من صغارهم، أو أفاق من مجانينهم استقبل به حول [ثم أخذ «7» ] بالجزية ويؤخذ الفقير بها إذا أيسر، وينتظر بها إذا أعسر؛ ولا تسقط عن شيخ ولا زمن، وقيل: تسقط عنهما وعن الفقير؛ ولأهل العهد إذا دخلوا دار الإسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم، ولهم أن يقيموا فيها أربعة أشهر بغير جزية، ولا يقيموا سنة إلا بجزية، وفيما بين «8» الزمانين خلاف؛ ويلزم الكفّ عنهم كأهل الذمّة، ولا يلزم الدفع عنهم؛ واذا أمّن بالغ عاقل من المسلمين حربيّا لزم أمانه كافّة المسلمين، والمرأة

وأول ما ضربت الجزية وجعلت على الرءوس فى خلافة عمر بن الخطاب

فى بذل الأمان كالرجل، والعبد فيه كالحرّ؛ وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال؛ وإذا «1» تظاهر أهل الذّمّة والعهد بقتال المسلمين كانوا حربا لوقتهم، يقتل مقاتلهم، ويعتبر حال من عدا المقاتلة منهم بالرضا بفعلهم والإنكار له؛ وإذا امتنع أهل الذمّة من أداء الجزية كان نقضا لعهدهم؛ وقال أبو حنيفة: لا ينتقض به عهدهم إلّا أن يلحقوا بدار الحرب، وتؤخذ منهم جبرا كالدّيون؛ وإذا نقض أهل الذمّة عهدهم لم يستبح بذلك قتلهم، ولا غنم أموالهم، ولا سبى «2» ذراريّهم ما لم يقاتلوا، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشّرك، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها؛ فهذه هى الأحكام الشرعيّة فى أمر الجزية. وأوّل ما ضربت الجزية وجعلت على الرءوس فى خلافة عمر «3» بن الخطّاب - رضى الله عنه- وكانت قبل ذلك تحمل قطائع؛ واختلف: هل استأداها سلفا أو عند انقضاء الحول.

وأما ما اصطلح عليه كتاب التصرف

وأما ما اصطلح عليه كتّاب التصرّف فى زماننا هذا من استخراجها وموضع إيرادها فى حسباناتهم، فهم يستخرجونها سلفا وتعجيلا فى غرّة السنة، وفى بعض الأقاليم تستخرج قبل دخول السنة بشهر أو شهرين؛ وتورد فى الحسبانات قلما مستقلّا بذاته، بعد الهلالىّ وقبل الخراجىّ، وسبب تأخيرها عن الهلالىّ أنها تستأدى مسانهة، وسبب تقدّمها على الخراجىّ ما ورد من وجوبها مشاهرة على الأشهر من أقوال الفقهاء؛ وقد تقدّم ذكر الحكم فيمن أسلم أو مات فى أثناء الحول، وأنه لا يلزمه منها إلا بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه أو وفاته، فلذلك وردت بين الهلالىّ والخراجىّ. وأما نسبتها فى الإقطاعات الجيشيّة عند خروج إقطاع ودخول آخر «1» فإنها تجرى مجرى المال الهلالىّ، لأنها تستخرج على حكم شهور السنة الهلاليّة دون الشمسيّة؛ فإن تعجّلها مقطع فى غرّة السنة على العادة وخرج الإقطاع عنه فى أثنائها بوفاة أو نقلة إلى غيره استحقّ منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقاله، لا على حكم ما استحقّ من المغلّ؛ ويستحقّ المتّصل من «2» استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود «3» ؛ وإن تخلّل بين المنفصل والمتّصل مدّة كان قسطها للديوان، يرد فى جملة المحلولات من الإقطاعات.

وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج إلى عمله،

وأما ما يلزم مباشر الجوالى وما يحتاج الى عمله، فالذى يلزمه أن يبسط جريدة على أسماء الذمّة «1» بمقتضى الضريبة المرفوعة إليه، أو الكشف الذى كشفه إن كان العمل «2» مفتوحا «3» أو مستجدّا، يبدأ فيها بذكر أسماء اليهود، ويثنّى بالسامرة» لأنّهم شعب منهم، ويثلّث بالنصارى، وإن كان فى عمله طائفة من الصابئة والمجوس ذكرهم بعد النصارى؛ وفى بعض بلاد الشأم تؤخذ الجزية من طائفة تعرف بالشّمسيّة، يوحّدون الله تعالى وينكرون نبوّة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول بنبوّة عيسى عليه السّلام وأن لا نبىّ بعده؛ ويكون بسط الكاتب لهذه الجريدة على التقفية إذا كانت الأسماء كثيرة، ليسهل عليه بذلك الكشف والشطب، وإذا استخرج جالية أوردها فى تعليق المياومة؛ وكتب له بها وصولا «5» ، وشطبها عن اسم من استخرجت منه فى جريدته، ويرمز فى تعليقه إشارة الكتابة والخدمة على ما تقدّم بيانه فى الهلالىّ. ويحتاج مباشر الجوالى فى كلّ سنة إلى إلزام رئيس اليهود ورئيس السامرة وقسّيس النصارى أو أسقفّهم «6» بكتابة أوراق يسمّونها: الرّقاع بمن عند كلّ منهم من الرواتب «7» ، وما لعلّه استجدّ «8» من الطّوارئ «9» والنّوابت، ويعيّن فى آخر الرّقاع من

اهتدى بالإسلام، ومن هلك بالموت، ومن تسحّب «1» من العمل، وإلى أىّ جهة توجّه، ويجعل تلك الرّقاع شاهدا عنده بعد الإشهاد فيها على «2» الصادرة عنه بأنه لم يخلّ بشىء من الأسماء، ويلزمه بكتب مشاريح بمن ضمّن رقاعه أنه اهتدى أو هلك أو تسحّب كلّ اسم بمشروح، ويخلّد المشاريح عنده ويشطبها «3» على جريدته؛ والكتّاب فى إيراد من اهتدى ونزح وهلك مختلفون: فمنهم من يوصل العدّة المستقرّة عنده عن يمنة العمل «4» ، ويستثنى بالتعدية عمّن اهتدى وهلك وتسحّب، كلّ اسم بمقتضى مشروحه المشهود فيه، ويبرز بما تحرّر بعد ذلك؛ ومنهم من يوصل الجميع على ما استقرّت عليه الحال الى آخر السنة الماضية، ويستخرج ممّن استخرج منه، ويعتدّ «5» بما يجب على المهتدى والهالك والمتسحّب محسوبا فى باب المحسوب قبل فذلكة الواصل فى الرّقاع- على ما نبيّنه إن شاء الله فى الأوضاع الحسابيّة- ويكون ما على النازحين موقوفا الى أن يتحرّى أمرهم؛ فإن عاد أحد منهم الى ذلك الإقليم ولم يكن قد قام بالجزية فى بلد آخر استخرجت منه، ووردت فى باب المضاف فى حساب السنة، وإن كان قد قام بالجزية فى بلد آخر وأحضر وصول مباشر تلك الجهة بما اعتدّ له

وأما النوابت والطوارئ

به عن تلك السنة، نقل «1» مبلغ الوصول على تلك الجهة التى حضر وصولها قربت أو بعدت، واستشهد فى حسابه بمقتضى الوصول؛ وكلتا الطريقتين سائغة عند الكتّاب؛ وأما النّوابت «2» والطّوارئ فإنها ترد فى باب المضاف باتفاق الكتّاب فى أوّل سنة، وتستقرّ أصلا فى السنة التى تليها وما بعدها؛ ويحتاج المباشر الى تفقّد أحوال النوابت فى كلّ مدّة لاحتمال بلوغ صبىّ فى أثناء الحول، واختبار ذلك بأمور شرعيّة واصطلاحيّة: أما الشرعية فبإنبات «3» الشّعر الخشن «4» ، أو بكمال خمس «5» عشرة سنة؛ وأما اصطلاحيّة فبانفراق رأس الأنف، وغلظ الصوت، وبظهور شىء «6» على حلمة الثّدى من باطنه كالتّرمسة، وبأن يدار خيط على عنق الصبىّ مرّتين تحريرا، ثم يوضع طرف الخيط بين أسنانه وتدخل أنشوطة «7» فى رأسه، فإن دخلت دلّ ذلك على بلوغه، وإلا فلا؛ واصطلح بعض مباشرى الجوالى فى بعض الأقاليم على إلزام عرفاء الذمّة «8» بالمطالعة بكل صبىّ يولد لوقته، وبمن هلك منهم، ويرصّع «9» أسماءهم

ذكر جهات الخراجى وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره

فى جريدة مفردة بهم، فمن بلغ عمره ثلاث عشرة سنة استخرج منه الجزية سواء ظهرت أمارات بلوغه أم لا، ويلازم المباشر الكشف والتنقيب عمّن لعلّه أخفى من الرواتب، أو استجدّ من الطّوارئ والنّوابت ولم يرد الدفع، فمن ظهر له أمره استخرج الجالية منه لاستقبال وجوبها عليه، ويقابل من أخفاه بالإهانة والنكال؛ والمباشرة تظهر ما لا تحيط به الكتب؛ هذا ما يتعلّق بالجوالى، فلنذكر الخراجىّ- إن شاء الله تعالى-. ذكر جهات الخراجىّ وأنواعه وما يحتاج اليه مباشره والخراجىّ عبارة عما يستأدى مسانهة مما «1» هو مقرّر على الأراضى المرصدة للزراعة والنخل والبساتين والكروم والطواحين السنويّة التى تدور أحجارها بمياه السيول فى الجهات «2» الشاميّة، وما يستأدى من خدم الفلّاحين، ويسمّى ذلك بمصر: الضّيافة، وبالشأم: رسم الأعياد والخميس، وهو أغنام ودجاج وكشك «3» وبيض- على ما استقرّ على كلّ جهة- وهو إنما يكون على النواحى الإقطاعيّة غالبا، وأما فى نواحى الخاصّ فلا يستأدى، لما هو مقرر على الأراضى بمصر من الحقوق التى تستخرج دراهم، وبالشأم من التّضييف «4» المقرّر عليهم فى أيّام الفتح «5» عن مدّة ثلاثة

أما الديار المصرية وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها على ما استقر فى زماننا هذا وتداوله الكتاب،

أيّام؛ ومن أبواب الخراجىّ ما يستأدى بالشأم فى خدمة رؤساء الضّياع فى مقابلة ما لهم من المطلق والولاة والوكلاء والنّقباء والصّيارفة والكيّالين والضّوئيّة «1» فى مقابلة ما يستأدونه من الرسم، وذلك يرد فى أبواب المضاف؛ والخراجىّ تختلف أحكامه وقواعده بمصر والشام؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. أما الديار المصريّة وأوضاعها وقوانينها وما جرت عليه قواعدها على ما استقرّ فى زماننا هذا وتداوله الكتّاب، فقانون الديار المصريّة مبنىّ على ما يشمله الرّى من أراضيها ويعلوه النيل؛ وقد ذكرنا فى باب الأنهار فى الفن الأوّل من كتابنا هذا نيل مصر، ومبدأه، والاختلاف فيه، وما يمرّ عليه من البلاد، وكيفيّة الانتفاع به من حفر التّرع، وضبط الجسور، وتصريف المياه عن الأراضى بعد ريّها؛ ونيل مصر هو من أعاجيب الدنيا، وقد روى عن ذى القرنين أنه كتب كتابا عمّا شاهده من عجائب الوجود فذكر فيه كلّ عجيبة، ثم قال فى آخره: وذلك ليس بعجب، ولكنّ العجب نيل مصر، ولولا ما جعل الله تعالى فيه من حكمة هذه الزيادة فى زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل رىّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء وقت الزراعة لفسد أمر هذا الإقليم، وتعذّرت سكناه، إذ ليس به أمطار كافية ولا عيون سارحة «2» تعمّ أراضيه، وليس ذلك إلا فى بعض إقليم الفيّوم؛ فسبحان من بيده الخلق والأمر القادر على كلّ شىء، والمدبّر لكلّ شىء، سبحانه وتعالى لا إله إلّا هو.

والذى يحتاج إليه مباشر الخراج بمصر ويعتمد عليه فى مباشرته أنه اذا شمل الرّىّ أرض الجهة التى يباشرها أن يبدأ بإلزام خولة «1» البلاد برفع قوانين الرّىّ، وصورتها أن يكتب فى صدر القانون ما مثاله: قانون رفعه كلّ واحد من فلان وفلان الخولة والمشايخ بالناحية الفلانيّة، بما شمله الرّىّ وعلاه النّيل المبارك من أراضى الناحية لسنة كذا وكذا الخراجيّة، وهو من الفدن «2» ؛ ويذكرون جملة قانون البلد، ويفصّلونه بالرّىّ والشّراقى، فالرّىّ: ما شمله النيل. والشراقى: ما لم يشمله؛ وللرّى تفصيل: منه ما هو نقاء «3» ، ومنه ما هو مزروع، وخرس، وغالب، ومستبحر؛ ويفصّل بقبائله «4» ، ويشرح فى كل قبالة هذا التفصيل؛ والنقاء: هو الطين السواد «5» الذى يصلح للزراعة وينبت فيه اذا لم يزرع الكلأ الصالح للرّعى «6» ، ويسمّى نباته بصعيد مصر: الكتّيح «7» ، وهو نبات تستغنى به الخيل والدوابّ والماشية عن البرسيم «8» . وأما المزروع:

فهو ما عادته أن يزرع فى كلّ سنة. وأما الخرس: فهو الأرض التى تنبت فيها الحلفاء «1» ، فلا تزرع إلا بعد قلعها منها وتنظيفها، وقطيعته «2» دون قطيعة النّقاء. وأما الغالب: فهو ما غلبت على أرضه الحلفاء وتكاثفت فلا تقلع إلّا بكلفة، وقطيعته دون قطيعة الخرس، وقلّما يزرع، وأكثر ما يكون الخرس والغالب ببلاد الصعيد الأعلى «3» لسعتها، وكثرة أرضها، وتعطيلها من الزراعة سنة بعد أخرى. وأما المستبحر: فهو أراضى الخلجان المشتغلة التى تستمرّ المياه فيها إلى أن يفوت زمن الزراعة، فمنها ما يبوّر، ومنها ما يزرع مقاثئ «4» ، وقطيعته متوسّطة، وتكون غالبا بالدراهم دون الغلّة. وعندهم أيضا الترطيب «5» : وهو الذى تخلّلت المياه باطن أرضه شبه النّزّ «6» ولم تعلها، ولا تصلح لغير المقاثئ؛ فاذا رفع الى المباشر قانون الرّى أشهد فيه على رافعيه «7» بأن الأمر على ما تضمّنه؛ ثم ينظر المباشر إلى سنة يكون نيلها نظير نيل تلك السنة، ويبرز الكشوف، ويحضّر البلد «8» البلد على الفلّاحين القراريّة نظير ما حضّروه فى السنة الموافق نيلها لنيل تلك السنة الحاضرة «9» ، ويشهد على كلّ مزارع بما يسجّله من

أراضى كلّ قبالة «1» وقطيعتها المستقرّة، ويعيّن منها ما هو بحقوق وما هو بغير حقوق، والحقوق: دراهم يقوم بها المزارع عن كلّ فدّان غير الغلّة، وتكون من أربعة دراهم إلى درهمين، والغلّة بحسب قطيعة الأرض وعادتها، وأكثر ما عرف من الخراج عن كلّ فدّان- وهو أربعمائة قصبة بالقصبة الحاكميّة «2» ، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش- ثلاثة «3» أردابّ، وهذه الأرض جزيرة بالأقصر من أعمال قوص، وأقلّ ما علمناه من القطيعة عن كل فدان سدس إردبّ، وهى فى الأراضى التى غلبت عليها الأخراس وقلّ الانتفاع بها، فهى تسجّل بهذه القطيعة عليها، وتنصلح فى المستقبل؛ وأما الأراضى التى تسجّل بالدراهم فأكثر ما علمناه بأراضى الجيزيّة «4» قبالة فسطاط مصر عن كلّ فدّان مائتان وخمسون درهما، وهو كثير فى أراضيها وسجّل فى بعض السنين ثلاثة أفدنة بألف درهم، ولم تستقرّ هذه القطيعة، وهذه الأراضى تزرع غالبا كتّانا؛ فاذا تكامل تحضير «5» البلد على المزارعين القراريّة والطّوارئ نظم المباشر أوراقا بجملة ما اشتمل عليه التحضير، مفصّلة بالأسماء والقبائل «6» والجزائر

والجروف، وتكتب عليها الشهود الذين حضّر «1» البلد بحضورهم، ثم يصرف لكلّ مزارع ما جرت العادة به من التّقاوى «2» بحسب ما يسجّله، ويكون ما يصرفه من التقاوى من أطيب الغلال وأفضلها وأنصعها، ثم يبسط جريدة على أوراق السجلّات يشرح فيها اسم كلّ فلّاح وما يسجّله من الفدن «3» ، ويفصّل ذلك بقبائله وجهاته وقطائعه؛ فاذا نبت الزرع واستوى على سوقه ندب عند ذلك من يباشر مساحة الأراضى: من شادّ وعدول ذوى خبرة بعلم المساحة، وكاتب عارف خبير أمين، وقصّابين: وهم الذين يقيسون الأراضى بالأحكام «4» الحاكميّة المحرّرة؛ فيمسحون الأراضى المزروعة بأسماء أربابها وقبائلها، ويعيّنون أصناف المزروعات بها، ويكون مباشر والمساحة قد بسطوا أيضا سجلّات التحضير، فإذا تكاملت المساحة نظم مباشروها أوراقا يسمّونها: المكلّفة، يترجم صدرها بما مثاله مكلّفة تأريج «5» : هو الأوراق التى يبسطها مباشر المساحة بما فى السّجلّات ويختمها «6» بما انتهت اليه المساحة. والفنداق: هو عبارة عن التعليق، وهو الذى تكتب فيه المساحات حال قياسها. فإذا انتهت ترجمة صدر المكلّفة عقد

جملة فدنها «1» فى صدرها وفصّلها بأصناف المزروعات وأسماء المزارعين، فإن طابقت المساحة السّجلّات من غير زيادة ولا نقص قال: وذلك بمقتضى السّجلّات، وإن تميّزت قال: ما تضمّنته السّجلّات كذا، زائد المساحة كذا، وان نقصت ذكر ما صحّ بمقتضى مساحته، وكمّله بالقلم تتمّة «2» ؛ وإن نقص مزارع عن سجلّه فى قبالة وزاد على سجلّه فى قبالة أخرى كمّل عليه «3» ما نقص بمقتضى سجلّه، وأورد ما زاد فى القبالة الأخرى زيادة، ولا ينقل الزائد إلى الناقص، ويلزمه المباشر بالقيام بخراج ما نقص من تلك القبالة وما زاد فى الأخرى؛ هذا مصطلحهم، وليس هو منافيا للشرع، إلا أنّنى أرى فى هذا النقص تفصيلا هو طريق العدل والحقّ، وهو إن كان النقص مع وجود أرض بائرة «4» بتلك القبالة لزمه القيام بخراج النقص، لأنه عطّلها مع قدرته على الانتفاع بها وزراعتها؛ ويسلّم إليه من الأراضى البائرة التى شملها الرّىّ بتلك القبالة نظير ما نقص عنده لينتفع بما لعلّه نبت فى تلك الأرض من الكلإ؛ وإن كان النقص مع تغليق «5» أرض تلك القبالة بالزراعة فلا شىء عليه لأنه لم يتسلّم ما بسجلّه، ويعتدّ له بما لعلّه زاد على تسجيل غيره بتلك القبالة، فإنه يعلم بالضرورة القطعيّة أن الذى زرع بها أكثر مما بسجلّه أخذ من جملة سجلّ غيره؛ وإن صحّت تلك القبالة فى «6» جميع المزارعين بمقتضى سجلّاتهم بغير زيادة، ونقص عند واحد بعينه

جميع ما اشتملت عليه المساحة بها، فإن وافق جملة قانونها تعيّن أن الخلل إنما جاء من قبل المباشر، لأنه سجّل فى قبالة أكثر من قانونها، فلا يلزم المزارع بالنقص؛ هذا هو العدل والإنصاف، فمن خرج عنه فقد ظلم وحاف؛ فاذا تكمّلت تكملة المساحة وضع المباشر زائد مساحة كلّ اسم تحت اسمه، وضمّه إلى سجلّه، ورفع «1» الجملة بالعين والغلّة، وأضاف [إلى «2» ] كلّ اسم ما لعلّه قد تسلّمه من تقاو وقروض، وما عليه من عشر ووفر ورسوم، وما لعلّه انساق من الباقى الى آخر السنة الماضية إن كان؛ وهم «3» يضيفون عشر التقاوى، وهو حرام لا شبهة «4» فى أخذه، وهو الرّبا بعينه، فإنه يقرض الرجل عشرة فيأخذها أحد عشر؛ ويضيفون أيضا فى بعض البلاد عشر العشر فيقبض كلّ مائة إزدب مائة إدربّ واحد عشر إردبا؛ وإنما اشتدّت هذه المظالم وأحدثت من قبل أرباب البذول «5» الذين يقترفون «6» المظالم ولا يجدون من يردعهم ويردّهم عنها فتستمرّ، وهى من السنن السيئة التى عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وأما الخراج الراتب،

ثم يعقد المباشر على جميع ذلك جملة ويشطبها «1» بما يستخرجه منه ويحصّله، والذى تنعقد عليه الجملة هو ما تعيّن عليه للديوان أنجب زرعه أو لم ينجب؛ ومهما استخرجه منه وحصّله وأحال به كتب به وصولا؛ فإذا غلّق «2» كلّ اسم ما عليه أجاز عليه إشارة التغليق، وإن بقى عليه شىء ممّا تعيّن عليه طرده للباقى؛ هذا حكم الأرض التى تسجّل بالغلّة؛ وأما ما يسجّل بالنقد فإنه تتساوى عليه ثلاثة أقساط أو قسطان: قسط من ثمن البرسيم الأخضر عند إدراكه وبيعه لربيع الخيل، وقسط من الكتّان عند قلعه إن كان، وقسط عند إدراك المغلّ والمقاثئ، ومنهم من يسجّل بالنقد الحاضر جملة واحدة فى وقت السجلّ؛ هذا حكم خراج الزراعة. وأما الخراج الراتب، فهو لا يكون إلا بالنقد عينا «3» أو فضّة؛ وهو خراج السواقى والبساتين والنّخيل؛ وذلك أن أربابه يقاطعون «4» الديوان على فدن «5» معيّنة بمبلغ معيّن عن كلّ فدان فى كلّ سنة يقومون به فى أوقات معلومة، رويت الأرض أو شرّقت «6» ؛ وهم يحفرون فى تلك الأراضى آبارا بقدر ما يعلمون أن المياه التى تطلع منها تروى تلك الأراضى، ويركّبون على أفواه الآبار السواقى

المتّخذة من أخشاب السنط وما ناسبه، المشهورة بالخرير «1» التى تعين على رفع الماء ويسمّونها بديار مصر: المحال «2» ، وبحماة: النواعير، إلا أن النواعير تدور بالماء، وهذه تدور بالأبقار؛ ويزرعون عليها بتلك الأراضى ما أحبّوه واختاروه من أصناف المزروعات والغروس لا يطالبون عليها بغير الخراج المقرّر، إلا أن ينصبوا «3» القصب فلا يقتصر منهم عند ذلك على الخراج، بل للديوان على الأقصاب مقرّر يستأديه عن كلّ فدّان؛ ويستأدى خراج الراتب على أقساط فى زمن الثمار والأعناب والفواكه وعند ضرب الوسمة «4» - وهى النّيل الذى يصبغ به اللون الأزرق- وخراج الراتب يستأدى ممن هو عليه، زرع أرضه أو عطّلها، وهو لا يبطل بوفاة المقاطع «5» على الأرض، بل ينتقل على ورثته، ويطالبون به أبدا ما تعاقبوا وتناسلوا، ولا يوضع عنهم إلا إن ابتلع البحر الأرض المقاطع عليها بعد أن يعملوا بذلك مشاريح «6» تثبت عند حاكم البلد أن البحر ابتلع «7» تلك الأراضى بكمالها أو بعضها، ولا ينهض مباشر الناحية أو ناظر العمل

وأما جهات الخراجى بالشام وكيفيتها وما يعتمد عليه مباشروها

بوضعه مع وجود المحضر «1» الثابت «2» ، بل يحضر المقاطع على الأرض أو من انتقلت اليه بالإرث أو الابتياع الى باب السلطان، ويرفع قصّة الى الوزير بصورة الحال، ويوقّع عليها بقلمه أن «3» يوضع عنه من خراج الراتب بقدر ما ابتلعه البحر بمقتضى المحضر، ويستمرّ حكم ما بقى، ويكتب على ظهر قصّته: توقيع شريف سلطانىّ؛ ويثبت بدواوين الباب السلطانىّ، ثم يثبت بديوان العمل الجامع، ثم ينزل فى ديوان البلد التى بها تلك الأرض، وبوضع عند ذلك من الضريبة الديوانية؛ هذا حكم الخراج بالديار المصريّة وقاعدته والعادة فيه. وأما جهات الخراجىّ بالشام وكيفيّتها وما يعتمد عليه مباشروها - فإن قانون البلاد الشاميّة مبنىّ على نزول الغيث، ووقوع الأمطار فى إبّانها وأوقات «4» الاحتياج اليها، فمن ذلك المطر المسمّى: الوسمىّ، وهو الذى يقع فى فصل الخريف، وعند وقوع هذا المطر يخدّ «5» شقّ الأراضى المكروبة «6» بالسّكك «7» ، ثم يبذر الحبّ فيها، ويعاد شقّ الأرض عليه ليخفى عن الطير «8» خشية التقاطه، فإذا نزل عليه المطر الثانى

بعد ذلك نبت وبرز إلى وجه الأرض، وهو عند ذلك يسمّى: الأحوى «1» ، ثم لا تزال الأمطار تسقيه والأنواء تغذيه حتى يصير غثاء، ثم يقع عليه بعد ذلك المطر المسمّى بالمطر الفاطم، وهو غالبا يكون فى شهر نيسان، ثم يعقد فيه الحبّ بعد ذلك، وينتهى على عادة الزرع؛ هذا حكم ما يزرع على الوسمىّ. ومن أراضى الشأم [نواح «2» ] يغبّها «3» الوسمىّ فيزرع سكّانها «4» الحبّ عفيرا، ومعنى ذلك أنهم يزرعون فى الأرض الحبّ قبل إبّان الزرع وينتظرون وقوع الأمطار عليه؛ ومن غريب ما اتّفق فى بعض السنين أنهم أودعوا الحبّ الأرض على عادتهم فلم تسقط عليه الأمطار فى تلك السنة، فاستمرّ فى الأرض إلى العام القابل، وأيس أهل البلاد منه، وزرعوا فى السنة الثانية شطر الأراضى التى كانت كرابا غير مزروعة- فإن عادتهم بسائر بلاد الشأم أن كلّ فلّاح يقسم الأراضى التى بيده شطرين، فيزرع شطرا، ويريح شطرا، ويتعاهده بالحرث لتقرع الشمس باطن الأرض، ثم يزرعه فى القابل ويريح الشطر الذى كان به الزرع؛ هذا دأبهم، خلافا لأراضى الديار المصريّة، فإنها تزرع فى كلّ سنة- فلما وقعت الأمطار نبت الشطران معا، وأقبلت الزراعات فى تلك السنة، فتضاعف المغلّ، وهذا غريب نادر الوقوع.

ومن أراضى الشأم ما يسقى بالمياه السارحة من الأنهار والعيون، وتكون مقاسمة أرضه أوفر من مقاسمة ما يسقى بالأمطار، وقيمة الأملاك بها أرفع «1» وأغلى من تلك، ويكون غالبا فى الأراضى المستفلة «2» ؛ والله تعالى أعلم. والذى يعتمده مباشر الخراج ببلاد الشأم أنه يبدأ بإلزام رؤساء البلاد بتغليق «3» أراضيها بالزراعة والكراب «4» ؛ ومصطلحهم فى ذلك أن يقولوا: أحمر وأخضر، يعنون بالأحمر: الكراب، وبالأخضر: الزرع شتويّا «5» أو صيفيّا، ويعنون بالشّتوىّ: القمح والشعير والشّوفان «6» والفول والحمّص والعدس والكرسنّة «7» والجلبّان «8» والبستيلية

وهى التى تسمّى بمصر: البسلّى «1» ، وبالساحل الطرابلسىّ: الحالبة؛ ويعنون بالصيفىّ: الذّرة والدّخن والسّمسم والأرزّ والحبّة السوداء والكسبرة والمقاثئ «2» والوسمة «3» والقرطم «4» والقطن والقنّب «5» ؛ ويكتب عليهم بذلك مشاريح أنهم لا يبوّرون شيئا من الأراضى ومن بوّر شضيئا منها كان عليه القيام بريع «6» الغامر من «7» نسبة العامر؛ فإذا زرعت الأراضى وبدا صلاح الزرع، وأخذ الفول فى العقد خرج الوكلاء على الزراعة إلى النواحى يحفظون الزراعة من التّطرّق إلى شىء منها، ويلازمونها إلى أن تحصد وتنقل إلى البيادر «8» ؛ فعند ذلك يخرج الأمر بحفظ ما يصل إلى البيادر، ويأخذون فى الدّراس؛ فإذا تكامل وطابت البيادر ولم يبق إلا التّذرية أخرج مذرّيا- ووظيفة المذرّى أنه يلزمهم بتخليص الغلال من الأقصال وتنظيفها؛ فإذا فعلوا ذلك وخلصت الغلال من الأتبان والأقصال وصارت بيادر صافية خرج والى العمل ومباشروه إلى تلك الجهة، وتقدّموا «9» بتوزيع بيادرها على ضريبة الناحية وعادتها فى المقاسمة، مناصفة- وذلك فى أراضى السّقى-، ومثالثة ومرابعة- وهو فى غالب

البلاد-، ومخامسة ومسادسة- وذلك فى المزارع والنواحى الخالية من السكّان التى يزرعها المستكرون «1» -، ومسابعة ومثامنة- وذلك فى النواحى المجاورة لسواحل البحر والمتاخمة لأطراف بلاد العدوّ؛ فإذا فرغ توزيعها أخذ المباشرون ما يخصّ الديوان من التوازيع، ثم يحزر «2» ما لعلّه تأخّر من الغلال فى عرصات البيادر والأقصال وأعقاب التّبّانات والعفائر، ويؤخذ منه ما يخصّ الديوان من «3» نسبة المقاسمة، ويكمّل على الفلّاح على حكم ضريبة ذلك العمل؛ وفى بعض النواحى يكون من المواسطة «4» ، فتفرد لها توزيعه بمفردها، ثم يؤخذ من حاصل الفلّاح بعد الرسوم عشر ما بقى له؛ وهذا غير مطّرد فى جميع البلاد، فإنّ فى جهات الأوقاف والبرّ وما يناسبها لا يؤخذ العشر إلا من النصاب الشرعىّ؛ وفى نواحى الخواصّ والإقطاعات يؤخذ ممّا بقى للفلّاح من كلّ عشرة أجزاء جزءا ممّا قلّ أو كثر بحسابه؛ وفى بعض الأقاليم لا يؤخذ العشر من المزارعين الذّمّيّة؛ وأما النواحى الإقطاعيّة والأملاك التى أعشارها ديوانيّة فمنها ما عليه ضريبة مقرّرة تؤخذ فى كلّ سنة زاد المغلّ أو نقص، ومنها ما يندب له من يقف على النواحى ويحزر «5» ما بها من الغلال ويقدّر العشر عنها، ويكون هذا الحزر والزرع قائم أو حصيد قبل دراسه، ثم يستعاد بعد ذلك من الفلّاحين ما لعلّه

عليهم من التقاوى «1» والقروض، وتكون بمفردها مرصدة لتقاوى، السنة الآتية؛ ثم يعتبر ما يتحصّل من الغلال على اختلاف أصنافها بالكيل المتعامل به فى ذلك الإقليم، وتعمل بذلك مخازيم «2» على العادة مفصّلة بالأسماء وأصل المقاسمة والرسوم والعشر وما لعلّه استعيد من التقاوى والقروض؛ وعند تكامل قسم نواحى كلّ عمل ينظم على المخازيم عمل «3» بالمتحصّل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى فى الأوضاع الحسابيّة؛ هذا ما يعتمده فى الغلال. وأما الخرّوب والزيتون والقطن والسّمّاق «4» والفستق والجوز واللّوز والأرزّ فإنّ الوكلاء تستمرّ على حفظ ذلك إلى أن يصير فى بيادره، ويقسم على حكم الضريبة ويحصّل ويورد على المتحصّل؛ وفى بعض الأعمال الشاميّة نواح مفصولة «5» ومضمّنة «6» على أربابها بشىء معلوم يؤخذ منهم عند إدراك المغلّ من غير توكيل ولا مقاسمة، وهى نظير المتأجرات «7»

بالديار المصريّة؛ ولفظ الفصل «1» بالشأم كلّه كلمة فرنجيّة، واستمرّ استعمالها فى البلاد الساحليّة التى ارتجعت من أيدى الفرنج جريا على عادتهم. وأما خراج العين فهو مقرّر على البساتين والشجريّات والكروم والمقاثئ ويستخرج على حكم الضريبة عند إدراك كلّ صنف. ومن أبواب «2» الخراجىّ الخدم التى تقدّم «3» ذكرها، ومقرّر القصب والبريد «4» والبسط، وعشر العرق «5» ، وغير ذلك مما يطول شرحه، الّا أن جميع ما يستخرج من الأراضى منسوب الى الخراج. ومن أبواب الخراجىّ الأحكار على ما فيها من الاختلاف؛ ومهما استخرجه المباشر وحصّله من ذلك يعتمد فى إيراده نحو ما شرحناه فى الهلالىّ: من إيراده فى تعليق المياومة، وشطبه على الجريدة المبسوطة على أبوابه؛ هذا حكم الهلالىّ والجوالى والخراجىّ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما ما يشترك فيه الهلالى والخراجى ويختلف باختلاف أحواله فجهات،

وأما ما يشترك فيه الهلالىّ والخراجىّ ويختلف باختلاف أحواله فجهات، وهى المراعى والمصايد والأحكار؛ أما المراعى «1» - فالذى يرد منها فى أبواب الهلالىّ ما استقرّ حكمه بجهة، وتقرّر فى كل سنة، وصار ضريبة مقرّرة؛ فمن المباشرين من يقبضه على شهور السنة، ويستخرجه أقساطا، ويورده فى جملة أبواب الهلالىّ؛ والذى يرد منه فى أبواب الخراجىّ هو ما يستخرج من أرباب المواشى فى كلّ سنة عند هبوط نيل مصر ونبات الكلإ، فى مقابلة ما رعته مواشيهم من نبات الأرض، وهو يزيد وينقص بحسب كثرة المواشى وقلّتها؛ وعادتهم فيه أن يندب لمباشرة ذلك مشدّ «2» وشهود وكاتب، ويعدّوا الأغنام وغيرها، ويستخرجوا من أربابها عن كلّ رأس شيئا معلوما بحسب ضريبة تلك الجهة وعادتها؛ وهو على هذا الوجه لا ينبغى إيراده إلا فى أبواب الخراجىّ؛ ومن الكتاب من «3» يورده فى أبواب الهلالىّ، وهو غلط. وأما المصايد «4» - فمنها أيضا ما يورد فى أبواب الهلالىّ كالنواحى التى تصاد

بها الأسماك على الدوام، مثل ثغر دمياط والبرلّس «1» وجنادل «2» ثغر أسوان وأشباه ذلك بالديار المصريّة، وبالشأم مثل نهر العاصى «3» وبحيرة طبريّة، وغيرهما من الأنهار والبرك؛ ومنها ما يرد فى أبواب الخراجىّ، وهو ما يصاد من الأسماك عند هبوط نيل مصر ورجوع الماء من المزارع الى بحر النيل؛ والعادة فى ذلك اذا انتهت زيادة النيل وشرع الماء فى مبادئ النقص سكروا «4» أفواه التّرع، وسدّوا أبواب القناطر التى عليها حتى يرجع الماء (ويتكاثف «5» مما يلى المزارع) ثم ينصبون الشّباك، ويصرفون المياه، فيأتى السمك وقد اندفع مع الماء الجارى، فيجد الشباك تحول بينه وبين الانحدار مع الماء، فيجتمع فيها، ثم يخرج منها الى البرّ، فيوضع على نخاخ «6» ويملّح ويودع فى الأمطار، وأكثر ما يكون ذلك فى طول الإصبع ونحوه «7» ؛ وله أسماء: منها البلطىّ «8»

وأما الأحكار

والرّاى «1» والبنّىّ «2» وغير ذلك، وما يؤكل منه طريّا بعد قليه يسمّونه الإبسارية «3» ؛ ومنها ما يكون بقدر الفتر، ويسمّى الشال «4» ، وهو يملّح أيضا «5» ؛ فهذا الذى يتعيّن إيراده فى أقلام الخراجىّ، ومنهم من يورده فى الهلالىّ، ومن الكتاب من يورد المصايد والمراعى قلما مستقلّا بعد الجوالى وقبل الخراجىّ. وأما الأحكار - فقد تقدّم الكلام عليها عند ذكرنا للهلالىّ. وهذه الاختلافات بين الكتّاب هى بحسب آرائهم وعادات النواحى وما استقرّت عليه قواعدها؛ وإنما أوردنا ذلك على سبيل التنبيه عليه، وذكر مصطلح الكتّاب فيه. وأما أقصاب السكّر ومعاصرها - فهى «6» تختلف بحسب الأماكن والبقاع والنواحى والديار المصريّة والشأم، وتختلف أيضا فى الديار المصريّة بحسب الأعمال والنواحى والأراضى؛ وقاعدتها الكليّة التى لا تكاد تختلف فى الديار المصريّة أن تختار لها الأراضى الجيّدة الدّمثة «7» التى شملها الرّىّ وعلاها النيل، ويقلع ما بها من الحلفاء وتنظّف؛ ثم تبرش بالمقلقلات- وهى محاريث كبار- ستة وجوه، وتجرّف

حتى تمهّد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرّف- ومعنى البرش الحرث «1» -؛ فإذا صلحت وطابت ونعمت وصارت ترابا ناعما وتساوت بالتجريف تشقّ عند ذلك بالمقلقلات، ويرمى القصب فيها قطعتين: [قطعة «2» ] مثنّاة «3» ، وقطعة مفردة؛ وذلك بعد أن تجعل أحواضا وتفرز لها جداول يصل الماء منها الى تلك الأحواض، ويكون طول كلّ؟؟؟ منها ثلاثة أنابيب كوامل وبعض أنبوبة من أعلى القطعة وبعض أخرى من أسفلها؛ و؟؟؟ برسم النّصب من الأقصاب ما قصرت أنابيبها، وكثرت عيونها؛ فإذا تكامل النّصب أعيد التراب عليه؛ وصورة النصب أن تكون القطعة ملقاة لا قائمة؛ ثم يسقى من حال نصبه فى أوّل فصل الربيع فى كلّ أسبوع مرّة؛ فإذا نبت القصب وصار أوراقا ظاهرة على وجه الأرض نبتت معه الحلفاء والبقلة «4» الحمقاء، فعند ذلك تعزق أرضه- ومعنى العزق أن تنكش الأرض وينظّف ما نبت مع القصب- ويتعاهد «5» بذلك «6» مرّة بعد أخرى إلى أن يغزر القصب ويقوى ويتكاثف، فلا يتمكّن العزّاق من الأرض، فيقال فيه عند ذلك: طرد القصب عزّاقه، وذلك عند بروز الأنبوب منه؛ ومجموع ما يسقى بالقادوس ثمانية وعشرون ماء.

والعادة أن الذى ينصب من الأقصاب على كلّ محال «1» بحرانىّ «2» - أى «3» مجاور للبحر- إذا كان مزاح «4» العلّة «5» بالأبقار «6» الجياد مع قرب أرشية الآبار ثمانية أفدنة؛ ويحتاج إلى ثمانية أرؤس بقرا؛ فإذا» كانت الآبار بعيدة عن مجرى النيل لا يقوم المحال بأكثر من ستة أفدنة الى أربعة أفدنة؛ فإذا طلع النيل وارتفع سقى القصب عند ذلك ماء الراحة؛ وصفة ذلك أنه يقطع عليه من جانب جسر يكون قد أدير عليه ليقيه من الغرق عند ارتفاع الماء بالزيادة، فيدخل الماء من تلك الثّلمة التى فرضت من الجسر، ويعلو على وجه أرضه نحوا من شبر، فتسدّ «8» عند ذلك، ويمنع الماء من الوصول اليه، ويترك ذلك الماء عليه مقدار ساعتين أو ثلاث الى أن يسخن، ثم يصرف عنه من جانب آخر إلى أن ينضب، ثم يجدّد عيه الماء مرّة أخرى؛ يتعاهد بذلك مرارا فى أيّام متفرّقة بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى أيّام متفرّقه بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك؛ هذا هو القصب الذى يوفّى حقّه فى حرثه ونصبه «9» وسقيه وعزقه وغير ذلك؛ فما نقص من ذلك كان المباشر قد أخلّ به إلا النصب على الرّىّ وسقى ماء الراحة فإنه أمر ربّانىّ لا قدرة للمباشر على استجلابه.

ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصل

ولا غنية للقصب عن القطران قبل أن يحلو، فإنه يمنع السوس من الوصول إليه؛ وصفة ذلك أنهم يجعلون القطران فى قادوس مبخوش «1» من أسفله، ويسدّ ذلك البخش «2» بشىء من الحلفاء، ويعلّق القادوس على جدول الماء، ويمزج القطران بالماء فيقطر من خلال ذلك البخش المسدود، ويمتزج قطره بالماء الذى يصل الى القصب، ويحصل به المقصود. وإن خشى المباشر على القصب من فساد الفأر أدار حوله حيطانا رقيقة مقلوبة الرأس إلى خارج أرض القصب تسمّى حيطان الفأر، وتصنع من الطين المخلوط بالتبن فتمنع الفأر من الوصول إلى القصب، فإنه إذا تسلّق فى «3» الحائط وانتهى إلى آخرها منعته تلك الحافة المقلوبة وأصابت رأسه فيسقط إلى الأرض. هذا ما يلزم المباشر الاحتفال به واعتماده فى أمر القصب. فإذا كان فى أوّل كيهك من شهور القبط كسرت الأقصاب وقشرت، ونقلت إلى المعاصر؛ وإذا كان فى أوان نصب القصب من السنة الثانية حرقت آثار الأقصاب وسقيت وعزقت كما تقدّم، فتنبت أرضها القصب؛ ويسمّونه بمصر: الحلفة، ويسمّون الأوّل: الرأس؛ وقنود «4» الخلفة فى الغالب أجود من قنود الرأس. ذكر كيفية الاعتصار والطبخ وتقدير المتحصّل الذى جرت عليه العادة بالديار المصرية أن الأقصاب إذا نقلت من المكسر إلى المعصرة على ظهور الجمال أو الحمير وضعت فى مكان برسمها يسمّى دار القصب،

بها وترات وحطب ورجال مرصدون لإصلاح القصب بالسكاكين الكبار التى «1» مقدار حديدها ثلثا ذراع، فى عرض سدس ذراع فى سمك إبهام، فينظّفون عيدان القصب، ويقطعون من أعلاه ما ليس فيه حلاوة، ويسمّونه اللّكلوك «2» ، وينظّفون اسفل العود ممّا لعلّه به من عروق وطين؛ ويسمّى هذا الإصلاح التطهير؛ ثم ينقل من تلك الوترات الى وترات أخر مؤبّدة بأعلى حائط عريض مرتفع عن الأرض، أحد جانبى الحائط مما يلى دار القصب، والوجه الآخر إلى بيت آخر يسمّى بيت النّوب «3» ؛ وعلى ذلك الحائط رجال جالسون فى مقاعد أعدّت لهم، وبأيديهم السكاكين التى ينظّف بها القصب، والوترات المؤبّدة أمامهم، فيجمع الرجل منهم عدّة عيدان من القصب، ويضعها على الوترة، ويقطّعها قطعا صغارا فتسقط فى بيت النّوب؛ ثم تنقل من بيت النّوب الى الحجر فى أفراد «4» تسمّى العيارات «5» متساوية المقادير؛ فيوضع ذلك القصب المقطّع تحت الحجر؛ ويدوّر الحجر عليه الأبقار الجياد فيعصره؛ وينزل ما يخرج منه من الماء فى أبخاش «6» فى القاعدة التى تحت الحجر إلى مكان ضنك «7»

معدّ له؛ فإذا انتهى ذلك القصب من العصر تحت الحجر نقل إلى مكان آخر، ثم يجعل فى قفاف متّخذة من الحلفاء مشّبكة الأسافل والجوانب، ويلقى تحت دولاب التّخت «1» ، ويدور الدولاب عليه بالأعواد حتى يأخذ حدّه، ويخرج ما بقى فيه من الماء؛ ويجتمع ما تحصّل من ماء القصب من الحجر والتّخت فى مكان واحد؛ ثم ينقل ذلك الماء فيصفّى من منخل موضوع فى قفص معدّ له، وينزل ما يخرج الى مكان متصل يسمّونه البهو «2» ، له عيار معلوم محرّر؛ فإذا امتلأ من ذلك الماء المصفّى نقل إلى المطبخ، وصفّى تصفية ثانية فى قدر كبيرة يسمّونها الخابية يصبّ فيها بعد التصفية جميع ما كان فى البهو، وهو ستون مطرا «3» من ماء القصب ضريبة كلّ مطر نصف «4» قنطار باللّيثىّ على التحرير- والرطل اللّيثىّ مائتا درهم- فيكون ما فى الخابية ثلاثة آلاف رطل وهو ما كان فى البهو؛ ثم يوقد عليها من خارج المعصرة إلى أن يغلى الماء غليانا كثيرا، وينقص نقصا معلوما، فعند ذلك يبطل الوقيد «5» عنها؛ فإذا سكن غليانها نقل ما فيها من الماء المسلوق فى يقاطين كبار، فى كلّ قرعة منها خشبة منجورة طويلة كالساعد نافذة فى جانبى القرعة، ويصبّ فى أكسية من الصوف

تحتها دنان كبار فيصفّى الماء منها تصفية ثالثة، ويستقرّ فى تلك الدّنان؛ ثم ينقل من الدنان فى دسوت «1» إلى القدور، فيطبخ فيها إلى أن يأخذ حدّه من الطبخ؛ ويحتاج كلّ حجر الى خابية وثمانى قدور لطبخ ما يعتصر تحت الحجر والتّخت؛ ثم ينقل بعد طبخه فى دسوت من النّحاس، لكلّ دست منها قبضتان من الخشب مسمورتان فى أعلاه يقبض الرجل عليهما ليقياه حرارة الدّست؛ ويصبّ ذلك المطبوخ- ويسمّى إذ ذاك المحلب- فى أباليج من الفخّار ضيّقة «2» الأسافل، متسعة الأعالى، مبخوش فى أسفل كلّ أبلوجة منها ثلاثة أبخاش «3» مسدودة بقشّ القصب، وهذه الأباليج موضوعة فى مكان يسمّى بيت الصبّ، فيه مصاطب مبنيّة مستطيلة تشبه المذاود «4» ، ويجعل تحت كلّ أبلوجة من تلك الأباليج قادوس يقطر فيه ما يتخلّص من رقيق ذلك المحلب «5» - وهو العسل القطر- ثم يخدمها الرجال بالكرانيب «6» مرّة بعد أخرى حتى تمتلئ تلك الأباليج، وهى تختلف، فمنها ما يسع أكثر من قنطار، وأقلّ منه؛ فإذا امتلأت وتكاملت خدمتها وأخذت فى الجفاف نقلت من بيت الصبّ الى بيت الدفن «7» ؛ فتعلّق فيه على قواديس يقطر فيها ما بقى من أعسالها.

وأما أقصاب الشأم

وأما أوساخ الأقصاب التى تنظّف منها فى دار القصب فإنها تعتصر على انفرادها، وتطبخ بمفردها، وتسمّى الخابية، وهى أردأ من عسل القصب. ولما يتحصّل من الاعتصار أسماء وعبر «1» : منها الضريبة، ومنها الوضعة «2» ، ومنها اليد؛ فالضريبة عبارة عن ثمانى أياد؛ واليد ملء خابية؛ والخابية ثلاثة آلاف رطل من عصير القصب بالرطل اللّيثىّ كما تقدّم؛ فتكون الضربية أربعة وعشرين ألف رطل من الماء، يجمد منها مع جودة القصب وصلاحه من القند خمسة وعشرون قنطارا إلى خمسة عشر قنطارا، ومن الأعسال اثنا عشر قنطارا إلى ثمانية قناطير؛ ونهاية ما يتحصّل من الفدان القصب ثلاث ضرائب: منها قند وقطر ضريبتان ونصف وعسل خابية نصف ضريبة مقدارها أربعة وعشرون قنطارا بالمصرىّ؛ ومن الأقصاب ما يفسد فلا يجمد طبيخ مائه ولا يصير قندا، فيطبخ عسلا، ويسمّونه المرسل؛ وهذا الذى ذكرناه من الوضع «3» والمتحصّل والتسمية اصطلاح بلاد قوص من الصعيد الأعلى بالديار المصريّة، وهو وإن اختلف فى غيرها من البلاد فلا يبعد من هذا الترتيب. وأما أقصاب الشأم - فهى تختلف أوضاعها بحسب البقاع والنواحى والأعمال، فمنها ما هو بالسواحل الطّرابلسيّة والبيروتيّة والعكّاويّة؛ ولهم اصطلاح فى نصب الأقصاب واعتصارها: فمنها ما يعتصر بحجارة الماء، ومنها ما يعتصر بالأبقار، ومنها ما يعتصر بالسّهام «4» ؛ وليس ذكرها وبسط القول فيها من المهمّات التى

تقتضى الانصباب «1» اليها؛ والذى قدّمنا ذكره أيضا من أمر أقصاب مصر هو على الحقيقة فلاحة ودولبة «2» ، وليس هو كتابة، وهو للمباشر زيادة على صناعته، على أنه لا يستغنى عن معرفته والاطلاع عليه. وعمدة المباشر فى الاعتصار ضبط ما يتحصّل، وحراسته من السارق والخائن والمفرّط؛ ويلزم مباشر الاعتصار أن ينظم فى كلّ يوم وليلة مخزومة» بما اعتصر وبما تحصّل؛ فإذا انتهى الاعتصار نظم عملا «4» شاملا لجميعه على ما نشرحه فى الأوضاع الحسابيّة. والقند إذا جفّ وأخذ حدّه من البياض نقل إلى مطابخ السكّر، فيحلّ بالماء وشىء من اللبن الحليب، ويطبخ فيصير منه السكّر البياض «5» والقطارة؛ ويتحصّل من كلّ «6» قنطار من القند ربعه وسدسه سكّرا، وثلثه وربعه قطارة؛ ومنه ما يكرّر ثانيا فيصير فى غاية البياض والنقاء، وقطارته تقارب قطر النبات؛ ومنه أيضا ما يطبخ نباتا؛ وهذه أمور جمليّة يستدلّ منها على المقاصد، والمباشرة تشمل ما لا يمكن إيراده فى كتاب، وتظهر ما لا يكاد ينحصر بخطاب، فلنذكر الأوضاع الحسابيّة.

ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها

ذكر أوضاع الحساب وما يسلكه المباشر ويعتمده فيها أوّل ما يحتاج اليه كلّ مباشر أن يضع له تعليقا ليوميّته، يذكر فيه تاريخ اليوم والشهر من السنة الهلاليّة، ويذكر فيه جميع ما يتجدّد ويقع فى ذلك اليوم فى ديوانه: من محضر ومستخرج ومجرى ومبتاع «1» ومباع ومبيع ومصروف، وما يتجدّد من زيادات فى الأجر والضمانات، وعطل، وتقرير أجائر، وترتيب أرباب استحقاقات على جهات، وتنزيل «2» من يستخدمه، وصرّف من يصرفه من أرباب الخدم، وغير ذلك بحيث لا يخلّ بشىء مما وقع له فى مباشرته قلّ أو جلّ؛ وهذا التعليق هو أصل المباشرة، فمن ضبط اليوم انضبط ما بعده «3» ؛ وكلّ المباشرين فى وضعه سواء، يضع الشاهد «4» فيه ما يضعه العامل «5» فإذا كان فى آخر النهار قوبل على مجموعه بين المباشرين، ويساق ما يحتاج إلى سياقته من العين والغلّة والأصناف.

ثم يكتب العامل مخزومة يورد فيها المستخرج والمحضر والمجرى والمصروف،

ثم يكتب العامل مخزومة يورد فيها المستخرج والمحضر والمجرى والمصروف «1» ، ويرفعها على عدّة نسخ بحسب المسترفعين؛ وإن شاحّه «2» المسترفع لزمه أن يوردها فيما أورده فى مياومته من سائر المتجدّدات والأحوال، فيصير بها المسترفع الغائب كالمباشر الحاضر، وتشمل المخزومة خطّ من هو مباشر: من ناظر مباشرة فمن دونه؛ وقد قدّمنا ذكر بسط الجرائد على الأموال والغلال، وكيفيّة خدمتها فى الأصول؛ ونظير ذلك أن يبسط أسماء أرباب الاستحقاقات وأرباب المصاريف تلو أصول الأموال ومضافاتها، ويضع لكلّ اسم ما يستحقّه مشاهرة ومسانهة عينا وغلّة، أو ثمن صنف أو غير ذلك؛ ثم يشطب قبالة كلّ اسم ما قبضه مفصّلا بتواريخه من جهة قبضه، لتسهل عليه بذلك محاسبة كلّ نفر «3» عند الاحتياج الى محاسبته كما شرحناه فى الأصول؛ ولا بدّ لكلّ مباشر من جريدة على هذه الصفة تشتمل على الأصل والخصم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم

ذكر ما ينتج عن التعليق من الحسبانات بعد المخازيم «1» وهى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات التى «2» تلك كلّها شواهد الارتفاع: فأما الختم - فتختصّ بجهات العين من سائر الأموال؛ وكيفيّتها أنه إذا مضت على المباشر مدّة لا تتجاوز أحد عشر شهرا فما دون الشهر إلى عشرة أيام- وما دون «3» الشهر لا يقع إلا عند انفصال كاتب فى أثناء الشهر أو اقتراح مقترح- نظم «4» حسابا سمّاه الكتّاب فى مصالحهم: الختمة، يشرح فى صدرها ما مثاله بعد البسملة: ختمة بمبلغ المستخرج والمجرى من أموال الجهات، أو المعاملة الفلانيّة لاستقبال كذا، والى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين فيقول: بولاية فلان، ونظر فلان، ومشارفة فلان، وكتابة فلان؛ ويعقد فى صدرها جملة على ما استخرجه فى تلك المدّة وأجراه من أصول الأموال، يفصّل ذلك بسنيه، ويشرحه بجهاته وأسماء أربابه وتواريخ محضره ومجراه، إلى نهاية ذلك؛ ثم يقول: وأضيف إلى ذلك ما وجبت إضافته؛ يبدأ بالحاصل المساق إلى آخر المدّة التى قبلها، ثم يذكر ما لعلّه استخرجه من الجهات التى ترد فى باب المضاف، وما ورد من أثمان المبيعات والمصالحات والخدم، وما لعلّه اقترضه، وما لعلّه حصّل من المواريث «5» الحشريّة والمجتذبات والتأديبات، وما لعله اعتدّ به لمعاملة أخرى ونقل عليه «6» ، إلى غير ذلك من أبواب

وأما التوالى

المضاف على اختلافها. مما يطول شرحه لو استقصى؛ ثم يفذلك «1» على الأصل والإضافة؛ وإن صرف نقدا بنقد ذكره بعد الفذلكة، واستقرّ بالجملة بعده وإلّا فالفذلكة بمفردها؛ ثم يخصم تلك الجملة بما لعلّه حمله أو نقله على «2» معاملة أخرى أو صرفه، ويذكر الحمل بتواريخه ورسائله، واسم من حمل على يده، والمنقول كذلك والمصروف بأسماء أربابه وتواريخه، ثم يسوق إلى التحصيل «3» إن انطرد «4» له حاصل وإلّا فيقول فى آخرها: ولم يبق حاصل فنذكره. وقد اقترح فى بعض الممالك الشاميّة فى بعض السنين على المباشرين أن يضمّنوا ختمهم ما يوردونه فى الأصل من جهات الأصول- كلّ جهة من المستخرج والمجرى- الأصل مختوما والخصم مفصّلا بجهاته؛ مثال ذلك أن يقول فى الأصل: الجهة الفلانيّة فى التاريخ الفلانىّ كذا [و] كذا درهما؛ ويذكر تحت ذلك التاريخ خصم تلك الجملة؛ وفى الخصم إذا ذكر اسم ربّ استحقاق وما وصل اليه فى كل تاريخ يقول: التاريخ الفلانىّ؛ ويعيّن جهاته؛ ويشطب المسترفع الأصل على الخصم؛ وفى هذا تضييق كثير على المباشر، ولم يستقرّ ذلك، وعادت الأوضاع على ما بيّنّاه؛ هذا مصطلحهم فى الختم؛ والله أعلم. وأما التوالى - فهى إذا أطلقت أريد بها توالى الغلال؛ وكيفيتها أنه إذا مضت مدّة على ما قدّمناه فى شرح الختم نظم كاتب الجهة حسابا للغلّة اسمه التالى

ولهم أيضا توال يسمونها توالى الارتفاع

يشرح فى صدره بعد البسملة: قال بما انساق حاصلا من الغلال بالجهة الفلانيّة إلى آخر المدّة الفلانيّة، مضافا مخصوما إلى آخر كذا؛ ويذكر أسماء المباشرين على ما تقدّم، ثم يوصل فى صدره ما انساق إلى آخر المدّة التى قبلها من الغلال على اختلافها، ويفسّر «1» الغلال بسنيها، ويضيف اليه ما لعلّه انضاف «2» من متحصّل ومبتاع وقرض وغير ذلك؛ ثم يفذلك عليه، ويذكر بعد الفذلكة ما لعلّه وقع من تبديل صنف بصنف لوجود ذلك الصنف وعدم غيره، إما فيما قبضه أو فيما صرفه، وما لعلّه أبيع «3» وثمّن، وما لعلّه ينقل من كيل إلى كيل؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك على ثمن ما أبيع وما استقرّ من الغلال بعد التبديل والتنقيل، ويستخرج ثمن البيع بمقتضى ختمة تلك المدّة، وهى شاهده؛ ويخصم بالمحمول والمنقول والمصروف على اختلافه؛ ويفصّل ذلك بتواريخه على ما شرحناه فى الختمة، ويسوق الحاصل من الغلّة إن كان؛ هذا مصطلحهم فى توالى الغلال. ولهم أيضا توال يسمّونها توالى الارتفاع - تشتمل على العين والغلّة والأصناف، ولا تعمل إلّا عند اقتراحها؛ وصورتها أن يوصل فى صدر تالى الارتفاع ما انساق آخر الارتفاع الذى قبله من الحاصل والباقى عينا وغلّة؛ ويفصّله بسنيه؛ ثم يضيف اليه ما استحقّ فى تلك السنة أصلا ومضافا، ويخصم بالخصم السائغ المقبول، ويطرده بعد ذلك إلى حاصل وباق.

ولهم أيضا توالى الاعتصار

ولهم أيضا توالى الاعتصار - وصورتها أن يوصل ما انساق حاصلا آخر [المدّة «1» ] على الاعتصار أو تاليه «2» ، ويضيف ما لعلّه تحصّل من قطر وغيره، ويفذلك عليه، ويكرّر منه ويبيع، ويستقرّ بالجملة، ويخصم، ويسوق إلى الحاصل. وأما الأعمال - وهى تختلف-: فمنها أعمال متحصّل الغلال والتقاوى، وأعمال الاعتصار، وأعمال المبيع، وأعمال المبتاع، وأعمال الجوالى، وأعمال الخدم والتأديبات والجنايات «3» . فأما أعمال الغلال والتقاوى - فكيفيّتها أن يشرح فى صدر العمل بعد البسملة ما مثاله: عمل بما تحصّل من الغلال بالناحية الفلانيّة لمغلّ سنة كذا وكذا الخراجيّة، المدرك فى شهور سنة كذا وكذا الهلاليّة، مضافا إلى ذلك ما «4» وجبت إضافته، ويوصل فى صدره ما تحصّل من الغلال على اختلافها وأكيالها مفصّلا بأسماء الفلّاحين؛ ويضيف إليه ما لعلّه استعاده من التّقاوى والفروض أو حصّله من رسوم أو غير ذلك؛ ويفذلك عليه؛ فمن الكتّاب من يسوقه بجملته حاصلا، ويخصم بمقتضى التالى؛ ومنهم من يخصم بما حمله وصرفه فى مدّة تحصيله للمغلّ، ويسوق ما بقى إلى الحاصل، ويستغنى بذلك عن تال لتلك المدّة. وأما عمل الاعتصار - فصورته أن يترجم فى صدره بعد البسملة بما مثاله: عمل بما تحصّل من اعتصار الأقصاب بالجهة الفلانيّة لاعتصار أفصاب سنة

كذا وكذا الخراجيّة؛ ويقول فى يمنة العمل: عن كذا وكذا فدانا أو منظرة «1» إن كان بالأغوار، أو قسما إن كان بالسواحل؛ ويفصّل الفدن بما فيها رأسا «2» وما فيها خلفة إن كان بمصر، ومقنطرا «3» أو قائما «4» إن كان بالشأم، ويبرز عن يسرته بكميّة ما تحصّل فيقول: من أصناف الحلو كذا وكذا قنطارا، ويفصّل ذلك بالقند والأعسال على اختلافها: من المرسل وانقطر والحر والأسطروس «5» والمردودة؛ والمرسل هو من القصب الذى لا يجمد ولا يصير قندا. والقطر هو ما يتحصّل من قطر أباليج القند. والحرّ هو ما يتحصّل من أطراف الأقصاب، وهذه الأطراف يسمّونها بالشأم: العيكون «6» ، ولا يعتصرونها ألبتّة، بل ترصد للنّصب «7» ، فإنّهم يستغنون

وأما عمل المبيع

بها عن العيدان «1» ، ومنهم من يسمّى الحرّ المردودة. وأما الأسطروش «2» : فهو ما يعمل من جرادة وجوه الأباليج حال الطبخ، وما يتأخّر على البوارىّ «3» عند خلعه بالشأم. وأما الخابية «4» فهى ما يتحصّل من الأوساخ والرّيم «5» . والمرسل والحرّ والخابية لا تعرف بالشأم ألبتّة، وإنما يعرفون القطر والأسطروش «6» ؛ ثم يذكر بعد ذلك تفصيل المتحصّل بجهاته إن كان بمصر- يفصّل كلّ ساقية وفدنها وما يحصّل منها من الضرائب- وتفصيل الأقصاب الرأس والخلفة، ويذكر اسم الطبّاخ؛ ثم يبيع من عرض ذلك ويثمّن، ويستقرّ بالجملة، ويحمل ويصرف ويسوق إلى الحاصل. وأما عمل المبيع - فصورته أن يقول فى صدره بعد البسملة: [عمل «7» ] بما بيع من الغلال والأصناف بالجهة الفلانيّة لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على الثمن جملة، ثم يفصّلها بأصنافها، يذكر عن يمنة القائمة الصنف، وفى الوسط السعر إن كان سعرا واحدا، وإلّا فيقول مكانه: بأسعار تذكر، وفى اليسرة الثمن، ثم يفصّله بأسماء مبتاعيه؛ فإذا كمّل ذلك أضاف ما انساق له آخر العمل الذى قبله

وأما عمل المبتاع

من أثمان المبيعات؛ ويفصّل ذلك بأسماء من تأخّر عليه منها شىء إن كان؛ ثم يفذلك على الجملة، ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى الباقى دون الحاصل. وأما عمل المبتاع - فيقول فى صدره: عمل بالمبتاع بالجهة الفلانيّة من الأصناف التى نذكر لمدّة كذا وكذا؛ ويعقد على ثمن المبتاع جملة يجعلها عن يمنة نصف القائمة، ويبرز بالأصناف المبتاعة إن أمكن، وإلّا فيقول: ما يذكر؛ ويشرح ما ابتاعه صنفا صنفا بتواريخه، وأسماء من ابتاع منهم، وأسعاره، ويضيف إلى جملة الثمن ما لعلّه تأخّر عليه من ثمن ما ابتاعه فى العمل الذى قبله، ويفصّله بأسماء أربابه؛ ويفذلك على ذلك، ويخصم بما صرفه من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويسوق إلى متأخّر أو فائض «1» إن كان قد سلف عليه [شىء «2» ] . وأما عمل الجوالى - فيقول فى صدره ما مثاله بعد البسملة: عمل بما وجب من مال الجوالى بالمعاملة «3» الفلانيّة لسنة كذا وكذا الهلاليّة مخصوما مساقا إلى آخر المدّة؛ ويوصل ما كان قد استقرّ من الأنفار «4» على ما تقدّم «5» ؛ ويضيف النوابت والطوارئ «6» بأسمائها ومللها، وما لعلّه انساق باقيا إن كان، وقلّما يكون، ويفذلك

وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات

على ذلك؛ ثم يذكر بعد الفذلكة من اهتدى بالإسلام، أو هلك بالموت، أو تسحّب «1» إلى عمل آخر على ما قدّمناه «2» من الاختلاف فى ايراد ذلك فى هذا الموضع، والاستثناء به فى الصدر بالتعدية «3» أو إيراده فى باب المحسوب؛ وكلّ ذلك سائغ فى الوضع؛ ثم يستقرّ بالجملة بعد ذلك، ويستخرج بمقتضى الختم، ويسوق ما لعلّه انساق إلى الباقى؛ وإن عاد اليه متسحّب «4» أو نازح وبيده وصول «5» من مباشر عمل آخر اعتدّ له به، وأورده فى باب المحسوب، وفذلكه على الجملة. وأما عمل الخدم والجنايات والتأديبات - فصورته أن يوصل فى صدر العمل بعد الترجمة عليه ما تعيّن من أموال الخدم أو ما تقرّر من الجنايات والتأديبات، يذكر فيه الأسماء والجرائم؛ ويضيف إلى ذلك ما لعلّه انساق قبل تقرير هذا المال آخر العمل الذى قبله؛ ويفذلك عليه؛ ويستخرج من عرضه بمقتضى ختم المدّة، ويعتدّ بما لعلّه رسم بالمسامحة به مما كان قرّر، ويسوق ما ينطرد بعد ذلك إلى الباقى؛ فهذه هى الأعمال. وأما السياقات - فهى مختلفة: فمنها «6» سياقة الأسرى والمعتقلين، وسياقة الكراع «7» ، وسياقة العلوفات، وسياقات الأصناف والعدد.

فأما سياقة الأسرى والمعتقلين

فأما سياقة الأسرى والمعتقلين - فصورتها أن يوصل فى صدرها عدّة من انساق عنده الى آخر المدّة التى قبلها، ويفصّلها بالمعتقلين وأسمائهم وجرائمهم، والأسرى ومللهم وأجناسهم؛ ويضيف اليها ما لعلّه تجدّد عنده من معتقل أو أسير، ويفذلك عليها، ثم يذكر من أفرج عنه: إما بمقتضى المراسيم «فيذكر تواريخها وأسماء من حضرت على يده، ومن تسلّم المعتقل» وإما بالهداية الى دين الإسلام من الأسرى «فيذكر اسم المهتدى وجنسه، ومن أىّ الملل كان، وتاريخ إسلامه والإفراج عنه، أو من فودى به، أو من تسحّب «1» ، أو من هلك بالموت بعد اعتبار ما يجب اعتباره فى الهالك؛ ويستقرّ بالجملة بعد ذلك؛ واستقرار الجملة هو الحاصل. وأما سياقة الكراع «2» - فهى سياقة تشتمل على الخيل والجمال والدوابّ والأبقار والأغنام؛ وصورتها أن يوصل الكاتب ما انساق عنده حاصلا آخر السياقة التى قبلها؛ ويضيف «3» [الى] ذلك ما لعلّه ابتاعه بتواريخه وأسماء من ابتيع منهم، وما لعلّه نتج، وما لعلّه اجتذب؛ ويفذلك على ذلك؛ ثم يذكر بعد ذلك ما باعه من عرض الجملة وما نفق «4» وتنبّل «5» وذكّى «6» ؛ ويستقرّ بالجملة على ما استقرّ من حيوان وجلود وثمن، ويصرف وينقل ما لعلّه صرفه أو نقله، ويسوق الى الحاصل.

وأما سياقة العلوفات

ويحتاج المباشر لذلك الى ملاحظة أحوال الأغنام، ومعرفة أوقات نتاجها وما يكون منها توأما، واستقبال النّتاج لينضبط له نتاج النّتاج. وأما سياقة العلوفات -[فصورتها «1» ] أن يوصل فى صدرها ما صرفه على الكراع فى المدّة التى نظم لها السّياقة، ثم يفصّل ذلك كلّ صنف من الكراع وعدده فى الزيادة والنقص، وما صرفه على ذلك النوع فى كلّ مدّة، فى اليوم كذا فى المدّة كذا، والزيادة والنقص على حسب الاتفاق، ويراعى فى ذلك ما تضمّنته سياقة الكراع؛ وإن صرف علوفة لطارئ لا يستقرّ عنده ميّزه فى التفصيل من المستقرّ فيقول: المستقرّ كذا والطارئ كذا إضافة إلى هذه السياقة؛ ولا فذلكة، ويتجنّب أن يصرف علوفة عن أيّام نقص «2» الشهور الهلاليّة، وهى ستة أيام فى السنة فإن ذلك من المخرّج اللازم، وكذلك أيّام الربيع. وأما سياقات الأصناف والزّردخاناه «3» والعدد والآلات والخزائن والبيمارستانات «4» - فإنه لا يمكن استيعابها لمؤلّف كتاب، وقلّما عملت فيما كثر،

وأما الارتفاع

وإنما تعمل فيما قلّ من الأصناف؛ وصفتها إذا أمكن عملها أن يوصل ما عنده من الأصناف مفصّلة، ويضيف إليها ما ابتاعه أو ما وصل اليه، ويفذلك على ذلك ثم يذكر بين الفذلكة واستقرار الجملة ما يرد من الأبواب: من المنتقل «1» والمستهلك وغير ذلك على كثرته؛ وإذا استقصى ما يرد بين الفذلكة واستقرار الجملة زاد على مائة باب لا يعرفها إلا أفاضل الكتّاب ومن له حذق بهذه الصناعة، واختلفت مباشراته وتكررت؛ فاذا ذكر ما وقع عنده استقرّ حينئذ بالجملة على ما قام عليه ميزان عمله؛ ثم يخصم بما يسوغ الخصم به، ويسوق إلى حاصله. فهذه هى الختم والتّوالى والأعمال والسياقات، وهى شواهد الارتفاع. وأما الارتفاع - فهو العمل الجامع الشامل لكلّ عمل؛ وصورة وضعه أن يشرح الكاتب فى صدره بعد البسملة ما مثاله: عمل بما اشتمل عليه ارتفاع المعاملة «2» الفلانيّة لمدّة سنة كاملة، أوّلها المحرّم سنة كذا وكذا، وآخرها سلخ ذى الحجّة منها، ممّا اعتمد فى إيراد ذلك الهلالىّ والجوالى للسنة المذكورة، والخراجىّ والأقصاب لسنة كذا وكذا الخراجيّة، مضافا إلى ذلك ما وجبت إضافته، مفذلكا عليه، وما استقرّت عليه الجملة، مخصوما «3» مساقا إلى حاصل، وما اعتدّ به محسوبا إن كان، وما اشتملت عليه فذلكة الواصل، وما انساق إلى الباقى والموقوف فى المدّة؛ ويذكر أسماء المباشرين كما قدّمناه فى الختمة؛ وإن انفصل أحد من المباشرين

فى أثناء تلك السنة وباشر آخر بعده قال: بمباشرة فلان الى آخر المدّة الفلانيّة وفلان بعده الى آخر المدّة؛ ويقول فى صدره عن يسرة نصف القائمة: ما مبلغه من الذهب كذا، ومن الدراهم كذا، ومن الغلات كذا، ومن الأقصاب كذا، ومن الأصناف كذا، ومن الكراع كذا؛ يفصّل ذلك بسنيه، ثم يأخذ فى تفصيل كلّ مال بجهاته، فيبدأ بمال الهلالىّ، يذكر كلّ جهة، واسم مستأجرها أو ضامنها، واستقبال عقد إجارته أو تقريره، ويوجب عليه فى الشهر وفى السنة، الى أن يستوعب أبواب الهلالىّ، ويشطب فى مسوّدته التى ينظمها لنفسه قبالة كلّ جهة ما استخرجه بمقتضى ختمات المستخرج ليقوم له ميزان كلّ جهة فى الباقى والفائض «1» ؛ ولا يلزمه هذا العمل فى الحساب المرفوع منه؛ فاذا انتهت أبواب الهلالىّ ذكر الجوالى واعتمد فيها كذلك؛ ثم يذكر الخراجىّ، ويفصّله بأقلامه وجهاته مستقصى واضحا جليّا، ويعتمد من الشطب قبالة كلّ جهة ما تقدّم شرحه؛ فاذا تحرّرت له جهات الأصول قال: وأضيف الى ذلك ما وجبت إضافته؛ ويعقد على المضاف جملة، ويذكر أبوابه يبدأ فيها بالحاصل والباقى المساقين «2» آخر العمل الذى قبله، ويعقد عليهما جملة، ثم يقول: الحاصل كذا، والباقى كذا؛ ويفصّل ما أمكن تفصيله من الحاصل بسنيه ويفصّل الباقى بجهاته وأسماء أربابه وسنيه وأسماء مباشريه إن أمكن، ويشطب فى مسوّدته قبالة كلّ اسم ما لعلّه استخرجه من عرض ما هو عليه كما تقدّم؛ ثم يذكر جهات مضاف السنة الحاضرة، يبدأ بما هو مستقرّ من الأموال التى ترد [فى] جهات المضاف، ويشطب قبالة كلّ اسم ما تقدّم بيانه؛ ثم يذكر بعد ذلك ما لعلّه وصل اليه أو اعتدّ به: من الأموال والغلال على اختلافها، وأثمان المبيعات

ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم

والمواريث «1» الحشريّة والمجتذبات والجنايات والتأديبات والقروض والأصناف المبتاعة، يستقصى أبواب المضاف على حسب ما ورد عنده منها فى طول السنة بمقتضى ما ورد فى الشواهد التى ذكرناها بحيث لا يخلّ منها بشىء. ومن أبواب المضاف ما يضاف بالقلم - ولا أصل له، بل يكلّمه الكاتب على نفسه فى حسابه لينطرد نظيره الى الباقى، ويقوم به الميزان، وهو نظير التقاوى «2» والقروض؛ وكتّاب الشأم يفعلون ذلك دون كتّاب الديار المصريّة، وهم على الصواب فى إيراده، لأن الكاتب إذا أورد نظير التقاوى والقروض انطرد له الى الباقى نظير ذلك، وصحّ ميزان العمل، فإنه لا يمكن أن ينطرد الى الباقى إلا بإضافة نظيره، فاذا انطرد الى الباقى وجب إيراده [فى] المضاف فى السنة الثانية وما بعدها الى أن يستخرج ويحصّل؛ وكتّاب مصر يقتصرون فى ذلك على أعمال التقاوى والقروض؛ والتحرير ما يورد كتّاب الشأم فى ذلك. ومن وجوه المضاف الغريبة: المستعاد نظير المعاد، مثال ذلك أن يكون المباشر أحال ربّ استحقاق على ضامن جهة بمبلغ بمقتضى وصول «3» أجراه

واعتدّ به لضامن تلك الجهة، واعتدّ على ربّ الاستحقاق بمبلغه، وقطع الباقى والمتأخّر بعده، وصدر حسابه بذلك، فأعيد «1» عليه وصوله فى أثناء السنة الثانية فمثل هذا تجب إضافته وإضافة نظيره، فيكون خصم إضافته الأولى المعاد على الضامن، وخصم الثانية الباقى المساق، ويكمّل لربّ الاستحقاق نظير ذلك المبلغ فى محاسبته- على ما يأتى بيانه فى المحاسبات؛ فاذا استوعب ما ورد عنده من أبواب المضاف فذلك على ذلك فيقول: فذلك الأصل وما أضيف اليه؛ ويعقد على الفذلكة جملة، ومعناها أن يضمّ ما عقد عليه الجملة فى صدر الارتفاع الى ما عقد عليه جملة المصاريف، فتشتمل الفذلكة على الجملتين، ويفصّل ذلك عينا وغلّة وأصنافا وكراعا على ما تقدّم، ويفصّل ما هو متميّز بسنيه؛ وما لم يتميّز كالحواصل من العين والكراع وغير ذلك يقول فيه: ما لم يتميّز بسنة؛ ويشرحه؛ ثم يذكر الأبواب التى ترد بين الفذلكة واستقرار الجملة على اختلافها بحسب ما وقع عنده منها، يبدأ بالصرف من نقد إلى نقد، والمبدّل من صنف إلى صنف، والمنتقل من سنة إلى سنة، ومن كيل إلى كيل ومن وزن إلى وزن، ومن عدد إلى وزن، ومن وزن إلى عدد، ومن صفة إلى صفة وما وقع من مبيع ومثمّن ونافق «2» ومستهلك، وغير ذلك؛ وقد جمع بعض فضلاء الكتّاب جميع ذلك واختصره فى لفظتين فقال: هو عبارة عن منقول ومعدوم؛ وإذا نظرت إلى حقيقة هاتين اللفظتين وجدت جميع هذه الأبواب وإن كثرت مندرجة فيها «3» ، كما أن جميع الكلام لا يتعدّى أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا؛ فإذا انتهت هذه الأبواب قال: واستقرّت الجملة بعد ذلك على ... ويذكر ما استقرّت عليه الجملة بمقتضى

قيام ميزانه، ويفصّله بسنيه، ثم يقول: استخرج من ذلك وتحصّل ... ويذكر المستخرج بمقتضى الختم، فيشرح ما استقرّت عليه جملة الختمة الأولى، وما اشتملت عليه فذلكتها بعد وضع الحاصل من الجهة «1» الثانية وما بعدها لئلا يتكرّر عليه؛ ويحصّل بمقتضى الأعمال والتّوالى والسّياقات على هذا الحكم؛ ويفصّل المستخرج والمتحصّل بسنيه، ثم يختصم ما استخرجه وحصّله، فيبدأ فى الخصم بالحمل من الأموال، والحمول من الغلال والأصناف، والمساق من الكراع؛ ويتلوه ما لعلّه نقله على «2» معاملة أخرى مفصّلا بأبوابه ومعقود الجملة على كل باب فيها؛ فإذا تكامل له الخصم فى العين والغلّة والمواشى والأصناف ساق ما تأخّر من جملة ما استخرجه وحصّله إلى حاصل، ويفصّله بالعين والغلّة والصنف وغيره، فيكون ما حمله ونقله وصرفه وساقه إلى الحاصل خصم ما استخرجه وحصّله؛ ثم يذكر بعد سياقة الحاصل ما لعلّه ورد عنده «3» من المحسوب على اختلافه: من عطلة، ويذكر أسبابها، وما لعلّه ثبت من الجوائح الأرضيّة «4» والسمائيّة «5» بمقتضى المحاضر «6» الشرعيّة إذا برزت المراسيم بالحمل على حكمها؛ فيذكر كلّ جهة واسم مستأجرها أو ضامنها، وتاريخ محضر الجائحة، وتاريخ المرسوم بحمل الأمر على حكمه، وجملة المبلغ المتروك بسبب ذلك، وما لعلّه سومح به من البواقى المساقة، وغير ذلك ممّا هو داخل فى باب

وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام

المحسوب؛ وسائر المسامحات ترد بعد سياقة الحاصل، وترد فى أماكن نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ فإذا استوعب الكاتب جملة ما عنده من المحسوب فى بابه قال بعد ذلك: فتلك جملة المستخرج والمتحصّل والمحسوب؛ ويعقد عليه جملة يفصّلها بسنيها وأقلامها؛ ويسمّون هذه الفذلكة فذلكة الواصل؛ وما بقى بعد ذلك مما استقرّت عليه الجملة بعد هذه الفذلكة تعيّنت سياقته إلى الباقى والموقوف، فيطرده باقيا وموقوفا، أو باقيا بغير موقوف، معقود الجملة، مفصّلا بالسنين والجهات والأسماء والمباشرات، ويميّز ما يرجى استخلاصه وتحصيله منه وما لا يرجى؛ وما انعقد عليه الباقى والموقوف واشتملت عليه فذلكة الواصل هو خصم ما استقرّت عليه جملة الارتفاع. وأما الحواصل المعدومة المساقة بالأقلام - ولا حقيقة لوجودها، وإنما يوردها الكتّاب حفظا لذكرها، كالحواصل المسروقة والمنهوبة- فإنه إذا رسم بالمسامحة بها فقد اختلفت آراء الكتّاب فى إيرادها على وجوه كثيرة: منها ما يسوغ، ومنها ما لا يجوز فعله، ونحن نذكر أقوالهم وطرقهم فى ذلك، ونوضح ما يجوز منها وما لا يجوز، ونذكر ما ينبغى أن يسلك فيها: فمن الكتّاب من يرى أن ينقل هذا الحاصل بين الفذلكة واستقرار الجملة من الحاصل الى الباقى، ولا يورده فى باب المستخرج، ويطرده إلى الباقى، ويورده فى باب المسموح بعد سياقته الحاصل؛ وهذا لا يجوز، وفى إيراده على هذا الوجه غلط وسوء صناعة، لأن الحاصل لا يجوز نقله إلى الباقى، والباقى أيضا، فلا بدّ أن يكون باسم إنسان أو أناس، فإن ساقه باقيا باسم مباشره فقد أتى بغير الواقع، وعرّض المباشر الى الغرامة، ولا يفيده، إذ «1» مرسوم المسامحة يتضمّن المسامحة بحاصل معدوم، وقد انتقل هذا من تسمية الحاصل إلى الباقى.

ومن الكتّاب من يرى استثناءه من جملة المستخرج، ثم يورده أيضا [فى] باب «1» المسموح؛ وفى هذا أيضا ما فيه من نقله من الحاصل إلى غيره تسمية، فإنه لا عبرة عند ذلك بتسميته ولا بنسبته إلى الباقى والموقوف؛ وإن نقل فلا يجوز، لأن الحواصل لا يجوز نقلها إلى تسمية أخرى ألبتّة؛ فهذه الوجوه لا تجوز فى صناعة الكتابة. وأما الذى يجوز فى هذا فوجوه «2» : منها أن يكمّله الكاتب فى باب المستخرج من ذلك، ويخصم إلى نهاية المصروف، ويقول قبل سياقة الحاصل: ما نقل رسم بالمسامحة به عن الحاصل المعدوم المساق بالقلم حفظا لذكره، بمقتضى مرسوم «3» تاريخه كذا؛ ويشرح مقاصد المرسوم، وسبب عدم الحاصل، وجملته؛ ويكتفى بذلك عن إيراده فى باب المسموح؛ ويعقد جملة الخصم على الحمل والمصروف «4» والمسموح به. ومنها أنه إذا ساق الحاصل بعد الحمل والمصروف يقول: من جملة كذا بعد مأمنه ما سومح به عن الحاصل المعدوم والمساق بالقلم؛ ويشرح ما تقدّم، ويبرز بالحاصل بعد ذلك. ومنها أن يستثنيه عند «5» ذكر المضاف، فيقول عند إضافة الحاصل ما صورته! الحاصل المساق إلى آخر السنة الحاليّة من جملة كذا بعد مأمنه ما عدم فى تاريخ كذا

وورد فى سياقات الحاصل حفظا لذكره، ورسم بالمسامحة به بمقتضى مرسوم شريف تاريخه كذا؛ ويعيّن جملة المسموح به، وهى جملة المعدوم، ويبرز بما بقى، ويستثنيه أيضا من المستخرج عند ما يستشهد بالختم والتّوالى والأعمال. فهذه صورة نظم الارتفاع وشواهده التى قدّمناها قبله؛ والارتفاع هو جلّ العمل، وقاعدة الكتابة، والجامع لسائر ما يرد فى المعاملة. وإن انفصل الكاتب أثناء السنة لزمه أن ينظم لما مضى من السنة فى مباشرته حسابا يسمّونه بالشأم الملخّص، وبمصر التالى، وهو نظير الارتفاع فى نظمه، إلا أنه يكون لما دون السنة، والملخّص عند المصريّين هو الارتفاع، ويلزم الكاتب المباشر بعده عمل ملخّص أو تال يتلوه لما بقى من المدّة، ثم يعمل جامعة على الملخّصين أو «1» التاليين، وهما شاهداها «2» ؛ ويستغنى الكاتب فى إيراد المستخرج والمتحصّل والمصروف عن الاستشهاد بالختم والتّوالى والأعمال، ويستشهد بهذين الملخّصين فيقول: ما تضمّنه ملخّص مدة كذا وكذا [كذا «3» ] وما تضمّنه ملخّص مدّة كذا وكذا كذا؛ وقد تكون الملخصات أكثر من اثنين بحسب الاستبدال «4» بالأعمال.

ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات

ومما يلزم الكاتب رفعه المحاسبات - وتختلف: فمنها محاسبة أرباب النقود الجيشيّة والمكيلات والجامكيّات «1» والجرايات، وأرباب الوظائف والرواتب والصّلات عما هو مستقرّ مشاهرة أو مسانهة؛ وهذه المحاسبة تنظم من الجريدة المبسوطة على أسمائهم، المشتملة على كمّيّة استحقاقاتهم، المشطوبة بقبوضهم؛ وصورة عملها أن يقول الكاتب: محاسبة لأرباب النقد والمكيل والقرارات «2» والجامكيّات والرواتب والصّلات بالمعاملة الفلانيّة الاستقبال مدّة كذا، والى آخر كذا؛ ويعقد جملة صدرها على ما يستحقّ لهم فى تلك المدّة المعيّنة من عين وغلّة وأصناف، ويضيف الى تلك الجملة ما تأخّر لهم الى آخر المدّة التى قبلها، ويفذلك على ذلك، ويقبضهم ما صرفه لهم بمقتضى ختم المدّة وأعمالها وتواليها، ويعتدّ عليهم بما لعلّه انساق فائضا «3» على من قبض منهم زيادة على استحقاقه فى المدّة التى قبلها، ثم يطرد ما انساق لهم الى متأخّر، وما انساق عليهم الى فائض، ثم يفصّل ذلك بالأسماء، فيضع الاسم ويذكره واستحقاقه فى الشهر وعن المدّة، ويضيف اليه ما لعلّه تأخّر له إن كان، ويفذلك عليه، ويخصم بقبضه، ويسوق إلى متأخّر إن بقى له، أو فائض إن زاد قبضه على استحقاقه؛ ومن كان منهم قد تعجّل قبل تلك المدّة زيادة على استحقاقه استحقّ له ما وجب له فى المدّة، واعتدّ عليه بما انساق فائضا «4» ؛ وما لعلّه صرفه له فى تلك المدّة يسوقه «5» إلى متأخّر أو فائض «6» ، يفعل ذلك فى جميع الأسماء.

ومنها محاسبات أرباب الأجر والاستعمالات،

وهذه المحاسبة إذا كان الكاتب مستمرّ المباشرة عملها لسنة، وان انفصل قبل استكمال السنة أو اقترحها مقترح عليه لزمه عملها؛ والله أعلم. ومنها محاسبات أرباب «1» الأجر والاستعمالات «2» ، ويعتمد الكاتب فيها نظير تلك، إلا أنه لا يستحقّ لكلّ نفر «3» إلّا بمقدار عمله، ويضيف إليه ما لعلّه تأخّر له ويفذلك عليه، ويخصمه بالقبض والاعتداد بالمسلف ان كان؛ وهذه المحاسبة على منوال تلك، إلا أنها تعمل بمفردها. ومما يلزم الكاتب رفعه ضريبة أصول الأموال ومضافاتها عن كلّ سنة كاملة، يذكر فيها كلّ جهة من جهات الهلالىّ، واسم مستأجرها أو ضامنها، ومبلغ إجارتها أو تقرير ضمانها مشاهرة ومسانهة، واستقبال العقد، وتاريخ الحجّة المكتتبة به، ويشطب «4» قبالتهاأسماء كفلاء «5» ضامن الجهة؛ ويذكر الجوالى ويفصّلها بالأسماء والملل، ويفصّل الخراجىّ بجهاته وأقلامه، والأحكار بأسماء أربابها؛ وإن كان بتلك المعاملة «6» شىء من نواحى الخاصّ

ذكر كلّ ناحية، واسم رئيسها، وحدودها وعدّة فدنها «1» الرومية «2» والكادية «3» والعاطلة، وأسماء من بها من الفلّاحين القراريّة «4» ، وما يبذره كلّ فدان من الشّتوىّ والصيفىّ، وريعه فى الثلاث سنين المقبلة «5» والمتوسّطة والمجدبة، وشروط المقاسمة، وما على كلّ فدان من الحقوق والرسوم، وما بها من المطلق، وما فيها من جهات العين وما عليها من الخدم «6» والضيافات، وغير ذلك من معالمها بحيث لا يخلّ بشىء من جميع أحوال القرية، بل يوضحها إيضاحا شافيا كافيا حتى يعلم الغائب عنها جليّة أمرها كالحاضر فيها. فإذا تكامل ذكر جهات الأصل «7» فى هذه الضريبة ذكر جهات المضاف الراتبة كالخدم وما يناسبها، وذكر فى آخرها ما تتعيّن إضافته من المتوفّر من العين والغلّة على اختلاف ضرائبه؛ وهذه القواعد تكون فى ضياع الشأم.

ويلزمه رفع المؤامرات

ويلزمه رفع المؤامرات - وتسمّى ضرائب المستقرّ إطلاقه- وهى تشتمل على أسماء من هو مرتّب على تلك المعاملة: من ربّ نقد ومكيل ومقرّر «1» وصدقة، يذكر اسم كلّ واحد واستحقاقه مشاهرة ومسانهة، ويعقد على ذلك جملة فى صدر المؤامرة مشاهرة ومسانهة؛ فإن كان فى حصن ذكر فى صدر الأوراق عدّة أرباب الاستحقاقات، ثم يفصّلهم بوظائفهم وأسمائهم من الخرجيّة «2» والأقجيّة «3» وغيرهم. ويلزمه رفع ضريبة ما يستأدى من الحقوق، يذكر فيها ما يستأديه ضامن كلّ جهة من رسومها وحقوقها، وما لعلّه يستأدى بالدّروب من الخفر «4» ، وغير ذلك من سائر ما يستأدى من حقوق تلك المعاملة، وما لعلّه يقتطع من أرباب النقود والمكيلات وغيرهم من الوفر والمقتطع على اختلاف الضرائب، بحيث لا يخلّ بشىء منها، لتعلم بذلك أحوال تلك الجهة، فلا يمكن للضّمّان أن يستأدوا زيادة على ذلك، لما فيه من تجديد الحوادث على الرعيّة.

ومما يلزمه رفعه فى كل سنة تقدير الارتفاع

ومما يلزمه رفعه فى كلّ سنة تقدير الارتفاع - وهو الارتفاع بعينه إلا أنه لا يضيف فيه حاصلا ولا باقيا، ولا يفصّل فيه الجوالى بالأسماء، بل يعقد الجملة فى صدره على ما يستحقّ بتلك المعاملة من جهات الأصول والمضاف، ويخصم بالمرتّب عليها عن سنة كاملة، ويسوقه إلى خالص أو فائض «1» ، ليظهر بذلك ميزان تلك الجهة. هذا ما يلزم المباشر رفعه مشاهرة ومسانهة. ويلزمه فى كل ثلاث سنين رفع الكشوف الجيشيّة، يذكر فيها أسماء النواحى العامرة والغامرة، والفدن الكادية «2» والعاطلة وما تقدّم شرحه فى الضريبة: من ذكر البذار والرّيع والشروط والمطلق وغيره؛ ثم يذكر المتحصّل منها فى ثلاث سنين لثلاث مغلّات، يعقد على ذلك جملة، ويفصّله بسنيه وأقلامه، ولا يخلّ بشىء مما بكلّ ناحية من الحقوق الديوانيّة والإقطاعيّة، ويعقد فى صدر الكشف جملة على عدّة النواحى وعدّة الفدن، وجملة جهات العين والغلّة، مفصّلا بالمعاملات «3» ؛ هذه هى الحسابات اللازمة. وأما المقترحات- فلا يمكن ضبطها، إلّا أنه مهما اقترح مما يكون سائغ الاقتراح ممكن العمل لزم الكاتب عمله. وحيث انتهينا إلى هذه الغاية فلنذكر أرباب الوظائف.

ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله

ذكر أرباب الوظائف وما يلزم كلا منهم مع حضور رفقته ومع غيبتهم وما يسترفعه كل مباشر عند مباشرته وما يلزمه عمله أما المشدّ «1» أو المتولّى - فالذى يحتاج إلى استرفاعه عند مباشرته ضرائب أصول الأموال والمرتّب عليها ليعلم حال المعاملة، وما بها من الخالص، أو عليها من الفائض؛ ويسترفع أوراقا بالحاصل والباقى والفائض والمتأخّر «2» ، ليعلم أحوال الناس ومحاسباتهم، ويعلم ممّن يطلب وإلى من يصرف؛ والذى يلزمه عمارة البلاد، واستجلاب من نزح منها، وإقامة السطوة، وإظهار المهابة والحرمة، وتسهيل السّبل، وإقامة الخفراء عليها، وتشييد منار الشرع الشريف، والتسوية بين القوىّ والضعيف؛ ويلزمه استخراج الأموال من سائر جهاتها ووجوهها المستحقّة «3» فى مباشرته، والبواقى التى رفعت إليه بعد تحقيقها بحيث لا ينطرد إلى الباقى الدرهم الفرد؛ ومتى انساق فى مباشرته شىء لزمه؛ ويلزمه تقرير الجنايات «4» والتأديبات على أرباب الجرائم لتنحسم بذلك موادّ المفسدين.

وأما الناظر على ذلك

وأما الناظر على ذلك - فيحتاج عند مباشرته الى استرفاع ضرائب أصول الأموال ومضافاتها، والمستأدى من الحقوق، وضرائب «1» بما استقرّ إطلاقه، وأوراق الحاصل والباقى، وأوراق الفائض والمتأخّر، وتقدير الارتفاع، والكشوف الجيشيّة، ويطالب بمخازيم «2» المياومة لاستقبال مباشرته، والختم والتّوالى عند مضىّ المدّة، والأعمال وسائر الحسبانات المتقدّم ذكرها فى أوقاتها، وما لعلّه يقترحه ممّا يسوغ اقتراحه ويمكن عمله؛ والذى يلزمه الاجتهاد فى عمارة نواحى الخاصّ، وتمييز الجهات ونموّها «3» ، والنظر فى أحوال المعاملات «4» ، وإزاحة أعذارها، وتقرير قواعدها، واختبار من بها من المباشرين، والكشف عن أحوالهم، وكتب «5» كلّ واحد منهم بما يلزمه مباشرة وعملا، ويتصفّح ما يرد عليه من الحسبانات الصادرة عنهم؛ وينظر فيما يتجدّد من أحوال المعاملات «6» وما يطرأ من الحوادث على اختلافها مما لا يحصره ضبط، بل هو بحسب ما يقع؛ وإنما جعلنا هذه الإشارات أنموذجا يستدلّ بها على ما بعدها؛ ويقيّد بخطّه الاستدعاءات والإفراجات والمراسيم والتواقيع وغير ذلك مما جرت به العادة: من الكتابة بالمقابلة والثبوت والتّمحية «7» والاعتماد وغير ذلك.

وأما صاحب الديوان

وأما صاحب الديوان - فإنه يسترفع ما يسترفعه الناظر من المعالم خاصّة، وليس [له] أن يسترفع الارتفاعات ولا شواهدها؛ فإن استرفعها لزمه من دركها «1» ما يلزم المستوفى؛ وهو يكتب على ما يكتب عليه الناظر، وله زيادة على ذلك: وهى الترجمة على التذاكر والاستدعاءات، والكتابة على تواقيع المباشرين بأخذ خطوطهم عند استخدامهم، والكتابة على محرّراتهم بالتخليد، والكتابة على تذاكر المخرّج والمردود الصادرة عن مستوفى العمل بأن يجيب المباشرون عنها بما يسوغ قبوله، والكتابة بقبول الجواب عند عوده إن كان سائغا، والكتابة على الحساب الصادر عن المباشرين بتخليده [فى] ديوان الاستيفاء بعد أن يتصفّحه وتظهر له سياقة «2» أوضاعه؛ وكلّ عمل لا يكون له صاحب ديوان قام الناظر بهذه الوظيفة إلّا الكتابة بقبول الحساب. وأما مقابل الاستيفاء - وهو بمنزلة الشاهد فى ديوان الأصل- فله أن يسترفع المعالم لنفسه فى كلّ سنة، ويسترفع نتيجة الحسبانات اللازمة التى تصدّر الى الديوان العالى بالباب الشريف، ويضبط «3» مياومة المجلس، ويكتب على ما يكتب عليه المستوفى، ويكتب على الحسبانات الواصلة من جهة المباشرين بتاريخ حضورها إلى الديوان قبل تخليدها [فى] ديوان الاستيفاء، ويسدّ «4» بقلمه تواريخ التذاكر والمراسيم، ويتصفّح ما يصدر عن المستوفى من المخرج والمردود

وأما المستوفى

ويطالب بحمل ما ثبت منه، ويطالب أرباب الخطوط والبذول «1» بما يستحقّ عليهم وينيب شاد «2» الدواوين عنه «3» ، ويكتب فى كلّ يوم بما يطالب به؛ واذا لم يكن للديوان مقابل قام المستوفى بوظيفته. وأما المستوفى - فله أن يسترفع سائر الحسبانات اللازمة، وما تدعو إليه حاجته من المقترحات فى المدد الماضية والحاضرة مما يمكن عمله، فاذا صار الحساب إليه مشمولا بخطّ صاحب الديوان بتخليده ومؤرّخا حضوره بخطّ المقابل تصفّحه واستوفى تفاصيله على جمله أصلا وخصما، وشطب ما يحتاج إلى شطبه- كلّ عمل على شواهده- وخرّج وردّ ما يتعيّن تخريجه وردّه، وكتب بذلك مطالعة تعرض على المقابل، فإذا وافقه عليها عرضت على صاحب الديوان وكتب بالإجابة عنها، ثم يطالب المباشر بالإجابة عمّا تجب الإجابة عنه، وإضافة ما تجب إضافته [الى «4» ] حساب المدّة التالية لتلك المدّة، وحمل ما يجب حمله؛ وتكون إضافته فى الحساب منسوبة إلى قلم مستدركه؛ فإن أخّر استيفاء الحسبانات وشطبها وتخريج «5» ما يلوح فيها ومضت عليها مدّة يمكن فيها العمل، كان

ما يتعيّن فيها لازما له إذا عنّت «1» ، وإلا فتلزمه إعادة ما تناوله من الجامكيّة «2» عن تلك المدّة، ويطالب من صدر عنه الحساب بما يلزمه؛ ويتعيّن على المستوفى أنه إذا رفع اليه حساب معاملة تأمّل «3» خطوط المباشرين على عاداتهم، [و] «4» نظر فيه «5» بعد ذلك، فإن تغيّرت عن العادة، فإن كان بزيادة تأكيد فلا بأس، وإن كان بإخلال مثل أن يكتب الشاهد على الحساب بالمقابلة، وعادته أن يكتب: «الأمر على ما شرح» يلزمه الكشف عن موجب ذلك؛ ويلزم المستوفى ضبط مياومة المجلس، وكتابة الكشوف بخطّه والتذاكر ونسخ المحرّرات، وتعيين الجهات لأربابها بعد كتابة الناظر بتعيين الجهة، وعليه نظم جوامع التقدير بعد عمل موازينها وتحريرها وشطبها على التقادير الصادرة عن المباشرين وجوامع الحواصل: من العين والغلال والكراع «6» والأصناف المعدودة والموزونة والمذروعة «7» والسلاح خاناه والعدد والآلات وغير ذلك، يسدّ على ما أمكن سدّه جملة، وما لا يمكن نثره أقلاما يستشهد فيها بما رفع اليه من جهة المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة البواقى، يعقد عليها جملة، ويفصّلها بمعاملاتها وجهاتها وسنيها وأسماء

مباشريها، وما يرجى منها وما لا يرجى بمقتضى أوراق المباشرين؛ وكذلك يعتمد فى جامعة الفائض والمتأخّر وغير ذلك من الجوامع؛ وعليه عمل ما يطلب من الأبواب من المقترحات والمطاولات؛ ويلزمه عمل المقايسات وفوائد المتأخّر، وغير ذلك من لوازم قلم الاستيفاء؛ ويلزمه محاسبات أرباب النّقد والكيل المرتّبين على ما تعيّن بقلم الاستيفاء، فيحاسبهم على استحقاقاتهم، ويعتدّ «1» عليهم بما ثبت مما عيّنه لهم بقلمه؛ ويلزمه التنبيه على خوالص المعاملات وطلبها: حملا «2» الى بيت المال، أو حوالة على ما يعيّنه بقلمه؛ ويلزمه تخريج تفاوت «3» المدد والمحلولات «4» وغير ذلك؛ ويلزمه التفريع «5» بما يصل اليه من الحوطات الجيشيّة لوقته على ما جرت به العادة. ووظيفة الاستيفاء كبيرة، كثيرة الأعمال، لا تنحصر لوازمها فى كتاب، وانما هى بحسب الوقائع. فاذا انفصل المستوفى من المباشرة فليس له أن يأخذ ورقة من حسابه الذى استرفعه أو وضعه بقلمه، ويتلقّاه المباشر بعده.

وأما المشارف

وأما المشارف - فله أن يسترفع عند مباشرته معالم الجهة ليستعين بها على المباشرة: من ضرائب وتقادير «1» وحاصل وباق وفائض ومتأخّر وغير ذلك؛ وهو مطلوب بتحقيق الحواصل، وله الختم عليها؛ وهو مطلوب بنظم سائر الحسبانات اللازمة والمقترحة إن تسحّب «2» العامل أو مات، ومع وجود العامل إن كان قد التزم عند مباشرته العمل؛ وتلزمه المقابلة مع العامل على الحساب الصادر عنهما، وسياقة التعليق معه، والكتابة على الوصولات «3» والحسبانات؛ وهو مطلوب بجميع ما يطلب به العامل من المخرّج وغيره. وأما الشاهد - فيلزمه ضبط تعليق المياومة، والكتابة على الوصولات والحسبانات؛ ومتى فقد العامل والمشارف لزمه رفع الحساب اللازم دون المقترحات؛ ولا بدّ له من جريدة مبسوطة على الأصل والخصم. وأما العامل - فقد قدّمنا ذكر ما يحتاج إليه كلّ مباشر من ضبط تعليق المياومة «4» وبسط الجريدة وخدمتها فى الأصل والخصم أوّلا فأوّلا، والتيقّظ لذلك وأنّ من أهمله فقد قصّر فى مباشرته وأخلّ بوظيفته؛ والعامل أحرى بجميع ذلك ممن سواه من سائر المستخدمين، لما هو مطلوب به من نظم الحسبانات وموقعه «5» من

عمل المقترحات والأجوبة عن المخرّج والمردود، وأنه هو الملتزم لذلك «1» دون غيره وأنه لا يلزم من سواه شىء من الأعمال مع وجوده. وقد ذكرنا تلخيص قواعد هذه الكتابة والمباشرين وأوضاعهم ولوازمهم والأوضاع الحسابيّة وغير ذلك من معالم المباشرات، مجملا غير مفصّل، وبعضا من كلّ، وقليلا من كثير، إذ لو استقصينا ذلك لطال ولتعذّر لاختلاف المباشرات والوقائع والأوضاع والآراء؛ ولقد حصل الاجتماع لجماعة من مشايخ أهل هذه الصناعة ممّن اتّخذها حرفة من مبادئ عمره إلى أن طعن فى سنّه، وما منهم إلا من يخبر أنه يستجدّ «2» له فى كلّ وقت من أحوال المباشرات ما لم يسمع به قبل، ولا طرأ «3» له فيما سلف من عمره؛ فكيف يمكن حصر ما هو بهذه السبيل؟! وفيما نبّهنا عليه مقنع لطالب هذه الصناعة، والعمدة فيها على الدّربة والمباشرة، وقد قيل: ولا بدّ من شيخ يريك شخوصها ... وإلّا فنصّ العلم عندك «4» ضائع كمل الجزء الثامن من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء التاسع وأوّله: ذكر كتابة الحكم والشروط

استدراك راجعنا هذا الجزء بعد طبعه فبدت لنا فى تفسير بعض ألفاظه معان أخرى نرجّحها على ما كتبناه أوّلا فى حواشيه فرأينا أن نستدركها فى آخره خدمة للعلم وتتميما للفائدة. ص س 60 9 «بنوء المرزم» وكتبنا على قوله: «المرزم» ما نصه: المرزم: «من أرزم الرعد اذا اشتدّ صوته» اهـ ومع صحة هذا الضبط واحتمال اللفظ لذلك التفسير المتقدّم فإننا نرجّح أن يضبط: «المرزم» بكسر الميم وفتح الزاى، وهو من نجوم المطر قال فى اللسان: «المرزمان، نجمان من نجوم المطر، وقد يفرد» . 193 11 «من ضريبة وموافرة» وكتبنا على قوله: «وموافرة» ما نصه: «فى الأصل: «وموامرة» بالميم؛ وهو تحريف» اهـ وقد بدا لنا بعد أنّ للفظ «المؤامرة» معنى مصطلحا عليه بين كتاب الدواوين، وتصح إرادته فى هذا الموضع؛ فقد ورد فى مفاتيح العلوم ص 56 طبع أوربا ما نصه: «المؤامرة عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة فى مدّة أيام الطمع، ويوقّع السلطان فى آخره بإجازة ذلك؛ وقد تعمل المؤامرة فى كل ديوان تجمع ما يحتاج اليه من استثمار واستدعاء توقيع» اهـ وانظر صفحة 296 من هذا الجزء. 202 5 «والبذول» ؛ وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «كذا فى الأصل؛ ولم نجد من معانى هذه الكلمة ما يناسب سياق ما هنا» اهـ ويظهر لنا أن البذول فى هذا الموضع جمع بذل؛ والمراد ما يبذله السلطان من الإقطاعات لخواصّه وأجناده؛ وقد نبهنا على هذا المعنى فى الحاشية رقم 1 من صفحة 301، فانظره.

ص س 202 8 «مبقلة» وكتبنا على هذه الكلمة ما نصه: «فى الأصل: «مقبلة» ، وفيه قلب صوابه ما أثبتنا كما يرشد اليه عطف المتوسطة والمجدبة عليه الخ» . ومع جواز ما اخترناه واستقامة الكلام به فقد بدا لنا أنه يصح أن يراد بقوله: «مقبلة» ، السنة التى تقبل بالنبات، أى تجىء به. وقد ذكرنا هذا المعنى فى الحاشية رقم 5 من صفحة 295، فانظره. 203 1 «ويحتاج الى أن يتعاهد مباشرى المعاملات» ولم نفسّر لفظ المعاملات فى هذا الموضع، وقد فسرناه فى الحاشية رقم 3 من صفحة 281، فانظره. 204 13 كلمة «الزردكشية» وكتبنا عن هذه الكلمة ما نصه: «الزردكشية» هم لابسو الدروع؛ وكش باللغة الفارسية معناه لابس انظر المعجم الفارسى الإنجليزى تأليف ستاين جاس مادة (كشيدن) . هذا ما كتبناه فى تفسير هذا اللفظ؛ وقد وقفنا بعد ذلك على أنهم يريدون بالزردكاشية: صانعو الزرد والأسلحة انظر صبح الأعشى ج 4 ص 12 ونحن نرجّح هذا المعنى ونؤثره على الأوّل. 229 3 قوله: «فإن تعذر فبالوجه» وكتبنا فى تفسير هذه العبارة ما نصه: «الظاهر أنه يريد بالوجه هنا: الجاه، أى إن تعذر الكفيل ذو المال والغنى قبلت الكفالة بذى الجاه وإن لم يكن غنيا» اهـ وقد بدا لنا بعد ذلك فى تفسير هذه العبارة معنى آخر نرجّحه على الأوّل، وهو أن الكفالة بالوجه هى أن يضمن الكافل إحضار المكفول بوجهه، أى بذاته، اذا طلب منه أن يحضره؛ فمعنى العبارة إذن أنه إن تعذّر الكفيل بالمال قبلت الكفالة بأن يحضر الكافل شخص المكفول.

[مقدمة الجزء التاسع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بيان عن الجزء التاسع من نهاية الأرب فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسخة واحدة كاملة مأخوذة بالتصوير الشمسىّ، وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ أيضا، تبتدئ من (الفنّ الثالث فى الحيوان الصامت) فى صفحة 224، وقد شمل التحريف والتصحيف ألفاظ هذا الجزء فى كلتا النسختين بظلمة كثيفة لا يكاد يبدو فيها الصواب إلا بالتفكير الطويل والبحث المستقصى، فما زلنا نستخرج الصحيح من المعتلّ، ونتعرّف الصواب من الخطإ بما يجاوره ويتصل به من الألفاظ الصحيحة التى لم يمسّها مسخ ولا تحريف، مراعين فى ذلك سياق الكلام وما تقتضيه أساليب الكتّاب والشعراء فى مختلف العصور والبيئات، مستعينين بعد ذلك بالمصادر الكثيرة التى بين أيدينا، من دواوين الشعراء ورسائل الكتّاب وكتب المحاضرات والمنتخبات الأدبية ومصنّفات اللغة وغيرها من علوم العربية، والمعجمات المختصّة بأسماء الرواة وأنسابهم، وما ألّفه العلماء فى الأمكنة والبلاد وضبط أسمائها وتعيين مواقعها، وغير ذلك من أنواع المؤلّفات التى تراها مفصّلة بعد فى بيان الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء، كلّ نوع منها فيما يتعلّق به من أغراضه وأبوابه، غير مكتفين من كلّ كتاب بنسخة واحدة، بل جمعنا ما استطعنا جمعه من نسخه لنتخيّر أصحّها رواية وأقومها لفظا؛ منبّهين فى الحواشى على اختلاف

هذه النّسخ فى رواياتها وعلى ما نرجّحه منها؛ وعسى أن نكون قد وفّقنا فى هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب من إصلاح المحرّف من ألفاظها، وتكميل ما نقص من عباراتها، وتفسير غريبها، وشرح ما أشكل من جملها وأبياتها، وضبط ما التبس من ألفاظها، وتحقيق ما اشتملت عليه من أسماء الأمكنة والبلاد والقبائل والأشخاص وضبطها على الوجه الصحيح، والتنبيه على كثير مما ورد فيها من الألفاظ والصّيغ والعبارات الدّخيلة والعامّيّة، وغير ذلك من الأغراض. ومما ينبغى التنبيه عليه فى هذا الموضع أننا لم نضع لفظا مكان لفظ آخر فى الأصل إلا إذا كان التحريف فى لفظ الأصل ظاهرا لا يستقيم به المعنى على وجه من الوجوه، بشرط أن يتقارب اللفظان فى رسم الحروف تقاربا يجعلهما كالمتّفقين، ليكون الظنّ أرجح فى اشتباه اللّفظين على الناسخ، والاحتمال أقرب فى تحريف أحدهما عن الآخر، مؤثرين فى ذلك النقل عن المصادر الموثوق بمؤلّفيها، منبّهين فى الحواشى على ما كان فى الأصل من حروف هذا اللّفظ ووجه اختيار غيره والمصدر الذى أخذناه عنه؛ سواء أكان هذا اللفظ منقولا عن كتاب، أم كان من عندنا؛ فاذا أفاد لفظ الأصل معنى يستقيم به الكلام على وجه من الوجوه ولو كان ضعيفا أبقيناه على حاله لم نغيّر منه حرفا، وإن بدا لنا من الألفاظ ما هو أفضل منه وأقرب إلى السياق أثبتناه فى الحواشى، كما أننا لم نضبط علما من الأعلام المشتمل عليها هذا الجزء إلا إذا ورد بضبطه نصّ صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها، فاذا ورد هذا الاسم فى الكتب مضبوطا بالقلم ولم نجد من النصوص الدالّة على ضبطه ما نطمئن إليه، نبّهنا على ذلك فى الحواشى، فنقول: «كذا ضبط هذا الاسم بالقلم لا بالعبارة فى كتاب كذا» .

وإنّ من النعم الكبرى على العلم والأدب التى لا يفى بحقّها شكر، ولا يقوم بحمدها نثر ولا شعر، تلك العناية العظيمة والرعاية الكبرى من مولانا مليك البلاد، وشبل إسماعيل (صاحب الجلالة فؤاد الأوّل) أيّد الله ملكه، وأدام ظلّه، وحرس للبلاد ولىّ عهده (سموّ الأمير فاروق) فقد تمّ فى عهده السعيد طبع كثير من الكتب النافعة فى مختلف الفنون، والكشف عن ثروة علميّة واسعة مما تركه السلف تذكرة للخلف. ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء هذا الجهد العظيم الذى بذله ويبذله المدير الحازم والمربّى الفاضل الأستاذ (محمد أسعد برّادة بك) مدير دار الكتب المصريّة، واهتمامه الصادق باخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمّة العربيّة جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ، وغيرها من أنواع العلوم. كما لا يفوتنا أن نثنى الثناء الجميل على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية على ما يسديه الى مصحّحى هذه الكتب من الإرشادات القويمة، والآراء السديدة؛ ونسأل الله سبحانه التسديد فى القول، والتوفيق فى العمل مصحّحه أحمد الزين تحريرا بالقاهرة فى يوم الأربعاء 15 محرّم سنة 1352 10 مايو سنة 1933

فهرس الجزء التاسع من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه 1 أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة 2 وأما طلاقة العبارة وذلاقة اللسان 3 وأما حسن الخط 3 وأما معرفة العربية 4 وأما معرفة الفقه 4 وأما علم الحساب والفرائص 5 وأما معرفة صناعة الوراقة 6 ذكر صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة 6 ذكر كيفية ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة 9 أما الإقرارات وما يتّصل بها من الرهن والضمان 10 وأما الحوالة 17 فصل وأما الشركة 17 وأما القراض 19

وأما العارية 20 وأما الهبة والنحلة 20 وأما الصدقة والرجوع 22 وأما التمليك 23 وأما البيوع 24 وأما الرد بالعيب والفسخ 73 فى مقايلة تكتب على ظهر المبايعة 73 وأما الشفعة 74 وأما السلم والمقايلة فيه 84 وأما القسمة والمناصفة 85 وأما الأجائر 88 وأما المساقاة 103 وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض 104 وأما العتق والتدبير وتعليق العتق 110 وأما الكتابة 113 وأما النكاح وما يتعلق به 115 وأما أقرار الزوجين بالزوجية واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة 124 وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة 126 وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح 131 وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة 134

وأما الوكالات 135 وأما المحاضر على اختلافها 137 وأما الإسجالات 145 وأما الكتب الحكمية 152 وأما التقاليد الحكمية 155 وأما الأوقاف والتحبيسات 156 المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث 160 المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث 179 وأما من ينسخ العلوم 214 وأما من ينسخ التاريخ 214 وأما من ينسخ الشعر 217 ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته- فأما تعليم الابتداء 218 وأما تعليم الانتهاء 220 الفن الثالث فى الحيوان الصامت 224 القسم الأوّل من هذا الفن فى السباع وما يتصل بها من جنسها، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل فى الأسد والببر والنمر أما أسماء الأسد 226 وأما أصناف الآساد وأجناسها 227

وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها 228 وأما عادتها فى وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها 229 وأما ما فى الآساد من الجراءة والجبن 230 ذكر شىء مما وصف به الأسد نظما ونثرا 234 وأما الببر وما قيل فيه 242 ذكر ما قيل فى النمر 243 ما قاله الشعراء فى وصف النمر 245 الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنمس- ذكر ما قيل فى الفهد ما قيل فى وصف الفهود من النظم والنثر 248 ذكر ما قيل فى الكلاب 254 (فصل) قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255 ذكر دلائل النجابة والفراهة فى كلاب الصيد 260 ذكر شىء مما وصفت به كلاب الصيد نظما ونثرا 261 ذكر ما قيل فى الذئب 270 ذكر ما وصف به الذئب 272 ذكر ما قيل فى الضبع 274 ذكر ما قيل فى النمس 276

الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السنجاب والثعلب والدب والهرّ والخنزير فأما السنجاب ذكر ما وصف به السنجاب 278 ذكر ما قيل فى الثعلب 279 ذكر ما وصف به الثعلب 281 ذكر ما قيل فى الدبّ 282 ذكر ما قيل فى الهرّ 283 ذكر ما وصف به الهرّ 285 ذكر ما قيل فى الخنزير 299 ذكر ما وصف به الخنزير 301 القسم الثانى من الفن الثالث فى الوحوش والظباء وما يتصل بها من جنسها وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزرافة والمها والإيّل ذكر ما قيل فى الفيل 302 ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما 308 ذكر ما قيل فى الكركدّن 315 ذكر ما قيل فى الزرافة 317

ذكر ما وصفت به الزرافة 318 ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها، والأيّل- أما سنّها 322 وأما ما قيل فى المها 322 ذكر ما وصفت به المها 322 وأما ما قيل فى الأيّل 324 ذكر ما قيل فى امتناعه عن شرب الماء مع حاجته إليه 325 الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشية والوعل واللمط ذكر ما قيل فى الحمر الوحشية 326 ذكر ما وصفت به الحمر الوحشية من النثر والنظم 327 ذكر ما قيل فى الوعل 329 ذكر ما وصف به الوعل 330 ذكر ما قيل فى اللمط 331 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظبى والأرنب والقرد والنعام ذكر ما قيل فى الظبى 332 فصل وممّا يلتحق بهذا النوع غزال المسك 333 ذكر ما وصف به الغزال من الشعر 333 ذكر ما قيل فى الأرنب 334 منافع الأرنب 335

ذكر ما وصف به الأرنب 336 ذكر ما قيل فى القرد 336 ذكر ما قيل فى النعام 339 ذكر ما وصفت به النعامة 340 القسم الثالث من الفن الثالث فى الدواب والأنعام؛ وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل 343 ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها وفضل الإنفاق عليها 346 ذكر ما جاء فى فضل الطّرق 353 ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه 354 ذكر ما ورد من أن الشيطان لا يخبل من فى داره فرس عتيق ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق 355 ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة فيه والنهى عن هلبها وجزّ أعرافها ونواصيها 356 ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة 358 ذكر ما جاء فى النهى عن عسب الفحل وبيع مائه 360 ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها 360 ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها 361

ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك 365 ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها 366 ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم 368 وأما أسماء السوابق فى الحلبة 373 ومما يتصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس 375 كيفية تضمير الخيل 375 ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين 375 ذكر سقوط الزكاة فى الخيل 378 تمّ الفهرس

بيان اهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء مرتبة على حروف المعجم (إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى) لشهاب الدين القسطلّانى. (الإرشاد الشافى على متن الكافى فى علمى العروض والقوافى) للدمنهورى. (أساس البلاغة) للزمخشرى. (أسماء الوحوش) للاصمعى. (الإصابة فى تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلانى. (الأغانى) لأبى الفرج الأصفهانى. (أقرب الموارد) لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى. (الإكمال فى رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والانساب) لابن ماكولا. (الأنساب) للسمعانى. (الأموال) لأبى عبيدة. (بدائع الزهور فى وقائع الدهور) وهو تاريخ مصر لابن إياس. (تاج العروس) وهو شرح القاموس للزبيدى. (تاج اللغة وصحاح العربية) للجوهرى. (تاريخ ابن الأثير) . (تاريخ الأدب او حياة اللغة العربية) للمرحوم حفنى بك ناصف. (تاريخ بغداد) للخطيب.

(تاريخ الطبرى) . (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) لابن حجر العسقلانى. (تقريب التهذيب فى أسماء الرجال) له أيضا. (التبيان) وهو شرح ديوان أبى الطيب المتنبّى، للعكبرىّ. (تحفة ذوى الأرب فى مشكل الأسماء والنسب) لابن خطيب الدهشة. (تقويم البلدان) لأبى الفداء. (تكملة القواميس العربية) لدوزى. (تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لأبى الحجاج المزّى. (جواهر العقود ومعين القضاة والموقّعين والشهود) لأبى عبد الله الأسيوطىّ. (حاشية الصبّان) على شرح الأشمونى. (الحيوان) للجاحظ. (حياة الحيوان) للدميرى. (الخطط) للمقريزى. (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) لصفىّ الدين الخزرجىّ. ديوان أبى نواس. ديوان ابن حمديس. ديوان الحيوان، للسيوطى. ديوان ابن هانئ الأندلسىّ. ديوان عروة بن الورد. ديوان الأخطل. ديوان الأرّجانى.

ديوان ابن خفاجة. ديوان ابن المعتزّ. (ديوان المعانى) لأبى هلال العسكرى. (الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام. (رشحات المداد فيما يتعلّق بالصافنات الجياد) للبخشىّ الحلبىّ. (شذرات الذهب فى أخبار من ذهب) لابن العماد الحنبلى. (شرح الأشمونى) على ألفية ابن مالك. (شرح الرضى) على الكافية. (شرح ابن هشام) على قصيدة بانت سعاد. (شرح المنهج) لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى. (شرح مقامات بديع الزمان الهمذانى) للأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده. (شرفنامه- وهو كتاب باللغة الفارسية فى تاريخ الأكراد) - للأمير شرفخان البدليسى. (شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل) لشهاب الدين الخفاجىّ. (شرح النووى) على صحيح مسلم. (صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء) للقلقشندى. صحيح البخارى. (طبقات الشافعية الكبرى) لابن السبكىّ. (الطبقات الكبرى) لابن سعد. (عقد الأجياد فى الصافنات الجياد) للسيد محمد الجزائرى الحسنى. (العقد الفريد) لابن عبد ربه.

(عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان) لبدر الدين العينى. (العمدة فى صناعة الشعر ونقده) لابن رشيق القيروانى. (فتح العزيز وهو الشرح الكبير للرافعىّ على كتاب الوجيز) للغزالى. (الفتاوى الهندية) لجماعة من أفاضل الهند رئيسهم الشيخ نظام الدين. (فهرست ابن النديم) . (فضل الخيل) للحافظ شرف الدين الدمياطى. (القاموس المحيط) لمجد الدين الفيروزابادى. (قوانين الدواوين) للأسعد بن مماتى. (القانون) لابن سينا. (قلائد العقيان) للفتح بن خاقان. (كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون) لحاجى خليفة. (الكوكب المشرق فيما يحتاج اليه الموثّق) لمحمد بن عبد الله الحسن الجروانى. (الكامل للمبرّد) . (لب اللباب فى تحرير الأنساب) للجلال السيوطى. (لسان العرب) لابن منظور. (المصباح المنير) للفيومى. (معجم ما استعجم) للبكرى. (معجم البلدان) لياقوت الحموى. (المشترك وضعا والمختلف صقعا) له أيضا. (مختصر أخبار مصر) لعبد اللطيف البغدادى. (محيط المحيط) لبطرس البستانى.

(مبادئ اللغة) لأبى عبد الله الخطيب الإسكافى. (المخصّص) لابن سيده. (المغرب فى ترتيب المعرب) للمطرّزى. (المعرّب والدخيل) للشيخ مصطفى المدنى. (المعرّب من الكلام الأعجمى) لأبى منصور الجواليقى. (المعجم الفارسى الإنجليزى) لستاينجاس. (المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث) للحافظ عبد الغنى بن سعيد المصرى. (مشتبه النسبة) له أيضا. (المشتبه فى أسماء الرجال) لشمس الدين الذهبىّ. (المكتبة الأندلسية) طبع أسبانيا، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (الصلة) لابن بشكوال، (والتكملة لكتاب الصلة) للقضاعى، (والمعجم) لابن الأبار، (وبغية الملتمس فى تاريخ رجال أهل الأندلس) للضبى، (وتاريخ علماء الأندلس) لابن الفرضى. (المكتبة الجغرافية) طبع ليدن، وهى تشتمل على عدّة كتب، وهى (مسالك الممالك) للإصطخرى، (والمسالك والممالك) لابن حوقل، (وأحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) للبشّارى المقدسى، (ومختصر كتاب البلدان) لابن الفقيه، (والمسالك والممالك) لابن خرداذبة، (والتنبيه والإشراف) للمسعودىّ. (ما خالف فيه الإنسان البهيمة) لقطرب. (المرصّع فى الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأدواء والذوات) لابن الأثير. (مباهج الفكر ومناهج العبر) لجمال الدين الوطواط الورّاق. (محاضرات الأدباء) للراغب الأصبهانى.

(مروج الذهب) للمسعودى. (ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف إليه) للمحبّى الحموى. (مجمع الأمثال) للميدانى. (المعجب فى تلخيص أخبار المغرب) لمحيى الدين عبد الواحد التميمى المراكشى. (مطمح الأنفس ومسرح التأنّس فى ملح أهل الأندلس) للفتح بن خاقان. (مسند الإمام أحمد) . (نهاية الأرب) لشهاب الدين النويرىّ. (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية وهى سيرة السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبى) للقاضى ابن شدّاد. (نسب عدنان وقحطان) لأبى العباس المبرّد. (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للمقرّى. (نكت الهميان فى نكت العميان) لصلاح الدين الصفدى. (الوافى بالوفيات) له أيضا. (النهاية فى غريب الحديث) لابن الأثير. (وفيات الأعيان) لابن خلّكان. (الوجيز) للغزالى. (يتيمة الدهر) للثعالبى.

الجزء التاسع

الجزء التاسع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به] [تتمة القسم الخامس في الملك وما يشترط فيه و..] تتمة باب الرابع عشر في ذكر الكتاب والبلغاء والكتابة و.. تتمة ثم الكتابة بحسب من يحترفون بها على أقسام ذكر كتابة الحكم والشروط وما يتّصف به الكاتب ويحتاج اليه ينبغى أن يكون كاتب الحكم والشروط عدلا، ديّنا، أمينا، طلق العبارة فصيح اللسان، حسن الخطّ؛ ويحتاج مع ذلك إلى معرفة علوم وقواعد تعينه على هذه الصناعة، لا بدّ له منها، ولا غنية عنها: وهى أن يكون عارفا العربيّة والفقه متقنا علم الحساب، محرّرا القسم والفرائض، دربا بالوقائع، خبيرا بما يصدر عنه من المكاتبات الشرعيّة، والإسجالات الحكميّة على اختلاف أوضاعها، وأن يكون قد أتقن صناعة الوراقة «1» وعلم قواعدها، وعرف كيفيّة ما يكتب فى كلّ واقعة وحادثة: من الدّيون على اختلافها، والحوالات، والشّركات، والقراض، والعارية، والهبة والنّحلة، والصدقة والرجوع، والتمليك، والبيوع، والردّ بالعيب والفسخ، والشّفعة والسّلم، والمقايلة «2» ، والقسمة والمناصفة «3» ، والأجائر على اختلافها، والمساقاة، والوصايا

أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة

والشهادة على الكوافل بالقبوض «1» ، والعتق، والتدبير، وتعليق العتق، والكتابة «2» ، والنكاح وما يتعلّق به، وإقرار الزّوجين بالزوجيّة عند عدم كتاب الصّداق، واعتراف الزوج بمبلغ الصّداق، والطلاق، وتعليق الطلاق «3» ، وفسخ النكاح، ونفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة، والوكالات، والمحاضر، والإسجالات، والكتب الحكميّة والتقاليد، والأوقاف، وغير ذلك، على ما نوضّحه ونبيّنه ان شاء الله تعالى. فنقول وبالله التوفيق: أما اشتراط العدالة والديانة والأمانة - فلأنّه يتصرّف بشهادته فى الأموال والدّماء والفروج، فإذا لم يكن فيه من الدّيانة والعدالة والأمانة ما يستمسك به، ويقف عند أوامر الشرع الشريف ونواهيه بسببه؛ تولّاه- والعياذ بالله تعالى- الشيطان بالغرور، وأوقعه فى محظور يتوقّع فى الدار الآخرة منه وقوع المحذور؛ وربّما انكشفت فى الدّنيا عورته، وبدت سريرته؛ وإذن هو المعنىّ والمشار اليه بقولهم: «شاهد الزور قتل ثلاثة: نفسه والمشهود له والمشهود عليه» فلم يفز ممّا ارتكبه بطائل، بل جمع لنفسه بين نكال عاجل وعقاب آجل، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.

وأما طلاقة العبارة وذلاقة اللسان

وأما طلاقة «1» العبارة وذلاقة اللسان - فلأنه يجلس بين يدى الحاكم فى مجلسه العامّ، ويحضره من يحضره: من العلماء والفقهاء، وذوى المناصب، وأصحاب الضرورات، وخصوم المحاكمات على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ وهو المتصدّى لقراءة ما يحضر فى المجلس: من إسجالات حكميّة، ومكاتيب شرعيّه؛ وكتب مبايعات، ووثائق إقرارات؛ وقصص وفتاوى، وغير ذلك مما يتّفق فى المجلس؛ فمتى لم يكن الكاتب طلق العبارة فصيح اللّسان، جيّد القراءة حسن البيان؛ تعذّرت قراءة ذلك عليه ولكن فى المجلس، فرمقته العيون شزرا، وتلمّظت «2» به الألسن سرّا؛ ونظر بعض القوم بسببه بعضا، وكان عندهم فى الرتبة سماء فغدا أرضا؛ ثم تتعدّى هذه المفسدة الى إفساد المكتوب، والتباس المعنى المراد والأمر المطلوب؛ وذلك لأنّه إذا توقّف فى القراءة احتاج إلى إعادة اللّفظة وتكريرها، وترديد الكلمة وتدويرها؛ فتشكل قراءته على سامعه ومستكتبه، ويكون قد أخلّ برتبته ومنصبه. وأما حسن الخطّ - فلأنه مندوب إليه فى مثل ذلك، وله من الفوائد ما لا يحصى، ولأنّ المكتوب إذا كان حسن الخطّ قبلته النفوس، وانشرحت له ومالت إليه؛ وإذا كان على خلاف ذلك كرهته وملته وسئمته؛ وقد ذكرنا ما قيل

وأما معرفة العربية

فى حسن الخطّ وما وصفت به الكتابة عند ذكرنا لكتابة الإنشاء «1» ، فلا فائدة فى إعادته هنا. وأما معرفة العربيّة - فلأنّه إنّما يكتب عن حاكم المسلمين فى الأمور الشرعيّة، فلا يجوز أن يصدر عنه لحن بلفظه، فكيف إذا سطّره بقلمه!؟ فإن وقع ذلك كان من أقبح العيوب وأشنعها، وربّما أخلّ بالمقصود، وحرّف المعنى المراد وأخرجه عن وضعه، ونقله إلى غير ما أريد به، سيّما «2» فى شروط الأوقاف. وأما معرفة الفقه - فلأنه يجلس بين يدى حاكم عالم، لا يكاد يخلو مجلسه غالبا من الفقهاء والعلماء، فيوردون المسائل أو تورد عليهم، فيحصل البحث فيها فيتكلّم كلّ من القوم بما علمه بقدر اشتغاله ونقله، فإذا كان الكاتب عاريا من الفقه والمدارسة ومطالعة كتب العلوم الشرعيّة اقتضى ذلك عدم مشاركته لهم فيما هم فيه فيصير بمثابة الأجنبىّ من المجلس، وهو فى ذلك بين أمرين: إمّا أن يسكت، فلا فرق بينه وبين جماد شغلت به تلك البقعة التى جلس فيها؛ أو يتكلّم بما لا يعلم، فيردّ عليه قوله، فيحصل له الخجل فى ذلك المجلس الحفل، ويستزريه القوم؛ هذا من هذا الوجه؛ ثم هو فيما يكتبه عن الحاكم أو فى أصل «3» المكتوب بين أمرين: إمّا أن يجيد ويبرز المكتوب وهو محرّر على مقتضى قواعد الفقه، فلا بدّ له فيه من الاستعانة بالغير وتقليده، بحيث إنه لو سئل عن معنى أجاد فيه وأحسن لعجز عن الجواب؛ وإمّا أن يستقلّ بنفسه فيكتب غير الواجب، فيكون قد أفسد المكتوب على أهله

وأما علم الحساب والفرائض

ولزمه غرم ما أفسد من القراطيس والرّقوق «1» ، وكلتاهما خطّة خسف ما فيهما «2» حظّ لمختار؛ وربّما اغترّ جاهل ممن تلبّس بالكتابة لوثوقه من نفسه بمعرفة مصطلح الوراقة دون الفقه، فيظنّ أنه استغنى بذلك عنه، وهذا غلط وجهل، لأنه قد يقع له من الوقائع ما لم يعلمه، فلا يخلّصه منه إلا تصريفه على القواعد الشرعيّة؛ ولا يعتمد الكاتب على اطّراد قاعدة الأشباه والنظائر، فيقيس الشىء على ما يظنّ أنّه شبهه أو نظيره، وقد لا يكون كذلك، فإنّ الفقه أمر نقلّى لا عقلىّ، فلا بدّ للكاتب من معرفته؛ والله أعلم. وأما علم الحساب والفرائض - فلأنه لو وقع فى المجلس قسمة شرعيّة بين ورثة أو شركة «3» ، ولم تكن له معرفة «4» بهذا العلم، كان ذلك عجزا منه وتقصيرا

وأما معرفة صناعة الوراقة فى الأمور التى ذكرناها

ونقصا فى صناعته؛ ويقبح به أن يعتمد على غيره فيه ويقلّده، ويرجع اليه فى المجلس الذى هو ممّن يشار اليه فيه، فيصير فى ذلك المجلس تابعا بعد أن كان متبوعا، ومقلّدا لغيره، ومسطّرا بقلمه ما لم يعرفه وما هو أجنبىّ عنه؛ هذا إن اتّفق أن يحضر المجلس من له معرفة بهذا العلم؛ فأمّا إن خلا المجلس ممن يعلم ذلك جملة كان أشدّ لتوقيف «1» الأمر وتعطيله، ودفعه من وقت الى آخر، وفى هذا من النقص والتقصير والإخلال برتبته، وعدم الاتصاف بالكمال فى صناعته، ما لا يخفى على متأمّل. وأما معرفة صناعة الوراقة فى الأمور التى ذكرناها - فلذلك من الفوائد ما لا يخفى على ذى لبّ، لأنّ الكاتب إذا أخرج المكتوب من يده بعد إتقانه وتحرير ألفاظه على ما استقرّ عليه الاصطلاح: من التقديم والتأخير ومتابعة الكلام وسياقته، وترصيعه وترصيفه، حسن موقعه، وعذبت ألفاظه، واشرأبّت له النفوس، ولو بلغ الكاتب فى الفقه والعربيّة واللغة ما عساه أن يبلغ ولم يدر المصطلح، وخرج الكتاب من يده وقد حرّره على قواعد الفقه والعربيّة من غير أن يسلك فيه طريق الكتّاب واصطلاحهم، مجّته الأسماع، ولم تقبله النفوس كلّ القبول، وثقل على قارئه وسامعه؛ والله أعلم. فهذه لمعة كافية من فوائد ما قدّمناه ممّا يحتاج الكاتب الشّروطىّ الى معرفته؛ [ذكر ما اصطلح عليه الكتاب من أوضاع الوراقة] فلنذكر الآن صورة ما اصطلح عليه الكتّاب من أوضاع الوراقة فى الأمور التى قدّمنا ذكرها على ما استقرّ عليه الحال فى زماننا هذا، ممّا يضطرّ إليه المبتدئ، ولا يكاد يستغنى عنه المنتهى؛ فنقول:

أوّل ما ينبغى أن يبدأ به الكاتب فيما يصدر عنه من جميع المكاتيب الشرعيّة حين ابتدائه بكتابة شىء منها أن يكتب: (بسم الله الرّحمن الرّحيم) ثمّ يصلّى على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يكتب لقب المشهود عليه وكنيته واسمه، ولقب أبيه وجدّه وكنيتيهما واسميهما، إن كانوا ممّن يلقّبون ويكنّون، وإلّا فأسماؤهم كافية؛ وينسب المشهود عليه إلى قبيلته، أو صناعته وحرفته أو مجموع ذلك؛ وذلك بحسب ما تقتضيه رتبته وحاله فى علوّ القدر والرفعة؛ فإن كان من ذوى الأقدار المشهورين ذكر ألقابه وكناه، ونسبه إلى قبيلته وحرفته، إن كانت ممّا تزيده رفعة وتعريفا؛ وإن كان غير مشهور برتبة أو منصب لكنّه ممّن يعرفه الشهود بالحلية والنّسب قال: «وشهود هذا المكتوب به عارفون» واستغنى بذلك عن وصف حليته «1» ؛ وإن كان ممّن عرفه بعضهم ولم يعرفه البعض قال: «وبعض شهوده به عارفون» وذكر حليته؛ وإن كان ممّن لا يعرفه الشهود جملة ذكر حلاه وضبطها على ما نشرحه عند ذكرنا للحلى؛ ثم يذكر المشهود له ويسلك فى ألقابه ونعوته وكناه وتعريفه نحو ما تقدّم فى المشهود عليه بحسب ما تقتضيه حاله أيضا ويذكر بعد ذلك ما اتفقا عليه. فاذا انتهى الى آخر الكلام فيه أرّخ المكتوب باليوم من الشهر، وبما مضى من سنين الهجرة النبويّة؛ ولا بأس بأن يؤرّخه بالساعة من اليوم، لاحتمال تعارض مكتوب آخر فى ذلك اليوم يناقض هذا المكتوب، مثال ذلك أنّ امرأة طلّقت فى يوم قبل دخول الزوج المطلّق بها، فتزوّجت فى يومها، وتمادى الأمر على ذلك، ثم ادّعى مدّع أنها تزوّجت قبل وقوع الطلاق

ولم يكن فى الكتاب ما يمنع دعواه؛ فانه يحتاج فى مثل هذا ونحوه إلى تحديد الطلاق والزواج بالساعات، فإنّ فيه إزالة للشكّ، وحسما لمادّة الالتباس؛ فاذا كملت كتابة المكتوب استوعبه الكاتب قراءة، فإن كان على السّداد والتحرير أشهد فى ذيله عليهما بما اتّفقا عليه، أو على المقرّ بما أقرّ به، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال. وإن احتاج المكتوب إلى إصلاح: من كشط أو ضرب أو إلحاق حرّره، واعتذر فى ذيل المكتوب تلو التاريخ قبل وضع رسم الشهادة عمّا أصلحه فيقول فيه: «مصلح على «1» كشط كذا وكذا، وفيه ضرب ما بين كلمة كذا الى كلمة كذا» إن كان الضرب قد أخفى ما كان تحته؛ وإن كانت الأحرف المضروب عليها ظاهرة قال: «فيه ضرب على كذا وكذا، وفيه ملحق بين سطوره أو بهامشه كذا وكذا» ويشرح ذلك، ثم يقول: «وهو صحيح فى موضعه، معمول به، معتذر عنه بخطّ كاتبه» . وإن كان المكتوب فى درج «2» موصول بالإلصاق، أو رقّ «3» مخروز الأوصال أشار على فواصل الأوصال بقلمه إشارة له يعرفها وتعرف عنه: إمّا علامته أو اسمه؛ ويكتب فى آخر أسطره عدد أوصال المكتوب، وعدّة أسطره؛ وقد أهمل الكتّاب ذلك فى غالب مكاتيبهم، وهو زيادة حسنة فى التحرير؛ والله أعلم.

ولنذكر كيفية ما يصنعه الكاتب فى كل واقعة على معنى ما أورده «أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المخزومى،

وإن كان المكتوب نسخا متعدّدة ككتب الأوقاف كتب عند رسم شهادته فى كلّ نسخة عدد النّسخ؛ والقاعدة عندهم فى هذه الصناعة أنّ الكاتب كلّما زادها عرفانا «1» زادته بيانا؛ فيكون هذا دأبه فى كلّ ما يكتبه أو غالبه؛ والله أعلم بالصواب. *** ولنذكر كيفيّة ما يصنعه الكاتب فى كلّ واقعة على معنى ما أورده «أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المخزومىّ «2» ، المعروف بابن الصّيرفىّ فى مختصره الذى ترجمه «بمختصر المكاتبات البديعة فيما يكتب من أمور الشريعة» الذى قال فيه إنه اختصره من كتابه المترجم «بجامع العقود فى علم المواثيق والعهود» .

أما الإقرارات وما يتصل بها من الرهن والضمان

أما الإقرارات وما يتصل بها من الرهن والضمان - فسبيل الكاتب فيها أنّه إذا أقرّ رجل لرجل بدين كتب: أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأن فى ذمته بحقّ صحيح شرعىّ لفلان من الذهب المسكوك «1» ، أو من الدراهم النّقرة «2» المتعامل بها يومئذ كذا وكذا، إن كان نقدا. وإن كان غلّة «أو صنفا «3» من الأصناف الموزونة أو المعدودة أو غير ذلك» قال: من الغلال الطيّبة النقيّة السالمة من العيوب والغلث «4» ؛ ويعيّن الغلّة، وينسبها الى جهتها فيقول إن كان بالدّيار المصريّة: الصعيديّة، أو البحريّة، أو الفيّوميّة؛ وإن كان بالشأم أو بغيره نسبها الى جهتها فيقول: البلقاويّة «5» ، أو «الحورانيّة» «6» أو السواديّة «7» ، أو الجبليّة «8» ، أو المرجيّة «9» ، أو غير ذلك من النواحى؛ يعيّنها بناحيتها

وبأصنافها، وبأكيالها؛ ويذكر الجملة وينصّفها فيقول: «النصف من ذلك تحقيقا لأصله وتصحيحا لجملته كذا وكذا» ؛ ثم يقول: «يقوم له بذلك على حكم الحلول وسبيله، أو التنجيم» «1» ؛ أو يقول: «على ما يأتى ذكره وبيانه، فمن ذلك ما يقوم به على حكم الحلول كذا، وما يقوم به فى التاريخ الفلانىّ كذا» على حسب ما يقع عليه الاتّفاق؛ ثم يقول: «وأقرّ المقرّ المذكور بأنه ملىء بالدّين المعيّن، قادر عليه وأنّه قبض العوض عنه» ؛ فإن كان ذلك على حكم الحلول اكتفى فيه بالشهادة على المقرّ دون المقرّ له؛ وإن كان لأجل فلا غنية عن الشهادة على المقرّ له بأنّه صدّقه على ذلك فإنه لو ادّعى الحلول فيما وقعت الشهادة فيه على المقرّ بمفرده بأنّه إلى أجل، كان القول قوله مع يمينه؛ «2» وكذلك فى الشهادة بالغلّة أو الصنف، هل ذلك محمول إلى منزل المقرّ له، أو هو موضوع بمكان آخر، فإنّ «3» فى الشهادة عليهما معا قطعا للنزاع والاختلاف؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا يجوز أن يشهد فى الإقرار إلا على حرّ بالغ عاقل، أو مريض مع حضور حسّه وفهمه، ويجوز أن يكتب على العبد البالغ وتتبع به ذمّته بعد عتقه.

وان كان الدّين المقرّ به ثمن مبيع كتب فى آخر المكتوب: وهذا الدّين هو ثمن ما ابتاعه المقرّ من المقرّ له، وتسلّمه، وهو جميع الشىء الفلانىّ، أو جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكرا «1» -- ويذكر المبيع ويصفه- وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق «2» بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «3» فى صحّة البيع «4» حيث يجب شرعا. ويؤرّخ المكتوب، ويشهد عليهما معا. وإن كان الدّين لرجل واحد [أو اثنين «5» أو جماعة] على اثنين أو على جماعة قال: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان إقرارا صحيحا شرعيا بأن فى ذمّتهم بحقّ صحيح شرعىّ بالسويّة بينهم أو على مقتضى ما وجب عليهم، لكلّ واحد من فلان وفلان؛ ويعيّن المقرّ به نقدا كان أو صنفا على حكمه فى الحلول والأجل والمدد، ويعيّن لكلّ واحد من المقرّ لهم ما يخصّه، إن كان بينهم تفاوت، أو بالسويّة بينهم؛ ويشهد على من أقرّ بالملاءة «6» وقبض العوض على ما تقدّم.

فصل

وإن تضامنوا وتكافلوا قال: وكلّ واحد منهم ضامن فى ذمّته ما فى ذمّة الآخر من ذلك للمقرّ لهم بإذن كلّ واحد منهم للآخر فى الضمان والأداء والرجوع؛ وأقرّوا بأنهم مليئون بما ضمنوه؛ ويؤرّخ. وإن كان كلّ واحد من المقرّين يقوم بما عليه من الدّين من غير ضمان ولا كفالة لغيره فلا بأس بأن يبرهن الكاتب على ذلك بأن يقول: «من غير ضمان ولا كفالة» . فصل وان حضر من يضمن فى الذمّة كتب بعد تمام الإقرار: «وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طوعا منه أنّه ضمن ما فى ذمّة المقرّ المذكور من الدّين المعيّن للمقرّ له على حكمه» . وإن كان الدّين على حكم الحلول فحضر من يضمنه فى ذمّته إلى أجل، عيّنه فى حقّ الضامن إلى الأجل، وأشهد عليه بالملاءة بما ضمنه؛ فان كان بإذن المضمون قال: «بإذنه له فى الضمان والأداء والرجوع عليه» ، وإن تبرّع الضامن بالضمان صحّ ضمانه، ويقول الكاتب: «إنّه ضمن الدّين المعيّن تبرّعا واختيارا، من غير إذن صادر من المضمون، وليس للضامن أن يرجع على ذمّة المضمون بما يقوم به عنه» . وإن حضر من يضمن الوجه والبدن دون المال فلا يجوز إلّا بإذن المضمون؛ ومثال ما يكتب فى ذلك أن يقول: وحضر بحضوره فلان، وضمن وكفل إحضار وجه وبدن المقرّ المذكور للمقرّ له المذكور، متى التمس إحضاره منه فى ليل أو نهار، أو فى مدّة معلومة أحضره له؛ وذلك بإذنه له فى ذلك. وينحلّ هذا الضمان عن الضامن بموت «1» المضمون دون سفره وغيبته؛ والله أعلم.

فصل

وإن رهن المقرّ عند المقرّ له رهنا على دينه كتب ما مثاله: وبعد تمام ذلك ولزومه رهن المقرّ المذكور عند المقرّ له توثقة «1» على الدّين المذكور، وعلى كلّ جزء منه ما ذكر أنّه فى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- رهنا صحيحا، شرعيّا، مقبوضا، مسلّما ليد «2» المقرّ له من المقرّ الراهن بإذنه له فى ذلك، بعد النّظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول الشرعيّين، والتسلّم والتّسليم «3» . فإذا استعار الرهن بعد ذلك كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك استعار الراهن من المرتهن المذكور الرهن المذكور لينتفع به، مع بقاء حكم الرّهن، استعارة شرعيّة، من غير فسخ شىء من أحكامه، وصار ذلك بيد الراهن المذكور وقبضه وحوزه. فإن استقرّ الرهن تحت يد المرتهن كتب: واعترف المرتهن بأنّ الرهن المذكور باق تحت يده وحوزه، وعليه إحضاره عند وفاء الدّين؛ ويؤرّخ. فصل وإن حضر من أعار المقرّ شيئا ليرهنه على ما فى ذمّته كتب فى ذيل المسطور: وحضر بحضور المقرّ المذكور فلان، وأشهد عليه طائعا مختارا أنّه أعار المقرّ المذكور جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف ويحدّد إن كان له حدود- ليرهن ذلك عند المقرّ له على ما فى ذمّته له من الدّين المعيّن أعلاه؛ ويعيده «4» بسؤاله فى ذلك، عارية

صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة، وذلك بعد النظر، والمعاقدة الشرعيّة، والإيجاب والقبول؛ وأذن المعير للمستعير أن يرهن ذلك عند المقرّ له على الدّين المذكور، ويسلّمه له التسليم الشرعىّ، ثم يستعيد ذلك منه ليعيده إلى المعير المالك لينتفع به، مع بقاء عينه على حكم الرهن. وإن كان المستعير الراهن ينتفع بالرهن كتب: وأن يستعيد المستعير الرهن لينتفع به دون المعير، مع بقائه «1» على حكم الرهن. وان كان الرهن تحت يد المرتهن كتب: وهذا الرهن المذكور تحت يد المرتهن حفظا لما له، وصيانة لدينه، وعليه أن يعيده عند وفاء الدّين للمستعير ليسلّمه للمعير. فإن وكّل الراهن وكيلا فى بيع الرهن عند استحقاق الدّين ووفاء ما عليه كتب: ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه وكّل المقرّ المذكور فلان بن فلان فى قبض الرهن المذكور ممّن هو تحت يده برضا المرتهن، وبيعه «2» ممّن يرغب فى ابتياعه بما يراه من الأثمان وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه؛ وكتب ما يجب اكتتابه، وقضاء ما عليه من الدّين المعيّن فيه للمقرّ له وأخذ الحجّة منه، والإشهاد على المقرّ له بقبض الدّين المذكور منه «3» على «4» المقرّ؛ وكالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا «5» ، أقامه فى ذلك مقام نفسه، ورضيه «6» واختاره.

فصل

وإن أراد المرتهن أن ينزل عن الرهن كتب خلف المسطور: أقرّ فلان وهو المقرّ له بالدّين باطنه، اقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه نزل عن رهنيّة العين المعيّنة باطنه، المرتهنة عنده على دينه المعيّن باطنه، نزولا صحيحا شرعيّا، وأبطل حقّه فى وثيقة الرهن المذكور، وسلم الرهن للراهن المذكور وهو على صفته الأولى فتسلّمه منه بغير حادث غيّره عن صفته؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بذلك علما وخبرة. فصل اذا أقرّ ربّ الدّين أنّ الدّين المقرّ له به كان من مال غيره كتب: أقرّ فلان وهو المقرّ له باطنه، عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه لمّا داين فلانا المقرّ المذكور «1» باطنه بالدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- كان ذلك من مال فلان دون ماله، وأنّ اسم المقرّ له باطنه كان على سبيل النيابة والوكالة، وأنّه كان أذن له فى معاملة المقرّ المذكور باطنه بالدّين المذكور على حكمه، ومداينته؛ وصدّقه المقرّ له «2» على ذلك تصديقا شرعيّا؛ وبمقتضى ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن فيه واستخلاص حقّه منه، وقبضه على الوجه الشرعىّ. فصل فان أقرّ المقرّ له بأنّ الدّين أو ما بقى منه صار لغيره كتب على ظهر المكتوب: أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ الدّين المعيّن باطنه، أو أنّ الذى بقى من الدّين المعيّن باطنه- وهو كذا وكذا- صار ووجب من وجه صحيح

وأما الشركة

شرعى لا شبهة فيه لفلان، وصدّقه على ذلك، وقبل منه هذا الاقرار لنفسه قبولا سائغا؛ وبحكم ذلك وجبت له مطالبة المقرّ باطنه بالدّين المعيّن على الوجه الشرعىّ. وأما الحوالة- فسبيل الكاتب فيما يكتب فيها أنه اذا كان لرجل داين على آخر وأحال به كتب على ظهر مسطور الدّين ما مثاله: أقرّ فلان- وهو المقرّ له باطنه- عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه أحال فلانا على ذمّة فلان المقرّ المذكور باطنه بما له فى ذمّته من الدّين المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على الحكم المشروح باطنه، وذلك نظير ما لفلان المحال فى ذمّة فلان المحيل من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير المبلغ المحال به فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق حوالة صحيحة شرعيّة، قبلها منه قبولا سائغا، ورضى ذمّة المحال عليه؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة، وافترقا عن تراض؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المحيل المبدإ «1» بذكره من الدّين الذى كان فى ذمّته، براءة صحيحة شرعيّة، وقبل كلّ منهما ذلك من الآخر لنفسه قبولا شرعيّا، وبه شهد عليهما؛ ويؤرّخ. (فصل) «2» وأمّا الشّركة - فهى تصحّ فى الذّهب والفضّة؛ وسبيل الكاتب فيها أنّه اذا اتّفق اثنان على الشّركة، فأخرج كلّ واحد منهما مالا وخلطاه، وأرادا المكاتبة بينهما

كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان عند شهوده «1» إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّهما اشتركا على تقوى الله تعالى، وإيثار طاعته، وخوفه ومراقبته، والنصيحة من كلّ منهما لصاحبه، والعمل بما يرضى الله تعالى فى الأخذ والعطاء؛ وهو «2» أنّ كلّا منهما أخرج من ماله كذا وكذا، وخلطا ذلك حتى صار شيئا واحدا، لا يتميّز بعضه من بعض وجملته كذا وكذا، ووضعا أيديهما عليه، وتراضيا على أنّهما يبتاعان به من المكان الفلانىّ أو المدينة الفلانيّة ما أحبّا واختارا من أصناف البضائع وأنواع المتاجر ويجلسان به فى حانوت بالبلد الفلانىّ، إن كان اتّفاقهما على ذلك؛ وإن كانا يسافران به كتب: ويسافران به الى البلاد الفلانيّة» فى البرّ والبحر العذب والملح أو أحدهما دون الآخر على حسب اتّفاقهما، ويتولّيان معا ذلك بأنفسهما ومن يختارانه من وكلائهما ونوّابهما، على ما يريان فى ذلك من الحظّ والمصلحة ويبيعان ذلك بالنّقد دون النّسيئة «3» ، ويسلّمان المبيع، ويتعوّضان بالثمن ما أحبّا واختارا، ويديران هذا المال فى أيديهما على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما فتح الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والمؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح بينهما مقسوما نصفين بالسويّة؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول؛ وأذن كلّ واحد منهما لصاحبه فى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، فى غيبة صاحبه وحضوره، إذنا شرعيّا؛ وعلى كلّ منهما أداء الأمانة، وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية والنصيحة لصاحبه، ومعاملة شريكه بالمعروف والإنصاف.

وأما القراض

وإن تسلّم أحدهما المال دون الآخر كتب بعد ذكر جملته: تسلّمه جميعه فلان، وصار بيده وقبضه وحوزه، ليبتاع به ما أراد من البلاد الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر، ويجلس به فى حانوت أو يسافر به؛ ويكمّله على ما تقدّم. وأما القراض «1» - فاذا دفع رجل لرجل مالا يعمل فيه، أو لجماعة من الناس كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّه قبض وتسلّم من فلان من الذهب العين كذا وكذا، أو من الدراهم الجيّدة المتعامل بها كذا وكذا- ولا يجوز فى الدراهم المغشوشة- وصار ذلك نقده وقبضه وحوزه، على سبيل القراض الشرعىّ الجائز بين المسلمين؛ وأذن ربّ المال له أن يشترى بذلك ما أحبّه واختاره من المدينة الفلانيّة من أصناف البضائع، وأنواع المتاجر على اختلافها، وتباين أجناسها ويسافر به أين شاء من بلاد المسلمين فى الطّرق المأمونة، أو فى البحر العذب والملح ويبيع ذلك بالنّقد دون النسيئة، ويتعوّض بقيمته ما أراد من أنواع المتاجر، ويعود به الى البلد الفلانىّ، ويبيعه بالنّقد دون النسيئة، ويدير هذا المال فى يده على ذلك حالا بعد حال، وفعلا بعد فعل، ومهما أطلعه الله فى ذلك من ربح وفائدة بعد إخراج رأس المال والوزن «2» والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب، كان الربح مقسوما بينهما نصفين، أو أثلاثا: لربّ المال الثلثان، وللعامل بحقّ عمله الثلث؛ تعاقدا على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول؛ والتفرّق بالأبدان عن تراض وقبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وعلى هذا العامل المذكور الأمانة وتجنّب الخيانة، وتقوى الله فى السرّ والعلانية فى بيعه وابتياعه وجميع أفعاله، وحفظه هذا المال على عادة مثله، وإيصاله عند وجوب ردّه؛ ويؤرّخ.

وأما العارية

وإن كان القراض بيد جماعة فلا يصحّ أن يتكافلوا فى الذمّة، ويصحّ ضمان الوجه «1» . وأما العارية - فإنّ الرجل إذا أعار لابنته شورة «2» تتجمّل بها، أو أعار لرجل دارا أو عبدا أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه أعار لابنته لصلبه فلانة البكر البالغ، التى اعترف برشدها عند شهوده، ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وصدّقته على ذلك، وهو جميع الشّورة الآتى ذكرها فيه، وهى كذا وكذا- وتوصف وتذكر الأوزان والقيم، وإن كان المعار دارا حدّها ووصفها- عارية صحيحة شرعيّة مسلّمة مقبوضة بيد المستعيرة من المعير، بإذنه لها فى ذلك وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وعلى هذه المستعيرة حفظ ذلك والانتفاع به فى منزلها بالموضع الفلانىّ، والتجمّل به، وألّا تخرج ذلك من يدها إلى أن تعيده الى المعير على الصفة المذكورة، وعلمت مقدار العارية وما يلزم فيها؛ ويؤرّخ. وأما الهبة والنّحلة - فإنّ الرجل اذا وهب لأجنبىّ دارا أو غير ذلك أو وهب لولده «3» لصلبه فلان «4» الرجل الرشيد مالا أو غيره كتب الكاتب: أقرّ فلان

بأنّه وهب لولده لصلبه فلان الرجل الرشيد، الذى اعترف بأنّه لا حجر له عليه ما ذكر أنّه له وفى ملكه ويده وتصرّفه، وهو جميع الدّار التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- هبة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية، بغير عوض عنها ولا قيمة قبلها منه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموهوب له من الواهب «1» ما وهب له فيه «2» التسلّم الشرعىّ، وصار بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك وجب له التصرّف فيها تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافذة «3» . فإن وهب الرجل دارا لولده الطفل أو لولده البالغ الذى هو تحت حجره كتب موضع القبول ما مثاله: قبل الواهب ذلك من نفسه لولده المذكور، بحكم أنّه تحت حجره وولاية نظره قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم من نفسه لولده المذكور ما وهب فيه «4» التسلّم الشرعىّ، ورفع عنه يد ملكيّته، ووضع عليه يد نظره وولايته، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة. فإن نحل الرجل ولده الطفل مالا أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه نحل (أى دفع) لولده لصلبه فلان الطفل، أو المراهق، الذى تحت حجره وولاية نظره ما ذكر أنّه له وفى يده وملكه وتصرّفه، وهو جميع الشىء الفلانىّ- ويوصف بما يليق به- نحلة صحيحة شرعيّة، جائزة مرضيّة، قبلها له من نفسه، وصار ذلك بيده ملكا لولده المذكور، وأقرّ بأنّه عارف بما نحله.

وأما الصدقة والرجوع

وإن نحل ولده البالغ أو الأجنبىّ كتب نحو ما تقدّم الّا القبول والتسلّم فإنه يقول: قبل ذلك لنفسه قبولا صحيحا شرعيّا، وتسلّم منه ما نحله إيّاه فيه بإذنه وصار بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، وأقرّا بأنهما عارفان بذلك المعرفة الصحيحة الشرعيّة النافية للجهالة. وأما الصدقة والرجوع - فإنّ الرجل إذا تصدّق على ولده الطفل أو البالغ أو على أجنبىّ، كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه تصدّق على ولده الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره فلان؛ وان كان بالغا كتب: «البالغ الرشيد باعتراف والده» برّا به، وحنوّا عليه، وابتغاء بذلك وجه الله الكريم، وطلبا لثوابه الجسيم بما ذكر أنه له وفى يده وتصرّفه، وهو جميع الدار الفلانيّة التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- صدقة صحيحة شرعيّة جائزة ماضية نافذة، قبلها من نفسه لولده، أو قبلها الولد البالغ الرشيد لنفسه، على نحو ما تقدّم فى الهبة والنّحلة من القبول والتسلّم. واذا أراد الأب أو الجدّ وإن علا، والأمّ والجدّة وإن علت الرجوع عن الصدقة والهبة والتمليك اذا كان بغير عوض، كتب الكاتب على ظهر المكتوب ما مثاله: أشهد فلان على نفسه طائعا مختارا أنّه رجع فى الدّار المذكورة الموصوفة المحدودة باطنه، التى كان تصدّق بها على ولده المذكور باطنه فلان، رجوعا صحيحا شرعيّا، وأعادها الى ملكه ويده وتصرّفه، وأبطل حكمها، ونقض شرطها، وتسلّمها تسلّم مثله لمثلها، وأقرّ بأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة؛ ويؤرّخ.

وأما التمليك - فمنه ما هو بعوض، وما هو بغير عوض،

وأما التمليك- فمنه ما هو بعوض، وما هو بغير عوض، فأما ما كان بعوض «1» فيكتب «2» [فيه] «3» ما مثاله: ملّك فلان لفلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يده وملكه وتصرّفه التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- تمليكا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ قبض الفقير المملّك ذلك من المملّك له بإذنه، وصار بيده وحوزه ومالا من جملة أمواله، عوضا عما ملّكه فيه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «4» فى ذلك. وأما ما كان بغير عوض، فيكتب [فيه] «5» : ملّك فلان لفلان جميع الدار- وتوصف وتحدّد نحو ما تقدّم- تمليكا صحيحا شرعيّا، جائزا نافذا مرضيّا، بغير عوض عن ذلك ولا قيمة، قبلها منه قبولا صحيحا شرعيّا، وسلم هذا المملّك لفلان المملّك ما ملّكه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وحوزه، ملكا من جملة أملاكه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّهما نظراها وأحاطا بها

وأما البيوع

علما وخبرة، تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. وإذا أقرّ رجل بأنّ داره ملك لغيره [كتب «1» ] : أقرّ فلان عند شهوده طوعا إقرارا صحيحا شرعيّا بأنّ جميع الدّار التى بيده وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- ملك فلان ملكا صحيحا شرعيّا دونه ودون كلّ أحد بسببه «2» ، وأنّ ملكه لهذه الدّار سابق على هذا الإقرار ومقدّم عليه؛ وصدّقه المقرّ له على ذلك تصديقا شرعيّا وقبل منه هذا الإقرار لنفسه قبولا شرعيّا، وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وسلم المقرّ المذكور للمقرّ له جميع الدار المذكورة، فتسلّمها منه وصارت بيده وقبضه وحوزه، وأقرّ المقرّ المذكور بأنّه لا حقّ له فى هذه الدار ولا طلب بسبب ولا ملك ولا استحقاق منفعة بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وتصادقا على ذلك. وأما البيوع - فإنّه إذا ابتاع رجل دارا أو حصّة من دار أو غير ذلك كتب الكاتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان جميع الدّار الكاملة أرضا وبناء، الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، التى ذكر البائع أنّها له وفى ملكه ويده وتصرّفه؛ وإن كان عمرها كتب: «ومعروفة بإنشائه وعمارته» . وإن كان المبيع حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من «3» جميع الدار التى ذكر البائع أنّ

هذه الحصّة المذكورة له وفى يده وملكه وتصرّفه بجميع حقوقها ومرافقها وما يعرف بها وينسب إليها. فإن استثنى البائع مكانا منها غير داخل فى البيع كتب بعد ذلك: خلا الموضع الفلانىّ، فإنّه خارج عن هذا العقد، غير داخل فى هذا البيع، وعلم به المشترى ورضى به. ثمّ يقول: شراء صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، بثمن مبلغه كذا وكذا؛ تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «1» فى المبيع حيث يجب شرعا. وإن أراد الكاتب تحسين ألفاظه وتنميقها وتكثيرها فيما لا يضرّ بالعقد ولا يفسد البيع كتب بعد تنصيف الثمن: دفعه المشترى المذكور للبائع المذكور من خالص ماله وصلب حاله، تامّا وافيا، وأقبضه له بعد وزنه ونقده، فقبضه البائع المذكور منه وتسلّمه بتمامه وكماله موزونا منتقدا، وصار بيده وقبضه وحوزه مالا من جملة أمواله؛ وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المقبوض منه من الثمن المذكور براءة صحيحة [شرعيّة] «2» براءة قبض واستيفاء؛ وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه خاليا لا شاغل له، ولا مانع له منه، ولا دافع [له عنه] «3» ، وصار بيده وقبضه وحوزه، ملكا من أملاكه، يتصرّف فيه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بوجه ولا سبب، وذلك بعد نظرهما لجميع «4» ذلك، ومعرفتهما إيّاه، وإحاطتهما به علما وخبرة نافيين للجهالة، وتعاقدهما على ذلك كلّه

المعاقدة الصحيحة الشرعيّة المعتبرة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان من مجلس العقد التفرّق الشرعىّ عن تراض منهما، وضمان الدّرك «1» فى صحّة البيع «2» حيث يوجبه الشرع الشريف وتقتضيه أحكامه. وإن اشترط أحدهما الخيار لنفسه ثلاثة أيّام كتب بعد قوله: «عَنْ تَراضٍ» * : وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع لنفسه خاصّة، أو المشترى، أو الذى اشترطاه لأنفسهما، وهو ثلاثة أيّام من تاريخ العقد. وإن كانا لم يتفرّقا من مجلس العقد كتب عوض التفرّق بعد الإيجاب والقبول: واختار كلّ من المتعاقدين المذكورين إمضاء البيع المذكور بينهما فى المبيع المعيّن وإلزامه وإبرامه وتمام إحكامه ونفوذه على الوجه الشرعىّ، والقانون المرضىّ، وضمان «3» الدّرك على ما تقدّم. وإن أحضر البائع «4» من يده كتابا يشهد له بصحّة ملكه للمبيع كتب: وأحضر هذا البائع «5» من يده كتابا يتضمّن ابتياعه الدّار المذكورة، وأصولا «6» له، وسطّر «7» عليها فصولا بهذه المبايعة، وتسلّم المشترى ذلك توثقة «8» له، وحجّة لليوم ولما بعده.

وإن كان البائع «قد استعاد الحكم «1» على ما بقى» على ملكه منها أو من غيرها كتب عوض «وتسلّم المشترى ذلك» : ثمّ بعد ذلك استعادها البائع بحكم ما بقى على ملكه منها أو من غيرها» . وإن كان فى ملك المشترى حصّة متقدّمة ثمّ ابتاع حصّة أخرى كتب: وقد كمل للمشترى المذكور بما فى ملكه متقدّما وبهذه المبايعة ملك جميع كذا وكذا سهما أو ملك جميع الدار المذكورة، وصدّقه البائع على ذلك. وإن كان فى المبيع عيب واشترطه البائع كتب بعد تمام العقد ولزومه: أعلم البائع المشترى أنّ الدّار المبيعة واقعة «2» الجدران، مختلّة «3» البنيان، سبخة الأرض والحيطان مائلة الجدر والزّروب «4» ، مكسورة القوائم والأعراق «5» ، مسوّسة الأخشاب؛ الى غير ذلك ممّا لعلّه يكون فيها من عيب؛ ورضى المشترى بذلك. وإن كان وكيلا فى الشراء كتب: وعلم المشترى أنّ الدار المذكورة معيبة «6» - أو على ما يصفها به من العيوب- وقال: إنه أعلم موكّله بذلك ورضى به. وإن كان البيع بناء دون الأرض كتب: جميع البناء القائم على الأرض المحتكرة «7» دارا أو طاحونة أو غير ذلك، الجارى هذا البناء فى يد البائع وملكه وتصرّفه على

فصل

ما ذكر؛ ويكمّل المبايعة على ما تقدّم شرحه وبيانه؛ ويكتب فى آخرها: وعلم المشترى المذكور أنّ الأرض الحاملة لهذا البناء المذكور محتكرة، ومبلغ الحكر «1» عنها فى كلّ سنة أو فى كلّ شهر كذا وكذا، ورضى بذلك. وإن كان المشترى وكيلا كتب: وقال: إنّه أعلم موكّله بذلك، ورضى به. وإن كان المبيع أرضا دون البناء أو أرضا كشفا «2» كتب: جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء البائع؛ أو جميع الساحة الكشف «3» التى لا بناء عليها، الجارية فى يد البائع وملكه وتصرّفه؛ ويذرع ويحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم. فصل وان كان المبيع بئرا كتب: جميع بناء البئر المعينة «4» ومكانها من «5» الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير. وإن كانت نقرا كتب: جميع البئر المنقورة للماء «6» المعين.

وإن كان صهريجا كتب: جميع الصّهريج المبنىّ بالطوب الآجرّ والطين والجير المتلّص «1» المبيّض بالخافقىّ «2» الذى برسم خزن الماء العذب. وإن كان بئرا همّاليّة كتب: جميع بناء الهمّاليّة «3» ومكانها من الأرض، المبنيّة بالطوب الآجرّ والطين والجير، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه، وهى فى الموضع الفلانىّ؛ ويذرع ويحدّد ذلك، إن أمكن ذلك. وإن كان المبيع نخلا دون الأرض كتب: جميع النخل القائم فى الأرض الوقف على الشىء الفلانىّ، الخارجة عن هذا البيع، ومكان «4» كلّ نخلة من الأرض، الجارى النخل المذكور فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك فى الموضع الفلانىّ؛ ويذكر عددها. وإن كانت الأرض مملوكة للبائع وأراد أن يبيع النخل بمغارسها «5» كتب: جميع النخل النابت فى الأرض الآتى «6» ذكرها فيه، وجميع أماكنها من الأرض، الجارى

فصل

النخل والأرض بكمالهما فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، باع من ذلك النخل المذكور ومواضع مغارسها، وتبقّى على ملكه بقيّة الأرض فإنها غير داخلة فى هذا البيع؛ وهذه الأرض بالموضع الفلانىّ؛ وعدّة النخل كذا وكذا. ويحدّد الأرض، ويكمّل المبايعة؛ ويكتب فى آخر المكتوب: ولهذا المشترى العبور فى الأرض المذكورة والاستطراق «1» فيها الى النخل المذكور بحقّ شرعىّ. وان كان المبيع ثمرا ونخلا كتب: جميع ثمر النخل الجارى ذلك فى ملكه ويده وتصرّفه على ما ذكر، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وعدّتها كذا كذا نخلة، إن أمكن؛ ويحدّد الأرض، ثم يقول: التى بدا صلاحها، وطاب أكلها، واحمرت واصفرّت، وجاز بيعها بشرط القطع؛ وإن شرط التّبقية كتب: بشرط التّبقية إلى أوان الجذاذ، «2» شراء صحيحا شرعيّا؛ ويكمّل «3» المبايعة. فصل وان كان المبيع مركبا كتب: جميع المركب العشارىّ «4»

أو الخضارىّ «1» ، أو الدّرمونة «2» ، أو الناريّة «3» ، أو الشّختور «4» ، أو الحرّاقة «5»

أو الشلودة «1» ، أو الدلاج «2» ، أو الكبكة «3» ، أو غير ذلك، وجميع عدّتها المتّخذة برسمها، الآتى ذكر ذلك ووصفه، الجارى ذلك فى يد البائع وملكه وتصرّفه على ما ذكر؛ وصفة المركب أنّها طول كذا كذا ذراعا بالذراع «4» النّجّارىّ «5» ، ومحملها كذا وكذا إردبا بالكيل المصرىّ؛ وصفة العدّة أنها صار قطعة واحدة، وبرأسه جامور «6» ، وقريّة «7» ثلاث قطع

وقوسان، وقلع مزوّى «1» من قماش القطن، أو الملحم «2» ، أو غيره، عدّته كذا وكذا بيلمانا «3» أو قلع ستارة مكمّلة حبال «4» القنّب أو القطن، ورجل «5» طويلة قطعة أو قطعتان، وفراش «6» ، وكذا وكذا مجذافا «7» ، وإسقالة «8» برّ أو أكثر من ذلك

ومذراة «1» أو أكثر، وعروس «2» ، وقلوس «3» ، وقرايا «4» ، وغير ذلك من آلات المركب وعدده؛ فما زاد عن ذلك ذكره، وما نقص وصفه؛ ثم يقال «5» : «وهذا المركب مدسور «6» السّفل والعلو، مسدود الشوبين «7» ، مغطّى الخنّين» «8» ؛ وإن كان له مرساة «9» من حديد وصفها وذكر زنتها؛ ويكمّل المبايعة.

وإن كان المبيع بالغا عبدا أو أمة «أو كانا غير بالغين «1» » كتب: جميع العبد، أو الغلام، أو الوصيف «2» ، أو المملوك، أو الجارية، أو الأمة، أو الوصيفة، الجارى، أو الجارية فى يد البائع وملكه، المقرّ «3» له بالرّقّ والعبوديّة، المدعوّ فلانا؛ ويذكر جنسه ودينه، ثم يقول: وحليته: ... ويذكرها. وإن كان «4» دون البلوغ كتب: جميع الغلام الذى بيده وملكه وتصرّفه على ما ذكر، المراهق، أو المعصر «5» ، إن كانت جارية؛ ويعيّن البكارة إن كانت؛ ثمّ يقول: «شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا» ؛ ويكمّل المبايعة. وإن كان بالمبيع عيب ذكره، فيكتب: وعلم المشترى أنّ به أو بها المرض الفلانىّ- ويعيّنه، ويعدّد الأمراض والعيوب وآثار الكىّ وغير ذلك إن كان- ورضى به، ودخل «6» عليه.

فصل

وإن كان المبيع عبدا بجارية أو العكس كتب: جميع العبد الذى بيد البائع- على نحو ما تقدّم- بجميع الجارية الفلانيّة الجنس، المسلمة؛ تقابضا «1» وتفرّقا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك «2» فى ذلك حيث يجب شرعا؛ وإن كان فى أحدهما عيب ذكره. فصل وإن كانت الدار المبيعة فى بلد والمتبايعان فى بلد آخر كتب التخلية عوض التسليم، فيقول: وخلّى البائع المذكور بين المشترى وبين ما باعه إيّاه فيه «3» تخلية شرعيّة، ووجب «4» له بذلك قبض المبيع وتسلّمه بمقتضى هذا الابتياع الشرعىّ؛ وأقرّا أنهما «5» عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة قبل تاريخه، ونظراه النظر الشرعىّ، تعاقدا هذه «6» المبايعة بينهما معاقدة شرعيّة مشافهة بالإيجاب والقبول.

فصل

واذا دفع المشترى للبائع من الثمن جوهرة، أو سيفا، أو خاتما بفصّ «1» ثمين، أو غير ذلك ممّا «2» تجهل قيمته، كتب: شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه من الذهب، أو من الدراهم كذا وكذا، وبجوهرة نفيسة، أو لؤلؤة نقيّة، مجهولة القيمة، مرئيّة «3» حال العقد؛ تقابضا وافترقا؛ ويكمّل المبايعة. وإن حضر من يضمن درك «4» البائع فيما باعه وقبض ثمنه كتب: وحضر بحضور البائع المذكور فلان، وضمن فى ذمّته درك البائع فيما باعه وقبض الثمن بسببه «5» ، ضمانا شرعيّا فى ماله، بإذنه له فى ذلك، وأقرّ أنه «6» ملىء «7» بما فى ضمانه. فصل وإن أبرأ البائع ذمّة المشترى من الثمن كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا، أبرأ البائع المذكور ذمّة المشترى منه براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه قبولا شرعيّا، ولم تبق للبائع المذكور قبل المشترى المذكور مطالبة بسبب الثمن ولا شىء منه، ولا عوض عنه ولا عن شىء منه، وسلم البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة.

فصل

وان كان البيع بثمن مؤجّل أو منجّم «1» كتب: بثمن مبلغه كذا وكذا يقوم له بذلك جملة واحدة فى التاريخ الفلانىّ، أو فى كلّ شهر يمضى كذا وكذا، على حسب ما يقع عليه الاتّفاق. فصل وإن اشترى رجل من رجل دارا بماله فى ذمّته من الدّين كتب ما مثاله: شراء صحيحا شرعيّا، بما للمشترى فى ذمّة البائع من الدّين الحالّ الذى اعترف به البائع عند شهوده، وهو كذا وكذا، وصدّقه المشترى على ذلك، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى ذلك وبحكم ذلك برئت ذمّة البائع من الدّين الذى كان قبله للمشترى، ولم تبق للمشترى عنده مطالبة بسبب ذلك، وتصادقا على ذلك. فصل وإن كان لرجل على رجل دين فباعه دارا بثمن معلوم، ثم قاصّه «2» بماله فى ذمّته من الدّين، أو امرأة اشترت من زوجها دارا بثمن حالّ وقاصّته بصداقها، كتب

ما مثاله: اشترى فلان بن فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة- كما تقدّم شرحه- شراء «1» صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «2» ، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، [ومالا] «3» من جملة أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ وضمان الدّرك «4» فى ذلك؛ ثمّ بعد [تمام] «5» ذلك ولزومه قاصّ «6» المشترى المذكور البائع المذكور الثمن المذكور بماله فى ذمّة البائع من الدّين الذى اعترف به عند شهوده، وهو نظير الثمن المذكور فى القدر والجنس والصفة والاستحقاق، مقاصّة «7» صحيحة شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب ثمن، ولا مثمّن ولا دين، ولا غيره، ولا حجّة، ولا مسطور، ولا ذهب، ولا فضّة، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة على اختلافها لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه، وتصادقا على ذلك.

وإذا اشترى جماعة من جماعة دارا ورثوها كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان وفلان وفلان بما لهم لأنفسهم بالسويّة بينهم أثلاثا؛ وإن كانوا متفاوتين فى الابتياع كتب: «فمن ذلك ما اشتراه فلان المبدأ «1» بذكره بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا، وما اشتراه فلان بماله لنفسه كذا» ؛ وإن كان منهم من اشترى حصّة لموكّله قال: «وما اشتراه فلان لموكّله بإذنه وأمره وتوكيله وماله كذا حسب ما وكّله فى ابتياع ما يذكر فيه «2» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «3» ، على ما يشهد به من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، أو على ما ذكر الوكيل المشترى» من فلان وفلان وفلان الإخوة الأشقّاء، أو لأب، أولاد فلان بن فلان الفلانىّ، جميع الدار «4» الكاملة الجارية فى أيدى البائعين وملكهم وتصرّفهم بالسويّة بينهم أثلاثا، المنتقلة إليهم بالإرث الشرعىّ عن والدهم فلان المذكور، بحكم أنّه توفّى إلى رحمة الله تعالى قبل تاريخه، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين جميعه شرعا أولاده لصلبه الإخوة الأشقّاء، وهم البائعون المذكورون أعلاه الذين رزقهم من زوجته التى كانت فى عصمته وعقد نكاحه فلانة، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عن استكماله بوجه ولا سبب، وترك من جملة ما خلّفه هذه الدار المذكورة، قسمت بينهم بالفريضة الشرعيّة أثلاثا بالسويّة بينهم؛

وإن كانت وفاة والدهم ثابتة عند حاكم ذكرها، ثم يقول: وهذه الدار بالبلد الفلانىّ، بالحارة الفلانيّة، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الذهب أو من الدراهم كذا وكذا بين «1» البائعين بالسويّة، من مال المشترين المذكورين على قدر ما ابتاعه كلّ منهم فيه «2» ، تقابضوا، وتفرّقوا بالأبدان، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، وضمان الدّرك فى ذلك. وإن ضمن كلّ من البائعين درك الآخر كتب: «وكلّ واحد من البائعين ضامن فى ماله وذمّته درك الآخرين المذكورين فيما باعاه وقبضا الثمن بسببه ضمانا شرعيّا فى ماله وذمّته، بإذن كلّ منهم للآخرين فى الضمان والأداء والرجوع، وأقرّ كلّ واحد منهم أنّه «3» ملىء بما ضمنه، وقادر عليه» . وإن صدّق كلّ منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه كتب: «وصدّق كلّ واحد منهم الآخر على صحّة ملكه لما باعه فيه وقبض الثمن بسببه تصديقا شرعيّا» . وإن حضر من يضمن فى الذمّة كتب: «وحضر بحضورهم فلان، أو كلّ واحد من فلان وفلان، وضمن كلّ منهم وكفل فى ذمّته درك البائعين المذكورين فيما باعوه وقبضوا الثمن بسببه، ضمانا شرعيّا، بإذن كلّ منهم للآخر فى ذلك، وأقرّ كلّ منهم أنّه «4» ملىء بما ضمنه، قادر عليه» .

وإذا ابتاع رجل لموكّله حجر طاحون «1» أو غيرها «2» كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان لموكّله فلان بماله وإذنه وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه «3» ، وفى التسليم والتسلّم اللّذين يشرحان فيه «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ أو يقول: «على ما ذكر» ؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده، الثابته بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ، من فلان، جميع حجر الطاحون «5» الفارسىّ «6» وعدّتها «7» ، الداخل ذلك فى عقد هذا البيع، الجارى ذلك فى يد البائع المذكور وملكه وتصرّفه على ما ذكر، وهى بالمكان الفلانىّ؛ ويصف الطاحون «8» والعدّة التى بها، وهى التوابيت «9» والحجارة النجديّة وقواعد الصّوّان، ويصف جميع العدّة، ويحدّد الطاحون «10» ، ويذكر الثمن، ويكتب: دفعه المشترى المذكور من مال موكّله للبائع المذكور، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، وبحكم ذلك برئت ذمّة المشترى المذكور والمشترى له فيه «11» من الثمن المذكور ومن وزنه ونقده، براءة صحيحة شرعيّة

فصل

براءة قبض واستيفاء، وسلم البائع للمشترى ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه لموكّله المذكور، وصار بيده وقبضه وحوزه ملكا لموكّله، وذلك بعد النظر والمعرفة الشرعيّة والمعاقدة والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك «1» حيث يوجبه الشرع الشريف. فصل إذا باع الوكيل عن موكّله حمّاما كتب: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه «2» بالثمن الذى تعيّن فيه «3» ، وقبض الثمن، وتسليم المبيع لمبتاعه، عن موكّله فلان، حسب ما يشهد على موكّله بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ وإن كان بيده وكالة كتب: «حسب ما يشهد بذلك كتاب الوكالة «4» الذى بيده، الثابت حكمه بمجلس الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ» ؛ ويشرح مقاصد الثّبوت، ثم يكتب: جميع الحمّام المعروفة «5» بدخول الرجال والنساء، وقدورها الرّصاص الأربع، وميازيبها «6» النّحاس والرّصاص، ومستوقدها، وبيت نارها، الآتى ذكر جميع ذلك فيه «7» ، الجارى جميع ذلك فى يد البائع ملكا لموكّله المبيع عنه، على ما ذكر الوكيل البائع، وذلك بالبلد الفلانىّ، بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه

واذا ابتاع الأخرس الأصم دارا،

كذا وكذا، ودفع المشترى الثمن من ماله للبائع المذكور، فتسلّمه منه لموكّله المذكور وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم «1» البائع المذكور للمشترى ما باعه إيّاه عن موكّله فتسلّمه منه، وصار بيده وملكه وحوزه، وذلك بعد النظر ... ؛ ويكمّل على ما تقدّم. واذا ابتاع الأخرس الأصمّ دارا، كتب: اشترى فلان الأخرس اللسان، الأصمّ الأذنين، الصحيح البصر والعقل والبدن، العارف بما يلزمه شرعا الخبير بالبيع والشراء والأخذ والعطاء، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، المعلومة عند البائع وعند شهود هذا المكتوب، القائمة مقام النطق، التى لا تجهل ولا تنكر من فلان الفلانىّ جميع الدار الفلانيّة ... ؛ ويكمل نحو ما تقدّم. واذا ابتاع رجل من آخر دارا بثمن معيّن مقبوض وكتب بينهما مكتوب على ما تقدّم، ثم حضر المشترى وادّعى أنه كان ابتاع الدار لموكّله كتب على ظهر المكتوب: أقرّ فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- أنه «2» لمّا ابتاع الدار الموصوفة الحدود فى باطنه فى التاريخ الفلانىّ من فلان «3» بالثمن المعيّن وهو كذا وكذا، كان وكيلا فى ابتياعها عن فلان بإذنه وأمره وتوكيله إيّاه فى ذلك وأنّ اسمه على سبيل النيابة «4» والوكالة، وأنّ الثمن المعيّن باطنه من مال هذا المقرّ له

وإذا ابتاع رجل من آخر دارا، ومات البائع ولم يكن بينهما مكاتبة فأراد ورثته مكاتبة ببراءة ذمة مورثهم والإشهاد له بذلك،

فيه «1» وصلب حاله، وصدّقه على ذلك تصديقا شرعيّا، وقبل منه هذا الإقرار لنفسه وسلم له الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا له وأقرّ المقرّ له أنه كان قد أذن له فى ذلك ووكّله فى ابتياعها الوكالة الشرعيّة، وصدّقه المقرّ، وأقرّا أنّهما عارفان بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وبحكم هذا الإقرار صارت هذه الدار المذكورة ملكا للمقرّ له دون المقرّ، ودون كلّ احد بسببه «2» ولم يبق للمقرّ فيها حقّ ولا طلب، وتصادقا على ذلك تصادقا «3» شرعيّا، ويؤرّخ. وإذا ابتاع رجل من آخر دارا، ومات البائع ولم يكن بينهما مكاتبة فأراد ورثته مكاتبة ببراءة ذمّة مورّثهم والإشهاد له بذلك، كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان [وفلان] «4» الإخوة الأشقّاء، أو غير الأشقّاء، أولاد فلان عند شهوده «5» طوعا إقرارا شرعيّا، أنّ «6» والدهم المذكور توفّى إلى رحمة الله تعالى فى التاريخ الفلانىّ، وأنه كان قبل تاريخ وفاته فى تاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدار الفلانيّة، الجارية فى يده وملكه وتصرّفه- وتوصف وتحدّد- بما مبلغه كذا وكذا، بيعا صحيحا شرعيّا قاطعا ماضيا جائزا نافذا، وأنّ المشترى المذكور

اذا ابتاع رجل من بائع قد ثبت رشده بعد الحجر عليه

دفع إليه جميع الثمن من ماله، وصلب حاله، بتمامه وكماله، وسلم والدهم البائع هذا المشترى المذكور الدار المذكورة، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه وذلك بعد النظر والمعرفة، والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض وصدّقهم المشترى المقرّ له على ذلك، واعترف كلّ من المقرّين والمشترى أنهم «1» عارفون بالدار المذكورة المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأقرّوا أنّ البائع المذكور كان عارفا بها، وتصادقوا على ذلك، واعترف المشترى المذكور أنّ الدار المذكورة بيده وتصرّفه، وجارية فى ملكه، وأنّه سأل الورثة المذكورين الإشهاد على أنفسهم بذلك، فأجابوا سؤاله، وأشهدوا على أنفسهم براءة لذمّة أبيهم، ومراعاة لحقه عليهم وأقرّ المقرّون أنّهم «2» لا يستحقّون فى هذه الدار ملكا، ولا يدا، ولا إرثا، ولا موروثا ولا حقّا من الحقوق الشرعيّة، وأنّ المشترى المذكور المقرّ له مالك لهذه الدار دونهم ودون كلّ أحد بسببهم «3» ، وتصادقوا على ذلك، وقبل منهم المشترى هذا الإقرار قبولا شرعيّا؛ ويؤرّخ. اذا «4» ابتاع رجل من بائع قد ثبت رشده بعد الحجر عليه كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان من فلان البالغ الرشيد، الثابت رشده فى مجلس الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، عند القاضى فلان ... «5»

«1» ... من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، ولكونه ليس له موجود غير ما يذكر فيه «2» ، وأنّ والده لا تلزمه نفقته بحكم ماله من هذا الموجود، اشترى من نفسه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا «3» فى جميع الدار الفلانيّة التى بالمكان الفلانىّ، أو الدار الكاملة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وقبضه المشترى من نفسه لولده المذكور المبيع عليه «4» ، من مال أخيه فلان الطفل المشترى له فيه «5» ، الذى تحت يده وحوطه، وصار ذلك فى حوزه لولده فلان المبيع عليه «6» وتسلّم من نفسه الدار المذكورة لولده المشترى له، وذلك بعد مشاهدته لها ونظره إيّاها، ومعرفته بها المعرفة الشرعيّة، كلّ ذلك بالمعاقدة الشرعيّة الجائزة

اذا ابتاع رجل دارا من نفسه لنفسه - وهو أن يكون له ولد تحت حجره، ولولده دار، فأراد أن يشتريها لنفسه من ولده

باع على ولده فلان المثنّى باسمه المذكور، واشترى لولده فلان المبدإ «1» باسمه فيه من نفسه على ما شرح أعلاه، واعترف أنّ «2» الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة» ولا فرط «4» ولا بخس ولا وكس، ولا تفاوت «5» فيه بوجه ولا سبب، وقبل ذلك من نفسه لولده المشترى له فيه قبولا صحيحا شرعيّا وضمن الدّرك «6» حيث يوجبه الشرع الشريف. اذا ابتاع رجل دارا من نفسه لنفسه- وهو أن يكون له ولد تحت حجره، ولولده دار، فأراد أن يشتريها لنفسه من ولده - كتب ما مثاله: اشترى فلان من ماله لنفسه من نفسه جميع الدار الكاملة، الجارية فى يده ملكا لولده لصلبه فلان الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، والغبطة «7» الزائدة على ثمن المثل، أو لمصلحة اقتضت ذلك، وهذه

اذا أراد أمين الحكم - وهو الناظر على الأيتام من قبل الحاكم - أن يبيع دارا على يتيم محجور عليه

الدار بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، قبض الثمن من نفسه لولده عن داره التى ابتاعها منه لنفسه وصار بيده وقبضه وحوزه، ويصرفه فى مصالح ولده المذكور، وتسلّم من نفسه لنفسه الدار المذكورة، وصارت بيده ملكا له، ورفع عنها يد نظره وولايته، ووضع عليها يد ملكه وحيازته، وأقرّ أنه «1» عارف بالدار المذكورة، وأنّه نظرها النظر الشرعىّ وأحاط بها علما وخبرة نافية للجهالة؛ ويؤرّخ. اذا أراد أمين الحكم- وهو الناظر على الأيتام من قبل الحاكم- أن يبيع دارا على «2» يتيم محجور عليه كتب محضرا بالقيمة، وأثبته عند الحاكم بشهادة شهود القيمة والمهندسين، وأشهر «3» الدار بحضرة عدلين؛ وصفة المحضر فى فصل المحاضر؛ فإذا ثبت المحضر وأراد البيع وكتب كتاب المبايعة، فسبيل الكاتب أن يكتب: هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالبلد الفلانىّ، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز، لما دعت حاجته إليه: من نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وذلك بإذن سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المشار اليه فى بيع الدار التى تذكر فيه، بالثمن الذى تعيّن فيه وقبضه، وفى تسليم الدار لمبتاعها، الإذن الشرعىّ، يشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدار الفلانيّة

وإن شرط أمين الحكم الخيار

الجارية فى يده ملكا لفلان المحجور عليه- وتعيّن فيه- وله بيعها، وقبض ثمنها وتسليمها لمبتاعها بطريق شرعىّ؛ وإن صدّقه المشترى قال: «وصدّقه المشترى على ذلك تصديقا شرعيّا» وهى الدار التى بالبلد الفلانىّ، بالخطّ الفلانى- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى من ماله لأمين الحكم العزيز، فتسلّمه منه وصار بيده وقبضه لفلان المذكور المحجور عليه، وسلّم أمين الحكم العزيز المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وملكه وحوزه وتصرّفه، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة والتفرّق بالأبدان عن تراض. وإن شرط أمين الحكم الخيار كتب: «وانقضاء مدّة الخيار الشرعىّ الذى اشترطه أمين الحكم البائع لنفسه ثلاثة أيّام» ، والسبب فى هذه المبايعة احتياج المبيع عليه إلى نفقة ومؤونة وكسوة ولوازم شرعيّة، وثبوت ذلك عند الحاكم المذكور وثبت عنده أيضا- أيّد الله أحكامه- أنّ قيمة الدّار المذكورة كذا وكذا وهو الثمن المعيّن أعلاه، ثبوتا صحيحا شرعيّا، بشهادة ذوى عدل: هما فلان وفلان ومهندسين: هما فلان وفلان؛ فحينئذ تقدّم إذن الحاكم المذكور بالنّداء على الدّار المذكورة، وإشهارها «1» بصقعها وغيره فى مظانّ الرغبة فيها مدّة ثلاثة أيّام، آخرها اليوم الفلانيّ، فلم يسمعا «2» من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى القيمة والمهندسين

اذا مات رجل وترك دارا وفى ذمته لزوجته صداق وأثبتته، واشترت الدار من أمين الحكم بمبلغ صداقها،

وشاهدى النّداء شهادته بما يشهد به فيه «1» عند الحاكم المذكور، وأعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء على الرسم المعهود حسب ما تضمّنه المحضر الشرعىّ المؤرّخ بكذا وكذا، وبأعلاه علامة الثّبوت، ومثالها كذا وكذا، فلمّا تكامل ذلك عند الحاكم المذكور، وسأله «2» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته «3» الإذن لأمين الحكم المذكور فى بيع الدار المذكورة بالثمن المذكور؛ والإشهاد عليه بما ثبت عنده فأجاب الحاكم المذكور سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ وأذن لأمين الحكم فى بيع ذلك على ما شرح أعلاه، فشهد على الحاكم المذكور بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره، فامتثل أمين الحكم ذلك، وعاقد المشترى المذكور على ذلك كذلك «4» على ما شرح أعلاه، وبمضمونه شهد على المتعاقدين بتاريخ كذا وكذا. اذا مات رجل وترك دارا وفى ذمّته لزوجته صداق وأثبتته، واشترت الدار من أمين الحكم بمبلغ صداقها، فالذى يفعل فى ذلك أنّ الزوجة تحضر عدلين [يشهدان] «5» بشخصه وهو ميت، ويكتبان لها فى ذيل صداقها «6» أنّهما عايناه ميتا؛ وإن كانا شاهدى الصداق كان ذلك أجود، وإن لم يكونا عايناه شهدا بالاستفاضة؛

ثم يؤدّى «1» شهود العقد والتشخيص عند الحاكم، ثم تحلّف الزوجة، ويكتب الحلف، وصورة ما يكتب: أحلفت المشهود لها أعلاه، أو باطنه، فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان بالله الذى لا إله إلّا هو، يمينا شرعيّة، مؤكّدة مستوفاة جامعة لمعانى الحلف، إنّها مستحقّة فى تركة المصدق المسمّى باطنه فلان مبلغ صداقها عليه وإنّ الشاهدين بذلك صادقان فيما شهدا لها [به] «2» من ذلك، وإنّ ذمّته لم تبرأ من الصداق المذكور ولا من شىء منه، وإنّها ما قبضته ولا شيئا منه ولا تعوّضت عنه ولا عن شىء منه، ولا أبرأته منه ولا من شىء منه، ولا أحالت به ولا بشىء منه، ولا اختلعت «3» به ولا بشىء منه، ولا برئ «4» إليها منه، ولا من شىء منه بقول ولا فعل، وإنّها تستحقّ قبض ذلك من تركته حال حلفها، وإنّ من يشهد لها به صادق فيما يشهد لها به من ذلك، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره [على] «5» الأوضاع الشرعيّة، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب

عليها بتاريخ كذا وكذا. ويشهد شهود الحلف فى آخره بما صورته: «حضرت الحلف المذكور وشهدت به» . وإن كان صداقها لم يثبت إلا بشهادة عدل واحد أحلفت على ذلك، ويكتب حلفها، وهو: أحلفت الزوجة، المشهود لها فيه، فلانة المشخّصة لمستحلفها بالله الذى لا إله إلّا هو يمينين شرعيّتين «1» مؤكّدتين مستوفاتين جامعتين لمعانى الحلف معتبرتين شرعا: إحداهما أنّها محقّة فيما ادّعت به على زوجها المصدق المذكور فلان، وهو مبلغ صداقها عليه، الشاهد به كتابها، وهو كذا وكذا، وأنّ شاهدها بذلك صادق فيما شهد لها به من ذلك، واليمين «2» الثانية أنّها تستحقّ قبض المبلغ المذكور من تركته، وأنّها ما قبضت ذلك ولا شيئا منه، كما تقدّم ذكره فى الحلف الأوّل إلى التاريخ. ثمّ يكتب بعد ذلك إسجال الحاكم، ومثاله: هذا ما أشهد عليه سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، أو أقضى القضاة فلان، الحاكم بالمكان الفلانىّ، «3» من حضر مجلس حكمه ومحلّ قضائه وولايته، فى اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، من السّنة الفلانيّة «4» ... بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار

على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، ويمين المشهود لها فيه «1» فلانة على استحقاقها فى ذمّة المصدق المسمّى باطنه فلان «2» مبلغ صداقها عليه، وهو كذا وكذا، على ما تضمّنه الصداق باطنه، أو على ما تضمّنه فصل الاسترجاع «3» المسطّر باطنه، المؤرّخ بكذا، [وقال «4» كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده] بشروط الأداء المعتبرة شرعا، وشخّص له الشهود المشهود لها تشخيصا معتبرا، وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد ثبوت وفاة المصدق المذكور الثّبوت الشرعىّ وأحلفت الزوجة المشهود لها المذكورة على استحقاقها ذلك بالله العظيم الذى لا إله

إلّا هو، اليمين الثابتة «1» الشرعيّة المسطّرة فى فصل الحلف باطنه على ما نصّ وشرح فيه، فحلفت كما أحلفت بالتماسها لذلك، وحضور من يعتبر حضوره على الأوضاع الشرعيّة فى تاريخ الحلف المذكور؛ ولما تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، فأجابه إلى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته إن كانت، وهو فى ذلك نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى الموصوفة «2» وما ترتّب عليها، وحضر سماع الدّعوى وإقامة البيّنة القاضى فلان أمين الحكم العزيز، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك، فحينئذ أذن الحاكم فى إيصال الحقّ لمستحقّه «3» شرعا، ووقع الإشهاد فيه بتاريخ كذا وكذا. ثمّ يكتب ابتياعها من أمين الحكم فى ذيل الإسجال «4» ... : هذا ما اشترت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان- وهى المشهود لها باطنه المستحلفة فيه-

لنفسها من القاضى فلان أمين الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على المصدق المسمّى المحلّى «1» باطنه فلان، فيما «2» ثبت عليه من صداق زوجته المشترية المذكورة بمجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، وهو كذا وكذا، وفى المقاصّة «3» الشرعيّة على الأوضاع الشرعيّة المعتبرة، بإذن صحيح شرعىّ من يد قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة لأمين الحكم المذكور فى ذلك، اشترت منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة الجارية فى يده وتصرّفه منسوبة لملك فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى «4» بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا حالّ «5» ، وسلم البائع أمين الحكم المذكور للمشترية المذكورة ما ابتاعته منه فيه، فتسلّمته منه، وصار بيدها وقبضها وملكها وحوزها، ومالا من جملة أموالها، وذلك بعد النظر والرضا والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض وأقرّت المشترية المذكورة أنّ «6» الدّار المذكورة جارية فى ملك زوجها المذكور، ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قاصّ القاضى فلان أمين الحكم العزيز البائع المذكور المشترية بما فى ذمّتها من الثمن المذكور ما ثبت لها على المبيع عليه من الصداق المذكور، وهو كذا وكذا، وهو قدر الثمن المذكور وصفته وجنسه وحلوله «7» ، مقاصّة «8» شرعيّة برّأت

وإن كانت الزوجة لم تشتر بل اشترى غيرها لنفسه

ما فى «1» ذمّة المبيع عليه من الصداق، وبرّأت ما فى «2» ذمّة المشترية من الثمن براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، وذلك بعد أن ثبت عند سيّدنا قاضى القضاة فلان بشهادة من يضع خطّه آخره، من العدول والمهندسين المندوبين لتقويم الأملاك أهل الخبرة بذلك، أنّ قيمة الدار المذكورة جميع الثمن المذكور، وأنّه قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط، ولا غبينة «3» ولا فرط «4» ، وأنّ الحطّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب شهود القيمة والمهندسين خطوطهم أنّ الثمن المذكور هو ثمن المثل يومئذ، ويؤدّون «5» عند الحاكم، ويعلم تحت رسم شهادتهم، ثم يكتب شهود المعاقدة الشهادة عليهما «6» بالابتياع [وأنّه] قد تمّ ذلك. وإن كانت الزوجة لم تشتر بل اشترى غيرها لنفسه كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان المصدق فيما «7» ثبت عليه من صداق زوجته فلانة بمجلس الحكم العزيز

- وهو كذا وكذا- وفى «1» وفاء الصّداق المذكور للزوجة المذكورة، وذلك بإذن صحيح شرعىّ من سيّدنا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة وشهد عليه بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الكاملة «2» الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المتوفّى المبيع عليه. وتوصف وتحدّد، ويذكر الثمن، ويقال: قبضه أمين الحكم من المشترى المذكور، وصار بيده وحوزه، وسلم البائع للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه ومالا من جملة أمواله، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ فلانة زوجة فلان المتوفّى المذكور أثبتت صداقها فى مجلس الحكم العزيز عند الحاكم المذكور على زوجها المذكور، بشهادة العدول المشار إليهم فى الإسجال المذكور، الذين أعلم تحت رسم شهادتهم علامة الأداء آخره، وقال كلّ منهم: إنّه عارف بالمصدق والزوجة المذكورين، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها عنده بشروط الأداء. وشخّص الزوجة المذكورة، وقبله «3» فى ذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والتعريف بالتشخيص على الرسم المعهود فى مثله

وأحلف الزوجة المذكورة بالله الذى لا إله إلّا هو اليمينين «1» الشرعيّتين، الجامعتين لمعانى الحلف، المشروحتين فى مسطور الحلف بكذا وكذا، وذلك بحضور من يعتبر حضوره؛ فلما تكامل ذلك عند الحاكم المذكور سألت الزوجة الحاكم المذكور إيصالها إلى «2» مبلغ صداقها المشهود لها به من موجود زوجها المذكور، فأذن الحاكم لأمين الحكم العزيز فى بيع ذلك، وقبض ثمنه، وإيصال الزوجة المذكورة إلى «3» ما ثبت لها فى ذمّة زوجها من الصّداق المذكور، والإشهاد عليها بقبض ذلك، إذنا شرعيّا، فشهد عليه بذلك من يضع خطّه آخره، وذلك بعد أن ثبت عند الحاكم المذكور أنّ هذه القيمة المبيع بها قيمة المثل يومئذ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك، يشهد به المحضر المؤرّخ بكذا وكذا، وفيه خطّ جماعة من العدول والمهندسين أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه وذلك بعد أن شهد أمين الحكم المذكور أنّ الدار المذكورة أقامت «4» بيد الدلّالين على العقار ليشهروها فى الشوارع والأسواق الجارية بها العادة أيّاما متوالية بحضرة عدلين:

إذا باع الوصى دارا بالغبطة الزائدة على ثمن المثل بغير حاجة لمن هو تحت الحجر

هما فلان وفلان، فكان الذى انتهى [إليه] «1» البذل فيها من هذا المشترى كذا وكذا، وهو الثمن المذكور؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد على الحاكم المذكور وأمين الحكم والمشترى بما نسب الى كلّ منهم فيه بتاريخ كذا وكذا. ثمّ يكتب خلف الصداق قبض الزوجة، ومثال ذلك: أقرّت فلانة المرأة الكاملة عند شهوده طوعا أنّها قبضت وتسلّمت من القاضى فلان أمين الحكم العزيز جميع مبلغ صداقها الذى فى ذمة زوجها فلان المتوفّى المذكور، وهو كذا وكذا، وصار بيدها وقبضها وحوزها، وهو ثمن الدّار التى باعها أمين الحكم العزيز على زوجها فلان لأجل وفاء صداقها المذكور، فبحكم ذلك برئت ذمّة المصدق من الصداق المذكور براءة صحيحة شرعيّة، براءة قبض واستيفاء؛ ويؤرّخ. إذا باع الوصىّ دارا بالغبطة «2» الزائدة على ثمن المثل بغير حاجة لمن هو تحت الحجر فالطريق فى ذلك أن يكتب محضرا بالقيمة يشهد فيه شهود القيمة والمهندسون وينادى عليها بحضرة عدلين، ويثبت ذلك عند الحاكم؛ وصورة المحضر فى باب المحاضر؛ ثم يكتب المبايعة، وصورة ما يكتب: هذا ما اشترى فلان لنفسه من فلان القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان بن فلان الذى هو تحت ولاية نظره بمقتضى الوصيّة المفوّضة اليه من والده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز وعدالته، ونسختها ... وأرخها «3» ... وأسماء شهودها ... والحاكم الذى ثبتت عنده ... وصورة علامته ... -

وإن اختصر ولم يذكر نسختها فذلك كاف- لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة، وحسن النظر، والغبطة «1» الزائدة على ثمن المثل، حسب ما يشهد بذلك محضر القيمة والغبطة «2» المشروح آخره، الثابت بمجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ يشهد على الحاكم بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا، تقابضا وتفرّقا بالأبدان عن تراض، بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ الوصىّ البائع المذكور نجّز محضرا يتضمّن مسير أرباب الخبرة بالعقار وتقويمه والعدول والمهندسين المندوبين من مجلس الحكم العزيز لذلك- وهم فلان وفلان شاهدا القيمة، وفلان وفلان المهندسان- الى الدّار «3» المذكورة، وشاهدوها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وذكروا أنّ القيمة عنها كذا وكذا، وأنّها قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى بيع الدار المذكورة بزيادة كذا وكذا لتتمّة كذا وكذا، وهو الثمن المعاقد عليه، وأقام كلّ منهم شهادته عند القاضى فلان بذلك، وأعلم تحت شهادتهم ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول، ثم أشهرت «6» الدار المذكورة بحضرة عدلين: هما فلان وفلان، فى صقعها وغيره من الأصقاع ومظانّ الرّغبة مدّة ثلاثة أيّام فلم يحضر من بذل زيادة على ذلك، وقد أقام كلّ من شاهدى النداء شهادته عند الحاكم المذكور بذلك، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء حسب ما تضمّنه

اذا باع الوصى دارا على يتيم للحاجة من غير أن يثبت الحاجة ولا القيمة

المحضر المذكور المؤرّخ بكذا وكذا، الذى بأعلاه علامة الثبوت، ومثالها كذا وكذا وشهد على الحاكم بثبوت ذلك عنده من يعيّنه فى رسم شهادته آخر هذا المكتوب؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع الإشهاد «1» على الوصىّ البائع والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما بعاليه بتاريخ كذا وكذا. وإن كان الوصىّ باع بإذن الحاكم كتب ذلك كما تقدّم فى حقّ أمين الحكم؛ ويجوز أن يبيع «2» الوصىّ بغير محضر، وإنّما المحضر أقطع للتنازع، وأدفع للطاعن. اذا باع الوصىّ دارا على يتيم للحاجة من غير أن يثبت الحاجة ولا القيمة فذلك جائز، وإنّما يخاف من التنازع؛ فإذا أراد ذلك كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من فلان وصىّ فلان بن فلان على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وولاية نظره، متصرّفا فيما له وعليه بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة فى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة، القائم فى بيع ما يذكر فيه على فلان الطفل الذى تحت حجره وولاية نظره، لما دعت اليه الحاجة من نفقته وكسوته ولوازمه الشرعيّة، وأنّه ليس له موجود غير هذه الدار المذكورة، وليس منها أجرة تكفيه، ولما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى

إذا ابتاع الوصى دارا ليتيم على يده

منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لفلان المبيع عليه- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، دفعه المشترى المذكور من ماله للبائع المذكور، فقبضه منه وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه لفلان المبيع عليه، وسلم الوصىّ البائع المذكور للمشترى المذكور ما باعه إيّاه، فتسلّمه وصار بيده وملكه وحوزه، ومالا من أمواله، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وضمان الدّرك فى صحّة البيع «1» ، وبعد أن اعترف الوصىّ البائع أنّ الثمن المذكور هو قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيه ولا شطط ولا غبينة «2» فيه ولا فرط «3» ، وصدّقه المشترى على ذلك؛ ويؤرّخ. إذا ابتاع الوصىّ دارا ليتيم على يده كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان لفلان بن فلان الطفل الذى فى حجره وكفالته وولاية نظره، بماله الذى تحت يده، المنتقل إليه بالإرث عن والده المذكور، الذى كان فى حال حياته وصّاه عليه، وجعله ناظرا فى مصلحته، وذلك بمقتضى الوصيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم الشريف وعدالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر؛ اشترى له بقضيّة ذلك وحكمه من فلان جميع الدار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد، ويكمّل المبايعة على ما تقدّم- وذلك بعد أن اعترف الوصىّ بأن الثمن المذكور هو ثمن المثل، لا حيف فيه ولا شطط، وصدّقه البائع على ذلك؛ ويؤرّخ.

إذا عوض الرجل ابنته الطفلة دارا بدار لها

إذا عوّض الرجل ابنته الطفلة دارا بدار «1» لها كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد على نفسه طوعا أنه عوّض ابنته لصلبه فلانة الطفلة، التى تحت حجره وكفالته وولاية نظره- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النظر- جميع الدّار التى بيده وملكه وتصرّفه- على ما ذكر- بجميع «2» الدّار التى بيده وتصرّفه ملكا لابنته المذكورة- وتوصف وتحدّد- لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة، ولعلمه أنّ الدّار التى عوّض ابنته بها «3» - وهى المبتدأ بذكرها- أجود من الدّار التى تعوّضت منها وأعمر، وأكثر أجرة وقيمة، معاوضة صحيحة جائزة، قبلها من نفسه لابنته، وسلّمها من نفسه لنفسه لابنته المذكورة، ورفع عنها يد ملكه، ووضع عليها يد ولايته ونظره، وأخرج الدّار الفلانيّة المثنّى بذكرها من ملك ابنته المذكورة إلى ملكه، وسلّمها من نفسه لنفسه وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله، ورفع عنها يد نظره وولايته ووضع عليها يد ملكه، كلّ ذلك بحقّ هذا التعويض، وبحكم ذلك صارت الدار المبتدأ بذكرها ملكا لابنته المذكورة دونه ودون كلّ أحد بسببه «4» ، وصارت الدّار

[اذا] اعترف رجل بأنه كان من مدة باع لرجل دارا

المثنّى بذكرها ملكا له دون ابنته المذكورة ودون كلّ أحد بسببها، وأقرّ بأنه عارف بذلك المعرفة الشرعيّة النافية للجهالة، وأنّه رآها الرؤية المعتبرة، وأحاط بها علما وخبرة؛ ويؤرّخ. [اذا] «1» اعترف رجل بأنه كان من مدّة باع لرجل دارا كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنه كان بتاريخ كذا وكذا باع لفلان جميع الدّار الكاملة، التى كانت يوم تعاقدهما عليها فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر- وتوصف وتحدّد- بيعا صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا، وأنّه قبض الثمن منه لنفسه، وتسلّمه وصار بيده وقبضه وحوزه، وأنّه «2» من التاريخ المذكور اشتراها منه بالثمن المعيّن أعلاه وسلّمه له، وتسلّم منه الدار المذكورة أعلاه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ومالا من جملة أمواله؛ وأقرّا بأنّهما كانا تعاقدا على ذلك كذلك من التاريخ المذكور معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بينهما بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا عن تراض؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها، وأنّهما نظراها قبل ذلك، وأحاطا بها علما وخبرة نافية للجهالة، وضمن البائع المذكور درك «3» ما باعه فيه وقبض ثمنه بسببه ضمانا شرعيّا، ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب من الأسباب، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة، وأنّ الدّار صارت ووجبت بطريق الابتياع المذكور ملكا لفلان المقرّ له ملكا صحيحا شرعيّا دون البائع ودون كلّ أحد بسببه؛ ويؤرّخ.

إذا كان البائع هو السلطان

إذا كان البائع هو السلطان كتب ما مثاله: هذا كتاب مبايعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ أمر بكتبه وتسطيره، وإنشائه وتحريره؛ واستيفاء مقاصده، واستكمال معانيه وفوائده، المولى السيّد الأجلّ السلطان المالك الملك الفلانىّ أبو فلان- وتذكر ألقابه ونعوته الملوكيّة وسلطنته على العادة، ويدعى له بما يدعى للملوك من النصر والاقتدار وغير ذلك- وأشهد على نفسه الشريفة من حضر مقامه الشريف من العدول الواضعى خطوطهم آخره أنه باع لفلان جميع كذا؛ ويكمّل المبايعة. إذا اشترى للسلطان وكيله قدّم اسم السلطان، وهو أن يكتب: هذا ما اشترى للمولى السيّد الأجلّ السّلطان المالك الملك الفلانىّ، وكيله فلان، بماله المبارك النّامى، وتوكيله إيّاه فى ابتياع ما يذكر فيه بالثمن الذى تعيّن فيه، والتسليم والتسلّم اللّذين يشرحان «1» فيه، يشهد عليه- خلّد الله ملكه- بذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ من فلان «2» جميع الشىء الفلانىّ؛ ويكمّل. وان كان البائع وكيل بيت المال كتب مشروح على العادة بالشهادة على بعض المهندسين، مثاله: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ، بقضيّة حال الدّار الكاملة، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3»

التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شاهدا «1» الدار المذكورة على الصفة المشروحة أعلاه، وأحاطا بها علما وخبرة، وكتب هذا المشروح ليثبت علمه بالديوان المعمور؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب مكتوب على المهندسين، ويشهد فى آخره شهود القيمة، مثاله: يقول كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بالبلد الفلانىّ: إنّهما سارا «2» صحبة فلان وكيل بيت المال المعمور الى حيث الدار الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «3» ، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وأحاطا بها علما وخبرة، وقوّماها بما مبلغه كذا وكذا، وقالا: إنّ ذلك قيمة المثل التى لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «4» ولا فرط «5» ، وأنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك؛ ويؤرّخ. وتكتب على ظهره «6» حجّة على سماسرة العقار، صورتها: يقول كلّ واحد من فلان وفلان المناديين على العقار: إنّهما أشهرا «7» ما ذكر «8» باطنه فى مظانّ الرّغبات، ومواطن الطلبات، فى صقعها وغيره من الأصقاع دفعات متفرّقة، وأوقات متعدّدة، فلم

يسمعا من بذل زيادة على ما قوّم باطنه؛ ويؤرّخ، ويشهد عليهما فيه. ثمّ تكتب قصّة باسم المشترى للمقام الشريف السلطانىّ، ويكتب عليها صاحب الدّيوان ويجاوب وكيل بيت المال المعمور، ويخرج الحال على ظهرها، ثم يوقّع «1» صاحب الدّيوان بحمل المبلغ إلى بيت المال المعمور، فاذا حمل وقّع صاحب الدّيوان وتلصق الحجّة على القصّة، فاذا كمل ذلك عاقد «2» وكيل بيت المال، وصورة المكاتبة: هذا ما اشترى فلان بماله لنفسه من القاضى فلان، وكيل بيت المال المعمور والقائم فى بيع ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة إليه من المقام الشريف السلطانىّ الملكىّ الفلانىّ الذى جعل له فيها بيع ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور، وغير ذلك على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الشرعىّ، المتوّجة بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ اشترى منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع الدّار الفلانيّة، الجارية فى رباع المواريث «3» الحشريّة، الموروثة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، أو التى أظهرها الكشف- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا أو درهما حالّة، وذلك محمول الى بيت المال المعمور [على ما شهد «4» به وصول بيت المال المعمور] المشروح فى آخره؛ وتسلّم المشترى

المذكور ما ابتاعه بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الشرعىّ الذى اشترطه البائع على المشترى المذكور، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ ذلك صائر فى أملاك بيت المال المعمور؛ والسبب فى هذه المبايعة أنّ المشترى المذكور رفع قصّة باسمه أنهى فيها: ... - وتنقل الى آخرها- فوقّع على ظهرها من جهة متولّى الدّيوان المعمور ما مثاله: «ليذكر ما بذل «1» عليه «2» للدّيوان المعمور» ؛ ... «3» ومثاله: ... - وينقل إلى عند «4» الصفات المحدودة، ويكتب تاريخه- ثمّ تلاه توقيع كريم، ومثاله: ليتقدّم المجلس ... - وينقل جميع ما فيه- ثمّ تلاه جواب متولّى الوكالة الشريفة بما مثاله: «المملوك فلان الوكيل» ... - وينقل- ثم نجّز المشترى المذكور وصولا» من بيت المال المعمور شاهدا له بحمل الثمن المذكور، ونسخته بعد البسملة ... - وينقل ما فيه- ثمّ تلاه توقيع كريم، إذا كان- وينقل جميع ما فيه- وذلك كلّه بعد أن أخذت الحجّة الملصقة بأعلى التوقيع الدّيوانىّ، المتضمّنة الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار أنّ القيمة المعيّنة فيها- وهى كذا وكذا- قيمة المثل يومئذ- وتشرح الى آخر التاريخ- بشهادة فلان وفلان سماسرة

وان باع وكيل بيت المال بغير توكيل بيع بل بحجة قيمة

العقار، بأنّهما أشهرا «1» ذلك على ما تضمّنته «2» ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «3» الإشهاد على القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور والمشترى بما نسب إلى كلّ منهما؛ ويؤرّخ. وان باع وكيل بيت المال بغير توكيل بيع بل بحجّة قيمة كتب: هذا ما اشترى فلان من فلان وكيل بيت المال المعمور- كما تقدّم- جميع قطعة الأرض الحاملة لبناء المشترى، الآتى ذكرها وذرعها «4» وتحديدها فيه، الجارية فى أملاك بيت المال المعمور، مضافة الى ديوان المواريث «5» الحشريّة، أو ديوان الأحكار، وهى بالمكان الفلانىّ- وتذرع وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا، بثمن مبلغه كذا وكذا الجميع حالّ محمول إلى بيت المال المعمور، على ما شهد به وصول «6» بيت المال المعمور المشروح فى آخره، وتسلّم المشترى المذكور ما ابتاعه بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة، والتفرّق بالأبدان عن تراض، وانقضاء أمد الخيار الذى اشترطه البائع على المشترى، وهو ثلاثة أيّام؛ وأقرّ المشترى المذكور أنّ الأرض المذكورة جارية فى ديوان المواريث؛ وذلك بعد اكتتاب حجّة تتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار- وتشرح كما تقدّم- والشهادة على

وان كان المشترى أجرى باسمه الثمن من بيت المال وأنعم عليه به

السماسرة؛ فحينئذ استظهر «1» القاضى فلان البائع على المشترى بكذا وكذا، فتكون جملة ما تقرّر من القيمة «2» والاستظهار ورسم الوكالة جميع الثمن المذكور أعلاه؛ ثم بعد ذلك حضر وصول «3» من بيت المال المعمور شاهد له بحمل الثمن المذكور، نسخته كذا وكذا، وعلى ظهره توقيع كريم، مثاله كذا وكذا «4» ... ؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه «5» وقع الإشهاد؛ ويؤرّخ. وان كان المشترى أجرى باسمه «6» الثمن من بيت المال وأنعم عليه به كتب ما مثاله: هذا ما اشترى فلان بن فلان؛ ويذكر الثمن، ويقول: «وهو مجرى من بيت المال المعمور» ؛ ويكمّل المبايعة نحو ما تقدّم، ويكتب: «ثمّ أحضر المشترى توقيعا شريفا سلطانيّا بالإنعام عليه بالثّمن» ؛ وينقل إلى آخره؛ والله أعلم بالصواب. إذا اشترت امرأة من وكيل بيت المال دارا جارية فى رباع المواريث «7» الحشريّة بما لها فى ذمّته «8» ، ثم قاصّت «9» بما لها

فى رباع ديوان المواريث، يكتب: [هذا «1» ] ما اشترت [فلانة «2» ] من وكيل بيت المال- كما تقدّم- جميع الدار الكاملة الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة- على ما ذكرت المشترية- المقبوضة عن فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- شراء صحيحا شرعيّا بثمن مبلغه من الدراهم كذا وكذا، الجميع حالّ، وتسلّمت «3» المشترية ما ابتاعته بعد النظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة- نحو ما تقدّم- ثم بعد ذلك قاصّ «4» القاضى فلان المشترية المذكورة بالذى توجّه على الديوان المعمور إيفاؤه من تركة زوج المشترية المذكورة فلان وهو مبلغ صداقها عليه، الثابت لها بمجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، وهو نظير الثمن المذكور فى قدره وجنسه وحلوله، مقاصّة «5» صحيحة شرعيّة، برئت بها ذمّة المشترية من الثمن، وذمّة زوجها من نظير ذلك الصداق؛ والسبب فى هذه المبايعة والمقاصّة «6» أنّ المشترية المذكورة أثبتت صداقها على زوجها فلان فى مجلس الحكم العزيز، ومبلغه كذا وكذا، المؤرّخ الصداق بكذا وكذا، وأسجل لها الحاكم على نفسه- وهو القاضى فلان- بثبوت ذلك عنده، والحكم به، وأشهد لها على نفسه بذلك، وذلك بعد استحلافها اليمين الشرعيّة، المؤرّخ الحلف بكذا وكذا؛ ثم بعد ذلك رفعت المشترية قصّة مترجمة باسمها، مثالها: المملوكة ... ؛ ويشرح ما فيها

وأما الرد بالعيب والفسخ

وما تضمّنه التوقيع «1» كما تقدّم، ويشرح مسطور القيمة نحو ما تقدّم. هذا ما اتّفق «2» إيراده فى البيوع على اختلاف «3» الوقائع؛ والله أعلم. وأما الردّ بالعيب والفسخ - فإنه اذا اشترى رجل من آخر دارا أو عبدا أو أمة أو دابّة، واطّلع على عيب يوجب الردّ بالعيب، وأراد الإشهاد بذلك، كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهد عليه أنه ابتاع «4» قبل تاريخه من فلان جميع الشىء الفلانىّ، وأنّه اطّلع فى يوم تاريخه على أنّ به عيبا قديما مزمنا يوجب الردّ، وهو الشىء الفلانىّ- ويذكر العيب- وأنه حين اطّلاعه على العيب حضر إلى شهوده على الفور، واختار فسخ البيع وردّ المبيع على بائعه بالعيب المذكور، وأنّه باق على طلب الردّ، واستعادة الثمن الذى أقبضه له، ورفع يده عن التصرّف فى الشىء الفلانىّ رفعا تامّا؛ ويؤرّخ. فى مقايلة «5» تكتب على ظهر المبايعة، ومثالها: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو المشترى باطنه- وفلان- وهو البائع باطنه- بأنّهما تقايلا أحكام

وأما الشفعة

المبايعة المشروحة باطنه، وهى [فى «1» ] جميع الدّار الموصوفة المحدودة، التى كان فلان المبدأ «2» باسمه ابتاعها من فلان المثنّى باسمه بالثمن المعيّن فى باطنه، وهو كذا وكذا مقايلة صحيحة شرعيّة؛ ودفع البائع المذكور للمشترى المذكور جميع الثمن بتمامه وكماله فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ورفع المشترى يده عن الدّار المذكورة، وسلّمها للبائع على صفتها الأولى، فتسلّمها منه، وذلك بعد النظر والمعرفة والتفرّق بالأبدان عن تراض. وأما الشّفعة «3» - فالذى يكتب فيها أنّه اذا اشترى رجل حصّة من دار وحضر مالك بقيّة الدار فطلب الحصّة بالشّفعة، وصدّقه المشترى على ذلك، كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه كلّ واحد من فلان بن فلان، وفلان بن فلان- وهو المشترى المذكور باطنه- وأعلم فلان المبتدأ بذكره فلانا المشترى باطنه- أنّ فى ملكه من الدّار الموصوفة المحدودة باطنه كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «4» جميع الدّار المذكورة، وأنّه يستحقّ أخذ الحصّة التى ابتاعها منها بالشّفعة الشرعيّة، وأنّه قام على الفور «5» عند سماعه بابتياع الحصّة المذكورة باطنه

إذا ادعى رجل على رجل أن الحصة التى ابتاعها من شريكه يستحقها بالشفعة ولم يصدقه على ذلك،

من غير إمهال، واجتمع بالمشترى المذكور، وأعلمه بما ذكر؛ فحينئذ صدّقه المشترى على صحّة ذلك جميعه تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام له بنظير الثمن الذى دفعه المشترى «1» المذكور باطنه عن الحصّة المذكورة باطنه؛ فأحضره إليه بكماله، وهو كذا وكذا، وأقبضه له، فقبضه منه، وتسلّمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وسلم المشترى المذكور باطنه لفلان المبتدإ بذكره المستشفع «2» المذكور الحصّة المذكورة، ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه عن هذه «3» الشفعة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وبحكم ذلك كمل لفلان المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة بالشّفعة المذكورة، ولم يبق لفلان المشترى المذكور باطنه فى الدّار المذكورة حقّ ولا طلب بسبب ملك، ولا يد، ولا ابتياع، ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة؛ وبمضمونه شهد؛ ويؤرّخ. إذا ادّعى رجل على رجل أنّ الحصّة التى ابتاعها من شريكه يستحقّها بالشّفعة ولم يصدّقه على ذلك، وكلّفه إثبات الملك وقبول «5» القسمة- فالذى يفعل فى ذلك أن يثبت المدّعى ابتياعه عند الحاكم

ثم يثبت محضرا بقبول القسمة؛ فإن لم يكن معه كتاب ابتياع كتب محضرا بأنّه مالك لحصّته من الدّار، وصيغة المحضر: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» فيما شهدوا به فيه «2» - أنّهم يعرفون فلانا معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا غير مقسوم من جميع الدّار الفلانيّة، التى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنّه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية فى ملكه ويده وتصرّفه إلى الآن، ولم تخرج عنه بتمليك «3» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة، ولا غيرها ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وهم بالدّار فى مكانها عارفون، وأنّ تلك «4» الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى الدّار المذكورة ابتاعها «5» فلان بن فلان من فلان بن فلان شريك فلان متنجّز «6» هذا «7» المحضر، وأنّ متنجّزه قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى المذكور بالشّفعة الشرعيّة بحكم أنّه مالك للحصّة المشهود بها ملكا شرعيّا متقدّما على ابتياع المشترى المدّعى عليه

وأنّه قام على الفور «1» فى طلب الحصّة المبيعة من المشترى من غير تأخير ولا عاقة «2» ؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال «3» من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ؛ ثم يشهد فيه الشهود عند الحاكم. ثمّ يكتب تحته محضرا بأنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة «4» ، وصيغته: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه وقسمته- أنّهم ساروا بإذن صحيح شرعىّ من القاضى فلان الحاكم بالجهة الفلانيّة إلى حيث الدّار الآتى ذكرها فيه، الجارية منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك فلان متنجّز المحضر الأوّل المستشفع «5» فيه «6» ، وحصّة مبلغها كذا وكذا سهما فى ملك المشترى المدّعى عليه الشفيع «7» المذكور، منتقلة إليه بالابتياع الشرعىّ [من شريك «8» ] المستشفع «9» المذكور، لكشف حالها، ومعرفة جملتها وتفصيلها، وسبب طلب الشّفعة من متنجّز هذا المحضر فيها «10» ، بحكم ابتياع المشترى الشفيع «11» لحصّته «12» فيها ودخوله على المستشفع «13» ، وأنّها هل تتهيّأ فيها قسمة التعديل بالأجزاء

المقتضية «1» لخير الشّريك؟ فألفوها فى البلد الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوها وأحاطوا بها علما وخبرة، فوجدوها قابلة لقسمة التعديل الموجبة لخير الشّريك وشهدوا أنّها تمكن قسمتها جزأين، أو تمكن قسمتها ثلاثة أجزاء، ومهما كان، على قدر ملك كلّ واحد من الشركاء، كلّ جزء مساو للجزء الآخر فى القيمة والانتفاع به؛ شهدوا بذلك بسؤال من جاز سؤاله، وسوّغت «2» الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ، ويشهد فيه عند الحاكم. ثمّ يكتب إسجال الحاكم، وصورته: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان من حضر مجلس حكمه ومحلّ ولايته- وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام، ماضى النقض والإبرام- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه الشرعىّ، مضمون المحضرين المسطّرين باطنه: أحدهما- وهو الأوّل- مضمونه: أنّ فلان بن فلان المستشفع المدّعى مالك لجميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما شائعا غير مقسوم فى «3» جميع الدّار الموصوفة المحدودة ملكا صحيحا شرعيّا، من وجه صحيح شرعىّ، وأنه متصرّف فى الحصّة المذكورة بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة، وأنّها باقية على ملكه وفى يده وتصرّفه إلى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «4» ، ولا بيع، ولا هبة، ولا إقرار، ولا صدقة

ولا بوجه من وجوه الانتقالات كلّها، وأنّ الشهود الواضعى رسم شهادتهم آخر المحضر المذكور بالدّار المذكورة عارفون «1» فى صقعها ومكانها، وأنّ ملكه للحصّة سابق على ابتياع فلان المدّعى عليه الشراء المذكور للحصّة التى ابتاعها من شريك فلان المستشفع المشروح فى المحضر الأوّل، وأنّ متنجّز «2» المحضر قام فى طلب الحصّة المبيعة وأخذها من المشترى بالشّفعة على الفور، بحكم «3» أنّه مالك للحصّة المشهود له بها، وأنّ ملكه متقدّم على ابتياع الشفيع «4» المشترى؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الأوّل المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ، وأعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود؛ والمحضر الثانى يتضمّن أنّ الدّار المذكورة قابلة للقسمة الموجبة لخير الشريك وأنّ القسمة تتهيّأ فيها على ما شرح فى «5» المحضر الثانى؛ وأقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند الحاكم المذكور، على ما تضمّنه المحضر الثانى المؤرّخ بكذا وكذا، وقبل ذلك منه القبول السائغ الشرعىّ، وسطّر ما جرت العادة به تحت رسم شهادته من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- أشهد عليه بثبوت المحضرين المذكورين لديه على الوجه الشرعىّ؛ وحينئذ سأل فلان متنجّز «6» المحضرين المدّعى الحاكم المذكور الحكم بمقتضى ما ثبت

عنده، فأجابه إلى سؤاله، وأوجب الشّفعة المذكورة، وألزم الحاكم المشار اليه المدّعى بالقيام للمشترى «1» المدّعى عليه بالثمن الذى ابتاع به الحصّة من شريك المدّعى المذكور، وهو كذا وكذا، وحكم على فلان المشترى «2» المدّعى عليه بتسليم الحصّة التى ابتاعها من شريك المستشفع «3» - وهى كذا وكذا سهما- لفلان المدّعى متنجّز المحضرين المذكورين، بحكم ثبوتهما عنده؛ فحينئذ أشهد فلان المشترى الشفيع «4» عليه أنّه قبض من المستشفع «5» نظير الثمن الذى قام به للبائع «6» - وهو كذا وكذا- عن الحصّة التى ابتاعها، وصار بيده وقبضه وحوزه، وسلم للمدّعى المستشفع «7» المذكور الحصّة الثابت أخذها منه بالشّفعة- وهى كذا وكذا سهما- فتسلّمها منه، وصارت بيده وملكه وحوزه، ملكا من جملة أملاكه، ومالا من جملة أمواله، وأضافها الى ما يملكه من الدّار المذكورة من الحصّة المشهود له بها، فقد كمل له جميع الدّار المذكورة؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بذلك ... «8» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو

وان كان بعض الثمن عروضا، والمشترى يعترف بأن المستشفع له حصة فى الدار،

فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم «1» - أدام الله أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمّنا لذلك، وذلك بعد قراءة ما تضمّنه باطنا وظاهرا، وأشهد الشفيع «2» والمستشفع «3» عليهما بما نسب الى كلّ منهما فيه، وذلك بتاريخ كذا وكذا. وان كان بعض الثمن عروضا «4» ، والمشترى يعترف بأنّ المستشفع له حصّة فى الدّار، وأنّ الدّار قابلة للقسمة، ولم يعترف بقيمة العروض «5» ، وطلب منه الثّمن وتحليفه على ذلك، فردّ عليه الثّمن «6» وأخذ الحصّة بالشّفعة بعد التّرافع إلى الحاكم- فسبيل الكاتب أن يكتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم العزيز بالجهة الفلانيّة عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم بها، كلّ «7» واحد من فلان ابن فلان، وفلان بن فلان، وهو المشترى باطنه، وذكر فلان المبتدأ بذكره أنه يستحقّ أخذ الحصّة المبيعة بما طلب باطنه- ومبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى «8» جميع الدّار الموصوفة المحدودة باطنه، التى ابتاعها المثنّى

بذكره من شريك المبتدإ بذكره فلان البائع باطنه- بحكم ما يجرى فى ملكه من الدّار المذكورة؛ وأنّه حين علم بابتياع المشترى للحصّة المعيّنة قام على الفور «1» فى طلب الشّفعة، وأحضر المشترى المذكور للحاكم المذكور، وادّعى عليه هذه الدّعوى وأنّ الدّار قابلة للقسمة، وأنّ قيمة العروض التى أخذها البائع باطنه كذا وكذا درهما وأنّه لم يكتم «2» قيمتها إلّا تحيّلا منه فى إقصاء «3» حقّه عن الشّفعة، وسأل سؤاله عن ذلك؛ فسأله الحاكم عن ذلك، فصدّق المدّعى [فى] «4» صحّة ما ادّعاه، وفى كلّ العروض «5» التى سلّمها للبائع المذكور باطنه، وأنّه ما يعلم قيمتها؛ فطلب يمينه على ذلك، فأبى أن يحلف، وردّ عليه اليمين، فأحلف الحاكم المدّعى على قيمة العروض، فحلف أنّ قيمتها كذا وكذا درهما، اليمين الشرعيّة المستوفاة، بمحضر من خصمه المذكور، وسأل المدّعى الحاكم المذكور الحكم له على خصمه بما يوجبه الشرع الشريف، فأجابه الى سؤاله وحكم له بوجوب الشّفعة على خصمه حكما صحيحا شرعيّا، وأوجب عليه القيام بنظير الثّمن، وهو كذا وكذا، وقيمة العروض، وهى كذا وكذا، وأوجب على المشترى تسليم الحصّة؛ فحينئذ أشهد المشترى المذكور على نفسه أنّه تسلّم نظير الثّمن، وهو كذا

فى استشفاع الأب لابنه المحجور عليه، وكذلك الوصى وأمين الحكم، مع تصديق المشترى له على دعواه،

وكذا «1» ... وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأشهد المدّعى المستشفع «2» أنّه تسلّم من المشترى الشفيع «3» جميع الحصّة المعيّنة باطنه تسلّما شرعيّا، وصارت بيده وقبضه وحوزه وملكه، وذلك بعد النظر والمعرفة؛ فقد كمل للمدّعى المستشفع «4» بما فى ملكه متقدّما وبهذه الحصّة ملك جميع الدّار المذكورة؛ ويؤرّخ. فى استشفاع الأب لابنه «5» المحجور عليه، وكذلك الوصىّ وأمين الحكم، مع تصديق المشترى له على دعواه، يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان- وهو كافل ولده فلان المراهق، أو الطفل الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره-، وفلان- وهو المشترى المذكور باطنه- عند شهوده طوعا بأنّ فلانا المبتدأ بذكره كافل ولده المذكور اجتمع بفلان المثنّى بذكره، وأعلمه بأنّ فى ملك ولده لصلبه فلان المذكور جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا سهما من أربعة وعشرين سهما شائعا فى جميع الدّار المذكورة ... «6» بحكم تقدّم ملك ولده

وأما السلم والمقايلة فيه

للحصّة المذكورة التى فى يد والده المذكور، وبحكم أنّ الدّار قابلة للقسمة وأنّ الثّمن الذى قام به المشترى المذكور للبائع المذكور «1» هو ثمن المثل يومئذ، وقيمة العدل، وأنّه قام فى طلبها على الفور، لما رأى لولده فى ذلك من الحظّ والمصلحة وأنّ المشترى صدّقه على جميع ذلك تصديقا شرعيّا، والتمس منه القيام بنظير ما كان دفعه ثمنا عن الحصّة، وهو كذا وكذا، وأنّه أجابه الى ذلك، وسلم له من مال ولده فلان نظير الثّمن المذكور، وهو كذا وكذا، فقبض ذلك منه، وتسلّمه، وسلم المشترى المذكور له الحصّة المذكورة بحقّ الاستشفاع «2» ، فتسلّمها منه، وصارت بيده وقبضه وحوزه، ملكا لولده فلان، وأضافها الى ما فى يده من الحصّة الجارية فى ملك ولده؛ وبحكم ذلك كمل لولده المذكور جميع الدّار المذكورة باطنه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة؛ [ويؤرّخ] . وأما السّلم «3» والمقايلة «4» فيه - فاذا أسلم رجل لرجل ثمنا فى قمح أو حبوب «5» أو غير ذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان عند شهوده بأنّه أسلم الى فلان من الدراهم

وأما القسمة والمناصفة

كذا وكذا، وسلّمها له، فتسلّمها منه فى مجلس العقد، وصارت بيده وقبضه وحوزه على حكم السّلم الشرعىّ فى كذا وكذا- ويعيّن ذلك ويصفه- يقوم له بذلك فى التاريخ الفلانىّ، محمولا الى المكان الفلانىّ، أو موضوعا بالمكان الفلانىّ؛ تعاقدا أحكام هذا السّلم بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا من مجلس العقد بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. فإن تقايلا فى السّلم كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان [المسلم] «1» وفلان المسلم اليه بأنّهما تقايلا أحكام السّلم الذى كانا تعاقدا عليه بينهما باطنه مقايلة صحيحة شرعيّة، وفسخا أحكامه فسخا شرعيّا، وسلم فلان المسلم اليه لفلان المسلم المبلغ المذكور باطنه، وهو كذا وكذا، فتسلّمه منه، وصار بيده وقبضه وحوزه، ولم يبق لكلّ منهما قبل الآخر حقّ من الحقوق الشرعيّة بسبب السّلم المذكور، ولا بسبب شىء منه، وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ. وأما القسمة والمناصفة «2» - فاذا كان بين شريكين دار، وحصل الاتّفاق بينهما على قسمتها، فالذى يكتب فى ذلك: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما وفى ملكهما وتصرّفهما بالسوية بينهما- لا مزيّة لأحدهما على الآخر- جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا؛ وأنّ ملكهما لذلك سابق لهذا الإقرار ومتقدّم عليه؛ وأنهما عارفان بها المعرفة الشرعيّة، وأنّ يديهما فيها

متصرّفتان تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع ولا معترض، ولا رافع ليد بسبب من الأسباب، وتصادقا على ذلك كلّه تصادقا «1» شرعيّا؛ وأنّهما فى يوم تاريخه اتّفقا وتراضيا على قسمة ذلك جزءين: قبليّا، وبحريّا، صفة القبلىّ كذا- ويحدّد- وصفة البحرىّ كذا- ويحدّد-؛ ثم بعد تمام ذلك اشترى فلان من شريكه فلان جميع النّصف الشائع فى جميع الجزء القبلىّ، وكمّل لفلان جميع الجزء البحرىّ؛ وتصادقا على ذلك تصادقا «2» شرعيّا؛ ويؤرّخ. وإن كانا أحضرا رجلين من المهندسين كتب فى ذيل المكاتبة: وذلك كلّه بعد أن أحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بمساحة الأراضى وذرعها وقسمتها، والآدر «3» وقيمتها- وهما فلان وفلان- الى الموضع المذكور وشاهداه، وأحاطا به علما وخبرة، وقسماه بينهما جزأين، لا مزيّة لأحدهما على الآخر؛ وأنّهما اتّفقا وتراضيا على ذلك، ورضيا قولهما، وأمضيا فعلهما. وإن كان بينهما قرعة كتب ما مثاله: وذلك كلّه بعد قرعة شرعيّة رضيا بها وحصل الاتّفاق على ما ذكر أعلاه. وإن كان بينهما حوانيت واقتسماها بالتعديل على القرعة كتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان بأنّ لهما بالسويّة بينهما جميع الحوانيت- ويذكر عددها وصفتها وتحديدها نحو ما تقدّم- وأنّهما فى يوم تاريخه رغبا فى قسمتها بينهما بالتعديل والقرعة الشرعيّة، وأحضرا رجلين من أهل الهندسة والخبرة بالأراضى وذرعها وقيمة العقار وقسمته- وهما فلان وفلان- الى الحوانيت

المذكورة، وشاهداها، وأحاطا بها علما وخبرة، وقسماها بينهما قسمة عادلة شرعيّة بالذّرع والقيمة والمنفعة، وأقرعا «1» بينهما فى ذلك قرعة شرعيّة، جائزة مرضيّة؛ فكان الذى حصل لفلان المبتدإ بذكره جميع الحوانيت- وتعدّ وتوصف وتحدّد- التى قيمتها كذا وكذا، الجميع حقّه وحصّته من جملة الحوانيت المذكورة؛ والذى حصل لفلان المثنّى بذكره جميع الحوانيت- ويذكر فيها ما تقدّم-؛ وسلم كلّ واحد منهما للآخر ما وجب عليه تسليمه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ وأقرّا بأنّهما عارفان بذلك المعرفة الشرعيّة؛ تعاقدا «2» أحكام هذه القسمة بينهما معاقدة صحيحة شرعيّة شفاها بالإيجاب والقبول، ثم تفرّقا بالأبدان عن تراض؛ وأقرّ كلّ واحد منهما بأنّه لا حقّ له ولا طلب فيما صار لصاحبه مما ذكر أعلاه بوجه من الوجوه الشرعيّة على اختلافها؛ وتصادقا على ذلك، ورضى كلّ منهما بهذه القسمة واعترفا بأنّ الذى قوّم به كلّ موضع قيمة المثل يومئذ لا حيف فيها ولا شطط. فى صفة ميراث «3» - يكتب ما مثاله: أقرّ كلّ واحد من فلان وفلان وفلان الإخوة أولاد فلان بأنّ والدهم المذكور توفّى ولم يخلّف من الورثة سواهم، وأنهم مستحقّون لميراثه، مستوعبون لجميعه، بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب

وأما الأجائر

يحجبهم عنه [بوجه] «1» ولا سبب، وترك لهم موروثا عنه جميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد-؛ فلمّا كان فى يوم تاريخه تداعوا إلى قسمة ذلك، فقسم بينهم على الوجه الشرعىّ، فتميّز لكلّ واحد منهم الثلث شائعا فيها، ووضع كلّ واحد منهم يده على ما تميّز له منها بهذا الإرث وضعا تامّا، وعرفه وعرف مقداره، وصار بيده وتصرّفه وملكه وحوزه بالإرث الشرعىّ المشروح أعلاه، يتصرّف كلّ منهم فيما صار إليه تصرّف الملّاك فى أملاكهم، وذوى الحقوق فى حقوقهم، من غير مانع، ولا دافع، ولا رافع ليد، ولا معترض بوجه ولا سبب؛ وأقرّوا بأنّهم عارفون بالدّار المذكورة المعرفة الشرعيّة، ونظروها، وأحاطوا بها علما وخبرة، وتصادقوا على ذلك كلّه، وقبل كلّ منهم هذا الإقرار لنفسه من «2» الآخر قبولا شرعيّا؛ والله مع المتّقين. وأما الأجائر - فإذا استأجر رجل من رجل دارا كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع الدّار الجارية فى يده وملكه وتصرّفه، على ما ذكر وصدّقه المستأجر على ذلك، إن صدّقه. وإن كانت الدار وقفا عليه كتب: الجارية فى يده وتصرّفه وقفا عليه تناهت «3» منافعها إليه.

وإن كانت فى عقد إجارته نبّه على ذلك، فيكتب: الجارية فى يده وتصرّفه وعقد إجارته بالإيجار الشرعىّ من فلان. وإن كان يؤجر عن موكّله كتب: الجارية فى يده وتصرّفه ملكا لموكّله فلان، وله إيجارها، وقبض أجرتها عنه بطريق الوكالة الشرعيّة التى بيده. وإن كانت حصّة من دار كتب: جميع الحصّة التى مبلغها كذا وكذا من جميع الدّار وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- لينتفع بها فى السكن والإسكان، ووقود النيران- إن أذن له فى ذلك- لمدّة كذا وكذا، أوّل ذلك يوم تاريخه، أو اليوم الفلانىّ من الأشهر الماضية «1» ، بأجرة مبلغها فى كلّ شهر من شهورها كذا وكذا قسط كلّ شهر فى سلخه، أو مستهلّه؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعية، والتفرّق بالأبدان عن تراض؛ ويؤرّخ. وإن استأجر مدّة كلّ يوم بعض النهار بأجرة حالّة مقبوضة أو أبرأه منها كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع الحانوت- ويوصف ويحدّد كما تقدّم- لمدّة سنة كاملة، أو أقلّ أو أكثر، لينتفع بذلك فى السكن والإسكان طول المدّة فى كلّ يوم من أوّل النهار إلى الوقت الفلانىّ منه، خلا بقيّة

فصل وإن استأجر من رجل دارا لمدة، ثم استأجر مدة ثانية قبل انقضاء المدة الأولى

النّهار واللّيل، فإنّ منفعته باقية فى يد الآجر وتصرّفه، ينتفع بذلك كيف شاء، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا حالّة، قبضها الآجر من المستأجر، وتسلّمها. وإن كان أبرأه منها كتب: حالّة، أبرأه الآجر منها براءة صحيحة شرعيّة، براءة إسقاط، قبلها منه؛ وتسلم ما استأجره بعد النّظر والرّضا والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة. ان استأجر من رجل بماله فى ذمّته من الدّين كتب: ... لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، بما للمستأجر فى ذمّة الآجر من الدّين الحالّ الذى اعترف به عند شهوده، وهو كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره؛ ويكمّل. فصل وإن استأجر من رجل دارا لمدّة، ثم استأجر مدّة ثانية قبل انقضاء المدّة الأولى كتب: ... لمدّة سنة كاملة مستأنفة «1» على مدّته الأولى، أوّلها اليوم الفلانىّ من الشهر الفلانىّ، بحكم أنّ الدّار مستأجرة معه على «2» [مدّة] «3» معلومة آخرها اليوم الفلانىّ، وقد استؤنفت هذه المدّة الثانية زيادة على تلك المدّة الأولى إجارة صحيحة شرعيّة، بأجرة مبلغها كذا وكذا؛ [تعاقدا على ذلك] «4» معاقدة شرعيّة

فصل وإن استأجر بأجرة حالة ثم قاصه المستأجر بماله فى ذمته

شفاها بالإيجاب والقبول؛ واعترف المستأجر بأنّ الدّار المذكورة فى يده وتصرّفه وأنّه عارف بها المعرفة الشرعيّة. فصل وإن استأجر بأجرة حالّة ثم قاصّه «1» المستأجر بماله فى ذمّته كتب: ... بأجرة مبلغها عن جميع المدّة كذا وكذا حالّة- ويكمّل الإجارة-؛ ثمّ بعد ذلك قاصّ «2» المستأجر المذكور الآجر المذكور بماله فى ذمّته من الدّين الذى اعترف به عند شهوده- وهو نظير الأجرة المذكورة فى القدر والجنس والصّفة والحلول- مقاصّة «3» شرعيّة، قبل كلّ منهما ذلك لنفسه قبولا شرعيّا؛ ولم تبق لكلّ منهما مطالبة قبل الآخر بسبب دين ولا أجرة ولا حقّ من الحقوق الشرعيّة كلّها. وإن استأجر جماعة من رجل أرضا لبناء «4» وغيره كتب ما مثاله: استأجر فلان وفلان وفلان من فلان جميع قطعة الأرض الطين السواد، الجارية فى يد المؤجر «5» وملكه، وهى بالمكان الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا قصبة بالقصبة الحاكميّة «6» ، وذرعها كذا وكذا ذراعا بذراع العمل «7» ، ليبنوا عليها ما أرادوا بناءه، ويحفروا

وإن استأجر وكيل دارا لموكله [من جماعة]

فيها ما أرادوا حفره: من الآبار المعينة «1» وآبار السّراب «2» والقنىّ والمجارى، ويعلّوا ما أرادوا تعليته، ويزرعوا ويغرسوا ما أحبّوا زراعته وغرسه، وينتفعوا بها كيف شاءوا على الوجه الشرعىّ، لمدّة ثلاثين سنة كوامل، أوّلها يوم تاريخه؛ ويكمل. وإن كان كلّ منهم يقوم بما عليه برهن على «3» ذلك، وكذلك إن تضامنوا. وإن استأجر وكيل دارا لموكله [من جماعة] «4» كتب: استأجر فلان لموكّله فلان بإذنه وتوكيله إيّاه فى استئجار ما يذكر فيه بالأجرة التى تعيّن فيه للمدّة التى تذكر فيه، وفى تسلّم ما استأجره له، التوكيل الشرعىّ، على ما ذكر، أو على ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ من فلان وفلان وفلان جميع الدّار الكاملة، الجارية فى ملكهم ويهم وتصرّفهم بالسويّة، أو بقدر حصصهم- وتوصف وتحدّد وتذكر المدّة والأجرة- ما هو لفلان عن أجرة حصّته كذا، وما هو لفلان كذا، [وما هو لفلان «5» كذا] ؛ وتسلّم ما استأجره لموكّله بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة.

وإن آجر رجل دارا عن موكله

وإن آجر رجل دارا عن موكّله كتب: استأجر [فلان] «1» من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن موكّله فلان، بالأجرة التى تعيّن فيه، للمدّة التى تذكر فيه؛ وفى تسليم ما يؤجر لمستأجره، حسب ما تشهد به الوكالة التى بيده؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع ... ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب. فصل فى معاقدة حمولة «2» عاقد فلان بن فلان السّيروان «3» فلانا على حمله وحمل محارمه وزاده «4» - وهو كذا وكذا رطلا- من البلد الفلانىّ الى البلد الفلانىّ، على ظهر جماله التى بيده وتصرّفه، بما مبلغه كذا وكذا، قبضه منه؛ تعاقدا معاقدة شرعيّة بعد النظر والمعرفة والإحاطة بذلك علما وخبرة، وعليه الشروع فى ذلك من يوم كذا وكذا.

فصل وإن استأجر دارا بدار

فصل وإن استأجر دارا بدار كتب: استأجر فلان من فلان جميع الدار الفلانيّة الجارية فى يد الآجر، لمدّة كذا وكذا، بجميع الدّار الجارية فى يد المستأجر- ويحدّد كلّا منهما- وتسلّم كلّ منهما ما وجب له تسلّمه من الآخر «1» تسلّما شرعيّا وصار بيده، وذلك بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ ويؤرّخ. فصل وإن استأجر مركبا كتب طولها ومحملها وعدّتها ... «2» لينتفع بها فى حمل الغلال والرّكبان، فى البحر الفلانىّ؛ وإن كان فى بحر النيل قال: «مصعدا «3» ومنحدرا» ؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل وإن استأجر بغلا أو حمارا كتب: ... «4» جميع «5» الحمار، لينتفع به فى حمله وحمل قماشه «6» من المكان الفلانىّ الى المكان الفلانىّ، أو فى حمل ما يختاره من القماش «7» والأثاث، ونقل الحواصل على ظهره على قدر طاقته، لمدّة كذا وكذا؛ ويكمّل.

فصل إذا أجر رجل عبده أو ولده

فصل إذا أجر رجل عبده أو ولده كتب: أجر فلان ولده لصلبه فلانا المراهق الذى تحت حجره وولاية نظره، لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا فى حانوته بالمكان الفلانىّ، لمدّة كذا، بأجرة مبلغها فى كلّ يوم كذا من استقبال تاريخه؛ تعاقدا [على] ذلك معاقدة شرعيّة بالإيجاب والقبول والتسليم الشرعىّ. وان أجر نفسه كتب: أجر فلان نفسه لفلان، ليعمل عنده فى صناعة كذا؛ ويكمّل. فصل وإن أجرت امرأة نفسها لمطلّقها كتب: أجرت فلانة نفسها لمطلّقها الطلقة الأولى- أو مهما كان من عدد الطلاق- فلان، فى رضاع «1» ابنها منه وحضانته وغسل خرقه، وتسريح رأسه، والقيام بمصالحه فى منزلها بالمكان الفلانىّ لمدّة كذا؛ ويكمّل؛ والله أعلم بالصواب. وإذا أجر رجل دارا على ولده الطفل أو أجر الوصىّ أو أمين الحكم كتب: استأجر فلان من فلان القائم فى إيجار ما يذكر فيه على ولده لصلبه فلان الطفل الذى هو تحت حجره وكفالته، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة.

فصل وإن استأجر رجل لولده دارا أو الوصى أو أمين الحكم

وإن كان الاجر الوصىّ كتب: القائم فى إيجار ذلك على فلان المحجور «1» عليه بطريق الوصيّة الشرعية التى بيده، وقبض الأجرة، وتسليم ما يأجره لمستأجره. وإن كان أمين الحكم هو الآجر كتب: القائم فى إيجار ما يذكر فيه على فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز؛ فإن كان الحاكم أذن كتب: «وذلك بإذن من سيّدنا القاضى فلان الدّين له فى ذلك» ؛ جميع «2» الدّار؛ ويكمّل. وإن شهد بقيمة الأجرة شرحه «3» فى ذيل الإجارة. فصل وإن استأجر رجل لولده دارا أو الوصىّ أو أمين الحكم كتب ما مثاله: استأجر فلان لولده الذى تحت حجره وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة. وإن كان الوصىّ فكما تقدّم؛ أو أمين الحكم فنحوه؛ ويذكر إذن الحاكم؛ والله أعلم. إذا استأجر الوصىّ من يحجّ عن الميّت كتب ما مثاله: أقرّ فلان ابن فلان بأنّه أجر نفسه لفلان وصىّ فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، القائم

وإن كانت غير واجبة

فى معاقدته بالوصيّة الشرعيّة التى بيده، الثابتة بمجلس الحكم العزيز، لأن يحجّ بنفسه عن فلان الموصى المذكور حجّة الإسلام الواجبة عليه؛ وإن كانت غير واجبة كتب: «لأن يحجّ عنه حجّة تطوّع» على أن يتوجّه من المكان الفلانىّ فى عام تاريخه قاصدا لأداء حجّة الإسلام وعمرته فى «1» البحرين العذب والملح، أو فى «2» البحر الملح، أو فى «3» البرّ، ويحرم من الميقات «4» الذى يجب على مثله، فينوى حجّة مفردة كاملة، أو يدخل الى الحرم الشريف بمكّة- شرّفها الله تعالى- فينوى عنه الحجّة المذكورة كاملة بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها ثمّ يعتمر عنه عمرة من ميقاتها مكمّلة فروضها على الأوضاع الشرعيّة؛ وهو بالخيار

إذا استأجر رجل من وكيل بيت المال أرضا ليبنى عليها أو جدرا يعمد عليها أو سطحا أو غير ذلك،

إن شاء أفرد، وإن شاء أقرن «1» ؛ وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن المتوفّى الموصى المذكور، وأجر ثوابه «2» له؛ ومتى وقع منه إخلال يلزمه فيه فداء، أو وجب عليه دم كان ذلك متعلّقا به وبماله، دون مال الموصى المتوفّى؛ المشروح جميع ذلك فى كتاب الوصيّة المذكورة؛ عاقده على ذلك معاقدة صحيحة شرعيّة بالأجرة المعيّنة أعلاه «3» وهى كذا وكذا، قبضها منه وتسلّمها، وصارت بيده وقبضه وحوزه، من مال الموصى المذكور الذى فرضه فى ذلك، وأذن فى تسليمه؛ وذلك بعد أن تبيّن أنّ الآجر المذكور حجّ عن نفسه الحجّة الواجبة عليه؛ ويؤرّخ. إذا استأجر رجل من وكيل بيت المال أرضا ليبنى عليها أو جدرا يعمد «4» عليها أو سطحا أو غير ذلك، كتب مشروحا، وأخذ فيه خطّ شهود القيمة والمهندسين، ثم يكتب الإجارة، ويشرح فى ذيلها المشروح؛ وإن كانت بتوقيع مثل توقيع المبايعة كتب فى آخر الإجارة مثل ما يكتب فى المبايعة وهو أن يقول: والسبب فى هذه الإجارة أنّ المستأجر المذكور رفع قصّة ... وتشرح.

وصيغة المشروح: مشروح رفعه كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بقضيّة حال قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة- وتذرع وتحدّد- تأمّلاها «2» بالنظر، وأحاطا بها علما وخبرة؛ وقالا: إنّ الأجرة عنها لمن يرغب فى استئجارها لينتفع بها كيف شاء وأحبّ واختار على الوجه الشرعىّ، ويبنى عليها ما أحبّ بناءه، ويعلّى ما أراد تعليته ويحفر الآبار المعينة «3» وآبار السراب «4» والقنىّ، ويشقّ الأساسات «5» ، ويخرج الرّواشن «6» . وإن كان المؤجر سطوحا أو جدرا أو عقودا «7» كتب زنة ما يبنيه، وهو أن يقول: «فتكون زنة ما يبنيه ويعلّيه عليها كذا وكذا قنطارا» لمدّة ثلاثين سنة كوامل ما مبلغه «8» كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا، وباقى ذلك- وهو كذا- يقوم به منجّما فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخه كذا؛ وقالا: إنّ ذلك أجرة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «9» ولا فرط «10» ، وإنّ الحظّ والمصلحة فى إيجار ذلك بهذه الأجرة، ويؤرّخ. ومن الكتّاب من يكتب أوّل المشروح ما صورته: لمّا رسم بعمل مشروح بقضيّة حال الموضع الآتى ذكره فيه، الجارى فى ديوان المواريث الحشريّة «11» ، امتثل

المرسوم كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار، وسارا الى الموضع المذكور، فألفياه بالمكان الفلانىّ؛ ويوصف ويحدّد؛ ويكمّل المشروح نحو ما تقدّم. ثمّ يكتب الإجارة، وصيغتها: استأجر فلان من القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه بأحكام الوكالة التى بيده، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى جعل له فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، الثابتة وكالته بمجلس الحكم، المتوجّة وكالته بالعلامة الشريفة، ومثالها كذا وكذا؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض التى لا بناء بها، أو الحاملة لبناء المستأجر، الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان المواريث الحشريّة «1» ؛ أو جميع السّطح، أو الجدر، ليبنى على ذلك ما أحبّ وأراد بالطوب والطين والجير والجبس وآلة العمارة ما زنته كذا وكذا قنطارا- هذا يكون فى السّطح أو فى الجدار؛ وأمّا الأرض فلا- لمدّة كذا وكذا سنة، أوّلها يوم تاريخه، بأجرة مبلغها عن جميع هذه المدّة كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا بما فيه من المستظهر «2» [به] «3» وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا؛ وتسلّم ما استأجره بعد النظر والمعرفة والمعاقدة الشرعيّة؛ وأقرّ المستأجر

وإن أجر نائب وكيل بيت المال المعمور أرضا فى ديوان الأحباس

بأنّ الأرض جارية فى ديوان المواريث «1» الحشريّة؛ وذلك بعد أن تنجّز «2» المستأجر المذكور مشروحا يتضمّن الإشهاد على كلّ واحد من فلان وفلان المهندسين على العقار بأنّهما سارا إلى ما ذكر أعلاه، وذكرا من الذّرع والتحديد ما وافق أعلاه، وقالا: «إنّ الأجرة فى ذلك عن كلّ سنة كذا وكذا» ؛ ويذكر ما تضمّنه المشروح، ورسم شهادة العدل فلان والعدل فلان بأنّ الأجرة المعيّنة فيه أجرة المثل يومئذ؛ ثم بعد تمام ذلك أحضر المستأجر من يده وصولات «3» بيت المال شاهدة له بحمل المال المذكور ونسخها كذا وكذا؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه وقع «4» الإشهاد على القاضى فلان الآجر والمستأجر بما نسب الى كلّ واحد منهما فيه؛ ويؤرّخ «5» . وإن أجر نائب وكيل بيت المال المعمور أرضا فى ديوان الأحباس كتب ما مثاله: استأجر فلان من القاضى فلان النائب عن القاضى فلان وكيل بيت المال المعمور، القائم فى إيجار ما يذكر فيه عن مستنيبه المذكور بأحكام الوكالة التى بيد مستنيبه، المفوّضة اليه من المقام الشريف، التى لمستنيبه فيها إيجار ما هو جار فى أملاك بيت المال المعمور وأوقاف الأحباس المعمورة، وغير ذلك، على ما نصّ وشرح فيها، وما مآله الى بيت المال المعمور بالقضايا الشرعيّة، وأن يستنيب عنه

إذا كان بستانا فأجر الأرض وساقى على الأنشاب

فى ذلك من يراه، الثابتة وكالته فى مجلس الحكم العزيز الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ ويشهد على وكيل بيت المال المعمور بالإذن لنائبه المذكور فى ذلك من يعيّنه فى رسم شهادته آخره؛ استأجر منه بقضيّة ذلك وحكمه جميع قطعة الأرض الآتى ذكرها وذرعها وتحديدها فيه، الجارية فى ديوان الأحباس المعمور، الذى صاحب الدّيوان «1» به يومئذ فلان، ومشارف «2» الأحكار به فلان، الاذن كلّ منهما للآجر فى الإيجار المذكور، يشهد عليهما بذلك شهوده؛ وهى بالمكان الفلانىّ؛ وتوصف وتحدّد ويكمّل الإجارة كما تقدّم. إذا كان بستانا فأجر الأرض وساقى «3» على الأنشاب «4» كتب ما مثاله: استأجر فلان من فلان جميع قطعة الأرض السواد، المتخلّلة بالأنشاب «5» الآتى

وأما المساقاة

ذكرها فيه، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «1» ؛ الجارية الأرض المذكورة فى يده وعقد إجارته، أو فى ملكه، وجميع بناء البئر المعينة «2» والساقية المركّبة على فوّهتها، المكمّلة العدّة والآلة، الذى ذلك بالموضع الفلانىّ؛ وصفة الأنشاب «3» أنّها النخل والكرم والتين «4» والزيتون والرمّان، وغير ذلك، بحدود ذلك وحقوقه، خلا الأنشاب «5» ومواضع مغارسها، فإنّها خارجة عن عقد هذه الإجارة، لمدّة ... ؛ ويكمّل كما تقدّم. وأما المساقاة - فإنّه إن كتبها فى ذيل الإجارة كتب ما مثاله: ثمّ بعد ذلك ساقى الآجر المستأجر ... ويكمّل. وإن لم يكتبها فى ذيلها كتب ما مثاله: ساقى فلان مالك الأنشاب «6» الآتى ذكرها فيه فلان بن فلان على الأنشاب «7» القائمة فى الأرض الآتى ذكرها فيه، الجارى ذلك فى يد فلان المبتدإ بذكره، وهى الأرض التى بالموضع الفلانىّ، ومساحتها كذا وكذا فدانا بالقصبة الحاكميّة «8» ؛ وصفة الأنشاب «9» المساقى عليها أنّها النخل والكرم وكذا وكذا، بحسب ما يكون؛ ويحيط بذلك حدود أربعة- وتذكر- مساقاة صحيحة شرعيّة جائزة نافذة، لمدّة سنة كاملة، أوّلها يوم تاريخه، على أن يتولّى سقى

وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض وما يلتحق بذلك

ذلك وتنظيفه وتأبيره «1» وغرسه وإصلاحه بنفسه، وبمن يستعين به؛ ومهما أطلعه الله تعالى من ثمر كان مقسوما بينهما على ألف جزء، جزء واحد لفلان «2» المبتدإ بذكره مالك الأنشاب، وباقى «الأجزاء» «3» لفلان المثنّى بذكره المساقى؛ وذلك بعد إخراج المؤن والكلف وحقّ الله تعالى إن وجب؛ تعاقدا على ذلك معاقدة شرعيّة، وسلم فلان المالك لفلان المساقى جميع الأنشاب المذكورة، فتسلّمها منه للعمل عليها، وصارت بيده وحوزه، وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة بجميع ذلك علما وخبرة. وفى المساقاة على اللّيف والسّعف والكرناف «4» خلاف: فإن كان يعدّ من الثمرة جاز «5» ، وإن لم يعدّ منها لم يجز. وأما الوصايا والشهادة على الكوافل بالقبوض «6» وما يلتحق «7» بذلك فاذا أوصى رجل رجلا كتب ما مثاله: هذا كتاب وصيّة اكتتبه فلان، حذرا من

هجوم الموت عليه» ، وعملا بالسنّة النبويّة، وامتثالا لأمر «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الندب إلى الوصيّة؛ وأشهد على نفسه فى حال عقله، وتوعّك «3» جسمه، وحضور حسّه، وثبوت فهمه، وجواز أمره؛ وهو عالم بأركان الإسلام، عارف بالحلال والحرام؛ متمسّك بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عالم بالموت وحقيقته والقبر ومسألته؛ متيقّن بالبعث والنشور، والصّراط والعبور؛ والجنّة والنّار، والخلود والاستقرار، غير محتاج الى تعليم ولا تكرار؛ أنّ الذين له من الورثة المستحقّين لميراثه «4» المستوعبين لجميعه: زوجته فلانة بنة فلان، التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى الآن؛ وأولاده منها، وهم فلان وفلان [وفلان] ، بغير شريك لهم فى ميراثه ولا حاجب يحجبهم عن استكماله؛ وأشهد على نفسه أنّ الذى عليه لزوجته كذا وكذا ولفلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّته إلى الآن؛ وأنّ الذى له من الدّين على فلان كذا وكذا، وعلى فلان كذا وكذا، وأنّ ذلك باق فى ذمّتهما إلى الآن، وأنّ الجارى فى ملكه كذا وكذا- ويعيّن ماله إن كان-؛ وأشهد على نفسه أنّه دبّر «5» مملوكه فلانا تدبيرا «6» صحيحا شرعيّا، وقال له: «أنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ وأشهد على نفسه أنّه أوصى فلان بن فلان، وجعل له أنه اذا نزل به حادث الموت الذى كتبه الله على خلقه، وساوى فيه بين بريّته، يحتاط على جميع موجوده، ويقبضه

ويحرزه تحت يده، ثم يبدأ من ثلث ماله بتجهيزه وتغسيله وتكفينه ومواراته فى قبره بمن «1» يراه أهلا لذلك على الأوضاع الشرعيّة، والسنّة النبويّة؛ ثم يسارع الى قضاء ديونه الواجبة عليه، وإبراء ذمّته؛ ثم يفرز من ثلث ماله كذا وكذا، ليستأجر به رجلا مشهورا بالخير والصلاح، عارفا بأداء الحجّ، ممن حجّ عن نفسه، ليحجّ عنه، على أن ينشئ السفر من البلد الفلانىّ فى البرّ والبحر على ما يراه، بنيّة الحجّ عن هذا الموصى المذكور، فيحرم من الميقات «2» الواجب عليه فى طريقه، ويؤدّى عنه حجّة الإسلام وعمرته الواجبتين عليه شرعا، مكمّلتين بأركانهما وشروطهما وواجباتهما وسننهما على الأوضاع الشرعيّة، والسّنن المرضيّة، وينوى فى جميع أفعاله وقوع ذلك عن الموصى المذكور؛ وللوصىّ الناظر أن يسلّم اليه المبلغ المذكور فى ابتداء سفره، ليكون عونا له على هذه العبادة؛ وعلى المؤجر أن يشهد على نفسه بأداء ذلك عن الموصى ليثبت علمه عند الوصىّ المذكور؛ كلّ ذلك من رأس ماله؛ ثم يبيع ما يرى بيعه، ويقبض ثمنه، ويستخلص ماله من دين على أربابه، ويحرّر جميع ذلك؛ ثم يعود فيفرّق من ثلث ماله المفسوح له فى إخراجه، فيقوّم العبد المذكور ويخرج قيمته من ثلث ماله ويثبت عتقه؛ وإن تصدّق بشىء يذكره فى هذا الموضع، وهو أن يقول: «ثمّ يخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، ويقف عنه الموضع الفلانىّ» - كلّ ذلك على ما يعيّنه «3» -؛

اذا عزل الموصى وصيه بغيره

ثم يقسم ثلثى المال وما يفضل من الثلث المفسوح له فى إخراجه على ورثته بالفريضة الشرعيّة، فيسلّم البالغ الرشيد حصّته، ويبقى تحت يده للمحجور عليهم ما يتعيّن لهم من نقد وعروض «1» وعقار وغير ذلك، فيصرف لهم وعليهم على النظر والاحتياط إلى حين بلوغهم وإيناس رشدهم، وينفق عليهم بالمعروف، ويصرف عليهم ما تدعو الحاجة إلى صرفه؛ فمن بلغ منهم أشدّه، وآنس الناظر عليه منه صلاحه ورشده، سلّم إليه ما عساه يبقى له تحت يده من ذلك، ويشهد عليه بقبضه؛ أوصى بجميع ذلك وصيّة صحيحة شرعيّة ثابتة فى حياته، معمولا بها بعد وفاته، أقامه فيها مقام نفسه، لعلمه بدينه وعدالته وأمانته، وله أن يستنيب عنه فى ذلك من يراه؛ فإن تعذّر تصرّف فلان الوصىّ كان الوصىّ فى ذلك فلانا، فإن تعذّر كان لحاكم «2» المسلمين بالمكان الفلانىّ. اذا عزل الموصى وصيّه بغيره كتب: هذا ما أشهد عليه فلان أنّه عزل وصيّه فلانا عن وصيّته التى كان وصّاه بها عزلا شرعيّا، ورجع عنها؛ وأشهد عليه أنّه أسند وصيّته إلى فلان، وجعله وصيّا، وأقامه مقام نفسه؛ ويؤرّخ. فصل اذا كلّف الحاكم الوصىّ بإثبات أهليّته كتب على ظهر الوصيّة ما مثاله: شهد الشهود الواضعو خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «3» بما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلانا الوصىّ المذكور باطنه معرفة صحيحة

فصل فى إسجال الوصية ومحضر الوصى

شرعيّة؛ ويشهدون أنّه أهل لما فوّضه إليه فلان الموصى باطنه المتوفّى الى رحمة الله تعالى من الوصيّة المشروحة باطنه، وأنّه كاف «1» للتصرّف، عدل لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جاز سؤاله. فصل فى إسجال الوصيّة ومحضر الوصىّ يكتب على ظهر الوصيّة: هذا ما أشهد عليه سيّدنا القاضى فلان الحاكم بالعمل «2» الفلانىّ على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه [أنه ثبت عنده «3» وصحّ لديه] بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة من أعلم تحت رسم شهادته علامة الأداء، مضمون الوصيّة- ويذكر تاريخها- وبآخرها رسم شهادة العدلين المذكورين؛ وقال كلّ واحد من هذين العدلين: إنه شهد على الموصى والوصىّ بما نسب الى كلّ منهما فيه، وهو بهما عارف، وإنّ الموصى توفّى الى رحمة الله تعالى فى اليوم الفلانىّ، وما علم مغيّرا لشهادته الى أن أقامها عند الحاكم بشروط الأداء المعتبرة؛ وأعلم تحت رسم شهادة «4» كل منهما علامة الأداء والتعريف

فصل إذا قبضت الكافلة نفقة ولدها

على الرسم المعهود بما رأى معه قبول شهادتهما؛ وأشهد عليه أيضا أنّه ثبت عنده وصحّ لديه، بعد صدور دعوى محرّرة، مقابلة بالإنكار على الوضع المعتبر الشرعىّ بشهادة عدلين، هما فلان وفلان- عرفهما فقبل شهادتهما بما رأى معه قبولها- جميع ما تضمّنه المحضر المكتتب فى ذيل هذه الوصيّة- ويذكر مضمونه وتاريخه- وبآخره رسم شهادة الشاهدين المذكورين؛ وقال كلّ منهما: إنه بما شهد عالم وبفلان الوصىّ المذكور عارف، وما علم مغيّرا لشهادته إلى أن أقامها بشروط الأداء؛ وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهما علامة الأداء والتعريف على الرسم المعهود فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة إجابته الإشهاد على نفسه الكريمة بثبوت ذلك لديه، والحكم به، فأجابه إلى سؤاله، وأشهد عليه بثبوت ذلك عنده على الوجه الشرعىّ، وأطلق يد الوصىّ فى تنفيذ الوصيّة المذكورة باطنه على الوجه المشروح فيها، وحكم بذلك وأمضاه، ونفّذه وارتضاه وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وذلك بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها بتاريخ كذا وكذا. فصل إذا قبضت الكافلة نفقة ولدها كتب: أقرّت فلانة المرأة الكاملة ابنة فلان، كافلة ولدها فلان بن فلان الطفل، عند شهوده، بأنها قبضت وتسلّمت من فلان وصىّ زوجها فلان المذكور والد ولدها كذا وكذا، وذلك عوضا عن نفقة ولدها لبطنها المذكور، لمدّة كذا وكذا شهرا، آخرها يوم تاريخه؛ وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها، من مال الموصى المذكور؛ ويؤرّخ.

فصل إذا خلف الموصى زوجة مشتملة على حمل، فوضعت وأراد الوصى إثبات ذلك

فصل إذا خلف الموصى زوجة مشتملة على حمل، فوضعت وأراد الوصىّ إثبات ذلك كتب: شهد من أثبت اسمه آخره من الرجال الأحرار المسلمين، شهدوا شهادة لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّ فلانة وضعت الحمل الذى كانت مشتملة عليه من زوجها فلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى ولدا ذكرا- واسمه فلان- فى اليوم الفلانىّ، وهو فى قيد الحياة الى الآن، وهم بها وبولدها عارفون؛ ولمّا سألهم من جاز سؤاله أجابوا سؤاله. وأما العتق والتدبير وتعليق العتق - فإذا أعتق السيّد عبده كتب: هذا ما أشهد عليه فلان أنّه أعتق فى يوم تاريخه أو قبل تاريخه مملوكه فلانا المقرّ له بالرّقّ والعبودية، المدعوّ «1» فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم؛ وإن كان دون البلوغ كتب: «مملوكه المراهق، الماسك بيده عند شهوده المدعوّ فلانا» - ويذكر حلاه- عتقا صحيحا شرعيّا منجّزا، لوجه الله الكريم وطلب ثوابه العميم، يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة «2» مؤمنة أعتق الله بكلّ عضو منها عضوا

منه «1» حتى الفرج بالفرج» صار [به] «2» فلان حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لاحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ، فإنه لمعتقه، ولمن يستحقّه من بعده. فإن أعتق نصف عبد وهو موسر كتب: أعتق جميع النصف من جميع العبد المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة؛ ويكمّل العتق، ثم يكتب: «وأقرّ المعتق بأنه فى يوم تاريخه موسر بقيمة النصف الثانى» ؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب خلف العتق تقويم حصّة الشريك وتكملة العتق، ومثال ما يكتب: أقرّ فلان بأن شريكه فلانا أعتق ما يملكه من العبد المذكور باطنه، وهو النصف وهو موسر، وأنّهما أحضرا رجلين خبيرين بقيمة الرقيق، وهما فلان وفلان، وقوّما النصف من العبد المذكور يوم العتق بكذا وكذا، وأنّهما رضيا قولهما، وعلما أنّها قيمة المثل يوم ذاك، وأنّ فلانا المعتق دفع ذلك لشريكه، فقبضه منه وتسلّمه؛ وبحكم ذلك عتق النصف الثانى من العبد على فلان عتقا شرعيّا، وصار العبد بكماله حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ.

فصل اذا علق رجل عتق عبده على موته ليخرج من رأس ماله

فصل اذا علّق رجل عتق عبده على موته ليخرج من رأس ماله كتب: أقرّ فلان بأنّه علّق عتق عبده فلان على موته فى آخر يوم من أيام حياته «1» المتقدّم على وفاته، لاستكمال عتق عبده المذكور من رأس ماله؛ تلفّظ بذلك بتاريخ كذا. فصل اذا دبّر «2» رجل عبده كتب ما مثاله: دبّر «3» فلان مملوكه فلانا، الفلانىّ الجنس، المقرّ له بالرّقّ والعبوديّة، تدبيرا «4» صحيحا شرعيّا، وقال له: «متى متّ فأنت حرّ بعد موتى، تخرج من ثلث مالى المفسوح لى فى إخراجه» ؛ فبحكم ذلك صار حكمه حكم المدبّر؛ ويؤرّخ. فإن أقرّ الورثة بخروج المدبّر من ثلث المال الموروث، أو أقرّ الوصىّ بذلك كتب ما مثاله: أقرّ فلان وفلان [وفلان] «5» أولاد فلان بأنّ العبد المسمّى باطنه الذى كان والدهم دبّره تدبيرا شرعيّا، قوّمه أهل الخبرة والمعرفة بقيمة الرقيق، فكانت قيمته كذا وكذا، وأنّها قيمة عادلة يكمل خروجها من ثلث مال متوفّاهم؛ وبحكم ذلك صار العبد حرّا من أحرار المسلمين، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ويؤرّخ.

وأما الكتابة

وأما الكتابة «1» - فإذا كاتب رجل عبده كتب ما مثاله: كاتب فلان مملوكه الذى بيده وملكه، المقرّ له بالرّقّ، المدعوّ فلانا، الفلانىّ الجنس، المسلم لما علم فيه من الخير والديانه، والعفّة والأمانة؛ ولقوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ، على مال جملته كذا وكذا، يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ شهر كذا وكذا من استقبال تاريخه، وأسقط عنه السيّد من ذلك قسط النّجم «2» الأخير، وهو كذا وكذا وأبرأه منه، لقول الله عزّ وجلّ: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) ؛ مكاتبة صحيحة شرعيّة؛ وأذن له سيّده فى التكسّب والبيع والشراء؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين، له مالهم، وعليه ما عليهم، لا سبيل لأحد عليه إلّا سبيل الولاء الشرعىّ؛ ومتى ما عجز ولو عن الدرهم الفرد كان باقيا على حكم العبوديّة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ «3» ما بقى عليه درهم» ؛ وبمضمونه شهد بتاريخ كذا وكذا. فإن وفّى العبد مال الكتابة كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه قبض وتسلّم من مملوكه فلان المسمّى باطنه جميع المبلغ المعيّن باطنه، وهو كذا وكذا، على حكم التنجيم باطنه، وصار ذلك بيده وقبضه وحوزه، فبحكم ذلك صار فلان حرّا من أحرار المسلمين، على ما تقدّم؛ ويؤرّخ.

فصل وإن عجز المكاتب عن أداء ما كوتب عليه

فصل وإن عجز المكاتب عن أداء ما كوتب عليه كتب ما مثاله: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه فلان، وأشهدهم على نفسه أنه كان كاتب عبده المذكور باطنه [المكاتبة] «1» المشروحة باطنه الى المدّة المعيّنة [باطنه] «2» ، وزادت مدّة ثانية، واستحقّ عليه كذا وكذا عن قسط كذا وكذا شهرا، ولم يقم له بها، وصدّقه العبد على ذلك واعترف بأنّه عاجز عن القيام بما حصل عليه، وأنّه سأله بعد الاستحقاق الصبر عليه إلى يوم تاريخه ليسعى فى تحصيل ما بقى عليه ... «3» ... لقوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ وتصادقا على ذلك؛ ويؤرّخ. وان كانا تحاكما عند حاكم كتب ما مثاله: حضر إلى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس الحكم عند سيّدنا الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ، كلّ «4» واحد من فلان بن فلان ومملوكه، وادّعى فلان المبتدأ باسمه على مملوكه عند الحاكم المذكور أنّه كاتبه على مال جملته كذا وكذا؛ فمتى أوفى ذلك كان حرّا من أحرار المسلمين؛ ومتى عجز عن أدائه ووفائه ولو عن درهم

وأما النكاح وما يتعلق به

واحد كان قنّا باقيا على العبوديّة، وأنّ المدّة المذكورة «1» انقضت، فاستحقّ عليه كذا وكذا درهما، ولم يقم له بها؛ وأنه صبر عليه مدّة ثانية، آخرها يوم تاريخه، ولم يقم له بشىء منها؛ فسأل الحاكم المملوك عن ذلك، فصدّق سيّده فى دعواه، واعترف بأنه عاجز عن الوفاء، وأنّه لم يقدر على تحصيل ما بقى؛ فحينئذ سألا الحاكم المذكور الحكم لهما بما يوجبه الشرع الشريف، فأذن له «2» الحاكم المذكور فى فسخ المكاتبة المذكورة، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المكاتب قنّ ما بقى عليه درهم» ؛ فحينئذ فسخ السيّد المكاتبة المذكورة فسخا شرعيّا، وأبطل حكمها، وأشهد عليهما بذلك بتاريخ كذا وكذا. وأما النكاح وما يتعلّق به فاذا زوّج الوالد ابنته بإذنها أو زوّجها وهى غير بالغ كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان فلانة البكر البالغ ابنة فلان، صداقا تزوّجها به، على بركة الله تعالى وعونه، وحسن توفيقه ومنّه ملك به عصمتها، واستدام به- إن شاء الله- صحبتها؛ مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة وتسلّمته، أو قبضه والد الزوجة لها بإذنها- وإن كانت تحت حجره كتب: «قبضه للزوجة والدها، ليصرفه فى مصالحها» - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به منجّما، فى سلخ كلّ سنة من استقبال تاريخه كذا وكذا- وإن كان الصداق بكماله على حكم الحلول كتب: «عجّل لها الزوج من ذلك كذا وكذا، وباقى ذلك فى ذمّته على حكم الحلول» - وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور- ويحلّى «3» فى هذا الموضع إن كان ممّن لا يعرف-

وان اعترف الأب برشدها

بحقّ ولايته عليها شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته، أو على ما ذكر- وإن كانت دون البلوغ كتب: «بحقّ ولايته عليها شرعا، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة وحسن النّظر» - بعد أن وضح للقاضى فلان عاقد الأنكحة بالمكان الفلانىّ بالتولية الشرعيّة عن القاضى فلان أن الزوجة المذكورة بكر بالغ، خالية من موانع النّكاح الشرعيّة، وأنّها ممّن يجوز العقد عليها شرعا، وأنّ أباها المذكور مستحقّ الولاية عليها شرعا بشهادة جماعة «1» من المسلمين وهم فلان وفلان؛ فتقدّم «2» حينئذ بكتابته، وزوّجها والدها المذكور من الزوج المذكور على الصّداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ والله تعالى مع المتّقين؛ ويؤرّخ. وان اعترف الأب برشدها كتب: واعترف والد الزوجة المذكورة بأنّ ابنته رشيدة، جائزة التصرّف، لا حجر عليها. وان كان العقد لم يحضره كاشف «3» حاكم كتب إلى «4» عند «و «5» بإذنها له فى ذلك ورضاها» وباشر والدها المذكور عقد النكاح بنفسه، وزوّجها من خاطبها المصدق على الصداق المذكور، وقبله الزوج لنفسه؛ ويؤرّخ.

وان زوجها العاقد بإذنها وإذن أبيها، أو بإذنها خاصة إذا لم يكن لها ولى

وان زوّجها العاقد بإذنها وإذن أبيها، أو بإذنها خاصّة إذا لم يكن لها ولىّ كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان عاقد الأنكحة الشرعيّة بالتولية الشرعيّة عن فلان «1» ، بإذنها وإذن والدها له فى ذلك ورضاهما، بعد أن وضح عند فلان العاقد أنّها بكر بالغ، كما تقدّم. وإن كان الزوج ممّن مسّه الرّقّ وعتق كتب: وعلمت الزوجة المذكورة ووالدها أنّ الزوج المذكور مسّه الرقّ وعتق، ورضيا بذلك. وإن كانت الزوجة بكرا وزوّجها من له الولاية عليها شرعا، كالأب أو الجدّ الأعلى، أو الأخ، أو ابن الأخ، أو العمّ، أو ابن العمّ، أو المعتق، أو ابنه أو وليّه، كتب: وولى نزويجها بذلك فلان- ويذكر نسبته منها «2» - بحقّ ولايته [عليها] شرعا، وبإذنها له فى ذلك ورضاها. وإن كانوا جماعة إخوة كتب اسم أمثلهم «3» ، بإذنها له، وإذن بقيّة إخوتها الأشقاء- وهم فلان وفلان- له، وإذنها لإخوتها فى هذا الإذن. وإن زوّجها الحاكم بإذنها وإذن أوليائها أو أحدهم ذكر «4» ، بشهادة من يعيّنه فى رسم شهادته آخره. وان كانت الزوجة ثيّبا كتب كما تقدّم، ويكتب: بعد أن حضر الى العاقد المذكور من عرّفها عنده، وهما فلان وفلان، شهدا «5» أنّهما يعرفان هذه الزوجة معرفة

وان كان زوجها توفى عنها

شرعيّة، وأنّها خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، ومنذ طلّقها زوجها فلان الذى دخل بها وأصابها، الطلقة الأولى الخلع «1» ، أو الثانية، أو الثلاث، أو الرجعيّة التى انقضت عدّتها ولم يراجعها، المسطّرة على ظهر صداقها أو حاشيته، المؤرّخة بكذا وكذا، لم تتّصل بزوج غيره الى يوم تاريخه. وإن طلّقها قبل الدخول والاصابة كتب ونبّه عليه. وان كان زوجها توفّى عنها كتب: ومنذ توفّى عنها زوجها فلان من مدّة تزيد على أربعة أشهر وعشرة أيام لم تتّصل بعده بزوج إلى الآن. وان طلقها ومات عنها وهى حامل ووضعت كتب: وإنّ زوجها [طلّقها، و «2» ] توفّى عنها، وهى مشتملة منه على حمل، ووضعته، وانقضت عدّتها بحكم وضعها. وان كان عن فسخ «3» كتب: ومنذ فسخ الحاكم فلان نكاحها من زوجها فلان فى التاريخ الفلانىّ [و] انقضت «4» عدّتها، لم تتّصل بزوج إلى يوم تاريخه.

وإن راجع رجل امرأته من طلقة أو طلقتين

وإن راجع رجل امرأته من طلقة أو طلقتين كتب: هذا ما أصدق فلان مطلّقته الطلقة الأولى الخلع، أو الثانية، المؤرّخة قرينته «1» أو باطنه، أو المكتتبة فى براءة محرّرة تاريخها كذا وكذا. وان زوّجها الحاكم عند غيبة وليّها نبّه عليها «2» بأن يكتب: وولى تزويجها إيّاه فلان «3» ، بعد أن وضح عنده بشهادة فلان وفلان خلوّها من الموانع الشرعيّة؛ وأنّه لا ولىّ لها حاضر سوى الحاكم العزيز، بحكم غيبة وليّها فلان- ويعيّن نسبته «4» منها- فى مسافة تقصر فيها الصلاة، وأنّ هذا الزوج كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى الدّين والنّسب والحرّيّة؛ فحينئذ زوّجها الحاكم المذكور من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه؛ ويؤرّخ. وان زوّج الحاكم امرأة عضلها «5» وليّها وقد دعيت الى كفء كتب: وولى تزويجها إيّاه بذلك القاضى فلان، بإذنها له فى ذلك ورضاها وبحكم أنّ والدها المذكور حضر إلى القاضى فلان، وسألته ابنته المذكورة أن يزوّجها من الزوج المذكور لمّا ثبتت كفاءته عند الحاكم، فامتنع، فوعظه القاضى فلان وأعلمه بماله من الأجر فى تزويجها، وما عليه من الإثم فى المنع، فلم يرجع إلى عظته وأصرّ على الامتناع، وعضلها «6» العضل الشرعىّ؛ وقال بمحضر من شهوده: «عضلتها «7» فلا أزوّجها» ؛ وبعد أن حضر إلى الحاكم المذكور كلّ واحد من فلان وفلان

فصل إذا زوج الصغير أو المراهق للصغيرة [أو] المعصرة

وشهدا عنده أنّ الزوجة المذكورة خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة، وأنّ أباها المذكور عضلها العضل الشرعىّ، وأنّ هذا كفء لها الكفاءة الشرعيّة فى النّسب والدّين والصناعة «1» والحرّيّة؛ فلمّا وضح له ذلك من أمرها أذن بكتبه فكتب وزوّجها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله الزوج لنفسه ورضيه. فصل إذا زوّج الصغير أو المراهق للصغيرة [أو «2» ] المعصرة «3» كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن ولده لصلبه فلان- ويذكر سنّه- الذى تحت حجره وكفالته وولاية نظره، لما رأى له فى ذلك من الحظّ والمصلحة فى دينه ودنياه فلانة البكر- ويعيّن سنّها- ابنة فلان التى تحت حجر والدها المذكور وكفالته وولاية نظره، لما رأى لها فى ذلك من الحظّ والمصلحة، صداقا مبلغه كذا وكذا عجّل لها من ذلك من ماله عن ولده المذكور كذا وكذا، قبضه منه والدها لابنته المذكورة ليصرفه فى مصالحها- وإن كان من مال ولده [كتب «4» : «من مال ولده المذكور] الذى تحت يده وحوطه «5» » - وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به

فصل فى صداق المحجور عليه من قبل الحاكم

الولىّ من ماله عن ولده، فى سلخ كلّ سنة من استقبال العقد بينهما كذا وكذا؛ أو من «1» مال ولده المذكور الذى تحت يده وحوزه؛ وولى تزويجها إيّاه بذلك والدها المذكور، بحقّ ولايته عليها شرعا، بعد أن وضح للقاضى فلان أنّها بكر معصر «2» لم يعقد عليها عقد إلى يوم تاريخه؛ أو يكتب: «خالية من جميع موانع النكاح الشرعيّة» ؛ وأنّ أباها مستحقّ الولاية عليها شرعا، بشهادة فلان وفلان؛ فلمّا وضح ذلك عنده أذن بكتبه فكتب، وزوّجها والدها من الزوج المذكور على الصداق المعيّن، وقبله والد الزوج لولده قبولا شرعيّا. وإن كان من مال الصغير كتب فى آخر الكتاب: «وشهدت البيّنة أنّ المهر المذكور مهر مثلها على مثله «3» ، لا حيف فى ذلك ولا شطط» ويؤرّخ. فصل فى صداق المحجور عليه من قبل الحاكم يكتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان المحجور عليه من قبل الحكم العزيز عند ما دعت حاجته إلى النكاح، وتاقت نفسه إليه، وذكر ذلك للقاضى فلان أمين الحكم بمحضر من شهوده، وسأله الإذن له فى ذلك، فأذن له فيه بالصداق الآتى ذكره الإذن الصحيح الشرعىّ، فلانة «4» بنة فلان، وتزوّجها به «5» ؛ أصدقها على بركة الله تعالى صداقا مبلغه كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة المذكورة

فصل اذا أصدق رجل عن موكله

من القاضى فلان أمين الحكم العزيز، من مال هذا الزوج الذى له تحت يده وصار بيدها وقبضها وحوزها، وباقى الصداق- وهو كذا وكذا- مقسّط فى سلخ كلّ سنة كذا وكذا، وولى تزويجها إيّاه بذلك ... ويكمّل؛ ويكتب فى آخره: وشهدت البيّنة أنّ الصداق المذكور مهر مثلها «1» على مثله. وإن تزوّج رجل امرأة محجورا عليها كتب فى القبض: «بيد الوصىّ أو أمين الحكم، ليصرفه فى مصالحها» . ويكتب فى آخره: «وشهدت البيّنة أنّ هذا المهر مهر المثل» . فصل اذا أصدق رجل عن موكّله كتب ما مثاله: هذا ما أصدق فلان عن موكّله فلان بإذنه له فى ذلك وتوكيله- ويشرح الوكالة إن كانت مفوّضة أو مقيّدة على الزوجة بعينها- يشهد بذلك على الموكّل من يعيّنه فى رسم شهادته من شهود هذا العقد، فلانة البكر البالغ؛ أو المرأة الكاملة؛ ويكمّل. ويكتب فى القبول: «وقبل هذا الوكيل المذكور عقد هذا النكاح لموكّله فلان على الصداق المعيّن قبولا شرعيّا» ويؤرّخ. فصل اذا تزوّج الحرّ أمة كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة مملوكة فلان المقرّة لسيّدها بالرقّ والعبوديّة، عند ما خشى على نفسه العنت «2» ، وخاف الوقوع فى المحظور لعدم الطّول، وأنّه ليس فى عصمته زوجة، ولا يقدر على صداق حرّة على ما شهد له به من يعيّنه فى رسم شهادته، صداقا تزوّجها به، مبلغه كذا وكذا

وان تزوج العبد حرة

وولى تزويجها إيّاه بذلك سيّدها المذكور بحقّ ولايته عليها شرعا- ولا يفتقر إلى إذنها- ويكمّل الصداق. ويكتب: «وشهدت البيّنة أنّ الزوج المذكور فقير ليس له موجود ظاهر، ولا مال باطن، ولا له قدرة على نكاح حرّة، ولا فى عصمته زوجة، وأنّه عادم للطّول» . وان تزوّج العبد حرّة كتب: هذا ما أصدق فلان مملوك فلان، المقرّ لسيّده بالرقّ والعبوديّة، بسؤال منه لسيّده، وإذن سيّده له فى ذلك الإذن الصحيح الشرعىّ، وشهد عليه بذلك شهود هذا الكتاب، فلانة بنة فلان، صداقا تزوّجها به، جملته كذا وكذا، الحالّ من ذلك كذا وكذا، قبضته الزوجة من مال سيّده الذى بيده بإذن سيّده له فى ذلك، وباقى ذلك- وهو كذا وكذا- يقوم به سيّده لها عن عبده من ماله، فى سلخ كلّ سنة تمضى من تاريخ العقد كذا وكذا- وان كان من مال العبد من كسبه ذكره- وأذن له سيّده فى السعى والتكسّب والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وولى تزويجها ... ويكمّل. ويكتب فى آخره: «وعلمت الزوجة المذكورة أنّ الزوج مملوك، ورضيت بذلك» . وان كان لهما أولياء كتب رضاهم. فصل وان زوّج السيّد جاريته لعبده كتب ما مثاله: هذا كتاب تزويج اكتتبه فلان لعبده فلان من أمته «1» فلانة، المقرّ له كلّ منهما بالرقّ والعبوديّة، وهو أنّه أشهد على نفسه أنّه زوّج عبده المذكور لأمته المذكورة تزويجا صحيحا شرعيّا بسؤال كلّ منهما لسيّده المذكور فى ذلك، وقبل الزوج المذكور من سيّده عقد

فصل وان تزوج رجل أخرس بامرأة ناطقة

هذا النكاح لنفسه قبولا شرعيّا. ولا يعيّن الصداق؛ ولا اعتبار بإذنها؛ وإن كشفه «1» عاقد كتب كما تقدّم «2» . فصل وان تزوّج رجل أخرس بامرأة ناطقة كتب: هذا ما أصدق فلان الأخرس اللّسان، الأصمّ الاذان «3» ، العاقل، الذى يفهم ما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يعلمها منه شهوده، ولا ينكرها منه من يعلمها عنه فلانة بنة فلان، ويكمّل على ما تقدّم. ويكتب عند القبول: «وقبل الزوج لنفسه هذا العقد بالإشارة المفهومة عنه» . وان كانا أخرسين كتب: هذا ما أصدق فلان فلانة، وكلّ منهما أخرس لا ينطق بلسانه، أصمّ لا يسمع بآذانه «4» ، صحيح العقل والبصر، عالم بما يجب عليه شرعا، كلّ ذلك بالإشارة المفهومة عنه، يفهمها من كلّ منهما شهود هذا العقد صداقا تزوّجها به؛ ويكمّل كما تقدّم. وان كان الزوج مجبوبا كتب فى آخر الكتاب: «وعلمت الزوجة أنّ الزوج مجبوب، لا قدرة له على النكاح، ورضيت به» . وأمّا إقرار الزوجين بالزوجيّة واعتراف الزوج بمبلغ الصداق وما يتصل بذلك من فرض الزوجة والإشهاد عليها بقبض الكسوة

فصل فى فرض زوجة

فيحتاج فى إقرار الزوجين بالزوجيّة الى تسطير محضر بأنّهما زوجان متناكحان ويشهد فيه جماعة من المسلمين الذين يعلمون ذلك، ثم يكتب كتاب الإقرار وصورته: أقرّ فلان وفلانة بأنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ، وأنّ الزوج منهما دخل بالزوجة وأصابها، وأولدها «1» على فراشه ولدا ذكرا يسمّى فلانا- إن كان- وأنّ الزوجة المذكورة لم تبن من الزوج المذكور بطلاق بائن ولا رجعىّ «2» ولا فسخ ولا غيره؛ ومنذ تزوّجها إلى الآن أحكام الزوجيّة قائمة بينهما، وتصادقا على ذلك، واعترف الزوج بأنّ فى ذمّته مبلغ صداقها عليه الذى عدم «3» ، وهو كذا وكذا. وإن «4» كشفه عاقد كتب: وذلك بعد أن وضح للعاقد فلان بشهادة فلان وفلان مضمون ما أقرّا به فيه؛ فحينئذ أذن فى كتبه؛ ويؤرّخ. فصل فى فرض زوجة إن فرض الرجل على نفسه كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لزوجته فلانة التى دخل بها وأصابها، واستولدها على فراشه- إن كان ذلك- لما تحتاج إليه من طعام وإدام وماء وزيت وصابون حمّام «5» ، فى غرّة كلّ يوم كذا وكذا حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها.

فصل وإن قبضت المرأة كسوتها

وإن قرّره حاكم كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان أنّه فرض على فلان لزوجته فلانة لما تحتاج إليه من نفقة ومؤونة وماء وزيت وصابون حمّام فى كلّ يوم كذا وكذا، وذلك خارج عمّا يلزمه لها من اللوازم الشرعيّة غير ذلك؛ قرّر ذلك الحاكم عليه، وأوجبه فى ماله، ورضيت الزوجة به. فصل وإن قبضت المرأة كسوتها كتب: أقرّت فلانة بأنّها قبضت وتسلّمت من زوجها فلان كسوتها الواجبة عليه شرعا، وهى ثوب وسراويل ومقنعة «1» ، وذلك عن فصل واحد، أوّله يوم تاريخه، وصار ذلك بيدها وقبضها وحوزها. وكذلك إن قبضت كسوة ولدها الطفل. وأما الطلاق وما يتصل به من الفروض الواجبة - فإذا طلّق الرجل زوجته قبل الدخول كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة قبل الدخول بها والإصابة، طلقة واحدة بانت منه بذلك، بحكم أنّه لم يدخل بها ولم يصبها، وبحكم ذلك تشطّر الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبقى النصف الثانى. فإن طلّق الزوج الزوجة قبل الدخول بها على ما يتشطّر لها من الصداق كتب ما مثاله: سألت الزوجة المسمّاة «2» باطنه فلانة زوجها فلانا

وإن سأل الأب أو غيره الزوج أن يطلق زوجته على نظير ما بذله له فى ذمته، ثم أحال المطلق مطلقته بذلك

الذى لم يدخل بها ولم يصبها- وتصادقا على ذلك- أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على ما يتشطّر «1» من الصداق باطنه، أو على ما يتّفقان عليه، فأجابها إلى سؤالها وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه الطلقة المسئولة، بانت منه بذلك وملكت نفسها عليه، وبحكم ذلك تشطّر «2» الصداق المعقود عليه باطنه نصفين سقط عنه النصف، وبرئت ذمّته من النصف الثانى بحكم هذا. وإن سأل الأب «3» أو غيره الزوج أن يطلّق زوجته على نظير ما بذله له فى ذمّته «4» ، ثم أحال المطلّق مطلّقته بذلك كتب: سأل فلان فلانا- وهو الزوج المسمّى باطنه- أن يخلع زوجته فلانة المسمّاة باطنه التى لم يدخل بها ولم يصبها؛ أو التى دخل بها وأصابها، بطلقة واحدة: أولى أو ثانية، أو ثالثة، على «5» ما بذله فى ذمّته، وهو كذا وكذا، من ذلك ما هو حالّ كذا وكذا، وما هو مؤجّل كذا وكذا؛ فأجابه الى سؤاله، وقبل منه العوض المذكور وطلّق زوجته طلقة واحدة أولى خلعا «6» بانت بها منه، وملكت نفسها عليه، وبحكم هذا الطلاق تشطّر «7» الصداق المذكور نصفين، سقط عنه النصف، وبقى فى ذمّته النصف الثانى، وأقرّ المطلّق بأنّه قبض من السائل مبلغ الحالّ الذى اختلع له به

فإن طلق طلقة رجعية بعد الدخول

واعترف أيضا بأنّه قبض نصف المعجّل باطنه، وصار بيده وقبضه وحوزه؛ ثم بعد تمام ذلك ولزومه أحال المطلّق المذكور مطلّقته المذكورة على أبيها بالمبلغ المؤجّل وهو نظير نصف مؤخّر الصداق المعيّن باطنه فى قدره وجنسه وصفته واستحقاقه حوالة شرعيّة، قبلها منه لها والدها، بحكم أنّها تحت حجره وولاية نظره، قبولا شرعيّا، وبحكم ذلك وجبت لها مطالبة أبيها. فإن طلّق طلقة رجعيّة بعد الدخول كتب: طلّق الزوج المسمّى باطنه فلان زوجته المسمّاة باطنه فلانة، التى دخل بها وأصابها، طلقة واحدة أو ثانية رجعيّة، يملك بها رجعتها ما لم تنقض عدّتها، فاذا انقضت فلا سبيل له عليها ولا رجعة إلّا بأمرها ورضاها وعقد جديد لها عليه، على ما يوجبه الشرع الشريف. وإن استرجعها «1» منها «2» كتب: ثمّ بعد ذلك استرجع «3» المطلّق المذكور مطلّقته؛ أو أقرّ بأنه استرجع «4» مطلّقته من الطلقة الأولى، أو الثانية، استرجاعا «5» شرعيّا، وردّها، وأمسكها، وصار حكمها حكم الزوجات؛ ويؤرّخ. فإن طلّقها ثلاثا كتب: طلّق فلان زوجته فلانة التى دخل بها وأصابها طلاقا ثلاثا، حرمت عليه بذلك، (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) . فإن اختلعت المرأة من «6» زوجها على أن يطلّقها كتب: سألت فلانة زوجها فلانا الذى دخل بها وأصابها أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه على

وإن وكل رجلا أن يطلق عنه

مؤخّر صداقها عليه، الشاهد به كتابه «1» المتعذّر حضوره، وهو كذا وكذا، فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عليه طلقة واحدة أولى خلعا، أو ثانية خلعا، أو ثالثة، بانت منه بذلك، وملكت نفسها عليه، وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، ولا بقيّة من صداق، ولا نفقة ولا كسوة ولا حقّا من حقوق الزوجيّة كلّها. والعبد لا يملك إلّا طلقتين. وإذا طلّق المجبوب لا يكتب فى طلاقه إصابة. وإن وكّل رجلا أن يطلّق عنه كتب: سألت فلانة فلان بن فلان الوكيل عن زوجها فلان، القائم عنه فى طلاقها بالوكالة التى جعل له فيها أن يطلّق عنه زوجته المذكورة طلقة واحدة أولى خلعا على مؤخّر صداقها عليه، وهو كذا وكذا، المشروح ذلك فى الوكالة المؤرّخة بكذا وكذا، أن يطلّقها عن موكّله فلان المذكور بطلقة واحدة أولى خلعا على جميع مؤخّر صداقها، وهو كذا وكذا؛ فأجابها الى سؤالها، وقبل منها العوض المذكور، وطلّقها عن موكّله طلقة واحدة أولى خلعا، بانت منه بها، وملكت نفسها عليه، فلا تحلّ له إلّا بعد عقد جديد وأقرّت بأنّها لا تستحقّ عليه صداقا، كما تقدّم. فصل فى فرض امرأة مطلّقة ظهرت حاملا يكتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لمطلّقته [الطلقة «2» ] الأولى أو الثانية، أو الثلاث، فلانة المرأة الكاملة، المشتملة منه على حمل، وتصادقا على

فإن قرر على نفسه لولده

ذلك، عوضا عما تحتاج اليه من طعام وإدام وماء، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا قسط كلّ يوم فى أوّله من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا على ذلك وتراضيا عليه وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف لها، وأذن لها أن تقترض على ذمّته بقدر ما قرّر لها عند تعذّر وصول ذلك اليها، وتنفقه عليها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا قبلته منه. فإن قرّر على نفسه لولده كتب: فرض قرّره على نفسه فلان لولده الطفل، الذى فى كفالة والدته مطلّقته فلانة، لما يحتاج اليه من طعام وادام وماء وزيت وصابون حمّام، فى كلّ يوم من الأيّام كذا وكذا من استقبال تاريخه، حسب ما اتّفقا وتراضيا عليه، وذلك خارج عمّا يوجبه الشرع الشريف، وأذن لها أن تقترض على ذمّته، وتنفق على ولدها، وترجع به عليه، إذنا شرعيّا. فان قرّر لوالده أو والدته كتب ما مثاله: فرض قرّره على نفسه فلان لوالدته «1» فلانة، بحكم عجزها وفقرها وحاجتها، لما تحتاج اليه من طعام وإدام وزيت وصابون، فى كلّ يوم كذا وكذا؛ ويكمّل. فصل إذا قرّر القاضى للمحجور عليه من ماله له ولزوجته كتب: هذا ما أشهد على نفسه القاضى فلان الفارض أنّه قرّر لفلان المحجور عليه بيد الحكم العزيز ولزوجته فيما له من أجرة العقار المنسوب إليه، الّذى تحت نظر الحكم العزيز، لما يحتاجان إليه من طعام وإدام وماء وزيت، فى كلّ يوم كذا وكذا من استقبال تاريخه، قسط كلّ

وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح

يوم فى أوّله، وقرّر له ولزوجته وللخادم عوضا عن كسوتهم لفصل الصيف كذا وكذا ولفصل الشتاء كذا وكذا؛ وبذلك شهد عليه؛ ويؤرّخ. وأما تعليق الطلاق وفسخ النكاح - فإذا علّق الزوج طلاق زوجته على سفره، أو أنّه يسافر «1» بها، كتب على ظهر كتابه ما مثاله: قال الزوج المسمّى باطنه فلان لزوجته فلانة، التى دخل بها وأصابها: «متى سافرت عنك من البلد الفلانىّ، واستمرّت غيبتى عنك شهرا واحدا ابتداؤه من حين سفرى، أو متى سفّرتك إلى بلد من البلاد بنفسى أو وكيلى، أو متى تسرّيت عليك بأمة فأنت طالق ثلاثا» ؛ تلفّظ بذلك عند شهوده؛ ويؤرّخ. فصل إذا سافر الزوج عن زوجته وتركها بغير نفقة ولا كسوة، وأرادت فسخ نكاحها منه ، كتب محضر بالغيبة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة «2» فيما شهدوا به فيه «3» - أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلانة معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّهما زوجان متناكحان بنكاح صحيح شرعىّ دخل الزوج منهما بالزوجة، وأولدها «4» على فراشه ولدا ذكرا، أو أولادا- إن كان ذلك؛ وان كان لم يدخل بها كتب: «وانّ الزوج لم يدخل بها، ولم يصبها، وأنّها

فاذا وضع الشهود رسم شهادتهم، وأدوا عند الحاكم،

عرضت نفسها عليه ليدخل بها فامتنع من ذلك، وأخّره الى وقت آخر» - وأنّه سافر عنها بعد ذلك من البلد الفلانىّ، وتوجّه الى البلاد الفلانيّة، من مدّة تزيد على أشهر سنة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له؛ وأنّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود حاضر، ولا مال متعيّن، وقد تضرّرت «1» بسبب غيبته عنها، وتعذّر وصول ما يجب لها عليه شرعا من جهته ومن جهة أحد بسببه «2» ، وأنّها لم تجد من يقرضها على ذمّته، ولا من يتبرّع بالإنفاق عليها عنه، وأنّه مستمرّ الغيبة عنها الى الآن، وأنّها مستمرّة على الطاعة له؛ يعلمون ذلك ويشهدون به بسؤال من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ. فاذا وضع الشهود رسم شهادتهم، وأدّوا «3» عند الحاكم، كتب على ظهره الحلف بعد حلفها «4» ، وصورته: أحلفت المشهود لها باطنه فلانة بالله العظيم الذى لا إله إلّا هو، اليمين الشرعيّة المستوفاة، الجامعة لمعانى الحلف، المعتبرة شرعا، أنّ الزوج المذكور معها باطنه فلانا سافر عنها من البلد الفلانىّ، متوجّها إلى البلد الفلانىّ من مدّة تزيد على سنة كاملة تتقدّم على تاريخه، وهى مطاوعة له، وانّه تركها معوزة عاجزة عن الوصول إلى ما يجب لها عليه، من النفقة والكسوة واللّوازم الشرعيّة، بحكم أنّه ليس له موجود- ويصف كلّ ما فى المحضر الى عند «5» «وأنّها

مستمرّة على الطاعة له» - وأنّ من شهد لها باطنه صادق فيما شهد لها به؛ فحلفت كما أحلفت، بالتماسها لذلك على الأوضاع الشرعيّة، وبحضور من يعتبر حضوره شرعا، بعد تقدّم الدّعوى وما ترتّب عليها؛ ويؤرّخ. ثمّ يكتب الإسجال قرين الحلف أو تحته، وهو: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى فلان الحاكم، من حضر مجلسه من العدول الواضعى خطوطهم آخره، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى اليوم الفلانىّ، بعد دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوجه الشرعىّ، بشهادة «1» من أعلم تحت رسم شهادته باطنه وزكّى لديه التزكية الشرعيّة على الوجه المعتبر الشرعىّ، مضمون «2» المحضر المسطّر باطنه «على ما نصّ «3» وشرح فيه بكذا وكذا» ثبوتا صحيحا شرعيّا؛ وقد أقام كلّ من الشهود به «4» شهادته عنده بذلك، وأعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم ما جرت به العادة، وأحلفت الزوجة المذكورة الحلف المشروح فيه؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه وعظها، وأعلمها بمالها من الأجر فى الصبر على البقاء فى عصمة زوجها المذكور، فأبت الصبر، وذكرت أنّ ضرورتها تمنعها من ذلك، وسألت الحاكم المذكور الإذن لها فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها «5» أذن لها الحاكم المذكور فى فسخ نكاحها من زوجها المذكور؛ وأشهدت

وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة

على نفسها شهود هذا الإسجال أنّها فسخت نكاحها من زوجها المذكور، واختارت فراقه- وإن كان الحاكم هو الفاسخ كتب: «فحينئذ سألت برّ «1» الحاكم فسخ نكاحها من زوجها المذكور، وأصرّت على ذلك؛ فحين زالت الأعذار من إجابتها قدّم خيرة الله تعالى، وأجابها الى ما التمسته، وفسخ نكاحها من زوجها المذكور الفسخ الصحيح الشرعىّ، وفرّق بينهما» - فلمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، التقدّم بكتابة هذا الإسجال، والإشهاد عليه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته «2» ، فكتب عن إذنه، وأشهد على نفسه بذلك فى مجلس حكمه وقضائه- وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما- وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته ان كانت، وذلك بعد تقدّم الدعوى الموصوفة وما ترتّب عليها. ويشهد على الزوجة أيضا بما نسب اليها. وأما نفى ولد الجارية والإقرار باستيلاد الأمة - فإنّه اذا أراد السيّد نفى ولد جاريته بعد الوطء والاستبراء على قول من قال «3» به كتب ما مثاله: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته فلانة- ويذكر جنسها- المسلمة المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، ثم استبرأها بعد الوطء استبراء صحيحا شرعيّا، وأنّه لم يطأها بعد

وان أقر بأنه استولد جاريته

الاستبراء، وأنّها بعد ذلك أتت بولد، وسمّته فلانا، وأنّه الان فى قيد الحياة، وأنّ هذا الولد ليس منه ولا من صلبه، ولا نسب بينه وبينه؛ وحلف على ذلك بالله العظيم اليمين الشرعيّة، وأشهد عليه بحضورها بتاريخ كذا وكذا. وان أقرّ بأنّه استولد جاريته كتب: أقرّ فلان بأنّه كان قبل تاريخه وطئ مملوكته التى بيده وملكه، المقرّة له بالرقّ والعبوديّة، المدعوة فلانة، الفلانيّة الجنس؛ الوطء الصحيح الشرعىّ، فى حال مملكته «1» لها على فراشه، واستولدها عليه ولدا ذكرا يسمّى فلانا، الطفل يومئذ، وهو الآن فى قيد الحياة، وأنّه من صلبه ونسله، ونسبه [لاحق «2» ] بنسبه، وصدّقته على ذلك. واما الوكالات - فاذا وكّل رجل رجلا وكالة مطلقة كتب: وكّل فلان فلانا فى المطالبة بحقوقه كلّها، وديونه بأسرها، من غرمائه وخصومه قبل من كانت وحيث تكون، والمحاكمة بسببها عند القضاة والحكّام وخلفائهم وولاة أمور الإسلام، والدّعوى على غرمائه وخصومه، واستماع الدّعوى عليه وردّ الأجوبة عنها بما يسوغ شرعا، والحبس «3» والإطلاق والترسيم «4» والملازمة

فإن وكله وأراد ألا يعزله

والإفراج، وأخذ الكفلاء والضّمناء بالوجه «1» والمال، وقبول الحوالات على الأملئاء «2» وإثبات حججه ومساطيره، وإقامة بيّناته، وقبض كلّ حقّ متوجّه له قبضه بكلّ طريق شرعىّ، والإشهاد على الحكّام والقضاة بما يثبت له شرعا، وطلب الحكم من الحكّام، وفى إيجار ما يجرى فى ملكه من العقار الكامل «3» والمشاع «4» لمن يرغب فى استئجاره بما يراه من الأجر: حالّها ومنجّمها ومؤجّلها ومعجّلها، لما يراه من المدد: قليلها وكثيرها، وقبض الأجرة، واكتتاب ما يجب اكتتابه فى ذلك، وتسليم ما يؤجره- ومهما وكّله فيه كتبه وعيّنه بما يليق تعيينه «5» -؛ وكّله فى ذلك كلّه وكالة شرعيّة قبلها منه قبولا شرعيّا، وأذن له أن يوكّل عنه فى ذلك كلّه وفيما شاء منه من شاء، ويعزله متى شاء، ويعيده متى أراد. فإن وكّله وأراد ألّا يعزله كتب فى ذيل الوكالة: ثمّ بعد تمام ذلك ولزومه قال الموكّل لوكيله: «متى عزلتك فأنت وكيل متصرّف لا منصرف» . فاذا أراد عزله كتب على ظهر الوكالة: قال الموكّل لوكيله: «متى عدت وكيلى فأنت معزول» ؛ وبحكم ذلك العزل بطل تصرّفه فى الوكالة المشروحة باطنه؛ ويؤرّخ.

واذا وكل ذمى مسلما قدم اسم الوكيل،

واذا وكّل ذمّىّ مسلما قدّم اسم الوكيل، فيكتب: هذا كتاب وكالة اكتتبه لفلان فلان الذّمّىّ، وأشهد على نفسه أنّه وكّله فى كيت وكيت؛ ويكمّل كما تقدّم. وأما المحاضر على اختلافها فسنذكرها، اذا أراد أمين الحكم أن يبيع على يتيم للحاجة كتب محضرا بالقيمة، مثاله: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخره- وهم من أهل الخبرة بالعقار وتقويمه- أنهم ساروا بإذن شرعىّ الى حيث الدّار الكاملة الآتى ذكرها ووصفها وتحديدها فيه، المقوّمة بكمالها، أو المقوّم منها حصّة مبلغها كذا وكذا سهما، ملك فلان المحجور عليه، لتباع عليه فى نفقته ومؤونته ولوازمه الشرعيّة، وهى بالمكان الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به علما وخبرة، وقوّموا الحصّة المذكورة بما مبلغه كذا وكذا وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل يومئذ، لا حيف فيها ولا شطط، ولا غبينة «1» ولا فرط «2» وإنّ الحظّ والمصلحة فى البيع بذلك» . فإن كان بالغبطة على القيمة «3» كتب كما تقدّم الى قوله: «لتباع عليه» لما له فى ذلك من الحظّ والمصلحة والغبطة «4» الزائدة على قيمة المثل، وهى الدّار [التى] «5» بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- وتأمّلوا ذلك بالنظر، وأحاطوا به

فان قومت لتباع فيما ثبت على المتوفى من صداق زوجته، أو من دين

علما وخبرة، وقوّموا الحصّة بكذا وكذا درهما، وقالوا: «إنّ ذلك قيمة المثل- نحو ما تقدّم- وإنّ الحظّ والمصلحة والغبطة فى بيع الحصّة المذكورة بزيادة كذا وكذا» ؛ وبذلك وضعوا خطوطهم؛ ويؤرّخ. فان قوّمت لتباع فيما ثبت على المتوفّى من صداق زوجته، أو من دين ، كتب أوّل المحضر كما تقدّم، وقيل: المنسوبة لفلان المتوفّى الى رحمة الله تعالى، لتباع عليه فيما ثبت فى ذمّته من صداق زوجته فلانة، الثبوت الصحيح الشرعىّ؛ أو فيما ثبت عليه من دين شرعىّ لفلان، حسب ما يشهد بذلك مسطوره الذى بيده، الذى ثبت بمجلس الحكم العزيز؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل فى محضر وفاة وحصر ورثة يكتب: شهد الشهود الواضعون خطوطهم آخر هذا المحضر- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون فلان بن فلان، وورثته الاتى ذكرهم فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّه توفّى الى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ من مدّة كذا وكذا، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه الى حين وفاته، وأولاده منها أو من غيرها- ويذكر أبويه إن كانا أو أحدهما- بغير شريك لهم فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهم عنه بوجه ولا سبب؛ يعلمون ذلك ويشهدون «1» به بسؤال من جازت مسألته وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته؛ ويؤرّخ.

فصل اذا مات رجل وخلف أبوين وأخوين

فصل اذا مات رجل وخلّف أبوين وأخوين كتب ما مثاله: شهد الشهود أنهم يعرفون فلانا ووالديه الآتى ذكرهما فيه، ويشهدون بالخبرة الباطنة أنّه خلّف وارثيه: والده فلانا، ووالدته فلانة، بغير شريك لهما فى ميراثه، ولا حاجب يحجبهما حجب حرمان عن استكماله؛ ويشهدون أنّ المتوفّى له أخوان، وهما فلان وفلان؛ وبحكم ذلك يكون للأب من ميراثه النصف والثلث، وللأمّ السدس، بحكم أنّ الأخوين حجباها عن الثلث الى السدس حجب تنقيص «1» للفريضة «2» الشرعيّة، لا حجب حرمان؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. وان مات رجل فى بلد بعيدة واستفاض موته وشهد به بالاستفاضة كتب كما تقدّم «3» ، [و «4» ] : أنّهم يعرفون فلانا، ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، أنّه مات الى رحمة الله تعالى من مدّة كذا وكذا بالمدينة الفلانيّة؛ ويشهدون أنّه خلّف من الورثة ... ويكمّل.

فصل إذا مات قوم بعد قوم

فصل إذا مات قوم بعد قوم يكتب: ... «1» أنّهم يعرفون فلان بن فلان وورثته الآتى ذكرهم، ومن توفّى منهم على الترتيب الآتى ذكره فيه، معرفة صحيحة شرعيّة؛ ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ بذكره توفّى إلى رحمة الله تعالى بالبلد الفلانىّ، وخلّف من الورثة المستحقّين لميراثه المستوعبين لجميعه زوجته فلانة التى لم تزل فى عصمته وعقد نكاحه إلى حين وفاته، وأولاده «2» منها، وهم فلان وفلان، ثم توفّيت الزوجة بعده فى تاريخ كذا وكذا، وخلّفت من الورثة المستحقّين لميراثه أولاده لصلبه، وهم- ويسمّيهم- يعلمون ذلك ويشهدون به؛ ويكمّل، ويؤرّخ. وهذا مثال فقس عليه. فصل إذا مات العبد وخلّف سيّده كتب: شهد «3» من أثبتوا أسماءهم «4» آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة فيما شهدوا به- أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان ومملوكه [فلان] «5» ، الفلانىّ الجنس، المسلم، ويشهدون أنّ فلانا المثنّى باسمه توفّى إلى رحمة

وإن كان قد أعتقه ومات

الله تعالى، وخلّف سيّده المذكور، الذى لم يزل فى ملكه إلى حين موته؛ وأنّه مستحقّ لجميع ما يخلّفه بغير شريك له فى ميراثه، ولا حاجب يحجبه عنه. وإن كان قد أعتقه ومات كتب كما تقدّم «1» ، [و] : أنّهم يعرفون فلان ابن فلان، وعتيقه فلان بن فلان، معرفة صحيحة شرعيّة، ويشهدون أنّه مات الى رحمة الله تعالى، وأنّه كان مملوكا لفلان، وأنّه أعتقه عتقا منجّزا قبل موته، ولم يخلّف من الورثة سواه، بغير شريك له فى ميراثه؛ ويكمّل. فصل إذا أراد إثبات ملكه لدار كتب ما مثاله: ... «2» ... أنّهم يعرفون فلان بن فلان، ويشهدون أنّه مالك لجميع الدّار الفلانيّة- وتوصف وتحدّد- ملكا صحيحا شرعيّا، وأنّه متصرّف فيها بالسكن والإسكان والإجارة والعمارة وقبض الأجرة، وأنّها باقية فى يده وملكه وتصرّفه الى الآن، لم تخرج عنه بتمليك «3» ولا بيع ولا إقرار ولا صدقة، ولا بوجه من الوجوه الشرعيّة كلّها على اختلافها، وأنّها باقية على ملكه وتصرّفه وحيازته الى يوم تاريخه؛ وهم بالدّار المذكورة فى مكانها عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به.

فصل إذا أثبت رجل أنه باع بالإجبار والإكراه

فصل إذا أثبت رجل أنّه باع بالإجبار والإكراه كتب: ... أنّهم يعرفون كلّ واحد من فلان وفلان، ويشهدون أنّ فلانا المبتدأ باسمه جبر فلانا المثنّى باسمه وخوّفه واعتقله وضربه وأوجعه، وطلب منه بيع داره التى بالموضع الفلانىّ- وتوصف وتحدّد- بغير ثمن، وأن يشهد عليه بالبيع وقبض الثمن، وأنّه امتنع من ذلك، فأعاد عليه الضرب، وهدّده بالقتل، وسجنه، ولم يزل على ذلك حتى جبره وأكرهه، وابتاعها منه بكذا وكذا، واعترف بقبضها، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا، وهم بالدّار عارفون؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. وان كان جبره حتّى باعه بدون القيمة كتب صدر المحضر كما تقدّم؛ وطلب منه بيع الدّار بكذا وكذا، وأنّ قيمتها أزيد من ذلك، وأنّه امتنع من ذلك، فضربه وسجنه، وأعاد عليه العقوبة، وأكرهه وجبره إلى أن باعه الدّار المذكورة بالثمن المذكور، وقبضه منه، وأنّه دون قيمتها، وأنّ قيمتها أضعاف ذلك، وأنّه وضع يده عليها، وتسلّمها من مدّة كذا وكذا؛ يعلمون ذلك.... فصل فيما يكتب بعيب فى جارية شهد الشهود المسمّون آخره- وهم من أهل الخبرة الباطنة «1» بالرقيق وعيبه «2» - أنّهم نظروا الجارية المدعوّة فلانة، الفلانيّة الجنس، التى بيد فلان متنجّز «3» هذا

فصل إذا شهد لإنسان أنه من أهل الخير

المحضر، الذى ذكر أنّه ابتاعها من فلان، نظر مثلهم لمثلها، بمحضر من الخصمين المذكورين، فوجدوا بها من العيوب المرض الفلانىّ، وأنّ ذلك مرض مزمن متقدّم على تاريخ العهدة «1» التى أظهرها المشترى من يده، المؤرّخة بكذا وكذا؛ وأنّ ذلك عيب منقص «2» للثمن؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل إذا شهد لإنسان أنه من أهل الخير كتب: ... ويشهدون أنّه من أهل الخير والصلاح، والعفّة والفلاح؛ والصّيانة والأمانه، والثّقة والدّيانه؛ محافظ على صلاته، أهل لأن يجلس بين أطهر المسلمين، وأنّه [محقّ] «3» فى جميع أفعاله، صادق فى جميع أقواله؛ يعلمون ذلك.... فصل اذا شهد برشد إنسان كتب: ... ويشهدون أنّه رشيد، صالح فى دينه، مصلح لماله، مستحقّ لفكّ الحجر عنه، غير مبذّر ولا مفرّط، حسن «4» التصرّف؛ يعلمون ذلك....

فصل فى نسب رجل شريف

فصل فى نسب رجل شريف ... ويشهدون بالاستفاضة الشرعيّة، بالشائع الذائع، والنقل الصحيح المتواتر، [أنّه «1» ] شريف النّسب، صحيح الحسب، من ذريّة الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما- من أولاد الصلب، أبا عن أب، إلى أن يرجع نسبه إليه، ويدلى «2» بأصله إلى أصل الحسين؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل فى عدالة رجل ... ويشهدون شهادة علموا صحّتها، وتيقّنوا معرفتها، لا يشكّون فيها ولا يرتابون، أنّه من أهل الصدق والوفاء، والعفّة والصّفاء؛ صادق فى أقواله، محقّ فى أفعاله؛ حسن السيره، طاهر السريره؛ متيقّظ فى أموره، سالك شروط العدالة وأفعالها؛ صالح لأن يكون من العدول المبرّرين «3» ، والأعيان المعتبرين، مستحقّ أن يضع خطّه فى مساطير المسلمين، عدل رضىّ لهم وعليهم؛ يعلمون ذلك ويشهدون به. فصل فى إعسار رجل ... ويشهدون أنّه فقير لا مال له، معسر لا حال له، عاجز عن وفاء ما عليه من الدّيون، أو عن شىء منها؛ يعلمون ذلك....

فصل فى إسلام ذمى

فصل فى إسلام ذمّىّ يكتب: حضر الى شهوده فى يوم تاريخه من ذكر أنّه حضر الى مجلس فلان- أدام الله أيّامه- فلان «1» بن فلان الفلانىّ، وأشهدهم على نفسه أنّه تلفّظ بالشهادتين المعظّمتين، وهما شهادة أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، وأنّ عيسى عبد الله ونبيّه، ومريم أمة الله، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيّين، وأفضل المرسلين، وأنّ شريعته أفضل الشرائع وملّته أفضل الملل، وأنّ ما جاء به عن الله حقّ؛ وقال: «أنا برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام» ، ودخل فى ذلك طالبا «2» مختارا؛ وأشهد عليه بذلك، وتلفّظ به بتاريخ كذا وكذا. فإن أسلم يهودىّ كتب موضع عيسى: وأنّ موسى عبد الله ونبيّه، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وشريعته أفضل الشرائع، وأنّ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شريعة موسى وجميع الشرائع؛ وقال: «أنا مسلم برئت من كلّ دين يخالف دين الإسلام، ومن كلّ ملّة تخالف ملّة محمد صلى الله عليه وسلم» ؛ وأشهد على نفسه بتاريخ ... «3» . وأما الإسجالات - فهى بحسب الوقائع، وقد ذكرنا منها فى أثناء ما قدّمناه ما هو وارد فى مواضعه، فلنذكر ما لم نورده هناك؛ فمن ذلك إسجال بثبوت العدالة.

قد استقرّت القاعدة بين الناس فى إسجالات العدالة ان يبتدئ الكاتب بخطبة يذكر فيها شرف العدالة وعلوّها، وارتفاع رتبتها وسموّها؛ ويصف المعدّل بأوصاف تليق به بحسب حاله ورتبته، وأصالته وأبوّته؛ ولا حجر على الكاتب فيما يأتى به من القرائن والفقر والكلام المسجوع ما لم يتعدّ به حقّ المنعوت، أو يخرج به عن طوره ورتبته، ويراعى مع ذلك قيود الشرع وضوابطه؛ والكاتب فيها بحسب «1» قدرته وتصرّفه فى أساليب الكلام وبراعة الاستهلال واختيار المعانى؛ فاذا انتهى إلى آخر الخطبة وذكر أوصاف المعدّل قال: فلذلك استخار الله تعالى سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام؛ وينعته بنعوته، ويذكر مذهبه وولايته للدّولة القاهرة السلطانيّة الملكيّة الفلانيّة، بالولاية الصحيحة الشرعيّة، المتّصلة بالمواقف الشريفة النبويّة، الإماميّة العبّاسيّة، (المستكفى) أمير المؤمنين- أعزّ الله به الدّين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين- وأشهد على نفسه من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو يومئذ نافذ القضايا والأحكام ماضى النقض والإبرام، وذلك فى اليوم المبارك؛ ويكتب الحاكم التاريخ بخطّه؛ ثمّ يكتب الكاتب: أنّه ثبت عنده وصحّ لديه بالبيّنة العادلة المرضيّة، التى ثبتت بمثلها الحقوق الشرعيّة، عدالة فلان- وينعته بما يستحقّه- ثبوتا ماضيا شرعيّا معتبرا تامّا مرضيّا؛ وحكم بعدالته، وقبول قوله فى شهادته؛ وأجاز ذلك وأمضاه واختاره وارتضاه، وألزم ما اقتضاه مقتضاه؛ وأذن سيّدنا قاضى القضاة فلان لفلان المحكوم بعدالته فى تحمّل الشهادات وأدائها، لتحفظ الحقوق على أربابها وأوليائها؛

فصل فى ثبوت إقرار متبايعين

وسمع شهادته فقبلها وأجازها، وأمره أن يرقم على حلل «1» الطروس طرازها؛ وبسط قلمه بسطا كلّيّا، ونصبه بين الناس عدلا مبرّرا «2» مرضيّا، وأجراه مجرى أمثاله من العدول المبرّرين «3» ، وسلك به مسلك الشهداء المتميّزين؛ وتقدّم- أدام الله تعالى أيّامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه الكريم فى التاريخ المقدّم ذكره أعلاه المكتب بخطّه الكريم، شرّفه الله تعالى. والكاتب فى ذلك بحسب ما توصله إليه عباراته. فصل فى ثبوت إقرار متبايعين يكتب: هذا ما أشهد على نفسه الكريمة سيّدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى قاضى القضاة، حاكم الحكّام فلان- وتستوفى ألقابه ونعوته وولايته، ويدعى له- من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما، أنه ثبت عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- فى المجلس المذكور، بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوجه المعتبر الشرعىّ، بشهادة العدول الثلاثة- أو بحسب ما يكونون- الّذين أعلم تحت رسم شهادتهم بالأداء فى باطنه، إقرار «4» فلان وفلان بما نسب إلى كلّ منهما فى كتاب الإقرار باطنه على ما شرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادتهم، وقد أرّخ شاهدان منهم شهادتهما بتاريخ الكتاب، والثالث أرّخ شهادته بكذا وكذا [و «5» ] جميع ما تضمّنه كتاب الابتياع المشروح باطنه- ويذكر جميع ما فيه-

وقد أقاموها بذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور بشروط الأداء المعتبرة فيما عيّنه كلّ منهم فى خطّه باطنه فى التاريخ [المذكور «1» ] ، وقبل ذلك «2» منهم القبول السائغ فيه، وأعلم تحت رسم شهادتهم فى باطنه علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وثبت ذلك عنده ثبوتا شرعيّا؛ فلمّا تكامل ذلك عند سيّدنا قاضى القضاة فلان الحاكم المذكور سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك عنده، والحكم بموجبه على الوجه «3» المشروح فيه، ... «4» ... وأبقى كلّ ذى حجّة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها، وتقدّم- أدام الله أيّامه، وأعزّ أحكامه- بكتابة هذا الإسجال، فكتب عن إذنه متضمنا لذلك وذلك بعد قراءة ما يحتاج الى قراءته فى كتاب الإقرار، ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا.

مثال إسجال بثبوت مبايعة بشهود الأصل وشهود الفرع على نائب الحكم

مثال إسجال بثبوت مبايعة بشهود الأصل «1» وشهود الفرع «2» على نائب الحكم هذا ما أشهد على نفسه العبد الفقير الى الله تعالى أقضى «3» القضاة فلان، خليفة الحكم العزيز بالمكان الفلانىّ عن سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى «4» القضاة فلان، من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده فى مجلس حكمه ومحلّ نيابته فى اليوم الفلانىّ، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ بشهادة عدول الأصل الثلاثة، وهم- ويسمّيهم- وشاهدى الفرع، وهما فلان وفلان، وهم الذين أعلم الحاكم المذكور تحت رسم شهادتهم بالأداء آخر «5» الابتياع المذكور باطنه، إقرار «6» المتبايعين المسمّيين باطنه بما نسب اليهما فيه، على ما نصّ وشرح فيه، المؤرّخ بكذا وكذا، وبآخره رسم شهادة العدول الثلاثة المشار إليهم؛ [وقد أقام شهود الأصل «7» ] شهادتهم بذلك عند الحاكم المذكور بشروط الأداء

وقبل ذلك منهم القبول السائغ فيه؛ وقد أقام شاهدا الفرع المذكوران شهادتهما على أصلهما العدل فلان بما تحمّلاه عنه، وهو أنّه شهد على المتعاقدين المذكورين باطنه بما نسب الى كلّ منهما فيه، وأنّه ذكر لهما ذلك، وأشهدهما على شهادته به، على ما تضمّنه رسم شهادتهما آخر الابتياع باطنه، فى حال سوغ سماع شهادة الفرع على أصله، عند سيّدنا القاضى فلان الحاكم المذكور، وقبلها منهما القبول السائغ فيه وسطّر تحت رسم شهادة كلّ منهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله؛ وانّه ثبت عنده- أعزّ الله أحكامه- فى المجلس المذكور على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين من العدول الثلاثة الأصول، وهما فلان وفلان أنّ البائع المذكور لم تزل يده متصرّفة فيما باعه الى حين انتقاله من يده الى يد هذا المشترى المسمّى باطنه؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته بذلك عنده، وقبلها منه القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله- وان كانت المبايعة ثبتت بعدلين وشهد أنّ البائع مالك لما باعه كتب: «أنّه ثبت عنده فى المجلس المذكور بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ المعتبر، بشهادة عدلين، هما فلان وفلان، إقرار المتبايعين باطنه، وهو أنّ فلانا اشترى من فلان جميع كذا وكذا- ويشرح ما فى المبايعة- وبآخرها رسم شهادتهما، وقد أقاماها عند الحاكم على المشترى والبائع بما نسب الى كلّ منهما باطنه وأنّ البائع المذكور مالك لما باعه فيه، وشخّصاه له، فقبل ذلك منهما القبول السائغ فيه، وسطّر ما جرت العادة به من علامة الأداء والتشخيص على الرسم المعهود» - فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه سأله من جاز سؤاله التقدّم بكتابة هذا الفصل وتضمينه الإشهاد عليه بثبوت ذلك لديه، والحكم على المتبايعين المذكورين بما

فصل فى ثبوت إسجال حاكم على حاكم

نسب إليهما بأعاليه، وتضمينه ملك البائع المذكور لما باعه فيه «1» ؛ فأعذر- أعزّ الله أحكامه- إلى البائع المذكور: هل له مطعن فيما شهد [به «2» ] عليه فيه «3» ، أو فى من شهد؟ فأقرّ فى المجلس المذكور بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى شىء منه؛ فعند ذلك أجاب السائل الى سؤاله، فكتب عن إذنه، وحكم على المتبايعين المذكورين بما نسب إليهما بأعاليه، وبصحّة ملك البائع المذكور لما باعه بعد قراءة ما تضمّنه باطنه «4» على شهود هذا الإسجال، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وذلك بعد تقدّم الدعوى المحرّرة وما ترتّب عليها؛ ووقع الإشهاد بذلك بتاريخ كذا وكذا. فصل فى ثبوت إسجال حاكم على حاكم هذا ما أشهد عليه سيّدنا العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان من حضره من العدول، أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه ومحلّ ولايته، بعد صدور دعوى محرّرة مقابلة بالإنكار على الوضع الشرعىّ، بشهادة العدول الذين أعلم تحت رسم شهادة كلّ منهم بالأداء فى باطنه، إشهاد قاضى القضاة فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ بما نسب إليه فى إسجاله المسطّر أعلاه، على ما نصّ وشرح فيه، وهو مؤرّخ بكذا وكذا؛ وقد أقام كلّ من الشهود شهادته بذلك عند القاضى فلان الحاكم

المبتدإ باسمه بشروط الأداء على الرسم المعهود عنده فى مثله؛ فلمّا تكامل ذلك عنده وصحّ لديه- أحسن الله إليه- سأله من جاز سؤاله الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضاءه والحكم به، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابته فكتب عن إذنه الكريم، وأشهد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وتنفيذه وإمضائه وأنّه حكم به وارتضاه، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك نافذ الحكم والقضاء ماضيهما، بعد تقدّم الدّعوى المسموعة وما ترتّب عليها- وإن حضر من أشهد عليه أنّه لا مطعن له فى ذلك كتب: «وحضر إقامة البيّنة فلان، واعترف بأنّه لا مطعن له فى ذلك ولا فى من شهد به» - ووقع الإشهاد به بتاريخ ... «1» . فهذه أمثلة ذكرناها؛ والكاتب المجيد المتصرّف يكتب بقدر الوقائع، ويتصرّف فى الألفاظ، ما لم يخلّ بالمقاصد، ولا يدخل عليها من الألفاظ ما يفسدها. وأما الكتب الحكميّة- فاذا ثبت عند حاكم من الحكّام أمر وسأله المحكوم له كتابا حكميّا لجميع القضاة كتب ما مثاله بعد البسملة: هذه المكاتبة الحكميّة الى كلّ من تصل اليه من قضاة المسلمين وحكامهم- ويدعو لهم- من مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ عن سيّدنا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالعمل الفلانىّ- ويدعى له- أنّه ثبت عنده وصحّ لديه فى مجلس حكمه وقضائه بمحضر من متكلّم جائز كلامه، مسموعة دعواه على الوضع الشرعىّ، بشهادة عدلين، وهما فلان وفلان، جميع «2» ما تضمّنه مسطور الدّين المتّصل أوّله بآخر كتابى هذا، الذى مضمونه- وينقل الى آخره- وبآخره رسم شهادة العدلين المشار اليهما؛ وقد أقام كلّ منهما شهادته عنده أنّه بالمقرّ المذكور عارف؛ وقبل ذلك منهما القبول

السائغ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وذلك بعد أن ثبتت عنده على الوضع الشرعىّ بشهادة عدلين- هما فلان وفلان الواضعا «1» رسم شهادتهما فى مسطور الدّين المذكور- الغيبة الشرعيّة وأقام كلّ منهما شهادته عنده بغيبة المقرّ المذكور، وقالا: «إنّهما به عارفان» ، وقبل ذلك منهما القبول الشرعىّ، وسطّر تحت رسم شهادتهما ما جرت العادة به من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود فى مثله، وأحلف المقرّ له بالله العظيم، اليمين الشرعيّة المتوجّهة عليه، المؤرّخة فى مسطور الحلف المكتتب على ظهر المسطور أو الملصق بذيل مسطور الدين، بالتماسه لذلك على الأوضاع الشرعيّة، ثبوتا «2» شرعيّا معتبرا؛ وأنّه حكم بذلك وأمضاه، وألزم بمقتضاه، على الوجه الشرعىّ، مع إبقاء كلّ ذى حجّة معتبرة على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما بعد تقدّم الدعوى المسموعة وما ترتّب عليها؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه عنده وصحّ لديه- أحسن الله اليه- سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة أجابته، المكاتبة عنه بذلك، فأجابه الى سؤاله، وتقدّم بكتابة هذا الكتاب الحكمىّ فكتب عن إذنه؛ فمن وقف عليه من قضاة المسلمين وحكّامهم واعتمد تنفيذه وإمضاءه حاز الأجر والثواب، والرضا «3» وحسن المآب؛ وفّقه الله وإيّانا لما «4» يحبّه ويرضاه؛ وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ فى اليوم الفلانىّ- ويؤرّخ- مثال العلامة بعد البسملة كذا وكذا، وعدد أوصاله كذا وكذا؛ ويختم الكتاب.

فصل اذا ورد مثل هذا الكتاب من قاض إلى قاض - مثاله من قاضى القضاة بدمشق إلى قاضى القضاة بمصر

ثم يكتب عنوانه، ومثال ما يكتب: «من فلان بن فلان الحاكم بالعمل الفلانىّ» ويشهد عليه بثبوت ذلك عنده. ويكتب أيضا فى مثل ذلك- وهو أبلغ- ما صورته: هذا كتاب حكمىّ محرّر مرضىّ؛ تقدّم بكتابته وتسطيره، وتنجيزه وتحريره، العبد الفقير الى الله تعالى قاضى القضاة فلان- ويدعى له- الحاكم بالدّيار المصريّة، أو غيرها، للدّولة الفلانيّة، بالولاية المتّصلة بالمواقف الشريفة- نحو ما تقدّم فى إسجال العدالة- الى كلّ من يصل اليه من قضاة المسلمين وحكّامهم ونوّابهم وخلفائهم- ويدعو لهم- متضمّنا «1» أنّه ثبت عنده وصحّ لديه؛ ويكمّل كما تقدّم. فصل اذا ورد مثل هذا الكتاب من قاض الى قاض- مثاله من قاضى القضاة بدمشق الى قاضى القضاة بمصر - كتب على ظهره ما مثاله: هذا ما أشهد على نفسه سيّدنا ومولانا قاضى القضاة فلان، الحاكم بالقاهرة ومصر المحروستين وسائر الدّيار المصريّة- ويدعى له- أنّه ورد عليه الكتاب الحكمىّ الصادر عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق- وهو الكتاب المشروح باطنه- ورودا صحيحا شرعيّا، موثوقا به، مسكونا اليه؛ وشهد بوروده عن مصدره قاضى القضاة فلان الحاكم بدمشق المحروسة كلّ واحد من العدول المستورين، أو المزكّين «2» وهم- ويسمّيهم- عند سيّدنا قاضى القضاة فلان، وقالا: «إنّ الحاكم المذكور

وأما التقاليد الحكمية

أشهدهما على نفسه بما تضمّنه الكتاب الحكمىّ المسطّر باطنه، بعد قراءته على مصدره بحضرتهما وحضور من يعتبر حضوره» وانّ قاضى القضاة فلانا سمع شهادتهما فقبلها القبول السائغ؛ ولمّا تكامل ذلك كلّه سأله من جازت مسألته، وسوّغت الشريعة المطهّرة إجابته، الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك لديه، وأنّه قبله قبول أمثاله من الكتب الحكمية قبولا شرعيّا، وحكم به وأمضاه، وألزم بمقتضاه؛ فأجاب السائل الى سؤاله، وأشهد على نفسه بذلك، وذلك كلّه بعد تقدّم الدعوى المسموعة فى ذلك وما ترتّب عليها، وأبقى كلّ ذى حجّة معتبرة فيه على حجّته، وهو فى ذلك كلّه نافذ القضاء والحكم ماضيهما؛ وذلك بتاريخ.... وأما التقاليد الحكميّة - فيبتدئ الكاتب فى صدرها بعد البسملة بخطبة يورد فيها ما تؤدّيه إليه عبارته، وتبلّغه إيّاه فصاحته وبلاغته؛ ثم يكتب: ولمّا كنت «1» أيّها القاضى فلان- وينعته بما يستحقّه- ممّن اتّصف بكذا وكذا واشتغل بكذا وكذا، واستحقّ كذا وكذا، استخرت الله تعالى، واستنبتك عنّى فى القضاء والحكم فى العمل الفلانىّ، فى جميع أعماله وبلاده وسائر أقطاره؛ فتولّ ما ولّيتك، وباشر ما عذقته «2» بك، وصن أموال الناس عن الضّياع، وزوّج من لا ولىّ له عند «3» الشروط المعتبرة الأوضاع؛ واضبط الأحكام بشهادة الثّقاة العدول وميّز بين المردود منهم والمقبول؛ وراع أحوال النوّاب فى البلاد، وأرهم يقظة تردع

وأما الأوقاف والتحبيسات

بها المفسد عن الفساد- ويذكر غير ذلك من الوصايا، ويوصيه فى آخرها بتقوى الله تعالى- وكتب عن مجلس الحكم العزيز بالعمل الفلانىّ؛ ويؤرّخ. وأمّا تقاليد قضاة القضاة فتتعلّق بكتّاب الإنشاء؛ وهذا مثال، والكاتب يتصرّف بحسب نباهته ومعرفته وعلمه. وأما الأوقاف والتحبيسات - فهى بحسب آراء أربابها فيما يوقفونه «1» ويحبسونه على أبواب القربات، وأنواع الأجر والمثوبات؛ وسنذكر منها قواعد يقاس عليها- إن شاء الله تعالى- فمن ذلك ما إذا كان لرجل دار وأراد أن يوقفها «2» عليه «3» وعلى أولاده من بعده ونسلهم وعقبهم، فسبيله فى ذلك أن يملّك الدّار لغيره «4» ، ويكتب التمليك على ما تقدّم «5» ؛ ثم يقول: وبعد تمام ذلك ولزومه أشهد عليه فلان المقرّ له فيه شهود هذا المكتوب طوعا منه واختيارا، أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم «6» وأبّد، وتصدّق

بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، ورآه وعرفه، وأحاط به علما وخبرة؛ وهو جميع الدّار الموصوفة المحدودة أعلاه، على فلان بن فلان المقرّ المملّك المذكور أعلاه أيّام حياته، ثمّ من بعده على أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده أبدا ما تناسلوا دائما، وما تعاقبوا، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يتناقلونه بينهم كذلك الى حين انقراضهم، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا؛ فإن لم يكن له «1» ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك، كان نصيبه لإخوته الموجودين حين موته، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، يحجب الآباء منهم والأمّهات أولادهم وأولاد أولادهم؛ فإن لم يوجد من أولاد الموقوف عليه وأولاد أولاده أحد كان ذلك وقفا مصروفا ريعه على مصالح المسجد الذى بالموضع الفلانىّ- ويوصف ويحدّد- برسم عمارته ومرمّته وفرشه ووقود مصابيحه وشراء ما يحتاج اليه من الزّجاج والنّحاس والحديد، ومن يقوم بخدمته والأذان فيه، ومن يؤمّ فيه بالمسلمين فى الصلوات الخمس المكتوبة المفروضة على سائر المسلمين، على ما يراه الناظر فى ذلك؛ فإن تعذّر الصرف عليه بوجه من الوجوه كان ذلك وقفا على الفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا من الديار المصريّة أو الشأم، أو عمل من الأعمال، أو بلد من البلاد، على ما يراه الناظر فى ذلك من مساواة وتفضيل، وإعطاء وحرمان؛ ومتى أمكن الصرف الى ما ذكر من مصالح المسجد كان الوقف عليها والصرف إليها، يجرى الحال فى ذلك كذلك الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ على أنّ للنّاظر فى هذا الوقف والمتولّى عليه أن يؤجره لمن شاء

ما شاء من المدد: طوالها وقصارها، بما يراه من الأجر: المعجّلة أو المؤجّلة أو المنجّمة؛ أو يكتب: «وعلى الناظر فى هذا الوقف أن يؤجره لسنة كاملة فما دونها، بأجرة المثل فما فوقها» ولا يتعجّل أجرة، ولا يدخل عقدا على عقد إلّا أن يجد فى مخالفة ذلك مصلحة ظاهرة، أو غبطة ظاهرة «1» ، فيؤجره لمدّة كذا وكذا ولمن شاء، ويستغلّ أجره بوجوه الاستغلال الشرعيّة، فما حصل من ريعه بدأ منه بعمارته ومرمّته وإصلاحه وما فيه بقاء عينه ودوام منفعته، ثم ما فضل بعد صرفه لمستحقّه على ما شرح أعلاه؛ وجعل الواقف النّظر فى هذا الوقف والولاية عليه لفلان الموقوف عليه أوّلا، ثم من بعده لأولاده وأولاد أولاده، ينظّر كلّ منهم على حصّته فى حال استحقاقه وعلى حصّة من تعذّر نظره من المستحقّين لصغر أو سفه أو غيبة أو عدم أهليّة، أو سبب من الأسباب، الى حين تمكّنه من النظر، فيعود حكمه حكم باقى المستحقّين فى النظر على حصّته وحصّة غيره؛ فإن تعذّر النظر من أحدهم أو من جميعهم بسبب من الأسباب، أو انقرضوا ولم يوجد منهم أحد، كان النظر فى ذلك لحاكم المسلمين؛ وان عاد إمكان النظر الى مستحقّى الوقف أو إلى أحد منهم قدّم فى النظر على غيره؛ ومن عدمت منهم أهليّته وكان له ولىّ ينظر فى ماله كان النظر له على حصّته فى هذا الوقف دون غيره من المستحقّين ومن الحاكم؛ يجرى الحال فى ذلك كذلك وجودا وعدما، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ ولكلّ ناظر فى هذا الوقف أن يستنيب عنه فى ذلك من هو أهل له؛ وعلى كلّ ناظر فى هذا

فصل اذا وقف رجل دارا على أولاده وعلى من يحدثه الله من الأولاد، ثم على المسجونين ثم على فك الأسرى، ثم على الفقراء والمساكين،

الوقف أن يتعهّد إثباته عند الحاكم بحفظه بتواتر الشّهادات واتّصال الأحكام، وله أن يصرف فى كلفة إثباته ما جرت العادة به من ريع هذا الوقف؛ وقف فلان المبتدأ باسمه جميع ذلك على الجهات المعيّنة، بالشروط المبيّنة، على ما شرح أعلاه؛ وقفا صحيحا شرعيّا مؤبّدا، وحبسا دائما سرمدا، وصدقة موقوفة، لاتباع ولا توهب، ولا تملّك، ولا ترهن، ولا تتلف بوجه تلف، قائمة على أصولها محفوظة على شروطها، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين؛ وقبل هذا الموقوف عليه ذلك لنفسه قبولا شرعيّا، وتسلّم الموقوف عليه الدّار المذكورة وصارت بيده وقبضه وحوزه؛ وذلك بعد النظر والمعرفة، والإحاطة به علما وخبرة؛ فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر إخراجه عن أهله، وحرام على من غيّره أو بدّله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . فصل اذا وقف رجل دارا على أولاده وعلى من يحدثه الله من الأولاد، ثمّ على المسجونين ثمّ على فكّ الأسرى، ثمّ على الفقراء والمساكين، كتب ما مثاله: هذا كتاب وقف صحيح شرعىّ، وحبس صحيح «1» مرضىّ، تقرّب به واقفه الى الله تعالى رغبة فيما لديه وذخيرة له يوم العرض عليه؛ يوم يجزى الله المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ اكتتبه فلان، وأشهد على نفسه أنّه وقف وحبّس وسبّل وحرّم وأبّد وتصدّق

المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث

بما هو له وفى يده وملكه وتصرّفه، وعرفه ورآه، وأحاط به علما و [خبرة «1» ] . «2» ... ... [المؤتلف والمختلف من أسماء نقلة الحديث] [عقّار «3» بالعين والقاف والراء: عقّار «4» بن] المغيرة بن شعبة، وغيره؛ وغفار، هو أبو غفار «5» ، عن «6» أبى تميمة، وأبو غفار «7» غالب التّمّار.

(وعبيس) (وعنبس) عبيس، هو ابن ميمون أبو عبيدة، وأمّ عبيس، امرأة كانت تعدّب فى الله أعتقها «1» أبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه-؛ وعنبس، هو ابن عقبة، وعنبس ابن إسماعيل القزّاز، وغيرهما. (وعبّاد) (وعباد) (وعياذ) (وعباد) فأمّا عبّاد، فكثير؛ وعباد بضمّ العين، هو قيس بن عباد، تابعىّ كبير؛ وعياذ بكسر العين وياء مثنّاة وذال معجمة، هو عياذ بن عمرو «2» ، له صحبة، وأهبان بن عياذ مكلّم «3»

الذئب، وعياذ بن أبى العيذ، وعياذ بن مغراء؛ وعباد «1» بكسر العين وباء موحّدة: ربيعة بن عباد، له صحبة، وعباد العبدىّ. (وعمارة) (وعمارة) عمارة بالضم، كثير؛ وبكسر العين: واحد، هو أبىّ بن عمارة، له صحبة. (وعابس) (وعائش) عابس، كثير؛ وعائش، هو ابن أنس، وعبد الرحمن بن عائش الحضرمىّ. (وعدثان) (وعدنان) أمّا عدثان، فهو فى نسب غافق «2» بن «3» العتيك بن عكّ «4» بن عدثان؛ وعدنان، هو عدنان بن أحمد بن طولون.

(وعلىّ) (وعلىّ) ... «1» ... علىّ بضم العين وتشديد الياء، هو علىّ بن رباح، والأصبغ بن علقمة بن علىّ. (وعيشون) (وعيسون) (وعبسون) أمّا عيشون، فهو عبد الله بن عيشون «2» الحرّانىّ، ومحمد بن عيشون؛ وأمّا عيسون، فهو عبد الحميد بن أحمد بن عيسى، هذا «3» يعرف بعيسون، ومحمّد بن عيسون الأنماطىّ؛ وأمّا عبسون، فهو محمد بن أحمد بن عبسون البغدادىّ. (وعتيق) (وعتيق) الأوّل بالفتح، كثير؛ وعتيق بالضم، هو عتيق بن محمّد. (وعتبة) (وعنبة) (وغنيّة) (وعبية «4» ) أما عتبة بضم العين، فكثير؛ وأمّا عنبة بكسر العين وبعدها نون، فهو أبو عنبة الخولانىّ، أدرك الجاهليّة والإسلام، والحارث بن عنبة الكوفىّ؛ وأمّا غنيّة بالغين

المعجمة ونون وياء، فعبد الملك بن حميد بن أبى غنية والد يحيى؛ وأمّا عبيّة، فاسم مشهور «1» . (وعبّاس) (وعيّاش) (وعيّاس) (وعنّاس) فأمّا عبّاس، فكثير؛ وأمّا عيّاش، فجماعة، منهم عيّاش بن أبى ربيعة؛ وأمّا عيّاس بالياء المثنّاة من تحت والسين المهملة، فهو أبو العيّاس، يروى عن سعيد بن المسيّب؛ وأمّا عنّاس بالنون والسين المهملة، فهو عنّاس بن «2» خليفة. (وعبدان) (وعيدان) (وعيدان) فعبدان، اسم مشهور؛ وعيدان بفتح العين، هو ربيعة بن عيدان «3» ؛ وأمّا عيدان «4» بكسر العين، فهو واحد من المحدّثين. (وعقيل) (وعقيل) اسمان مشهوران. (وعتّاب) (وغياث) كذلك.

(وعليم) (وعلثم) أمّا عليم، فهو الذى يروى عن سلمان الفارسىّ؛ وأمّا علثم، فهو والد عمار ابن علثم. (وعيسى) (وعبسىّ) أمّا الأوّل، فاسم مشهور معروف؛ والثانى بفتح العين وتسكين الباء الموحّدة وكسر السين، فهو عبسىّ «1» بن قاشىّ «2» ، اجتمع بأحمد بن حنبل. (وعثيم) (وغنيم) الأوّل: اسم جماعة، منهم عثيم بن نسطاس، روى عن سعيد المقبرىّ؛ وغنيم بالغين المعجمة والنون: غنيم بن قيس، أبو العنبر، أدرك النّبىّ صلى الله عليه وسلم ورآه. (وعتيبة) (وعيينة) الأوّل: الحكم بن عتيبة، وعتيبة «3» عن بريد «4» بن أصرم عن علىّ؛ وأمّا عيينة، فكثير.

(وعديس) (وعدبّس) عبد الرحمن «1» بن عديس، له صحبة؛ وعدبّس بالباء الموحّدة، هو جدّ عبد الله ابن أحمد بن وهيب بن عدبّس، وأبو العدبّس منيع بن سليمان. (وعفير) (وغفير) الأوّل بالعين المهملة: جماعة؛ والثانى بالإعجام، هو الحسن بن غفير. (وعدىّ) (وعدىّ) الأوّل بالفتح، كثير؛ والثانى بالضم، هو زياد بن عدىّ. (وعائذ) (وعابد) الأوّل بالياء المثنّاة من تحت والذال المعجمة، كثير؛ والثانى بالباء الموحّدة والدال المهملة: حبيس «2» بن عابد، وعابد بن عمر «3» بن مخزوم.

(وغزوان) (وعزوان) الأوّل بالإعجام، كثير؛ والثانى بالعين المهملة، هو عزوان بن زيد «1» الرّقاشى روى عن «2» الحسن البصرىّ. (وغنّام) (وعثّام) الأوّل: غنّام، بدرىّ، وتسمّى به غيره؛ والثانى: عثّام بن علىّ. (وغرير) (وعزيز) و (عزيز) (وعزير) الأوّل بالغين معجمة وراء مهملة مكرّرة، هو غرير بن حميد «3» بن عبد الرحمن ابن عوف؛ والثانى عزيز بالعين «4» المهملة مضمومة وزاى مكررة معجمة، هو محمّد ابن عزيز الأيلىّ، ومحمّد بن عزيز «5» السّجستانىّ صاحب غريب القرآن؛ والثالث عزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاى الأولى المعجمة، هو والد خيثمة؛ قال خيثمة بن عبد الرحمن: «كان اسم أبى فى الجاهليّة عزيزا، فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم

عبد الرحمن» . والرابع عزير بالزاى والياء المثنّاة «1» تحت: أحمد بن عبيد الله حمار العزير. (وغرّون «2» ) (وعزّون «3» ) الأوّل: من شيوخ الموصل؛ والثانى: بالعين المهملة، هو جدّ علىّ بن الحسين ابن عزّون «4» . (وغنىّ) (وعتىّ) الأوّل: عطيّة بن غنىّ؛ والثانى: عتىّ بن ضمرة، عن أبىّ بن كعب. (وفضيل) (وفصيل) الأوّل، كثير؛ والثانى بالفاء والصاد المهملة مكسورة: الحكم بن فصيل يروى عن خالد الحذّاء، عن نافع، عن ابن عمر. (وفريس) (وقريش) الأوّل بفاء مفتوحة وسين مهملة، هو فريس بن صعصعة؛ والثانى، كثير. (وفرج) (وفرح) (وفرخ) الأوّل بالجيم: جماعة؛ والثانى بالحاء المهملة: قليل، منهم فرح بن رواحة؛ والثالث بالخاء المعجمة والراء الساكنة، هو جدّ عبد الله بن محمّد بن فرخ «5» الواسطىّ.

(وفتح) (وفنّج) الأوّل اسم مشهور؛ والثانى بالفاء والنون والجيم: واحد، روى [عبد الله «1» ابن] وهب بن منبّه عن أبيه، قال: «حدّثنى فنّج» ... «2» . (وقهم) (وفهم) الأوّل بالقاف، هو النّهّاس بن القهم «3» ؛ والثانى بالفاء، هو فهم بن عبد الرحمن، وغيره. (وكثير) (وكنيز) (وكثيّر «4» ) (وكبير) (وكنيز «5» )

الأوّل بالفتح والثاء المثلّثة: اسم مشهور؛ والثانى بالفتح والنون والزاى معجمة، هو بحر بن كنيز السّقّاء؛ والثالث كثير بضم الكاف وتشديد الياء، هو كثيّر بن عبد الرحمن؛ والرابع كبير بالفتح والباء الموحّدة والياء الساكنة، هو أبو أميّة كبير والد جنادة الأزدىّ؛ والخامس كنيز بضم الكاف وفتح النون، هو كنيز الخادم كان يحدّث بمصر. (وكبشة) (وكيّسة) الأوّل، كثير؛ والثانى بالياء والسين، هو أبو كيّسة «1» البراء بن قيس، وكيّسة بنت أبى بكرة «2» الثّقفى. (ومسلم) (ومسلّم) ... «3» .

(ومخلد) (ومخلّد) الأوّل بتسكين الخاء، كثير؛ والثانى بضم الميم وفتح الخاء وتشديد اللام: مسلمة «1» ابن مخلّد، له صحبة، والحارث بن مخلّد، عن أبى هريرة رضى الله عنه. (ومعاوية) (ومغوية) الأوّل، معروف؛ والثانى بالغين المعجمة، هو أبو راشد الأزدىّ، وفد على النّبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: «ما اسمك» ؟ فقال: «عبد العزّى» ، قال: «أبو من» ؟ قال: «أبو مغوية» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّا، ولكنّك عبد الرحمن أبو راشد» . (ومبشّر) (وميسّر) الأوّل، اسم مشهور؛ والثانى، هو ميسّر بن عمران بن عمير، مولى عبد الله بن مسعود، وعلىّ بن ميسّر، كوفىّ. (ومعمر) (ومعمّر) اسمان مشهوران. (ومعبد) (ومعيد) الأوّل، كثير؛ والثانى، هو أبو معيد حفص بن غيلان. (ومسور) (ومسوّر) الأوّل بكسر الميم وتسكين السين المهملة، كثير؛ والثانى، هو بضم الميم وفتح السين وتشديد الواو، وهو مسوّر «2» بن يزيد المالكىّ الكاهلىّ؛ له صحبة.

(ومرثد) (ومزيد) (ومريد) (ومزبّد «1» ) الأوّل بفتح الميم وسكون الراء المهملة والثاء المثلّثة، كثير؛ والثانى مزيد بالزاى والياء، هو الوليد بن مزيد [صاحب «2» ] الأوزاعىّ، ومزيد بن هلال، «ووالد يزيد «3» ابن مزيد، [ومزيد «4» ] بن عبد الله» ؛ والثالث مريد بضم الميم والراء المهملة والياء المثنّاة من تحت، هو مريد، روى عن أيّوب السّختيانىّ؛ والرابع مزبّد «5» ، هو [صاحب «6» النوادر، بالزاى والباء المعجمة بواحدة] .

(ومحرز) (ومحرّر) (ومجزّز) الأوّل: محرز بن زهير، له صحبة؛ والثانى محرّر بالحاء والراءين المهملتين هو محرّر «1» بن أبى هريرة، ومحرّر بن قعنب؛ والثالث مجزّز بالجيم وزايين معجمتين هو مجزّز المدلجىّ القائف، وهو فى الصحابة. (ومغيث) (ومعتّب) (ومعتب) الأوّل: مغيث بن بديل، ومغيث بن أبى بردة، ومغيث «2» زوج بريرة، له صحبة وغيرهم؛ والثانى معتّب، هو ابن قشير، ومعتّب بن أبى معتّب، وغيرهما؛ والثالث معتب، نسمّى به جماعة «3» . (ومزاحم) (ومراجم) الأوّل، مشهور؛ والثانى مراجم بالراء المهملة والجيم: عوّام بن مراجم. (ومسهر) (ومشهّر) الأوّل، فيه جماعة؛ والثانى [وبربن «4» ] مشهّر «5» ، له صحبة.

(ومشكان) (ومسكان) ... «1» ... (ومشرح) (ومسرّح) ... «2» ... (ومسبّح) (ومسيح) (ومسيح) (ومشنّج) الأوّل، هو مسبّح بن حاتم العكلىّ، وغيره؛ والثانى مسيح بفتح السين المهملة وسكون الياء، هو تميم بن مسيح؛ وبكسر السين المهملة، هو عبد العزيز بن مسيح «3» ؛

والرابع مشنّج بالشين المعجمة والنون والجيم، هو سمعان بن مشنّج «1» ، روى عن سمرة ابن جندب. (ومثنّى) (وميثاء) الأوّل، مشهور كثير؛ والثانى ميثاء بالياء المثنّاة من تحت والثاء المثلّثة، هو أبو الميثاء المستظلّ «2» بن حصين، وأبو الميثاء أيّوب بن قسطنطين، مصرىّ وأبو الميثاء، عن أبى ذرّ. (ومنبّه) (ومنية) الأوّل، كثير؛ والثانى، قليل، منهم يعلى بن منية، وهو ابن أميّة، ومنية بنت عبيد بن أبى برزة. (ونافع) (ويافع) الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء، هو يافع بن عامر. (ونصر) (ونضر) اسمان معروفان. (ونميل) (وثميل) الأوّل بالنون: اسماعيل بن نميل؛ والثانى بالثاء المثلّثة: ثميل الأشعرىّ، عن أبى الدّرداء. (ونعيم) (ويغنم)

الأوّل بالنون، كثير؛ والثانى بالياء وغين معجمة، هو يغنم بن سالم بن قنبر ضعيف جدّا. (ونزار) (وبراز) الأوّل بالنون، جماعة؛ والثانى بالباء، هو أشعث «1» بن براز، من أهل البصرة، له مناكير. (ونصير «2» ) (ونضير) (ونضير) (وبصير «3» ) الأوّل: نصير بن الفرج، وغيره؛ والثانى: نضير بنون مضمومة وضاد معجمة هو نضير بن زياد؛ والثالث نضير بنون مفتوحة وضاد معجمة مكسورة، هو نضير ابن قيس؛ والرابع: [أبو «4» ] بصير، روى عنه أبو إسحاق «5» السّبيعىّ، وأبو بصير عتبة بن أسيد. (والنّجّار) (والنّحّاز)

الأوّل بالجيم والراء: أيّوب بن النّجّار، والنّجّار «1» جدّ الأنصار؛ والثانى النّحّاز بالحاء والزاى، هو النّحّاز «2» بن جدىّ «3» . (ونجبة) (وتحية) الأوّل بالنون والجيم والباء، هو نجبة بن صبيغ «4» ، عن أبى هريرة، والمسيّب ابن نجبة؛ والثانى تحية بالتاء والحاء والياء، هو الحكم بن أبى تحية «5» . (ونائل) (ونابل) (وناتل) الأوّل بالياء: نائل بن نجيح، ونائل بن مطرّف؛ والثانى بالباء الموحّدة هو نابل صاحب العباء «6» ، عن ابن عمر، وأيمن بن نابل؛ والثالث ناتل بالتاء المثنّاة هو ناتل الشامىّ، وهو ناتل بن قيس، عن أبى هريرة. (ونجيب) (ونجيت) الأوّل بالنون والجيم، هو أبو النّجيب، عن أبى سعيد الخدرىّ- رضى الله عنه- واسمه ظليم، والنّجيب بن السّرىّ؛ والثانى نجيت، هو أبو بكر بن نجيت «7» البغدادىّ الدّقّاق.

(وواقد) (ووافد) الأوّل بالقاف، كثير؛ والثانى وافد بالفاء، قليل، منهم وافد بن سلامة، ووافد ابن موسى. (ووقاء «1» ) (ووفاء) فأمّا وقاء «2» بالقاف، فهو وقاء «3» بن إياس؛ وأمّا وفاء بالفاء، فهو ابن شريح، ووفاء بن سهيل. (وهدبة) (وهديّة) هدبة بالباء الموحّدة، هو ابن المهال، وهدبة بن خالد أخو أميّة؛ وأمّا هديّة بالياء المثنّاة، فهو هديّة بن عبد الوهّاب، ومحمد بن هديّة الصّدفىّ، ويقال: «ابن هديّة» ، ويزيد بن هديّة. (ويسرة) (وبسرة) الأوّل: يسرة بن صفوان؛ والثانى بسرة بالباء الموحّدة، هو أبو بسرة، عن البراء «4» ، وبسرة بنت صفوان، لها صحبة. (وياسر) (وباشر) (وناشر) الأوّل ياسر، كثير؛ وباشر، هو أبو «5» حازم باشر؛ وناشر بالنون، هو والد أبى ثعلبة الخشنىّ جرثوم؛ وقيل فيه: «ناشب» .

المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث

هذا ما اتفق إيراده من مؤتلف الأسماء ومختلفها على سبيل الاختصار ممّا ألّفه الشيخ عبد الغنىّ بن سعيد بن علىّ بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدىّ «1» ، الحافظ المصرىّ- رحمه الله تعالى-؛ وقد ألّف أيضا كتابا آخر فى المنسوب من رجال الحديث الى قبيلة أو بلدة أو صنعة، ممّا يأتلف فى صورة الخطّ ويختلف فى المعنى «2» ، لا بأس أن نورد منه نبذة. [المؤتلف والمختلف من نسب رجال الحديث] فمن ذلك الأبلّىّ: نسبة إلى الأبلّة «3» ؛ واليها ينسب نهر الأبلّة الذى هو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» . والأيلىّ: نسبة إلى أيلة، وأيلة على شاطئ «5» البحر، يمرّ عليها الحاجّ المصرىّ فى مسيره الى مكّة وعوده، وإليها تنسب العقبة، وهى على عشر مراحل من القاهرة. ولهم «6» أيضا (الأبلىّ «7» ) : نسبة الى (أبلة «8» ) بالأندلس.

ومنه «1» (الأسيدىّ) والأسيّدىّ) فالأولى بالفتح: نسبة الى آل أسيد بن أبى العيص؛ والأسيّدىّ بالضم وتشديد «2» الياء: نسبة الى بطن من تميم، منهم حنظلة بن الرّبيع، وأخوه رياح «3» ، لهما صحبة. ومنه «4» (البصرىّ) (والنّصرىّ) ... «5» ... (والبكرىّ) (والنّكرىّ) فالبكرىّ: نسبة الى أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وإلى بكر؛ والنّكرىّ بالنون، يقال: إنّهم «6» من عبد القيس، منهم عمرو بن مالك.

(والبحرانىّ) (والنّجرانىّ) ... «1» ... (والبشيرىّ) (والتّسترىّ) ... «2» ... (والبستىّ) (والبشتىّ) الأوّل: نسبة الى بست، من سجستان؛ والثانى: الى بشت، قرية من قرى نيسابور. (والبلخىّ) (والثّلجىّ)

البلخىّ: نسبة الى بلخ «1» ؛ والثّلجىّ: محمّد بن شجاع الثّلجىّ. (والبزّاز) (والبزّار) ... «2» (والتّيمىّ) (والتّيمىّ) فالتّيمىّ بتسكين الياء: نسبة الى تيم «3» بن مرّة بن كعب، وتيم الرّباب؛ وأمّا التّيمىّ بتحريك الياء، فهم «4» بطن من بنى غافق. (والثّاتىّ) (والبانى) (والبابىّ) أمّا الثّاتىّ، فهو إبراهيم بن يزيد أبو «5» خزيمة الثّاتىّ قاضى مصر، وثات: قبيلة من حمير؛ وأمّا البانى، فهو محمّد بن إسحاق؛ وأمّا البابىّ، فمنهم زهير بن نعيم البابىّ وغيره، ولعلّها نسبة إلى الباب: قرية «6» من قرى حلب.

(والثّورىّ) (والتّوّزىّ) (والبورىّ) (والنّورىّ) فالثّورىّ: نسبة إلى ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة؛ وأمّا التّوّزىّ [بالزاى «1» بعد تاء معجمة من فوقها بنقطتين، فأبو يعلى محمّد بن الصّلت التّوّزىّ؛ وأمّا البورىّ بالباء المعجمة بواحدة، فمحمّد بن عمر بن حفص البورىّ البصرىّ العنزىّ، كان بمصر ... ؛ وأمّا النّورىّ] ، فأبو الحسن النّورىّ الصوفىّ البغدادىّ. (والجريرىّ) (والحريرىّ) [والجريرىّ «2» ] (والحزيزىّ) . أمّا الجريرىّ «3» بالجيم مضمومة، فجماعة، منهم سعيد «4» بن إياس، وأبان «5» بن تغلب وعبّاس «6» بن فرّوخ «7» ؛ وأمّا الحريرىّ بالحاء المهملة، فكثير؛ وأمّا الجريرىّ بالجيم المفتوحة، فجماعة ينسبون الى جرير بن عبد الله البجلىّ؛ وأما الحزيزىّ بالحاء المهملة وزايين، فنسبة إلى قرية اسمها حزيز «8» . (والجندعىّ) (والخبذعىّ)

فالجندعىّ: نسبة إلى جندع، من ليث، وليث من مضر بن نزار؛ وأمّا الخبذعىّ فهم بطن من همدان. (والجبيرىّ) (والحبترىّ) (والخيبرىّ) فالجبيرىّ جماعة، منهم سعيد بن عبد الله بن زياد بن جبير، وغيره؛ وأمّا الحبترىّ، فنسبة إلى حبتر، وحبتر من كعب، ثمّ من خزاعة؛ وأمّا الخيبرىّ، فأظنّها نسبة إلى خيبر «1» . (والحنّاط) (والخيّاط) (والخبّاط) جماعة من المحدّثين. (والحبرىّ «2» ) (والحيرىّ) (والجيزىّ) (والخبرىّ) (والحترىّ) فأمّا الحبرىّ «3» ، فهو الحسين بن الحكم الحبرىّ «4» ؛ وأمّا الحيرىّ، فنسبة إلى الحيرة محلّة بنيسابور؛ وأمّا الجيزىّ، فنسبة إلى جيزة فسطاط مصر؛ وأما الخبرىّ، فنسبة الى قرية من قرى شيراز، منها الفضل بن حمّاد الخبرىّ؛ وأمّا الحترىّ، فهو أبو عبد الله الحترىّ. (والحرّانىّ) (والحرابىّ) فالحرّانىّ: نسبة الى حرّان، من مدن الجزيرة «5» ؛ والحرابىّ، هو أحمد بن محمّد شيخ البغداديّين.

(والحنّائىّ) (والجبإىّ) (والجبائىّ) (والجنّابىّ «1» ) أمّا الحنّائىّ بالحاء المهملة والنون، فإبراهيم بن علىّ الحنّائىّ؛ وأمّا الجبإىّ بالجيم والباء، فهو شعيب الجبإىّ، منسوب إلى جبل «2» باليمن؛ وأمّا الجبّائىّ بالجيم المضمومة والباء الموحّدة، فهو أبو علىّ الجبّائىّ «3» المتكلّم؛ وأمّا الجنّابىّ بالجيم والنون والباء الموحّدة، فهو محمّد بن علىّ بن عمران الجنّابىّ» . (والخزّاز) (والخرّاز) (والجرّار) (والجزّار) أمّا الخزّاز بالخاء والزايين المعجمات، فعدد كثير، منهم النّضر بن عبد الرحمن «5» وأحمد بن «6» علىّ، وغيرهما؛ وأمّا الخرّاز بالخاء والراء والزاى، فجماعة، منهم عبد الله ابن عون الخرّاز، وغيره؛ وأما الجرّار بالجيم والراء المكرّرة المهملة، فعبد الأعلى بن أبى المساور الجرّار، وعيسى بن يونس الرّملىّ الجرّار، وهو الفاخورىّ؛ وأما الجزّار فنسبة إلى صنعة الجزارة.

(والخضرمىّ) (والحضرمىّ) فأمّا الخضرمىّ بالخاء المعجمة المجرورة، فهم عدّة يسكنون بأرض الجزيرة «1» ؛ وأمّا الحضرمىّ بالحاء المهملة، فخلق كثير؛ يرجعون إلى حضرموت «2» . (والحمصىّ) (والحمّصىّ) فالحمصىّ: منسوب إلى حمص «3» ؛ والحمّصىّ قليل، وهو إبراهيم بن الحجّاج بن منير الحمّصىّ، كان يقلى الحمص. (والخضرىّ) (والحصرىّ) (والخضرىّ «4» ) فأمّا الخضرىّ بالخاء والضاد، [فأبو «5» ] شيبة الخضرىّ «6» ؛ وأمّا الحصرىّ فسعيد بن محمّد الحصرىّ، وغيره؛ وأمّا الخضرىّ، فهو فقيه أهل مرو أبو عبد الله محمد بن أحمد.

(والخوزىّ) (والجورىّ) (والجوزىّ) ... «1» (والحسنىّ) (والخشنىّ) (والحبشىّ) (والخيشىّ) ... «2» (والختّلىّ) (والجبّلىّ) (والحبلىّ) (والختلّىّ) (والجبلىّ) فأمّا الختّلىّ بضم الخاء وتشديد التاء المثنّاة، فنسبة الى ختّل «من بلاد «3» الدّيلم

وإليها تنسب الدّولة الدّيلميّة الختّليّة» ؛ وأمّا الجبّلىّ بالجيم المفتوحة «1» والباء الموحّدة المشدّدة «2» ، فنسبة الى جبّل: قرية بين «3» بغداد «4» وواسط؛ وأمّا الحبلىّ بالحاء المهملة والباء الموحّدة، فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحملىّ «5» ، صاحب عبد الله ابن عمرو «6» ، رضى الله عنهما؛ وأمّا الختلّى «بضم «7» الخاء وضم التاء المثنّاة وتشديد اللام» فنسبة الى ختلّ «8» ؛ وأمّا الجبلىّ، فنسبة إلى جبلة «9» الشأم.

(والخصيبىّ) والحصينىّ ... «1» ... (والخرقىّ) (والحرقىّ) ... «2» ... الثانى: نسبة الى الحرقة بنت النّعمان «3» . (والدّهنىّ) (والذّهبىّ) الدّهنىّ بضم الدال المهملة وكسر النون: نسبة إلى حىّ «4» من بجيلة ... «5» ... (والرّهاوىّ) (والرّهاوىّ) بالفتح «6» : منسوب إلى قبيلة «7» ، منهم مالك بن مرارة الرّهاوىّ، له صحبة؛ وبالضم: نسبة الى بلد الرّها، من أرض الجزيرة.

(والرّياحىّ) (والرّباحىّ) فالرّياحىّ بكسر الراء المهملة وفتح الياء المثنّاة من تحت: إلى بطن «1» من تميم بن مرّة؛ والرّباحىّ بفتح الراء والباء الموحّدة: منسوب الى قلعة رباح بالأندلس. (والرّبذىّ) (والزّيدىّ) فالرّبذىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة المفتوحة والذال المعجمة: نسبة إلى الرّبذة «2» ؛ والزّيدىّ بالزاى المعجمة: نسبة إلى زيد العلوى، وإلى مذهبه. (والرّفاعىّ) (والرّقاعىّ) ... «3» ... (والزّمّانىّ» ) (والرّمّانىّ «5» ) فالزّمّانى بكسر الزاى المعجمة: عبد الله بن معبد؛ والرّمّانىّ بالراء المهملة: جماعة، منهم علىّ بن عيسى النحوىّ المتكلّم، وغيره. (والزّينبىّ) (والزّبيبىّ) ... «6» ...

(والزّبيدىّ) والزّبيدىّ) بالضم: نسبة الى قبيلة «1» ، منهم عمرو بن معديكرب؛ وبالفتح: نسبة إلى زبيد؛ من أرض اليمن. (والزّبادىّ) (والزّيادىّ) فالزّبادىّ بفتح الزاى المعجمة، جماعة، منهم خالد بن عامر «2» الزّبادىّ «3» ؛ والزّيادىّ بكسر الزاى المعجمة: نسبة إلى زياد. (والسّلمىّ) (والسّلمىّ) بضم السين المهملة وفتحها ... «4» ... (والسّذابىّ «5» ) (والشّذائىّ «6» )

فالسّذابىّ بالسين المهملة، هو عمر بن محمّد السذابىّ؛ وبالشين المعجمة والياء المثنّاة من تحت، هو أبو الطّيّب الشّذائىّ الكاتب، واسمه محمد بن أحمد. (والسّبإىّ «1» ) (والشّنإىّ) (والسّنائىّ) فأما السّبإى «2» بالسين المهملة والباء الموحّدة، فنسبة ترجع إلى سبإ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان؛ وأمّا الشّنإىّ بالشين المعجمة والنون، فنسبة إلى أزد شنوءه؛ وأمّا السّنائى، فرجل نعرفه، كان يلقّب «3» عزّ الدّين السّنائىّ؛ وقد أورد «4» فى هذا الموضع النّسائىّ بتقديم النون على السين، نسبة إلى نسا «5» من خراسان؛ والأفصح فيها النسوى. (والسامرّىّ) (والسامرىّ) الأوّل: نسبة إلى سامرّا «6» ؛ والثانى: نسبة معروفة إلى السامرىّ وفى المحدّثين إبراهيم بن [أبى «7» ] العبّاس السّامرىّ.

(والسّبيىّ «1» ) (والشّيبىّ) (والسّيبىّ) (والسّبنىّ) (والسّينىّ) (والسّبتىّ) أمّا السّبيىّ بالسين المهملة والباء الموحّدة والياء باثنتين من تحتها، فهو أبو طالب السّبيىّ «2» ، ينسب إلى قرية من قرى الرّملة، تسمّى سبية «3» ؛ وأمّا الشّيبىّ، فنسبة إلى شيبة بن عثمان، من بنى عبد الدّار بن قصىّ، من سدنة «4» الكعبة؛ وأمّا السّيبىّ «5» بالسين مهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها، بعدها باء موحّدة، فهو صبّاح ابن هارون أبو مروان؛ وأمّا السّبنىّ، بالسين المهملة والنون بعد الباء الموحّدة فهو أحمد بن إسماعيل السّبنىّ «6» ؛ وأمّا السّينىّ، فقبيل من الأكراد يعرفون بالسّينيّة؛ وأمّا السّبتىّ «7» ، فشيخ صالح متأخّر، مدفون بقرافة مصر؛ والسّينىّ، والسّبتىّ لم يذكرهما عبد الغنىّ. (والشّامىّ) (والسّامىّ) فالشّامىّ بالشين المعجمة: نسبة إلى الشأم؛ والسّامىّ بالسين المهملة: قوم ينسبون إلى سامة بن لؤىّ بن غالب، منهم إبراهيم بن الحجّاج [صاحب الحمّادين «8» :

حمّاد بن سلمة] وحمّاد بن زيد؛ وعلىّ «1» بن الحسن «2» السّامىّ، وعمر بن موسى السّامىّ ومحمّد بن عبد الرحمن السّامىّ الهروىّ، ويحيى بن حجر، وبشر «3» بن حجر. (والسّجزىّ) (والسّحرىّ) (والشّجرىّ) فأمّا السّجزىّ بفتح «4» السين المهملة، وبالجيم والزاى المعجمة، فعدد كبير ينسبون إلى سجستان «5» ؛ وأمّا السّحرىّ بكسر السين، وبالحاء والراء المهملات، فهو عبد الله بن محمّد السّحرىّ «6» ؛ وأمّا الشّجرىّ بالشين المعجمة والجيم والراء المهملة فإبراهيم بن يحيى الشّجرىّ «7» . (والشّيبانىّ) (والسّيبانىّ) (والسّينانىّ) أمّا الشّيبانىّ، فنسب معروف؛ وأمّا السّيبانىّ بالسين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها وباء موحّدة، فهو يحيى بن أبى عمرو السّيبانىّ «8» ، وأيّوب بن سويد الرّملىّ؛

وأمّا السّينانىّ بكسر السين المهملة، تليها ياء مثنّاة من تحتها ونون، فهو الفضل بن موسى السّينانىّ، ينسب إلى قرية من قرى مرو. (والسّبخىّ) (والسّنجىّ) (والسّبحىّ) (والشّيخىّ «1» ) أمّا السّبخىّ بالباء الموحّدة والخاء المعجمة، فهو فرقد بن يعقوب السّبخىّ «2» العابد؛ وأمّا السّنجىّ بالنون والجيم، فهو أبو داود سليمان بن معبد السّنجىّ «3» ، خراسانىّ؛ وأمّا السّبحىّ بضم السين المهملة، وبالحاء المهملة، قبلها باء موحّدة، فهو أبو بكر السّبحىّ «4» ؛ وأمّا الشّيخىّ، فجماعة نعرفهم من الأمراء يقال لهم: الشّيخيّة؛ ويصلح أن يضاف إلى هذه الترجمة السّيحىّ «5» والشّيحىّ «6» . (والشّعبىّ) (والشّعبىّ) [والشّغبىّ «7» ] فالشّعبىّ بفتح الشين المعجمة، هو عامر بن شراحيل الشّعبىّ «8» ؛ وأمّا الشّعبىّ بضمّها، فهو معاوية بن حفص الشّعبىّ «9» ؛ وأمّا الشّغبىّ بالشين والغين المعجمة

فهو زكريّا بن عيسى الشّغبىّ، منسوب إلى شغب: منهل «1» بين طريق مصر والشأم. (والشّعيثىّ) (والشّعيبىّ) فالشّعيثىّ: نسبة إلى شعيث بلعنبر «2» من بنى تميم؛ وأمّا الشّعيبىّ، فنسبة إلى من اسمه شعيب. (والشّنّىّ) (والشّبّىّ) (والسّنّىّ) (والبسّىّ) [فأمّا «3» الشّنّىّ بالشين المعجمة والنون، فعدّة، منهم عقبة بن خالد الشّنّىّ البصرىّ، عن الحسن البصرىّ، روى عنه مسلم بن ابراهيم؛ والعبّاس بن جعفر ابن زيد بن طلق العبدىّ الشّنّىّ؛ وأمّا الشّبّىّ] ، فهو محمّد بن هلال بن بلال «4» الشّبّىّ «5» ؛ وأمّا السّنّىّ بالنون، فهو الحافظ ابن السّنّىّ «6» الدّينورىّ؛ وأمّا البسّىّ، فهو أبو محجن توبة بن نمر قاضى مصر، بطن «7» من حمير يقال لهم: «البسّيّون» .

(والضّبّىّ) (والضّنّىّ) فالضّبّىّ: نسبة إلى «ضبّة» «1» ؛ وأمّا الضّنّىّ بالنون وكسر الضاد، فهو أبو يزيد الضّنّىّ «2» ، يروى عن ميمونة مولاة النبىّ صلى الله عليه وسلم. (والصّرارىّ) (والضّرارىّ) (والصّرّارىّ «3» ) فأمّا الصّرارىّ، فهو محمد بن عبد الله الصّرارىّ «4» ، يروى عن عطاء بن أبى رباح؛ وأمّا الضّرارىّ بكسر الضاد المعجمة، فهو محمد بن إسماعيل الضّرارىّ «5» ؛ وأمّا الصّرّارىّ بفتح الصاد المهملة والراء المهملة المشدّدة، فأبو القاسم بكر بن الفضل بن موسى النّعالىّ الصّرّارىّ: نسبة إلى صنعة النّعال الصّرّارة «6» . (والصّائغ) (والضّائع) فالصائغ: نسبة إلى صنعة الصّياغة؛ والضّائع، هو عثمان بن بلج «7» الضّائع.

(والصّعدىّ) (والصّغدىّ) فالصّعدىّ، هو محمد بن إبراهيم بن مسلم الصّعدىّ «1» ؛ وأمّا الصّغدىّ بضم الصاد المهملة وتسكين الغين المعجمة، فهو أيّوب بن سليمان الصّغدىّ، وإسحاق «2» بن إبراهيم بن منصور الصّغدىّ؛ أراها نسبة إلى الصّغد «3» بسمرقند، وهو أحد متنزّهات الدنيا الأربعة «4» . (والصّباحىّ) (والصّباحىّ) فالصّباحىّ بضم الصاد، هو أبو خيرة «5» الصّباحىّ «6» ، له صحبة؛ وأمّا الصّبّاحىّ بفتح الصاد وتشديد الباء الموحّدة، فهو يزيد بن سعيد الصّبّاحىّ «7» ، يروى عن مالك ابن أنس حديثين. (والطّيبىّ) (والطّينىّ) (والطّبنىّ) (والطّيّبىّ)

فالطّيبىّ بالطاء والياء المعجمة باثنتين من تحتها وباء موحّدة، هو أحمد بن إسحاق بن نيخاب «1» الطّيبىّ «2» ؛ وأمّا الطّينىّ بالياء المثنّاة من أسفل والنون، فهو عبد الله ابن الهيثمّ الطّينىّ «3» ؛ وأمّا الطّبنىّ بالباء الموحّدة والنون، فنسبة إلى مدينة «4» بالمغرب منها علىّ بن منصور الطّبنىّ، وغيره؛ وأمّا الطّيّبىّ، فنسبة إلى الطّيّبة: بلد بإقليم الغربيّة بمصر، وبلد بالشرقيّة «5» ، وقرية بالسوداء «6» من الشأم تسمّى «طيّبة «7» الاسم» وهذه النسبة إلى الطّيّبة لم يذكرها عبد الغنىّ. (والعابدىّ) (والعائدىّ «8» ) (والعائذىّ) فالعابدىّ بالباء الموحّدة والدال المهملة: نسبة إلى عابد بن عمر بن مخزوم منهم عبد الله بن المسيّب القرشىّ العابدىّ، وعبد الله بن عمران العابدىّ صاحب سفيان بن عيينة؛ «وأمّا العائدىّ «9» ، فهم من ولد عائد بن عمرو بن مخزوم، فقد

اجتمع فى مخزوم عابد وعائد» ؛ وأمّا العائذيّون بالذال المعجمة، فهم من ولد عمران ابن مخزوم أيضا. (والقينىّ) (والقتبىّ) فأمّا القينىّ بالياء المثنّاة من تحتها والنون، فجماعة، منهم عبد الله بن نعيم القينىّ «1» وغيره؛ وأمّا القتبىّ بضم القاف وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالباء الموحّدة، فهلال «2» ابن العلاء، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة؛ وأضاف عبد الغنىّ إلى هذه الترجمة العتبىّ «3» ، وهو محمد بن عبيد الله العتبىّ «4» الأخبارىّ. (والعوقىّ) (والعوفىّ) أمّا بالقاف، فهو أبو نضرة منذر بن مالك العوقىّ «5» صاحب أبى سعيد الخدرىّ، ومحمد بن سنان العوقىّ؛ وأمّا العوفىّ «6» بالفاء، فهو عطيّة العوفىّ، وأحمد ابن إبراهيم العوفىّ.

(والعتقىّ) (والغيفىّ) فالعتقىّ بضم العين المهملة وفتح التاء المثنّاة من فوقها وبالقاف، هو الحارث ابن سعيد العتقىّ «1» ، وأبو عبد الرحمن محمد بن عبد «2» الله العتقىّ «3» المقرئ، له تاريخ فى المغاربة؛ وأما الغيفىّ بالغين المعجمة والياء المثنّاة من تحتها والفاء، فالنسبة فيها إلى (غيفة) : قرية من قرى مصر بقرب بلبيس مدينة الشرقيّة، منها الحسين «4» بن إدريس بن عبد الكبير الغيفىّ. (والعودىّ) (والعوذىّ) ... «5» ... (والعمرىّ) (والعمرىّ) (والغمرىّ) ... «6» ...

(والعبادىّ) (والعبادىّ) (والعبّادىّ) ... «1» ... (والعبدىّ) (والعيذىّ) ... «2» ... (والعبسىّ) (والعنسىّ) (والعيشىّ) فأمّا العبسىّ، فنسبة إلى عبس، منهم جماعة من الصحابة؛ وأمّا العنسى «3» بالنون فجماعة، منهم عمّار بن ياسر؛ وأمّا العيشىّ «4» ، فجماعة كثيرة، منهم أميّة بن بسطام وحمّاد بن عيسى.

(والقيسىّ «1» ) (والفيشىّ «2» ) فالقيسىّ: نسبة إلى قيس «3» ؛ والفيشىّ بالفاء والشين: نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها: فيشة. (والعرفىّ «4» ) (والعرقىّ) (والعرقىّ «5» ) فالعرفىّ، هو أبو عبد الله العرفىّ «6» الحجازىّ؛ والعرقىّ، هو عروة بن مروان الرّقّىّ «7» العرقىّ «والعرقىّ «8» : نسبة الى (عرقة) ، من عمل طرابلس الشأم، لم يذكرها عبد الغنىّ» .

(والغبرىّ) (والعنزىّ) (والعترى) (والعنزى «1» ) فأمّا الغبرىّ بالغين المعجمة المضمومة والباء المفتوحة بواحدة والراء المهملة فهم كثير، من بنى غبر «2» ، منهم عبّاد بن شرحبيل، وعبّاد بن قبيصة؛ وأمّا العنزىّ بالعين المهملة والنون والزاى، فنسبة إلى عنزة: حىّ من ربيعة؛ وأمّا العترىّ «3» فجماعة، منهم بكّار بن سلام العترىّ؛ وأمّا العنزىّ بفتح العين وسكون النون وكسر الزاى، فمنهم عامر بن ربيعة العنزى؛ وعنز من ربيعة بن نزار. (والفزارىّ) (والقرارىّ) فالفزارىّ: نسبة إلى بنى فزارة؛ والقرارىّ بالقاف والراء المهملة المكرّرة، قليل منهم أبو الأسد سهل القرارىّ؛ وقرار: قبيلة «4» .

(والفلّاس) (والقلّاس «1» ) فالفلّاس بالفاء، هو أبو حفص عمرو بن علىّ الصيرفىّ الفلّاس؛ والقلّاس بالقاف والسين المهملة «2» ، هو أبو بكر محمد بن هارون القلّاس. (والقتبانىّ) (والفتيانىّ) فالقتبانىّ بالقاف: جماعة، منهم عيّاش بن عبّاس القتبانىّ «3» ، وأبو معاوية المفضّل بن فضالة بن عبيد القتبانىّ قاضى مصر؛ وأمّا الفتيانىّ بالفاء، فبطن «4» من بجيلة الكوفة، منهم رفاعة بن «5» عاصم. (والقبائىّ) (والقنّائىّ) (والقيانىّ) (والقبّانىّ) (والقنائىّ) (والقبّانىّ «6» )

فالقبائىّ بضم القاف: نسبة لمن «1» سكن قباء «2» ؛ وأمّا القنّائىّ بضم القاف أيضا وبالنون، فهو [أبو «3» ] إسحاق [إبراهيم بن «4» أحمد] بن علىّ القنّائىّ «5» الكاتب «6» ؛ وأمّا القيانىّ بكسر «7» القاف وبالياء المثنّاة من تحتها والنون «8» ، فهو عبدوس بن المعلّى القيانىّ والقيانة، بطن من غافق؛ وأمّا القبّانىّ بفتح «9» القاف وبالباء الموحّدة والنون، فهو علىّ

ابن الحسين القبّانىّ؛ وأمّا القنائىّ، فنسبة لمن «1» يكون من قنى من أعمال الدّيار المصريّة، على مرحلة من مدينة قوص؛ وأمّا القبّانىّ «2» ، فنسبة لمن «3» يزن بالقبّان والقنائىّ «4» والقبّانىّ لم يذكرهما «5» عبد الغنىّ رحمه الله. (والفريابىّ) (والقرنانىّ) فأمّا الفريابىّ، فنسبة إلى فرياب «6» من خراسان؛ وأمّا القرنانىّ بالقاف والنونين فهو شريك بن سويد التّجيبىّ ثمّ القرنانىّ، من بنى القرنان «7» .

(والقرنىّ) (والقربىّ) فأمّا القرنىّ، فنسبة إلى بطن من مراد، منهم أويس القرنىّ؛ وأمّا القربىّ فالحكم بن سنان. (والغزّىّ «1» ) (والغرّىّ «2» ) فالغزّىّ: نسبة إلى مدينة غزّة بالشأم؛ «والغرّىّ «3» : طائفة من الأكراد يسمّون الغرّية» ، لم يذكرهم عبد الغنىّ. (والقروىّ) (والفروىّ) فالقروىّ بالقاف: نسبة إلى القيروان من المغرب؛ والفروىّ بالفاء: هم رهط أبى علقمة عبد الله بن محمد الفروىّ «4» .

(والقبّاب) (والقتّات) فالقبّاب بباءين موحّدتين، هو عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك «1» القبّاب الأصبهانىّ، وقيل فيه: «القتّات» ؛ والقتّات بتاءين مثنّاتين من فوقهما، هو أبو يحيى زاذان، روى عن مجاهد، وأبو عمرو محمد بن جعفر القتّات. (والقطرىّ «2» ) (والفطرىّ» ) فالقطرىّ بالقاف، هو محمد بن [عبد «4» ] الحكم؛ والفطرىّ بالفاء، هو محمد بن موسى، روى عن سعيد المقبرىّ. (والقوصىّ) (والقوصىّ) فالقوصىّ بضم القاف وتسكين الواو: نسبة لمن يكون من أهل مدينة (قوص) من الدّيار المصريّة؛ والقوصىّ بفتح القاف والواو: نسبة لمن يكون من قرية (القوصة) من إقليم مصر، من مرج بنى هميم، لم يذكرهما عبد الغنىّ رحمه الله. (والكسائىّ) (والكشانىّ)

الأوّل بكسر الكاف وفتح السين المهملة، هو علىّ بن حمزة الكسائىّ النحوىّ أحد القرّاء السبعة؛ وأمّا الكشانىّ بضم «1» الكاف وبالشين المعجمة والنون، فهو محمد بن حاتم الكشانىّ «2» النحوىّ. (والكليبىّ) (والكلينىّ) الأوّل: نسبة معروفة إلى كليب؛ والكلينىّ بالنون، هو محمد بن يعقوب الكلينىّ «3» ؛ من الشّيعة. (والكنانىّ) (والكتّانىّ) فالأوّل: نسبة إلى كنانة «4» ؛ والثانى بالتاء المشدّدة، هو محمد بن الحسين الكتّانىّ وأحمد بن عبد الواحد الكتّانىّ، وغيرهما. (والكرجىّ) (والكرخىّ) (والكرجىّ)

فالكرجىّ: نسبة إلى الكرج «1» ؛ [والكرخىّ «2» : نسبة إلى الكرخ] محلّة ببغداد؛ والكرجىّ: إلى الكرج، طائفة من الأكراد «3» أتراك. (واللهبىّ) (واللهبىّ) فاللهبىّ بفتح اللام: نسبة إلى أبى لهب؛ وأمّا اللهبىّ بكسر اللام وسكون الهاء فنسبة إلى قبيلة من الأزد. (والمازنىّ) (والمأربىّ) فالمازنىّ: نسبة إلى مازن أخى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة «4» بن قيس عيلان بن مضر، وغيره؛ وأمّا المأربىّ بالراء المهملة والباء الموحّدة، فهم جماعة من مأرب باليمن، إليها ينسب سدّ مأرب الذى كان بنى بسبب سيل العرم، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

(والنّجّارىّ) (والبخارىّ) فالنّجّارى: نسبة إلى بنى النّجّار من الأنصار؛ والبخارىّ: نسبة إلى مدينة بخارى بما وراء النّهر. (والنّاجىّ) (والباجىّ) (والتّاجىّ) فالنّاجىّ بالنون: نسبة إلى بنى ناجية من سامة بن لؤىّ؛ وأمّا الباجىّ بالباء الموحّدة، فنسبة إلى (باجة) من مدن المغرب «1» ؛ وأمّا التّاجىّ، فجماعة من الأتراك ينسبون إلى مواليهم ممّن لقبه تاج الدّين. (والنّحّاس) (والنّخّاس) فالنّحّاس بالحاء: الذى يصنع أوانى النّحاس؛ والنّخّاس بالخاء، هو دلّال «2» الرقيق. (والبجلىّ) (والبجلىّ) (والنّخلىّ «3» ) فالبجلىّ بالجيم المفتوحة: من بجيلة؛ وأمّا البجلىّ بسكون الجيم، فهم رهط من سليم بن منصور، يقال لهم: بنو بجلة، نسبوا إلى أمّهم «4» بجلة بنت هنأة بن مالك

ابن فهم الأزدىّ؛ وأمّا النّخلىّ بالخاء المعجمة والنون قبلها، فعمران النّخلىّ «1» روى عنه شريك بن عبد الله القاضى، وإبراهيم بن محمد أبو «2» عبد الله النّخلىّ «3» صاحب التاريخ. (والهمدانىّ) (والهمذانىّ) فالأوّل: منسوب إلى همدان، قبيلة مشهورة من اليمن؛ والثانى: نسبة إلى مدينة همذان «4» . (واليزنىّ) (والبرتىّ) فأمّا اليزنىّ، فنسبة إلى سيف بن ذى يزن الحميرىّ؛ وأمّا البرتىّ بالباء الموحّدة والراء المهملة والتاء المثنّاة من فوقها، فمنهم أحمد بن محمد بن عيسى البرتىّ «5» . وذكر عبد الغنىّ فى هذا الموضع (البزّىّ) (والبرّىّ) (والبرّىّ) فقال: أمّا البزّىّ بالباء المعجمة بواحدة والزاى المعجمة، فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبى بزّة، صاحب القراءة، يروى عن ابن كثير؛ وأمّا البرّىّ بالباء المضمومة الموحّدة والراء المهملة، فمنهم عثمان بن مقسم البرّىّ «6» أبو سلمة «7» ؛ وأمّا البرّىّ بباء مفتوحة موحّدة فهو علىّ بن بحر [بن «8» ] برّىّ.

وأما من ينسخ العلوم

هذا مختصر ما ألّفه عبد الغنىّ- رحمه الله تعالى- وفيه زيادة فى مواضع نبّهنا عليها؛ ولم يكن الغرض بإيراد ما أوردناه من المؤتلف والمختلف استيعابه وحصره وإنّما كان الغرض التنبيه على ذلك، وأنّ الناسخ يحتاج إلى ضبط ما يرد عليه من هذه الأسماء وأمثالها، وتقييدها والإشارة عليها؛ وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنذكر غير ذلك من شروط الناسخ وما يحتاج إلى معرفته. وأمّا من ينسخ العلوم ، كالفقه واللّغة العربيّة والأصول وغير ذلك، فالأولى له والأشبه به ألّا يتقدّم إلى كتابة شىء منها إلّا بعد اطّلاعه على ذلك الفنّ وقراءته وتكراره، ليسلم من الغلط والتحريف، والتبديل والتصحيف؛ ويعلم مكان الانتقال من باب إلى باب، ومن سؤال إلى جواب؛ ومن فصل إلى فصل، وأصل إلى فرع أو فرع إلى أصل؛ ومن تنبيه إلى فائده، واستطراد لم يجر الأمر فيه على قاعده؛ ومن قول قائل، وسؤال سائل؛ ومعارضة معارض، ومناقضة مناقض؛ فيعلم آخر كلامه، ومنتهى مرامه؛ فيفصل بين كلّ كلام وكلام بفاصلة تدلّ على إنجازه، ويبرز قول الآخر بإشارة يستدلّ بها على إبرازه؛ وإلّا فهو حاطب ليل لا يدرى أين يفجأه الصباح، وراكب سيل لا يعرف الغدوّ من الرواح. وأمّا من ينسخ التاريخ- فإنه يحتاج إلى معرفة أسماء الملوك وألقابهم ونعوتهم وكناهم، خصوصا ملوك العجم والتّرك والخوارزميّة والتّتار فإنّ غالب أسمائهم أعجميّة لا تفهم إلّا بالنقل، ويحتاج الناسخ إذا كتبها إلى تقييدها بضوابط وإشارات وتنبيهات تدلّ عليها؛ وكذلك أسماء المدن والبلاد والقرى والقلاع والرّساتيق «1» والكور

والأقاليم، فينبّه على ما تشابه منها خطّا واختلف لفظا، وما تشابه خطّا ولفظا واختلف نسبة، نحو (مرو) ، (ومرو) ؛ إحداهما (مرو الرّوذ «1» ) ، والأخرى (مرو الشّاهجان «2» ) ؛ (والقاهرة) ، (والقاهرة) ؛ إحداهما (القاهرة المعزّيّة «3» ) ، والأخرى (القلعة القاهرة «4» ) التى هى (بزوزن «5» ) التى أنشأها مؤيّد الملك صاحب (كرمان «6» ) ، فإنّ الناسخ متى أطلق اسم القاهرة ولم يميّز هذه بمكانها ونسبتها تبادر ذهن السامع إلى القاهرة المعزّية لشهرتها دون غيرها؛ وأمّا فى أسماء الرجال، فمثل عبيد الله بن زياد، وعبيد الله بن زياد، فالأوّل عبيد الله بن زياد بن أبيه، وزياد هذا، هو ابن سميّة الذى ألحقه معاوية بن أبى

سفيان بأبيه، واعترف بأخوّته، وكان عبيد الله هذا يتولّى أمر العراق بعد أبيه إلى أيّام مروان بن الحكم؛ والثانى عبيد الله بن زياد بن ظبيان؛ وخبرهما يشبه مسائل الدّور، فإنّ عبيد الله بن زياد بن أبيه قتله المختار «1» [بن] أبى عبيد الثّقفىّ والمختار بن أبى عبيد قتله مصعب «2» بن الزّبير، ومصعب بن الزّبير قتله عبيد «3» الله بن زياد بن ظبيان؛ فإذا لم يميّز كلّ واحد منهما بجدّه ونسبه أشكل «4» ذلك على السامع وأنكره ما لم تكن له معرفة بالوقائع، واطّلاع على الأخبار؛ فأمثال ذلك وما شاكله يتعيّن

وأما من ينسخ الشعر

على الناسخ تبيينه؛ وكذلك أسماء أيّام العرب، نحو أيّام الكلاب «1» بضمّ الكاف، وأيّام الفجار «2» بكسر «3» الفاء وبالجيم، وغير ذلك، فينبّه على ذلك كلّه، ويشير إليه بما يدلّ عليه. وأمّا من ينسخ الشّعر - فإنّه لا يستغنى عن معرفة أوزانه، فإنّ ذلك يعينه على وضعه على أصله الذى وضع عليه؛ ويحتاج إلى معرفة العربيّة والعروض ليقيم وزن البيت إذا أشكل عليه بالتفعيل، فيعلم هل هو على أصله وصفته

ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدى لها إلى معرفته

أو حصل فيه زحاف «1» من نقص به أو زيادة «2» ، فيثبته بعد تحريره، ويضع الضبط فى مواضعه، فإنّ تغييره يخلّ بالمعنى ويفسده، ويحيله عن صفته المقصودة؛ فإذا عرف الناسخ هذه الفوائد وأتقنها، وحرّر هذه القواعد وفنّنها «3» ، وأوضح هذه الأسماء «4» وبيّنها، وسلسل هذه الأنساب وعنعنها؛ ... «5» ... والمرغوب فى علمه وكتابته، فليبسط قلمه عند ذلك فى العلوم، ويضع به المنثور والمنظوم؛ ولنذكر كتابة التعليم. ذكر كتابة التعليم وما يحتاج من تصدّى لها إلى معرفته وكتابة التعليم تنقسم إلى قسمين: تعليم ابتداء، وتعليم انتهاء فأمّا تعليم الابتداء - فهو ما يعلّمه الصبيان فى ابتداء أمرهم؛ وأوّل ما يبدأ به المؤدّب من تعليم الصبىّ أن يكتّبه حروف المعجم المفردات؛ فإذا علمها

الصبىّ وعرف كيف يضعها، وميّز بين المعجم والمهمل منها امتحنه «1» المؤدّب بتقطيعها وسؤاله عنها على غير وضعها «2» ، مثل أن يسأله عن النون، ثمّ الجيم، والضاد ونحو ذلك؛ فإذا أجابه عمّا فرّقه وعكسه عليه علم من ذلك أنّه أتقن هذه الحروف فيهجّيه الحروف بعد ذلك حرفا حرفا، كلّ حرف وهجاءه فى المنصوب والمجرور والمرفوع والمجزوم، فإذا عرف هجاء هذه الحروف وأتقنه، وامتحنه نحو ما تقدّم جمع له بعد ذلك كلّ حرف إلى آخر كتابة، من الباء والجيم والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والفاء والكاف واللام والميم، يبدأ بالباء مع الألف وما بعدها ثم يكتّبه البسملة، ويأخذ فى تدريجه فى الكتابة، وتدريبه فى استخراج الحروف بالهجاء وما يتولّد منها إذا «3» اجتمعت، إلى أن يقوى فيها لسانه ويده «4» ، ويقرأ ما يكتب له، ويكتب ما يقترح عليه من غير منبّه له ولا مساعد؛ فهذه كتابة الابتداء؛ ولا ينبغى أن يتصدّى لها إلّا من اشتهرت ديانته وحسن اعتقاده والتزامه طريق السنّة، ومن كان بخلاف ذلك، أو ممّن طعن فيه بوجه من وجوه المطاعن وجب على ناظر الحسبة «5» منعه.

وأما تعليم الانتهاء

وأمّا تعليم الانتهاء - فهو كتابة التجويد، وهى أصل جميع ما قدّمناه من الكتابات، ويحتاج من تصدّى لها إلى إتقان أقلام الكتابة، ومعرفة أوضاعها على ما وضعه الوزير أبو علىّ بن مقلة «1» حين عرّب الخطّ ونقله من الكوفيّة «2» إلى التوليد، ثم عمدته على طريق علىّ بن هلال الكاتب المعروف بابن البوّاب «3» وما وضعه من أقلام الكتابة، ومعرفة الأقلام الأصول الخمسة، وهى قلم المحقّق، وقلم النسخ وقلم الرّقاع، وقلم التّواقيع، وقلم الثّلث؛ فهذه الأقلام الخمسة هى الأصول؛ ثم تتفرّع عنها أقلام أخر نذكرها بعد إن شاء الله تعالى؛ وقد ذكر لهذه التسمية أسباب واشتقاقات، فقالوا: إنّ قلم المحقّق إنّما سمّى بذلك لأنّه أصل الكتابة، وهو يحتاج

وأما ما يتفرع عن هذه الأقلام الخمسة التى ذكرناها

إلى التحقيق فى وضع الحروف وتركيبها؛ وقلم النّسخ، لأنه تنسخ به الكتب ولذلك وضع بحيث أنّ الكتب لا تحسن كتابتها بغيره، لاعتدال أسطره، ودقّة حروفه والتئام أجزائه؛ وقلم الرّقاع لأنه وضع لكتابة الرّقاع المرفوعة فى الحوائج؛ ألا ترى ما على الرّقاع به «1» من البهجة؟ ولو كتبت بغيره ما حسن موقعها من النّفوس؛ وقلم التواقيع «2» لأنّه وضع لتكتب به التواقيع «3» الصادرة عن الخلفاء والملوك؛ وقلم الثّلث لكتابة المناشير التى تكتب فى قطع الثّلث «4» ؛ هذا ما قيل فى سبب تسمية هذه الأقلام بهذه الأسماء. وأمّا ما يتفرّع عن هذه الأقلام الخمسة التى ذكرناها فلكلّ قلم منها غليظ وخفيف ومتوسّط، فقلم المحقّق يتفرّع عنه خفيفه، ويتفرّع

عنه أيضا قلم الرّيحان «1» ؛ وقلم النّسخ يتفرّع عنه قلم المتن، وهو غليظه، وقلم الحواشى وهو خفيفه، وقلم المنثور، وهو الذى يفصل بين كلّ كلمة وكلمة ببياض؛ وقلم الرّقاع يتفرّع عنه قلم الغبار «2» ، وهو خفيفه، وينزل منه بمنزلة الحواشى من النّسخ، وهو الذى تكتب به الملطّفات «3» والبطائق «4» ، ويتفرّع عنه أيضا قلم المقترن، وهو ما يكتب سطرين مزدوجين، وقد يكتب بغير قلم الرّقاع، لكن لم تجر عليه هذه التسمية، وفى الرّقاع مسلسل؛ وقلم التّواقيع منه ما هو مسلسل، وهو ما يتّصل بعض حروفه ببعض بتشعيرات رقيقة تلتفّ على الحروف؛ وقلم الثّلث يتفرّع عنه وعن المحقّق جميعا قلم يسمّى قلم الأشعار «5» ؛ ولهم أيضا قلم الذّهب «6» ، وهو قد يكون تارة ثلثا وتارة تواقيع إلّا أنه يكون خاليا من التشعير بسبب ترميكه باللّون المغاير للون الذّهب، والترميك هو أن يحبس الحرف بلون غير لونه بقلم رقيق جدّا؛ ولهم أيضا قلم الطّومار «7»

ومنه كامل وغير كامل، فالكامل: الذى إذا جمعت الأقلام كلّها كانت فى غلظه وهو الذى يكتب به على رءوس الدّروج؛ وغير الكامل، هو الطّومار المعتاد؛ فهذه هى الأصول وما يتفرّع عنها. ولهم أيضا أسماء أخر، منها قلم الطور «1» وقلم المنهج، وقلم الطّمغاوات «2» ، وأسماء غير هذه اصطلح عليها الكتّاب؛ فإذا أتقن الكاتب ما ذكرناه من هذه الأقلام وحرّرها، وعرف أوضاعها وقواعدها، وكيفيّة وضع الحروف، وموضع ترقيقها وتغليظها، والمكان الذى تكتب فيه بسنّ القلم وبصدره، وأين يضع الحرف الآخر منه، إلى غير ذلك من شروطها وقواعدها، واتّصف بما قدّمناه فى المؤدّب من الدّيانة والخير والعفّة وحسن الطريقة وصحّة الاعتقاد والتزام السّنّة، فقد استحقّ أن يتصدّى للتعليم والإفادة، ويتعيّن على الطالب الرجوع إليه، والاقتداء بطريقته، والكتابه على خطّه والتزام توقيفه.

[الفن الثالث فى الحيوان الصامت]

[الفنّ الثالث «1» فى الحيوان الصامت] قد جمعت فى هذا الفنّ- أعزّك الله تعالى- من أجناس الحيوان بين الكاسر والكاشر «2» ، والنافر «3» والطائر؛ والصائد والصائل، والناهق والصاهل؛ والحامل والحالب، والّلادغ واللّاسب «4» ؛ والكانس والسانح «5» ، والراسخ والسائح «6» ؛ فمن أسد انفرد عظما بنفسه، وترفّع عن الإلمام بما سواه من جنسه؛ إن وطئ أرضا مالت الوحوش عن آثاره، أو قصد جهة نفرت من جواره؛ وإن فغرفاه «7» أبرز المدى وإن مدّ خطاه قرّب المدى؛ ونمر حديد النّاب، موشّى الإهاب؛ وفهد سريع الوثوب والاختطاف، وكلب إن طفئت النّيران فهو الجالب للأضياف؛ وضبع إن رأت قتيلا طافت به ومالت إليه، وذئب ما رأى بصاحبه دما إلّا أغار عليه؛ إلى غير ذلك من أنواع الوحوش والآرام، والخيل والبغال والأنعام؛ وذوات السّموم القواتل منها وغير القواتل، وأصناف الطّير التى تكون تارة محمولة وتارة حوامل؛ وآونة تختطف من الهواء، وحالة تقتنص الوحش من البيداء؛ وما شاكل منها الكلب

القسم الأول من هذا الفن فى السباع وما يتصل بها من جنسها،

والبهيمه، وما حبس لسماع صوته فعلت قيمته كلّ قيمه؛ وما ينوح ويغرّد، وما يتلو ويردّد؛ وميّزت كلّ حيوان منها بمحاسنه ومناقبه، ونبذته بمعايبه ومثالبه؛ ولولا خشية الإطاله، لوصفت كلّ حيوان منها برساله؛ لكنّى استغنيت بما ألّفته من منقولى، عمّا أصنّفه من مقولى؛ وعلمت أنّنى أقصر عن حقّ هذه الرتبة فأحجمت وأقف دون بلوغ هذه الحلبة فأمسكت؛ وقد تقدّمنى من بالغ [فى] هذا وأطنب ووجد المقال [فبسط «1» ] القول وأسهب «2» ، وحاز المعانى فما ترك لسواه مذهب «3» ؛ فاختصرت عند ذلك المقال، واقتصرت على هذه النّبذة التى أشبهت طيف الخيال؛ ووضعته على أحسن ترتيب، ورتّبته على أجمل تقسيم وتبويب؛ وهو يشتمل على خمسة أقسام. القسم الأوّل من هذا الفنّ فى السباع وما يتّصل بها من جنسها، وفيه ثلاثة [أبواب «4» ] الباب الأوّل فى الأسد والببر والنّمر [ذكر ما قيل في الأسد] ولنبدأ بذكر أسماء الأسد، ثم نذكر ما قيل فى أصناف الآساد وأجناسها وعاداتها فى افتراسها، وما فيها من الجراءة والجبن، وما وصف به الأسد نظما ونثرا ثم نذكر ما سواه، فنقول- وبالله التوفيق-:

أما أسماء الأسد

أمّا أسماء الأسد - فقد بسط الناس فيها القول وزادوا، فمنهم من عدّ له ألف اسم فما دون ذلك، وقد اقتصرنا منها على أشهرها. فمن أسمائه: الأسد، والأنثى أسدة ولبؤة؛ والشّبل والحفص: جروه؛ والشّبلة «1» والحفصة «2» : الأنثى؛ وكناه: أبو الأشبال، وأبو الحارث؛ ومن أسمائه الأعلام: بيهس «3» ، وأسامة، وهرثمة، وكهمس؛ ومن صفاته: الصّمّ، والصّمّة، والمصدّر والصّمصامة «4» ، والهزبر، والقسورة، والدّلهمس، والضّيغم، والغضنفر، والهمام والدّوكس «5» ، والدّوسك، والعلندس «6» ، والعنابس «7» ، والسّيد، والدّرباس، والفرافر

وأما أصناف الآساد وأجناسها

[والقصاقص «1» ] ، والقضاقض، والرّئبال، والضّيثم؛ والخنابس، وعثمثم، والخنابش «2» : اللّبؤة إذا استبان حملها، وكذلك الآفل؛ والهرس «3» : الشديد المراس «4» . وأمّا أصناف الآساد وأجناسها - فالذى يعرفها الناس منها صنفان: أحدهما مستدير الجثّة، والآخر طويلها، كثير الشّعر؛ وعدّ أرسطو من هذا النوع ضروبا كثيرة، حكى عن بعض من تكلم فى طبائع الحيوان قبله أنّ فى أرض الهند سبعا- سمّاه باليونانيّة «5» - فى عظم الأسد وخلقته، ما خلا وجهه فإنّه شبيه بوجه الإنسان ولونه شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، وفى طرفه «6» حمة «7» ، وله صوت يشبه صوت الزّمّارة [وهو قوىّ «8» ] ، ويأكل الناس؛ وذكر أنّ من السباع ما يكون فى عظم الثور وفى خلقته، له قرون سود، طويلها، فى قدر الشّبر، إلّا أنّه [لا «9» ] يحرّك

وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها

الفكّ الأعلى كما يحرّكه «1» الثّور، ولرجليه أظلاف مشقوقة، وهو قصير الذّنب بالنسبة إلى نوعه، ويحفر الأرض بخرطومه، ويستفّ التراب، وإذا جرح هرب، فإن طلب رمح «2» برجليه، ورمى برجيعه على بعد. وأما عاداتها فى حملها ووضعها وحضانتها «3» - فقد قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر: إنّ أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان يقولون: إنّ اللّبؤة لا تضع إلّا جروا واحدا، وتضعه بضعة «4» لحم ليس فيها حسّ ولا حركة، فتحرسه من غير حضانة «5» ثلاثة أيّام، ثم يأتى أبوه بعد ذلك فينفخ فى تلك البضعة المرّة بعد المرّة حتّى تتحرّك وتتنفّس وتنفرج الأعضاء وتشكّل الصورة، ثم تأتيه أمّه فترضعه ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيّام من تخليقه» ؛ واللّبؤة ما دامت ترضع لا يقربها الدّكر ألبتّة؛ فإذا مضى على الجر وستّة أشهر كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريج وطارد الذّكر الأنثى، فإن كانت صارفا «7» أمكنته من نفسها، وإن لم تكن كذلك منعته

وأما عادتها [فى] وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها

ودفعته عن نفسها، وبقيت مع جروها بقيّة الحول وستّة أشهر من الثانى، وحينئذ تألف الذّكر وتمكّنه من نفسها؛ والله أعلم. وأمّا عادتها [فى] وثباتها وثباتها وأفعالها وصبرها وسرعة مشيها وأكلها - فإنّ للأسد [من] بعد الوثبة، واللّصوق بالأرض، والإسراع فى الحضر اذا هرب، والصبر على الجوع، وقلّة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السّباع؛ قالوا: وربّما سار فى طلب القوت ثلاثين فرسخا، وهو لا يأكل فريسة غيره من السباع، وإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها ولو جهده الجوع، وإذا أكل أكلة يقيم يومين وليلتين بلا طعام لكثرة امتلائه، ويلقيه بعد ذلك شيئا يابسا مثل جعر «1» الكلب، وإذا بال رفع إحدى رجليه كالكلب، وإذا فقد أكله صعب خلقه، وإذا امتلأ بالطعام فهو وادع، وأكل الجيف أحبّ إليه من أكل اللّحم [الغريض «2» الغضّ] ، وهو لا يفترس الإنسان للعداوة ولكن للطّعم، فإنّه لو مرّ به وهو شعبان لم يتعرّض له، وهو ينهس «3» ولا يمضغ، ويوصف بالبخر «4» ، ولحم الكلب أحبّ اللّحمان إليه، ويقال: إنّ ذلك لحنقه عليه، فإنه إذا أراد التّطواف فى جنبات القرى ألحّ «5» الكلب فى النّباح عليه والإنذار به، فينهض الناس ويتحرّزون منه، فيرجع

وأما [ما] فى الآساد من الجراءة والجبن

بالخيبة، فهو إذا أراد ذلك بدأ بالكلب ليأمن إنذاره؛ ومن شأنه أنّه إذا أكثر من أكل اللّحم وحسو الدّم وحلت نفسه منهما، طلب الملح ولو كان بينه «1» وبين عرّيسته «2» خمسون ميلا. وأمّا [ما «3» ] فى الآساد من الجراءة والجبن فجرأته معروفة مشهوره، غير منكوره، فمنها أنّه يقبل على الجمع الكثير من غير فزع ولا اكتراث بأحد ولا مهابة له، وقد شاهدت أنا ذلك عيانا، وهو أنّنى ركبت ليلة فى شوّال سنة اثنتين وسبعمائة من (بيسان «4» الغور) إلى (قراوى «5» ) فى نحو خمسة عشر فارسا وجماعة من الرجال بالقسىّ والتّراكيش «6» - وكانت ليلة مقمرة- فعارضنا أسد، ثمّ بارانا وسايرنا على يمنة طريقنا عن غير بعد، بل أقرب من رشقة حجر، لا أقول: من كفّ قوىّ فكان كذلك مقدار ربع ليلة، فلمّا أيس من الظّفر بأحد منّا لتيقّظنا قصّر عنّا، ثم تركنا إلى جهة أخرى. قالوا: والأسد الأسود أكثر جراءة وجهالة وكلبا على الناس؛ قالوا: وإن ألجئ الأسد إلى الهرب أو أحسّ بالصيّادين تولّى وهو يمشى

وأما جبنه

مشيا رفيقا، وهو مع ذلك متلّفت «1» يظهر عدم الاكتراث، فإن تمكّن منه الخوف هرب عجلا حتى يبلغ مكانا يأمن فيه، فإذا علم أنّه أمن مشى متّئدا، وإن كان فى سهل وألجئ إلى الهرب جرى جريا شديدا كالكلب، وإن رماه أحد ولم يصبه شدّ عليه، فإن أخذه لم يضرّه، وإنّما يخدشه ثمّ يخلّيه، كأنّه منّ عليه بعد الظّفر به وهو إذا شمّ أثر الصيّادين عفا أثره بذنبه. وأمّا جبنه - فمنه أنّه يذعر من صوت الدّيك، ومن نقر الطّست وحسّ الطّنبور «2» ، ويفزع من رؤية الحبل الأسود والديك الأبيض والسّنّور والفأرة، ويدهش لضوء النار، ويعتريه ما يعترى الظّباء والوحوش من الحيرة عند رؤيتها وإدمان النظر اليها والتعجّب منها، حتى يشغله ذلك عن التحفّظ والتيقّظ. قالوا: والأسد لا يألف شيئا من السّباع، لأنّه لا يرى له فيها كفؤا فيصحبه، ولا يطأ شىء منها على أثر مشيه، ومتى وضع جلد الأسد مع سائر جلودها تساقطت شعورها؛ والأسد لا يدنو من المرأة الطامث «3» ، وهو إذا مسّ بقوائمه شجر البلّوط «4» خدر «5» ولم يتحرّك من مكانه، وإذا غمره الماء ضعف وبطلت قواه، فربّما ركب الصبىّ على ظهره وقبض على أذنيه ولا يستطيع عن نفسه دفاعا؛ وأخبرنى بعض من سكن

غور «1» الشأم أنّ بعض الغوارنة «2» رأى أسدا فى بعض الأيام وهو رابض على حافة نهر الأردنّ «3» ، وظهره إلى الماء، وذنبه فيه، وهو يرشّ على ظهره وجنبيه بذنبه وكان الغورىّ من جانب الشّريعة «4» [الآخر «5» ] فبادر بعبور الماء، وعدّى الى جهة الأسد برفق وسكون حتّى صار وراءه، ثم قبض الغورىّ على مرقّى فخذى الأسد وجذبه إلى الماء، فهمّ الأسد بالوثوب وضرب الأرض بيديه، فانسحل «6» الرمل من

تحتهما، ولم يستطع إثباتهما عليه، فانحدر إلى الماء، وركبه الغورىّ، وقبض على أذنيه، وضربه بسكّين معه فقتله؛ والغوارنة «1» تتحيّل على قتل السباع بأمور كثيرة مواجهة، والذى وقع لهذا الرجل نادر الوقوع لم أسمع أنّه وقع لغيره، وهو أمر مستفاض «2» عند الغوارنة «3» . قالوا: والأسد لا تفارقه الحمّى، ولذلك الأطبّاء يسمّونها داء الأسد، وعظامه عاسية «4» جدّا، وإن دلك بعضها ببعض خرجت منها النّار كما تخرج من الحجارة وكذلك فى جلده من القوّة والصّلابة ما لا يعمل فيه السلاح إلّا من مراقّ «5» بطنه؛ والأسد طويل العمر؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ شحم الأسد يحلّل الأورام الصّلبة.

ذكر شىء مما وصف به الأسد نثرا ونظما

ذكر شىء مما وصف به الأسد نثرا ونظما قال أبو زبيد الطائىّ يصفه لعثمان بن عفّان- رضى الله عنه- وكان قد لقيه: أقبل يتضالع «1» من بغيه، ولصدره نحيط «2» ، ولبلاعيمه غطيط «3» ؛ ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض «4» ؛ كأنّما يخبط هشيما، أو يطأ صريما «5» ؛ وإذا «6» هامة كالمجنّ «7» ، وخدّ كالمسنّ؛ وعينان سجراوان «8» ، كأنّهما سراجان؛ وقصرة «9» ربله «10» ، ولهزمة «11» رهله؛ وساعد

مجدول، وعضد مفتول؛ وكفّ شثنة «1» البراثن، ومخالب كالمحاجن «2» ؛ وفم أشدق «3» كالغار الأخرق «4» ؛ يفترّ عن معاول مصقوله، غير مفلوله؛ فهجهجنا «5» به ففرفر «6» وبربر «7» ، ثمّ زأر فجرجر؛ ثم لحظ فخلت البرق يتطاير من جفونه، عن شماله ويمينه؛ فأرعشت الأيدى، واصطكّت الأرجل؛ وحجظت «8» العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون. ووصفه بعض الأعراب «9» فقال: له عينان حمراوان مثل وهج الشّرر، كأنّما نقرتا بالمناقير فى عرض حجر؛ لونه ورد، وزئيره رعد؛ هامته عظيمه، وجبهته

شتيمه «1» ؛ نابه شديد، وشره عتيد «2» ؛ إذا استقبلته قلت: أقرع، وإذا استدبرته قلت: أفرع «3» ؛ لا يهاب إذ اللّيل عسعس «4» ، ولا يجبن إذا الصبح تنفّس؛ ثم أنشد: عبوس شموس مصلخدّ «5» مكابر «6» ... جرىء على الأقران للقرن قاهر براثنه شثن «7» وعيناه فى الدّجى ... كجمر الغضى فى وجهه الشرّ طائر يدلّ بأنياب حداد كأنّها ... إذا قلّص الأشداق عنها خناجر ومن التهويلات فى وصف الأسد قول الشاعر: إيّاك لا تستوش «8» ليثا مخدرا «9» ... للهول فى غسق الدّجى دوّاسا مرسا «10» كأمراس «11» القليب جدوله «12» ... لا يستطيع له الأنام مراسا

شثن البراثن كالمحاجن عطّفت ... أظفاره فتخالها أقواسا لان الحديد لجلده فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا مصطكّة أرساغه بعظامه ... فكأنّ بين فصولها «1» أجراسا وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها «2» مقباسا وقال آخر: توقّ- وقاك «3» ربّ الناس- ليثا ... حديد النّاب والأظفار وردا كأنّ بملتقى اللّحيين منه ... مذرّبة «4» الأسنّة أو أحدا وتحسب لمح عينيه هدوءا «5» ... ورجع زئيره برقا ورعدا تهاب الأسد حين تراه منه «6» ... اذا لاقينه «7» فى الغاب فردا تصدّ عن الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تانف أن تصدّا

وقال أبو الطّيّب المتنبّى- رحمه الله-: ورد إذا ورد البحيرة «1» واردا «2» ... ورد الفرات زئيره والنّيلا متخضّب بدم الفوارس لابس ... فى غيله «3» من لبدتيه غيلا فى وحدة الرّهبان إلّا أنّه ... لا يعرف التحريم والتّحليلا وقعت على الأردنّ «4» منه بليّة ... نظمت «5» بها هام الرفاق تلولا يطأ البرى «6» مترفّقا «7» من تيهه ... فكأنّه آس يجسّ عليلا ويردّ غفرته «8» إلى يافوخه ... حتّى تصير لرأسه إكليلا

قصرت مخافته الخطا فكأنّما ... ركب الكمىّ جواده مشكولا وقال عبد الجبّار بن حمديس: وليث مقيم فى غياض منيعة ... أمير على الوحش المقيمة فى القفر يوسّد شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللّصّ السبيل على السّفر هزبرله فى فيه نار وشفرة ... فما يشتوى لحم القتيل على الجمر سراجاه عيناه إذا أظلم الدّجى ... فإن بات يسرى باتت الوحش لا تسرى له جبهة مثل المجنّ ومعطس ... كأنّ على أرجائه صبغة الحبر «1» يصلصل «2» رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه «3» الحمر له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه وهى مضروبة الظهر ويضرب جنبيه به فكأنّما ... له فيهما طبل يحضّ على الكرّ ويضحك فى التّعبيس فكّيه عن مدى ... نيوب «4» صلاب ليس تهتمّ بالفهر «5» يصول بكفّ عرض شبرين عرضها ... خناجرها أمضى من القضب البتر يجرّد منها كلّ ظفر كأنّه ... هلال بدا للعين فى أوّل الشهر. وقال بشر بن عوانة الفقعسىّ «6» يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما: أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا تبهنس «1» إذ تقاعس «2» عنه مهرى ... محاذرة فقلت: عقرت مهرا أنل قدمىّ ظهر الأرض إنّى ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا وقلت له وقد أبدى نصالا ... مذرّبة «3» ووجها مكفهرّا يدلّ بمخلب وبحدّ ناب ... وباللّحظات تحسبهنّ جمرا وفى يمناى ماضى الحدّ أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا «4» ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة «5» غداة لقيت عمرا وقلبى مثل قلبك لست «6» أخشى ... مصاولة ولست «7» أخاف ذعرا

وأنت تروم للأشبال قوتا ... وأطلب «1» لابنة الأعمام مهرا ففيم تروم مثلى أن يولّى ... ويترك فى يديك النفس قسرا «2» ؟! نصحتك فالتمس يا ليث غيرى ... طعاما إنّ لحمى كان مرّا ولمّا ظنّ أنّ الغشّ نصحى ... وخالفنى كأنّى قلت هجرا دنا «3» ودنوت من أسدين «4» راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علىّ أخرى هززت له الحسام فخلت أنّى ... شققت «5» به من الظلماء فجرا حساما لو رميت به المنايا ... لجاءت نحوه تعطيه عذرا وجدت له بجائفة» رآها ... بمن كذبته ما منّته غدرا «7»

وأما الببر [وما قيل فيه]

بضربة فيصل تركته شفعا ... وكان كأنّه الجلمود وترا فخرّ مضرّجا بدم كأنّى ... هدمت به بناء مشمخرّا وقلت له: يعزّ علىّ أنّى ... قتلت مناسبى جلدا وقهرا ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا تحاول أن تعلّمنى فرارا ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا فلا تبعد لقد لاقاك حرّ ... يحاذر أن يعاب فمتّ حرّا وأمّا الببر [وما قيل «1» فيه] فهو سبع هندىّ، ويقال: حبشىّ؛ وهو فى صورة أسد كبير، أزبّ «2» ملمّع بصفرة وسواد، ويقال: إنّه متولّد بين الزّبرقان «3» واللّبؤة؛ وفى طبعه أنّه يسالم النّمر وغيره من السباع ما لم يستكلب، فاذا استكلب خافه كلّ شىء كان يسالمه، وهو والأسد متوادّان أبدا، ومودّته معه كمودّة الخنافس والعقارب والحيّات والوزغ؛ ويقال: إنّ الأنثى منه تلقح بالريح، ولهذا يقال: إنّ عدوه يشبه الرّيح سرعة، ولا يقدر أحد على صيده؛ وإنّما تسرق جراؤه فتحمل فى مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السوابق، فإن أدركهم أبوها رمى اليه بقارورة منها، فيشتغل بالنظر إليها والفكرة «4»

ذكر ما قيل فى النمر

فى إخراج جروه منها، فيفوته الآخذ لها؛ وزعم قوم أنه إذا استكلب ورآه الأسد رقد له حتّى يبول فى أذنه خوفا منه ورهبة له؛ هكذا نقل صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر، ولم أقف على شعر فى وصف الببر ولا رسالة فأوردها. ذكر ما قيل فى النّمر والنّمر له أسماء، منها السّبندى والسّبنتى، والطرح «1» : [ولده «2» ] ، وجمعه طروح؛ والتلوة «3» والختعة: [الأنثى «4» ] . وزعم أهل البحث عن طبائع الحيوان والاطّلاع على أسراره أنّ النّمرة لا تضع ولدها إلّا وهو مطوّق بأفعى، وهى تعيّث «5» وتنهش «6» إلّا أنّها لا تقتل؛ وفى طبع النّمر وعادته أنّه يشبع لثلاثة أيّام، ويقطعها بالنوم، ثمّ يخرج فى اليوم الرابع، ومتى لم يصد لم يأكل، ولا يأكل من صيد غيره كالأسد، وينزّه نفسه عن أكل الجيف ولو مات جوعا؛ وهو لا يأكل لحوم الناس إلّا للتداوى من داء يصيبه؛ وفيه

زعارّة «1» خلق، وحدّة نفس، وتجهّم وجه، وشدّة غيظ، ولهذا يقال فى الرجل إذا اشتدّ غضبه وكثر غيظه على عدوّه: «لبس له جلد النّمر» ، أى «2» تخلّق بأخلاقه؛ والنّمر بعيد الوثبة، وربّما وثب أربعين ذراعا صعودا إلى مجثمه الذى يأوى اليه، وقد شوهد وهو يثب فى اللّيل فيصير فى داخل زريبة الغنم فيأخذ الشاة فيحذفها إلى خارج الزّريبة، ثمّ يثب فيسبقها إلى الأرض، ويتناولها من الهواء قبل أن تسقط على الأرض؛ ومن خصائصه الغريبة أنّ المعضوض منه يطلبه الفأر حيث كان، ويقصده ليبول عليه، فإن ظفر به وبال عليه مات؛ والناس يحترزون على من يجرحه النّمر غاية الاحتراز، والفأر يطلب المجروح كلّ الطلب، ومن أعجب ما سمعت أنّ إنسانا جرحه النّمر فاحترز على نفسه من الفأر، فركب فى مركب، ووقف به فى الماء وقد وثق بذلك، وظنّ أنّ الفأر لا يصل إليه، فاتّفق لنفوذ القضاء المقدّر الذى لا حيلة فى دفعه أنّ حدأة اختطفت فأرا من الأرض، وطارت فخاذت المجروح فلمّا سامته الفأر بال عليه فمات. وقد وجد فى بعض الكتب القديمة: أنّ النّمر إذا عضّ إنسانا أخذ زهر السّمّاق «3» ودلك به الجرح، فإنّ الفأر لا يقاربه، ويكون فى ذلك شفاؤه؛ وأخبرنى من عاين ذلك عند التّجربة؛ والنّمر يحبّ شرب الخمر، وبها يصاد، فإنه اذا سكر نام؛ وزعموا أنّه يتولّد بينه وبين اللّبؤة سبع يسمّى الذراع «4» على قدر الذئب العظيم، كثير الجراءة، لا يأوى معه شىء من السباع والوحوش.

ووصف كشاجم النّمر من طرديّة «1» فقال: وكالح كالمغضب المهيج ... جهم المحيّا ظاهر النّشيج «2» يكشر عن مثل مدى العلوج «3» ... أو كشبا أسنّة الوشيج مدبّج الجلد بلا تدبيج ... كأنّه من نمط «4» منسوج تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك فى بروج ولم أقف فى وصف النّمر على غير ذلك فأذكره.

الباب الثانى من القسم الأول من الفن الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنمس

الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى الفهد والكلب والذئب والضبع والنّمس ذكر ما قيل فى الفهد يقال للذّكر: الفهد، وللأنثى: فهدة «وهما البنّة، ولذلك يكنى أبابنّة «1» » ، وجروه الهوبر، والأنثى هبيرة «2» ؛ قال أرسطو: إنّ الفهد متولّد بين أسد ونمرة، أو لبؤة ونمر؛ ويقال: إنّ الفهدة إذا حملت وثقل حملها حنا عليها كلّ ذكر يراها من الفهود، ويواسيها من صيده، فاذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدّته لنفسها، حتى اذا علّمت أولادها الصيد تركتها؛ وبالفهد يضرب المثل فى شدّة النوم؛ قال بعض الشعراء: رقدت مقلتى وقلبى يقظا ... ن يحسّ الأمور حسّا شديدا يحمد النّوم فى الجواد كمالا ... يمنع الفهد «3» نومه أن يصيدا

وقال الجاحظ: قال صاحب «1» المنطق: والفهد إذا اعتراه الداء الذى يقال له: (خانقة الفهود) أكل العذرة فبرأ منه؛ قال: والسباع تشتهى رائحة الفهود، والفهد يتغيّب عنها «2» ، وربّما قرب بعضها من بعض فيطمع الفهد فى نفسه، فإذا أراده الفهد «3» وثب عليه السبع «4» فأكله؛ قالوا: وليس شىء فى الحيوان فى جرم الفهد إلّا والفهد أثقل منه وأحطم لظهر الدابّة؛ والإناث أصعب خلقا وأكثر جراءة وإقداما من الذكور؛ ومن خلق الفهد الحياء، وذلك أنّ الرّجل يمرّ بيده على سائر جسده فيسكن لذلك، فإذا وصلت يده إلى مكان الثّفر «5» قلق حينئذ وغضب؛ ويقال: أوّل من صاد بالفهد كليب وائل، وقيل: همّام بن مرّة، وكان صاحب لهو وطرب؛ وأوّل من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وأكثر من اشتهر باللّعب بها أبو مسلم الخراسانىّ صاحب الدّعوة العبّاسيّة، وأوّل من استسنّ حلقة «6» الصيد المعتضد بالله؛ والمواضع التى توجد فيها الفهود ما يلى بلاد الحجاز إلى اليمن، وما يلى

الحجاز إلى العراق، وما يلى بلاد الهند الى تبّت «1» ، وتوجد أيضا فى برّيّة عيذاب من أعمال قوص من الدّيار المصريّة. وقد ولع الشعراء والفضلاء بوصف الفهود نظما ونثرا؛ فمن ذلك قول أبى إسحاق الصابى فى رسالة طرديّة «2» جاء منها: ومعنا فهود أخطف من البروق، وأسرع من السهم حين المروق؛ وأثقف «3» من اللّيوث، وأجرى من الغيوث؛ وأمكر من الثعالب وأدبّ من العقارب؛ خمص الخصور قبّ «4» البطون، رقش «5» المتون؛ حمر الآماق خزر «6» الأحداق، هرت «7» الأشداق؛ عراض الجباه غلب «8» الرّقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب؛ تلحظ الظّباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسّها من أقصى نهاياتها؛ تتبع مرابضها وآثارها، وتشمّ روائحها وأبشارها.

ومن رسالة طرديّة لضياء الدّين نصر الله بن الأثير الجزرىّ يصف فهدا بعد ان ذكر ظبيا، قال: فأرسلنا عليه فهدا سلس الضّريبه «1» ، ميمون النقيبه، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبه؛ كأنما ينظر من جمره، ويسمع من صخره، ويطأ من كلّ برثن على شفره؛ وله إهاب قد جبل «2» من ضدّين: بياض وسواد، وصوّر على أشكال العيون فتطلّعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد؛ وهو يبلغ المدى الأقصى فى أدنى وثباته، ويسبق الفريسة ولا يقبضها إلّا عند التفاته. وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصفها بعد أن وصف الكلب من ابيات: بذلك أبغى الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الأكفال «3» رحب التّرائب مرقّقة الأذناب نمر «4» ظهورها ... مخطّطة الاذان غلب «5» الغوارب

مدنّرة «1» ورق «2» كأنّ عيونها ... حواجل «3» تستوعى «4» متون الرّواكب اذا قلّبتها فى الحجاج «5» حسبتها ... سنا ضرم فى ظلمة الليل ثاقب مولّعة «6» فطس «7» الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خطّ كاتب

نواصب للآذان حتّى كأنّها «1» ... مداهن، للإجراس «2» من كلّ جانب ذوات «3» أشاف «4» ركّبت فى أكفّها ... نوافذ فى صمّ الصخور نواشب ذراب «5» بلا ترهيف قين «6» كأنّها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب فوارس ما لم تلق حربا، ورجلة «7» ... إذا آنست بالبيد شهب «8» الكتائب

تروّ وتسكين يكون دريئة ... لهنّ «بذى الأسراب «1» » فى كلّ لاحب «2» تضاءل حتّى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الضّبرات «3» غير كواذب حراص يفوت البرق أمكث «4» جريها ... ضراء «5» مبلّات «6» بطول التّجارب توسّد أجياد الفرائس «7» أذرعا ... مرمّلة «8» تحكى عناق الحبائب وقال ابن المعتزّ: ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير على أربع كالعذب «9» ملمّعة «10» من نتاج الرّياح ... تريك على الأرض شيئا عجب

تضمّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبّة من لا يحب إذا ما رآى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب لها مجلس فى مكان الرّديف ... كتركيّة قد سبتها العرب ومقلتها سائل كحلها ... وقد حلّيت سبحا من ذهب متى أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطلب غدت وهى واثقة أنّها ... تقوم بزاد الخميس اللّجب وقال محمد بن أحمد السّرّاج يصفه: وأهرت «1» الشّدق فى فيه وفى يده ... ما فى الصوارم والخطّيّة الذّبل تساهم اللّيل فيه والنهار معا ... فقمّصاه «2» بجلباب من المقل والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلّا على وجل وقال آخر: وأهرت «3» الشّدق بادى السّخط مطّرح الحياء ... جهم المحيّا سيئ الخلق والشمس مذ لقّبوها بالغزالة أعطته ... الرّشاء «4» جدا «5» من ثوبها اليقق «6»

ذكر ما قيل فى الكلاب

ونقّطته حباء «1» كى يسالمها ... على «2» المنايا نعاج «3» الرمل بالحدق وقال آخر: تغاير اللّيل فيه والنهار معا ... فحليّاه بجلباب من الحدق والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه من شدّة الحنق «4» ذكر ما قيل فى الكلاب يقال: إن بين الكلب والضّبع عداوة شديدة، وذلك أنه إذا كان فى مكان مرتفع ووطئت الضّبعة «5» ظلّه فى القمر رمى نفسه إليها مخذولا فأكلته؛ ويقال: إنّ الإنسان متى حمل لسان ضبع لم ينبح عليه كلب؛ ومتى دهن كلب بشحمها جنّ؛ وفى طبع الكلب أنه يحمى ربّه، ويحمى حريمه شاهدا وغائبا، ونائما ويقظان؛ والكلب أيقظ الحيوان عينا فى وقت حاجته «6» الى النوم، وأنومها نهارا عند استغنائهم عن حراسته؛ ومن عجيب أمره أنه يكرم الجلّة من الناس وأهل الوجاهة؛ فلا ينبح على أحد منهم، وربّما حاد عن طريقهم [وينبح «7» ] على الأسود والوسخ الثوب والزّرىّ الحال والصغير.

وأما ما فى الكلب من المنافع الطيبة

وأمّا ما فى الكلب من المنافع الطيّبة - فقد قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ بول الكلب يستعمل على الثآليل «1» ، ودم الكلب لنهوشه «2» ولسمّ السهام «3» الأرمنيّة «4» ؛ وقال إبراهيم بن هرمة- رحمة الله تعالى عليه-: أوصيك خيرا به فإنّ له ... سجيّة لا أزال أحمدها يدلّ ضيفى علىّ فى غسق الليل ... إذا النار نام موقدها وقال أيضا: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم فصل قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فى كتاب الحيوان: وزعموا أنّ ولد الذئب [من الكلبة «5» ] يقال له: الدّيسم، وروى لبشّار بن برد فى ديسم العنزىّ أنه قال: أديسم يا ابن الذئب من نسل زارع ... أتروى هجائى سادرا غير مقصر قال: وزارع، اسم الكلب، يقال للكلاب: أولاد زارع؛ قال: وزعم صاحب «6» المنطق أنّ أصنافا أخر من السباع المتزاوجات المتلاقحات مع اختلاف الجنس والصورة

معروفة النّتاج مثل الذئاب التى تسفد الكلاب فى أرض رومية «1» ؛ قال: وتتولّد أيضا كلاب سلوقيّة بين ثعالب وكلاب؛ قال: وبين الحيوان الذى يسمّى باليونانيّة «طاغريس «2» » والكلب تحدث هذه الكلاب الهنديّة؛ قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى؛ هذا ما حكاه الجاحظ عن صاحب المنطق. وحكى الجاحظ عن بعض البصريّين عن بعض أصحابه، قال: وزعموا أنّ النّتاج الأوّل يخرج صعبا وحشيّا لا يلقّن ولا يؤلّف؛ وزعم لى بعضهم عن رجل من أهل الكوفة من بنى تميم أنّ الكلبة تعرض لهذا السبع حتى تلقح، ثم تعرض لمثله مرارا حتى يكون جرو البطن الثالث قليل الصعوبة يقبل التلقين، وأنّهم يأخذون إناث الكلاب ويربطونها فى تلك البرارىّ، فتجىء هذه السباع فتسفدها، قال: وليس فى الأرض أنثى يجتمع على حبّ سفادها، ولا ذكر يجتمع له من النّزاع «3» إلى سفاد الأجناس المختلفة أكثر فى ذلك من الكلب والكلبة؛ وقال: اذا ربطوا هذه الكلاب الإناث فى تلك البرارىّ، فإن كانت هذه السباع هائجة سفدتها، وإن لم تكن السباع هائجة فالكلبة مأكولة؛ قال الجاحظ: ولو تمّ للكلب معنى السّبع وطباعه ما ألف الإنسان واستوحش «4» من السّبع، وكره الغياض، وألف الدّور، واستوحش من البرارىّ

وجانب القفار، وألف المجالس والدّيار؛ ولو تمّ له معنى البهيميّة فى الطبع والخلق والغذاء ما أكل الحيوان، وكلب «1» على الناس، نعم حتّى ربّما وثب على صاحبه؛ وذكر من معايب الكلب وذمّه، فقال: إنّه حارس محترس منه، ومؤنس شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الجناية «2» على إلفه، وانما قبلوه «3» حين قبلوه على أن ينذرهم بموضع السارق، وتركوا طرده لينبّههم على مكان المبيّت «4» ، وهو أسرق من كلّ سارق، وأدوم جناية من ذلك المبيّت» ، فهو سرّاق وصاحب بيات، وأكّال للحوم الناس إلّا أنّه يجمع «6» سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدا يمشى فى خزانة «7» أو مطبخ أو فى عرصة دار أو فى طريق أو برارىّ، أو على ظهر جبل أو فى بطن واد إلّا وخطمه «8» أبدا فى الأرض يشمّم ويستروح؛ وإن كانت الأرض بيضاء حصّاء «9» ، أو دوّيّة «10» ملساء، أو صخرة خلقاء «11» ، حرصا وجشعا، وشرّها وطمعا، نعم حتّى

تجده أيضا لا يرى كلبا إلّا شمّ استه، ولا يشمّ غيرها منه، ولا تراه يرمى بحجر أبدا إلّا رجع إليه فعضّ عليه، لأنه لمّا كان لا يكاد يأكل إلّا شيئا رموا به اليه صار ينسى لفرط شرهه وغلبة الجشع على طبعه أنّ الرامى إنما «1» أراد عقره أو قتله، فيظنّ لذلك أنه إنّما أراد إطعامه والإحسان اليه، كذلك يخيّل اليه فرط النّهم، وتوهمه غلبة الشّره، ولكنّه رمى «2» بنفسه على الناس عجزا ولؤما، وفسولة «3» ونقصا، وخاف السباع واستوحش من الصّحارى؛ وسمعوا بعض المفسّرين يقول فى قوله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : إنّ المحروم هو الكلب؛ وسمعوا فى المثل: «اصنع المعروف ولو إلى كلب» ، فلذلك عطفوا عليه، واتّخذوه فى الدّور، على أنّ ذلك لا يكون إلّا من سفلتهم وأغبيائهم، ومن قلّ تقزّزه «4» ، وكثر جهله، وردّ الآثار إمّا جهلا وإمّا معاندة؛ ووصف «5» فى ذمّه ومعايبه ما ذكره صاحب الدّيك من ذمّ الكلاب، وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، من لؤمها وخبثها «6» وضعفها وشرهها وغدرها وبذائها وجهلها وتسرّعها ونتنها وقذرها، وما جاء فى الآثار من النّهى

عن اتّخاذها وإمساكها، ومن الأمر بقتلها وإطرادها «1» ، ومن كثرة جناياتها وقلّة ودّها «2» ، وضرب المثل بلؤمها ونذالتها وقبحها وسماجة نباحها وكثرة أذاها وتقذّر «3» المسلمين من دنوّها «4» ، وأنّها تأكل لحوم الناس، وأنّها مطايا الجنّ، ونوع من المسخ، وأنّها تنبش القبور، وتأكل الموتى، وأنّها يعتريها الكلب من أكل لحوم الناس، إلى غير ذلك من مساويها، ثم ذكر قول من عدّد محاسنها وصنّف مناقبها وأخذ فى ذكر أسمائها وأنسابها وأعراقها وتفدية الرجال لها، وذكر كسبها وحراستها ووفائها وإلفها وجميع منافعها، والمرافق التى فيها، وما أودعت من المعرفة الصحيحة والفطنة العجيبة، والحسّ اللّطيف، والأدب المحمود، وصدق الاسترواح، وجودة الشّمّ، وذكر حفظها وإتقانها واهتدائها، وإثباتها لصور أربابها وجيرانها، ومعرفتها بحقوق الكرام، وإهانتها اللّئام، وصبرها على الجفاء، واحتمالها للجوع، وشدّة منّتها «5» وكثرة يقظتها، وعدم «6» غفلتها، وبعد أصواتها، وكثرة نسلها، وسرعة قبولها ولقاحها مع «7» اختلاف طبائع ذكورتها «8» والذّكورة «9» من غير جنسها، وكثرة أعمامها وأخوالها

أما فى الخلقة

وتردّدها فى أصناف السّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وغير ذلك من محاسنها؛ وأورد ذلك بألفاظ طويلة، وأدلّة كثيرة، واستطرادات يطول الشرح فى ذكرها فأضربنا عن ذلك رغبة فى الاختصار؛ فلنذكر ما يحتاج الكاتب الى الاطّلاع عليه ويدور فى ألفاظ الكتّاب من وصف كلاب الصّيد، التى لا بدّ للكاتب من معرفة جيّدها وأفعالها، ليضمّنه ما يصدر عنه من الرسائل الطّرديّة، فنقول: دلائل النّجابة والفراهة «1» فيها تعرف من خلقتها وألوانها ومولدها. أمّا فى الخلقة - فقد قالوا: طول ما بين اليدين والرجلين، وقصر الظّهر وصغر الرأس، وطول العنق، وغضف «2» الأذنين، وبعد ما بينهما، وزرقة «3» العينين ونتوء الجبهة وعرضها، وقصر اليدين. وأمّا فى الألوان ، فإنه يقال: السّود أقلّ صبرا على الحرّ والبرد، والبيض أفره اذا كنّ سود العيون؛ وقد قال قوم: إنّ السّود أصبر على البرد وأقوى. وأمّا فى ولادتها - فإنه يقال: إذا ولدت الكلبة جروا واحدا كان أفره «4» من أبويه، وإن ولدت ذكرا وأنثى كان الذكر أفره «5» ، وإن ولدت ثلاثة فيها أنثى شبه الأمّ كانت أفره «6» الثلاثة، وإن كان فى الثلاثة ذكر واحد فهو أفره «7» .

ذكر شىء مما وصفت به كلاب الصيد نثرا ونظما

ذكر شىء ممّا وصفت به كلاب الصيد نثرا ونظما قال أبو إسحاق الصّابى يصفها من رسالة طرديّة: ومعنا كلّ كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب؛ حلو الشمائل، نجيب المخايل؛ حديد الناظرين، أغضف «1» الأذنين، أسيل الخدّين، مخطف «2» الجنبين؛ عريض الزّور «3» ، متين الظّهر؛ أبىّ النفس، ملهب الشدّ؛ لا يمسّ الأرض إلّا تحليلا «4» وإيماء، ولا يطؤها إلّا إشارة وإيحاء. وقال بعض الشعراء: أبعث كلبا يكسر اليحمورا «5» ... مجرّبا مدرّبا صبورا يأنف أن يشاكل الصّقورا ... منفردا بصيده مغيرا ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبّرت نقوشها تحبيرا إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا حتفا «6» لما عنّ له مبيرا «7» ... أعجز أن أرى له نظيرا

وقال أبو نواس: هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسف «1» المقود من جذابه «2» كأنّ متنيه لدى انسلابه «3» ... متنا شجاع «4» لجّ فى انسيابه كأنّما الأظفور فى قنابه «5» ... موسى صناع ردّ فى نصابه «6» تراه فى الحضر «7» إذا هاهى «8» به ... يكاد أن يخرج من إهابه ترى سوام الوحش إذ تحوى به ... يرحن أسرى ظفره ونابه وقال أيضا: كأنّ لحييه «9» لدى افتراره «10» ... شكّ «11» مسامير على طواره «12»

سمع «1» إذا استروح «2» لم تماره ... إلّا بأن يطلق من عذاره فانصاع «3» كالكوكب فى انحداره ... لفت المشير موهنا «4» بناره شدّا «5» إذا أخصف «6» فى إحضاره ... خرّق أذنيه شبا أظفاره. وقال بعض الأندلسيّين «7» : [وأغضف «8» تلقى أنفه فكأنّما ... يقود به نور من الصبح أنور] إذا ألهبته شهوة الصّيد طامعا ... رأيت عقيم الرّيح عنه تقصّر

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة: ومورّس «1» السربال يخلع قدّه «2» ... عن نجم رجم فى سماء غبار يستنّ فى سنن الطريق وقد عفا ... قدما فيقرأ أحرف الآثار عطف الضّمور سراته «3» فكأنّه ... والنّقع يحجبه هلال سرار «4» يفترّ عن مثل النّصال وإنّما ... يمشى على مثل القنا الخطّار وقال آخر: ومؤدّب الآساد يمسك صيده ... متوقّفا «5» عن أكله كالصائم صبّ «6» اذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم

وقال آخر: وما الظّبى منه فى حشاشة «1» نفسه ... ولكنّه كالطفل فى حجر أمّه يلازمه دون اخترام «2» كأنّما ... تعلّق خصم عند قاض بخصمه وقال ابن المرغرىّ «3» النصرانىّ الأندلسىّ منشدا: لم أر ملهّى لذى اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص كمثل خطلاء «4» ذات جيد ... أتلع «5» مصفرّة القميص كالقوس فى شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص لو أنّها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص محبولة «6» الظهر لم يخنه ... لحوق بطن به خميص اتّخذت أنفها دليلا ... قاد إلى الكانس العويص

وكلبة «1» تاهت على الكلاب ... بجلدة صفراء كالزّرياب «2» تنساب مثل الحيّة المنساب «3» ... كأنّها تنظر من شهاب «4» وقال أحمد بن زياد بن أبى كريمة يصف كلب صيد من قصيدة طويلة، أوّلها: وغبّ غمام مزّقت عن سمائه ... شآمية «5» حصّاء جون السحائب «6» مواجه «7» طلق لم يردّد جهامه ... تذاؤب «8» أرواح الصّبا والجنائب بعثت وأثواب الدّجى قد تقلّصت ... بغرّة مشهور من الصبح ثاقب

وقد لاح ناعى الليل حتّى كأنّه ... لسارى الدجى فى الفجر قنديل راهب بها ليل «1» لا يثنيهم عن عزيمة ... وإن كان جمّ الرّشد لوم «2» الأقارب لتجنيب «3» غضف كالقداح لطيفة ... مشرّطة «4» آذانها بالمخالب تخال سياطا فى صلاها «5» منوطة ... طوال الهوادى «6» كالقداح الشوازب «7» اذا افترشت خبتا «8» أثارت بمتنه ... عجاجا وبالكذّان «9» نار الحباحب «10»

تفوت خطاها الطّرف سبقا كأنّها ... سهام مغال «1» أو رجوم الكواكب طراد الهوادى «2» لاحها «3» كلّ شتوة ... بطامسة الأرجاء مرت «4» المسارب تكاد من الأحراج «5» تنسلّ كلّما ... رأت شبحا لولا اعتراض المناكب تسوف «6» وتوفى كلّ نشز «7» وفدفد «8» ... مرابض «9» أبناء النّفاق «10» الأرانب كأنّ بها ذعرا يطير قلوبها ... أنين المكاكى «11» أو صرير الجنادب

تدير عيونا ركّبت فى براطل «1» ... كجمر الغضى خزرا «2» ، ذراب الأنايب «3» إذا ما استحثّت لم يجن «4» طريدها ... لهنّ ضراء «5» أو مجارى المذانب «6» وإن باصها «7» صلتا «8» مدى الطّرف أمسكت ... عليه بدون الجهد سبل المذاهب تكاد تفرّى «9» الأهب عنها إذا انتحت ... لنبأة «10» شخت «11» الجرم عارى الرواجب «12»

ذكر ما قيل فى الذئب

كأنّ غصون الخيزران متونها ... إذا هى جالت فى طراد الثّعالب كواشر عن أنيابهنّ كوالح ... مذلّقة «1» الآذان شوس «2» الحواجب كأنّ بنات القفر «3» حين تفرّقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب ذكر ما قيل فى الذئب والذئب له أسماء نطقت بها العرب، ذكره ذئب، والأنثى ذئبة وسلقة وسيدانة «4» ، ويكنى أبا جعدة، ومن أسمائه: نهشل، وأويس، وذؤالة، وأشبة، ونشبة، وكساب، وكسيب «5» ، والعسعاس، والعسّاس، والخيعل، والعملّس، والطّملّ «6» ، والشّيذمان «7» ، والشّيمذان، والخيتعور، والقلّيب، والعلّوش، ورئبال، والسّرحان

ومصدّر، والعسول، والنّسول، والخاطف، والأزلّ، والأرسح: القليل لحم الوركين، والعمرّد. ويقال لولد الذئب: جرموز، والأنثى: جعدة «1» . ويقال: إن الذئب إذا لم يجد ما يأكله استعان بإدخال النسيم فى فيه، فيقتات به؛ وجوفه يذيب العظم، ولا يذيب نوى التمر؛ وقال بعض من اعتنى بسرّ طبائع الحيوان: إنه لا يلتحم عند السّفاد إلا الذئب والكلب، وهو يسفد مضطجعا على الأرض، وذكره عظم؛ والذئب موصوف بالانفراد والوحدة وشدّة التوحّش؛ وإذا خفى عليه موضع الغنم عوى ليؤذنهم بمكانه، ويعلمهم بقربه، فاذا حضرت الكلاب إلى الناحية التى هو فيها راغ عنها الى جهة الغنم التى ليس فيها كلب؛ وهو لا يعود إلى فريسة بعد أن يشبع منها؛ وهو ينام بإحدى عينيه ويفتح الأخرى، فإذا اكتفت النائمة وأخذت حقّها من النوم فتحها ونام بالأخرى؛ فهذا أبدا دأبه فى نومه؛ وهو قوىّ حاسّة الشّمّ، قيل: إنّه يشمّ من فرسخ؛ وأكثر ما يعترض الغنم وقت الصبح عند توقّعه فترة الكلاب ونومها؛ ومن عادة الذئاب أنّه إذا افترس ذئبان شاة قسماها على شطرين بينهما بالسويّة؛ والذئب إذا وطئ ورق العنصل «2» مات لوقته؛ وبينه وبين الغنم معاداة عظيمة، فمنها أنّه إذا جمع بين وتر عمل من أمعاء ذئب وبين أوتار عملت من أمعاء الغنم وضرب بها

لا يسمع لها صوت؛ واذا اجتمع جلد شاة مع جلد ذئب تمعّط «1» جلد الشاة؛ والذئب إذا كدّه الجوع عوى، فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض، فمن ولّى منها وثب الباقون عليه فأكلوه، وهو إذا تعرّض لإنسان وخاف العجز عنه عوى، فيسمعه غيره من الذئاب، فتقبل على الإنسان، فإذا أدمى الإنسان منها واحدا وثب الباقون على المدمى فمزّقوه وتركوا الإنسان، ولذلك قال بعض الشعراء «2» يعاتب صديقا له أعان عليه فى مصيبة نزلت به: وكنت كذئب السوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أعان على الدّم والذئب لا يواجه الإنسان، وإنما يأتيه من ورائه، فإن وجد الإنسان ما يسند ظهره إليه عجز الذئب عن افتراسه. وقد وصف الشعراء الذئب بما ذكرناه من عادته وطبعه، فقال حميد بن ثور: ونمت كنوم الذئب عن ذى حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع ترى طرفيه يعسلان «3» كليهما «4» ... كما اهتزّ عود النّبعة المتتابع ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع وقال إبراهيم بن خفاجة: ولربّ روّاغ هنالك أنبط «5» ... ذلق «6» المسامع أطلس «7» الأطمار

يجرى على حذر فيجمع بسطه «1» ... يهوى فينعطف انعطاف سوار والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من جهيزة» قالوا: وجهيزة عرس الذئب، لأنّها تدع ولدها وترضع ولد الضّبع «2» ، وهو معنى قول ابن جذل «3» الطّعان: كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا وقول الآخر: كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تربّ وترضع ويقولون: إنّ الضّبع إذا قتلت أو صيدت فإنّ الذئب يأتى أولادها باللّحم وأنشدوا قول الكميت: كما خامرت فى حضنها «4» أمّ عامر ... لدى الحبل «5» حتّى عال «6» أوس عيالها وأوس، هو الذئب كما تقدّم «7» فى أسمائه.

ذكر ما قيل فى الضبع

ذكر ما قيل فى الضبع يقال: إنّ الضّبع كالأرنب، تكون مرّة «1» ذكرا ومرّة «2» أنثى، وهم يسمّون الذكر والأنثى: الضبع «3» والذّيخ «4» ، ومن أسمائها: حضاجر، وجيأل، وجعار، وقثام، ونقاث، والعرفاء، لطول عرفها، والعثواء لنفول «5» شعرها، والعرجاء، والخامعة، وأمّ عامر وأمّ هنبر «6» ، وأمّ خنّور؛ وولدها الفرعل؛ وحجرها الوجار. والضبعة «7» مولعة بنبش القبور، وإنّما ذلك لشهوتها فى لحوم الناس؛ ومن عاداتها إذا كان القتيل بالعراء وورم وانتفخ ذكره تأتيه فتركبه وتقضى حاجتها منه، ثم تأكله؛ وهى متى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه، فاذا مال رأسه وظهر حلقه ذبحته بأسنانها، وشربت دمه؛ وهى فاسقة، لا يمرّ بها حيوان من نوعها إلّا تعرّضت له حتّى يعلوها؛

والعرب تضرب المثل بها فى الفساد، فإنّها إذا وقعت فى الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفى به الذئب؛ وإذا اجتمع الذئب والضّبع فى الغنم سلمت، فإنّ كلّ واحد منهما يمنع صاحبه، ولذلك تقول العرب فى دعائها للغنم: «اللهمّ ضبعا وذئبا» ؛ والضبع إذا وطئت ظلّ الكلب فى القمر وهو على سطح وقع فتأكله؛ وإذا دخل الرجل وجارها ولم يسدّ منافذ الضوء، ثمّ صار إليها من الضياء ولو بقدر سمّ الخياط، وثبت إليه فقتلته؛ وان أخذ معه حنظلا أمن سطوتها؛ وتوصف بالحمق والموق «1» ، وذلك لأنّ من يريدون صيدها يقفون على باب وجارها ويقولون: «أطرقى أمّ طريق «2» ، خامرى «3» أمّ عامر» فاذا سمعت كلامهم انقبضت، فيقولون: «ابشرى بكمر «4» الرّجال، ابشرى بشاء هزلى وجراد عظلى «5» » وهم مع ذلك يشدّون يديها ورجليها وهى ساكنة لا تتحرّك، ولو شاءت لأجهزت عليهم وقتلتهم وخلّصت نفسها؛ وهذا

ذكر ما قيل فى النمس

القول فيما أظنّ من خرافات العرب؛ والضبع تلد من الذئب جروا «1» يسمّى العسبار، ويكون منفردا بنفسه، لا يألف السّباع، ويثب على الناس والدوابّ؛ وهى توصف بالعرج، وفيها يقول بعض الأعراب «2» : من العثو «3» لا يدرى أرجل شمالها ... بها الظّلع «4» لمّا هرولت أم يمينها ذكر ما قيل فى النّمس والعرب تسمّى النّمس الظّربان، وسمّاه أبو عبيد «5» الظّرباء «6» ؛ وهو على قدر الهرّ، وفى قدر الكلب القلطىّ «7» ؛ وهو منتن الرّيح ظاهرا وباطنا، ولونه إلى الشّبهة، طويل الخطم «8» جدّا، وليس له أذنان إلّا صماخان، قصير اليدين، وفيهما براثن حداد، طويل الذّنب، ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل، بل عظم واحد من مفصل

الرأس إلى مفصل الذّنب، وربّما ضربه من ظفر به من الناس بالسيف فلا يعمل فيه حتى يصيب طرف أنفه، لأنّ جلده فى قوّته كالقدّ؛ ولفسوه ريح كريهة حتّى إنّه يصيب الثوب فلا تذهب رائحته منه حتّى يبلى، وهو يفسو فى الهجمة «1» من الإبل فتتفرّق ولا تجتمع لراعيها إلّا بعد تعب؛ والعرب تضرب المثل فى تفريق الجماعات به، فيقولون: «فسا بينهم الظّربان» ؛ وهو لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان فى قتله الثعابين؛ قالوا: ولو لاه لأكلتهم؛ ومن عادته أنّه إذا رأى الثعبان دنا منه ووثب عليه، فاذا أخذه تضاءل فى الطول حتّى يبقى شبيها بقطعة حبل، فينطوى الثعبان عليه، فاذا انطوى نفخ الظّربان بطنه ثمّ زفر زفرة فيتقطّع الثعبان قطعا؛ قال الجاحظ: وفسو الظّربان أحدّ أسلحته، لأنّه يدخل على الضّبّ فى حجره وفيه حسوله «2» وبيضه، فيأتى أضيق موضع فى الحجر فيسدّه بيده، ويحوّل دبره فلا يفسو ثلاث فسوات حتّى يخرّ الضّبّ سكران مغشيّا عليه، فيأكله؛ وله جراءة على تسلّق الحيطان فى طلب الطير، فان هو سقط نفخ بطنه حتّى يمتلئ جلده، فلا يضرّه السقوط؛ قالوا: وهو يشبه السّمّور «3» ، وذهب بعضهم إلى أنّه هو، وإنّما البقعة التى هو فيها غيّرت وبره.

الباب الثالث من القسم الأول من الفن الثالث فيما قيل فى السنجاب والثعلب والدب والهر والخنزير

الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الثالث فيما قيل فى السّنجاب والثعلب والدّبّ والهرّ والخنزير فأما السّنجاب - فهو حيوان معروف، حسن الوبر، ظهره أزرق اللّون، وبطنه أبيض، ومنه ما يكون ظهره أحمر، وهو ردىء الجنس؛ مبخوس الثّمن؛ وهذا الحيوان سريع الحركة، فاذا أبصر الانسان صعد الشجرة العالية، وهى مأواه؛ وهو كثير ببلاد الصّقالبة والخزر، «ومزاجه بارد رطب، وقيل «1» : حارّ رطب لسرعة حركته» ؛ قال أبو الفرج الببغاء: قد بلونا الذّكاء فى كلّ ناب «2» ... فوجدناه صنعة السّنجاب حركات تأبى السكون وألحا ... ظ حداد كالنار فى الالتهاب خفّ جدّا على النفوس فلوشا ... ء ترامى «3» مجاورا للتصابى واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب لابس جلدة إذا لاح خلنا ... بها فى مزرّة «4» من سحاب لو غدا كلّ ذى ذكاء نطوقا ... ردّ فى ساعة الخطاب جوابى

ذكر ما قيل فى الثعلب

ذكر ما قيل فى الثعلب هو ذو مكر وخديعة وتحيّل فى طلب الرزق، فمن تحيّله أنّه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه، حتّى يظنّ به أنه قد مات، فاذا قرب منه حيوان وثب عليه فصاده؛ ومنه أنه إذا دخل برج الحمام وكان شبعان قتلها ورمى بها، فاذا جاع عاد «1» إليها فأكلها، وكذلك يفعل مع الدّجاج؛ وهو أيضا من الحيوان الذى سلاحه سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى «2» ، فاذا تعرّض للقنفذ لقيه القنفذ بشوكه واستدار كالكرة، فيسلح الثعلب عليه، فلا يتمالك القنفذ أن ينسدخ «3» ، فيقبض الثعلب على مراقّ «4» بطنه؛ ومن ظريف ما يحكى عنه أنّ البراغيث إذا كثرت فى فروته تناول صوفة بفمه، ثم يدخل النهر برفق وتدريج، والبراغيث تصعد إذا قاربها الماء حتّى تجتمع فى تلك الصوفة التى فى فيه، فعند ذلك يلقيها فى الماء ويخرج منه؛ والذئب يطلب أولاد الثعلب، فإذا ولد له وضع ورق العنصل «5» على باب وجاره فلا يصل الذئب إليه، لأنّه متى وطئ العنصل «6» مات لوقته؛ ويقال: إنّ قضيب الثعلب فى خلقة الأنبوب، وأحد شطريه عظم، والآخر عصب ولحم؛ وربّما

يسفد الثعلب الكلبة فتأتى منه بولد فى خلقة السّلوقىّ الذى لا يقدر على مثله؛ وفرو الثعلب من أجود الأوبار وأفضلها، ومنه الأسود والأبيض والخلنجىّ «1» ، وأدونه الأعرابىّ لقلّة وبره، وما كان منه ببلاد الترك يسمّى البرطاسىّ «2» لكثافة وبره وحسن لونه، ووبره أنواع، منها السار سينا «3» [والبرطاسىّ «4» والغبب «5» والنيفق «6» ؛ قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا «7» ] : والثعلب فيه تحليل، وفراؤه أسخن الفراء، تنفع المرطوبين لتحليلها [آلات المفاصل «8» ] ؛ قال: واذا طبخ الثعلب فى الماء وطليت به المفاصل الوجعة نفع نفعا جيّدا، وكذلك الزيت الذى يطبخ فيه حيّا أو مذبوحا فإنّه يحلّل ما فى المفاصل، وشحمه يسكّن وجع الأذن إذا قطر فيها؛ ورئته المجفّفة نافعة لصاحب الرّبو جدّا، والشّربة منها وزن درهمين «9» [والله أعلم بالصواب «10» ، وإليه المرجع] [والمآب] .

قال أبو الفرج الببغاء يصفه: وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من أدكن «1» الخزّ مخبوء بخيفان «2» كأنّ أذنيه فى حسن انتصابهما ... إذا هما انتصبا للحسّ «3» زجّان «4» يسرى ويتبعه من خلفه ذنب ... كأنّه حين يبدو ثعلب ثانى فلا يشكّ الذى بالبعد يبصره ... فردا بأنّهما فى الخلقة اثنان وقال آخر: جاؤا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوّال «5» الذنب تبرق عيناه إلى ضوء الشّهب

ذكر ما قيل فى الدب

ذكر ما قيل فى الدّبّ والدّبّ مختلف الطبائع، يأكل ما تأكله السّباع، ويرعى ما ترعاه الدوابّ، ويتناول ما يأكله الناس؛ وفى طبعه أنّه إذا كان أوان السّفاد خلا كلّ ذكر بأنثاه، والذكر يسفد أنثاه مضطجعة على الأرض، وهى تضع جروها فدرة لحم غير مميّز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى آخر خوفا عليه من النّمل، وهى مع ذلك تلحسه حتى تنفرج أعضاؤه ويتنفّس، وفى ولادتها صعوبة، فيزعم بعض من فحص عن طبائع الحيوان أنّ الدّبّة تلد من فيها، وأنّها إنّما تلده ناقص الخلق شوقا إلى الذّكر وحرصا على السّفاد، وهى لشدّة شهوتها تدعو الآدمىّ الى وطئها؛ وفيما حكى لى أنّ إنسانا كان سائرا فى بعض الغياض لمقصده، فصادف دبّة، فأخذته وأومأت إليه بالإشارة أن يواقعها، ففهم عنها وفعل، فلمّا فرغ عمدت الى أقدامه فلحست مواطئها حتّى نعمت «1» ، ولم تزل تكرّر لحسها وتمرّ بلسانها عليها حتّى بقى الرجل يعجز عن الوطء بها على الأرض، فعند ذلك أمنت هربه وتركته، فكانت تغدو وتتكسّب وترجع إليه بما يأكله وهو يواقعها، وهى تتعاهد «2» لحس رجليه، فلم يزل كذلك حتّى مرّ عليه جماعة من السّفر، فناداهم، فأتوه وحملوه على دوابّهم وساروا به. قالوا: والأنثى اذا هربت من الصيّادين جعلت جراءها بين يديها، فإذا اشتدّ خوفها عليهم بأن أدركها من يطلبها صعدت بأولادها إلى الأشجار؛ وفى الدّبّ من القوّة والشدّة ما يقطع العود الضخم من الشجرة العاديّة «3» التى لا تقطعها الفأس إلّا بعد تعب،

ذكر ما قيل فى الهر

ثم يأخذه بيديه، ويقف على قدميه كالإنسان، ويشدّ به على الفارس، فلا يصيب شيئا إلا أهلكه «1» ؛ وفى طبع هذا الحيوان من الفطنة العجيبة لقبول التأديب والتعليم ما هو مشاهد لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، هذا مع عظم جثّته، وثقل جسمه، لكن لا يطيع معلّمه إلّا بعنف وضرب شديد وتعمية لذكوره؛ وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ دم الدّبّ ينضج الأورام الحارّة سريعا؛ والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى الهرّ والهرّ ضربان: وحشىّ وأهلىّ، وهو يشبه الأسد فى الصورة والأعضاء والوثوب والافتراس والعدو، إلّا أنّه أقلّ جراءة من الأسد وأكثرها من سائر الحيوان؛ وهو يناسب الانسان فى أحوال، منها: أنّه يعطس ويتثاءب ويتمطّى، ويتناول الشىء بيده، ويغسل وجهه وعينيه بلعابه؛ وفيه «2» أنّ الأنثى تحدث لها قوّة وشجاعة عند السّفاد، ولهذا فإنّ الذكر يهرب منها عند فراغه، وتكون هذه الشجاعة فى الذّكر قبل السّفاد، فاذا سفد انتقلت إلى الأنثى، والذّكر إذا هاج صرخ صراخا منكرا يؤذى به من يسمعه لبشاعته؛ والأنثى تحمل فى السنة مرتين، ومدّة حملها خمسون يوما، وفى أخلاق بعضها أنّها اذا ولدت تأكل أولادها، ويقال: إنّها إنّما تأكلهم لفرط حبّها لهم؛ وقيل: بل من جنون يعرض لها عند الولادة وجوع؛ والله أعلم؛ وفى هذا الحيوان من الأخلاق الحميدة أنّه يرعى حقّ

التربية والإحسان إليه، ويقبل التأديب، وربّما ربّى فى حانوت السّمّان «1» والجزّار وفى الدّور بين الدّجاج والحمام وغير ذلك من المطاعم التى يحبّها الهرّ ويأكلها فلا يتعرّض لها بفساد، ولا يأكل منها ما لم يطعمه، وربّما حفظها من غيره، وقاتل دونها، مع ما فيه من الافتراس والاختلاس؛ وفى طبع الهرّ وعادته أنّه إذا أطعم شيئا أكله فى موضعه ولم يهرب، واذا خطفه أو سرقه هرب به، ولا يقف إلّا أن يأمن على نفسه؛ وفى بعضها من الجراءة ما يقتل الثعبان والعقرب؛ وإذا أرادت الهرّة ما يريد صاحب الغائط أتت موضع تراب فى زاوية من زوايا الدّار، فتبحث حتّى تجعل لها حفرة، ثم تدفن فيها ما تلقيه، وتغطّيه من ذلك التراب، ثم تشمّ أعلى التراب، فإن وجدت رائحة زادت عليه ترابا حتى تعلم أنّها أخفت المرئىّ والمشموم، فإذا لم تجد ترابا خمشت وجه الأرض، وزعم بعض الأطبّاء أنّ ستر الهرّة لذلك لحدّة رائحته، فإنّ الفأرة إذا شمّته نفرت منه الى منقطع تلك الرائحة؛ وهو يقبل التعليم ويؤدّب حتى يألف الفأر مع ما بينهما من شدّة العداوة، فيحصل بينهما من المؤالفة الظاهرة والملاءمة ما إنّ الفأر يصعد على ظهر الهرّ، وربّما عضّ أذنه، فيصرخ الهرّ ولا يأكله، ولا يخدشه لخوفه من مؤدّبه، فإذا أشار إليه مؤدّبه بأكله وثب عليه على عادته وأكله، وهذا أمر مشاهد غير منكور يفعله الطّرقيّة «2» ويفرّجون «3» الناس عليه «4» ؛

وفى طبع الهرّ أنّه لا يأكل السّخن ولا الحامض، ومتى دهن أنفه بدهن الورد مات سريعا؛ وهو إذا قاتل الثعبان يضع يده على أنفه، ويقاتل بيده الأخرى، وإنّما يفعل ذلك حذرا على نفسه، فإنّ الثعبان متى ضربه فى أنفه مات، ويضربه فى سائر جسده فلا يضرّه ذلك، بل يلحس مكان نهش الثّعبان بلسانه وهو يقاتله. وقد وصفه الشعراء والأدباء برسائل وأبيات. فمن ذلك رسالة أنشأها أبو [جعفر» ] عمر الأوسىّ الأندلسىّ المعروف بابن صاحب الصّلاة «2» - ونسبت هذه الرسالة لأبى [نصر «3» ] الفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان- يخاطب بها بعض اخوانه ويوصيه على «4» كتبه، وهى: وفى علمك- أعزّك الله- ما استودعته ديانتك، واستحفظته أمانتك؛ من كتبى التى هى أنفس ذخائرى وأسراها «5» ، وأحقّها بالصيانة وأحراها؛ وما كنت أرتضى فيها بالتّغريب،

لولا التّرجّى لمعاودة الطلب عن قريب؛ ولا شكّ أنّها منك ببال، وبمكان تهمّم «1» واهتبال؛ لكن ربّما طرقها من مردة الفئرة طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق؛ فينزل «2» فيها قرضا، ويفسدها طولا وعرضا؛ إلّا أن يطوف عليها هرّ نبيل، ينتمى من القطاط إلى أنجب قبيل؛ له رأس كجمع «3» الكفّ، وأذنان قد قامتا «4» على صفّ؛ ذواتا لطافة ودقّه، وسباطة ورقّه؛ يقيمهما عند التشوّف، ويضجعهما عند التخوّف؛ ومقلة مقتطعة من الزجاج المجزّع «5» ، وكأنّ ناظرها من العيون البابليّة منتزع؛ قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق آماقه؛ كإبر مغروزة على العيون، كما أحكمت «6» برد أطرافها القيون «7» ؛ له ناب كحدّ المطرد «8» ، ولسان كظهر المبرد؛ وأنف أخنس «9» وعنق أوقص «10» ، وخلق سوىّ غير منتقص، أهرت «11» الشّدقين، موشّى

الساعدين والساقين [ململم «1» اليدين] والرجلين؛ يرجّل بها «2» وبره «3» ترجيل ذوى الهمم، لما شعث «4» من اللّمم؛ فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق من الأوبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصّيقل للحسام، والحمّام للأجسام؛ فينفى قذاه، ويوارى أذاه؛ ويقعى إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النّمر «5» إذا اختلس؛ له ظهر شديد، وذنب مديد؛ يهزّه هزّ السّمهرىّ المثقّف، وتارة يلويه لىّ الصّولج المعقّف؛ تجول يداه فى الخشب والأرائك، كما تجول فى الكسايد حائك «6» ؛ يكبّ على الماء حين يلغه «7» ، ويدنى منه فاه ولا يبلغه؛ ويتّخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء ملحا أو حلوا؛ فتسمع للماء خضخضة من قرعه، وترى للّسان نضنضة «8» من جرعه؛ يحمى داره حماية النّقيب، ويحرسها حراسة الرقيب؛ فإن رأى فيها كلبا، صار عليه إلبا «9» ؛ وصعّر خدّه

وعظّم قدّه، حتّى يصير ندّه «1» ؛ أنفة من جنابه «2» أن يطرق، وغيرة على حجابه أن يخرق؛ وإن رأى فيها هرّا، وجف «3» اليه مكفهرّا؛ فدافعه بالساعد الأشدّ، ونازعه منازعة الخصم الألدّ؛ فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته؛ أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه «4» لمصادرته؛ ثمّ تسلّل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا؛ وشدّ عليه شدّه، وضمّه من غير مودّه؛ فأنسل وبره إنسالا «5» ، وأرسل دمه إرسالا؛ بأنياب عصل «6» ، أمضى من نصل؛ ومخلب كمنقار «7» الصّخر، درب بالاقتناص والعقر؛ فيصيّر «8» قرنه ممزّق الإهاب، مستبصرا «9» فى الذّهاب، قد أفلت من بين أظفار وأنياب، ورضى من الغنيمة بالإياب؛ هذا وهو يخاتله دون جنّه، ويقاتله بلا سيوف ولا أسنّه؛ وإنّما جنّته، منّته «10» ؛ وشفاره،

أظفاره؛ وسنانه، أسنانه؛ إذا سمعت الفئرة منه مغاء «1» ، لم تستطع له إصغاء؛ وتصدّعت «2» قلوبها من الحدر، وتفرّقت جموعها شذر مذر؛ تهجع العيون وهو ساهر، وتستتر الشخوص وهو ظاهر؛ يسرى من عينيه بنيّرين وضّاحين، تخالهما فى الظلام مصباحين؛ يسوف «3» الأركان، ويطوف بكلّ مكان؛ ويحكى فى ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنّيا؛ ثم يغطّ إذا نام، ويتمطّى إذا قام؛ ولا يكون بالنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئا؛ ولا فى الرّماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا؛ بل يدبّر بكيده، وينتصر على صيده؛ قد تمرّن «4» على قتل الخشاش «5» ، وافترس الطير فى المسارح والأعشاش؛ يستقبل الرياح بشمّه، ويجعل الاستدلال أكبر همّه؛ ثم يكمن للفأر حيث «6» يسمع لها خبيبا «7» ، أو يلمح من شيطانها «8» دبيبا؛ فيلصق بالأرض، وينطوى بعضه فى بعض، حتى يستوى «9» منه الطّول والعرض؛ فاذا تشوّفت الفأرة من حجرها، وأشرفت بصدرها ونحرها؛ دبّ اليها دبيب الصّلّ

وامتدّ إليها امتداد الظّلّ؛ ثم وثب فى الحين عليها [وجلب «1» الحين اليها] ؛ فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا؛ فصاحت من شدّة أسره، وقوّة كسره؛ وكلّما كانت صيحتها أمدّ، كانت قبضته عليها أشدّ، حتّى يستأصل أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها مخرجة الذّماء «2» ، مضرّجة بالدّماء؛ وان كان جرذا مسنّا، لم يضع عليه سنّا؛ وإن كان درصا «3» صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفّقا على قفاه؛ ليزداد منه تشهّيا وبه تلهّيا؛ ثم تلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنّه، والأبطال بالأسنّه؛ فإذا أوجعه عضّا، وأوعبه «4» رضّا؛ أجهز فى الفور عليه، وعمد بالأكل اليه؛ فازدرد منه أطيب طعمه، واعتدّه أهنأ نعمه؛ ثم أظهر بالالتعاق «5» شكره، وأعمل فى غيره فكره؛ فرجع إلى حيث أثاره، ويتبع «6» فيه آثاره؛ راجيا أن يجد فى رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه فى الردى، حتّى يفنى جميع العدى؛ وربّما انحرف عن هذه العوائد «7» ، والتقط فتات الموائد «8» ، بلاغا «9» فى الاحتماء، وبرّا بالنّعماء، فماله على خصاله ثمن «10» ، ولا جاء

بمثاله زمن؛ وقد أوردت- أعزّك الله- من وصفه فصلا مغربا، وهزلا مطربا؛ إخلاصا من الطويّة واسترسالا، وتسريحا للسجيّة وإرسالا، على أنّى لو استعرت فى وصفه لسان أبى «1» عبيد، وأظهرت فى نعته بيان أبى زبيد «2» ؛ ما انتهيت فى النطق إلى خطابك، ولا احتويت فى السّبق على أقصابك؛ والله يبقيك لثمر النّبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا. وقال ابن طباطبا يصف هرّة بلقاء: فتنتنى بظلمة وضياء ... إذ تبدّت بالعاج والآبنوس تتلقّى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكى شعاع الشّموس ذات دلّ قصيرة كلّما قا ... مت تهادت، طويلة فى الجلوس لم تزل تسبغ الوضوء وتنقى ... كلّ عضو لها من التنجيس دأبها ساعة الطهارة دفن ال ... عنبر الرّطب فى الحنوط اليبيس «3»

وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات- وذكر الجرذان «1» -: ذاد همّى بهنّ «2» أورق «3» تركىّ «4» ... السّبالين أنمر «5» الجلباب ليث غاب خلقا وخلقا فمن عا ... ينه قال: إنّه ليث غاب قنفذ فى ازبراره «6» وهو ذئب ... فى اغترار «7» وحيّة فى انسياب ناصب طرفه إزاء الزّوايا ... وإزاء السّقوف والأبواب ينتضى الظّفر حين يظفر فى الحر ... ب وإلا فظفره فى قراب يسحب الصّيد فى أقلّ من اللّم ... ح ولو كان صيده فى السحاب ومنها «8» : قرّطوه «9» وقلّدوه وعالو «10» ... هـ أخيرا وأوّلا بالخضاب

فهو طورا يبدو بنحر عروس ... وهو طورا يمشى على عنّاب حبّذا ذاك صاحبا فهو فى الصحة ... أو فى من سائر الأحباب وقال أبو بكر بن العلّاف يرثى هرّا-، وقد قيل: إنما رثى بها ابنه، لأنّه تعرّض إلى حريم بعض الأكابر فاغتالوه وقتلوه؛ وقيل: بل رثى بها عبد الله بن المعتزّ، وورّى بهرّ خوفا من المقتدر «1» بالله، فقال: يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد وكيف ننفكّ عن هواك وقد ... كنت لنا عدّة من العدد تمنع عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من خنفس «2» ومن جرد «3» وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد «4» يلقاك فى البيت منهم عدد «5» ... وأنت تلقاهم بلا عدد «6» وكان يجرى- ولا سداد لهم- ... أمرك فى بيتنا على سدد حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد وحمت حول الرّدى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد وكان قلبى عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد

تدخل برج الحمام متّئدا ... وتخرج الفرخ غير متّئمد وتطرح الرّيش فى الطريق لهم ... وتبلع اللّحم بلع مزدرد أطعمك الغىّ لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرّشد كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلتّ من كيدهم ولم تكد «1» حتّى إذا خاتلوك واجتهدوا ... وساعد النفس «2» كيد مجتهد صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد ثمّ شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يربعوا «3» على أحد لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد فحين كاشفت «4» وانتهكت وجا ... هرت وأسرفت غير مقتصد أذاقك الموت من أذاق «5» كما ... أذقت أطياره يدا بيد كأنّهم يقتلون طاغية ... كان لطاغوته «6» من العبد «7»

فلو أكبّوا على القرامط «1» أو ... مالوا على زكرويه «2» لم يزد يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلّا قنعت بالقدد «3» ما كان أغناك عن تسوّرك ال ... برج ولو كان جنّة الخلد لا بارك الله فى الطعام إذا ... كان هلاك النّفوس فى المعد كم أكلة داخلت حشاشره ... فأخرجت روحه من الجسد أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه «4» فى الدّنوّ والبعد

ولم تكن لى بمن دهاك يد ... تقوى على دفعه يد الأبد «1» ولا تبيّن حشو جلدك عن «2» ... د الذّبح من طاقة ومن جلد كأنّ حبلا حوى- بحوزته «3» - ... جيدك للذّبح «4» كان من مسد كأنّ عينى تراك مضطربا ... فيه وفى فيك رغوة الزّبد وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد فجدت بالنفس والبخيل بها ... كنت ومن لم يجد بها يجد «5» عشت حريصا يقوده طمع ... ومتّ ذا قاتل بلا قود فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك النّكد عشنا بخير وكنت تكلؤنا ... ومات جيراننا من الحسد ثمّ تقلّبت فى فراخهم ... وانقلب «6» الحاسدون بالكمد قد انفردنا بمأتم ولهم ... بعدك بالعرس أىّ منفرد قد كنت فى نعمة وفى سعة ... من المليك المهيمن الصّمد

تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين «1» للرغد قد كنت بدّدت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد وفتّنوا الخبز فى السّلال «2» فكم ... تفتّتت للعيال من كبد فلم يبقّوا لنا على سبد ... فى جوف أبياتنا «3» ولا لبد وفرّغوا قعرها وما تركوا ... ما علّقته يد على وتد ومزّقوا من ثيابنا جددا ... فكلّنا فى مصائب جدد فاذهب من البيت خير مفتقد ... واذهب من البرج شرّ مفتقد ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت فى البرج وثبة الأسد؟ أخنى على الدار فيه بالأمس «4» ... ومن قبلها على لبد «5»

ولم يدع فى عراصها أحدا ... ما بين عليائها إلى السّند «1» عاقبة البغى لا تنام وإن ... تأخّرت مدّة من المدد من لم يمت يومه يمت غده ... أو لا يمت فى غد فبعد غد والحمد لله لا شريك له ... فكلّ شىء يرى إلى أمد وفيه «2» أيضا: يا هرّ بعت الحقّ بالباطل ... وصرت لا تصغى إلى عاذل إذا أتيت البرج من خارج ... طارت قلوب الطّير من داخل علما بما تصنع فى برجها ... فهى على خوف من الفاعل قد كنت لا تغفل عن أكلها ... ولم يكن ربّك بالغافل فانظر إلى ما صنعت بعد ذا ... عقوبة المأكول بالآكل ما زلت يا مسكين مستقتلا ... حتّى لقد منّيت «3» للقاتل قد كنت للرحمة مستأهلا ... إذ لم أكن منك بمستاهل وقال أيضا: يا ربّ بيت ربّه ... فيه تضايق مستقرّه لمّا تكاثر فأره ... وجفاه بعد الوصل هرّه

ذكر ما قيل فى الخنزير

وسعى إلى برج امرئ ... فيه الفراخ كما يسرّه ظنّ المنافع أكلها ... فإذا منافعها تضرّه ذكر ما قيل فى الخنزير والخنزير مشترك بين السبعيّة والبهيميّة، فالذى فيه من السبعيّة الناب، وأكل الجيف؛ والذى فيه من البهيميّة الظّلف، وأكله العشب والعلف؛ والخنزير موصوف بالشّبق وكثرة السّفاد، حتى إنّ الأنثى يركبها الذّكر وهى ترجع «1» ، فربّما قطعت أميالا وهو على ظهرها، ويرى الرائى أثر ستّة أرجل ممّن لا يعرف ذلك، فيظنّ أنّ فى الدّوابّ ماله ستّة أرجل؛ والخنزيرة تضع عشرين خنّوصا «2» ، وتحمل من ماء «3» واحد، وتضع لمضىّ ستّة [أشهر «4» ] من حملها؛ وقال الجاحظ: إنّها تضع فى أربعة أشهر؛ والخنزير ينز وإذا تمّت له ثمانية أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر اشتهت السّفاد، ولكن لا تجىء أولادها كما يريدون «5» ؛ وأجود النزو أن يكون ذلك منه وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين؛ وإذا كانت الخنزيرة بكرا ولدت جراء ضعافا «6»

وكذلك البكر من كلّ شىء، وإذا بلغت الخنزيرة خمسة عشر سنة لا تلد بعدها، وهى أنسل الحيوان، والذّكر أقوى الفحول على السّفاد، وأطولها مكثا فيه؛ ويقال: إنه ليس شىء من ذوات الأنياب ما للخنزير من القوّة فى نابه، وربّما طال ناباه «1» حتّى يلتقيا، فيموت عند ذلك جوعا، لأنّهما يمنعانه من الأكل، وهو متى عضّ كلبا سقط شعر الكلب، وإذا أراد محاربة الأسد جرّب نفسه قبل الإقدام عليه بأن يضرب شجرة بنابه، فإن قطعها حارب الأسد، وإلا هرب منه ولم يقاتله؛ وأخبرنى من رآه وقد جرّب نفسه فى شجرة وضربها بأنيابه، فتمكّنت أنيابه منها وثبتت فيها، فأراد الخلاص فعجز، فجاء الأسد إليه وهو على تلك الحالة فافترسه؛ قالوا: ويعترى ذكوره داء الحلاق «2» واللّواط، فربّما يرى الخنزير وقد ألجأه أكثر من عشرين خنزيرا إلى مضيق، ثم ينزو عليه الأمثل فالأمثل، إلى أن يبلغ آخرهم؛ والخنزير إذا قلعت إحدى عينيه هلك عاجلا؛ ويقول الأطبّاء: إنه متى فسد من عظام الإنسان عظم ووضع فى مكانه عظم من عظام الخنزير قبلته الطبيعة ونبت عليه اللّحم؛ وحكى أرسطو أنّ عمر الخنزير من خمسة عشر سنة إلى عشرين سنة؛ وقلّما ذكر الفضلاء والشعراء الخنزير فى رسائلهم وأشعارهم، وسأثبت فى هذا الموضع ما وقفت عليه فى هذا المعنى.

فمن ذلك ما كتب به عطاء بن يعقوب الغزنوىّ يعرّض فيها بقاض، قال منها: وما مثل فلان فى استنابته «1» إلا كمثل رجل رأى فى المنام أنّه يضاجع خنزيرا، فبكر إلى المعبّر ليعبّر منامه تعبيرا؛ فقال المعبّر: يا برذعة الحمير، ما غرّك بالخنزير؟ ألين ملمسه، أم «2» حسن معطسه؛ أم شكاه الرّشيق، أم طرفه العشيق «3» ؛ أم لقاؤه البهج، أم قباعه «4» الغنج؛ أم شعره الرّجل، أم ثغره الرّتل «5» ؟. وقال القاضى [محيى الدّين بن] عبد الظاهر فى الخنزير: وخنزير له ناب تراه ... اذا عنّ افتراس غير نابى كمثل الكلب لا بل منه أجرا «6» ... ويحقر أن يشبّه بالكلاب فذاك لنخوة يعزى وهذا ... يقلّل نخوة الرجل المهاب بنصّ للكتاب غدا حراما ... وحلّل أكله أهل الكتاب

القسم الثانى من الفن الثالث فى الوحوش والظباء وما يتصل بها من جنسها

القسم الثانى من الفنّ الثالث فى الوحوش والظّباء وما يتّصل بها من جنسها ، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فيما قيل فى الفيل والكركدّن والزّرافة والمها والأيّل ذكر ما قيل فى الفيل يقال: إنّ الفيل مولّد بين الجاموس والخنزير، ولذلك يزعم بعض من بحث عن طبائع الحيوان أنّ الفيلة مائيّة الطباع بالجاموسيّة والخنزيريّة اللّتين فيها، وبعضها يسكن الماء، وبعضها لا يسكنه؛ ويقال: إنّ الفيلة صنفان: فيل، وزندبيل «1» ، وهما كالبخت والعراب، والبقر والجاموس، والخيل والبراذين، والفأر والجرذان، والنمل والذّرّ؛ وبعضهم يقول: إنّ الفيل الذّكر، والزّندبيل «2» الأنثى؛ وقال بعضهم: إنّ الزّندبيل «3» هو عظيم الفيلة والمقدّم عليها فى الحرب، وفيه يقول بعض الشعراء: ذاك الذى مشفره طويل ... وهو من الأفيال زندبيل «4» وقال آخر: وفيله كالطّود زندبيل «5» وقال آخر: من بين أفيال وزندبيل «6»

وخرطوم الفيل أنفه، وبه يوصل الطعام والشراب إلى فيه، وبه يقاتل وبه يصيح، وليس صوت الفيل على مقدار جثّته؛ ولسانه مقلوب، طرفه إلى داخل فيه، وأصله خارج، وهو على العكس من سائر الحيوانات؛ والهند تزعم أنّه لولا ذلك لتكلّم، وهم يعظّمون الفيلة ويشرّفونها على سائر الحيوانات؛ والفيل يتولّد فى أرض الهند والسّند والزّنج، وبجزيرة سرنديب «1» ؛ وهو أعظمها خلقا، وينتهى فى عظم الخلق الى أن يبلغ فى الارتفاع عشرة «2» أذرع؛ وفى ألوانها الأسود والأبيض والأبلق والأزرق؛ وهو اذا اغتلم أشبه الجمل «3» فى ترك الماء والعلف حتى ينضمّ «4» إبطاه، ويتورّم رأسه، وربّما استوحش لذلك بعد استئناسه، والفيل ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، والأنثى تحمل سنتين، وإذا حملت لا يقربها الذّكر، ولا ينزو عليها إذا وضعت إلّا بعد ثلاث سنين، ولا ينزو إلّا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة؛ وإذا أرادت الفيلة أن تضع دخلت النهر فتضع ولدها فى الماء، لأنّها تلد قائمة؛ والذكر يحرسها ويحرس ولدها من الحيّات، وذلك لعداوة بينهما؛ قالوا: وأنثيا الفيل داخل بدنه قريبا من كليتيه، ولذلك هو يسفد سريعا كالطير، لأنهما قريبتان من القلب فتنضحان المنىّ بسرعة؛ ويقال: إنّ الفيل يحقد كالجمل؛ والهند يجعلون نابى الفيل قرنيه، وفيها الأعقف والمستقيم؛ قال المسعودىّ فى مروج الذهب: وربّما بلغ

الناب الواحد منها خمسين ومائة منّ «1» ؛ ورأيت أنا من أنياب الفيلة ما طوله يزيد على أربعة «2» أذرع ونصف، وهو معقّف، شاهدت ذلك بمدينة قوص فى سنة سبع وتسعين وستّمائة، ورأيت فيها نابين أظنّهما أخوين بهذه الصفة، وهما معقّفان، وغلظهما مناسب لطولهما؛ والفيل يحمل بنابيه على الجدار الوثيق فيهدمه؛ ولم تزل ملوك غزنة «3» إلى سبكتكين ومن بعدهم من الملوك الغزنويّة تفتتح بالفيلة المدن، وتهدم بصدماتها الحصون، وأشهرهم بذلك يمين الدّولة محمود بن سبكتكين، على ما ستقف- إن شاء الله تعالى- عليه فى تاريخ الدّولة الغزنويّة؛ والفيل سريع الاستئناس بالناس؛ وفى طبعه أنّه إذا سمع صوت الخنزير ارتاع ونفر واعتراه الفزع؛ وقال المسعودىّ: إنّه لا يثبت للهرّ، وإذا رآه فرّ منه؛ وقال: إنّ رجلا كان بالمولتان «4» من أرض الهند «5» يدعى هارون بن موسى مولى الأزد «6» ، وكان شاعرا شجاعا ذا رياسة فى قومه ومتعة بأرض السّند مما يلى بلاد المولتان «7» [وكان «8» ] فى حصن له هناك، فالتقى مع بعض ملوك الهند، وقد قدّمت الهند أمامها الفيلة، فبرز هارون أمام الصفّ

وقصد عظيم الفيلة، وقد خبأ سنّورا تحت ثيابه؛ فلمّا دنا فى حملته من الفيل أبرز الهرّ له، فانهزم الفيل وولّى عند مشاهدته للهرّ، فانهزم الجيش وقتل الملك الهندىّ، ولهارون بن موسى قصيدة فى ذلك نذكرها- إن شاء الله تعالى- عند ذكر وصف الفيل؛ والفيل إذا ورد الماء الصافى كدّره قبل أن يشربه كعادة الخيل، وهو قليل الاحتمال للبرد، واذا عام فى الماء استتر كلّه إلّا خرطومه؛ ويقال: إنّه يصاد باللهو والطرب والزّينة وروائح الطّيب؛ والزّنوج تصيده بحيلة غير ذلك، وهى أنّهم يعمدون إلى نوع من الأشجار، فيأخذون ورقه ولحاءه ويجعلونه فى الماء الذى تشربه الفيلة، فاذا وردته وشربت منه سكرت، فتسقط إلى الأرض، ولا تستطيع القيام، فتقتلها الزّنوج بالحراب، ويأخذون أنيابها ويحملونها إلى بلاد عمان، وتنقل منها إلى البلاد؛ وأمّا أهل النّوبة فإنّهم اذا أرادوا صيدها للبقاء عمدوا إلى طرقها التى ترد الماء منها، فيحفرون هناك أخاديد ويسقّفونها بالخشب الضعيف، ويسترونها بالنبات والتراب، فاذا مرّ الفيل عليها انكسرت به تلك الأخشاب الضعيفة، فيسقط فى الأخدود، فعند ذلك يتبادر اليه جماعة من الرجال بأيديهم العصىّ الرّقاق، فيضربونه الضرب الوجيع، فاذا بلغ به الألم خرج اليهم رجل منهم مغاير للباسهم، فيضربهم، ويصرفهم عنه، فينصرفون، ويقف هو بالقرب من الفيل ساعة، ثمّ ينصرف، فإذا أبعد وغاب عن الفيل رجع أولئك القوم وعاودوا ضربه حتى يؤلموه، فيعود ذلك الرجل فيريه أنّه ضربهم، فيتفرّقوا عنه، يفعلون ذلك به أياما والرجل يؤانس الفيل، ويأتيه بالمأكل والماء حتّى يألفه ويقرب منه، فيقال: إنّه ينام بالقرب منه، ويخرج أولئك، فإذا رآهم الفيل قد أقبلوا أيقظه بخرطومه برفق، وأشار اليه أن يردّهم عنه، فيفعل على عادته، فاذا علم أنّ الفيل

استأنس وزال استيحاشه وألف ذلك الرجل، حفروا أمامه بتدريج وتوطئة، فيطلع وقد سلس قياده، وزال عناده، ثمّ يحملونه فى المركب إلى الديار المصريّة فى جملة التّقادم «1» الموظّفة عليهم؛ وبأرض الهند فيلة غير وحشيّة تستأنس إلى الناس، وتتناتج بينهم، ويقاتلون عليها فى حروبهم، فيجتمع للملك الواحد من ملوك الهند منها عدّة كثيرة، وأكثرها يأوى المروج والغياض كالبقر والجاموس فى بلادنا؛ قال المسعودىّ: وهى تهرب من المكان الذى فيه الكركدّن، فلا ترعى فى موضع تشمّ فيه رائحته؛ وللفيلة بأرض الهند آفة عظيمة من الحيوان، وهو الذى يعرف بالزبرق «2» أصغر من الفهد، أحمر اللّون برّاق العينين، سريع الوثبة، يبلغ فى وثبته الى خمسين ذراعا وأكثر، فإذا أشرف على الفيلة رشّ عليها ببوله، فيحرقها، وربّما لحق الإنسان فمات؛ وهذا الوحش إذا أشرف على أحد من أهل الهند التجأ إلى أكبر شجر السّاج، وارتقى الى أعلاها، فيأتى هذا الوحش اليها ويثب، فإن أدركه رشّ عليه ببوله، فأحرقه وإن عجز عنه وضع رأسه بالأرض وصاح صياحا عجيبا، فتخرج من فمه قطع من الدّم، ويموت من ساعته، ويحترق من الشجرة ما يقع بوله عليه؛ قالوا: وللهند طيب يجمعونه من جباه الفيلة ورءوسها، فإنّها إذا اغتلمت عرفت «3» هذه الأماكن

منها عرفا كالمسك، فهم يستعملونه لظهور الشّبق فى الرجال والنساء، وهو يقوّى النّفس، ويشجّع القلب؛ قالوا: والفيل يشبّ إلى تمام ستّين سنة، ويعمّر مائتى سنة؛ [وأكثر «1» ؛ وحكى أرسطو أنّ فيلا ظهر عمره أربعمائة سنة؛ وحكى بعض المؤرّخين أنّ فيلا سجد لأبرويز، ثمّ سجد للمعتضد، وبينهما الزمان الذى ذكره أرسطو] واعتبر ذلك بالوسم؛ ووقفت على حكاية تناسب ما نحن فيه، أحببت أن أثبتها فى هذا الباب، وهى: حكى الامام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانىّ فى كتابه الموسوم (بحلية الأولياء) ، قال: حدّثنا محمد بن الحسن، قال: حدّثنا عبد الوارث ابن بكير: أنّ أبا عبد الله القلانسىّ ركب البحر، فعصفت عليهم الرّيح فى مركبهم، فدعا أهل المركب وتضرّعوا، ونذروا النّذور، فقالوا: أى عبد الله؛ كلّنا قد عاهد الله ونذر نذرا إن أنجانا الله، فانذر أنت نذرا، وعاهده عهدا؛ فقلت: أنا مجرّد من الدنيا، ما لى وللنّذر؛ فألّحوا علىّ فيه؛ فقلت: لله علىّ إن خلّصنى ممّا أنا فيه لا آكل لحم الفيل؛ فقالوا: ما هذا النّذر؟ وهل يأكل لحم الفيل أحد؟ فقلت: كذا وقع فى سرّى، وأجراه الله على لسانى؛ فانكسرت السفينة، ووقعت فى جماعة من أهلها الى الساحل، فبقينا أيّاما لم نذق ذواقا، فبينا نحن قعود إذا نحن بولد فيل، فأخذوه فذبحوه وأكلوا من لحمه، وعرضوا علىّ أكله، فقلت: أنا نذرت وعاهدت الله أن لا آكل لحم الفيل، فاعتلّوا علىّ بأنّى مضطر، ولى فسخ العهد لاضطرارى، فأبيت عليهم، وثبتّ على العهد، فأكلوا وامتلأوا وناموا، فبينما هم نيام إذ جاءت الفيلة تطلب ولدها، وتتبع أثره، فلم تزل تشمّ الرائحة حتّى انتهت إلى عظام ولدها، فشمّتها، ثمّ جاءت وأنا أنظر اليها، فلم تزل تشمّ واحدا واحدا، فكلّما شمّت من

ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما

واحد رائحة اللّحم داسته برجلها أو بيدها فقتلته، حتّى قتلتهم كلّهم، ثمّ أقبلت الىّ، فلم تزل تشمّنى فلم تجد منّى رائحة اللحم، فأدارت مؤخّرها وأومأت إلىّ بخرطومها أن اركب؛ فلم أقف على ما أومأت به، فرفعت ذنبها ورجلها، فعلمت أنّها تريد منّى ركوبها، فركبتها واستويت عليها، وأومأت إلىّ أن استو، فاستويت على شىء وطىء، فسارت سيرا عنيفا إلى أن جاءت بى فى ليلتى الى موضع زرع وسواد، فأومأت الىّ أن انزل، وبركت برجلها حتّى نزلت عنها، فسارت سيرا أشدّ من سيرها بى، فلمّا أصبحت رأيت زرعا وسوادا «1» وناسا، فحملونى إلى ملكهم، وسألنى ترجمانه، فأخبرته بالقصّة وبما جرى على القوم، فقال لى: أتدرى كم المسير الذى سارت بك اللّيلة؟ فقلت: لا، فقال: مسيرة ثمانية أيّام سارت بك فى ليلة، فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت؛ والله أعلم بالصواب. ذكر شىء مما وصف به الفيل نظما من ذلك ما قاله الأرّجانىّ من أبيات وصف فيها مجلس ممدوحه، فقال: والفيل فى ذيل السّماط «2» له ... زجل «3» يهال له الفتى ذعرا فى موقف الحجّاب يؤمر أو ... ينهى فيمضى النهى والأمرا أذنان كالتّرسين تحتهما ... نابان كالرّمحين إن كرّا يعلو له فيّاله ظهرا «4» ... فيظلّ مثل من اعتلى قصرا

وقال عبد الكريم النّهشلىّ يصفه: وأضخم هندىّ النّجار تعدّه ... ملوك بنى ساسان إن نابها دهر يجىء كطود جائل فوق أربع ... مضبّرة «1» لمّت كما لمّت الصّخر له فخذان كالكثيبين لبّدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر ووجه به أنف كراووق «2» خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر وجبّان «3» لا يروى القليب صداهما ... ولو أنّه بالقاع منهرت «4» حفر «5» وأذن كنصف البرد تسمعه النّدا ... خفيّا وطرف ينفض العيب مزورّ ونابان شقّا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما بتر له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوّت الصقر وقال ابن طباطبا: أعجب بفيل آنس وحشىّ ... بهيمة فى فطنة الإنسىّ يفهم عن سائسه «6» الهندىّ ... غيب معانى رمزه الخفىّ مثل السدى «7» الموثّق المبنىّ ... منزّه فى خلقه السّوىّ

عن لين مشى ركب المطىّ ... ذى ذنب مطوّل ثورىّ فى مثل ردف الجمل البختىّ «1» ... منخفض الصوت طويل العىّ يطوف كالمزدجر المنهىّ ... يرنو بطرف منه شادنىّ «2» فى قبح وجه منه خنزيرىّ ... خرطومه كجعبة التّركىّ حكى فما من سمك بحرىّ ... تبصره فى فيه ذا هوىّ كالدّلو إذ تهوى إلى القرىّ «3» ... يصبّ فى مصهرج مطوىّ ناباه فى هولهما المخشىّ ... كمثل قرنى ناطح طورىّ «4» أذناه فى صبغهما الفضّىّ ... كطيلسانى ولدى ذمّىّ ساسه عليه ذو رقىّ ... منتصب منه على كرسىّ يطيعه فى أمره المأبىّ ... كطاعة القرقور «5» للنّوتىّ «6» وقال آخر منشدا: من يركب الفيل فهذا الفيل ... إنّ الذى يحمله «7» محمول على تهاويل لها تهويل ... كالطّود إلّا أنّه يجول

وقال ابن الرومىّ: يقلّب جثمانا عظيما موثّقا ... يهدّ بركنيه الجبال إذا زحم ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات «1» ما أصاب بها غنم «2» ولست ترى بأسا يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين فى البأس أو صدم وقال هارون بن موسى مولى الأزد يصفه ويذكر خوفه من الهرّ: أليس عجيبا بأن خلقة «3» ... لها فطن الإنس فى جرم فيل وأظرف من مشيه زوله «4» ... بحلم يجلّ عن الخنشليل «5» وأوقص «6» مختلف خلقه ... طويل النّيوب قصير النّصيل «7» ويلقى العدوّ بناب عظيم ... وجوف رحيب وصوت ضئيل وأشبه شىء إذا قسته ... بخنزير برّ وجاموس غيل ينازعه كلّ ذى أربع ... فما فى الأنام له من عديل

ويعصف «1» بالببر بعد النّمور «2» ... كما تعصف «3» الريح بالعندبيل «4» وشخص ترى يده أنفه ... فإن وصفوه «5» فسيف صقيل وأقبل كالطّود هادى الخميس ... بهول شديد أمام الرّعيل ومرّ يسيل «6» كسيل الأتىّ ... بوطء خفيف وجسم ثقيل فإن شمته زاد فى هوله ... بشاعة أذنين فى رأس غول وقد كنت أعددت هرّا له «7» ... قليل التّهيّب «8» للزّندبيل «9» فلمّا أحسّ به فى العجاج ... أتانا الإله بفتح جليل فسبحان خالقه وحده ... إله الأنام وربّ الفيول وقال أبو الحسن الجوهرىّ يصف الفيل من قصيدته التى أوّلها: قل للوزير «10» وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا

أفنيت أسباب العلا ... حتّى أبت أن تستجدّا لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرت كرما ومجدا لم ترض بالخيل التى ... شدّت إلى العلياء شدّا وصرائم الرأى التى ... كانت على الأعداء جندا حتّى دعوت إلى العدى «1» ... ما لا يلام إذا تعدّى متقمّصا تيه العلو ... ج وفطنة أعيت معدّا متعسّفا طرق العوا «2» ... لى حين لا يستاق «3» قصدا فيلا كرضوى «4» حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقا ورعدا رأس «5» كقلّة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا فتراه من فرط الدّلا ... ل مصعّرا فى الناس خدّا يزهى «6» بخرطوم كمث ... ل الصّولجان يردّ ردّا متمدّد كالأفعوا ... ن تمدّه الرّمضاء مدّا أو كمّ راقصة تشي ... ر به إلى النّدمان «7» وجدا

أو كالمصلّب شدّ جن ... باه إلى جذعين شدّا وكأنّه بوق يحرّ ... كه لينفخ فيه جدّا يسطو بساريتى لجي ... ن يحطمان الصّخر هدّا أذناه مروحتان أس ... ندتا الى الفودين عقدا عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لجمع الضوء عمدا فكّ كفوّهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا تلقاه من بعد فتح ... سبه غماما قد تبدّى متنا «1» كبنيان الخور «2» ... نق ما يلاقى الدّهر كدّا ردفا كدكّة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا ذنبا كمثل السوط يض ... رب حوله ساقا وزندا يخطو على أمثال أع ... مدة الخباء إذا تصدّى أو مثل أميال «3» نضد ... ن من الصخور الصّمّ نضدا متورّد «4» حوض المنيّ ... ة حين لا يشتاق وردا متملّق «5» فكأنّه ... متطلّب ما لن يودّا «6»

ذكر ما قيل فى الكركدن

متلفّع بالكبريا ... ء كأنّه ملك مفدّى أدنى إلى الشىء البعي ... د يراد من وهم وأهدى أذكى من الإنسان حتّ ... ى لو رأى خلا لسدّا لو أنّه ذو لهجة ... وفّى كتاب الله سردا عقّته أرض الهند حت ... ى حلّ من زهو هرندا «1» قل للوزير: عبدت حت ... ى قد أتاك الفيل عبدا سبحان من جمع المحا ... سن عنده قربا وبعدا ذكر ما قيل فى الكركدّن والكركدّن من الحيوان الشديد القوّة، القليل العدد؛ وهو شبيه بالجاموس إلا أنه أغلظ «2» وأعتى وأنبل «3» منه، وله قرن غليظ غير طويل فى جبهته، وقرن آخر ألطف منه؛ وقد ذكره صاحب المنطق فى كتاب الحيوان وسمّاه الحمار الهندىّ؛ وقال الجاحظ فى كتاب الحيوان: وإنّما قلّ عدد هذا الجنس لأنّ الأنثى منه منها ما تكون نزورا «4» ، وأيّام حملها ليست أقلّ من أيّام حمل الفيلة؛ وهذا الحيوان يكون بأرض الهند وبلاد الحبشة؛ وتزعم الهند أنّه اذا كان ببلاد لم يرع شىء من الحيوان شيئا فى أكناف تلك البلاد هيبة له وخضوعا وهربا منه، وليس هو ببلاد الحبشة كذلك، بل يختلط به غيره من الحيوان؛ قال الجاحظ: وقد قالوا فى ولدها وهو

فى بطنها قولا لولا أنّه ظاهر على ألسنة الهند لكان اكثر الناس بل كثير من العلماء يدخلونه فى الخرافة، وذلك أنّهم يزعمون أنّ أيّام حملها اذا كادت أن تتمّ ونضجت «1» وسخنت وجاء وقت الولادة فربّما أخرج الولد رأسه من ظبيتها «2» فأكل من أطراف الشجر، فاذا شبع أدخل رأسه، حتى اذا تمّت أيّامه، وضاق به مكانه، وأنكرته الرحم، وضعته مطيقا قويّا على الكسب والحضر، لا يعرض له شىء من السباع؛ وهذا القول أيضا ذكره المسعودىّ؛ قال: واذا اغتلم الفيل فى بلاد الهند لا يقوم له شىء من الوحوش إلّا الكركدن، فإنه يقتحم عليه، فيحجم عنه ويذهب عنه سكر الاغتلام؛ وقيل: إنّه يطعن الفيل بقرنه فيموتا جميعا، فمنهم من يقول: إنّه يثقل عليه فلا يستطيع أن يخرج قرنه من جوفه، فيكون ذلك سبب حتفهما؛ ومنهم من يقول: إنّ قرنه من السّموم التى تقتل الفيل، ودم الفيل من السّموم التى إذا وقعت على قرن الكركدّن مات؛ وحكى لى من يرجع إلى قوله، ويعتمد على نقله من الحبوش «3» أنّ الكركدّن ببلاد الحبشة إذا رأى الرجل قصده ليقتله، فيعمد الرجل إلى شجرة فيتعلّق بها، فيحاوله الكركدّن، فربّما كسر تلك الشجرة وأهلكه، فان بال الرجل على أذن الكركدّن هرب وأسرع الحضر فلا يقف ولا يعود اليه، فيسلم منه؛ والله أعلم بالصواب.

ذكر ما قيل فى الزرافة

ذكر ما قيل فى الزّرافة والزّرافة فى كلام العرب: الجماعة، وإنّما سمّيت الزّرافة زرافة لاجتماع صفات عدّة من الحيوان فيها، وهى عنق الجمل، وجلد النّمر، وقرن الظّبى، وأسنان البقر، ورأس الإيّل «1» ؛ وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّها متولّدة من حيوانات، ويقال: إنّ السبب فى ذلك اجتماع الوحوش والدوابّ فى القيظ فى شرائع «2» المياه، فتسافد، فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع ما يمتنع، فربّما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها، فيجىء فيها خلق مختلف الصّور والألوان والأشكال؛ والفرس تسمّى الزّرافة (اشتركا و پلنك) وتفسير (اشتر) : بعير؛ وتفسير (كاو «3» ) : بقرة؛ وتفسير (پلنك) : الضبع «4» ؛ وهذا موافق لما ذهبت إليه العرب من كونها مركّبة الخلق من حيوانات شتّى؛ والجاحظ ينكر هذا القول، ويقول: هو جهل شديد، لا يصدر عمّن لديه تحصيل، لأنّ الله عزّ وجلّ يخلق ما يشاء على ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمر، وما يحقّق ذلك أنه يلد مثله؛ وهذا غير منكور، فإنّا نحن رأينا زرافة بالقاهرة ولدت زرافة أخرى شبهها، وعاشت إلى

الآن؛ وصفة الزّرافة أنّها طويلة اليدين والعنق جدّا، منها ما يزيد طوله على عشرة «1» أذرع، قصيرة الرجلين جدّا، وليس لرجليها ركب «2» ، وإنّما الرّكب «3» ليديها كسائر البهائم؛ وهى تجترّ وتبعر، وفى طبع هذا الحيوان التودّد للناس والتآلف بهم. وقد وصفها الشعراء وشبّهوها فى أشعارهم، فمن ذلك ما قاله عبد الجبّار بن حمديس الصّقلّىّ: ونوبيّة فى الخلق فيها خلائق ... متى ما ترقّ العين فيها تسفّل اذا ما اسمها ألقاه فى السمع ذاكر «4» ... رأى الطّرف منها ما «5» عناه بمقول لها فخذا قرم «6» وأظلاف قرهب «7» ... وناظرتا رئم وهامة أيّل «8» كأنّ الخطوط البيض والصفر أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل ودائمة الإقعاء فى أصل خلقها ... اذا قابلت أدبارها عين مقبل تلفّت أحيانا بعين كحيلة ... وجيد على طول اللّواء المظلّل

وتنفض رأسا فى الزّمام كأنّما ... تريك [ «1» له فى الجوّ نفضة أجدل «2» اذا طلع النّطح «3» استجادت نطاحه ... برأس] له هاد «4» على السّحب معتلى وعرف «5» رقيق الشعر تحسب نبته ... اذا الريح هزّته ذوائب سنبل وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... تزفّ الى بعل عروسا وتنجلى فكم منشد قول امرئ القيس عندها ... (أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل) وقال عمارة اليمنىّ- وقد وصف تصاوير دار منها زرافة-: وبها زرافات كأنّ رقابها ... فى الطول ألوية تؤمّ العسكرا نوبيّة المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهارى مشفرا جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيّه تمشى القهقرى وقال أبو علىّ بن رشيق منشدا: ومجنونة أبدا لم تكن ... مذلّلة الظهر للراكب قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السّنام بلا غارب ملمّعة مثلما لمّعت ... بحنّاء وشى يد الكاعب

كأنّ الجوارى كنّفنها «1» ... تخلّج «2» من كلّ ما جانب وقال أيضا: وأتتك «3» من كسب الملوك زرافة ... شتّى الصفات للونها «4» أثناء «5» جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... فى خلقها وتنافت الأعضاء تحتثّها «6» بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء وتمدّ جيدا فى الهواء يزينها ... فكأنّه تحت اللّواء لواء حطّت مآخرها وأشرف صدرها ... حتّى كأنّ وقوفها إقعاء وكأن فهر الطّيب «7» ما رجمت به ... وجه الثّرى لو لمّت «8» الأجزاء وتخيّرت دون الملابس حلّة ... عيّت بصنعة مثلها صنعاء

لونا كلون الذّبل «1» إلّا أنّه ... حلّى وجزّع بعضه الجلّاء أو كالسحاب المكفهرّة خطّطت «2» ... فيها البروق وميضها إيماء أو مثلما صدئت صفائح جوشن «3» ... وجرى على حافاتهنّ جلاء نعم التجافيف «4» التى قد درّعت «5» ... من جلدها لو كان فيه وقاء وقال محمد بن شرف القيروانىّ: غريبة أشكال غريبة دار ... لها لون خطّى فضّة ونضار فلون لها لون البياض وصفرة ... كما مزجت بالماء كأس عقار وآخر ما بين اسوداد وحمرة ... كما احمرّ مسودّ الدخان بنار أعيرت شخوصا وهى فى شخص واحد ... تحيّر فى نشز لها وقفار تقوم على ما بين ظلف وحافر ... له جسم جلمود وصبغة قار وأربعة تحكى سبائك عسجد ... تطير بها فى الأرض كلّ مطار لها عنق قد خالط الجوّ تحته ... طوال لها تخطو أمام قصار وذات قرى وعر الركوب وإنّما ... أجلّت بذا «6» عن ذلّة وصغار لها عجبة «7» التّيّاه عجبا بنفسها ... ولكنّ ذاك العجب تحت وقار

ذكر ما قيل فى البقر الوحشية - وهى المها - والأيل

ذكر ما قيل فى البقر الوحشية- وهى المها- والأيّل» ولنبدأ بذكر ترتيب سنّها، ثم نذكر ما قيل فيها؛ أمّا سنّها- فقد قالت العرب: ولد البقرة الوحشيّة ما دام يرضع فهو فزّ وفرقد وفرير؛ فإذا ارتفع عن ذلك فهو يعفور وجؤذر، وبحزج «2» ؛ فإذا شبّ فهو مهاة فإذا أسنّ فهو قرهب؛ هذا ما قيل فى سنّها. وأمّا ما قيل فى المها - فذكر من بحث عن طبائع الحيوان أنّ من طباعها الشبق والشهوة؛ وأنّ الأنثى إذا حملت هربت من الذّكر خوفا من عبثه بها فى الحمل؛ والذكر لفرط شهوته يركب الذكر؛ واذا ركب واحد منها شمّ الباقى روائح الماء منه، فيثبن «3» عليه، ولا يمنع ما يثب عليه بعد ذلك؛ ولم أقف من أحواله على غير هذا الذى أوردته، فلنذكر ما وصف به. فمن ذلك ما قاله كاتب أندلسىّ من رسالة طرديّة، جاء منها: وعنّ لنا سرب نعاج يمشين رهوا «4» كمشى العذارى، ويتثنّين زهوا تثنّى السّكارى؛ كأنّما تجلّل «5» بالكافور جلودها، وتضمّخ بالمسك قوائمها وخدودها «6» ؛ وكأنّما لبسن الدّمقس سربالا، واتّخذن السّندس سروالا.

من كلّ مهضمة الحشا وحشيّة ... تحمى مداريها «1» دماء جلودها وكأنّما أقلام حبر كتّبت ... بمداد عينيها طروس خدودها فأرسلنا أولى الخيل على أخراها «2» ، وخلّيناها وإيّاها «3» ؛ فمضت مضىّ السّهام، وهوت هوىّ السّمام «4» ؛ فجالت فى أسرابها يمينا وشمالا؛ فكأنّما أهدت لآجالها «5» آجالا؛ فمن متّق بروقه «6» ، وكاب أتاه حتفه من فوقه. وقال الأخطل يصف ثورا: فما به «7» غير موشىّ أكارعه ... إذا أحسّ بشخص ماثل «8» مثلا «9» كأنّ عطّارة باتت تطيف به ... حتّى تسربل ماء الورس وانتعلا كأنّه ساجد من نضح ديمته ... مقدّس «10» قام تحت اللّيل فابتهلا ينفى التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب «11» النّفلا «12»

وأما ما قيل فى الأيل

وقال عدىّ بن الرّقاع يصف ثورين يعدوان: يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها تطوى إذا وردا مكانا جاسيا «1» ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وقال الطّرمّاح يصف عدوه بسرعة: يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد وأما ما قيل فى الأيّل «2» - فهو من أصناف البقر الوحشيّة، وهذا الحيوان يسمن كثيرا، واذا سمن اختفى خوفا أن يصاد لسمنه؛ وهو مولع بأكل الحيّات، يطلبها فى كلّ موضع، فإن انجحرت أخذ الماء بفمه، ونفخه فى الحجر، فتخرج له ذنبها فيأكلها، حتّى اذا انتهى إلى رأسها تركه خوفا من السّم، وربّما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه تدخل فى كلّ واحدة منهما الإصبع، فتجمد تلك الدموع فتصير كالشّمع، تتّخذ درياقا لسمّ الحيّات، وهو البازهر «3» الحيوانىّ؛ قالوا: واذا لسعته الحيّات أكل السّراطين «4» فيبرأ ويبرئه أكل التفّاح أيضا وورق شجره؛ وهو لا تنبت له قرون إلّا بعد أن تمضى له سنتان من عمره، فاذا نبت قرناه نبتا مستقيمين كالوتدين، وفى الثالثة يتشعّبان، ولا يزال التشعّب فى زيادة الى تمام ستّ سنين، وحينئذ يكونان كالشجرتين على رأسه، ثم

بعد ذلك يلقى قرونه فى كلّ سنة، ثم تنبت، واذا نبتا عرّضهما للشمس حتى يصلبا، وهما اذا كبرا على رأسه منعاه من الجرى؛ ولا يكاد يفلت اذا طلبته الخيل؛ وإذا ألقى قرونه علم أنّه ألقى سلاحه، فهو لا يظهر؛ قال الجاحظ: قال صاحب المنطق «1» : إنّ أنثى الأيّل اذا وضعت ولدا أكلت مشيمتها فتظنّ أنّه شىء تتداوى به من علّة النّفاس؛ وزعم أرسطو أنّ هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، وهو لا ينام ما دام يسمع ذلك، ومن أراد صيده من الصيّادين شغله «2» بعضهم بالتّطريب، ويأتيه البعض من خلفه، فاذا رأوه مسترخية أذناه وثبوا عليه؛ واذا اشتدّ عليه العطش من أكل الحيّات أتى غدير الماء واشتمّه، ثم انصرف عنه، يفعل ذلك أربعة أيّام، ثم يشرب فى اليوم الخامس، وإنّما يمتنع من شرب الماء خوفا على نفسه من سريان السّم فى جسده مع الماء؛ والله أعلم. قال بعض الشعراء: هجرتك لا قلى منّى ولكن ... رأيت بقاء ودّك فى الصّدود كهجر الظامئات الماء لمّا ... تيقّنّ المنايا فى الورود تذوب نفوسها ظمأ وتخشى ... هلاكا فهى تنظر من بعيد وقال آخر فى مثل ذلك: وما ظامئات طال فى القيظ ظمئها «3» ... فجاءت وفى الأحشاء غلى المراجل فلمّا رأين الماء عذبا وقد أتت ... إليه رأين الموت دون المناهل

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشية والوعل واللمط

فولّت ولم تشفى «1» صداها وقد طوت ... حشاها على وخز الأفاعى القواتل بأعظم من شوقى إليك وحسرتى ... عليك ولم ألتذّ منك بطائل الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الثالث فيما قيل فى الحمر الوحشيّة والوعل واللّمط «2» ذكر ما قيل فى الحمر الوحشيّة والحمار الوحشىّ يسمّى العير والفرأ؛ وبه «3» ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل «4» ، فقال: «كلّ الصّيد فى جوف الفرإ» ؛ ويقال: إنّه ينزو إذا بلغ ثلاثين شهرا من عمره؛ وهو يوصف بشدّة الغيرة؛ ويقال: إنّ الأنثى إذا ولدت

جحشا كدم «1» الذكر قضيبه، فالإناث تعمل الحيلة فى إبقائه، قتهرب به من أبيه، وتكسر رجله ليستقرّ بذلك المكان، وهى تتعهده وترضعه، فاذا انجبرت رجله وقويت وصحّت، وأمكنه المشى عليها، يكون قد حصل فيه من القوّة والجرى ما يدفع به عن نفسه، ويهرب إذا أبوه أو من هو أقوى منه أراد خصاءه؛ ويقال: إنّ الحمار الوحشىّ يعمّر مائتى سنة وأكثر من ذلك، وكلّما بلغ مائة سنة صارت له مبولة «2» ثانية؛ قالوا: وشوهد منها ماله ثلاث مباول وأربع؛ ومعادنه بلاد النّوبة وزغاوة، ويوجد منه ما تكون شيته معمّدة ببياض وسواد فى الطول من أعضائه المستطيلة، ومستديرة فيما استدار منها بأصحّ قسمة؛ ومنها صنف يسمّى الأخدرىّ وهو أطولها أعمارا. وقد وصفها أبو الفرج الببغاء من رسالة ذكر فيها أتانا معمّدة ببياض وسواد كانت قد أهديت لعزّ الدولة بختيار بن بويه من جهة صاحب اليمن، قال: وأما الأتان، الناطقة فى كمال الصنعة بأفصح لسان؛ فإنّ الزمان لاطف مولانا- أيّده الله- منها بأنفس مذخور، وأحسن منظور؛ وأعجب مرئىّ، وأغرب موشىّ؛ وأفخر مركوب، وأشرف مجنوب؛ وأعزّ موجود، وأبهى مخدود «3» ؛ كأنّما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته؛ فصاغها من ليله ونهاره، وحلّاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع آثاره؛ ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها أحد «4» جدوده؛ ذات إهاب

مسيّر «1» ، وقرب «2» محبّر، وذنب مشجّر، وشوى «3» مسوّر «4» ؛ ووجه مزجّج «5» ، ورأس متوّج؛ تكنفه أذنان، كأنهما زجّان «6» ؛ سبجيّة «7» الأنصاف، بلّوريّة الأطراف، جامعة شيتها بالترتيب، بين زمنى الشبيبة والمشيب؛ فهى قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار؛ غنىّ عن الحلى عطلها، مزرية بالزّهر حللها؛ واحدة جنسها، وعالم نفسها صنعة المنشئ الحكيم، وتقدير العزيز العليم. وقال ابن المعتزّ: شغلته «8» لواقح ملأته ... غيرة فهو خلفهنّ كمىّ قابض جمعها إليه كما يج ... مع أيتامه إليه الوصىّ كلّما شمّ لاقحا شمّ منها «9» ... رأس فحل برجلها مفلىّ «10»

ذكر ما قيل فى الوعل

خارج من ظلال نقع كما فرّ ... ق جلبابه الخليع الغوىّ قد طواها التسويق «1» والشدّ حتّى ... هى قبّ «2» كأنّهنّ القسىّ هربت من رءوسهنّ عيون ... غائرات كأنّهنّ الرّكىّ ذكر ما قيل فى الوعل الوعل، هو التيس الجبلىّ، والأنثى تسمّى أرويّة؛ وهى شاة الوحش؛ وفى طباع هذا الحيوان أنّه يأوى الأماكن الوعرة والخشنة من الجبال؛ ولا يزال مجتمعا، فإذا كان فى وقت الولادة تفرّق؛ وإذا اجتمع فى ضرع الأنثى لبن امتصّته؛ والذكر إذا ضعف عن النّزو أكل البلّوط فتقوى شهوته، ومتى فقد الأنثى انتزع منيّه بفيه بالامتصاص، وذلك لشدّة الشّبق؛ وهو إذا جرح عمد إلى الخضرة التى تكون على الحجارة، فيمضغها ويجعلها على الجرح فيبرأ؛ واذا أحسّ بقنّاص وهو فى مكانه المرتفع استلقى على ظهره، ثمّ يزجّ بنفسه فينحدر من أعلى الجبل إلى أسفله، وقرناه يقيانه ألم الحجارة، ويسرعان هبوطه لملاستهما فإنّهما [من رأسه «3» ] إلى عجزه؛ وفى طبع هذا الحيوان الحنوّ على ولده والبرّ بوالديه؛ أمّا حنوّه على ولده فإنّه إذا صيد منها شىء تبعته أمّه واختارت أن تكون معه فى الشّرك؛ وأمّا برّه بوالديه، فانّهما إذا عجزا عن الكسب لأنفسهما أتاهما بما يأكلانه، وواساهما من كسبه، فإن عجزا [عن الأكل «4» ] مضغ لهما وأطعمهما؛ ويقال: إنّ فى قرنيه ثقبين يتنفس منهما، فمتى سدّا جميعا هلك.

وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك ما قاله الصاحب بن عبّاد: وأعين «1» كالذّرّىّ «2» فى سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللّون واضح موقّف «3» أنصاف اليدين كأنّه ... إذا راح يجرى بالصريمة «4» رامح «5» وقال أبو الطيّب المتنبّى: وأوفت «6» الفدر «7» من الأوعال ... مرتديات بقسىّ الضّال «8» نواخس الأطراف «9» للأكفال ... يكدن ينفذن من الآطال «10» لها لحى سود بلا سبال ... يصلحن «11» للإضحاك لا الإجلال «12» كلّ أثيث «13» نبته متفال «14» ... لم يغذ «15» بالمسك ولا الغوالى يرضى من الأدهان بالأبوال

ذكر ما قيل فى اللمط

ذكر ما قيل فى اللّمط «1» واللّمط «2» حيوان وحشىّ يكون ببلاد الغرب الجوّانىّ «3» ، فى قدر المهر اللّطيف، له قرون غير متشعّبة، ولا مفاصل لركبه، فهو لا يستطيع النوم إلّا مستندا الى شجرة أو جدار، فاذا أريد صيده عمد من يريد ذلك الى تلك الشجرة التى هى فى محلّ مظانّ نومه، فينشر أكثرها، ويترك منها يسيرا لا يحمله، فاذا استند اليها سقطت وسقط بسقوطها، فيؤخذ ويذبح وتتّخذ من جلده درق تباع بالأثمان الغالية، تردّ طعنة الرّمح ورشقة السّهم، ومهما أصابها من الحديد انطوى، فان تمكّن منها ونزع وبقى أثره التحم فى اليوم الثانى وخفى أثره؛ أخبرنى بذلك من أثق بقوله.

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظبى والأرنب والقرد والنعام

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثالث فى الظّبى والأرنب والقرد والنّعام ذكر ما قيل فى الظّبى للظّباء أسماء نطقت بها العرب، واحدها ظبى، والأنثى ظبية، وولدها طلا وغزال؛ فاذا تحرّك ومشى فهو رشأ؛ فاذا نبت قرناه فهو شادن وخشف؛ فاذا قوى فهو شصر، والأنثى شصرة، ثم هو جذع، ثم ثنىّ، ولا يزال ثنيّا حتّى يموت. والظّباء أنواع تختلف بحسب مواضعها؛ فصنف منها يسمّى الآرام، وهى الخالصة البياض، ومساكنها الرمل، وهى أشدّها حضرا؛ وصنف يسمّى العفر، وألوانها بيض تعلوها حمرة؛ وصنف يسمّى الأدم، وألوانها أيضا كذلك «1» ، ومساكنها الجبال؛ ومن طبع هذا الحيوان أنّه اذا فقد الماء استنشق النسيم فاعتاض به عنه؛ وهو إذا طلب لم يجهد نفسه فى الحضر لأوّل وهلة، ولكنّه يرفق بنفسه، فاذا رأى طالبه قد قرب منه زاد فى حضره حتّى يفوت الطالب؛ وهو يخضم «2» الحنظل حتّى يرى ماؤه يسيل من شدقيه؛ ويرد الماء الملح الأجاج فيغمس لحيته فيه كما تفعل الشّاة فى الماء العذب، يطلب النّوى «3» المنقع فيه؛ وهو لا يدخل كناسه إلّا مستدبرا، يستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه؛ وله نومتان فى مكنسين: مكنس الضّحى،

فصل ومما يلتحق بهذا النوع غزال المسك،

ومكنس العشىّ؛ وهو يصاد بالنّار، فإنّه إذا رآها ذهل لها ودهش، سيّما «1» إذا أضيف الى إشعال النار تحريك الجرس، فإنّه ينخذل ولا يبقى به حراك ألبتّة؛ وبين الظّبى والحجل ألفة ومحبّة؛ وهو يوصف بحدّة النظر. فصل ومما يلتحق «2» بهذا النوع غزال المسك، ولونه أسود، وله نابان خفيفان أبيضان خارجان من فيه فى فكّه الأسفل، قائمان فى وجهه كنابى الخنزير، كلّ واحد منهما دون الفتر، على هيئة ناب الفيل؛ ويكون هذا الغزال ببلاد التّبّت «3» وبالهند؛ ويقال إنه يسافر من التّبّت «4» الى الهند بعد أن يرعى من حشيش التّبّت «5» - وهو غير طيّب- فيلقى ذلك المسك بالهند، فيكون رديئا لأنه يحصل عن ذلك المرعى، ثمّ يرعى حشيش الهند الطّيّب ويعقد منه مسكا، ويأتى بلاد التّبّت «6» فيلقيه فيها، فيكون أجود ممّا يلقيه فى بلاد الهند؛ وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر المسك فى بابه فى آخر فنّ النبات فى القسم المذيّل به مستوفى، فلا فائدة فى تكراره؛ فلنذكر ما وصف به الغزال من الشعر.

ذكر ما قيل فى الأرنب

قال ذو الرّمّة- وذكر محبوبته-: ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح من المؤلفات الرمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى فى متنها يتوضّح هى الشّبه أعطافا وجيدا ومقلة ... وميّة «1» أبهى بعد منها وأملح وقال آخر: وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قطّ على رأسها من قرنها «2» الجعد وفرة ... وفى خدّها من صدغها شاهد «3» سبط «4» وقد أدمجت بالشّحم حتّى كأنّما ... ملاءتها من فرط ما اندمجت قمط «5» ذكر ما قيل فى الأرنب قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ قضيب الأرنب كذكر الثعلب، أحد شطريه عظم، والآخر عصب؛ وربّما ركبت الأنثى الذكر حين السّفاد لما فيها من الشّبق، وتسفد وهى حبلى؛ وهى قليلة الإدرار على ولدها؛ ويزعمون أنّه يكون شهرين ذكرا، وشهرين أنثى؛ وحكى ابن الأثير فى تاريخه (الكامل) فى حوادث

سنة ثلاث وعشرين وستّمائة، قال: وفيها اصطاد صديق لنا أرنبا، فرآها لها أنثيان وذكر وفرج أنثى، فلما شقّوا بطنها رأوا فيه خريقين «1» . والأرنب تنام مفتوحة العينين، وسبب ذلك أنّ حجاجى «2» عينيها لا يلتقيان؛ ويقال: إنّ الأرنب اذا رأت البحر ماتت، ولذلك لا توجد بالسواحل؛ وتزعم العرب أنّ الجنّ تهرب منها اذا حاضت؛ ويقال: إنّها تحيض كالمرأة، وتأكل اللّحم وغيره، وتجتر وتبعر، وفى باطن أشداقها شعر، وكذلك تحت رجليها، وليس شىء قصير اليدين أسرع منها حضرا، ولقصرهما يخفّ عليهما الصعود؛ وهى تطأ الأرض على مؤخّر قوائمها تعمية لأثرها حتّى لا يعرفه الطالب لها، واذا قربت من المكان الذى تريد أن تجثم فيه وثبت إليه. وفى الأرنب منافع طيّبة ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: إنّ انفحة الأرنب حارّة يابسة ناريّة، تحلّل كلّ جامد من دم ولبن متجبّن وخلط غليظ، وتجمّد كلّ ذائب، وتمنع كلّ سيلان ونزف من النساء؛ قال: ولا شكّ أنّها مع ذلك مجفّفة، واذا شربت منعت من الصّرع، وكذلك سائر الأنافح، وهى رديئة للمعدة وإذا حملت «3» بعد الطّهر ثلاثة أيّام بالخلّ منعت الحبل ونفت الرطوبة السائلة من

ذكر ما قيل فى القرد

الرّحم، وتنفع من اختناق الرّحم؛ قال: ودم الأرنب ينفى الكلف «1» ؛ ورماد رأسه جيّد لداء الثعلب؛ واذا أخذ بطن الأرنب كما هو بأحشائه وأحرق قليا على مقلى كان دواء منبتا للشعر اذا سحق واستعمل بدهن الورد؛ ودماغه مشويّا ينفع من الرّعشة الحادثة عقيب المرض؛ وإذا حلّ دماغ الأرنب بسمن أو زبد أو عسل أسرع إنبات الأسنان، وسهل بغير وجع؛ ودم الأرنب مقلوّا ينفع من السّحج «2» وورم الأمعاء والإسهال المزمن، وينفع من السّهام الأرمنيّة؛ هذا ما قاله الشيخ الرئيس فى الأرنب. وقد وصف بعض كتّاب الأندلس عدّة من الأرانب، فقال: أفراد إخوان «3» كأنّهنّ أولاد غزلان؛ بين روّاغ ينعطف انعطاف البره «4» ، ووثّاب يجتمع اجتماع الكره؛ حاك القصب إزاره، وصاغ التبرطوقه وسواره؛ قد غلّل بالعنبر بطنه، وجلّل بالكافور متنه؛ كأنّما تضمّخ بعبير، وتلفّع فى حرير؛ ينام بعينى ساهر، ويفوت بجناحى طائر؛ قصير اليدين، طويل السّاقين؛ هاتان فى الصعود تنجدانه، وتانك عند الوثوب تؤيّدانه؛ والله أعلم. ذكر ما قيل فى القرد القرد عند المتكلّمين فى الطبائع مركّب من إنسان وبهيمة؛ وهو إذا سقط فى الماء غرق مثل الإنسان الذى لا يحسن السّباحة؛ وهو يأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الأنثى؛ وهو يقمل، واذا قمل تفلّى، ويأكل ما ينتزعه من بدنه

من القمل؛ وهو كثير الشّبق، واذا اشتدّ به الشّبق استمنى بفيه؛ والأنثى تلد عدّة نحو العشرة وأكثر، كما تلد الخنزيرة؛ وهى تحمل بعض أولادها كما تحمل المرأة؛ ويقال: إن الطائفة من القرود اذا أرادت النوم ينام الواحد فى جنب الآخر حتى يكونوا سطرا واحدا، فاذا تمكّن النوم منها نهض أوّلها من الطّرف الأيمن، فيمشى وراء ظهورها حتى يقعد من وراء الأقصى من الطّرف الأيسر، فاذا قعد صاح؛ فينهض الذى يليه، ويفعل مثل فعله، فهذا دأبهم طول اللّيل؛ فهم يبيتون فى أرض ويصبحون فى أخرى؛ وفى القرد من قبول التأديب والتعليم [ما لا خفاء به عن أحد «1» ] حتى إنه درّب قرد ليزيد بن معاوية على ركوب الحمير والمسابقة عليها؛ وحكى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: أن القردة فى أماكن كثيرة من المعمور، منها (وادى نخلة) بين (الجند «2» ) وبلاد (زبيد) ، وهو بين جبلين، وفى كلّ جبل منهما طائفة من القرود يسوقها هزر «3» ، وهو القرد العظيم المقدّم فيها؛ قال: ولها مجالس يجتمع فيها خلق كثير منها؛ فيسمع لها حديث والاناث بمعزل عن الذكور، والرئيس متميّز عن المرءوس؛ وباليمن قرود كثيرة فى نواح متعدّدة؛ منها فى ذمار «4» من بلاد صنعاء فى برارىّ وجبال كأنّها السحب؛ وتكون القرود

أيضا بأرض النّوبة وأعلى بلاد الحبشة، وهذا الصّنف من القرود حسن الصورة، خفيف الروح، مدوّر الوجه، مستطيل الذّنب، سريع الفهم، ويسمّونه النّسناس؛ ومنها أيضا بخلجان الرّانج «1» فى «2» بحر الصين وبلاد المهراج «3» وفى ناحية الشّمال نحو أرض الصّقالبة ضرب من القرود منتصب القامات، مستدير الوجوه، والأغلب عليهم صور الناس وأشكالهم، ولهم شعور، وربّما صيد منها القرد فى النادر بالحيلة، فيكون فى نهاية الفهم والدّراية، إلّا أنّه لا لسان له يعبّر به عمّا فى نفسه، لكنّه يفهم كلّ ما يخاطب به بالإشارة؛ ومن النّواحى التى بها القرود جبل موسى، وهو الجبل المطلّ على مدينة سبتة «4» من بلاد المغرب، والقرود التى فيها قباح الصور جدّا، عظام الجثث، تشبه وجوهها وجوه الكلاب، لها خرطوم، وليس لها أذناب، وأخلاقها صعبة لا يكاد ينطبع فيها تعليم إلّا بعد جهد؛ وحكى لى بعض المغاربة أنهم اذا أرادوا صيد هذه القرود يتحيّلون عليها بأن يصنعوا لها زرابين بقدر أرجلها، ويلطّخوا نعالها

ذكر ما قيل فى النعام

بالصابون، ويأتوا إلى مكان هذه القرود فيقعدوا حيث تراهم، ويلبسوا زرابينهم «1» ويمشوا بها، ويتركوا تلك الزّرابين «2» الصغار، فتأتى القرود وتلبس الزّرابين «3» ، فتخرج عليها الرجال، فتعدو القرود بتلك الزّرابين «4» ، فلا تثبت أرجلها على الأرض، وتزلق، فتدركها الرجال ويأخذوها. ولم أقف على شعر يتعلّق بوصف القرد فأثبته؛ والله أعلم. ذكر ما قيل فى النّعام والنعامة تسمّى بالفارسية: أشترمرغ «5» ، ومعنى أشتر: جمل، ومرغ «6» : طائر، فكأنّهم قالوا: جمل طائر؛ ومن أعاجيبها أنّها تضع بيضها عند الحضان، وتعطى كلّ بيضة منها نصيبها من الحضن، لأنّ بدنها لا يشمل جميع ما تحضنه، فانّها تحضن أربعين بيضة أو ثلاثين، وتخرج لطلب الطّعم، فتمرّ فى طريقها ببيض نعامة أخرى فتحضنه وتنسى بيضها؛ قال ابن هرمة: وإنّى وتركى ندى الأكرمين ... وقدحى بكفّىّ زندا شحاحا «7» كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا «8» ويقال: إنها تقسم بيضها أثلاثا، منه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره «9» غذاء، ومنه ما تفتحه وتتركه فى الهواء حتى يعفن، وتتولّد من عفونته دوابّ «10» ، فتغذى بها

فراخها اذا خرجت؛ وكلّ ذى رجلين اذا انكسرت إحداهما استعان فى نهوضه وحركته بالثانية إلّا النّعامة، فانّها تبقى فى مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا؛ قال الشاعر: إذا انكسرت رجل النّعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بآستها حبوا «1» والعرب تزعم أنّ الظّليم أصلم «2» ، وأنّه عوّض عن السّمع بالشّمّ، فهو يعرف بأنفه ما لا يحتاج معه الى سمع، والعرب تقول فى أمثالها: «أحمق من نعامة» ، قالوا: لأنّها إذا أدركها القانص أدخلت رأسها فى كثيب رمل وتقدّر فى نفسها أنّها قد استخفت منه؛ والنّعام قوىّ الصبر على العطش، شديد العدو، وأشدّ ما يكون عدوه اذا استقبل الريح، وهو فى عدوه يضع عنقه على ظهره، ثم يخترق الريح؛ والنّعامة تبتلع العظم والحجر والحديد فيصير فى جوفها كالماء، وتبتلع الجمر؛ وهو يصاد بالنار كسائر الوحش، فإنه إذا رأى النار دهش ووقف فيتمكّن منه الصائد. وقد وصفها إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال: ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا «3» بجار خلفه طيّار من كلّ فاجرة «4» الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنّها ... كرعت على ظمإ بكاس عقار

لا تستقرّ بها الأداحى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار [وقال «2» الحمّانىّ] : قد ألبس الليل حتى ينثنى خلقا ... وأركب الهول بالغرّ الغرانيق «3» وانتحى لنعام الدّو «4» ملهبة «5» ... كأنّها بعض أحجار المجانيق تسدى الرياح بها ثوبا وتلحمه ... كما تلبّس من نسج الخداريق «6» كأنّما ريشها والريح تفرقه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق كأنّها حين مدّت رؤسها «7» فرقا ... سود الرجل تعادى «8» بالمزاريق كأنّ أعناقها وهنا اذا خفقت «9» ... بها البلاقع أدقال «10» الزواريق فما استلذّ بلحظ العين ناظرها ... حتّى تغصّص أعلاهنّ بالرّيق «11»

القسم الثالث من الفن الثالث فى الدواب والأنعام،

القسم الثالث من الفن الثالث فى الدوابّ والأنعام، وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم فى الخيل وابتداء خلقها، وأوّل من ذلّلها وركبها، وما ورد فى فضلها وبركتها من الآثار الصحيحه، والأحاديث النبويّة الثابتة الصريحه، وما ورد فى فضل الإنفاق عليها، وما جاء فى التماس نسلها، والنهى عن خصائها والرّخصة فيه؛ وما قيل فى أكل لحومها من الكراهة، وما ورد من النهى عن عسب «1» الفرس وبيع ماء الفحل، وما ندب إليه من إكرام الخيل ومنع إذالتها «2» ، والأمر بارتباطها، وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها، وما ورد فى شؤم الفرس، وما يذمّ من عصمه «3» ورجله، وما جاء فى سباق الخيل، وما يحلّ منه وما يحرم، وكيفيّة التّضمير «4» عند السّباق، وأسماء السوابق فى الحلبة، وما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة، والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين، والعفو عن سقوط الزّكاة فى الخيل، وما وصفت

ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل وأول من ذللها وركبها

العرب به الخيل من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقتها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها، وذكر خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدّتها وأسمائها، وكرام الخيل المشهورة عند العرب، وما وصفت به الخيل فى أشعار الشعراء ورسائل الفضلاء التى تتضمّن مدح جيّدها وذمّ رديئها، وغير ذلك على ما نوضحه- إن شاء الله تعالى- ونبيّنه، ونأتى به على الترتيب والتحقيق، فنقول وبالله التوفيق، [وإليه المآب «1» ] . ذكر ما ورد فى ابتداء خلق الخيل وأوّل من ذلّلها وركبها قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النّيسابورىّ المعروف بالثّعلبىّ فى تفسيره: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمّد بن أحمد بن عقيل الأنصارىّ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، قالا: أخبرنا أبو منصور محمد بن القاسم العتكىّ، قال: حدّثنا محمد بن الأشرس، قال: حدّثنا أبو جعفر المدينىّ، قال: حدّثنا القاسم ابن الحسن بن زيد، عن أبيه، عن الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أراد الله أن يخلق الخيل قال للريح الجنوب: إنّى خالق منك خلقا فأجعله عزّا لأوليائى، ومذلّة على أعدائى، وجمالا لأهل طاعتى؛ فقالت الريح: اخلق، فقبض منها قبضة فخلق فرسا، فقال له: خلقتك عربيّا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، فأنت للطّلب، وأنت للهرب،

وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحونى «1» ويحمدونى «2» ويهلّلونى «3» ، تسبّحن «4» اذا سبّحوا، وتهلّلن «5» اذا هلّلوا، وتكبّرن «6» اذا كبّروا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة وتحميدة وتكبيرة يكبّرها صاحبها فتسمعه «7» إلّا فتجيبه بمثلها، ثم قال: لمّا سمعت الملائكة صفة الفرس وعاينت خلقها، قالت: ربّ، نحن ملائكتك نسبّحك ونحمدك، فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقا، أعناقها كأعناق البخت «8» ، فلمّا أرسل الله الفرس الى الأرض، واستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة، أذلّ بصهيلك المشركين، أذلّ به أعناقهم، وأملأ به آذانهم، وأرعب به قلوبهم؛ فلمّا عرض الله على آدم من كلّ شىء قال له: اختر من خلقى ما شئت، فاختار الفرس، فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا، وباقيا ما بقوا، بركتى عليك وعليهم، ما خلقت خلقا أحبّ إلىّ منك ومنهم «9» » .

وروى المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب بسنده إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لمّا أراد أن يخلق الخيل أوحى الى الرّيح الجنوب أنّى خالق منك خلقا فاجتمعى، فاجتمعت، فأمر جبريل عليه السلام فأخذ منها قبضة، قال: ثمّ خلق الله تعالى منها فرسا كميتا «1» ، ثم قال الله تعالى: خلقتك فرسا، وجعلتك عربيّا، وفضّلتك على سائر ما خلقت من البهائم بسعة الرزق، والغنائم تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك؛ ثم أرسله فصهل، فقال له: باركت فيك، فصهيلك أرعب به المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم؛ ثم وسمه بغرّة وتحجيل، فلمّا خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم، أخبرنى أىّ الدّابّتين أحببت؟ - يعنى الفرس والبراق، قال «2» : وصورة البراق على صورة البغل لا ذكر ولا أنثى- فقال آدم: يا ربّ اخترت أحسنهما وجها، فاختار الفرس، فقال الله له: يا آدم، اخترت أحسنهما، اخترت عزّك وعزّ ولدك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا» . هذا ما ورد فى ابتداء خلق الفرس؛ والله أعلم بالصواب؛ واليه المرجع والمآب. وأما أوّل من ذلّل الخيل وركبها- فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ودليل ذلك ما رواه الزّبير بن بكّار فى أوّل كتابه فى أنساب قريش من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحوشا لا تركب، فأوّل من ركبها إسماعيل، فلذلك سمّيت

ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها، وفضل الإنفاق عليها

العراب. وما رواه أحمد بن سليمان النّجّاد فى بعض فوائده «1» من حديث ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كانت الخيل وحشا كسائر الوحوش، فلمّا أذن الله عزّ وجلّ لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت، قال الله عزّ وجلّ: إنّى معطيكما كنزا ذخرته لكما؛ ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل أن اخرج فادع بذلك الكنز، فخرج إسماعيل إلى (أجياد «2» ) - وكان موطنا له- وما يدرى ما الدّعاء ولا الكنز، فألهمه الله عزّ وجلّ الدعاء، فلم تبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلّا أجابته، فأمكنته من نواصيها، وذلّلها له؛ فاركبوها واعتقدوها، فإنّها ميامين، وإنّها ميراث عن أبيكم إسماعيل عليه السلام. والله أعلم. ذكر ما ورد فى فضل الخيل وبركتها، وفضل الإنفاق عليها قال الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «نزلت فى علف الدّوابّ» . وروى عن أبى أمامة الباهلىّ أنّه قال: «هى النّفقة على الخيل فى سبيل الله» ، قال الواحدىّ: «هذا قول أبى الدّرداء ومكحول والأوزاعىّ» ؛ ومن فضل الخيل وشرفها أنّ الله أقسم بها فى كتابه العزيز، فقال: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ؛ وسمّاها الله تعالى الخير فى قوله عزّ وجلّ إخبارا عن سليمان عليه السلام:

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ؛ وفى الحديث الصحيح عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه البخارىّ؛ وفى لفظ آخر: «معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» ؛ ومن طريق آخر عن الشّعبىّ، عن عروة- هو ابن أبى الجعد «1» الأزدىّ البارقىّ- قيل يا رسول الله: وما ذلك الخير؟ قال: «الأجر والغنيمة» رواه مسلم. وعن عروة رضى الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فرسا أشقر فى سوق المدينة مع أعرابىّ، فلوى ناصيتها بإصبعيه وقال: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وعن جرير بن عبد الله- رضى الله عنه،- قال: رأيت النّبىّ صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرسه بإصبعه ويقول: «الخير معقود بنواصى الخيل إلى يوم القيامة» ؛ رواه مسلم والنّسائىّ؛ وفى لفظ النّسائىّ: «يفتل ناصية فرس بين إصبعيه» ؛ وفى حديث آخر موضع «معقود» : «معقوص» ، وهو بمعناه، أى ملوىّ بها ومضفور فيها، والعقصة: الضّفيرة. وفى حديث آخر عن نعيم بن زياد، عن أبى كبشة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة» ؛ وفى لفظ آخر: «فامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة» .

وعن أسماء بنت يزيد- رضى الله عنها- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل فى نواصيها الخير معقود أبدا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدّة فى سبيل الله فانّ «1» شبعها وجوعها وريّها وظمأها وأرواثها وأبو الها فلاح فى موازينه «2» يوم القيامة «3» » ؛ رواه الامام أحمد فى مسنده. وعن جابر- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة، وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار» ؛ وفى لفظ: «فى نواصيها الخير والنّيل» ؛ وكانوا يقلّدون الخيل أوتار القسىّ لئلّا تصيبها العين، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمهم أنّ الأوتار لا تردّ من قضاء الله تعالى شيئا؛ وقيل: نهاهم عن ذلك خوفا على الخيل من الاختناق بها؛ وقيل: المراد بالأوتار الذّحول التى وترتم بها فى الجاهلية؛ وقد اختلف الناس فى تقليد الدوابّ والإنسان أيضا ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين؛ فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة إليه، وأجازه بعد الحاجة إليه، لدفع ما أصابه من ضرر العين وشبهه؛ ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار «4» بالتّداوى قبل حلول المرض؛ وقصر بعضهم النهى على الوتر خاصّة، وأجازه بغير الوتر؛ وقال بعضهم فيمن قلّد فرسه شيئا ملوّنا فيه خرز: إن كان للجمال فلا بأس به.

وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله فأطال لها فى مرج أو روضة، فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنّها قطعت طيلها فاستنّت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه ولم يرد «1» أن يسقيها كان ذلك حسنات له، فهى لذلك أجر؛ ورجل ربطها تغنيّا «2» وتعفّفا، ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها ولا ظهورها، فهى لذلك ستر؛ ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهى على ذلك وزر» . وفى حديث آخر: «الخيل لثلاثة، هى لرجل أجر، ولرجل ستر؛ وعلى رجل وزر؛ فأمّا الذى هى له أجر فالّذى يتّخذها فى سبيل الله ويعدّها له، فلا تغيّب شيئا فى بطونها إلّا كتب له به أجر، ولو رعاها فى مرج فما أكلت شيئا إلا كتب له به أجر؛ ولو سقاها من نهر كان له بكلّ قطرة تغيّبها فى بطونها «3» - حتّى ذكر الأجر فى أبو الها وأرواثها- ولو استنّت شرفا أو شرفين كتب له بكلّ خطوة تخطوها أجر؛ وأمّا الذى هى له ستر فالّذى يتّخذها تعفّفا وتكرّما وتجمّلا، ولم ينس حقّ ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها؛ وأمّا الذى هى عليه وزر فالّذى يتّخذها أشرا وبطرا وبذخا ورئاء الناس، فذلك الذى هى عليه وزر» .

(شرح غريب هذين الحديثين) الطّول والطّيل بالواو والياء: الحبل، وكذلك الطّويلة. وقوله: «استنّت» ، أى عدت لمرحها ونشاطها ولا راكب عليها. والشّرف: ما يعلو من الأرض، وقيل: الطّلق، فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: جرت طلقا أو طلقين، بمعنى شوط أو شوطين. والأشر «1» والبطر: شدّة المرح. والبذخ بفتح الذال وبالخاء المعجمتين: الكبر. ونواء لأهل الإسلام: معاداة لهم، من ناوأه نواء ومناوأة، وأصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى نهضت. وعن زياد بن مسلم «2» الغفارىّ- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الخيل ثلاثة، فمن ارتبطها فى سبيل الله وجهاد عدوّه كان شبعها وجوعها وريّها وعطشها وجريها وعرقها وأرواثها وأبو الها أجرا فى ميزانه يوم القيامة؛ ومن ارتبطها للجمال فليس له إلّا ذاك؛ ومن ارتبطها فخرا ورياء كان مثل ما قصّ فى الأوّل وزرا فى ميزانه يوم القيامة» . وعن حباب- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: فرس للرّحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فما أعدّ فى سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله؛ وأمّا فرس الإنسان فما استبطن وتجمّل «3» عليه، وأما فرس الشيطان فما قومر عليه» ؛ رواه الآجرّىّ «4» فى (النصيحة) .

والقمار فى السّباق: أن يكون الزّهان بين فرسين لا محلّل «1» معهما. والاستبطان: طلب ما فى البطن والنّتاج. وعن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الخيل ثلاثة، ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فالّذى يرتبط «2» فى سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله «3» - وذكر ما شاء الله-؛ وأمّا فرس الشيطان فالذى يقامر «4» ويراهن عليه؛ وأمّا فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهى ستر «5» من فقر» رواه الإمام أحمد فى مسنده. وروى ابن أبى شيبة فى مسنده أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة: فرس يرتبطه الرجل فى سبيل الله، فثمنه أجر، وركوبه أجر، ورعايته أجر، وعلفه أجر؛ وفرس يغالق «6» عليه الرجل ويراهن عليه، فثمنه وزر، وعلفه وركوبه وزر؛ وفرس للبطنة فعسى أن يكون سدادا من فقر إن شاء الله» .

وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البركة فى نواصى الخيل» رواه البخارىّ ومسلم والنّسائىّ. والناصية: الشعر المسترسل على الجبهة، وقد يكنى بها عن النّفس، نحو قولهم: «فلان مبارك النّاصية» ، أى النّفس؛ قال شيخنا الشيخ الإمام المحدّث النّسّابة القدوة شرف الدّين أبو محمّد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ فى كتاب الخيل، قال أبو الفضل: واذا كان الخير والبركة فى نواصيها فبعيد أن يكون فيها شؤم على ما جاء فى الحديث؛ وقد تأوّل العلماء ذلك أنّ معناه على اعتقاد الناس فى ذلك، لا أنّه خبر من النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن إثبات الشّؤم. وعن مكحول، قال: قيل لعائشة- رضى الله عنها-: إنّ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، لأنّه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم فى ثلاثة: فى الدّار والمرأة والفرس» ؛ فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله. وسنذكر الحديث والكلام عليه- إن شاء الله تعالى- فى موضعه. وعن أنس- رضى الله عنه- قال: لم يكن شىء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد النّساء من الخيل. وعن معقل بن يسار- رضى الله عنه- قال: ما كان شىء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل، ثمّ قال: اللهمّ غفرا إلّا النّساء. وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه-[قال] : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حبّس فرسا فى سبيل الله كان ستره من النّار» .

ذكر ما جاء فى فضل الطرق

وعن محمد بن عقبة، عن أبيه، عن جدّه، قال: أتينا تميما الدّارىّ وهو يعالج عليق فرسه بيده، فقلنا له: يا أبا رقيّة، أما لك من يكفيك؟ قال: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله فعالج عليقه بيده كان له بكلّ حبّة حسنة» . وروى أنّ روح بن زنباع الجذامىّ زار تميما الدارىّ فوجده ينقّى لفرسه شعيرا، ثمّ يعلفه عليه وحوله أهله؛ فقال له روح: أما كان لك من هؤلاء من يكفيك؟ قال تميم: بلى، ولكنّنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم ينقّى لفرسه شعيرا ثمّ يعلفه عليه إلّا كتب الله له بكلّ حبّة حسنة» رواه الإمام أحمد فى مسنده. وروى أنّ معاوية بن أبى سفيان قال لابن الحنظليّة: حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، [قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ] يقول: «من ارتبط فرسا فى سبيل الله كانت النفقة عليه كالمادّ يده بصدقة لا يقطعها» ؛ وفى حديث آخر عنه: [ «لا يقبضها» «2» ] . ذكر ما جاء فى فضل الطّرق روى عن أبى عامر الهوزنىّ، عن أبى كبشة الأنمارىّ، أنه أتى رجلا «3» فقال: أطرقنى من فرسك، فإنّى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أطرق مسلما فرسا فأعقب له الفرس كتب الله له أجر سبعين فرسا يحمل عليها

ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه

فى سبيل الله، وإن لم يعقب «1» كان له كأجر فرس حمل عليه فى سبيل الله عزّ وجلّ» رواه الطّبرانىّ فى المعجم الكبير. وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: ما تعاطى الناس بينهم شيئا قطّ أفضل من الطّرق، يطرق الرجل فرسه فيجرى له أجره، ويطرق الرجل فحله فيجرى له أجره، ويطرق الرجل كبشه فيجرى له أجره. [والله الموفّق للصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله وكفى] . ذكر ما جاء من دعاء الفرس لصاحبه حكى الأبيوردىّ فى رسالته، قال: حكى عبد الرحمن بن زياد أنّه لمّا نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل، فمرّ حديج «2» بن صومى «3» بأبى ذرّ- رضى الله عنه- وهو يمرّغ فرسه الأجدل؛ فقال: ما هذا الفرس يا أبا ذرّ؟ قال: هذا فرس لى، لا أراه إلّا مستجابا، قال: وهل تدعو الخيل فتجاب؟ قال: نعم، ما من ليلة إلّا والفرس يدعو فيها ربّه يقول: اللهم إنّك سخّرتنى لابن آدم، وجعلت

ذكر ما ورد من أن الشيطان لا يخبل من فى داره فرس عتيق، ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق

رزقى بيده، فاجعلنى احبّ اليه من أهله وماله، اللهمّ ارزقه منّى، وارزقنى على يده. وروى أن هذا الخبر عن معاوية بن حديج، عن أبى ذرّ، وكلاهما روى عن عبد الله بن عمرو؛ ومعاوية هذا يعدّ من الصحابة الّذين سكنوا مصر؛ وفى حديثه عن أبى ذرّ «أحبّ إليه من أهله وولده» الحديث، وزاد فيه: «فمنها المستجاب، ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسى هذا إلّا مستجابا» . ورواه النّسائىّ فى كتاب الخيل من سننه؛ ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من فرس عربىّ إلّا يؤذن له عند [كلّ «1» ] سحر- وفى رواية: عند كلّ فجر- بدعوتين: اللهمّ خوّلتنى من خوّلتنى من بنى آدم، وجعلتنى له، فاجعلنى أحبّ أهله وماله؛ أو من أحبّ أهله وماله اليه» ؛ [والله أعلم] . ذكر ما ورد من أنّ الشيطان لا يخبل «2» من فى داره فرس عتيق، ولا يدخل دارا فيها فرس عتيق عن عبد الله بن عريب المليكىّ، عن أبيه- رضى الله عنهما- أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لن يخبل «3» الشيطان أحدا فى داره فرس عتيق» . وفى لفظ آخر: «الجنّ لا تخبل «4» أحدا فى بيته عتيق من الخيل» . ورواه ابن قانع أيضا فى معجمه من حديث عريب المليكىّ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) قال: «الجنّ» ، ثم قال رسول الله صلى الله

ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة [فيه] والنهى عن هلبها وجز أعرافها ونواصيها

عليه وسلم: «إنّ الشيطان لا يخبل أحدا فى دار فيها فرس عتيق» وقيل: [المراد «1» ] [أنّ «2» ] الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس عتيق. وروى أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّى أرجم باللّيل، فقال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «ارتبط فرسا عتيقا» قال: فلم يرجم بعد ذلك؛ رواه محمد بن يعقوب الخيلىّ فى (كتاب الفروسيّة وعلاجات الدوابّ) . ذكر ما جاء فى التماس نسل الخيل والنهى عن خصائها والرخصة [فيه «3» ] والنهى عن هلبها «4» وجزّ أعرافها «5» ونواصيها روى عن عبد الله [بن] عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا من جدس «6» ، (حىّ باليمن) ، فأعطاه رجلا من الأنصار، وقال: «إذا نزلت فانزل قريبا منّى فإنى أتسارّ «7» إلى صهيله» ففقده «8» ليلة، فسأل عنه، فقال يا رسول الله: إنا خصيناه، فقال: «مثلّت به» ،

يقولها ثلاثا، «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابّها، التمسوا نسلها، وباهوا بصهيلها المشركين» . وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزّ أذناب الخيل وأعرافها ونواصيها، وقال: «أمّا أذنابها فمذابّها، وأمّا أعرافها فأدفاؤها، وأمّا نواصيها ففيها الخير» . وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تهلبوا «1» أذناب الخيل، ولا تجزّوا أعرافها ونواصيها، فإنّ البركة فى نواصيها، ودفاؤها فى أعرافها، وأذنابها مذابّها» . وعن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل. [عن عبد «2» الله بن عمر-، قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل] والإبل والغنم؛ قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: «فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلّا بالذكور» . وروى عكرمة «3» عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا خصاء فى الإسلام ولا بنيان كنيسة» . وكتب عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- الى سعد بن أبى وقّاص- رضى الله عنه- ينهى عن حذف أذناب الخيل وأعرافها وخصائها. ومن العلماء من رأى

ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة

الخصاء، وذكر أنّ عروة بن الزّبير خصى بغلا له؛ وأنّ عمر بن عبد العزيز خصى بغلا له فى زمن خلافته، وأنّ الحسن سئل عن الخصاء فقال: «لا بأس به» ، وأنّ ابن سيرين قال: «لا بأس بخصاء الخيل، لو تركت الفحول لأكل بعضها بعضا» ، وأن عطاء قال: «ما خيف عضاضه وسوء خلقه فلا بأس» . قال البيهقىّ: ومتابعة قول ابن عمر وابن عبّاس- رضى الله عنهم- مع ما فيه من السنّة المرويّة أولى، ويحتمل جواز ذلك اذا اتّصل به غرض صحيح. ذكر ما قيل فى أكل لحوم الخيل من الإباحة والكراهة قد أباح أكلها جماعة، منهم شريح والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وحمّاد بن أبى سليمان والثّورىّ وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك والشافعىّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور فى جماعة من السّلف؛ ودليلهم على ذلك ما اتفق عليه البخارىّ ومسلم من حديث أسماء بنت أبى بكر الصدّيق وجابر بن عبد الله- رضى الله عنهم-؛ فأمّا حديث أسماء فقالت: «نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» . وأمّا حديث جابر- رضى الله عنه- فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخّص- أو أذن- فى لحوم الخيل» . وذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعىّ إلى أنّها مكروهة، إلّا أنّ كراهيتها عند مالك كراهية تنزيه، لا تحريم فى إحدى الروايتين عنه؛ ودليلهم ما رواه أبو داود والنّسائىّ وابن ماجة من حديث بقيّة بن الوليد الحمصىّ، عن ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب، عن أبيه، عن جدّه، عن خالد بن الوليد- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وما تضمّنته الآية من قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها

وَزِينَةً) * . قال صاحب الهداية الحنفىّ: خرجت- أى الآية-[مخرج «1» ] الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النّعم ويمتنّ بأدناها؛ ولأنّها آلة إرهاب العدوّ، فيكره أكله احتراما له، ولهذا يضرب له بسهم فى الغنيمة؛ ولأنّ فى إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث جابر معارض بحديث خالد ابن الوليد، والترجيح للمحرّم؛ ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم؛ وقيل: كراهية تنزيه؛ والأوّل أصحّ؛ وأمّا لبنه- فقد قيل: لا بأس به، إذ ليس فى شربه تقليل آلة الجهاد؛ انتهى كلام صاحب الهداية. وقد عورض فى أدلّته بأقوال؛ أمّا الآية، فقد قيل: الغالب فى الانتفاع بهذه الدوابّ ما أشار الله تعالى اليه فيها من الركوب والزينة، فأمّا أكلها فنادر، فخرجت الآية مخرج الغالب؛ وقالوا: ألا ترى أنّ الأنعام لمّا كانت متقاربة الحال عند العرب فى الانتفاع بها أكلا ونجمّلا وركوبا وتحميلا، منّ الله عليهم بتفصيل أحوالها المألوفة والمعتادة عندهم المعروفة فى الآية قبلها، فقال تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ؛ وأما حديث خالد فإنّه وإن كان أحوط من حديث جابر وأسماء [فإنّ حديث جابر «2» وأسماء] أسند وأصحّ؛ وحديث خالد لا يعرف إلّا من رواية بقيّة

ذكر ما جاء فى النهى عن عسب الفحل وبيع مائه

ابن الوليد الحمصىّ، وفيه مقال، حتّى إنّ بعضهم قال: «إنّ أحاديث بقيّة غير نقيّه، فكن منها على تقيّه» ؛ وصالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب الكندىّ الحمصىّ، قال البخارىّ: «فيه نظر» ؛ وقال موسى بن هارون: «لا يعرف صالح ولا أبوه إلّا بجدّه» ؛ وقال أبو داود فى سننه: «وحديث خالد هذا منسوخ، قد أكله «1» جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ وهذا الاعتراض على الحنفيّة أورده شيخنا الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ عليهم فى (كتاب الخيل) له؛ هذا ما قيل فى أكل لحومها. ذكر ما جاء فى النّهى عن عسب الفحل وبيع مائه روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل» . وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أنّ رجلا من كلاب سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنّا نطرق الفحل فنكرم، فرخّص له فى الكرامة؛ رواه الترمذىّ، وقال: «حسن غريب» . والعسب: الضّراب؛ والنهى عنه، أى [عن] كرائه؛ وقيل: العسب، ماء الفحل. ذكر ما جاء فى إكرام الخيل ومنع إذالتها روى أبو داود فى المراسيل، عن نعيم بن أبى هند- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم أتى بفرس، فقام إليه يمسح وجهه وعينيه ومنخريه بكمّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، تمسح بكّم قميصك؟ فقال: «إنّ جبريل عاتبنى فى الخيل» . وفى حديث آخر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بطرف ردائه وجه

ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحب من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها

فرسه، وقال: «إنّى عوتبت اللّيلة فى إذالة الخيل» . وعن الوضين بن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلّوها» . وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخيل وجلّلوها» . وعن مجاهد- رضى الله عنه- قال: «أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا ضرب وجه فرسه ولعنه، فقال: «هذه مع تلك؟ لتمسّنّك النار إلّا أن تقاتل عليه فى سبيل الله» ، فجعل الرجل يقاتل عليه إلى أن كبر وضعف، وجعل يقول: اشهدوا اشهدوا. وعن زيد بن ثابت- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى عين الفرس ربع ثمنه. وعن عروة البارقىّ قال: كانت لى أفراس فيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم، ففقأ عينه دهقان «1» ، فأتيت عمر- رضى الله عنه- فكتب إلى سعد بن أبى وقّاص أنّ خيّر الدّهقان بين أن يعطيه عشرين ألفا ويأخذ الفرس، وبين أن يغرم ربع الثمن؛ فقال الدهقان: ما أصنع بالفرس؟ فغرّم ربع الثمن. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: ما من ليلة إلّا ينزل ملك من السماء يحسّ «2» عن دوابّ الغزاة الكلال إلّا دابّة فى عنقها جرس. ذكر ما ورد من الأمر بارتباط الخيل وما يستحبّ من ألوانها وشياتها وذكورها وإناثها قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) ؛ قال الزمخشرىّ فى تفسيره: اصبروا على الدّين وتكاليفه؛ وصابروا أعداء الله فى الجهاد، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقلّ صبرا منهم وثباتا؛ ورابطوا: أقيموا

فى الثغور رابطين خيلكم مترصّدين مستعدّين للغزو. وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) . وعن قيس بن باباه، قال: سمعت سلمان- رضى الله عنه- يقول: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «1» ] : «ما من رجل مسلم إلّا حقّ عليه أن يرتبط فرسا إذا أطاق ذلك» . وعن [أبى] وهب الجشمىّ- وكانت له صحبة، رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عزّ وجلّ عبد الله وعبد الرحمن، وارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلّدوها ولا تقلّدوها الأوتار، وعليكم بكلّ كميت أغرّ محجّل، أو أشقر أغرّ محجّل، أو أدهم أغرّ محجّل» . هكذا ساقه النّسائىّ فى سننه. وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أدهم «2» محجّلا مطلق اليمنى فإنّك تغنم وتسلم» رواه الدّمياطىّ بسنده فى (كتاب الخيل) له. وعن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يمن الخيل فى شقرها» . واليمن: البركة. رواه أبو داود والترمذىّ؛ ولفظ الترمذىّ: «يمن الخيل فى الشّقر» . وروى الواقدىّ، عن سعيد بن خالد، عن داود بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس عن أبيه، عن جدّه- رضى الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الخيل الشّقر» .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خير الخيل الشّقر وإلّا فأدهم أغرّ محجّل ثلاث، مطلق اليمنى» . وذكر سليمان بن بنين النحوىّ المصرىّ فى كتاب (آلات الجهاد، وأدوات الصافنات الجياد) ، عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق تبوك، وقد قلّ الماء، فبعث الخيل فى كلّ وجه يطلبون الماء، فكان أوّل من طلع بالماء صاحب فرس أشقر، والثانى صاحب أشقر، وكذلك الثالث، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ بارك للشّقر» . وعن عمرو بن الحارث الأنصارىّ، عن أشياخ أهل مصر، قالوا: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «لو أنّ خيل العرب جمعت فى صعيد واحد ما سبقها إلّا أشقر» . وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الشّقر. وعن أبى قتادة الأنصارىّ- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «خير الخيل الأدهم الأقرح «1» الأرثم «2» ، ثمّ الأقرح «3» المحجّل طلق «4» اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشّية «5» » هكذا ساقه الترمذىّ؛ ورواه أيضا ابن ماجة، ولفظه: «خير الخيل الأدهم الأقرح «6» الأرثم «7» المحجّل طلق «8» اليد اليمنى، فإن لم يكن أدهم فكميت

على هذه الشّية» . وفى بعض ألفاظه عن يزيد «1» بن أبى حبيب، قال: قال النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: «الخير فى الأدهم الأقرح «2» الأرثم «3» محجّل ثلاث، طلق «4» اليمنى ثمّ أغرّ بهيم-[وفى لفظ «5» : الأدهم [البهيم «6» ] ، أو أغرّ بهيم]- ويسلم «7» ان شاء الله، فإن لم يكن أدهم فكميت فى هذه الشية» وروى أبو عبيدة من حديث ابن شبرمة، قال: حدّثنى الشّعبىّ فى حديث رفعه، أنّه قال: «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأدهم المحجّل الثلاث، المطلق اليد اليمنى» . وعن عقبة بن عامر- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أغرّ «8» محجّلا مطلق اليمنى، فإنك تسلم وتغنم» . وعن موسى بن علىّ بن رباح عن أبيه- رضى الله عنهما- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّى أريد أن أبتاع فرسا، أو أفنّد «9» فرسا؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك به كميتا أو أدهم أقرح «10» أرثم «11» محجّل ثلاث، طلق «12» اليمنى» .

ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك

وعن عطاء- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ خير الخيل الحوّ» . الحوّ: جمع أحوى «1» . وسيأتى شرح لونه فى ذكر الألوان والشّيات. وعن نافع بن جبير، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اليمن فى الخيل فى كلّ أحوى «2» أحمّ» . ذكر ترجيح إناث الخيل على فحولها وترجيح فحولها على إناثها وما جاء فى ذلك عن يحيى بن كثير- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بإناث الخيل، فإنّ ظهورها عزّ، وبطونها كنز» . وفى لفظ: «ظهورها حرز» . وروى أنّ خالد بن الوليد- رضى الله عنه- كان لا يقاتل إلّا على أنثى، [لأنّها «3» ] تدفع البول وهى تجرى، والفحل يحبس البول فى جوفه حتّى ينفتق «4» ، و [لأن «5» ] الأنثى أقلّ صهيلا.

ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذم من عصمها ورجلها

وروى عن عبادة بن نسىّ «1» ، أو ابن محيريز «2» أنّهم كانوا يستحبّون إناث الخيل فى الغارات والبيات «3» ولما خفى من أمور الحرب، وكانوا يستحبّون فحول الخيل فى الصّفوف والحصون والسّير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب «4» ، وكانوا يستحبّون خصيان الخيل فى الكمين والطلائع، لأنّها أصبر وأبقى فى الجهد. وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: كان السلف يستحبّون الفحولة من الخيل، ويقولون: هى أجسر «5» وأجرأ. وحكاه البخارىّ فى جامعه عن راشد بن سعد قال: كان السلف يستحبّون الفحول من الخيل، لأنّها أجرأ وأجسر. ذكر ما ورد فى شؤم الفرس وما يذمّ من عصمها ورجلها روى عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم فى الدّار والمرأة والفرس» . وفى لفظ عنه صلى الله عليه وسلم: «الشؤم فى ثلاثة: فى الفرس والمرأة والدّار» . وقد قيل فى هذا الحديث: إنّ المراد بالشؤم: شؤم المرأة اذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس اذا لم يغز عليها وشؤم الدار جار السوء؛ قاله معمر. وقد صحّ عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «البركة فى ثلاث: فى الفرس والمرأة والدّار» . وسئل سالم بن عبد الله- وهو راوى هذا الحديث عن رسول الله

صلّى الله عليه وسلم- ما معناه؟ فقال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «اذا كان الفرس ضروبا فهو مشئوم، واذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنّت إلى الزوج الأوّل فهى مشئومة، واذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان والإقامة فهى مشئومة، واذا كنّ بغير هذا الوصف فهنّ مباركات» . وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: كان النّبىّ صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال من الخيل. والشّكال: أن يكون للفرس فى رجله اليمنى بياض وفى يده اليسرى، أو فى يده اليمنى وفى رجله اليسرى؛ قال أبو داود: أى مخالف؛ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة؛ ورواه الترمذىّ والنّسائىّ، ولفظهما: أنّه كان يكره الشّكال فى الخيل؛ وزاد النّسائىّ: والشّكال من الخيل: أن تكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو تكون الثلاث مطلقة وواحدة محجّلة. وقال شيخنا شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله-: وليس يكون الشّكال إلّا فى الرّجل، ولا يكون فى اليد. وهذا الذى زاده النّسائىّ هو قول أبى عبيدة. وقال ابن دريد: الشّكال: أن يكون الحجل «1» فى يد ورجل من شقّ واحد، فان كان مخالفا قيل: شكال مخالف. وقال أبو عمر المطرّز: وقيل، الشّكال: بياض الرّجل اليمنى واليد اليمنى؛ وقيل: بياض اليد اليسرى والرّجل اليسرى؛ وقيل: بياض الرجلين ويد واحدة. قال الشيخ: والصحيح من صفة الشّكال ما ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: أنه البياض الذى يكون بيد ورجل من خلاف قلّ أو كثر، وهو الذى ورد فى صحيح مسلم وسنن أبى داود؛ قال الشيخ: وكراهته تحتمل وجهين: إما تفاؤلا، لشبهه المشكول المقيّد الذى لا نهوض فيه، وإمّا لجواز أن

ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحل منه وما يحرم وكيفية التضمير عند السباق، وأسماء السوابق فى الحلبة

يكون هذا النوع قد جرّب فلم توجد فيه نجابة؛ وقيل: إذا كان مع ذلك أغرّ زالت الكراهة لزوال شبهه الشّكال. والرّجل: إذا كان البياض بإحدى رجليه فهو أرجل، ويكره إلّا أن يكون به وضح غيره؛ وقيل: لا يكره إلا إذا كان البياض فى رجله اليسرى خاصّة؛ وقيل: الأرجل، هو الذى لا يكون فيه بياض سوى قطعة فى رجله غير دائرة حوالى الإكليل «1» ؛ يقال: رجل الفرس، إذا ابيضّت إحدى رجليه؛ وسيأتى بيان التحجيل والعصم وغيرهما عند ذكرنا للشّيات؛ والله أعلم. ذكر ما جاء فى سباق الخيل وما يحلّ منه وما يحرم وكيفيّة «2» التضمير عند السّباق، وأسماء السّوابق فى الحلبة روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق «3» إلّا فى خفّ أو حافر أو نصل» رواه أبو داود والترمذىّ والنّسائىّ. وفى رواية أخرى للنّسائىّ: «لا يحلّ سبق «4» إلّا على خفّ أو حافر» ، وسئل «5» ابن عمر- رضى الله عنهما- أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له.

وعنه- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التى قد ضمّرت «1» من (الحفياء «2» ) ، وكان أمدها (ثنيّة الوداع) ، وسابق بين الخيل التى لم تضمّر «3» من (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «4» ) ، وأنّ ابن عمر كان ممّن سابق بها. قال سفيان الثّورىّ: بين الحفياء «5» إلى (ثنيّة الوداع) خمسة أميال أو ستّة، ومن (الثّنيّة) إلى (مسجد بنى زريق «6» ) ميل. وقال موسى بن عقبة: بين (الحفياء «7» ) (وثنيّة الوداع) ستّة أميال أو سبعة، وبين (الثّنيّة) (والمسجد) ميل أو نحوه؛ رواه البخارىّ وغيره. وفى لفظ آخر، عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّق بين الخيل، فجعل غاية المضمّرة «8» من (الحفياء «9» ) الى (ثنيّة الوداع) ، وما لم يضمّر «10» من (ثنيّة الوداع) إلى (مسجد بنى زريق «11» ) ؛ قال ابن عمر: فجئت سابقا فطفر بى الفرس المسجد. وذكر ابن بنين فى كتابه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل، والمصلّى حلّتين، والثالث حلّة، والرابع دينارا، والخامس درهما، والسادس قصبة، وقال: «بارك الله فيك وفى كلّكم وفى السابق والفسكل «12» » . وروى البلاذرىّ عن ابن سعد عن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جدّه، قال:

أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فسبقت على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظّرب «1» ) ، فكسانى بردا يمانيّا. وعن الواقدىّ، عن سليمان بن الحارث، عن الزبير بن المنذر بن أبى أسيد، قال: سبق أبو أسيد الساعدىّ على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (لزاز «2» ) ، فأعطاه حلّة يمانيّة. وعن مكحول- رضى الله عنه- قال: طلعت الخيل وقد تقدّمها فرس للنبى صلى الله عليه وسلم، فبرك على ركبتيه، وأطلع رأسه من الصفّ، وقال: «كأنّه بحر» . وفى لفظ عن مكحول: فجاء فرس له أدهم سابقا، وأشرف على الناس، فقالوا: الأدهم الأدهم، وجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ومرّ به وقد انتشر ذنبه وكان معقودا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر» . وأوّل مسابقة كانت فى الإسلام سنة ستّ من الهجرة، سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فسبق فرس لأبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فأخذ السّبق «3» . والمسابقة ممّا كان فى الجاهليّة فأقرّه الإسلام؛ وليس هو من باب

تعذيب البهائم «1» ، بل من تدريبها بالجرى وإعدادها لحاجتها للطّلب والكرّ؛ واختلف فيه، هل هو من باب المباح، أو من باب المرغّب فيه والسّنن. وعن سعيد بن المسيّب أنه قال: ليس برهان الخيل بأس اذا أدخلوا فيها محلّلا «2» ليس دونها، إن سبق أخذ السّبق «3» ، وإن سبق لم يكن عليه شىء. وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم، قال: «من أدخل فرسا بين فرسين- يعنى وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» ؛ رواه أبو داود فى الجهاد فى باب المحلّل، ورواه ابن ماجة. قال الشيخ شرف الدّين الدّمياطىّ- رحمه الله تعالى- قوله: «من أدخل فرسا» ، هو فرس المحلّل اذا كان كفؤا يخافان أن يسبقهما فيحرز السّبق «4» ، فهو جائز؛ وان كان بليدا مأمونا أن يسبق فيحرز السّبق «5» لم يحصل به معنى التحليل، وصار إدخاله بينهما لغوا لا معنى له، وحصل الأمر على رهان من فرسين لا محلّل بينهما، وهو عين القمار. وقال القاضى أبو الفضل: لا خلاف فى جواز المراهنة فيها- يعنى المسابقة- وأنّها خارجة من باب القمار، لكن لذلك صور: إحداها متّفق على جوازها، والثانية متّفق على منعها، وفى الوجوه الأخر خلاف؛ فأمّا المتّفق على جوازه فأن يخرج الوالى سبقا «6» يجعله للسابق من المتسابقين ولا فرس له

فى الحلبة، فمن سبق فهو له؛ وكذلك لو أخرج أسباقا أحدها للسابق، والثانى للمصلّى، والثالث للثالث، وهكذا، فهو جائز، ويأخذونه على شروطهم؛ وكذلك لو فعل متطوّعا رجل من الناس ممّن لا فرس له فى الحلبة، لأنّ هذا قد خرج من معنى القمار الى باب المكارمة والتفضّل على السابق، وقد أخرجه عن يده بكلّ حال؛ وأمّا المتّفق على منعه فأن يخرج كلّ واحد من المتسابقين سبقا، فمن سبق منهما أخذ سبق صاحبه وأمسك متاعه، فهذا قمار عند مالك والشافعىّ وجميع العلماء ما لم يكن بينهما محلّل [فان كان بينهما «1» محلّل] فجعلا له السّبق إن سبق ولا شىء عليه إن سبق فأجازه ابن المسيّب، وقاله مالك مرّة، والمشهور عنه أنّه لا يجوز؛ وقال الشافعىّ مثل قول ابن المسيّب؛ فإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وسبق صاحبه، وإن تساويا كان لكلّ واحد منهما ما أخرج، وإن سبق المحلّل حاز السّبقين، وان سبق أحدهما مع المحلّل أحرزا سبق المتأخّر؛ وسمّى المحلّل محلّلا لتحليله السبق بدخوله، لأنّه علم أنّ المقصد بدخوله السّبق لا المال، وان لم يكن بينهما محلّل فمقصدهما المال والمخاطرة فيه؛ وقال محمد بن الحسن نحوه والأوزاعىّ وأحمد وإسحاق؛ ومن الوجوه المختلف فيها أن يكون الوالى أو غيره ممّن أخرج السّبق له فرس فى الحلبة، فيخرج سبقا على أنّه إن سبق هو حبس سبقه، وإن سبق أخذه السابق، فأكثر العلماء يجيزون هذا الشرط، وهو أحد أقوال مالك وبعض أصحابه، وهو قول الشافعىّ واللّيث والثّورىّ وأبى حنيفة قالوا: «الأسباق على ملك أربابها، وهم فيها على شروطهم» ؛ وأبى ذلك مالك فى الرواية الأخرى وبعض أصحابه وربيعة والأوزاعىّ، وقالوا: «لا يرجع اليه سبقه» ؛ قال

مالك: وإنما يأكله من حضر إن سبق مخرجه إن لم يكن مع المتسابقين ثالث، فإن كان معهما ثالث فللّذى يلى مخرجه إن سبق، فإن سبق غيره فهو له بغير خلاف، فخرج هذا عندهم عن معنى القمار جملة؛ ولحق بالأوّل، لأن صاحبه قد أخرجه عن ملكه جملة، وتفضّل بدفعه؛ وفى الوجوه الأخر معنى من القمار والخطر، لأنها مرّة ترجع الأسباق لمخرج أحدها، ومرّة تخرج عنه إلى غيره. ومن شرط وضع الرّهان فى المسابقة أن تكون الخيل متقاربة الحال فى سبق بعضها بعضا، فمتى تحقّق حال أحدها فى السّبق كان الرّهان فى ذلك قمارا لا يجوز، وإدخال المحلّل لغوا لا معنى له؛ وكذلك إن كانت متقاربة الحال ممّا يقطع غالبا بسبق جنسها، كالمضمّرة مع غير المضمّرة، والعراب مع غيرها، فلا تجوز المراهنة فى مثل هذا؛ وقد ميّز النّبىّ صلى الله عليه وسلم ما ضمّر فى السّباق، وأفرده عن ما لم يضمّر، وتجوز فيها المسابقة بغير رهان، وإنّما يدخل التحليل والتحريم مع الرّهان. [ومن شرطها «1» أيضا] الأمد لسباقها؛ وحكى عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: اذا سبق الفرس بأذنه فهو سابق، هذا إذا تساوت أعناق الخيل فى الطّول، فإن اختلفت أعناقها بالطّول والقصر كان السّبق بالكاهل. وأمّا أسماء السوابق فى الحلبة- فالسوابق عند أبى عبيدة عشرة: أوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم الثالث والرابع كذلك إلى التاسع، والعاشر السّكيت، ويقال بالتشديد. وقال ابن قتيبة: «فما جاء بعد ذلك لم يعتدّ به» ؛ والفسكل: الذى يجىء فى الحلبة آخر الخيل. وأمّا الأصمعىّ فإنّه يقول: أوّلها المجلّى، وهو المقصّب، أى محرز قصب السّبق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثم التالى، ثم المؤمّل،

ثم المرتاح، ثم العاطف، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت. وقال ابن الأنبارىّ فى (الزاهر) : الأوّل المجلّى، الثانى المصلّى، الثالث المسلّى، الرابع التالى، الخامس المرتاح، السادس العاطف، السابع الحظىّ، الثامن المؤمّل، التاسع اللّطيم، العاشر السّكيت، والكاف منه تخفّف وتشدّد، قال الشاعر: جاء المجلّى والمصلّى بعده ... ثمّ المسلّى بعده والتالى نسقا وقاد حظيّها مرتاحها ... من قبل عاطفها بلا إشكال وقال أبو الغوث: أوّلها المجلّى، وهو السابق، ثم المصلّى، ثم المسلّى، ثمّ التّالى، ثم العاطف، ثم المرتاح، ثم المؤمّل، ثم الحظىّ، ثم اللّطيم، ثم السّكيت؛ وأنشد بعضهم فى العشرة: أتانا المجلّى والمصلّى بعده ... مسلّ وتال بعده عاطف يجرى ومرتاحها ثمّ الحظى ومؤمّل ... وجاء اللّطيم والسكيت له يبرى «1» وقال الجاحظ: كانت العرب تعدّ السوابق ثمانية، ولا تجعل لما جاوزها حظّا، فأوّلها السابق، ثم المصلّى، ثم المقفّى، ثم التالى، ثم العاطف، ثم المذمّر، ثمّ البارع «2» ، ثم اللّطيم؛ وكانت العرب تلطم وجه الآخر وان كان له حظّ. وقال ابن الأجدابىّ: المحفوظ عن العرب السابق والمصلّى والسكيت الذى هو العاشر، وأمّا باقى الأسماء فأراها محدثة، والفسكل: الذى يأتى آخر الخيل

كيفية تضمير الخيل

فى الحلبة. وقال غيره: وما يجىء بعد هذه- يعنى العشرة- فهو المقردح؛ وأنشد على ذلك: قد سبق الخيل الهجان الأقرح «1» ... وأقبلت من بعده تقردح والفسكل: الذى يجىء فى أخريات الخيل، والذى يجىء بعده القاشور، وما جاء بعد ذلك لا حظّ له ولا اعتداد به؛ وقيل: السكيت والفسكل والقاشور بمعنى واحد. وممّا يتّصل بهذا الفصل ترتيب عدو الفرس- وأوّله الخبب، ثم التقريب، ثم الإمجاج، ثم الإحضار، ثم الإرخاء، ثم الإهذاب، ثم الإهماج. كيفية تضمير الخيل قد حكى ابن بنين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإضمار خيله بالحشيش اليابس شيئا بعد شىء، وطيّا بعد طىّ، ويقول: «أرووها من الماء، واسقوها غدوة وعشيّا، وألزموها الجلال «2» ... «3» فتصفو ألوانها، وتتّسع جلودها» . وأمر صلّى الله عليه وسلم أن يقودوها فى كلّ يوم مرّتين، ويؤخذ منها من الجرى الشّوط والشّوطان، ولا تركض حتّى تنطوى. قال الشيخ- رحمه الله-: والتضمير: تقليل علفها مدّة، وادخالها بيتا كنينا، وتجليلها فيه لتعرق ويجفّ عرقها، فيصلب لحمها ويخفّ، وتقوى على الجرى؛ يقال: «ضمّرت الفرس وأضمرته» .

ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين

ذكر ما يقسم لصاحب الفرس من سهام الغنيمة والفرق فى ذلك بين العراب والهجن والبراذين عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما. وفى لفظ: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين، وللرجل سهما؛ رواه البخارىّ ومسلم وأبو داود والترمذىّ وابن ماجة. وفى لفظ أبى داود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه؛ ولفظ ابن ماجة: أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، وللرّجل سهم. وعن مكحول- رضى الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هجّن الهجين يوم خيبر، وعرّب العرب، للعربىّ سهمان، وللهجين سهم. وعن خالد ابن معدان- رضى الله عنه- قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للعربىّ سهمين، وللهجين سهما. وعن أبى موسى أنّه كتب الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنهما- «إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكّا «1» ، فما يرى أمير المؤمنين فى سهامها» ؟ فكتب: «تلك البراذين، فما قارب العتاق فاجعل له سهما واحدا، وألغ ما سوى ذلك» . وعن أبى الأقمر قال: أغارت الخيل على الشأم، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له المنذر بن

أبى حمضة «1» ، فقال: «لا أجعل التى أدركت من يومها مثل التى لم تدرك» ، ففضّل الخيل، فكتب فى ذلك الى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- فقال: «هبلت الوادعىّ «2» أمّه، لقد أذكرنى أمرا كنت أنسيته، امضوها على ما قال» . والكوادن: جمع كودن، وهو البرذون؛ ومذهب مالك والشافعىّ وأبى حنيفة التسوية بين العربىّ وغيره، إلّا أنّهم جعلوا «3» لكلّ واحد منهما سهما واحدا؛ قال مالك: ولا أرى البراذين والهجن إلّا من الخيل لأنّ الله تعالى قال فى كتابه: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) ، وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) قال: «فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل اذا أجازها الوالى» . قال ابن حبيب: البراذين هى العظام، يريد الجافية الخلقة، العظيمة الأعضاء، وليست العراب كذلك، فإنّها أضمر وأرقّ أعضاء وأعلى خلقة؛ وأمّا الهجن فهى التى أبوها عربىّ وأمّها من البراذين. قال الشيخ- رحمه الله تعالى-: ومذهب جمهور العلماء أنه يقسم للفرس سهمان، ولصاحبه سهم على ما فرضه النّبىّ صلى الله عليه وسلم، لأنّ

مؤونة الفرس أكثر من مؤونة فارسه، وغناءه أكثر من غناء الفارس، فاستحقّ الزيادة فى القسم من أجل ذلك؛ قال: وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يقسم للفرس كما يقسم للرجل؛ وقال: «لا يكون أعظم منه حرمة» ؛ ولم يتابعه أحد على ذلك إلّا شىء يروى عن علىّ وأبى موسى؛ وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعىّ إلى أنّه لا يقسم إلّا لفرس واحد، ودليلهم ما رواه ابن سعد فى طبقاته: أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت يوم حنين بإحصاء الناس والغنائم فكان السّبى ستّة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقيّة فضّة، فأخذ من ذلك الخمس، ثم فضّ الباقى على الناس، فكانت سهامهم لكلّ رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، وإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل وعشرين ومائة شاة، وان كان معه أكثر من فرس لم يسهم له. وذهب الأوزاعىّ والثّورىّ واللّيث بن سعد وأبو يوسف وأحمد ابن حنبل- رحمهم الله- الى أنه يسهم لفرسين، وروى مثله عن مكحول ويحيى ابن سعيد وابن وهب ومحمد بن الجهم «1» من المالكيّة، وحكاه محمد بن جرير الطبرىّ فى تاريخه، فقال: «ولم يكن يسهم للخيل اذا كانت مع الرجل إلّا لفرسين» ودليلهم ما ذكره ابن مندة فى ترجمة البراء بن أوس بن خالد أنّه قاد مع النّبىّ صلى الله عليه وسلم فرسين، فضرب له النّبىّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم؛ ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلّا شيئا يروى عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن غزا بأفراس لكلّ فرس سهمان؛ واختلفوا فى الإسهام للفرس المريض الذى يرجى برؤه على قولين، أحدهما: يسهم له نظرا إلى الجنس؛ والثانى: لا يسهم له، لأنه لا غناء فيه كالبغل والحمار؛ والله الموفّق للصواب.

ذكر سقوط الزكاة فى الخيل

ذكر سقوط الزكاة فى الخيل روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على المرء المسلم فى فرسه ولا مملوكه صدقة» متّفق عليه. وفى لفظ عنه: «ليس على المسلم فى عبده ولا فى فرسه صدقة» . وفى لفظ: «ليس فى الخيل والرّقيق زكاة إلّا زكاة الفطر فى الرّقيق» . وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وضع الصدقات فليس على الخيل صدقة، وليس على الحمر صدقة، وليس على البغال صدقة، وليس على الإبل التى يسقى عليها الماء للنّواضح صدقة» . وعن أبى عمرو عبد الله بن يزيد الحرّانىّ، قال: حدّثنى سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا صدقة فى الكسعة والجبهة والنّخّة» ؛ فسّره أبو عمرو، الكسعة: الحمير. والجبهة: الخيل. والنّخّة: العبيد. ويقال: النّخّة، البقر العوامل؛ قال ثعلب: هذا هو الصواب، لأنّه من النّخّ، وهو السّوق الشديد؛ وقال الكسائىّ: إنما هو النّخّة بالضمّ، قال: وهو البقر العوامل؛ وقال الفرّاء: النّخّة بالفتح، أن يأخذ المصدّق دينارا لنفسه بعد فراغه من أخذ الصدقة، وأنشد: عمّى الذى منع الدّينار صاحبه ... دينار نخّة كلب وهو مشهود وعن علىّ- رضى الله عنه- قال: قال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: «عفوت لكم عن الخيل والرّقيق» . وعنه- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد عفوت لكم عن الخيل والرّقيق فهاتوا صدقة الرقة من كلّ أربعين درهما درهما، وليس فى تسعين ومائة شىء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة

دراهم» . وفى لفظ آخر عنه، عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شىء- يعنى فى الذهب- حتّى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» . قال الجوهرىّ: الورق، الدراهم المضروبة، وكذلك الرّقة، والهاء عوض من الواو؛ وفى الورق ثلاث لغات حكاهنّ الفرّاء: ورق، وورق، وورق. وعن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ تجوّز لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» . وعن عبد الله بن دينار قال: سألت سعيد بن المسيّب، فقلت: أفى البراذين صدقة؟ فقال: أفى الخيل صدقة؟. وعن حارثة بن مضرّب قال: جاء ناس من أهل الشأم إلى عمر فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطهور؛ فقال: ما فعله صاحباى فأفعله، فاستشار أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم وفيهم علىّ- رضى الله عنه- فقال علىّ: «هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعدك «1» » . وعن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار أنّ أهل الشأم قالوا لأبى عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة، فأبى؛ ثم كتب إلى عمر بن الخطّاب، فأبى، فكلّموه أيضا، فكتب إلى عمر، فكتب إليه أيضا عمر: إن أحبّوا فخذها منهم وارددها، يعنى فى فقرائهم.

فدلّت هذه الأحاديث والأخبار على أن لا صدقة فى الخيل السائمة ولا فى الرّقيق إذا كانوا للخدمة، إلّا أن يكونوا للتجارة، فان كانوا للتجارة ففى أثمانهم أو قيمهم الزكاة إذا حال عليها الحول، وعلى هذا مذهب الجمهور؛ وذهب أبو حنيفة- رحمه الله- دون صاحبيه إلى وجوب الزّكاة فى الخيل السائمة إذا كانت إناثا، أو إناثا وذكورا، وقال: هو مخيّر بين أن تقوّم وتؤخذ الزكاة من القيمة، وبين أن يخرج عن كلّ فرس دينارا؛ واحتجّوا له بقوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها وظهورها» ؛ قال المخالف لهم: وليس فيه دليل من وجهين: أحدهما أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر الإبل السائمة وقال: «فيها حقّ» سئل عن ذلك الحقّ ما هو؟ فقال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحة لبنها أو سمنها، وحلبها على الماء، وحمل عليها فى سبيل الله» ؛ فلمّا كانت الإبل فيها حقّ سوى الزكاة احتمل أن يكون فى الخيل أيضا حقّ سوى الزكاة؛ وقد روى التّرمذىّ» وابن ماجة حديث فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ فى المال حقّا سوى الزّكاة» وتلا هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الخ الآية؛ فيجوز أن يحمل الحقّ فى رقابها وظهورها على هذا الوجه. الثانى أن يحمل الحقّ فيها على التأكيد لا على الوجوب، كقوله «2» صلّى الله عليه وسلم فى حديث معاذ: «وحقّ العباد «3» على الله عزّ وجلّ أن لا يعذّبهم اذا فعلوا

ذلك» ، فهذا محمل قوله عليه السلام: «ثم لم ينس حقّ الله فى رقابها» وتأويله. قال شيخنا شرف الدّين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطىّ- رحمه الله-: ولنا أن نقول فيه أيضا: هو مجمل، والأحاديث المتقدّمة مفسّرة تقضى «1» عليه، وظواهرها حجج متضافرة على ترك الزكاة فى الخيل؛ قال: فهذا وجهه من طريق السنّة والأثر؛ وأمّا وجهه من طريق النظر فمن وجهين: أحدهما أن السّوم فى الخيل نادر عند العرب، فلا زكاة فيها كالبغال والحمير، الثانى أنّ الزكاة لو وجبت فى الخيل لتعدّى ذلك إلى ذكورها قياسا على المواشى من الإبل والبقر والغنم. وقال الطّبرىّ والطّحاوىّ: والنظر أنّ الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع على أن لا صدقة فيها، وردّ المختلف [فيه] إلى المتّفق «2» عليه إذا اتّفقا فى المعنى أولى. وقال أبو عبيد: وكان بعض الكوفيّين يرى فى الخيل صدقة اذا كانت سائمة يبتغى منها النسل، فقال: إن شاء أدّى عن كلّ فرس دينارا، وإن شاء قوّمها ثم زكّاها؛ قال: وإن كانت للتجارة كانت كسائر أموال التجارة يزكّيها؛ قال أبو عبيد: أمّا قوله فى التّجارة فعلى ما قال؛ وأمّا إيجابه الصدقة فى السائمة فليس هذا على اتباع السنّة، ولا على طريق النظر، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عن صدقتها، ولم يستثن سائمة ولا غيرها؛ وأمّا فى النظر، فكان يلزمه اذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها، لأنّها سائمة مثلها، فلم يصر إلى واحد من الأمرين؛ وقد جاء عن غير واحد من التابعين إسقاط الزكاة من سائمتها، فروى عن الحسن

أنّه قال: «ليس فى الخيل السائمة صدقة» ؛ وعن عمر بن عبد العزيز قال: «ليس فى الخيل السائمة زكاة» ؛ وقال أبو عبيد: وقد قال مع هذا بعض من يقول بالحديث ويذهب اليه: إنه لا صدقة فى سائمتها ولا فيما كان منها للتجارة أيضا؛ يذهب الى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد عفونا لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» ؛ فجعله عامّا، فلا زكاة فى شىء منها؛ قال أبو عبيد: فأوجب ذلك الأوّل الصدقة عليها فى الحالين جميعا، وأسقطها هذا منهما كلتيهما؛ وأحد القولين عندى غلوّ، والآخر تقصير، والقصد «1» فيما بينهما هو أن تجب الصدقة فيما كان منها للتجارة، وتسقط من السائمة؛ على هذا وجدنا مذهب العلماء، وهم أعلم بتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول سفيان بن سعيد ومالك وأهل العراق وأهل الحجاز والشأم، لا أعلم بينهم فى هذا اختلافا؛ والله أعلم بالصواب. كمل الجزء التاسع «2» من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء العاشر، وأوّله: ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السنّ وتسمية أعضائها وأبعاضها وألوانها وشياتها الخ والحمد لله رب العالمين

فهرس الجزء العاشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... صفحة ذكر ما وصفت به العرب الخيل من ترتيبها فى السن، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها الخ أما ترتيبها فى السن 1 وأما ما قيل فى تسميتها، وتسمية أعضائها وأبعاضها 1 وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الانسان 2 وأما العنق وما فيه 3 وأما الظهر وما اتصل به من الوركين 4 وأما الصدر وما اتصل به من البطن 5 وأما الذراعان وما دونهما 5 وأما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر 5 وأما الشية 12 وأما ما فى الفرس من الدوائر 16 وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها والعلامات الدالة على جودة الفرس ونجابته 19

ومما يستحب من أوصافها فى الخلق 22 وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها وفى جريها والتى تطرأ عليها وتحدث فيها 27 فأما التى فى خلقتها 27 وأما العيوب التى فى جريها 30 وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها 31 ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم 33 ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب 39 ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا 48 طرئف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة 65 ذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة 67 الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير ذكر ما قيل فى البغال 79 ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم 80 ذكر شىء مما وصفت به البغال 85 ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية 93 ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار 95 ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم 97 الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث فى الإبل والبقر والغنم ذكر ما قيل فى الإبل 103 أما تسميتها من حين تولد الى أن تتناهى سنها 104 وأما أسماء ما يركب منها ويحمل عليه 105

وأما ما اختصت به النوق من الأسماء والصفات 106 ومن أوصافها فى السير 107 وأما ألوان الإبل 108 وأما ترتيب سيرها 108 وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للراحة والإراحة 109 ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها 109 ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل 111 ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا 115 ذكر ما قيل فى البقر الأهلية 120 ذكر ما قيل فى الجاموس 124 ذكر ما قيل فى الغنم الضأن والمعز 125 ذكر ترتيب سنّ الغنم 127 القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم، وفيه بابان الباب الأوّل ويشتمل على ما قيل فى الحيات والعقارب ذكر ما قيل فى الحيات 133 ذكر ما فى لحوم الحيات من المنافع والأدوية 140 ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى 143 ذكر ما قيل فى العقارب 147

... صفحة الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم ويشتمل على ما قيل فى الخنافس والوزغ والضب وابن عرس والحرباء والقنافذ والفئران والقراد والنمل والذر والقمل والصؤاب فأما الخنافس وما قيل فيها 152 وأما الوزغ وما قيل فيه 154 وأما الضب وما قيل فيه 155 وأما الحرباء وما قيل فيها 159 وأما ابن عرس وما قيل فيه 161 وأما القنافذ وما قيل فيها 162 وأما الفئران وما قيل فيها وأنواعها 166 فأما الجرذ والفأر 166 وأما الزباب 170 وأما الخلد 170 وأما اليربوع 170 وأما فأرة المسك 171 وأما فأرة الإبل 172 وأما القراد وما قيل فيه 172 وأما النمل والذرّ وما قيل فيهما 173 وأما القمل والصؤاب وما قيل فيهما 177

القسم الخامس فى أجناس الطير وأنواع السمك وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير وباب فى السمك وذيل لذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البر والبحر وهو باب ثامن الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير، ويشتمل على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشواهين وأصناف ذلك ذكر ما قيل فى العقاب 181 وأما الزمج وهو الصنف الثانى من العقاب 184 ذكر ما قيل فى البازى وأصنافه 186 فأما البازى 186 وأما الزرّق 191 وأما الباشق 191 وأما العفصىّ 193 وأما البيدق 194 ذكر ما قيل فى الصقر وأصنافه 195 فأما الصقر 195 وأما الكونج وهو الصنف الثانى من الصقر 198 وأما اليؤيؤ وهو الصنف الثالث من الصقر 199 ذكر ما قيل فى الشاهين وأصنافه 200 فأما الشاهين 200 وأما الأنيقى وهو الصنف الثانى من الشاهين 203 وأما القطامى وهو الصنف الثالث من الشاهين 204 فصل فى ذكر ما ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ 204

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطير، ويشتمل على ما قيل فى النسر والرخم والحدأة والغراب ذكر ما قيل فى النسر 206 ذكر ما قيل فى الرخم 207 ذكر ما قيل فى الحدأة 209 ذكر ما قيل فى الغراب وأصنافه 209 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير، ويشتمل على ما قيل فى الدراج والحبارى والطاوس والديك والدجاج والحجل والكركى والإوز والبط والنحام والأنيس والقاوند والخطاف والقيق والزرزور والسمانى والهدهد والعقعق والعصافير فأما الدراج وما قيل فيه 214 وأما الحبارى وما قيل فيه 215 وأما الطاوس وما قيل فيه 216 وأما الديك والدجاج وما قيل فيهما 217 ذكر ما جاء فى الديكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها 219 ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدجاجة والديك 226 ومما قيل فى الدجاجة والديك 227 وأما الحجل وما قيل فيه 233 وأما الكركىّ وما قيل فيه 234 وأما الإوز وما قيل فيه وأصنافه 235 وأما البط وما قيل فيه وأصنافه 236

وأما النحام وما قيل فيه 237 وأما الأنيس وما قيل فيه 238 وأما القاوند وما قيل فيه 238 وأما الخطاف وما قيل فيه 238 وأما القيق والزرزور وما قيل فيهما 241 ما قيل فى القيق 241 وأما الزرزور 242 وأما السمانى وما قيل فيه 245 وأما الهدهد وما قيل فيه 246 وأما العقعق وما قيل فيه 248 وأما العصافير وما قيل فيها وأنواعها 249 فأما العصافير البيوتى 249 وأما عصفور الشوك 250 وأما عصفور النيلوفر 250 وأما القبرة 251 وأما حسون 251 وأما البلبل 252 الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير ويشتمل على ما قيل فى القمرىّ والدبسىّ والورشان والفواخت والشفنين واليعتبط والنوّاح والقطا واليمام وأصنافه والببغاء أما القمرى وما قيل فيه 258 وأما الدبسىّ وما قيل فيه 258 وأما الورشان وما قيل فيه 259

وأما الفواخت وما قيل فيها 259 وأما الشفنين وما قيل فيه 260 وأما اليعتبط وما قيل فيه 261 وأما النوّاح وما قيل فيه 261 وأما القطا وما قيل فيه 261 ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعرية الجامعة لمجموع هذا النوع 265 وأما اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه 268 فأما الرواعب 268 وأما المراعيش 268 وأما العدّاد 269 وأما الميساق 269 وأما الشدّاد 269 وأما القلّاب 269 وأما المنسوب 269 ذكر ما قيل فى طوق الحمامة 277 ذكر شىء مما وصفت به هذا النوع نظما ونثرا 279 وأما الببغاء وما قيل فيها 280 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلى ويشتمل على ما قيل فى الخفاش والكروان والبوم والصدى فأما الخفاش وما قيل فيه 283 وأما الكروان وما قيل فيه 285

وأما البوم وما قيل فيه 285 وأما الصدى وما قيل فيه 286 الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج وهو مما يطير كالنحل والزنبور والعنكبوت والجراد ودود القز والذباب والبعوض والبراغيث والحرقوص فأما النحل وما قيل فيه 287 وأما الزنبور وما قيل فيه 289 وأما العنكبوت وما قيل فيه 290 وأما الجراد وما قيل فيه 292 وأما دود القز وما قيل فيه 297 وأما الذباب وما قيل فيه 298 وأما البعوض وما قيل فيه 301 وأما البراغيث وما قيل فيها 303 وأما الحرقوص وما قيل فيه 305 الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك ذكر شىء من أنواع الأسماك 312 فأما الدلفين 313 وأما الرعاد 313 وأما التمساح 314 وأما السقنقور 315

وأما السلحفاة واللجأة 316 وأما الفرس النهرى 317 وأما الجند بيدستر 318 وأما حيوان القندس والفاقم 319 وأما الضفادع 319 وأما السرطان وما قيل فيه 321 ذكر شىء من عجائب الحيوان المائى 322 الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث ويشتمل على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البر والبحر ووصف رماة البندق وما يجرى هذا المجرى ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق 324 ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما 348 ذكر شىء مما قيل فى سبطانة 350 ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدبق 351

الجزء العاشر

الجزء العاشر [تتمة الفن الثالث في الحيوان الصامت] [تتمة القسم الثالث من الفن الثالث في الدواب والأنعام] [تتمة الباب الأول من هذا القسم في الخيل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر ما وصفت به العرب الخيل: «1» من ترتيبها فى السنّ، وتسمية أعضائها، وأبعاضها، وألوانها، وشياتها، وغررها، وحجولها، وعصمها، ودوائرها، وما قيل فى طبائعها وعاداتها، والمحمود من صفاتها ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودتها ونجابتها، وعدّ عيوبها التى تكون فى خلقها وجريها، والعيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها أما ترتيبها فى السنّ - فالعرب تقول: سنّ الفرس إذا وضعته أمه فهو «مهر» . ثمّ هو «فلوّ» «2» . فإذا استكمل سنة فهو «حولىّ» . ثمّ هو فى الثانية «جذع» . ثم فى الثالثة «ثنىّ» . ثم فى الرابعة «رباع» . ثم فى الخامسة «قارح» . ثم هو الى نهاية عمره «مذكّ» . وأما ما قيل فى تسميتها ، وتسمية أعضائها وأبعاضها- فقد قالوا: الخيل مؤنّثة، ولا واحد لها من جنسها، وجمعها خيول. ويقال فى صفاتها: «أذن مؤلّلة» و «مرهفة» ، أى محدّدة الطرف. قال عدىّ بن الرّقاع:

وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الإنسان

تخوض «1» فى فرجات النّقع دامية ... كأنّ آذانها أطراف أقلام و «حشرة» : صغيرة مستديرة. و «مقدودة» : مدوّرة. وأذن «غضنفرة» أى غليظة. و «زبعراة» أى غليظة شعراء. و «خذاويّة» أى خفيفة السمع. قال عدىّ بن زيد: له أذنان خذاويّتا ... ن والعين «2» تبصر ما فى الظّلم ثم «الناصية» وهى الشعر السائل على الجبهة، يقال: «واردة» وهى الطويلة. و «جثلة» وهى الكثيرة الملتفّة. و «الفاشغة» و «الغمّاء» «3» وهى الكثيرة المنتشرة. و «السّفواء» «4» وهى القليلة. و «عصفورها» : أصل منبت شعرها. و «قونسها» «5» : العظم الناتئ «6» بين الأذنين. وأما الوجه وما فيه مما لم يذكر فى خلق الإنسان - «النّواهق» «7» » وهما عظمان شاخصان فى وجهه من الجبهة الى المنخرين. و «اللهزمتان» : ما اجتمع من اللحم فى معظم الجبين. و «عين مغربة» أى بيضاء الحماليق وما حولها. و «خيفاء» : إذا كانت إحداهما سوداء والأخرى زرقاء. و «المحملقة» : التى حول مقلتيها بياض لم يخالف السّواد.

وأما العنق وما فيه

و «أنف مصفّح» أى معتدل القصبة. و «السّمّ» : ثقبه «1» ، قال «2» : ومنخرا واسعة سمومه وقال مزاحم بن طفيل الغنوىّ، وقيل: العبّاس بن مرداس السّلمىّ،: ملء «3» الحزامين وملء العين ... ينفش عند الرّبو «4» منخرين كنفش كيرين بكفّى قين «5» و «الجحفلة» : الشّفة. و «الفيد» : الشّعر النابت عليها. و «الشّدقان» : مشقّ الفم إلى حدّ اللجام. وأما العنق وما فيه «فالمعرفة» : موضع العرف. و «العرف» : شعر أعلى العنق. و «العذرة» : ما على المنسج يقبض عليه الفارس اذا ركب. و «العرشان» : اللحمان من جانبى العرف. و «الجران» «6» : جلد أسفل العنق. و «الدّسيع» : مركّب العنق فى الكاهل. قال سلامة [بن جندل «7» ] : يرقى الدّسيع الى هاد له بتع «8» ... فى جؤجؤ «9» كمداك الطّيب مخضوب

وأما الظهر وما اتصل به من الوركين

و «اللّبان» : ما جرى عليه اللّبب. ويقال: «عنق قوداء» أى طويلة. و «سطعاء» أى طويلة منتصبة غليظة. و «تلعاء» : منتصبة غليظة الأصل مجدولة الأعلى. و «دنّاء» أى مطمئنّة من أصلها. و «هنعاء» : مطمئنّة من وسطها. و «وقصاء» : قصيرة. و «مرهفة» : رقيقة «1» . وأما الظهر وما اتصل به من الوركين - فمنه: «المتنان» وهما لحمان يكتنفان الظهر من مركّب العنق الى علوة ظهر الذّنب. و «الحارك» : عظم مشرف من بين فرعى الكتفين. و «القردودة» : حدّ الفقار. و «الفقار» : المنتظمة فى الصّلب. و «الصّهوة» : مقعد الفارس. و «القطاة» : مقعد الرّدف خلفه. و «المعدّان» : موضع السّرج من جنبيه. قال شاعر «2» : فإمّا زال سرجى «3» عن معدّ ... وأجدر «4» بالحوادث أن تكونا و «الصّرد» : بياض «5» على الظهر. و «الغرابان» : ملتقى أعالى الوركين فى ناحية الصّلب. و «الصّلوان» : ما أسهل من جانبى الوركين. و «العجب» : ما ارتفع من أصل الذّنب. و «العلوة» : أصله. و «العسيب» : عظم الذّنب. والأعوج العسيب: «أعزل» .

وأما الصدر وما اتصل به من البطن

وأما الصدر وما اتصل به من البطن - فمنه: «الكلكل» : ما مسّ الأرض من فهدتيه. و «الفهدتان» : اللّحمتان الناتئتان فى الصدر. و «المحزم» : ما شدّ عليه الحزام. «والناحران» «1» : عرقان يودج منهما. وأما الذّراعان وما دونهما- «المرفقان» : مآخير رءوس الذّراع. و «الخصيلة» «2» : لحمة الذراع مع العصب. و «الصّافن» : عرق الذراع. و «الحبال» : عصبها. و «الرّقمتان» : لحمتان «3» فى باطنهما لا تنبتان شعرا. و «الرّكبة» «4» : موصل ما بين الذّراع والوظيف. و «الوظيفان» : العظمان تحت الركبتين والعرقوبين. و «الرّضفتان» : «5» عظمان مستديران على الرّكبة. و «السّنبك» : طرف مقدّم الحافر. و «النّسر» : ما يتطاير من أسفله كالنّوى. و «المنقل» : مجتمع الحافر من باطنه. و «ألية الحافر» : مؤخّره. ويقال: حافر أرحّ «6» : منبطح السّنابك. و «فرشاح» أى منبطح. و «وأب» : مقعّب. و «مضرور» : مضموم صغير. و «مكنب» «7» أى كثيف. والله أعلم بالصواب. *** وأما ألوانها وشياتها وغررها وحجولها وعصمها وما فيها من الدوائر [أما ألوانها] من ألوانها: «البهيم والمصمت» : كلّ ذى لون واحد لاشية فيه،

ومن ألوان الخيل: «الدهم» ،

إلا الأشهب فإنه لا يقال له بهيم. يقال: فرس مصمت، والأنثى مصمته، والجمع مصامت. وكذلك يقال فى قوائم الفرس اذا لم يكن بهنّ تحجيل. قال أبو «1» حاتم: مبهمة مصمته القوائم ومن ألوان الخيل: «الدّهم» ، وهى ستة: «أدهم غيهب» وهو أشدّها سوادا، والأنثى غيهبة. والغيهب: الظلمة، والجمع غياهب. وكذلك «الغربيب» . و «الحالك» . و «أدهم دجوجىّ» : صافى السّواد؛ وقيل: هو مأخوذ من الدّجّة، وهى شدّة السواد والظّلمة. و «أدهم يحموم وأدهم أحمّ» وهو الذى أشربت سراته «2» وحجزته حمرة. قال أبو تمام: أو «3» أدهم فيه كمتة أمم ... كأنه قطعة من الغلس ثم «أدهم أكهب» وهو إلى الكدرة. ثم «أحوى» والجمع حوّ؛ وهو أهون سوادا من الجون، ومناخره محمّرة، وشاكلته مصفرّة. والأحوى أربعة ألوان: «أحوى أحمّ» وهو المشاكل للدّهمة والخضرة؛ ولا فرق بينه وبين الأخضر الأحمر إلا باحمرار مناخره واصفرار شاكلته. و «أحوى أصبح» وهو الذى تقلّ حمرة مناخره فتصير الى السواد ويكون البياض فيه غالبا على أطراف المنخرين. و «أحوى أطحل» وهو الذى تعتريه صفرة وخضرة

ومنها الخضر

مخالطتان لكدرة. و «أحوى أكهب» . والكهب: قلّة ماء اللّون وكدرته فى موضع المنخرين فى حمرتهما وفى سواد السّراة فى بياض الأقراب. ومنها الخضر «1» - وهى أربعة: «أخضر أحمّ» وهو أدناها إلى الدّهمة. قال الشاعر: خضراء حمّاء كلون العوهق وهو اللّازورد. و «أخضر أدغم» وهو الأخطب لون وجهه وأذنيه ومناخره. وهذا اللّون يسمّى بالفارسيّة «ديزجا» «2» . و «أخضر أطحل» وهو الذى تعلو خضرته صفرة. و «أخضر أورق» وهو الذى كلون الرّماد. ومنها الكميت - والجمع كمت، والذكر والأنثى فيه كميت، وهى تسعة. قالوا: وكميت من الأسماء المصغّرة المرخّمة التى لا تكبير لها، من أكمت بمنزلة حميد من أحمد، غير أن أكمت لم يستعمل. والكميت بين الأحوى والأصدأ، وهو أقرب من الشّقر والوراد الى السواد وأشدّ منها حمرة. والفرق ما بين الكميت والأشقر بالعرف والذّنب، فإن كانا أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت؛ والورد بينهما. والكميت أحبّ الألوان الى العرب. ومن ألوانه: «كميت أحمّ» وهو الذى يشاكل الأحوى، غير أنه تفصل بينهما حمرة أقرابه ومراقّه ومربطائه. والمريطاء: الجلدة التى بين العانة والسّرّة. والأقراب: من الشاكلة التى هى الخاصرة

ومنها الوراد

الى مراقّ البطن، واحدها: قرب وقرب. قال الأصمعىّ: أشدّ الخيل جلودا وحوافر الكمت الحمّ. و «كميت أصحم» «1» وهو الأسود الذى يضرب الى الصّفرة. و «كميت أطخم» والطّخمة: سواد فى مقدّم الأنف. و «كميت مدمّى» وهو الشديد الحمرة وكلّما انحدر الى مراقّ البطن يزداد صفاء. و «كميت أحمر» وهو أشدّ حمرة من المدمّى، وهو أحسن الكميت. و «كميت مذهب» وهو الذى تعلو حمرته صفرة. و «كميت محلف» وهو أدنى الكمت الى الشّقرة وظاهر شعر ذنبه وعرفه كلون جسده وباطنه أسود، والأنثى محلفة. وأنشدوا «2» : كميت غير محلفة «3» ولكن ... كلون الصّرف «4» علّ به الأديم قال أبو خيرة: المحلف بين الأصهب والأحمر، وهو من الإبل الأصحر. و «كميت أكلف» وهو الذى لم تصف حمرته ويرى فى أطراف شعره سواد. و «كميت أصدأ» وهو الذى فيه صدأة أى كدرة بصفرة قليلة، شبّهت بلون صدأ الحديد. ومنها الوراد - وهى جمع ورد وهى ثلاثة- والورد هو الذى تعلوه حمرة الى الشّقرة الخلوقيّة «5» وجلده وأصول شعره سود. وقيل: الوردة: حمرة تضرب

ومنها الشقر

الى الصّفرة. وتحقيقه أنه بين الكميت الأحمر وبين الأشقر- منها: «ورد خالص» و «ورد مصامص» وهو الخالص أيضا، والأنثى مصامصة. و «ورد أغبس» «1» تدعوه العجم «السّمند» وهو الذى لونه كلون الرّماد. ومنها الشّقر - وهى تسعة- والأشقر: أشدّ حمرة من الورد- يقال: «أشقر أدبس» وهو الذى لونه بين السواد والحمرة. و «أشقر خلوقىّ» . و «أشقر أصبح» وهو قريب من الأصهب. والصّهبة: الشّقرة فى شعر الرأس. و «أشقر سلّغد» وهو الذى خلصت شقرته، والأنثى سلّغدة، والجمع سلّغدات. قال شاعر: أشقر سلّغد وأحوى أدعج ... أصكّ أظمى «2» وحيفس «3» أفلج «4» و «أشقر قرف» والأنثى قرفة، والجمع قروف وقراف وأقراف وهو كالسّلغد. و «أشقر مدمّى» وهو الشديد الحمرة. و «أشقر أقهب» . والقهبة: غبرة إلى سواد. وقال ابن الأعرابىّ: الأقهب: الذى فيه حمرة فيها غبرة. و «أشقر أمغر» ، وهو الذى تعلو شقرته مغرة، أى كدرة. و «أشقر أفضح» : بيّن الفضحة، وهى البياض ليس بالشديد. ومنها الصّفر - وهى أربعة: «أصفر فاقع» . و «أصفر أعفر» وهو بياض تعلوه حمرة. و «أصفر ناصع» . و «أصفر ذهبىّ» وهو الذى يضرب إلى البياض، وهو السّوسنىّ «5» .

ومنها الشهب

ومنها الشّهب - وهى خمسة. والأشهب: كلّ فرس تكون شعرته على لونين ثم تفترق شعراته «1» فلا تجمع واحدا من اللّونين شعرات تخلص بلون كقدر «2» النّكتة فما فوقها. وقيل: الأشهب الأبيض الشّعرة ليس بالبياض الصّافى القرطاسىّ وجلده أسود يقال له «أشهب أبيض» . والشّهبة فى الألوان: البياض الذى يغلب على السّواد. ويقال للأشهب أيضا: أضحى، والأنثى ضحياء. وأسماء ألوانه: «أشهب ناصع» . و «أشهب أحمّ» «3» وهو أسود تنفذه شعرات بيض. و «أشهب زرزورىّ» وهو الذى اعتدل فيه السواد والبياض. و «أشهب مفلّس» وهو الذى خالط بياضه سواد أو حمرة. و «أشهب سامرىّ» وهو الذى شهبته بسواد أورق. ومنها الجون «4» - وهو اختلاط بياض بحمرة الأشقر أو الكميت. ومنها الصّنابىّ - وهو دهمة فيها شهبة، أو كمتة فيها شهبة أقلّ من بياض الأشهب. نسب الى الصّناب وهو الخردل بالزبيب. ومنها الأغبر - وهو أشقر شملت شقرته شهبة. ومنها الأبرش - وهو الذى فيه لمع «5» بياض كالرّقط «6» ، وقيل: هو الذى يكون فى شعره نكت صغار تخالف سائر لونه، وإنما يكون ذلك فى الدّهم والشّقر خاصّة، وربما أصابها ذلك من شدّة العطش. فإذا عظمت النّكت فهو «مدنّر» . واذا كان فى جسده بقع متفرّقة مخالفة للونه فهو «ملمّع» و «أبقع» و «أشيم» . وقيل: الأشيم: أن تكون

ومنها العرسى

فيه شامة بيضاء؛ وقيل: قد تكون الشّامة غير بيضاء. واذا كان فى الشامة استطالة فهو «مولّع» . وقال ابن بنين «1» : إذا كان فى الدابّة عدّة ألوان من غير بلق فذلك التوليع، يقال: برذون مولّع. واذا كانت الشامة فى مؤخّره أو شقّه الأيمن كرهت. ومنها العرسىّ - وهو الذى يشبه لون ابن عرس. ومنها الأنمر - وهو الذى يكون فيه بقعة بيضاء وبقعة أخرى من أىّ لون كان. ومنها الأبلق - وهو ما يكون نصف لونه أو ما قارب النصف أبيض، والنصف الآخر أسود أو أحمر. ومنها الأغشى (بالغين المعجمة) - وهو ما ابيضّ رأسه دون جسده مثل الأرخم «2» . ومنها الأبيض - وهو الذى ابيضّ شعره بياضا مثل بياض الأوضاح أشدّ ما يكون من البياض وأصفاه لا يخالطه شىء من الألوان فيقال، فيه: أبيض قرطاسىّ. وربما كان أزرق العين أو أسود «3» أو أكحل. ويدعى بما فى عينيه من زرقة وسواد وكحل؛ ولا يكون أكحل حتى تسودّ أشفار عينيه وجفونه. قال الشيخ «4» رحمه الله تعالى فى كتابه « [فضل] الخيل» : «وألوان الخيل أدهم، وأخضر، وأحوى، وكميت، وأشقر، وأصفر، وأشهب، وأبرش، وملمّع، ومولّع،

وأما الشية

وأشيم. هذا قول أبى عبيدة. وقال الأبيوردىّ فى رسالته: الدّهمة، ثم الحوّة، ثم الصّدأة، ثم الخضرة، ثم الكمتة، ثم الوردة، ثم الشّقرة، ثم الصّفرة، ثم العفرة، ثم الشّهبة» . هذا ما وقفنا عليه من ألوانها. والله أعلم. *** وأما الشّية وجمعها شيات- فقالوا: كلّ لون يخالف معظم لون الفرس فهو «شية» . فإذا لم يكن فيه شية فهو «أصمّ» و «بهيم» من أىّ الألوان كان، والأنثى أيضا بهيم. وكذلك فرس «مصمت» بمنزلة البهيم من أىّ لون كان، والأنثى مصمتة، والجمع مصامت. وقد تقدّم ذكر ذلك. فلنذكر الشّيات. من الشّية-: الغرّة، والقرحة، والرّثمة، والتّحجيل، والسّعف، والنّبط، والصّبغ، والشّعل، واللّمظ، واليعسوب، والتعميم، والبلق. فالغرّة -: البياض فى الوجه؛ وهى أنواع: لطيم، وشادخة، وسائلة، وشمراخ، ومتقطّعة» ، وشهباء. ف «اللّطيم» : الذى يصيب البياض عينيه أو إحداهما أو خدّيه أو أحدهما، والأنثى أيضا لطيم. فإذا فشت فى الوجه ولم تصب العين فهى «شادخة» . فإذا اعتدلت على قصبة الأنف وإن عرضت فى الجبهة فهى «سائلة» . واذا دقّت وسالت فى الجبهة وعلى قصبة الأنف ولم تبلغ الجحفلة فهى «شمراخ» . وكلّ بياض فى جبهة [الفرس «2» ] فشا أوقلّ ينحدر حتى يبلغ المرسن «3» ثم ينقطع فهى غرّة «متقطعة» . واذا كان البياض فى منخريه ثم ارتفع مصعدا حتى يبلغ بين عينيه ما لم يبلغ جبهته فهى أيضا غرّة متقطعة.

وأما القرحة

وإذا كان فى الغرّة شعر يخالف البياض فهى غرّة «شهباء» . وقال ابن قتيبة: «إن سالت غرّته ودقّت فلم تجاوز العينين فهى «العصفور» . وإن أخذت جميع وجهه غير أنه ينظر فى سواد فهى «المبرقعة» . فإن فشت حتى تأخذ العينين فتبيضّ أشفارهما فهو «مغرب» . فإن كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء فهو «أخيف» . وأما القرحة - وهى دون الغرّة؛ فقال ابن قتيبة: الغرّة: ما فوق الدّرهم، والقرحة: قدر الدرهم فما دونه. قالوا: والقرح: كلّ بياض كان فى جبهة الفرس ثم انقطع قبل أن يبلغ المرسن. وتنسب القرحة الى خلفتها فى الاستدارة والتثليث والتربيع والاستطالة والقلّة؛ فإذا قلّت قيل: «خفيّة» . وإذا كان فى القرحة شعر يخالف البياض فهى «قرحة شهباء» . وأما الرّثمة (بالثاء المثلثة) - فكلّ بياض أصاب الجحفلة العليا قلّ أو كثر فهو «رثم» إلى أن يبلغ المرسن. وتنسب الرّثمة إذا هى فشت الى الشّدوخ. وإذا لم تجاوز المنخرين نسبت الى الاعتدال. وإذا قلّت واشتدّ بياضها نسبت الى الاستنارة. وإذا لم يظهر بياضها للناظر حتى يدنو نسبت الى الخفية. واللّمظة - كلّ بياض أصاب الجحفلة السّفلى قلّ أو كثر فهو «لمظ» والفرس ألمظ. واليعسوب -: كلّ بياض يكون على قصبة الأنف قلّ أو كثر ما لم يبلغ العينين. وإذا شاب الناصية بياض فهو «أسعف» . فإذا خلص البياض فى الناصية فهو «أصبغ» . فإذا انحدر البياض الى منبت الناصية فهو «المعمّم» . وإذا كان فى عرض الذّنب بياض فهو «أشعل» . والعرب تكره شعلة الذّنب. وإذا كان فى قمعة الذّنب، وهى طرفه، بياض فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض حتى يبلغ البطن

ومن الشية التحجيل

فهو «أنبط» . وإذا ظهر البياض وزاد فهو «أبلق» . وقال ابن قتيبة «1» وابن الأجدابى «2» : إذا كان الفرس أبيض الظّهر فهو «أرحل» ، وإن كان أبيض البطن فهو «أنبط» . وقال غيرهما: «الأدرع» من الخيل والشاء: الذى اسودّ رأسه ولون سائره أبيض، والأنثى «درعاء» ، من الدّرعة «3» . و «الأخصف» من الخيل والغنم: الأبيض الخاصرتين الذى ارتفع البلق من بطنه الى جنبيه، ولونه كلون الرّماد فيه سواد وبياض. وقيل: كلّ ذى لونين مجتمعين فهو خصيف وأخصف؛ وأكثر ذلك السواد والبياض. ويقال: فرس «آزر» إذا كان أبيض العجز. *** ومن الشّية التحجيل - وهو البياض فى قوائم الفرس الأربع، أو فى ثلاث منها، أو فى رجليه قلّ أو كثر إذا استدار حتى يطيف بها. وأصل الحجلة من الحجل (بفتح الحاء وكسرها) وهو القيد والخلخال. قال ابن الأجدابىّ: فإن كانت قوائمه الأربع بيضاء لا يبلغ البياض منها الركبتين «4» فهو «محجّل» . وطليق اليد وطلق اليد (بفتح الطاء وإسكان اللام وبضمهما أيضا) : إذا كانت على لون البدن ولم يكن بها بياض. فإذا أصاب البياض القوائم كلها فهو «محجّل أربع» . وإن

ومنها العصم

كان فى ثلاث قوائم فهو «محجّل ثلاث» مطلق يد أو رجل يمنى أو يسرى. وكلّ قائمة بها بياض فهى «ممسكة» . وكلّ قائمة ليس بها وضح فهى «مطلقة» . فإن كان البياض فى الرجلين جميعا فهو «محجّل الرجلين» . وإن كان فى إحداهما فهو «الأرجل» ؛ وقد ذكرناه. ولا يكون التّحجيل واقعا بيد ما لم يكن معها رجل أو رجلان، ولا بيدين ما لم يكن معهما رجل أو رجلان أو وضح بالوجه. فإن كان التحجيل فى يد ورجل من شقّ واحد فهو ممسك الأيامن مطلق الأياسر، أو ممسك الأياسر مطلق الأيامن، ويقال: الأيمنين والأيسرين. وإن كان من خلاف قلّ أو كثر فهو «مشكول» ؛ وهو مكروه فى الحديث. «1» وقد تقدّم ذكره. ومنها العصم - وهو إذا كان البياض بإحدى يديه قلّ أو كثر فهو «أعصم» اليمنى أو اليسرى. واسم العصمة مأخوذ من المعصم وهو موضع السّوار من الساعد. فإن كان البياض فى يده اليسرى قيل: «منكوس» ؛ وهو مكروه. وإن كان البياض بيديه جميعا فهو أعصم اليدين، إلا أن يكون بوجهه وضح فهو «محجّل» ذهب عنه العصم. فإن كان بوجهه وضح وبإحدى يديه بياض فهو أعصم، لا يوقع عليه وضح الوجه اسم التّحجيل اذا كان البياض بيد واحدة. ووضح القوائم: الخاتم، والإنعال، والتّخديم، والصّبغ، والتّجبيب، والمسرول، والأخرج، والتّسريح، فأقلّ وضح القوائم «الخاتم» وهو شعرات بيض. فإذا جاوز ذلك حتى يكون البياض واضحا فهو «إنعال» ما دام فى مؤخّر رسغه مما يلى الحافر. فإذا جاوز الأرساغ فهو «تخديم» . وإذا ابيضّت الثّنّة «2» كلّها ولم يتّصل

وأما ما فى الفرس من الدوائر

بياضها ببياض التحجيل فهو «أصبغ» . وإذا ارتفع البياض فى القوائم الى الجبب «1» فما فوق ذلك ما لم يبلغ الركبتين والعرقوبين فهو «التّجبيب» . فإذا بلغ التجبيب الركبتين والعرقوبين فهو «مسرول» حتى يخرج من الذراعين والسّاقين. فإذا خرج من الذراعين والساقين فهو «أخرج» . وكلّ بياض فى التحجيل مستطيل فهو «تسريح» . والله أعلم. *** وأما ما فى الفرس من الدوائر - فمنها: «دائرة المحيا» وهى اللّاصقة بأسفل الناصية. و «دائرة اللّطمة» فى وسط الجبهة، فإن كانت دائرتان فى الجبهة قيل: فرس نطيح «2» . و «دائرة اللّاهز» : التى تكون فى اللهزمة. و «دائرة العمود» وتسمّى المعوّذ أيضا وهى فى موضع القلادة. و «دائرة السّمامة» فى وسط العنق. و «دائرتا البنيقين «3» » وهما اللّتان فى نحر الفرس. و «دائرة النّاحر» «4» : التى فى الجران إلى أسفل من ذلك. و «دائرة القالع» : التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة الهقعة» فى الشّقّين «5» ، وتدعى النافذة أيضا، وقيل: هى التى تكون فى عرض زوره. و «دائرة النّافذة» وهى دائرة الحزام. و «دائرتا الصّقرين» فى الحجبتين والقصريين-

والحجبة: رأس الورك. والقصرى: الضّلع التى تلى الشاكلة- و «دائرة الخرب» تكون تحت الصّقرين. و «دائرة الناخس» تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين. وهما عرقان فى الفخذ. والجاعرتان: حرفا الوركين المشرفان على الفخذين، وهما مضرب الفرس بذنبه على فخذيه، وهما موضع الرّقمتين من است الحمار. وكانت العرب تستحبّ من هذه الدوائر: المعوّذ، والسّمامة، والهقعة. وقيل: استحبّوا الهقعة ثم كرهوها. يقال: إن المهقوع لا يسبق أبدا. وكانوا يكرهون النّطيح، واللّاهز، والقالع، وقيل: الناخس أيضا. وما سوى هذه الدوائر فغير مكروه. *** وقال ابن «1» قتيبة: «والدوائر ثمانى عشرة دائرة. تكره منها «الهقعة» وهى التى تكون فى عرض زوره، ويقال: إنّ أبقى الخيل المهقوع. و «دائرة القالع» هى التى تكون تحت اللّبد. و «دائرة النّاخس» هى التى تكون تحت الجاعرتين الى الفائلين. و «دائرة اللّطاة» فى وسط الجبهة، وليست تكره إذا كانت واحدة؛ فإذا كانت هناك دائرتان قالوا: فرس نطيح؛ وذلك مكروه. وما سوى هذه الدوائر غير مكروهة» . ومن الدوائر التى ذكرتها الهند فى البركة والشؤم- قالوا: إذا كان فى موضع حكمته دائرة أو على جحفلته العليا دائرة كان ممّا يرتبط. وما كان منها ليس فى وجهه ولا فى صدره دارة «2» فمكروه ارتباطه. وما كان فى صدره دارة الى التّربيع، أو كان فى رأسه دارتان، أو على خاصرته أو على مذبحه دارة، أو فى عنقه أو على خطمه أو على أذنه شعر نابت كزهرة النبات، كان ذلك مما يرتبط وتقضى عليه الحوائج، ويكون صاحبه مظفّرا فى الحروب ولا يرى فى أموره إلّا خيرا.

وذكروا أيضا: أنه لا ينبغى أن يرتبط من الدّوابّ ما كان منها فى مقدّم يده دارة، وما كان أسفل من عينيه دارة، أو فى أصل أذنيه من الجانبين دارتان، أو على مأبضه «1» دارة، أو على محجره «2» دارة، أو فى خدّه أو فى جحفلته السّفلى أو على ملتقى لحييه دارة، أو فى بطنه شعر منتشر، أو على سرّته دارة، أو كانت أسنانه طالعة على جحفلته، أو له سنّان ناتئان بمنزلة أنياب الخنزير، أو فى لسبانه خطط سود لا خضر، وما كان منها أدبس «3» أو أبيض أو أصفر أو أشهب تعلوه حمرة وداخل حجافله ولهواته «4» وخارج لحييه سواد، وما كان منها أدهم وداخل جحافله أبيض، أو فى لهواته وداخل شدقه نقط سود وجحفلته خارجها منقّط كحبّ السمسم، أو على منسجه دارتان، أو على خصييه وبر أسود مخالف للونه، أو كان فى جبهته شعرات [مخالفة للونه «5» ] ، أو ما كان منها حين ينتج يرى خصياه ظاهرين «6» - فهذه العلامات زعم حنّة «7» الهندىّ أنه لا ينبغى لأحد أن يرتبط دابّة بها شىء منها. وزعم أنه يستحبّ أن يرتبط ما كان فى صدره أربع نقط فى أربعة مواضع، أو شعر ملتفّ عرضا وطولا، أو شعر ملتو.

وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها، ومحاسنها، والعلامات الدالة على جودة الفرس ونجابته:

وأما ما قيل فى طبائعها، وعاداتها، والمحمود من صفاتها، ومحاسنها، والعلامات الدالّة على جودة الفرس ونجابته: قالت العرب: والخيل نوعان: عتيق وهو المسمى فرسا، وهجين وهو المسمّى برذونا. والفرق بينهما أنّ عظم البرذون أغلظ من عظم الفرس؛ وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون؛ والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون؛ والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذون بمنزلة الشاة. وفى طبع الفرس: الزّهو، والخيلاء، والعجب، والسرور بنفسه، والمحبّة لصاحبه. وفى طبعه: أنه لا يشرب الماء إلا كدرا؛ حتى إنه يرد الماء وهو صاف فيضرب بيده فيه حتى يكدّره ويعكّره. وربما ورد الماء الصافى وهو عطشان فيرى خياله فيه فيتحاماه ويأباه، وذلك لفزعه من الخيال الذى يراه فى الماء. وهو يوصف بحدّة البصر. وفى طبعه: أنه متى وطئ أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرّك، ويخرج الدّخان من جلده؛ وإذا وطئته الأنثى وهى حامل أزلقت. «1» والأنثى من الخيل تحمل سنة كاملة؛ هذا هو المعروف من عادتها. وأخبرنى بعض من أثق الى قوله أنه كان يملك حجرا «2» تحمل ثلاثة عشر شهرا. وسمعت أن عند التّتر «3» جنسا من خيلها تحمل الفرس منها تسعة أشهر وتضع. وقال لى الناقل: إنّ هذا أمر مشهور عندهم معروف مألوف لا ينكرونه ولا يتعجبون.

فصل

فصل - والعلامات الجامعة لنجابة الفرس الدالّة على جودته، ما ذكره أيّوب «1» ابن القرّيّة وقد سأله الحجّاج عن صفة الجواد من الخيل فقال: القصير الثلاث، الطويل الثلاث، الرّحب الثلاث، الصافى الثلاث. فقال: صفهنّ؛ فقال: أما الثّلاث الطّوال فالأذن «2» والعنق والذّراع. وأما الثلاث القصار فالظّهر والسّاق والعسيب. وأما الثلاث الرّحبة فالجبهة والمنخر والجوف. وأما الثلاث الصافية فالأديم والعينان والحافر. وقد جمع بعض الشعراء ذلك فى بيت واحد فقال: وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح ... وورد القطا فى الغطاط «3» الحثاث بصافى الثّلاث عريض الثلاث ... قصير الثلاث طويل الثلاث وهذه الحكاية أيضا نقلت عن صعصعة بن صوحان وقد سأله معاوية: أىّ الخيل أفضل؟ فقال: الطويل الثلاث، العريض الثلاث، القصير الثلاث، الصافى الثلاث. قال معاوية: فسّر لنا؛ قال: أما الطويل الثلاث فالأذن والعنق والحزام. وأما القصير الثلاث فالصّلب والعسيب والقضيب. وأما العريض الثلاث فالجبهة والمنخر والورك. وأما الصافى الثلاث فالأديم والعين وال؟؟؟ افر. وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لعمرو بن معد يكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده؛ فأمر بأفراس فعرضت

عليه؛ فقال: قدّموا اليها الماء فى التّراس «1» ، فمن شرب ولم يكتف «2» فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس «3» منها. وقيل: أهدى عمرو بن العاص لمعاوية بن أبى سفيان ثلاثين فرسا من خيل مصر؛ فعرضت عليه وعنده عتبة بن سفيان بن يزيد الحارثى؛ فقال له معاوية: كيف ترى هذه يا أبا سفيان؟ فإن عمرا قد أطنب فى وصفها؛ فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصف؛ وإنها لسامية العيون، لاحقة البطون؛ مصغية الآذان، قبّاء «4» الأسنان؛ ضحام الرّكبات، مشرفات الحجبات؛ رحاب المناخر، صلاب الحوافر؛ وضعها تحليل «5» ، ورفعها تقليل؛ فهى إن طلبت سبقت، وان طلبت لحقت. فقال معاوية: اصرفها الى دارك، فإن بنا عنها غنى، وبفتيانك اليها حاجة. وقال أبو عبيدة: يستدلّ على عتق الفرس برقّة جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعرى نواهقه، ودقّة حقويه وما ظهر من أعالى أذنيه، ورقّة سالفتيه وأديمه، ولين شعره؛ وأبين من ذلك كلّه لين شكير «6» ناصيته وعرفه.

ومما يستحب من أوصافها فى الخلق

وكانوا يقولون: إذا اشتدّ نفسه، ورحب متنفّسه، وطال عنقه، واشتدّ حقوه، وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشنجت «1» أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت «2» ، لحق بجياد الخيل. والله أعلم. ومما يستحبّ من أوصافها فى الخلق - الأذن المؤلّلة، والناصية المعتدلة التى ليست بسفواء ولا غمّاء، والجبهة الواسعة، والعين الطامحة السامية، والخدّ الأسيل، ورحب المنخرين، وهرت الشّدقين- قال الشاعر «3» : هريت «4» قصير عذار اللّجام ... أسيل طويل عذار الرّسن قوله «5» : «قصير عذار اللجام» : لم يرد به قصر خدّه، وإنما أراد طول شقّ الفم. ويدلّ على ذلك قوله فى البيت: أسيل طويل عذار الرّسن

يريد طول خدّه- وقود العنق (لينها حتى لا تكون جاسئة «1» ) ، ورقّة الجحفلتين، وارتفاع الكتفين والحارك والكاهل. قالوا: ويستحبّ أن يشتدّ مركّب عنقه فى كاهله لأنه يتساند إليه اذا أحضر، وعرض الصدر، وضيق الزّور، وارتفاع اللسان، وأن يشتدّ حقوه لأنه معلّق وركيه ورجليه فى صلبه، وعظم جوفه وجنبيه، وانطواء كشحه، وإشراف القطاة، وقصر العسيب، وطول الذنب، وشنج النّسا، واستواء الكفل حتى لا يكون أقرن، وملاسة الكفل، وقصر الساقين، وطول الفخذين، وتوتير الرّجلين حتى لا يكون أقسط «2» ، وتأنيف العرقوبين «3» حتى لا يكون أقمع، وغلظ الرّسغ، وأن تكون الحوافر صلابا سودا أو خضرا. وحكى أن هارون الرشيد ركب فى سنة خمس وثمانين ومائة الى الميدان لشهود الحلبة، قال الأصمعىّ: فدخلت الميدان لشهودها «4» ، فجاء فرس أدهم لهارون الرشيد سابقا يقال له «الرّبد» «5» ؛ فسرّ به الرشيد وابتهج وقال: علىّ بالأصمعىّ، فنوديت من كل جانب، فأقبلت سريعا حتى مثلت بين يديه؛ فقال: يا أصمعىّ، خذ بناصية «الرّبد» ثم صفه من قونسه الى سنبكه، فإنه يقال: إن فيه عشرين اسما من أسماء الطير؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشدك شعرا جامعا لها من قول أبى حزرة «6» ؛ قال: فأنشدنا لله أبوك!؛ فأنشدته:

وأقبّ «1» كالسّرحان تمّ له ... ما بين هامته الى النّسر الهامة: أعلى الرأس. والنّسر: ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه. وهما من أسماء الطير. رحبت «2» نعامته ووفّر فرخه ... وتمكّن الصّردان فى النّحر النعامة: جلدة الرأس التى تغطّى الدّماغ. والفرخ: الدّماغ. والصّردان: عرقان فى أصل اللسان، ويقال: إنهما عرقان يكتنفان باطن اللسان. وفى الظهر أيضا صرد يكون فى موضع السّرج من أثر الدّبر. والنعامة والفرخ والصّردان من أسماء الطير. وأناف «3» بالعصفور فى سعف ... هام أشمّ موثّق الجذر «4» العصفور: أصل منبت شعر الناصية، وهو أيضا عظم ناتئ فى كل جبين، وهو أيضا من الغزر. والسّعف: يقال: فرس أسعف اذا سالت ناصيته. وهام أى سائل. والشّمم: ارتفاع قصبة الأنف. وموثق الجذر أى شديد. والجذر: الأصل من كل شىء. وازدان بالدّيكين صلصله ... ونبت دجاجته عن «5» الصّدر الديكان: واحدهما ديك وهو العظم الناتئ خلف الأذن، وهو الذى يقال له الخشّاء والخششاء. والصلصل: بياض فى طرف الناصية، ويقال: هو أصل

الناصية. والدّجاجة: اللّحم الذى على زوره بين يديه. والدّيك والصّلصل والدّجاجة من الطير. والنّاهضان أمرّ جلزهما ... فكأنما عثما على كسر الناهضان: واحدهما ناهض، وهو لحم المنكبين، ويقال: هو اللحم الذى يلى العضدين من أعلاهما. والناهض: فرخ العقاب. وقوله: «أمرّ جلزهما» أى فتل وأحكم، يقال: أمررت الحبل أى فتلته. والجلز: الشدّ. وقوله: فكأنما عثما على كسر أى كأنهما كسرا ثم جبرا. والعثم: الجبر على عقدة وعوج. مسحنفر الجنبين ملتئم ... ما بين شميته الى الغرّ قوله: «مسحنفر الجنبين» أى منتفخهما. ملتئم أى معتدل. والشيمة «1» : من قولك: فرس أشيم: بيّن الشامة. والغرّ «2» فى الطير الأغلب الذى يسمّى الرّخمة. وهى من الفرس عضلة السّاق. وصفت سماناه وحافره ... وأديمه ومنابت الشعر السّمانى: طائر «3» وهو موضع من الفرس ربما أراد به السّمامة، وهى دائرة تكون فى سالفة الفرس. والسّمامة «4» أيضا من الطير. وأيمه: جلده.

وسما الغراب لموقعيه معا ... فأبين بينهما على قدر الغراب: رأس الورك، ويقال للصّلوين الغرابان، وهما مكتنفا عجم «1» الذنب، ويقال: هما ملتقى أعلى الوركين. والموقعان: ما فى أعالى الخاصرتين. وقوله: فأبين بينهما على قدر أى فرّق بينهما على استواء واعتدال. واكتنّ دون قبيحه خطّافه ... ونأت سمامته على الصّقر قوله: واكتّن أى استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال: إنه مركّب الذراعين فى العضدين. والخطّاف: هو حيث أدركت عقب «2» الفارس اذا حرّك رجليه؛ ويقال لهذين الموضعين من الفرس المركلان. ونأت أى بعدت. والسّمامة: دائرة تكون فى عنق الفرس. والصقر «3» : دائرة فى الرأس. والخطّاف والسّمامة والصقر من أسماء الطير. وتقدّمت عنه القطاة له ... فنأت بموقعها عن الحرّ القطاة: مقعد الردف. والحرّ: سواد فى ظاهر أذنى الفرس. وهما من الطير. يقال: إن الحرّ ذكر الحمام. وسما على نقويه دون حداته ... خربان بينهما مدى الشّبر النّقوان: واحدهما نقو والجمع أنقاء، وهو عظم ذو مخّ. وعنى هاهنا عظام الوركين، لأن الخرب هو الذى تراه مثل «4» المدهن فى ورك الفرس. وهو من الطير ذكر الحبارى. والحدأة: سالفة الفرس. وهى من الطير.

وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها، وفى جريها، والتى تطرأ عليها وتحدث فيها

يدع الرّضيم اذا جرى فلقا ... بتوائم كمواسم سمر الرّضيم: الحجارة، يفلقها بتوائم أى بحوافره. والمواسم: جمع ميسم الحديد؛ أى أنها كمواسم الحديد فى صلابتها. وقوله: سمر أى لون الحافر. والحافر الأسمر هو الصّلب. ركّبن فى محض الشّوى سبط ... كفت الوثوب مشدّد الأسر الشوى هاهنا: القوائم، يقال: فرس محض الشّوى إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط: سهل. كفت الوثوب أى مجتمع. مشدّد الأسر أى الخلق. قال الأصمعىّ: فأمر لى بعشرة آلاف درهم. فهذه جمل من أوصاف محاسنها. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما وصفها به الشعراء فى أشعارها والفضلاء فى رسائلها، على ما تقف على ذلك فى موضعه. فلنذكر عيوب الخيل: *** وأما عيوبها التى تكون فى خلقتها، وفى جريها، والتى تطرأ عليها وتحدث فيها - فهى مائة نذكرها: فأما التى فى خلقتها - فهى أن يكون الفرس «أخذى» وهو المسترخى أصول الأذنين. و «أمعر» «1» وهو الذى ذهب شعر ناصيته. و «أسفى» وهو الخفيف الناصية، وهو محمود فى البغال. و «أغمّ» وهو الذى غطّت ناصيته عينيه. و «أسعف» وهو الذى فى ناصيته بياض. و «أحول» وهو الذى ابيضّ

مؤخر عينه وغار السواد من قبل مآقيه. و «أزرق» وهو الذى فى إحدى عينيه بياض أو زرقة. و «أقنى» وهو الذى فى أنفسه أحد يداب. و «مغربا» وهو الذى أشفار عينيه بيض مع زرقتها. و «أدنّ» «1» وهو الذى اطمأنّ عنقه «2» من أصله. و «أهنع» وهو الذى اطمأنت عنقه من وسطها. و «أوقص» وهو الذى فى عنقه قصر ويبس معطف. و «أكتف» وهو الذى فى أعالى كتفيه انفراج. و «أزور» وهو الذى تدخل إحدى فهدتى «3» صدره وتخرج الأخرى. و «أقعص» وهو المطمئن الصّلب من الصهوة المرتفع القطاة. و «مخطفا» وهو الذى لحق ما خلف محزمه من بطنه. و «أهضم» «4» وهو المستقيم الضلوع الذى دخلت أعاليه. و «صقلا» وهو الطويل الصّقلة «5» . و «أثجل» «6» وهو الذى خرجت خاصرته ورقّ صفاقه. «7» و «أفرق» وهو الذى قد أشرفت إحدى وركيه على الأخرى. و «أرسح» «8» وهو قليل لحم الصّلا. و «أعزل» وهو الملتوى عسيب الذّنب حتى يبرز بعض باطنه. و «أكشف» وهو الذى التوى عسيب ذنبه. و «أصبغ» وهو المبيضّ الذّنب. و «أشعل» وهو الذى فى عرض ذنبه بياض. و «أشرج» «9» وهو الذى ببيضة واحدة. و «أفحج» وهو الذى تباعد كعباه. و «أبدّ» وهو الذى تباعدت

يداه. و «أصكّ» وهو الذى تصكّ كعباه اذا مشى. و «أحلّ» وهو متمسّح «1» النّسا رخو الكعب. و «أقفد» وهو المنتصب الرّسغ المقبل على الحافر ويكون فى الرّجل خاصّة. و «أصدف» وهو الذى تدانى ذراعاه وتباعد حافراه. و «موجّها» وهو الذى به صدف يسير. و «أقسط» وهو الذى رجلاه منتصبتان غير منحنيتين. و «أمدش» وهو المصطكّ بواطن الرّسغين. و «أحنف» «2» وهو الملتوى الحافرين يقبل «3» كلّ منهما على صاحبه. و «متلقّفا» وهو الذى يخبط بيده. و «أرجز» «4» وهو المضطرب الرّجل والكفل فإذا قام اضطربت فخذه. و «شختا» وهو القليل اللحم الحميش «5» العظام. و «رطلا» وهو الضعيف الخفيف. و «مكبونا» وهو القصير الدّوارج «6» القريب من الأرض الرحيب الجوف. و «عشّا» وهو الضاحى العظام لقلّة لحمه. و «سغلا» وهو الصغير الجرم. قال الواسانىّ «7» رحمه الله: ليس بأسفى ولا أحقّ «8» ولا ... أهضم طاوى الحشا ولا سغل و «جأبا» وهو القصير الغليظ. و «ملوحا» وهو السريع العطش. و «صلودا» وهو البطىء العرق. و «ضاويّا» وهو الذى أضواه أبواه. و «مقرفا» وهو الذى أمّه

وأما العيوب التى فى جريها

عتيقة وأبوه غير عتيق. و «هجينا» وهو الذى أبوه عتيق وأمه برذونة. و «محمقا» وهو الذى لا ينتج منه [إلا أحمق «1» ] . و «كوسيّا» «2» وهو الذى اذا جرى نكّس كالحمار. و «جاسئا» «3» وهو الذى ترى معاقده وفقار ظهره وعنقه جاسئة «4» غير ليّنة. والله أعلم. *** وأما العيوب التى فى جريها - فمنها: «الطّموح» وهو السامى ببصره صعدا. «والمنكّس» وهو الذى يطاطئ رأسه إذا جرى. و «المعتزم» وهو الذى يجمح أحيانا. و «الجموح» : الصّلب الرأس. و «الغرب» : المدّاد المرامى. و «الشّموس» : الذى يمنع السرج والمسّ. و «الحرون» : الذى اذا أدرّ جريه قام لا عن كلال. «5» و «البالح» «6» إذا قطع جريه ضعفا. و «الضّغن» هو الذى يتلكأ [فى «7» ] الحضر ويقصر عن الحران. و «الحفاش» «8» هو الذى يشبّ «9» حضرا ثم يرجع القهقرى. و «الرّوّاغ» «10» هو الذى يحيد فى حضره يمينا وشمالا. و «الفيوش» هو الذى يظنّ به الجرى وليس عنده شىء منه. و «الحيوص» وهو الذى يعدل يمينا وشمالا فى استقامة «11» حضره.

وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها

و «المشتقّ» هو الذى يدع طريقه ويعدل ثم يمضى على عدوله لا يروغ. و «الشّبوب» : الذى يقوم على رجليه ويرفع يديه. و «العاجر» و «المعاجر» : الذى يعجر برجليه كقماص الحمار. و «العدوم» و «العضوض» : الذى يعضّ ما سايره. و «الشّادخ» : يعدل عن طريقه ولا يبالى ما ركب. و «الجرور» : البطىء. و «المنعثل» : الذى يفرّق بين قوائمه فإذا رفعها فكأنما ينزعها من وحل يخفق برأسه ولا تتبعه رجلاه. و «المجربذ» «1» : الذى يقارب الخطو يقرّب سنابكه من الأرض ولا يرفعها رفعا شديدا. و «المساعر» «2» : الذى يطيح قوائمه جميعا متفرّقة ولا ضبر «3» له. و «المترادّ» : الذى ينقص حضره من ابتداء جريه. و «الفاتر» إذا فتر «4» فى حضره ولم تساعده قوائمه على ما تطالبه به نفسه. و «المواكل» : الذى لا يسير إلا بسير غيره. «والخروط» : الذى يخرط رسنه عن رأسه. و «الرّموح» : الذى يرمح «5» بإحدى رجليه. و «الضّروح» : الذى يرمح بكلتيهما. قال: وهذه الزيادة على الأربعة والعشرين إنما هى من سوء العادة وفساد الرياضة. *** وأما العيوب التى تطرأ عليها وتحدث فيها - فمنها: «الانتشار» وهو انتفاخ العصب. و «الشّظى» : تحرّك «6» العظم اللّاصق بالرّكبة. و «الفتوق» :

انفتاق من العصب على الأرضفة «1» . و «الدّخس» : ورم فى [أطرة] «2» الحافر. و «الزوائد» : أطراف عصب تفرّق عند العجاية «3» [وتنقطع «4» عندها وتلصق بها] . و «العرن» : «5» جسوء فى رسغ الرّجل خاصّة لشقاق أو مشقة. [ «والشقاق» : يصيبه «6» فى أرساغه] وربما ارتفع الى أوظفته، [وهو تشقق يصيبها «7» ] ، وتسمى الحلامة «8» . «والجرد» «9» ، ما حدث فى عرض عرقوبيه ظاهرا وباطنا من تزيّد وانتفاخ عصب ويكون مع المفصل طولا كالموزة. و «الملح» «10» : انفتاق من العصب أسفل العرقوب لمادّة تنصبّ إليه كالبلّوطة «11» . و «القمع» هو عظم قمعة العرقوب. و «المشش» : كلّ ما شخص فى الوظيف وله حجم وليست له صلابة العظم. و «الارتهاش» : أن يصكّ بعرض حافره عرض عجايته من اليد الأخرى. و «الرّهصة» «12» : ما يصير فى الحافر. و «الوجا» : ما يصيب الحافر من

ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم

الخشونة. و «الرّقق» : ضعف ورقّة فى الحافر. و «النّملة» : شقّ فى الحافر من الأشعر «1» إلى طرف السّنبك. و «السّرطان» : داء يأخذ فى الرّسغ فييبّس عروقه حتى يقلب حافره. و «العزل» : أن يعزل ذنبه فى شقّ عادة «2» . و «الخقاق» : صوت من ظبية «3» الأنثى. و «البجر» : أن تكون الرّهابة «4» غير ملتئمة فيعظم ما والاها من جلد السّرّة. وحيث ذكرنا العيوب فلنذكر الخيل النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. ذكر أسماء خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرس ابتاعه بالمدينة من رجل من بنى فزارة بعشر أواق «5» ، وكان اسمه عند الأعرابىّ «الضّرس» فسمّاه النبىّ صلى الله عليه وسلم «السّكب» . فكان أوّل ما غزا عليه أحدا، ليس مع المسلمين فرس غيره وفرس

لأبى بردة بن نيار يقال له ملاوح. وكان السّكب كميتا أغرّ محجّلا مطلق اليمنى، وقيل: إنه أدهم. رواه الطّبرانى «1» فى المعجم الكبير. وعن عمارة بن خزيمة الأنصارىّ أن عمّه حدّثه- وهو من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم-: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابىّ «2» ، فاستتبعه النبىّ صلى الله عليه وسلم ليقبضه ثمن فرسه، فأسرع النبىّ صلى الله عليه وسلم المشى وأبطأ الأعرابىّ؛ فطفق رجال يعترضون الأعرابىّ فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابىّ فى السّوم على ثمن الفرس الذى ابتاعه به النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ فنادى الأعرابىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته» ؛ فطفق الناس يلوذون بالنبىّ صلى الله عليه وسلم وبالأعرابىّ وهما يتراجعان «3» ، وطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك. فمن جاء من الناس قال للأعرابىّ: ويلك! إن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقّا! حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبىّ صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابىّ؛ فطفق الأعرابىّ يقول: هلمّ شهيدا يشهد أنى قد بايعتك؛ فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد» ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله؛ فجعل النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول: «شهادة

خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين» . وفى لفظ: فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنه قد باعك الفرس يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «وهل حضرتنا يا خزيمة» ؟ فقال: [لا؛ فقال: «1» ] «فكيف شهدت بذلك» ؛ فقال خزيمة: بأبى أنت وأمّى! يا رسول الله، أصدّقك على أخبار السماء وما يكون فى غد ولا أصدّقك فى ابتياعك هذا الفرس!. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إنك لذو الشهادتين يا خزيمة» . وقد اختلف فى اسم هذا الفرس، فقال محمد بن يحيى بن سهل بن أبى حثمة: هو «المرتجز» «2» ؛ وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه المرتجز. قال ابن الأثير: وكان أبيض. وقال ابن قتيبة فى المعارف: المرتجز، وفى أخرى: «الطّرف» «3» ، وفى أخرى: «النّجيب» . ومنها «البحر» ، وهو الذى سبق الخيل لمّا سابق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسمّاه البحر فى ذلك اليوم. وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم قد اشتراه من تجر قدموا من اليمن، فسبق عليه مرّات. قال ابن الأثير: وكان كميتا، وقيل: كان أدهم. ومنها «سبحة» ، ذكرها ابن بنين فقال: وكانت فرسا شقراء ابتاعها النبىّ صلى الله عليه وسلم من أعرابىّ من جهينة بعشر من الإبل، وسابق عليها يوم خميس

ومدّ الحبل بيده ثم خلّى عنها وسبح عليها؛ فأقبلت الشقراء حتى أخذ صاحبها العلم وهى تنبّر «1» فى وجوه الخيل؛ فسمّيت سبحة. وسبحة من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مدّ اليدين فى الجرى. وسبح الفرس: جريه. ومنها «ذو اللّمة» ، ذكره ابن حبيب فى أفراس النبىّ صلى الله عليه وسلم. ومنها «ذو العقّال» ، قال بعض العلماء: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم فرس يقال له ذو العقّال. وكان له صلى الله عليه وسلم فرس يقال له «اللّحيف «2» » وقيل: «اللّخيف» بالخاء، وقيل فيه: «النّحيف» . أهداه له فروة «3» بن عمرو من أرض البلقاء، وقيل: أهداه له ابن أبى «4» البراء، وكان صلى الله عليه وسلم يركبه فى مذاهبه. وسمّى اللّحيف لطول ذنبه. وروى ابن منده من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جدّه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس يسميهنّ: «اللّزاز» و «اللّحيف» و «الظّرب» . فأمّا لزاز فأهداه له المقوقس. وأما اللّحيف فأهداه له ربيعة بن أبى البراء، فأثابه عليه فرائض «5» من نعم بنى كلب. وأما الظّرب فأهداه له فروة بن عمرو بن النافرة الجذامىّ. الظّرب واحد الظّرب وهى الرّوابى «6» [الصغار] . سمّى به لكبره وسمنه، وقيل: لقوّته وصلابة حافره.

وأهدى تميم الدّارىّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا يقال له «الورد» ؛ فأعطاه عمر؛ فحمل عليه عمر رضى الله عنه فى سبيل الله. وذكر علىّ بن محمد بن حنين «1» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: وكانت له أربعة أفراس: أحدها يقال له «السّكب» و «المرتجز» و «السّجل» » و «البحر» . وقال ابن الأثير: وكان له أفراس: «المرتجز» و «ذو العقّال» و «السّكب» و «اللّحيف» و «اللّزاز» و «الظّرب» و «سبحة» و «البحر» و «الشّحاء» «3» (بالشين المعجمة والحاء المهملة) . وحكى ابن بنين عن ابن خالويه قال: كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم من الخيل: «سبحة» و «اللّحيف» و «لزاز» و «الظّرب» و «السّكب» و «ذو اللّمّة» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «المرتجز» . وذكر فى موضع آخر: و «ملاوح» و «الورد» و «اليعسوب» . وذكر قاسم بن ثابت فى كتاب الدلائل: «اليعسوب» و «اليعبوب» فرسين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سعد فى وفادات العرب عن محمد بن عمر

قال: حدّثنى أسامة بن زيد عن زيد بن طلحة التّيمىّ قال: قدم خمسة عشر رجلا من الرّهاويين (وهم حىّ من مذحج) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فنزلوا «1» دار رملة بنت الحارث؛ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم] فتحدّث عندهم طويلا؛ فأهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا، منها فرس يقال له «المرواح» ؛ فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه؛ فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض؛ وأجازهم كما يجيز الوفد: أرفعهم «3» ثنتى عشرة أوقيّة ونشّا «4» وأخفضهم «5» خمس أواق. فقد ظهر من مجموع هذه الروايات أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسعة عشر فرسا، وهى: «السّكب» و «المرتجز» و «البحر» و «سبحة» و «ذو اللّمّة» و «ذو المقّال» و «اللّحيف» - وقيل فيه بالخاء المعجمة، وقيل: «النحيف» بالنون- و «اللّزاز» و «الظّرب» و «الورد» و «السّجل» و «الشّحاء» و «السّرحان» و «المرتجل» و «الأدهم» و «ملاوح» و «اليعسوب» و «اليعبوب» و «المرواح» . وقد يكون الأدهم هو السكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا. والله عز وجل أعلم.

ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب

ذكر أسماء كرام الخيل المشهورة عند العرب من أقدم خيل العرب «زاد الرّاكب» «1» ؛ وكان من خيل سليمان بن داود عليهما السلام. حكى محمد بن السائب «2» الكلبيّ: أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان ابن داود صلى الله عليهما وسلم كانت ألف فرس ورثها عن أبيه؛ فلما عرضت عليه ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب، فردّها وعرقبها إلّا أفراسا لم تعرض عليه؛ فوفد عليه قوم من الأزد، وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من حوائجهم قالوا: يا نبىّ الله، إنّ أرضنا شاسعة فزوّدنا زادا يبلّغنا؛ فأعطاهم فرسا من تلك الخيل وقال: اذا نزلتم منزلا فاحملوا عليه غلاما واحتطبوا، فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعام؛ فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلا إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلت شىء تقع عينه عليه من ظبى أو بقرة أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم؛ فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا «زاد الراكب» فسمّوه به. فأصل فحول العرب من نتاجه. ويقال: إن «أعوج» منها. قال امرؤ القيس: إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتى الصيد نحطب «3» وقال عمارة:

وأرى «1» الوحش عن يمينى اذا ما ... كان يوما عنانه فى شمالى ومن خيل العرب المشهورة ما حكاه أبو علىّ الحسن بن رشيق الأزدىّ فى كتابه المترجم بالعمدة عن ابن حبيب عن أبى عبيدة قال: «الغراب» و «الوجيه» و «لاحق» و «المذهب» و «مكتوم» كانت كلّها لغنىّ. وقال أحمد بن سعد الكاتب: كان «أعوج» أوّلا لكندة، ثم أخذته سليم، وصار لبنى [عامر «2» ] ثم لبنى هلال. قال ابن حبيب: ركب رطبا فاعوجّت قوائمه، وكان من أجود خيل العرب. وأمّه «سبل» لغنىّ. وأمّ سبل [ «سوادة» . وأم سوادة «3» ] «القسامة» «4» ، وكانت لجعدة. وحكى أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب العقد فى كتابه: أنه لما انتجته أمّه ببعض بيوت الحىّ نظروا الى طرف يضع جحفلته على كاذتها (على الفخذ مما يلى الحياء) ؛ فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو فرسكم؛ لعظم «أعوج» وطول قوائمه؛ فقاموا إليه فإذا هم بالمهر؛ فسمّوه «أعوج» . ولهم أيضا «الفيّاض» . قال ابن سعد: «الوجيه» و «لاحق» لبنى أسد، «وقيد» «وحلّاب «5» » لبنى تغلب، «والصّريح» لبنى نهشل- وزعم غيره أنه كان لآل المنذر-

و «جلوى» لبنى ثعلبة بن يربوع، و «ذو العقّال» «1» لبنى رياح بن يربوع، وهو أبو «داحس» . وكان «داحس «2» » و «الغبراء» لبنى زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و «ذو العقّال» و «قرزل» و «الخطّار» و «الحنفاء «3» » لحذيفة بن بدر. والحنفاء هى أخت داحس من أبيه وأمه. و «قرزل» آخر للطّفيل «4» بن مالك. و «حذفة» «5» لخالد بن جعفر بن كلاب. و «حذفة» أيضا لصخر بن عمرو بن الشّريد. و «الشّقراء» لزهير بن جذيمة العبسىّ.

و «الزّعفران» لبسطام بن قيس. و «الوريعة «1» » و «نصاب» و «ذو الخمار «2» » لمالك بن نويرة. و «الشّقراء» أخرى لأسيد بن حنّاءة «3» . و «الشّيّط «4» » لأنيف بن جبلة «5» الضّبّىّ. و «الوحيف» «6» لعامر بن الطّفيل. و «الكلب» و «المزنوق» «7»

و «الورد» «1» له أيضا. و «الخنثى» «2» لعمرو بن عمرو بن عدس. و «الهدّاج» «3» فرس الرّيب «4»

ابن شريق السّعدى و «وجزة» «1» فرس يزيد «2» بن سنان المرّى فارس غطفان. و «النّعامة» «3» للحارث بن عباد. «4» و «ابن النّعامة» لعنترة. و «النّحّام» «5» فرس للسّليك ابن السّلكة السّعدىّ. و «العصا» «6» فرس جذيمة بن مالك الأزدىّ. و «الهراوة» «7»

لعبد القيس بن أفصى. و «اليحموم» «1» فرس النّعمان بن المنذر. و «كامل» «2» فرس زيد الخيل. و «الزّبد» «3» فرس الحوفزان وهو أبو «الزّعفران» فرس بسطام. و «الحمالة» «4» فرس الكلحبة اليربوعى. هذا ما أورده أحمد بن سعد.

وقال ابن دريد: «القطيب» «1» و «البطين» «2» فرسان كانا للعرب. و «اللّعّاب» «3» و «العباية» «4» فرسا حرّىّ «5» بن ضمرة. و «المدعاس» «6» فرس النّوّاس «7» بن عامر

المجاشعى. و «صهبى» «1» فرس النّمر بن تولب. و «حافل» فرس «2» مشهور. و «العسجدى» «3» لبنى أسد. و «الشّموس» «4» فرس يزيد بن خذّاق «5» العبدىّ. و «الضّيف» «6» لبنى تغلب. و «هراوة العزّاب» «7» فرس الرّيّان بن حويص العبدىّ «8» ، يقال إنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدّق بها على العزّاب يتكسّبون عليها فى السّباق

ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا

والغارات. و «الحرون» «1» فرس تنسب اليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد الباهلىّ. و «الزائد» فرس مشهور وهو من نسل الحرون. «ومناهب» فرس تنسب اليه الخيل أيضا، قال الشّمردل «2» : [تلقى «3» الجياد المقربات «4» فينا] ... لأفحل ثلاثة ينمينا «مناهبا» و «الضّيف» و «الحرونا» و «العلهان» «5» فرس أبى مليل «6» عبد الله بن الحارث اليربوعى. هذا ما اتفق إيراده من أسماء كرام الخيل ومشهورها. فلنذكر ما ورد فى أوصافها وتشبيهها. ذكر ما قيل فى أوصاف الخيل وتشبيهها نظما ونثرا أوّل من شبّه الفرس بالظبى والسّرحان والنّعامة، ثم اتّبعه الشعراء وحذوا مثاله واقتدوا به، هو امرؤ القيس بن حجر حيث قال:

له أيطلا «1» ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء «2» سرحان وتقريب تتفل «3» كأنّ على المتنين «4» منه اذا انتحى ... مداك عروس أو صراية حنظل مكّر مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل درير «5» كخذروف «6» الوليد أمرّه «7» ... تقلّب كفّيه بخيط موصّل كميت يزلّ اللّبد عن حال «8» متنه ... كما زلّت الصّفواء «9» بالمتنزّل «10» وقال أيضا: وأركب فى الرّوع خيفانة «11» ... كسا وجهها سعف «12» منتشر

لها حافر مثل قعب «1» الولي ... د ركّب فيه وظيف «2» عجر «3» لها عجز كصفاة «4» المسي ... ل أبرز «5» عنها «6» حجاف «7» مضرّ لها ذنب مثل ذيل العرو ... س تسدّ به فرجها من دبر لها جبهة كسراة «8» المجنّ ... حذّفه «9» الصانع المقتدر إذا أقبلت قلت دبّاءة «10» ... من الخضر مغموسة فى الغدر وإن أعرضت قلت سرعوفة «11» ... لها ذنب خلفها مسبطرّ «12» وإن أدبرت قلت أثفيّة ... ململمة ليس فيها أثر «13»

وقال أبو داود «1» الإيادى [يصف فرسا «2» ] : له ساقا ظليم خا «3» ... ضب فوجئ بالرّعب حديد الطّرف والمنك ... ب والعرقوب والقلب وقال آخر: له صدر طاوس وفخذ نعامة ... ووثبة نمر والتفات غزال وأعجب من ذا كلما حطّ حافرا ... يخطّ هلالا من وراء هلال وقال البحترىّ وكان وصّافا للخيل: وأغرّ فى الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل كالهيكل المبنىّ إلا أنه ... فى الحسن جاء كصورة فى هيكل ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن ... عرف، وعرف كالقناع المسبل جذلان ينفض عذرة «4» فى غرّة ... يقق «5» تسيل حجولها فى جندل كالرائح النّشوان أكثر مشيه ... عرضا «6» على السّنن البعيد الأطول تتوّهم الجوزاء فى أرساغه ... والبدر «7» غرّة وجهه المتهلّل

صافى الأديم كأنّما عنيت «1» به ... لصفاء نقبته «2» مداوس «3» صيقل وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان «4» أو قطر بلّ «5» وتخاله «6» كسى الخدود نواعما ... مهما تواصلها بلحظ تخجل وتراه يسطع فى الغبار لهيبه ... لونا وشدّا «7» كالحريق المشعل هزج الصّهيل كأنّ فى نغماته ... ن؟؟؟ رات معبد «8» فى الثّقيل الأوّل ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر [المحبّ «9» ] إلى الحبيب المقبل وكتب إلى محمد «10» بن حميد [بن عبد «11» الحميد] الطّوسىّ يستهديه فرسا، ووصف له أنواعا من الخيل؛ فقال من أبيات:

فأعن على غزو العدوّ بمنطو ... أحشاؤه طىّ «1» الرّداء المدرج إمّا بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجّج متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرّج أو أدهم صافى الأديم «2» كأنه ... تحت الكمىّ مظهّر بيرندج «3» ضرم يهيج السّوط من شؤبوبه «4» ... هيج الجنائب «5» من حريق العرفج «6» خفّت مواقع وطئه فلو أنّه ... يجرى برملة عالج «7» لم يرهج «8» أو أشهب يقق يضىء وراءه ... متن كمتن اللّجّة المترجرج تخفى الحجول ولو بلغن لبانه «9» ... فى أبيض متألّق كالدّملج «10»

أوفى بعرف أسود متفرّد» ... فيما يليه وحافر فيروزجى أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كلّ لون معجب بنموذج جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا «2» بأحسن حلّة لم تنسج وعريض أعلى المتن لو علّيته ... بالزّئبق المنهال لم يتدحرج «3» خاضت قوائمه الوثيق «4» بناؤها ... أمواج تحنيب «5» بهنّ مدرّج ولأنت أبعد فى السماحة «6» همّة ... من أن تضنّ بملجم «7» أو مسرج وقال أيضا يصف فرسا أدهم: بأدهم «8» كالظلام أغرّيجلو ... بغرّته دياجير الظلام ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق فى جون «9» الغمام

وقال أيضا فى أدهم: أمّا الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامه جارى الجياد فطار عن أوهامها ... سبقا وكاد يطير عن أوهامه جذلان تلطمه «1» جوانب غرّة ... جاءت مجىء البدر عند تمامه واسودّ ثم صفت لعينى ناظر ... جنباته فأضاء فى إظلامه مالت نواحى عرفه فكأنّها ... عذبات أثل مال تحت حمامه ومقدّم الأذنين تحسب أنّه ... بهما يرى الشخص الذى لأمامه وكأنّ فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدّامه لانت معاطفه فخيّل أنه ... للخيزران مناسب لعظامه فى شعلة كالشّيب مرّ بمفرقى ... غزل لها «2» عن شيبه بغرامه وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع فى ازدحام غمامه مثل الغراب غدا «3» يبارى صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه والطّرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم تزره بسرجه ولجامه وقال علىّ بن الجهم: فوق طرف «4» كالطّرف فى سرعة الطّر ... ف وكالقلب قلبه فى الذكاء لا تراه العيون إلّا خيالا ... وهو مثل الخيال فى الانطواء

وقال العباس بن مرداس: جاء كلمع البرق سام «1» ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره فما يمسّ الأرض منه حافره وقال أبو الطيّب المتنّبى: وجردا «2» مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافا يتّبعن العواليا تماشى بأبد كلّما وافت الصّفا «3» ... نقشن به صدر البزاة حوافيا وينظرن من سود «4» صوادق فى الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا وتنصب للجرس «5» الخفىّ سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا تجاذب فرسان الصّباح «6» أعنّة «7» ... كأن على الأعناق منها أفاعيا

وقال أيضا: وجياد «1» يدخلن فى الحرب أعرا «2» ... ء ويخرجن من دم فى جلال واستعار الحديد لونا وألقى ... لونه فى ذوائب الأطفال «3» وقال أبو الطيّب أيضا: ويوم «4» كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيّان تغرب وعينى على «5» أذنى أغرّ كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب له فضلة عن جسمه فى إهابه «6» ... تجىء على صدر رحيب وتذهب شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى «7» وأرخيه مرارا فيلعب

وأصرع أىّ الوحش قفّيته «1» به ... وأنزل عنه مثله حين أركب وقال أيضا يصف فرسا: إن أدبرت قلت لا تليل «2» لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل وقال أبو الفرج الببغّاء: إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عنّ قلت أسابح أم أجدل «3» تتخاذل الألحاظ فى إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمّل فكأنه فى اللطف فهم ثاقب ... وكأنه فى الحسن حظّ مقبل «4» وقال أيضا من أبيات: رماهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد من اللّاء يهجرن المياه لدى السّرى ... ويعتضن شمّ الجوّ والجوّ راكد مرنّ على لذع» القنا فكأنما ... عليهن من صبغ الدّماء مجاسد «6» نسجن ملاء النّقع ثم خرقنه «7» ... بكرّ لها منه إلى النصر قائد عليهنّ من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد

وقال أبو الفتح كشاجم: ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر منه فنار وإذا عطفت به على ناورده «1» ... لتديره «2» فكأنه بركار «3» قصرت قلادة نحره وعذاره ... والرّسغ، وهى من العتيق قصار يرد الضّحاضح «4» غير ثان سنبكا «5» ... ويرود طرفك خلفه فيحار لو لم تكن للخيل نسبة خلقه ... خالته من أشكالها الأطيار وقال آخر: وأقبّ «6» تحمله رياح أربع ... لولا اللّجام لطار فى الميدان من جملة العقبان «7» إلّا أنّه ... من حسنه فى طلعة الغزلان يمشى إلى ميدانه متبخترا ... من تيهه كتبختر النّشوان وقال ابن المعتزّ: وخيل طواها القود «8» حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الخطّ ذبل

صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل «1» وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: طرف نأت سماؤه عن أرضه ... وما نأى كاهله عن الكفل ذو أربع من أربع من القبو ... ل والدّبور والجنوب والشّمل وهو إذا أعملها ألفى لها «2» ... فوق الذى يطلبه من العمل كالبرق إن أومض أو كالرّعد إن ... أجلب «3» أو صوب الحيا «4» إذا احتمل وقال آخر: يجرى فيبعد من مدّى متقارب ... أبدا ويدنو من مدى متباعد إن سار فهو غدير ماء مائج ... أو قام «5» فهو غدير ماء جامد وقال أبو الفضل الميكالى: خير ما استطرف الفوارس طرف ... كلّ طرف بحسنه مبهوت هو فوق الجبال وعل وفى السه ... ل نعام وفى المعابر حوت وقال آخر: وطرف إذا ما جرى خلته ... عقابا من الوكر يبغى المزارا ترى فى الجبين له سوسنا «6» ... وتلمح فى لونه الجلّنارا «7»

ويمشى على الماء من خفّة ... ويقدح فى الجلمد الصخر نارا فلو كان يبغى به راكب «1» ... إلى مطلع الشمس سيرا لطارا وقال عبد الجبّار بن حمديس: ومجرّر فى الأرض ذيل عسيبه ... حمل الزبرجد منه جسم عقيق يجرى ولمع «2» البرق فى آثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق ويكاد يخرج سرعة من ظلّه ... لو كان يرغب فى فراق رفيق «3» وقال ابن طباطبا: عجبا لشمس أشرقت فى وجهه ... لم تمح منه دجى الظلام المطبق وإذا تمطّر «4» فى الرّهان رأيته ... يجرى أمام الريح مثل مطرّق «5» وقال تاج الملوك بن أيّوب: وخيل كأمثال السّعالى «6» شوازب «7» ... تكاد بنا قبل المجال تجول سوابق تكبو الريح قبل لحاقها ... لها مرح «8» من تحتنا وصهيل وقال إبراهيم بن خفاجة يصف فرسا أشهب: ربّ طرف كالطّرف ساعة عدو ... ليس يسرى سراه طيف الخيال

إن سرى فى الدّجى فبعض الدّرارى ... أو سعى فى الفلا فإحدى السّعالى لست أدرى إن قيد ليلة أسرى ... أو تمطّيته غداة قتال أجنوب تقتاد لى أم جنيب «1» ... أم شمال عنانها بشمالى أشهب اللّون أثقلته جلىّ ... خبّ «2» فيهن وهو ملقى الجلال «3» فبدا الصبح ملجما بالثّريّا ... وجرى البرق مسرجا بالهلال وقال أيضا فى أشهب: وظلام ليل لا شهاب بأفقه ... إلّا لنصل مهنّد أو لهذم لا طمت لجّته بموجة أشهب ... يرمى بها بحر الظلام فيرتمى قد سال فى وجه الدّجنّة غرّة ... فالليل فى شبه الأغرّ الأدهم أطلعت منه ومن سنان أزرق ... ومهنّد عضب ثلاثة أنجم وقال أبو الصّلت يصف فرسا أشهب: وأشهب كالشّهاب أضحى ... يجول فى مذهب الجلال قال حسودى وقد رآه ... يجنب خلفى إلى القتال من ألجم الصبح بالثريّا ... وأسرج البرق بالهلال وقال ابن خفاجة وقد أهدى مهرا بهيما: تقبّل المهر من أخى ثقة ... أرسل ريحا به الى المطر مشتملا بالظلام من شية ... لم يشتمل ليلها على سحر منتسبا لونه وغرّته ... الى سواد الفؤاد والبصر

تحسبه من علاك مسترقا ... بهجة مرأى وحسن مختبر حنّ إلى راحة نهيض ندى ... فمال ظلّ به على نهر ترى به والنشاط يحفزه ... ما شئت من فحمة ومن شرر لو «1» حمل الليل حسن دهمته ... أمتع طرف المحبّ بالسّهر أحمى من النجم يوم معركة ... ظهرا وأجرى به من القدر اسودّ، وابيضّ فعله كرما ... فالتفت الحسن فيه عن حور فازدد سنا بهجة بدهمته ... فاللّيل أذكى لغرّة القمر ومثل شكرى على تقبّله ... يجمع بين النسيم والزّهر وقال فى فرس أشقر: ومطهّم شرق الأديم كأنما ... ألفت معاطفه النجيع «2» خضابا طرب إذا غنّى الحسام، ممزّق ... ثوب العجاجة جيئة وذهابا قدحت يد الهيجاء منه بارقا ... متلهّبا يزجى القتام سحابا [ورمى الحفاظ به شياطين العدا ... فانقضّ فى ليل الغبار شهابا «3» ] بسّام ثغر الحلى تحسب أنّه ... كأس أثار بها المزاج حبابا و «4» قال فى أدهم أغرّ محجّل: وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه

وقال ابن نباتة «1» السّعدىّ فى أدهم: وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريّا سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوى خلفه الأفلاك طيّا فلمّا خاف وشك الفوت منه «2» ... تعلّق بالقوائم والمحيّا وقال فى فرس أدهم أغرّ محجّل أهدى له: قد جاءنا الطّرف الذى أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه «3» أولاية ولّيتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه تختال منه على أغرّ محجّل ... ماء الدّياجى قطرة من مائه وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه متمهّلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه ما كانت النيران يكمن حرّها ... لو أن للنيران بعض ذكائه لا تعلق الألحاظ فى أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه

طرائف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة

وقال محمد بن الحسين «1» الفارسىّ النحوىّ أحد شعراء اليتيمة فى فرس أدهم أغرّ: ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أنّ السروج على «2» البوارق توضع وكأنما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب عليه والثريّا برقع طرائف فى ذم الخيل بالهزال والعجز عن الحركة كتب بعضهم إلى صديق له: ما فعلت حجرك «3» تلك التى ... أفضل من فارسها الرّاجل عهدى بها تبكى وتشكو الضّنى ... لما احتشاه البدن الناحل وهى تغنّينى غنا صبّة ... غايتها وجدان ما تاكل: يا ربّ لا أقوى على كلّ ذا ... موت وإلّا فرج عاجل وقال آخر: يا نصر حجرك أبلى الجوع جدّتها ... وأصبحت شبحا تشكو تجافيكا

إذا رأت تبنة قالت مجاهرة ... يا تبن لى حسرة ما تنقضى فيكا ترجوه طورا وتبكى منه آيسة ... حتى إذا عرضت باتت تغنّيكا: هذى- فديتك- حالى قد علمت بها ... فلم يكون الجفا أفديك أفديكا وقال آخر: أعطيتنى شهباء مهلوبة «1» ... تذكر نمروذ «2» بن كنعان سفينة الحشر إلى عدوها ... أسبق من أشقر «3» مروان كأننى منها على زورق ... بلا مجاديف وسكّان «4» فانظر إلى حجرى ترى شهرة ... أخبارها جامع «5» سفيان وقال آخر: حملتنى فوق مقرف زمن ... ليس لذى رحلة بنفّاع جلد على أعظم محلّلة ... فليس يمشى إلّا بدفّاع كأننى إذ علوت صهوته ... ركبت منه سرير فقّاع «6»

وكتب زهير بن «1» محمد الكاتب: وفرس على المسا ... وى كلّها محتويه راكبها فى خجلة ... كأنه فى مخزيه مستقبحا ركوبها ... مثل ركوب المعصية فما مساويها لمن ... عدّدها مستويه يا قبحها مقبلة ... وقبحها مولّيه وقال برهان الدين ابن الفقيه نصر: لصاحب الديوان برذونة «2» ... بعيدة العهد من القرط «3» إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطى تمشى إلى خلف إذا ما مشت ... كأنها تكتب بالقبطى *** هذا ما اتّفق إيراده مما قيل فى أوصاف الخيل من النظم. فلنذكر ما وصفت به فى الرسائل المنثورة، والفقر المسجوعة، والألفاظ المزدوجة؛ مع ما يتصل بذلك من الأبيات فى ضمنها.

فمن ذلك ما حكى أن المهدىّ سأل مطر بن درّاج عن أىّ الخيل أفضل؛ فقال: الذى إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر «1» ، وإذا استعرضته قلت زافر «2» . قال: فأىّ هذه أفضل؟ قال: الذى طرفه إمامه، وسوطه عنانه. ومن هذا أخذ المتنبى وعلىّ بن جبلة والعسكرىّ. فقال المتنبى: إن أدبرت «3» قلت لا تليل لها وقد تقدّم. وقال علىّ بن جبلة: تحسبه أقعد فى استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكبّ وقال أبو هلال العسكرىّ: طرف إذا استقبلته قلت حبا ... حتى إذا استدبرته قلت كبا ووصف أعرابىّ فرسا أجرى فى حلبة فقال لما أرسلت الخيل: جاءوا بشيطان، فى أشطان «4» ؛ فأرسلوه فلمع لمع البرق، واستهلّ استهلال الودق «5» ؛ فكان أقرب الخيل إليه، تقع عينه من بعد عليه.

ووصف محمد بن الحسين بن الحرون فرسا فقال: هو حسن القميص، جيّد الفصوص «1» ؛ وثيق القصب، نقىّ العصب؛ يبصر بأذنيه، ويتبوّع «2» بيديه، ويداخل رجليه. ووصف أخر فرسا فقال: الريح أسيرة يديه، والظّليم «3» فريسة رجليه؛ إن حرّ «4» استعر فى التهابه، وإن جدّ مرق من إهابه. وكتب عبد الله بن طاهر إلى المأمون مع فرس أهداه اليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين فرسا يلحق الأرنب فى الصّعداء، «5» ويجاوز الظباء فى الاستواء، ويسبق فى الحدور جرى الماء؛ إن عطف حار، وإن أرسل طار؛ وإن حبس صفن «6» ، وإن استوقف فطن؛ فهو كما قال تأبّط شرّا: ويسبق وفد الريح من حيث ينتحى ... بمنخرق من شدّه المتتابع ووصف آخر فرسا فقال: كأنه إذا علا دعاء، وإذا هبط قضاء. كأنه محلول من قول الشاعر فى صفة فرس: مثل دعاء مستجاب إن علا ... أو كقضاء نازل إذا هبط ووصف أيّوب بن القرّيّة فرسا فقال: أسيل الخدّ، حسن القدّ؛ يسبق الطّرف، ويستغرق الوصف.

وقال محمد بن عبد الملك لصديق له: ابغ لى فرسا برذونا، وثيق اليدين، قائم الأذنين، ذكر العينين، يأنف من تحريك الرجلين. ومن الكلام الجيّد فى وصف الخيل ما أنشأه الشيخ ضياء الدين بن القرطبىّ من رسالته التى كتبها إلى الصاحب الوزير شرف الدين الفائزىّ، وقد تقدّم ذكرها فى باب الكتّاب فى الرسائل، فلا فائدة فى إعادتها؛ وإنما أوردنا ذكر الخيل هناك لأن الرسالة تشتمل على أوصاف الخيل والعساكر والسلاح وغير ذلك، فأردنا بإيرادها بجملتها ثم أن يكون الكلام فيها سياقه يتلو بعضه بعضا. وهذه الرسالة فى السّفر السابع «1» من هذه النسخة. *** ومن إنشاء المولى الفاضل العالم الأديب البليغ شهاب الدين أبى الثّناء محمود ابن سليمان الحلبى الكاتب رسالة «2» فى الخيل عملها تجربة ورياضة لخاطره، ولم يكتب بها «3» ؛ سمعتها من لفظه، ونقلتها من خطّه؛ وهى: أدام الله إحسان الجناب الفلانى، ولا زالت الآمال فى أمواله محكّمه، والأمانى كالمحامد فى أبوابه مخيّمه، والمعالى كالعوالى إليه دون غيره مسلّمه، والمكارم تغريه فى الندى حتى يبذل ما حبّب إليه من الخيل المسوّمه. المملوك يقبّل اليد التى ما زالت بسطتها فى الكرم عليّه، وقبضتها بتصريف أعنّة الزمن مليّه؛ ومواهبها تتنوّع فى الندى، ومذاهبها فى الكرم تهب الأولياء ما تهابه العدا. وينهى وصول

ما أنعم به من الخيل التى وجد الخير فى نواصيها، وادّخرت صهواتها حصونا «1» يعتصم فى الوغى بصياصيها: فمن أشهب غطّاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته؛ كأنّ أذنه جلفة «2» قلم، أو شقّة جلم؛ يدرك بها الوهم، ويحقّق فى الليل البهيم مواقع السهم؛ يتموّج أديمه ريّا؛ ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله فى حلى لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثريّا؛ إن التفّت المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم؛ كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف «3» السّنان] مقاتل العدا فى ظلام النّقع بنور أشعّته؛ لا يستنّ داحس «4» فى مضماره، ولا تطمع الغبراء فى شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره؛ تسابق يداه مرامى طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من عطفه. ومن أدهم حالى الشّكيم، حالك الأديم، له مقلة غانية وسالفة ريم؛ قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده؛ يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته؛ أنه توهّم النهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضه؛ ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف؛ يقبل كالليل، ويكرّ كجلمود صخر حطّه السّيل؛ يكاد يسبق ظلّه، وإذا جارى السهم إلى غرض بلغه قبله. ومن أشقر غشّاه البرق بلهبه، ووشّاه الأصيل بذهبه؛ يتوجّس مالديه برقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على

شقيقتين؛ له من الرّاح لونها، ومن الرياح لينها؛ إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع «1» فهلال على شفق؛ لو أدرك أوائل حرب ابنى وائل لم يكن للنّعامة «2» نباهه، ولا للوجيه وجاهه، ولكان «3» ترك إعارة سكاب «4» لؤما وتحريم بيعها سفاهه؛ يركض ما وجد أرضا، ولو اعترض [به «5» ] راكبه بحرا وثبه عرضا. ومن كميت نهد، كأنّ راكبه فى مهد؛ عندمىّ الإهاب، شمالىّ الذّهاب؛ «يزلّ الغلام «6» الخفّ عن صهواته» ، وكأنّ نغم الغريض ومعبد فى لهواته؛ قصير المطا «7» ، فسيح الخطا؛ إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد؛ وإن جنب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علّم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية- وهى ظفر راكبه- ثانيا من عنانه؛ وإن سار فى سهل اختال براكبه كالثّمل، وإن أصعد فى جبل طار فى عقابه كالعقاب وانحطّ فى مجاريه كالوعل؛ متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل.

ومن حبشىّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب بمشابهته العين «1» ؛ كأنّ الشمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا؛ ذى كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه؛ قد أطلعته الرياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه؛ له من البرق خفّة وطئه وخطفه؛ ومن النسيم لين طروقه «2» ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه؛ يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويغدو كألف الوصل فى استغنائه مثلها عن الهمز. ومن أخضر له من الروض تفويفه، ومن الوشى تقسيمه وتأليفه؛ قد كساه الليل والنهار حلّتى وقار وسنا، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لمّا استجمعا حسنا؛ ومنحه البازى حلّة وشيه، وأعطته «3» نفوح الرياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه؛ يعطيك أفانين الجرى قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شىء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله؛ كأنه تفاريق شيب فى سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار؛ يختال لمشاركة اسم الجرى بينه وبين الماء فى شدّة السّير كالسيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذّب المانويّة «4» لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النهار وظلمة الليل. ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم؛ إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف فى حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ

والقدم؛ قد طابق الحسن البديع بين ضدّى لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه؛ وأشبه زمن الرّبيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلّتى الدّجى فى حالتى الإبدار والسّرار؛ «1» لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ فى حجرات «2» الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليلة المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترشد فيه كواكبه؛ ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّ مشبهاه: النهار والليل، ولا تتمسّك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل؛ فهو الأبلق الفرد، والجواد الذى لمجاريه العكس وله الطّرد؛ قد أغنته شهرة نوعه فى جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها «3» له فى الاعتراف جادّة الإنصاف. فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد على «4» مثلها من أنفس مهورها؛ وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلّما أمّله شره إليه فلو أنه زيد «5» الخيل لما زاد؛ ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليومى سلمه وحربه حنيّة «6» الصائد وجّنة الصائل؛ وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها [فى الجهاد «7» ] لمقارعة أعداء الله تعالى عليها وأعدائه؛ والله تعالى

يشكر برّه الذى أفرده فى الندى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه. والله أعلم بالصواب. *** ومن إنشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى «1» بن عبد المجيد اليمانى رسالة فى مثل ذلك أنشأها فى سنة ستّ أو خمس وسبعمائة. وسمعتها من لفظه، ونقلتها من إملائه؛ وهى: يقبّل اليد العالية الفلانيّة، لا زالت ترسل إلى الأولياء سحائب كرمها، وتقلّد الأودّاء قلائد نعمها، ولا برح المرهفان طرازى حاشيتها وخدمها، حتى ينوب القلم عن صليل مرهفها والصّمصام عن صرير قلمها، لتتساوى فى الإنفاذ مواقع كلمها ومراسم كلمها؛ ولا فتئ ظاهرها قبلة القبل وغاية الآمال، وباطنها مورد الكرم ومصدر الأموال. وينهى أنه لما كانت العزائم الفلانيّة طامحة إلى أسنى المعالى، مطلعة من مناقبها أهلّة تخجل بدور الليالى؛ متيّمة باكتساب المفاخر، عميدة بتشييد المآثر؛ مائلة الى ما يزيّن المقانب «2» ، ويطرّز الكتائب؛ مصغية إلى ما يرد جنابها من جنايتها لا غير «3» ،

وكيف لا تكون كذلك وحبّ الخيل من الخير؛ ناظرة إلى ما يصل من كرائمها، مهتدية بنجوم غررها مشغوفة بتحجيل قوائمها؛ عاشقة لاتساع صدورها، ورقّة نحورها. خدم المملوك الرّكاب العالى بإنفاذ خيل اتّحدت فى الصفات، وتباينت فى الشّيات؛ وصدرت كروضة تفتّحت أزهارها، وزها نوّارها، وأشرقت أنوارها؛ بل كعرائس تختال فى برودها، أو كجواهر تنافست فى عقودها؛ ملكتها يمين المملوك فكانت كعدد أصابعها، وأحرزتها همّته فنزعت فى الحزم إلى منازعها؛ لها من الظباء أعناقها، ومن النعام أسواقها «1» ؛ ومن البأس قوة جنانها، ومن الظفر مثنى عنانها؛ ومن الإقبال غرر نواصيها، ومن إدراك الغرض جلّ أمانيها؛ ذوات ضبح «2» ، وموريات «3» قدح؛ تكبو الريح فى غاياتها، ويقرّ البرق بمعجزاتها؛ مداخلة الخلق رحبة اللّبان «4» ، مستغنية عن الهمز بتحريك العنان؛ تقارب ما بين قطاها «5» ومطاها «6» ، وتباعد ما بين قذالها «7» وصلاها؛ «8» سما عنقها وأطرق جبينها «9» ، وتنزّهت عن المعايب فلا صكك «10» يشينها؛ يا حبّذا أشهبها وقد تجلّلت بالشّهب ذاته، وادّرعت أشهب الصبح شياته؛ زبرجدىّ الحافر لؤلؤىّ الأديم، له أيطلا ظبى وساقا ظليم «11» ؛ كغمامة بارقها قدح سنابكه، أو كسيل طمّ مفعمه واسع مسالكه؛ استغنى بجوهر شياته عن كل مذهب،

فما لمذهب فى الانتساب عنه مدهب؛ إن امتطى الفارس قطاته طار بنسر حافره، وإن أشار إلى غرض أدركه بمجرّد الوهم لا بالنظر إلى ناظره؛ أميال البيداء كميل بين عينيه، وترادف رمالها كذرور بين جفنيه؛ استولى على السّبق «1» وأحرز خصله، وكيف لا وقد حاز اثنتى عشرة خصله. يتلوها أشقرها وقد نجّد «2» عقيقا، أو التحف شقيقا «3» ؛ أو كوجنة قد احمرّت من الخجل، أو كوردة ناظرت بخفرها نرجس المقل؛ تناسبت أجزاؤه فى الملاحه، وتساوت مراتبه فى الصّباحه؛ وجاهة الوجيه ناطقة من المحيّا، ومسيل غرّته كتصويب الثريّا؛ حجّل بالجوزاء وأسرج بالهلال، وألجم بالمجرّة فما لابن ذكاء «4» فى الإشراق عليه مجال؛ إن أطلق والريح فى سنن ميدان، رأيت الريح ككميت خلّفته الجياد يوم الرّهان؛ تنهب الفلاة حوافره، وتحرز قصب السبق بوادره. يتبعه كميت كقطعة جمر، أو ككأس خمر؛ اسودّ ذنبه وعرفه، واختال كالنّشوان فكأنما أسكره وصفه؛ حكت أذناه قادمتى حمامه، أو المحرّف من أقلام قدامه؛ قصرت عن سعيه الخيول فسابق الظّلال، ونشأ مع النّعام فلا يألف غير الرّئال؛ كأنّ الصّبا ألقت إليه عنانها قسرا، فتخبّ بسرجه مرّة وتناقل أخرى. مقرونا بأصفر كالدّينار، قد أفرغت عليه حلّة نور لا نار؛ طال منه الذيل واتّسع اللّبان، فكأنما هو نار على يفاع شبّت للضّيفان؛ جلّلته الشمس بأنوارها، وأهدت إليه الرّياض اصفرار أزهارها؛ تشهدك عند رؤيته يوم العرض، فروج قوائمه سماء على أرض؛ إن هملج لاذت الريح بالشّجر، وإن عدا قصر عن إدراكه رؤية

البصر؛ نجاشىّ النّجار «1» ، وحليف الوجار «2» ؛ كأنما خلق من الحزم شطره، ومن العزّ ظهره؛ ومن الإقبال غرّته، ومن كنوز المفاخر سرّته؛ يقرّ أعوج «3» بنى هلال بفضله، ويقفو حرون «4» مسلم أثر ظلّه. مختوما بأدهم كصخرة سيل، أو كقطعة ليل؛ خاض فى أحشاء الصّباح فلطم جبينه، وسابق الفلك فقيّد بالجوزاء رجليه ويساره وأطلق يمينه؛ عريض الكفل والمنخرين، دقيق القوائم والساقين؛ كأنما أشرب لونه سواد القلب والبصر، وكأنما النصر قيس «5» وهو ليلى يحضره حيث حضر؛ لو كتب اسمه على راية لم تزل تقدم فتوحا، أو لمعت بوارق سنابكه رأيت زنجيّا جريحا؛ طابقت أخباره لمخبره، وسبقت رجلاه فى العدو مواقع نظره؛ لا يعلق غراب «6» بغباره، ولا تستنّ «7» النّعامة فى مضماره. ولنختم هذا الباب بذكر فائدة، وهى دواء للخلد «8» : يؤخذ خمسون طائرا من الدّراريج تسحق بحجر ولا تمسّ باليد، وتجعل فى قدر صغيرة جديدة، ويصبّ عليها من الماء والزيت ما يغمره، ويغلى عليه حتّى ينعقد، ويضاف إليه يسير من القطران الأسود، ويوضع على النار؛ فإذا فتر فتلفّ مشاقة على عود ويدهن به أمّ الخلد قبل قطعه بالنار، ثم يدهن بعد ثلاثة أيام بالشّيرج والصّيلقون وماء الورد؛ فإنه مجرّب.

الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير

الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى البغال والحمير ذكر ما قيل فى البغال قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ البغل لا يعيش له ولد، وليس بعقيم؛ ولا يبقى للبغلة ولد، وليست بعاقر. وهو أطول عمرا من أبويه وأصبر. ويقال: إنّ أوّل من نتج «1» البغال «قارون» ، وقيل: «أفريدون» «2» أحد ملوك الفرس الأول. والبغل يوصف برداءة الأخلاق والنلوّن. ومن أخلاق البغال الإلف لكل دابّة. ويقال: إنّ أبوال الإناث تنقية لأجسادها. والإناث أجمل من الذكور. قال بعض الشعراء «3» : عليك بالبغلة دون البغل ... فإنها جامعة للشّمل مركب قاض وإمام عدل ... وعالم وسيّد وكهل تصلح للرّحل وغير الرحل والبغال من مراكب الرؤساء، والسادة النجباء، والقضاة والعلماء. وهم يرجّحون إناثها على ذكورها؛ حتى إن المغاربة لا يركبون البغال الذكور البتة وإنما

ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم

يجعلونها برسم حمل الزّبل. أخبرنى قاضى القضاة جمال الدين أبو محمد بن سليمان بذلك، وقال: وإذا طلب ولىّ الأمر البغل لأحد كان ذلك دلالة على إشهاره «1» وتجريسه «2» عليه. قال: فلا يركب البغل الذكر عندنا إلا زبّال أو مجرّس. وأعظم ما تفضّل به إناث البغال على ذكورها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبها وملكها؛ وما ورد أنه ملك بغلا ولا ركبه. ولنذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيلا لهذا الحيوان وتشريفا، وتنويها بذكره وتعريفا؛ والله أعلم. ذكر بغلات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة شهباء يقال لها «دلدل» ، أهداها له المقوقس. ذكر ذلك ابن قتيبة وابن سعد؛ فقال ابن سعد ما هذا نصه: «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة اللّخمى، وهو أحد الستة «3» ، إلى

المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا «1» ؛ فأوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه وقال له خيرا؛ وأخذ الكتاب فجعله فى حقّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته؛ وكتب إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم: «قد علمت أن نبيّا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت إليك كسوة وبغلة تركبها» . ولم يزد على هذا ولم يسلم. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديّته، وأخذ الجاريتين: مارية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأختها سيرين، وبغلة بيضاء لم يكن فى العرب يومئذ غيرها وهى «دلدل» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» . وذكر ابن سعد أيضا قال: كانت «دلدل» بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل بغلة رئيت فى الإسلام، أهداها له المقوقس وأهدى معها حمارا يقال له «عفير» ؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية. وفى لفظ: وكانت

شهباء، وكانت بينبع حتى ماتت ثمّ. وفى لفظ: وكانت قد كبرت حتى زالت أستانها، وكان يجشّ لها الشعير. وروى ابن سعد أيضا عن محمد بن عمر الأسلمىّ قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبى سبرة عن زامل بن عمرو قال: أهدى فروة بن عمرو إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة يقال لها «فضّة» فوهبها لأبى بكر. وكذلك قال البلاذرىّ. وقد يقال: إن «دلدل» من هديّة فروة، وإن «فضّة» من هدية المقوقس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أهدى للنبىّ صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى؛ فركبها بجلّ «1» من شعر ثم أردفنى خلفه. رواه الثّعالبىّ فى تفسيره فى قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) * . قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدّمياطى رحمه الله: قوله «أهداها له كسرى» بعيد؛ لأنه مزّق كتاب النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمر عامله باليمن بقتله وبعث رأسه إليه؛ فأهلكه [الله] بكفره وطغيانه. وروى مسلم بن الحجّاج رحمه الله من حديث أبى حميد الساعدىّ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك؛ فذكر الحديث؛ وقال فيه: وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء؛ فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له بردا. رواه البخارىّ فى كتاب الجزية والموادعة بعد الجهاد؛ ورواه أبو نعيم فى المستخرج. ولفظهما: «وأهدى ملك أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه بردا» ؛ وقال أبو نعيم: بردة.

وقال ابن سعد: وبعث صاحب «1» دومة الجندل «2» لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببغلة وجبّة من سندس. وروى إبراهيم الحربىّ فى كتاب الهدايا عن علىّ رضى الله عنه قال: وأهدى يحنّة «3» بن روبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء. وروى يوسف بن صهيب عن ابن «4» بريدة عن أبيه قال: انكشف الناس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشّهباء التى أهداها له النّجاشىّ وزيد آخذ بركاب بغلته. وذكر علىّ بن محمد بن حنين «5» بن عبدوس الكوفىّ فى أسماء خيله وسلاحه وأثاثه: وكان اسم بغلته «دلدل» أهداها إليه المقوقس صاحب الإسكندريّة وكانت شهباء؛ وهى التى قال لها يوم حنين: «اربضى» فربضت. ويقال: إن عليّا ركبها بعد النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ركبها الحسن ثم ركبها الحسين ثم ركبها محمد بن الحنفيّة

رضى الله عنهم؛ ثم كبرت وعميت، فوقعت فى مبطخة «1» لبعض بنى مدلج فخبطت «2» فيها، فرماها بسهم فقتلها. وكانت له بغلة يقال لها «الأيليّة» ؛ أهداها إليه ملك أيلة، وكانت طويلة مخندفة» كأنما تقوم على رمال حسنة السير؛ فأعجبته ووقعت منه. وهى التى قال له فيها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حين خرج عليها: كأنّ هذه البغلة قد أعجبتك يا رسول الله؟ قال: «نعم» قال: لو شئنا لكان لك مثلها؛ قال: «وكيف» ؛ قال: هذه أمّها فرس عربيّة وأبوها حمار، ولو أنزينا حمارا على فرس لجاءت بمثل هذه؛ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» . وعن دحية بن خليفة الكلبىّ رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلة؟ فقال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعقلون» . رواه ابن منده فى كتاب الصحابة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا، ما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى حمارا على فرس. رواه التّرمذىّ فى الجهاد. وفى لفظ آخر عنه رضى الله عنه: كان عبدا مأمورا بلّغ ما أرسل به، وما اختصّنا دون الناس بشىء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وألّا نأكل الصّدقة، وألا ننزى الحمار على الفرس. وهذا على هذين الحديثين يختصّ بآل النبىّ صلى الله عليه وسلم دون غيرهم.

ذكر شىء مما وصفت به البغال

والذى يظهر من مجموع هذه الأحاديث المرويّة التى أوردناها أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت سبعا، وهى: «الدّلدل» التى أهداها له المقوقس، و «فضّة» التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل، وبغلة أهداها له يحنّة ابن روبة، وبغلة أهداها له النّجاشىّ صاحب الحبشة. والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر شىء مما وصفت به البغال قد ألّف الجاحظ كتابا فى البغال مفردا عن كتاب الحيوان، قال فيه ما نصه: «نبدأ إن شاء الله بما وصف الأشراف من شأن البغلة فى حسن سيرتها، وتمام خلقتها، والأمور الدالّة على السرّ فى جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرّفها فى منافعها، وعلى خفّة مؤونتها فى التنقّل فى أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها مع كثرة ما يزعمون من عيوبها، ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خلق منها، وكيف ظهر فضلها مع النقص الذى هو فيها، وكيف اغتفروا مكروه ما فيها لما وجدوا من خصال المحبوب فيها. قال: ولقد كلف بارتباطها الأشراف حتى لقّب بعضهم من أجل اشتهاره بها ب «روّاض البغال» ؛ ولقّبوا آخر ب «عاشق البغل» . فبسط القول فى الترجمة ثم لم يأت من أخبار البغال بطائل، بل اقتصر على حكايات واستطرد منها إلى منها إلى غيرها، على عادته فى مصنّفاته. فكان مما حكاه من ذلك: قال مسلمة بن عبد الملك: ما ركب الناس مثل بغلة طويلة العنان، قصيرة العذار، سفواء «1» العرف، حصّاء «2» الذّنب.

قال: وكتب روح بن عبد الملك إلى وكيل له: ابغنى بغلة حصّاء الذنب، عظيمة المحزم، طويلة العنق، سوطها عنانها، وهواها إمامها. قال: وعاتب صفوان بن عبد الله بن الأهتم عبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطّلب فى ركوب البغال، وكان ركّابا للبغلة، فقال له: مالك ولهذا المركب الذى لا يدرك عليه الثار، ولا ينجّيك يوم الفرار؟! فقال: إنها نزلت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلّة «1» العير، وخير الأمور أوساطها. فقال صفوان: إنا نعلّمكم، فإذا علمتم تعلّمنا منكم. وهو الذى يلقّب «روّاض البغال» ، لحذقه بركوبها، ولشغفه بها، وحسن قيامه عليها. وكان يقول: أريدها واسعة الجفرة «2» ، مندحّة «3» السّرّة، شديدة الغلوة «4» ، بعيدة الخطوة، ليّنة الظهر، ملويّة الرّسغ، سفواء جرداء عنقاء، طويلة الأنقاء «5» . قال: وقال ابن كتامة: سمعت رجلا يقول: إذا اشتريت بغلة، فاشترها طويلة العنق، تجده «6» فى نجائها؛ مشرفة الهادى، تجده «7» فى طباعها؛ ضخمة الجوف، تجده «8» فى صبرها. قال: ولما خرج قطرىّ بن الفجاءة أحبّ أن يجمع إلى رأيه رأى غيره؛ فدسّ إلى الأحنف بن قيس رجلا يجرى ذكره فى مجلسه ويحفظ عنه ما يقول؛ فلمّا قعد قال الأحنف: أما إنهم إن جنبوا بنات الصّهّال، وركبوا بنات النّهّاق «9» ، وأمسوا بأرض وأصبحوا بأرض، طال أمرهم.

قال الجاحظ: فلا ترى صاحب الحرب يستغنى عن البغال، كما لا ترى صاحب السّلم يستغنى عنها، وترى صاحب السفر كصاحب الحضر. انتهى كلام الجاحظ. وحكى أنّ عبد الحميد الكاتب ساير مروان بن محمد الجعدىّ على بغلة؛ فقال له: لقد طالت صحبة هذه الدابّة لك!؛ فقال: يا أمير المؤمنين، من بركة الدابّة طول صحبتها. فقال: صفها؛ فقال: همّها إمامها، وسوطها زمامها، وما ضربت قطّ إلّا ظلما. وقال بعض الكتّاب من رسالة: «قد اخترت لسيّدى بغلة وثيقة الخلق، لطيفة الخرط، رشيقة القدّ، موصوفة «1» السير، ميمونة الطير، مشرفة العنق، كريمة النّجار، حميدة الآثار. إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت ما لها كفل قد جمعت إلى حسن القميص، سلامة الفصوص «2» ؛ فسمّيت قيد الأوابد، وقرّة عين الساهد؛ تزرى فى انطلاقها، بالبروق فى ائتلاقها» . قال البحترىّ يصف بغلا: وأقبّ نهد للصّواهل «3» شطره ... يوم الفخار وشطره للشّحّج خرق يتيه «4» على أبيه ويدّعى ... عصبيّة لبنى الضّبيب «5» وأعوج

مثل المذرّع «1» جاء بين عمومة ... فى غافق «2» وخؤولة للخزرج وقال أبو الفرج الوأواء من قصيدة يشكر بعض أصحابه وقد أهدى له بغلة: قد جاءت البغلة السّفواء يجنبها ... للبرق غيث بدا ينهلّ ماطره عريقة ناسبت أخوالها «3» فلها ... بالعتق «4» من أكرم الجنسين فاخره ملء الحزام وملء العين مسفرة ... يريك غائبها فى الحسن حاضره أهدى لها الرّوض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إن زال ناضره ليست بأوّل حملان «5» شريت به ... حمدى ولا هى يا ذا الجود آخره كم قد تقدّمها من سابح بيدى ... عنانه وعلى الجوزا حوافره وقال أبو المكارم بن عبد السّلام: كأنها النار فى الحلفاء إن ركضت ... كأنها السيل إن وافتك من جبل كأنها الأرض إن قامت لمعتلف ... كأنها الريح إن مرّت على القلل ما يعرف الفكر منها منتهى حضر ... ما صوّر الوهم فيها وصمة الكسل إذا اقتعدت مطاها وهى ماشية ... ثهلان تبصره فى زىّ منتقل هذا ما اتّفق إيراده من صفات البغال التى تقتضى المدح.

فأما ما جاء فى ذمها

فأمّا ما جاء فى ذمها فالمثل المضروب فى بغلة أبى دلامة. وقال أبو دلامة فى بغلته: أبعد الخيل أركبها ورادا ... وشقرا فى الرّعيل «1» إلى القتال رزقت بغيلة فيها وكال «2» ... وخير خصالها فرط الوكال رأيت عيوبها كثرت وعالت ... ولو أفنيت مجتهدا مقالى تقوم فما تريم «3» إذا استحثّت ... وترمح باليمين وبالشّمال رياضة جاهل وعليج سوء ... من الأكراد أحبن «4» ذى سعال شتيم «5» الوجه هلباج «6» هدان «7» ... نعوس يوم حلّ وارتحال فأدّبها بأخلاق سماج ... جزاه الله شرّا عن عيالى فلمّا هدّنى ونفى رقادى ... وطال لذاك همّى واشتغالى أتيت بها الكناسة «8» مستغيثا ... أفكّر دائبا كيف احتيالى بعهدة سلعة ردّت «9» قديما ... أطمّ بها على الداء العضال

فبينا فكرتى فى القوم تسدى ... إذا ما سمت أرخص أم أغالى أتانى خائب حمق شقّى ... قديم فى الخسارة والضّلال «1» وراوغنى ليخلوبى خداعا ... ولا يدرى الشّقىّ بمن يخالى فقلت بأربعين فقال أحسن ... فإن البيع مرتخص وغالى فلما ابتاعها منّى وبتّت ... له فى البيع غير المستقال أخذت بثوبه وبرئت مما ... أعدّ عليك من شنع الخصال برئت إليك من مشش «2» قديم ... ومن جرد «3» وتخريق الجلال ومن فرط الحران ومن جماح ... ومن ضعف الأسافل والأعالى ومن عقر اللسان ومن بياض ... بناظرها ومن حلّ الحبال وعقّال «4» يلازمها شديد ... ومن هدم المعالف والرّكال «5» تقطّع جلدها جربا وحكّا ... إذا هزلت وفى غير الهزال ومن شدّ العضاض «6» ومن شباب «7» ... إذا ما همّ صحبك بالرّقال

وأقطف «1» من دبيب الذّرّ مشيا ... وتنحط «2» من متابعة السّعال وتكسر سرجها أبدا شماسا «3» ... وتسقط فى الوحول وفى الرمال ويهزلها الجمام «4» إذا خصبنا ... ويدبر ظهرها مسّ الجلال تظلّ لركبة منها وقيدا «5» ... يخاف عليك من ورم الطّحال وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال فتخرس منطقى وتحول بينى ... وبين كلامهم ممّا توالى وقد أعيت سياستها المكارى ... وبيطارا يعقّل بالشّكال حرون حين تركبها لحضر ... جموح حين تعزم للنّزال وذئب حين تدنيها لسرج ... وليث عند خشخشة المخالى وفيل إن أردت بها بكورا ... خذول عند حاجات الرّجال وألف عصا وسوط أصبحىّ «6» ... ألذّ لها من الشّرب الزّلال وتصعق من صياح الدّيك شهرا ... وتذعر للصّفير وللخيال إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال «7» ومثفار «8» تقدّم كلّ سرج ... تصيّر دفّتيه على القذال «9»

وتحفى فى الوقوف إذا أقمنا ... كما تحفى البغال من الكلال ولو جمّعت من هنّا وهنّا ... من الأتبان أمثال الجبال فإنك لست عالفها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال وكانت قارحا «1» أيّام كسرى ... وتذكر تبعا قبل الفصال «2» وقد قرحت ولقمان فطيم ... وذو الأكتاف «3» فى الحجج الخوالى وقد أبلى بها قرن وقرن ... وآخر يومها لهلاك مالى فأبدلنى بها يا ربّ بغلا ... يزين جمال مركبه جمالى كريم حين ينسب والداه ... إلى كرم المناسب فى البغال وقال القاضى بهاء الدين زهير الكاتب: لك يا صديقى بغلة ... ليست تساوى خردله مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع أنمله وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجله تمشى فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكّله تهتزّ وهى مكانها ... فكأنما هى زلزله

ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية

ذكر ما قيل فى الحمر الأهلية قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الحمار لا يولد له قبل أن تتمّ له ثلاث سنين ونصف. قالوا: والحمار إذا شمّ رائحة الأسد رمى بنفسه عليه لشدّة خوفه منه. ولذلك قال أبو تمّام [يخاطب عبد الصمد «1» بن المعذّل وقد هجاه] : أقدمت ويلك من هجوى على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد والحمار يوصف بحدّة حاسّة السمع. وهو إذا نهق أضرّ بالكلب؛ قالوا: حتى إنّه يحدث له مغسا «2» ؛ فلذلك يطول نباحه. والبرد يضرّ الحمار ويؤذيه؛ ولهذا لا يوجد فى بلاد الصّقالبة. وقال الجاحظ: وحلف أحمد بن العزيز أن الحمار ما ينام. فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لأنّى أجد صياحه ليس بصياح من نام وانتبه فى تلك الساعة، ولا هو صياح من يريد أن ينام بعد انقضاء صياحه. وأجود الحمير المصريّة. وأهل مصر يعتنون بتربيتها، ويحتفلون بأمرها ويسابقون عليها، ويسمّون مكان سباقها «الطابق» . والجيّد منها يباع بالثمن الكثير. نقل صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه قال: لقد بيع منها حمار بمائة دينار وعشرة دنانير. وأمّا الذى رأيناه نحن منها فأبيع «3» بألف درهم، وربما زاد بعضها على ألف. وكثير من أهل مصر يركبونها ويتركون الخيل والبغال. فمن ركبها من الأعيان مع وجود القدرة والإمكان على ركوب الخيل والبغال، يقصد بذلك التواضع وعدم الكبرياء. ومن إركبها من ذوى الأموال وترك الخيل والبغال

ربما يفعل ذلك توفيرا لماله وضنّة به. ومن ركبها من الشباب والسّوقة يقصد بذلك التنزّه عليها لفراهتها وسرعة مشيتها. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار من حمير مصر اسمه «يعفور» وقيل: «عفير» ؛ أهداه له المقوقس صاحب الإسكندريّة مع ما أهدى. وقد ورد أيضا فى الحديث أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماران: «يعفور» و «عفير» . فأمّا «عفير» فأهداه له المقوقس. وأمّا «يعفور» فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامىّ. ويقال: إنّ حمار المقوقس «يعفور» وحمار فروة «عفير» . قال الواقدىّ: مات «يعفور» عند منصرف النبىّ صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع. وذكر السّهيلىّ «1» : أن «يعفورا» طرح نفسه فى بئر يوم مات النبىّ صلى الله عليه وسلم فمات. وذكر ابن فورك «2» [فى كتاب «3» الفصول] أنه كان فى مغانم خيبر، وأنّه كلّم «4» النبىّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أنا زياد «5» بن شهاب، وقد كان

ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار

فى آبائى ستّون حمارا كلّهم «1» ركبهم نبىّ، فاركبنى أنت. وزاد الجوينىّ «2» فى كتاب الشامل: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه؛ فيذهب حتى يضرب برأسه الباب؛ فيخرج ذلك الرجل، فيعلم أنه أرسل اليه، فيأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم. وفى الحمار منافع طبيّة «3» ذكرها الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا، قال: رماد كبد الحمار بالزّيت ينفع من الخنازير «4» ؛ قال: ويبرئ من الجذام. وهذا دواء رخيص إن صحّ. قال: وكبده مشويّة على الرّيق تنفع من علّة الصّرع. قال: والمكزوز» من اليبوسة يجلس فى مرقة لحمه. وقيل: إنّ بوله نافع من وجع الكلى. قال: وبول الحمار الوحشىّ يفتّت الحصاة فى المثانة. ذكر ما يتمثل به مما فيه ذكر الحمار تقول العرب: «العير أوقى لدمه «6» » . وقالوا: «نجّى «7» عيرا سمنه» . وقالوا:

«الجحش «1» إذا فاتك الأعيار» . وقالوا: «أصحّ «2» من عير أبى سيّارة» ؛ لأنه كان دفع بأهل الموسم على ذلك العير أربعين عاما. وقالوا: «إن ذهب عير فعير فى الرّباط «3» » . وقالوا: «العير يضرط «4» والمكواة فى النار» . وقالوا: «حمار يحمل سفرا» . ومن أنصاف الأبيات: وقد حيل «5» بين العير والنّزوان

ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم

ذكر شىء مما وصفت به الحمير على طريقى المدح والذم [أما ما جاء فيها على سبيل المدح] قال أبو العيناء «1» لبعض سماسرة الحمير: اشتر لى حمارا لا بالطويل اللّاحق، ولا بالقصير اللاصق؛ إن خلا الطريق تدفّق، وإن كثر الزّحام ترفّق؛ لا يصادم بى السّوارى، ولا يدخل تحت البوارى «2» ؛ إن كثّرت علفه شكر، وإن قلّلته صبر؛ وإن ركبته هام، وإن ركبه غيرى قام «3» . فقال له السمسار: إن مسخ الله بعض قضاتنا حمارا أصبت حاجتك، وإلّا فليست موجودة. قيل للفضل الرّقاشىّ: إنك لتؤثر الحمير على جميع الدوابّ؛ قال: لأنها أرفق وأوفق؛ قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها لا تستبدل بالمكان، على طول الزمان؛ ثم قال: هى أقلّ داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صرعا «4» ؛ وأقلّ جماحا، وأشهر فرها، وأقلّ بطرا؛ يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه؛ ويعدّ مقتصدا وقد أسرف فى ثمنه. وقال أحمد بن طاهر يصف حمارا: شية كأنّ الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه وكأنّه من تحت راكبه إذا ... ما لاح، برق لاح تحت غمامه ظهر كجرى الماء لين ركوبه ... فى حالتى إتعابه وجمامه سفهت يداه على الثّرى فتلاعبت ... فى جريه بسهوله وإكامه

وأما ما جاء فيها على سبيل الذم

عن حافر كالصّخر إلّا أنّه ... أقوى وأصلب منه فى استحكامه ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... فى لين معطفه ولين عظامه عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزّم يغتال فضل حزامه وكأنّه بالرّيح منتعل، وما ... جرى الرياح كجريه ودوامه أخذ المحاسن آمنا من عيبه «1» ... وحوى الكمال مبرّأ من ذامه «2» وقال آخر: لا تنظرنّ إلى هزال حمارى ... وانظر إلى مجراه فى الأخطار «3» متوقّد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح الدّبور يبارى هذا ما ورد فى مدحها. *** وأمّا ما جاء فيها على سبيل الذم - فمن ذلك قولهم: «أضلّ من حمار أهله» . وقولهم: أخزى «4» الله الحمار مالا، لا يزكّى ولا يذكّى. ومنه قول جرير «5» بن عبد الله: لا تركب حمارا، فإنه إن كان حديدا «6» أتعب يديك، «7» ، وإن كان بليدا أتعب رجليك.

والمثل مضروب فى الحمير المهزولة بحمار طيّاب «1» ، كما يضرب المثل ببغلة أبى دلامة. قال شاعر: وحمار بكت عليه الحمير ... دقّ حتى به الرياح تطير كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير كيف «2» يمشى وليس شىء يراه ... وهو شيخ من الحمير كبير لمح القتّ «3» مرّة فتغنّى ... بحنين وفى الفؤاد زفير: «ليس لى منك يا ظلوم نصيب ... أنا عبد الهوى وأنت أمير» وقال خالد «4» الكاتب: وقائل إنّ حمارى غدا ... يمشى إذا صوّب أو أصعدا فقلت لكنّ حمارى إذا ... أحثثته لا يلحق المقعدا يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللّذّة أن يرقدا وقال أبو الحسين «5» الجزّار: هذا حمارى فى الحمير حمار ... فى كلّ خطو كبوة وعثار

قنطارتبن فى حشاه شعيرة ... وشعيرة فى ظهره قنطار ولمّا مات حمار هذا الشاعر داعبه شعراء عصره بمراث وهزليّات؛ فقال بعضهم: مات حمار الأديب قلت قضى ... وفات من أمره الذى فاتا مات وقد خلف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا ونحو هذين البيتين قول الآخر: قال حمار الحكيم توما «1» ... لو أنصفونى لكنت أركب لأننى جاهل بسيط ... وصاحبى جاهل «2» مركّب وكتب «3» أبو الحسن بن نصر الكاتب إلى صديق له اشترى حمارا، يداعبه. قال من رسالة: «قد عرفت- أبقاك الله- حين وجدت من سكرة الأيّام إفاقه، وآنست من وجهها العبوس طلاقه؛ [كيف «4» ] أجبت داعى همّتك، وأطعت أمر مروءتك؛ فسررت بكمون هذه المنقبة التى أضمرها الإعدام، ونمّ على كريم سرّها الإمكان؛ واستدللت «5» منها على خبايا فضل، وتنبّهت منها على مزايا نبل؛ كانت مأسورة فى قبضة الإعسار، وكاسفة عن سدفة «6» الإقتار؛ وقلت: أىّ

قدم أحقّ بولوج الرّكب من قدميه، وحاذ «1» أولى ببطون القبّ «2» من حاذيه؛ وأىّ أنامل أبهى من أنامله إذا تصرّفت فى الأعنّة يسراها، وتحتّمت «3» بالمخاصر يمناها؛ وكيف يكون ذلك الخلق العظيم، والوجه الوسيم؛ وقد بهر جالسا، إذا طلع فارسا!. ثم اتّهمت «4» آمالى بالغلوّ فيك، واستبعدت مناقضة الزمان بإنصاف معاليك؛ فقبضت ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها؛ حتى وقفت على صحيحة الشك. أرجو علوّ همّتك بحسن اختيارك، وأخشى منافسة الأيّام فى درك أوطارك؛ فإنها كالظّانّة فى ولدها، والمجاذبة بالسّوء فى واحدها؛ يدنى الأمل مسارّها، ويرجئ القلق حذارها؛ حتى أتتنا الأنباء تنعى رأيك الفائل «5» ، وتفلّ «6» عزمك الآفل؛ بوقوع اختيارك على فاضح «7» صاحبه، ومسلم راكبه؛ الجامد فى حلبة الجياد، والحاذق بالحران «8» والكياد «9» ؛ السّوم «10» دينه ودأبه، والبلادة طبيعته وشأنه؛ لا يصلحه التأديب، ولا تقرع له الظّنابيب؛ «11» إن لحظ عيرا نهق، أو لمح أتانا شبق، أو وجد روثا شمّ وانتشق؛ فكم هشم سنّا لصاحبه، وكم سعط أنف راكبه؛ وكم استردّه خائفا فلم يرده، وكم رامه خاطبا فلم يسعده؛ يعجل إن أحبّ الأناة والإبطاء،

ويرسخ إن حاول الحثّ «1» والنّجاء؛ مطبوع على الكيد والخلاف، موضوع للضّعة والاستخفاف؛ عزيز حتى تهينه السّياط، كسول ولو أبطره «2» النّشاط؛ ما عرف فى النّجابة أبا، ولا أفاد من الوعى أدبا؛ الطالب به محصور، والهارب عليه مأسور؛ والممتطى له راجل، والمستعلى بذروته نازل؛ له من الأخلاق أسوؤها، ومن الأسماء أشنؤها، ومن الأذهان أصدؤها، ومن القدود أحقرها؛ تجحده المراكب، وتجهله المواكب؛ وتعرفه ظهور السوابك «3» ، وتألفه سباطات «4» المبارك. والله الموفّق.

الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث فى الإبل والبقر والغنم

الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الثالث فى الإبل والبقر والغنم ذكر ما قيل فى الإبل الإبل جمع لا واحد لها من لفظها. والذّكر منها جمل، والأنثى ناقة. والبعير يقع عليهما. ودليل ذلك قول بعض الشعراء: لا نشتهى لبن البعير وعندنا ... عرق الزّجاجة «3» واكف المعصار والإبل من منن الله الجسيمة على خلقه، ومما منحهم به من إرفاقه ورزقه. قال الله تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) . وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) . ولنذكر ما جاء من لغة العرب فى الإبل من تسميتها «4» من حين تولد إلى أن تتناهى سنّها، وأسماء ما يركب منها ويحمل عليه، وما اختصّت به النوق من الأسماء والصّفات؛ ونذكر ألوان الإبل وما قالوه فى ترتيب سيرها، وفى المسير عليها والنزول؛ ثم نذكر بعد ذلك

أما تسميتها من حين تولد إلى أن تتناهى سنها

أصناف الإبل وما قيل فى عاداتها وطبائعها. فإذا [أوردنا «1» ] ذلك، ذكرنا ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما جاء فى أوصاف الإبل من الشعر؛ فنقول وبالله التوفيق. *** أمّا تسميتها من حين «2» تولد إلى أن تتناهى سنّها - فقد قالت العرب: ولدها حين يسلّ من أمّه «سليل» «3» ثم «سقب» و «حوار» «4» إلى سنة، وجمعه أحورة وحيران. وهو «فصيل» إذا فصل عن أمّه. وهو فى السنة الثانية «ابن مخاض» - لأن أمّه تلقح فتلحق بالمخاض وهى الحوامل، وواحدتها من غير لفظها «خلفة» - والأنثى «بنت مخاض» . فإذا دخل فى الثالثة فهو «ابن لبون» ، والأنثى «بنت لبون» ؛ لأن أمّه صارت ذات لبن. وهو فى الرابعة «حقّ» ؛ لأنه استحقّ أن يحمل عليه. وهو فى السنة الخامسة «جذع» . وفى السادسة [ «ثنىّ» لأنّه يلقى ثنيّته؛ والأنثى «5» «ثنيّة» ] . و [هو فى «6» ] السابعة «رباع» . وفى السنة الثامنة «سديس»

وأما أسماء ما يركب منها ويحمل عليه

و «سدس» للذكر والأنثى «1» . وهو فى التاسعة «بازل» إذا فطرنا به، أى طلع. قال الشاعر «2» : وابن اللّبون إذا ما لزّفى قرن «3» ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4» ثم هو بعدها بسنة «مخلف عام» و «بازل عام» ثم «مخلف عامين» و «بازل عامين» ؛ ثم يعوّد، أى يصير عودا وهرما وماجّا «5» . قالوا: والقلوص «6» منها كالجارية من الناس، والقعود كالغلام، والجمع قلائص وقعدان «7» . والبكر: الفتىّ، والبكارة جمع، والأنثى بكرة. ويقال: جمل راش «8» وناقة راشة «9» إذا كثر الشّعر فى آذانهما. *** وأمّا أسماء ما يركب منها ويحمل عليه - فقد قالوا: المطيّة اسم جامع لكل ما يمتطى من الإبل. فإذا اختارها الرجل لمركبه لتمام خلقتها ونجابتها فهى راحلة.

وأما ما اختصت به النوق من الاسماء والصفات

وفى الحديث النبوىّ صلوات الله تعالى وسلامه على قائله: «الناس كإبل «1» مائة لا يكاد يوجد فيها راحلة» . فإذا استظهر «2» صاحبها بها وحمل عليها فهى «زاملة» - والناس يقولون فى الرجل العاقل الثابت فى أموره: رجل زاملة، يريدون بذلك مدحه. ووصف ابن بشير رجل فقال: ليس ذلك من الرّواحل إنما هو من الزّوامل- فإذا وجّهها مع قوم ليمتاروا عليها فهى «عليقة» . *** وأمّا ما اختصّت به النوق من الاسماء والصّفات - فإنهم يقولون فيها: «كهاة» و «جلالة» وهى العظيمة، و «عطموس» و «دعبلة» «3» وهى الحسنة الخلقة التامّة الجسم، و «كوماء» وهى الطويلة السّنام، و «وجناء» وهى الشديدة القويّة اللحم. واشتقاقه من الوجين، وهى الحجارة. فإن ازدادت شدّتها فهى «عرمس» «4»

ومن أوصافها فى السير

و «عيرانة» . فإذا كانت شديدة كثيرة اللحم فهى «عنتريس» و «عرندس» و «متلاحكة» . فإذا كانت ضخمة شديدة فهى «دوسرة» و «عذافرة» . فإذا كانت حسنة جميلة فهى «شمردلة» . فإذا كانت عظيمة الجوف فهى «مجفرة» . فإذا كانت قليلة اللحم فهى «حرجوج» «1» و «حرف» و «رهب» . *** ومن أوصافها فى السّير - إذا كانت ليّنة اليدين فى سيرها فهى «خنوف» . فإذا كان بها هوج من سرعتها فهى «هوجاء» و «هوجل» . فإذا كانت تقارب الخطو فهى «حاتكة» . فإذا كانت تمشى وكأنها مقيّدة الرّجل وهى تضرب بيديها فهى «راتكة» . فإذا كانت سريعة فهى «عصوف» و «مشمعلة» و «عيهل» و «شملال» و «يعملة» و «همرجلة» «2» و «شمذر» «3» و «شملّة» و «شمردلة» . فإذا كانت تجرّ رجليها فى المشى فهى «مزحاف» «4» و «زحوف» . فإذا كانت لا تقصد فى سيرها من نشاطها فهى «عجرفيّة» . قال الأعشى: وفيها إذا ما هجّرت «5» عجرفية ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا

وأما ألوان الإبل

وأمّا ألوان الإبل - فإنهم قالوا: إذا لم يخالط حمرة البعير شىء فهو «أحمر» . فإن خالطها السواد فهو «أرمك» . فإذا كان أسود يخالط سواده بياض كدخان الرّمث «1» فهو «أورق» «2» . فإذا اشتدّ سواده فهو «جون» . فإن كان [أبيض «3» ] فهو «آدم» . فإن خالط بياضه حمرة فهو «أصهب» . فإن خالطته شقرة فهو «أعيس» «4» . فإن خالطت خضرته «5» صفرة وسواد فهو «أحوى» . فإذا كان أحمر يخالط حمرته سواد فهو «أكلف» . *** وأمّا ترتيب سيرها - «فالعنق» وهو السير المسبطرّ «6» . فإذا ارتفع عنه قليلا فهو «التّزيد» . فإذا ارتفع عن ذلك فهو «الذّميل» . فإذا ارتفع فهو «الرّسيم» . فإذا دارك المشى وفيه قرمطة «7» فهو «الحفد» . فإذا ارتفع عن ذلك وضرب بقوائمه كلّها فذاك «الارتباع» و «الالتباط» . فإذا لم يدع جهدا فذاك «الادرنفاق» .

وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للراحة والإراحة

وأما ما قيل فى المسير عليها والنزول للرّاحة والإراحة - فقد قالوا: إذا سار القوم نهارا ونزلوا ليلا فذاك «التّأويب» . فإذا ساروا ليلا ونهارا فذاك «الإساد» . فإذا ساروا من أوّل الليل فهو «الإدلاج» . فإذا ساروا من آخر الليل فهو «الادّلاج» . فإذا ساروا مع الصبح فهو «التّغليس» . فإذا نزلوا للاستراحة فى نصف النهار فهو «التّغوير» . فإذا نزلوا فى نصف الليل فهو «التّعريس» . ذكر أصناف الإبل وعاداتها وما قيل فى طبائعها والإبل ثلاثة أصناف: يمانىّ، وعرابىّ، وبختىّ. فاليمانىّ هو النّجيب، وينزّل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابىّ كالبرذون. والبختىّ «1» كالبغل. ويقال: البخت «2» ضأن الإبل. وهى متولّدة عن فساد منىّ العراب. وحكى الجاحظ أنّ منهم من يزعم أنّ فى الإبل ما هو وحشىّ وأنها تسكن أرض وبار «3» ، وهى غير مسكونة بالناس. وقالوا: ربما ندّ الجمل منها فى الهياج «4» فيحمله ما يعرض له منه على أن يأتى أرض

عمان، فيضرب فى أدنى هجمة «1» من الإبل؛ فالإبل المهريّة من ذلك النّتاج. وتسمّى الإبل الوحشيّة «الحوش» «2» . ويقولون: إنها بقايا إبل عاد وثمود ومن أهلكه الله من العرب. والمهريّة منسوبة إلى مهرة «3» (قبيلة باليمن) ؛ وهى سريعة العدو. ويعلفونها من قديد سمك يصاد من بحر عمان. وأمّا البخت- فمنها ما يرهوك «4» مثل البراذين؛ ومنها ما يجمز «5» جمزا ويرقل «6» إرقالا. وفى البخت ماله سنامان فى طول ظهره كالسّرج، ولبعضها سنامان فى العرض عن اليمين وعن الشمال، وتسمّى «الخراسانية» . قالوا: والجمل لا ينزو إلّا مرّة واحدة يقيم فيها النهار أجمع وينزل فيها مرارا كثيرة، فيجىء منها ولد واحد. وهو يخلو فى البرارى حالة النّزو، ولا يدنو منه أحد من الناس إلا راعيه الملازم له. وذكره صلب جدّا؛ لأنه من عصب. والأنثى تحمل سنة كاملة؛ وتلقح لمضىّ ثلاث سنين، وكذلك الذكر ينزو فى هذه المدّة، ولا ينزو عليها إلا بعد سنة من يوم وضعها. وفيه من كرم الطّباع أنه لا ينزو على أمّهاته ولا أخواته. ومتى حمل على أن يفعل حقد على من ألزمه؛ وربما قتله. وليس فى الحيوان من يحقد حقده. وقد قالوا: إنّ العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها.

ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل

وفى طبع الجمل الاهتداء بالنّجم، ومعرفة الطّرق، والغيرة، والصولة، والصبر على الحمل الثقيل وعلى العطش. والإبل تميل إلى شرب المياه الكدرة الغليظة؛ وهى إذا وردت ماء الأنهار حرّكته بأرجلها حتى يتكدّر. وهى من عشّاق الشمس. وهى تتعرّف النبات المسموم بالشّمّ من مرّة واحدة فتتجنّبه عند رعيه ولا تغلط إلا فى اليبيس «1» خاصّة. وزعم أرسطو: أنها تعيش ثلاثين سنة فى الغالب. وقال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر ينقل عن غيره: وقد رئى منها ما عاش مائة سنة. وكانت للعرب عوائد فى إبلها أنها اذا أصاب إبلهم العرّ «2» كووا السليم ليذهب العرّ عن السقيم. وكانوا إذا كثرت إبلهم فبلغت الألف فقئوا عين الفحل؛ فإن زادت على الألف فقئوا عينه الأخرى. وقد ذكرنا ذلك فى أوابد العرب، وهو فى الباب الثانى من الفن الثانى من هذا الكتاب فى السفر الثالث من هذه النسخة. والله أعلم بالصواب. ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها «القصواء» . ذكر ابن سعد عن محمد بن عمر قال حدثنى موسى بن محمد بن إبراهيم التّيمىّ عن أبيه قال: كانت القصواء من نعم بنى الحريش، ابتاعها أبو بكر رضى الله عنه وأخرى معها بثمانمائة درهم فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بأربعمائة؛ فكانت عنده حتى نفقت «3» . وهى التى هاجر عليها صلى الله عليه وسلم. وكانت حين قدم المدينة رباعية، وكان اسمها «القصواء» و «الجدعاء» و «العضباء» ، وكان فى طرف أذنها جدع «4» ، وكانت لا تسبق

كلما دفعت فى سباق. فلما كان فى سنة ستّ من الهجرة سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرّواحل، فسبق قعود لأعرابىّ «القصواء» ، ولم تكن تسبق قبلها؛ فشقّ ذلك على المسلمين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقّ على الله ألّا يرفع شيئا من الدنيا إلّا وضعه» . وعن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته يرمى على ناقة صهباء. وعن سلمة بن نبيط عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّته بعرفة على جمل أحمر. وذكر أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثّعلبىّ فى تفسيره: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية خراش بن أميّة الخزاعىّ قبل عثمان «1» إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له «الثّعلب» ؛ ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له؛ فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله؛ فمنعته الأحابيش،» فخلّوا سبيله. وكان للنبىّ صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة «3» بالغابة (وهى على بريد من المدينة من طريق الشام) وكان فيها أبو ذرّ، وكان فيها لقائح غزر «4» : الحنّاء» و «السّمراء» و «العريس» «5» و «السّعديّة» و «البغوم» «6»

و «اليسيرة» «1» و «الرّيّا» «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّقها على نسائه؛ فكانت «السّمراء» لقحة غزيرة لعائشة؛ وكانت العريّس لأمّ «سلمة» ؛ فأغار عليها عيينة بن حصن فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن «3» أبى ذرّ؛ ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى ذى قرد «4» فاستنقذوا منها عشرا وأفلت القوم بما بقى؛ وقيل: بل استنقذها كلّها منهم سلمة بن «5» الأكوع حين يقول: ما خلق الله شيئا من ظهر «6» النبىّ صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهرى واستنقذته منهم؛ وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ. وكانت لقاحه صلى الله عليه وسلم، التى كان يرعاها يسار مولاه بذى الجدر ناحية قباء قريبا من عير «7» على ستة أميال من المدينة، خمس عشرة لقحة غزارا استاقها

العرنيّون «1» وقتلوا يسارا وقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك فى لسانه وعينيه حتى مات. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إثرهم كرز «2» بن جابر الفهرىّ فى عشرين فارسا؛ فأدركوهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، فقطّعت أيديهم وأرجلهم وسملت «3» أعينهم وصلبوا. وفيهم نزل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الآية؛ وذلك فى شوّال سنة ستّ. وفقد النبىّ صلى الله عليه وسلم منها لقحة تدعى «الحنّاء» ؛ فسأل عنها فقيل: نحروها. وقيل: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع «4» لقائح تكون بذى الجدر؛ وتكون بالجمّاء «5» : لقحة تدعى «مهرة» وكانت غزيرة، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، ولقحة تدعى «بردة» تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، أهداها له الضحّاك بن سفيان الكلابىّ، «والشّقراء» و «الرّيّا» «والسّمراء» «والعريّس» «واليسيرة» «والحنّاء» يحلبن ويراح إليه بلبنهنّ كلّ ليلة. وفى غزاة بدر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل «6» أبى جهل وكان مهريّا يغزو عليه ويضرب فى لقاحه. ذكره الطبرىّ.

ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية فى هداياه «1» جملا لأبى جهل فى رأسه برة «2» من فضّة؛ ليغيظ بذلك المشركين. ذكره ابن إسحاق. وقيل: كانت للنبى صلى الله عليه وسلم لقحة اسمها «مروة» . وقال ابن الكلبىّ: إن عياض بن حماد أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم نجيبة، وكان صديقا له إذا قدم عليه مكة لا يطوف إلا فى ثيابه؛ فقال له: «أسلمت» ؟ قال: لا؛ قال: «إن الله نهانى عن زبد «3» المشركين» . فأسلم؛ فقبلها. ذكر شىء مما وصفت به الإبل نظما ونثرا قال بعض من عظّم شأن الإبل: إن الله تعالى لم يخلق نعما خيرا من الإبل؛ إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت. وقال بشامة «4» يصف ناقة: كأنّ يديها إذا أرقلت ... وقد حرن ثم اهتدين السّبيلا يدا سابح خرّ فى غمرة ... وقد شارف الموت إلا قليلا

إذا أقبلت قلت مشحونة ... أطاعت لها الرّيح قلعا جفولا وإن أدبرت قلت مذعورة ... من الرّبد تتبع هيقا ذمولا «1» وقال أبو تمّام: وبدّلها السّرى بالجهل حلما ... وقدّ أديمها قدّ الأديم بدت كالبدر فى ليل بهيم ... وآبت مثل عرجون «2» قديم وقال الخطيم «3» الخزرجىّ: وقد ضمرت حتى كأن وضينها «4» ... وشاح عروس جال منها على خصر وقال ابن دريد: خوص كأشباح الحنايا ضمّر ... يرعفن بالأمشاج من جذب البرى «5» يرسبن فى بحر الدّجى، وفى الضّحى ... يطفون فى الآل إذا الآل طفا «6» وقال عبد الجبّار بن حمديس: ومن سفن البرّ سبّاحة ... من الآل بحرا إذا ما اعترض

لها شرّة «1» لا تبالى بها ... أطال بها سبسب «2» أم عرض إذا خفق البرد «3» خلتنى ... على كورها طائرا ينتفض وإن يعرض البعض «4» من سيرها ... ترى العيس من خلفها تنقرض «5» هى القوس إنّى لسهم لها ... أصيب بكل فلاة عرض وقال الشريف البياضىّ: نوق تراها كالسّفي ... ن إذا رأيت الآل بحرا كتب الوجا «6» بدمائها «7» ... فى مهرق «8» البيداء سطرا لا تستكين من اللّغو ... ب إذا ولا يعرفن زجرا وكأن أرجلهن تط ... لب عند أيديهنّ وترا

وقال أبو عبادة البحترىّ: وخدان «1» القلاص حولا إذا قا ... بلن حولا من أنجم الأسحار يترقرقن كالسّراب «2» وقد خض ... ن غمارا من السّراب الجارى كالقسىّ المعطّفات بل الأس ... هم مبريّة بل الأوتار وقال ذو الرّمّة يصف ناقة: رجيعة «3» أسفار كأن زمامها ... شجاع على «4» يسرى الذّراعين مطرق ومنه اخذ المتنبى فقال: كأنّ على الأعناق منها الأفاعيا وقال أبو نواس يصفها بالسرعة: وتجشّمت بى هول كلّ تنوفة «5» ... هو جاء فيها جرأة «6» إقدام تذر المطىّ وراءها «7» وكأنها ... صفّ تقدّمهنّ وهى إمام

وقال الفرزدق منشدا: تنفى يداها الحصى فى كلّ «1» هاحرة ... نفى الدّراهيم «2» تنقاد الصّياريف «3» وقال آخر: تطير مناسمها بالحصى ... كما نقد الدرهم الصّيرف وقال الغطمّش «4» : كأن يديها حين جدّ نجاؤها ... يدا سابح فى غمرة يتبوّع «5» وقال آخر فى نوق: خوص نواج إذا حثّ الحداة بها ... حسبت أرجلها قدّام أيديها وقال القطامىّ: يمشين رهوا «6» فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل فهنّ معترضات «7» والحصى رمض «8» ... والرّيح ساكنة والظلّ معتدل

ذكر ما قيل فى البقر الأهلية

وقال أبو نواس: ولقد تجوب بى الفلاة إذا ... صام «1» النّهار وقالت العفر «2» شدنيّة «3» رعت الحمى فأتت ... مثل الجبال كأنها قصر وقال الأحمر «4» : حمراء من نسل المهارى نسلها ... إذا ترامت يدها ورجلها حسبتها غيرى استفزّ عقلها ... أتى «5» التى كانت تخاف بعلها ذكر ما قيل فى البقر الأهلية عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنّا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث» ؛ فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلّم! قال: «فإنى أو من بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما «6» هما ثمّ.

وقال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: إنّ الفحل من البقر ينزو إذا تمّت له سنة من عمره؛ وقد ينز ولعشرة أشهر. والبقرة إذا ولدت تحدّر لبنها من يومها، ولا يوجد لها لبن قبل أن تضع. وهى تحمل تسعة أشهر وتضع فى العاشر؛ فإن وضعت قبل ذلك لا يعيش ولدها. وربما وضعت اثنين، وهو نادر. وهم يتشاءمون بها إذا وضعت اثنين. وإذا مات ولدها أو ذبح لا يسكن خوارها ولا يدرّ لبنها؛ ولذلك الرّعاء يسلخون جلد ولدها ويحشونه لتدرّ له وتسكن، ويسمونه «البوّ» . والبقر يحبّ الماء الصافى، بضدّ الخيل والجمال. وقال المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب: رأيت بالرّىّ نوعا من البقر تبرك كما تبرك الإبل وتحمل فتثور بحملها، والغالب عليها حمرة الحدق. وحكى أسامة «1» بن منقذ فى كتابه «2» أن فى «3» بعض البلدان بقرا لها أعراف كالخيل. ولعلّها الأبقار التى توجد فيها البراجم. والبراجم فى أطراف أذنابها وفى أكتافها. ويقال: إنّ أبقار البراجم تخرج من بحر الصّين

وهى تلد وترضع «1» ؛ ولذلك يقال البراجم البحريّة. وبأرض مصر بناحيتى دمياط وتنّيس بقر تسمى بقر الخيس «2» ، ضخام حسان الصّور والشّيات، ولها قرون كالأهلّة، وفيها نفور وتوحّش، لا ينتفع بها فى العمل وإنما ينتفع بألبانها. وهى لا تعلف الحبّ، ومأواها حيث يكون العشب والماء الدائم؛ ولها أسماء يدعونها بها إذا أرادوا حلبها، فتقدّم إليهم. وقد وصف الشعراء البقر فى أشعارها؛ فمن ذلك قول أحمد «3» بن علوّيه الأصبهانىّ: يا حبّذا محضها «4» ورائبها ... وحبّذا فى الرّجال صاحبها عجّولة «5» سمحة مباركة ... ميمونة طفّح محالبها تقبل للحلب كلما دعيت ... ورامها للحلاب حالبها فتيّة سنّها، مهذّبة ... معنّف فى النّدىّ «6» عائبها

كانها لعبة مزيّنة ... يطير عجبا بها ملاعبها كأنّ ألبانها جنى عسل ... يلذّها فى الإناء شاربها عروس باقورة «1» إذا برزت ... من بين أحبالها ترائبها كأنها هضبة إذا انتسبت «2» أو بكرة قد أناف «3» غاربها تزهى بروقين كاللّجين إذا ... مسّهما بالبنان طالبها لو أنها مهرة لما عدمت ... من أن يضمّ السرور راكبها وأنشدنى شمس الدين بن دانيال لنفسه: لله عجلة خيس ... صفراء ذات دلال تريك عينى مهاة ... من تحت قرنى غزال قد سربلت بأصيل ... وتوّجت بهلال وقال شاعر «4» يصف صوت الحلب: كأنّ صوت شخبها «5» المرفضّ ... كشيش «6» أفعى أجمعت لعضّ وهى تحكّ بعضها ببعض وقال: كأن صوت شخبها غديّه ... هفيف ريح أو كشيش حيّه

ذكر ما قيل فى الجاموس

ذكر ما قيل فى الجاموس قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: والجواميس هى ضأن البقر. والجاموس أجزع الحيوان من البعوض وأشدّها هربا منه إلى الماء؛ وهو يمشى إلى الأسد رخىّ البال، رابط الجأش، ثابت الجنان. وقد حكى عن المعتصم بالله العباسىّ أنه أبرز للاسد جاموستين فغلبتاه، ثم أبرز له جاموسة ومعها ولدها فغلبته وحمت ولدها، ثم أبرز له جاموسا مفردا فواثبه ثم أدبر عنه. هذا على ما فى الأسد من القوّة فى فمه وكفّه والجرأة العظيمة والوثبة وشدّة البطش والصبر والحضر والطّلب والهرب؛ وليس ذلك فى الجاموس، ولا يستطيل بغير قرنه، وليس فى قرنه حدّة قرن بقر الوحش؛ فإذا قوى الجاموس مع ذلك حتى يقاوم الأسد دلّ على قوّة عظيمة. ولذلك قدّم الجاحظ الجاموس على الأسد، وعلّل تقديمه عليه بهذه العلّة. وليس ما حكى عن المعتصم فى أمر الجاموس وغلبته للأسد بعجيب؛ فإنّ الجواميس بالأغوار تقاتل الأسد وتمانعه وتدفعه فلا يقدر على قهرها. وأصحاب الجواميس هناك منهم من يغلّف قرونها بالنّحاس ويحدّدون أطرافه، يقصدون «1» بذلك إعانته على حرب الأسد وقتاله. والجاموس عندنا بالديار المصرية يقاتل التّمساح الذى هو أسد البحر ويتمكّن منه ويقهره فى الماء؛ فهو قد جمع بين قتال أسد البرّ وأسد البحر. وله قدرة عظيمة على طول المكث فى قعر البحر. والتماسيح لا تكاد تأوى موارد الجواميس من بحر النيل وتتجنّب أماكنها.

ذكر ما قيل فى الغنم الضأن والمعز

والجواميس فى أرض الشأم من الأغوار والسواحل والأماكن الحارّة الكثيرة المياه ينتفع بها فى الحرث والحمولة وجرّ العجل وحلب ألبانها. وأمّا [فى «1» ] الدّيار المصرية فلا يستعملونها «2» البتّة ولا ينتفعون بها إلا بما يتحصّل من ألبانها ونتاجها. وفحول الجواميس يكون بينها قتال شديد ومحاربة؛ فأيّما فحل غلب وقهره خصمه، لا يأوى ذلك المراح، بل ينفرد بنفسه فى الجزائر الكثيرة العشب شهورا وهو يأكل من تلك الأعشاب ويشرب من ماء النيل، وينفرد خصمه بالإناث؛ فإذا علم الهارب من نفسه القوّة والجلد، رجع إلى المراح وقد توحّش واستطال، ويكون خصمه قد ضعفت قواه فلا يقوم «3» بمحاربته؛ ولكنه لا يولّى عنه إلا بعد محاربته. فإذا قهره ترك الآخر المراح وتوجّه إلى جزيرة وفعل كما فعل الأوّل وعاد إلى خصمه. ولبن الجاموس من ألذّ الألبان وأدسمها. والرّعاء يسمّون كلّ جاموسة باسم تعرفه إذا دعيت به إلى الحلب، فتجيب وتأتيه وتقف حتى يحلبها. ذكر ما قيل فى الغنم الضّأن والمعز روى عن أنس بن مالك وعطاء رضى الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغنم بركة موضوعة» . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم «1» غنما يتبع بها شعف «2» الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأس الكفر نحو المشرق والفخز والخيلاء فى أهل الخيل والإبل والفدّادين «3» أهل الوبر والسكينة فى أهل الغنم» . ومن فضل الغنم ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيّا إلا ورعى الغنم» . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم [كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة «4» ] » . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم مائة شاة لا يريد أن تزيد كلّما ولّد الراعى بهمة ذبح مكانها شاة. وقال ابن الأثير فى تاريخه: وكان له شاة تسمى «غوثة «5» » ، وقيل «غيثة» ، وعنز

ذكر ترتيب سن الغنم

تسمى «اليمن» . وذكر بعض المتأخّرين من أهل الحديث أنّ مكحولا سئل عن جلد الميتة، فقال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة تسمى «قمر» ؛ ففقدها فقال: «ما فعلت قمر» ؟ فقالوا: ماتت يا رسول الله؛ قال: «ما فعلتم بإهابها» ؟ قالوا: ميتة؛ قال: «دباغها طهورها» . قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله تعالى فى كتاب [فضل] الخيل: وكانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم سبعا: «عجرة» و «زمزم «1» » و «سقيا» و «بركة» و «ورشة» و «أطلال» و «أطراف «2» » . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع أعنز منائح ترعاهنّ أمّ أيمن. قال: والمنيحة: الناقة والشاة تعطيها غيرك فيحلبها ثم يردّها عليك. قال أبو عبيد: للعرب أربعة أسماء تضعها مواضع العارية، وهى: المنيحة، والعريّة، والإفقار «3» ، والإخبال «4» . ذكر ترتيب سنّ الغنم ولد الشاة حين تضعه ذكرا كان أو أنثى «سخلة» و «بهمة» . فإذا فصل عن أمّه فهو «حمل» و «خروف» . فإذا أكل واجترّ فهو «بذج» «5» و «فرفور» . فإذا

بلغ النّزو فهو «عمروس» . وكلّ أولاد الضأن والمعز فى السنة الثانية «جذع» ؛ وفى الثالثة «ثنىّ» ؛ وفى الرابعة «رباع» ؛ وفى الخامسة «سديس» ؛ وفى السادسة «سالغ «1» » . وليس له بعد هذا اسم. ويقال لولد المعز: «جفر» ثم «عريض» «وعتود» و «عناق» . والغنم، الضأن والمعز، تضع حملها فى خمسة أشهر. وتلد النعجة رأسا إلى ثلاثة، والعنز من الرأس إلى أربعة. وينزو الذكر بعد مضىّ ستة شهور من ميلاده. وتحمل الأنثى بعد مضىّ خمسة أشهر من يوم ولدت. ويجزّ صوف الضأن عنها فى كل سنة. ولحوم الضأن من أطيب اللّحمان؛ وكذلك ألبانها. وقد أطنب الجاحظ فى المفاخرة بين الضأن والمعز وأطال وأتى بالغثّ والسّمين. وكتب أبو الخطّاب الصابى إلى الحسين بن صبرة جوابا عن رقعة أرسلها إليه فى وصف حمل أهداه إليه، جاء منها: «وصلت رقعتك؛ ففضضتها عن خطّ مشرق، ولفظ مؤنق؛ وعبارة مصيبة، ومعان غريبة؛ واتّساع فى البلاغة يعجز عنه عبد الحميد فى كتابته، وسحبان فى خطابته. وذكرت فيها حملا، جعلته بصفتك جملا؛ وكان كالمعيدىّ أسمع به ولا أراه «2» . وحضر، فرأيت كبشا متقام الميلاد، من نتاج قوم عاد؛ قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور؛ فظننته أحد الزوجين «3» اللذين حملهما نوح فى سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريّته. صغر عن الكبر، ولطف فى القدر؛ فبانت دمامته،

وتقاصرت قامته؛ وعاد نحيفا ضئيلا، باليا هزيلا؛ بادى السّقام، عارى العظام؛ جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب؛ يعجب العاقل من حلول الروح فيه؛ لأنه عظم مجلّد، وصوف ملبّد؛ لا تجد فوق عظامه سلبا «1» ، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا؛ لو ألقى للسّبع لأباه، أو طرح للذئب لعافه وقلاه؛ وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده؛ لم ير القتّ «2» إلّا نائما، ولا الشعير إلا حالما. وقد خيّرتنى بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشّهر؛ فملت إلى استبقائه؛ لما تعلمه من محبّتى فى التوفير، ورغبتى فى التّثمير؛ وجمعى للولد، وادّخارى لغد؛ فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتىّ فينسل، ولا بصحيح فيرعى «3» ، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثانى من رأييك، وعملت بالآخر من قوليك؛ وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمة رطبا مقام قديد الغزال؛ فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّدت الشّفار، وشمّر الجزّار: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم وما الفائدة لك فى ذبحى! وإنما أنا كما قيل: لم يبق إلّا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت ليس لى لحم يصلح» للأكل، فإنّ الدهر أكل لحمى؛ ولا جلد يصلح للدّبغ، فإن الأيام مزّقت أديمى؛ ولا صوف يصلح للغزل، فإن الحوادث حصّت «5» وبرى.

وإن أردتنى للوقود فكفّ بعر أدفأ من نارى، ولم تف حرارة جمرى برائحة قتارى «1» . ولم يبق إلّا أن تطالبنى بذحل «2» أو بينى وبينك دم. فوجدته صادقا فى مقالته، ناصحا فى مشورته. ولم أعلم من أىّ أموره أعجب: أمن مماطلته الدّهر على البقاء، أم من صبره على الضّر والبلاء، أم من قدرتك عليه مع عوز مثله، أم من إتحافك الصديق به على خساسة قدره. ويا ليت شعرى إذا «3» كنت والى سوق الأغنام، وأمرك ينفذ فى المعز والضأن؛ وكلّ حمل سمين، وكبش بطين؛ مجلوب «4» إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا تردّ، وتريد فلا تصدّ؛ وكانت هديّتك هذا الذى [كأنه «5» ] انشر من القبور، أو أقيم عند النّفخ فى الصّور؛ فما كنت مهديا لو أنك رجل من عرض الكتّاب، كأبى علىّ وأبى الخطّاب! ما تهدى إلّا كلبا أجرب، أو قردا أحدب. وقال شاعر فى هذا المعنى: ليت شعرى عن الخروف الهزيل ... ألك الذّنب فيه أم للوكيل لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل ما أرانى أراه يصلح إذ أص ... بح رسما على رسوم الطّلول لا لشيّ ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا برّ صاحب وخليل أعجف لو مطفّل نال منه ... لغدا تائبا عن التّطفيل «6»

وقال شرف الدّين بن عين وقد أهدى له بعض أصدقائه خروفا بعد ما مطله به: أتانى خروف ما تشكّكت أنّه ... حليف جوى قد شفّه الهجر والمطل إذا قام فى شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى فى ظلمة ماله ظلّ فناشدته: ما تشتهى؟ قال: قتة ... وقاسمته «1» : ما شفّه؟ قال لى: الأكل فأحضرتها خضراء مجّاجة الثرى ... منعّمة ما خصّ أطرافها فتل وظلّ يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدّمع فى الخدّ منهلّ: «أتت وحياض الموت بينى وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل» وقال الحمدونىّ فى المعزى: أبا سعيد لنا فى شاتك العبر ... جاءت وما إن بها بول ولا بعر وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان: الشمس والقمر لو أنّها أبصرت فى نومها علفا ... غنّت له ودموع العين تنحدر: «يا مانعى لذّة الدنيا بما رحبت ... إنى ليقنعنى من وجهك النظر» وقال أيضا: ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا فى يدىّ غير الإهاب ليس إلّا عظامها، لو تراها ... قلت هذى أرازن «2» فى جراب

وقال فيها: لسعيد شويهة ... سلّها الضّرّ والعجف قد تغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف: بأبى من بكفّه ... برء دائى من الدّنف فأتاها مطمّعا ... فأتته لتعتلف فتولّى وأقبلت ... تتغنّى من الأسف: ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف

القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم

القسم الرابع من الفن الثالث فى ذوات السموم ، وفيه بابان الباب الأوّل من هذا القسم فى ذوات السموم القواتل. ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الحيّات والعقارب. ذكر ما قيل فى الحيّات الحيّات مختلفات الجهات جدّا. وهى من الأمم التى يكثر اختلاف أجناسها فى الصّور والشّيم، والصّغر والعظم، وفى التعرّض للناس وفى الهرب منهم. فمنها «1» ما لا يؤذى إلا أن تطأها. ومنها ما يؤذى إذا وطئت فى حماها. ومنها ما لا يؤذى فى تلك الحال إلا أن تكون على بيضها أو فراخها. ومنها ما لا يؤذى إلّا أن يكون الناس قد آذوها مرّة. فأمّا «الأسود» فإنه يحقد ويطالب ويكمن فى المتاع حتى يدرك؛ وله زمان يقتل فيه كلّ شىء نهشه. وأما «الأفعى» فليس ذلك عندها، ولكنها تظهر فى الصيف مع أوائل الليل إذا سكن وهج الرّمل أو ظاهر الأرض، فتأتى قارعة الطريق حتى تستدير كالرّحى وتشخص رأسها؛ فمن وطئ عليها أو مسّها نهشته. وهى من الحيّات التى ترصد؛ وهى تقتل فى كل زمان وعلى كل حال. و «الشّجاع» يواثب ويقوم على ذنبه. والحيّات أصناف كثيرة سنذكر ما أمكن ذكره منها إن شاء الله.

والعرب تضرب المثل فى الظلم بالحيّة فيقولون: «أظلم من حيّة» ، لأنها لا تتخذ لنفسها بيتا، وكل بيت قصدت نحوه هرب أهله منه وأخلوه لها. والحيّة مشقوقة اللسان، ولسانها أسود. وزعم بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل أنّ الله تعالى عاقب الحيّة، حين أدخلت إبليس فى فمها حتى خاطب آدم وحواء وخدعهما، بعشرة أشياء: منها شقّ لسانها؛ فلذلك ترى الحيّة إذا ضربت لتقتل كيف تخرج لسانها لترى الضارب لها عقوبة الله تعالى، كأنها تسترحم. ويقال: إن من خصائص الحيّة أنّ عينها إذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع أو قطع بالكاز «1» عاد بعد ثلاث ليال؛ وكذلك ذنبها إذا قطع عاد. وفى طباعها أنها تهرب من الرجل العريان، وتفرح بالنار وتطلبها وتعجب بها، وباللبن والبطيخ واللّفّاح «2» والخردل. وهى لا تضبط نفسها عن الشّراب إذا شمّته؛ وإذا وجدته شربت منه حتى تسكر؛ فربما كان السّكر سبب حتفها؛ لأنها إذا سكرت خدرت. وتكره الحيّة ريح السّذاب «3» ولا تملك نفسها [معه «4» ] ، وربما اصطيدت به؛ وتكره ريح الشّيح. والحيّة تذبح حتى تفرى أوداجها فتبقى أياما لا تموت. ومتى ضربت بالقصب الفارسىّ ماتت، وإن ضربت بسوط قد مسّه عرق الخيل ماتت. ويقال: إنها لا تموت حتف أنفها إلا أن تقتل.

ومن أعجب ما شاهدته أنا من الأفاعى أنها قطّعت بحضورى بالبيمارستان «1» المنصورى بالقاهرة المعزّيّة فى شهور سنة ستّ وسبعمائة بسبب عمل الدّرياق الفاروق «2» ؛ وقطع من رأسها وذنبها ما جرت العادة بقطعه، وسلخت وشقّ بطنها ونظّفت وهى تختلج، ثم سلقت وجرّد لحمها عن العظم، فنظرت إليه فإذا هو يختلج؛ فعجبت لذلك؛ وذكرته لرئيس الأطبّاء علم الدّين «3» المعروف بابن أبى حليقة وهو حاضر فى المجلس، فقال: ليس هذا بأعجب مما تراه الان، وقال لى: استدع أقراص الأفاعى التى عملت من أكثر من سنة؛ فاستدعيتها، فأحضرها الخازن وهى فى العسل وقد دقّ لحم الأفاعى بعد سلقه وعجن بالسّميذ وجعل أقراصا ووضع فى العسل من أكثر من سنة؛ فقال لى: تأمّل الأقراص؛ فتأملتها فإذا هى تضطرب اضطرابا خفيفا «4» . وقال الجاحظ: وزعم صاحب المنطق أنّ الحيّات تنسلخ عن جلودها فى كل عام فى أوّل فصل الربيع أو الخريف؛ وتبتدئ بالسّلخ من عيونها ويتمّ سلخها فى يوم وليلة، ويصير داخل الجلد هو الخارج. وإذا هرمت وعجزت عن السلخ

وارتخى جسمها أدخلت جسمها بين عودين أو فى صدع ضيق حتى تنسلخ، ثم تأتى إلى عين ماء فتنغمس فيها فيشتدّ لحمها ويعود إلى قوّته وشدّته. قال الجاحظ: وليس فى الأرض مثل جسم الحيّة إلا والحيّة أقوى بدنا منه أضعافا. ومن قوّتها أنها إذا أدخلت صدرها فى حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس وقد قبض على ذنبها بكلتا يديه أن يخرجها، لشدّة اعتمادها وتعاون أجزائها؛ وربما انقطعت فى يد الجاذب لها. فإذا أراد أن يخرجها أرسلها بعض إرسال ثم يجذبها كالمختطف لها. قال: ومن أصناف الحيّات ما هو أزعر، وما هو أزبّ (ذو شعر) ، ومنها ذوات قرون. ومنها ما يسمى الأسود وهو ما إذا كان مع الأفاعى فى جونة «1» وجاع ابتلعها من قبل رءوسها، ومتى رام ذلك من غير جهة الرأس عضّته فقتلته. ومن أصنافها ما يسمى «الأصلة» ، وهو ثعبان عظيم جدّا، وله وجه كوجه الإنسان؛ ويقال: إنه يصير كذلك إذا مرّت عليه ألوف من السنين. وهو يقتل بالنظر وبالنفخ. ومنهم من يسمّى هذا النوع الصّلّ، ويقول: إنّ أصل خلقته على هذه الصفة. قال: وفى البادية حيّة يقال لها «الحفّاث» تأكل الفأر وأشباهه. وهى عظيمة، ولها وعيد منكر ونفخ وإظهار للصولة، وليس وراء ذلك شىء؛ والجاهل ربما مات من الفزع منها. قالوا: والثعبان «2» والأفعى فإنه يقتل بما يحدثه من الفزع؛ لأن الرجل إذا فزع تفتّحت مسامّه ومنافسه، فيتوغّل السمّ فى موضع الصّميم «3» وأعماق البدن. فإن

نهشت «1» النائم والمغمى عليه والمجنون والطفل الصغير لم تقتله «2» البتّة. وزعم صاحب المنطق أنّ بالحبشة حيّات لها أجنحة. وأخبرنى المولى شرف الدين أحمد بن اليزدىّ قال: كنت بمدينة الرّملة «3» فى شهور سنة اثنتين وسبعمائة صحبة الصاحب شرف الدين بن الخليل ومعه القاضى الحاكم وجماعة كثيرة من الناس وفيهم عدولى «4» وغيرهم؛ فنظرنا نحو السماء فإذا نحن بحيّتين عظيمتين طائرتين فى الهواء قاصدتين صوب البحر، كلّ منهما فى غلظ الثنيانة «5» ، وإن إحداهما مستقيمة فى طيرانها والأخرى تتعوّج من قبل رأسها ووسطها وذنبها، وكانتا من الأرض بحيث لا يبلغهما السهم، قال: فسطّرنا بذلك محضرا على عدّة نسخ. وحكى بعض المؤرّخين: أنه وجد فى خزائن المستنصر بالله «6» العبيدى أحد خلفاء مصر بيضة محلّاة بالذّهب ظنّوا أنها بيضة نعامة؛ فجعل الناس يتعجّبون من تحليتها

بالذّهب؛ فذكروا ذلك للمستكفى، فقال: إنها بيضة حيّة كان بعض الملوك أهداها لجدّى القائم «1» بأمر الله. ومن كتاب نشوار المحاضرة قال حدّثنا أبو إسحاق إبرهيم بن الورّاق قال حدّثنى عمى أبو الحسين «2» : أن الحصينىّ حدّثه عن أبى العبّاس بن الفرات قال حدّثنى أبى قال: قال لى جعفر «3» الخيّاط: أمرنى المأمون ونحن بالروم أن أقتصّ» الطريق لئلا يكون به جواسيس للعدوّ؛ فأخذت معى جماعة من أصحابى فرسانا ورجّالة وسلكت الطريق، فعنّ لى شعب فقصدته لئلا يكون فيه كمين من الجواسيس، وتقدّمنى الرّجّالة فرأيتهم قد وقفوا؛ فأسرعت اليهم وسألتهم عن خبرهم، فقالوا: انظر؛ فنظرت فإذا رجل من الرجّالة قد قعد لقضاء حاجته، ومشى أصحابه، فقصدته حيّة من وراء ظهره فابتلعته من رجليه إلى صدره وهو يستغيث ويصيح؛ فلم يكن لنا فيه حيلة وخفت أن آمر الرّجالة برمى الحيّة بالنّشّاب فيصيب الرجل فأكون أنا قتلته. فبسط الرجل يديه وانتهى بلع الحيّة إلى إبطيه، فرأيتها وقد انضمّت على

ما ابتلعته منه ضمّة سمعنا تكسير عظامه فى جوفها، فمات وسقطت يداه فابتلعته حينئذ بأسره. فقلت: الآن أقصدوها بالنّشّاب؛ فرشقناها جميعا فأثبتناها فى موضعها حتى قتلناها؛ فأمرت بشق بطنها لأعاين جسم الرّجل، فلم نجد فى بطنها من جلد ولا عظم ولا غيرهما إلا شيئا كالخيط الأسود، فإذا هى قد أحرقته فى لحظة واحدة. ويقال: إن بجزائر الصين حيات تبتلع الإبل والبقر وشبهها. قال الجاحظ: حدّثنى أبو جعفر المكفوف النحوىّ العنبرىّ وأخوه روح الكاتب ورجال من بنى العنبر: أنّ عندهم فى رمال بلعنبر حيّة تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب حيلة؛ وزعموا أنها إذا انتصف النهار واشتدّ الحرّ فى رمال بلعنبر وامتنعت الأرض على الحافى والمنتعل، غمست هذه الحيّة ذنبها فى الأرض ثم انتصبت كأنها عود مركوز أو عود نابت «1» ، فيجىء الطائر الصغير والجرادة، فإذا رأى عودا قائما وكره الوقوع على الرّمل لشدّة حرّه وقع على رأس الحيّة على أنها عود، فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإن كان جرادة أو جعلا أو بعض ما لا يشبعها ابتلعته وبقيت على انتصابها؛ وإن كان طائرا يشبعها أكلته وانصرفت؛ وإن ذلك دأبها ما منع الرمل جانبه فى الصيف والقيظ. قال: وزعم لى رجال من الصّقالبة خصيان وفحول أنّ الحيّة فى بلادهم تأتى البقرة المحفّلة «2» فتنطوى على فخذيها وركبتيها إلى عراقيبها ثم تشخص صدرها نحو أخلاف ضرعها حتى تلتقم الخلف، فلا تستطيع البقرة مع قوّتها أن تترمرم «3» ؛ فلا تزال الحيّة

ذكر أسماء الحيات وأوصافها

تمصّ اللبن، وكلما مصّت استرخت؛ فإذا كادت تتلف أرساتها. وزعموا أنّ تلك البقرة إما أن تتلف، وإما أن يصيبها داء فى ضرعها وفساد شديد يعسر دواؤه. وهذا الباب طويل؛ وقد أوردنا منه ما فيه غنية. فلنذكر ما قيل فى أصناف الحيّات وأوصافها. ذكر أسماء الحيّات وأوصافها - يقال: «الجانّ» «1» و «الشيطان» هى الحيّة الخبيثة. و «الحنش» : ما يصاد من الحيّات. و «الحيّوت» : الذكر منها. و «الحفّاث» و «الحضب» «2» : الضخم منها. و «الأسود» : العظيم وفيه سواد؛ ويقال: الأسود هو الداهية؛ وله خصيتان كخصيتى الجدى، وشعر أسود، وعرف طويل، وصنان كصنان التّيس. و «الشّجاع» : أسود أملس يضرب إلى البياض، خبيث؛ ويقال: إنه دقيق لطيف. و «الأعيرج» : حيّة صمّاء لا تقبل الرّقى وتطفر كما تطفر الأفعى. ويقال: الأعيرج: حيّة أريقط نحو من ذراع، وهو أخبث من الأسود. وقال ابن الأعرابىّ: الأعيرج أخبث الحيّات، يقفز على الفارس حتى يصير معه فى سرجه. وقال الليث عن الخليل: الأفعى التى لا تنفع معها رقية ولا درياق، وهى دقيقة العنق عريضة الرأس. وقال غيره: هى التى إذا مشت منثنية جرشت بعض أسنانها ببعض. وقال غيره: هى التى لها رأس عريض ولها قرنان. والأفعوان» : الذكر من الأفاعى. و «العربدّ» و «العسودّ» حية تنفخ ولا تؤذى. و «الأرقم» : الذى فيه سواد وبياض، و «الأرقش» نحوه. و «ذو الطّفيتين» : الذى له خطّان أسودان. و «الأبتر» : القصير الذنب. و «الخشخاش» : الحيّة الخفيفة. و «الثعبان» : العظيم منها، وكذلك «الأيم»

ذكر ما فى لحوم الحيات من المنافع والأدوية

و «الأين» . و «ابن قترة» : حيّة شبيهة بالقضيب من الفضّة فى قدر الشّبر والفتر، وهى أخبث الحيّات، فإذا قرب من الانسان تراءى فى الهواء فوقع عليه من أعلاه. و «ابن طبق» : حيّة صفراء؛ ومن طبعها أن تنام ستة أيام ثم تنتبه فى اليوم السابع. ولا تنفخ شيئا إلا أهلكته قبل أن يتحرّك. وربما مرّ بها الرجل وهى نائمة فيأخذها كأنها سوار من ذهب، فإن استيقظت وهى فى كفّه خرّ ميتا. ومن أمثال العرب «أصابته إحدى بنات طبق» . قال الليث: «السّفّ» «1» : الحيّة التى تطير فى الهواء. وأنشد: وحتى لو انّ السّفّ ذا الريش عضّنى ... لما ضرّنى من فيه ناب ولا ثعر «2» و «النّضناض» «3» : الذى لا يسكن فى مكان. ومن أسمائها «القزة» «4» و «الهلال» و «الرّعّاصة» «5» . ذكر ما فى لحوم الحيّات من المنافع والأدوية قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والحيّة يستعمل مطبوخها بالماء والملح والشّبث، وقد يزاد عليها الزّيت. قال: وأجود لحمه لحم الأنثى؛ وأجود سلخه «6» سلخ

الذّكر. وطبع «1» الحيّة إلى التجفيف فى لحمها قوىّ؛ وأما التسخين فليس بشديد؛ وسلخه شديد التجفيف أيضا. وخاصيّة لحمه أنه ينفذ الفضول إلى الجلد، سيّما إذا كان الإنسان غير نقىّ. قال: ولحمه إذا استعمل أطال العمر، وقوّى القوّة، وحفظ الحواسّ «2» والشباب- أمّا قوله: «أطال العمر» فيردّ هذا القول ما ورد فى الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فرغ ربّك من أربع خلق وخلق ورزق وأجل» «3» . وأما ما عدا ذلك فغير مردود عليه-. قال: وأكله ينفع من الجذام نفعا عظيما؛ وإذا استعمل على داء الثعلب «4» نفع نفعا عظيما. ولحمها ومرقها بعد إسقاط طرفها يمنع تزيّد الخنازير «5» ، وكذلك سلخها. ومرقتها إذا تحسّيت «6» وأكل لحمها نفع من أوجاع العصب، وكذلك سلخها. قال: وسلخها إذا طبخ فى شراب وقطّر منه فى الأذن سكن وجعها؛ ويتمضمض بخلّ طبخ فيه السّلخ لوجع السّن. قال: وزعم جالينوس أنه إذا أخذت خيوط كثيرة، وخصوصا المصبوغة بالأرجوان، وخنق بها أفعى ولفّ واحد منها على عنق صاحب أورام اللهاة والحلق ظهر نفع عجيب. ومرقته ولحمه يقوّيان البصر. قال: واتفقوا على أنّ شحم الأفعى يمنع نزول الماء إلى العين، ولكنّ الإنسان لا يجسر على ذلك. وإذا شقّت الحيّة ووضعت على نهش الأفاعى سكن الوجع.

ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى

ذكر شىء مما وصفت به الأفاعى قال بعض الشعراء يصف حيّة: لا ينبت العشب فى واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر جرداء شابكة الأنياب «1» ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها «2» الحجر لو شرّحت بالمدى ما مسّها بلل ... ولو تكنّفها «3» الحاوون ما قدروا قد جاهدوها فما قام الرّقاة «4» لها ... وخاتلوها «5» فما نالوا «6» ولا ظفروا يكبو لها الورل «7» العادى إذا نفخت ... جبنا «8» ويهرب منها الحيّة الذّكر وقال خلف الأحمر: وكأنّما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب أنهجه «9» البلى فى عينها قبل «10» وفى خيشومها ... فطس وفى أنيابها مثل المدى

وقال آخر: أرقم كالدّرع فيه وشم ... منمنم الظّهر واللّبان «1» يزحف كالسّيل من تلاع ... كأن عينيه كوكبان يهشم ما مسّ من نبات ... ويجذب النّفس بالعنان وقال ابن المعتزّ: أنعت رقشاء لا تحيا لديغتها ... لو قدّها السيف لم يعلق به بلل تلقى إذا انسلخت فى الأرض جلدتها ... كأنها كمّ درع قدّه بطل وقال الظاهر «2» البصرىّ شاعر اليتيمة: سرت وصحبى وسط قاع صفصف ... إذ أشرفت من فوق «3» طود مشرف رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومى «4» برأس مثل رأس المجرف وذنب مندمج «5» معقّف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفى «6» علوتها بحدّ سيف مرهف ... [فظلّ «7» يجرى دمها كالقرقف «8» ] أتلفتها لما أرادت تلفى

وقال خلف الأحمر: له عنق مخضّرة مدّ ظهره ... وشوم كتحبير اليمانى المرقّم إلى هامة مثل الرّحى مستديرة ... بها نقط سود وعينان كالدّم وقال آخر «1» : وحنش كحلقة السّوار ... غايته شبر من الأشبار كأنه قضيب ماء جارى ... يفترّ عن مثل تلظّى النّار وقال خلف الأحمر «2» : صلّ صفّا لا تنطوى من القصر ... طويلة الإطراف من غير حسر «3» داهية «4» قد صغرت من الكبر ... مهروتة الشّدقين حولاء النّظر تفترّ عن عوج حداد كالإبر

وقال أبو هلال العسكرىّ: وخفيفة الحركات تفترع الرّبى ... كالبرق يلمع فى الغمام الرّائح منقوطة تحكى صدور صحائف ... إبّان تبدو من بطون صفائح ترضى من الدنيا بظلّ صخيرة ... ومن المعيشة باشتمام روائح «1» وقال ابن المعتز: كأننى ساورتنى يوم بينهم ... رقشاء مجدولة فى لونها برق [كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصن تفتح فيه النّور والورق «2» ] ينسل منها لسان تستغيث به ... كما تعوّذ بالسبّابة الفرق «3» وقال الهذلىّ فى مزاحف الحيّات: كأنّ مزاحف الحيّات وهنا «4» ... قبيل الصبح آثار السّياط وقال آخر: كأنّ مزاحفه أنسع «5» ... جررن فرادى ومنها ثنى «6»

ذكر ما قيل فى العقارب

ذكر ما قيل فى العقارب قال الجاحظ: والعقارب أصناف: منها الجرّارة، والطيّارة، وماله ذنب كالحربة، وماله ذنب معقّف؛ وفيها السّود، والخضر، والصّفر. وهى من ذوات الذّرو «1» . ويقال: إنّ الأنثى من هذا النوع إذا حملت يكون حتفها فى ولادتها؛ لأن أولادها إذا استوى خلقها أكلت بطون الأمّهات حتى تنقبها، وتكون الولادة من ذلك النّقب، فتخرج والأمهات ميتة. وفى ذلك يقول الشاعر: وحاملة لا تحمل الدّهر حملها ... تموت ويحيا «2» حملها حين تعطب وقال أيضا: إنها تلد من فيها مرّتين، وتحمل أولادها على ظهرها وهى فى قدر القمل كثيرة العدد. قال: والعقرب شرّ ما تكون إذا كانت حبلى؛ ولها ثمان أرجل لها أظلاف مثل أظلاف الثور، وعيناها فى ظهرها. ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا المغشىّ عليه ولا النائم، إلا أن يتحرّك شىء من بدنه؛ فإنها عند ذلك تضربه؛ وضربها له إنما هو من خوفها منه. وهى تأوى إلى الخنافس وتسالمها، وتصادق من الحيّات كلّ أسود سالخ. وربما لسعت الأفعى فتموت. وفيها ما يلسع بعضه بعضا فيموت الملسوع. ويقال: إنها تستخرج من بيوتها بالجراد؛ لأنها تحرص على أكله. ومتى أدخل الكّرّاث فى حجرها وأخرج تبعته وما معها من نوعها. وهى إذا خرجت من جحرها تضرب كلّ ما لقيته من حيوان أو نبات أو جماد.

وقيل لبعض الأطبّاء: إنّ فلانا يقول: إنما أنا مثل العقرب أضرّ ولا أنفع؛ فقال: ما أقلّ علمه بها! إنها تنفع إذا شقّ بطنها ووضعت على مكان اللّسعة. وقد تجعل فى جوف فخّار مسدود الرأس مطيّن الجوانب، ثم توضع الفخّارة فى تنّور؛ فإذا صارت العقرب رمادا سقى من ذلك الرماد من به حصاة نصف دانق فتفتّتها من غير أن تضرّ شيئا من الأعضاء. وقد تلسع من به حمّى عتيقة فتقلع عنه. وقد تلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب فى الدّهن وتترك فيه حتى يأخذ منها ويجتذب قواها، فيكون ذلك الدّهن مصرّفا للأورام الغليظة. وقال الشيخ الرئيس: زيت العقارب نافع من أوجاع الأذن. فهذه منافعها. وقال الجاحظ: ومن أعاجيب العقرب أنها لا تسبح ولا تتحرّك إذا ألقيت فى الماء، كان الماء جاريا أو ساكنا. قال: وهى تطلب الإنسان وتقصده؛ فإذا قصدها فرّت منه. وهى إذا ضربت الإنسان هربت هرب من قد أساء. قال: ومن أعاجيب ما فى العقرب أنا وجدنا عقارب القاطول «1» يموت بعضها من لسع بعض، ثم لا يموت عن لسعتها شىء [غير العقارب «2» ] ، ونجد العقرب تلسع إنسانا فيموت وتلسع آخر فتموت هى؛ فدلّ ذلك على أنها كما تعطى تأخذ. ويقال: إن الذى تموت هى إذا لسعته تكون أمّه قد لسعت وهى حامل به. قال: ومن أعاجيبها أنها تضرب الطّست والقمقم النّحاس فتخرقه، وربما ضربته فثبتت إبرتها فيه. قال: والعقارب القاتلة تكون فى موضعين: بشهرزور من بلاد الجبل، وعسكر مكرم «3» من بلاد الأهواز، وهى جرّارات؛ وإذا لسعت قتلت؛ وربما تناثر لحم من

وقد وصف الشعراء العقرب وشبهوها فى أشعارهم

لسعته أو تعفّن ويسترخى حتى لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة إعدائه. وهى فى غاية الصغر؛ فإن أكبر ما يوجد منها تكون زنته دانقا واحدا؛ والذى يوجد منها كبيرا تكون زنته ثلاث حبّات أرز؛ فإن وزنت بشعيرة رجحت الشعيرة عنها. وهى مع نزارتها تقتل الفيل والبعير بلسعتها. قال: وبنصيبين عقارب قتّالة يقال: إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين فأتى بالعقارب من شهرزور ورمى بها فى كيزان بالمجانيق إلى البلد، فأعطى القوم بأيديهم «1» . وقد وصف الشعراء العقرب وشبّهوها فى أشعارهم ؛ فمن ذلك قول السّرىّ الرفّاء: سارية فى الظّلام مهدية ... إلى النفوس الرّدى بلا حرج شائلة «2» ، فى ذنيبها حمة ... كأنها سبجة من السّبج «3» وقال آخر: ونضوة «4» تعرف باسم ولقب ... ما بين عينيها هلال منتصب موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب بخنجر تسلّه عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب وقال آخر: تحمل رمحا ذا كعوب مشتهر ... فيه سنان بالحريق مستعر أنّف «5» تأنيفا على حين قدر ... تأنيف أنف القوس شدّت بالوتر

وقال عبد الصمد بن المعذّل: [يدعو بها على عدوّ له «1» ] . يا ربّ ذى إفك كثير خدعه «2» ... مستجهل الحلم «3» خبيث مرتعه [يسرى إلى عرض الصديق قذعه ... صبّت عليه حين جمّت بدعه «4» ] ذات ذنابى متلف من يلسعه ... تخفضه طورا وطورا ترفعه أسود كالسّبجة فيه مبضعه ... ينطف منه سمّه وسلمعه «5» تسرع فيه الحتف حين [تشرعه ... يبرز كالقرنين حين «6» ] تطلعه فى مثل صدر السّبت «7» حين تقطعه ... لا تصنع الرقشاء ما قد تصنعه وقال ابن حمديس: ومشرعة بالموت للطعن صعدة «8» ... فلا قرن إن نادته يوما يجيبها تذيقك حرّ السّمّ من وخز إبرة ... إذا لسبت «9» ماذا يلاقى لسيبها إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان «10» دبّ فيها شحوبها لها سورة خصّت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كلّ شىء يريبها لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار «11» فيها طبيبها

نسيت بها قيسا «1» وذكرى طعينه «2» ... وقد دقّ معناها وجلّ ندوبها «3» تجىء كأمّ الشّبل غضبى توقّدت ... وقد توّج اليأفوخ «4» منها عسيبها «5» عدوّ مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالى رقدة يستطيبها ولولا دفاع الله عنّا بلطفه ... لصبّت من الدنيا علينا خطوبها

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثالث فيما هو ليس قاتلا بفعله من ذوات السموم ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخنافس، والوزغ، والضبّ، وابن عرس، والحرباء، والقنافذ، والفيران، والقراد، والنمل، والذرّ، والقمل، والصّؤاب. *** فأمّا الخنافس وما قيل فيها - قالوا: والخنافس تتولّد من عفونة الأرض. وهى أصناف، منها الخنفس المعروف؛ ومنها «الجعل» ويسمّى «الكبرتل» . وهو يتولّد من أخثاء البقر، وهو يموت إذا شمّ رائحة الطّيب، وإذا دفن فى الورد مات، وإذا أخرج منه ودفن فى الرّوث عاش. والغالب أنه لا يموت حقيقة وإنما يخدر وتبطل حركته؛ فإذا عولج بما نشأ منه قوى. والله أعلم. وله ستّ أرجل، وسنام مرتفع. وهو لا يصير كبرتلا حتى يصير له جناحان. وجناحاه يظهران إذا أراد الطيران ويخفيان إذا مشى. ومن عادة الجعل أن يحرس النّيام؛ فمن قام منهم لقضاء الحاجة تبعه طمعا أنه إنما يريد الغائط؛ والغائط قوت الجعل. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر: وزعم الأعراب أنّ بين ذكور الخنافس وإناث الجعلان تسافدا، وأنهما ينتجان خلقا ينزع إليهما جميعا. قال: وأنشد سيويه لبعض الأعراب يهجو عدوّا له: عاديتنا يا خنفسا أمّ الجعل ... عداوة الأوعال حيّات الجبل

ومن أصناف الخنافس صنف يقال له «حمار قبان» .

ويقال: إنّ الجعل يظلّ دهرا لا جناح له، ثم ينبت له جناحان. والعرب تقول فى أمثالها: «ألجّ من خنفساء» و «أفحش من فاسية» وهى الخنفساء. وفى لجاجة الخنفساء يقول الأحمر «1» : لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء «2» قليل الصواب ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب ومن أصناف الخنافس صنف يقال له «حمار قبّان» . وهو يتولّد فى «3» الأماكن النديّة [على ظهره شبه المجنّ. ومنها صنف يسمّى «بنات وردان» . وهى أيضا تتولّد فى الأماكن النديّة «4» ] ، وأكثر ما تكون فى الحمّامات والسّقايات. وفيها من الألوان الأسود، والأصهب، والأبيض. قال بعض الشعراء يصف بنات وردان: بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتى فى وصفى وتشبيهى كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه *** ومنها «الصّراصر والجنادب» «5» . ولها صوت لا يفتر بالليل، فإذا طلع الفجر فقد. وفيه من الألوان الأسود وهو جندب «6» الجبال والآكام السّود؛ والأبرق «7» وهو جندب الطلح والسّمر والغضا؛ والأبيض وهو جندب الصحارى. قال السّرىّ الرّفّاء يصف جندبة:

وأما الوزغ وما قيل فيه -

وجندبة تمشى بساق كأنّها ... على فخذ كالعود «1» منشار عرعر ممسّكة «2» تجلو الجناح «3» كأنّها ... عروس تجلّت فى عطاف «4» معنبر *** وأمّا الوزغ وما قيل فيه- والوزغ يسمّى «سامّ أبرص» . وزعموا أنه أصمّ، وأنّ السبب فى صممه وبرصه أن الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم عليه السلام فى نار النّمرود كانت تطفئ عنه، وأنّ هذا كان ينفخ عليه، فصمّ وبرص. وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنّها قالت: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفى يدى عكّاز فيه زجّ «5» ، فقال: «يا عائشة ما تصنعين بهذا» ؟ قلت: أقتل به الوزغ فى بيتى؛ قال: «إن تفعلى فإنّ الدوابّ كلّها حين ألقى إبراهيم فى النار كانت تطفئ عنه وإنّ هذا كان ينفخ عليه فصمّ وبرص» . وفى حديث آخر عنها رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للوزغ الفويسق. قالوا: وفى طبع الوزغ أنه لا يدخل إلى بيت فيه زعفران. والحيّات تألف الوزغ، كما تألف العقارب الحنافس. وهو يطاعم الحيّات ويزاقّها. وهو يقبل

وأما الضب وما قيل فيه

اللّقاح بفيه، ويبيض كما تبيض الحيّة. وقيل: إنّ نصيبه من السّم نصيب متوسّط، لا يكمل أن يقتل، ومتى دبر «1» جاء منه سمّ قاتل. ومتى قتل ووضع على جحر حيّة هربت منه. وهو يقيم فى حجره أربعة أشهر الشتاء. وقال الشيخ الرئيس: إذا ضمد به على الشوك والسّلّاء «2» جذبه، وعلى الثآليل «3» يقلعها. قال: وقيل: إنّ المجفّف منه إذا خلط بالزيت أنبت الشعر على القرع. وبوله ودمه عجيب النّفع من فتق الصّبيان إذا جلسوا «4» فى طبيخه. وقد يجعل فى بوله أو دمه شىء من المسك ويجعل فى إحليل الصبىّ فيكون بالغ النفع فى الفتق. وقيل: إنّ كبده تسكّن وجع الضّرس، وتشقّ وتوضع على لسع العقرب فيسكن. *** وأمّا الضبّ وما قيل فيه - قال الجاحظ فى كتاب الحيوان: إنّ من أعاجيب الضبّ أنّ له أيرين وللضبّة حرين؛ قال: وهذا شىء لا يعرف إلّا لهما. هذا قول الأعراب فى تخصيصهما بذلك. وقالت الحكماء: إنّ السّقنقور «5»

له أيران، والحرذون «1» كذلك. قال: وقال جالينوس: الضب الذى له لسانان يصلح لحمه لكذا وكذا. ومما يستدلّ به على أنّ للضبّ أيرين قول الفزارىّ: سبحل «2» له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف فى البلاد وناعل واسم أير الضبّ: النّزك. وسئل أبو حيّة النّميرىّ عن ذلك، فزعم «3» أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة، الأصل واحد والفرع اثنان. وللأنثى مدخلان. وعلى ذلك أنشد الكسائىّ رحمه الله تعالى: تفرّقتم لا زلتم قرن واحد ... تفرّق أير الضبّ والأصل واحد ويقال: إنّ الضبّة إذا أرادت أن تبيض حفرت فى الأرض حفرة ثم رمت بالبيض فيها وطمّته بالتراب، وتتعاهده كل يوم حتى يخرج، وذلك فى أربعين يوما. وهى تبيض سبعين بيضة وأكثر. وبيضها يشبه بيض الحمام. ويخرج الحسل وهو مطيق للكسب. قالوا: والضبّ يخرج من جحره كليل البصر، فيجلوه بالتحدّق فى الشمس. وهو يغتذى بالنسيم، ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم. قال الجاحظ: وزعم عمرو بن مسافر: أنّ الضبّة تبيض ستين بيضة وتسدّ عليهنّ باب الحجر ثم تدعهنّ أربعين يوما، فيتفقّص «4» البيض ويظهر ما فيه، فتحفر عنهن عند ذلك. فإذا كشفت عنهن أحضرن «5» وأحضرت فى أثرهنّ، فتأكل

ما أدركت منهنّ. ويحفر المنفلت منها لنفسه حجرا، ويرعى من البقل. فلذلك توصف بالعقوق. ويضرب به المثل فى أكل حسوله. وفى ذلك يقول الشاعر: أكلت بنيك أكل الضبّ حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد قالوا: وفى ذنب الضبّ من القوّة ما يضرب به الحيّة فربما قطعها. والضبّ طويل العمر. وفى طبعه أنه يرجع فى قيئه. وهو شديد الإعجاب بالتمر. ويقال: إنه يمكث ليلة بعد الذّبح ثم يقرّب إلى النار فيتحرّك. قال الجاحظ: وزعمت العرب أنّ الضبّ يعدّ العقرب فى جحره؛ فإذا سمع صوت الحرش «1» استثفرها «2» فألزقها بأصل عجب «3» ذنبه وضمّه عليها، فإذا أدخل الحارش يده ليقبض على أصل ذنبه لسعته. وقيل: بل العقارب تألف الضّباب وتسالمها وتأوى إليها. قال التّميمىّ: أتأنس بى ونجرك غير نجرى ... كما أنس «4» العقارب والضّباب والضبّ من الحيوان المأكول؛ إلّا أنّ العرب تعيّر بنى تميم بأكل لحم الضبّ. والدليل على إباحته ما جاء فى الحديث الصحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت ميمونة «5» رضى الله عنها، فقدّمت له مائدة وعليها ضبّ مشوىّ، فأهوى بيده ليأكل منه؛ فقيل له: يا رسول الله، إنه ضبّ؛ فرفع يده. فقال له

خالد بن الوليد: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه ليس فى بلاد قومى فأنا لا آكله» ؛ فأكله خالد بن الوليد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهه؛ ولو كان حراما لنهاه صلى الله عليه وسلم عن أكله ولأخبر بتحريمه لمّا سئل عنه. وقال أبو نواس يعيّر بأكل الضبّ: إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا «1» كيف أكلك للضّبّ وقال عمرو «2» بن الأهتم من أبيات: ورددناهم إلى حرّتيهم «3» ... حيث لا يأكلون غير الضّباب وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: زبل الضبّ نافع لبياض العين، وينفع من نزول الماء. وقد وصفه الحمّانىّ فقال وذكر أرضا: ترى ضبّها مطلعا رأسه ... كما مدّ ساعده الأقطع له ظاهر مثل برد موشّى «4» ... وبطن كما حسر الأصلع هو الضبّ ما مدّ سكّانه ... وإن ضمّه فهو الضّفدع

وأما الحرباء وما قيل فيها

وأما الحرباء وما قيل فيها - والحرباء لها أصابع، وأظنها لنبش التراب. ولونها أسود وأصفر ومختلط الألوان كالفهد. وهذه التسمية تقع على ذكورها وإناثها «1» . والحرباء إذا كان فى الشمس كان كثير التلوّن، فإذا انتقل إلى الظل كان أقل تلوّنا. وإذا قارب الموت أو مات أصفرّ. وهو أبدا يطلب الشمس، فإذا طلعت وجّه وجهه نحوها. فمتى غاب عنه جرمها فلا يراها أصابه نوع من الجنون. وإذا غابت الشمس ذهب ليطلب معاشه ليله كلّه حتى يصبح. ولسانه طويل جدّا، يقال: إنه مقدار ذراع، فهو يبلغ به ما بعد عنه من الذّباب. والأنثى منه تكنى أمّ حبين. وهو يوصف بالحزم لأنه حيث ينظر إلى الشمس يقبض بيده على خوط «2» ، فإذا تقلّب نحو الشمس حيث ما مالت [لا «3» ] يرسل ذلك الخوط من يده حتى يقبض بيده الأخرى خوطا آخر. وفيه يقول الشاعر «4» : أنّى أتيح له «5» حرباء تنضبة «6» ... لا يرسل السّاق إلا ممسكا ساقا

وكتب بعض الفضلاء إلى بعض أصدقائه يلومه على مقامه بوطنه حين «1» نبابه؛ فقال من رسالة: «أعجزت فى الإباء، عن خلق الحرباء؛ أدلى لسانا كالرّشاء، يبلغ به ما يشاء؛ وناط همّته بالشمس، مع بعدها عن اللمس؛ وأنف من ضيق الوجار، ففرّخ فى الأشجار؛ وسئم العيش المسخوط، فاستبدل خوطا بخوط؛ فهو كالخطيب، على الغصن الرّطيب. وإنّ صواب الرّأى والحزم لامرئ ... إذا بلغته الشمس أن يتحوّلا وقال ذو الرّمّة: كأنّ يدى حربائها متشمّسا ... يدا مذنب «2» يستغفر الله تائب وقال فيه أيضا: وقد جعل الحرباء يصفرّ «3» لونه ... وتخضرّ من لفح الهجير غباغبه «4» ويشبح «5» بالكفّين شبحا كأنه ... أخو فجرة عالى به الجذع صالبه

وأما ابن عرس وما قيل فيه

وقال فيه أيضا: يصلّى «1» بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلّا أنّه لا يكبّر إذا حوّل «2» الظّلّ العشىّ رأيته ... حنيفا وفى وقت «3» الضّحى يتنصّر *** وأمّا ابن عرس وما قيل فيه - وابن عرس من حيوان البيوت، وهو حديد النفس شجيع فطن. وأكثر ما يكون بمصر فى المنازل. وله صوت قوىّ يدلّ على شجاعته. وقيل: إنه الحيوان المسّمى «بالدّلق» «4» ، وإنما يختلف وبره ولونه بحسب البلاد. وفى طبعه أنه يسرق ما يظفر به من الذّهب، والفضّة، وأنه متى وجد حبوبا متفرّقة خلطها. وهو عدوّ الفأر يصيده ويقتله، والفأر يخافه. وقال الجاحظ: وابن عرس يقاتل الحيّة؛ وإذا قاتلها بدأ بأكل السّذاب؛ لأنّ الحيّة تؤلمها رائحة السّذاب؛ كما قدّمنا. وابن عرس يفعل فى الطير ما يفعل الذئب فى الغنم من الذّبح. وهو إذا عجز عن الوصول إليها استدار بعجزه وفسا إلى جهتها، فربما قتل الفراريج رائحة فسائه.

وأما القنافذ وما قيل فيها

ومن ذكائه وفطنته ما حكى: أنّ رجلا صاد فرخا منها فجعله فى قفص؛ فرأته أمّه فذهبت وعادت بدينار فى فمها فألقته بين يدى الرجل كأنها تريد فداء ولدها منه به، فتركه ولم يتناوله، فذهبت وأتت بدينار آخر فلم يأخذه، فلم تزل تذهب وتعود فى كل مرّة بدينار إلى خمسة دنانير وهو لا يمسك الذهب، فذهبت وعادت بصرّ فارغة وألقتها بين يديه كأنها تقول: إنه لم يبق شىء؛ فلم يطلق ولدها ولا ضمّ الدنانير. فلمّا رأته على ذلك عمدت إلى دينار منها فأخذته وعادت به إلى جحرها؛ فخشى أن تفعل ذلك ببقيّة الدنانير، فأخذها وأطلق فرخها؛ فأعادت إليه الدينار. وقالت الحكماء: لحم ابن عرس نافع من الصّرع. والله أعلم «1» . *** وأمّا القنافذ وما قيل فيها - وواحدها قنفذ. وهى صنفان: قنفذ ودلدل. فالقنفذ يكون بأرض مصر فى قدر الفأر. والدلدل يكون بالشأم والعراق وخراسان فى قدر الكلب القلطىّ «2» . ويقال: إنه يسفد «3» قائما وبطن الأنثى لاصق ببطن الذكر. والأنثى تبيض خمس بيضات؛ وليس هو كالبيض الذى له قشر يابس بل هو شبيه باللّحم. وتصرّف القنافذ بالليل أكثر من تصرّفها بالنهار. قال أيمن بن خريم: كقنفذ الرّمل لا تخفى مدارجه ... حتى إذا نام عنه الناس لم ينم

والقنفذ يستأنس فى البيوت، ويختفى أياما ثم يظهر. وهو إذا جاع صعد إلى الكروم وقطع العناقيد ورمى بها ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق؛ فإن كان له فراخ تمرّغ على ما بقى فيشتبك فى شوكه، وذلك بعد تفريطه من عمشوشه «1» ، ويذهب به إلى فراخه. وهو مولع بأكل الأفاعى، ولا يبالى قبض على رأسها أو غيره من بدنها، فإنه إن قبض على رأسها أكلها بغير كلفة عليه ولا مشقّة؛ وإن قبض على وسطها أو ذنبها استدار وتجمّع ونفخ بدنه، فمتى ضربته أصابها شوكه، فهى تهرب منه؛ وطلبه لها بقدر هربها منه. والدّلدل إذا رأى ما يكرهه انقبض فيخرج منه شوك كالمدارى فى طول الشّبر، فيجرح ما يصيبه من الحيوان. ويقال: إنّ شوكه شعر، وإنما لمّا غلظ وغلب عليه اليبس صار شوكا. وقال ابن سينا: فى رماد القنفذ جلاء وتحليل. وملحه ينفع «2» من داء الفيل. ولحمه ينفع من الجذام؛ لشدّة تحليله وتجفيفه. ولحمه المملّح ينفع من الفالج والتّشنّج وأمراض العصب كلّها وداء الفيل، وينفع من السّلّ ومن سوء المزاج. ومملوحه مع السّكبينج «3» جيّد للاستسقاء ووجع الكلى، وينفع من يبول من الصبيان فى الفراش؛ حتى إنّ إدمان أكله ربما عسّر البول. ولحمه ينفع من الحمّيات المزمنة ومن نهش الهوامّ. والله أعلم.

وقد وصفه البلغاء والشعراء فى رسائلها وأشعارها

وقد وصفه البلغاء والشعراء فى رسائلها وأشعارها - فمن ذلك ما قاله الأمير شمس المعالى «1» من رسالة كتبها إلى بعض أصدقائه وقد أهدى له دلدلا: «قد أتحفتك يا سيّدى بعلق نفيس، وتحفة رئيس؛ يتعجّب المتأمّل من أحواله، ويحار الناعت فى أوصافه وأعماله؛ ويتبلّد المعتبر فى آياته، ويكلّ الناظر فى معجزاته؛ فما يدرى ببديهة النظر والفؤاد، أمن الحيوان هو أم من الجماد؛ حتى إذا أعطى متدبّره النّظر أوفى حقوقه، والفحص أكمل شروطه، علم أنه كمّى سلاحه فى حضنه، ورام سهامه فى ضمنه؛ ومقاتل رماحه على ظهره، ومخاتل سرّه خلاف جهره، ومحارب حصنه من نفسه؛ يلقاك بأخشن من حدّ السيف، ويستتر بألين من وبر الخيف «2» . متى جمّع أطرافه، وضمّ إليه أصوافه؛ حسبته رابية ناتيه، أو تلعة باديه. وهو أمضى من الأجل، وأرمى من بنى ثعل «3» . إن رأته الأراقم رأت حتف نفسها، أو عاينته الأساود أيقنت بفناء جنسها؛ صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه، وفارس ظلام لا يخاف من حنادسه؛ فيه من الضّبّ مثل، ومن الفأر شكل؛ ومن الورل نسب، ومن الدّلدل سبب. ومن أوابده أنه يسودّ إذا هرم وشاب، ويصير كأكبر ما يكون من الكلاب.

وقال أبو محمد اليزيدىّ «1» [يذكر قنفذا «2» رآه، فأطعمه وسقاه] : وطارق ليل جاءنا بعد هجعة ... من الليل إلّا ما تحدّث سامر قريناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفّاق الحشى وهو سادر «3» جميل المحيّا فى الرّضا فاذا أبى «4» ... حمته من الضيم الرّماح الشّواجر ولست تراه واضعا لسلاحه ... مدى الدّهر موتورا ولا هو واتر وقال [آخر «5» ] من أبيات يرثيه فيها ويصفه: عجبت له من شيهم «6» متحصّن ... بنبل من السّرد «7» المضاعف تبرق وأنّى اهتدى سهم المنيّة نحوه ... وفى كلّ عضو منه سهم مفوّق ولو كان كفّ الدهر تستخشن الرّدى ... لكان بكفّ الدّهر لا يتعلّق وقال أبو «8» بكر الخوارزمىّ يصفه: ومدجّج وسلاحه من نفسه ... شاكى الدّوابر أعزل الأقبال

وأما الفئران وما قيل فيها

يمسى ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال وتراه يكمن بعضه فى بعضه ... فتطيش عنه أسهم الأهوال عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكى ثدىّ رضاعة الأطفال وكأنّ أقلاما غرزن بظهره ... مسّ المداد رءوسها ببلال تتهارب الحيّات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالى وكأنّه الخنزير إلّا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال *** وأمّا الفئران وما قيل فيها - قد سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الفويسقة. والفأر ضروب تقع على جميعها هذه التّسمية وهى «الجرذ» و «الفأر» معروفان- وهما كالجواميس والبقر- و «الزّباب» و «الخلد» و «اليربوع» و «فأرة البيش» «1» و «فأرة المسك» و «فأرة الإبل» . فأمّا الجرذ والفأر - وهما من حيوان البيوت والبرّ. قال المتكلمون فى طبائع الحيوان: إنّ الفأر مما جمع له بين حاسّة السمع والبصر. وليس فى الحيوان أفسد منه. ومن فساده أنه يجد قارورة الدّهن وهى ضيّقة الفم فيدخل ذنبه فيها

ويمتصّه. فإن قصر ذنبه عن بلوغ الدّهن عمد إلى النّوى والأحجار الصّغار فيلقيهما فيها، فيطفو ما فيها فيمتصّه بذنبه، ولا يزال يتعاهد ذلك حتى ينفد جميع ما فيها. وهو إذا سرق البيض يعجز عن كسره بسنّه، فيدحرج البيضة إلى أن تسقط من مكان مرتفع إلى مستفل فتنكسر؛ فإن عجّزه ذلك استعان بفأر آخر فيعتنقها أحدهما بيديه ورجليه وينقلب على قفاه؛ ويقبض الآخر على ذنبه ويتسلّق به فى حائط؛ فإذا ارتفع به عن الأرض ألقاها الحامل لها فتنكسر فيأكلانها جميعا. أخبرنى بذلك من شاهده. والمثل يضرب به فى الفساد والسّرقة والنسيان والحذر. وفى طبع الجرذ البرّىّ وعادته أنه لا يحفر بيته على قارعة الطريق خوفا من الحافر «1» [أن يهدم عليه «2» بيته] . ويقال: إنه يخلق من الطّين، وإنه يتولّد بأرض مصر إذا نضب ماء النيل عنها «3» . وقال صاحب كتاب مباهج الفكر: إنه رأى ذلك عيانا «4» فى سفط «5» ميدوم من جيزة مصر. وقال الجاحظ: لعمرى إن جرذان أنطاكية لتساجل السّنانير فى الحرب، ولا تقوم لها ولا تقوى عليها إلا الواحد بعد الواحد. قال: وهى بخراسان قويّة جدّا، وربما قطعت أذن النائم. قال: ومن الفأر ما إذا عضّ قتل. قال: ومن الأعاجيب

فى قرض الفأر أنّ قوما من أهل الفراسة ينظرون إلى قرضه ويتفرّسون منه أحوالا. ويزعمون أنّ أبا جعفر المنصور نزل فى بعض القرى فقرض الفأر مسحا له كان يجلس عليه، فبعث به ليرفأ؛ فقال لهم الرّفّاء: إنّ هاهنا أهل بيت يعرفون بقرض الفأر ما ينال صاحب المتاع من خير وشرّ، فما عليكم أن تعرضوه عليهم قبل إصلاحه؟ فبعث المنصور إلى شيخهم؛ فلما نظر إلى موضع القرض وثب قائما ثم قال: من صاحب هذا المسح؟ فقال المنصور: أنا؛ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ والله لتلينّ الخلافة أو أكون جاهلا أو كذّابا. وفى الفأر منافع ذكرها الشيخ الرئيس ابن سينا، فقال: دم الفأر يقلع الثآليل، وزبله نافع على داء الثعلب وخصوصا لطخا بالعسل، وخصوصا المحرق. قال: وإذا شوى الفأر وجفّف وأطعم الصبىّ انقطع سيلان اللّعاب من فمه. قال: واتّفق الناس أنّ الفأر إذا شقّ ووضع على لدغ العقرب نفع. والله أعلم. وقد وصف الشعراء الفأر وشبّهوه فى أشعارهم وذكروا سوء فعله. فمن ذلك قول أعرابىّ [وقد دخل البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر «1» ] : عجّل ربّ الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب حتى يعجّلن إلى التّباب ... كحل العيون وقص «2» الرّقاب مجرّرات فضل الأذناب ... مثل مدارى «3» الطّفلة الكعاب

كيف لها بأنمر وثّاب «1» ... منهرت الشّدق حديد النّاب كأنما يكشر عن حراب ... يفرسها كالأسد الوثّاب وقال أبو بكر «2» الصّنوبرىّ: يالحدب الظّهور قعس «3» الرّقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب للطاف آذانها «4» والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب خلقت للفساد مذخلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب ناقبات فى الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النّقّاب آكلات كلّ المآكل لا تس ... أمها شاربات كلّ الشّراب آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب وقال فى فأرة بيضاء: وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لإطعام السّنانير إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة كافور

وأما الزباب

وأمّا الزّباب - فإنه فأر أصمّ، يكون فى الرمل. والعرب تضرب به المثل فى السرقة. يقولون: «أسرق من زبابة» . وأمّا الخلد - فهو أعمى لا يدرك شيئا إلّا بالشّمّ «1» ، [إلا أن «2» ] عينيه كاملتان، لكن الجفن ملتحم على الناظر لا ينشقّ. وهو ترابىّ مستقرّ فى باطن الأرض؛ وهى له كالماء للسمك. وليس له على ظهر الأرض قوّة ولا نشاط؛ بل يبقى مطروحا كالميّت فتخطفه الجوارح أو يموت. وهو حديد حاسّة الشمّ. ومتى شمّ رائحة طيّبة هرب. وهو يحبّ رائحة الكرّاث والبصل؛ وربما صيد بهما. ومن دأبه طول الكدّ ودوام الحفر. وفى تركيبه أنه لا يفرط فى الطّلب ولا يقصّر عنه. وله وقت يظهر فيه لا يخطئه ولا يغلط «3» فى المقدار. ويضرب به المثل فى حدّة السمع؛ فيقال: «أسمع من خلد» . *** وأما اليربوع - فهو حيوان طويل الرّجلين، قصير اليدين جدّا. وله ذنب كذنب الجرذ، يرفعه صعدا، فى طرفه شبه التّوارة. ولونه لون الغزال. ويقال لولده «درص» ، والجمع أدراص. قال أصحاب الكلام فى طبائع الحيوان: كلّ دابة حشاها الله خبثا فهى قصيرة اليدين. وهو يسكن بطن الأرض لتقوم رطوبتها

وأما فأرة المسك

له مقام الماء. وهو يؤثر النسيم ويكره البخار «1» . وهو يتّخذ حجره على نشز من الأرض ويحفره، ويفتح له أبوابا على مهبّ الرياح وتسمّى «النّافقاء» «2» و «القاصعاء» و «الدّامّاء» و «الرّاهطاء» . فإذا طلب من أحد هذه الأبواب خرج من الآخر. وهو يجترّ ويبعر. وله كرش وأسنان وأضراس. وهو من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس منه. والرئيس منها إذا كان فيها يرتفع عنها فيكون فى مكان مشرف أو على صخرة ينظر منه إلى الطريق. فإن رأى ما يخافه عليها صرّ بأسنانه وصوّت، فتسمعه فتنصرف إلى حجرتها؛ وإن أغفل ذلك ورأت ما تخافه قبل أن يراه قتلته، لتضييعه الحزم وغفلته، ونصبت غيره لرياستها. وإذا أرادت اليرابيع الخروج من حجرتها لطلب المعاش خرج الرئيس قبلها وأشرف؛ فإذا لم ير ما يخافه عليها صرّ لها وصوّت فتخرج. قالوا: ويتولّد من اليربوع والفأرة ولد يسمى «القرنب» . *** وأما فأرة المسك - فقال الجاحظ: إنها دويبّة تكون فى بلاد تبّت «3» تصاد لنوافجها وسررها. فإذا اصطيدت عصبت سرّتها بعصاب وهى مدلّاة فيجتمع فيها دمها؛ فإذا اجتمع ذبحت، ثم تقوّر السّرّة المعصوبة وتدفن فى الشّعير حينا

وأما فأرة الإبل

فيستحيل ذلك الدّم المختنق الجامد مسكا ذكيّا بعد أن كان منتنا. ويقال: إن هذه الفأرة توجد فى بلاد الزّابج «1» وتحمل إلى السّند، وإن المسك يخرج من خصيتى ذكورها بالعصر، ومن ضروع إناثها بالحلب. ويقال: إن الفأر الفارسىّ أطيب ريحا من كل طيب، وربما ضاهى ريح المسك. وهو أجرد أشقر، شعره إلى الصّفرة، شديد كحل العينين، طويل الأذنين، قصير الذّنب. *** وأما فأرة الإبل - فليست بحيوان، وإنما هى رائحة تسطع من الإبل عند صدورها من الورد ينتجها طيب الرّعى. قال الشاعر «2» : لها فأرة ذفراء «3» كلّ عشيّة ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه *** وأمّا القراد وما قيل فيه - فقد قالوا: أوّل ما يكون «قمقامة» «4» وهو الذى لا يكاد يرى من صغره، ثم يصير «حمنانة» ثم يصير «قرادا» ثم يصير «حلما» . ويقال للقراد: «العلّ» و «الطّلح» و «القتين» و «البرام» و «القرشام» .

وأما النمل والذر وما قيل فيهما

والقراد يخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتّلطّخ بالثّلط «1» والأبوال؛ كما يخلق القمل من عرق الإنسان. وفى طبع القراد أنه يسمع رغاء الإبل من فراسخ فيقصدها؛ حتى إنّ أصحاب الإبل يبعثون إلى الماء من يصلح لإبلهم الأرشية «2» وآلات السّقى، فتبيت الرجال عند البئر تنتظر مجىء الإبل، فيعرفون قربها من القراد بانبعاثه فى جوف الليل وسرعة حركته ومروره، فإذا رأوا ذلك منه تهيّئوا للعمل. ويقول من اعتنى بالحيوان وتكلّم فى طبائعه: إنّ لكل حيوان قرادا يناسب مزاجه. وهم يضربون المثل بالقراد فى أشياء، فيقولون: «أسمع من قراد» ، و «ألزق «3» من قراد» ، وما هو إلا قراد ثفر «4» . وأنشد الجاحظ لبعض الشعراء فى القراد: ألا يا عباد الله هل لقبيلة ... إذا ظهرت فى الأرض شدّ مغيرها فلا الدّين ينهاها ولا هى تتهى ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها *** وأمّا النّمل والذّرّ وما قيل فيهما - قال الله عزّ وجلّ: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) . وجاء فى الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا

فانطلق لحاجة فجاء من حاجته وقد أوقد رجل على قرية نمل إمّا فى شجرة وإمّا فى الأرض؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل هذا أطفئها أطفئها أطفئها» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فعضّته نملة فقام إلى نمل كثير تحت الشجرة فقتلهنّ فقيل له: أفلا نملة واحدة» . وعنه رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نزل نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بقرية النّمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أهلكت أمّة من الأمم يسبّحن الله فهلّا نملة واحدة» . وجاء فى الأثر: أنّ سليمان بن داود عليهما السلام خرج يستسقى، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهى تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس لنا غنى عن سقيك؛ فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تميتنا وتهلكنا. فقال للناس: ارجعوا، فقد سقيتم بدعاء غيركم. وقال الجاحظ: وكان ثمامة يزعم أنّ النمل ضأن الذّرّ. قال: والذى عندى أنّ النمل والذرّ مثل الفأر والجرذ، والبقر والجواميس. قال: والذّرّ أجود فهما وأصغر جثّة. وزعم ابن أبى الأشعث أنّ النمل لا يتزاوج ولا يتوالد ولا يتلاقح، وإنما يسقط منه شىء حقير فى الأرض فينمو حتى يصير بيظا «1» فيتكوّن منه. والنمل من الحيوان المحتال فى طلب المعاش يتفرّق لذلك؛ فإذا وجد شيئا أنذر الباقين فيأتين إليه ويأخذن منه. وكلّ واحد مجتهد فى إصلاح شأن العامّة

غير مختلس لشىء من الرزق دون صحبه. ويقال: إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها ومن تحيّله فى طلب الرزق أنه ربما وضع بينه وبين ما يخاف عليه منه ما يمنعه من الوصول إليه من ماء أو شعر، فيتسلّق فى الحائط ويمشى على جذع من السّقف حتى يسامت ما حفظ منه ثم يلقى نفسه عليه. وفى طبعه وعادته أن يحتكر فى زمن الصيف لزمن الشتاء. وهو إذا خاف على ما يدّخره من الحبوب من العفن والسّوس أو التّندّى من مجاورة بطن الأرض، أخرجها إلى ظاهر الأرض حتى تيبس ثم يعيدها. وإن خاف على الحبّ أن ينبت من نداوة الأرض نقر فى موضع القطمير من وسط الحبّة (وهو الموضع الذى يبتدئ منه النّبات) ؛ ويفلق جميع الحبّ أنصافا؛ فإن كان من حبّ الكزبرة فلقه أرباعا، لأن أنصاف حبّ الكزبرة تنبت. فالنمل من هذا الوجه فى غاية الحزم. فسبحان الملهم لا إله غيره. وليس شىء من الحيوان يقوى على حمل ما يكون ضعف وزنه مرارا غير النملة. والنّمل يشمّ ما ليس له ريح ممّا لو وضعه الإنسان عند أنفه لما وجد له ريحا. ومن أسباب هلاك النملة نبات الأجنحة لها؛ فإذا صار النمل كذلك صادته العصافير وأكلته. وفى ذلك يقول أبو العتاهية: وإذا استوت للنّمل أجنحة ... حتّى يطير فقد دنا عطبه ومن أصناف النّمل صنف يسمّى «نمل الأسد» ؛ سمّى بذلك لأن مقدّم النملة يشبه وجه الأسد ومؤخّرها كالنّمل. وزعم بعض من تكلّم فى طبائع الحيوان أنه متولّد، وأن أباه أكل لحما، وأمّه أكلت نباتا، فنتج بينهما على هذه الصفة. وقد وصفه الشعراء؛ فمن ذلك قول شاعر «1» : غزاة يولّى الليث عنهنّ هاربا ... وليست لها نبل حداد ولا عمد

قصار الخطا حمش القوائم ضمّر ... مشمّرة لا تشتكى الأين والحرد «1» وتعدو على الأقران فى حومة الوغى ... نشاطا كما يعدو على صيده الأسد إذا ذكرت طيب الهياج تنّفست ... تنفّس ثكلى قد أصيب لها ولد كأكراد زنجان «2» تريد قضاضة ... وتلك الصّعاليك الغرائب فى البلد «3» وفيهنّ أجناس تشابهن صورة ... وباينّ فى الهمّات واللون والجسد «4» فمنهنّ كمت كالعناكيب أرجلا ... وساع الخطا قد زان أجيادها الغيد إذا انتهرت طارت وإن هى خلّدت ... رأت ورد أحواض المنايا من الرّشد وسود خفاف الجسم لو عضّت الصّفا ... رأيت الصّفا من وقع أسنانها قدد «5» يفدن علينا مفسدات جفاننا ... وأزوادنا أبغض إلينا بما وفد وقال أبو هلال العسكرىّ: وحىّ أناخوا فى المنازل باللّوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا إذا اختلفوا فى الدار ظلّت كأنها ... تبدّد فيها الريح بزر قطونا إذا طرقوا قدرى مع الليل أصبحت ... بواطنها مثل الظواهر جونا لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا «6» ... كما مرّ مرعوب يخاف كمينا ويمشون صفّا فى الديار كأنما ... يجرّون خيطا فى التراب منينا «7»

وأما القمل والصؤاب وما قيل فيهما

وفى كل بيت من بيوتى قرية ... تضمّ صنوفا منهم وفنونا فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريّات يسعن مئينا *** وأمّا القمل والصّؤاب وما قيل فيهما - قال الجاحظ: ذكروا عن إياس بن معاوية أنه يزعم أنّ الصّئبان ذكورة القمل، وأنّ القمل من الشكل الذى تكون إناثه أعظم من ذكورته. قال الجاحظ: والقمل يعترى من العرق والوسخ إذا علاهما ثوب أو ريش أو شعر، حتى يكون لذلك المكان عفن وخموم. والقملة يكون لونها بحسب لون الشعر فى السّواد والبياض والشّمط وفى لون الحضاب، وينصل إذا نصل. قال: والقمل يعرض لثياب كل إنسان إذا عرض لها الوسخ أو العرق أو الخموم، إلا ثياب المجذّمين فإنهم لا يقملون. وإذا قمل إنسان وأفرط عليه القمل زأبق رأسه فيتناثر القمل. قال: وربما كان الإنسان قمل الطّباع وإن تنظّف وتعطّر وبدّل أثوابه؛ كما عرض لعبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، حتى استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى لباس الحرير؛ فأذن لهما فيه لهذه الضرورة ولدفع هذا الضرر. وقد وصف الشعراء القمل فى أشعارهم؛ فمن ذلك قول بعض العقيليّين وقد مرّ بأبى العلاء العقيلىّ وهو يتفلّى، فقال: وإذا مررت به مررت بقانص ... متصيّد فى شرقة «1» مقرور للقمل حول أبى العلاء مصارع ... ما بين مقتول وبين عقير «2»

فكأنهنّ إذا علون قميصه ... فذّ وتوءم سمسم مقشور ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنق على أخرى بعدو «1» مغير وقال الحسن بن هانئ فى رجل اسمه أيّوب: من ينأ عنه مصاده ... فمصاد أيّوب ثيابه «2» يكفيه منها نظرة ... فتعلّ من علق «3» حرابه يا ربّ «4» محترز بجي ... ب الرّدن تكنفه صؤابه فاشى النّكاية «5» غير مع ... لوم إذا دبّ انسيابه أو طامرىّ «6» واثب ... لم ينجه عنه وثابه أهوى له بمزلّق ال ... عرنين إصبعه نصابه «7» لله درّك من أخى ... قنص أصابعه كلابه

القسم الخامس من الفن الثالث فى أجناس الطير وأنواع السمك

القسم الخامس من الفن الثالث فى أجناس الطير وأنواع السمك وفيه سبعة أبواب: ستة منها فى الطير، وباب فى السمك. وذيّلت عليه بباب ثامن أوردت فيه ذكر شىء مما قيل فى آلات صيد البرّ والبحر. قال الجاحظ فى كتاب الحيوان: إنّ الحيوان على أربعة أقسام: شىء يطير، وشىء يعوم، وشىء ينساح، وشىء يمشى؛ إلّا أنّ كل طائر يمشى، وليس كلّ شىء يمشى طائرا. قال: واسم طائر يقع على ثلاثة أشياء: صورة، وطبيعة، وجناح؛ وليس بالرّيش والفوادم والأباهر «1» والخوافى يسمى طائرا ولا بعدمه يسقط ذلك عنه. ألا ترى أنّ الخفّاش والوطواط من الطير وإن كانا أمرطين ليس لهما ريش ولا زغب ولا شكير. قال: والطير كلّه سبع وبهيمة وهمج. والسّباع من الطير على ضربين: فمنها العتاق، والأحرار، والجوارح. ومنها البغاث، وهو كلّ ما عظم من الطير سبعا كان أو بهيمة إذا لم يكن من ذوات السّلاح والمخالب المعقّفة كالنّسور والرّخم والغربان وما أشبهها من لئام السّباع. ثم الخشاش وهو ما لطف جرمه وصغر شخصه وكان عديم السلاح. وقال: إذا باض الطائر بيضا لم تخرج البيضة من حدّ التحديد والتلطيف بل يكون الجانب الذى يبدأ بالخروج الجانب الأعظم. وما كان من البيض مستطيلا

محدّد الأطراف فهو للإناث، وما كان مستديرا عريض الأطراف فهو للذكور. والبيضة عند خروجها تكون ليّنة القشر غير جاسئة ولا يابسة ولا جامدة. قال: والبيض الذى يتولّد من الريح والتراب أصغر وألطف، وهو فى الطّيب دون الآخر. ويكون بيض الريح من الدّجاج والقبج «1» والحمام والطاوس والإوزّ. قال: وحضن الطائر وجثومه على البيض يكون صلاحا لبدن الطائر كما يكون صلاحا لبدن البيض. قال: وزعم ناس أنّ بيض الرّيح إنما يكون عن سفاد متقدّم. وذلك خطأ من وجهين: أمّا أحدهما، فإن ذلك قد عرف من فراريج لم ترديكا قطّ. والآخر أن بيض الرّيح لم يكن منه فروخ قطّ. وبيض الصّيف المحضون أسرع خروجا منه فى الشتاء. فهذه جمل من أحوال الطير فرّقها الجاحظ فى كتابه فى عدّة مواضع جمعناها وألّفنا بعضها إلى بعض. فلنذكر كلّ جنس من الطير، ونشرح ما يخصّه من الكلام وما قيل فيه. وغير الجاحظ قسّم الطير إلى أقسام، فجعل منها سباعا، وكلابا، وبهائم، وبغاثا، وليليّا، وهمجا؛ وعلى ذلك بوّبنا هذا القسم؛ على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.

الباب الأول من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير

الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الثالث فى سباع الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى العقاب والبزاة والصقور والشّواهين، وأصناف ذلك، وما يتصف به كلّ طير منها وما فيه من الطبائع والعادة، وما يصيد، وما فيه من الأمارات الدّالّة على نجابته وفراهته، وغير ذلك مما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ذكر ما قيل فى العقاب يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى وليس فيه ذكر. ويسمى عند أهل اللغة «العنقاء» . وهى «عقاب» و «زمّج» . فأما العقاب فيقال: إنّ ذكورها من طير آخر لطيف الجرم. وهى تبيض فى الغالب ثلاث بيضات فيخرج لها فرخان. قال الجاحظ: ثم اختلفوا، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلّا بيضتين؛ وقال آخرون: قد تحضن ويخرج لها ثلاثة أفراخ ولكنها ترمى بالواحد استثقالا للتكليف على ثلاثة؛ وقال آخرون: ليس ذلك إلّا لما يعتريها من الضعف عند الصيد، كما يعترى النّفساء من الوهن والضعف. وهى تحضن ثلاثين يوما. وما عداها من الجوارح تبيض بيضتين فى كل سنة وتحضن عشرين يوما. قالوا: وفى طبع الذكر أنه يمتحن أنثاه هل هى محافظة له أو مؤاتية لغيره من غير جنسه، بأن يصوّب نظر فرخيه إلى شعاع الشمس، فإن ثبت عليه تحقّق أنها فراخه وأمسكها، وإن نبا بصره عن شعاع الشمس ضرب الأنثى كما يضرب الرجل المرأة الزانية وطردها من وكره ورمى بالفرخين.

والعقاب خفيفة الجناح، سريعة الطيران، فهى إن شاءت ارتفعت على كل شىء وإن شاءت كانت بقربه. يقال: إنها تتغدّى بالعراق وتتعشّى باليمن. وربما صادت حمر الوحش، وذلك أنها إذا نظرت الحمار رمت نفسها فى الماء حتى يبتلّ جناحاها، ثم تتمرّغ فى التراب وتطير حتى تقع على هامة الحمار، ثم تصفّق على عينيه بجناحيها فتملؤهما ترابا، فلا يرى الحمار أين يذهب فيؤخذ. وهى مولعة بصيد الحيّات. وفى طبعها قبل أن تتدرّب أنها لا تراوغ صيدا ولا تعنى فى طلبه، ولا تزال موفية على شرف عال؛ فإذا رأت سباع الطير قد صادت شيئا انقضّت عليه، فتتركه لها وتنجو بنفسها. ومتى جاعت لم يمتنع عليها الذئب. وهى شديدة الخوف من الإنسان. ويقال: إنها إذا هرمت وثقل جناحها وأظلم بصرها التمست غديرا؛ فإذا وجدته حلّقت طائرة فى الهواء ثم تقع من حالق فى ذلك الغدير فتنغمس فيه مرارا، فيصحّ جسمها ويقوى بصرها ويعود ريشها ناشئا إلى حالته الأولى. وهى متى ثقلت عن النهوض أو عميت حملتها الفراخ على ظهورها ونقلتها من مكان إلى آخر لطلب الصيد وتعولها إلى أن تموت. ومن عجيب ما ألهمت أنها إذا اشتكت كبدها رفعت «1» الأرانب والثعالب فى الهواء وأكلت أكبادها فتبرأ. وهى تأكل الحيّات إلّا رءوسها، والطير إلا قلوبها. قال امرؤ القيس: كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى ومنسرها الأعلى يعظم ويتعقّف حتى يكون ذلك سبب هلاكها؛ لأنها لا تنال به الطّعم إذا كان كذلك. وأوّل من صاد بها أهل المغرب. وحكى أنّ قيصر أهدى إلى كسرى عقابا، وكتب إليه: علّمها فإنها تعمل عملا أكثر من الصقور

التى أعجبتك. فأمر بها فأرسلت على ظبى عرض لها فقدّته، فأعجبه ما رأى منها؛ ثم جوّعها ليصيد بها، فوثبت على صبىّ من حاشيته فقتلته؛ فقال كسرى: غزانا قيصر فى بلادنا بغير جيش. ثم أهدى له نمرا وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظّباء «1» وما قرب منها من الوحش؛ وكتم عنه ما صنعت العقاب. فأعجب به قيصر. فغفل عنه يوما فافترس بعض فتيانه؛ فقال: صادنا كسرى؛ فإن كنّا صدناه فلا بأس. فلمّا اتّصل ذلك بكسرى قال: أنا أبو ساسان. وأجود العقاب ما جلب من سرت «2» وبلاد المغرب. وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببّغاء: ما كلّ ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب بمدرك فى الجدّ «3» والطّلاب ... أيسر ما يدرك بالعقاب شريفة الصّبغة والأنساب ... تطير من جناحها فى غاب وتستر الأرض عن السّحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب يظلّ منها الجوّ فى اغتراب ... مستوحشا للطير كالمرتاب ذكيّة تنظر من شهاب ... ذات جران «4» واسع الجلباب ومنكب ضخم أثيث «5» رابى ... ومنسر موثّق النّصاب

وأما الزمج

راحتى ليث شرى غلّاب ... نيطت إلى براثن صلاب [مرهفة أمضى من الحراب ... وكلّ ما حلّق فى الضّباب «1» ] لملكها خاضعة الرّقاب *** وأمّا الزّمّج - فهو الصّنف الثانى من العقاب، ويعدّ من خفاف الجوارح. وهو سريع الحركة شديد الوثبة. ويوصف بالغدر. ومن عادته أنه يتلقّف الطائر كما يتلّقفه البازى، ويصيد على وجه الأرض كما تصيد العقاب. ويحمد من خلقه أن يكون أحمر اللون، ولا يحمد ما قرنص «2» منه وحشيّا. وقد وصفه أبو الفرج الببّغاء فقال: يا ربّ سرب آمن لم يزعج ... غاديته قبل الصّباح الأبلج بزمّج أدلق «3» حوش «4» أهوج ... مضبّر «5» المنكب صلب المنسج «6»

ذى قصب عبل «1» أصمّ مدمج ... وجؤجؤ «2» كالجوشن «3» المدرّج وعنق سام طويل أعوج ... ومنسر أقنى فسيح مسرج منخرق المدخل رحب المخرج ... ومقلة تشفّ عن فيروزج ناظرة من لهب مؤجّج ... وهامة كالحجر المدملج ومخلب كالمعول المعوّج

ذكر ما قيل فى البازى

ذكر ما قيل فى البازى قالوا: والبازى خمسة أصناف، وهى البازى، والزّرّق، والباشق، والعفصىّ، والبيدق. فأمّا البازى - فهو الثانى من الجوارح، وهو أحرّ هذه الأصناف الخمسة مزاجا، لأنه قليل الصبر على العطش. ومأواه مساقط الشجر العاديّة الملتفّة والظلّ الظّليل ومطّرد المياه. وهو لا يتّخذ وكرا إلّا فى شجرة لها شوك. وإذا أراد أن يفرّخ بنى لنفسه بيتا وسقّفه تسقيفا جيّدا يقيه من المطر ويدفع عنه وهج الحرّ. وسبيله «1» فى البرد أن يدفأ بالنار ويجعل تحت كفّيه وبر الثعالب واللّبود؛ وفى الصيف أن يجعل فى بيت كنين «2» بارد النّسيم ويفرش له الرّيحان والخلاف «3» . وهو خفيف الجناح، سريع الطيران، يلفّ طيرانه كالتفاف الفواخت؛ «4» ويسهل عليه أن يزجّ بنفسه «5» صاعدا

وهابطا وينقلب على ظهره حتى يلتقف فريسته. والإناث منه أجرأ على عظام الطير من الذّكور. ويقال: إن الإناث إذا كان وقت سفادها يغشاها جميع أنواع الضّوارى: الزّرّق والشاهين والصّقر، وإنها تبيض من كل طائر يغشاها؛ ولهذا تجىء مختلفة الأخلاق «1» . والبازى يصيد ما بين العصفور والكركىّ «2» . ومن عادته أنه إذا أخطأ صيده رفاته وكان فى برّيّة لا شجر فيها ولّى ممعنا حتى يجد كهفا أو جدارا يأوى اليه؛ ولهذا علّق عليه الجرس ليدلّ على مكانه إذا خفى. وصفة الجيّد منه المحمود فى فعله أن يكون قليل الريش، أحمر العينين حادّهما، وأن تكونا مقبلتين على منسره وحجاجاهما «3» مطلّين عليهما، ولا يكون وضعهما فى جنبى رأسه كوضع عينى الحمام. والأزرق منه دون الأحمر العين؛ والأصفر دونهما. وسعة أشداقه تدلّ على قوّة الافتراس. ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط الى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه قصيرتين غليظتين، وأشاجع «4» كفّيه عارية، وأصابعه متفرّقة [ولا تكون مجتمعة ككفّ الغراب «5» ] ، ومخلبه أسود، ويكون طويل المنسر دقيقه. وأفخر ألوانه الأبيض ثم الأشهب، وهما لونان يدلّان على الفراهة والكرم. وأما الأسود الظهر المنقّش الصدر بالبياض والسواد فهو يدلّ على الشدّة والصّلابة. وإن اتّفق أن يكون هذا أحمر العين كان نهاية. وهذا اللون فى البزاة

كالكميت فى الخيل. والأحمر فى البزاة أخبثها. وبعض الناس يقول: أشرف البزاة الطّغرل، ثم البازى التامّ وهو الذى وصفناه آنفا. والطّغرل: طائر عزيز نادر الوقوع لا يعرفه غير التّرك، لأنه يكون فى بلاد الخزر وما والاها وما بين خوارزم إلى إرمينية، وهو يجمع صيد البازى والشاهين. وقيل: إنه لا يعقر شيئا بمخلبه إلّا سمّه. وأوّل من صاد البازى «لذريق» أحد ملوك الروم الأوّل؛ وذلك أنه رأى بازيا إذا علا كتف «1» ، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يسمو درق «2» ؛ فاتّبعه حتى اقتحم شجرة ملتفّة كثيرة الدّغل؛ فأعجبته صورته، فقال: هذا طائر له سلاح تتزيّن بمثله الملوك؛ فأمر بجمع عدّة من البزاة فجمعت وجعلت فى مجلسه. فعرض لبعضها أيم «3» فوثب عليه؛ فقال: ملك يغضب كما تغضب الملوك. ثم أمر به فنصب على كندرة «4» بين يديه؛ وكان هناك ثعلب فمرّ به مجتازا، فوثب عليه فما أفلت منه إلّا جريحا؛ فقال لذريق: هذا جبّار يمنع حماه. ثم أمر به فضرّى على الصيد؛ واتخذته الملوك بعده. وقد وصفته الشعراء والأدباء؛ فمن ذلك قول الناشى: لما تعرّى الليل عن أنساجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه غدوت أبغى الصيد من منهاجه ... بأقمر أبدع فى نتاجه ألبسه الخالق من ديباجه ... ثوبا كفى الصانع من نساجه

حال من الساق إلى أوداجه «1» ... وشيا يحار الطّرف فى اندراجه فى نسق منه وفى انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه «2» بزينة كفته عزّ تاجه ... منسره يثنى على خلاجه وظفره يخبر عن علاجه ... لو استضاء المرء فى إدلاجه بعينه كفته عن سراجه وقال ابن المعتزّ يصف عين البازى: ومقلة تصدقه إذا رمق «3» ... كأنها نرجسة بلا ورق وقال أيضا فيه: وفتيان غدوا والليل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافها صدأ الدّروع وقال أيضا: ومنسر عضب الشباة دامى ... كعقدك الخمسين بالإبهام «4» وخافق للصّيد ذى اصطلام ... ينشره للنّهض والإقدام كنشرك البرد على المستام

ووصفه أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال من رسالة: «طائر يستدلّ بظاهر صفاته، على كرم ذاته؛ طورا ينظر نظر الخيلاء فى عطفه كأنما يزهى جبّار، وتارة يرمى نحو السماء بطرفه «1» كأنما له هناك اعتبار. وأخلق به أن ينقضّ على قنيصه شهابا، ويلوى به ذهابا، ويحرقه توقّدا والتهابا. وقد أقيم له سابغ الذّنابى والجناح، كفيلين فى مطالبه بالنّجاح. جيّد العين والأثر، حديد السمع والبصر. يكاد يحسّ بما يجرى ببال، ويسرى من خيال. قد جمع بين عزّة مليك، وطاعة مملوك. فهو بما يشتمل عليه من علوّ الهمه، ويرجع إليه بمقتضى الحدمه؛ مؤهّل لإحراز ما تقتضيه شمائله، وإنجاز ما تعدبه مخايله. وخليق بمحكم تأديبه، وجودة تركيبه؛ أن لو مثل له النجم قنصا، أو جرى [بذكره «2» ] البرق قصصا؛ لاختطفه أسرع من لحظه، وأطوع من لفظه؛ وانتسفه «3» أمضى من سهم، وأجرى من وهم. وقد أقسم بشرف جوهره، وكريم عنصره؛ لا يوجّه مسفّرا، إلا غادر قنيصه معفّرا، وآب إلى يد من أرسله مظفّرا؛ مورّد المخلب والمنقار، كأنما اختضب بحنّاء أو كرع فى عقار» . [وله من أبيات يمدح «4» بها] : طرد القنيص بكلّ «5» قيد طريدة ... زجل «6» الجناح مورّد الأظفار

وأما الزرق

علتفّة أعطافه بحبيرة «1» ... مكحولة أجفانه بنضار يرمى به الأمد البعيد فينثنى ... مخضوب راء الظّفر والمنقار *** وأما الزّرّق - وهو الصّنف الثانى من البازى. هو باز لطيف، إلا أن مزاجه أحرّ وأيبس، وهو لذلك أشدّ جناحا وأسرع طيرانا وأقوى إقداما. وفيه ختل وخبث؛ وذلك أنه إذا أرسل على طائر طار فى غير مطاره ثم عطف عليه وأظهر الشدّة بعد اللين. وخير ألوانه الأسود الظهر الأبيض الصدر الأحمر العين. ووصفه المحمود منه أن يكون أعدلها خلقا، وأقلّها ريشا، وأثقلها محملا، وأملأها فخذا، وأرحبها شدقا، وأوسعها عينا، وأصغرها رأسا، وأصفاها حدقة، وأطولها عنقا، وأقصرها خافية، وأشدّها لحما، وأن يكون أخضر الرجلين، وسيع المخالب، متعرّيا «2» من اللحم. والله أعلم. *** وأمّا الباشق - وهو الصنف الثالث من البازى. وهو أحرّ وأيبس من الزّرّق، وهو هلع قلق ذعر، يأنس وقتا ويستوحش وقتا. ونفسه قويّة جافية «3» . فإذا أنس منه الصغير بلغ منه كلّ المراد. وأجود الباشق ما أخذ فرخا لم يلق من قوادمه ريشة. وهو متى تمّ تأنيسه وجد منه باز خفيف المحمل ظريف الشمائل. ومن صفاته المحمودة أن يكون صغير المنظر، ثقيل المحمل، طويل الساقين والفخذين، عظيم السّلاح بالنسبة إلى جسمه.

وقال بعض الشعراء يصفه: إذا بارك الله فى طائر ... فخصّ من الطير إسبهرقى له هامة كلّلت باللّجين ... فسال اللّجين على المفرق يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما نقطتا زئبق واشرب لونا له مذهبا ... كلون الغزالة فى المشرق حمام الحمام وحتف القطا ... وصاعقة القبج والعقعق وأحنى عليك إلى أن يعود ... إليك من الوالد «1» المشفق فأكرم به وبكفّ الأمير ... وبالدّستبان «2» إذا يلتقى وقال أبو الفتح كشاجم: يسمو فيخفى فى الهواء وينكفى ... عجلا فينقضّ انقضاض الطارق وكأن جؤجؤه وريش جناحه ... خضبا «3» بنقش يد الفتاة العاتق «4» وكأنما سكن الهوى أعضاءه ... فأعارهنّ نحول جسم العاشق ذا مقلة ذهبيّة فى هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق ومخالب مثل الأهلّة طالما ... أدمين كفّ البازيار الحاذق وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالرّيح فى الأسماع أو كالبارق

وأما العفصى

وإذا دعاه البازيار رأيته ... أدنى وأطوع من محبّ وامق وإذا القطاة تخلّفت من خوفه ... لم يعد أن يهوى بها من حالق ومن رسالة لبعض فضلاء الأندلس، جاء منها: «كأنما اكتحل بلهب، أو انتعل بذهب. ملتفّ فى سبره «1» ، وملتحف بحبره. من سيوفه منقاره، ومن رماحه أظفاره. ومن اللواتى تتنافس الملوك فيها، تمسكها عجبا بها وتيها. فهى على أيديها آية باديه، ونعمة من الله ناميه. تبذل لك الجهد صراحا، وتعيرك فى نيل بغيتك جناحا. وتتّفق معك فى طلب الأرزاق، وتأتلف بك على اختلاف الخلق والأخلاق. ثم تلوذ بك لياذ من يرجوك، وتفى لك وفاء لا يلتزمه لك ابنك ولا أخوك» . ثم ذكر حمامة صادها، فقال: «اختطفها أسرع من اللّحظ، ولا محيد لها عنه، وانحدر بها أعجل من اللّفظ، وكأنها هى منه؛ ثم جعل يتناولها بعقد السبعين، ويدخلها فى أضيق من التسعين «2» . وكان لها موتا عاجلا، وكانت له قوتا حاصلا» . والله الهادى للصواب. *** وأمّا العفصىّ - وهو الصنف الرابع من البازى. وهو من الباشق كالزّرّق من البازى، إلا أنه أصغر الجوارح نفسا، وأضعفها حيلة، وأشدّها ذعرا، وأيبسها مزاجا. وربما صاد العصفور وتركه لخوفه وحذره. ومن عادته أنه يرصد الطير

وأما البيدق

أيام حضانه «1» ، فإذا طار عن وكره خلفه فيه وكسر بيضه ورماه وباض مكانه وطار عنه فيحضنه صاحب الوكر؛ فهو أبدا لا يحضن ولا يربّى. *** وأمّا البيدق - وهو الصنف الخامس من البازى، وهو لا يصيد غير العصافير. وقد وصفه كشاجم فقال: حسبى من البزاة والزّرارق «2» ... ببيدق يصيد صيد الباشق مؤدّب مدرّب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق يسبق فى السّرعة كلّ سابق ... ليس له عن «3» صيده من عائق ربّيته وكنت عين الواثق «4» ... أنّ الفرازين «5» من البيادق

ذكر ما قيل فى الصقر

ذكر ما قيل فى الصقر والصقر ثلاثة أصناف، وهى صقر، وكونج، ويؤيؤ. فأمّا الصقر - فهو النوع الثالث من الجوارح. والعرب تسمّى كل طائر يصيد صقرا، ما خلا النّسر والعقاب، وتسمّيه «الأكدر» و «الأجدل» . وهو من الجوارح بمنزلة البغال من الدّوابّ، لأنه أصبر على الشدّة وأشدّ إقداما على جلّة الطير كالكراكىّ والحبارج «1» . قالوا: ومزاجه أبرد من سائر ما تقدّم ذكره من الجوارح وأرطب. وهو يضرّى على الغزال والأرنب ولا يضرّى على الطير لأنها تفوته. وفعله فى صيده الانقضاض «2» والصّدم. وهو غير صافّ «3» بجناحه ولا خافق به. ومتى خفق بجناحه كانت حركته بطيئة بخلاف البازى. ويقال: إنه أهدأ نفسا من البازى، وأسرع أنسا بالناس «4» ، وأكثر رضا وقناعة. وهو يغتذى بلحوم ذوات الأربع. وهو يعاف المياه ولا يقربها، وذلك لبرد مزاجه. وفى طبعه أنه لا يركب الأشجار ولا الشوامخ من الجبال، ولا يأوى إلّا المقابر والكهوف وصدوع الجبال. وهو ينقى بالتّمعّك «5» فى الرّمل والتراب. ومن صفاته المحمودة الدّالّة على نجابته وفراهته: أن يكون أحمر اللّون، عظيم الهامة، واسع العينين، تامّ المنسر، طويل العنق والجناحين، رحب الصدر، ممتلئ

الزّور، عريض الوسط، جليل الفخذين، قصير الساقين والذّنب، قريب القفدة «1» من الفقار، سبط الكفّ، غليظ الأصابع فيروزجها، أسود اللسان. والله الموفّق. وأوّل من صاد بالصقر وضرّاه الحارث بن معاوية بن ثور بن كندة. وسبب ذلك أنه وقف فى بعض الأيّام على صيّاد قد نصب شبكة للعصافير؛ فانقضّ أكدر على عصفور قد علق فى الشبكة فجعل يأكله وقد علق الأكدر واندقّ جناحاه، والحارث ينظر إليه ويعجب من فعله؛ فأمر به فحمل فرمى به فى كسر بيت ووكّل به من يطعمه؛ وأنس الصقر بالموكّل به، حتى صار إذا جاءه باللحم ودعاه أجاب؛ ثم صار يطعمه على يده وصار يحمله. فبينما هو يوما حامله إذ رأى حمامة، فطار عن يده إليها فأخذها وأكلها. فأمر الحارث عند ذلك باتّخاذها وتدريبها والتصيّد بها. فبينا هو يسير يوما إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها وأخذها؛ فلما رآه يصيد الطير والأرانب ازداد به إعجابا واغتباطا. واتخذته العرب بعده. ووصفه الشعراء؛ فمن ذلك ما قاله كشاجم يصفه: غدونا وطرف النجم وسنان غائر ... وقد نزل الإصباح والليل سائر «2» بأجدل من حمر الصقور مؤدّب ... وأكرم ما قرّبت منها «3» الأحامر «4» جرىء على قتل الظّباء وإنّنى ... ليعجبنى أن يكسر الوحش طائر قصير الذّنابى والقدامى كأنّها ... قوادم نسر أو سيوف بواتر

ورقّش منه جؤجؤ فكأنّه ... أعارته إعجام الحروف الدّفاتر فما زلت بالإضمار حتى صنعته ... وليس يحوز السبق إلّا الضّوامر وتحمله منّا أكفّ كريمة ... كما زهيت «1» بالخاطبين المنابر وعنّ لنا من جانب السّفح ربرب ... على سنن تستنّ منه الجاذر فجلّى «2» وحلّت عقدة السير فانتحى «3» ... لأوّلها إذ أمكنته الأواخر يحثّ جناحيه على حرّ وجهها «4» ... كما فصّلت فوق الخدود المعاجر «5» وما تمّ رجع الطّرف حتى رأيتها ... مصرّعة تهوى إليها الخناجر وقال عبد الله بن المعتزّ: وأجدل يفهم نطق الناطق ... ململم «6» الهامة فخم العاتق أقنى المخاليب طلوب مارق ... كأنها نونات كفّ ماشق ذى جؤجؤ لابس وشى رائق ... كمبتدا اللّامات فى المهارق «7» أو كامتداد الكحل فى الحمالق ... ونجّمت باللّحظ عين الرامق عشرا من الإوزّ فى غلافق «8» ... فمرّ كالرّيح بعزم صادق

وأما الكونج

حتى دنا منهنّ مثل السارق ... ثم علاها بجناح خافق فطفقت من هالك أو فائق «1» وقال أيضا: وأجدل لم يخل من تأديب ... يرى بعيد الشىء كالقريب يهوى هوىّ الدّلو فى القليب ... بناظر مستعجم مقلوب كناظر الأقبل «2» ذى التّقطيب ... رأى إوزّا فى ثرى رطيب «3» فطار كالمستوهل المرعوب ... ينفذ فى الشمال والجنوب *** وأمّا الكونج - وهو الصنف الثانى من الصقر. ويسمّى بمصر والشأم السّقاوية «4» . ونسبته من الصقر كنسبة الزّرّق من البازى، إلا أنه أحرّ منه؛ ولذلك هو أخفّ منه جناحا. وهو يصيد الأرنب، ويعجز عن الغزال لصغره؛ ويصيد أشياء من طير الماء. وشدّة نفسه أقلّ من شدّة بدنه؛ ولأجل ذلك هو أطول فى البيوت لبثا، وأصبر على مقاساة الشقاء من الصقر. وفى وصفه يقول بعض الشعراء: إن لم يكن صقر فعندى كونج ... كأنّ نقش ريشه المدرّج برد من الموشىّ أو مدبّج ... فكم به للطير قلب مزعج ممزّق بدمه مضرّج ... بمثله عنّا الهموم تفرج

وأما اليؤيؤ

وأمّا اليؤيؤ - وهو الصّنف الثالث من الصقر. ويسمّيه أهل مصر والشأم «الجلم» لخفّة جناحيه وسرعتهما. وهو طائر قصير الذّنب. ومزاجه بالإضافة الى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفسا وأثقل حركة. ويشرب الماء شربا ضروريّا كما يشربه الباشق. ومزاجه بالنسبة الى الصقر حارّ يابس، ولذلك هو أشجع منه، لأنه يتعلّق بما يفترسه، ويصيد ما هو أجلّ منه كالدّرّاج. ويقال: إنّ أوّل من صاد به واتّخذه للّعب بهرام «1» جور؛ وذلك أنه شاهد يؤيؤا يطارد قبّرة ويراوغها ويرتفع معها إلى أن صادها؛ فأعجبه واتخذه وصاد به. وقال عبد الله النّاشى يصفه: ويؤيؤ مهذّب رشيق ... كأنّ عينيه «2» على التحقيق فصّان مخروطان من عقيق وقال أبو نواس: قد «3» أغتدى والصبح فى دجاه ... كطرّة البرد «4» على مثناه بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما فى اليآيى يؤيؤ شرواه «5»

ذكر ما قيل فى الشاهين

أزرق لا تكذبه عيناه ... فلو يرى القانص ما يراه [فدّاه بالأمّ وقد فدّاه «1» ] وقال أبو اسحاق الصّابى يصفه من رسالة: «وكم من قبّر «2» أطلقنا عليه يؤيؤا «3» لنا فعرج إلى السماء عروجا، ولجّج فى أثره تلجيجا؛ فكان «4» ذلك يعتصم منه بالخلّاق، وهذا يستطعمه من الرّزّاق؛ حتى غابا عن النّظّار، واحتجبا عن الأبصار؛ وصارا كالغيب «5» المرجّم، والظنّ المتوهّم؛ ثم خطفه ووقع «6» به وهما كهيئة الطائر الواحد؛ فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما» . ذكر ما قيل فى الشاهين والشاهين ثلاثة أصناف، وهى شاهين، وأنيقى، وقطامىّ. فأما الشاهين - واسمه بالفارسية شوذانه، فعرّبته العرب على ألفاظ شتّى منها: شوذانق وشوذق وشوذنيق وشيذنوق «7» . ويقال: إنه من جنس الصقر إلا أنه أبرد منه وأيبس؛ ولذلك تكون حركته من العلو إلى السّفل شديدة. وليس يحلّق

فى طلب الصّيد على خطّ مستقيم إنما يحوم لثقل «1» جناحه، حتى إذا سامت الفريسة انقضّ عليها هاويا من علو فضربها وفارقها صاعدا؛ فإن سقطت على الأرض أخذها، وإن لم تسقط أعاد ضربها [لتسقط «2» ] ؛ وذلك دليل على جبنه وفتور نفسه وبرد مزاج قلبه. ومع ذلك كلّه فهو أسرع الجوارح وأخفّها وأشدّها ضراوة على الصيد. إلّا أنهم عابوه بالإباق وبما يعتريه من الحرص؛ حتى إنه ربما ضرب بنفسه الأرض فمات. ويزعمون أنّ عظامه أصلب من عظام سائر الجوارح؛ ولذلك هو يضرب بصدره ويعلق بكفّه. وقال بعض من تكلّم فى هذا النوع: الشاهين كاسمه. يريد [شاهين «3» ] الميزان؛ [لأنه «4» ] لا يحتمل أدنى حال من الشّبع ولا أيسر حال من الجوع. والمحمود من صفاته: أن يكون عظيم الهامة، واسع العينين حادّهما، تامّ المنسر، طويل العنق، رحب الصدر، ممتلئ الزّور، عريض الوسط، جليل «5» الفخذين، قصير الساقين، قريب القفدة «6» من الظهر، قليل الرّيش ليّنه، تامّ الخوافى، دقيق الذّنب، إذا صلّب عليه «7» جناحيه لم يفضل عنهما شىء منه. فإذا كان كذلك فهو يقتل الكركىّ [ولا يفوته «8» ] . وزعم بعضهم «9» أنّ السّود من الشواهين هى المحمودة؛ وأن السواد أصل لونها، وإنما أحالته التّربة. ويكون فى الشواهين الملمّع. والله أعلم.

وأوّل من صاد بالشّواهين قسطنطين [ملك عمّوريّة «1» ] . حكى أنه خرج يوما يتصيّد، حتى إذا أتى إلى مرج فسيح نظر إلى شاهين ينكفئ على طير الماء؛ فأعجبه ما رأى من سرعته وضراوته وإلحاحه على صيده، فأخذه وضرّاه؛ ثم ريضت له الشّواهين بعد ذلك وعلّمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظلّه من الشمس؛ فكانت تنحدر مرّة وترتفع أخرى، فإذا نزل وقعت حوله. وقد وصف الشعراء الشواهين وشبّهوها؛ فمن ذلك قول النّاشى: هل لك يا قنّاص فى شاهين ... شوذانق مؤدّب أمين جاء به السائس من رزين «2» ... ضرّاه بالتّخشين والتّليين حتى لأغناه عن التلقين ... يكاد للتثقيف والتّمرين يعرف معنى الوحى بالجفون ... يظلّ من جناحه المزين فى قرطق «3» من خزّه الثمين ... يشبه من طرازه المصون برد أنوشروان أو شيرين «4» ... أحوى مجارى الدّمع والشؤون ذى منسر مؤلّل مسنون ... واف كشطر الحاجب المقرون منعطف مثل انعطاف النون ... يبدى اسمه معناه للعيون وقال أبو الفتح كشاجم وبدأ بالكركىّ: يا ربّ أسراب من الكراكى ... مطمعة السكون فى الحراك بعيدة المنال والإدراك ... كدر وبيض اللّون كالأفناك «5»

وأما الأنيقى

تقصر عنها أسهم الأتراك ... ذعرن «1» قبل لغط المكاكى «2» وقبل تغريد الحمام الباكى ... بفاتك يربى على الفتّاك مؤدّب الإطلاق والإمساك ... ململم الهامة كالمداك «3» مثل الكمىّ فى السّلاح الشّاكى ... ذى منسر ضخم له شكّاك ومخلب بحدّه بتّاك «4» ... للحجب عن قلوبها هتّاك حتى إذا قلت له دراك ... وحلّقت تسمو إلى الأفلاك ممتدّة الأعناق والأوراك ... موقنة بعاجل الهلاك غادرها تهوى على الدّكاك «5» ... أسرى بكفّيه بلا فكاك يا غدوات الصيد ما أحلاك ... ومنّة الشاهين ما أقواك لم تكذبى فراسة الأملاك ... إيّاك أعنى مادحا إيّاك *** وأمّا الأنيقىّ - وهو الصّنف الثانى من الشاهين. وتسميه أهل العراق الكرّك. وهو دون الشاهين فى القوّة، إلا أنّ فيه سرعة. وهو يصيد العصافير. وفيه يقول الشاعر: غنيت عن الجوارح بالأنيقى ... بمثل الرّيح أو لمع البروق أصبّ به على العصفور حتفا ... فأرميه بصخرة منجنيق

وأما القطامى

وأمّا القطامىّ - وهو الصّنف الثالث من الشاهين، وتسميه أهل العراق «البهرجة» . يقال: إنه فى طبع الشاهين، والعرب تخالف ذلك، وتسمّى بعض الصقور القطامىّ؛ والمعتنون بالجوارح يخالفونهم فى ذلك. فصل وممّا ناسب الجوارح فى الافتراس وأكل اللحم الحىّ «الصّرد» ، ويسمّى «الشّقرّاق» «1» و «الأخطب» و «الأخيل» . وقيل: إنّ من أسمائه «الواق» «2» وبعضهم يسمّيه «بازى العصافير» . [وهو طائر مولّع بسواد وبياض، ضخم المنقار «3» ] . وفى طبعه شره وشراسة وسرقة لفراخ غيره ونفور من الناس. وهو [يصيد الحيّات «4» و] يغتذى باللّحم، ويأوى الأشجار ذوات الشّوك وفى رءوس التّلاع، حذرا على نفسه [ممن يصيده «5» ] . وهو يتحيّل فى صيد ما دونه من الطير كالعصفور «6» . هذا ما ظفرت به فى أثناء المطالعة من سباع الطير ممّا تكلّم عليه أرباب هذا الفن. وقد أهملوا أصنافا ، منها ما هو أجلّ من جميع ما ذكرناه، وهو «السّنقر» .

والسنقر

والسّنقر - طائر شريف، حسن الشّكل، أبيض اللّون بنقط سود. والملوك تتغالى فيه وتشتريه بالثمن الكثير. وكان فيما مضى من السنين القريبة يشترى من التّجار بألف دينار؛ ثم تناقص ثمنه حتى استقرّ الآن بخمسة آلاف درهم. ولهم عادة: أنّ التّجار إذا حملوه وأتوا به من بلاد الفرنج فمات منهم فى الطريق قبل وصولهم أحضروا ريشه إلى أبواب الملوك، فيعطون نصف ثمنه إذا أتوا به حيّا؛ كل ذلك ترغيبا لهم فى حملها ونقلها إلى الديار المصريّة. وهذا الطير لا يشتريه غير السلطان ولا يلعب به غيره من الأمراء إلا من أنعم السلطان عليه به. والله أعلم. وممّا أهملوا الكلام فيه «الكوهيّة» و «الصيفيّة» و «الزغزغى» ، وهو يعدّ من أصناف الصقر. ولم أجد من أثق بنقله وعلمه بهذه الأصناف فأنقل عنه أخلاقها وطبائعها وعاداتها. وقال أبو إسحاق الصابى فى وصف الجوارح من رسالة طرديّة جاء منها: «وعلى أيدينا جوارح مؤلّلة المخالب والمناسر، مذرّبة «1» النّصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر؛ بعيدة المرامى والمطارح؛ ذكيّة القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس؛ سابغة الأذناب، كريمة الأنساب؛ صلبة «2» الأعواد، قويّة الأوصال؛ تزيد إذا ألحمت «3» شرها وقرما، وتتضاعف إذا أشبعت كلبا ونهما. ثم خرج إلى وصف الحمام فقال: «فلما أوفينا عليها، أرسلنا الجوارح إليها؛ كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا؛ فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا» .

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطير

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثالث فى كلاب الطّير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى النّسر، والرّخم، والحدأة، والغراب. وإنما سمّيت هذه الأصناف بالكلاب لأنها تأكل الميتة والجيف وتقصدها وتقع عليها، فهى فى ذلك شبيهة بالكلاب. ذكر ما قيل فى النّسر والنّسر ذو منسر وليس بذى محلب، وإنما له أظفار حداد [كالمخالب. وهو يسفد كما يسفد الديك «1» ] . وزعم من تكلّم فى طبائع الحيوان أنّ الأنثى من هذا النوع تبيض من نظر الذّكر إليها، وأنها لا تحضن [بيضها «2» ] وإنما تبيض فى الأماكن العالية التى يقرعها حرّ الشمس وهجيرها، فيقوم ذلك للبيض مقام الحضن. والنّسر يوصف بحدّة حاسّة البصر؛ حتى إنه يقال: إنه يرى الجيفة عن مسافة أربعمائة فرسخ. وكذلك حاسّة الشّمّ؛ إلا أنّه إذا شمّ الطّيب مات. وهو أشدّ الطير طيرانا وأقواها جناحا؛ حتى زعموا أنه يطير ما بين المشرق والمغرب فى يوم واحد. وهذا القول أراه من التّغالى فيه. وسائر الجوارح تخافه. وهو [شره نهم رغيب «3» ] ؛ إذا سقط على الجيفة وامتلأ منها لم يستطع عند ذلك الطيران

ذكر ما قيل فى الرخم

حتى يثب عدّة وثبات يرفع فيها نفسه فى الهواء طبقة بعد طبقة حتى تدخل تحته الرّيح. ومن أصابه بعد امتلائه وأعجله عن الوثوب أمكنه ضربه إن شاء «1» بعصا وإن شاء بغيرها. قالوا: والأنثى تخاف على بيضها وفراخها من الخفّاش فتفرش فى وكرها ورق الدّلب «2» ليفرّ منه. والنّسر أشدّ الطير حزنا على [فراق «3» ] إلفه؛ يقال: إن الأنثى إذا فقدت الذّكر امتنعت عن الطّعم أياما ولزمت الوكر؛ وربما قتلها الحزن. وهو طويل العمر؛ يقال: إنه يعمّر ألف سنة. وفيه ألوان: منها الأسود البهيم، والأربد وهو لون الرّماد، والأكدر مثله. وهو يتبع الجيوش طمعا فى الوقوع على جيف القتلى والدّوابّ. ذكر ما قيل فى الرخم يقال: إنّ لئام الطير ثلاثة: الغربان، والبوم، والرّخم. والرخمة تلتمس لبيضها المواضع البعيدة والأماكن الوحشية والجبال الشامخة وصدوع الصخر؛ ولذلك يضرب المثل ببيض الأنوق. قال الشاعر: طلب الأبلق «4» العقوق فلمّا ... لم ينله أراد بيض الانوق والرّخم من أحبّ الحيوان فى العذرة، لا شىء يحبّها كحبّه إلّا الجعل. وقال المفضّل لمحمد بن سهل: إنّا لا نعرف طائرا ألأم لؤما ولا أقذر طعمة ولا أظهر

موقا من الزّحمة. فقال محمد بن سهل: وما حمقها وهى تحضن بيضها، وتحمى فراخها، وتحبّ ولدها، ولا تمكّن إلّا زوجها، وتقطع فى أوّل القواطع «1» ، وترجع فى أوّل الرّواجع، ولا تطير فى التّحسير «2» ، ولا تغترّ بالشّكير، ولا تربّ «3» بالوكور، ولا تسقط على الجفير!. قال الجاحظ: أمّا قوله: «تقطع فى أوّل القواطع وترجع فى أوّل الرّواجع» ، فإنّ الرّماة وأصحاب الحبائل والقنّاص إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا أنّ القواطع قد قطعت، فبقطع الرخمة يستدلّون، فلا بدّ للرّخمة من أن تنجو سالمة إذ كانت أوّل طالع عليهم. وأمّا قوله: «ولا تطير فى التّحسير ولا تغترّ بالشّكير» ؛ فإنها تدع الطيران أيام التحسير، فإذا نبت الشّكير وهو أوّل ما ينبت من الريش فإنها لا تنهض حتى يصير الشكير قصبا. وأما قوله: «ولا تربّ بالوكور» ، فإن الوكور لا تكون إلا فى عرض الجبل، وهى لا ترضى إلا بأعالى الهضاب ثم بمواضع الصّدوع وخلال الصخور حيث يمتنع على جميع الخلق المصير إلى أفراخها؛ ولذلك قال الكميت: ولا تجعلونى فى رجائى ودّكم ... كراج على بيض الأنوق احتبالها «4» وأمّا قوله: «ولا تسقط على الجفير» ، فإنما يعنى جعبة السهام. يقول: إذا رأته علمت أنّ هناك سهاما فلا تسقط فى موضع تخاف فيه وقع السّهام.

ذكر ما قيل فى الحدأة

قال: والرّخم من الطير التى تتبع الجيوش والحجّاج لما يسقط من كسرى «1» الدّوابّ. وإذا فقدت الميتة عمدت إلى العظم فحملته وارتفعت به فى الهواء ثم تلقيه فيقع على الصخور فينكسر فتأكل ما فيه. والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى الحدأة قالوا: والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثا وخرج منها ثلاثة أفرخ. وهى تحضن عشرين يوما. ومن ألوانها الأسود والأربد. ويقال: إنها لا تصيد وإنما تخطف. وهى تقف فى الطيران، وليس ذلك لغيرها من الكواسر، وزعم ابن وحشيّة: أنّ العقاب والحدأة يتبدّلان، فتصير الحدأة عقابا والعقاب حدأة. وهذا أراه من الخرافات. ويقال: إنّ الحدأة من جوارح سليمان عليه السلام وإنها امتنعت من أن تؤلّف أو تملك لغيره، لأنها من الملك الذى لا ينبغى لأحد من بعده. وهى لا تختطف إلا من يمين من تختطف منه دون شماله. وليس فيها لحم، وإنما عظام وعصب وجلد وريش. ولم أقف على شعر فيها فأضعه. ذكر ما قيل فى الغراب قالوا: والغراب أصناف، وهى «الغداف» و «الزّاغ الأكحل» و «الزاغ الأورق» . والغراب يحكى جميع ما يسمعه، وهو فى ذلك أعجب من الببّغاء. ويقال: إنّ متولّى ثغر الإسكندريّة أهدى إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس غرابا أبيض؛ وهو غريب نادر الوقوع. ويقال فى صوت الغراب: نغق ينغق نغيقا، ونعب ينعب نعيبا. فإذا مرّت عليه السنون الكثيرة وغلظ صوته

قيل فيه: شحج يشحج شحيجا. وفى طبعه الاستتار عند السّفاد وهو يسفد مواجهة «1» ، ولا يعود إلى الأنثى إذا سفدها أبدا، وذلك لقلّة وفائه. قال الجاحظ: واذا خرج الفرخ حضنته الأنثى دون الذكر، ويأتيها الذّكر بالطّعم. قال: والغراب من لئام الطير وليس من كرامها، ومن بغاثها وليس من أحرارها، ومن ذوات المخالب المعقّفة والأظفار الجارحة، ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر؛ وهو مع ذلك قوىّ البدن، لا يتعاطى الصيد، وربما راوغ العصفور. ولا يصيد الجرادة إلا أن يلقاها فى سدّ «2» من جراد. وهو إن أصاب جيفة نال منها وإلا مات هزالا. ويتقمّم كما تتقمّم بهائم الطير وضعافها. وليس ببهيمة لمكان أكله الجيف؛ وليس بسبع لعجزه عن الصيد. قال: وهو إمّا أن يكون حالك السواد شديد الاحتراق، ويكون مثله من الناس الزّنج لأنهم شرار الناس وأردأ الخلق تركيبا ومزاجا، فلا تكون له معرفة ولا جمال؛ وإما أن يكون أبقع فيكون اختلاف تركيبه وتضادّ أعضائه دليلا على فساد أمره. والبقع ألأم من السّود وأضعف. قال: ومن الغربان غراب الليل، وهو الذى ترك أخلاق الغربان وتشبّه بأخلاق البوم. وقد رأيت أنا ببلنياس «3» - وهى على ساحل البحر الرومىّ- غربانا كثيرة جدّا، فإذا كان وقت الفجر صاحت كلّها صياحا عظيما مزعجا؛ فهم يعرفون طلوع الفجر بصياحها.

قال: ومنها غراب البين؛ وهو نوعان: أحدهما غربان صغار معروفة بالضّعف واللؤم. والآحر إنما لزمه هذا الاسم لأنّ الغراب إذا بان أهل الدار للنّجعة وقع فى مواضع بيوتهم يتلمّس ويتقمّم، فتشاءموا به وتطيّروا منه، إذ كان لا يلمّ بمنازلهم إلا إذا بانوا منها؛ فسمّوه غراب البين. ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزّجر والطّيرة، وعلموا أنه نافذ البصر صافى العين، فسمّوه الأعور؛ من أسماء الأضداد. قال: والغدفان جنس من الغربان؛ وهى لئام جدّا. ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقّوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. والعرب يتعايرون بأكل لحوم الغربان. وفى ذلك يقول وعلة الجرمىّ «1» : فما بالعار ما عيّرتمونا ... شواء النّاهضات مع الخبيص «2» فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان «3» أنهار البريص «4» والغربان من الأجناس التى تقتل فى الحلّ والحرم، وسمّيت بالفسق. قال الجاحظ: وبالبصرة من شأن الغربان ضروب من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات كان عندهم من أجود الطّلّسمات؛ وذلك أنّ الغربان تقطع إلينا فى الخريف فترى النخيل وبعضها مصروم وعلى كل نخلة عدد كثير من الغربان؛

وليس فيها شىء يقرب نخلة واحدة من النخيل التى لم تصرم ولو لم يبق عليها إلا عذق واحد. قال: فلو أنّ الله تعالى أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها التمر لذهب جميعه. فإذا صرموا ما على النخلة تسابق الغربان إلى ما سقط من التمر فى جوف القلب «1» وأصول الكرب «2» تستخرجه وتأكله. ومما يتمثّل به فى الغراب: يقولون: «أحذر من غراب» . و «أصحّ من غراب» . و «أصفى نظرا من غراب» . و «أسود من غراب» . ومما وصفت به الغربان- فمن ذلك قول عنترة: حرق «3» الجناح كأن لحيى رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع وقال الطّرمّاح بن حكيم: وجرى ببينهم غداة تحمّلوا ... من ذى الأثارب شاحج يتعبّد «4» شنج «5» النّسا أدفى «6» الجناح كأنه ... فى الدار إثر الظاعنين مقيّد

وقال أبو يوسف بن هارون الزّيادىّ الأندلسىّ: أبا حاتم ما أنت حاتم طيّئ ... وما أنت إلا حاتم الحدثان خطبت ففرّقت الجميع بلكنة ... فما الظنّ لو تعطى بيان لسان كأنّهم من سرعة البين أودعوا ... جناحيك واستحثثت «1» للطيران وقال أحمد بن فرج الجبّائى: أمّا الغراب فمؤذن بتغرّب ... وشكا «2» فصدّق بالنّوى أو كذّب داجى القناع كأن فى إظلامه ... إظلام يوم تفرّق وتغرّب

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الثالث فى بهائم الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى «الدّرّاج» و «الحبارى» و «الطاوس» و «الدّيك» و «الدّجاج» و «الحجل» و «الكركىّ» و «الإوزّ» و «البطّ» و «النّحام» «1» و «الأنيس» و «القاوند» و «الخطّاف» و «القيق» و «الزّرزور» و «السّمانى» و «الهدهد» و «العقعق» و «العصافير» . قال الجاحظ: والبهيمة من الطير ما أكل الحبّ خالصا. فأمّا الدّرّاج وما قيل فيه - قال الجاحظ: إنه يبيض بين العشب، ولا سيما فيما طال منه والتوى. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: لحم الدّرّاج أفضل من الفواخت وأعدل وألطف وأيبس. قال: وهو يزيد فى الدّماغ والفهم، ويزيد فى المنىّ. وقال أبو طالب المأمونىّ: قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الرّبيع بل هى أحسن فى رداء من جلّنار وآس ... وقميص من ياسمين وسوسن وقال آخر: صدور من الدّرّاج نمّق وشيها ... وصلن بأطراف اللّجين السّواذج وأحداق تبر فى خدود شقائق ... تلألأ حسنا كاشتعال المسارج

وأما الحبارى وما قيل فيه

وأذناب طلع فى ظهور ملاعق ... مجزّعة الأعطاف صهب الدّمالج فإن فخر الطاوس يوما بحسنه ... فلا حسن إلّا دون حسن الدّرارج *** وأمّا الحبارى وما قيل فيه - وتسمّيه أهل مصر الحبرج «1» . قال الجاحظ: والحبارى أشدّ الطير طيرانا وأبعدها «2» سقطا وأطولها شوطا وأقلّها عرجة «3» ؛ وذلك أنه يصاد بالبصرة فيشقّ عن حوصلته بعد الذّبح فتوجد فيها الحبّة الخضراء لم تتغيّر ولم تفسد؛ والحبّة الخضراء من شجر البطم «4» ومنابتها جبال الثغور الشاميّة. والحبارى له خزانة بين دبره وأمعائه، لا يزال فيها سلح رقيق لزج؛ فمتى ألحّ عليه جارح ذرق عليه فتمعّط «5» ريشه. ولذلك يقال: الحبارى سلاحه سلاحه. قال الشاعر: وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأى صقرا وأشرد من نعام وهو يغتذى بسلحه إذا جاع. ويقال: الحبارى دجاجة البرّ تأكل كل ما دبّ حتى الخنافس؛ فلذلك يعاف أكله. ووصف أبو نواس الحباريات فقال: يخطرن فى برانس قشوب ... من حبر ظوهرن بالتّذهيب فهنّ أمثال النّصارى الشّيب

وأما الطاوس وما قيل فيه

وأما الطاوس وما قيل فيه - فهو ألوان منها الأخضر، والأرقط، والأبيض؛ ويوجد فى كلها الخيلاء. ولا تعرف هذه الألوان إلا فى بلاد الزّابج. وفى طبع الطاوس الخيلاء والإعجاب بريشه. والأنثى تبيض بعد أن يمضى من عمرها ثلاث سنين. ولا يحصل التلوّن فى ريش الذّكر إلا بعد مضىّ هذه المدّة. وتبيض الأنثى «1» مرتين فى السنة، فى كل مرّة اثنتى عشرة بيضة. وقال الجاحظ: أوّل ما تبيض ثمانى بيضات، وتبيض أيضا بيض الرّيح. ويسفد الذّكر فى أوان الربيع. ويلقى ريشه فى فصل الخريف، كما يلقى الشجر ورقه فيه؛ فإذا بدأت الأشجار تكتسى الأوراق بدأ الطاوس فاكتسى ريشا. والذكر كثير العبث بالأنثى. والفرخ يخرج من البيضة [كاسيا «2» ] كاسبا. وزعم أرسطو أن الطاوس يعمّر خمسا وعشرين سنة. وقال أبو الصّلت [امية بن عبد «3» العزيز الأندلسىّ] يصفه: أبدى لنا الطاوس عن منظر ... لم ترعينى مثله منظرا متوّج المفرق إلّا يكن ... كسرى بن ساسان يكن قيصرا فى كل عضو ذهب مفرغ ... فى سندس من ريشه أخضرا نزهة من أبصر، فى طيّها ... عبرة من فكّر واستبصرا تبارك الخالق فى كلّ ما ... أبدعه منه وما صوّرا

وأما الديك والدجاج وما قيل فيهما

وقال فيه أيضا: أهلا به لمّا بدا فى مشيه ... يختال فى حلل من الخيلاء كالرّوضة الغنّاء أشرف فوقه ... ذنب له كالدّوحة الغنّاء ناديته لو كان يفهم منطقى ... أو يستطيع إجابة لندائى يا رافعا قوس السماء ولابسا ... للحسن روض الحزن غبّ سماء أيقنت أنك فى الطيور مملّك ... لمّا رأيتك منه تحت لواء وقال أبو الفتح كشاجم من قصيدة ذكر فيها طاوسا: [وأىّ عذر لمقلة بعد الطّ ... اوس عنها إن لم تفض بدم «1» ] رزئته روضة تروق ولم ... أسمع بروض سعى على قدم متوّجا خلعة «2» حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم كأنه يزدجرد منتصبا ... يبنى فيعلى مآثر العجم يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصّين يستصحبان «3» فى الظّلم أدلّ بالحسن فاستذال له ... ذيلا من الكبر غير محتشم ثم مشى مشية العروس فمن ... مستظرف معجب ومبتسم *** وأما الدّيك والدّجاج وما قيل فيهما - قالوا: والدّجاج ثلاثة أصناف: «نبطىّ» وهو ما يتّخذ فى القرى والبيوت، و «هندىّ» وهو عظم

الخلق يتّخذ لحسن شكله، و «حبشىّ» وهو نوع بديع الحسن أرقط: نقطة سوداء ونقطة بيضاء، وله قرطان أخضران. قالوا: والدّجاجة تجمع البيض بعد السّفاد فى أحد عشر يوما؛ وهى تبيض فى السنة كلها ما خلا شهرين شتويين. والذى عرّفناه نحن بديار مصر أنّ البيض لا ينقطع أبدا فى الفصول الأربعة، فيدلّ على أنها تبيض دائما. ومن الدّجاج ما يبيض فى اليوم مرّتين. والبيضة تكون عند خروجها ليّنة القشر جدّا؛ فإذا أصابها الهواء يبست. وربما وجد فى البيضة محّان. وقال أرسطو: باضت دجاجة فيما مضى ثمانى عشرة بيضة لكل بيضة محّان، ثم حضنت البيض فخرج من كل بيضة فرخان، أحدهما أعظم جثة من الآخر. والدّجاجة تحضن عشرين يوما. وخلق الفرّوج يتبيّن إذا مضت عليه ثلاثة أيام. ويعرف الذّكر من الأنثى بأن يعلّق الفرّوج برأسه «1» فان تحرّك فذكر، وإن سكن فأنثى. قال الجاحظ: والفرخ يخلق من البياض ويغتذى بالصّفرة ويتمّ خلقه لعشرة أيام؛ والرأس وحده يكون أكبر من سائر جسده. والدّجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها محّ، وإذا لم يكن له محّ لا يخلق منه فرّوج. والدّجاجة تخشى ابن آوى دون سائر السّباع؛ وذلك أنه يمرّ عليها فى القرى ما يمرّ من السباع وغيرها فلا تخشاه؛ فإذا مرّ عليها ابن آوى وهى على سطح نالها

ذكر ما جاء فى الديكة من الأحاديث وما عد من فضائلها وعاداتها ومنافعها

من الفزع منه ما تلقى [به «1» ] نفسها إليه. وهى إذا قابلت الدّيك تشهّته «2» ورامت السّفاد. والدّجاجة توصف بقلّة النوم. والفرّوج يخرج من البيضة كاسيا كاسبا، سريع الحركة، يدعى فيجيب ويتبع من يطعمه؛ ثم هو كلّما كبر ماق وحمق وزال كيسه. وهو مشترك الطبيعة: يأكل اللّحم، ويحسو الدّم، ويصيد الذّباب، وذلك من طباع الجوارح؛ ويلقط الحبوب، ويأكل البقول، وذلك من طباع بهائم الطير. والله أعلم بالصواب. ذكر ما جاء فى الدّيكة من الأحاديث وما عدّ من فضائلها وعاداتها ومنافعها جاء فى الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنّ ديكا صرخ عند النبىّ صلى الله عليه وسلم، فسبّه بعض أصحابه، فقال: «لا تسبّه فإنّه يدعو إلى الصلاة» . وعن زيد بن خالد الجعفىّ: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن سبّ الدّيك وقال: «إنّه يؤذّن للصلاة» . وعن سالم بن أبى الجعد يرفعه: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ ممّا خلق الله لديكا عرفه تحت العرش وبراثنه فى الأرض السّفلى وجناحاه فى الهواء فإذا ذهب ثلثا الليل وبقى ثلث ضرب بجناحيه ثم قال سبّحوا الملك القدّوس سبّوح قدّوس لا شريك له فعند ذلك تضرب الطير بأجنحتها وتصيح الدّيكة» . وعن كعب: «إنّ لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه فى أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الدّيكة يقول سبحان القدّوس الملك الرحمن لا إله غيره» . وروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّيك الأبيض صديقى

وعدوّ عدوّ الله يحرس دار صاحبه وسبع دور» . وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يبيّته معه فى البيت. وروى أنّ أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون بالدّيكة. قال الجاحظ: وزعم أصحاب التّجربة أن كثيرا ما يرون الرجل إذا ذبح الدّيك الأبيض الأفرق «1» إنه لا يزال ينكب فى أهله وماله. وقال فى كتاب الحيوان فى المناظرة بين الدّيك والكلب: وفى الديك الشّجاعة والصبر والجولان والثّقافة والتّسديد؛ وذلك أنه يقدّر إيقاع صيصيته «2» بعين الديك الآخر أو مذبحه فلا يخطئ. قال: ثم معرفته بالليل وساعاته وارتفاق بنى آدم بمعرفته وصوته، يتعرّف آناء الليل وعدد الساعات ومقادير الأوقات ثم يقسّط أصواته على ذلك تقسيطا موزونا لا يغادر منه شيئا. فليعلم الحكماء أنه فوق الإسطرلاب وفوق مقدار الجزر» والمدّ على منازل القمر، حتى كأن طبعه فلك [على حدته «4» ] . ومن عجيب أحوال الدّيكة أنها إذا كانت فى مكان ثم دخل عليها ديك غريب سفدته جميعا. والدّيك يضرب به المثل فى السخاء، وذلك أنه ينقر الحبّ ويحمله بطرفى منقاره إلى الدّجاج، فإذا ظفر بشىء من الحبّ والدّجاج غيب دعاهنّ إليه وقنع منه بدون حاجته توفيرا «5» عليهنّ. قالوا: والدّيكة تعظم بدبيل «6» السّند حتى تكون مثل النّعام.

وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ مرقة الديوك العتق لها خاصّيّات، سنذكرها. قال: والوجه الذى ذكره جالينوس فى طبخها أن تذبح بعد علفها وبعد إعدائها إلى أن تنبتّ «1» فتسقط فتذبح، ثم يخرج ما فى بطنها ويملأ بطنها ملحا ويخاط ويطبخ بعشرين قسطا ماء حتى ينتهى إلى الثّلث ويشرب. قال: ثم يزاد فى ذلك ما نذكره. قال: وأجود الدّيكة ما لم يصقع «2» بعد. وأجود الدّجاج ما لم يبض، والعتيق ردىء. قال: ولحم الفراريج أحرّ من لحم الدّجاج الكبير. وخصىّ الدّيوك محمود سريع الهضم. ومرقة الدّيوك المذكورة توافق الرّعشة ووجع المفاصل. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى العقل، ودماغها يمنع النّزف الرّعافىّ العارض من حجب الدّماغ. ومرقة الدّيوك المذكورة نافعة من الرّبور. ولحم الدّجاج يصفّى الصوت. ومرقة الدّيك الهرم المعمولة بالقرطم والشّبث تنفع من جميع ذلك. ومرقة الديوك نافعة لوجع المعدة من الرّيح، وتنفع القولنج جدّا. ولحم الدّجاج الفتىّ يزيد فى المنىّ؛ والمرقة المذكورة [مع البسفايج «3» ] تسهّل السّوداء، ومع القرطم تسهّل البلغم. وقد تطبخ بالأدوية القابضة للسّحج «4» ، وباللّبن لقروح المثانة. والمرقة نافعة من الحميّات المزمنة. قال: والدّجاج المشقوق عن قلبه أو الديك يوضع على نهش الهوامّ ويبدّل كلّ ساعة فيمنع من فشوّ السمّ. وفى السموم المشروبة يتحسّى طبيخه «5» بالشّبث والملح ويتقيّأ.

ومن الحكايات التى تعدّ من خرافات العرب ما حكاه بعضهم عن الرّياشىّ «1» قال: كنّا عند الأصمعىّ، فوقف عليه أعرابىّ فقال: أنت الأصمعى؟ قال: نعم؛ قال: أنت أعلم أهل الحضر بكلام العرب؟ قال: يزعمون؛ قال: ما معنى قول أميّة بن أبى الصلت: وما ذاك إلّا الدّيك شارب خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا «2» فلما استقلّ الصبح نادى بصوته ... ألا يا غراب هل رددت ردائيا فقال الأصمعىّ: إنّ العرب كانت تزعم أنّ الدّيك كان ذا جناح يطير به فى الجوّ وأنّ الغراب كان ذا جناح كجناح الدّيك لا يطير به وأنهما تنادما ليلة فى حانة يشربان فنفد شرابهما؛ فقال الغراب للدّيك: لو أعرتنى جناحك لأتيتك بشراب؛ فأعاره جناحه، فطار ولم يرجع إليه؛ فزعموا أنّ الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاء لجناحه من الغراب؛ فضحك الأعرابىّ وقال: ما أنت إلا شيطان. وهذه الحكاية ذكرها الجاحظ فى كتاب الحيوان بنحو ما حكى عن الأصمعىّ، وساق أبيات أميّة بن أبى الصّلت، وهى: ولا «3» غرو إلّا الديك مدمن خمرة ... نديم غراب لا يملّ الحوانيا ومرهنه عند الغراب جبينه ... فأوفيت مرهونا وخان مسابيا «4» أدلّ علىّ الدّيك أنّى كما ترى ... فأقبل على شأنى وهاك ردائيا

أمنتك «1» لا تلبث من الدهر ساعة ... ولا نصفها حتى تؤوب مآبيا ولا تدركنك الشمس عند طلوعها ... فأغلق «2» فيهم أو يطول ثوائيا فردّ الغراب والرداء يحوزه ... إلى الدّيك وعدا كاذبا وأمانيا بأيّة ذنب أو بأيّة حجّة ... أدعك فلا تدعو علىّ ولاليا «3» فإنى نذرت حجّة لن أعوقها ... فلا تدعونّى دعوة من ورائيا تطيّرت منها والدّعاء يعوقنى ... وأزمعت حجّا أن أطير أماميا فلا تيأسن إنى مع الصبح باكرا ... أوافى غدا نحو الحجيج الغواديا كحب امرئ فاكهته قبل حجّتى ... وآثرت عمدا شأنه قبل شانيا هنا لك ظنّ الدّيك أن زال زوله ... وطال عليه الليل أن لا مفاديا فلما أضاء الصبح طرّب صرخة ... ألا يا غراب هل سمعت ندائيا على ودّه لو كان ثم يجيبه ... وكان له ندمان صدق مواتيا وأمسى الغراب يضرب الأرض كلّها ... عتيقا «4» وأضحى الدّيك فى القدّ عانيا فذلك مما أسهت الخمر لبّه ... ونادم ندمانا من الطير عاديا «5» ومن الحكايات التى لا بأس بإيرادها فى هذا الموضع ما حكاه الجاحظ قال: قال أبو الحسن: حدّثنى أعرابىّ كان نزل البصرة قال: قدم علىّ أعرابىّ من البادية فأنزلته، وكان عندى دجاج كثير ولى امرأة وابنان وابنتان منها؛ فقلت لامرأتى: بادرى واشوى لنا دجاجة وقدّميها إلينا نتغدّها. فلما حضر الغداء جلسنا جميعا أنا وامرأتى

وابناى وابنتاى والأعرابىّ. قال: فدفعنا إليه الدجاجة فقلنا له: اقسمها بيننا، نريد بذلك أن نضحك منه؛ فقال: لا أحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمتى قسمتها بينكم؛ قلنا: فإنّا نرضى. فأخذ رأس الدجاجة فقطعه وناولنيه وقال: الرأس للرئيس، وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين، ثم قطع الساقين وقال: الساقان للابنتين، ثم قطع الزّمكّى «1» وقال: العجز للعجوز، وقال: الزّور «2» للزائر؛ قال: فأخذ الدجاجة بأسرها وسخر بنا. قال: فلمّا كان من الغد قلت لامرأتى: اشوى لنا خمس دجاجات، فلما حضر الغداء قلنا له: اقسم بيننا؛ فقال: إنى أظن أنكم وجدتم فى أنفسكم؛ قلنا: لم نجد فاقسم بيننا؛ قال: أقسم شفعا أو وترا؟ قلنا: اقسم وترا؛ قال: أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة، ثم رمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: وابناك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال: وابنتاك ودجاجة ثلاثة، ورمى إليهما بدجاجة؛ ثم قال: وأنا ودجاجتان ثلاثة وأخذ دجاجتين وسخر بنا. فرآنا ننظر إلى دجاجتيه فقال: ما تنظرون! لعلكم كرهتم قسمتى! الوتر لا يجىء إلّا هكذا، فهل لكم فى قسمة الشّفع؟ قلنا نعم؛ فضمّهنّ «3» إليه ثم قال: أنت وابناك ودجاجة أربعة، ورمى إلينا بدجاجة؛ ثم قال: والعجوز وابنتاها ودجاجة أربعة، ورمى إليهنّ بدجاجة؛ ثم قال: وأنا وثلاث دجاجات أربعة وضمّ إليه الثلاث، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهمّ لك الحمد، أنت فهّمتنيها. هكذا ساقها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. وحكى غيره هذه الحكاية عن الأصمعىّ وفيها زيادة، قال: حكى الأصمعىّ: بينا

أنا فى البادية إذا أنا بأعرابىّ على ناقة وهى ترقص به فى الآل؛ فلمّا دنا منّى سلّم علىّ، فسلّمت عليه وقلت: يا أخا العرب قوم بخفّان «1» عهدناهم ... سقاهم الله من النّو ما النّو؟ فقال: نوء السّماكين وريّاهما ... نور تلالا بعد إيماضه ضو «2» فقلت: ما الضّو يا أخا العرب؟ فقال: ضوء تلالا فى دجى ليلة ... مقمرة مسفرة لو فقلت: لو إيش يا أخا العرب؟ فقال: لو مرّ فيها سائر راكب ... على نجيب الأرض منطو فقلت: منطو إيش يا أخا العرب؟ فقال: منطوى الكشح هضيم الحشى ... كالباز ينقضّ من الجوّ فقلت: ما الجوّ يا أخا العرب؟ فقال: جوّ السما والريح تعلو به ... فاشتمّ ريح الأرض فاعلوّ فقلت: فاعلو إيش يا أخا العرب؟ فقال: فاعلو لما قد فات من صيده ... لا بدّ أن تلقى ويلقوا فقلت: ماذا يلقوا يا أخا العرب؟ فقال: يلقوا بأسياف يمانيّة ... وعن قليل سوف يفنوا

ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدجاجة والديك

فقلت: ما يفنوا يا أخا العرب؟ فقال: إن كنت تنكر «1» ما قلته ... فأنت عندى رجل بوّ فقلت: وما البوّ يا أخا العرب؟ فقال: البوّ من يفقد عن أمّه ... يا أحمق الناس فرح أو قلت: أو إيش؟ فقال: تندفع الكفّ بصفع القفا ... تسمع ما بينهما قوّ فقلت: يا أخا العرب، هل لك فى الضيافة؟ فقال: لا يأبى الكرامة إلّا لئيم؛ فأتيت به منزلى. ثم ساق الحكاية بنحو ما تقدّم، إلا أنه قال: فأتيته فى اليوم الثانى بثلاث دجاجات، وقلت: نحن كما علمت، اقسمها بيننا أزواجا؛ فقال: أنت وابناك ودجاجة زوج، وامرأتك وابنتاها ودجاجة زوج، وأنا ودجاجة زوج. وساق خبر الخمسة فى اليوم الثالث كما تقدّم. *** ذكر شىء مما وصفت به الشعراء البيضة والدّجاجة والدّيك فمن ذلك ما وصفوا به البيضة. قال أبو الفرج الأصبهانىّ من أبيات: فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألّفن بالتّقدير والتلفيق خلطان مائيّان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق فبياضها ورق وزئبق محّها ... فى حقّ عاج بطّنت بدبيقى «2»

ومما قيل فى الدجاجة والديك

وقال شاعر: وصفراء فى بيضاء رقّت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها جماد ولكن بعد عشرين ليلة «1» ... ترى نفسها معمورة من خرابها وقال كشاجم من أبيات يذكر فيها جونة «2» أهديت إليه وفيها بيض مسلوق مصبوغ أحمر: وجاءنا فيها بيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر حتى إذا قدّمه مقشّرا ... أبرز من تحت عقيق دررا حتى إذا ما قطّع البيض فلق ... رأيت منه ذهبا تحت ورق يخال أنّ الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح ومما قيل فى الدّجاجة والدّيك قال الشاعر: غدوت بشربة من ذات عرق «3» ... أبا الدّهناء من حلب العصير وأخرى بالعقنقل «4» ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير كأن الديك ديك بنى نمير ... أمير المؤمنين على السّرير كأن دجاجهم فى الدار رقطا ... وفود الروم فى قمص الحرير

فبتّ أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرجل القصير أدافعهنّ بالكفّين عنّى ... وأمسح جانب القمر المنير وقال أبو بكر الصّنوبرىّ من أبيات يصف ديكا: مغرّد الليل ما يألوك تغريدا ... ملّ الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا لما تطرّب هزّ العطف من طرب ... ومدّ للصوت لمّا مدّه الجيدا كلابس مطرفا مرخ جوانبه «1» ... تضاحك البيض من أطرافه السّودا حالى المقلّد لو قيست قلادته ... بالورد قصّر عنها الورد توريدا ران بفصّى عقيق يدركان له ... من حدّة فيهما ما ليس محدودا تقول هذا عقيد «2» الملك منتسبا ... فى آل كسرى عليه التاج معقودا أو فارس شدّ مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا وقال أبو هلال العسكرىّ: متوّج بعقيق ... مقرّط بلجين عليه قرطق وشى ... مشمّر الكمّين «3» قد زيّن النّحر منه ... ثنتان كالوردتين حتى إذا الصبح يبدو ... مطرّز الطّرّتين دعا فأسمع منّا ... من كان ذا أذنين يزهى بطوق وتاج ... كأنه ذو رعين»

وقال الأسعد بن بلّيطة «1» : وقام لنا ينعى الدّجى ذو شقيقة «2» ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا «3» إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران «4» نيط من ظفره خرطا كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية «5» القرطا [سبى حلّة الطاوس «6» حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطّا] وقال أبو عبد الله المالكىّ: رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان فى وجه الظلام شحوب دعا من بعيد صاحبا فأجابه ... يخبّرنا أنّ الصباح قريب وقال ابن المعتزّ: بشّر بالصبح هاتف هتفا ... صاح «7» من اللّيل بعد ما انتصفا

مذكّر بالصّبوح صاح لنا ... كأنّه فوق منبر وقفا صفّق إمّا ارتياحة لسنا ال ... فجر وإمّا على الدّجى أسفا وقال أيضا فيه: وقام فوق الجدار مشترف ... كمثل طرف علاه أسوار «1» رافع رأس طورا وخافضه ... كأنما العرف منه منشار وقال السّرىّ الرّفّاء: كشف الصباح قناعه فتألّقا ... وسطا على اللّيل البهيم وأبرقا «2» وعلا فلاح على الجدار موشّح ... بالوشى توّج بالعقيق وطوّقا مرخ فضول التاج من لبّاته ... ومشمّر وشيا عليه منمّقا وقال أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ يرثى ديكا ويصفه: أبنىّ منزلنا ونشو محلّنا ... وغذىّ أيدينا نداء مشوق لهفى عليك أبا النّذير «3» لو انّه ... دفع المنايا عنك لهف شفيق وعلى شمائلك اللّواتى ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق لما بقعت «4» وصرت علق مضنّة «5» ... ونشأت نشو المقبل الموموق وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودقيق

وكسيت «1» كالطاوس ريشا لامعا ... متلألئا ذا رونق وبريق من صفرة مع خضرة فى حمرة ... تخييلها يخفى على التّحقيق «2» عرض يجلّ عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التّدقيق وكأنّ سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق وكأنّ مجرى الصوت منك، إذا نبت ... وجفت «3» عن الأسماع بحّ حلوق، ناى رقيق «4» ناعم قرنت به ... نغم مؤلّفة من الموسيقى تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتّصفيق وخطرت «5» ملتحفا بمرط حبّرت ... فيه بديع الوشى كفّ أنيق كالجلّنارة أو ضياء «6» عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق أو قهوة تختال فى بلّورة ... بتألّق اللّمعان والتّزويق «7» وكأنما الجادىّ جاد بصبغه ... لك أو غدوت مضمّخا بخلوق وقال شاعر أندلسىّ: وكائن نفى النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعانى بأجفان عينيه ياقوتتان ... كأنّ وميضهما جمرتان

على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز فى المهرجان وقرطان من جوهر أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان له عنق حولها رونق ... كما حوت الخمر إحدى القنانى ودار برائله «1» حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران ودارت بجؤجئه حلّة ... تروق كما راقك الخسروانى وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيزران وصفّق تصفيق مستهتر ... بمحمّرة من بنات الدّنان وغرّد تغريد ذى لوعة ... يبوح بأشواقه للغوانى وقال أبو علىّ بن رشيق حيث مزّق عنه جلباب الممادح، وتركه من شمل الذمّ فى الرأى الفاضح: قام بلا عقل ولا دين ... يخلط تصفيقا بتأذين فنبّه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا من غير ما حين بصرخة تبعث موتى البكرى ... قد أذكرت نفخ سرافين «2» كأنّها فى حلقه غصّة ... أغصّه الله بسكّين

وأما الحجل وما قيل فيه

وأما الحجل وما قيل فيه - والحجل طائر يسمّى: «دجاج البرّ» وهو صنفان: نجدىّ، وتهامىّ. فالنجدىّ أخضر أحمر الرجلين. والتّهامىّ فيه بياض وخضرة. وسمّى الذكر «يعقوب» ، والفرخ الذّكر «السّلك» ، والأنثى «السّلكة» . وهو من الطير الذى يخرج فرخه كاسيا كاسبا. ويقال: إنّ الحجلة إذا لم تلقح تمرّغت فى التراب ورشّته على أصول ريشها فتلقح. ويقال: إنها تبيض بسماع صوت الذّكر وبريح تهبّ من ناحيته. قال أبو عثمان الجاحظ: وإذا باضت الحجلة ميّز الذكر الذكور منها فيحضنها، وميّزت الأنثى الإناث فتحضنها، وكذلك هما فى التربية. قال: وكلّ واحد منهما يعيش خمسا وعشرين سنة. ولا تلقح الأنثى بالبيض، ولا يلقح الذكر إلّا بعد مضىّ ثلاث سنين. والذكر شديد الغيرة على الأنثى. فإذا اجتمع ذكران اقتتلا، فأيّهما غلب ذلّ له الآخر؛ وذهبت الأنثى مع الغالب. والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عشّ أخرى وغلبتها على بيضها. وقد وصف «1» أبو علىّ بن رشيق القيراوانىّ الحجل فقال: ما أغربت فى زيّها «2» ... إلّا يعاقيب الحجل جاءتك مثقلة التّرا ... ئب بالحلىّ وبالحلل صفر الجفون كأنما ... باتت بتبر تكتحل

وأما الكركى وما قيل فيه

مشقوقة شقّ الزّ ... جاج لمن تأمّل أو عقل وصلت مذابحها الرءو ... س بحمرة فيها شعل لولا اختلاف الجنس وال ... تركيب جاءت فى المثل كلحى الثمانين التى ... خضبت ومنها ما نصل أو كاللّثام أزاله ... فرط التّلفّت والعجل وتخالهنّ جواريا ... لا يزدرين من العطل رمت الثّياب الى ورا ... ء عن المناكب تتجدل وبدت سراويلاتها ... يسحبن وشيا من قبل حمر من الرّكبات فى ... لون الشقائق أو أجلّ عقّدنها فوق الصدو ... ر مخالسات للقبل وشددن بالأعضاد من ... حذر عليها أن تحلّ وكأنما باتت أصا ... بعها بحنّاء تعلّ «1» من يستحلّ لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحلّ *** وأمّا الكركىّ وما قيل فيه - ويقال: إنه «الغرنيق» ؛ ويقال: إن الغرنيق صنف منه. وهو طائر أخضر طويل المنقار والرجلين. وسفاده فى السّرعة كالعصفور. وله مشات ومصايف. وفى طبعه التّناصر؛ ولهذا أنّه لا يطير متقطّعا ولا متباعدا بل صفّا واحدا، يقدمها واحد منها كالرئيس لها المقدّم

وأما الإوز وما قيل فيه

عليها وهى تتبعه، يكون كذلك حينا، ثم يخلفه آخر منها. وفى طبع الكركىّ وعادته أنّ أبويه إذا كبرا عالهما. وقال أرسطو: إن الغرانيق من الطير القواطع وليست من الأوابد، وإنها إذا أحسّت بتغيّر الزمان اعتزمت على الرجوع إلى بلادها. وكلّ منها ينام على إحدى رجليه قائما. ويقال: إن الكراكىّ إذا كبرت اسودّ ريشها وهو فى شيبتها رمادىّ. وقد ظهر بالديار المصريّة فى شهور سنة خمس عشرة وسبعمائة صنف من الكراكىّ أبيض اللون ناصع البياض حسن الصورة، وهو أكبر جثّة من الكركىّ المعتاد. وقال النّاشى فى وصف الكراكىّ: ومورد يجذل قلب الوامق ... منظّم بالغرّ والغرانق وكلّ طير صافر أو ناعق ... مكتهل وبالغ ولاحق موشيّة الصدور والعواتق ... بكل وشى فاخر وفائق تختال فى أجنحة خوافق ... كأنما تختال فى قراطق يرفلن فى قمص وفى يلامق «1» ... كأنّهنّ زهر الحدائق حمر الحداق كحل الحمالق ... كأنما يجلن فى مخانق «2» *** وأمّا الإوزّ وما قيل فيه - والإوزّ ثلاثة أصناف: بطائحىّ وهو الطويل الأسود [بزرقة «3» ] ، وتركىّ وهو المدوّر المائل إلى البياض، وخبىّ «4» وهو

وأما البط وما قيل فيه

الضخم الكبير منها. ويقال: إن الإوز إذا فرغ من السّفاد وسبح فى الماء فإنما يفعل ذلك لتمام اللّذة. والأنثى تحضن بيضها ثلاثين يوما. والذكور تحنو على الفراخ. ولكلّ منها قضيب يسفد به كالبطّ. والإوزّ البطائحىّ، وهو المعروف بمصر بالعراقىّ، يخالف الحبىّ فى الصياح؛ لأن الخبىّ تصيح ذكورها ولا تصيح إناثها، والبطائحىّ بخلاف ذلك. والخبىّ من الطير الأوابد التى لا تبرح من الأماكن التى تربّى فيها لثقل أجسامها، وإذا نهضت فلا ترتفع من الأرض إلّا يسيرا. والعراقيّات من الطير القواطع التى تنتقل من مكان إلى آخر، وترى فى وقت دون وقت. وقال ابن رشيق يصف فحل إوزّ: نظرت إلى فحل الإوزّ فخلته ... من الثّقل فى وحل وما هو فى وحل ينقّل رجليه على حين فترة ... كمنتعل لا يحسن المشى فى النّعل له عنق كالصّولجان ومخطم ... حكى طرف العرجون من يانع النّخل يداخله زهو فيلحظ من عل «1» ... جوانبه ألحاظ متّهم العقل يضمّ جناحيه إليه كما ارتدى ... رداء جديدا من بنى البدو ذو جهل *** وأمّا البطّ وما قيل فيه - وهو أصناف: منها الوحشىّ، والأهلىّ. ومن الوحشىّ «اللّقلق» » ؛ ومن الأهلىّ «الصّينىّ» . وفراخه تخرج كاسية كاسبة.

وأما النحام وما قيل فيه

وقيل: إن بالزّابج بطّا بيضا وحمرا ورقطا طوال الأعناق قصار الأرجل. والبطّ يطير على وجه الماء، وليس من طير الماء، لأنه لا يأويه دائما ولا يغتذى بالسمك. وهو يأكل النبات والبذور؛ وله قضيب يخرج من دبره كذكر الكلب عظيم جدّا بالنسبة إليه؛ فى رأسه زرّ كالفلكة «1» ؛ فإذا سفد لم يخرجه حتى ينقلب لجنبه؛ ويحصل له عند السّفاد من الالتحام ما يحصل للكلب. وقال أبو علىّ بن سينا: وطبع البطّ حارّ أسخن من جميع الطيور الأهلية. قال قال بعضهم: هو يسخّن المبرود ويورث المحرور «2» حمّى. قال: وشحمه عظيم فى تسكين الوجع وتسكين اللذع من عمق البدن؛ وهو أفضل شحوم الطير. ولحمه يكثر الرّياح، وقانصته كثيرة الغذاء، ولحمه يسمّن، وهو بطىء فى المعدة ثقيل، وإذا انهضم كان أغذى من جميع لحوم الطير؛ وهو يزيد فى الباه ويكثر المنىّ. *** وأمّا النّحام «3» وما قيل فيه - قالوا: والنّحام يكون أفرادا وأزواجا. وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا «4» فنام ذكوره ولا تنام إناثه. وتعدّ لها مباتات، إذا ذعرت فى واحد منها طارت إلى آخر. ويقال: إنه لا يسفد ولا يخرج فراخه بالحضن وإنما تبيض الأنثى من زقّ الذكر. وإذا باضت تغرّبت وبقى الذّكر عند البيض يذرق عليه ليس إلّا، فيقوم ذرقه مقام الحضن. فإذا تمّت مدّة ذلك خرجت

وأما الأنيس وما قيل فيه

الفراخ لا حراك بها؛ فتجىء الأنثى فتنفخ فى مناقيرها حتى يجرى ذلك النفخ فيها روحا، ثم يتعاون الذّكر والأنثى جميعا على التربية. وإذا قويت الفراخ على الطّعم وأمكنها التكسّب لنفسها طردها الذّكر. *** وأمّا الأنيس وما قيل فيه - فقال أرسطو: إنّه حادّ البصر، وصوته يشبه صوت الجمل ويحاكيه. ومأواه فى قرب الأنهار وفى الأماكن الكثيرة المياه الملتفّة الشجر. وله لون حسن وتدبير فى معاشه. والناس يتغالون به إذا وقع لهم ويجعلونه فى بيوتهم. *** وأمّا القاوند وما قيل فيه - قال صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه: كنت أسمع بشحم القاوند ولم أدر ما هو: حيوان هوائىّ أم مائىّ أم أرضىّ، حتى وقفت على كتاب موضوع فى طبائع الحيوان وخواصّه ليس عليه اسم المصنّف، فرأيته قد قال: «القاوند طائر يتّخذ وكره على ساحل البحر ويحضن بيضه سبعة أيّام، وفى اليوم السابع يخرج فراخه ثم يزقّها سبعة أيام. والمسافرون فى البحر يتيمّنون بهذه الأيام ويوقنون بطيب الرّيح وحلول أيام السفر» . *** وأمّا الخطّاف وما قيل فيه - والخطّاف يسمّى «زوّار الهند» . وهو من الطيور القواطع التى تقطع البلاد البعيدة إلى الناس رغبة فى القرب منهم والإلف بهم، وهو مع ذلك لا يبنى بيته إلّا فى أبعد المواضع حيث لا تناله أيديهم. ومن عجيب حاله أنّ عينه تقلع فترجع؛ وهو لا يرى أبدا يقف على شىء يأكله،

ولا يرى يسافد ولا يجتمع بأنثاه. والأنثى تبيض مرّة واحدة فى السنة، وقيل: مرتين؛ وكلاهما قاله الجاحظ. والخفّاش عدوّ الخطّاف؛ فهو إذا فرّخ وضع فى أعشاشه قضبان الكرفس، فلا يؤذى فراخه إذا شمّ رائحة الكرفس. وهو لا يفرّخ فى عشّ عتيق حتى يطيّنه بطين جديد. وهو يبنى عشّه بالطين والتّبن. فإذا لم يجد طينا مهيّأ ألقى نفسه فى الماء ثم تمرّغ فى التّراب حتى يمتلئ جناحاه ثم يجمعه بمنقاره. وهو يسوّى فى الطّعم بين فراخه. ولا يترك فى عشّه زبلا بل يلقيه خارجا. وأصحاب اليرقان يلطّخون فراخ الخطّاف بالزعفران؛ فإذا رآها صفرا ظنّ أنّ اليرقان أصابها من شدّة الحرّ، فيذهب ويأتيها بحجر اليرقان فيطرحه على الفراخ، وهو حجر أصفر، فيأخذه المحتال فيعلّقه على نفسه أو يحكّه ويشرب من مائه [يسيرا «1» ] فيبرأ. والخطّاف متى سمع صوت الرّعد مات. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: قال ديسقوريدس: إنّ أوّل بطن للخطّاف إذا شقّ وجد فيه حصاتان، إحداهما ذات لون واحد والأخرى ذات ألوان كثيرة، إذا جعلتا فى جلد عجل قبل أن يصيبه تراب وربط على عضد المصروع ورقبته انتفع به، قال: وقد جرّبت ذلك وأبرأ المصروع. قال: وأكل الخطّاف يحدّ البصر، وقد يجفّف ويسقى. والشربة منه مثقال. وقيل: إنّ دماغه بعسل نافع من ابتداء الماء، وكذلك دماغ الخفّاش. قال: وإن ملّح الخطّاف وجفّف وشرب منه درهمان نفع من الخناق. قال بعض الأطباء: المشهور عند الأطباء أن عشّ الخطاطيف إذا حلّ فى ماء وصفّى وشرب سهّل الولادة.

وقد ألمّ الشعراء فى أشعارهم بوصف الخطّاف؛ فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى: وهنديّة الأوطان زنجيّة الخلق ... مسوّدة الأثواب محمرّة الحدق كأنّ بها حزنا وقد لبست له ... حدادا وأذرت من مدامعها العلق «1» إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرّ ملوى العود بالوتر الحزق «2» تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففى كلّ عام نلتقى ثم نفترق وقال السّرىّ الرّفّاء يصفها من أبيات ويذكر غرفة: وغرفتنا بين السحائب تلتقى ... لهنّ عليها «3» كلّة ورواق تقسّم زوّار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق أعاجم تلتذّ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق أنسن بنا أنس الإماء تحبّبت ... وشميتها غدر بنا وإباق مواصلة والورد فى شجراته ... مفارقة إن حان منه فراق وقال أيضا: وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة فى كلّ عام تزورها مبيّضة الأحشاء حمر بطونها ... مزبرجة الأذناب سود ظهورها لهنّ لغات معجمات كأنها ... صرير نعال «4» السّبت عال صريرها

وأما القيق والزرزور وما قيل فيهما

وقال أبو هلال العسكرىّ: وزائرة فى كلّ عام تزورنا ... فيخبر عن طيب الزمان مزارها تخبّر أنّ الجوّ رقّ قميصه ... وأنّ رياضا قد توشّى إزارها وأنّ وجوه الغدر راق بياضها ... وأنّ متون الأرض راع اخضرارها تحنّ إلينا وهى من غير شكلنا ... فتدنو على بعد من الشكل دارها ويعجبنا وسط العراص وقوعها «1» ... ويؤنسنا بين الدّيار مطارها أغار على ضوء الصباح قميصها ... وفاز بألوان الليالى خمارها تصيح كما صرّت نعال عرائس ... تمشت إلينا هندها ونوارها وقال آخر: أهلا بخطّاف أتانا زائرا ... غردا يذكّر بالزمان الباسم لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام العاتم وقال أبو نواس: كأن أصواتها فى الجوّ طائرة ... صوت الجلام «2» إذا ما قصّت الشّعرا *** وأمّا القيق والزّرزور وما قيل فيهما - والقيق: طائر فى قدر الحمام اللّطيف؛ وأهل الشأم يسمّونه «أبا زريق «3» » . وفى طبعه كثرة الإلف بالناس، وقبول التعليم، وسرعة الإدراك لما يلقّن من الكلام مبيّنا حتى لا يشك سامعه

وأما الزرزور

إذا لم يره أنه إنسان؛ وربما زاد على الببّغاء. وله حكايات وأخبار فى الذكاء والفطنة يطول شرحها، وهو طائر مشهور بذلك. *** وأمّا الزّرزور - فيقال: إنّه ضرب من الغراب يسمّى «الغداف» ؛ ويقال: إنّه «الزّاغ» . وهو يقبل التعليم، ولا يرى إلّا فى أيام الربيع. ولونه أرقط لكن السواد أغلب. وقد يوجد فى لونه الأبيض، وهو قليل جدّا. وقال بعض شعراء الأندلس: يا ربّ أعجم صامت لقّنته ... طرف الحديث فصار أفصح ناطق جون الإهاب أعير قوّة صفرة ... كاللّيل طرّزه وميض البارق حكم من التّدبير أعجزت الورى ... ورأى بها المخلوق لطف الخالق وقال آخر: أمنبر ذاك أم قضيب ... يقرعه مصقع خطيب يختال فى بردتى شباب ... لم يتوضّح بها مشيب أخرس لكنّه فصيح ... أبله لكنّه لبيب وقال الوزير أبو القاسم بن الجدّ «1» الأندلسىّ من رسالة «2» كتبها إلى الوزير أبى الحسن ابن سراج جوابا عن رقعة وصلت منه إليه، يشفع لرجل يعرف بالزّريزير؛ ابتدأها بأن قال:

حسنت لك أبا الحسن ضرائب الأيام، وتشوّفت نحوك غرائب الكلام، واهتزّت لمكاتبتك «1» أعطاف الأقلام، وجادت على محلك «2» ألطاف الغمام، وأشادت «3» بفضلك ونبلك أصناف الأنام. فإن «4» كان روض العهد أعزّك الله لم يصبه من تعهّدنا «5» طلّ ولا وابل، ولا سجعت «6» على أيكه ورق ولا بلابل؛ فإن «7» أزهاره على شرب الصّفاء نابته، وأشجاره فى ترب الوفاء راسخة ثابته. وقد آن الآن لعقم «8» شجره أن تطلع من الثمر ألوانا، ولعجم طيره أن تسجع من النّغم ألحانا؛ بما سقط لدىّ ووقع علىّ من طائر شهىّ الصفير، مبنىّ الاسم على التصغير؛ فإنه رجّع باسمك حينا، وابتدع فى نوبة شكرك تلحينا، وحرّك من شوقى إليك سكونا، ودمّث «9» فى قلبى لودّك وكونا «10» . ثم أسمعنى أثناء ترنّمه كلاما وصف به نفسه، لو تغنّت به الورقاء، لأذنت «11» له العنقاء؛ أو ناح بمثله الحمام، لبكى لشجوه الغمام؛ أو سمعه قيس ابن عاصم فى ناديه، وبين أعاديه، لحلّ الزّمع «12» حباه، واستردّ الطّرب صباه: كلاما «13» لو ان البقل يزهى بمثله ... زها البقل واخضرّ الغضا بمصيف فتلقّيت فضل صاحبه بالتّسليم، واعترفت بسبقه اعتراف الخبير العليم.

وبعد، فإنى أعود إلى ذكر [ذلك «1» ] الحيوان الغريد، والشيطان المريد؛ فأقول: لئن سمّى بالزّريزير، لقد صغّر للتكبير «2» ؛ كما قيل: حريقيص وسقطه «3» يحرق الحرج، ودويهية وهى تلتهم الأرواح والمهج. ومعلوم أنّ هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور فى فهم التلقين، وحسن اليقين. فإذا علّم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطق لسانه بالقبيح، وتراه يقوم كالنصيح، ويدعو للخير بلسان فصيح. فمن أحبّ الاتّعاظ، لقى منه قسّ «4» إياد بعكاظ؛ أو مال إلى سماع البسيط والنشيد، وجد عنده نخب الموصلىّ للرشيد. فطورا يبكيك بأشجى من مراثى أربد» ، وحينا يسلّيك بأحلى من أغانى معبد «6» . فسبحان من جعله هاديا خطيبا، وشاديا مطربا مطيبا. ولما طار ببلاد الغرب ووقع، ورقى فى أكنافها وصقع؛ وعاين ما اتّفق «7» فيها فى هذا العام من عدم الزيتون، فى تلك البطون والمتون؛ أزمع عنها فرارا، ولم يجد بها قرارا؛ لأن هذا الثمر «8» بهذا الأفق هو قوام معاشه، وملاك انتعاشه؛ إليه يقطع، وعليه يقع؛ كما يقع على العسل الذّباب، وتقطع إلى العراد «9» الضّباب؛ فاستخفّه هائج التذكار، نحو تلك

وأما السمانى وما قيل فيه

الأوكار؛ حيث يكتسى ريشه حريرا، ويحتشى جوفه «1» بريرا، ويحتسى قراحا «2» نميرا، ويغتدى على رهطه «3» أميرا. فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك؛ يترنّم بالثّناء، ترنّم الذباب فى الرّوضة الغنّاء؛ وقد هزّ قوادم الجناح، لعادة الاستمناح؛ وحبّر من لمع الأسجاع، ما يصلح للانتجاع؛ واثقا بأن ذلك القطر الناضر ستنفحه «4» حدائقه، ولا تلفحه «5» ودائقه؛ لا سيما وفضلك دليله إلى ترع رياضه، وفرض حياضه؛ مع أنه لا يعدم فى جنابك حبّا نثيرا، وخصبا كثيرا، وعشّا وثيرا.. فإذا ما أراد كنت رشاء ... وإذا ما أراد كنت قليبا والله تعالى يكفيه فيما ينوبه شرّ الجوارح، ويقيه شؤم السانح والبارح؛ بمنّه وكرمه. *** وأمّا السمانى وما قيل فيه - يقال: إن السّمانى هو السّلوى. وهو من الطيور القواطع التى لا يعلم من أين تأتى. ويقال: إنه يخرج من البحر المالح؛ فإنه يرى وهو يطير عليه أوان ظهوره وأحد جناحيه منغمس فى الماء والآخر منتشر كالقلع. وأكثر من يعتنى بتربيته أهل مصر ويتغالون فى ثمنه ويحتفلون بأمره، حتى ينتهى ثمن جيّده إلى ألف درهم بعد أن يباع كلّ عشرة منها بدرهم وأرخص. وهو صنفان: ربيعىّ وطرماهىّ؛ فالرّبيعىّ القادم الراحل. والطّرماهىّ القاطن فى الأرض والبلاد الخصيبة، ويبيض ويفرّح فيها كالحجل. وسبب مغالاتهم فى أثمانها لأجل كثرة صياحها وعدد أصواتها. وقد وجد فيها ما صاح فى الليلة

وأما الهدهد وما قيل فيه

الواحدة إلى الثانية من النهار أربعة آلاف وستمائة صوت. والصوت عندهم أن يفصل بينه وبين الصوت الثانى بسكتة. وهم فى تربيته يبدءون بإطعامه دقاق القمح (وهو القمح الصغير الذى لا يمسكه الغربال لصغره) مدّة شهر؛ وتكون ذلك الوقت مجتمعة فى قفص كبير يسمّونه «المرح» ؛ ثم يفرد بعد ذلك كلّ سمانى بمفرده فى قفص ويطعم الدّخن والشّادانق «1» . ويصيح فى مبتدأ أمره مقدار شهر ثم يسكت مدّة شهرين. وينقل إلى أقفاص أخر يعتنون بجودتها ويرفعونها على البراريد (والبراريد عصىّ تعلّق عليها الأقفاص) فيصيح بعد تلك السكتة أربعة أشهر. فإذا دخل فصل الخريف وهبط الماء سكت مدّة شهرين وتقرنص، ثم يصيح أحيانا ويسكت أحيانا. وهو لا يطول عمره أكثر من سنة ونصف. وأوّل ما يصيح قبل أن يتفصّح بالوعوعة، وحكاية صوته: «وع وع» ؛ ثم يصيح بعد ذلك: «شقشلق» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة: إنه يخاف من أكل لحوم السّمانى من التمدّد والتّشنّج. *** وأمّا الهدهد وما قيل فيه - والهدهد طائر معروف. وقال الجاحظ فيه: والعرب كانوا يزعمون أن القنزعة التى على رأسه ثواب من الله عزّ وجلّ على ما كان من برّه لأمّه، لمّا ماتت جعل قبرها فى رأسه؛ فهذه القنزعة عوض عن تلك الوهدة. وهو طائر منتن البدن من جوهره وذاته. والأعراب يجعلون ذلك

النّتن شيئا خامره بسبب تلك الجيفة التى كانت على رأسه. ويستدلّون على ذلك بقول أميّة بن أبى الصّلت حيث يقول من أبيات: غيم وظلماء وغيث سحابة ... أزمان كفّن واستراد الهدهد يبغى الفرار لأمّه ليجنّها ... فبنى عليها فى قفاه يمهد مهدا وطيئا فاستقلّ بحمله ... فى الطير يحملها ولا يتأوّد من أمّه فجزى بصالح حملها ... ولدا وكلّف ظهره ما يعقد فتراه يدلج ماشيا بجنازة ... بقفاه ما اختلف الجديد المسند وزعم صاحب الفراسة: أن سبب نتنه أنّه يطلب الزّبل؛ فإذا وجده نقل منه وابتنى بيتا منه؛ فإذا طال مكثه فى ذلك البيت، وفى مثله ولد، اختلط ريشه وبدنه بتلك الرائحة فورث ابنه النّتن، كما ورثه هو من أبيه، وكما ورثه أبوه من جدّه. قال شاعر: وأنتن من هدهد ميّت ... أصيب فكفّن فى جورب ويقال عنه: إنه يرى الماء فى باطن الأرض كما يراه الإنسان فى باطن الزّجاج. وزعموا: أنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء ولذلك تفقّده، على أحد أقوال المفسر بن لكتاب الله تعالى. وقال الجاحظ فيه: إنه وفىّ حفوظ؛ وذلك أن الذكر إذا غابت عنه أنثاه لم يأكل ولم يشرب، ولا يزال يصيح حتى تعود إليه، فإن لم تعد لا يسفد بعدها أنثى أبدا، ولا يزال يصيح عليها ما عاش، ولم ينل بعدها من طعم بل ينال منه ما يمسك رمقه.

وأما العقعق وما قيل فيه

ووصفه أبو الشّيص «1» فقال: لا تأمننّ على سرّى وسرّكم ... غيرى وغيرك أوطىّ القراطيس أو طائر سأجلّيه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدسيس سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه فى الحسن مغموس قد كان همّ سليمان ليذبحه ... لولا سعايته فى ملك بلقيس وقال آخر من أبيات: كأنّه إذ أتاه من قرى سبإ ... مبشّرا قد كساه تاج بلقيس يبدو له فوق ظهر الأرض باطنها ... كما تبدّت لنا الأقذاء فى الكوس «2» *** وأمّا العقعق وما قيل فيه - ويسمى العقعق أيضا «كندشا» . وهو طائر لا يأوى تحت سقف ولا يستظل به، بل يهيّئ وكره فى المواضع المشرفة الفسيحة. وفى طبعه الزّنا والخيانة والسرقة والخبث؛ والعرب تضرب به المثل فى ذلك كلّه. وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدّلب خوفا عليه من الخفّاش، فإنه متى قرب منه مذر «3» وفسد وتغيّر من ساعته. وتقول العرب فى أمثالها: «أموق من عقعق» . وهو شديد الاستلاب والاختطاف لما يراه من الحلى الثمين. قال إبراهيم الموصلىّ فيه: إذا بارك الله فى طائر ... فلا بارك الله فى العقعق

وأما العصافير وما قيل فيها

قصير الذّنابى طويل الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق يقلّب عينين فى رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق وكان سبب قوله لهذا الشعر فيه ما حكاه إسحاق بن إبراهيم قال: كان لى عقعق وأنا صبىّ قد ربّيته، وكان يتكلّم بكلّ شىء يسمعه؛ فسرق خاتم ياقوت كان أبى قد نزعه من إصبعه ودخل الخلاء ثم خرج فلم يجده، فضرب الغلام الذى كان واقفا، فلم يقف له على خبر. فبينا أنا ذات يوم فى دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش ترابا وأخرج الخاتم منه، فلعب به طويلا ثم دفنه؛ فأخذته وجئت به الى أبى، فسرّ به وقال هذا الشعر. *** وأمّا العصافير وما قيل فيها - والعصافير ضروب كثيرة: منها «العصفور البيوتىّ» و «عصفور الشّوك» و «عصفور النّوفر» «1» . ومن ضروبها «القبّرة» و «حسّون» و «البلبل» . فأمّا العصفور البيوتىّ - ففى طباعه اختلاف: ففيه من طبائع سباع الطير أنه يلقم فراخه ولا يزقّها، ويصيد أجناسا من الحيوان كالنّمل إذا طار والجراد، ويأكل اللّحم. والذى فيه من طباع بهائم الطير أنه ليس بذى مخلب ولا منسر؛ وهو إذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخّر الدّابرة؛ وسباع الطير تقدّم إصبعين وتؤخّر إصبعين؛ ويأكل الحبّ والبقول. ويتميّز الذكر منها من الأنثى بلحية سوداء. وهو لا يعرف المشى وإنما يرفع رجليه ويثب. وهو كثير السّفاد،

وأما عصفور الشوك

وربما سفد فى الساعة الواحدة خمسين مرّة، ولذلك عمره قصير فإنّه لا يعمّر غالبا أكثر من سنة؛ وإناثها تعمّر أكثر من ذكورها. والمثل يضرب فى التحقير والتصغير بأحلام العصافير. قال دريد بن الصّمّة: يا آل سفيان ما بالى وبالكم ... أنتم كبير وفى الأحلام عصفور «1» وقال حسّان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير *** وأما عصفور الشّوك - فزعم أرسطو أنّ بينه وبين الحمار عداوة، لأن الحمار إذا كان به دبر حكّه بالشّوك الذى يأوى إليه هذا العصفور فيقتله؛ وربما نهق الحمار فتسقط فراخه أو بيضه خوفا منه؛ فلذلك هذا العصفور إذا رأى الحمار رفرف «2» فوق رأسه وعلى عنقه وآذاه ونقره فى عقره أنّى كان. *** وأما عصفور النّيلوفر - وهو لا يوجد غالبا إلا بثغر دمياط، وشأنه غريب؛ وذلك أنه عصفور صغير جدّا، فإذا كان قبل غروب الشمس جاء إلى برك النّوفر «3» فيجد النّوفرة وهى طافحة على وجه الماء مفتوحة فيقعد فى وسطها، فإذا

وأما القبرة

حصل فيها انطبقت عليه وانغمست فى الماء طول الليل؛ فإذا طلعت الشمس طفت النّوفرة على وجه الماء وانفتحت، فيخرج منها ويطير الى غروب الشمس، فيأتى ويفعل كفعله. *** وأما القبّرة - فقد عدّوها من أنواع العصافير. وهى غبراء كبيرة المنقار على رأسها قبّرة. وهذا الضرب قاسى القلب. وفى طبعه أنّه لا يهوله صوت صائح به، وربمّا رمى بالحجر فاستخف بالرامى ولطئ إلى الأرض حتى يتجاوزه الحجر. وهو يضع وكره على الجادّة رغبة فى الأنس بالناس. *** وأما حسّون - وتسميه أهل الأندلس «أمّ الحسن» والمصريون «السقاية» لأنه إذا كان فى القفص استقى الماء من إناء «1» بآلة لطيفة يوضع له فيها خيط، فتراه يرفع الخيط بإحدى رجليه ويضعه تحت رجله الأخرى حتى يصل إليه ذلك الإناء اللطيف فيشرب منه. وهو ذو ألوان حسنة التركيب والتأليف من الحمرة والصفرة والسواد والبياض والخضرة والزّرقة. وله صوت حسن مطرب. ووصفه أبو هلال العسكرىّ فقال: ومفتنّة الألوان بيض وجوهها ... ونمر تراقيها «2» وصفر جنوبها كأنّ دراريعا «3» عليها قصيرة ... مرقّعة أعطافها وجيوبها

وأما البلبل

وأما البلبل - وهو «العندليب» ، وتسميه أهل المدينة «النغر» . وهو طائر أغبر الرأس لطيف القدّ، مأواه الشجر. قال الجاحظ: البلبل موصوف بحسن الصوت والحنجرة. ومن شأنه «1» إذا كان غير حاذق أن يطارحه إنسان بشكل صوته، فيتدرّب ويتعلّم ويحسن صوته. وقد وصف أبو هلال العسكرىّ البلابل فقال: مررت بدكن القمص سود العمائم ... تغنّى على أطراف غيد نواعم زهين بأصداغ تروق كأنّها ... نجوم على أعضاد أسود فاحم ترى ذهبا منهنّ تحت مآخر ... لها ولجينا نطنه بالقوادم وقال آخر: كيف ألحى وقد خلعت على الله ... وعذارى وقد هتكت قناعى وتعشّقت بلبلا أنا منه ... فى انزعاج إلى الصّبا والتياع «2» أنا من ريشه المدبّج فى زه ... ر ومن شجو صوته فى سماع ومن رسالة ذكرها العماد الأصفهانىّ الكاتب فى الخريدة، وهى لبعض فضلاء أصبهان، ذكر فيها وصف الرّياض ومفاخرة الرّياحين، وفضّل فيها الورد، وانتهى بعد ذكر الورد إلى وصف البلابل، فقال:

«فلما ارتفع صدر النّهار، وانقطع جدال الأزهار؛ سمع من خلل «1» الحديقة زقزقة «2» عندليب، قد اتخذ وكرا على حاشية قليب «3» ؛ كان يستتر به عن الجمع، ويجعله دريئة لاستراق السّمع. وحين أتقن ما وعاه، وأودعه سمعه وأرعاه «4» ؛ انتحى غصنا رطيبا، فأوفى عليه خطيبا؛ ثم قال: يا فتنة الخليقه، لقد جئت بالشّنعاء الفليقه «5» ؛ وربّ بسم استحال احتداما، ولن تعدم الحسناء ذاما. إلام ترفل فى دلال زهوك، وتغفل عن رذائل سهوك! وحتّام تتيه على الأكفاء والأقران، كأنّك أنت صاحب القرآن! ألست من عجبك بنفسك، واسترابتك بأبناء جنسك؛ لا تزال مشتملا شوك الغصون، معتصما منها بأشباه المعاقل والحصون!. لكنك متى انقضى مهبّ الشّمال، وعدل عن اليمين إلى الشّمال؛ خيف عليك نفح الإحراق، وتعّريت من حلل الأوراق؛ وأصبحت للأرض فراشا، وتلعّب بك الهواء فعدت فراشا. ثم ما قدر جورتك حتى تجور! وهل ينتج حضوره «6» إلا الفجور!. هذا إذا كنتم على الأصل الثابت، وعرفتم فى أكرم المغارس والمنابت؛ فكيف وأنتم بين رملّى وجبلىّ، ونهبورىّ «7» أو تيهورىّ. وهب أنك ورهطك تفرّدتم بممايلة القدود، وتوحّدتم «8» بمشابهة الخدود؛ وصرتم درر البحور، وعلّقتم على الجباه والنّحور؛ وتحوّلتم جمانا ومرجانا، وحلّيتم مناطق وتيجانا؛ أقدرتم على

مباراة الشّحارير» ، ومجاراة القمارى النّحارير! أم ملكتم تهييج البلابل «2» ، قبل أصوات البلابل! أم وجدتم سبيلا إلى ولوج القلوب والأسماع، واتّخاذ «3» الطّرب والسّماع؟! هيهات هيهات، بعد عنكم ما فات! بل نحن ذوات الأطواق، وبنات الغصون والأوراق؛ إنما يكمل صيتكم بنغمات أصواتنا، ويزهو غناؤكم بصحة غنائنا؛ ويحسن تمايل دو حكم بترنّمنا ونوحنا، ويروق غديركم بهديرنا، ويشوق تهديلكم «4» بهديلنا. لم تزالوا حملة أثقالنا، رمهود أطفالنا؛ وجياد شجعاننا، ومنابر خطبائنا. فروعكم محطّ أرحلنا، ورءوسكم مساقط أرجلنا. إذا أوفى مطربنا على عوده، وعبث بملوى عوده؛ وشدّ المثالث والمثانى، شدّ الثّقلين الأوّل والثانى؛ فقد أحيا باللحن الأيكىّ، وبذّ يحيى «5» المكّىّ؛ وأعاد إبراهيم «6» ، كحاطب الليل البهيم؛ وخرق له «7» أثواب

مخارق «1» طربا وحسدا، ولم يسلم منه سليم «2» غيظا وكمدا؛ وأخذ قلب ابن جامع «3» بمجامعه، وطوّقه من الإقرار غلّا بمجامعه؛ حتى كأنّه بصحّة ضربه وإتقان أوتاره، يطلب عندهم قديم أحقاده وأوتاره. فهى تصبى «4» الأبصار لونا قريبا ... وتسرّ الأسماع ضربا بعيدا خضب الكفّ من دم القلب وابت ... زّ سويداءه فطوّق جيدا أعجمىّ اللّسان مستعرب اللح ... ن يعيد الخلّى صبّا عميدا كلّ وقت تراه من فرط شجو ... مظهرا فى الغناء لحنا جديدا تارة يجعل النّشيد بسيطا ... ويعيد البسيط طورا نشيدا معبد لو رآه أصبح عبدا ... ولبيد «5» أمسى لديه بليدا ضلّ عن إلفه وأقلقه الوج ... د فأمسى بكاؤه تغريدا

لو عارض الخليل «1» فى عروضه لبكّته، أو ناظر ابن السّكّيت «2» فى إصلاحه لسكّته؛ أو جادل الفارسىّ «3» لفرسه وجذله، أو نازل الكوفىّ «4» لأكفأه عن رتبته وأنزله» .

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى بغاث الطير ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى القمرىّ، والدّبسىّ، والورشان، والفواخت والشّفنين، واليعتبط، والنّوّاح، والقطا، واليمام وأصنافه، والببّغاء. وهذه الأصناف قد عدّها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أو أكثرها فى الحمام، فقال: الحمام وحشى، وأهلىّ، وبيوتىّ، وطورانىّ. وكلّ طائر يعرف بالنّواح وحسن الصّوت والدّعاء والتّرجيع فهو حمام وإن خالف بعضه بعضا فى الصّورة واللون وفى بعض النّوح ولحن الهديل. قال: وزعم أفليمون «1» صاحب الفراسة أنّ الحمام يتّخذ لضروب، منها ما يتّخذ للأنس والنّساء «2» والبيوت، ومنها ما يتّخذ للفراخ، ومنها ما يتخذ للزّجال والسّباق. والزّجال: إرسال الحمام الهوادى. ثم ذكر من أوصاف الحمام وما فيه من ضروب المعرفة والمنافع ما نورده عند ذكرنا للحمام المشتهر بهذه التّسمية، وهو الذى أشار الجاحظ إليه. فلنذكر تفصيل ما قدّمناه من هذه الأصناف، فنقول وبالله التوفيق:

أما القمرى وما قيل فيه

*** أمّا القمرىّ وما قيل فيه - فقد قالوا: إنما سمّى القمرىّ بهذه التسمية لبياضه، والأقمر: الأبيض. وحكاية صوته تشبه ضحك الإنسان. وهو شديد المودّة والرحمة. أما مودّته فإنه يفرّخ على فنن من أفنان شجرة عليها أعشاش لأبناء جنسه، فيصابحها فى كلّ يوم. وأمّا رحمته فإنه يربّى ولده ويعفّ عن أنثاه ما دام ولده صغيرا. ومن عادته أنه يعمل عشّه فى طرف فنن دائم الاهتزاز، احترازا على فرخه لئلا يسعى إليه من الحيوان الماشى ما يقتله. وقال أبو الفتح كشاجم [يصفه من أبيات رثاه بها أوّلها «1» ] : ومطوّق من حسن صنعة «2» ربه ... طوقين خلتهما من النّوّار [منها «3» :] لهفى على القمرىّ لهفا دائما ... يكوى الحشا بجوى كلذع النار لون الغمامة لونه ومناسب ... فى خلقه الأقلام بالمنقار *** وأمّا الدّبسىّ وما قيل فيه - وإنما سمّى الدّبسىّ بذلك للونه، لأنّ الدّبسة حمرة فى سواد. قالوا: والدّبسىّ أصناف، منها المصرىّ، والحجازىّ، والعراقىّ. وأفخر هذه الأصناف المصرىّ [ولونه الدكنة «4» ] . وهو لا يرى ساقطا على وجه الأرض، بل له فى الشتاء مشتى، وفى الصيف مصيف. ولا يعرف له وكر «5» .

وأما الورشان وما قيل فيه

وأمّا الورشان وما قيل فيه - والورشان أصناف منها النّوبىّ وهو ورشان أسود؛ ومنها الحجازىّ. والنوبىّ أشجاها صوتا. وهذا الطائر يوصف بالحنوّ على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها فى يد القانص «1» . وقال أبو بكر الصّنوبرىّ فيه: أنا فى نزهتين من بستانى «2» ... حين أخلوبه ومن ورشان طائر قلب من يغنّيه أولى ... منه عند الغناء بالطّيران مسمع «3» يودع المسامع ما شا ... ءت وما لم تشأ من الألحان فى رداء من سوسن وقميص ... زرّرته عليه تشرينان «4» قد تغشّى لون السماء قراه «5» ... وتراءى فى جيده الفرقدان وأمّا الفواخت وما قيل فيها - والفواخت عراقيّة ليست حجازيّة. وفيها فصاحة وحسن صوت. وفى طبعها أنها تأنس بالناس، وتعشّش فى الدّور.

وأما الشفنين وما قيل فيه

والعرب تضرب بها فى الكذب المثل، فيقولون: «أكذب من فاختة» ؛ فإنّ حكاية صوتها عندهم: «هذا أوان الرّطب» . قال شاعر: أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب والطّلع لم يبدلنا ... هذا أوان الرّطب وهو يعمّر. وحكى أرسطو أن منه ما عاش أربعين سنة. وقال أبو هلال العسكرىّ: مررت بمطراب الغداة كأنها ... تعلّ من الإشراق راحا مفلفلا منمّرة كدراء تحسب أنها ... تجلّل من جلد السّحاب «1» مفصّلا بدت تجتلى للعين طوقا ممّسكا ... وطرفا كما ترنو الغزالة أكحلا لها ذنب وافى الجوانب مثلما ... تقشّر «2» طلعا أو تجرّد منصلا إذا حلّقت فى الجوّ خلت جناحها «3» ... يردّ صفيرا أو يحرّك جلجلا وأمّا الشّفنين وما قيل فيه - والشفنين من الطير التى تترنّم؛ وصوته فى ترنّمه يشبه صوت الرّباب. وفى طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب «4» ، يأوى الى بعض فراخه حتى يموت؛ وكذلك الأنثى إذا فقدت الذّكر. وهو متى سمن سقط ريشه وامتنع من السّفاد؛ فهو لذلك لا يشبع. وهو طائر يؤثر «5» العزلة.

وأما اليعتبط وما قيل فيه

وأمّا اليعتبط وما قيل فيه - وإنما سمّى اليعتبط بهذه التسمية لصوته، وهو شريف فى طيور الحجاز. وحاله حال القمرىّ، ولكنه أحرّ منه مزاجا وأعلى صوتا. قال كشاجم: وناطق لم يخش فى النطق غلط ... ما قال شيئا قطّ إلا يعتبط وأمّا النّوّاح وما قيل فيه - والنوّاح: طائر كالقمرىّ، وحاله كحاله؛ إلّا أنّه أحرّ منه مزاجا وأرطب وأدمث وأشرف «1» . قالوا: يكاد النّوّاح يكون للأطيار الدّمثة ملكا، وهو يهيجها إلى التّصويت لأنه أشجاها صوتا؛ وجميعها تهوى استماع صوته. وهو أيضا يسرّه استماع صوت نفسه. والله أعلم بالصواب. *** وأمّا القطا وما قيل فيه - والقطا نوعان: «كدرىّ» و «جونىّ» . والكدريّة غبر الألوان، رقش الظهور والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب؛ وهى ألطف من الجون. والجونيّة سود بطون الأجنحة والقوادم بيض اللّبان «2» وفيه طوقان أسود وأصفر؛ وظهورها غبر رقط تعلوها صفرة. وتسمّى الجونيّة غتما «3» ؛ لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوّتت إنما تغرغر بصوت فى حلقها. والكدريّة فصيحة تنادى باسمها تقول: قطاقطا؛ ولهذا يضرب بها المثل فى الصدق.

وتوصف القطا بحسن المشى لتقارب خطاها. والعرب تشبّه مشى النّساء الخفرات بمشيها إذا أرادوا مدحهنّ. قال شاعر يصف القطاة- واختلف فى الشاعر من هو، فقيل: هو [أوس بن «1» ] غلفاء الهجيمىّ، وقيل: مزاحم العقيلى، وقيل: العباس بن يزيد بن الأسود الكندىّ، وقيل: العجير السّلولىّ، وقيل: عمرو بن عقيل بن الحجّاج الهجيمىّ؛ قال أبو الفرج الأصفهانىّ: وهو أصحّ الأقوال-: أمّا القطاة فإنّى سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها سكّاء «2» مخطوبة «3» فى ريشها طرق «4» ... سود قوادمها صهب خوافيها منقارها كنواة القسب «5» قلّمها ... بمبرد حاذق الكفّين باريها تمشى كمشى فتاة الحىّ مسرعة ... حذار قوم إلى ستر يواريها تسقى الفراخ بأفواه مرقّقة ... مثل القوارير سدّت من أعاليها كأن هيدبة «6» من فوق جؤجئها ... أو جرو «7» حنظلة لم يعد راميها «8» وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ: ولربّ طيّار خفيف قد جرى ... فشلا بجار خلفه طيّار

من كلّ قاصرة الخطا مختالة ... مشى الفتاة تجرّ فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمإ بكأس عقار لا تستقرّ بها الأيادى «1» خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار وقال المرّار أو العكبّ «2» التغلبىّ- وهى أجود قصيدة قيلت فى القطا-: بلاد مروراة «3» يحاربها القطا ... ترى الفرخ فى حافاتها يتحرّق يظلّ بها فرخ القطاة كأنّه ... يتيم جفا عنه «4» مواليه مطرق بديمومة «5» قد بات فيها وعينه ... على مره «6» تغضى مرارا وترمق شبيه بلا شىء هنا لك شخصه ... يواريه قيض «7» حوله متفلّق له محجر «8» ناب وعين مريضة ... وشدق بمثل الزعفران مخلّق تعاجيه «9» كحلاء المدامع حرّة ... لها ذنب ساج وجيد مطوّق

سماكيّة «1» كدريّة عرعريّة «2» ... سكاكيّة «3» عفراء سمراء عسلق «4» إذا غادرته تبتغى ما يعيشه ... كفاها رذاياها الرّقيع «5» الهبنّق غدت تستقى من منهل ليس دونه ... مسيرة شهر للقطا متعلّق لأزغب مطروح بجوز تنوفة ... تلظّى سموما قيظه فهو أورق «6» تراه إذا أمسى وقد كاد جلده ... من الحرّ عن أوصاله يتمزّق غدت فاستقلّت ثم ولّت مغيرة ... بها حين يزهاها الجناحان أولق «7» تيمّم ضحضاحا من الماء قد بدت ... دعا ميصه «8» فالماء أطحل «9» أطرق «10» فلما أتته مقدحرّا «11» تغوّثت «12» ... تغوّث مخنوق فتطفو وتغرق

ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعرية الجامعة لمجموع هذا النوع الذى ذكرناه

تجرّ «1» وتلقى فى سقاء كأنّه ... من الحنظل العامىّ جر ومعلّق فلمّا ارتوت من مائها لم يكن لها ... أناة وقد كادت من الرّىّ تبصق طمت «2» طموة صعدا ومدّت جرانها ... وطارت كما طار الشّهاب «3» المحلّق ذكر شىء من الأوصاف والتشبيهات الشعريّة الجامعة لمجموع هذا النوع الذى ذكرناه من ذلك قول بعض الشعراء: وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكى والدّيار البلاقع وهنّ على الأفلاق «4» من كلّ جانب ... نوائح ما تخضلّ منها المدامع مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطّمة بالدّرّ خضر روائع ترى طررا بين الخوافى كأنّها ... حواشى برود زينّتها الوشائع ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع وقال أبو الأسود الدؤلىّ من أبيات: وساجع فى فروع الأيك هيّجنى ... لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا أباكيا إلفه من بعد فرقته ... أم جازعا للنّوى من قبل أن تقعا يدعو حمامته والطير هاجعة ... فما هجعت له ليلا ولا هجعا

موشّح «1» سندسا خضر مناكبه ... ترى من المسك فى أذياله لمعا له من الآس طوق فوق لبّته ... من البنفسج والخيرىّ «2» قد جمعا كأنما عبّ «3» فى مسودّ غالية ... وحلّ من تحته الكافور فانتقعا «4» كأنّ عينيه من حسن اصفرارهما ... فصّان من حجر الياقوت قد قطعا كأنّ رجليه من حسن احمرارهما ... ما رقّ من شعب المرجان فاتّسعا شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى ... بين الجوانح من أوجاعه وجعا والريح تخفضه طورا وترفعه ... طورا فمنخفضا يدعو ومرتفعا كأنه راهب فى رأس صومعة ... يتلو الزّبور ونجم الصبح قد طلعا وقال ابن «5» اللّبانة الأندلسىّ: وعلى فروع الأيك شاد يحتوى ... طرفى لآخر تحتويه الأضلع يندى له رطب الهواء فيغتدى ... ويظلّه ورق الغصون فيهجع تخذ الأراك أريكة لمنامه ... فله إلى الأسحار فيها موضع حتى إذا ما هزّه نفس الصّبا ... والصبح، هزّك منه شدو مبدع فكأنما تلك الأراكة منبر ... وكأنه فيها خطيب مصقع

وقال بعض الأعراب [يصف مطوّقة «1» ] : دعت فوق ساق دعوة لو تناولت ... بها الصّخر من أعلى أبان «2» تحدّرا تبكّى بعين ليس تذرى دموعها ... ولكنّها تذرى الدموع تذكّرا محلّاة طوق ليس تخشى انفصامه ... إذا همّ أن يبلى تجدّد آخرا لها «3» وشح دون التّراقى وفوقها ... وصدر كمقطوف البنفسج أخضرا تنازعها الألوان «4» شتّى صقالها ... بدا لتلالى الشمس فيه تحيرا «5» وقال شاعر أندلسىّ: وما شاقنى إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والجسر مفتّق طوق لازوردىّ كلكل ... موشّى الطّلى أحوى القوادم والظهر أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقا من التّبر حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضّة مدّ من حبر توسّد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طىّ الجناح مع النّحر ولمّا رأى دمعى مراقا أرابه ... بكائى فاستولى على الغصن النّضر وحثّ جناحيه وصفّق طائرا ... فطار بقلبى حيث طار وما يدرى وقال آخر: كأنّ بنحرها والجيد منها ... إذا ما أمكنت للنّاظرينا مخطّا كان من قلم لطيف ... فخطّ بجيدها والنحر نونا

وأما اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه

وقال ابن الرّومى: مطوّقة تبكى ولم أر باكيا ... بدا ما بدا من شجوها لم يسلّب «1» وقد أوردنا فى باب الغزل والنّسيب من هذا المعنى فيما قيل على لسان الورقاء ما يستغنى عن تكراره. وأمّا اليمام وأصنافه وما وصف به وما قيل فيه - فالعرب تقول: إن هذه التسمية واقعة على النوع الذى تسمّيه عامّة الناس الحمام؛ وهو أصناف مختلفة الأشكال والألوان والأفعال، منها «الرّواعب» و «المراعيش» و «العدّاد» و «الميساق» و «الشّدّاد» و «القلّاب» و «الشّقّاق» و «المنسوب» . فأمّا الرّواعب - وهو ألوان كثيرة. وزعم الجاحظ أنه تولّد بين ورشان ذكر وحمام أنثى، فأخذ من الأب الجثّة ومن الأمّ الصوت، وفاته سرعة الطيران فلم يشبههما فيه؛ وله من عظم البدن وكثرة الفراخ والهديل والقرقرة ما ليس لأبويه، حتى صار ذلك سببا للزيادة فى ثمنه والحرص على اتّخاذه. وأمّا المراعيش - وهى تطير مرتفعة حتى تغيب عن النظر فترى فى الجوّ كالنّجم.

وأما العداد

وأمّا العدّاد - فهو طير ضخم، قليل الطيران [كثير الفراخ «1» ] . وأمّا المسياق - وهو أضخم من العدّاد وأنبل، ثقيل الجسم لا يستطيع الطيران إلّا قليلا. وأمّا الشدّاد - فهو لا يلزم الطيران فى الجوّ، وله قوّة فى جناحه [حتى يقال إنّه ربما يكسر الجوزبه، ولا يأتى من الغاية لبله فيه «2» ] . وأصحاب الرّغبات فى تربية هذا الصّنف يلقونه على البصريّات فيخرج من بينهما حمام يسمّى «المضرّب» يجتمع فيه هداية البصرىّ وشدّة الشّدّاد. والشدّاد يطير صعدا حتى يرى كالنّجم. وفى ذنبه إحدى وثلاثون ريشة. وأمّا القلّاب - فتسميّه العراقيون «الملّاح» ؛ وسمّى بذلك لتقلّبه فى طيرانه. والشّقّاق «3» - وطيرانه تحويم. وأمّا المنسوب «4» - ويسمّيه العراقيّون «الهوادى» ، والمصريون «5» يسمونه «البصارى» [يعنون «6» البصرية] ، وهو بالنسبة إلى ما تقدّم ذكره كالعتاق من

الخيل، وما عداه فيها كالبراذين. وفيها «العلوىّ» وهو ألطف جرما وأسرع طيرانا؛ وهو يطلب وكره ولو أرسل من مسافة ألف فرسخ، ويحمل البطائق ويأتى بها من المسافة البعيدة فى المدّة القريبة. قالوا: وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ فى يوم واحد. وسباع الطير تطلبه أشدّ طلب. وخوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره. وهو أطير منه ومن سباع الطير كلّها؛ لكنه يذعر فيجهل باب المخلص. والمحمود منه ما وصفه الجاحظ عن أفليمون صاحب الفراسة أنه قال: جميع الفراسة لا تخرج عن «1» أربعة أوجه: أوّلها التقطيع، والثانى المجسّة، والثالث الشمائل، والرابع الحركة. فأمّا التقطيع- فانتصاب العنق والخلقة، واستدارة الرأس من غير عظم ولا صغر، وعظم القرطمتين «2» ونقاؤهما، واتّساع المنخرين، وانهرات الشّدقين، وسعة الجوف، ثم حسن خلقة العينين مع توقّدهما، وقصر المنقار فى غير دقّة، ثمّ اتّساع الصدر، وامتلاء الجؤجؤ، وطول العنق، وإشراف المنكبين، وانكماش الجناحين، وطول القوادم فى غير إفراط، ولحوق بعض الخوافى ببعض، وصلابة القصب فى غير انتفاخ ولا يبس، واجتماع الخلق فى غير الجعودة والكزازة «3» ، وعظم الفخذين «4» ، وقصر السّاقين والوظيفين، وافتراق الأصابع، وقصر الذّنب وخفّته من غير تفنين «5» وتفريق، ثم توقّد الحدقتين وصفاء اللّون. فهذه علامة الفراسة فى التقطيع.

وأمّا علامة المجسّة- فوثاقة الخلق، وشدّة اللّحم، ومتانة العصب، وصلابة القصب، ولين الرّيش فى غير رقّة، وصلابة المنقار فى غير دقّة. وأمّا علامة الشمائل- فقلّة الاختيال، وصفاء البصر، وثبات النظر، وشدّة الحذر، وحسن التّلفّت، وقلّة الرّعدة عند الفزع، وخفّة النهوض إذا طار، وترك المبادرة إذا لقط. وأمّا علامة الحركة- فالطيران فى علوّ، ومدّ العنق فى سموّ، وقلّة الاضطراب فى جوّ السماء، وضمّ الجناحين فى الهواء، وتتابع الرّكض فى غير اختلاط، وحسن القصد فى غير دوران، وشدّة المدّ فى الطيران. فإذا أصبته جامعا لهذه الصفات فهو الطائر الكامل. وقد وصف الجاحظ الحمام فى كتاب الحيوان وبسط فيه القول ووسّع المجال. ونحن الآن نورد ملخّص ما قاله فيه، قال: ومن مناقب الحمام حبّه للناس وأنس الناس به، وهو من الطير الميامين. وهو إذا علم الذكر منه أنّه قد أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّما فى إعداد العشّ، ونقل القصب وشقق «1» الخوص، وأشباه ذلك من العيدان الخوّارة «2» الدّقاق، حتى يعملا أفحوصة وينسجاها نسجا متداخلا فى الموضع الذى اتّخذاه واصطنعاه عشّا بقدر جثمان الحمامة؛ ثم أشخصا لتلك الأفحوصة حروفا غير مرتفعة لتحفظ البيض وتمنعه من التّدحرج، ولتلزم كتفى الجؤجؤ، ولتكون رفدا لصاحب الحضن، وسندا للبيض؛ ثم يتعاوران ذلك المكان ويتعاقبان تلك الأفحوصة يسخّنانها

ويدفئانها ويطيّبانها «1» وينفيان عنها طباعها الأول ويحدثان لها طبيعة أخرى مشتقّة من طبائعهما ومستخرجة من رائحة أبدانهما وقواهما، لكى تقع البيضة إذا وقعت فى موضع يكون أشبه المواضع طباعا بأرحام الحمام مع الحضانة [والوثارة «2» ] ، كى لا تنكسر البيضة بيبس الموضع، ولئلا تنكر طباعها طباع المكان، وليكون على مقدار من البرد والسّخونة والرّخاوة والصّلابة. ثم إن ضربها المخاض وطرّقت ببيضها، بدرت إلى الموضع الذى قد أعدّته وتحاملت إليه، إلّا أن يقرعها رعد قاصف أو ريح عاصف فإنها ربما رمت بها دون الأفحوصة. والرّعد ربّما أفسد البيض. فإذا وضعت البيض فى ذلك المكان الذى أعدّاه لا يزالان يتعاقبان الحضن ويتعاورانه حتى تنتهى أيّامه ويتمّ ميقاته؛ فعند ذلك ينصدع البيض عن الفرخ، فيخرج عارى الجلد صغير الجناح مستدّ الحلقوم؛ فيعلمان أنّه لا يتّسع حلقه وحوصلته للغذاء، فلا يكون لهما همّ إلّا أن ينفخا فى حلق الفرخ الرّيح لتتّسع الحوصلة بعد التحامها. ثم يعلمان أنه وإن اتّسعت الحوصلة لا يحمل فى أوّل اغتذائه أن يزقّ بالطّعم، فيزقّ باللّعاب المختلط بقواهما وقوى الطّعم. ثم يعلمان أنّ الحوصلة تضعف عن استمراء الغذاء وهضم الطّعم فيأكلان من شروج «3» أصول الحيطان- وهو شىء من الملح المحض والتراب الخالص، وهذا هو السّبخ- فيزقّانه به. حتى إذا علما أنه قد اندبغ «4» واشتدّ زقّاه بالحبّ الذى قد غبّ فى حواصلهما؛ ثم يزقّانه بعد ذلك بالحبّ والماء. حتى إذا علما أنه قد أطاق

اللّقط معناه بعض المنع ليحتاج إلى اللّقط فيتعوّده. فإذا علما أنّ إرادته قد تمّت وأنه قد قوى على اللّقط وبلغ بنفسه منتهى حاجته، ضرباه إذا سألهما الكفاية، ونفياه متى رجع إليهما، وتنتزع تلك الرحمة العجيبة منهما وينسيان ذلك التعطّف. ثم يبتدئان العمل ثانيا على ذلك النظام وتلك المقدّمات. فسبحان الهادى الملهم. قال: ثم يبتدئ الذّكر بالدّعاء والطّراد؛ وتبتدئ الأنثى بالتّأتّى والاستدعاء، ثم تزيف «1» وتشكل «2» ، وتمكّن وتمنع، وتجيب وتصدف بوجهها؛ ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويكون بينهما قبل وارتشاف وإدخال فمها فى فمه؛ وذلك هو التّطاعم والمطاعمة. قال الشاعر: لم أعطها «3» بيدى إذ بتّ أرشفها ... إلّا تطاول غصن الجيد بالجيد كما تطاعم فى خضراء ناعمة ... مطوّقان أصاخا بعد تغريد قال أبو عثمان: ومما أشبه فيه الحمام الناس أن ساعات الحضن على البيض أكثرها على الأنثى، وإنما يحضن الذكر حضنا يسيرا. والأنثى كالمرأة فى كفالة الصبىّ، حتى إذا ذهب الحضن وصار البيض؟؟؟ صراخا كالأطفال فى البيت يحتاجون إلى الطعام والشّراب صار أكثر ساعات الزّقّ على الذكر. وقال: قال مثنّى بن زهير- وهو إمام الناس فى البصرة بالحمام-: لم أر شيئا قطّ فى رجل ولا امرأة إلّا وقد رأيت مثله فى الذكر والأنثى من الحمام. رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها، كالمرأة لا تريد إلّا زوجها أو سيّدها. ورأيت حمامة لا تمنع شيئا من الذّكورة؛ ورأيت امرأة لا تمنع يد لامس. ورأيت

حمامة لا تزيف إلّا بعد طراد شديد وشدّة طلب، ورأيتها تزيف لأوّل ذكر يريدها، ورأيت من النساء كذلك. ورأيت حمامة لها زوج وهى تمكّن ذكرا آخر لا تعدوه، ورأيت مثل ذلك فى النساء. ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيتها لا تفعل ذلك إلّا وذكرها يطير أو يحضن. ورأيت الحمامة تقمط الحمامة، ورأيت الحمام الذكر يقمط الذكر. ورأيت أنثى كانت لا تقمط إلّا الإناث، ورأيت أخرى تقمط الإناث فقط ولا تدع أنثى تقمطها، ورأيت ذكرا يقمطها ويدعها حتى تقمطه. ورأيت ذكرا يقمط الذكور وتقمطه؛ ورأيت ذكرا يقمط الذكور ولا يدعها تقمطه؛ ورأيت أنثى تزيف للذكور ولا تدع شيئا منها يقمطها؛ ورأيت هذه الأصناف كلّها فى السّحّاقات واللّاطة. قال: وامتنعت علىّ خصلة فو الله لقد رأيتها؛ لأنى رأيت من النساء من تزنى أبدا وتساحق أبدا ولا تتزوّج؛ ومن الرجال من يلوط أبدا ويزنى أبدا ولا يتزوّج، ورأيت حماما ذكرا يقمط ما لقى ولا يزاوج، ورأيت حمامة تمكّن كلّ حمام أرادها من ذكر أو أنثى وتقمط الذكورة والإناث ولا تزاوج، ورأيتها تزاوج ولا تبيض، وتبيض فيفسد بيضها، كالمرأة. قال: ورأيت ذكرا له أنثيان وقد باضتا منه، وهو يحضن مع هذه ومع تلك ويزقّ مع هذه ومع تلك، ورأيت أنثى تبيض بيضة، ورأيت أنثى تبيض فى أكثر حالاتها ثلاث بيضات. قال: ورأيت حمامة تزاوج هذا الحمام ثم تتحوّل منه إلى آخر، ورأيت ذكرا فعل مثل ذلك فى الإناث، ورأيت الذكر كثير النّسل قويّا على القمط. قال الجاحظ: والحمام يبيض عشرة أشهر من السنة؛ فإذا صانوه وحفظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنوا تعهّده باض فى جميع السنة. والفواخت والأطرغلّات «1»

والحمام البرّىّ تبيض مرّتين فى السنة. قال: ويتمّ خلق الحمام فى أقلّ من عشرة أيام. والحمامة فى أكثر أمرها يكون «1» أحد فرخيها ذكرا والآخر أنثى؛ وهى تبيض أوّلا البيضة التى فيها الذكر ثم تقيم يوما وليلة وتبيض الأخرى. وتحضن ما بين السبعة عشر يوما إلى العشرين. والأنثى أبرّ بالبيض، والذكر أبرّ بالفراخ. ولقد أطنب أبو عثمان الجاحظ وأوغل وبسط القول فى ذكر الحمام وأوصافه ومناقبه والمغالاة فى ثمنه والحرص على اقتنائه، حتى إنه قال: وللحمام من الفضيلة والفخر أنّ الحمام الواحد يباع بخمسمائة دينار؛ ولم يبلغ ذلك باز ولا شاهين ولا عقاب. قال: وأنت إذا أردت أن تتعرّف مبلغ ثمن الحمام الذى جاء من الغاية ثم دخلت بغداد والبصرة، وجدت ذلك بلا معاناة. وهذا يدلّ على أنّ قوله فيه كان مشهورا عندهم فى وقته. ثم قال: والحمام إذا جاء من الغاية بيع الذّكر من فراخه بعشرين دينارا وأكثر، وبيعت الأنثى بعشرة دنانير وأكثر [وبيعت البيضة «2» بخمسة دنانير] ؛ فيقوم الزوج منها من الغلّة مقام ضيعة، حتى ينهض بمؤونة العيال وبقضاء الدّين، وتبنى من غلّاته «3» وأثمان رقابه الدّور والجنان وتبتاع الحوانيت. ثم وصف حجر الحمام ومقاصيرها المبنيّة فى ذلك الزمان وما يعانيه أهلها من حديثها «4» والاحتفال بها فى المسابقة وغيرها. وأطال فى ذلك. وقال: وللحمام من حسن الاهتداء، وجودة الاستدلال، وثبات الحفظ والذّكر، وقوّة النزاع إلى أربابه، والإلف لوطنه، أن يكون طائرا من بهائم الطير يجىء من مسافة كذا إلى مسافة كذا. قال: ولن ترى جماعة طير أكثر طيرانا

إذا كثرن من الحمام؛ فإنّهنّ كلما التففن «1» وضاق موضعهنّ كان أشدّ لطيرانهنّ. قال النابغة: واحكم كحكم فتاة «2» الحىّ إذ نظرت ... إلى حمام شراع «3» وارد الثّمد يحفّه «4» جانبا نيق «5» وتتبعه ... مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد فأكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة فى ذلك العدد قال الأصمعىّ: لما أراد أن يمدح الحاسب وسرعة إصابته شدّد الأمر وضيّقه عليه ليكون أحمد له إذا أصاب؛ فجعله حزر طيرا والطير أخفّ من غيره؛ ثم جعله

ذكر ما قيل فى طوق الحمامة

حماما والحمام أسرع الطير وأكثر اجتهادا فى السرعة إذا كثر عددهنّ، وذلك أنه يشتدّ طيرانه عند المسابقة والمنافسة. وقال: «يحفّه جانبا نيق وتتبعه» ، فأراد أن الحمام إذا كان فى مضيق من الهواء كان أسرع من أن يتسع عليه الفضاء. والله أعلم بالصواب. ذكر ما قيل فى طوق الحمامة يقال: إنّ نوحا صلى الله عليه وسلم لما كان فى السفينة بعث الغراب ليكشف له هل ظهر من الأرض موضع، فوقع على جيفة فلم يرجع إليه؛ فبعث بالحمامة، فاستجعلت على نوح الطّوق الذى فى عنقها فجعل لها ذلك جعلا. وفى ذلك يقول أميّة بن أبى الصّلت: وأرسلت الحمامة بعد سبع ... تدلّ على المهالك لا تهاب تلمّس هل ترى فى الأرض عينا ... وعاينه من الماء العباب «1» فجاءت بعد ما ركضت بقطف ... عليه «2» الثّأط «3» والطّين الكباب «4» فلمّا فرّسوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السّخاب «5» إذا ماتت تورّثه بنيها ... وإن تقتل فليس لها «6» استلاب

وقال أيضا فيها: سمع الله لابن آدم نوح ... ربّنا ذو الجلال والإفضال حين أوفى بذى الحمامة والنا ... س جميعا فى فلكه كالعيال حابسا خوفه عليه رسولا ... من خفاف الحمام كالتّمثال فرشاها على الرّسالة طوقا ... وخضابا علامة غير بال فأتته بالصّدق لمّا رشاها ... وبقطف لمّا بدا عثكال «1» قوله: «فرشاها» أى جعل لها جعلا. وقال فيها: وما كان أصحاب الحمامة خيفة ... غداة غدت منهم تضمّ الخوافيا رسولا لهم والله يحكم أمره ... يبين لهم هل برنس التّرب باديا فجاءت بقطف آية مستبينة ... فأصبح منها موضع الطين جاديا «2» على خطمها واستوهبت ثم طوقها ... وقالت ألا لا تجعل الطوق حاليا ولا ذهبا إنى أخاف نبالهم ... يخالونه مالى وليس بماليا وزدنى على طوقى من الحلى زينة ... تصيب إذا أتبعت طوقى خضابيا وزدنى لطرف الطين منك بنعمة ... وورّث إذا ما متّ طوقى حماميا يكون لأولادى جمالا وزينة ... وعنوان زينى زينة من ترابيا

ذكر شىء مما وصف به هذا النوع نظما ونثرا

ذكر شىء مما وصف به هذا النوع نظما ونثرا قال عبد الواحد بن فتوح الأندلسىّ يصف حماما بسرعة الطيران والسّبق: يجتاب أودية السّحاب بخافق ... كالبرق أومض فى السّحاب فأبرقا لو سابق الريح الجنوب لغاية ... يوما لجاءك مثلها أو أسبقا يستقرب الأرض البسيطة مذهبا ... والأفق ذا السّقف الرفيعة مرتقى ويظلّ يسترقى السماء بخافق ... فى الجوّ تحسبه الشّهاب المحرقا يبدو فيعجب من رآه لحسنه ... وتكاد آية عنقه أن تنطقا مترقرقا من حيث درت كأنما ... لبس الزجاجة أو تجلب زئبقا وقال أبو هلال العسكرىّ فى حمام أبلق: ومتّفقات الشكل مختلفاته ... لبسن ظلاما بالصباح مرقّعا أخذن من الكافور أنفا ومنسرا «1» ... وخضّبن بالحنّاء كفّا وإصبعا وترنو بأبصار إذا ما أدرنها ... جلون عقيقا للعيون مرصّعا تطير بأمثال الجلام كأنّها ... جنادل تدحوها ثلاثا وأربعا تبوع «2» بها فى الجوّ من غير فترة ... كأنّ مجاديفا تبوع بها معا إذا هى عبّت فى الغدير حسبتها ... تزقّ فراخا فى المغاور جوّعا وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ من رسالة يصف طائرا جاء من غاية: «وكان هذا الطائر أحد الرسل المسيّرة بل المبشّره، والجنود المجرّدة بل المسخّره؛ فإنها لا تزال أجنحتها تحمل من البطائق أجنحه، وتجهّز من جيوش المقاصد والاقلام

وأما الببغاء وما قيل فيها

أسلحه؛ وتحمل من الأخبار ما تحمل الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر؛ وتزوى لها حتى ترى ما سيبلغه ملك هذه الأمّة، وتقرب بها السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همّه؛ وتكون مراكب للأغراض لمّا كانت الأجنحة قلوعا، وتركب الجوّ بحرا يصفّق فيه هبوب الرياح موجا مرفوعا؛ وتعلّق الحاجات على أعجازها، فلا تعرف الإرادات غير إنجازها. ومن بلاغات البطائق استعارت ما هى به مشهورة من السّجع، ومن رياض كتبها ألفت الرياض فهى إليها دائمة الرّجع. وقد سكنت البروج فهى أنجم، وأعدّت فى كنائنها فهى للحاجات أسهم. وقد كادت تكون ملائكة فإذا نيطت بالرّقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقرّبها، وجعلها طيف اليقظة الذى صدق العين وما كذبها. وقد أخذت عهود الأمانة فهى فى أعناقها أطواقا، فأدّتها من أذنابها أوراقا؛ فصارت خوافى وراء الخوافى، وغطّت سرّها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافى «1» ؛ ترغم النّوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ فهى أنبياء «2» الطير لكثرة ما تأتى به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على منابر الأغصان مقام الخطباء» . والله أعلم بالصواب. وأما الببّغاء وما قيل فيها - والببّغاء طائر هندىّ، وحبشىّ. حسن الخلق، دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوّة على حكاية الأصوات بالتلقين والتعليم؛ تتخذه الملوك وأكابر الناس فى منازلهم. وفى لونه الأخضر والأغير والأسود والأحمر

والأصفر والأبيض. وهذه الألوان كلّها قليلة نادرة الوجود إلّا الأخضر والأغبر. وقد شاهدت أنا بالقاهرة المعزّيّة درّة «1» بيضاء. وحكى أنه أهدى إلى معزّ الدولة «2» ابن بويه ببغداد هديّة من اليمن كان فيها ببّغاء بيضاء، سوداء المنقار والرجلين، وعلى رأسها ذؤابة فستقيّة. وهذا الطائر يتناول الطّعم برجله. وله منقار معقّف قصير يكسر به ما صلب وينقب به ما تعسّر نقبه. وهو فى مأكله ومشربه كالإنسان التّرف الظريف. والناس يحتالون على تلقينه بأن ينصبوا تجاهه مرآة يرى خياله فيها ويتكلّم الإنسان من ورائها، فيتوهّم الطائر أنّ خياله فى المرآة هو المتكلّم فيأخذ نفسه بحكاية ما يسمعه من ذلك الصوت. وقال المولى تاج الدين عبد الباقى اليمانىّ رحمه الله فيها ملغزا: يا سيّدا أبدع فى المقال ... ويا رئيسا فاق فى المعالى ما حيوان مشبه الإنسان ... مرتّل الآيات فى القرآن ذو مبسم صيغ من النّضار ... ومقلة قد ركّبت من قار ومخلب يكسّر الصّليبا ... ومنطق يفاخر الخطيبا ذو حلّة بنديّة البرود ... منسوجة من أخضر البنود كروضة قد أينعت أزهارها ... وأدهشتنا بالغنا أطيارها

قد جمعت فى ذاته ألوان ... كأنّه فى خلقه بستان فذاته من ناصع الزّبرجد ... ونوره مركّب من عسجد وتارة يبصر من أقاحى ... خلقته «1» فى سائر النواحى وعرفه من خالص المداد ... ونطقه مستحكم الإيراد يأكل بالكفّ خلاف الطير ... ويغتدى وهو قدير السّير إن لقط الحبّ لدى تفريقه ... رأيت درّا جال فى عقيقه يحفظ بيت المرء فى المغيب ... ويغتدى كالحارس المرهوب سميّه فى أسفل البحار ... مستودع فى آخر التيّار إليه يعزى الشاعر المجيد ... والكاتب النّحرير والمجيد فاكشف معمّى ما لغزت يا إمام ... واسلم على مرّ الدهور فى الدّوام

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلى

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الطير الليلىّ ويشتمل هذا الباب على ذكر ما قيل فى الخفّاش، والكروان، والبوم، والصّدى. فأمّا الخفّاش وما قيل فيه - فالخفّاش ليس من الطير فى شىء؛ فإنه ذو أذنين ظاهرتين وأسنان وخطم وخصيتين بارزتين، ويبول كما تبول ذوات الأربع، ويحيض، ويلد، ويرضع، ولا ريش له. قال بعض المفسّرين لكتاب الله عزّ وجلّ: إنّ الخفّاش هو الطائر الذى خلقه عيسى بن مريم عليه السلام بإذن الله تعالى؛ ولذلك هو مباين لصنعة الخالق؛ ولهذا سائر الطير تقهره وتبغضه؛ فما كان منها يأكل اللحم أكله، وما لا يأكل اللحم قتله؛ فلذلك لا يطير إلّا ليلا. وطعامه البعوض والفراش يصيدهما وقت طيرانه، ولا يبلغ ذلك إلا بما فيه من سرعة الاختطاف وشدّة الطيران ولين الأعطاف. وهو مع ذلك ليس بذى ريش وإنما هو لحم مغشّى بجلد صلب كأنّه جلد ضفدع، وهو يطير بغير ريش؛ وهذا من العجب. وهو لا يطير فى ضوء ولا ظلمة. وسبب ذلك أنه ضعيف حاسّة البصر، قليل شعاع العين؛ فالشمس تضعف بصره عن التحديق فى شعاعها، والظلمة تغمر ضياء بصره؛ فهو يجعل طيرانه لطلب قوته وقت غروب الشمس وظهور الشّفق. [وذلك وقت هيج البعوض وانتشاره «1» ] . ومنازله تكون فى الجبال وصدوع الصخور وبسيط

الفيافى وجزائر البحر والأماكن الخربة المهجورة. وهو يطلب قرب الناس؛ فإذا كان فى بيوتهم قصد أرفع مكان وأحصنه فيكون فيه. ويذكر بطول العمر، ويكبر حتى يكون فى قدر الحدأة وأكبر. وهو يلد ما بين الثلاثة إلى التسعة. ويسفد غالبا وهو طائر فى الهواء. وهو يحمل ولده تحت جناحه، وربما قبض عليه بفيه لإشفاقه عليه. وربّما أرضعت الأنثى ولدها وهى طائرة. أخبرنى من شاهد ذلك ممن يعتمد على نقله. وهو متى أصابه شجر الدّلب خدر. قال الجاحظ: والخفّاش يأتى الرّمّانة وهى على شجرتها فينقب عنها ويأكل جميع ما فيها حتى لا يدع إلا القشر وحده. قال: ولحوم الخفافيش موافقة للشواهين والصّقور والبوازى ولكثير من جوارح الطير، وهى تسمن عنها وتصحّ أبدانها عليها، ولها فى ذلك عمل محمود ناجع عظيم النفع بيّن الأثر. وقال بعض الشعراء فى الخفّاش ملغزا: وطائر جناحه فى رجله ... أبعد شىء فصّه من وصله» لم يوصف «2» الله بخلق مثله ... وهو على تآلف فى شكله لو بيع فى سوق له لم أغله وقال آخر: أبى علماء الناس أن يخبروننى ... وقد ذهبوا فى العلم فى كلّ مذهب بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب

وأما الكروان وما قيل فيه

وأمّا الكروان وما قيل فيه - والكروان طائر من طبعه وعادته الطيران فى الليل، والإدلاج والصّياح بالأسحار، والإشراف على مواضع العساكر. ويوصف بالحمق؛ ومن حمقه أنه يقال له: أطرق كرا، فيلصق بالأرض حتى يرمى. وتقول العرب: «أطرق كرا أطرق كرا إنّ النّعامة فى القرى «1» » . وأمّا البوم وما قيل فيه - ويقال: إنه الصّدى، ويقال: بل الصّدى ذكر البوم، وللبوم ذكر له منه. ويقال: إنه خمسة أصناف: منه ما يصيد الأرنب. ومنه صنف له لونان يأوى الاكام والبرّيّة. ومنه المدبّج بالصّفرة، وله حواجب وقرون من ريش، ويسكن الجدران. ومنه الهام ويسمّى «الغبشيّة «2» » . ومنه «القن» وهو يصيح كالهام لكنّ صوته أدقّ. وكل هذه الأصناف تحب الخلوة بنفسها. وهى تبغض الغربان، وسائر أصناف الطير تبغضها؛ فإنّ الطيور إذا رأينها يطرن حولها وينتفن ريشها؛ فلذلك صيّاد والطيور يجعلونها فى مصايدهم؛ لأن الطيور إذا رأوها اجتمعوا عليها، فتصاد عند ذلك.

وأما الصدى وما قيل فيه

وأما الصّدى وما قيل فيه - فالعرب تزعم أن الإنسان إذا مات أو قتل تتصوّر نفسه فى صورة طائر تصرخ على قبره مستوحشة لجسدها. وفى ذلك يقول توبة: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت ... علىّ ودونى جندل وصفائح لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح ويحكون على ذلك حكاية «1» . وتقول العرب: إنّ هذا الطائر يكون صغيرا ثم يكبر حتى يصير فى قدر البوم، ويسمّونه الهام، واحده هامة. وهو يتوحّش ويصيح ويوجد فى الدّيار المعطّلة والنّواويس «2» وحيث مصارع القتلى وأجداث الأموات. ويقولون: إنه لا يزال عند ولد الميّت ومخلفيه ليعلم ما يكون بعده فيخبره. وهذا كلّه أراه من خرافات العرب وأكاذيبها. وما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» الحديث. والله أعلم.

الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج

الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثالث فى الهمج وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فيه: إنه ليس من الطير، ولكنّه مما يطير كالحشرات مما يمشى. والذى أطلق عليه اسم الهمج هو مما يشتمل عليه هذا الباب، وهو النّحل، والزّنبور، والعنكبوت، والجراد، ودود القزّ، والذّباب، والبعوض، والبراغيث، والحرقوص. فأمّا النحل وما قيل فيه - قال الله عزّ وجلّ: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) . وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه: أنّ رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخى يشتكى بطنه يا رسول الله؛ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فقال: قد فعلت؛ فقال: «اسقه عسلا» . ثم أتاه فى الرابعة؛ فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا» ؛ فسقاه فبرئ الرجل. وقال أرسطو: النحل تسعة أصناف: ستّة منها يأوى بعضها إلى بعض، وذكر أسماءها باليونانيّة. وغذاء «1» النحل من الفضول «2» الحلوة والرّطوبات. والنحل

لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد؛ وإن قعدت على زهر آخر فإنما تقعد عليه بعد أن تنصرف إلى الخليّة. وبيوتها من أعجب المبانى؛ لأنها مبنيّة على الشكل الذى لا ينتهك ولا ينخرق، كأنه حرّر بآلة وقياس هندسىّ. وإذا هلك شىء من النحل فى باطن الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارجها. وهو يعمل فى فصل الربيع والخريف. والرّبيعى أجود من الخريفىّ. والصغير منه أعمل من الكبير. وهو يشرب من الماء النقىّ العذب الصّافى، ويطلبه حيث كان. وهو يسلخ جلده كالحيّات. وتوافقه الأصوات المطربة. ويجتمع للتصفيق بالأيدى والرّقص. والسوس يضرّه. ودواؤه أن يطرح فى كل خليّة كفّ من الملح، وأن تفتح فى كلّ شهر مرّة وتدخّن بأخثاء البقر. وقد وصف الشعراء الشّهد والعسل فى أشعارها؛ فمن ذلك قول إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ يصف شهدة بعث بها إليه بعض أصدقائه: لله ريقة نحل ... رعى الرّبى والشّعابا وجاب أرضا فأرضا ... يغشى مصابا مصابا «1» حتّى ارتوى من شفاء ... يمجّ منه رضابا إن شئت كان طعاما ... أو شئت كان شرابا وكتب مع هذه الأبيات رسالة، جاء منها: «وكفى النّحلة فضيلة ذات، وجلالة صفات؛ أنّها أوحى إليها، وأثنى فى الكتاب عليها؛ تعلم مساقط الأنداء، وراء البيداء؛ فتقع هناك على نوّارة عبقه، وبهارة «2» أنقه؛ ثم تصدر عنها [بما تطبعه

وأما الزنبور وما قيل فيه

شمعه، وتبدعه صنعه؛ وترتشف منها «1» ] ما تحفظه رضابا، وتلفظه شرابا؛ وتتجافى بعد منه عن أكرم مجتنى، وأحكم مبتنى. وأمّا الزّنبور وما قيل فيه - والزنبور يسمّى «الدّبر» . وهو جبلىّ وسهلىّ. فالجبلىّ يأوى الجبال والأماكن الخشنة، وقد يعشّش على الشّجر، ولونه إلى السواد. والسّهلىّ أحمر اللون ويتّخذ عشّه تحت الأرض ويخرج التراب منه كما يفعل النّمل، وهو يختفى فى الشتاء فلا يظهر، وأكثره يهلك. ومن السّهلىّ صنف مختلف الألوان مستطيل؛ وفى طبعه الشّره يطلب المطابخ ويأكل اللحم، ويطير مفردا ويسكن بطن الأرض. وصنف الزنبور جميعه مقسوم فى وسطه؛ وهو لذلك لا يتنفّس من جوفه البتّة. ومتى غمس فى الدّهن سكنت حركاته وذلك لضيق منافذه. وقد وصفه الشعراء. فمن ذلك قول السّلامىّ: ولابس لون واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع أغرّ تردّى طيلسانا مدبّجا ... وسود المنايا فى حشاه ودائع إذا حكّ «2» أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع «3» يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفى عن الأقران ما هو صانع بدا فارسىّ الزّىّ يعقد خصره ... عليه قباء زيّنته الوشائع «4»

وأما العنكبوت وما قيل فيه

فمعجره «1» الوردىّ أحمر ناصع ... ومئزره التّبرىّ أصغر فاقع يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقى كؤوسا ملؤها السمّ ناقع وقال السّرىّ الرّفّاء يصفه: ومخطف «2» الخصر برده حبر «3» ... نحذره وهو خائف حذر مجنّح طار فى مجنّحة ... تصعد طورا به وتنحدر كأنّها والرياح تنثرها ... غرائب الزّهر حين تنتثر «4» لها حمات كأنها شعر ... تظهر مسودّة وتستتر قد أذهبت فى الجبين «5» غرّته ... إذ فضّضت فى جيادنا الغرر سلاحه الدّهر فى مؤخّره ... يطعن طورا به وينتصر كأنّ شطر الذى يجرّده ... من بين فكّيه حيّة ذكر وأمّا العنكبوت وما قيل فيه - قد ضرب الله عزّ وجلّ المثل فى الوهن بالعنكبوت؛ فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) . والعنكبوت أصناف: منها صنف يسمّى «الرّتيلا» «6» من ذوات السموم القواتل، وهو عنكبوت

صغير. ومنه صنف طويل الأرجل. ومنه صنف يسمّى «اللّيث» يصيد الذّباب، وله ست عيون وثمانى أرجل؛ وقال الجاحظ: ولد العنكبوت يقوى على النّسج ساعة يولد، وذلك من غير تلقين ولا تعليم. وأوّل ما يولد دودا صغارا، ثم يتغيّر ويصير عنكبوتا. وهو يطاول فى السّفاد «1» . ومنه ما هو كبير ونسجه ردىء، ومنه ما هو دقيق. وهو فى نسجه يمدّ السّدى ثم يعمل اللّحمة، ويبتدئ من الوسط؛ ويهيّئ موضعا لما يصيده يكون له كالخزانة. والأنثى منه هى التى تنسج، والذكر يحلّ وينقض. والتى تنسجه لا تخرجه من جوفها بل من خارج جسدها. وفم العنكبوت مشقوق بالطول. وهو إذا صاد الذّباب يثب عليه وثوب الفهد. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ نسج العنكبوت يقطع نزف الدّم إذا جعل على الجراحة، وإذا وضع نسجه على القروح منعها أن ترم وعلى الجراحات «2» . وإذا طبخ العنكبوت الذى هو غليظ النّسج أبيضه بدهن الورد وقطّر فى الأذن سكّن وجعها. قال: وقال بعضهم: إنّ نسج العنكبوت إذا خلط ببعض المراهم ووضع على الجبهة والصّدغين أبرأ حمّى الغبّ. قال: وزعم بعضهم أنّ نسج الصّنف الذى يكون نسجه كثيفا أبيض إذا شدّ فى خيط وعلّق على العنق والعضد أبرأ حمّى الغبّ. وقال ابن الرومىّ يصف فهد العنكبوب: أعجب مستفاد ... أفادنى زمانى من الفهود فهد ... فى الاسم والعيان

وأما الجراد وما قيل فيه

تلك ذوات أربع ... وذاك ذو ثمان كأنما ارجله ... مخالب النّغران «1» سيفاه سيفا بطل ... والدرع درع جان مستأنس ما إن بنى ... والإنس فى مكان وصائد وهو من ال ... مصيد «2» فى أمان ذبابه فى كفّه ال ... طائر مثل الو؟؟؟ وليس يبغى بدلا ... بطائر الخوان إذا دنا فلم يكن ... بينهما عقدان عانقه أسرع من ... تعانق الأجفان بخفّة الوثوب بل ... بجرأة الجنان فهو عزيز عزّة ... فى غاية الهوان وقال خلف الأحمر فى الرّتيلاء: ابعث له يا ربّ ذات أرجل ... فى فمها أحجن «3» مثل المنجل دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل وأمّا الجراد وما قيل فيه - فالجراد أحد جند الله الذى عذّب الله به قوم فرعون؛ قال الله تعالى: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ

وَالضَّفادِعَ) . والعرب تقول: سرأ؟؟؟ الجرادة إذا باضت. فإذا خرج من بيضه فهو «دبى» ، ويخرج دودا أصهب إلى البياض. فإذا تلوّنت فيه خطوط صفر وسود وبيض فهو «المسيّح» . فإذا ضمّ جناحيه فذاك «الكتفان» ؛ لأنه حينئذ يكتف [فى «1» ] المشى. فإذا ظهرت أجنحته وصار أحمر إلى الغبرة فهو «الغوغاء» والواحدة غوغاءة؛ وذلك حين يستقلّ فيموج بعضه فى بعض و [لا «2» ] يتوجّه إلى جهة. فإذا بدت فى لونه الحمرة والصفرة واختلف فى ألوانه فهو «الخيفان» . فإذا اصفرّت الذكور واسودّت الإناث سمّى حينئذ «جرادا» . [وهو إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة والصخور الصّلبة التى لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتنفرج له، ثم يلقى بيضه فى ذلك الصّدع فيكون له كالأفحوص ويكون حاضنا له ومربّيا «3» ] . والجرادة لها ستّ أرجل: يدان فى صدرها، وقائمتان فى وسطها، ورجلان فى مؤخّر جسدها. وطرفا رجليها منشاران. والجراد من الحيوان الذى ينقاد إلى رئيس [يجتمع إليه كالعسكر، إن ظعن أوّله تتابع كلّه ظاعنا؛ وإذا نزل أوّله نزل جميعه «4» ] . ولعابه سمّ على الأشجار، لا يقع على شىء منها إلا أهلكه. والجرادة فيها شبه من عشرة من جبابرة الحيوان، وهى: وجه فرس، وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا إيّل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وفخذا جمل ورجلا نعامة، وذنب حيّة. قال شاعر «5» : لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم حبتها أفاعى الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم

وقال أبو علىّ بن سينا: أجود الجراد السمين الذى لا جناح له؛ وأرجل الجراد تقلع الثآليل فيما يقال. قال: يؤخذ من مستديراتها اثنتا عشرة وتنزع رءوسها وأطرافها ويجعل معها قليل آس يابس وتشرب للاستسقاء كما هى. قال: والجراد نافع لتقطير البول؛ وإذا تبخّر به نفع عسره وخصوصا فى النساء. ويتبخّر به من البواسير. والذى لا أجنحة له يشوى ويؤكل للسع العقرب. وقال بعض الأعراب وذكر فساده: «باكرنا وسمىّ «1» ، ثم خلفه ولىّ؛ حتى كأنّ الأرض وشى منشور، عليه لؤلؤ منثور؛ ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حداد، فأخربت البلاد، وأهلكت العباد. فسبحان من يهلك القوىّ الأكول، بالضعيف المأكول» . وقال العسكرىّ يصف جرادة: أجنحة كأنّها ... أردية من قصب لكنّها منقوطة ... مثل صدور الكتب بأرجل كأنّها ... مناشر من ذهب وقال أيضا: وأعرابيّة ترتاد «2» زادا ... فتمرق من بلاد فى بلاد غدت تمشى بمنشار كليل ... تبوع «3» به قرارة كلّ واد وتنشر فى الهواء رداء «4» شرى ... على أطرافه نقط المداد

وقال يعلى بن إبراهيم الأندلسىّ: وخيفانة صفراء مسودّة القرا «1» ... أتتك بلون أسود فوق أصفر وأجنحة قد ألحقتها لرؤية «2» ... تقاصر عن أثناء برد محبّر وقال آخر: جرادة حنّت «3» القلوب لها ... حين أشارت بناظرى ربرب صفراء جسم يشوبها رقط ... فى نقط من عبيرها الأشهب كأنها والجناح حلّتها ... راقصة فى ممسّك مذهب ووقفت على حكاية عجيبة فى أمر الجراد، نقلها ابن حلب «4» راغب فى تاريخه فى حوادث سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، قال: قال القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ: حدّثنا القاضى بهاء الدّين بن شدّاد قاضى حلب فى يوم الثلاثاء من عشر [شهر] ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وقدم علينا فى صفر منها، قال: كان الجراد بالشأم قد زاد أمره وعظم خطبه وأمحلت السّنة بعد السّنة ولم يسلم من الزرع إلا أقلّه؛ فأعلم الملك الظاهر «5» غازى صاحب حلب عن طائر يسمى «السّمندل» ،

إذا ظهر الجراد ببلاد أحضر إليها ماء من مكان مخصوص فتبعه ذلك الطائر ووقع على الجراد فأتلفه واستخرج بيضه من التراب ونظّف البلاد منه. قال: فندب ثلاثة نفر من العجم ذوى قوّة فى أبدانهم وصبر على مشقّة المشى فى أسفارهم، وأزاح علّتهم بنفقة وسّعها عليهم، وساروا على خوزستان، واستدلّوا على الضّيعة التى هى من عملها وفيها هذا الماء، فوصلوا إليها وحملوا من الماء، ووجدوا هذه العين على وجه الأرض لا تبلغ إلى أن تفيض فتسيح ولا إلى أن تغيض فتستقى. ومن تدبير هذا الماء إلى أن يتمّ به المراد ان يحمله الماشى ولا يركب، وإذا نزل بمنزلة علّقه ولا يضعه على الأرض؛ وكان الملك الظاهر قد سيّر معهم دوابّ يركبها من لم يحمل الماء بالنّوبة ويمشى من يحمله؛ ومن عادة من يحمله ألّا ينفرد بنفسه وألّا يسير إلّا فى قافلة وأن يعلم أهلها بما معه ويشهدهم أنه ما ركب ظهر دابّة فى حال حمله، وأنه مشى والماء فى إنائه فى يده؛ وكلّما وصلت قافلة إلى بلد أدّى شهود القافلة ما شهدوا به عند الحاكم؛ ويتنجّز حامل الماء كتبا حكميّة من قضاة البلاد فى أمر الماء بصحّة نسبه وكيفيّة حمله. قال: ولم يزالوا على ذلك إلى أن وصلوا إلى حلب، فعلّق ذلك الماء ووصل ذلك الطائر فى جمع كجمع الجراد وأكثر، وهو يشبه السّمانى فى قدره ولونه، ووقع على الجراد فأتلفه واستأصله. قيل: إنّه كان يأكل الجرادة واثنتين والثلاث والأربع فى دفعة ويرميها فى الحال من بطنه، وإنه يتتبّع مكان بيضه فى الأرض فيبحث عنه بمناقيره وأخرجه، حتى صارت الأرض كالغربال من أثر نقره، وإنّ الجراد ارتفع من الشأم وكشفت به البلوى. قال: وأمر هذا الماء مشهور معلوم مستفيض.

وأما دود القز وما قيل فيه

وأمّا دود القزّ وما قيل فيه - ودود القزّ وإن لم يكن من الهمج الذى له جناح، فمآل أمره أن يصير له جناح؛ ولذلك أوردناه فى هذا الباب وألحقناه بهذا النّوع. ودود القزّ أوّل ما يكون بزرا فى قدر حبّ التين، وهو البيض الذى يتكوّن فيه الدّود. ويكون خروجه منه فى أوّل فصل الربيع. ويخرج أصغر من الذّرّ، وفى لونه. وإذا تأخّر خروجه وضعه النساء تحت ثديّهنّ فى صرر. فإذا خرج غذّى بورق التوت. ويأخذ فى النّمو إلى أن تصير الدودة منه فى قدر الإصبع وينتقل من السواد إلى البياض [أوّلا فأوّلا «1» ] ، وذلك فى مدّة ستين يوما فما دونها. وله فى غضون هذه المدّة نومات لا يأكل فيها شيئا البتّة، كلّ نومة يومان؛ فإذا استيقظ أكل أضعاف ما كان يأكل قبل النوم. فإذا أكمل المدّة امتلأ حريرا فلا يبقى فيه مساغ لمأكل، فيقطع الأكل عند ذلك ويهيج للنّسج؛ فأىّ شىء تعلّق به نسج عليه. وهو ينسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن يخرج ما فى جوفه، وهو أرقّ من العنكبوت «2» ، ويكمل عليه ما يبنيه، فيكون كهيئة اللّوزة «3» . ويبقى محبوسا فى غزله قريبا من عشرين يوما، ثم ينقب عن نفسه ويخرج فراشا أبيض ذا جناحين لا يسكنان عن الاضطراب وقرنين وعينين. وهو إذا نقب عن نفسه وخرج لا ينتفع من نسجه بحرير لأنه يقطع طاقاته. وعند خروجه

وأما الذباب وما قيل فيه

يهيج للسفاد فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان ساعة زمانيّة ثم يفترقان، وتنثر الأنثى البزر على الصفة التى ذكرناها على خرق بيض تكون قد فرشت له. فإذا نفد ما فيهما من السفاد والبزر ماتا. هذا إذا أريد من الدود البزر. وإذا أريد منه الحرير ترك ذلك النسج فى الشمس بعض يوم فيموت. وقد جعله بعض الشعراء مثلا للحريص على جمع المال، فقال: يفنى الحريص لجمع المال مدّته ... وللحوادث والورّاث ما يدع كدودة القزّ ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذى تبنيه ينتفع وهو كثير العوارض. وأكثر ما يعرض له الفساد إذا اطعم ورق التّوت الحامض. ويهلك من صوت الرعد وضرب الطّست والهاون، ومن رائحة الخلّ والدّخان. وكثرة الحرّ تهلكه وتذيبه؛ وكذلك البرد الشديد فإنه يبطئ به. ويؤذيه مسّ الجنب والحائض، ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ. وأمّا الذّباب وما قيل فيه - فقد ضرب الله عزّ وجلّ به المثل فقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) . فهذا مثل ضربه الله تعالى لضعف الناس وعجزهم عن الإتيان بمخلوق. وجاء فى الحديث: «إذا سقط الذّباب فى طعام أحدكم أو شرابه فليغمسه فإنّ فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء» . ويقال: إنه يغمس جناح الداء ويرفع جناح الشفاء، فلهذا ندب إلى غمسه. والعرب تجعل النحل والفراش والدّبر من الذّباب.

قال الجاحظ: «والذباب ضروب سوى ما ذكروا «1» من الفراش والنحل والزّنابير» ؛ فمنها الشّعراء «2» . قال الراجز «3» : ذباب شعراء ونبت مائل «4» وللكلاب ذباب على حدة يتخلّق منها فلا يريد سواها. ومنها ذباب الكلأ والرّياض؛ وكلّ نوع منها يألف ما خلق منه» . ومنها الذّباب الذى يقتل الإبل وهو أزرق. والذّباب الذى يسقط على الدّوابّ وهو أصفر. ويقال: إنّ الذّباب يكثر إذا هاجت ريح الجنوب وإنّه يخلق فى تلك الساعة؛ وإذا هبّت ريح الشمال خفّ وتلاشى. وهو من ذوات الخراطيم، وكذلك البعوض. ويقال: إنّ الذّباب لا يعمّر أكثر من أربعين يوما. قال الجاحظ: «وليس بعد أرض الهند أكثر ذبابا من واسط «5» ، وربّما رأيت الحائط وكأنّ عليه مسحا شديد السواد من كثرة [ما عليه من «6» ] » الذباب. ويقال: إن اللّبن إذا ضرب بالكندس «7» ونضح به بيت لم يدخله ذباب. ومن عجيب أمر الذباب أنّه يلقى رجيعه على الشىء الأبيض أسود وعلى الأسود

أبيض. ويقال: إنه لا يظهر إلّا فى «1» مواضع العفونات والقاذورات، ومبتدأ خلقه منها، ثم يكون من السّفاد. قال الجاحظ: ويقال: إنّ الذّباب لا يقرب قدرا فيه كمأة. والذّباب بطئ فى سفاده، وربّما بقى الذّكر على ظهر الأنثى عامّة النّهار؛ فهو يتجاوز فى ذلك البعير والخنزير. وهو من الحيوان الشّمسى لأنه يخفى فى الشتاء ويظهر فى الصيف. وللذّباب يدان زائدتان فى مقدّم يديه يتّقى بهما الأذى عن عينيه فإنهما بغير أجفان. والعرب تضرب به المثل فى الزّهو فتقول: «أزهى من ذباب» . قالوا: لأنّه يسقط على أنف الملك الجبّار وعلى موق عينيه ويطرده فلا ينطرد. ويضرب به المثل فى القذر واستطابة النّتن. فإذا عجز الذّباب عن شمّ شىء فلا شىء أنتن منه. وقال ابن عبدل فى محمد بن حسّان بن سعد ورماه بالبخر: وما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند «2» يرين حلاوة ويخفن موتا ... ذعافا إن هممن له بورد ويقال لكلّ أبخر: أبو ذبّان؛ وكانت من كنى عبد الملك بن مروان. وقد وصف الشعراء الذّباب؛ فمن ذلك قول عنترة: جادت عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كلّ حديقة «3» كالدّرهم فترى الذّباب بها يغنّى وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم

وأما البعوض وما قيل فيه

وقال العسكرىّ وجمع بين البراغيث والبعوض والذّباب: وبدا فغنّانى البعوض تطرّبا ... فهرقت كأس النوم إذ غنّانى ثم انبرى البرغوث ينقط أضلعى ... نقط المعلّم مشكل القرآن حتى إذا كشف الصباح قناعه ... قرأت لى الذّبّان بالألحان وأمّا البعوض وما قيل فيه - والبعوض صنفان: صنف يشبه القراد، لكن أرجله خفيّة ورطوبته ظاهرة، يسمّى بالعراق والشأم «الجرجس» و «الفسافس» ، وبمصر «البقّ» . ويشمّ رائحة الإنسان ويتعلّق به. وله لسع شديد. ولدمه إذا قتل رائحة كريهة. ويقال: إنّه يتولّد من النّفس الحارّ [ولشدّة رغبته فى الإنسان لا يتمالك إذا شمّ رائحته، فإذا كان فى السقف رمى بنفسه عليه فلا يخطئه «1» ] . وهذا الصنف ليس من الطير. والصنف الثانى طائر ويسمّيه أهل العراق «البقّ» و «البعوض» . ويسمّيه أهل مصر «الناموس» . وهو يتولّد من الماء الراكد، فإذا صار الماء رقراقا استحال دعاميص «2» ، ثم تستحيل الدعاميص فراشا. والبعوض فى خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر منه أعضاء، فإنّ للفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا، وله مع هذه الأعضاء يدان زائدتان وأربعة أجنحة. وخرطوم البعوض [أجوف «3» ] نافذ الخرق؛ فإذا طعن به جلد الإنسان استقى به الدّم وقذف به إلى جوفه. وفيه من الشّره أن يمتصّ من دم الإنسان إلى أن ينشقّ ويموت، أو يمتصّ إلى أن يعجز عن الطيران. ومن عجيب أمره أنه ربّما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع، فيبقى

طريحا فى الصحراء فيجتمع حوله السّباع والطير التى تأكل الجيف، فمن أكل منها منه مات لوقته فى موضعه. ويقال: إنّ بعض جبابرة الولاة بالعراق كان يقتل بالبعوض، فيأمر بمن يريد قتله أن يجرّد من ثيابه ويربط ويخرج إلى بعض الآجام التى بالبطائح فيوجد فى أسرع وقت عظاما عارية من جلد ولحم. وقال الجاحظ: بعوض البطائح كجرّارات «1» الأهواز وعقارب شهرزور. وربّما ظفر بالسكران النائم فلا يبقى فيه إلّا العظام العارية. وقد أكثر الشعراء فى وصف البعوض؛ فمن ذلك قول فرج بن خلف الأندلسىّ: بعوض جعلن دمى قهوة ... وغنّيننى بصنوف الأغان «2» كأنّ عروقى أو تارهنّ ... وجسمى الرّباب وهنّ القيان «3» وقال آخر: إذا البعوض زجلت أصواتها ... وأخذ اللّحن مغنّياتها لم تطرب السامع خافضاتها ... وأرّق العينين رافعاتها صغيرة كبيرة أذاتها ... تنفضّ عن بغيتها بغاتها ولا يصيب أبدا رماتها ... رامحة خرطومها قناتها وقال أبو هلال العسكرىّ: غناء يسخن العين ... وينفى فرح القلب ولا يأتى على الزّمر ... ولا يجرى مع الضرب غناء البقّ باللّيل ... ينافى طرب الشّرب

وأما البراغيث وما قيل فيها

إذا ما طرق المرء ... جرى فى طلق الكرب إذا ما نقب الجلد ... ة أخفى أثر النّقب سوى حمر خفيّات ... تحاكى نقط الكتب وأمّا البراغيث وما قيل فيها - والبرغوث أسود أحدب. وهو من الحيوان الذى لا يمشى؛ وإنما أوردناه مع ذى الجناح لأنه ذو وثب لا يقصر عن الطيران؛ ومنه أيضا ما يمشى ولا يثب. وقالوا: إنه يطيل السّفاد، ويبيض ويفرّخ. وأصله متولّد من التراب فى المواضع المظلمة. وهو يكثر ويستطيل ويؤذى فى أواخر الشتاء وفصل الربيع. وإذا اشتدّ عليه الحرّ هلك. ومن جناس الكلام فيه قولهم: أذى البراغيث إذا البرى غيث. يعنون بالبرى التراب إذا نزل عليه المطر. والبرغوث يكمن بالنهار ويظهر بالليل. ويشتدّ أذاه للإنسان إذا أخذ مضجعه. وهو يطول لبثه بمصر؛ ولا يوجد فى البلاد الحارّة مثل صعيد مصر ولا فى البلاد الشديدة البرد. وقد أكثر الشعراء فى وصف البراغيث وأفعالها؛ فمن ذلك قول أبى الرّمّاح الأسدىّ وكان قد سكن مصر: تطاول بالفسطاط ليلى ولم أكن ... بحنو الغضى ليلى علىّ يطول يؤرّقنى حدب صغار أذلّة ... وإنّ الذى يوقظنه لذليل إذا ما قتلناهنّ أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهنّ قتيل ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث إلىّ سبيل

وقال العسكرىّ من أبيات: ومن براغيث تنفى النوم عن بصرى ... كأنّ جفنىّ عن عينى قصيران يطلبن منّى ثأرا لست أعرفه ... إلّا عداوة سودان لبيضان وقال أبو [الحسن أحمد بن «1» ] أيّوب البصرى المعروف بالناهى: لا أعذل الليل فى تطاوله ... لو كان يدرى ما نحن فيه نقص لى فى البراغيث والبعوض إذا ... يلحفنا حندس الظلام قصص إذا تغنّى بعوضه طربا ... ساعد برغوثه الغنا فرقص وقال عبد المؤمن بن هبة الله الأصبهانىّ: بات البراغيث فى الفراش معى ... تقسمنى قسمة المواريث أكلننى بعد ما شربن دمى ... فمن مغيثى من البراغيث وقال أيضا فيها: إنّ البراغيث إذا ساورت ... من كنّها ترقص أو تقرص وكلّما غنّت بعوض لها ... فهى على شرب دمى أحرص تقفز من ثم إلى هاهنا ... كأنها زنجيّة ترقص وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدّينورىّ: وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشى على غرّة وينقطننى بخراطيمهنّ ... كنقط المصاحف بالحمرة وقال ابن المعتزّ: وبراغيث إن ظفرن بجسمى ... خلت فى كلّ موضع منه خالا

وأما الحرقوص وما قيل فيه

وأمّا الحرقوص وما قيل فيه - فقد ذكره الجاحظ فى كتاب الحيوان فقال: وزعموا أنه دويبّة أكبر من البرغوث؛ وأكثر ما ينبت لها جناحان بعد حين. وعضّة الحرقوص أشدّ من عضّة البرغوث. قالوا: والحرقوص يسمّى النّهيك. وأكثر ما يعضّ أحراح النساء وخصى الرجال. قال أعرابى وقد عضّ الحرقوص خصيتيه: لقد منع الحراقيص القرارا ... فلا ليلا نقرّ ولا نهارا يغالبن الرجال على خصاهم ... وفى الأحراح دسّا وانجحارا وقالت امرأة تشير إلى زوجها: يغار من الحرقوص إن عضّ عضّة ... بفخذىّ منها ما يجذّ غيور «1» لقد وقع الحرقوص منّى موقعا ... أرى لذّة الدّنيا إليه تصير

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الثالث فى أنواع الأسماك قال ابن أبى الأشعث: السمك يستنشق الماء بأصداغه فيقوم له مقام الهواء للإنسان. والسمك كلّه شره كثير الأكل، وحاسّة السمع والشمّ فيه أقوى منها فى الإنسان. واستدلّ على ذلك بأدلّة يطول شرحها. وحاسّة البصر فيه ليست كالسمع والشمّ وإنما أضعف. ولسانه غليظ قصير شبيه باللسان وليس لسانا. وله أضراس ليست للمضغ عليها وإنما لقتل ما يفترسه من حيوان الماء، ويفرغ فيه سمّا يكون سببا لقتله. وصغار السمك تحترز من كباره بأن تطلب الماء القليل. الذى لا يحمل الكبار. واختلف الناس فى سفاد السمك، فالأكثر على أنه يسفد مثل الحيّة. وقال الجاحظ: وفى السمك القواطع والأوابد كالطير. ومن أصناف السمك ما هو فى شكل الحيّات. قال: وهى إما أن تكون كانت برّيّة أو جبليّة فاكتسحتها السيول وألقتها فى الماء الدائم فتوالدت فيه؛ وإما أن تكون أمهاتها وآباؤها من دوابّ الماء. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الأدوية المفردة: أفضل السمك فى جثّته ما كان ليس بكبير جدّا ولا صلب اللحم ولا يابسه، لا دسومة فيه كأنه يتفتّت، والذى لا مخاطيّة ولا سهوكة فيه وطعمه لذيذ، فإن اللذيذ مناسب، وما هو دسم دسومة غير مفرطة ولا غليظة ولا شحميّة ولا حرّيفة، والذى لا يسرع إليه النّتن إذا فصل عن الماء. ويختار من السمك الصّلب اللحم ما هو أصغر، ومن الرّخص

اللحم ما هو أكبر إلى حدّ ما. وصلب اللحم مملوحا خير منه طريّا. وأمّا فى الأجناس فالشبابيط أفضلها، ثم البنّىّ، والبياح «1» البحرىّ لا بأس به. وأما فى مأواه «2» فالذى يأوى الأماكن الصخريّة ثم الرمليّة والمياه العذبة الجارية التى لا قذر فيها ولا حمأة وليست بطيحيّة «3» ولا نزّيّة ولا من البحيرات الصغار التى لا تسقيها الأنهار ولا فيها عيون. قال: والسمك البحرىّ محمود لطيف؛ وأفضل أصنافه الذى لا يكون إلا فى البحر واللّجة. والذى يأوى ماء مكشوفا ترفرف الرّياح عليه أجود من الذى بخلافه. والذى يأوى ماء كثير الاضطراب والتموّج أجود من الذى يأوى الماء الراكد. والسمك البحرىّ لطيف اللحم لا سيما إذا كان مأواه فى الشطوط صخرا أو رملا؛ والذى يصير من البحر الى أنهار عذبة يعارض جرية الماء بالطبع لطيف كثير الرّياضة. وأمّا غذاؤه، فالذى يغتذى بالحشيش وأصول النبات خير من الذى يغتذى الأقذار التى تطرح من البلاد إلى المستنقعات. وأفضل ما يؤكل السمك اسفيدباجا «4» ثم المشوىّ على الطّابق. وأما المقلىّ. فيصلح لأصحاب المعد القويّة ومعه الأبازير «5» . والمشوىّ أغذى وأبطأ نزولا، والمطبوخ بالضدّ. وأفضل طبيخه أن يطبخ الماء حتى يغلى ثم يلقى فيه.

وأمّا المالح، فخيره ما كان طريّا قريب العهد بالتمليح. وأحمده الممقور «1» بالخلّ والتّوابل. وأمّا طبعه، فجميع السمك بارد رطب، لكن بعضه أسخن بالقياس إلى مزاج السمك مثل الكوسج «2» والمارماهيج «3» . وأمّا أفعاله وخواصّه، فالطّرىّ منه يولّد البلغم المائىّ مرخ للأعصاب، غير موافق إلا للمعدة الحارّة جدّا. قال: وجلد السمك المعروف «بسيفيانوس» «4» فى ناحية بيت المقدس إن ذرّ رماد جلده فى عيون «5» المواشى أذهب بياضها. والمالح من أصناف السمك يخرج السّلّاء «6» من المناشب «7» . قال: ورأس «سماريس» «8» محرقا يقلع اللحم

الزائد فى القروح ويمنع سعتها ويقلع الثآليل «1» واليوث «2» . وماء السمك المالح ينفع من القروح العفنة ويغسلها. قال: واذا احتقن بسلاقة المالح مرارا نفع من وجع الورك. والسمك الصغار الذى تسمّيه أهل الشام «3» ومصر «الصّير» إذا تمضمض صاحب القلاع «4» الخبيث بالمرّىّ «5» الذى يتّخذ منه نفعه. و «الرّعّاد» الحىّ إذا قرّب من رأس المصدوع أخدره [عن الحسّ «6» بالصداع] . قال: وجلد «سيفيانوس» تحكّ به الأجفان الجربة فينفع، وجلده المحرق أيضا يدخل فى أدوية العين؛ ويذهب «7» الاكتحال به مع الملح الظّفرة «8» ، وأكله مقليّا «9» يورث غشاوة العين بل جميع السمك؛ ورءوس

السّمكات المملوحة المجفّفة تنفع اللهاة «1» الوارمة، وعلاج جيّد من شقاق المقعدة «2» . وغراء السمك يلقى فى الأحساء فينفع نفث الدّم. قال: وحوصلة سيفيانوس تليّن البطن مع صعوبة انهضامها. قال: ورأس المالح [من «3» ] سماريس محرقا يجعل على عضّة الكلب الكلب ولسعة العقرب فينفع ذلك، وكذلك كلّ سمكة. ومرقة كلّ سمك تنفع من السموم المشروبة والنّهوش. قال: [والسمك «4» ينفع من عسر النّفس والرّبو واليرقان ويسهّل البلغم وينفع من خناق الرّحم] . وقد وصف الشعراء السمك فى أشعارها؛ فمن ذلك قول ابن الرّومى يخاطب رئيسا «5» ويستدعى منه سمكا: عسرت علينا دعوة «6» السّمك ... أنّى وجودك ضامن الدّرك اعلم وقيت الجهل أنك فى ... قصر تلته مطارح الشّبك وبنات «7» دجلة فى فنائكم ... مأسورة فى كلّ معترك

بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك «1» حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحلّ معاقد التّكك فليصطد الصيّاد حاجتنا ... يصطد مودّتنا بلا شرك وقال أبو الفتح كشاجم: ومحجوبة بالماء عن كل ناظر ... ولكنها فى حجبها تتخطّف أخذنا عليهنّ السبيل بأعين ... رواصد إلّا انّها ليس تطرف فجئنا «2» بها بيض المتون كأنّها ... خناجر فى أيماننا تتعطّف وقال أبو عبادة البحترىّ وذكر بركة: لا يبلغ السمك المقصور «3» غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها يعمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطير تنفض فى جوّ خوافيها وقال أبو طالب المأمونىّ فى المقلىّ منه: ماويّة فضيّة لحمها ... ألذّ ما يأكله الآكل يضمّها من جلدها جوشن «4» ... مذيّل «5» فهو لها شامل لوّنت من فضّتها عسجدا ... بالقلى لما ضافنى نازل

ذكر شىء من أنواع الأسماك

وقال أيضا: مائيّة فى النار مصليّة» ... يصبغ من فضّتها عسجد كأنّما جلدتها جوشن ... مزرفن «2» الصّنعة أو مبرد وقال عطاء بن يعقوب يصف سمكة من رسالة يستدعى بها صديقا، جاء منها: «قد أهدى لنا صديق سمكه، قد لبست من جلدها شبكه؛ تشبه حملا شكلا وقدّا، أو جرابا قد امتلأ زبدا؛ كأنها أرادت أن تحارب نجم السّماك، أو حوت الأفلاك؛ فلبست من جلدها جوشنا مزرّدا «3» . وسلّت من ذنها سيفا مجرّدا» . وقال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلّب يصف سمكا: «أتيت ببنات بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، حدب الظهور، معقّفات الأذناب، صغار الرءوس، غلاظ القصر «4» ، عراض السّرر» . هذا ما اتفق إيراده فى السمك المطلق. فلنذكر أصنافا من أنواع الأسماك. ذكر شىء من أنواع الأسماك وأنواع الأسماك كثيرة جدّا، منها ما يعرفه الناس، ومنها ما لم يعرفوه، ومنها ما يكون فى أماكن من البحار دون غيرها. وقد ذهب بعضهم أنّ كلّ حيوان

فأما الدلفين

فى البرّ يكون مثله فى البحر. فلنورد فى هذا الفصل ما أمكن إيراده، وهو الدّلفين، والرّعّاد، والتّمساح، والسّقنقور، والسّلحفاة، واللّجأة، والفرس النهرىّ، والجند بيدستر والقندس «1» ، والقاقم، والضّفادع، والسّرطان، وشىء من عجائب الحيوان المائىّ، على حكم الاختصار حيث تعذّر الاستيعاب. فأمّا الدّلفين - وهو كالزّق المنفوخ، وله رأس صغير جدّا. وهو يوجد فى بحر النيل يقذفه البحر الملح إليه. ويقال: ليس فى دوابّ البحر ماله رئة «2» غيره؛ فلذلك يسمع له التنفّس والنّفخ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب فى نجاته؛ فإنه لا يزال يدفعه الى البرّ [حتى ينجيه «3» ] . وهو من أقوى الدوابّ المائيّة. ولا يؤذى ولا يأكل غير السمك. وربما ظهر على وجه الماء وهو نائم كالميّت. وهو يلد ويرضع. وأولاده تتبعه حيث ذهب؛ ولا يلد إلّا فى الصيف. وفى طبعه الأنس بالناس وخصوصا الصبيان. وإذا صيد جاءت الدّلافين لقتال صائده، فإذا أطلقه لها انصرفت. وأهل المراكب فى البحر الفارسىّ اذا رأوه استبشروا به وأيقنوا ببلوغ الأرب سيّما الغزاة. وأمّا الرّعّاد - ويكون فى نيل مصر، ولم أسمع به فى غيره. وفيه من الخاصيّة أنه لا يستطيع أحد من الناس أن يمسّه. ومتى وضع الانسان يده عليه

وأما التمساح

نزعها بحركته وصاح صيحة منكرة ربما دهش الإنسان لها؛ ويجد الرجل فى فؤاده خفقانا من ذلك. وهو متى وقع فى شبكة الصيّاد ارتعدت يداه عند إخراج الشبكة من الماء أو جذب الحبل، فيعلم أنه قد وقع له السمك الرّعّاد. وأمّا التّمساح - وهو أيضا لا يكون إلا فى نيل مصر؛ وزعم قوم أنه يوجد فى مهران «1» السّند، لزعمهم أنه من النيل. وهو شديد البطش فى الماء. وهو يعظم إلى أن ينتهى فى الطول إلى عشرين ذراعا فى عرض ذراعين. ويفترس الفرس والإنسان. ولا يقوى على قتاله من الحيوان إلّا الجاموس. وله يدان ورجلان وذنب طويل يضرب به ويلفّ. وهو لا يصاد إلّا أن يضرب فى إبطيه، ومنهما مقتله. ويقال: إنه إذا أراد السّفاد خرج هو والأنثى إلى البرّ فيقلبها على ظهرها ويستبطنها؛ فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكّن من الانقلاب لقصر يديها ورجليها ويبس ظهرها. وهى تبيض فى البرّ، فما وقع فى الماء صار تمساحا وما بقى فى البرّ صار سقنقورا. والتّمساح يحرّك فكّه الأعلى دون الأسفل، ولسانه معلّق به. ويقال: إنه ليس له مخرج، وإنّ جوفه إذا امتلأ خرج إلى البرّ وفتح فمه فيجىء طائر صغير أرقط فينقر بمنقاره ما فى جوفه ويخرجه، وذلك غذاء الطائر وراحة للتمساح. وفى رأس هذا الطائر شوكة فإذا غلّق «2» التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. ويقال: إن للتمساح ستين سنّا وستين عرقا، ويسفد ستين مرّة، ويبيض ستين بيضة.

وأما السقنقور

ويوجد فى جلده ممّا يلى بطنه سلعة «1» كالبيضة فيها رطوبة لها رائحة كالمسك، وتنقطع رائحتها بعد أشهر. ووصفه شاعر فقال: وذى هامة كالتّرس يفغر عن فم ... يضمّ على مثل الحسام المثلّم ويفترّ عن مثل المناشير ركّبت ... على مشفر مثل القليب المهدّم مشى فى شواة من فقارة غيلم ... وسقّف «2» لحيا عن مناكب شيهم وأمّا السّقنقور - ويسمى الحرذون البحرىّ. ويقال: إنه ورل مائىّ. ومنه ما هو مصرىّ، وما هو هندىّ، وما يتولّد فى بحر القلزم وببلاد الحبشة. وهو يغتذى فى الماء بالسمك وفى البرّ بالقطا. وأنثاه تبيض عشرين بيضة وتدفنها فى الرّمل، فيكون ذلك حضنها. وجلده خشن مدبّج بالسواد والصفرة. وهو إذا عضّ إنسانا وسبقه الإنسان إلى الماء فاغتسل منه مات السقنقور؛ وإن سبق السقنقور الإنسان إلى الماء مات الإنسان. وبين السقنقور وبين الحيّة عداوة عظيمة، متى ظفر أحدهما بصاحبه قتله. وقال الشيخ الرئيس: أجود السقنقور ما صيد فى الرّبيع وقت هيجانه. وأجود أعضائه السّرّة. وهو ينفع من العلل الباردة فى العصب. وملحه يهيج الباه فكيف لحمه، وخصوصا لحم سرّته وما يلى كليتيه وخصوصا شحمها.

وأما السلحفاة واللجأة

وأمّا السّلحفاة واللّجأة - يقال: إنّ اللّجأة تبيض فى البرّ، فما أقام به سمّى سلحفاة، وما وقع فى البحر سمّى لجأة. فأمّا ما يبقى فى البرّ فإنه يعظم حتى لا يكاد الرجل الشديد يحمله. وقد رأيت فى سنة سبع وسبعمائة بالقاهرة المعزّيّة سلحفاة تحمل الرجل وتمشى به وهو قائم على ظهرها. وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار يحمله؛ وربما وجد منها ما زنته أربعمائة رطل. وتبيض أنثاه أربعمائة بيضة. وهى تحضن بيضها بالنظر إليه والرّصد له لا غير. وللذّكر نزكان وللأنثى فرجان. والذكر يطيل المكث فى السّفاد. والعرب تكنيها «أمّ طبق» . ويزعمون أنها تبيض تسعا وتسعين بيضة، وتبيض تمام المائة بيضة يخرج منها أسود (أى ثعبان) . وهو مولع بأكل الحيّات؛ وإذا أكل الأفعى أكل صعترا جبليّا؛ فإذا أكثر من أكل الحيّات والصّعتر هلك. وله تحيّل فيما يصيده من الطائر، وهو أنه يصعد من الماء ويتمرّغ فى التراب ويأتى موضعا قد سقط الطير عليه ليشرب، فيخفى على الطير بكدرة لونه التى اكتسبها من الماء والتراب، فيصيد منها ما يكون له قوتا ويدخل به الماء فيموت الطائر فيأكله. ووصفها شاعر فقال: وسلحفاة سمج ... سكونها والحركه شبّهتها بديلم ... ىّ ساقط فى معركه مستتر بترسه «1» ... عمّن عسى أن يهلكه

وأما الفرس النهرى

وقال أبو بكر الخوارزمىّ يصف لجأة: بنت ماء بدت لنا من بعيد ... مثل ما قد طوى البحارىّ؟؟؟ «1» سفره رأسها رأس حيّة وقراها «2» ... ظهر ترس وجلدها جلد صخره مثل فهر «3» العطّار دقّ به العط ... ر فحلّت «4» طرائق الطّيب ظهره يقطع الخوف رأسها فإذا ما ... أمنته فرأسها مستقرّه وقال آخر: لحى الله ذات فم أخرس ... تطيل من العىّ وسواسها تكبّ على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلّها فاسها «5» إذا الحذر أقلق أحشاءها ... وضيّق بالخوف أنفاسها تضمّ الى نحرها كفّها ... وتدخل فى جوفها راسها وأمّا الفرس النّهرىّ - وهو عظيم الجثة، وخلقه خلق الفرس، إلا أنّ وجهه أوسع؛ وله أظلاف كالبقرة؛ وذنبه مثل ذنب الخنزير؛ وصوته يشبه صوت الفرس. وهو لا يوجد إلّا فى نيل مصر. وهو يخرج من الماء الى البرّ، ويرعى

وأما الجند بيدستر

الزرع. واذا قصد الزرع لا يبتدئ من أوّله، ولكنه يجوز منه قطعة بقدر ما يأكل ويبتدئ منها بحيث يكون وجهه إلى البحر. وهو يقتل التمساح ويقهره. وأهل الديار المصريّة إذا رأوا أثر حافره فى البرّ تباشروا بزيادة النيل وكثرة الخصب. وفى سنة اثنتين وسبعمائة طلع الفرس النهرىّ إلى البرّ بالجيزة وأبعد عن البحر، فتحيّل عليه وقتل. وأهل النّوبة يصيدونه كثيرا، ويتّخذون من جلده سياطا يسوقون بها الإبل. وأمّا الجند بيدستر - وهو السّمّور، ويسمى «كلب الماء» . ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق «1» وما يليها. وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللّون، لا يدان له، وله رجلان وذنب طويل، ورأسه كرأس الإنسان، ووجهه مستدير. وهو يمشى متّكئا على صدره كانه يمشى على أربع، وله أربع خصى: ثنتان ظاهرتان وثنتان باطنتان. وهو إذا رأى الصيّادين يجدون فى طلبه لأجل الجند بيدستر، وهو خصيتاه الظاهرتان، قطعهما بفيه ورمى بهما إليهم؛ إذ لا حاجة لهم إلا بهما. فإن لم يرهما الصيّادون وداموا فى الجدّ فى طلبه استلقى على ظهره ليريهم الدّم، فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه. وهو إذا قطع الظاهرتين ظهر الباطنتان وعوّض عنهما غيرهما. وفى داخل الخصية شبه الدّم أو العسل زهم الرائحة سريع التّفرّك إذا جفّ. ويقال: إنه يوكّر «2» على الأرض ويولد «3» عليها ويرعى فيها، ويهرب إلى الماء ويعتصم به؛ ويمكنه أن يلبث فى قعره حابسا لنفسه زمانا ثم يخرج [الى الهواء «4» ] .

وأما حيوان القندس والقاقم

وأمّا حيوان القندس «1» والقاقم - فالقندس يغتذى بالسمك والنّبات. ويقال: إنّ فيه سادة وعبيدا؛ وإنه يتّخذ مساكن مرتّبة على ترتيب مساكن الناس. والسادة يتّخذون فى بيوتهم صففا «2» مرتفعة يكونون عليها، وفى أسفلها مواضع للعبيد، ولبيوتهم أنفاقا إلى البرّ وأبوابا إلى النهر. وبعض هذا الحيوان يغير على بعض. والسادة لا تتكسّب، وإنما يتكسّب لها العبيد. ويعرف جلد السيّد من جلد العبد بحسن لونه وبصيصه «3» . وأهل تلك البلاد يسلخون خراطيم القندس والسّمّور ويتعاملون بها كما يتعامل بالدّنانير والدراهم بحيث يكون عليها ختم الملك. وجلد هذا الحيوان هو الذى يعمل شرابيش «4» الأمراء وأطواق التّشاريف ودوائرها. والقاقم: حيوان يشبه السّنجاب إلّا أنه أبرد منه وأرطب؛ ولهذا هو أبيض يقق. وهو يجلب من بحر الخزر. وجلده يشبه جلد الفنك «5» . وأما الضفادع - وهى أصناف كثيرة، تكون من سفاد وغير سفاد. وهى تبيض فى البرّ وتعيش فى الماء. والذى من غير سفاد يتولّد من المياه الضعيفة، ومن العفونات، وغبّ الأمطار الغزيرة، حتى يتوهّم المتوهّم أنه يسقط من السّحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة عقيب المطر. ويقال: إنه يخلق فى تلك الساعة.

والضّفدع من الحيوان الذى لا عظم له. وفيه ما ينقّ. وما ليس ينقّ. وليس صوت ما ينقّ من فيه ولكنه من جلود رقاق تكون إلى جانب أذنيه؛ فإذا أراد النقيق انفتحت فيخرج الصوت منها. وهى تنطبق فى زمن الشتاء فلا تنفتح حتى يعتدل الجوّ. قال الجاحظ: والضّفدع لا يصيح ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل الماء، فإذا صار فى فيه بعض الماء صاح؛ ولذلك لا تسمع للضفادع نقيقا إذا كنّ خارجات من الماء. قال: والضفادع تنقّ، فإذا أبصرت النار أمسكت. وتوصف بحدّة السمع إذا كانت خارج الماء. ويضرب بها المثل فى السمع والحذر، فيقال: «أحذر من ضفدع» و «أسمع من ضفدع» . وقال شاعر يصف الضفادع: ومقعدات زانهنّ أرجل ... كقعدة الناكح حين ينزل يكسين وشيا وعيون تكحل وقال آخر: دعتك فى فاضة «1» مدنّرة ... ليس لها طرّة ولا هدب قد نسجت من زبرجد فجرى ... بين تضاعيف نسجها الذّهب يظلّ صمتا نهاره فإذا ... أدركه الليل بات يصطخب وهو وإن لم يغطّ مقلته ... جفن ولا امتدّ خلفه ذنب يعجبنى ما أراه منه ففى ... خلقته واختلافها عجب

وأما السرطان وما قيل فيه

وأمّا السّرطان وما قيل فيه - وهو ذو فكّين ومخالب وأظفار حداد، كثير الأسنان، صلب الظّهر، سريع العدو، وعيناه على كتفيه، وفمه فى صدره، وفكّاه مشقوقان من جانبين. وله ثمانى أرجل. وهو يمشى على جانب واحد؛ ويستنشق الماء والهواء معا. وهو يسلخ جلده فى السنة ستّ مرات. ويتّخذ بجحره بابين، أحدهما إلى الماء والثانى إلى البرّ. فإذا سلخ جلده سدّ عليه ما يلى الماء خوفا من السمك وترك ما يلى البرّ مفتوحا؛ فإذا جفّت رطوبته واشتدّ، فتح ما يلى الماء وطلب معاشه. قال شاعر يصفه: فى سرطان الماء أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى مستضعف المنّة لكنّه ... أبطش من حاربته كفّا يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدّرها نصفا وقال أبو عبيد «1» البكرىّ فى كتابه المترجم بالمسالك والممالك: إنّ ببحر الصين سرطانات تخرج كالذراع والشبر، فإذا صارت الى البرّ عادت حجارة وانقلبت عن الحيوانيّة؛ والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض.

ذكر شىء من عجائب الحيوان المائى

ذكر شىء من عجائب الحيوان المائىّ وعجائب البحر كثيرة جدّا لا يستغرب ما نذكر منها؛ ولذلك قيل: «حدّث عن البحر ولا حرج» . وقد حكى صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر فى كتابه، قال: رأيت فى بعض المجاميع المجهولة أنّ فى بعض البحار شاة شعراء تكون فى البرّ مع البهائم حين الرّعى؛ فإذا فرغت من رعيها عادت إلى الماء، وتأكل السمك. قال: وذكر لها خواصّ. قال: وذكر بعضهم دابّة سمّاها «خزّ الماء» ولم يسمّ المكان الذى تكون فيه، وقال: إنها مثال ابن عرس أو أكبر قليلا، سباحتها فى الماء كجريها فى البرّ، لها وبر ناعم تعمل منه ثياب الخزّ، وهذا الوبر موجود تأتى به التّجّار من البحر الرومىّ يباع بالقاهرة، ويسمّونه صوف السمك؛ وهو أخضر اللّون؛ ويقال: إنه إذا طلع من البحر يكون أبيض يققا، فإذا صار إلى البرّ وأصابه النسيم انقلب إلى الخضرة. وهم يغزلونه ويلحمون به الثياب المسداة بالحرير، وقيمته لا تقصر عن قيمة الحرير وربما يزيد عليه. وأرخص ما ابتعته أنا حسابا عن وزن كلّ مائة درهم أربعين درهما. وبه تخنق الأفاعى بمصر، تفتل منه خيوط تسمّى إذا خنق بها الأفاعى حبال الخناق، لها نفع فى تحليل مرض الخناق. ويقال: إن ببحر الرّوم- وربما بغيره أيضا- حيوانا يسمّونه «بنات الماء» يشبهن «1» النساء، لهنّ شعور سباط «2» ، ألوانهنّ إلى السّمرة، ذوات فروج عظام وثدىّ، ولهنّ قهقهة وضحك وكلام لا يفهم؛ وربما يقعن لأصحاب المراكب وغيرهم

فينكحونهنّ فيجدون لنكاحهنّ لذّة عظيمة ثم يعيدونهنّ إلى البحر. وفى البحر أيضا أمثال الرجال، يقال: إنّهم يظهرون [بالإسكندريّة «1» و] بالبرلس ورشيد فى صورة الإنسان بجلود لزجة، لهم بكاء وعويل إذا وقعوا فى أيدى الناس؛ [وذلك أنهم ربما برزوا عن البحر إلى البرّ يتشمّسون فيقع بهم الصيّادون «2» ] ؛ فإذا سمع الناس بكاءهم أطلقوهم رحمة لهم.

الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث

الباب الثامن وهو الذيل على القسم الخامس من الفن الثالث [ويشتمل «1» هذا الباب] على ذكر شىء مما وصفت به آلات الصيد فى البرّ والبحر ووصف رماة البندق، وما يجرى هذا المجرى. ذكر شىء مما قيل فى رماة البندق - ومما وصفت به الجلاهق «2» وهو قسىّ البندق. من ذلك ما كتب به أبو إسحاق الصّابى من رسالة إلى [أبى الفرج «3» ] محمد بن العباس [بن فسابخش «4» ] ، جاء منها: «أقبلت رفقة الرّماة قد برزت قبل الذّرور «5» والشروق، وشمّرت عن الأذرع والسّوق؛ مقلّدين خرائط شاكلت السيوف بحمائلها ونياطاتها «6» ، وناسبتها فى آثارها ونكاياتها؛ تحمل من البندق الملموم، ما هو فى الصحّة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم؛ كأنما خرط بالجهر «7» ، فجاء

كبنات الفهر؛ قد اختير طينه، وملك «1» عجينه؛ فهو كالكافور «2» المصّاعد فى اللّمس والمنظر، وكالعنبر الأذفر فى الشمّ والمخبر؛ مأخوذ من خير مواطنه، مجلوب من أطيب معادنه؛ كافل بمطاعم حامليه، محقّق لآمال آمليه؛ ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع، ويهبط بها وهى رزق نافع» . ومنها فى وصف القسىّ: «وبأيديهم قسىّ مكسوّة بأغشية السّندس، مشتملة منها «3» بأحسن ملبس؛ مثل الكماة فى جواشنها ودروعها، والجياد فى جلالها «4» وقطوعها؛ حتى إذا جرّدت من تلك المطارف، وانتضيت «5» من تلك الملاحف؛ رأيت منها قدودا مخطفة «6» رشيقه، وألوانا معجبة أنيقه؛ صلبة المكاسر «7» والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم؛ خطّيّة الأسماء والمناسب، سمهريّة الأعراق والمناصب؛ ركّبت من شظايا الرّماح الداعسه، وقرون الأوعال الناخسه «8» ؛ فحازت الشرف من طرفيها، واستولت عليه

بكلتا يديها؛ قد انحنت انحناء المشيخة النّسّاك، وصالت صيال الفتية الفتّاك؛ واستبدلت من قديمها فى عزّ «1» الفوارس، بحديثها من نفيس الملابس؛ وانتقلت من جدّها فى طراد المغارات «2» ، إلى هزلها فى طرد المسهرات «3» ؛ ظواهرها صفر وارسه «4» ، ودواخلها سود دامسه؛ كأنّ شمس أصيل طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر فى بطونها؛ أو زعفرانا جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها «5» ؛ أو قضبان فضة أذهب شطرها وأحرق شطر، أو حبّات رمل اعتنق «6» السود منها صفر» . وجاء منها فى وصف الوتر: «فلمّا توسّطوا تلك الروضه، وانشروا فى أكناف «7» تلك الغيضه؛ وثبتت للرّمى أقدامهم، وشخصت للطير أبصارهم؛ وتروها «8» بكل وتر فوق «9» سهمه منه، وهو مفارق للسهم وخارج عنه؛ مضاعف عليها من وترين، كأنّه شخص ذو جسدين، أو عناق «10» ضمّ

ضجيعين؛ فى وسطه عين كشرجة كيس مختوم، أو سرّة بطن خميص مهضوم؛ تروع قلب الطير بالإنباض، وتصيب منها مواقع الأغراض» . وقال ضياء الدين بن الأثير الجزرىّ من رسالة فى وصف القسىّ. وذكر الرّماة، جاء منها: «وإذا تناولوها بأيديهم قلت: أهلّة طالعة فى أكفّ أقمار، وإذا مثّل غناؤها وغناؤهم قلت: منايا مسوقة «1» فى أيدى أقدار؛ وتلك قسىّ وضعت للّعب لا للنّضال، ولردى الطير لا لردى الرجال. فإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفى اللين والصلابه، وصيغت من نوعين «2» غريبين فحازت معنى الغرابه؛ فهى مركّبة من حيوان ونبات، مؤلّفة منهما [على «3» ] بعد الشّتات؛ هذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البرّ ومجاهله. ومن صفاتها أنها لا تتمكّن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق فى شأنها إلا حين تعطف وتردّ. ولها بنات أحكم تصويرها، وصحّح تدويرها؛ فهى فى لونها صندليّة الإهاب، وكأنها صيغت لقوّتها من حجر لا من تراب؛ فإذا «4» حذفها نحو الأطيار [أحد «5» ] ، قيل: وتصعد من الأرض من جبال فيها من برد، فلا ترى حينئذ إلا قتيلا بالمقتل الذى لا يجب فى مثله من قود؛ فهى كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، ومنزلة لها من السماء على أمّ رءوسها» .

ومن إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبى الكاتب- أمتع الله ببقائه، وزاد فى علوّه وارتقائه- رسالة فى رمى البندق، وصف فيها الرّماة، ومواضع الرّمى ووقته، والقسىّ، وأفعال الرّماة، وجميع طير الواجب «1» ، لم أقف فيما طالعته لمتقدّم ولا متأخّر [على «2» ] أجمع لهذا الفن منها؛ وهى مما يستعين بها الكاتب على إنشاء ما يقصده من قدم «3» البندق فى أى نوع أراد من طير الواجب. وقد أوردتها بجملتها؛ لحسن التئامها، واتّساق نظامها؛ وجودة ترتيبها، وبديع تهذيبها. وهى: «الرّياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلانىّ، وجعل حبّه كقلب عدوّه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسارّ جالبا وللمضارّ حاجبا- تبعث النفس على مجانبة الدّعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم فى الرّكون إلى الوكون «4» ؛ وتحضّها على أخذ حظّها من كلّ فنّ حسن، وتحثّها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللّسن؛ وتأخذ بها طورا فى الجدّ وطورا فى اللّعب، وتصرّفها فى ملاذّ السموّ فى المشاقّ التى يستروح إليها التّعب؛ فتارة تحمل الأكابر والعظماء فى طلب الصيد على مواصلة السّرى، ومقاطعة الكرى؛ ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار؛ ومكابدة الهواجر «5» ،

ومبادرة الأوابد التى لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر؛ وذلك من محاسن أوصافهم التى يذمّ المعرض عنها، وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها؛ وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق «1» ، وتحدوهم فى سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق؛ فيعتسفون إليها الدّجى، إذا سجى؛ ويقتحمون فى بلوغها حرق «2» النهار، إذا انهار؛ ويتنعّمون بوعثاء السفر، فى بلوغ الظّفر؛ ويستصغرون ركوب الخطر، فى إدراك الوطر؛ ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم؛ والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام. ولمّا عدنا من الصيد الذى اتّصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه؛ تقنا إلى أن نشفع صيد السّوانح برمى الصوادح، وأن نفعل فى الطير الجوانح بأهلّة القسىّ ما تفعل الجوارح؛ تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة فى الرّحال «3» ؛ وأخذا بقولهم: لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة ... إلّا التّنقّل من حال إلى حال فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتسير من الأفق الغربىّ إلى جانب رمسها؛ وتغازل عيون النّوّار بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض الى وجوه العوّد؛ فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضى بين صحبه بقايا مدّة الرّمق؛ وقد اخضلّت عيون النّور لوداعها، وهمّ الروض بخلع «4» حلّته المموّهة بذهب شعاعها.

والطلّ فى أعين النّوّار تحسبه ... دمعا تحيّر لم يرقأ ولم يكف كلؤلؤ ظلّ عطف الغصن متّشحا ... بعقده وتبدّى منه فى شنف «1» يضمّ من سندس الأوراق فى صرر ... خضر ويخبا من الأزهار فى صدف والشمس فى طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفى كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف إلى أن نضا المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوّضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها «2» ؛ فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلّه، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلّا تحلّه؛ ونهضنا وبرد الليل موشّع «3» ، وعقده مرصّع؛ وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر «4» ؛ وبدره فى خدر سراره مستكنّ، وفجره فى حشى مطالعه مستجنّ؛ كأنّ امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل، وكأنّ ثريّاه لامتداده معلقة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل. ولاحت نجوم الليل زهرا كأنّها ... عقود على خود «5» من الزّنج تنظم محلّقة فى الجوّ تحسب أنها ... طيور على نهر المجرّة حوّم إذا لاح بازى الصبح ولّت يؤمّها «6» ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم

إلى حدائق ملتفّه، وجداول محتفّه؛ إذا جمّش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب، وإذا فرك من المياه متونها انسابت فى الجداول انسياب الحباب «1» ، ورقصت فى المناهل رقص الحباب «2» ؛ وإن لثم ثغور نورها حيّته بأنفاس المعشوق، وإن أيقظ نواعس ورقها غنّته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلّها فى خدود الورد منبثّ «3» وفى طرر الريحان حيران؛ وطائرها غرد، وماؤها مطّرد؛ وغصنها تارة يعطفه النسيم اليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف؛ مع ما فى تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب؛ إذ كلّما اعتلّ النسيم صحّ الأرج وكلّما خرّ الماء شمخ القضيب. فكأنّما تلك الغصون إذا ثنت ... أعطافها رسل «4» الصّبا أحباب فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب وكأنّها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب فغديرها كأس وعذب نطافها «5» ... راح وأضواء النجوم حباب تحيط بملق نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها فى نفس الأمر راكد وفى رأى العين طاف؛ إذا دغدغها «6» النسيم حسبت ماءها بتمايل الظّلال فيه يتبرّج ويميل؛ وإذا اطّردت عليه أنفاس الصّبا ظننت أفياء تلك الغصون

فيه تارة تتموّج وتارة تسيل؛ فكأنّه محبّ هام بالغصون هوى فمثّلها فى قلبه، وكأنّ النسيم كلف بها غار من دنوّها إليه فميّلها عن قربه. والسّرو مثل عرائس ... لفّت عليهنّ الملاء شمّرن فضل الأزر عن ... سوق خلاخلهنّ ماء والنهر كالمرآة تب ... صر وجهها فيه السماء وكأنّ صوافّ «1» الطير المبيضة بتلك الملق خيام، أو ظباء بأعلى الرّقمتين قيام، أو أباريق فضّة رءوسها لها فدام «2» ، ومناقيرها المحمّرة أوائل ما انسكب من المدام؛ وكأنّ رقابها «3» رماح أسنّتها من ذهب، أو شموع أسود رءوسها ما انطفأ وأحمره ما التهب. وكنّا كالطير الجليل عدّه، وكطراز العمر الأوّل جدّه. من كلّ أبلج كالنّسيم لطافة ... عفّ الضّمير مهذّب الأخلاق مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددّا ومثل الشّمس فى الإشراق ومعهم قسىّ كالغصون فى لطافتها ولينها، والأهلّة فى نحافتها وتكوينها، والأزاهر فى ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبّجه، ومتونها مدرّجه؛ كأنّها الشّولّة «4» فى انعطافها، أو أرواق الظّباء «5» فى التفافها؛ لأوتارها عند القوادم أوتار «6» ، ولبنادقها

فى الحواصل أوكار؛ إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن أنبضت «1» لرمى بدا «2» لها أنها أحقّ به ممّن يصيبه. ولعل ذاك الصّوت زجر لبندقها أن يبطئ فى سيره، أو يتخطّى الغرض إلى غيره؛ أو وحشة لمفارقة أفلاذ «3» كبدها، أو أسف على خروج بنيها عن يدها؛ على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء. مثل العقارب أذنابا معقّدة ... لمن تأمّلها أو حقّق النّظرا إن مدّها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها أو نوى «4» سفرا فهو المسىء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا فى العقرب القمرا ومن البنادق كرات متّفقة السّرد، متّحدة العكس والطّرد؛ كأنّما خرطت من المندل «5» الرّطب أو عجنت من العنبر الورد؛ تسرى كالشّهب فى الظلام، وتسبق إلى مقاتل الطير مسدّدات السّهام. مثل النجوم إذا ما سرن فى أفق ... عن الأهلّة لكن نونها راء «6» ما فاتها من نجوم اللّيل إن رمقت ... إلّا ثبات «7» يرى فيها وأضواء

تسرى ولا يشعر الليل البهيم بها ... كأنّها فى جفون الليل إغفاء وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا فى الدّياجى وهى صمّاء تصونها جرأوة «1» كأنّها جرج «2» درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر؛ أو كنانة نبل، أو غمامة وبل؛ حالكة الأديم، كأنّما رقمت بالشّفق حلّة ليلها البهيم. كأنّها فى وصفها مشرق ... تنبثّ منه «3» فى الدّجى الأنجم أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملوّنا وانبثقت تسجم فاتخذ كلّ له مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا. كأنّهم فى يمن أفعالهم ... فى نظر المنصف والجاحد قد ولدوا فى طالع واحد ... وأشرقوا فى مطلع واحد فسرت علينا من الطير عصابه، أظلّتنا من أجنحتها سحابه؛ من كلّ طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ «4» يبغى ماء جماما فورد ولكن السمّ منقعا، وحلّق فى الفضاء يبتغى ملعبا فبات هو وأشياعه سجّدا للقسىّ وركّعا؛ فتبرّكنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.

فاستقبل أوّلنا «تمّا» «1» تمّ بدره، وعظم فى نوعه قدره؛ كأنه برق كرع فى غسق؛ أو صبح عطف على بقيّة الدّجى «2» عطف النّسق؛ تحسبه فى أسداف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدّجى طرّة صبح؛ عليه من البياض حلّة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار. له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرّفه نسيم. كلون المشيب وعصر الشّباب ... ووقت الوصال ويوم الظّفر كأنّ الدّجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فرّ فأرسل إليه عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما؛ فاستبشر بنجاحه، وكبّر عند صياحه، وحصّله من وسط الماء بجناحه. وتلاه «كىّ «3» » نقىّ اللّباس، مشتعل شيب الراس، كأنّه فى عرانين شيبه لاوبله كبير أناس «4» ؛ إن أسفّ فى طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النّسيم زمام؛ ذو غببة «5» كالجراب ومنقار كالحراب، ولون يغرّ فى الدّجى كالنّجم ويخدع فى الضّحى كالسّراب؛ ظاهر الهرم، كأنّما يخبر عن عاد ويحدّث عن إرم. إن عام فى زرق الغدير حسبته ... مبيضّ غيم فى أديم سماء

أوطار فى أفق السماء ظننته ... فى الجوّ شيخا عائما فى ماء متناقض الأوصاف فيه خفّة ال ... جهّال تحت رزانة العلماء فثنى الثانى إليه عنان بندقه، وتوخّاه فيما بين رأسه وعنقه، فخرّ كمارد انقضّ عليه نجم من أفقه؛ فتلقّاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحته الماء من وجه الغدير. وقارنته «إوزّة» حلّتها دكناء، وحليتها حسناء؛ لها فى الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفّة ذوات التبرّج وخفر ربّات الحجال؛ كأنّما عبّت فى ذهب، أو خاضت فى لهب؛ تختال فى مشيتها كالكاعب، وتتأنّى فى خطوها كاللّاعب «1» ؛ وتعطو بجيدها كالظّبى الغرير، وتتدافع فى سيرها مشى القطاة إلى الغدير. إذا أقبلت تمشى فخطرة كاعب ... رداح «2» وإن صاحت فصولة حازم «3» وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لى ... خفا ذى الخوافى أو قوى ذى القوادم فأنعم بها فى البعد زاد مسافر ... وأحسن بها فى القرب تحفة قادم فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها؛ فلجّت فى ترفّعها ممعنه، ثم نزلت على حكمه مذعنه؛ فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط.

وحاذتها «لغلغة» تحكى لون وشيها، وتصف حسن مشيها؛ وتربى عليها بغرّتها، وتنافسها فى المحاسن كضرّتها؛ كأنّها مدامة قطبت «1» بمائها، أو غمامة شفّت عن بعض نجوم سمائها. بغرّة بيضاء ميمونة ... تشرق فى اللّيل كبدر التّمام وإن تبدّت فى الضّحى خلتها ... فى الحلّة الدّكناء برق الغمام فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها؛ فجدّت فى العلوّ مغذّه «2» ، وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصّيد لم تك لذّه؛ وانقضّ عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفّة «3» طيرانها من خلفها؛ فوقعت من الأفق فى كفّه، ونفر «4» ما فى بقايا صفّها عن صفّه. وأتت فى أثرها «أنيسة» آنسه، كأنها العذراء العانسه، أو الأدماء الكانسه «5» ؛ عليها خفر الأبكار، [وخفّة ذوات الأوكار «6» ] وحلاوة المعانى التى تجلى على الأفكار؛ ولها أنس الرّبيب، وإدلال الحبيب، وتلفّت الزائر المريب، من خوف الرّقيب؛ ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشّقيق؛ وصدر بهىّ الملبوس، شهىّ إلى النّفوس، كأنّما رقم فيه النّهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس «7» ؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكى لونه المندل الرّطب إلّا «8» أنّه حطب. مدبّجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى اللّيل ضوء النهار لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيّجت «9» بالبهار

فوثب الخامس منها «1» إلى الغنيمه، ونظم فى سلك رميه تلك الدّرّة اليتيمة «2» ؛ وحصل بتحصيلها بين الرّماة على الرتبة الجسيمه. وأتى على صوتها «حبرج» تسبق همّته جناحه، ويغلب خفق قوادمه صياحه؛ مدبّج المطا، كأنما خلع حلّة منكبيه على القطا؛ ينظر من لهب، ويخطو على رجلين من ذهب. يزور الرّياض ويجفو الحياض ... ويشبه فى اللّون كدر القطا ويهوى الزّروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه؛ فخرّ على الألاءة «3» كبسطام بن قيس «4» ، وانقضّ عليه راميه فخصله «5» بحذق وحمله بكيس. وتعذّر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه؛ فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت فى موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل. فعنّ له «نسر» ذو قوادم شداد، ومناسر حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد؛ تحسبه فى السماء ثالث أخويه، وتخاله فى الفضاء قبّته المنسوبة إليه؛ قد حلق كالفقراء راسه، وجعل ممّا قصر من الدّلوق الدّكن لباسه؛ واشتمل من الرّياش العسلىّ إزارا، واختار

العزلة فلا يجد له إلّا فى قنن الجبال الشواهق مزارا؛ قد شابت نواصى الليالى وهو لم يشب، ومضت الدهور وهو من الحوادث فى معقل أشب. مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفى الأفق الأعلى له أخوان له حال فتّاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان فدنا من مطاره، وتوخّى ببندقه عنقه فوقع فى منقاره؛ فكأنما هدّ منه صخرا، أو هدم بناء مشمخرّا؛ ونظر إلى رفيقه، مبشرا له بما امتاز به عن فريقه. وإذا به قد أظلّته «عقاب» كاسر، كأنما أضلّت صيدا أفلت من المناسر؛ إن حطّت فسحاب انكشف، وإن قامت «1» فكأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العنّاب والحشف؛ بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجّت فى علوّ كأنّما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب. ترى الطير والوحش فى كفّها ... ومنقارها ذا عظام مزاله فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمّت غزاله فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأوّل بندقة فما أخطأ قادمة جناحها؛ فأهوت كعود صرع، أو طود صدع؛ قد ذهب باسها، وتذهّب بدمها لباسها؛ وكذلك القدر يخادع الجوّ عن عقابه، ويستنزل الأعصم «2» من عقابه؛ فحملها بجناحها المهيض «3» ، ورفعها بعد الترفّع فى أوج جوّها من الحضيض؛ ونزلا إلى الرّفقه، جذلين بربح الصّفقه.

فوجد التاسع قد مرّ به «كركىّ» طويل السّفار، سريع التّفار؛ شهىّ الفراق» ، كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق؛ لقوادمه فى الجوّ هفيف «2» ، ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف؛ تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوّته الرّياح البوارح؛ له أثر حمرة فى رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقيّة جرح تحت ضماد؛ أو فصّ عقيق شفّت عنه بقايا ثماد؛ ذو منقار كسنان، وعنق كعنان «3» ؛ كأنّما ينوس، على عودين من آبنوس «4» . إذا بدا فى أفق مقلعا ... والجوّ كالماء تفاويفه حسبته فى لجّة مركبا ... رجلاه فى الأفق مجاديفه فصبر له حتى جازه «5» مجليّا، وعطف عليه مصلّيا؛ فخرّ مضرّجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه. وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون؛ فكثر «6» التكبير من أجله، وحمله راميه من على وجه الأرض برجله. وحاذاه «غرنوق» حكاه فى زيّه وقدره، وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره؛ له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنيه مكان شنفه. له من الكركىّ أوصافه ... سوى سواد الصدر والرّاس إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس

فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا؛ فخرّ كأنّه صريع الألحان، أو نزيف «1» بنت الحان؛ فأهوى إلى رجله بيده وأيده «2» ، وانقضّ عليه انقضاض الكاسر على صيده. وتبعه فى المطار «صوغ «3» » ، كأنّه من النّضار مصوغ؛ تحسبه عاشقا قد مدّ صفحته، أو بارقا قد بثّ لفحته. طويلة رجلاه مسودّة ... كأنّما منقاره خنجر مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفى قمّتها «4» معجر «5» فاستقبله الحادى عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب؛ فسقط كفارس تقطّر عن جواده، أو وامق أصيبت حبّة فؤاده؛ فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه. واقترن به «مرزم» له فى السماء سمىّ معروف، ذو منقار كصدغ «6» معطوف؛ كأنّ رياشه فلق «7» اتّصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق. له جسم من الثّلج ... على رجلين من نار إذا أقلع ليلا قل ... ت برق فى الدّجى سارى

فانتحاه الثانى عشر ميمّما، ورماه مصمّما؛ فأصابه فى زوره، وحصّله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره. والتحق به «شبيطر «1» » كأنه مدية مبيطر «2» ؛ ينحطّ كالسيل ويكرّ على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدّين يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل؛ يتلوّى فى منقاره الأيم «3» ، تلوّى التّنّين فى الغيم. تراه فى الجوّ ممتدّا وفى فمه ... من الأفاعى شجاع أرقم ذكر كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورأسه رأسها والحيّة الوتر فصوّب الثالث عشر إليه ببندقه، فقطع لحيه «4» وعنقه؛ فوقع كالصّرح الممرّد، أو الطّراف «5» الممدّد. واتّبعه «عنّاز «6» » أصبح فى اللّون ضدّه، وفى الشكل ندّه؛ كأنه ليل ضمّ الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره. تراه فى الجوّ عند الصبح حين بدا ... مسودّ أجنحة مبيضّ حيزوم كأسود حبشىّ عام فى نهر ... وضمّ فى صدره طفلا من الرّوم

فنهض تمام القوم إلى التّتمّه، وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمّه؛ وغدا ذلك الطير الواجب واجبا «1» ، وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا؛ فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح فى الفضاء المتّسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كلّ شمل مجتمع؛ وأضحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النّظام، أو شرب كأنّ رقابهم من اللّين لم يخلق لهنّ عظام؛ وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظّفر إلى مستقرّنا ومقامنا؛ داعين للمولى جهدنا، مذعنين له قبلنا أو ردّنا؛ حاملين ما صرعنا الى بين يديه، عاملين على التشرّف بخدمته والانتماء إليه. فأنت الذى لم يلف من لا يودّه ... ويدعو له فى السرّ أو يدّعى له فإن كان رمى أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمى رعيله «2» والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل. ومن إنشاء المولى علاء «3» الدّين علىّ بن عبد الظاهر [فى] قدمة بندق. ابتدأها بأن قال: «الحمد لله مهيّئ أسباب الارتياح، ومهنّئ أوقات الانشراح، ومطلق الأيدى فى الاقتناص فليس عليها فى صيد ذوات الجناح جناح؛

ومزيّن السماء بمصابيح «1» أنوارها، وموشّى الأرض بروضها ونوّارها؛ ومنوّر الأيام بشموسها والليالى بأقمارها، ومطرّز مطارف الآفاق بمطار أطيارها. والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله وصحبه الذين أنجدهم الله من ملائكته بأولى أجنحه، وأهوى بصرائعهم «2» وأوهى قوى ممانعهم بعزائمهم المنجحه. وبعد، فإنّ القنص شغفت به قلوب ذوى العزائم؛ وصيّرته عنوانا للحرب إذ حمام الحمام فيه على الفرائس حوائم؛ تلتذّ نفوسهم بالمطاردة فيه وترتاح، وتهواه فلو تمكنت لركبت اليه أعناق الرياح؛ ترد منه مورد الظّفر، وتتمتّع فيه بنزه تقسّم الحسن فيهن بين السمع والبصر، وتتملّى عند السرور إليه برياض دبّجها صوب من المطر لا صوب من الفكر، ويطوى من الأرض ما نشرت أيدى السماء به برودا أبهى من الحبر «3» ؛ فتارة تستنزل من العواصم الظباء العواصى، وآونة تقتنص الطير وقد تحصّنت من بروج السّحب فى الصّياصى «4» ببعوثها الدّانية من كلّ قاصى. وأحسن أنواعه الذى جمع لمعاينه بين روضة ورياضه، وغدر مفاضه؛ ومغازلة عيون النّور وهى تدمع حين طرفها بذيله نسيم الصباح، ومباكرة اللذّات من قبل أن ترشف شمس الضحى ريق الغوادى من ثغور الأقاح؛ رمى البندق الذى هو عقلة المستوفز «5» ، وانتهاز غفلة الطائر المتحرّز؛ ونزهة القلوب التى إن طالت لا تملّ؛ وإن اجتاز المتنزّه بموطنها لم يؤجر «6» . أحلى من صيد الظباء، وأشهى من لمح ملح الحسناء؛

لا يحتاج إلى ركض جواد، ولا يجتاح فيه خفض العيش جواد «1» ، ولا يهاجر متعاطيه إلى الهواجر، ولا يحجر على نفسه فى الإفضاء إلى المحاجر «2» ؛ أربابه يرتاضون فى الروضة الغنّاء، ويسمعون من نغمات الأوتار وشدو الأطيار مختلف الألحان والغناء؛ ويمتطون الليل طرفا، ويستنيرون من النجوم شموعا لا تقطّ ولا تطفا؛ قد اتخذ كل منهم مقاما أكرم به من مقام، وهام باللذة فترك كرائم كراه وكذا عادة المستهام؛ وسبح فى لجج الليل وكرع فى نهر النهار، وتجلّى فى حلل الصدق وتخلى عن خلل العار. يهوون لذّة القنص فى الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس، ويرسلون رسل المنايا إلى صرائعهم فما تتنفّس. إذا برزوا عند الغروب توارت شمس الأصيل حياء، وذهبت فى حلّتها الذهبيّة حين بهروها سنا وسناء؛ تراهم كالزّهر أو الأزهار، أو عقد نظم باللّجين والزّمرّد والنّضار؛ أوجههم فى أفلاك قسيّهم أقمار، كولدان جنان، وأعطاف أغصان؛ قد طاف بهم سياج المسرّة وأحدق، وحلّوا بثياب سندس خضر وإستبرق؛ كأنّ الأرض ضاهت بهم السماء، فصيّرت قسيّهم أفلاكها، وغررهم نجومها، وعزائمهم صواعقها وبنادقهم رجومها؛ يخفق منهم قلب كلّ خافقه، وتقدم بعوثهم على ذوات القوادم فبينا هى مترافقة إذا بها متفارقه، وكأن صوافّ الطير لديهم فى جوّ السماء، سطور فى صفيحة زرقاء؛ أو كأنها فى التئامها، عقود درّ فى نظامها؛ يفرطون سلكها، ويقرّبون هلكها، ويغدرون بها فى الغدر، ويجسرون عليها فى الجسور، وتقايض بنادقهم صرائعهم فيصير وكر الطير الجراوة وجراوة البنادق حواصل الطيور. وإذا أسفروا وجه صباح، سمعت للطير صياحا والطرب كلّه فى ذلك الصياح؛ وإن عشوا مقاماتهم وجه عشاء رأيت الطير وهى لدى محاريب

قسيّهم وهى سجود وركّع، طرائح من بيض وسود كأنّ أديم الأرض منهنّ أبقع. وإن تعلّقوا بأذيال الليل وسجفه، وباتوا فى عطفه؛ احتمى منهم بشهبه، وتستّر فى حجبه؛ وتوارى عنهم البدر بذيل الغمام، وهال هالته أن تبدو لقسيّهم الموتّرة بالحمام. إلى غير ذلك مما التزموه من محاسن أوصاف وأوصاف محاسن، ووردوه من مناهل مصافاة ماؤها غير آسن، ووجدوه من طيب عيش ما لانوا معه ولا استكانوا إلى المساكن؛ وحفظوه من صناعتهم من شروط وأوضاع، ووقفوا فى مقاماتهم من مطيع ومطاع؛ يرعون قدر كبيرهم، ولا يراع بينهم قلب صغيرهم؛ ويتناصفون فى أحكامهم، فالحكم واحد على آمرهم ومأمورهم. إن تفرّقوا فهم على قلب رجل واحد، وإن اختلفت منهم المقاعد فقد اتفقت منهم المقاصد. ما خلا جوّهم من واجب الطاعه، ولا علا بينهم كبير إلّا بذلوا فى خدمته جهد الاستطاعة؛ وأضحوا وأمرهم عليهم محتوم، وأمسوا وما فيهم إلا من له مقام معلوم؛ بأيديهم قسىّ قاسيه، قضبانها قاضيه؛ منعطفة جافيه، بعوثها فى الخوافى خافيه؛ تمثّلها الأفكار فى ساحة الفضاء، كزوارق مبثوثة فى لجّة الماء. وكيف لا! وهى تحمل المنايا إلى الطير، وإن لم تكن سائرة فلها بعوث سريعة السير؛ كأنّ صانعها قصد وضعها كالأهلّة واقترح، أو حكى بمدبّج أثوابها قوس قزح؛ وكأن ظهرها «1» وقد تنوّعت به من الغروز مدارجه، مدر سحيق ورس دبّ عليه من النمل دارجه؛ إذا حطّت عنها أوتارها كانت عصا لربّها فيها مآرب ومغانم، يوجس الطير فى نفسه منها خيفة وكيف لا! وهى فى شكل الأراقم؛ متضادّة تجفو وتلين، موتورة وغيرها حزين؛ تضمّها أنامل

من يسراهم هى أيمن من يمين عرابة «1» بن أوس، ويطلع كلّ منهم فى فلكها والطّالع القمر فى القوس؛ لا تعتصم منها الطّرائد بالخباء فى وكر الدّجنّه، ولا يخفيها اتخاذها الظّلماء جنّه؛ ولا يوقّيها نزقها، ولا ينقيها «2» ملقها ولا تنجح بخفق الجناح، ولا تستروح بمساعدة الرياح؛ لها بنادق كأنها حبات القلوب لونا، وأشكال العقود كونا؛ كأنما صبغت من ليل وصيغت من شهب، أو صنعت من أديم للسّحب؛ تفرد من الطير التّؤام، وتجمع بين روحها والحمام؛ قد تحاماها النّسران فاتخذا السماء وكرا، واتفقا أن يصبحا شفعا ويمسيا وترا؛ تقبض منها الأيدى عند إطلاقها رائحة رابحه، جارحة من الطير كلّ جارحه، لا ترى صادحة إلا صيّرتها صائحه. قلب كلّ طير منها طائر، وكيف لا وهى للسّهام ضرائر؛ تضرم النار لإشواء الطّريدة قبل مفارقتها للأوتار، وتقتنص من الجوارح كلّ مستخف بالليل وسارب بالنّهار؛ تهيج كامن الغنيمة وتستثير، وتبدو كأنما عجنت من صندل وعبير. ولما كان من هو واسطة عقد هذه الأوصاف، والرافل فى برودها الموشيّة للأطراف؛ والمبدع فى فنّه، والجامع بين فضيلة الرمى وحسنه؛ والمستنطق لسان قومه بالإحسان، والحافظ شروطه فى طهارة العرض وصدق اللسان؛ والرامى الذى

ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما

بلغ بهمّته غاية المرام، وضاهى ببندقه السّهام؛ وكان يوم كذا وكذا خرج إلى برزته المباركة وصرع طيرين فى وجه واحد، وأبان عن حسن الرمى وسداد الساعد؛ وأضحى بينهما كثيرا بين قومه، وجعلهما لهم وليمة فى يومه؛ وهما «تمّ» كأنما صيغ «1» من فضّه، أو تدرّع من النهار حلّة مبيضّه؛ أو غاير بياضه الليل فلطم وجهه بيد ظلمائه، فاقتصّ منه وخاض فى أحشائه؛ لجناحه هفيف فى المطار، تسمع منه نغمة الأوتار. و «لغلغة» كأنها كوّنت من شقيق وغمام، أو مزج لونها بماء ومدام؛ لها غرّة لو بدت فى الليل خلتها بدرا، وإن أسفرت عند الصباح حسبتها فجرا؛ وحملها فلان وفلان، وقطع شبقه «2» فلان وادّعى لفلان؛ وعاد الرامى قرير العين، مملوء اليدين؛ إذا فخر غيره بواحدة فخر بآثنتين؛ معظّما بين أترابه، مكرّما لدى أحبابه؛ ألبسه الله من السرور أزهى أثوابه. بمنّه وكرمه. ومما ورد فى وصف الجلاهق نظما - قال أبو الفرج الببغّاء يصفها: ومرنان «3» معبّسة ضحوك ... مهذّبة الطبائع والكيان مغالبة وليس بها حراك ... وباطشة وليس لها يدان لها فى الجارح النّسب المعلّى ... وإن هى خالفته فى المعانى تطير مع البزاة بلا جناح ... فتسبقها إلى قصب الرّهان وتدرك ما تشاء بغير رجل ... ولا باع يطول ولا بنان وتلحظ ما يكلّ الطرف عنه ... بلا نظر يصحّ ولا عيان لها عضوان من عصب ولحم «4» ... وسائر جسمها من خيزران

يخاطب فى الهواء الطير منها ... بلفظ ليس يصدر عن لسان فإن لم تصغ أردتها بطعن ... ينوب الطين فيه عن السّنان مقرطقة ممنطقة خلوب ... مهفهفة مخفّفة الجران مذكّرة مؤنّثة تهادى ... من الأصباغ فى حلل القيان معمّرة تزايد كلّ يوم ... شبيبتها على مرّ الزمان كأنّ الله ضمّنها فبانت ... لنا فى الرّزق عن أوفى ضمان أعزّ على العيون من المآقى ... وأحلى فى النفوس من الأمانى إذا ما استوطنت يوما مكانا ... تولّى الجدب عن ذاك المكان وقال أبو الفتح كشاجم: وثيقة مدمجة الأوصل ... محنّية عوجاء كالهلال تعود إن شئت إلى اعتدال ... باطنها «1» لعاقل الأوعال والظهر منها لقنا الأبطال ... يجمعها أسمر ذو انفتال فى وسطه من صنعة المحتال ... مثال عين غير ذى احولال تقذى «2» بصدفات من الصّلصال ... أمضى من السّهام والنّبال قذى يقرّ أعين الآمال ... فاقعة الصّفرة كالجريال «3» رخيصة تغنم كلّ غال ... تؤمن منها ونية الكلال تعول فى الجدب وفى الإمحال ... وقد يكون الصّقر كالعيال

ذكر شىء مما قيل فى سبطانة

مطيّها عواتق «1» الرجال ... فى غلف ممدودة طوال كم أفضلت على ذوى إفضال ... وكم أنالت من أخى نوال وقرّبت للطّير من آجال وقال أيضا فيها من أبيات: وفى يسارى من الخطّىّ محكمة ... متى طلبت بها أدركت مطلوبى للوعل باطن شطريها ومعظمها ... من عود شجراء ظمياء الأنابيب تأنّق القين «2» فى تزيينها فغدت ... تومى بأحسن تفضيض وتذهيب فى وسطها مقلة منها تبيّن ما ... يرمى فما مقتل «3» عنها بمحجوب فقمت والطير قد حمّ الحمام لها ... على سبيلى فى عادى وتجويبى «4» حتى إذا اكتحلت بالطين مقلتها ... صبّت عليهنّ حتفا جدّ مصبوب فرحت جذلان لم تكدر مشارب ل ... ذّاتى ولم تلق آمالى بتخييب ذكر شىء مما قيل فى سبطانة «5» قال أبو الفرج الببّغاء: وجوفاء حاملة تهتدى ... إلى كل قلب بمقروحه مقوّمة القدّ ممشوقة ... مهفهفة الجسم ممسوحه

ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدبق

مثقّفة فمها عينها ... تبشّر قلبى بتصحيحه فإن هى والجارح استنهضا ... الى الصّيد عاقته عن ريحه إذا المرء أودعها سرّه ... لتخفيه باحت بتصريحه موات تعيش إذا ما أعاد ... لها النافخ الرّوح من روحه هى السّبطانة فى شكلها ... ففى القلب جدّ تباريحه تحطّ أبا الفرخ عن وكره ... وتستنزل الطير من لوحه «1» وقال أبو طالب المأمونىّ: مثقّفة جوفاء تحسب زانة «2» ... ولكنها لا زجّ فيها ولا نصل تسدّد نحو الطير وهو محلّق ... فينفذ عنها للردى نحوه الرّسل يطير إلى الطير الرّدى فى ضميرها ... فيجرى كما يجرى ويعلو كما يعلو فيعقل ما تنجو به فكأنّما ... يمدّ إليه «3» من بنادقها حبل ذكر شىء مما قيل فى عيدان الدّبق «4» قال عبد الله بن المعتز فيها ملغزا: وما رماح غير جارحات ... ولسن «5» فى الدّماء والغات ولسن «6» للطّراد والغارات ... يخضبن لا من علق الكماة

بريق حتف منجز العدات ... مكتمن ليس بذى إفلات «1» ينشب فى الصدور واللّبّات ... فعل إسار «2» فلّق السّيات على عواليها مركّبات ... أسنّة لسن موقّعات «3» من قصب الريش مجرّدات ... يحسبن فى الهواء شائلات أذناب جرذان منكّسات وقال أبو الفتح كشاجم: وآسرات مثل مأسورات ... ممكّنات غير ممكنات مؤمّلات غير مكذبات ... صوادق التعجيل للعدات نواظر الأشكال ذاهبات ... كواسر ولسن ضاريات ولا بما يصدن عالمات ... بمثل ريق النحل مطليّات أقتل من سمائم الحيّات ... لو صلحت شيئا من الآلات ووصلت بالزّجّ والشّباة ... كانت مكان النّبل للرّماة حوامل للطير ممسكات ... تعلّق الأحباب بالحبّات كأنها فى النعت والصفات ... أذناب ما دقّ من الحيّات أغدر بالورق المغرّدات ... فيها من الفتيان بالقينات فهنّ من قتلى ومن عناة ... بلا فكاك وبلا ديات

ذكر شى مما قيل فى الشباك

ذكر شى مما قيل فى الشّباك قال السّرىّ الرّفّاء يصف شبكة: وجدول بين حديقتين ... مطّرد مثل حسام القين كسوته واسعة القطرين ... تنظر فى الماء بألف عين راصدة كلّ قريب الحين ... تبرزه مجنّح الجنبين كمدية مصقولة المتنين ... كأنما صيغ من اللّجين وقال أبو الفرج الببّغاء يصف شبكة العصافير: رقراقة فى السّراب تحسبها ... على الثّرى حلّة من الزّرد كالدّرع لكنها معوّضة ... عن المسامير كثرة العقد سائرها أعين مفتّحة ... لا ترتضى نسبة إلى جسد ذكر ما قيل فى الشّصّ، وهو الصّنانير - قال كاتب أندلسىّ يصفه من رسالة: «صنانير، كأظفار السّنانير؛ قد عطفها القين كالراء، وصيّرها الصّقل كالماء؛ فجاءت أحدّ من الإبر، وأرقّ من الشّعر؛ كأنها مخلب صرد «1» ، أو نصف حلقة من زرد» . وقال أبو الفتح كشاجم: من كان يحوى صيده الفضاء ... وللبزاة عنده ثواء وطال بالكلب له العناء ... فإن صيدى ما حواه الماء بمخلب ساعده رشاء ... يظلّ والماء له غطاء

كما طوت هلالها السماء ... كأنه من الحروف راء فهو ونصف خاتم سواء ... يحمل سمّا اسمه غذاء وعطبا فيه لنا إحياء ... تدمى به القلوب والأحشاء عاد إذا ساعده القضاء ... أمتعنا القريس «1» والشّواء وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم كمل الجزء التاسع «2» من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب البكرى التّيمىّ القرشىّ نسبا المعروف بالنّويرى رحمه الله. ويليه الجزء العاشر «3» المتعلق بالنباتات، على يد كاتبه، فقير رحمة ربه المعين، الفقير نور الدين بن شرف الدين بن أحمد العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، وذلك فى مستهلّ شهر رمضان المعظم قدره سنة 966 هـ.

[مقدمة الجزء الحادي عشر] بيان عن أصول الجزء الحادى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب فى دار الكتب المصرية من نسخ هذا السفر نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ، كتبت إحداهما في شوّال سنة 966 هجرية بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ا) ، ونسبت الأخرى الى خط المؤلّف فى جمادى الأولى سنة 922 هجرية، وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وقطعة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسىّ تبتدئ من الفنّ الرابع فى النبات صفحة 1 وتنتهى فى السطر الثامن من صفحة 138 فى الكلام على الخوخ، وقد نبهنا على ذلك فى موضعه، ولم يكتب عليها اسم كاتبها، ولا تاريخ نسخها، وهذه القطعة هى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ج) ، وليس التحريف والطمس والنقص في إحدى هذه النسخ الثلاث بأقلَّ من الأخريين، بل إن هذه النسخ تكاد تكون متفقة فى ذلك بالرغم من اختلافها فى الخط ونسبة إحداها الى خط المؤلّف، كما يتبين ذلك من مراجعة الحواشى الكثيرة التى ذيلنا بها صفحات هذا السفر. وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيحه الى ما نقصد اليه فى جميع الكتاب، من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وضبط الملتبس، وتفسير الغريب، وغير ذلك من الأغراض التى بيّنّاها فى الأجزاء السابقة.

وقد تم طبع هذا السفر فى عهد من يفتخر العلم والأدب بعنايته الوافية الوافره ورعايته السامية الساهرة؛ وأياديه الجسيمه، ونعمه العظيمه، التى لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء، ولا يقوم بحقها حمد ولا ثناء: «مولانا صاحب الجلالة الملك فؤاد الأوّل» أدام الله ظلّه، وأيّد ملكه، وأقرّ عينه وعين شعبه بحراسة ولىّ عهده: «أمير الصعيد صاحب السموّ الأمير فاروق» وفى هذا المقام نرى- عرفانا بالجميل، وتقديرا الجهود المخلصين- أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكوره، والجهود الموفّقة المبروره؛ التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة المربّى الكبير (الأستاذ محمد أسعد برادة بك) مدير دار الكتب المصرية، فقد خطت هذه الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب. كما أنه من الحقّ علينا أن نقدّم عظيم الشكر ووافر الثناء الى العالم الجليل حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى) مراقب إحياء الآداب العربية. وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى) رئيس القسم الأدبى، على ما أسدياه الينا فى هذا العمل من الآراء القيّمة، والإرشادات السديدة. والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يلهمنا السداد فيما نقول ونعمل. مصحّحه أحمد الزين

فهرس الجزء الحادي عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى .... صفحة الفن الرابع- فى النبات 1 القسم الأوّل- فى أصل النبات وما تختص به أرض دون 4 أرض، وتتصل به الأقوات والخضراوات والبقولات الباب الأوّل- فى أصل النبات وترتيبه فى ترتيبه من ابتدائه الى انتهائه 5 - فى ترتيب أحوال الزرع 6 الباب الثانى- فيما تختص به أرض دون أرض، وما يستأصل 7 شأفة النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة ما تختص به أرض دون أرض 7 - ما يستأصل النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة 11 الباب الثالث- فى الأقوات والخضراوات: 11 الحنطة وما قيل فيها 13 - الشعير 15 - ما وصف به الشعراء الزرع وشبهوه به 16 - الحمص 17 - الباقلى 18 - أفعاله وخواصه 19 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه به 20 - الأرز 23 - الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته 23 - ما وصف به من الشعر 25 - الكتان وما قيل فى بزره وتشبيهه 26 - ما وصف به من الشعر 27 - الشهدانج 28 - ما قاله الشعراء فى وصف ورقه وهو المعروف بالحشيش 29 - البطيخ وما قيل فيه 30 - البرى منه وهو الحنظل 30 - البستانى 30 - ما جاء فى وصفه وتشبيهه 32 - ما قيل فى الأصفر 33 - ما قيل فى الدستنبويه 36 - القثاء والخيار وما قيل فيهما 38 - ما جاء فى وصفهما وتشبيهما من الشعر 38 - القرع وما قيل فيه 41 - الباذنجان وما قيل فيه 43 - ما وصف به من الشعر 44 - ما قيل فى السلق 45 - القنبيط والكرنب 48 - السلجم- وهو اللفت- 51 ما وصف به السلجم من الشعر 51 - ما قيل فى الفجل 52 - ما وصف به الفجل من

الشعر 55 - الجزر وما قيل فيه 55 - الشقاقل- وهو الجزر البرّىّ- 56 ما وصف به الجزر من الشعر 57 - البصل وما قيل فيه 57 - ما وصف به البصل من الشعر 59 - الثوم وما قيل فيه 59 - ما وصف به الثوم من الشعر 61 - الكراث وما قيل فيه 61 - الريباس وما قيل فيه 64 - ما وصف به الريباس من الشعر 64 - الهليون وما قيل فيه 65 - ما وصف به الهليون من الشعر 67 - الهندبا وما قيل فيها 67 - النعنع وما قيل فيه 69 - ما قيل فى وصف نبات النمام من الشعر 71 - الجرجير وما قيل فيه 72 - السذاب وما قيل فيه 73 - الطرخون وما قيل فيه 76 - الاسفاناخ وما قيل فيه 77 - طبعه وأفعاله 77 - البقلة الحمقاء 78 - توليدها 78 - طبعها وفعلها 78 - الحماض وما قيل فيه 79 - الرازيانج وما قيل فيه 81 - النبطى 81 - الرومى 82 - ما وصف به الرازيانج من الشعر 83 - الكرفس وما قيل فيه 83 القسم الثانى- فى الأشجار الباب الأوّل- فيما لثمره قشر لا يؤكل: 86 اللوز وما قيل فيه 86 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 88 - الجوز وما قيل فيه 89 - أفعاله وخواصه 89 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 90 - الجلوز وما قيل فيه 91 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 91 - الفستق وما قيل فيه 92 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 93 - الشاهبلوط وما قيل فيه 95 - قال شاعر يصفه 95 - شجر الصنوبر وما قيل فيه 96 - ما وصف به الصنوبر وشبه به من الشعر 98 - الرمان والجلنار 100 - ما قيل فيهما من الشعر- فمن ذلك ما وصف به الرمان وشبه به 101 - ما وصف به الجلنار 104 - الموز وما قيل فيه 105 - ما وصف به وشبه من الشعر 106 - ما وصف به وشبه النارنج 111 - ما وصف به وشبه (الليمو) (الليمون) 116 الباب الثانى- فيما لثمره نوى لا يؤكل: 117 النخل وما قيل فيه 117 - أسماء النخلة من حين تبدو صغيرة الى أن تكبر وكذلك الرطب من حين يكون طلعا الى أن يصير رطبا 118 - فصل فى نعوتها 118 - ما وصف به النخل من الشعر 119 - الجمار وما قيل فيه 124 - ما وصف به الجمار والطلع من الشعر 124 - ما وصف به الطلع 124 - البلح والبسر والتمر 126 - ما قيل فى وصف البلح والبسر من الشعر 126 - ووصفوا الرطب والتمر 128 - النارجيل 129 - ما قيل فى وصف النارجيل من الشعر 130 - الفوفل 130 - الكاذى 131 - الخزم 131 - الزيتون وما قيل فيه 131 - ما وصف به الزيتون من الشعر 132 - الخرنوب وما قيل فيه 132 - ما وصف به الخرنوب من

الشعر 133 - الإجاص وما قيل فيه 134 - ما وصف به الإجاص من الشعر 135 - ومما وصف به القراسيا 136 - الزعرور وما قيل فيه 137 - ما وصف به الزعرور من الشعر 137 - الخوخ وما قيل فيه 138 - ما وصف به من الشعر 138 - المشمش وما قيل فيه 140 - ما وصف به المشمش من الشعر 141 - العناب وما قيل فيه 142 - ما وصف به العناب من الشعر 142 - النبق وما قيل فيه 144 - ما وصف به النبق من الشعر 144 الباب الثالث- فيما ليس لثمره قشر ولا نوى: 146 العنب وما قيل فيه 146 - طبعه 147 - ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا 148 - التين وما قيل فيه 153 - المختار من التين وما قيل فى طبعه وخواصه 154 - ما وصفه به الشعراء وشبهوه 158 - ما وصف به على سبيل الذم 160 - التوت وما قيل فيه 160 - ما وصفه به الشعراء 162 - التفاح وما قيل فيه 162 - ما وصفه به الشعراء 164 - السفرجل وما قيل فيه 168 - ما وصف به نظما ونثرا 169 - الكمثرى وما قيل فيها 172 - ما وصفها به الشعراء 173 - اللفاح وما قيل فيه 175 - ما وصفه به الشعراء 177 - الأترج وما قيل فيه 178 - أفعاله وخواصه 179 - ما وصفه به الشعراء 180 القسم الثالث- فى الفواكه المشمومة الباب الأوّل- فيما يشم رطبا ويستقطر: 184 الورد وما قيل فيه 184 - ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا 189 - ومما قيل فى ذم الورد ومدحه 192 - ما وصف به الورد الأبيض 193 - ما وصف به الورد الأصفر 194 - ما وصف به الورد الأزرق 195 - ما قيل فى الورد الأسود 195 - ما جاء فيه نثرا 196 - النسرين وما قيل فيه 214 - ما جاء فى وصفه 214 - البان وما قيل فيه- وهو شجر الخلاف- 215 ما جاء فى باكورة خلاف 217 - النيلوفر وما قيل فيه 219 - ما جاء فى وصفه 221 الباب الثانى- فيما يشم رطبا ولا يستقطر: 226 البنفسج وما قيل فيه 226 - أفعاله وخواصه 226 - ما جاء فى وصفه 226 - النرجس وما قيل فيه 229 - ما جاء فى وصفه 230 - الياسمين وما قيل فيه 236 - ما جاء فى وصفه 236 - الآس وما قيل فيه 239 - طبعه 240 - أفعاله وخواصه 240 - ما جاء فى وصفه 241 - الزعفران وما قيل فيه 242 - ما جاء فى وصفه 244 - الحبق وما قيل فيه 247 - كلام لابن سينا فى طبع الباذروج وخواصه 250 - المرماحوز 251 - المرزنجوش 251 - الفلنجمشك 252 - ما وصفت به الرياحين 252

... صفحة القسم الرابع- فى الرياض والأزهار ويتصل به الصموغ والأمنان والعصائر 256 الباب الأوّل- فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا: 256 متنزهات الدنيا الأربع فمنها صغد سمرقند 257 - شعب بوان 257 - نهر الأبلة 260 - غوطة دمشق 261 - ما وصفت به الرياض نثرا ونظما 262 - قد أكثر الشعراء فى وصف الرياض والغصون 263 الباب الثانى- فى الأزهار: 271 الخيرى وما قيل فيه 271 - ما وصف به من الشعر 271 - السوسن وما قيل فيه 273 - ما جاء فى وصفه 275 - الآذريون وما قيل فيه 277 - ما جاء فى وصفه 277 - الخرم وما قيل فيه 279 - ما وصف به الخرم من الشعر 280 - الشقيق وما قيل فيه 281 - ما جاء فى وصفه 282 - ما وصف به البهار 285 - الأقحوان وما قيل فيه 286 - ما وصفه به الشعراء 289 الباب الثالث- فى الصموغ: 291 الكافور وما قيل فيه 292 - الكهربا وما قيل فيه 295 - علك الأنباط 297 - علك الروم 297 - علك البطم 298 - صمغ الينبوت (صوابه التنوب) 299 - صمغ قوفى 299 - الكثيراء 299 - الكندر 299 - الفربيون 301 - الصبر 304 - المر 307 - الكمكام 309 - الضجاج 309 - الأشق 310 - تراب القىء 311 - القنة 312 - الحلتيت 313 - الأنزروت 315 - السكبينج 315 - السادوران 317 - دم الأخوين 317 - الميعة 318 - صمغ قبعرين 320 - المقل الأزرق 321 - الصمغ العربى 322 - القطران 323 - الزفت 325 الباب الرابع- فى الأمنان: 225 العسل والشمع 325 - اللك 326 - القرمز 326 - اللاذن 326 - الافتيمون 327 - القنبيل 328 - الورس 328 - الترنجبين 328 - الشير خشك 329 - المنّ 329 - الكشوث 329 - سكر العشر 330

بيان أهمّ الكتب والمصادر التى رجعنا اليها فى تصحيح هذا الجزء مرتّبة على حروف المعجم إخبار العلماء بأخبار الحكماء- للقفطى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى- لشهاب الدين القسطلّانى. أزهار الأفكار فى جواهر الأحجار- للتيفاشى. الأسباب والعلامات- لنجيب الدين السمرقندى. الأغانى- لأبى الفرج الأصبهانى. أقرب الموارد فى فصح العربية والشوارد- لسعيد الخورى الشرتونى اللّبنانى. الألفاظ الفارسية المعرّبة- للسيد أدّى شير. بحر الجواهر- لمحمد بن يوسف الطبيب المعروف بالهروى. بدائع البدائه- للوزير جمال الدين أبى الحسن على بن ظافر الأزدى المصرى. البرهان القاطع- وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى. بغية الوعاة فى طبقات اللغوييّن والنحاة- للجلال السيوطى. تاج العروس من جواهر القاموس- لمحب الدين أبى الفيض السيد محمد مرتضى الزبيدى الحنفى. تاج اللغة وصحاح العربية- لأبى نصر إسماعيل بن حماد الجوهرىّ الفارابى. تذكرة داود. تقويم البلدان- لأبى الفداء. التهذيب فى اللغة- للأزهرى. حسن المحاضرة- للجلال السيوطى. الحشائش- لديسقور يدوس. حياة الحيوان- للدميرى.

خاص الخاص- للثعالبى. خريدة القصر وجريدة أهل العصر- للوزير أبى عبد الله محمد بن محمد بن أبى الرجاء الكاتب الأصبهانى. دائرة المعارف- للبستانى. الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة- لابن حجر. دستور العلماء، ويعرف بجامع العلوم- للأحمد نكرى. ديوان البحترى. ديوان ابن الرومى. ديوان ابن زيدون. ديوان الحيوان- للسيوطى. ديوان السرىّ الرفّاء. ديوان ابن الساعاتى، المعروف بمقطّعات النيل. ديوان المتنبىّ. ديوان ابن المعتز. ديوان مؤيّد الدين الطّغرائىّ. ديوان المعانى- لأبى هلال العسكرى. ديوان أبى الفتح كشاجم. رسالة الحسين بن نوح القمرى فى تفسير المصطلحات الطبية. رسائل الصاحب بن عباد. رسالة فى تفسير بعض المصطلحات الطبية لم يعرف مؤلّفها، وهى ضمن مجموعة مخطوطة ومحفوظة بمكتبة تيمور تحت رقم 667 طب. زهر الاداب وثمر الألباب- للحصرى القيروانى. سحر البلاغة وسر البراعة- للثعالبى. سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون- لابن نباتة.

الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية- لمحمد بن عمر بن سليمان التونسى. شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا- للكازرونى. شرح الرضى على الشافية. شرح الرضى على الكافية. شرح ديوان أبى تمام- للخطيب التبريزى. شرح العكبرىّ على ديوان المتنبى. الشعر والشعراء- لابن قتيبة الدينورى. شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل- لشهاب الدين أحمد الخفاجى. صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء- للقلقشندى. عبث الوليد- لأبى العلاء المعرّى. عمدة المحتاج فى علمى الأدوية والعلاج، ويعرف بالمادة الطبية- للسيد أحمد افندى الرشيدى. عيون الأنباء فى طبقات الأطباء- لابن أبى أصيبعة. فقه اللغة- للثعالبى. الفلاحة النبطية- لأبى بكر بن وحشية. فوات الوفيات- لابن شاكر الكتبى. قلائد العقيان- للفتح بن خاقان. قاموس الأطباء وناموس الألبّاء- للشيخ مدين بن عبد الرحمن الطبيب الشهير بالقيصونى. قاموس المحيط- لمجد الدين الفير وزابادى. القانون فى الطب- للشيخ الرئيس أبى على بن سينا. كشاف اصطلاحات الفنون- للتهانوى. كوكب الروضة- للسيوطى. لسان العرب- لابن منظور. مباهج الفكر ومناهج العبر- للورّاق الكتبى. مجموع الأصمعيّات. محاضرات الأدباء- للراغب الأصبهانى.

المخصص- لابن سيده. المصباح المنير- للفيومى. مطالع البدور فى منازل السرور- لعلاء الدين على بن عبد الله البهائى. معجم البلدان- لأبى عبد الله ياقوت الحموى. معجم ما استعجم- للبكرى. معجم أسماء النبات- للدكتور أحمد عيسى. مفاتيح العلوم- للخوارزمى. معجم الأدباء- ويعرف بارشاد الأريب لمعرفة الأديب- لياقوت. المشتبه فى أسماء الرجال- للحافظ الذهبى. ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه- للمحبّى. أسماء الملابس عند العرب- لدوزى. المغرب فى ترتيب المعرب- للمطرّزى. المعرّب والدخيل- للشيخ مصطفى المدنى. المعرّب من الكلام الأعجمى- لأبى منصور الجواليقى. مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار- لابن فضل الله العمرى. من غاب عنه المطرب- للثعالبى. المعجم الفارسى الانجليزى- لاستاين جاس. مفتاح الطب- لأبى الفرج بن هندو. مفردات ابن البيطار. المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير- لم يعلم اسم مؤلّفه. المنهاج- لابن جزلة. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة- لابن تغرى بردى. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- للمقرى. نهاية الأرب فى فنون الأدب- للنويرى. وفيات الأعيان- لابن خلّكان. يتيمة الدهر- للثعالبىّ.

الجزء الحادي عشر

الجزء الحادي عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه التوفيق «1» [والإعانة، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما «2» ] الفنّ الرابع «3» فى النّبات وهذا الفنّ وإن جلّ مقداره، وحسنت آثاره، وأشرقت أنواره، وزها نوّاره؛ وتفيّأت خامات «4» زروعه، ونبتت أصوله تحت فروعه؛ وتدبّجت «5» خمائله، وتأرّجت بكره وطابت أصائله؛ وابتهج إغريضه «6» ، واتّسق نضيده؛ وتسلسلت غدران مائه وزهت «7» أرضه على سمائه؛ وتعدّدت منافعه، وعذبت منابعه؛ وكان منه ما هو للنفس

قوتا، وما حكت ألوانه زمرّدا وياقوتا؛ وما أشبه اللّجين والعقيان، وما غازل بعيونه مقل الحسان؛ وما نسبت إليه الوجنات فى احمرارها، وألوان العشّاق فى اصفرارها؛ وأشبهته القدود عند تمامها، والثغور فى انتظامها؛ والنّهود فى بروزها وارتفاعها والخصور فى هيفها والسّرر فى اتّساعها؛ وما اختلفت ألوانه وطعوم ثماره وإن ائتلفت أراضى مغارسه ومجارى أنهاره؛ وما تضوّع عرفه وفاح نشره، وحسن وصفه ولاح بشره؛ وبقيت آثاره بعد ذبوله أحسن منها يوم زفافه «1» ، وحصل الانتفاع به فى حالتى غضاضته وجفافه؛ ووصفه الطبيب فى دوائه وعلاجه، ونصّ عليه الحكيم فى أقراباذينه «2» ومنهاجه؛ وكان هذا الفنّ أحد شطرى النّامى، وقسيم النوع الحيوانىّ؛ فإنّا «3» لم نقصد بإيراده استيعاب نوعه، واستكمال جنسه، واستيفاء منافعه والإحاطة بمجموعه، ولا تصدّينا لذلك، ولا تعرّضنا لخوض هذه اللّجج وطروق هذه المهالك، لأمور: منها تعذّر الإمكان، وضيق الزّمان؛ ولأنّ هذا الفنّ عجز عن حصره فلاسفة الحكماء، ومشاهير «4» الأطبّاء؛ وسكّان البوادى، ومن جمعتهم الرّحاب

وضمّتهم النّوادى «1» ، ومن لا زموا النبات من حين استهلّت عليه الأنواء وباكرته الغوادى؛ فاطلع كلّ منهم على ما لم يطّلع الآخر عليه، وشاهد ما لم تنته فكرة غيره اليه؛ وعلم التّركمانىّ منه ما لم يعلمه البدوىّ، وعرف الجبلىّ ما لم يعرفه النّبطىّ؛ وصنّف فيه الحكماء الكتب المطوّله، وأظهروا من منافعه ومضارّه كلّ فائدة خفيّة وخاصّيّة مهمله؛ وتعدّدت فيه تصانيفهم، وتواردت واشتهرت تآليفهم؛ ومع ذلك فما قدروا على حصره، ولعلّهم لم يقفوا إلّا على جزء يسير من شطره؛ بل قصدنا بإيراده أن نذكر منه ما عليه وصف للشّعراء، ورسائل للبلغاء والفضلاء؛ لأنّ ذلك ممّا لا يستغنى عنه المحاضر، ويضطرّ اليه الجليس والمسامر؛ وينتفع به الكاتب فى كتابته، ويتّسع به على المنشئ مجال بلاغته؛ فأوردنا منه ما هو بهذه السبيل، واستقصينا ما هو من هذا القبيل؛ وان كنّا زدنا فى بعضه على هذا الشّرط، وخرجنا عن هذا الخطّ؛ وتعدّينا من وصفه الى ذكر منافعه ومضارّه، وانتهينا إلى إيراد بارده وحارّه؛ ورطبه ومعتدله ومحرقه وقابضه ومليّنه ومطلقه؛ ونبّهنا على توليده وأصله، وخساسته وفضله؛ فهذه الزيادة إنّما وردت على سبيل الاستطراد، لا على حكم الالتزام والاستعداد، وهى مما تزيد هذا الفنّ إلى حسنه حسنا، وتبدو بها فضائله فرادى ومثنى؛ ووصلنا فنّ النّبات بالصّموغ والأمنان «2» ، لأنّهما من توابعه وفروعه، وحلبنا ألبان «3» التكملة «4» له بهما من ضروعه؛ وألحقنا

القسم الأول من هذا الفن فى أصل النبات وما تختص به أرض دون أرض

ذلك بقسم يشتمل على أصناف الطّيب والبخورات، والغوالى والمستقطرات؛ فختمنا الفنّ منه «1» بمسك، ونظمناه معه فى سلك؛ وحصرنا هذا الفنّ وما يتعلّق به فى خمسة أقسام تندرج تحتها أبواب، ولخّصناه من أكرم أصول وأعرق أنساب وأوثق أسباب. القسم الأوّل من هذا الفنّ فى أصل النّبات وما تختصّ به أرض دون أرض وتتّصل به الأقوات والخضراوات «2» والبقولات، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى أصل النّبات وترتيبه [أما أصل النّبات] قال المسعودىّ فى كتابه المترجم (بمروج الذهب ومعادن الجوهر) : إنّ آدم عليه السّلام لمّا أهبطه الله تعالى الى الأرض خرج من الجنّة ومعه ثلاثون قضيبا مودعة أصناف الثمرة، منها عشرة لها قشر، وهى الجوز واللّوز والجلّوز والفستق والبلّوط والشّاهبلّوط والصّنوبر والنّارنج والرّمّان والخشخاش. ومنها عشرة لثمرها نوى، وهى الزّيتون والرّطب والمشمش والخوخ والإجّاص والغبيراء والنّبق والعنّاب والمخَّيط «3» والزُّعرور؛ ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى

وأما ترتيبه من ابتدائه إلى انتهائه

وهى التّفّاح والسّفرجل والكمّثرى والعنب والتّين والأترجّ والخرنوب والتّوت والقثّاء والبطّيخ؛ وقال أبو عبيد البكرىّ فى كتابه المترجم (بالمسالك والممالك) : إنّ إسحاق بن العبّاس بن محمّد الهاشمىّ حكى عن أبيه أنّه تصيّد يوما بناحية (صنعاء) «1» فأصابته السماء فمال الى أحوية «2» أعراب فمكث عندهم يوما وليلة والغيث منسجم، لا ينحسم، فلمّا أصبح قال: لقد أنزل الله الليلة خيرا كثيرا؛ فقام ربّ البيت الى كساء كان قد نصبه بين أربع أخشاب يصيبه المطر، فلمسه بيده، فقال؛ ما أنزل الله الليلة خيرا؛ ثمّ ليلة أخرى كذلك، وليلة أخرى؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث قال: نعم قد أنزل الله خيرا فى هذه اللّيلة؛ فسأله العبّاس بن محمّد عن ذلك، فأتاه بكفّ من البزور تناولها من جوف ذلك الكساء، وقال: إنّ حبّ البقل والعشب والكلإ إنّما ينزل من السماء. هذا ما ورد فى أصل النّبات. وأمّا ترتيبه من ابتدائه إلى انتهائه - فقد حكى الثّعالبىّ فى (فقه اللغة) قال: أوّل ما يبدأ النّبت فهو بارض، فاذا تحرّك قليلا فهو جميم؛ [فاذا «3» عمّ الأرض فهو عميم] فاذا اهتزّ وأمكن أن يقبض عليه قيل: «اجثألّ» ، فاذا اصفرّ ويبس فهو هائج، فاذا كان الرّطب تحت اليابس فهو غميم، فاذا كان بعضه هائجا وبعضه أخضر

فصل فى ترتيب أحوال الزرع

فهو شميط، فاذا تهشّم وتحطّم فهو هشيم وحطيم «1» ، فاذا اسودّ من القدم فهو الدّندن «2» فاذا يبس ثم أصابه المطر فآخضّر فذاك النّشر. وقيل فى مثله: اذا طلع أوّل النّبت قيل: «أوشم، وطرّ» ، فاذا زاد قليلا قيل: «طفّر» فاذا غطّى الأرض قيل: «استحلس» ؛ واذا صار بعضه أطول من بعض قيل: «تناتل» ، فإذا تهيّأ لليبس قيل: «اقطارّ» فاذا يبس وانشقّ قيل: «تصوّح» ، فاذا تمّ يبسه قيل: هاجت الأرض هياجا؛ والله أعلم بالصواب. فصل فى ترتيب أحوال الزرع هو ما دام فى البذر فهو الحبّ، فاذا انشق الحبّ عن الورقة فهو الفرخ والشّطء، فاذا طلع رأسه فهو الحقل، فاذا صار أربع ورقات أو خمسا قيل: كوّث «3» تكويثا، فاذا طال وغلظ قيل «استأسد» ، فاذا ظهرت قصبته قيل «قصّب» ، فاذا ظهرت فيه السّنبلة قيل: «سنبل» ثم اكتهل. وأحسن من جميع ذلك وأبلغ قوله عزّ وجلّ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ، قال الزّجّاج: «آزر الصّغار الكبار حتّى استوى بعضه ببعض» . وقال غيره: «فساوى الفراخ الطّوال فاستوى طولهما» وقال ابن الأعرابىّ: أشطأ الزرع، اذا فرّخ (وأخرج شطئه) فراخه، (فآزره) ، أى أعانه؛ والله أعلم.

الباب الثانى من القسم الأول من الفن الرابع فيما تختص به أرض دون أرض وما يستأصل شأفة النبات الشاغل للأرض عن الزراعة

الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فيما تختصّ به أرض دون أرض وما يستأصل شأفة النّبات الشاغل للأرض عن الزراعة أمّا ما تختصّ به أرض دون أرض - فقد حكى أبو بكر بن وحشيّة أنواعا من النّبات توجد فى أرض ولا توجد فى غيرها، فقال: إنّ فى بلاد سجلماسة «1» شجرة ترتفع نصف قامة أو أرجح؛ ورقها كورق الغار، إذا عمل منها إكليل ولبسه الرجل على رأسه ومشى أو عدا أو عمل عملا لم ينم ما دام ذلك الإكليل على رأسه، ولا يناله من ضرر السهر وضعف القوّة ما ينال من سهر وعمل؛ وقال: وفى بلاد الإفرنجة «2» شجرة إذا قعد إنسان تحتها نصف ساعة من النّهار مات، وإن مسّها ماسّ أو قطع منها غصنا أو ورقة أو هزّها مات؛ وفى جزيرة «3» من جزائر الصّقالبة نبات فى قدر البقل «4» ، ورقه يشبه ورق السّذاب، إذا ألقى الأصل منه بورقه وأغصانه بعد غسله من التراب الذى فيه، وجعل فى الماء البارد، وترك فيه ساعة من نهار، سخن ذلك الماء كسخونته إذا أو قدت تحته النار، وكلّما دام فيه اشتدّت حرارته حتى لا يمكن أن يمسّ، وإذا خرج من الماء برد الماء لوقته؛ وقال: فى بلاد رومية شجرة لطيفة تنبت على شاطىء نهر «5» هناك، ورقها كورق الحمّص

طولها ذراعان، إذا جمع شىء من ورقها وأغصانها ودقّ واعتصر ماؤه، وجفّفت العصارة، فإن شرب منها رجل مقدار دانق ونصف بخمر «1» أنعظ إنعاظا شديدا ويجامع ما شاء من غير كلال ولا ضعف، فاذا أحبّ أن يزول ذلك الإنعاظ عنه قام فى ماء بارد إلى نصف صدره ساعة، فإنّ ذلك يزول عنه، ويرجع إلى حالته الأولى؛ قال: وفى بلد من بلاد الرّوم يقال له: (سفانطس) «2» نبات يرتفع عن الأرض نحو الذراع له ورق كورق السّلق، الورقة نحو ذراع، وليس له ساق يقوم عليها، إذا أخذ أصل هذا النّبات- وهو أصل كبير مستدير الى الطّول- وقشر وطبخ، وأكله الّذى يحمّ زالت عنه الحمّى بعد أكلة أو أكلتين أىّ حمّى كانت، وكذلك إن بخّر بورقه بعد تجفيفه مرّة أو مرّتين؛ قال: وببلاد الهند نبات لا تحرقه النار؛ وفيها شجرة إذا قطع شىء

من أغصانها وألقى على الأرض تحرّك، وربّما سعى كما تسعى الحيّات ودبّ «1» ؛ وفيما يلى مهبّ الشّمال شجرة تسمع منها فى فصلى الربيع والخريف «2» همهمة إنسان يريد أن يتكلّم وربّما نطقت بلغة الهند كلمة بعد كلمة، وتسمّى هذه الشجرة الشّمس، وصورتها على صورة الإنسان؛ وفى بلاد التّاكيان «3» شجرة تضىء باللّيل كالسّراج، بحيث إنّ النّاس إذا سلكوا بقربها باللّيل استغنوا بضوئها عن مصباح، ويسمّونها شجرة القمر. ومن الشجر والنّبات المشهور الّذى لا يوجد إلّا ببقاع مخصوصة: البلسان، وهو فى أرض المطريّة على ساعة من القاهرة المعزّيّة، فى بقعة مخصوصة معروفة، تسقى من بئر مخصوص هناك؛ والفلفل، يقال: إنه لا ينبت الّا بالمنيبارات «4» من بلاد الهند والمراد بالنّبات هنا: كماله وتحصيل مغلّه، وإلّا فقد رأيته أنا وقد زرع ببستان بأرض (أشموم طناح «5» ) من الدّيار المصريّة فى سنة أربع وتسعين وستّمائة، ونبت وصار نباته بقدر الذّراع، وكاد يعقد الحبّ؛ وأخبرنى من اختبره فى غير هذه السنة المذكورة أنّه لا يتمّ عقد حبّه ولا يتكوّن، وأنّهم يستعملون فروعه فى الطّعام فتقوم مقام الفلفل؛ وشجر الكافور لا ينبت إلّا فى بقاع مخصوصة يأتى ذكرها إن شاء الله

فى موضعها من هذا الكتاب فى هذا الجزء، وكذلك اليبروح «1» الصّنمىّ لا يوجد إلّا فى بلد بعينه، والباب فى هذا متّسع، وليس فى استقصائه فائدة توجب البحث عنه أو إيراده. وممّا يناسب هذا الفصل ما حكى عن أبى بكر بن وحشيّة أيضا أنّه إذا خلط بزر الكرنب ببزر السّلجم- والسّلجم، هو اللّفت- وتركا ثلاثة أشهر ثمّ زرعا خرج البزر كلّه سلجما، فاذا أخذ من بزر هذا السّلجم وزرع خرج كرنبا. وحكى عنه أيضا أنّه اذا أحرق النّعنع والجرجير فى موضع ند بقرب شجرة أو زرع، وخلط الرّماد بالتّراب، وأضيف إليهما قشر بيض الحمام، ودفن ذلك فى الأرض على مقدار دون الشّبر، وصبّ عليه الماء أربعة أيّام، ثمّ يسقى على عادة النّعنع والجرجير، أخرج شجر الدّلب «2» ، فاذا نبت فليحوّل ويغرس فى موضع آخر، فإنّه يثبت، وزعم أنّ ذلك لا يتمّ إلّا أن يكون فى نيسان إذا قارب القمر الشّمس فى برج الحمل أو الثّور؛ والله أعلم.

وأما ما يستأصل النبات الشاغل للأرض عن الغراسة والزراعة

وأمّا ما يستأصل النّبات الشاغل للأرض عن الغراسة «1» والزّراعة - فقد ذكر أبو بكر بن وحشيّة من ذلك أشياء كثيرة، ثم قال: وأجود ذلك أن يزرع البنج «2» فى الأرض الّتى تنبت فيها هذه الحشائش، ويسقى الماء، فاذا كبر وأزهر يقلع، ويؤخذ التّرمس وورق الخلاف «3» فيلقيان على البنج وهو رطب، ويدقّ الجميع جملة حتّى يختلط، وينثر منه فى تلك الأرض، فإنه يحرق الثّيل «4» والشّوك وجميع الحشائش الّتى هى أعداء الزّرع؛ قال: أو يسحق التّرمس وثمر الطّرفاء وورق الخلاف مع أغصانه سحقا ناعما، ويعتصر ماء البنج الرّطب وماء ورق الآس ويخلط الماءان، ويبلّ بهما المسحوق يوما وليلة، ثمّ يصبّ على الثّيل وعلى أصول الشّوك وغير ذلك من الحشائش الدّغلة، فإنّه يأكلها ويجفّفها؛ قال: أو يعمل

معول من نحاس، ويحمى بالنّار حتّى يصير كالجمر، ثم يغمس فى دم تيس كما يسقى الحديد، يصنع به ذلك مرارا، ثمّ يقطع به الثّيل والشّوك والعوسج والقصب وغير ذلك من الحشائش الكبار الغلاظ المضرّة بالزرع؛ فإنّ كلّ نبات قطع به لا ينبت بعد ذلك أبدا، لكنّه متى أصاب المعول شيئا من كرم أو نبات فإنّه يؤذيه؛ قال: أو تقلع أصول النّبات المضرّة بالزّراعة والغراسة «1» ، ويؤخذ الماء العذب فيغلى فى قدر نحاس غليانا جيّدا مرارا، يوقد عليه بخشب الصّنوبر، ويدقّ الحلتيت «2» والخردل والخربق «3» دقّا ناعما، وتضاف الى الماء، ويصبّ منه وهو حارّ فى الأصول «4» الّتى قلعت، فإنّ نباتها لا يعود أبدا؛ أو يلقى الزّفت والخمر فى ماء عذب، ويغلى فى قدر نحاس حتّى يذوب الزّفت، ويصبّ وهو حارّ فى تلك الأصول المقلوعة، ومقدار ما يصبّ منه فى كلّ أصل ربع رطل؛ قال: وأمّا ما يقلع الحلفاء فهو أن يزرع التّرمس والخربق فى الأرض التى تظهر فيها، فاذا انتهيا فى بلوغ غايتهما يقلعان

الباب الثالث من القسم الأول من الفن الرابع فى الأقوات والخضراوات

بأصولهما، ويلقيان على الأرض، ويضربان بالخشب حتى يتهرّأ، ويجرى عليهما الماء، ويتركان حتّى يعفنا، فإنّهما يأكلان أصول الحلفاء وما عداها من الحشائش المضرّة؛ قال: ومن أراد قلع شجرة عظيمة لا يمكن الأكرة «1» قلعها، فليحفر حول أصلها، فإذا انكشف صبّ فيه خلّا قد أغلى فيه الزّفت، ثم يطمر «2» بالتّراب فإنه يهرّىء ذلك الأصل ويفتّته وييبّسه، وإن كان يابسا سقط بنفسه؛ والله أعلم. الباب الثّالث من القسم الأوّل من الفنّ الرابع فى الأقوات والخضراوات ويشتمل هذا الباب على الحنطة والشّعير والحمّص والباقلّى والأرزّ، وما قيل فى الخشخاش والكتّان والشّهدانج «3» والبطّيخ والقثّاء والخيار والقرع والباذنجان والسّلق والقنّيط والكرنب والسّلجم والفجل والجزر والبصل والثّوم والكرّاث والريباس والهليون والهندبا والنعنع والجرجير والسّذاب والطّرخون والإسفاناخ والبقلة الحمقاء والحمّاض والرّازيانج والكرفس. فأمّا الحنطة وما قيل فيها - فقد حكى الشيخ أبو الحسن الكسائىّ- رحمه الله- فى بدء الدنيا؛ أنّ الحبّة أوّل ما خرجت من الجنّة كانت قدر بيض النّعام، ألين من الزّبد، وأحلى من العسل، ولم تزل زاكية زمن آدم وشيث

- عليهما السلام- الى زمن إدريس- عليه السّلام- فلمّا كثر الناس نقص الحبّ عن مقداره إلى مقداره إلى أصغر منه، ثمّ كان كذلك إلى أيام فرعون، فنقص عن مقداره إلى أيّام إلياس- عليه السلام-، ثمّ نقص حتّى صار قدر بيض الدّجاج الى أيّام عيسى بن مريم- عليه السلام- فنقص فى زمنه حتّى صار مثل بيض الحمام، الى أن قتل يحيى بن زكريّا- عليهما السلام- فصار قدر البندق، فكان كذلك الى أيّام عزير، فلمّا قالت اليهود: (عزير بن الله) نقص إلى ما ترى، وقيل: بل صار قدر الحمّص، ثمّ صار إلى هذه الغاية. وقال وهب بن منبّه: وكان الزرع فى زمن آدم- عليه السّلام- على طول النخل. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الحنطة المتوسّطة فى الصّلابة العظيمة السّمينة الملساء «1» ، الّتى بين الحمراء والبيضاء؛ والحنطة السوداء رديئة الغذاء؛ وطبع الحنطة حارّ معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وسويقها «2» الى اليبس، وهو بطىء الانحدار، كثير النّفخ، لابدّ من حلاوة تحدره بسرعة، وغسل بالماء الحارّ حتّى يزيل نفخه؛ وقال فى الأفعال والخواصّ: الحنطة الكبيرة والحمراء أكثر غذاء، والحنطة المسلوقة بطيئة الهضم نفّاخة، لكنّ غذاءها إذا استمرئت كثير؛ والحوّارى «3» قريب من النّشا، لكنّه أسخن؛ والنّشا بارد رطب لزج؛ قال: والحنطة تنقّى الوجه، ودقيقها والنّشا خاصة بالزّعفران دواء للكلف «4» ؛ قال: والحنطة النّيئة والمطبوخة المسلوقة

وأما الشعير

من غير طحن ولا تهرئة كالهريسة، والهريسة إن أكلت ولّدت الدّود، قال: والحنطة مدقوقة مذرورة على عضّة [الكلب الكلب «1» ] نافعة. وأمّا الشّعير - فقد قال الشيخ الرئيس: طبع الشّعير بارد يابس فى الأولى وهو جلاء، وغذاؤه أقلّ من غذاء الحنطة، وماء الشّعير أغذى «2» من سويقه، وكلاهما يكسر حدّة الأخلاط؛ وهو نافخ «3» ، قال: واذا طبخ بخلّ «4» ثقيف ووضع ضمادا على الجرب المتقرّح أبرأه، ويضمد به مع السّفرجل والخلّ على النّقرس «5» ؛ ويمنع سيلان الفضول الى المفاصل؛ قال: وماؤه ينفع من أمراض الصدر؛ واذا شرب ببزر الرازيانج «6» أغزر اللّبن؛ ويضمد بدقيقه وإكليل الملك «7» وقشر الخشخاش لوجع الجنب؛ قال: وماؤه ردىء للمعدة، وسويقه يمسك البطن؛ وماؤه مبرّد يرطّب الحمّيات: أمّا للحارّة فساذجا، وأمّا للباردة فمع الكرفس والرّازيانج؛ والله أعلم.

وأما ما وصف به الشعراء الزرع وشبهوه به

وأمّا ما وصف به الشعراء الزّرع وشبّهوه به - فمنه قول القاضى عياض: انظر إلى الزرع وخاماته «1» ... تحكى وقد مالت أمام الرّياح كتائبا تجفل مهزومة ... شقائق «2» النّعمان فيها جراح وقال ظافر الحدّاد الإسكندرىّ: كأنّ سنابل حبّ الحصيد ... وقد شارفت وقت إبّانها مكانس «3» مضفورة ربّعت ... وأرخى فاضل خيطانها وقال ابن رافع: انظر الى سنبل الزّروع وقد ... مرّت عليه الجنوب والشّمل «4» كأنّه البحر فى تموّجه ... يعلو مرارا به ويستفل

[وأما الحمص]

وقال آخر: يا حبّذا سنبلة ... تبدو لعين المبصر كأنّها سلسلة ... مضفورة من عنبر [وأمّا الحمّص «1» ] - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى (كتاب «2» الأدوية المفردة) : الحمّص أبيض وأحمر وأسود وكرسنّىّ «3» ؛ ومن الأصناف بستانىّ وبرّىّ والبرّىّ أحدّ وأمرّ وأشدّ تسخينا، ويفعل أفعال البستانىّ فى القوّة، ولكنّ غذاء البستانىّ أجود من غذاء البرّىّ، وقال فى طبعه: الأبيض حارّ يابس فى الأولى، والأسود أقوى؛ وقال فى خواصّه: كلاهما مفتّح «4» مليّن، وفيه تقطيع، ولا شىء فى أشكاله أغذى منه للرّئة؛ ورطبه أكثر توليدا للفضول من يابسه؛ قال: والحمّص يجلو النّمش» ، ويحسّن الّلون طلاء وأكلا، وينفع من الأورام الحارّة والصّلبة وسائر الأورام و [ما كان «6» منها فى] الغدد، ودهنه ينفع من القوباء؛ ودقيقه للقروح الخبيثة والسّرطانيّة والحكّة؛ قال: وينفع من وجع الظهر، ومن البثور الرّطبة فى الرأس؛ ونقيعه ينفع من وجع الضّرس وأورام اللّثة الحارّة والصّلبة، والأورام الّتى تحت

وأما الباقلى

الأذنين؛ قال: وهو يصفّى الصّوت؛ قال: وطبيخه نافع للاستسقاء واليرقان «1» ويفتّح سدد الكبد والطّحال، خصوصا الكرسنّىّ والأسود، قال: ويجب ألّا يؤكل الحمّص فى أوّل الطعام ولا فى آخره؛ بل فى وسطه؛ قال: وطبيخ الأسود يفتّت الحصاة فى المثانة والكلى بدهن اللّوز والفجل والكرفس؛ وجميع أصناف الحمّص تخرج الجنين؛ وهو ردىء لقروح المثانة؛ ويزيد فى الباه جدّا؛ ونقيعه اذا شرب على الرّيق أنعظ بقوّة؛ وكلّه مليّن للبطن؛ وقال بعضهم: إنّه إن نقع فى الخلّ وأكل منه على الرّيق، وصبر عليه نصف يوم قتل الدّود. وأمّا الباقلّى «2» - فقد قال فيه الشيخ الرئيس: منه مصرىّ، ومنه نبطىّ «3» والنّبطىّ أشدّ قبضا، والمصرىّ أرطب وأقلّ غذاء، والرّطب أكثر فضولا؛ قال: ولولا بطء هضمه وكثرة نفخه ما قصر فى التغذية عن كشك الشّعير، بل دمه «4» أغلظ وأقوى؛ قال: وأجوده السّمين الأبيض السالم من السّوس؛ وأردأه الطرىّ؛ وإصلاحه إطالة نقعه وإجادة طبخه وأكله بالفلفل والملح والحلتيت «5» والصّعتر «6»

وأما أفعاله وخواصه

وطبعه قريب من الاعتدال، وميله الى البرد واليبس أكثر؛ وفيه رطوبة فضليّة خصوصا فى الرّطب منه؛ قال والقوم الّذين يجعلون برد الباقلّى فى الدرجة الثانية «1» يفرطون. وأمّا أفعاله وخواصّه - فإنّه يجلو قليلا، وينفخ، والمقلىّ منه قليل النّفخ، ولكنّه أبطأ انهضاما؛ والمطبوخ فى قشره كثير النّفخ، والنّبطىّ أشدّ قبضا ولا يجلو؛ قال: والباقلّى يولّد أخلاطا غليظة، وقد قضى إبّقراط «2» بجودة غذائه واذا قشر وشقّ نصفين ووضع على نزف قطعه؛ ومن خواصّه أنّه يقطع بيض الدّجاج اذا علفت منه، وأنّه يرى أحلاما مشوّشة «3» ، وأنّه يحدث الحكّة، خصوصا طريّه؛ ومن خواصّه أنّه اذا نمدت به عانة الصّبىّ منع نبات الشّعر، وكذلك اذا كرّر على الموضع المحلوق، ويجلو البهق من الوجه والكلف والنّمش، ويحسّن اللّون لا سيّما مع قشوره، واذا ضمد به بالشّراب على الخصية نفع ورمها؛ وينفع من تشنّج المفصل؛ ويضمد بمطبوخه النّقرس مع شحم الخنزير، وان خلط مع عسل ودقيق الحلبة «4» نفع من أو رام الحلق؛ وضماده جيّد لورم الثّدى وتجبّن اللّبن فيه؛ والمطبوخ منه بخلّ وماء ينفع من الإسهال المزمن، وخصوصا اذا كان بقشره

وأما ما وصفه به الشعراء وشبهوه به

وينفع من السّحج «1» ، ولا سيّما النّبطىّ، وسويقه أيضا ينفع من ذلك حسوا وضمادا هذا [ما قاله «2» فيه. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه به - فمن ذلك قول الصّنوبرىّ] : فصوص زمرّد فى غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفر وقد خاط الرّبيع لها ثيابا ... بديع «3» اللّون من خضر وصفر وقال أيضا فيه: ونبات باقلّاء «4» يشبه نورها ... بلق الحمام مشيلة «5» أذنابها وقال العسكرىّ: ويزهى ورد باقلّى ... كأطواق الشّفانين «6»

وقال أبو الفتح كشاجم: وباقلاء حسن المجرّد ... مسك الثّرى شهد الجنى «1» غضّ ندى كالعقد إلّا أنّه لم يعقد ... أو الفصوص فى أكفّ الخرّد أو كبنات «2» الّلؤلؤ المنضّد ... فى طىّ أصداف من الزّبرجد وقال فيه «3» أيضا: وكأنّ ورد الباقلاء دراهم ... قد ضمّخت أوساطها بالعنبر وكأنّه من فوق متن «4» غصونه ... يرنو بمقلة أقبل «5» أو أحور وقال أيضا «6» : ولاح ورد الباقلاء ناظرا ... عن مقلة تفتح جفنا عن حور وقال أبو طالب المأمونىّ: وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر تضمّه أوعية ... مثل الحرير الأخضر أوساطه مخطفة «7» ... مثل خصور ضمّر

أطرافه مذروبة «1» ... مسروقة من أنسر فطرف كمخلب ... وطرف كمنسر «2» وقال ابن وكيع التّنّيسىّ «3» : كأنّ ورد الباقلاء إذ بدا ... لناظريه أعين فيها حور كمثل [ألحاظ] «4» اليعافير «5» إذا ... روّعها من قانص فرط الحذر كأنّه مداهن من فضّة ... أوساطها بها من المسك أثر وقال أيضا فيه: كأنّ أوراق ورد ... للباقلاء بهيّه خواتم من لجين ... فصوصها حبشيّه وقال آخر: لى نحو ورد الباقلا «6» ... إدمان لهو ولهج كأنّما مبيضّه ... يلوح من ذاك الدّعج «7»

وأما الأرز

خواتم من فضّة ... فيها فصوص من سبج «1» وأما الأرزّ - فقال الشيخ: هو حارّ يابس، ويبسه أظهر من حرّه؛ وقالوا: إنّه أحرّ من الحنطة؛ وهو يغذو غذاء صالحا؛ واذا طبخ باللّبن ودهن اللّوز كان غذاؤه أكثر وأجود، وسقط تجفيفه وعقله، وخصوصا اذا نقع ليلة فى ماء النّخالة؛ قال: وفيه جلاء؛ ومطبوخه بالماء يعقل؛ والمطبوخ باللّبن يزيد فى الباه ولا يعقل. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده. وأمّا الخشخاش وما ينتج عنه من عصارته - فقال الشيخ الرئيس «2» : وعصارة الخشخاش المصرىّ الأسود هى الأفيون؛ قال: والمختار منه الرّزين الحادّ الرائحة الهشّ السّهل الانحلال فى الماء، لا ينعقد فى الذّوب وينحلّ فى الشّمس والأصفر منه الصّافى اللّون الضعيف الرائحة مغشوش، وغشّه بالماميثا «3» ؛ وهو يغشّ بلبن الخسّ البّرىّ؛ ويغشّ بالصّمغ فيكون برّاقا صافيا جدّا؛ وطبعه بارد يابس فى الرابعة؛ وأفعاله وخواصّه، هو مخدّر مسكّن لكلّ وجع سواء شرب أم طلى به والشّربة منه مقدار عدسة كبيرة، ولا تزاد شربته على دانقين «4» ؛ ويمنع الأورام

الحارّة؛ وفيه تجفيف للقروح، «واذا طلى «1» به باللّبن سكّن وجع النّقرس «2» » ؛ قال: وامّا أفعاله فى الرأس، فهو منوّم؛ واذا أذيب بدهن الورد وقطر منه فى الأذن سكّن وجعها إذا أضيف إليه المرّ والزّعفران، ويسكّن الصّداع المزمن؛ ويسكّن السّعال المبرّح؛ وهو يحبس الإسهال، وينفع من السّحج «3» وقروح الأمعاء؛ وإذا عدم كان بدله ثلاثة أضعافه من بزر البنج وضعفه من بزر اللّفّاح «4» .

وأما ما وصف به من الشعر

وأمّا ما وصف به من الشّعر - فمن ذلك قول الشّمشاطىّ «1» : وخضراء قد نيطت على حسن حالها ... بإكليلها لمّا استطالت قناتها مضمّنة حبّات درّ كأنّها ... لهم خير ما أمّ وهنّ بناتها وقال الحصكفىّ «2» : وغادة زاد فيها اللّحظ تكريرا ... قدّ يضيف «3» إلى التأنيث تذكيرا لها على الرأس إكليل يحيط به ... أو جمّة «4» قصّ أعلاها شوابيرا «5» كانّها قبّة من فوقها شرف ... جوفاء قسّمها البانى مقاصيرا حبلى بعدّة أولاد وما افترعت ... عذراء تحكى لنا العذراء تطهيرا تضمّ شمل أطيفال اذا درجوا ... رأيت شملهم المنظوم منثورا عهدى بها فوق ساق ترجحنّ «6» بها ... زمرّذا ثم عادت بعد كافورا

وأما الكتان وما قيل فى بزره وتشبيهه

وقال ابن وكيع: وخشخاش كأنّا منه نفرى ... قميص زبرجد عن جسم درّ كأقداح من البلّور صينت ... بأغشية من الدّيباج خضر وأمّا الكتّان وما قيل فى بزره وتشبيهه - فقال الشيخ الرئيس: بزر الكتّان حارّ فى الأولى، معتدل فى الرّطوبة واليبوسة، وإنّه مع النّطرون والتّين ضماد للكلف «1» والبثور اللّبنيّة «2» ؛ وينفع من تشنّج «3» الأظفار وتشقّقها وتقشّرها اذا خلط بشمع وعسل؛ ودخانه ينفع من الزّكام، وكذلك دخان الكتّان؛ وينفع من السّعال البلغمّى، وخصوصا المحمّص منه؛ وهو ردىء للمعدة، عسر الهضم، ومقليّه يعقل البطن؛ واذا طبخ وجلس فيه نفع من لذع يكون فى الرّحم وأورام؛ وكذلك الأمعاء؛ وينفع من قروح المثانة والكلية؛ قال: وطبيخ بزر الكتّان اذا حقن به مع دهن الورد عظمت منفعته فى قروح الأمعاء. «ونبات الكتّان فى غاية ما يكون من البهجة والنّضارة وحسن الألوان «4» » . وقد وصفه الشعراء بأوصاف وشبّهوه بأشياء؛ فمن ذلك قول ابن الرّومىّ:

وحلس «1» من الكتّان أخضر ناضر «2» ... يباكره «3» دانى الرّباب «4» مطير اذا درجت فيه الرّياح «5» تتابعت ... ذوائبه حتّى يقال غدير وقال أبو الفتح كشاجم: كأنّما الكتّان فيه إذ عقد ... ونشر الأوراق زرقا فى المدد «6» آثار قرص من محبّ فى جسد وقال ابن وكيع: ذوائب كتّان تمايل فى الضّحى ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد كأنّ اصفرار الزّهر فوق اخضرارها ... مداهن تبر ركّبت فى زبرجد وقال آخر فى الأزرق. كأنّه حين يبدو ... مداهن اللّازورد اذا السماء رأته ... تقول هذا فرندى

وأما الشهدانج

وأمّا الشّهدانج «1» - ويقال فيه: الشاهدانق «2» فورقه الحشيش «3» ، وهو بزر شجرة القنّب؛ قال الشيخ الرئيس: ومن الشّهدانج بستانى معروف، ومنه برّىّ، قال حنين: إن البرّىّ شجرة تخرج فى القفار على قدر ذراع، ورقها يغلب عليه البياض، وثمرها كالفلفل، ويشبه حبّها حبّ السّمنة «4» ، وهو حبّ ينعصر منه الدّهن؛ قال: وطبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وهو يطرد الرّياح، ويجفّف، وهو عسر الانهضام، ردىء الخلط، قوىّ الإسخان، ومقلوّه أقلّ ضررا؛ قال: واذا طبخت أصول القنّب البرّىّ وضمدت بها الأورام الحارّة فى المواضع الصّلبة الّتى فيها كيموسات «5» لاحجة «6» سكّنت الحارّة وحلّلت الصّلبة، وهو مصدّع بحرارته، وعصارته تقطر لوجع الأذن السّددىّ «7» ، ولرطوبة الأذن، وكذلك ورقه ودهنه قلّاع للحزاز «8» فى الرأس

وهو يظلم البصر، ويضعف المعدة، ويجفّف المنىّ، ولبن الشّهدانج البرّىّ يسهل برفق، ونصف رطل من عصيره يحلّ الاعتقال، ويطلق البلغم والصّفراء، ويذهب مذهب القرطم «1» ؛ هذا ما قاله فيه. وقال بعض الشّعراء فى ورقه: عاطيت من أهوى وقد زارنى ... كالبدر وافى ليلة البدر والنّهر قد مدّ على متنه ... شعاعه جسرا من التّبر خضراء كافوريّة رنّحت ... أعطافه من شدّة السّكر يفعل منها درهم فوق ما ... تفعل أرطال من الخمر فراح نشوان بها غافلا ... لا يعرف الحلو من المرّ قال وقد لان بها أمره ... فبات مردودا إلى أمرى قتلتنى، قلت: نعم سيّدى ... قتلين بالسّكر وبالنّجر «2» وقال آخر: يا ساقى القوم أدر بينهم ... خضراء تغنيهم عن الخمر حشيشة تجعل كلّ امرئ ... منهم حشيشيّا ولا يدرى وقال آخر: ربّ ليل قطعته ونديمى ... شاهدى وهو مسمعى وسميرى مجلسى مسجد وشربى من خضراء ... تزهى حسنا بلون نضير

وأما البطيخ وما قيل فيه

قال لى صاحبى وقد لاح «1» منها ... نشرها مزريا بنشر العبير أمن المسك؟ قلت: ليست من المسك ... ولكنها من الكافور وأمّا البطّيخ وما قيل فيه - فقال الثّعالبىّ فى فقه اللغة: أوّل ما يخرج البطّيخ يكون قعسرا، ثمّ خضفا، وهو أكبر من ذلك، ثم يكون قحّا، ثم يكون بطّيخا. وهو نوعان : برّىّ وبستانىّ؛ فالبّرىّ ، هو الحنظل، ومنه ذكر ومنه أنثى؛ فالذّكر ليفىّ، والأنثى رخو أبيض سلس؛ والمختار منه الأبيض منه الأبيض الشديد البياض الّلّين، فإنّ الأسود منه ردىء، والصّلب ردىء؛ وذكر فيه الشيخ الرئيس خواصّ ومنافع يطول شرحها؛ قال: وطبعه حارّ فى الثالثة «2» ؛ زعم الكندىّ أنّه بارد رطب؛ قال: وقد بعد عن الحقّ بعدا شديدا. وأما البستانىّ - فهو ثلاثة أصناف: هندىّ «3» وصينىّ وخراسانىّ؛ فالهندىّ هو الذى يسمّى بمصر: الأخضر، وبالمغرب: الدّلّاع، وبالحجاز: الحبحب، وبالشأم: الزّبش «4» ؛ والصّينىّ هو الّذى يسمّى بمصر والشأم: الأصفر «5» ؛ والجيّد منه الثقيل الخشن الأصفر؛ وفيه يقول بعض الشّعراء:

ثلاث هنّ فى البطّيخ زين ... وفى الإنسان منقصة وذلّه خشونة جسمه والثّقل فيه ... وصفرة لونه من غير علّه اذا شقّقته يوما تراه ... بدورا أشرقت منها أهلّه والخراسانىّ هو الّذى له رقبة مستطيلة معوجّة، ويسمّى بمصر: العبدلىّ نسبة الى عبد الله بن طاهر، فإنّه الّذى نقله من خراسان اليها؛ وقد عدّ بعض الأطبّاء فى البطّيخ صنفا آخر، وهو لطيف الشكل، عطر الرائحة، منقوش بالحمرة والصفرة والسّواد؛ منه ما يكون بقدر الكفّ، وأكبر من ذلك، ومنه المستطيل، ويسمّى بالعراق: الدّستنبوى «1» ، واحدته دستنبويه؛ وفى الشأم «2» : الشّمّام، واحدته شمّامة؛ وفى الصّعيد الأعلى يسمّونه: اللّفّاح، وهو خطأ، لأنّ اللّفّاح صنف آخر؛ ولهم فى بعض بلاد الصّعيد الأعلى من الدّيار المصريّة صنف آخر من أصناف البطّيخ الأصفر يسمّونه: الشّتوىّ، وهو مستطيل الشّكل، غير جافّ، يشبه القثّاء، رقيق الجلد جدّا، وهم غالبا لا يقطعونه بالسّكّين، وإنّما يمتصّون البطّيخة فيخرج ما فيها، ويبقى جلدها شبه الظّرف؛ وأكثر ما رأيت هذا الصنف بإسنى من عمل مدينة قوص. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى البطّيخ- ولم يميّزه بأصنافه، بل أطلق اسم البطّيخ، فقال: طبعه بارد فى أوّل الثانية، رطب فى آخرها؛ وإذا جفّف بزره لم يكن مرطّبا، بل يجفّف فى الأولى، وأصله مجفف، وقال فى أفعاله وخواصّه:

وأما ما جاء فى وصفه وتشبيهه

النّضيج منه لطيف، والنّىء كثيف، وغير النّضيج فى طبع القثّاء، وفيه تفتيح كيفما كان؛ قال: والنّضيج منه وغير النّضيج جاليان؛ وبزره أقوى جلاء؛ ويستحيل إلى أىّ خلط وافق فى المعدة؛ وهو إلى البلغم أشدّ ميلا منه إلى الصّفراء، فكيف إلى السوداء! وهو ينقّى الجلد، وينفع من الكلف «1» والبهق والحزاز «2» ، وخصوصا إذا عجن جوفه كما هو بدقيق «3» الحنطة وجفّف فى الشمس؛ وإذا ألصق قشره بالجبهة منع من النوازل إلى العين؛ قال: وإذا أكل وجب أن يتبع طعاما آخر، فإنه اذا لم يتبع شيئا آخر غثّى وقيّأ، وليشرب عليه المحرور سكنجبينا «4» ، والمرطوب كندرا «5» أو زنجبيلا: مربّى أو شرابا؛ قال: وهو يدرّ البول نضيجه ونيئه؛ وينفع من الحصاة فى الكلية؛ قال: وإذا فسد البطّيخ فى المعدة استحال الى طبيعة سميّة، فيجب إخراجه بسرعة إذا ثقل؛ هذا ما قاله الشيخ. وأمّا ما جاء فى وصفه وتشبيهه - فقد وصفه الشعراء وشبّهوه؛ فمن ذلك ما قيل فى الأخضر منه، قال أبو طالب المأمونىّ: ومبيضّة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل من صيّب المزن كحقّة عاج ضبّبت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت فى عطب «6» القطن

وقال آخر: رأيتها فى كفّ جلّابها ... وقد بدت فى غاية الحسن كسلّة خضراء مختومة ... على الفصوص الحمر فى القطن وقال محمد بن شرف القيروانىّ: ما أطفأت جمر الوقيد ... لمشتك «1» وقدا ووهجا كإداوة «2» أكريّة «3» ... مملوءة ماء وثلجا رتقاء لم يسلك بها ... غرز الأشافى «4» قطّ نهجا تزهو بلونى خضرة ... هذا انتهى وأخوه لجّا كزمرّد وزبرجد ... رصّعن للكافور درجا أو وجه ذى خجل تبر ... قع بالمصبّغ أو تسجّى «5» وقال آخر: ومال إلى بطيخة ثمّ شقّها ... وفرّقها ما بين كلّ صديق صفائح بلّور بدت فى زبرجد ... مرصّعة فيها فصوص عقيق ومنه ما قيل فى الأصفر- قال أبو طالب المأمونىّ: وبطّيخة «6» مسكيّة عسليّة ... لها ثوب ديباج وعرف مدام

محقّقة ملء الأكفّ كأنّها ... من الجزع «1» كبرى لم ترض بنظام لها حلّة من جلّنار «2» وسوسن «3» ... معمّدة بالآس «4» غبّ غمام تمازج فيها لون حبّ وعاشق ... كساه الهوى والبين لون سقام وأبدى لنا التحزيز تخضيب كاعب ... غلاميّة ذات اعتدال قوام إذا فصّلت للأكل كانت أهلّة ... وإن لم تفصّل فهى بدر تمام وقال آخر: أتانا الغلام ببطّيخة ... وسكّينة جمّلوها «5» صقالا فقطّع بالبرق شمس الضّحى ... وناول كلّ هلال هلالا وقال آخر: خلناه لمّا حزّز البطّيخ فى ... أطباقه بصقيلة الصّفحات

بدرا يقدّ من الشموس أهلّة ... بالبرق بين الشّهب فى هالات وقال قاضى القضاة نجم الدّين بن البارزىّ: [يقطّع «1» بالسّكّين بطّيخة ضحى ... على طبق فى مجلس لان صاحبه كشمس ببرق قدّ بدرا أهلّة ... لدى هالة فى الأفق شتّى «2» كواكبه وقد تقدّم «3» إيرادهما فى تشبيه سبعة أشياء بسبعة أشياء. وقال أبو هلال العسكرىّ] : وجامعة لأصناف «4» المعانى ... صلحن «5» لوقت إكثار وقلّه فإحداهنّ تبرز فى عباء ... وأخراهنّ فى حبر وحلّه ومنها ما تشبّهه بدورا ... فإن قطّعتها رجعت أهلّه وقال أيضا: ولون واحد يلقى ... فيأتينا بألوان

بسمران وسودان ... وحمران وصفران كوشى فى يدى واش ... وشهد فى يدى جانى فمن أدم ومن بقل ... وريحان وأشنان وقال آخر: بطّيخة تعطيك من لونها ... حظّين من ريح ومن طعم كأنّها فى ذوقها شهدة ... أو جونة «1» العطّار فى الشّمّ وقال أبو الفتح كشاجم: وزائر زار وقد تعطّرا ... أسرّ شهدا وأذاع عنبرا وأودعت منه اللهاة سكّرا ... ينفث فى الأنوف مسكا أذفرا ملتحفا للحرّ ثوبا أصفرا ... معمّدا من الحرير أخضرا يظنّه الناظر إن تصوّرا ... دبّ الدّبى بمتنه فأثّرا وقال أيضا فيه: يا جانى البطّيخ من غرسه ... جنيت منه ثمر الحمد لم يأتنا حتّى أتتنا له ... روائح أذكى من النّدّ بظاهر أخشن من قنفذ ... وباطن أنعم من زبد كأنّما تكشف منه المدى ... عن زعفران شيب بالشّهد ومنه ما قيل فى الدّستنبويه- فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: كرات دستنبوية نضّدت ... مختلفات الشّكل والمنظر فمستدير الشّكل ذو سمرة ... كأنّه جمجمة العنبر

ولا بس للنّور ذو نمرة ... والحسن كلّ الحسن فى الأنمر «1» وعسجدىّ اللّون ذو صفرة ... ضمّ إلى ترب له أحمر كأنّه المرّيخ فى لونه ... قارنه فى برجه المشترى وقال آخر «2» : يا حبّذا «3» تحيّة ... رحت بها مسرورا مخزنة «4» من ذهب ... قد ملئت كافورا وقال السرىّ: وأغنّ كالّرشإ «5» الرّبيب «6» ... نشا خلال الرّبرب «7» فى خدّه ورد حما ... هـ من القطاف بعقرب «8»

وأما القثاء والخيار وما قيل فيهما

حيّا بدستنبوية ... مثل السّنان المذهب وقال فيها: صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا وأمّا القثّاء والخيار وما قيل فيهما - فقد قال الشيخ الرئيس: طبع القثّاء بارد رطب فى «2» الثانية؛ وهو يسكّن «3» الحرارة والصّفراء، ولكنّ كيموسه «4» ردىء مستعدّ للعفونة، ومهيّج لحميّات صعبة؛ وبزره خير من بزر الخيار، قال: واذا وضع ورقه «5» مع العسل على الشّرى «6» البلغمىّ نفع منه؛ واذا شمّه صاحب الغشى «7» الحارّ انتفع به وانتعش؛ وهو مسكّن للعطش، جيّد للمعدة، وفيه إدرار وتليين، وينفع من أوجاع المذاكير؛ وهو يوافق المثانة؛ قال: وورقه ينفع من عضة الكلب الكلب. وأمّا ما جاء فى وصفهما وتشبيههما من الشّعر - فمن ذلك ما قيل فى القثّاء، قال عبد الرّحيم بن رافع القيروانىّ «8» : أحبب بقثّاء أتانا ... فوق أطباق منضّد

كمضارب قد حدّدت ... أجرامهنّ من الزّبرجد نعم الدّواء إذا الهواء ... من الهواجر قد توقّد وقال السّرىّ الرّفّاء: وعقفاء مثل هلال السماء ... ولكنّها لبست سندسا عراقيّة لم يذب جسمها ... هزالا ولم تجس «1» فيما جسا زبرجدة حسنت منظرا ... وكافورة بردت ملمسا على رأسها زهرة غضّة ... كنجم الظلام اذا عسعسا حبانا بها مغرس طيّب ... من الأرض أكرم به مغرسا لها أخوات لطاف القدود ... اذا ما تبرّجن خضر الكسا محجّبة عن شموس النهار ... وبارزة لنسيم المسا تقوّس فى حين ميلاده ... ولم أر ذا صغر قوّسا يطول اللّسان بإطرائها ... ويصبح عن ذمّها أخرسا وقال أبو بكر الخوارزمىّ: يا ربّ قثّاء قريب «2» المورد ... درّ الحشا زمرّد المجرّد

شخت «1» الرّءوس أصور «2» المقلّد ... مثل ذنابى ريش ديك أعقد «3» قد التوى فوق الثّرى الرّطب النّدى ... كما يلوذ «4» أسود بأسود «5» ذى زغب وفيه لين الأجرد ... كالخدّ بين الملتحى والأمرد كأنّه فى اللّون والتأوّد ... صوالج ركّبن من زبرجد يكاد للّين وللتقصّد «6» ... تجنيه ألحاظ الفتى قبل اليد لمّا حصدناه قريب المحصد «7» ... هشّا وجدنا منه ما لم يوجد ماء كطعم السّكّر الطّبرزد «8» ... وذوب شهد سائلا فى جمد «9» وقال شاعر فى الخيار: انظر إلى عرف الخيار ولونه ... كروائح الرّيحان للمخمور

وأما القرع وما قيل فيه

فكأنّ ظاهره زبرجد «1» أخضر ... وكأنّ باطنه من البلّور وقال آخر: خيار حين تنسبه خيار ... وريحان السرور به اخضرار كأنّ نسيمه أنفاس حبّ ... فليس لمغرم عنه اصطبار وقال أبو هلال العسكرىّ: زبرجدة فيها قراضة فضّة ... فإن رجعت تبرا فقد خسّ أمرها تلمّ بنا طورين فى كلّ حجّة ... فيكثر فينا خيرها ثمّ شرّها فعند المصيف ليس يفقد نفعها ... وعند الخريف ليس يعدم «2» ضرّها وأمّا القرع وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: القرع بارد رطب فى الثانية؛ والمسلوق منه يغذو غذاء يسيرا؛ وهو سريع الانحدار؛ وإن لم يفسد قبل الهضم بسبب لم يتولّد منه خلط ردىء؛ ويفسد فى المعدة بمخالطة خلط ردىء أو إبطاء مقام كسائر الفواكه؛ والخلط الّذى يتولّد منه تفه إلّا أن يغلب عليه شىء يخالطه؛ وان خلط بالسّفرجل كان خلطه محمودا للصّفراويّين؛ وكذلك ماء الحصرم وماء الرّمّان، لكن ضرره بالقولون «3» يتضاعف، قال: ومن خاصّيّته أنّه يتولّد منه غذاء

مجانس لما يصحبه؛ فاذا أكل بالخردل تولّد منه خلط حرّيف، أو بالملح تولّد منه خلط مالح، أو مع القابض تولّد منه خلط قابض؛ وهو بالجملة ضارّ لأصحاب السّوداء والبلغم، جيّد للصّفراويّين؛ قال: والمربّى منه لا يدخل فى الأدوية، ولا يؤثّر شيئا من تبريد ولا تسخين، ولكن يستعمل للّذة؛ وعصارته تسكّن وجع الأذن الحارّ، وخصوصا مع دهن الورد؛ وينفع الأورام الدّماغيّة» والسّرسام «2» ، وهو نافع لوجع الحلق؛ قال: وسويق القرع «3» مانع من السّعال ووجع الصّدر الكائنين [من حرارة «4» ] ؛ وطبيخه ينفع من الفضول الحارة فى المعدة ويزلقها؛ وكذلك شراب صبّ فى تجويفه ثمّ استعمل، ويسعط بعصارته لوجع الأسنان؛ وهو ممّا يولّد بلّة المعدة جدّا، ويقطع العطش؛ والنّىء منه ضارّ بالمعدة جدّا حتّى للصّبيان «5» والفتيان؛ واذا طبخ ماؤه بالعسل

وأما الباذنجان وما قيل فيه

وجعل فيه نطرون ليّن البطن، فهو ينفع من الحميّات. ولم أقف فيه على شىء من الشّعر فأورده «1» . وأما الباذنجان «2» وما قيل فيه - فقد قال ابن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فى توليده: وإن أردتم الباذنجان فخذوا خصيتى التّيس وعروقا من عروق الباذنجان فألقوها على الخصيتين بعد أن تجعلوا الخصيتين فى الأرض، وخذوا إحدى كليتيه واجعلوها فوق العروق، واطمروا «3» ذلك فى الأرض، فإنّه بعد أربعة أسابيع تنبت منه شجرة [الباذنجان «4» ] ، فاذا نبتت فحوّلوها إلى موضع آخر فإنّها تنمو؛ هذا ما قيل فى توليده، والله أعلم بالصّواب. وقال الشيخ الرئيس: إنّ العتيق منه ردىء، والحديث أسلم. كأنّه أراد بالعتيق: الّذى طال مكثه فى الأرض؛ والحديث: الّذى قرب عهده بالغراسة «5» . وقال فى طبعه: الصحيح أنّ قوّته الغالبة عليه الحرارة واليبوسة «6» . وردّ بهذا القول

وأما ما وصف به من الشعر

على من زعم أنّه بارد؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: إنّه يولّد السّوداء، ويولّد السّدد، وإنّه يفسد اللّون ويصفّره، ويسوّد البشرة، ويورث الكلف، ويولّد السّرطانات والصّلابات، والجذام والصّداع فى الرأس، وينتّن «1» الفم، ويولّد سدد الكبد والطّحال، إلّا المطبوخ منه بالخلّ فانّه ربّما فتّح سدد الكبد؛ قال: والباذنجان يولّد البواسير، لكنّ سحيق أقماعه المجفّفة فى الظّلّ طلاء نافع للبواسير، قال: وليس للباذنجان نسبة الى عقل أو إطلاق، ولكنّها «2» اذا طبخت فى الدّهن أطلقت «3» ، أو فى الخلّ حبست «4» ؛ هذا ما قاله الشيخ فيه. وأمّا ما وصف به من الشّعر - فقال بعض الشعراء يصف المدوّر منه: أهدت لنا الأرض من عجائبها ... ما سوف يزهو بمثله وقتى اذا أجاد الّذى يشبّهه ... وأحكم الوصف منه فى النّعت قال: كرات الأديم قد حشيت «5» ... بسمسم قمّعت بكيمخت «6»

وأما ما قيل فى السلق

وقال آخر «1» : وابذنج «2» بستان أنيق رأيته ... على طبق يحكى لمقلة رامق قلوب ظباء أفردت عن جسومها ... على كلّ قلب منهم كفّ باشق «3» وقال آخر: ومستحسن عند الطّعام مدحرج ... غذاه نمير الماء فى كلّ بستان تطلّع من أقماعه فكأنّه ... قلوب نعاج فى مخالب عقبان وقال آخر: وكأنّما الابذنج سود حمائم ... أو كارها روض الرّبيع المبكر لقطت مناقرها الزبرجد سمسما ... فاستودعته حواصلا من عنبر وأمّا ما قيل فى السّلق - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلق فخذوا من ورق الخسّ وورق الخطمىّ فدقّوهما حتّى يختلطا، وليكونا «4» رطبين، ثمّ خذوا عروقا من عروق التّيس فألبسوها ذلك المخلوط، ثمّ اطمروها «5» فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك السّلق. قال الشيخ الرئيس: والسّلق صنفان: أسود لشدّة الخضرة «6» ، وهو المعروف

[وأبيض «1» ] ؛ وطبعه عند بعضهم حارّ يابس فى الأولى؛ وفى الحقيقة أنّه مركّب القوّة، وعند بعضهم هو بارد؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: ولا شكّ أنّ فى أصله رطوبة؛ قال: وفيه بورقيّة «2» ملطّفة؛ وفيه تحليل وتجفيف «3» وتليين؛ وفى الأسود قبض، وخاصّة مع العدس «4» ؛ قال: وجميع السّلق ردىء الكيموس «5» ، وجميعه قليل الغذاء كسائر البقول؛ وعصارته وطبيخ ورقه ينفعان من شقاق «6» البرد، ومن داء الثّعلب «7» ، ومن الكلف إذا استعمل ورقه ضمادا بعد غسل الموضع بنطرون؛ ويقلع الثّآليل «8» ، وعصيره يقتل القمل، وتضمد به الأورام مسلوقا فيحلّلها وينضجها، وينفع من التّوث «9» ضمادا يحلّلها؛ وورقه

جيّد مطبوخا لحرق النّار، وينفع من القوابى «1» طلاء بالعسل، ويسعط ماؤه مع مرارة الكركىّ فيذهب اللّقوة «2» ، وينفع من قروح الأنف؛ وماؤه فاترا يقطر فى الأذن فيسكّن الوجع؛ ويغسل بمائه الرأس فيذهب النّخالة «3» ؛ وأصله ردىء للمعدة، مغث «4» ، وأكثر ذلك لبورقيّته؛ قال: وتفتيحه لسدد الكبد أشدّ من تفتيح الملوخيّا «5» ، خاصّة مع الخردل والخلّ، وكذلك الطّحال، ويجب أن يؤكل بالمرّىّ «6» والتّوابل؛ قال: وجميعه يولّد النّفخ والقراقر «7» ويمغص؛ وهو جيّد للقولنج «8» إذا أخذ بالّتوابل والمرّىّ. ولم أقف على شىء من الشّعر فيه فأورده.

وأما القنبيط والكرنب

وأمّا القنّبيط والكرنب - فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم توليد القنّبيط فخذوا منه رأسا بعد موته، فاغمسوه فى عكر الخلّ غمستين بينهما ساعة، ثمّ اتركوه فى الأرض، ودقّوا كفّا من جبن عتيق، واجعلوه فوقه، واطمروه بالتراب، فإنّه بعد أربعة أسابيع يخرج القنّبيط. ومن خصائص هذا النبات أنّه إذا وقع عليه خلّ العنب قبل طبخه لم ينضج؛ وكذلك إذا سلق وعمل عليه الخلّ فإنّه يصلب؛ ومتى زرع تحت كرم فسد الكرم؛ ويقال: إنّ بزره إذا قدم على أربع سنين وزرع بعد ذلك تحوّل سلجما، فإن زرع ذلك السّلجم تحوّل كرنبا «1» . وقال فى توليد الكرنب: وإن أردتم الكرنب فخذوا أظلاف التّيس الأربعة فانقعوها فى السّمن ثلاثا؛ ثمّ اجعلوها فى الأرض، وغطّوها بشعر لحية التيس ثمّ اطمروا ذلك فى رمل، واطرحوا فوقه التراب، فإنه ينبت منه الكرنب. وقال الشيخ الرئيس فى طبع الكرنب: الأصل «2» أرطب من الورق؛ والبرّىّ أسخن وأيبس، وجملته حارّ فى الأولى، يابس فى الثانية؛ قال: والكرنب منه بستانىّ «ومنه بحرىّ «3» » ومنه برّىّ، ومنه كرنب الماء، والبرّىّ أمرّ وأحدّ وأبعد من أن يكون غذاء؛ وطبيخ أصل الكرنب بماء الرّمّان طيّب؛ والقنّبيط غليظ الغذاء، مغلّظ للدّم

إذا لم ينحلّ رسخ إلى نواحى الثّندؤة «1» والجنب وأوجع، ولا يكون منتقلا كالرّيحىّ «2» ؛ قال: وأمّا أفعاله وخواصّه، فهو منضج مليّن مجفّف، خصوصا إذا طبخ وصبّ عنه الماء الأوّل؛ ورماد قضبانه قوىّ التجفيف، وله خاصّيّة فى تسكين الأوجاع؛ وغذاؤه يسير؛ ودمه ردىء؛ وإذا طبخ بلحم سمين أو دجاج جاد قليلا؛ قال: والبرّىّ والبحرىّ والبستانىّ ينضج الفلغمونيات «3» ، وهو يدمل «4» ، ويمنع سعى الخبيثة «5» ويجعل ببياض البيض على الحرق؛ قال: وهو ينفع من الرّعشة؛ ومع الحلبة قد

يجعل على النّقرس «1» ؛ قال: وطبيخه وبزره يبطىء «2» بالسّكر؛ وإذا استعطت عصارته «3» نقّى الرأس، ومن خواصّه تجفيف اللّسان، وهو منوّم، وهو مظلم للبصر مع أنّه يقع فى الأكحال؛ قال: ويتغرغر بعصيره أو طبيخه مع دهن الخلّ من الخوانق «4» ؛ وأكله يصفّى الصّوت؛ وهو ردىء للمعدة؛ وعصيره بالنّبيذ نافع من الطّحال واليرقان «5» ؛ وبيضه «6» بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث: «وإذا احتمل «7» هو أو عصارته مع دقيق الشّيلم «8» » أو زهره «9» قتل الجنين، وإذا احتمل بزره بعد الجماع أفسد المنىّ؛

وأما السلجم

قال: ورماد أصله يفتّت الحصاة؛ وعصارته مع الشّراب للنّهوش «1» ؛ وهو نافع من عضّة الكلب الكلب. ولم أقف على شعر [فيهما «2» ] فأذكره؛ والله الموفّق. وأمّا السّلجم - وهو اللّفت- فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم السّلجم فخذوا عرق الشّوك المعقّد فخزّوا من عقده ثلاثا كبارا، ثم خذوا رأس عنز بعد موتها فأدخلوا الثلاث عقد فيه، ثمّ اطمروه فى الأرض، واجعلوا فوقه كيله «3» من الماء، فإنّه بعد أربعين يوما ينبت الورق ظاهرا، ويعمل الأصل بعد ذلك وأكثروا من سقيه الماء فإنّه ينمى «4» ...... وقال شاعر «5» يصفه: كأنّما السّلجم لمّا بدا ... فى حسنه الرائق من غير مين قطائع «6» الكافور ملمومة ... لمبصريها أو كرات اللّجين

وأما ما قيل فى الفجل

وقال آخر: يا حبّذا السّلجم من مأكل ... بنفعه فاق جميع البقول كم فيه من منفعة جمّة ... إحصاؤها من غير مين يطول وأمّا ما قيل فى الفجل - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم الفجل فخذوا من قرون المعز قرنين فانقعو هما فى بول النّاس سبعة أيّام، ثم اغرسوهما فى الأرض، وذرّوا عليهما شيئا يسيرا من حلتيت «1» ، واسقوهما ماء المطر يوما بعد يوم فإنّ ذلك ينبت لكم الفجل بعد أحد وعشرين يوما. وقال الشيخ الرئيس: أقوى ما فى الفجل بزره، ثمّ قشره، ثمّ ورقه، ثمّ لحمه؛ ودهنه فى قوّة دهن الخروع، إلّا أنّه أشدّ حرارة منه. وقال فى طبعه: الرّطب «2» منه حارّ فى الأولى؛ وبزره حارّ فى الثالثة؛ وهو يولّد الرياح، لكنّ بزره يحلّلها؛ وفيه تلطيف؛ وغذاؤه بلغمىّ؛ وهو قليل مع ذلك؛ وفيه جوهر سريع إلى التّعفّن؛ قال: وإن خلط معه دقيق الشّيلم «3» أنبت الشعر فى داء الثعلب «4» ؛

وإذا ضمد به مع عسل قلع الآثار العارضة تحت العين والقروح الخبيثة واللّبنيّة «1» ؛ وبزره مع الخلّ يقلع قرحة غنغرانا «2» قلعا تامّا، وكذلك على القوباء؛ وبزره ينفع من النّمش الكائن فى الأعضاء وسائر الألوان الغريبة وآثار الضّرب والكلف؛ وهو مع الكندس «3» [بخلّ «4» ] طلاء يذهب البهق الأسود، وخصوصا فى الحمّام؛ وهو يكثر القمل فى الجسد؛ قال: وبزره يدفع الضّربان الّذى فى المفاصل؛ وهو جيّد لوجع المفاصل جدّا؛ وهو يضرّ الرأس والأسنان والحنك؛ وعصارته ودهنه نافعان من الرّيح فى الأذن جدّا؛ وهو ضارّ بالعين، إلّا أنّه يجلو اذا قطر ماؤه فيها، ويذهب الآثار الّتى تحت المأق؛ وقال ابن ماسويه: إنّ ورقه يحدّ البصر؛ قال: والمطبوخ

منه صالح للسّعال العتيق والكيموس «1» الغليظ المتولّد فى الصّدر؛ قال: وإن طبخ بسكنجبين «2» وتغرغر به نفع من الخناق «3» ، وفيه مع ذلك مضرّة بالحلق؛ قال: وهو ردىء للمعدة مجشّىء، وبعد الطعام مليّن للبطن، منفذ للغذاء؛ وقبل الطعام يطفى الطّعام ولا يدعه يستقرّ؛ وهو يسهّل القىء، وخصوصا قشره بالسّكنجبين؛ ويوافق الجنب والطّحال ضمادا؛ وبزره بالخلّ يقىّء «4» جدّا، ويحلّل ورم الطّحال؛ قال ابن ماسويه: وإن أكل بعد الطعام هضم، وخاصّة ورقه؛ وماء ورقه يفتّح سدد الكبد، ويزيل اليرقان «5» ؛ وقال بعضهم: ورقه يهضم؛ وبزره وجرمه «6» محلّلان للنّفخ فى البطن، ويسهّلان خروج الطّعام، ويشهّيان، ويذهبان وجع الكبد؛ وماؤه جيّد للاستسقاء؛ قال: وهو ينفع من نهش الأفاعى، وبالشراب من لسع العقرب؛ وبزره ينفع من السّموم

وأما الجزر وما قيل فيه

والهوامّ؛ وإن وضعت شدخة منه على العقرب ماتت، وجرّب ماؤه فى ذلك فكان أقوى؛ وإن لدغت العقرب من أكل فجلا لم تضرّه؛ هذا ما ورد من منافعه ومضارّه. وقال بعض الشعراء يصفه: احبب بفجل قد أتتنى به ... عند مسائى ذات أوقار «1» كأنّه فى يدها إذ بدا ... مقشّرا فى وقت إفطارى قضبان بلّور وإلّا فما ... يجمد «2» من قطر النّدى الجارى وقال آخر: احبب بفجل قد أتانا به ... طبّاخنا من بعد تقشير منضّد فى طبق خلته ... من حسنه قضبان بلّور وأمّا الجزر وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: إن أخذتم نابى الخنزير فدهنتمو هما بالزّيت، وجعلتم فى كلّ جانب من جانبى النابين الحادّين بعرة جمل، وطمرتموهما فى الأرض خرج عن ذلك الجزر الحلو الجيّد؛ وإن طمرتم قرنين من كبشين من كلّ واحد قرنا مدهونا بالّزيت خرج من ذلك الجزر. وقال أيضا: وأن أردتم الجزر فخذوا أصل السّلجم فشقّوه نصفين، واجعلوا فى جوفه من البصل فى كلّ رأس بصلتين، واحدة فى أعلاه، وأخرى فى أسفله، وليكونا أصلين، ثمّ ادهنو هما بالزّيت، واطمروهما «3» بالتراب، فانّ ذلك يعمل أصلا هو الجزر، ويظهر ورقه على وجه الأرض.

وأما الشقاقل

وقال الشيخ الرئيس: قال ديسقور يدوس: من الجزر صنف ورقه أصغر من ورق الرّازيانج وفى صورته، وساقه إلى شبر، وفقّاحه «1» أصفر، وله كصومعة «2» الكزبرة والشّبث «3» ، وله ثمر أبيض حادّ طيّب الرائحة والمضغ؛ والثانى «4» يشبه الكرفس الرّومىّ حرّيف محرق طيّب الرّائحة؛ والثالث ورقه كورق الكزبرة، أبيض الفقّاح، شبثىّ الصّومعة والثمرة، وله كأقماع الجوز محشوّة بزرا كمّونيّا فى هيئته وحدّته؛ قال: وطبع الجزر حارّ فى آخر الثانية، رطب فى الأولى؛ وينفع بزره، وورقه اذا دقّ وجعل على القروح المتأكّلة نفع منها؛ والجزر ينفع من ذات الجنب، ومن السّعال [المزمن «5» ] ؛ وهو عسر الهضم؛ والمربّى «6» أسهل هضما، وينفع من الاستسقاء؛ ويسكّن المغص، ويدرّ، خصوصا البرّىّ، وخصوصا بزره، وكذلك ورقه؛ ويهيج الباه، وخاصّة البستانىّ «7» ، فإنه أشدّ نفخا، وليس يفعل ذلك بزر البرّىّ. وأمّا الشّقاقل «8» - وهو الجزر البرّىّ إن عدّ فى الجزر- فهو أهيج للباه

وأما البصل وما قيل فيه

من البستانىّ؛ ويدرّ الطّمث والبول. ورايت على حاشية (كتاب الأدوية المفردة) للشيخ الرئيس فى النسخة التى نقلت منها بخطّ من لعلّه استدرك على الشيخ ما صورته: الجزر نوعان: بستانىّ وبرّىّ؛ والمحلّى «1» عند ديسقوريدوس هاهنا هو (دوقو) ؛ وله ثلاثة أصناف، وليس هو من الجزر، ولمّا خلط الشيخ فى الماهيّة خلط فى المنافع. ودوقو، هو الجزر «2» البرّىّ؛ هذا ما رأيته فى الجزر. وقال شاعر يصفه ويشبّهه: انظر إلى الجزر الّذى ... يحكى لنا لهب الحريق كمديّة من سندس ... فيها نصاب من عقيق وقال ابن رافع: انظر الى الجزر البديع كأنّه ... فى حسنه قضب من المرجان أو راقه كزبرجد فى لونها ... وقلوبه صيغت من العقيان وأمّا البصل وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علّى بن سينا: إنّه حارّ فى الثالثة، وفيه رطوبة فضليّة؛ وأمّا أفعاله، فهو ملطّف مقطّع، وفيه مع قبضه جلاء وتفتيح قوىّ، وفيه نفخ وجذب للدّم إلى خارج، ولا يتولّد من غير المطبوخ منه غذاء يعتدّ به، وغذاء الذى طبخ أيضا خلط غليظ؛ قال: وللبصل المأكول خاصيّة، ينفع من ضرر المياه، وهو يحمّر الوجه، وبزره يذهب البهق

ويدلك به حول موضع داء الثّعلب «1» فينفع جدّا؛ وهو بالملح يقلع الثّآليل «2» ؛ وماؤه ينفع القروح الوسخة، وينفع مع شحم الدّجاج لسحج «3» الخفّ؛ واذا سعط ماؤه نقىّ الرأس؛ ويقطر فى الأذن لثقل الرأس والطّنين والقيح فى الأذنين؛ والإكثار منه يسبت «4» ؛ وهو ممّا يضرّ العقل لتوليده الخلط الرّدىء؛ وهو يكثر اللّعاب، وعصارته تنفع من الماء النازل فى العين، وتجلو البصر؛ ويكتحل ببزره «5» بالعسل لبياض العين؛ وماؤه مع العسل ينفع من الخناق؛ قال: والبصل يفتّح أفواه البواسير؛ وجميع أنواع البصل تهيّج الباه؛ وماؤه مدرّ للبول» ومليّن للطّبيعة، وينفع من عضّة الكلب الكلب اذا نطل عليها ماؤه بملح وسذاب؛ قال: والبصل المأكول يدفع ضرر السّموم «7» ؛ قال بعضهم: لأنّه يولّد فى المعدة خلطا رطبا كثيرا يكسر عادية السّموم.

وأما الثوم وما قيل فيه

قال شاعر يصفه: يكثرن من لبس الثّياب تستّرا ... كتم الحسود ليطمئنّ «1» الحارس فاذا نظرت الى الثّياب وجدتها ... أثواب زور ليس فيها لا بس وقال ابن وكيع يصفه من أرجوزة: فاعمد الى مدوّر من البصل ... فإنّه أكثر أعوان العمل يحكى لعينيك احمرار قشره ... إذا رماه ناظر بفكره غلائلا حمرا على جسوم ... بيض رطاب من جسوم الرّوم وأمّا الثّوم وما قيل فيه - فقال الشيخ: منه البستانىّ المعروف، ومنه الثّوم الكّراثىّ، والثّوم البرّىّ؛ وفى البرّىّ مرارة وقبض، وهو المسمّى ثوم الحيّة؛ والكرّاثىّ مركّب القوّة من الثّوم والكرّاث؛ مسخّن ومجفّف فى الثالثة إلى الرابعة، والبرّىّ أكثر من ذلك؛ والثّوم مليّن يحلّ النفخ جدّا، مقرّح للجلد، ينفع من تغيّر البلاد «2» ؛ واذا شرب بطبيخ الفوتنح «3» الجبلىّ قتل القمل والصّئبان؛ ورماده اذا طلى بالعسل

على البهق نفع؛ وينفع من داء الثعلب الكائن من الموادّ العفنة؛ والثّوم البرّىّ يلصق الجراحات الخبيثة إذا وضع عليها طريّا؛ واذا احتقن بالثّوم نفع من عرق النّسا «1» ، لأنّه يسهل دما وأخلاطا، قال: والثّوم مصدّع للرأس، وطبيخه ومشويّه يسكّن «2» وجع الأسنان، وكذلك المضمضة بطبيخه، وخصوصا اذا خلط بالكندر «3» ؛ قال: والثّوم مضعف للبصر، ويجلب بثورا فى العين، ويصفّى الحلق مطبوخا؛ وينفع من السّعال المزمن، ومن أوجاع الصّدر من البرد؛ ويخرج العلق من الحلق؛ واذا جلس فى طبيخ ورق الثّوم وساقه أدرّ البول والطّمث وأخرج المشيمة، وكذلك إذا احتمل أو شرب؛ واذا دقّ منه مقدار درهمين «4» مع ماء العسل أخرج البلغم؛ وهو يخرج الدّود؛ وفيه إطلاق للطّبع؛ وأمّا فعله فى الباه فإنّه لشدّة تجفيفه وتحليله قد يضرّ، فإن طبخ فى الماء حتّى انحلّت فيه حدّته لم يبعد أن يكون ما يبقى منه فى مسلوقه قليل الحرارة لا يجفّف، وتتولّد منه مادّة المنىّ؛ قال: والثّوم نافع للسع

وأما الكراث وما قيل فيه

الهوامّ ونهش الحيّات إذا سقى بشراب «1» ؛ قال: وقد جرّبنا ذلك؛ وكذلك من عضّة الكلب الكلب؛ واذا ضمد بالثّوم وبورق التّين وبالكّمون على عضّة موغالى «2» نفع؛ هذا ما أورده الشيخ فيه. وقال شاعر يصفه «3» : يا حبّذا ثومة فى كفّ طاهية ... بديعة الحسن تسبى كلّ من نظرا أبصرتها وهى من عجب تقلّبها ... كصرّة من دبيقىّ «4» حوت دررا وقال آخر: الثّوم مثل الّلوز إن قشّرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه كالنّذل غرّك منظرا فإذا ادّعى ... لفضيلة ينمى إلى أعراقه وأمّا الكرّاث وما قيل فيه - فمنه الشّامىّ والنّبطىّ، ولكلّ منهما توليد ذكره أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) فقال: وان أردتم الكرّاث الشّامىّ

فخذوا مقلة «1» واحدة فاغمسوها فى سكبينج «2» محلول ببول أىّ بول اتّفق، ثمّ اطمروها فى التراب، واسقوها الماء، فإنها تنبت بعد ثلاثين يوما، وتعمل أصولا جيادا. وإن أردتم الكرّاث النّبطىّ فخذوا قشر الجوز فألقوه على قير «3» مغلىّ، واتركوه قليلا بقدر ما يعلق به من القير شىء يسير على أطرافه وجوانبه، وما لم يعلق به شىء فردّوه الى أن يعلق، ثمّ اجمعوا ذلك القشر وادفنوه فى التّراب، وألقوا عليه قبل التراب شيئا من خردل مسحوق، ثمّ اسقوه الماء، فإنّه ينبت فى أحد وعشرين يوما كرّاثا نبطيّا. قال الشيخ الرئيس: الكرّاث منه شامىّ، ومنه نبطىّ، ومنه الّذى يقال له: كرّاث برّىّ، وهو بين الكرّاث والثّوم، وهو أشبه بالدّواء منه بالطعام؛ والنّبطىّ أدخل فى المعالجات من الشّامىّ؛ وطبع النّبطىّ حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ والبرّىّ أحرّ وأيبس، ولذلك هو أردأ؛ والشّامىّ مع السّمّاق «4» للثّآليل «5» ، ويذهب الشّرى «6»

ومع الملح للقروح الخبيثة؛ والبرّىّ لقرح «1» الثّدى؛ قال: وهو يقطع الرّعاف. وقال غيره: ماء الكرّاث النّبطىّ يقطع الرّعاف وسيلان الدّم اذا خلط به شىء من كندر «2» مسحوق. قال الشيخ: ويبخّر ببزره مع القطران للسّنّ الّتى فيها دود؛ وأكله مصدّع، يخيّل أحلاما رديئة؛ ورماده مع [دهن «3» ] ورد وخلّ خمر لوجع الأذن وطنينها؛ وهو ممّا يفسد اللّثة والأسنان، وخصوصا [الشامىّ؛ وهو يضرّ البصر؛ وهو مع ماء الشّعير للرّبو الكائن من مادّة غليظة، وخصوصا النّبطىّ، وخصوصا «4» ] مع العسل؛ وينفع من أورام الرّئة وينضجها، ويعطى من بزره درهمان مع مثله حبّ الآس لنفث الدّم؛ والبرّىّ منه ردىء للمعدة، أردأ من الشّامىّ «5» ؛ والكرّاث كلّه نفّاخ؛ وقال روفس: إنّه يقطع الجشاء الحامض؛ قال الشيخ: وهو بالجملة بطىء الهضم؛ وهو يدرّ البول والطّمث، لا سيّما النّبطىّ والبرّى؛ ويضرّان المثانة والكلية «6» ؛ ومسلوقه ينفع البواسير مأكولا وضمادا، ويحرّك الباه، وكذلك بزره مقلوّا؛ قال: وبزره مقلوّا مع حبّ الآس للزّحير «7» ودم المقعدة؛ ويجلس فى طبيخ ورقه بماء؛

وأما الريباس وما قيل فيه

وهو نافع من انضمام الرّحم والصّلابة فيها؛ وطبيخ أصوله إسفيد باجة «1» بدهن القرطم أو دهن اللّوز أو شيرج «2» نافع للقولنج «3» ؛ ولم أقف فيه على شعر فأورده. وأمّا الرّيباس «4» وما قيل فيه - فقال الشيخ: الرّيباس له قوّة حمّاض «5» الأترجّ والحصرم؛ وهو بارد يابس فى الثانية؛ وهو مطفىء، قاطع للدم، يسكّن الحرارة، وينفع من الطاعون، ويحدّ البصر إذا اكتحل بعصارته؛ وينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وينفع من الحصبة والجدرىّ والوباء «6» . قال أبو بكر الخوارزمىّ يصفه: ولعبة عاج فى قميص مورّد ... أسافله خضر وأزراره حمر كأنّ يديها والأنامل خضّبت ... وشدّت على أطرافها خرق خضر

وأما الهليون وما قيل فيه

وقال آخر: ونبات لم يكتس «1» الورق الخض ... ر ولم يغذه نسيم الهواء لا ولا كان فى الثّرى فتغذّيه ... بتسكابها يد الأنواء جاء مثل السّياط «2» أو ... كالمساويك وبعض يحكى عصىّ الرّعاء لذّ طعما وعمّ نفعا فأىّ النّقل «3» ... منه نلقى وأىّ الدّواء قوله: «لا ولا كان فى الثّرى» ، يشير إلى أنّه لا ينبت إلّا فى الثّلج. وقال آخر: ومكنونة من بنات الثّرى ... تجمّع بالباب خطّابها تمدّ يدا أبرزت كفّها ... يجرّ الزّمرّد عنّابها وأمّا الهليون «4» وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: متى دفنت أطراف قرون الكباش مع ورق السّلق، وسقيا «5» بالماء، نبت من ذلك الهليون؛

قال: وإن أخذ من الهليون قضيب واحد وطلى بالعسل، ومرّغ فى رماد البلّوط «1» وألبس طينا، وطمر فى الأرض، خرجت منه عدّة عيدان كثيرة القضبان، بيض فى غاية البياض، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربّما كان فى بعضها حمرة حولها صفرة، وربمّا خالطها خضرة وتوريد. وقال الشيخ الرئيس فيه: طبعه معتدل عند جالينوس؛ قال: إنّه ليس فيه إسخان ولا تبريد إلّا الصّخرىّ «2» ؛ قال الشيخ: أقول: لا يبعد عن الحرارة، وكلّما أخذ يصلب اشتدّ حرّه؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: قوّته جالية، تفتّح سدد الأحشاء كلّها، خصوصا الكبد والكلية؛ وفيه تحليل، خصوصا الصّخرىّ؛ قال: ويشرب طبيخه لوجع الظّهر وعرق النّسا «3» ؛ واذا طبخ أصله بالخلّ وكذلك بزره «4» فهو جيّد لوجع الضّرس؛ وينفع من اليرقان «5» ؛ قال: والأغلب يقولون فيه: إنّه ينفع من القولنج «6» البلغمىّ؛ وطبيخ أصوله يدرّ البول وينفع عسره، ويزيد فى الباه؛ وبزره إذا احتمل «7» أدرّ الطّمث، ويفتّح سدد الكلى؛ قال: واذا طبخ بالشّراب نفع من نهشة الرّتيلاء «8» ؛ وطبيخه يقتل- فيما يقال- الكلاب.

وأما الهندبا وما قيل فيها

وقال شاعر يصفه: وباقة هليون أتت وهى غضّة ... فشبّهتها تشبيه ذى اللّبّ والفضل برشق نبال جمعت من زبرجد ... مشنّفة الأعلى مفضّضة الأصل وقال أبو الفتح كشاجم: لنا رماح فى أعاليها أود «1» ... مثقّفات الجسم فتل كالمسد «2» منتصبات فى انفراج كالعمد ... مكسوّة من صبغة «3» الفرد الصّمد ثوبا من السّندس من فوق جسد ... قد أشربت حمرة لون تتّقد «4» وأمّا الهندبا وما قيل فيها - فقال ابن وحشيّة: إن أردتم الهندبا فخذوا من أصول الأشنان «5» فدقّوه واخلطوا به ورق الهندبا مدقوقا، وصبّوا عليه اليسير من الزّيت، وخمّروه فى إناء ثلاثة أيّام، ثم اجعلوه فى الأرض، واطمروه بالتراب فإنّه يخرج بعد أربعة عشر يوما هندبا؛ قال: وان أردتموه أيضا فخذوا رجل ديك فآنقعوها فى خلّ ممزوج بماء يوما وليلة، ثمّ انقعوها فى بول البقر ثلاثة أيّام، ثم اطمروها فى الأرض، فإنّه يخرج من ذلك نوع آخر من الهندبا؛ والّذى ينبت من أصول الأشنان أشدّ مرارة وأغلظ ورقا، لكنّه أنفع للكبد.

قال الشيخ الرئيس: الهندبا منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وهو صنفان: عريض الورق، ودقيقه؛ وأنفعه للكبد أمرّه؛ وقال فى طبعه: إنّه بارد فى [آخر «1» ] الأولى ويابسه يابس فى الأولى، ورطبه رطب فى آخر الأولى؛ والبستانىّ أبرد وأرطب؛ قال: وقد تشتدّ مرارته فى الصّيف فيميل الى حرارة لا تؤثّر؛ والبرّىّ أقلّ رطوبة وهو الطّر خشقوق «2» ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: انّه يفتّح سدد الأحشاء والعروق، وفيه قبض صالح وليس بشديد، وماؤه مع الإسفيدّاج «3» والخلّ عجيب فى تبريد ما يراد تبريده طلاء؛ قال: ويضمد به النّقرس «4» ، وينفع من الرّمد الحارّ؛ ولبن الهندبا البرّىّ يجلو بياض العين؛ ويضمد به مع دقيق الشعير للخفقان، ويقوّى القلب؛ واذا حلّ خيار «5» شنبر فى مائه وتغرغر به نفع من أورام الحلق؛ وهو يسكّن الغثى، ويقوّى المعدة، وهو خير «6» الأدوية لمعدة بها مزاج حارّ؛ والبرّىّ أجود للمعدة من البستانىّ؛

وأما النعنع وما قيل فيه

وقيل: إنّه موافق لمزاج الكبد كيف كان؛ أمّا الحارّ فشديد الموافقة له، وليس يضرّ البارد ضرر سائر أصناف البقول الباردة؛ قال: واذا أكل مع الخلّ عقل البطن؛ وهو نافع لحمّى الرّبع «1» والحمّيات الباردة؛ وإذا جعل ضمادا مع أصوله للسع العقرب والهوامّ والزّنابير والحيّة وسامّ أبرص نفع، وكذلك مع السّويق. وأمّا النّعنع وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: هو أحد منابت «2» أنواع تحت جنس واحد يسمّى الفودنج «3» ؛ والفودنج خمسة ضروب: جبلىّ «4» وصخرىّ، وبرّىّ «5» ، ونهرىّ «6» ، وبستانىّ؛ فالجبلىّ والصّخرىّ والبرّىّ واحد؛ وأمّا النّهرىّ فالنّمّام «7» ؛ والبستانىّ: النّعنع، وكلاهما نوع واحد، وذلك أنّ النّمّام لمّا نقل من شطوط الأنهار إلى البساتين صار نعنعا، ونقصت ريحه، وكبر ورقه وطال لكثرة ريّه وشربه.

وقال فى توليده: وإن أردتم فودنجا بستانيّا فخذوا رجلى دجاجة وادهنوهما بعكر الزّيت، وادفنوهما فى التراب ثلاثة أيّام، ثمّ اغرسوهما فى الأرض واجعلوا الأصابع إلى فوق، ثمّ اجعلوا فوقها «1» عود سذاب عرضا، ثمّ نقّطوا عليه زيتا، ثم ألقوا عليه التراب، واتركوه ثلاثا، ثمّ صبّوا عليه زيتا فى اليوم الرابع مقدار ما تعلمون أنّ شيئا من الزّيت قد وصل إليه، فإنّه يخرج بعد أحد وعشرين يوما نعنعا ذكىّ الرائحة. وقال الشيخ الرئيس فى النّمّام: النّمّام، هو السّيسنبر؛ وطبعه حارّ فى الثالثة يابس إليها؛ وهو يقاوم العفونات، ويقتل القمل، وينفع من الأورام الباردة «2» ؛ وإذا طبخ بالخلّ وخلط بدهن الورد [ولطخ «3» به الرأس نفع من النّسيان ومن اختلاط الذّهن] ؛ ويتضمّد بورق البرّىّ منه على الجبهة للصّداع؛ وهو نافع للفواق «4» إذا شرب بشراب «5» ، وبزره أقوى، وينفع من أورام الكبد الباردة، ويخرج الجنين الميّت؛ والبرّىّ منه اذا شرب بشراب منع من تقطير البول، وأخرج الحصاة وينفع من المغص، ويضمد به لسع الزّنابير، ويشرب للسعها منه وزن درهمين فى سكنجبين «6» .

وقال فى النّعناع: هو حارّ يابس فى الثانية، وفيه رطوبة فضليّة، وقوّة مسخّنة قابضة؛ وهو ألطف البقول المأكولة جوهرا، واذا تركت طاقات منه فى اللّبن لم يتجبّن، واذا شربت عصارته بالخلّ قطعت سيلان الدم من الباطن؛ وهو مع السّويق ضماد للدّبيلات «1» ؛ وتضمد به الجبهة للصّداع، وخصوصا مع سويق الشّعير، وتدلك به خشونة اللّسان فتزول، ويمنع قذف الدّم ونزفه، ويعقد اللّبن فى الثّدى ضمادا، ويسكّن ورمه؛ وهو يقوّى المعدة ويسخّنها، ويسكّن الفواق ويهضم، ويمنع القىء البلغمىّ والدّموىّ، وينفع من اليرقان «2» ، وخصوصا شرابه؛ وهو يعين على الباه لنفخ فيه، ويقتل الدّيدان؛ واذا احتمل قبل الجماع منع الحبل؛ وهو نافع لعضّة الكلب الكلب. قال أبو إسحاق الحضرمىّ فى النّمّام: أرى النّمّام بالصّوت الفصيح ... ينادى الشّرب «3» حىّ على الصّبوح بدا لك فى مطارفه وأبدى ... روائح تستقلّ بكلّ ريح فقم واعص النّصيح وكن مطيعا ... لنا فالعيش عصيان النّصيح وقال آخر: حيّيتها بتحيّة فى مجلس ... بقضيب نمّام من الرّيحان فتطيّرت منه وقالت: ألقه ... لا تقربنّ مضيّع الكتمان

وأما الجرجير وما قيل فيه

وقال آخر: لا بارك الله فى النّمّام إنّ له ... اسما قبيحا من الأسماء مهجورا لو لم ينمّ على العشّاق سرّهم ... ما كان فيهم بهذا الاسم مشهورا وقال ابن رشيق- وخالف الأوّل «1» فيه-: لم كره النّمّام أهل الهوى ... أساء إخوانى وما أحسنوا إن كان نمّاما فتنكيسه ... من غير تكذيب لهم مأمن «2» وأمّا الجرجير وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: وان أردتم جرجيرا فخذوا خنفساء كبيرة، ومن ورق الباذرنبويه «3» ثلاثة قضبان، واسحقوه مع الخنفساء، ثم خذوا سبع حبّات حمّص أسود، واقلوها، وألبسوها الذى سحقتم، واطمروه «4»

وأما السذاب وما قيل فيه

فى الأرض، ولا تسقوه الماء، ولتكن أرضا نديّة بالقرب من نبات يسقى دائما فإنّه يخرج من ذلك الجرجير. وقال الشيخ الرئيس: الجرجير منه برّىّ ومنه بستانىّ؛ وبزر الجرجير هو الّذى يستعمل فى الطّبيخ بدل الخردل؛ وهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الأولى، وفى رطبه رطوبة فى الأولى، وهو مليّن منفّخ، وماؤه بمرارة البقر ينفع لآثار القروح؛ وهو مصدّع؛ خصوصا اذا أكل وحده، والخسّ يمنع هذا الضرر منه، وكذلك الهندبا والرّجلة؛ وهو مدرّ للّبن، وفيه هضم للغذاء؛ والبرّىّ منه مدرّ للبول محرّك للباه والإنعاظ، خصوصا بزره؛ واذا أكل وشرب عليه الشّراب «1» الرّيحانىّ فهو درياق لعضّة ابن عرس. وأمّا السّذاب وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: ان أردتم سذابا فخذوا رجلى ديك فانقعوهما فى عصارة الفودنج «2» البرّىّ أربعة أيّام، ثم اغمسوهما فى الزّيت واغرزوهما فى الأرض، واجعلوا فوق أصابع كلّ رجل حجرين «3» من الكندر أكبر ما تقدرون عليه، ثمّ طاقة من سذاب يابس عرضا، واطمروه فى التراب، فإنّه بعد أحد وعشرين يوما يخرج منه السّذاب، فحوّلوه من منبته الى بقعة أخرى، فانّه يشتدّ ويقوى؛ ومن خاصّيّة السّذاب أنّ الحائض اذا مسّته بيدها جفّ؛ وهو اذا زرع فى أصل شجرة التين نقصت حرارته وحرافته لما بينهما من الموافقة.

وقال الشيخ الرئيس: أوفق السّذاب البستانىّ ما ينبت عند شجرة التّين؛ وطبع السّذاب الرّطب منه حارّ يابس فى الثانية، واليابس حارّ يابس فى الثالثة: واليابس البرّىّ حارّ يابس فى الرابعة؛ وهو مقطّع محلّل مفشّ «1» جدّا، منقّ للعروق مقرّح قابض؛ وهو مع النّطرون على البهق الأبيض وعلى الثآليل «2» والتّوث «3» نافع ويذهب رائحة الثّوم والبصل، وينفع من داء الثّعلب «4» ؛ واذا دقّ «5» وضمد به مع الملح عضو أحدث عليه ورما حارّا؛ واذا جعل على خنازير «6» الحلق والإبط حلّلها

والصّمغ أقوى فى جميع ذلك؛ واذا جعل مع السّمن «1» والعسل على القوابى «2» ومع الخلّ والإسفيداج «3» على النّملة «4» والحمرة «5» [نفع «6» ] وينفع من الفالج وعرق النّسا وأوجاع المفاصل شربا وضمادا بالعسل، ويضمد به مع السّويق للصّداع المزمن؛ وعصارته المسخّنة فى قشور الرّمّان تقطر فى الأذن فتنفعها «7» ، وتسكّن الوجع والطّنين والدّوىّ، وتقتل الدّود، وتطلى بها قروح الرأس؛ وهو يحدّ البصر، وخصوصا عصارته مع عصارة الرازيانج والعسل كحلا وأكلا، وقد يضمد به مع السّويق على ضربان العين، وطبيخ الرّطب منه مع الشّبث «8» اليابس نافع لوجع الصّدر وعسر النّفس على ما شهد به روفس

وأما الطرخون وما قيل فيه

ويضمد به مع التّين للاستسقاء اللّحمىّ «1» ، ويسقى شراب طبخ فيه السّذاب، واذا شرب من بزره من درهم إلى درهمين للفواق البلغمىّ سكّنه؛ وهو يمرئ ويشهّى ويقوّى المعدة، وينفع من الطّحال؛ وهو مجفّف للمنىّ ويقطعه، ويسقط شهوة الباه ويحقن به مع الزّيت لأوجاع القولنج، ويوضع بالعسل على قروح المقعدة، ويغلى فى الزّيت ويشرب للدّيدان؛ قال: والنوعان يستفرغان فضول البدن بالإدرار؛ ويضمد به وبورق الغار» على الأنثيين لأورامهما، وأكله ينفع من الحمّى النافض «3» والتمريخ بدهنه؛ وهو يقاوم السّموم، والإكثار من أكل البرّىّ قاتل «4» . ولم أقف على وصف فيه فأورده. وأمّا الطّرخون «5» وما قيل فيه - فهو صنفان: بابلىّ، وهو طويل الورق؛ ورومىّ، وهو مدوّر، قال ابن وحشيّة فى توليده: وان أردتم الطّرخون فخذوا

وأما الإسفاناخ وما قيل فيه

من عروق العشر «1» وورقه فدقّوا ذلك دقّا يسيرا بلاسحق، ثمّ صرّوه فى صرّة واحدة أو صرر فى ورق الفجل الكبار، واطمروه فى الأرض، فإنه يخرج لكم منه الطّرخون. وقال الشيخ الرئيس: قالوا: إن العاقر قرحا هو أصل الطّرخون الجبلىّ؛ قال: وطبعه الظاهر أنّه حارّ يابس الى الثانية، وإن كانت فيه قوّة مخدّرة؛ قال: وقال بعض من لا يعتمد عليه: إنّه بارد يابس. قال الشيخ: وهو مجفّف للرّطوبات، وفيه تبريد ما، واذا مضغ وأمسك فى الفم نفع القلاع «2» ؛ وهو يحدث وجع الحلق؛ وهو عسر الهضم؛ وهو يقطع شهوة الباه. وأمّا الإسفاناخ وما قيل فيه - أمّا توليده فقال ابن وحشيّة فيه: خذوا عروق الخطمىّ «3» ولفّوا عليها من ورق الخسّ الرّطب، وانقعوها فى الشّيرج يوما ثمّ اطمروها فى التراب، فإنّها تنبت بعد سبعة أيّام إسفاناخا. وأمّا طبعه وأفعاله - فقال الشيخ: هو بارد رطب فى آخر الأولى، وهو مليّن، وفيه قوّة جالية غسّالة، ويقمع الصّفراء، وينفع من أوجاع الظّهر الدّمويّة ونافع من وجع الصّدر والرّئة.

وأما البقلة الحمقاء

وأمّا البقلة الحمقاء «1» - وهى اليرسا «2» ، وتسمّى الرّجلة «3» والفرفحين «4» -. أمّا توليدها - فقد قال «5» : وان أردتم يرسا- وهى البقلة الحمقاء- فخذوا عروق القطن وورقه رطبين فدقّوهما دقّا يسيرا وغرّقوهما باللّبن الّذى قد أنبذ «6» فيه الحمّص، ثمّ اطمروه فى الأرض، فإنّه بعد أسبوع تنبت منه هذه البقلة. والذى نعرفه نحن من أمرها أنّها تنبت فى أرض قصب السكّر من غير معالجة. وأمّا طبعها وفعلها - فقال الشيخ الرئيس: إنّ طبعها بارد فى الثانية «7» رطب فى آخرها، وإنّ فيها قبضا يمنع النّزف والسّيلانات المزمنة، وغذاؤها قليل غير

وأما الحماض وما قيل فيه

مذموم «1» ؛ وهى قامعة للصّفراء جدا؛ قال: ومن خاصّيّتها أنّها تحكّ بها الثّآليل «2» فتقلعها؛ وهى ضماد للأورام الحارّة الّتى يتخوّف عليها الفساد، وللحمرة «3» ، وتنفع البثور فى الرأس غسلا بها، وتسكّن الصّداع الحارّ الضّربانىّ؛ وتنفع من الرّمد، وتدخل فى الأكحال والإكثار منها يحدث الغشاوة؛ وتنفع التهاب المعدة شربا وضمادا؛ وتنفع الكبد الملتهبة، وتمنع القىء، وتنفع من أوجاع الكلى والمثانة وقروحهما، وتقطع شهوة الباه؛ وزعم ما سرجويه أنّها تزيد فى الباه. قال الشيخ: ويشبه أن يكون ذلك فى الأمزجة الحارّة اليابسة؛ وهى تحبس نزف الدّم من الحيض؛ وينفع ماؤها من البواسير الدّامية، ومن الحمّيات الحارّة؛ قال: وإن شويت وأكلت قطعت الإسهال. وأمّا الحمّاض وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: وإن أردتم الحمّاض فخذوا من اليرسا «4» ثلاثا أو أربعا فانقعوها فى ماء وخلّ ثلاثة أيّام، ثمّ خذوا عرقا

من عروقها أو عرقين فآجعلو هما فى الأرض، واجعلوا الطاقات المنقوعة فوقهما ثم صبّوا عليها ذلك الخلّ الممزوج، واطمروها، فإنّها تنبت لكم الحمّاض. وقال الشيخ الرئيس: الحمّاض منه بستانىّ «1» ومنه برّىّ «يقال له: السّلق البرّىّ، وليس فى البرّىّ كلّه كما يقال حموضة، بل لعلّ فى بعضه حموضة؛ والبرّىّ أقوى فى كلّ شىء؛ وطبعه بارد يابس فى الثانية، وبزره بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، وفيه قبض، وفى التّفه منه تحليل يسير، والحامض أقبض؛ والذى ليس شديد الحموضة أغذى، وهذا هو الشبيه بالهندبا؛ وكلّه يقمع الصّفراء؛ وخلطه محمود؛ وأصله بالخلّ ينفع لتقشير الأظفار؛ واذا طبخ بالشّراب نفع ضماده من البرص والقوباء؛ وقيل: إنّ أصله إذا علّق فى عنق صاحب الخنازير «2» انتفع به؛ وأصله بالخلّ للجرب المتقرّح والقوابى «3» ؛ وطبيخه بالماء الحارّ ينفع من الحكّة، وكذلك هو نفسه فى الحمّام؛ واذا تمضمض بعصارته نفع من وجع السّنّ، وكذلك بمطبوخه فى الشّراب؛ وينفع من الأورام الّتى تحت الأذن؛ وينفع من اليرقان الأسود بالشّراب؛ ويسكّن الغثيان؛ ويؤكل لشهوة الطّين؛ وبزره يعقل البطن؛ وقد

وأما الرازيانج وما قيل فيه

قيل: إنّ فى ورقه تليينا ما، وفى بزره عقل مطلق؛ وقال بعضهم: إنّ بزر الحمّاض غير مقلوّ فيه إزلاق وتليين؛ وأصله مدقوقا لسيلان الرّحم وتفتيت حصاة الكلية إذا شرب فى شراب، واللزّوجة الّتى فيه تنفع من السّحج العارض من يبس الثّفل «1» ؛ وهو ينفع من لسع العقرب، وخصوصا البرّىّ؛ وإن استعمل بزره قبل لسع العقرب لم يضرّ لسعها. وأمّا الرّازيانج «2» وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة: ان أخذتم أخثاء «3» الخنزير فخلطتموها بدمه، ولففتموها فى شىء من جلده، ثم طمرتموها بالتراب الّذى له نزّ وفيه رطوبة، خرج عن ذلك الرّازيانج. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: «والرّازيانج نبطىّ ورومىّ. فأمّا النّبطىّ - فمنه برّىّ، ومنه بستانى «4» » ؛ والبرّىّ أشدّ حرارة ويبسا، وأولى بالثالثة؛ وأمّا البستانىّ فتكون حرارته فى الثانية؛ قال: والرّازيانج يفتّح السّدد

«وأما الرومى

ويحدّ البصر، خصوصا صمغه؛ وينفع من ابتداء الماء، وزعم إبّقراطيس «1» أنّ الهوامّ ترعى بزر الرّازيانج الطّرىّ ليقوّى بصرها، والأفاعى والحيّات تحكّ أعيانها عليه إذا خرجت من مآويها بعد الشتاء استضاءة للعين، ورطبه يغزر اللّبن، وخصوصا البستانىّ، ويدرّ البول والطّمث؛ والبرّىّ خاصّة يفتّت الحصاة؛ وفيهما «2» منفعة للكلية والمثانة؛ والبرّىّ ينفع من تقطير البول، وينقّى النّفساء؛ واذا أكل بزره مع أصله عقل؛ وينفع من الحميّات المزمنة؛ وطبيخه بالشّراب «3» ينفع من نهش الهوامّ؛ ويدقّ أصله ويجعل طلاء من عضّة الكلب الكلب. «وأمّا الرّومىّ «4» - وهو الّذى بزره الأنيسون» - فقال جالينوس: هو حارّ فى الثانية، يابس فى الثالثة. وقال الشيخ: هو مفتّح مع قبض يسير؛ وهو مسكّن للأوجاع، محلّل للرّياح، وخصوصا إن قلى، وفيه حدّة يقارب بها الأدوية المحرقة وينفع من التهيّج فى الوجه، وورم الأطراف؛ واذا بخّر به واستنشق برائحته «5» سكّن الصّداع؛ وإن سحق وخلط به دهن الورد وقطر فى الأذن أبرأ ممّا يعرض فى باطنها

وأما الكرفس وما قيل فيه

من صدع عن صدمة أو ضربة، وينفع من السّبل «1» المزمن، «ويسهّل النّفس «2» » ويدرّ اللّبن، ويقطع العطش الكائن عن الرّطوبات البورقيّة؛ وينفع من سدد الكبد والطّحال، ومن الرّطوبات؛ ويدرّ البول والطّمث الأبيض، وينقّى الرّحم من سيلان الرّطوبات البيض؛ ويحرّك الباه، وربّما عقل البطن؛ وهو يفتّح سدد الكلى ويدفع ضرر السّموم والهوامّ، والله أعلم. وقال ابن وكيع فى الرّازيانج: أخذت من كفّ الغزال الأحور ... غصنا من البسباس «3» ممطورا طرى «4» كأنّه فى عين كلّ مبصر ... مذبّة من الحرير الأخضر وأمّا الكرفس وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الكرفس منه جبلىّ ومنه برّىّ، ومنه بستانىّ، ومنه ما ينبت فى الماء وبقربه؛ وهو أعظم من البستانى

وقوّته كقوّته «ومنه «1» نوع يسمّى سمرنيون «2» » أعظم من البستانىّ أجوف السّاق إلى البياض، وقد يختلف بالبلاد، فمنه رومىّ، ومنه غيره؛ قال: وأقواه الرومىّ ثمّ «3» الجبلىّ؛ وطبعه فى أولى الحرارة، وثانية اليبوسة. وقال روفس: البستانىّ رطب إلّا أصله، فهو يابس اتّفاقا؛ قال: وهو محلّل للنّفخ، مفتّح للسّدد، مسكّن للأوجاع؛ ومربّاه أوفق للمحرور؛ والبرّىّ ينفع لداء الثّعلب «4» ، ولتشقيق الأظفار والثآليل «5» وشقاق «6» البرد؛ والبستانىّ مطيّب للنّكهة جدّا؛ والبرّىّ مقرّح إذا ضمد به ولذلك ينفع من الجرب والقوباء، ومن الجراحات الى أن تنختم، خصوصا سمرنيون «7» وسمرنيون يوافق جميع أجزائه عرق النّسا؛ والكرفس البستانىّ يدخل فى أضمدة «8» أوجاع العين؛ وينفع من السّعال، وخصوصا سمرنيون؛ وكذلك ضيق النّفس

وعسره؛ وهو من أدوية «1» أو رام الثّدى الحارّة؛ وينفع الكبد والطّحال؛ ويحرّك الجشاء لتحليله؛ وليس سريع الانهضام والانحدار؛ وفى بزر الكرفس تغثية وتقيىء إلّا أن يقلى؛ قال: وقال بعضهم: إنّ جميع أصله نافع للمعدة. ويقول روفس: لا، بل قد يجلب إليها رطوبات رديئة حادّة؛ وقال جالينوس: إنّه ممّا يصلح أن يؤكل مع الخسّ، فإنّه يعدل برد الخسّ؛ وبزره ينفع من الاستسقاء، وينقّى الكبد ويسخّنها؛ وهو يدرّ البول والطّمث؛ وهو ردىء للحوامل؛ وهو ينقّى الكلية والمثانة والرّحم، وينفع من عسر البول، ويخرج المشيمة، خصوصا سمرنيون ويملأ الرّحم رطوبة حرّيفة إذا أدمن أكله. قال: وقال بعضهم: الكرفس يهيّج الباه، حتى قال: يجب أن تمنع المرضعة من تناوله لئلّا يفسد لبنها لهيجان شهوة الباه؛ والرّومىّ جيّد لقولون «2» والمثانة والكلية؛ وطبيخه مع العدس يتقيّأ به بعد شرب السّمّ؛ واذا لسعت العقرب من أكله اشتدّ به الأمر. انتهى القسم الأوّل.

القسم الثانى من الفن الرابع فى الأشجار

القسم الثانى من الفنّ الرابع فى الأشجار وفيه ثلاثة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فيما لثمره قشر لا يؤكل ويشتمل هذا الباب على اللّوز والجوز والجلّوز والفستق والشّاه بلّوط والصّنوبر والرّمّان والموز والنّارنج واللّيمون. فأمّا اللّوز وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس فى طبيعته: الحلو معتدل إلى رطوبة، والمرّ حارّ يابس فى الثانية؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: فى جميع أصناف اللّوز جلاء وتنقية وتفتيح، لكن الحلو أضعف من المرّ فى تفتيحه، لأنّه ملطّف، ودهنه أخفّ من جرمه؛ والمرّ ينفع من الكلف والنّمش والاثار، ويبسط تشنّج الوجه؛ وأصل المرّ اذا طبخ وجعل على الكلف كان دواء قويّا؛ وأكل اللّوز الحلو يسمّن؛ والمربّى بالشّراب جيّد للشّرى «1» ، ويطلى به بالعسل الساعية «2» والنّملة ويطلى به بالخلّ أو بالشّراب على القوابى «3» ، والمرّ أبلغ فى ذلك؛ وهو جيّد لوجع

الأذن والّدوىّ فيها، وخصوصا المرّ دهنا ومسحوقا [بحاله «1» ] وممسوحا «2» ؛ واذا غسل الرأس به وبالشراب نقىّ الرّطوبة والحزاز «3» ونوّم؛ واذا شرب المرّ قبل الشراب منع السّكر، وخصوصا خمسين عددا؛ وشجر اللّوز المرّ إذا دقّ ناعما وخلط بالخلّ ودهن الورد وضمد به الجبين نفع الصّداع، وكذلك دهن اللّوز المرّ ينفع منه؛ وهو يقوّى البصر؛ واللّوز المرّ مع نشا «4» الحنطة جيّد لنفث الدّم؛ وينفع من السّعال المزمن والرّبو وذات الجنب، وخصوصا دهن الحلو؛ وسويق اللّوز نافع من السّعال ونفث الدّم؛ وهو يفتّح سدد الكبد والطّحال، وخصوصا المرّ، فإنّه يفتّح السّدد العارضة فى أطراف العروق؛ واذا أكل الطرىّ بقشره نقىّ بلّة المعدة؛ وهو عسر الهضم، جيّد الخلط، قليل الغذاء؛ واذا كان بالسّكّر انحدر سريعا؛ ودهن المرّ ينقّى الكلية والمثانة ويفتّت الحصاة، خصوصا مع الإيرساء «5» شربا، وربّما نفع ضمادا معه ومع دهن

وأما ما وصفه به الشعراء وشبهوه

الورد «1» ؛ وينفع لأوجاع الرّحم وأورامها الحارّة وصلابتها وعسر البول ووجع الكلّى؛ ويحتمل «2» فيدرّ الطّمث؛ والحلو نافع من القولنج لجلائه؛ والمرّ أنفع؛ ودهنه أخفّ من جرمه «3» . قال: وينفع من عضّة الكلب الكلب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول ابن المعتزّ: ثلاثة أثواب على جسد رطب ... مخالفة الأشكال من صنعة الرّبّ تقيه الرّدى فى ليله ونهاره ... وان كان كالمسجون فيها بلا ذنب وقال آخر: أما ترى اللّوز حين ترجله «4» ... عن الأفانين كفّ مقتطف وقشره قد جلا القلوب لنا ... كأنّها الدّرّ داخل الصّدف وقال آخر «5» : جاء بلوز أخضر ... أصغره ملء اليد كأنّما زئبره ... نبت عذار الأمرد كأنّما قلوبه ... من توأم ومفرد جواهر لكنّما ال ... أصداف من زبرجد

وأما الجوز وما قيل فيه

وقال أبو طالب المأمونىّ: ومستجنّ عن الجانين ممتنع ... بحلّة لم تحكها كفّ نسّاج درّ تكوّن من عاج تضمّنه ... فى البرّ لا البحر أصداف من السّاج وقال آخر فى لوزة بقلبين: ومهد إلينا لوزة قد تضمّنت ... لمبصرها قلبين فيها تلاصقا كأنّهما حبّان فازا بخلوة ... على رقبة فى مجلس فتعانقا وأمّا الجوز وما قيل فيه - فقال الشيخ: هو حارّ، ودرياقه للمحرورين السّكنجبين، ولضعفاء المعدة المربّى بالخلّ، وهو حارّ فى الثانية «1» يابس فى أوّلها ويبسه أقلّ من حرّه، وفيه رطوبة غليظة تذهب إذا عتق. وأمّا أفعاله وخواصّه - ففى مقلّوه قبض؛ وورقه وقشره كلّه قابض للنّزف؛ وقشره المحرق مجفّف بلا لذع؛ ودهن العتيق منه كالزّيت العتيق، وجلاء العتيق قوىّ، ولبّه الممضوغ يجعل على الورم السّوداوىّ المتقرّح فينفع؛ وصمغه نافع للقروح الحارّة منثورا عليها وفى المراهم؛ وهو مع عسل وسذاب ينفع التواء العصب؛ وعصارة ورقه تفتّر وتقطر فى الأذن فتنفع من المدّة. وقيل: إنّه مثقّل للّسان مبثّر للفم، وعصارة قشره وربّه «2» يمنع «3» الخناق، ويضرّ بالسّعال؛ وهو عسر الهضم ردىء للمعدة، والمربّى والرّطب أجود للمعدة وأقلّ ضررا؛ والمربّى بالعسل نافع للمعدة

وأما ما وصفه به الشعراء وشبهوه

الباردة؛ وقشره يحبس نزف الطّمث؛ والمربّى نافع للكلية الباردة؛ ورماد قشره يمنع الطّمث شربا بالشراب وحملا «1» ؛ والجوز مع التّين والسّذاب دواء لجميع السّموم ومع البصل والملح ضماد على عضّة الكلب الكلب وغيره. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: جاء «2» بجوز أخضر ... مكسّر «3» مقشّر كأنّما أرباعه ... مضغة علك الكندر» وقال آخر: والجوز مقشور يروق كأنّه ... لونا وشكلا مصطكى ممضوغ وقال أبو طالب المأمونىّ: ومحقّق التدوير يبعد نفعه ... من كفّ من يجنيه ما لم يكسر درّ يسوغ لآكليه يضمّه ... صدف تكوّن جسمه من عرعر «5» متدرّع فى السّلم فوق غلالة «6» ... درعا مظاهرة بثوب أخضر

وأما الجلوز وما قيل فيه

وأمّا الجلّوز وما قيل فيه - فالجلّوز، هو البندق؛ وقد سمّى ابن سينا الصّنوبر بالجلّوز، وقال فى البندق: هو إلى حرارة ما ويبوسة قليلة «1» ، وفيه من القبض أكثر ممّا فى الجوز؛ وفيه نفخ، ويولّد الرّياح فى البطن؛ واذا قلى وأكل مع فلفل قليل أنضج الزّكام؛ وقال إبّقراط «2» : البندق يزيد فى الدّماغ، وإذا أكل بماء العسل نفع من السّعال المزمن، وهو بطىء الهضم، ويهيّج القىء، وينفع من النّهوش وخصوصا مع التّين والسّذاب «3» للدغ العقرب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: ولقد شربت مع الغزال مدامة ... صفراء صافية بغير مزاج فتفضّل الظّبى الغرير ببندق ... شبّهته ببنادق من ساج وكسرته فرأيت صوفا أحمرا ... قد لفّ فيه بنادق من عاج وقال ابن رافع: جلّوزة من كفّ ظبى غزل ... رمى بها نحوى كمثل جلجل أو كرة قد ثلّثت من صندل ... تكسر عن حريرة لم تغزل

وأما الفستق وما قيل فيه

محمرّة فوق بياض يعتلى ... من حسنها «1» المستظرف المستكمل فى مطعم الشّهد وعرف المندل وأمّا الفستق وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم فستقا فخذوا كبد الماعز فشقّوها، وادفنوا فيها عظم صلب الطّاووس، وأهرقوا فوقها عصارة الشّاهترج «2» ، واطمروها «3» فى الأرض، فإنه بعد سبعة وعشرين يوما تخرج منها شجرة الفستق. وقال الشيخ الرئيس: طبعه أشدّ حرارة من الجوز؛ وهو حارّ يابس «4» فى آخر الثانية؛ وفيه رطوبة؛ وزعم بعضهم أنّه بارد، وقد أخطأ؛ وهو يفتّح سدد الكبد لمرارته وعطريّته؛ وفيه عفوصة؛ وغذاؤه يسير جدّا؛ وهو جيّد للمعدة، خصوصا الشامىّ الشبيه بحبّ الصّنوبر؛ وهو يفتّح منافذ الغذاء، ودهنه ينفع من وجع الكبد الحادث من الرطوبة والغلظ. قال [فإن «5» ] قال قائل: «لم أجد له فى المعدة كبير

وأما ما وصفه به الشعراء وشبهوه

مضرّة ولا منفعة» أقول: بل يمنع الغثيان، وتقلّب المعدة، ويقوّى فمها؛ وهو ينفع من نهش الهوامّ، خصوصا اذا طبخ بالشّراب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك ما قاله أبو إسحاق الصّابى: والنّقل «1» من فستق حديث ... رطب تبدّى به الجفاف لى فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف زمرّد صانه حرير ... فى حقّ عاج له غلاف وقال آخر: زمرّدة «2» ملفوفة فى حريرة ... لها حقّ عاج فى غلاف أديم وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: وحظّى من نقل اذا ما نعتّه ... نعتّ لعمرى منه أحسن منعوت من الفستق الشامىّ كلّ مصونة ... تصان عن الأحداق فى بطن تابوت زبرجدة ملفوفة فى حريرة ... مضمّنة درّا مغشّى بياقوت وقال آخر: وفستق مستلذّ ... من بعد شرب الرّحيق كأنه حين ترنو ... إليه عين الرّموق حقّ من العاج يحوى ... زبرجدا فى عقيق

وقال آخر يصف الضّاحك: ومهد إلينا فستقا غير مطبق ... به زاد إحسانا على كلّ محسن كأنّ انفتاحا منه دلّ على الّذى ... به من كمين فى حشاه مضمّن ظماء من الأطيار حامت ففتّحت ... مناقيرها ثم استعانت بألسن وقال آخر: انظر الى الفستق المجلوب حين أتى ... مشقّقا فى لطيفات الطّوامير «1» والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطّير من بين المناقير وقال آخر: كأنّما الفستق المملوح حين بدا ... مفتّح القشر موضوعا على طبق وقد بدا لبّه للعين، ألسنة ... للطّير عطشى بها شىء من الرّمق وقال آخر «2» : وضاحك أجفانه ... لم تكتحل بالوسن لم أدر عن أفئدة ... تبسم أم عن ألسن كعاشق كلّفه الغرام ... ما كلّفنى إذا أخذت قلبه ... لم ينتفع بالبدن وقال أبو بكر بن القرطبيّة: صدف أبيض نقى ... ذو بهاء ورونق

وأما الشاه بلوط وما قيل فيه

مسفر «1» عن جوهر ... أخضر فيه مطبق كلّ صيغ يعزى الى ... لونه قيل فستقى وأمّا الشّاه «2» بلّوط وما قيل فيه - فالشّاه بلّوط هو القسطل؛ قال ابن وحشيّة: وان أردتم الشّاه بلّوط فخذوا كليتى الخنزير وقرنى غزال، فاغرزوا فى طرفى القرنين الكليتين، وادفنوا ذلك فى الأرض، واسقوه من الماء بقدر وصوله إليه، فإنّه ينبت فى أربعة وعشرين يوما شجرة تحمل الشّاه «3» بلّوط...... «4» . قال شاعر يصفه: يا حبّذا القسطل المجرّد عن ... قشريه بعد الجفاف فى الشجر كأنّه أوجه الصّقالبة ال ... بيض وفيها تكرمش «5» الكبر

وأما شجر الصنوبر وما قيل فيه

وأمّا شجر الصّنوبر وما قيل فيه - فشجر الصّنوبر صنفان، ذكر وأنثى؛ فالذّكر هو الأرز، وهو لا يثمر، ومنه القطران؛ والأنثى صنفان، صنف كبيرا لحبّ، وصنف صغيره، يسمّى قضم «1» قريش وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: خذوا من شجرة الخرنوب الشامىّ من عروقها الطّوال، فلفّوها على قرنى ثور، وانقعوها فى الزّيت سبعة أيّام، ثمّ اجعلوها فى الأرض، واسحقوا الكندر «2» وذرّوه عليها اذا غرست، فانّها تنبت شجر الصّنوبر. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه «3» - وسمّاه الجلّوز وقال: هو حبّ الصّنوبر الكبار، وهو أفضل «4» غذاء من الجوز، لكنّه أبطأ انهضاما؛ وهو مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ، والهوائيّة فيه قليلة؛ قال: وفى لحاء شجره قبض كثير؛

والدّود الّذى فيه فى قوّة الذّراريح «1» ؛ ولحاؤه «2» ينفع من إحراق الماء الحارّ، «ويلصق «3» الجراحات ذرورا» ومن القروح «4» الحرقيّة «5» ؛ وفيه قوّة مدملة «6» ؛ وفى لحائه من القبض ما يبلغ أن يشفى السّحج «7» إذا وضع عليه ضمادا أو ذرورا؛ ويصلح لمواقع الضربة ويدمل؛ وورقه أصلح لذلك لأنّه أرطب؛ والغرغرة بطبيخ قشره تجلب بلغما كثيرا؛ واذا سلق لحاؤه بالخلّ وتمضمض به نفع وجع الأسنان؛ ودخانه نافع من انتثار الأشفار. قال: ويغذو غذاء قويّا غليظا غير ردىء؛ ويصلح للرّطوبات الفاسدة فى الأمعاء؛ وهو بطىء الهضم، ويصلح هضمه: أمّا للمبرودين فالعسل وللمحرورين فالطّبرزذ» ، ويزداد بذلك جودة غذاء؛ والمنقوع منه فى الماء تذهب

وأما ما وصف به الصنوبر وشبه به من الشعر

حدّته وحرافته ولذعه؛ ويبرىء من أوجاع العصب والظّهر وعرق النّسا؛ وهو نافع للاسترخاء، وينقّى الرّثة ويخرج ما فيها من القيح والخلط الغليظ، ويهيّج الباه، وخصوصا المربّى منه؛ وينفع من القيح والحصاة فى المثانة؛ وهو مع التّمر والتّين ينفع من لدغ العقرب. وقال فى قضم «1» قريش: إنّه جيّد لقروح الكلى والمثانة. وأمّا ما وصف به الصّنوبر وشبّه به من الشعر - فمن ذلك قول بعض الشعراء: صنوبر أطيب موجود ... نلت به غاية مقصودى كأنّه حين حبانى به ... من خصّ بالإنعام والجود حبّ لآل مشرق لونه ... فى جوف أدراج من العود ونحوه قول الشاعر: صنوبر ظلت به مولعا ... لأنّه أطيب موجود كأنّه الكافور فى لونه ... تحويه أدراج من العود وقال أبو بكر الصّنوبرىّ- وذكر انتسابه إليه-: وإذ عزينا إلى الصّنوبر لم ... نعز إلى خامل من الخشب

لا بل «1» الى باسق الفروع علا ... مناسبا فى أرومة الحسب مثل خيام الحرير تحملها ... أعمدة تحتها من الذّهب كأنّ ما فى ذراه من ثمر ... طير وقوع على ذرا القضب باق على الصّيف والشّتاء إذا ... شابت رءوس النّبات لم يشب محصّن الحبّ فى جواشن «2» قد ... أمنّ «3» فى لبسها من الحرب حبّ حكى الحبّ صين فى قرب «4» ال ... أصداف حتّى بدا من القرب ذو نثّة «5» ما ينال من عنب ... ما نيل من طيبها ولا رطب يا شجرا حبّه حدانى أن ... أفدى بأمّى محبّة وأبى فالحمد لله إنّ ذا لقب ... يزيد فى حسنه على النّسب وقال ابن رافع القيروانىّ: يا حسنة فى العين من صنوبر ... يحكى لنا جماجما من عنبر يفلق عن حبّ إذا لم يكسر ... مصندل إن شئت أو معصفر كمثل أصداف نفيس الجوهر

وأما الرمان والجلنار

وأمّا الرّمّان والجلّنار «1» - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الرمّان الحلومنه بارد إلى الأولى رطب فيها؛ والحامض يابس «2» فى الثانية؛ والحامض يقمع الصّفراء، ويمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، وخصوصا شرابه؛ وهو جلّاء مع القبض؛ وحبّ الرّمّان مع العسل طلاء للدّاحس «3» والقروح الخبيثة؛ وأقماعه للجراحات، ولا سيّما المحرقة. قال: والحلو مليّن؛ وجميعه قليل الغذاء جيّده؛ والمزّ «4» منه ربّما كان أنفع للمعدة من التّفّاح والسّفرجل، لكنّ حبّه ردىء؛ وأقبض أجزائه الأقماع. قال: وحبّ الرّمّان بالعسل ينفع من وجع الأذن؛ وهو طلاء لباطن الأنف؛ وينفع حبّه مسحوقا مخلوطا بالعسل من القلاع «5» طلاء؛ وان طبخت الرّمّانة الحلوة بالشراب ثم دقّت كما هى وضمدت بها الأذن نفع من ورمها منفعة جيّدة؛ وشراب الرّمّان وربّه نافعان من الخمار؛ وعصارة الحامض تنفع من الظّفرة «6» ؛ وهو يخشّن الصّدر والحلق؛ والحلو يليّنهما ويقوّى الصّدر؛ واذا سقى حبّ الرّمّان فى ماء المطر منع نفث الدّم؛ وجميعه ينفع من الخفقان، ويجلو الفؤاد؛ والمرّ ينفع

وأما ما قيل فيهما من الشعر

من التهاب المعدة؛ والحلو يوافق المعدة؛ والحامض يضرّها، ومع ذلك فحبّ الرّمّان يضرّ المعدة؛ وسويقه مصلح لشهوة الحبالى، وكذلك ربّه؛ خصوصا الحامض؛ ويمصّه المحموم بعد غذائه فإنّه يمنع صعود البخار. قال: والحامض أكثر إدرارا للبول من الحلو؛ وكلاهما مدرّ؛ وسويق الرّمّان ينفع من الإسهال الصّفراوىّ؛ وقشور أصل الرّمّان بالنّبيذ تخرج الدّيدان. قال: والحلو يضرّ أصحاب الحمّيات الحارّة. وقال فى الجلّنار «1» : هو زهر رمّان برّىّ، فارسىّ او مصرىّ، قد يكون أحمر وقد يكون أبيض، وقد يكون مورّدا، وعصارته فى طبعها كعصارة لحية التّيس «2» ؛ قوّته قوّة شحم الرّمّان؛ وطبعه بارد فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ وأفعاله وخواصّه، هو مغرّ، حابس لكلّ سيلان، ويولّد السّوداء؛ وهو جيّد للّثة الدّامية ويدمل الجراحات والقروح والعقور والشّجوج ذرورا؛ وهو يقوّى الأسنان المتحرّكة؛ وهو يعقل، وينفع من قروح الأمعاء وسيلان الرّحم ونزفها. وأمّا ما قيل فيهما من الشعر - فمن ذلك ما وصف به الرّمّان وشبّه به، قال أبو هلال العسكريّ:

حكى الرّمّان أوّل ما تبدّى ... حقاق زبرجد يحشون درّا فجاء الصيف يحشوه عقيقا ... ويكسوه مرور القيظ تبرا ويحكى فى الغصون ثدىّ حور ... شققن غلائلا عنهنّ خضرا وقال آخر: خذوا صفة الرّمّان عنّى فإنّ لى ... بيانا عن الأوصاف غير قصير حقاق كأمثال الكراة تضمّنت ... فصوص بلخش «1» فى غشاء حرير وقال آخر: لله رمّانة من فوق دوحتها ... مثالها ببديع الحسن منعوت فالقشر حقّ نضار ضمّ داخله ... والشّحم قطن له والحبّ ياقوت وقال آخر: رمّانة صبغ الزّمان أديمها ... فتبسّمت فى خضرة «2» الأغصان فكأنّما هى حقّة من صندل «3» ... قد أودعت خرزا من المرجان «4» وقال ابن قسيم الحموىّ: ومحمرّة من بنات الغصو ... ن يمنعها ثقلها أن تميدا منكّسة التّاج فى دستها ... تفوق الخدود وتحكى النّهودا تفضّ فتفترّ عن مبسم ... كأنّ به من عقيق عقودا

كأنّ المقابل «1» من حسنها ... ثغور تقبّل منها خدودا وقال آخر: رمّانة مثل نهد الكاعب الرّيم ... تزهى بشكل ولون غير مذموم كأنّها حقّة من عسجد ملئت ... من اليواقيت نثرا غير منظوم وقال محمّد بن «2» عمر المقرئ «3» الكاتب: ورمّان رقيق القشر يحكى ... ثدىّ «4» الغيد فى أثواب لاذ «5» إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوص من عقيق أو بجاذى «6» وقال آخر: ولاح رمّاننا فأبهجنا ... بين صحيح وبين مفتوت من كلّ مصفرّة مزعفرة ... تفوق فى الحسن كلّ منعوت كأنّها حقّة فإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت وقال آخر: ولابسة صدفا أصفرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا حبوبا كمثل لثات الحبيب ... رضابا إذا شئت أو منظرا

وقال آخر: طعم الوصال «1» يصونه طعم النّوى ... سبحان خالق ذا وذا من عود فكأنّها والخضر من أوراقها ... خضر الثّياب على نهود الغيد وأنشدنى الشيخ شهاب الدّين أحمد بن الجبّاس «2» الدّمياطىّ لنفسه فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فى رمّانة مشقوقة يتساقط منها الحبّ: كتمت هوى قد لجّ فى أشجانها ... وحشت حشاها من لظى نيرانها فتشقّقت من حبّها عن حبّها ... وجدا وقد أبدت خفا كتمانها رمّانة ترمى «3» بها أيدى النّوى ... من بعد ما رمّت «4» على أغصانها فاعجب وقد بكت «5» الدّموع عقائقا ... لا من مآقيها ولا أجفانها ومنه ما وصف به الجلّنار- قال أبو فراس الحمدانىّ: وجلّنار مشرق ... على أعالى الشجره كأنّ فى أغصانه ... أحمره وأصفره

وأما الموز وما قيل فيه

قراضة من ذهب ... فى خرقة معصفره وقال ابن وكيع: وجلّنار بهىّ ... ضرامه يتوقّد بدا لنا فى غصون ... خضر من الرّىّ ميد يحكى فصوص عقيق ... فى قبّة من زبرجد وقال آخر: كأنّما الجلّنار لمّا ... أظهره العرض للعيون أنامل كلّها خضيب ... تنشر لاذا «1» على الغصون وقال أبو الحسن «2» الشّمشاطىّ: وبدا الجلّنار مثل خدود ... قد كساها الحياء لون عقار صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمرا ناصعا «3» لدى الاخضرار وأمّا الموز وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم باليبروح «4» مثل وزنه من التّمر، وعجنتموهما عجنا جيّدا، ثمّ زرعتموهما

وأما ما وصف به وشبه من الشعر

وتعاهدتم ذلك بالسقى الكثير، خرج منه شجر الموز؛ وكذلك إن لجن القلقاس بالتّمر خرج منهما الموز، إلّا أنّ ما ينبت عن اليبروح أكبر موزا، وأشدّ حلاوة. وقال الشيخ الرئيس: الموز مليّن؛ والإكثار منه يورث السّدد، ويزيد فى الصّفراء والبلغم بحسب المزاج؛ وهو نافع للخلق «1» والصّدر؛ وهو ثقيل على المعدة؛ ويجب أن يتناول المحرور بعده سكنجبينا «2» بزوريّا، والمبرود عسلا. قال: وهو يزيد فى المنىّ، ويوافق الكلى، ويدرّ البول. وأمّا ما وصف به وشبّه من الشّعر - فمن ذلك قول ابن الرّومىّ: إنّما الموز إذ تمكّن منه ... كاسمه مبدلا من الميم فاءا وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلا من الزاى تاءا فهو الفوز مثلما فقده المو ... ت لقد عمّ فضله الأحياءا ولهذا التأويل سمّاه موزا ... من أفاد المعانى الأسماءا

نكهة عذبة وطعم لذيذ ... فنعيم متابع نعماءا لو تكون القلوب مأوى طعام ... نازعته قلوبنا الأحشاءا وقال فيه أيضا: للموز إحسان بلا ذنوب ... ليس بمعدود ولا محسوب يكاد من موقعه المحبوب ... يسلمه البلع إلى القلوب وقال الصّاحب جمال الدّين علىّ بن ظافر: كأنّما الموز إذا ... ما جاءنا بالعجب أنياب أفيال صغا ... ر طلّيت بالذّهب ونحوه قول الآخر- وكأنّه مأخوذ منه-: موز حلا فكأنّه ... عسل ولكن غير جارى ذو باطن مثل الأقاح «1» ... وظاهر مثل النّضار يحكى إذا قشّرته ... أنياب أفيال صغار وحكى صاحب (بدائع البدائه) أنّ الحسن بن رشيق ومحمّد بن شرف القيروانىّ اجتمعا فى مجلس المعزّ بن باديس وبين يديه موز، فاقترح على كلّ واحد منهما أن يعمل فيه شيئا، فقال ابن شرف: يا حبّذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ لان إلى أن لا محسّ له ... فالفم ملآن به فارغ

سيّان قلنا مأكل طيّب ... فيه وإلّا مشرب سائغ إن قيل فيما قد حلا طيّب ... فالموز حلو طيّب بالغ أحلى مذاقا من دماء العدا ... أمكن منها أسد والغ وقال ابن رشيق- وتواردا فى المعنى والقافية-: موز سريع سوغه ... من قبل مضغ الماضغ مأكلة لاكل ... ومشرب لسائغ فالفم من لين به ... ملان مثل فارغ يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ ثمّ سألهما فى مثل ذلك، فقال محمد بن شرف: هل لك فى موز إذا ... ذقناه قلنا حبّذا فيه شراب وغذا ... يزيل كالماء القذى لو مات من تلذّذا ... به لقلنا: ذا بذا وقال ابن رشيق: لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ فواكه وشراب ... به يفيق «1» الوقيذ «2» ترى القذى العين فيه ... كما يريها النّبيذ فانظر إلى هذا التّوارد العجيب المرّة بعد المرّة. وقال نجم الدّين بن إسرائيل يصفه: أنعت لى موزا شهىّ المنظر ... مستحكم النّضج لذيذ المخبر

كأنّه فى جلده المعصفر ... لفّات زبد عجنت بسكّر وأنشدنى الشيخ الفاضل شهاب الدّين أحمد بن منصور الدّمياطىّ- عرف بابن الجبّاس- فى ذى الحجّة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لنفسه وأجاد: كأنّما الموز فى عراجنه «1» ... وقد بدا يانعا على شجره فروع شعر برأس غانية ... عقّص من بعد ضمّ منتشره كأنّ من ضمّه وعقّصه ... أرسل شرّابة «2» على أثره كأنّ أمشاطه مكاحل من ... زمرّد نظّمت على قدره كأنّما زهره الأنيق وقد ... شقّق عنه كمام مستتره نظام ثغر يزينه شنب «3» ... ممتزج شهده بمعتصره كأنّ قامات سوقه عمد ... حنت «4» أواوينها على جدره كأنّ أشجاره وقد نشرت ... ظلال أوراقها على ثمره حاملة طفلها على يدها ... تقيه حرّ الهجير فى خمره كأنّما ساقه الصّقيل وقد ... بدت عليه رقوم معتبره «5»

ساق عروس أميط مئزرها ... فبان وشى الخضاب فى حبره «1» تصاغ من جوهر «2» خلاخلها ... فتنجلى والنّثار من زهره حدائق خفّفت «3» سناجقها «4» ... كأنّها الجيش أمّ فى زمره وكلّ آياته فباهرة ... تبين فى ورده وفى صدره كأنّما عمره القصير حكى ... زمان وصل الحبيب فى قصره كأنّ عرجونه المشيب أتى ... يخبر أن حانه «5» انقضا عمره كأنّه البدر فى الكمال وقد ... أصيب بالخسف فى سنا قمره كأنّه بعد قطعه وقد اصفرّ ... لما نال من أذى حجره «6» متيّم قد أذابه كمد ... يبيت من وجده على خطره معلّق بالرّجاء، ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ من خبره يطيب ريحا ويستلذّ جنى ... على أذى زاد فوق مصطبره كأنّه الحرّ حال محنته ... يزيد صبرا على أذى ضرره

وأما ما وصف به وشبه النارنج

وأمّا ما وصف به وشبّه النّارنج «1» - فمن ذلك قول شاعر: لله أنجم نارنج توقّدها ... يكاد ينجاب عن لألائه الغسق تبدو لعينيك فى لألائها ولها ... من الغصون بروج دوحها الأفق تجنى به اليد جمرا ليس يطفئه ... غيث ولا اليد إذ تجنيه تحترق كأنّه مستعار الشّبه من سفن «2» ... مذهّب أو حباه لونه الشّفق وقال آخر: تأمّلها كرات من عقيق ... تروقك فى ذرا دوح وريق صوالج من غصون ناعمات ... غذتها درّة العيش الأنيق تخال غصونها فيها نشاوى ... بأيديهم كئوس من رحيق عجبت لها شربن الماء ريّا ... وفى لبّاتها لهب الحريق وقال آخر يصف نارنجة: يا ربّ نارنجة يلهو النديم بها ... كأنّها كرة من أحمر الذّهب أو جذوة حملتها كفّ قابسها ... لكنّها جذوة معدومة اللهب وقال آخر: ومورقة فى صيفها وشتائها ... يحار النّهى فى أرضها وسمائها اذا ما زهى الكانون يوما بجمره ... نظرت إليه تحت فضل ردائها أرى الماء يطفى كلّ نار ونارها ... تزيد حياة ما تغذّت بمائها

كرات عقيق أم خدود كواعب ... بدت وهى حمر من صباغ «1» حيائها وقال آخر: انظر إلى منظر يلهيك منظره ... بمثله فى البرايا يضرب المثل نار تلوح على الأغصان فى شجر ... لا الماء يطفى ولا النّيران تشتعل وقال آخر يصف نارنجة نصفها أحمر ونصفها أخضر: وبنت أيك دنا من لمسها قزح «2» ... فلاح منها على أرجائها أثر يبدو لعينيك منها منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر كأنّ موسى كليم الله أقبسها ... نارا وجرّ عليها كفّه الخضر وقال الصّاحب بن عبّاد: بعثنا من النارنج ما طاب عرفه ... ونمّت على الأغصان منه نوافج «3» كرات من العقيان أحكم خرطها ... وأيدى النّدامى حولهنّ صوالج وقال أبو الحسن الصّقلىّ: تنعّم بنارنجك المجتنى ... فقد حضر السعد لمّا حضر فيا مرحبا بقدود الغصون ... ويا مرحبا بخدود الشجر كأنّ السماء همت بالنّضار ... فصاغت لها الأرض منه أكر

وقال ابن المعتزّ: كأنّما النّارنج لمّا بدت ... صفرته فى حمرة كاللهيب وجنة معشوق رأى عاشقا ... فاصفرّ ثمّ احمرّ خوف الرّقيب وقال السّرىّ الرّفّاء: وبديعة أضحى الجمال شعارها ... صبغ الحيا «1» صبغ الحياء إزارها حلّت عقال نسيمها وتوشّحت ... وبالأرجوان وشدّدت أزرارها فالعين تحسر إن رأت إشراقها ... والنفس تنعم إن رأت «2» أخبارها فكأنّها فى الكفّ وجنة عاشق ... عبث الحياء بها فأضرم نارها محمولة حملت عجاجة عنبر ... فإذا سرى ركب النّسيم أثارها أمنت على أسرارها ريح الصّبا ... وهنا «3» فضيّعت الصّبا أسرارها وكأنّما صافحت منها جمرة ... أمنت يمينك حرّها وشرارها ما أحسب النّارنج إلّا فتنة ... هتك الزّمان لناظر أستارها عشقت محاسنه العيون فلو رنت ... أبدا اليه ما قضت أو طارها وقال آخر «4» : سقيا لأيّامنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا

كأنّ نارنجها «1» يلوح على ... أغصانها حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أحمر قناديلا وقال آخر «2» : وأشجار نارنج كأنّ ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدّرّ تطالعنا بين الغصون كأنّها ... خدود غوان «3» فى ملاحفها الخضر أتت كلّ مشتاق بريّا حبيبه ... فهاجت له الأحزان من حيث لا يدرى وقال آخر: حدائق أشجار كإقبال دولة ... عليك أو البشرى أتت لقعيد أنارت بنارنج لريّاه «4» فى الحشا ... مواقع وصل من فؤاد عميد اذا ما حنى أغصانه فكأنّه ... صوالجة الأصداغ فوق خدود وقال آخر: وأغصان مقوّمة حسان ... ومنها ما يرى كالصّولجان كأنّ بها ثديّا ناهدات ... غلائلها صبغن بزعفران وقال آخر «5» يصف نارنجا مختلف الألوان: رياض من النّارنج كالأمن والمنى ... جمعن ومثل النّوم بعد التسهّد

تجلّى العشا عن ناظرى كلّ ناظر ... وتجلو الصّدى عن قلب ذى اللّوعة الصّدى فمن أخضر غضّ النّبات كأنّه ... مشارب مينا «1» أو حقاق زمرّد ومن أحمر كالأرجوان إذا بدا ... وكالرّاح صرفا أو كخدّ مورّد ومن أصفر كالصّبّ، يبدو كأنّه ... كرات أديرت من خلاصة عسجد اذا لاح فى أشجاره «2» فكأنّه ... شموس «3» عقيق فى «4» قباب زبرجد وقال آخر: أهدى لنا النّارنج عند قطافه ... أكرا تروق بمنظر وبمنخبر ببواطن من ياسمين أبيض ... وظواهر من جلّنار أحمر وقال آخر: كانت هديّته لنا نارنجة ... كالفهر «5» لفّت فى حرير أصفر صفراء تحسب أنّها قد جدّرت ... فترى ببهجتها «6» انتثار مجدّر «7» فسألتها عمّا يغيّر لونها ... قالت سألت فخذ جواب مخبّر كنّا حبائب فوق غصن ناعم ... أوراقه مثل الفرند الأخضر

وأما ما وصف وشبه به الليمو

فرمى الزّمان وصالنا بتفرّق ... فلذاك صفرة وجنتى وتغيّرى وقال ابن وكيع التّنّيسىّ: انظر إلى النّارنج فى بهجاته ... يلوح فى أفنان هاتيك الشّجر مثل دبابيس «1» نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر وقال أبو الحسن الصّقلّىّ: ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد اذا ميّلتها الرّيح مالت كأكرة ... بدت ذهبا فى صولجان زمرّد وأمّا ما وصف وشبّه به اللّيمو «2» - فمن ذلك قول الشاعر: انظر إلى اللّيمون فى شكله ... وحسنه لمّا بدا للعيان كأنّه بيض دجاج وقد ... لطّخه العابث بالزّعفران وقال السرىّ الرّفّاء: واصطبحناها على نهر ... بصفو الماء يجرى ظلّلته شجرات ... عطرها أطيب عطر فلك أنجمه اللّيمو ... فمن بيض وصفر أكر من فضّة قد ... شابها تلويح تبر وقال آخر: يا ربّ ليمونة حيّا بها قمر ... حلو المقبّل ألمى بارد الشّنب «3» كأنّها كرة من فضّة خرطت ... فاستودعوها غلافا صيغ من ذهب

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الرابع فيما لثمره نوى لا يؤكل

الباب الثانى من القسم الثّانى من الفنّ الرابع فيما لثمره نوى لا يؤكل ويشتمل هذا الباب على عشرة «1» أصناف، وهى النّخل وما يشبهه، وهو النّارجيل، والفوفل والكاذىّ «2» والخزم، ثمّ الزّيتون والخرنوب والإجّاص والقراسيا «3» والزّعرور والخوخ والمشمش والعنّاب والنّبق. فأمّا النّخل وما قيل فيه - فقال الله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ ؛ وقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم؛ فحدّثونى ما هى» ؟ فوقع الناس فى شجر البوادى؛ قال عبد الله: ووقع فى نفسى أنّها النّخلة، فاستحييت؛ ثمّ قالوا: حدّثنا ما هى يا رسول الله؟ قال: «هى النخلة» ؛ قال عبد الله: فحدّثت أبى بما وقع فى نفسى؛ فقال: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا. وفى لفظ عنه، قال: كنّا عند النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأتى بجمّار، فقال: «إنّ من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم» الحديث.

فصل فى نعوتها

وفى لفظ عنه- رضى الله عنه- أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم» وساق الحديث. وللنّخلة أسماء نطقت بها العرب من حين تبدو صغيرة إلى أن تكبر، وكذلك الرّطب من حين يكون طلعا إلى أن يصير رطبا؛ تقول العرب لصغار النخل: الجثيث والهراء والودىّ والفسيل والأشاء «1» . وقال الثّعالبىّ فى (فقه اللّغة) : إذا كانت النخلة صغيرة فهى الفسيلة والوديّة. فاذا كانت قصيرة تناولها اليد فهى القاعد؛ «وفى «2» (غريب المصنّف) : العضيد، والجمع: عضدان» . فإذا صار لها جذع [لا «3» ] يتناول منه المتناول فهى جبّارة. فإذا ارتفعت عن ذلك فهى الرّقلة والعيدانة. فاذا زادت فهى باسقة. فاذا تناهت فى الطّول مع انجراد فهى سحوق. فصل فى نعوتها اذا كانت النخلة على الماء فهى كارعة ومكرعة. فاذا حملت فى صغرها فهى مهتجنة. فاذا كانت تدرك فى أوّل النخل فهى بكور. فاذا كانت تحمل سنة وسنة

لا تحمل فهى سنهاء. فاذا كان بسرها ينتثر وهو أخضر فهى خضيرة. فاذا دقّت من أسفلها وانجرد كربها فهى صنبور. فاذا مالت فبنى تحتها دكّان تعتمد عليه فهى رجبيّة «1» . فاذا كانت منفردة عن أخواتها فهى عوانة. ويقال للطّلع «2» : الكافور، والضّحك «3» ، والإغريض. فإذا انعقد سمّته «4» السّياب «5» . فاذا اخضرّ قبل أن يشتدّ سمّته الجدال. فإذا عظم فهو البسر. فإذا صارت فيه طرائق فهو المخطّم. فاذا تغيّرت البسرة إلى الحمرة فهى شقحة. فاذا ظهرت الحمرة فهو الزّهو «6» ، وقد أزهى. فاذا بدت فيه نقط «7» من الإرطاب نصفها فهى المجزّع «8» . فإذا بلغ ثلثيها فهى حلقانة. فإذا جرى الإرطاب فيها فهى منسبتة. وللشّعراء فى النّخل أوصاف، فمن ذلك ما أنشده الأصمعىّ «9» : غدت سلمى تعاتبنى وقالت ... رأيتك لا تريغ «10» لنا معاشا

فقلت لها: أما يكفيك دهم ... اذا أمحلت «1» كنّ لنا رياشا «2» بوارك ما يبالين اللّيالى ... ضربن «3» لنا وللأيّام جاشا «4» اذا ما الغاديات ظلمن «5» مدّت ... بأسباب ننال بها انتعاشا ترى أمطاءها «6» بالبسر هدلا «7» ... من الألوان ترتعش ارتعاشا وعن الشّعبىّ قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إنّ «8» رسلى أخبرونى أنّ بأرضك شجرة كالرجل القائم تفلّق عن مثل آذان الحمر، ثمّ يصير مثل اللّؤلؤ، ثم يعود كالزّمرّد الأخضر، ثمّ يصير كالياقوت الأحمر والأصفر

ثمّ يرطب فيكون كأطيب فالوذ «1» اتّخذ، ثمّ يجفّ فيكون عصمة «2» للمقيم، وزادا للمسافر فإن كان رسلى صدقونى فهى الشجرة الّتى نبتت على مريم بنت عمران. فكتب اليه عمر- رضى الله عنه-: إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتّخذ عيسى إنّ رسلك صدقوك، وهى الشجرة الّتى نبتت على مريم، فاتق الله، ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله. أخذ عبد الصّمد بن المعدّل هذه التشبيهات، فقال يصف النّخل فى أرجوزة أوّلها: حدائق ملتفّة الجنان ... رست بشاطى ترع ريّان تمتار «3» بالأعجاز للأذقان ... لا ترهب المحل من الأزمان إن هى أبدت زينة المردان «4» ... لا حت بكافور على إهان «5» يطلع منها كيد الإنسان ... إذا بدت ملمومة البنان علّت بورس «6» أو بزعفران ... حتّى اذا شبّه بالآذان

من حمر الوحش لدى العيان ... شقّقه علجان ماهران عن لؤلؤ صيغ على قضبان ... مصوغة «1» من ذهب خلصان ثمّ يرى للسّبع والثّمانى ... قد حال مثل الشّذر «2» فى الجمان يضحك عن مشتبه الأقران ... كأنّه فى ناضر الأغصان زمرّد لاح على تيجان ... حتّى إذا تمّ له شهران وانسدلت عثاكل القنوان ... كأنّها قضب من العقيان فصّلن بالياقوت والمرجان ... رأيته مختلف الألوان من قانىء أحمر أرجوانى ... وفاقع أصفر كالنّيران مثل الأكاليل على الغوانى «3» ونحوه قول أبى هلال العسكرىّ: ونخيل وقفن فى معطف الرّم ... ل وقوف الحبشان فى التّيجان شربت بالأعجاز حتّى تروّت ... وتراءت بزينة الرّحمن طلع الطّلع فى الجماجم منها ... كأكفّ خرجن من أردان فتراها كأنّها كمت «4» الخي ... ل توافت مصرّة «5» الآذان

أهو الطّلع أم سلاسل عاج ... حملت فى سفائن العقيان ثمّ عادت شبائها تتباهى ... بأعل شبائه أقران خرزات من الزّبرجد خضر ... وهبتها السّلوك للقضبان ثمّ حال النّجار واختلف الشّكل ... فلاحت بجوهر ألوان بين صفر فواقع تتباهى ... فى شماريخها وحمر قوانى وقال النّمر بن تولب: ضربن العرق فى ينبوع عين ... طلبن معينه حتّى روينا بنات الدّهر لا يخشين محلا ... اذا لم تبق سائمة بقينا كأنّ فروعهنّ بكلّ ريح ... عذارى بالذوائب ينتضينا «1» وقال النابغة: صغار النّوى مكنوزة ليس قشرها ... اذا طار قشر التّمر عنها بطائر من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأعجازها قبل استقاء الحناجر وقال السّرىّ الرّفّاء: وكأنّ ظلّ النّخل حول قبابها ... ظلّ الغمام إذا الهجير توقّدا من كلّ خضراء الذّوائب زيّنت ... بثمارها جيدا لها ومقلّدا خرقت أسافلهنّ أعماق الثّرى ... حتّى اتّخذن البحر فيه «2» موردا

شجر إذا ما الصّبح أسفر لم ينح ... للأمن طائره ولكن غرّدا وقال شهاب الدّين الشّطنوفىّ: كأنّ النّخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسنا قباب زبرجد وقد علّقت من حولها [زينة لها] ... قناديل ياقوت بأمراس عسجد وأمّا الجمّار وما قيل فيه- فالجمّار، هو رأس النّخل، واذا قطعت الجمّارة لا تعيش النخلة بعدها أبدا. وقال الشيخ الرئيس: طبعه بارد فى الثانية، يابس فى الأولى؛ وهو قابض؛ وينفع من خشونة الحلق؛ ويقبض الإسهال والنّزف؛ وينفع من لسع الزّنبور ضمادا. وقال شاعر يصفه: جمّارة كالماء تبدو لنا ... ما بين أطمار من اللّيف جسم رطيب اللّمس لكنّه ... قد لفّ فى ثوب من الصّوف وأمّا ما وصف به الطّلع- فمن ذلك قول كشاجم: أفدى الّذى أهدى إلينا طلعة ... أهدت إلى قلب المشوق بلابلا فكأنّما هى زورق من صندل ... قد أو دعوه من اللّجين سلاسلا وقال ابن وكيع: طلع هتكنا عنه أستاره ... من بعد ما قد كان مستورا كأنّه لمّا بدا ضاحكا ... فى العين تشبيها وتقديرا [درج «1» من الصّندل قد أودعت ... فيه يد العطّار كافورا]

وقال محمّد بن القاسم العلوىّ: وطلع هتكنا عنه جيب قميصه ... فيا حسنه فى لونه حين هتّكا حكى صدر خود من بنى الرّوم هزّها ... سماع فشقّت عنه ثوبا ممسّكا وقال كشاجم «1» : ولا بس ثوبا من الحرير ... مضمّخ الظاهر بالعبير مضمّن الباطن ثوب «2» نور ... يفترّ عن مكنونة الثّغور كأنّما فتّ من الكافور وقال أيضا: قد أتانا الّذى بعثت إلينا ... وهو شىء فى وقتنا معدوم طلعة غضّة أتتنا تحاكى ... سفطا فيه لؤلؤ منظوم وقال الرّبيع «3» بن أبى الحقيق اليهودىّ يرثى كعب بن الأشرف: ذو «4» نخيل فى تلاع جمّة ... تخرج الطّلع كأمثال الأكف

وأما البلح والبسر والتمر

وأمّا البلح والبسر والتّمر - فروى عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تصبّح كلّ يوم سبع تمرات- يعنى «1» عجوة- لم يضرّه فى ذلك اليوم سمّ ولا سحر» خرّجه البخارىّ فى صحيحه. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: إنّ طبعهما «2» بارد يابس فى الثانية؛ والبسر أقبض من القسب «3» ؛ واذا أكل وشرب الماء على أثره نفخ، وان كان أوّل ما يحلو قرقر أكثر، ويحدثان السّدد فى الأحشاء؛ وطبيخ البسر يسكّن اللهيب مع حفظ الحرارة الغريزيّة؛ والإكثار منهما يولّد فى البدن أخلاطا غليظة؛ والبسر يصدّع، وكثيره يسكر؛ وهما رديئان للصّدر والرّئة، ويحدثان السّدد فى الكبد، وهضمهما بطىء؛ والهشّ أقلّ هضما؛ وغذاؤهما يسير، وكلّ واحد منهما يعقل البطن. قال: والبلح يغزر البول؛ واذا شرب بخلّ عفص منع سيلان الرّحم ونزف البواسير؛ وكثرة استعمالهما توقع فى القشعريرة «4» . وقد وصف الشعراء البلح والبسر فى أشعارهم - فمن ذلك ما قاله ابن وكيع التّنّيسىّ فى البلح: أما ترى النّخل طارحا «5» بلحا ... جاء بشيرا بدولة الرّطب

كأنّه والعيون تنظره ... إذا بدا زهره على القضب مكاحل من زمرّد خرطت ... مقمّعات الرءوس بالذّهب وقال عبد الصمد: كأنّه فى ناضر الأغصان ... زمرّد لاح على تيجان وقال كمال الدّين بن بشائر الإخميمىّ- وهو عصرىّ-: حيّا بها رائحة ... كالمسك للمستنشق وقال شبّهها لنا ... فقلت غير مطرق مكحلة مخروطة ... من دهنج «1» موثّق سدادها من ذهب ... وميلها من ورق «2» وقال شاعر يصف البسر الأحمر: أما ترى النّخل حاملات ... بسرا حكى لونه الشّقيقا كأنّما خوصه عليه ... زمرّد مثمر عقيقا [وقال ابن «3» المعتزّ] : كقطع الياقوت يانعات ... بخالص التّبر مقمّعات [وقال فى «4» الأصفر] : أما ترى البسر الّذى ... قد حاز كلّ العجب كيف غدا فى لونه ... كعاشق مكتئب مكاحل من فضّة ... قد طليت بالذّهب

ووصفوا الرّطب والتّمر- فمن ذلك ما قاله محمد بن شرف القيروانىّ: ومطبوخ بغير عقيد «1» نار ... عزمت على جناه بآبتكار توابيت تبدّت من عقيق ... مقمّعة بمسبوك النّضار ترى لصفاء جوهرها نواها ... كألسنة العصافير الصّغار وقال ابن الرّومىّ: بعثت ببرنىّ «2» جنىّ كأنّه ... مخازن تبر قد ملئن من الشّهد مختّمة الأطراف تنقدّ قمصها ... عن العسل الماذىّ «3» والعنبر الهندى تنقّل من خضر الثياب وصفرها ... الى حمرها ما بين وشى الى برد فكم لبثت فى شاهق لا ترى به ... ولا تجتنى باللّحظ إلّا من البعد ألّذ من السّلوى وأحلى من المنى ... وأعذب من وصل الحبيب على الصّمدّ وقال محمد بن شرف القيروانىّ [فى التّمر «4» ] : أما ترى التّمر يحكى ... فى الحسن للنّظّار مخازنا من عقيق ... قد قمّعت بنضار كأنّما زعفران ... فيه مع الشّهد جارى يشفّ مثل كئوس ... مملوءة من عقار

فأما النارجيل

[وحيث «1» ] انتهينا من وصف النخل وثمرته على اختلافها إلى ما وصفناه فلنذكر أعجوبة نقلها محمّد بن علىّ «2» بن يوسف بن جلب راغب فى تاريخ مصر فى حوادث سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة فقال: اتّفق يوم النّوروز «3» فى هذه السنة لسبع خلون من شهر ربيع الأوّل، فأكل الناس الرّطب قبل النّوروز، ولم يبق فى النّخل شىء من الرّطب، ثمّ حمل النّخل حملا ثانيا، فأكل الناس البلح والبسر مرّة ثانية؛ ولم يتّفق مثل هذا فى سنة من السّنين، ولا سمع فى تاريخ إلى وقتنا هذا. ولنصل ذكر النخل بما يشبهه، وهو النّارجيل والفوفل والكاذىّ والخزم. فأمّا النّارجيل - ويسمّى الرّانج، وسمّاه ابن سينا الجوز الهندىّ، وهو المشهور من أسمائه على ألسنة العوامّ- فهى نخلة طويلة تميل بمرتقيها حتّى تدنيه من الأرض للينها، ولها أقناء، يكون فى القنو الكريم ثلاثون نارجيلة، ولها لبن يسمّى

وأما الفوفل

الأطواق «1» ، يشرب، حلو، يسكر سكرا معتدلا؛ وأهل الهند يصنعون من النّارجيل الرّطب سكّرا، إلّا أنّه لا ييبس ويكون كالرّمل «2» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فيه: جيّده الطرىّ الشديد البياض؛ ويجب أن يؤخذ عنه قشر لبّه. قال: وطبعه حارّ فى أوّل الثانية، يابس فى الأولى، وفيه رطوبة فضليّة؛ والرّطب منه رطب فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه: هو ثقيل، غير ردىء الغذاء؛ وقشر لبّه لا ينهضم. قال: ويجب ألّا يتناول عليه الطعام إلّا بعد ساعة؛ ودهنه الطرىّ أفضل كيموسا من السّمن، ولا يلزج المعدة؛ ودهنه للبواسير، وخصوصا دهن العتيق منه، لا سيّما مع دهن المشمش مشروبا من كلّ واحد مثقال. وقال كشاجم يصفه: وذات قشر أسود حشوها ... كافورة موموقة المنظر قد نشرت فى رأسها وفرة ... تسترها عن ناظر المبصر كأنّها جمجمة ألبست ... ذوائبا من خالص العنبر وأمّا الفوفل - فقال أبو حنيفة: هى نخلة مثل نخلة النّارجيل، تحمل كبائس فيها الفوفل مثل التّمر، فمنه أسود، ومنه أحمر. وقال الشيخ الرئيس: قوّة الفوفل قريبة من قوّة الصّندل؛ وهو مبرد بقوّة، قابض؛ وهو جيّد للأورام الحارّة الغليظة؛ وموافق لمن به التهاب فى عينه.

وأما الكاذى

وأمّا الكاذىّ «1» - فقال «2» : هى نخلة، إلّا أنّها لا تطول طول النّخل، فاذا أطلعت الطّلعة قطعت قبل أن تنشقّ، ثمّ تلقى فى الدّهن، وتترك حتّى يأخذ الدّهن رائحتها، فيتطيّب به، فإن تركت الطّلعة حتّى تنشقّ صار بلحا، ويتناثر ولم توجد له رائحة. وأمّا الخزم «3» - فقال «4» : هو شجرة كالدّوم، له أقناء وبسر أسود إذا أينع إلّا أنّه مرّ عفص لا يأكله الناس؛ وتتّخذ من خوصه وعسبه «5» الحبال، فلا يكون شىء أقوى منها. وأمّا الزّيتون وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الزّيتون يغذو قليلا؛ وورق البرّىّ جيّد للدّاحس «6» ، ويمنع العرق مسحا؛ وصمغ البرّىّ ينفع من

وأما الخرنوب وما قيل فيه

الجرب المتقرّح والقوابى «1» ، وينفع الغشاوة والبياض، ويجلو العين ووسخ قروحها ويخرج الجنين. وماء الزّيتون المملّح يحقن به لعرق النّسا؛ وورقه يطبخ بماء الحصرم حتّى يصير كالعسل، وتطلى به الأسنان المتأكّلة فينفعها «2» ؛ وعصارة ورقه للجحوظ. قال: والزّيتون الأسود مع نواه من جملة البخورات للرّبو وأمراض الرئة؛ والزّيتون الغليظ المملوح يثير الشهوة، ويقوّى المعدة، ويولّد كيموسا قابضا؛ والمخلّل أقبل الجميع للهضم وأسرعه. وقال ابن وكيع يصفه: انظر إلى زيتوننا ... فيه شفاء المهج بدا لنا كأعين ... شهل «3» وذات دعج مخضرّه زبرجد ... مسودّه من سبج «4» وأمّا الخرنوب وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: أصلحه الخرنوب الشامىّ المجفّف؛ وهو قابض، والرّطب منه مطلق. قال: واذا دلكت الثآليل

بالخرنوب النّبطىّ الفجّ دلكا شديدا أذهبها ألبتّة؛ والمضمضة بطبيخه جيّدة لوجع الأسنان؛ والرّطب من الشامىّ ردىء «1» للمعدة لا ينهضم؛ واليابس أبطأ انهضاما. قال: والجلوس فى طبيخه يقوّى المعدة «2» ؛ وفيه إدرار؛ والنّبطىّ نافع من سيلان الطّمث المفرط أكلا واحتمالا «3» . وقال جالينوس: ليت «4» هذه الشجرة لم تجلب إلى بلاد «5» أخرى. وحكى أنّ سليمان عليه السّلام كان من عادته أن يعتكف فى البيت المقدّس المدد الطّوال، وكانت تخرج له فى كلّ يوم من محرابه شجرة، فيسألها عن اسمها فتخبره، فخرجت له شجرة الخرنوب، فسألها عن اسمها، فأخبرته، فبكى، وقال: نعيت إلىّ نفسى؛ فقيل له فى ذلك، فقال: الخرنوب خراب؛ ومات بعد ذلك بقليل؛ وقال شاعر فيه: لمّا أتى الخرنوب فى طبق ... حنّت اليه النّفوس والمهج كأنّه فى كمال حالته ... حبّ عقيق أصدافها سبج

وأما الإجاص وما قيل فيه

وأمّا الإجّاص «1» وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: إن خلطتم اليبروح «2» بورق العنّاب ومثل نصف وزن اليبروح كندسا «3» ، وزرعتموه فى أىّ البلاد، خرج عن ذلك شجر الإجّاص الحامض؛ وإن أردتموه حلوا فاخلطوا مع اليبروح خمير دقيق الشعير والحنطة مختلطين، وقد طال اختمارهما حتى حمضا، فإنّه يخرج عنه شجر الإجّاص الحلو، وذلك بعد أن يخلط بما تقدّم، ومن الخمر الحديث برطل. وقال الشيخ الرئيس فى الإجّاص: البستى منه أقوى من الأسود، والأصفر أقوى من الأحمر، والأبيض الكبير «4» ثقيل قليل الإسهال، والأرمنىّ أحلى الجميع

وأشدّه إسهالا، وأجوده الكبار السّمينة؛ وطبعه بارد فى أوّل الثانية رطب فى آخرها. وقال فى أفعاله وخواصّه: صمغه ملطّف قطّاع مغرّ؛ وفى الدّمشقىّ عقل وقبض عند ديسقوريدس؛ وقال «1» جالينوس: والذى لم ينضج فيه قبض وغذاؤه قليل، وليؤكل قبل الطعام، ويشرب المرطوب بعده ماء العسل والنّبيذ وصمغه ملحم للقروح، وبالخلّ يقلع القوباء. وخاصّة إن كان معه عسل أو سكّر وخصوصا فى الصّبيان؛ وورقه اذا تمضمض بمائه منع من النوازل الى اللّوزتين «2» واللهاة؛ واذا اكتحل بصمغه قوّى البصر؛ والمزّ «3» منه يسكّن التهاب القلب، وهو أشدّ قمعا للصّفراء؛ والحلو منه يرخى المعدة بترطيبه ويبردها؛ وبالجملة لا يلائمها؛ والحلو منه أشدّ إسهالا للصّفراء؛ والرّطب أشدّ إسهالا من اليابس؛ والدّمشقىّ يعقل البطن عند بعضهم؛ والبرّىّ ما دام لم ينضج جدّا «4» ففيه قبض إجماعا. وقال جالينوس: إنّ ديسقوريدس أخطأ فى قوله: إنّ الدّمشقىّ يقبض، بل هو مسهل وصمغه يفتّت الحصاة، وماؤه يدرّ الطّمث، وكلّما صغر كان أقلّ إسهالا. وقال سليمان «5» بن بطّال الأندلسىّ يصفه: بعثت ما يندر لكنّه ... فى وصفه النّاعت لم يبرر «6»

ومما وصف به القراسيا

جيشا من الزّنج ولكنّه ... جيش متى يلقى العدا يقهر ينفى لك الصّفراء مهزومة ... والزّنج أعداء بنى الأصفر وقال آخر: كأنّما الإجّاص فى صبغه ... مسترق فى اللّون صبغ المهج لم يخط «1» فى لون وفى منظر ... مستحسن الوصف وعرف «2» أرج قطائع «3» العنبر ملمومة ... أو خرزات خرطت من سبج «4» وممّا وصف به القراسيا «5» - قال شاعر: وحبوب كأنّها حدق الأع ... ين سود دموعهنّ دماء مائلات «6» مثل النّجوم علينا ... فى بروج لها الغصون سماء واذا ما نثرتها ففصوص ... صبغتها بمائها الظّلماء من يذقها يذق رضاب غزال ... فهى والخمر فى المذاق سواء

وأما الزعرور وما قيل فيه

وأمّا الزّعرور وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الزّعرور يسمّى مثلّث العجم «1» ، ومنه نوع تسمّيه اليونانيّون هيقيليمون «2» ، وربّما سمّوه التّفاح البرّىّ؛ وشجره يشبه شجر التّفاح حتّى فى ورقه، إلّا أنّه أصغر منه، عفص الطّعم؛ وهو قابض، يقمع الصّفراء، ويحبس السيلانات أكثر من كلّ ثمرة. وفى وصفه يقول ابن رافع: كأنّما الزّعرور لمّا بدا ... فى حسن تقدير ومرأى أنيق جلاجل مخضوبة عندما «3» ... أو خرزات خرطت من عقيق يضوع من ريّاه إمّا هفا ... به نسيم الرّيح مسك فتيق

وأما الخوخ وما قيل فيه

وقال أيضا فيه: انظر إلى زعرورنا المنعوت ... نكهته كالعنبر المفتوت كأنّه فى الوصف والنّعوت ... بنادق من أحمر الياقوت وأمّا الخوخ وما قيل فيه - فالشاميّون يسمّونه الدّراقن-؛ قال الشيخ الرئيس: طبع الخوخ بارد فى أوّل الثانية، رطب فى الأولى دون آخرها، ورطوبته سريعة العفونة؛ وهو مليّن، وفيه قبض ما، وأقبضه المقدّد، وفيه منع للسّيلان؛ والفجّ منه قابض أيضا؛ واذا قطر ماء ورقه فى الأذن قتل الدّيدان؛ ودهنه ينفع من الشّقيقة «1» وأوجاع الأذن الحارّة والباردة؛ والنّضيج منه جيّد للمعدة «2» ، وفيه تشهية للطّعام؛ ويجب ألّا يؤكل على غيره فيفسد عليه ويفسده، بل يقدّم على الطّعام؛ وقديده بطىء الهضم ليس بجيّد الغذاء. قال: واذا ضمدت بورقه السّرّة قتل ديدان البطن، وكذلك إن شربت عصارة فقّاحه «3» وورقه؛ والنّضيج منه يليّن البطن؛ والفجّ عاقل. قال: وقد قال بعضهم: إنّه يزيد فى الباه، ويشبه أن يكون ذلك للأبدان الحارّة «4» . وأمّا ما وصف به من الشّعر - فمن ذلك قول شاعر: فى الخوخ أعجوبة لناظره ... ما مثلها جاء فى الأحاديث

كأنّه وجنة الحبيب وقد ... أثّر فيها قرص البراغيث وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: أهدى الينا الزمان خوخا ... منظره منظر أنيق من كلّ مخصوصة بحسن ... معناه فى مثلها دقيق صفراء حمراء مستفيد ... بهجتها «1» التّبر والعقيق ذات أديمين ذا بهار «2» ... لمجتنيه، وذا شقيق «3» كوجنة ألبست خلوقا «4» ... فزال عن بعضها الخلوق

وأما المشمش وما قيل فيه

وقال أبو بكر بن القرطبيّة: وطيّب الرّيق عذب آب فى آب «1» ... وزار مشتملا فى زىّ أعراب فى مخمل الثّوب لم تخمل رآسته ... بين الفواكه من نقص ولا عاب خالسته نظرى فآحمرّ من خجل ... ثمّ انثنى معرضا عنّى كمرتاب من اسمه فيه مقلوبا ومبتدأ ... أربى على اللّوز فى تطريز جلباب وقال أيضا: وبنت ندى مخطّطة الأعالى ... بمجمرّ كلون الأرجوان كوجنة غادة خافت رقيبا ... فغطّتها بمجمرّ البنان وقال أبو هلال العسكرىّ: وخوخة ملء يد الجانية ... تملك لحظ الأعين الرّانيه مصفرّة الوجنة محمرّة ... كأنّها عاشقة ساليه وأمّا المشمش وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: أجود المشمش الأرمنىّ، فإنّه لا يسرع إليه الفساد ولا الحموضة؛ واذا أكل المشمش فيجب أن يؤخذ من المصطكا والأنيسون بالسويّة وزن درهم أو درهمين فى خمر صرف أو نبيذ زبيب أو نبيذ عسل. قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية، ودهن نواه حارّ يابس فى الثانية «2» ، وخلطه سريع العفونة؛ وهو «3» يسكّن العطش؛ ودهن نواه ينفع

وقد وصفه الشعراء وشبهوه

من البواسير؛ وهو يولّد الحمّيات لسرعة تعفّنه؛ ونقيع المقدّد منه ينفع من الحمّيات الحارّة. وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول بعض الشعراء: افدى حبيبا جاءنى متحفا ... بمشمش أحلى من السّكّر فخلته حين تأمّلته ... بنادقا من ذهب أحمر وقال ابن وكيع: بدا مشمش الأشجار يذكو شهابه ... على خضر أغصان من الرّىّ ميّد حكى وحكت أشجاره فى اخضرارها ... جلاجل تبر فى قباب زبرجد وقال ابن رشيق: كأنّما المشمش لمّا بدت ... أشجاره وهو بها يلتهب خضر قباب الملك حفّت بها ... جلاجل مصقولة من ذهب وقال ابن المعتزّ: ومشمش بان منه أعجب العجب ... يدعو النفوس الى اللّذّات والطّرب كأنّه فى غصون الّدوح حين بدا ... بنادق خرطت من خالص الذّهب وقال ابن الرّومىّ: قشر من الذّهب المصفّى حشوه ... شهد لذيذ طعمه للجانى ظلنا لديه ندير فى كاساتنا ... خمرا تشعشع «1» كالعقيق القانى وكأنّما الأفلاك من طرب بنا ... نثرت كواكبها على الأغصان

وأما العناب وما قيل فيه

وقال أيضا يذمّه: اذا ما رأيت الدّهر بستان مشمش ... فأيقن يقينا أنّه لطبيب يغلّ له ما لا يغلّ لربّه ... يغلّ مريضا حمل كلّ قضيب وأمّا العنّاب وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: وإن أردتم العنّاب الكبار فخذوا بطّيخة هنديّة فقوّروا رأسها من جهة الرأس، واحشوا اليبروح «1» فيها، وأعيدوا القوارة فى موضعها، وصبّوا اللّبن الحامض بزبده عليها وازرعوها فى الأرض، وعمّقوا لها الحفر قليلا، واسقوها فى أوّل زرعها، فإنّها تخرج شجرة تحمل عنّابا كبارا كأمثال الإجاص اللّطيف. وقال الشيخ: أجود العنّاب أعظمه؛ وطبعه بارد إلى الأولى معتدل فى اليبوسة والرطوبة، وهو إلى قليل رطوبة؛ وينفع حدّة الدّم الحارّ. قال: أظنّ ذلك لتغليظه «2» الدّم، وتلزيجه إيّاه. قال: والّذى يظنّ من أنّه يصفّى الدّم ويغسله ظنّ لست أميل اليه؛ وغذاؤه يسير، وهضمه عسير. قال: والقول الجيّد فيه ما قاله جالينوس: «ما وجدت للعنّاب فى حفظ الصّحّة ولا إزالة المرض أثرا، لكن وجدته عسير الهضم، قليل الغذاء» . قال الشيخ: والعنّاب ينفع الصّدر والرّئة، وهو ردىء للمعدة. وقيل: إنّه نافع لوجع الكلية والمثانة؛ وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول ابن القرطبيّة: أما ترى شجر العنّاب موقرة ... بكلّ أحمر لمّاع من الخرز

وقد تدلّت به الأغصان مائلة ... مثل العثا كيل من صدر إلى عجز وقد حمته عن الأيدى أسنّتها ... حذار مفترس أو خوف منتهز وقال أبو طالب المأمونىّ: يروقنى العنّاب ... فبى اليه انصباب «1» اذ لاح لى منه أطرا ... ف من أحبّ الرّطاب يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب وقال ابن رافع: أحبب بعنّاب بدا أنيق ... كمثل لون وجنة المعشوق أو خرز لمّت من العقيق ... أو كقلوب الطّير فى التحقيق جاءت بها شغواء «2» رأس نبق «3» ... كأنّما اشتقّ من الشّقيق أو كان يسقى بجنى الرّحيق ... أحلى من السّكّر فى الحلوق فى نكهة العنبر والمخلوق وقال أيضا فيه: كأنّما العنّاب لمّا بدا ... يلوح فى أعطاف غصن أنيق تطريف من تطريفها من دمى ... أو خرزات خرطت من عقيق أو كقلوب الطّير جاءت بها ... أفراخها شغواء فى رأس نيق وقال فيه: كأنّما العنّاب فى دوحه ... لمّا تناهى حسنه واستتم أقراط ياقوت تبدّت لنا ... أو انمل قد طرّفت بالعنم

وأما النبق وما قيل فيه

وأمّا النّبق وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: الرّطب من النّبق واليابس فيهما تجفيف وتلطيف؛ ودخان السّدر شديد القبض؛ والنّبق قابض وخصوصا سويقه «1» ، ويمنع تساقط الشّعر، ويطوّله، ويقوّيه، ويليّنه؛ وورق السّدر يليّن الورم الحارّ ويحلّله؛ وينفع من الرّبو وأمراض الرّئة؛ وهو مقوّ للمعدة عاقل للطبيعة؛ وينفع من نزف الحيض والطّمث، ومن قروح الأمعاء، خصوصا سويقه؛ وينفع من الإسهال الكائن بسبب ضعف المعدة. قال: والسّدر يحتقن بطبيخه، ويشرب لهذه العلل، ولسيلان الرّحم. وقد وصفه الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول شاعر: وأشجار نبق قد تكامل حسنها ... أتت بغريب فى الثّمار بديع فمن أحمر قان وأصفر فاقع ... ويانع مخضرّ كزهر ربيع [وقال آخر] : وسدرة كل يوم ... من حسنها فى فنون كأنّما النّبق فيها ... وقد بدا للعيون جلاجل من نضار ... قد علّقت فى الغصون وقال كشاجم من أبيات: فى ظلّ سدر مثمر دانى العذب ... فيه لأنواع من الطّير صخب اذا الرّياح زعزعت تلك الشّعب ... أهدى لنا بنادقا من الذّهب

وقال عبد الله بن المعتزّ: انظر إلى النّبق الّذى ... فيه الشّفاء لكلّ ذائق فكأنّه فى دوحه ... واللّيل ممدود السّرادق ذهب تبهرجه الصّيارف ... صار حبّا للمخانق «1» وقال أبو الفرج الببغاء: انظر إلى النّبق البديع المنظر ... الطّيّب الرّيح اللّذيذ المخبر أحلى مذاقا من مذاق السّكّر ... كخرز من كهرباء أصفر

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الرابع فيما ليس لثمره قشر ولا نوى

الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الرابع فيما ليس لثمره قشر ولا نوى ويشتمل هذا الباب على ثمانية أصناف، وهى العنب والتّين والتّوت والتّفّاح والسّفرجل والكمّثرى واللّفّاح والأترجّ فأمّا العنب وما قيل فيه - فشجرة العنب: الكرمة، والجمع كرم وكروم. والجفنة: الكرمة؛ ويقال فيها: الجفنة بفتحتين «1» . ويقال للقضيب منها: الحبلة وقيل: الحبلة، أصل الكرمة: والقضيب: السّرغ بغين معجمة، والجمع سروغ، رواه أبو عمرو عن ثعلب؛ وقال أبو بكر: السّرغ بعين غير معجمة: قضيب من قضبان الكرم. وفى القضيب الأبنة، والجمع أبن، وهى العقد التى تكون فيه. فاذا أخرج القضيب ورقه قيل: قد أطلع. فاذا ظهر حمله قيل: قد أحثر «2» وحثر. فاذا صار حصرما قيل: حصرم؛ ويقال للحصرم: الكحب، الواحدة كحبة؛ ولما تساقط من العنب: الهرور. فاذا اسودّ نصف حبّه «3» قيل: شطّر تشطيرا. فإذا اسودّت الحبّة إلّا دون نصفها قيل: قد حلقم يحلقم. فاذا اسودّ بعض حبّه قيل: قد أوشم

وأما طبعه

إيشاما؛ ولا يقال للعنب الأبيض: أوشم. فاذا فشا فيه الإيشام قيل: قد أطعم. فاذا أدرك غاية الإدراك قيل: ينع وأينع وطاب. والعنقود معروف ما دام عليه حبّه. فاذا أكل فهو شمراخ. ويقال لمعلق الحبّ من الشّمراخ: القمع؛ ويقال اذا جنى: قد قطف قطافا. فاذا يبس، فهو الزّبيب والعنجد «1» . والقطف: العنقود؛ وفى التنزيل: (قطوفها دانية) . قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: الأبيض أحمد من الأسود اذا تساويا فى سائر الصّفات من المائيّة والرّقّة والحلاوة وغير ذلك؛ والمتروك بعد القطف يومين أو ثلاثة خير من المقطوف فى يومه. وأمّا طبعه - فإنّ قشره بارد يابس بطىء الهضم؛ وحشوه حارّ رطب؛ وحبّه بارد يابس؛ والمقطوف منه فى الوقت ينفخ؛ والمعلّق حتّى يضمر قشره جيّد الغذاء، مقوّ للبدن؛ وغذاؤه شبيه بغذاء التّين فى قلّة الرّداءة وكثرة الغذاء، وان كان أقلّ من غذاء التّين؛ والنّضيج أقلّ ضررا من غير النّضيج؛ واذا لم ينهضم العنب كان غذاؤه فجّا نيئا؛ وغذاء العنب بحاله أكثر من غذاء عصيره، ولكنّ عصيره أسرع نفوذا وانحدارا. قال: والزّبيب صديق الكبد والمعدة؛ والعنب والزّبيب بعجمهما جيّد «2» لأوجاع المعى؛ والزّبيب ينفع الكلى والمثانة؛ والعنب المقطوف فى الوقت يحرّك البطن وينفخ؛ وكلّ عنب فإنّه مضرّ للمثانة؛ والله أعلم.

وأما ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا

وأمّا ما وصفت به الكروم والأعناب نظما ونثرا - فمن ذلك ما قاله مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وكرمة أعراقها فى الثّرى ... بعيدة المنزع والمضرب كريمة تلتفّ أغصانها الغضّة ... بالأقرب فالأقرب تمتاح من قعر الثّرى ريّها ... أشطانها «1» عفوا «2» ولم تجذب «3» ألقحها الرّيح وصوب الحيا ... والشمس فى المشرق والمغرب فأعقبت حائلها «4» بعد ما ... عاشت زمانا وهى لم تعقب ووضعتها «5» نخبا تنتمى ... الى أب أكرم به من أب وألحفتها خضر أوراقها ... مغذوّة بالحلب الأعذب وأسلمتها الشمس من صبغة ... التلويح للأغرب «6» فالأغرب فمهرت فيها «7» وجاءت بما ... يبهر من مستحسن معجب

وبدّلت خضر عناقيدها ... بالأدهم اليحموم «1» والأشهب واستسلفت ماء وجاءت به ... مدامة كالقبس الملهب ولم تزل بالرّفق حتّى اكتسى ... لجينها من صبغها المذهب فالأشقر المنتوج من نسلها ... سليل ذاك الأشهب المنجب ترى الثّريّا من عناقيدها ... تلوح فى أخضر كالغيهب ألقابها شتّى وألوانها «2» ... متّفقات النّجر والمنصب كم درّة فيها وكم جزعة «3» ... صحيحة التّدوير لم تثقب كأنّما الحالك منها لدى ... أبيضها اللامع كالكوكب جيلان «4» من زنج وروم غدت ... فى جنن خضر لها تختبى «5» كأنّما تحمل حبّاتها ... أكارع النّغران «6» بالمخلب أطيب بها حلّا «7» ومحظورة ... فى كرمها أو كأسها أطيب

وقال آخر «1» : رحنا إلى حديقة ... بكلّ حسن محدقه كأنّما عنقودها ... زنج جنوا فى سرقه فأصبحت رءوسهم ... على الذّرا معلّقه وقال ابن المعتزّ: ظلّت عنا قيدها يخرجن من ورق ... كما احتبى الزّنج فى خضر من الأزر وقال النّاجم: معرّش للكروم منتشر ... أوراقه الخضر دون مرآها فكلّ كرم هو السماء دجى ... وكلّ عنقوده «2» ثريّاها وقال الرّفّاء: يحملن «3» أوعية المدام كأنّما ... يحملنها بأكارع النّغران «4» وقال الصّاحب بن عبّاد: وحبّة من عنب قطفتها ... تحسدها العقود فى التّرائب كأنّها من بعد تمييزى لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب وقال ابن المعتزّ: وحبّة من عنب ... من المنى متّخذه كأنّها لؤلؤة ... فى بطنها زمرّذه

وقال البادنىّ «1» : وعناقيد تراها ... اذ تمايلن مميلا ركّبت فيها لآل ... لم تثقّب فتزولا وقال عبد المحسن الصورىّ يصف عنبا أهدى إليه وهو مغطّى بورقه: جاءنا منك تحفة أنا «2» منها ... أبدا فى تضاعف السّرّاء عنب أسود كأنّ عليه ... حللا من حنادس الظّلماء خلته فى خلال أوراقه الخض ... ر ولون اسوداده والصّفاء كقموع «3» على أنامل خود ... لحن من كمّ لاذة «4» خضراء وقال ابن الرومىّ يصف العنب الرّازقىّ «5» : كأنّ الرازقىّ وقد تباهى ... وتاهت بالعناقيد الكروم قوارير بماء الورد ملآى ... تشفّ ولؤلؤ فيها يعوم

وتحسبه من العسل المصفّى ... اذا اختلفت عليك به الطّعوم فكلّ مجمّع منه ثريّا ... وكلّ مفرّق منه نجوم وقال فيه أيضا: ورازقىّ مخطف «1» الخصور ... كأنّه مخازن البلّور قد ضمّنت مسكا إلى الشّطور ... وفى الأعالى ماء ورد جورى «2» لم يبق منه وهج الحرور ... إلّا ضياء فى ظروف نور له مذاق العسل المشور «3» ... ورقّة الماء على الصّدور ونفحة «4» المسك مع الكافور ... لو أنّه يبقى على الدّهور قرّط آذان الحسان الحور ... بلا فريد وبلا شذور وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهداه: قد بعثناه ينفع الأعضاء ... حين يجلو بلطفه السّخناء «5» جاء يزهى بمستشفّ رقيق ... خدع العين رقّة وصفاء تنفذ العين منه فى ظرف نور ... ملأته أيدى الشّموس ضياء اكسبته الأيّام برد هواء ... فهو جسم قد صيغ نارا وماء «6» منظر يبهج القلوب وطعم ... يسكر النفس شهده استمراء

وأما التين وما قيل فيه

فضل السابق المقدّم فى السّنخ «1» ... فأزرى بطعمه إزراء غير أنّى بعثت هذا غذاء ... يشتهيه الفتى وذاك دواء ملطف يبرد المزاج اذا جا ... ش بحرّ ويقمع الصفراء ومعين لواصل الصّوم يسرى ... برده فى الحشا ويروى الظّماء فاقبل النّزر شافعا لأياديك ... الّتى بعضها يفوت الثّناء وقال أبو طالب المأمونىّ يصف الزّبيب الطّائفىّ: وطائفىّ من الزّبيب به ... ينتقل الشّرب «2» حين ينتقل كأنّه فى الإناء أوعية ... من النّواجيد «3» ملؤها عسل وأمّا التّين وما قيل فيه - فقال ابن وحشيّة فى توليده: وإن خلطتم من اليبروح «4» الرّطب أصلا وفرعا، ومثل وزنه من العسل والشّمع، وزرعتموه فى الأرض كما تزرعون سائر الأشياء، وصببتم عليه وقت زرعه من الماء ما تعلمون أنه قد وصل اليه، ثمّ تركتموه ولم تزيدوه، خرج من ذلك التين الأصفر الشديد الحلاوة؛ وإن خلطتم باليبروح أربع ثومات وبصلة، وسحقتم الجميع، وزرعتموه

وأما المختار من التين وما قيل فى طبعه وخواصه

خرج عن ذلك التّين الأسود المتوسّط بين السواد الشديد، والأحمر، وهو الّذى ينفط «1» الفم. وأخبرنى من يرجع إلى قوله ويوثق بنقله من حكّام المسلمين أنّ بثغر الإسكندريّة صنفا من التّين أسود يسمّى الغرابىّ، اذا نضج يكتب بالبياض فربّما وجد فى بعضه مكتوبا اسم الله تعالى؛ وأخبرنى أيضا أنّه رأى ذلك كثيرا؛ وأخبرنى أنّه أخبر من ثقات أنّه فيه ما يوجد مكتوبا عليه: (لا إله إلّا الله محمد رسول الله) ؛ وسألته: هل يتحيّل على ذلك بشىء؟ فقال: لا، وأنّه خلقة من الله تعالى؛ فسبحان القادر على كلّ شىء. وأمّا المختار من التّين وما قيل فى طبعه وخواصّه - فقد قال الشيخ الرئيس: أجود التّين الأبيض ثمّ الأحمر ثمّ الأسود؛ والشديد النّضج منه خيره، وقريب من ألّا يضرّ؛ واليابس محمود فى أفعاله، إلّا أنّ الّدم المتولّد منه غير جيّد إلّا أن يكون مع الجوز فيجود كيموسه، وبعد الجوز اللّوز؛ وأخفّ الجميع الأبيض. وطبعه: الرّطب منه حارّ قليلا؛ ورطبه كثير المائيّة، قليل الدّوائيّة؛ والفجّ منه جلّاء إلى البرد ما هو إلّا لبنه؛ واليابس منه حارّ فى الأولى فى آخرها لطيف. قال: واليابس منه قوىّ الجلاء، منضج محلّل؛ واللّحيم أكثر إنضاجا؛ وفيه تغرية وتقطيع وتلطيف. قال: والتين أغذى من سائر الفواكه؛ وعصارة ورقه قويّة التسخين والجلاء؛ وفيه تليين نافع «2» يدفع العفونات إلى الجلد. قال: وفى تناوله تسكين للحرارة؛ ولبنه يجمد الذوائب من الدّماء والألبان، ويذيب الجامد؛ والرّطب منه سريع الغور والنّفوذ فى المعدة وفى البدن. قال: وشراب التّين لطيف

ردىء الخلط. قال: ولقضبان التّين من اللّطافة ما يهرّئ اللّحم إذا طبخ بها؛ وفى الجمّيز قوّة جاذبة من عمق البدن وتحليل لما جذب. قال: والفجّ منه يطلى به، ويضمد به على الخيلان «1» والثّآليل «2» وأصنافها والبهق، وكذلك ورقه؛ وتناوله يصلح اللّون الفاسد، وينضج الدّماميل. قال: ولبن الجمّيز وعصارة ورقه يقلعان آثار الوشم وبقيروطىّ «3» على شقاق «4» البرد. قال: وتضمد به الأورام الصّلبة، وبالجميّز مطبوخا مع دقيق الشّعير؛ والفجّ منه على البهق؛ وينضج الدّماميل، ويجذب رطبه الحصف «5» ؛ وطبيخه ينفع لأورام الحلق وأورام أصول الأذنين غرغرة كذلك مع قشور الرّمّان، وللدّاحس «6» مع الفانيذ «7» ، ويضرّ اليابس أورام الكبد والطّحال بحلاوته؛ وأمّا اذا كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع، إلّا أن يخلط بالملطّفات المحلّلات فينفع جدّا؛

والجمّيز شديد التحليل للأورام العسرة. قال: وطبيخ التّين برغوة الخردل يطلى به على الحكّة: وورقه ينفع من القوباء؛ وإن استعمل مع قشور الرّمّان أبرأ الدّاحس «1» ، ومع القلقند «2» لقروح الساقين الخبيثة؛ ولبن الجمّيز ملزق للجراحات. قال ورطب التّين ويابسه ينفع الصّرع «3» ؛ ويقطر طبيخه مع رغوة الخردل فى الأذن التى بها طنين؛ وينفع لبنه أو عصارة قضبانه قبل أن تورق اذا جعل فى السّنّ المتأكّلة؛ وينفع استعماله على أورام ما تحت الأذن ضمادا؛ والفجّ منه يبرئ قروح الرأس ذرورا؛ ولبنه مع العسل ينفع الغشاوة الرّطبة فى العين وابتداء الماء وغلظ الطّبقات؛ وتدلك بورقه خشونة الأجفان وجربها؛ والرّطب واليابس ينفعان من خشونة الحلق ويوافقان الصّدر وقصبة الرئة، وشراب التّين يدرّ اللّبن؛ وينفع من السّعال المزمن وأوجاع الصّدر؛ وينفع من أورام القصبة والرّئة. قال والتّين يفتّح سدد الكبد

والطّحال. وقال جالينوس: رطبه ردىء للمعدة، ويابسه ليس بردىء، فإن أكل بالمرّىّ «1» نقىّ فضول المعدة؛ وهو ممّا يقطع العطش الّذى يكون من بلغم مالح؛ و [يابسه «2» ] يهيج العطش، وينفع من الاستسقاء، خصوصا بالأفسنتين «3» ؛ وربّ «4» شرابه نافع للمعدة، ويقطع شهوة الطعام. قال: والتّين سريع النّفوذ بجلائه، واليابس يضرّ بالكبد والطّحال الورمين بجلائه فقط، فإن كان الورم صلبا لم يضرّ ولم ينفع. قال: ولاستعماله على الرّيق منفعة عجيبة فى تفتيحه مجارى الغذاء، وخصوصا مع الجوز واللّوز. قال: وجميع أصناف التّين غير موافق لسيلان الموادّ إلى المعدة؛ ورطبه ويابسه ينفع «5» الكلى والمثانة؛ وعصارة ورقه تفتّح أفواه عروق المقعدة؛ ورطبه يليّن ويسهل قليلا، خصوصا اذا أكل منه بلوز مدقوق، وكذلك لصلابة «6»

وأما ما وصفه به الشعراء وشبهوه

الرّحم، وكذلك إن خلط بالنّطرون والقرطم وأخذ قبل الطعام؛ ويحتمل لبنه بصفرة البيض فينقّى الرّحم ويدرّ الطّمث؛ ويتّخذ فى ضماد الأرحام مع الحلبة، وفى حقن المغص مع السّذاب؛ ويسقى من ماء رماد خشبه المكرّر لمن به إسهال ودوسنطاريا «1» أوقيّة ونصف. قال: ولبنه ينفع من لسعة العقرب مروخا «2» ، وكذلك الرّتيلاء «3» ؛ ويجعل الفجّ منه أو الورق الطّرىّ على عضّة الكلب الكلب فينفع؛ ويضمد به مع الكرسنّة على عضّة ابن عرس فينفع، هذا ملخّص ما أورده الشيخ فى أفعاله وخواصّه؛ والله أعلم بالصّواب. وأمّا ما وصفه به الشعراء وشبّهوه - فمن ذلك قول أسامة بن مرشد «4» ابن منقذ: أما ترى التّين فى الغصون بدا ... ممزّق «5» الجلد مائل العنق كأنّه ربّ نعمة سلبت ... أصبح بعد الجديد فى خلق

أو كأخى شرّة أغيظ وقد ... مزّق جلبابه من الحنق مثل نهود الأبكار صورته ... لو لم يناد عليه فى الطّرق قد عقدته يد السّموم لنا ... فالوذج الدّوح غير محترق فالشّهد والزّعفران مع عرق الورد ... وحبّ الخشخاش فى نسق فقم بنا نحوه «1» نباكره ... قبل جفاف النّدى عن الورق ولا تمل بى إلى سواه فلا ... أميل عنه ما دمت ذا رمق وقال إبراهيم بن خفاجة: وسود الوجوه كلون الصّدود ... تبسّمن تحت عبوس الغبش «2» اذا ما تجلّى بياض الضّحى ... تطلّعن فى وجهه كالنّمش كأنّى أقطّف منها ضحى ... ثدىّ صغار بنات الحبش وقال أبو الفتح كشاجم يصف تينا أصفر وأسود: أهلا بتين جاءنا ... منضّدا على طبق يحكى الصّباح بعضه ... وبعضه يحكى الغسق كسفرة «3» مضمومة ... قد جمّعت بلا حلق وقال أيضا فى تين أصفر: قم قد أتى ضوء الصّباح المسفر ... يا صاح نغتنم الحياة وبكّر نلمم بتين لذّ طعما واكتسى ... حسنا وقارب منظرا من مخبر لطفت معانيه لطافة عاشق ... فى لون مشتاق حليف تفكّر

وأما التوت وما قيل فيه

كالثّلج بردا فى صفاء التّبر فى ... ريح العبير وفوق طعم السّكّر يحكى لنا ما صفّ فى أطباقه ... خيما تلوح من الحرير الأخضر [وقال آخر «1» ] : ما التّين إلّا سيّد الثّمار ... بلا امتراء وبلا ممارى كأنّه إذ لاح فى الأشجار ... أطراف أثداء من الجوارى أو أكر صيغت من النّضار وأمّا ما وصف به على سبيل الذّم- فمنه قول محمد بن شرف القيروانىّ: لا مرحبا بالتّين لمّا أتى ... يسحب كاللّيل عليه وشاح «2» ممزّق الجلباب يحكى لنا ... هامة زنجىّ عليها جراح [وقال آخر] : لا أشتهى ما عشت تينا فما ... أقبحه مذكنت فى عينى لأنّه بين ومن ذا الّذى ... يحبّ أن يسمع بالبين وأمّا التّوت وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: التّوت صنفان: أحدهما هو الفرصاد الحلو، وهو يجرى مجرى التّين فى الإنضاج

إلّا أنّه «أردأ غذاء «1» » وأفسد دما، وأقلّ، وأردأ للمعدة؛ وله سائر أحوال التّين ولكنّه دونه؛ وأمّا المزّ الّذى يعرف بالتّوت الشّامىّ فليكن أكثر كلامنا فيه؛ وطبعه الحلو حارّ رطب؛ والحامض الشامىّ هو الى البرد والرّطوبة؛ وفى التّوت قبض وتبريد؛ وعصارته قابضة؛ وخصوصا إذا طبخت فى إناء نحاس؛ ويمنع سيلان الموادّ إلى الأعضاء، وخصوصا الفجّ منه. قال: واذا طبخ ورقه وورق الكرم وورق التّين الأسود بماء المطر سوّد الشّعر؛ والحامض يحبس أورام الفم والحلق وورقه ينفع للذّبحة والخوانق؛ والحامض ينفع القروح الخبيثة مجفّفه وعصارته؛ وربّ «2» الحامض نافع لبثور الفم؛ والتّمضمض بعصارة ورق الحامض جيّد للسّنّ الوجعة؛ والتّوت ردىء للمعدة يفسد فيها، وخصوصا الفرصاد؛ واذا لم يفسد الفرصاد فى المعدة بسرعة لم يضرّ؛ ويجب أن تؤكل جميع أصنافه قبل الطعام وعلى معدة لا فساد فيها؛ وأمّا الشامىّ فلا يضرّ معدة صفراويّة؛ وليس فيه من رداءة الموافقة للمعدة ما فى الفرصاد؛ وهو يشهّى الطعام ويزلقه، ويخرجه بسرعة؛ والعفص المجفّف المملّح من التّوت يحبس البول شديدا، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ودمعة التّوت تسهل؛ وفى لحائه تنقية وإسهال؛ وفى الحلو سرعة انحدار؛ وفى جميع أصناف التّوت إدرار للبول؛ واذا شرب من عصارة ورقه أوقيّة ونصف نفع من لسع الرّتيلاء «3» ، وليّن الطبيعة.

وأما ما وصفه به الشعراء

وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول محمد بن شرف القيروانىّ: انظر إلى توت الجنان الّذى ... وافى به النّاطور «1» فى جام يحكى جراحا دمها سائل ... لدى جسوم من بنى حام وقال بعض الأندلسيّين وقد أهداه: تفاءلت بالتّوت التأتّى لزورة ... وذلك فأل ما علمت صدوق فأهديته غضّا حكى حدق المها ... له منظر بالحسن منه يروق فذا سبج لمّا يرى باسوداده ... وذا لاحمرار اللّون منه عقيق وقال ابن الرّومىّ «2» : ومختضبات من نجيع دمائها ... اذا جنيت فى بكرة الغدوات تكاد بأن «3» تفطا «4» إذا ما لمستها ... فأرحمها من سائر الثّمرات وأمّا التّفّاح وما قيل فيه - فقال الشيخ: أعدل التّفّاح الشامىّ؛ والتّفه منه ردىء قليل المنافع، وكذلك الفجّ؛ وطبعه، العفص والقابض والحامض بارد غليظ؛ والحلومائىّ أميل إلى الحرارة من غيره، وان كان الغالب البرد، فهى «5» مختلفة؛

وكذلك أوراقها وأشجارها مختلفة؛ وبالجملة فإنّ الغالب فى جوهره رطوبة فضليّة باردة. قال: وفيه منع للفضول، وخصوصا فى ورقه؛ وفى التّفّاح نفخ فيما ليس بحلو؛ والحامض والفجّ مولّد «1» للعفونات والحميّات لخاميّة «2» خلطهما وفجاجتهما؛ وخلط الحامض ألطف من خلط القابض؛ وشراب التّفّاح عتيقه خير من طريّه، لتحليل البخارات الرديئة؛ وورقه ولحاؤه يدملان، وكذلك عصارة القابض منه؛ وإدمان أكل التّفّاح يحدث وجع العصب؛ والتّفّاح يقوّى القلب، خصوصا العطر الشّامىّ؛ والمشوىّ فى العجين نافع لقلّة الشّهوة؛ وينفع من الدّود ومن الدّوسنطاريا «3» وأوفقه للدّوسنطاريا العفص «4» ؛ وسويق «5» التّفّاح يقوّى المعدة، ويمنع القىء؛ والحلو والحامض إذا صادف «6» فى المعدة خلطا غليظا ربّما حدره فى البراز، وان كانت خالية حبس؛ والتّفّاح نافع من السّموم، وكذلك عصارة ورقه.

وأما ما وصفه به الشعراء

وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول ابن المعتزّ: وتفّاحة حمراء خضراء غضّة ... مضمّخة بالطّيب من كلّ جانب تكامل فيها الحسن حتّى كأنّها ... تورّد خدّ فوق خضرة شارب وقال العسكرىّ: وتفّاحة صفراء حمراء غضّة ... كخدّ محبّ فوق خدّ حبيب أحيّا بها طورا وأشرب مثلها ... من الراح من كفّى أغنّ ربيب وقال الرّقّىّ: وتفّاحة غضّة ... عقيقيّة الجوهر تندّت بماء الرّبي ... ع فى روضها الأخضر فجاءت كمثل العرو ... س فى لاذها «1» الأحمر ذكرت بها الجلّنار ... فى خدّك الأزهر فملت سرورا بها ... إلى القدح الأكبر وأنت لنا حاضر ... وان كنت لم تحضر وقال آخر: تفّاحة تذكر صفو الودّ ... وتبعث النفس لحفظ العهد كأنّها مقطوفة من خدّ ... نسيمها يحكى نسيم الورد وقال أبو بكر بن دريد: وتفّاحة من سوسن صيغ نصفها ... ومن جلّنار نصفها وشقائق كأنّ النّوى قد ضمّ من بعد فرقة ... بها خدّ معشوق الى خدّ عاشق

وقال أبو الوليد بن زيدون وقد أهدى تفّاحا: أتتك بلون الحبيب الخجل ... تخالط لون المحبّ الوجل ثمار تضمّن إدراكها ... هواء أحاط بها معتدل تأتّى لتدريج تلطيفها ... فمن حرّ شمس إلى برد ظل إلى أن تناهت شفاء العليل ... وأنس الخليل ولهو «1» الغزل فلو يجمد الراح لم يعدها ... وان هى ذابت فراح يحل قبولكها نعمة غضّة ... وفضل بما جئته متّصل وقال أبو نواس- ومنه أخذ ابن زيدون-: الخمر تفّاح جرى ذائبا ... كذلك التّفّاح خمر جمد فاشرب على جامدها ذوبها ... ولا تدع لذّة يوم لغد وقال ابن المعتزّ: تفّاحة معضوضة ... كانت «2» رسول القبل كأنّ فيها وجنة ... تنقّبت بالخجل تناولت كفّى بها ... ناحية من أملى لست أرجّى غير ذا ... يا ليت هذا دام لى وقال آخر: فدّيت من حيّا بتفّاحة ... فى خلع التّوريد من وجنته نسيمها يخبرنى أنّها ... تسترق الأنفاس من ريقته لمّا حكت نوعين من حسنة ... قبّلتها شوقا إلى نكهته

وقال الصّنوبرىّ: فتناولت منه صادقة الرّي ... ح تسمّى صديقة الأرواح وشّحتها يداه من خالص التّب ... ر بسطر يجول جول الوشاح كسيت صبغة الملاحة لمّا ... صبغت صبغة الخدود الملاح وقال آخر: تخال تفّاحتها ... فى لونها وقدّها تناولتها كفّها ... من صدرها وخدّها وقال ابن رشيق: وتفّاحة من كفّ ظبى أخذتها ... جناها من الغصن الّذى مثل قدّه حكت لمس نهديه وطيب نسيمه ... وطعم ثناياه وحمرة خدّه وقال ابن عبّاد: ولمّا بدا التّفّاح أحمر مشرقا ... دعوت بكأسى وهى ملآى من الشّفق وقلت لساقينا أدرها فإنّها ... خدود عذارى قد جمعن على طبق وقال محمّد بن سعيد: بديعة اللّون من نور السّرور بها ... فى كلّ حسن وطيب يضرب المثل جاءتك فى حلّة بيضاء مشرقة ... فى حمرة كاتّقاد النار تشتعل أو قهوة مزجت أو نصف لؤلؤة ... بنصف ياقوتة حمراء تتّصل وقال آخر: قال جالينوس فى حكمته ... لك فى التّفّاح فكر وعجب هو روح «1» النّفس، من جوهرها ... وبها شوق اليه وطرب

ومزاج «1» القلب ينفى همّه ... ويجلّى الحزن عنه والكرب وقال ابن الرّومىّ- وهو ممّا يكتب على تفّاحة-: أرسلنى عاشق بحاجته ... فجئت بين الرّجاء والوجل «2» لا تخجلنّى بالردّ حسبك ما ... ترى بخدّى من حمرة الخجل وقال أبو الفتح البستىّ: فتى جمع العلياء علما وعفّة ... وبأسا وجودا لا يفيق فواقا «3» كما جمع التّفّاح حسنا ونضرة ... ورائحة محبوبة ومذاقا [وقال آخر «4» ] : أكلت تفّاحة فعاتبنى ... خلّ رآها كخدّ معشوقه وقال خدّ الحبيب تأكله ... فقلت لا، بل أمصّ من ريقه وقال آخر: لا آكل التّفّاح دهرى ولو ... جنته كفّى من جنان الخلود تالله لا أتركه عن قلى ... لكنّنى أتركه للخدود

وأما السفرجل وما قيل فيه

وأمّا السّفرجل وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس: السّفرجل إذا غسل برماد أغصانه وورقه كان كالتّوتياء «1» ؛ والمشوىّ منه أخفّ وأنفع؛ وصورة شيّه أن يقوّر ويخرج حبّه ويجعل فيه العسل، ويطيّن خرمه، ويودع الرّماد؛ قال: وطبع السّفرجل بارد فى آخر الأولى، يابس فى أوّل الثانية؛ وهو قابض مقوّ، وزهره قابض، وكذلك دهنه؛ والحلو أقلّ قبضا، وحبّه مليّن بلا قبض؛ وهو يمنع سيلان الفضول إلى الأحشاء، ويحبس العرق؛ ودهنه ينفع من شقاق «2» البرد، ومن النّملة «3» والقروح الجربة «4» . قال: وكثرة أكله تولّد وجع العصب، ومشويّه يوضع على أورام العين الحارّة؛ وعصارته نافعة من انتصاب «5» النّفس والرّبو، وتمنع نفث الدّم؛ وحبّه ينفع من خشونة الحلق، ويليّن قصبة الرئة؛ ولعابه «6» أيضا يرطب يبس القصبة؛ والسفر جل ينفع من القىء والخمار؛ ويسكّن العطش، ويقوّى المعدة القابلة للفضول شرابه ونقيعه ومطبوخه؛ وشرابه مقوّ للشهوة الساقطة جدّا، ونيئه «7» يقوّى المعدة،

وأما ما وصف به نظما ونثرا

ويمنع القىء البلغمىّ؛ والسفرجل مدرّ؛ والمطبوخ بالعسل أشدّ إدرارا، وربّما أطلق ولم يعقل؛ ويولّد القولنج والمغس، وينفع من الدّوسنطاريا؛ ويحبس نزف الطّمث؛ وينفع من حرقة البول اذا قطرت عصارته ودهنه فى الإحليل؛ ودهنه ينفع الكلى والمثانة؛ واذا أكل من السفرجل على الطّعام أطلق، حتّى إنّه إذا استكثر منه أخرج الطعام قبل الانهضام؛ ويحقن بطبيخه لنتوء المقعدة والرحم؛ هذا ما قاله الشيخ فى السفرجل. وأمّا ما وصف به نظما ونثرا - فمن ذلك ما قاله السّرىّ الرّفّاء «1» : لك فى السفرجل منظر تحظى به ... وتفوز منه بشمّه ومذاقه هو كالحبيب سعدت منه بحسنه ... متأمّلا وبلثمه وعناقه يحكى لك الذّهب المصفّى لونه ... وتزيد بهجته على إشراقه فالشّكل من أعلاه يحكى شكله «2» ... ثدى الكعاب الى مدار نطاقه والشّكل من سفلاه يحكى سرّة ... من شادن يزهى على عشّاقه وقال آخر: سفرجلات خرطها ... مثل الثّدىّ النّهّد زهر «3» حكت بلونها ... صبغة ماء العسجد وقال أبو محمد الدّاودىّ: غصون السفرجل ملتفّة ... فمعتدل القدّ أو منثنى

وقد لاح فى زئبر شامل ... كصفراء فى معجر «1» أدكن «2» وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وسفرجل عنى المصيف بحفظه ... فكساه قبل البرد خزّا أغبرا «3» صوغ من الذّهب المصفّى، نشره ... مسك اذا حضر النّدىّ تعطّرا يحكى نهود الغانيات وتحتها ... سرر لهنّ حشين مسكا أذفرا يزهى بملمسه وطيب مذاقه ... ومشمّه ويروق عينك منظرا وقال شاعر أندلسىّ: سفر جلة جمعت أربعا ... نظمن لها كلّ معنى عجيب صفاء النّضار وطعم العقار ... ولون المحبّ وريح الحبيب وقال آخر: ومصفرّة تختال فى ثوب سندس ... وتعبق عن مسك ذكىّ التنفّس لها ريح محبوب وقسوة قلبه ... ولون محبّ حلّة السّقم قد كسى وقال آخر: متحفى بالسفرجل ... لا أحبّ السفرجلا اسمه لو عقلته ... سفر جلّ واعتلى [وقال آخر «4» ] : أتحفتنا بهديّة ... نقضت وصالك أوّلا

أرأيت من يهدى إلى ... من يصطفيه سفرجلا أو ما علمت بأنّه ... سفر وآخره جلا ومن رسالة لأبى عبد الله محمّد بن أبى الخصال الأندلسىّ، جاء منها فى السفرجل: وقد بعثت منه [ما يقوم «1» ] مقام الشاهد، وينوب عن ثدى الناهد؛ فدونكها مخلّفة «2» البدر، محلّقة «3» الصّدر، قد لبست الحسن باطنا وظاهرا، واستوفت الطّيب أوّلا وآخرا؛ كأنّها من طباعك طبعت، أو من فضائلك ألّفت وجمعت؛ كلّا إنها بذكرك غذيت، وعلى غاياتك «4» حذيت. ومنها: من كلّ ساهرة الشّذا، نائمة عن الأذى؛ دوحها لدن، وفوحها عدن؛ من وسائط السلوك، وندامى الملوك؛ لو ألفاها جذيمة «5» لاستغنى عن مالك

وأما الكمثرى وما قيل فيها

وعقيل، أو ظفر بها بلال لسلا عن شامة «1» وطفيل، ولم يعبأ بإذخر «2» وجليل، أما إنها لو حلّت نديّا، وتمثّلت بشرا سويّا، لنطقت بالصّواب، وأتت بالحكمة وفصل الخطاب؛ ونثرت فى الطبّ دقائق، ووضعت فى الزهد رقائق؛ ولم لا! وهى تهدى للإيمان، وتدلّ على الجنان؛ وتحكى طوبى طيبا «3» ؛ وحسبك بها أولى ما سمت بها النّفس، وواحدة ميّز بها الجنس، وهاكها قد تعرّضت لقبولك، وانفردت كما انفردت بتأميلك. [والله أعلم «4» ] . وأمّا الكمّثرى وما قيل فيها - فقال الشيخ الرئيس: وفى بلادنا «5» نوع يقال له: شاه أمرود كثير اللحم، شديد الاستدارة، رقيق القشرة، حسن اللون؛ كأنه

وأما ما وصفه به الشعراء

ماء سكّر معقود، طيّب الرائحة جدّا، اذا سقط من شجرته إلى الأرض اضمحلّ، وهذا لا مضرّة فيه من أصناف الكمّثرى. وقال فى طبعه «1» : الكمثرى المعروف «2» بالصّينىّ بارد فى الأولى، يابس فى الثانية، والشاه أمرود معتدل رطب؛ وقال فى أفعاله «3» وخواصه: جميع أصنافه قابض [يدخل «4» ] فى ضمادات حبس الموادّ، وقد يجلو يسيرا؛ وأما المعروف بشاه أمرود فى بلاد خراسان دون غيرها فهو مليّن للطّبيعة، حسن الكيموس «5» جدّا. قال: وهو يدمل الجراحات، خصوصا البرّىّ المجفّف، وهو يدبغ المعدة؛ والصّينىّ خاصّة يقوّى المعدة، ويقطع العطش، ويسكّن الصفراء. قال: وهو يعقل البطن، خصوصا المجفّف منه، قال: وفى الكثمرى خاصّيّة إحداث القولنج «6» ، فيجب أن يشرب بعده ماء العسل بالأفاويه «7» . وأمّا ما وصفه به الشّعراء - فمن ذلك قول ظافر الحدّاد الإسكندرىّ: لله وافد كمّثرى ذكرت به ... ما كنت أعهد فى أيّامى الاول

لم أدنه من فمى إلا وأحسبه ... من النهود لذيذ العضّ والقبل فذقت من طعمه ما كاد يبلغ بى ... ما ذقت من رشف محبوب على عجل أكرم بزورته لو أنها اتصلت ... أو أنه كان فيها غير منفصل لو كنت أملك حكم الأرض ما حملت ... نبتا سواه على سهل ولا جبل وقال أبو الفتح كشاجم «1» : أحضرنا النّاطور من بستانه ... فى طبق ينطق عن إحسانه لونا من الرائع فى أوانه ... أهدى له «2» الجوهر من ألوانه ما احمرّ أو ما اصفرّ من مرجانه ... مثل تروك «3» الجيش فى ميدانه مذهبة فى الهام من فرسانه ... شيب بريق الشّهد فى أغصانه أنور فى الناظر من إنسانه وقال آخر- وقد أهداه-: بعثت بها ولا آلوك حمدا ... تحيّة «4» ذى اصطناع واعتلاق خدود أحبة راءين صبّا ... وعدن على ارتماض واحتراق

وأما اللفاح وما قيل فيه

فحمّر بعضها خجل التّلاقى ... وصفّر بعضها وجل الفراق وأمّا اللّفّاح وما قيل فيه - فاللفاح هو ثمر نبات يسمّى اليبروح «1» الصّنمىّ، وليس هو اللفّاح المعدود فى صنف البطيخ الّذى يقال له الدّستنبو؛ ويقال: إنّها شجرة سليمان بن داود- عليهما السلام- التى كان منها تحت فص خاتمه؛ ومنبت قضبها وورقها الظاهر وسط رأس الصنم؛ وتكون منابتها فى الجبال والكروم؛ وقال التّميمىّ: اليباريح سبعة، وسيّدها الصنمىّ. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى كتاب الأدوية المفردة من القانون فى اليبروح: هو أصل اللّفّاح البرّىّ، وهو أصل كلّ لفّاح، «كبير» «2» شبيه بصورة الناس، فلهذا سمّى باليبروح، فإنّ اليبروح اسم الصنم الطبيعى «3» . قال: وطبعه بارد فى الثانية «4» يابس اليها؛ وفيه قليل حرارة على ما ظن بعضهم. قال: وأما الأصل فقوىّ مجفّف، وقشر الأصل ضعيف، والورق يستعمل مجفّفا ورطبا فينفع الفالج «5» . وقال فى خواصه: هو مخدّر، وله دمعة وعصارة؛ وعصارته أقوى من دمعته، ومن أراد أن يقطع له عضو سقى ثلاثة

أوبولوسات «1» فى شراب فيسبت «2» . وقيل: إنّ الأصل منه اذا طبخ به العاج ستّ ساعات ليّنه وأسلس قياده. قال: واذا دلك بورقه البرش أسبوعا ذهب من غير تقريح، وخصوصا إن وجد رطبا، ولبن اللفاح يقلع النّمش والكلف بلا لذع؛ قال: ويستعمل على الأورام الصّلبة [والخنازير «3» ] فينفع؛ واذا دقّ الأصل ناعما وجعل بالخلّ على الحمرة أبرأها؛ وأصله بالسّويق «4» ضماد لأوجاع المفاصل؛ والإكثار من شمّ اللفاح يورث السّكتة؛ وخصوصا الأبيض الورق؛ وقد يتّخذ منه شراب يزيل السّهر، وهو أن يجعل من قشور أصله ثلاثة أمناء «5» فى مطريطوس «6» شرابه حلو،

وأما ما وصفه به الشعراء

ويسقى منه ثلاثة قواثوسات «1» ؛ وقد تطبخ القشور ايضا فى الشراب طبخا يأخذ الشراب قواها؛ ويستعمل للإسبات منه شىء كثير؛ وللإنامة «2» أقلّ؛ وقوم من الأطباء يجلسون صاحبه فى الماء الشديد البرد حتّى يفيق. قال: ودمعته من أدوية العين، تسكّن الوجع المفرط؛ ويضمد بورقه أيضا؛ واذا احتمل نصف أو بولوس «3» من دمعته أخرج الجنين؛ وبزره ينقّى الرّحم إذا شرب؛ واذا احتملته المرأة قطع نزف الرّحم؛ ولبن اللفّاح يسهل البلغم والمرّة؛ وإذا تناول الصبىّ الطفل اللفّاح بالغلط حصل له قىء وإسهال. وأمّا ما وصفه به الشعراء - فمن ذلك قول بعض الشعراء: أتانا المصيف بلفّاحه ... فطاب ولو فاته لم يطب نجوم بلا فلك دائر ... ولكنّ أوراقه كالقطب روائحه من شذا مسكة ... وأجسامه أكر من ذهب وقال أبو هلال العسكرىّ: انظر إلى اللفّاح تنظر معجبا ... يجلو عليك مفضّضا فى مذهب

وأما الأترج وما قيل فيه

تعلو مفارقه قلانس أخفيت ... من تحتهنّ دراهم لم تضرب [وقال آخر «1» ] : للعين والعرنين فى يبروحة ... لون المحبّ وعبقة «2» المعشوق صفراء طيّبة النّسيم كأنها ... بلّورة محشوّة بخلوق «3» وأمّا الأترجّ وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى كتاب (أسرار القمر) : وإن خلطتم بأصل اليبروح وفروعه أصل الجزر وورقه أجزاء سواء وطمرتموه فى الأرض، خرج عن ذلك شجر الأترجّ، وإن أضفتم اليهما «4» البطّيخ الفجّ «5» خرجت عنه الشجرة الحاملة للأترجّ الكبير الطيّب الرائحة؛ وإن أردتم أترجّا إلى البياض شديد الرّيح فاخلطوا باليبروح والجزر أصلا وورقا [عرق «6» ] شجرة التّين الأصفر.

وأما أفعاله وخواصه

وقال الشيخ الرئيس فى طبع الأترجّ: قشره حارّ فى الأولى، يابس فى آخر الثانية؛ ولحمه حارّ فى الأولى؛ رطب فيها؛ وقال قوم: بل هو بارد رطب فى الأولى، وبرده أكثر؛ وهو الأصحّ؛ وحمّاضه «1» بارد يابس فى الثالثة؛ وبزره حارّ فى الأولى، مجفّف فى الثالثة. وأمّا أفعاله وخواصّه - فإنّ لحمه ينفخ، وورقه يسكّن النّفخ، وفقّاحه ألطف، وحمّاضه قابض كاسر للصّفراء، وبزره وقشره محلّل «2» ؛ واذا جعل قشره فى الثياب منع السّوس؛ ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء؛ وحمّاضه يجلو اللّون ويذهب الكلف؛ وحراقة قشره طلاء جيّدة للبرص؛ وطبيخه يطيّب النّكهة؛ وهو مسمّن؛ وقشره يطيّب النّكهة أيضا إمساكا فى الفم؛ وحمّاضه نافع من القوباء طلاء؛ ودهنه نافع من استرخاء العصب والفالج «3» . وحمّاضه ردىء للعصب، واذا اكتحل بحمّاضه ازال يرقان العين؛ وحمّاضه يسكّن الخفقان الحارّ، والمربّى جيّد للحلق والرّئة، لكن حمّاضه ردىء للصدر؛ ولبّ الأترجّ اذا طبخ بالخلّ وسقى منه نصف أسكرّجة «4» قتل العلقة المبلوعة وأخرجها؛ ولحمه ردىء للمعدة، ينفخ، بطىء

وأما ما وصفه به الشعراء

الهضم، لكن ورقه مقوّ للمعدة والأحشاء؛ وقشره اذا جعل فى الأطعمة كالأبازير «1» أعان على الهضم؛ ونفس قشره لا ينهضم لصلابته؛ وطبيخه يسكّن القىء؛ وربّه- وهو ربّ الحمّاض- نافع «2» للمعدة؛ قال: ويجب أن يؤكل الأترجّ مفردا لا يخلط بطعام لا قبله ولا بعده؛ ولحمه يورث القولنج؛ وحمّاضه يحبس البطن، ويمنع «3» من الإسهال الصفراوىّ؛ وبزره ينفع من البواسير؛ وفى بزره قوّة مسهلة؛ وعصارة حمّاضة تسكّن غلمة النساء؛ ووزن درهمين من بزره بالشراب والطّلاء والماء الحارّ مقاوم للسّموم كلّها، وخصوصا سمّ العقرب شربا وطلاء؛ وقشره قريب من ذلك؛ وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعى شربا؛ و [قشره «4» ] ضمادا. وأمّا ما وصفه به الشعراء - فمن ذلك قول ابن الرومىّ: كلّ الخلال الّتى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا وطاب الأصل «5» والورق وقال حجظة: أترجّة كالمسك فى طيبه ... والتّبر فى بهجة إشراقه

كأنّها فى كفّ أستاذنا ... مخلوقة من طيب أخلاقه وقال علىّ بن سعيد الأندلسىّ: ومصفرّة اللّون لا من هوى ... تكابد منه علاقات هم ولكن كساها سموم الهجير ... جلابيب تبر بتضريج دم وأكسبها طيب نشر العبير ... وريح الحبيب إذا ما يشم عروس تزفّ إلى شاهها «1» ... على كفّ أغيد مثل الصّنم وقال علىّ بن رشيق فى المعزّ بن باديس: أترجّه سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى النفوس بحظّ غير منحوس كأنّها بسطت كفّا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس وقال آخر: كأنّما الأترجّ فى لونه ... وشكله المستظرف المنظر أبارق تسقط عنها العرا ... مسبوكة من ذهب أحمر وقال آخر «2» : يا حبّذا أترجّة ... تحدث فى النفس الطّرب كأنّها كافورة ... لها غشاء من ذهب وقال السرىّ الرّفّاء: وقريبة من كلّ قلب إن بدت ... للمرء أدناها إليه وقرّبا أروى القلوب نسيمها وتلهّبت ... حسنا فأذكت فى القلوب تلهّبا

فكأنّها ذهب حوى كافورة ... فغدا بريّاها وراح مطيّبا صفراء «1» ما عنّت لعينى ناظر ... إلّا توهّمها سنانا مذهبا وقال فيه: يا حبّذا «2» أترجّة ... رحت بها مسرورا اذ جاءنى يحملها ... ظبى يباهى الحورا شبّهتها فى كفّه ... وقد كساها النّورا مخزنة «3» من ذهب ... قد ملئت كافورا وقال الزاهى: وذات جسم من الكافور فى ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار كأنّها وهى قدّامى ممثّلة ... فى رأس دوحتها تاج من النّار وقال ابن دريد: جسم لجين قميصه ذهب ... زرّ على لعبة من الطّيب فيه لمن شمّه وأبصره ... لون محبّ وريح محبوب

وقال أبو الفتح كشاجم: يا حبّذا «1» يومنا ونحن على ... رءوسنا نعقد الأكاليلا فى جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدّانيات تذليلا كأنّ أترجّها تميس به ... أغصانها حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا وقال أبو بكر بن القرطبيّة: جسم من النور فى ثوب من النّار ... كأنّه ذهب من فوق بلّار «2» وابيضّ باطنه واصفرّ ظاهره ... كأنّه درهم من تحت دينار وقالت عليّة بنت المهدىّ متطيّرة به: أترجّة قد أتتك لطفا ... لا تقبلنها وإن سررت لا تهو أترجّة فإنّى ... رأيت مقلوبها هجرت وقال العباس بن الأحنف: أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر خاف التلوّن إذ أتته لأنّها ... لونان باطنها خلاف الظاهر وقال آخر: أمات إذ حيّا بأترجّة ... فهمت منها كنه تأويله لمّا تطيّرت بمنكوسها «3» ... ضمّ بنانا لى بتقليله

القسم الثالث من الفن الرابع فى الفواكه المشمومة

ومن الأترجّ صنف صغير مخطّط بخضرة وصفرة، وفيه طول، يسمّى شمّام «1» الأترجّ، وفيه يقول ابن طباطبا: ومخطفات كأنّ الحبّ أخطفها ... هيف الخصور ثقيلات المآخير صفر الثياب كأنّ الدهر ألبسها ... بناضر «2» النبت ألوان الدنانير «3» القسم الثالث من الفنّ الرابع فى الفواكه المشمومة ، وفيه بابان الباب الأول من هذا القسم من هذا الفنّ فيما يشمّ رطبا ويستقطر ويشتمل هذا الباب على أربعة أنواع، وهى الورد والنّسرين والخلاف «4» والنّيلوفر. فأمّا الورد وما قيل فيه - فالورد ألوان، أشهرها الأحمر والأبيض؛ وقال صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) : إنه رأى وردا أصفر، ووردا أسود حالك

السواد، له رائحة ذكية، ورأى بالبصرة وردة نصفها أحمر قانئ، ونصفها أبيض ناصع، وكأنّها مقسومة بقلم؛ وفيه ماله وجهان: أحمر وأبيض؛ ويقال: إنه ربما وجد ورد أحد وجهى الورقة منه أحمر قانئ، والآخر أصفر، ومن ألوان الورد الأزرق، وهذا اللون يقال إنّه يتحيّل فيه، بأن تسقى شجرة الورد الأبيض الماء المخلوط بالنيل «1» ، فيصير الورد أزرق، وقد يتحيّل على الأسود بمثل ذلك؛ والله تعالى أعلم. ومما يدلّ على وجود هذه الألوان وأنّها غير منكورة أن الشعراء وصفوها فى أشعارهم فذكروا الأصفر والأزرق والأسود على مانورده ان شاء الله [تعالى «2» ] بعد ذكر منافع الورد وخواصّه. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: والورد مركّب من جوهر مائىّ وأرضىّ وفيه حرارة «3» وقبض، ومرارة مع قبض، وقليل حلاوة، وفى مائيّته انكسار حرافة «4» بسبب الشىء الذى لأجله [حلا «5» ] ومرّ، وفيه لطافة تنفذ «6» قبضه، فكثيرا ما يحدث الزّكام. قال: والقوّة المرّة تثبت فيه مادام طريّا، فاذا يبس قلّت مرارته، ورطبه

يسهل اذا شرب منه وزن عشرة دراهم؛ والمسمّى منه بالورد المنتن حارّ، وأصله كالعاقر «1» قرحا محرق؛ وقال فى طبعه: ذكر جالينوس أن الورد ليس بشديد البرد بالقياس [إلينا «2» ] ، ويقول: يجب أن يكون باردا فى الأولى؛ قال الشيخ، أقول: ويبسه فى أوّل الثانية، لا سيّما فى الجافّ؛ وقال فى أفعاله وخواصّه: تجفيفه أقوى من قبضه، لأنّ مرارته أقوى من قبض طعمه؛ وهو مفتّح جلّاء، ويسكّن حركة الصفراء؛ وبزره أقوى ما فيه قبضا، وكذلك الزّغب الّذى فى وسطه؛ وفى جميعه تقوية للأعضاء الباطنة، ولا يجاوز قبضه منع التحليل؛ واليابس أقبض وأبرد. قال: واذا استعمل الورد فى الحمّام أصلح نتن العرق؛ ويتّخذ منه غسول على هذه الصفة، وهى أن يؤخذ من الورد الّذى لم تصبه نداوة- ويترك حتى يضمر- أربعون مثقالا، ومن سنبل «3»

الطّيب خمسة مثاقيل، ومن المرّ ستّة مثاقيل، تعمل أقراصا صغارا. قال: وربّما زادوا فيها من القسط «1» والسّوسن درهمين درهمين، فربّما جعلها النساء فى المخانق علاجا من ذفر العرق. قال قوم: إنّه يقطع الثّآليل «2» كلّها اذا استعمل مسحوقا، وهو ينفع من القروح، ولا سيّما السّحج «3» بين الأفخاذ وفى المغابن «4» ، وينبت اللحم فى القروح العميقة «5»

وادّعى قوم أنه يخرج السّلّاء «1» والشّوك مسحوقا؛ وهو مسكّن للصّداع رطبه وطبيخ مائه، ودهنه معطّس بل شمّه نفسه؛ وقال قوم: تعطيسه لحبسه البخار، ولعلّ ذلك لتضادّ قوّتيه: الجالية «2» والمانعة فى الأدمغة الرقيقة الفضول؛ وشمّه نفسه معطّس لمن هو حارّ الدماغ؛ وبزره يشدّ اللّثة؛ وهو يسكّن وجع العين من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه صالح لغلظ الجفون اذا اكتحل به، وكذلك دهنه وعصارته؛ قال: وإنما ينفع من الرّمد اذا قطعت منه زوائده البيض «3» . قال: واذا تجرّع ماء الورد نفع من الغشى؛ قال: والورد جيّد للكبد والمعدة؛ ومربّاه بالعسل يقوّى المعدة، وهو الجلنجبين «4» ، ويعين على الهضم؛ ودهن الورد يطفئ التهاب المعدة، وكذلك طلاء المعدة بالورد نفسه؛ وشرابه نافع لمن فى معدته استرخاء؛ قال: وهو يسكّن وجع المقعدة طليا عليها بريشة، ووجع الرحم من الحرارة، وكذلك طبيخ يابسه «5» ؛ وهو نافع لأوجاع المعى «6» ، ويحتقن بطبيخه لقروح المعى «7» ، وشرابه يشرب لذلك؛ قال: والنّوم على المفروش منه يقطع الشّهوة؛ هذا ما قاله الشيخ فى الورد، والذى جرّبته أنا منه أنّ زهر الورد الأصفر يجفّف ويسحق بالملح فيكون دواء جيّدا للجراح يلحمها بسرعة.

وأما ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا

وأمّا ما جاء فى وصف الورد نظما ونثرا - فقال أبو العلاء صاعد الأندلسىّ: ودونك يا سيّدى وردة ... يذكّرك المسك أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها وقال أبو عبادة البحترىّ: أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلّما وقد نبّه النّوروز «1» فى غسق الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما يفتّحه برد النّدى فكأنّما ... يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما وقال محمد بن عبد الله بن طاهر- ويروى لعلّى بن الجهم-: أما ترى شجرات الورد مظهرة ... لنا بدائع قد ركّبن فى قضب كأنّهنّ يواقيت يطيف بها ... زبرجد وسطه شذر من الذهب وقال الناشى: قضب الزبرجد قد حملن شقائقا ... أثمارهنّ قراضة العقيان وكأنّ قطر الطّلّ فى أهدابه ... دمع مرته فواتر الأجفان وقال ابن طاهر- ويروى لابن بسام: أما ترى الورد يدعو للورود الى ... خمر معتّقة فى لونها صهب مداهن من يواقيت مركّبة ... على الزّبرجد فى أجوافها ذهب

كأنّه حين يبدو من مطالعه ... صبّ يقبّل حبّا وهو يرتقب خاف «1» الملال اذا طالت إقامته ... فظلّ يظهر أحيانا ويحتجب [وقال العماد الأصفهانىّ «2» ] : قلت للورد ما لشوكك يدمى ... كلّ ما قد أسوته من جراح قال لى هذه الرياحين جند ... أنا سلطانها وشوكى سلاحى وقال آخر: الورد أحسن منظر ... تستمتع الألحاظ منه فاذا انقضت أيّامه ... أتت الخدود تنوب عنه وقال أبو طالب الرّقّىّ: ووردة فى بنان معطار ... حيّت بها فى بديع أسرار كأنّها وجنة الحبيب وقد ... نقّطها عاشق بدينار وقال أبو هلال العسكرىّ: مرّ بنا يهتزّ فى خطوه ... كالغصن «3» غبّ العارض السارى شممت «4» فى وجنته وردة ... جاءت من المسك بأخبار

تلوح فى حمرتها صفرة ... كالخدّ منقوطا بدينار وقال آخر: كأنّما الوردة لمّا بدت ... فى كفّ من أهوى ويهوانى حمرة خدّيه وفى وسطها ... صفرة لونى حين يلقانى وقال آخر: جمع الورد خصالا ... لم تكن فى نظرائه حسن لون جعل الزّه «1» ... رة من تحت لوائه ونسيما عطّر المجلس من فرط ذكائه ... فاذا غاب وولىّ عوّض الناس بمائه وقال آخر: وذى لونين لون المسك فيه ... يروق بحمرة فوق اصفرار كمعشوقين ضمّهما اعتناق ... على حدثان عهد بالمزار وقال الطّغرائىّ: ألم تر أنّ جند الورد وافى ... بصفر «2» فى مطارده وحمر أتى مستلئما بالشوك فيه ... نصال زمرّد وتراس تبر فجلّى بالسرور هموم قلبى ... وطارد بالنشاط بنات صدرى فما عذرى إذا أنا لم أقابل ... أياديه بسكر أو بشكر

ومما قيل فى ذم الورد ومدحه

ومما قيل فى ذم الورد ومدحه - قال ابن الرّومى: يا مادح الورد لا تنفكّ عن غلط ... ألست تنظره فى كف ملتقطه كأنّه سرم بغل حين يخرجه ... عند البراز وباقى الرّوث فى وسطه وقال ابن المعتزّ فى الردّ عليه: يا هاجى الورد لا حيّيت من رجل ... غلطت والمرء قد يؤتى «1» على غلطه هل تنبت الأرض شيئا من أزاهرها ... اذا تحلّت يحاكى الوشى «2» فى نمطه أحلى وأشهر من ورد له أرج ... كأنّما المسك مذرور على وسطه كأنّه خدّ حبّى حين ملّكنى ... حلّ السراويل بعد الطّول من سخطه وقال العسكرىّ: أفضّل الورد على النرجس ... لا أجعل الأنجم كالأشمس ليس الذى يقعد فى مجلس ... مثل الّذى يمثل فى المجلس وكتب أبو دلف الى عبد الله بن طاهر. أرى ودّكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد وحبّى لكم كالآس «3» حسنا ونضرة ... له زهرة تبقى اذا فنى الورد

ومما وصف به الورد الأبيض

فأجابه ابن طاهر [يقول «1» ] وشبّهت ودّى الورد وهو شبيهه ... وهل زهرة إلّا وسيّدها الورد وودّك كالآس المرير مذاقه ... وليس له فى الطّيب قبل ولا بعد وممّا وصف به الورد الأبيض [قول «2» ] محمد بن قيس: جاءت بورد أبيض ... شبّهته عند العيان بمداهن من فضّة ... فيها بقايا زعفران وقال السّرىّ الرفّاء: وروض كساه الغيث اذ جاد «3» دمعه ... مجاسد وشى من بهار «4» ومنثور «5» بدا أبيض الورد الجنىّ كأنّما ... تنسّم «6» للنّاشى «7» بمسك وكافور كأنّ اصفرارا منه تحت ابيضاضه ... برادة تبر فى مداهن بلّور

ومما وصف به الأصفر

وقال ابن المعتزّ: أتاك الورد مبيضّا مصونا ... كمعشوق تكنّفه صدود كأنّ وجوهه لمّا توافت ... بدور فى مطالعها سعود بياض فى جوانبه احمرار ... كما احمرّت من الخجل الخدود وممّا وصف به الأصفر قول شاعر: رعى الله وردا غدا أصفرا ... بهيّا نضيرا يحاكى النّضارا وسقّى غصونا به أثمرت ... وحمّلن منه شموسا صغارا وقال الطّغرائىّ: شجرات ورد أصفر بعثت «1» ... فى قلب كلّ متيّم طربا سبكت «2» يد الغيم اللّجين لها ... وكسته صبغا مونقا عجبا من «3» ذا رأى من قبلها شجرا ... سقى اللّجين فاثمر الذّهبا خرطت «4» نهود زبرجد حملت ... أجوافها من عسجد لعبا فاذا الصّبا فتقت كمائمها ... سحرا وماد الغصن وانتصبا شبهتها بخريدة طرحت ... فى الخضر من أثوابها لهبا «5»

ومما وصف به الورد الأزرق

وممّا وصف به الورد الأزرق - قال بعض الشعراء وقد وصف بستانا: وبه وارد من الورد قد أينع ... فى رقّة الهواء اللّطيف شبّهوه بدمعة العاشق الآ ... لف نالته جفوة من أليف فهو يحكيه رقّة ومثال ال ... قرص «1» لونا فى خدّ ظبى تريف «2» ورق أزرق كزرق يواقيت ... تطلّعن من لجين مشوف «3» ومما قيل فى الورد الأسود قول «4» مؤيّد الدّين الطّغرائىّ «5» : لله أسود ورد ظلّ يلحظنا ... من الرّياض بأحداق اليعافير «6» كأنّها وجنات الزّنج نقّطها ... كفّ الإمام «7» بأنصاف الدّنانير

وأما ما جاء فيه نثرا

وقال آخر فيه: وورد أسود خلناه لمّا ... تنشّق نشره ملك الزّمان مداهن عنبر غضّ وفيها ... بقايا من سحيق الزعفران وأما ما جاء فيه نثرا - فقال أبو حفص عمر بن برد الأصغر رسالة قدّم فيها الورد على سائر الرّياحين، وهى رقعة خاطب بها ابن جهور: أمّا بعد يا سيّدى ومن أنا أفديه، فإنّه ذكر بعض أهل الأدب المتقدّمين فيه، وذوى الظّرف المعتنين بملح معانيه؛ أنّ صنوفا من الرّياحين، وأجناسا من نوار البساتين، جمعها فى بعض الأزمنة خاطر خطر بنفوسها، وهاجس هجس فى ضمائرها، لم يكن لها «1» بدّ من التفاوض فيه والتّحاور، والتحاكم من أجله والتناصف؛ وأجمعت على أنّ ما ثبت فى ذلك من العهد، ونفذ من الحلف؛ ماض على من غاب شخصه، ولم يئن «2» منها «3» وقته؛ فقام قائمها فقال: يا معشر الشّجر، وعامّة الزّهر؛ إن اللّطيف الخبير الّذى خلق المخلوقات، وذرأ «4» البريّات؛ باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبدا وملكا، وخلق قبيحا وحسنا؛ فضّل على بعض بعضا حتى اعتدل بعدله الكلّ، واتّسق على لطف قدرته الجميع؛ وانّ لكلّ واحد منها جمالا فى صورته، ورقّة فى محاسنه، واعتدالا فى قدّه، وعبقا فى نسيمه، ومائيّة فى ديباجته؛ قد عطفت علينا الأعين، وثنيت إلينا الأنفس، وزهت بمحاضرتنا المجالس؛ حتّى سفرنا بين الأحبّة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحمّلنا لطائف

الرّسائل، وصيغ فينا القريض، وركّبت فى محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضّلنا، وإيثار من آثرنا، على أن نسينا الفكر فى أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والتّطييب لأخبارنا؛ وادّعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه؛ ولم نعلم أنّ فينا من له المزيّة علينا، ومن هو أولى بالرآسة منّا؛ وهو الورد الذى إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا، ولم نسبح فى بحر عمانا، ولم نمل مع هوانا؛ دنّا له، ودعونا اليه؛ فمن لقيه منّا حيّاه بالملك؛ ومن لم يدرك زمن سلطانه، ودولة أوانه؛ اعتقد ما عقد عليه، ولبّى الى مادعى اليه؛ فهو الأكرم حسبا، والأشرف زمنا؛ إن فقد عينه لم يفقد أثره، أو غاب شخصه لم يغب عرفه؛ وهو أحمر والحمرة لون الدّم، والدّم صديق الرّوح؛ وهو كالياقوت المنضّد، فى أطباق الزّبرجد، عليها فريد العسجد؛ وأمّا الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال زمانه وزنت. وفى فصل منها: وكان ممّن حضر هذا المجلس من رؤساء النّوّار والأزهار، النّرجس الأصفر والبنفسج والبهار؛ والخيرىّ- وهو «1» النّمّام- فقال النرجس

الأصفر: والذى مهّد لى فى حجر الثّرى، وأرضعنى ثدى الحيا؛ لقد جئت «1» بها أوضح من لبّة الصّباح، وأسطع من لسان المصباح؛ ولقد كنت أستر «2» من التعبّد له، والشغف به، والأسف على تعاقب «3» الموت دون لقائه؛ ما أنحل جسمى ومكّن سقمى؛ وإذ قد أمكن البوح بالشّكوى، فقد خفّ ثقل البلوى؛ ثمّ قام البنفسج فقال: على الخبير والله [سقطت، أنا والله «4» ] المتعبّد له، والداعى اليه والمشغوف به، وكفى ما بوجهى من ندب «5» ؛ ولكن فى التأسّى بك أنس؛ ثم قام البهار فقال: لا تنظرنّ الى غضارة نبتى «6» ، ونضارة ورقى؛ وانظر إلىّ وقد صرت حدقة باهتة «7» تشير اليه، وعينا شاخصة تندى بكاء عليه.

ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى ثمّ قام الخيرىّ فقال: والّذى أعطاه الفضل دونى، ومدّ له بالبيعة يمينى؛ ما اجترأت قطّ إجلالا له، واستحياء منه، على أن أتنفّس «1» نهارا، أو أساعد فى لذّة صديقا أو جارا، فلذلك جعلت اللّيل سترا، واتّخذت جوانحه كنّا. فلمّا استوت آراؤها قالت: إنّ لنا أصحابا، وأشكالا وأترابا؛ لا نلتقى بها فى زمن، ولا نجاورها فى وطن؛ فهلم فلنكتب بذلك عقدا ينفذ على الأقاصى والأدانى؛ فكتبوا رقعة نسختها: هذا ما تحالف عليه أصناف الشجر، وضروب «2» الزّهر؛ وسميّها «3» وشتويّها، وربعيّها وقيظيّها؛ حيث ما نجمت من تلعة «4» أو ربوة، وتفتّحت فى قرارة «5» أو حديقة؛

عند ما راجعت من بصائرها، وألهمت من رشادها، واعترفت بما أسلفت من هفواتها؛ وأعطت للورد قيادها، وملّكته أمرها؛ وعرفت أنّه أميرها المقدّم بخصاله فيها، والمؤمّر بسوابقه «1» عليها؛ واعتقدت له السمع والطاعة، والتزمت له الرّقّ والعبوديّة، وبرئت من كلّ زهر نازعته نفسه المباهاة له، والانتزاء «2» عليه؛ فى كلّ وطن، ومع كلّ زمان؛ فأيّة زهرة قصّ عليها لسان الأيّام هذا الحلف، فلتتعرّف إرشادها منه «3» ، وقوام أمرها به؛ [والله أعلم «4» ] . ومن رسالة لبعض فضلاء أصبهان ممّن ذكرهم العماد الأصبهانىّ فى الخريدة «5» وصف فيها الرياض والرّياحين، وفضّل الورد على جميعها، وهى رسالة مطوّلة فى هذا النوع وغيره، جاء منها: فى يوم استعار نضارته من عصر الصّبا، واكتسى صحّته من عليل الصّبا؛ ونجمت فيه نجوم الرّبيع، خالية من المقابلة «6» والتّربيع؛

وتقابل «1» إشراق زهره ونهاره، فراق يجرى «2» جداوله وأنهاره؛ وأقبل فيه جيشه بفوارسه وجياده، وعساكره وأجناده، بين رافع لواء زبرجدىّ، وحامل مطرد «3» عسجدىّ، وصاحب رداء لازوردىّ «4» ؛ ومعلم «5» قد أطلق عنانه، ورامح قد خضب سنانه؛ وأخذت الأرض زينتها وزخارفها، ولبست حليتها ومطارفها «6» ؛ ومادت كثبانها

بخمائلها، وماست قضبانها فى غلائلها؛ فبرزت بين جبين متوّج، وخدّ مضرّج؛ وصدغ مخلّق «1» ، وخصر ممنطق؛ ونادت الشمس بلسان الجذل: يا بعد ما بين برج الجدى «2» والحمل ... وفصّل فصل الرّبيع الرياض عقودا ورصّع منها حليّا ... وفاخر بالأرض أفق السّماء فحلّى الثّرى بنجوم الثّريّا ونثر منثوره «3» ياقوتا ودرّا وزمرّذا، وجمع بين ضدّين: من برد برد وتوقّد جذا؛ فشمخ بالمناكب، على الكواكب؛ وتاه بالضّوج «4» ، على الأوج؛ وطاول بالاكام علا الرّكام «5» ؛ فهنالك برز النرجس من بين الرّياحين، وقال: الصمت لا يحمد

فى كلّ حين؛ ومن لم يفصح بتعريف نفسه، وتفضيل يومه على أمسه، فهو مغبون فى جنسه، أنا حدق الحدائق، ونزهة الرّامق؛ أخطر بين جسد زبرجدىّ، وفرع كافورىّ وعسجدىّ؛ إلىّ ينسب حسن العيون، وعندى يوجد ضعف الجفون: تنافس فىّ نفوس الكرام ... اذا ما أديرت كئوس المدام فأسبى الجليس اذا ما حضرت ... بلحظ الفتاة وقدّ الغلام فأيقظ لمباهلته الأقحوان، وقال: الآن آن ظهورى وحان؛ ما هذه العجرفة والتّباهى! لقد نطقت بعجائب النّواهى؛ وتالله ما صدقت سنّ بكرك «1» ، ولا امتاز عرفك من نكرك؛ فبم تتيه على أقرانك، وتتكبّر على سجرائك «2» وأخدانك؟! أنسيت تنكيس رأسك بين النّدماء، وإمساك رمقك ببلّة من الماء، وأنّك لا تبيت إلّا موثقا محبوسا، ولا تشمّ إلا صاغرا منكوسا، ولا تستخدم إلّا قائما، ويا سوء يومك اذا أصبحت نائما؟! ألا عطفت علىّ جيد الالتفات، وأشرت إلىّ بأحسن الصّفات، فقلت: لله درّك من زهر كملت محاسنه، وصفا من غديره آسنه، وتبسّم عن مؤشّر «3» الثغور، وجمع فرعه بين لونى التبر والكافور؛ فتتوّج بالتيجان المشرقه

المرصّعة بخلاصة النّضار والرّقه «1» ؛ ألم تعلم أنّى فوز المغانى، ونزهة الرانى، ومباسم الغوانى؟ لا يحكم لشاعر بالإحسان، أو ينسب إلىّ حسن ثغور الحسان. أنا زهر الرّبا ونور الرياض ... وعيون ترنو بغير اغتماض لن ترانى إلّا بشاطى غدير ... باسما أو مضاحكا لحياض فشقّ الشقيق عن زفير ووجيب، ولدغه بحمة لسان مجيب، وقال: لقد تجاوزت بنفسك مدى الحدّ، وضربت فى افتخارك بكهام فليل الحدّ؛ أليس ندى الطّلّ يزينك، وإغبابه يشينك؟ ومتى نضب غديرك، بدا تغييرك؛ ما أراك بغير مضاهاة الثغور تفتخر، فهل هى على الحقيقة إلّا عظم نخر؟ بل أنا نزهة الناظر، وبغية الحاضر «2» ؛ جسدى من قضبان الياقوت، وفرعى من المسك المفتوت. أفوق اذا مست بين الريا ... ض زهوا على مائسات القدود وأفضل لونا وحسنا اذا ... حضرت على حسن لون الخدود فمالت اليه الخزامى «3» ، وكادت تميل به جذابا والتزاما؛ وقالت: «أسمع جعجعة» ولا أرى طحنا» وقعقعة «5» ولا أنظر إلّا شنّا، لقد ارتكبت جللا، واستغزرت «6» غللا؛

ما أقبح عاقبة العجل، وأقرب الواثق «1» من الخجل! حتّام تنبض «2» ولا تزمى، وإلام تومض ولا تهمى؟ أبكتمة لونك تفتخر، وبعظم كونك تشمخرّ، ألست الخشن الجلده، الدموىّ البرده، البعيد عن محلّ التقريب والشّمّ، الطريد عن رتبة التقبيل والضّمّ؟ لكن أنا الملبس «3» المشار اليه، والعطر المنصوص عليه، مدحت بالطّيب واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل. واللّون، وتخيّرت للتسربل والصّون؛ وجمّعت منّى الحلل، وتوّجت منّى الكلل. فضلت على زهر الربيع برتبة ... بها صدق الراوون للشعر إذ قالوا كأنّ الخزامى جمّعت لك حلّة ... عليك بها فى الطّيب واللّون سربال فأنهضت لمعارضتها البنفسج، وألجم جواد مناضلتها وأسرج، وقال: يا ساكنة الشّهباء «4» ، لقد جئت بالداهية الدّهياء، أضبح «5» الثعالب، وإرسال «6» الأرانب، ما يغنى عنك وصف الشعراء، وأنت منبوذة بالعراء؛ بعدت عن محاسن أخلاق البريّة وقربت من مراتع البهائم البرّيّة؛ وحرمت برد نسيم العراق؛ وضعفت «7» ساقك عن

حمل ساق؛ إنما أنا نزهة الأمصار، ومسرّة الأبصار؛ وطيب النّفوس، وربيب الكئوس، المحمول على الرءوس، المحبوب الى الرئيس والمرءوس؛ ذو العرق الذكىّ والعرف المسكىّ: رئيس الرّياحين المضيف بلونه ... جمالا الى ورد الخدود المضرّج اذا ما جنان الأرض بالنّور «1» زخرفت ... فتعريفها من طيب زهر البنفسج فغضب لذلك جورىّ «2» الورد، ووثب لو استطاع وثبة الورد «3» ؛ ثم قال: أركزا «4» كأحاديث الضّبع «5» . وزمجرة كرمجرة السّبع. ذهب بك الشتاء وبرده. وشغل عنك الرّبيع وورده. أطعت هوى النفس الأمّاره، ونطقت بحضرة الإماره؛ وأنت لا تنقضى ساعتك حتّى تربدّ، ولا ينصرم يومك حتى تذبل وتسودّ؛ ثم تستحيل أوراقك، ويفارقك وراقك «6» . وتشعث قمّتك. وتنزر قيمتك. أتراك لولا قرص الخدود، هل كنت فى الألوان «7» بمعدود؟. أما علمت أنّى مدعوّ بالأمير المقدّم

والميمون المقدام. أنا الزائر فى كلّ عام، القادم بمسرّة الخاصّ والعامّ. لا تشرف الأيّام إلّا باسمى؛ ولا تفتخر الأجسام إلّا بمشابهة جسمى؛ فبى يفتن «1» النظر، وأنا السيّد المنتظر. واذا انقضت مدّتى، وقضيت عدّتى. أقصدتنى حنيّة «2» الفرقة بسهام الفرق، واستولى علىّ والى «3» الحرق. فولّد تلهّبى رشحا من العرق، قام لهم مقامى. وساوى عندهم بين رحلتى ومقامى؛ يعرّض كلّ وقت بذكرى، ويعرّف لديهم نكرى، ويجدّد عندهم شكرى. أخلّف نفسى عندهم بعد رحلتى ... فسيّان قربى ان تأمّلت والبعد وقد فضّل الكندىّ «4» بى عند قوله ... فإنّك «5» ماء الورد إن ذهب الورد ومن انشاء المولى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانىّ فى شهور سنة ستّ وسبعمائة، رسالة ترجمها (بأنوار السعد، ونوّار المجد، فى المفاخرة بين النّرجس والورد) ، قال: الحمد لله الذى أضحك ثغور الأزهار، بكاء عيون الأمطار، وأنطق خطباء الأطيار، على منابر الاشجار؛ وعقد عليها من النّوّار إكليلا، وأمر الغزالة أن تسلّ عليها عند بروزها من الإبريز سيفا صقيلا؛ حمى حدائقها بأحداق نرجسها، فنمّ لسان النسيم بطيب نفسها؛ أبدع فى تركيب حلّها وعقدها، فثغور

الأقحوان تقبّل خدود وردها؛ خلخلت سوقها فضلات الجداول، واطّردت أنهارها كالأيم «1» وقد حثّ بأطراف العوامل «2» ، فحكت المبارد متونا، والحيّات بطونا؛ أحمده على نعمه التى تأرّج نشرها، وبدا على جبين الدهر بشرها؛ حمدا تخضلّ من ترادف سيبها «3» أغصانه، وتثمر بأنواع السعادة أفنانه؛ وأصلّى على سيّدنا محمد الذى عطّر الكون مسكىّ رسالته، ووطّد القواعد الشرعيّة مرهف بسالته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما توّجت الغمائم رءوس الرّبا، وسحب ذيل الصّبا على أزهار روضها مهبّ الصّبا؛ وبعد، فإنّ أولى ما وقعت المفاخرة بين غصنين نشآ فى جنّه، وبارقتين تألّقتا فى دجنّه؛ وزهرتين تفتّحتا فى كمامه، وقطرتين صدرتا من غمامه؛ ولمّا كان النرجس والورد قريعى هذه الصّفات، وقارعى هذه الصّفاة، تطاول كلّ منهما الى انه النديم، والخلّ الّذى لا يملّه الحميم؛ طالما عطّر بنشره الأكوان، وغازل بعيونه الغزلان؛ وأنارت شموس سعوده، وقبّلت حمرة خدوده؛ أحببت أن أقيمهما فى موقف المناضلة، وأشخّصهما «4» فى معرض المفاضلة؛ ليبرهن كلّ منهما على ما ادّعى أنّه فى وطابه، ويبدى شعائر ما تقلّده وتحلّى به؛ فبالامتحان يظهر الزّيف، ولا يقبل الحيف؛ فعندها حدّق النرجس بأحداقه، وقام على قصبة ساقه؛ وتهيأ لمناضلة خصمه، وشرع يبدى شرائع حكمه؛ وقال: أشبهت العيون وأشبهت الخدود فلا فرق، ولقد علمت ما بينهما مثل ما بين القدم والفرق «5» ؛ فأنا حارس مجلس

الشراب، والنديم المعوّل عليه بين الأحباب؛ تسمّيت بأحسن الأسامى، فلست لى بمسامى؛ تسمّت بى الحسان، ومست فى حلل مصبّغات الألوان؛ ولو اعتبرت بحمرة خجلك، وتشقيق جيوب حللك؛ ما قمت فى موقف المفاخر، ولا فهت ببنت شفة فى معرض المفاخر؛ فتضرّج خدّ الورد حمره، وأوقد من الغيظ لمناضلته جمره؛ وقال: مت بداء الحسد فقد علاك اصفراره، وأين منك الطّرف كما ادّعيت ولم يبد عليك احوراره؛ صدقت، ولكن أنت أشبه بالعين المخصوصة باليرقان والصفرة المنوطة بالأيهقان «1» ؛ فلقد عشت عيونك السقيمة من أشعّة شموسى ووقفت على قصب ساقك حيث استقرّ كرسىّ جلوسى؛ فأنا دائرة الجمال، المشتملة على قطب الكمال، ربّتنى الدرارىّ «2» بدرّها، وقلّدتنى نفيس درّها؛ فنشرت أعلامى العقيانيّة على زهرتها، وأشبهت شكلها وحسن زهرتها؛ فهزّ النرجس رماحه الزبرجديّه، فتلقّاها الورد بحجفته «3» الذهبيّة، وقال «4» : اردد هذه العقود النفيسة الى هواديها، فقد علم كذبك حاضرها وباديها؛ والطم خدودك حزنا على فوات مقامى وقصورك عن بلوغ مرامى؛ من أين لك مداهن درّ حشوهنّ عسجد؛ لست أبالى

بنفسك تصوّب أم تصعّد؛ أما ترانى قد نشرت على رماح من زبرجد طالما حرست حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين «1» حمى الرياض، ولبست أحسن اللّباس وهو البياض، وقمت خطيبا على منبر الصّين وقلّدت إمرة الرياحين؟ فأنا ناطر «2» هذا الفضل، وناظر هذا الفصل؛ سبقتك الى الوجود مكانا «3» أعدم مكانك، ولم يرض زمانى يجاور زمانك، لبثك «4» على وجه البسيطة قليل، وحالك- كما علمت- ليس بالجليل؛ تتلوّن كما يتلوّن الغول، من أحمرك وأصفرك وأبيضك المملول «5» ؛ فلقد رماك ابن الرومىّ بسهام هجائه، وجعلك عرضة لنوائب الدهر ولأوائه «6» ؛ حيث قال: كأنه سرم بغل حين يخرجه ... الى البراز وباقى الرّوث فى وسطه وحيث مدحنى وقال: أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد فمثل هذه المسبّة لا يضمحلّ أثرها، ولا ينقطع خبرها؛ ولله درّ القائل: النرجس الغضّ له رتبة ... أشبه شىء بالعيون المراض قام على قضبانه مبديا ... فخاره المشهود بين الرياض

ولو لم أغمض عن مساويك عينى، وأترك للصلح [موضعا «1» ] بينك وبينى، لكنت أبديت أضعاف مساويك، لأننى فى الرتبة غير مساويك؛ فعندها اشتعل الورد من كلامه، وظهر على جسده أثر كلامه؛ وقال: لقد تعدّيت طورك وستعرف جورك وكورك «2» ؛ لكن قحة العيون مخصوصة بالأنذال، والتجرّى على الملوك من شعائر الجهّال؛ فأنا سلطان الرياحين، وبذلك وقّع لى فى سائر الدواوين؛ كأننى وجنة حبّ وقد نقّطت بدينار، أو أنامل خود عندميّة ضمّت على قراضة نضار؛ أشبهت الشموس شكلا، وفقت البدور مثلا؛ أنظم كما تنظم العقود، وأصل كما يصل الحبيب بعد الصدود، وأمّا افتخارك بالحراسة فهى محلّ الأسقاط، والوظيفة المنوطة بالأنباط؛ وأمّا كونك سبقتنى فهو على حكم الحجبه، والمبشّر بوصولى وإن كان أضمر بغضه لا حبّه؛ فلمّا علم أوان حطّ رحالى حثّ رحاله، وأشاع فى أصحابه ارتحاله؛ وقال: قد أظلّنا وصول ملك لا يجارى، ورئيس لا يبارى؛ وأين زمانك من زمانى، ومكانك من مكانى؟ لا أظهر إلا والثّرى قد اكتسى سندسىّ أديمه وفاح مسكىّ نسيمه؛ وخطبت أطياره، واخضلّت أزهاره؛ وصدحت بلابله، وتأرّجت خمائله؛ واطّردت أنهاره، وتعانقت أغصانه وأشجاره؛ بزغت شموسى فى فلك غياضه، وتكلّل خدّى عرقا من أنداء رياضه؛ فأنا بينها الطّراز المذهّب، والملك المعظّم المهذّب؛ اذا برزت فى لياليك المعتمه، وظهرت فى أراضيك المقتمه؛ وسهرت عيونك فى ليل شتائك «3» ، وقاسيت برد مائك وطول عنائك؛ ولكم بين الشتاء والربيع، كما بين الرئيس والوضيع؛ يا جبلىّ الطباع، لقد صرّتك «4» رياحى، وصفّرت

عينك حمرة خمرة ارتياحى؛ وأمّا ثلبك بقصر مدّتى، وسرعة بلى جدّتى؛ فدليل على عدم عقلك؛ وسقوط معقولك ونقلك؛ أما علمت أنّ المكثر للزيارة مملول، وعقد ودّه محلول؛ لو بقيت الشمس على الدوام، لملّتها أنفس الأنام؛ ولك بذلك عبره، وأنت فى هذا الموطن من أهل الخبره؛ لمّا أقمت ملّك الناشق، ولم يعرّج عليك العاشق؛ ولقد عجبت من رقاعة عصّبت رأسك بالحماقه، وادّعيت شبه العيون وأنت أشبه شىء بصفرة بيض على رقاقه؛ إن ذهبت عينك لم يبق لك أثر، كلّا ولا يوجد لمجدك خبر؛ لكن أنا ان ذهبت عينى فأثرى على أردان الأماجد يفوح، وعلى ممرّ الأعصر يغدو ويروح؛ فأنا أثر بعد عين، فدع عنك التحلّى بالمين؛ ولله درّ القائل: يا حبّذا الورد مذ حيّا بطلعته ... وعطّر الأفق منه نشره العبق كالشمس شكلا ونشر المسك رائحة ... واللؤلؤ الرّطب فى تضريجه عرق فعميت عيون النرجس من بزوغ أنواره، ونكّست أعلامه الزبرجديّة لنضارة نوّاره؛ فعندها قال الورد: هذه الشقراء «1» والميدان، ان كانت لك خبرة بمبارزة الأقران؛ فلمّا أورده لظى الحرب، ولم يكن من رجال الطّعن والضرب، وألزمه الحجّة، وعرّفه المحجّه؛ وبان بهرجه من إبريزه، وتحقّق موادّ تبريزه؛ دمعت عينه أسفا، على ما أبداه من الجفا؛ ثم قال: ما أنا أوّل من بحث بظلفه عن حتفه وجدع مارن أنفه بكفّه؛ لقد قيل: عادات السادات، سادات العادات؛ وعادة الملك- أدام الله انهمار السّحب على خمائله الذهبيه، وأطلع فى فلك الاعتلاء أنواره الشمسية- الصفح عمّن كثر ندمه، وزلّت قدمه؛ ومن نشر أعلام

الاستغفار، خليق أن يقبل منه ما يبديه من الاعتذار؛ وما أنا أوّل من هفا ولا أنت أوّل من عفا؛ ليت شعرى، أين حياؤه من وقاحتى، وأين رشاقته من كثافتى؛ الخفارة لائحة عليه، وأمور الرياحين تساق اليه؛ فعندها قال الورد: من شأننا الصفح عما أتيته، فقد جنيت ثمار الندم بما جنيته؛ فكن قرير العين، ولا تعد لمثلها فالمؤمن لا يلدغ «1» من جحر مرتين؛ واحذر أن تطاول من هو أعلى منك محلّه وأبهج فى ارتداء السيادة حلّه؛ والآن فقد تولّد من بياضك وحمرتى اجتماع «2» ، والتأم شعث أمرنا بعد أن طار شعاع «3» ؛ أما علمت أنّ الامتحان، يظهر رتبة الإنسان؛ ومن سعادة جدّك، وقوفك عند حدّك؛ فكن لما قلته بالمرصاد، وان عدت لمثلها فترقّب أوّل «4» النحل وآخر صاد؛ ونسأل الله تعالى أن يهدينا الى الرّشد، وأن يذهب عنا ضغائن الحسد؛ بمنّه وكرمه؛ [انه على ما يشاء قدير، وبالإجابة «5» جدير] .

وأما النسرين وما قيل فيه

وأما النّسرين «1» وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع النسرين حار يابس فى الثالثة «2» ؛ وهو منقّ ملطّف، وزهره أخصّ بذلك، وينفع من برد العصب، ويقتل الديدان فى الأذن؛ وينفع من الطّنين والدّوىّ؛ وينفع من وجع الأسنان؛ والبرّىّ تلطخ به الجبهة فيسكّن الصّداع؛ وهو يفتّح سدد المنخرين؛ واذا شرب مع أربع درخميات «3» سكّن القىء، ويسكّن الفؤاق وخصوصا البرّىّ منه؛ والله أعلم. وأما ما جاء فى وصفه - فقال شاعر [منشدا «4» ] : أكرم بنسرين تذيع الصّبا ... من نشره مسكا وكافورا ما إن رأينا قطّ من قبله ... زبرجدا يثمر بلوّرا وقال آخر: انظر لنسرين يلوح ... على قضيب أملد كمداهن من فضّة ... فيها برادة عسجد حيّتك من أيدى الغصو ... ن بها أكفّ زبرجد

وأما البان وما قيل فيه

وقال عبد الرحمن «1» بن علىّ النحوىّ: زان حسن الحدائق النّسرين ... فالحجا فى رياضه مفتون قد جرى فوقه اللّجين وإلّا ... فهو من ماء فضّة مدهون أشبهته طلى الحسان بياضا ... وحوته شبه القدود غصون وقال آخر فيه ملغزا: ومشموم له عرف ذكىّ ... وفى تصحيفه بعض الشّهور «2» اذا أسقطت خمسيه تراه ... عيانا فى السماء «3» وفى الطّيور وأوّله «4» وآخره سواء ... وباقيه يشحّ به ضميرى وأما البان «5» وما قيل فيه - فقال أبو على بن سينا فى ماهية البان: حبّه أكبر من الحمّص، الى البياض، وله لبّ ليّن دهنىّ؛ وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس

فى الثانية. وقال: إنه منقّ، خصوصا لبّه، يقطع الأخلاط الغليظة، ويفتّح مع الخلّ والماء سدد الأحشاء. قال: وقشره قابض، ولا يخلو دهنه من قبض وفى جميعه جلاء وتقطيع؛ وحبّه ينفع من البرش والنّمش والكلف والبهق وآثار القروح وكذلك دهنه. [قال «1» : وينفع من الأورام الصّلبة كلّها إذا وقع فى المراهم، ومن الثّآليل «2» ، وهو بالخلّ ينفع من التقشّر والجرب المتقرّح والبثور اللّبنيّة «3» ؛ وهو يسخّن العصب، ويليّن التشنّج وصلابات العصب، وخصوصا دهنه] . قال: وينفع من الرّعاف لقبضه، ودهنه يوافق وجع الأذن والدوىّ فيها، خصوصا مع شحم البطّ؛ وطبيخ أصله ينفع من وجع الأسنان مضمضة؛ وهو ينفع من صلابة الطّحال والكبد اذا شرب بخلّ ممزوج وزن درهمين منه؛ والمثقال من حبّه يسهل بلغما خاما «4» اذا شرب بالعسل، وكذلك دهنه اذا احتملت فتيلة مغموسة فيه.

وأما ما جاء فى باكورة الخلاف

وأما ما جاء فى باكورة الخلاف - قال شاعر: أوّل ثغر الربيع مبتسما ... نور خلاف درّ مضاحكه قضبانه القانئات فى لمع ... من لؤلؤ وضح «1» مسالكه بشير صدق جاء الربيع به ... يخبر أن زيّنت ممالكه وقال آخر: عود خلاف أتى وفاقا ... من الملاهى بلا خلاف مرصّع قشره بنور ... ألّف من لؤلؤ ولاف «2» وقال أبو عبادة البحترىّ «3» : هذا الربيع كأنما أنواره ... أولاد فارس فى ثياب الروم وترى الخلاف كشارب من قهوة ... ثمل الى شرب المدامة يومى بسط البسيطة سندسا وتبرقعت ... قلل المياه «4» بلؤلؤ منظوم وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: غصون الخلاف اكتست فانبرت ... لها الطير دارسة شدوها مقدّمة لورود الربي ... ع تشخص أبصارنا نحوها أحسّت برحلة فصل الشتا ... فجاءت وقد قلبت فروها

وقال [آخر، وهو شهاب الدين أحمد، عرف بأبى «1» ] جلنك «2» الحلبىّ: لله «3» بستان حللنا دوحه ... فى لذة «4» قد فتّحت أبوابها والبان تحسبه سنانير رأت ... بعض «5» الكلاب فنفّشت أذنابها وكتب الصاحب بن عبّاد- وقد أهدى باكورة خلاف- قد نوّرت «6» لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن يطول أن تستقصى؛ منها أنه أوّل ثغر يتبسم عند الربيع ويضحك، ودرّ يعقد على القضبان ويسلك؛ ولتمايله ادّكار لقدود «7» الأحباب، وتهييج لسواكن الاضطراب؛ وحمل الىّ قضيب منه ذاته متعادله، ولذّاته متقابله؛ فأنفذته مع رقعتى هذه اليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك. قال، وقلت «8» :

وأما النيلوفر وما قيل فيه

وقضيب من الخلاف بديع ... مستخصّ بأحسن الترصيع قد نعى شرّة الشتاء الينا ... وسعى فى جلاء وجه الربيع وحكى من أحبّ عرفا وظرفا ... واهتزازا يثير نار الضلوع وأمّا النّيلوفر «1» وما قيل فيه - فقال ابن التلميذ: النّيلوفر اسم فارسىّ معناه النيلىّ الأجنحة، والنيلىّ الأرياش. وربما سمى بالفارسية «2» اسما معناه كرنب الماء؛ وسماه جالينوس: كرنب الماء؛ وحبّه يسمّى حبّ العروس، وفيه حلاوة. وقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: ان أخذتم ظلفى الغزال من يديه، وقرنيه جميعا، وطمرتم ذلك فى التراب الندىّ، خرج من ذلك النبات الذى يسمّى شاكريا «3» ، وهو النّيلوفر، وقال أيضا: وان أخذتم عينى الغزال وقرنيه وظلفا واحدا من يديه، وطمرتم ذلك فى التراب، خرج منه الشاكريا الأزرق؛ فان طمرتم ظلفيه من رجليه وقرنه الأيسر مع كفّ من بعره، خرج منه الشاكريا الأحمر؛ فان نقصتم من هذا أحد ظلفى رجليه، خرج الشاكريا الأصفر. قال: والهند

تسّميه نينوفر، والنّبط تسمّيه نيلوفريا، والعرب تسميه نيلوفه، والفرس تسميه نيلوفر «1» . وقال الشيخ الرئيس أبو على بن سينا: والنّيلوفر «2» الهندىّ فى حكم اليبروح «3» ؛ وأقواه الأبيض الأصل؛ وبزره أقوى من حبّه «4» . قال: وطبعه بارد رطب فى الثانية «5» ؛ وشرابه شديد التطفئة، ملطّف جدّا، وأصله بالماء على البهق نافع خصوصا الأسود، وأصله مع الزفت على داء الثعلب «6» ، وخصوصا الأسود؛ وشرابه جيّد للسّعال والشّوصة «7» . قال: وأصله ينفع من الأورام الحارّة؛ وأصله وبزره للقروح؛ وأصله ينفع أورام الطّحال شربا وضمادا، وينفع «8» الاحتلام، ويكسر شهوة

وأما ما جاء فى وصفه

الباه اذا شرب منه درهم بشراب الخشخاش؛ وهو يجمد المنىّ بخاصيّة فيه، وخصوصا أصله؛ وهو منوّم، مسكّن للصّداع الحارّ الصفراوىّ، لكنّه يضعف؛ وأصله ينفع من الإسهال المزمن وقروح المعى وأوجاع المثانة ضمادا؛ وبزره أقوى فى كل شىء، حتى إنه يمنع نزف الحيض؛ وأصل الأصفر منه وبزره اذا شربا «1» نفعا سيلان الرطوبة المزمنة من الرحم؛ وشرابه مليّن للبطن، نافع من الحمّيات الحارّة، شديد التطفئة «2» ؛ [والله المستعان «3» ] . وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال أبو بكر الزّبيدىّ «4» الأندلسىّ: وبركة «5» أحيا بها ماؤها ... من زهرها كلّ نبات عجيب كأنّ نيلوفرها عاشق ... نهاره يرقب وجه الحبيب حتى اذا الليل بدا نجمه ... وانصرف المحبوب خوف الرقيب

أطبق جفنيه عسى فى الكرى ... يبصر من فارقه عن قريب وقال آخر «1» : يا حبّذا بركة نيلوفر ... قد جمّعت من كلّ فنّ عجيب أزرق فى أحمر فى أبيض ... كقرصة فى صحن خدّ الحبيب كأنه يعشق شمس الضحى ... فانظره فى الصبح وعند المغيب اذا تجلّت يتجلّى لها ... حتى اذا غاب سناها يغيب يرنو اليها مبصرا يومه ... ولا يحاشى نظرات الرقيب لا يبتغى وجها سوى وجهها ... فعل محبّ مخلص فى حبيب وقال التّنوخىّ «2» : فكأنّه فى الماء صاحب مذهب ... أغراه وسواس بأن لم يطهر وقال آخر «3» : كلّنا باسط اليد ... نحو نيلوفر ندى كدبابيس عسجد ... نصبها من زبرجد وقال آخر «4» : اشرب على بركة نيلوفر ... محمرّة الأوراق خضراء كأنّما أزهارها أخرجت ... ألسنة النار من الماء

وقال آخر: ونيلوفر صافحته الرياح ... وعانقه الماء صفوا ورنقا تخيّل أوراقه فى الغدي ... ر ألسنة النار حمرا وزرقا وقال آخر: صفر الدّرارى «1» تضمّها شرف ... مفتضح عند نشرها العطر تحملها خيزرانة ذبلت ... ذبول صبّ أذابه الهجر وقال ابن الرومىّ» : يرتاح للنّيلوفر القلب الذى ... لا يستفيق من الغرام وجهده والورد أصبح فى الروائح عبده ... والنرجس المسكىّ «3» خادم عبده يا حسنه فى بركة قد أصبحت ... محشوّة مسكا يشاب بندّه وكأنّه فيها وقد لحظ الصّبا ... ورمى المنام ببعده وبصدّه مهجور حبّ ظلّ يرفع رأسه ... كالمستجير بربّه من ضدّه وكأنّه إذ غاب عند مسائه ... فى الماء فانحجبت نضارة قدّه صبّ يهدّده الحبيب بهجره ... ظلما فغرّق نفسه من وجده وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: ونيلوفر أعناقه أبدا صفر ... كأنّ به سكرا وليس به سكر

اذا انفتحت أوراقه فكأنّها ... وقد ظهرت ألوانها البيض والصّفر أنامل صبّاغ صبغن بنيله ... وراحتها بيضاء فى وسطها تبر وقال السّرىّ الرّفّاء: وبركة حفّت بنيلوفر ... ألوانه بالحسن منعوته نهاره ينظر عن مقلة ... ساجية الألحاظ مبهوته وإن بدا الليل فأجفانه ... فى لجّة البركة مسبوته كأنّما كلّ قضيب له ... يحمل فى أعلاه ياقوته وقال آخر «1» : وبركة تزهو بنيلوفر ... نسيمه يشبه نشر الحبيب مفتّح الأجفان فى يومه «2» ... حتى اذا الشمس دنت للمغيب أطبق جفنيه على حبّه ... وغاض فى البركة خوف الرقيب وقال آخر «3» : تحبّ «4» الشمس لا تبغى سواها ... وتلحظها بمقلة مستهام اذا غابت تكنّفها اشتياق ... فنامت كى تراها فى المنام وقال الرّفّاء: يا حسن نيلوفر شغفت به ... يمنحه الماء صفو مشروبه كأنّه عاشق به ظمأ ... توهّم الماء ريق محبوبه

وقال آخر: وشاخص نحو عين الشمس يرمقها ... حتى اذا غربت أغضى بتنكيس تراه من قطع المرجان فى قضب ... زرق الشوابير «1» أمثال الدّبابيس كأنّه ودروع الماء تشمله ... تحت الشّعاع أكاليل الطّواويس وقال آخر: ونيلوفر قد لاح فى زىّ فاقد ... حبيبا فمنه يستعير لباسه يظلّ نهارا شاخص الطّرف لاحظا ... ويغمس جنح الليل فى الماء راسه كأنّ عليه للظّلام مراقبا ... فيهرب منه أو يخاف اختلاسه وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: نيلوفر يسبح فى لجّة ... عليه ألوان من اللّبس مظاهر ثوب حداد على ... ثوب بياض علّ بالورس فالشّطر من أعلاه فى مأتم ... وشطره الأسفل فى عرس مغمّض طول الدّجى ناعس ... جفونه تفتح فى الشمس

الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الرابع فيما يشم [رطبا] ولا يستقطر

الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الرابع فيما يشمّ [رطبا «1» ] ولا يستقطر ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى البنفسج والنرجس والياسمين والآس والزعفران والحبق فأما البنفسج وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع البنفسج بارد رطب فى الأولى. وقال قوم: انه حارّ فى الأولى. قال: ولا شكّ فى برودته. وأمّا أفعاله وخواصّه ، فقيل: انه يولّد دما معتدلا؛ وهو يسكّن الأورام الحارّة ضمادا مع سويق الشعير؛ وكذلك ورقه. قال: ودهن البنفسج طلاء جيّد للجرب؛ وهو يسكّن الصّداع الدّموىّ شمّا وطلاء. قال: وينفع من الرمد الحارّ «2» ومن السّعال الحارّ؛ ويليّن الصدر، خصوصا المربّى منه بالسكّر؛ وشرابه نافع من ذات الجنب والرّئة والتهاب المعدة؛ وشرابه ينفع من وجع الكلى؛ ويابسه يسهل الصفراء؛ و [شرابه أيضا «3» ] يليّن الطبيعة برفق. وأما ما جاء فى وصفه - فقال أبو القاسم بن هذيل الأندلسىّ- ويروى لابن المعتزّ-: بنفسج جمّعت أوراقه فحكت «4» ... كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت

أو لا زورديّة أوفت «1» بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيت كأنّه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار فى أطراف كبريت وقال آخر فى معناه: بنفسج بذكىّ الريح مخصوص ... ما فى زمانك إذ وافاك تنغيص كأنّما شعل الكبريت منظره ... أو خدّ أغيد بالتخميش مقروص وقال أبو الحسن العقيلىّ: اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تنفى الأسى عن كلّ قلب مكمد فكأنه قرص بخدّ خريدة ... أو أعين زرق كحلن بإثمد وقال آخر: ماس البنفسج فى أغصانه فحكى ... زرق الفصوص على بيض القراطيس كأنّه وهبوب الريح يعطفه ... بين الحدائق أعراف الطّواويس وقال آخر: أهدت إلىّ بنفسجا ... أحبب بمهدية البنفسج فكأنّه هى فى اللّطا ... فة والذّكاء إذا تأرّج أوراقه اللهب «2» المطلّ ... على الذّبالة حين تسرج أو إثر «3» قرص مؤلم ... فى وجنة الخدّ المضرّج

وقال آخر فى الأبيض منه- وذكر ممدوحا-: كأنّ البنفسج فيما حكى ... من الطّيب أخلاقك المونقه يلوح فتحسب طاقاته ... فصوصا من الفضّة المحرقه وقال أبو الحسن الشاطبىّ- ويروى لابن الرومىّ-: اشرب على زهر البنف ... سج قبل تأنيب الحسود فكأنّما أوراقه ... آثار قرص فى الخدود [وقال آخر «1» ] : وكأنّ البنفسج الغضّ يحكى ... أثر اللّطم فى خدود الغيد وقال أبو هلال العسكرىّ: وبحافاتها البنفسج يحكى ... أثر القرص فى خدود العذارى وقال الميكالىّ فيه متفائلا به: يا مهديا لى بنفسجا أرجا ... يرتاح قلبى له وينشرح بشّرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح وتطيّر آخر به فقال: يا مهديا لى بنفسجا سمجا ... أودّ لو أنّ أرضه سبخ أنذرنى عاجلا مصحّفه ... بأنّ عقد الحبيب ينفسخ وقال صالح بن يونس: بنفسج جاء فى حداد ... ووردنا فى معصفرات فاشرب على مأتم وعرس ... جلّا جميعا عن الصّفات

وأما النرجس وما قيل فيه

ومن رسالة لأبى العلاء عطاء بن يوسف السّندىّ يصف طاقة بنفسج، قال: سماويّة اللّباس، مسكيّة الأنفاس؛ واضعة رأسها على ركبتها كعاشق مهجور ينطوى على قلب مسجور؛ كبقايا النّقش فى بنان الكاعب، أو النّقس فى أصابع الكاتب؛ أو الكحل فى ألحاظ الملاح، المراض الصّحاح؛ الفاترات الفاتنات، المحييات القاتلات؛ لازورديّة أوفت زرقتها على زرق اليواقيت، كأوائل النار فى أطراف كبريت؛ أو كأثر القرص فى خدود العذارى أو عذار خلعت فيه العذارا وأمّا النّرجس وما قيل فيه - فقال أبو بكر بن وحشيّة فى توليده: ان أردتم النرجس فخذوا قرنى الغزال، فاقطعوا كلّ قرن نصفين، وانقعوهما فى بول البقر سبعة أيّام، ثم اقلعوا عينى الغزال، واجعلوهما فوق رءوس القرون، واطمروهما فى الأرض فى أوّل ساعة من يوم الجمعة، فإنّه بعد خمسة عشر يوما ينعقد نرجسا مفتّحا. وإن أردتموه مضعّفا فخذوا الثّوم، ثم شقّوا البصل، واجعلوا الثّومة فى وسطها، ولتكن سنّا واحدة، ثم ضمّوا على الثّومة نصفى بصلة النرجس، واغرسوها فى الأرض، فإنّه ينبت النرجس المضاعف؛ وان أردتم المضاعف الذى بعض ورقه أخضر وبعضه أصفر، فخذوا سنّا من الثّوم، وخذوا عصارة ورق بصل النرجس، وانقعوا السّنّ فى العصارة ثلاثة أيام، ثمّ أدخلوها فى البصلة، واغرسوها فى الأرض، فإنّها تنبت بعد أيّام قلائل. وقال أبو علىّ بن سينا: انّ أصل النرجس يخرج الشّوك والسّلّاء «1» ، وخصوصا مع دقيق الشّيلم «2» والعسل. قال:

وأما ما جاء فى وصفه

والنرجس يجلو الكلف والبهق، وخصوصا أصله بالخلّ، وينفع أصله من داء الثّعلب «1» ؛ ويعجن أصله مع العسل والكرسنّة فيفجّر الدّماميل «2» العسرة النّضج؛ ويضمد بأصله على أورام العصب. قال: والنرجس يجفّف الجراحات، ويلزقها إلزاقا شديدا؛ ودهنه ينفع للعصب. قال: وينفع من الصّداع الرّطب السّوداوىّ «3» وكذلك دهنه، وهو أوفق؛ ويصدّع الرءوس الحارّة؛ واذا أكل أصله هيّج القىء؛ واذا شرب منه أربعة دراهم بماء العسل أسقط الأجنّة الأحياء والأموات؛ ودهنه يفتّح انضمام الرّحم، وينفع من أوجاعها. وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال أبو نواس الحسن بن هانئ: لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه ... اذا ما منحناه العيون عيون مخالفة فى شكلهنّ بصفرة ... مكان سواد والبياض جفون وقال أبو الفتح محمود «4» كشاجم: كأنّما نرجسنا ... وقد تبدّى من كثب أنامل من فضّة ... يحملن كأسا من ذهب

وقال أبو بكر الصّنوبرىّ «1» : أضعف قلبى النرجس المضعف ... ولا عجيب إن صبا مدنف كأنّه بين رياحيننا ... أعشار آى ضمّها مصحف وقال آخر «2» : ونرجس الى حدا ... ئق الرياض محدق كأنّما صفرته ... على بياض يقق أعشار جزء ذهّبت ... من ورق فى ورق وقال أبو بكر بن حازم: ونرجس ككئوس التّبر لائحة ... من الزّبرجد قد قامت بها ساق كأنهنّ عيون هدبها ورق ... لهنّ من خالص العقيان أحداق وقال الصّنوبرىّ: ونرجس مضعف تضاعف من ... هـ الحسن فى أبيض وفى أصفر الدّرّ والتّبر فيه قد خلطا ... للعين والمسك فيه والعنبر وقال أيضا يصفه فى منابته: أرأيت أحسن من عيون النرجس ... أو من تلاحظهنّ وسط المجلس درّ تشقّق عن يواقيت على ... قضب الزبرجد فوق بسط السّندس أجفان كافور حشين بأعين ... من زعفران ناعمات الملمس مغرورقات «3» فى ترقرق طلّها ... ترنو بعين الناظر المتفرّس

فاذا تنشّقها تنفّس ناشق ... عن مثل ريح المسك أىّ تنفّس وحكى تدانى بعضها من بعضها ... يوما تدانى مؤنس من مؤنس واذا نعست من المدام رأيتها ... ترنو اليك بأعين لم تنعس وقال ابن الرّومىّ «1» : ونرجس كالثّغور مبتسم ... له دموع المحدّق الشّاكى أبكاه قطر النّدى وأضحكه ... فهو من القطر ضاحك باكى [وقال آخر «2» ] : قد عكفنا على عيون من النّرجس ... بيض مصفرّة الأحداق ذابلات الأجفان كالعاشق الوا ... قف يشكو الهوى على فرد ساق وقال شاعر أندلسىّ: انظر الى نرجس فى روضة أنف ... غنّاء «3» قد جمعت شتّى من الزّهر كأنّ ياقوتة صفراء قد طبعت ... فى غصنه حولها ستّ من الدّرر [وقال آخر «4» ] : أبصرت باقة «5» نرجس ... فى كفّ من أهواه غضّه فكأنّها قضب الزّبر ... جد قمّعت ذهبا وفضّه

[وقال ابن عبّاد «1» ] : عمرى لقد راق طرفى حسن زاهرة ... تميس فى سندسيّات من الورق أبدت لنا عجبا منها حديقتها ... عينا من التّبر فى جفن من الورق «2» وقال أبو الفضل الميكالىّ: أهلا بنرجس روض ... يزهى بحسن وطيب يرنو بعينى غزال ... على قضيب رطيب وفيه معنى خفىّ ... يزينه فى القلوب تصحيفه إن نسقت ال ... حروف برّ حبيب [وقال آخر «3» ] : لمّا أطلنا عنه تغميضا ... أهدى لنا النّرجس تعريضا فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصّفر والبيضا وقال أبو هلال العسكرىّ: ونرجس مثل أكفّ خرّد ... درن علينا بكئوس الذهب ناولنيه مثله فى حسنه ... فحلّ من قلبى عقد الكرب مبتسم عنه وناظر به ... هذا لعمرى عجب فى عجب وقال أيضا فيه «4» : ونرجس قام فوق منبره ... مثل عروس تجلى وتشتهر

نام النّدى فى عيونه سحرا ... فاعتاده فى منامه سهر لم يغتمض والظلام حلّ به ... كأنّما فى جفونه قصر تحيّر الطّلّ فى مدامعه ... فليس يرقا وليس ينحدر كدمعة الصّبّ كاد يسكبها ... فردّها فى جفونه الحذر وقال ابن المعتزّ: وعجنا الى الرّوض الذى طلّه النّدى ... وللصّبح فى ثوب الظّلام حريق كأنّ عيون النرجس الغضّ بينه ... مداهن درّ حشوهنّ عقيق اذا بلّهنّ القطر خلت دموعها ... بكاء جفون كحلهنّ خلوق وقال ابن الرومىّ يفضّله على الورد: خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلا تورّدها عليه شاهد لم يخجل الورد المورّد لونه ... إلا وناحله. الفضيلة عاند للنرجس الفضل المبين وإن أبى ... آب وحاد عن الطريقة حائد فصل القضيّة أنّ هذا قائد ... زهر الرّبيع وأنّ هذا طارد شتّان بين اثنين هذا موعد ... بتسلّب الدنيا وهذا واعد واذا احتفظت به فأمتع صاحب ... بحياته لو أنّ حيّا خالد يحكى مصابيح السماء وتارة ... يحكى مصابيح الوجوه تراصد ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسّماع يساعد إن كنت تطلب فى الملاح سميّه ... يوما فإنك لا محالة واجد والورد إن فتّشت فرد فى اسمه ... ما فى الملاح له سمّى واحد هذى النجوم هى التى ربّينها ... بحيا السحاب كما يربّى الوالد فانظر الى الولدين من أوفاهما ... شبها بوالده فذاك الماجد

أين العيون من الخدود نفاسة ... ورآسة لولا القياس الفاسد وقال أيضا فيه: وأحسن ما فى الوجوه العيون ... وأشبه شىء بها النّرجس «1» [وقال أيضا «2» ] : وزعفرانيّة فى اللّون تحسبها ... اذا تأمّلتها فى ثوب كافور كأنّ حبّ سقيط الطّلّ بينهما ... دمع تحيّر فى أجفان مهجور وقال عبد الله بن المعتزّ: عيون اذا عاينتها فكأنّما ... مدامعها من فوق أجفانها درّ محاجرها بيض وأحداقها صفر ... وأجسامها خضر وأنفاسها عطر [وقال محمد بن يزيد المبرّد «3» ] : نرجسة لا حظنى طرفها ... تشبه دينارا على درهم وقال عبيد الله بن عبد الله: ترنو بأحداقها اليك كما ... ترنو اذا خافت اليعافير مثل اليواقيت قد نظمن على ... زبرجد بينهنّ كافور كأنّها والعيون ترمقها ... دراهم وسطها دنانير

وأما الياسمين وما قيل فيه

وأمّا الياسمين وما قيل فيه - فالياسمين والياسمون اسم «1» فارسىّ؛ وهو نوعان: برّىّ، ويسمّى بهرامج «2» ، وتسمّيه العرب الظّيّان «3» ؛ وبستانىّ، وهو أصفر وأبيض، والأبيض أطيب رائحة. قال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأبيض أسخن من الأصفر، والأصفر من «4» الأرجوانىّ؛ وهو بالجملة حارّ يابس فى الثانية. قال: وهو يلطّف الرّطوبات؛ ودهنه ينفع المشايخ. قال: وهو يذهب الكلف رطبه ويابسه، وكثرة شمّه تورث الصّفار «5» ؛ ودهنه نافع للأمراض الباردة فى العصب؛ ورائحته مصدّعة، لكنّها مع ذلك تحلّ «6» الصّداع الكائن عن البلغم اللّزج اذا شمّت؛ والخالص من دهنه يرعف المحرور اذا شمّه لوقته. وأما ما جاء فى وصفه - فقال أبو إسحاق الحضرمىّ يصفه قبل تفتّحه:

خليلىّ هبّا وانفضا عنكما الكرى ... وقوما الى روض وكأس «1» رحيق فقد لاح رأس الياسمين منوّرا ... كأقراط درّ قمّعت بعقيق يميل على ضعفى الغصون كأنّما ... له حالتا ذى غشية ومفيق اذا الرّيح أدّته الى الأنف خلته ... نسيم جنوب ضمّخت بخلوق وقال آخر: وروضة نورها يرفّ ... مثل عروس اذا تزف كأنّما الياسمين فيها ... أنامل مالها أكفّ [وقال آخر «2» ] : كأنّ الياسمين الغضّ لمّا ... أدرت عليه وسط الرّوض عينى سماء للزبرجد قد تبدّت ... لنا فيها نجوم من لجين وقال آخر: وياسمين عبق النّشر ... يزرى بريح العنبر الشّحرى «3» يلوح من بين غصون له ... كمثل أقراط من الدّرّ وقال المعتمد بن عبّاد: كأنّما ياسميننا الغضّ ... كواكب فى السماء تبيضّ والطّرق الحمر فى بواطنه ... كخدّ عذراء مسّه عضّ

وقال الشّمشاطىّ فى دوحة «1» جمعت بين الأبيض والأصفر: وياسمين قد بدا لونين ... قراضة من ورق «2» وعين ركّب فى زبرجد نوعين ... فالبيض منه فى عيان العين مثل ثغور البيض غير مين ... والصّفر لون عاشق ذى بين وقال أحمد بن عبد الرحمن القرطبىّ: ولفّاء خلناها سماء زبرجد ... لها أنجم زهر من الزّهر الغضّ تناولها الجانى من الأرض قاعدا ... ولم أر من يجنى النجوم من الأرض وقال شاعر يتطيّر به: أصبحت أذكر بالرّيحان رائحة ... منكم وللنفس بالرّيحان إيناس وأهجر الياسمين الغضّ من حذر ال ... ياس إذ قيل فى شطر اسمه ياس وقال آخر: لا مرحبا بالياسمين ... وان غدا للرّوض زينا صحّفته فوجدته ... متقابلا ياسا ومينا ونظيره قول الآخر: وياسمين إن تأمّلته ... حقيقة أبصرته شينا لأنّه ياس ومين ومن ... أحبّ قطّ الياس والمين

وأما الآس وما قيل فيه

وقال [ابن] «1» الحدّاد فى عكس ذلك: بعثت بالياسمين الغضّ مبتسما ... وحسنه فاتن للنّفس والعين بعثته منبئا عن صدق معتقدى ... فانظر تجد لفظه ياسا من المين وأمّا الآس وما قيل فيه - فالآس نوعان: برّىّ وبستانىّ؛ فالبرّىّ هو الّذى يسمّى بدمشق: قف انظر «2» ، سمّى بذلك لحسنه؛ وورقه يشبه ورق البستانىّ، إلا أنّه أعرض منه؛ وطرفه محدّد، يشبه سنان الرّمح؛ واليونان تسمّى الآس: مرسينى؛ وتسمّيه العامّة: مرسينا «3» . وقال ابن وحشيّة فى توليده: وان خلطتم بأصل اليبروح عيدان الشّبث وورق الجرجير وسحقتم ذلك سحقا جيّدا وزرعتموه فى الأرض، وهو كهيئة الكبّة، وصببتم فوق الكبّة الماء، وطمرتموه فى التراب، خرجت عن ذلك شجرة الآس الطويل الورق. وان أردتم المدوّر الورق فاخلطوا مع أصل اليبروح ورق الآس الطويل، ونصف وزن أصل اليبروح من ورق النّبق، فانه يخرج الآس المدوّر الورق. قال: وان أردتم الآس الأزرق اللّون، فاخلطوا بأصل اليبروح ورق النّيل، واعجنوا معهما من أصل الزيتون وعروقه، واطمروه «4» فإنّه يخرج عنه الآس الأزرق. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الآس: أقواه الذى يضرب الى السواد، لا سيّما الخسروانىّ «5» المستدير الورق، لا سيّما الجبلىّ «6» ؛ وأجود زهره الأبيض؛ وعصارة ثمرته أجود.

وأما طبعه

وأمّا طبعه ففيه حرارة لطيفة، والغالب عليه البرد، ويشبه أن يكون برده فى الأولى، ويبسه فى حدود الثانية. وأمّا أفعاله وخواصّه ، فإنّه يحبس الإسهال والعرق وكلّ نزف وكلّ سيلان الى عضو؛ واذا تدلّك به فى الحمّام قوّى البدن، ونشّف الرطوبات التى تحت الجلد؛ وهو ينفع من كل نزف لطوخا وضمادا ومشروبا، وكذلك ربّه وربّ ثمرته؛ وقبضه أقوى من تبريده؛ وهو يسرع جبر العظام؛ وليس فى الأشربة ما يعقل وينفع أوجاع الرئة والسّعال غير شرابه؛ ودهنه وعصارته [وطبيخه «1» ] تقوّى أصول الشّعر؛ وورقه اليابس يمنع صنان الآباط؛ ورماده ينقّى الكلف، ويجلو البهق. قال: والآس يسكّن الأورام والحمرة «2» والنّملة «3» والبثور والقروح والشّرى «4» وحرق النار «5» ؛ وورقه يضمد به بعد تخبيصه بزيت وخمر؛ ويابسه اذا ذرّ على الدّاحس «6» نفعه؛ واذا طبخت

وأما ما جاء فى وصفه

ثمرته بالشراب واتّخذت ضمادا أبرأت القروح الّتى فى الكفّين والقدمين وحرق النار وتمنعه عن التنفّط، ومن «1» استرخاء المفاصل. قال: والآس يحبس الرّعاف ويجلو الحزاز «2» ، ويجفّف قروح الرأس، وقروح الأذن؛ وينفع شرابه من استرخاء اللّثة؛ وورقه اذا طبخ بالشراب وضمد به سكّن الصّداع الشديد؛ واذا شرب شرابه قبل الشراب منع الخمار؛ والآس يسكّن الرمد والجحوظ؛ واذا طبخ مع سويق الشّعير أبرأ أورام العين؛ والآس يقوّى القلب، ويذهب الخفقان؛ وثمرته تنفع من السّعال؛ وهو يقوّى المعدة، خصوصا ربّه؛ وحبّه يمنع سيلان الفضول الى المعدة؛ وهو جيّد فى منع درور الحيض؛ وماؤه يعقل الطبيعة، ويحبس الإسهال؛ وطبيخ ثمرته ينفع من سيلان رطوبات الرّحم؛ وينفع تضميده للبواسير؛ وينفع من ورم الخصية؛ وطبيخه ينفع من خروج المقعدة والرّحم؛ وهو ينفع من عضّ الرّتيلاء «3» ، وكذلك ثمرته اذا شربت بشراب، وكذلك من العقرب. وأما ما جاء فى وصفه - فقال الأخيطل الأهوازىّ: للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام نضرته على الأوقات

وأما الزعفران وما قيل فيه

الجوّ أغبر وهو أخضر والثرى ... يبس ويبدو ناضر الورقات قامت على قضبانه ورقاته ... كنصال نبل جدّ مؤتلقات وقال آخر: وغادة أهدت الى إلفها ... قضيب آس زاد فى ظرفها كأنّما خضرة أوراقه ... بقيّة الحنّا على كفّها وقال آخر «1» فى باقة «2» آس: ومشمومة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا وقال ابن وكيع: خليلىّ ما للآس يعبق نشره ... اذا هبّ أنفاس الرّياح العواطر حكى لونه أصداغ ريم معذّر ... وصورته آذان خيل نوافر وأمّا الزّعفران وما قيل فيه - فالزّعفران يسمّى الجادىّ «3» بالدالين المهملة والمعجمة، والجساد، والرّيهقان، والكركم. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: جيّده الطرىّ، الحسن اللون، الذكىّ الرائحة، على شعره قليل بياض غير كثير، ممتلئ صحيح سريع «4» الصّبغ، غير متكرّج «5»

ولا متفتّت؛ وطبعه حارّ فى الثانية، يابس فى الأولى. وقال فى أفعاله وخواصّه: هو قابض محلّل منضج مفتّح. قال: وقال الخوزىّ: إنّه لا يغيّر «1» خلطا ألبتّة بل يحفظها «2» على السويّة «3» ، ويصلح العفونة، ويقوّى الأحشاء؛ وشربه يحسّن اللّون؛ وهو محلّل للأورام، وتطلى به الحمرة. قال: وهو مصدّع، يضرّ الرأس؛ وهو منوّم، واذا سقى فى الشّراب أسكر؛ وينفع من الورم الحارّ فى الأذن؛ وهو يجلو البصر، ويمنع النوازل اليه، وينفع من الغشاوة، ويكتحل به للزّرقة المكتسبة من الأمراض؛ وهو مقوّ للقلب، مفرّح يشمّه المبرسم «4» وصاحب الشّوصة «5» للتنويم، وخصوصا دهنه، ويسهّل النّفس، ويقوّى «6» النفس. قال: وهو مغث يسقط

وأما ما جاء فى وصفه

الشهوة بمضادّته «1» الحموضة التى فى المعدة وبها «2» الشّهوة، لكنّه يقوّى المعدة لما فيه من الحرارة والدّبغ والقبض. وقال قوم: الزعفران جيّد للطّحال. قال: وهو يهيج الباه، ويدرّ البول، وينفع من صلابة الرّحم وانضمامها والقروح الخبيثة فيها اذا استعمل بموم «3» أو محّ مع ضعفه زيتا. وزعم بعضهم أنّه سقاه للطّلق المتطاول فولدت للساعة. قال: وثلاثة مثاقيل منه تقتل بالتفريح؛ واذا عدم فبدله وزنه قسط «4» ، وربع وزنه قشور السّليخة «5» . وأما ما جاء فى وصفه - فقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وحديقة للزعفران تأرّجت ... وتبرّجت فى نسج وشى مونق شكت الحيال «6» فألقحتها «7» نطفة ... من صوب غادية الغمام المغدق حتى اذا ما حان وقت ولادها ... فتق الصّبا منها الذى لم يفتق عذراء حبلى قمّطت أولادها ... حمرا وصفرا فى الحرير الأزرق

وكأنّما اقتتلوا فأصفر خائف ... بحذاء قان بالدّماء مغرّق وقال آخر: وكأنّ ورد الزعفران مضاحك ... قد جمّعت لعس «1» المقبّل واللّمى «2» أو أنصل فوق التراب سديدة ... قد فارقت بعد الرّماية أسهما وقال آخر: للزعفران اذا ما قاسه فطن ... فضل على كلّ ورد زاهر أنق «3» كأنه ألسن الحيّات قد شدخت ... رءوسها فاكتست من حمرة العلق من لابس حمرة من وجه ذى خجل ... ولابس صفرة من وجه ذى فرق لا شىء أعجب من لونيهما وهما ... نشوان «4» تربان «5» فى مهد وفى خرق فرعان مختلف معناهما وهما ... نتيجتا جوهر فى الأصل متّفق. وقال آخر «6» : طلع الزعفران مثل زجاج «7» ... قد تنضّلن «8» من سهام غلاء «9»

وتراءى كأنّه شعل الكبريت ... ليلا ضياؤها فى غطاء ورق فيه زرقة تجلب الله ... وو يسى عيانه كلّ رائى يتفرّى عن قانئات حسان ... مثل هدب معصفر من رداء قائمات كأنّها ألفات ... خطّطت فى الطّراز ذات استواء يتنقّبن للرّجال غدوّا ... ثم يسفرن ضحوة للنّساء يتبرّجن فى ثياب الثّكالى ... ويعرّين منه بعد اكتساء زىّ عرس ومأتم ذا لدى خ ... ير عشاء وذا لشرّ «1» عشاء مثل غمّ قد انجلى عن سرور ... ونعيم قد انتضى عن بلاء وقال أبو بكر الخوارزمىّ: أما ترى الزعفران الغضّ تحسبه ... جمرا بدا فى رماد الفحم مضطرما كأنّه بين أطراف تحف به ... طرائق الدّم فى خدّين قد لطما دم عيانا ومسك نشر رائحة ... فى طيبه وكذاك المسك كان دما [وقال آخر «2» ] : شبّهت روض الزّعفران بشاطر «3» ... سلب النّصارى واليهود شعارها كصحيفة من سندس عنيت «4» بها ... كفّ صناع قوّمت أسطارها

وأما الحبق وما قيل فيه

وكأنّما ألفاتها قد توّجت ... بمجامر تذكى النسائم «1» نارها من كلّ فاقعة تلفّع دائما ... بدخان كبريت تجرّ إزارها متقنّعات فى الدّجى فاذا بدا ... للصّبح إسفار سفرن خمارها والشمس طالعة على أخواتها ... واذا توارت أسبلت أستارها وأمّا الحبق وما قيل فيه - فالحبق أنواع، تطلق عليها العامّة الرّيحان؛ ومن «2» أسمائه الباذروج، وهو «3» الحماحم. ويسمّى «4» الباذر نجبويه والباذر نبويه،

واسمه «1» بالفارسية: المرماحوز «2» ، ومنه ما سمّى الفرنجمشك «3» بالفاء والباء؛ ورائحته كرائحة القرنفل؛ ويقال فيه فلنجمشك، وأفلنجمشك؛ وكلّها فارسيّة. ومنه ما يسمّى

بالفارسيّة: الشاهسفرم «1» ، ومعناه ملك الرّياحين «2» ؛ والعرب تسمّيه: الضّيمران «3» والضّومران؛ ومنه حبق الفتى «4» : المرزجوش والمرزنجوش «5» والمردقوش «6» والعبقر «7» . ومنه ما يسمّى المرو والزّغبر والزّبغر، وهو المرو الدقيق الورق. والصّعترىّ «8» ، وريحان «9»

الكافور، ويسمّى «1» بالفارسيّة (سوسن) واناه «2» ، وشكله شكل المنثور، ورائحته رائحة الكافور الرّياحىّ «3» . وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى طبائع الرّياحين: الباذروج «4» طبعه حارّ فى الأولى الى الثانية، يابس فى أوّل الأولى، وفيه رطوبة فضليّة. قال: وفيه قبض وإسهال، فإنّه يقبض، إلّا أن يصادف فضلا مستعدّا، فاذا صادف خلطا أسهله؛ وفيه تحليل وإنضاج ونفخ، ويسرع الى التعفّن؛ ويولّد خلطا رديئا سوداويّا؛ وبزره ينفع من تتولّد فيه السّوداء؛ واذا طلى بالخلّ ودهن الورد على الأورام الحارّة نفع؛ وعصارته قطورا تنفع الرّعاف، لا سيّما بخلّ خمر وكافور؛ وهو مما يسكّن العطاس من مزاج، ويحرّكه من مزاج؛ وهو ينفع من ضربان العين ضمادا: ويحدث ظلمة البصر مأكولا لتخليط رطوبته وتبخيرها؛ وعصارته تقوّى

وأما المرماحوز

البصر كحلا؛ وهو يقوّى القلب جدّا، ويجفّف الرئة والصدر، وسكرّجة «1» من مائه تنفع من سوء التنفّس؛ وماؤه يدرّ اللّبن؛ وبزره ينفع من عسر البول؛ واذا وضع على لسع الزّنابير والعقارب سكّنه. وأمّا المرماحوز «2» - فهو حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛ وهو لطيف محلّل مسكّن للرّياح، مفتّح للسّدد البلغميّة حيث كانت؛ والإكباب على نطوله يحلّل البخار والصّداع البارد؛ وهو يقوّى المعدة وينشّف رطوبتها، ويقوّى الأمعاء. وأمّا المرزنجوش «3» - فهو حارّ يابس فى الثالثة «4» ؛ وهو لطيف محلّل مفتّح؛ وهو طلاء جيّد على الأورام البلغميّة؛ ودهنه ضماد للفالج المميل العنق الى خلف ولغيره من الفالج؛ ويفتّح سدد الدّماغ؛ وينفع من الشّقيقة «5» والصّداع والرّطوبة والرياح الغليظة، ومن وجع الأذن نطولا «6» وقطورا؛ وتجعل فيها قطنة مغموسة

وأما الفلنجمشك

فى دهن المرزنجوش فتنفع من انسدادها؛ وطبيخه ينفع من الاستسقاء، ومن عسر البول، والمغص؛ ودهنه ينفع من انضمام الرّحم المؤدّى إلى احتقانها «1» ؛ وهو مع الخلّ ضماد للسع العقرب. وأمّا الفلنجمشك «2» - فهو أعدل من المرزنجوش والنّمام، وأقلّ يبسا؛ وهو يفتّح السّدد العارضة فى الدّماغ والمنخرين شمّا وطلاء وأكلا؛ وينفع الخفقان العارض من البلغم والسّوداء فى القلب «3» ؛ وهو جيّد للبواسير. وأمّا ما وصفت به الرّياحين - فقال السّرىّ الرّفّاء: وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت «4» بصفحته الجنوب فأرعدا يشتاقه الشّرب «5» الكرام وكلّما ... مرض النّسيم سروا «6» اليه عوّدا وقال أبو الفضل الميكالىّ: أعددت محتفلا ليوم فراغى ... روضا غدا إنسان عين الباغ «7»

روضا يروض هموم قلبى حسنه ... فيه لكأس اللهو أىّ مساغ فاذا انثنت قضبان ريحان به ... حيّت «1» بمثل سلاسل الأصداغ وقال أبو هلال العسكرىّ: وخضر تجمع الأعجاز منها ... مناطق مثل أطواق الحمام لها حسن العوارض حين تبدو ... وفيها لين أعطاف الغلام وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: مراضيع من الرّيحان تسقى ... سقيط الطّلّ أو درّ العهاد ملابسهنّ خضر مشبعات «2» ... تشير بزيّهنّ الى السواد اذا ذرّت عليها المسك ريح ... وجاد بفيضهنّ يد الغوادى تخلّلها الرياح فسرّحتها ... صنيع المشط فى اللّمم الجعاد جرت وهنا بها وسرت عليها ... فطاب نسيمها فى كلّ وادى وقال ابن أفلح الأندلسىّ: وحماحم «3» كأسنّة ... فى كل معتدل قويم أو أنجم نزعت «4» لتح ... رق كلّ شيطان رجيم أو مثل أعراف الدّيو ... ك لدى مبارزة الخصوم

أو كالشّقيق تحرّشت ... بفروعه أيدى النسيم أو ثاكل صبغت بنا ... نا من دم الخدّ اللّطيم وقال آخر: وريحان تميس به غصون ... يطيب بشمّه شرب الكئوس كسودان لبسن ثياب خزّ ... وقد تركوا «1» مكاشيف الرّءوس وقال آخر: أما ترى الرّيحان أهدى لنا ... حماحما منه فأحيانا تحسبه فى طلّه والنّدى ... زمرّدا يحمل مرجانا وقال آخر فى الشاهسفرم «2» : وقامة «3» ريحان أنيق نباتها ... غذاها نمير الماء سقيا على قدر تكلّل أعلاها بنظم محبّر ... وضاق عليها الزّىّ بالورق الخضر وفاحت بنشر طيّب الشّمّ عاطر ... له نشوات المسك فى سائر العطر فأصبح شاها للرّياحين كلّها ... فليس لها ما دام شىء من الأمر وقال أبو سعيد الأصفهانىّ: [وشمّامة مخضرّة اللّون غضّة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا «4»

اذا شمّها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجا وعقيقا] وقال ابن وكيع فى الصّعترىّ «1» : صعترىّ أدقّ من أرجل النّم ... ل وأذكى من نفحة الزّعفران كسطور كسين نقطا وشكلا ... من يدى كاتب ظريف البنان وقال أبو بكر الخوارزمىّ: وصفت ريحانا اذا ما وصفه ... واصفه قيل له: زد فى الصّفه دقّقه صانعه ولطّفه ... كأنّه وشم يد مطرّفه أو خطّ ورّاق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصفّفه أو حلّة مخضرّة مفوّفه وقال صاعد الأندلسىّ فى الأترنجانىّ «2» : لم أدر قبل ترنجان مررت به ... أنّ الزمرد أغصان وأوراق من طيبه سرق الأترجّ نكهته ... يا قوم حتّى من الأشجار سرّاق وقال آخر وأجاد: ذكىّ العرف مشكور الأيادى ... كريم عرقه «3» يسلى الحزينا أغار على التّرنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفا ونونا

القسم الرابع من الفن الرابع فى الرياض والأزهار، ويتصل به الصموغ والأمنان والعصائر

القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الرّياض والأزهار، ويتّصل به الصّموغ والأمنان والعصائر «1» ، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى الرياض وما وصفت به نظما ونثرا اتّفق جوّابو الأقطار أنّ مستنزهات «2» الدنيا أربعة مواضع ؛ وهى صغد سمرقند «3» ، وشعب بوّان، ونهر الأبلّة، وغوطة دمشق؛ وقد رأيت أن أصف هذه المستنزهات بصفاتها التى شاهدتها ونقلت إلىّ؛ وأخبارها التى عاينتها وقصّت أنباؤها علىّ؛ فقلت فى ذلك: ألذّ ما تمتّعت بحسنه النواظر، وأبهى ما ارتاحت النفوس الى أزهاره النّواضر؛ وصف رياض تاهت الأرض على السماء بأزهارها؛ وباهت أنوار الكواكب بنورها ونوّارها.

فمنها صغد سمرقند

فمنها صغد سمرقند - الذى تحفّ به بساتين كست زهرتها من الأرض عاريها «1» ، وأصبح للسماء بكاء فى جوانبها وللرّوض ابتسام فى نواحيها؛ تتخلّلها قصور يتضاءل سنا النّجم فى آفاقها، وتحتجب الغزالة عند طلوعها حياء من بهجتها وإشراقها. ومنها شعب بوّان «2» - الذى غدت مغانيه «3» مغانى للزّمان، وقصرت الألسن عن وصف محاسنه وطالت إلى اقتطاف ثمره البنان؛ تكاد شمسه تغرب عند الإشراق، ولا تتخلل أشجاره إلا والحياء يعيدها فى قبضة الإطراق؛ يستغنى بغدرانه عن صوب الصّيّب، ولقد أبدع فى وصفه أبو الطّيّب: مغانى الشّعب طيبا «4» فى المغانى «5» ... بمنزلة الرّبيع من الزمان

ولكنّ الفتى العربىّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنّة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان [طبت فرساننا والخيل حتّى ... خشيت وان كرمن من الحران] «1» غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان «2» فسرت وقد حجبن الشمس عنّى ... وجئن من الضّياء بما كفانى وألقى الشرق «3» منها فى ثيابى ... دنانيرا تفرّ من البنان لها ثمر تشير اليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوانى «4» وأمواه يصلّ «5» بها حصاها ... صليل الحلى فى أيدى الغوانى اذا غنّى الحمام الورق فيها ... أجابتها أغانىّ القيان ومن بالشّعب أحوج من حمام ... اذا غنّى وناح الى بيان «6»

وقد يتقارب «1» الوصفان جدّا ... وموصوفاهما متباعدان يقول بشعب «2» بوّان حصانى ... أعن هذا تسير الى الطّعان أبوكم آدم سنّ المعاصى ... وعلّمكم مفارقة الجنان وأجاد السّلامىّ حيث قال: اشرب على الشّعب واحلل روضة أنفا «3» ... قد زاد فى حسنه فازدد به شغفا إذ ألبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقّن العجم من أطياره نتفا ونمّرت «4» حسنه الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا «5» والماء يثنى على أعطافها أزرا ... والريح تعقد من أطرافها شرفا والشمس تخرق من أشجارها «6» طرفا ... بنورها فترينا تحتها طرفا من قائل نسجت درعا مفضّضة ... أو قائل ذهّبت أو فضّضت صحفا ظلّت تزفّ الى الدنيا محاسنها ... وتستعيد لها الألطاف والتّحفا من عارض وكفا «7» أو بارق خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا

ومنها نهر الأبلة

ولست أحصى حصى الياقوت فيه ولا ... درّا أصادفه فى مائه صدفا بظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصّبابة شابت والهوى «1» خرفا تعسّف «2» الشوق فيه كلّ ذى شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا فاحلل عرا الهمّ واشربها معتّقة ... رقّ النسيم مباراة لها وصفا ومنها نهر الأبلّة «3» - الّذى طوله أربع فراسخ، ورءوس نخله على وجه الأرض شوارف وأصولها فى الثّرى رواسخ؛ بجانبيه بساتين إن هبّ النسيم بأغصانها تعانقت وتمايلت، وإن لعب بأفنانها تناظرت وتماثلت؛ كأنّما غرست فى يوم واحد شجراته، وقامت على خطّ الاستواء نخلاته؛ وفيه يقول التّنوخىّ شاعر اليتيمة:

ومنها غوطة دمشق

واذا نظرت إلى الأبلّة خلتها ... من جنّة الفردوس حين تخيّل كم منزل فى نهرها الى السّرور ... بأنّه فى غيره لا ينزل فكأنّما تلك القصور عرائس ... والزهر وشى فهى فيه ترفل غنّت قيان الطّير فى أرجائه ... هزجا يقلّ له الثقيل الأوّل وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وعيرهم تترحّل ربع الربيع بها فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل فمدبّج وموشّح ومدّنر ... ومعمّد ومحبّر ومهلّل «1» فتخال ذا عينا وذا ثغرا وذا ... خدّا يعضّض تارة ويقبّل ومنها غوطة «2» دمشق - الّتى هى شرك العقول وقيد الخواطر، وعقال النفوس ونزهة النواظر، خلخلت الأنهار أسؤق أشجارها، وجاست المياه خلال ديارها؛ وصافحت أيدى النسيم أكفّ غدرانها، ومثّلت فى باطنها موائس أغصانها؛ يخال سالكها أن الشمس قد نثرت على أثوابه دنانير لا يستطيع أن يقبضها ببنان «3» ، ويتوهّم المتأمّل لثمراتها أنّها أشربة قد وقفت بغير أوان «4» فى كلّ أوان؛ فيالها

وللناس فى وصف الرياض محاسن سنذكر منها النزر اليسير،

من رياض من لم يطف بزهرها من قبل أن يحلّق «1» فقد قصّر، ومن غياض من لم يشاهدها فى إبّانها فقد فاته من عمره الأكثر. وهذه الأربعة الأماكن أجمع جوّابوا الأقطار على تفضيلها على ما عداها، وتمييزها على ما سواها. وللناس فى وصف الرياض محاسن سنذكر منها النّزر اليسير، ونقتصر على لمعة ليس لنضارتها نظير. فمن ذلك قول الثّعالبىّ فى (سحر البلاغة وسرّ البراعة) : روضة رقّت حواشيها وتأنّق واشيها؛ أشجارها كالعرائس فى حللها وزخارفها، والقيان فى وشيها ومطارفها؛ باسطة زرابيّها «2» وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها؛ كأنّما احتفلت لوفد، أو هى من. حبيب على وعد. ومن كلامه «3» أيضا: روضة قد تضوّعت بالأرج الطّيب أرجاؤها، وتبرّجت فى ظلل الغمام صحراؤها؛ وتنافحت بنوافج «4» المسك أنوارها، وتفاوضت «5» بغرائب المنطق أطيارها؛ بها أشجار كأنّ الخرّد أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلّتها عقودها.

ومن كلام الفتح بن خاقان فى (قلائد العقيان) : حتى استقرّوا «1» بالرّوض فحلّوا منه ذرا أيك ربيع مفوّفة بالأزهار، ومطرّزة بالجداول والأنهار؛ والغصون تختال فى أدواحها، وتنثنى فى أكفّ أرواحها. ومن كلامه أيضا: روض مفترّ المباسم، معطّر الرياح النّواسم؛ قد صقل الربيع حوذانه «2» ، وأنطق بلبله وورشانه «3» ، وألحف غصونه برودا مخضرّه، وجعل إشراقه للشمس ضرّه، وأزاهيره تنير على الكواكب، وتختال فى خلع الغمائم السّواكب. ومن كلامه: روضة لم يجل فى مثلها ناظر، ولم تدّع حسنها الخدود النّواضر؛ غصون تثنّيها الرياح، ومياه لها انسياح؛ وحدائق تهدى الأرج والعرف، وتبهج النفس وتمتع الطّرف. ومن كلامه: روضة قد تأرّجت نفحاتها، وتدبّجت ساحاتها، وتفتّحت كمائمها، وأفصحت حمائمها؛ وتجرّدت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها بعيون الجآذر «4» . وقد أكثر الشعراء فى وصف الرّياض والغصون- فمن ذلك قول ابن الرّومىّ:

حيّتك عنّا شمال طاف طائفها ... فى جنّة قد حوت روحا وريحانا هبّت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرّا بها وتداعى الطير إعلانا ورق تغنّى على خضر مهدّلة ... تسمو بها وتشمّ «1» الأرض أحيانا تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزّه عطفيه نشوانا وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة: سقيا لها من بطاح أنس ... ودوح حسن بها مطلّ فما ترى غير وجه شمس ... أطلّ فيه عذار ظلّ وقال أيضا من أبيات: والرّوض محنىّ المعاطف خلته ... نشوان تعطفه الصّبا فيميل ريّان فضّضه النّدى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفحتيه أصيل وقال الأخيطل الأهوازىّ [منشدا] : الروض ينشر رفرفا «2» وحريرا ... ومطارفا من سندس وحبيرا حلّ الربيع نقاب كلّ خميلة ... فأراك من صور النبات سفورا غيد القوام اذا النسيم أمالها ... ألقين عند صدورهنّ نحورا ينحلّ عنهنّ النّدى فتخال ما ... ينحلّ عنها لؤلؤا منثورا كسل النعيم يدبّ فى حركاتها ... فيريك فى أعطافهنّ فتورا وقال أبو عبادة البحترىّ: هذى الرياض بدا لطرفك نورها ... فأرتك أحسن من رباط السّندس

ينشرن وشيا مذهبا ومدبّجا ... ومطارفا نسجت لغير الملبس وأرتك كافورا وتبرا مشرقا ... فى قائم مثل الزّمرد أملس متمايل الأعطاف فى حركاته ... كسل النعيم وفترة المتنفّس متحلّيا من كلّ حسن مونق ... متنفّسا بالمسك أىّ تنفّس وقال التّنوخىّ: أما ترى الروض قد وافاك مبتسما ... ومدّ نحو النّدامى للسّلام يدا فأخضر ناضر فى أبيض يقق ... وأصفر فاقع فى أحمر نضدا مثل الرّقيب بدا للعاشقين ضحى ... فاحمرّ خجلا واصفرّ ذا كمدا وقال أبو بكر الصّنوبرىّ: تشبّه الرّوض بالحبائب قد ... زاد المحبّين فى محبّتها كم من قدود هناك من قضب ... تميل من لينها ونعمتها كم وجنة خالها يلوح لنا ... سواده فى صفاء حمرتها وكم ثنايا تسبى بنكهتها ... وكم عيون تصبى بلحظتها تسارق «1» الغمز غمز خائفة ... رقيبها من خفاء نظرتها وقال أبو طاهر [بن] «2» الخبزأرزىّ: وروضة راضها النّدى فغدا ... لها من الزّهر أنجم زهر تنشر فيها أيدى الرّبيع لنا ... ثوبا من الوشى حاكه الفطر

وقال منصور بن الحاكم: روضة غضّة علاها ضباب ... قد تجلّت خلالها الأنوار فهى تحكى مجامرا مذكيات ... قد علاها من البخور بخار وقال سعيد بن حميد مقسما: لا وزهر الرياض تجرى عليها ... باكيات «1» ضواحك النّوّار صافحتها الرياح فاعتنق الرو ... ض ومالت طواله للقصار لائذا بعضه ببعض كقوم ... فى عتاب مكّرر واعتذار ما خلفناك بالقبيح ولا الذمّ ... على البعد واقتراب المزار وقال أبو هلال العسكرىّ: وروضة حالية الصدور ... كاسية البطون والظهور محمودة المخبور والمنظور ... مونقة المطوىّ والمنشور معجبة الظاهر والمستور ... ضاحكة كالوافد المحبور باكية كالعاشق المهجور ... شذّرها الغيث بلا شذور شقائق كناظر المخمور ... وأقحوان كثغور الحور ونرجس كأنجم الدّيجور ... والطّلّ منثور على المنثور يرصّع الياقوت بالبلّور وقال أيضا: لبس الماء والهواء صفاء ... واكتسى الروض بهجة وبهاء فكأنّ النّهاء «2» صرن رياضا ... وكأنّ الرياض عدن نهاء

وكأنّ الهواء صار رحيقا ... وكأنّ الرحيق صار هواء وتخال السماء بالليل أرضا ... وترى الأرض بالنهار سماء جلّلتها الأنوار زهرا وصفرا ... يوم ظلّت تنادم «1» الأنواء فتراها ما بين نور ونوء ... تتكافا تبسّما وبكاء وتظلّ الأشجار تتّخذ الحسن ... قميصا أو الجمال رداء وترى السّرو كالمنابر تزهى ... وترى الطير فوقها خطباء وقال كشاجم: أرتك يد الغيث آثارها ... وأعلنت الأرض أسرارها وكانت أكنّت لكانونها ... خبيئا فأعطته آذارها فما تقع العين إلّا على ... رياض تصنّف أنوارها يفتّح فيها نسيم الصّبا ... خباها ويهتك أستارها ويسفح فيها دماء الشّقيق ... ندّى ظلّ يفتضّ أبكارها ويدنى إلى بعضها بعضها ... كضمّ الأحبّة زوّارها كأنّ تفتّحها بالضّحى «2» ... عذارى تحلّل أزرارها تغضّ لنرجسها أعينا ... وطورا تحدّق أبصارها اذا مزنة سكبت ماءها ... على بقعة أشعلت نارها وقال البسّامىّ «3» : أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... مخضرّة واكتسى بالنّور عاريها

فالسماء بكاء فى جوانبها ... وللربيع ابتسام فى نواحيها وقال آخر: قهقه زهر الربيع فاستبشر ... واكتست الأرض مطرفا أخضر ترى ربيعا نوّاره ذهب ... ماء لجين حصباؤه جوهر عطّل صبّاغه الخدود بما ... ورّد من صبغها وما عصفر لابس قمص من العقيق على ... غلائل من زبرجد أخضر وقال المعوّج: حقاق من النّوّار مزرورة العرا ... على قطع الياقوت واللؤلؤ الغضّ فهنّ على الأغصان أحقاق فضّة ... وبالأمس كانت مطبقات على الغمض وقال ابن الساعاتىّ: لله ما شقّ من جيب الرياض بها «1» ... وحبّذا من ذيول السّحب ما سحبا يا ضاحك الومض والأنواء باكية ... أشبهت لمياء إلّا الظّلم «2» والشّنبا وقال أيضا: يا حبّذا زمن الربيع ودوحه ... قيد النواظر بل عقال الأنفس وافاك يبسم والغمام معبّس ... فاعجب لطلعة باسم ومعبّس جليت عرائسه فهمّ قلوبنا ... واللهو بين مقوّض ومعرّس «3»

أنفاسه من عنبر وسماؤه ... من لؤلؤ وبساطه من سندس وقال أبو عبادة البحترىّ: ولا زال مخضرّ من الروض يانع ... عليه بمحمرّ من النّور جاسد يذكّرنى ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد وقال السّروىّ «1» : غدونا على الرّوض الّذى طلّه النّدى ... سحيرا وأوداج الأباريق تسفك فلم أر شيئا كان أحسن منظرا ... من النّور يجرى دمعه وهو يضحك وقال آخر: حظّ عين وحظّ سمع ربيعا ... ن وتغريد بلبل وهزار فى جلاء من الزمان ووجه الأرض ... يكسى وشائع النّوّار بابيضاض محدّق «2» باخضرار ... واصفرار مبطّن باحمرار كلّما أشرقت شموس الأقاحى ... خلت إحدى الشّموس شمس النهار وقال كشاجم: وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضى الصديق عن الصديق اذا ما القطر أسعده صبوحا ... أتمّ له الصنيعة فى الغبوق يعير الرّيح بالنفحات ريحا ... كأنّ ثراه من مسك سحيق كأنّ الطّلّ منتثرا عليه ... بقايا الدّمع فى خدّ المشوق كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فماست ميس شرّاب الرحيق

كأنّ شقائق النّعمان فيه ... محضّرة كئوسا من عقيق كأنّ النرجس البرّىّ فيه ... مداهن من لجين للخلوق يذكّرنى بنفسجه بقايا ... صنيع اللّطم فى الخدّ الرقيق وقال ابن سكّرة الهاشمىّ: أما ترى الروضة قد نوّرت ... وظاهر الرّوضة قد أعشبا كأنّما الأرض سماء لنا ... نقطف منها كوكبا كوكبا وقال علىّ بن عطيّة البلنسىّ: أديراها على الزّهر المندّى ... فحكم الصّبح فى الظّلماء ماضى وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض وما غربت نجوم اللّيل لكن ... نقلن من السّماء الى الرياض وقال شاعر أندلسىّ: وفتيان صدق عرّسوا تحت دوحة ... وما لهم غير النبات فراش كأنّهم والنّور يسقط فوقهم ... مصابيح تهوى نحوهنّ فراش وقال أبو محمد الحسن بن علىّ بن وكيع التّنّيسىّ: أسفر عن بهجته الدهر الأغر ... وابتسم الروض لنا عن الزّهر أبدى لنا فصل الربيع منظرا ... بمثله تفتن ألباب البشر وشيا ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللّبس لكن للنظر عاينه طرف السماء فانثنت ... عشقا له تبكى بأجفان المطر فالأرض فى زىّ عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر وشى طواه فى الثّرى صيانة ... حتّى اذا ملّ من الطّىّ نشر

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الرابع فى الأزهار

وقال أبو طاهر [بن] «1» أبى الرّبيع: وكأنّ مولىّ «2» الرياض ضرائر ... تزهى بخضرتها على الخضراء قد أبرزت زهراتها وازّيّنت ... وتعطّرت وتبرّجت للرّائى والنّور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسن العذراء والنبت ريّان المهزّة مائل ... شرق محاجر زهره بالماء الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأزهار ويشتمل هذا الباب على ما قيل فى الخيرى- وهو المنثور- والسّوسن، والآذريون والخرّم، والشّقيق، والبهار، والأقحوان فأمّا الخيرىّ «3» وما قيل فيه- فالخيرىّ هو المنثور- وهو مما أولع الشعراء بوصفه. فمن ذلك قول ابن وكيع التّنّيسىّ: انظر الى المنثور فى ميدانه ... يرنو إلى الناظر من حيث نظر كجوهر مختلف ألوانه ... أسلمه سلك نظام فانتثر

وقال آخر: انظر الى المنثور ما بيننا ... وقد كساه الطلّ قمصانا كأنّما صاغته أيدى الحيا ... من أحمر الياقوت قضبانا وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة يذكر كونه لا تظهر رائحته إلّا ليلا: وخيريّة بين النّسيم وبينها ... حديث اذا جنّ الظلام يطيب يدبّ مع الإمساء حتّى كأنّما ... له خلف أستار الظّلام حبيب وقال أبو هلال العسكرىّ: ألوان منثور يريك حسنها ... ألوان ياقوت زها فى عقده يا حسنها فى كفّ من يشبهها ... فانظر إلى النّدّ بكفّ ندّه من أشهل «1» كعينه وأبيض ... كثغره وأحمر كخدّه وأصفر مثل صريع حبّه ... إذا تغشّته غواشى صدّه وقال آخر: عجبت من الخيرىّ أمتع فى الدّجى ... وأصبح ريّاه مع الصّبح تحجب فخلت الرّيا طبعا له مثل ناسك ... يرائى نهارا وهو باللّيل يشرب وقال آخر: ما أكرم الخيرىّ فى فعله ... يسهر إذ نور الرّبا ناعس كأنّما خاف عليه العدا ... فهو له فى ليله حارس وقال ابن الحدّاد: عاف النهار مخافة الرقباء ... فسرى يضمّخ حلّة الظّلماء

وأما السوسن وما قيل فيه

يطوى شذاه عن الأنوف نهاره ... ويجود فى الظّلماء بالإفشاء متهتّك فى طبعه متستّر ... وكذا تكون شمائل الظّرفاء لمّا رأى حبّ الأنوف لعرفه ... لبس الغياهب خيفة الرّقباء كالطّيف لا يصل الجفون لسهدها ... ويهبّ فيها ساعة الإغفاء وقال أبو العلاء السّروىّ: أهدى إلىّ فنون الشّوق والأرق ... نسيم رائحة الخيرىّ فى طبق كأنّه عاشق يطوى صبابته ... صبحا وينشرها فى ظلمة الغسق وكلّ ذى لوعة فاللّيل راحته ... والليل أخفى لو يل الواله القلق وقال آخر: ينمّ مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفى مع الإصباح كالمتستّر كعاطرة ليلا لوعد محبّها ... وكاتمة صبحا نسيم التعطّر وقال ابن الرّومىّ: خيرىّ ورد أتاك فى طبقه ... قد ملأ الخافقين من عبقه قد خلع العاشقون ما صنع الهجر ... بألوانهم على ورقه وأما السّوسن «1» وما قيل فيه - فقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا

فى طبع السّوسن: الأبيض البستانىّ منه حارّ يابس فى الثانية؛ والإيرساء «1» أشدّ تسخينا وتجفيفا؛ والإيرساء هو أصل السّوسن الاسمانجونى. قال وأصله جلّاء، مجفّف باعتدال؛ ودهنه ألطف وأشدّ تحليلا وتليينا مطيّبا كان أم غير مطيّب؛ والإيرساء أقوى فى جميع ذلك؛ وهو قابض، وفيه شفاء للأوجاع والعفونات؛ وينفع من الكلف والنّمش، وخصوصا أصله؛ وينقّى الوجه غسلا به ويصقله، ويزيل تشنّجه «2» ؛ وإن دقّ بزره وورقه ناعما وعمل منه ضماد بالشراب على الحمرة «3» نفعها، وكذلك على الأورام البلغميّة الفجّة «والجرب المتقرّح «4» والخشكريشات «5» » وأصله ينفع من حرق الماء الحارّ، لأنه مجفّف مع جلاء وباعتدال، وكذلك ورقه مطبوخا، والأحسن أن يكون استعماله بدهن الورد وعصارة الإيرساء، وغيره يطبخ فى الخلّ والعسل فى إناء من نحاس للقروح المزمنة والجراحات. والبستانىّ أفضل الأدوية لحرق

وأما ما جاء فى وصفه

الماء الحارّ؛ وهو جيّد لانقطاع العصب؛ وتتخذ «1» من أصل البرّىّ مضمضة لوجع الأسنان؛ ويوافق دهنه قروح الرأس والنّخالة؛ واذا قطر فى الأذن سكّن الدّوىّ؛ وهو ردىء للمعدة، وخصوصا دهنه؛ ودهنه محلّل مليّن لصلابة الرّحم شربا وتمريخا؛ وكذلك اذا طبخ أصله بدهن الورد، ولا نظير له فى أمراض الرّحم، وكذلك دهن الإيرساء؛ ويخرج الجنين؛ وينفع من المغص؛ [و] «2» اذا طبخ أصله وحده بالخلّ أو مع بزر البنج «3» ودقيق الحنطة سكّن الأورام الحارّة العارضة للأنثيين؛ واذا شرب من دهنه مقدار أوقيّة ونصف أسهل؛ ويصلح لأصحاب إيلاوس «4» الصّفراوىّ؛ ودهن الإيرساء يفتّح أفواه البواسير، وكذلك أصل السّوسن كيف كان؛ وهو ينفع من لسع الهوامّ، خصوصا العقرب هو وعصارته وشرابه وبزره شربا؛ ودهنه درياق [للبنج] . وأما ما جاء فى وصفه - فقال الأخيطل الأهوازىّ: سقيا لأرض اذا ما نمت أرّقنى «5» ... بعد الهدوء بها قرع النّواقيس

كأنّ سوسنها فى كلّ شارفة «1» ... على الميادين أذناب الطّواويس وقال أيضا فيه: وكأنّ سوسنها سبائك فضّة ... غضّ النبات فأزرق أو أحمر حملت سقيط الطّلّ فى ورقاته ... فكأنّه متبسّم مستعبر وقال الصّنوبرىّ- ويروى للرّفّاء-: انظر الى السّوسن فى منبته ... فانّه نبت عجيب المنظر كأنّه ملاعق من ذهب ... قد خطّ فيها نقط من عنبر وقال آخر: انظر الى السّوسن فى ... جماله المنعوت مثل كئوس خرطت ... من أزرق الياقوت وقال آخر: يا ربّ سوسنة قبّلتها شغفا ... وما لها غير نشر المسك من ريق مصفرّة الوجه مبيضّ جوانبها ... كأنّها عاشق فى حجر معشوق وقال آخر: إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسّوسن المجتنى ثناياه يا حسنه ضاحكا له عبق ... كطيب ريح الحبيب ريّاه وقال شاعر أندلسىّ: سوسنة بيضاء أوراقها ... فيها خطوط من سواد خفى كأنّه دارس خطّ بدت ... أشكاله فى الرّقّ من مصحف

وأما الآذريون وما قيل فيه

وقال شاعر متطيّرا بإهدائه: [يا ذا «1» الذى أهدى لنا السّوسنا ... ما كنت فى إهدائه محسنا] أوّله سوء فقد ساءنى ... يا ليت أنّى لم «2» أر السّوسنا [وقال آخر] : سوسنة أعطيتنيها فما ... كنت بإعطائى لها محسنه أوّلها سوء فان جئت بالآخر ... منها فهو سوء سنه وأمّا الآذريون «3» وما قيل فيه - فالآذريون ورد أصفر لا ريح له ألبتّة؛ وهو صنف من الأقحوان، ومنه ما نوّاره أحمر. وقال ابن البيطار فى جامعه: انّه نوّار ذهبىّ، فى وسطه [رأس صغير «4» ] أسود، واسمه بالفارسيّة: آذركون، ومعناه لون النار. وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ يابس فى الثالثة؛ وانه ينفع من داء الثعلب مسحوقا بخلّ؛ ورماده بالخلّ لعرق النّسا. وقال ديسقوريدوس: إنّ الحبلى اذا مسّته أو تحمّلت منه أسقطت من ساعتها؛ وهو ينفع من السّمومات كلّها وخصوصا اللّدوغ. وأما ما جاء فى وصفه - فقال شاعر يصفه: تاه الربيع بآذريونه وزها ... لمّا بدا منه فى جنح الدّجى أرج

كأنّ أغصانه فيروزج «1» بهج ... من فوقه ذهب فى وسطه سبج «2» وقال التّنوخىّ: وآذريون مثل خدّ متيّم ... لأحشائه خوف «3» الفراق وجيب شموس لها من حين تطلع شمسها ... [طلوع] وفى وقت الغروب غروب تفتّح إن لاحت سرورا بضوئها ... كما سرّ بالرأى المصيب مصيب وتنضمّ إن جاء الظلام كأنّه ... رقيب عليها والضياء حبيب وقال ابن وكيع: قم فاسقنى صافية ... تسلب قلبى فكره فى روضة كأنّها ... خريدة فى حبره كأنّ آذريونها ... أسوده وأحمره سحيق مسك مودع ... فى خرق معصفره وقال عبد الله بن المعتزّ: كأنّ آذريونها ... تحت «4» سماء هاميه مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه

وأما الخرم وما قيل فيه

وقال آخر: أظرف بآذريونة أبصرتها ... فى الروض تلمع كاتّقاد الكوكب وكأنّها لمّا تكامل حسنها ... مسك تفتّت فى إناء مذهب وكأنّما تشريفها من فوقها ... حبب يفرّج عن رحيق أكهب «1» وقال السّرىّ الرّفّاء: وروضة آذريون «2» ذرّ بوسطها «3» ... نوافج «4» مسك هيّجت قلب مهتاج تراها عيونا بالنّهار روانيا ... وعند غروب الشمس أزرار ديباج وقال الطّغرائىّ: وكأنّ آذريون روضتنا ... كانون فحم حوله لهب أوجام جزع وسطه سبج ... أو سؤر مسك جامه ذهب وأما الخرّم وما قيل فيه - فالخرّم هو الخزامى «5» ؛ وهو عند المغاربة السّوسن الأزرق.

قال ابن الرّومىّ يصفه: وخرّم فى صبغة الطيالسه ... يحكى الطّواويس غدت مطاوسه «1» كأنّما تلك الفروع المائسه «2» ... تغمسها فى اللّازورد «3» غامسه وقال الشّمشاطىّ يصفه: وخرّم مثل لون اللازورد جرى ... منها «4» على فضّة بيضاء جاريها كأنّهنّ خدود اللّاطمات ضحى ... أو الطّواويس حلّتها خوافيها ما عمّضت لعيون «5» الشمس أعينها ... إلّا على لمع من نورها فيها وقال شاعر أندلسىّ: عاف لون البياض ثوب أخيه «6» ... وتبدّى فى حلّة زرقاء لتراه العيون فى حلّة يحكى ... سنا نورها أديم السماء

وأما الشقيق وما قيل فيه

لو حواها الطاووس أصبح لا شكّ ... مهنّا بملك طير الهواء عزّة فى طباعه وعلوّ ... قد أنافا به على العلياء وأما الشّقيق وما قيل فيه - فالشقيق يسمّى الشّقائق والشّقر. قال أبو الخير العشّاب: فى ألوانه الأبيض والأسود والأحمر والوردىّ والرّمادىّ والأصفر؛ وفيه بستانىّ وبرّىّ؛ فالبستانىّ، هو الخشخاش الأبيض. قال: ومن أنواعه شقائق «1» النّعمان، ومن الشقائق نوع يسمّى الماميثا «2» ، ولونه أصفر فاقع. وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى الثانية، رطب؛ وهو جلّاء محلّل. قال: يسوّد الشّعر اذا خلط بقشر الجوز؛ واذا استعمل ورقه وقضبانه كما هو أو مطبوخا حسّن الشّعر. قال: ويابسه ينفع من القروح الوسخة؛ وعصارته سعوط لتنقية الرأس والدّماغ؛ وأصله يمضغ لجذب الرطوبات من الرأس؛ وعصارته «3» نافعة من ظلمة البصر وبياضه وآثار قروح العين؛ واذا طبخ بالطّلاء وتضمّد به [أبرأ] «4»

وأما ما جاء فى وصفه

الأورام الصّلبة؛ واذا طبخ ورقه بقضبانه بحشيش السّعتر «1» وأكل أدرّ اللّبن؛ وهو يدرّ الطّمث «2» ؛ والله أعلم. وأمّا ما جاء فى وصفه - فقال ابن الرّومىّ: تصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلى وفيهنّ نوّار الشقائق قد حكى ... خدود غوان نقّطت بغوالى وقال أبو الفتح كشاجم «3» : فرّج القلب «4» غاية التفريح ... ابتهاجى ما بين روض بهيج فكأنّ الشّقيق فيه أكاليل ... عقيق على رءوس زنوج [وقال آخر «5» ] : طرب الشقائق للحمام وقد شجا ... شجو القيان فشقّ فضل ردائه

وتحيّرت ما بين إثمد مأقه ... فى الخدّ دمعته وبين حيائه فكأنّه الحبشىّ يصبغ «1» جسمه ... فثيابه مخضلّة بدمائه [وقال القاضى عياض «2» ] : انظر «3» الى الزّرع وخاماته ... تحكى وقد مالت أمام الرياح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح [وقال الصّنوبرىّ «4» ] : كم خدود مصونة من شقيق ... لم تبذّل للّثم أو للعضاض اعترض ناظر الشقيق ففيه ... طرف ما يملّها ذو اعتراض جمم «5» سرّحت بلا مشط «6» أو ... طرر قصّصت بلا مقراض حمرة فوق خضرة وسواد ... بين هذين معلم ببياض وقال أيضا فيه: وجوه شقائق تبدو وتخفى ... على قضب تميد بهنّ ضعفا تراها كالعذارى مسبلات ... عليها من عميم «7» النّبت سجفا تنازعت الخدود الحمر حسنا ... فما إن أخطأت منهنّ حرفا

اذا طلعت أرتك السّرج تذكى ... وان غربت أرتك السّرج تطفا تخال اذا هى اعتدلت قواما ... زجاجات ملئن الخمر صرفا يزيد بهنّ روض الحزن حسنا ... اذا ما زهرهنّ بهنّ حفّا وقال أيضا من أبيات: وكأنّ محمرّ الشّقيق ... اذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشرن ... على رماح من زبرجد [وقال آخر] : شقيقة شقّ على الورد ما ... قد لبست من كثرة الصّبغ كأنّها فى حسنها وجنة ... يلوح فيها طرف «1» الصّدغ وقال الأخيطل الأهوازىّ: هذى الشقائق قد أبصرت حمرتها ... فوق «2» السواد «3» على أعناقها الذّلل كأنّه دمعة قد غسّلت «4» كحلا ... جالت «5» بها وقفة فى وجنتى خجل «6» وقال كشاجم من أبيات: فانظر بعينك أغصان الشقائق فى ... فروعها زهر فى الحسن أمثال

وأما ما وصف به البهار

من كلّ مشرفة الأوراق ناضرة ... لها على الغصن إيقاد وإشعال حمراء من صبغة البارى بقدرته ... مصقولة لم ينلها قطّ صقّال كأنّما وجنات أربع جمعت ... فكلّ واحدة فى صحنها خال وقال مؤيّد الدّين الطّغرائىّ: وترى شقائقه خلال رياضها ... أوفت مطاردها على أزهارها فكأنّها والريح تصقل خدّها ... والسّحب تملؤها بصوب قطارها أقداح ياقوت لطاف أترعت ... راحا فبات المسك سؤر قرارها وكأنها وجنات غيد أحدقت ... بخدودها حمرا خطوط عذارها وأمّا ما وصف به البهار «1» - فمن ذلك قول الصّنوبرىّ: وروضة لا يزال يبتسم النّوار ... فيها ابتسام مسرور كأنّما أوجه البهار بها ... وقد بدت أوجه الدنانير وقال أحمد بن برد الأندلسىّ: تأمّل فقد شقّ البهار مقلّصا «2» ... كمائمه عن نوره الخضل النّدى مداهن تبر فى أنامل فضّة ... على أذرع مخروطة من زبرجد

وأما الأقحوان وما قيل فيه

وقال ابن درّاج «1» القسطلّىّ «2» من أبيات: بهار يروق بمسك ذكى ... وصبغ بديع وخلق عجب غصون الزبرجد قد أورقت ... لنا فضّة موّهت بالذهب [وقال آخر] : بهر البهار عيوننا فقلوبنا ... مسحورة بجماله السّحّار كسواعد من سندس وأكفّها ... من فضّة حملت كئوس نضار وأمّا الأقحوان «3» وما قيل فيه - فقال أبو الخير العشّاب: الأقحوان هو البابونج؛ وهو نوعان: نوع ينبت فى الجبال الباردة جدّا، ونوع يزرع فى البساتين؛ فما كان جبليا فهو البابونج، وما كان مزروعا فهو أقحوان؛ ومنه ما زهره أصفر كلّه؛ ومنه ما زهره أبيض، وفى وسطه لمعة صفراء؛ ومنه الحوذان «4» ، وورقه يشبه ورق الخيرىّ «5» الأصفر؛ وهو مشرّف تشريف المنشار، ويعرف برأس الذّهب؛ ويسمّى بمصر: الكركاش؛ وأهل مصر يعتنون بأمره فى وقت نزول الشمس برج الحمل، ويحتفلون به، فيخرج كثير من عوامّهم وبعض الجند وغيرهم الى البرّ

ويقطعونه فى الساعة التى تحلّ الشمس فيها الحمل «1» بمناخل من الذهب يصوغونها برسمه، أو بدنانير؛ ومنهم من يتكلّم بكلام شبه الرّقية، لا ينطق بغيره ما دام يحصده، ويجمعون ما يقطعونه من ذلك بالذهب، ويدّخرونه فى صناديقهم، ويزعمون أنّ من قطعه على وضعه «2» ملك فى تلك السنة بعدد ما يقطعه منه دنانير إن قطعه بالذهب، ودراهم إن قطعه بالفضّة. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: طبع الأقحوان حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية. قال: وهو مسخّن منضج، مفتّح للسّدد، وفى الأحمر منه قبض ومنع لأنواع السّيلان، مع ما فيه من التحليل؛ وهو يدرّ العرق، وكذلك دهنه مسوحا؛ ويفتّح أفواه العروق، محلّل، ملطّف للأورام والبثور، محلّل للورم الحارّ فى المعدة والدم الجامد فيها؛ وينفع جميع الأورام الباردة؛ وينفع من النّواصير؛ ويقشّر الخشكريشات «3» والقروح النّضيجة «4» ؛ وينفع من جراحات العصب، ومن التواء العصب اذا بلّت صوفة بطبيخه ووضعت عليه؛ وهو مسبت؛ واذا شمّ رطبه نوّم؛ ودهنه نافع من أوجاع الأذن؛ وهو ينفع من الرّبو اذا شرب يابسه «5» كما يشرب الإفتيمون «6» .

قال: وهو ردىء لفم المعدة، إلا أنّه يحلّل يابسا «1» ، ويجفّف ما يتحلّب «2» اليها؛ ويحلّل الدم الجامد فيها. قال: وهو يدرّ بقوّة، ويحلّل الدم الجامد فى المثانة بماء العسل، ويفتّت الحصاة، واذا شرب مع زهره وفقّاحه فى الشّراب أدرّ الطّمث، وكذلك احتمال دهنه فانّه يدرّ بقوّة، واحتمال دهنه يحلّل صلابة الرّحم، ويفتّح الرّحم؛ ويشرب يابسا بالسّكنجبين كما يشرب الإفتيمون فيسهل سوداء وبلغما؛ وينفع من أورام

وأما ما وصفه به الشعراء

المقعدة الحارّة؛ ويفتّح البواسير هو ودهنه؛ وينفع من ادرة «1» الماء بعد أن تشقّ؛ وينفع من القولنج «2» ووجع المثانة، وصلابة الطّحال، هذه منافعه الطّبيّة. وأمّا ما وصفه «3» به الشعراء - فقد أكثر الشعراء من تشبيهه بالثغور وتشبيه الثغور به، وتشبيه الثغور به أكثر فى أشعارهم من تشبيهه بالثغور؛ وقد أجاد ظافر الحدّاد الإسكندرىّ فى وصفه حيث قال: والأقحوانة تحكى ثغر غانية ... تبسّمت عنه من عجب ومن عجب فى القدّ والبرد والرّيق الشهىّ وطيب ... الرّيح واللّون والتفليج والشّنب كشمسة «4» من لجين فى زبرجدة ... قد شرّفت حول مسمار من الذهب [وقال آخر] : والأقحوانة تجلى «5» وهى ضاحكة ... عن واضح غير ذى ظلم ولا شنب كأنّها شمسة من فضّة حرست ... خوف الوقوع بمسمار من الذهب وهذا والذى قبله من بديع التشبيه؛ وهو أجود من تشبيهها بالثغور وأصنع فإنّها لا تشبّه بالثغر حقيقة إلّا من وجه واحد، وهذا قد شبّهها ووصفها بجميع صفاتها وهيئتها.

وقال ابن عبّاد: ومن لؤلؤ فى الأقحوان منظّم ... على ذكت مصفرّة كالفرائد يذكّرنا ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس فى جنح من الليل بارد وقال آخر: كلّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء وسطها جمّة من الشّذر حفّت ... بثغور من فضّة بيضاء وقال جمال الدين علىّ بن أبى منصور «1» المصرىّ: انظر فقد أبدى الأقاح «2» مباسما ... ضحكت بدرّ فى قدود زبرجد كفصوص درّ لطّفت أجرامها ... قد نظّمت من حول «3» شمسة عسجد [وقال آخر] : ظفرت يدى للأقحوان بزهرة ... باهت بها فى الرّوضة الأزهار أبدت ذراع زبرجد وأناملا ... من فضّة فى كفّها دينار [وقال آخر] : كأنّ نور الأقاحى ... إذ لاح غبّ القطر أنامل من لجين ... أكفّها من تبر

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الرابع فى الصموغ

[وقال آخر] : لدى أقحوانات يطفن بناضر ... من الورد محمّر الثياب نضيد اذا الريح هزّتها توهّمت أنها ... ثغور هوت قصدا لعضّ خدود الباب الثالث من القسم الرابع من الفنّ الرابع «1» فى الصّموغ ويشتمل هذا الباب من الصّموغ على ثمانية وعشرين صنفا. وهى الكافور والكهربا، وعلك الأنباط، وعلك الرّوم- وهو المصطكا- وعلك البطم وصمغ الينبوت «2» ، وصمغ قوفىّ «3» ، والكثيراء، والكندر، والفربيون، والصّبر، والمرّ والكمكام «4» ، والضّجاج، والأشّق، وتراب القىء، والقنّة، والحلتيت، والأنزروت والسّكبينج، والسادوران «5» ، ودم الأخوين، والميعة، وصمغ قبعرين «6» ، والمقل الأزرق والصّمغ العربىّ، والقطران، والزّفت.

فأما الكافور وما قيل فيه

فأما الكافور «1» وما قيل فيه - فهو أشرف الصّموغ قدرا، وأحقّها بالتقديم وأحرى؛ لفضله فى التركيب، ودخوله فى أصناف الأدوية والطّيب؛ ويقال فيه: (القافور) بالقاف بدل الكاف؛ ويقال: إنّه صمغ شجرة سفحيّة بحريّة «2» عظيمة تظلّ مائة رجل، تكون بأطراف الهند. وتزعم التّجار أنّه يوجد فى الشجرة الواحدة أصناف من الكافور، فيميّزون كلّ صنف على حدته؛ وله مظانّ: منها (فنصور) «3» وهى جزيرة محيطها سبعمائة فرسخ، وتعرف أرضها بأرض الذهب؛ والكافور المنسوب اليها أفضل ممّا عداه، ومن مظانّه موضع يعرف بأربشير «4» ، ومنها الزّابج «5» ؛ والمنسوب اليها أدنى أصنافه. قالوا: وكيفيّة جمعه أن تقصد شجرته فى وقت معلوم من السنة فتحفر حولها حفرة، ويجعل فى الحفرة إناء كبير، ثم يقبل الرّجل وبيده فأس عظيمة، وهو ملثّم، مسدود الأنف، ويمكّن الإناء من أصل الشجرة، ثمّ يضربها

والكافور أصناف:

بالفأس ضربة، ويطرح الفأس من يده، ويهرب خشية أن يفور فى وجهه ما يخرج من الشجرة من الكافور، فانّه متى أصاب وجهه قتله، ويجمع ما يخرج من الشجرة عقيب تلك الضربة فى ذلك الإناء الموضوع فى أصلها، فاذا برد فى الإناء جعلوه فى أوعية وقطعوا تلك الشجرة، وتركوها حتى تجفّ، ثم تقطع أجزاء صغارا أو كبارا. وذهب آخرون الى أنّه بين اللّحاء والعود مثل الصّمغ قطعا صغارا وكبارا. وقال آخرون: بل يشقّون الخشب فيجدون الكافور فى قلب العود منظّما مثل الملح، فيقلعونه منه، وهذا هو الأصحّ عندهم. وقد زعم آخرون أنّ الكافور يلتقط من شجر فى غياض ملتفّة فى سفوح جبال، وبين تلك الغياض والبحر مسيرة أيّام وأنّ الببور «1» تألف تلك الغياض، ولا يصل أحد إلى التقاطه خوفا منها إلّا فى وقت معلوم من السنة، وهو زمن هياج هذا الحيوان، لأنّه اذا هاج مرض، فتخرج إناثه وذكوره الى البحر فتستشفى بمائه نحوا من شهر، فيلتقط فى ذلك الوقت. قالوا: ولولا ذلك لكان الكافور كثيرا جدا. والكافور أصناف: أفضلها الرّباحىّ «2» ، وأجود الرّباحىّ الفنصورىّ «3» . قالوا:

ولا يوجد هذا الصّنف إلّا فى رءوس الشجر وفروعها، ولونه أحمر ملمّع، ثم يصعّد هناك فيكون منه الكافور الأبيض، وإنّما سمّى الكافور رباحيّا، لأن أوّل من وقع عليه ملك يقال له: (رباح) ، فنسب اليه؛ ومن الرّباحىّ صنف يسمّى المهنشان «1» وهو حبّ أبيض برّاق، ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة؛ ومنه صنف يعرف بالبرتك «2» ناعم الفرك، ذكىّ الرائحة، وليس له صفاء المهنشان، وبعده صنف يعرف بالسّرحان «3» وهو أكبر حبّا من المهنشان، إلّا أنّه كثير الخشب، ولونه يضرب الى السواد ناعم الفرك، ومنه صنف يسمّى موطيان «4» ، ناعم الفرك، يضرب الى الحمرة، ومنه صنف يسمّى المهاى لبصيصه، وهو حبّ أحمر الظاهر أبيض فى الفرك، جافّ الجوهر، ومنه صنف يعرف بالرقرق «5» ، وصنف يعرف بالإسفرك «6» ، وهو غثاء الكافور، وبعده صنف يسمّى الكندج «7» ، يشبه لونه نشارة الساج «8» ، إلّا أن فيه لينا

وأما الكهربا وما قيل فيه

ودهانة، وفى حبّه كبر، اذا كسر وجد داخله أسود، فاذا فرك وجد أبيض، وكلّ هذه الأصناف لا تدخل إلّا فى الأدوية، إلّا الرّباحىّ المجلوب من أرض (فنصور) فانّه لا ينبغى أن يستعمل إلّا فى الطّيب لجودته وحسنه، وقد ذكر محمد بن أحمد ابن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) من الكافور أصنافا كثيرة، منها الذى أوردناه. وقال أبو علىّ بن سينا: طبع الكافور بارد يابس فى الثالثة، واستعماله يسرع الشّيب، ويمنع الأورام الحارّة، واذا خلط بالخلّ أو مع عصير البسر أو مع ماء الآس «1» أو ماء الباذروج «2» منع الرّعاف؛ و [نفع] الصّداع [الحارّ «3» ] ؛ وهو يقوّى حواسّ المحرور؛ وهو يقطع الباه، ويولّد حصى الكلية والمثانة. وأمّا الكهربا وما قيل فيه - فالكهربا يسمّى مصباح الرّوم. وقال عبد الله بن البيطار فى مفرداته: من زعم أنّ الكهربا صمغ الحور الرّومىّ فليس قوله بصحيح. والكهربا صنفان: منها ما يجلب من بلاد الرّوم والمشرق؛ ومنها ما يوجد بالأندلس فى غربيّها عند سواحل البحر تحت الأرض، ويوجد فى واحات مصر. ويقال: إنّه رطوبة تقطر من الدّوم من ورقه، شبيهة بالعسل، يكون

منها الكهربا، وقد يوجد فى داخلها الذّباب والتّين والحجارة. وأمّا من زعم أنّه صمغ الحور «1» الرّومىّ المعروف بالتّوز «2» ، فيقول: إنّ صمغته ذهبية، تسيل فى النّهر الّذى يسمّى أمريدانوس «3» ، فتجمد فيه، فيكون منه الكهربا؛ ولهذا الشجر ثمرة تسمّى السّدد «4» والكهربا يجذب التّبن الى نفسه، ولذلك يسمّى كاه «5» ربا، أى سالب التّبن؛ وأجوده الشّمعىّ اللّون. وقال ابن سينا: طبع الكهربا حارّ قليلا، يابس فى الثالثة «6» ؛ وهو قابض وخصوصا للدّم من أىّ موضع كان. قال، وقال بعضهم: إنّه يعلّق على الأورام

وأما علك الأنباط

الحارّة فينفع منها؛ وهو يحبس الرّعاف؛ واذا شرب منه نصف مثقال بماء بارد نفع من الخفقان؛ ويمنع من نفث الدّم [جدّا «1» ؛ وهو يحبس القىء؛ ويمنع الموادّ الرديئة عن المعدة؛ ومع المصطكا يقوّى المعدة] وهو يحبس نزف الرّحم والمقعدة، وينفع من الزّحير. وأمّا علك الأنباط - فهو صمغ شجرة الفستق، يستخرج منها كسائر الصّموغ، وذلك أنّهم يعقرون الشجرة فى مواضع كثيرة، فيسيل من تلك العقور فيجمع ويجفّف فى الشمس، ولونه أبيض كمد، وفى طعمه شىء من مرارة. وأمّا علك الرّوم - فهو المصطكا- ويسمّى مصطيجا «2» - وأجوده ما كان له بريق، وكان أحمر مشربا، وأبيض، والأصفر دونهما. وقال أبو علىّ بن سينا فيه: الطبع حارّ يابس فى الثالثة «3» ؛ وهو قابض محلّل؛ ودهن شجرته ينفع من الجرب، حتّى جرب المواشى والكلاب؛ ويصبّ طبيخ ورقه وعصارته على القروح فتنبت اللّحم، وكذلك على العظام المكسورة فتجبر؛ ومضغه يحلب البلغم من الرأس وينقّيه، وكذلك المضمضة به تشدّ اللّثة؛ وهو يقوّى المعدة والكبد، ويفتق الشهوة، ويطّيب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع والكبد، ويفتق الشهوة، ويطيّب المعدة، ويحرّك الجشاء، ويذيب البلغم؛ وينفع من أورام المعدة والكبد فى الوقت؛ ويقوّى الكبد والأمعاء وينفع من أورامهما؛

وأما علك البطم

وطبيخ أصله وقشره ينفع من دوسنطاريا «1» والسّحج «2» ، وكذلك نفس ورقه؛ وينفع من نزف الدّم من الرّحم وجميع أوجاع الأرحام وسيلان رطوباتها الرّديئة، ومن نتوء الرّحم والمقعدة، وكذلك دهن شجرته. قال: ويدرّ «3» . وأمّا علك البطم - فهو صمغ شجرة الحبّة الخضراء «4» . ويؤتى به من بلاد المغرب وبلاد فلسطين وسورية وما جاورها. وقال ابن البيطار «5» : العلك أنواع:

وأما الكثيراء

أفضلها علك الرّوم، وبعده علك البطم، وبعده صمغ الينبوت «1» ، وهو صمغ شجر قضم قريش، وهو الصّنوبر الصّغير، وبعده صمغ القوفىّ، وهو الأرز. وقالوا: الينبوت هو الخرنوب النّبطىّ. وأمّا الكثيراء - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: الكثيراء ممدود؛ هكذا نطقت به العرب، وهو صمغ القتاد. وهى شجرة «2» شوكة تكون بأرض خراسان؛ وهى أيضا توجد فى الجبال المطلّة على طرابلس الشأم، ورأيتها أنا تنبت بجبل «3» الثّلج، وهى جمم، لا ترتفع عن الأرض أكثر من نصف ذراع، يكون فيها الكثيراء. وقال ابن سينا: طبع الكثيراء بارد الى يبس؛ وفيه تجفيف. وأمّا الكندر - فهو اللّبان «4» . والكندر كلمة فارسيّة. وهو لا يكون إلّا بالشّحر «5» من اليمن؛ وشجرته لا ترتفع أكثر من ذراعين، ومنابتها الجبال، وورقها مثل

ورق الآس، وثمرتها مثل ثمرته، لها مرارة فى الفم؛ وعلكها يظهر فى أماكن تقصّ «1» بالفئوس. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الكندر الأبيض «2» المدحرج؛ الدّبقىّ» الباطن، الذهبىّ المكسر؛ وطبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الأولى؛ وقشره مجفّف فى حدود الثالثة. قال: وهو حابس للدّم؛ والاستكثار منه يحرق الدّم؛ ودخانه أشدّ تجفيفا وقبضا؛ وإذا خلط الكندر فى العسل ووضع على الدّاحس «4» أذهبه، وقشوره جيّدة لآثار القروح؛ وينفع بالخلّ والزّيت لطوخا من الوجع المسمّى مرميقيا «5» ، وهو وجع يعرض منه «6» فى البدن كالثّآليل «7» ، مع شىء كدبيب النمل؛ واذا خلط بالخلّ والزّفت ولطخ به فى ابتداء حدوث الثّآليل الّتى تسمّى النملة «8» ازالها، ويدخل فى الضّمادات المحلّلة لأورام الأحشاء؛ وهو مدمل «9» جدّا، وخصوصا للجراحات الطريّة، ويمنع الخبيثة «10»

وأما الفربيون

من الانتشار، ويصلح للقروح الكائنة من الحرق، ويقطع نزف الدم الرّعافىّ اذا خلط بزفت أو زيت أو بلبن، ويدمل قروح العين، وينضج الورم المزمن فيها؛ ودخانه ينفع من الورم الحارّ؛ ويقطع سيلان رطوبات العين؛ ويدمل القروح الرديئة؛ وينفع من السّرطان فى العين؛ وإذا خلط بقيموليا «1» ودهن الورد نفع الأورام الحارّة الّتى تعرض فى ثدى النّفساء «2» ؛ ويدخل فى أدوية قصبة الرّئة؛ وهو يحبس القىء، وينفع الهضم، ويحبس نزف الدّم من الرّحم والمقعدة؛ وينفع من دوسنطاريا «3» ؛ ويمنع من انتشار القروح الخبيثة «4» اذا اتّخذت منه فتيلة؛ وينفع من الحميّات البلغميّة. وأمّا الفربيون «5» - ويسمّى اللّبانة المغربيّة- فشجرته تشبه شجرة القنا «6»

فى شكلها؛ وصمغها مفرط فى الحدّة، يحذره من يستخرجه لإفراط حدّته، فيعمدون إلى كروش «1» الغنم فيغسلونها ويشدّونها على ساق الشجرة، ثم يطعنونها بعد ذلك بمزاريق، فينصبّ منها فى الكرش صمغ كثير، كأنّه ينصبّ من إناء؛ ويخرج من شجره صنفان: منه ما هو صاف يشبه الأنزروت «2» ؛ ومنه ما يشبه السكّر؛ وأكثر ما يوجد شجره ببلاد البربر، خصوصا بجبل درن «3» ، وهو عساليج عريضة كالألواح، مثل عساليج الخسّ، بيض، لها شعب، وهى مملوءة لبنا، ولا ينبت حول شجره نبات آخر. ومنه صنف آخر ينبت ببلاد السّودان، وشجرته شوكة كثيرة الأغصان، تنبسط على الأرض. ويقال إن ببلاد إفريقية شجرة صمغها الفربيون، وإن الصّمغ يسيل منها فيجمد؛ وبعض أهل البلد يشرط الشجرة، ويعلّق على موضع الشّرط ما تسيل

فيه تلك الرطوبة، ولا يمسّون الشجرة بأيديهم، ولا تلك الرطوبة، لأنها سم قاتل مشيط، يحرق كلّ ما لامسه أو باشره من أبدان الناس. وقال الشيخ الرئيس: إنّ قوّة الفربيون تتغيّر بعد ثلاث أو أربع سنين؛ والعتيق منه يضرب الى الشّقرة والصّفرة؛ ولا يداف فى الزّيت إلّا بصعوبة؛ والحديث خلاف ذلك. قال بعضهم: إنه اذا جعل فى إناء مع الباقلّى المقشّر انحفظت قوّته. قال: وجيّده الحديث الصافى الأصفر الى الشّقرة، الحادّ الرائحة، الشديد الحرافة؛ وغير هذا فهو مغشوش بالعنزروت «1» والصّمغ «2» ؛ وهو جال، وله قوّة لطيفة محرقة جلّاءة؛ والحديث منه أشدّ إسخانا من الحلتيت «3» ، على أنه لا صمغ كالحلتيت فى إسخانه؛ ويخلط ببعض الأشربة المعمولة بالأفاويه فينفع من عرق النّسا؛ ويمرخ به الفالج والخدر فينفع جدّا؛ واذا اكتحل به كان جاليا، ولكن يدوم لذعه النّهار كلّه، فلذلك يخلط بالعسل. قال: وينفع من برد الكلى؛ وينفع أصحاب القولنج؛ والشّربة منه مع بعض البزور وماء العسل ثلاثة أو بولوسات «4» . وقال بعضهم: إنّه يضمّ فم الرّحم ضمّا شديدا حتّى يمنع الأدوية المسقطة أن تسقط الجنين؛ ويسهل البلغم اللّزج الناشب فى الوركين والظهر والامعاء فيما قالوا. قال، وقال بعضهم: إنّ من نهشه شىء من الهوامّ فشقّ جلد رأسه وما يليه حتّى يظهر القحف، ويجعل فيه من هذا

وأما الصبر

الصّمغ مسحوقا، ثمّ يخيطه، لم يصبه مكروه. قال: وثلاثة دراهم منه تقتل فى ثلاثة أيّام تقريحا للمعدة والمعى. وأمّا الصّبر - فهو من الصّموغ؛ وصفة شجرته فيما قيل: أن ورقها يشبه ورق الإسقيل «1» ، عليه رطوبة تلصق باليد، وفى حرفى كلّ ورقة شبه الشّكوك، قصير متفرّق، وعرقها واحد؛ وهذه الشجرة تنبت ببلاد الهند كثيرا، وفى بلاد المغرب «2» . ويقال: إنّها ثلاثة أصناف: الأسقطرىّ، والعربىّ، والسّمنجانىّ «3» ؛ ويقال أيضا: إن نباته كنبات الراسن «4» الأخضر، غير أنّ ورق الصّبر أطول وأعرض وأغلظ، وهو

كثير الماء جدّا؛ ويلقى فى المعاصر، ثم يدقّ بالخشب، ويداس بالأقدام حتّى يسيل عصيره، ويترك حتّى يثخن، ثم يجعل فى الجرب «1» ، ويشمّس حتّى يجفّ؛ وأجوده الأسقطرىّ، وأسقطرى جزيرة قريبة من ساحل اليمن. وقال إسحاق ابن عمران: الصّبر ثلاثة أصناف، فمنه الأحمر الأسقطرىّ، ومنه الأسود الفارسىّ ومنه الأحمر الملمّع بصفرة، ويؤتى به من اليمن. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا: أجود الصّبر الأسقطرىّ؛ وماؤه كماء الزّعفران، ورائحته كالمرّ، بصّاص «2» ، منفرك؛ نقىّ من الحصى؛ والعربىّ دونه فى الصّفرة والرزانة والبصيص؛ والسّمنجانىّ ردىء، منتن الرائحة، قليل الصّفرة، لا بصيص له؛ واذا عتق الصّبر اسودّ. قال: وطبعه حارّ فى «3» الثانية يابس فيها، وقيل: حارّ يابس فى الثالثة، وليس كذلك. وقوّته قابضة مجفّفة منوّمة؛ والهندىّ كثير المنافع؛ مجفّف بلا لذع؛ وفيه قبض يسير؛ وهو بالعسل يدمل الدّاحس «4» المتقرّح؛ وبالشراب إذا جعل على الشّعر المتساقط منع تساقطه؛ وهو ينفع أورام الدّبر والمذاكير، وخاصّة أورام العضل الّتى على جانبى اللّسان اذا كان بالشّراب أو العسل؛ وهو صالح للقروح العسرة الاندمال، وخصوصا فى الدّبر والمذاكير والأنف والفم؛ وينفع من أوجاع المفاصل، وينقّى الفضول الصّفراويّة الّتى فى الرأس؛ واذا طلى به على الجبهة والأصداغ «5»

نفع من الصّداع، وهو من الأدوية النافعة من مرض «1» الأذن. قال: وفى الطّبّ القديم أنّ الصّبر يسهل السوداء، وينفع من الماليخوليا «2» ؛ والصّبر الفارسىّ يذكىّ العقل، ويحدّ الفؤاد. قال: والصّبر ينفع من قروح العين وجربها وأوجاعها ومن حكّة المآقى، ويجفّف رطوبتها؛ وينقّى الفضول الصّفراويّة والبلغميّة التى فى المعدة اذا شرب منه ملعقتان بماء بارد أو فاتر؛ ويصلح الحرقة والالتهاب الكائنين فى اللهاة، وربّما نفع أوجاع المعدة فى يوم واحد؛ ويفتّح سدد الكبد؛ لكنّه يضرّ بالكبد، وهو يزيل اليرقان بإسهاله. قال: ودرخمى ونصف منه بماء حارّ يسهل، وثلاث درخميات «3» تنقّى تنقية كاملة؛ والمعتدل درخميان بماء العسل يسهل بلغما وصفراء؛ وهو أصلح مسهل للمعدة؛ والمعسول «4» أضعف إسهالا لكنّه أنفع للمعدة؛ وخلطه بالعسل ينقص قوّته حتّى يكاد لا يسهل. قال: وإذا شرب العربىّ منه كرب وأمغص وأسهل، ونقبت «5» قوّته إلى صفاقات المعدة إلى يوم

وأما المر

أو يومين، وسقى الصّبر أيّام البرد خطر؛ وربّما أسهل دما؛ وقد يجعل بالشراب الحلو على البواسير النابتة وشقاق المقعدة، ويقطع الدم السائل منها. قال: وبدله مثلاه حضض «1» . وأمّا المرّ - فهو صمغ شجرة تكون ببلاد المغرب شبيهة بالشجرة الّتى تسمّى باليونانية: الشوكة المصريّة، تشرط فتخرج منها هذه الصّمغة، فتسيل على حصر وبوارىّ قد أعدّت لذلك؛ ومنه ما يوجد على ساق الشّجرة. وقال أبو علىّ بن سينا: أجود المرّ ما هو الى البياض والحمرة، غير مختلط بخشب شجرته، طيّب الرائحة، وطبعه: حارّ يابس فى الثانية؛ وهو مفتّح محلّل للرّياح؛ وفيه قبض وإلزاق وتليين؛ ودخانه يصلح لما يصلح هو «2» ، ولكنّه أشدّ تجفيفا؛ وهو يمنع التعفّن، حتى إنّه يمسك الميت ويحفظه من التغيّر والنّتن، ويجفّف الفضول؛ واذا خلط بدهن الآس واللّاذن أعان على تقوية الشّعر وتكثيفه، ويجلو آثار القروح ويطيّب نكهة الفم اذا أمسك فيه؛ ويزيل البخر، ويلطخ بالشراب والشّبّ على الآباط فيزيل صنانها، ويلطخ بالعسل والسّليخة «3» على الثّآليل، وهو نافع من الأورام

البلغميّة، ويدمل الجروح والقروح، ويكسو العظام العارية، ويستعمل بالخلّ على القوابى «1» ، ويبرئ الجراحات المتعفّنة؛ ورائحته مصدّعة للرأس «2» ؛ واذا تمضمض به بشراب وزيت شدّ الأسنان جدّا وقوّاها، ومنع من تأكّلها؛ ويشدّ اللّثة، ويذهب رطوبتها؛ ويجفّف قروح الرأس؛ ويلطخ به المنخران للنوازل المزمنة فيحبسها؛ وقد يسعط بوزن «3» دانق منه فينقّى الدّماغ؛ وهو يجلو آثار القروح فى العين، ويجلو البياض، وينفع من خشونة الأجفان، ويحلّل المدّة فى العين بغير لذع، وربّما حلّل الماء فى ابتداء نزوله إذا كان رقيقا؛ وهو جيّد للسّعال المزمن الرّطب، ومن الرّبو «4»

وأما الكمكام

وأوجاع الجنب، ويصفّى الصوت، ويجعل تحت اللّسان ويبلع ماؤه لخشونة الحلق؛ وينفع من استرخاء المعدة والنفخة فيها؛ ويدرّ الحيض، وخصوصا الاحتقان به بماء السّذاب أو ماء الأفسنتين «1» أو ماء التّرمس؛ ويخرج الأجنّة والدّيدان؛ ويليّن انضمام فم الرّحم؛ ويسقى بالشراب للسع العقرب. وأمّا الكمكام - فهو صمغ شجرة الضّرو؛ ويقال: إنّه ورقها؛ وقيل: لحاؤها «2» ؛ وهو يسيل لزجا أسود مثل القار، وشجرته تشبه شجرة البطم «3» . وقيل: إنها تشبه شجرة البلّوط العظيمة، إلّا أنّها ألين وأنعم، وتثمر عناقيد مثل عناقيد البطم إلّا أنّها أكبر. وأمّا الضّجاج - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: [الضّجاج «4» ] ، مثل شجر اللّبان «5» يكون فى جبل يقال له: (قهوان) من أرض عمان، وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب فينقّيها مثل الصّابون؛ ولهذه الشجرة حبّ مثل الآس، أسود، يلذع اللّسان.

وأما الأشق

وأمّا الأشّق «1» - ويقال فيه وشّق وأشّج- ولصاق «2» الذهب، والكلخ، وهو صمغ «3» الطّرثوث، وهو نبات ينبت تحت أصول الحمّيض «4» ؛ وهو صنفان: حلو يؤكل ولونه أحمر؛ ومرّ، ولونه أبيض. وقال الخليل: هو نبات مستطيل دقيق يضرب إلى حمرة. وقيل: انّه صمغ نبات يشبه القنا «5» فى شوكه «6» ، ينبت فى بلاد نينوى «7» على ما زعم ديسقوريدوس. وقال أبو علىّ بن سينا: هو حارّ فى آخر الثانية، يابس فى الأولى، وتجفيفه وتحليله قوىّ «8» ؛ وفيه تليين وجذب للأورام «9» والفضول؛ واذا طلى به

وأما تراب القىء

أو ضمد نفع من الخنازير «1» والصّلابات والسّلع؛ وهو نافع للجراحات الرديئة، يأكل اللحم الخبيث، وينبت الجيّد؛ واذا سقى بالعسل أو بماء الشعير نفع أوجاع المفاصل؛ واذا ضمد به بالعسل والزفت حلّل تحجّر المفاصل؛ وهو يليّن خشونة الأجفان والجرب، ويجلو البياض، وينفع رطوبات العين؛ وينفع من الرّبو وعسر النّفس اذا لعق بعسل أو بماء الشّعير؛ وينفع من الخوانق التى من البلغم والمرّة السّوداء؛ وإذا طلى به نفع من الاستسقاء؛ وهو يدرّ البول حتّى يبول الدم، ويقتل الدّود «2» ويخرج الجنين حيّا أو ميتا؛ وإذا لطخ به الأنثيان بخلّ «3» [ليّن] صلابتهما. وأمّا تراب القىء - ويسمّى الكنكرزد «4» - فهو صمغ الحرشف «5» والحرشف يسمّى خسّ الكلب؛ وهو ينبت على شطوط الأنهار وسواقى المياه وعليه شوك متفشّج «6» .

وأما القنة

وأمّا القنّة - فهو بالفارسيّة البارزد «1» ، وشجره صنفان: صنف زبدىّ ضعيف الورق «2» أبيض؛ والآخر كثيف ثقيل؛ وهو ثلاثة أنواع برّىّ وعربىّ، وجبلىّ وأجوده العسلىّ الصافى اللون. وقال ديسقور يدوس هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله ينبت فى بلاد سورية؛ وأجوده ما كان شبيها بالكندر، وكان متقطّعا، نقيّا يدبق باليد؛ وهو يغشّ بالأشّق «3» ودقيق الباقلاء. وقال أبو علىّ بن سينا: طبعه حارّ فى الثانية، مجفّف فى الثالثة؛ وقوّته مليّنة محلّلة؛ وهو مما يفسد اللحم، وفيه تسخين وإلهاب وجذب؛ وهو يقلع العدسيّات، وينفع من الخنازير «4» ويطلى به على القروح اللّبنيّة «5» بالخلّ، وينفع من تشنّج العضل، ومن الصّداع؛ واذا شمّه المصروع انتعش؛ وينفع من وجع الضّرس والسّنّ المتأكّلة فى الحال؛ وينفع من الأوجاع الباردة فى الأذن، ويحلّل أورامها وأوجاعها بغير أذى اذا حلّ فى دهن السّوسن وفتّر وقطر؛ وينفع من الرّبو والسّعال المزمن؛ ويدرّ الطّمث بقوّة؛ ويسقط الأجنّة، وينفع من اختناق الرّحم سقيا بالشراب؛ ويزيل عسر البول؛ وهو ترياق للسّمّ الّذى تسقاه السّهام اذا سقى بشراب، ولسموم الحيّات والعقارب؛ ودخانه يطرد الهوامّ؛ وبدله السّكبينج «6» .

وأما الحلتيت

وأمّا الحلتيت - فهو صمغ شجرة الأنجذان «1» ، وهو نوعان: أحدهما أبيض وهو المأكول؛ والآخر أسود، منتن الرائحة. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: نباته الرّمل الذى بين بست «2» وبلاد القيقان «3» ، والحلتيت صمغ يخرج من أصل ورقه بان يشرط أصله وساقه. وقال أبو على بن سينا: طبعه حارّ فى أوّل الرابعة، يابس فى الثانية؛ وهو يكثر الرّياح ويطردها بتحليله، وهو مع ذلك نفّاخ مقطّع، ويحلّل الدم الجامد فى الجوف، وينفع من داء الثعلب «4» لطوخا بالخلّ والفلفل؛ واذا استعمل فى المأكولات حسّن اللّون، ويقلع الثّآليل «5» المسماريّة، واذا جعل على الأورام الخبيثة نفعها؛ واذا شرب بماء الرّمّان نفع من شدخ العضل؛ وينفع من أوجاع

العصب مثل التمدّد والفالج بأن يؤخذ منه، [أوبولوس «1» ] ويخلط بالشّمع، ويبلع أو يشرب بالشراب مع فلفل وسذاب؛ واذا تغرغر به قلع العلق من الحلق وهو جيّد لابتداء الماء فى العين كحلا بعسل؛ واذا أديف «2» فى الماء وتجرّع صفّى الصوت، ونفع من خشونة الحلق المزمنة؛ وان تحسّى بالبيض نفع من السّعال المزمن والشّوصة «3» الباردة، وإن استعمل بالتّين اليابس نفع من اليرقان؛ وهو ممّا يضرّ بالمعدة والكبد؛ وينفع من البواسير؛ ويقوّى الباه، ويدرّ البول؛ وينفع من المغص، ومن قروح الأمعاء، ومن حمّى الرّبع «4» ، واذا جعل على عضّة الكلب الكلب والهوامّ خصوصا العقرب والرّتيلاء «5» فإنه ينفع من جميع ذلك شربا وطلاء بالزيت؛ ويدفع ضرر السّهام المسمومة:

وأما الأنزروت

وأمّا الأنزروت فهو صمغ شجرة شائكة، وفيه مرارة، ومنه أبيض وأحمر، ويكون بجبال فارس؛ وأجوده الشبيه باللّبان. وقال ابن سينا: قال بعضهم: هو حارّ فى الثانية «1» ، يابس فى الأولى؛ وهو يسكّن الأورام كلّها ضمادا، ويأكل اللّحم المّيت؛ وينفع من الرّمد والرّمص؛ وهو يسهل البلغم الغليظ. وأما السّكبينج «2» - فقال ديسقور يدوس: هو صمغ نبات يشبه القنا فى شكله، ينبت فى البلاد التى يقال لها: (ماه «3» ) ويسمّيه اليونان: (سكافتيون «4» ) . وقال ابن سينا: هو صمغ شجرة لا منفعة فيها، بل فى صمغها. قال: وأجود نوعيه الأكثف الأصفى، الّذى يضرب داخله الى الحمرة، وخارجه الى البياض، وينحلّ فى الماء سريعا؛ وخيره الأصفهانىّ. قال: وطبعه حارّ فى الثالثة، يابس فى الثانية؛

وهو محلّل ملطّف، مفشّ «1» ، مسخّن، جال؛ وينفع من الفالج؛ ويسهل المادّة التى فى الوركين حقنة وشربا، وكذلك أوجاع المفاصل الباردة؛ ويحلّل الصّداع البارد والرّيحىّ «2» ؛ وينفع من الصّرع، ومن ظلمة العين كحلا، ومن غلظ الأجفان ومن الآثار فى العين، وهو أفضل الأدوية للماء النازل فيها، وإن سحق بالخلّ وجعل على الشّعيرة «3» أذهبها؛ وهو نافع من وجع الصدر والجنب، ومن السّعال المزمن، يسقى بماء السّذاب المعصور ثلاثة أرباع درهم لسوء النّفس؛ وهو ينقّى الصدر، ويخرج الأخلاط النّيئة؛ وهو نافع من الاستسقاء؛ ويخرج الماء الأصفر؛ وينفع من القولنج «4» حقنة وشربا ومن المغص؛ ويخرج الحصاة، ويزيد [فى] الباه، وينفع من أوجاع الأرحام؛ وإذا شرب أدرّ الطّمث، وقتل الجنين؛ ويخرج الخلط اللّزج والماء الأصفر؛ وهو ينفع من الحميّات الدائرة؛ وإذا سقى فى الشراب أفاد لسع الهوامّ، ومن جميع السّموم القاتلة.

وأما السادوران

وأما السّادوران «1» - فهو شىء أسود شبيه بالصّمغ مثل حصى السّبج «2» يتكوّن فى التجويفات الكائنة فى أصول أشجار الجوز «3» الكبار العتيقة اذا تجوّفت أصولها، فإذا قطعت الشجرة وجد فى وسطها، ولونه محلولا الى الصّفرة «4» ، وله بصيص اذا كسر. وأما دم الأخوين «5» - ويسمّى القاطر «6» - فقال أبو حنيفة الدّينورىّ: هو صمغ أحمر يؤتى به من جزيرة سقطرى «7» ، ويسمّى الأيدع، ودم التّنّين، ودم الثعبان. ويقال: إنّه دموع شجرة كبيرة ببلاد الهند، معروفة هناك.

وأما الميعة

وأمّا الميعة «1» - فهى صنفان: سائلة، ويابسة، وكلاهما دسم «2» مرّ؛ ومنها صنف هو صمغ شجرة تشبه شجرة السّفرجل، أجوده «3» ما كان لونه أشقر دسما يميل الى البياض؛ ومن هذا الصّنف ما هو أسود هشّ كالنّخالة، وهو رومىّ. وقال اسحاق بن عمران: شجرة الميعة شجرة جليلة كشجرة «4» التّفاح، ولها ثمرة بيضاء أكبر من الجوز تشبه عيون «5» البقر الأبيض، يؤكل الظاهر منها، وفيه مرارة وثمرته الّتى داخل النوى دسمة، يعتصر منها دهن هو «6» الميعة اليابسة، ومنه تستخرج الميعة السائلة.

وقال ابن جريح: الميعة تسيل من شجرة تكون فى بلاد الرّوم تتحلّب منها، ثم تؤخذ فتطبخ، وتعتصر أيضا من لحاء تلك الشجرة، فما عصر فهو الميعة السائلة وما طبخ فهو الميعة اليابسة. وقال الشيخ الرئيس أبو علىّ بن سينا فى الميعة- وسماها لبنى- قال: ويقال للسائلة: عسل اللّبنى والأصطرك «1» ، وهو دمعة شجرة [كالسّفرجل «2» ] . قال: وأجود أصناف الميعة السائل بنفسه، الشّهدىّ، الصّمغىّ، والطيّب الرائحة الضارب الى الصّفرة. قال: وطبع الميعة حارّ فى الأولى يابس فى الثانية، وله قوّة منضجة، مليّنة جدّا، مسخّنة محلّلة، ودخانه شبيه بدخان الكندر؛ وفيه تخدير بالطبع، ودهنه الذى يتّخذ بالشأم مليّن تليينا قويّا؛ وينفع الصّلابات فى اللّحم، ويطلى به على البثور الرّطبة واليابسة مع الأدهان؛ ويطلى به على الجرب الرّطب واليابس؛ وهو طلاء جيّد عليه؛ وهو يقوّى الأعضاء وينفع تشبّك المفاصل جدّا شربا وطلاء؛ ورطبه ويابسه يحبس «3» النّزلة تبخيرا؛ وهو غاية للزّكام؛ وفيه قوّة مسبتة «4» ، لا سيّما فى دهنه؛ وينفع من السّعال المزمن والبلغم ووجع الحلق ويصفّى صوت الأبحّ مع تليين شديد؛ وهو يهضم، ويليّن الطبيعة، ويدرّ البول والطّمث إدرارا صالحا شربا واحتمالا؛ ويليّن صلابة الرّحم؛ واليابسة تعقل البطن؛

وأما صمغ قبعرين

قال: واذا شرب من الميعة السائلة [مثقال «1» ] مع مثله «2» من صمغ اللّوز أسهل بلغما من غير أذى. وبدل الميعة جندبادستر «3» ، ومثلاه من دهن الياسمين. وأمّا صمغ قبعرين «4» -: فقال ديسقور يدوس: هو صمغ شجرة تكون ببلاد

وأما المقل الأزرق

العرب «1» ، وفيه شبه يسير من المرّ «2» إلّا أنّه كريه المطعم زهم. وزعم قوم أنّه السّندروس «3» . وقال آخرون: هو اللّك «4» . قال ابن البيطار: وليس «5» كما زعموا. وأمّا المقل «6» الأزرق - فيسمّى كورا «7» ، ويعرف بالمقل المكّىّ، وبمقل اليهود، والمقل الهندىّ، وإن كان لا يوجد إلّا بأرض العرب، ومنه صقلّىّ؛ ومنه عربىّ؛ وهو صمغ يشبه الكندر، طيّب الرائحة، وشجرته كشجرة اللّبان، وأكثر نباته بأرض اليمن فيما بين الشّحر وعمان بجبل هناك، ولشجره ثمر يسمّى ديميس «8»

وأما الصمغ العربى

اذا كان رطبا، فاذا يبس فهو الوقل، والّذى يؤكل منه يسمّى الحتّىّ «1» . وقال أبو الخير العشّاب: المقل المكّىّ هو صمغ الدّوم، لأنّ الدّوم هناك يدرك ويصمغ، وليس فى سائر البلاد كذلك إلّا بمكّة لا غير. وأما الصمغ العربىّ - فهو صمغ القرظ، وهو الّذى يستعمل فى المركّب ولا يصلح بغيره، فإنّه ينحلّ فى الماء بسرعة من غير تعقيد، وما عداه من الصّموغ التى تجمع من أشجار الفواكه متى جعل فى المركّب أفسده. ولهم أيضا صمغ السّمّاق «2» وصمغ السّذاب «3» ، وصمغ الخطمىّ «4» ؛ ومن الصّموغ التى جرت عليها التسمية بالعربىّ صمغ الإجّاص، وصمغ الدّاميثا، وهو شجر ببلاد فارس؛ وصمغ اللّوز، وصمغ الزّيتون البرّىّ والبستانىّ، والبرىّ يشبه السّقمونيا «5» فى لونه، ومنه ما هو أحمر، وصمغ السّرو؛

وأما القطران

ومن الصّموغ الرّاتينج «1» وهو القلفونيا «2» ؛ ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أسود وهو صمغ الصّنوبر الذّكر. وأما القطران - فهو معدود من الصّموغ، وشجرته تسمّى شربين، وهى شجرة عظيمة، لها ثمر يشبه ثمر السّرو، غير أنّه أصغر منه، والقطران دهن يخرج منه، فأجوده ما كان صافيا، كريه الرائحة: وقال الزمخشرىّ فى تفسير قوله تعالى: (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) ، هو ما يحلب من شجر يسمّى الأبهل «3» فيطبخ، فتدهن به الإبل الجرب فيحلق الجرب لحدّته وحرّه، وهو أسود اللون، منتن الرائحة.

وأما الزفت

وقال أبو علىّ بن سينا: القطران حارّ يابس فى الرابعة، وهو يقتل القمل والصّئبان؛ وهو يقوّى اللحم الرّخو، وخصوصا دهنه من الجرب، حتّى جرب الحيوان من ذوات الأربع، وينفع من شدخ العضل واجتماع الدّم والقيح فيها، وهو دواء لداء الفيل «1» لعوقا ولطوخا. قال: وهو أعظم شىء فى تسكين الصّداع البارد طلاء للرأس ويقطر فى الأذن فيقتل دودها، ويقطر فيها بماء الزّوفا «2» للطّنين والدّوىّ، وينفع الأسنان المتأكّلة، وهو يحدّ البصر، ويجلو آثار القروح فى العين، ولعق أوقيّة ونصف منه ينفع لقروح الرئة، وينفع من السّعال العتيق، ويقتل الدود فى الأمعاء وخصوصا الاحتقان به؛ ويدرّ الطّمث، ويقتل الجنين، ويفسد المنىّ، واذا لطخ به الذّكر قبل الجماع منع الحبل، وينفع من تقطير البول، ويضمد به على نهش الحيّة ذات القرن، واذا أذيب فى شحم الأيّل «3» ومسحت به الأعضاء لا تقربها الهوامّ. وأمّا الزّفت - فيكون من شجر التّنّوب «4» وغيره من ضروب الصّنوبر، وهو قريب من دهن القطران.

الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الرابع فى الأمنان

الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الرابع فى الأمنان ويشتمل هذا الباب على العسل والشّمع واللّكّ والقرمز واللّاذن والأفتيمون والقنبيل والورس والتّرنجبين «1» والشّيرخشك «2» والمنّ والكشوث وسكّر العشر فأما العسل والشّمع - فقد قال التميمىّ فى المرشد: إنّ العسل منّ يسقط من الهواء بكلّ بلد وبكلّ إقليم من الأمصار المسكونة، وسقوطه على أنواع كثيرة من الأزهار والنّوّار والأوراق يلتقطه النّحل الّذى قد ألهمه الله جمعه وإلقاءه إيّاه فى كوائره التى هو ساكنها، وهى أقرصة «3» شهده، ويدّخره لقوته عند حلول الشتاء عليه وانقطاعه عن الطّيران وعند حصار الأمطار والثلوج له. وزعم كثير من الفلاسفة والأطبّاء أن الشّمع الّذى تتخذ منه النحل مساكنها، وتربّى فيه فراخها، وتوعى فيه أعسالها، نوع من المنّ الساقط من الهواء؛ والله تعالى أعلم.

وأما اللك

وأمّا اللّكّ - فيقال إنّه يسقط على قضبان الكروم فى بلاد الهند فينعقد عليها. وزعم قوم أنّه صمغ يلقط من قضبان الكروم؛ والله أعلم. وقال ابن سينا: إنّه ينفع من الخفقان، ويقوّى الكبد، وينفع من اليرقان والاستسقاء. وأمّا القرمز - فقد قال أبو الخير فى كتاب النبات: القرمز طلّ يقع فى العام الكثير الرّطوبات والأنداء على شجر البلّوط والتّنّوب فينعقد على خشبه حبّ أبيض اللّون مثل حبّ الكرسنّة «1» ، فاذا انتهى ونضج وكان فى قدر الحمّص صار لونه أحمر قانئا برّاقا، فيجمع فى شهر ابريل ومايه، فيجفّف ويخزن لتصبغ به الثياب؛ ومن خاصيّته أنّه لا يصبغ به إلّا ما كان من حيوان، كالحرير، والصوف، وان هو لم يجمع خرج منه دود صغار، ويصنع على نفسه نسجا مثل نسج العنكبوت، ويموت فيه. وأما اللّاذن - فهو منّ يسقط بجزيرة قبرس على شجر ترعاه الأغنام، فاذا باكرت الرّعى من تلك الأشجار علق اللّاذن بلحى التّيوس وخراطيمها وأظلافها، فيجمع منها بأمشاط معدّة له. وأمّا ما يجمع من الشجر فإنّه يكون فى خزائن الملوك لطيب رائحته. وقال ابن سينا: أجوده الدّسم الرّزين القبرسىّ الطيّب الرائحة، الّذى هو الى الصّفرة ولا رمليّة فيه، وينحلّ كلّه فى الدّهن فلا يبقى منه ثفل؛ والاسود القارىّ غير جيّد؛ وطبعه حارّ فى آخر الأولى، يابس فى الثانية؛ والذى يكون فى البلاد الجنوبيّة أسخن. قال: وقال الخوزى: إنه بارد قابض؛ وليس كذلك. قال: وهو لطيف جدّا، فيه يسير قبض، منضج للرّطوبات الغليظة اللّزجة يحلّلها باعتدال فيه؛

وأما الأفتيمون

وفيه قوّة حادّة «1» مسخّنة مفتّحة لأفواه العروق؛ ويدخل فى تسكين الأوجاع؛ وهو ينبت الشّعر ويكثّفه ويكثّره ويحفظه، خصوصا مع دهن الآس ومع الشّراب؛ ويقطر منه مع دهن الورد فى الأذن الوجعة؛ ويدخل فى علاج الصّداع والضّربان وينفع من السّعال، ويحلّل أورام الرّحم محتملا «2» ؛ ويخرج الجنين الميّت والمشيمة تدخينا «3» به؛ وإذا شرب بشراب عتيق عقل البطن وأدرّ البول. وأمّا الأفتيمون - فهو منّ يسقط من الهواء على صنف من الصّعاتر «4» برياض «5» جزيرة اقريطش «6» وبرقة «7» وفى جبال بيت المقدس. وأمّا القنبيل - فهو شبيه بالورس، يسقط فى اليمن مثل الرمل الأحمر وتمازج حمرته صفرة ظاهرة فيه. ويقال: إنّه يوجد أيضا بخراسان على وجه الأرض غبّ المطر فيجمع.

وأما الورس

وأمّا الورس - فهو منّ يسقط بأرض الصّين والهند والحبشة وأرض [اليمن «1» ] على ورق شجر يشاكل الباذروج «2» ، فتجمع الشجرة بما عليها منه، وتلقى فى الشمس حتى تنشف، ثم تنفض على أنطاع الأدم فيسقط ورقها وعليه الورس متعلّقا به، ولونه أحمر، فاذا طحن صار أصفر، وأجوده الهندىّ، ثم الحبشىّ، ثم اليمانىّ. وأما التّرنجبين «3» - فمعناه عسل النّدى، وهو يسقط ببلاد خراسان وما وراء النهر على العاقول، ويسمّى «4» الحاج «5» ؛ وقد يقع على سعف النخل ببلاد قسطيلية «6» ، وعلى ورق الأثل. وورق الطّرفاء. وقال ابن سينا: أجوده الطرىّ الأبيض؛ وطبعه معتدل الى الحرارة؛ وهو مليّن، صالح الجلاء، وينفع من السّعال؛ ويليّن الصدر، ويسكّن العطش، ويسهل الصّفراء برفق، وإسهاله بخاصيّة فيه؛ والشّربة عشرة مثاقيل الى عشرين مثقالا. وأما الشّير خشك «7» - فقال ابن البيطار، قال «8» علماؤنا الشّير خشك طلّ يقع من السماء بهراة من بلاد خراسان على شجر الخلاف، حلو الى الاعتدال. وقال

وأما المن

التّميمىّ: أمّا كيفيّته فإنّه حبّ أبيض مثل حبّ التّرنجبين، بل هو أكبر، وهو قريب من مزاج الكافور وطعمه ورائحته، واذا بقى فى اليد انحلّ ودبق باليد. وأمّا المنّ «1» - فهو يسقط على ورق البلّوط «2» والسّدر والخوخ والمشمش مثل العسل، فما تخلّص منه كان أبيض، وما لم يتخلّص وجمع بورقه كان أخضر وسقوطه يكون بجبال ربيعة ومضر وجبال الشأم الى نحو دمشق والساحل. وأما الكشوث «3» - فقال التّميمىّ: الكشوث يسقط بأرض العراق على شجر يشاكل الباذروج «4» ، وهو مركّب من قوى مختلفة من مرارة وعفوصة. وقال ابن سينا: طبعه حارّ قليلا فى أوّل الأولى يابس فى آخر الثانية؛ وهو منقّ يخرج الفضول اللّطيفة من العروق وينقّيها؛ وهو يقوّى المعدة، وخصوصا المقلىّ منه؛ وإذا شرب بالخل سكّن الفؤاق؛ وهو يفتّح سدد الكبد والمعدة ويقوّيهما؛ وماؤه عجيب لليرقان؛ وهو ينقّى الأوساخ عن بطن الجنين؛ ويدرّ البول والطّمث؛ وينقّى سيلان الرّحم؛ وبزره وماؤه ينفع «5» من الحميّات العتيقة جدّا.

وأما سكر العشر

وأمّا سكّر العشر - فقال التّميمىّ: هو طلّ يسقط على شجر العشر بأرض اليمن والحجاز، فان أصابه الهواء جمد. وقال أبو حنيفة الدّينورىّ: العشر ضرب من العضاه، ينبت صعدا، عريض الورق، وله سكّر يخرج من فصوص شعبه «1» ؛ والله أعلم بالصواب. كمل الجزء الحادى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النّويرىّ- رحمه الله- ويليه الجزء الثانى عشر، وأوّله: القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواصّ والحمد لله رب العالمين

استدراك

استدراك ورد فى صفحة 25 سطر 6 لفظ «شوابير» وذكرنا فى الحاشية رقم 5 من هذه الصفحة أننا لم نجد للشوابير معنى يناسب السياق، واستظهرنا أنه محرف عن لفظ آخر. وقد رأينا بعد ذلك فى بعض الكتب ما يفيد أن لفظ الشوابير صحيح لا تحريف فيه، وقد بيّنّا المراد به فى الحاشية رقم 1 من صفحة 225، فانظرها.

بيان عن الجزء الثانى عشر من كتاب نهاية الأرب فى دار الكتب من نسخ هذا الجزء نسختان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ كتبت إحداهما فى القرن الثامن الهجرى قبل وفاة المؤلف، ونسب خطها إليه وهى المشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) وكتبت الثانية فى القرن التاسع بخط نور الدين العاملىّ، وهى المشار إليها فى الحواشى بحرف (ا) وليست إحدى النسختين بأقل تحريفا ولا تصحيفا من الأخرى، بل التحريف فيهما يكاد يكون متفقا كما نبهنا على ذلك فى الأجزاء السابقة، غير أن النسخة المنسوب خطها الى المؤلف والمشار اليها فى الحواشى بحرف (ب) ، تمتاز عن الأخرى بقلة النقص فى الألفاظ والعبارات، فاذا وجدت كلمة أو جملة سقطت من الناسخ فى النسخة المشار اليها بحرف (ا) فكثيرا ما تجد هذه الكلمة أو الجملة ثابتة فى النسخة الأخرى. ويلاحظ أن المؤلف قد لخص كتاب (جيب العروس وريحان النفوس) لمحمد بن أحمد التميمى المقدسىّ فى الأبواب التسعة الأول من هذا الجزء فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات؛ ولم نقف على هذا الكتاب فى خزانة من خزائن الكتب الموجودة فهارسها بين أيدينا، فكنا نرجع فى تصحيح ما ورد فى هذا الجزء من التحريف والتصحيف الى ما بين أيدينا من كتب القدماء والمحدثين فى علوم الطب والنبات وأنواع الطّيب، منبّهين فى الحواشى على كل مصدر رجعنا اليه فى تصحيح الكلمة أو الجملة متحرّين بقدر الإمكان وجه الصواب فى ضبط أسماء النبات والأدوية والعقاقير

التى وردت فى هذا الجزء، فلا نضبط اسما من هذه الأسماء إلا إذا ورد بضبطه نص صريح لا يحتمل التأويل فيما لدينا من الكتب الموثوق بمؤلّفيها ومصحّحيها. وعسى أن نكون قد وفّقنا فى تصحيح هذا الجزء الى ما نقصد إليه فى جميع أجزاء هذا الكتاب: من إصلاح التحريف، وتكميل الناقص، وشرح الغريب، وغير ذلك مما بيّناه من الأغراض فى أوائل الأجزاء السابقة. وقد تم طبع هذا الجزء فى عهد (حضرة صاحب الجلالة) فاروق الأوّل ملك النيل وحفيد إسماعيل أدام الله على البلاد ظله، وأعلى برعايته وعنايته العلم وأهله. آمال أمّته به معقودة ... والله يكفل هذه الآمالا لا زال شعبك من سحابك يرتعى ... روضا يمدّ على البلاد ظلالا وفى هذا المقام نرى عرفانا بالجميل، وتقديرا لجهود المخلصين أننا مدينون بجزيل الثناء وعظيم الحمد لتلك العناية المشكورة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة الأستاذ العالم، والمدير الحازم (الدكتور منصور فهمى بك مدير دار الكتب المصرية) . فقد خطت الدار فى عهده الميمون خطوات واسعة فى سبيل التقدّم والرقىّ، حتى أصبح منهلها العذب أقرب موردا، والانتفاع بما فيها من الذخائر أيسر على الطالب. كما أنه من الحق علينا أن نقدّم عظيم الشكر الى حضرة صاحب الفضيلة (السيد محمد الببلاوى مراقب إحياء الآداب العربية) وإلى حضرة الأديب الفاضل (الأستاذ أحمد زكى العدوى رئيس القسم الأدبى) على ما يبذلان من جهد فى سبيل إنهاض هذا القسم وتقدّمه. والله أسأل أن يوفّقنا إلى الخير فى القول والعمل. مصحّحه أحمد الزين

فهرس الجزء الثانى عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب القسم الخامس من الفن الرابع فى أصناف الطيب والبخورات والغوالى والندود والمستقطرات والأدهان والنضوحات وأدوية الباه والخواص...... 1 الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفن فى المسك وأنواعه...... 1 الباب الثانى فى العنبر وأنواعه ومعادنه..... 16 الباب الثالث فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه...... 23 ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه سوادا...... 37 الباب الرابع فى الصندل وأصنافه ومعادنه...... 39 الباب الخامس فى السنبل الهندى وأصنافه، والقرنفل وجوهره- فأما السنبل الهندىّ...... 43 وأما أصله...... 43 وأما القرنفل وجوهره...... 45 الباب السادس فى القسط وأصنافه...... 49 الباب السابع فى عمل الغوالى والندود- أما عمل الغوالى- فأما الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه- وأما الالات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها...... 52

وأما كيفية عملها وأخذ أجزائها...... 53 غالية من غوالى الخلفاء...... 53 غالية حجاجية تسمى الساهرية...... 55 غالية هشام بن عبد الملك...... 56 صفة غالية أخرى من كتاب محمد بن العباس...... 58 غالية متوسطة نسبها التميمى الى كتاب أبى الحسن المصرى...... 59 غالية تسمى الساهرية ختم بها التميمى باب الغوالى...... 59 وأما عمل الندود- الند المستعينىّ...... 60 وأما الند الذى أجمع الناس عليه...... 61 صفة ند آخر...... 61 صفة ند كانت «بنان» العطارة تصنعه للواثق بالله...... 62 صفة ند آخر كانت تصنعه لجعفر المتوكل على الله...... 63 صفة الند الذى كانت أم الخليفة المقتدر بالله تصنعه وتبخر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كل جمعة...... 64 صنعة ند آخر عن أم أبيها بنت جعفر بن سليمان، وهو الذى يسمى اللفيف الشريف...... 64 وأما الذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية...... 65 ذكر كيفية عمل الند فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره- فالنوع الأول المثلث...... 66 وأما النوع الثانى وهو المعتدل...... 67 وأما النوع الثالث وهو السوقى...... 68

ذكر صفة خلط أجزاء الندّ وتركيبه...... 68 الباب الثامن فى عمل الرامك والسك من الرامك والأدهان- فأما عمل الرامك والسك...... 70 وأما الأدهان وما قيل فيها...... 78 ذكر دهن البان وحبه ومعادنه وكيفية طبخه...... 78 وأما كيفية إخراج دهنه...... 80 وأما كيفية طبخه بالأفاويه حتى يصير يانا مرتفعا- فمنه كوفى ومنه مدنى ... 80 أما الكوفى...... 81 وأما البان المدنى...... 81 صنعة بان آخر من تركيب التميمىّ...... 83 صنعة نش البان على رأى أبى عمران البانى...... 91 وأما نشه على ما ورد فى كتاب العطر المؤلف للمعتصم بالله...... 91 وأما دهن الزنبق وما قيل فيه- فمنه أصلى خالص، ومنه مولد- فأما الخالص...... 92 وأما المولد...... 93 وأما دهن الحماحم وما قيل فيه...... 95 وأما دهن الخيرى وما قيل فيه- فمنه أصلى ومنه مولد- فأما الأصلى الخالص- وأما المولد...... 96 وأما دهن التفاح وما قيل فيه...... 99 وأما الأدهان المركبة العطرة...... 101 صنعة دهن آخر من الكتاب المصنف للمعتصم بالله...... 103

صنعة دهن آخر يسمى دهن السيدة...... 104 صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنا بن ماسويه...... 105 صنعة دهن برمكى مبخر من كتاب يوحنا بن ماسويه...... 108 صنعة دهن آخر كان يعمل للعباس بن محمد...... 109 صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العباس...... 110 وأما الأدهان التى تصلح الشعور وتكثرها الخ- فمنها دهن متخذ من حب القطن يكثر الشعور ويسوّدها ويذهب بالحاصة ويصفى اللون...... 110 صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجود الشعر ويكثره ويذهب بالحاصة، وينفع شعر الرأس واللحية منقول من كتاب المعتصم...... 114 صنعة دهن آخر يجود الشعر ويطوله ويكثفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصة...... 116 صنعة دهن فاغية الحناء يصلح لشعور النساء...... 118 الباب التاسع فى عمل النضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة ... الخ فأما النضوحات...... 120 صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزهراوى يدخل فى أصناف الطيب، ويستعمل للشرب...... 122 وأما المياه المستقطرة وغير المستقطرة- فمنها ماء الجورين...... 123 وأما ماء الصندل...... 124 صفة تصعيد ماء القرنفل 124 صفة تصعيد ماء السنبل...... 124 صفة تصعيد ماء الكافور...... 124

صفة تصعيد ماء الزعفران عن ابن ماسويه...... 125 تصعيد آخر استنبطه التميمى...... 125 صفة تصعيد ماء الورد الطيب الذى يسمى الغنج...... 126 تصعيد ماء ورد آخر ألفه التميمى يستخرج من الورد اليابس...... 127 تصعيد ماء ورد ملوكى مرتفع عن ابن العباس...... 128 صعيد ماء المسك وماء الورد...... 128 وأما تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزهراوىّ...... 128 تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرى 129 صعيد ماء خلوق آخر من كتابه أيضا...... 129 وأما ماء الميسوس...... 130 صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع الطبيب من كتاب العطر المؤلف للخليفة المعتصم بالله...... 130 صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع أيضا من كتابه المذكور...... 134 وأما ماء التفاح ونضوحه الذى يصنع منه...... 136 صنعة عقيد ماء التفاح من كتاب أبى الحسن المصرى 137 صنعة نضوح ماء التفاح مما ألفه التميمى وركبه فجاء غاية فى الطيب...... 138 وأما ماء العنب المطيب والعقيد المصنوع منه...... 139 صنعة أخرى لماء العنب المطيب من كتاب محمد بن العباس...... 140 الباب العاشر فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذذ الجماع وما يتصل بذلك من أدوية الذكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه، وغير ذلك- ذكر الأطعمة النافعة لذلك...... 142

صفة لون يزيد فى الباه...... 144 صفة هريسة...... 145 وأما الأشربة المركبة التى تزيد فى الباه...... 146 ذكر الأدوية المركبة النافعة التى تزيد فى الباه وتغزير المنىّ...... 148 ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة المنىّ...... 150 صفة دواء آخر يزيد فى الباه ويصفى اللون وينفع الكبد والمعدة...... 151 دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنه يقوّيها ويزيد فيها...... 152 صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه الخ...... 158 ذكر الجوارشنات التى تزيد فى الباه وتغزر المنى- صفة جوارش يغزر المنى...... 160 صفة جوارش يقوّى الباه ويزيد فى الشهوة...... 161 صفة جوارش التفاح يقوّى المعدة ويزيد فى الباه...... 161 ذكر المربيات المقوّية للشهوة والمعدة والباه...... 162 صفة عمل الراسن المربى، وهو مسخن للكلى والظهر محرّك لشهوة الباه...... 163 صفة عمل الشقاقل المربى يقوّى المعدة والشهوة، ويزيد فى الباه...... 164 صفة عمل الجزر المربى الذى يزيد فى الباه...... 164 صفة عمل الإهليلج الكابلى المربى...... 165 صفة عمل التفاح المربى...... 166 صفة عمل الجوز المربى وهو مما يزيد فى الباه...... 166 ذكر السفوفات التى تزيد فى الباه...... 167

ذكر الحقن والحمولات المهيجة للباه والمغزرة للمنى والمسمنة للكلى...... 168 وأما الحمولات التى تحدث الإنعاظ الشديد...... 174 ذكر المسوحات والضمادات التى تزيد فى الباه المقوية للذكر...... 176 وأما الضمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع...... 181 ذكر الأدوية الملذذة للجماع...... 183 ذكر الأدوية التى تعظم الذكر وتصلبه...... 187 ذكر الأدوية التى تضيق فروج النساء وتسخنها وتجفف رطوبتها...... 190 وأما الأدوية التى تسخن القبل...... 195 وأما الأدوية التى تجفف رطوبة الفرج...... 196 ذكر الأدوية التى تطيب رائحة البدن وتعطره...... 198 صفة قرص حاد يقطع الصنان...... 199 دواء آخر يقطع رائحة العرق...... 199 صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط ولا يحتاج بعده الى دواء آخر...... 199 صفة دواء آخر يطيب البدن وينفع أصحاب الأمزجة الحارة...... 200 صفة دواء آخر يقطع العرق وينفع أصحاب الأمزجة الحارة...... 200 ذكر الأدوية التى تجلو الأسنان من الصفرة والسواد وتطيب رائحة الفم والنكهة- فأما السنونات التى تجلو الأسنان...... 201 صفة سنون آخر يقوى الأسنان ويجلوها...... 203 وأما الأدوية التى تطيب رائحة الفم والنكهة...... 203 صفة حب آخر يزيل البخر...... 204

صفة حب آخر ملوكى...... 205 صفة حب آخر يطيب النكهة...... 206 ذكر الأدوية التى تعين على الحبل والأدوية التى تمنعه- أما الأدوية التى تعين عليه...... 207 صفة دواء آخر وهو من الأسرار...... 209 وأما الأدوية التى تمنع الحبل...... 210 ذكر الأدوية التى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركبة- أما المفردة...... 212 وأما المركبات- فمنها أغذية وأدوية- أما الأغذية...... 213 وأما الأدوية...... 214 صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتة وهو من الخواص...... 215 الباب الحادى عشر فيما يفعل بالخاصية...... 217 ذكر الخواص المختصة بالنساء والنكاح التى استقرئت بالتجربة...... 217 خاصية من خواص الهنود...... 217 سر آخر لجعفر الطوسىّ...... 218 ذكر شىء من الخواص غير ما تقدّم ذكره- من ذلك طلسم يجعل على المائدة فلا يقرّبها ذباب...... 223 ذكر نبذة من خواص الحروف والأسماء...... 225

أهم المصادر التى رجعنا إليها فى تصحيح هذا الجزء إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى. أخبار الهند والصين للسيرافى. إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى لشهاب الدين القسطلانى. أقرب الموارد لسعيد الخورى الشرتونى اللبنانى. الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّى شير. الأنساب للسمعانى. الإيضاح فى أسرار النكاح للشيرازى. بحر الجواهر للهروى. البرهان القاطع وهو معجم فارسى تأليف محمد حسين بن خلف التبريزى. البلدان لليعقوبى. تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدى. تاريخ ابن الأثير. تاريخ الطبرى. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه للحافظ شهاب الدين أحمد بن على بن حجر العسقلانى. تذكرة داود. تقويم البلدان لأبى الفداء. التنبيه والإشراف للمسعودى. حياة الحيوان للدميرى. خرائط الإدريسىّ. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى. الشذور الذهبية فى الاصطلاحات الطبية لمحمد بن عمر التونسى. شرح الأدوية المفردة من قانون ابن سينا للكازرونى.

شرح تحفة الملوك للتمرتاشى. شرح الرضى على الكافية. الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينورى. صبح الأعشى للقلقشندى. عجائب الهند لبزوك الرامهرمزى. عمدة المحتاج المعروف بالمادة الطبية للرشيدى. عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة. الفلاحة النبطية لأبى بكر بن وحشية. الفهرست لابن النديم. قاموس الأطباء للقيصونى. قاموس المحيط لمجد الدين الفير وزابادى. القانون لابن سينا. كتاب (كليرتسديل) فى قواعد اللغة الفارسية. كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى. كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون لحاجى خليفة. لب اللباب فى تحرير الأنساب للجلال السيوطى. لسان العرب لابن منظور. لطائف الإشارات فى أسرار الحروف والعبارات للبونى. ما لا يسع الطبيب جهله لابن الكتبى. ما يعول عليه فى المضاف والمضاف اليه للمحبّى. مجموعة فى أصول علم البحار لأحمد بن ماجد بن أبى الركائب النجدى. المخصص لابن سيده. مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد المصرى. المصباح المنير للفيومى.

المضاف والمنسوب للثعالبى. مطالع البدور فى منازل السرور للغزولى الدمشقى. معجم أسماء النبات للدكتور أحمد عيسى بك. معجم البلدان لياقوت. المعجم الفارسى الإنجليزى لاستاينجاس. معجم ما استعجم للبكرى. المعرب من الكلام الأعجمى للجواليقى. المعرب والدخيل للمدنى. مغنى اللبيب لابن هشام. مفاتيح العلوم للخوارزمى. المفردات لابن البيطار. المكتبة الجغرافية. منهاج الدكان ودستور الأعيان لأبى المنى المعروف بالكهيل العطار الإسرائيلى. المنهج المنير فى معرفة أسماء العقاقير لم يعلم اسم مؤلفه. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لابن تغرى بردى. نخبة الدهر لابن أبى طالب الأنصارى الصوفى. نزهة المشتاق للإدريسىّ. نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. الوافى بالوفيات لصلاح الدين الصفدى.

الجزء الثاني عشر

الجزء الثاني عشر [تتمة فن الرابع في النبات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ القسم الخامس من الفنّ الرابع فى أصناف الطّيب والبخورات والغوالى والنّدود والمستقطرات والأدهان والنّضوحات وأدوية الباه والخواصّ وفيه أحد عشر بابا الباب الأوّل من هذا القسم من هذا الفنّ فى المسك «1» وأنواعه قال محمد بن أحمد «2» بن الخليل «3» بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم

(بجيب «1» العروس وريحان النفوس) : المسك أصناف كثيرة، وأجناس مختلفة؛ فأرفعها وأفضلها التّبّتىّ، ويؤتى به من موضع يقال له: (ذو سمت) «2» ، بينه وبين (التّبّت) «3» مسيرة شهرين، فيصار به إلى (التّبّت) ، ثم يحمل إلى خراسان. قال: وأصل المسك من بهيمة ذات أربع، أشبه شىء بالظّبى الصغير. وقد ذكرنا غزال المسك فى (الباب الثالث من القسم الثانى من الفنّ الثالث) ، وهو فى السفر التاسع «4» من هذه النسخة

فلا فائدة فى إعادته. وقد ذكروا فى صفة تحصيل المسك من هذا الحيوان أقوالا نحن نذكرها؛ فزعم قوم أنّ الغزلان تذبح وتؤخذ سررها «1» بما عليها من الشّعر «2» ويكون فيها دم عبيط «3» ، وربّما كانت السرّة كثيرة الدم، وربّما كانت كبيرة واسعة قليلة الدم، فيجمع فيها دم عدّة سرر، ويصبّ فيها الرّصاص وهو ذائب وتخيّط بالخوص، وتعلّق فى حلق مستراح مدّة أربعين يوما، ثم تخرج وتعلّق فى موضع آخر حتّى يتكامل جفافها، وتشتدّ رائحتها، ثم تصيّر النّوافج «4» فى مزاود

صغار، وتخيّط، وتحمل من التّبّت إلى خراسان. قال: وقال أحمد بن أبى يعقوب مولى بنى العبّاس: ذكر لى جماعة من العلماء بمعدن المسك أنّ معادنه بأرض (التّبّت) وغيرها معروفة، قد ابتنى الجلّابون فيها بناء يشبه المنار فى طول عظم الذّراع، فتأتى هذه البهيمة الّتى من «1» سررها يتكوّن المسك فتحكّ سررها بتلك المنار، فتسقط السّرر هنالك، فيأتى إليه الجلّابون فى وقت من السنة قد عرفوه، فيلتقطون ذلك مباحا لهم، فإذا وردوا به إلى (التّبّت) عشّر «2» عليهم. وقال قوم: إنّ «3» هذه الدابّة خلقها الله تعالى معدنا للمسك، فهى تثمره فى كلّ سنة وهو فضل دموىّ يجتمع من جسمها إلى سررها فى كلّ عام فى وقت معلوم، بمنزلة الموادّ التى تنصبّ إلى الأعضاء؛ فإذا حصل فى سررها ورم وعظم، مرضت له وتألّمت حتّى يتكامل؛ فإذا بلغ وتناهى حكّته بأظلافها «4» ، فيسقط فى تلك المفاوز والبرارىّ، فيخرج اليه الجلّابون فيأخذونه. قال: وهذا أصّح ما قيل فى باب المسك. قال: ويشهد بصحّة ذلك ويوافقه ما حكاه محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه: أنّ تجار المسك من أهل الصّغد «5» يذكرون أنّ المسك سرّة دابّة

فى صورة ضخامة الظّبى، لها قرن واحد فى وسط رأسها. قال: ومن قرنها وعظم جبهتها تتّخذ النّصب المعروفة بنصب (الختو) «1» . قال: وذكروا أنّها تهيج فى وقت معلوم من السنة، فترم مواضع سررها، ويجتمع إليها دم غليظ أسود يفيض إليها من سائر أجسادها، وأنه يشتدّ وجعها، فتأتى مواضع فيها تراب ليّن كهيئة المراغة فى تلك البرارىّ، بين المراغة منها وبين الأخرى مسافة ليست بالقريبة وتلك الظّبىّ «2» لا تنزع سررها فى غير تلك المراغات، قد ألفت التّمعّك فيها، والتمرّغ فى تربها، واعتادته على ممرّ السنين؛ فإذا نالها ذلك أمسكت عن الرّعى وعن ورود المياه، ولا تزال تتقلّب فيه حتّى تسقط تلك السّرر عنها، وهى دم عبيط. قال: وربّما سقطت قرونها أيضا كما يفصل الإيّل «3» قرنه فى كلّ سنة. قال: وربّما اجتمع فى المراغة الواحدة مائتان من تلك الظّباء، فإذا ألقت تلك السّرر خرج شباب أهل الصّغد وأهل التّبّت «4» فى وقت الإمكان إلى تلك المفاوز الّتى فيها تلك المراغات

فيتفرّقون فى طلب النّوافج، فربّما وجدوا فى المراغة ألوفا من تلك السّرر: من بين رطب وجامد ويابس. قال: واذا سقطت السّرّة عن الظّبى كان فى ذلك إفاقته وصحّته فيثبت حينئذ فى الرّعى وورود الماء. وقال محمد بن العباس: أجود المسك الصّغدىّ، وهو ما اشتراه تجار خراسان من التّبّت «1» وحملوه على الظهر الى خراسان ثم يحمل من خراسان إلى الآفاق؛ ثم «2» يتلوه فى الجودة المسك الهندىّ، وهو ما وقع من التّبّت إلى أرض الهند، ثم حمل إلى الدّيبل «3» ، ثم حمل فى البحر الى سيراف «4» وعدن «5»

وعمان «1» ، وغيرها من النواحى، وهو دون الصّغدىّ؛ ويتلو الهندىّ المسك الصّينىّ وهو دونه، لطول مكثه فى البحر، وما يلحقه من عفونة هوائه، ولعلّة أخرى وهى اختلاف المرعى فى الأصل. قال: وأفضل المسك ما كان مرعى غزلانه حشيشا يقال له: الكدهمس «2» ، ينبت بالتّبّت وقشمير، أو بأحداهما. وذكر أحمد بن أبى «3» يعقوب أنّ اسم هذه الحشيشة الكندهسة. قال: وأفضل ما يرعى هذا الحيوان بعد هذه الحشيشة السّنبل الهندىّ، يريد سنبل «4» الطّيب، فإنّه ينبت بأرض

الهند وبأرض التّبّت كثيرا، وما كان يرعى السّنبل فإنّ المسك المتكوّن منه يكون وسطا دون الصّنف الأوّل. قال: وأدنى المسك ما كان مرعى حيوانه حشيشة يسمّى أصلها: «المرو «1» » ؛ ورائحة تلك الحشيشة كرائحة المسك، إلا أنّ المسك أقوى

وأذكى رائحة. قال محمد «1» بن أحمد بن العبّاس المسكىّ «2» : وقد ذكر بعض العرب أنّ دابّة المسك ترعى شجر الكافور، واستدلّ على ذلك بقول الشاعر العكلىّ «3» : تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور درّاج «4» والقصب: المعى؛ ومنه قول النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو «5» بن

لحىّ يجرّ قصبه فى النار» . وقال محمد بن أحمد: هذا رأى بدوىّ، وليس برأى عالم يعتمد على نقله. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ- وهو من أهل الخبرة ببرّ الصّين وبحرها، ومسالكها وممالكها-: إنّ الأرض الّتى بها ظباء المسك الصّينىّ والتّبّتىّ أرض واحدة لا فرق بينهما، وأهل الصّين يجمعون من المسك ما قرب منهم وكذلك أهل التّبّت. قال: وإنما فضّل المسك التّبّتىّ على المسك الصّينىّ لأمرين: أحدهما أنّ ظباء المسك الّتى فى حدود التّبّت ترتعى سنبل» الطّيب، وما يلى منها أرض الصّين ترتعى سائر الحشائش؛ والثانى أنّ أهل التّبّت يتركون النّوافج بحالها؛ وأهل الصّين ربّما يغشّون فيها، ولسلوكهم بها فى البحر وما يلحقها من الأنداء؛ فأمّا إذا ترك أهل الصّين المسك فى نوافجه من غير غشّ، وأحرز فى البرانىّ، وحمل إلى أرض العرب، فلا فرق بينه وبين التّبّتىّ فى الجودة. قال وأجود المسك كلّه ما حكّته الظّباء على أحجار الجبال، وذلك أنّ المادّة الغليظة الدّمويّة اذا انصبّت إلى سرر الظّباء اجتمعت «2» فيها كاجتماع الدم فيما يعرض من الدّماميل، فاذا أدرك وأضجر الظّباء، حكّت السّرر بالحجارة بحدّة وحرقة فيسيل ما فى السّرر على أطراف الحجارة؛ فاذا خرج عنها جفّت السّرر واندملت وعادت المادّة «3» فآجتمعت فيها «4» ، فيخرج أهل التّبّت فى طلب هذا الدم السائل ولهم به معرفة، فيلتقطونه ويجعلونه فى النّوافج، ويحملونه إلى ملوك خراسان، وهو نهاية المسك جودة وفضلا، إذ هو ممّا أدرك على حيوانه، فصار فضله على غيره من المسك

كفضل ما يدرك من الثّمار على أشجاره على ما يقطف قبل بلوغه وإدراكه. قال: وغير هذا من المسك فإنّما «1» تصاد ظباؤه بالشّرك وبالسّهام، وربّما قطعت النّوافج عن الظّباء قبل إدراك المسك فيها. قال: على أنّه إذا قطع عن ظبائه كان كريه الرائحة مدّة طويلة إلى أن يجفّ على طول الأيّام، فيستحيل مسكا. قال: وظباء المسك كسائر الظّباء المعروفة فى القدر واللّون ودقّة القوائم، وافتراق الأظلاف، وانتصاب القرون وانعطافها، غير أنّ لكلّ واحد منها نابين رقيقين أبيضين، خارجين من فيه فى فكّه الأسفل، قائمين فى وجه الظّبى كنابى الخنزير، فى طول الفتر أو دونه، على هيئة ناب الفيل. وقال أحمد بن أبى يعقوب: أفضل المسك التّبّتىّ، ثم بعده [المسك] الصّغدى، وبعد الصّغدىّ المسك الصّينىّ، وأفضل الصّينى ما يؤتى به من خانقو «2» ، وهى المدينة العظمى الّتى هى مرفأ الصّين الّتى ترسى بها مراكب تجار المسلمين، ثم يحمل فى البحر الى الزّقاق «3» ، فإذا قرب من بلد الأبلّة «4» ارتفعت

رائحته، فلا يمكن التجار أن يستروه من العشّارين «1» ، فإذا خرج من المركب جادت رائحته، وذهبت عنه رائحة البحر. [ثم «2» المسك الهندىّ، وهو ما يقع من التّبّت الى الهند، ثم يحمل إلى الدّيبل، ثم يجهّز فى البحر] ، وهو دون الأوّل؛ وبعد الهندىّ من المسك القنبارى «3» ، وهو مسك جيّد، إلا أنّه دون التّبّتىّ فى القيمة والجوهر واللّون والرائحة، يؤتى به من بلد يقال له: قنبار «4» بين «5» الصّين والتّبّت؛ وربّما غالطوا به فنسبوه إلى التّبّت. قال: ويتلوه فى الجودة المسك الطّغزغزىّ، وهو مسك رزين يضرب إلى السواد، يؤتى به من أرض التّرك الطّغزغز «6» تجلبه التجار فيغالطون به، إلا أنّه ليس له جوهر ولا لون؛ وهو بطىء السّحق لا يسلم من الخشونة؛ ويتلوه فى الجودة المسك القصارىّ «7» ، يؤتى به من بلد يقال لها «8» قصار، بين الهند والصّين. قال: وقد يلحق بالصّينى، إلّا أنّه دونه فى القيمة

والجوهر والرائحة. قال: والمسك الجرجيرىّ «1» ، وهو مسك يشاكل التّبّتىّ ويشبهه وهو أصفر حسن، زعر «2» الرائحة. وبعده المسك العصمارىّ «3» ، وهو أضعف أنواع المسك كلّها، وأدناها قيمة، يخرج من النافجة «4» التى زنتها أوقيّة زنة درهم واحد من المسك. ثم المسك الجبلىّ، وهو ما يؤتى به من ناحية أرض السّند من أرض المولتان «5» ، وهو كبير النّوافج، حسن اللون، إلّا أنّه ضعيف الرائحة. وقال: أجود المسك فى الرائحة والمنظر ما كان تفّاحيّا، تشبه رائحته رائحة التّفّاح اللّبنانىّ، وكان لونه تغلب عليه الصّفرة، وكان بين الجلال والدّقاق وسطا؛ ثم الذى يليه وهو أشدّ سوادا منه، إلّا أنّه يقاربه فى الرائحة والمنظر، وليس مثله؛ ثم الذى هو

أشدّ سوادا منه، وهو أدناه قدرا وقيمة. وقال: بلغنى أنّ العلماء بالمسك من تجار أهل الهند يذكرون أنّ المسك ثلاثة أنواع، لا يخرجونه عن ذلك، فالنوع الأوّل- وهو أفضله وأجوده- المسك الأصلىّ الخلقة المعروف؛ ونوعان آخران متّخذان: أحدهما يتخذ من أخلاط يابسة تكون عندهم من نبات أرضهم، وليس فيه من المسك الأصلىّ شىء، وهم يأمرون باستعماله وابتياعه من مواضع أصوله وما يليها من البلاد ومن الّذين يعرفونه، وهم أهل التّبّت؛ والآخر يتّخذونه وينهون عنه وعن ابتياعه والمتّجر فيه، وذلك أنّه يتغيّر ويفسد إذا أقام. قال: ونوع آخر، وهو مسك يجلب من قشمير «1» الداخلة وما حولها، وليس بجيّد؛ وهو يقارب المسك المصنوع المنهىّ عنه، ويكون هو أيضا متّخذا وغير متّخذ، وهو على نصف القيمة من المسك الجيّد. قال: والمسك فى طبعه حادّ لطيف غوّاص «2» ، جيّد لوجع الفؤاد، مقوّ للقلب، قاطع للدّم إذا ضمد به الجرح؛ ويدخل فى أكحال

العين وفى كثير من المعاجين الكبار؛ واذا جعل بدلا من الجندبيدستر «1» فإنّه أقرب الأشياء إليه فى طبعه وفعله. وقال محمد بن أحمد: فأمّا المسك المنسوب الى دارين، فهو من نوع المسك الهندىّ؛ تجلبه التجار الى دارين: جزيرة «2» بالبحرين ترفأ اليها سفن تجّار الهند، ويحمل منها إلى المواضع؛ وليست دارين بمعدن للمسك.

الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الرابع فى العنبر وأنواعه ومعادنه

الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى العنبر «1» وأنواعه ومعادنه قال محمد بن أحمد التّميمىّ: حدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب أنه قال: العنبر أنواع كثيرة، وأصناف مختلفة، ومعادنه متباينة؛ وهو يتفاضل بمعادنه وبجوهره؛ فأجود أنواعه وأرفعه وأفضله وأحسنه لونا وأصفاه جوهرا وأغلاه قيمة، العنبر الشّحرىّ، وهو ما قذفه بحر الهند إلى ساحل الشّحر من أرض اليمن؛ وزعموا أنّه يخرج من البحر فى خلقة البعير أو «2» الصخرة الكبيرة. قال التّميمىّ: والأصل الصحيح فيه أنه ينبع من صخور فى قرار الأرض ومن عيون، ويجتمع فى قرار البحر؛ فاذا تكاثف وثقل جذبته «3» طبيعة الدّهانة «4» التى فيه، واضطرّته إلى الانقطاع من المواضع التى يتعلّق بها عند خروجه من الأرض، وطلعت به إلى وجه الماء

فطفا على وجه الماء وهو جار ذائب؛ ومنه ما تقطّعه الأمواج فتخرجه الى السواحل قطعا كبارا وصغارا. قال: وحدّثنى أبى عن أبيه عن أحمد بن أبى يعقوب قال: تقطّعه الرّيح وشدّة الموج فترمى به إلى السواحل وهو يفور، لا يدنو منه شىء لشدّة حرّه وفوارانه؛ فاذا أقام أيّاما وضربه الهواء جمد، فيجمعه الناس من السواحل المتّصلة بمعادنه. قال: وربّما أتت السمكة العظيمة التى يقال لها: «البال «1» » فابتلعت من ذلك العنبر الصافى وهو يفور، فلا يستقرّ فى جوفها حتى تموت وتطفو، ويطرحها البحر إلى الساحل؛ فيشقّ جوفها، ويستخرج ما فيه من العنبر، وهو العنبر السّمكىّ

ويسمّى أيضا: المبلوع. قال: وربّما طرح البحر قطعة «1» العنبر فيبصرها طير أسود شبيه بالخطّاف، فيأتى اليها ويرفرف بجناحيه، فإذا دنا منها وسقط عليها تعلّقت مخاليبه ومنقاره فيها فيموت ويبلى، ويبقى منقاره ومخاليبه» فى العنبر، وهو العنبر المناقيرىّ «3» . قال النّميمىّ: وزعم الحسين بن يزيد السّيرافىّ أنّ الذى يقع من العنبر الى سواحل الشّحر شىء تقذفه الأمواج إليها من بحر الهند، وأنّ أجوده وأفضله ما يقع الى بحر البربر وحدود بلاد الزّنج وما والاها، وهو «4» الأبيض المدوّر، والأزرق النادر. قال: ولأهل هذه النواحى نجب يركبونها مؤدّبة يركبون «5» عليها فى ليالى القمر على سواحلهم، وهذه النّجب تعرف العنبر، وربّما نام الراكب عليها أو غفل، فإذا رأى النجيب العنبر على الساحل برك بصاحبه، فينزل ويأخذه. قال: ومنه ما يوجد فوق البحر طافيا فى عظم

الثّور. قال: وبعد العنبر الشّحرىّ العنبر الزّنجىّ، وهو الّذى يؤتى به من بلاد الزّنج إلى عدن، وهو عنبر أبيض؛ وبعده العنبر الشّلاهطىّ «1» ، وهو يتفاضل، وأجود الشّلاهطىّ الأزرق الدّسم الكثير الدّهن، وهو الذى يستعمل فى الغوالى «2» . وبعد الشّلاهطىّ العنبر القاقلّىّ، وهو أشهب «3» ، جيّد الرّيح، حسن المنظر، خفيف، وفيه يبس يسير، وهو دون الشّلاهطىّ لا يصلح للغوالى ولا للتّغلية «4» والتّطهير «5» إلّا

عن ضرورة؛ وهو صالح للذّرائر «1» والمكلّسات «2» ؛ ويؤتى بهذا العنبر من بحر قاقلّة إلى عدن؛ وبعد القاقلّىّ العنبر الهندىّ، يؤتى به من سواحل الهند الداخلة، فيحمل إلى البصرة وغيرها؛ وبعده الزّنجىّ، يؤتى به من ساحل الزّنج؛ وهو شبيه بالهندىّ ويقاربه. هكذا ذكر التّميمىّ فى (جيب العروس) ، فإنّه يجعل الزّنجىّ بعد الشّحرىّ وذكر الزّنجىّ أيضا بعد الهندىّ. وقال: وعنبر يؤتى به من الهند يسمّى الكرك «3» بالوس وينسب إلى قوم من الهند يجلبونه، يعرفون بالكرك بالوس، يأتون به الى قرب عمان، يشتريه منهم أصحاب المراكب. قال: وأمّا العنبر المغربىّ، فإنّه دون هذه الأنواع كلّها، يؤتى به من بحر الأندلس، فتحمله التّجار إلى مصر؛ وهو شبيه فى لونه بالعنبر الشّحرىّ، وقد يغالط به فيه. قال التّميمىّ: وأفضل العنبر وأجوده ما جمع قوّة رائحة وذكاء بغير زعارّة «4» . وقال أحمد بن أبى يعقوب: قال لى جماعة من أهل العلم بالعنبر: إنه بجبال ثابتة فى قرار البحر، مختلفة الألوان، تقتلعه الرّياح وشدّة اضطراب البحر فى الأشتية الشديدة، فلذلك لا يكاد يخرج فى الصيف. قال: وألوان العنبر مختلفة، منها الأبيض، وهو الأشهب؛ ومنها الأزرق، والرّمادىّ

ومن العنبر صنف يسمى المند، ويوجد على سواحل من البحر

والجرارىّ، وهو الأبرش؛ والصّفائح، وهو الأصفر والأحمر، وهما أدنى العنبر قدرا؛ [والله أعلم «1» ] . ومن العنبر صنف يسمّى المند «2» ، ويوجد على سواحل من البحر - قال التّميمىّ: أخبرنى جماعة من أهل المعرفة بالعطر وأصنافه وأنسابه أنّ دابّة تخرج من البحر فترمى به من دبرها، وأنّ تلك الدابّة فى صورة البقر الوحشىّ، فيؤخذ وهو ليّن يمتدّ، فما كان منه عذب الرائحة حسن الجوهر، فهو أفضله وأجوده. والمند أصناف، أجودها الشّحرىّ وهو أسود، فيه صفرة تخضب اليد إذا لمس؛ ورائحته كرائحة العنبر اليابس، إلّا أنّه لا بقاء له على النار؛ ويستعمل فى الغوالى «3» اذا عزّ العنبر الشّلاهطىّ «4» ؛ ومن المند الزّنجىّ، وهو نظير الشّحرىّ فى المنظر، ودونه فى الرائحة؛ وهو أسود بغير صفرة؛ ومنه الخمرىّ، وهو يخضب اليد وأصول الشّعر خضابا جيّدا، ولا ينفع فى الطّيب؛ ومنه السّمكىّ، وهو المبلوع كما قدّمنا ذكره، وهو فى لونه شبيه بالقار، وهو ردىء فى الطّيب، للسّهوكة «5» التى يكتسبها من السّمك «6» . وقال

التّميمىّ: طبع العنبر حارّ، وفيه شىء من يبس؛ وهو مقوّ للقلب، مذكّ للحواسّ محلّل للرّطوبات، نافع للشيوخ؛ وقد تضمد به المفاصل المنصبّ اليها الرّطوبات فتنتفع به نفعا جيّدا، ويقوّيها؛ ويستعمل فى الجوارشنات «1» وكبار المعاجين وفى المعاجين المقوّية للمعدة والقلب؛ ويسعط «2» به فيحلّل علل الدّماغ. قال: وقد تصطنع منه شمّامات فيشمّها من بهم اللّقوة «3» والفالج، فينتفعون بروائحها.

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الرابع فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الرابع فى العود وأنواعه ومعادنه وأصنافه قال محمد بن أحمد التّميمىّ: أخبرنى أبى عن أبيه عن جماعة من أهل العلم والمعرفة بالعود أنّه شجر عظام بمواضع من أرض الهند؛ وهى معادن له، وأنّ منه ما يجلب من أرض (قشمير) الداخلة، [و «1» ] من أرض (سرنديب) ومن (قمار «2» ) وما اتّصل بتلك النواحى؛ وذكروا أنّه لا تصير له رائحة إلّا بعد أن يعتق وينجر ويقشر، فاذا نفى عنه قشره وجفّف حمل «3» إلى «4» كلّ ناحية. قال: وأخبرنى بعض العلماء به أنه يكون من قلب الشجر، وأنّه ليس كلّ ما فى الشجرة عودا، وأنّه بمنزلة قلب شجرة الآبنوس «5»

والعنّاب والزيتون والأنواع الّتى داخلها من جوهر الخشب فيه دهانة «1» ، وما فى خارجها خشب أبيض لا دهانة فيه، وربّما كان فيه كمثل الطرائق والشامات فى الشجرة فيقطع، ويقشر البياض منه، ويدفن فى التراب، فيقيم سنين حتى يأكل التّراب ما عليه وما فى داخله من الخشب، ويبقى العود، ولا يعمل التراب فيه. وإلى نحو هذا القول ذهب محمد بن العبّاس. وقال محمد بن العبّاس أيضا: وأخبرنى جماعة من أهل (الأبلّة «2» ) أنّ العود المعروف بالهندىّ يكون فى أودية بين جبال شواهق متوعّرة، لا وصول لأحد اليها لصعوبة المسلك، وأنّ العود يكون فى غياض بتلك الأودية، فيتكسّر بعض ذلك الشجر على طول الأيّام، وتتعفّن منه أصول بعض الشجر من الأمطار والسّيول، فيأكل التراب والماء والهواء ما فيه من الخشب، ويبقى صميم العود وخالصه وجوهره، فإذا كثرت الأمطار وجرت السّيول أخرجته من تلك الأودية إلى البحر، فتقذفه الأمواج إلى الساحل فيجمعه الناس ويلتقطونه وينقلونه الى الجهات. وقد حكى بعض من تردّد إلى بلاد الهند من التّجار قال: لم أرشجر العود، ولا رأيت من رآه؛ قيل له: وكيف لم تره وقد تردّدت الى بلاد الهند، ومنها يجلب؟ قال: لأنّ التجّار الذين يجلبونه إلى «3» الهند اذا قدموا بمراكبهم إلى الموانى بالهند يقفون بالمراسى بحيث يرى

وأما أنواع العود ومعادنه وأصنافه

من بالموانى مراكبهم، ولا يرون من فيها، فإذا شاهدوها أخلوا الفرضة والمينا من عشيّة، ولا يظهر منهم أحد بها، فيأتى أصحاب تلك المراكب إلى المينا وينقلون جميع ما معهم الى الفرضة، ويفرد «1» كلّ تاجر منهم بضاعته، ويتركونها ويخرجون فيقفون على مراسيهم، ويصبح أهل المدينة فيأتون الى تلك البضائع، [ويجعلون «2» الى جانب كلّ بضاعة بضاعة نظيرها، ويتركونها، ويخلون الفرضة، فيعود التجّار وينظرون الى ما جعل لهم بدل بضائعهم، فمن رضى بالعوض أخذه وترك بضاعته ومن لم يرض به تركهما جميعا؛ ويصبح أهل المدينة فيأتون إلى تلك البضائع] فما وجدوه منها قد أخذ عوضه علموا أنّ صاحبه رضى بالبيع، وما وجدوه باق هو وعوضه علموا أنّ صاحب البضاعة لم يرض بالعوض، فيزاد حتّى يرضى؛ فهذا دأبهم مع الذين يجلبون العود، وليس فيهم من رآهم. وحكى الحاكى، أنّه حكى أنّ بعض أهل المدينة كمن لهم فى مكان يراهم منه ولا يرونه، فرأى وجوههم وجوه كلاب، وبقيّة أجسامهم أجسام الآدميّين. وأمّا أنواع العود ومعادنه وأصنافه - فهو أنواع كثيرة، وأصناف متباينة؛ فأفضله وأجلّه وأنفسه المندلىّ، وهو الهندىّ؛ وإنّما سمّى المندلىّ نسبة الى معدنه «3» .

«والمندلىّ هو «1» الهندىّ» . قالوا: وهو يجلب من ثلاثة مواضع من أرض الهند، فأفضل ذلك القامرونىّ، وهو ما جلب من القامرون؛ والقامرون «2» : مكان مرتفع من الهند. وقيل: بل هو منسوب إلى نوع من شجر العود يسمّى القامرون وهو أغلى العود ثمنا، وأرفعه قدرا. قال: وهو قليل لا يكاد أن «3» يجلب إلّا فى [بعض «4» ] الحين؛ وهو عود رطب جدّا، شديد سواد اللّون، رزين، كثير الماء. وقال الحسين بن يزيد السّيرافىّ فى (أخبار الهند) : إنّ الصنم المعروف بالمولتان «5» - وهو بقرب المنصورة «6» - يقصده الرجل من مسيرة ثلاثة أشهر يحمل على ظهره أفخر العود الهندىّ

والقامرونىّ. قال: وقامرون: بلد يكون فيه فاخر العود، ويتجشّم الهندىّ المشقّة فى حمله حتى يأتى به إلى هذا الصنم فيدفعه إلى السّدنة ليبخّروا به الصّنم، وإنّ هذا العود القامرونىّ فيه ما قيمة المنّ «1» منه مائتا دينار؛ وإنّه ربّما ختم عليه فانطبع وقبل الختم [للينه «2» ] . قال: والتّجار يبتاعونه من هؤلاء السّدنة؛ ولمّا غلب المسلمون على المولتان «3» قلعوا هذا الصنم وكسروه، فأصابوا تحته من هذا العود، فأخذوه. والصّنف الثانى من الهندىّ، السّمندورىّ، ويجلب من بلاد سمندور «4» ، وهى «5»

بلد سفالة «1» الهند؛ والسّمندورىّ يتفاضل، فأجوده الأزرق، الكثير الماء، الصّلب الرزين، الذى يصبر على النار؛ ومن الناس من يفضّل الأسود على الأزرق، ومنهم من يفضّل الأزرق على الأسود؛ وتكون القطعة الضّخمة منه منّا «2» واحدا، ويسمّى لطيب رائحته ريحان العود؛ وأفضل العود بعد السّمندورىّ [العود] القمارىّ ويؤتى به [من] قمار «3» ، وهى أرض سفالة الهند؛ وهو أيضا يتفاضل؛ وأجوده الأسود والأزرق، الكثير الماء، الرزين الصّلب، الذى لا بياض فيه، ويبقى على النار ويكون فى القطعة منه نصف رطل الى ما دون ذلك. قال أحمد بن أبى يعقوب: وله سنّ نضيج جيّد، كثير الماء. قال: ولا يجتمع فى صنف من أصناف العود ما يجتمع فى العود الهندىّ من الحلاوة والمرارة والخمرة «4» والبقاء والصبر على النار. وحكى محمد بن العبّاس المسكىّ فى كتابه فى سبب تفضيل العود الهندىّ وتقديمه على غيره، واستعمال الخلفاء له، فقال: العود الهندىّ أرفع أجناس العود وأفضلها

وأجودها، وأبقاها على النار، وأعبقها بالثياب. قال: ولم تكن التّجار تجلبه فى الجاهليّة ولا ما بعدها، إلى آخر أيّام بنى أميّة، ولا ترغب فى حمله، لأجل المرارة التى فى رائحته؛ وإنّما كانت الأكاسرة تتبخّر بالمندلىّ والقمارىّ «1» والسّمندورىّ والصّنفىّ لشدّة حلاوة روائحها. وزعم أنّ تلك الحلاوة تولّد القمل فى الثّياب. قال: ولم يكن الهندىّ يعرف فى هذه الأمصار، ولا كانت التّجّار تجلبه مع معرفتها بفضله فلمّا كان فى آخر أيّام الدّولة الأمويّة عند ما كثر الاختلاف بينهم، وقلّت الأموال فى أيديهم، شرعوا فى مصادرات الرّعايا، وأخذوا الأموال من غير وجوهها وتعرّضوا إلى أموال الأوقاف والأيتام، فتعرّض ولاة خراسان لبرمك ولولده وطالبوهما بالأموال، وكان تحت يد برمك أوقاف جليلة، فهرب هو وولده من أعمال خراسان الى بلاد الهند، فأقاموا بها الى أن ظهرت الدّولة العبّاسيّة، فرأى الحسين بن برمك طيبة العود الهندىّ وزهد التّجّار فيه، فاستجاده، واشترى منه واستكثر؛ ثم قدم خالد بن برمك وأخوه الحسين وأهلهما على المنصور أبى جعفر لمّا أفضت الخلافة اليه، فاصطنعهم وأدناهم وقرّبهم؛ فدخل الحسين يوما على المنصور وهو يتبخّر بالعود القمارىّ، فأعلمه أنّ عنده ما هو أطيب منه رائحة [وأنه «2» حمله معه من الهند؛ فأمره المنصور بحمل ما عنده منه، فحمله اليه، فآستجاده المنصور، وأمر أن يكتب إلى الهند فى حمل الكثير منه، ولم تكره تلك المرارة

والزّعارّة «1» التى فى رائحته] ، لأنّها تقتل القمل، وتمنع من تكوّنه فى الثّياب؛ وله عبق بالثياب وبقاء فيها. قال: فلمّا اختارت الخلفاء والملوك العود الهندىّ وآثرت البخور «2» به، سقط قدر ما عداه من أصناف العود، وعزّ العود الهندىّ. قال محمد ابن أحمد: وبعد العود القمارىّ فى الفضل والجودة العود القاقلّىّ، ويجلب من جزائر فى بحر قاقلّة، وهو عود دسم له بقاء فى الثياب، وفى ريحانيّة «3» خمرة «4» ؛ وهو حسن اللّون شديد الصّلابة، إلّا أنّ قتاره «5» ربّما تغيّر على النّار، فينبغى أنّه إذا استعمل وبخّر به لا يستقصى إلى أن تنتهى النّار إلى القتار. قال ابن أبى يعقوب: وبعد العود القاقلّىّ العود الصّنفىّ، ويجلب من بلد يقال له الصّنف بناحية الصّين؛ وبين

الصّنف والصّين جبل لا يسلك، وهو أجلّ «1» الأعواد وأبقاها فى الثياب؛ ومنهم من يفضّله على القاقلّىّ، ويرى أنّه أطيب وأعبق وآمن من القتار؛ ومنهم أيضا من قدّمه على القمارىّ. قالوا: وأجود الصّنفىّ الأسود، الكثير الماء، ويكون فى القطعة منه المنّ «2» والأكثر والأقلّ. قالوا وشجر العود الصّنفىّ أعظم من شجر الهندىّ والقمارىّ. وبعد الصّنفىّ العود الصّندفورىّ. ويجلب من بلد الصّندفور «3» . ويقال: إنّه صنف من الصّنفىّ، إلّا أنّه ليس بالقطع الكبار؛ وهو حلو الرائحة حسن اللّون، رزين صلب، لا حق بقيمة الجيّد من الصّنفىّ. وبعد الصّندفورىّ العود الصّينىّ، وهو عود حسن اللّون، أوّل رائحته يشاكل رائحة الهندىّ، إلّا أنّ

قتاره «1» غير محمود، وأفضله نوع منه يسمّى القطعىّ «2» ، وهو رطب حلو، طيّب الرائحة؛ ويؤتى به من الصّين؛ وتكون القطعة منه نصف رطل وأكثر وأقلّ. قال أحمد بن أبى يعقوب: ومن العود أيضا صنف يسمّى القشور، رطب أزرق؛ وهو أعذب رائحة من القطعى، ودونه فى القيمة. قال: ومن الصّينىّ أيضا أصناف أخر، وهى دون كلّ هذه الأصناف: منها المنطائىّ «3» ، وهو المانطائىّ قطعه كبار ملس سود، لا عقد فيها، ليست روائحها بمحمودة، تصلح للأدوية والسّفوفات والجوارشنات. ومنه صنف يعرف بالجلّابىّ «4» ؛ وصنف يعرف باللّواقىّ وهو اللّوقينىّ؛ وهى أعواد متقاربة فى القيمة. قال التّميمىّ: ومن الناس من رتّب العود الصّينىّ غير ترتيب أحمد بن أبى يعقوب فقالوا: إنّ أفضل العود الصّينىّ العود القطعىّ «5» ، وبعده العود الكلهىّ «6» ، وهو عود رطب

يمضغ، وفيه زعارّة «1» وشدّة مرارة، للدّهانة «2» الّتى فيه، وهو من [أعبق] الأعواد فى الثّياب وأبقاها. وبعد الكلهىّ العود العولاتى «3» ، وهو عود يجلب من (جزيرة العولات «4» ) بناحية قمار «5» من أرض الهند. وبعده اللّوقينىّ، ولوقين: طرف من أطراف الهند، وهو دون هذه الأعواد فى الرائحة والقيمة؛ وله خمرة «6» فى الثّياب. وبعد اللّوقينىّ المانطائىّ «7» ، وهو

من شجر بجزيرة تسمّى ما نطاء؛ وقيمته مثل قيمة اللّوقينىّ؛ وهو خفيف، ليس بالحسن اللّون. وبعد المانطائىّ العود الريطائىّ «1» ، وهو من جزيرة تسمّى ريطاء، وهو دون المانطائىّ فى الرائحة والقيمة، يدخل فى أعمال المثلّثات «2» والبرمكيّات «3» . وبعد العود الرّيطائىّ العود القندغلى «4» ، ويؤتى به من ناحية (كله «5» ) وهو ساحل الزّنج، وهو يشبه القمارىّ، إلّا أنّه لا طيب لرائحته. وبعده العود السّمولىّ، وهو عود حسن المنظر فيه حمرة «6» ، وله بقاء فى الثياب وعلى النار؛ وقتاره «7» غير محمود، وهو سريع القتار. وبعد السّمولىّ العود الرانجىّ «8» ، وهو عود يشبه قرون الثور، لا ذكاء له ولا بقاء؛ وهو ساقط

القيمة، وهو أردأ أنواعه وأدناها. وبعده صنف يقال له: المحرّم، سمّى بذلك لأنه كان قد وقع الى البصرة، فشكّ الناس فيه، فحرّمه السلطان، فسمّى المحرّم، وهو من أدنى أصناف العود. وقال محمد «1» بن العبّاس المسكىّ «2» فى كتابه: أفضل العود كلّه وأجوده المندلىّ، وبعده العود السّمندورىّ، وأجود السّمندورىّ الأزرق، الكثير الماء الرزين، الصّلب، الغليظ، الذى لا بياض فيه، الباقى على النار، الكثير الغليان وقوم يفضّلون الأسود منه، وآخرون يفضّلون الأزرق؛ ويكون فى القطعة الضخمة منه منّ «3» . ثمّ العود القمارىّ، وأجود القمارىّ الأسود، النقىّ من البياض، الرّزين الباقى على النار. قال: وربّما كان فيه شهبة يسيرة؛ وبعد القمارىّ الصّنفىّ الغليظ الكثير الماء، وقد يوازى القمارىّ فى بعض الحالات، وربّما فضّل عليه، وهما عودان يتقاربان فى الصّفة، وتكون القطعة من الصّنفىّ رطلين وأقلّ. وبعد الصّنفىّ القاقلّىّ، وهو عود أسود، فيه بعض شهبة، أشبه شىء بالعود

القمارىّ فى منظره؛ وهو عود حلو، طيّب الرائحة. وبعد القاقلّىّ العود الريركى وهو عود صلب، خفيف، قليل الصّبر على النار، حسن المنظر واللّون، ويشبه القاقلّىّ؛ ويؤتى به من بلاد سفالة الهند. وبعده العود العطكىّ، يؤتى به من الصّين وهو عود رطب حلو طيّب، دون الصّنفىّ، وفوق «1» القاقلّىّ. ثم صنف من العود يسمّى: القشور، وهو عود طيّب الرائحة، رطب، أزرق، عدب، رائحته مثل رائحة القطعى، وهو دونه فى القيمة، وبعده المانطائىّ «2» ، وهو جنس من العود الصّينىّ، وهو قطع كبار ملس لا عقد فيها، وليست رائحته طيّبة، وهو يصلح للأدوية والجوارشنات «3» . قال: وكذلك الجلّابى، واللّواقى، والبربطائىّ «4» ، والبوطاجىّ هذه الأصناف لا خير فيها، ولا طيب لروائحها؛ وهذه الأجناس يسمونها: الأشباه. قال: وأمّا العود المسمّى: الإفليق، فإنّه يجلب من أرض الصّين، ويكون فى العظم مثل الخشب الرّيحىّ «5» الغليظ، يباع المنّ «6» منه بدينار وأقلّ وأكثر، والعود من قشوره؛ وأمّا داخله وقلبه فخشب أبيض خفيف مثل الخلاف؛ وإذا وضع على الجمر وجد

ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه سوادا

له فى أوّله رائحة حلوة طيّبة، فإذا أخذت النار منه ظهرت له رائحة جزازيّة «1» رديئة كرائحة الشّعر. هذا ما أمكن إيراده من أصناف العود وأجناسه ومعادنه، وهو معنى ما أورده التّميمىّ فى (جيب العروس) . ذكر تطرية العود الأبيض وإظهار دهانته وإكسابه «2» سوادا قال التّميمىّ فيما نقله عن أبى بكر بن محمد بن أحمد المرندج «3» المعروف بابن البوّاب: يؤخذ من العود ما كان أبيض الظاهر، إلّا أنّ فيه رزانة تدلّ على دهانة «4» كامنة فيه فيبرى برية يسيرة، ويعمد إلى قعر قدر برام» فيثقّب «6» حتّى يصير كهيئة المنخل، ويعمد

إلى قدر من نحاس أو غير نحاس يكون رأسها بمقدار قعر القدر المبخّش «1» ، بحيث إنها متى انطبقت عليها لا يخرج من البخار شىء، ويصبّ فى القدر ماء، ويجعل ذلك المثقّب على فم القدر، ويطيّن، ويجعل العود فيها «2» ، وتغطّى بغطاء محكم، ويوقد تحت القدر السّفلى وقيدا جيّدا حتّى يصعد بخار الماء إلى العود من تلك الأبخاش «3» ويفتقده بعد مضىّ ساعة، ثم يكشفه ويقلّبه تقليبا جيّدا، ثم يغطّيه، ويتعاهده ساعة بعد ساعة إلى أن يظهر له أنّ دهن العود قد ظهر، ويمتحن ذلك بأن يمسح القطعة منه فى خرقة، فإذا أثّرت الدّهانة «4» فيها فليخرج وينشر فى طست حتّى يبرد ويرفعه.

الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الرابع فى الصندل وأصنافه ومعادنه

الباب الرابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الصّندل «1» وأصنافه ومعادنه والصّندل أصناف: أفضلها الأصفر الدّسم، الرزين العود، الّذى كأنّه قد مسح بالزّعفران، الذكّى الرائحة؛ ويسمّى المقاصيرىّ، واختلف فى سبب تسميته بهذا الاسم ونسبته اليه، فقال قوم: هى نسبة إلى بلد تسمّى (مقاصير) . وقال قوم: إنّ بعض الخلفاء من بنى العبّاس أمر بأن تصنع منه مقاصير لأمّهات أولاده وخواصّ سراريّه، فسمّى بذلك؛ والأوّل أصحّ. وقيل: إنّه يجلب من بلدين من أطراف الهند، إحداهما مقاصير، والأخرى تسمّى الجور؛ فما جلب من مقاصير فهو المقاصيرىّ، وما جلب من الجور فهو الجورىّ. قالوا: وهو شجر عظام؛ وإنّه يقطع وهو رطب، ويقشر؛ وله من فوق قلبه الأصفر خشب ليس بالذّكىّ الرّيح إلّا أنّه صندل يضرب إلى البياض، وهو الصّندل الأبيض؛ وفى روائحه ضعف

عن رائحة القلب الدّسم. وأجوده ما اصفرّ وذكت رائحته ولم يكن فيه زعارّة «1» . ويلى الصندل الأصفر الصندل الأبيض، الطّيب الرّيح، الّذى هو من جنس المقاصيرىّ، لا يخالفه إلّا بالبياض؛ وبعده الصّندل الأبيض الّذى يضرب لونه الى السّمرة، وهو الجورىّ السّبط، الصّلب العود، الّذى يجلب من الجور، وهو صندل صلب سبط، ضعيف الرائحة، وله رائحة طيّبة، إلّا أنّها دون رائحة ما قبله. ويلى الجورىّ صنفان: أحدهما أصفر فيه زعارّة وطيب؛ والاخر يضرب فى لونه الى الحمرة، وفيه أيضا زعارّة ريح وجدّة، وما لونه منهما الى الصّفرة فإنّه يسمّى «الساوس» ؛ وقيل: «الكاوس «2» » ، وقد تفتق «3» بهما الذّرائر؛ ويدخلان فى المثلّثات «4» والبخورات. وبعدهما صندل جعد الشّعرة، لا سباطة له، اذا شقّق كان جعدا كتجعيد خشب الزيتون؛ وهو أذكى أصناف الصّندل، ولا يستعمل فى شىء سوى البخورات والمثلّثات؛ وبعده الصّندل الأحمر الشديد الحمرة؛ ويستعمل لتبريد الأورام الحارّة؛ وهو حسن اللّون، ثقيل الوزن، لا رائحة له ولا خاصّيّة غير تحليل الأورام الحارّة، وتتّخذ منه المنجورات والمخروطات، كالدّوىّ، والعتائد «5»

وأدوات الشّطرنج ومهارك «1» النّرد وأشباه ذلك؛ ويتّخذ ذلك من الأبيض فيما يحتاج إلى لونين. والصندل الأحمر أيضا يحكّ على الحجارة الخشنة بالماء، ويطلى به على الأورام الحارّة كما ذكرنا، وعلى الماشرا «2» ، وعلى كلّ موضع من الجسد تظهر فيه حمرة دمويّة، وعلى النّقرس «3» الحادّ المتولّد من فساد الدم فى بدء العلّة، ليقوّى العضو

ويمنع من انصباب المادّة اليه. قال التّميمىّ: وبعد الصندل الأحمر صنف يعرف بالنّجارىّ «1» ، وهو خشب صلب لا رائحة له، ولا يدخل فى شىء من الطّيب، وإنّما تتّخذ منه المنجورات والمخروطات التى ذكرناها، وذلك لصلابته ورزانته. قال: وجميع أنواع الصّندل الّتى ذكرناها يؤتى بها من سفالة الهند. فالأصفر الطيّب الرائحة المقاصيرىّ يدخل فى طيب النساء الرّطب واليابس وفى البرمكيّات والمثلّثات والذّرائر؛ وتتّخذ منه قلائد؛ ويدخل فى الأدوية وفى ضمادات الكبد والمعدة؛ وهو بارد منشّف محلّل للأورام.

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الرابع فى السنبل الهندى وأصنافه والقرنفل وجوهره

الباب الخامس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى السّنبل «1» الهندىّ وأصنافه والقرنفل وجوهره فأمّا السّنبل الهندىّ - فقد قال أحمد بن أبى يعقوب: السنبل أصناف، وأجوده العصافير الحمر الألوان، المسلّل، والمسلّل هو الذى قد نقّى من زغبه ومسح منه، وبقى عصافير مجرّدة، واذا أمسكه الإنسان بكفّه ساعة ثم اشتمّه كانت رائحته كرائحة التّفّاح أو نحوها؛ ثم الذى يليه، وهو نوع من العصافير أصفر «2» كثير البياض والشّمط، طيّب الرائحة، قريب من الأوّل. ثم أدناه، وهو دقاق من السّنبل وجلال، ليس ممّا يدخل فى جيّد العطر. وأمّا أصله - فهو حشيشة تنبت بأرض الهند، وببلد التّبّت «3» أيضا. وقيل: إنّها تنبت فى أودية بالهند كما ينبت الزّرع، ثم تجفّ فيأتى قوم فيحصدونه ويجمعونه. وقيل: إنّ الأودية التى ينبت فيها هذا السّنبل كثيرة الأفاعى وليس يأتيها أحد إلّا وفى رجله خفّ طويل غليظ منعّل بالخشب أو الحديد.

قالوا: وتلك الأفاعى ذوات قرون فيها السّمّ القاتل الذى يقال له: (البيش) ؛ فيقال: إنّه من قرون الأفاعى. وقال قوم من أهل العلم: إنّه نبات «1» ينبت بتلك الأودية؛ وهو ضربان: ضرب خلنجىّ، يضرب فى لونه إلى الصّفرة، وهو أفضله؛ وضرب آخر يضرب إلى السواد، وهم يعرفونه فيتوقّونه؛ وربّما جهله بعضهم فمات عند مسّه، سيّما «2» إن كانت يده قد عرقت، أو هى رطبة. وقد كان بعض الخلفاء يأمر بأن يوكّل بالمراكب التى تأتى من بلد الهند إلى الأبلّة وغيرها من الفرض من يكشف السّنبل ويعتبره، فيخرج منه البيش، فيؤخذ بكلبتين من حديد وليس يمسّه أحد إلّامات لوقته، فكان يجمع ذلك فى وعاء ويلقى فى البحر.

وأما القرنفل وجوهره

وأمّا القرنفل «1» وجوهره - فقال أحمد بن أبى يعقوب: القرنفل كلّه جنس واحد، وأفضله وأجوده الزّهر، القوىّ اليابس الجافّ الذّكىّ، الحرّيف الطّعم الحلو الرائحة؛ ومنه الزّهر، ومنه الثمر؛ والزّهر منه هو ما صغر وكان مشاكلا لعيدان فروع الخربق «2» الأسود فى المنظر. والثمر منه ما غلظ وشاكل نوى التّمر، أو عجم الزّيتون. وقيل: هو ثمر شجر عظام «3» يشبه شجر السّدر. وقال آخرون: يشبه شجر

الأترجّ. وقال آخرون: هو ثمر شجر ورقه الساذج «1» الهندىّ، واستدلّوا على ذلك بما فى طعم الساذج من القرنفليّة. قال: ويجلب من بلاد سفالة الهند وأقاصيها؛ وله بالمواضع التى هو بها روائح ذكيّة ساطعة الطّيب جدّا، حتى إنّهم يسمّون أماكن القرنفل: «ريح الجنّة» ، لذكاء رائحته. وهو حارّ يابس، لطيف غوّاص، مقوّ للقلب نافع لبعض الأكباد التى فيها عفونة، قاطع للغثيان المولّد من الرّطوبة والقىء الكائن من التّخمة والهيضة «2» ؛ وإذا دقّ مع التّفّاح الشامىّ واعتصر ماؤه مع شىء من قلوب النّعناع وأعطى الوصب نفعه؛ وقطع عنه الغثيان والقىء؛ وهو يطيّب النّكهة؛ والذّكر منه- وهو الزّهر- أقوى من فعل الأنثى. قال: وقد يصعّد منه ماء يفوق فى الطّيب ماء الورد، ويدخل فى كثير من مكلّسات «3» الطّيب والذّرائر، وفى كثير

من المعاجين الكبار والأدوية، وفى عامّة طيب النساء، وفى اللّخالخ «1» والمخمّرات كلّها. وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «2» : رأيت قوما ببغداد يدورون على الصّيارفة يشترون منهم الدّنانير المروانيّة التى أمر بضربها عبد الملك بن مروان، وعلى سكّتها: «الله أحد» ؛ فسألتهم عن ذلك، فذكروا أنّها تحمل فى البحر فى أكياس قد كتب على كلّ كيس منها اسم صاحبه ووزنه، فإذا صاروا بالقرب من جزيرة عظيمة بناحية سفالة الهند وضعوا «3» الأناجر «4» ، وشدّوا المراكب ناحية، وركبوا قوارب ومعهم تلك الأكياس وأنطاع قد كتب على كلّ نطع منها اسم صاحبه أيضا؛ فيخرجون إلى موضع من تلك الجزيرة، فيبسط كلّ واحد منهم نطعه، ويحمل كيسه فوق النّطع مغطّى ببعض النّطع، حتّى اذا فعل ذلك جماعتهم، وعادوا إلى القوارب، ورجعوا إلى المراكب آخر النهار، باتوا ليلتهم تلك فى مراكبهم، ثمّ غدوا فى القوارب إلى الجزيرة، فيجدون فوق كلّ نطع من أنطاعهم من القرنفل بحسب ماله من

المال، ولا يجدون الأكياس؛ فإن رضى القوم بما وجدوا من القرنفل على أنطاعهم أخذوه، ومن لم يرض منهم تركه وعاد إلى مركبه، ثم يعود فى اليوم الثانى فيجد كيسه بحاله، ولا يرى للقرنفل أثرا، ولا تقع عين أحد من التّجار على أحد ممّن هو فى تلك الجزيرة، ولا يقفون على موضع القرنفل ولا على شجره. وهذه الحكاية شبيهة بما ذكرناه فى أمر العود. قال التّميمىّ: وقد كان وقع إلىّ ذكر هذا بعينه؛ وزعم الّذى أخبرنى: أنّهم قديما كانوا يجدون أكياسهم مع القرنفل على الأنطاع بحالها، فكان الرجل إن اختار القرنفل حمله وترك الكيس، وإن اختار المال أخذه وترك القرنفل، الى أن غدر التّجار بهم فى بعض السنين، فحملوا المال والقرنفل، وانقطع جلب القرنفل سنين كثيرة، وغلا حتّى لم يقدر عليه، ثمّ عادوا ولزموا العدل مع أهل الجزيرة، فصاروا عند ذلك لا يجدون فوق الأنطاع غير القرنفل فإن رضوا به حملوه، وإن سخطوا تركوه ليلتهم، ثم عادوا فى اليوم الثانى فوجدوا أموالهم. وهذه الحكاية نحو ما قدّمناه فى العود.

الباب السادس من القسم الخامس من الفن الرابع فى القسط وأصنافه

الباب السادس من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى القسط «1» وأصنافه ويقال فيه: الكست «2» بالكاف والتاء، بدل القاف والطاء؛ وقد تكرّرت الأحاديث الصحيحة النبويّة- على قائلها أفضل الصلاة والسلام- بمنافعه وما فيه من الأشفية؛ فمنها ما رواه البخارىّ بسنده عن أمّ قيس «3» بنت محصن أخت عكاشة،- وكانت من المهاجرات الأول اللّاتى بايعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنّها قالت: أتيت «4» النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم بآبن لى قد علّقت «5» عليه «6» من

العذرة «1» فقال النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا الله، على «2» ما تدغرون «3» أولادكم بهذه الأعلاق «4» ، عليكم بهذا العود الهندىّ فإنّ فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب» يريد الكست، يعنى القسط. وللقسط أصناف ذكرها محمّد بن أحمد التّميمىّ فى جيب العروس فقال: منه ما يجلب من بلاد الحبشة؛ ومنه البحرىّ الذى يسمّى الجلود؛ وأجوده الأبيض الرقيق القشرة الّذى هو كأمثال الأصابع وأكبر، والمشقّق اليابس. ويقال: إنّهم يأكلونه فى بلادهم رطبا. وقال محمد بن العبّاس المسكىّ «5» : أخبرنى بعض البحريّين أنّه يكون فى جبال الماهات «6» ، ينبت فى شقوق الصّخور وأعالى الجبال؛ ويقال

له [الكى «1» ] ويؤكل «2» ، غير أنّه ردىء الجوهر، اذا جفّ لا تكون له صلابة، ويشبه أصله أصل الكرفس الجبلىّ، وكذلك ورقه يشبه ورق الكرفس الجبلىّ أيضا. قال المسكىّ: فلمّا صرت إلى الجبل جرّبت ذلك فوجدته كما قال، ورأيته كثيرا فى جبال أبهر «3» وزنجان «4» . قال التّميمىّ: ومن القسط الحلو أيضا صنف آخر غليظ الرائحة يسمّى القرنفل، ليس بطائل، ويدخل فى الدّخن «5» . وأمّا القسط المرّ- وهو الهندىّ- فيجلب من أرض الهند؛ وأجوده ما ابيضّ ورزن؛ ومن الهندىّ صنف يضرب إلى السواد لا خير فيه. قال: ومن المرّ نوع يسمّى القرنفلىّ، ليس بطائل. وهذا النوع من القسط والذى يضرب الى السواد أدناه وأسقطه ثمنا وقيمة. والقسط المرّ الأبيض يدخل فى كثير من الأدوية والمعاجين الكبار؛ ومنه يعمل دهن القسط؛ ويشرب فينتفع به من أوجاع الجنبين والخواصر ويدرّ البول ويفتّح سدد الكبد؛ وهو حارّ يابس قوىّ الحرارة [واليبس «6» ] .

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل الغوالى والندود

الباب السابع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل الغوالى «1» والنّدود أمّا عمل الغوالى - فقد قال الزّهراوىّ «2» فى كتابه: والغالية ينقسم عملها إلى ثلاثة أقسام: الأوّل فى الوقت الذى تعمل فيه؛ والثانى الآلة التى تصلح أن تعمل فيها؛ والثالث كيفيّة عملها. فأمّا الوقت الذى يصلح أن تعمل فيه - فوجه السّحر قبل طلوع الشمس، لاعتدال الهواء فيه، وإن وافق أن يكون فصل الربيع فهو أفضل ويتوقّى أن يكون حالة وقت هبوب الرّيح، بل فى وقت سكونه. وأمّا الآلات التى تصلح لعملها وسحق أجزائها فيها - فأفضل ما سحق المسك فى هاون ذهب خالص، أو صلاية زجاج، بفهر زجاج؛ وأن يذاب العنبر فى محارة من حجر، أو فى مدهن من حجر أسود، أو زجاج؛ أو فى مدهن ذهب، او فضّة مموّهة بالذّهب، ويرفع فى إناء من ذهب أو زجاج.

وأما كيفية عملها [وأخذ] أجزائها

وأمّا كيفيّة عملها [وأخذ «1» ] أجزائها - فهو أن يأخذ من المسك الجيّد أوقيّة فيسحقه برفق لئلّا يحترق من شدّة السّحق، ثم ينخله بمنخل شعر صفيق «2» وإن أمكن نخله من غير سحق فهو أجود، ثمّ يأخذ من العنبر الطّيب نصف أوقيّة فيذوّبه فى مدهن على ألطف ما يكون من النار، فاذا كاد يذوب قطّر عليه شيئا من دهن البان المطيّب، ثم ينزله بعد أن يذوب، ويعتبره بأنامله، فإن كان فيه رمل أخرجه، ثم يلقيه على المسك فى الصّلاية؛ ويحذر أن يكون العنبر حارّا فإنّ حرارته تفسد المسك؛ ثم يسحق الجميع فى الصّلاية برفق حتّى يمتزج العنبر بالمسك، ويجردهما بصفيحة ذهب لطيفة، ولا يجردهما بنحاس ولا بحديد فإنّهما يفسدانهما، ثم يرفع الغالية بالبان على حسب ما يحبّ من رقّتها أو ثخنها؛ وليس للبان حدّ يوقف عنده. وإن أراد أن يجعل المسك مثل العنبر أو دونه فعل. هذا ما ذكره الزّهراوىّ فى الغالية. وقد ذكر محمد بن أحمد التّميمىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس) فى باب الغوالى كثيرا منها، نذكر من ذلك ما كان يعمل للخلفاء والملوك والأكابر. فمن ذلك غالية من غوالى الخلفاء عن أحمد بن أبى يعقوب: يؤخذ من المسك التّبّتىّ النادر مائة مثقال، يسحق بعد تنقيته من أكراشه وشعره، وينخل بعد السّحق بالحرير الصّينىّ الصّفيق، ويعاد سحقه ونخله، ويكرّر «3» حتى يصير كالغبار؛

ثم يؤخذ تور «1» مكّىّ أو زبديّة «2» صينىّ، فيجعل فى أيّهما حضر من البان الجيّد النادر قدر الكفاية، ويقطّع فيه من العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون مثقالا وترفع الزّبديّة بما فيها من البان والعنبر على نار فحم ليّنة لا دخان لها ولا رائحة فتفسده، ويحرّك بملعقة من ذهب أو فضة حتى يذوب العنبر، ثم ينزله عن النار، فإذا فتر طرح المسك فيه، ويضرب باليد ضربا جيّدا حتى يصير جزءا واحدا، ثم يرفع ذلك فى إناء من الذهب أو الفضّة، وليكن ضيّق الرّأس ليمكن تصميمه، أو فى برنيّة زجاج نظيفة، ويسدّ رأسها بصمامة حرير صينىّ محشوّة بالقطن، لئلّا يتصاعد ريحها. قال: فهذه أجود الغوالى كلّها، وإن جعل العنبر نظير المسك فلا بأس. وهذه الغالية المتساوى فيها المسك والعنبر كانت تعمل لحميد الطّوسىّ «3» ؛ وكانت تعجب المأمون جدّا؛ وكانت هذه الغالية تعمل لأمّ جعفر، إلّا أنّهم كانوا يضيفون الى البان نظير ربعه من دهن الزّنبق «4»

غالية حجاجية تسمى الساهرية

الرّصافىّ «1» النّيسابورىّ؛ وكانوا يصنعون هذه الغالية لمحمد بن سليمان، إلّا أنّهم كانوا يجعلون مع البان والزّنبق شيئا من دهن البلسان «2» الخالص؛ وكانوا أيضا يصنعون لأمّ جعفر غالية يسمّونها غالية العنبر، وذلك أنّهم يجعلون لكلّ ثلاثة أجزاء من المسك عشرة أجزاء من العنبر، وترتيب عملها كما تقدّم. غالية حجّاجيّة تسمّى الساهريّة «3» يؤخذ من المسك التّبّتىّ عشرة مثاقيل، ومن العنبر عشرة مثاقيل، ومن العود الهندىّ المسحوق مثقال واحد، ومن الزّعفران مثقال واحد؛ فيحلّ العنبر بدهن البان الكوفىّ الجيّد ودهن الزّنبق النّيسابورىّ، فإذا ذاب العنبر ينزل عن النار

غالية هشام بن عبد الملك - وهى غالية صفراء

ويترك حتّى يفتر؛ ثم يلقى المسك المسحوق المنخول والعود والزّعفران عليه ويضرب «1» ضربا جيّدا محكما، وربّما فتق «2» بشىء من الكافور، ويرفع فى ظرف ويسدّ رأسه كما تقدّم؛ والله أعلم بالصّواب. غالية هشام بن عبد الملك- وهى غالية صفراء يؤخذ من السّنبل «3» العصافير وزن أربعة دراهم، ومن الصّندل المقاصيرىّ «4» ثلاثة دراهم، ومن العود الهندىّ الجيّد أوقيّتان؛ وتدقّ هذه الأصناف، وتنخل بحريرة، وينعّم سحقها بعد النّخل، وتلقى عليها من الزعفران القمّىّ «5» المطحون أوقيّة منخولة بحريرة، ويخلط جميع ذلك، ثمّ يؤخذ الزّبيب الطائفىّ والمرزنجوش «6» الرّطب

والنّمّام «1» الرّطب، فتنقع الثلاثة ليلة فى ماء وتمرس وتصفّى وتعجن بها الأخلاط أو تعجن بطلاء عتيق عجنا جيّدا، وتلصق فى باطية «2» ، وتبخّر بالنّدّ ثلاثة أيّام، وتقلّب كلّ سبع تبخيرات مرّة؛ ثم يؤخذ لها من السّكّ «3» المثلّث أو المنصّف خمسة عشر مثقالا فتسحق سحقا جيّدا، وتنخل بحريرة، ويؤخذ نصف السّكّ وتعجن به وهو رطب

صفة غالية أخرى من كتاب محمد بن العباس

ثم يقرّص «1» ويترك ثلاثة أيّام فى الظّلّ، ولا يدنيه من الشمس، فإذا جفّ يسحق فى صلاية، وينخل بحريرة؛ ثمّ يذاب له من العنبر الأزرق أوقيّة ببان الغالية المرتفع الجيّد، وتلقى عليه بقيّة السّكّ وتلك الأخلاط، ويضرب؛ ثم تلقى عليه أوقيّة ونصف من المسك التّبّتىّ المسحوق المنخول بالحريرة، ويضرب فيه بالأصابع حتّى يختلط، ثمّ يوعى، ويحكم سدّه كما تقدّم. صفة غالية أخرى من كتاب محمّد بن العبّاس يؤخذ من العود الهندىّ الجيّد المطحون المنخول عشرة دراهم، فيجعل فى قدح ويصبّ عليه ماء ورد، ويسحق به، ويسقى ماء الورد ثلاث مرّات، ثم يؤخذ من سكّ المسك خمسة عشر درهما، فتسحق، وتنخل، وتلقى على العود المحلول بماء الورد، ويسحقان جميعا حتّى يجفّ ماء الورد، ويسقيانه، ويسحقان، ثم يسقيان ثلاث مرّات حتّى يصيرا كالهباء، ثم يحلّ العنبر بدهن البان، ويلقى عليه العود والمسك بعد أن ينزل عن النار، ويحرّك بعود، ولا يحرّك بجريدة ولا ظفر، فإذا

غالية متوسطة نسبها التميمى إلى كتاب أبى الحسن المصرى

اختلط ردّ إلى الصّلاية وسحق حتى يصير كالعلك، ثم يذرّ عليه من المسك المسحوق بحسب ما يريده صاحبه. غالية متوسّطة نسبها التّميمىّ الى كتاب أبى الحسن المصرىّ «1» يؤخذ من المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الأزرق مثقال، ومن سكّ «2» المسك المرتفع مثقالان، ومن العود الهندىّ مثقالان، ومن بان الغالية ثلاث أواقىّ؛ يحلّ العنبر فى البان بنار ليّنة، وينعّم سحق العود والمسك والسّكّ، وتخلط، وتلقى على العنبر المحلول وهو فاتر، وتضرب ضربا جيّدا حقّ تستوى. غالية تسمّى الساهريّة «3» ختم بها التّميمىّ باب الغوالى وقال فيها: من أحبّ أن يحلّها بالبان فهى غالية لا بعدها؛ ومن تطيّب بها يابسة بماء الورد فهى أطيب ما يكون من المسوحات. وصفة عملها، أن يؤخذ من المسك التّبّتىّ مثقال، ومن السّكّ المثلّث مثقالان ومن العود الهندىّ ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر الشّحرىّ مثقال؛ يسحق كلّ واحد منها بمفرده سحقا ناعما، وينخل بحريرة، إلّا العنبر فإنه يقرّض، ويحلّ فى تور «4» من

وأما عمل الندود

حجارة، أو فى زبديّة «1» صينىّ؛ ثم يلقى عليه العود والسّكّ، ويخلطان به خلطا جيّدا ويجعل ذلك على الصّلاية؛ فاذا برد وجمد يسحق وينخل بحريرة، ويضاف اليه المسك المسحوق، ويسحق ذلك جميعا، ويرفع؛ فمن أراد أن يستعمل ذلك غالية يحلّ المثقال منه فى مثقال من دهن البان المفتّر، ومن أراد أن يستعمله مسوحا يحلّه بماء الورد. وأمّا عمل النّدود - فقد ذكر التّميمىّ منها أنواعا كثيرة؛ فمنها النّدّ المستعينىّ كان يصنع للمستعين بالله العبّاسىّ. قال: يؤخذ من العود الهندىّ خمسون مثقالا ومثله من المسك التّبّتىّ، ومن العنبر الشّحرىّ الأزرق الدّسم خمسون ومائة مثقال ومن الكافور الرّياحىّ «2» ثلاثة مثاقيل؛ يسحق العود والمسك والكافور سحقا ناعما كلّ واحد منها بمفرده، وينخل المسك بالحريرة، ويحلّ العنبر فى عبّاسيّة «3» صينىّ أو فى برام «4» ، ويلقى المسحوق عليه بعد أن ينزل عن النار، ويعجن به عجنا جيّدا

صنعة ند آخر

ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير «1» ، ويصفّ على منخل حتّى يجفّ ويرفع. قال: وأمّا النّد الذى أجمع الناس عليه، فهو أن يؤخذ من العود الجيّد خمسون مثقالا، ومثله من المسك التّبّتىّ، ويحلّ لذلك من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ مائة مثقال وثلاثة مثاقيل، ويعجن بالمسك، ويمدّ شوابير، ويجفّف، ويرفع. صنعة ندّ آخر قال التّميمىّ، تركيبه لأبى سعيد يانس الفارسىّ، فجاء غاية فى الجودة؛ يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «2» أو العود القمارىّ «3» عشرة مثاقيل، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه وشعره عشرون مثقالا، يسحق كلّ واحد منهما بمفرده، وينخل بحريرة صينيّة ثم يجمعان على الصّلاية، ويضاف إليهما من الكافور الفنصورىّ «4» مثقال واحد، ويحلّ

صفة ند كانت بنان العطارة تصنعه للواثق بالله

لذلك من العنبر الشّحرىّ «1» الأزرق ثلاثون مثقالا فى تور حجر أو فى عبّاسيّة صينىّ حلّا لطيفا بنار ليّنة، بعد أن يقرّض العنبر ليسرع انحلاله، وسبيل التّور أن يحمل على النار قبل أن يلقى فيه العنبر، ليقلّ مكث العنبر على النار، فاذا انحلّ العنبر أنزل عن النار وألقى فيه المسك والعود والكافور بعد إنعام سحقها «2» ، ويضرب ذلك مع العنبر فى التّور بملعقة من فضّة أو حديد ضربا جيّدا حتى يصير جميعه جزءا واحدا؛ ثم تبلّ سكّين ويمسح بها ما تعلّق على الملعقة، ويوضع على قطعة من الرّخام ملساء قد مسح وجهها بالماء، وتبلّ اليد، ويؤخذ بها من المعجون، ويفتل على الرّخامة فتلا متساويا ويقطّع شوابير بسكّين مبلولة بالماء، على ما يراه من المقادير؛ وإن خشيت أن يبرد المعجون فيجمد، جعلت التّور الّذى فيه المعجون على رماد حارّ. صفة ندّ كانت بنان «3» العطّارة تصنعه للواثق بالله يؤخذ من العود الجيّد الهندىّ مائة مثقال، ومن سكّ «4» المسك خمسون مثقالا ومن المسك التّبّتىّ ثلاثون مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ «5» تسعة مثاقيل؛ يسحق كلّ واحد منها على انفراده سحقا ناعما، ثم تجمع كلّها على الصّلاية، وتسحق حتّى تختلط

صفة ند [آخر] كانت تصنعه لجعفر المتوكل على الله

وتلتئم؛ ثم تؤخذ لها مائتا مثقال من العنبر الهندىّ أو الشّحرىّ «1» فيحلّ فى تور برام أو غضارة «2» صينىّ «3» ؛ فاذا ذاب ينزل عن النار، وتلقى عليه المسحوقات، وتخلط به وتعجن عجنا جيّدا، ثم تعمل منه «4» أقراص أو شوابير «5» ، وزن كلّ قطعة منها مثقال، وتجفّف. صفة ندّ [آخر] كانت تصنعه لجعفر المتوكّل على الله يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «6» عشرون مثقالا، ومن السّكّ «7» المثلّث خمسة عشر مثقالا، ومن الكافور الرّياحىّ مثقالان، ومن المسك التّبّتىّ ستّة مثاقيل، ومن السّكّ الأصفر الطوامير مثقال واحد، ومن الزّعفران الرّوذراورىّ «8» المسحوق مثقال؛

صفة الند الذى كانت أم الخليفة المقتدر بالله تصنعه وتبخر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كل جمعة

يسحق كلّ واحد بمفرده، ثم تجمع على الصّلاية، وتسحق؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ خمسون مثقالا، فيقرّض، ويذاب فى تور مكّىّ، وتخلط فيه الأصناف نحو ما تقدّم، ويقطّع شوابير «1» . صفة النّدّ الّذى كانت أمّ الخليفة المقتدر «2» بالله تصنعه وتبخّر به الكعبة وصخرة بيت المقدس فى كلّ جمعة يؤخذ من المسك التّبّتىّ المنقّى من الأكراش مائة مثقال، يسحق، وينخل ويحلّ له من العنبر الشّحرىّ، وينزل عن النار، فاذا فتر ألقى عليه المسك بمفرده من غير عود ولا غيره، ويضرب ضربا جيّدا، ثم يمدّ على الرّخامة، ويقطّع شوابير ويبخّر به. قال التّميمىّ: كان رئيس الخدم ببيت المقدس يهدى إلى والدى من هذا النّدّ فيحلّه والدى بالبان، فتجىء منه غالية لا شىء أطيب منها. صفة ندّ آخر عن أمّ «3» أبيها بنت جعفر بن سليمان- وهو الذى يسمّى اللّفيف «4» الشريف- قال التّميمىّ: ولا شىء فى النّدّ أرفع منه- يؤخذ من العود الهندىّ القامرونىّ «5»

وأما الذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية

أوقيّة، فيدقّ وينخل، ويسحق على الصّلاية، ويؤخذ له من السّكّ «1» المثلّث نصف أوقيّة، ومن المسك التّبّتىّ المنقّى من أكراشه، المسحوق المنخول نصف أوقيّة ويجمع الجميع، ويسحق على الصّلاية؛ ويؤخذ من العنبر الهندىّ الأزرق الدّسم أوقيّتان، ويقرّض ويذاب فى تور على نار ليّنة نحو ما تقدّم، ثم يلقى عليه العود والسّكّ والمسك، ويعجن ذلك، ويمدّ على صلاية، ويقطّع شوابير «2» ، ويجفّف ويرفع. قال التّميمىّ: أجمع العلماء بأمر العطر وأعمال الطّيب أنّ السّكّ اذا كان مثلّثا فله فى النّدّ معنى جيّد وخمرة، والبخور الّذى يدخل فيه يكون له عبق فى الثياب، سيّما «3» فى بلد مصر والبلاد المعروفة بالعفن. قال: وملاك البخور كلّه جودة العنبر والمسك والعود والكافور والنار الّتى يبخّر بها، وألّا يكون فى الفحم شىء من الزّهومة، فإنّ ذلك يفسد البخور، ويقطع رائحته. وبسط التّميمىّ القول فى النّدود، وقد أوردنا منها ما فيه كفاية؛ وهذه النّدود كلّها الّتى ذكرناها كانوا يصنعونها للبخور خاصّة. وأمّا الّذى يصنع فى عصرنا هذا بالديار المصرية - فهو نادر اذا عنى به يصلح للحمل والادّخار والبخور على النار، وتعمل منه عنابر «4» مختلفة الأشكال والمقادير، من الأكر والوردات والشّوابير «5» ، وغير ذلك، وتنظم قلائد

ذكر كيفية عمل الند فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره

ومعاضد «1» ووشاحات وسبحا، وغير ذلك، ويجعلها الناس بين ثيابهم اذا لبسوها ويمشون بها، ويجلسون ويرقدون وهى لا تتغيّر ولا تتكسّر، ويكسر بعض الأكرة «2» منها أو الوردة أو الخرزة فتستعمل فى البخور وغيره، وتبقى بقيّتها فى جملة العنبر المنظوم، ولا يضرها الكسر، ولا يتفتّت منها شىء البتّة إلّا إن قرض بالسّنّ أو قطع بالشّفرة أو «3» المدية؛ وإذا طال مكثه صلح وجاد وصلب، وعبق ريحه على النار، إلّا أنّه متى اختلط بالياسمين ضعف ريحه؛ وإذا تمادت عليه المدد وكثر استعماله وأفسده العرق الردىء كسّر وأضيف اليه شىء من العنبر الخام الشّحرىّ وجن به، ثم بالمسك المسحوق، وأعيد كما كان، أو على أىّ صفة أرادها صاحبه فيجىء غاية فى الجودة، وربّما كان أجود وأنفع من الأوّل؛ وها نحن نذكر كيفيّة عمله ومفرداته ومقاديره؛ والله أعلم. ذكر كيفيّة عمل النّدّ فى وقتنا هذا ومفرداته ومقاديره والنّدّ فى وقتنا هذا يسمّى العنبر، فاذا أطلق عندهم اسم العنبر كان هو المراد؛ ويميّز العنبر الأصلىّ إذا أريد بأن يقال فيه: العنبر الخام؛ وهذا النّدّ الّذى يتداوله الناس فى وقتنا هذا ثلاثة أنواع: فالنوع الأوّل المثلّث ، وهو أجودها وأعطرها؛

وأما النوع الثانى - وهو المعتدل

وصفة تركيبه ومقادير أجزائه أن يؤخذ له من العنبر الجيّد الشّحرىّ «1» الرزين الدّسم جزء، ونظيره من العود الهندىّ الجيّد، ونظيره أيضا من المسك التّبّتىّ، ويجعل العود براية أجزاء صغارا، ثم يقلى على نار ليّنة، ويطحن بعد ذلك طحنا ناعما ويسحق المسك بعد تنقيته ممّا لعلّه فيه من شعر أو غيره، ثم يقرّض العنبر صغارا ويوضع فى قدر برام لطيفة شبه رأس الخوذة «2» على نار فحم ليّنة حتى يحمرّ، ويلقى ذلك العنبر الخام فى القدر، ويحرّك بملعقة من النّحاس مدوّرة الرأس، ثقيلة، لها ساعد فاذا ذاب العنبر يلقى عليه العود المطحون شيئا بعد شىء، ويحرّكان حتّى يختلطا ويصيرا جزءا واحدا، ويجعل العنبر والعود فتائل، ويقسّم المسك على نسبة تلك الفتائل، وتعجن به عجنا جيّدا على حجر يمنىّ معدّ لذلك حتى تختلط به؛ ثم يقطّع ويجعل أكرا بحسب ما يريد، ويرفع. وهذا أجود ما يصنع من أنواع النّدّ فى وقتنا هذا، إلّا أنّه يكون ليّنا لا يكاد يستعمل للّباس «3» ، بل يحمل فى الجيوب ويبخّر به، ويشمّ، ويوضع بين الثياب، ونحو ذلك. وأمّا النوع الثانى- وهو المعتدل - فأجزاؤه أن يؤخذ من العنبر الخام الجيّد عشرة مثاقيل، ومن النّدّ العتيق الجيّد عشرة مثاقيل، ومن العود الجيّد المطحون عشرون مثقالا؛ ويؤخذ لذلك من المسك الجيّد ما أحبّ المستعمل ويركّب على ما نذكره «4» .

وأما النوع الثالث - وهو السوقى

وأمّا النوع الثالث- وهو السّوقىّ - فأجزاؤه أن يؤخذ لكلّ عشرة مثاقيل من العنبر الخام عشرة مثاقيل من العنبر العتيق، وثلاثون مثقالا من العود المطحون ومن المسك. ذكر صفة خلط أجزاء النّدّ وتركيبه أوّل ذلك أن يضع القدر البرام «1» المعدّة لذلك على نار فحم ليّنة، ويكون وضعه للقدر على جنبها، ثم يكسّر العنبر العتيق ويضعه فى القدر، فاذا سخن هرسه بالملعقة النّحاس المعدّة لذلك، فاذا انهرس ونعم رفعه من القدر الى وعاء آخر نظيف ثم يمسح القدر، ويكسّر العنبر الخام قطعا صغارا، ويوضع فى القدر على أثر السّخونة ويحرّك بالملعقة حتّى يذوب؛ ثم توضع القدر على النار، ويلقى على العنبر من العود المطحون شىء بعد شىء الى أن يختلط بعضه ببعض ويصيرا جزءا واحدا، ثم يلقى عليه العنبر العتيق، ويخلط بالملعقة حتى يختلط بهما «2» ، ثم يصبّ على ذلك ماء ورد بقدر واعتدال، ويجسّ بالإبهام والسّبّابة، فإن قبل الفتل أخذ منه شيئا بعد شىء وفتله فتائل على الحجر اليمنىّ المعدّ لذلك؛ فإذا صار جميعه فتائل- وهو الفتل الأوّل- وضع القدر على النار، ووضع بعض الفتائل فيها ويصبّ عليها ماء ورد بقدر، ويعجنها عجنا جيّدا، ثم يعيدها على الحجر، ويعجنها

بالمسك حتى يختلط بها، بحيث لا يضع المسك على النار اللّيّنة، فاذا اختلط المسك بها فتلها فتائل، ثم يقطّعها أجزاء متساوية على قدر ما يريد، ويضمّه «1» بأصابعه الثلاث: الإبهام والسّبّابة والوسطى حتى يدخل بعضه فى بعض، ثم يدوره تدويرا جيّدا فى كفّه حتّى يندمج ويصطحب «2» ، ثم ينخسه «3» بمسلّة برفق، وينقشه بعد ذلك بالمشطاب «4» المعدّله، وان كان ساذجا دوّره على الرّخامة. هذه كيفيّة عمله وأجزاؤه؛ فإن نقص عن ذلك منع من بيعه.

الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل الرامك والسك من الرامك والأدهان

الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل الرّامك والسّكّ من الرامك والأدهان فأمّا عمل الرّامك والسّكّ - فالرامك هو أصل السّكّ الّذى لا يمكن عمله إلّا منه، وصفة عمل الرامك على ما أورده محمد بن أحمد بن سعيد التّميمىّ المقدسىّ فى كتابه المترجم (بجيب العروس وريحان النفوس) ، وقال: إنه استنبطه ودبّره برأيه- يشير الى هذه الصفة التى نذكرها الآن، وإلّا فالرامك قديم، نقله هو عن غيره ممن كان قبله «1» -؛ فقال التّميمىّ فى هذه النسخة «2» : يعمد إلى العفص النّقىّ الأبيض الجيّد، فيدقّ وينخل، ويعتّق بعد طحنه سنة. قال: ومن الناس من يطبخه بالماء حتّى ينشف الماء، فيستغنى بطبخه عن تعتيقه، وإنّما يراد تعتيقه ليسلس وتذهب منه زعارّة «3» العفصيّة وطعمها، وطبيخه يفعل ذلك. قال: وتعتيقه أجود. قال: ثم يؤخذ لكلّ عشرة أرطال من العفص المنخول المعتّق خمسة أرطال من الزّبيب العينونىّ «4» اللّحم المنقّى من عيدانه، ويؤخذ من البلح الحديث ما قد لقط من تحت

نخله بعد نضجه، ويجفّف، ويحكم تجفيفه، وينزع نواه، خمسة أرطال، فينقع الزّبيب والبلح فى الشّراب الرّيحانىّ «1» يوما وليلة، ومن لم ينقعهما فى الشراب فلينقعهما فى الميسوس «2» الطيّب، أو فى الماء القراح، ثم يرفعان على النار، فيغليان غليانا جيّدا حتّى ينضجا، ولا تبقى فيهما قوّة، ويعتصر ماؤهما، فتعجن به العشرة «3» أرطال العفص المطحون المنخول عجنا جيّدا حتى يصير مثل الحساء أو أرقّ منه ثم يرفع فى طنجير «4» نحاس غليظ على نار ليّنة، فيطبخ وهو يحرّك بإسطام «5» حديد، ولا يفتر تحريكه، ويحترز المتولّى لطبخه، بأن يتلثّم، ويلفّ على يديه ورجليه ما يصونهما أن يقع عليهما من ذلك، حتّى اذا غلظ وصار أشقر أنزله عن النار. قال: ومن الناس من يضيف اليه وقت طبخه من عقيد «6» العنب على كلّ عشرة أرطال رطلا واحدا مع ماء الزّبيب وماء البلح؛ ومنهم من يقتصر على مائهما فقط، فإذا انتهى

أنزله عن النار، وصبّه على بوارىّ «1» قصب، بعد أن يبرد، ويبسط عليها بسطا رقيقا مستويا بشىء قد دهن بدهن خيرىّ «2» ؛ ثم يعلّق البوارىّ بعد جفافه عليها فى سقف بيت كنين من الغبار سنة كاملة، بحيث يصل اليها مهبّ ريح الشّمال؛ فهذا عمل الرامك الذى هو أصل السّكّ. فإذا أحببت أن تصنع منه سكّا فاقلع الرامك عن البوارىّ، ودقّه، واطحنه طحنا ناعما، واسقه أمراق الأفاويه التى يطبخ بها البان، وسنذكرها فى فصل الأدهان- إن شاء الله تعالى-؛ واذا أردت ذلك تجمع أمراق الأفاويه بعد تصفية البان عنها، وغسلها من دهنيّة البان، وسلقها وتصفيتها، فيعجن بها عجنا جيّدا كما عجن أوّلا بماء الزّبيب والبلح، وترفعه على النار وأنت تحرّكه دائما بالإسطام تحريكا جيّدا، وقد تحرّزت ممّا يتطاير منه كما تقدّم، حتى إذا شرب

تلك الأمراق وقوى، برّدته فى سطول «1» ، وصببته على البوارىّ كما فعلت أوّل مرّة، فتعتّقه أربعة أشهر حتّى يجفّ، ثم تدقّه وتطحنه وتنخله، وتأخذ لكلّ منّ «2» منه من الهرنوة «3» وزن ثلاثة دراهم، ومن الصندل المقاصيرىّ «4» نصف أوقيّة

ومن العود القمارىّ «1» الدّقّ «2» الجيّد نصف أوقيّة، ومن الزعفران المسحوق وزن درهمين، ومثقالا واحدا أو مثقالين- إن أحببت- من نافجة «3» مسك طريّة الفتاق قد نتف ما عليها من الشّعر وحلق، وقرّضت تقريضا صغيرا، ودقّت دقّا ناعما ومن دهن الخيرىّ «4» الكوفىّ الخالص نصف أوقيّة، ومن العسل الماذىّ «5» نصف أوقيّة؛ يعجن جميع ذلك بالسّكّ عجنا جيّدا، ويترك ثلاثة أشهر أو أربعة حتّى يجفّ ويتكامل جفافه؛ ثم يدقّ ويطحن، ويعجن بميسوس «6» ، ويطرح فى كلّ منّ منه من المسك ثلاثة مثاقيل، يعجن بها عجنا جيّدا، ويقرّص أقراصا صغارا ويترك حتّى يجفّ. قال: فهذا أذكى أبواب السّكّ وأصلحه. فإن أردت أن تصنع منه سكّا مثلّثا أو منصّفا أو دون ذلك، فآعمد إلى كلّ عشرة مثاقيل من السّكّ الأصلىّ الّذى قدّمنا ذكره، فأنعم دقّها وسحقها، وأضف إلى العشرة مثاقيل- ان أردته مثلّثا- من المسك خمسة مثاقيل؛ وإن أردته منصّفا فأضف الى العشرة مثاقيل مثلها من المسك؛ وإن أردته دون المثلّث فأضف الى العشرة مثاقيل ثلاثة مثاقيل، وأنعم عجنه به، وقرّصه، واختمه، وجفّفه؛ فهذه صفة السّكّ المنصّف والمثلّث وما دونه، وهو أفضل أنواع السّكّ وأشرفها.

صنعة سك آخر

صنعة سكّ آخر يؤخذ من الرامك بعد تجفيفه على البوارىّ «1» كما تقدّم رطلان، يدقّ «2» وينخل ويسقى من أمراق الأفاويه نحو ما ذكرناه؛ ثم يؤخذ لذلك من العود السّنّ القمارىّ «3» المسحوق أوقيّة ونصف، ومن الصّندلى المقاصيرىّ «4» الأصفر الدّسم ثلاث أواقىّ ومن السّنبل «5» العصافير أوقيّة، ومن الهرنوة «6» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهال «7»

نصف أوقيّة، ومن الزّعفران المائىّ «1» أوقيّتان؛ يدقّ ذلك، ويطحن وينخل، ويلقى على السّكّ فى الطّنجير وهو على نار ليّنة، ويصبّ عليه من دهن الخيرىّ «2» الكوفىّ

صنعة رامك وسك آخر

الخالص أوقيّتان، ومن العسل الماذىّ «1» الأبيض أوقيّتان، ويحرّك ساعة، ثم يوضع عن النار، ويبسط على باريّة «2» بعد أن يبرد، ويعتّق سنة، ثم يقلع فيدقّ دقّا ناعما ويعجن بميسوس أو بماء قراح، ويلقى على كلّ منّ «3» منه من المسك ربع مثقال بعد سحقه، ومن العسل خمسة دراهم، ويقرّص ويختم. قال التّميمىّ: هذه الأفاويه- فيما أرى- كثيرة لرطلين عفصا؛ وأنا أرى أن يكون العفص سبعة أرطال بالبغدادىّ، فإنّه «4» يحتمل ذلك. صنعة رامك وسكّ آخر ذكر التّميمىّ عن أحمد بن أبى يعقوب أنّه عمله، وأنّه أجود ما يكون من السّكّ. قال ابن أبى يعقوب: صفة عمل الرّامك أن يؤخذ من العفص البالغ الجيّد، فيرضّ «5» ، ويصيّر فى قدر كبيرة، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ثم يطبخ أيّاما، ويزاد فى مائه كلّما نشف حتى ينضج، ثم يخرج العفص فيجعل فى شمس حارّة حتّى يجفّ، ويرفع ذلك الماء الذى طبخ فيه، ويؤخذ ما جلس فيه من العفص فيجفّف، ويضاف الى العفص، ويدقّ، وينخل بمنخل شعر، ثم يردّ إلى القدر؛ ويصبّ عليه ماء كثير، ويطبخ به يومين أو ثلاثة حتى تذهب العفصيّة

وأما الأدهان [وما قيل فيها]

منه، ثم يسحق على صلاية حتّى يجفّ، ويصنع منه أمثال العلك؛ فهذا عمل الرامك، ولم يذكر فيه البلح ولا الزّبيب. قال: فاذا أردت أن تصنع من هذا الرامك سكّا فخذ منه ستّة أجزاء، ومن نوافج المسك جزءا واحدا، فتنزع الشّعر عن النّوافج، وتقرّضها، وتدقّها دقّا شديدا وتطحنها، ثم اخلطها بالستّة أجزاء، واسحق الجميع على الصّلاية بالماء أو بالشراب أو بالنّضوح حتى يستوى، ثم يقرّص، فاذا جفّ فخذ منه ستّة أجزاء، ومن المسك التّبّتىّ جزءا واحدا، واسحق المسك، وحلّ السّكّ بماء ورد، وأضفه اليه بالعجن الجيّد، وقرّصه يأتك سكّا طيّبا. فإن أردت أن تعمل منه منصّفا أو مثلّثا أو غير ذلك، فاسحقه، وألق على كل مثقال منه نصف مثقال من المسك، أو ثلث مثقال، أو دون ذلك، واعجنه به وقرّصه. قال: فهذا أفضل ما يعمل من السّكّ. وأمّا الأدهان «1» [وما قيل «2» فيها] - فهى كثيرة، نقتصر منها على ما يدخل فى أصناف الطّيب والغوالى، مثل دهن البان، ودهن الزّنبق، ودهن الحماحم ودهن الخيرىّ، ودهن التّفّاح، والأدهان المركّبة العطرة، وأدهان تصلح الشّعور. ولنبدأ بذكر دهن البان وحبّه ومعادنه وكيفيّة طبخه - قال محمد بن أحمد التّميمىّ: شجر البان شجر عظيم، يحمل حبّا ألطف من البندق

فى مقدار حبّ النّبق، مستديرا، ذا ثلاثة حدود كحدود «1» أزجّة «2» النّشّاب، يكسر فيخرج من جوفه حبّ أبيض دهنىّ، تعتريه مرارة يسيرة؛ ومنابته بينبع من أرض الحجاز، وبأرض عمان «3» ، وباليمن. قال: ومنه شىء ينبت بأرض مصر، وشىء يجلب من أرض الشّراة «4» وناحية البلقاء «5» ، وشىء ينبت على شاطئ البحيرة «6» المنتنة ما بين زغر «7»

وأما كيفية إخراج دهنه

وأريحا «1» ؛ وأجوده اليمنىّ والحجازى؛ وأجود حبّه ما كان قشره يضرب الى السّواد؛ وأمّا الأبيض القشر فإنّه ردىء، يعرض له الفوران عند طبخه. وأمّا كيفيّة إخراج دهنه - فإنّه يؤخذ هذا الحبّ فيطحن فى أرحية معدّة له، ثم يجعل فى قدر نحاس كبيرة تسع عشر كيالج وأكثر بالكيلجة «2» الشاميّة، ومقدار كلّ كيلجة ثمن «3» إردبّ بالكيل المصرىّ، ويكون الحبّ المطحون قد ملأ ثلثى القدر ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، وزيادة أربع أصابع مفتوحة، ويوقد تحته بالحطب الجزل «4» حتّى يغلى، فيطبخ نصف يوم، وكلّما نقص الماء يزاد، حتى إذا انتصف النّهار يقطع عنه الوقود، ويترك حتّى يبرد، ثم يلقط ما طلع فوقه من الدّهن ويجمع فى آنية حتى لا يبقى من الدّهن شىء؛ فهذا استخراج حبّ البان. وأمّا كيفيّة [طبخه «5» ] بالأفاويه حتى يصير بانا مرتفعا - فمنه كوفىّ ومنه مدنىّ.

أما الكوفى

أمّا الكوفىّ - فقال أحمد بن أبى يعقوب مولى ولد العبّاس فيه: يؤخذ الدّهن المستخرج من حبّ البان، فيجعل فى قدر برام «1» كبيرة، ويطبخ بمثله من الماء الصافى، ولا يزال يطبخ أيّاما، وكلّما نشف الماء نقل إلى قدر أخرى، ويصبّ عليه من الماء الصافى نظير الدّهن، ويطبخ حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن؛ يفعل ذلك به ثلاث مرّات؛ ثم يطبخ بالماء الصافى والورد الذى لم يتفتّح ثلاثة أيّام؛ ثم يطبخ بالماء والصندل الأصفر المقاصيرىّ المخروط أيّاما ثلاثة حتّى تذهب عنه رائحة الدّهن؛ ثم يطبخ بالعود الهندىّ السّنّ والماء الصافى يومين أو ثلاثة ثم يطبخ بسكّ المسك المنصّف المسحوق بماء الورد يوما، وهذا الطبخ الّذى بالسّكّ وماء الورد يسمّى: النّشّ، ويسمّى بانه: البان المنشوش. قال: ثم ينزل ويصفّى، ثم ينشّ بعد طبخه بالسّكّ وماء الورد بالمسك التّبّتىّ المسحوق المحلول بماء الورد الجورىّ نشّا جيّدا حتّى ينشف عنه ماء الورد، ويأخذ البان قوّة المسك. وأمّا البان المدنىّ - فإنّ أهل المدينة يطبخونه بالأفاويه الطيّبة مثل

السّليخة «1» والسّنبل «2» والقرنفل والكبابة «3» والهرنوة «4» والصّندل الأصفر المخروط، وسنّ العود

صنعة بان آخر

الأسود، يطبخونه بكلّ واحد من هذه الأصناف أيّاما مع الماء الصافى؛ ثم يبرّد ويطبخ بالصّنف الآخر حتّى ينتهى- على ما نصفه إن شاء الله [تعالى]- إلّا أنّ هذا الدّهن لا يصلح للغوالى، لأنّه يتغلّب على روائح العنبر والمسك بروائح الأفاويه وحدّتها، فلا تستعمله الملوك إلّا أن تدهن به أيديها فى الشتاء، وتستعمله النساء فى أطيابهنّ وخمرهنّ. صنعة بان آخر - قال التّميمىّ فيه: هذا بان ركّبته أنا، واخترعته رأيا من ذات نفسى، فجاء غاية فى الطّيب؛ وهو أن ينقّى من حبّ البان البالغ فى شجره ما كان قشره يضرب إلى السواد، فتنقّى منه مقدار ما يخرج لك من الدّهن زيادة على ثلاثين منّا، وذلك يخرج من مائة منّ من الحبّ البالغ إذا طحن وطبخ وأحكم طبخه- على ما قاله أبو عمران موسى اليهودىّ المعروف بالبانىّ «1» . وقال أبو سعيد اليهودىّ العطّار- وكان عالما بعمل البان وعلاجه وطبخه-: إنّ الكيلجة الفلسطينيّة تخرج منا «2» من الدّهن، وكلّ كيلجة وربع نصف ويبة بالكيل المصرىّ والويبة سدس إردبّ، فتجعل من الثلاثين منا عشرين منا أوّلا، وعشرة أمناء ثانيا. قال: فاذا حصّلت من حبّ البان ما يخرج لك ذلك، وطحنته، وجمعت

دهنه كما تقدّم، تعمد الى قدر برام «1» لم يدخلها شىء من الدنس، تسع أربعين منا- فتصبّ فيها من دهن البان عشرين منّا بعد أن يجلس «2» ، وتصفّيه؛ ثم تعمد الى منوين من السّليخة «3» الحمراء تكون قضبانا دقاقا، فتغلى لها من الماء فوق غمرها، وتصبّه عليها فى إناء غضار «4» أو صفر، وتكمر «5» الإناء ليرجع بخار الماء اليها وتتركها منقوعة يوما وليلة، أو يومين. ورأى أبو سعيد أن تغلى على النار بعد نقعها ثم يصفّى ماء السّليخة على دهن البان، وتعاود بماء ثان فتغلى به أيضا حتى تخرج قوّتها، وتصفّيه على دهن البان أيضا، وتطبخه حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن فترفعه فى قراريب «6» بعد ترويقه؛ ثم تعمد إلى السّليخة فتغمرها بماء ثالث «7» ، وتطبخها به

طبخة خفيفة لتستخرج قوّتها، ثم تصفّيها، وتطبخ بالماء الّذى يخرج منها العشرة «1» أمناء البان الثانية، وتعزلها فى قراريب «2» مفردة؛ فإن كانت السّليخة قد ضعفت بعد استخراجك منها الماء الأوّل فقوّها بنصف منّ آخر لتطيّب به العشرة أمنان الثانية؛ وكذلك تفعل فى كلّ نوع من الأنواع التى نذكرها إذا استخرجت ماءه الأوّل ورأيته يضعف عن أن يطيّب البان الثانى فقوّه بشىء منه طرىّ، ثم تنقع من السّليخة» الحمراء التّفّاحيّة المنسوفة منّا ونصف منّ فى ماء حارّ يوما وليلة، ثم تغليه وتصفّيه على العشرين منّ «4» بان المطبوخة بالسّليخة فى القدر، ثم صبّ عليه من الماء ما تكمّله به حتى يصير الماء نظير الدّهن، واطبخه على الرسم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن فأعده فى قراريبه، ثم انقع السّليخة أيضا فى ماء ثان، وقوّها إن ضعفت، واطبخ بها العشرة أمناء الدّهن الثانية كما تقدّم؛ ثم برّده، وأعده فى قراريبه؛ ثم خذ من قرفة «5»

القرنفل الحارّة الذّكيّة منوين فدقّهما تهشيما، ثم اغل لهما عشرين منا من الماء وصبّه عليهما، واكمره «1» بالغطاء يومين وليلتين، ثم اغله بهما غلية واحدة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه نصف يوم حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده، وأوعه وأحكم سدّه، وانقع القرفة أيضا بماء حارّ، وقوّها بربع منّ، ودعها يوما وليلة ثم اغلها، وصفّ ماءها على البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأعده إلى ظروفه، وأحكم سدّها. قال: فإن أحببت أن ترفعه بالقرنفل- وهو أفضل-، فخذ من القرنفل الجيّد

الحبّ المنسوف نصف منّ، فهشّمه، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه وهو حارّ، وغطّه يومين وليلتين، ثم صفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به وافعل فى طبخه نحو ما تقدّم؛ وانقع القرنفل المسلوق فى سبعة أمناء من الماء الحارّ ثم اغله، واطبخ به البان الثانى كما تقدّم؛ ثم خذ من البسباسة «1» الحمراء نصف منّ فانقعها فى عشرة أمنان من الماء الحارّ يوما وليلة، وصفّ الماء على البان، واطبخه به كما تقدّم، وافعل فى البان الثانى كما تقدّم، ثم يطبخ بماء الورد بعد البسباسة؛ ثم خذ من الورد الفارسىّ الأحمر المنقّى من أقماعه منوين، واغل لهما من الماء الصافى عشرين منا، وصبّها عليهما، واكمره بما يردّ بخاره فيه، ودعه فيه يومين ثم صفّه على البان الأوّل من غير أن تغليه، واطبخه به على الرسم، وصبّ على الورد عشرة أمناء من الماء الحارّ، وقوّه بنصف منّ من الورد الطرىّ، وصفّه على البان

الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من السّنبل «1» العصافير الجيّد منا واحدا، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليه، واكمره بما يردّ بخاره فيه يومين؛ ثم اسلقه سلقة خفيفة، وصفّه على البان الأوّل، واطبخه على الرسم، وقوّ السّنبل بثمن منّ وانقعه يوما وليلة فى ثمانية أمنان من الماء؛ واغله على النار، وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الهرنوة «2» منّا وربع منّ فهشّمه «3» ، واغل له من الماء عشرين منا، وصبّه عليها «4» ، واكمره حتّى ينعكس بخاره اليها، واتركه يومين وصفّه على البان الأوّل، واطبخه به؛ ثم قوّ الهرنوة بثمن منّ منها، وانقعها فى عشرة أمناء من الماء الحارّ؛ وصفّه على البان الثانى، واطبخه به كما تقدّم؛ ثم خذ من الصّندل الأصفر المقاصيرىّ «5» الدّسم منا وأوقيّتين، واخرطه خرطا رفيعا على نطع واجعله فى سفن «6» ، واغل له عشرين منا ماء، وصبّه عليه، واكمره يومين وليلتين، ثم اغله به، وصفّه على البان الأوّل فى القدر، واطبخه به حتّى ينشف الماء، وبرّده، وأعده إلى ظروفه؛ ثم قوّ الصّندل بأوقيّتين، وانقعه يوما وليلة واغله؛ ثم صفّه على البان الثانى، واطبخه به نحو ما تقدّم؛ ثم خذ من العود

الأسود السّنّ نصف منّ أو ثلثى منّ إن أحببت فانقعه فى الماء الحارّ، واتركه فيه ثلاثة أيّام وثلاث ليال، ثم اغله على النار، وصفّه على البان الأوّل، وثنّ العود وثلّثه بالماء الحارّ والغليان، واجمع ماءه الثانى والثالث، وصبّهما على البان الأوّل واطبخه بالمياه الثلاثة حتى ينشف الماء ويبقى الدّهن، ثم برّده وأعده إلى ظروفه ثم اغل العود بخمسة أمناء ماء غليانا جيّدا، واطبخ به البان الثانى حتّى ينشف الماء ويبقى الدّهن، فبرّده وأودعه فى ظروفه. قال: فهذا البان الأوّل الذى لا بعده، والثانى الذى دونه، ولم يبق إلّا نشّه «1» بالمسك وسكّ المسك، على ما نصف إن شاء الله تعالى. قال التّميمىّ: ورأيت أبا سعيد العطّار يؤثر أن يهشّم القرفة والقرنفل والهرنوة، ويجمع ذلك مع السّنبل فى إناء كبير، ويصبّ عليه من الماء الحارّ ثلاثين منّا، وينقعه فيه يومين وليلتين، ثم يصفّى ويعزل، ويصبّ على الأفواه «2» ماء حارّا عشرين منّا، ويصفّى على الماء الأوّل فى سفن «3» ؛ ثم يطبخ به البان الأوّل فى ثلاث سقيات وهو على النار، كلّما نشف ثلث الماء صبّ عليه الثلث الآخر فإذا انتهى يبرّد ويوعى فى ظروفه حتى تثنّى الأفواه بماء ثان للبان الثانى، وتطبخ به على الرسم.

وقال: هذا أروح وأخفّ مؤونة من تكرار الطبخ بكلّ نوع على حدته إلّا الصّندل والعود، فإنّه لابدّ من طبخهما بماء، كلّ منهما على الانفراد. قال: ورأى سعيد بن عمّار البانىّ وأبو عمران بن الحارث البانىّ أن يطبخ البان بالماء والأفاويه جميعا بعد نقعها، ولا يصفّى الماء عنها. وقالا: طبيخه بالأفاويه مع الماء أقوى له، لأن «1» البان ينمحق «2» فى الأفاويه. وقال سعيد بن عمّار: تسلق الأفاويه بعد إخراجها من البان، كلّ صنف منها على انفراده، ويؤخذ ماء كلّ صنف منها على حدته، ويترك بما بقى فيه من البان ويعجن به السّكّ «3» كما ذكرناه قبل. قال التّميمىّ: وأنا أرى عجن السّكّ بأفواه «4» قويّة منقوعة خيرا وأفضل. وقال: عرضت هذه النّسخة «5» التى اخترعتها- وهى الّتى تقدّم ذكرها- على أبى عمران موسى بن الحران البانىّ فعجب من ذلك، وقال: والله إنّ هذه الطريق لطريقى فى عمل البان وطريق كلّ حاذق، ما عدوت منها شيئا، وما كنت أظنّ أحدا يصل إلى علم مثل هذا من عند نفسه من غير أن يأخذه عن صانع؛ [والله أعلم] .

صفة نش البان على رأى ابى عمران البانى

صفة نشّ «1» البان على رأى ابى عمران البانىّ قال أبو عمران: إذا أردت (نشّ) البان فاسحق للعشرين منّا منه بعد أن يبرد ويجلس «2» من المسك التّبّتىّ مثقالين، ومن سكّ المسك المرتفع أربعة مثاقيل وانخلهما بحريرة، واعجنهما بماء ورد، ثم حلّهما بماء الورد بعد عجنهما حتى يصيرا مثل الحساء، وصبّهما على البان «3» الذى تريد نشّه فى قدر جديدة معدّة للنّشّ واجعله على الكانون الذى يسمّونه (نافخ نفسه «4» ) ، أو غيره، وأوقد تحته بنار فحم، وحرّكه بقصبة فارسيّة دائما وهو يغلى حتى ينشف ماء الورد، وعلامة ذلك أن يعلق المسك والسّكّ برأس القصبة مثل الشّمع أو مثل الغالية، فأنزله عند ذلك عن النار واتركه حتّى يبرد، وارفعه. وأمّا نشّه على ما ورد فى كتاب «5» العطر المؤلّف للمعتصم بالله- فهو أن تأخذ من البان الأصلىّ الأوّل الجيّد رطلين، فتجعلهما فى طنجير برام جديد لم يدخله شىء غير البان، ثم خذ لهما من السّكّ «6» المثلّث المرتفع أوقيّة، ومن العود

وأما دهن الزنبق وما قيل فيه

الهندىّ أوقيّة، واسحق كلّ واحد منهما، وانخله بحريرة، ثم اعجنهما بماء الورد حتّى يصيرا أرقّ من الحساء المصنوع من الدقيق، وصبّهما على البان فى الطّنجير وارفعه على نار ليّنة حتى يغلى غليانا رفيقا وأنت تحرّكه دائما بأنبوبة قصب فارسىّ حتّى ينشف ماء الورد، ويعلق السّكّ والعود برأس الأنبوبة، فأنزله حينئذ عن النار، ودعه حتّى يبرد، وصفّه فى إنائه، ثم انزع ما فى أسفل الطّنجير من السّكّ والعود بزأس سكّين، أو بملعقة من حديد، واعزله لعمل الغالية؛ ثم اغسل الطّنجير غسلا جيّدا، وجفّفه، وأعد اليه البان الّذى نششته بالسّكّ والعود، واسحق للرّطلين من المسك أوقيّة، ومن العنبر الشّحرىّ أوقيّة، وانخل المسك بحريرة صفيقة، والعنبر بخامة «1» ، ثم اجمعهما على الصّلاية، واسحقهما جميعا، ثم حلّهما بماء الورد مثلما حللت السّكّ والعود، وصبّهما فى الطّنجير على البان، وارفعه على نار ليّنة، وأدم تحريكه بأنبوبة القصب. ولا تغفل عن تحريكه، وتكون ناره الآن ألين من النار الأولى التى نششت بها السّكّ والعود، فاذا نشف ماء الورد وتعلّق المسك برأس القصبة، فأنزله عن النار، وبرّده، وارفعه. قال: ونشّ على أثره بما بقى فى الطّنجير من ثفل «2» المسك والعنبر بانا ثانيا يكون دون الأوّل. وأمّا دهن الزّنبق «3» وما قيل فيه - فمنه أصلىّ خالص، ومنه مولّد؛ فأمّا الخالص فمعروف، ولم أقف على كيفيّة عمله فأذكرها.

وأما المولد

وأمّا المولّد - فقد ذكره التّميمىّ، ونقله عن الكتاب المؤلّف للمعتصم فقال: تأخذ من الشّيرج الرائق منّا، فتصبّه فى طنجير برام «1» ، ثم تأخذ من ورد النّسرين «2» أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم «3» غير المفروك وورقه من كلّ واحد منهما أوقيّة، ومن بزر النّسرين نصف أوقيّة، ومن زهر الياسمين الأبيض الطرىّ الغضّ لقاط يومه نصف رطل، ومن بزر الورد الأحمر الطرىّ نصف أوقيّة، ومن قضبان قلوب «4» شجر البلسان «5» الطريّة خمسة قضبان أو ستّة، وإن تعذّرت الطرية فخذ من لحائه الجافّ

أوقيّة ونصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة؛ واقسم هذه الأصناف وانقعها فى ماء ورد ونضوح وماء ريحان مصعّد من كلّ واحد نصف رطل، واتركها يوما وليلة منقوعة، ثم ألق ذلك على الدّهن مع الياسمين الطرىّ الأبيض، ثم ارفعه على نار ليّنة، وحرّكه بشقّة قنا حتى تنشف المياه الّتى نقعت فيها الأصناف، فأنزل الطّنجير عن النار، وأحكم تغطيته لوقته، واتركه إلى الغد، ثم صفّ الدّهن عن الثّفل، فاذا برد فألق على كلّ منّ من هذا الدّهن رطلا من الزّنبق المصرىّ الجيّد ثم بعه على أنّه زنبق خالص. قال: وإن شئت فخذ من دهن الشّيرج الرائق العتيق، واجعله فى دستجة «1» ، وألق على كلّ رطل منه فى بكرة النهار الأوّل من زهر الياسمين الطرىّ الأبيض الّذى لا نداوة فيه أوقيّة، وسدّ رأسه «2» ، واجعله طول النّهار فى شمس حارّة؛ ثم افتحه من الغد، وألق عليه من الياسمين نصف أوقيّة، ودرّجه فى كلّ يوم بنقصه «3» درهما حتّى يبقى وزن درهم، فألقه فيه فى كلّ يوم إلى تمام أربعة عشر يوما، ثم اقطع عنه الياسمين، ودعه أربعة عشر يوما فى الشمس حتّى ينطبخ؛ فإذا انضمّ الزّهر الذى ألقيته فى الدّهن، فألق عليه فى كلّ يوم وزن درهم أو درهمين من زهر الياسمين سبعة أيّام، ثم دعه سبعة أيام، وألق عليه سبعة أيّام، ثم اقطع الإلقاء عنه ودعه فى الشمس تمام ستّين يوما حتّى يجفّ الزهر؛ ثم صفّه على شقّة غربال وخذ ما صفا منه فأودعه القوارير، وأحكم سدّها؛ فهذا زنبق غاية لا بعده.

وأما دهن الحماحم [وما قيل فيه]

وأمّا دهن الحماحم «1» [وما قيل فيه «2» ] - فقال محمد بن العبّاس: يؤخذ من رءوس الحماحم السّود أوّل ما تظهر قبل أن تبرز، ومن ورقه «3» الصغير الأخضر الذى يجنى منه، فيعزل، ويؤخذ تور «4» حجارة، أو برمة جديدة، تغسل غسلا جيّدا ويصبّ فيها قدر رطل ماء ورد جورىّ، ويطرح فيه الحماحم والورق مع عشرين حبّة من حبّ القرنفل الزّهر، ويصبّ على ذلك من دهن الخيرىّ «5» الكوفىّ الفائق والزّنبق السابورىّ لكلّ عشرة رءوس من الحماحم الضخمة رطل من الخيرىّ والزّنبق ثم اغله بنار فحم لينة حتّى ينضج الحماحم؛ ثم خذ مثقال عود هندىّ مسحوق ومثله من السّكّ «6» المرتفع، ونصف مثقال من الكافور، ووزن دانق «7» من المسك

وأما دهن الخيرى

يعجن ذلك بزنبق، ويبخّر، ويقلّب بعد كلّ ثلاث بندات «1» ، ثم يصفّى الدّهن من فوق الحماحم؛ وتعصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الدّهن، ثم صبّ الدّهن على الأفاويه المبخّرة، ويحرّك فى باطية، ويترك أربعة أيّام حتّى يصفو؛ ثم تبخّر قارورة نظيفة بسكّ وكافور وعود؛ ثم صبّ فيها الدّهن، وحلّ فيه من المسك ثلث مثقال أو أكثر فإذا أردت استعمال شىء من الدّهن فحرّك القارورة. ومن أحبّ أن يزيده دهنا مبخّرا ويفتقه «2» بشىء من كافور فعل. وأمّا دهن الخيرىّ «3» - فمنه أصلىّ، ومنه مولّد: فأمّا الأصلىّ الخالص فلم أقف على كيفيّة عمله. وأمّا المولّد - فقد ذكره التّميمىّ عن الكتاب المؤلّف للمعتصم، فقال: تأخذ من الشّيرج الصافى منّا فتصبّه فى طنجير «4» برام، وتأخذ له من بزر الحماحم وزن ثلاثة

دراهم، ومن بزر الأفرنجمشك «1» خمسة دراهم، ومن ورقه عشرة دراهم، ومن ورق الحماحم وقلوبه «2» ستّة عشر درهما رطبا كان أو يابسا، ومن بزر الخيرى «3» الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ النقىّ من خضرته من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن بزر الخيرىّ الأصفر أربعة دراهم، ومن ورق الورد الأبيض ربع أوقيّة، ومن قلوب «5» الأترجّ الورق الرّطب وورده المفتّح وورد النارنج الطرىّ وقشره من كلّ واحد

نصف أوقيّة، ومن قلوب النّمّام «1» الطرىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر ربع أوقيّة؛ يرضّ الصّندل مع ما كان من الأوراق اليابسة والبزور، وينقع بماء الورد وبماء زهر الخيرىّ «2» المصعّد يومين، وتلقى الأزهار والأوراق وماء الورد والخيرىّ المنقوع فيه على الدّهن، ويوقد تحته «3» بنار ليّنة، وأنت تحرّكه تحريكا مستمرّا بشقّة قنا، حتى إذا علمت أنّ الدّهن قد قبل روائح ما استودعته، أنزلت الطّنجير وغطّيته ليلة ثم تصفّى الدّهن فى القوارير، وإن شئت خلطته بدهن خيرىّ فجعلت على المنّ منه من هذا الدّهن رطلا، أو على الرّطل منه منّا، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب؛ وقد يباع هذا الدّهن مفردا بسعر الخيرىّ الخالص. قال: وإن أردت أن تجعل منه غير مطيّب، فخذ الشّيرج واجعله فى قارورة، وألق على كلّ رطل من الشّيرج أوقيّة ونصفا من زهر الخيرىّ الخمرىّ والاسمانجونىّ «4» الطرىّ الّذى لقط عند غروب

وأما دهن التفاح وما قيل فيه

الشمس، وتلقيه فيه من أوّل الليل، ثم تعلّق القارورة فى بئر ماء عشرة أيّام، ثم تجعلها فى الشمس عشرة أيّام، وتضع فيه فى كلّ عشيّة من زهر الخيرىّ «1» الاسمانجونىّ «2» والخمرىّ لقاط وقته «3» فى كلّ «4» يوم وزن ثلاثة دراهم، ثم يعاد الى البئر عشرة أيّام؛ ثم يخرج ويعلّق فى الشمس، ويجدّد «5» له زهر كرّة «6» ثالثة، ويترك فى الشمس حتّى يجفّ ورقه، ويصفّى بمنخل فيأتى دهن خيرىّ يضرب المثل بطيبه «7» ؛ والله أعلم بالصواب. وأمّا دهن التّفّاح وما قيل فيه - فأجوده ما ألّفه التّميمىّ فقال: تأخذ من دهن الخيرىّ ودهن الورد من كلّ واحد نصف منّ» ، فتخلطهما فى ظرف وتأخذ من ورق الآس الغضّ ما أحببت، فتدقّه بشىء من الماء القراح، وتستقطره

فى قابلة «1» ، وتأخذ مما قطر منه زنة مائة درهم، ومن ماء الزعفران المصعّد «2» خمسين درهما، وتخلطهما فى برنيّة، وتصبّ عليهما من ماء الورد ثلاث أواقىّ، وتدقّ من المحلب المقشّر مائة درهم، وتعجنه بنصف أوقيّة ميعة حمراء سائلة عجنا شديدا وتعزله، ثم تأخذ من قشور التّفّاح الشامىّ البالغ الطرىّ رطلا فتلقيه فى المياه وتغليها عليه، ثم تمرسه مرسا جيّدا، وأنزله عن النار، ثم ألق فيه أوقيّة من فاغية «3» الحنّاء وجرزة من ورق النّمّام «4» الطرىّ، وتلقى المحلب المعجون بالميعة فى الدّهن وتضربه به ضربا جيّدا، وتسحق له من القرنفل مثقالين، ومن السّنبل مثقالين وتنخل ذلك، وتضيف اليه أوقيّة ذريرة «5» ممسّكة مفتوقة، وتعجن الجميع بنضوح عتيق، وتخمّره يومين فى باطية بالعود والكافور، وألقه فى الدّهن الّذى حللت فيه

وأما الأدهان المركبة العطرة

المحلب، واضربه به، ثم اقلبه على المياه الّتى فيها قشور التّفّاح والفاغية والنّمّام «1» وأحكم سدّ رأس الإناء، وضعه فى شمس حارّة سبعة أيّام، وحرّكه فى كلّ يوم ثم ارفعه بعد الأسبوع فى طنجير على نار ليّنة، واطبخه حتّى ينشف الماء، ثم برّده واقطف الدّهن فى ظرف مبخّر، وافتقه «2» بمسك وكافور من كلّ واحد سدس مثقال؛ فهذا دهن التّفّاح الفاخر. وأما الأدهان المركّبة العطرة - فقد ذكر منها التّميمىّ وغيره كثيرا؛ وقد اقتصرنا منها على أطيبها وأجودها وأعطرها. فمنها دهن ألّفه التّميمىّ فجاء غاية، وسمّاه: الدّهن الفيح «3» ، تعمل منه غالية رفيعة. قال: وهذا الدّهن يفوق البان طيبا، وتدهن منه فى الشتاء الأطراف والوجه فيفوق كلّ دهن طيّب؛ تأخذ من دهن الورد الفارسىّ الطرىّ ثلاث أواقىّ، ومن الزّنبق السابورىّ الرّصافىّ «4» أو المصرىّ أوقيّتين، ومن دهن البنفسج أوقيّتين، ومن دهن الخيرىّ أوقيّتين، ومن البان المنشوش «5» بالمسك أوقيّتين، ومن دهن النرجس أوقيّة؛ تجمع هذه

الأدهان فى خماسيّة «1» ، ثم تأخذ من العود الجيّد الفائق وزن درهم ونصف، ومن الصّندل الأصفر المحلول بماء الورد المخمّر بالزّهر والنّمّام «2» وزن درهم، ومن السّكّ المرتفع وزن درهم، ومن زهر القرنفل الذكىّ نصف مثقال، ومن الهرنوة «3» مثل ذلك ومن السّليخة «4» التّفّاحيّة وزن درهم، فتدقّ ذلك وتسحقه، وتنخله بحريرة، ثم تضيف إلى هذه الأصناف من الزّعفران القمّىّ «5» المسحوق وزن دانقين، ومن الكافور الرّياحىّ «6» نصف مثقال، ومن المسك ربع مثقال، ومن النّدّ مثقالا، تسحق المسك والنّدّ وتضيف اليهما الكافور بعد سحقه على الانفراد والزّعفران؛ ثم تعجن الجميع بشىء من الدّهن، وتقطّر فيه من دهن البلسان «7» زنة دانق، ومن دهن الأترجّ زنة دانقين وتضربه ضربا جيّدا، ثم تخلطه بالدّهن، وتضربه به حتّى يختمر، وتقيم سبعة أيّام تضربه كلّ يوم، وتبخّره فى السبعة أيّام إحدى وعشرين بندة برمكيّة رفيعة، وبمثلها

صنعة دهن آخر من الكتاب المصنف للمعتصم بالله

من العود الصّرف، وبمثلها من العود والكافور، وتضربه بالبخور والثّفل الّذى فيه ضربا جيّدا فى كلّ مرّة تبخّره، فإنّه يأتى عجبا فى الطّيب والذّكاء؛ فإن أحببت رفعه فحلّ له نصف مثقال من العنبر الأزرق بشىء منه، وألق فيه ربع مثقال من المسك المسحوق؛ واضربه به حتى يصير مثل الغالية؛ ثم صبّه عليه، وأنعم ضربه، فإنّه يرفعه ويطيّبه. صنعة دهن آخر من الكتاب المصنّف للمعتصم بالله تأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن السّنبل مثقالا، ومن الصّندل الأصفر مثقالا، ونصف مثقال من الورد؛ يدقّ ذلك، ويخمّر بمثقال من سكّ «1» مسك محلول بماء الورد، مرفوع على النار، فتخمّره به ليلة، ثم يسحق حتّى يجفّ بالسّحق وينخل بحريرة، ويعجن بزنبق «2» سابورىّ مرتفع، ويدخّن بمثلّثة «3» ، ثم تهضمه «4» بعود وكافور، ثم يفتق بما أحبّ صاحبه من مسك وعنبر، ويؤخذ له من دهن الخيرىّ العراقىّ نصف رطل، ومن دهن الزعفران نصف رطل، ومن البان نصف رطل منشوش «5» ؛ تجمع هذه الأدهان فى إناء، وتبخّرها بالعود والكافور، ثم اخلطها

صنعة دهن آخر يسمى دهن السيدة

بالمعجون المبخّر، واضربها به ضربا جيّدا، واستودعه القوارير، وافتقه بما أحببت من مسك وعنبر. صنعة دهن آخر يسمّى دهن السيّدة تأخذ من الزّنبق «1» من الزّنبق الرّصافىّ المرتفع ثلاث أواقىّ، ومن دهن الورد الفارسىّ أوقيّة ونصفا، ومن دهن الخيرىّ «2» الخالص أوقيّة، تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى إناء واحد، ثم تأخذ لها من الهرنوة «3» وزن درهمين ونصف، ومن القرنفل الزّهر مثل ذلك، ومن الكبابة «4» درهمين، ومن جوزبوا «5» مثل ذلك

صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنا بن ماسويه

وبسباسة «1» درهما، وزعفرانا درهما، ومن الكافور ثلث مثقال، تسحق الأفواه سحقا جيّدا، وتعجن بقليل من الدّهن، وتلطّخ فى باطن برنيّة، ويبخّر الدّهن بالعود والكافور، ثم تصبّه فى البرنيّة على الفتاق «2» المبخّر، وتضربه به ضربا جيّدا، وتطرح فيه ثلاثة قلوب من قلوب الأترجّ، وإن قطّرت فيه وزن نصف درهم من دهن الأترجّ أغناك عن قلوب الأترجّ وجاء أطيب، فإذا برد وجلس «3» فصفّ الدّهن واستعمله على انفراده، ويؤخذ ثفله فيعمل فى غمر» الحمّام، فإنّه يكون عطرا طيّبا. صنعة دهن آخر صنع للمأمون من كتاب يوحنّا بن ماسويه تأخذ من الزّنبق السابورىّ خمسين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ الرفيع مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ «5» الرفيع مثله؛ تجمع الأدهان الثلاثة فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة رحبة الفم، ثم يؤخذ من الورد خمسة مثاقيل، ومن الصّندل المقاصيرىّ «6» الأصفر خمسة مثاقيل، ومن القاقلّة مثقال، ومن الكبابة «7» مثقال، ومن القرنفل مثقال؛

يدق ذلك وينخل، ويعجن بزنبق «1» سابورىّ عجنا يابسا، ويبسط فى باطية أو قدح زجاج أو برنيّة بسطا رقيقا، وتبخّره بعود صنفىّ «2» وكافور رياحىّ «3» وسكّ «4» مسك فائق ثلاثة أيّام فى كلّ يوم ثلاث بندات «5» بالغداة، وثلاث بندات بالعشىّ؛ فاذا أردت أن تصبّ عليه الدّهن فبخّره أيضا بنصف مثقال عود هندىّ، ونصف مثقال كافور رياحىّ، ونصف مثقال عنبر؛ تجمع ذلك جميعا، وتقطّع عليه من الزعفران الشّعر زنة دانق؛ ثم تبخّر بجميعها الأفاويه الّتى عجنتها فى برنيّة رحبة ضيّقة الفم ثلاث «6» تبخيرات، ثم تبخّر الدّهن على انفراده سبع بندات بالعود والكافور، وتصبّه على إثر تبخيرك للفتاق الممسّك فى البرنيّة، وتسدّ رأسها، وتضرب الدهن فيها بالفتاق حتّى ينحلّ به ويمتزج، وتسدّ رأس البرنيّة على الدّهن والثّفل سدّا جيّدا حتّى يبرد «7» ؛ ثم أفرغ الدّهن

فى قدح، وبخّر البرنيّة، وأعد الدّهن اليها، تفعل ذلك حتى ينفد ما أعددته للتبخير من العود والعنبر والكافور والزعفران، فاذا فرغ ذلك فحلّ الأفاويه المبخّرة فيه، وحرّكها به حتّى تختلط به، ودعه يومين وليلتين، ثم صفّه عن الأفاويه، وارفعه فى قارورة ضيّقة الفم، وأحكم سدّها، ثم صبّ على الثّفل الذى صفّيت عنه الدّهن من الزّنبق «1» السّابورىّ ثلاثين درهما، ومن دهن الورد الفارسىّ مثل ذلك، ومن دهن الخيرىّ الكوفىّ مثل ذلك بعد أن تجمع هذه الأدهان الثلاثة فى برنيّة، وتبخّرها بالعود والكافور حتّى تشبع؛ ثم تصبّها اذا برد بخورها على الثّفل، وتضربها به ضربا جيّدا، وتحرّكه تحريكا جيّدا سبعة أيّام، فى كلّ يوم ثلاث مرّات؛ فإذا أردت رفعه ألقيت فيه زنة درهم من الزعفران المطحون، وزنة دانق ونصف من الكافور الرّياحىّ «2» المسحوق، وزنة دانق من المسك المسحوق، وزنة درهم من العنبر المحلول على النار بشىء منه وتضربه بذلك ضربا جيّدا؛ ثم تصفّى الدّهن الثانى عن الثّفل فى قوارير، وتحكم سدّ رءوسها، ويؤخذ الثّفل ويستعمل فى لخالخ «3» الحمّام، فإنّه نهاية؛ والله أعلم.

صنعة دهن برمكى مبخر من كتاب يوحنا بن ماسويه

صنعة دهن برمكىّ مبخّر من كتاب يوحنّا بن ماسويه تأخذ من البان الرفيع ثلاثين درهما، ومن الزّنبق السابورىّ مثله، ومن دهن الورد الفارسىّ مثله، وتأخذ من العود الهندىّ أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر أوقيّة ومن جوزبوا «1» أوقيّة، ومن القرنفل الزّهر أوقيّة، ومن الهرنوة «2» أوقية، ومن البسباسة «3» نصف أوقيّة، ومن السّكّ «4» المرتفع الأوّل أوقيّة، ومن المسك ثلاثة مثاقيل، ومن العنبر مثقالين؛ تدقّ جميع الأفواه كلّ واحد على حدته، وتنخل بحريرة، ويحلّ العنبر ببان الغالية، ويعجن به الجميع بعد أن يحلّ بزنبق سابورىّ عجنا يابسا، ويصيّر فى برنيّة رحبة الجوف واسعة الفم، ويبسط فيها بسطا رقيقا، ويبخّر يوما بالقسط «5» الحلو ويوما بالعود النّىء، ويوما بالصّندل الأصفر، ويوما بالزعفران، ويوما بالسّكّ الرفيع، ويوما بالعود، ويوما بالعود والكافور والعنبر؛ ثم يؤخذ من كل واحد منها نصف مثقال، ويقطّع ويبخّر؛ فإذا انتهى تبخيره فصبّ الدّهن عليه، وحرّكه فيه تحريكا جيّدا، واتركه يوما وليلة، ثم صفّ الدّهن عن الأثفال فى برنيّة قد بخرّتها بمثقال مسك ومثقال عنبر، ونصف مثقال كافور رياحىّ، وسدّ رأسها سدّا جيّدا؛ فهذا الدّهن البرمكىّ الرفيع الّذى اتخذه جعفر بن يحيى لهارون الرشيد؛ ثم تأخذ بعد ذلك من الزّنبق السابورىّ ودهن الخيرى الكوفىّ الرفيع ودهن الورد الفارسىّ من كلّ واحد خمسين درهما، فتصبّ ذلك على الأثفال، وتضربها به بعد أن تبخّرها بالعود

صنعة دهن آخر [كان] يعمل للعباس بن محمد

والكافور سبع مرّات، وتضرب الأثفال بها «1» فى قارورة نظيفة، وصفّه «2» عنها ويكون ذلك للّخالخ «3» ولشعور النّساء. والدّهن الثانى يلتحق «4» بالأوّل. قال التّميمىّ: وهذا الدّهن البرمكىّ يقوم مقام الغالية. صنعة دهن آخر [كان] يعمل للعبّاس بن محمّد يؤخذ من السّنبل ثلاثة مثاقيل، ومثقال من القرنفل، وثلاثة مثاقيل من براية العود الهندىّ، ووزن نصف درهم بسباسة «5» ، ووزن دانقين قاقلّة «6» ، ومثلها من المحلب «7» المقشّر؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل بمنخل صفيق، وتعجن بماء الورد الطيّب والزّنبق الخالص، وتبخّر بعود مطرّى سبع بندات «8» ، ثم يترك «9» حتّى يبرد

صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العباس

فاذا برد فاقلبه، ودخّنه سبع مرّات، ثم صبّ عليه رطلا من الزّنبق السابورىّ الخالص بعد تبخيره مفردا بالعود والكافور، وحرّكه «1» به، فاذا اختلط فدعه يوما وليلة حتى يجلس «2» ؛ ثم صفّه فى قارورة جديدة مبخّرة، وادّهن منه متى أحببت. صنعة دهن العنبر من كتاب ابن العبّاس تؤخذ قارورة ضيّقة الرأس، فيدهن باطنها بدهن، وتبخّر بعنبر قوىّ الرائحة حتّى تكمد وتسودّ من دخان العنبر؛ فإذا اسودّت فصبّ فيها قدر ثلثيها من دهن الخيرىّ «3» المفتوق «4» بالمسك، واضرب الدّهن فى القارورة ضربا جيّدا حتّى يختلط به ذلك السواد الذى اكتسبته القارورة من دخان العنبر؛ ثم يستعمل، فمن أحبّ تقويته حلّ مثقالا من العنبر بشىء يسير منه، ثم يضربه [به «5» ] ضربا جيّدا. وأمّا الأدهان الّتى تصلح الشّعور وتكثّرها وتبسطها «6» وتسوّدها وتذهب ما بها من الحاصّة «7» وتطوّلها وتقوّى أصولها - فمنها دهن متّخذ من حبّ القطن يكثّر الشّعور ويسوّدها ويذهب بالحاصّة ويصفّى اللون.

يؤخذ من لبّ حبّ القطن منوان، فيدقّ حتّى يصير مثل المحّ «1» [وتستخرج دهنه «2» ] كما تستخرج دهن اللّوز؛ فاذا استخرجت من دهنه منا «3» فصيّره فى طنجير برام «4» وخذ له من السّنبل «5» أوقيّة، ومن القرنفل نصف أوقيّة، ومن المرزنجوش «6» المجفّف نصف أوقيّة، ومن الصّندل الأصفر نصف أوقيّة، ومن القاقلّة «7» أوقيّة، ومن الورد الفارسىّ الأحمر أوقيّة، ومن بزر الشاهسفرم نصف أوقيّة، ومن بزر الافرنجمشك «8» نصف أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الإذخر «9» أوقيّة، ومن

السّعد «1» الكوفىّ المقشور وورد الأترجّ وورد النارنج ولبّ حبّ الأترجّ ولبّ حبّ الأترجّ المقشّر وبزر النّمّام وحبّ الآس الرّطب من كلّ واحد أوقيّة، ومن البلح الأحمر المنزوع النّوى إن كان رطبا فأربع أواقىّ، وإن كان يابسا فأوقيّة، ومن الشّير «2» أملج الأسود بعد دقّه ونخله

ثلاث أواقىّ؛ تجمع هذه الأصناف، وتلقى فى قدر، وتصبّ عليها من الماء غمرها وزيادة أربع أصابع، وتصب عليها أيضا من ماء الآس الأخضر رطلا، ومن النّضوح المعتّق منّا، وتنقع فى ذلك يومين وليلتين، ثم يصبّ دهن حبّ القطن عليها، وترفع على نار ليّنة، ويوقد تحتها برفق حتّى ينشف الماء، وتدخل روائح الأفاويه فى الدّهن؛ فإذا انتهى إلى هذا الحدّ فخذ من اللّاذن الرّطب نصف أوقيّة وحلّه على نار ليّنة بزنبق رصافىّ حتّى يصير مثل الغالية، وألق من الكافور سدس مثقال بعد سحقه، ومن المسك المسحوق قيراطين، وإن أحببت فسدس مثقال واضربهما جميعا فى اللّاذن المحلول بالزّنبق ضربا جيّدا، ثم أنزل الطّنجير عن النار وغطّه بطبق ينطبق على رأسه، وإن كان طبخه فى قدر نحاس فهو أجود وأمكن للتغطية، وألق فوق الطبق خشبة، ودعه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد الدّهن ويصفو ثم اقطعه عن الثّفل، واجعله فى إناء واسع، واضرب فيه اللّاذن المحلول والكافور والمسك ضربا جيّدا حتّى تختلط به؛ وان كان فاترا فهو أجود؛ ثم ارفعه فى قوارير مبخّرة، وأحكم سدّها، ودعه حتّى يختمر «1» ، ثم استعمله، فإنّه غاية فى الطّيب والنفع.

صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجود الشعر ويكثره ويذهب بالحاصة، وينفع شعر الرأس واللحية منقول من كتاب المعتصم

صنعة دهن يصنع من دهن نوى المشمش يجوّد الشّعر ويكثّره ويذهب بالحاصّة «1» ، وينفع شعر الرأس واللّحية منقول من كتاب المعتصم تعصر من دهن نوى المشمش منّا «2» ، وتدعه حتّى يروق ويصفو، ثم تأخذ له من المحلب «3» الأبيض المقشور والقرنفل وسكّ «4» المسك والبنك «5» والورد اليابس الأحمر والقاقلّة «6» والمرو «7» الأبيض والمرزنجوش «8» المجفّف والأفرنجمشك «9» المجفّف والشّاهسفرم «10»

المجفّف والصّندل الأصفر وورق الأترجّ المجفّف وورد الياسمين المجفّف والسنبل «1» العصافير والهرنوة «2» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ تدقّ هذه الأصناف، وتنخل نخلا جريشا «3» وتعجن بماء ورد ونضوح عتيق فى توربرام، وتصبّ عليها من ماء الورد غمرها وزيادة إصبعين؛ فإن كان الثلثان ماء ورد والثلث نضوحا كان أطيب، وتترك فيه يوما وليلة؛ فإذا أصبحت فألقه فى طنجير برام، وصبّ عليه أيضا من ماء الورد والنّضوح، وأوقد تحته، حتى إذا استحقّ صببت الدّهن عليه وأوقدت تحت الطّنجير وأنت تحرّكه دائما تحريكا شديدا حتى ينشف ماء الورد والنّضوح ويبقى الدّهن وحده؛ فأنزل الطّنجير عن النار، وصبّ عليه من ماء الآس الرّطب الّذى قد رششت عليه الماء ودققته وعصرته وروّقته بخرقة رطلا ونصفا؛ ثم أعده إلى النار، وأوقد تحته حتّى ينشف ماء الآس؛ ثم أنزله، وألق فيه قيراطين «4» من المسك المسحوق، وثلاثة قراريط من الكافور المسحوق، وحرّكه تحريكا جيّدا؛ ثم غطّه وغمّه بخشبة، واتركه بقيّة يومه وليلته حتّى يبرد ويصفو؛ ثم صفّه فى القوارير، وارفعه. قال التّميمىّ: وإن حللت فيه وهو حارّ نصف أوقيّة من اللّاذن الرّطب وفتقته «5» به زاد طيبا ونفعا للشّعر. وهذا الدّهن صنعته أنا بالقاهرة فى سنة خمس عشرة وسبعمائة فجاء غاية فى الطّيب والنفع.

صنعة دهن آخر يجود الشعر ويطوله ويكثفه ويقوى أصوله ويذهب بالحاصة، ألفته منه

صنعة دهن آخر يجوّد الشّعر ويطوّله ويكثّفه ويقوّى أصوله ويذهب بالحاصّة، ألّفته «1» منه يؤخذ من الإهليلج» الأسود والبليلج «3» وشير أملج «4» ونيلوفر «5» أصفر وأحمر مجفّفا

وخبث «1» الحديد، من كلّ واحد نصف أوقيّة؛ يدقّ ذلك وينخل، ويسحق بماء الآس الأخضر، ويربّب «2» حتى يصير عليه من ماء الآس نحو رطل؛ ثم يؤخذ من دهن الحلّ «3» الصافى الجيّد رطلان، ومن ماء البئر ستّة أرطال، ومن ماء ورق الآس رطل آخر؛ فيجمع ذلك فى قدر أو طنجير، وتوقد تحته وقيدا ليّنا وأنت تحرّكه دائما بإسطام «4» حديد صغير حتّى تعلم أنّ الماء قد نشف أو قارب أن ينشف، ثم تحلّ لذلك من اللاذن الرّطب أوقيّة بأوقية دهن رازقىّ «5» رصافىّ «6» على نار ليّنة، فاذا انحلّ

صنعة دهن فاغية الحناء يصلح لشعور النساء

فصبّه فى القدر على النار، واغله غلية حتّى تعلم أنّه قد بلغ ونشف ماؤه، ثم برّده «1» وصفّ الدّهن بخرقة حرير، واجعله فى قارورة، وتدهن منه فى كلّ مرّة بوزن درهمين، فإنّه نافع لما وصف. صنعة دهن فاغية «2» الحنّاء يصلح لشعور النّساء قال التّميمىّ: «هذا ممّا ألفّته» ، وهو أن تأخذ من دهن الحلّ «3» الطّرىّ المخلوع السّمسم غير المملوح، ومعنى المخلوع أن يسلق سمسمه بعد قشره وغسله وتجفيفه سلقة ليّنة، ويجفّف على مسح «4» فى الشمس، ولا يقلى، فإنّ المقلوّ لا يقبل روائح الأزهار، ولا يملّح فى سلقه بملح، فإنّ الملح يقطع روائح الطّيب؛ فإذا أخذت الدّهن فصيّره فى طنجير أو قدر حجارة، وألق فيه من فاغية الحنّاء فى أوّل يوم منّا، وفى اليوم الثانى نصف منّ، ودرّجه حتى تتمّ الفاغية ثلاثة أمنان، ويسخّن الدّهن فى كلّ يوم حتى يحمى حين تلقى عليه الفاغية، فاذا كملت فيه ثلاثة أمنان فآصبب عليه من ماء الآس المصعّد نصف منّ، ومن ماء الزعفران نصف منّ، ومن ماء الورد نصف منّ، ثم ارفعه على نار ليّنة حتّى تنشف المياه عنه ويبقى الدّهن؛

فاذا نشف الماء فأنزله، وغمّه بالغطاء، واتركه حتّى يبرد، واستخرج ما فيه من فاغية «1» بمصفاة؛ ثم اعصرها حتّى يخرج ما فيها من الدّهن بحريرة، وأودعه القوارير. ولم يذكر التّميمىّ مقدار الدّهن. وقال يوحنّا بن ماسويه فى صنعة دهن الفاغية: تأخذ من دهن الحلّ الطرىّ غير المملوح ثلاثة أرطال، فاجعلها فى طنجير أو قدر حجارة؛ وخذ لذلك من فاغية الحنّاء وقلوبه «2» زنة منوين فألقه فيه مفروكا، وإن كان يابسا فدقّه جريشا واصبب عليه من الماء ثلاثة أرطال، وارفع الطّنجير على نار ليّنة حتّى يذهب الماء ويبقى الدّهن، فارفعه فى قوارير. قال: وهو جيّد لشعور النساء، مصلح لها، جيّد للتّمريخ، يستعمله الرّجال والنساء؛ [والله أعلم] .

الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الرابع فى عمل النضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة

الباب التاسع من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى عمل النّضوحات والمياه المستقطرة وغير المستقطرة مثل ماء الجورين «1» ، وماء الصّندل، وماء الخلوق، وماء الميسوس وماء التّفّاح، وماء العنب، وتصعيد المياه فأمّا النّضوحات - فليس المراد بها فى هذا الباب النّضوحات الّتى تصنع للشّرب، بل المراد بها النّضوحات الّتى تدخل فى أصناف الطّيب. وقد ذكر التّميمىّ منها كثيرا، وهى غير متباعدة فى الأعمال، ولا متنافية فى المقادير؛ ثم اختار منها نضوحا، قال: إنّه ألّفه فجاء جيّدا، وهو: يؤخذ من التمر المنقّى من أقماعه، المنزوع النوى عشرون رطلا، فتنقع فى الماء يوما وليلة، ثم تطبخ فى قدر نحاس مؤنّكة «2» فإذا نضج التّمر فصفّ عنه ماءه من غير أن يمرس أو يمسّ؛ ثم يؤخذ من الاس الغضّ الطرىّ المخروط من عيدانه رطلان، فيدقّ دقّا جريشا، ويعجن بشىء من ماء التمر، ويبخّر بقسط مرّ وبراية عود وصندل وأظفار «3» خمسة أيّام، فى كلّ

يوم ثلاث بندات «1» بالغداة، وثلاثا بالعشىّ، وتقلّبه حتى يأخذ روائح البخور؛ ثم دقّه بشىء من ماء التمر، وألقه عليه، وارفعه على النار حتّى يذهب من الماء النصف، ثم صفّه براووق، واتركه حتّى يغلى، فإذا غلى وهدأ غليانه فخذ له من السّنبل والأفلنجة «2» والقرنفل والقرفة والهال «3» بوا والكبابة «4» والقاقلّة «5» ، من كلّ واحد ثلاثة دراهم؛ ودقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، ويضاف اليها من الزعفران نصف درهم، وتعجن بشىء من النّضوح، وابسطها فى باطية أو قدح، وبخّرها بآلقسط الطّيّب والعود والكافور، ثم اضربها به ضربا جيّدا وطيّن رأس الظّرف، ولا تفتحه إلّا بعد ثلاثة أشهر.

صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزهراوى يدخل فى أصناف الطيب، ويستعمل للشرب،

صفة عمل نضوح نقلته من كتاب الزّهراوىّ يدخل فى أصناف الطّيب، ويستعمل للشّرب، وهو: يؤخذ من عصير العنب مائة رطل فيغلى عليه «1» حتّى يظهر ريمه «2» ، ويقطف عنه؛ فإذا صفا فخذله من ورق الآس ثلاثة أرطال، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن التّفاح الشامىّ عشرين حبّة ومن السفرجل الممسوح من زغبه عشرين حبّة، ومن قشور الأترجّ الأخضر ثلاثة أرطال؛ وألق ذلك على العصير، واطبخه على النار حتّى يبقى منه النصف واتركه حتّى يبرد، ثم أوعه فى آنية الزّجاج، ودقّ الأفاويه الحارّة الوافرة، واعجنها بشىء منه، وبخّرها بالقسط الطيّب والعود والكافور، واضربها به، واضرب به أيضا شيئا من الكادىّ «3» ، ومثقالا من دهن الأترجّ، وطيّبه «4» ، ويستعمل بعد تعتيقه.

وأما المياه المستقطرة وغير المستقطرة

قال الزّهراوىّ فى كتابه: إنّه ينقص النّصف؛ ولم يزد «1» على ذلك. فمن أراده للطّيب فهو كاف؛ وأمّا من أراده للشّرب فلا بدّ أن يغليه حتّى يبقى منه الثّلث؛ ولا يجوز استعماله بأقلّ من ذلك. وأمّا المياه المستقطرة وغير المستقطرة - فمنها ماء الجورين «2» ، وهو الّذى كان يصنع للخلفاء؛ يؤخذ من ماء الورد الجورىّ خمسة أرطال، تجعل فى زجاجة ويطرح عليها من العود الطيّب الهندىّ أوقيّة بعد دقه جريشا؛ ثم يغطّى فم الزّجاجة ويلفّ بملحفة نظيفة، ويترك خمسة أيّام؛ ثم تصفّيه بعد ذلك فى قرعة التقطير ويقطّر الماء برفق وحكمة، ويرفع فى قارورة؛ ثم يؤخذ رطلان من الماء، ويطرح فيهما من الزّعفران الشّعر خمسة دراهم، وجوزبوا «3» درهمان، ويجمع الجميع فى قرعة التقطير وتترك القرعة مسدودة الفم يوما وليلة، ثم تجعل فى فرن التقطير، ويوقد تحتها وقودا معتدلا بنار حطب لا دخان لها؛ فاذا رأيت الماء قد بدأ يقطر فاقطع النار ساعة وتكون قد أعددت قيراط «4» مسك وقيراط عنبر، وحبّتين من الكافور، كلّ ذلك مسحوقا، وألقه فى القرعة، ثم سدّ رأسها، وأعدها إلى النار؛ فإذا بدأ الماء أن يقطر فأغلق باب الفرن، فإنّ الماء يقطر أبيض؛ فإذا تغيّر الى الصّفرة فارفع الأوّل فى قارورة، وسدّ رأسها بشمع، واجمع الماء الأصفر فى قارورة ثانية؛ فاذا تغيّر الى الحمرة فارفع القارورة الثانية، واجعل قارورة ثالثة، فإنّه يقطر أحمر، فاذا فتر التقطير فارفع الماء الثالث، واجعل كلّ ماء على حدة؛ فهذا ماء الجورين.

وأما ماء الصندل

وأمّا ماء الصّندل - فقال الزّهراوىّ: يؤخذ من الصّندل المقاصيرىّ «1» الأصفر أوقيّتان، تنقعان فى رطل ونصف من الماء المشروب يوما وليلة؛ ثمّ يصعّد مثل ماء الجورين؛ وإن عملته من ماء الورد فهو أبلغ؛ وكذلك تصعيد العود، ويكونان قد طحنا قبل نقعهما. صفة تصعيد ماء القرنفل يؤخذ من زهر القرنفل الذّكىّ الحرّيف أوقيّة، تدقّ وتنخل، ويضاف اليها زنة دانق من الكافور المسحوق، ويحلّ بمنّ ونصف من ماء الورد، ويضرب به ويترك يوما وليلة؛ ثم يصعّد كما تقدّم. صفة تصعيد ماء السّنبل يؤخذ من السّنبل العصافير الأحمر أوقيّتان، يدقّ، ويعجن بماء الورد وماء النّمّام «2» ، ويترك ليلة مخمّرا؛ ثمّ يضاف اليه من الغد من ماء الورد منا «3» ، ويضرب به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بنار ليّنة كما تقدّم. صفة تصعيد ماء الكافور يؤخذ من الكافور الرّياحىّ مثقالان، يسحق سحقا جيّدا، ثم تصبّ عليه من ماء الورد رطلا، أو رطلين إن أحببت الكثرة؛ واضربه به ضربا جيّدا شديدا حتى

تصعيد ماء الزعفران عن ابن ماسويه

يصير أبيض؛ ثم طيّن له قرعة بطين الحكمة «1» ، وتفقّدها ثلاثة أيّام حتّى لا يبقى فى طينها شقّ؛ ثم تنصب على الأتون، ويصبّ فيها الماء الذى ضرب به الكافور ويركّب عليها الانبيق «2» ، ويوقد تحتها بنار فحم ليّنة حتّى يصعد، فإنّه يصعد منه ماء كافور يفوق كلّ طيب؛ ثم اثنه «3» بماء ورد بغير كافور، فيأتى ماء كافور دون الأوّل. تصعيد ماء الزّعفران عن ابن ماسويه يؤخذ رطل زعفران مسحوق، ويصبّ عليه من الماء رطلان، ويترك يوما وليلة؛ ثم يضرب بالغداة، ويحرّك باليد، ويدلك دلكا جيّدا، ثم يصفّى بخرقة رقيقة، ويجعل الماء فى قرعة، ويصعّد؛ ومن أحبّ ألّا يصفّيه يصعّده بثفله. تصعيد آخر استنبطه التّميمىّ قال: يؤخذ من الزعفران الشّعر أوقيتان، فيجعل فى برنيّة زجاج، ويصبّ عليه من ماء الورد منّ، ويسدّ رأسها، ويترك يوما وليلة؛ ثم يسحق له من القرنفل الزّهر مثقال، ومن الكافور مثقال، ويضربان به ضربا جيّدا؛ ثم يصعّد بالقرعة

صفة تصعيد ماء الورد الطيب الذى يسمى الغنج

والانبيق على الماء، فإنّه يخرج منه ماء عجيب فى الطّيب؛ ثم يثنّى بالماء القراح فيخرج منه ماء ثان دون الأوّل. صفة تصعيد ماء الورد الطيّب الّذى يسمّى الغنج «1» يؤخذ من ورق الورد الطرىّ الأحمر، ويسحق لكلّ رطل منه نصف درهم جوزبوا «2» ، ونصف درهم من القرنفل الزّهر، ومن المسك قيراط «3» ، ومن الكافور نصف قيراط، وتذرّ على ورق الورد بعد أن يرشّ عليه ماء ورد جورىّ، ويجعل فى قرع «4» التقطير فى كلّ قرعة رطلان؛ ويركّب عليها الانبيق، ويستقطر بخار الماء؛ فإذا قطر من الرطلين ربع رطل عزل ذلك الماء الأوّل؛ ثم تركّب على القرعة قابلة «5» أخرى، ويستقطر فيها ما بقى فى الورق من الماء، وهو نحو ربع رطل أو أكثر وارفعه على نوعين: أوّل وثان، وأحكم سدّ رءوس القوارير؛ وإن أردت أن تأمن

تصعيد ماء ورد آخر ألفه التميمى يستخرج من الورد اليابس

عليه التعطّن «1» وأن يصفو، فاسحق لكلّ منّ من ماء الورد قدر حبّتين «2» نوشادرا «3» معدنيّا وألقه فيه قبل سدّ رأس القارورة، فإنّه يصفّيه؛ وإن جمعت الماء الأوّل فى إناء وألقيت النوشادر فيه، وتركته ثم أوعيته فى القوارير كان أجود، وتصنع بالثانى مثل ذلك. تصعيد ماء ورد آخر ألّفه التّميمىّ يستخرج من الورد اليابس يؤخذ من الورد الأحمر الفارسى الجيد فينقّى من أقماعه، وينقع منه رطل واحد فى منوين ماء ورد جورىّ يومين وليلتين، فى برانىّ مسدودة الرءوس؛ ثم يصبّ عليه من الماء العذب أربعة أمثال وزنه، ويسحق له من الكافور مثقال، ومن القرنفل ثلاثة دراهم، ومن المسك قيراطان، ويضرب ذلك به، ثم يقسم فى قرعتين أو ثلاثة؛ تفعل ذلك قبل إلقائك الكافور والقرنفل، ثمّ تلقى فى كلّ قرعة من الفتاق «4» حقّها، وتضرب ما فيها من الورد والماء ضربا جيّدا، ويركّب عليها الانبيق ويستقطر ماؤه، فإنّه يأتى منه ماء ورد لا بعده فى الطّيب؛ ثم تصبّ على الثّفل ماء ثانيا نحو ثلاثة أرطال، وتستقطره، فإنّه يخرج منه ماء ورد ثان لا حق بالأوّل.

تصعيد ماء ورد ملوكى مرتفع عن ابن العباس

تصعيد ماء ورد ملوكىّ مرتفع عن ابن العبّاس يؤخذ من حبّ السّمسم المربّى بالمسك، فيسحق مع شىء من الكافور على صلاية، ويجعل لكلّ عشرة مثاقيل من حبّ السّمسم زنة دانق من الكافور ويجعل منه فى كلّ قرعة مثقالان مخلوطان بورق الورد الأحمر العربىّ؛ ثم يستقطر فإنه يقطر منه ماء ورد أدكى من كلّ طيب؛ وإن سحقت لكلّ قرعة زنة دانقين من زهر القرنفل، أو نصف درهم، خرج ماء عجيبا حسن «1» الرائحة عبقا. تصعيد ماء المسك وماء الورد قال التّميمىّ: تأخذ من المسك دانقا؛ ومن ماء الورد الجورىّ رطلا بالبغدادىّ فتسحق المسك، واضربه بماء الورد، واتركه فيه ساعة؛ ثم اجعله فى القرعة وركّب على رأسها الانبيق، وصعّده على هباء «2» الماء، فإنّه يطلع منه ماء مسك لا بعده؛ ومن أحبّ الزيادة فى المسك أو النقصان فعل؛ ويصعّد على أثره ماء ورد بغير مسك، فإنّه يأتى ماء مسك دون الماء الأوّل. وأمّا تصعيد ماء الخلوق من كتاب الزّهراوىّ قال: يؤخذ جوزبوا وبسباسة وسكّ، من كلّ واحد أوقيّة؛ كافور نصف أوقيّة؛ قرنفل أوقيّة، سنبل وقاقلّة «3» وكبابة، من كل واحد نصف أوقيّة، زعفران أوقيّة؛ تدقّ

تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرى

هذه الأصناف، وتحلّ بماء الورد، وتبخّر بالعود والكافور فى يوم وليلة خمس عشرة مرّة، ويكون العود والكافور سواء فى التّجزئة، ثم تلقى على ذلك من ماء الورد عشرة أرطال، ويجعل فى قرعة التقطير، ويوقد تحته بنار فحم ليّنة حتّى يصعد جميع الماء ويبقى الثّفل، فإن أردت أن تزيده ماء آخر على الثّفل وتصعّده ثانيا فافعل، وارفع كلّ ماء على حدّة؛ والله أعلم. تصعيد ماء خلوق آخر من كتاب أبى الحسن المصرىّ يؤخذ من القرنفل والسّنبل والهرنوة والصّندل والزّعفران، من كلّ واحد جزء، ومن الورد الأحمر المنزوع الأقماع جزءان؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بزنبق، ويبخّر بقسط مرّ وحلو وظفر «1» ولاذن ثلاثة أيّام، ويقلّب بين كلّ ثلاث بندات «2» ؛ ثم يبخّر بعود وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يفتق بجوزبوا وبسباسة وسكّ مسك وعود لكلّ رطلين منه نصف أوقيّة من جميع الفتاق، ودرهمان من الكافور الرياحىّ ومثقال من دهن البلسان، ويحلّ بماء ورد حتّى يصير كالحساء، ويجعل فى قرعة التقطير، ويستقطر، ثم يخرج وفيه نداوة بعد أن يثنّى بماء ورد آخر، ويجعل ثفله فى اللّخالخ.

تصعيد ماء خلوق من كتابه أيضا

تصعيد ماء خلوق من كتابه أيضا يؤخذ من الزّعفران عشرة دراهم، ومن القاقلّة «1» والصّندل وحبّ «2» العروس والقرنفل والمحلب، من كلّ واحد وزن درهمين، وسنبل وقرفة «3» قرنفل ومصطكاء وجوزبوا من كلّ واحد وزن درهم، ومثل الزعفران وسائر هذه الأفاويه من الورد الفارسىّ الأحمر؛ يدقّ الجميع، وينخل، ويعجن بعسل نحل صاف منزوع الرّغوة، مضروب بالنّضوح المعتّق، ويبخّر بقسط وظفر حتّى يشبع، ثم بعود وكافور ثلاثة أيّام ثم بزعفران وكافور ثلاثة أيّام؛ ثم يؤخذ من الرّيحان الغضّ الأخضر أربعة وعشرون درهما، فتدقّ وتعجن بصفو النّضوح، ويبخّر الرّيحان بقسط وظفر «4» ، ويخمّر ليلة ثم يخلط بالخلوق، ويضرب به ضربا جيّدا، وتقطّر عليه قطرات من دهن البلسان أو دهن الكادىّ «5» ؛ ويسحق من الكافور الرّياحىّ «6» مثقال فيعجن به، ويضرب به ضربا جيّدا، ويحلّ جميع ذلك بمنوين من ماء الورد، ومنوين من ماء النّمّام «7» المصعّد؛ ثم يصعّد على ما تقدّم، فإنّه يأتى غاية فى الطّيب والذّكاء. قال: وهذا أطيب ما يستخرج من ماء الخلوق.

وأما ماء الميسوس

وأمّا ماء الميسوس - فهو ممّا يدخل فى النّضوحات، وتنقع به الأفاويه وتخمّر به اللّخالخ «1» ، وغير ذلك من أصناف الطّيب؛ وعمله على طرق كثيرة، نذكر أقربها وأجودها إن شاء الله تعالى. صنعة ميسوس نادر أخذ عن بختيشوع «2» الطبيب من كتاب العطر المؤلّف للخليفة المعتصم بالله قال: يؤخذ من القسط المرّ وقصب «3» الذّريرة والساذج «4» الهندىّ والقرنفل الزّهر

وقشور عيدان السّليخة «1» الحمراء والبسباسة «2» الذّكيّة والأشنة «3» الهنديّة واليمانيّة بعيدانها من كلّ واحد ستّ أواقىّ، ومن السّنبل «4» العصافير أوقيّتان، ومن الميعة «5» السائلة الحمراء أو البيضاء ستّ أواقىّ، ومن دهن البلسان «6» ستّ أواقىّ، ومن الزّعفران القمّىّ «7» المسحوق خمس أواقىّ، ومن المسك خمسة مثاقيل؛ تدقّ الأصناف اليابسة وتطحن، ويسحق المسك والزّعفران سحقا ناعما، ويدافان بالطّلاء «8» الرّيحانىّ الذّكىّ وتحلّ الميعة بدهن البلسان، ويصبّ على الجميع من عسل النحل ستّ أواقىّ

ويضرب بالأصناف ضربا جيّدا وهو حارّ، ويداف ذلك بالطّلاء «1» ، وتعجن به الأفواه عجنا جيّدا، ثم يؤخذ من ورد السّوسن الأبيض الطرىّ ثمانمائة وردة عددا فتقطع أصول ورقها بالأظفار، ويمسح من الصّفرة التى تكون فى داخله بخرقة ناعمة كتّان جديدة، ثم تفرش الورق فى إناء، راقا «2» من الورق، وراقا من الأدوية حتى تأتى على السّوسن والأدوية، ثم تصبّ على ذلك من الطّلاء الذّكىّ خمسة وعشرين رطلا بالبغدادىّ، وتغطّى الإناء بغطاء ينطبق عليه، وتستوثق منه ويطيّن بطين حرّ مخلوط بشعر العنز المدقوق المنخول؛ ويرفع فى بيت كنين، فى ظلّ ممّا يواجه ريح الشّمال، ويترك ستّة أشهر، ثم يفتح ويصفّى فى القوارير. قال: فإنّه ينفع- بإذن الله- من الإغماء الشديد، وفرط الغثيان والقىء والاستطلاق والهزال وضعف الطبائع، ومن الغمّ الشديد، وضعف المعدة والكبد؛ وقد ينفع فى «3» الضّمادات، وتعصب به المفاصل، ويوضع منه على قرطاس وتضمد به المعدة.

صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع أيضا من الكتاب المذكور

صنعة نوع آخر من الميسوس عن بختيشوع «1» أيضا من الكتاب المذكور تؤخذ من السّوسن الأبيض أربعمائة سوسنة، فيقطع ورقها، وتمسح الصّفرة التى داخله، ويبسط على ثوب كتّان جديد، وينثر عليه من الملح الأندرانىّ «2» ويجفّف فى الظّلّ؛ ثم خذ له من القسط المرّ والساذج «3» الهندىّ والحمامى «4» الحمراء وقشور

عيدان السّليخة «1» الحمراء والقرنفل وقصب «2» الذّريرة الطيّبة من كلّ واحد أوقيّتين ومن المصطكاء وسنبل الطّيب والعود الهندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، ومن الزّعفران نصف أوقيّة، ومن الميعة «3» الحمراء السائلة ودهن البلسان من كلّ واحد أربع أواقىّ ومن المسك أربعة مثاقيل؛ تدقّ هذه الأصناف جريشا، وتنعم سحق المسك والزعفران، ويجمعان بالميعة السائلة ودهن البلسان، وتصبّ على ذلك أربع أواقىّ من عسل النحل، ويعجن به (يعنى الزعفران والمسك) عجنا جيّدا؛ ثم يحلّ بالطّلاء ويعرك، وتأخذ برنيّة من زجاج واسعة الرأس، كبيرة، فتبسط فيها راقا «4» من ورق السّوسن وراقا من الأخلاط حتّى ينتهى ذلك؛ ثم صبّ عليه من الطّلاء الجيّد العتيق الذكىّ الرائحة الّذى لم يوضع فى الشمس عشرين رطلا، وتصبّ عليه بعد ذلك الزعفران والمسك المدافين بدهن البلسان والميعة والعسل المحلول بالطّلاء فوق رأس البرنيّة، وليكن للبرنيّة غطاء ينطبق عليها، وتجعل تحت الغطاء خرقة كتّان جديدة، وتشدّ فوق الخرقة بقرطاس مصرىّ، ثمّ بالغطاء، ثم تطيّن البرنيّة بالطّين الحرّ والشّعر وتبن الكتّان، وتجعل البرنيّة فى طاق يلى ريح الشّمال، ولا تقابل بها الريح استقبالا، بل اجعلها منحرفة عنها أدنى انحراف، واتركها ستّة أشهر ثم استعمله.

وأما ماء التفاح ونضوحه الذى يصنع منه

قال: وبعض الحكماء الأطبّاء يزيد فيه كبابة «1» وفلنجة «2» وزرنبادا «3» من كلّ واحد أوقيّتين. وأمّا ماء التّفّاح ونضوحه الّذى يصنع منه - فقال التّميمىّ عن أحمد ابن أبى يعقوب فى صنعة ماء التّفّاح الشامىّ الطيّب: تؤخذ من التّفّاح الشامىّ الجيّد السالم من العفن والتشنّج «4» خمسمائة حبّة، فتمسح، ثم تشقّق كلّ تفّاحة أربعة ويلقى ما فيها من الحبّ وما يجاوره، ثم تقطّع صغارا فى مراكن «5» خضر، ثم تدقّ دقّا جيّدا فى هاون حجارة، ثمّ تعتصر فى كرباسة «6» نظيفة طيّبة الرّيح مبخّرة، ثم تدقّ مرّة ثانية، وتعتصر حتّى لا يبقى فيها شىء من الماء، ثم يروّق، ويصبّ فى تور حجارة، أو طنجير حجارة، ويطبخ بنار فحم ليّنة من فحم كرم جزل، فإذا ذهب من الماء أقلّ من الثلث فاطرح فيه قرنفلا صحيحا وقطعا من صندل أصفر دقاقا

صنعة عقيد ماء التفاح من كتاب أبى الحسن المصرى

واغله بهما حتى ينقص الثلث وزيادة يسيرة، ثم ارفق بالنار حتّى يبلغ نقصه النصف ثمّ أنزله عن النّار، ودعه حتّى يبرد، ثم صفّه، وأعده إلى الطّنجير وأخرج الصندل والقرنفل منه، وأوقد تحته برفق، فإذا غلى ثانية فاطرح فيه عودا مرضوضا مثل رضّ الخشخاش، أو أجلّ منه قليلا، واغله به حتّى يذهب ثلث ما بقى وزيادة فيكون نقصه عن أصله قد زاد عن ثلثيه، ثم اطرح فيه من السّكّ «1» المرتفع سكّ الغالية، ولا تكثر تحته النار إلّا بقدر ما يغلى غليانا رفيقا، فاذا رأيته قد انعقد وصار مثل الخلوق- وهو الى الرقّة ليس بخاثر «2» - فأنزله عن النار، واتركه فى الإناء يوما وليلة، ثم خذ قارورة ليست بالواسعة الرأس ولا بالضيّقة قدر ما تدخلها اليد، فبخّرها بسبع قطع عود مخمّر وندّ وقطع عنبر، ثم صفّ ذلك الماء وصّه فيها، وسدّ رأسها ما استطعت بخرقة، وطيّنه، ثم اتركه ثلاثة أيّام، حتى إذا كان فى اليوم الثالث فاسحق له لكلّ رطل من الماء مثقالا من مسك، ومثقالا من عنبر شحرىّ مداف، واضرب ذلك بالماء ضربا جيّدا، وحرّك القارورة سبعة أيّام، واتركها شهرا، ثم استعمله بعد ذلك. صنعة عقيد ماء التّفّاح من كتاب أبى الحسن المصرىّ «3» قال: يعتصر ماء التّفّاح على ما تقدّم، ثم يجعل فى طنجير برام أو برمة بعد ترويقه وتصفيته، ويطبخ على النار حتّى يذهب منه النصف والربع، ثم ينزل

صفة نضوح ماء التفاح مما ألفه التميمى وركبه فجاء غاية فى الطيب

عن النار، ويبرّد، ويسحق لكلّ رطل منه وزن نصف درهم من القرنفل الزّهر وحبّتى مسك، وحبّتى كافور سحقا جيّدا، وتضرب به، ويجعل فى آنية زجاج ويحكم سدّ رأسها، ويرفع إلى وقت الحاجة إليه. صفة نضوح ماء التّفّاح ممّا ألّفه التّميمىّ وركّبه فجاء غاية فى الطّيب قال: تأخذ من التّفّاح الشامىّ البالغ النّضيج خمسمائة حبّة، فتعصر ماءها على ما تقدّم، وترفعه على النار فى قدر نحاس مؤنّكة «1» ، وتوقد تحته حتى تنشقّ عنه رغوته، فإذا تشقّقت فالقطها عنه حتّى يصفو وينصقل وجهه، ثم خذ له من العود الجيّد والسّنبل العصافير والقرنفل الزّهر والقاقلّة» والهال بوا والهرنوة «3» والقرفة والجوزة «4» ، من كلّ واحد وزن درهم، يدقّ ذلك دقّا جريشا، وينخل بمنخل شعر واسع، ويشدّ فى خرقة شرب «5» فيها عنه فضل، وتدلّى بخيط فى قدر ماء التّفّاح

وأما ماء العنب المطيب والعقيد المصنوع منه

ويغلى عليها، وتمرس الخرقة ساعة بعد ساعة حتّى تخرج قوّة الأفواه فى ماء التّفّاح ولا تزال توقد تحته وقيدا ليّنا حتّى يذهب نصف الماء وربعه، فإذا بقى منه الربع فأنزله عن النار، واعتصر الخرقة فيه، ثم أخرجها وجفّف ما فيها من أثفال الأفواه فإنّها تصلح للضّمادات الّتى تصلح المعدة، فإذا فتر ماء التّفّاح فاسحق له من المسك مثقالا، ومن الكافور نصف مثقال، ومن سكّ المسك مثقالا، ومن الزعفران المطحون نصف مثقال، واجمع ذلك فى زبديّة «1» ، وصبّ عليه من مطبوخ ماء التّفّاح ما تعجنه به، ثم أذبه حتى يصير مثل الخلوق، ثم صبّه فيه، واضربه به ضربا جيّدا، واجعله فى ظروف، وأحكم سدّها، فإنه يأتى عجيبا فى الطّيب. وأمّا ماء العنب المطيّب والعقيد المصنوع منه - وقد سماه التّميمىّ بهذه التسمية، ونقله من كتاب العبّاس بن خالد وغيره- فقال فى عمل ماء العنب المطيّب: تأخذ من عصير العنب الأسود زقّين أو ثلاثة، فتصبّه فى إناء، وتتركه يومين، ثم تروّقه فى إناء آخر حتّى يصفو، واجعله فى طنجير برام، وأوقد تحته بنار ليّنة، وانزع رغوته، فإذا صفا فخنله من الزّرنب «2» والفلنجة «3» من كلّ واحد أوقيّة واجعلهما فى خرقة شرب خفيفة، وتشدّ وتعلّق فى الطّنجير، ويطبخ وهى فيه

صنعة أخرى لماء العنب المطيب من كتاب محمد بن العباس

وتمرس ساعة بعد ساعة حتّى يذهب من ماء العنب النصف، ثم أنزله عن النار وبرّده يوما وليلة، ثم روّقه، وخذله من المسك مثقالين، ومن الكافور الرياحىّ مثقالا ونصف مثقال، ومن الزعفران نصف أوقيّة، ومن العود المسحوق المنخول نصف أوقيّة؛ ثم اجمع ذلك فى زبديّة، وحلّه بشىء من العصير المطبوخ، ثم صبّه فيه، واضربه ضربا جيّدا، واجعله فى قوارير، وسدّ رءوسها، ويكون أقلّ من ملوها «1» ، فإنّه يغلى ويفور؛ وينبغى أن يحرّك فى كلّ يوم تحريكا شديدا إلى أن يسكن غليانه ويستعمل بعد شهور. صنعة أخرى لماء العنب المطيّب من كتاب محمد بن العبّاس يؤخذ من العنب الأبيض الكثير الماء فيعصر فى إناء نظيف، ويجعل الماء فى طنجير، ويوقد تحته وقود ليّن حتى تنزع رغوته ويصفو، ثم خذ له قرفة قرنفل وسنبل، فيدقّ ذلك دقّا ناعما؛ ويلقى فيه وهو على النار بعد أن ينقص نصفه ثم يغلى «2» عليه ساعة، وينزل، ويترك حتّى يبرد يوما وليلة، ثم يصفّى «3» براووق ويجعل فى إناء غضار «4» ، ويفتق بمسك وكافور رياحىّ وعود مطحون، فإن كان فى زمن

الحرّ فأخرجه بالليل إلى صحن الدار مغطّى، ويردّ بالنهار إلى موضع بارد كنين ولا يترك فى مكان ند «1» ، ثم يجعل بعد إحكام سدّه وتطيينه فى موضع كنين إلى أن يدرك، ويستعمل فى وقت الحاجة اليه. ووصف التّميمىّ أعمالا كثيرة لماء العنب، إلّا أنّها لا تبعد عن هذه النّسخ الّتى أوردناها ولا تنافيها إلا بكثرة الأفاويه وقلّتها، ولم يقل فى شىء منها: إنّه ينقص أكثر من النصف؛ وفيه على هذه الصفة ما فيه، وبعيد أن تفارقه النشاة «2» مطلقا اذا لم يزد عن النصف؛ فأمّا من أراد استعماله على الوجه المباح عند أكثرهم فإنه يغليه حتى لا يبقى منه إلّا دون الثلث.

الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الرابع فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذذ الجماع وما يتصل بذلك من أدوية الذكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه وغير ذلك

الباب العاشر من القسم الخامس من الفنّ الرابع فى الأدوية التى تزيد فى الباه وتلذّذ الجماع «1» وما يتّصل بذلك من أدوية الذّكر والأدوية المعينة على الحبل والمانعة منه وغير ذلك إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ علاج الباه يحتاج إلى أدوية لإصلاح باطن البدن وظاهره. أمّا باطنه فإصلاحه «2» بالأدوية المستعملة، من الأطعمة والأدوية المركّبة والجوارشنات «3» والمربّيات والسّفوفات والحقن والخمولات. وأمّا ظاهره فإصلاحه بالمسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة بالجماع. ذكر الأطعمة النافعة لذلك - من ذلك صفة عجّة «4» تزيد فى الباه: يؤخذ حمّص وباقلاء «5» وبيض «6» وبصل أبيض، يطبخ ذلك بلبن حليب حتّى يتهرّأ

صفة عجة أخرى

ويصفّى عنه اللّبن؛ ثم يطرح فى مهراس «1» ويدقّ ناعما حتّى يختلط «2» ... ؛ وتؤخذ صفرة عشر بيضات فتطرح عليه، ويجعل جميع ذلك فى مقلى، ويقلى بزيت «3» ، وتعمل عليه الأبازير، ولا يترك حتّى يحترق، بل يؤكل قبل نضجه. صفة عجّة أخرى يؤخذ هليون «4» رخص «5» ولوبياء «6» وبصل أبيض وحمّص؛ يسلق جميع ذلك

صفة لون يزيد فى الباه

حتّى يتهرّأ، ويؤخذ من صفرة البيض ما يحتاج اليه، ويجعل على المسلوق بعد دقّه ويطرح عليه شىء من شحم الإوزّ، ويغلى بزيت مغسول «1» ، ويؤكل قبل نضجه، فإنّه غاية فى زيادة الباه. صفة لون يزيد فى الباه تؤخذ فراريج مسمّنة قد علفت الحمّص والباقلاء واللّوبياء، تذبح وتغسل ويؤخذ حمّص يسلق ببصل كثير، وينشّف، ويرضّ بشحم ثلاثة فراريح، ويحشى به فرّوج من المسمّنة، ويطبخ إسفيد باجة رطبة، ويكون ملحها ملح السّقنقور «2» ويذرّ عليه «3» دار صينىّ وزنجبيل وابازير؛ ثم يجعل الفرّوج بعد نضجه على رغيف سميذ «4» قليل الملح والخمير، ويترك الرّغيف فى المرق حتّى يتشرّبه، ثم يؤكلان، فإنّ ذلك نهاية.

صفة هريسة

صفة هريسة يؤخذ من الحنطة النقيّة المقشورة، ثم تجعل فى قدر، ويجعل معها مثل خمسها من الحمّص والباقلاء واللّوبياء، ثم يجاد طبخها، ثم يؤخذ من عصارتها جزءان، ومن اللّبن الحليب البقرىّ جزء، ومن النارجيل مثل ربع اللّبن، ويلقى فيه من شحم الإوزّ والبطّ؛ ويسلق بلحم الهريسة، ويخلط جميع ذلك بالأوّل؛ ويضرب حتّى يصير هريسة، ويكون ملحها ملح السّقنقور، وتؤكل، فإنّها تزيد فى الباه. صفة لون آخر يؤخذ لحم حمل سمين، يطبخ إسفيد باجا «1» ، ويطرح معه حمّص وبصل كثير وخولنجان «2»

وأما الأشربة المركبة التى تزيد فى الباه

وصفرة البيض، ويطيّب بالأبازير وملح السّقنقور «1» ويؤكل فإنّه غاية. قال صاحب كتاب (الإيضاح) : إنّ الأطعمة الّتى تزيد فى الباه هى الطّباهجات «2» والاسفيدباجات واللّوبياء والهرائس والمطجّنات والأمخاخ وما يجرى مجرى ذلك. وأمّا الأشربة المركّبة الّتى تزيد فى الباه - فقد وصف منها محمد ابن زكريا الرازىّ وغيره أصنافا، فقال: يؤخذ من لبن البقر الحليب رطلان من بقرة فتيّة صفراء، يجعل فيه ترنجبين «3» أبيض، ويطبخ بوقود شديد حتّى يغلظ

آخر يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة اليابسة

ويصير مثل العسل، وتؤخذ منه فى كلّ يوم أوقيّة على الريق، وأكثر من ذلك. وقال: هذا لأصحاب الأمزجة الحارّة اليابسة. آخر يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة اليابسة يؤخذ من اللّبن الحليب رطل، وتسحق عشرة دراهم دارصينىّ سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل، وتلقى على اللّبن، ويترك ساعة، ثم يشرب قدحا بعد قدح ويخضخض لئلّا يرسب الدارصينىّ فيه، وليشرب قبل الطعام وبعده قليلا قليلا بدل الماء عند العطش حتّى يأتى على اللّبن والدار صينىّ بكماله، ويكون الغذاء طباهجا بلحم ضأن فتىّ، ويشرب عليه نبيذا صرفا، يفعل ذلك أسبوعا، ولا يجامع فيه، فإنّه يولّد منيّا كثيرا، ويهيّج تهييجا عظيما. قال: وينبغى أنّه اذا هاجت منه حدّة وحرارة أن يقطع، فإن لم تسكن الحدّة والحرارة فصد وأسهل وسقى ماء الشّعير ويترك اللحم والشراب أياما، ويقلّل الغذاء. قال الرازىّ: إلّا أنّ هذا التدبير يجمع امتلاء كثيرا؛ ولا يقرب هذا الدواء من بدنه غير نقىّ، فإنّه يحمّ لا محالة. فأما النقىّ البدن، القليل الدم، الساكن الحدّة، فنعم الدواء هوله، وهو دواء قوىّ فى فعله. صفة شراب آخر يؤخذ من حليب البقر رطلان؛ وقيل رطل، ويلقى عليه من التّرنجبين «1» الأبيض الخراسانىّ زنة عشرين درهما، ويطبخ برفق حتّى يصير فى قوام «2» العسل ثم تؤخذ منه فى كلّ غداة أوقيّة على الرّيق، فإنّه نهاية فى زيادة الباه.

صفة شراب آخر

صفة شراب آخر يؤخذ ماء البصل وماء الهليون «1» وسمن البقر ولبنها، من كلّ واحد جزء، ومن بزر الجرجير وبزر اللّفت من كلّ واحد كفّ؛ يدقّان ويلقيان فى المياه واللّبن، ويغلى ذلك على النار، ويصفّى؛ وتشرب منه أوقيّة وهو حارّ، فإنّه جيّد. ذكر الأدوية المركّبة النافعة لزيادة الباه وتغزير المنىّ يؤخذ بزر رازيانج وبزر جرجير، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ يسحقان ويعجنان بلبن البقر، ويحبّب كالباقلاء، ويؤخذ منه مثقال، ويدخل بعده الحمّام، ويمرخ البدن فى الحمّام بزيت وخلّ وعصارة عنب الثعلب، فإنّه نافع. صفة دواء آخر يؤخذ من ماء البصل الأبيض جزء، ومن العسل جزءان؛ يطبخ ذلك على نار ليّنة حتّى يذهب ماء البصل، ويؤخذ من العسل عند النوم ملعقتان، فإنّه نافع جيّد لأصحاب الأمزجة الباردة. دواء آخر يؤخذ عاقرقرحى «2» وبزر الرشاد «3» وبزر الأترجّ وفلفل، من كلّ واحد مثقال؛

دار صينىّ وشقاقل «1» وبزر الجزر وزنجبيل، من كلّ واحد مثقالان. [حلتيت «2» نصف مثقال؛ تجمع هذه الأدوية بعد دقّها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ الشربة منه مثقالان] .

ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة الباه

ذكر دواء آخر عجيب الفعل فى زيادة الباه يؤخذ حسك «1» يابس، يدقّ ويسحق سحقا ناعما، ويعتصر من ماء الحسك الرّطب، ويسقى به المسحوق فى الشمس حتّى يشرب ثلاثة أمثال وزن المسحوق ثم تؤخذ منه خمسة مثاقيل؛ عاقرقرحى خمسة مثاقيل، وزنجبيل مثقال، وسكّر طبرزذ «2» خمسة مثاقيل؛ يدقّ جميع ذلك، وينخل، ويعجن بعسل قد ربّى فيه الزّنجبيل ويرفع؛ الشربة منه مثقالان بماء فاتر، أو بلبن حليب، فإنّه لا مثال له فى معناه. دواء آخر يؤخذ من الحمّص اليابس، ينقع فى ماء الجرجير حتّى يربو؛ ثم يجفّف، ويقلى بسمن بقر على نار ليّنة؛ وتؤخذ منه خمسة مثاقيل، تسحق وتنخل وتعجن بعسل منزوع الرّغوة؛ ويلقى على العسل وهو حارّ دار صينىّ وقرفة وقرنفل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، ويخلط ذلك خلطا جيّدا، ويرفع؛ والشربة منه مثقالان بماء حارّ أو بلبن البقر.

صفة دواء آخر يزيد فى الباه، ويصفى اللون، وينفع الكبد والمعدة

صفة دواء آخر يزيد فى الباه، ويصفّى اللّون، وينفع الكبد والمعدة يؤخذ إهليلج كابلىّ وهندىّ منزوع النّوى وبليلج وأملج «1» وفلفل ودارفلفل وزنجبيل وسعد وشيطرج «2» وقشور الأترّج المجفّف وبرادة الإبروتوبال «3» الحديد وسمسم مقشور، من كلّ واحد مثقال؛ تجمع هذه الأدوية مسحوقة منخولة وتلتّ بسمن البقر، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وترفع؛ والشّربة منه درهم فى أوّل يوم، ثمّ درهمان فى اليوم الثانى، وثلاثة دراهم فى اليوم الثالث، هكذا إلى سبعة أيّام، يزيد فى كلّ يوم زنة درهم، ويكون استعماله لذلك عند النوم.

دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنه يقويها، ويزيد فيها

دواء آخر يهيج شهوة الجماع ويصلح لمن انقطعت شهوته فإنّه يقوّيها، ويزيد فيها يؤخذ الحندقوق «1» وشقاقل وبزر اللّفت وبزر الزّراوند «2» وبزر

البصل الأبيض وحبّ الخشخاش وبزر الجرجير وبزر الأنجرة «1» وبزر خصى «2» الثّعلب، من كلّ واحد مثقالان ونصف مثقال

ومن كلى السّقنقور «1» وعلك الأنباط «2» وقسط «3» وبصل الفأر «4» المشوىّ من كلّ واحد مثقال واحد ونصف؛ فلفل أبيض وسمسم مقشور ودارفلفل «5»

وزنجبيل وزعفران، من كلّ واحد مثقال؛ أدمغة الدّيوك الصّغار، وأدمغة العصافير من كلّ واحد [ثلاثة مثاقيل «1» ، خصى الدّيوك ثلاثة مثاقيل؛ أدمغة الحملان الرّضّع خمسة مثاقيل؛ بيض الشّبّوط (اللّجأة) «2» ولحمه من كلّ واحد] خمسة مثاقيل؛ قنّة «3» مثقال واحد ونصف؛ تدقّ البزور اليابسة؛ وتذاب القنّة مع العلك بخمسة مثاقيل عسل؛ وتنقّى الأدمغة والخصى من العروق؛ ويطرح ذلك فى صلاية؛ ويخلط

دواء آخر

بالسّحق؛ فإن احتاج الى عسل فزده الى أن يترطّب؛ ثم يجعل فى إناء؛ ويختم رأسه ويرفع مدّة أربعين يوما، ويفتح بعد ذلك، ويستعمل؛ الشربة منه مثقال بأوقيّة من ماء الجرجير، ويؤكل عليه اسفيدباج «1» بحمّص وبصل وسمن بقر، فإنّه نهاية فيما ذكرناه. دواء آخر يؤخذ جزر برّىّ وبزر اللّفت ودارفلفل وقاقلّة» وبزر جرجير وقرنفل وخولنجان «3» وزرّ ورد وبزر كرّاث وزنجبيل وبسباسة «4» ، من كلّ واحد أربعة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج مسحوقة منخولة، وتعجن بقدر ما تحتاج اليه من العسل المنزوع الرّغوة وترفع؛ الشربة منه مثقالان بلبن البقر الحليب، أو بشراب حلو. صفة دواء آخر عجيب الفعل يؤخذ عود هندىّ وكافور وزعفران وجوزبوا وقرفة وقرنفل وصندلان: أحمر وأبيض، وسعد ودارصينىّ وشيطرج «5» ونارمشك «6»

وساذج «1» هندىّ، وبصل العنصل، ولحاء الغار «2» ، ولحاء أصل الكبر «3» ، وخربق «4» أسود، وسندروس «5» ، وكندر «6» من كلّ واحد أربعة دراهم؛

صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه، وتنعظ إنعاظا شديدا، وتهيج فلا يسكن حتى تنزع من فم الماضغ

يدقّ كلّ واحد منها على حدة، وتخلط جميع الأصناف بالسّحق، ويعجن بعسل منزوع الرّغوة، ويرفع فى إناء، ويترك ستّة أشهر، ثم يستعمل بعد ذلك، الشربة منه مثقال بماء العسل. صفة لبانة تمضغ تزيد فى الباه، وتنعظ إنعاظا شديدا، وتهيج فلا يسكن حتّى تنزع من فم الماضغ قال شهاب الدّين عبد الرحمن بن نصر الشّيرازىّ صاحب كتاب (الإيضاح) : هذه اللّبانة كان يستعملها بعض ملوك مصر. قال: وله فيها قصّة طويلة لم نذكرها رغبة فى الاختصار. قال: وهذا من الأسرار الخفيّة [فآعرفه «1» ] . يؤخذ من قشر البلاذر «2» الخارج أوقيّة، تقرّض بالمقراض صغارا، ويجعل

فى برمة فخّار، ويصبّ عليه من دهن البطم «1» مقدار ما يغمره، ثم يؤخذ لبان ذكر عشرون درهما، يسحق ناعما، ويلقى عليه فى البرمة، ويوقد تحته بنار ليّنة حتّى ينعقد، ثم يلقى عليه من المحمودة «2» الصفراء على كلّ أوقيّة من الدّواء نصف دانق؛ فإذا انعقد جميعه فآرفعه عن النار، واجعله فى إناء زجاج؛ فإذا أردت استعماله فخذ منه وزن درهم وامضغه، فإنّه ينعظ للوقت إنعاظا قويّا؛ فإذا أردت الإنعاظ يسكن فأخرجها من فيك؛ والقطعة الواحدة منه تستعمل ثلاث مرّات ثم يرمى بها.

ذكر الجوارشنات التى تزيد فى الباه وتغزر المنى صفة جوارش يغزر المنى

قال: وربّما قطع ما هاج من الإنعاظ باستعمال هذه اللّبانة، وهى: يؤخذ من الشّيرج الطرىّ «1» جزء، ومن السكّر جزء، ومن اللّبان الأبيض ثلث جزء ويطرح فيه لكلّ أوقيّة من الدواء زنة دانق من الكافور، ويعقد الجميع على نار ليّنة ثم ينزل ويرفع، ويستعمل منه عند الحاجة زنة درهم يمضغ، فإنّه يسكّن ما هاج. ذكر الجوارشنات «2» الّتى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ صفة جوارش يغزر المنىّ يؤخذ سنبل وقرنفل ودارفلفل «3» ودارصينىّ وقاقلّة، من كلّ واحد مثقال؛ شلجم «4» مثقال ونصف، كمّون منقوع فى خلّ خمر يوما وليلة مقلّو أربعة مثاقيل، ومصطكاء مثقالان ونصف، مسك سدس مثقال، سكّر طبرزذ خمسة مثاقيل؛ تجمع هذه الحوائج بعد سحقها ونخلها، وتعجن بعسل منزوع الرّغوة، وتبسط على رخام «5» ، وتقطّع وتستعمل.

صفة جوارش يقوى الباه وبزيد فى الشهوة

صفة جوارش يقوّى الباه وبزيد فى الشّهوة يؤخذ قرنفل وجوزبوا وبسباسة وألسنة العصافير «1» وأصل الإذخر «2» وزنجبيل ودارصينىّ ومصطكاء وعود هندىّ وزعفران، من كلّ واحد مثقالان؛ قاقلّة ولبان ذكر من كلّ واحد مثقال، أشنة «3» ثلاثة مثاقيل، مسك ربع مثقال، سكّر عشرة مثاقيل؛ يحلّ السكّر بماء الورد على النار، ويلقى عليه عسل نحل منزوع الرّغوة، ويعقد بالأدوية بعد سحقها، ويبسط على رخام، ويقطّع ويستعمل فإنّه غاية. صفة جوارش التّفّاح، يقوىّ المعدة ويزيد فى الباه يؤخذ تفّاح شامىّ مقشّر الخارج، منقّى الدّاخل، تطبخ منه خمسة أرطال بخمسة عشر رطلا من الماء حتّى ينشف الماء؛ ثم يؤخذ رطل عسل نحل، ورطل سكّر ورطل ماء ورد، ويلقى جميع ذلك على التّفّاح حتّى ينعقد على النار؛ ثم يلقى عليه زعفران

ذكر المربيات المقوية للشهوة والمعدة والباه

وسنبل وقرنفل ودار صينى وزنجبيل ومصطكاء، من كلّ واحد مثقال، لسان ثور «1» شامىّ مثقالان، عود هندىّ ثلاثة مثاقيل، تدقّ هذه الأصناف، وتنخل قبل إلقائها عليه؛ ثم تبسط على رخام «2» ، وتقطّع، وتستعمل. ذكر المربّيات المقوّية للشّهوة والمعدة والباه قال صاحب (كتاب الإيضاح) : لا بدّ لسائر المربيّات من هذه الأفاويه وهى: زنجبيل، ودارصينى، وقرفة، وقرنفل، وهال «3» ، وجوزبوا «4» ، ومصطكاء، وعود هندىّ، من كلّ واحد أوقيّة، زعفران نصف أوقيّة؛ سكّ «5» مثقالان، مسك نصف

صفة عمل الراسن المربى، وهو مسخن للكلى والظهر محرك لشهوة الباه

مثقال؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا جريشا، وتجعل فى خرقة كتّان، وتشدّ «1» شدّا متحلحلا «2» ويعلّق «3» منها فى كلّ مربّى لكلّ رطل أوقيّة. صفة عمل الرّاسن» المربّى، وهو مسخّن للكلى والظّهر محرّك لشهوة الباه تؤخذ عشرة أرطال راسن يقطّع بقدر الإصبع، وينقع فى ماء وملح مدّة عشرين يوما، ويغيّر عليه الماء والملح فى كلّ خمسة أيّام أو ثلاثة؛ ثم يصيّر فى قدر

صفة عمل الشقاقل المربى يقوى المعدة والشهوة ويزيد فى الباه

ويصبّ عليه من الماء الحلو ما يغمره، ومن العسل ثلاثة أرطال، ويغلى حتّى يلين؛ وتلقى عليه الأفاويه مصرورة «1» فى خرقة كما وصفنا، ثم يرفع ويستعمل. صفة عمل الشّقاقل «2» المربّى يقوّى المعدة والشهوة ويزيد فى الباه يؤخذ شقاقل كبار خمسة أرطال، ينقع فى ماء عشرة أيّام «3» ، ثم يلقى فى قدر حجارة، ويغلى عليه غلية خفيفة، ثم يخرج ويقشّر، ويردّ الى القدر؛ ويصبّ عليه من العسل ما يغمره، ويغلى عليه «4» ، وتلقى عليه الأفاويه معلّقة كما وصفنا ويجعل فى برنيّة مدهونة، ويغسل ظاهر البرنيّة بالماء فى كلّ خمسة أيّام حتّى يبرد لئلّا يحمض ويفسد، ويستعمل عند الحاجة. صفة عمل الجزر المربّى الّذى يزيد فى الباه يؤخذ من نحاتة أجواف «5» الجزر عشرة أرطال، فيجعل فى قدر حجارة، ويلقى عليه من الماء ما يغمره، ثم يلقى عليه ثلاثة أرطال من عسل النحل، ويطبخ بنار ليّنة حتّى يتهرّأ، ثم يخرج من الماء (والعسل «6» ) ، وينشّف ويبرّد؛ ثم يلقى

صفة عمل الإهليلج الكابلى المربى

عليه من العسل ما يغمره؛ ويردّ الى القدر، ويغلى عليه غلية يسيرة، ويبرّد، ويجعل فى إناء، ويتعاهد غسل ظاهر الإناء حتّى يبرد ولا يحمض، ويكون قد طرح فيه الأفاويه على الرّسم [والله أعلم «1» ] . صفة عمل الإهليلج «2» الكابلىّ المربّى يؤخذ من الإهليلج الكابلىّ الغليظ «3» «ما أحبّ «4» الأخذ» فيجعل فى إناء «5» ، ويصبّ عليه من الماء ما يغمره، ويلقى فيه من رماد البلّوط ما يكفيه، ويترك ثلاثة أيّام ويغيّر عليه الماء والرّماد؛ يفعل به ذلك أربع مرّات «الى تمام اثنى «6» عشر يوما» ؛ ثم يغسل بالماء العذب ثلاث مرّات، ثم يطبخ بماء الشّعير طبخا ليّنا، ويخرج منه ويمسح مسحا رفيقا لئلّا ينسلخ، ثم تثقب كلّ إهليلجة بالإبرة فى عشرة مواضع ثم يجعل فى برنيّة خضراء، ويلقى عليه من عسل «7» النحل ما يغمره بعد أن تنزع رغوته ويغسل ظاهر الإناء مرارا على ما تقدّم، وذلك بعد أن تلقى عليه الأفاويه فى خرقة على الرسم.

صفة عمل التفاح المربى

صفة عمل التّفّاح المربّى يؤخذ من التّفّاح الجيّد الّذى لا عيب فيه [قدر «1» ] خمسين حبّة، يقشر، وينقّى ما فى باطنه من الحبّ وما يجاوره، ويصيّر فى قدر، ويلقى عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه «2» يسيرا؛ وتعلّق فيه الأفاويه، ويجعل بعد ذلك فى برنيّة من الزجاج، ويتعاهد غسل ظاهرها بالماء فى كلّ ثلاثة أيّام حتّى يبرد، ويستعمل فإنّه يقوّى المعدة، ويشدّ القلب، ويزيد فى الباه. صفة عمل الجوز «3» المربّى، وهو ممّا يزيد فى الباه يؤخذ من الجوز الطرىّ الأخضر الّذى لم يصلب قشره، فيسلب عنه قشره الخارج، وإن كان داخله قشر قد صلب يقشر عنه أيضا، ويصيّر فى قدر حجارة ويصبّ عليه من عسل النحل ما يغمره، ويغلى عليه غليانا خفيفا، ويصيّر فى برنيّة زجاج، وتعلّق فيه الأفاويه، ويتعاهد غسل الإناء «4» كما تقدّم.

ذكر السفوفات التى تزيد فى الباه فمن ذلك صفة سفوف

ذكر السّفوفات الّتى تزيد فى الباه فمن ذلك صفة سفوف يؤخذ إشقيل «1» مشوىّ وفانيذ «2» وبوزيدان «3» وبزر سذاب، وحبّ الشّهدانج «4» وألسنة العصافير «5» من كلّ واحد ثلاثة مثاقيل؛ شقاقل «6» مثقال ونصف، خشخاش وبزر البصل، وبزر الجرجير من كلّ واحد مثقالان؛ تجمع هذه الأصناف بعد دقّها ونخلها، ويستفّ منها مثقال ونصف بشراب حلو ممزوج، فإنّه غاية.

سفوف آخر يزيد فى الباه

سفوف آخر يزيد فى الباه تؤخذ ألسنة العصافير وبزر الجرجير وبزر اللّفت، من كلّ واحد مثقالان «1» ؛ يدقّ ذلك، ويستفّ منه مثقال بشراب حلو، أو بعقيد العنب، فإنّه جيّد نافع إن شاء الله [تعالى] . ذكر الحقن والحمولات المهيّجة للباه والمغزرة للمنىّ والمسمّنة للكلى هذه الحقن والحمولات إنّما جعلتا لمن عجز عن تناول ما قدّمناه من الأدوية إمّا لكثرة حرارتها، أو كراهية لمذاقها، أو لإحراقها «2» مزاج المستعمل لها، فالحقن والحمولات تنوبان منابها، وتقومان مقامها فى الفعل، إلّا أنّ هذه الحقن لابدّ أن تتقدّمها حقنة تغسل الأمعاء، ثم يحتقن بها بعد ذلك فتكون أسرع فعلا وأنجح نفعا. فمن ذلك [صفة «3» حقنة تغسل الأمعاء وتنقّيها يؤخذ بابونج «4» وبزر كتّان وحلبة وشبث، من كلّ واحد سبعة مثاقيل،

صفة حقنة أخرى تغسل الأمعاء

وبطم وحسك «1» أربعة عشر مثقالا، تين «2» أربعة عشر مثقالا؛ يطبخ جميع ذلك بخمسة أرطال من الماء، ويغلى حتّى يبقى منه رطل، ويصفّى، ويؤخذ من هذا الماء نصف رطل، ويضاف إليه من الشّيرج خمسة عشر مثقالا، وسكّر أحمر سبعة مثاقيل ثم يحقن به. صفة حقنة أخرى تغسل الأمعاء يؤخذ لعاب بزر قطونا «3» ، ولعاب» بزر كتّان، ولعاب الحلبة، وماء السّلق «5» المعتصر

صفة حقنة تسمن الكلى وتزيد فى الباه

ولعاب الخطمىّ «1» ، من كلّ واحد خمسة «2» مثاقيل؛ ثم يجعل فى ذلك من البورق «3» والسكّر الأحمر من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومن الشّيرج عشرة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنه نافع لما ذكرناه إن شاء الله؛ فهذه الحقن الّتى تتقدّم أوّلا. صفة حقنة تسمّن الكلى وتزيد فى الباه يؤخذ من دهن الجوز نصف رطل، يلقى فيه من الحسك نصف رطل، ومن لبن البقر رطل ونصف، وفانيذ «4» وزنجبيل وبزر هليون «5» ، من كلّ واحد أوقيّة؛ يغلى

صفة حقنة أخرى تسمن الكلى وتزيد فى الباه

على النار، ويصفّى ماؤه؛ ويؤخذ منه أربعة عشر مثقالا، ومن دهن الزّنبق أربعة مثاقيل، ومن دهن البان أربعة مثاقيل، ثم يحقن به، فإنّه نافع لذلك] . صفة حقنة أخرى تسمّن الكلى وتزيد فى الباه يؤخذ رأس كبش وأكارعه ونصف أليته، [ويرضّ «1» الجميع، ويوضع فى قدر؛ ثم يوضع عليه ربع رطل حمّص] ؛ ومثل «2» ذلك حنطة ولوبياء حمراء، ومن الشّبث والبابونج وبزر اللّفت ومرزنجوش «3» ، من كلّ واحد سبعة مثاقيل، حسك خمسة عشر مثقالا؛ تطبخ بعشرة أرطال ماء حتى يتهرّأ الجميع، ويصفّى، ويؤخذ من ذلك الماء والدّسم رطل «4» ، ويلقى عليه من سمن البقر أوقيّة، ومن اللّبن الحليب أوقيّتان ومن دهن البان نصف أوقيّة؛ ثم يحقن به ثلاث ليال متوالية عقيب تلك الحقنة الّتى تغسل الأمعاء، فإنّه عجيب الفعل. صفة حقنة أخرى تنفع من انقطاع الجماع، وتقوّى الشهوة وتسخّن الكلى، وتزيد فى الباه زيادة حسنة يؤخذ بزر كتّان وبزر نرجس وبزر فجل وبابونج «5» من كلّ واحد أوقيّة، حلبة

صفة حقنة أخرى

ثلاث أواقىّ، أنجرة أوقيّة، حنطة أربع أواقىّ، سمن «1» ثلاث أواقىّ، تمر «2» عشرون عددا لبّ «3» القرطم البرىّ والبستانىّ من كلّ واحد أوقيّتان، مرزنجوش «4» ثلاث أواقىّ يطبخ جميع ذلك بعشرة أرطال ماء حتّى يبقى منه الثّلث، ويمرس، ويصفّى ويؤخذ دهن سوسن ودهن نرجس ودهن زنبق ودهن خيرىّ «5» وعسل نحل من كل واحد أوقيّة، يخلط الجميع «بالماء الأوّل» ، ويؤخذ منه نصف رطل ويحقن به فإنه نافع. صفة حقنة أخرى يؤخذ لبن ضأن واذنا الخروف وحنطة وشعير وحلبة وشحم دجاج، وشحم بطّ وفراخ [حمام «6» ] وبابونج وخطمىّ وحسك وشبث «7» وتين وعنّاب وسيسبان «8»

صفة حقنة أخرى من كتاب الرازى تهيج الباه

وبزر كتّان، من كلّ واحد جزء؛ ويطبخ جميع ذلك بماء حتّى يتهرّأ، ويصفّى، ويخلط معه شيرج ودهن بنفسج ودهن خيرىّ ودهن بطم «1» ، ودهن جوز، وسمن بقر، ثم يحقن به على ما تقدّم فإنّه غاية فى النفع. صفة حقنة أخرى من كتاب الرّازىّ تهيج الباه يؤخذ رطل من دهن الجوز، ويلقى فيه رطل حسك، وثلاثة أرطال من حليب البقر، وأوقيّة زنجبيل وأوقيّة فانيذ «2» ، ويطبخ حتّى يغلى مرارا؛ ثم يصفّى ويؤخذ منه أوقيّتان، وزنبق نصف أوقيّة، ودهن بان نصف أوقيّة، ويحتقن به ولا يجامع عشر ليال، فإنّه عجيب. هذه الحقن.

وأما الحمولات التى تحدث الإنعاظ الشديد

وأمّا الحمولات الّتى تحدث الإنعاظ الشديد - يؤخذ بزر جزر وبزر جرجير، ولعبة «1» ، ولبّ حبّ القطن، أجزاء متساوية، يعجن بماء الراسن «2» أو بماء الجرجير، وتعمل من ذلك فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا. صفة أخرى يؤخذ من شحم كلى السّقنقور «3» فيذاب بدهن السّوسن، ويذرّ عليه من لبّ حبّ القطن وعاقرقرحى «4» وزنجبيل بعد سحق ذلك ونخله، وتعمل منه فتيلة ويتحمّل بها.

صفة أخرى

صفة أخرى «1» يؤخذ من شحم كلى السّقنقور وشحم البقر، والشّمع، يسلأ «2» ذلك، وتلقى عليه أدمغة العصافير «3» الدّوريّة، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها] . صفة أخرى يؤخذ قنطريون «4» مسحوق، وزفت، وشمع، يذاب بدهن سوسن، وتعمل منه فتيلة، ويتحمّل بها، فإنّها تنعظ إنعاظا عجيبا.

صفة أخرى

صفة أخرى تؤخذ قطعة حلتيت «1» فتجعل فى ثقب الذّكر بقدر ما تلذع، ثم تشال منه، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا؛ وإذا حصل اللّذع يقطر فى ثقب الذّكر دهن بنفسج. هذا ما يعالج به الباطن؛ فلنذكر الأدوية النافعة للظاهر من المسوحات والضّمادات والأدوية الملذّذة للجماع» . ذكر المسوحات والضّمادات الّتى تزيد فى الباه، المقويّة للذّكر صفة مسوح يمرخ به القضيب فيهيج شهوة الجماع ويزيد فى الباه يؤخذ عاقرقرحى، وبسباسة، ودارفلفل، من كلّ واحد مثقالان؛ قنّة «3» وأفربيون «4»

صفة مسوح آخر يمرخ به الذكر والعانة، يزيد فى الإنعاظ ويسخن الكلى والمثانة

من كلّ واحد مثقال؛ جندبا «1» دسترو بزر الجرجير، من كلّ واحد نصف مثقال؛ دهن النّرجس عشرة مثاقيل؛ شمع أبيض أربعة مثاقيل؛ تسحق الأدوية اليابسة ويذوّب الشّمع والقنّة مع الدّهن على النار؛ ثم تلقى عليها الأدوية المسحوقة، ثم يرفع، ويمرخ به القضيب والعانة، فإنّه جيّد مفيد لما ذكر. صفة مسوح آخر يمرخ به الذّكر والعانة، يزيد فى الإنعاظ ويسخّن الكلى والمثانة تؤخذ عصارة حشيشة الكلب- وهى الفراسيون «2» - تدق وتحلّ بالدّهن ويمرخ بها.

مسوح آخر يمرخ به الذكر يزيد فى الإنعاظ

مسوح آخر يمرخ به الذّكر يزيد فى الإنعاظ تؤخذ مرارة ثور فحل، وعسل نحل منزوع الرّغوة، وقليل عاقرقرحى «1» ؛ يخلط الجميع، ويمسح به. مسوح آخر ملوكىّ يؤخذ أفربيون وزنجبيل وعاقرقرحى «2» ، من كلّ واحد مثقال، ومسك نصف مثقال؛ تجمع بدهن البلسان «3» ، ويمرخ بها القضيب وما يليه، فإنّها نهاية. مسوح آخر ينعظ ويزيد فى الباه، ويعين على الجماع إذا مرخ به القضيب والعانة يؤخذ السّقنقور «4» وقضيب الايّل «5» المجفّف، والحشيشة المسمّاة خصى الثّعلب «6» من كلّ واحد مثقال، ومن بزر العاقر قرحى وبزر الجرجير، من كلّ واحد أربعة مثاقيل فربيون مثقالان، بيض العصافير الدّوريّة «7» ثلاث بيضات، تجعل فى إناء زجاج ويصبّ عليها شىء من قطران ودهن سوسن مقدار ما يغمرها ويطفو عليها؛ ويسدّ رأس الإناء، ويدفن فى الزّبل مدّة أربعين يوما، يبدّل عليه الزّبل فى كلّ سبعة

مسوح آخر

أيّام، ثم يخرجه بعد ذلك، ويصفّى عنها الدّهن؛ ويلقى فى الدّهن سبعة مثاقيل من علك البطم «1» ؛ وتسحق الأدوية اليابسة، ويخلط الجميع بالعجن الجيّد؛ ويصبّ عليه من دهن السّوسن حتّى يصير فى قوام المرهم الرّطب، ثم يرفع لوقت الحاجة؛ فاذا أراد العمل به مرخ به القضيب وما قرب منه، فإنّه يفعل فعلا عجيبا. مسوح آخر يؤخذ دهن خيرىّ ودهن نرجس، من كلّ واحد نصف رطل؛ يجعل ذلك فى طنجير، ويلقى عليه دارفلفل «2» وعاقرقرحى «3» وزنجبيل ودار صينىّ من كلّ واحد أوقيّة؛ جند بيدستر «4» نصف أوقيّة؛ يغلى ذلك على النار غليانا جيّدا، ويمرس ويصفّى، ويرفع فى إناء زجاج، ثم يدهن به القضيب وما حوله، فإنّه يفعل فى الإنعاظ فعلا جيّدا قويّا. مسوح آخر تؤخذ مرارة التّيس ويطلى بها الذّكر وما حوله والحقوان، فإنّ ذلك يقوّى على الباه «5» ... أمرا عجيبا.

مسوح آخر يلطخ به الذكر المرخى القليل القيام

مسوح آخر يلطخ به الذّكر المرخى القليل القيام يؤخذ بورق «1» وورس «2» ، ويعجنان بعسل منزوع الرّغوة، ثم يلطخ به الذّكر وما حوله، ويدمن ذلك أيّاما، فإنّه عجيب الفعل. مسوح آخر يؤخذ من شحم الضّبّ ولحمه فيطبخان، ويؤخذ دهنه ويخلط بزنبق، ويدهن به الذّكر، فإنّه يزيد فى الإنعاظ، ويقوّى الباه ... «3» أمرا عظيما. مسوح آخر تؤخذ العصافير وقت هيجانها فتذبح على دقيق العدس، ويلتّ بدمها، ويبندق ويجفّف، فإذا أراد الجماع فليأخذ بندقة ويحلّها بزيت، ثم يطلى بها أسفل القدمين؛ ولا يطأ على الأرض، بل يكون على الفراش، فإنّه ينعظ إنعاظا قويّا، وإن وطئ على الأرض بطل فعل الدّواء.

مسوح آخر

مسوح آخر تؤخذ مرائر العصافير الدّوريّة الذكور وتخلط بدهن زنبق خالص، ثم يؤخذ باذروج «1» وشهدانج فيدقّان جميعا دقّا ناعما، ثم يخلطان بالمرائر والدّهن، ويرفع ذلك فى قارورة، فإذا أراد الجماع يمسح منه تحت القدمين وعلى القضيب والأنثيين ولا يطأ على الأرض، فإنّه يرى من قوّة الباه أمرا عجيبا. مسوح آخر يؤخذ قضيب الإيّل فيحرق، ويعجن رماده بشراب عتيق، ثم يطلى به القضيب ويمرخ به، ويطلى ما حوله، فإنّه ينعظ إنعاظا شديدا جدّا؛ فهذه المسوحات. وأمّا الضّمادات التى تزيد فى الباه وتعين على الجماع فيؤخذ رماد قضيب الإيّل وعاقرقرحى وفربيون وفلفل أبيض، من كلّ واحد جزء؛ تسحق وتجمع، وتعجن بشراب عتيق، ويضمد الذّكر بها والانثيان، فإنّها تزيد فى الباه. صفة ضماد يجعل على الظّهر، يزيد فى الباه، ويقوّى الإنعاظ يؤخذ فلفل وعاقرقرحى وفربيون، من كلّ واحد مثقالان ونصف؛ حلتيت «2» مثقال وربع؛ دهن بلسان «3» ودهن قسط، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ دارفلفل «4»

صفة ضماد يجعل على الإبهام من الرجل اليمنى، يزيد فى الباه ويقوى الجماع

وجوزبوا، من كلّ واحد مثقالان؛ تسحق الأدوية اليابسة سحقا ناعما جدّا؛ وتحلّ بالأدهان؛ وتمدّ على خرقة، وتوضع على الظّهر، فإنّه يرى العجب. صفة ضماد يجعل على الإبهام من الرّجل اليمنى، يزيد فى الباه ويقوّى الجماع يؤخذ من عود اليسر «1» خمسة عشر مثقالا، ومن صمغ البطم «2» وصمغ عربىّ وفلفل من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ خرء الفأر والحشيشة المسمّاة خصية الثعلب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل، ومقل «3» أزرق وعاقرقرحى وزنجبيل وفربيون وسكبينج «4» وجوزبوا

ذكر الأدوية الملذذة للجماع

من كلّ واحد أربعة مثاقيل، ويؤخذ سامّ أبرص فينقع فى الخلّ الحامض أربعين يوما، ويخرج ويجفّف؛ ويؤخذ شحم ودك الكلى وقنّة وشمع أبيض، من كلّ واحد عشرة مثاقيل؛ تجمع الصّموغ والأصناف، ويذوّب ما يذوب منها، وتخلط به بقيّتها بعد دقّها، فإذا اختلطت خلطا جيّدا يمدّ منها على خرقة حرير أو صوف وتوضع على إبهام الرّجل اليمنى، فإنّه يرى منه أمرا عجيبا. ذكر الأدوية الملذّذة للجماع «1» منها صفة دواء يطلى به الإحليل عند الجماع يزيد فى الباه واللّذّة؛ يؤخذ جوزبوا «2» وفلفل ودارفلفل «3» وعاقرقرحى وزنجبيل وسنبل وخولنجان» وسكّر، من كلّ واحد مثقالان «5» ؛ فيسحق كلّ صنف منها على انفراده ثم تجمع بالسحق، وتنخل، وتعجن بالعسل الّذى قد ربّى فيه الزنجبيل والشّقاقل ويمسح بها الذّكر، فإنّه يرى منه عند الجماع لذّة عظيمة.

صفة دواء آخر

صفة دواء آخر يؤخذ عاقرقرحى وزنجبيل ودار صينىّ وسكّر «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ونصف؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج «3» الرّطب، وتحبّب مثل حبّ الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ ثم تسحق ثانيا، وتطرح فى دهن رازقىّ «4» ويطلى بها الذّكر، فإنّه جيّد.

صفة دواء آخر يزيد فى اللذة عند الجماع

صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة عند الجماع يؤخذ [سكّر] طبرزذ وكبابة وعاقرقرحى «1» ، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بماء الرازيانج الرّطب، وتحبّب مثل الفلفل، وتجفّف فى الظّلّ؛ فإذا احتاج اليها طرح منها فى الفم حبّة، واستعمل ما انحلّ منها؛ أو تحلّ فى دهن ويمسح بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يرى منه لذّة عظيمة. صفة دواء آخر يحدث من اللّذّة ما لا يوصف يؤخذ رازيانج يابس محمّص، وفلفل، ودارفلفل، وزنجبيل، وعاقرقرحى ودار صينىّ، وجوزبوا «3» وقردمانا «4» وسكّر طبرزذ، من كل واحد مثقالان «5» ؛ تجمع

صفة دواء آخر يزيد فى اللذة

مسحوقة منخولة، وتحلّ بماء الرازيانج الرّطب أو بماء الباذروج الرّطب حتّى تصير فى قوام الطّلاء؛ ثم ترفع فى إناء زجاج، ويسدّ رأسه عشرة أيّام، ويخضخض فى كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم يمسح منه الذّكر بعد ذلك، ويترك حتّى يجفّ ثمّ يجامع بعد جفافه؛ ويحرص أن ينحلّ وهو يجامع؛ ولا يترك رأس الإناء مفتوحا فإنّ الهواء يذهب بقوّة الدواء. قال: فمن استعمل هذا الدواء لم تصبر المرأة عنه. صفة دواء آخر يزيد فى اللّذّة تؤخذ مرارة ذئب، وعسل «1» نحل، وماء الرازيانج الرّطب، من كلّ واحد خمسة مثاقيل؛ فلفل ودارصينىّ وزنجبيل وغاقر قرحى، من كلّ واحد مثقال؛ تسحق الأدوية اليابسة، وتنخل، وتلقى فى المرارة والماء والعسل، وتخضخض فى إناء «زجاج» «2» ، ويغطّى فمه حتّى لا يصل إليه الهواء؛ ويمسح منه على الذّكر وقت الجماع، فإنّ المرأة تجد لذلك لذّة عظيمة. صفة دواء آخر تؤخذ مرارة دجاجة سوداء، ويضاف إليها شىء [يسير «3» ] من الزنجبيل «4» المسحوق ويطلى بهما الذّكر، فإنّ المرأة تلتذّ به. وحيث ذكرنا من أدوية الباه ما ذكرنا، فلنذكر ما قيل فى الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه، والأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتجفّف رطوبتها.

ذكر الأدوية التى تعظم الذكر وتصلبه

ذكر الأدوية الّتى تعظّم الذّكر وتصلّبه قد أجمع (جالينوس) ومن تابعه من الحكماء على أنّ الدّلك الدائم والتّمريخ بالأدهان والأشياء المليّنة والتنطيل «1» بالماء الحارّ والدّلك بالزيت والزفت، تعظّم كلّ عضو فى الجسد؛ ولا خلاف عندهم أنّ هذا العضو اذا فعل به ذلك عظم ونما وزاد عن حالته الّتى هو عليها، فاذا اجتمع مع ذلك هذه الأدوية الّتى نذكرها- وهى ممّا اتّفق الأطباء على جودتها وصحّتها- فإنّ ذلك أبلغ وأسرع. فمن ذلك صفة دواء يعظّم الذّكر ويصلّبه ويعين على الجماع يؤخذ بورق «2» أرمنىّ وسنبل، من كلّ واحد مثقالان، علق طوال عشر عددا؛ يجفّف العلق، ويسحق مع البورق والسّنبل حتّى يصير جميع ذلك كالهباء؛ ثم يصبّ عليه لبن حليب وعسل أجزاء متساوية، من كلّ واحد منهما عشرة مثاقيل، ويمرس باليد حتّى يختلط، ثم يطلى به الذّكر ليلة؛ ثم يغسل بالماء الحارّ من الغد، ويدلك بالخطمىّ «3» دلكا قويّا حتّى يحمرّ، ثم يغسل، ثم يعاد عليه الدواء والدّلك قبل الدواء وبعده، فإنّه جيّد. صفة دواء آخر يعظّم الذّكر ويحسّن منظره يؤخذ شمع أحمر، وزفت، وعلك بطم، وزيت فلسطينىّ، من كلّ واحد خمسة

مثاقيل، أنزروت «1» وبورق أرمنىّ مذوّبان «2» بلبن الأتان أربعة مثاقيل- وهو أن تأخذ الأنزروت والبورق فتسقيهما لبن الأتان ثم [تجفّفهما] وتسحقهما، [وتسقيهما «3» ] ثمّ تجفّفهما حتّى يشربا ثلاثة مثاقيل لبن- ويؤخذ من العلق الطّوال المجفّف ثلاثة مثاقيل؛ ويسحق الجميع، ويذوّب الشّمع والزّفت والعلك والزيت، وتلقى عليها الأدوية المسحوقة، وتخلط خلطا جيّدا، ويمدّ منها على خرقة، وتوضع الخرقة على الذّكر بعد دلكه إلى أن يحمرّ، وتبيّت عليه ليلة، ويغسل باكر النهار بالماء الحلو «4» الحارّ، ويدلك أيضا، ويعاد عليه الدواء إلى أن يبلغ فى العظم ما تريد فاتركه.

صفة دواء آخر لذلك

صفة دواء آخر لذلك يؤخذ إشقيل مشوىّ وفربيون وعاقرقرحى ودارفلفل «1» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحق ذلك سحقا ناعما، ويعجن بالعسل، ويطلى منه القضيب، ويترك ليلة، ثم يغسل باكر النهار بالماء الحارّ، ويدهن بدهن زنبق، فإنّه يعظم جدّا. دواء آخر يؤخذ باذروج «2» أخضر، يمضغ حتّى ينعم مضغه، ويدلك به الذّكر دلكا جيّدا فإنّه يعظّمه. صفة دواء آخر يؤخذ علق طوال طريّة، تجفّف وتسحق، ثم تربّب بدهن حتّى تصير كالمرهم ثم يطلى بها الذّكر، فإنّها تعظّمه جدّا. صفة دواء آخر يطبخ الزفت بالزّيت، ثم يمدّ على خرقة، ويوضع على الذّكر، ثم يقلع بعد ساعة ويغسل بالماء الحارّ، ثم تعيد الدواء عليه حتّى يبلغ من العظم ما تريد. وإن تقرّح الذّكر من بعض الأدوية التى تقدّم ذكرها، فامسحه بدهن زنبق ودهن بنفسج و «3» شمع أبيض. قال: وإن دلك الدّكر باللّبن الحليب من ضرع الشاة ثلاثة أيّام فإنه يعظم؛ والله أعلم بالصواب.

ذكر الأدوية التى تضيق فروج النساء وتسخنها وتجفف رطوبتها

ذكر الأدوية الّتى تضيّق فروج النّساء وتسخّنها وتجفّف رطوبتها قال عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشّيرازىّ: اعلم أنّ كمال لذّة الوطء لا تحصل للرّجل حتّى تجتمع فى الفرج ثلاثة أوصاف، وهى الضّيقة والسّخونة والجفاف من الرطوبة؛ فإذا نقص منها وصف واحد أو وصفان فقد نقص من اللّذّة الّتى تحصل للرّجل عند الجماع بمقدار ذلك؛ وإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة من الفرج، لم يحصل بوطئه لذّة البتّة. ثم قال: واعلم أنّ الولادة وكثرة الجماع يوسّعان الفرج، ويذهبان لذته؛ فينبغى أن يتدارك من هذه الأدوية بما يصلحه ليرجع إلى حالته الأولى. فمن ذلك صفة دواء يضيّق الفرج يؤخذ جلد ابن آوى «1» محرقا، وأظلاف المعز محرقة، وحافر حمار محرق، وجوز ماثل «2»

محرق، وسرطان «1» بحرىّ محرق، وبسفايج «2» محرق، وسعتر «3» فارسىّ، من كلّ واحد وزن درهم؛ يسحق الجميع ناعما، ويعجن بدهن البان، ويرفع؛ ثم تتحمّل منه المرأة بزنة دانق فى كلّ شهر ثلاث مرّات كلّ عشرة أيّام مرّة، ولا يكون فى وقت الحيض ويكون حرق الأدوية بمقدار ما تسحق من غير مبالغة فى الإحراق، فإنّه يضيّق القبل حتّى تصير المرأة كالبكر.

صفة دواء آخر

صفة دواء آخر يؤخذ أفسنتين «1» وحمامى «2» وعصفر «3» وصمغ البطم «4» وجلّنار «5» وقيصوم «6» ودار شيشعان «7» ، من كلّ واحد زنة درهمين؛ تدقّ وتعجن بزيت، وتتحمّل منها المرأة بصوفة تسعة أيّام متوالية، فإنّه مجرّب لذلك.

صفة دواء آخر فيه منافع

صفة دواء آخر فيه منافع يؤخذ «1» بسباسة ومرزنجوش «2» وسعتر برّىّ وقشور الكندر وإذخر وخيرىّ «3» وورد أحمر، وقشور الرّمّان وقشور الكبر «4» والتّرمس «5» من كلّ واحد مثقال، يسحق ذلك، ويعجن بدهن البان، وتتحمّل منه المرأة نهارا، وتخرجه ليلا.

صفة دواء آخر يضيق القبل

صفة دواء آخر يضيّق القبل يؤخذ سكّ مسك وزعفران، ويصبّ عليهما شراب ريحانىّ، ويغلى «1» غليانا جيّدا، ثم تشرّب منه «2» خرقة كتّان، وترفع لوقت الحاجة؛ فاذا أرادت المرأة استعمالها قطعت قطعة، وتحمّلت بها قبل الجماع بيوم وليلة، فإنّه يضيّق المحلّ، ويطيّب رائحته. دواء آخر يؤخذ رامك «3» وأقاقيا «4» وسنبل وسعد؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب، وتتحمّل منه المرأة بصوفة. دواء آخر يؤخذ شبّ وعفص وقلقند «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ الجميع، ويعجن بشراب ويصيّر مثل النّوى، وتتحمّل منه المرأة.

دواء آخر

دواء آخر يؤخذ زاج «1» وشبّ، من كلّ واحد جزء، يسحقان، ثم يعجنان بماء الحصرم ويصيّران شبه النّوى، وتتحمّل المرأة بواحدة منه قبل الجماع، وتمكث ساعة حتّى تنحلّ فى فرجها، فهذه أدوية تضيّق الفرج. وأمّا الأدوية الّتى تسخّن القبل فيؤخذ شحم الدّجاج، وشحم البطّ، وزبل الغنم ودهن ناردين «2» ، وصمغ اللّوز، من كلّ واحد جزء؛ زعفران ومرّ، من كلّ واحد ربع جزء؛ تذاب الشّحوم بالدّهن وتذرّ عليها الأدوية اليابسة بعد سحقها، وتتحمّل منه المرأة بصوفة وهو فاتر، فإنّه جيّد مجرّب. دواء آخر مثله يؤخذ مرزنجوش «3» ، وقشور الكندر، وصعتر برّىّ، وبسباسة «4» ، من كلّ واحد

صفة دواء آخر

جزء؛ يسحق الجميع، ويعجن بدهن ناردين «1» أو دهن بان، ثم تتحمّل منه المرأة فإنّه بليغ جيّد الفعل. صفة دواء آخر يؤخذ أفسنتين رومىّ وسنبل «2» ودار صينىّ ومرارة ثور يابسة وسعتر؛ يسحق الجميع، ويعجن بشراب صرف، وتستعمله المرأة مرارا فإنّه جيّد. وأمّا الأدوية الّتى تجفّف رطوبة الفرج- فقال الحكماء: إذا كثرت رطوبة فرج المرأة كان أنفع علاجها الإسهال بالإيارجات «3» والحبوب واستعمال هذه الأدوية. فمنها [صفة «4» ] دواء يجفّف الرطوبة يؤخذ شبّ وإثمد «5» ، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان، وتتحمّل المرأة منهما ذرورا، فإنّه جيّد.

صفة دواء آخر مثله

صفة دواء آخر مثله يؤخذ صنوبر «1» وسعد «2» ، من كلّ واحد جزء؛ يدقّ ذلك ناعما، ويطبخ بشراب وتشرّب منه خرقة كتّان، وتتحمّل منه المرأة، فإنّه نافع. صفة دواء آخر يؤخذ عفص وجفت «3» البلّوط وجلّنار «4» ، من كلّ واحد ملء كفّ؛ يطبخ ذلك بالماء طبخا جيّدا، ويرفع فى إناء، وتستنجى منه المرأة قبل الجماع، فإنّه غاية. دواء آخر يؤخذ تمر برنىّ «5» وسمن وعسل وأنيسون ولبن، من كلّ واحد جزء، ويجعل ذلك فى قدر نظيفة، ويغمر بالماء أربع أصابع، ثم يطبخ طبخا جيّدا حتّى يغلظ وتتحمّل منه المرأة. قال حنين بن إسحاق: ينبغى ألّا يستعمل فيه ماء البتّة، بل يطبخ بالعسل والسمن حتّى يغلظ ويرفع، ويستعمل، فإنّه يقطع الرطوبة من الفرج، ويسكّن الضربان، ويصلح للنّفساء؛ والله أعلم بالصواب.

ذكر الأدوية التى تطيب رائحة البدن وتعطره فمنها [صفة] طلاء يطيب رائحة البدن

ذكر الأدوية الّتى تطيّب رائحة البدن وتعطّره فمنها [صفة «1» ] طلاء يطيّب رائحة البدن يؤخذ نمّام «2» ونعنع ومرزنجوش وورق التّفّاح، من كلّ واحد جزء «3» ، ثم يجعل عليه «4» من الماء ما يغمره وزيادة أربع أصابع؛ ويطبخ حتّى ينقص الثّلث، ويصفّى ويطلى به البدن، فإنّه يطيّبه ويقطع سهوكته. دواء آخر يؤخذ آس ومرزنجوش وسعد وقشور الأترجّ وورقه وأشنة «5» وصندل، من كلّ واحد جزء؛ يسحق جميع ذلك، ويرفع؛ فاذا أراد استعماله حلّ منه قليلا بدهن آس أو دهن ورد، أو بماء فاتر، ويمرخ به البدن، فإنّه جيّد. دواء آخر مثله يؤخذ مرداسنج «6» وتوتياء ورماد ورق السّوسن ومرّ وصبر وورد، من كلّ واحد جزء، يدقّ ذلك، ويسحق؛ ويستعمل مثل الأوّل لطوخا أو ذرورا.

صفة قرص حاد يقطع الصنان

صفة قرص حادّ يقطع الصّنان يؤخذ صندل وسليخة وسكّ مسك وسنبل وشبّ ومرّ وورد أحمر، من كلّ واحد جزء، ومن التوتياء والمرداسنج، من كلّ واحد ثلاثة أجزاء، ومن الكافور نصف جزء؛ تجمع هذه الأصناف بعد سحقها، وتعجن بماء الورد، وتقرّص وتستعمل بعد التجفيف. دواء آخر يقطع رائحة العرق يؤخذ ورد وسكّ وسنبل وسعد وشبّ ومرّ، من كلّ واحد جزء؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما، وتحلّ بماء الورد، وتستعمل لطوخا، فإنّه جيّد لما ذكرنا. صفة دواء آخر يذهب رائحة الإبط، ولا يحتاج بعده إلى دواء آخر يؤخذ راسن مجفّف محرق وزراوند «1» طويل محرق، وورق رند «2» محرق، ونوى زعرور «3» محرق، ونوى الزيتون الأخضر محرقا، وقرطاس «4» محرق، وزجاج «5» فرعونىّ

صفة دواء آخر يطيب البدن، وينفع أصحاب الأمزجة الحارة

محرق، وزعفران، من كلّ واحد جزء؛ تسحق سحقا ناعما حتّى تصير مثل الكحل وتعجن بالماء المعتصر من الآس، وتحبّب، وتجفّف فى الظّلّ، ثم يشرط تحت الإبط شرطان يسيران، ويسحق ذلك الحبّ، ويدلك به ذلك الموضع والدّم يجرى، ويترك عليه يوما وليلة، ثم يغسل، فلا تعود تظهر رائحته أبدا. صفة دواء آخر يطيّب البدن، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة يؤخذ سعد «1» ، وساذج «2» ، وفقّاح الإذخر «3» ، وميعة «4» سائلة «5» ، من كلّ واحد عشرة مثاقيل، ورد يابس، وأطراف الآس، من كلّ واحد مثقالان، يبلّ السّعد وفقّاح الإذخر والساذج بشراب ريحانىّ «6» ، ثم تسحق، وتعجن بالشّراب وتقرّص، وتجفّف، ثم تسحق، ويطرح عليها الورد وأطراف الآس مسحوقين ويذاب زعفران بماء الورد، ويخلط مع الأدوية، ويجفّف ذلك كلّه فى الظّلّ ثم يسحق بعد جفافه، ويجعل ذرورا؛ فإذا أراد استعماله دخل الحمّام، وتنظّف من كلّ درن، ثم خرج وتنشّف من العرق، ثم نثر على بدنه من هذا الدّواء، فإنّه نهاية فى قطع رائحة العرق. صفة دواء آخر يقطع العرق، وينفع أصحاب الأمزجة الحارّة يؤخذ دار صينىّ وسنبل هندىّ، وأظفار وقسط «7» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن

ذكر الأدوية التى تجلو الأسنان من الصفرة والسواد وتطيب رائحة الفم والنكهة

طين البحر «1» وإسفيداج «2» مغسول، من كلّ واحد نصف جزء، شيح وشقاقل «3» من «4» كلّ واحد ثلاثة أجزاء «5» ، زعفران وورد يابس، من كلّ واحد ثلث جزء؛ تسحق الأدوية اليابسة بماء الزعفران والآس بعد أن تحلّ بشراب ريحانىّ ويستعمل، فإنّه جيّد. ذكر الأدوية الّتى تجلو الأسنان من الصّفرة والسواد وتطيّب رائحة الفم والنّكهة فأمّا السّنونات «6» الّتى تجلو الأسنان- فمنها، يؤخذ قرن ايّل «7» محرق، وملح أندرانىّ «8» ، وزبد البحر، من كلّ واحد جزء؛ ورق أثل محرق، وأصول القصب

سنون آخر

المحرق جزءان؛ شاذنج «1» ربع جزء، خزف صينىّ جزء؛ يدقّ الجميع، ويخلط ويستنّ «2» به. سنون آخر يؤخذ من قشور الرمّان جزءان، ومن عروق الچنار «3» والشّبّ والعقيق «4» ، من كلّ واحد جزء، يدقّ «5» وينخل، ويستنّ به، فإنّه غاية.

صفة سنون آخر يقوى الأسنان ويجلوها

صفة سنون آخر يقوّى الأسنان ويجلوها يؤخذ ملح أندرانىّ، يسحق، ويشدّ فى قرطاس، ويلقى على الجمر، فإذا احمرّ أخذ وأطفئ فى قطران، ثم يؤخذ منه جزء، ومن زبد البحر ودار صينىّ ومرّ وسعد ورماد الشّنج «1» ، من كلّ واحد جزء؛ ومن السّكّر ثلاثة أجزاء، ومن الكافور عشرة «2» أجزاء؛ يسحق ويستنّ به، فإنّه جيّد. وأمّا الأدوية الّتى تطيّب رائحة الفم والنّكهة- فمنها دواء يؤخذ ورد أحمر منزوع الأقماع، وصندل أبيض، وسعد، من كلّ واحد عشرة دراهم؛ سليخة» وسنبل وقرفة [وقرنفل «4» ] وجوزبوا «5» ، من كلّ واحد أربعة دراهم؛

صفة حب آخر يزيل البخر

قشور الأترجّ المجفّفة وورقه، وإذخر وأشنة «1» ، من كلّ واحد خمسة دراهم سكّر وعود هندىّ ومصطكاء وبسباسة وسكّ «2» ، من كلّ واحد درهمان، كافور نصف درهم؛ مسك نصف دانق؛ تدقّ الأصناف دقّا ناعما، وتعجن بماء ورد، أو بماء ورق الأترجّ، وتحبّب بقدر الحمّص، وتمسك فى الفم، فإنّه جيّد مجرّب. صفة حبّ آخر يزيل البخر يؤخذ صبر صمغ «3» ثلاثة دراهم، وفلفل وقرنفل وخولنجان وعاقرقرحى «4» ، من كلّ واحد درهم؛ مسك وكافور من كلّ واحد دانق؛ تدقّ هذه الأصناف دقّا ناعما وتعجن بشراب «5» ريحانىّ، وتحبّب، وتستعمل كما تقدّم. صفة حبّ آخر ينفع من البخر يؤخذ هال «6» وقاقلّة «7» وجوزبوا ودارصينى وخولنجان، من كلّ واحد ثلاثة دراهم

صفة دواء آخر

ورد أحمر وصندل أبيض من كلّ واحد خمسة دراهم، كافور نصف درهم، مسك زنة دانق؛ يدقّ الجميع دقّا ناعما، ويعجن بماء ورد، ويحبّب مثل الحمّص، وتمسك فى الفم منه حبّة واحدة. صفة دواء آخر تؤخذ سليخة، ودارصينىّ، ورامك، وهال، وفقّاح الإذخر «1» ، وأصول السّوسن وكبابة وأشنة «2» ؛ تسحق هذه الأدوية، [وتعجن «3» ] بماء ورد، وتحبّب مثل الحمّص وتجعل فى الفم منها تحت اللّسان فى كلّ يوم واحدة، فإنه جيّد. صفة حبّ آخر ملوكىّ ذكره التّميمىّ فى كتابه، وقال: إنّه أخذه عن أحمد بن أبى يعقوب؛ وهو: يؤخذ من العود الهندىّ سبعة دراهم، ومن القرنفل والبسباسة «4» من كلّ واحد منهما أربعة دراهم، ومن الكبابة والقاقلّة «5» من كلّ واحد ثلاثة دراهم، ومن السّعد «6»

صفة حب آخر مثله يطيب النكهة، ويستعمل كما تقدم أيضا

الكوفىّ الأبيض والصّندل «1» المقاصيرىّ من كلّ واحد خمسة دراهم، ومن سكّ «2» المسك مثقال، ومن الكافور نصف مثقال؛ تسحق هذه الأصناف، وتعجن بماء الورد وتحبّب بقدر الحمّص أو أكبر، وتجفّف فى الظّلّ، ويأخذ منه «3» حبّة بالغداة فيديرها فى فمه حتّى تذوب، ويفعل مثل ذلك عند النوم. وقال: هذا الحبّ إن شئت استعملته على هذه الصفة. وإن شئت تبخّرت منه. وإن شئت سحقت منه حبّة وأذبتها بماء ورد، وتطيّبت بها. وإن شئت سحقتها مثل الذّريرة وتطيّبت بها يابسة. وإن حللت منه بالبان المنشوش «4» كان مسوحا طيّبا شبيها بالغالية «5» . وإن حللت منه ثلاث حبّات أو أربعا بماء ورد ومسحت به على جسدك فى الحمام، كان طيبا لا بعده. صفة حبّ آخر مثله يطيّب النّكهة، ويستعمل كما تقدّم أيضا يؤخذ عنبر ومسك وسكّ مسك وعود هندىّ، من كلّ واحد جزء؛ كافور رياحىّ «6» ربع جزء، زعفران وقرنفل من كلّ واحد نصف جزء؛ تسحق هذه الأصناف، وتجمع، ويكون سحق العنبر مع العود، ثم يعجن جميع ذلك بماء الورد

ذكر الأدوية التى تعين على الحبل، والأدوية التى تمنعه

ويحبّب كما تقدّم، ويستعمل حبّة بالغداة، وأخرى عند النوم، فانّه ينفع لما ذكرناه وينفع الخفقان وعلل القلب. وقد أخذ هذا الفصل حقّه، فلنرجع الى أدوية الباه. ذكر الأدوية الّتى تعين على الحبل، والأدوية الّتى تمنعه أمّا الأدوية الّتى تعين عليه- فمنها صفة دواء: يؤخذ حبّ «1» البلسان ومقل «2» أزرق وجاوشير «3» وباذاورد «4» ، من كلّ واحد مثقال؛ تدقّ أفرادا، وتجمع

صفة دواء آخر

بالسّحق، وتحلّ بشراب، ويطلى بها الذّكر، ويجامع بعد جفافه، ويحرص على أن ينحلّ الدواء فى الفرج قبل الإنزال، فإنّه نافع مجرّب. صفة دواء آخر يؤخذ أفربيون وعاقرقرحى وجند بيدستر وسنبل وقسط وميعة «1» سائلة، من كلّ واحد مثقالان «2» ؛ يسحق «3» وينخل، ثم يجمع، ويحلّ بالميعة، ويرطّب بشراب «4» ريحانىّ، ويطلى الذّكر منه، وتجامع [المرأة بعد جفافه، فإنّه نافع لذلك لا يخرم «5» سيّما «6» اذا كان عقيب طهر المرأة.

دواء آخر

دواء آخر يؤخذ ورق الغبيراء «1» ، يجفّف، ويسحق سحقا ناعما، ويعجن بمرارة البقر، ويطلى به الذّكر، ويجامع] ، فإنه يزيد فى الباه ويعين على الحبل. دواء آخر يؤخذ بول الفيل، وتسقى منه المرأة وهى لا تعلم، ثمّ يجامعها، فإنّها تحبل لوقتها بإذن الله تعالى. صفة دواء آخر وهو من الأسرار يطلى الذّكر بلبن حليب، ويترك حتّى يجفّ، ثم يجامع عقيب طهر المرأة فإنّه غاية لذلك. قال صاحب كتاب (الإيضاح) : ينبغى لمن استعمل دواء من هذه الأدوية أن يقصد الجماع فى الوقت الذى تطهر فيه المرأة من طمثها. قال: وينبغى أن يرفع وركيها عند الإنزال، ويكون رأسها منكّسا إلى أسفل فإنّ ذلك ممّا يعين على الحبل. قال: وينبغى أنّه إذا أحسّ بالإنزال أن يميل على جنبه الايمن، وكذلك إذا نزع فإنّ الولد يكون ذكرا إن شاء الله تعالى.

وأما الأدوية التى تمنع الحبل

وأمّا الأدوية التى تمنع الحبل - فيحتاج الرجل مع الأدوية أن يكون اعتماده [فى الجماع «1» ] بضدّ «2» ما تقدّم، وذلك أن يجعل إنزاله قبل إنزالها، وأن ينهض عنها بسرعة، ولا يجامعها عقيب الظّهر. وأمّا الأدوية - فمنها صفة دواء يمنع من الحبل ويسقط الجنين: يؤخذ سذاب مجفّف ونطرون، من كلّ واحد جزء؛ يسحقان وينخلان ويحلّان بماء السّذاب الرّطب، ويطلى بذلك الإحليل، ويجامع. دواء آخر مثله تؤخذ قنّة «3» ، تسحق بعصارة السّذاب وماء الكسبرة الخضراء حتّى تترطّب ويطلى بها الذّكر، ويجامع، فإنّه يمنع الحبل ويسقط الجنين. صفة دواء آخر يفعل فعل ما تقدّم يؤخذ أبهل «4» مثقالان؛ ورق سذاب مجفّف، وفودنج «5» يابس، من كلّ واحد نصف

مثقال؛ فوّة «1» وسقمونيا «2» ونطرون، من كلّ واحد مثقال؛ يدقّ ذلك وينخل ويسحق، ثم يجمع، ويحلّ بماء السّذاب الرّطب، أو بماء طفئ فيه الحديد [ويجامع به «3» ] فإنّه شديد فى منع «4» الحبل وإسقاط الأجنّة.

ذكر الأدوية التى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركبة

وحيث ذكرنا ما قدّمناه من الأدوية التى تزيد فى الباه وتغزر المنىّ، وأشباه ذلك، وما وصلناه به، فلنذكر الأدوية الّتى تنقص الباه، وتسكّن الشهوة، فإنّه قد يحتاج الى ذلك فى بعض الأوقات. ذكر الأدوية الّتى تنقص الباه وتمنع من الجماع وتسكّن الشهوة وهذه الأدوية منها مفردة ومنها مركّبة أمّا المفردة - فمنها البقلة الحمقاء، وهى الرّجلة، وتسمّى الفرفحين «1» أيضا، ومنها الخسّ «2» ، والقرع، والشّهدايج «3» ، والعدس، والجمّار، والشّعير «4» ، والأشياء الحامضة كالحصرم والتّوت، والرّمّان الحامض، وحمّاض «5» الأترجّ، والخلّ، وعنب الثعلب «6» ، ومنها البطّيخ والخيار والقثّاء والسّفرجل والمشمش «7» وأشباه ذلك؛ ومنها الفودنج والمرماحوز والمرزنجوش «8»

وأما المركبات - فمنها أغذية وأدوية.

والحرمل «1» والكمّون «2» وبزر قطونا «3» والكافور والبنج «4» والورد والخلاف والإسفاناج وكلّ دواء بارد يابس، فهذه المفردات. وأمّا المركبّات- فمنها أغذية وأدوية. أمّا الأغذية - فمنها السّمّاقيّات، والحصرميّات «5» ، واللّيمونيّات، والسّكباج «6» والمصوص «7» ، والمضيرة «8» ، والعدس، والتّمريّة، والزّبيبيّة، وما أشبه ذلك ممّا فيه خلّ أو حموضة.

وأما الأدوية

وأمّا الأدوية - فمنها صفة دواء يقطع الشهوة، ويجمد المنىّ. تؤخذ كسبرة يابسة محمّصة، وبزر قثّاء، وبزر نرجس، وبزر كتّان، وجلّنار «1» وتحمّص البزور كلّها. ويؤخذ سمّاق، وحرمل «2» وبنج «3» أبيض، وقلقطار «4» وقلقند «5» ، وصندل أبيض من كلّ واحد جزء؛ تجمع هذه الأدوية بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر

صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتة، وهو من الخواص

من الورد «1» والرّجلة، وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء زجاج ويسدّ رأسه من الهواء، فإذا احتيج اليه اذيبت منه واحدة بلعاب بزر قطونا «2» ، ويطلى به الإحليل فى كلّ أسبوع ثلاث مرّات. وإن طليت به «3» فقار الظّهر وتكرّر ذلك أيّاما متواليات قطع النّسل وأمات شهوة الجماع. صفة دواء آخر يقطع شهوة الجماع البتّة، وهو من الخواصّ تؤخذ خصية السّقنقور «4» اليمنى، تجفّف، وتسحق، وتذاب بماء السّذاب الرّطب، فمن شرب منه زنة قيراط قطع شهوته ونسله. صفة دواء آخر يضعف الإحليل ويكسر حدّته ولا يدعه ينتشر البتّة، وهو الّذى يستعمله كثير من الرّهبان. يؤخذ توبال النحاس، وتوبال «5» الحديد، وتوتياء هندىّ، وشعر دبّ، وشعر ثعلب محرقان، وجلّنار محرق، وجفت «6» البلّوط، وكافور، وجوز السّرو محرقا، وصندل أبيض

من كلّ واحد جزء «1» ، تجمع بعد سحقها ونخلها، وتعجن بالماء المعتصر من السّلق وتحبّب مثل الحمّص، وتجفّف فى الظّلّ، وترفع فى إناء من الزّجاج، ويسدّ رأسه فإذا احتيج اليه تؤخذ منه حبّة تحلّ بماء الكسبرة الخضراء، ويطلى بها الذّكر ويرشّ منها أيضا فى السّراويل.

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن [الرابع] فيما يفعل بالخاصية

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفنّ [الرابع «1» ] فيما يفعل بالخاصّيّة إعلم- وفّقنا الله وإيّاك- أنّ الخواصّ كثيرة لا تكاد تنحصر، ولا تتعلل أفعالها، فأحببنا أن نذكر منها طرفا نختم به هذا الفنّ. ولنبدأ بما هو متعلّق بالنكاح، ليكون القول فيه يتلو بعضه بعضا. ذكر الخواصّ المختصّة بالنساء والنكاح الّتى استقرئت بالتجربة «2» ............... ............... ............... ............. خاصّيّة من خواصّ الهنود وهى، تأخذ رأس غراب أسود فأفرغ «3» دماغه، واجعل موضع الدّماغ «4» شيئا من تراب الموضع الّذى تجلس فيه المرأة الّتى تريد، وشيئا يسيرا من زبل الحمام، واجعل

سر آخر

فى ذلك «1» سبع شعيرات، وادفنه فى الأرض فى موضع ند؛ فاذا نبت الشّعير وصار طول أربع أصابع، فخذ منه، ثم ادلك به يدك، وامسح به على وجهك وذراعيك ثم استقبل به تلك المرأة ولا تكلّمها، فإنها تسعى فى أثرك، ولا تطيق الصبر عنك. قال: وهو من الأسرار الخفيّة، فاعرفه. سرّ آخر قال صاحب الخواصّ: خذ أظفار الهدهد وأظفار نفسك، فأحرقهما جميعا واسحقهما حتّى يصيرا ذرورا؛ ثم اجعل ذلك فى قدح طلاء، واسقه أىّ امرأة أردت وهى لا تعلم، فإنّها تميل اليك، وتحبّ القرب منك جدّا. سرّ آخر لجعفر الطّوسىّ قال: إذا أخذت لسان ضفدعة خضراء، ووضعته على قلب امرأة نائمة أخبرتك بجميع ما عملت فى ذلك اليوم. قال: وإن بخّرت فراش امرأة بشىء من ضفدعة خضراء وهى لا تعلم ثم نامت عليه، فإنّها تتكلّم فى نومها بجميع ما عملته. قال: وكذلك اذا أخذت عين الرّخمة أو عين كلب ميّت وأصل الخسّ ثم ربطت ذلك فى خرقة كتّان؛ ووضعته على سرّة امرأة نائمة، أخبرتك بجميع ما عملته. وقال حنين بن إسحاق: اذا أردت أن تعلم أنّ المرأة بكر أو ثيّب، فمرها أن تأخذ ثومة مقشورة وتنخسها «2» فى عدّة مواضع، ثم تحملها فى فرجها ليلة، فاذا أصبحت

فاستنكهها «1» ، فإن وجدت رائحة الثّوم فى فيها فهى ثيّب، وإن لم تجد فيه رائحة فهى بكر. وبذلك أيضا تعرف حملها، فإن وجدت للثّوم رائحة فهى غير «2» حامل وإن لم تجدها فهى حامل. قال: وإذا أردت أن تختبر حال امرأة، وهل بقيت تحمل أم «3» لا فمرها أن تأخذ زراوندا «4» مدحرجا، وتسحقه بمرارة البقر، ثم تحمله بعد طهرها ليلة، فاذا أصبحت، فان وجدت طعمه فى فيها فهى تحمل، وإلّا فهى عاقر. وقال صاحب كتاب (فردوس الحكمة) : إذا تبخّرت المرأة بحافر فرس أو حافر بغل أو حافر حمار أسقطت الولد والمشيمة؛ واذا تحمّلت «5» به بعد الجماع لم تحبل. قال: ومن طلى ذكره بمرارة دجاجة سوداء ثمّ جامع امرأة لم تحمل بعد ذلك أبدا. وقال جابر بن حيّان: إذا أخذت المرأة حبّة خروع وغمّضت عينيها وابتلعتها لم تحبل سنة. قال: وإن ابتلعت حبّتين لم تحمل سنتين؛ وإن ابتلعت ثلاثا فثلاث، وكذلك كلّما «6» زادت كانت كلّ حبّة بسنة.

قال: وإذا أخذ رأس خشّاف «1» ووضع تحت رأس امرأة عند الجماع، لم تحبل من ذلك الوطء. قال: وإن أخذ شوكران «2» وسحق وعجن بلبن رمكة «3» وجعل فى صرّة، وربط فى عضد المرأة الأيسر، لم تحبل أبدا ما دام عليها. قال: وإن شربت المرأة بول كبش لم تحبل أبدا. [وكذلك «4» إن شربت من رغا «5» الجمل الهائج لم تحبل أبدا] . وقال شرك «6» الهندىّ: إذا أردت ذهاب غيرة المرأة فلا تغار من ضرّتها ولا من وطء جارية، فاسقها دماغ أرنب بشراب وهى لا تعلم. قال: وإن سقيت مرارة ذئب بعسل وهى لا تعلم ذهبت غيرتها. ومما يذهب غيرة المرأة أن تسقى غبار دقيق الشّعير من الرّحى الدائرة بماء المطر فإنّه جيّد فى ذهاب الغيرة.

قالوا: وإذا شدّت فى مقنعة «1» امرأة دودة حمراء وهى لا تعلم هاجت شهوتها واغتلمت أمرا «2» عظيما. واذا أخذ من الزّنجار «3» جزء، ومن النّشادر نصف جزء، وجعلا فى الماء الّذى تستنجى به المرأة؛ اغتلمت وطلبت الجماع. وكذلك إذا أخذ من الأقحوان «4» والأبهل «5» والأشنان «6» الأحمر من كلّ واحد جزء ودقّ ذلك، وسحق، وعجن بدهن البان، وحملته المرأة، ثارت بها شهوة الجماع.

[واذا أخذ قضيب الثّور الأحمر وجفّف فى الظّلّ، وسحق، وشربت منه المرأة وزن مثقال بنبيذ صرف، قطع عنها شهوة الجماع «1» ] . واذا أخذت قضيب الذئب قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها بحيث لا تراه الشمس، وقطّعته، ثم جفّفته فى الظّلّ، وسحقته، وأسقيته امرأة، فإنّها تبغض الرجال، وتذهب عنها شهوة الباه. واذا أخذت شجرة مريم «2» وسحقتها وعجنتها بماء النّعناع، وحبّبتها كلّ حبّة زنة نصف دانق، وسقيت منها امرأة حبّة، انقطعت شهوتها سنة. وكذلك مهما زدت كانت كلّ حبّة بسنة.

ذكر شىء من الخواص غير ما تقدم ذكره من ذلك طلسم يجعل على المائدة فلا يقربها ذباب

ذكر شىء من الخواصّ غير ما تقدّم ذكره من ذلك طلسم «1» يجعل على المائدة فلا يقربها ذباب يؤخذ كندس «2» وزرنيخ أصفر، وكمأة «3» يابسة، أجزاء متساوية؛ يسحق جميع ذلك، ويعجن بماء بصل العنصل «4» ، ويجعل منه مثال «5» ، «ويدهن بالزّيت» «6» فإنّ الذّباب لا يقرب من المكان الّذى يوضع فيه.

سامّ أبرص اذا جعل فى قصبة فارسيّة أحد رأسيها مسدود، ثم يسدّ الآخر بشمعة، وتعلّق القصبة بما فيها على من به عرق النّسا على وركه من الجانب الّذى به الوجع، فإنّ وجعه يتناقص بقدر ما يضعف سامّ أبرص، فاذا مات فى القصبة زال الوجع كلّه. الافسنتين «1» الرّومىّ يمنع السوس عن الثياب؛ وفساد الهوامّ؛ ويمنع الحبر والمداد أن يتغيّرا، والكاغد أن يعثّ أو يقرّض. قشر الأترجّ اذا جعل فى الثّياب حماها من السّوس. [الساذج «2» الهندىّ اذا نثر فى الثّياب حفظها من السّوس «3» ] . الخربق «4» اذا جعل مع الثياب التى ترفع لم يقربها السّوس. عود الرّيح «5» وورق النّعناع مثل ذلك. يكتب على بيضتين بعد سلقهما وقشرهما، على الأولى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ؛ وعلى الثانية: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ؛ ويكتب بعد ذلك على كلّ منهما

ذكر نبذة من خواص الحروف والأسماء

قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وتعطى الأولى للمرأة، والثانية للرّجل؛ ويعطى كلّ منهما لصاحبه البيضة الّتى أعطيها يأكلها، فإنّ ذلك يحلّ المعقود. مرارة الخطّاف إن شربت وشرب فى عقبها اللّبن الحليب، سوّدت شعر اللّحية والرأس. إذا غرز فى طرف القرع قطع من حديد وهو متّصل بأصله، ولم ينفذ إلى الجانب الآخر، وطلى عليه بالطّين الأصفر، وترك فى أصله إلى أن يدرك ويجفّ ويؤخذ ما فى جوفه، وهو كالحبر، ويحلّ بعسل نحل من غير نار، ويستعمل منه فى كلّ غداة قدر البندقة- وان حلّ بربّ العنب فهو أجود، وهو الميبختج «1» - فإنّه يسوّد الشّعر إن داوم عليه. ذكر نبذة من خواصّ الحروف والأسماء خواصّ الحروف والأسماء كثيرة، قد ذكرها البونىّ «2» ؛ فمنها ما عرفوا تأثيراته بطوالع، وقيّدوه بأوقات؛ ومنها ما ليس له وقت مخصوص، وهو الّذى أورد منه فى هذا الموضع ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. قال الشيخ جمال الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى الحسن القرشىّ البونىّ- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم (بلطائف الإشارات فى أسرار الحروف العلويّات «3» ) :

من نقش حرف الحاء فى فصّ خاتم ثمانى مرّات، ونقش معه «يا حىّ يا حليم يا حنان يا حكيم» ، أمن من الحمّيات كلّها. وإن هو جعله فى ماء وسقى منه المحمومين خفّف ما بهم. وان داموا على شرب ذلك الماء والابتراد به ذهبت الحمّيات كلّها. وكذلك ينفع المحرورين من أهل الصّفراء. قال: ولا يكثر من لبسه كبير السّنّ. قال: ومن خاصّيّته تعطيل حركة النّكاح. قال: وإن حمله الشابّ فهو أوفق للتّختّم به، ولا يحمله فى يوم السبت ولا فى يوم الاثنين، ويحمله فيما عداهما من الأيّام. وفيه لمن أمسكه ذهاب العطش وكثرة شرب الماء. وان علّق فى بستان نمى ثمره، وكثرت نضارته. قال: ومن قال عند طلوع الشمس: «يا حىّ يا حليم يا حنّان يا حكيم» ومن الأسماء المقدّسة ما أوّله حاء فى زمن القيظ، يذكر ذلك حتّى تنقلب الشمس فى رأى عينه خضراء وهو ناظر اليها، لم يحسّ فى يومه [ذلك «1» ] ألم الحرّ. قال: ومن كتب اسمه «2» «الجبّار وذا الجلال» فى بطاقة أىّ وقت شاء وهو على طهارة، وجعلها فى خاتمه أو بين عينيه وقت جلوسه بين الناس، رزقه الله الهيبة والتعظيم.

ومن كتب اسم الله «الجميل والجواد» فى بطاقة أىّ وقت شاء، وتختّم بها أو حملها وقت دخوله بين أحبابه أو منزله، حسّنه الله تعالى، وجمّل ظاهره وباطنه. قال: ومن كتب «محمّد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة، «أحمد رسول الله» خمسة وثلاثين مرّة فى يوم جمعة بعد صلاة الجمعة وحملها معه، رزقه الله تعالى قوّة فى الطاعة، وتقوية على البرّ كلّه، وكفاه الله تعالى همزات الشياطين. وإن هو أدام النظر الى تلك البطاقة كلّ يوم عند طلوع الشمس وهو يصلّى على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، كثرت رؤياه للنّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويسّر الله تعالى عليه فى يومه ذلك أسباب السعادة، وذلك بحسن القبول وعقد النيّة وصفاء الباطن. قال: ومن نقش اسم الله (الخبير) على فصّ مهما «1» يكن يوم الجمعة أو يوم الاثنين أوّل ساعة من النهار، واحتمل هذا الفصّ فى فمه، لم ينله وصب العطش. وإن هو جعله فى كوز ماء وشرب منه، أسرع له الرّىّ، ولم يطلب الماء بعده. ومن كتب: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أربع مرّات، وعلّقها عليه، لم يقربه شيطان، ولم يصبه، ولا يقرب البيت الّذى يكون فيه. قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى بطاقة وحملها غلب خصمه. ومن علّقها عليه وهو صائم، أمن من الجوع بإذن الله تعالى. قال: ومن كتب الصاد ستّين مرّة فى عصابة، وعصّب بها من يشتكى الصّداع، برئ إن شاء الله تعالى.

وقال: إذا نقش حرف الطاء فى لوح من مشمش «1» والشمس فى السعود تسع طاءات، وخمس هاءات وحملها إنسان، قهر الله عنه قلوب الجبّارين من الشياطين والإنس، وربّما أنه كثيرا «2» ما يرى النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. ومن استدام إمساكه على غير طهارة، أورثه ذلك حمّى الدّقّ «3» . قال: ولا بسه يحبّ أعمال البر كلّها، ولا يقدر أن يبقى ساعة بغير طهارة. وإن علّق على من يشتكى ألم الرأس، هوّن الله تعالى عليه ذلك. وإن ألقاه فى كوز الماء وشرب من ذلك الماء، رأى بركة فى ذاته من محبّة الخير، وانشراح الباطن، واتساع الصّدر. قال: ومن كتبها فى تسع من الشّهر، أو ثمانية عشر، أو فى سبعة وعشرين عددها، وخمس هاءات معها، وعلّقها على نفسه، أمن من الهوامّ.

قال: ومن نقش حرف العين سبعين مرّة يوم الجمعة وقت الأذان، فى خرقة حرير بيضاء، وركّبها على خاتم قلعىّ «1» أو قمر «2» ، وتختّم «3» به، نطق بالحكمة، ويسّر الله عليه الفهم الثاقب؛ ويكون تعليقه بإزاء قلبه، ولا يعلّقه عليه عند نومه، فإنّه يرى خيالات كثيرة. قال: ومن أكثر من ذكر اسمه «4» (العزيز) ، نال عزّة فى دينه إن يكن من أهل الديانات، وعزّة فى دنياه إن يكن من أهل الدنيا. قال: ومن كتب حرف القاف فى زيادة الهلال مائة مرّة ومحاه بماء وشربه أمن من الرّطوبات العارضة، وجاد فهمه، وقوى حفظه؛ ولا يداوم ذلك لئلّا يفرط به اليبس. ومن كتبه فى ورقة رند مائة مرّة، وغلاها فى زيت زيتون، ودهن به المفلوجين وأهل النّزلات الهوائيّة، نفعهم. قال: ومن ذكر من أسماء الله تعالى ما فيه قاف كاسمه (القادر) و (القيّوم) و (القوىّ) ، وما أشبه ذلك، فمن استعمل ذلك الذّكر ممّن يشتكى الضّعف والفزع واستدام عليه بعقد نيّة وجمع همّة، رزقه الله تعالى القوّة، ويسّر له أسباب الخروج من الجزع.

قال: ومن نقش حرف الكاف فى خاتم عشرين مرّة، أو كتبه فى خرقة حرير، وطواها، وجعلها تحت فصّ خاتم، فإنّ لا بسه لا يردّ كلامه إلا بخير؛ وينفع لملاقاة الجبّارين ودفع ضررهم. قال: ومن نقش حرف النون بالعربىّ «1» فى فصّ خاتم خمس نونات، وعلّقه على من يشتكى معدته أو خفقان قلبه على موضع الألم، سكن بإذن الله تعالى. قال: ومن كتب حرف الواو ستّ مرّات فى ورقة وعلّقها عليه، أمن من الصّداع العارض من اليبوسة، وحسبه «2» . ومن نقشه فى فصّ مها «3» أو فضّة وجعله فى فيه، وكان به بلغم يجفّف الفم، فإنّه يكون برأه إن شاء الله تعالى. ومن علّقه عليه أمن من حمّى الرّبع «4» . والخواصّ كثيرة؛ وفيما أوردناه منها كفاية.

كمل الجزء الثانى» عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للنّويرىّ رحمه الله تعالى، ويليه الجزء الثالث عشر، وأوّله: (الفنّ الخامس فى التاريخ) والحمد لله رب العالمين

[مقدمة الجزء الثالث عشر] بيان يوجد من نسخ هذا الجزء بدار الكتب المصرية نسختان كاملتان مأخوذتان بالتصوير الشمسىّ؛ وقطعة غير كاملة من نسخة أخرى مأخوذة بالتصوير الشمسى أيضا، وقد نبهنا على الموضع الذى تنتهى عنده هذه القطعة فى إحدى الحواشى. أما خطوط النّسخ الثلاث: فإحداها مكتوبة بخط نور الدين العاملى فى سنة 966 هـ. وثانيتها مكتوبة بخط الشيخ عبد الرحمن بن ابراهيم الجبرتى الحنفى فى سنة 966 أيضا. والثالثة منسوب خطها إلى المؤلف كما نص على ذلك فى بعض الأجزاء الأخرى منها. أما التحريف والتصحيف فى هذه الأصول فيكاد يكون متفقا فى جميعها؛ غير أننا وجدنا أن بعض هذه النسخ قد سقطت منها عبارات وجدناها مثبتة فى النسخ الأخرى، فكملنا بعضها من بعض كى يكون الجزء نسخة كاملة من جميع هذه الأصول. ومما ينبغى التنبيه عليه في هذا الموضع أن المؤلف قد نقل موضوعات هذا الجزء عن كتابين: أحدهما «يواقيت البيان فى قصص القرآن» لأبى إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ؛ والثانى «المبتدأ» لأبى الحسن محمد بن عبد الله المعروف بالكسائى؛ وقد بحثنا فى محفوظات دار الكتب عن اسمى هذين الكتابين فلم نجدهما، غير أننا وجدناهما باسمين آخرين؛ فكتاب الثعلبى مكتوب عليه: «قصص الأنبياء المسمى بالعرائس» . وكتاب الكسائى يسمى «بالعرائس» أيضا؛ ويسمى أيضا «نفائس العرائس» كما هو مكتوب على بعض نسخه المخطوطة. وفى «كشف الظنون» أنه يسمى «خلق الدنيا وما فيها» . والأوّل مطبوع بالمطبعة البهية بالقاهرة عام 1301 هـ. والثانى مخطوط سنة 803 هـ. ومما يرجح لدينا أن هذين الكتابين هما اللذان أشار إليهما المؤلف ونقل عنهما وإنما تغيّر اسماهما دون مسمّاها، مراجعة ما فيهما على ما نقله المؤلف فى هذا الجزء عنهما ملخصا، والاتفاق التام فى العبارات بين المنقول والمنقول عنه.

ويلاحظ أنه قد ورد فى هذا الجزء نقلا عن الكتابين المذكورين كثير من الأسماء العبرانية التى تعوّد المؤرخون القدماء ذكرها فى كتبهم فى الكلام على بدأ الخليقة وقصص الأنبياء، وهذه الأسماء لم نقف على نصوص صريحة تدل على الصواب فى ضبطها، والصحة فى تقييد حروفها. وقد بحثنا فيما بين أيدينا من مصادر التاريخ الكثيرة عنها للوثوق من صحتها فوجدنا تلك المصادر مختلفة كل الاختلاف فيها، حتى لا تجد كتابا متفقا مع غيره فى كتابتها. لهذا رأينا أن نبقى تلك الأسماء كما هى فى الأصول، إلا ما وجدناه مضبوطا بخطّ موثوق بكاتبه. وعسى أن نكون قد وفقنا فى هذا الجزء إلى ما قصدنا إليه فى الأجزاء السابقة من تصحيح التحريف، وتكميل النقص، وضبط الملتبس من الألفاظ، وغير ذلك مما سردناه فى الكلام على تصحيح الأجزاء السابقة. وقد تمّ طبعه فى عهد من اعتز العلم بنصره، وازدهت الآداب فى عصره وقويت آمال لغة العرب فيه، واختالت زهوا بأياديه: حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم «فاروق الأوّل» حفظه الله ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نذكر بالشكر والثناء تلك الجهود العظيمة التى بذلها ويبذلها حضرة صاحب العزة العالم الكبير «الدكتور منصور فهمى بك» مدير عام دار الكتب المصرية، واهتمامه الصادق بإخراج هذه الكتب فى أقرب وقت ممكن على أحسن وجه وأكمله، تحقيقا لما تتوق إليه الأمة العربية جمعاء من إحياء لغتها وآدابها بنشر الكتب الثمينة فى الدين واللغة والأدب والتاريخ وغيرها من أنواع العلوم. ونسأل الله سبحانه أن يجعل عملنا خالصا لوجهه مصحّحه أحمد الزين القاهرة فى 7 شوّال سنة 1357 هـ. (29 نوفمبر سنة 1938 م)

فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ .... صفحة الفن الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام 1 القسم الأوّل من الفن الخامس فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام ودخولهما الجنة، وما كان بينهما وبين إبليس لعنه الله وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حواء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوة آدم عليه السلام ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصة إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، وخبر أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرس، وفيه ثمانية أبواب 3 الباب الأوّل من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحواء عليهما السلام وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما- ذكر خلق آدم عليه السلام 10 ذكر دخول الروح فيه 11 ذكر سجود الملائكة لآدم 12 ذكر خلق حواء عليها السلام 13 ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام 14 ذكر خبر إبليس والطاوس والحية 15

ذكر خروج آدم وحواء من الجنة 18 ذكر سؤال إبليس لعنه الله 19 ذكر سؤال آدم عليه السلام 20 ذكر سؤال حواء عليها السلام 21 ذكر توبة آدم عليه السلام 23 ذكر أخذ الميثاق على ذرية آدم عليه السلام 25 ذكر اجتماع آدم بحواء 26 ذكر بناء آدم وزرعه وحرثه 28 ذكر حمل حواء عليها السلام وولادتها 30 ذكر مبعث آدم عليه السلام إلى أولاده 31 ذكر قتل قابيل هابيل 32 ذكر وفاة آدم عليه السلام 34 ذكر وفاة حواء 35 الباب الثانى من القسم الأول من الفن الخامس فى خبر شيث بن آدم عليهما السلام وأولاده 35 ذكر قتال شيث قابيل 36 الباب الثالث من القسم الأول من الفن الخامس فى أخبار إدريس النبى عليه السلام 38 الباب الرابع من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة نوح عليه السلام وخبر الطوفان 42 ذكر مبعث نوح عليه السلام 43

ذكر عمل السفينة 46 ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام 49 ذكر وصية نوح ووفاته 50 ذكر خبر أولاد نوح عليه السلام من بعده 50 الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود عليه السلام مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم 51 ذكر مبعث هود عليه السلام 52 ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم 56 ذكر إرسال العذاب على قوم هود 58 ذكر خبر مرثد ولقمان 60 ذكر خبر إرم ذات العماد وقصة شديد وشدّاد بنى عاد 61 الباب السادس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة صالح عليه السلام مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم 71 ذكر ميلاد صالح عليه السلام 73 ذكر مبعثه عليه السلام 75 ذكر خروج الناقة 80 ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود 82 الباب السابع من القسم الأوّل من الفن الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم 86 الباب الثامن من القسم الأوّل من الفن الخامس فى خبر أصحاب الرس وما كان من أمرهم 88

القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وخبره مع نمروذ وقصة لوط وخبر إسحاق ويعقوب وقصة يوسف وأيوب وذى الكفل وشعيب، وفيه سبعة أبواب- الباب الأوّل منه فى قصة إبراهيم الخليل عليه السلام وخبره مع نمروذ بن كنعان ذكر خبر نمروذ بن كنعان 96 ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم عليه السلام 99 ذكر حمل أم إبراهيم عليه السلام وطلوع نجمه 100 ذكر ميلاد إبراهيم عليه السلام 102 ذكر خروج إبراهيم عليه السلام من الغار واستدلاله 102 ذكر معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام 105 ذكر مبعث ابراهيم عليه السلام 107 ذكر سؤال إبراهيم عليه السلام فى إحياء الموتى 108 ذكر آية لإبراهيم عليه السلام 108 ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار 111 ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه 113 ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه 114 ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام 115 ذكر خبر ميلاد إسماعيل عليه السلام ومقامه وأمه فى البيت المحرّم 115 ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق عليهما السلام 118 ذكر خبر الذبيح وفدائه 120 ذكر وفاة إبراهيم عليه السلام 122

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة لوط عليه السلام وقلب المدائن 123 ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن 125 الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب عليهما السلام 128 ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام 129 الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- ذكر خبر ميلاد يوسف عليه السلام 130 ذكر رؤيا يوسف عليه السلام وكيد إخوته له 131 ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب- ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب 133 ذكر خبر خروج يوسف من الجب وبيعه من مالك بن دعر 134 ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر 135 ذكر خبر يوسف وزليخا 136 ذكر خبر النسوة اللاتى قطعن أيديهن 138 ذكر إلهام يوسف عليه السلام التعبير 140 ذكر خبر الخباز والساقى 140 ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته 141 ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها 144 ذكر دخول إخوة يوسف عليه السلام فى المرة الأولى 145 ذكر خبر دخولهم عليه فى المرة الثانية 147

ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة 152 ذكر خبر حديث الصاع 152 ذكر دعوة يوسف عليه السلام وارتحاله عن بلد الريان 155 ذكر خبر وفاة يوسف عليه السلام 156 الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب عليه السلام وابتلائه وعافيته 157 ذكر كشف البلاء عن أيوب عليه السلام 163 الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر ذى الكفل 164 الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام 167 ذكر مبعث شعيب عليه السلام 169 ذكر خبر الظلة 172 القسم الثالث من الفن الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون وخبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى عليهم السلام وأخبار الحواريين وفيه ستة أبواب- الباب الأول من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون عليهما السلام وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وحروب موسى عليه السلام 173 خبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك 173 ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره 175 ذكر خبر آسية بنت مزاحم وزواج فرعون بها 177 ذكر شىء من الآيات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام 178

ذكر خبر قتل الأطفال 178 ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت 179 ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمه 180 ذكر شىء من عجائب موسى عليه السلام وآياته 182 ذكر خبر القبطى وخروج موسى من مصر 183 ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته 184 ذكر خبر خروج موسى عليه السلام من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون 186 ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمه 189 ذكر خبر دخول موسى عليه السلام إلى فرعون وما كان من أمره معه 190 ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء 191 ذكر خبر السحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم 192 ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون 194 ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه 196 ذكر خبر الآيات التسع 197 ذكر خبر مسخ قوم فرعون 198 ذكر خبر قتل الماشطة 206 ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون 206 ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عز وجل لفرعون 207 ذكر خبر غرق فرعون وقومه 207 ذكر خبر ذهاب موسى عليه السلام لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة 210

ذكر خبر الألواح ونزول العشر كلمات 214 ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به 223 ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم 226 ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم 229 ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى عليه السلام ثيابه عليه 230 ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة وكيف أحياهم الله عز وجل وبعثهم بعد موتهم 230 ذكر خبر قارون 232 ذكر خبر موسى والخضر عليهما السلام 240 ذكر خبر البقرة وقتل عاميل 244 ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار 252 ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر 255 ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا وقصة عوج بن عوق وخبر التيه 260 ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبارين ودخولهم القرية 265 ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتصل بذلك 267 ذكر خبر وفاة هارون عليه السلام 274 ذكر خبر وفاة موسى بن عمران عليه السلام 275

الجزء الثالث عشر

الجزء الثالث عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وبه توفيقى وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. الفنّ الخامس فى التاريخ ويشتمل على خمسة أقسام قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) ؛ وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ؛ إلى غير ذلك من الآى. والتاريخ ممّا يحتاج إليه الملك والوزير، والقائد والأمير، والكاتب والمشير والغنىّ والفقير؛ والبادى والحاضر، والمقيم والمسافر. فالملك يعتبر بما مضى من الدّول ومن سلف من الأمم، والوزير يقتدى بأفعال من تقدّمه ممّن حاز فضيلتى السيف والقلم؛ وقائد الجيش يطّلع منه على مكايد الحرب، ومواقف الطعن والضرب؛ والمشير يتدبّر الرأى فلا يصدره إلّا عن روية ويتأمّل الأمر فكأنه أعطى درجة المعيّة وحاز فضيلة الألمعيّه «1» ؛ والكاتب يستشهد به فى رسائله وكتبه، ويتوسّع به إذا ضاق عليه المجال فى سربه «2» ، والغنىّ يحمد الله تعالى

على ما أولاه من نعمه ورزقه من نواله، وينفق مما آتاه الله إذا علم أنه لابدّ من زواله وانتقاله؛ والفقير يرغب فى الزهد لعلمه أن الدنيا لا تدوم، ولتيقّنه أن سعتها بضيقها لا تقوم. ومن عدا هؤلاء يسمعه على سبيل المسامره، ووجه المحاضرة والمذاكره؛ والرغبة فى الاطلاع على أخبار الأمم، ومعرفة أيام العرب وحروب العجم. فقد تبيّن بهذه المقدّمة تعويل الأمر عليه، وميل المرء إليه. وسأورد إن شاء الله فى هذا الفنّ جملا من تواريخ الأمم السالفة والعصور الخاليه، وأطرّزه من القصص والسّير بما تصبح به صفحات الطروس حاليه. ولمّا رأيت غالب من أرّخ فى الملة الإسلامية وضع التاريخ على حكم السنين ومساقها، لا الدّول واتّساقها؛ علمت أن ذلك ربما قطع على المطالع لذّة واقعة استحلاها، وقضيّة استجلاها؛ فانقضت أخبار السنة ولا استوعب تكملة فصولها ولا انتهى إلى جملتها وتفصيلها؛ وانتقل المؤرّخ بدخول السنة التى تليها من تلك الوقائع وأخبارها، والممالك وآثارها، والدولة وسيرها، والحالة وخبرها؛ فتنقّل من الشرق إلى الغرب، وعدل عن السّلم إلى الحرب؛ وعطف من الجنوب إلى الشمال وتحوّل من البكر إلى الآصال؛ وقد تجول به خيل الاستطراد فيبعد، وتحول بينه وبين مقصده السّنون فيغور «1» تارة وتارة ينجد، فلا يرجع المطالع إلى ما كان قد أهمّه إلّا بعد مشقّة، وقد يعدل عنه إذا طالت المسافة وبعدت عليه الشّقّة. فاخترت أن أقيم التاريخ دولا، ولا أبغى عن دولة إذا شرعت فيها حولا؛ حتى أسردها من أوائلها إلى أواخرها، وأذكر جملا من وقائعها ومآثرها؛ وسياقة أخبار ملوكها، ونظم عقود سلوكها؛ ومقرّ ممالكها، وتشعّب مسالكها.

فإذا انقضت مدّتها، وانقرضت عدّتها؛ وانتقلت من العين إلى الأثر، ومن العيان إلى الخبر؛ رجعت إلى غيرها فقفوت أثرها، وشرحت خبرها، وبيّنت خبرها؛ وذكرت أسبابها، وسردت أنسابها؛ وبدأت بأصلها، وتفوّهت بأخبار من نبغ من أهلها؛ واستقصيتها دولة بعد دوله، وجالت بى خيول المطالعة جولة ناهيك بها من جوله؛ ورغبت مع ذلك فى الاختصار دون الاقتصار «1» ، وأوردت ما يحتاج إلى إيراده من غير تكرار ولا إكثار. فإن عرضت واقعة كانت بين ملكين كان وقتهما واحدا، وكان الدهر لأحدهما على الآخر مساعدا؛ شرحتها بجملتها فى أخبار الظاهر منهما؛ وأحلت فى أخبار المغلوب عليها، واكتفيت بإيرادها فى أحد الموضعين ولم أعرّج فى الآخر إلا بالإشارة إليها. وجريت فى تقسيم هذا الفنّ على القاعدة التى تقدّمت فيما قبله من الفنون ليكون أبسط للنفوس وأنشط للخواطر وأقرّ للعيون؛ وجعلته خمسة أقسام، ووضعته على أحسن اتّساق وأكمل انتظام. القسم الأوّل فى مبدأ خلق آدم- عليه السلام- وحوّاء وأخبارهما ومن كان بعد آدم إلى نهاية خبر أصحاب الرّس، وفيه ثمانية أبواب: الباب الأوّل- فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. الباب الثانى- فى خبر شيث بن آدم- عليهما السلام- وأولاده. الباب الثالث- فى أخبار إدريس النبىّ عليه السلام.

الباب الرابع- فى قصّة نوح- عليه السلام- وخبر الطّوفان. الباب الخامس- فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم. الباب السادس- فى قصّة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم. الباب السابع- فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وهلاكهم. الباب الثامن- فى خبر أصحاب الرّس، وما كان من أمرهم. القسم الثانى فى قصة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع النمروذ [لعنه الله] وقصّة لوط وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب- عليهم السلام- وفيه سبعة أبواب: الباب الأوّل- فى قصة إبراهيم الخليل- عليه السلام- وأخبار نمروذ بن كنعان. الباب الثانى- فى خبر لوط مع قومه وقلب المدائن. الباب الثالث- فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام. الباب الرابع- فى قصّة يوسف بن يعقوب- عليهما السلام. الباب الخامس- فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته. الباب السادس- فى خبر ذى الكفل بن أيوب- عليهما السلام. الباب السابع- فى خبر شعيب- عليه السلام- وقصّته مع مدين. «1»

القسم الثالث يشتمل على قصّة موسى بن عمران- عليه السلام- وخبره مع فرعون وخبر يوشع ومن بعده وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان وسعيا وإرمياء وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وقصّة يونس بن متّى وخبر بلوقيا وخبر زكريا ويحيى وعمران ومريم وعيسى- عليهم السلام- وخبر الحوارييّن وما كان من أمرهم وخبر جرجيس، وفيه ستة أبواب: وذيّلت على هذا القسم ذيلا يشتمل على أبواب أربعة، ذكرت فيها ما قيل فى الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض، وأخبار المهدىّ والدجّال، ونزول عيسى- عليه السلام- ومدّة إقامته فى الأرض ووفاته وما يكون بعده، وشيئا من أخبار الحشر والمعاد. وإنما ذكرت هذا الذيل فى هذا الموضع- وإن كان غير داخل فى فنّ التاريخ- لأن النفوس لما كانت مائلة إلى الاطّلاع على أخبار ما مضى من الزمان ومن سلف من الأمم، فميلها إلى الاطّلاع على ما يظهر فى مستقبل الزمان أكثر وتشوّقها إليه أوفر؛ فأوردت ما أذكره لهذا السبب، ولأنّ كتابنا هذا ليس مبناه على مجرّد التاريخ بل هو كتاب أدب، لا تخرجه هذه الزيادة عن شرطه. الباب الأوّل- فى قصّة موسى بن عمران وهرون عليهما السلام وغرق فرعون، وأخبار بنى إسرائيل وخبر قارون وحروب موسى وخبر الجبّارين وبلعم وغير ذلك.

الباب الثانى- فيما كان بعد موسى بن عمران- عليه السلام- وهو أخبار يوشع وخبر حزقيل وإلياس واليسع وغيلا وأشمويل وطالوت وجالوت وداود وسليمان- عليهم السلام- ومن بعدهم. الباب الثالث- فى أخبار سعيا وإرمياء وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته، وما يتّصل بذلك من خبر عزير. الباب الرابع- فى قصّة ذى النّون يونس بن متّى- عليه السلام- وخبر بلوقيا. الباب الخامس- فى خبر زكريّا ويحيى وعمران ومريم ابنته وعيسى ابن مريم عليهم السلام. الباب السادس- فى أخبار الحوارييّن الذين أرسلهم عيسى وما كان من أمرهم وخبر جرجيس. التذييل على هذا القسم، وفيه أربعة أبواب الباب الأوّل- فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام. الباب الثانى- فى خبر نزول عيسى إلى الأرض وقتل الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم وهلاكهم، ووفاة عيسى عليه السلام. الباب الثالث- فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم الى النفخة الأولى. الباب الرابع- فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصّور.

القسم الرابع فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم؛ ووقائع العرب فى الجاهليّة، وفيه خمسة أبواب الباب الأوّل- فى أخبار ذى القرنين المذكور فى كتاب الله عزّ وجلّ. الباب الثانى- فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك مصر والهند والصين والترك وجبل الفتح. الباب الثالث- فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم، وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانيّة منهم، وملوك اليونان والسريان والكلدانيّين والروم والصقالبة والنّوبرد «1» والفرنجة والجلالقة وطوائف السودان. الباب الرابع- فى أخبار ملوك العرب، وما يتّصل بها من خبر سيل العرم. الباب الخامس- فى أيّام العرب ووقائعها فى الجاهليّة. القسم الخامس فى أخبار الملّة الإسلاميّة وذكر شىء من سيرة نبينا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وأيام الخلفاء من بعده- رضى الله عنهم- والدولة الأمويّة والعباسيّة والعلويّة ودول ملوك الإسلام وأخبارهم، وما فتح الله عليهم، وفيه اثنا عشر بابا

الباب الاوّل- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-. الباب الثانى- فى أخبار الخلفاء من بعده: أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ، وابنه الحسن- رضى الله عنهم-. الباب الثالث- فى أخبار الدولة الأمويّة بالشأم وغيره. الباب الرابع- فى أخبار الدولة العباسيّة بالعراق ومصر. الباب الخامس- فى أخبار الدولة الأمويّة بالأندلس، وأخبار الأندلس بعد انقراض دولتهم. الباب السادس- فى أخبار افريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمّال، ومن استقلّ بالملك. الباب السابع- فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيّين فى الدولتين: الأمويّة والعباسيّة فقتل دونها بعد مقتل الحسين بن علىّ- رضى الله عنهما-. الباب الثامن- فى أخبار صاحب الزّنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل. الباب التاسع- فى أخبار من استقلّ بالملك والممالك فى البلاد الشرقيّة والشّماليّة فى خلال الدولة العبّاسيّة، وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنة والغور وبلاد السّند والهند، كالدولة السامانيّة، والدولة الصّفّارية، والدّولة الغزنويّة، والدولة الغوريّة، والدولة الدّيلميّة الختلّيّة. الباب العاشر- فى أخبار ملوك العراق وما والاه، وملوك الموصل والديار الجزيريّة والديار البكريّة والبلاد الشاميّة والحلبيّة، كالدولة الحمدانيّة، والدولة الدّيلميّة البويهيّة، والدّولة السّلجقيّة، والدولة الأتابكيّة.

الباب الحادى عشر- فى أخبار الدولة الخوارزميّة والدولة الجنكزخانيّة وهى دولة التتار (جنكزخان وأولاده) وما تفرّع منها. الباب الثانى عشر- فى أخبار ملوك الديار المصريّة الّذين ملكوا فى خلال الدولة العباسيّة نيابة عن خلفائها، وهم الملوك الطّولونيّة والملوك الإخشيديّة، ومن استقلّ بملكها وانتزعها وأخراجها من يد نوّاب خلفاء الدولة العباسيّة، وهم الملوك العبيديّون الّذين انتسبوا إلى العلويّين، وما كان من أمرهم من ابتدائه إلى انتهائه وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والثغور الساحليّة، وانقراض دولتهم، وقيام الدولة الأيّوبيّة وأخبار ملوكها بمصر والشأم إلى حين انقراضها، وقيام دولة الترك ومن ملك منهم وما حازوه من الأقاليم وما فتحوه من الممالك واستنقذوه من أيدى الأفرنج والأرمن والتّتار وغيرهم وما استقرّ فى ملك هذه الدولة من الممالك إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة «1» وسبعمائه فى أيام مولانا السلطان السيّد الأجل المالك (الملك الناصر) ، ناصر الدنيا والدين، محمد ابن السلطان الشهيد المالك، الملك المنصور سيف الدنيا والدين (قلاوون) الصالحىّ، خلّد الله تعالى ملكه على ممّر الزمان، وسقى عهد والده صوب الرحمة والرضوان. هذا جملة ما اشتمل عليه هذا الفنّ من الأقسام والأبواب، والله تعالى المرشد والهادى والموفّق إلى الصواب، بمنّه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.

القسم الأول من الفن الخامس فى مبدأ خلق آدم وحواء - عليهما السلام - ودخولهما الجنة، و....

القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- ودخولهما الجنة، و.... ما كان بينهما وبين إبليس- لعنة الله- وهبوطهما إلى الأرض واجتماعهما بعد الفرقة، وخبر حرثه وزرعه، وحمل حوّاء ووضعها، وخبر ابنى آدم هابيل وقابيل، ونبوّة آدم- عليه السلام- ووفاته، وخبر شيث وأولاده، وقصّة إدريس ونوح وهود وصالح- عليهم السلام- وخبر أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد، وخبر أصحاب الرّس وفيه ثمانية أبواب الباب الأوّل- من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام- وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما. ذكر خلق آدم عليه السلام خلق الله تبارك وتعالى آدم- عليه السلام- من تراب، بدليل قوله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وقوله تعالى إخبارا عن إبليس: (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) * وهذا أمر بيّن واضح لا خلاف فيه، ولا يحتاج إلى زيادة فى إقامة دليل وإيضاح. وقيل: إنما سمّى آدم لأن الله تعالى خلقه من أديم الأرض. وعن وهب بن منبّه أن راسه من الأرض الأولى، وعنقه من الثانية، وصدره من الثالثة، ويديه من الرابعة، وبطنه وظهره من الخامسة، وفخذه ومذاكيره وعجزه من السادسة، وساقيه وقدميه من السابعة.

وعن عبد الله بن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ الله تعالى خلقه من الأقاليم السبعة. وقيل: إن عزرائيل أخذ من تراب الأرض كلّها أبيضها وأحمرها وأسودها وعذبها ومالحها، فهو مخلوق من ذلك التراب. قال: ولمّا خلقه الله- عزّ وجلّ- وصوّره على هذه الصّورة الآدميّة، أمر الملائكة أن يحملوه ويضعوه على باب الجنّة عند ممرّ الملائكة، وكان جسدا لا روح فيه، فكانت الملائكة يعجبون من خلقته وصورته، لأنّهم لم يكونوا راؤا مثله قط وكان إبليس يطيل النظر إليه ويقول: ما خلق الله تعالى هذا إلّا لأمر. وربما دخل فيه، فاذا خرج قال: إنه خلق ضعيف، خلق من طين أجوف، والأجوف لا بدّله من مطعم ومشرب. ويقال: إنه قال للملائكة: ما تعملون إذا فضّل هذا المخلوق عليكم؟ فقالوا: نطيع أمر ربّنا ولا نعصيه. فقال إبليس: إن فضّله علىّ لأعصينّه، وإن فضّلنى عليه لأهلكنّه. ذكر دخول الرّوح فيه قال: ولما أراد الله تعالى نفخ الرّوح فيه أمر بروحه فغمست فى جميع الأنوار وليست كأرواح الملائكة ولا غيرها من المخلوقات. قال الله تعالى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) * الاية. وقال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية. قال: فأمرها الله تعالى أن تدخل فى جسد آدم بالتأنّى دون الاستعجال فرأت مدخلا ضيّقا حرجا؛ فقالت: يا ربّ، كيف أدخل؟ فنوديت «ادخلى كرها واخرجى كرها» . فدخلت من يافوخه إلى عينيه، ففتحها آدم ونظر إلى

ذكر سجود الملائكة لآدم

نفسه طينا، ثم صارت إلى أذنيه، فسمع تسبيح الملائكة، وجعلت الروح تمّر فى رأسه والملائكة ينظرون إليه، ثم صارت إلى الخياشيم، فعطس، فانفتحت المجارى المسدودة؛ وصارت إلى اللّسان؛ فقال آدم: «الحمد لله الذى لم يزل ولا يزول» وهى أوّل كلمة قالها. فناداه الرب: «يرحمك ربّك يا آدم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولذرّيتك» . وسارت الروح فى جسده حتى بلغت الساقين، فصار آدم لحما ودما وعظما وعروقا، غير أنّ رجليه من طين؛ فذهب ليقوم فلم يقدر وهو قوله تعالى: (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) . فلمّا صارت إلى الساقين والقدمين استوى قائما على قدميه يوم الجمعة. فقيل: إنّ الروح استوت فى جسده فى خمسمائة عام عند نزول الشمس. ذكر سجود الملائكة لآدم قال: فلمّا استوى قائما أمر الله الملائكة بالسجود له؛ فسجدوا كلّهم إلّا إبليس، كما أخبر الله تعالى عنه؛ قال الله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الآيات. قال: وكان السجود لآدم يوم الجمعة عند الزوال، فبقيت الملائكة فى سجودها إلى العصر. قال وعلّم الله تعالى آدم الأسماء كلّها واللغات بأجمعها. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: علّمه حتى لغة الحيتان والضفادع وجميع ما فى البرّ والبحر، ثم أمر الملائكة أن يحملوه على أكتافهم، ويطوفون به فى طرائق السموات؛ ففعلوا ذلك.

ذكر خلق حواء عليها السلام

ثم أمر جبرئيل أن ينادى فى صفوف الملائكة أن يجتمعوا؛ فاجتمعوا واصطفّوا عشرين ألف صفّ، ووضع لآدم منبر الكرامة، وعليه ثياب السندس الأخضر وله ضفيرتان محشوّتان بالمسك والعنبر بطوله، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصّع بالدرّ والجوهر؛ فانتصب على المنبر، وسلّم على الملائكة، فأجابته بردّ السلام وخطب فحمد الله، ثم ذكر علم السموات والأرضين وما فيهما، وذلك قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) . ونزل آدم عن منبره، فجىء بقطف من عنب أبيض فأكله، وهو أوّل شىء أكله من طعام الجنّة، ثم أخذته سنة فنام. ذكر خلق حوّاء عليها السلام قال: ولمّا نام آدم خلق الله تعالى حوّاء من جنبه الأيسر، من ضلعه مما يلى الشّرسوف، وهو ضلع أعوج، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) فكانت على طول آدم وحسنه وجماله، إلّا أنها أرقّ جلدا منه، وأحسن صوتا، ولها ضفائر مرصّعة محشوّة بالمسك تسمع لذوائبها خشخشة، فجلست عند رأسه، فانتبه فرآها، فتمكّن حبّها من قلبه؛ فقال: يا ربّ، من هذه؟ قال: أمتى حوّاء. فقال: يا ربّ لمن خلقتها؟ قال: لمن أخذها بالأمانة، وأصدقها الشكر. قال: يا ربّ، أنا أقبلها على هذا فزوّجنيها. فزوّجها إياه قبل دخول الجنة على الطاعة والتقوى والعمل الصالح، ونثرت عليهما

ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام

الملائكة من نثار الجنّة، وأوحى الله إلى آدم، أن اذكر نعمتى عليك، فإنّى خلقتك ببديع فطرتى، وسويتك بشرا على مشيئتى، ونفخت فيك من روحى، وأسجدت لك ملائكتى، وحملتك على أكتافهم، وجعلتك خطيبهم، وأطلقت على لسانك جميع اللّغات، وجعلت ذلك كلّه فخرا وشرفا لك، وهذا إبليس قد أبلسته «1» ولعنته حين أبى أن يسجد لك، وقد ختمت كرامتى لك بأمتى حوّاء، وقد بنيت لكما دار الحيوان «2» من قبل أن أخلقكما بألفى عام، على أن تدخلاها بعهدى وأمانتى. ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) . قال: وهى أن يكافأوا على الإحسان، ويعذّبوا على الإساءة؛ فأبوا؛ فعرضت على آدم، فقيل له: إن أطعت كافأتك بالإحسان، وخلّدتك فى الجنان؛ وإن تركت عهدى أخرجتك من دارى، وعذّبتك بنارى، فقبل آدم الأمانة، فعجب الملائكة من ذلك؛ ثم مثّل له ولحوّاء إبليس، وقيل له: (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) . ثم ناداهما الرب: إنّ من عهدى إليكما وأمانتى أن تدخلا الجنة (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) . فقبلا هذه العهود كلّها. ثم أمر الله تعالى بإدخالهما الجنّة، فحمل آدم على الفرس الميمون، وحوّاء وراءه على الناقة، والملائكة عن اليمين والشمال وأمامهما وخلفهما حتى بلغوا باب الجنّة ودخلا واستقرّ بجنّة عدن فى وسط الجنّة بعد أن طافا بالجنان، فقدّم إليهما من

ذكر خبر إبليس والطاوس والحية

فواكه الجنّة فأكلا، فكانا فى الجنّة خمسمائة عام من أعوام الدنيا فى أتمّ السرور وأنعم الأحوال. ذكر خبر إبليس والطاوس والحيّة قال: ولمّا سمع إبليس أن الله تعالى أباح لآدم أن يأكل من ثمار الجنّة إلّا شجرة واحدة، فرح بذلك، وقال: لأخرجنّهما من الجنة. ثم مرّ مستخفيا فى طرقات السموات حتى وقف على باب الجنّة، فإذا الطاوس قد خرج من الجنة وله جناحان إذا نشرهما غطّى بهما سدرة المنتهى، وله ذنب من الزمرّد الأخضر على كلّ ريشة منه جوهرة بيضاء، وعيناه من الياقوت الأحمر؛ وهو أطيب طيور الجنّة صوتا وتغريدا؛ وكان يخرج ويمرّ فى السموات يخطر فى مشيته ويرجع إلى الجنّة. فلما رآه إبليس كلّمه بكلام ليّن، وقال: أيّها الطائر العجيب الخلق الطيّب الصوت، من تكون من طيور الجنة؟ فقال: أنا الطاوس، فمالك أيها الشّخص كأنّك مرعوب تخاف من طالب يطلبك؟ قال إبليس: أنا من ملائكة الصّفيح «1» الأعلى من زمرة الكروبييّن «2» ، وقد أحببت أن أنظر إلى الجنّة وإلى ما أعدّ الله فيها لأهلها فهل لك أن تدخلنى الجنّة وأنا أعلّمك ثلاث كلمات من قالها لا يهرم ولا يسقم ولا يموت؟ فقال له: وأهل الجنّة يموتون؟ قال: نعم ويسقمون ويهرمون إلّا من كانت عنده هذه الكلمات، وحلف له على ذلك، فوثق به الطاوس ولم يظنّ أحدا يحلف بالله كاذبا؛ فقال: ما أحوجنى إلى هذه الكلمات، غير أنّى أخاف أن يستخبرنى (رضوان) عنك، ولكنى أبعث إليك الحيّة فإنّها سيّدة دوابّ الجنة.

قال: وجاء الطاوس إلى الحية وهى يومئذ على صورة الجمل، ولها زغب كالعبقرىّ «1» ما بين أبيض وأحمر وأسود وأخضر، ولها عرف من اللؤلؤ، وذوائب من الياقوت ورائحة كرائحة المسك والعنبر، وكان مسكنها فى جنّة المأوى، وكانت تساير آدم وحوّاء فى الجنة، وتخبرهما بالأشجار. فلما أخبرها الطاوس بالخبر أسرعت الحية نحو باب الجنة، فتقدم إبليس إليها وقال لها كقوله للطاوس، وحلف لها؛ فقالت: حسبك، ولكن كيف أدخلك؟ فقال: إنى أرى ما بين نابيك فرجة، وهى تسعنى. ففتحت الحيّة فاها، فوثب وقعد بين نابيها، فصار نابها إلى آخر الدهر سمّا، وضمّت الحيّة شفتيها، ودخلت الجنّة ولم يكلّمها رضوان للقضاء السابق؛ فلمّا توسّطت الجنّة قالت: أخرج وعجّل. قال: إن حاجتى من الجنّة آدم وحوّاء، فإنى أريد أن أكلّمهما من فيك، فإن لم تفعلى ذلك فما أعلّمك الكلمات، فجاءت إلى حوّاء فقال إبليس من فيها: يا حوّاء، ألست تعلمين أنّى معك فى الجنة، وأحدّثك بكلّ ما فيها، وأنا صادقة فى كلّ ما حدّثتك به؟ قالت حوّاء: نعم؛ قال إبليس: يا حوّاء، أخبرينى ما الّذى أحلّ لكما ربّكما من هذه الجنة وحرّم عليكما؟ فأخبرته بما نهاهما عنه؛ فقال إبليس: لماذا نهاكما عن شجرة الخلد؟ فقالت حوّاء: لا أعلم بذلك؛ قال: أنا أعلم، إنما نهاكما لأنه أراد ألّا يفعل بكما ما فعل بالعبد الذى مأواه تحت شجرة الخلد. هذا وحوّاء تظنّ أن الخطاب لها من الحيّة؛ فوثبت حوّاء عن سريرها لتنظر إلى العبد، فخرج إبليس من فيها كالبرق، فقعد تحت الشجرة، فأقبلت

حوّاء فوقفت بالبعد منه ونادته: من أنت أيها الشخص؟ قال: خلق من خلق الله، خلقنى من ناركما تريننى، وأنا فى هذه الجنة منذ ألفى عام، خلقنى كما خلقكما بيده، ونفخ فىّ من روحه، وأسجد لى ملائكته، وأسكننى جنّته، ونهانى عن أكل هذه الشجرة، فكنت لا آكل منها، حتى نصحنى بعض الملائكة وقال لى: كل منها، فإنّ من أكل منها كان مخلّدا فى الجنّة أبدا. فأكلت منها، فأنا فى الجنة إلى وقتى هذا، قد أمنت الهرم والسقم والموت والخروج من الجنّة. ثم قال: والله (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ثم نادى: يا حوّاء اسبقى وكلى قبل زوجك، فمن سبق كان له الفضل على صاحبه. فأقبلت حوّاء إلى آدم وهى مستبشرة فرحة، فأخبرته بخبر الحيّة والشخص، وأنه قد حلف لها بأنّه لها لمن الناصحين، فذلك قوله تعالى: (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ؛ وتقدّمت حوّاء إلى الشجرة ولها أغصان لا تحصى، وعلى الأغصان سنابل، كل حبة منها مثل قلال هجر «1» ، ولها رائحة كالمسك، أبيض من اللبن وأحلى من العسل؛ فأخذت منها سبع سنابل من سبعة أغصان، فأكلت واحدة وادّخرت واحدة، وجاءت بخمس إلى آدم. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لم يكن لآدم فى ذلك أمر ولا إرادة بل كان فى سابق العلم، لقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) . فتناول آدم السنابل من يدها، وقد نسى العهد الذى أخذ عليه من أجلها، فذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) فذاق من الشجرة كما ذاقت حواء؛ قال الله تعالى: (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) .

ذكر خروج آدم وحواء من الجنة

قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: والذى نفسى بيده ما ساغ آدم من تلك السنابل سنبلة واحدة حتى طار التاج عن رأسه، وعرى من لباسه، وانتزعت عنه خواتمه، وسقط كلّ ما كان على حوّاء من لباسها وحلّيها وزينتها، وناداهما كلّ ما طار عنهما: «يا آدم طال حزنك، وعظمت رزيّتك، وعليك السّلام إلى يوم اللّقاء» . ولم يبق عليهما من لباسهما شىء، (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) ؛ ونظر كلّ منهما إلى سوءة صاحبه؛ وهرب إبليس فسار مستخفيا فى طرائق السموات، وصاح آدم صيحة عظيمة، ولم يبق فى الجنة شىء إلّا لامه، وانقبضت عنه الأشجار؛ فلمّا كثرت عليه الملامات مرّ هاربا على وجهه، فالتفّت عليه شجرة الطّلح وأمسكته ونادته: إلى أين تهرب يا عاصى؛ واضطربت الملائكة لذلك؛ والله الموفّق للصواب. ذكر خروج آدم وحوّاء من الجنة قال: وأمر الله جبرئيل فجاء إلى آدم وقبض على ناصيته، وخلّصه من الشجرة؛ فلما صار به إلى باب الجنة وأخرج رجله اليمنى وبقيت اليسرى، نودى: يا جبريل قف به على باب الجنّة حتى يخرج معه أعداؤه الذين حملوه على أكل الشجرة لكى يراهم ويرى ما يفعل بهم. فوقفه هنالك، فناداه الربّ: يا آدم إنّما خلقتك لتكون عبدا شكورا، لا لتكون عبدا كفورا. قال: يا ربّ أسألك أن تعيدنى إلى تربتى التى خلقتنى منها لأكون ترابا كما كنت أوّل مرّة. قال: يا آدم، كيف أعيدك إلى تربتك وقد سبق علمى أن أملأ من ظهرك الجنّة والنار. وأخرج آدم حوّاء وقد استترت بورقة من ورق الجنة بإذن الله؛ فلمّا رأت آدم صاحت وقالت: يا لها من حسرة؟ فوقفت خارج الجنّة، ثم أتى بالطاوس وقد

ذكر سؤال إبليس - لعنه الله تعالى -

طعنته الملائكة حتى قطعت ريشه، وجبريل يجرّه ويقول: اخرج من الجنة خروج الأبد، فإنّك شؤم أبدا ما بقيت؛ ثم أتى بالحية وقد جذبتها الملائكة جذبا شديدا، وهى ممسوخة «مبطوحة» على بطنها لا قوائم لها، وصارت ممدودة مشوّهة، ومنعت النطق فصارت خرساء، مشقوقة اللسان، فقالت لها الملائكة: لا رحمك الله ولا رحم من يرحمك. ثم حجبت حوّاء عن آدم من هناك؛ ومرّ به جبريل فى طرائق السموات، ونظرت إليه الملائكة عريانا ففزعت منه، وقالت: إلهنا، هذا آدم بديع فطرتك أقله عثرته. وآدم قد ترك يده اليمنى على رأسه، واليسرى على سوأته، ودموعه تجرى على خدّيه، وكلّما مرّ على ملإ من الملائكة يوبّخونه على نقض عهد ربّه وميثاقه، وأكثروا عليه فى الملامة والتوبيخ؛ فقال لهم: يا ملائكة ربّى، ارحمونى ولا توبّخونى، فالّذى جرى علىّ بقضاء ربّى، حيث قال: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الآية. ذكر سؤال إبليس- لعنه الله تعالى- قال: وقال إبليس: يا ربّ أضللتنى وأغويتنى وأبلستنى، وكان ذلك فى سابق علمك (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) * وهى النفخة الأولى، (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) . قال الله تعالى (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) . قال إبليس: أنظرتنى فأين يكون مسكنى؟ قال: إذا هبطت إلى الأرض فمسكنك المزابل. قال: فما قراءتى؟ قال: الشعر والغناء. قال: فما مؤذّنى؟ قال: المزمار.

ذكر سؤال آدم - عليه السلام -

قال: فما طعامى؟ قال: ما لم يذكر اسمى عليه. قال: فما شرابى؟ قال: الخمور. قال: فما بيتى؟ قال: الحمّامات؛ قال: فما مجلسى؟ قال: الأسواق. قال: فما شعارى؟ قال: لعنتى. قال: فما دثارى؟ قال: سخطى. قال: فما مصايدى؟ قال: النساء. قال: فوعزّتك لا أخرجت محبّة النساء من قلوب بنى آدم أبدا. قيل له: يا ملعون، فإن ربّك لا ينزع التوبة من ولد آدم حتى يتغرغر بالموت، (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) . ذكر سؤال آدم- عليه السلام- قال: فعند ذلك قال آدم: يا ربّ هذا إبليس قد أعطيته النّظرة، وقد أقسم بعزّتك أنّه يغوى أولادى، فبماذا أحترز من مكايده؟ فنودى، يا آدم، إنّى قد مننت عليك بثلاث خصال، واحدة لى، وهى أن تعبدنى لا تشرك بى شيئا؛ وواحدة لك، وهى ما عملت من صغيرة أو كبيرة من الحسنات فلك بالحسنة عشر وإن عملت سيئة فواحدة بواحدة، وإن استغفرتنى غفرتها لك وأنا الغفور الرحيم؛ وواحدة بينى وبينك، وهى أنّ منك المسألة ومنّى الإجابة، فابسط يدك وادعنى فإنّى قريب مجيب. فصاح إبليس حسدا لآدم وقال: كيف أكيد ولد آدم الآن؟ فنودى: يا ملعون (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا) . قال إبليس: زدنى يا ربّ؛ قال لا يولد لآدم ولد إلّا يولد لك سبعة: قال: ربّ زدنى؛ قال: زدتك أن تجرى منهم مجرى الدم فى عروقهم، وتسكن فى صدورهم. فقال: يا ربّ حسبى؛ ثم قال علام أهبط إلى الأرض؟ قال: على الإياس من رحمتى.

ذكر سؤال حواء - عليها السلام -

قال: ثم نظر آدم إلى الحيّة وقال: ربّ هذه اللعينة هى التى أعانت عدوّى علىّ، فبماذا أتقوّى عليها؟ فقيل له: قد جعلت مسكنها الظلمات، وطعامها التراب فإذا رأيتها فاشدخ رأسها. وقيل للطاوس: مسكنك أطراف الأنهار، ورزقك ممّا تنبته الأرض من حبّها، وألقى عليك المحبّة حتى لا تقتل. ذكر سؤال حوّاء- عليها السلام- قال: ثم قالت حوّاء: إلهى خلقتنى من ضلع أعوج، وجعلتنى ناقصة العقل والدين والشهادة والميراث، وضربتنى بالنجاسة، وحرمتنى الجمعة والجماعات؛- وذكرت مشقّة الحمل والولادة- فأسألك أن تعطينى مثل ما أعطيتهم. فقيل لها: قد وهبت لك الحياء والأنس والرحمة، وكتبت لك من ثواب الحبل والولادة ما لو رأيته لقرّت به عيناك، فأىّ امرأة ماتت فى ولادتها حشرتها فى زمرة الشهداء. قالت: حسبى يا ربّ. قال: ثم أمر الله بعد ذلك أن يهبطوا إلى الأرض؛ قال الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) . فهبط آدم من باب التوبة، وحوّاء من باب الرحمة، وإبليس من باب اللّعنة، والطاوس من باب الغضب، والحيّة من باب السّخط، وكان ذلك وقت العصر. قال السّدّى: فمن هذه الأبواب تنزل التوبة والرحمة واللّعنة والغضب والسّخط. قال وهب: خلق الله آدم يوم الجمعة، وفيه دخل الجنّة وأقام فيها نصف يوم مقدار خمسائة عام، وأهبط بين الظهر والعصر من باب يقال له (المبرم) «1» وهو حذاء البيت المعمور.

قال كعب: أهبط آدم إلى بلاد الهند على جبل من جبالها يقال له (بوذ) وهو جبل محيط بأرض الهند؛ وأهبطت حوّاء بجدّة، وإبليس بدستميسان «1» ، والحيّة أصفهان، والطاوس بالبحر؛ ففرّق الله بينهم فلم ير بعضهم بعضا حينا، ولم يكن على آدم يوم أهبط إلّا ورقة من أوراق الجنة، فذرتها الرياح فى بلاد الهند فصارت معدنا للطيّب. وأخذ آدم فى البكاء مائة عام حتى نبت من دموعه العود والزنجبيل والصندل والكافور وأنواع الطيّب، وامتلات الأودية بأطيب الأشجار؛ وبكت حوّاء فنبت من دموعها القرنفل والأفاوية؛ وكانت الريح تحمل كلامه إليها وكلامها إليه. ثم أنبت الله- عزّ وجلّ- لآدم الشّعر واللّحية، وكان قبل ذلك أمرد وجسده كالفضّة، فتألّم لذلك ألما شديدا. قال وهب: أوّل من علم بهبوط آدم من حيوان الأرض النّسر، وكان قد ألف الحوت، فجاء إليه وقال له: إنى رأيت اليوم خلقا عظيما ينقبض وينبسط، ويقوم ويقعد، ويجىء ويذهب. فقال الحوت: إن كان ما تقوله حقّا فقد حان ألّا يكون لى معه مقرّ فى البحر ولا لك فى البرّ، وهذا الوداع بينى وبينك. فجاء النّسر إلى آدم وألفه، وجاءه الوحش والطير وألفوه وبكوا لبكائه دهرا طويلا، فلمّا أضجرهم ذلك نفروا عنه ولم يبق عنه إلّا النّسر وحده وهو لا يفتر عن البكاء. قال وهب: بكى آدم حتى بكت الملائكة لبكائه وقالوا: «إلهنا أقله عثرته» .

ذكر توبة آدم عليه السلام

قال: وبقى من دموعه فى الأرض- بعد أن كفّ عن البكاء- ما شربه الوحش والطير والهوامّ مائة عام؛ وكان لدموعه رائحة كالمسك، ولذلك كثر الطيّب فى الهند. وقال كعب: بكى آدم ثلاثمائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «إلهى بأىّ وجه أنظر إلى السماء» . فألهم الله سائر الحيوانات أن تأتى لآدم وتعزّيه فى مصيبته، فعزّاه جميعها ونهته عن البكاء، وأمرته بالتسبيح والتقديس. ذكر توبة آدم عليه السلام قال: فعند ذلك أمر الله تعالى جبريل أن يهبط على آدم، وقال له: «إن آدم بديع فطرتى قد أبكى أهل سمواتى وأرضى، ولا يذكر غيرى، ولم يخف سواى، وهو أوّل من حمدنى، وأوّل من دعانى بأسمائى الحسنى، وأنا الرحمن الّذى سبقت رحمتى غضبى، وهذه الكلمات قد خصصت بها آدم لتكون له توبة، وتخرجه من الظلمات إلى النور» . فهبط عليه جبريل بالكلمات ولها نور عظيم، فقال: «السلام عليك يا طويل البكاء والحزن» ؛ فلم يسمعه آدم لغليان صدره؛ فناداه بصوت رفيع: السلام عليك يا آدم. وأمرّ جناحه على صدره ووجهه حتى هدّأ من بكائه، وسمع الصوت فقال: أبنداء السّخط تنادى، أم بنداء الإحسان والغفران؟ قال: بل بنداء الرحمة والغفران، يا آدم: لقد أبكيت ملائكة السموات والأرض، فدونك هذه الكلمات، فإنّها كلمات الرحمة والتوبة. قال كعب: كانت الكلمات ما قالها يونس فى ظلمات ثلاث: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما- كانت: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) .

وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: كانت «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسى فتب علىّ يا خير التوّابين» . قال الله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) . قال: فلمّا قالها آدم انتشر صوته فى الافاق، فقالت الأرض والشجر والجبال: «أقرّ الله عينك يا آدم، وهنّاك الله بتوبتك» . وأمره الله أن يبعث بالكلمات إلى حوّاء؛ فحملتها الريح إليها، فقالتها، فتاب الله عليها. قال: ولمّا فرغ آدم من الدعاء والسجود قال له جبريل: ارفع رأسك. فرفعه وإذا قد رفع له حجاب النّور، وفتحت له السموات، ونودى بالتوبة والرضوان وقيل له: يا آدم، إنّ الله قد قبل توبتك. فذهب ليقوم فلم يقدر لأنه كان قد رسب فى الأرض كعروق الشجر، فآقتلعه جبريل، فصاح صيحة شديدة للألم الذى أصابه، وقال: «ماذا تفعل الخطيئة» ؟ ثم ضرب جبريل بجناحه الأرض فانفجرت عين ماء معين برائحة كالمسك فاغتسل آدم منها، ثم كساه الله حلّتين من سندس الجنّة، وبعث الله تعالى ميكائيل إلى حوّاء، فبشرها بالتوبة، وكساها كذلك؛ وسأل آدم جبريل عنها؛ فأخبره أن الله قد قبل توبتها، وأنه يجمع بينهما فى أشرف الأعياد وأكرم البقاع. قال: وأمر الله عزّ وجلّ الملائكة والحيوانات أن يقربوا من آدم ليهنّئوه فأتوه وهنّأوه كما كانوا عزّوه. ثم أمر الله تعالى جبريل أن يضع يده على رأس آدم ليقصّر من طوله، وكان إذا قام وصل رأسه إلى السماء، فيسمع تسبيح الملائكة، فلمّا قصر اغتمّ لفقد ذلك، فقال له جبريل: لا يغمّك ذلك فإن الله يفعل ما يريد.

ذكر أخذ الميثاق على ذرية آدم - عليه السلام -

وامره الله ببناء بيت يحاذى البيت المعمور ليطوف به هو وأولاده من بعده كما رأى الملائكة تفعل حول البيت المعمور؛ فبناه. وقد ذكرنا صفة بنائه فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الأوّل من هذا الكتاب فى خصائص البلاد، وهو فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. فلنذكر غير ذلك. قال: وسار آدم من موضعه إلى موضع البيت؛ والله الهادى. ذكر أخذ الميثاق على ذرّية آدم- عليه السلام- قال: وأوحى الله تعالى إلى آدم: أنّى أريد أن آخذ على وديعتى الّتى فى ظهرك الميثاق، فأحاطت الملائكة بآدم فى أحسن صورهم، فوقعت الرّعدة على آدم من الخوف، فضمّه جبريل إلى صدره، واضطرب الوادى وارتجّ، فقال جبريل: اسكن فإنّك أوّل شاهد على الميثاق الذى يأخذه الله على ذريّة آدم. فسكن، ومسح الله تعالى على ظهر آدم كما شاء، وقال: «انظر يا آدم إلى من يخرج من ظهرك» فأوّل من بادر وكان أسرع خروجا نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فأجاب بالتلبية ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا أوّل من يشهد لك بالتوحيد، ويقرّ لك بالعبوديّة، وأشهد أنّى عبدك ورسولك. فهو- صلّى الله عليه وسلّم- أوّل الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث، وفى ذلك من الحكمة الإلهيّة والقدرة الربّانيّة ما لم يخف على ذى لبّ وفهم، وليس هذا موضع ذكر ذلك. ثم أجابت الطبقة الثانية من النبيّين والمرسلين نبيّنا بعد نبىّ فى نورهم وبهائهم، ثم خرجت زمرة من المؤمنين بيض الوجوه، معلنين بالتوحيد، فوقفوا دون النبيّين. ثم مسح الله مسحة أخرى فخرج (قابيل) بن آدم مبادرا وقد تبعه أهل الشّمال فوقفوا ذات الشّمال كلّهم سود الوجوه. ثم قيل لآدم: «انظر إلى ولدك هؤلاء

ذكر اجتماع آدم بحواء

لتعرفهم بأسمائهم وأزمانهم» فنظر إلى أهل اليمين فضحك منهم، وبارك عليهم؛ ونظر إلى أهل الشّمال فلعنهم وصرف وجهه عنهم؛ ثم استنطقهم الله تعالى فقال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) وأقررنا. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أمّا أهل اليمين فأجابوا بالسرعة، وأمّا أهل الشّمال فأجابوا بالتثاقل. قال الله تعالى «يا ملائكتى أشهدوا على ذرّيّة آدم بأنهم أقرّوا أنّى ربّهم لا يجحدوننى شيئا، وأن آدم قد بارك على أهل يمينه، ولعن أهل شماله، فأهل اليمين فى جنّتى برحمتى، وأهل الشّمال فى النار بما جحدوا من حقّى» . ثم ردّهم الله إلى ظهره كما أخرجهم بقدرته. قال وهب: إذا كان يوم القيامة وحشر الخلق لفصل القضاء قيل: يا آدم، «ابعث بعث الجنّة إلى الجنّة، وبعث النار إليها» . فيعرفهم بصورهم وأسمائهم؛ فيقول: «نعم يا ربّ» ؛ ويراهم كما رآهم فى الذرّيّة، ويقبل عليهم بوجهه ويقول: أنسيتم عهد ربّكم وشهادتكم له بأنّه الله الواحد الأحد؟ فيقولون ما أخبرنا الله تعالى به عنهم: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) يعنون قابيل بن آدم، لأنه أوّل من عصى ربّه؛ ثم يقولون: (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) يعنون إبليس وقابيل؛ فيقبض آدم بشماله من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا بيمينه إلى الجنة؛ ثم يقول: يا ربّ هل وفيت؟ فيقال له: نعم ادخل الجنّة برحمتى. ذكر اجتماع آدم بحوّاء قال: وأقبل ملك إلى حوّاء وهى جالسة بجدّة على ساحل البحر، فقال لها: «خذى لباسك وانطلقى إلى الحرم» ؛ ثم رمى لها بقميص وخمار من الجنّة، وتوارى

عنها حتى لبست القميص وتخمّرت بالخمار، ومضت إلى مكّة فدخلت الحرم من شرقيّه يوم الجمعة من شهر المحرّم؛ فأمرها الملك أن تقعد على جبل المروة؛ وإنّما سميّت المروة لقعود المرأة عليها. قال وهب: دخلت حوّاء الحرم قبل آدم بسبعة أيّام، ودخل آدم من غربىّ مكّة وحوّاء من شرقيّها، فصار آدم إلى جبل الصفا، فناداه: «مرحبا بك يا صفىّ الله» ، فسمّى الصّفا لذلك؛ وناداه الربّ: يا آدم، فقال: «لبيّك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك» . فصار ذلك سنّة فى الحجّ والعمرة. ثم أوحى الله إليه: «اليوم حرّمت مكّة وما حولها» . فهى حرام إلى يوم القيامة. فقال آدم: يا رب، إنك وعدتنى أن تجمع بينى وبين حوّاء فى هذا المقام. فنودى: إنّها أمامك على المروة، وأنت على الصّفا، فانظر إليها ولا تمسّها حتى تقضى المناسك. فهبط آدم إليها، والتقيا، وفرح كلّ منهما بصاحبه، وسعى هو من الصفا، وسعت هى من المروة، فكانا يجتمعان بالنهار، فإذا أمسيا رجع إلى الصفا، ورجعت إلى المروة، فكانا كذلك حتى دخل ذو القعدة، فأعاد آدم التلبية وعقد الإزار، ولم يزل يلبّى حتّى دخل ذو الحجّة؛ فهبط جبريل وعلّمه المناسك وكساه ثوبا أبيض لإحرامه، وطاف به، وعرّفه المناسك، وأمره أن يطوف بالبيت سبعا؛ فلمّا فعل ذلك قال له جبريل: «حسبك يا آدم قد أحللت» ؛ فانطلق آدم إلى حوّاء فاجتمع بها فى ليلة الجمعة فحملت من ساعتها. قال كعب: ما حملت حوّاء حتّى رأت الحيض ففزعت وأخبرت آدم بذلك فمنعها من الصّلاة أيّام حيضها حتّى ينقطع الدم؛ ثم جاءها ملك فوقفها على زمزم

ذكر إبناء آدم وزرعه وحرثه

وقال لادم: اركض برجلك فى هذا الموضع. فركضها، فانفجرت الأرض بإذن الله عين ماء معين؛ فكبّر آدم وحوّاء، وهمّت أن تشرب فمنعها وقال: «حتى يأذن لى ربّى» . فاغتسلت حوّاء، وكان فى ذوائبها بقيّة من مسك الجنّة، ففاحت الدنيا. ذكر إبناء آدم وزرعه وحرثه قال: ثم أوحى الله تعالى إلى آدم: «أنك إن لم تعمر هذه الدنيا لم يعمرها أحد من أولادك، فاعمرها» . فبنى له مسكنا يأوى إليه هو وحوّاء؛ ثم أخذ بعد ذلك فى الحرث والزرع وحفر الآبار؛ وجاءه جبريل بالحبة وهى على قدر بيض النّعام، بيضاء فى لون الثلج وأحلى من العسل؛ وجاءه بثورين من ثيران الفردوس وجاءه بالحديد؛ فلمّا نظر آدم إلى الحبّ صاح صيحة عظيمة، وقال: ما لى ولهذا الحبّ الّذى أخرجنى من الجنّة. قال: «هذا رزقك فى الدنيا، لأنك اخترته فى الجنّة، فهو غذاء لك ولذرّيّتك» . ثم قال له جبريل: يا آدم، قم فكن حرّاثا زرّاعا، وأتاه بالنار وقد غمسها فى سبعين ماء حتّى اعتدلت وكمنت فى الحديد والحجر، وأمره أن يوقد النار ويلين الحديد، ويتّخذ منه مطرقة وسندانا، ففعل؛ ثم اتخذ مدية يذبح بها، وفأسا يحفر بها ويكسر، ومحراثا يحرث به الأرض، ونيرا؛ كلّ ذلك وجبريل يعلّمه. قال وهب: أوّل ما اتخذ آدم من الحديد سندان ومطرقة وكلبتان؛ ثم اتخذ بعد ذلك آلة النجارة، وأتاه جبريل بكبش من الجنّة، فنحره آدم، وأكل هو وحوّاء من لحمه، واتخذا مقراضا فجزّا به الصوف من الكبش، وغزلاه، واتخذا منه

جبّتين بغير كمّين، وكساءين، فاكتسى كلّ واحد منهما جبّة وكساء، فلما مسّت جلّدهما خشونة الصوف بكيا شوقا إلى السندس والإستبرق؛ فقيل لهما: «هذا لباس أهل الطاعة فى الدنيا» . وجىء بالأشجار التى ذكرناها فى الفن الرابع من هذا الكتاب، وهو فنّ النباتات؛ وقد قدّمنا ذكرها فيما سلف منه. وعن كعب أن الذى جاء بالحبّ ميكائيل، لأنّه الموكّل بالحبّ والقطر والنبات. قال: فقام آدم فعقد النّير على عنقى الثورين؛ ثم حرث وبذر، وكان يقف على الزرع ويقول: متى يدرك؟. فيسمع هاتفا يقول: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ؛ وكان الزرع فى طول النخل، والسنبلة فى طول مائة ذراع، بيضاء كالفضّة. قال كعب: فلمّا استحقّ الزرع كان آدم يحصد، وحوّاء تجمع؛ ثم علّم آدم الدّراسة والتذرية والطحن والعجن والخبز؛ ثم أكلا وشربا فأصابتهما النفخة والقرقرة فى بطونهما؛ فتجشّأ آدم جشاء متغيّرا، وتغيّر عليه بدنه وثقل؛ فلمّا ثقلت عليهما بطونهما أمرهما الملك أن يتبرّزا إلى الصحراء لقضاء الحاجة؛ فلمّا رأيا ذلك من أنفسهما بكيا بكاء شديدا، وقالا: «هذا الذى أورثنا ذنبنا» . ثم أمرهما الملك أن يمسحا بالمدر، ثم يغتسلا بالماء؛ ثم علّمهما الوضوء فتوضا وضوء الإسلام؛ ثم أمرهما بالصلاة، فكان أوّل صلاة صلّاها آدم الظهر. وكان آدم ربّما اشتغل عن صلاته ولا يعرف الأوقات، فأعطاه الله ديكا ودجاجة، فكان الديك أبيض أفرق «1» أصفر الرجلين، كالثور العظيم، وكان يضرب بجناحه عند أوقات الصلاة ويقول: سبحان من يسبّحه كلّ شىء سبحان الله وبحمده، يا آدم: الصلاة يرحمك الله.

ذكر حمل حواء - عليها السلام - وولادتها

قال: وأخذ آدم فى الغرس حتى غرس كلّ ما على وجه الأرض من أنواع الثمار والأشجار، وأخذت الأرض زهرتها؛ وكان آدم يأكل من بقول الأرض ونباتها. قال وهب: أوّل بقلة زرعها آدم الهندبا، وأوّل ما زرع من الرياحين الحنّاء، ثم الآس. ذكر حمل حوّاء- عليها السلام- وولادتها قال: وواقع آدم حوّاء فى ليلة الجمعة، فحملت بذكر وأنثى، وأسقطتهما فى الشهر الثامن، فكان أوّل سقط فى الدنيا؛ ثم حملت ثانيا كذلك، فأصابهما مثل الأوّل؛ ثم حملت ثالثة. قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) . قال: فجاء إبليس إلى حوّاء وقال: أتحبّين أن يعيش فى بطنك؟ قالت: نعم. قال: سميّه (عبد الحارث) . وقال ابن حبيب عن ابن عباس: أنها لمّا وضعته جاء إبليس وقال: ألا تسمّيانه باسمى؟ قالت له حوّاء: ما اسمك؟ فذهب ولم يتسّم، ثم عاد إليهما فقال: كيف تريدان أن تسمّياه؟ قالا: نسمّيه (عبد الله) . قال: أفتظنّان أنّ الله يترك عبده عندكما إن سمّيتماه (عبد الله) ، لا والله لا يدعه عندكما حتى يقبضه، ولكن سمّياه (عبد شمس) فإنّه يبقى ما بقيت الشمس. فأطاعاه وسمّياه (عبد شمس) ؛ فمات صغيرا. قال الله تعالى: (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) . قال وهب: أوحى الله إليهما «أنكما أطعتما إبليس فى هذه التسمية، فهلّا سمّيتماه عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الرحيم» فجزعا لذلك جزعا شديدا، وقالا: «لا حاجة لنا فى هذا المولود» . فأماته الله.

ذكر مبعث آدم - عليه السلام - إلى أولاده

ثم حملت بذكر وأنثى، فلما وضعتهما سمّتهما (عبد الله) (وأمة الله) ؛ ثم وضعت بطنا آخر فسمّتهما (عبد الرحيم) (وأمة الرحيم) ؛ ولم تزل كذلك حتى وضعت مائة بطن؛ ثم وضعت بعد ذلك هابيل وأخته فى بطن، ثم قابيل وأخته فى بطن، حتى وضعت عشرين ومائة بطن ذكر وأنثى، فتناسلوا وكثروا. ذكر مبعث آدم- عليه السلام- إلى أولاده قال: ثم بعث الله عزّ وجلّ آدم إلى ذرّيّته رسولا، وذلك فى أوّل ليلة من شهر رمضان، وخصّه بالوحى، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة فيها سور مقطّعة الحروف، لا يتّصل حرف بحرف، وهو أوّل كتاب أنزل، وهو بألف لغة فيها الفرائض والسنن والشرائع والوعد والوعيد وأخبار الدنيا، وبيّن له فيها أهل كل زمان وصورهم وسيرهم، وما يحدث فى الأرض حتى المأكل والمشرب. ثم أمره الله تعالى أن يكتبها بالقلم، فأخذ جلود الضأن فدبغها حتى صارت رقّا، وكتب فيها الحروف التسعة والعشرين، وهى فى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، أوّلها (ا) : معناها، أنا الله الواحد الأحد الذى لم يزل. (ب) : بديع السموات والأرض. (ت) : توحّد فى ملكه، وتواضع كلّ شىء لعظمته. (ث) : ثابت لم يزل ولا يزال. (ج) : جميل الفعال، جواد، جليل المقال. (ح) : حليم على من عصاه، حميد عند من أنشاه. (خ) خبير ببواطن الأشياء وظواهرها، خالق كلّ شىء. (د) : ديّان يوم الدين، دان من خلقه. (ذ) : ذو الفضل العظيم، والعرش المجيد، ذو الطّول القديم. (ر) : ربّ الخلائق رزّاق رءوف رحمن رحيم. (ز) : زرّاع زرع من غير بذر، زائد لمن شكر، زيّن كلّ شىء برحمته. (س) : سريع الحساب، سميع الدعاء، سريع الإجابة. (ش) : شديد العقاب والبطش، شاهد

ذكر قتل قابيل هابيل

كلّ نجوى. (ص) : صمد صادق الوعد. (ض) : ضياء السموات والأرض، ضمن لأوليائه المغفرة. (ط) : طاب من أخلص له من المطيعين، طوبى لمن أطاعه. (ظ) : ظهر أمره، وظفر أهل محبّته بالجنّة. (ع) : عليم عالم علّام علا بالربوبيّة. (غ) : غياث المستغيثين، غنىّ لا يفتقر. (ف) : (فعّال لما يريد) ، فرد ليس له شريك. (ق) : قيّوم، (قائم على كلّ نفس بما كسبت) ، قدير قاهر. (ك) كريم كان قبل كلّ شىء، كائن بعد كلّ شىء، كافى كلّ بليّة. (ل) : (له ما فى السّموات وما فى الأرض) ، وله الخلق والأمر. (م) : مالك يوم الدين، متكبّر محسن محمود متين معبود منعم من قبل ومن بعد. (ن) : نور السموات والأرض ناره معدّة لأهل عذابه. (و) : ولىّ المؤمنين، ويل لمن عصاه، (ويل للمطفّفين) . (هـ) : هاد هدى من الضلالة من قدّر له ذلك برحمته ومشيئته، (لا) : لا إله إلا الله الواحد القهّار، الّذى لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. (ى) : يعلم ما فى السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وما تخفى الصدور. قال: فلما نزلت هذه الحروف علّمها آدم لولده، فتوارثها ولده، إلى أن بعث الله تعالى إدريس، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وأنزل عليه هذه الحروف. ذكر قتل قابيل هابيل قال: ودعا آدم ابنيه (هابيل) (وقابيل) - وكان يحبّهما من بين أولاده- فذكر لهما ما كان من أمره ودخوله الجنة، وسبب خروجه، وغير ذلك، ثم أمرهما أن يقرّبا قربانا، وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب زرع، فأخذ هابيل من غنمه كبشا سمينا لم يكن فى غنمه خير منه، فجعله قربانا؛ وأخذ قابيل من زرعه أدناه فقرّبه؛ فنزلت من السماء نار بيضاء لا حرّ ولا دخان فيها، فأحرقت قربان

هابيل، ولم تحرق قربان قابيل، فداخله الحسد من ذلك، وقال: إن أولاد هذا تفتخر على أولادى من بعدى، فو الله لأقتلنه. قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. قال: ثم رجعا من منّى- وهو موضع القربان- يريدان أباهما وهابيل أمام قابيل؛ فعمد قابيل إلى حجر فضرب به رأس أخيه (هابيل) فقتله، ثم مرّ على وجهه هاربا. قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ؛ وإذا هو بغرابين قد اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، وجعل يبحث فى الأرض برجليه حتى حفر حفرة ودفن فيها المقتول؛ فقال قابيل فى نفسه ما أخبر الله تعالى به عنه: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. فلمّا أبطآ على آدم خرج فى طلبهما، فأصاب هابيل مقتولا، فساءه ذلك واغتمّ غمّا شديدا، وكانت الأرض لمّا شربت دمه تغيّرت الأشجار عن نضارتها، فيقال: إن آدم قال: تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح تغيّر كلّ ذى لون وطعم ... وقلّ بشاشة الوجه المليح قتل «1» قابيل هابيلا أخاه ... فوا أسفى على الوجه الصبيح

ذكر وفاة آدم - عليه السلام -

ثم حمل آدم هابيل على عاتقه وهو باك، ثم دفنه، وبكى عليه هو وحوّاء أربعين يوما، فأوحى الله تعالى إليه أن كفّ عن بكائك، فإنّى سأهب لك غلاما زكيّا على صورة هابيل يكون أبا النبييّن والمرسلين. فسرّى عنه، وجامع حوّاء فحملت بشيث واسمه (هبة الله) فلمّا وضعته كان على صفة هابيل وصورته؛ فلمّا ترعرع وبلغ بعث الله تعالى له قضيبا من سدرة المنتهى فى صفاء الجوهر، ورزق الله شيئا الأولاد فى حياة آدم؛ والله أعلم. ذكر وفاة آدم- عليه السلام- قال: وكان آدم لمّا أخرج الله تعالى الذريّة من ظهره رأى داود- عليه السلام- وحسن صورته، فسأل عنه وعمّا رزقه الله تعالى من العمر؛ فقيل له: إنه نبىّ الله داود، وإن عمره الذى كتب الله له أربعون سنة. فقال: يا ربّ زد فى عمره. قال: ذلك الذى كتبت له. فقال: يا ربّ فإنّى قد وهبته من عمرى ستّين سنة. فلمّا انقضى من عمره تسعمائة سنة وأربعون سنة أتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت علىّ، لأنّ ربّى كتب لى ألف سنة. قال: ألم تهب منها لولدك داود ستّين سنة؟ قال: لا. قال: فجحد آدم وجحدت ذرّيته من بعده، ونسى فنسيت. وقيل فى عمر داود: ستون سنة، وإن آدم وهبه أربعين سنة؛ والله أعلم. فلما استكمل عدّته أمر الله بقبض روحه، فعهد إلى ابنه شيث وأوصاه، وسلّم إليه التابوت، وكان فيه نمط من الجنّة أبيض أهداه الله تعالى لآدم، فيه صور الأنبياء والفراعنة من ذرّيّته؛ فنشر آدم النّمط وأراه لابنه شيث، فنظر إليه، ثم أمر بطيّه ووضعه فى التابوت؛ وعمد آدم إلى طاقات من شعر لحيته فوضعها فى التابوت وقال له: يا بنىّ، إنك لا تزال مظفّرا على أعدائك ما دامت هذه الشعرات سودا

ذكر وفاة حواء

فإذا ابيضّت فاعلم أنّك ميّت، فأوص إلى خير أولادك. وأوصاه بقتال أخيه قابيل. ثم قبض الله تعالى نبيّه آدم فى يوم الجمعة بعد أن استكمل ألف سنة، وصلّت عليه الملائكة صفوفا، وصلّى عليه شيث، ودفن- عليه السلام-. وقيل: كانت وفاته بالهند، فلما كان زمن الطوفان حمل نوح معه تابوت آدم فى السفينة، ثم دفنه ببيت المقدس. ذكر وفاة حوّاء قال: ولمّا توفّى آدم- عليه السلام- لم تعلم حوّاء بموته حتى سمعت بكاء الوحش والسباع والطير، ورأت الشمس منكسفة؛ فقامت من قبّتها فزعة أن يكون حلّ بشيث ما حلّ بهابيل، وصارت إلى قبّة آدم فلم تره، فصاحت صيحة عظيمة، فأقبل إليها شيث وعزّاها وأمرها بالصبر، فلم تصبر دون أن صرخت ولطمت وجهها ودقّت صدرها، فأورثت ذلك بناتها إلى يوم القيامة؛ ثم لزمت قبره أربعين يوما لا تطعم؛ ثم مرضت مرضا شديدا ودام بها حتى بكت الملائكة رحمة لها؛ ثم قبضت- رحمة الله عليها- فغسلها بناتها، وكفّنت من أكفان الجنة ودفنت إلى جنب آدم- عليهما السلام- ورأسها إلى رأسه، ورجلاها عند رجليه. وقيل: كانت وفاتها بعد مضىّ سنة من وفاة آدم. الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر شيث ابن آدم- عليهما السلام- وأولاده قال: ولمّا مات آدم- عليه السلام- أسند وصيّته إلى ابنه شيث، وكان ممّا أوصاه به التمسّك بالعروة الوثقى، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بمحمّد رسول الله؛

ذكر قتال شيث قابيل

وقال له: يا بنىّ؛ إنى رأيت اسمه مكتوبا على سرادق العرش وأبواب الجنان وأطباق السموات وأوراق شجرة طوبى؛ فهذه وصيّتى إليك. ثم نزع خاتمه من اصبعه ودفعه إليه، وتسلّم منه التابوت، ثم قال له: إن الله سيعطيك ثوب المجاهدة، فحارب أخاك قابيل، فإن الله تعالى ينصرك عليه. وكان شيث حين الوصية إليه ابن أربعمائة سنة، فأطاعه أولاد أبيه، وصار إليه الفرس الميمون، وكان أغرّ محجّلا إذا صهل أجابته الدوابّ كلّها بالتسبيح. ذكر قتال شيث قابيل قال: ثم أمر الله تعالى شيث بن آدم بقتال قابيل، وكان قابيل قد اعتزل فى ناحية من الأرض، فعمرها، وخدع أختا له فأحبلها، ورزق منها أولادا كثيرة فسار إليه شيث بجميع أولاده، وتقلّد سيف أبيه، وكان بين يديه عمود من الياقوت تحمله الملائكة يضىء بالليل والنهار؛ وسار وقد أحدقت به الملائكة، فتوجّه إبليس إلى قابيل وأعمله خبر أخيه، فتأهّب للقائه وقد داخله الفزع؛ ثم جاء شيث فقابله، فاقتتلا، فانكبّ قابيل على وجهه، فأخذه شيث أسيرا، وأسر جماعة من أولاده. ثم أقبلت الملائكة إلى قابيل فسلكوه فى سلسلة من سلاسل جهنّم، وغلّوا يده إلى عنقه، وساقوه بين يدى شيث مهانا وهو يقول: يا شيث احفظ الرّحم بينى وبينك. فقال: لا رحم بيننا بعد أن قتلت أخاك ظلما. ثم أمر شيث الملائكة فساقوه مغلولا إلى عين الشمس بالمغرب، فلم يزل مواجها للشمس حتى مات كافرا، وصارت ذريّته عبيدا وإماء لشيث وأولاده. ثم أخذ شيث بعد ذلك فى عمارة المدن حتى بنى نيّفا على ألف مدينة فى كلّ مدينة منارة ينادى عليها: (لا إله إلا الله، آدم صفوة الله، محمد رسول الله) .

وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو وأولاده، حتى عمرت الدنيا؛ وأنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة، فكانوا يقرأونها ويعملون بما فيها من غير عداوة ولا تباغض ولا تحاسد ولا فسق بينهم؛ وكان إبليس يحسد شيئا وأولاده، فأقبل إبليس إليه فى صورة امرأة حسناء، فقال لها: من أنت؟ قالت: امرأة أرسلنى الله إليك لتتزوّج بى، ولست من بنات آدم. فقال: إن ربى لم يأمرنى بذلك ولا أخبرنى عنك، وما أظنك إلا إبليس. فضحك وقال: إنما أنا امرأة من نساء الجنة، ولا تعص ربّك وتزوّج بى؛ وجعل إبليس يتزيّن له حتى كاد يفتنه؛ فنادته الملائكة: يا نبىّ الله، إنه عدوّك إبليس. فقبض شيث عليه وهمّ بقتله؛ فقال: خلّ عنّى فإنى من المنظرين، ولكن أعطيك الميثاق أنّى لا أتعرّض إليك بعدها. فأطلقه ولم يعد إليه. وولد لشيث (أنوش) على طوله وحسنه؛ فجعله شيث مكانه والخليفة من بعده، وسلّم إليه التابوت، وأوصاه بقتال أولاد قابيل. ومات شيث وله سبعمائة سنة وعشرون سنة. وقيل: بل عاش بعد آدم مائتى سنة، وعهد إلى ابنه (أنوش) فقام على أولاده بالطاعة ثلاثمائة عام. وعهد من بعده إلى ابنه (قينان) ، فعمّر بعد أبيه مائتين وخمسين سنة. وعهد إلى ابنه (مهلائيل) ، وكثر فى زمانه بنو آدم، وكان منزلهم الحرم فضاق بهم، فقسّم الأرض بينهم خمسة أقسام، وأرسل خمسة نفر من صلحاء قومه يقيمون لهم شرائع آدم- عليه السلام- ويتولّون الحكومة بينهم، وهم ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء الذين لمّا فقدوا بلغ من وجد قومهم

الباب الثالث من القسم الأول من الفن الخامس فى أخبار إدريس النبى - عليه السلام -

عليهم أن جعلوا لهم تماثيل يتسلّون بها؛ وترامى الأمر إلى أن عبدها القرن الذى تلاهم، فكان ذلك هو السبب لعبادة الأوثان. ثم قام بالأمر بعد (مهلائيل) ابنه (أخنوخ) ، وهو إدريس. الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار إدريس النبى- عليه السلام- واسمه أخنوخ، وإنما سمّى إدريس لكثرة دراسته الكتب؛ وهو أوّل من بعث من بنى آدم؛ وهو أوّل من خطّ بالقلم بعد شيث، وأوّل من كتب فى الصحيفة؛ وكان مشتغلا بالعبادة ومجالسة الصالحين حتى بلغ فآنفرد للعبادة، فجعله الله تعالى نبيّا، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، وورّثه صحف شيث وتابوت آدم. وكان يعيش من كسب يده؛ وكان خيّاطا، وهو أوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا قبل ذلك يلبسون الجلود، حتى أتت عليه أربعون سنة، فبعثه الله تعالى إلى أولاد قابيل، وكانوا جبابرة، وقد اشتغلوا باللهو والغناء والمزامير والطنابير وغير ذلك، وعبدوا الأصنام؛ وكان إدريس يدعوهم ثلاثة أيّام، ويعبد الله أربعة. وحكى عن وهب أنّه أوّل من اتّخذ السلاح، وجاهد فى سبيل الله، ولبس الثياب، وأظهر الأوزان والأكيال، وأنار علم النجوم. وكان إدريس شديد الحرص على دخول الجنة، وكان قد رأى فى الكتب أنّه لا يدخلها أحد دون الموت، فبينما هو يسبح فى عبادته إذ عرض له ملك الموت فى صورة رجل فى نهاية الجمال؛ فقال له إدريس: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الله أعبده كعبادتك. واصطحبا، فكان إدريس يأكل من رزق الله، وهو لا يطعم شيئا؛ فسأله عن ذلك؛ فأخبره أنه ملك الموت؛ فقال له: جئت لقبض

روحى؟ قال: لا، ولو أمرنى الله بذلك ما أمهلتك، ولكنّه أمرنى أن أصطحبك. فسأله إدريس أن يقبض روحه؛ فقال له: وما تريد بذلك وللموت كرب عظيم؟ قال: لعل الله تعالى يحيينى فأكون أكثر فى عبادته. فأمره الله بقبض روحه فقبضها، وأحياه الله تعالى لوقته. ثم قال إدريس له بعد حين: هل تستطيع أن تقفنى على جهنّم؟ قال: ما حاجتك إلى ذلك ولها من الأهوال ما لا تطيق أن تنظر إليه، وما لى سبيل إلى ذلك، ولكنى أقفك على طريق مالك خازنها، والله أعلم بحاجتك. فاحتمله ووقفه على طريق مالك، فلما رآه كشر فى وجهه، فكادت روحه تخرج، فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى مالك: وعزّتى وجلالى لا رأى عبدى إدريس بعد كشرتك سوءا، إرجع إليه وقفه على شفير جهنّم ليرى ما فيها. فوقفه مالك على شفيرها ونظر إلى ما فيها من الأهوال، فلولا أن ثبّته الله تعالى لصعق؛ ثم أعاده إلى مكانه، فاحتمله ملك الموت إلى الأرض، فعبد الله عزّ وجلّ حينا؛ ثم قال لملك الموت: هل لك أن تدخلنى الجنّة لأرى ما أعدّ الله تعالى لأهل طاعته من النعيم؟ فقال: حاجتك إلى الله تعالى، ولكنّى أحملك وأقف على طريق رضوان خازن الجنان فسله حاجتك. ففعل ذلك؛ فلما رآه رضوان قال: من هذا؟ قال: إدريس نبى الله يريد أن ينظر إلى نعيم الجنان. قال: «ذلك إلى ربّى» . فأوحى الله تعالى إلى رضوان: أنّى قد علمت ما يريد عبدى إدريس، وقد أمرت غصنا من أغصان شجرة طوبى أن يتدلّى إليه فيلتفّ به ويدخله الجنّة، فإذا دخل فأقعده فى أعلى موضع؛ فلمّا دخلها إدريس ورأى ما فيها من النعيم قال له رضوان: أخرج الآن. قال له إدريس: أيدخل الجنّة من يخرج منها؟ فحاجّه فى ذلك، فأرسل الله تعالى له ملك الموت، فقال له إدريس: ما حاجتك؟ إنك لن تسلّط على قبض روحى

مرّتين، فاذهب. فرجع ملك الموت إلى ربّه عزّ وجلّ وقال: إلهى قد علمت ما قال إدريس. قال الله تعالى: إنه حاجّك بكلامى، فذره فى جنتى. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا. هذا ما أورده الكسائىّ- رحمه الله- فى كتاب المبتدأ «1» . ونقل الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) وفى تفسيره أيضا فى سبب رفع إدريس عليه السلام، قال: وكان سبب رفعه على ما قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- وأكثر الناس: أنه سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إنى مشيت يوما فتأذّيت منها، فكيف من يحملها خمسمائة عام فى يوم واحد؟! اللهم خفّف عنه من ثقلها، واحمل عنه حرّها. فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وخفّة حرّها ما لا يعرف؛ فقال: يا رب، خلقتنى لحمل الشمس، فما الّذى قضيت فىّ؟ فقال: أما إنّ عبدى إدريس سألنى أن أخفّف عنك ثقلها وحرّها، فأجبته. قال: يا ربّ اجمع بينى وبينه، واجعل بينى وبينه خلّة. فأذن الله تعالى له؛ فأتى إدريس حتى إنّ إدريس ليسأله، فكان ممّا سأله أن قال: أخبرت أنّك أكرم الملائكة عند ملك الموت وأمكنهم عنده، فاشفع لى إليه أن يؤخّر أجلى فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال إدريس: قد علمت ذلك، ولكنّه أطيب لنفسى. قال: نعم أنا مكلّمه لك، فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بنى آدم فهو فاعله لك. ثم حمله ملك الشمس على جناحه، فرفعه إلى السماء

ووضعه عند مطلع الشمس؛ ثم أتى ملك الموت، فقال: لى إليك حاجة. قال: أفعل كلّ شىء أستطيعه. فقال له: صديق لى من بنى آدم يتشفّع بى إليك أن تؤخّر أجله. فقال: ليس ذلك إلىّ، ولكن إن أحببت أعلمه أجله مى يموت فيتقدّم فى نفسه. قال: نعم. فنظر فى ديوانه، فأخبره باسمه، فقال: إنك كلّمتنى فى إنسان ما أراه يموت أبدا. ثم قال: إنى لأجده يموت عند مطلع الشمس. قال: فإنّى أتيتك وتركته هناك. قال: فانطلق فإنّه قد مات، فو الله ما بقى من أجل إدريس شىء. فرجع الملك فوجده ميتا. قال: وقال وهب: كان يرفع له فى كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض فى زمانه. فعجبت منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن الله تعالى فى زيارته، فأذن له، فأتاه فى صورة غلام؛ وكان إدريس يصوم الدهر كلّه فلمّا كان فى وقت إفطاره دعاه إلى الطعام، فأبى أن يأكل معه، وفعل ذلك ثلاث ليال، فقال له إدريس فى الليلة الثالثة: إنّى أريد أن أعلم من أنت. قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربّى أن أزورك وأن أصاحبك، فأذن لى فى ذلك. فقال له إدريس: فلى إليك حاجة. قال: وما هى؟ قال: اقبض روحى؛ فأوحى الله تعالى إليه: «اقبض روحه» . ففعل، ثم ردّها الله تعالى إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: فما الفائدة فى سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّه فأكون له أشدّ استعدادا. ثم قال: لى إليك حاجة أخرى، قال: وما هى؟ قال: ترفعنى إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة والنار. فأذن الله تعالى له فى ذلك، فلمّا قرب من النار قال: لى إليك حاجة. قال له: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لى أبوابها فأردها. ففعل؛ ثم قال له إدريس: فكما أريتنى النار فأرنى الجنّة. فذهب إلى

الباب الرابع من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة نوح - عليه السلام - وخبر الطوفان

الجنّة فاستفتح، ففتحت له أبوابها، فأدخله الجنّة؛ فقال له ملك الموت: اخرج منها لتعود إلى مقرّك. فتعلّق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى ملكا حكما بينهما؛ فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* وقد ذقته. وقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وقد وردتها. وقال تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فلست أخرج. قال الله تعالى لملك الموت: دعه فإنه بإذنى دخل الجنّة، وبأمرى يخرج. فهو هناك، فتارة يعبد الله فى السماء الرابعة، وتارة يتنعّم فى الجنّة. الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة نوح- عليه السلام- وخبر الطوفان قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال وهب بن منبّه: لمّا رفع الله تعالى إدريس- عليه السلام- ترك إدريس فى الأرض ولده متوشلح، فتزوّج بامرأة يقال لها: (ميشاخا) ؛ فولدت له ولدا سمّاه (لمك) ، وكان يرجع إلى قوّة وبطش وكان يضرب بيده الشجرة العظيمة فيقتلعها من أصلها، وكان على وجهه نور نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج فى يوم إلى البرّيّة فرأى امرأة فى نهاية الجمال وبين يديها غنم ترعاها، فأعجبته، فسألها عن نفسها، فقالت: أنا قينوش بنة براكيل بن محويل من أولاد قابيل بن آدم. فقال: ألك زوج؟ قالت: لا. قال: فما سنّك؟ قالت: مائة وثمانون. قال: لو كنت بالغة لتزوّجتك- وكان البلوغ يومئذ لاستيفاء مائتى سنة- فقالت: كان عندى أنك تريد أن تفضحنى، فأمّا إذا أردت الزواج فقد أتى علىّ مائتا سنة وعشر سنين. فخطبها من أبيها، وأرغبه بالمال؛ فزوّجه بها فحملت منه بنوح- عليه السلام- فلما كان وقت الولادة ولدته فى غار خوفا على

ذكر مبعث نوح عليه السلام

نفسها وولدها من الملك لكونها تزوّجت بمن ليس منهم؛ فلمّا وضعته هناك وأرادت الانصراف قالت: وانوحاه. وانصرفت، فبقى فى الغار أربعين يوما؛ ثم توفّى أبوه لمك؛ فاحتملته الملائكة ووضعته بين يدى أمّه مزيّنا مكحولا، ففرحت به وربّته حتى بلغ. وكان ذا عقل وعلم ولسان وصوت حسن، واسع الجبهة، أسيل الخدّ، وكان يرعى الغنم لقومه مدّة، وربما عالج التجارة؛ ثم كره مجاورة قومه لعبادتهم الأصنام. وكان لهم ملك يقال له درمشيل؛ وكان جبّارا عاتيا قويّا، وهو أوّل من شرب الخمر واتّخذ القمار وقعد على الأسرة واتخذ الثياب المنسوجة بالذهب وأمر بصنعة الحديد والنحاس والرصاص؛ وكان هو وقومه يعبدون الأصنام الخمسة: ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا؛ ثم اتخذ ألف صنم وسبعمائة صنم على صور شتّى، واتخذ لها كراسىّ من الذهب والفضة، وأقام لها الخدم يخدمونها؛ فاعتزلهم نوح إلى البرارىّ ولم يخالطهم حتى بعثه الله تعالى نبيّا؛ والله أعلم بالصواب. ذكر مبعث نوح عليه السلام قال: فأمر الله تعالى جبريل- عليه السلام- أن يهبط إلى نوح ويبشره بالنبوّة والرسالة؛ فهبط جبريل عليه، وجاءه بوحى الله أن يسير إلى درمشيل الملك وقومه ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى؛ فأقبل نوح إلى قومه من يومه- وكان يوم عيدهم وقد نصبوا أصنامهم على أسرّتها وكراسيّها، وهم يقرّبون القرابين لها، وكانوا إذا فعلوا ذلك يخرّون لها سجّدا ويشربون الخمر، ويضربون بالصّنج، ويأتون النساء كالبهائم من غير تستّر- فجاءهم وهم يزيدون على تسعين زمرة، كلّ زمرة لا يحصون كثرة، فاخترق الصفوف حتى صار فى وسط القوم، وسأل الله تعالى أن ينصره

عليهم؛ فلما أرادوا السجود للأصنام نادى: أيها القوم، إنى قد جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم أدعوكم إلى عبادته وطاعته، وأنهاكم عن عبادة هذه الأصنام (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) * . فخرقت دعوته الأسماع، وهوت الأصنام عن كراسيّها، وسقط الملك عن سريره مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال: يا أولاد قابيل، ما هذا الصوت الّذى لم أسمع مثله؟ قالوا: أيّها الملك، هذا صوت رجل منّا اسمه نوح بن لمك كان يجانبنا قبل ذلك بجنونه، والآن قد اشتدّ عليه فقال ما قال. فغضب الملك واستدعاه، فأتوه به بعد أن ضربوه الضرب الشديد؛ فقال له: من أنت، فقد ذكرت آلهتنا بسوء؟ قال: أنا نوح بن لمك رسول ربّ العالمين، جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم لتؤمنوا به وبرسوله، وتهجروا هذه الأصنام والقبائح. فقال درمشيل: إنّك قد جئتنا بما لا نعرفه، ولا نعتقد أنك عاقل، فإن كان بك جنّة فنداويك أو فقر فنواسيك. قال: يا قوم، ما بى جنون ولا حاجة إلى ما فى أيديكم، ولكنّى أريد أن تقولوا: لا إله إلا الله وإنى نوح رسول الله. فغضب درمشيل وقال: لولا أنه يوم عيد لقتلناك. فأوّل من آمن به امرأة من قومه يقال لها: (عمرة) فتزوّجها فأولدها (ساما) (وحاما) (ويافث) وثلاث بنات؛ ثم آمنت به امرأة أخرى من قومه يقال لها: (والعة) فتزوّجها فأولدها كنعان؛ ثم نافقت وعادت إلى دينها. وكان نوح يخرج فى كلّ يوم فى أندية لقومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى فيضربونه حتى يغشى عليه، ويجرّون برجله فيلقونه على المزابل، فاذا أفاق عاد إليهم بمثل ذلك، ويعاملونه بمثله؛ حتى أتى عليه ثلاثمائة سنة وهو على هذه الحال؛ ثم مات ملكهم درمشيل، وملك بعده ابنه بولين، وكان أعتى وأطغى من أبيه- وكان نوح يدعوهم فى القرن الرابع على عادته، فيضربونه ويشتمونه، وربما سفوا

عليه التراب ويقولون: إليك عنا يا ساحر يا كذّاب. ويضعون أصابعهم فى آذانهم؛ فينصرف عنهم ويعود إليهم، وإذا خلا بالرجل منهم دعاه، وهم لا يزدادون إلّا عتوّا وتمرّدا واستكبارا، وذلك قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً الآيات. ثم دعاهم حتى استكمل ستّة قرون؛ فلمّا دخل القرن السابع مات ملكهم (بولين) واستخلف عليهم ابنه (طفردوس) - وكان على عتوّ أبيه- وكان نوح يأتى أصنامهم بالليل وينادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا (لا إله إلا الله، وإنى نوح رسول الله) . فتنكّس الأصنام؛ وكانوا يضربون نوحا ضربا شديدا، ويدوسون بطنه حتى يخرج الدم من أنفه وأذنيه؛ وكان الرجل منهم عند وفاته يوصى أولاده ويأخذ عليهم العهد ألا يؤمنوا به؛ ويأتى الرجل بابنه إلى نوح ويقول: يا بنىّ انظر إلى هذا فإنّ أبى حملنى إليه وحذّرنى منه، فاحذره أن يزيلك عمّا أنت عليه فإنّه ساحر كذّاب. وهو بعد ذلك يدعوهم؛ فضجّت الأرض إلى ربّها وقالت: ما حلمك على هؤلاء؟ وضجّ كلّ شىء إلى ربّه من عتوّهم، ونوح يدعوهم ويذكّرهم بآيات الله؛ فلمّا كان فى بعض الأيّام إذا هو برجل من كبار قومه قد أقبل بولده يحذّره منه؛ فضرب الغلام بيده إلى كفّ تراب وضرب به وجه نوح، فعند ذلك قال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجرا كفّارا. فأمّنت الملائكة على دعوته، فمنع الله عنهم القطر والنبات؛ فعلم نوح أنّ الله مهلك قومه؛ فأحبّ أن يؤمن بعضهم إن لم يؤمنوا كلّهم؛ فأوحى الله تعالى

ذكر عمل السفينة

إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. ذكر عمل السفينة قال: وأوحى الله تعالى إليه أن يتّخذها فى ديار قومه، وأن يجعلها ألف ذراع طولا وخمسائة عرضا وثلاثمائة ارتفاعا، فأعدّ آلات النّجارة، وشرع فى عملها وأعانه أولاده ومن آمن من قومه، والناس يسخرون منه ويقولون: بعد النبوّة صرت نجّارا، ونحن نشكو القحط، وأنت تبنى للغرق. قال الله تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ؛ وكانوا يأتون السفينة بالليل فيشعلون فيها النار ولا تحترق، فيقولون: هذا من سحرك يا نوح. وجعل نوح رأس السفينة كرأس الطاوس، وعنقها كعنق النّسر، وجؤجؤها كجؤجؤ الحمامة، وكوثلها كذنب الديك، ومنقارها كمنقار البازى، وأجنحتها كأجنحة العقاب؛ ثم غشّاها بالزفت، وجعلها سبع طبقات لكلّ طبقة باب؛ فلمّا فرغ من بنائها نطقت بإذن الله وقالت: لا إله إلا الله إله الأوّلين والآخرين، أنا السفينة، من ركبنى نجا، ومن تخلّف عنّى غرق، ولا يدخلنى إلّا أهل الإخلاص. فقال نوح لقومه: أتؤمنون؟ قالوا: هذا قليل من سحرك. ثم استأذن ربّه فى الحج، فأذن له؛ فلمّا خرج همّ القوم بإحراقها، فأمر الله الملائكة فاحتملوها إلى الهواء، فكانت معلّقة حتى عاد من حجّه. ولمّا قضى مناسكه رأى تابوت «1» آدم عن يمين الكعبة، فسأل ربّه فى ذلك التابوت فأمر الملائكة فحملوه إلى دار

نوح- وكانت يومئذ فى مسجد الكوفة- فلمّا رجع من حجّه نزلت السفينة من الهواء، ثم أوحى الله إليه: أن قد دنا هلاك قومك فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ . ثم أمره الله تعالى أن ينادى فى الوحش والسباع والطير والهوامّ والأنعام؛ فوقف على سطح منزله، ونادى: «هلمّوا إلى السفينة المنجّية» . فمرّت دعوته إلى الشرق والغرب والبعد والقرب، فأقبلت إليه أفواجا. فقال: إنّما أمرت أن أحمل من كلّ زوجين اثنين؛ فأقرع بينهم، فأصابت القرعة من أذن الله فى حمله، وكان معه من بنى آدم ثمانون إنسانا بين رجل وامرأة؛ فلما كان فى مستهلّ شهر رجب نودى من التنّور وقت الظهر: قم يا نوح فاحمل فى سفينتك من كلّ زوجين اثنين من الذكر زوجا ومن الأنثى زوجا، فحملهم. وكان معه جسد آدم وحوّاء؛ وتباطأ عليهم الحمار فى صعوده، لأن إبليس تعلّق بذنبه؛ فقال نوح بالنبطيّة: على سيطان، يعنى ادخل يا شيطان؛ فدخل ومعه إبليس فرآه نوح فقال: يا ملعون، من أدخلك؟ قال: أنت حيث قلت: على سيطان: فعاهده ألا يغوى أهل السفينة ما داموا فيها؛ ثم أوحى الله إلى جبريل أن يأمر خزنة الماء أن يرسلوه بغير كيل ولا مقدار وأن تضرب المياه بجناح الغضب. ففعل ذلك، ونبعت العيون، وهطلت السماء (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وكان ماء السماء أخضر، وماء الأرض أصفر؛ وأمر الله الملائكة أن يحملوا البيت الى سماء الدنيا؛ وكان الحجر يومئذ أشدّ بياضا من الثلج؛ فيقال إنه اسودّ من خوف الطّوفان؛ وقال نوح عند ركوبه السفينة ما أخبرنا الله عنه فى كتابه العزيز: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ

فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. قال: كان ابنه هذا كنعان. قال: وكانوا لا يعرفون الليل من النهار إلّا بخرزة كانت مركّبة فى صدر السفينة بيضاء، فاذا نقص ضوءها علموا أنّه النهار، واذا زاد علموا أنّه اللّيل؛ وكان الديك يصيح عند أوقات الصلاة؛ وعلا الماء على الجبال أربعين ذراعا؛ وسارت السفينة حتى بلغت موضع الكعبة، فطافت سبعا، ونطقت بالتلبية؛ وكانت لا تقف فى موقف إلّا وتناديه: يا نوح هذه بقعة كذا، وهذا جبل كذا؛ حتى طافت به الشرق والغرب ورجعت إلى ديار قومه، فقالت: يا نبىّ الله، ألا تسمع صلصلة السلاسل فى أعناق قومك؟ قال الله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ؛ ولم تزل السفينة كذلك ستّة أشهر آخرها ذو الحجة. وقيل: كان ركوب نوح ومن معه السفينة لعشر خلون من شهر رجب وذلك لتتمّة ألفى سنة ومائتى سنة وخمسين سنة من لدن أهبط الله تعالى آدم- عليه السلام- وخرجوا منها فى العاشر من المحرّم بعد مضىّ ستة أشهر؛ ثم استقرّت على جبل الجودىّ، قال الله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ. قال: ثم فتح نوح باب السفينة، فنظر إلى الأرض بيضاء من عظام قومه؛ وبعث الغراب لينظر ما بقى على وجه الأرض من الماء؛ فأبطأ، فبعث الحمامة

ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام

فانطلقت شرقا وغربا وعادت مسرعة، فقالت: يا نبىّ الله، هلكت الأرض ومن عليها، وأما الماء فإنى لا أراه إلّا ببلاد الهند، ولم تبق على وجه الأرض شجرة إلّا الزيتون، فإنّها على حالها. فأوحى الله تعالى الى نوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ فخرج من السفينة وأخرج من فيها، وأعاد الله الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأشجار والنبات كما كانت، وتفرّق الوحش والسباع والطيور وغيرها فى الأرض؛ وأمر نوح فبنيت قرية فى أسفل جبل الجودىّ وسمّيت (قرية ثمانين) على عددهم. قيل: هى الجزيرة؛ وهى أوّل قرية بنيت على وجه الأرض بعد الطّوفان ثم قسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث، فأعطى سام الحجاز واليمن والشأم، فهو أبو العرب، وأعطى حام بلاد المغرب فهو أبو السّودان وأعطى يافث بلاد المشرق، فهو أبو الترك. ثم أوحى الله- عزّ وجلّ- الى نوح أن يردّ التابوت الى المكان الذى أخذ منه، فردّه. ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام قال: ولما استقرّ الأمر قال نوح لبنيه: إنى أحب أن أنام، فإننى لم أتهنّأ بالنوم منذ ركبت الفلك. فوضع رأسه فى حجر ابنه حام، فهبّت الريح فكشفت عن سوءته، فضحك حام، وغطّاه سام؛ فانتبه فقال: ما هذا الضحك؟ فأخبره سام، فغضب وقال لحام: أتضحك من سوءة أبيك؟ غيّر الله خلقتك، وسوّد وجهك. فاسودّ وجهه لوقته. وقال لسام: سترت عورة أبيك، ستر الله عليك فى هذه الدنيا، وغفر لك فى الآخرة، وجعل من نسلك الأنبياء والأشراف، وجعل من نسل حام الإماء والعبيد، وجعل من نسل يافث الجبابرة والأكاسرة والملوك العاتية.

ذكر وصية نوح ووفاته

ذكر وصيّة نوح ووفاته قال كعب: بعث الله- عزّ وجلّ- نوحا إلى قومه وله مائتان وخمسون سنة ولبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، وعاش بعد الطّوفان مائتى سنة؛ فلمّا حضرته الوفاة دعا بابنه سام وقال له: أوصيك يا بنىّ باثنين، وأنهاك عن اثنين: أوصيك «بشهادة أن لا إله إلا الله» ، فإنّها تخرق السموات السبع، لا يحجبها شىء، والثانية أن تكثر من قولك: «سبحان الله وبحمده» ، فإنها جامعة الثواب؛ وأنهاك عن الشّرك بالله، والاتّكال على غير الله. فلمّا فرغ من ذلك أتاه ملك الموت، فسلّم عليه فقال: من أنت؟ فقد ارتاع قلبى من سلامك. قال: أنا ملك الموت، جئت لقبض روحك. فتغيّر وجهه وجزع، فقال له: ما هذا الجزع، ألم تشبع من الدنيا فى طول عمرك؟ قال: ما شبّهت ما مضى من عمرى فى الدنيا إلّا بدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. فناوله ملك الموت كأسا فيها شراب وقال: اشرب هذا حتى يسكن روعك. فلمّا شربه خرّ ميتا- عليه السلام- والله الموفّق. ذكر خبر أولاد نوح- عليه السلام- من بعده فأما حام فإنه واقع زوجته فولدت غلاما وجارية سودا «1» ، فأنكرهما حام؛ فقالت امرأته: «لحقتك دعوة أبيك» . فلم يقربها حينا؛ ثم واقعها فولدت مثلهما فتركها حام وهرب على وجهه؛ فلما كبر الولدان الأوّلان خرجا فى طلب أبيهما حتى بلغا قرية على شاطىء البحر، فنزلاها، وواقع الغلام أخته فحملت منه وولدت غلاما وجارية؛ وأقاما فى ذلك الموضع لا مأكل لهما إلّا السمك؛ فرجع

الباب الخامس من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة هود - عليه السلام - مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم

حام فى طلب ولديه فلم يجدهما، فاغتمّ لذلك؛ ثم ماتت امرأته، فخرج الولدان الآخران فى طلب أخويهما حتّى صارا الى قرية أخرى على الساحل خربة؛ فنزلاها فسمع بهما الأخوان اللّذان فى البطن الأوّل، فلحقا بهما؛ ونزلوا هناك، ووطئ كلّ منهما أخته؛ فرزقوا أولادا، وكثر منهم النسل، وانتشروا فى أعلى الأرض على ساحل البحر؛ فمنهم النّوبة والزّنج والبربر والهند والسند وجميع طوائف السودان. وأمّا يافث بن نوح، فإنه صار إلى المشرق، فولد له هناك خمسة أولاد «1» : جومر وتيرس وأشار وسفويل ومياشخ؛ فمن جومر جميع الصّقالبة والروم وأجناسهم؛ ومن تيرس جميع الترك والخزر وأجناسهم؛ ومن مياشخ جميع أصناف العجم؛ ومن أشار يأجوج ومأجوج؛ ومن سفويل جميع الأرمن: وأما سام بن نوح فولد خمسة أولاد: أرفخشذ، وهو أب العرب؛ ولاوذ وهو أبو العمالقة؛ وأشور، وهو أبو النسناس؛ وعيلم، وهو أبو العادية [الأولى] ، وإرم، وهو أبو عاد وثمود؛ ورزق غيرهم ممّن لم يعقب. الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود- عليه السلام- مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم قال وهب: كان ملك عاد الأكبر اسمه الخلجان بن عاد بن العوص بن إرم ابن سام؛ وكان قومه يرجعون إلى فصاحة وشعر، وكان له ثلاثة أصنام: صدا وهبا، وصمو؛ وكان ملكهم قد حلّى هذه الأصنام بأنواع الحلّى، وطيّبها، وجعل لها عدّة من الخدم بعدد أيّام السنة؛ فعتوا فى المعاصى، وانهمكوا على عبادة

ذكر مبعث هود عليه السلام

الأصنام؛ وكان فيهم رجل من أشرافهم اسمه الخلود بن معيد بن عاد، وكان له بسطة فى الخلق وقوّة فى الجسم، مع الحسن والفصاحة؛ وكان إذا قيل له: لم لا تتزوّج وقد بلغت سنّ أبيك؟ يقول: رأيت فى المنام كأن سلسلة بيضاء قد خرجت من ظهرى، ولها نور كالشمس، وقيل لى: إذا رأيت هذه السلسلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوّج بالتى تؤمر بتزوّجها؛ ولم أرها بعد، وقد عزمت على التزوّج. وقام ليعبر بيت الأصنام يدعو بالتوفيق فى التزوّج، فلما همّ بالدخول لم يقدر، وسمع هاتفا يقول: يا خلود، ما لمن فى ظهرك والأصنام؟ فلم يعد إليها. ثم رأى بعد ذلك فى منامه السلسلة وقد خرجت من ظهره وقائلا يقول: «قم يا خلود فتزوّج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوّجها، وواقعها فحملت بهود؛ وأصبح القوم وهم يسمعون من جميع النواحى: هذا هود قد حملت به أمّه، ويلكم، إن لم تطيعوه هلكتم. ووضعته أمّه فى ليلة الجمعة، فوقعت الرّعدة على قبائل عاد، ولم يعلموا ما حالهم؛ فعلموا أنه قد ولد لخلود ولد، فقال بعضهم لبعض: ليكونن لهذا الولد شأن فاحذروه. فخرج أحسن الناس وجها، وأكملهم عقلا، وسمّته أمّه عابر، فرأته أمّه ذات يوم يصلّى، فقالت: لمن هذه العبادة يا بنىّ؟ قال: لله الذى خلقنى وخلق الخلق. قالت: أليس هى لأصنامنا؟ قال: إنّ أصنامكم لا تضرّ ولا تنفع وإنما الشيطان قد زين لكم عبادتها. قالت: اعبد إلهك يا بنىّ، فقد رأيت منك حين كنت حملا وطفلا عجائب كثيرة. ذكر مبعث هود عليه السلام قال: ولم يزل هود فى ديار قومه يجادلهم فى أصنامهم، حتى أتت عليه أربعون سنة؛ فبعثه الله- عزّ وجلّ- إلى قومه رسولا، وأتاه الوحى، فانطلق إليهم وهم

متفرّقون فى الأحقاف، وهى الرمال والتّلال- وكانت مساكنهم ما بين عمان إلى حضرموت إلى الأحقاف إلى عالجة- فأتاهم فى يوم عيد لهم وقد اجتمع الملوك على الأسرّة والكراسىّ، وملكهم الخلجان على سرير من ذهب وهو متوّج وقد أحدقت به قبائل عاد، وهم فى اللهو والطرب؛ فلم يشعروا إلا وهود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وهذه الأصنام التى تعبدونها هى الّتى أغرقت قوم نوح، ولستم أكرم على ربّكم منهم؛ فآستغفروا ربّكم من عبادة هذه الأصنام. والأصنام ترتجّ؛ فقال له ملكهم: ويحك يا هود، أقبل إلىّ. فتقدّم إليه، فلما صار بين يدى الملك صاح صيحة أجابه الوحش والسباع: أبلغ «1» ولا تخف. فامتلأت قلوب الناس خوفا، فقام إليه رجل منهم وقال: يا هود، صف لنا إلهك. فوصف عظمة الله، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - وكان الذى سأله عمرو بن الحلى- فلمّا فرغ من كلامه قال له الملك: يا هود، أتظن أنّ إلهك يقدر علينا وهذه كثرة جموعنا وشدّة قوّتنا؟ قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً. فأوّل من آمن بهود رجل من قومه يقال له جنادة بن الأصمّ وأربعون من بنى عمّه؛ ثم انصرف إلى منزله. فلمّا كان من الغد أقبل جنادة وبنو عمّه حتى وقفوا على جماعة من سادات قومه، فقال: يا قوم لا تمنعكم مرارة الحق أن تقبلوه، ولا حلاوة الباطل أن تتركوه؛ وهذا ابن عمّكم هود قد عرفتم صدقه، وقد أتاكم من عند الله رسولا وواعظا فاتقوا الله وأطيعوه. وحذّرهم، فحصبوه وشتموه، فرجع إلى هود.

فلما كان من الغد خرج هود فوقف عليهم وقال: يا قوم لا تبدّلوا نعمة الله كفرا. وأخذ يعظهم؛ فكذّبوه وواجهوه بالقبائح؛ فبقى على ذلك دهرا طويلا يلاطفهم وهم على كفرهم وعتوّهم؛ فأعقم الله أرحام نسائهم، فلم تحمل امرأة منهم؛ فشكوا ذلك إلى الملك، فأمرهم أن يخرجوا أصنامهم ويقرّبوا القرابين إليها؛ ففعلوا ذلك؛ فأتاهم هود وقال: يا قوم ألا تفزعون إلى الله الّذى خلقكم وأعطاكم هذه النعمة والقوّة، فإنه مجيبكم إذا سألتموه، ويزيدكم ملكا إلى ملككم وقوّة إلى قوّتكم وهو أن تقولوا معى: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإنى هود عبده ورسوله» وإن لم تفعلوا ذلك ضربكم الله بالذلّ والنّقمة، وهبّت عليكم الريح العقيم حتّى تذركم فى دياركم هشيما. فلمّا سمعوا ذلك منه ضربوه حتى سال الدم على وجهه وهو يقول: «إلهى قد أبلغت وأنذرت» . وأقبل إلى هود بعد انصرافه رجل من قومه يعرف بمرثد بن عاد، وقال: يا هود، إنّى قد جئتك فى أمر، فإن أخبرتنى به فأنت رسول الله. قال له هود: يا مرثد، كنت البارحة نائما مع زوجتك فواقعتها، فقالت لك: أتظنّ أنى قد حملت؟ فقلت لها: إنى صائر غدا إلى هود، فإن أخبرنى بهذا الكلام آمنت به. فقال مرثد: أشهد أنّك رسول الله حقا؛ ولكن أخبرنى هل حملت؟ قال: نعم حملت بولدين ذكرين يكونان من أمّتى، سيخرجان من بطنها سليمين مؤمنين؛ وستلد لك عشرة أبطن فى كلّ بطن ذكران، ويكونان من أمّتى. فوثب مرثد وقبّل رأس هود وكان من خيار أصحابه، وجعل مرثد يقول: من كان يصدق يوما فى مقالته ... فإنّ هودا رسول صادق القيل نبىّ صدق أتى بالحقّ من حكم ... وقد أتانا ببرهان وتنزيل فالحمد لله حمدا دائما أبدا ... مضاعفا «1» شكره فى كلّ تفصيل

ثم انصرف مرثد إلى امرأته وأخبرها، فآمنت؛ وكان مرثد يكتم إيمانه ويجالس قومه، فإذا سمعهم يذكرون هودا بسوء يقول: مهلا يا بنى عمّ فإنه كأحدكم وابن عمّكم. قال: ثم اجتمعوا فى متنزّه لهم وملكهم ونصبوا أصنامهم؛ فأقبل هود عليهم وقال: يا قوم اعبدوا الله فإن هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. فقال الرؤساء من قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً. فنادوه من كلّ ناحية: يا هود أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. وكان القوم يشتمونه ويضربونه ويدوسونه تحت أرجلهم حتى يظنّوا أنه قد مات، ثم يولّون عنه ضاحكين؛ فيقوم غير مكترث بفعلهم؛ فلما أكثر عليهم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فآمن به فى ذلك اليوم رجل يقال له نهيل.

ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم

قال: ولم يزل هود فيهم يحذرهم وينذرهم العذاب سبعين عاما؛ فلما رأى أنهم لا يؤمنون دعا الله تعالى أن يبتليهم بالقحط، فإن آمنوا وإلّا يهلكهم بعذاب لم يهلك به أحدا قبلهم ولا بعدهم؛ فاستجاب الله تعالى دعوته، وأمره باعتزالهم بمن معه من المؤمنين، فآعتزلهم فأمسك الله عنهم المطر، وأجدبت الأرض ولم تنبت ومات عامّة المواشى؛ فصبروا على ذلك أربع سنين حتى يئسوا من أنفسهم، وهمّوا أن يؤمنوا؛ فنهاهم الملك عن ذلك وصبّرهم؛ فأجمعوا رأيهم أن يبعثوا رجالا منهم إلى الحرم يستسقون لهم؛ والله الفعّال. ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم قال وهب: فجمعوا الهدايا، واختاروا سبعين رجلا من أشرافهم، وجعلوا لكلّ عشرة منهم رئيسا، من جملتهم مرثد المؤمن؛ فسار وهو يدعو عليهم؛ فلما أشرفوا على الحرم إذا بهاتف يقول: قبّح الله قوم عاد وذلّوا ... إنّ عادا أشرّ أهل الجحيم سيّروا الوفد كى يسقوا غياثا ... فسيسقون من شراب الحميم فدخلوا الحرم والملك يومئذ معاوية بن بكر، وكانوا أخواله، فسألهم عما جاء بهم فأخبروه بخبر هود وبما حلّ بعاد، وأنّهم قد لجأوا إلى الحرم للاستسقاء؛ فأنزلهم معاوية فى منزل الضيافة، وأطعمهم وسقاهم شهرا؛ فشغلهم اللهو عن الاستسقاء؛ فبلغ الملك (الخلجان) ذلك، فبعث إلى معاوية يسأله أن يأمرهم بالاستسقاء، فكره مواجهتهم بذلك فيقولون: «قد تبرّم بضيافتنا» فدعا بالجرادتين- وهما قينتان لمعاوية- فقال لهما: إذا شرب القوم ودبّ فيهم الشراب فغنيّاهم بهذه الأبيات، وهى: بأبى من خلق الخل ... ق بنى سام وحام سادة سادوا جميع ال ... خلق فى الخلق التّمام

نصب الدهر عليهم ... حربه دون الأنام فسقى الله بنى عا ... د من الصّوب الغمام فأجابهما رجل من الوفد يقال له الجعد بن القيل: علّلينا- زانك اللّ ... هـ- بأكواب المدام وبماء فامزجيها ... تستريحى من ملام فلما لم يكترثوا بالصوت الأوّل قالت: ألا يا قيل ويحك قم فهينم «1» ... لعلّ الله يمنحكم غماما غماما صوبها هطل مغيث ... يروّى السّهل طرّا والإكاما من العطش الشديد فليس نرجو ... بها الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما «2» وأنّ الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادىّ سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التّماما فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحيّة والسلاما أفيقوا أيّها الوفد السّكارى ... لقومكم فقد أضحوا هياما فقد طال المقام على سرور ... ألا يا قيل ويك ذر المداما قال: فانتبه الناس وقاموا فاغتسلوا ولبسوا ثيابا جددا، وكسوا البيت بالكسوة التى حملوها له؛ فجعل ينفضها؛ فقال مرثد: يا قوم، إنّ ربّ هذا البيت لا يقبل الهديّة إلّا من مؤمن، فهل لكم أن تؤمنوا بهود؟ فقالوا: يا مرثد: إنّ كلامك يدلّ على إيمانك به، ونحن لا نؤمن به أبدا. فأنشأ يقول:

ذكر إرسال العذاب على قوم هود

أرى عادا تمادى «1» في ضلال ... وقد عدلوا عن الأمر الرشيد بما كفرت بربّهم جهارا ... وحادوا رغبة عن دين هود فاجتمعوا يستسقون، فقال واحد منهم: يا ربّ عاد اسقينّ عادا ... إنّك حقّا ترحم العبادا فاسق البساتين وذى البلادا ... أجواد «2» غيث تتبع العهادا وجعل كلّ واحد منهم يتكلّم بما حضره من ذلك. ثم تكلّم مرثد بن سعد- وهو المؤمن الّذى يكتم إيمانه- وقال: اللهمّ إنا لم نأتك إلى حرمك إلّا لأرض تسقيها، أو أمّة تحييها. فأوحى الله إلى ملك السحاب أن ينشر لهم ثلاث غمامات: بيضاء وحمراء وسوداء؛ وجعل السوداء مشوبة بغضبه، فارتفعت البيضاء، وتبعتها الحمراء خلفهما السوداء، فارتفعت حتى رأى الوفد جميع الغمامات؛ ففرحوا واستبشروا ثم نودوا: يا قيل، اختر لقومك من هذه السحائب. فنظر فقال: أمّا البيضاء فإنها جهام لا ماء فيها؛ وأمّا الحمراء فإنها إعصار ريح. فاختار السوداء. فنودى: يا قيل، اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من قوم عاد أحدا، إلا تراهم فى الديار همّدا. ذكر إرسال العذاب على قوم هود قال: وأوحى الله إلى (مالك) خازن جهنّم أن يقبض على سلاسل السوداء وليكن عليها ألف من الزبانية. قال كعب: إن هذه السلسلة غمست فى سبعين واديا من أودية الزمهرير ولولا ذلك لذابت الجبال من حرّها.

فمدّت الزبانية السلاسل، وجعلت السحابة ترمى بشرر كالجبال، وخرجت عليهم من واد يقال له: (وادى الغيث) فنظروا إليها فقال بعضهم لبعض: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها. وأخرج القوم أصنامهم ونصبوها على أسرتها؛ فأمر الله تعالى خازن الريح العقيم أن يفتح بعض أطباقها، فانطلقت ناشرة أجنحتها بعدد قبائل عاد؛ فلمّا عاينوا الملائكة يطوفون حول السحاب تيقّنوا العذاب، فأدخلوا النساء والولدان فى الحصون وخرجوا ونشروا أعلامهم وأوتروا قسيّهم، وأفرغوا السهام بين أيديهم، والرياح ساكنة تنتظر أمر ربّها، وهود قائم ينذرهم العذاب، وهم يقولون: ستعلم يا هود من أشدّ منا قوّة وبطشا. حتى إذا كانت صبيحة الأربعاء، خرجت الريح عليهم فى يوم نحس مستمرّ، فكانت فى اليوم الأوّل شهباء، فلم تترك على وجه الأرض شيئا إلّا نسفته نسفا؛ وفى اليوم الثانى صفراء، فاقتلعت الأشجار؛ وفى اليوم الثالث حمراء، فدمّرت كلّ شىء مرّت عليه؛ فلم يزل يجرى فى كلّ يوم لون والنساء ينظرن إلى فعلها بقومهنّ، فجعلن يقلن شعرا: ألا قد ذهب الدّه ... ر بعمرو ذى العليّات وبالحارث والقمقا ... م طلّاع الثّنيّات ومن سدّ مهب الري ... ح فى وقت البليّات واستمرت الريح سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، أى دائمة؛ فلما كان فى اليوم الثامن اصطفّت القوم صفوفا، كلّ واحد إلى جنب أخيه، وهم عشرة صفوف؛ فجعل ملكهم الخلجان يشجّعهم ويقول:

ذكر خبر مرثد ولقمان

ما بال «1» عاد اليوم خائفينا؟ ... أمن مهبّ الريح يجزعونا؟ لقد خشيت أن يكونوا دونا ... إنّ البنين تعقب البنينا هذا والرّيح تمزّقهم، فكانت تدخل فى ثوب الرجل فتحمله فى الهواء، ثم ترميه على رأسه ميتا. قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فلم يبق منهم إلا الملك أخّره الله تعالى ليرى مصارع قومه، وهو يردّ الريح بصدره، فجاءت الريح فدخلت من فيه وخرجت من دبره، فمات؛ ثم مرّت الريح نحو الوفد، فحملتهم من الأرض إلى الهواء، فألقتهم على وجوههم؛ فماتوا عن آخرهم. قال: وهود فى حظيرة بمن معه من المؤمنين لا يصيبهم منها إلا ما تلين له الجلود. قال الله تعالى وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. قال: وارتحل هود ومن معه من أرض عاد إلى الشّحر من بلاد اليمن؛ فنزلوا هناك حولين، ثم مات. ويقال: إنه دفن بأرض (حضرموت) ؛ والله أعلم. ذكر خبر مرثد ولقمان قال: وخرج من وفد عاد مرثد، ولقمان بن عاد، فدخلا مكة منفردين، فدعوا الله تعالى لأنفسهما؛ فقيل لهما: قد أعطيتما مناكما، فاختارا لأنفسكما، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود. فقال مرثد: اللهم أعطنى برّا وصدقا. فأعطى ذلك. وقال لقمان: «يا ربّ عمرا» . فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بقرات صفر عفر

ذكر خبر إرم ذات العماد وقصة شديد وشداد بنى عاد

فى جبل وعر، لا يمسّهن ذعر؛ وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر، مستودعات فى صخر، لا يمسّهن ندى ولا قطر؛ وإن شئت بقاء سبعة أنسر كلّما هلك نسر أعقب من بعده نسر. فاختار الأنسر، فكان يأخذ الفرخ منها حين يخرج من بيضته، فإذا مات أخذ غيره، فكان كلّ نسر يعيش ثمانين سنة، حتى انتهى إلى السابع، فكان آخرها لبد؛ فلما مات لبد مات معه لقمان، وهو لقمان النسور. ولنصل هذا الباب بخبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، وقصّة شديد وشدّاد. ذكر خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ وقصّة شديد وشدّاد بنى عاد قد ذكرنا خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فيما تقدّم من كتابنا هذا على سبيل الاختصار وذلك فى (الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الأوّل فى المبانى القديمة) وهو فى السفر الأوّل من هذه النسخة؛ ورأينا إيراده فى هذا الباب بما هو أبسط من ذلك لتعلّقه به. قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. روى أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) عن منصور عن سفيان عن أبى وائل أنّ رجلا يقال له: (عبد الله بن قلابة) خرج فى طلب إبل له قد شردت، فبينما هو فى بعض صحارى عدن فى تلك الفلوات، إذ وقف على مدينة عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال؛ فلمّا دنا منها ظنّ أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا فيها ولا خارجا منها، فنزل عن ناقته وعقلها، وسلّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فاذا هو ببابين عظيمين لم ير فى الدنيا أعظم منهما ولا أطيب رائحة

وإذا خشبهما من أطيب عود، وعليهما نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوءها قد ملأ المكان؛ فلما رأى ذلك عجب، ففتح أحد البابين، فاذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قطّ، وإذا هو بقصور تتعلّق، تحتها أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف مبنيّة بالذهب والفضّة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعلى كلّ باب من أبواب تلك القصور مصراع كمصراع باب المدينة من عود طيّب، قد نضّدت عليه اليواقيت؛ وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ولم ير هنالك أحدا، فأفزعه ذلك، ثم نظر إلى الأزقّة فاذا فى كلّ زقاق منها أشجار قد أثمرت، تحتها أنهار تجرى؛ فقال: هذه الجنّة التى وصفها الله تعالى لعباده فى الدنيا الحمد لله الذى أدخلنى الجنة. فحمل من لؤلؤها وبنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا ياقوتها لأنّها كانت مشتبكة فى أبوابها وجدرانها وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران منثورة بمنزلة الرمل فى تلك القصور والغرف؛ فأخذ منها ما أراد، وخرج؛ ثم سار يقفو أثر ناقته حتى رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، وأعلم الناس بخبره، وباع ذلك اللؤلؤ، وكان قد اصفرّ وتغيّر من طول الزمان الذى مرّ عليه، ففشا خبره وبلغ معاوية، فأرسل رسولا إلى صاحب (صنعاء) ، وكتب بإشخاصه، فسار حتى قدم على معاوية، فخلا به وسأله عمّا عاين؛ فقصّ عليه أمر المدينة وما رأى فيها؛ فاستعظم ذلك، وأنكر ما حدّث به، وقال: ما أظنّ ما يقول حقّا. ثم قال: يا أمير المؤمنين، معى من متاعها الّذى هو مفروش فى قصورها وغرفها وبيوتها. قال له: ما هو؟ قال: اللؤلؤ والبنادق. فشمّ البنادق فلم يجد لها ريحا؛ فأمر ببندقة منها فدقّت، فسطع ريحها مسكا وزعفرانا؛ فصدّقه عند ذلك؛ ثم قال معاوية: كيف أصنع حتى أسمع باسم هده المدينة ولمن هى ومن بناها؟ والله ما أعطى أحد مثلما أعطى سليمان بن داود

وما أظنّ أنه كان له مثل هذه المدينة. فقال بعض جلسائه: ما تجد خبر هذه المدينة إلّا عند (كعب الأحبار) فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليه ويأمر بإشخاصه ويغيّب عنه هذا الرجل فى موضع ويسمع كلامه منه وحديثه ووصف المدينة حتّى يتبيّن أمر هذه المدينة فعل، فإنّ كعبا سيخبر أمير المؤمنين بخبرها وأمر هذا الرجل إن كان دخلها، لأن مثل هذه المدينة على هذه الصفة لا يستطيع هذا الرجل دخولها، إلّا أن يكون سبق فى الكتاب دخوله إيّاها فيعرف ذلك. فأرسل معاوية إلى (كعب الأحبار) وأحضره ثم قال له: يا أبا إسحاق إنّى دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك. فقال له: يا أمير المؤمنين «على الخبير سقطت» فسلنى عما بدا لك. فقال له: أخبرنا يا أبا إسحاق، هل بلغك أن فى الدنيا مدينة مبنيّة بالذهب والفضّة، عمدها زبرجد وياقوت، وحصا قصورها وغرفها اللؤلؤ، وأنهارها فى الأزفة تحت الأشجار؟ قال: والّذى نفس كعب بيده لقد ظننت أن سأتوسّد «1» يمينى قبل أن يسألنى أحد عن تلك المدينة وما فيها ولكن أخبرك بها يا أمير المؤمنين ولمن هى، ومن بناها. أمّا المدينة فهى حقّ على ما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وصفت له. وأمّا صاحبها الّذى بناها فشدّاد بن عاد. وأمّا المدينة فهى إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد. فقال له معاوية: يا أبا إسحاق، حدّثنا بحديثها- يرحمك الله-. فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين، إن عادا كان له ابنان يسمّى أحدهما «شديدا» والآخر «شدّادا» ؛ فهلك عاد، فبقيا وملكا وتجرّآ، فقهرا أهل البلاد، وأخذاها عنوة

وقسرا، حتى دان لهما جميع الناس، فلم يبق أحد من الناس فى زمانهما إلّا دخل فى طاعتهما، لا فى شرق الأرض ولا فى غربها؛ وإنهما لمّا صفا لهما ذلك وقرّ قرارهما مات شديد بن عاد، وبقى شدّاد، فملك وحده، ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلّها؛ فكان مولعا بقراءة الكتب القديمة، وكان كلّما مرّ فيها بذكر الجنة دعته نفسه لتعجيل تلك الصفة لنفسه الدنيّة عتوّا على الله وكفرا؛ فلما وقر ذلك فى نفسه أمر بصنعة تلك المدينة الّتى هى إرم ذات العماد، وأمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كلّ واحد ألف من الأعوان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها، واعملوا فيها مدينة من ذهب وفضّة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد، وعلى المدينة قصور، من فوق القصور غرف، ومن فوق الغرف غرف، واغرسوا تحت القصور غروسا فيها أصناف الثمار كلّها، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت تلك الأشجار جارية، فإنّى أسمع فى الكتب صفة الجنة، وإنى أحبّ أن أتخذ مثلها فى الدنيا، أتعجل سكناها. فقال له قهارمته: كيف لنا بالقدرة على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة نبنى منها مدينة كما وصفت لنا؟ فقال لهم شدّاد: ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلّها بيدى؟ فقالوا: بلى. قال: انطلقوا إلى كلّ موضع فيه معدن من معادن الزبرجد والياقوت والذهب والفضة، وكلّفوا من كلّ قوم رجلا يخرج لكم ما فى كلّ معدن من تلك الأرض؛ ثم انظروا إلى ما فى أيدى الناس من ذلك فخذوه، سوى ما يأتيكم به أصحاب المعادن، فإنّ معادن الدنيا فيها كثير من ذلك، وما فيها ممّا لا تعلمون أكثر وأعظم ممّا كلّفتكم من صنعة هذه المدينة. قال: فخرجوا من عنده، وكتب معهم إلى كلّ ملك من ملوك الدنيا يأمره أن يجمع لهم ما فى بلده من الجواهر، ويحفر معادنها؛ فانطلق القهارمة، وبعث الكتب

إلى الملوك بأخذ كلّ ما يجدونه فى أيدى الناس عشر سنين من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، ويبعثون بذلك إلى فعلة إرم ذات العماد. وخرج الفعلة يطلبون موضعا كما وصفه لهم شدّاد. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، كم كان عدد أولئك الملوك الذين كانوا تحت يد شدّاد؟ قال: كانوا مائتين وستّين ملكا. قال: فخرج عند ذلك الفعلة والقهارمة، فتفرّقوا فى الصحارى ليجدوا ما يوافق غرضه؛ فوقعوا فى صحراء عظيمة نقيّة من الجبال والتلال. وإذا هم بعيون مطّردة؛ فقالوا: هذه صفة الأرض التى أمرنا بها؛ فأخذوا منها بقدر ما أمرهم به من العرض والطول، ثم عمدوا إلى مواضع الأزقّة فأجروا فيها قنوات الأنهار؛ ثم وضعوا الأساس من صخور الجزع اليمانىّ، وعجنوا طين ذلك الأساس من دهن البان والمحلب؛ فلمّا فرغوا من وضع الأساس بعث بالعمد والذهب والفضّة من جهة الملوك؛ فتسلّمها الوزراء والقهارمة، وأقاموا حتى فرغوا من بنائها على ما أراد شدّاد. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنى لأحسبهم أقاموا فى بنائها زمنا من الدهر. قال: نعم يا أمير المؤمنين. إنى لأجد فى التوراة مكتوبا أنهم أقاموا فى بنائها ثلاثمائة سنة. فقال معاوية: كم كان عمر شدّاد؟ فقال: سبعمائة سنة. فقال معاوية: لقد أخبرتنا عجبا، فحدّثنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّما سمّاها الله تعالى إرم ذات العماد الّتى لم يخلق مثلها فى البلاد، للعمد التى تحتها من الزبرجد والياقوت وليس فى الدنيا مدينة من الزبرجد والياقوت غيرها، فلذلك قال الله تعالى: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وقال كعب: إنّهم لما أتوه فأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا واجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كلّ قصر ألف علم، ويكون فى كلّ

قصر وزير من وزرائى، ويكون كلّ علم عليه ناطور. فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصن؛ ثم أتوه فأخبروه بالفراغ ممّا أمرهم به. قال: فأمر شدّاد ألف وزير من خاصّته أن يهيّئوا أسبابهم، ويعوّلوا على النقلة إلى إرم ذات العماد، وأمر رجالا أن يسكنوا تلك الأعلام ويقيموا فيها ليلهم ونهارهم، وأمر لهم بالعطاء والأرزاق، وأمر من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز إلى إرم ذات العماد؛ فأقاموا فى جهازهم عشر سنين؛ ثم سار الملك شدّاد بن عاد بمن أراد، وتخلّف من قومه فى عدن من أمره بالمقام بها. قال: فلمّا استقلّ وسار إليها ليسكن فيها، وبلغ منها موضعا بقى بينه وبين دخوله إليها مسيرة يوم وليلة، بعث الله تعالى عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء، فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل شدّاد ولا من كان معه إرم ذات العماد، ولم يقدر أحد منهم على الدخول فيها حتى الساعة. فهذه صفة إرم ذات العماد، وأنّه سيدخلها رجل من المسلمين فى زمانك ويرى ما فيها، فيحدّث بما عاين، ولا يسمع منه ولا يصدّق. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، فهل تصفه لنا؟ قال: نعم، هو رجل أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج فى طلب إبل له ندّت فى تلك الصحارى فيقع على إرم ذات العماد، فيدخلها ويحمل ممّا فيها. والرجل جالس عند معاوية. فالتفت كعب فرأى الرجل، فقال: هو هذا يا أمير المؤمنين قد دخلها، فاسأله عما حدّثتك به. فقال معاوية: يا أبا إسحاق، إنّ هذا من خدمى، ولم يفارقنى. قال كعب: قد دخلها وإلّا سوف يدخلها، وسيدخلها أهل هذا الدين فى آخر الزمان. قال معاوية: يا أبا إسحاق، لقد فضّلك الله على غيرك من العلماء

ولقد أعطيت من علم الأوّلين والآخرين ما لم يعطه أحد. فقال: والّذى نفس كعب بيده، ما خلق الله تعالى فى الأرض شيئا إلّا وقد فسّره فى التوراة لعبده موسى تفسيرا، وإن هذا القرآن أشدّ وعيدا (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) * والله الهادى للصواب. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- وقال الشعبىّ: أخبرنا دغفل الشيبانىّ عن رجل من أهل (حضرموت) يقال له: بسطام، أنه وقع على حفيرة شدّاد بن عاد فى جبل من جبال حضرموت مطلّ على البحر. قال: وكنت أسمع من صباى إلى أن اكتهلت بمغارة فى جبل من جبالنا بحضرموت وهيبة الناس لدخولها، فلم أحتفل بما كنت أسمع من ذلك؛ فبينما أنا فى نادى قومى إذ تناشدوا حديث تلك المغارة وأطنبوا فى ذكرها ووصفوا موضعها؛ فقلت لقومى: إنى غير منته حتى أدخلها، فهل فيكم من يساعدنى؟ فقال فتى منهم حدث السنّ: أنا أصاحبك. فقلت: يابن أخى، أو تجسر على ذلك؟ قال: عندى ما عند أشدّ رجل من رباطة الجأش وشدّة القلب. فهيّأنا شمعة وحملنا معنا إداوة عظيمة مملوءة ماء وطعاما مقدار ما قدرنا على حمله؛ ثم مضينا نحو ذلك الجبل الذى فيه المغارة- وكان مشرفا على المكان الذى يركب أهل حضرموت منه البحر- فلما انتهينا إلى باب المغارة حزمنا علينا ثيابنا؛ وأشعلنا الشمعة؛ ثم ذكرنا الله تعالى، ودخلنا ومعنا تلك الإداوة وذلك الطعام، فإذا بمغارة عظيمة عرضها عشرون ذراعا، وطولها علوا نحو خمسين ذراعا؛ فمشينا فيها هونا فى طريق أملس مستو، ثم أفضينا إلى درجات عالية عرض الدرجة عشرون ذراعا فى سمك عشر أذرع، فحملنا أنفسنا على نزول تلك الدرجات فقلت لصاحبى: هلمّ، إلىّ يديك. فكنت آخذ بيده حتى ينزل، فإذا نزل وقام فى الدرجة تعلّقت بطرف الدرجة وتسيّبت حتى تنال رجلاى منكبيه؛ فلم نزل

كذلك وذلك دأبنا عامّة يومنا، حتى نزلنا ذلك الدّرج وكانت مقدار مائة درجة؛ فأفضينا إلى أزج عظيم محفور فى الجبل، فى طول مائة ذراع، فى عرض أربعين ذراعا، وسمكه فى السماء نحو مائة ذراع، وفى صدره سرير من ذهب مفصّص بأصناف الجواهر، وفوقه رجل عظيم الجسم، قد أخذ طول هذا الأزج وعرضه وهو مضطجع على ظهره كهيئة النائم، وعليه سبعون حلّة بمقدار طوله وعرضه منسوجة تلك الحلل بقضبان الذهب والفضة، وإذا فى ذلك الأزج نقب عرضه ذراعان، وارتفاعه ثلاث أذرع، خارج إلى فضاء لم ندر ما هو، وإذا على رأس السرير لوح من ذهب، فيه كتاب بالمسند- وهو كتاب عاد كانت تكتبه فى زمانها- محفور ذلك الكتاب فى اللوح حفرا؛ فقلعناه ودنونا من الرجل فمسسنا تلك الحلل فصارت رميما، وبقيت قضبان الذهب قائمة، فجمعناها وكانت مقدار مائة رطل، فحملناها فى أزرنا، وأردنا قلع شىء من تلك الجواهر المفصّص بها السرير، فلم نقدر عليه لوثاقته، فتركناه؛ وهجم علينا الليل، ونحن فى ذلك الأزج وعرفنا ذلك بذهاب ذلك الضوء الذى كان يدخل من ذلك النّقب، فبتنا ليلتنا فى ذلك الأزج، وطفئت الشمعة التى كانت معنا؛ فلما أصبحنا قلت لصاحبى: ما ترى؟ قال: أما الرجوع من حيث جئنا فلا سبيل إليه، لارتفاع الدّرج، وأنا لا نستطيع صعودها، لا سيّما والشمعة قد طفئت، ولكن هلّم لنلزم هذا الضوء الذى نراه فى هذا النقب، فإنى أرجو أن يخرج بنا إلى الفضاء إن شاء الله تعالى. فقلت له: لعمرى إنّ هذا لهو الرأى. قال: فانطلقنا بما معنا من تلك القضبان من الذهب، وحملناها مع ذلك اللوح الذهب الذى كان عند رأس السرير، ومشينا فى ذلك النّقب نتبع ذلك الضوء، فلم نزل نمشى فيه فى طريق ضيق مقدار مائة ذراع حتى خرجنا منه إلى

كهف فى ذلك الجبل كهيئة الحائط، وقد حفّ بذلك الكهف البحر؛ فجلسنا على باب ذلك النّقب ثلاثة أيّام نتموّن بقيّة ما كان معنا من الماء والطعام؛ فلمّا كان فى اليوم الرابع نظرنا إلى مركب قد أقبل فى البحر فلوّحنا إلى من فيه، فأرسلوا إلينا القارب، فنزلنا من باب ذلك النقب نزولا شاقّا حتى وثبنا إلى القارب بما معنا، ثم خرجنا من البحر فقسمنا ذلك الذهب بيننا، وصار ذلك اللّوح إلىّ بقسطى. قال: ثم إنّ أنفسنا دعتنا إلى العودة إلى ذلك السّرب ممّا يلى النّقب من جهة البحر، فركبنا قاربا وسرنا فى البحر نحو المكان الذى كنّا فيه، فنزلنا منه، فخفى علينا فعلمنا أنّا لم نرزق من ذلك المكان إلّا ما أخذناه، فرجعنا. قال: ومكث ذلك اللوح عندى حولا وأنا لا أجد من يقرؤه، حتى أتانا رجل حميرىّ من أهل صنعاء كان يحسن قراءة تلك الكتابة، فأخرجت إليه اللوح فقرأه، فإذا فيه مكتوب هذه الأبيات: اعتبر بى أيّها المغ ... رور بالعمر المديد أنا شدّاد بن عاد ... صاحب الحصن العتيد وأخو القوّة والبأ ... ساء والملك الشديد وبفضل الملك والع ... دّة فيه والعديد دان أهل الأرض طرّا ... لى من خوف وعيدى وملكت الشرق والغر ... ب بسلطان شديد فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود فدعانا- لو قبلنا ... هـ- إلى الأمر الرشيد فعصيناه ونادي ... نا ألا هل من محيد فأتتنا صيحة ته ... وى من الأفق البعيد

فتوافينا كزرع ... وسط بيداء حصيد وقد ساق أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا هذه الأبيات بهذا السند دون القصّة فى تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وفيها فى البيت الرابع بدل قوله: ... طرا لى من خوف وعيدى دان أهل الأرض لى من ... خوف وعدى ووعيدى قال أبو إسحاق- رحمه الله- قال دغفل الشيبانىّ: سألت علماء حمير عن شدّاد بن عاد، فقلت: إنه أصيب وكان قد دنا من إرم ذات العماد، فكيف وجد شلوه فى تلك المغارة وهى بحضرموت؟ فقالوا: إنّه لمّا هلك هو ومن معه بالصيحة، ملك بعده مرثد بن شدّاد، وقد كان أبوه خلّفه على ملكه بحضرموت فأمر بحمل أبيه إلى حضرموت، فحمل مطلّيا بالصبر والكافور، فأمر أن تحفر له تلك المغارة، واستودعه فيها على ذلك السرير الذهب؛ والله تعالى أعلم. هذا ما أورده- رحمه الله- من خبر إرم ذات العماد وخبر شديد وشدّاد بنى عاد. وقد ذكر فى هذه الأبيات هود النبىّ- عليه السلام- فى قوله: فأتى هود وكنّا ... فى ضلال قبل هود الأبيات الخمسة. وقد تقدّم فى خبر هود وهلاك عاد بالريح العقيم، أن ملكهم القائم بأمرهم فى زمن هود كان اسمه الخلجان بن الوهم بن عاد، وأنه هلك بالريح العقيم إثر هلاك قومه، ولم يرد أنّه آمن بالله تعالى؛ وهذه الأبيات تدلّ على ندم قائلها؛ ومقتضى هذا السياق فيه دلالة على أن شدّاد بن عاد هذا المذكور آنفا، وابنه مرثد بن شدّاد وخبر إرم ذات العماد، كان قبل مبعث هود- عليه السلام- والله تعالى أعلم. ولنرجع إلى قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-

الباب السادس من القسم الأول من الفن الخامس فى قصة صالح - عليه السلام - مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم

الباب السادس من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة صالح- عليه السلام- مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم قال الكسائىّ: قال كعب: لما أهلك الله- عزّ وجلّ- عادا، جاءت ثمود وعمرت الأرض، وكانوا بضع عشرة قبيلة، فى كلّ قبيلة زيادة عن سبعين ألفا سوى النساء والذرّيّة، وكثروا حتى صاروا فى عدد عاد وأكثر، وكانوا ذوى بطش وقوّة وتجبّر وكفر وفساد، وكانت منازلهم ما بين الحجاز إلى الشأم، وهى ديار الحجر من وادى القرى، وكان ملكهم جندع بن عمرو بن عاد بن ثمود بن إرم بن سام ابن نوح. وقيل فى نسبه: إنّه جندع بن عمرّد بن عمرو بن الدّميل بن عاد بن ثمود ابن عائذ بن إرم بن سام، وكانت طائفة ممّن آمنت بهود يذكرون له كيف أهلك الله قوم عاد بالريح العقيم، وكيف كانت سيرة هود فيهم؟ فيقول: إنّما هلكت عاد لأنها لم تكن تشيّد بنيانها: ولا تنصح آلهتها، وكان بنيانهم على الأحقاف التى هى الرمال، ونحن أشدّ قوّة وبناء وبلادا، ونحن نتخذ الجبال بيوتا فننحتها فى الصخر لئلّا يكون للرّيح عليها سبيل، ونحن نعبد آلهتنا حقّ العبادة. قال كعب: كانت قوّة الرجل منهم أن ينحت فى الجبل بيتا طوله مائة ذراع فى عرض مثل ذلك، ويضربه بصفائح الحديد، ويغلّق بابا من حديد مصمّت لا يفتحه إلّا القوىّ منهم، وكانت منازلهم أوّلا بأرض كوش فى بلاد عالج «1» ، فانتقلوا إلى هذه البلاد لكثرة جبالها.

قال: ثم اجتمع كبراؤهم إلى ملكهم جندع، وقالوا: نريد أن نتّخذ لأنفسنا إلها نعبده، لم يكن مثله لقوم عاد ولا قوم نوح. فأذن فى ذلك، فنحتوا صنما من جبل يقال له: (الكثيب) وجعلوا وجهه كوجه الإنسان، وعنقه وصدره كالبقر ويديه ورجليه كالخيل، وضربوه بصفائح الذهب والفضّة، وعقدوا على رأسه تاجا، ورصّعوه بالدرّ والجوهر؛ فلمّا كمل خرّوا له سجّدا؛ وقرّبوا القربان، وأقبلوا إلى الملك فقالوا له: اخرج إلى هذا الإله الّذى أتعبنا أنفسنا فى اتّخاذه. فخرج الملك إليه فى زينته وأصحابه؛ فلما رأوه خرّوا له سجّدا؛ ثم أمر الملك أن يتخذ له بيت، وأن يسقّف بصفائح الذهب والفضّة، ويرصّع بالجوهر، وتفرش أرضه بالدّيباج؛ وأمر أن تتّخذ لسائر الأصنام بيوت، وأن يتخذ سرير من العاج والابنوس على عرض البيت، قوائمه من الفضّة، وأن تعلّق قناديل الفضّة بسلاسل الذهب وأمر أن يجعل للبيت مصراعان فى كلّ مصراع مائة حلقة من الذهب والفضّة ويعلّق عليهما ستران، وسمّاهما ستور العزّ، ووضع الصنم على ذلك السرير، وسائر الأصنام الصغار على كراسىّ العاج والآبنوس؛ وأمر أن يندب لخدمة الأصنام رجل من أشراف قومه وأحسنهم وأنسبهم؛ فقالوا: ليس فى ثمود أشرف نسبا وأجمل وجها من كانوه «1» . فاستدعاه وقرّبه وتوّجه وسوّده، وجعله على خدمة الأصنام؛ فقبل ذلك، وتفرّغ لخدمتها وعبادتها، وقوم ثمود يعبدون ذلك الصنم، وقد ازدادوا عتوّا وتجبّروا وكفرا وفسادا، والله تعالى يزيدهم سعة وخصبا، وهم يرون أن ذلك كلّه من بركات أصنامهم.

ذكر ميلاد صالح - عليه السلام -

ذكر ميلاد صالح- عليه السلام- قال: فبينما كانوه «1» فى بيت الأصنام إذ تحرّكت نطفة صالح فى ظهره، وصار لها نور على عينيه، وسمع هاتفا يقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ألا بعدا وسحقا لثمود لكفرهم، وهذا صالح بن كانوه يصلح الله به الفساد. ففزع من ذلك، وذهب ليتقدّم إلى الصنم الأكبر، فنطق بإذن الله وقال: مالى ومالك يا كانوه، مثلك يخدمنى وقد استنارت الأرض بنور وجهك للنور الذى فى ظهرك؟! ثم تنكّس الصنم عن سريره، فأعاده كانوه وأعوانه إلى السرير، وبلغ الملك ذلك، فاغتمّ له؛ فقال له أصحابه: إنّ هذا لسوء خدمة كانوه فإنّه لا يوفّى الآلهة حقّها فى الخدمة. وهمّوا بقتله، فأخفاه الله تعالى عن عيونهم؛ فلمّا كان الليل هبط عليه ملك من السماء، فاحتمله وهو نائم، وألقاه فى واد على أميال من ديار قومه وهو لا يدرى فى أى موضع هو، فنظر غارا فى جبل هناك، فدخله ليكنّه من حرّ الشمس ونام، فضرب الله على أذنه مائة سنة، وفقده قومه، ونصبوا لخدمة أصنامهم رجلا منهم يقال له: داود بن عمرو، فبينما هم كذلك وقد خرجوا فى يوم عيد لهم إذ نطقت الأشجار بإذن الله وقالت: يا آل ثمود، ألا تعتبرون، إنّ الله يخرج لكم فى السنة من الثمار مرّتين، ثم تكفرون بنعمة ربّكم وتعبدون سواه. ونطقت المواشى كذلك فعمدوا إلى الأشجار فقطّعوها، وعقروا المواشى؛ فنطقت السباع ونادت من رءوس الجبال: ويلكم يا آل ثمود، لا تقطعوا هذه الأشجار وتذبحوا هذه المواشى وقد نطقت بالحقّ. فخرجوا إلى السباع بالأسلحة وهى تهرب من بين أيديهم

وتستغيث بالله وتقول: اللهم طهّر أرضك بنبيّك صالح، وارفع به الفساد. والقوم يسمعون ذلك ويقولون: قد كفر هؤلاء بآلهتنا. قال: وكان لكانوه فى ديار قومه امرأة يقال لها: (رعوم) وهى كثيرة البكاء عليه منذ فقدته؛ فبينما هى ذات ليلة وإذا بغراب نعق، فقامت لتنظر إليه، فرأته على مثال الغراب، ورأسه أبيض، وظهره أخضر، وبطنه أسود وهو أحمر الرجلين والمنقار، وأخضر الجناحين؛ فقالت: أيها الطائر، ما أحسنك! فقال: أنا الغراب الّذى بعثت إلى قابيل فأريته كيف يوارى سوءة أخيه، وأنا من طيور الجنّة، وإنى أراك باكية حزينة. فقالت: إنى فقدت زوجى منذ مائة عام. فقال: اتبعينى فانّى أرشدك إليه. فتبعته، وطويت لها الطريق حتى وقفها على باب الغار، ونادى الطائر: قم يا كانوه، قم بقدرة الله. فقام ودخلت إليه زوجته، فواقعها، فحملت- بإذن الله تعالى- بصالح. وقبض الله كانوه لوقته؛ وعادت رعوم والغراب يدلّها على منزلها؛ فلما انقضت مدّة حملها، وضعت فى ليلة الجمعة من شهر المحرم، فوقعت هزّة شديدة فى بلاد ثمود لمولده، وخرّت الوحوش والسباع ساجدة لله تعالى، وأصبحت الأصنام وقد تنكّست؛ فأقبل داود وأخبر الملك بخبرها؛ فجاء بأشراف ورفعوها على مراتبها وأسرّتها، وتقدّم الملك إلى الصنم الأكبر وقال: ما دهاك؟ فناداهم إبليس منه: قد ولد فيكم غلام يدعوكم إلى دين هود ليس عليكم منه بأس. فخرج الملك ومن معه مستبشرين؛ ونشأ صالح، حتى إذا بلغ سبع سنين أقبل على قومه وهو يقول: يا آل ثمود، تنكرون حسبى ونسبى، أنا فلان بن فلان. فيقولون: إنك من أحسبنا وأنسبنا؟ حتى إذا بلغ عشر سنين إذا أقبل عليهم ملك من أولاد سام، كان يغزوهم

ذكر مبعثه - عليه السلام -

فى كلّ سبع سنين مرّة فيسلب أموالهم؛ فوثب صالح إلى سيف أبيه وسلاحه وخرج يعدو، وإذا هو بالملك جندع وسادات قومه قد اجتمعوا، وقد انتزع الملك منهم أموالهم، وهم لا يستطيعون دفعه عنها لكثرة جموعه؛ فصاح بهم صالح صيحة أزعجتهم، وألقى الله الرعب فى قلوبهم، واستنقذ منهم جميع ما أخذوه من قومه. فعجب جندع وأصحابه منه، وأقبلوا يقبّلون صالحا ويكرمونه؛ فخشى الملك على ملكه أن يعزلوه ويولّوا صالح بن كانوه، فهمّ أن يقتله، ودسّ إليه جماعة من خواصّه فدخلوا منزله، فأيبس الله أيديهم عنه، وأخرس ألسنتهم؛ فعلم الملك أنّه معصوم، فبعث يسأله فيهم؛ فدعالهم، فأطلق الله أيديهم والسنتهم، وبقى صالح مكرّما معظّما فى قومه. ذكر مبعثه- عليه السلام- قال: ولمّا أتى عليه أربعون سنة بعثه الله- عزّ وجلّ- رسولا إلى قومه؛ فجاءه جبريل بالوحى عن الله، وأمره أن يدعوهم الى قول لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ* والإقرار بأن صالحا عبده ورسوله، وترك عبادة الأصنام، وأعلمه بما سيظهر على يديه من العجائب. قال: فأقبل صالح إلى قومه فى يوم عيد لهم وقد نصبوا أصنامهم واجتمعوا على يمينها وشمالها، والملك جندع مشرف عليهم ينظر إليهم وإلى قربانهم؛ فتقدّم حتى وقف على الملك وقال: قد علمت نصحى لك أبدا، وقد جئتك رسولا أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّى صالح رسول الله. فقال الملك له: إن قبائل ثمود لا ترضى أن يكون مثلك رسولا إليهم، غير أنى أنظر فيما تقول، فعد إلىّ غدا.

ثم أصبح الملك ودعا بأشراف قومه، وأحبرهم بخبر صالح؛ فقالوا: أحضره حتى نسمع ما يقول. فأحضره فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ فقال له نفر منهم: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ فقال له الملك: كيف خصّك ربّك بالرسالة من بيننا، ورفعك علينا وفى قبائل ثمود من هو أعزّ منك؟ فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ* ثم قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ، أى ليّن وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أى حاذقين فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قال: فأقبل الملك عليهم وقال: قد عرفتم صالحا فى حسبه ونسبه، وأنا رجل منكم؛ فما تقولون؟ وما عندكم من الرأى فى أمره؟ قالوا: أيّها الملك أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ قال الله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ. قال: فآمن به منهم جماعة، وخرج صالح من عند الملك، فأمره الله تعالى أن يبنى مسجدا لنفسه ولمن معه من المؤمنين. فأعانته الملائكة على بنائه؛ فلمّا كمل جاءه جبريل بشجرة فغرسها على باب المسجد. وأنبع الله له عينا من الماء العذب.

وكان صالح يخرج فى كلّ يوم إلى قبيلة من قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ويعظهم بأيّام عاد وما حلّ بهم فيقول الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ فكان المستضعفون يقولون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ والمتكبّرون يقولون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. ولم يزل صالح يدعوهم حتّى استكمل سبعين عاما؛ ثم أعقم الله نساءهم وجفّت أشجارهم فلم تثمر، ولم تضع لهم بقرة ولا شاة. ثم لم يزل يدعوهم حتى استكمل مائة سنة وهم لا يزدادون إلا كفرا؛ فلمّا أيس منهم خرج يريد أن يدعو عليهم بالهلاك، وقال لقومه: لا تبرحوا حتى أعود إليكم. وقصد جبلا فطاف به حتى أمسى، فنظر إلى عين ماء، فتقدّم وتوضأ وقام ليصلّى ويدعو على قومه، فرأى فى الجبل كهفا، فدخله فرأى فيه سريرا من الذهب، عليه فرش الحرير، وفى وسط الكهف قنديل؛ فعجب من ذلك، وصعد على السرير، فضرب الله على أذنه فنام أربعين سنة؛ وأخذ قومه فى العبادة؛ فكان يموت منهم الوحد بعد الواحد، فيدفن إلى جانب المسجد، ويكتب على قبره: «هذا فلان بن فلان» . قال: ثم بعث الله- عزّ وجلّ- صالحا من نومته، فخرج من الكهف وتوضّأ وصلّى ركعتين، وأراد أن يدعو على قومه؛ فقيل له: لا تعجل عليهم، فإنّ عجلتك غيّبتك عن قومك أربعين سنة. فعاد إلى قومه، وإذا برسوم وآثار لا يعرفها، وأشرف على مسجده وهو خراب ليس فيه إلّا الملائكة يحفظونه من فسّاق أهل ثمود؛ فقال: إلهى ما فعل

أهل هذا المسجد؟ فنادته الملائكة: مات بعضهم ورجع الباقون إلى دينهم الأوّل لمّا أيسوا منك. ثم أمره الله تعالى أن يأتى قومه ويدعوهم إلى عبادة الله والكفّ عن عبادة الأصنام؛ فأقبل وهم مجتمعون فى يوم عيدهم ومعهم ملكهم، فناداهم: قولوا (لا إله إلا الله وإنى صالح رسول الله) يا قوم إنى أرسلت إليكم مرّة وهذه أخرى. فتحيّروا وتساقطت أصنامهم، ونطقت الدوّاب: جاء الحقّ من ربّنا. قال له الملك: من أنت؟ قال: أنا صالح. قال: أليس قد بقى صالح فينا طويلا وغاب عنّا منذ مدّة طويلة؟ ما أنت إلّا ساحر جئتنا بعده. وهمّ بقتله. وكان للملك ابن عمّ يقال له: هذيل، فقال: يا صالح، لا نحتاج إلى نصحك فانصرف عنّا. فقال: يا هذا أما إنك ميت فى يومك هذا أنت وأهلك وولدك فى وقت كذا وكذا، وفى غد يموت أبوك وأمّك، فبادر إلى الإيمان، فإن آمنت أحياك الله وجعلك حجّة على قبائل ثمود. فانصرف الرجل وهم ينظرون إلى الوقت الذى ذكره صالح؛ فلما جاء الوقت مات الرجل وأهله وولده، وانتشر الخبر فى قبائل ثمود، ومات أبوه وأمّه من الغد؛ فعجب الناس وجزعوا، وخاف الملك. وأقبل صالح فقال: يا آل ثمود، كيف كان هذا الميّت عندكم؟ قالوا: خير رجل حتى مات. قال: فإن أحياه الله بدعائى، أتؤمنون بى وبإلهى وتبرأون من أصنامكم؟ قالوا: نعم. فجاء صالح إلى الميت فدعا ربّه، ثم ناداه باسمه فقال: لبّيك يا نبىّ الله، وقام وهو يقول: (لا إله إلا الله صالح عبد الله ورسوله) .

فلما عاين قومه ذلك ازدادوا كفرا، ودخلوا على صنمهم وشكوا ما يلقونه من صالح؛ فنطق إبليس من جوفه وقال: انصرفوا إلى ما أنتم عليه؛ وإذا رأيتم صالحا فقولوا: ائتنا ببرهان كما أتى به هود ونوح. فخرجوا مسرورين حتى أتوا صالحا، فقال لهم: قد رأيتم وسمعتم كلام الوحش والطير وإحياء الموتى وغير ذلك من الآيات ما فيه كفاية، فأىّ آية تريدون؟ قالوا: نخرج نحن وأنت إلى هذا الوادى، وندعو وتدعو، وننظر أىّ الدعوتين تستجاب؛ وتواعدوا إلى يوم عيدهم. فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمعوا وخرجوا بأصنامهم وزينتهم؛ وأقبل صالح يخترق صفوفهم؛ حتّى وقف أمام ملكهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله. قالوا: أرنا آية. قال: ما تريدون؟ قالوا: اخرج لنا ناقة من هذه الصخرة ونؤمن بك ونعلم أنّك صادق. قال: إنّ ذلك هيّن على ربّى، ولكن صفوها لى. فأقبل القوم يصف كلّ منهم صفة حتى أكثروا. فقال الملك: إنّ هؤلاء قد أكثروا وأنا أصفها بما فى قلبى: تكون ناقة ذات فرث ودم ولحم وعظم وعصب وعروق وجلد وشعر يخالطه وبر، وتكون شكلاء «1» شقراء هيفاء، ولها ضرع كأكبر ما يكون من القلال، يدرّ من غير أن يستدرّ، يشخب لبنا غزيرا صافيا، ويكون لها فصيل يتبعها على مثالها، فإذا رغت أجابها بمثل رغائها، ويكون حنينها الإخلاص لربّك بالتوحيد، والإقرار لك بالنبوّة، فإن أخرجتها على هذه الصفة آمنّا. فأوحى الله إليه: أن أعطهم ما سألوا. فقال لقومه: إن الله قد شفّعنى فى حاجتكم، فإن أخرجتها تؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون لبنها ألذّ

ذكر خروج الناقة

من الخمر وأحلى من العسل. قال: إن أخرجها ربّى تؤمنون؟ قالوا: نعم على شرط أن يكون لبنها فى الصيف باردا، وفى الشتاء حارّا، لا يشربه مريض إلّا برئ، ولا فقير إلّا استغنى. قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط ألّا ترعى من مراعينا، بل فى رءوس الجبال وبطون الأودية، وتذر ما على الأرض لمواشينا، قال: إن أخرجها ربّى أتؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون الماء لنا يوما ولها يوما، ولا يفوتنا اللّبن، وتدخل علينا بالعشيّات فى بيوتنا وتسمّى كلّ واحد منّا باسمه، وتنادى: «ألا من أراد اللّبن» ؟ فيخرج ويضع ما يريد تحت ضرعها، فيمتلئ لبنا من غير احتلاب. قال أتؤمنون حقيقة؟ قالوا: نعم. قال صالح: قد شرطتم شرائط كثيرة، وأنا أشترط عليكم: لا يركبها أحد منكم، ولا يرميها بحجر ولا سهم، ولا يمنعها من شربها ولا فصيلها. قالوا: هذا لك يا صالح. فأخذ عليهم المواثيق. ذكر خروج الناقة قال: فلمّا انتهت شروطهم وشروطه، وأخذ عليهم المواثيق، قام وصلّى ركعتين، ودعا، فاضطربت الصخرة وتمخّضت، وتفجّر من أصولها الماء، والقوم ينظرون، وسمعوا دويّا كدوىّ الرعد، فرفعوا رءوسهم، فإذا بقبّة تنقضّ من الهواء فانحدرت على الصخرة وحولها الملائكة؛ ثم تقدّم صالح إلى الصخرة فضربها بقضيب كان بيده، فاضطربت وتشامخت صعدا؛ ثم تطامنت إلى موضعها؛ ثم خرج رأس ووثبت من جوفها على الصفة كأنّها قطعة جبل، فوقفت بين يدى الملك وقومه وهى أحسن ممّا وصفوا، وهى تنادى: (لا إله إلا الله، صالح رسول الله) . ثم مر جبريل على بطنها بحربة، فخرج فصيلها على لونها.

ثم نادت: «أنا ناقة ربّى، فسبحان من خلقنى وجعلنى آية من آياته الكبرى» . فلما رأى الملك ذلك قام عن سريره وقبّل رأس صالح، وقال: يا معشر قبائل ثمود، لا عمى بعد الهدى، أنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن صالحا رسول الله. وآمن معه فى ذلك اليوم خلق كثير من أهل مملكته وغيرهم؛ فلمّا رأى داود خادم الأصنام ذلك نادى بصوت رفيع: يا آل ثمود، ما أسرع ما صبوتم إلى هذا الساحر، إن كانت الناقة قد أعجبتكم فهلّموا إلى آلهتكم فسلوها حتى تخرج لكم أحسن منها. فوقفوا عن الإيمان، وعمدوا إلى شهاب أخ الملك، فملّكوه عليهم؛ ودخل جندع المدينة فكسر الصنم الذى كان يعبده، وفرّق أمواله على المؤمنين، ولبس الصوف، وعبد الله حقّ عبادته، وكانت الناقة تتّبع صالحا كاتّباع الفصيل لأمّه؛ فلمّا كان بعد ذلك أقبلت ثمود على صالح، وقالوا: إن لم نمسّ الناقة بسوء يصرف ربّك عنّا عذابه؟ قال: نعم، إلى منتهى آجالكم. وكانت الناقة تخرج وفصيلها خلفها، فتصعد إلى رءوس الجبال، ولا تمرّ بشجرة إلّا التفّت عليها أغصانها فتأكل أطايب أوراقها؛ ثم تهبط إلى الأودية فترعى هناك، فإذا أمست تدخل المدينة وتطوف على دور أهلها، وتنادى بلسان فصيح: ألا من أراد منكم اللّبن فليخرج. فيخرجون بآنيتهم، فيضعونها تحت ضرعها، واللّبن يشخب حتى تمتلئ الآنية؛ فإذا اكتفوا عادت إلى المسجد، وتسبّح الله حتى تصبح؛ ثم تخرج إلى المرعى وهذا دأبها. قال: وكان للقوم بئر يشربون منها ليس لهم سواها، فإذا كان يوم الناقة تأتى وتدلّى رأسها فتشربه وتقول: «الحمد لله الذى سقانى من فضل مائه، وجعلنى حجّة على آل ثمود» .

ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود

وكانت تمجّ من فيها إلى فم الفصيل حتّى يروى؛ فإذا كان يوم القوم أتوا البئر ونزحوا ما فيها؛ وكانت الناقة تقول إذا أصبحت: إلهى كلّ من شرب من لبنى وآمن بك وبرسولك فزده إيمانا ويقينا، ومن لم يؤمن بك وبرسولك فاجعل ما يشرب من لبنى فى بطنه داء لا دواء إنّك على كلّ شىء قدير. ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود قال: فلما كانت تدعو بذلك صار القوم إذا شربوا لبنها اعترتهم الحكّة فى أبدانهم؛ فاجتمعوا وقالوا: ليس لنا فى هذه من خير؛ وأجمعوا على عقرها؛ وكانت فيهم امرأة يقال لها: عنيزة بنت غنم بن مجلز «1» ، وتكنى أمّ غنم، وهى من بنات عبيد «2» بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب «3» بن عمرو، وهى عجوز مسنّة، ولها أموال ومواش، ولها أربع بنات من أجمل النساء، وبجوارها امرأة يقال لها: صدوف بنت المحيّا بن فهر، ولها أيضا مواش كثيرة؛ فدعتا قومهما إلى عقر الناقة، فلم يجيبوهما إلى ذلك؛ فبينما صدوف كذلك إذ مرّ بها رجل يقال له الحباب «4» - وكان مولعا بالنساء- فعرضت نفسها عليه على أن يعقر الناقة؛ فامتنع، فقالت له: لقد جبن قلبك، وقصرت يدك. وتركته؛ وأقبلت على ابن عمّ لها يقال له: مصدع «5» فكشفت عن وجهها، وعرضت نفسها عليه على أن يصدقها عقر الناقة؛ فأجاب. وأقبلت صدوف إلى عنيزة فأخبرتها بذلك، ففرحت به. قالت: إلّا أنه منفرد، ولكن قومى إلى عزيز ثمود قدار، فإنه شابّ لم يتزوّج، فاعرضى عليه بناتك

لعلّه يفعل؛ ففعلت عنيزة ذلك، وزيّنت بناتها، وأقبلت بهنّ إلى قدار، وكان أقبح رجل فى ثمود، وكان فى عينيه زرقة، وكأنّهما عدستان، وأنفه أفطس ولحيته بطوله، غير أنه كان يمرّ بالشجرة العظيمة فينطحها برأسه فيكسرها؛ فلمّا رأته عنيزة رجعت ببناتها إلى صدوف، وقالت: من تطيب نفسه أن يزوّج مثل هؤلاء من هذا؟ فلم تزل بها حتى رجعت بهنّ إليه، وعرضتهنّ عليه؛ فاختار منهنّ (الرّباب) ، وأجاب إلى عقر الناقة، واجتمع إليه «مصدع وأخوه «1» ورعين «2» وداود خادم الأصنام وريّان ولبيد والمصرد وهزيل «3» ومفرّج «4» » فهؤلاء التسعة الذين ذكرهم الله فى كتابه، قال الله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. فطافوا بأجمعهم على قبائل ثمود وأعلموهم بما أجمعوا عليه من عقر الناقة؛ فرضى بذلك كبيرهم وصغيرهم، واجتمع هؤلاء التسعة بسيوفهم وقسيّهم، وذلك فى يوم الأربعاء، وقعدوا ينتظرون الناقة، فأقبلت حتى قربت من البئر؛ فنادت عنيزة: يا قدار، اليوم يومك، فأنت السيّد فى قومك. قال الله: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ. قال: فشدّ قدار قوسه ورماها بسهم فأصاب لبّتها، وهو أوّل من رماها، ثم مصدع، وأقبلوا عليها بالسيوف فقطّعوها، وأنذرت فصيلها، فهرب إلى رأس جبل، ودعا باللّعنة على ثمود، فأتبعه القوم وعقروه، وتقاسموا لحمه.

وحكى الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أنّ الفصيل لمّا عقرت الناقة أتى جبلا منيعا يقال له: صور «1» . وقيل: اسمه فاره؛ وأن صالحا لمّا بلغه عقر الناقة أقبل إلى قومه، فخرجوا يتلقّونه ويعتذرون إليه ويقولون: إنّما عقرها فلان وفلان، ولا ذنب لنا. فقال لهم صالح: أنظروا، هل تدركون فصيلها؟ فعسى أن تدركوه فيرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن يتطاول؛ فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير؛ وجاء صالح، فلمّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه؛ ثم دعا ثلاثا فانفرجت الصخرة حتّى دخلها؛ فقال صالح: بكلّ دعوة أجل يوم فتمتّعوا فى داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب. نرجع إلى رواية الكسائىّ، قال: وصاح قدار بأصحابه: هلمّوا. فقدموا فأمرهم أن يقطّعوا لحم الناقة؛ فقطّعوا وطبخوا وقعدوا للأكل والشرب، وصالح لا يعلم بذلك، فنادته الوحوش: يا صالح، هتكت ثمود حرمة ربّها، وتعدّوا أمره. فأقبل بالمؤمنين من قومه؛ فلمّا رآها بكى وقال: إلهى أسألك أن تنزل على ثمود عذابا من عندك. فأوحى الله إليه: أن أنذر قومك بالعذاب. فبشّرهم بعذاب الله. فقالوا له: افعل ما بدا لك، فقد عقرناها، وقد أنذرت بالعذاب منذ بعيد وما نرى له أثرا. فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ . وبات القوم ليلتهم، فلمّا أصبحوا تفجّرت آثار وطء الناقة بعيون الدم، وظهرت الصفرة فى ألوانهم؛ فقالوا: يا صالح، ما هذا التغيّر فى ألواننا وبلادنا؟ قال:

غضب ربّكم عليكم. فأجمعوا على قتله، وقالوا: إذا قتلناه امتنع عنّا سحره ولا تمكنه الإساءة إلينا. فتقدّم التسعة لقتله عند ما أقبل الليل، فوقف لهم جبريل ورمى كلّ واحد منهم بحجر فقتله. فلمّا كان من الغد نظرت ثمود إليهم وقد قتلوا، فقالوا: هذا من فعل صالح. فعزموا على الهجوم عليه وقتله، فأمره الله تعالى بالخروج من المسجد، فجاءوا ليقتلوه فما رأوه، وأصبحوا فى اليوم الثانى وقد أحمرّت وجوههم، وفى اليوم الثالث اسودّت، فأيقنوا بعذاب الله، وحفروا لأنفسهم حفائر، ولأهليهم وأولادهم ولبسوا الأنطاع، وجلسوا فى الحفائر ينتظرون العذاب، وصالح يخوّفهم وينذرهم عذاب الله وهم لا يبالون به. فلما كان فى اليوم الرابع- وهو صبيحة الأحد- أرسل الله تعالى جبريل فنشر جناح غضبه، وأتاهم بشرارة من نار لظى، وجعل يرميهم منها بجمر متوهّج كأمثال الجبال، وثمود باركة فى حفائرها. وأخذ جبريل بتخوم الأرض، فزلزلت بيوتهم وقصورهم، ثم نشر جناح غضبه على ديار ثمود، وصاح صيحة، فكانوا كما قال الله تعالى: فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. ثم أقبلت سحابة سوداء على ديارهم، فرمتهم بوهج الحريق سبعة أيّام حتّى صاروا رمادا. فلمّا كان فى اليوم الثامن انجلت السحابة وطلعت الشمس، وجاء صالح بمن معه من المؤمنين، فطاف بديارهم، واحتملوا ما قدروا عليه من أموالهم وارتحل بقومه إلى أرض الشأم، فنزل بأرض فلسطين، وأقام- عليه السلام- حتى مات.

الباب السابع من القسم الأول من الفن الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم

الباب السابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم قال الكسائىّ: قال كعب: لمّا قبض الله تعالى نبيّه صالحا عليه السلام بأرض فلسطين، خرج أصحابه إلى بلاد اليمن فتفرّقوا فرقتين: فنزلت إحداهما بأرض عدن، وهم أصحاب البئر المعطّلة، والثانية صارت إلى (حضرموت) (والقصر المشيد) وهو قبل البئر؛ والذى بناه رجل يقال له: جند بن عاد، وذلك لأنه رأى ما نزل بقوم هود من الريح، فعزم على بناء قصر مشيد، فبالغ فى تشييده، وانتقل إليه، وكان له قوّة عظيمة، فكان يقتلع الشجرة، ويمرّ بيده فى الجبل فيخرقه وكان مولعا بالنساء، فتزوّج زيادة عن سبعمائة امرأة، ورزق من كلّ أمرأة ذكرا وأنثى؛ فلمّا كثر ولده وقومه طغى فى الأرض وتجبّر، وكان يقعد فى أعلى قصره مع نسائه فلا يمرّ به أحد إلّا أمر بقتله؛ فلمّا كثر فساده أهلكه الله بصيحة جبريل جاءته من قبل السماء فأهلكته هو وأولاده وقومه. قال الكسائىّ: ولا يجسر أحد أن يدخل إلى القصر ممّا نزل بسكّانه. قال: ويقال: إنّ فيه حيّة عظيمة، وإنّه يسمع من داخله أنين كأنين المريض. وأما البئر المعطّلة- فهى بأرض عدن، وكان أهلها على دين صالح، وكان المطر ينقطع عنهم فى بعض الأوقات حتّى يبلغ بهم الجهد، فيحملون الماء من بلد بعيد، فأعطاهم الله تعالى هذه البئر على ألّا يشركوا به شيئا، ويعبدوه حقّ عبادته وكانوا معجبين بها، قد بنوها بألوان الصخور، وبنوا حولها حياضا بعدد قبائلهم؛ وكان لهم ملك يسوسهم، فلما مات حزنوا عليه حزنا عظيما؛ فأقبل عليهم إبليس وقال:

ما بالكم بهذا الحزن؟ قالوا: كيف لا نكون كذلك وقد فقدنا ملكنا مع إحسانه إلينا. قال: إنّه لم يمت، ولكنّه احتجب عنكم لغضبه عليكم، ولكونكم لم تعبدوه. وانطلق إبليس فآتخذ لهم صنما على صورة الملك، ونصبه على سريره، وقال: هلمّوا إلى الملك فاسمعوا كلامه. فأقبلوا حتى وقفوا من وراء السّتر، ووقف إبليس فى جوف الصنم شيطانا يكلّمهم بلغة لا ينكرون أنّها لغة الملك؛ ثم قال إبليس: استمعوا. فكلّمهم الشيطان من الصنم وقال: يا آل ثمود، مالى أراكم تبكون؟ قالوا: لفقدك. قال: قد كذبتم، لو كنتم تحبّوننى كما تقولون كنتم عبدتمونى، وقد كنت فيكم أربعمائة سنة ما فيكم من سجد لى سجدة واحدة، والآن فقد ألبسنى ربّى ثوب الألوهيّة، فصيّرنى فيكم لا آكل ولا أشرب، ولا أنام، وأخبركم بالغيوب، فاعبدونى وسمّونى ربّا، فإنى أقربكم إلى ربّى زلفى. قالوا: يأيها الملك، فلو رأينا وجهك. فرفع إبليس الحجاب حتى رأوه فلم ينكروا من صفاته شيئا، فخرّوا له سجّدا، واتخذوه ربّا؛ وكان فيهم رجل من خيار قوم صالح اسمه حنظلة بن صفوان، ففارقهم ولحق بالحرم، وعبد الله حينا فرأى فى منامه قائلا يقول له: قد أمرك ربّك أن تصير إلى قومك وتحذّرهم عذابه إن لم يرجعوا عن عبادة الأصنام، وتذكّرهم العهود فى البئر، وإن لم يؤمنوا غار ماء البئر حتى يموتوا عطشا. فآنتبه وخرج من ساعته حتى أتى قومه، فأنذرهم ووعظهم، فهمّوا بقتله فعطّل الله تعالى بئرهم حتّى لم يجدوا فيها قطرة، فأتوا إلى صنمهم فلم يكلّمهم، وأتتهم صيحة من السماء، فهلكوا عن آخرهم. ويقال: إنّ سليمان صفّد شياطين وحبسهم بهذه البئر؛ والله أعلم.

الباب الثامن من القسم الأول من الفن الخامس فى خبر أصحاب الرس وما كان من أمرهم

الباب الثامن من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر أصحاب الرّس وما كان من أمرهم قال الكسائىّ: قال كعب: إنّ أصحاب الرّس كانوا بحضرموت، وكانوا كثيرا، فبنوا هناك مدينة كانت أربعين ميلا فى مثل ذلك، فاحتفروا لها القنوات من تحت الأرض، وسمّوها رسّا، وكان ذلك أيضا اسم ملكهم؛ فأقاموا فى بلدهم دهرا طويلا يعبدون الله تعالى حقّ عبادته؛ ثم تغيّروا عن ذلك وعبدوا الأصنام وكان ممّا أحدثوه إتيان النساء فى أدبارهنّ والمبادلة بهنّ، فكان كلّ منهم يبعث بآمرأته إلى الآخر، فشقّ ذلك على النساء، فأتاهنّ إبليس فى صورة امرأة وعلّمهن السّحاق ففعلنه، وهم أوّل من أتى النساء فى أدبارهنّ وساحق؛ فاشتهرت هذه القبائح فيهم. فبعث الله إليهم رسولا اسمه حنظلة. وقيل: خالد بن سنان. وقيل: ابن صفوان. فدعاهم إلى طاعة الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام وفعل القبائح وحذّرهم وذكّرهم ما حلّ بمن قبلهم من الأمم؛ فكذّبوه؛ فوعظهم دهرا طويلا وهم لا يرجعون، فضربهم الله بالقحط، فقتلوا نبيّهم وأحرقوه بالنار؛ فصاح بهم جبريل صيحة فصاروا حجارة سودا، وخسفت مدينتهم. وقيل: إن هذه المدينة لم يرها إلّا ذو القرنين، وإنّه رآهم حجارة، ورأى النساء ملتصقات بعضهنّ ببعض، ورأى الملوك على الأسرّة وبين أيديهم الجنود قائمة، بأيديهم الأعمدة والأسلحة، وقد صاروا كلّهم حجارة سودا. هذا ما حكاه الكسائىّ. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال سعيد بن جبير والكلبىّ والخليل بن أحمد- دخل كلام بعضهم فى بعض، وكلّ قد أخبر بطائفة من حديث

أصحاب الرسّ: أنّهم بقيّة ثمود وقوم صالح، وهم أصحاب البئر التى ذكرها الله تعالى فى كتابه وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ. قال: وكانوا بفلج اليمامة نزولا على تلك البئر. وكلّ ركيّة لم تطو بالحجارة والآجرّ فهى رسّ؛ وكان لهم نبىّ يقال له: (حنظلة ابن صفوان) . وكان بأرضهم جبل يقال له: (فلج) مصعد فى السماء ميلا وكانت العنقاء تأتيه، وهى أعظم ما يكون من الطير، وفيها من كلّ لون، وسمّوها العنقاء لطول عنقها، وكانت تكون فى ذلك الجبل وتنقضّ على الطير فتأكلها فجاعت ذات يوم وأعوزها الطير، فانقضّت على صبىّ فذهبت به، فسميّت عنقاء مغرب، لأنّها تغرب بما تأخذه وتذهب به، ثم انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فشكوا ذلك إلى نبيّهم؛ فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، وسلّط عليها آفة تذهب بها. فأصابتها صاعقة فآحترقت، فلم ير لها أثر بعد ذلك. قال: ثم إنّ أصحاب الرسّ قتلوا نبيّهم، فأهلكهم الله تعالى. قال الثعلبىّ: وقال بعض العلماء: بلغنى أنّه كان رسّان: أمّا أحدهما فكان أهله أهل بذر وعمود، وأصحاب غنم ومواش، فبعث الله إليهم نبيّا فقتلوه، ثم بعث الله رسولا آخر وعضّده بولىّ، فقتلوا الرسول، وجاهدهم الولىّ حتى أفحمهم؛ وكانوا يقولون: إلهنا فى البحر. وكانوا على شفير البحر؛ وكان يخرج إليهم من البحر شيطان فى كلّ شهر خرجة فيذبحون عنده، ويتّخذون ذلك اليوم عيدا؛ فقال لهم الولىّ: أرأيتم إن خرج إلهكم الّذى تدعونه وتعبدونه إلىّ وأطاعنى أتجيبونى إلى ما دعوتكم إليه؟ قالوا: بلى. وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق، فانتظر حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا على أربعة أحوات، وله عنق

وأما الرس الآخر

منقلب، وعلى رأسه مثل التاج؛ فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا؛ وخرج الولىّ إليه وقال: ائتنى طوعا أو كرها باسم الله الكريم. فنزل عند ذلك عن أحواته؛ فقال له الولىّ: ائتنى راكبا لئلا يكون القوم فى شكّ. فأتى الحوت وأتت به الحيتان حتى أفضوا إلى البرّ يجرّونه ويجرّهم؛ ثم كذّبوه بعد ما رأوا ذلك، ونقضوا العهود؛ فأرسل الله تعالى عليهم ريحا تقذفهم فى البحر ومواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضّة وآنية؛ فأتى الولى الصالح إلى البحر حتّى أخذ التّبر والفضّة والأوانى، فقسمها على أصحابه بالسويّة على الصغير والكبير، وانقطع ذلك النسل. وأمّا الرسّ الآخر - فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان، بينهما رسّ أرمينية، فإذا قطعته مدبرا دخلت فى حدّ أرمينية وإذا قطعته مقبلا دخلت فى حدّ أذربيجان، وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان، ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وكانوا هم يعبدون الجوارى العذارى، فإذا تمّت لإحداهنّ ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها، وكان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، وكان يرتفع فى كلّ يوم وليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتى حوله، ولا ينصبّ فى برّ ولا بحر، وإذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع إليهم، فبعث الله إليهم ثلاثين نبيّا فى شهر واحد، فقتلوهم جميعا فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره، وبعث معه وليّا، فجاهدهم فى الله حقّ جهاده. ثم بعث الله تعالى ميكائيل حين نابذوه- وكان ذلك فى أوان وقوع الحبّ فى الزرع، وكانوا إذ ذاك من أحوج ما يكون إلى الماء- فبحر «1» نهرهم فى البحر

فانصبّ ما فى أسفله، وأمّا عيونه من فوق فسدّها، ثم بعث الله تعالى خمسائة ألف ملك من الملائكة أعوانا له، ففرّغوا ما بقى فى نهرهم. ثم أمر الله تعالى جبريل فنزل فلم يدع فى أرضهم عينا ولا نهرا إلّا أيبسه بإذن الله تعالى. وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشى فأماتها فى ربضة واحدة. وأمر الرياح الأربع: الجنوب والشمال والدّبور والصّبا فضمّت ما كان لهم من متاع، وألقى الله تعالى عليهم السّبات. ثم خفقت الرياح الأربع بذلك المتاع أجمع فشتّتته فى رءوس الجبال وبطون الأودية. وأمر الله الأرض فابتلعت ما كان لهم من حلىّ وتبر وآنية؛ فأصبحوا لا ماشية عندهم ولا بقر ولا مال يرجعون إليه ولا ماء يشربون ولا طعام يأكلون، فآمن بالله تعالى عند ذلك قليل منهم، وهداهم الله تعالى إلى غار فى الجبل له طريق إلى خلفه، فنجوا، وكانوا أحدا وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذرارىّ ستّمائة ألف، فماتوا عطشا وجوعا، ولم تبق منهم باقية. ثم عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها، فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يحييهم الله تعالى بماء وزرع وماشية، وأن يجعل ذلك قليلا لئلّا يطغوا. فأجابهم الله تعالى إلى ذلك، وأطلق لهم نهرهم، وزادهم على ما سألوه. فأقام أولئك القوم على طاعة الله تعالى باطنا وظاهرا حتى مضوا وانقرضوا؛ فحدث من بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا الله تعالى فى الظاهر، ونافقوا فى الباطن؛

وأملى الله تعالى لهم، ثم بعث الله عليهم عدوّهم ممّن قاربهم وخالفهم، فأسرع فيهم القتل، وبقيت منهم شرذمة، فسلّط الله عليها الطاعون، فلم يبق منهم باقية وبقى نهرهم ومنازلهم مائتى عام لا يسكنها أحد. ثم أتى الله بعد ذلك بقرن فنزلوها وكانوا صالحين سنين، ثم أحدثوا فاحشة وجعل الرجل منهم يدعو ابنته وأخته وزوجته فيلقى بهنّ جاره وأخاه وصديقه يلتمس بذلك البرّ والصلة؛ ثم ارتفعوا عن ذلك إلى نوع آخر، ترك الرجال النساء حتى شبقن، واشتغلن عن الرجال، فجاءت النساء شيطانة فى صورة امرأة- وهى الولهانة بنت إبليس- فشبّهت للنساء ركوب بعضهن بعضا؛ وعلمتهنّ كيف يصنعن؛ فأصل ركوب النساء النساء منها؛ فسلّط الله تعالى على ذلك القرن صاعقة من أوّل ليلتهم، وخسفا فى آخر اللّيل، وصيحة مع الشمس، فلم تبق منهم باقية وبادت مساكنهم. قال الثعلبىّ: ولا أحسب مساكنهم اليوم مسكونة. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا: وروى علىّ بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهم- أن رجلا من أشراف بنى تميم يقال له: عمرو، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنى عن أصحاب الرس وأى عصر كانوا فيه؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله تعالى إليهم رسولا أو لا؟ وبماذا هلكوا؟ فإنّى أجد فى كتاب الله تعالى ذكرهم ولا أجد خبرهم. فقال له: لقد سألتنى عن حديث ما سألنى عنه أحد قبلك، ولا يحدّثك به أحد بعدى.

كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر يقال لها: ساب درحب «1» ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها: دوسات «2» كانت أنبطت لنوح بعد الطوفان، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق، ولم يكن يومئذ فى الأرض نهر أغزر ولا أعذب منه ولا قرى أكثر سكّانا وعمرانا منها؛ وذلك قبل سليمان بن داود، وكان من أعظم مدائنهم اسفيدبا «3» ، وهى التى كان ينزلها ملكهم، وكان يسمّى بركون «4» بن عابور بن بلوش بن سارب بن النّمروذ بن كنعان، وفيها العين والصّنوبرة، وقد غرسوا فى كلّ عين حبّة من تلك الصنوبرة، فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرّموا ماء تلك العيون والأنهار، لا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك منهم قتلوه ويقولون: هى مياه آلهتنا، ولا ينبغى لأحد أن ينقص من حياتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرسّ الّذى عليه قراهم؛ وقد جعلوا فى كلّ شهر من السنة فى كلّ قرية عيدا يجتمع أهلها ويضربون على تلك الشجرة مظلّة من الحرير، فيها من أصناف الصّور؛ ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة، ويشعلون فيها النيران، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها وبخارها فى الهواء، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء، خرّوا سجّدا، ويتلون ويتضرّعون إليها أن ترضى عنهم. وكان الشيطان يجىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبىّ: عبادى قد رضيت عنكم، فطيبوا نفسا، وقرّوا عينا. فيرفعون عند ذلك رءوسهم، ويشربون الخمر، ويضربون بالمعازف؛ فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون؛ حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى، اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم، فضربوا عند الصّنوبرة

والعين سرادقا من ديباج، عليه من أنواع الصّور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم؛ ويسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما يقرّبون للأشجار الّتى فى قراهم؛ فيجىء إبليس عند ذلك فيحرّك الشجرة تحريكا شديدا، ويتكلّم من جوفها كلاما جهرا، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدهم به الشياطين كلّهم؛ فيرفعون رءوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلّمون [معه] ؛ فيداومون الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما بلياليها بعدد أعيادهم فى السنة؛ ثم ينصرفون؛ فلما طال كفرهم بالله تعالى وعبادتهم غيره، بعث الله إليهم نبيّا من بنى إسرائيل من ولد يهوذ بن يعقوب، فلبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الله تعالى، ويعرّفهم ربوبيّته؛ فلا يتّبعونه ولا يسمعون مقالته؛ فلما رأى شدّة تماديهم فى البغى والضلالة وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح، وحضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا تصديقى ودعوتى لهم، فما زادوا إلّا تكذيبى والكفر بك، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، وأرهم قدرتك وسلطانك. فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه، فها لهم ذلك وتضعضعوا، فصاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر هذا الرجل الّذى زعم أنّه رسول ربّ السماء، ألهاكم ليصرف وجوهكم عنها إلى إلهه؛ وفرقة قالت: بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها، ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكى تغضبوا لها، فتنتصروا منه. فأجمعوا رأيهم على قتله، فاتخذوا مثال بئر، واتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها إلى قرار العين واحدة فوق الأخرى مثل البرانج، ونزحوا

ماء العين، ثم حفروا فى قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيّهم، وألقوا عليه فيها صخرة عظيمة؛ ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: الآن نرجو رضا آلهتنا عنّا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها، ويصدّ عن عبادتها. فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيّهم، وهو يقول: سيّدى، ترى ضيق مكانى وشدّة كربى، فارحم ضعف ركنى وقلّة حيلتى، وعجّل قبض روحى ولا تؤخّر إجابة دعوتى. حتى مات عليه السلام. فقال الله تعالى لجبريل: انظر عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى، وأمنوا مكرى، وعبدوا غيرى، وقتلوا رسولى؛ وأنا المنتقم ممّن عصانى ولم يخش عذابى وإنّى حلفت بعزّتى لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين. فبينما هم فى عيدهم إذ غشيتهم ريح عاصف حمراء، فتحيّروا وذعروا منها وانضمّ بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقّد؛ وأظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة حجرا يلتهب نارا، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص فى النار؛ نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته «1» .

القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - وخبره مع نمروذ، وقصة لوط، وخبر إسحاق ويعقوب، وقصة يوسف وأيوب وذى الكفل وشعيب

القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبره مع نمروذ، وقصّة لوط، وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب وفيه سبعة أبواب الباب الأوّل منه فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- وخبر نمروذ بن كنعان. ولنبدأ من هذه القصّة بخبر نمروذ؛ ثم نذكر قصّة إبراهيم- عليه السلام- لتعلّق قصّته به، لأنّ إبراهيم ولد فى زمانه، وآيته الكبرى معه. ذكر خبر نمروذ بن كنعان هو نمروذ بن كنعان بن كوش، وهو أحد ملوك الدنيا الأربعة الّذين ملكوا شرقها وغربها. وقد ورد أنهم مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين المذكور فى سورة الكهف؛ والكافران: شدّاد بن عاد ونمروذ ابن كنعان. وقد قيل: بدل شدّاد بختنصّر. قال الكسائىّ: قال وهب: لمّا أهلك الله تعالى أهل الرسّ بالمسخ ومن تقدّمهم بما ذكرناه، أنشأ قرونا آخرين، فكان ممّن أنشأ من ولد حام بن نوح كوش ابن قرظ بن حام، وكان جبّارا شديد القوّة عظيم الخلق، له مخاليب كالسّباع وهو الذى أنشأ كوثاربّا من أرض العراق، وولد له بها ولد سمّاه كنعان، وكان له

ولد آخر يقال له: الهاص؛ فلما مات كوش استقل الهاص بالملك دون كنعان واستقلّ كنعان بالصيد، وولع به حتّى ألهاه عن طلب الملك؛ وكان مع ذلك شديد البطش والقوّة، فبينما هو يتصيّد إذ رأى امرأة ترعى بقرات، فأعجبته فراودها عن نفسها، فامتنعت واعتذرت بزوجها؛ فقال: ويلك، هل على وجه الأرض من يطاولنى وأنا من ولد كوش، ونحن ملوك الأرض؟ فضحكت المرأة كالمستهزئة، وقالت: لا تذكر الملوك وأنت رجل صيّاد. ثم أقبل زوجها فقتله كنعان وأخذ المرأة ووطئها، فحملت بنمروذ، ونقلها كنعان إلى قصره، فكانت من أحظى نسائه؛ ثم قتل أخاه بعد ذلك، واستقلّ بالملك. ثم رأى فى منامه كأنّه صارع إنسانا فصرعه وقال: أنا مشئوم أهل الأرض ومنزلى الظلمة. وقد أجّلتك حتّى أخرج من ظلمتى هذه إلى ضوء الدنيا. فانتبه مرتاعا، وأحضر أصحاب علم النجوم، وقصّ رؤياه عليهم؛ فقالوا: سيولد مولود هو الآن فى بطن أمّه يكون هلاكك على يديه. وتبيّن حمل الراعية- وكان اسمها شلخاء- وكانت تسمع من بطنها صوتا عجيبا، فسمعه كنعان فقال: ويحك، هذا ليس بآدمىّ؛ وإنما هو شيطان؛ وهمّ أن يدوس بطنها ليقتل من فيه؛ فهتف به هاتف: مه يا كنعان، ليس إلى قتله سبيل. فلمّا كملت مدّة الحمل وضعته أسود أحول أفطس أزرق العين؛ وخرجت حيّة من حجر فدخلت فى أنفه، ففزعت شلخاء؛ وأخبرت كنعان بخبره؛ فقال: اقتليه فإنّه شؤم. فقالت: لا تطيب نفسى بقتله. قال: فاحتمليه واطرحيه فى البرّيّة.

فاحتملته الى البرّيّة، فمرّت براعى بقرات فعرضته عليه، فأخذه، وعادت الى منزلها؛ فلمّا وضعه الراعى بين البقر نفرت وتفرّقت وعسر عليه جمعها؛ وأقبلت امرأته فأخبرها بخبر الغلام؛ فقالت: اقتله فإنّه شؤم. فأبى وقال: اطرحيه فى النهر. فطرحته فى نهر عظيم، فألقاه الماء إلى البرّ؛ فقيّض الله له نمرة فأرضعته وانصرفت؛ فرأته امرأة من قرية هناك فعجبت وأخبرت أهل القرية، فخرجوا إليه واحتملوه وربّوه وسمّوه نمروذ، فلمّا بلغ جعل يقطع الطريق ويغير على النواحى، واجتمع له جمع كثير، فبلغ خبره كنعان، فجعل يبعث إليه بقائد بعد قائد وهو يهزمهم؛ وعظم أمره حتى صار فى جيش عظيم؛ فسار الى كوثاربا وقاتل كنعان، فهزم جيوشه وظفر به، وقتله وهو لا يعلم أنه أبوه، واحتوى على ملكه؛ ثم أخذ فى غزو الملوك حتّى ملك الشرق وسائر ممالك الدنيا؛ ثم رجع الى كوثاربّا فاستدعى وزراءه وقال: أريد أن أبنى بنيانا عظيما لم أسبق إلى مثله. فدلّوه على تارح وذكروا أنّه عارف بأمر النجارة والبناء؛ فأحضره ومكّنه من خزانته، وأمره بإنشاء قصر عظيم؛ فخرج تارح وشرع فى بنائه، وتأنّق فيه، وأجرى فيه الأنهار؛ فلمّا كمل ورآه نمروذ خلع على تارح، وجعله وزيره. وأخذ نمروذ فى التكبّر حتى ادّعى الألوهية. وكان مولعا بعلم النجوم، فأتقنه؛ فجاءه إبليس فى صورة شيخ وسجد له وقال: إنك قد أتقنت علم النجوم؛ وعندى علم ما هو أحسن منه، وهو السحر والكهانة. فعلّمه ذلك، ثم حسّن له عبادة الأصنام، فدعا بتارح وأمره أن يتخذ له صنما على صورته، ويتّخذ لقومه أصناما أخرى؛ فاتخذها تارح من الجوهر والذهب والفضّة والقوارير والخشب على أقدار الناس، وكلّها على صورة نمروذ حتى اتّخذ سبعين صنما، وأمر نمروذ قومه أن يتّخذوها؛ ففعلوا ذلك وانهمكوا

ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم - عليه السلام -

فى عبادتها، وكلّمهم الشياطين من أجوافها؛ فعبدوها حتّى لم يعرفوا سواها وطغوا وبغوا، وأكثروا الفساد فى الأرض، حتى ضجّت الأرض والسماء والوحش والطير إلى ربّها منهم. ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم- عليه السلام- قال: كان أوّل ذلك أنّه صعد فى بعض الأيّام إلى سريره، فانتفض من تحته انتفاضا شديدا، وسمع هاتفا يقول: تعس من كفر بإله إبراهيم. فقال لتارح وهو واقف عنده: سمعت ما سمعت؟ قال: نعم. قال: فمن هو إبراهيم؟ قال: لا أعرفه. فأرسل إلى السحرة وسألهم عن إبراهيم، وأخبرهم بما سمع؛ فقالوا: لا نعرف إبراهيم ولا إلهه. ثم توالت عليه الهواتف، ونطقت الوحش والطير والسباع بمثل ذلك؛ ثم رأى الرّؤى فى منامه. فكان منها أنّه رأى كأنّ القمر قد طلع من ظهر تارح، وألقى نوره كالعمود الممدود بين السماء والأرض؛ وسمع قائلا يقول: جاء الحق ونظر إلى الأصنام وهى ترتعد، فاستيقظ وقصّ رؤياه على تارح، فقال: أيّها الملك، إنّى فى الأرض كالقمر لكثرة عبادتى لهذه الأصنام. فقال له نمروذ: صدقت. وانصرف تارح حتى دخل بيت الأصنام، فإذا هى قد سقطت عن كراسيّها منكّبة على أوجهها؛ فأمر خدمها بإعادتها، وعجب من ذلك. قال: ثم رأى فى منامه كأنّ نورا ساطعا بين السماء والأرض، وقوما يسلكون فيه ينزلون إلى الأرض، ويصعدون إلى السماء، وإذا برجل من أحسن الناس وجها

ذكر حمل أم إبراهيم - عليه السلام - وطلوع نجمه

فى ذلك النور، وأولئك يقولون: نصرك إله السماء، فبك تحيا الأرض بعد موتها. فانتبه ودعا بالسّحرة والكهنة والمنجّمين، وذكر لهم رؤياه، وأقسم إن كتموه تأويلها عذّبهم وجعلهم طعما للسباع. فطلبوا أمانه، فأمّنهم، فقالوا: رؤياك تدلّ على مولود من أقرب الناس إليك، يرث ملكك، ويرتفع ذكره إلى السماء والشرق والغرب ويهلكك، وأنه لا يأتيك ومعه سلاح ولا جند. فتبسّم نمروذ وقال: إن كان كذلك فأمره هيّن. ثم قال لهم: فممّن يكون؟ قالوا: من ظهر أقرب الناس إليك، ولا نعلم أكثر من هذا. ثم قال: ليس أحد أقرب إلىّ من ابنى كوش ووزيرى تارح؛ ثم أمر بآبنه كوش فضرب عنقه؛ وأمر بقتل الأطفال حتى قتل مائة ألف طفل؛ ثم دعا بالمنجّمين فقال: انظروا هل استرحت ممّن كنت أخافه؟ قالوا: ما حملت به أمّه بعد. وأخذ فى ذبح الأطفال حتى ضجّت الخلائق إلى الله تعالى. ذكر حمل أمّ إبراهيم- عليه السلام- وطلوع نجمه قال: وعبر تارح يوما إلى الأصنام فاضطربت اضطرابا شديدا؛ فسجد لها فأنطقها الله، فقالت: يا تارح، جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ووافى نمروذ ما كان يحذره، فخرج خائفا وجلا حتى دخل على أمرأته وذكر لها ذلك؛ فقالت: وأنا أخبرك بعجب، كنت قعدت عن الحيض منذ كذا وكذا، وقد حضت فى يومى هذا. فقال: اكتمى أمرك لئلّا يبلغ الملك. فلما طهرت هتف به هاتف: يا تارح صر إلى زوجتك ليخرج النور الّذى على وجهك. فلمّا سمع ذلك مرّ هاربا على وجهه فإذا هو بملك يقول: أين تريد؟ ارجع فردّ الأمانة الّتى فى ظهرك.

فانصرف إلى منزله ولم يجسر أن يقرب امرأته؛ فأصبح وإذا بنور ساطع على وجهه؛ وكان هو الّذى يقرّب إلى الأصنام الطعام والشراب كلّ ليلة، وينصرف الى منزله فتأكله الشياطين؛ فقرّب الطعام إليها، فأقبلت الشياطين لتأكله، فرأوا الملائكة هناك فولّوا هاربين، وبقى الطعام على حاله؛ فلمّا أصبح تارح رآه على حاله فظنّ أن الأصنام ساخطة عليه، فعكف عليها لترضى عنه، فأبطأ عن منزله، فأتته امرأته؛ فلمّا خلت به فى بيت الأصنام تحرّكت شهوته، وهمّ بمواقعتها، فقالت: ألا تستحى، أتفعل هذا بين يدى آلهتك؟ فواقعها، فحملت منه بإبراهيم- عليه السلام- فنكّست الأصنام، وظهر نجم إبراهيم وله طرفان: أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب؛ فعجب الناس منه؛ ورآه نمروذ فتحيّر؛ فلمّا أصبح سأل المنجّمين عنه، فقالوا: هذا نجم جديد طلع يدلّ على مولود جديد من أولاد الأكابر، يرتفع شأنه، ويخشى عليك منه. فهتف به هاتف يقول: يا عدوّ الله، هذا المولود قد حملت به أمّه والله مهلكك على يديه. قال: فلمّا استكملت أمّة تسعة أشهر قالت لأبيه: إنى أحبّ أن أدخل بيت الأصنام فأسألها أن تخفّف عنّى أمر الولادة؛ فإذن لها فى ذلك، وتربّص بها إلى اللّيل خوفا أن يعلم الناس بحملها؛ فلمّا دخلت بيت الأصنام تنكّست عن كراسيّها فخرجت فزعة، فإذا هى بنمروذ فى قومه، وبين أيديهم الشّموع والمشاعل؛ فقال نمروذ: من هذا؟ قالت: زوجة عبدك تارح؛ فأراد أن يقول: اقبضوها فقال: خلّوها؛ فأقبلت إلى منزلها مذعورة، فجاءها الطلق، فأقبل إليها ملك من عند الله تعالى وقال: لا تخافى وانهضى فضعى ما فى بطنك. فتبعته حتّى أدخلها الغار، وهو الّذى ولد فيه إدريس ونوح- عليهما السلام-.

ذكر ميلاد إبراهيم - عليه السلام -

ذكر ميلاد إبراهيم- عليه السلام- قال: ودخلت أمّه الغار فوجدت فيه جميع ما تحتاج إليه، وخفّف الله عنها الطلق، فولدته فى ليلة جمعة، وهى ليلة عاشوراء؛ فلمّا سقط إلى الأرض قطع جبريل سرّته، وأذّن فى أذنه، وكساه ثوبا أبيض؛ ثم عاد بها الملك إلى منزلها فرجعت خفيفة كأن لم تلد، وقال لها الملك: اكتمى أمرك وما قد رأيت. فدخلت منزلها، وجاء تارح فرآها نشطة خفيفة، فقالت: إن الذى كان فى بطنى لم يكن ولدا، وإنّما كانت ريحا وقد انفشّت عنّى. ففرح بذلك، وألقى الله تعالى على نمروذ النسيان فى أمر إبراهيم؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث خرجت أمّه إلى الغار فرأت الوحش والسباع على بابه، فتوهّمت أن يكون هلك؛ فدخلت فرأته على فراش من السندس، وهو مدهون مكحول، فتحيّرت وعلمت أنّ له ربّا، ورجعت إلى منزلها وأخبرت تارح الخبر، فنهاها عن العود إلى الغار، فكانت تروح إليه سرّا فى كلّ ثلاثة أيّام تنظر إليه وتعود، حتى تمّ له حولان، فأتاه جبريل بطعام من الجنّة، فأطعمه وسقاه؛ فلمّا استكمل أربع سنين جاءه ملك بكسوة من الجنّة، وسقاه شربة التوحيد وقال: اخرج الآن منصورا. ذكر خروج إبراهيم- عليه السلام- من الغار واستدلاله قال: ولمّا قال له الملك ذلك خرج عند غروب الشمس، فجعل ينظر إلى السموات، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي يعنى على سبيل الاستفهام، أى أهذا ربّى؟. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى

الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهبط جبريل- عليه السلام- فقال له: انطلق إلى أبيك وأمّك ولا تخف فإن الله معك. فخرج إبراهيم وجبريل معه حتى وقفه على الباب وقال: هذا بيت أبيك، فدونك هو. فاستأذن إبراهيم وقال: أدخل؟ قال تارح: ادخل. فلمّا دخل نظر إليه فعجب من حسنه وجماله، وقامت أمّه مسرعة إليه واعتنقته وقالت: ولدى وعزّة نمروذ. فقال لها: لا تحلفى بعزّة نمروذ، فإن العزة لله الّذى خلقنى فى بطنك وأخرجنى منك، وكلأنى وربّانى وهدانى. فارتعد تارح من كلامه وقال لأمّه: أخشى أن تزول عنّى هذه المنزلة بسببه. ونظر إليه وقال: ما أحسنك! فلولا ما وقع فى قلبى من محبّتك لرفعت خبرك إلى نمروذ. ثم بكى تارح خوفا عليه أن يقتل، فقال له: يا أبت لا تخف علىّ من القتل فإن الله يعصمنى من نمروذ. فقال له: ألك ربّ غير نمروذ، وله مملكة الأرض شرقها وغربها، وله ثلاثمائة صنم؟ فقال إبراهيم: بل ربّى الله الّذى لا إله إلّا هو خالق السموات والأرض وما بينهما لا شريك له. وبلغ خبر إبراهيم بعض أقارب تارح، فدخل عليه وقال: ما هذا الغلام الجميل؟ قال: هو ابنى ولد لى على كبر. قال: فما الّذى بلغك من قوله عن نمروذ وأصنامنا؟ قال تارح: هو ما بلغكم، فكلّموه حتى يعود إلى ديننا. فحاجّه قومه وخوّفوه بعذاب نمروذ، وهو يجادلهم ويحتجّ عليهم، ويذكر عظمة ربّه حتى عجزوا عنه فذلك قوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ الآيات إلى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.

فانصرفوا عنه، وخاف تارح أن يسعوا به وبولده إلى نمروذ، فقال: يا إبراهيم كفّ عن هذا الكلام حتّى استخلفك على خزانة الأصنام فقد كبرت. فقال: يا أبت، إنّ المعبود هو الله، والأصنام لا تضرّ ولا تنفع. فغضب تارح وأقبل على نمروذ، فسجد له، وقال: إن المولود الذى كنت تحذره هو ولدى، ولم يولد فى دارى، ولا أعلم به حتّى الآن، وقد جاءنى وهو غلام يعقل ويفهم، ويزعم أن له ربا سواك، وقد أعلمتك فاصنع ما أنت صانع. فلمّا سمع نمروذ ذلك داخله الرعب وقال: صفه. فوصفه. قال نمروذ: هو الّذى رأيته فى منامى. وقال لأعوانه: ائتونى به. فأتوه به، فردّد النظر إليه وقال: احبسوه إلى غد؛ فلمّا أصبح أحضره وقد أمر بتزيين قصره بأعظم زينة، وهوّل عليه بجنوده وأصناف السلاح؛ فالتفت إبراهيم إلى الناس يمينا وشمالا وقال: ما تَعْبُدُونَ ؟ فذلك قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ إلى قوله: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ثم قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى قومه: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ثم التفت وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ إلى قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. فلمّا فرغ من كلامه قال له نمروذ، يا إبراهيم، تقع فى دينى وأنا الّذى خلقتك ورزقتك؟ قال: كذبت، إنّ خالقى ورازقى وخالق الخلق ورازقهم، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ* فبهت الناس، ووقعت فى قلوبهم محبّته لحسنه وحسن كلامه؛ فالتفت نمروذ إلى تارح وقال: إنّ ولدك صغير لا يدرى ما يقول ولا يجوز لمثلى فى قدرتى وعظم مملكتى أن أعجّل عليه؛ فخذه إليك، وأحسن إليه وحذّره بأسى حتى يرجع عما هو فيه.

ذكر معجزة لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام -

فأخذه تارح وانصرف إلى منزله، وقال: يا بنىّ، إنّ لى عليك حقّا. وأسألك بحقّى عليك أن تلازمنى فى عملى وبيع هذه الأصنام كما يفعل إخوتك. قال: كيف أبيع ما أبغضه؟ قال: ما عليك أن تبيعها؟ وأخرج له صنمين صغيرا وكبيرا، وقال: بع هذا بكذا، وهذا بكذا. قال: يا أبت أنت تعبد هذه الأصنام على أنّها ترزقك وهى الّتى خلقتك؟ قال: نعم. فقال له ما أخبرنا الله به فى قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فغضب تارح من قوله وقال: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال إبراهيم: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا. وقال: وكان إبراهيم يخرج ومعه غلامان ومعهما صنمان، فيقول: من يشترى ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يدفع الذّباب عن نفسه؛ وكان يغمسهما فى الماء ويقول: اشربا. ويشدّ الحبل فى أرجلهما ويجرّهما، والناس يعظمون ذلك ولا يجسرون يكلّمونه لمكان أبيه من نمروذ. ذكر معجزة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قال: وبينما إبراهيم قاعدا إذ جاءته امرأة عجوز، فقالت: بعنى أحد هذين الصنمين، واختر لى أجودهما. فقال: هذا أكثر حطبا من هذا. قالت: لست أريده للوقود، وإنّما أريد أن أعبده، فقد كان لى إله سرق فى جملة ثياب كثيرة

لى، وأنا أريد أن أشترى هذا الصنم فأعبده حتى يردّ علىّ رحلى. قال لها إبراهيم: إنّ الإله الّذى يسرق لو كان إلها لحفظ الثياب وحفظ نفسه، فكم لك تعبدينه؟ قالت: كنت أعبده ونمروذ منذ كذا وكذا سنة. قال: بئس ما صنعت، هلا عبدت ربّ السموات والأرض حتى يردّ عليك ما سرق منك، فإن عاد ما لك تؤمنين؟ قالت: نعم. فدعا إبراهيم ربّه فإذا بالمسروق بين يديه قد جاء به جبريل؛ فقال لها إبراهيم: هذا رحلك. فأخذته العجوز وكسرت الصنم، وقالت تبّا لك ولمن عبدك دون الله. وآمنت، وجعلت تطوف فى المدينة وتقول: يأيّها الناس اعبدوا الله الّذى خلقكم ورزقكم، وذروا ما كنتم عليه من عبادة الأصنام. فبلغ خبرها نمروذ، فأحضرها وأمر بقطع يديها ورجليها وفقء عينيها؛ فاجتمع إبراهيم والناس لينظروا إليها- وهو إذ ذاك لم يبلغ الحلم- فدعا لها بالصبر وقال: إلهى إنّك قد هديتها، أسألك أن تجعلها آية. فردّ الله عينيها ويديها ورجليها وارتفعت فى الهواء وهى تنادى: ويلك يا نمروذ، أنا الّذى قد فعلت بى ما فعلت هأنا أرقى إلى الجنان. وكان لنمروذ خازن «1» يقال له: بهرام، فقام وقال: آمنت أيّتها المرأة بالذى خصّك بهذه الكرامة، وآمن فى ذلك اليوم خلق كثير من وجوه القوم؛ فأمر نمروذ فنشروا بالمناشير وألقوا للأسود فلم تأكلهم؛ وارتجت المدينة بزلزلة عظيمة وترادفت معجزات إبراهيم- عليه السلام-

ذكر مبعث إبراهيم - عليه السلام -

ذكر مبعث إبراهيم- عليه السلام- قال: فلمّا تمّ لإبراهيم أربعون سنة، جاءه جبريل بالوحى من الله، وأرسله إلى نمروذ، فأقبل إبراهيم ووقف على باب نمروذ ونادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا: «لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله» . فآنتشر الصوت على جميعهم؛ فأحضر نمروذ الوزراء والبطارقة، وأجلسهم فى مجالسهم، وأقام جنوده، وأحضر الأسود والفيلة بسلاسلها، وأقيمت صفوفا عن يمين الدار ويسارها؛ وأمر بدخول إبراهيم؛ فدخل وقال: «باسم الله العظيم» فلمّا توسّط الدار قال بصوت رفيع: يا قوم قولوا: «لا إله إلّا الله خالق كلّ شىء» . ثم تقدّم إلى نمروذ؛ فقال له بعض وزرائه: من أنت؟ قال: أنا إبراهيم بن تارح رسول ربّ العالمين، أدعوكم إلى عبادته. قال له: من ربّك؟ قال: الذى خلق الناس جميعا. قال نمروذ: إنّ ملكى أعظم من ملكه. قال إبراهيم: الملك والسلطان لله ربّ العالمين. قال: لقد تجرّأت علىّ يا إبراهيم، وأنت تعلم أنّى خلقتك ورزقتك. فاضطرب سرير نمروذ، وقال إبراهيم: كذبت يا نمروذ، إنّ الله هو الّذى خلقك وخلق الناس أجمعين، ورزقك ورزقهم، وأنت تكفر بنعمته وقد رأيت بعض الآيات؟ قال: هات غير ذلك. فوصف إبراهيم قدرة الله. قال نمروذ: فما الّذى يفعل من قدرته؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . قال: كيف تفعل؟ قال: أخرج من الحبس من قد وجب عليه القتل فأطلقه، وأقتل الّذى لم يجب عليه. قال إبراهيم: إنّ ربّى لا يفعل كذلك، بل الميّت يحييه، والحىّ يميته من غير قتل، ولكن يا نمروذ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.

ذكر سؤال إبراهيم - عليه السلام - فى إحياء الموتى

ذكر سؤال إبراهيم- عليه السلام- فى إحياء الموتى قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. قال: فأخذ ديكا أبيض وغرابا أسود وحمامة خضراء وطاوسا، وقطع رءوسها، وخلط الدم بالدم والريش بالريش؛ ثم جزّأها أجزاء متساوية، وجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا، وجعل رءوسها بين أصابعه؛ ثم دعاها، فانضمّ كلّ جزء إلى بعضه، وخرجت الرءوس من بين أصابع إبراهيم، فصار كل رأس إلى بدنه. قال: والتفت إبراهيم إلى نمروذ وقال: كيف ترى قدرة إلهى؟ قال: ليس هذا ببديع من سحرك. وأمر به فقيّد وغلّت يده، وأدخل المضيق تحت الأرض وفيه الحيّات والعقارب فلم يضرّه ذلك. وجاءه جبريل فبشّره عن الله بالنصر، وألبسه حلّة خضراء، وفرش له فرشا من السندس، وأتاه بطعام فأكل وقال له: اصبر كما صبر الأنبياء من قبلك. ذكر آية لإبراهيم- عليه السلام- قال: وكان إبراهيم يسلّى أهل السجن، ويذكّرهم بالجنّة والنار؛ فقام إليه رجل وقال: يا إبراهيم، أنا من ملوك العرب، وأنا ابن ملكهم، وكنّا أربع إخوة فغضب الملك علينا فحبسنى هاهنا، وحبس الآخر بالمشرق، والآخر بالمغرب والرابع باليمن، فهل يقدر ربّك أن يجمع بيننا؟ قال: نعم. ودعا إبراهيم ربّه، فإذا بالأخوين وقد انقضّا من المشرق والمغرب. فبلغ ذلك نمروذ، فأحضرهم وقال:

من جمع بينكم؟ قالوا: إلهنا بدعاء إبراهيم. فأحضر إبراهيم وقال: ائتنا بالأخ الرابع من اليمن. فقال: إنّه قد مات ودفن. فقال نمروذ: ادع ربّك حتّى يأتينا بقبره. فدعا إبراهيم، فأمر الله الملك الموكّل بالأرض أن يخترق بالقبر إلى إبراهيم؛ فخرج القبر من تحت الأرض إلى دار نمروذ، فقال إبراهيم للثلاثة: هذا قبر أخيكم. فقالوا: أيّها الملك، إن كان حقّا ما يقول فليدع ربّه ليحييه وينظر إليه ويكلّمه. فصلّى إبراهيم ركعتين، وسأل الله أن يحييه؛ فانشق القبر، وخرج الرجل منه وهو يشتعل نارا ويقول: هذا جزاء من عبد الأصنام ورغب عن دين الله. فقام بهرام الخازن ونزع ما كان عليه من لباس نمروذ، وآمن بالله وبإبراهيم. فقال له نمروذ: لقد عمل سحره فيك. وأمر بهم نمروذ فشدّت أيديهم وأرجلهم ووضعت عليهم أساطين، فلم يؤلمهم ثقلها؛ فبهت نمروذ ثم قال: عودوا لطاعتى فأنا الذى خففت عنكم ثقل هذه. فقال خازنه: قم حتى نضع عليك واحدة منها وخفّفها عن نفسك. فغضب نمروذ وأحرقهم بالنار حتى صاروا رمادا؛ فردّ الله عليهم أرواحهم فقاموا على أرجلهم يقرّون بعظمة الله؛ فعجب الناس، ولم يدر نمروذ ما يفعل؛ فأمر بهم فألقوا فى الحبس بين حيّات وعقارب، فبقوا فيه أربعين يوما، ولم يطعموا شيئا؛ فجاءت أمّ إبراهيم إلى نمروذ وسألته فى إطلاقه، فأمر بإخراجه هو ومن آمن به، وفى ظنّه أنّهم قد ماتوا؛ فأخرجهم فإذا هم فى أحسن صورة؛ فعجب

وقال: يا إبراهيم، من أطعمك وسقاك؟ قال: ربّى أطعمنى وسقانى، فآمن به يا نمروذ، فقد رأيت آياته وعظمته. فغضب نمروذ ثم أقبل على تارح وقال له: قد كنت أتخوّف من ابنك، لأنّى كنت أظنّ له شوكة من الجنود، والآن فليس عنده إلّا السحر، وقد وهبته لك. فأخذه أبوه وأخرجه من دار نمروذ، وقال له: يا بنىّ، امش حتى أدخلك على هذه الأصنام لعلّك تميل إليها. فقال إبراهيم: سوءة لك أيّها الشيخ. ثم قال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ثم قال: يا قوم قولوا: لا إله إلّا الله وإنّى إبراهيم رسول الله تفلحوا. فكذّبوه، فقال له أبوه: يا بنىّ ما تخشى سطوة الملك. فقال: يا أبت إنّ الله يعصمنى من مكايده. قال: ثم ابتلاهم الله- عزّ وجلّ- بالقحط، وقلّت عندهم الأقوات؛ وكان بظاهر المدينة كثيب من الرمل، فتعبّد إبراهيم فيه، ودعا ربّه أن يحوّله طعاما. فحوّله الله، فكان المؤمنون ينالون منه ما يريدون، والكفّار يسجدون لنمروذ ويأخذون منه القوت. وكان قد جمع الأقوات فى سراديب عنده، فأطعمهم حتى نفد أكثرها ولم يبق إلّا قوت أهله وعشيرته؛ فشرع الناس يؤمنون ويزيدون فى كل يوم؛ فشقّ ذلك على نمروذ، وطلب إبراهيم وقال له: اخرج من بلدى فقد أفسدت قومى بسحرك. فقال إبراهيم: لم أخرج وأنا أحقّ منك؟ وخرج من عنده فأحضر نمروذ تارح وقال له: إن ابنك قد آذانى فى أهل مملكتى، ولولا منزلتك عندى لبطشت به. فقال: إنّنى قد هجرته، ولست راضيا بصنعه، فافعل به ما بدا لك.

ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار

ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار قال كعب: وكان لأهل كوثربّا عيد يخرجون إليه فى كلّ سنة، فيتعبّدون هناك أيّاما؛ وكان بعيدا من البلد؛ فلمّا حضر ذلك العيد قال تارح لإبراهيم: اخرج معنا إلى عيدنا. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، يعنى لعبادتكم الأصنام فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ إلى عيدهم، ولم يبق فى بلدهم إلّا الصّغار والهرمون. فقام إبراهيم ودخل بيت الأصنام- وكان القوم قد وضعوا الطعام بين أيديها- فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بهم؛ وكانت فى جانب البيت فأس، فأخذها وكسر بها هذا الصنم، وكسر يد هذا الصنم ورجل هذا ورأس هذا. قال الله عزّ وجلّ: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ وترك كبيرهم كما أخبر الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ثم علّق الفأس فى عنق الصنم الأكبر ورجع إلى منزله. وأقبل القوم بعد فراغهم من عيدهم، فرأوا أصنامهم على ذلك؛ فقالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ وبلغ الخبر نمروذ. قال: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ يعنى عذابه. فلمّا أتوا به قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ قال بعضهم لبعض: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فصاحوا من كلّ ناحية: أفتأمرنا بذلك وأنت تعلم أنّها لا تسمع ولا تبصر. فقال إبراهيم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فقال القوم لنمروذ ما أخبرنا الله تعالى عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.

وكان لنمروذ تنّور من حديد يحرق فيه من غضب عليه، فأمر به فأسجر فطرح إبراهيم فيه، فلم تضرّه النار بقدرة الله؛ فلمّا رأى نمروذ ذلك جمع أهل مملكته واستشارهم، فأشاروا أن يحبسه ويجمع له الحطب الكثير، ويضرم فيه النار، ثم يلقيه فيه إذا صار جمرا. وقالوا: إنّه لا يقدر يسحر النار الكبيرة، ولا يعمل سحره فيها. فعند ذلك حبسه وأمر بجمع الأحطاب؛ فيقال: إنّ الدوابّ امتنعت من حملها إلّا البغال، فأعقمها الله عقوبة لذلك؛ فجمعوا من الأحطاب ما لا يحصى كثرة؛ وأمر أن تحفر حفيرة واسعة، وبنى حولها حائطا عاليا، وألقى فيها تلك الأحطاب وأضرم فيها النار والنّفط ثلاثة أيّام، فكان لهبها يصيب الطائر فى الجوّ فيحرق. قال: وهمّوا بطرح إبراهيم فيها، فلم يقدروا يقربوا منها. فيقال: إنّ إبليس أتاهم فى صورة شيخ، وصنع لهم المنجنيق، ولم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، ووضعوا إبراهيم فى كفّة المنجنيق، ورموا به وهو يدعو الله أن ينصره عليهم؛ فعارضه جبريل وهو فى الهواء، وقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟ قال: أمّا إليك فلا، بل حسبى الله ونعم الوكيل. فلمّا قرب من النار قال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: لو لم يقل «وسلاما» لمات إبراهيم من شدّة البرد. فبرد حرّها وأخضرت الأشجار التى احترقت ورست بعروقها. فلمّا أصبح نمروذ جلس فى مكان مشرف ينظر إلى ما أصاب إبراهيم من النار؛ فكشف عن بصره فإذا هو برجل فى وسطها على سرير، عليه ثياب خضر وإلى جنبه رجل آخر؛ وخلق كثير وقوف من ورائهما؛ فدعا بصاحب المنجنيق

ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه

وقال له: كم ألقيت فى النار؟ قال: إبراهيم وحده. فعجب وعجبت الناس وقال: اذهبوا وانظروا من القاعد على السرير ومن إلى جنبه وحوله. فأتوا فإذا هم بإبراهيم على أحسن صورة، فأخبروا نمروذ، فقال: ائتونى به. فقالوا: لا نستطيع الوصول إليه لحرّ النار. فنادوه: يا إبراهيم، أخرج إلينا. فخرج إلى نمروذ وقال له: ما أعجب سحرك يا إبراهيم! قال: ليس هذا بسحر، وإنما هو من قدرة الله تعالى. قال: فمن الّذى عن يمينك؟ قال: ملك جاءنى من عند ربّى بشّرنى انّ الله اتّخذنى خليلا. فقال نمروذ: لأصعدنّ إلى السماء وأقتل إلهك. ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه قال: وأمر نمروذ أن يتّخذ له تابوت مربّع، ويكون له بابان: باب إلى السماء وباب إلى الأرض، وجوّع أربعة نسور، وسمّر أربعة رماح فى أركان التابوت، وعلّق اللحم فى أعلاها، وشدّ النسور بأوساطها إلى الرماح، وجلس فى التابوت ومعه وزيره، وحمل معه قوسا ونشّابا، وأطبق البابين، فرفعت النسور رءوسها فنظرت إلى اللّحم، فطارت صاعدة، وارتفعت فى الهواء؛ فقال لوزيره: افتح الباب الذى يلى الأرض وانظر كيف هى؟ قال: أراها كأنّها قرية. قال: فأنظر إلى السماء. فقال: هى كما رأيناها ونحن فى الأرض. ولم يزل يصعد حتى قال: أما الدنيا فلا أراها إلا سوادا ودخانا، والسماء كما رأيناها. وارتفعت النسور حتى كادت تسقط إلى الأرض؛ فعارضه ملك وقال: ويلك يا نمروذ؛ إلى أين؟ قال: أريد محاربة إله إبراهيم. قال: ويحك، إنّ بينك وبين سماء الدنيا خمسمائة عام، ومن فوق ذلك ما لا يعلمه إلّا الله. فخرّ الوزير ميتا؛ فأخذ نمروذ القوس ووضع فيه السهم، وقال: أنا لك يا إله إبراهيم، ورمى بالسهم إلى الهواء، فيقال: إنّ ذلك السهم عاد إليه ملطّخا بالدم بإذن الله.

ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه

وأمر الله جبريل أن يضرب التابوت بجناحه، فيلقيه فى البحر؛ فضربه فمرّ يهوى به حتى ألقاه فى البحر؛ وأمر الله الأمواج أن تلقيه إلى الساحل؛ فلمّا وصل إلى البرّ خرج وقد ابيضّت لحيته لما عاين من الأهوال، وتوصّل من بلد إلى بلد حتى أتى المدينة، فدخل منزله ليلا فأنكره الناس لشيبه، ثم عرفوه؛ وجاءه إبراهيم فقال: كيف رأيت قدرة ربّى؟ قال: قد قتلت ربّك. قال: إنّ ربّى أعظم من ذلك، ولكن هل لك قوّة- مع كثرة جنودك- أن تقاتلنى؟ قال: نعم. ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه قال: وأمر نمروذ جنوده فاجتمعوا لحرب إبراهيم وهم لا يحصون كثرة؛ وخرج إبراهيم فى سبعين من قومه الذين آمنوا فى الصحراء، فأرسل الله عليهم البعوض حتى امتلأت منه الدنيا، ولدغت جيش نمروذ؛ فمات من لدغها خلق كثير، والتجأ الباقون إلى الدّور، وأغلقوا الأبواب وأسبلوا الستور؛ فلم تغن عنهم شيئا؛ وانفرد نمروذ عن جيشه، ودخل منزله وأغلقت الأبواب، وأرخيت الستور، واستلقى على سريره، فجاءت بعوضة فقعدت على لحيته، فهمّ بقتلها، فدخلت منخره وصعدت إلى دماغه؛ فعذّبه الله بها أربعين يوما لا ينام ولا يطعم؛ ثم شقّت رأسه وخرجت فى كبر الفرخ، فمات. وقيل: إنّه اتخذ إرزبّة من حديد، فكان صديقة الّذى يضرب بها رأسه فانفلق رأسه بضربة فخرجت كالفرخ وهى تقول: هكذا يهلك الله أعداءه، وينصر أنبياءه، ويسلّط رسله على من يشاء. وأرسل الله الزلازل على المدينة، فخرّبت. قال: وجاء لوط وهو ابن أخى إبراهيم، وآمن به، وآمنت سارة، فتزوّج بها إبراهيم.

ذكر هجرة إبراهيم - عليه السلام -

ذكر هجرة إبراهيم- عليه السلام- قال: وجمع إبراهيم أصحابه الّذين آمنوا به، وسار يريد الشأم، فجاء إلى (حرّان) فأقام بها مدّة من عمره، وترك بها طائفة من المؤمنين، وسار حتى أتى الأردنّ وكان اسم ملكها صادوق، فمرّ به وهو فى منظرة له، فنظر إلى سارّة مع إبراهيم فأحضرهما، وقال لإبراهيم: من أنت؟ قال: أنا خليل الله إبراهيم. وذكر له ما كان من أمر نمروذ. فقال له: من هذه؟ قال: هى أختى. فقال: زوّجنيها. قال: هى أعلم بنفسها منّى، وإنّها لا تحلّ لك. فاغتصبها منه، وقام إلى مجلس آخر وأمر بحملها إليه. فدعا إبراهيم الله تعالى، فارتجّ المجلس بالملك، ويبست يده فقال لسارّة: ألا ترين ما أنا فيه؟ قالت: لأنّك أغضبت خليل الله. قال: فتضرّع إلى إبراهيم؛ فسأل الله فى ردّ يده عليه؛ فأوحى الله إليه: لا أطلقه دون أن أخرجه من ملكه ويسلم؛ فأسلم وخرج عن الملك، ووهب سارّة هاجر، وهى أمّ إسماعيل. قال وارتحل إبراهيم حتى أتى الأرض المقدّسة فنزلها. وقد روينا هذه القصة بسندنا إلى البخارىّ- رحمه الله- وسنذكر الحديث- إن شاء الله تعالى- فى أخبار طرطيس أحد الملوك بمصر، فقد ورد أنه صاحب القصة؛ والله أعلم. ذكر خبر ميلاد إسماعيل- عليه السلام- ومقامه وأمّه فى البيت المحرّم قال: وأقام إبراهيم بالأرض المقدّسة ما شاء الله أن يقيم حتى كبرت سارّة وأيست من الولد، فخافت من انقطاع نسل إبراهيم- عليه السلام- فوهبته هاجر فقبلها، وواقعها، فحملت بإسماعيل، ووضعته كالقمر وفى وجهه نور نبيّنا محمد

صلّى الله عليه وسلّم؛ فأحبّته سارّة حتى بلغ من عمره سبع سنين، فداخلت الغيرة سارّة، ولم تطق أن ترى إبراهيم مع هاجر، فقالت: يا نبىّ الله، إنى لا أحبّ أن تكون هاجر معى فى الدار، فحوّلها حيث شئت. فأوحى الله إليه أن انقلها إلى الحرم؛ وجاءه جبريل بفرس من الجنّة، فقال له: يا إبراهيم، احمل هاجر وإسماعيل على هذا الفرس. فأركب إبراهيم هاجر وإسماعيل من ورائها، وسار بهما حتى بلغ الحرم. فأوحى الله إليه أن أنزل بهما هاهنا. فأنزلهما بالقرب من البيت، وهو يومئذ أكمة حمراء كالربوة من تخريب الطوفان. ثم قال إبراهيم لهاجر: كونى هاهنا مع ولدك فإنى راجع، فبذلك أمرنى ربّى. فلما أراد إبراهيم أن ينصرف قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. ثم رجع وتركهما هناك ولا ثالث لهما إلّا الله تعالى. فلما علا النهار، واشتدّ الحرّ، ونفد ما معهما من الماء، قامت هاجر تعدو يمينا وشمالا فى طلب الماء فلم تجده؛ فعادت إلى إسماعيل فرأته يبحث بأصابعه فى موضع بئر زمزم وقد نبع الماء؛ فسجدت لله، وأخذت تجمع الحصا حول العين لئلّا ينتشر الماء وهى تقول: زمّ زمّ يا مبارك. فناداها جبريل: لا تخافى وأبشرى، فإن الله سيعمر هذا المكان. قال وهب: لولا أن هاجر جمعت الحصا حول الماء لتمّت العين نهرا جاريا على وجه الأرض إلى يوم القيامة. قال: وأقبل ركب من اليمن يريدون الشأم، وطريقهم على الحرم، فرأوا الطير تهوى إلى الأرض، فقالوا: إن الطير لا تنقضّ إلّا على الماء والعمارة.

وأقبلوا فرأوا هاجر وإسماعيل والعين؛ فسألوها، فقالت: أنا جارية خليل الله إبراهيم وهذا ابنه، خلّفنا وانصرف إلى الشأم. فآستأذنوها فى الماء؛ فأذنت لهم. ثم قالوا: هل أحد ينازعك على هذا الماء؟ قالت: لا، فإنّ الله أخرجه لى ولولدى. قالوا: إن حضرنا بأهالينا وسكّنا فى جواركم هل تمنعيننا من هذا الماء؟ قالت: لا، فإنه لله يشربه خلق الله. فرجعوا إلى بلدهم، واحتملوا أهاليهم وأتوا الحرم بها وبمواشيهم، فصاروا لهما أنسا. ونشأ إسماعيل حتى بلغ مبلغ الرجال، فكان يخرج إلى الصيد معهم ويرجع وماتت أمه هاجر، وتزوّج إسماعيل منهم، وبلغ إبراهيم خبر موت هاجر، فاشتاق إلى إسماعيل، فاستأذن سارّة فى ذلك، فأذنت له، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار حتى وقف على بيت ولده إسماعيل بالحرم، فقال: السلام عليكم يا أهل المنزل. فقالت له المرأة: إن صاحب البيت غائب. فقال إبراهيم: إذا رجع فقولى له: ابدل عتبة دارك، فإنّى لا أرضاها لك. وانصرف إلى الشأم. فلما عاد إسماعيل أخبرته بالخبر، فقال: صفيه لى. فوصفته؛ فقال: الحقى بأهلك. فجاء أهلها وقالوا: ما الذى كرهت منها؟ قال: لأنها لم تعرف لخليل الله قدرا. ثم تزوّج امرأة من جرهم، فأولدها إسماعيل ستّة أبطن، فاشتاق إبراهيم إلى ولده، فجاءه جبريل بفرس فركبه وسار إلى الحرم، وقد عمر ذلك المكان بجرهم؛ فوقف على باب إسماعيل وقال: السلام عليكم يا أهل المنزل. فبادرت المرأة وسلّمت عليه، وقالت: فدتك نفسى، إن صاحب المنزل غائب، وإنه يعود عن قريب. قال: هل عندك طعام؟ قالت: نعم، عندنا خير كثير. وجاءته بطبق

ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق - عليهما السلام -

عليه لحم مشوىّ من الصيد، وقدح فيه ماء. قال: فهل غير هذا من حب أو زبيب! قالت: يا عمّاه، ما هذا طعام بلدنا، ولكنّه يجلب إلينا، فانزل بنا وتناول طعامنا. قال: إنّى صائم، ولكن علىّ ذرق «1» الطير فاغسليه. وحوّل قدمه عن الفرس، ووضعه على المقام؛ فغسلته «2» ، فقال: إذا جاء زوجك فسلّمى عليه وقولى له: الزم عتبة بابك فقد رضيتها لك. وانصرف. فلما رجع إسماعيل من الصيد أخبرته الخبر فقال: لقد كنت كريمة علىّ وقد صرت الآن أكرم بإكرامك أبى خليل الله إبراهيم. ثم اشتاق إبراهيم إلى ولده ثالثا، وذلك بعد ثلاث وعشرين يوما، فجاء إليه ولقيه، وأمره الله أن يبنى البيت، فبناه؛ وأتاه جبريل فعلّمه مناسك الحجّ. وقد تقدّم ذكر ذلك مبيّنا فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا، فلا حاجة لنا فى إعادته. قال: ورجع إبراهيم إلى البيت المقدّس، وأوحى الله إليه أن يرسل لوطا نبيا إلى سذوم؛ فأرسله. وكان من أمره ما نذكره فى أخباره فى الباب الّذى يلى هذا الباب- إن شاء الله تعالى-. ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق- عليهما السلام- قال: وبعث الله الملائكة إلى إبراهيم حين أرسلهم بالعذاب على قوم لوط وأمرهم أن يبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ فأتوه على صورة البشر وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ودريائيل.

قال: فأتوه مفاجأة على خيولهم، ودخلوا عليه منزله ففزع منهم، حتى قالوا: سَلاماً . فسكن خوفه، وقال: سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ورحّب بهم وأجلسهم وقام إلى زوجته سارّة وأمرها بخدمتهم؛ فقالت: عهدى بك وأنت أغير الناس. قال: هو كما تقولين، وإنّما هؤلاء أضياف أخيار. ثم قام إلى عجل سمين فذبحه وشواه، وقرّبه إليهم، ووقفت سارّة لخدمتهم، فجعل إبراهيم يأكل ولا ينظر إليهم وهو يظنّ أنهم يأكلون؛ فرأت سارّة أنّهم لا يأكلون؛ فنبهّته على ذلك، فقال: أَلا تَأْكُلُونَ ؟ وداخله الخوف من ذلك، ثم قال: لو علمت أنّكم لا تأكلون ما قطعت العجل عن البقرة. فمد جبريل يده نحو العجل، وقال: قم بإذن الله. فاشتدّ خوف إبراهيم وقال: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ إلى قوله إِلَّا الضَّالُّونَ. قال: وكانت سارّة واقفة هناك، فقالت: «أوّه» فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قال الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ أى حاضت فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ولم تعلم أنّهم ملائكة؛ فقال لها جبريل: يا سارّة، كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . قال إبراهيم: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ* لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ثم عاد جبريل إلى صورته، فعرفه إبراهيم، وعرّفه أنهم يقصدون قوم لوط بالعذاب؛ فاغتم إبراهيم شفقة على لوط وأهله، ثم قال: امضوا حيث تؤمرون. وكان من أمر قوم لوط ما نذكره.

ذكر خبر الذبيح وفدائه

قال: وحملت سارّة بإسحاق فى الليلة الّتى خسف الله فيها بقوم لوط، ووضعته وعلى وجهه نور أضاء منه ما حولها؛ فدخل إبراهيم وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وربّته سارّة حتى بلغ سبع سنين. ذكر خبر الذبيح وفدائه قال: وكان إسحاق يخرج مع أبيه إلى بيت المقدس، فبينما إبراهيم فى مصلّاه إذ غلبته عينه فنام، فأتاه آت فى منامه وقال: إن الله يأمرك أن تقرّب قربانا. فلمّا أصبح عمد إلى ثور فذبحه وفرّق لحمه على المساكين، فلما كان الليل رأى فى منامه الّذى أتاه وهو يقول: يا إبراهيم، إنّ الله يأمرك أن تقرّب له قربانا أعظم من الثور. فلمّا انتبه ذبح جملا وفرّق لحمه على المساكين. ثم رآه فى الليلة الثالثة وهو يقول: إنّ الله يأمرك أن تقرّب قربانا أعظم من الثور والجمل. قال إبراهيم: وما هو؟ فأشار إلى ولده إسحاق؛ فانتبه فزعا، وأقبل على إسحاق وقال له: ألست تعطينى يا بنىّ؟ قال: بلى، ولو كان فى ذبح نفسى. فانصرف إبراهيم إلى منزله، وأخذ الشّفرة والحبل، فوضعهما فى مخلاته وقال: يا إسحاق، امض بنا إلى الجبل. فلما مضيا أقبل إبليس إلى سارّة وقال لها: إنّ إبراهيم قد عزم على ذبح إسحاق فالحقيه وردّية. قالت: ولم يذبحه؟ قال: إنّه زعم أن ربّه أمره بذلك. قالت: إن كان الأمر كذلك فإنّه صواب إذا أراد رضى ربّه. وقالت: اللهم اصرف نزغ الشيطان. فولّى عنها هاربا، وتبع إسحاق فناداه: إنّ أباك يريد أن يذبحك. فقال إسحاق لأبيه: يا أبت ألا تسمع إلى هذا الهاتف ما يقول؟ قال: يا بنىّ امض ولا تلتفت إليه، فسأخبرك.

فلما انتهيا إلى رأس الجبل قال: إبراهيم: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فحمد إبراهيم ربّه على ذلك؛ فنودى من السماء: أليس الله قد وصفك بالحلم فكيف لا ترحم هذا الطفل؟ قال: إن الله قد أمرنى بذلك. فقال إسحاق: يا أبت عجّل أمر ربّك قبل أن ينال منّا الشيطان. فنزع إبراهيم قميصه وربطه بالحبل، وكبّه على جبينه وهو يقول: الحمد لله باسم الله الفعّال لما يريد. ووضع الشفرة على حلقه، فلمّا همّ بذبحه انقلبت الشفرة، فارتعدت يد إبراهيم، فقال له إسحاق: يا أبت، حدّ الشفرة، واصرف وجهك عنّى حتى لا ترحمنى. قال: يا بنىّ، قد فعلت حتى لو قطعت بها المجنّ لقطعته بحدّها. ثم وضع إبراهيم الشفرة على حلقه ثانيا، وهمّ بقطع أوداجه؛ فانقلبت؛ فقال إبراهيم: لا حول ولا قوّة إلا بالله. فقال: أصبت فى قولك يا أبت ولكن حدّ شفرتك لتذبحنى ذبحا، ولا تجزع. فحدّ إبراهيم المدية حتى جعلها كالنار ووضعها على حلق إسحاق، فسمع إبراهيم هدّة «1» عظيمة ومناديا يقول: يا إبراهيم خذ هذا الكبش فاذبحه عن ابنك، فهو قربان عنه، وهذا اليوم جعل عيدا لك ولولدك من بعدك. فالتفت إبراهيم إلى الجبل، وإذا هو بكبش أملح أقرن، قد انحدر من الجبل وهو يقول: خذنى يا إبراهيم فآذبحنى عن ابنك، فأنا أحق منه بالذبح، فأنا كبش هابيل بن آدم.

ذكر وفاة إبراهيم - عليه السلام -

فحمد إبراهيم ربّه على ذلك، وذبح الكبش؛ فأتت نار من السماء بغير دخان فأكلته حتى لم يبق إلّا رأسه؛ وانصرف إبراهيم وإسحاق ورأس الكبش معهما إلى منزل إبراهيم، وأخبر سارّة بما جرى. قال: ثم توفّيت سارّة بعد ذلك، وتزوّج إبراهيم بامرأة من الكنعانيين وأولدها ستّة أولاد فى ثلاثة أبطن. وإبراهيم أوّل من صافح وعانق وفرق الشعر بالمشط ونتف الإبط واستاك واكتحل واختتن بالقدوم. ذكر وفاة إبراهيم- عليه السلام- قال: فبينما إبراهيم على باب داره، وإذا هو بملك الموت وقد وافاه فى أحسن صورة؛ فسلّم عليه؛ فأجابه وقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أمرنى الله بقبض روحك. فكره إبراهيم الموت؛ ثم تصوّر له فى صورة شيخ كبير، ودخل على إبراهيم وقال: هل من طعام؟ فقدّم إليه طعام على طبق، فجعل ملك الموت يتناول الطعام، ويخيّل إلى إبراهيم أنه يلوّث وجهه وعنقه، وأنّه لا يستقرّ فى بطنه. فقال له إبراهيم: أيّها الشيخ، ما بال هذا الطعام لا يستقرّ فى بطنك؟ قال: يا خليل الله، إنى قد شخت، ولست أتمكّن منه إلّا على هذا الوجه. قال: فكم تعدّ من السنين؟ قال: قد جزت مائتى سنة. قال إبراهيم: وأنا فى المائتين إلّا سنة، وإذا مضى علىّ مائتين أصير كذا؟ [قال: نعم «1» ] . فدعا إبراهيم ربّه أن يقبضه. فجاءه ملك الموت؛ فقال: يا ملك الموت قد اشتقت إليك منذ رأيت ذلك الشيخ على تلك الصورة، فاقبض روحى. فقبض روحه صلى الله عليه وسلّم.

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة لوط - عليه السلام - وقلب المدائن

الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة لوط- عليه السلام- وقلب المدائن هو لوط بن هاران بن تارح، وتارح هو آزر أبو إبراهيم- عليه السلام- وكان لوط قد شخص مع عمّه إبراهيم- عليهما السلام- من المدائن إلى أرض الشأم، مؤمنا به، مهاجرا معه، ومع إبراهيم تارح وسارّة بنت ماحور؛ فلمّا انتهوا إلى حرّان هلك تارح بها وهو باق على كفره؛ وسار إبراهيم ولوط وسارّة إلى الشأم؛ ثم مضوا إلى مصر وبها فرعون من الفراعنة يقال له: سنان بن علوان ابن عبيد بن عوج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام؛ ورجعوا إلى أرض الشأم فنزل إبراهيم فلسطين، وأنزل لوطا الأردن، فكان هناك إلى أن بعثه الله نبيا. قال: وأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إبراهيم أن يرسل لوطا نبيّا إلى (سذوم) ، وكانت خمس مدائن؛ وهى: (صامورا) «1» (وصابورا) (وسذوم) (ودومة) «2» (وعامورا) ، وهى المؤتفكات، وكان أعظمها (سذوم) وعلى كلّ مدينة سور عظيم مبنىّ بالحجارة والرّصاص، وعليهم ملك يقال له: (سذوم) من بيت نمروذ بن كنعان، وكان أهل هذه المدائن قد خصّوا بحذف الحصا والحبق «3» في المجالس وعبادة الأصنام، وكانوا حسان الوجوه، فأصابهم قحط، فأتاهم إبليس فقال: إنما أصابكم القحط لأنّكم منعتم الناس من دوركم ولم تمنعوهم من بساتينكم. فقالوا:

كيف السبيل إلى المنع؟ قال: اجعلوا السنّة بينكم إذا دخل بلدكم غريب سلبتموه ونكحتموه فى دبره، فإذا فعلتم ذلك لم تقحطوا. فخرجوا إلى ظاهر البلد فتصوّر لهم إبليس فى صورة غلام أمرد، فنكحوه وسلبوه، فطاب لهم ذلك حتى صار فيهم عادة مع الغرباء، وتعدّوا إلى أهل البلد، وفشا بينهم؛ فأرسل الله إليهم لوطا، فبدأ بمدينة (سذوم) وبها الملك، فلما بلغ وسط السوق قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون وارجعوا عن هذه المعاصى التى لم تسبقوا إليها، وانتهوا عن عبادة الأصنام، فإنّى رسول الله إليكم. فكان جوابهم أن قالوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وبلغ الخبر الملك، فقال: «ائتونى به» فلمّا وقف بين يديه سأله: من أين أقبل؟ ومن أرسله؟ ولماذا جاء؟ فأخبره أن الله أرسله. فوق فى قلبه الخوف والرعب، وقال: إنما أنا رجل من القوم، فآدعهم فإن أجابوك فأنا منهم. فدعاهم فقالوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ . فقال لهم: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ* رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ. فلبث فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الله وهم لا يجيبونه. ثمّ توفيت امرأته، فتزوّج بامرأة من قومه كانت قد آمنت به، فأقام معها أعواما وهو يدعوهم حتى صار له فيهم أربعون سنة وهو يدعوهم بما أخبر الله به ويقول: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ الايات، وهم لا يزدادون إلا كفرا وإصرارا وتماديا على أفعالهم الذميمة، فضجّت الأرض منهم.

ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن

ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن قد ذكرنا فى قصّة إبراهيم أن الله- عزّ وجلّ- أرسل الملائكة إليه وبشّروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط، وقال لهم: امضوا حيث تؤمرون. فاستووا على خيولهم. وساروا إلى المدائن وهم على صفة البشر، فأتوا المدائن وقت المساء، فرأتهم ابنة لوط- وهى الكبرى من بناته وهى تستقى الماء- فتقدّمت إليهم وقالت: ما لكم تدخلون على قوم فاسقين؟ ليس يضيفكم إلّا ذلك الشيخ. فعدلت الملائكة إلى لوط، فلما رآهم اغتمّ غمّا شديدا مخافة عليهم من شرّ قومه، ثم قال لهم: من أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع بعيد، وقد حللنا بساحتك، فهل لك أن تضيفنا الليلة؟ قال: نعم، ولكن أخاف عليكم من هؤلاء الفاسقين- عليهم لعنة الله- قال جبريل لإسرافيل: هذه واحدة- وكان الله قد أمرهم ألّا يدمّروا على قومه إلّا بعد أربع شهادات من لوط ولعنته عليهم- ثم أقبلوا إليه وقالوا: يا لوط، قد أقبل علينا الليل، فاعمل على حسب ذلك. قال: قد أخبرتكم بأنّ قومى يأتون الرجال من العالمين- عليهم لعنة الله- فقال جبريل لإسرافيل: هذه ثانية. ثم قال لهم لوط: انزلوا عن دوابّكم واجلسوا هاهنا حتى يشتدّ الظلام، وتدخلون ولا يشعر بكم أحد منهم- عليهم لعنة الله- قال جبريل: هذه ثالثة. ثم مضى لوط والملائكة وراءه، فدخل المنزل، وأغلق الباب، وقال لامرأته: إنك قد عصيت الله أربعين سنة وهؤلاء ضيفانى قد ملأوا قلبى خوفا، فاكتمى علىّ أمرهم حتى يغفر الله لك ما مضى. قالت: نعم. ثم خرجت وبيدها سراج كأنها تشعل، فطافت على عدّة

من القوم، فأخبرتهم بجمالهم وحسنهم، فعلم لوط بذلك، فأغلق الباب وأوثقه؛ فأقبل الفسّاق وقرعوا الباب. فناداهم لوط: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ* قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ثم كسروا الباب، ودخلوا، فقالوا له: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ. فوقف لوط على الباب الذى دونه ضيفانه وقال: لا أسلم ضيفانى إليكم دون أن تذهب نفسى. فتقدّم بعضهم ولطم وجهه، وأخذ بلحيته، ودفعوه عن الباب، فقال: أوّه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ثم قال: إلهى خذ لى بحقّى من هؤلاء الفسقة والعنهم لعنا كبيرا. فقال جبريل عند ذلك: هذه أربعة. وقام جبريل ففتح الباب وقال للوط: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فهجم القوم. ودخلوا وبادروا نحو الملائكة، فطمس الله أعينهم، واسودّت وجوههم. قال الله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فجاءت طائفة أخرى ونادوهم: اخرجوا لندخل. فنادوا: يا قوم، هؤلاء قوم سحرة سحروا أعيننا فأخرجونا. فأخرجوهم، وقالوا: يا لوط، حتى نصبح نريك وبناتك. وخرجوا فقال لوط للملائكة: بماذا أرسلتم؟ فأخبروه، فقال: متى؟ قالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ثم قال له جبريل: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فجمع لوط أهله وبناته ومواشيه، وأخرجه جبريل من المدينة، وقال له: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ومضى لوط

بمن معه، وجبريل قد بسط جناح الغضب، وإسرافيل قد جمع أطراف المدن ودريائيل قد جعل جناحه تحت الأرض، وملك الموت قد تهيّأ لقبض أرواحهم حتى إذا برز عمود الصبح صاح جبريل صيحة: يا بئس صباح قوم كافرين. وقال ميكائيل: يا بئس صباح قوم فاسقين. وقال دريائيل: يا بئس صباح قوم ظالمين. وقال إسرافيل: يا بئس صباح قوم مجرمين. وقال عزرائيل: يا بئس صباح قوم غافلين. فاقتلع جبريل هذه المدن عن آخرها، ثم رفعها حتى بلغ بها الى البحر الأخضر وقلبها، فجعل عاليها سافلها. قال الله تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى * فَغَشَّاها ما غَشَّى يعنى رمى الملائكة إيّاهم بالحجارة من فوقهم. قال: واستيقظ القوم، وإذا هم بالأرض تهوى بهم، والنيران من تحتهم والملائكة تقذفهم بالحجارة. قال: ومن كان من القوم بغير مدائنهم ممّن كان على دينهم وفعلهم أتاه حجر فقتله. قال: وبقى يخرج من تحت «1» المدائن دخان منتن، لا يقدر أحد يشمّه لنتنه، وبقيت آثار المدائن. قال الله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. قال: ومضى لوط إلى إبراهيم- عليهما السلام- فذلك قوله عزّ وجلّ: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ* وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب - عليهما السلام -

الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام- قال: ولمّا قبض الله تعالى إبراهيم الخليل- عليه السلام- سكن إسماعيل الحرم، وإسحاق الشأم ومدين، وسكن معه سائر أولاد إبراهيم، وبعثه الله إلى الأرض المقدّسة نبيّا ورسولا، فأقام بينهم نحوا من ثمانين سنة، وكفّ بصره فبينما هو نائم الى جنب امرأته إذ تحرّكت شهوته، فقالت: وفيك بقيّة يا إسحاق؟ فواقعها مرّة فحملت بذكرين: وهما يعقوب والعيص- على ما ذكرناه فى الأنساب- وهو فى الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الثانى، وهو فى الجزء الثانى من هذا الكتاب، وذكرنا أيضا أولاد العيص فيه. قال: ثم قبض الله تعالى نبيّه إسحاق، فقسم ما كان له من بقر وخيل وغنم وغير ذلك بالسوية، ومات؛ فغلب العيص على مال يعقوب، واغتصبه إياه وقصد قتله؛ فقالت له أمّه: الحق بخالك (لابان) وإخوته بحرّان، فإنّهم مؤمنون من آل إبراهيم. فتوجّه يعقوب إلى حرّان، فأكرمه خاله، وزوّجه ابنته، وسلّم إليه ما بيده من المال، وكانت ابنته هذه الكبرى، واسمها (ليا) «1» فرزق منها روبيل «2» وشمعون «3» ، ثم ذكرين: لاوى «4» ويهوذا، وتوفيت؛ فزوّجه خاله ابنته الثانية واسمها

ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

سروريّة «1» ، فولدت له ولدين: دانا ونفتالى «2» ؛ ثم توفّيت، فزوّجه الثالثة فأولدها ذكرين يساخر «3» وزبولون، وماتت؛ فزوّجه ابنته الرابعة، واسمها راحيل- وكانت أحسن بناته- وذلك بعد أن استكمل يعقوب من عمره أربعين سنة، فجاءه الوحى يومئذ وهو بحرّان وقد ماتت أمّه. ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال: ولما أتاه الوحى أقبل على خاله لابان، وشكره على فعله، وقال: إن ربّى بعثنى رسولا إلى أرض كنعان. فزوّده بخيل وغنم وبقر وغير ذلك، وقال: امض لما أمرك به ربّك. فخرج يعقوب ومعه أولاده العشرة «4» وامرأته يريد أرض كنعان، فبلغ خبر نبوّته أخاه العيص، فغضب لذلك، وعارضه فى طريقه بجموعه؛ فراسله يعقوب مع ابنه روبيل، وذكّره الأخوّة والرحم، فزبر «5» روبيل وردّه؛ ثم التقيا، فظفّر الله يعقوب بالعيص بقوّة النبوّة، فاحتمله وألقاه على الأرض وجلس على صدره، وقال له: كيف رأيت صنع الله بك يا عيص؟ ثم رقّ له وقام عن صدره واعتنقه، فاعترف العيص بفضله عليه، وسأله أن يعفو عمّا سلف منه فى حقّه؛ فاستغفر له يعقوب ودعا له، وانصرف العيص إلى بلده، وأقبل يعقوب

الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

إلى أرض كنعان، فبنيت له دار متّسعة، سكنها بأهله وأولاده، وكان بأرض كنعان ملك يقال له: سحيم، فدعاه يعقوب إلى الإيمان بالله، فلم يكترث به قال: فإنّى مجاهدك. قال: بمن تجاهدنى وليس معك أحد؟ قال: أجاهدك بالله وملائكته وهؤلاء أولادى. وأقبل يعقوب بأولاده والملك فى حصنه، فقال: يا بنىّ، جاهدوا فى الله حقّ جهاده. فقال ابنه شمعون: أنا أكفيك هذا الحصن. وأقبل وضرب باب الحصن برجله فتساقطت حيطانه، وصاح صيحة عظيمة فمات الملك وأكثر من بالحصن. ودخل يعقوب الحصن، وغنم ما كان فيه؛ فكانت هذه معجزة ليعقوب، وبلغ ذلك أهل كنعان، فوقع الرعب فى قلوبهم، فآمنوا بيعقوب- عليه السلام-. الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهذه القصة تدخل فيها بقيّة أخبار يعقوب وما كان من أمره ووفاته وخبر الأسباط أولاده. ذكر خبر ميلاد يوسف- عليه السلام- قال: ولمّا رجع يعقوب من غزاته دخل على امرأته راحيل فواقعها فحملت بيوسف وببنيامين أخيه، فوضعتهما، فجاء يوسف كالقمر، فربّته أمّه حتى صار عمره سنتين، وماتت أمه؛ فلمّا بلغ عمره عشر سنين أمر يعقوب بجذعة من غنمه، فذبحت، وصنعت طعاما، وجمع أولاده على الطعام يأكلون، فأقبل

ذكر رؤيا يوسف - عليه السلام - وكيد إخوته له

مسكين وسأل وأكثر السؤال، واشتغل يعقوب عنه ولم يأمرهم بإطعامه، حتى انصرف السائل. فلما فرغ يعقوب من أكله قال: أعطيتم السائل شيئا؟ فقالوا: إنك لم تأمرنا بشىء. فجاءه الوحى: يا يعقوب، قد جاءك مؤمن فقير مريض شمّ رائحة طعامك فلم تطعمه، وأحرقت قلبه، فلأحرقنّ قلبك. فاغتم يعقوب. ذكر رؤيا يوسف- عليه السلام- وكيد إخوته له قال: ولما بلغ اثنتى عشرة سنة رأى رؤياه وقصّها على أبيه. قال الله تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ إلى قوله: عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قال: فسمع إخوته الرؤيا، فداخلهم الحسد، وقالوا ما أخبر الله به عنهم: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قال: فاتفقوا وجاءوا إلى أبيهم، فقالوا: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ . فقال لهم يعقوب: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ.

قال: وأحبّ يوسف ذلك، فدعا يعقوب بسلّة فيها طعام وكوز ماء، وقال: إذا جاع فأطعموه من هذا الطعام، وإذا عطش فاسقوه؛ وأخذ عليهم العهود بردّه وشيّعهم بنفسه، وجلس على تلّ عال ينظر إليهم حتى غابوا عنه؛ فندم على إرساله ثم رجع إلى منزله؛ وجعل إخوة يوسف يمنعون فى السير، وهو يمشى وراءهم ولا يلحقهم، ويناديهم: «قفوا لى» . فلم يقفوا. ويقول: «اسقونى» . فلم يسقوه؛ وكسر شمعون الكوز وقال: قل لأحلامك الكاذبة حتى تسقيك. ورمى (لاوى) سلّة الطعام فى الوادى؛ فعلم يوسف أنهم قد عزموا على أمر، فناداهم وناشدهم الله والرحم، وذكّرهم بعهود أبيه، فلطمه أحدهم فأكبّه؛ وساروا ويوسف يعدو وراءهم حتى بلغوا موضع أغنامهم، فأرادوا قتله؛ فقال لهم يهوذا: إن قتلتموه حلّ بكم ما حلّ بقابيل حين قتل أخاه. فأجمعوا أن يجعلوه فى غيابت الجب وطلبوا له جبّا عميقا فوجدوه، فجرّوه إليه وهو يبكى، وقال لهم يهوذا: يا بنى يعقوب لقد ذهبت الرحمة من قلوبكم. قالوا: فنردّه إلى أبيه فيحدّثه بما فعلناه به؟ قال: فإن طرحتموه فى الجبّ لا يبلغ قعره حتى يموت، ولكن دلّوه بحبل. ولم يكن معهم حبل، فذبحوا شاة، وقدّوا جلدها كالحبل، ودلّوه به؛ فلما نزل إلى الجبّ امتلأ نورا، وأتاه جبريل وقال له: لا تخف فإنّ الله معك. وكان فى الجبّ حجر عظيم، فسطّحه جبريل بجناحه فصار كالطبق وأجلسه فيه، وأتاه بطعام من الجنّة فأكل، وأتاه بقميص فلبسه، وبفراش من الجنة، وآنسته الملائكة فى الجبّ. قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.

ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب

قال: ثم قالوا: ماذا نقول لأبينا؟ قال بعضهم: إنّه كان يخاف عليه من الذئب، فنقول: إن الذئب أكله. فعمدوا إلى جدى فذبحوه على قميصه، وألصقوا بالدم شيئا من شعر الجدى، ورجعوا إلى أبيهم. ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب قال: ولمّا قربوا من عريش يعقوب أخذوا فى البكاء والعويل، فرأتهم ابنة يعقوب، فنزلت إلى أبيها باكية، وقالت: رأيت إخوتى متفرّقين يبكون، وروبيل يقول: «يا يوسف يا يوسف» . فصاح يعقوب، وخرّ على وجهه؛ فدخلوا عليه وقالوا: يا أبانا، جلت المصيبة وعظمت الرزيّة إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ قال الله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وأخذ يعقوب القميص. ونظر إليه فلم ير فيه أثر خدش فقال: يا بنىّ، ما للذئب وأكل أولاد الأنبياء؟ وأخذ يبكى؛ ثم قال: اخرجوا فى طلب هذا الذئب، وإلّا دعوت عليكم فتهلكوا. فخرجوا فأخذوا ذئبا عظيما وجعلوا يضربونه ويجرّونه، حتى جاءوا به إلى أبيهم، فقال: كيف عرفتموه؟ قالوا: لأنه ذئب كبير، وكان يتعرّض لنا فى غنمنا. ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب فقال يعقوب: سبحان من لو شاء لأنطقك بحجّتك. فنطق الذئب وقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، يا نبىّ الله، إنى ذئب غريب، فقدت ولدا لى فجئت فى طلبه حتى بلغت بلدك، فأخذنى هؤلاء وضربونى وكذبوا علىّ؛ والذى أنطقنى ما أكلت ولدك، وكيف يأكل الذئب أولاد الأنبياء؟ فأطلقه يعقوب.

ذكر خبر خروج يوسف من الجب وبيعه من مالك بن دعر

ذكر خبر خروج يوسف من الجبّ وبيعه من مالك بن دعر قال: وأقبل قوم من بلاد اليمن يريدون أرض مصر، فخرج بعضهم فى طلب الماء، فرأى نورا يسطع من البئر، فأدلى دلوه، فتعلّق به يوسف، فآجتذبه، فنظر اليه فرآه، فقال للّذى كان معه: يا بُشْرى هذا غُلامٌ . فأخرجوه. قيل: وذلك فى اليوم الرابع من إلقائه فى الجبّ، وكان إخوته على رأس جبل فنظروا إلى اجتماع القافلة على الجبّ، فعدوا إليهم، وقالوا: هذا عبد لنا أبق منذ أيام، ونحن فى طلبه، فإن أردتم بعناه منكم. ثم قالوا ليوسف بالعبرانية: إن أنكرت العبوديّة انتزعناك من أيديهم وقتلناك. فسأله أهل القافلة فقال: «إنى عبد» ، أراد لله. وكان رئيس القافلة مالك بن دعر، فاشتراه منهم بأقل من عشرين درهما. قيل: تنقص درهما. وقيل: تزيد درهمين. وقيل: اشتراه بأربعين درهما والله أعلم. فاقتسموها بينهم. قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ثم قالوا لمالك: هذا عبد آبق سارق، قيّده حتى لا يهرب منك ولا يسرق. فقيده وأركبه ناقة، وكتب يهوذا كتاب البيع، وساروا حتى بلغت القافلة قبر أمّ يوسف، فلم يتمالك أن رمى بنفسه على القبر وبكى؛ فافتقدوه فلم يروه، فبعثوا فى طلبه، فوجدوه وقد اتكأ على القبر؛ فلطمه واحد منهم، وقالوا: هلّا كان هذا البكاء قبل اليوم حتى كنّا لا نشتريك؟ وساروا به حتى دخلوا مصر، فغيّر مالك لباس يوسف، وعبر به، فاجتمع الناس على القافلة، ورأوا يوسف فعجبوا لحسنه وجماله.

ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر

ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر قال: وواعدوا مالكا على بيعه بباب الملك ريّان بن الوليد، فزيّن يوسف بأحسن زينة، وأقعده على كرسىّ، وأقبل عزيز مصر واسمه قطفير «1» ، واجتمع التجار وقام الدلّال ونادى عليه؛ فبكى يوسف، وتزايد القوم حتى بلغ يوسف مالا لا يحصى كثرة؛ واستقرّ بيعه من قطفير، وأحضر الأموال. وقد اختلف الرّواة فى كميّة الثمن، فمنهم من لم يحدّه، بل قال: مالا كثيرا. ومنهم من قال: إنّ عزيز مصر تلقّى القافلة، واشتراه من مالك بن دعر بعشرين دينارا، ونعلين، وثوبين أبيضين. وقد عزى هذا القول إلى ابن عبّاس- رضى الله عنهما-. وروى عن وهب بن منبّه أنه أقيم فى السوق، وتزايد الناس فى ثمنه، فبلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا؛ فابتاعه العزيز بهذا الثمن. نرجع إلى سياق الكسائىّ: قال: فوقف عليه رجل من بلاد كنعان على ناقة، فمدّت عنقها، وجعلت تشمّ يوسف، فسأل يوسف صاحب الناقة بالعبرانيّة: من هو؟ فأخبره أنه من أرض كنعان؛ فقال له: اقرئ يعقوب سلامى اذا رجعت، وصف له صفتى. فلمّا عاد الكنعانىّ أخبر يعقوب بذلك؛ فقال يعقوب: سلنى حاجة بهذه البشارة. قال: ادع لى أن الله يكثر ولدى ومالى. فقال: اللهمّ أكثر ولده وماله وأدخله الجنة.

ذكر خبر يوسف وزليخا

قال: ثم دنا مالك «1» من يوسف فقال له: أنا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم الخليل؛ وأخبره بخبر إخوته. فصاح مالك وقال: والله ما علمت فاستغفر لى فإنى من أولاد مدين بن إبراهيم. فبكى يوسف، وقال له مالك: أسألك أن تدعو الله يرزقنى ولدا. فدعا الله فرزقه أربعة وعشرين ولدا؛ وعاش مالك حتى رأى يوسف وهو عزيز مصر. قال: ودخل قطفير منزله ويوسف معه، فرأته زليخا- وكانت أحسن نساء زمانها- فقال لها زوجها قطفير: قد اشتريت هذا الغلام لنتّخذه ولدا فإنا لم نرزق ولدا. قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. ذكر خبر يوسف وزليخا قال: ولمّا رأته زليخا عجبت لحسنه، ولا طفته، وقالت: لا ينبغى لمثلك أن يباع عبدا. ويوسف ساكت؛ وكان لا يأكل من ذبائحهم، فقالت له: لم لا تأكل من ذبيحتنا وتقبل كرامتنا ولى هذا البستان أريد أن تحفظه. فقال يوسف: أفعل ذلك. فكان يوسف يتعاهده حتى عمر ببركته، وهو يأكل من نباته، فوقعت محبّته فى قلب زليخا، فكتمت ذلك حتى كاد يظهر عليها، فأتتها دايتها، وقالت: يا سيدة نساء مصر، اخبرينى بقصّتك. فذكرت ما بها من حبّ يوسف؛ فأمرتها أن تتزيّن بأحسن زينتها؛ ففعلت، وجلست على سرير وأحضرت يوسف، فوقف بين يديها وهو لا يعلم ما يراد منه؛ وأغلقت الداية أبواب المجلس من خارج؛ فعلم عند ذلك مراد زليخا- وكان عمره ثمان عشرة سنة-؛ قال

الله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. قال: فرمت بتاجها وهمت به. قال الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ. قالوا: همّ بضربها. وقيل: بردعها. وقيل: لما حصل عنده من الهمّ. ولا تعويل على ما نقله أهل التاريخ: أنّه همّ بها كما همّت به. قالوا: وكان البرهان الذى رآه أنه سمع صوتا من ورائه، فالتفت، فرأى صورة يعقوب وهو عاضّ على يديه يقول: «الله الله يا يوسف» . وقيل: خرجت كفّ من الحائط مكتوب عليها: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ؛ ثم انصرفت الكفّ وعادت زليخا لمراودته، فخرجت الكف ثانية مكتوب عليها: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ثم عادت فخرجت الكف ثالثة وعليها مكتوب: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ. قال: فلمّا نظر يوسف إلى البرهان، بادر إلى الباب؛ فعدت زليخا خلفه فلحقته عند الباب، فجذبت قميصه فقدّته من دبر؛ وإذا قطفير قد أقبل. قال الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. قال: فلمّا نظرت زليخا إليه لطمت وجهها، وقالت: أيّها العزيز، هذا يوسف الّذى اتخذناه ولدا دخل يراودنى عن نفسى. ثم قالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فهمّ قطفير أن يضرب يوسف بسيف، فأنجاه الله منه؛

ذكر خبر النسوة اللاتى قطعن أيديهن

وكان فى المجلس صغير ابن شهرين- وهو ابن داية زليخا- فتكلّم بإذن الله وقال: لا تعجل يا قطفير، أنا سمعت تخريق الثوب. قال الله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثم لم ينطق الصبىّ بعد ذلك حتى بلغ حدّ النطق، وهذا الصبىّ أحد من تكلّم فى المهد. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ؛ وأقبل على يوسف وقال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث لا يسمعه أحد. وقال لزليخا: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ. وخرج قطفير من منزله، وعادت زليخا لمراودته؛ فامتنع عليها. ذكر خبر النسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ قال: وفشا فى المدينة، وشاع عند نساء الأكابر خبرها، فعتبنها عليه، وهو قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فلمّا بلغها ذلك من قولهنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً. قال: استدعت امرأة الكاتب والوزير وصاحب الخراج وصاحب الديوان. وقيل: إنّ النساء اللاتى تكلّمن فى أمر زليخا امرأة الساقى وامرأة الخباز وامرأة صاحب الديوان وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب؛ والله أعلم. قيل: إنها قدّمت إليهنّ صوانىّ الأترج وصحاف العسل: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وزيّنت يوسف، وقالت: إنّك عصيتنى فيما مضى، فإذا دعوتك الآن فاخرج. فأجابها إلى ذلك؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ

إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قال: كنّ يأكلن الأترجّ بالسّكاكين فنالهنّ من الدهش والحيرة ما قطّعن أيديهنّ «1» وتلوّثت بالدماء ولم يشعرن؛ فقالت لهنّ زليخا ما حكاه الله عنها: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ. وقيل: إنّ النساء خلون به ليعدّلنه «2» لها، فراودته كلّ واحدة منهنّ عن نفسه لنفسها، ثم انصرفن إلى منازلهنّ. ثم دعته زليخا وراودته، وتوعّدته بالسجن إن لم يفعل؛ فقال يوسف ما أخبر الله به عنه: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. قال: فلمّا أيست زليخا منه مضت إلى الملك ريّان بن الوليد- وكانت لا تردّ عنه- فقالت: إنّى اشتريت عبدا، وقد استعصى علىّ، ولا ينفع فيه الضرب والتوبيخ، وأريد أن أحبسه مع العصاة. فأمر الملك بحبسه، وأن يفرج عنه متى اختارت؛ فأمرت السجّان أن يضيّق عليه فى محبسه ومأكله ومشربه؛ ففعل ذلك؛ فأنكره العزيز، وأمر أن ينقل إلى أجود أماكن السجن، ويفكّ قيده، وقال له: لولا أن زليخا تستوحش من إخراجك لأخرجتك، ولكن اصبر حتى ترضى عنك ويطيب قلبها.

ذكر إلهام يوسف - عليه السلام - التعبير

ذكر إلهام يوسف- عليه السلام- التعبير ونزل جبريل على يوسف- عليه السلام- وبشّره أنّ الله قد ألهمه تعبير الرؤيا فعرفه بإذن الله عزّ وجلّ، وأنبت الله له شجرة فى محبسه يخرج منها ما يشتهيه. ذكر خبر الخبّاز والساقى قال: وغضب الملك ريّان بن الوليد على ساقيه شرهيا، وصاحب مطبخه شرها «1» ، فأمر بحبسهما، فحبسا فى السجن الذى فيه يوسف، فرأى الساقى رؤيا فسأل أهل السجن عن تأويلها، فدلّوه على يوسف؛ فأتاه وقال: قد رأيت رؤيا. فقال له يوسف: قصّها. فقال: رأيت كأنّى فى بستان فيه كرمة حسنة؛ وفيها عناقيد سود؛ فقطعت منها ثلاث عناقيد وعصرتها فى كأس الملك، ورأيت الملك على سريره فى بستانه، فناولته الكأس فشربه، وانتبهت. فقال صاحب المطبخ: وأنا رأيت مثل هذه الرؤيا، رأيت كأنى أخبز فى ثلاثة تنانير: أحمر وأسود وأصفر، ورأيت كأنّى أحمل ذلك الخبز فى ثلاث سلال إلى دار الملك، وإذا بطائر على رأسى يقول لى: قف فإنّى طائر من طيور السماء. ثم سقط على رأسى فجعل يأكل من ذلك الخبز، والناس ينظرون إليه وإلىّ، وانتبهت فزعا. فقال يوسف: بئسما رأيت. ثم قال للساقى: إنّك تقيم فى السجن ثلاثة أيّام ويخرجك الملك فيسلّم إليك خزانته، وتكون ساقيه وصاحب خزانته. وأنت يا خباز بعد ثلاثة أيام تضرب رقبتك وتصلب وتأكل الطير من رأسك. فقال الخباز: إنى لم أرشيئا، وإنّما وضعت رؤياى هذه. فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.

ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته

ثم قال يوسف للساقى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وأعلمه أنّى محبوس ظلما. فقال له: ما أبقى جهدا. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام كان من أمر السّاقى والخباز ما قاله لهما يوسف. ثم هبط جبريل على يوسف وقال: إن الله يقول لك: نسيت نعمائى عليك فقلت للساقى يذكرك عند ربه، وهما كافران، فأنزلت حاجتك بمن كفر بنعمتى وعبد الأصنام دونى. قال الله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ. قيل: الذى أنساه الشيطان ذكر ربه هو الساقى، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وهو يبكى ويستغفر ويتضرع إلى الله؛ فأوحى الله إليه: أنى قد غفرت لك ذنبك، وأنه سيخرجك من السجن، ويجمع بينك وبين أبيك وإخوتك وتصدق رؤياك. فخرّ ساجدا لله تعالى. ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته قال: وقدّر الله عزّ وجلّ أن الملك- وهو الريّان بن الوليد بن ثروان بن أواسة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن نوح عليه السلام- رأى فى تلك الليلة رؤيا هالته؛ فدعا بالمعبّرين، فقالوا: إن هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ . فغضب الملك وقطع أرزاقهم؛ وذكّر الله الساقى؛ قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فتقدّم إلى الملك وذكر له خبر يوسف- وكان بين المدّتين «1» سبع سنين وسبعة

أشهر- فأرسله الملك إليه وقال: أخبره برؤياى وأتنى بتأويلها. فأقبل الساقى إلى السجن واجتمع بيوسف، واعتذر له، وأخبره برؤيا الملك، وقال: هل عندك تعبير ذلك؟ قال: لا أفعل حتى ترجع إلى الملك وتسأله ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ؛ فرجع الساقى إلى الملك وأخبره. فاستدعى النسوة، فأتى بمن كان يعيش منهن، فقال الملك: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . فلما قلن ذلك قال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ؛ فلمّا دخل عليه أجلسه معه على السرير، وسأله عن اسمه ونسبه، فانتسب له، وذكر قصّته مع إخوته؛ فقال له الملك: قد سمعت ما رأيت فى منامى. ثم قصّها عليه، فقال: رأيت سبع بقرات سمان فى نهاية الحسن، ولكل بقرة قرون كبيرة، فحملتنى واحدة على قرنيها، فجعلت أصير من بقرة إلى بقرة حتّى طفت على الجميع؛ فبينما أنا كذلك وإذا بسبع بقرات عجاف مهازيل، فعمدت فأكلت كلّ واحدة من المهازيل واحدة من السمان، وبقيت الّتى أنا على قرنيها فلمّا تقدّمت المهزولة لأكلها، رمتنى عن قرنيها، فأكلتها المهزولة؛ ثم صار للمهازيل أجنحة، فطارت ثلاث نحو المشرق وثلاث نحو المغرب، وبقيت هناك واحدة؛ فبينما أنا كذلك وإذا أنا بسبع سنبلات فى نهاية الخضرة خرجن من ذلك الوادى، ثم لاحت فيهن سبع سنبلات يابسات، فآلتففن على الخضر حتى غلبن على خضرتهن، وإذا بملك قد أقبل وقال: يا ريّان. خذ هذا الرجل فأقعده على سريرك، فإنّه لا يصلح ما رأيت إلّا على يديه؛ فهذا ما رأيت. فقال يوسف: أما السبع بقرات السمان فهى سبع سنين يكون فيها زرع وخصب فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ فإنّه أبقى له.

وأما البقرات العجاف، فإنّها سبع سنين فيها قحط وضيق، فتأكل ما حصدتم فى سنين الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ فى بيوتكم. وأما السنابل الخضر، فهى سنو الخصب، واليابسة سنو الجوع، والرجل الذى قال لك؛ أقعده على سريرك، فيكون صلاح ذلك على يديه فأنا هو؛ وقد أمرك ربى بهذا؛ فهذا تأويل رؤياك. قال: فقال له ريّان: أشر علىّ الآن بمن أقدّمه فى هذا الأمر. فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. قال: كيف يتهيّأ لك وأنت رجل عبرانىّ لا تعرف لغة أهل مصر؟ فقال: إنّ الله ألهمنى جميع هذه الألسنة يوم دخلت مصر. فنزع الملك خاتمه، وجعله فى اصبع يوسف، وقال لأصحابه: هذا عزيز مصر وخليفتى، فآسمعوا له وأطيعوا. قال الثعلبىّ: قال أهل الكتاب: لما تمت ليوسف فى الأرض ثلاثون سنة استوزره فرعون مصر. وكان مرادهم- والله أعلم- أنه لما استكمل ثلاثين سنة من عمره. وحكى الثعلبىّ أن الملك عزل العزيز وولّى يوسف، ثم هلك العزيز عن قريب وكان يوسف يوم قضائه تضرب له قبّة من الديباج يجلس فيها للحكومة بين الناس وبقيّة الأيام يدور فى عمله ويأمر بالزراعة والحرث وعمر البيوت لخزن الحبوب بسنابلها، حتى ملأها، وخزن الأتبان حتى انقضت سنو الخصب ودخلت سنو القحط، فنهى عن الزراعة فيها لعلمه أن الأرض لا تثمر فيها شيئا؛ فأكلوا ما عندهم حتى نفد؛ فالتجأوا إلى الملك، فقال الملك: عليكم بالعزيز فإن فى يده خزائن الطعام. فجاءوه، فباعهم فى السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفى السنة الثانية بالحلىّ

ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها

والجواهر، وفى الثالثة بالأراضى والعقار، وفى الرابعة بالإماء والعبيد، وفى الخامسة بأولادهم، وفى السنة السادسة بأنفسهم، حتى صاروا ملكا له وعبيدا، وأطعمهم فى السنة السابعة لأنهم صاروا عبيده وإماءه؛ والله أعلم. ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها يقال: إن زليخا أصابها من الحاجة ما أصاب غيرها. وابتاعت الطعام بجميع ما لها، وبقيت منفردة، فلم تجد بدّا من التعرّض ليوسف، فقعدت على طريقه وإذا هو قد أقبل فى مواكب عظيمة، فقامت وقالت: يا يوسف، سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذّل السادات بالمعصية، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك من أولاد النبييّن. فسألها يوسف. من أنت؟ فقالت: زليخا؛ وبكت وذكرت حاجتها إلى الطعام؛ فصرفها إلى منزلها، وردّ عليها أملاكها وأموالها، وبعث لها بمال جزيل وطعام كثير؛ ثم استأذن الله تعالى فى زواجها؛ فإذن له؛ فتزوّجها، وردّ الله عليها حسنها وجمالها؛ فلمّا دخل عليها وجدها بكرا؛ فعجب من ذلك؛ فقالت: يا نبىّ الله «والذى هدانى إلى دينك ما مسّنى ذكر قطّ، وما قدر علىّ العزيز» . فيقال: إنه رزق منها عشرة أولاد فى خمسة أبطن. وقد حكى الثعلبىّ أنّ العزيز قطفير لمّا هلك بعد عزله زوّج الملك يوسف بامرأته زليخا، وسماها الثعلبىّ فى كتابه: «راعيل» . قال: وانتشر القحط حتى بلغ أرض كنعان؛ فقال يعقوب لبنيه: يا بنىّ، إنكم ترون ما نحن فيه من الضّر، وقد بلغنى أنّ عزيز مصر تقصده الناس فيمتارون منه

ذكر دخول إخوة يوسف - عليه السلام - فى المرة الأولى

ويحسن إليهم، وأنه مؤمن بإله إبراهيم، فاحملوا ما عندكم من البضاعة وتوجهوا إليه. ففعلوا ذلك وساروا. قال: وأقبل مالك بن دعر على يوسف ومعه أولاده، وهم أربعة وعشرون ولدا، كلّهم ذكور، فوقف بين يديه وحيّاه بتحيّة الملك، وقال: أيّها العزيز أتعرفنى؟ قال: إنّى أشبّهك برجل حملنى إلى هاهنا. قال: أنا هو. فقرّبه وسأله عن الفتية، فقال: هم أولادى رزقتهم ببركة دعائك. فكساه وكساهم، وكفاهم من الطعام؛ وسأله: هل مرّ بأرض كنعان؟ قال: نعم وإنّهم لفى جهد، وقد رأيت الذين باعوك منّى مقبلين عليك يريدون أن يمتاروا. ففرح يوسف. ذكر دخول إخوة يوسف- عليه السلام- فى المرّة الأولى قال: وأقبل إخوة يوسف فدخلوا مصر ليلا، وأناخوا رواحلهم بباب قصر أخيهم؛ فأشرف عليهم وقال: من أنتم؟ قالوا: نحن أولاد يعقوب النبىّ، قدمنا من أرض كنعان لنشترى القوت. فسكت، وأمر بتزيين قصره؛ وبات إخوته على الباب. وأصبح يوسف فجلس على السرير، وتتوّج وتمنطق وتطوّق؛ ثم امر بإخوته؛ فدخلوا عليه- وهم عشرة، وتأخر عنهم بنيامين عند أبيه-. قال الله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. فسلّموا عليه، وحيّوه بتحيّة الملوك؛ فردّ عليهم وقال لهم: إنكم أولاد يعقوب النبىّ، فكيف لى بصدقكم؟ فقال له روبيل: نحن نأتيك بأخينا الّذى عند أبينا يخبرك بمثل ما أخبرناك به. فأمر بأخذ بضاعتهم، وأن يكال لهم الطعام بقدر كفايتهم.

ثم قال لأعوانه: اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم. قال الله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ* وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فوضعت فى رحل يهوذا؛ ثم سار القوم حتى أتوا إلى أرض كنعان، فدخلوا على أبيهم؛ فسألهم عن حالهم وما كان من أمرهم؛ وفتحوا رحالهم، فوجدوا بضاعتهم ردّت إليهم؛ فدخلوا على أبيهم وقالوا: يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا. فقال: إنّ هذا الطعام حرام عليكم إلّا أن تؤدّوا ثمنه. فقالوا: كيف نرجع إليه وقد ضمنّا له أن نأتيه بأخينا بنيامين؟ ثم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فقال له يهوذا يا أبانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير* قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقا من الله لتأتنّنى به إلّا أن يحاط بكم فلمّا آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل. ودعا يعقوب بقميص يوسف الّذى وردوا به عليه بالدم، فألبسه بنيامين وودّعهم وقال يا نبىّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلّا لله عليه توكّلت وعليه فليتوكّل المتوكّلون؛ ثم ساروا.

ذكر خبر دخولهم عليه فى المرة الثانية

ذكر خبر دخولهم عليه فى المرّة الثانية قال: فلمّا بلغوا مصر ودخلوا على يوسف قرّبهم، ونظر إلى أخيه بنيامين وأدناه وأجلسه بين يديه. قال الله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ. ثم قال له: أرى كلّ واحد من هؤلاء مع أخيه، فما بالك منفردا؟ فقال: أيّها العزيز، كان لى أخ، ولا أدرى ما أصابه، غير أنّه خرج مع هؤلاء الإخوة إلى الغنم، فذكروا أنّ الذئب أكله، وردّوا قميصه هذا الّذى علىّ وهو ملطّخ بالدم. فقال لهم يوسف: يا أولاد يعقوب، إنّ فيكم من يصيح بالأسد فيخرّ ميتا ومن يأخذ برجل الذئب فيشقّه اثنين، وفيكم من يقتلع الشجرة من أصلها، وفيكم من يعدو مع الفرس فيسبقه. قالوا: نعم أيها العزيز. فقال: سوءة لكم ولقوّتكم إذ يعدو الذئب على أخيكم فيأكله. فقالوا: إذا جاء القضاء ذهبت القوى. فسكت يوسف، ثم أمر لهم بخمس موائد، وأمر كلّ اثنين منهم أن يجلسا على مائدة؛ ثم وضعت أخرى بين يدى بنيامين، فبكى؛ فقال له: ما يبكيك؟ قال: أيّها العزيز، إخوتى يأكلون كلّ واحد مع أخيه، وأنا وحدى، ولو كان أخى يوسف باقيا أكل معى. فقال يوسف: يا فتى، أنا لك كالأخ، ثم نزل عن السرير وأكل معه. فلمّا فرغوا من الأكل جعل يوسف يسألهم عن أرض كنعان وهم يخبرونه. ثم خرج صبىّ من القصر يتثنّى، فنظر إليه بنيامين وبكى؛ فقال له يوسف: ممّ بكيت؟ قال: هذا الصبىّ يشبه أخى يوسف، فبكيت لأجله.

فقال يوسف: هل فيكم من حزن على يوسف؟ قالوا: نعم، كلّنا حزنّا عليه وبنيامين أشدّ منّا حزنا. ثم قال: فما الّذى حملتم من البضاعة؟ قالوا: لم نحمل شيئا، لأنه لم يكن لنا شىء، غير أنا رددنا عليك البضاعة التى وجدناها فى رحالنا، لأنها ثمن الطعام الّذى حملناه من عندك. فأمر أن يعطوا من الطعام ما تحمله إبلهم، وأمر غلمانه أن يجعلوا الصّواع فى رحل بنيامين؛ فكانوا يكيلون وإخوة يوسف يخيطون الأعدال، حتى فرغوا. ورحل إخوة يوسف وهم لا يشعرون بالصّواع. وقال الثعلبىّ: كانت السقاية مشربة يشرب فيها الملك، وكانت كأسا من ذهب مكلّلة بالجوهر، جعلها يوسف مكيالا يكال بها. قال الله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فعند ذلك أمر يوسف أن تفتّش رحالهم. قال الله تعالى فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الآية. قال: فلما نظروا ذلك ضربوا بأيديهم على جباههم، وقالوا: ثكلتك أمّك فضحتنا يا بنيامين. قال: إنى لم أفعل ذلك. قالوا: من وضعه فى رحلك؟

قال: الّذى جعل البضاعة فى رحالكم. فسكتوا، ثم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شرّ مكانا والله أعلم بما تصفون. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى السرقة التى وصف بها يوسف، فقال سعيد وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبى أمّه وكان من ذهب، فكسره وألقاه فى الطريق. وقال ابن جريج: أمرته أمّه- وكانت مسلمة- أن يسرق صنما لخاله كان يعبده. وقال مجاهد: جاء سائل يوما، فسرق يوسف بيضة من البيت. وقال ابن عيينة: دجاجة، فناولها السائل، فعيّروه. وقال وهب: كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء. وقال الضحاك وغيره: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء أن عمّته بنت إسحاق كانت أكبر ولد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت، فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا فكانت لا تصبر عنه؛ فلما ترعرع وبلغ سنيّات وقع حبّه فى قلب يعقوب؛ فأتاها وقال: يا أختاه سلّمى إلىّ يوسف، فو الله ما أصبر عنه ساعة واحدة. فقالت: ما أنا بتاركته. فلما غلبها يعقوب قالت: فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه. ففعل ذلك يعقوب؛ فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق

فانظروا من أخذها. فالتمست فلم توجد؛ فقالت: اكشفوا أهل البيت. فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف؛ فقالت: والله إنّه ليسلّم لى أصنع فيه ما شئت- وكان ذلك حكم آل إبراهيم فى السارق- فأتاها يعقوب، فأخبرته بذلك؛ فقال: إن كان فعل ذلك فهو يسلّم إليك، ما أستطيع غير ذلك. فأمسكته بعلّة المنطقة، فما قدر يعقوب عليه حتى ماتت، فهو الذى قال له إخوته: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ* فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا أى يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. قال: ثم تشاوروا فقالوا: إن هذا الملك وأهل مصر كفرة يعبدون الأصنام فتعالوا نتظاهر عليهم. قال روبيل: أنا أكفيكم الملك وأعوانه. وقال شمعون: أنا أكفيكم أمر العزيز وأعوانه. وقال يهوذا: أنا أكفيكم الأسواق. فعلم يوسف بذلك، فأحضرهم وقال: يا بنى يعقوب، ما الّذى غرّكم منّى؟ أحسنت إليكم مرّة بعد مرّة، وتفضّلت عليكم، وجنى أخوكم جناية فتشاورتم فى هلاك المدينة وأهلها، أتظنون أن هذه القوّة لكم دون غيركم؟ ثم ضرب برجله

السّدّة التى كان عليها فطحطحها وكسر صفائح رخامها؛ ثم قال: لولا أنكم من أولاد الأنبياء لصحت بكم صيحة تخرّون على أذقانكم. قال: وكان يهوذا قد عزم على أن يفعل شيئا، وكان على كتفه شعرة إذا غضب خرجت من جبّته فيقطر منها الدم، ثم يصيح صيحة فلا يسمعها أحد إلّا سقط مغشيّا عليه؛ وكان لا يسكن غضبه إلا أن يمسّه أحد من آل يعقوب؛ فدعا يوسف بابنه منسّا وقال: اذهب الى ذلك الكهل فمسّه بيدك، وتنحّ عنه من حيث لا يشعر بك. ففعل ذلك، فسكن غضبه؛ فقال يهوذا لإخوته: من الذى مسّنى منكم فقد سكن غضبى. قالوا: لم يمسّك غير ذاك الصبىّ. فقال: والله لقد مسّتنى يد من آل يعقوب. فلمّا عسر عليهم ما عزموا عليه، عزموا على العود إلى أبيهم، وتركوا روبيل عند بنيامين. قال: فلمّا انصرفوا دخل يوسف إلى منزله وأحضر بنيامين، وقال: أتعرفنى؟ قال: نعم، أنت العزيز، والله ما سرقت، فلا تعجل علىّ، فإنك موصوف بالإحسان. فضمّه يوسف إلى صدره، وقال له: أنا أخوك يوسف. ثم كساه وسأله عن أبيه، فأخبره بما يقاسيه من أجله. قال: ورجع إخوة يوسف إلى أبيهم فذكروا ما كان من خبر بنيامين، وأن روبيل أقام عنده. قال: وكيف يسرق ولدى وهو من الذرّيّة الطيّبة؟ فقالوا له: واسأل القرية الّتى كنّا فيها والعير الّتى أقبلنا فيها وإنّا لصادقون* قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنّه هو العليم الحكيم* وتولّى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم إلى قوله: ما لا تعلمون.

ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة

قال: وأخذ فى البكاء حتى ضجر منه جيرانه، فأوحى الله إليه: أن كفّ عن بكائك فإنّى سأردّ عليك بصرك، وأجمع بينك وبين ولدك. فسكن وهدأ، ثم قال لبنيه: احملوا كتابى إلى العزيز. ودعا بابنته (دينة) وقال لها: اكتبى، بآسم إله إبراهيم، من يعقوب إلى عزيز مصر، إن الله أكرمنى بولد كان أحبّ أولادى إلىّ وقد فقدته وبكيت عليه حتى عميت، وكنت آنس بأخيه بنيامين الّذى حبسته عندك؛ وعجبت من أمر الصّواع؛ فإن أولاد الأنبياء لا يفعلون ذلك، وإنه مكذوب عليه؛ فإذا أتاك كتابى هذا فتفضّل علىّ بولدى وردّه علىّ فإنى أدعو الله أن يزيدك فضلا وكرامة. وسلّم الكتاب اليهم، وقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ الآية. ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة قال: وساروا حتى دخلوا مصر، فاستقبلهم روبيل ودخل معهم، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ؛ وناولوه الكتاب؛ فقبّله وقرأه، ثم قال لهم: لو كنتم حملتم إلىّ هذا الكتاب قبل اليوم دفعته لكم، ولكنّى قد ألقيت حديثه إلى الملك، وأنا أكلّمه فيه. ذكر خبر حديث الصاع قال: ثم أمر يوسف بإحضار الصاع بين يديه وقال: اجتمعوا حتى أسأل هذا الصاع عنكم. فنقر الصاع فطنّ، فقال: يا بنى يعقوب، إنّ هذا الصاع يقول: إنكم تشهدون بالزور؛ وإنكم كذبتم فى قولكم: إن الذئب اكل أخاكم.

قالوا: ما شهدنا بالزور قط، وما قلنا فى يوسف إلّا الحقّ. فنقر الصاع وقال: أتدرون ما يقول؟ إنه يقول: إنكم حسدتم أخاكم، وأخرجتموه من عند أبيه وأردتم قتله، ثم ألقيتموه فى الجب المظلم البعيد القعر. ثم نقر ثالثا وقال: إنه يقول، ما كذبتك فيما أقول، ولقد أخرجوا أخاهم من الجب فباعوه بعشرين درهما عددا تنقص درهما، وأوصوا مشتريه أن يقيّده حتى يبلغ أرض مصر. فتغيّرت وجوه القوم، وقالوا: ما نعرف شيئا من هذا. ثم نقره رابعا وقال: إنه يقول: وكتبوا كتاب البيع بخطّ يهوذا. فقال: أيّها العزيز، إنى لم أكتب شيئا وأنكره. فقال: مكانكم حتى أعود إليكم. ودخل على زليخا وقال: هاتى تلك الصحيفة. فأخرجتها له؛ فأخرجها إلى يهوذا وقال: أتعرف خطّك؟ قال: نعم. فألقاها إليه فرآها وهى خطّه؛ فقال: هى خطّى، «غير أنّى لم أكتبه باختيارى «1» ، وإنما كتبته على عبد أبق منّا» . فغضب يوسف وقال: ألستم تزعمون أنكم من أولاد الأنبياء، ثم تفعلوا مثل هذا. ثم قال لأعوانه: انصبوا عشرة أشجار على باب المدينة حتى أضرب أعناق هؤلاء وأصلّبهم؛ وأجعلهم حديثا لأهل مصر. فبكوا وقالوا: اقتلنا كيف شئت ولا تصلّبنا. وأقبل بعضهم على بعض وقالوا: هذا جزاؤنا بما عاملنا به أخانا. فلمّا أقرّوا كلّهم بالذنب، رفع التاج عن رأسه، وقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، وكان فى رأسه شامة مثلها فى رأس يعقوب؛ فلمّا نظروا إلى الشامة عرفوها وقالوا: ءإنّك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد منّ الله علينا إلى قوله: وهو أرحم الرّاحمين.

فعمد يوسف إلى قميصه، وجعله فى قصبة من فضّة؛ ودفعه إلى يهوذا وخلع عليهم وطيّبهم، وقال: اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأئتونى بأهلكم أجمعين. فخرجوا، وسبقهم يهوذا بالقميص. قال الله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قال: لمّا فصلت العير من أرض مصر حملت الريح رائحة القميص فشمّها يعقوب، فقال ذلك. ومعنى (تفنّدون) ، أى تكذّبون. فقال له أهله: - وقيل: بنو بنيه- تالله إنّك لفى ضلالك القديم، معناه فى حبّك القديم ليوسف. فلمّا وصل يهوذا بالقميص ودخل على يعقوب ألقاه على وجهه وقال: خذها بشارة. فعاد بصره من ساعته، وخرّ ساجدا لله. قال الله تعالى: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً الآية. وجاء بنوه وقالوا: يا نبىّ الله، نحن الذين غيّبنا يوسف عنك، ونحن الذين تيناك بخبره وهو عزيز مصر. ثم قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قال: وجاءه جبريل بناقة من نوق الجنّة، فاستوى عليها، وخرج من أرض كنعان يريد مصر ومعه أولاده وأهله، وهم ثمانية وسبعون إنسانا، فدعا لهم يعقوب فما دخل أولاده مصر إلّا وقد غفر لهم؛ وخرج يوسف لملتقى أبيه ومعه خلق كثير فلما رآه يوسف ترجّل عن فرسه وأبرك يعقوب ناقته، واعتنقا وبكيا، وقال يوسف: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.

ذكر دعوة يوسف - عليه السلام - وارتحاله عن بلد الريان

قال الله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعنى الأب والخال، وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قال: وكان بين مفارقته ووقت الاجتماع أربع وثلاثون سنة. وقال الحسن: كان بين خروج يوسف إلى يوم الالتقاء معه ثمانون سنة لم تجفّ عيناه. وأقام يعقوب بمصر أربعين سنة. وقيل: أربعا وعشرين سنة؛ ثم أمره الله أن يرتحل الى أرض كنعان لاقتراب أجله؛ فارتحل ومات هناك، ودفن إلى جانب أبيه إسحاق. وحكى الثعلبىّ- رحمه الله- أن يعقوب مات بمصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدّسة حتى يدفنه عند أبيه إسحاق وجدّه إبراهيم؛ ففعل ذلك، ونقله فى تابوت من ساج إلى البيت المقدّس، وخرج معه فى عسكره وإخوته وعظماء أهل مصر، ووافق ذلك اليوم وفاة عيصو، فدفنا فى يوم واحد، وكان عمرهما جميعا مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، لأنّهما ولدا فى بطن واحد، وقبرا فى قبر واحد. ذكر دعوة يوسف- عليه السلام- وارتحاله عن بلد الريّان قال: ثم إنّ يوسف- عليه السلام- دعا أهل مصر إلى الإيمان سرّا وعلانية، فآمن به كثير منهم، وكسروا الأصنام، وصارت الغلبة للمسلمين؛ فاستدعاه ريان بن الوليد وقال له: أيها العزيز، إن أهل مصر كانوا يحبّونك وقد كرهوك بسبب أديانهم، فمالك وأديانهم؟ فقال يوسف: قد بلغنى ذلك

ذكر خبر وفاة يوسف - عليه السلام -

وأنا رادّ عليك ما خوّلتنيه، ومتحول عنك وعن قومك بأهل ملّتى، فإنى لا أحبّ أن أكون من عبدة الأوثان. وخرج يوسف هو وأولاده وإخوته وقومه الذين آمنوا حتى نزل الموضع الذى استقبل أباه يعقوب عنده؛ فجاءه جبريل وخرق له نهرا من النيل إلى هناك، وهو نهر الفيّوم، ولحق به كثير من الناس، وآمنوا، وابتنى مدينتين وسمّاهما بالحرمين وكان لا يدخلهما أحد إلّا يلّبى يقول: «لبّيك يا مفضّل إبراهيم بالنبوّة لبيّك» . ولم يكن بأرض مصر أعمر منهما، وسار يوسف فى قومه سيرة الأنبياء حتى مات. ذكر خبر وفاة يوسف- عليه السلام- قال: ولمّا أدركته الوفاة أوصى إلى ابنه (أفرايم) أن يسوس قومه بالواجب وأن يكون معاندا لأهل مصر الذين يعبدون الأوثان، ويجاهدهم فى الله حقّ جهاده؛ ثم توفّى، وكانت زليخا قد ماتت قبله، وما تزوّج بعدها. قال الثعلبىّ: قال أهل التاريخ: عاش يوسف بعد يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. قالوا: ودفن فى بلده فعمر الجانب الذى يليها وأخصب، وقحط الجانب الآخر، فشكا أهله إلى الملك، فبعث إلى أفرايم أن ينقله فيدفنه فى الجانب الآخر وإن لم يفعل قاتله؛ فدفنه هناك، فحصب ذلك الجانب، وقحط الآخر، فكان يدفن سنة فى هذا الجانب، وسنة فى الآخر؛ ثم اجتمعت الاراء أن يدفن فى وسط النهر؛ ففعلوا ذلك، فخصب الجانبان ببركته، ولم يزل فى نهر النيل حتى بعث الله موسى- عليه السلام- فأمره الله أن يحمل تابوت يوسف؛ فأخرجه ونقله إلى بيت المقدس، فدفنه هناك، وموضع قبره معروف.

الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب - عليه السلام - وابتلائه وعافيته

الباب الخامس من القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة أيوب- عليه السلام- وابتلائه وعافيته عن وهب بن منبّه أنه لم يكن بعد يوسف نبىّ إلّا أيوب، وهو أيّوب بن أموص ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم. وكان أموص كثير المال والماشية، لم يكن فى أرض الشأم أغنى منه؛ فلما مات صار ذلك جميعه لأيوب؛ وكان أيوب يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأحبّ الزواج فخطب رحمة بنت أفرايم بن يوسف؛ فتزوّجها، وكانت أشبه الخلق بيوسف وكانت كثيرة العبادة، فرزقه الله منها اثنى عشر بطنا، فى كلّ بطن ذكر وأنثى؛ ثم بعثه الله تعالى إلى قومه رسولا- وهم أهل حوران والبثنية- ورزقه الله حسن الخلق والرفق، فشرع لقومه الشرائع، وبنى المساجد، ووضع موائده للفقراء والأضياف؛ وأمر وكلاءه ألّا يمنعوا أحدا من زراعته وثماره، فكان الطير والوحش وجميع الأنعام تأكل من زرعه وبركة الله تزداد صباحا ومساء؛ وكانت كلّ مواشيه تحمل فى كلّ سنة بتوءم. وكان أيّوب إذا أقبل الليل جمع من يلوذبه فى مسجده، ويصلّون بصلاته ويسبّحون بتسبيحه حتى يصبح، فحسده إبليس؛ وكان لا يمر بشىء من ماله وماشيته إلا رآه وهو مختوم بخاتم الشكر؛ وكان إذ ذاك يصعد إلى السموات ويقف فى أى مكان أحبّ منها، حتى رفع الله عيسى بن مريم، فحجب عن أربع سموات منها؛ حتى بعث الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فحجب عن جميعا فصعد إبليس فى زمن أيّوب- عليه السلام- وقال: يا ربّ إنى طفت الأرض ففتنت من أطاعنى إلّا عبادك منهم المخلصين. فنودى: يا ملعون، هل علمت

بعبدى أيّوب؟ وهل نلت منه مع طول عبادته؟ وهل تستطيع أن تغيّره عن عبادتى؟ فقال إبليس: إلهى إنك ذكرته بالخير، وقد نظرت فى أمره فإذا هو عبد عافيته بعافيتك، ورزقته شكرك، ولم تختبره بالبلاء؛ فلو ابتليته بالمصائب لوجدته بخلاف ما هو عليه، فلو سلّطتنى على ماله لرأيته كيف ينساك. فسلّطه الله على ماله؛ فآنقضّ وجمع العفاريت، وأخبرهم أنه سلّط على مال أيوب، وحضّهم على زرعه وأشجاره ومواشيه، فأحرقوا الأشجار، وصاحوا بالمواشى صيحة فماتت برعاتها. قيل: وكان له ألف فرس وألف رمكة وألف بغل وبغلة، وثلاثة آلاف بعير، وألف وخمسمائة ناقة، وألف ثور، وألف بقرة، وعشرة آلاف شاة وخمسائة فدّان، وثلاثمائة أتان، مع ما يتبع ذلك من النّتاج؛ فهلك جميع ذلك؛ ثم أقبل إبليس إلى أيوب فى صورة راع من رعاته، وخيل له أن عليه وهج الحريق وقد اسودّ وجهه، وهو ينادى: يا أيّوب، أدركنى فأنا الناجى دون غيرى ما رأيت قطّ مثل هذا اليوم، رأيت نارا أقبلت من السماء فأحرقت أموالك، وسمعت نداء من السماء: هذا جزاء من كان مرائيا فى عمله يريد به الناس دون الله. وسمعت النار تقول: أنا نار الغضب. فأقبل أيوب على صلاته، ولم يكترث به حتى فرغ منها، وقال: يا هذا، لقد كثّرت علىّ، ليست الأموال لى، بل هى لربّى يفعل فيها ما يشاء. فقال إبليس: صدقت. وماج الناس بعضهم فى بعض، وقالوا: هلّا قبضها قبضا جميلا. فشقّ ذلك على أيّوب من قولهم، ولم يجبهم، غير أنه قال: الحمد لله على قضائه وقدره. وانصرف إبليس عنه، وصعد الى السماء، فنودى: يا ملعون

كيف وجدت عبدى أيّوب وصبره على ذهاب أمواله؟ فقال إبليس: إلهى إنك قد متّعته بالأولاد، فلو سلّطتنى عليهم لوجدته غير صابر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك عليهم. فانقضّ إبليس على باب قصر أيّوب الّذى فيه أولاده فزلزله حتّى سقط عليهم، وشدخهم بالخشب، ومثّل بهم كلّ مثلة؛ فأوحى الله إلى الأرض: احفظى أولاد أيّوب فإنّى بالغ فيهم مشيئتى. وأقبل إبليس إلى أيّوب وقال له: لو رأيت قصورك كيف تهدّمت، وأولادك وما حلّ بهم. ولم يزل يعدّ له ما حلّ بهم حتّى إبكاه؛ ثم ندم على بكائه، فاستغفر وخرّ ساجدا؛ وأقبل على إبليس وقال: يا ملعون، انصرف عنّى خائبا؛ فإن أولادى كانوا عارية عندى لله. فانصرف وصعد إلى السماء، ووقف موقفه، فنودى: يا ملعون، كيف رأيت عبدى أيوب واستغفاره عند بكائه؟ فقال: إلهى إنّك قد متّعته بعافية نفسه، وفيها عوض عن المال، فلو سلّطتنى على بدنه لكان لا يصبر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك على جسده إلّا عينيه ولسانه وقلبه وسمعه. فانقضّ إبليس عليه وهو فى مسجده يتضرّع الى الله ويشكره على جميع بلائه؛ فلمّا سمع إبليس ذلك منه اغتاظ، ولم يتركه يرفع رأسه من السجود حتى نفخ فى منخريه كالنار الملتهبة؛ فاسودّ وجهه، ومرّت النفخة فى سائر جسده؛ فتمعّط منها شعره، وتقرّح جميع بدنه، وورم فى اليوم الثانى، وعظم فى الثالث، واسودّ فى الرابع، وامتلأ قيحا فى الخامس، ووقع فيه الدود فى السادس، وسال منه الصديد فى اليوم السابع ووقع فيه الحكاك، فجعل يحكّه حتى سقطت أظافيره؛ فحكّ بدنه بالخروق والمسوح والحجارة، وكان إذا سقطت دودة من بدنه ردّها إلى موضعها، ويقول: كلى إلى أن يأذن الله بالفرج.

فقالت له رحمة: يا أيوب، ذهب المال والولد، وبدء الضرّ فى الجسد. فقال لها: يا رحمة، إنّ الله ابتلى الأنبياء من قبل فصبروا، وإن الله وعد الصابرين خيرا؛ وخرّ ساجدا لله تعالى، وقال: إلهى لو جعلت ثوب البلاء سرمدا وحرمتنى العافية، ومزّقتنى كلّ ممزّق، ما ازددت إلّا شكرا؛ إلهى لا تشمت بى عدوّى إبليس. ثم قال لرحمة: انقلينى إلى موضع غير مسجدى، فإنّى لا أحبّ أن يتلوّث المسجد. فانطلقت إلى قوم كان أيوب يحسن إليهم؛ فالتمست منهم أن يعينوها على إخراجه من المسجد؛ فقالوا: إنه قد غضب عليه ربّه بما كان فيه من الرياء، فليت كان بيننا وبينه بعد المشرقين. فرجعت رحمة واحتملته إلى الموضع الّذى كان يضع فيه الموائد للناس بالفضاء. ثم قال لها: يا رحمة، إن الصدقة لا تحلّ علينا، فآحتالى فى خدمة الناس. وبكى وبكت، فكانت تخدم أهل البلد فى سقى الماء وكنس البيوت وإخراج الكناسات الى المزابل، وتتكسّب من ذلك ما تنفقه على أيّوب؛ فأقبل إبليس فى صورة شيخ، فوقف على أهل القرية وقال: كيف تطيب نفوسكم بمخالطة امرأة تعالج من زوجها هذا القيح والصديد وتدخل بيوتكم، وتدخل يدها فى طعامكم وشرابكم؟! فوقع ذلك فى قلوبهم ومنعوها أن تدخل بيوتهم. قال: واشتد بأيّوب البلاء، ونتن حتى لم يقدر أحد من أهل القرية أن يستقرّ فى بيته لشدّة رائحته؛ فاجتمعوا على أن يرسلوا عليه الكلاب لتأكله؛ فأرسلوها فعدت حتى قربت منه وولّت هاربة ولم ترجع إلى القرية.

ثم قال لرحمة: إنّ القوم قد كرهونى، فاحتالى فى نقلى عنهم. فتوجّهت واتخذت له عريشا، واستعانت بمن يحمله؛ فأعانها الله بأربعة من الملائكة، فحملوه بأطراف النّطع إلى العريش، وعزّوه فى مصيبته ودعوا له بالعافية؛ واتخذت له رحمة فى العريش رمادا، فألقى نفسه عليه؛ ثم توجّهت فى طلب القوت، فردّها أهل القرية، وقالوا: إنّ أيّوب سخط عليه ربّه. فعادت إليه باكية، وقالت: إنّ أهل القرية غلّقوا أبوابهم دونى. فقال: إن الله لا يغلق بابه دوننا. فحملته إلى قرية أخرى، وصنعت له عريشا ودخلت القرية، فقرّبوها وأكرموها، وحملت فى ذلك اليوم عشرة أقراص من خمسة بيوت؛ ثم شمّ أهل القرية رائحة أيّوب بعد ذلك، فمنعوا رحمة أن تدخل إليهم، وقالوا: نحن نواسيك من طعامنا بشىء. فرضيت بذلك؛ فبينما هى تتردّد إلى أيّوب إذ عرض لها إبليس فى صورة طبيب وقال: إنى أقبلت من أرض فلسطين لما سمعت خبر زوجك، وقد جئت لأدويه، وأنا صائر إليه غدا فيجب أن تخبريه، وقولى له: يحتال فى عصفور أو طائر فيذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، ويأكله ويشرب عليه قدحا من خمر، ففرجه فى ذلك. فجاءت رحمة إلى أيّوب وأخبرته بذلك، فتبيّن الغضب على وجهه، وأخبرها أنه إبليس وحذّرها أن تعود لمثل ذلك؛ ثم أقبلت بعد ذلك إلى أيّوب بشىء من الطعام فعرض لها إبليس فى صورة رجل بهىّ على حمار، فقال: كأنى أعرفك، ألست رحمة امرأة أيّوب؟ قالت: بلى. قال: إنى أعرفكم وأنتم أهل غناء ويسار فما الّذى غيّر حالكم؟ فذكرت ما أصاب أيّوب من البلاء فى المال والولد والنفس قال: وفى أىّ شىء أصابتكم هذه المصائب؟ قالت: لأنّ الله أراد أن يعظم لنا الأجر على قدر بلائه.

قال إبليس: بئس ما قلت، ولكن للسماء إله وللأرض إله؛ فأمّا إله السماء فهو الله؛ وأمّا إله الأرض فأنا، فأردتكم لنفسى فعبدتم إله السماء ولم تعبدونى ففعلت بكم ما فعلت، وسلبتكم نعمكم، وكلّ ذلك عندى، فاتّبعينى حتى تنظرى إلى ذلك، فإنّه عندى فى وادى كذا وكذا. فلما سمعت (رحمة) ذلك منه عجبت، واتبعته غير بعيد حتى وقفها على ذلك الوادى، وسحر عينيها حتى رأت ما كانت فقدته من أموالهم. فقال: أنا صادق أم لا؟ فقالت: لا أدرى حتى أرجع إلى أيّوب. فرجعت وأخبرته بذلك، فتألم وأنكر عليها وغضب؛ فسألته أن يعفو عنها ولا تعود؛ فقال: قد نهيتك مرّة وهذه أخرى، وأقسم إن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة على كلامها لإبليس. قال: ولبث أيّوب فى بلائه ثمانى عشرة سنة حتى لم يبق إلّا عيناه تدوران فى رأسه، ولسانه ينطق به، وقلبه على حالته، وأذناه يسمع بهما. قال: وعجزت (رحمة) فى بعض الأيام عن تحصيل القوت، وطافت القرية حتى أتت إلى امرأة عجوز فشكت لها ذلك؛ فقالت العجوز: يا رحمة، قد زوّجت ابنتى، فهل لك أن تعطينى ضفيرتين من ضفائرك لأزين بهما ابنتى، وأعطيك رغيفين. فأجابتها رحمة إلى ذلك، وأخذت الرغيفين، وجاءت بهما إلى أيوب؛ فأنكرهما أيوب وقال: من أين لك هذين؟ فأخبرته بالقصة؛ فصاح أيوب وقال ما أخبر الله تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فأوحى الله إليه: يا أيّوب، قد سمعت كلامك، وسأجزيك على قدر صبرك؛ وأمّا رحمة فلأرضينّها بالجنة.

ذكر كشف البلاء عن أيوب - عليه السلام -

ذكر كشف البلاء عن أيّوب- عليه السلام- قال: فلما كان يوم الجمعة عند زوال الشمس، هبط عليه جبريل فسلّم عليه فردّ عليه وقال: من أنت؟ قال: أنا جبريل؛ وبشّره بالشفاء، وأن الله قد وهب له أهله وماله وولده ومثلهم معهم لتكون آية، فبكى أيّوب من شدّة الفرح وقال: الحمد لله الذى لم يشمت بى عدوّى إبليس. فقال له جبريل: قم يا أيّوب. فلم يستطع؛ فأخذ بيده وقال: قم بإذن الله. فقام على قدميه، فقال له جبريل: اركض برجلك هذه الأرض. فركضها، فنبعت عين من الماء تحت قدميه أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأذكى من المسك؛ فشرب منه شربة فسقط ما فى بدنه من الدود، ثم أمره جبريل فاغتسل من تلك العين، فخرج ووجهه كالقمر وعاد إليه حسنه وجماله؛ ثم ناوله جبريل خلعتين، فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى؛ وناوله نعلين من الذهب شراكهما من الياقوت؛ وناوله سفرجلة من الجنّة؛ ثم قام إلى الصلاة، فأقبلت رحمة وقد طردها الناس من كلّ الأبواب؛ فلما صارت إلى ذلك المكان رأته وقد تغيّر، فظنت أنها قد أخطأت الطريق؛ فقالت: أيها المصلّى كلّمنى. فلم يكلّمها، وثبت فى صلاته؛ فقال له جبريل: كلمها. فقال: ما حاجتك؟ قالت: هل عندك علم بأيوب المبتلى فإنّى خلّفته هاهنا ولست أراه. فتبسّم أيوب وقال: إن رأيته عرفته؟ فقالت: والله إنّك لأشبه الناس به قبل بلائه. فضحك وقال: أنا أيوب. فبادرت إليه واعتنقته، وبشرهما جبريل بأولادهما وما فقداه من الأموال وغيرها ومثلهم معهم، وأمطر الله عليهم جرادا من ذهب؛ وكان له بيدران، فأرسل الله سحابتين فأفرغتا فى أحدهما ذهبا وفى الآخر فضة حتى فاض أحدهما على الآخر.

الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر (ذى الكفل)

قيل: إنه كان له بعد العافية أربعة آلاف وكيل، رزق كلّ واحد فى الشهر مائة مثقال من الذهب، وبين يديه اثنا عشر من البنين، ومثلهم من البنات وملّكه الله جميع بلاد الشأم، وأعطاه مثل عمره الّذى عمّره فى الماضى. فلما أدركته الوفاة أوصى أولاده أن يخلفوه فى ماله كما كان يفعل مع الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ ثم مات، وتوفيت امرأته قبله. وقيل: بعده بقليل؛ فدفن إلى جانب العين التى أذهب الله بلاءه فيها. قال الثعلبىّ- رحمه الله تعالى-: وكانت مدّة ابتلائه ثمانى عشرة سنة. الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر (ذى الكفل) اختلف العلماء فى (ذى الكفل) من هو؟ فقال الكسائىّ: هو ابن أيوب- عليهما السلام- وذكر قصته فقال: لما قبض الله- عزّ وجلّ- أيوب عليه السلام سار ابنه حوميل- وهو أكبر أولاده- فى الناس سيرة أبيه، حتى خرج عليهم ملك من ملوك الشأم يقال له: لام بن دعام، فغلب على بلاد الشأم، وبعث إلى حوميل يقول: إنكم ضيّقتم علينا بلاد الشأم، وأريد منكم نصف أموالكم وتزوّجونى أختكم حتى أقرّكم على ما أنتم عليه، وإلّا سرت إليكم بخيلى ورجلى وجعلتكم غنيمة. فأرسل إليه حوميل يقول: إن هذه الأموال التى فى أيدينا ليس لأحد فيها حق إلا الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل؛ وأما أختنا فإنّك من غير ديننا، فلا نزوّجها لك؛ وأما تخويفك لنا بخيلك ورجلك، فنحن نتوكّل على الله ربّنا، وهو حسبنا.

فجمع الملك جنوده وقصدهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الكسرة على أولاد أيوب، وأسر بشير بن أيوب وجماعة معه؛ وانقلب حوميل بنفسه وجمع مالا عظيما ليحمله إلى الملك ويخلّص أخاه منه؛ فبينما هو فى ذلك إذ أتاه آت فى منامه فقال: لا تحمل هذا المال، ولا تخف على أخيك، فإن هذا الملك يؤمن، وتكون عاقبة أمره خيرا. فلما أصبح قصّ رؤياه على إخوته، ففرحوا؛ فبلغ الملك توقّفه فى حمل المال فأرسل إليه يقول: احمل ما تكفل به أخاك من المال وإلّا أحرقته بالنار. فبعث إليه: إنى قد أمرت ألّا أحمل لك شيئا، فاصنع ما أنت صانع. فغضب الملك وأمر أن تجمع الأحطاب؛ فجمعت وألقى فيها النار والنّفط، وأمر ببشير فألقى فيها فلم تحرقه؛ فعجب الملك من ذلك، وآمن بالله، واختلط بعضهم ببعض، وزوّجوه أختهم، وسمى بشير ذا الكفل، وأرسله الله إلى الشأم؛ وكان الملك يقاتل بين يديه الكفار، فلم يزل كذلك حتى مات أولاد أيّوب؛ ثم مات الملك وغلب العمالقة على الشأم، إلى أن بعث الله- عزّ وجلّ- شعيبا رسولا. وحكى الثعلبى فى تفسيره وقصصه فى قصّة ذى الكفل غير ما تقدّم، وساق القصّة تلو قصة اليسع، فقال: قال مجاهد: لما كبر اليسع قال: لو أنى استخلفت رجلا على الناس فعمل عليهم فى حياتى حتى أنظر كيف يعمل. فجمع الناس وقال: من يتكفّل لى بثلاثة أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فقام رجل شاب تزدريه العين قال: أنا. فردّه ذلك اليوم؛ وقال مثل ذلك فى اليوم الآخر؛ فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا. فاستخلفه؛ فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم؛ فقال: دعونى وإياه. فجاءه

فى صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل إلّا تلك النومة؛ فدقّ الباب؛ فقال: من هذا؟ فقال: شيخ مظلوم. ففتح الباب، فجعل يقص عليه قصته، فقال: إن بينى وبين قوم خصومة، وإنهم ظلمونى وفعلوا وفعلوا وفعلوا؛ وجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة؛ فقال له: إذا رحت فإنّى قد أخذ بحقك. فانطلق وراح، فكان فى مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟ فلم يره؛ فلما رجع وأخذ مضجعه أتاه ودقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا الشيخ المظلوم. فقال: ألم أقل لك: إذا قعدت فأتنى. قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نطيعك ونعطيك حقّك، وإذا قمت جحدونى. قال: فانطلق، فإذا رحت فأتنى، ففائته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنى قد شق علىّ النعاس. فلما كانت تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل، فنظر فرأى كوّة فى البيت، فتسوّرها فإذا هو فى البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخل؛ فاستيقظ ذو الكفل، وقال: يا فلان، ألم آمرك ألّا تأذن لأحد علىّ؟ فقال: أمّا من قبلى فما أتيت، فانظر من أين أتيت. فقام إلى الباب فإذا هو مغلق والرجل معه فى البيت، فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فقال: فعلتها يا عدوّ الله. قال: نعم، أعييتنى فى كل شىء ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله منى، فسمّى ذا الكفل، لأنه متكفّل بأمر فوفى به. وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يحدّث حديثا لو لم أسمعه إلّا مرة أو مرتين لم أحدّث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات.

الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام

قال: كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له: ذو الكفل، لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن تعطيه نفسها؛ فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت؛ فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل ما عملته قطّ. قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتنى عليه الحاجة. قال: اذهبى فهى لك. ثم قال: والله لا أعصى الله أبدا. فمات من ليلته. فقيل: «مات ذو الكفل» فوجدوا على باب داره مكتوبا: إنّ الله قد غفر لذى الكفل. وقال أبو موسى الأشعرىّ- رضى الله عنه- إنّ ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكنه كان عبدا صالحا، تكفّل بعمل رجل صالح عند موته، فكان يصلّى لله تعالى فى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله- عزّ وجلّ- عليه الثناء. وقيل: كان رجلا عفيفا، تكفل بشأن رجل وقع فى بلاء، فأنجاه الله تعالى. وقيل: ذو الكفل، هو إلياس النبىّ عليه السلام. وقيل: هو زكريا النبىّ عليه السلام؛ والله تعالى أعلم. الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام هو شعيب بن صنعون بن عفّا بن نابت بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. قال: وعاش مدين عمرا طويلا، وكان قد تزوّج امرأة من العمالقة فولدت له أربعة بنين، ونسلوا فكثر عددهم فى حياة مدين، فلما رآى كثرة عقبه جمعهم وأشار عليهم أن يبنوا مدينة ويحصّنوها من العمالقة؛ ففعلوا ذلك، وجعلوا أبوابها من الحديد، وسمّوها مدين باسم أبيهم، وجعلوها محالّ لقبائلهم، فرغبت العمالقة

فى مجاورتهم، وامتلأت المدينة من العمالقة ومن أهلها حتى ضاقت بهم، فخرجت العمالقة من مدين ونزلوا بالأيكة،- وكانت غيضة عن يمين مدين- فبنوا هناك الدّور لأنفسهم، واختلطوا بأهل مدين، وكان أهل مدين يعبدون الله، وأصحاب الأيكة يعبدون الأصنام، ولا يعدو بعضهم على بعض؛ وكان صنعون والد شعيب من العبّاد والعلماء بمدين، وتحته امرأة من العمالقة، فولدت له شعيبا فى نهاية الجمال؛ فلمّا كبر أعطاه الله فهما وعلما؛ وكان قليل الكلام دائم الفكر؛ وكان أبوه إذا تأمّل ضعفه ونحافته يقول: اللهم إنك كثّرت الشعوب والقبائل فى أرض مدين، فبارك لى فى شعيبى هذا. يعنى ولده. فرأى فى منامه أن الله تعالى قد بارك لك فى شعيبك هذا، وقد جعله نبيا إلى أهل مدين. فسمّى شعيبا لذلك. وتوفّى والده فقام شعيب مقامه، وبرّز بالزهد على أهل زمانه، واشتهر بالعبادة. قال: وكان ملك الأيكة- واسمه أبو جاد- قد اتخذ لقومه أصناما، وهى ثلاثون صنما، عشرة من الذهب حلّاها بالجوهر خاصّة به وبأولاده، والبقية من الفضة والنحاس والحجارة والحديد والخشب لبقية الناس. قال كعب فى تفسير (أبجد) : إنها أسماء ملوك مدين. وقيل: بل ملوك الأيكة، وهم أبو جاد وهوّز وحطّى وكلمن وسعفص وقرشت. قال: وكان أهل مدين أصحاب تجارات يشترون الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب، ويجلبون ذلك من سائر البلدان يتربّصون به الغلاء، وهم أوّل من تربّص؛ وكان لهم مكيالان: واف يكتالون به لأنفسهم عند الشراء، وناقص يكيلون به للإعطاء، وكذلك فى وزنهم؛ فكانوا على ذلك وشعيب بين أظهرهم وهو لا يخالطهم، وله غنم ورثها من أبيه يأكل من منافعها، وهو عظيم المحلّ عندهم.

ذكر مبعث شعيب - عليه السلام -

فبينما هو ذات يوم على باب منزله مشتغل بالذكر، إذ جاءه رجل غريب فقال: إنّ هؤلاء القوم يظلمون الناس، وإنى اشتريت منهم مائة مكيال بمائة دينار وقبضوا الثمن وزيادة، والذى كاله منهم نقص عشرين مكيالا. فقال له شعيب: ارجع إليهم فلعلّهم قد غلطوا عليك. قال: قد راجعتهم فضربونى وسبّونى، وقالوا: هذه سنّتنا فى بلدنا. والتمس الرجل من شعيب أن يساعده عليهم؛ فخرج شعيب معه حتى صار إلى سوقهم، وسألهم عن قصّته فلم ينكروها، وقالوا: ألم تعلم يا شعيب أنّ هذه سنّة آبائنا فى بلدنا؟ قال ليس هذا من السنة. فعذلهم، فلم يرجعوا إلى قوله وضربوا الرجل حتى أدموه، وانصرف شعيب إلى منزله. ذكر مبعث شعيب- عليه السلام- قال: فأتاه جبريل فى الحال، وأخبره أنّ الله قد بعثه رسولا إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة وغيرهم ممّن يعبدون الأصنام، وأمره أن يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته، وألّا يبخسوا الناس أشياءهم. قال: وأقبل شعيب إلى أهل مدين وقال لهم ما أخبر الله تعالى به فى كتابه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. فلما سمعوا ذلك منه أجابوه بما أخبر الله به عنهم: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ* وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ. ثم انصرف عنهم، وعاد إليهم من الغد وقد اجتمعوا مع ملكهم أبى جاد؛ فوقف عليهم ونهاهم عن عبادة الأصنام وبخس المكيال والميزان؛ فقالوا له: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. فاستهزأ القوم به، فقال: ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنّى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنّى معكم رقيب. فكذّبه سفهاء قومه، كما أخبر الله عنهم: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ. ثم قال له الملك: قد بلّغت رسالتك بزعمك، وقد سمعناها وأبينا، فلا تعد إلينا فترى ما لا طاقة لك به. فقال: أنا رسول الله إليكم، وإنى أعود أدعوكم حتّى ترجعوا إلى طاعة الله. فغضب الملك، وانصرف عنهم شعيب؛ وآمن به رجل من وزراء الملك، واستكتمه إيمانه، فكتمه شعيب؛ ثم عاد من الغد وقد خرج الملك

ومن معه إلى سوقهم، وأخرجوا أصنامهم ونصبوها؛ وأمر الملك فى أهل مدين والأيكة: من سجد لأصنامنا فهو منّا، ومن أبى عذّبناه عذابا شديدا. فسجد القوم بأجمعهم للأصنام؛ فناداهم شعيب: إنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، فاتركوا عبادتها. وحذرهم عذاب الله. فقالوا: إنك تدعونا بغير حجة، فهل لك حجة على دعواك النبوة؟ قال لهم شعيب: إن نطقت هذه الأصنام بصدق مقالتى أتؤمنون؟ قالوا: نعم. ورضى الملك بذلك؛ فتقدّم شعيب إلى الأصنام وقال لها: أيتها الأصنام، من ربّك؟ ومن أنا؟ تكلّمى بإذن الله. فنطقت بإذن الله وقالت: ربّنا الله وخالقنا وخالق كلّ شىء، وأنت رسول الله ونبيّه. وتنكّست عن كراسيّها ولم يبق منها صنم صحيح؛ وأرسل الله على قوم شعيب ريحا كادت تنسفهم نسفا فأسرع الملك ومن معه إلى منازلهم، وآمن بشعيب خلق كثير؛ ثم أصبح الملك ومن معه فخرجوا إلى سوقهم، ونصبوا ما كان قد بقى عندهم من الأصنام، وأمرهم بالسجود لها؛ فأتاهم شعيب ونهاهم وحذرهم فلم يرجعوا إليه، وأمر الملك أصحابه أن يقعدوا لشعيب ولمن معه كلّ مرصد، ويؤذوهم أشدّ الأذى؛ ثم قال الملك وقومه: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا إلى قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. قال: وإذا بريح قد هاجت عليهم فيها من الحرّ والكرب ما لا طاقة لهم به حتى رموا أنفسهم فى الآبار والسراديب، واشتدّ الحرّ ودام عليهم مدّة وهم لا يزدادون إلا عتوّا وتمرّدا، وشعيب يدعوهم ويحذّرهم العذاب؛ فيقولون: لسنا نرى من عذاب ربّك إلا هذا الحرّ، ونحن نصبر عليه. وأقاموا كذلك أعواما كثيرة وهم لا يؤمنون؛ فأرسل الله عليهم الذباب الأزرق، فكان يلدغهم كالعقارب، وربما قتل أولادهم؛ ثم تضاعف الحرّ عليهم

ذكر خبر الظلة

فتحوّلوا من مدين إلى الأيكة، فتضاعف الحرّ عليهم، وتنقّلوا من الأودية إلى الغياض والحرّ يشتدّ عليهم، حتى اسودّت وجوههم، فأقبل إليهم شعيب ودعاهم إلى الإيمان؛ فنادوه: يا شعيب، إن كان ما نلقاه لكفرنا بك وبربك فزدنا منه فإنا لا نؤمن. فأوحى الله إليه أنّه مهلكهم، فتحوّل عنهم. ذكر خبر الظّلّة قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. قال: ولما كان من غد يوم مقالتهم ما قالوه لشعيب وهو يوم الأربعاء وإذا بسحابة سوداء قد ارتفعت فأظلّتهم، فاجتمعوا تحتها يستظلون بها من الحرّ فانطبقت عليهم حتى لم يبصر بعضهم بعضا؛ واشتدّ الحرّ؛ ثم رمت بوهجها وحرها حتى أنضجت أكبادهم وأحرقتهم وجميع ما كان على وجه الأرض، وشعيب والمؤمنون ينظرون إلى ما نزل بهم، ويتأمّلون مصارعهم، ولم ينلهم من ذلك مكروه. قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعنى صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ثم أقبل شعيب والمؤمنون ينظرون إلى مصارع القوم. قال الله تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ معناها، كيف أحزن عليهم. ثم قسم شعيب أموال الكفار على قومه، وتزوّج بإمرأة من أولاد المؤمنين، ورزقه الله رزقا حسنا، ولم يزل بأرض مدين حتى كفّ بصره، وجاء موسى بن عمران من أرض مصر، وزوّجه ابنته- على ما نذكره إن شاء الله تعالى-.

القسم الثالث من الفن الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون؛ و ...

القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون؛ و ... خبر يوشع بن نون وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود ويونس بن متى وجرجيس وبلوقيا وزكريا وعمران ومريم وعيسى، عليهم السلام، وأخبار الحواريين؛ وفيه ستة أبواب؛ والله أعلم بالصواب الباب الأوّل من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون- عليهما السلام - وخبر فرعون وابتداء أمره وغرقه، وأخبار بنى إسرائيل، وخبر قارون، وخروج موسى عليه السلام. ولنبدأ بخبر فرعون وابتداء أمره، وكيف توصل إلى الملك، ثم نذكر قصة موسى عليه السلام معه، ليكون الكلام فى ذلك على سياقه. فأمّا فرعون، فهو الوليد بن مصعب. قال وهب: كان مصعب بن نسيم «1» بمصر يرعى البقر لقومه، وله امرأة يقال لها: راعونة، وهما من العمالقة؛ فأتت عليه مائة وسبعون سنة لم يرزق ولدا، فبينما هو فى برّيّة مصر إذا ببقرة قد ولدت عجلا؛ فتأوّه وحسد البقرة؛ فنادته: يا مصعب لا تعجل، فسيولد لك ولد مشئوم يكون من أهل جهنم. فرجع وذكر ذلك لأمرأته، وواقعها فحملت بفرعون، ومات أبوه قبل ولادتها؛ ثم ولدته أمّه وسمّته الوليد، وأخذت فى إرضاعه وتربيته حتى كبر، فأسلمته إلى النجارين؛ فأتقن صناعة النجارة؛ ثم ولع بالقمار، فعاتبته أمّه؛ فقال: كفّى عنى فأنا عون نفسى.

فلزمه هذا اللقب، فكان يعرف بعون نفسه، فقامر فى بعض الأيام، فقمروه فى قميصه، وبقى فى خلق لا يستره؛ فاستحيا من الناس أن يروه كذلك؛ فهرب حتى صار إلى قرية من قرى مصر؛ فعرض نفسه على بقّال، فخدمه، وكان يضرب المشترين ويؤذيهم حتى نفروا من البقّال؛ فطردوه فعاد إلى مصر؛ وكانوا يقولون: (فرّعون) . قال: ورجع إليها وهو لا يملك إلّا درهما واحدا، فاشترى به بقلا وبطيخا وقعد يبيعه، فجاءه عريف الطريق وطالبه بحق الطريق؛ قال: وما هو؟ قال: درهم. فتلاحيا؛ فترك فرعون رحله ومضى، وجعل يسرق وينقب، فيهرب مرة ويؤخذ أخرى. فاتفق أن رجلا من العمالقة جمح به فرسه فعجز عن ضبطه، فوثب فرعون إلى الفرس وضبطه بلجامه؛ فقال له العمليقىّ: أراك جلدا قويّا. فاتخذه سائسا؛ فجعل يخدمه حتى مات الرجل وليس له وارث؛ فاحتوى فرعون على جميع ماله وحمله إلى أمّه، وأكل ذلك المال حتى فنى، وضاق به الأمر، فوقع فى قلبه أن يجلس على باب مقابر مصر ويطلب أرباب الجنائز بشىء، ويظهر أنه بإذن الملك؛ ففعل ذلك مدّة حتى اجتمع له مال عظيم؛ واتخذ له أعوانا وحفدا «1» يعينونه على ذلك؛ وكان الملك بعد أن أهلك الله الريان بن الوليد تتوارثه الفراعنة؛ واستقرّ فى سنجاب بن الوليد، وكان مكرما لبنى إسرائيل، وكانوا يعبدون الله علانية ويتلون الصحف جهرا. قال: فماتت ابنة للملك؛ فحملت إلى المقبرة، فتعلق بها أعوان فرعون على العادة لأخذ القطيعة؛ فاتصل الخبر بالملك؛ فأمر بإحضاره وأراد قتله؛ فقص

ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره

عليه قصّته. وفدى نفسه بما جمعه من المال؛ فعظم عند الملك وأقّره على عمله؛ فقرّر فرعون عند ذلك على جنائز الملوك ألف درهم، وعلى جنائز الوزراء سبعمائة والقوّاد خمسمائة، ثم إلى المائة، إلى الخمسين، إلى عشرة، إلى ثلاثة؛ فاجتمع الناس إلى الملك وحرّفوا رأيه عن هذه الحالة وقبّحوها عليه؛ فصرفه الملك عنها وأبطلها؛ وحمل إليه فرعون أموالا جمّة، وقال له: أيها الملك، إنّ جدّى كان على حرس أبيك، فاجعل ذلك إلىّ. فولّاه الحرس وأمره أن يشدّد فيه، ويقتل كلّ من لقيه بالليل كائنا من كان؛ وجعل الملك معه عدّة من الرجال والأعوان؛ فخرج فرعون واتخذ لنفسه قبّة فى وسط البلد، وكان يوجّه أعوانه، فمن أتوه به فى الليل أمر بقتله؛ فتقدّم عند الملك بذلك، لأنه أخاف أعداء الملك، وأمن الملك جانبهم بسببه، وخافه الناس، وجعل لنفسه حاجبا، ونفذت كلمته. ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره قال: واتفق مرض بعض وزراء الملك- وكان الملك يأنس إليه ويقتدى برأيه- فأحبّ أن يزوره بالليل؛ فخرج منفردا وليس معه أحد من خدمه؛ فأخذه أعوان فرعون وأتوه به وهو يقول: ويلكم، أنا الملك سنجاب، وهم يظنون أنه يخدعهم بذلك، حتى أتوا به إلى فرعون، فأمر بقتله، فقتل؛ وبادر فرعون بمن معه- وكان فيهم كثرة- ودخل القصر، وكان لا يمنع منه؛ فاستوى على سرير الملك ووضع التاج على رأسه، وفتح الخزائن، وأحضر الوزراء وفرّق فيهم الأموال فرضوا به، وصاروا أولياء له. قال: وأتاه إبليس وسجد بين يديه، وسمّاه إلها وربّا؛ ثم سجد له هامان- وكان غلاما لسنجاب- وسجد الوزراء والملوك والأعوان وغيرهم؛ وبعث

إلى أسباط بنى إسرائيل، فدعاهم إلى الطاعة والسجود له؛ فسجدوا وقصدوا بالسجود الله تعالى. ثم أقبل فرعون بعد ذلك على إبليس وقال: أيّها الشيخ، إنّك كنت مباركا وأنت أوّل من سجد لى، ثم جرى القوم بعدك على سنّتك، فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أهل مصر أشير على الملوك بمصالحهم. ثم قال لفرعون: اتخذ لقومك أصناما واحملهم على عبادتها، واتخذ لك صنما انفرد به أنت، واجعله إلها وربّا. فوافقه فرعون على ذلك، واتخذ له ثورا من ذهب يعبده، وأمر الناس بعبادة الأصنام؛ فعبدوها؛ فكان فرعون يعبد الثور، والقبط يعبدون الأصنام، وبنو إسرائيل يعبدون الله؛ فبلغه ذلك، فأحضر عبّادهم وقال: قد بلغنى أنكم مطيعون لى فى الظاهر، مخالفون لى فى الباطن، فاسجدوا لى. فأبوا ذلك، وكان فيهم جماعة من أولاد يوسف ويهوذا، فقتلهم، ثم قتل خلقا كثيرا، وتبعه الباقون وأسرّوا الإيمان؛ ثم إنّ فرعون استعبد الناس ووضع عليهم الخراج الكثير، وشقّ عليهم فى الأعمال. هذا ما حكاه الكسائىّ- رحمه الله- فى خبر فرعون وابتداء أمره وسبب ملكه. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أن فرعون موسى هو أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريّان ابن أراشة بن ثروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكنّاه بهذه الكنية. قال: وملك بعد أخيه قابوس بن مصعب؛ وذلك أنه لما مات الريان بن الوليد فرعون يوسف- عليه السلام- وذكر أنّه قد آمن بيوسف ومات قبل وفاة يوسف- عليه السلام- ملك بعده قابوس بن مصعب صاحب يوسف

ذكر خبر آسية بنة مزاحم وزواج فرعون بها

الثانى؛ فدعاه يوسف إلى الإسلام، فأبى، وكان جبّارا، وقبض الله تعالى يوسف فى ملكه، وطالت أيّام ملكه، ثم هلك؛ وقام بعده بالملك بعده أخوه أبو العباس الوليد ابن مصعب، ولم يذكر خلاف ذلك. وقد قيل فى اسمه ونسبه وسبب ملكه غير ذلك، وسيرد- إن شاء الله تعالى- فى أخبار ملوك مصر الفراعنة ما ستقف عليه هناك- إن شاء الله تعالى- والله أعلم. ذكر خبر آسية بنة مزاحم وزواج فرعون بها قال: وكانت آسية بنة مزاحم من الصدّيقات، وهى مختلف فى نبوّتها ولا خلاف أنّها صدّيقة؛ وكانت بارعة الجمال؛ فبلغ فرعون خبرها وجمالها، فأرسل إلى أبيها مزاحم (أن ابعث إلىّ بآسية فإنها أمتى) . فدخل على فرعون وقال: إن ابنتى صغيرة لا تصلح. فكذّبه فرعون وقال: قد عرفت وقت ولادتها. فقال: أيها الملك، فاجعل لها مهرا. فغضب فرعون وقال: احملها إلىّ، فإن رضيتها أكرمتها، وإلّا رددتها إليك. فقال له عمران: أيها الملك، لا تفضحنى فى ابنة أخى، ولكن أكرمها بخلعة ومهر. فأجابه إلى ذلك؛ فانصرف مزاحم وأخبر آسية بذلك وقال: إن امتنعت يكون ذلك هلاكى وهلاكك. قالت فكيف تكون مؤمنة عند كافر؟ فلم يزل بها حتى أجابت على كره منها؛ وحمل إليها فرعون عشرة آلاف أوقية من الذهب. ومثل ذلك من الفضّة، وجملة من أنواع الثياب والطّرف؛ وحملت إلى فرعون، فحماها الله منه حتى رضى منها بالنظر. وكان فرعون قد رأى قبل ذلك من الآيات ما دلّه على أن زوال ملكه يكون على يد فتى من بنى إسرائيل؛ فقال: ائتونى بعمران لأنه كبير فيهم لأصطنع إليه وإليهم معروفا. فأتى به، فخلع عليه وتوّجه، وجعله سيّد وزرائه، حتى كان هامان وغيره يحسدونه.

ذكر شىء من الايات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام

ذكر شىء من الايات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام فمن ذلك أنه هتفت به الهواتف تقول: ويلك يا فرعون، قد قرب زوال ملكك على يد فتى من بنى إسرائيل. ثم رأى الرّؤى التى أزعجته وأفزعته؛ فكان منها أنه رآى شابا وقد دخل عليه وبيده عصا، فضربه بها على رأسه وقال: ويلك يا فرعون، ما أقل حياءك من خالق السموات، كلّما رأيت آية ازددت كفرا. ونظر إلى آسية فى المنام ولها جناحان تطير بهما بين السماء والأرض حتى دخلت السماء؛ ورأى الأرض قد انفرجت وأدخلته فى جوفها؛ فآنتبه فزعا، وقصّ رؤياه على أهل العبارة، فقالوا: إنّها تدلّ على مولود يولد يسلبك ملك، ويزعم أنه رسول إله السماء والأرض ويكون هلاكك وقومك على يديه. وكان فرعون قبل ذلك إذا عبّر عليهم رؤيا يقولون: هذه أضغاث أحلام ويكتمونه ما تدلّ عليه. ذكر خبر قتل الأطفال قال: فاستشار فرعون وزراءه وأهل مملكته؛ فأشاروا عليه بقتل من يولد من الذكور؛ فقتل اثنتى عشرة ألف امرأة وسبعين ألف طفل؛ وكان يعذّب الحوامل حتى يسقطن، حتى ضجّت الملائكة إلى ربّها؛ فأوحى الله إليهم بأن له أجلا وبشّرهم بموسى؛ وكان فرعون قد منع وزراءه وكبار أهل مملكته من الاجتماع بأهاليهم والخلوة بهنّ، لأنه كان قد بلغه أن المولود يكون من أقرب الناس إليه؛ وكان عمران ممن منع؛ وكان فرعون إذا نام لا يفارقه حتى يستيقظ؛ فبينما عمران ذات ليلة على كرسيه عند رأس فرعون إذا هو بامرأته وقد حملت إليه على جناح ملك من

ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت

الملائكة؛ فلما نظر عمران إليها فزع وقال: ما حاجتك هاهنا؟ فسكتت؛ فقال له الملك: إن الله يأمرك يا عمران أن تأتى زوجتك على فراش فرعون ليكون ذلك هوانا له. فواقعها فحملت بموسى؛ ثم اغتسلا فى الحوض الذى فى دار فرعون؛ ثم حملها الملك وردّها إلى منزلها؛ وكان على باب فرعون ألف حاجب، والأبواب مغلّقة، فلم يغن عنه ذلك؛ ولما أصبح فرعون دخل عليه المنجّمون وقالوا: إن الذى تخافه قد حملت به أمّه وقد طلع نجمه. فأمر فرعون القوابل والحواضن أن يدرن على نساء بنى إسرائيل؛ ففعلن ذلك، ولم يعبرن بيت عمران لعلمهنّ بملازمته لفرعون ليلا ونهارا؛ فلما تمت أيّامها جاءها الطلق نصف الليل، وليس عندها إلا ابنتها، فوضعته ووجهه يتلألأ نورا. ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت قال: وأصبحت أمّ موسى وهى شديدة الفرح به والخوف عليه؛ وسمع فرعون فى تلك الليلة هاتفا يقول: ولد موسى وهلكت يا فرعون وتنكّست الأصنام. فشدّد فرعون فى طلب المولود، فكانت أمّه ترضعه، وإذا خرجت فى حاجة ألقته فى التنّور بمهده وغطّته؛ ففعلت ذلك فى بعض الأيّام، وكانت أخته قد عجنت وأرادت أن تخبز، فسجرت التنور وهى لا تعلم أن موسى فيه؛ وجاء هامان والدايات فدخلوا دار عمران فلم يجدوا شيئا، ونظروا إلى التنور والنار تعلو منه، فانصرفوا؛ وجاءت أمّ موسى فرأت الأعوان والحرس قد خرجوا من منزلها، فكاد روحها يزهق من الغمّ؛ فدخلت المنزل بسرعة نحو التنور، فرأت النار فيه؛ فلطمت وجهها وقالت: ما نفعنى الحذر، أحرقتم ولدى. وانطلقت إلى التنور فرأت موسى ولم تمسّه النار؛ فأخرجته؛ ولمّا تم له أربعون يوما فزعت عليه، فاتخذت له تابوتا

ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمه

ووضعته فيه، وألقته فى اليمّ؛ وكان أبوه قد مات قبل ذلك ودفن، فلذلك اشتدّ خوف أمّ موسى. قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ. قال: فلمّا أتت به لتلقيه فى النيل تصوّر لها إبليس فى صورة حيّة سوداء وقال: إن ألقيته فى اليمّ ابتلعته. فعلمت أنه إبليس؛ فسمعت النداء: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. قال: فطرحته فى النيل. فقيل: إنه بقى فى الماء أربعين ليلة. وقيل: ثلاثا. وقيل: ليلة واحدة. ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمّه قال: وأصبح فرعون فى اليوم الذى دخل فيه التابوت إلى قصره، فصعد أعلى القصر وأشرف فرأى التابوت والموج يلعب به؛ وكان لفرعون سبع بنات من غير آسية، بكلّ واحدة منهنّ نوع من البلاء والمرض؛ وكان الأطبّاء قالوا له: إنّ دواءهنّ أن يغتسلن فى النيل. فصنع لهنّ نهرا من النيل وأجراه فى وسط القصر يصب فى حوض عظيم؛ فكانت بناته يغتسلن فيه؛ فأمر الله الريح أن تلقى التابوت فى ذلك النهر وبنات فرعون فيه؛ فبادرت الكبرى وفتحته فإذا فيه موسى وله شعاع ونور؛ فلما لمسته أذهب الله ما بها من البلاء والمرض؛ فلمسته بنات فرعون واحدة بعد أخرى، فذهب ما بهنّ من الأمراض؛ وأقبلن بالتابوت إلى آسية؛ فلما رأته قبلته ولم تعلم أنه ابن عمّها؛ ثم أعادته إلى التابوت؛ وحملته جارية معها

ومضت به إلى فرعون؛ فلمّا نظر إليه أرعد منه وقال: يا آسية، إنى أخاف أن يكون هذا عدوّى، ولا بدّلى من قتله. فقالت له: قرّة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وحكى الثعلبىّ أنها لما قالت: قرّة عين لى ولك، قال فرعون: قرّة عين لك، أمّا أنا فلا حاجة لى فيه. قال أبو إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذى يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت به لهداه الله تعالى كما هدى به امرأته ولكن الله تعالى حرمه ذلك» . قال الكسائىّ: ولم تزل تتلطّف بفرعون حتى تركه، وأحضرت له المواضع فلم يرضعهنّ. قال الله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ. وأرسلت أمّ موسى ابنتها كلثم «1» ، قال الله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. قال: فدخلت قصر فرعون فرأته فى حجر آسية وقد امتنع أن يرضع؛ فتقدّمت إليها، فقالت هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. قال: ولم تعلم آسية أنها ابنة عمّها لرثائة ثيابها، لأنها دخلت فى حلبة المراضع؛ فالتفت إليها فرعون وقال: من هؤلاء القوم الّذين يكفلونه؟ قالت: قوم من آل إبراهيم. قال: اذهبى وائتنى بهم. فرجعت إلى أمّها وأخبرتها؛ فدخلت على فرعون وموسى بين يديه، فعرفتها آسية وقالت: خذى هذا الصبىّ وأرضعيه. فلما أخذته التقم ثديها ورضع منه، وفرعون لا يعلم أنّها امرأة عمران؛ فقالت لها

ذكر شىء من عجائب موسى - عليه السلام - وآياته

آسية: أحبّ أن تكونين عندى إلى أن يستغنى هذا الغلام عن الرضاع. فأقامت عند آسية سنتين حتى فطمته وفارقته مستبشرة فرحة. وحكى الثعلبىّ أنها لم تقم عند آسية، بل أخذته وصارت إلى منزلها فأرضعته إلى أن تمّ رضاعه، وأعادته إلى آسية؛ والله أعلم. ذكر شىء من عجائب موسى- عليه السلام- وآياته قال: فلمّا صار موسى من أبناء ثلاث سنين، استدعاه فرعون وأجلسه فى حجره وجعل يلاعبه؛ فقبض على لحية فرعون؛ فتألّم لذلك وقال: لا شكّ أنّ هذا عدوّى. وهمّ بقتله؛ فقالت له آسية: إن الصبيان لهم جراءة ولعب من غير معرفة ولا عقل، وأنا أريك أنه لا يعقل؛ وأمرت بإحضار طست وطرحت فيه درّة وجمرة، وقدّمته إلى موسى، فأراد أن يأخذ الدرّة؛ فصرف جبريل يده عنها إلى الجمرة، فأخذها ورفعها إلى فيه، فاحترق لسانه، فقذفها من فيه وبكى بكاء شديدا؛ فقالت آسية لفرعون: علمت أنه لا يميّز بين الدرّة والجمرة؟ فسكن عند ذلك. قال: فلمّا تمّ لموسى سبع سنين، جلس فى بعض الأيّام مع فرعون على سريره فقرصه فرعون، فغضب موسى ونزل عن السرير وضرب قوائمه برجله، فكسر قائمتين منه، فسقط فرعون عنه، وانهشم أنفه وسال الدم على لحيته؛ فبادر موسى ودخل على آسية وأعلمها بالخبر، وتبعه فرعون إليها وأراد قتله؛ فقالت: ألا يسرّك أن يكون ولدك بهذه القوّة يدفع أعداءك عنك؟ ولا طفته حتى سكن غضبه. ثم ظهر له من المعجزات والآيات ما لا يظهر إلّا للأنبياء وفرعون يكرمه؛ والله الموفّق.

ذكر خبر القبطى وخروج موسى من مصر

ذكر خبر القبطىّ وخروج موسى من مصر قال: ولما كبر موسى صار يركب من مراكب فرعون ويلبس من ملابسه؛ وكان يدعى: موسى بن فرعون؛ فامتنع بسببه الظلم عن بنى إسرائيل، ولم يعلم إلّا أنّ ذلك من قبل الرضاعة؛ واتفق ركوب فرعون، فركب موسى فى أثره والمدينة مغلّقة الأسواق، وليس بها أحد؛ قال الله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فكان الذى من شيعته فتى من بنى إسرائيل، والذى من عدوّه رجل من القبط، وهو طبّاخ لفرعون، وقد أخذ حطبا للطعام، وهو يريد الإسرائيلىّ على حمله وقد امتنع؛ فلما مرّ بهما استغاثه الإسرائيلىّ؛ فقال للطبّاخ: اتركه. فامتنع من تركه؛ فوكزه موسى فى صدره فمات؛ فندم موسى على قتله؛ قال الله تعالى: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ الآيات. قال: فأصبح فى المدينة خائفا يترقّب. وجاء القبط وشكوا إلى فرعون أنّ بنى إسرائيل قتلوا رجلا منهم؛ فأمرهم أن يطوفوا على قاتله؛ وخرج موسى فى اليوم الثانى، فإذا الّذى استنصره بالأمس يستصرخه على قبطىّ آخر، والقبطىّ يقول: هذا الّذى قتل ابن عمّى بالأمس. فقال الإسرائيلىّ: أعنى يا موسى على هذا، فإنّه يريد أن يحملنى إلى دار فرعون قال له موسى إنّك لغوىّ مبين. قال: ثم لم يجد موسى بدّا من نصرة الإسرائيلىّ، فحسر عن ذراعيه، ودنا من القبطىّ؛ فظنّ الإسرائيلىّ أنّ موسى يريد أن يبطش به، فقال ما أخبر الله به عنه:

ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ. فلمّا سمع القبطىّ كلام الإسرائيلىّ لموسى تحقق أن موسى قاتل ابن عمه؛ فدخل إلى دار فرعون وأخبره أن موسى هو الّذى قتل القبطىّ؛ قال: ومن أعلمك؟ فقصّ عليه القصة؛ فأذن فرعون لأولياء المقتول فى قتل موسى حيث وجدوه؛ فجاء حزقيل- وكان مؤمنا من آل فرعون- وأعلم موسى بالخبر. قال الله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. ومضى بغير زاد ولا راحلة؛ فمرّ براع فى طريقه، فأعطاه موسى ثيابه، وأخذ جبّة الراعى وكساه، وسار فوصل إلى مدين فى اليوم السابع وقد أجهده الجوع. قال: وكان موسى يسير بالليل ودليله النجم، فإذا جاء الصبح جاءه أسدان يدلّانه على الطريق؛ فكان هذا دأبه وهما كذلك حتى ورد مدين؛ والله الهادى. ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ وكانتا ابنتى شعيب عليه السلام.

قال: وكان الرّعاء إذا سقوا غطّوا البئر بصخرة لا يرفعها إلّا جماعة؛ فلمّا انصرفوا تقدّم موسى إلى الصخرة فوكزها برجله، فدحاها أربعين ذراعا على ضعفه من الجوع وسقى غنمهما. قال الله تعالى: فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. قال: فتمنّى موسى فى ذلك الوقت شبعة من خبز الشعير؛ وانصرفت المرأتان إلى أبيهما وأخبرتاه بالخبر، فأرسل إحداهما إليه وقال: ائتينى به. قال الله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا. فقام موسى، وكانت تمرّ بين يديه فكشف الريح عن ساقيها؛ فقال لها: تأخّرى ورائى ودلّينى على الطريق. فتأخّرت وكانت تقول: عن يمينك وعن شمالك. حتى دخلا مدين؛ وجاء إلى شعيب- وهو شيخ كبير وقد كفّ بصره- فسلّم عليه؛ فردّ عليه ورحّب به وسأله عن خبره. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ثم دعا شعيب بالطعام فأكل؛ فقالت ابنته: يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوىّ الأمين أرادت بالقوّة رفع الحجر عن رأس البئر واستقاءه بالدلو العظيمة، وأمانته أنّه أخّرها إلى خلفه. فرغب فيه وقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.

ذكر خبر خروج موسى - عليه السلام - من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون

فتزوّج موسى صفورا «1» - وهى الصغرى منهما- وطلب عصا؛ فقالت له: ادخل بيت أبى الّذى يأوى فيه فخذ عصاك. وكان فيه عصىّ كثيرة- فدخل موسى البيت وأخذ من العصىّ عصا حمراء؛ فقال له شعيب: هذه من أشجار الجنة أهداها الله إلى آدم، ثم صارت إلى شيث وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وكلّهم توكّأوا عليها، فلا تخرجنّها من يدك. ثم أوصاه وحذّره من أهل مدين، وقال: إنّهم قوم حسدة، وإذا رأوك قد كفيتنى أمر غنمى حسدونى عليك، فدلّوك على وادى كذا وكذا، وهو كثير المرعى، وإنما فيه حيّة عظيمة تبتلع الغنم، فإن دلّوك عليه فلا تمرّ به، فإنّى أخاف عليك وعلى غنمى. فخرج موسى بالغنم- وكانت يومئذ أربعين رأسا- وقال فى نفسه: إنّ من أعظم الجهاد قتل هذه الحيّة. وتوجه بالغنم إلى ذلك الوادى؛ فلمّا قار به أقبلت الحيّة إلى الغنم، فقتلها موسى ورعى غنمه إلى آخر النهار، وعاد إلى شعيب وأعلمه الخبر؛ ففرح بقتلها، وفرح أهل مدين وعظّموا موسى وأجلّوه؛ وقام موسى بغنم شعيب يرعاها ويسقيها، حتى انقضت المدّة التى بينهما، وبلغت أربعمائة رأس وعزم موسى على المسير. ذكر خبر خروج موسى- عليه السلام- من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون قال: ولما أراد موسى الانصراف بكى شعيب وقال: يا موسى، إنّى قد كبرت وضعفت، فلا تضيّعنى مع كبر سنّى وكثرة حسّادى، وتترك غنمى شاردة لا راعى لها. قال موسى: إنّها لا تحتاج إلى راع، وقد طالت غيبتى عن أمّى

وخالتى وهارون أخى وأختى. فقال شعيب: إنى أكره أن أمنعك. وأوصاه بابنته وأوصاها ألّا تخالفه؛ وسار موسى- عليه السلام- بأهله يريد أرض مصر حتى بلغ جانب وادى طوى فى عشيّة شديدة البرد؛ وجاء الليل وهبّت الرياح وغيّمت السماء؛ فأنزل موسى أهله وضرب خيمته على شفير الوادى، وأدخل أهله فيها؛ وهطلت السماء بالمطر؛ وكانت امرأته حاملا، فجاءها الطلق، فجمع حطبا وقدح الزناد فلم يور، فرماه وخرج من البيت، فرآى نارا. قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ولم يكن هناك نار بل نور. قال الثعلبىّ: واختلفوا فى الشجرة ما كانت، فقيل: العوسجة. وقيل: العنّاب. قال الكسائىّ: وأمر موسى بخلع نعليه؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إلى قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. قال: لأنه كان يركزها فى الأرض ويعلّق عليها كساءه وإداوته ونعليه، ويقاتل بها السباع، ويستظلّ بها من الشمس. قال الله تعالى: أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى على مثال الثعبان العظيم.

قال: فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ولم يعقّب. فلما أمعن فى الهرب قال له جبريل: أتهرب من ربّك وهو يكلّمك؟ قال: ما فررت إلّا من الموت. ورجع وهى بحالها؛ قال الله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى. فأدخل يده فى فيها فإذا هى عصا؛ ثم قال الله له: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى فذهب الخوف عن موسى؛ ثم أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون، فقال: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى . قال موسى: ربّ اشرح لى صدرى* ويسّر لى أمرى* واحلل عقدة من لسانى* يفقهوا قولى* واجعل لى وزيرا من أهلى* هارون أخى* اشدد به أزرى* وأشركه فى أمرى* كى نسبّحك كثيرا* ونذكرك كثيرا* إنّك كنت بنا بصيرا. قال الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. قال: ثم تذكّر موسى ما كان منه فقال: ربّ إنّى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. فنودى: يا موسى لا تخف إنّى لا يخاف لدىّ المرسلون. ثم ذكّره الله منّته عليه فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى الآيات؛ ثم قال الله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى * فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. قال: وكان الخطاب لموسى وحده، والرسالة له ولهارون. قال: وأمّا ابنة شعيب فاشتدّ بها الطلق، وسمع سكّان الوادى من الجنّ أنينها، فأتوها وأوقدوا النار عندها، وقبلوها؛ وقيّض الله تعالى لها من ردّها إلى أبيها؛ والله المعين.

ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمه

ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمّه قال الكسائىّ: وسار موسى من الطّور حتى بلغ العمران؛ وكان هارون يومئذ وزيرا لفرعون على عادة أبيه لا يفارقه ليلا ولا نهارا؛ فبينما هو نائم إلى جنب سرير فرعون إذ أتاه آت فى منامه ومعه شراب فى كأس من الياقوت، وقال: يا هارون اشرب هذه الشربة فهى بشارة بقدوم أخيك من أرض مدين، وأنت شريكه فى الرسالة إلى فرعون. فانتبه هارون فزعا وظنّ ذلك من الشيطان، وعاد إلى النوم، فعاوده القائل ثلاث مرّات؛ ثم قال له: قم إلى أخيك- وكانت الأبواب مغلّقة- فاحتمله الملك إلى قارعة الطريق وقال له: امض واستقبل أخاك. ثم أتاه جبريل بوحى الله وبشّره بالرسالة، وحمله إلى شاطئ النيل، وموسى إلى الجانب الآخر؛ فكان يكلّمه والريح تحمل كلامه إلى هارون؛ ثم أذن الله لهما أن يلتقيا؛ فجاء موسى إلى الجانب الآخر، فالتقيا؛ وبشّره بشركته فى الرسالة؛ ثم أقبلا إلى أمّهما وجبريل معهما، فطرق هارون الباب وأمّه فى صلاتها، فقامت من محرابها وقالت: من بالباب؟ فقال موسى: أنا ولدك موسى وأخى هارون. ففتحت الباب، ووقعت مغشّيا عليها من الفرح؛ ثم أفاقت؛ وذكر لها موسى ما كان من أمره؛ فسجدت لله تعالى؛ ثم حمل جبريل هارون وأعاده عند رأس فرعون؛ وأقام موسى بقيّة ليلته عند أمّه، وخرج من الغد متنكّرا، فنظر إلى ما أحدثه فرعون فى أرض مصر ورجع حتى أقبلت الليلة الثانية، فخرج وجاء إلى قصر فرعون وبه الحجّاب والحرس والجنود، فقرع الباب بعصاه، فانفتح ودخل حتى بلغ القبّة الأرجوانيّة، فانفتحت وعبرها وفرعون نائم بها، وهارون عند رأسه؛ فقام إليه هارون وقال: لقد عجلت يا أخى. وأخرجه؛ فانصرف، وغلّقت الأبواب كما كانت.

ذكر خبر دخول موسى - عليه السلام - إلى فرعون وما كان من أمره معه

فلمّا كان من الغد جاء إلى فرعون فعرفه بعضهم، وأنكره البعض، وجاء بعض الوزراء إلى فرعون وأخبره به، فأرعدت فرائصه، وأمر هامان أن يخرج إليه؛ فخرج وسأله عن اسمه، فأخبره أنه موسى؛ فعاد هامان إلى فرعون وأعلمه أنه هو؛ فنظر إلى هارون وقال: أيقدم أخوك ولم تعلمنى به؟ فقال: أردت ذلك وإنما خشيت غضبك. ذكر خبر دخول موسى- عليه السلام- إلى فرعون وما كان من أمره معه قال: وأمر فرعون أن يزيّن قصره، وجلس والتاج على رأسه، ووقف الوزراء عن يمينه وشماله، وأحضر موسى؛ فلمّا رآه عرفه، ثم قال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله ورسوله وكليمه. قال: أنت عبد فرعون. قال: إن الله أعزّ من أن يكون له ندّ. قال له فرعون: إلى من أرسلت؟ قال: إليك وإلى جميع أهل مصر. قال: فبماذا؟ قال: أن يقولوا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّى موسى عبده ورسوله. قال: فما حجّتك؟ فإنّ لكلّ مدّع بيّنة. قال: إن أتيتك ببيّنة تؤمن؟ قال: نعم. قال موسى: يا هارون، انزل عن الكرسىّ وبلّغ فرعون الرسالة. فنزل وقال: يا فرعون. إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى . فقال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ، الآيات. فغضب فرعون على هارون، وأمر هامان بنزع ما عليه من اللباس؛ فنزعه حتى بقى بالسراويل، فألبسه موسى مدرعة الصوف؛ فاقشعرّ جلده؛ فنزل جبريل بقميص كوّنه الله تعالى فكان وألبسه إيّاه؛ فقال فرعون لهامان: احمل موسى

ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء

وأخاه إلى منزلك ودارهما، فإن أطاعانى مكّنتهما من خزائنى، ولا أقطع أمرا دونهما. ففعل ذلك؛ فقالا له: يا هامان اشتر نفسك من ربّك. فضحك من قولهما، ثم أحضرهما من الغد إلى فرعون؛ فأقبل على موسى وقال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أى عن النبوّة فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ* وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ. ثم قال: تذبّح أبناءهم وتستحيى نساءهم، فشكوك إلى ربّ العالمين. وكان فرعون متكئا، فاستوى جالسا وقال: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . فالتفت فرعون لمن حوله وقال: أَلا تَسْتَمِعُونَ. قال موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قال فرعون: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء قال: وبينماهما فى المخاطبة وإذا بالعصا اضطربت فى كف موسى؛ فناداه جبريل: أطلقها يا نبىّ الله. فألقاها موسى فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ كأعظم ما يكون؛ ثم تمثّل مثال الجمل البختىّ وقام على رجليه حتى أشرف برأسه على حيطان القصر وتنفّس نارا ودخانا، وعطف على قبّة فرعون فضربها فطحطحها، وجعلت لا تمرّ بشىء إلّا ابتلعته، وهاجت كالجمل المغتلم ولها صوت كالرعد؛ وأقبلت إلى قبّة فرعون وهو فيها، فوضعت لحيها الأسفل تحت القبة، ولحيها الأعلى فوقها، ورفعت القبّة

ذكر خبر السحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم

ثمانين ذراعا فى الهواء، وقالت: يا فرعون، وعزّة ربّى لو أذن لى لابتلعتك بقصورك وأموالك. فلمّا نظر فرعون إلى ذلك وثب عن سريره- وهو أعرج- وجعل يعدو ويقول: يا موسى بحقّ التربية والرضاع، وبحقّ آسية كفّها عنّا. فناداها، فأقبلت، فأدخل يده فى فيها، وقبض على لسانها فإذا هى عصا كما كانت؛ فعاد فرعون إلى مكانه وقال: يا موسى، لقد تعلّمت بعدى سحرا عظيما. قال: يا فرعون، أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ . قال فرعون: هل عندك سحر غير هذا؟ قال: نعم؛ فأدخل يده فى جيبه، ثم أخرجها وعليها نور وشعاع؛ قال الله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. ذكر خبر السّحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم قال: فأمر فرعون بجمع السّحرة؛ فاجتمع إليه سبعون ألف ساحر؛ فاختار منهم سبعين ساحرا- وهم أحذق الخلق-. وحكى الثعلبىّ عن عطاء قال: كان رئيسا السحرة بأقصى مدائن الصعيد وكانا أخوين؛ فلما جاءهما رسول فرعون قالا لأمّهما: دلّينا على قبر أبينا. فدلّتهما عليه؛ فأتياه فصاحا باسمه، فأجابهما؛ فقالا له: إن الملك قد وجّه إلينا أن نقدم إليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح، ولهما عزّ ومنعة، وقد ضاق الملك ذرعا بهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شىء حتى تبتلع الحديد والخشب والحجارة. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما، فإن قدرتما أن تسلّا العصا فسلّاها، فإنّ الساحر لا يعمل سحره وهو نائم، فإن عملت العصا وهما نائمان فذلك

أمر ربّ العالمين فلا طاقة لكما به ولا للملك ولا لجميع أهل الدنيا. فأتياهما خفية وهما نائمان ليأخذاها، فصدّتهما. قال الكسائىّ: وبعث فرعون إلى موسى فأحضره وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. قال: ويوم الزينة هو أوّل يوم من السنة؛ فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمع الناس من أطراف أرض مصر فى صعيد واحد، فأخذ فرعون يقول للسحرة: اجتهدوا أن تغلبوا موسى. قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين. قال فرعون: نعم وإنّكم لمن المقرّبين. وأقبل موسى وهارون وقد أحدقت بهما الملائكة، فرأى موسى الوادى وقد امتلأ من الحبال والعصىّ؛ فقال موسى: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى. قال: وكان فى السحرة ساحران عظيمان- وهما رأس السحرة- فقالا: يا موسى إمّا أن تلقى وإمّا أن نكون أوّل من ألقى. فهمّ موسى أن يلقى، فمنعه جبريل، وأجرى الله على لسانه فقال: بل ألقوا؛ فألقوا وسحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. قال الله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى . فامتلأ الوادى من الحيّات، وجعلت يركب بعضها بعضا؛ وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون؛ قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما

ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون

صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فعندها زال خوفه وقال: ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين. ثم ألقى عصاه فى وسط الوادى، فانكشف سحر السحرة، وبطل ما أظهروه من التخييل، فإذا هى حبال وعصىّ، وصارت عصا موسى ثعبانا له سبعة أرؤس، وعلى ظهره مثل الأزجّة «1» ، فابتلعت الحبال والعصىّ وجميع ما كان فى الوادى من الزينة؛ فقام فرعون ووزراؤه فوقفوا على تل ينظرون فعل الحية وهم خائفون؛ ثم حملت على السبعين رجلا فولّوا هاربين على وجوههم؛ ثم اجتمعوا بأجمعهم وقالوا: ما هذا بسحر. وخرّوا سجّدا؛ قال الله تعالى: أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قال: فاغتمّ فرعون لذلك وقال للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. وأمر أن يفعل بهم ذلك؛ فقالوا ما أخبر الله به تعالى عنهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. ثم صلبوا على سبعين جذعا بعد أن قطّع فرعون أيديهم وأرجلهم. ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون قد قيل: إن خبر مؤمن آل فرعون كان قبل خبر السحرة، وسياق الآيات يدل على أن خطابه لفرعون كان بعد خبرهم، وذلك أنه لما كان من أمر السحرة

ما ذكرناه، قال الملأ من قوم فرعون ما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قال الله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ . وقال الله تعالى إخبارا عن فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ. قال: فلمّا عزم فرعون على قتل موسى، أقبل حزقيل على القوم- وكان خازن فرعون وزوّج ماشطة بناته- فقال ما أخبر الله تعالى عنه: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا. ففزع فرعون من قوله وقال: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. فخوّفهم المؤمن وقال ما أخبر الله تعالى به عنه: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. فلما سمع فرعون كلامه غضب وقال: كأنّك ممن اتبع موسى، فارجع عن ذلك وإلّا عاقبتك بأنواع العذاب. فقال له حزقيل: يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرّشاد، الآيات.

ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه

ثم قال: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ؛ ولحق بموسى وهارون، وفارق فرعون وقومه؛ قال الله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. وحكى الثعلبىّ أنّ فرعون قتله مع السحرة صلبا؛ ثم ذكر بعد ذلك أنه كان مع موسى عليه السلام لمّا فرق الله له البحر؛ والله تعالى أعلم. ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه قال: ولما انقضى أمر السحرة أقبل فرعون على هامان وقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً. قال: فجمع هامان خمسين ألف صانع وصنع القرميد- وهو الآجر، وهامان أوّل من صنعه- فكانوا يبنون فيه ليلا ونهارا لا يفترون؛ فلمّا تكامل الصرح وارتفع ارتفاعا عظيما، أمر الله عزّ وجلّ جبريل فهدمه وجعل عاليه سافله ومات كلّ من كان فيه على دين فرعون، والمؤمنون يزيدون ويجتمعون إلى موسى عليه السلام. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- أن الصرح اجتمع فيه لبنائه خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ممّن يطبخ الآجرّ والجصّ وينجر الخشب والأبواب ويضرب المسامير؛ فلم يزل يبنى ذلك الصرح؛ ويسّر الله تعالى له أمره

ذكر خبر الآيات التسع

استدراجا منه، فأتى الأمر فيه على ما يريد، إلى أن فرغ فى سبع سنين، فارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السموات والأرض؛ فشقّ ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه: أن دعه وما يريد فإنّى مستدرجه ومبطل كلّ ما عمله فى ساعة واحدة. قال: فلمّا تم بنيانه بعث الله عزّ وجلّ جبريل فضرب بجناحه الصرح، فقذف به على عسكر فرعون، فقتل منهم ألفى ألف رجل. قالوا: ولم يبق أحد ممّن عمل فيه إلا أصابه موت أو حريق أو عاهة. قال: وكان تدمير الله تعالى الصرح فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال: فلمّا رأى فرعون ذلك من أمر الله، وعلم أنّ حيلته لم تغن عنه شيئا عزم على قتال موسى ومن معه، وأمر أصحابه فنصبوا له الحرب؛ فلما رأى الله تعالى ذلك من فعل فرعون وقومه، وأنه حقّت عليهم كلمة العذاب، ابتلاهم الله تعالى بالعذاب والآيات. ذكر خبر الآيات التسع قال الكسائىّ: ثم أخذ الله تعالى قوم فرعون بالآيات التسع، فكان أوّل ما جاءهم الطوفان، فدام عليهم ثمانية أيام لا يرون فيها شمسا، حتى امتلات الأسواق والدّور، وأخذت فى الخراب؛ فالتجأوا إلى فرعون، فقال: سأكشف ذلك عنكم. ودعا موسى وسأله أن يدعو برفع الطوفان ليؤمن به؛ فطمع موسى فى ذلك، فسأل الله تعالى، فرفع ذلك عنهم، فازدادوا كفرا، فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل أشجارهم وزرعهم، ودام ثمانية أيّام، ففزعوا إلى فرعون، فوعدهم بصرفه عنهم وضمن لموسى إن صرفه عنهم آمن به؛ فدعا ربّه، فأرسل الله على الجراد ريحا باردة

ذكر خبر مسخ قوم فرعون

فقتلته، فلم يؤمنوا؛ فبعث الله عليهم القمّل فأكل جميع ما فى بيوتهم، وقرض ثيابهم وأبدانهم وشعورهم؛ فضجّوا إلى فرعون، فسأل موسى ووعده الإيمان؛ فسأل الله تعالى، فصرفه عنهم بعد ثمانية أيام وأماته، فازدادوا كفرا؛ فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع، فكانت تدخل فى طعامهم وشرابهم، وكانت لها رائحة منتنة فدامت ثمانية أيام؛ فسأل موسى؛ فلما كشفها الله عنهم لم يؤمنوا وازدادوا كفرا؛ فأمر الله تعالى موسى: أن اضرب بعصاك النيل. فضربه فتحوّل دما عبيطا، فاشتدّبهم العطش، فكان الإسرائيلىّ والفرعونىّ يأتيان إلى موضع واحد، فإذا أخذه الإسرائيلىّ يكون ماء، وإذا أخذه الفرعونىّ كان دما، فدام ذلك ثمانية أيّام حتى أجهدهم العطش وأشرفوا على الهلاك؛ فلمّا كشفه الله عنهم بدعوة موسى ازدادوا كفرا. ذكر خبر مسخ قوم فرعون قال: ولما لم يؤمنوا بهذه الآيات، قال موسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ؛ وكان الدعاء من موسى، والتأمين لهارون؛ فأوحى الله إليهما: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما الآية. قال: فطمس الله تعالى على كثير منهم، حتى أصبح الرجال والنساء والصبيان والأموال كلّها حجارة، فلم يؤمنوا؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. قال عمر بن عبد العزيز فى تفسيره: كان أوّل الآيات العصا، واليد البيضاء والطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطّمس والبحر حتى صار يبسا. هذا ملخّص ما حكاه الكسائىّ.

وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى قصصه عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الأخبار- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالوا: لما آمنت السحرة وصلبهم فرعون، وانصرف موسى وهارون إلى عسكر بنى إسرائيل، أمر فرعون أن يكلّفوا بنى إسرائيل ما لا يطيقونه، فكان الرجل من القبط يجىء إلى الرجل من بنى إسرائيل فيقول له: انطلق معى فآكنس حشى «1» واعلف دوابّى واستق لى. وتجىء القبطية إلى الكريمة من بنى إسرائيل فتكلّفها ما لا تطيق، ولا يطعمونهم فى ذلك كلّه خبزا، واذا انتصف النهار يقولون لهم: اذهبوا فاكسبوا لأنفسكم. فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقّين. قالوا: يا موسى: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، كنا نطعم اذا استعملونا من قبل أن تجيئنا، فلمّا جئتنا استعملونا ولا يطعموننا. فقال لهم موسى: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم يعنى فرعون والقبط، ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون. قالوا: فلمّا أبى فرعون وقومه إلّا الإقامة على الكفر، والتمادى فى الشر والظلم، دعا موسى ربّه وقال: ربّ إن عبدك فرعون طغى فى الأرض وبغى وعتا وإن قومه نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك، ربّ فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومى عظة، ولمن بعدهم من الأمم عبرة. فتابع الله عليهم الآيات المفصّلات بعضها فى إثر بعض، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، ثم بعث عليهم الطوفان (وهو الماء) أرسل عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بنى إسرائيل وبيوت القبط مشبّكة مختلطة بعضها فى بعض، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء

إلى تراقيهم، فمن جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل من الماء قطرة وفاض الماء على وجه أراضيهم كذلك، فلم يقدروا على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا؛ ودام ذلك عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا هذا البلاء ونؤمن بك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل، وعادوا أشرّ مما كانوا عليه. واختلف العلماء فى الطوفان ما هو؛ فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: هو الماء أرسله الله تعالى عليهم. وقال مقاتل: هو الماء طغى فوق حروثهم فأهلكها. وقال الضّحاك: هو الغرق. وقال مجاهد وعطاء: هو الموت الذريع. وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن، أرسل الله الطّوفان على أبكار آل فرعون فقبضهنّ فى ليلة واحدة، فلم يبق منهنّ واحدة ولا دابة. وقال أبو قلابة: الطّوفان هو الجدرىّ، والله تعالى أعلم. قالوا: وأنبت الله تعالى لهم فى تلك السنة من الكلإ والزرع ما لم ينبت قبل ذلك، فأعشبت بلادهم وأخصبت، فقالوا: هذا ما كنّا نتمنّاه، وما كان هذا الماء إلّا نعمة لنا وخصبا. فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث عليهم الجراد فأكل زرعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم والزهر، حتّى إن كان ليأكل الأبواب والثياب والأمتعة وسقوف البيوت والخشب والمسامير حتى سقطت دورهم، والجراد لا يدخل بيوت بنى إسرائيل ولا يصيبهم من ذلك شىء؛ فعجّوا وضجّوا، وقالوا:

يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل؛ فأعطوه عهد الله وميثاقه؛ فدعا موسى ربّه، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت. ويقال: إن موسى برز إلى الفضاء، فأشار إلى المشرق بالعصا فذهب الجراد من حيث جاء كأن لم يكن قطّ. قالوا: فأقاموا شهرا فى عافية؛ ثم بعث الله عليهم القمّل، وذلك أن موسى أمر أن يمشى إلى كثيب أغبر بقرية من قرى مصر تدعى: (عين شمس) فمشى موسى إلى ذلك الكثيب- وكان عظيما- فضربه بعصاه، فانثال عليهم القمّل فتتّبع ما بقى من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ولحس الأرض كلّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قمّلا، حتى إن أحدهم ليبنى الأسطوانة بالجصّ فيزلّقها حتى لا يرتقى فوقها شىء، ثم يرفع فوقها طعامه، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن قمّلا، فما أصيبوا ببلاء كان أشدّ عليهم من القمّل؛ وأخذ القمل شعورهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولصق بجلودهم كالجدرىّ، ومنعهم النوم والقرار، ولم يستطيعوا له حيلة. وقد اختلفوا فى القمّل ما هو؟ فروى عن أبى طلحة أنّه الذباب لا أجنحة له. وروى معمر عن قتادة قال: القمّل أولاد الجراد. وعن عبد الرحمن بن أسلم قال: هو البراغيث. وقال عطاء: هو القمّل؛ دليله قراءة الحسن: «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم. وقال أبو عبيدة: هو الحمنان، وهو ضرب من القردان.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم-: القمّل، هو السوس الذى يخرج من الحنظة والحبوب، فكان الرجل يخرج عشرة أقفزة فلا يردّ منها إلّا ثلاثة أقفزة؛ فلما رأوا ذلك شكوا إلى موسى وصاحوا وقالوا: يأيّها الساحر أى أيّها العالم إنا نتوب إلى الله ولا نعود، فادع لنا ربّك يكشف عنا هذا البلاء. فدعا موسى ربه، فرفع الله تعالى عنهم القمّل بعد ما أقام عليهم سبعة أيّام من السبت إلى السبت، ثم نكثوا العهد، وعادوا إلى خبث أعمالهم، وقالوا: ما كنا قطّ أحقّ أن نستيقن أن موسى ساحر إلّا اليوم، فيجعل الرمل والرماد دوابّ، فعلى ماذا نؤمن به ونرسل معه بنى إسرائيل؟ فقد أهلك زرعنا وحروثنا، وأذهب أموالنا، فما عسى أن يفعل أكثر مما فعل، وعزّة فرعون لا نصدّقه أبدا ولا نتبعه. فدعا عليهم موسى بعد ما أقاموا شهرا فى عافية- وقيل أربعين يوما- فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يقوم على ضفّة النيل فيغرز عصاه فيه، ويشير بالعصا إلى أدناه وأقصاه وأعلاه وأسفله؛ ففعل موسى ذلك، فتداعت إليه الضفادع بالنّقيق من كلّ جانب حتى أعلم بعضها بعضا، وأسمع أدناها أقصاها؛ ثم خرجت من النيل مثل البحر تدبّ سراعا نحو باب المدينة، فدخلت عليهم فى بيوتهم بغتة، وامتلأت منها أفنيتهم وأبنيتهم وأطعمتهم؛ وكان أحدهم لا يكشف ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلّا وجد فيه ضفادع؛ وكان الرجل يجلس الى ذقنه فى الضفادع، ويهمّ أن يتكلّم فيثب الضفدع فى فيه؛ وكان أحدهم ينام على فراشه وسريره فيستيقظ وقد ركبته الضفادع ذراعا بعضها فوق بعض، وصارت عليه حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقّه الأخر؛ وكان أحدهم يفتح فاه لأكلته فتستبق الضفادع إلى فيه؛ وكانوا لا يعجنون إلّا انشدخت فيه، ولا يطبخون إلا امتلات القدر بالضفادع؛ وكانت تثب فى نيرانهم فتطفئها، وفى طعامهم فتفسده؛ فلقوا منها أذّى شديدا.

وروى عن عكرمة عن ابن عبّاس- رضى الله عنهم- قال: كانت الضفادع برّيّة، فلمّا أرسلها الله على فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها فى القدر وهى تفور، وفى التنانير وهى مسجورة، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء. قال: فضجّوا إلى فرعون من أمر الضفادع، وضاق عليهم أمرهم حتى كادوا يهلكون، وصارت المدينة وطرقها مملوءة جيفا من كثرة ما يطأونها بأقدامهم، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى، وقالوا: اكشف عنّا هذا البلاء فإنا نتوب هذه المرّة ولا نعوذ. فأخذ بذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله تعالى فكشف عنهم الضفادع، فما كان منها حيّا لحق بالنيل؛ وأرسل الله تعالى ريحا على الميت منها فنحّته عن مدينتهم بعد ما قامت عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا فى عافية؛ وقيل: أربعين يوما. ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم وتكذيبهم؛ فدعا عليهم موسى، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى أن يذهب إلى شاطئ النيل ويضربه بعصاه؛ ففعل ذلك، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم كلّها دما عبيطا، فما يشربون من الأنهار والآبار إلّا وجدوا دما أحمر عبيطا؛ فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا؛ إنّا قد ابتلينا بهذا الدم، وليس لنا شراب. فقال: إنّه قد سحركم. فكان يجمع بين الرجلين على الإناء: القبطىّ والإسرائيلىّ فيسقيان من ماء واحد، فيخرج ماء القبطى دما، وماء الإسرائيلىّ عذبا؛ وكانا يقومان إلى الجرّة فيها الماء، فتخرج للإسرائيلىّ ماء وللقبطىّ دما، حتى إنّ المرأة من آل فرعون كانت تأتى المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول: اسقينى من مائك. فتغرف لها من جرّتها، وتصبّ لها من قربتها، فيعود فى الإناء دما، حتى إن كانت المرأة تقول لها: اجعليه فى فيك

ثم مجيّه فى فمى. فتأخذ فى فيها ماء، فإذا مجّته فى فيها صار دما، والنيل على ذلك يسقى الزرع والشجر؛ فإذا ذهبوا ليستقوا من بين الزرع عاد الماء دما عبيطا. قالوا: وإنّ فرعون اعتراه العطش فى تلك الأيّام، حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فكان إذا مضغها يصير ماؤها فى فيه ملحا أجاجا ومرّا زعاقا؛ فمكثوا فى ذلك سبعة أيّام لا يأكلون ولا يشربون إلّا الدم؛ فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل. فدعا موسى ربّه فكشف عنهم ذلك، وأمر أن يضرب بعصاه النيل ضربة أخرى؛ ففعل فتحوّل صافيا كما كان، فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه، وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. وقال نوف البكالىّ- وهو ابن امرأة كعب الأحبار-: مكث موسى فى آل فرعون عشرين سنة بعد ما غلب على السحرة يريهم الآيات: الجراد والقمّل والضّفادع والدم. وقال الضحّاك: لمّا يئس موسى من إيمان فرعون وقومه، ورأى أنهم لا يزدادون إلا الطغيان والكفر والتمادى، دعا عليهم موسى وأمّن هارون. رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. فأجاب الله دعاءه، كما قال تعالى: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما الآية. قال: وكان لفرعون وأصحابه من زهرة الدنيا وزينتها من الذهب والفضّة واليواقيت وأنواع الجواهر والحلىّ ما لا يحصيه إلا الله تعالى؛ وكان أصل ذلك المال مما جمعه يوسف- عليه السلام- فى زمانه أيّام القحط، فبقى ذلك

فى أيدى القيط، فأوحى الله تعالى إلى موسى: أنّى مورث بنى إسرائيل ما فى أيدى آل فرعون من العروض والحلىّ، وجاعله لهم جهازا وعتادا إلى الأرض المقدّسة فاجعل لذلك عيدا تعتكف عليه أنت وقومك تشكروننى وتذكروننى فيه وتعظّموننى ذلك اليوم، وتعبدوننى فيه لما أريكم من الظّفر ونجاة الأولياء وهلاك الأعداء واستعيروا لعيدكم من آل فرعون الحلىّ وأنواع الزينة، فإنّهم لا يمتنعون عليكم للبلاء الحالّ بهم فى ذلك الوقت، ولما قذفت لكم فى قلوبهم من الرعب. ففعل موسى ذلك كما أمره الله تعالى، فأمر فرعون بزينة أهله وولده وما كان فى خزائنه من أنواع الحلىّ، فأعيرت بنى إسرائيل لما أراد الله تعالى بذلك أن يفىء على موسى وقومه أفضل أموال أعدائه بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا رجل؛ فلمّا دعا موسى عليهم مسخ الله تعالى الأموال الّتى بقيت فى أيديهم حجارة حتى النخل والرقيق. وقال محمد بن كعب: سألنى عمر بن عبد العزيز عن الآيات الّتى أراهن الله تعالى فرعون وقومه؛ فقلت: الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والعصا واليد البيضاء والطّمس وفلق البحر. قال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا. ثم دعا بخريطة فيها أشياء ممّا كان أصيب لعبد العزيز بن مروان لمّا كان على مصر من بقايا آل فرعون، فأخرج البيضة مقسومة نصفين كأنّها الحجر، والجوزة مشقوقة نصفين وكأنها الحجر، والحمّصة والعدسة. وروى ابن إسحاق عن رجل من أهل الشأم كان بمصر قال: ورأيت نخلة مصروعة كأنها الحجر. قال: ورأيت إنسانا وما شككت أنه إنسان وإنّه لحجر؛ وكان المسخ فى أرقائهم دون أحرارهم، إذ العبيد من جملة أموالهم؛ فلم يبق لهم مال إلّا مسخه الله تعالى ما خلا الذى فى أيدى بنى إسرائيل من الحلىّ والجواهر وأنواع الزينة.

ذكر خبر قتل الماشطة

قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوّل الايات العصا، وآخرها الطمس؛ وبلغنا أن الدنانير والدراهم صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكّرهم حجارة، وبعض المسخ من الآدميين باق مشاهد إلى وقتنا هذا، وقد شاهدت أنا منه شخصا شكل خادم وهو جالس على كرسىّ بقرب البيت الأخضر ببلاد الجيزية، وذلك فى شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولعلّه من ذلك المسخ؛ والله أعلم. ذكر خبر قتل الماشطة قال: وكانت لبنات فرعون ماشطة- وهى امرأة حزقيل المؤمن- فبينما هى تمشط إحدى بناته إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس من كفر بالله. فقالت لها ابنة فرعون: إنما تريدين من كفر بأبى. فقالت: إنّما عنيت من كفر بإله موسى. فقامت إلى أبيها وأخبرته؛ فغضب وأحضرها وقال: ما الّذى بلغنى عنك؟ قالت: صدقوا، أنا مؤمنة بإله موسى، فاقض ما أنت قاض. فشدّها إلى أوتاد من حديد، وأحضر أولادها الثلاثة، وعرض عليها أن تؤمن به؛ فأبت، فذبحهم على صدرها وهى تحمد الله تعالى؛ ثم طرحها فى تنور من نحاس وأحرقها فيه وأحرق أولادها. ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون قال: لما قتل فرعون الماشطة، سمعت آسية الملائكة تعدها بالجنة، فقامت من مجلسها وهى تقول: يا إله موسى ألبسنى الصبر وارزقنى الشهادة وابن لى عندك بيتا فى الجنّة ونجّنى من فرعون وعمله ونجّنى من القوم الظّالمين، وخرجت على فرعون وهى حاسرة عن وجهها، وقالت له: يا ملعون، الى كم تقتل أولياء الله

ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عز وجل لفرعون

وتأكل رزق الله وتكفر نعمته ولا تشكره، وترى آياته ولا تعتبر بها؟ فقال لوزرائه: قد أفسد علىّ موسى حتّى آسية؛ واستشارهم فى أمرها؛ فأشاروا عليه بقتلها، فأمر بنزع ما عليها؛ وشدّها إلى أوتاد فى الأرض، وضرب وتدين فى صدرها فماتت- رضى الله عنها-. ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عزّ وجلّ لفرعون قال الكسائىّ: ثم بعث الله تعالى الظّلمة على أهل مصر ثلاثة أيام، فلم يعرفوا اللّيل من النهار، وانقطع عنهم النيل حتى أضرّبهم العطش؛ فشكوا ذلك إلى فرعون فأمر بجمع الجنود وخرج ليجريه؛ فلمّا قرب من مكانه انفرد عن القوم ونزل عن فرسه وقال: إلهى إنك إله السماء والأرض لا إله إلا أنت، وحلمك الذى يحملنى أن أسألك ما ليس لى بحق، والخلق خلقك، وقد علمت ما هم فيه من العطش وأنت المتكفّل بأرزاقهم؛ اللهم أجر لهم النيل. فما فرغ من كلامه حتى انصبّ النيل، وركب فرسه والنيل يجرى معه إن سار سار وإن وقف وقف، حتى دخل مصر، فسجد القوم له، وازدادوا كفرا؛ وعجب موسى وهارون لذلك. ذكر خبر غرق فرعون وقومه قال الكسائىّ: ولما رجع فرعون بجنوده وقد أجرى لهم النيل بزعمهم، دخل عليه جبريل فى صورة آدمىّ حسن الهيئة، فقال له: من أنت؟ قال: عبد من عبيد الملك جئتك مستعديا على عبد من عبيدى مكّنته من نعمتى، وأحسنت إليه كثيرا، فاستكبر وبغى وجحدنى حقّى وتسمّى باسمى، وادّعى فى جميع ما أنعمت عليه به أنّه له، وأنّه لا منعم عليه به. قال فرعون: بئس ذلك من العبيد. قال جبريل: فما جزاؤه عندك؟ قال: يغرق فى هذا البحر. فقال له جبريل: أسألك

أن تكتب لى خطّك بذلك. فكتب له فرعون خطّا، وأخذه جبريل وجاء به إلى موسى، وأمره عن الله عزّ وجلّ أن يرتحل بقومه عن مصر؛ فنادى موسى فى بنى إسرائيل وأمرهم بالرحيل؛ فارتحلوا وهم يومئذ ستّمائة ألف. قال الثعلبىّ: ستّمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة؛ ولكنّ هؤلاء المقاتلة سوى الذريّة. وأهل التوراة يقولون: إنه لا يعدّ فيهم ابن خمسين سنة ولا ابن عشرين سنة، لا خلاف عندهم فى هذا ويزعمون أنه نصّ التوراة. قال الكسائىّ: فلما سمع فرعون بارتحالهم أمر باجتماع جنوده؛ قال الله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ . فاجتمعوا وهم لا يحصون كثرة. قيل: إنّ هامان كان على مقدّمة فرعون بألف ألف وستّمائة ألف. وقال الثعلبىّ: ألف ألف وسبعمائة ألف رجل على ألف ألف وسبعمائة ألف حصان. قال: وقال ابن جريح: أرسل فرعون فى أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف رجل؛ ثم خرج فرعون خلفهم فى الدّهم، وكان فى عسكره مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشّيات، وذلك حين طلعت الشمس وأشرقت؛ قال الله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) . قال الكسائىّ: وساروا حتى قربوا من موسى ومن معه، فقالوا: يا موسى، قد لحقنا فرعون بجنوده، والبحر أمامنا والسيف وراءنا. قال كلّا إنّ معى ربّى سيهدين. فأوحى الله تعالى إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وصار فيه اثنا عشر طريقا للأسباط الأثنى عشر

فجعلوا يسيرون وموسى أمامهم وهارون وراءهم، وجعل الله بينهم فتحا ليرى بعضهم بعضا، وجاء فرعون ومن معه إلى البحر ورأى تلك الطرق فيه، فقال لهامان: هذه تفرّقت من هيبتى. وقصد الافتحام فلم يطاوعه فرسه- وكان حصانا- ونفر من العبور؛ فأتاه جبريل على رمكة فى صورة آدمىّ، فدنا من فرعون وقال: ما يمنعك من العبور؟ وتقدّم إلى جنبه، فاشتمّ فرس فرعون رائحة الرّمكة فتبعها ودخل فرعون وجنوده وجبريل أمامهم وميكائيل يسوق الناس، حتى لم يبق من جنود فرعون أحد على الساحل، فجاءه جبريل بخطّه؛ فلما رآه فرعون علم أنه هالك وانضمّت الطرق، وأغرق الناس، وفرعون ينظر إليهم؛ قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . فقال له جبريل: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. ثم غرق فرعون وجميع من معه وبنو إسرائيل ينظرون إليهم؛ ثم قال: بنو إسرائيل: إنّ فرعون لم يغرق. فأمر الله تعالى البحر فألقاه على الساحل. قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. قال: فلمّا عبر موسى البحر ببنى إسرائيل إلى الطّور، إذا هم فى طريقهم بقوم يعبدون الأصنام، قال الله تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ثم قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين، وذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم، وأمرهم بالتوبة والاستغفار؛ ثم ساروا وفى قلوبهم حبّ الأصنام حتى قربوا من الطّور.

ذكر خبر ذهاب موسى - عليه السلام - لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة

ذكر خبر ذهاب موسى- عليه السلام- لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة حكى أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسير قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. قال: كان ذلك فى شهر ذى القعدة وعشر من ذى الحجّة. قال: وذلك أنّ موسى- عليه السلام- كان قد وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إذا خرجوا منها وهلك عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون؛ فلمّا أهلك الله تعالى فرعون وقومه واستنقذ بنى إسرائيل من أيديهم، وأمّنهم من عدوّهم، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذى وعدتنا به. فسأل موسى ربّه تعالى ذلك؛ فأمره أن يصوم ثلاثين ليلة ثم يتطهّر «1» ويطهّر ثيابه ويأتى طور سيناء ليكلّمه ويعطيه الكتاب؛ فصام ثلاثين يوما؛ فلمّا صعد الجبل أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب. وقال أبو العالية: أخذ من لحاء الشجر فمصّه؛ فقالت له الملائكة: كنا نشمّ من فمك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فأوحى الله تعالى إليه أن صم عشرة أيّام أخر، وقال له: أما علمت يا موسى أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك؟ قال: وكانت فتنة بنى إسرائيل فى العشر ليالى التى زادها الله تعالى؛ فلما مضت أربعون ليلة تطهّر موسى وطهّر ثيابه لميقات ربّه؛ فلمّا أتى طور سيناء كلّمه ربّه وناجاه، وقرّبه وأدناه، كما قال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا.

قال وهب: كان بين الله تعالى وبين موسى سبعون حجابا، فرفعها كلها إلّا حجابا واحدا، فسمع موسى كلام الله تعالى واشتاق إلى رؤيته وطمع فيها، فقال ما أخبر الله- عزّ وجلّ- به عنه فى كتابه، قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ . فقال الله تعالى له: لَنْ تَرانِي وليس يطيق البشر النظر إلىّ فى الدنيا، من نظر إلىّ مات. قال: إلهى سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إلىّ من أن أعيش ولا أراك. فقال له تعالى: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ وهو أعظم جبل يقال له: (الزّبير) . قال: وذلك أنّ الجبال لمّا علمت أن الله تعالى يريد أن يتجلّى لجبل منها تعاظمت وتشامخت رجاء أن يتجلّى الله تعالى لها، وجعل الزّبير يتواضع من بينها فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينها، وخصّه بالتجلّى، قال الله تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي . فتجلّى الله تعالى للجبل. قال: واختلف العلماء فى معنى التجلّى؛ قال ابن عباس: ظهر نوره للجبل. وقال الضحّاك: أظهر الله تعالى من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب: ما تجلّى من عظمة الله تعالى للجبل إلّا مثل سمّ الخياط حتى صار دكّا. وقال السدّىّ: ما تجلّى منه إلّا قدر الخنصر. وقال الحسن: أوحى الله تعالى إلى الجبل فقال: هل تطيق رؤيتى؟ فغار الجبل وساخ فى الأرض وموسى ينظر إليه حتى ذهب أجمع.

قال أبو إسحاق: قال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: حكى لى عن سهل بن سعد الساعدىّ أنّ الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر درهم، فجعل الجبل دكّا. قال أبو بكر: فعذب إذ ذاك كلّ ماء، وأفاق كلّ مجنون، وبرأ كلّ مريض وزال الشوك عن الأشجار، واخضرّت الأرض واهتزّت. وخمدت نيران المجوس وخرّت الأصنام لوجوهها. وقال السّدّىّ: ما تجلّى للجبل إلّا مقدار جناح بعوضة، فصار الجبل دكّا. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ترابا. وقال سفيان: ساخ حتى وقع فى البحر. وقال عطية العوفىّ: صار رملا هائلا. وقال الكلبىّ: جَعَلَهُ دَكًّا ، أى كسّر جبالا صغارا. وعن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال: صار بعظمة الله ستّة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وورقان «1» ، ورضوى «2» . ووقعت ثلاثة بمكّة: ثور، وثبير وحراء. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً . قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: مغشيّا عليه. وقال قتادة: ميّتا. وقال الكلبىّ: خرّ موسى صعقا: يوم الخميس يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر.

قال الواقدىّ: لمّا خرّ موسى صعقا قالت الملائكة: ما لابن عمران وسؤال الرؤية. قال وهب: لما سأل موسى الرؤية أرسل الله تعالى الضّباب والصواعق والظّلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الّذى عليه موسى، وأمر الله تعالى ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى أربعة فراسخ من كلّ ناحية؛ فمرّت ملائكة سماء الدنيا كثيران البقر، تتابع أفواههم التقديس والتسبيح بصوت عظيم كصوت الرعد الشديد؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى. فهبطوا عليه مثل أسد لهم نحيب بالتسبيح والتقديس؛ ففزع موسى مما رأى وسمع واقشعرّ جلده، ثم قال: ندمت على مسألتى، فهل ينجينى من مكانى الّذى أنا فيه شىء؟ فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما رأيت، فقليل من كثير رأيت. ثم هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور، لهم قصف ورجف بالتسبيح والتهليل والتقديس كجلب الجيش العظيم وكلهب النار؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شىء من الّذين مرّوا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شىء من أصوات الّذين مرّوا به قبلهم؛ ثم هبطت عليه ملائكة السماء الخامسة فى سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم الطّرف، لم ير مثلهم ولا سمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوف موسى فزعا، واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه؛ ثم قال له حبر الملائكة ورأسهم: يابن عمران، مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه؛ ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدى الّذى أراد أن يرانى؛ فعرضوا عليه وفى يد كلّ منهم حربة مثل النخلة الطويلة، نارها أشدّ ضوءا من الشمس، ولباسهم كلهب النّيران، إذا سبّحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم

ذكر خبر الألواح ونزول التوراة والعشر كلمات

من ملائكة السموات، كلّهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبّوح قدّوس ربّ العزّة أبدا لا يموت. وفى رأس كل ملك منهم أربعة أوجه؛ فلمّا رآهم رفع صوته يسبّح معهم ويبكى ويقول: ربّ اذكرنى ولا تنس عبدك، لا أدرى هل أتخلّص مما أنا فيه أم لا، إن خرجت احترقت وإن مكثت مت. فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا بن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك، فاصبر للذى سألت. ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه فى ملائكة السماء السابعة، فقال: أروه إيّاه. فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة ربّ العزّة، وردّدت ملائكة السموات أصواتهم جميعا؛ فارتج الجبل، واندكت كلّ شجرة كانت فيه، وخرّ موسى صعقا ليس معه روحه؛ فقلب الله تعالى الحجر الذى كان موسى عليه وجعله كهيئة القبّة لئلّا يحترق موسى؛ وأرسل الله عليه روح الحياة برحمته؛ فقام موسى يسبّح الله تعالى ويقول: آمنت أنّك ربّى وصدّقت أنه لا يراك أحد، فنجّنى، ومن نظر إلى ملائكتك انحلع قلبه، فما أعظمك وأعظم ملائكتك! أنت ربّ الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شىء، ولا يقوم لك شىء، تبت إليك، الحمد لك لا شريك لك ربّ العالمين. ذكر خبر الألواح ونزول التوراة والعشر كلمات قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ.

قال الثعلبىّ: ثم بعث الله جبريل- عليه السلام- إلى جنّة عدن فقطع منها شجرة، فاتخذ منها تسعة ألواح، طول كلّ لوح عشر أذرع بذراع موسى، وكذلك عرضه، وكانت الشجرة من زمرّد أخضر؛ ثم أمر الله تعالى جبريل أن يأتيه بسبعة أغصان من سدرة المنتهى؛ فجاء بها، فصارت جميعا نورا، وصار «1» النور قلما طاف فيما بين السماء والأرض فكتب التوراة، وموسى يسمع صرير القلم؛ فكتب الله تعالى له فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وذلك يوم الجمعة، فأشرقت الأرض بالنور؛ ثم أمر الله تعالى موسى أن يأخذها بقوّة ويقرئها قومه؛ فوضعت الألواح على السماء فلم تطق حملها لنقل العهود والمواثيق؛ فقالت: يا ربّ كيف أطيق حمل كتابك الكريم الثقيل المبارك؟ وهل خلقت خلقا يطيق حمل ذلك؟ فبعث الله تعالى جبريل وأمره أن يحمل الألواح فيبلغها موسى، فلم يطق حملها، فقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها من النور والبيان والعهود؟ وهل خلقت خلقا يطيق حملها؟ فأمدّه الله تعالى بملائكة يحملونها بعدد كلّ حرف من التوراة؛ فحملوها حتى بلّغوها موسى؛ فعرضوا له الألواح على الجبل، فانصدع الجبل وخشع، وقال: يا ربّ من يطيق حمل هذه الألواح بما فيها؟ فلمّا وضعتها الملائكة على الجبل بين يدى موسى- وذلك عند صلاة العصر- قبض موسى عليها فلم يطق حملها، فلم يزل يدعو حتّى هيأ الله تعالى له حملها؛ فحملها، فذلك قوله تعالى: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قال: وأمّا العشر كلمات الّتى كتبها الله تعالى لنبيّه موسى فى الألواح- وهى معظم التوراة، وعليها مدار كلّ شريعة- فهى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ، هذا

كتاب من الله الملك الجبّار العزيز القهار لعبده ورسوله موسى بن عمران، سبّحنى وقدّسنى، لا إله إلّا أنا فآعبدنى ولا تشرك بى شيئا، واشكر لى ولوالديك إلىّ المصير، أحيك حياة طيّبة؛ ولا تقتل النفس الّتى حرّم الله عليك فتضيق عليك السماء بأقطارها والأرض برحبها؛ ولا تحلف باسمى كاذبا فإنّى لا أطهّر ولا أزكّى من لم يعظّم اسمى؛ ولا تشهد بما لا يعى سمعك ولا تنظر عينك ولم يقف قلبك عليه فإنى أقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، وأسائلهم عنها؛ ولا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلى ورزقى، فإنّ الحاسد عدوّ لنعمتى، ساخط لقسمتى؛ ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهى، وأغلق دون دعوتك أبواب السموات؛ ولا تذبح لغيرى، فإنه لا يصعد إلىّ من قربان الأرض إلّا ما ذكر عليه اسمى؛ ولا تغدرنّ بحليلة جارك فإنّه أكبر مقتا عندى؛ وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك. فهذه العشر كلمات؛ وقد أنزل الله- عزّ وجلّ- على نبيّنا محمد- صلّى الله عليه وسلّم- مثلها فى ثمانى عشرة آية، وهى قوله تعالى فى سورة بنى إسرائيل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً* وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً* وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً* وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ

خِطْأً كَبِيراً* وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا* وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا* وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً* ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ثم جمعها فى آيتين من سورة الأنعام، وهى قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وقد روى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لمّا أعطى الله موسى الألواح نظر فيها وقال: يا ربّ لقد أكرمتنى بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلى. قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ.

وأخرج «1» الحافظ: تموت على حبّ محمد عليه السلام. قال موسى: يا ربّ وما محمد؟ قال: أحمد الذى أثبتّ اسمه على عرشى من قبل أن أخلق السموات والأرض بألفى عام، وإنه لنبيّى وحبيبى وخيرتى من خلقى، هو أحبّ إلىّ من جميع خلقى ومن جميع ملائكتى. قال: يا ربّ إن كان محمد أحبّ إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمّة أكرم عليك من أمّتى.؟ قال الله تعالى: إنّ فضل أمّة محمد- عليه السلام- على سائر الأمم كفضله على سائر الخلق. قال: يا ربّ ليتنى رأيتهم. قال: إنّك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم لسمعت. قال: يا ربّ فإنّى أريد أن أسمع كلامهم. قال: يا أمّه محمد. فأجبنا كلّنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمّهاتنا: لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمّة محمد. إنّ رحمتى سبقت غضبى، وعفوى عقابى، قد أعطيتكم من قبل أن تسألونى، وقد أجبتكم من قبل أن تدعونى، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصونى، من جاء يوم القيامة يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وروى الثعلبىّ أيضا بسند رفعه إلى (كعب الأحبار) أنّه رأى حبرا من أحبار اليهود يبكى، فقال له: ما يبكيك.؟ فقال له: ذكرت بعض الأمر. فقال كعب: أنشدك الله إن أخبرتك بما أبكاك أتصدّقنى؟ قال: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هى خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يؤمنون بالكتاب الأوّل

وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجّال. فقال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. فقال له الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك بالله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنى أجد أمّة هم الحامدون، الرّعاة الشّمس «1» المحكّمون، إذا أرادوا أمرا قالوا: «نفعله إن شاء الله تعالى» فاجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال له الحبر: نعم. قال: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: ربّ إنّى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم. قال: «وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار، غير أنّ موسى كان يجمع صدقات بنى إسرائيل فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلّا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقة وما فضل حفر له حفيرة عميقة وألقاه فيها، ثم دفنه كيلا يرجعوا فيه» وهم المسبّحون والمسبّح لهم، وهم الشافعون والمشفّع لهم. قال موسى: يا ربّ اجعلهم أمّتى. قال: هم أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله أتجد فى التوراة أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: إنّى أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله تعالى، وإذا هبط واديا حمد الله تعالى؛ الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا، يتطهّرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حين لا يجدون الماء؛ غرّ محجّلون من آثار الوضوء، فآجعلهم أمّتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها تكتب له، فإن عملها ضوعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها تكتب عليه

سيّئة مثلها. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله أتجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة ضعفاء «يرثون «1» الكتاب الّذين اصطفينا» فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ فلا أجد أحدا منهم إلّا مرحوما فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله هل تجد فى كتاب الله المنزّل أنّ موسى نظر فى التوراة فقال: يا ربّ إنّى أجد أمّة مرحومة، مصاحفهم فى صدورهم، يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة يصفّون فى صلاتهم صفوفا كصفوف الملائكة؛ أصواتهم فى مساجدهم كدوىّ النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلّا من الحساب مثل ما يرمى الحجر من وراء الشجر. فاجعلهم أمتى. قال: هى أمّة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال: فعجب موسى من الخير الذى أعطاه الله محمدا وأمّته، وقال: يا ليتنى من أصحاب محمد. فأوحى الله تعالى إليه ثلاث آيات يرضيه بهنّ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي إلى قوله: دارَ الْفاسِقِينَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قال: فرضى موسى كلّ الرضا. ولنصل هذا الفصل بما ورد فى تفسير قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قال الثعلبىّ: قال أهل المعانى: هذا كقول القائل لمن يخاطبه: «سأريك غدا إلى ما تصير إليه حال من يخالف أمرى» على وجه الوعيد والتهديد.

وقال مجاهد: سأريكم دار الفاسقين، يعنى مصيرهم فى الآخرة. وقال الحسن: جهنّم. وقال قتادة وغيره: سأدخلكم الشأم فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكّانها من الجبابرة والعمالقة. وقال عطيّة العوفىّ: معناه سأريكم دار فرعون وقومه، وهى مصر. قال أبو العالية: رفعت مصر لموسى حتّى نظر إليها. وقال السدّىّ: دار الفاسقين: مصارع الفاسقين، ما يمرّون عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا. وقال ابن كيسان: دار الفاسقين، يعنى إلى ما يصير قرارهم فى الأرض. وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار؛ وذلك أن الله تعالى لمّا أغرق فرعون وقومه أمر البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل؛ ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين. وقال يمان: يعنى مسكن فرعون. وأما ما ورد فى تفسير قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ، يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِ ، أى يرشدون إلى الحق. وقيل: معناه يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به وَبِهِ يَعْدِلُونَ أى ينصفون من أنفسهم لا يجورون.

قال السدّىّ: هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد. وقال ابن جريح: بلغنى أن بنى إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم وكفروا- وكانوا اثنى عشر سبطا- تبرّأ سبط منهم؛ واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرّق بينهم وبينهم، ففتح الله تعالى لهم نفقا فى الأرض، فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصّين؛ فهم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا. قال الكلبىّ وربيع والضّحاك وعطاء: هم قوم من المغرب خلف الصين على نهر يحوى «1» الرمل يسمى نهر أوران «2» ، وليس لأحدهم مال دون صاحبه؛ يمطرون بالليل، ويصحون بالنهار ويزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا وهم على الحقّ. قال: وذكر عن النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- أن جبريل ذهب به ليلة أسرى به إليهم؛ فكلّمهم؛ فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمّد النبىّ الأمّىّ. فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا وقال: من أدرك منكم أحمد فليقرأ منّى عليه السلام. فردّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على موسى وعليهم السلام؛ ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة سوى الصلاة والزكاة، فأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. حكاه أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره. نرجع إلى تتمّة أخبار موسى- عليه السلام-.

ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به

ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به قال الكسائىّ والثعلبىّ وغيرهما من أهل السير ما مختصره ومعناه: إن موسى- عليه السلام- لمّا توجّه إلى البقعة المباركة الّتى كلّمة الله تعالى فيها لميقات ربّه، استخلف أخاه هارون على بنى إسرائيل، وكان السامرىّ فيهم. واختلف فيه، فقال قتادة والسدّىّ: كان السامرىّ من عظماء بنى إسرائيل من قبيلة يقال لها: (سامرة) «1» ولكنه عدوّ لله منافق. وقال سعيد: كان السامرىّ من (كرمان) . وقال غيرهم: كان رجلا صائغا من أهل باجرما، واسمه ميخا. وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: اسمه موسى بن ظفر، وكان رجلا منافقا وقد أظهر الإسلام؛ وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حبّ البقر، فلما ذهب موسى- عليه السلام- لميقات ربّه- وكان قد واعد قومه ثلاثين ليلة فأتمّها الله بعشر، كما أخبر الله عزّ وجلّ- فعدّ بنو إسرائيل ثلاثين، فلمّا لم يرجع إليهم موسى افتتنوا وقالوا: إنّ موسى أخلفنا الوعد؛ فاغتنمها السامرىّ ففعل ما فعل. وقال قوم: إنهم عدّوا الليلة يوما واليوم يوما، وكان موسى قد واعدهم أربعين، فلمّا مضت عشرين يوما افتتنوا، فأتاهم السامرىّ وقال: إنّ موسى قد احتبس عنكم، فينبغى لكم أن تتّخذوا إلها، فإنّ موسى ليس يرجع إليكم، وقد تمّ الميقات. وإنما طمع فيهم السامرىّ لأنّهم فى اليوم الذى أنجاهم الله من فرعون وطلعوا من البحر، كان من أمرهم ما أخبر الله تعالى عنهم فى قوله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا

إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فطمع السامرىّ فيهم واغتنمها، فلمّا تأخّر موسى عن الميقات- وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلّى آل فرعون كما قدّمنا؛ فلمّا فصل موسى قال هارون لبنى إسرائيل: إنّ حلّى القبط الّذى استعرتموه غنيمة، وإنّه لا يحلّ لكم؛ فاجمعوه فاحفروا له حفيرة وادفنوه حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه. ففعلوا ذلك، وجاءهم السامرىّ ومعه القبضة الّتى قبضها من أثر حافر فرس جبريل- عليه السلام-. قالوا: وكان لجبريل- عليه السلام- فرس أنثى بلقاء يقال لها: «فرس الحياة» لا تصيب شيئا إلّا حيى؛ فلما رأى السامرىّ جبريل على تلك الفرس عرفه وقال: إن لهذا الفرس لشأنا. وأخذ قبضة من تراب حافرها حين عبر جبريل البحر. قالوا: وإنّما عرف السامرىّ خبر الفرس دون غيره من بنى إسرائيل، لأنّ فرعون لمّا أمر بذبح أولاد بنى إسرائيل جعلت المرأة إذا ولدت الغلام انطلقت به سرّا فى جوف الليل الى صحراء أو واد أو غار فى جبل فأخفته؛ فقيّض الله تعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى لا يختلط بالناس، وكان الذى ولى كفالة السامرىّ جبريل عليه السلام، فجعل يمصّ من إحدى إبهاميه سمنا، ومن الأخرى عسلا، فمن ثمّ عرفه، ومن ثمّ الصبىّ إذا جاع يمصّ إبهامه فيروى من المص. نرجع إلى خبر بنى إسرائيل مع السامرىّ. قال: فلمّا أمرهم هارون بجمع الحلىّ وجمعوه، جاء السامرىّ بالقبضة فقال لهارون: يا نبىّ الله، أأقذفها فيه؟ فظنّ هارون أنّها من الحلىّ، وأنّه يريد بها ما يريد أصحابه، فقال له: اقذف. فقذفها فى الحفرة على الحلىّ، فصار عجلا جسدا له خوار.

وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: أوقد هارون نارا وأمرهم أن يقذفوا الحلىّ فيها؛ فقذف السامرىّ تلك القبضة فيها وقال: «كن عجلا جسدا له خوار» . فكان كذلك للبلاء والفتنة. ويقال: إنّ الّذى قال لبنى إسرائيل: «إنّ الغنيمة لا تحل لكم» هو السامرىّ، فصدّقوه وجمعوها، فدفعوها إليه فصاغ منها عجلا فى ثلاثة أيام ثم قذف فيه القبضة، فجثا وخار خورة ثم لم يعد. وقال السدّىّ: كان يخور ويمشى؛ فلمّا أخرج السامرىّ العجل وكان من ذهب مرصّع بالحجارة كأحسن ما يكون، قال هذا إلهكم وإله موسى. فشبّه السامرىّ على أوغاد بنى إسرائيل وجهّالهم حتى أضلّهم وقال لهم: إنّ موسى قد أخطأ ربّه فأتاكم ربّه أراد أن يريكم أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه، وأنه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه، وأنه قد أظهر لكم العجل ليكلّمكم من وسطه كما كلّم موسى من الشجرة. قالوا: فلمّا رأوا العجل وسمعوا قول السامرىّ، افتتنوا غير اثنى عشر ألفا وكان مع هارون ستّمائة ألف، فعكفوا عليه يعبدونه من دون الله تعالى، وأحبّوه حبّا ما أحبّوا مثله شيئا قطّ؛ فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل إنّما فتنتم به وإنّ ربّكم الرّحمن فاتّبعونى وأطيعوا أمرى* قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى. فأقام هارون بمن معه من المسلمين، وأقام من يعبد العجل على عبادته؛ وخشى هارون إن سار بمن معه من المسلمين إلى المفتتنين الضالّين أن يقول له موسى: فرقت بين بنى إسرائيل.

ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم

قال راشد بن سعد: لما واعد الله تعالى موسى أربعين يوما قال الله تعالى: يا موسى، إنّ قومك قد افتتنوا من بعدك. قال: يا ربّ كيف يفتتنون وقد نجّيتهم من فرعون ومن البحر، وأنعمت عليهم؟ قال: إنهم اتخذوا العجل إلها من دونى وهو عجل جسد له خوار. قال: يا ربّ من نفخ فيه الرّوح؟ قال: أنا. قال: أنت- وعزّتك- فتنتهم، إن هى إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. قال: فلمّا رجع موسى من الميقات الى قومه وقرب منهم، سمع اللغط حول العجل وكانوا يرقصون حوله، ولم يخبر موسى أصحابه السبعين بما أخبره به ربّه تعالى من حديث العجل، فقالوا: هذا قتال فى المحلّة. قال موسى لهم: لا ولكنّها أصوات الفتنة، افتتن القوم بعدنا بعبادة غير الله تعالى. ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم قال الله عزّ وجلّ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وذلك أنّه لما رآهم حول العجل وما يصنعون فيه ألقى الألواح من يده فتكسّرت، فصعد عامّة الكلام الذى فيها، ولم يبق إلّا سدسها، ثم أعيدت له فى لوحين. روى عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: ليس المعاين كالمخبر، قال الله تعالى لموسى: إن القوم قد افتتنوا فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ألقى الألواح فكسرها. قالوا: فلما رأى موسى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، أخذ شعر رأس أخيه هارون بيمينه، ولحيته بشماله وقال له: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا

ألّا تتّبعن أفعصيت أمرى، هلّا قاتلتهم إذ علمت أنّى لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم؟ فقال هارون: يابن أمّ؛ قال المفسّرون: كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، ولكنّه أراد بقوله: يابن أمّ تقريبه واستعطافه عليه، لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنّى خشيت، إن أقاتلهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول: فرّقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى، ولم تحفظ وصيّتى حين قلت لك: اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين. وقال: إنّ القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلنى مع القوم الظّالمين. فقال موسى: ربّ اغفرلى ولأخى وأدخلنا فى رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين. قال: ثم أقبل موسى على السامرىّ فقال له: ما خطبك يا سامرى، أى ما أمرك وشأنك؟ فقال السامرىّ: بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرّسول، أى أخذت ترابا من أثر فرس جبريل فنبذتها وطرحتها فى العجل وكذلك سوّلت لى نفسى، أى زيّنت. قال: فلمّا علم بنو إسرائيل أنهم قد أخطأوا وضلّوا فى عبادتهم العجل، ندموا على ذلك واستغفروا، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ؛ فقال لهم موسى: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم. قالوا: كيف نتوب؟ قال: فاقتلوا أنفسكم، أى يقتل البرىء المجرم، ذلكم يعنى القتل خير لكم عند بارئكم.

قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أبى الله أن يقبل توبة بنى إسرائيل إلّا بالحال الّتى كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل. وقال قتادة: جعل الله توبة عبدة العجل القتل لأنّهم ارتدّوا، والكفر مبيح للدّم. وقال الكسائىّ: لمّا قال موسى لبنى إسرائيل: يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، سألوه أن يتوب الله تعالى عليهم؛ فسأل الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه أنّه لا توبة لهم، لأنّ فى قلوبهم حبّ العجل، فاجمع رماد العجل وألقه فى الماء، وأمرهم أن يشربوا منه فإنه يظهر ما فى قلوبهم على وجوههم. ففعل ذلك؛ فلمّا شربوا لم يبق أحد ممّا فى قلبه مرض إلا اصفرّ وجهه ولونه وورم بطنه، ودام ذلك بهم، فقالوا: يا موسى، هل شىء غير التوبة الخالصة وقد أخلصنا فى توبتنا حتى لو أمرتنا بقتل أنفسنا فعلنا؟ فأوحى الله إليه: يا موسى قد رضيت بحكمهم على أنفسهم، فقل لهم: بقتلوا أنفسهم إن كانوا صادقين فى توبتهم. فقال لهم موسى ما أمرهم الله به: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ قال: يقوم من لم يعبد العجل إلى من عبده فيقتله. فقاموا بالسيوف والخناجر إلى الّذين عبدوه وأرسل الله عليهم ظلمة فلم يبصر بعضهم بعضا، حتى كان الرجل يأتى إلى أخيه وأبيه وابن عمه وقرابته فيقتله وهو لا يعرفه، ولم يعمل السلاح فيمن لم يعبد العجل حتى خاضوا فى الدماء، وصاح النساء والصبيان إلى موسى: «العفو يا نبىّ الله» فدعا موسى الله بالعفو عنهم؛ فلم يعمل السلاح فيهم بعد ذلك، وقبل الله تعالى توبتهم، وارتفعت الظّلمة عنهم.

ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم

قالوا: ثم همّ موسى بقتل السامرىّ، فأوحى الله تعالى إليه: لا تقتله فإنّه سخىّ، ولكن أخرجه عن قومك. فلعنه موسى وقال له ما أخبر الله تعالى به عنه: (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أى لعذابك فى القيامة. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. قال: وأمر موسى بنى إسرائيل ألّا يخالطوا السامرىّ ولا يقاربوه؛ فصار السامرىّ وحشيّا لا يألف ولا يؤلف ولا يدنو من الناس ولا يمسّ أحدا منهم فمن مسّه قرض ذلك الموضع بالمقراض، فكان ذلك دأبه حتى هلك. ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم قال الكسائىّ: ثم أقبل موسى على بنى إسرائيل بالتوراة وقال: هذا كتاب ربّكم فيه الحلال والحرام والأحكام والسنن والفرائض ورجم الزانى والزانية المحصنين وقطع يد السارق، والقصاص فى كل ذنب يكون منكم. فضجّوا من ذلك وقالوا: لا حاجة لنا فى هذه الأحكام، وما كنا فيه من عبادة العجل كان أرفق بنا من هذا. قال: فلمّا امتنعوا من قبول أحكام الله عزّ وجلّ قال موسى: يا رب قد علمت أنهم ردّوا كتابك وكذّبوا بآياتك. فأمر الله تعالى جبريل أن يرفع عليهم جبل طور سيناء فى الهواء؛ قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا «1» قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا ؛

ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى - عليه السلام - ثيابه عليه

فجعل الجبل يدنو منهم حتى ظنوا أنه يسقط عليهم؛ فآمنوا وخرجوا سجّدا على أنصاف وجوههم وهم ينظرون إلى الجبل بالنصف الاخر؛ فلأجل ذلك سجود اليهود كذلك. وردّ الجبل عنهم. ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى- عليه السلام- ثيابه عليه قال: وكانوا إذا اغتسلوا لا يسترون عوراتهم، وإذا اغتسل موسى يستتر فظنوا أن فى بدنه عيبا، فتكلموا بذلك، وكان موسى- عليه السلام- إذا اغتسل وضع ثوبه على حجر وقرعه بعصاه فيتفجر الماء منه، فيغتسل ثم يلبس ثوبه؛ ففعل ذلك فى بعض الأيام، فلما أراد أن يلبس ثوبه انقلع الحجر من موضعه ومر على وجه الأرض وعليه ثوب موسى؛ فعدا موسى خلفه وهو يقول: «ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر» ولم يزل يعدو حتى وقف على بنى إسرائيل، فنظروا إلى موسى ولا عيب فيه، فندموا على ما كان منهم؛ قال الله تعالى: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) . ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة، وكيف أحياهم الله- عزّ وجلّ- وبعثهم من بعد موتهم قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . وذلك أن الله تعالى أمر موسى- عليه السلام- أن يأتيه فى ناس من بنى إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل؛ فاختار موسى- عليه السلام- سبعين رجلا من قومه من خيارهم، وكان قد اختار من كلّ سبط ستّة نفر، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: إنما أمرت بسبعين، فليتخلّف منكم رجلان. فتشاحنوا على

ذلك، فقال موسى: إن لمن قعد مثل أجر من خرج. فقعد يوشع بن نون وكالب ابن يوقنا «1» ، فقال موسى للسبعين: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. ففعلوا ذلك فخرج بهم موسى عليه السلام إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا ذلك الموضع قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عمود الغمام عليه وتغشّى الجبل كلّه، فدخل فى الغمام وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه عز وجل- وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا فى الغمام وخرّوا سجّدا، وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه؛ فأسمعهم الله تعالى: إنى أنا الله لا إله إلا أنا ذو الملك، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى. فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة، أى لن نصدّقك، فأخذتهم الصّاعقة، وهى نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا. وقال وهب بن منبّه: أرسل الله عليهم جندا من السماء، فلما سمعوا حسّها ماتوا فى يوم وليلة. فلما هلكوا جعل موسى- عليه السلام- يبكى ويتضرع ويقول: يا رب ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله- عزّ وجلّ- رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. حكاه الثعلبىّ فى تفسيره.

ذكر خبر قارون

وقال الكسائىّ فى هذه القصة: أقبل بنو إسرائيل على موسى وقالوا: أرنا الله جهرة. فأوحى الله تعالى إليه: أكلّهم يريد ذلك؟ - وهو أعلم- فقال الصالحون منهم: إن الله أجل من أن نراه فى الدنيا. وقال الباقون: إنما امتنع هؤلاء لضعف قلوبهم. فأوحى الله تعالى إليه: أن اختر منهم سبعين رجلا وسر بهم إلى جبل الطور؛ فسار بهم، ووقع الغمام على الجبل حتى أظله، وأتاه موسى وهم معه؛ فأمر الله تعالى الملائكة أن تهبط إلى الجبل بزيّها وصورها؛ فلما نظر بنو إسرائيل إليهم أخذتهم الرّعدة والخوف، وندموا على ما كان منهم، ونودوا من قبل السماء: يا بنى إسرائيل. فصعقوا كلّهم وماتوا. وساق نحو ما تقدّم. قال: ورجعوا إلى قومهم وخبّروهم بما رأوا. ذكر خبر قارون قال المفسرون: إنّ قارون كان ابن عمّ موسى، لأنه قارون بن يصهر ابن قاهث. وقال ابن إسحاق: هو عمّ موسى، لأن يصهر بن قاهث تزوّج شميش «1» بنت ماويب بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم، فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر. فعلى هذا القول يكون عم موسى؛ وعلى قول الآخرين يكون ابن عمه، وعليه عامّة أصحاب التواريخ؛ وعليه أهل الكتاب، لا خلاف عندهم فى ذلك.

قالوا: وكان قارون أعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون وأفضلهم وأجملهم. قال قتادة: وكان يسمى المبشور «1» لحسن صورته، ولم يكن فى بنى إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكنّ عدوّ الله نافق كما نافق السامرىّ، فبغى على قومه، كما قال تعالى: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) . قال الثعلبىّ: واختلفوا فى معنى هذا البغى ما هو، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان فرعون قد ملّك قارون على بنى إسرائيل، وكان يبغى عليهم ويظلمهم. وقال عطاء الخراسانىّ وشهر بن حوشب: زاد عليهم فى الثياب شبرا. وقال شيبان عن قتادة: بغى عليهم بالكبر والبذخ. وقال سعيد عنه: بكثرة المال. وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم، كما قال تعالى: (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أى تثقل وتميل بهم إذا حملوها لثقلها. واختلف المفسرون فى عدد العصبة، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى الخمسة. وقال قتادة: ما بين العشرة إلى الأربعين. وقال عكرمة: منهم من يقول: سبعين. وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: هم ستون. وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت فى الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون كانت وقر ستين بغلا غرّا محجّلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز.

ويقال: إن قارون كان أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه- وكانت من حديد:- فلما ثقلت عليه جعلها من الخشب، فثقلت عليه، فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، تحمل معه على أربعين بغلا. وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الخزائن. وإليه ذهب أبو صالح. وقال أبو رزين: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا. واختلفوا فى سبب اجتماع تلك الأموال لقارون؛ فقيل: كان عنده علم الكيمياء. قال سعيد بن المسيّب: كان موسى يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع ثلث العلم، وعلّم كالب ثلثه، وعلّم قارون ثلثه؛ فخدعهما قارون حتى أضافا علمهما إلى علمه. وحكى الكسائىّ: كان قارون من فقراء بنى إسرائيل، فأوحى الله إلى موسى أن يحلّى تابوت التوراة بالذهب، وعلّمه صنعة الكيمياء؛ فجاء قارون إلى أم كلثم أخت موسى- وقد قيل: إنها كانت زوجته- فسألها: من أين لموسى هذا الذهب؟ فقالت: إن الله تعالى قد علّمه صنعة الكيمياء. وكان موسى قد علّمها الصنعة، فتعلّمها قارون منها. قالوا: فكان ذلك سبب أمواله، فذلك قوله كما أخبر الله تعالى عنه: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) . وقيل: معناه على علم عندى بالتصرّف فى التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب. وقيل فى سبب جمعه تلك الأموال ما رواه الثعلبىّ بسنده عن أبى سليمان الدارانى انه قال: تبدّى إبليس لقارون وكان قارون قد أقام فى جبل أربعين سنة حتى

غلب بنى إسرائيل فى العبادة، فبعث إبليس إليه شياطينه فلم يقدروا عليه؛ فأتاه وجعل يتعبد معه، وجعل قارون يتعبّد وإبليس يقهره فى العبادة ويفوقه؛ فخضع له قارون؛ فقال له إبليس: يا قارون، قد رضينا بهذا الذى نحن فيه، لا نشهد لبنى إسرائيل جماعة، ولا نعود مريضا، ولا نشهد جنازة؟ قال: فأحدره من الجبل إلى البيعة، فكانا يؤتيان بالطعام، فقال له إبليس: يا قارون، قد رضينا أن نكون هكذا كلّا على بنى إسرائيل؟ فقال له قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة، ونتعبد بقية الجمعة. قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقيتها؛ فقال إبليس: قد رضينا أن نكون هكذا؟ قال قارون: فأىّ رأى عندك؟ قال: نكسب يوما ونتعبّد يوما فنتصدّق ونعطى. قال: فلما كسبوا يوما وتعبّدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون أبواب الدنيا، فبلغ ماله- على ما رواه الثعلبىّ بسنده الى المسيّب بن شريك قال: ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وكانت أربعمائة ألف ألف فى أربعين جرابا. قال: فبغى وطغى حين استغنى، فكان أوّل طغيانه وعصيانه أنه تكبّر واستطال على الناس بكثرة الأموال، وكان يخرج فى زينته. قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليه المعصفرات. وقال ابن أسلم: خرج فى سبعين ألفا عليهم المعصفرات. قال: وذلك أوّل يوم ظهرت فيه المعصفرات فى الأرض. وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء على سرج من الذهب عليه الأرجوان ومعه ألف فارس عليهم الديباج وعلى دوابّهم الأرجوان؛ ومعه ستّمائة جارية بيض عليهنّ الحلىّ والثياب الحمر، وهنّ على البغال الشهب.

وحكى الكسائىّ أنّ قارون اتخذ سريرا من الذهب يصعد إليه بمراق، وعليه أنواع من فرش الديباج، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصّع بالجوهر. قالوا: فلما خرج فى بعض الأيام فى زينة عظيمة، تمنّى أهل الجهالة والخسارة مثل الّذى أوتيه، وقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فأنكر عليهم أهل العلم بالله تعالى، وقالوا لهم: اتقوا الله واعملوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه، فإن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا من لذّات الدنيا وشهواتها؛ قال الله تعالى: وَلا يُلَقَّاها ، أى لا يوفّق لهذه الكلمة إِلَّا الصَّابِرُونَ ، أى على طاعة الله وعن زينة الحياة الدنيا. قالوا: ثم أوحى الله تعالى إلى نبيّه موسى- عليه السلام- أن يأمر قومه أن يعلّقوا فى آذانهم خيوطا أربعة، فى كل طرف خيط أخضر كلون السماء فقال موسى: يا رب لم أمرت بنى إسرائيل بتعليق هذه الخيوط الخضر فى آذانهم؟ فقال تعالى: إن بنى إسرائيل فى غفلة، وقد أردت أن أجعل لهم علما فى ثيابهم ليذكرونى به إذا نظروا إلى السماء، ويعلموا أنى منزل منها كلامى. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا، فإن بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط؟ فقال له: يا موسى، إن الصغير من أمرى ليس بصغير، وإن لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير. قال: فدعا موسى بنى إسرائيل وأعلمهم بأمر الله تعالى؛ ففعلوا ذلك واستكبر قارون فلم يطعه، وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا من غيرهم. فكان هذا أيضا من بغيه وعصيانه.

قالوا: ولما قطع موسى البحر ببنى إسرائيل جعلت الحبورة- وهى رآسة المذبح وبيت القربان- لهارون عليه السلام؛ وكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم فيدفعونه إلى هارون، فيضعه على المذبح، فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون فى نفسه من ذلك، وأتى موسى وقال له: يا موسى، لك الرسالة، ولهارون الحبورة، وليس لى من ذلك شىء، وأنا أقرأ للتوراة منكما، لا صبر لى على هذا. فقال موسى: والله ما أنا جعلتها فى هارون، بل الله جعلها له. فقال قارون: والله لا أصدّقك فى ذلك حتى ترينى بيّنة. قال: فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل وقال: هاتوا عصيّكم. فجاءوا بها فخزمها وألقاها فى قبّته التى كان يعبد الله تعالى فيها؛ وجعلوا يحرسون عصيّهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتزّ لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز فقال موسى: يا قارون، أترى هذا من فعلى؟ قال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. وذهب قارون مغاضبا، واعتزل موسى بأتباعه؛ وجعل موسى يداريه للقرابة التى بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت، ولا يزداد كلّ يوم إلا عتوّا وتجبّرا ومخالفة. ويقال: إنه بنى دارا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بنى إسرائيل يغدون عليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدّثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ثم أنزل الله تعالى الزكاة على موسى؛ فلما وجبت الزكاة على بنى إسرائيل أتى قارون موسى فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، وعن كلّ ألف درهم على درهم، وعن كلّ ألف شاة على شاة، وعن كلّ ألف

شىء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا، فلم تسمح بذلك نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال لهم: يا قوم، إن موسى قد أمركم بكل شىء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت. فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغىّ فنجعل لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه. فأتوا بها، فجعل لها قارون ألف درهم. وقيل: ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: حكمها؛ وقال لها: إنى أموّلك وأخلطك بنسائى على أن تقذفى موسى غدا إذا كان بنو إسرائيل متجمّعين. فلما كان الغد جمع قارون بنى إسرائيل، ثم أتى موسى فقال: إنّ بنى إسرائيل قد اجتمعوا ينظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبيّن لهم اعلام دينهم وأحكامهم وأحكام شرعهم. فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض، فقام فيهم خطيبا ووعظهم، وقال فيما قال: يا بنى إسرائيل، من سرق قطعت يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال موسى: أنا؟ قال: نعم. قال: ادعها فإن قالت فهو كما قالت. فدعيت؛ فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظّم عليها وسألها بالذى فلق البحر لبنى إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلّا صدقت. فلما ناشدها موسى تداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت: لأن أحدث اليوم توبة أفضل من أوذى رسول الله. وقالت: لا والله بل كذبوا، ولكن جعل لى قارون جعلا على أن أقذفك بنفسى. فلما تكلّمت بهذا الكلام سقط فى يد قارون ونكّس رأسه، وسكت الملأ وعرف قارون أنه قد وقع فى مهلكة، وخرّ موسى ساجدا لله تعالى.

وقال الكسائىّ فى قصّة هذه المرأة: إن قارون بعث إلى امرأة فاسقة كان موسى قد نفاها من عسكره، فقال لها: إنى أريد أن أتزوّج بك وأنقذك من هذا الفقر إن عملت ما أقول. قالت: وما هو؟ قال: إذا اجتمع بنو إسرائيل عندى فاحضرى وقولى: إن موسى دعانى إلى نفسه فلم أطاوعه، فأخرجنى من عسكره فانصرفت ودخلت على قارون من الغد- وقد اجتمع بنو إسرائيل عنده- فقالت: يا بنى إسرائيل، هذا ما لقى الأخيار من الأشرار؛ اعلموا أن قارون دعانى بالأمس وقال لى كذا وكذا، وأمرنى أن أكذب على نبىّ الله موسى؛ وكذب قارون إنما أخرجنى موسى من عسكره لفسادى، وقد تبت إلى الله تعالى من ذلك. فلما سمع قارون ذلك ندم، ولامه بنو إسرائيل، وبلغ موسى الخبر فغضب ودعا على قارون. قالوا: وجعل موسى يبكى ويقول: يا رب إن عدوّك هذا قد آذانى وأراد فضيحتى، اللهم إن كنت رسولك فاغضب لى وسلّطنى عليه. فأوحى الله تعالى إليه: ارفع رأسك وأمر الأرض بما شئت تطعك. فقال موسى: يا بنى إسرائيل إن الله قد بعثنى إلى قارون كما بعثنى إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معى فليعتزل عنه. فاعتزل بنو إسرائيل قارون ولم يبق منهم إلا رجلان ثم قال موسى: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى كعابهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى حقيّهم. ثم قال: يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أعناقهم؛ وقارون وصاحباه فى كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشدونه؛ حتى روى فى بعض الأخبار: أنه ناشده سبعين مرة وموسى فى جميع ذلك لا يلتفت إليه، لشدّة غضبه عليه. ثم قال: يا أرض خذيهم. فانطقت عليهم الأرض؛ فأوحى الله إلى موسى: استغاثوا بك سبعين

ذكر خبر موسى والخضر - عليهما السلام -

مرّة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتى وجلالى لو إياى دعوا لوجدونى قريبا مجيبا. قال قتادة: ذكر لنا أن الله تعالى يخسف بهم فى كل يوم قامة، وأنه يتخلخل» فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. قالوا: فلما خسف الله تعالى بقارون وصاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم: إن موسى دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه وأمواله. فدعا موسى حتى خسف الله تعالى بدار قارون وأمواله الأرض؛ وأوحى الله تعالى إلى موسى: أنى لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا؛ فذلك قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ. قال: فلما حلّت نقمة الله تعالى بقارون حمد المؤمنون الله تعالى، وندم الذين كانوا يتمّنون ماله وحاله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ . والله الفعّال. ذكر خبر موسى والخضر- عليهما السلام- وهذا الخبر إنما رجعت فيه واعتمدت على ما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ مما خرّجه البخارىّ- رحمه الله تعالى- فى صحيحه، ورويناه بسندنا عنه بسنده عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب- رضى الله عنهم- عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: أن موسى «2» - عليه السلام- قام خطيبا فى بنى إسرائيل، فسئل: أىّ الناس

أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه؛ فقال: بلى، عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك. وورد فى الحديث الآخر من رواية البخارىّ: بلى عبدنا خضر. قال: أى ربّ ومن لى به؟ قال سفيان من روايته: أى ربّ وكيف لى به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله فى مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. وربما قال: فهو ثمّة. فأخذ حوتا فجعله فى مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما؛ فرقد موسى عليه السلام، واضطرب الحوت فخرج فسقط فى البحر: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ؛ فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار «1» مثل الطاق؛ فانطلقا يمشيان بقيّة يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ؛ ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز حيث أمره الله تعالى؛ قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ؛ فكان للحوت سربا ولهما عجبا. قال له موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فرجعا يقصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلّم موسى، فردّ عليه فقال: وأنّى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بنى إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمنى ممّا علّمت رشدا. قال: يا موسى إنى على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه. قال هَلْ أَتَّبِعُكَ . قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ

تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً . إلى قوله: أَمْراً ؛ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّت بهما سفينة فكلّموهم أن يحملوهم؛ فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول؛ فلما ركبا فى السفينة جاء عصفور «1» فوقع على حرف السفينة فنقر فى البحر نقرة أو نقرتين «2» فقال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمى وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. «فأخذ الفأس «3» فنزع لوحا» . قال: فلم يفجأ «4» موسى إلّا وقد قلع لوحا بالقدوم؛ فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . وكانت الأولى من موسى نسيانا. فلمّا خرجا من البحر مرّا بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه يقلعه بيده هكذا- وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنّه يقطف شيئا- قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً* فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ مائلا، فَأَقامَهُ - أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنّه يمسح شيئا إلى فوق- قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا عمدت إلى حائطهم، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «وددنا أنّ موسى كان صبر فقصّ علينا من خبرهما» . قال سفيان: قال النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم-: «يرحم الله موسى لو كان صبر لقصّ علينا من أمرهما» . وقرأ ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: «أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا* وأمّا الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين» . ثم قال لى سفيان: سمعته منه مرّتين وحفظته منه. هذا حديث البخارىّ عن علىّ «1» بن عبد الله عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب؛ وقصّتهما فى كتاب الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً* وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً الآيات، إلى قوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- فى قصصه أنّ الخضر- عليه السلام- اسمه بليا «2» بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وروى حديثا عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، وإذا هى تهتزّ تحته خضراء.

ذكر خبر البقرة وقتل عاميل

وروى عن مجاهد قال: إنما سمّى الخضر لأنه حيثما صلّى اخضرّ ما حوله. قال الثعلبىّ: وكان الخضر فى أيام أفريدون الملك على قول عامّة أهل الكتب الأوّل. قال: وقيل إنه كان على مقدّمة ذى القرنين الأكبر الذى كان فى أيام ابراهيم- عليه السلام- وذلك فى أيام مسيره فى البلاد، وأنه بلغ مع ذى القرنين نهر الحياة وشرب من مائه وهو لا يعلم ولا يعلم ذو القرنين، فخلّد، وهو حىّ إلى الآن؛ والله أعلم. وسنذكر- إن شاء الله تعالى- فى السّفر الذى يلى هذا السفر خبره فى ظفره بماء الحياة فى أخبار ذى القرنين. ذكر خبر البقرة وقتل عاميل قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- فى تفسيره عن السّدىّ وغيره: إن رجلا كان فى بنى إسرائيل كان بارّا بأبيه، وبلغ من برّه به أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها منه بخمسين ألفا، وكان فيها فضل وربح؛ فقال له البائع: اعطنى الثمن. فقال: إن أبى نائم، ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلنى حتى يستيقظ فأعطيك الثمن. فقال له البائع: أيقظ أباك وأعطنى المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلاف وأنظرنى حتى ينتبه. فقال الرجل: أنا أعطيك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجّلت النقد. فقال: أنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباهه. ففعل ولم يوقظ أباه؛ فلما استيقظ أبوه أخبره بذلك، فدعا له وجزاه خيرا، وقال له: أحسنت يا بنىّ، وهذه البقرة لك بما صنعت. وكانت بقيّة بقر كانت لهم.

قال: وقال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان فى بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وكان له عجلة، فأتى بها إلى غيضة وقال: اللهم إنى استودعتك هذه العجلة لابنى حتى يكبر. ومات الرجل، فشبّت العجلة فى الغيضة وصارت عوانا وكانت تهرب من كلّ من رامها؛ فلما كبر الأبن- وكان برّا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلى ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمّه ثلثا؛ فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره، ويأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطى والدته ثلثه. وحكى الكسائىّ عن وهب قال: كان فى بنى إسرائيل عبد صالح، فمات وترك امرأته حاملا، فولدت غلاما، فسمّته ميشى، فكبر، وكان يحتطب من المواضع المباحة، وينفق على نفسه وأمه، وكان كثير العبادة؛ فلم يزل كذلك حتى كبر وضعف وعجز عن الاحتطاب. قالوا: فقالت له أمه: إن أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله- عزّ وجلّ- فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يردّها عليك، وإنّ من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- وكانت تسمّى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها- فأتى الفتى إلى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وقادها، فتكلّمت بإذن الله- عزّ وجلّ- وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته، اركبنى فإنّ ذلك أهون عليك. فقال: إنّ أمى لم تأمرنى بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها. فقالت البقرة: وإله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر

علىّ أبدا، فانطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرّك بوالدتك. فسار الفتى بها، فاستقبله عدوّ الله إبليس فى صورة راع فقال: أيها الفتى، إنى رجل من رعاة البقر، اشتقت إلى أهلى فأخذت ثورا من ثيرانى، فحملت عليه زادى ومتاعى، حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضى حاجتى، فعدا الثور وسط الجبل وما قدرت عليه، وإنى أخشى على نفسى الهلكة، فإن رأيت أن تحملنى على بقرتك. فلم يفعل الفتى وقال له: اذهب فتوكّل على الله- عزّ وجلّ- فلو علم الله منك الصدق لبلّغك بلا زاد ولا راحلة. فقال له إبليس: إن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملنى عليها وأعطيك عشرا مثلها. فقال الفتى: إن أمّى لم تأمرنى بذلك. فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يديه، فنفرت البقرة هاربة فى الفلاة، وغاب الراعى، فدعا الفتى باسم إله إبراهيم، فرجعت إليه وقالت: أيها الفتى البارّ بوالدته، ألم تر إلى الطائر الذى طار، إنه إبليس عدوّ الله اختلسنى، أما إنه لو ركبنى ما قدرت علىّ أبدا، فلمّا دعوت بإله إبراهيم جاء ملك وانتزعنى من يد إبليس وردّنى إليك لبرّك بأمّك وطاعتك لها. فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له أمّه: إنك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبعها بغير رضاى ومشورتى. فكان ثمن البقرة فى ذلك الوقت ثلاثة دنانير، فانطلق بها الفتى إلى السوق فبعث الله- عزّ وجلّ- ملكا ليرى فى خلقه قدرته، وليخبر الفتى كيف برّه بوالدته، وكان الله تعالى به خبيرا؛ فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتى. فقال له الملك: فأنا أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى: لو أعطيتنى وزنها ذهبا لم آخذه إلّا برضا أمّى.

فردّها إلى أمّه، وأخبرها الخبر، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا منى. فانطلق بها إلى السوق، وأتى الملك، فقال: استأمرت والدتك؟ فقال الفتى: إنها أمرتنى ألا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها. فقال الملك: فإنى أعطيك اثنى عشر دينارا على ألّا تستأمرها. فأبى ورجع إلى أمّه فأخبرها بذلك؛ فقالت: إنّ ذلك الرجل الذى يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك فى صورة آدمىّ ليختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل الفتى ذلك؛ فقال له الملك: اذهب إلى أمّك فقل لها: أمسكى هذه البقرة، فإن موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بنى إسرائيل، فلا تبيعوها إلّا بملء مسكها دنانير. فأمسكوا البقرة، وقدّر الله على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على برّه بأمّه؛ وذلك أنه وجد قتيل فى بنى إسرائيل اسمه (عاميل) ولم يدر قاتله. واختلفوا فى قاتله والسبب فى قتله؛ فقال عطاء والسدّىّ: كان فى بنى إسرائيل رجل كثير المال. وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره، فلما أبطأ عليه موته قتله ليرثه. قال: وقال بعضهم: كان تحت عاميل بنت عمّ له تضرب مثلا فى بنى إسرائيل بالحسن والجمال، فقتله ابن عمّها لينكحها. وقال الكلبىّ: قتله ابن أخيه لينكح ابنته، فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. وقال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا، لكل سبط منهم باب، فوجد قتيل على باب سبط، وجرّ إلى باب سبط آخر؛ فاختصم السّبطان فيه.

وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثم احتمله فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قالوا: فجاء أولياء القتيل إلى موسى- عليه السلام- وأتوه بأناس وادّعوا عليهم القتل، وسألوه القصاص؛ فسألهم موسى عن ذلك، فجحدوا، فاشتبه أمر القتيل على موسى- عليه السلام- ووقع بينهم خلاف. قال الكلبىّ: وذلك قبل نزول القسامة فى التوراة، فسألوا موسى- عليه السلام- أن يدعو الله ليبيّن لهم ذلك؛ فسأل موسى- عليه السلام- ربّه عزّ وجلّ؛ فأمرهم بذبح بقرة؛ فقال لهم موسى ما أخبر الله تعالى به فى قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ . أى تستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة؛ وإنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين فى الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه. قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، أى من المستهزئين بالمؤمنين؛ فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ، سألوه الوصف، فذلك قوله تعالى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ. قال: ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم؛ وإنما كان تشديدهم تقديرا من الله- عزّ وجلّ- وحكمة. قال: ومعنى ادْعُ لَنا رَبَّكَ . أى سل؛ وهكذا فى مصحف عبد الله: «سل لنا ربّك يبيّن لنا ما هى وما سنّها» . قال موسى: إنه- يعنى الله عزّ وجلّ- يقول: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ : لا كبيرة ولا صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أى نصف بين السّنين.

وقال الأخفش: العوان التى نتجت مرارا، وجمعه عون. فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ : من ذبح البقرة، ولا تكرروا القول. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قال ابن عبّاس: شديدة الصّفرة. وقال قتادة وأبو العالية والربيع: صاف. وقال سعيد بن جبير: صفراء القرنين والظّلف. وقال الحسن: سوداء. والعرب تسمّى الأسود أصفر. وقال العتبىّ: غلط من قال: الصفراء هاهنا السوداء، لأن هذا غلط فى نعوت البقر، وإنما هو من نعوت الإبل، وذلك أن السود من الإبل يشوب سوادها صفرة. وقال آخر: إنه لو أراد السواد لما أكّده بالفقوع، لأنّ الفاقع: البالغ فى الصفرة، كما يقال: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قانئ، وأخضر ناضر. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها، ويعجبهم حسنها وصفاء لونها، لأنّ العين تسرّ وتولع بالنظر إلى الشئ الحسن. وقال علىّ- رضى الله عنه-: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لأنّ الله تعالى يقول: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أسائمة أم عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أى إلى وصفها. قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «وايم الله لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد» . قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ ، أى مذلّلة للعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ ، أى تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ أى بريئة من العيوب

وقال الحسن: مسلّمة القوائم، ليس فيها أثر العمل. لا شِيَةَ فِيها ، قال عطاء: لا عيب فيها. وقال قتادة: لا بياض فيها أصلا. وقال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد. وقال محمد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ، أى بالوصف البيّن التامّ؛ فطلبوها فلم يجدوا كمال وصفها إلّا عند الفتى البارّ بوالدته؛ فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا. وقال السدّىّ: اشتروها بوزنها عشر مرّآت ذهبا. وقيل: اشتروها بوزنها مرّة؛ قاله أبو عبيد. وقيل: بوزنها مرّتين. وقال الكسائىّ: إنهم أتوا إلى ميشى فى بيع البقرة فقال: لا أبيعها إلّا بحضرة موسى. فرضوا بذلك، وأخرج البقرة إلى موسى، قال: بكم تبيعها؟ قال: المساومة بينى وبينك لا خير فيها، لا أبيعها إلّا بملء جلدها ذهبا. فقال موسى لبنىء إسرائيل: ذلك لتشديدكم على أنفسكم فشدّد الله عليكم. فضمنوا له ذلك، قال الله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ من غلاء ثمنها. وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها. وقال الكسائىّ: بوفاء المال؛ قال الله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، يعنى عاميل. فَادَّارَأْتُمْ : اختلفتم، قاله ابن عبّاس ومجاهد. وقال الضحّاك: اختصمتم.

وقال عبد العزيز بن يحيى: شككتم. وقال الربيع بن أنس: تدافعتم. وأصل الدّرء: الدفع، يعنى ألقى هذا على هذا وهذا على ذاك، فدافع كلّ واحد عن نفسه لقوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ* ، أى يدفعون. قال الله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها يعنى القتيل ببعض البقرة. واختلفوا فى هذا البعض ما هو. فقال ابن عباس: ضربوه بالعظم الّذى يلى الغضروف، وهو المقبل. وقال الضحّاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقوال، لأنّ المراد كان من إحياء القتيل كلامه، واللسان آلته. وقال سعيد بن جبير: بعجم ذنبها. قال يمان بن زرياب: وهو أولى التأويلات بالصواب، لأنّ العصعص أساس البدن الّذى ركّب عليه الخلق، وأنّه أوّل ما يخلق، وآخر ما يبلى. وقال مجاهد: بذنبها. وقال عكرمة والكلبىّ: بفخذها الأيمن. وقال السدّىّ: بالبضعة الّتى بين كتفيها. وقيل: بأذنها. ففعلوا ذلك، فقام القتيل- بإذن الله عزّ وجلّ- وأوداجه تشخّب دما، وقال: قتلنى فلان. ثم مات وسقط مكانه؛ قال الله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار

قال الكلبىّ: ثم قالوا بعد ذلك: «لم نقتله نحن» ، وأنكروا، فلم يكونوا قطّ أقسى قلبا ولا أشدّ تكذيبا منهم لنبيّهم عند ذلك، ولذلك يقول الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. قال الكلبىّ: يبست واشتدّت. وقال أبو عبيدة: جفّت من الشدّة فلم تلن. وقيل: غلظت. وقيل: اشتدّت. وقال الزّجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع. قوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أى من بعد ظهور الدّلالات، فهى فى غلظها وشدّتها كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، أى بل أشدّ قسوة. ثم عدّد الله تعالى الحجارة وفضّلها على القلب القاسى، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، أى ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار وهذا البيت ليس هو البيت المقدّس الموجود الآن، وإنما هو الذى تسميه اليهود: «قبة الزمان» ويزعمون أن ذلك نص التوراة، وكان من خبر هذه القصة ما رواه الثعلبىّ بإسناده عن وهب بن منبّه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أن يتّخذ مسجدا لجماعتهم. وبيت قدس للتوراة، وتابوتا للسكينة وقبابا للقربان، وأن يجعل لذلك المسجد سرادقات باطنها وظاهرها من الجلود

الملبسة عليها، وأن تكون تلك الجلود من جلود ذبائح القربان، وحيالها من أصواف تلك الذبائح؛ وعهد إليه ألا تغزل تلك الحبال حائض، ولا يدبغ تلك الجلود جنب؛ وأمره أن ينصب تلك السرادقات على عمد من نحاس، طول كلّ عمود منها أربعون ذراعا، ويجعل فيها اثنى عشر قسما مشرجا «1» ، إذا نقضت صارت اثنى عشر جزءا يحمل كلّ جزء بما فيه من العمد سبط من الأسباط من بنى إسرائيل؛ وأمره أن يجعل سعة ذلك السرادق ستّمائة ذراع، وأن ينصب فيه سبع قباب، ستّ قباب منها مشبكة بقضبان الذهب والفضة، كلّ واحدة منهن منصوبة على عمود من فضة طول كل عمود منها أربعون ذراعا، وعليها أربعة دسوت ثياب، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من جلود القربان وقاية لها من المطر والغبار، وحبالها التى تمدّ بها من صوف القربان، وأن يجعل سعتها أربعين ذراعا، وأن ينصب فى جوفها موائد من فضّة مربّعة مرصّعة يوضع عليها القربان، سعة كلّ مائدة منها أربع أذرع، كلّ مائدة منها على أربع قوائم من فضّة، طول كلّ قائمة ثلاث أذرع، لا ينال الرجل منها إلّا قائما؛ وأمره أن ينصب بيت المقدس على عمود من ذهب، طوله سبعون ذراعا، وأن يضعه على سبيكة من ذهب أحمر طولها تسعون ذراعا، مرصّعة بألوان الجواهر، وأن يجعل أسفله مشبّكا بقضبان الذهب والفضّة، وأن يجعل حباله التى يمدّ بها من صوف القربان مصبوغة بألوان من أحمر وأصفر وأخضر؛ وأن يلبسه سبعة من الحلل، الباطن منها سندس أخضر، والثانى أرجوان أحمر، والثالث ديباج أصفر، والرابع من الحرير الأبيض، وسائرها من الدّيباج والوشى؛ والظاهر غاشية له من جلود القربان وقاية له من الأذى والندى؛ وأمره أن يجعل سعته سبعين ذراعا، وأن يفرش القباب

بالقزّ الأحمر؛ وأمره أن ينصب فيه تابوتا من ذهب كتابوت الميثاق، مرصّعا بأنواع الجواهر والياقوت والزمرد الأخضر، وقوائمه من الذهب، وأن يجعل سعته سبع أذرع فى أربع أذرع، وعلوّه قامة موسى عليه السلام، وأن يجعل له أربعة أبواب: باب تدخل منه الملائكة، وباب يدخل منه موسى، وباب يدخل منه هارون، وباب يدخل منه أولاد هارون، وهم سدنة ذلك البيت وخزّان التابوت، وأمر الله نبيّه موسى أن يأخذ من كلّ محتلم من بنى إسرائيل مثقالا من الذهب فينفقه على هذا البيت، وأن يجعل باقى المال الذى يحتاج إليه فى ذلك من الحلىّ والحلل التى ورثها موسى وأصحابه من فرعون وأصحابه؛ ففعل موسى ذلك، فبلغ عدد رجال بنى إسرائيل ستّمائة ألف وسبعمائة وخمسين رجلا فأخذ منهم ذلك المال. وأوحى الله تعالى إليه أنى منزّل عليكم من السماء نارا لا دخان لها ولا تحرق شيئا، ولا تنطفئ أبدا، لتأكل القرابين المتقبّلة، وتسرج منها القناديل الّتى فى بيت المقدس، وكانت من ذهب معلّقة بسلاسل من ذهب، منظومة باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر؛ وأمره أن يضع فى وسط البيت صخرة عظيمة من الرّخام، وينقر فيها نقرة لتكون كانون تلك النار التى ينزل بها من السماء؛ فدعا موسى أخاه هارون وقال له: إن الله تعالى قد اصطفانى بنار ينزلها من السماء لتأكل القرابين المقبولة ولتسرج منها القناديل، وأوصانى بها، وإنى قد اصطفيتك لها وأوصيتك بها. فدعا هارون ابنيه وقال لهما: إن الله تعالى قد اصطفى موسى بأمر وأوصاه به، وإنه قد اصطفانى له وأوصانى به، وإنى قد اصطفيتكما وأوصيتكما به. وكان أولاد هارون هم الذين يلون سدانة بيت المقدس وأمر القربان والنيران؛ فشربا ذات ليلة ثم ثملا، ثم دخلا البيت وأسرجا القناديل من هذه النار التى فى الدنيا، فغضب

ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر

الله عليهما، وسلط عليهما تلك النار حتى أحرقتهما، وموسى وهارون يدفعان عنهما النار فلم يغنيا عنهما من الله شيئا؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: هكذا أفعل بمن عصانى ممّن يعرفنى، فكيف أفعل بمن لا يعرفنى، والله أعلم. ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر قال الله عز وجل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى الملوك؛ فروى عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة فهو ملك» . وقال أبو عبد الرحمن الحبلىّ: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص- وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ - فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوى إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: وإنّ لى خادما. قال: فأنت من الملوك. وقال الضحّاك: كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك. وقال قتادة: وكانوا أوّل من ملك الخدم، وأوّل من سخّر لهم الخدم من بنى آدم. وقال السدّىّ: يعنى وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدى القبط بمنزلة أهل الجزية، فأخرجكم الله تعالى من ذلك الذلّ. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ، يعنى من عالم زمانكم. وقال مجاهد: يعنى المنّ والسلوى والحجر والغمام.

قال: ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يسير ببنى إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ويجاهد الجبّارين؛ فأخرجهم موسى- عليه السلام- لذلك، فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. قال الثعلبىّ: اختلفوا فى الأرض المقدّسة ما هى. فقال مجاهد: هى الطّور وما حوله. وقال الضحاك: هى إيلياء وبيت المقدس. وقال عكرمة والسدّىّ وابن يزيد: هى أريحا. وقال الكلبىّ: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقال قتادة: الشأم كلّه. قال الكسائىّ: فلمّا أخبرهم موسى بذلك قالوا: يا موسى إنّك قلت لنا حين أخرجتنا من مصر: إنّ الله تعالى بعثك لتنقذنا من عذاب فرعون، والآن فإنك تحملنا على ما هو أشقّ منه، وبيننا وبين الأرض المقدّسة المفاوز والقفار، وكيف ندخلها ولا زاد معنا ولا ماء؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، قل لهم: إنى منزّل عليهم المنّ والسلوى، وقد أمرت الحجر أن يتفجّر لهم بالماء العذب، وأمرت الغمام أن يظلّهم ويسير معهم حيث ساروا؛ وألا تنقب خفافهم ونعالهم؛ وأمرت ثيابهم أن يلبسها صغيرهم وكبيرهم. فلما سمعوا ذلك طابت نفوسهم، وساروا نحو الأرض المقدّسة والغمام يظلّهم فى مسيرهم، والسماء تمطر عليهم بالمنّ، والريح بالسلوى، ويجدون كلّ ما يحتاجون إليه، ويضىء لهم بالليل عمود من النور، وتهبّ الريح على السلوى فتمعط ريشها فيطبخونها بغير تعب؛ ويقرع موسى- عليه السلام- الحجر فتفجّر لهم اثنتا عشرة

عينا، تجرى كلّ عين إلى سبط من الأسباط؛ وثيابهم جدد بيض لا تخلق، وهم فى خفض ودعة. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ، كان ما أنعم الله تعالى به عليهم أنهم قالوا لموسى فى التّيه: أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفاوز لا ظلّ فيها. فأنزل الله تعالى عليهم غمامة بيضاء رقيقة ليست بغمام المطر أرق وأطيب وأبرد، فأظلّتهم وكانت تسير معهم إذا ساروا، وتدور عليهم من فوقهم إذا داروا؛ وجعل لهم عمودا من نور يضىء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر؛ فقالوا: هذا الظلّ والنور قد حصلا، فأين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ. واختلفوا فيه؛ فقال مجاهد: هو شىء كالصمغ يقع على الأشجار، وطعمه كالشّهد. وقال الضحّاك «1» : هو الطّرنجبين. وقال وهب: الخبز الرّقاق. وقال السدّىّ: عسل كان يقع فى السّحر من الليل فيأكلون منه. وقال عكرمة: أنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم مثل الزيت الغليظ. وقيل: هو الزنجبيل. وقال الزجّاج: جملة المنّ: ما يمنّ الله عزّ وجلّ به ممّا لا تعب فيه ولا نصب. فكان ينزل عليهم كلّ ليلة ويقع على أشجارهم مثل الثلج، لكلّ إنسان منهم صاع كلّ ليلة؛ فقالوا: يا موسى، قتلنا هذا المنّ بحلاوته، فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم. فدعا موسى عليه السلام، فأنزل الله- عزّ وجلّ- عليهم السّلوى.

قالوا: واختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس- رضى الله عنهما- وأكثر المفسّرين: هو طائر يشبه السّمانى. وقال أبو العالية ومقاتل: بعث الله- عزّ وجلّ- السحابة فمطرت السّمانى فى عرض ميل وقدر طول رمح فى السماء بعضه على بعض. وقال عكرمة: طير يكون بالهند أكبر من العصفور. فكان يأخذ كلّ واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة من المنّ والسلوى، فإذا كان يوم الجمعة أخذوا ما يكفيهم عن يومين، لأنه لم يكن ينزل عليهم يوم السبت، فذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ولا تدّخروا لغد. فجنوا لغد فقطع الله ذلك عنهم، ودوّد وفسد ما ادّخروا، فذلك قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا معناه وما ضرّونا بالمعصية وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: لولا بنو إسرائيل لم يخثر الطعام، ولم يخبث اللحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها. ثم قالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى؛ فأوحى الله تعالى إليه: أن أضرب بعصاك الحجر. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى الحجر؛ فقال وهب: كان موسى- عليه السلام- يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر عيونا، لكلّ سبط عين، وكانوا أثنى عشر سبطا، ثم تسيل كلّ عين فى جدول إلى سبط؛ فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا. فأوحى الله تعالى إليه: لا تقرعنّ الحجارة بالعصا ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون. فكان يفعل ذلك. فقالوا: كيف بنا لو مضينا إلى الرمل وإلى الأرض التى ليس فيها حجارة؟ فأمر موسى فحمل معه حجرا، فحيثما نزل ألقاه.

وقال آخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه، والدليل عليه قوله: «الحجر» فأدخل الألف واللام للتعريف والتخصيص؛ وأمر أن يحمله، فكان موسى عليه السلام يضعه فى مخلاته، وإذا احتاجوا إلى الماء أخرجه وضربه بعصاه وسقاهم. وقال أبو روق: كان الحجر من الغضار، وكان فيه اثنتا عشرة حفرة ينبع من كل حفرة ماء عذب، فيأخذونه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه؛ فيذهب الماء؛ فكان كلّ يوم يستقى منه ستّمائة ألف. وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذى وضع موسى عليه ثوبه لغسله ففرّ بثوبه؛ فلما وقف أتاه جبريل فقال: يا موسى، إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر فإنّ لى فيه قدرة، ولك فيه معجزة. وقد تقدّم ذكر خبر الحجر. وورد أيضا فى صحيح البخارىّ نحو ما تقدّم. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: وكان مما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل أنهم قالوا لموسى عليه السلام: من أين لنا اللباس؟ فخلّد الله تعالى ثيابهم التى عليهم حتى إنها لا تزيد على الأيام ومرورها إلّا جدّة وطراوة، ولا تخلق ولا تبلى، وتنمو على صبيانهم كما ينمون. قال: ثم سئم بنو إسرائيل المنّ والسلوى، فقالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها. واختلف فى الفوم ما هو؟ فقال ابن عبّاس: هو الخبز، تقول العرب: «فوموا لنا» ، أى اختبزوا.

ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا، وقصة عوج بن عوق وخبر التيه

وقال عطاء وأبو مالك: هو الحنطة، وهى لغة قديمة. وقال العتبىّ: هو الحبوب كلّها. وقال الكلبىّ والنضر بن شميل والكسائىّ والمؤرّج: هو الثّوم. فقال لهم موسى عند ذلك: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. قالوا: مصرا من الأمصار، ولذلك نوّنه؛ ولو أراد مصر بعينها لقال: «مصر» ولم يصرفه، كقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وقال الضحّاك: هى مصر فرعون. واليهود يزعمون أنّ موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل حرّم عليهم بنصّ التوراة الدخول إلى مصر حين خرجوا منها عند اتباع فرعون لهم وغرقه، وأنهم لم يدخلوها بعد ذلك. والله أعلم. ولنرجع إلى أخبار النقباء وقتال الجبّارين. ذكر خبر النقباء ومسيرهم إلى أريحا، وقصّة عوج بن عوق «1» وخبر التّيه قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. قال الثعلبىّ: وذلك أن الله تعالى وعد موسى- عليه السلام- أن يورثّه وقومه الأرض المقدّسة، وهى الشأم، وكان يسكنها الكنعانيّون الجبّارون ووعدهم أن يهلكهم ويجعل أرض الشأم مسكن بنى إسرائيل؛ فلمّا استقرّت ببنى إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا.

«هكذا قال الثعلبىّ: بمصر «1» » . واليهود تنكر ذلك، ويقولون: إن نص التوراة عندهم أن الله تعالى لما أغرق فرعون وقومه ونجّى موسى وبنى إسرائيل، تنقلوا من مكان إلى آخر. ويذكرون أسماء الأماكن بالعبرانية- وليست تعرف الآن- وكان فى خلال مسيرهم خبر التيه، وكلّ ما تقدّم ذكره من الأخبار يزعمون أنه فى التيه؛ والله أعلم. نعود إلى سياق الثعلبىّ. قال: فأمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا وأرض الشأم، وهى الأرض المقدّسة وقال: يا موسى، إنى قد كتبتها لكم دارا وقرارا، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ، فإنى ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثنى عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على «2» ما أمروا به. فاختار موسى- عليه السلام- النقباء. قال: وهذه أسماؤهم؛ «من سبط «3» روبيل شامل بن زكور. ومن سبط شمعون سافاط بن حرى. ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا. ومن سبط أبين حامل بن بكر

ابن سورا. ومن سبط يوسف وهو سبط افرايم يوشع بن نون. ومن سبط بنيامين قلطم بن رقوق. ومن سبط زبولون خدى بن سورى. ومن سبط يوسف وهو سبط منشى بن يوسف جدّى بن سوشى. ومن سبط أشير شيانون بن ملكيل. ومن سبط نفتالى حنا بن وقشى. ومن سبط دان جملائيل بن حمل. ومن سبط لاوى حولى بن مليكا» . قال: فسار موسى ببنى إسرائيل حتى إذا دنوا من أرض كنعان- وهى أريحا- بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّون له الأخبار ويعلمون علمها؛ فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج بن عوق، وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا. قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: وكان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها، ثم يأكله. ويروى أنه أتى نوحا- عليه السلام- يوم الطّوفان فقال له: احملنى معك فى السفينة. فقال له: اذهب يا عدوّ الله فإنّى لم أومر بك؛ وطبّق الماء ما على وجه الأرض من سهل وجبل فما جاوز ركبتى عوج. وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدى موسى. قال: وكان لموسى عسكر فرسخ فى فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم، ثم جاء إلى الجبل وقوّر منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها على العسكر، فبعث الله عليه الهدهد ومعه الطيور، وجعلت تنقر بمناقيرها حتى قوّرت الصخرة وانثقبت حتى وقعت فى عنق عوج. فطوّقته وصرعته، فأقبل موسى وطوله عشر أذرع وطول عصاه عشر أذرع، ونزا فى السماء عشر أذرع، فما أصاب إلّا كعبه وهو مصروع بالأرض، فقتله.

قالوا: وأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر حتى حزّوا رأسه؛ فلما قتل وقع على نيل مصر فسكره «1» سنة. قالوا: وكانت أمّ عوج يقال لها: عناق، وهى إحدى بنات آدم لصلبه. ويقال: إنها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض، وكان كلّ إصبع من أصابعها ثلاث أذرع فى ذراعين، فى كلّ إصبع ظفران حادّان مثل المنجلين، وكان موضع مقعدها جريب من الأرض، فلمّا بغت بعث الله تعالى إليها أسودا كالفيلة وذئابا كالإبل، ونسورا كالحمر، وسلّطها عليها فقتلوها وأكلوها. قالوا: فلمّا لقى عوج النقباء لقيهم وعلى رأسه حزمة حطب، فأخذهم وجعلهم فى حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظرى إلى هؤلاء الّذين يريدون قتالنا. فطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلى؟ قالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل؛ وجعلوا يتعرّفون أحوالهم. وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلّا خمسة أنفس بينهم فى خيشة، ويدخل فى قشر شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس. قال: فلمّا خرج النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بنى إسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبىّ الله، ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون فيكونا هما يريان رأيهما. فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك؛ ثم انصرفوا إلى موسى- عليه السلام- وجاءوا بحبّة من عنبهم وقر رجل، ثم إنهم نكثوا العهد، وجعل كلّ واحد منهم ينهى سبطه عن قتالهم، ويخبرهم بما رآى، إلّا يوشع وكالب. قال: فلمّا سمع القوم ذلك من النقباء رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا فى أرض مصر، وليتنا نموت فى هذه البريّة ولا يدخلنا الله أرضهم، فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم.

وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر؛ فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر، خرّ موسى وهارون- عليهما السلام- سجّدا، وخرق يوشع وكالب ثيابهما، وهما الّلذان أخبر الله تعالى عنهما بقوله: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ، أى يخافون الله. وقرأ سعيد بن جبير (يخافون) بضم الياء. قال: كانا من الجبّارين، فأسلما واتبعا موسى. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا أتيناهم فكانت أجسامهم عظيمة قويّة، وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم، وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين. فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة، وقالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. فلما قالوا ذلك غضب موسى وقال: ربّ إنّى لا أملك إلّا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. وكانت عجلة عجلها موسى- عليه السلام- فظهر الغمام على قبّة الزمان، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصينى هذا الشعب، وإلى متى لا يصدّقون بالآيات؟ لأقتلنهم جميعا، ولأجعلنّ بدلهم شعبا أشدّ وأكثر منهم. قال موسى: إلهى لو أنّك قتلت هذا الشعب كلّه كرجل واحد قالت الأمم الذين سمعوا: إنّما قتل هذا الشعب من أجل أنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدّسة، فقتلهم فى البرّيّة. وإنك طويل صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب، وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم ولا توبقهم.

ذكر مسير موسى - عليه السلام - وبنى إسرائيل لحرب الجبارين ودخولهم القرية

فقال الله تعالى: قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن بعد ما سميّتهم فاسقين ودعوت عليهم، لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدّسة غير عبدىّ يوشع وكالب ولأتيهنّهم فى هذه البرّيّة أربعين سنة، ولتلقينّ جيفهم فى هذه القفار؛ وأمّا بنوهم الّذين لم يعملوا الخير والشرّ فإنهم يدخلون الأرض المقدّسة، فذلك قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ في ستّة فراسخ، يسيرون كلّ يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، فإذا هم فى الموضع الّذى ارتحلوا منه وكانوا ستّمائة ألف مقاتل، مات النقباء العشرة الّذين أفشوا الخبر بغتة، وكلّ من دخل التيه ممّن جاوز عشرين سنة مات فى التّيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قال: إنّا لن ندخلها أبدا. فلما هلكوا وانقضت أربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريّهم، ساروا إلى حرب الجبّارين، فذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. والله المعين. ذكر مسير موسى- عليه السلام- وبنى إسرائيل لحرب الجبّارين ودخولهم القرية قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. اختلف المفسّرون فى القرية: قال ابن عبّاس: هى أريحا، وهى قرية الجبّارين، وكان فيها بقيّة من عاد يقال لهم: العمالقة. وقيل: هى بلقاء.

وقال ابن كيسان: هى الشأم. وقال الضحّاك: الرملة والأردنّ وفلسطين وتدمر. وقال مجاهد: بيت المقدس. وقال مقاتل: إيلياء. وقوله: رغدا، أى موسّعا عليكم. والباب: باب من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب. وقال مجاهد: هو باب فى بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطّة. وقيل: هو باب القبّة الّتى كان موسى يصلّى إليها. وعن مجاهد أيضا: أنه باب فى الجبل الّذى كلّم الله تعالى عليه موسى كالفرضة. وقوله: سجّدا، أى منحنين متواضعين. وقال وهب: قيل لهم: ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عزّ وجلّ، وذلك أنّ موسى- عليه السلام- لما انقضت مدّة التيّه سار بالأبناء إلى القرية ودخلها، ودخل المؤمنون سجّدا كما أمرهم الله تعالى. وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال قتادة: حطّت عنّا خطايانا، أمروا بالاستغفار. قال ابن عبّاس: يعنى لا إله إلا الله، لأنها تحطّ الذنوب. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. قال مجاهد: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا قولا غير الذى قيل لهم، وذلك أنهم أمروا أن يقولوا: حطّة؛ فقالوا: (هطا سمعاثا) ، يعنون حنطة سمراء استخفافا بأمر الله تعالى؛ قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ، وذلك أنّ الله تعالى أرسل عليهم ظلمة وطاعونا، فهلك منهم فى ساعة واحدة سبعون ألفا.

ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتصل بذلك

قال الكسائىّ: وغلب موسى على مدينة أريحا، وهرب من كان بها من الجبّارين. وقيل: إنما دخل موسى الآن أرض كنعان، وإن مدينة أريحا فتحها يوشع ابن نون بعد وفاة موسى- عليه السلام- على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار يوشع. ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتّصل بذلك قالوا: ولمّا دخل موسى ببنى إسرائيل أرض كنعان، سار منها يريد مدينة بلقاء. قال مقاتل: سمّيت بلقاء لأنّ ملكها كان يقال له: بالق، وكان بها بلعم بن باعورا، وهو الذى أنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ الآيات. وقيل: نزلت الآيات فى غيره- على ما نذكره إن شاء الله تعالى آخر القصّة-. واختلف أيضا فى اسمه ونسبه. فقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: هو بلعم بن باعورا. وقال ابن مسعود- رضى الله عنه-: بلعم بن ابر. وقال مجاهد: بلعام بن باعر. وقال الثعلبىّ: قال أكثر المفسّرين: هو بلعام بن باعورا بن أيدن بن مأرب ابن لوط، وكان من الكنعانيّين. وقال عطية عن ابن عبّاس: هو من بنى إسرائيل.

وقال على بن أبى طلحة عنه: هو من الكنعانيّين من مدينة الجبّارين. وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء. قالوا: فلمّا أقبل موسى ببنى إسرائيل إلى مدينة بلقاء، كان أهلها يعبدون الأصنام، فلمّا بلغ الملك مسير موسى- عليه السلام- إليه استشار أكابر دولته؛ فقالوا له: إنّ فرعون لم يطقه مع كثرة جنوده، فأنت أولى ألّا تطيقه، غير أنّ هاهنا رجلا يعرف ببلعام مجاب الدعوة، التمس منه أن يدعو عليهم ليكفيك ربّك أمر موسى. فبعث الملك إليه وأحضره وتحدّث معه فى أمر موسى؛ فقال: حتى أستأذن ربّى. ودخل بلعم مصلّاه واستأذن فى الخروج، فأوحى إليه أن هذا العسكرهم بنو إسرائيل، وعليهم موسى رسولى، ولا تخرج إليهم. فقال بلعم لرسل الملك: إنّ ربى قد منعنى من ذلك، فانصرفوا وعرّفوا الملك. وكان لبلعم امرأة، فأهدى لها الملك هديّة نفيسة، وسألها أن تكلّم زوجها فى التوجّه مع الملك؛ فسألته؛ فقال: قد استأذنت ربّى فنهانى. فلم تزل به حتى استأذن الله ثانيا؛ فأوحى الله إليه: أنى نهيتك عن ذلك، والآن قد جعلت الأمر إليك. فطابت نفسه بالخروج مع الملك. حكاه الكسائىّ. وقال الثعلبىّ فى تفسيره، وعزاه إلى ابن عباس وابن إسحاق والسدّىّ وغيرهم: إن موسى- عليه السلام- لما قصد حرب الجبّارين ونزل أرض كنعان من أرض الشأم، أتى قوم بلعام- وكان عنده اسم الله الأعظم- فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بنى إسرائيل، وإنّا قومك وبنو عمّك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردّ عنّا موسى وقومه. فقال: ويلكم، هو نبىّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون، كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! وإنى إن فعلت ذلك ذهبت

دنياى وآخرتى. فراجعوه فى ذلك، فقال: حتى أوامر ربّى.- وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به فى المنام- فآمر فى الدعاء عليهم، فقيل له فى المنام: لا تدع عليهم. فقال لقومه: إنى قد نهيت عن الدعاء عليهم. فأهدوا إليه هديّة فقبلها، ثم راجعوه فى الدعاء عليهم، فقال: حتى أؤامر. فآمر فلم يجر إليه شىء فقال: قد آمرت فلم يجر إلىّ شىء. فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرّة الأولى. فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن؛ فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له: (حبّان) ؛ فلما سار عليها غير كثير ربضت، فنزل عنها فضربها، حتى إذا آلمها قامت، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فنزل عنها وضربها حتى إذا آلمها أذن لها بالكلام، فتكلّمت حجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم، أين تذهب؟ ألا ترى الملائكة أمامى يردّوننى عن وجهى هذا؟ تذهب إلى نبى الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها؛ فخلّى الله سبيلها؛ فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل (حبّان) جعل يدعو عليهم، فلا يدعو بشرّ إلا صرف به لسانه إلى قومه؛ ولا يدعو لقومه بخير إلّا صرف لسانه إلى بنى إسرائيل؛ فقال قومه: يا بلعم أتدرى ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا. قال: فهذا مالا أملك. واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت منى الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلّا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وزيّنوهنّ وأعطوهنّ السّلع، ثم أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها؛ فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم. ففعلوا؛ فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى «1» بنت صعور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له:

زمزى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها؛ ثم أقبل حتى وقف على موسى فقال له: إنى أظنك ستقول: هذه حرام عليك. قال موسى: أجل، هى حرام عليك، لا تقربها. قال: فو الله لا نطيعك فى هذا. ثم دخل بها قبّته فوقع عليها فأرسل الله تعالى الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت؛ وكان فنحاص بن العيزار ابن هارون صاحب أمر موسى رجلا قد أعطى بسطة فى الخلق وقوّة فى البطش وكان غائبا حين صنع زمزى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فى بنى إسرائيل فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت كلّها من حديد، ثم دخل عليهما القبّة وهما مضطجعان فنظمهما بحريته، ثم خرج بهما رافعا حربته إلى السماء قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار- وجعل يقول: اللهمّ هكذا تفعل بمن يعصيك؛ ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بنى إسرائيل فى الطاعون- فيما بين أن أصاب المرأة إلى أن قتله فنحاص- فوجدوه قد أهلك منهم سبعين ألفا فى ساعة واحدة من النهار. قال: فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كلّ ذبيحة ذبحوها الخاصرة «1» والذراع واللّحية، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار بن هارون. قال الثعلبىّ أيضا: وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى. فقال: إنه من أهل دينى فلا أدعو عليه. فنحت الملك خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان

وقد وقفت، فضربها، فقالت: لم تضربنى وأنا مأمورة؟ فلا تظلمنى، وهذه نار أمامى قد منعتنى أن أمشى. فرجع فأخبر الملك؛ فقال: لتدعونّ عليه أو لأصلّبنّك. فدعا على موسى باسم الله الأعظم ألّا يدخل المدينة، فاستجيب له، ووقع موسى فى التّيه بدعائه، فقال موسى: يا ربّ بأىّ ذنب وقعنا فى التّيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: ربّ بما سمعت دعاءه علىّ فاسمع دعائى عليه. فدعا موسى أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان. فسلخه الله مما كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت كحمامة بيضاء، فذلك قوله عز وجل فَانْسَلَخَ مِنْها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيّب وأبو روق وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية فى أميّة بن أبى الصّلت، وكانت قصته أنه كان فى ابتداء أمره قد قرأ الكتب وعلم أن الله عزّ وجلّ مرسل رسولا فى ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- حسده وكان قد قصد بعض الملوك، فلما رجع مرّ بقتلى بدر، فسأل عنهم؛ فقيل: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّا ما قتل أقرباءه. فلما مات أتت أخته فارعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فسألها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن وفاة أخيها؛ فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الّذى عند رجليه للّذى عند رأسه: أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكا «1» قال: أبى. [قالت] «2» : فسألته عن ذلك؟ فقال: خير أريد بى فصرف عنّى. ثم غشى عليه، فلمّا أفاق قال:

كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا ليتنى كنت قبل ما قد بدا لى ... فى قلال الجبال أرعى الوعولا إنّ يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا ثم قال لها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنشدينى من شعر أخيك. فأنشدته: لك الحمد والنّعماء والفضل ربّنا ... ولا شىء أعلى منك جدّا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجد وهى قصيدة طويلة، حتى أتت على آخرها. وأنشدته قصيدته الّتى يقول فيها: يوقف الناس للحساب جميعا ... فشقّى معذّب وسعيد ثم أنشدته قصيدته الّتى يقول فيها: عند ذى العرش تعرضون عليه ... يعلم الجهر والسّرار الخفيّا يوم نأتى الرحمن وهو رحيم ... إنّه كان وعده مأتيّا يوم آتيه- مثل ما قال- فردا ... ثم لا أدر «1» راشدا أم غويّا أسعيدا إسعاده أنا أرجو ... أو مهانا بما اكتسبت شقيّا إن أؤاخذ بما اجترمت فإنّى ... سوف ألقى من العذاب فريّا ربّ إن تعف فالمعافاة ظنّى ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآيات.

ومنهم من قال: إنّ الآيات نزلت فى البسوس، وكان رجلا أعطى ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة، وكان له منها ولد، فقالت: اجعل لى منها دعوة واحدة. فقال: لك فيها دعوة، فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل. فدعا لها، فصارت أجمل امرأة فى بنى إسرائيل؛ فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب ودعا عليها، فصارت كلبة نبّاحة، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمّنا كلبة نبّاحة والناس يعيّروننا بها، فادع الله أن يردّها إلى الحال الّتى كانت عليها. فدعا الله تعالى، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات. وقال أبو سعيد: نزلت فى أبى عامر بن نعمان بن صيفىّ الراهب الذى سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الفاسق، وكان قد ترهّب فى الجاهليّة ولبس المسوح وقدم المدينة، فقال للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا الذى جئت به؟ فقال: جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم. قال: فأنا عليها، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: لست عليها، ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها. ثم خرج إلى كفّار قريش. وأخباره تذكر- إن شاء الله- فى سيرة سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. فهذا ما قيل فى تفسير هذه الآية. قال الكسائىّ: ونادى موسى فى قومه بعد رفع الطاعون عنهم: «أن احملوا» . فحملوا واقتتلوا، فقتل الملك وبلعم، وانهزم الباقون، وغنم بنو إسرائيل من النساء والولدان شيئا كثيرا. والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر خبر وفاة هارون عليه الصلاة والسلام

ذكر خبر وفاة هارون عليه الصلاة والسلام قال الكسائىّ:- وذكر وفاة هارون إثر خبر البقرة وقتل عاميل- قال: لمّا كان بعد قتل عاميل نظر هارون إلى جبل فى التّيه بعيد من العسكر، فقال: يا موسى، ألا نمضى إلى ذلك الجبل فننظر إلى خضرته ونضارته. فمضيا من الغد ومعهما أولاد هارون، فأتوه فإذا هو جبل كثير المياه والعشب والكهوف وفيه كهف واسع يسطع نورا، فدخلوه وإذا هم بسرير من ذهب عليه أنواع من الفرش، فصعد هارون إليه ونام، فجاء طوله، فهمّ أن ينزل، فأتاه ملك الموت فى صورة شابّ حسن، فقبض روحه، وغسّلته الملائكة، وصلّى موسى عليه، وسدّوا باب الكهف، وعاد موسى إلى بنى إسرائيل، فسألوه عن هارون، فأخبرهم بوفاته قالوا: بل قتلته. فقال: ماذا لقيت منكم يا سفهاء بنى إسرائيل، أقتل أخى وشقيقى؟ ثم دعا ربّه أن يريهم إيّاه على صورته. فأمر الله تعالى الملائكة أن يخرجوا سريره من الكهف، فأخرجوه وحملوه فى الهواء حتى نظرت إليه بنو إسرائيل، ثم نادت الملائكة: يا بنى إسرائيل، هذا سرير هارون قد قبضه الله تعالى إليه. وقال أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره فى وفاة هارون- عليه السلام- قال السدّىّ: أوحى الله تعالى إلى موسى- عليه السلام- أنى متوفى هارون، فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون- عليهما السلام- نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم يريا شجرة مثلها، وإذا بيت مبنى، وفيه سرير عليه فراش واذا فيه ريح طيّبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه وقال: يا موسى، إنّى أحبّ أن أنام على هذا السرير. قال: نم عليه. قال: إنى أخاف أن يأتى ربّ هذا البيت فيغضب علىّ. قال موسى: لا ترهب، أنا أكفيك ربّ هذا البيت، فنم.

ذكر وفاة موسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام -

قال: يا موسى، بل نم معى، فإن جاء ربّ البيت غضب علىّ وعليك جميعا. فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسّه قال: يا موسى خدعتنى. فلمّا قبض- عليه السلام- رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بنى إسرائيل وليس معه هارون، قالوا: إن موسى قتل هارون وحسده لحبّ بنى إسرائيل له. فلمّا أكثروا عليه قام فصلّى ركعتين، ثم دعا الله تعالى، فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض؛ فصدّقوه. وقال الثعلبىّ أيضا. وقال عمرو بن ميمون: مات هارون- عليه السلام- فى التّيه، ومات قبل موسى، وكانا خرجا فى التّيه إلى بعض تلك الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بنى إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات. قالوا: كذبت، ولكنّك قتلته لحبّنا إيّاه- وكان محبّبا فى بنى إسرائيل- فتضرّع موسى إلى الله تعالى وشكا ما لقى من بنى إسرائيل؛ فأوحى الله إليه: أن انطلق بهم إلى قبره، فإنّى باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا وأنك لم تقتله. فانطلق بهم موسى إلى قبره، فنادى: يا هارون. فخرج من قبره ينفض رأسه؛ فقال: أنا قاتلك؟ قال: لا، ولكنّى متّ. قال: فعد إلى مضجعك. فعاد- عليه السلام- وانصرفوا. ذكر وفاة موسى بن عمران- عليه الصلاة والسلام- قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال ابن إسحاق: كان موسى- عليه السلام- قد كره الموت وأعظمه، فأراد الله تعالى أن يحبّب إليه الموت ويكره إليه الحياة؛ وكان يوشع بن نون يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبىّ الله ما أحدث الله إليك. فيقول له يوشع: يا نبىّ الله، ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل

كنت أسألك عن شىء ممّا أحدث الله إليك حتى تكون أنت تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئا. فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت. وعن وهب أنه قال- وذكر من كرامة موسى عليه السلام- أنه ضاق ببنى إسرائيل ذرعا لمّا كثّروا عليه؛ فأوحى الله تعالى إلى ألف نبىّ أن يكونوا أعوانا له؛ فلمّا مال الناس إليهم وجد موسى فى نفسه، فأماتهم الله تعالى لكرامته فى يوم واحد. والذى صحّ لنا من خبر وفاة موسى- عليه السلام- ما ثبت فى صحيح البخارىّ وهو ما حدّثنا به الشيخان المسندان المعمّران: شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن أبى طالب نعمة بن حسن بن علىّ بن سنان الشّحنة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد «1» (وزيرة) ابنة الشيخ الإمام العالم شمس الدين أبى حفص عمر ابن القاضى وجيه الدين أسعد بن المنجا التنوخىّ الدمشقيّان، قراءة عليهما، وأنا أسمع بالمدينة المنصوريّة بخطّ (بين القصرين بالقاهرة المعزّيّة) ، وذلك فى يوم السبت السابع من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، بقراءة الشيخ علاء الدين علىّ بن الماردينى، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدىّ، قال: أخبرنا الشيخ أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ الصوفىّ ثم الهروىّ، قال: أخبرنا الإمام جمال الدين أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود الداودىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمويه التنوخىّ، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن مطر الفهرىّ، قال: حدّثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن

إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفىّ مولاهم البخارىّ- رحمه الله- قال: حدّثنا محمود، حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربّه فقال: أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطّت به يده بكل شعرة سنة. قال: أى رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر. قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر. قال الثعلبى: وكان عمر موسى- عليه السلام- مائة وعشرين سنة، عشرون منها فى ملك أفريدون، ومائة سنة فى ملك منوجهر، وبعث الله تعالى بعد موسى يوشع عليهما السلام. كمل الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب البكرى التيمىّ القرشى المعروف بالنويرىّ- رحمه الله تعالى- ويليه الجزء الرابع عشر، وأوّله: الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام، وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وغيلا واشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام. والحمد لله رب العالمين

استدراك

استدراك قد وقعت بعض أخطاء مطبعية يسيرة فى هذا الجزء، فرأينا أن نستدرك ما عثرنا عليه منها بعد الطبع، وهى فى ثلاثة مواضع: (1) وقع فى صفحة 28 سطر 5 قوله: «إبناء» . والصواب «بناء» بغير ألف فى أوّله. (2) وفى صفحة 173 سطر 9 قوله: «وخروج» . والصواب: «وحروب» كما فى بعض النسخ. (3) وفى صفحة 220 سطر 3 ما نصه: «أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفينا فمنهم ظالم لنفسه» الخ. وقد كتبنا فى الحاشية رقم 1 من هذه الصفحة ما يفيد أن قوله: «الذين» غير واضح موقعها من الإعراب فى هذه العبارة بخلاف موقعها من الآية المقتبسة منها، وهى قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» اه. وقد تبين لنا أن قوله: «الذين اصطفينا» زائدة فى هذه العبارة التى وردت فى كلام المؤلف، فقد ورد هذا الكلام فى كتاب الثعلبى المنقول عنه هذا الكلام- مع اختلاف فى بعض ألفاظه، فليلاحظ- ونصه: «أجد أمة مرحومة أصفياء يرثون الكتاب فمنهم ظالم لنفسه» الخ.

كمل طبع «الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الأرب» بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الثلاثاء 28 شوّال سنة 1357 (20 ديسمبر سنة 1938) محمد نديم ملاحظ المطبعة بدار الكتب المصرية

(مطبعة دار الكتب المصرية 34/1937/2500)

فهرس الجزء الرابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى الباب الثانى من القسم الثالث من الفنّ الخامس فيما كان بعد موسى ابن عمران عليهما السلام 1 ذكر خبر يوشع بن نون عليه السلام وفتح أريحا وغيرها 1 ذكر خبر حزقيل عليه السلام 6 ذكر خبر إلياس عليه السلام 9 ذكر دعاء إلياس على قومه وما حل بهم من القحط وخبر اليسع حين اتبع إلياس 24 ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع 26 ذكر نبوّة اليسع عليه السلام 28 ذكر خبر عيلى وأشمويل وما يتصل بذلك 31 ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته 32 ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت 36 ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه 38 ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده 42 ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به 44 ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك 45

ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى إسرائيل وما خصه الله عز وجل به 54 ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة 61 ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام 70 ذكر خبر أبشالوم بن داود 70 ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام 72 ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت 73 ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم 76 ذكر وفاة داود عليه السلام 80 ذكر نبوّة سليمان بن داود عليهما السلام وملكه 82 ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له 82 ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر 86 ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام 93 ذكر خبر حشر الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام 94 ذكر خبر مطابخه عليه السلام 95 ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه 96 ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره 97 ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه 103 ذكر خبر البعوض وما قيل فيه 104 ذكر خبر الخيل وما قيل فيها 105 ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام 107 ذكر خبر صخر الجنىّ 108 ذكر صفة كرسىّ سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره 109

ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها 111 ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها 113 ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها 116 ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها 123 ذكر خبر وادى القردة 124 ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند 125 ذكر خبر الفتنة وذهاب خاتم سليمان عليه السلام ورجوعه إليه 125 ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه 134 ذكر وفاة بلقيس زوجة سليمان عليه السلام 134 ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام 135 الباب الثالث من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود 142 ذكر قصة شعيا عليه السلام 142 ذكر قصة إرميا عليه السلام 149 ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك 153 ذكر خبر بختنصر مع دانيال 158 ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خربه بختنصر وخبر الذى مرّ على قرية 164 الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى قصة ذى النون يونس ابن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا 171 ذكر قصة ذى النون يونس بن متّى عليه السلام 171 ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب 182

الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار زكريا وابناه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام 195 ذكر نسب زكريا وعمران عليهما السلام وما يتصل بذلك 195 ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام 196 ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عزّ وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا 198 ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته 201 ذكر نبوّة يحيى عليه السلام وسيرته وزهده 201 ذكر مقتل يحيى بن زكريا وأبيه زكريا عليهما السلام 202 ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا 206 ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام 209 ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام 213 ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده الى قومها 218 ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام الى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدّة مقامه الى أن عاد 219 ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره 224 ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر 225 ذكر خبر الحواريين حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به 226 ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه 227 ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل 229 ذكر خبر يجمع عدّة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام 233 ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء 236 ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم 243 ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه 244

ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله 246 ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أوّل مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيته إلى الحواريين ورفعه ثانيا 247 ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام 248 الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس 250 ذكر خبر أخبار الحواريين 250 ذكر خبر يوحنا ويونس اللذين توجها إلى إنطاكية 250 ذكر خبر توما الحوارى مع ملك الهند وإيمانه به 255 ذكر خبر لوقا الحوارى مع ملك فارس 257 ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه 259 التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس 270 الباب الأوّل من التذبيل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم 271 ذكر خبر المتغلبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام 272 ذكر خبر خروج المهدىّ 273 ذكر خبر خروج الدجّال وصفته وما يكون من أمره الى أن ينزل عيسى عليه السلام 275 الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجّال وخروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم ووفاة عيسى عليه السلام 277 ذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام 277 ذكر خبر يأجوج ومأجوج 278 الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجّال 281

الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام الى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى 285 ذكر خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها 285 ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى 286 الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور 288 ذكر يوم القيامة وأسمائه 288 ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية 289 حديث لقيط بن عامر 292 القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وملوك الأمم والطوائف وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية ويشتمل على خمسة أبواب 298 الباب الأوّل فى أخبار ذى القرنين الذى ذكره الله عز وجل فى كتابه العزيز فى سورة الكهف 298 ذكر أخبار ذى القرنين 298 ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالىّ لطلب عين الحياة 309 الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر 319 ذكر أخبار ملوك الهند 319 ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود 321 ذكر أخبار ملوك الصين 324 ذكر أخبار ملوك الترك 332 ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم 334

الجزء الرابع عشر

الجزء الرابع عشر تتمة الفن الخامس في التاريخ تتمة القسم الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الخامس فيما كان بعد موسى بن عمران عليهما السلام «1» وهو أخبار يوشع بن نون وحزقيل وإلياس واليسع وعيلى «2» وأشمويل وداود وطالوت وجالوت وسليمان بن داود عليهم السلام ذكر خبر يوشع «3» بن نون- عليه السلام- وفتح أريحا وغيرها قال أبو إسحاق الثّعلبىّ- رحمه الله تعالى-: اختلف العلماء فيمن تولّى حرب الجبّارين وفيمن كان على يده الفتح، فقال قوم: إنما فتح أريحا «4» موسى

- عليه السلام- وكان يوشع على مقدّمته فسار إليها بمن بقى من بنى إسرائيل ولم يمت فى التّيه، فدخلها يوشع بهم وقتل الجبّارين «1» الذين كانوا فيها، ودخلها موسى ببنى إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله تعالى أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى، ولم يعلم أحد من الناس أين قبره. قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق. وقال الآخرون: إنما قتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلّا بعد موت موسى. وقالوا: إنما مات موسى وهارون- عليهما السلام- فى التّيه. قالوا: فلما انقضت مدّة التّيه ومات موسى- عليه السلام- بعث الله تعالى يوشع بن نون نبيّا، فأخبرهم أنه نبىّ الله تعالى، وأنّ الله- عزّ وجلّ- قد أمره بقتال الجبّارين، فصدّقوه وبايعوه. فتوجّه ببنى إسرائيل الى أريحا ومعه تابوت «2» الميثاق، فأحاط بمدينة أريحا ستّة أشهر، فلمّا كان فى الشهر السابع نفخوا فى القرون «3» وضجّ الشعب ضجّة واحدة «4» ، فسقط سور المدينة، فدخلوها وقاتلوا الجبّارين، فهزموهم وهجموا عليهم يقتّلونهم، فكانت العصابة من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقيّة وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فخشى يوشع أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس علىّ، وقال للشمس: إنك فى طاعة الله، وأنا فى طاعة الله. فسأل الشمس

أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل غروب الشمس، فردّت عليه الشمس وزيد له فى النهار ساعة واحدة حتى قتلهم أجمعين. قالوا: ثم أرسل ملوك الأرمانيّين «1» بعضهم الى بعض- وكانوا خمسة «2» - فجمعوا كلمتهم على حرب يوشع وقومه، فهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى ثنيّة حوران، «3» فرماهم الله تعالى بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممّن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وهربت الملوك الخمسة، فاختفوا فى غار، فأمر بهم يوشع فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم، ثم أنزلهم وطرحهم فى ذلك الغار، وتتّبع سائر ملوك الشأم فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشأم، وصار الشأم كلّه لبنى إسرائيل، وفرّق عمّاله فى نواحى الشأم. وحكى الكسائىّ فى (كتاب المبتدا) أنّ يوشع أخذ فى الجهاد بعد وفاة موسى عليه السلام حتى فتح الله على يديه نيّفا وثلاثين مدينة من مدن الكفّار بأرض الشأم. قال: ثم سار ببنى إسرائيل الى أريحا لقتال الجبّارين، وكانوا قد عادوا إليها بعد أن فتحها موسى، فقاتلهم يوم الجمعة، وساق نحو ما تقدّم من حبس الشمس. قال: وفسد على أهل علم النجوم علوم كثيرة من ذلك اليوم. قال الكسائىّ: ولما فرغ يوشع بن نون من قتال الجبّارين بأريحا سار ببنى إسرائيل الى أرض بنى كنعان، فقاتلهم حتى قتل أكثر من ثلاثين ملكا، وفتح ثلاثين حصنا.

قال الثعلبىّ فى تفسيره: ولمّا قتل يوشع الملوك واستباح الأموال جمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا «1» ، فمرهم فليبا يعوك فبايعوه، فالتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك!. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه، فجعله فى القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان. قالوا: ثم مات يوشع فدفن فى جبل أفرائيم «2» ، وكان عمره مائة وستّا «3» وعشرين سنة، وتدبيره أمر بنى إسرائيل بعد وفاة موسى- عليه السلام- تسعا وعشرين سنة. وقال الكسائىّ: أربعين سنة. والله تعالى أعلم. ولما مات استخلف على بنى إسرائيل كالب «4» بن يوقنّا، وهو من أولاد يهوذا بن يعقوب، وكان من الزّهاد، فسار فيهم أجمل سيرة حتى قبضه الله تعالى. فاستخلف عليهم ابنه برشاناس «5» وكان نظير يوسف الصدّيق- عليه السلام- فى حسنه وجماله، فافتتن الناس به، فسأل الله تعالى أن يغيّر خلقته، فأصابه

الجدرىّ، فتغيّرت خلقته، فأنكره الناس وأكثروا من سؤاله عن خبره، فشقّ ذلك عليه وشغله عن عبادته، فسأل الله تعالى أن يزيده تشويها، فاسترخى وجهه، وظهرت له أسنان طوال، وقبح حتى كره الناس أن ينظروا إليه، وعرفوا منه الاجتهاد فى عبادة الله تعالى وطاعته، فآختاروه وسمعوا له وأطاعوا، ولم يزل بين أظهرهم أربعين سنة ثم قبضه الله تعالى. فقام بأمرهم العيزار «1» بن هارون بن عمران، وكان قد أسنّ ولا ولد له، فجعلوا يقولون: ما حرم الولد إلّا لذنب عظيم. فسأل الله الولد، فرزقه ولدا بعد كبر سنّه وإياس زوجته صفّوريّة «2» بنت عمّه موسى بن عمران وجدّد له قوّة، ولها جمالا وحسنا، وسمّى ولده «سباسبا» «3» وجاء عالما بالتوراة، فاستخلفه والده على بنى إسرائيل، فقام بأمرهم، وتزوّج بامرأة يقال لها صفّوريّة، فأولدها إلياس. هكذا نقل الكسائىّ. وقال الثعلبىّ فى قصصه فى خبر ابن كالب وسمّاه «بوساقوس» : وأنه لمّا افتتن الناس به سأل الله تعالى أن يغيّر صورته مع سلامة حواسه وجوارحه فأصابه الجدرىّ. وقال: إنه لبث فيهم مائة سنة، ثم قبضه الله- عزّ وجلّ-. ولم يذكر العيزار وابنه، بل ذكر خبر حزقيل. والله تعالى أعلم.

ذكر خبر حزقيل عليه السلام

ذكر خبر حزقيل عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قالت العلماء: لمّا قبض الله تعالى كالب وابنه، بعث الله- عزّ وجل- حزقيل «1» إلى بنى إسرائيل، وهو حزقيل بن بوذى، ويلقّب بابن العجوز. قال: وإنما لقّب بذلك لأن أمّه سألت الله تعالى الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها، وهو الذى أحيا الله تعالى القوم بعد وفاتهم بدعائه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ «2» . قال قال أكثر المفسرين: كانت قرية يقال لها داوردان «3» قبل واسط وقع بها الطاعون، فخرج منها طائفة هاربين من الطاعون وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقى فى القرية، وسلم الذين خرجوا، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين. فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون بها ثانية لنخرجنّ إلى الأرض التى لا وباء فيها. فوقع الطاعون من قابل. فهرب عامّة أهلها، فخرجوا حتى نزلوا واديّا أفيح «4» ، فلمّا نزلوا المكان الذى يبغون فيه الحياة والنجاة، إذا هم بملك من أسفل الوادى وآخر من أعلاه يناديهم كل واحد منهما أن موتوا «5» فماتوا.

وقال الضحّاك ومقاتل والكلبىّ: إنّما فرّ هؤلاء من الجهاد؛ وذلك أنّ ملكا من ملوك بنى إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت وأعتلّوا وقالوا لملكهم: إنّ الأرض التى نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء؛ فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا منه. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللهمّ ربّ يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية فى أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار من حكمك وقضائك. فلما خرجوا قال الله لهم: موتوا، فماتوا جميعا وماتت دوابّهم كموت رجل واحد، فما أتت عليهم ثلاثة أيام حتى انتفخوا وأروحت «1» أجسادهم، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة «2» دون السّباع وتركوهم فيها. قال: واختلفوا فى مبلغ عددهم، فقال عطاء الخراسانىّ: كانوا ثلاثة آلاف «3» . وقال ابن عباس ووهب: أربعة آلاف. وقال مقاتل والكلبىّ: ثمانية آلاف. وقال أبو روق: عشرة آلاف. وقال أبو مالك: ثلاثين ألفا. وقال السّدّى: بضعة وثلاثين ألفا. وقال ابن جريج: أربعين ألفا. وقال عطاء بن أبى رباح: سبعين ألفا.

قالوا: فأتت عليهم مدّة وقد بليت أجسادهم، وعريت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، فمرّ بهم حزقيل النبىّ- عليه السلام- فوقف عليهم متفكّرا متعجّبا، فأوحى الله تعالى إليه: يا حزقيل، تريد أن أريك كيف أحيى الموتى؟ قال نعم، فأحياهم الله جميعا. قال: هذا قول السّدّىّ وجماعة من المفسّرين. وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء: دعا حزقيل ربّه أن يحييهم فقال: يا ربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك. فقال الله- عزّ وجل- أو تحبّ أن أفعل؟ قال نعم، فأحياهم. وقال عطاء ومقاتل والكلبىّ: بل كانوا قوم حزقيل، فأحياهم الله- عز وجل- بعد ثمانية أيام؛ وذلك أنهم لمّا أصابهم ذلك خرج حزقيل فى طلبهم فوجدهم موتى، فبكى وقال: يا ربّ كنت فى قوم يحمدونك ويقدّسونك ويكبّرونك ويهلّلونك فبقيت وحيدا لا قوم لى. فأوحى الله تعالى إليه: إنى قد جعلت حياتهم إليك. فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى، فعاشوا. وقال وهب: أصابهم بلاء وشدّة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا متنا فاسترحنا ممّا نحن فيه. فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى حزقيل: إنّ قومك قد ضجروا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأىّ راحة لهم فى الموت! أيظنّون أنّى لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى جبّانة كذا، فإنّ فيها قوما أمواتا. فأتاهم، فقال الله- عزّ وجل-: قم فنادهم- وكانت أجسامهم وعظامهم قد تفرّقت، فرّقتها الطير والريح- فنادى حزقيل: أيتها العظام، إنّ الله يأمرك أن تكتسى اللحم. فاكتست جميعا اللحم، وبعد اللحم جلدا ودما وعصبا

ذكر خبر إلياس عليه السلام

وعروقا، فكانت أجسادا، ثم نادى: أيتها الأرواح، إنّ الله تعالى يأمرك أن تعودى فى أجسادك. فقاموا جميعا عليهم ثيابهم التى كانوا فيها، وكبّروا تكبيرة واحدة. قال: وزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربّنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله- عزّ وجل- وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا أمواتا، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد رميما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التى كتب الله لهم. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما- فإنها لتوجد اليوم فى ذلك السّبط من اليهود تلك الريح. قال قتادة: مقتهم الله- عزّ وجل- على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقيّة آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. فلمّا أحياهم الله- عزّ وجل- قال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» . ثم تلا الثعلبىّ هذه القصّة بقصّة إلياس؛ وذكرها الكسائىّ تلو قصّة العيزار. والله الموفق للصواب. ذكر خبر إلياس عليه السلام قال الله عزّ وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» . قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال كعب «3» : لمّا ولد إلياس- عليه السلام- ونسبه أنه إلياس ابن سباسبا «4» بن العيزار بن هارون. قال: وأمّه صفّوريّة، وجدّته أمّ أبيه

صفّوريّة «1» بنت موسى بن عمران- عليه السلام- ظهر ليلة مولده أنوار أضاءت منها محاريب بنى إسرائيل. فلما نظرت ملوك بنى اسرائيل ذلك علموا أنه قد حدث حادث، فتعرّفوا الخبر، فقيل لهم: ولد مولود من ولد هارون ابن عمران. قال: وكان إلياس على صورة موسى وقوّته، ونشأ أحسن نشأة. وبنو إسرائيل يقولون: هذا الذى بشّرنا به العيزار، أن الله يهلك الملوك والجبابرة على يديه. قال: فلمّا بلغ سبع سنين- وكان يحفظ التوراة- قال: يا بنى إسرائيل، إنى أريكم من نفسى عجبا. فصاح بهم صيحة انتشرت فيهم فأرعبت قلوبهم. فلما سكنت روعتهم همّوا بقتله، وقال بعضهم: هو ساحر، فهرب منهم وصعد إلى جبل وهم يتبعونه. فلمّا قربوا منه انفرج له الجبل فدخل فيه، وانصرف القوم. فنمى الخبر إلى بعض ملوكهم فعذّبهم، ثم انفرج الجبل، وأقام إلياس به يأكل من المباحات حتى استكمل أربعين سنة، والناس قد أخذوا فى عبادة الأصنام وخاضوا فى المعاصى، فبعثه الله تعالى نبيّا ورسولا، وجاءه جبريل بالوحى، وأمره عن الله تعالى أن يتوجّه إلى الملوك والجبابرة الذين يعبدون الأصنام ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته، وأن يرسلوا معه بنى إسرائيل وأعطاه القوّة، وأمر النار والجبال والوحش بطاعته. فانطلق إلياس إليهم وهم فى سبعين قرية، كلّ قرية منها مدينة، فى كلّ مدينة جبّار يسوسهم، وكلّهم يعبدون صنما يدعى «بعلا» وهو على صورة امرأة، فصار إلياس إلى قرية من قراهم، وكان فيها ملك يقال له

«آجاب» «1» ، فوقف بالقرب من قصره، وقرأ التوراة بأطيب نغمة، فسمعه الملك، فقال لامرأته: ألا تسمعين؟ ما أطيب هذا الصوت! فقامت المرأة إليه وأشرفت عليه من أعلى القصر وسألته عن حاله وخبره، فأخبرها أنه رسول الله. قالت: وما حجّتك على دعواك؟ فاستدعى النار فجاءت إليه وشهدت بنبوّته وصدّقته، فأخبرت المرأة زوجها بما رأت منه، فجاء إليه وآمن به هو وامرأته، وأوصاه بالصبر والجهاد، وانصرف إلياس. حتى إذا كان يوم اجتماع القوم وقد خرجوا بزينتهم ونصبوا صنمهم بعلا وقف عليهم ودعاهم إلى الإيمان، فقال فيما أخبر الله تعالى به عنه: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ «2» * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «3» . فقالوا له: من أنت؟ فقال: أنسيتمونى بعد أن كنت فيكم ومعكم! أنا إلياس. فحثوا فى وجهه التراب ورموه بالحجارة من كلّ جانب. وكان ملكهم الأكبر يقال له «عاميل» ، فأمر بزيت فغلى فى قدر نحاس وقال لإلياس «4» : إن رجعت وإلّا طرحتك فيه!. فقال: أنا وحيد فى أرضكم، فريد فى جمعكم، ولكنّى أريكم آية تدلّ على صدق دعواى أنّى رسول الله إليكم. فقال له الملك نعم. فقال إلياس: أيّتها النار اخمدى

بإذن الله تعالى، فخمدت وسكن غليان الزيت، فعجب الناس من ذلك. قال الملك: قد أتيت بحجّة، ولكن أمهلنا يومنا لننظر فى أمرك. ففارقهم وأتاهم من الغد ودعاهم، فجمع الملك ملوك قومه وعلماءهم وقال: ما تقولون فى هذا الرجل؟ فقال العلماء: إنّا نرى فى التوراة صفة هذا الرجل أنّه يبعث نبيّا تسخّر له النار والأسود والجبال، وأنه لا يسمع أحد صوته إلّا ذلّ وخضع له. فقال بعض علمائهم: أيها الملك، كذب هؤلاء فيما ذكروه، وهذا ساحر، فلا يهولنّك أمره. فبسط العذاب على أولئك النفر، فاشتدّ ذلك على إلياس، وخالفه الملك «آجاب» الذى كان قد آمن به؛ ففارقته زوجته ولحقت بإلياس؟ وكانت من الصالحات. قال: واتّخذ إلياس عريشا بالقرب من قصر الملك «عاميل» ، فأشرفت امرأة عاميل عليه فى بعض الليالى وهو يعبد الله تعالى، فنظرت الى عمود من نور من لدن العريش فى السماء، فآمنت ولحقت به، فأمر زوجها أن تلقى فى النار، فألقيت فيها، فدعا إلياس- عليه السلام- الله تعالى لها، فلم تعمل النار فيها شيئا، فأطلقها الملك، فلحقت بإلياس. ثم مات ولد لعاميل الملك فجزع عليه وتضرّع إلى صنمه فلم يغن عنه شيئا، فغضب وقال لإلياس: إن ابنى قد مات وعجز إلهى عن إحيائه، فهل تقدر أن تحييه؟ فقال: هذا على ربّى هيّن، ودعا الله تعالى، فقام الغلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن إلياس عبده ورسوله، فآمن الملك وخرج عن الملك وتبع إلياس ولبس الصوف وعبد الله تعالى حتى مات، وماتت زوجته وابنه. واستمرّ القوم فى ضلالهم وكفرهم ما شاء الله، وإلياس يدعوهم فلا يجيبونه، فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم وأنذرهم، فإن آمنوا وإلّا حبست عنهم الغيث وابتليتهم. بالقحط. فدعاهم فقالوا: إنّا لا نؤمن بك ولا بربّك، فاصنع ما أنت صانع. فحبس الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر، وغارت العيون وجفّت الأشجار، فأكلوا

ما عندهم حتى نفد، ثم أكلوا المواشى حتى أكلوا الكلاب والسنانير والفيران، وبلغ بهم الجوع حتى كانوا يأكلون من مات منهم، وإلياس بينهم وهم لا يرونه، ويدعونه وهو لا يجيبهم، وكان الله تعالى قد جعل أمر أرزاقهم إليه، فأوحى الله إليه أن السماء والأرض ومن عليها قد بكت على هؤلاء، وقد هلك كثير من خلقى بسببهم، وكلّ يدعوك ولا ترحمهم، فأنصف خلقى يا إلياس، فإنى أعصى فأرزق، وأكفر فأحلم. ففزع إلياس وقال: يا ربّ ما غضبت إلّا لك، وأنت أعلم بمصالح عبادك. فأوحى الله اليه أن سر إليهم وادعهم، فإن آمنوا وإلّا كنت أرأف بهم منك. قال: فانطلق إلياس حتى صار إلى أوّل قرية من قرى مدينتهم، فمرّ بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: وحقّ إلهى بعل ما ذقت الخبز منذ مدّة. قال: فهلّا تؤمنين بالله! فقالت: إنّ ابنى اليسع على دين إلياس، ولا أراه ينتفع به وقد أشرف على الموت من الجوع. فقال له إلياس: يا اليسع، أتحبّ أن تأكل الخبز؟ فصاح: كيف لى بالخبز! ومات؛ فبكت العجوز ولطمت. فقال لها: إن أحياه الله وجاءك بما تأكلين أتؤمنين بالله؟ قالت نعم. فدعا الله تعالى، فقام اليسع وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن إلياس رسول الله، ورزقهم الله تعالى خبزا ولبنا، فأكلوا، وآمنت العجوز، وخرجت تنذر قومها، فخنقوها فماتت، فاغتمّ اليسع لذلك. فقال له إلياس: إن الله سيحييها ويجعلكما آية لقومكما. وخرج إلياس إلى قومه وقد اجتمعوا عليها يريدون أكلها؛ فصاح بهم، فتفرّقوا عنها وقالوا: إنك أنت إلياس حقّا، فدعا الله تعالى فأحياها، فأقبل القوم عليه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه منذ سبع سنين! قال: فهلّا دعوتم صنمكم بعلا ليكشف عنكم! قالوا: قد دعوناه فلم يغن شيئا. قال: فإن أغاثكم الله تعالى أتؤمنون؟ قالوا نعم. فسأل الله تعالى فأمطرهم، وجرت أنهارهم وأنبتت أرضهم، وأحيا الله من مات منهم من الجوع،

فازدادوا كفرّا وعتوّا، فحذّرهم إلياس وأنذرهم وذكّرهم بنعمة الله عليهم. فقالوا: إنّ القحط قد ارتفع عنّا وهيهات أن يعود أبدا، وإن عاد فلا نبالى، قد جمعنا فى منازلنا ما يكفينا زمنا طويلا. فدعا الله عليهم واعتزلهم، وقال: قد بلّغت الرسالة وأنك لا حق بالملائكة. فاستخلف اليسع على المؤمنين «1» ؛ فقال اليسع: يا نبىّ الله، إنى ضعيف بين قوم كافرين. فأوحى الله تعالى الى اليسع بذلك، وخرج إلياس عن ديار قومه فى يوم جمعة، فإذا هو بفرس يلتهب نورا، وله أجنحة ملوّنة، فناداه: أقبل يا نبىّ الله. فاستوى على ظهره، وجاءه جبريل فقال: يا إلياس طرمع الملائكة حيث شئت، فقد كساك الله الريش، وقطع عنك لذّة المطعم والمشرب وجعلك آدميّا ملكيّا سماويّا أرضيّا. قال: ونشر الفرس أجنحته فهو يطير مع الملائكة. ثم أرسل الله- عز وجل- العذاب على قومه، فأحدقت بهم سحابة من جهنّم، واعتزلهم المؤمنون، فأحدقت السحابة بالكفرة، فأمطرت عليهم حجارة من العذاب. قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ «2» . قال: ثم انكشفت عن ديارهم وقد صاروا حمما سودا؛ قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «3» . قال: وأقام اليسع مع بنى إسرائيل حتى قبضة الله تعالى.

هذا ما أورده الكسائىّ فى أخبار إلياس واليسع عليهما السلام. وأمّا ما حكاه الثعلبىّ- رحمه الله- فى هذه القصة، فإنه قال: قال ابن إسحاق والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله حزقيل النبىّ- عليه السلام- عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر فيهم الفساد، ونسوا عهد الله تعالى إليهم فى التوراة حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله- عزّ وجل- فبعث الله تعالى اليهم إلياس نبيّا. قال الثعلبىّ: وهو إلياس ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون عليه السلام. قال: وإنما كانت الأنبياء بعد موسى- عليه السلام- يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا وضيّعوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون فى أرض الشأم وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمّا فتح أرض الشأم بوّأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبكّ ونواحيها، وهم سبط إلياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له «آجاب» «1» قد أضلّ قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له «بعل» وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وهم فى ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذى كان ببعلبكّ فإنه صدّقه وآمن به، وكان إلياس- عليه السلام- يقوّم أمره ويسدّده ويرشده، وكان لآجاب الملك هذا امرأة يقال لها «أرايل «2» » ، وكان يستخلفها على رعيّته إذا غاب عنهم فى غزاة

أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس فى مجلس القضاء فتقضى بين الناس، وكانت قتّالة للانبياء، وكان لها كاتب وهو مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان الكاتب قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبىّ كانت تريد قتل كلّ واحد منهم إذا بعث، سوى الذين قتلتهم ممن يكثر عددهم؛ وكانت فى نفسها غير محصنة ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهى مع ذلك قد تزوّجت سبعة ملوك من ملوك بنى إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال؛ وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا. وكان لآجاب هذا جار من بنى إسرائيل رجل صالح يقال له «مزدكى» وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمّتها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، فكانا يشرفان على تلك الجنينة ويتنزّهان فيها، ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان «آجاب» فى ذلك يحسن جوار «مزدكى» صاحبها ويحسن إليه، وامرأته «أرايل» تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال فى أن تغتصبها منه لمّا تسمع الناس يذكرون» الجنينة، ويتعجّبون من حسنها ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر، ويتعجّبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل المرأة تحتال على العبد الصالح «مزدكى» أن تقتله وتأخذ جنينته، والملك ينهاها عن ذلك. ثم اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته، فاغتنمت المرأة غيبة الملك واحتالت على «مزدكى» صاحب الجنينة، وهو غافل عما تريد مقبل على عبادة ربه وإصلاح جنينته، فجمعت «أرايل» جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على «مزدكى» أنه سبّ زوجها الملك «آجاب» ، فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه، وكان حكمهم فى ذلك

الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت البيّنة عليه بذلك. فأحضرت «مزدكى» وقالت: بلغنى أنك سببت الملك وعبته، فأنكر ذلك. فقالت: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بحضرة الناس، فأمرت بقتل «مزدكى» ، فقتل وأخذت جنينته غصبا، فغضب الله- عزّ وجل- عليهم للعبد الصالح. فلمّا قدم الملك من سفره قال لها: ما وفّقت وما أصبت، ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإن كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزّه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا منذ زمان طويل، فأحسنّا جواره، وكففنا عنه الأذى لوجوب حقّه علينا، فختمت أمره بأسوأ حال الجوار. وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة عقلك وقلّة تفكّرك فى العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. قال: أو ما كان يسعه حلمك ويحدوك عظم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره!. قالت: قد كان ما كان. فبعث الله تعالى إلياس- عليه السلام- إلى «اجاب» الملك وقومه، وأمره أن يخبرهم أنّ الله تعالى قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردّا الجنينة على ورتة «مزدكى» أن يهلكهما، يعنى «آجاب» وامرأته، فى جوف الجنينة أشرّ ما يكون بسفك دمهما، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرّى عظامهما من لحومهما، ولا يمتّعان بها إلا قليلا. قال: فجاء إلياس- عليه السلام- إلى الملك وأخبره بما أوحى الله- عزّ وجل- إليه فى أمره وأمر امرأته والجنينة. فلمّا سمع الملك ذلك اشتدّ غضبه عليه، ثم قال له: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعونا إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا- سمّى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون

ويتنعّمون مملّكين، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذى تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل. قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- ذلك وأحسّ بالشّر، رفضه وخرج عنه. فلحق بشواهق الجبال، ودعا الملك «1» الناس إلى عبادة بعل، وارتقى إلياس- عليه السلام- أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه. فيقال: إنه بقى فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا، يأوى الشّعاب والكهوف، ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه قد وضعوا عليه العيون يتوكّفون «2» أخباره ويجتهدون فى أخذه، والله تعالى يستره ويدفع عنه. فلمّا تمّت له سبع سنين أذن الله تعالى فى إظهاره عليهم، وشفا غيظه منهم، فأمرض الله تعالى ابنا لآجاب الملك وكان أحبّ ولده إليه وأعزّهم عليه وأشبههم به، فأدنف «3» حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا؛ وكانوا قد فتنوا به وعظّموه حتى «4» جعلوا له أربعمائة سادن وكّلوهم به وجعلوهم أنبياءه، وكان الشيطان يوسوس إليهم بشريعة من الضلالة، فيبيّنونها للناس فيعملون بها، ويسمّونهم الأنبياء. فلمّا اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم أن يشفعوا إلى بعل، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية، فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله تعالى بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج فى جوفه، وهم مجتهدون فى التضرّع إليه، وهو لا يزداد مع ذلك إلّا خمودا «5» . فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لآجاب: إن فى ناحية الشأم آلهة أخرى، وهى

فى العظم مثل إلهك، فابعث إليها أنبياءك فليشفعوا لك إليها، فلعلها أن تشفع لك إلى إلهك بعل فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لقد كان أجابك وشفى لك ابنك. قال آجاب: ومن أجل ماذا غضب علىّ وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت لم أسخطه ساعة قطّ؟ قالوا: من أجل أنّك لم تقتل إلياس وفرّطت فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك يعبد غيره، فذلك الذى أغضبه عليك. قال آجاب: وكيف لى أن أقتل إلياس يومى هذا وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابنى وليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفى ابنى لتفرّغت لطلبه، ولم يكن لى همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فأقتله فأريح إلهى منه وأرضيه. قال: ثم اندفعت أنبياؤه الأربعمائة ليشفعوا الى إلأرباب التى بالشأم ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفى ابنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذى فيه إلياس أوحى الله- عزّ وجل- إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلّمهم، وقال له: لا تخف فإنّى سأصرف عنك شرّهم، وألقى الرعب فى قلوبهم. فنزل إلياس- عليه السلام- من الجبل، فلمّا لقيهم استوقفهم فوقفوا، وقال لهم: إنّ الله- عزّ وجل- أرسلنى إليكم وإلى من وراءكم، فاستمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله تعالى يقول لك: ألست تعلم يا آجاب أنّى أنا الله لا إله إلّا أنا إله بنى إسرائيل الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلّة علمك حملك على أن تشرك بى وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت. إنى حلفت باسمى لأغيظنّك فى ابنك ولأميتنّه فى فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دونى. فلمّا قال لهم إلياس هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا. فلمّا صاروا إلى الملك قالوا له ذلك، وأخبروه أنّ إلياس انحطّ عليهم، وهو رجل نحيف طوال قد قشف

وقحل «1» وتمعّط «2» شعره وتقشّر «3» جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خلّها «4» على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلمّا صار معنا قذفت فى قلوبنا الهيبة والرّعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن فى هذا العدد الكثير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس عليه السلام. فقال آجاب: لا ننتفع بالحياة ما دام إلياس حيّا. ما الذى منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتونى به، وأنتم تعلمون أنه طلبتى وعدوّى. قالوا: أخبرناك بالذى منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال آجاب: ما يطاق إدا إلياس إلّا بالمكر والخديعة. فقيّض له خمسين رجلا من قومه ذوى قوّة وبأس، وعهد إليهم عهده، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به «5» وأن يطمعوه فى أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم، ليستنيم إليهم ويغترّ بهم، فيمكّنهم من نفسه، فيأتوا به الملك. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم تفرّقوا [فيه] «6» وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون: يا نبىّ الله، ابرز لنا وأنت آمن على نفسك [فإنا قد آمنا بك وصدّقناك، وملكنا آجاب «7» ] ، وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون: قد بلّغتنا رسالة ربّك، وعرفنا ما قلت، وآمنّا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا، فهلمّ إلينا فأنت نبيّنا ورسول ربّنا، [فأقم «8» ] بين أظهرنا واحكم فينا؛ فإنّا ننقاد لما أمرتنا، وننتهى عمّا نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلّف عنّا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا. وكلّ هذا كان منهم مما كرة وخديعة. فلمّا سمع إلياس- عليه

السلام- مقالتهم وقعت بقلبه وطمع فى إيمانهم وخاف الله تعالى وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر لهم ولم يجبهم بعد الذى سمع منهم. فلمّا أجمع على أن يبرز لهم رجع إلى نفسه فقال: لو أنّى دعوت الله- عزّ وجلّ- وسألته أن يعلمنى ما فى أنفسهم ويطلعنى على حقيقة أمرهم. فقال: اللهمّ إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم. فما استتمّ قوله حتى حصبوا «1» بالنار من فوقهم، فاحترقوا أجمعين. قال: وبلغ آجاب الخبر فلم يرتدع، واحتال ثانيا فى أمر إلياس، وجهّز فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى، فأقبلوا حتى ارتقوا قلل تلك الجبال [متفرقين «2» ] ، وجعلوا ينادون: يا نبىّ الله، إنّا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته. إنّا لسنا كالذين أتوك من قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقت وخالفتنا، فصاروا إليك ليكيدوك «3» من غير رأينا ولا علم منّا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك، وخرجوا إليك سرّا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم، والان فقد كفاك ربّك أمرهم وأهلكهم بسوء نيّاتهم وانتقم لنا ولك منهم. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام- مقالتهم دعا الله تعالى بدعوته الأولى، فأمطر الله عليهم النار، فاحترقوا عن آخرهم، كلّ ذلك وابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- كما وعده الله تعالى على لسان نبيّه إلياس- لا يقضى عليه فيموت، ولا يخفّف عنه من عذابه. قال: فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضبه، وأراد أن يخرج «4» فى طلب إلياس بنفسه، إلّا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه فلم يمكنه، فوجّه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذى هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل

معه، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا. وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وكان الملك مع اطّلاعه يغضّ عنه لما هو عليه من الكفاية والأمانة والحكمة وسداد الرأى، فوجّهه نحوه، وأرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إلى الفئة دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد أن يتخلّف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا بمكانه لم يوحشوه ولم يروّعوه، ثم أظهر آجاب للكاتب الإنابة وقال: إنه قد آن لى أن أتوب وأتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذى فيه ابنى؛ وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقى منّا فنهلك بدعوته. فانطلق إليه وأخبره أنّا قد تبنا وأنبنا، وأنه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضا ربّنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضى به ربّنا. وأمر الملك قومه فاعتزلوا الأصنام، وقال له: أخبر إلياس بأنّا قد خلعنا آلهتنا التى كنّا نعبد وأرجأنا «1» أمرها حتى ينزل إلياس إلينا، فيكون هو الذى يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علوا الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام- ثم ناداه الكاتب، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس بمكانه وكان مشتاقا إلى لقائه، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه وجدّد العهد به، فبرز إليه إلياس وسلّم عليه وصافحه، وقال له: ما الخبر؟ قال له المؤمن: إنّه قد بعثنى إليك هذا الجبّار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال: وإنّى خائف إن رجعت إليه ولست معى أن يقتلنى، فمرنى بما شئت أن أفعله وأنتهى إليه، [إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك «2» ]

وإن شئت فأرسلنى إليه بما تحبّ فأبلّغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربّك أن يجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا. قال: فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى إلياس عليه السلام أنّ كلّ شىء جاءوك به مكر وخديعة ليظفروا بك، وأن «آجاب» إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتّهمه وعرف أنه قد داهن فى أمرك، فلم يأمن أن يقتله، فانطلق معه فإنّ فى انطلاقك معه عذره وبراءته عند آجاب، وإنى سأشغل عنكما آجاب، وأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره، وأميته على شرّ حال، فإذا مات فارجع عنه ولا تقم. فانطلق معهم حتى قدموا على آجاب، فلمّا قدموا عليه شدّد الله تعالى على ابنه الوجع، وأخذه الموت، فشغل الله تعالى آجاب وأصحابه بذلك عن إلياس، فرجع إلياس سالما إلى مكانه. فلمّا مات ابن آجاب وفرغوا منه وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذى جاء به، فقال: ليس لى به علم، وذلك أنّه شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه، ولم أكن أحسبك إلّا قد استوثقت منه. فأضرب عنه آجاب وتركه لما كان فيه من الحزن على ابنه. فلمّا طال الأمر على إلياس ملّ الكمون فى الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران وإلى الناس فنزل من الجبل، وانطلق حتى نزل بامرأة من بنى إسرائيل، وهى أمّ يونس ابن متّى [ذى النون، فاستخفى عندها ستة أشهر «1» ] ، ويونس يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها، وتواسيه بذات يدها، ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها. ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد مقامه بالجبال وسعتها، فأحبّ أن يلتحق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه وأوحشها فقده، ثم لم تلبث إلّا يسيرا حتى مات ابنها [يونس «2» ] حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت فى طلب إلياس، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف [فيها «3» ] حتّى عثرت عليه ووجدته، فقالت:

ذكر دعاء إلياس على قومه، وما حل بهم من القحط وخبر اليسع حين اتبع إلياس

إنّى قد فجعت بموت ابنى بعدك، فعظمت فيه مصيبتى، واشتدّ لفقده بلائى، وليس لى ولد غيره، فارحمنى وادع ربّك- جلّ جلاله- فيحيى لى ابنى، ويجبر مصيبتى، وإنى قد تركته مسجّى لم أدفنه، وإنى قد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: ليس هذا ممّا أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرنى به ربّى، ولم يأمرنى بهذا. فجزعت المرأة وتضرّعت، فعطّف الله سبحانه وتعالى قلب إلياس عليها، فقال لها: ومتى مات ابنك؟ قالت: منذ سبعة أيام. فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس ميتّا منذ أربعة عشر يوما، فتوضّأ وصلّى ودعا الله فأحيا الله تعالى يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلمّا عاش وجلس وثب إلياس وانصرف وعاد إلى موضعه. والله أعلم. ذكر دعاء إلياس على قومه، وما حلّ بهم من القحط وخبر اليسع حين اتّبع إلياس قال: ولمّا طال عصيان قومه ضاق إلياس بذلك ذرعا وأجهده البلاء. فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: يا إلياس، ما هذا الحزن والجزع الذى أنت فيه! ألست أمينى على وحيى، وحجّتى فى أرضى، وصفوتى من خلقى! فسلنى أعطك فإنّى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم. قال: تميتنى فتلحقنى بآبائى، فإنّى قد مللت بنى إسرائيل وملّونى، وأبغضتهم فيك وأبغضونى. فأوحى الله تعالى إليه: يا إلياس، ما هذا باليوم الذى أعرى منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك إن كنتم صبرتم قليلا، ولكن تسألنى فأعطيك. قال إلياس: فإن لم تمتنى يا إلهى فأعطنى ثأرى من بنى إسرائيل. قال الله تعالى:

وأىّ شىء تريد أن أعطيك يا إلياس؟ قال: تمكننى من خزائن السماء سبع سنين، فلا تنشئ «1» عليهم سحابة إلّا بدعوتى، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتى، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك. قال الله تعالى: يا إلياس، أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: ستّ سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين. قال: فخمس سنين. قال: أنا أرحم بخلقى من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنى أعطيك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، فلا تنشأ «2» عليهم سحابة إلّا بدعوتك، ولا تنزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك. قال إلياس: فبأىّ شىء أعيش؟ قال: أسخّر جيشا من الطير تنقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التى لم تقحط. قال إلياس: قد رضيت. قال: فأمسك الله- عزّ وجلّ- عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر وجهد الناس جهدا شديدا وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا البيت وطلبوه، ولقى أهل ذلك المنزل منهم شرّا. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمرّ إلياس- عليه السلام- بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ قالت: نعم، شىء من دقيق وزيت قليل. فجاءته بشىء من الدقيق والزيت، فدعا فيهما بالبركة «3» ومسّهما، فبارك الله فى ذلك حتى ملأت جربها دقيقا وملأت

ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوة اليسع

خوابيها زيتا. فلمّا رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بى رجل من حاله كذا وكذا، فوصفت صفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس؛ فطلبوه فوجدوه فهرب منهم. ثم أوى ليلة إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع ابن أخطوب به ضرّ، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفى من الضرّ الذى كان به، واتّبع اليسع إلياس وآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاما شابّا. ذكر رفع البلاء عن قوم إلياس بدعوته واستمرارهم على الكفر ورفع إلياس وهلاك آجاب الملك وامرأته، ونبوّة اليسع قال: ثم أوحى الله تعالى إلى إلياس- عليه السلام- إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بنى إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بحبس المطر عن بنى إسرائيل. فيزعمون- والله أعلم- أنّ إلياس قال: يا ربّ دعنى أكن الذى أدعو لهم وآتيهم بالفرج ممّا هم فيه من البلاء الذى أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك. قيل له: نعم. فجاء إلياس- عليه السلام- إلى بنى إسرائيل فقال لهم: إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدّوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور. فإن كنتم تحبّون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم هذه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هى لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله- عزّ وجلّ- ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت. فخرجوا بأوثانهم فدعوها

فلم تستجب لهم، ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه [من البلاء «1» ] . ثم قالوا لإلياس: يا إلياس، إن الله قد أهلكنا، فادع الله لنا. فدعا الله تعالى لهم ومعه «2» اليسع بالفرج ممّا هم فيه وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التّرس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر [فأغاثهم «3» ] وحييت بلادهم. فلمّا كشف الله تعالى عنهم الضّرّ نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلمّا رأى إلياس- عليه السلام- ذلك دعا الله تعالى أن يريحه منهم؛ فقيل له- كما يزعمون-: انظر «4» يوم كذا وكذا فاخرج فيه «5» إلى موضع كذا، فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه. فخرج إلياس ومعه اليسع بن أخطوب، حتى إذا كانا بالموضع الذى أمر إلياس به، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق الفرس به، فناداه اليسع، يا إلياس: ما تأمرنى؟ فقذف اليه إلياس بكسائى من الجوّ الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إيّاه على بنى إسرائيل، فكان [ذلك «6» ] آخر العهد به. ورفع الله- عزّ وجلّ- إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وكساه الرّيش، فكان إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا، وسلّط الله على آجاب الملك وقومه عدوّا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا [به «7» ] حتى رهقهم، فقتل

ذكر نبوة اليسع عليه السلام

آجاب وامرأته أرايل فى بستان مزدكى، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمّت عظامهما «1» . ذكر نبوّة اليسع عليه السلام قال أبو إسحاق- رحمه الله تعالى-: ولمّا رفع الله تعالى إلياس- عليه السلام- نبّأ اليسع وبعثه رسولا إلى بنى إسرائيل، وأوحى إليه وأيّده بما أيّد به عبده إلياس؛ فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى قائم فيهم إلى أن فارقهم اليسع عليه السلام. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- بسند رفعه إلى عبد العزيز بن أبى روّاد قال: إلياس والخضر- عليهما السلام- يصومان شهر رمضان بيت المقدس، ويوافيان الموسم فى كلّ عام. وروى بسند رفعه إلى زيد مولى عون الطّفاوىّ «2» عن رجل من أهل عسقلان أنّه كان يمشى بالأردنّ نصف النهار، فرأى رجلا فقال له: يا عبد الله، من أنت؟ قال: فجعل لا يكلّمنى. فقلت: يا عبد الله، من أنت؟ قال: أنا إلياس. قال: فوقعت علىّ رعدة، فقلت: أدع الله يرفع عنّى ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لى بثمان دعوات: يا برّ، يا رحيم، يا حنّان، يا منّان، يا حىّ، يا قيوم، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما. قال: فرفع الله عنّى ما كنت أجد، فوضع كفّه بين كتفى، فوجدت بردها بين ثديى. قال فقلت: يوحى إليك اليوم؟ قال: منذ بعث الله محمدا رسوله فإنه ليس يوحى إلىّ. قال قلت له: كم من الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: أربعة، اثنان فى الأرض، واثنان فى السماء، فى السماء عيسى

وإدريس، وفى الأرض إلياس والخضر. قلت: كم الأبدال «1» ؟ قال: ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات؛ ورجلان بالمصّيصة «2» ، ورجلان بعسقلان، وستة فى سائر البلدان، كلّما أذهب الله واحدا جاء بآخر [مكانه «3» ] بهم يدفع الله عن الناس [البلاء «4» ] وبهم يمطرون. قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: فى جزائر البحر. قلت: فهل تلقاه؟ قال نعم. قلت: أين؟ قال: بالموسم. قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: يأخذ من شعرى وآخذ من شعره. قال: وذلك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشأم قتال. قال: فقلت: ما تقول فى مروان بن الحكم؟ قال: ما تصنع به! [رجل جبّار «5» ] عات على الله- عزّ وجلّ- القاتل والمقتول والشاهد فى النار.

قال قلت: فإنى قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله- عزّ وجلّ- أن أعود إلى ذلك المقام أو مثله أبدا. قال: أحسنت، هكذا فكن. قال: فإنى وإيّاه قاعدان إذ وضع بين يديه رغيفان أشدّ بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع، فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال: وله ناقة ترعى فى وادى الأردنّ، فرفع رأسه إليها، فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها. قلت: أريد أن أصحبك. قال: إنك لا تقدر على صحبتى. قلت: إنى خلو مالى زوجة ولا عيال. قال: تزوج، وإيّاك والنساء الأربع، إيّاك والناشز «1» ، والمختلعة «2» ، والملاعنة «3» ، والمبارئة «4» ، وتزوّج ما بدالك من النساء. قال: قلت: فإنى أحبّ لقاءك. قال: إذا رأيتنى فقد رأيتنى، ثم قال: إنى أريد أن أعتكف فى بيت المقدس فى شهر رمضان. قال: ثم حالت بينى وبينه شجرة، فو الله ما أدرى كيف ذهب. فهذا ما أورده فى خبر إلياس واليسع- عليهما السلام-. والله أعلم.

ذكر خبر عيلى وأشمويل وما يتصل بذلك

ذكر خبر عيلى «1» وأشمويل «2» وما يتّصل بذلك قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله- قال وهب بن منبّه: لمّا قبض الله تعالى اليسع- عليه السلام- خلفت فى بنى إسرائيل الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وكان عندهم التابوت يتوارثونه صاغرا عن كابر، فيه السّكينة «3» وبقيّة «4» ممّا ترك آل موسى وآل هارون، وكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلّا هزم الله ذلك العدوّ. وكان الله- تبارك وتعالى- قد بارك لهم فى جبلهم، لا يدخله عدوّ، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم- فيما يذكرون- يضع التراب على الصّخرة ثم ينثر فيه الحبّ فيخرج الله تعالى له ما يأكله سنة هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكله سنة هو وعياله. فلمّا عظمت أحداثهم وكثرت ذنوبهم وتركوا عهد الله إليهم سلّط عليهم العمالقة- وهم قوم [كانوا «5» ] يسكنون غزّة وعسقلان وساحل بحر الروم ما بين مصر وفلسطين- وكان جالوت الملك منهم فظهروا على بنى إسرائيل، وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما، فضربوا عليهم الجزية،

ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوته

وأخذوا توراتهم، ومكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف من حالهم يتمادون أحيانا فى غيّهم وضلالتهم، فسلّط الله عليهم من ينتقم منهم ليراجعوا التوبة، حتى بعث الله تعالى فيهم طالوت ملكا. وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع بن نون إلى نبوّة أشمويل أربعمائة سنة وستّين سنة، وكان آخر ملوكهم فى هذه المدّة رجل يقال له «إيلاف» وكان يدبّر أمرهم فى ملكه شيخ يقال له «عيلى» الكاهن، وكان حبرهم وصاحب قربانهم، وكانوا ينتهون إلى رأيه. ذكر ابتداء أمر أشمويل وكيف كانت نبوّته قال الثعلبىّ قال وهب: كان لأبى أشمويل امرأتان، إحداهما عجوز عاقر لم تلد، وهى أمّ أشمويل، والأخرى ولدت عشرة أولاد. وكان لبنى إسرائيل عيد من أعيادهم قد قاموا بشرائطه وقرّبوا فيه القرابين، فحضر أبو أشمويل وامرأتاه وأولاده العشرة ذلك العيد، فلمّا قرّبوا قربانهم أخذ كلّ واحد منهم نصيبه، فكان لأمّ الأولاد عشرة أنصباء، وللعجوز نصيب واحد، فعمل الشيطان بينهما ما يعمل بين الضرائر من الحسد والبغى، فقالت أمّ الأولاد [للعجوز «1» ] : الحمد لله الذى كثّرنى بولدى وقلّلك، فوجمت العجوز وجوما شديدا. فلمّا كان عند السّحر عمدت العجوز إلى متعبّدها فقالت: اللهمّ بعلمك وسمعك كانت مقالة صاحبتى واستطالتها علىّ بنعمتك التى أنعمت عليها، وأنت ابتدأتها بالنعمة والإحسان، فارحم ضعفى وارحمنى وارزقنى ولدا تقيّا رضيّا أجعله لك ذخرا فى مسجد من مساجدك، يعبدك ولا يكفرك، ويطيعك ولا يجحدك. وإذا رحمت ضعفى ومسكنتى وأجبت دعوتى، فاجعل لها علامة أعرفها بها. فلمّا أصبحت حاضت وكانت من قبل قد يئست من الحيض، فألمّ بها زوجها، فحملت وكتمت أمرها، ولقى بنو إسرائيل

فى ذلك الوقت من عدوّهم بلاء وشدّة، ولم يكن فى بنى إسرائيل من يدبّر أمرهم، فكاوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيّا يشير عليهم ويجاهدون عدوّهم معه، وكان سبط النبوّة قد هلك، فلم يبق منهم إلّا هذه المرأة الحبلى؛ فلمّا علموا بحبلها تعجّبوا وقالوا: إنما حبلت بنبىّ، لأن الآيسات لا يحبلن إلّا بالأنبياء، فأخذوها وحبسوها فى بيت رهبة أن تلد جارية فتبدل بها غلاما، لما ترى من رغبة بنى إسرائيل فى ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله تعالى أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمّته «أشمويل» وقيل فيه «شمعون» . وتقول: سمع الله دعائى. واختلف فى نسبه، فالذى يقول اسمه شمعون يقول: هو شمعون بن صفيّة بن علقمة بن أبى ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وقال سائر المفسّرين: هو أشمويل، وهو بالعربية إسماعيل بن بالى «1» ابن علقمة بن حام بن النهر بن بهر بن صوف بن علقمة بن ماحت بن عموصا ابن عزريا. قال مقاتل: هو من نسل هارون- عليه السلام-. وقال مجاهد: أشمويل ابن هلقاثا. والله أعلم. قالوا: فلمّا كبر الغلام أسلمته أمّه يتعلّم التوراة فى بيت المقدس وكفله عيلى، فلمّا بلغ أشمويل الوقت الذى يبعثه الله- عزّ وجلّ- نبيّا أتاه جبريل

وهو نائم إلى جنب عيلى الكاهن، وعيلى لا يأمن عليه أحدا، فدعاه بلحن الشيخ: يا أشمويل، فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه، دعوتنى؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام؛ فقال: يا بنىّ ارجع. فرجع فنام، ثم دعاه ثانيا، فأتاه فقال: أدعوتنى؟ فقال الشيخ: ما شأنك؟ فقال: أما دعوتنى؟ قال: لا. قال أشمويل: فإنى سمعت صوتا فى البيت، وليس فيه غيرنا. فقال: ارجع فتوضّأ وصلّ، فإذا دعيت باسمك فأجب وقل: لبّيك، أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. ففعل الغلام ذلك، فنودى الثالثة، فقال: لبّيك أنا طوعك، فمرنى أفعل ما تأمرنى. فظهر له جبريل وقال: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربّك، فإنّ الله تعالى قد بعثك إليهم نبيّا، وإن الله تعالى ذرأك يوم ذرأك [للنبوة «1» ] ورحم وحدة أمّك فى ذلك اليوم الذى تاهت عليها ضرّتها، ولا أحد اليوم أشدّ عضدا «2» ولا أطيب ولادة منك، فانطلق إلى عيلى [فقل له «3» ] إنك كنت خليفة الله على عباده، فبقيت زمانا تأمر بأمره، وحاكما بكتابه، وحافظا لحدوده؛ فلمّا امتدّ سنّك، ودقّ عظمك، وذهبت قوتّك، وفنى عمرك، وقرب أجلك؛ وصرت أفقر ما تكون إلى الله تعالى، ولم تزل فقيرا إليه، عطّلت الحدود، وعملت بالرّشا، وأضعت حكومات الخلق، حتى عزّ الباطل وأهله، وذلّ الحقّ وحزبه، وظهر المكر، وخفى المعروف، وفشا الكذب، وقلّ الصدق، وما الله عاهدك على هذا. ولا عليه استخلفك، فبئس ما ختمت به عملك، والله لا يحبّ الخائنين. فبلّغه هذه الرسالة، وقم بعده بالخلافة؛ فلمّا بلّغ أشمويل عيلى هذه الرسالة فزع وجزع.

قالوا: وكان السبب فيما عاتب الله تعالى عبده عيلى ووبّخه عليه أنه كان له ابنان شابّان، فأحدثا شيئا فى القربان لم يكن فيه، وذلك أنه كان فى مسواط «1» القربان الذى يسوطونه «2» به كلّابان، فما أخرجا كان للكاهن الذى كان يسوطه، فجعل ابناه لهما كلاليب، فأوحى الله تعالى إلى أشمويل: انطلق إلى عيلى فقل له: منعك حبّ الولد أن تزجر ابنيك أن يحدثا فى قربانى وأن يعصيانى، فلأ نزعنّ الكهانة منك ومن ولديك ولأهلكنّك وإياهما. فأخبر أشمويل عيلى بذلك، ففزع فزعا شديدا وسار إليهم عدوّهم، فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدوّ، فخرجا وأخرجا معهما التابوت، فجعل عيلى يتوقّع الخبر؛ فجاءه رحل وهو قاعد على كرسيّه فأخبره أنّ الناس قد انهزموا، وأن ابنيه قتلا. قال: فما فعل بالتابوت؟ قال: ذهب به العدوّ. فشهق عيلى ووقع ميّتا. فلمّا بلغ ملكهم إيلاف أن التابوت استلب، وأن عيلى قد مات كمدا مالت عنقه فمات كمدا. قالوا: فلمّا ماتا وأخذ التابوت مرج «3» أمر بنى إسرائيل واجترأ عليهم عدّوهم فقالوا لأشمويل ما أخبر الله تعالى به عنهم فى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «4» الآيات. وذلك بعد ما دبّر أشمويل أمرهم عشر سنين.

ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت

وإنما كان قوام أمر بنى إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو الذى يسير بالجنود ويقاتل العدوّ، والنبىّ يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله تعالى. قال وهب: بعث الله تعالى أشمويل نبيّا، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، وكان من أمر جالوت الملك والعمالقة ما كان، فسألوه أن يبعث لهم ملكا؛ فقال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا . فأجابوه بما قصّ الله تعالى فى كتابه: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» الآية. قال: فلمّا أخذ أشمويل ميثاقهم فى الطاعة والجهاد سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر الملك طالوت وإتيان التابوت وخبر جالوت قالوا: ولما سألوا أشمويل أن يبعث لهم ملكا، سأل الله تعالى فى ذلك، فأتى بعصا وقرن «2» فيه دهن القدس، وقيل له: إنّ صاحبكم الذى يكون ملكا طوله طول هذه العصا؛ وقيل له: أنظر إلى القرن الذى فيه الدّهن فإذا دخل عليك رجل فنشّ «3» الدّهن الذى فى القرن فهو ملك بنى إسرائيل، فادهن به رأسه، وملّكه عليهم؛ فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها؛ وكان طالوت- واسمه بالسّريانيّة «شارك «4» »

وبالعبرانيّة شاول «1» بن قيس بن أنيال بن ضرار بن أحرب بن أفيح بن آيش بن بنيامين ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- رجلا دبّاغا يعمل الأدم. قال وهب وعكرمة والسّدّى: كان سقّاء يسقى على حمار من النّيل، فضّل حماره، فخرج فى طلبه. وقال وهب: بل ضلّت حمر لأبى طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها، فمرّا ببيت أشمويل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبىّ فسألناه عن أمر حمرنا ليرشدنا ويدعو لنا بخير. فقال نعم. فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران شأن الحمر إذ نشّ الدّهن فى القرن فقام أشمويل وقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت: قرّب رأسك. فقرّبه فدهنه بدهن القدس، ثم قال له: أنت ملك بنى إسرائيل، وقد أمرنى الله تعالى أن أملّكك عليهم. فقال طالوت: أنا؟ قال نعم. قال: أو ما علمت أن سبطى» أدنى الأسباط فى بنى إسرائيل؟ قال بلى. قال: أفما علمت أن بيتى أدنى بيوت بنى إسرائيل؟ قال بلى. قال: فبأىّ آية أكون ملكا؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره. فكان كذلك. ثم قال لبنى إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ «3» ؛ وإنما قالوا ذلك لأنه كان فى بنى إسرائيل سبطان: سبط نبوّة، وسبط مملكة؛ فكان سبط النبوّة سبط لاوى بن يعقوب،

ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه

منهم موسى وهارون- عليهما السلام- وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، منهم سليمان بن داود؛ ولم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا المملكة، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنبا عظيما؛ كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا، فغضب الله تعالى عليهم، ونزع النبوّة والمملكة منهم، فأنكر بنو إسرائيل ذلك وقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قال أشمويل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً ، أى فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل فى وقته. وقال الكلبىّ: «فى العلم» بالحرب. وَالْجِسْمِ يعنى بالطّول والقوّة؛ وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه؛ وإنما سمّى طالوت لطوله. وقال ابن كيسان: للجمال، وكان أجمل رجل فى بنى إسرائيل وأعلمهم وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ «1» . قالوا: فما آية ذلك؟ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» . ذكر قصة التابوت وصفته وما قيل فيه قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار: إنّ الله تعالى أهبط تابوتا على آدم حين أهبط آدم إلى الأرض، فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرّسل منهم، وآخر البيوت بيت محمد- صلى الله عليه وسلّم- وهو من ياقوتة حمراء، وإذا هو قائم يصلّى وعن يمينه الكهل المطيع،

مكتوب على جبينه: هذا أوّل من يتّبعه من أمّته «أبو بكر الصدّيق» وعن يساره «الفاروق» ، مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه فى الله لومة لائم؛ ومن ورائه ذو النّورين آخذ بحجزته «1» ، مكتوب على جبينه: بارّ من البررة. ومن بين يديه «علىّ بن أبى طالب» شاهر سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيّد بالنصر من عند الله. وحوله عمومته والخلفاء والنّقباء والكبكبة «2» الخضراء- وهم أنصار الله وأنصار رسوله- نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس فى الدنيا. وكان التابوت نحوا من ثلاثة أذرع فى ذراعين، وكان من عود الشّمشار «3» الذى تتّخذ منه الأمشاط، مموّها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم- عليه السلام- فلمّا مات كان عند إسماعيل، ثم كان عند قيذار بن إسماعيل، فتنازعه ولد إسحاق وقالوا: إنّ النبوّة قد صرفت عنكم، وليس لكم إلّا هذا النور الواحد، [يعنى نور محمد صلّى الله عليه وسلّم «4» ] فأعطنا التابوت. فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول: إنه وصيّة لأبى، ولا أعطيه أحدا من العالمين. قال: فذهب ذات يوم يفتح التابوت، فتعسّر عليه فتحه، فناداه مناد من السماء: مهلا يا قيذار، فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، إنه وصيّة نبىّ،

لا يفتحه إلا نبىّ، فادفعه لابن عمّك يعقوب إسرائيل الله؛ فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان وكان بها يعقوب- عليه السلام- فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب، فقال لبنيه: أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه. فقام يعقوب وأولاده جميعا إليه، فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا وقال: يا قيذار، مالى أرادك متغيّرا وقوّتك ضعيفة، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية بعد أبيك إسماعيل؟ قال: ما رهقنى عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهرى نور محمد، فلذلك تغيّر لونى وضعف ركنى، قال: أفى بنات إسحاق؟ قال: لا، فى العربيّة الجرهميّة، وهى العامريّة، فقال يعقوب: بخ بخ! شرفا لمحمد، لم يكن الله- عزّ وجل- ليجريه إلا فى العربيّات الطاهرات يا قيذار، وأنا مبشّرك ببشارة. قال: وما هى؟ قال: اعلم أن العامريّة قد ولدت لك البارحة غلاما. قال قيذار: وما علّمك يابن عمّى وأنت بأرض الشأم وهى بأرض الحرم؟ قال يعقوب: علمت ذلك لأنى رأيت أبواب السماء قد فتحت، ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة، فعلمت أنّ ذلك من أجل محمد- صلى الله عليه وسلّم- فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله، فوجدها قد ولدت غلاما، فسمّاه «حملا» وفيه نور محمد صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: وكان التابوت فى بنى إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى- عليه السلام- فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثم تداوله أنبياء بنى إسرائيل إلى وقت أشمويل، وكان فيه ما ذكر الله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.

قال الثعلبىّ: واختلفوا فى السكينة ما هى؟ فقال علىّ بن أبى طالب: السكينة ريح خجوج «1» هفّافة لها رأسان [كرأس الهرّة «2» ] ووجه كوجه الإنسان. وقال مجاهد: رأس كرأس الهرّة، وذنب كذنب الهرّة وجناحان. وقال ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بنى إسرائيل: السكينة، رأس هرّة ميّتة كانت إذا صرخت فى التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح. وقال السّدّىّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس: هى طست من ذهب من الجنة كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء. وقال بكّار بن عبد الله عن وهب: روح من الله تتكلم، إذا اختلفوا فى شىء تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبى رباح: هى ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال قتادة والكلبىّ: فعيلة من السكون أى طمأنينة من ربّكم، وفى أىّ مكان كان التابوت اطمأنّوا وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ. قالوا: كان فيه عصا موسى ورضاض «3» الألواح، وذلك أنّ موسى لمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع بعضها، وجمع ما بقى فجعله فى التابوت. وكان فيه أيضا لوحان من التوراة، وقفيز من المنّ الذى كان ينزل عليهم، ونعلا موسى، وعمامة هارون وعصاه. وكان التابوت عند بنى إسرائيل؛ وكانوا إذا اختلفوا فى شىء تكلّم وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون «4» به على عدوّهم، فلمّا عصوا وأفسدوا سلّط الله- عزّ وجلّ- عليهم العمالقة فاستلبوا التابوت كما تقدّم.

ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده

ذكر إتيان التابوت إلى بنى إسرائيل وسبب عوده قال أبو إسحاق: لمّا سلب العمالقة قوم جالوت التابوت كان جالوت صغيرا، فأتوا بالتابوت قرية من قرى فلسطين يقال لها أشدود «1» ، وجعلوه فى بيت صنم لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته، فأخذوه ووضعوه فوقه، وسمّروا قدمى الصنم على التابوت، فأصبحوا من الغد وقد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقّى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة، فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه فى ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع فى أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنى إسرائيل لا يقوم له شىء، فأخرجوه عن مدينتكم، فأخرجوه إلى قرية أخرى، فبعث الله- عزّ وجلّ- على تلك القرية فأرا، يبيت «2» الرجل صحيحا فيقرضه الفأر فيصبح ميّتا قد أكلت ما فى جوفه، فأخرجوه منها إلى الصحراء ودفنوه فى مخرأة لهم، فكان كلّ من تبرّز هناك أخذه الباسور والقولنج «3» ؛ فتحيّروا؛ فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبى بنى إسرائيل من أولاد الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم، فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة فحملوا التابوت عليها، ثم علّقوها على ثورين، ثم ضربوا جنوبهما، فأقبل الثوران يسيران، ووكّل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فلم يمرّ التابوت

بشىء من الأرض إلّا كان مقدّسا، فأقبلا حتى وقفا على أرض فيها حصاد لبنى إسرائيل فكسرا برتهما وقطعا حبالهما، ووضعا التابوت فيها ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بنى إسرائيل إلّا التابوت، فكبّروا وحمدوا الله تعالى. وقال الكسائىّ: إنهم لمّا دفنوه إلى جنب الحشّ «1» وأخذهم الباسور أعادوه إلى الكنيسة. فغزاهم بعض الفراعنة فهزمهم ودخل الكنيسة، وأخذوا التابوت وهمّوا بفتحه فلم يقدروا فهمّوا «2» بكسره فلم يقدروا، فتركوه؛ فكان القوم يتشاءمون به لما كان يصيبهم من البلاء، فحوّلوه إلى خمس مدائن، فقال أهل المدينة الخامسة: إن هذا البلاء يصيبكم بسبب هذا التابوت فأخرجوه. وساق نحو ما تقدّم. وقوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أى تسوقه. فعند ذلك أقرّوا بملك طالوت. وقال ابن عبّاس- رضى الله عنهما-: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعوه فى دار طالوت، فأقرّوا بملكه. قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» . قال ابن عبّاس- رضى الله عنهما- إنّ التابوت وعصا موسى فى بحيرة «4» طبريّة، وإنهما يخرجان يوم القيامة. والله أعلم.

ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به

ذكر مسير طالوت بالجنود وخبر النهر الذى ابتلوا به قالوا: فلمّا أقرّوا بملك طالوت سألوه أن يغزو بهم، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرّه أو معذور لعذره؛ وذلك أنهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت، وهو النصر لا شكّ فيه؛ فسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لى فى كل ما أرى، لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج بامرأة ولم يبن بها؛ ولا يتبعنى إلّا الشابّ النشيط الفارع «1» . فاجتمع له ثمانون ألفا على شرطه- وكانوا فى حرّ شديد- فشكوا قلّة المياه فيما بينهم وبين عدوّهم، وقالوا: إنّ المياه لا تحملنا، فادع الله تعالى أن يجرى لنا نهرا. فقال لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أى من أهل دينى وطاعتى؛ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ؛ ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. قال الكسائىّ: لمّا سألوه أن يجرى لهم نهرا قال: أفعل- إن شاء الله- وسار بهم حتى إذا كانوا فى بريّة وفقدوا الماء وأجهدهم العطش، أتوه، فدعا أن يجرى الله تعالى لهم نهرا؛ فأوحى الله إليه ما أخبر به فى كتابه؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ «2» الآية. قال: وهو نهر الأردنّ من بلاد فلسطين. وقال الثعلبىّ: قال ابن عبّاس والسّدّىّ: هو نهر فلسطين. وقال قتادة والربيع: هو نهر بين الأردنّ وفلسطين، عذب. قال الكسائىّ: قالوا: وما تغنى عنّا الغرفة ثم عرض لهم النهر فانهمكوا فى شربه. قال الله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ

ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك

إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قال: واختلفوا فى القليل الذين لم يشربوا؛ فقال السّدّىّ: كانوا أربعة آلاف. وقال غيره: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ وهو الصحيح، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل بدر: «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر» وكان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: فلم يزد هؤلاء على الغرفة فكانت كفاية لهم ولدوابّهم؛ فمن اغترف غرفة، كما أمر الله، نوّر الله قلبه وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما. والذين شربوا وخالفوا أمر الله- عزّ وجل- اسودّت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شطّ النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ؛ فقال طالوت للذين عصوا ربهم: ارجعوا فلا حاجة لى بكم فرجعوا. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ «1» وإنّما قال ذلك الذين عصوا وشربوا قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2» . ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ «3» . قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله-: قال المفسّرون بألفاظ مختلفة ومعان متفقة: عبر النهر مع طالوت إيشى أبو داود فى ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود

أصغرهم، فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمى بقذّافتى «1» شيئا إلّا صرعته. فقال: أبشر يا بنىّ فإن الله- عزّ وجل- جعل رزقك فى قذّافتك؛ ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهجنى «2» ، فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير يريده الله بك. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه، إنى لأمشى بين الجبال فأسبّح فما يبقى جبل إلّا سبّح معى. فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير أعطاكه الله عزّ وجل. قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت، أن ابرز إلىّ أو أبرز إلىّ من يقاتلنى، فإن قتلنى فلكم ملكى، وإن قتلته فلى ملككم. فشقّ ذلك على طالوت، فنادى فى عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتى وناصفته ملكى. فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد؛ فسأل طالوت نبيّهم- عليه السلام- أن يدعو، فدعا الله- عزّ وجل- فى ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، وتنّور من حديد، فقيل له: إنّ صاحبكم الذى يقتل جالوت هو الذى يوضع هذا القرن على رأسه فيغلى الدّهن ثم يدهن به رأسه ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل فى هذا التنّور فيملأه لا يتقلقل فيه؛ فدعا طالوت بنى إسرائيل، فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله- عزّ وجل- إلى نبيّهم أن فى ولد إيشى من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيشى وقال له: اعرض علىّ بنيك. فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السوارى، وفيهم رجل فارع عليهم؛ فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع فيردّده على التنّور. فأوحى الله- عزّ وجل- إليه: إنّا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنّا نأخذهم على صلاح قلوبهم. فقال لإيشى:

هل بقى لك ولد غيرهم؟ فقال لا. فقال النبىّ: ربّ إنه زعم أن لا ولد له غيرهم. فقال كذب. فقال النبىّ: إن ربّى كذّبك. قال: صدق الله يا نبىّ الله، إنّ لى ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته فى الغنم يرعاها وهو فى شعب كذا. وكان داود- عليه السلام- رجلا قصيرا مسقاما «1» مصفارّا أزرق أشقر. فدعاه طالوت. ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادى قد حال بينه وبين الزّربية التى كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين فيجيزهما السّيل ولا يخوض بهما الماء؛ فلمّا رآه [أشمويل «2» ] قال: هذا هو لا شكّ فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض؛ فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتى وأجرى حكمك فى ملكى؟ قال نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجىء الأسد أو النّمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم له فأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره؛ فمرّ داود- عليه السلام- فى الطريق بحجر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا، فحمله فى مخلاته. [ثم مرّ بحجر آخر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر موسى- عليه السلام- الذى قتل به ملك كذا وكذا، فحمله فى مخلاته «3» ] . ثم مرّ بحجر آخر فقال: احملنى فإنى حجرك الذى تقتل به جالوت، وقد خبأنى الله لك، فوضعه فى مخلاته. فلما تصافّوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، وسار قريبا، ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام. فجاء فوقف على الملك فقال:

ما شأنك؟ قال: إنّ الله- عز وجل- إن لم ينصرنى لم يغن عنّى هذا السلاح شيئا، فدعنى أقاتل كما أريد. قال نعم. فأخذ داود مخلاته فتقلّدها، وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم؛ وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة منّ حديدا، فلمّا نظر إلى داود ألقى فى قلبه الرّعب، فقال له: أنت تبرز لى؟ قال نعم- وكان جالوت على فرس أبلق، عليه السلاح التامّ- قال: تأتينى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. فقال داود: [باسم «1» الله و] يقسّم الله لحمك. وقال: بسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه فى مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه فى مقلاعه، فصارت كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به، فسخّر الله تعالى له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه فخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود فجرّه حتى ألقاه بين يدى طالوت. وقال الكسائىّ فى هذه القصة: كان مع طالوت سبعة إخوة لداود، وكان داود عند أبيه وهو صغير، فقال له أبوه: قد أبطأ علىّ خبر إخوتك مع طالوت، فاحمل إليهم طعاما وتعرّف لى خبرهم. فمضى داود ومعه مخلاة له فيها الطعام، وقد شدّ وسطه بمقلاع؛ فبينا هو يسير إذا ناداه حجر من الأرض: خذنى فأنا حجر أبيك إبراهيم. فأخذه؛ ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك إسحاق. فأخذه؛

ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك يعقوب. فأخذه وسار حتى أتى العسكر، فنزل على إخوته، فلمّا كان من الغد تهيّأ الجيشان للمحاربة، فقال طالوت: أيها الناس، من كفانى منكم أمر جالوت زوّجته ابنتى، وأشركته فى ملكى، وجعلته خليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد إلّا داود؛ فخلع عليه وأركبه وطاف به فى معسكره؛ فلمّا كان من الغد ركبوا، وأقبل جالوت بجيوشه وهو على فيل، وكان طوله ثمانية عشر ذراعا، وطول داود عشرة أذرع، فقال المؤمنون: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً «1» الآية. فبرز جالوت بين الصفّين فبرز له داود، فقال له جالوت: إنك صغير ولا سلاح معك فارجع، فأبى ذلك، وأخذ تلك الأحجار فوضعها فى مقلاعه ورمى بها، فوقع أحدها بميمنة جالوت فهزمها، والثانى فى الميسرة فانهزموا، والثالث وقع على أنف بيضة جالوت فخرج من قفاه، فسقط جالوت ميّتا، وانهزم أصحابه. قالوا: ولمّا قتل داود جالوت ذكر الناس داود وعظم فى أنفسهم، فجاء إلى طالوت وقال له: أنجز لى ما وعدتنى، وأعطنى امرأتى. فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، عجّل صداق ابنتى وشأنك بها. فقال له داود: ما شرطت علىّ صداقا، وليس لى شىء، فتحكّم فى الصداق «2» ما شئت وأقرضنى مهرها وعلىّ الأداء والوفاء لك. فقال طالوت: أصدقها نصيبك من الملك. فقالت بنو إسرائيل: لا تظلمه وأنجز له ما وعدته به. فلمّا رأى طالوت ميل بنى إسرائيل إلى داود وحسن رأيهم فيه قال: لا حاجة لابنتى فى المال، ولا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل جرىء، وفى جبالنا

أعداء من المشركين غلف «1» فانطلق وجاهدهم، فإذا قتلت منهم مائتى رجل وجئتنى برءوسهم زوّجتك ابنتى. فأتاهم داود، وجعل كلّما قتل منهم رجلا احتزّ رأسه ونظمه فى خيط حتى نظم رءوسهم فجاء بها إلى طالوت، فألقاها إليه وقال: ادفع إلىّ امرأتى، فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه فى ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا من ذكره، فوجد طالوت من ذلك فى نفسه وحسده وأراد قتله. قال وهب بن منبّه: وكانت الملوك يومئذ يتوكّأون على عصىّ فيغرزون فى أطرافها أزجة من حديد، وكان بيد طالوت منها واحدة، فى رأسها رمّانة من ذهب وفى أسفلها زجّ من حديد، وداود جالس قريبا منه فى ناحية البيت، فرماه بها بغتة ليقتله بها، فلمّا أحسّ داود بذلك حاد عن طريقها، وأمال نفسه عنها من غير أن يبرح من موضعه، فارتكزت فى الجدار، فقال له داود: عمدت إلى قتلى؟ قال طالوت: لا، ولكن أردت أن أقف على ثباتك فى الطّعان وربط جأشك للاقران. قال داود: فألفيته على ما قدّرته فىّ؟ قال: نعم، ولعلك فزعت. قال: معاذ الله أن أخاف إلّا الله تعالى وأرجو إلا الله، ولا يدفع الشرّ إلا الله. فانتزعها من الجدار ثم هزّها هزّة منكرة وقال له: أثبت كما ثبتّ لك، فأيقن طالوت بالهلاك؛ فقال له: أنشدك الله والحرمة التى بينى وبينك إلّا ما صفحت؛ فقال داود: إن الله تعالى كتب فى التوراة أن اجز السيئة مثلها، واحدة بواحدة والبادى أظلم؛ فقال طالوت: ألا تقول قول هابيل لأخيه قابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ «2» . قال داود: قد عفوت عنك لوجه الله تعالى.

فلبث طالوت زمنا يريد قتل داود، فعزم على أن يأتيه ويغتاله فى داره، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود: إنك مقتول الليلة؛ قال: ومن يقتلنى؟ قالت: أبى، وأخبرته الخبر وقالت: لا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك. فأخذ داود زقّ خمر فوضعه فى مضجعه على السّرير وسجّاه ودخل تحت السّرير ودخل طالوت نصف الليل، فعمد إليه فضربه ضربة بالسيف فسالت الخمر، فلمّا وجد ريحها قال: رحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج، فلمّا أصبح علم أنه لم يصنع شيئا، فقال: إنّ رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق ألّا يدعنى حتى يطلب منى ثأره؛ فاشتدّ حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه الأبواب، فأتاه داود ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله الحجّاب عنه وفتح له الأبواب، ودخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلمّا استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: رحم الله داود فهو خير منّى، ظفرت به فقصدت قتله، وظفر بى فكفّ عنّى، لو شاء لوضع هذا السهم فى حلقى وما أنا بالذى آمنه. فلمّا كانت الليلة القابلة أتاه ثانيا، وأعمى الله الحجّاب، فدخل وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذى كان يتوضّأ به وكوزه الذى يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى؛ فلمّا أصبح ورأى ذلك نصب على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم ركب طالوت يوما فوجد داود يمشى فى البرّيّة فقال: اليوم أقتل داود، وكان داود إذا فرّ لم يدرك، فركض داود حتى دخل غارا، فأمر الله العنكبوت أن تنسج، فنسجت عليه بيتا، وجاء طالوت إلى الغار فنظر الى بيت العنكبوت فقال: لو كان هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه ومضى، وانطلق داود إلى الجبل ومعه المتعبّدون، فجعل يتعبّد فيه.

وطعن العلماء والعبّاد على طالوت فى شأن داود؛ فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلّا قتله. وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر فى بنى إسرائيل على عالم [ويطيق قتله إلّا قتله «1» ] ولم يكن طالوت يحارب جيشا إلّا هزمه، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جبّاره بقتلها، فرحمها الجبّار وقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها. ثم وقع فى قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور ويبكى وينادى: أنشد الله عبدا يعلم لى التوبة إلّا أخبرنى. فلمّا كثر عليهم [بكاؤه «2» ] ناداه مناد من قبر: يا طالوت، أما ترضى [أنك «3» ] قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فقال له الجبّار: مالك أيها الملك؟ قال: هل تعلم لى فى الأرض عالما أسأله؟ هل لى من توبة؟ قال الجبّار: هل تدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح ديك فتطيّر به، فقال: لا تتركوا فى هذه القرية ديكا إلّا ذبحتموه. فلمّا أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الدّيك فأيقظونا حتى ندّلج. فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته؟ وأنت هل تركت فى الأرض عالما؟! فازداد طالوت حزنا وبكاء؛ فلمّا رأى الجبّار ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله؟ قال لا. فتوثّق منه الجبّار وأخبره أنّ المرأة العالمة عنده؛ قال: فانطلق بى إليها حتى أسألها هل لى من توبة؟ - وكان إنما يعلم ذلك أهل بيت لهم علم بالاسم الأعظم «4» - فلمّا بلغ طالوت الباب قال له الجبّار: إنها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه، ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم عليك حرمة، أنجيتك من القتل وآويتك عندى؟ قالت بلى. قال: فإنّ لى إليك حاجة. قالت:

وما هى؟ قال: هذا طالوت يسأل هل له من توبة؟ فقالت: لا والله ما لطالوت من توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر أشمويل؟ قال نعم. قالت: فانطلقوا بى إلى قبره، ففعلوا، فصلّت ثم نادت: يا صاحب القبر أخرج. فخرج أشمويل من قبره ينفض رأسه من التراب. فلمّا نظر إليهم ثلاثتهم. المرأة والجبّار وطالوت قال: مالكم! أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكنّ طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال أشمويل: يا طالوت، ما فعلت بعدى؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته، وقد جئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال: ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلّى عن مالك وتخرج أنت وولدك فى سبيل الله، ثم تقدّم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا، ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألّا يتابعه أولاده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه. فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذوننى؟ قالوا: بلى، ننقذك بما قدرنا عليه. قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول. قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة. قالوا: فإنك لمقتول؟! قال نعم. قالوا: فلا خير لنا فى الحياة بعدك، قد طابت أنفسنا بالذى سألت. فتجهّز للغز وبماله وولده، فتقدّم ولده فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا؛ ثم تقدّم فقاتل بعدهم حتى قتل. فجاء قاتله إلى داود يبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال داود: ما أنت بالذى تحيا بعده. فضرب عنقه. وحكى الكسائىّ: أنّ طالوت لمّا حسد داود على ما أوتى من القوّة، وهمّ بالغدر مرارا فلم يظفر به وظفر به داود فأبقى عليه، اعتذر له طالوت واتفقا؛ ثم مات أشمويل، فانضمّ بنو إسرائيل إلى داود واختلفوا على طالوت وحاربوه؛ فاستقلّ داود بالملك، وجاهد ببنى إسرائيل وقهر الأعداء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوته ومبعثه إلى بنى اسرائيل وما خصه الله عز وجل به

ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى اسرائيل وما خصه الله عزّ وجل به هو داود بن إيشى «1» بن عويل بن باعد بن سلمون بن يحسون بن عمى بن مارب ابن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام- قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ «2» قال الكسائىّ: لمّا مات أشمويل تفرّق بنو إسرائيل واشتغلوا باللهو، فبعث الله تعالى داود- عليه السلام- وأعطاه سبعين سطرا من الزّبور، وأعطاه حسن الصوت، فكان إذا سبّح سبّحت الجبال معه والطير والوحش؛ قال الله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «3» أى مطيع، وقال أبو إسحاق الثعلبىّ: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: لمّا استشهد طالوت أتى بنو إسرائيل إلى داود فأعطوه خزانة طالوت وملّكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوت بسبع سنين، ولم يجتمع بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون على ملك واحد إلّا على داود عليه السلام. قال: وخصّ الله تعالى نبيّه داود بخصائص: منها: أنه أنزل عليه الزّبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة، فى خمسين منها ما يكون من بختنصر وأهل بابل؛ وفى خمسين ما يكون من أهل إبرون؛

وفى خمسين منها موعظة وحكمة؛ ولم يكن فيها حلال ولا حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ وذلك قوله تعالى: (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» ) . ومنها: الصوت الطيّب، والنغمة اللذيذة، والترجيع فى الألحان؛ ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، فكان يقرأ الزّبور بسبعين لحنا بحيث يعرق المحموم ويفيق المغشىّ عليه. وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرّيّة، فيقوم ويقرأ ويقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجنّ خلف الناس، وتقوم الشياطين خلف الجنّ، وتدنو الوحوش والسباع حتى تؤخذ بأعناقها، وتظلّه الطير مصيخة «2» ، ويركد الماء الجارى ويسكن الريح. قال الثعلبىّ: وما صنعت المزامير والبرابط «3» والصّنوج إلّا على صوته، وذلك أنّ إبليس حسده واشتدّ عليه أمره، فقال لعفاريته: ترون ما دهاكم؟ فقالوا: مرنا بما شئت. قال: فإنه لا يصرف الناس عن داود إلّا ما يضادّه ويحادّه «4» فى مثل حاله. فهيّأ المزامير والأعواد والأوتار والملاهى على أجناس أصوات داود- عليه السلام- فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها واغترّوا بها. ومنها: تسبيح الجبال والطير معه؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» ) . وقوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «6» ) . يقال: إن داود كان اذا تخلّل الجبال يسبّح الله تعالى جعلت الجبال

تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبّح. ثم قال فى نفسه ليلة من الليالى: لأعبدنّ الله عبادة لم يعبد مثلها، فصعد الجبل، فلمّا كان فى جوف الليل وهو على جبل داخلته وحشة، فأوحى الله إلى الجبال: أن آنسى داود، فاصطكّت الجبال بالتسبيح والتهليل. فقال داود فى نفسه: كيف يسمع صوتى مع هذه الأصوات؟ فهبط عليه ملك وأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فوكزه برجله فانفرج له البحر، فانتهى إلى الأرض فوكزها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى إلى الحوت فوكزه برجله، فانتهى الى الصخرة، فوكز الصخرة برجله، فانفلقت فخرجت منها دودة تنشّ «1» ، فقال: إن الله تعالى يسمع نشيش هذه الدودة فى هذا الموضع. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر والمدر. ومنها: أن الله تعالى أكرمه بالحكمة وفصل الخطاب. قالوا: والحكمة: الإصابة فى الأمور. واختلفوا فى فصل الخطاب، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن: المعنى علم الحكم والنظر فى القضاء، كان لا يتتعتع «2» فى القضاء بين الناس. وقال علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه-: هو البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه. وقال كعب: الشهود والأيمان. وقال الشعبىّ: سمعت زيادا يقول: فصل الخطاب الذى أعطى داود: أمّا بعد. قال الأستاذ: وهو أوّل من قالها. ومنها: السلسلة التى أعطاه الله إيّاها، ليعرف المحقّ من المبطل فى المحاكمة إليه. قال الثعلبىّ: روى الضحّاك عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: إنّ الله تعالى أعطى داود سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك، ورأسها عند محراب داود

حيث يتحاكم إليه، وكانت قوّتها قوّة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة، مفصّلة بالجوهر، مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرّطب، فلا يحدث فى الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث؛ ولا يلمسها ذو عاهة إلّا برىء، وكان علامة دخول قومه فى الدّين أن يمسّوها بأيديهم ويمسحوا بأكفّهم على صدورهم. وكانوا يتحاكمون إليه، فمن تعدّى على صاحبه أو أنكره حقا أتوا السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها؛ فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. قال: فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلمّا استردّها منه أنكره ذلك، فتحا كما إلى السلسلة، فعلم الذى كانت عنده الجوهرة أن يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكّازة فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر معه غريمه «1» عند السلسلة، فقال لصاحبها: ما أعرف لك من وديعة، إن كنت صادقا فتناول السلسلة، فتناولها بيده وقال للمنكر: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: إلزم عكّازتى هذه حتى أتناول السلسلة. فأخذها وقام الرجل وقال: اللهم إن كنت تعلم أنّ هذه الوديعة التى يدّعيها علىّ قد وصلت إليه فقرّب منّى السلسلة. فمدّ يده وتناولها، فشكّ القوم وتعجّبوا، فأصبحوا وقد رفع الله تلك السلسلة. وقال الكسائىّ فى خبر السلسلة: أوحى الله تعالى إلى داود أن ينصب سلسلة من حديد ويعلّق فيها جرسا، ففعل ذلك؛ وساق فى خبرها نحو ما تقدّم فى أمر المحقّ والمبطل.

قال: وجاء خصمان فادّعى أحدهما على الآخر أنه أودعه جواهرا؛ فاعترف به وقال: أعدته إليه، فتقدّم المدّعى وتناول السلسلة فدنت منه حتى تناولها، ثم قال للمدّعى عليه: تناولها. وكان قد أخذ الوديعة فجعلها فى قناة مجوّفة، فناولها للمدّعى وقال: الزم عصاى هذه، ومدّ يده إلى السلسلة فدنت منه حتى كاد يتناولها؛ ثم ارتفعت وتدلّت إليه مرارا، ثم تناولها، فقال داود للمدّعى: لعلّ هذا قد سلّم وديعتك لأهلك. فرجع وسأل أهله، فقالوا: ما دفع إلينا شيئا. فعاد وأعلم داود، فأخذ داود القناة وشقّها، فطلعت الوديعة منها؛ وارتفعت السلسلة من ذلك اليوم. قال الثعلبىّ: وكان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما إلى سلسلة بنى إسرائيل؟ كانت تأخذ بعنق الظالم فتجرّه إلى الحق جرّا. والله أعلم بالصواب. ومنها: القوّة فى العبادة وشدّة الاجتهاد؛ قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «1» ، أى القوّة فى العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ أى توّاب مطيع مسبّح. وكان داود يقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما، وما مرّت ساعة من الليل إلّا وفيها من آل داود قائم يصلّى، ولا يوم من الأيام إلّا وفيه منهم صائم. ومنها: قوّة المملكة. قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ «2» أى قوّيناه، وقرأ الحسن: (وشدّدنا ملكه) بالتشديد. قال ابن عباس: كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا؛ كان يحرس محرابه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. وقال السّدّىّ: كان يحرسه فى كل يوم وليلة أربعة آلاف.

وروى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود؛ فقال المستعدى: إن هذا قد غصبنى بقرى «1» . فسأل داود الرجل فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم تكن له بيّنة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر فى أمركما. فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود فى منامه أن يقتل الذى استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا [ولست أعجل حتى أتبيّن «2» ] فأوحى الله تعالى إليه مرّة ثانية أن يقتله [فقال: هذه رؤيا، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله «3» ] أو تأتيه العقوبة من الله. فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله تعالى قد أوحى إلىّ أن أفتلك. فقال: تقتلنى بغير بيّنة ولا تثبّت؟. فقال نعم، والله لأنفّذنّ أمر الله فيك. فلمّا عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك، إنّى والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكنّى [كنت «4» ] اغتلت والد «5» هذا فقتلته. فأمر به داود فقتل؛ فاشتدّت هيبته عند بنى إسرائيل واشتدّ ملكه. ويقال: كان لداود إذا جلس للحكم عن يمينه ألف رجل من الأنبياء، وعن يساره ألف رجل من الأحبار. ومنها: شدّة البطش. فروى أنه ما فرّ ولا انحاز من عدوّ له قطّ، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديث الصحيح عن داود عليه السلام: «كان يصوم يوما ويفطر يوما «6» » .

ومنها: إلانة الحديد له. قال الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ «1» . قالوا: وكان سبب ذلك أنّ داود- عليه السلام- لمّا ملك أمر بنى إسرائيل، كان من عادته أن يخرج للناس متنكّرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدّم إليه وسأله، فيقول له: ما تقول فى داود واليكم هذا؟ أىّ رجل هو؟ فيثنون عليه ويقولون خيرا؛ فبينما هو ذات يوم إذ قيّض الله له ملكا فى صورة آدمىّ، فتقدّم داود إليه، فسأله على عادته، فقال له: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك، فقال: ما هى يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبّه داود لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبّب له سببا يستغنى به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، فصار فى يده مثل الشّمع والعجين والطّين المبلول، فكان يصرّفه بيده كيف شاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد. وعلّمه الله تعالى صنعة الدروع فهو أوّل من اتّخذها وكانت قبل ذلك صفائح. وقيل: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدّق منها على الفقراء والمساكين، وذلك قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ «2» الآية. وقوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أى دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، أى لا تجعل المسامير دقاقا فتنفلق، ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك حتى جمع منه مالا. وروى أنّ لقمان الحكيم رأى داود وهو يعمل الدّروع، فعجب من ذلك ولم يدر ما هو؟ فأراد أن يسأله، فسكت حتى فرغ داود من نسج الدروع، فقام وصبّها على نفسه وقال: نعم القميص هذا للرجل المحارب. فعلم لقمان ما يراد به، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. والله أعلم.

ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة

ذكر خبر داود عليه السلام حين ابتلى بالخطيئة قال الثعلبىّ- رحمه الله-: اختلف العلماء فى سبب امتحان الله تعالى نبيّه داود- عليه السلام- فقيل: إنه تمنّى يوما من الأيام على ربّه تعالى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو الذى كان يمتحنهم به، ويعطيه من الفضل نحو الذى أعطاهم. قال: وروى السّدّىّ والكلبىّ ومقاتل عن أشياخهم دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: كان داود- عليه السلام- قسم الدهر ثلاثة أيام «1» : يوما يقضى فيه بين الناس، ويوما لعبادة ربّه، ويوما يخلو فيه بنسائه وأولاده وأشغاله؛ وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فقال: يا ربّ إنّ الخير كلّه ذهب به آبائى الذين كانوا من قبلى. فأوحى الله تعالى إليه: أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها؛ ابتلى إبراهيم بالنّمرود وبذبح ابنه؛ وابتلى إسحاق بالذّبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف، وإنك لم تبتل بشىء من ذلك. فقال داود عليه السلام: ربّ فابتلنى بمثل ما ابتليتهم وأعطنى مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى فى شهر كذا فى يوم كذا فاحترس. فلمّا كان ذلك اليوم الذى وعده الله عز وجل دخل داود محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلّى ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان، تمثّل له فى صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن؛ فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها. وفى بعض الروايات: «ليدفعها إلى ابن له صغير» فلمّا أهوى إليها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها؛ فامتدّ إليها ليأخذها، فتنحّت، فتبعها فطارت حتى وقعت [فى كوّة «2» ] ، فذهب ليأخذها

فطارت من الكوّة؛ فنظر داود عليه السلام أين تقع فيبعث إليها من يصيدها؛ فأبصر امرأة فى بستان على شطّ بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبىّ. وقال السّدّىّ: رآها تغتسل على سطح لها. وقال الكسائىّ: سقط الطائر على شجرة إلى جانب الحوض الذى تغتسل فيه نساء بنى إسرائيل. قالوا: فرأى داود امرأة من أجمل النساء خلقا، فعجب من حسنها، وحانت منها التفاتة، فأبصرت ظلّه، فنفضت شعرها فتغطّى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ فسأل عنها، فقيل هى بتشابع بنت سالغ «1» ، امرأة أوريّا بن حنانا، وزوجها فى غزاة بالبلقاء «2» بعث مع يوآب «3» ابن صروية ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته: أن أبعث أوريّا إلى موضع كذا وكذا، وقدّمه قبل التابوت؛ وكل من قدّم على التابوت لا يحلّ له أن يرجع وراءه [حتى يفتح الله على يديه «4» ] أو يستشهد، فبعثه أيوب وقدّمه، ففتح له، فكتب إلى داود بذلك؛ فكتب إليه أيضا: أن أبعثه إلى عدوّ كذا وكذا. فبعثه، ففتح له؛ فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدوّ كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه؛ فقتل فى المرّة الثالثة. فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود- عليه السلام- وهى أمّ سليمان عليه السلام. وقال آخرون: كان سبب امتحانه أن نفسه حدّثته أن يطيق قطع يوم بغير مقارفة سوء.

وقد روى الثعلبىّ فى ذلك بسند [سعيد بن «1» ] مطر عن الحسن قال: إن داود- عليه السلام- جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين الناس «2» ، ويوما لبنى إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلمّا كان يوم بنى إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتى على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود فى نفسه أنه سيطيق ذلك. فلمّا كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألّا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة الزّبور؛ فبينما هو يقرأ إذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد، ولم تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتى أشرف على أمرأة تغتسل، فأعجبه خلقها؛ فلمّا رأت ظلّه فى الأرض جللّت نفسها بشعرها، فزاده ذلك إعجابا بها؛ وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه: أن سر إلى مكان كذا وكذا- مكان إذا سار إليه قتل ولم يرجع- ففعل، فأصيب. فخطبها داود وتزوّجها. وقال بعضهم فى سبب ذلك ما رواه أبو إسحاق بسنده عن قتادة عن الحسن قال: قال داود- عليه السلام- لبنى إسرائيل حين ملك: والله لأعدلنّ بينكم. ولم يستثن؛ فابتلى. وقال أبو بكر الورّاق: كان سبب ذلك أن داود عليه السلام كان كثير العبادة، فأعجب بعمله وقال: هل فى الأرض أحد يعمل عملى؟ فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب

يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك. فقال: يا ربّ كلنى إلى نفسى سنة. قال: إنها لكثيرة. قال: شهرا. قال: إنه لكثير. قال: فأسبوعا. قال: إنه لكثير. قال: فيوما. قال: إنه لكثير. قال: فساعة. قال: فشأنك بها. فوكّل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحرب ووضع الزبور بين يديه، فبينما هو فى نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه؛ وكان من أمر المرأة ما كان. قالوا: فلمّا دخل داود عليه السلام بامرأة أوريّا لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجل ملكين فى صورة إنسيّين، يطلبان أن يدخلا عليه، فوجداه فى يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه؛ فتسوّرا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلّى إلّا وهما بين يديه جالسان، فذلك قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ «1» أى تجر وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ «2» أى وسط الطريق إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ كنى بالنّعاج عن النساء؛ والعرب تفعل ذلك. فَقالَ أَكْفِلْنِيها . قال ابن عبّاس: أعطنيها. وقال ابن جبير عنه: تحوّل لى عنها. وقال أبو العالية: ضمّها إلىّ حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: إجعلها كفلى، أى نصيبى. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «3» ، أى غلبنى. وقرأ عبيد بن عمير: وعازّنى، من المعازّاة، وهى المغالبة. قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ

أى الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ «1» . وروى السّدّىّ أن أحدهما لما قال: إِنَّ هذا أَخِي الآية، قال داود- عليه السلام- للآخر: ما تقول؟ قال: إن لى تسعا وتسعين نعجة ولأخى هذا نعجة واحدة، وأنا أريد أن آخذها منه فأكمّل نعاجى مائة وهو كاره. قال داود: وهو كاره؟ قال نعم. قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، يعنى طرف الأنف وأصل الجبهة. فقال: يا داود، أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريّاء إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قتل وتزوّجت امرأته. فنظر داود- عليه السلام- فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه؛ فذلك قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أى أيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أى ابتليناه. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر. قال الثعلبىّ: ولم يتعمد النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر اليها فصارت عليه «2» . قال: فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير فى قصة امتحان الله تعالى داود عليه السلام. وقد روى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب «3» من الوزر والإثم، يرمى من قد رفع الله محلّه وأنابه من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين» !. وقال القائلون بتنزيه المرسلين فى هذه القصة: إن ذنب داود- عليه السلام- إنما كان أنه تمنّى أن تكون له امرأة أوريّاء حلالا له، وحدّث نفسه بذلك، فاتفق

غزو أوريّاء وتقدّمه فى الحرب وهلاكه. فلمّا بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجّع له كما [كان «1» ] يجزع على غيره من جنده إذا هلك، [ووافق قتله مراده، ثم تزوّج امرأته فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت «2» ] فهى عظيمة عند الله تعالى. وقال بعضهم: ذنب داود أن أوريّاء كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب فى غزاته خطبها داود، فتزوّجت منه لجلالته؛ فاغتمّ لذلك أوريّاء غمّا شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك، حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها الأوّل، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة. قالوا: فلما علم داود أنه ابتلى سجد فمكث أربعين ليلة ساجدا باكيا حتى نبت الزرع من دموعه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول فى سجوده: ربّ داود زل داود زلّة أبعد مما بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا فى الخلوف من بعده. فجاء جبريل- عليه السلام- بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله تعالى قد غفر لك الهمّ الذى هممت به. فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لى، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا ربّ، دمى الذى عند داود؟ فقال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلنّ. قال نعم. فعرج جبريل- عليه السلام- وسجد داود فمكث ما شاء الله، ثم نزل جبريل فقال: قد سألت يا داود ربّك عن الذى أرسلتنى فيه فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لى دمك الذى عند داود؛ فيقول: هو لك يا ربّ، فيقول: فإن لك فى الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا.

وروى الثعلبىّ بسند رفعه إلى ابن عبّاس وكعب الأحبار ووهب بن منبّه، قالوا جميعا: إن داود- عليه السلام- لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحوّلا عن صورتهما، فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود أنه عنى به، فخرّ ساجدا أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا يرفع رأسه إلّا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا، لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم يعود، فسجد تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادى ربه- عز وجل- ويسأله التوبة، ويدعو بدعاء «1» طويل ذكره الثعلبىّ، فى آخر كل كلمة منه: سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر، ولم يجبه فى ذكر خطيئته بشىء. فصاح صيحة هاج منها ما حوله؛ ثم نادى: يا رب الذنب الذى أصبته. فنودى: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاء جبريل- عليه السلام- فرفعه. قال وهب: إن داود- عليه السلام- أتاه نداء: إنّى قد غفرت لك. قال: يا رب، كيف وأنت لا تظلم أحدا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريّاء، فناده وأنا أسمعه نداءك، فتحلّل منه. فانطلق حتى أتى قبره وقد لبس المسوح، فجلس ثم نادى: يا أوريّاء. فقال: لبيّك، من هذا الذى قطع علىّ لذّتى وأيقظنى؟ قال: أنا داود. قال: ما جاء بك يا نبىّ الله؟ قال: أسألك أن تجعلنى فى حلّ مما كان منّى إليك. قال: وما كان منك إلىّ؟ قال: عرّضتك للقتل. قال: عرّضتنى للجنّة،

فأنت فى حلّ. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، ألم تعلم أنى حكم عدل لا أقضى بالغيب والتغرير «1» ! ألا أعلمته أنك قد تزوّجت امرأته!. قال: فرجع إليه فناداه؛ فأجابه فقال: من هذا الذى قطع علىّ لذّتى؟ قال: أنا داود. قال: يا نبىّ الله، أليس قد عفوت عنك! قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك لمكان امرأتك فتزوّجتها، فسكت ولم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وحثا «2» التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل لداود إذا نصبت الموازين القسط [ليوم القيامة «3» ] ، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور. الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقرّبه الزبانية مع الظالمين إلى النار، سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود، قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، واستجبت دعاءك، وأقلت عثرتك. قال: يا ربّ، كيف لى أن تعفو عنّى وصاحبى لم يعف عنّى؟ قال: يا داود، أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه، ولم تسمع أذناه، فأقول له: رضيت عبدى؟ فيقول: يا ربّ، من أين لى هذا ولم يبلغه عملى؟ فأقول له: هذا عوض من عبدى «4» داود، فأستوهبك منه فيهبك لى. قال: يا رب، الآن قد عرفت أنك قد غفرت لى. فذلك قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «5» * فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ، أى ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ «6» أى وإنّ له بعد المغفرة عندنا يوم القيامة حسن مرجع.

قال الثعلبىّ ورفعه إلى وهب بن منبّه قال: إن داود- عليه السلام- لما تاب الله تعالى عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقا له دمعة ليلا ولا نهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام، فجعل يوما للقضاء بين بنى إسرائيل، ويوما لنسائه، ويوما يسيح فى الفيافى والجبال والساحل، ويوما يخلو فى دار له فيها أربعة آلاف محراب؛ فيجتمع إليه الرّهبان، فينوح معهم على نفسه، ويساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم سياحته يخرج فى الفيافى، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكى وتبكى معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار؛ ثم يجىء إلى الساحل فيبكى وتبكى معه الحيتان ودوّاب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع، فإذا كان يوم نوحه نادى مناد: إن اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده. قال: فيدخل الدار التى فيها المحاريب، فتبسط له فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها، ويجىء الرّهبان وهم أربعة آلاف، عليهم البرانس وفى أيديهم العصىّ، فيجلسون فى تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالنّوح والبكاء، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكى حتى تغرق الفرش من دموعه، ويقع داود مثل الفرخ يضطرب، فيجىء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيّه، ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى. قال: فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله. وقال ثابت: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلّا ونصفه ممزوج بدموع عينيه. وعن الأوزاعىّ قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال: «خدت الدموع فى وجه داود- عليه السلام- خديد الماء فى الأرض» .

ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام

ذكر ميلاد سليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: كان لداود- عليه السلام- عدّة من الولد، فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث ملكه؛ فرزقه الله تعالى سليمان. فنودى إبليس عند ما حملت به أمه: يا ملعون، قد حمل فى هذه الليلة برجل يكون طول حزنك على يديه، ويكون أولادك له خدّاما. ففزع من ذلك وجمع الشياطين وأخبرهم بأمر المولود وما سمعه وقال: إنه لا يكون إلّا من داود، فإنه خير أهل الأرض. قال: فلما وضعته أمه أتت الملائكة إلى داود وقالوا: أقرّ الله عينك به. فبادر داود إلى منزله فرأى أعلام الملائكة منصوبة، فخرّ داود شكرا لله تعالى، وقرّب قربانا عظيما. ثم جاءه إبليس وقال: يا داود، أقرّ الله عينك بولدك، غير أنه يقتلك ويسلبك ملكك، فاقتله صغيرا وإلّا قتلك كبيرا، فغضب منه ولعنه، فانصرف وقد خاب أمله. قال: ونشأ سليمان، فكان داود إذا تلا الزبور حفظ ما يتلوه لوقته، وحفظ التوراة، وكان يحكم بحضرة أبيه. ذكر خبر أبشالوم بن داود قال الكسائىّ: كان من خبر «أبشالوم «1» » أنه لما كان من أمر فتنة داود- عليه السلام- ما قدّمناه، تكلّم بعض بنى إسرائيل فى ذلك وجاءوا إلى «أبشالوم» وهو ابن بنت طالوت، وقالوا: إنّ أباك قد كبر وعجز عن سياستنا، وقد وقع

فى هذه الخطيئة، وأنت أكبر أولاده، والرأى أن ندعو الناس إليك وتقوم مقامه، فتبع رأيهم وتولّى الملك. فخاف داود على نفسه من سفهاء بنى إسرائيل، ففارق منزله واعتزل القوم برجلين من أصحابه. ثم جاء رجل من بنى إسرائيل اسمه أحيتوفل «1» إلى أبشالوم وقال: إنه لا يستقيم أمرك إلّا بعد وفاة أبيك، والرأى أن تعاجله وتقتله ما دام فى الخطيئة، فهمّ بذلك ثم صرفه الله عنه. فلما غفر الله تعالى لداود ورجع إلى قومه اعتزل ابنه «أبشالوم» فى طائفة من بنى إسرائيل. فلمّا ولد سليمان أرسل داود ابن أخت «2» له يقال له: «يوآب «3» » إلى ابنه «أبشالوم» وقال: سر إليه فإنه اعتزلنى خوفا على نفسه، وما كنت بالذى أقتل ولدى وقد تاب الله تعالى علىّ ورزقنى هذا الولد المبارك، فإن ظفرت به فائتنى به مكرّما، وإيّاك أن تقتله، فإنك إن قتلته قتلتك به. فسار إليه فى نفر من أصحابه، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أبشالوم ومن معه. فبينا هو فى هزيمته إذ مرّ بشجرة فعلق برنسه بها، وخرج الفرس من تحته، فأدركه يوآب فحمله الحرج «4» على قتله فقتله وتركه معلّقا فى الشجرة، ورجع إلى داود فأخبره الخبر، فغضب وقال: إنى قاتلك به لا محالة عاجلا أو آجلا. قال الثعلبىّ: فلما حضرت داود الوفاة أمر سليمان أن يقتله، فقتله بعد فراغه من دفن أبيه.

ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام

ذكر خبر الزرع الذى رعته الغنم وما حكم فيه سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وبينما داود- عليه السلام- فى يوم قضائه وسليمان بين يديه، إذ تقدّم إليه قوم فقالوا: يا نبىّ الله، إنّا قوم حرثنا أرضا لنا وزرعناها وسقيناها حتى بلغت الحصاد، فجاء هؤلاء وأرسلوا أغنامهم فيها بالليل، فرعتها جميعا حتى لم يبق منها شىء. فقال داود لأصحاب الغنم: ما تقولون؟ قالوا: صدقوا. فقال لأصحاب الزرع: كم قيمة زرعكم؟ قالوا: كذا وكذا. وقال لأرباب الغنم: كم قيمة أغنامكم؟ فذكروا قيمتها، فتقاربت القيم، فقال: ادفعوا أغنامكم إليهم بقيمة زرعهم. فقال سليمان: يا أبت إن أذنت لى تكلّمت. قال: يا بنىّ تكلم بما عندك. فقال سليمان لأرباب الغنم: ادفعوا أغنامكم إلى هؤلاء ينتفعوا بأصوافها وألبانها ونتاجها، وخذوا أنتم أرضهم فاحرثوا وازرعوها واسقوها حتى يقوم الزرع على سوقه، فإذا بلغ الحصاد فسلّموا إليهم أرضهم بزرعها وخذوا أغنامكم، فرضوا جميعا بذلك. قال الله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً «1» . قال: ولما نظر مشايخ بنى إسرائيل إلى جلوس سليمان عن يمين أبيه مع صغر سنّه حسدوه على ذلك. فأوحى الله إلى داود أن يقيم سليمان خطيبا ليسمعهم من الحكمة ما ألهمه الله ليعلموا فضله عليهم. فجمع داود الناس حتى العبّاد والرّهبان وأهل السياحة إلى محرابه، وكانت سنّ سليمان يومئذ اثنتى عشرة سنة، فأخرجه داود إليهم وألبسه لباس النبيّين من الصوف الأبيض وقال: هذا ابنى قد أخرجته إليكم خطيبا ليورد عليكم مما علّمه الله تعالى. فجلس على منبر أبيه وحمد الله تعالى ووحّده، ووصف عجائب خلقه وصنعه؛ فسجدوا شكرا لله، ونظروا إليه بعد ذلك

ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت

بالعين الرفيعة وأجلّوه، وأعطى سليمان فى حياة أبيه من العلم ما فسّر لبنى إسرائيل خطبة آدم ووصيّة شيث ورفع إدريس وغير ذلك. ذكر خبر الذين اعتدوا فى السبت قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «1» . وقال تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2» الآية. قال الكسائىّ: وكان فى زمن داود- عليه السلام- قوم من بنى إسرائيل من أبناء الذين كانوا مع موسى؛ وكانوا ينزلون على ساحل البحر بقرية يقال لها: «ايلة «3» » وكان الله قد حرّم على بنى إسرائيل أن يشتغلوا يوم السبت، وأوجب عليهم فيه العبادة؛ لأنّ موسى- عليه السلام- أمرهم بالعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا: لا ينبغى لنا أن نشتغل بعبادة الرب إلا فى اليوم الذى فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت. فلمّا اختاروه شدّد الله عليهم فيه؛ قال الله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «4» . وكان موسى يأمر قومه بتعظيمه؛ فكانوا كذلك مدّة، وكان على ساحل البحر إلى جانب أيلة حجران أبيضان، وكانت الحيتان تخرج إلى أصلهما ليلة السبت ويوم السبت، لأنها كانت لا تصاد، فإذا أقبلت ليلة الأحد

خرجت منهما إلى البحر، فيتعذّر عليهم صيدها فيه إلّا بمشقّة؛ فذلك قوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ «1» . فجعل فسّاق أهل «أيلة» يقول بعضهم لبعض: إنما حرّم الله تعالى الاصطياد على آبائنا وأجدادنا لا علينا، ونحن لا ذنب لنا، وهذه الحيتان تكثر يوم السبت وليلته، فمن المحال تركها؛ فاصطادوها وطبخوها وشووا منها، فشمّ المؤمنون راحتها فى يوم السبت، فخرجوا إلى الفسّاق ووعظوهم وحذّروهم، فلم يكترثوا لذلك ولم ينتهوا عنه، فاجتمع المؤمنون على أبواب القرية بالسلاح ومنعوهم من دخولها، فاشتدّ ذلك على الفسّاق وشقّ عليهم أن يمتنعوا من الاصطياد فى يوم السبت لكثرة الحيتان فيه دون غيره من الأيام، فقالوا: إن هذه [القرية «2» ] مشتركة بيننا [وبينكم «3» ] ولا يحلّ لكم أن تمنعونا منها، فإمّا أن تصبروا على أفعالنا أو تقاسمونا القرية فننفرد عنكم. فتراضوا على ذلك وقاسموهم القرية، وبنوا بينهم حيطانا عالية وبابا يدخلون منه غير بابهم، وانفردت كلّ طائفة، واشتغل الفسّاق باللهو واللعب والاصطياد، وحفروا أنهارا صغارا من البحر إلى أبواب دورهم، فكانت الحيتان تأتيها فى يوم السبت، فإذا غربت الشمس همّت الحيتان بالرجوع إلى البحر، فيسدّون أفواه تلك الأنهار مما يلى البحر، ويصيدون تلك الحيتان. هذا والمؤمنون يخوّفونهم عذاب الله فلا يرجعون. فلمّا طال ذلك وتكرّر منهم قال بعض المؤمنين لبعض: إلى كم ننصح هؤلاء ولا يزيدون إلا تماديا وعتوّا! قال الله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً «4» الآية.

قال: واستغنى الفسّاق وكثرت أموالهم، واشتروا الضّياع وانهمكوا على الفسق. فبلغ ذلك داود- عليه السلام- فلعنهم ودعا عليهم. فبينما هم فى منازلهم فى شرّ ما هم فيه إذ زلزلت قريتهم زلزلة عظيمة، ففزع المؤمنون وخرجوا من بيوتهم؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «1» وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ «2» فالذين لعنوا على لسان داود هم هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين سألوه نزول المائدة، فلمّا نزلت عليهم كفروا. قال: فمسخ الله هؤلاء الذين اعتدوا فى السبت قردة، ومسخ أصحاب المائدة خنازير- وسنذكر إن شاء الله خبر أصحاب المائدة فى موضعه من أخبار عيسى عليه السلام- قال: فكان أحدهم يأتى حميمه من المؤمنين وعيناه تدرفان دمعا فيقول له: أنت فلان؟ فيشير برأسه، أى نعم. فيقول لهم المؤمنون: قد أنذرناكم عذاب ربكم وعقوبته فلم تتّعظوا، فنزل بكم ما نزل. قال الثعلبىّ قال قتادة: صارت الشّبّان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلّا الذين نهوا وهلك سائرهم. قال: ثم برز الممسوخون من المدينة وهاموا على وجوههم متحيّرين، فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا، وكذلك لم يلبث مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا؛ بم بعث الله تعالى عليهم ريحا ومطرا فقذفهم فى البحر، فإذا كان يوم القيامة أعادهم الله إلى صورهم الأولى البشرية، فيدخلهم النار. والله أعلم.

ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم

ذكر استخلاف داود ابنه سليمان عليهما السلام وخبر الصحيفة وابتداء أمر الخاتم قال الكسائى- رحمه الله-: ولمّا أتى على سليمان بضع وعشرون سنة نزل جبريل على داود بصحيفة، وأمره عن الله تعالى أن يجمع أولاده ويقرأ عليهم ما فى الصحيفة من المسائل، فمن أجاب عمّا فيها فهو الخليفة من بعده. فأحضر داود أولاده، وكان سليمان أصغرهم سنّا، وقرأ عليهم ما فى الصحيفة، فأقرّوا بالعجز عن معرفتها، وذلك بحضور مشيخة بنى إسرائيل، فقال داود- عليه السلام- لسليمان- عليه السلام-: أجب عن هذه المسائل. فقال: أرجو أن يهدينى الله تعالى إلى جوابها. فقال: يا سليمان، ما الشىء؟ قال: المؤمن. قال: فما بعض الشىء؟ قال: الفاجر. قال: فما لا شىء؟ قال: الكافر. قال: فما كلّ شى؟ قال: الماء. قال: فما أكبر شىء؟ قال: الشّرك. قال: فما أقلّ شىء؟ قال: اليقين. قال: فما أمرّ شىء؟ قال: الفقر بعد الغنى. قال: فما أحلى شىء؟ قال: المال والولد. قال: فما أقبح شىء؟ قال: الكفر بعد الإيمان. قال: فما أحسن شىء؟ قال: الرّوح فى الجسد. قال: فما أوحش شىء؟ قال: الجسد بلا روح. قال: فما أقرب شىء؟ قال: الآخرة [من الدنيا «1» ] . قال: فما أبعد شىء؟ قال: الدنيا من الآخرة. قال: فما أشرّ شىء؟ قال: المرأة السوء. قال: فما خير شىء؟ قال: المرأة الصالحة. قال: وكان داود يصدّقه عقب كل مسئلة، ثم التفت إلى بنى إسرائيل فقال: ما أنكرتم من قول ابنى؟ قالوا: ما أخطأ فى شىء متّعك الله به، وبارك لنا ولك فيه. قال: أترضون أن يكون خليفتى عليكم؟ قالوا نعم. هذا ما أورده الكسائىّ رحمه الله.

وقد ذكر الثعلبىّ فى هذه القصة زيادات نذكرها. قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- قال أبو هريرة- رضى الله عنه-: نزل كتاب من السماء مختوم بخاتم من الذهب على داود فيه ثلاث عشرة «1» مسألة، فأوحى الله تعالى إليه أن اسأل عنها ابنك سليمان، فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك. قال: وإن داود- عليه السلام- دعا سبعين قسّيسا وسبعين حبرا، ولم يذكر أولاده. قال: وأجلس سليمان بين أيديهم وقال له: يا بنىّ، إن الله أنزل من السماء كتابا فيه مسائل، وأمرت أن أسألك عنها، فإن أخرجتها فأنت الخليفة من بعدى. قال سليمان: اسأل يا نبىّ الله عما بدالك، وما توفيقى إلا بالله. قال داود: أخبرنى يا بنىّ، ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما أحسن الأشياء؟ وما أقبح الأشياء؟ وما أقلّ الأشياء؟ وما أكثر الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذى إن ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذى إن ركبه الرجل ذمّ آخره؟. قال سليمان: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة. وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا. وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح. وأما أوحش الأشياء فالجسد بلا روح. وأما أحسن الأشياء فالإيمان بعد الكفر «2» . وأما أقبح الأشياء فالكفر بعد الإيمان. وأما أقل الأشياء فاليقين. وأما أكثر الأشياء فالشكر. وأما القائمان: فالسماء

والأرض. وأما المختلفان: فالليل والنهار. وأما المتباغضان: فالموت والحياة. وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم. وأما الأمر الذى اذا ركبه الرجل ذمّ آخره فالحدّة عند الغضب. قال: ففكّوا الخاتم، فإذا جواب المسائل سواء على ما نزل من السماء. فقال القسّيسون والأحبار: لا نرضى حتى نسأله عن مسألة، فإن هو أخرجها فهو الخليفة. قال: سلوه. قال سليمان: سلونى وما توفيقى إلا بالله. قالوا: ما الشىء الذى إذا صلح صلح كلّ شىء من الإنسان، وإذا فسد فسد كلّ شىء منه؟ قال: هو القلب. فقام داود وصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرنى أن أستخلف عليكم سليمان. قال: فضجّت بنو إسرائيل وقالوا: غلام حدث يستخلف علينا وفينا من هو أعلم وأفضل منه! فبلغ ذلك داود، فدعا رءوس أسباط بنى إسرائيل وقال: إنه بلغتنى مقالتكم، فأرونى عصيّكم، فأىّ عصا أثمرت فإنّ صاحبها ولىّ هذا الأمر [بعدى] ؛ فقالوا: قد رضينا. فجاءوا بعصيّهم؛ فقال لهم داود: ليكتب كل رجل منكم اسمه على عصاه؛ فكتبوا. ثم جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه؛ ثم أدخلت بيتا وأغلق عليها الباب وسكّر بالأقفال، وحرسه رءوس أسباط بنى إسرائيل. فلما أصبح صلّى بهم الغداة؛ ثم أقبل وفتح الباب وأخرج عصيّهم كما هى، وعصا سليمان قد أثمرت وأورقت. قال: فسلّموا ذلك لداود، فأخذ ابنه سليمان ثم سار به فى بنى إسرائيل فقال: هذا خليفتى فيكم من بعدى. قال وهب بن منبّه: لما استخلف داود ابنه وعظه فقال: يا بنىّ، إياك والهزل؛ فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان. وإيّاك والغضب؛ فإن الغضب يستخفّ صاحبه. وعليك بتقوى الله وطاعته؛ فإنهما يغلبان كل شىء. وإيّاك

وكثرة الغيرة على أهلك من غير شىء؛ فإن ذلك يورث سوء الظنّ بالناس وإن كانوا برآء. واقطع طمعك عن الناس؛ فإنه هو الغنى. وإياك والطمع فهو الفقر الحاضر. وإياك وما يعتذر منه من القول والفعل. وعوّد نفسك ولسانك الصدق؛ والزم الإحسان؛ فإن استطعت أن يكون يومك خيرا من أمسك فافعل. وصلّ صلاة مودّع، ولا تجالس السفهاء، ولا تردّ على عالم ولا تماره فى الدّين. وإذا غضبت فألصق نفسك بالأرض وتحوّل من مكانك. وارج رحمة الله فإنها واسعة وسعت كل شىء. قالوا: ثم إن سليمان بعد أن استخلف أخفى أمره وتزوّج امرأة واستتر عن الناس، وأقبل على العلم والعبادة. ثم إن امرأته قالت له ذات يوم: بأبى أنت وأمّى، ما أكمل خصالك وأطيب ريحك! ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلّا أنك فى مئونة أبى «1» ، فلو أنك دخلت السوق فتعرّضت لرزق الله لرجوت ألا يخيبّك الله. قال سليمان: إنى والله ما عملت عملا ولا أحسنه، ثم دخل السّوق صبيحة يومه ذلك فلم يقدر على شىء، فرجع فأخبرها. فقالت له: يكون غدا إن شاء الله. فلما كان فى اليوم الثانى مضى حتى انتهى إلى ساحل البحر وإذا هو بصيّاد، فقال له: هل لك أن أعينك وتعطينى شيئا؟ قال نعم، فأعانه. فلما فرغ أعطاه الصياد سمكتين، فأخذهما وحمد الله تعالى، ثم إنه شقّ بطن إحداهما فإذا هو بخاتم فى بطنها، فأخذه وصرّه فى ثوبه، وحمد الله تعالى، وجاء بالسمكتين إلى منزله، ففرحت امرأته بذلك، فأخرج الخاتم [ولبسه «2» فى إصبعه] ؛ فعكفت عليه

ذكر وفاة داود عليه السلام

الطير والريح، ووقع عليه بهاء الملك؛ ولم يلبث أبوه أن مات. [فلما ملك حمل المرأة وأبويها إلى إصطخر «1» ] . وقد قيل فى أمر الخاتم غير ذلك- على ما أورده الكسائىّ- وسنذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا فى أخبار سليمان عليه السلام. ذكر وفاة داود عليه السلام قال الكسائىّ: كان داود- عليه السلام- شديد الغيرة على النساء، ويغلق الأبواب عليهنّ إذا خرج، ويحمل المفاتيح معه. فقيل: إنه رجع يوما ففتح باب نسائه، فرأى رجلا فى داره ذا مهابة «2» . فقال له داود- وغضب-: من أنت؟ ومن أدخلك دارى؟ قال: أدخلنى الدار من هو أولى بها منك، أنا الذى لا أهاب الملوك، ولا يمنعنى دونهم الحجّاب والجنود، وأفرّق بين الجمع، أنا ملك الموت. فارتعد داود وقال: دعنى أدخل إلى أهلى لأودّعهم. قال: لا سبيل إلى ذلك يا داود. فبكى وقال: من لبنى اسرائيل من بعدى؟ قال: ابنك سليمان. قال: الآن طابت نفسى، امض لما أمرت به، فقبض روحه- عليه السلام- وغسّله سليمان وإخوته، وكفّنه بأكفان نزلت عليه من الجنة، وحمله إلى قبره،

ودفن دون غار إبراهيم- عليه السلام- قال: وعكفت الطير على قبره أربعين يوما. قال الثعلبىّ فى خبر وفاة داود: إن داود كانت له وصيفة تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح ثم تنام، ويقبل داود على ورده فى العبادة. فأغلقت ذات ليلة الأبواب وجاءت بالمفاتيح ثم ذهبت لتنام، فرأت رجلا قائما فى وسط الدار فقالت: ما أدخلك هذه الدار! فإن صاحبها رجل غيور، فخذ حذرك. فقال: أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. فسمعه داود، وكان فى المحراب يصلّى، ففزع واضطرب وقال: علىّ به، فأتاه. فقال: ما أدخلك هذه الدار فى هذا الوقت بغير إذن؟! فقال: أنا الذى أدخل على الملوك بغير إذن. قال: فأنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: أجئت داعيا أم ناعيا؟ قال: بل ناعيا. قال: فهلّا أرسلت إلىّ قبل ذلك وآذنتنى لأستعدّ للموت؟ قال: كم أرسلت إليك يا داود فلم تنتبه. قال: ومن كانت رسلك؟ قال: يا داود، أين أبوك إيشى؟ وأين أمّك؟ وأين أخوك؟ وأين قهرمانك فلان؟ قال: ماتوا كلهم. قال: أما علمت أنهم رسلى، وأن النوبة تبلغك! ثم قبضه. قال أهل التاريخ: كان عمر داود مائة سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة. وقد تقدّم خبر آدم فيما وهب له من عمره «1» .

ذكر نبوة سليمان بن داود عليهما السلام وملكه

ذكر نبوّة «1» سليمان بن داود عليهما السلام وملكه قال الكسائىّ- رحمه الله-: ولما قام سليمان- عليه السلام- من عزاء أبيه داود وتفرّق الطير عن قبره، دخل محراب أبيه، فهبط عليه جبريل- عليه السلام- وقال له: إن الله تعالى يخصّك بالسلام ويقول لك: الملك أحبّ إليك أو العلم؟. فخرّ سليمان ساجدا لله تعالى وقال: العلم أحبّ إلىّ من الملك، لأنه أنفع الأشياء. فأوحى الله تعالى إليه: إنك تواضعت وأخترت العلم على الملك، فقد وهبت لك العلم والملك، وأضفت إلى ذلك كمال العقل وزينة الخلق، ونزعت عنك العجب «2» ، وسأطوى لك الدنيا بأسرها حتى تطأها بجيشك وتشاهد عجائبها. فخرّ سليمان ساجدا لربّه، ورفع رأسه فإذا الرياح الثمانية قد وقفت بين يديه وقالت له: إن الله سخّرنا لك، فاركبنا إذا شئت إلى أىّ موضع شئت. وأقبلت الوحوش والسّباع فوقفت بين يديه وقالت: إن الله أمرنا بالطاعة لك. وأقبلت الطير وقالت: قد أمرنا أن نظلّك بأجنحتنا ولا نخالفك فى أمر. وفوّض الله- عز وجل- إلى سليمان أمر الدنيا شرقها وغربها. ذكر حشر الطير لسليمان بن داود عليهما السلام وكلامها له قال الكسائىّ: ولما آتاه الله النبوّة والملك أحبّ أن يستنطق الطير، فحشرت إليه، فكان جبريل يحشر طير المشرق والمغرب من البر «3» ، وميكائيل يحشر طير الهواء والجبال. فنظر سليمان إلى عجائب خلقها، وجعل يسأل كل واحد منها عن مسكنه

ومعاشه فيخبره، وكان بين يديه سبعة ألوية من ألوية الأنبياء، يمسكها سبعة من الملائكة. قال: ولما حشرت الطير له جاءته فوجا فوجا؛ فسلّمت عليه «الخطّافة» بثلاث «1» لغات وقالت: يا نبىّ الله، أنا ممن اختارنى نوح وحملنى فى السفينة، ومنّى تناسل كلّ خطّافة فى الدنيا، ودعا لى آدم وقال: إنك تدركين من أولادى من خلافته مثل خلافتى، تحشر إليه الوحوش والطيور والمردة، فإذا رأيته فأقرئيه منّى السلام. وقالت له: يا نبىّ الله، إن معى سورة تعجب الملائكة من نورها، ما أعطيت لأحد من بنى آدم غير أبيك إبراهيم، فإنها نزلت كرامة له يوم ألقى فى النار، فهل لك أن تسمعها منّى؟ قال نعم. فقرأت سورة الْحَمْدُ حتى بلغت وَلَا الضَّالِّينَ ومدّت صوتها بآمين وسجدت، وسجد معها سليمان عليه السلام. ثم تقدّم «النّسر» وهو يومئذ فى صورة عظيمة فقال: السلام عليك يا ملك الدنيا، ما رأيت ملكا أعظم من ملكك، وإنى صحبت آدم وساعدته على كثرة حزنه، وأنا أوّل من علم بهبوطه إلى الأرض، وكنت معه إلى أن تاب الله عليه وقال: إنه يكون من ذرّيتى من يحشر له الطير، فإذا رأيته فأقرئه منىّ السلام؛ وقد أدّيت إليك وديعته، فاصطنعنى يا نبىّ الله، فإنى عليم بمعادن «2» الأرض وجبالها، ومعى آية عظيمة لا يفتر لسانى عنها، وهى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ «3» . ثم سجد وسجد معه سليمان؛ فلمّا رفع رأسه جعله سليمان ملكا على سائر الطيور.

ثم تقدّمت «العقاب «1» » فوقفت بين يديه وسلّمت عليه وقالت: يا نبىّ الله، إن الله حين خلقنى كنت أعظم خلقا من هذا، غير أن حزنى على هابيل يوم قتله قابيل صيّرنى الى ما ترى، ولقد توحّشت الأرض والجبال يوم قتل. ومعى آية أعطانيها ربى، وهى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ «2» فَصَلَّى . ثم قالت: سلّطنى على من شئت، فإنى قوية سميعة. ثم تقدّمت «العنقاء» وهى يومئذ شديدة البياض، وصدرها كالذهب الأحمر، ووجهها كوجه الإنسان، ولها ذوائب كذوائب النساء، ورجلان صفراوان، ولها تحت أجنحتها يدان، فى كل يد ثلاثون إصبعا، فوقفت بين يديه وسلّمت وقالت: إن الله فضّلك على كثير من الملوك حين أبرزنى اليك فى صورتى هذه، فمرنى بما شئت، فو الله ما نطقت لأحد إلا لصفوة الله آدم، فإنى وقفت بين يديه وتعجّب من حسن صورتى، وقال: ما أشبهك بطيور الجنان! فمنذكم خلقك ربك؟ قلت: منذ ألفى عام. ثم تبخترت بين يديه فقال: أيها الطائر، إنك معجب بخلقك، والعجب يهلك صاحبه، لقد فاز المفلحون وخسر المبطلون. وللعنقاء خبر عجيب نذكره- إن شاء الله- فى آخر خبر الطير على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم تقدّم «الغراب» فسلّم وقال: يا نبىّ الله، لقد فضّلك الله على كثير من ولد آدم، وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما، وإنى كنت أبيض

قبل ذلك، فصرت كما ترى، لمّا سمعتهم يقولون: اتخذ الرحمن ولدا. وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا. ولقد دعا لى أبوك آدم ونوح بطول العمر؛ وسمعت أباك إبراهيم يتلو آية يخضع لها كل شىء، وهى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «1» . ثم تقدّمت «الحمامة» فسلّمت عليه وقالت: يا نبىّ الله، أنا الحمامة التى اختارنى أبوك آدم لنفسه إلفا وأنيسا، وكنت آنس به وبتسبيحه؛ وكان اذا ذكر الجنة يصيح صيحة عظيمة ويقول: أترانى أرجع إليها؟ وإن لم أرجع إليها كنت من الخاسرين. واعلم يا نبىّ الله أنه قد علّمنى كلمات حفظتها عنه، وهى: الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأوّلين والآخرين. وقد أقبلت إليك طائعة لأمرك، فمرنى بما شئت. ثم تقدّم «الهدهد» فسلّم عليه وسجد بين يديه وقال: ما أحببت أحدا كما أحببتك، لأنى رأيت الدنيا ضاحكة لك، وقد أعطاك الله ملكا عظيما، فاتخذنى رسولا آتك بالأخبار، وأدلك على مواضع الماء. فقال له: أراك أكيس الطيور، وأرى فخاخ بنى إسرائيل تصطادك، ولا تغنى عنك كياستك شيئا. قال الهدهد: يا نبىّ الله، الحيلة لا تنفع مع القضاء والقدر، وإن الله يضيف إلى عقل المخلوق سبعين ضعفا ثم ينفّذ فيه حكمه وقضاءه. قال: صدقت. ثم سجد بين يديه مرارا. ثم تقدّم إليه «الديك» وهو آخر من تقدّم، فوقف بين يديه وهو فى نهاية الحسن، وضرب بجناحيه، وصاح صيحة أسمع الملائكة والطيور وجميع من حضر

ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر

وقال فى صياحه: يا غافلين اذكروا الله. ثم قال: يا نبىّ الله، إنى كنت مع أبيك آدم وكنت أوقظه أوقات الصلوات، ومع نوح فى الفلك، ومع أبيك إبراهيم وكنت أسمعه يقول: «اللهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذّل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير» . واعلم يا نبىّ الله أنى ما صحت صيحة إلا أفزعت بها الجن والشياطين. ففرح سليمان به وأمره أن يكون معه حيثما كان. ووقف كل طير بين يديه، وفرغ من حشر الطيور وعرفها بأسمائها ومنطقها، وكانوا يعبدون الله بالليل والنهار، وكذلك الوحوش والسباع، حتى عرف كل واحد منهم باسمه وصفته ونعته «1» . ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- بسند رفعه الى جعفر بن محمد الصادق قال: عاتب سليمان الطير فى بعض عتابه فقال لها: إنك تأتين كذا، وتفعلين كذا، فقالت له: والله ربّ السماء والثّرى، إنا لنحرص على الهدى، ولكن قضاء الله يأتى إلى منتهى علمه وقدره. قال سليمان: صدقت، لا حيلة فى القضاء. فقالت العنقاء: لست أومن بهذا. قال لها سليمان: أفلا أخبرك بأعجب العجب؟ قالت بلى. قال: إنه ولد الليلة غلام فى المغرب، وجارية فى المشرق، هذا ابن ملك

وهذه بنت ملك، يجتمعان فى أمنع المواضع وأهولها على سفاح بقدر الله تعالى فيهما. قالت العنقاء: يا نبىّ الله، وقد ولدا؟ قال: نعم الليلة. قالت: فهل أخبرت بهما؟ من هما وما اسمهما واسم أبويهما؟ قال: بلى، اسمهما كذا وكذا، واسم أبويهما كذا وكذا. قالت: يا نبىّ الله، فإنى أفرّق بينهما وأبطل القدر. قال: فإنك لا تقدرين على ذلك. قالت بلى. فأشهد سليمان عليها الطير وكفلتها البومة. ومرّت العنقاء وكانت فى كبر الجمل عظما، ووجهها وجه إنسان، ويداها وأصابعها كذلك؛ فحلّقت فى الهواء حتى أشرفت على الدنيا وأبصرت كل دار فيها، وأبصرت الجارية فى مهدها قد احتوشتها الظئور والخول، فآختلست المهد والجارية وطارت، ومرّت حتى انتهت بها إلى جبل شاهق فى السماء، أصله فى جوف البحر، وعليه شجرة عالية فى السماء، لا ينالها طائر إلا بجهد، لها ألف غصن، كل غصن كأعظم شجرة فى الأرض، كثيرة الورق، فاتخذت لها فيه وكرا عجيبا واسعا وطيئا، وأرضعتها واحتضنتها تحت جناحها، وصارت تأتيها بأنواع الأطعمة والأشربة، وتكنّها من الحرّ والبرد، وتؤنسها بالليل، ولا تخبر أحدا بشأنها، وتغدو إلى سليمان وتروح إلى وكرها. وعلم سليمان بذلك ولم يبده لها، وبلغ الغلام مبلغ الرجال، وكان ملكا من ملوك الدنيا، وكان يلهو بالصيد ويحبّه ويطلبه حتى نال منه عظيما. فقال يوما لأصحابه: كل صيد البر وفلواته ومفازاته قد تمكنت من صيده، فلو ركبت البحر لأنال من صيده فإنه كثير الصيد كثير العجائب!. فقال وزير من وزرائه: نعم ما رأيت، وهو أكثر ما خلق الله صيدا. فأمره بجهازه، وهيأ السفن وجعل يختار من كل شىء يملكه، وأخذ من الوزراء والندماء والمشيرين والجوارى والغلمان والطباخين والخبازين والبزاة والصقور وغير ذلك مما يريده ويشتهيه من الملاهى

والشراب، وركب ومرّ فى البحر يتصيّد ويتلذذ لا يعرف شيئا غير ذلك، حتى سار مسيرة شهر، فأرسل الله تعالى على سفينته ريحا عاصفا خفيفة ساقتها حتى وصلت بها الى جبل العنقاء الذى فيه الجارية، وذلك مسيرة خمسين سنة فى خمسين ليلة، ثم ركدت سفينته بإذن الله تعالى، وأصبح الغلام فرأى سفينته راكدة، فأخرج رأسه من السفينة، فرأى الجبل وهو فى لون الزعفران [صفرة «1» ] ، وطوله لا يدرى أين منتهاه ولا عرضه، ورأى الشجرة فإذا هى كثيرة الأغصان والورق، ورقها عرض آذان الفيلة ليس لها ثمر، بيضاء الساق، فقال: إنى أرى عجبا، أرى جبلا شاهقا لم أر مثله، وأرى شجرة حسنة قد أعجبنى منظرها. فحرّك سفينته نحو الجبل، فسمعت الجارية التى فى عشّ العنقاء صوت الماء وكلام الناس، ولم تكن سمعت قبل ذلك شيئا من ذلك؛ فأخرجت رأسها من العشّ، فتطلّعت فرأى الملك صورتها فى الماء، ورأى عجبا من جمالها وكثرة شعرها وذوائبها؛ فرفع رأسه إلى الشجرة فرأى الجارية، فأبصر أمرا عظيما فأخذه القلق، فناداها: من أنت؟ فأفهمها الله تعالى لغته وقالت: لا أدرى ما تقول ولا من أنت إلا أنى أراك يشبه وجهك وجهى وكلامك كلامى، وإنى لا أعرف شيئا غير العنقاء، وهى أمى التى ربّتنى وتسمينى بنتها. فقال لها الغلام: وأين العنقاء أمك؟ قالت: فى نوبتها. قال: وما نوبتها؟ قالت: تغدو كل يوم إلى ملكها سليمان فتسلّم عليه وتقيم عنده إلى الليل، ثم تروح وتجيئنى وتحدّثنى بما فعل سليمان وبما حكم وقضى، وإنه لملك عظيم، على ما تصف أمى العنقاء، وإنها تخبرنى أنه يشبهنى إلا أنها تخبر أنه أحسن وجها وأتمّ منى.

قال: فآنذعر الغلام وفزع، ثم قال: قد عرفته، هو الذى قتل أبى وسبى ذرّيته، وإنى لمن طلقائه وممن يؤدّى إليه الخراج، ورسله الطير والرياح، ثم بكى الغلام. فقالت الجارية: وما يبكيك؟ قال: أبكى على وحدتك فى مثل هذا الموضع الذى ليس به أنيس ولا أحد، وإن مثلك فى الدنيا عدد الشجر والمدر، وكلهم فى مقاصير الذهب والفضة والعيش الهنئ والّلذة الحسنة مع الأزواج يتعانقون ويتنّعمون، ويتوالدون أولادا مثل خلقتك وخلقتى، أرأيت إن هاجت الريح وأزعجتك من وكرك من يمسكك أن تقعى فى البحر؛ فإن وقعت فى البحر فمن ذا الذى يخرجك. قال: ففزعت من قوله وقالت: وكيف لى أن يكون معى إنسىّ مثلك يحدّثنى مثل حديثك، ويحفظنى من خوف ما ذكرت. فقال لها الغلام: أولا تعلمين أن الله الذى اتخذ سليمان نبيّا وسخّر له الطير والرياح هو الذى رحمك وساقنى إليك إلفا وصاحبا وأنيسا، وأنى من أبناء الملوك. قالت الجارية: وكيف تصير إلىّ وأصير إليك، وهذه العنقاء تنام وتحضننى إلى صدرها بين جناحيها؟ قال الغلام: تكثرين جزعك ووحشتك وبكاءك على العنقاء ليلتك هذه إذا انصرفت إليك، فإذا قالت لك: ما تخشين وما شأنك، فأخبريها بحديثك، ثم انظرى إلى ما يكون ردّها عليك فتخبرينى به. فراحت العنقاء فوجدتها حزينة كئيبة. فقالت لها: يا بنيّة، ما شأنك؟ قالت: الوحدة والوحشة، وإنى لجزعة على نفسى لذلك. فقالت لها: يا بنيّة لا تخافى ولا تحزنى، فإنى أستأذن سليمان أن آتيه يوما وأتخلّف عنه يوما. فلمّا أصبحت أخبرت الغلام بجوابها. فقال لها: لا تريدى هذا، ولكن سأنحر من دوابّى هذه فرسا وأبقر بطنه وأخرج ما فى جوفه وأقيّره وأطيّنه وأدخل أنا فى جوفه، وألقيه على قرقور «1» سفينتى هذه، فإذا جاءتك العنقاء فقولى لها: إنى

أرى عجبا، خلقة ملقاة على هذه السفينة، فلو اختطفتيها وحملتيها إلى وكرى هذا، فأنظر وأستأنس بها، كان أحبّ إلىّ من كينونتك عندى نهارا وإمساكك عنى خبر سليمان. فرجعت العنقاء فوجدتها فى مثل حالها، وشغل سليمان عنها، فلم تصل إليه فى استئذانها إيّاه بالمقام يوما فى منزلها. فقالت لها: إن نبىّ الله شغل عنى اليوم بالحكم بين الآدميين فلم أصل اليه. قالت لها: فإنّى لا أريد أن تتخلّفى عنه نهارا لمكان أخبار سليمان، وإنى أرى فى البحر عجبا، شيئا مرتفعا ما هو؟ قالت العنقاء: هذه سفينة قوم سيّارة ركبوا البحر. قالت: فما هذا الذى أرى ملقى على رأس هذه السفينة؟ قالت: كأنه ميتة رموها. قالت: فاحمليها إلىّ لأستأنس بها وأنظر إليها. فانقضّت العنقاء فاختطفت الفرس والغلام فى بطنها فحملتها إلى عشّها. فقالت: يا أمّاه، ما أحسن هذا! وضحكت، ففرحت العنقاء بذلك وقالت: يا بنيّة، لو علمت لقد كنت آتيك بمثل هذا منذ حين. ثم طارت العنقاء إلى نوبتها إلى سليمان، وخرج الغلام من جوف الفرس فلاعبها ومسّها ولا مسها وافتضّها فأحبلها، وفرح كل واحد منهما بصاحبه واستأنس به. وجاء الخبر إلى سليمان باجتماعهما من قبل الريح، ووافت العنقاء، وكان مجلس سليمان يومئذ مجلس الطير؛ فدعا بعرفاء الطير وأمرهم ألّا يدعوا طائرا إلا حشروه، ففعلوا؛ ثم أمر عرفاء الجنّ فحشروا الجنّ من ساكنى البحار والجزائر والهواء والفلوات والأمصار، ففعلوا وحشروهم، وأحضروا الإنس وكل دابّة، واشتدّ الخوف وقالوا: نشهد بالله أن لنبىّ الله أمرا قد أهمّه. فأوّل سهم خرج فى تقديم الطير سهم الحدأة، وكانت الطير لا تتقدّم إلا بسهام، فتقدّمت الحدأة واستعدت على زوجها، وكان قد جحدها ولدها، فقالت: يا نبىّ الله، إنه سفدنى، حتى احتضنت بيضى وأخرجت ولدى جحدنى. فأمر سليمان بولدها فأتى به، فوجد الشبه واحدا،

فألحقه بالذكر وقال لها: لا تمكّنيه من السّفاد أبدا حتى تشهدى على ذلك الطير لكيلا يجحدك بعدها أبدا. فإذا سفدها ذكرها صاحت وقالت: يا طيور «1» سفدنى اشهدى، يا معشر الطير اشهدى. ثم خرج سهم العنقاء فتقدّمت، فقال لها سليمان: ما قولك فى القدر؟ قالت: يا نبىّ الله، إن لى من القوّة والاستطاعة ما أدفع الشر وآتى الخير. قال لها: وأين شرطك الذى بينى وبينك أنك تفرّقين بقوّتك واستطاعتك بين الجارية والغلام؟ قالت: قد فعلت. قال سليمان: الله أكبر! فأتينى بها الساعة والخلق شهود لأعلم تصديق ذلك، وأمر عريف الطير الّا يفارقها حتى يوافى بها. فمرّت العنقاء، وكانت الجارية اذا قربت منها العنقاء تسمع حفيف أجنحتها، فيبادر الغلام فيدخل جوف فرسه، فقالت كالفزعة: إن لك لشأنا إذ رجعت نهارا. قالت: لعمرى إن لى لشأنا، إن سليمان قد أمرنى بإحضارك الساعة لأمر جرى بينى وبينه فى أمرك، فأنا أرجو نصرتى اليوم فيك. قالت: فكيف تحملينى؟ قالت: على ظهرى. قالت: وهل أستقرّ على ظهرك وأنا أرى أهوال البحر فلا آمن أن أزلّ وأسقط فأهلك! قالت: ففى منقارى. قالت: وهل أصبر فى منقارك! قالت: فكيف أصنع؟ لابدّ من إحضارك إلى سليمان، وهذا عريف الطير معى، وقد دعا بكفيلى البومة. قالت: أدخل جوف هذا الفرس، ثم تحملين الفرس على ظهرك أو فى منقارك، فلا أرى شيئا ولا أسقط ولا أفزع. قالت: أصبت. فدخلت فى جوف الفرس واجتمعت مع الغلام، وحملت العنقاء الفرس بما فيه فى منقارها، وطارت حتى وقعت بين يدى سليمان، فقالت: يا نبىّ الله، هى الآن فى جوف الفرس، فأين الغلام! فتبسّم سليمان- عليه السلام- طويلا وقال لها: أتؤمنين

بقدر الله تعالى وقضائه! إنه لا حيلة لأحد «1» فى دفع قضاء الله تعالى وقدره وعلمه السابق الكائن من خير وشرّ. قالت العنقاء: أومن بالله وأقول: إن المشيئة للعباد والقوّة، فمن شاء فليعمل خيرا ومن شاء فليعمل شرّا. قال سليمان: كذبت ما جعل الله من المشيئة إلى العباد شيئا، ولكن من شاء الله أن يكون سعيدا كان سعيدا، ومن شاء أن يكون كافرا كان كافرا، فلا يقدر أحد أن يدفع قضاء الله وقدره بحيلة ولا بفعل ولا بعلم، وإن الغلام الذى قد ولد بالمغرب والجارية التى ولدت بالمشرق قد اجتمعا الآن فى مكان واحد على سفاح، وقد حملت منه الجارية ولدا. قالت العنقاء: لا تقل يا نبىّ الله هذا، فإن الجارية معى فى جوف فرسى هذا. قال سليمان: الله أكبر! أين البومة المتكفّلة بالعنقاء؟ قالت: هأنا. قال سليمان: على مثل قول العنقاء أنت؟ قالت نعم. قال سليمان: يا قدر الله السابق قبل الخلق أخرجهما على قضاء الله وقدره. قال: فأخرجهما جميعا من جوف الفرس. فأما العنقاء فتاهت وفزعت فطارت فى السماء وأخذت نحو المغرب، واختفت فى بحر من بحار المغرب وآمنت بالقدر وحلفت لا ينظر «2» الطير فى وجهها أبدا استحياء منها. وأمّا البومة فلزمت الآجام والجبال وقالت: أمّا بالنهار فلا خروج ولا سبيل إلى المعاش. فهى إذا خرجت نهارا وبّختها الطير واجتمعت عليها وقالت لها: يا قدريّة، فهى تخضع لهذا. هذا ما كان من شأن العنقاء فى القضاء والقدر. فلنرجع إلى أخبار سليمان عليه السلام.

ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام

ذكر خبر خاتم سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وأوحى الله تعالى إلى جبريل- عليه السلام- أنه قد سبق فى علمى أنى أملّك سليمان الدنيا، ليعلم الجن والإنس أنى لم أخلق خلقا هو أفضل من ذريّة آدم؛ وأمره أن يأخذ خاتم الخلافة من الجنة ويأتيه به. فجاء جبريل إلى سليمان ومعه الخاتم وهو يضىء كالكوكب الدرّىّ، ورائحته كالمسك، وعليه كتابة «1» بغير قلم، وهى: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فأعطاه لسليمان وقال له: هنيئا لك يا بن داود بهذه الهديّة، وكان فى يوم الجمعة لسبع وعشرين «2» خلت من المحرّم. فلما صار الخاتم فى كفّ سليمان لم يتمكن من النظر إليه حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكذلك كل من كان ينظر إليه «3» . قال وقيل: إن الخاتم أنزل من تحت العرش من نور برهان الله، وقيل لسليمان: لا تنزعه من كفّك إلا بأمانة، وجعل الله عزّه فيه، فتختمّ سليمان به وصعد على كرسيّه واستقبل الناس بوجهه ورفع اليه الخاتم وهو يلمع، وقال: هذا الخاتم جمع فيه عزّى وسلطانى وفضّلنى به ربى على العالمين، وسلّطنى على كل شيطان مريد. ثم سجد شكر الله تعالى وسجد معه الناس. ثم نزل عليه بعد نزول الخاتم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فكان لا يقرؤها على شىء إلا خضع وذلّ، فتلاها على بنى إسرائيل فلم يسمعها أحد إلا امتلأ فرحا. ثم أمر بعد ذلك باتخاذ البيض والسيوف، فكان عنده اثنا عشر ألف درع من نسج داود.

ذكر خبر حشر الجن لسليمان بن داود عليهما السلام

وقيل: إن داود لم يعمل أكثر من سبع أدرع، ثم قال سليمان: يا بنى إسرائيل، إنى أمرت بمجاهدة أعداء الله؛ ثم جمع الخيول «1» وشرع فى الاستعداد للحرب. ذكر خبر حشر الجن لسليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: وأمر الله- عز وجل- جبريل- عليه السلام- أن يحشر الجنّ، فنشر جناحه الأيمن على شرق الأرض، والأيسر على غربها، ونادى: أيتها الجنّ والشياطين، أجيبوا سليمان بن داود بإذن الله، فخرجت من سائر الأماكن وهى تقول: لبّيك لبّيك يا حجة الله. فحشرها الى سليمان طائعة ذليلة تسوقها الملائكة، وهى يومئذ أربعمائة وعشرون فرقة، كل فرقة تدين بدين غير دين الأخرى، فوقفت بأجمعها بين يدى سليمان، فنظر الى عجائب صورها وسجد لله شكرا؛ ثم قام على قدميه والخاتم فى إصبعه، فلما نظرت إليه الجنّ خرّت ساجدة ثم رفعت رءوسها وقالت: يابن داود، قد حشرنا إليك وأمرّنا بالطاعة لك، فختم على أكتافهم بخاتمه وجنّدهم وصفّد مردتهم بالحديد ولم يتخلّف منهم إلا صخر الجنىّ تغيّب فى جزيرة، وسنذكر خبره إن شاء الله تعالى. قال: وبقى إبليس بغير أعوان وفرّق سليمان الشياطين فى الأعمال المختلفة. من الحديد والنحاس وقطع الصخور والأشجار وعمارة القرى والمدن والحصون، وأمرهم بعمل القدور والجفان؛ قال الله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ «2» . قيل: كان يأكل من كل جفنة ألف إنسان. وشغل

ذكر خبر مطابخه عليه السلام

طائفة منهم بغوص البحار واستخراج الأصداف والجواهر منها، وأمر بعضهم بحفر الآبار وشقّ الأنهار والقنوات، وبعضهم بإخراج الكنوز والمعادن، وغير ذلك من الأعمال. ثم حشر له بعد ذلك الهوامّ من الحيّات والعقارب وغيرها من الحشرات وسخّرت له. فسأل كلا منها عن اسمها [وضرّها ونفعها «1» ] ومأكلها ومشربها ومسكنها ومقدار أعمارها وعادتها وغير ذلك من أحوالها، فأخبرته، ثم صرفهم وأمرهم ونهاهم. والله أعلم. ذكر خبر مطابخه عليه السلام قال الكسائىّ: وأمر سليمان أن تصنع الأطعمة للخلق الذين معه، حتى كان طبّاخوه ينادون فى عسكره: من أراد طعاما فليأت حتى نصنعه له كما يريد، فإن سليمان نصبنا لذلك. وكانت موائده منصوبة، كل مائدة طول ميل وأطول، ومعه عدّة من الطبّاخين، مع كل طباخ شيطان يعينه، ورتب فى كل مخبز ألف خباز، وفى كل مطبخ ألف طباخ. قال ويقال: إنه كان يذبح فى مطبخه فى كل يوم من الإبل والبقر والغنم زيادة على ثلاثين ألف رأس، ويستعمل فى مطابخه كل يوم كذا وكذا كرّا من الملح، وكانت موائده منصوبة لعامّة الناس فقيرهم وغنيّهم؛ وكان يلقى للطير فى كل يوم من الحبوب سبعون ألف كرّ- والكر عشرة أجربة، والجريب ثلاثون قفيزا «2» - وكانت تظل البلاد بأجنحتها.

ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه

ذكر خبر الرزق الذى سأل سليمان الله تعالى أن يجريه على يديه قال الكسائىّ: ولمّا نظر سليمان- عليه السلام- إلى عظم ما آتاه الله- عز وجل- من الملك، سأل الله تعالى أن يجعل أرزاق المخلوقات على يديه. فأوحى الله تعالى إليه: إنك لا تطيق ذلك. قال: يا رب فيوما واحدا؛ فأوحى الله إليه: إنك لا تطيق ذلك. قال: يا رب فساعة واحدة؛ فأوحى الله إليه: إنى قد أعطيتك ذلك، فاستعدّ الآن لأرزاق خلقى واجمع لهم. فأخذ فى الأستعداد حتى جمع ما ينيف على حمل مائة ألف بغل وبعير، وسار يريد ساحل البحر، حتى أتاه ووضع ما جمعه هناك، ونادى مناديه فى سكّان البحر احضروا لقبض أرزاقكم. فاجتمع الحيتان والضفادع ودوابّ البحر على صور مختلفة، وإذا بحوت قد أخرج رأسه وقال: اشبعنى يابن داود، وهو على مثال الجبل. فقال سليمان: دونك الطعام، فأكل جميع ذلك، ثم قال: زدنى يا نبىّ الله، والله ما أصابنى الجوع منذ خلقنى ربى كما أصابنى اليوم حين جعل رزقى على يديك. فعجب سليمان منه وقال: هل فى البحر مثلك؟ فقال: إنى لفى زمرة من الحيتان فيها سبعون ألف زمرة، كل زمرة مثل عدد الرمل؛ وفى البحر حيتان لو دخلت أنا فى جوف أحدها ما كنت إلا كخردلة فى أرض فلاة. فبكى سليمان عند ذلك وقال: رب أقلنى عثرتى. فأقاله الله تعالى، ثم أوحى إليه: أن قف يابن داود حتى ترى جنودى، فإنّ ما رأيت قليل. فوقف وإذا بالبحر قد اضطرب اضطرابا عظيما وخرج منه شىء أعظم من الجبل يشقّ البحر شقّا وهو يقول: سبحان من تكفّل بأرزاق العباد، ثم نادى: يآبن داود، لولا اليد الباسطة عليك لكنت أضعف الخلائق، وإنك لم تقدر أن تشبع حوتا واحدا ولا نال كلّ طعمه، فكيف تقدر أن تتكفّل بأرزاق الخلائق!. ثم مرّ ذلك الحوت، فنظر سليمان إلى خلق عظيم، وقال: إلهى، هل خلقت خلقا

ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره

أكبر من هذا؟ فأوحى الله تعالى إليه: إنّ فى البحر من يحتاج أن يأكل سبعين ألفا مثل هذا ولا يشبعه، ولا يشبعه إلا نعمتى ولطفى. فعلم سليمان أنّ الذى أعطيه ليس بشىء فى قدرة الله عز وجل. والله الواسع المتفضّل. ذكر خبر بناء بيت المقدس وابتداء أمره قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- فى سبب بناء بيت المقدس: إن الله تعالى بارك فى نسل إبراهيم- عليه السلام- حتى جعلهم فى الكثرة غاية لا يحصون. فلما كان زمن داود- عليه السلام- لبث فيهم مدّة مديدة بأرض فلسطين وهم يزدادون كلّ يوم كثرة، فأعجب داود بكثرتهم فأراد أن يعلم عدد بنى إسرائيل فأمر بعدهم، وبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ من عدّتهم، فكانوا يعدّون زمانا من الدهر حتى عجزوا وأيسوا أن يحيط علمهم بعدد بنى إسرائيل. فأوحى الله تعالى إلى داود: إنى وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ابنه فصدّقنى واتمر بأمرى أن أبارك له فى ذرّيته حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء، حتى لا يحصيهم العادّون. وإنى قد أقسمت أن أبتليهم ببليّة يقل منها عددهم، ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم. وخيره بين أن يبتليهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يسلّط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يسلّط عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمع داود بنى إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله تعالى إليه وخيّره فيه. فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا، وأنت نبيّنا فانظر لنا غير الجوع فلا صبر لنا عليه، وتسليط العدوّ أمر فاضح. فإن كان ولا بدّ فالموت، لأنه بيده لا بيد غيره. فأمرهم داود أن يتجهّزوا للموت، فاغتسلوا وتحنّطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد بالذارىّ والأهلين، وأمرهم داود أن

يضجّوا إلى الله تعالى وأن يتضرّعوا إليه لعله أن يرحمهم. فأرسل الله عليهم الطاعون فأهلك منهم فى يوم وليلة ألوف كثيرة لا يدرى عددهم، ولم يفرغوا من دفنهم إلا بعد مدّة شهرين. فلما أصبحوا فى اليوم الثانى خرّ داود ساجدا يبتهل إلى الله تعالى، فاستجاب الله تعالى منه وكشف عنهم الطاعون ورفع عنهم الموت. ورأى داود الملائكة سالّين سيوفهم فأغمدوها وهم يرقون فى سلّم من ذهب من الصخرة إلى السماء. فقال داود لبنى إسرائيل: إن الله قد منّ عليكم ورحمكم فجدّدوا له شكرا. قالوا: وكيف تأمرنا؟ قال: آمركم أن تتّخذوا من هذا الصعيد الذى رحمكم الله فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذكر الله تعالى. فأخذ داود فى بنائه. فلمّا أرادوا أن يبتدئوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم فى بنيانهم، فقال لبنى إسرائيل: إنّ لى فيه موضعا أنا محتاج إليه، فلا يحلّ لكم أن تحجبونى عن حقى. قالوا له: يا هذا، ما من أحد من بنى إسرائيل إلا وله فى هذا الصعيد حقّ مثل حقّك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا أعرف حقى وأنتم لا تعرفون حقكم. قالوا له: إمّا أن ترضى وتطيب نفسا وإلا أخذناه كرها. قال لهم: أو تجدون ذلك فى حكم الله تعالى وحكم داود؟! قال: فرفعوا خبره إلى داود فقال: أرضوه. فقالوا: نعم نأخذه منه يا نبىّ الله بثمنه. قال: خذوه بمائة شاة. فقال الرجل: زدنى يا نبىّ الله؛ فقال: بمائة بقرة. قال: زدنى يا نبىّ الله؛ قال فبمائة بعير. قال: زدنى يا نبىّ الله، فإنما تشتريه لله تعالى. فقال داود: أمّا إذ قلت هذا فاحتكم أعطك. قال: تشتريه منى بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا؟ قال نعم. قال: أنت تشتريه لله تعالى فلا تبخل. قال: سل ما شئت أعطك، وإن شئت أؤجرك نفسى. قال: أو تفعل ذلك يا نبىّ الله؟

قال: نعم إذا شئت. قال: أنت أكرم على الله تعالى من ذلك، ولكن تبنى حوله جدارا ثم تملؤه ذهبا وإن شئت ورقا. قال داود: هو هيّن. فآلتفت الرجل إلى بنى إسرائيل وقال: هذا هو التائب والمخلص. ثم قال لداود: لأن يغفر الله تعالى لى ذنبا واحدا أحبّ إلىّ من كل ما وهبت لى، ولكن كنت أختبركم. فأخذوا فى بناء بيت المقدس، وذلك فيما قيل لإحدى عشرة سنة مضت من خلافة داود. وكان داود ينقل لهم الحجارة على عاتقه، وكذلك خيار «1» بنى إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إليه: إن هذا بيت مقدّس، وأنت سفّاك للدماء، ولست بانيه، ولكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أسلّمه من سفك الدماء وأقضى إتمامه على يديه ويكون له صيته وذكره. قال: فصلّوا فيه زمانا إلى أن توفّى الله نبيّه داود واستخلف سليمان وأمره بإتمام بناء بيت المقدس. فجمع سليمان الإنس والجنّ والشياطين وقسم عليهم الأعمال، فخصّ كلّ طائفة منهم بعمل، فأرسل الجن والشياطين فى تحصيل الرّخام والمها «2» الأبيض الصافى من معادنه؛ وأمر ببناء المدينة بالرّخام والصّفّاح، وجعلها اثنى عشر ربضا «3» ، وأنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط. فلمّا فرغ من المدينة ابتدأ فى بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقا، فريقا منهم يستخرجون الذهب والفضّة من معادنها، وفريقا يغوصون فى البحر ويستخرجون أنواع الدّرّ ويقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفريقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيّب من أماكنها؛ فأتى من ذلك بشىء لا يحصيه إلا الله تعالى. ثم أحضر الصّنّاع

وأمرهم بنحت تلك الحجارة وتنضيدها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وتثقيبها؛ فكانوا يعالجونها فتصوّت صوتا شديدا لصلابتها. فكره سليمان تلك الأصوات، فدعا الجنّ فقال لهم: هل لكم حيلة فى نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟ فقالوا: يا نبىّ الله، ليس فى الجنّ أكثر تجارب ولا أكثر علما من صخر. فاستدعاه. وكان من أمره فى حضوره إليه والتلطف فى تحصيل حجر السامور ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار صخر. قالوا: فلمّا أتى بحجر السامور، وهو حجر الماس، استعمله فى أدوات الصّنّاع. فسهّل عليهم نحت الحجارة. قالوا: فبنى سليمان المسجد بالرّخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافى، وفصّصه بألواح الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت فى الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد؛ وكان يضىء فى الظلمة كالقمر ليلة البدر. قالوا: فلما فرغ من بنائه جمع أحبار بنى إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى، وأنّ كلّ شىء فيه خالص لله تعالى. واتخذ ذلك اليوم عيدا، فلم يتخذ فى الأرض قطّ أعظم منه ولا من الأطعمة التى عملت فيه. قيل: إنه ذبح من الخراف خمسين ألفا، ومن البقر خمسة وعشرين ألفا معلوفة، ومن الغنم أربعمائة ألف شاة. قالوا: ومن أعاجيب ما اتّخذ سليمان ببيت المقدس أنه بنى بيتا وطيّن حيطانه بالخضرة وصقله؛ فكان إذا دخله الورع البارّ استبان خياله فى ذلك الحائط أبيض؛

وإذا دخله الفاجر استبان خياله فى الحائط أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة. ونصب فى زاوية من زوايا المسجد عصا آبنوس، فكان من مسّها من أولاد الأنبياء لم تضرّه، ومن مسّها من غيرهم احترقت يده. قالوا: ولمّا فرغ من بناء بيت المقدس قرّب قربانا على الصخرة، ثم قال: اللهمّ أنت وهبت لى هذا الملك منّا منك على، وجعلتنى خليفتك فى أرضك، وأكرمتنى به من قبل أن أكون شيئا، فلك الحمد. اللهمّ إنى أسألك لمن دخل هذا المسجد خصالا: ألّا يدخله أحد فيصلّى فيه ركعتين مخلصا فيهما إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، ولا يدخله مستتيب إلا تبت عليه، ولا خائف إلا أمّنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا مجدب إلا أخصبته وأغنيته. وإذا أجبت دعوتى فاجعل علامتها أن تقبل قربانى. قال: فنزلت نار من السماء فسدّت ما بين الخافقين ثم امتدّ منها عنق فاحتمل القربان وصعد به الى السماء. وقال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان بن بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعاجلها سليمان فلم تنفتح حتى قال فى دعائه: بصلوات أبى داود إلا ما فتحت الأبواب، ففتحت. ففرّغ له سليمان- عليه السلام- عشرة آلاف من قرّاء بنى إسرائيل، خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتى ساعة من ليل أو نهار إلا والله عز وجل يعبد فيها فيه. وحكى الكسائىّ فى خبر بناء بيت المقدس قال: فأوحى الله تعالى إلى سليمان- عليه السلام- أن تبنى بيت المقدس وترفع قواعده كما رفع إبراهيم قواعد البيت العنيق، وأن تبنيه على صخرة المعراج. فأمر سليمان الجانّ أن تقطع الصخور. وتنقل الرّخام والأحجار والعمد وآلات العمارة إليه؛ ثم أمر بالبناء على الأساس

الذى كان داود وضعه. فلما كمل البناء انهار وانهدم؛ فأمر أن يحفر أساسه حتى يبلغ الماء، وعقد البناء بالحجارة المنحوتة بعضها على بعض، فغلب الماء على البناء فما انعقد الأساس. فأمر أن تصنع قلال النحاس والرّصاص، وختمها بخاتمه، وجعلها تحت الأساس. ثم أمر بالبناء فوقها فبنيت وارتفع البناء، وعمل فيه عشرة الاف عمود من الرّخام الملوّن، يلى كلّ عمود سارية من الذهب، وسارية من الفضة؛ ومحاريب الذهب والفضة، وكمل البناء والزخرفة فى أربعين يوما. قال: وكان يعمل فيه فى كل يوم ألف عفريت من الجنّ وألف شيطان وألف من الإنس. وفرغ منه يوم عرفة، واتخذ له قناديل من الذهب بسلاسل الفضّة. قال الثعلبىّ: فكان بيت المقدس على ما بناه سليمان إلى أن غزاه بختنصّر، فخرّب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان فى سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدرّ والياقوت وسائر الجواهر، فحمل ذلك معه إلى دار مملكته من أرض العراق. قال: ثم لم يزل خرابا إلى أن بنى فى الإسلام. قال الكسائىّ: ثم أمر الله سليمان بجهاد العدوّ، فرغب فى جمع الخيل، فأهديت إليه من جهة ملوك الأطراف الخيول المسوّمة؛ فاجتمع له ما ينيف عن سبعين ألف فرس بسروج الذهب والفضة بأجلّة الديباج. وسار صوب بلاد الشأم. وكان إذا خرج للغزو لا يستصحب شيطانا ولا جنّيّا بل العبّاد من بنى إسرائيل. والله المعين.

ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه

ذكر خبر وادى النمل وما قيل فيه قال: ولمّا سار سليمان لقصد الغزو مرّ فى طريقه بوادى النمل. قال الكسائىّ: إنه مرّ بوادى السدير «1» (واد من الطائف) فأتى وادى النمل «2» . قال الكسائىّ: فنظر إليهم وإذا هم يزيدون على مائة ألف كردوس مثل السحاب «3» ، وهم زرق العيون، ولهم أيد وأرجل. فقال سليمان: إنى أرى سحابة فى الأرض لا أعلم ما هى. فحملت إليه الريح قول النملة كما أخبر الله تعالى عنها: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها «4» . قال: ونزل الناس معه، فقال: أتدرون ما هذا السواد؟ هذه أمّة من الأمم يقال لها النمل، وأخبرهم بقول النملة، وسجد وسجدوا شكرا لله تعالى. ودخلت النمل مساكنها زمرة بعد زمرة، والنملة تناديهم: الوحا الوحا «5» فقد وافتكم الخيل. فصاح بها سليمان وأراها الخاتم فجاءته خاضعة، فوقفت بين يديه وهى أكبر من الذئب، فسجدت بين يديه ثم قالت: يا نبىّ الله، ما سجدت قبلك إلا لأبيك إبراهيم، وهأنا بين يديك مرنى بأمرك. فقال: ما الذى تكلّمت به قبل وصولى إليك؟ قالت: يا نبىّ الله، إنى رأيتك فى موكبك وعسكرك، فناديت النمل أن يدخلوا مساكنهم لئلّا يحطمهم جندك، وأنا كمثل غيرى من الملوك أريد الإصلاح لقومى. فقال لها: كم عددكم؟

ذكر خبر البعوض وما قيل فيه

وما تأكلون وما تشربون؟ قالت: يا نبىّ الله، لو أمرت الجنّ والشياطين أن يحشرونا إليك لعجزوا، وليس على وجه الأرض واد ولا جبل ولا غابة إلا وفى أكنافها مثل سلطانك كراديس من النمل. ولو تفرّق كردوس واحد فى الأرض لما وسعته. ولقد خلقنا قبل أبيك آدم، وإنا لنأكل رزق ربنا ونشكره. فأمرها أن تعرض النمل عليه. فنادتهم، فمرّوا به زمرة بعد زمرة، وسلّموا عليه بلغاتهم وهو ينظر إليهم. فقالت: ملكة النمل: يا نبىّ الله، منّا ما يأوى الجبال، ومنّا ما يأوى قرب المياه والأشجار والزرع، وفى الهواء وهى الطيّارة، فإذا نبتت أجنحتها هلكت واختطفتها الطير. والنملة لا تموت حتى يخرج من ظهرها كراديس من النمل. وليس على ظهر الأرض أحرص من النملة؛ وإنها لتجمع فى صيفها ما يملأ بيتها وهى مع ذلك تظن أنها لا تشبع. وتسبيحها تسأل ربّها أن يوسّع الرزق على خلقه. قال الثعلبىّ قال الضحّاك: اسم النملة [التى كلمت سليمان «1» ] «طاحية «2» » وقيل: «حرمى «3» » . والله أعلم. ذكر خبر البعوض وما قيل فيه قال الكسائىّ: ولمّا نظر سليمان إلى كثرة النمل قال: إلهى هل خلقت أكثر من النمل؟ فأوحى الله إليه: نعم وسترى ذلك. ثم أمر الله تعالى ملك البعوض أن يحشرها لسليمان، فحشرها من شرق الأرض وغربها. فأقبلت كراديس البعوض

ذكر خبر الخيل وما قيل فيها

كالسّحاب يتبع بعضها بعضا حتى وقف منهم كردوس على سليمان، وأقبل ملكهم وقال: يا نبىّ الله، مالك وللضّعفاء من خلق ربّك ألهيتهم عن التسبيح!. يابن داود، إنّا فى هذه الأرض قبل أبيك آدم بألفى عام ما عرضنا على آدمىّ غيرك، نأكل من رزق ربنا، ولا نفتر عن ذكره صباحا ولا مساء. قال: أخبرونى كم أنتم؟ وأين مأواكم؟ ومن أين تزرقون؟ قال ملكهم: يا نبىّ الله، تحت يدى سبعون سحابة، كلّ سحابة تملا المشرق والمغرب، لكلّ زمرة موضع معلوم، تأكل كل واحدة رزقها، ولولا خوف المعاد لأكلنا ما فى الدنيا. ثم سجدوا وانصرفوا. وكان سليمان إذا أراد أن يدرك قوما بعث إليهم البعوض فيأكل جميع ما فى مدينتهم. ذكر خبر الخيل وما قيل فيها قال الله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ «1» . قال أبو الحسن علىّ بن ابراهيم الحوفى «2» فى «كتاب البرهان فى علوم القرآن» فى تفسيره هذه الآية: الصافن من الخيل الذى يجمع بين يديه. وقال الفرّاء: الصافن هو القائم. وقال مجاهد: صفون الفرس إذا رفع إحدى رجليه حتى يكون على طرف الحافر. قال ابن زياد: الخيل أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر. والصّفن أن يقوم الفرس على ثلاث ويرفع رجلا واحدة، يكون طرف الحافر على الأرض. قال: وكانت لها أجنحة. قال: والجياد السّراع. وذكر أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. قال وقوله: «إنى أحببت

حبّ الخير عن ذكر ربّى حتى توارت بالحجاب» إنه لها عن الصلاة حتى فاتته. قال قتادة والسّدىّ: الخير: الخيل. وروى عن علىّ- رضى الله عنه- أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال: هى العصر، وهى التى فتن بها سليمان. «حتّى توارت بالحجاب» ، يعنى الشمس حتى تغيب فى مغيبها. وقوله: «ردّوها علىّ» أى الخيل التى عرضت علىّ فشغلتنى عن الصلاة. «فطفق مسحا بالسوق والأعناق» ، أى جعل يمسح فيها السّوق وهو جمع ساق. قال بعضهم: عقرها وضرب أعناقها؛ قاله قتادة والحسن والسّدّىّ. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما-: جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حبّا لها. وقيل: كشف عن عراقيبها وضرب أعناقها وقال: لا تشغلينى عن عبادة ربّى مرّة أخرى. قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون الله أباح له ذلك لأنه لا يجعل التوبة من الذنب بذنب أعظم منه. والله أعلم. وقال الثعلبىّ- رحمه الله- فى قصّة الخيل قال الكلبىّ: غزا سليمان أهل نصيبين، فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، كان داود أصابها من العمالقة. قالوا: فصلّى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه، فعرض عليه منها تسعمائة «1» فرس؛ فتنبّه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك؛ فاغتمّ وقال: ردّوها علىّ، فردّت عليه، فعرقبها بالسيف، وقرّبها إلى الله- عز وجل- وبقى منها مائة فرس. فما فى أيدى الناس من الخيل العراب فهى من نسل تلك المائة. وقال كعب: كانت الأفراس أربعة عشر فرسا، فأمر بضرب أعناقها وسوقها بالسيف وقتلها؛ فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما؛ لأنه ظلم

ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام

الخيل بقتلها. قال الثعلبىّ وقال قوم: «فطفق مسحا بالسّوق والأعناق» حبسها فى سبيل الله وكوى سوقها وأعناقها بميسم «1» الصّدقة. وروى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- أن الله تعالى أمر الملائكة الموكّلين بالشمس فردّوها، وصلّى سليمان العصر فى وقتها. ذكر خبر بساط سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: وكان سليمان إذا ركب الرّيح تقدّم أمام بساطه البعوض ثم الزنابير وكل ما يطير فى الهواء، ثم الشياطين. وكان إذا أراد أن يركب الريح دعا الرياح الثمانية: الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور والصّرصر والعقيم والكرس والراكى «2» ، فيبسط بعضها على بعض، ثم يبسط بساطه على هذه الرياح، وكان من السندس الأخضر، أخضر البطن أحمر الظهر، أهداه الله تعالى إليه من الجنة، لا يعلم طوله وعرضه إلا الله تعالى. وقيل: كان طوله ثلاثمائة وسبعين فرسخا فى عرض عشرة آلاف ذراع. وكان سليمان إذا ركبه جعل الّلون الأخضر مما يلى الأرض، فإذا رفع الناس رءوسهم اليه يرونه على لون السماء. وكان يجلس على كرسيّه وعن يمينه ويساره القضاة والعلماء والأحبار من بنى إسرائيل على كراسىّ معدّة لهم، وهو جالس فى وسط البساط وزمام الريح بيده، ويتغدّى على مسيرة شهر ويتعشى على مسيرة شهر؛ قال الله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ «3» . قال: وكان سليمان إذا ركب الرياح على بساطه يرى كل شىء عليه من الجنّ والإنس والشياطين والهوامّ وغيرهم، والطير تظلّه، ولا يقف على مدينة إلا فتحها.

ذكر خبر صخر الجنى

ذكر خبر صخر الجنى قال: وجمع سليمان- عليه السلام- عفاريت الجنّ والشياطين وأمرهم بإحضار صخر الجنىّ، فقالوا: يا نبىّ الله، إنّ الله قد أعطاه قوّة جماعة منّا؛ ويصعب علينا حمله إليك، وما لنا إلا أمر واحد وهو أنه يأتى فى كل شهر الى عين فى جزيرة فيشرب ماءها. والرأى أن ننزفه منها ونملأها خمرا، فإذا جاء وشربه وسكر ذهبت قوّته فنحمله ونأتيك به. ثم خرجوا ففعلوا ذلك، واختفوا فى تلك الجزيرة. فجاء صخر ليشرب فاشتمّ رائحة الخمر وقال: أيتها الخمرة إنك لطيّبة غير أنك تسلبين العقل وتجعلين الحليم جاهلا، وأمرك كلّه ندامة، وانصرف ولم يشرب. ثم عاد فى اليوم الثانى وقد أجهده العطش فقال: ما من قضاء يأتى من الله إلا كان مبرما، ثم نزل على العين فشرب حتى امتلأ، ثم قام ليخرج فسقط، فتبادرت العفاريت إليه ومعهم طابع خاتم سليمان، فلما رآه ذلّ وخضع، فحملوه حتى وقفوه بين يدى سليمان وهو يخرج من فيه لهب النيران، ومن منخريه الدّخان. فلما عاين الخاتم ضعفت قوّته وخرّ ساجدا على وجهه، ثم رفع رأسه وقال: يا نبىّ الله، سيزول هذا الملك عنك ولا يبقى إلا ذكره. قال: صدقت. ثم قال له: يا نبىّ الله، ما الذى أحوجك إلىّ وأنا بالعبد منك لا أختلط بالآدميين؟ فقال له سليمان: إنّ الناس قد اشتكوا من وقع الحديد وصوته على الحجر. فقال: عليك بوكر العقاب وعشّه وبيضه، فليس شىء من الطيور أبصر منه، فأتى به. فوضعه فى البرّيّة وغطّاه بجام من القوارير شديد الصفاء فوضعه على عشّ العقاب. فجاء العقاب فلم يرعشّه، فطار فى الهواء حتى نظر إلى عشّه فى تلك البرّيّة، فانقضّ عليه وضرب الجام برجله ليكسره فلم يقدر على ذلك، فطار وتعلّق فى الهواء وغاب يومه وليلته، ثم أقبل صبيحة اليوم الثانى وفى منقاره قطعة من حجر السامور، فانقضّ على الجام بذلك الحجر

ذكر صفة كرسى سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره

فضربه به، فانشقّ الجام نصفين ولم يسمع له صوت، وأخذ العقاب عشّه وبيضه وترك حجر السامور هناك، فأخذه صخر وهو فى صفاء المرآة وحرّ النار. فدعا سليمان بالعقاب وسأله عن حجر السامور من أين احتمله، فأخبره أنه من جبل شامخ. فبعث سليمان الجن والشياطين فحملوا منه ما قدروا، فكان يقطع به الأحجار والصخور والجزع من غير أن يسمع له وقع. قال: ثم قال صخر: يا نبىّ الله، أتحبّ أن أتّخذ لك مدينة؟ قال نعم؛ فاتخذها. فعجب سليمان من ذلك، وأمره أن يتّخذ له مدينة دون تلك المدينة حتى يحملها معه على بساطه حيثما ذهب. فقال: يا نبىّ الله، لك كلّما أردت السفر مدينة على أىّ لون شئت. فبنى له مدينة فى طول عسكره وعرضه، وجعل لكل سبط من الأسباط قصرا فى طول ألف ذراع وعرضه مثل ذلك، وفى كل قصر بيوت وغرف، ثم بنى بعد ذلك مجلسا من القوارير فى طول ألف ذراع، وعرضه مثل ذلك، يجلس فيه العلماء والقضاة. وبنى لسليمان قصرا عجيبا فى طول خمسة آلاف ذراع، وعرضه مثلها، وزخرفه بألوان القوارير ورصّعه بأنواع الجواهر، وجعل فيه جميع الصور والتماثيل وأتقن صنعته. وكان مما صنع صخر لسليمان الكرسىّ. ذكر صفة كرسىّ سليمان عليه السلام وما انتهى إليه أمره قالوا: وكان مما عمله صخر الجنىّ لسليمان- عليه السلام- الكرسىّ، وكان سليمان أمره باتخاذه ليجلس عليه للقضاء، وأمره بأن يعمله بديعا مهولا بحيث إنه إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب. قال: فعمل له الكرسىّ وكان من أنياب الفيلة وفصّصه بالياقوت واللؤلؤ، والزّبرجد وأنواع الجوهر، وحفّه بأربع نخلات من ذهب، شماريخها من الياقوت

الأحمر والزّبرجد الأخضر، على رأس نخلتين طاووسان من ذهب، وعلى رأس النخلتين الأخربين نسران من ذهب، بعضها يقابل بعضا، وجعل مقابل جنبى الكرسىّ أسدين من ذهب، على رأس كل أسد منهما عمود من الزّمرّد الأخضر، وعقد على النخلات أشجار كروم من الذهب، عناقيدها من الياقوت الأحمر. قالوا: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسىّ كله بما فيه دوران الرحا المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك كان يفعل فى كل درجة يصعد فيها سليمان. فإذا استوى سليمان بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسىّ بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان، والأسدان مائلان برءوسهما إلى سليمان، ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر، ثم تناوله حمامة من ذهب جاثمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسىّ التوراة، فيفتحها سليمان- عليه السلام- ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. فإذا دعا بالبيّنات [و] تقدّمت الشهود لإقامة الشهادات دار الكرسىّ بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحا المسرعة. قال أبو إسحاق الثعلبىّ قال معاوية لوهب بن منبّه: ما الذى كان يدير ذلك الكرسىّ؟ قال: بلبلتان «1» من ذهب. قال: فإذا دار الكرسىّ بسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتها فتفزع منها الشهود ويداخلهم الرعب الشديد، فلا يشهدون إلا بالحق.

ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها

قال: فلمّا توفّى الله سليمان- عليه السلام- وجاء بختنصّر إلى بيت المقدس أخذ الكرسىّ وحمله الى أنطاكية «1» ، وأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه ولا معرفة بأحواله. فلما وضع قدمه على الدرجة رفع الأسد يده اليمنى فضربه ضربة شديدة دقّه ورماه، فحمل بختنصّر، فلم يزل يعرج منها ويتوجّع إلى أن مات. وبقى الكرسىّ بأنطاكية حتى غزاهم ملك من ملوك الشام يقال له كداس بن سدارس فهزم خليفة بختنصّر وردّ الكرسى الى بيت المقدس، فلم يستطع أحد من الملوك الصعود اليه. فوضع تحت الصخرة فغاب فلم يعرف له خبر ولا يدرى أين هو. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر بلقيس وابتداء أمرها قال الكسائىّ قال كعب: هى بلقيس بنة ذى شرح «2» ، وهى متولّدة من الإنس والجنّ. وأمّها عميرة بنت ملك الجنّ. وكان لاتصال ذى شرح والد بلقيس بعميرة بنت ملك الجنّ سبب عجيب نذكره على ما حكاه الكسائىّ، قال: أهلك الله تعالى مساكن سبأ بسيل العرم، على ما نذكر ذلك فى كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، وهو يلى أخبار ملوك قحطان، وذلك فى الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس

فى السفر الثالث عشر «1» من هذه النسخة. قال: فلما انقرضوا وأبادهم الفناء توارثها بعدهم جماعة من الملوك ليس هذا موضع ذكرهم، حتى انتهى الملك إلى رجل فظّ غليظ يقال له شراحى الحميرىّ. وكان من عادته مع قومه أنه افترض على أهل مملكته فى كل أسبوع أن يأتوه بجارية من بناتهم فيفتضّها ثم يردّها إلى أهلها. وكان ذو شرح وزيره وهو من أبناء ملوك حمير من ولد سبأ، وكان لذى شرح ألف قصر وألف فرس عتيق «2» وألف سيف يمان، وكان يرجع الى حسن وجمال وعقل، وكان مولعا بالصيد، فكانت الجنّ تتصوّر له فى صورة الظبى، فإذا صادهم وهمّ بذبحهم كلّموه وقالوا له: لا تعجل فإنّا إنما جئنا لننظر الى محاسن وجهك. وكانت الجنّ تؤذى أهل اليمن، فأقسم ذو شرح أن يقتل ملك الجنّ ويتزوّج بابنته. قال: وكان اسم ملك الجنّ عمير، وكان حسن الوجه، وابنته عميرة. فمرّ ذو شرح ذات يوم فى واد من بلاد اليمن كثير الأشجار فنزل به، حتى جنّة الليل، وكان فى جمع قليل من أصحابه، وكان الوادى الذى نزل به من مساكن الجنّ. فلما مضى بعض الليل سمع همهمة الجنّ، فقام ونادى: يا معشر الجنّ، قد نزلت بكم الليلة على أن تضيفونى فإنى جار لكم، فأسمعونى من أشعاركم. قال: فأنشدته الجنّ من أشعارها، وجاءته عميرة بنت عمير ملك الجن على أحسن صورة. فلما نظر إليها ذهل عقله من حسنها، وغابت عن عينه فشغف بحبّها فقال: يا معشر الجنّ، إن أنتم زوّجتموها منى وإلّا كنت حربا لكم ما عشت أبدا. فنادوه: يا ذا شرح، إنك آدمىّ فكيف تقاتل الجنّ ومسكنهم الهواء وظلمات الأرض! مهلا أيها الآدمىّ لا تعرّض نفسك الى ما لا تقدر عليه وارجع، فإن قدّر لك أمر فسوف تناله. فلما سمع ذلك أيس

ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها

من التزويج وأخذ فى مستأنف أمره فى مؤالفة الجنّ، فكان يهاديهم بما يصلح لهم من الهدايا، فصافاه عمير ملك الجنّ وآخاه وألفه حتى صار عنده كالأخ. فلما رأى ذلك ذو شرح وأنه قد تمكّن من ملك الجنّ قال له: هل لك أن تزوّجنى ابنتك عميرة ليكون لى فى ذلك شرف الى الممات! فرغب فيه عمير ملك الجنّ لحسنه وجماله وشرفه وماله؛ فزوّجه ابنته بحضرة سادات الجنّ. وانصرف ذو شرح الى مدينة سبأ وأهدى هدايا كثيرة الى ملك الجنّ وسادات قومه، ثم زفّت إليه فوطئها فحملت منه. ذكر خبر ميلاد بلقيس وكيف كان وسبب ملكها قال: وولدت عميرة بنت ملك الجنّ بلقيس بنت ذى شرح على أحسن ما تكون من الصّور، ثم ماتت أمها بعد ذلك بقليل، فربّتها الجنّ. فلمّا بلغت مبلغ النساء قالت لأبيها: إنّى كرهت المقام عند الجن فاحملنى الى بلاد الإنس فإنهم أحبّ إلىّ. فقال لها: إنّ للإنس ملكا ظالما وذكر لها سنّته فى بلاد قومه، وأنه يفتضّ الأبكار ثم يردّهن الى أهلهنّ. قالت: لا تخش ذلك علىّ وانقلنى، وسترى ما يكون منّى. فبنى لها قصرا خارج مدينة سبأ من أعظم ما يكون من الأبنية، واتّخذ لها عريشا من العاج والآبنوس والذهب والفضة، ونقلها الى القصر واتّخذ لها أوانى الجوهر. فأقامت بلقيس فى قصرها زمنا طويلا، وانتشر خبرها إلى ملك سبأ، فركب فى موكبه حتى وقف على باب القصر ورأى حسن بنائه، فرجع وأرسل بجارية من جواريه إلى بلقيس، فدخلت عليها ونظرت إليها وإلى ما فى قصرها من التّحف العظيمة وما عندها من جوارى الإنس والجنّ، فعادت إلى الملك وأخبرته بما هى عليه من الجمال وأنها ابنة وزيره. فأحضره وأنكر عليه وقال: كيف اتّخذت

مثل هذا القصر ولك مثل هذه البنت وأنت وزيرى ولم تعلمنى ولا استأذنتنى فى بنائه!. فقال: أيها الملك، أمّا القصر فإنى أنفقت عليه المال الذى ورثته من أبى. وأمّا البنت فإنها ابنة عميرة بنت ملك الجن، ورغبت فى السكن فى بلاد الإنس، فحملتها الى هذا المكان، فهذه قصتها. فقال: صدقت فزوّجنيها ولابدّ من ذلك. فقال: أحتاج فى ذلك إلى إذنها. قال: استأذنها. فجاء اليها وقال: يا بنيّة، قد وقعت فيما كنت أخشاه عليك، وذكر لها مقالة الملك. فقالت: زوّجنى منه ولا تخف، فإنه لا يصل إلىّ. فزوّجها منه بحضور أكابر أهل المملكة. ولمّا تمّ التزويج كتب الملك كتابا إليها يقول: إنى قد عشقت اسمك قبل أن أنظر إليك، فإذا قرأت هذه الرقعة فعجّلى بحضورك إلىّ. فكتبت إليه: إنى لمشتاقة إلى وجهك أشوق منك إلىّ، غير أن قصرى هذا هو من بناء الجن، وفيه عجائب كثيرة، وقد جمعت فيه ما لا يصلح إلا لمثلك. فإن رأيت أن تتحوّل إلى قصرى فافعل. فلما ورد جوابها عليه ركب لوقته فى حشمه وجنوده وسادات قومه. فبلغ بلقيس فقالت لأبيها: امض إلى الملك وقل له: إنّ ابنتى من بنات الجن ولم تنظر قطّ الى مثل هذه الجنود، ففرّق هؤلاء وادخل إليها منفردا. فقال ذلك للملك، ففرّق جنوده وأتى إليها بمفرده، ودخل القصر وله سبعة أبواب. وكانت بلقيس قد جعلت عند كل باب جارية من بنات الجن من أحسن ما تكون من النساء، وفى أيديهنّ أطباق الذّهب فيها الدنانير والدراهم والطّيب، وأمرتهن أن ينثرن ذلك على الملك. فلمّا دخل توهّم أنّ كل واحدة منهنّ امرأته وهمّ بالنزول عليها، فتقول: أنا خادمتها وهى أمامك، حتى انتهى إلى آخر الأبواب، فتقدّمت إليه جارية وأصعدته إلى العرش، فنظر الى القصر وما فيه من الآلات والزينة، فرأى ما لم يخطر بباله. ثم أقبلت بلقيس والجوارى بين يديها ينثرن على الملك من

أنواع النّثار وعلى رأسها تاج، فصعدت على عرشها. فلمّا رآها الملك فتن بها وكاد يذهل عقله. وأخذت فى مخادعته وملاعبته، ثم أمرت بالطعام فأحضر بين يديه. فآمتنع من الأكل وقال: ما أريد أن أغفل عن وجهك. فأمرت بإحضار الشراب فأتى به فى آلات الجوهر النفيس. وأخذا فى الشرب، فلم تزل به حتى أسكرته وغاب عن عقله ووقع على قفاه لا يعقل من أمره شيئا. فذبحته بلقيس، ثم دعت بأبيها وأعلمته بما فعلت. ففرح وكتب إلى خزّان الملك عن الملك: إنّى قد أحببت النزول بهذا القصر فأجمعوا ما فى الخزائن من الأموال وأنفذوه إلى عندى «1» . فجمعوا الأموال وأنفذوها الى القصر. ثم أمرت بعد ذلك باتخاذ الأطعمة فصنعت ودعت سادات ملوك اليمن. فلمّا جلسوا قدّمت إليهم الأطعمة فأكلوا، ثم قدّم إليهم الشراب فشربوا. فلما أخذ منهم أشرفت بلقيس عليهم وقالت: إنّ الملك يأمركم أن توجّهوا إليه بنسائكم وبناتكم. فغضبوا وقالوا: أما يكفيه أنه فضح بنات العرب حتى طمع فينا نحن!. فقالت لهم: لا تغضبوا حتى أرجع إليه وأعرّفه غضبكم. ثم أمرت أن يعاد عليهم الشراب ثانيا فشربوا ساعة، فعادت إليهم وقالت: قد أخبرت الملك بغضبكم ومقالتكم فقال: لابدّ من ذلك. فازداد القوم غضبا وصاحوا. فقالت: على رسلكم حتى أراجعه وأسأله. ومضت وعادت فقالت: إنى عدت الى الملك فوجدته قد نام، فما رأيكم فى أمر أفعله وأريحكم مما أنتم فيه من شرّه على أن تملّكونى على أنفسكم؟ قالوا نعم. فحلّفتهم على ذلك وأخذت عليهم العهود والمواثيق، وغابت ساعة وعادت ومعها رأس الملك فألقته إليهم، ففرحوا بذلك واستبشروا وملّكوها عليهم. فملكت بضع عشرة سنة حتى بعث الله سليمان نبيّا.

ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها

ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها قال: وكان سبب اتّصال خبرها بسليمان عليه السلام أنه بينما هو يسير على بساطه، وكان الهدهد دليله على الماء لأنه يراه من عدّة فراسخ، فارتفع فى الهواء لطلب الماء، فنظر الى هدهد قد أقبل من ناحية اليمن، فالتقيا. فقال له الهدهد السليمانىّ: من أين أنت؟ قال: من اليمن. وسأله الآخر فقال: أنا من الشام من طيور الملك سليمان. قال: ومن سليمان؟ قال: نبىّ الله ملك الجنّ والإنس والطير وجميع المخلوقات. قال: إنّ هذا ملك عظيم. قال: وهل فى اليمن ملك؟ قال: نعم، ملكة يقال لها «بلقيس» تحت يدها عشرة آلاف قائد، تحت يد كلّ قائد كذا وكذا ألفا من العساكر. وحكى الثعلبىّ أنه قال لمّا أخبره بملك سليمان: إن لصاحبكم ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن وتحت يدها اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف مقاتل- والقيل هو القائد بلغة أهل اليمن- فهل أنت منطلق معى حتّى تراها؟ قال نعم. فانطلق الهدهدان حتى أتيا بلاد اليمن وصارا إلى قصرها؛ فنظر إليها [الهدهد «1» السليمانىّ] وإلى قصرها وملكها. وحضر وقت الصلاة لسليمان فلم يجد الهدهد، فقال ما أخبر الله به عنه: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2» أى بحجة بيّنة. ثم دعا العقاب وقال: أنت عريف الطير، فتعرّف لى خبر الهدهد. فطار فى الشرق والغرب، وإذا هو بالهدهد قد أقبل من جهة اليمن، فجاء به إلى سليمان. فاستخبره عن سبب غيبته فقال: «أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبإ

يقين. إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كلّ شىء ولها عرش عظيم» . وذكر صفة عرشها وما فيه من أصناف الجواهر وغيرها ثم قال: «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله» وخرّ ساجدا لله، ثم رفع رأسه وقال: «ألّا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء «1» فى السّموات والأرض» . قال سليمان: «سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين» !. ثم سأله عن الماء فقال: هو تحت قائمة كرسيّك. فأمر سليمان بتحويل البساط، فحوّل ونقر الهدهد بمنقاره فخرج الماء، فشرب الناس وصلّوا. ثم قال لهدهد: «اذهب بكتابى هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون» وأقبل سليمان على آصف بن برخيا وقال: أكتب إلى هذه المرأة كتابا لطيفا. فدعا بصحيفة من فضّة وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. إنه من سليمان. ألّا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين» . وختم الكتاب وبعثه مع الهدهد فى زمرة من الطير، فأقبلوا نحو اليمن وانقضّوا على قصرها، ودخل الهدهد إلى قبّتها من كوّة «2» من كوى القبّة وهى نائمة، وقد وضعت خاتم ملكها على صدرها، فوضع الكتاب على نحرها وطار. فلما استيقظت أخذت الكتاب وجمعت قومها ثم قالت: «إنّى ألقى إلىّ كتاب كريم» وفتحته وقالت: إنه من سليمان، وقرأته عليهم وعلمت أنه من قبل رجل عظيم. وجمعت أكابر قومها وأهل العقل والعلم الذين فى مملكتها و «قالت يأيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون. قالوا نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين» . فعلمت عند ذلك أنهم قد أخطلوا الرأى فى عزمهم على الحرب و «قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون. وإنّى مرسلة إليهم بهديّة فناظرة بم يرجع المرسلون» .

قال: وأرادت أن تختبر حال سليمان عليه السلام فقالت: إن طلب الدنيا أرضيناه بالمال وصرفنا أذاه عنّا، وإن كان من الأنبياء ولم ترغّبه الدنيا لم يكن لنا أمر إلا الطاعة له، فمضوا على رأيها، فأمرت باتّخاذ الهدايا. فعاد الهدهد إلى سليمان وأخبره بما كان من أمرها مع قومها. فأمر سليمان أن يفرش ميدانه بلبن الذهب والفضّة، وأن يبنى حول الميدان حائط من الفضة شرفاته من الذهب، على كل شرفة تاج من الذهب مرصّع بالجوهر، وأمر الجنّ أن يأتوا بأولادهم من الذكور والإناث، وأمر بإحضار كل فرس عجيب الخلق. قال الثعلبىّ: إنّ سليمان عليه السلام سأل الجنّ عن أحسن دوابّ رأوها فى البحر. قالوا: رأينا دوابّ فى بحر كذا وكذا منمّرة منقّطة مختلفة ألوانها، لها اجنحة وأعراف ونواص. قال: علىّ بها الساعة، فأتوه بها. قال: شدّوها عن يمين الميدان ويساره، ففعلوا. قالوا: وأمر سليمان الشياطين أن يظهروا من التهويلات ما لم يظهروه قبل ذلك اليوم. قال الكسائىّ: وكانت بلقيس قد أعدّت مائة لبنة من الذهب، ومائة لبنة من الفضّة، ومائة غلام أمرد، لكل غلام ضفائر كضفائر النساء، ومائة وصيفة مضمومات الشعر. قال الثعلبىّ: واختلفوا فى عددهم، فقال الكلبىّ: عشرة غلمان وعشر جوار. وقال مقاتل: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد: مائتا غلام ومائتا جارية. وقال وهب: خمسائة غلام وخمسائة جارية. وألبست الغلمان ثياب الوصائف، وألبست الوصائف ثياب الغلمان. وقال الثعلبىّ: قال وهب وغيره من أهل الكتب: عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية وخمسائة غلام، فألبست الجوارى لباس الغلمان، وألبست الغلمان

لباس الجوارى، وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب، وفى أعناقهم أطواقا من ذهب، وفى آذانهم أقراطا وشنوفا «1» من ذهب مرصّعات بألوان الجواهر، وحملت الجوارى على خمسمائة رمكة «2» ، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر، وغواشيها من الدّيباج الملوّن، وبعث إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة. قالوا: وعمدت الىّ تاج من ذهب مرصّع بالجواهر، ومائة فرس من جياد خيول اليمن، عليها براقع الحرير وأجلّة الديباج، وبعث بحقّة من ذهب فيها درّة غير مثقوبة، وجزع يمانىّ مثقوب معوّج الثّقب، [وقارورة «3» ] وبعثت ذلك مع وزيرها، وكتبت جواب كتاب سليمان وقالت: قد بعثت إليك بمائتى وصيف ووصيفة على سنّ واحدة، وأحبّ أن تميّز ذكورهم من إناثهم من غير أن تكشف عنهم، ودرّة غير مثقوبة تأمر من يثقبها من غير أن تستعين بأحد من الإنس والجنّ والشياطين، وجزع مثقوب تدخل فيه خيطا، وقارورة تملؤها ماء ما نزل من السماء ولا نبع من الأرض. فلمّا جاء الرسول ونظر الىّ ميدان سليمان وحيطانه وما على شرفاتها من التّيجان والخيول حول الميدان، دخل على سليمان بالجوارى والغلمان والحقّة والقارورة، ولم يظهر الذهب والفضة والخيل لأنه استحقرها بالنسبة إلى ما رآه.

وقال الثعلبىّ: إنه كان مما بعثته خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة. قال: فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان ورأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب والفضة رموا ما معهم من الهدايا. قال: وفى بعض الروايات أنّ سليمان لمّا أمر بفراش الميدان بلبن الذّهب والفضّة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللّبنات التى معهم. فلمّا رأت الرسل موضع اللّبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك، وطرحوا ما معهم فى ذلك المكان. قال: ثم مرّوا على الشياطين، فلمّا نظروا إليهم فزعوا. فقيل لهم: جوزوا فلا بأس عليكم. وكانوا يمرّون على كردوس «1» كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدى سليمان عليه السلام. قال الكسائىّ: فقدّم الكتاب إلى سليمان، فأخبر سليمان الرسول بما فيه قبل فتحه وقراءته، وميّز الوصفاء من الوصائف، وأمر دودة فثقبت الدّرّة وأدخلت الخيط فى الجزع، وأمر أن تساق الخيل حتى تعرق وتملأ القارورة من عرقها، وأقبل على وزير بلقيس وقال: ارجع إلى صاحبتك بما جئت به من الهديّة وقل لها: «أتمدّوننى بمال فما آتانى الله خير ممّا آتاكم بل أنتم بهديّتكم تفرحون. ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون» . قال: فعاد الوزير إليها بما جاء به من الهديّة وأخبرها بما كان من أمر سليمان. فقالت لقومها: هل علمتم الان أنّ رأيى كان أصوب من رأيكم فى ترك المحاربة؟ ومن أين لنا طاقة بحرب نبىّ!! ثم جمعت أموالها وكنوزها واستصحبت ذلك معها

إلّا عرشها فإنّها تركته بقصرها وأغلقت عليه سبعة أبواب وسارت إلى سليمان ومعها ملوك اليمن وأكابرها وساداتها، فبلغ ذلك سليمان. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى: شخصت بلقيس إلى سليمان عليه السلام فى اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم مائة ألف. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: وكان سليمان رجلا مهيبا، لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذى يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا «1» قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس. قال: وقد نزلت منّا بهذا المكان؟ قالوا نعم. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: كما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ. قال: فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال: «يأيها الملأ أيّكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين. قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنّى عليه لقوىّ أمين» قال: أريد أسرع من ذلك. «قال الّذى عنده علم من الكتاب- وهو آصف بن برخيا- أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» . قال: وكان عنده اسم الله الأعظم. «فلمّا رآه مستقرّا عنده قال هذا من فضل ربّى ليبلونى أأشكرأم أكفر ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّى غنىّ كريم» . ثم قال سليمان: «نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون» . فأقبل عفريت من الجنّ وقال: يا نبىّ الله، إنّ رجليها كحافر حمار. قال له سليمان: إن كان ذلك كما قلت وإلا عاقبتك. قال: يا نبىّ الله، أريد أن أتّخذ لك صرحا «2» من قوارير، وأجرى فيه ماء، وأنزل فيه الحيتان والسمك، فلا يشكّ من رآه أنه

ماء جار، فاتّخذه كذلك. فلمّا فرغ منه شكره. فقال: يا نبىّ الله، أعف عنّى فإنّى كذبت على بلقيس فى رجليها، فعفا سليمان عنه. وأقبلت بلقيس فجعلت تنظر إلى الجنّ والإنس والطير والوحش وغيرهم، وهم قيام لا يضرّ بعضهم بعضا. فلما قاربت الصّرح الممرّد إذا بعرشها، فتعجّبت. فقيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وعلمت أنّه هو، وأنه من قدرة الأنبياء. قال: فلمّا أقبلت إلى الصرح حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها. فناداها سليمان: إنه صرح ممرّد من قوارير. فأرسلت ثوبها على ساقيها حياء من سليمان، ثم «قالت ربّ إنّى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين» ثم أسلم قومها. قال الثعلبىّ: اختلف العلماء فى أمرها بعد إسلامها، فقال أكثرهم: لمّا أسلمت بلقيس أراد سليمان أن يتزوّجها. فلمّا همّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال: ما أقبح هذا!. فسأل الإنس: بم يذهب هذا؟ فقالوا: بالموسى. فقالت المرأة: لم يمسّنى الحديد قطّ، فكرهه سليمان. فسأل الجنّ، فقالوا: لا ندرى. فسأل الشياطين فمكروا عليه، فلمّا ألحّ عليهم قالوا: نحن نحتال عليه حتى يكون كالفضّة البيضاء، فآتّخذوا لها النّورة «1» والحمّام. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: هو أوّل يوم اتّخذت فيه النّورة. وقال الكسائىّ فى سياقة خبره: ثم قالت بلقيس: يا نبىّ الله، أرى خاتمك منقوشا، فما الذى عليه؟ قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . قالت: ومن محمد؟ قال: نبىّ يخرج فى آخر الزمان، فآمنت

ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها

بلقيس به. ثم قال لها بعد إيمانها: أتحبّين أن ترجعى إلى بلادك وما كنت فيه؟ قالت: لا، بل أكون معك من بعض نسائك، فتزوّج بها سليمان عليه السلام. هذا ما أورده الكسائىّ. وفيه زيادات نقلها أبو إسحاق الثعلبىّ قد ذكرناها فى أثناء القصّة ونبّهنا عليها ونسبناها إلى قائلها. وحكى الثعلبىّ أيضا فى هذه القصة زيادات قد رأينا إثباتها؛ فمن ذلك وصف قصرها وعرشها. ذكر صفة القصر الذى بنته بلقيس وصفة عرشها قال أبو إسحاق الثعلبىّ قال الشعبىّ: يروى أنّ بلقيس لمّا ملكت أمرت فحمل إليها خمسمائة أسطوانة من الرّخام، كلّ أسطوانة خمسون ذراعا، وأمرت بها فنصبت على تلّ قريب من مدينة صنعاء، وخطّت بين كلّ أسطوانتين عشرة أذرع، ثم جعلت على ذلك سقفا مبسوطا بألواح الرّخام وألحم بعضها إلى بعض بالرّصاص حتى صارت كانها لوح واحد. ثم بنت فوق ذلك قصرا مربّعا من آجرّ وجعلت فى كل زاوية من زواياه قبّة من ذهب مشرفة فى الهواء، وفيما بين ذلك مجالس حيطانها من ذهب وفضّة مرصّعة بأنواع الجواهر الملوّنة، فكانت الشمس إذا طلعت على ذلك القصر التهب الذهب والجوهر فيكاد يعش العيون وتحار فيه الأبصار. وجعلت باب ذلك القصر مما يلى المدينة بدرج من الرخام الأبيض والأحمر والأخضر، وفى جانبه حجرا لحجّابها وبوّابيها وحرسها وخدمها وحشمها على قدر مراتبهم. قال: وأمّا صفة عرشها فكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزّمرّد الأخضر، ومؤخّره من فضّة مكلّل بأنواع الجواهر، وله أربع قوائم:

ذكر خبر وادى القردة

قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زمرّد أخضر، وقائمة من درّ أصفر، وصفائح السرير من ذهب. وعليه سبعة بيوت، على كل بيت باب مغلق، وكان ثمانين ذراعا فى ثمانين ذراعا، وطوله فى الهواء ثمانون ذراعا، فذلك قوله: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ . أى سرير ضخم. ذكر خبر وادى القردة قال الكسائىّ: وبينما سليمان عليه السلام مع بلقيس ذات يوم إذ قال لها: أكل اليمن فى طاعتك؟ قالت: نعم، إلّا واد عن يمين سبأ، فيه أشجار ومياه غلبت عليه القردة وأزاحوا عنه سكّانه، وهو واد طويل عريض، وهم فى كثرة، وإنهم على سنن اليهود لا يتبايعون يوم السبت. فبعث سليمان العقاب ليأتيه بخبرهم. فطار إلى الوادى وعاد اليه قبل أن يقوم من مقامه ذلك، وأخبره بكثرتهم. فركب سليمان الريح على بساطه فى قبّة القوارير، وسار فى نفر من بنى إسرائيل حتى نزل على شفير الوادى، فعلم القردة أنه سليمان، فبادروا إلى طاعته وأتوه، وقالوا: يا نبىّ الله، إنّا من نسل اليهود الذين اعتدوا فى السبت، ونحن على دين موسى نعمل بأحكام التوراة، وسألوه أن يقرّهم فى ذلك الوادى، فأقرّهم فيه وكتب لهم سجلّا على لوح من نحاس وجعله فى عنق كبيرهم يتوارثونه، ثم انصرف عنهم. هكذا نقل. والصحيح أنّ الذين اعتدوا فى السبت وغيرهم ممن مسخ لم يعقبوا. وفى الصحيح: إنّ الله لم يجعل لمسيخ «1» نسلا.

ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند

ذكر خبر الرجل الذى قبض بأرض الهند قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام قد سأل الله تعالى أن يريه ملك الموت فأراه إيّاه، وكان يعوده ويأتيه فى كل خميس. فأتاه فى بعض الأيام على صورة البشر، وجعل يطيل النظر إلى رجل فى مجلس سليمان حتى ارعب ذلك الرجل. فلمّا فارقه ملك الموت قال: يا نبىّ الله، لقد فزّعنى هذا الرجل الذى كان فى مجلسك من نظره إلىّ، فمن هو؟ قال: هو ملك الموت. قال: يا نبىّ الله أسألك أن تأمر الريح أن تحملنى إلى أرض الهند، فأمرها سليمان فحملته من مجلسه ووضعته بأرض الهند. ثم جاء ملك الموت إلى سليمان، فقال له: قد كنت اليوم عندى وأنت تنظر إلى ذلك الرجل نظرا شافيا حتى خاف منك. قال: يا نبىّ الله، إنى كنت قد أمرت بقبض روحه فى موضع من أرض الهند فى هذا اليوم، فلمّا رأيته عندك عجبت متى يصل إلى الهند، فإذا الريح قد جاءت به، فألقته فى البقعة التى أمرت بقبض روحه فيها، فقبضت روحه هناك. فعجب سليمان عليه السلام من ذلك. ذكر خبر الفتنة وذهاب خاتم سليمان عليه السلام ورجوعه اليه قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام كلّما نزل بمنزل من البرارى بنت الجنّ والشياطين له قصرا بديعا، فإذا تحوّل عنه خرّبوه. وكان له قصر على ساحل البحر من بناء الجنّ، فأمرهم أن يتركوه على حالته. فجاء سليمان إلى ذلك القصر فنزله، وكان صخر الجنىّ معه وهو شديد الحرص على أن يسلبه الخاتم؛ لأنه كان قد علم أن ملكه فى خاتمه. وكان لسليمان جارية اسمها «الأمينة» فكان إذا أراد الدخول الى الخلوة بنسائه يسلّم الخاتم إليها، فإذا اغتسل أخذ خاتمه منها، وكذلك إذا أراد الوضوء. فجاء سليمان فى بعض الأيام فنزل ذلك القصر وأراد

الوضوء، فدفع الخاتم الى الجارية. فجاء صخر وقد ألقى على نفسه صورة سليمان، فقال للجارية: هات الخاتم، فناولته إيّاه وهى لا تعلم. فلمّا صار الخاتم فى يد صخر لم يستقرّ فى يده لأنه شيطان، فرماه فى البحر، فجاء حوت بإذن الله فآبتلعه. ومضى صخر وهو على صورة سليمان فجلس على كرسيّه ومعه الناس وهم يظنّون أنه سليمان؛ فذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «1» قيل: الجسد هو صخر الجنى. قال: وخرج سليمان من الخلاء وقد غيّر الله صورته إلى صورة صخر، فطلب الخاتم، فقالت الجارية: أعوذ بالله منك، قد دفعت الخاتم إلى سليمان. فعلم أنّ الله قد أوقع به البليّة، فخرج يريد القصر ويقول للناس: أنا سليمان، والناس يهزءون بقوله ويقولون: لست سليمان أنت صخر الجنّىّ. فجعل سليمان يدور على جميع الناس وهم على كلمة واحدة فى إنكاره، وجعل يدور فى القرى ويقول: أنا سليمان والناس يشتمونه حتى لزق بطنه بظهره من الجوع، فقال: إلهى إنّك ابتليت كثيرا من الأنبياء ولم تحرمهم رزقك. إلهى إنّى تائب إليك من خطيئتى. فلم يزل سليمان كذلك أربعين يوما لم يطعم شيئا، ثم وجد قرصة يابسة ملقاة، فأخذها ولم يقدر على أكلها ليبسها، فأقبل الىّ ساحل البحر وقعد يبلّ القرصة فاستلبتها الأمواج من يده. فقال: إلهى رزقتنى بعد أربعين يوما قرصة يابسة نزلت حتى أبلّها فاستلبتها الأمواج من يدى وأنت المتكفّل بأرزاق العباد، وأنا عبدك المذنب، فارزقنى فأنت الرزّاق الكريم. ثم جعل يمشى على الساحل وهو يبكى، فإذا هو بقوم يصطادون السمك، فسألهم شيئا من الطعام فمنعوه وطردوه وقالوا له: انصرف عنّا، فما رأينا أوحش من وجهك. قال: ما عليكم من وجهى إذا أطعمتمونى؟!. قالوا: وحقّ سليمان

إن قمنا إليك لنوجعنّك ضربا إن لم ترح «1» عنّا. قال: يا قوم، فأنا والله سليمان. فضربه رجل منهم على رأسه وقال: أتكذب على نبىّ الله! فبكى حتى بكت الملائكة لبكائه ورحمه أولئك القوم وناولوه سمكة وأعطوه سكّينا، فشقّ بطنها ليصلحها ويشويها ويأكلها، فخرج الخاتم من بطنها فغسله وجعله فى إصبعه، وعاد إليه حسنه وجماله، فوضع السمكة وسار يريد قصره، فجعل يمرّ بتلك القرى، فكلّ من كان قد أنكره عرفه وسجد له. فبلغ ذلك صخرا الجنّىّ فهرب. وعاد سليمان الىّ قصره واجتمع له الإنس والجنّ والشياطين والسباع والهوامّ كما كانوا أوّل مرّة. فبعث العفاريت فى طلب صخر فأتوه به، فأمر أن ينقروا له صخرتين وصفّده بالحديد وجعله بينهما وأطبقهما عليه وختم عليه بخاتمه وطرحه فى بحيرة طبريّة. فيقال: إنه فيها إلى يوم القيامة. ثم أمر الله الرياح أن تحشر له سائر الشياطين فحشرت له، فصفّد مردتهم بالحديد وحبسهم. هذا ما أورده الكسائىّ فى قصّة الفتنة، وهو أولى ما أورده وأشبه ما نقل. وحكى الثعلبىّ رحمه الله فى خبر الفتنة قال قال محمد بن إسحاق قال بعض العلماء عن وهب بن منبّه قال: سمع سليمان عليه السلام أنّ فى جزيرة من جزائر البحر رجلا يقال له «صيدون» ملك عظيم الشأن لم يكن لأحد من الناس عليه سبيل لمكانه فى البحر. وقال غيره: إن هذه الجزيرة مسيرة شهر فى مثله، وفيها عجائب كثيرة وأشجار وأنهار، وفى وسطها مجلس على عمد من مرمر ملوّن، والمجلس من ذهب مفصل بأنواع الجواهر يشرف على جميع الجزيرة. وقيل: إنه كان ساحرا، فكانت الجنّ تطيف به وتعمل له العجائب، فدلّ سليمان عليها فغزاه.

نرجع إلى سياق الثعلبىّ قال: فخرج سليمان إلى الجزيرة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس، فقتل ملكها وسبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنت الملك واسمها «جرادة» لم ير الناس مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها سليمان لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلّة ثقة، وأحبّها سليمان حبّا لم يحبّه شيئا من نسائه، وكانت منزلتها عنده منزلة عظيمة، وكان لا يذهب حزنها ولا ترقأ «1» دمعتها على أبيها. فشقّ ذلك على سليمان وقال لها: ويحك! ما هذا الحزن الذى لا يذهب، والدمع الذى لا يرقأ!. قالت: إنى أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزننى ذلك. قال سليمان: فقد بدّلك الله ملكا أعظم من ملكه، وسلطانا أعظم من سلطانه، وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كلّه. قالت: إنّ ذلك كذلك، ولكن إذا ذكرته أصابنى ما ترى من الحزن. ولو أنك أمرت الشياطين فصوّروا لى صورته فى دارى أراها بكرة وعشيّة لرجوت أن يذهب ذلك، وأن يسكن عنّى بعض ما أجد فى نفسى. فأمر سليمان الشياطين أن يمثّلوا صورة أبيها فى دارها حتى لا تنكر منه شيئا، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه. فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته بمثل ثيابه التى كان يلبس. ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو على ذلك التمثال هى وولائدها فيسجدن له كما كانت تصنع ذلك فى ملكه، وتفعل ذلك بكرة وعشيّة وسليمان لا يعلم بشىء من ذلك أربعين يوما. وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صدّيقا، وكان لا يردّ من باب سليمان متى أراد دخوله من ليل أو نهار، فأتاه فقال: يا نبىّ الله، كبرت سنّى، ودقّ عظمى، ونفد عمرى، وقد حان منّى الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثنى عليهم بعلمى، وأعلّم الناس

ما يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل. فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله وأثنى على كلّ منهم بما فيه، وذكر ما فضّلهم الله به حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحلمك فى صغرك، وأورعك وأفضلك فى صغرك، وأحكم أمرك فى صغرك، وأبعدك من كل ما تكره فى صغرك، ثم انصرف. فوجد سليمان فى نفسه من ذلك. فلمّا دخل سليمان داره أرسل إلى آصف بن برخيا فقال: ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا فى كل زمانهم، وفى كل حال من أمورهم؛ فلما ذكرتنى جعلت نثنى علىّ بخير فى صغرى وسكتّ عما سوى ذلك من أمرى فى كبرى، فماذا أحدثت فى آخر أمرى؟ قال: لأنّ غير الله يعبد فى دارك أربعين يوما فى هوى امرأة. قال سليمان: فى دارى! قال: نعم فى دارك. فاسترجع سليمان ثم دخل داره فكسر ذلك الصنم، وخافت تلك المرأة. ثم أمر سليمان بثياب الطّهر فأتى بها، وهى ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا تمسّها امرأة ذات دم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرّماد تذلّلا لله تعالى وتضرّعا إليه، يبكى ويدعو ويستغفر مما كان فى داره، فلم يزل ذلك دأبه حتى أمسى، ثم رجع إلى داره. وكان له وليدة يقال لها «الأمينة» ، فكان إذا دخل لحاجته أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهّر، فوضعه يوما من الأيام عندها ثم دخل لقضاء حاجته، فأتاها صخر الجنّىّ على صورة سليمان لا ينكر منه شىء، فقال لها: يا أمينة، خاتمى؛ فناولته إيّاه، فجعله فى يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الجنّ والإنس والطير. وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد تغيّر عن حليته وهيئته عند كل من يراه. فقال: يا أمينة. قالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود. قالت: كذبت لست سليمان، وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره فى ملكه،

فعرف سليمان أنّ خطيئته قد أدركته، فجعل يقف على الدار من دور بنى إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبّونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون يزعم أنه سليمان. فلمّا رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر منه الى السوق فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوى الأخرى فيأكلها. فمكث كذلك أربعين صباحا عدّة ما كان ذلك الوثن فى داره. قال: وأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم عدوّ الله الشيطان فى تلك المدّة. فقال آصف: يا معشر بنى إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان بن داود ما رأيت؟ قالوا نعم. قال: أمهلونى حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن منه فى خاصّة أمره ما أنكرناه فى عامّة أمر الناس. فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتنّ من أمر نبىّ الله سليمان ما أنكرناه؟ فقلن: أشدّ وأعظم، ما يدع امرأة منّا فى دمها، ولا يغتسل من جنابة. فقال آصف: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا لهو البلاء المبين. ثم خرج إلى بنى إسرائيل فقال: ما فى الخاصّة أعظم ممّا فى العامّة. فلمّا مضت أربعون صباحا طار الشيطان عن مجسمه ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه، فابتلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه حتى إذا كان آخر النهار أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التى ابتلعت الخاتم، وحمل سليمان سمكتيه فباع التى ليس فيها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فاستقبله الخاتم من جوفها فأخذه، فجعله فى يده ووقع ساجدا لله تعالى، وعكفت عليه الطير والوحش والجنّ. وأقبل إليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين بإحضار صخر فأدخله فى صخرة عظيمة، ثم شدّ عليه أخرى، ثم أوثقهما بالحديد والرّصاص، ثم أمر به فقذف فى البحر.

هذا حديث وهب. وقال السّدّىّ فى سبب الفتنة: كان لسليمان مائة امرأة وكانت منهن امرأة يقال لها «جرادة» وهى آثر نسائه وآمنهنّ عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجته نزع خاتمه ولم يأتمن عليه غيرها. فجاءها يوما من الأيام فقالت له: إنّ أخى بينه وبين فلان خصومة، وإنى أحبّ أن تقضى له إذا جاءك. قال نعم، ولم يفعل؛ فابتلى بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المذهب «1» ، فخرج الشيطان فى صورته فقال لها: هاتى الخاتم، فأعطته إيّاه، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا! وخرج من مكانه. ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما، فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قرّاء بنى إسرائيل وعلماؤهم، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنّا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا حكمه «2» ، فأبكى النساء عند ذلك. فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها، فطار الشيطان من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم فى البحر فابتلعه الحوت. فأقبل سليمان فى حالته التى كان فيها حتى انتهى إلى صيّادين وهو جائع فاستطعمهم من صيدهم وقال: إنّى سليمان بن داود. فقام إليه بعضهم فضربه بعصاه فشجّه. فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيّادون صاحبه الذى ضربه وقالوا: بئسما صنعت حيث ضربته. فقال: إنه زعم أنه سليمان بن داود!

فأعطاه سمكتين. فقام إلى ساحل البحر فشقّ بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه فى بطن إحداهما، فأخذه ولبسه وردّ الله تعالى عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير فعكفت عليه، فعرفه القوم فقاموا يعتذرون إليه مما صنعوا. فقال: ما أؤاخذكم على عدوانكم ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا ما كان لا بدّ منه. وجاء حتى أتى ملكه، فأخذ الشيطان فجعله فى صندوق من حديد ثم أطبقه وأقفل عليه بقفل وختمه بخاتمه، ثم أمر به فألقى فى البحر، وهو فيه كذلك «1» إلى يوم القيامة. قال: وفى بعض الروايات أنّ سليمان لمّا افتتن سقط الخاتم من يده، فأخذه سليمان فأعاده الى يده، فسقط من يده. فلما رآه لا يثبت فى يده أيقن بالفتنة. وقال آصف لسليمان: إنّك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك أربعة عشر يوما؛ ففرّ إلى الله تعالى تائبا من ذنبك وأنا أقوم مقامك وأسير فى عملك وأهل بيوتك بسيرتك حتى يتوب الله عليك ويردّك إلى ملكك. ففرّ سليمان هاربا إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم ووضعه فى يده فثبت. وإنّ الجسد الذى قال الله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هو آصف كاتب سليمان، وكان عنده علم من الكتاب. فأقام آصف فى ملك سليمان يسير سيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، وردّ الله تعالى عليه ملكه، وقام آصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيّه وأعاد الخاتم فى يده فثبت فيها. قال أبو إسحاق: وقيل فى سبب ذلك ما روى عن سعيد بن المسيّب أنّ سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن عبادى ثلاثة أيّام فلم تنظر فى أمورهم ولم تنصف مظلوما من ظالم. وذكر

حديث الخاتم وأخذ الشيطان إيّاه كما تقدّم، وقال فى آخره: قال علىّ: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله ليسلّطه على نسائه «1» . قال وقال بعض المفسّرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر ألّا يتزوّج امرأة إلّا من بنى إسرائيل، فتزوّج من غيرهم فعوقب على ذلك. وقيل: إن سليمان لمّا أصاب ابنة الملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت، فخوّفها فقالت: إن أكرهتنى على الإسلام قتلت نفسى. فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوّج بها وهى مشركة أربعين يوما، وكانت تعبد صنما لها فى خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما. قال وقال الشعبىّ فى سبب ذلك: إنّ سليمان ولد له ولد، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفكّ مما نحن فيه من البلاء والسّخرة، وما لنا إلا أن نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك، فأمر السحاب أن يأخذ ابنه، وأمر الريح فحملته، وغدا ابنه فى السحاب خوفا من مضرّة الشيطان. فعاقبه الله تعالى بخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميّتا على كرسيّه، فهو الجسد الذى ذكره الله تعالى فى كتابه العزيز؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ.

ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه

ذكر عزم سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه قال الكسائىّ: كان سليمان عليه السلام قد أعطى من القوّة ما إنه يأتى على خمسمائة حرّة وسبعمائة سرّيّة. فقال فى يوم: لأطوفنّ على ألف امرأة وأجامعهنّ كلهنّ، فتحمل كل واحدة منهنّ بغلامين فارسين يركبون الخيل ويغزون البلاد، ولم يقل إن شاء الله. وطاف عليهنّ فلم تحمل منهنّ غير واحدة، حملت بنصف إنسان، قيل: إنه الجسد الذى ألقى على كرسىّ سليمان. والله تعالى أعلم. والذى ثبت من هذه القصة ما رويناه من صحيح البخارىّ بسندنا المتقدّم اليه. قال البخارىّ حدّثنا خالد بن مخلد حدّثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبى الزّناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد فى سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل، ولم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا إحدى شقّيه فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لو قالها لجاهدوا فى سبيل الله. قال شعيب وابن أبى الزناد تسعين وهو أصح «1» » . ذكر وفاة بلقيس زوجة سليمان عليه السلام قال الكسائىّ: أقامت بلقيس عند سليمان سبع سنين وسبعة أشهر ثم توفّيت، فدفنها بمدينة «2» تدمر من أرض الشام تحت حائط، ولم يعلم أحد بموضع قبرها إلى أيّام الوليد بن عبد الملك بن مروان.

ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام

قال موسى بن نصير: بعثت فى أيّام الوليد إلى مدينة تدمر ومعى العباس بن الوليد بن عبد الملك، فجاء مطر عظيم فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت عن تابوت طوله ستون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا متّخذ من حجر كالزّعفران مكتوب عليه: «هذا تابوت بلقيس الصالحة أسلمت لثلاث عشرة سنة خلت من ملك سليمان، وتزوّج بها يوم عاشوراء سنة أربع عشرة خلت من ملكه، وتوفّيت يوم الاثنين من ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين مضت من ملكه، وقد دفنت ليلا فى حائط مدينة تدمر، ولم يطّلع على دفنها إنس ولا جنّ ولا شيطان» . قال: فرفعنا غطاء التابوت واذا هى غضّة كانها دفنت ليلتها. فكتبتا بذلك إلى الوليد فأمر بتركه فى مكانه، وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر، ففعلنا ذلك. ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام قال الكسائىّ: ملك سليمان شرق الأرض وغربها وطاف أقطارها حتى انتهى إلى السّدّ «1» الذى هو بالقرب من جبل قاف «2» ، فوقف هناك ثم قال للريح: هل

جريت هاهنا قطّ؟ قالت: لا يا نبىّ الله، وإنه آخر الدنيا وليس وراءه إلا علم الله تعالى. ثم أمر الريح فاحتملته حتى نظر إلى التّنّين المحدق بالعالم، فسار أياما على طرف من أطرافه فإذا هو بملك، فقال: يابن داود إن هذا التّنين محيط بالعالم الذى هو مسيرة خمسائة عام. ثم ارتفع إلى مستقرّ الغام ونظر إلى مجمع القطر، ونزل من هناك إلى مسكن الليل والنهار فاذا هو بملك يقول: اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا. ثم أمر الريح أن تحطّ بساطه إلى الأرض المقدّسة، وكانت مدّة غيبته مائة وثلاثين يوما. وكان فى طول سفرته هذه يرى شخصا بين يديه يسبق كل شىء، فسأله من هو؟ فأخبره أنه ملك الموت، فوقعت عليه الرّعدة وتغيّر لونه وجعل ابنه رحبعم خليفته، وأوصى الناس بالسمع والطاعة له. وأخذ فى الصوم والصلاة طول ليله، فإذا أصبح خرج من محرابه إلى روضة هناك فيها نبات حسن يتسلّى به. فخرج فى بعض الأيام فرأى نبتا غريبا لم يكن قد رآه قبل ذلك اليوم. فقال: أيها النبت ما أنت؟ قال: أنا الخرنوب الذى لا أنبت فى موضع إلا خرّبته. فقال سليمان: فما تصنع هاهنا فلست من نبات الرياض بل من نبات البرارى؟ قال: قد أمرت أن أنبت هاهنا. فعاد سليمان من الغد وهو على حاله وقد زاد نباته. فقال له سليمان: ألم آمرك أن تلحق بموضعك من البرراى!. قال الخرنوب: يا نبىّ الله. إنّ هذا الموضع سيخرب عن قريب، فسكت سليمان. فلما ضعف عن العبادة توكأ على عصاه. فبينا هو فى محرابه متوكئا قائما يتلو الزّبور والتوراة إذ أتاه ملك الموت، فرفع رأسه إليه فناوله شمّة فشمّها فمات. وبقى سليمان على حالته لم يسقط إلى الأرض ولم يتحرّك ولا مال. فهابوه وما جسروا أن يتقدّموا إليه. وقالوا: إنه لم يمت، ولم تزل الإنس والجنّ والشياطين والوحش

والطير فى الطاعة والأعمال حتى مضت سنة، ثم وقعت الأرضة فى أسفل العصا؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ . فخرّ سليمان عند ذلك كالخشبة اليابسة، وكانت الجنّ قبل ذلك تدّعى علم الغيب؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «1» أى فى تلك السنة فى نقل الصخور والبنيان وغير ذلك. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى خبر وفاة سليمان عليه السلام: قال أهل التاريخ: لبث سليمان فى ملكه بعد أن ردّه الله عليه تعمل له الجنّ ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابى وقدور راسيات وغير ذلك، ويعذّب من الشياطين من يشاء، ويأمرهم بحمل الحجارة الثقيلة ونقلها إلى حيث أحبّ. فأتاهم إبليس وهم فى العمل فقال: كيف أنتم؟ فقالوا: ما بنا طاقة لما نحن فيه. فقال لهم: تذهبون تحملون الحجارة وترجعون فرّاغا لا تحملون شيئا؟ قالوا نعم. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يحملوا ذاهبين وراجعين. فقال لهم إبليس: تعملون بالليل؟ قالوا لا. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يعملوا بالليل والنهار. فأتاهم إبليس فسألهم فشكوا إليه أنهم يعملون بالليل والنهار. فقال لهم إبليس: وفعلها؟ قالوا: نعم. قال: فتوقّعوا الفرج، فقد بلغ الأمر منتهاه. فما لبثوا إلا يسيرا حتى مات سليمان.

قال ابن عبّاس وغيره: كان سليمان يتحنّث «1» فى بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ من ذلك وأكثر، يدخله ومعه طعامه وشرابه، فدخله فى المرّة التى مات فيها. قال: وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوما يصبح فيه إلا نبت فى بيت المقدس شجرة فيسألها سليمان ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمى كذا وكذا. فيقول: لأى شىء تصلحين؟ فتقول: لكذا وكذا؛ [فيأمر «2» بها فتقطع] ، فإن كانت تنبت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كتب عليها لكذا وكذا. فبينا هو يصلّى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة. قال: ولأىّ شىء نبتّى؟ قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حىّ، أنت الذى على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها فى حائط له، ثم قال: اللهمّ عمّ عن الجنّ موتى حتى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب. وكانت الجنّ يخبرون الإنس أنهم يعلمون الغيب وأنهم يعلمون ما فى غد. قال: ثم دخل سليمان المحراب فقام يصلّى متكئا على عصاه، فمات على تلك الحالة، ولم يعلم بذلك أحد من الشياطين، وهم فى ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم. قال وقال عبد الرحمن [بن زيد «3» ] قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى. قال: فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك وقد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّى واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه.

قال وفى رواية أخرى: أنّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه: قد آتانى الله من الملك ما ترون، وما مرّ علىّ يوم فى ملكى بحيث صفا لى من الكدر، وقد أحببت أن يكون لى يوم واحد يصفولى إلى الليل ولا أغتمّ فيه، وليكن ذلك غدا. فلما كان من الغد دخل قصرا له، وأمر بإغلاق أبوابه ومنع الناس من الدخول عليه ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع شيئا يسوءه، ثم أخذ عصاه بيده وصعد فوق قصره واتكأ عليها ينظر فى ممالكه، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه، عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب قصره فقال: السلام عليك يا سليمان. فقال سليمان: وعليكم السلام، كيف دخلت هذا القصر وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب!. أما هبتنى حين دخلت قصرى بغير إذنى!! فقال: أنا الذى لا يحجبنى حاجب، ولا يمنعنى بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرّشا، وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن. فقال سليمان: فمن أذن لك فى دخوله؟ قال: ربّه. فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت. فقال له: أنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: فيم جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك. قال: يا ملك الموت، هذا يوم أردت أن يصفو لى وما أسمع فيه ما يغمّنى. قال له: يا سليمان، إنك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتمّ فيه، وذلك اليوم لم يخلق فى الدنيا، فارض بقضاء ربك فإنه لا مردّ له. قال: فاقبض كما أمرت، فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قال الثعلبىّ قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلّاه أينما كان. وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه، فكان الشيطان الذى يريد أن يدخل يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمرّ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان

فى المحراب إلا احترق، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع ولم يسمع، ثم رجع فوقع فى البيت فلم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميّتا، فخرج فأخبر الناس أنّ سليمان قد مات، ففتحوا عنه وأخرجوه ووجدوا منسأته- وهى العصا بلسان الحبشة «1» - قد أكلتها «2» الأرضة، فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أنّ الجنّ كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، فلم يلبثوا فى العذاب سنة يعملون. قال: ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب طعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكننا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذى يكون فى جوف الخشب فهو مما تأتيها به الشياطين شكرا لها؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهى الأرضة، ويقال لها القادح أيضا، وهى دويبّة تأكل العيدان تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أى عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ... الآية. قال أهل التاريخ: كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة، وملّك يوم ملّك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الكسائىّ قال وهب: عاش سليمان ستين سنة، منها فى الملك والنبوّة أربعون سنة. قال: وتفرّقت الإنس والجنّ وغيرهم، فتفرّق بنو إسرائيل بعده

ثلاث فرق: فرقة كفروا واتبعوا السحرة، وفرقة اعتزلوا وقالوا: لا نطيع بعده أحدا، وفرقة اتبعوا ابنه رحبعم «1» . قال الثعلبىّ: ملك بعد سليمان عليه السلام ابنه رحبعم، وكان قد استخلفه فنبّأه الله تعالى ولم يكن رسولا ثم قبض، وكان ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه أيشا «2» بن رحبعم، وكان ملكه ثلاثا وستين سنة. ثم ابنه أينا. وقال الكسائىّ: ملك بعد رحبعم ابنه لايى، وملك بعد لايى ابنه أيشا بن لايى، ثم بعث الله تعالى بعد أن قبض أيشا، شعيا «3» وهو من ولد هارون بن عمران. وقال الثعلبىّ فى سياقه: لمّا ملك أينا بن أيشا، وكان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان به عرق النّسا، فطمعت الملوك فيه لضعفه، وافترقت ملوك بنى إسرائيل، فغزاهم ملك من ملوك الهند يقال له «زرج «4» الهندىّ» فى جمع كثير، فبعث الله تعالى عليهم ملائكة فهزموهم، فقصدوا البحر حتى ركبوه جميعا، فبعث الله تعالى عليهم الرياح والأمواج حتى ضربت سفنهم بعضا ببعض، فتكسّرت وغرق زرج ومن كان معه، وألقت الأمواج أثقالهم وأموالهم وسلبهم إلى محلّة بنى إسرائيل، ونودوا أن خذوا ما غنمكم الله وكونوا فيه من الشاكرين. ثم لم يزل يغزوهم الملك بعد الملك من ملوك العراق وغيرهم، فيهلكهم الله تعالى الى أن ظهر فيهم الظلم والفساد، وفشت فيهم المعاصى، وعبد بعض ملوكهم الأصنام، فكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.

الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود

الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود ذكر قصة شعيا عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: كان الملك اذا ملك من بنى إسرائيل بعث الله معه نبيّا يرشده ويسدّده ويكون فيما بين الناس وبين الله تعالى، ولا ينزل الله تعالى عليه كتابا إنما يأمر بأحكام التوراة وينهى عن المعصية، ويدعو الناس الى ما تركوا من الطاعة. وكان ممن ملك منهم «صديقة» . فلمّا ملك بعث الله تعالى شعيا بن أمصيا «1» ، فملك ذلك الملك بنى إسرائيل وبيت المقدس زمانا، ثم كثرت فى بنى إسرائيل الأحداث، فبعث الله سنحاريب «2» ملك بابل، معه ستمائة ألف راية، فأقبل حتى نزل حول بيت المقدس والملك إذ ذاك مريض فى ساقه قرحة، فجاء النبىّ شعيا عليه السلام فقال لملك بنى إسرائيل: إن سنحاريب ملك بابل قد أقبل ونزل بك فى ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبىّ الله، هل أتاك وحى فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله

تعالى بنا وسنحاريب؟ قال: لم يأتنى وحى. فبينما هم كذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا أن ائت ملك بنى إسرائيل فمره أن يوصى بوصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتاه شعيا فقال: إنّ ربك عز وجل قد أوحى إلىّ أن آمرك أن توصى وصيّتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميّت. فلمّا قال له شعيا ذلك أقبل صديقة الملك على القبلة فصلّى ودعا وبكى، فقال وهو يبكى ويتضرّع إلى الله عز وجل بقلب مخلص وتوكّل وصبر: [اللهم ربّ الأرباب وإله الآلهة القدّوس المقدس، يا رحمن يا رحيم، يا رءوف يا من لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرنى بنيّتى وفعلى وحسن قضائى فى بنى إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به منّى سرّى وعلانيتى لك «1» ] ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكان عبدا صالحا. فأوحى الله تعالى إلى شعيا أن أخبر صديقة أن الله استجاب له وقبل منه ورحمه وأخّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب وجنوده. فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فذهب عنه الجزع وخرّ ساجدا لله تعالى ودعاه. فلما رفع رأسه أوحى الله تعالى إلى شعيا أن قل للملك صديقة يأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحة ساقه فيشفى ويبرأ، ففعل ذلك فشفى. وقال الملك لشعيا: سل ربّك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا. فقال الله تعالى لشعيا: قل له إنى كفيتك عدوّك وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه. فلمّا أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بنى إسرائيل، إن الله تعالى قد كفاك أمر عدوّك؛ فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فخرج الملك فالتمس سنحاريب فلم يوجد فى الموتى. فبعث الملك فى طلبه، فأدركه الطّلب فى مغازة وخمسة من كتّابه، أحدهم

بختنصّر، فجعلوهم فى الجوامع «1» ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيل، فلما رآهم خرّ ساجدا لله تعالى من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربّنا؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ونحن وأنتم غافلون؟! فقال سنحاريب: قد أتانى خبر ربّكم ونصره إيّاكم، ورحمته التى رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادى، فلم أطع مرشدا ولم يلقنى فى الشّقوة إلّا قلّة عقلى، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علىّ وعلى من معى. فقال صديقة: الحمد لله رب العزّة الذى كفاناكم بما شاء. إنّ ربّنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنّه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة فى الدنيا وعذابا فى الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا. ولدمك ودم من معك أهون على الله تعالى من دم قرادة لو قتلت. ثم أمر صديقة أمير جيشه أن يقذف فى رقابهم الجوامع، فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا «2» ، وكان يرزقهم فى كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل. فقال سنحاريب لملك بنى إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك الى سجن القتل، فأوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قل لملك بنى إسرائيل: يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وأن يكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلّغ شعيا الملك ذلك، ففعل ما أمر به، وخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل «3» .

فلمّا قدموا جمع سنحاريب الناس وأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهّانه وسحرته: قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيّهم ووحى الله إلى نبيّهم، فلم تطعنا، وهى أمّة لا يستطيعها أحد من ربّهم. ولبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ومات. واستخلف بختنصّر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه، فعمل بعمله وقضى بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله تعالى صديقة ملك بنى إسرائيل، فمرج «1» أمر بنى إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، ونبيّهم شعيا معهم لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قم فى قومك أوح على لسانك. فلمّا قام أوحى الله تعالى على لسانه وأنطقه بالوحى فقال: يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ فإنّ الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل الذين ربّاهم بنعمته، واصطنعهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم على عباده، واستقبلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التى لا راعى لها؛ فآوى شاردها، وجمع ضالّها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها. فلمّا فعل ذلك بها تناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منهم عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير. فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون ما جاءهم من الخير. إنّ البعير مما يذكر وطنه فيأتيه، وإنّ الحمار مما يذكر الآرىّ «2» الذى يشبع عليه فيراجعه، وإنّ الثور مما يذكر المرج «3» الذى يسمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من أين «4» جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير، وإنى ضارب لهم مثلا فليسمعوه.

قل لهم: كيف ترون فى أرض كانت جرزا «1» زمانا خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قوىّ، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه، فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا، وصفّف فيها غراسا من الزيتون والرمّان والنخيل والأعناب وألوان الثّمار كلها، وولىّ ذلك واستحفظه ذا رأى وهمّة حفيظا قويّا أمينا، فانتظرها، فلمّا أطلعت جاء طلعها خرّوبا؟!. قالوا: بئست الأرض هذه! نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدمّر نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة خرابا موانا لا عمران فيها. قال الله عزّ وجلّ لهم: إنّ الجدار ذمّتى، وإنّ القصر شريعتى، وإنّ النهر كتابى، وإنّ القيّم نبيّى، وإنّ الغراس هم، وإن الخرّوب الذى أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإنّى قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، فإنه مثل ضربه الله لهم. يتقرّبون إلىّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالنى اللحم ولا آكله. ويدّعون أنهم يتقرّبون إلىّ بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التى حرّمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم مترمّلة «2» بدمائها؛ يشيّدون لى البيوت مساجد ويطهّرون أجوافها، وينجّسون قلوبهم وأجسادهم ويدنّسونها. فأىّ حاجة لى إلى تشييد البيوت ولست أسكنها! وأىّ حاجة لى إلى تزويق المساجد ولست أدخلها! إنما أمرت برفعها لأذكر فيها ولأسبّح، ولتكون مصلّى لمن أراد أن يصلّى فيها. يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين ثم ائت بهما ناديهم فى أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إنّ الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا. فلمّا قال لهما ذلك اختلطا فصارا واحدا. فقال الله تعالى [قل «3» ] لهم: إنى قد قدّرت على أن أفقه العودين اليابسين،

وعلىّ أن أؤلّف بينهما، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت! أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم وأنا الذى صوّرتها!. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، فى كل ذلك لا يسمع ولا يستجاب لنا. قال الله تعالى: فسلهم: ما الذى يمنعنى أن أستجيب لهم! ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين! الأنّ ذات يدى قلّت! وكيف ويداى مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندى لا يفتحها غيرى!. أو لأن رحمتى ضاقت! فكيف ورحمتى وسعت كلّ شىء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها!. أو لأنّ البخل يعترينى! أولست أكرم الأكرمين. والنّفّاح بالخيرات أجود من أعطى وأكرم من سئل!. لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التى تورث فى قلوبهم [النور «1» ] فنبذوها واشتروا بها الدنيا، إذا لأبصروا من حيث أتوا، وإذا لأيقنوا أنّ أنفسهم هى أعدى العداة لهم. فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزّور ويتقوّون عليه بطعمة الحرام! وكيف أنوّر صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربنى وينتهك محارمى! أم كيف تزكو عندى صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم! إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب لهم دعاءهم، وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد!. إنما أستجيب للداعى البرّ، وإنما أسمع قول المستعفّ المستكين. وإنّ من علامة رضاى رضا المساكين. فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكلّ ذى حقّ حقّه، ثم لو كان ينبغى لى أن أكلّم البشر إذا لكلّمتهم؛ وإذا لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم؛ وإذا لدعمت أركانهم فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم؛ وإذا لثبّتّ ألسنتهم وعقولهم.

يقولون لمّا سمعوا كلامى وبلغتهم رسالاتى إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما يؤلّف السّحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطّلعوا على علم الغيب بما يوحى إليهم الشياطين لاطلعوا، وكلهم يستخفى بالذى يقول ويسرّه، وهم يعلمون أنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما يبدون وما يكتمون. وإنى قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء اثبتّه على نفسى وجعلت دونه أجلا مؤجّلا لابدّ أنه واقع، فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه، وفى أىّ زمان يكون. وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التى بها أقضى؛ فإنّى مظهره على الّدين كله ولو كره المشركون. وإن كانوا يقدرون على أن يؤلّفوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة التى أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين. فإنّى قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فى الأجراء «1» ، وأجعل الملك فى الرّعاء، والعزّ فى الأذلّاء، والقوّة فى الضعفاء، والغنى فى الفقراء، والثروة فى الأقلّاء، والمدائن فى الفلوات، والآجام «2» فى المفاوز، والثّرى فى الغيطان، والعلم فى الجهلة، والحكم فى الأميّيّن. فسلهم متى هذا ومن القيّم به وعلى يدى من أسبّبه، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره. وإن كانوا يعلمون فإنى باعث لذلك نبيّا أمّيّا لا أعمى من العميان ولا ضالّا من الضالّين، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا متزيّن بالفحش، ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدى به بعد الضّلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهّر

ذكر قصة إرميا عليه السلام

به بعد النّكرة، وأكثّر به بعد القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة؛ وأؤلّف به قلوبا مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمما متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إيمانا بى، وتوحيدا لى، وإخلاصا بى «1» ، يصلّون قياما وقعودا، وركّعا وسجودا، ويقاتلون فى سببلى صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانى [ألوفا «2» ] . ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والتحميد، فى مجالسهم ومسيرهم ومضاجعهم ومتقلّبهم ومثواهم؛ يكبّرون ويهلّلون ويقدّسون على رءوس الأشراف، ويطهّرون لى الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب إلى الأنصاف؛ قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم؛ رهبان بالليل، ليوث بالنهار. ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. قال: فلمّا فرغ نبيّهم شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة فدخل فيها، فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إيّاها، فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه فى وسطها. ذكر قصة إرميا عليه السلام قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: استخلف الله تعالى على بنى إسرائيل بعد قتلهم شعيا عليه السلام رجلا منهم يقال له «ناشية بن آموص» ، وبعث لهم الخضر نبيّا. قال: واسم سمّى الخضر إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون ابن عمران. قال: وإنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهى تهتزّ «3» خضراء. فقال الله عزّ وجل لإرميا حين بعثه إلى بنى إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فى بطن أمّك قدّستك، ومن

قبل أن أخرجك من بطن أمّك طهّرتك، ومن قبل أن تبلغ السّعى نبّأتك، ولأمر عظيم اجتبيتك؛ فذكّر قومك نعمى، وعرّفهم أحداثهم، وادعهم إلىّ. وكانت الأحداث قد عظمت فى بنى إسرائيل فركبوا المعاصى واستحلّوا المحارم. فقال إرميا: إنى ضعيف إن لم تقوّنى، عاجز إن لم تنصرنى. فقال الله عزّ وجل: أنا ألهمك. فقام إرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عزّ وجل خطبة طويلة بليغة، بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال فى آخرها: وإنى أحلف بعزّتى لأقيّضنّ لهم فتنة يتحيّر فيها الحكيم، ولأسلّطنّ عليهم جبّارا قاسيا قلبه، ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله تعالى إلى إرميا: إنّى مهلك بنى إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. فلمّا سمع ذلك إرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه. فلمّا سمع الله عزّ وجل تضرّعه وبكاءه ناداه: يا إرميا، أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا ربّ، أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسرّ به. فقال الله عز وجل: وعزّتى لا أهلك بنى إسرائيل حتى يكون الأمر فى ذلك من قبلك. ففرح بذلك إرميا وطابت نفسه وقال: لا والذى بعث موسى بالحقّ لا أرضى بهلاك بنى إسرائيل. ثم أتى الملك فأخبره بذلك، وكان ملكا صالحا، ففرح واستبشر وقال: إن يعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة، وإن عفا عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحى ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا فى الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بختنصّر فخرج فى ستمائة ألف رأية يريد بيت المقدس. فلمّا فصل «1» سائرا أتى الخبر الملك فقال لإرميا: أين ما زعمت أنّ الله أوحى إليك؟ فقال إرميا: إن الله عزّ وجلّ

لا يخلف الميعاد وأنا به واثق. فلمّا قرب الأجل وعزم الله عز وجل على هلاكهم بعث الله تعالى إلى إرميا ملكا فتمثّل له رجلا من بنى إسرائيل فقال له: يا نبىّ الله، أستفتيك فى أهل رحمى، وصلت أرحامهم ولم آت اليهم إلا حسنا، ولا يزيد إكرامى إيّاهم إلا إسخاطا لى، فأفتنى فيهم. فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه فى صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له إرميا: أو ما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ فقال: يا نبىّ الله، والذى بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا قدّمتها إليهم وأفضل. فقال له إرميا: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم، واسأل الله تعالى الذى أصلح عباده الصالحين أن يصلحهم. فقام الملك فمكث أيّاما وقد نزل بختنصّر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وشقّ عليهم. فقال ملكهم لإرميا: يا نبىّ الله، أين ما وعدك الله؟ قال: إنى بربّى واثق. ثم أقبل الملك إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس وهو يضحك ويستبشر بنصر ربّه الذى وعده، فقعد بين يديه وقال له: أنا الذى أتيتك فى شأن أهلى مرّتين. فقال إرميا: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه؟ فقال الملك: يا نبىّ الله، كل شىء يصيبنى منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم فى عمل لا يرضى الله عزّ وجل. فقال إرميا: على أىّ عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله، فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك. وإنى أسألك بالله الذى بعثك بالحقّ إلّا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلمّا خرجت الكلمة من فم إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء فى بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.

فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، أين ميعادك الذى وعدتنى! فنودى: إنه لم يصبهم الذى أصابهم إلّا بفتياك ودعائك. فاستيقن إرميا أنها فتياه، وأن ذلك السائل كان رسول ربه. فطار إرميا حتى خالط الوحوش. ودخل بخنتصّر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس؛ ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه؛ ثم أمرهم أن يجمعوا من كان فى بلدان بيت المقدس كلّهم، فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بنى إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبىّ، وقيل سبعين ألف صبىّ. فلمّا خرجت غنائم جنده لتقسم قال له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمها كلها، فآقسم بيننا هؤلاء الصّبيان الذين اخترتهم من بنى إسرائيل، ففعل ذلك، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة غلمة. وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل «1» ، وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف ابن يعقوب، وأخيه بنيامين عليه السلام، وثمانية آلاف من سبط أشرس «2» بن يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط ريالون «3» بن يعقوب ونفتالى «4» بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل «5» ولاوى ابنى يعقوب، ومن بقى من بنى إسرائيل.

ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك

قال: وجعل بختنصّر من بقى «1» من بنى إسرائيل ثلاث فرق، فثلثا أقرّ بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل. وذهب بآنية بيت المقدّس وسلب حليّة حتى أقدم ذلك بابل، فكان على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلىّ. فذلك قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعنى بختنصّر وأصحابه فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا «2» فهذه الواقعة الأولى التى أنزلها الله ببنى إسرائيل لاختلافهم وظلمهم. ولنصل هذا الفصل بخبر بختنصّر. ذكر خبر بختنصر وابتداء أمره وكيف ملك يقال فى اسمه: بختنصّر (بتشديد الصاد وإسكانها) ويقال فيه: بختناصر «3» . وقد اختلف فى أمره، فقال قوم: إنه ملك الدنيا أجمع. وقال آخرون: بل ملك بابل وما افتتحه. وقال قوم: إنما كان مرزبانا للهراسف الفارسىّ. وقال قوم: كان أصله من أبناء الملوك، وقيل: بل كان من الفقراء. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما نقف عليه من ذلك. فمن ذلك ما رواه أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسير قوله عز وجل: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ.. الآيات بسند رفعه إلى سعيد بن جبير قال: كان رجل من بنى إسرائيل يقرأ التوراة، حتى إذا بلغ «بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد» بكى وفاضت عيناه ثم أطبق المصحف وقال: أى ربّ أرنى هذا الرجل الذى جعلت هلاك بنى إسرائيل على يديه؛ فأرى

فى المنام مسكين ببابل يقال له بختنصّر، فانطلق بمال وأعبد له وكان رجلا موسرا. فقيل له: أين تريد؟ قال: أريد التجارة. فسار حتى نزل بابل، فنزل دارا فاكتراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه. فقال: هل بقى مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصّر. فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال له: ما اسمك؟ قال بختنصّر. فقال لغلمته: احتملوه، فنقله إليه فمرّضه حتى برئ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيلىّ بالرحيل، فبكى بختنصّر. فقال له الإسرائيلىّ: ما يبكيك؟ قال: أبكى أنك فعلت بى ما فعلت، ولا أجد شيئا أجزيك به. قال: بلى، شيئا يسيرا. فقال له: وما هو؟ قال: إن ملّكت أطعتنى. فجعل يتبعه ويقول: تستهزئ بى! ولا يمنعه من أن يعطيه ما سأله إلّا أنه يرى أنه يستهزئ به. فبكى الإسرائيلى وقال: لقد علمت ما يمنعك مما سألتك إلّا أنّ الله تعالى يريد أن ينفّذ ما قد أمضى وكتب فى كتابه. قال: وضرب الدهر ضربانه «1» فقال صيحون «2» وهو ملك فارس ببابل: لو أنّا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف فارس، وخرج بختنصّر فى مطبخه لا يخرج إلا ليأكل من مطبخه [ويعيش منه «3» ] . فلمّا قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر خلق الله فرسانا ورجالا، فكسر ذلك فى ذرعه فلم يسأل. فجعل بختنصّر يجلس فى مجالس

أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل! فلو غزوتموها فما دون بيت ما لها شىء. قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل، حتى انتفذ مجالس أهل الشام. ثم رجع أمير الطليعة فأخبر الملك بما رأى. وجعل بختنصّر يقول لفوارس الملك: لو دعانى الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان. فرفع ذلك إلى الملك فدعاه، فقال: إنّ فلان لمّا رأى أكثر أرض الله كراعا «1» ورجالا كسر ذلك فى ذرعه ولم يسألهم عن شىء، وإننى لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لى كذا وكذا. فقال صاحب الطليعة لبختنصّر: بصحبتى لك مائة ألف دينار وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتنى بيت مال بابل ما نزعت. فضرب الدهر ضربانه فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل الى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا وإلّا استبلوا ما قدروا عليه. قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: بل الرجل الذى أخبرنى بما أخبرنى. فدعا بختنصّر وأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخرّبوا ولم يقتلوا. ومات صيحون الملك، فقالوا: استخلفوا رجلا. فقالوا: على رسلكم حتى يأتى أصحابكم فإنهم فرسانكم. فأمهلوا [وأخرّوا «2» ذلك] حتى جاء بختنصّر بالسّبى وما معه، فقسم ذلك فى الناس. فقالوا: ما رأينا أحدا أحقّ بالملك من هذا فملّكوه. قال: وقال السّدّىّ بإسناده: إنّ رجلا من بنى إسرائيل رأى فى المنام أنّ خراب بيت المقدس وهلاك بنى إسرائيل على يدى غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بختنصّر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم. فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب. فلمّا جاء وعلى رأسه الحطب ألقى الحزمة ثم قعد فى جانب

من البيت، فكلّمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم وقال: اشتر بهذه طعاما وشرابا، فاشترى بدرهم لحما، وبدرهم خبزا، وبدرهم خمرا؛ فأكلوا وشربوا، حتى إذا كان اليوم الثانى فعل به كذلك؛ وفى اليوم الثالث كذلك. ثم قال: إنى أحبّ أن تكتب لى أمانا إن أنت ملّكت يوما من الدهر. قال: تسخّر منّى؟ قال: إنى لا أسخر منك، ولكن ما عليك أن تتّخذها عندى يدا! فكلّمته أمّه فقالت: ما عليك إن كان، وإلّا لم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا. فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بينى وبينك فاجعل لى آية تعرفنى بها. قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إنّ ملك بنى إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا عليهما السلام ويدنى مجلسه ويستشيره فى أمره ولا يقطع أمرا دونه، وإنه هوى أن يتزوّج بنت امرأته. - قال وقيل: كانت بنت أخيه، قال الثعلبىّ: وهو الأصحّ «1» إن شاء الله- فسأله عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لن أرضاها لك. فبلغ ذلك أمّها فحقدت على يحيى عليه السلام حين نهاه أن يتزوّج بنتها، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمراء وطيبّتها وألبستها من الحلىّ، وألبستها فوق ذلك كساء أسود وأرسلتها الى الملك، وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرّض إليه، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا فى طست، ففعلت. فلمّا أخذ منه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتى تعطينى ما أسألك. قال: ما تسألينى؟ قالت: أسألك

أن تبعث إلى يحيى بن زكريّا فتؤتى برأسه فى طست. فقال: ويحك! سلينى غير هذا. قالت: ما أريد إلّا هذا. فلمّا أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه، والرأس يتكلّم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك. فلمّا أصبح إذا دمه يغلى، فأمر بتراب فألقى عليه، فرقى الدم فوق التراب يغلى، فألقى عليه أيضا فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقى عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو فى ذلك يغلى. فبلغ صيحون ملك بابل ذلك فنادى فى الناس، وأراد أنّ يبعث إليهم جيشا [ويؤمّر عليهم رجلا «1» ] . فأتاه بختنصّر فكلّمه وقال: إنّ الذى كنت أرسلت تلك المرّة ضعيف، وإنّى قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهليها [فابعثنى «2» ] فبعثه. فسار بختنصّر، حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصّنوا منه فى مدائنهم فلم يطقهم. فلمّا اشتدّ عليه المقام وجاع أصحابه وأرادوا الرجوع خرجت امرأة عجوز من عجائز بنى إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه. فقالت: إنه بلغنى أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة. قال: نعم، قد طال مقامى وجاع أصحابى، فلست أستطيع المقام فوق الذى كان منّى. فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطينى ما أسألك، فتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ فقال لها نعم. قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم اجعل فى كل زاوية ربعا، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنّا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريّا، فإنها سوف تسّاقط، ففعلوا؛ فتساقطت المدينة فدخلوا من جوانبها. فقالت: كفّ يدك واقتل على هذا الدم حتى يسكن، وانطلقت به الى دم يحيى بن زكريّا، وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن، فقتل سبعين ألفا. فلمّا سكن الدم قالت له: كفّ يدك فإنّ الله تعالى إذا قتل نبىّ لم يرض حتى يقتل من قتله ومن رضى قتله. وأتاه

ذكر خبر بختنصر مع دانيال

صاحب الصحيفة بصحيفته فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرّب بيت المقدس وأمر أن تطرح الجيف فيه، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة. قال: وأعانه الروم على خرابه من أجل أنّ بنى إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. قال: فلمّا خرّبه بختنصّر ذهب معه بوجوه بنى إسرائيل وسراتهم وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت الملك، فلمّا قدم وجد صيحون ملك بابل قد مات فملّك مكانه. ذكر خبر بختنصّر مع دانيال قال: ولمّا سار بختنصّر إلى بابل وملّك بعد موت الملك كان معه دانيال، وكان أكرم الناس عليه هو وأصحابه، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إليه وقالوا: إنّ دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك. فدعاهم فسألهم؛ فقالوا: أجل، إنّ لنا ربّا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم. فأمر أن يخدّ» لهم أخدود فخدّ لهم وألقوا فيه وهم ستّة، وألقى معهم سبع ضار ليأكلهم، ثم قال: اذهبوا بنا لنأكل ونشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم عادوا فوجدوهم سبعة والسبع مفترش ذراعيه بينهم ولم يخدش منهم أحدا. فقالوا: ما بال هذا السابع إنما كانوا ستّة! فخرج السابع إلى بختنصّر، وكان ملكا من الملائكة، فلطمه لطمة فصار من الوحش [ومسخه «2» الله] سبع سنين، [ثم ردّه الله الى صورته وردّ عليه ملكه «3» ] . هذا ما حكاه السّدىّ. وروى الثعلبىّ بسنده إلى وهب قال: لمّا سار بختنصّر الى بابل وملّك بعد موت ملكها واستتبّ أمره لبث على ذلك مدّة، ثم رأى رؤيا عجيبة فأفزعته وسأل عنها الكهنة والسحرة فعجزوا عن تعبيرها. فبلغ ذلك دانيال وكان فى السجن

مع أصحابه وقد أحبّه صاحب السجن وأعجب به لمّا رأى من حسن سمته. فقال له دانيال: إنك قد أحسنت إلىّ، وإنّ صاحبكم قد رأى رؤيا، فدلّه علىّ لأعبرّها له. فجاء السجّان فأخبر بختنصّر بقصّة دانيال، فاستدعاه فجاء إليه. وكان من عادة من حضر بين يدى الملك أن يسجد له، فلما أتوا بدانيال قام بين يديه ولم يسجد له. فقال: ما الذى منعك من السجود؟ فقال: إن لى ربّا آتانى العلم والحكمة وأمرنى ألّا أسجد لغيره، فخشيت إن سجدت لغيره أن ينزع منّى الحكمة والعلم ويهلكنى. فأعجب به وقال: نعم ما فعلت حيث وفّيت بعهده، وأجللت علمه؛ ثم قال: هل عندك علم هذه الرؤيا؟ قال: نعم وأبشر، فأخبره برؤيا قبل أن يخبره الملك بها، وعبّرها له. قال الثعلبىّ: وكانت الرؤيا على ما أخبرنا به عبد الله بن حامد فى إسناده عن وهب بن منبّه قال: إنّ بختنصّر رأى فى آخر زمانه صنما رأسه من ذهب، وصدره من فضّة، وبطنه من نحاس، وفخذاه من حديد، وساقاه من فخّار، ثم رأى حجرا من السماء وقع عليه فدقّه، ثم ربا الحجر حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها فى الأرض وفرعها فى السماء، ثم رأى عليها رجلا بيده فأس وسمع مناديا ينادى: اضرب جذعها ليتفرّق الطير من فروعها، وتتفرّق الدوابّ والسباع من تحتها، واترك أصلها قائما. فعبّرها دانيال عليه السلام له فقال: أمّا الصنم الذى رأيت، فأنت الرأس وأنت أفضل الملوك. وأما الصدر الذى من فضة فابنك يملك من بعدك. وأما البطن الذى رأيت من نحاس فملك يكون بعد ابنك. وأما ما رأيت من الفخذين من حديد فيتفرّق الناس فرقتين فى فارس يكون أشدّ الملوك. وأما الفخّار فآخر ملكهم يكون دون الحديد. وأما الحجر الذى رأيته قد ربا حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبىّ يبعثه الله تعالى فى آخر الزمان فيفرّق ملكهم كلّه، ويربو ملكه حتى يملأ ما بين المشرق والمغرب.

وأما الشجرة التى رأيت والطير التى عليها والسّباع والدوابّ التى تحتها وما أمر بقطعها، فيذهب ملكك ويردّك الله طائرا تكون نسرا ملك الطير، ثم يردّك الله ثورا ملك الدوّاب، ثم يردّك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين، وفى كل ذلك قلبك قلب إنسان، حتى تعلم أنّ الله له ملك السموات والأرض، يقدر على الأرض ومن عليها، وكما رأيت أصلها قائما فإن ملكك قائم. قال: فمسخ بختنصّر نسرا فى الطيور، وثورا فى الدوّاب، وأسدا فى السباع، فكان مسخه كله سبع سنين، ثم ردّ الله تعالى إليه ملكه، فآمن ودعا الناس إلى الله تعالى. قال: وسئل وهب بن منبّه: أكان بختنصّر مؤمنا؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم من قال: مات كافرا؛ لأنه حرّق بيت المقدس وكتب الله وقتل الأنبياء، فغضب الله تعالى عليه ولم يقبل توبته. قالوا: فلمّا عبّر دانيال لبختنصّر رؤياه أكرمه وصحبه واستشاره فى أموره وقرّبه منه حتى كان أكرم الناس عليه وأحبّهم إليه، فحسده المجوس على ذلك ووشوا به وبأصحابه الى بختنصّر فقالوا: إنّ دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون ذبيحتك. فدعاهم وسألهم فقالوا: إنّ لنا ربّا نعبده ولسنا نأكل من ذبائحكم. فأمر بختنصّر بأخدود، فخدّ لهم وألقوا فيه، وهم ستّة، وألقى معهم سبع ضار ليأكلهم، ثم قالوا: انطلقوا لنأكل ونشرب، فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم ولم يخدش منهم أحدا ولم ينكأهم «1» بشىء، ووجدوا معهم رجلا فعدوّهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما

كانوا ستّة! فخرج إليهم السابع، وكان ملكا من الملائكة، فلطم بختنصّر لطمة فصار فى الوحوش، ومسخه الله تعالى سبع سنين ثم ردّه الله تعالى إلى صورته وردّ عليه ملكه. قال السّدىّ: ثم إن بختنصر لمّا رجع إلى صورته بعد المسخ وردّ الله تعالى عليه ملكه، كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فحسدته المجوس ووشوا به ثانية فقالوا لبخنتصّر: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عار. فجعل بختنصّر لهم طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وقالوا للبوّابين: أنظروا أوّل من يخرج إليكم ليبول فاضربوه بالطّبرزين «1» ، وإن قال لكم أنا بختنصّر فقولوا له: كذبت، بختنصّر أمرنا بهذا. فحبس الله تعالى عن دانيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصّر. فقام مدلّا وذلك ليلا، فخرج يسحب ثيابه، فشدّ عليه البوّاب فقال: أنا بختنصّر. فقال: كذبت، بختنصّر أمرنى أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله. وحكى محمد بن إسحاق بن يسار فى سبب هلاك بختنصّر غير ما حكاه السّدّىّ، وذلك أنه قال بإسناده: لمّا أراد الله تعالى هلاك بختنصّر انبعث فقال لمن كان فى يده من بنى إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذى خرّبته، وهؤلاء الناس الذين قتلتهم من هم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده، وهؤلاء أهله، كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدّوا وعصوا، فسلّطت عليهم بذنوبهم، وكان ربّهم ربّ السموات والأرض وربّ الخلق كلهم، يكرمهم ويمنعهم

ويعزّهم، فلمّا فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله تعالى وسلّط عليهم غيرهم. قال: فأخبرونى ما الذى يطلع بى الى السماء العليا لعلّى أطّلع إليها وأقتل من فيها وأتّخذها ملكا فإنى قد فرغت من الأرض ومن فيها؟ قالوا: ما يقدر على هذا أحد من الخلائق. قال: لتفعلنّ أو لأقتلّنكم عن آخركم. فبكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى، فبعث الله عز وجل عليه بقدرته ليريه ضعفه وهوانه بعوضة فدخلت فى منخره ثم ساخت فيه حتى عضّت بأمّ دماغه فما يقرّ ولا يسكن حتى يوجأ «1» له رأسه على أمّ دماغه. فلمّا عرف أنه الموت قال لخاصّته من أهله: اذا متّ فشقّوا رأسى فانظروا ما هذا الذى قتلنى. فلمّا مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضّة بأمّ دماغه ليرى الله تعالى عباده قدرته وسلطانه، ونجّى الله تعالى من بقى فى يديه من بنى إسرائيل وردّهم إلى إيليا والشام، فبنوا فيه وربوا وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه. قال: فيزعمون أنّ الله تعالى أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا ولحقوابهم. قال: ثم إنهم لمّا رجعوا الى الشام وقد أحرق التوراة وليس معهم عهد من الله تعالى جدّد الله عز وجل توراتهم وردّها عليهم على لسان عزير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان عمر بختنصّر بأيام مسخه نيّفا وخمسين سنة وخمسين يوما. فلمّا مات بختنصّر استخلف [ابنه «2» ] بلسطاس «3» . وكانت آنية بيت المقدّس التى حملها بختنصّر إلى بابل باقية، فنجّسها بلحوم الخنازير وأكل وشرب فيها، وأقصى دانيال ولم يقبل منه، واعتز له دانيال. فبينما بلسطاس ذات يوم إذ بدت له كف بغير ساعد وكتبت ثلاثة أحرف بمشهده ثم غابت، فعجب من ذلك ولم يدر ما هى، فاستدعى دانيال واعتذر اليه وسأله أن يقرأ تلك الكتابة ويخبره بتأويلها. فقرأها دانيال، فإذا

هى: «بسم الله الرحمن الرحيم. وزن فخفّ «1» ، ووعد فنجز، وجمع فتفرّق» . فقال دانيال: أمّا قوله وزن فخفّ، أى وزن عملك فى الميزان فخفّ. ووعد ملك فنجز اليوم، وجمع فتفرّق، أى جمع لك ولوالدك من قبلك ملك عظيم فتفرّق اليوم فلا يرجع إلى يوم القيامة. فلم يلبث إلا قليلا حتى أهلكهم الله تعالى وضعف ملكهم، وبقى دانيال بأرض بابل إلى أن مات بالسّوس «2» . فهذه الأقاويل التى وردت فى بختنصّر هى على ما جاء فى التفسير «3» والمبتدا «4» . وأمّا قول من قال إنه كان مرزبانا للهراسف الملك الفارسىّ فسنذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار ملوك الفرس، على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى فى موضعه وهو فى الباب الثالث من القسم الرابع من هذا الفنّ فى السفر الثالث عشر من هذه النسخة من كتابنا هذا. وهذه الاخبار التى قدّمنا ذكرها أوردها أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره وفى كتابه المترجم ب «يواقيت البيان فى قصص القرآن» . وقال فى تفسيره: إلّا أنّ رواية من روى أن بختنصّر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريّا عليهما السلام غلط عند أهل السّير والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين. وذلك أنهم مجمعون على أن بختنصّر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا وفى عهد إرميا بن حلقيّا عليهم السلام، وهى الوقعة الأولى التى قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعنى بختنصّر وجنوده. قال الثعلبىّ قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بختنصّر البيت المقدّس الى مولد يحيى بن زكريّا أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة. والله أعلم.

ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خربه بختنصر وخبر الذى مر على قرية

ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خرّبه بختنصّر وخبر الذى مرّ على قرية قال الله عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ «1» ... الآية. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: اختلفوا فى ذلك المارّ من كان، فقال عكرمة وقتادة والرّبيع بن أنس والضحّاك والسّدّىّ وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة «2» وسلم الخوّاص: هو عزير بن شرخيا. وقال وهب بن منبّه وعبد الله بن عبيد ابن عمير: هو إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون بن عمران، وقد تقدّم ذكره. قال: واختلفوا أيضا فى القرية التى مرّ عليها، فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع: هى بيت المقدس. وقال الضحّاك: هى الأرض المقدّسة. وقال ابن زيد: هى الأرض التى أهلك الله تعالى بها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وقال الكلبىّ: هى دير سابرا باذ. وقال السّدّىّ: هى سلماباذ. وقيل: هى ذيرهزقل «3» . وقيل: هى قرية العنب، وهى على فرسخين من بيت المقدس.

قال فالذى يقول: إن المارّ إرميا وإنّ القرية بيت المقدّس، هو ما رواه محمد ابن إسحاق بن يسار عن وهب بن منبّه: أنه لمّا كان من أمر إرميا ما قدّمناه، وأنه طار لمّا التهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبواب بيت المقدس حتى خالط إرميا الوحش ودخل بختنصّر وجنوده بيت المقدس وخرّب كما تقدّم. فلمّا رجع بختنصّر عن بيت المقدّس أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب فى ركوة «1» وسلّة تين حتى غشى إيلياء «2» . فلمّا وقف عليها ورأى خرابها قال: «أنّى يحيى هذه الله بعد موتها» !. قال: ثم ربط إرميا حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلمّا نام نزع منه الرّوح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله تعالى عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه. فلمّا مضى من نومه سبعون سنة أرسل الله عز وجل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: «بوسك «3» » فقال له: إن الله عز وجل يأمرك أن تنفر بقومك فتعمّر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت، فانتدب الملك ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، فجعلوا يعمّرونها فعمّرت، ونجّى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل ولم يمت ببابل أحد منهم وردّهم الله تعالى إلى بيت المقدس وعمّروها ثلاثين سنة حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه؛ وذلك بعد أن خرّبت سبعين سنة. فلمّا مضت المائة سنة أحيا الله عز وجل منه عينيه وسائر جسده ميّت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرّقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيّتها العظام البالية إن الله

يأمرك أن تجتمعى، فاجتمع بعضها إلى بعض واتّصل بعضها ببعض. ثم نودى: إن الله يأمرك أن تكتسى لحما وجلدا فكان كذلك. ثم نودى: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق. وعمّر الله تعالى إرميا، فهو الذى يرى فى الفلوات؛ فذلك قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أى أحياه قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وذلك أن الله تعالى أماته ضحى فى أوّل النهار وأحياه بعد مائة عام فى آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: «لبثت يوما» ، وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيّة من الشمس فقال: «أو بعض يوم» ، بمعنى بل بعض يوم قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعنى التّين وَشَرابِكَ يعنى العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ أى لم يتغيّر وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» . قال وهب: ليس فى الجنة كلب ولا حمار إلا كلب أصحاب أهل الكهف وحمار إرميا الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه. هذا قول من قال إنه إرميا بن حلقيّا. وأمّا من قال إنه عزير، فإنه يقول: إنّ بختنصّر لمّا خرّب بيت المقدس قتل أربعين ألفا من قرّاء التوراة والعلماء، وقتل منهم أبا عزير وحده. وكان عزير يومئذ غلاما قد قرأ التوراة وتقدّم فى العلم، وأقدمه بختنصّر مع بنى إسرائيل إلى أرض بابل، وهو من ولد هارون. فلمّا نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتى نزل على دير هزقل على شطّ دجلة، وطاف فى القرية فلم يرفيها أحدا، وعامّة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب وشرب منه، وجعل فضل الفاكهة

فى سلّة وفضل العصير فى زقّ. فلمّا رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها الآية، وساق فيه نحو ما تقدّم فى خبر إرميا. وقال قوم فى قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ إنّ الله تعالى لم يمت حماره فأحيا الله تعالى عينيه ورأسه وسائر جسده ميّت فقال له: «أنظر الى حمارك» فنظر الى حماره قائما كهيئته يوم ربطه حيّا، لم يطعم ولم يشرب مائة عام، ونظر الى الرّمّة فى عنقه جديدة؛ وهذا قول الضحّاك وقتادة. وقال الآخرون: أراد عظام حماره كما تقدّم فى قصّة إرميا. وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أى عبرة ودلالة على البعث بعد الموت. وقال الضحّاك: وهو أنه عاد إلى قريته وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللّحية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أحيا الله تعالى عزيرا بعد مائة سنة، فركب حماره حتى جاء محلّته «1» ، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله، فانطلق على وهم حتى أتى منزله، وإذا هو بعجوز عمياء قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، وكانت أمة لهم، فخرج عنهم عزير وهى ابنة عشرين سنة، وكانت قد عرفته وعقلته؛ فلما أصابها الكبر والزّمن «2» قال لها عزير: يا هذه، هذا منزل «3» عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس. قال: فإنى عزير. قالت: سبحان الله! فإنّ عزيرا قد فقدناه من مائة سنة. قال: فإنّى أنا عزير، إنّ الله أماتنى مائة سنة ثم بعثنى. قالت: فإن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله

يردّ علىّ بصرى حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربّه تعالى فاستجاب له ومسح بيده على وجهها وعينيها فصحّتا، وأخذ بيدها وقال لها: قومى بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت اليه فقالت: أشهد أنك عزير. فانطلقت إلى محلّة بنى إسرائيل وهم فى أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة وبنو ابنه شيوخ فى المجالس، فنادت: هذا عزير قد قدم وجاءكم، فكذّبوها. فقالت: وأنا فلانة مولاتكم دعا لى ربّه فردّ الله علىّ عبنىّ وأطلق رجلىّ، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه. فنهض الناس وأقبلوا إليه، فقال ابنه: إنه كان لأبى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه وإذا هو عزير. وأمّا خبر فتنة اليهود به وقولهم عزير ابن الله، فقد روى عطيّة العوفىّ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان عزير من أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ، وكان التابوت فيهم. فلمّا رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، وأرسل عليهم مرضا، فاستطلقت بطونهم، حتى إنّ الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم. وكان عزير دعا الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذى نسخ من صدورهم. فبينما هو يصلّى ويبتهل إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل فى جوفه، فعاد إليه الذى كان ذهب من التوراة، فأذّن فى قومه فقال: يا قوم، قد أتانى الله التوراة وردّها إلىّ، فطفق يعلّمهم، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلّمهم. ثم إنّ التابوت نزل بعد ذلك. فلمّا رأوا

التابوت عرضوا ما كان فيه على الذى كان يعلّمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أوتى عزير هذا إلّا وهو ابن الله. وقال السّدّىّ وابن عبّاس فى رواية عمّار بن ياسر: إنما قالت اليهود هذا لأنّ العمالقة ظهرت عليهم فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا التوراة فى الجبال وغيرها، ولحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد فى رءوس الجبال ولا يخالط الناس ولا ينزل إلّا يوم عيد، وجعل يبكى ويقول: يا ربّ تركت بنى إسرائيل بغير عالم، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرّة الى العيد، فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد تمثّلت له عند قبر من القبور تبكى وتقول: يا مطعماه، ويا كاسياه!. فقال لها عزير: يا هذه اتقى الله واصبرى واحتسبى، أما علمت أنّ الموت مكتوب على الناس!. وقال لها: ويحك! من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل؟ (يعنى زوجها التى كانت تندبه) . قالت له: الله تعالى. قال: فإن الله تعالى حىّ لا يموت. فقالت: يا عزير، من كان يعلّم العلماء قبل بنى إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكى عليهم وقد علمت أنّ الموت حقّ وأن الله حىّ لم يمت. فلمّا علم عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا. فقالت له: يا عزير، لست بامرأة ولكنّى الدنيا. أما أنه ستنبع لك فى مصلّاك عين وتنبت لك شجرة، فكلّ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين؛ فإنه سيأتيك شيخ، فما أعطاك فخذ منه. فلمّا أصبح نبعت العين فى مصلّاه ونبتت الشجرة، ففعل ما أمرته به، وجاء شيخ وقال له: افتح فاك، ففتح فاه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرّات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك. قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلّا زيد فى علمه، فرجع إليهم وهو أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بنى إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا:

يا عزير، ما كنت كذّابا. فربط على كلّ إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة كلّها عن ظهر قلبه، فأحيا لبنى إسرائيل التوراة وأحيا لهم السّنّة. فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التى كانوا دفنوها، فعارضوا بها توراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله تعالى هذا إلّا أنه ابنه. وقال الكلبىّ: إنّ بختنصّر لمّا ظهر على بنى إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل مرّة قرّاء التوراة، كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا، فاستضعفه فلم يقتله، ولم يدر أنه يقرأ التوراة. فلمّا توفّى مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة بعث الله عز وجل عزيرا ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية، فأتاهم فقال: أنا عزير. فكذّبوه وقالوا: إن كنت عزيرا كما تزعم فاتل علينا التوراة. فكتبها وقال: هذه التوراة. ثم إنّ رجلا قال: إنّ أبى حدّثنى عن جدّى أن التوراة جعلت فى خابية ثم دفنت فى كرم. فانطلقوا معه حتى احتفروها وأخرجوا التوراة، فعارضوها بما كتب عزير فلم يجدوه غادر منها [آية ولا «1» ] حرفا، فعجبوا وقالوا: إن الله لم يقذف التوراة فى قلب رجل واحد منّا بعد ما ذهبت من قلوبنا إلّا أنه ابنه؛ فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.

الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة ذى النون يونس بن متى عليه السلام وخبر بلوقيا

الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا ذكر قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام قال الكسائىّ رحمه الله قال وهب بن منبّه: كان متّى رجلا صالحا من أهل بيت النبوّة، ولم يرزق الولد الى آخر عمره بعد أن أسنّ هو وزوجته، فسأل الله تعالى الولد، فنودى: إنّ الله قد استجاب دعاءك، فانطلق إلى حضيرة التوبة، وهو الموضع الذى أمر الله تعالى بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فيه لمّا عبدوا العجل. فصار إلى هناك وإذا بملك قد هبط من السماء فضرب قبة على باب حضيرة التوبة، وذلك فى ليلة عاشوراء، وأمرهما أن يدخلاها فدخلا وواقعها، فحملت بيونس، ثم انصرفا إلى منزلها. فلمّا صار لها أربعة أشهر توفّى متّى وبقيت امرأته أرملة ليس لها إلّا قصعة كانت لآل هارون، فكانت تصيب رزقها فى المساء والصباح من عند الله. فلمّا وضعت يونس لم يكن لها لبن يكفيه، فكانت أمّه تأتى إلى الرّعاة وتسألهم اللبن فلا يجيبونها، فكانت تقول: اللهمّ هذا الولد هبتك فلا تهلكه جوعا، فكانت المواشى تأتيه وتمجّ «1» عليه بضرعها حتى يشبع، فإذا شبع يقول: الحمد لله «2» ، فآمن به جماعة من الرّعاة، فبقى كذلك حتى فطمته أمه،

وكان يسمّى يتيم بنى إسرائيل، حتى أتت عليه سبع سنين، فأقبل على أمه فقال: يا أمّاه، لا ينبغى أن تذهب أيّامى بالبطالة، وأريد أن تلبسينى ثوبا من الصوف حتى ألحق بالعبّاد وأكون معهم. فقالت: يا بنىّ، أنت صغير ولم يأن لك أن تسيح. فلم يزل بأمّه حتى أجابته إلى ذلك ولحق بالعبّاد واشتهر ذكره فيهم بكثرة العبادة حتى استكمل من العمر خمسا وعشرين سنة، فرأى فى منامه: إنّ الله يأمرك أن تمضى الى مدينة الرّملة «1» فإنّ فيها وليّا من أوليائى وله ابنة عفيفة فتزوّجها منه. فلمّا أصبح عزم على المسير، وصحبه جماعة من بنى إسرائيل من أصحابه، وسار حتى دخل مدينة الرّملة، وسأل عنه فقيل: إنه فى السّوق يبيع ويشترى. فعجب يونس من ذلك وجاء الى السّوق فرآه وهو يبيع الطّيب ويكثر الضّحك. فقال يونس: ليس هذا من صفات الأولياء والعبّاد. فنظر إليه زكريّا «2» وقام إليه وصافحه وسلّم عليه باسمه واسم أبيه. قال: وكيف عرفتنى؟ قال: رأيتك فى المنام وأمرت أن أزوّج ابنتى منك. وتوجّه به إلى منزله وقدّم له الطعام فأكلا، وذكر له رؤياه وأنها سبب مسيره الى الرملة، ثم سأله عن مكسبه بالبيع والشراء فقال: أمّا البيع والشراء فمباح، والتاجر فاجر إلّا من أخذ الحقّ وأعطاه، واتقى الله ولم يمدح سلعته. فلمّا أقبل الليل نزع زكريّا ما كان عليه من الثياب ولبس الصوف ودخل محرابه ولم يزل فى صلاته ودعائه وتضرّعه حتى أصبح، فنزع الصوف ولبس ما كان عليه بالأمس وبرز إلى السوق ويونس معه، فكان ذلك دأبه. ثم زوّج ابنته من يونس ووهب لها بعض ماله. وأقام يونس عنده، ورزق الله يونس من زوجته ولدين ومات زكريّا، فاحتمل يونس زوجته إلى بيت

المقدس وأقام هناك يعبد الله تعالى. وشعيا يومئذ بيت المقدس وهو نبىّ فى بنى إسرائيل إلى أن بعث الله تعالى يونس نبيّا. قال: وكان فى بلاد نينوى «1» ملك «2» وكانت جيوشه كثيرة، قيل: إنها كانت تزيد على عشرة آلاف قائد «3» . وكان إذا غزا تكون معه تماثيل من الأسود والفيلة متّخذة من النحاس والحديد، يخرج من أفواهها لهب النّيران، ومعه رجال يلعبون بالنيران. فغزا هذا الملك بنى إسرائيل على هذه الصورة، فقتل من بنى إسرائيل وسبى، ثم عاد الى بلاد نينوى، وغزاهم ثانية وتكرّرت غزواته فيهم. فأوحى الله تعالى إلى شعيا نبىّ بنى إسرائيل أن يختار من عبّاد بنى إسرائيل أمينا قويّا يبعثه إلى بلاد نينوى رسولا إلى من بها من الملوك وغيرهم؛ فإنهم قد جحدوا حقّى وأنكروا معرفتى. فدخل شعيا على حزقيّا الملك وأمره أن ينادى فى عبّاد بيت المقدس، وبها يومئذ عشرة آلاف عابد، لباسهم الشعر والصوف ونعالهم الخوص، فنادى فيهم بالاجتماع فاجتمعوا، فآختار منهم ثلاثة واختار من الثلاثة يونس بن متّى، ثم قال له حزقيّا: إن الله أوحى إلى نبيّه شعيا أن يختار من جملة هؤلاء العبّاد والزّهّاد أعبدهم وأتقاهم، وقد وقع اختياره عليك لتبعث [إلى أهل «4» ] بلاد نينوى. قال يونس: إن فى بنى إسرائيل من هو أعبد منّى وأزهد، فابعث أيها الملك غيرى. قال: لا أبعث سواك، فانهض

ولا تخالفنى فإنّ هذا عن أمر الله. فانصرف يونس إلى أمّه وأخبرها الخبر واستشارها، فقالت: إن الله أنطق الملك فى حقّك بالرسالة فسر كما أمرت ولا تعص الله ونبيّنا شعيا وملكنا حزقيّا. فعزم على المسير وودّع أمّه وحمل أهله حتى بلغ شاطئ دجلة، فنزل هناك وفكّر فى أمره وضعفه وعياله وقال: كيف لى بمطاولة الجبابرة والفراعنة! وأقبل على أهله وقال: قد عزمت على الفرار، فنهاه أهله عن ذلك. فسكت وقام ليعبر دجلة إلى بلاد نينوى فعبر بولده الأكبر، ثم رجع وأخذ ولده الثانى. فلمّا توسّط دجلة زاد الماء فغرق ابنه الذى كان معه، وكان فى يده نقرة» من الذهب كان قد ورثها من حميه فغرقت، وجاء ذئب إلى ولده الذى عبربه فاحتمله. فصاحت المرأة: يا يونس، إن ابنك أخذه الذئب. فخرج من الماء يعدو خلف الذئب فالتفت إليه وقال: ارجع يا يونس فإنى مأمور، فرجع يونس باكيا على ولديه. فلمّا بلغ الشطّ لم ير أهله، فجلس يبكى. فأوحى الله إليه: إنك شكوت كثرة العيال، وقد أرحتك منهم، فاذهب الآن إلى قومك فإنى سأردّ عليك أهلك وولديك وأنا على كل شىء قدير. فطابت نفسه وسار حتى بلغ بلاد نينوى فتوسّط سوقها ونادى: يا قوم، قولوا بأجمعكم: لا إله إلا الله وأنّى يونس عبده ورسوله. فلمّا سمعوا ذلك أقبلوا على ملكهم وأخبروه به وبمقالته. فأحضره الملك وقال له: من أين أنت؟ قال: رسول الله إليك وإلى أهل مملكتك فآمنوا بى تنجوا من النار. فأمر الملك بحبسه ثم بعث إليه وزيره، وهو من أهل بيت المقدس، واسمه سنجير «2» ، فقال له: ادخل على هذا الرجل يونس وتعرّف أمره. فدخل عليه وسأله عن اسمه واسم أبيه، ومن أين أقبل وفيماذا جاء. فذكر له أنه رسول الله

إليهم. فقال له الوزير: أرى أن ترفق فإنى أخشى عليك من هذا الملك فإنه جبّار. وانصرف الوزير إلى الملك وقال له: قد عرفت الرجل، وقد ذكر أنه رسول من إله السماء. فهمّ الملك بقتله، فآستوهبه الوزير منه على أن يكون فى البلد ولا يقول مثل مقالته. فاستدعى الوزير يونس وذكر له ذلك. فقال له: أمّا القتل فلا أخشى منه، والرسالة فلا أتركها حتى يحكم الله بينى وبينه. ثم إنّ الملك خلّى سبيله على أنه مجنون. فلم يزل يونس يدعوهم إلى طاعة الله تعالى فى كل يوم عامّة نهاره، حتى إذا جاء المساء أتى شطّ دجلة فيصلّى حتى يصبح، ثم يعود إليهم والناس يضربونه ويرجمونه ويسبّونه حتى ضجر فاستغاث إلى ربّه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك دعوت القوم فلا تعجل عليهم وادعهم أربعين يوما، فإن آمنوا وإلّا جاءهم العذاب. فدعاهم حتى استكمل العدّة ولم يؤمنوا. فأوحى الله إليه أن اخرج من بين أظهرهم، فخرج حتى بلغ شاطئ دجلة، فقعد ينظر إلى العذاب كيف ينزل بالقوم. فأمر الله تعالى جبريل أن يرسل على قوم يونس سحابة فيها ألوان العذاب؛ فانطلق إلى مالك وأمره بذلك، فأخرج شرارة من الحطمة «1» على مثال سحابة سوداء مظلمة. فجاءت بها الزبانية حتى بلغت بلاد نينوى وانبسطت حتى أظلّت عليها، فظنّ القوم أنها مطر. فنظر وزير الملك إلى السحابة يخرج من أطرافها شرر النار، فدخل على الملك وقال: الحذر الحذر! فليست هذه سحابة مطر بل هى سحابة عذاب، وأخشى أن يكون ذلك لتكذيبنا يونس نبىّ الله. ثم قال: انظروا إلى يونس إن كان معكم فى بلدكم فلا تخافوا، وإن كان قد خرج عنكم فقد هلكتم. فطلبوا يونس فلم يجدوه. وجعلت السحابة تدنو حتى قربت منهم ورمتهم بشرر كالرّماد الأحمر لا يقع على

شىء إلّا أحرقه. فبينا الناس يقولون: أين نطلب يونس إذا هم بالملك قد خرج عليهم وجميع أصحابه وهم يقولون: أين أنت يا يونس! فإنا لا نعود إلى مخالفتك، فلم يجدوه. فأقبل عليهم سنجير الوزير وقال: أيها الملك، إن يكن يونس قد غاب عنّا فإن إلهه لم يغب، فتعالوا حتى نتضرّع إلى الله لعلّه يرحمنا. فخرجوا بأجمعهم ونسائهم وأطفالهم إلى ظاهر البلد يبكون ويتضرّعون، فقام سنجير فيهم وقال: إلهنا إنك أمرتنا أن نعتق رقاب عبيدنا وإمائنا ونحن عبيدك وإماؤك فأعتقنا. إلهنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فاغفر لنا واعف عنا. اللهم أعتقنا من عذابك فإنّا قد آمنا بنبيّك يونس وبجميع النبيّين فاغفر لنا ذنوبنا، ثم خرّوا سجّدا بأجمعهم. فأوحى الله تعالى إلى ملائكة العذاب أن ارجعوا، فانصرفت السحابة عنهم، وسمعوا صوتا: أبشروا يأهل نينوى برحمة من ربكم؛ فرجعوا إلى المدينة وقد آمنوا. وجاء يونس لينظر إلى ما نزل بهم من العذاب، فلقيه إبليس فى صورة شيخ. فقال له يونس: من أين أقبلت أيها الشيخ؟ [قال «1» ] : من نينوى. قال: فما نزل بهم اليوم؟ قال: ما نزل بنا إلّا سحابة بيضاء أمطرت مطرا جودا «2» ، وكان يونس قد وعدنا بالعذاب فلم يكن وعلمنا كذبه. فغضب يونس وقال: لا أعود إلى قوم كذّبونى، وسار. قال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «3» . قال مجاهد وقتادة والضّحاك والكلبىّ: معناه أن لن نقضى عليه بالعقوبة، وهى رواية العوفىّ عن ابن عبّاس؛ ودليل ذلك قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهرىّ «فظنّ أن لن نقدّر عليه» بالتشديد. وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه نضيّق عليه الحبس.

قال الكسائىّ: فلم يزل يسير حتى لحق بساحل البحر، فإذا هو بسفينة مارّة فلوّح إليهم فدخلوا إليه فقال: احملونى معكم فإنّى رجل منقطع غريب من بيت المقدس. فحملوه فقعد على كوثل «1» السفينة. فلمّا توسّطوا البحر هبّت عليهم رياح كثيرة من جميع الجوانب وأشرفوا على الغرق، فأخذوا فى الدعاء والتضرّع ويونس لا يتكلّم، فأقبل أهل السفينة عليه وقالوا: لم لم تدع أنت معنا؟ قال: لأنى مغموم لذهاب الأهل والولد. فلم يزالوا به حتى دعا، فازداد البحر هيجانا. قال يونس: اطرحونى فى البحر فإنّ هذا من أجلى. قالوا: ما نفعل. قال: فاقترعوا. فاقترعوا فوقعت القرعة عليه. فقالوا: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، ولكن تعالوا حتى نتساهم. فجعل كل واحد منهم لنفسه سهما ثم رموابها فى البحر، فغرقت إلّا سهم يونس فإنه بقى على وجه الماء. قال الله عز وجل: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «2» . ثم أقبل حوت عظيم من بحر الهند حتى بلغ جانب السفينة، فقام يونس ليرمى بنفسه، فتعلّق القوم به وقالوا: ألا ترى هذه الأمواج وهذا الحوت العظيم! فأقعدوه والبحر يزيد عيلهم بكثرة أمواجه وأهواله، فصار إلى جانب السفينة ليرمى بنفسه، فإذا بالحوت قد دار إلى الجانب الذى قصد أن يرمى نفسه منه، فعلم يونس أنه هو المراد، فغطّى وجهه بكسائه ورمى نفسه فى البحر «3» فابتلعه الحوت. قال الله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ «4» معناه يلوم نفسه على ما فعله. وبقى فى جوف الحوت وهو يسمع

تسبيح الحيتان بلغاتهم، فلم يزل كذلك حتى بلغ [الى موضع يسمع فيه صريف الأقلام «1» ] . وهو اذا سجد يكون سجوده على كبد الحوت وهو يقول له: يا يونس، أسمعنى تسبيح المغمومين المحبوسين فى حبس لم يحبس فيه أحد من الآدميّين، ويونس يقول: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، وكانت الملائكة تقول: إلهنا إنّا نسمع تسبيح مكروب كان لك شاكرا، اللهمّ ارحمه فى غربته. قال الله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ «2» الآية. قيل: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ «3» أى المصلّين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4» . واختلف فى مدّة لبثه، فمنهم من قال: لبث أربعين يوما، وقيل: ثلاثة أيام. فلمّا انقضت المدّة التى قدّر الله عليه ألهم الله الحوت أن يرجع إلى الموضع الذى ابتلعه فيه. فشقّ ذلك على الحوت لأنه كان قد أنس به وبتسبيحه، فناداه الملك أن اقذفه من بطنك فليس هو مطعم لك. فتقدّم الحوت إلى الساحل وقذفه. قال الله تعالى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ «5» . قال: خرج كالفرخ الذى لا ريش له، وهو لا يقدر على القيام، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين «6» كان لها ثلاثة أغصان: غصن قبل المشرق، وغصن قبل المغرب، والغصن الثالث على رأسه. وجاءه جبريل فقال: يا يونس، إن الله قد أعطاك من الجنة ما ترضى به، ثم أمرّ يده على رأسه وجسمه فأنبت الله شعره ولحيته، وأمر

الله ظبية فوقفت بين يدى يونس وكلّمته بإذن الله، فمصّ من لبنها فقوى عند شربه؛ ثم بشّرته بإيمان قومه وأخبرته بما كان من أمرهم وسبب إيمانهم وذكرت اشتياقهم إلى رؤيته. وكانت الظبية ترعى حول يونس فإذا جاع أو عطش أرضعته، فلم يزل كذلك أربعين يوما. فنام فى بعض الأيام ثم انتبه فرأى اليقطينة قد جفّت والظبية قد غابت، فاغتمّ لذلك، فعلم يونس أن الله ضرب له مثلا بقومه، ثم هبط عليه ملك وقال: قم إلى قومك فإنهم يتمنّون رؤيتك، وأتاه بحلّتين فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى، ثم سار حتى دخل قرية كثيرة الأشجار والخيرات وأهلها يقطعون تلك الأشجار ويلقون ثمارها فى الأرض، فقال: يا قوم، كيف تفعلون ذلك وتبطلون على أنفسكم ثمارها! فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك أشفقت على قوم لا تعرفهم من قطعهم الأشجار ولم تشفق على قومك وهم مائة ألف أو يزيدون! فعلم يونس أنّ هذا مثل ضربه الله تعالى له، فقال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. ثم سار حتى دخل قرية أخرى وقت الماء، فتلّفاه رجل من أهل القرية وسأله أن ينزل عليه فنزل. فلمّا أكل وشرب نظر إلى بيت الرجل وفيه فخّار كثير يريد أن يوقد عليه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، قل لهذا الفاخرانىّ أن يكسر الفخّار الذى قد عمله. فقال يونس ذلك للفاخرانىّ، فقال: يا هذا أضفتك لما رأيت فيك من أثر الخير وإذا أنت رجل مجنون، تأمرنى أن أكسّر فخّارا قد أتعبت فيه نفسى لأنتفع بثمنه! قم الآن فاخرج من عندى، وأخرجه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنه أشفق على فخاره وسمّاك مجنونا وأخرجك من منزله حين أمرته بكسره، وأنت بعثت إلى مائة ألف أو يزيدون فدعوت عليهم ولم تفكّر فى هلاكهم فترحمهم!. قال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. فلمّا أصبح سار فإذا هو برجل يزرع زرعا، فقال له الرجل: ادع الله عز وجل حتى يبارك لى فى زرعى، فدعا له فأنبته الله تعالى من ساعته

وقام على سوقه، ففرح الرجل وأتى بيونس إلى منزله. فأوحى «1» الله تعالى إليه: يا يونس، قد حزنت على إرسال الجراد على الزرع ولم تزرعه، ولم تحزن على إرسال العذاب على مائة ألف أو يزيدون!. قال: إلهى تبت إليك من ذنبى لا أعود إليه أبدا. وسار حتى دخل قرية وهناك امرأة معها رجل وهو ينادى: من [يحمل «2» ] هذه المرأة إلى بلاد نينوى [ويردّها «3» ] إلى زوجها وله مائة مثقال من الذهب؟ فنظر إليها يونس فإذا هى امرأته، فقال: أيها الرجل، ما قصّة هذه المرأة؟ قال: إنها كانت قاعدة على شاطئ دجلة تنتظر زوجها يونس، فمرّ بها ملك من ملوك هذه القرية فاحتملها وأراد أن يفجر بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فسألها أن تدعو له بالفرج ولا يعود إلى ذلك، فدعت له. فلمّا عافاه الله لوقته دفعها إلىّ وأعطانى مائة مثقال ذهبا على أن أحملها إلى بلاد نينوى، وما يمكننى ذلك. قال يونس: أنا أحملها فأعطنى الذهب، فأعطاه إياه وسلم إليه المرأة. فسارا وقد فرحا حتى أتيا قرية أخرى، وإذا برجل يبيع سمكة، فاشتراها يونس وقعد ليصلحها فشقّ بطنها فوجد فيها تلك الصرّة الذهب التى وقعت منه فى دحلة، فقال: الحمد الله الذى ردّ علىّ أهلى ومالى، اللهمّ فاردد علىّ أولادى يا أرحم الرحمين، ثم سار فإذا هو برجل على دابّة ومن ورائه غلام، فإذا هو ولد يونس الصغير. فتعلّق به، فقال له الرجل: من أنت؟ قال: أنا يونس. فسلم اليه الغلام وقال: الحمد الله الذى ردّ الأمانة الى أهلها وخلّص ذمّتى. فسأله يونس عن قصّة الغلام فقال: أنا رجل صيّاد، وكنت قد ألقيت الشبكة فى طرف دجلة فوقع هذا الغلام فيها فأخذته، وإذا بها تف يقول:

يا صيّاد، احفظ هذا الغلام حتى يأتى اليك يونس فإنه أبوه فادفعه اليه. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع لى أن يغنينى الله عن صيد السمك، فدعا له فرزقه الله مالا وولدا. وسار يونس حتى قرب من بلاد نينوى، فإذا هو براع على قارعة الطريق يرعى غنما وهو يقول: اللهمّ اردد علىّ والدى، فرآه يونس فعرفه وهو ولده الأكبر، فتعانقا وبكيا طويلا، ثم قال له: يا أبت إنّ هذه الأغنام لرجل فى القرية فسر معى حتى أردّها اليه، فسارا إلى القرية وإذا بشيخ على باب داره، فقال له الغلام: هذا أبى. فقام الشيخ الى يونس وسلم عليه. فقال له يونس: هل تعرف قصّة هذا الغلام؟ قال الشيخ: نعم، كنت أرعى هذه الغنم، وإذا بهذا الغلام على ظهر ذئب فكلّمنى الذئب بقدرة الله وقال: إذا جاء اليك يونس فادفع إليه هذا الغلام. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع الله أن يغفر لى ذنوبى وأن يميتنى فى وقتى هذا، فدعا له فقبضه الله لوقته، فغسّله يونس وكفّنه وصلى عليه ودفنه. ثم سار حتى قرب من المدينة، فإذا هو بغلام يرعى غنما فوقف يونس عليه السلام وقال: يا غلام، هل من لبن؟ قال الغلام: يا هذا، والذى بعث إلينا يونس نبيّا ما ذقت اللبن منذ غاب عنّا نبيّنا يونس. قال: فأنا يونس نبىّ الله. فقبّل الغلام رأسه وقال: لو رأيتنا يا نبىّ الله ونحن نجول تحت العذاب لرحمتنا. قال: يا غلام، اذهب الآن الى المدينة وأخبر الناس أنك قد رأيتنى. قال: أخشى أن يكذّبونى. فقال: سر اليهم [وهذه الأغنام شهود «1» لك] . فمضى حتى توسّط سوق المدينة وقال: أيها الناس، البشرى فقد رجع إلينا يونس نبيّنا وقد لقيته. فاتّصل الخبر بالملك فقام عن سريره وقال: علىّ بالغلام، فأتى به، فسأله فأخبره بمقدم يونس. ففرح وخرج الملك وأهل المدينة والتقوا بيونس وأدخلوه المدينة وأجلسه الملك فى موضعه، ووقف بين يديه، وفرح به أهل المدينة. فقام

ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب

يونس فيهم ما شاء الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الى أن مات الملك وماتت امرأة يونس وولداه جميعا، فاستخلف يونس الراعى على مدينة نينوى وخرج هو وسبعون رجلا من العبّاد حتى جاء الى جبل يقال له صهيون «1» فكانوا هناك يعبدون الله حقّ عبادته، حتى مات يونس عليه السلام، ومات العبّاد الذين صحبوه، فقبروا هناك فى جبل صهيون، رضى الله عنهم ورحمهم. ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب وهذه القصّة تشتمل على عجائب كثيرة ووقائع قد ينكرها بعض من يقف عليها لغرابتها وليست بمستنكره بعد أن ثبت فى صحيح البخارى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بلّغوا عنّى ولو آية «2» وحدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» . ولنأخذ الآن فى سرد القصّة. قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بيواقيت البيان فى قصص القرآن بسند رفعه عن عبد الله بن سلّام قال:

كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له «أوشيا» وكان من علمائهم، وكان كثير المال، وكان إماما لبنى إسرائيل، وكان قد عرف نعت «1» النبىّ صلى الله عليه وسلم فى التوراة، فخبأه وكتمه عنهم. وكان له ابن يقال له بلوقيا خليفة أبيه فى بنى إسرائيل، وذلك بعد سليمان بن داود عليهما السلام. فلمّا مات أوشيا بقى ابنه بلوقيا والأمانة فى يده والقضاء، ففتّش يوما خزائن أبيه فوجد فيها تابوتا من حديد مقفلا بقفل حديد، فسأل الخزّان عن ذلك، فقالوا: لا ندرى. فاحتال على القفل حتى فكّه، فإذا فيه صندوق من خشب الساج، ففكّه وإذا فيه أوراق، فقرأها فإذا فيها نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته وهى مختومة بالمسك، فقرأ ذلك على بنى إسرائيل ثم قال: الويل لك يا أبت من الله فيما كتبت وكتمت من الحقّ وأهله!. فقالت بنو إسرائيل: يا بلوقيا، لولا أنك إمامنا وكبيرنا لنبشنا قبره وأخرجناه منه وحرّقناه بالنار. قال: يا قوم، [لا ضير «2» ] إنما ترك حظّ نفسه وخسر فى دينه ودنياه، فألحقوا نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته بالتوراة. قال: وكانت أمّ بلوقيا فى الأحياء، فاستأذنها فى الخروج إلى بلاد الشام، وكانوا يومئذ فى بلاد مصر. فقالت: وما تصنع بالشام؟ قال: أسأل عن محمد وأمّته، فلعلّ الله تعالى أن يرزقنى الدخول فى دينه، فأذنت له. فبرز بلوقيا وقدم بلاد الشام. فبينما هو يسير إذا انتهى إلى جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيّات كأمثال الإبل عظما وفى الطّول ما شاء الله وهنّ يقلن: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فقلن له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل. فقلن: وما إسرائيل؟ قلت: من ولد آدم. فقلن: سمعنا باسم آدم ولم نسمع باسم

إسرائيل. فقال بلوقيا: أيتها الحيّات من أنتنّ؟ فقلن: نحن حيّات من حيّات جهنّم ونحن نعذّب الكفّار فيها يوم القيامة. قال بلوقيا: وما تصنعن هاهنا؟ وكيف عرفتنّ محمدا؟ فقلن: إن جهنّم تفور وتزفر فى كل سنة مرّتين فتلقينا هاهنا ثم نعود إليها، فشدّة الحرّ فى الصيف من حرّها، وشدّة البرد فى الشتاء من بردها. وليس فى جهنّم درك من دركاتها، ولا باب من أبوابها، ولا سرادق من سرادقاتها إلا وقد كتب عليه: «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» فمن أجل هذا عرفنا محمدا صلى الله عليه وسلم. قال بلوقيا: أيتها الحيّات، هل فى جهنّم مثلكنّ أو أكبر منكنّ؟ فقلن: إن فى جهنّم حيّات تدخل إحدانا فى أنف إحداهنّ وتخرج من فمها ولا تشعر بذلك لعظمها. قال: فسلم بلوقيا عليهنّ ومضى حتى أتى جزيرة أخرى، فإذا هو بحيّات كأمثال الجذوع والسوارى، وعلى متن إحداهنّ حيّة صغرى صفراء كلما مشت اجتمعت الحيّات حولها فإذا نفخت صرن تحت الأرض خوفا منها. فلمّا رآها ورأته قالت له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل من ولد ابراهيم. فاخبرينى أيتها الحيّة من أنت؟ قالت: أنا موكّلة بالحيّات واسمى تمليخا، ولولا أنى موكّلة بهنّ لقتلت الحيّات بنى آدم كلهم فى يوم واحد، ولكنّى اذا صفّرت صفرة [واحدة «1» ] وسمعن صوتى دخلن فى الماء الذى تحت الأرض. ولكن يا بلوقيا إن لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فأقرئه منّى السلام. قال: ومضى بلوقيا إلى بلاد الشام فأتى بيت المقدس، وكان بها حبر من أحبارهم يسمّى عفّان الخير، فأتاه فسلم عليه وقصّ عليه قصّته. فقال له: ليس هذا زمان محمد ولا زمان أمّته، بينك وبينه بعد سنين وقرون. ثم قال عفّان: يا بلوقيا أرنى موضع الحية التى اسمها تمليخا، فإن قدرت أن أصيدها رجوت أن أنال معك ملكا

عظيما ونحيا حياة طيّبة الى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فندخل فى دينه. قال: فمن حرص بلوقيا على الدخول فى دين محمد صلى الله عليه وسلم قال: أنا أريك المكان. فقام عفّان وأخذ تابوتا من حديد وحمل فيه قدحين من فضّة فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن؛ ثم سارا جميعا حتى انتهيا الى موضع الحيّة ففتحا باب التابوت وتنحيّا. وجاءت الحيّة تبغى الرائحة فدخلت التابوت وشربت من اللبن والخمر حتى سكرت ونامت. فقام عفّان ودبّ الى التابوت دبيبا خفيفا فأغلق بابه واحتضنه وسارا جميعا فلم يمرّا بشجرة ولا بيت إلا كلمهما بإذن الله تعالى. فمرّا بشجرة يقال لها الدواء فقالت: يا عفان، من يأخذنى ويقطعنى ويدقّنى ويعصر مائى ودهنى ويطلى به قدميه فإنه يغوص البحار السبعة ولا تبتّل قدماه ولا يغرق. فقال عفّان: إيّاك طلبت، فقطع تلك الشجرة فدقّها وعصر دهنها وجعله فى كوز ثم خلّى عن الحيّة فطارت بين السماء والأرض وهى تقول: يا بنى آدم ما أجرأكم على الله تعالى، ولن تصلوا الى ما تريدون، وذهبت الحيّة. وسار عفّان وبلوقيا الى اليمّ فطليا أقدامهما ثم عبرا البحر ومشيا على الماء كما كانا يمشيان على الأرض حتى قطعا البحر الأوّل ثم الثانى، فإذا هما بجبل فى وسط البحر ليس بعال ولا متدان ترابه كالمسك، عليه غمام أبيض، وفيه كهف، وفى الكهف سرير من الذهب عليه شابّ مستلق على قفاه ذو وفرة «1» ، واضع يده اليمنى على صدره واليسرى على بطنه بمنزلة النائم وليس بنائم وهو ميّت، وعلى رأسه تنّين وخاتمه فى الشمال. قال: وكان ذلك سليمان بن داود، وملك سليمان فى خاتمه، وكانت حلقته من ذهب وفصّه من ياقوت أحمر مربّع، مكتوب عليه أربعة أسطر، فى كل سطر اسم من أسماء الله الأعظم. وكان عند عفّان علم من الكتاب، فقال بلوقيا: من هذا؟ قال: هذا سليمان بن داود، نريد أن نأخذ خاتمه

فنملك ملكه ونرجو الحياة إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فقال بلوقيا: أليس قد سأل سليمان ربه: «ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى» فأعطاه الله إيّاه على ما سأل، ولا ينال ملك سليمان إلى يوم القيامة لدعائه. فقال عفّان: يا بلوقيا اسكت إنّ الله معنا ومعنا اسم الله الأعظم، ولكن أنت يا بلوقيا فاقرأ التوراة. فتقدّم عفّان لينزع خاتم سليمان من إصبعه، فقال التّنين: ما أجرأك على الله! إن غلبتنا باسم الله فنحن نغلبك بقوّة الله. قال: فكلّما نفخ التنّين ذكر بلوقيا اسم الله، فلم تعمل نفخات التّنين فيهما. ودنا عفّان من السرير لينزع الخاتم من إصبع سليمان، فاشتغل بلوقيا بالنظر إلى نزول جبريل من السماء، فلمّا نزل صاح بهما صيحة ارتجّت الأرض والجبال وتزلزت منها واختلطت مياه البحار وماجت والتطمت حتى صار كلّ عذب ملحا من شدّة صيحته، وسقط عفان على وجهه، ونفخ التنّين فخرجت من بطنه شعلة نار كأنها البرق الخاطف، فاحترق عفّان وعادت نفخته فى البحر فما مرت البرقة بشىء إلّا أحرقته ولا بماء إلا أجاشته وأغلته. وذكر بلوقيا اسم الله الأعظم فلم ينله مكروه، ثم تراءى له جبريل فى صورة رجل فقال له: يابن آدم ما أجرأك على الله تعالى! فقال له بلوقيا: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا جبريل أمين ربّ العالمين. قال له يا جبريل، إنما خرجت حبّا لمحمد ودينه ولم أقصد الخطأ ولم أتعمّده. قال: فبذلك نجوت. ثم صعد جبريل إلى السماء، ومضى بلوقيا فطلى قدميه بذلك الدّهن فأضلّ الطريق الذى جاء منه وأخذ فى طريق آخر، وسار فقطع ستّة أبحر ووقع فى السابع فإذا هو بجزيرة من ذهب حشيشها الورس «1» والزعفران وأشجارها النخل والرّمان. قال بلوقيا: ما أشبه هذا المكان بالجنّة على ما وصفت!. ثم دنا من بعض تلك الأشجار فتناول من ثمرها، فقالت الشجرة: يا خاطئ ابن الخاطئ

لا تأخذ منّى شيئا. فتعجّب، وإذا بحيال الشجرة قوم يتراكضون، بأيديهم سيوف مسلولة، يتناوش بعضهم بعضا بالطعن والضرب. فلمّا رأوا بلوقيا طافوا به وأحدقوا من ورائه وهمّوا به سوءا، فذكر اسم الله فهابوه وعجبوا منه وأغمدوا سيوفهم وقالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم قالوا له: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا من بنى آدم اسمى بلوقيا. قالوا: نعرف آدم ولا نعرفك فما أوقعك إلينا؟ قال: إنى خرجت فى طلب نبىّ يسمّى محمدا وإننى قد ضللت عن الطريق الذى أردته فرأيت من الأهوال كذا وكذا. قالوا: يا بلوقيا نحن من الجنّ مؤمنون، ونحن مع ملائكة الله فى السماء، ثم نزلنا إلى الأرض وقاتلنا كفرة الجنّ ونحن هاهنا مقيمون نغزوهم ونجاهدهم إلى يوم القيامة، ولسنا نموت إلى يوم القيامة وأنت لا تصبر معنا. فقال بلوقيا لملك الجنّ: يا صخر، أخبرنى عن خلق الجنّ كيف كان؟ قال: لمّا خلق الله جهنّم خلق لها سبعة أبواب وسبعة ألسن، خلق منها خلقين: خلق فى سمائه [سمّاه «1» ] حيليت «2» ، وخلق فى أرضه [سمّاه «3» ] تمليت «4» . فأمّا حيليت فإنه خلق على صورة أسد، وتمليت فى صورة ذئب، وجعل الأسد ذكرا والذئب أنثى، وجعل طول كلّ واحد منهما مسيرة خمسائة عام، وجعل ذئب الذئب بمنزلة ذنب العقرب، وذنب الأسد بمنزلة الحيّة، وأمرهما أن ينتفضا فى النار انتفاضة ففعلا، فسقط من ذنب الذئب عقارب «5» ، ومن ذنب الأسد حيّات «6» . فعقارب جهنّم وحيّاتها من ذلك. ثم أمرهما أن يتناكحا ففعلا، فحمل الذئب من الأسد فولد سبعة بنين وسبع بنات. فأوحى الله تعالى إليهم أن يزوّج البنات من البنين كما أمر آدم، فستّة بنين

أطاعوا وواحد لم يطع ولم يتزوّج فلعنه أبوه وهو إبليس. وكان اسمه الحارث، وكنيته أبو مرّة؛ فهذا أوّل خلق الجنّ. ثم قال له: يا بلوقيا إنّ دوابّنا لا تثبت مع الإنس ولكن أجلّل فرسى وأبرقعه حتى لا يعرف راكبه، فاركب عليه على اسم الله تعالى؛ فإذا انتهيت إلى أقصى أعمالى «1» على ساحل بحر كذا وإذا شيخ وشابّ ومشايخ معهما فإنك ستلقاهما هناك فادفع الفرس إليهما وامض فى حفظ الله راشدا. فجاء بلوقيا على الفرس حتى انتهى إليهم فسلم على الشيخ والشابّ ونزل عن الفرس ودفعه إليهما. وكان قد فصل من عند ملك الجنّ عند صلاة الغداة ووصل إليهما نصف النهار. فقالا لبلوقيا: مذكم فارقت الملك؟ قال: فارقته غدوة. فقالا له: ما أسرع ما جئت! قد أتعبت فرسنا. فقال بلوقيا: والله ما مددت إليه يدا ولا حرّكت عليه رجلا ولم أركضه عنفا. قالا: صدقت ولكن فرسنا أحسّ بك وبمنزلتك «2» ، فطار ما بين السماء والأرض ليريح نفسه منك، فكم تراه جاء بك؟ قال: خمسة فراسخ أو أقلّ أو أكثر. قالا: بل جاء بك مسيرة مائة وعشرين سنة، وكان يطير بك بين السماء والأرض حول الدنيا دون «قاف» وأنت لا تعلم. فحوّلوا عنه السّرج واللّجام والبرقع وإذا العرق يقطر من كلّ شعرة منه، وله جناحان انقضّا من كثرة الطيران. فقال بلوقيا: هذا والله العجب. فقالوا: يا بلوقيا عجائب الله لا تنقضى. ثم سلم عليهم ومضى فركب اليمّ. فبينما هو يسير إذ رأى ملكا إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له الملك: من أنت أيها الخلق المخلوق؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. ثم قال له: أيّها الملك ما اسمك؟ قال: [اسمى يوحاييل وأنا موكّل بضوء النهار وظلمة الليل. فقال: فما بال يديك مبسوطتين؟ فقال له: فى يدى اليمنى ضوء النهار،

وفى يدى اليسرى ظلمة الليل، ولو سبق النهار الليل لأضاءت السموات والأرضون، ولم يكن الليل أبدا، ولو سبقت الظّلمة النور لأظلمت السماء والأرض ولم يكن ضوء أبدا. وبين يديه لوح معلّق فيه سطران سطر أبيض وسطر أسود، فإذا رأيت السواد ينتقص نقصت الظلمة، وإذا رأيت السواد يزيد زدت الظّلمة، وإذا رأيت السطر الأبيض يزداد زدت فى البياض والنور، وإذا انتقص نقصت، فلذلك الليل فى الشتاء أطول والنهار أقصر؛ وفى الصيف النهار أطول والليل أقصر. ثم سلم بلوقيا ومضى، فإذا هو بملك قائم يده اليمنى فى السماء ويده اليسرى فى الأرض فى الماء تحت الثرى وهو يقول: لا إله الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له: من أنت وما اسمك؟ قال اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. قال له بلوقيا: أيها الملك ما اسمك؟ قال «1» ] : اسمى ميخاييل «2» . قال: فما لى أراك يمينك فى السماء وشمالك فى الماء؟ قال: أحبس الريح بيمينى والماء بشمالى، ولو رفعت شمالى عن الماء لزخرت البحار كلّها فى ساعة واحدة ولطمت بإذن الله تعالى، ويدى اليمنى فى الهواء أحبس الريح عن بنى آدم لأنّ فى السماء ريحا يقال لها الهائمة «3» لو أرسلنها لقتلت من فى السماء ومن فى الأرض من بردها. فسلم عليه بلوقيا ومضى، وإذا بأربعة من الملائكة، أحدهم رأسه كرأس الثّور «4» ؛ والآخر رأسه كرأس النسر؛ والثالث رأسه كرأس الأسد؛ والرابع رأسه كرأس الإنسان. فالذى رأسه كرأس الثّور يقول: اللهم ارفع العذاب عن البهائم، وارفع عنهم برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعل لهم فى قلوب بنى آدم الرأفة والرحمة كيلا يكرهنّ ولا يكلّفوهن «5» فوق طاقتهن،

واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس النسر فيقول: اللهم ارحم الطيور ولا تعذّبها، وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس الأسد فإنه يقول: اللهمّ ارحم السّباع ولا تعذبها وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس الإنسان فإنه يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، اللهمّ ارحم المسلمين ولا تعذّبهم وادفع عنهم حرّ النار، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فسلم عليهم ومضى حتى أتى على جبل قاف واذا هو بملك قائم على قاف، وهو جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء. فسلم بلوقيا على الملك، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. فقال الملك: وأين تريد؟ قال: خرجت فى طلب من يسمى محمدا. ولست أرى أمره ولا أدرى فى أىّ بلاد أنا. فقال الملك: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، قد أمرنا بالصلاة على محمد. قال بلوقيا: أيها الملك، ما اسمك؟ قال: اسمى حزقاييل. قال: وما تصنع هنا؟ قال: أنا أمين الله على قاف، واذا فى يده وتر مرّة يعقده ومرّة يحلّه، وعروق الأرض كلها مشدودة عليه والوتر فى كفّ الملك [قال «1» :] فإذا أراد الله أن يضيّق على عباده أمرنى أن أمدّ الوتر وأعقده وأرتق «2» عروق الأرض فتضيق الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد الله أن يوسّع عليهم أمرنى أن أرخى الوتر وأفتق عروق الأرض فتتّسع الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد أن يخوّف قوما أمرنى أن أحرّك عروق تلك الأرض، فمن أجل ذلك موضع يهتزّ وموضع لا يهتزّ، وموضع يتزلزل وموضع

لا يتزلزل. قال بلوقيا: أيها الملك، ما وراء قاف؟ قال: وراء قاف أربعون دنيا غير الدنيا التى جئت منها، فى كلّ دنيا أربعمائة ألف «1» باب، فى كل باب أربعة آلاف ضعف مثل الدنيا التى جئت منها، وليس فيها ظلمة بل كلّها نور وأرضها ذهب عليها حجب من نور، وسكّانها الملائكة لا يعرفون آدم ولا إبليس ولا جهنّم وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لذلك ألهموا وله خلقوا وبه أمروا الى يوم القيامة. قال بلوقيا: فما وراءهم؟ قال: حجب ووراء الحجب علم الله وقدرته. قال بلوقيا: أخبرنى أيها الملك على أىّ شىء هذا الجبل موضوعا؟ قال: على قرنى ثور واسمه قرياطيه «2» وهو أبيض، رأسه بالمشرق ومؤخّره بالمغرب، وما بين قرنيه مسيرة ثلاثين ألف سنة وهو ساجد لربّه على صخرة بيضاء. قال بلوقيا: أيها الملك، كم الأرضون؟ وكم البحار؟ قال: الأرضون سبع، والبحار سبع. قال: فجهنّم أين هى؟ قال: تحت الأرض السابعة. قال: فسلم بلوقيا عليه ومضى حتى انتهى الى حجاب طرفه فى السماء وأسفله فى الماء، عليه باب مقفل وعليه خاتم من نور، وعلى الباب ملكان أحدهما رأسه كرأس الثور، والآخر رأسه كرأس الكبش وبدنه كبدن الثور وهما يقولان: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. قال: فسلم بلوقيا عليهما فردّا عليه السلام وقالا: أيها الخلق الضعيف المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. فقالا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، هذه أسامى ما عرفناها. قال بلوقيا؟ كيف عرفتم محمدا ولم تعرفوا آدم ومحمد من نسله؟. فقالا: لهذا خلقنا وبذلك أمرنا، ولم نسمع باسم آدم ولا إسرائيل. فقال بلوقيا: افتحا لى الباب حتى أجوز. فقالا: ما نحسن فتحه، وإنّ لله فى السماء ملكا اسمه

جبرائيل عسى أن يقدر على فتحه. فدعا بلوقيا، فأمر الله تعالى جبريل فنزل عليه وفتح الباب، ثم قال: يابن آدم ما أجرأك على الله! ثم جاز بلوقيا حتى انتهى الى بحرين: بحر مالح وبحر عذب. فلمّا وصل إليهما رأى بينهما حاجزا، وفى البحر المالح جبل من ذهب، وفى البحر العذب جبل من فضّة، وبينهما ملك على صورة النمل ومعه ملائكة على تلك الصورة. فسلم عليهم فردّوا عليه السلام وقالوا له: من أنت؟ فأخبرهم بقصّته. ثم قال بلوقيا: من أنتم؟ قالوا: نحن أمناء الله تعالى على هذين البحرين لا يلتقيان ولا يبغيان. فقال لهم بلوقيا: ما هذا الجبل الأحمر؟ قالوا: هذا كنز الله فى الأرض وكلّ ذهب فى الأرض إنما هو من نصاب هذا الجبل، وكلّ ما فى الدنيا من ماء عذب هو من هذا البحر. وهذا البحر إنما يجىء من تحت العرش من قبل أن خلق الله تعالى الملائكة؛ وكل ما يجرى من ماء مالح فهو من ذلك البحر الملح. وهذا الجبل الأبيض هو من فضّة وهو كنز الله تعالى؛ وكل كنز فى الدنيا وكل معدن فضّة فهو من عروق هذا الجبل. فسلم بلوقيا عليهم ومضى حتى انتهى الى بحر عظيم، فإذا هو بحيتان كثيرة عظيمة وقد اجتمعت وبينها حوت عظيم يقضى بين الحيتان. فلمّا نظر الى بلوقيا قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فسلم بلوقيا وأخبره بحال النبىّ صلى الله عليه وسلم وأنه خرج فى طلبه، فردّ السلام ثم قال: يا بلوقيا، إن لقيت محمدا فأقرئه منّى السلام. فقال: نعم إن شاء الله. ثم قال: أيّتها الحيتان إنى جائع عطشان وماء البحر ملح وما أجد ما آكل. فقال الحوت الأعظم: يا بلوقيا سأطعمك طعاما تسير أربعين سنة لا تعيا ولا تجوع ولا تعطش، قال: فأطعمه ذلك الحوت قرصا أبيض، فأكله ومضى حتى بلغ العمران. قال: ومن قبل أن يبلغ العمران رأى شابّا يجرى على الماء كأنه البدر. فقال له بلوقيا: من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما

وليلة فإذا هو بآخر يمرّ على الماء ضوءه كضوء النجوم. فقال له بلوقيا: يا فتى، من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما وليلة، فإذا هو بشابّ كأنه القمر يلوح فى آخر الشمس «1» ، فقال بلوقيا: أنشدك الله إلّا وقفت. قال: فوقف وقال: لماذا استحلفتنى؟ قال: خشيت أن تفوتنى مثل أصحابك الماضين، فمن كان الأوّل؟ قال: إسرافيل صاحب الصّور، والثانى ميكائيل صاحب المطر، والثالث جبرائيل أمين ربّ العالمين. فقال بلوقيا: ماذا تصنعون فى اليمّ؟ قال جبريل: حيّة من حيّات البحر قد آذت سكّانه، فدعوا الله عليها فاستجاب الله دعاءهم وأمرنا أن نسوقها الى جهنّم ليعذّب الله بها الكفّار يوم القيامة. قال بلوقيا: كم طولها وكم عرضها؟ قال: طولها مسيرة ثلاثين سنة، وعرضها مسيرة عشرين سنة. فقال بلوقيا: يا جبريل، أيكون فى جهنّم مثل هذه أو أكبر منها؟ فقال جبريل: إنّ فى جهنّم من الحيّات ما تدخل هذه فى أنف إحداهنّ ولا تشعر بها من عظم خلقتها. فسلم بلوقيا عليه ومضى الى جزيرة أخرى، وإذا هو بغلام أمرد بين قبرين، فسلم عليه بلوقيا وقال: يا شابّ، من أنت وما اسمك؟ قال: اسمى صالح. قال: فما هذان القبران؟ قال: أحدهما أبى والآخر أمّى، كانا سائحين فماتا هاهنا، وأنا عند قبريهما حتى أموت. فسلم بلوقيا ومضى حتى انتهى الى جزيرة، فإذا هو بشجرة عظيمة عليها طائر رأسه من ذهب، وعيناه من ياقوت، ومنقاره من لؤلؤ، وبدنه من زعفران، وقوائمه من زمرد، واذا مائدة موضوعة تحت الشجرة وعليها طعام وحوت مشوىّ. فسلم عليه بلوقيا فردّ عليه الطائر السلام. فقال بلوقيا: أيها الطائر من أنت؟ قال: أنا من طيور الجنّة، وأنّ الله تعالى بعثنى الى آدم بهذه المائدة لمّا هبط من الجنة وكنت معه حتى لقى حوّاء، وأنا هاهنا من ذلك

الوقت، وكلّ غريب وعابر سبيل يمرّ بها ويأكل منها، وأنا أمين الله عليها الى يوم القيامة. فقال بلوقيا: ولا تتغيّر ولا تنقص! قال: طعام الجنّة لا يتغيّر ولا ينقص. فقال لبلوقيا: كل فأكل حاجته، ثم قال: أيها الطائر، هل معك أحد؟ قال: معى أبو العبّاس يأتينى أحيانا. قال: ومن أبو العبّاس؟ قال: الخضر. فلمّا ذكر اسمه اذا هو بالخضر عليه السلام قد أقبل عليه ثياب بيض. قال: فما خطا خطوة إلّا نبت الحشيش تحت قدميه. فسلّم عليه بلوقيا وسأله عن حاله. قال بلوقيا: قد طالت غيبتى وأريد أن أرجع الى أمّى. قال الخضر: بينك وبينها مسيرة خمسمائة سنة، أنا أردّك فى مسيرة خمسمائة شهر. قال الطائر: إن كان بينك وبين أمّك مسيرة خمسمائة سنة أنا أردّك مسيرة خمسمائة يوم. قال الخضر: أنا أردّك إليها فى ساعة ثم قال: غمّض عينيك فغمّضهما ثم قال له: افتحهما ففتحهما، وإذا هو عند أمّه جالس. فسألها: من جاء بى؟ فقالت: جئت على متن طائر أبيض يطير بين السماء والأرض فوضعك قدّامى. قال: ثم إنّ بلوقيا حدّث بنى إسرائيل بما رأى من العجائب والأخبار، فأثبتوها وكتبوها الى يومنا هذا. فهذا ما كان من حدبث بلوقيا. والله أعلم.

الباب الخامس من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار زكريا وابنه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام

الباب الخامس من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار زكريّا وابنه يحيى وعمران ومريم وعيسى بن مريم عليهم السلام ذكر نسب زكريّا وعمران عليهما السلام وما يتصل بذلك قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى: هو زكريّا بن برخيا بن آذن بن مسلم ابن صدوق بن نخشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن ناحور بن شلوم ابن نهفاشاط بن أنبا بن لبنا بن رحبعم بن سليمان بن داود عليهم السلام. وعمران بن ماتان. وقال ابن اسحاق: هو عمران «1» بن باسهم بن أمون بن منسّى بن حزقيّا بن أحزيق بن يوثام بن عزاريا بن أنصيا بن ناوش بن يارم بن يهفاشاط بن أنبا بن لبنا بن رحبعم بن سليمان بن داود. وكان زكريّا وعمران متزوّجين بأختين، فامرأة زكريّا أسباع، وقيل بليشفع بنت فاقود وهى أمّ يحيى. وامرأة عمران حنّة بنت فاقود وهى أمّ مريم بنة عمران. قالوا: وكان زكريّا نجّارا قبل أن يبعث نبيّا، وكان كثير العبادة، وكان بيت المقدس قد خلا من الأنبياء، فبينا زكريّا فى محراب جدّه داود عليه السلام وقد انفتل «2» عن صلاته إذ هبط عليه جبريل بوحى الله تعالى ونبوّته، وأعلمه أنّ

ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام

الله تعالى قد بعثه رسولا إلى بنى إسرائيل. فخرّ زكريّا ساجدا لله تعالى على ذلك، وخرج إلى بنى إسرائيل ودعاهم، فكذّبه بعضهم وصدّقه آخرون. فأقام زكريّا فى بنى إسرائيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وعمران يعبد الله. وكان زكريّا وعمران لم يرزقا الولد. فبينا حنّة ذات يوم جالسة إلى جانب عمران إذ رأت حمامة تزقّ فرخا لها، فبكت شوقا منها إلى ولد، وذكرت ذلك لزوجها عمران فقال: قومى ندعو الله ربّنا فى ذلك، فقاما جميعا وصلّيا ودعوا الله تعالى أن يرزقهما ولدا، فرأى عمران فى منامه إن الله قد استجاب دعاءك. فقام إلى زوجته فواقعها فحملت منه، وقالت ما أخبر الله تعالى عنها. قال الله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «1» . قال: وكان الناس فى ذلك الزمان يتقرّبون إلى الله عز وجل بتحرير أولادهم، وكانوا يخدمون بيت المقدس فى صغرهم إذا بلغوا، فمن أحبّ أن يقم على الخدمة أقام، ومن اختار الانصراف انصرف. ذكر ميلاد مريم بنة عمران عليه السلام قال الكسائىّ: ولمّا حرّرتها أمّها لله تعالى قال لها زوجها: إنك حرّرت ما فى بطنك، فإن كان أنثى كيف يكون محرّرا؟ فاغتمّت لذلك حتى وضعت مريم. قال الله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «2» ثم قالت: «ربّ إنّى كنت نذرت لك ما فى بطنى محرّرا فتقبلّها منّى» . قال

الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «1» . قال: ثم حملتها حتى دخلت بيت المقدس وزكريّا هناك فى نفر من عبّاد بنى إسرائيل، فقال لها: ما هذه يا حنّة؟ قالت: هذه ابنتى مريم، قد جعلتها محرّرة وقد قبلها الله منّى فاقبلوها ولا تردّوها، فأقبل بنو إسرائيل على زكريّا وقالوا: ما تقول فى هذه؟ قال: لابدّ لها من مكفّل إلى أن تبلغ مبلغ الخدمة ثم تكون خادمة فى المسجد. قالوا: أيّنا يكفلها؟ قال زكريّا: أنا أولى بها لأنّى زوج خالتها، ولكنّا نقترع، فأخذوا أقلامهم وصاروا إلى عين سلوان «2» وقالوا: نرمى بأقلامنا فيها فأيّنا وقف قلمه فهو الذى يكفلها؛ فألقوها فرسبت أقلامهم جميعا إلّا قلم زكريّا فإنه طفا وغالب الجرية، فأخذها واسترضع لها بعض نساء بنى إسرائيل. ثم مات عمران والد مريم. قال: وبنى لها زكريّا بيتا لا يصعد إليه إلّا بسلّم، وكان لا يصعد إليها إلّا زكريّا يحمل إليها الطعام، وابن خال لها يقال له يوسف بن يعقوب النجّار، وكان من العبّاد المحرّرين، وكان زكريّا إذا صعد إليها وجد عندها فى الصيف فواكه الشتاء، وفى الشتاء فواكه الصيف، فيعجب من ذلك. قال الله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» .

ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عز وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا

ذكر دعاء زكريا أن يرزقه الله عز وجل الولد ومولد يحيى بن زكريا قال الكسائىّ: فلمّا نظر زكريّا الى ما رزق الله عزّ وجلّ من الفاكهة فى غير وقتها قال: إن الذى رزق هذه الفواكه لقادر على أن يرزق من العجوز العقيم والشيخ الكبير الولد. قال الله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ «1» . قال: ولمّا أراد زكريّا أن يدعو استحيا من الله تعالى، فجلس سبعة أيّام ثم قام الى المحراب ووافق ذلك يوم عاشوراء، فكلّمه المحراب بإذن الله تعالى وقال: يا زكريّا، أوجدت ربّك بخيلا! يا زكريّا إنّ ربك أبدا رحيم. فعند ذلك عزم على الدعاء واجتهد فى العبادة، ثم رفع يديه «ونادى ربّه نداء خفيّا» معناه أخفاه عن قومه «قال ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيبا» يعنى غلب بياضه على سواده «ولم أكن بدعائك ربّ شقيّا» معناه لم تخيّبنى فى الدعاء «وإنّى خفت الموالى من ورائى» يعنى الذرّيّة من بعدى أن تصير الحبوريّة فى غير أولاد الأنبياء «فهب لى من لدنك وليّا يرثنى ويرث من آل يعقوب» يعنى مكانى وحبوريّتى والتابوت الذى فيه وأقلام المحرّرين ومفاتيح القربان، ثم قال: «واجعله ربّ رضيّا» فى بنى إسرائيل. فاستجاب الله تعالى دعاءه وأمر جبريل أن ينزل عليه بالبشرى فأتاه وأتته الملائكة وأحدقوا بالمحراب. قال الله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى «2» الآية. وقال تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ

مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً «1» . قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» . قال الكلبىّ: كان زكريّا يوم بشّر بالولد ابن اثنتين وتسعين سنة. وروى الضحّاك عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: كان ابن مائة وعشرين سنة. وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين. قالوا: ولمّا جامع زكريّا امرأته اغتسل وعاد الى محرابه، فجاءته نساء بنى إسرائيل وقالوا له: نرى أمرك أعجب من امرأتك، فذهب زكريّا ليتكلّم فلم يقدر على الكلام، فعلم أن امرأته قد حملت فكتب لهم فى الأرض، إنّى لا أقدر على الكلام ثلاثة أيام. قال الثعلبىّ رحمه الله: فإن قيل: لم أنكر زكريّا ذلك وسأل الآية بعد ما بشّرته الملائكة؟ أكان ذلك شكّا فى وحيه؟، أم إنكارا لقدرته، وهذا لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان فكيف الأنبياء؟! فالجواب عنه ما قال عكرمة والسّدّىّ: إنّ زكريّا لمّا سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال: يا زكريّا إنّ الصوت الذى سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك، ولو كان من الله لأوحاه إليك خفيّا كما ناديته خفيّا وكما يوحى إليك فى سائر الأمور؛ فقال ذلك دفعا للوسوسة. قال: وفيه جواب آخر، وهو أنه لم يشكّ فى الولد وإنما شكّ فى كيفيته والوجه الذى يكون منه الولد فقال: أنّى يكون لى؟ أى كيف يكون لى ولد؟ أتجعلنى وامرأتى شابّين أو ترزقنا على كبرنا، أو ترزقنى من امرأة عاقر، أم من غيرها من النساء؟ فقال

ذلك مستخبرا لا مستنكرا. وهذا قول الحسن. «قال ربّ اجعل لى آية قال آيتك ألّا تكلّم الناس» تكفّ عن الكلام ثلاثة أيام وتقبل بكلّيّتك على عبادتى وطاعتى؛ لأنه ما حبس لسانه عن الكلام ولكنه نهى عنه؛ ويدلّ عليه قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ . هذا قول قوم من أهل المعانى. وقال آخرون: عقل لسانه عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إيّاه، فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام، لأنهم كانوا اذا صاموا لم يتكلّموا إلّا رمزا. قال: وفى بعض الأخبار أنه لمّا ولد يحيى رفع الى السماء فغذّى بأنهار الجنّة حتى فطم ثم أنزل الى أبيه، فكان يضىء البيت لنوره. واختلفوا فى تسميته بيحيى ولم سمّى بذلك؟ قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: لأنّ الله تعالى أحيا به عقر أمّه. وقال قتادة وغيره: لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والنبوّة. وقال الحسين بن الفضل: لأنّ الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهمّ بمعصية. وقيل: سمّى بذلك لأنه استشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. ويحيى أوّل من أقرّ بعيسى عليه السلام وصدّقه؛ وذلك أنه لمّا كان فى بطن أمّه استقبلها مريم وقد حملت بعيسى، فقالت لها أمّ يحيى: يا مريم، أحامل أنت؟ فقالت: لماذا تقولين؟ قالت: إنى أرى ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك؛ فذلك تصديقه وإيمانه. وكان يحيى أكبر من عيسى بستّة أشهر، وقتل قبل رفع عيسى. وقوله تعالى فيه: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قال ابن جبير: السيّد الذى يطيع ربّه عز وجل. وقال الضحّاك: السيّد الحسن الخلق. وقال عكرمة: السيّد الذى لا يغضب. وقال سفيان: السيّد الذى لا يحسد. وحصورا، قال

ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته

ابن مسعود وابن عبّاس وغيرهما: هو الذى لا يأتى النساء ولا يقربهنّ، فعول بمعنى فاعل، يعنى أنه حصر نفسه عن الشهوات: وقال المبرّد: الحصور: الذى لا يدخل فى اللّعب ولا الباطل. ذكر صفة يحيى بن زكريا وحليته قال كعب الأحبار: كان يحيى بن زكريّا عليهما السلام حسن الوجه والصّورة، ليّن الجناح، قصير الأصابع، طويل الأنف، مقرون الحاجبين، رقيق الصوت، كثير العبادة، قويّا فى طاعة الله عزّ وجلّ وقد ساد الناس فى عبادته. ذكر نبوّة يحيى عليه السلام وسيرته وزهده قال الله تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «1» . قيل: هو أن يحيى عليه السلام قال له أقرانه من الصبيان: يا يحيى اذهب بنا نلعب؛ فقال: ألّلعب خلقت!. وقال الآخرون: هو أنه نبىّ وهو صغير، وكان يعظ الناس ويقف لهم فى أعيادهم وجمعهم يدعوهم الى الله تعالى، ثم ساح ودخل الشام يدعو الناس. ولمّا بعثه الله عز وجل إلى بنى إسرائيل أمره أن يأمرهم بخمس خصال وضرب لكلّ خصلة منها مثلا: أمرهم أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا وقال: مثل الشّرك مثل رجل اشترى عبيدا من خالص ماله ثم أسكنهم دارا له ودفع لهم مالا يتجرون فيه ويأكل كل واحد منهم ما يكفيه، ويؤدّون إليه فضل الرّبح، فعمد العبيد إلى فضل الربح فدفعوه إلى غير سيّدهم.

ذكر مقتل يحيى بن زكريا وأبيه زكريا عليهما السلام

وأمرهم بالصلاة وقال: إنّ مثل المصلّى كمثل رجل استأذن على ملك فأذن له ودخل عليه، فأقبل الملك عليه بوجهه ليسمع مقالته ويقضى حاجته، فلما دخل الرجل التفت يمينا وشمالا ولم يهمّ بحاجته، فأعرض الملك عنه بوجهه ولم يقض حاجته. وأمرهم بالصدقة وقال: مثلها كمثل رجل أسره العدوّ فاشترى منهم نفسه بثمن معلوم، فجعل يعمل فى بلادهم ويؤدّى إليهم من كسبه القليل والكثير حتى وفّى ثمنه فأعتق. وأمرهم بذكر الله تعالى وقال: مثل الذّكر مثل قوم لهم حصن ولهم عدوّ، فإذا أقبل عليهم عدوّهم دخلوا حصنهم فلم يقدر العدوّ عليهم، كذلك من ذكر الله عزّ وجلّ لا يقدر عليه الشيطان. وأمرهم بالصيام وقال: مثله كالجنّة «1» لا يصل عدوّه إليه. وكان عليه السلام فيهم كثير التقشّف والعبادة والزهد والسياحة إلى أن قتل عليه السلام. ذكر مقتل يحيى بن زكريّا وأبيه زكريّا عليهما السلام اختلف العلماء فى سبب قتل يحيى؛ فقال بعضهم: كان يحيى عليه السلام فى زمن ملك من ملوك بنى إسرائيل، وكانت له امرأة وهى بنت ملك صيدا «2» ، وكانت قتّالة للأنبياء والصالحين، وكانت عاهرة تبرز للناس، وكان يحيى يزجرها

عن ذلك ويقول لها: لا تبرزين كاشفة عن وجهك. وكان كثيرا ما يقول لها: مكتوب فى التوراة: إنّ الزّناة يوقفون يوم القيامة وريحهم أنتن من الجيف. فأمرت بيحيى فسجن. وكان قد حبس رجل من أبناء الملوك، وكان يختلف إليها، فعلم بها وبه يحيى فزجره، فبلغ ذلك امرأة الملك فحملت بنتا لها واستقبلت بها زوجها. فقال: لم فعلت ذلك؟ فقالت: وجب لها عليك حقّ. فقال: سلينى ما شئت. فسألته أهل السجن. فظنّ أنها ترحمهم وتسرّحهم فقال: قد فعلت. فأمرت المرأة بأهل السجن فعرضوا. فلمّا مرّ بيحيى أمرت به فذبح فى طست ثم حملت الطست إلى أبيها بأمر أمّها وقالت: أيها الملك، إنى ذبحت لك ذبيحة من أعظم ما وجدت، ولو كان مثله ألفا لذبحتهم لك. فقال: ومن هو؟ قالت: يحيى بن زكريا. قال: هلكت وأهلكت أبويك. فغيّر الله ما بهم من النعم، وسلّط عليهم عدوّهم فذبح البنت وأبويها، وسلّط عليهم الكلاب حتى أكلتهم. وقال الثعلبىّ فى تفسيره: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار قال: عبرت «1» بنو إسرائيل بعد ما عمرت الشام، وعادوا اليها بعد خراب بختنصّر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير عليه السلام، ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الأنبياء، ففريقا يكّذبون وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله تعالى فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. فمات زكريا وقتل يحيى بسبب نهيه الملك عن نكاح ابنته فى قول عبد الله بن الزبير، وابنة امرأته فى قول السّدّىّ، وابنة أخيه فى قول ابن عباس رضى الله عنهما وهو الأصح إن شاء الله تعالى؛ لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا عليهم

السلام فى اثنى عشر من الحواريّين يعلّمون الناس، فكان مما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها فى كل يوم حاجة يقضيها لها. فلمّا بلغ ذلك أمّها أنه نهى عن نكاح بنت الأخ قالت [لابنتها: اذا دخلت على الملك فسألك فقولى له: حاجتى أن تذبح لى يحيى بن زكريا. فلمّا دخلت عليه سألها حاجتها قالت: حاجتى أن تذبح لى يحيى بن زكريا. فقال «1» :] سلينى غير هذا. قالت: لا أسألك إلا هذا. فلمّا أبت عليه دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه فيه، فندّت من دمه قطرة على الأرض، فلم تزل تغلى حتى بعث الله عز وجل ملك بابل، فقتل عليها من بنى إسرائيل حتى سكنت. وقد تقدّم أيضا خبر مقتله، وأنّ بختنصّر هو الذى قتل على دمه حتى سكن «2» . والصحيح أن بختنصّر إنما قتل بسبب قتل شعيا عليه السلام. قال الثعلبىّ أيضا: وقال علماء النصارى: إنّ قتل يحيى كان على يدى ملك من ملوك بنى إسرائيل يقال له هيرودس بسبب امرأة يقال لها هردوبا، كانت امرأة أخ له يقال له فلفوس، عشقها فوافقته على الفجور، فنهاه يحيى وأعلمه أنها لا تحلّ له، فسألت المرأة هيرودس أن يأتيها برأس يحيى ففعل، ثم سقط «3» فى يده وجزع جزعا شديدا. وقال كعب: كان يحيى عليه السلام من أحسن الناس وجها وأجملهم فى زمانه، فأحبّته امرأة الملك الذى كان فى ذلك الزمان حبّا شديدا، فأرسلت اليه تراوده،

فأرسل إليها أنه لا علم له بالنساء والملك أحقّ أن يطأ فراشه. فلمّا جاءها الرسول غضبت وقالت: كيف لى أن أقتله حتى لا يخبر الناس أنى قد راودته!. فلم تزل بالملك حتى وهب لها رأس يحيى بن زكريّا، وأرسلت إليه وهو قائم يصلّى فى محراب داود فى بيت المقدس فضرب عنقه وأخذ رأسه. فلمّا أرادوا أن يأخذوا رأس يحيى خسف الله بها وبأهلها الأرض عقوبة لقتلها يحيى عليه السلام. قال كعب: فلمّا رأى زكريّا أن ابنه يحيى قد قتل وخسف بالقوم انطلق هاربا فى الأرض، حتى دخل بستانا عند بيت المقدس فيه أشجار. وأرسل الملك فى طلبه غضبا لما لقيت المرأة وأهلها. فمرّ زكريّا بشجرة من تلك الأشجار فنادته الشجرة: يا نبىّ الله، هلمّ إلى هاهنا. فلمّا أتاها التفّت عليه الشجرة ودخل زكريا عليه السلام فى وسطها، فآنطلق عدوّ الله إبليس لعنه الله حتى أخذ بطرف ردائه، فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، وجاء الذين يلتمسون زكريّا، فأخبرهم إبليس أنه دخل الشجرة؛ فقالوا: لا نصدّقك. قال: فإنى أريكم علامة تصدّقوننى بها. قالوا: فأرناها، فأراهم طرف ردائه، فأخذوا الفؤوس فضربوا الشجرة حتى قطعوها باثنتين، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض علجا مجوسيّا، فانتقم الله من بنى إسرائيل بدم يحيى وزكريّا، فقتل عظماء بنى إسرائيل وسبى منهم مائة ألف وعشرين ألفا. وقد قيل فى سبب قتل زكريا غير هذا، وسنذكره إن شاء الله فى أثناء أخبار عيسى بن مريم على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.

ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا

ذكر هلاك بنى إسرائيل وخراب بيت المقدس ثانيا قال الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى بعض طرقه عن محمد بن إسحاق: إنّ خراب بيت المقدس ثانيا وقتل بنى إسرائيل كان بعد رفع عيسى بن مريم وقتل يحيى بن زكريّا. فلمّا فعلوا ذلك سلّط الله تعالى عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس «1» ، فسار اليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام؛ فلمّا ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس أجناده يدعى نبوزرادان «2» صاحب الفيل «3» فقال له: إنى قد كنت حلفت بالهى إن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم فى وسط عسكرى إلى ألّا أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن نبوزرادان دخل بيت المقدس فقتلهم فى البقعة التى كانوا يقرّبون فيها قربانهم، فوجدوا فيها دما يغلى فسألهم عنه فقالوا: هذا دم قربان قرّبناه فلم يتقبّل منّا فلذلك هو يغلى كما تراه، ولقد قرّبنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبّل منّا إلّا هذا القربان. فقال: ما صدقتمونى الخبر. قالوا له: لو كان كأوّل دمائنا لقبل ولكنّه قد انقطع منّا الملك والنبوّة والوحى فلذلك لم يقبل. فذبح منهم نبوزرادان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم فذبحهم على الدم فلم يبرد. فلمّا رأى نبوزرادان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بنى إسرائيل! اصدقونى واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل

ألّا أترك نافخ نار ذكر أو أنثى إلا قتلته. فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبىّ منّا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدّقه فقتلناه فهذا دمه. فقال لهم: ما كان اسمه؟ قالوا: كان اسمه يحيى بن زكريّا. قال: الآن صدقتمونى، لمثل هذا ينتقم منكم ربكم. ولمّا رأى أنهم قد صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا باب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس. وخلا فى بنى إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربّى وربّك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل ألّا أبقى من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بن زكريّا بإذن الله تعالى، ورفع نبوزرادان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنه لا ربّ غيره. فأوحى الله تعالى الى رأس من رءوس بقيّة الأنبياء عليهم السلام أن نبوزرادان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- فقال نبوزرادان: يا بنى إسرائيل، إنّ عدوّ الله خردوس أمرنى أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإنى لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم أن يحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمر والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم فى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتى كانوا فوقها. فلمّا بلغ الدم عسكر خردوس أرسل الى نبوزرادان أن ارفع عنهم القتل فقد بلغتنى دماؤهم. ثم انصرف عنهم الى بابل وقد أفنى بنى إسرائيل أو كاد. وهذه هى الوقعة الآخرة التى أنزل الله تعالى فيها وفى الأولى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ «1» فكان بختنصّر

وجنوده. ثم ردّ الله لهم الكرّة عليهم. وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده فلم تقم لهم بعد ذلك راية. وانتقل الملك بالشام ونواحيها الى الروم واليونان، إلّا أنّ بقايا بنى إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك. وكانت لهم الديانة والرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك. وكانوا فى نعمة ومنعة الى أن بدّلوا وأحدثوا الأحداث واستحلّوا المحارم وضيّعوا الحدود، فسلّط الله تعالى عليهم ططوس «1» بن اسفيانوس «2» الرومى فأخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله تعالى منهم الملك والرياسة وضرب عليهم الذلّ، فليسوا فى أمّة من الأمم إلّا وعليهم الصّغار «3» والجزية والملك فى غيرهم. وبقى بيت المقدس خرابا الى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعمّره المسلمون بأمره. قال: وروى أبو عوانة عن أبى بشر قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله عز وجل: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات فقال: أمّا الذين جاسوا «4» خلال الديار فكان صرخان «5» الخزرى شعّث من الديار وتبرّ «6» . ثم قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ الى قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ الى قوله: تَتْبِيراً قال: هذا بختنصّر الذى خرّب بيت المقدّس. ثم قال لهم: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال: فعادوا فعيد عليهم، فبعث الله تعالى عليهم ملك الروم. ثم عادوا أيضا فعيد عليهم، فبعث عليهم درم أوزن «7» ملك الرىّ. ثم عادوا أيضا فعيد عليهم، فبعث عليهم سابور ذا الأكتاف.

ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام

وقال قتادة: هذه الآية قضاء قضى على القوم كما يسمعون، فبعث عليهم فى الأولى جالوت فسبى وقتل وخرّب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب، ثم قال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليكم برحمته. ثم عاد القوم بشرّ ما يحضرهم. فبعث الله تعالى عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته. ثم بعث الله تعالى عليهم هذا الحىّ من العرب، كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» فهم بهم فى عذاب الى يوم القيامة. وهذه الأخبار التى أوردناها فى هذا المكان من خبر زكريّا ويحيى وخراب بيت المقدس ثانيا، منها ما كان فى زمن عيسى عليه السلام، ومنها ما كان بعد رفعه. وإنما أوردناها سياقة وتركنا خبر عيسى عليه السلام لئلا تنقطع بغيرها وليتلو بعضها بعضا. فلنرجع الى أخبار عيسى بن مريم عليه السلام. ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام قال الكسائىّ رحمه الله تعالى: وكانت مريم تنمو وتزيد فى كل يوم وتعبد الله تعالى حتى برّزت فى العبادة على نساء بنى إسرائيل. فلمّا بلغت مبلغ النساء أتت منزل زكريّا، فقال لها: كيف خرجت من بيتك ومفتاحه معى؟ قالت: إنى رأيت أمرا قبيحا- أرادت بذلك الحيض- فجئتك بإذن الله. فأمرها زكريّا أن تكون عند خالتها حتى تطهر، ففعلت ذلك. فلما طهرت واغتسلت عادت إلى عبادتها. فكان ذلك عادتها وشأنها اذا حاضت. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً «2» أى سترا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعنى جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أى فى صورة رجل

قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أى مطيعا لربك قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ثم نفخ فى جيبها فوصلت النفخة الى جوفها فحملت بعيسى لوقتها. ويقال: إنّ زكريّا فى ذلك الوقت أفضى إلى امرأته فحملت بيحيى. وقيل: إنّ امرأة زكريّا حملت قبل مريم بثلاثة أشهر، وقيل ستة أشهر. وكانت مريم إذ ذاك بنت خمس عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة سنة. وحكى الثعلبىّ فى قصة حمل مريم أنه كان معها فى المسجد ابن عمّ لها من المحرّرين يقال له يوسف بن يعقوب النجّار، وكان رجلا حكيما نجّارا، يتصدّق بعمل يديه، وكان يوسف ومريم اذا نفد ماؤهما أخذ كل واحد منهما قلّته وانطلق إلى المغارة التى فيها الماء يستقيان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة. فلمّا كان اليوم الذى لقيها فيه جبريل، وكان أطول يوم فى السنة وأشدّ حرّا، نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقى؟ فقال لها: إنّ عندى لفضلا من ماء أكتفى به فى يومى هذا إلى غد. قالت: لكنى والله ما عندى ماء، فأخذت قلّتها ثم انطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت عندها جبريل عليه السلام، قد مثّله الله عز وجل بشرا سويّا؛ فقال لها: يا مريم، إنّ الله قد بعثنى اليك لأهب لك غلاما زكيّا. قالت: إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا. قال عكرمة: وكان جبريل قد عرض لها فى صورة شابّ أمرد وضىء الوجه، جعد الشعر، سوىّ الخلق. قال الحكماء: وإنما أرسله الله تعالى فى صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو أتاها على صورته التى هو عليها لفزعت ونفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه. فلمّا استعاذت مريم منه قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ

رَبِّكِ الآية. فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله تعالى. فنفخ جبريل فى جيب درعها، وكانت قد وضعته، ثم انصرف عنها. فلما لبست مريم درعها حملت بعيسى عليه السلام، ثم ملأت قلّتها وانصرفت الى المسجد. وقال السّدّىّ وعكرمة: إنّ مريم عليها السلام كانت تكون فى المسجد ما دامت طاهرة فإذا حاضت تحوّلت الى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هى تغتسل من الحيض وقد أخذت مكانا شرقيّا- قال الحسن: إنما اتخذت النصارى الشرق قبلة لأن مريم انتبذت مكانا شرقيّا- فاتخذت، فضربت من دونهم حجابا، أى سترا. وقال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، فبينما هى كذلك اذ عرض لها جبريل وبشّرها ونفخ فى جيب درعها. قالوا: فلما اشتملت على عيسى وتبيّن حملها داخلها الغمّ وعلمت أنّ بنى إسرائيل سوف يقذفونها، فنادتها الملائكة: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ أى من الحيض وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ . قال: وبشّرها الله تعالى بعيسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» . وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ «2» الآية فطابت نفسها. قال وهب: فلمّا اشتملت على عيسى وكان معها يوسف النجار، وكانا منطلقين الى المسجد الذى بجبل صهيون- وجبل صهيون على باب بيت المقدس- وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان ذلك المسجد، وكان لخدمته فضل عظيم، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتطهيره، وكان لا يعلم أحد من أهل زمانها أشدّ اجتهادا وعبادة

منهما. فكان أوّل من أنكر حمل مريم يوسف النجّار. فلما رأى ما بها استعظمه وقطع به ولم يدر على ماذا يضع أمرها. فكان إذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذى ظهر بها من الحمل. فلما اشتدّ ذلك عليه كلّمها، فكان أوّل ما كلّمها به أن قال لها: إنه قد وقع فى نفسى منك ومن أمرك شىء، وقد حرصت على أن أكتمه فغلبنى ذلك ورأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدرى. فقالت: قل قولا جميلا. قال: خبّرينى يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت نعم. قال: فهل تنبت شجرة بغير غيث يصيبها؟ قالت نعم. قال: فهل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: ألم تعلم أنّ الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذار إنما تكون من الزرع الذى كان أنبته من غير بذر!. ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث، وبالقدر جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحدة على حدة!. أو تقول إن الله لا يقدر على إنباته!. قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنى أعلم أن الله تبارك وتعالى يقدر على ما يشاء، يقول لذلك: كن فيكون. فقالت له مريم: أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته حوّاء من غير ذكر ولا أنثى!. قال بلى. فلمّا قالت له ذلك وقع فى نفسه أن الذى بها شىء من أمر الله، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها. وقال الكسائىّ: لما قال يوسف لمريم: هل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: نعم، آدم من غير أب وأمّ. قال صدقت. ثم قال: هذا الولد الذى فى بطنك من أبوه؟ قالت: هذا هبة ربّى لى، ومثله كمثل آدم خلقه من تراب. فنطق عيسى فى بطنها وقال: يا يوسف ما هذه الأمثال التى تضربها! قم فاشتغل بصلاتك واستغفر لذنبك مما قد وقع فى قلبك. فقام يوسف وجاء الى زكريّا وأخبره، فاغتمّ وقال لامرأته: إنّ مريم حامل، وأخاف من فسّاق

ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام

بنى إسرائيل أن يتّهموا يوسف بها. قالت: توكّل على الله واستعن به فإنه يردّ عنها مقالة الفسّاق. قالوا: ثم تولى يوسف خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمله فيه لما رأى من رقّة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوّتها. والله أعلم. ذكر خبر ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام قال الكسائىّ رحمه الله: فلمّا دنا وقت الولادة خرجت مريم فى جوف الليل من منزل زكريا حتى صارت إلى خارج بيت المقدس؛ فذلك قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا . قال: وأخذها الطّلق، فنظرت إلى نخلة يابسة فجلست تحتها فاخضرّت النخلة من ساعتها وصار لها سعفا وخوصا وحملت الرّطب لوقتها، وأنبع الله فى أصل النخلة عينا من الماء. قال: وعن وهب أنه لمّا دنت ولادة مريم عليها السلام أوحى الله تعالى إليها أن تخرج من المحراب فتتبوّأ منزلا تلد فيه، فتحوّلت إلى بيت خالتها أمّ يحيى بن زكريا لتلد فى بيتها. قال: فلمّا دخلت عليها استقبلتها أمّ يحيى وسلّمت عليها. فلما التقيا أحسّت أمّ يحيى بسجود من فى بطنها، فقالت: يا مريم، إن الذى فى بطنى يسجد لما فى بطنك. قالوا: ثم أوحى الله تعالى إلى مريم أن تخرج من أرض بيت «1» لحم إلى جهة من الأرض تلد فيها، فحملها يوسف النجّار على حمار بأكاف «2» ليس بينها وبين الأكاف غير

ثوبها وهى مثقلة لا تكاد تقوم. فانطلقا فى سواد الليل من بيت لحم يؤمّان الجبال، حتى إذا كانا ببعض الطريق بين نخلات ينزلها الرّكبان، بينهنّ أوارىّ «1» مبنيّة بناها السّفر «2» ليعلّقوا فيها دوابّهم. فنزلا ذلك المنزل، فأدركها المخاض، فالتجأت إلى بعض تلك الأوارىّ وهو فى أصل جذع نخلة يابس قحل ليس فيه عراجين «3» ولا غيرها، فأنبته الله تعالى وأثمره حتى أظلّها وأكنّها وتدلّت عليها غصونه من كل جانب حتى سترها السّعف والعراجين. واشتدّ بها الطّلق وداومها سبع ليال، وأشرفت على الموت، فقالت ما أخبر الله تعالى به عنها، قال الله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا «4» . قال: واشتدّ عليها البرد، فعمد يوسف الى حطب فجعله حولها كالحظيرة، ثم أشعل فيه النار فأدفأها، وكسر لها سبع جوزات فأكلتها. فمن أجل ذلك توقد النصارى النار ليلة الميلاد وتلعب بالجوز. قال وقال كعب: إنها خرجت منفردة، فلمّا فقدها زكريّا أهمّه ذلك، وبعث يوسف النجّار فى طلبها، فجاء حتى نظر إليها تحت النخلة. قال: ولمّا شكت من ألم الولادة ما شكت وقالت: «يا ليتنى متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا» أى لا تعرف ولا تذكر فَناداها مِنْ تَحْتِها - قيل: إن الذى ناداها عيسى. وقيل: جبريل- أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وهو الجدول الصغير. قالوا: كان نهرا من ماء عذب، يكون باردا إذا شربت منه، وفاترا إذا استعملته وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أى نضيجا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أى كلى واشربى من الماء الذى أنبعه الله لك وقرّى عينا بهذا الولد فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أى صمتا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

قال: فلما جاء يوسف النجّار كلّمها فلم تتكلم، فتكلّم عيسى فى حجرها وقال: يا يوسف، أبشر وقرّ عينا وطب نفسا، فقد أخرجنى ربى من ظلمة الأرحام الى ضوء الدنيا، وسآتى بنى إسرائيل وأدعوهم الى طاعة الله. واختلف العلماء فى مدّة حمل مريم عليها السلام بعيسى ووقت وضعها إياه، فقال بعضهم: كان تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود يوضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل ساعة واحدة. وقال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت، ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلا ساعة واحدة؛ لأن الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا. وقال مقاتل: حملته مريم فى ساعة وصوّر فى ساعة ووضعته فى ساعة حين زالت الشمس من يومها وهى بنت عشر سنين، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى عليه السلام. قال: فانصرف يوسف الى زكريّا وأخبره بولادة مريم وكلام عيسى، فازداد زكريّا غمّا لما يقوله الناس. قال الثعلبىّ قال وهب: فلما ولد عيسى عليه السلام أصبحت الأصنام كلها بكل أرض منكوسة على رءوسها، ففزعت الشياطين ولم يدروا لم ذلك، فساروا مسرعين حتى جاءوا إبليس وهو على عرش له فى لجّة خضراء يتمثل بالعرش يوم كان على الماء، فأتوه وقد خلت ستّ ساعات من النهار. فلمّا رأى إبليس جماعته فزع من ذلك ولم يرهم جميعا منذ فرّقهم قبل تلك الساعة إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم، فأخبروه أنه حدث فى الأرض حادث أصبحت الأصنام كلها منكوسة على رءوسها، ولم يكن شىء أعون على هلاك بنى آدم منها لما يدخل فى أجوافها فتكلّمهم وتدبّر أمرهم، فيظنّون أنها هى التى تكلّمهم، فلمّا أصابها هذا الحادث صغّرها فى أعين

بنى آدم وأذلّها، وقد خشينا ألّا يعبدوها بعد هذا. واعلم إنّا لم نأتك حتى أحصينا الأرض وقلبنا البحار وكل شىء، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا. فقال لهم إبليس: إنّ هذا الأمر عظيم، فكونوا على مكانكم. وطار إبليس عند ذلك ولبث عنهم ثلاث ساعات، فمرّ بالمكان الذى ولد فيه عيسى عليه السلام. فلمّا رأى الملائكة محدقين بذلك المكان علم أنّ ذلك الحادث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم الى السماء، ثم أراد أن يأتيه من تحت الأرض فإذا أقدام الملائكة راسية، فأراد أن يدخل من بينهم فنحّوه عن ذلك، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها شرقها وغربها وبرّها وبحرها والخافقين والجوّ الأعلى، وكل هذا بلغته فى ثلاث ساعات، وأخبرهم بمولد عيسى عليه السلام وقال: ما اشتملت قبله أمّ على ولد إلّا بعلمى، ولا وضعته قطّ إلّا وأنا حاضرها. وإنى لأرجو أن أضلّ به كثيرا ممن يهتدى، وما كان نبىّ قبله أشدّ علىّ وعليكم من هذا المولود. قال: ثم خرج من تلك الليلة قوم يؤموّنه من أجل نجم طلع، وكانوا قبل ذلك يتحدّثون أنّ مطلع ذلك النجم من علامات مولود فى كتاب دانيال، فخرجوا يريدونه ومعهم الذهب والمرّ واللّبان، فمرّوا بملك «1» من ملوك الشام، فسألهم أين تريدون؟ فأخبروه بخبرهم. قال: فما بال الذهب والمرّ واللّبان أهديتموه له من بين الأشياء

كلها «1» ؟ قالوا: تلك أمثاله؛ لأنّ الذهب سيّد المتاع كله، وكذلك هذا النبىّ سيد أهل زمانه. ولأنّ المرّ يجبر به الكسر والجرح، وكذلك هذا النبىّ يشفى الله تعالى به كل سقيم ومريض. ولأن اللّبان يبلغ دخانه إلى السماء ولا يبلغها دخان غيره، وكذلك هذا النبىّ يرفعه الله تعالى إلى السماء ولا يرفع فى زمانه أحدا غيره. فلمّا قالوا ذلك للملك حدّث نفسه بقتله فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلمونى ذلك فإنى راغب فى مثل ما رغبتم فيه من أمره. فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهديّة إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى الملك ليعلموه بمكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه ولا تعلموه بمكانه فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا فى طريق آخر. وقال مجاهد: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثنى وحدّثته، فإذا شغلنى عنه شىء سبّح فى بطنى وأنا أسمع. قالوا: وكان مولد عيسى عليه السلام بعد مضىّ اثنتين وأربعين سنة من ملك أغوسطوس «2» ، وخمسين سنة مضت من ملك الأشغانين «3» ملوك الطوائف. وكانت المملكة لملوك الطوائف، والرياسة بالشام ونواحيها لقيصر ملك الروم، والملك عليها من قبل قيصر هيرودس «4» ، وقيل فى اسمه هرادوس.

ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده إلى قومها

ذكر رجوع مريم بعيسى عليه السلام بعد مولده الى قومها قال الكسائىّ: ثم قامت مريم بعد الولادة وحملت عيسى على صدرها حتى أشرفت به على بنى إسرائيل وزكريا بينهم. وقال الثعلبىّ قال الكلبىّ: احتمل يوسف مريم وعيسى الى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالّت «1» مريم من نفاسها، ثم جاء بهما فكلّمها عيسى فى الطريق فقال: يا أمّاه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه. قال الله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «2» . فلما نظروا اليها بكوا وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أى عظيما فظيعا لا يعرف منك ولا من أهل بيتك، وكانوا أهل بيت صالحين. يا أُخْتَ هارُونَ واختلف فى سبب قولهم لها «يا أخت هارون» ، فقال الكسائىّ: ناداها هارون وكان أخاها من أمّها، وهو من أحبار بنى إسرائيل وعبّادهم، وقال لها: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فمن أين لك هذا الولد! وقال الثعلبىّ قال قتادة: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بنى إسرائيل، وليس هارون أخا موسى. وقال وهب: كان هارون من أفسق بنى إسرائيل وأظهرهم فسادا، فشبّهوها به. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أى كلّموه. قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا !، وضربوا بأيديهم على جباههم تعجّبا، فتنحنح عيسى وقالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا . قالوا: فلما سمع ذلك أحبار بنى إسرائيل علموا أنه لا أب له وأنّ الله تعالى خلقه كما خلق آدم. فقال زكريا: الحمد لله الذى برّأنا بقول عيسى من فسّاق بنى إسرائيل. قالوا: ثم لم يتكلم عيسى بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان. وقيل غير هذا. والله أعلم.

ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام إلى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدة مقامه إلى أن عاد

ذكر خروج مريم وعيسى عليهما السلام إلى مصر وما ظهر له من المعجزات فى مسيره ومدّة مقامه إلى أن عاد قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «1» . اختلف العلماء فى الرّبوة فقال عبد الله بن سلام: هى دمشق. وقال أبو هريرة: هى الرّملة. وقال قتادة وكعب: هى بيت المقدس. وقال كعب: هى أقرب الأرض إلى السماء. وقال أبو زيد: هى مصر. وقال الضحّاك: هى غوطة دمشق. وقال أبو العالية: هى أيلة. وقال بعض المفسرين: هى قرية من قرى مصر تسمى سدمنت. وسدمنت: بلد من بلاد إقليم الفيوم معروفة مشهورة. وقوله تعالى: ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ القرار: الأرض المستوية. والمعين: الماء الظاهر. وكان سبب خروج مريم إلى مصر ما حكاه الكسائىّ وغيره من أهل السير قالوا: وبلغ الملك هيردوس خبر عيسى فهم بقتل مريم وابنها، فخاف زكريا والمؤمنون عليهما من القتل، وذلك بعد مولد عيسى بأيام قلائل، فقال زكريا لمريم: إنى أخاف عليك وعلى ابنك من هذا الملك، وأمر يوسف النجّار أن ينقلهما إلى أرض مصر، وأعطاهما أتانا وزوّدهم، فسار يوسف بهما نحو مصر. وكان من المعجزات التى ظهرت على يدى عيسى عليه السلام فى مسيره ومقامه بمصر أنه بينما هم سائرون إلى أرض مصر رأى يوسف النّجار فى بعض الطريق أسدا ففزع منه، فقال عيسى: قرّبانى إلى الأسد ولا تقرباه أنتم، فقرّبوه؛ فلما صاربين يدى الأسد قال عيسى: أيها الوحش، ما وقوفك على قارعة الطريق؟ قال: لثور

معجزة أخرى:

يمرّ علىّ لا بدّ لى منه. قال عيسى: هذا الثور لقوم مساكين ليس لهم سواه، ولكن انطلق إلى برّيّة كذا وكذا، فإنك سترى جملا ميّتا فكله، واترك هذا الثور لأصحابه، فمضى الأسد نجو الميتة وتركهم. والله أعلم بالصواب. معجزة أخرى: قال: ثم ساروا، فرأوا قوما قد اجتمعوا بالقرب من دار ملك من الملوك. فقال لهم عيسى: ما وقوفكم هاهنا؟. قالوا: امض أيها الصبىّ لشأنك. قال: أتحبّون أن أخبركم بوقوفكم؟ قالوا نعم. قال: إنكم تريدون دخول هذه الدار اذا جنّ الليل فتأخذون مال هذا الملك، فلا تفعلوا فإنه مؤمن، ودلّهم على كنز وقال: إنه كان لقوم ماتوا، فسار أولئك إليه واقتسموا منه مالا عظيما. معجزة أخرى: قال: ثم ساروا حتى دخلوا قرية عامرة وقد اجتمع الناس على باب ملكها ومعهم صنم من حجر وهم يبكون ويسجدون لذلك الصنم. فقال عيسى: ما شأنكم أيها القوم؟ فقالوا: إنّ امرأة هذا الملك قد عسر عليها وضع الولد، وقد أمرنا الملك أن نسجد لهذا الصنم ونسأله أن يخفّف عنها ما هى فيه. قال عيسى: اذهبوا الى الملك وقولوا له: لو وضعت يدى على بطنها يخرج الولد عاجلا. فأخبروا الملك فقال: ائتونى به، فأدخلت مريم وعيسى على الملك، فعجب من نطقه وهو صغير، وأدخل على المرأة، فقال عيسى: إن أخبرتك بما فى بطنها وخرج كما أقول أتؤمن بربّى الذى خلقنى من روحه؟. قال نعم. قال عيسى: فى بطنها غلام على خدّه خال أسود، وعلى ظهره شامة بيضاء، ثم وضع يده على بطن المرأة وقال: أيها الجنين، بالذى خلق الخلق وأسبغ عليهم سعة الرزق اخرج. فخرج الولد على ما وصفه عيسى.

معجزة أخرى:

فهمّ الملك أن يؤمن، فقال وزراؤه: إنّ هذه المرأة ساحرة، وهذا الصبىّ مثلها، وقد طردوهما من بيت المقدس، ولم يزالوا به حتى ردّوه عن الإيمان. فأرسل الله تعالى على الملك وقومه صاعقة فأهلكتهم. ثم مضى يوسف بهما حتى دخلوا مصر، ونزلت مريم دار دهقان «1» هناك، ولم يكن لها ما تعيش منه إلّا الغزل، فكانت تغزل الكتّان والصوف بالأجرة لأهل مصر، ويوسف يحتطب ويبيع الحطب مدّة ليس لهم رزق إلا من ذلك. معجزة أخرى: قال الثعلبىّ قال وهب: كان أوّل آية رآها الناس من عيسى أنّ أمه كانت نازلة فى دار دهقان من أهل مصر أنزلها به يوسف النجّار حين ذهب بها إلى مصر، وكانت داره يأوى إليها المساكين، فسرق للدّهقان مال من خزانته فلم يتّهم المساكين، فحزنت مريم لمصيبة الدهقان. فلمّا رأى عيسى حزن أمّه بمصيبة صاحب ضيافتها قال لها: يا أمّاه، أتحبّين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم يا بنىّ. قال: قولى له يجمع لى مساكين داره. فقالت مريم ذلك للدهقان، فجمع له المساكين. فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى وقال له: قم به. فقال الأعمى: أنا أضعف من ذلك. فقال عيسى: وكيف قويت على ذلك البارحة!. فلمّا سمعوه يقول ذلك ضربوا الأعمى حتى قام. فلما استقلّ قائما هوى المقعد إلى كوة الخزانة. فقال عيسى عليه السلام: هكذا احتالا على مالك البارحة، لأنّ الأعمى استعان بقوّته والمقعد بعينيه. فقال المقعد والأعمى: صدق، فردّا على الدهقان ماله. فقال الدهقان لمريم: خذى نصف المال. فقالت: إنى لم أخلق لهذا. قال: فأعطه ابنك. قالت: هو أعظم منى شأنا. والله أعلم بالصواب.

معجزة أخرى:

معجزة أخرى: قال: ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابنا له، فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر وكان يطعمهم شهرين. فلمّا انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام ولم يعلم الدهقان بهم حتى نزلوا به وليس عنده يومئذ شراب. فلمّا رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من بيوت الدهقان فيه جرار، فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشى، فكلّما مرّ بيده على جرّة امتلأت شرابا حتى أتى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنى عشرة سنة. معجزة أخرى: قال: وبينا عيسى يلعب مع الصبيان بأرض مصر، إذ وثب غلام منهم على غلام آخر فقتله. فجاء أهله وتعلّقوا بجميع الصبيان وفيهم عيسى وأتوا بهم الى القاضى. فقال القاضى: من قتل هذا؟ قالوا: هذا، وأشاروا إلى عيسى. فقال له القاضى: لم قتلت هذا الغلام؟ قال: أراك حاكما جاهلا، كان يجب أن تسألنى: أقتلته أم لا! قال القاضى: أراك ذا عقل، فما اسمك؟ قال: عيسى بن مريم. قال: يا عيسى، لم قتلته؟ قال: يا جاهل، أبهذا أمرتك؟ ثم دنا عيسى من الغلام وقال: قم بإذن الله الذى يحيى العظام وهى رميم، فاستوى جالسا وقال له: من قتلك؟ قال: قتلنى فلان بن فلان، وهذا عيسى بن مريم برىء من دمى. فعجب الناس من ذلك وقتلوا قاتل الغلام، وأخذت مريم بيد عيسى وانطلقت. معجزة أخرى: قال: وأتت به أمّه الى معلّم ليعلّمه، فقال: إنّ ربى قد أغنانى عن تعليم المعلّمين وقد علّمنى التوراة والإنجيل. قالت: صدقت، ولكن تكون عند معلّم خير من أن تلعب مع الصبيان. فأتت به الى معلّم يعلّمه، فعلّمه عيسى. قال الثعلبىّ: وروى

معجزة أخرى:

محمد الباقر رحمه الله قال: لما ولد عيسى عليه السلام كان ابن يوم كأنه ابن شهر، فلمّا كان ابن تسعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به الى كتّاب وأقعدته بين يدى المؤدّب. فقال له المؤدّب: قل: «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقالها عيسى عليه السلام. فقال المؤدّب: قل: أبجد، فرفع عيسى رأسه وقال للمؤدّب: هل تدرى ما أبجد؟ فعلاه ليضربه. فقال: يا مؤدّب، لا تضربنى، إن كنت تدرى وإلّا فسلنى حتى أفسّر لك. فقال: فسّره لى. فقال عيسى عليه السلام: الألف آلاء الله، والباء بهجة الله، والجيم جلال الله، والدال دين الله. هوّز، الهاء هى جهنم وهى الهاوية، والواو ويل لأهل النار، والزاى زفير جهنم. حطّى، حطّت الخطايا عن المستغفرين. كلمن، كلام الله غير مخلوق لا مبدّل لكلماته. سعفص، صاع بصاع والجزاء بالجزاء. قرشت تقرشهم حين تحشرهم، أى تجمعهم. فقال المؤدّب لأمه: أيتها المرأة، خذى بيد ابنك فقد علّم ولا حاجة له الى مؤدّب. وقال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عيسى عليه السلام أرسلته أمّه الى الكتّاب ليتعلّم، فقال له المعلّم قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال وما باسم الله. قال لا أدرى. قال الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مملكته» . والله أعلم الموفّق. معجزة أخرى: قال الكسائىّ: وانطلقت به أمّه إلى صبّاغ ليعلّمه صنعة الصباغة. فأخذه الصبّاغ وأمره أن يملأ التّيغارات «1» من تيغار كبير، وناوله أصباغا وأمره أن يجعل فى كل تيغار صبغا، وأن يصبغ الثياب فى تلك التيغارات على اختلاف ألوانها، وفارقه الصبّاغ وخرج إلى منزله. فعمد عيسى إلى تيغار واحد وملأه ماء وأخذ جميع تلك

ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره

الأصباغ فجعلها فيه، ووضع جميع تلك الثياب فيه وانصرف إلى أمّه. فلما كان من الغد جاء الصبّاغ إلى الحانوت فنظر إلى ما فعله عيسى، فقال له: يا عيسى أهلكتنى وأفسدت ثياب الناس. قال عيسى: يا صبّاغ، ما دينك؟ قال: دين اليهود. قال: قل: لا إله إلا الله وأنّى عيسى روح الله، وأدخل يدك فى هذا التيغار وأخرج كل ثوب على ما تريد. فآمن الصبّاغ بالله وبعيسى عليه السلام وأدخل يده فأخرج كل ثوب على ما أراده أصحابه. قال: وظهر لعيسى بمصر معجزات كثيرة. ذكر خبر زكريا عليه السلام مع هيرودس الملك وما كان من أمره قال الكسائىّ: ولمّا كان من أمر عيسى عليه السلام وكلامه ما قدّمناه وتنكّست الأصنام ليلة مولده، جاء إبليس لعنه الله إلى الملك فى صورة شيخ وقال له: أيها الملك، إن لك عندى نصيحة فاخل معى. فخلا به وقال: ما نصيحتك؟ قال: قد بلغك ما كان من شأن المولود الذى تكلم فى المهد. قال نعم. قال: وقد رأيت ما حلّ بالأصنام من شؤم مولده، وإنه لخليق أن يشمل الأرض كلها بشؤمه، وأنت فلا يمكنك قتله الآن لخروجه من بلادك، وأرى أن تفعل أمرا يتشاءم الناس بسببه بهذا المولود ويعينونك على قتله، وأنت مع ذلك تطلبه، فإن ظفرت به ذبحته. قال الملك: فما الذى رأيت؟ فلعمرى لقد وقع فى نفسى إنك لخليق أن يكون عندك رأى ومكيدة. قال: تذبح الولدان، فإن ذلك يبغّضه إلى الناس ويتشاءمون به فيكفوك أمره. قال: لقد أتيت بالأمر على وجهه، وأمر بذبح الولدان من سنتين فما دونهما، فوقع الذبح فى صبيان بنى إسرائيل. قال: ثم انطلق إبليس إلى مجالس بنى إسرائيل ونواديهم يقول: الفاحشة فى مريم ويقذفها بزكريا، يعرّض

ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر

بذلك لخيارهم، ويبوح به ويصرح لشرارهم، حتى شاعت الفاحشة على زكريّا. فلما رأى زكريا ذلك هرب واتّبعه سفاؤهم وشرارهم، وسلك فى واد كثير النبت، حتى اذا توسّط الوادى انفرجت له شجرة فدخلها وأقبل القوم فى طلبه، وإبليس يقدمهم حتى أوقفهم عليه وهو فى الشجرة وقد التحمت عليه، فأشار عليهم بقطعها، فقطعت. ثم قال لهم: أىّ العقوبة والنكال أبلغ فى هذا الذى أورث آباءكم الطيبين إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذرّيتهم من بعدهم الفضيحة والعار؟!. قالوا: القتل أو النشر. فأشار عليهم بنشره، فنشروه نصفين ثم انصرفوا عنه، وغاب عنهم إبليس لعنه الله. وبعث الله تعالى الملائكة فغسلوا زكريّا وصلّوا عليه ثلاثة أيام ثم دفنوه. وقد قيل فى مقتل زكريا غير هذا، وقد تقدّم فى أخباره. والله أعلم. ذكر رجوع عيسى ومريم عليهما السلام من مصر قال الكسائىّ قال وهب: وأقامت مريم وابنها عيسى بمصر اثنتى عشرة سنة حتى أهلك الله الملك هيرودس. قال: وأوحى الله تعالى إلى مريم بوفاة الملك وأمرها أن ترجع إلى بلادها بالشام، فجاء يوسف النجار فرجع بها. فلم تزل هى وابنها يسكنان بجبل الخليل بقرية يقال لها الناصرة «1» ، وبها سمّيت النصارى، وبها ابتدعت النصرانية. قال: ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى بعد أن تمت له ثلاثون سنة أن يبرز إلى الناس ويدعوهم إلى الله تعالى، وأنزل عليه الإنجيل. فكان يسير فى البلاد ويدعو

ذكر خبر الحواريين حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به

الناس إلى الله عز وجل، ويرغّبهم فيما عنده، ويزهّدهم فى الدنيا ويضرب لهم أمثالا، ويداوى المرضى والزّمنى «1» ، ويبرئ الأكمه والأبرص. فأحبّه الناس وسكنوا إليه، وكثرت أتباعه حتى امتنع وعلا أمره. ثم أحيا الموتى بإذن الله تعالى. قالوا: وربما اجتمع عليه من المرضى والزّمنى فى الساعة الواحدة خمسون ألفا، فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يقدر على ذلك أتاه عيسى يمشى إليه. وإنما كان يداويهم بالدعاء بشرط الإيمان. ذكر خبر الحواريّين «2» حين اتبعوا عيسى عليه السلام وآمنوا به قال الكسائىّ رحمه الله: ومرّ عيسى على قوم يصيدون السمك وهم أربعة: شمعون، وأخ له اسمه أندريوس، ويعقوب، ويوحنّا. فوعظهم وزهّدهم فى الدنيا ووعدهم الجنة ونعيمها فآمنوا به واتّبعوه. قال: ومرّ بطائفة أخرى فوجدهم على نهر يغسلون الثياب، منهم لوقا، وتوما، ومرقوس، ويوحنّا، وأخوان لهم صبيّان لم يبلغا الحلم، أحدهما شمعون والآخر يعقوب، وقيل فى أسمائهم غير هذا. والله تعالى أعلم. فقال لهم عيسى: يا قوم، إنكم تقصّرون هذه الثياب وتنظّفونها من أوساخها، فلم لا تفعلون ذلك مع قلوبكم!. ثم قال لهم: إنّى رسول الله إليكم جميعا، وبشرّهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «3»

ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه

قال: فآمنوا به واتّبعوه، وكانوا كلهم اثنى عشر رجلا، أربعة منهم كانوا يصيدون السمك، وثمانية يقصّرون الثياب. وكان من القصّارين رجل أسفل النهر يقال له يوذا «1» لم يسمع كلام عيسى. فلمّا رأى أصحابه اتّبعوه لحق بهم، وهو الذى ارتدّ بعد ذلك ودلّ اليهود على عيسى، فصاروا به قبل ارتداده ثلاثة عشر. ذكر الخصائص والآيات والمعجزات التى أظهرها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام بعد مبعثه قال الله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي «2» الآيات. قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ قال الحسن: ذكر النعمة: شكرها، وأراد بقوله: نِعْمَتِي نعمى، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «3» . ثم ذكر تعالى النعم فقال: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وقال: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «4» . واختلفوا فى روح القدس ما هو؟ فقال الربيع بن أنس: هو الرّوح الذى نفخ فيه، أضافه سبحانه الى نفسه

تكرّما وتخصيصا، نحو: بيت الله، وناقة الله. والقدس: هو الله تعالى يدلّ عليه قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ وقوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «1» . وقال آخرون: أراد الله تعالى بالقدس: الطهارة، يعنى الروح الطاهرة، سمّى روحه قدسا لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة إنما كان أمرا من الله تعالى. وقال السّدّىّ وكعب: روح القدس هو جبريل، وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام هو أنه كان رفيقه وقرينه يوحى اليه ويعينه ويسير معه حيثما سار الى أن صعد به الى السماء. وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم، وبه كان يحيى الموتى ويرى الناس تلك العجائب. وقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ يعنى الخطّ، وَالْحِكْمَةَ يعنى العلم والفهم. وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ كان يقرؤهما من حفظه. وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي . قوله: تَخْلُقُ أى تجعل وتصوّر وتقدّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أى كصورة الطير. فكان عيسى يصوّر من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيصير طيرا بإذن الله تعالى. قالوا: ولم يخلق غير الخفّاش. وانما خص بالخفّاش لأنها أكمل الطير خلقا، فتكون أبلغ فى القدرة، لأن لها ثديا وأسنانا، وهى تلد وتحيض وتطهر. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميّز فعل الخلق من فعل الله تعالى، وليعلم أنّ الكمال لله عز وجل. وقوله تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي. الأكمه: الذى ولد أعمى ولم ير الضوء قط. قالوا: ولم يكن فى الإسلام أكمه غير قتادة. والأبرص: الذى به وضح، وكان الغالب على زمن عيسى الطبّ، فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك.

ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل

قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: يروى أنّ عيسى عليه السلام مرّ بدير فيه عميان، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم طلبوا للقضاء فطمسوا أعينهم بأيديهم. فقال لهم: ما دعاكم الى هذا؟ فقالوا: خفنا عاقبة القضاء فصنعنا بأنفسنا ما ترى. فقال: أنتم العلماء والحكماء والأحبار والأفاضل، امسحوا بأيديكم أعينكم وقولوا: باسم الله. ففعلوا ذلك فإذا هم جميعا يبصرون. ذكر خبر سام بن نوح وغيره الذين أحياهم عيسى بإذن الله عز وجل قال الكسائىّ قال وهب: سألت طائفة من بنى إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أن يحيى لهم سام بن نوح وقالوا: أحى «1» لنا سام بن نوح ليكلّمنا وإلّا قتلناك، وإن فعلت آمنّا بك واتبعناك. فأوحى الله تعالى اليه: ناده ثلاث مرّات فإنه سيجيبك. فقام عيسى على قبره وناداه ثلاث مرات: يا سام بن نوح قم بإذن الله، فقام فى الثلاثة وهو أشمط «2» الرأس واللحية. فقال له عيسى: أهكذا متّ أبيض الرأس واللحية؟ قال: لا، ولكنىّ سمعت نداءك فخفت أن تكون القيامة فشمطت، وأخبر القوم بما أرادوه وكلمهم، ثم ردّه عيسى الى قبره، وما آمن بعيسى منهم إلّا قليل.

قالوا: وممن أحياه عيسى بن مريم العازر، وكان صديقا له، فأرسل أخته الى عيسى إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبين أن يصل إليه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا الى قبره، فانطلقت معهم الى قبره وهو فى صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهمّ ربّ السموات السبع والأرضين السبع إنك أرسلتنى الى بنى إسرائيل أدعوهم الى دينك وأخبرتهم أنى أحيى الموتى بإذنك فأحى العازر. فقام العازر وأوداجه تقطر. فخرج من قبره وبقى وولد له. قالوا: ومرّ عيسى عليه السلام برجل جالس على قبر وكان يكثر المرور به فيجده جالسا عنده، فقال له: يا عبد الله، أراك تكثر القعود على هذا القبر. فقال: يا روح الله، امرأة كانت لى وكان من جمالها وموافقتها كيت وكيت ولى عندها وديعة. فقال عيسى: أتحبّ أن أدعو الله تعالى فيحييها؟ قال نعم. فتوضّأ عيسى وصلّى ركعتين ودعا الله عز وجل فإذا أسود قد خرج من القبر كأنه جذع محترق. فقال له: ما أنت؟ قال: يا رسول الله أنا فى عذاب منذ أربعمائة سنة، فلما كانت هذه الساعة قيل لى أجب فأجبت. ثم قال: يا رسول الله، قد مرّ علىّ من أليم العذاب ما إن ردّنى الله الى الدنيا أعطيته عهدا ألّا أعصيه، فادع الله لى. فرقّ له عيسى ودعا الله عز وجل ثم قال له: امض، فمضى. فقال صاحب القبر: يا رسول الله، لقد غلطت بالقبر، إنما قبرها هذا. فدعا عيسى عليه السلام، فخرج من ذلك القبر امرأة شابّة جميلة. فقال له عيسى: أتعرفها؟ قال: نعم هذه امرأتى. فدعا عيسى حتى ردّها الله عليه. فأخذ الرجل بيدها حتى انتهيا الى شجرة فنام تحتها ووضع رأسه فى حجر المرأة. فمرّ بهما ابن ملك فنظر اليها ونظرت اليه وأعجب كل

واحد منهما بصاحبه، فأشار اليها فوضعت رأس زوجها على الشجرة واتّبعت ابن الملك. فاستيقظ زوجها ففقدها وطلبها فدلّ عليها، فأدركها وتعلّق بها وقال: امرأتى، وقال الفتى: جاريتى. فبينما هم كذلك إذ طلع عيسى فقال الرجل: هذا عيسى وقصّ عليه القصّة. فقال لها عيسى: ما تقولين؟ قالت: أنا جارية هذا ولا أعرف هذا. فقال لها عيسى: ردّى علينا ما أعطيناك. قالت: قد فعلت. فسقطت مكانها ميّتة. فقال عيسى: هل رأيتم رجلا أماته الله كافرا ثم بعثه فآمن!. وهل رأيتم امرأة أماتها الله مؤمنة ثم أحياها فكفرت!. قالوا: ومرّوا بميّت على سرير، فدعا عيسى الله تعالى، فجلس الميّت على السرير ونزل عن أعناق الرجال ولبس الثياب وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله وبقى وولد له. وممن أحياه عيسى بإذن الله تعالى ابنة العازر، قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس! فدعا الله عز وجل، فعاشت وبقيت وولدت. قال الكسائىّ: وسأل بنو إسرائيل عيسى عليه السلام أن يحيى لهم عزيرا، فقال: التمسوا قبره فالتمسوه، فوجدوه فى صندوق من حجر، فعالجوه ليفتحوا بابه فلم يستطيعوا ذلك. فرجعوا الى عيسى وأخبروه أنهم عجزوا أن يخرجوه من قبره، فأعطاهم ماء فى إناء وقال: انضحوه بهذا الماء فإنه ينفتح. فانطلقوا ونضحوه بالماء فانفتح طابقه. فأقامه عيسى فى أكفانه فنزعها عنه، ثم جعل ينضح جسده بالماء ولحمه ينبت وشعره وهم ينظرون. ثم قال عيسى: يا عزير احى بإذن الله، فإذا هو جالس. فقالوا: ما شهادتك على هذا الرجل؟ فقال عزير: أشهد أنه روح الله وكلمته ألقاها الى مريم وأنه عبد الله ونبيّه وابن أمته. قالوا: يا عيسى، ادع ربك يحييه لنا فيكون بين أظهرنا. فقال عيسى: ردّوه الى قبره فإنه انقطع رزقه وانقضى أجله، فردّوه الى قبره.

ومن معجزاته عليه السلام إخباره عن الغيوب

ومن معجزاته عليه السلام إخباره عن الغيوب قال الله عز وجل إخبارا عنه: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» . قالوا: لما أبرأ عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله قالوا له: إنك تزعم أنك تخبرنا بما نأكل فى بيوتنا وما ندّخر. قال نعم. قالوا: فإنّا نجمع خيارنا وأحبارنا ورهباننا فنأمرهم أن يأكلوا ويدّخروا فى بيوتهم ثم نأتيك فتخبرنا. قال نعم. فانطلقوا الى بيوتهم وأكلوا وادّخروا وأقبلوا اليه من الغد، وسأله كل رجل منهم وهو يخبره بما أكل وادّخر. ومما أخبر به عيسى عليه السلام من المغيّبات قصّة ابن العجوز. وكان من خبره ما حكاه أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله أن عيسى عليه السلام مرّ فى سياحته بمدينة ومعه الحواريّون، فقال: إنّ فى هذه المدينة كنزا، فمن يذهب فيستخرجه؟. قالوا: يا روح الله، لا يدخل هذه القرية غريب إلّا قتلوه. فقال لهم: مكانكم حتى أعود اليكم، ومضى حتى دخل المدينة فوقف بباب فقال: السلام عليكم يأهل الدار، غريب أطعموه. فقالت له امرأة عجوز: أما ترضى أن أدعك لا أذهب بك الى الوالى حتى تقول أطعمونى شيئا!. فبينا عيسى بالباب إذ أقبل ابن العجوز فقال له عيسى: يا عبد الله، أضفنى ليلتك هذه. فقال له الفتى مثل مقالة العجوز. فقال له عيسى: أما إنك لو فعلت ذلك زوّجتك بنت الملك. فقال له الفتى: إمّا أن تكون مجنونا، وإمّا أن تكون عيسى بن مريم. قال: أنا عيسى. فأضافه وبات عنده. فلّما أصبح قال له: اغد وادخل على الملك وقل له: جئت أخطب ابنتك فإنه سيأمر بضربك وإخراجك. فمضى الفتى حتى دخل على الملك وقال له:

ذكر خبر يجمع عدة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام

جئت أخطب إليك ابنتك، فأمر به فضرب وأخرج. ورجع الفتى إلى عيسى فأخبره، فقال له: إذا كان الغد فاذهب إليه واخطب إليه فإنه ينالك بدون ذلك. ففعل ما أمره عيسى، فضربه الملك دون ذلك. فرجع الى عيسى فأخبره، فقال: إرجع اليه واخطبها فإنه سوف يقول لك: إنى أزوّجك إياها على حكمى، وحكمى قصر من ذهب وفضّة، وما فيه من فضّة وزبرجد، فقل له: أفعل ذلك. فاذا بعث معك فاخرج فإنك سوف تجده فلا تحدث فيه شيئا. فدخل عليه فخطب اليه، فقال: تصدقها حكمى؟ فقال: وما حكمك؟ فحكم الذى سمّى [له «1» ] عيسى. فقال له: نعم، ابعث من يقبض ذلك. فبعث معه [قوما «2» ] ، فدفع إليهم ما سأله الملك. فعجب الملك من ذلك وسلّم اليه ابنته. فتعجّب الفتى وقال لعيسى: يا روح الله، تقدر على مثل هذا وأنت على مثل هذه الحال!. قال عيسى: لأننى آثرت ما يبقى على هذا الفانى. فقال الفتى: وأنا أدعه وأصحبك. فتخلّى من الدنيا واتّبع عيسى. فأخذ بيده وأتى أصحابه وقال: هذا هو الكنز الذى قلت لكم. فكان ابن العجوز مع عيسى حتى مات. والله أعلم. ذكر خبر يجمع عدّة معجزات من معجزات عيسى عليه السلام حكى أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله قال وهب: خرج عيسى عليه السلام يسيح فى الأرض، فصحبه يهودىّ، وكان مع اليهودىّ رغيفان، ومع عيسى رغيف. فقال له عيسى: تشاركنى فى طعامك؟ قال اليهودىّ نعم. فلمّا رأى اليهودىّ أنّ عيسى ليس معه إلا رغيف واحد ندم. فقام عيسى الى الصلاة فأكل اليهودىّ رغيفا. فلما قضى عيسى صلاته قدّما طعامهما، فقال عيسى لليهودىّ: أين الرغيف الآخر؟

فقال: ما كان إلّا رغيف واحد، فأكل عيسى رغيفا وصاحبه رغيفا، ثم انطلقا فجاءا الى شجرة، فقال عيسى لصاحبه: لو أننا بتنا تحت هذه الشجرة!. فناما ثم أصبحا. فانطلقا فلقيا أعمى، فقال له عيسى: أرأيت إن عالجتك حتى ردّ الله عليك بصرك هل تشكره؟ قال نعم. فمسّ عيسى عليه السلام بصره ودعا الله تعالى فإذا هو صحيح. فقال عيسى لليهودىّ: بالذى أراك الأعمى بصيرا كم كان معك من رغيف؟ فقال: والله ما كان إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى عنه. ومرّا فإذا هما بمقعد، فقال له عيسى: أرأيت إن عالجتك فعافاك الله تعالى هل تشكره؟ قال بلى. فدعا الله عيسى فإذا هو صحيح قائم على رجليه. فقال صاحب عيسى: ما رأيت مثل هذا قط!. فقال عيسى: بالذى أراك الأعمى بصيرا والمقعد صحيحا، من صاحب الرغيف الثالث؟ فحلف له اليهودىّ ما كان معه إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى. وانطلقا حتى انتهيا الى نهر عجّاج جرّار، فقال عيسى: لا أرى جسرا ولا سفينة، فخذ بحجزتى «1» من ورائى وضع قدمك موضع قدمى، ففعل ومشيا على الماء. فقال له عيسى: بالذى أراك الأعمى بصيرا والمقعد صحيحا وسخّر لك هذا البحر حتى مشيت عليه، من صاحب الرغيف الآخر؟ فقال: لا والله ما كان إلّا رغيف واحد، فسكت عيسى. وانطلقا فإذا هما بظباء يرعين، فدعا عيسى بظنى فأتاه فذبحه وشوى منه بعضا وأكلاه، ثم ضرب عيسى بقية الظبى بعصاه وقال: قم بإذن الله عز وجل فإذا الظبى يعدو. فقال الرجل: سبحان الله!. فقال عيسى: بالذى أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الآخر؟ فقال: ما كان إلّا رغيف واحد. فانطلقا فمرّا بصاحب بقر، فنادى عيسى: يا صاحب البقر، اجزر لنا من بقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. فانطلق اليهودىّ فجاء به، فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر إليه. فقال له عيسى:

كل ولا تكسر له عظما، ففعل. فلمّا فرغ قذف بعظامه فى جلده وضربه بعصاه وقال: قم بإذن الله تعالى، فقام العجل وله خوار. فقال: يا صاحب البقر خذ عجلك. قال: ويحك! من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: عيسى السحّار! ثم فرّ منه. فقال عيسى لصاحبه: بالذى أحيا لك العجل، كم كان معك من رغيف؟ قال: ما كان معى إلا رغيف واحد، فسكت عيسى. ومضيا حتى دخلا قرية، فنزل عيسى فى أسفلها واليهودىّ فى أعلاها، فأخذ اليهودىّ عصا عيسى وقال: أنا الآن أبرئ المرضى وأحيى الموتى. قال: وكان ملك تلك المدينة مريضا مدنفا. فانطلق اليهودىّ ينادى: من يبتغى طبيبا، حتى أتى قصر الملك، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلونى عليه فأنا أبرئه، وإن لقيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إنّ وجع الملك قد أعيا الأطبّاء قبلك، فليس من طبيب يداويه ولا يشفيه إلّا صلبه. فقال: أدخلونى عليه، فأدخلوه فضرب الملك بعصاه فمات. فجعل يضربه بالعصا وهو ميّت ويقول: قم بإذن الله. فأخذ ليصلب. فبلغ ذلك عيسى، فأقبل اليه وقد رفع على الخشبة، فقال لهم: أرأيتم إن أحييت لكم الملك أتتركون لى صاحبى؟ قالوا نعم. فدعا الله تعالى عليه السلام فأحياه وقام وأنزل اليهودىّ من الخشبة، فقال: يا عيسى، أنت أعظم الناس على منّة، والله لا أفارقك أبدا. فقال له عيسى: أنشدك الله الذى أحيا الظبى والعجل بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد ما صلبت، كم كان معك من رغيف؟ قال: والله ما كان معى إلّا رغيف واحد، قال: لا بأس. ثم انطلقا حتى أتيا قرية عظيمة خربة فيها كنز وفيها ثلاث لبنات من ذهب. فقال الرجل لعيسى: هذا المال لك؟ فقال: أجل! واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة للذى أكل الرغيف الثالث. فقال اليهودىّ: أنا والله أكلته وأنت تصلى. فقال عيسى: هى لك كلها. فانطلق عيسى وتركه قائما ينظر وهو لا يستطيع أن

ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء

يحمل واحدة منهنّ، وكلما أراد أن يحمل واحدة ثقلت عليه. فقال له عيسى: دعه فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفس اليهودىّ تطلّع إلى المال ويكره أن يعصى عيسى ويعجز عن حمله. فانطلق مع عيسى، فبينما هما كذلك إذ مرّ بالمال ثلاثة نفر فأقاموا عليه. فقال اثنان منهما لصاحبهما: انطلق إلى أهل هذه القرية «1» فأتنا بطعام وشراب ودوابّ نحمل هذا المال عليها. فلمّا ذهب صاحبهما قال أحدهما للآخر: هل لك أن نقتله إذا رجع ونقتسم المال فيما بيننا؟ قال نعم. وقال الذى ذهب فى نفسه: هو ذا أجعل فى الطعام سمّا فإذا أكلاه ماتا ويصير المال كله إلىّ، ففعل ذلك. فلمّا رجع إليهما قتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا. ومرّ عيسى عليه السلام بهم وهم موتى حوله، فقال: هكذا تصنع الدنيا بأهلها، فأحياهم بإذن الله عز وجل، فاعتبروا ومرّوا ولم يأخذوا من المال شيئا. فتطّلعت نفس اليهودىّ صاحب عيسى إلى المال فقال: أعطنى المال. فقال له عيسى: خذه فهو حظّك من الدنيا والآخرة. فلمّا ذهب اليهودىّ ليحمله خسف الله تعالى به الأرض، وانطلق عيسى عليه السلام. ذكر خبر المائدة التى أنزلها الله عز وجل من السماء قال وهب: وسأل بنو إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء. قال الله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» وقرأ علىّ وعائشة وسعيد بن جبير ومجاهد رضى الله عنهم «هل تستطيع ربّك» (بالتاء المثناة من أعلاها ونصب الباء الموحدة فى ربك) واختاره الكسائىّ وأبو عبيد

على معنى هل تستطيع أن تدعو ربك وتسأل ربك. قالوا: لأنّ الحوارييّن لم يكونوا شاكّين فى قدرة الله تعالى. وقرأ الباقون «يستطيع ربّك» (بالياء المثناة من تحتها ورفع الباء) وقالوا: إنهم لم يشكّوا فى قدرة الله تعالى وإنما معناها هل ينزل أم لا، كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معى وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل أم لا، وأجراه بعضهم على الظاهر فقالوا: غلط القوم وكانوا بشرا، فقال لهم عيسى عليه السلام استعظاما لقولهم: «اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين» معناه أن تشكّوا فى قدرة الله أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان. وقيل: قال لهم: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم. قالوا: إنما سألنا لأنّا نريد أن نأكل منها فنستيقن قدرته وتطمئنّ وتسكن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا بأنك رسول الله، ونكون عليها من الشاهدين، فنقرّ لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالرسالة والنبوّة. وقيل: ونكون عليها من الشاهدين لك عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم. قال الكسائىّ: فأمرهم عيسى بصيام ثلاثين يوما وأنّ الله بعد ذلك يطعمهم وينزلها عليهم. فصاموا حتّى تمّ الأجل، فقام عيسى وصلّى وسأل الله تعالى وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1» . قال قوله: عِيداً أى عائدة من الله علينا وحجة وبرهانا. والعيد اسم لما أعدته وعاد إليك من كل شىء؛ ومنه قيل ليوم الفطر ويوم الأضحى عيد، لأنهما يعودان كل سنة. وقوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا . قال الثعلبىّ: يعنى لأهل زماننا ولمن يجىء من بعدنا. وقرأ زيد بن ثابت: «لأولانا وأخرانا «2» » .

وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم. وَآيَةً مِنْكَ دلالة وحجة. قال الله عز وجل مجيبا لعيسى عليه السلام: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ . وقرأ أهل الشام وقتادة وعاصم «منزّلها» بالتشديد لأنها نزلت مرّات، والتفعيل يدل على التكثير مرّة بعد مرّة. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أى يكفر بعد نزول المائدة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1» أى عالمى زمانهم. قال: فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير. قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى المائدة، هل نزلت أم لا؟ فقال مجاهد: ما نزلت مائدة، وهذا مثل ضرب. وقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، إنّ القوم لمّا سمعوا الشرط وقيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ . استعفوا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها، فلم تنزل. قال أبو إسحاق الثعلبىّ: والصواب أنها نزلت، لقوله عز وجل: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ولا يقع فى خبره الخلف ولتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وغيرهم من علماء الدين فى نزولها. قال كعب: أنزلت يوم الأحد، فلذلك أتخذه النصارى عيدا. واختلفوا فى صفتها وكيفية نزولها، فحكى الكسائىّ عن وهب قال: أنزل الله تعالى على عيسى مكتلا «2» فيه ثلاث سمكات مشويّات ليس لها شوك ولا قشر وثلاثة أرغفة، والملائكة تحملها حتى وضعوها بين يدى عيسى. قال: وقد قيل: إنّ المائدة كانت سفرة «3» من الأدم الأحمر، وكان فيها سمكة واحدة مشويّة وحولها الخضر

والبقول، وعند رأسها خلّ، وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة على كل منها زيتون، وخمس رمّانات وثمرات. وقال الثعلبىّ فى تفسيره: روى قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمّار بن ياسر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت المائدة خبزا ولحما «1» » . وذلك أنهم سألوا عيسى طعاما يأكلون منه لا ينفد، فقيل لهم: إنّها مقيمة لكم مالم تخونوا أو تخبئوا أو ترفعوا، فإن فعلتم ذلك عذّبتم. قال: فما مضى يومهم حتى خبئوا ورفعوا وخانوا. وقال إسحاق بن عبد الله: إنّ بعضهم سرق منها وقال: لعلها لا تنزل أبدا، فرفعت ومسخوا قردة وخنازير. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: إنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لبنى إسرائيل: «صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله تعالى ما شئتم يعطكم» . فصاموا ثلاثين يوما، فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى، إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاما، وإنّا قد صمنا وجعنا، فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ففعل. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات «2» حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وروى عطاء بن السائب عن راذان وميسرة قالا: كانت المائدة اذا وضعت لبنى إسرائيل اختلف عليهم الأيدى من السماء بكل طعام إلّا اللحم. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم: أنزل على المائدة كل شىء إلّا الخبز واللحم. قال عطاء: أنزل عليها كل شىء إلا السمك واللحم. وقال عطيّة العوفى: نزل من السماء سمكة فيها طعم كل شىء. وقال عمّار وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله تعالى

أقرصة من شعير وحيتانا. فقيل لوهب: ما كان ذلك يغنى عنهم؟ قال: لا شىء، ولكنّ الله أضعف لهم البركة، فكان قوم يأكلون ويخرجون ويجىء الآخرون فيأكلون ويخرجون، حتى أكلوا بأجمعهم وفضل. وقال الكلبىّ ومقاتل: استجاب الله تعالى لعيسى عليه السلام فقال: إنى منزّلها عليكم كما سألتم، فمن أكل من ذلك الطعام ثم لم يؤمن جعلته مثلا ولعنة لمن بعدهم، قالوا: قد رضينا. فدعا شمعون الصّفا وكان أفضل الحواريّين فقال: هل معك طعام؟ قال: نعم معى سمكتان وسبعة أرغفة. قال: قدّمها. فقطعهنّ عيسى عليه السلام قطعا صغارا ثم قال: اقعدوا فى روضة وترفّقوا رفاقا، كل وفقة عشرة. ثم قام عيسى عليه السلام ودعا الله تعالى فاستجاب الله له ونزّل فيها البركة، فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا. ثم قام عيسى فجعل يلقى فى كل رفقة ما حملت أصابعه، ثم قال: كلوا باسم الله، فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم، فأكلوا ما شاء الله وفضل منه، والناس خمسة آلاف ونيّف. فقال الناس جميعا: نشهد أنك عبد الله ورسوله. ثم سألوه مرّة أخرى، فدعا الله تعالى، فأنزل الله خبزا وسمكا، خمسة أرغفة وسمكتين، فصنع بها ما صنع فى المرّة الأولى. فلمّا رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدها، وقالوا لهم: ويحكم! إنما سحر أعينكم، فمن أراد الله تعالى به الخير ثبّته على بصيرته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره. فمسخوا خنازير وليس فيهم صبىّ ولا امرأة. فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا. وقال كعب: نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلّا اللحم. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشيّة حيث كانوا كالمنّ والسّلوى لبنى إسرائيل. وقال يمان بن رئاب: كانوا يأكلون منها ما شاءوا. وروى عطاء بن أبى رباح عن سلمان الفارسىّ قال: لمّا سأل الحواريّون عيسى

ابن مريم أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ الآية، وارزقنا عليها طعاما نأكله، وارزقنا وأنت خير الرازقين. فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها وهى تهوى منقضّة حتى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسى وقال: «اللهمّ اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ومثلة «1» » والشهود ينظرون إليها، ينظرون الى شىء لم يروا مثله قطّ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه. فقال عيسى عليه السلام: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها. فقال شمعون الصّفا رأس الحواريّين: أنت أولى بذلك منّا. فقام عيسى عليه السلام فتوضّأ وصلّى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيرا وكشف المنديل عنها وقال: باسم الله خير الرازقين، فاذا هو بسمكة مشويّة ليس عليها فلوسا ولا شوك تسيل سيلا «2» من الدسم، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خلّ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكرّاث؛ وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثانى عسل، وعلى الثالث بيض، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. قالوا: فلمّا استقرّت بين يدى عيسى قال شمعون رأس الحواريّين: أنت أولى يا روح الله، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى عليه السلام: ليس شىء مما ترون. ولكنّه شىء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله. قال الحواريّون: يا روح الله، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى! فقال عيسى: يا سمكة احيى بإذن الله. فاضطربت السمكة وعادت عليها فلوسها وشوكها ففزعوا منها. فقال عيسى: ما لكم تسألون أشياء اذا أعطيتموها كرهتموها،

ما أخوفنى عليكم أن تعذّبوا! يا سمكة عودى كما كنت بإذن الله تعالى. فعادت السمكة مشويّة كما كانت. فقالوا: يا روح الله، كن أوّل من يأكل منها ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها. فدعا عيسى عليه السلام أهل الزّمانة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين فقال: كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء. وفى رواية: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واذكروا اسم الله. فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان يتجشّأ «1» ، ثم نظر عيسى عليه السلام الى السمكة فاذا هى كهيئتها حين نزلت من السماء. ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت عنهم. فلم يأكل منها يومئذ زمن إلا صحّ، ولا مريض إلا برأ، ولا مبتلى إلّا عوفى، ولا فقير إلا استغنى ولم يزل غنيّا حتى مات؛ وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها إذ لم يأكلوا منها. وكانت اذا نزلت اجتمع الفقراء والأغنياء والصغار والكبار والرجال والنساء فيزدحمون عليها. فلمّا رأى عيسى ذلك جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى اذا فاء الفىء طارت صعدا وهم ينظرون الى ظلها حتى تتوارى عنهم. وكانت تنزل غبّا، تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة صالح. وأوحى الله عز وجل الى عيسى أن اجعل مائدتى ورزقى للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكوا الناس فيها وقالوا: أترون المائدة حقّا نزلت من السماء! فقال عيسى: هلكتم تجهزّوا لعذاب الله. فأوحى الله تعالى الى عيسى عليه السلام: إنى شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى: «إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم

ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم

فإنك أنت العزيز الحكيم» . فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا. وقال الكسائىّ عن وهب: مسخ منهم خمسة آلاف وخمسمائة، فباتوا على فرشهم مع نسائهم فى ديارهم، فأصبحوا خنازير يسعون فى الطّرقات والكناسات ويأكلون العذرة. فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى عليه السلام، وبكى على الممسوخين أهلوهم. ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وهؤلاء الذين لعنوا على لسان عيسى كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «1» الآية. ذكر ما قالته الشياطين الثلاثة فى عيسى بن مريم واتبعهم الناس بعدهم قال الكسائىّ قال وهب: جاء إبليس الى عيسى عليه السلام هو وأصحاب له على صور رجال ذوى هيئة وشيبة وعيسى يقول لبنى إسرائيل: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» الآية. فقال إبليس: أتخلق وتشفى المرضى وتحيى الموتى وتنبئنا بالغيب؟ قال عيسى نعم. قال إبليس: هذا الله عز وجل! يأيها الناس فانظروا اليه، فإنه نزل اليكم ليريكم قدرته. فقال أحد أصحاب إبليس: بئسما قلت يا شيخ! أخطأت وجرت وقلت قولا عظيما، أتزعم أنّ الله يتجلّى لخلقه لينظروا الى قدرته! وهل ينبغى لخلقه أن ينظروا اليه أو يسمعوا كلامه أو يقوموا لرؤيته! لا، ولكنّه ابن الله وليس هو الله. فقال الثالث: كلا كما قال شططا وأخطأ وجار وقال قولا عظيما، وهل ينبغى لله أن يتخذ صاحبة يكون له منها ولد! وهل ينبغى لولد هو من الله

ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه

أن تستقلّ به قوّة امرأة ويسعه رحمها! ولكنّه إله مع الله وليس بولد لله وليس بالله كما قلتما. قال: فتفرّقوا على ذلك ونطق الناس بقولهم، فصار ذلك كلام النصارى. قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «1» *. وقال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ «2» . وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ «3» . ذكر خبر إبليس حين عارض عيسى عليه السلام وما خاطبه به وجوابه قال وهب: ثم جاء إبليس الى عيسى بن مريم فعارضه فى عقبة» من عقاب الأرض المقدّسة يقال لها عقبة فيق: فقال له: أنت المسيح بن مريم؟ قال عيسى: أنا المسيح عيسى بن مريم روح الله وكلمته وعبد الله وابن أمّته. فقال له إبليس: فأنت إله الأرض. قال: بل إله الأرض ربّى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أن تكلّمت فى المهد صبيّا. قال: بل العظمة للذى أنطقنى فى صغرى. قال: بل فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيتك أنك تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا. قال عيسى: بل العظمة للذى خلقنى وخلق ما سخّر لى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك تشفى المرضى. قال عيسى: بل العظمة للذى بإذنه شفيتهم وإن شاء أمرضنى. قال إبليس: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيى الموتى. قال عيسى: بل العظمة للذى بإذنه أحييهم، ولا بدّ أنه سميت من أحييت ويميتنى. قال: فأنت الذى بلغ من

عظم ربوبيّتك أنك تعبر البحر فلا تبتّل قدماك ولا ترسخ فيه. قال: بل العظمة للذى ذلّله. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك تعلم الغيب. قال: بل العظمة لعالم الغيب والشهادة، لست أعلم إلا ما علّمنى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك كوّنت من غير أب. قال: بل العظمة للذى كوّننى وكوّن آدم وحوّاء من قبلى. قال: فأنت الذى بلغ من عظم ربوبيّتك أنك سيأتى عليك يوم تعلو فيه الخلائق كلها، فتكون السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهنّ دونك، وأنت فوق ذلك كلّه تدبّر الأمر وتقسم الأرزاق. قال: فأعظم عيسى قوله وضاق به ذرعا وسبّح إعظاما لما قال إبليس. قال: فأتاه جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب يلطم منها على وجهه فلا يملك من نفسه شيئا حتى وقع بالخافق الأقصى، ثم نهض بالذى أعطاه الله من القوّة فسبق عيسى إلى أسفل العقبة فسدّها وملأ كل ثلمة وطريق، ثم قال لعيسى: لقد غضبت غضب إله عظيم، وقد أخبرتك بأنك إله وما أنت من البشر، ولو كنت من البشر ما قمت «1» ، منذ فارقتك، أربعين ليلة لم تطعم ولم تشرب ولم تنم ولم يضرع «2» لذلك جسمك، وهذا ما لا ينبغى لبشر. قال عيسى: إنّ جسدى ليألم مما يألم منه البشر، وإنى لأطعم وأشرب وأنام وأغفل وأفرح وأحزن وأجزع وأهلع وأحتاج إلى أن أتنظّف بالماء وكيف تزعم أنى إله وأنت تعلم أنى هكذا!. ولم يزل إبليس لعنه الله يحاوره حتى عرض عليه أن يأمر الشياطين بعبادته والاعتراف بربوبيته. فضاق عيسى ذرعا وسبّح لله تعالى فقال: «سبحان الله عما يقول وبحمده، ملء سمائه وأرضه، وعدد خلقه، ورضا نفسه، ومبلغ علمه، ومنتهى كلماته، وزنة عرشه» . فهبط جبريل وميكائيل وإسرافيل، فنفخه ميكائيل نفخة ذهب منها نحو مطلع الشمس حتى صدم عين الشمس عند طلوعها، فخرّ

ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله

حصيدا محترقا، فأتبعه إسرافيل فنفخه نحو مغرب الشمس فانطلق لا يملك من نفسه شيئا حتى حاذى عيسى فقال: يابن مريم، لقد لقيت منك تعبا. ومرّت به النفخة حتى وقع فى العين الحامية التى تغرب الشمس فيها، فلبث سبعة أيام وسبع ليال، متى أراد الخروج منها غطّته الملائكة بأجنحتها، فما رام عيسى بعد ذلك. والله أعلم. ذكر خبر عيسى مع اليهود حين ظفروا به وأرادوا صلبه وقتله قال وهب: لمّا أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» جزع من الموت جزعا شديدا وقال للحواريّين: هذا الزمان الذى يقبض الله فيه الراعى ثم تفرّق الرعيّة من بعده، فعرفوا أنه يعنى نفسه، فبكوا وجزعوا، فقال: لا تبكوا من حزن الفراق. فسترون ما هو أشدّ منه، ولست مفارقكم حتى يظفر بى عدوّى ثم يأسروننى، فلا تدفعوا عنّى ولا تمنعوا. قال: وطلبه اليهود ليقتلوه فاستخفى منهم، فدلّهم عليه يوذا وهو الذى ارتدّ عنه، فأخذوه من غار جبل بيت لحم وجعلوا على رأسه إكليلا من الشّوك ليمثّلوا به، وجعلوا يلطمونه ويضربونه من خلفه ويقولون له: إن كنت نبيّا كما تزعم فامنع عن نفسك وادع ربك فليحل بيننا وبينك، وهو لا يكلّمهم حتى طلع الفجر، ونصبوا له خشبة ليصلبوه. فلمّا أرادوا أن يرفعوه عليها أظلم الجوّ ظلمة عظيمة لم تلبس الأرض مثلها، وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه يوذا الذى دلّ عليه، وأشرقت الشمس وقلب الله قلوب الناس وأبصارهم فجعلوا ينظرون إلى يوذا فى صورة عيسى. قال الله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ «2» . قال: ولمّا رفعوا يوذا على الخشبة قال:

ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أول مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيته إلى الحواريين ورفعه ثانيا

يا هؤلاء، إنّى أذكّركم الله فى دمى، إنّى صاحبكم يوذا الذى دللتكم على عيسى. ثم أخبرهم خبر الظلمة وأنّ الملائكة حالوا بينهم وبين عيسى وجعلوه مكانه، وأخبرهم بعلامات يعرفونها. فلمّا سمعوا ذلك منه زادهم عليه غيظا وحنقا وقالوا: ما أعظم سحره! كيف اطّلع بسحره على سرّنا وما كنّا نطويه دونه! وقتلوه وهو صاحبهم. ذكر خبر رفع عيسى عليه السلام أوّل مرة وهبوطه إلى الأرض ووصيّته إلى الحواريّين ورفعه ثانيا قال: رفع الله تعالى عيسى لثلاث ساعات مضت من النهار، فلبث فى السماء أيّاما، قيل سبعة أيام، وقيل أربعين يوما. والله أعلم. ثم قال الله له: إنّ أعداءك اليهود أعجلوك عن الوصيّة والعهد إلى أصحابك، فانزل اليهم واعهد لهم وأوصهم، وانزل على مريم المجدلانيّة «1» فإنها فى غار فى جبل الجليل. وكانت مريم المجدلانيّة من قرية من قرى أنطاكية يقال لها مجدل. وكانت من أوسط نساء بنى اسرائيل حسبا، وكانت أجمل نسائهم وأكثرهم مالا، وكانت تستحاض فلا تطهر أبدا وخطبها أشراف بنى إسرائيل وملوكهم وامتنعت من إجابتهم، فظنّوا أنّ ذلك ترفّعا منها، وإنما كان بسبب ما يعرض لها. فلمّا ظهر عيسى عليه السلام وشاع ذكره أتته فى جملة المرضى ليشفيها، فخجلت أن تسأله لكثرة الناس حوله، فجاءت من ورائه فمسّته بيدها فزال عنها ما كانت تشكوه وطهرت وآمنت بعيسى، وأنفقت مالها فيما أمرها به من وجوه البرّ، وصارت فقيرة وتبتّلت وتخلّت للعبادة، وكانت تعدّ من أصحاب عيسى. قال: وأمر الله تعالى عيسى أن يأمرها أن تجمع له الحواريّين، وأن يستخلف عليهم شمعون، وأن يفرّقهم دعاة إلى الله عز وجل فى البلاد، وأن يخبرهم بالعلامة التى تأتيهم من الله. ثم أهبطه الله تعالى على مريم فاشتعل الجبل نورا، وأتته بالحواريّين، فبلّغهم

ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام

رسالة ربهم، وقال: إن آية ذلك أن تأتيكم الملائكة فى ليلتكم هذه بمغارف فيها نور من نور الله، فكلّ من تناول مغرفة منها فليلحس النور الذى فيها فإنه يصبح وقد تكلّم بلغة القوم الذين بعث إليهم ويصبح وهو على باب مدينتهم. قال: والليلة التى هبط عيسى فيها هى الليلة التى تدخّن فيها النصارى باللّبان. قال: فلمّا فرغ عيسى من وصيّته الى الحواريّين رفع بعد سبعة أيام، وتوفّاه الله تعالى لثلاث ساعات من النهار، ثم كساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه المطعم والمشرب وصار ملكيّا إنسيّا. قال وهب: برز عيسى عليه السلام للناس يوم برز وهو ابن ثلاثين سنة، ولبث فيهم فى نبوّته وفيما كان الناس يرونه منه من العجائب والآيات ثلاث سنين، ورفعه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ عن أهل التاريخ أن الله تعالى أوحى الى عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ورفعه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقد ورد فى الحديث ما يدلّ على أنه رفع وله مائة وخمس وعشرون سنة. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى آخر السيرة النبوية على ما تقف إن شاء الله عليه هناك. ذكر وفاة مريم بنة عمران عليها السلام قال الكسائىّ قال كعب: ماتت مريم بنة عمران أمّ عيسى عليهما السلام قبل رفعه، فدفنها فى مشاريق بيت المقدس. وحكى الثعلبىّ رحمه الله أنها ماتت بعد رفع عيسى عليهما السلام. وقال فى خبره: إنه لمّا صلب المشبّه بعيسى جاءت مريم ابنة عمران وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما: على ماذا تبكيان؟ فقالتا عليك. فقال: إن الله تعالى رفعنى فلم يصبنى إلا خير، وإنّ هذا شىء شبّه لهم. ثم قال أيضا فى قصة

وفاة مريم عن وهب: لمّا أراد الله تعالى أن يرفع عيسى عليه السلام آخى بين الحواريّين وأمر رجلين منهما وهما شمعون ويوحنّا أن يلزما أمّه ولا يفارقانها، فانطلقا ومعهما مريم الى نيرون «1» ملك الروم يدعوانه الى الله عز وجل، وقد بعث الله اليه قبل ذلك بولس «2» . فلمّا أتوه أمر بشمعون وبولس فقتلا وصلبا منكّسين، وهربت مريم ويوحنّا، حتى اذا كانا فى بعض الطريق لحقهما الطلب، فخافا فانشقت لهما الأرض فغابا فيها، فأقبل نيرون ملك الروم وأصحابه فحفروا ذلك الموضع فلم يجدوا شيئا فردّوا التراب على حاله، وعلموا أنه أمر من الله عز وجل. فسأل ملك الروم عن حال عيسى فأخبر به فأسلم. وقد قيل فى إسلامه غير هذا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

الباب السادس من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس

الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار الحواريّين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام وما كان من أمرهم مع من أرسلوا اليه وخبر جرجيس ذكر خبر أخبار الحواريّين قال الكسائىّ قال وهب: وأصبح الحواريّون على أبواب المدائن التى بعثوا اليها، يتكلّم كل رجل منهم بلغة الأمة التى بعث اليها. فبعث الى أهل رومية رجلين من الحواريّين، وبعث إندراوس ولوقا الى أرض الحبشة، وبعث رجلا الى بابل، وبعث رجلا الى إفريقيّة، ورجلا الى أصحاب قرية الكهف، ورجلا الى بربر، ورجلين الى أنطاكية، ورجلا الى السّند والهند، وأقام شمعون مكانه وهو رأسهم، وأمروا أن يستظهروا به فيما يهمّهم. ذكر خبر يوحنّا وبولس اللذين توجّها إلى إنطاكية قال الكسائىّ: لمّا أصبح يوحنّا وبولس على باب إنطاكية دخلاها عند فتوح بابها، وملكها يومئذ مخلنطيس «1» بن مخلنطيس، وكان ظالما جبّارا متكبّرا، فلم يقدرا على الوصول اليه، وما أمكنهما أن يذكرا ما جاءا فيه مخافة أن يقتلا قبل أن يبلّغاه رسالة الله تعالى. فكانا كذلك مدّة، حتى شخص الملك من منزله الى مستنزه له فنادياه من بعيد بالإنذار. فلمّا سمع أصواتهما أرسل من يسمع مقالتهما فبلّغاه رسالة الله عز وجل؛ فأمر الملك بجلد كل منهما مائة جلدة وحلق رءوسهما حلق الشمامسة

ليمثّل بهما، ثم أمر بهما الى السجن ليخلدا فيه. فأوحى الله تعالى الى شمعون بخبرهما وأمره بالانتصار لهما. فخرج حتى بلغ أنطاكية فدخلها، وتلطّف حتى صحب خواصّ الملك وبطانته وأنسوا به وذكروه للملك. ثم طرق السجن ليلا، وكان له باب من حديد طوله خمسون ذراعا وعرضه ثلاثون، وكان اذا فتح صرصر حتى يسمع صريره أقصاهم وأدناهم. فأرسل الله تعالى ملكا فاقتلع الباب من موضعه فلم يسمع له صوت، وألقى الله عز وجل السّبات على أهل السجن وحرّاسه. فدخله شمعون، واجتمع بيوحنّا وبولس وبشّرهما عن الله بالثواب والخير وانصرف عنهما، وردّ الملك باب السجن الى موضعه. وكان شمعون يدخل مع الملك وأصحابه الى بيوت أصنامهم ويسجد لله ويبكى ويكثر العبادة وهم لا يشكّون أنه يعبد أصنامهم، فأحبّه الملك وقرّبه وسأله عن نسبه، فأخبره أنه من بنى إسرائيل وأنه بقيّة قوم انقرضوا، ولم يكن له من يأنس به فاعتمدتكم رغبة فى قربكم، وحرصا على إخائكم. فقال الملك: قد قبلنا قولك وسوّدناك علينا، فأنت أفضلنا وسيّدنا. فلبث فيهم زمنا يصدرون عن رأيه. فلما تمكّن أمره من الملك قال له: أيها الملك، بلغنى أنك سجنت رجلين كانا قد جاءاك يدعوانك الى غير دينك والى عبادة إله غير إلهك، ويزعمان أنّ الله أرسلهما إليك، وعجبت كيف اجترأا عليك. فماذا قلت لهما وما قالا لك؟ وهل أجبتهما بما كان ينبغى لك من الجواب؟ وهل سألتهما حين عظّما لك ربهما أن يذكرا لك سائر عظمته، أو أحييا لك ميتا، أو غير ذلك مما تعرف به مصداق قولهما؟ قال الملك: لقد حال الغضب دون ما تقول. قال: فهل لك أن تدعوهما؟ قال نعم. فأحضرهما بين يديه، فقال لهما شمعون: أخبرانى من أرسلكما الى هذا الملك وقومه؟ قالا: أرسلنا الله الذى هو على كل شىء قدير. فقال شمعون: صفا لى عظمته. قالا: هى أعظم من أن تحصى. قال: فأخبرانى ماذا يبلغ من قدرته؟

قالا: إن شئت وصفنا لك ما نطيق وصفه، وصفته أعظم من طاقتنا، وإن شئت وصفنا لك ذلك فى كلمتين تكفيان من كلام كثير. قال: نعم، صفا وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فوضع شمعون يده على رأسه كالمنكر لما قالا، ثم أقبل عليهما وقال: إنى أسألكما أمرا فإن قدر إلهكما عليه آمنّا بكما. قالا: سل. قال: هل يقدر أن يخلق خلقا ونحن ننظر اليه؟ قالا نعم. قال: اعلما ما تقولان! قالا: قد علمنا، فمتى شئت أريناك. فعندها خلا شمعون بالملك وقال: أيها الملك، إنّ هذين الرجلين ليسا ببعيدين من أن يكون ربهما كما قالا، ولا أظنهما عرّضا أنفسهما للملك لمثل هذا الموقف إلا وعندهما ثقة من إلههما. وإنى أخشى أن يدعوا ربهما فيخلق خلقا ينظر اليه الناس فيمرض ذلك قلوبهم ويزهدون فى إلهك الذى تعبده ويذهبان بالصوب «1» والشرف. فهل لك أن تدعو إلهك فيخلق هذا الخلق الذى نريد أن نتمناه عليهما فيكون لك ولإلهك شرف هذا اليوم وصوبه؟. قال له الملك: ليس دونك سرّ، إنّ هذا الإله الذى نعبد لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع ولا يحيى ولا يميت. فقال لهما شمعون: اعرضا علىّ بعض قدرة إلهكما فإن أجابكما وخلق الشىء على أعيننا ونحن ننظر اليه فقد صدقتما والقول قولكما. واجتمع الناس لينظروا. فأوحى الله اليهما أن سلاه ماذا يريد، فإنى مسخّر لكما ما سألكما. قالا: قد أوحى الينا أنه فاعل ما تسألنا، فسلنا. وكان شمعون قد عهد فى المدينة غلاما مطموس الوجه لم يخلق له عينان، فأتى به فقال: ادعوا ربكما أن يخلق له عينين ونحن ننظر. قالا نعم. فأوقفاه بين أيديهما ودعوا الله وأعانهما شمعون سرّا، فأجابهم الله تعالى، فأخذ كل واحد منهما حثوة من تراب وعجنه وجعله كالبندقة، ووضعا البندقتين فى موضع العينين من وجه الغلام فانشقّ

لهما البصر، ثم صارت البندقتان عينين. فخاف الملك، فقال له شمعون: لا تخف إنّ عندى حيلة. قال له الملك: لعلّهما ساحران، أرنا ما لا يكون وما ليس بكائن. قال شمعون: ليس هذا من السحر، ولكنى أخاف أن يأتى من إلههما ما يعجز حيلتنا. فدعا شمعون بغلام مطموس وعمل كما عملا فانشقّ بصره، كما انشقّ بصر الأوّل، ففرح الملك وأصحابه بذلك. فقال شمعون: إنما صنع ما ترون إله اخترته لنفسى وهو الذى أظهر فلجكم «1» ، فاسجدوا لهذا الإله الذى أظفركم بعدوّكم لعلّه يعينكم على ما يكون بعد هذا. فقال الملك: كيف نسجد لغير إلهنا!. قال شمعون: ألم تخبرنى أنه لا يبصر ولا يسمع ولا يضرّ ولا ينفع، فما قدرته عليك إن سجدت لغيره! قال: صدقت. وسجد الملك وسجد قومه لسجوده. ثم قال شمعون ليوحنّا وبولس: إنّى أسألكما عن أمر، فإن قدر عليه إلهكما فالحجّة إذا لكما والقول قولكما. قالا: سل عمّا بدالك. قال: تسألان ربكما أن يحيى لنا ميّتا حتى يكلّمنا ويخبرنا ما خبره، ويعلمنا ما كان فيه وما لقى بعدنا. قالا: نعم، إنّ الذى سألت يسير على الله وهيّن عليه. فوضع شمعون يده على رأسه كالمعظم والمنكر لما قالا. ثم خلا بالملك وقال: إنك قد رميت بأمر عظيم، وإنى أخاف إن أحيا إلههما الموتى أن يميل الناس اليهما. قال الملك: إنّا نرجو ألّا يأتيا بشىء إلا أتيت أنت بمثله. قال شمعون: إنّى لا أغرّكم، إنّ إلهى لا يحيى الموتى، ولا أعلم فى الأرض من يقدر على ذلك. قال الملك: فهل تدعهما يدعاننا وندعهما، فإن أبيا قاتلناهما؟. قال شمعون: كيف نقاتل من لهما إله يحيى الموتى! ولكن أرجو أن أدعو الإله الذى صنع ما رأيتم فيعيننا على ما نريد. قال شمعون: هل يقدر إلهكما على أن يحيى الموتى؟ قالا نعم. قال الملك: إنّ عندنا ميّتا قد مات منذ سبعة أيام وهو ابن

دهقان مدينتنا، فدعا به الملك فأحضر فى نعش، وقد تغيّر لونه وأروح «1» ، فقال: دونكما ادعوا أن يحييه إلهكما. فدعوا الله، فما لبث أن تفتّقت عنه أكفانه وردّ الله إليه روحه. فسألوه متى مات وماذا لقى. فقال: متّ منذ سبعة أيام، ثم عرضت على عملى فقذفت فى سبعة أودية من نار، وذكر ما فى الأودية من العذاب والحيّات وغير ذلك. قال: فلمّا صرت الى الوادى السابع خفّف عنّى العذاب. قالوا: فمن أين خفّف عنك العذاب؟ قال: أحيانى الله وردّ علىّ روحى، فجاءنى شىء مثل الريح فدخل فى رأسى، فلمّا صار فى جسدى حييت، ثم قيل لى: انظر فوقك، فشخصت «2» ببصرى وفتحت أبواب السماء، فنظرت فإذا برجل شابّ حسن الوجه نحيف الجسم أبيض يخالطه حمرة متعلّق بالعرش يشفع لهؤلاء الرهط الثلاثة، يعنى عيسى بن مريم. فقال له الملك: أىّ رهط تعنى؟. قال: هذا الشيخ الأجلخ «3» ، وهذا الكهل الأنزع «4» ، وهذا الفتى الرّجل «5» . فما زالوا مجتهدين فى الدعاء حتى شفّعوا، والشافع لهم مصغ إليهم بإذنه كأنّه يسمع ما يقولون ثم يرفعه الى الله فيدعو به. فلما فرغ من كلامه قال: إنّى أحذّركم أيها القوم مثل ما كنت فيه، فإنه لا إله إلّا إله عيسى بن مريم وشمعون وبولس ويوحنّا. قال شمعون: اعتصمنا بالله وتوكّلنا عليه، ثم أخبر الملك بخبره وخبر أصحابه ودعاهم الى الله، فمنهم من آمن، ومنهم من تولّى. وكان الملك ممن آمن به فى عصبة يسيرة. وأرسل الله على من تولّى منهم صيحة من السماء فإذا هم خامدون. قال: وكان قد نعى الى الدّهقان ابنه، وكان اسم الدّهقان حبيبا النجّار، ثم لم يلبث أن جاءته البشارة بحياة ابنه، ولم يكن له ولد غيره، وأخبر خبر الحواريّين،

ذكر خبر توما الحوارى مع ملك الهند وإيمانه به

فآمن بهم قبل أن يراهم، فأقبل مسرعا. فلمّا قصّ عليه ابنه قصّته ازداد إيمانا ويقينا. قال وهب: فيقال- والله أعلم- إنّ هذا هو الذى ذكره الله تعالى فى قوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «1» الآية. فأوجب الله له بكلامه الجنة، وخيّر أن يعمّر هو وابنه مائة عام أو يعجّل بهما الى الجنة، فاختارا الجنة؛ وهو قوله تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ «2» الآية. قال: ولم يزل يجاهد قومه قبل أن تأخذهم الصيحة ويدعوهم الى الله حتى قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ «3» . ذكر خبر توما الحوارىّ مع ملك الهند وإيمانه به قال الكسائىّ قال وهب: وجاء توما الى أرض الهند والسّند. فبينما هو يتردّد على ساحلهم إذا هو بغلام لملك الهند يقال له حيّان، وكان تاجرا. فأتاه توما فقال له: هل لك أن تبتاعنى للملك؟ فقال له حيّان: من أنت أيها الرجل الكريم؟. قال له توما: إنّى كنت عبدا مملوكا فأعتقنى سيّدى وأمرنى بالطلب لنفسى، فلم أصادف من الحرّيّة ما كنت أظنّ، وكان حالى يوم كنت عبدا خيرا منه اليوم وأحسن. فقال له حيّان: ما أرى عليك ميسم العبوديّة، وإنى لأرى عليك أثر الخير، ثم قال له: ما الذى تحسن من الأعمال؟ قال: أعمل سائر الأعمال. فاشتراه بثلاثمائة مثقال من الذهب وانطلق به الى الملك. فلمّا رآه أجلّه وعظّمه، وسأل التاجر عنه فأخبره أنه اشتراه على أن يعمل سائر الأعمال. فقال له الملك: أريد أن تبنى لى

قصرا لم يعمل مثله لأحد قطّ. قال توما: لك ذلك علىّ، ولكن أرضك حارّة، وإذا بنى فى زمن الحرّ كان حارّا لا يسكن من حرّه، وكذلك فى زمن البرد يكون باردا، وإنى لأرى أن يعمل فى زمن الاعتدال، فوافقه الملك على رأيه. وعرض للملك غزاة فخرج اليها واستخلف أخاه على الملك، وأمره أن يدفع لتوما ما يحتاج اليه من الأموال للنفقة على القصر، فصرف له أموالا كثيرة، ففرّقها توما فى الفقراء والمساكين حتى أغناهم، ثم مرض أخو الملك مرضا شديدا وغاب عن حسّه وحركته سبعة أيام. فقدم الملك وهو على تلك الحال، فلما ردّ الله عليه روحه قال الملك لتوما: ما فعلت فى القصر؟ قال: قد فرغت منه. فقال الملك لأخيه: ما الذى أعطيته من مالى؟ قال: جميع ما فى بيت مالك. قال: فهل رأيت القصر؟ قال: إنه قبض منى المال ثم اشتكيت فقلت لتوما: أين بنيت هذا القصر؟ قال: بنيته لك فى السماء. قال: وكيف لى بسلّم أنال به السماء؟ قال: تنال السماء بالسّلّم الذى نالها به أخوك. فقال له أخوه: اسمع منّى أيها الملك أخبرك بالعجب؛ فإنك لو تعلم ما أدخل عليك هذا الرجل من الخير وصرف عنك من الشرّ لقبّلت قدميه وجعلته فوق رأسك. قال: أخبرنى خبره. قال: أخبرك أنّ الله عزّ وجل عرج بروحى، فعرضنى على النار فرأيت أمرا عظيما مهولا ووصفه لأخيه، ووصف له صفة ما يعذّب به أهل الشّرك بالله وعبدة الأوثان. قال: ثم قيل لى: إنّ الله عرضك على النار فأراك ما رأيت لتكون لمن خلفك نذيرا، وسيريك الجنة، لتبشّر بها قومك، ولتخبر من خلفك بما رأيت. قال: فأدخلت الجنة فرأيت كذا وكذا، ووصف الجنة ونعيمها وما فيها. قال: وانتهيت إلى قصر عظيم من أعظم قصورها وأبوابه مغلقة، فقلت لخزنة الجنة: إنّى أحبّ أن أشاهد باطن هذا القصر فإنّى لم أر مثله. قالوا: إنّ صاحبه الآن فى الدنيا

ذكر خبر لوقا الحوارى مع ملك فارس

ومفاتيحه عند ملك من الملائكة. قلت: فلمن ادّخر هذا القصر؟ قالوا: هذا لأخيك فلان وهو الآن فى الدنيا، وعنده رسول من عند الله يقال له توما الحوارىّ من حواريّى عيسى بن مريم. فإذا رجعت إليه فبشّره وأخبره أنه القصر الذى بناه له توما فى السماء، وأنفق فيه بيت ماله. ثم ردّ الله بعد ذلك علىّ روحى، وأنت تعلم يا أخى أنّ لى شطر مالك وملكك وخزائنك، وتعلم مالى بعد ذلك من الأموال والخزائن، وأنا أعطيك جميع ذلك على أن تعطينى قصرك الذى رأيته لك فى الجنة. قال: يا أخى، ما كنت لأعطيك الباقى بالفانى. ثم أقبل على توما وآمن به هو وأهل مملكته، ولم تزل تلك الأمة على دين عيسى حتى أبادها الموت. ذكر خبر لوقا الحوارىّ مع ملك فارس قال: وأصبح لوقا على باب مدينة من مدائن فارس، وهى التى يسكنها الملك، فإذا غلمان من أبناء الملوك وأبناء الوزراء جلوس على قارعة الطريق يلعبون. فجلس الحوارىّ الى جانب غلام منهم وسأله كيف يلعب، فغلب جميع أولئك. فلمّا تفرّقوا دعاه الغلام الى منزله، فقال له: اذهب الى أبيك واستأذنه فى ذلك. فانطلق الغلام الى أبيه وأخبره بخبر الشيخ، فأذن له أن يأتيه به، فرجع اليه وقال له: إنّ أبى يدعوك، فأقبل معه. فلمّا ولج باب الدار قال: بآسم الله، فخرج كل شيطان فى الدار، وصاحب الدار ينظر الى ذلك، وكانت الشياطين تظهر لهم وتشاركهم فى طعامهم وشرابهم، فعجب صاحب الدار من ذلك. وقدّم الطعام فأقبلت الشياطين لتأكل على عادتها، فقال لوقا: باسم الله، فنفرت الشياطين وفرّت من الدار. فقال الشيخ: قد رأيت منك اليوم ما لم أره من أحد، وإنّ لك لشأنا، وخلا به وقال: لابدّ أن تخبرنى خبرك ولا تكتمنى أمرك. قال: على أن تكتمه ولا تذكره إلّا أن

آذن لك، قال نعم. فاستوثق منه وأخبره بخبره. ثم قال له لوقا: أخبرنى أىّ مال الملك أحبّ اليه وأعجب عنده؟ قال: ما شىء من ماله أحبّ اليه وأعجب عنده من برذون حتى إنه يركبه من سريره. ثم أقام مدّة، فقدّم البرذون إلى الملك ليركبه على عادته، فلما صار الى جانب السرير خرّ ميّتا، فشقّ ذلك على الملك وآلمه وقال: وددت لو فديته بمال عظيم، وحزن جلساء الملك وخواصّه لحزنه. قال: وجاء الرجل الى لوقا وقد حزن لحزن الملك، فسأله عن سبب حزنه فذكر له قصّة البرذون، فقال له: ارجع الى الملك وقل له: إنى أحييه له إن أطاعنى فيما أقول. فرجع الى الملك وأخبره بذلك، وقال: إنّ هذا الرجل لمّا عبر الى منزلى نفرت منه الشياطين ولم تطعم من طعامنا، وكانت تأكل معنا قبل ذلك وتشرب كما علمت، وقد قال: إن أطاعنى الملك أحييت له برذونه. فقال الملك: إنّ نفسى لتطيب بكل شىء أحيى به هذا البرذون، فعلىّ بالرجل، فأحضره إلى الملك. فلمّا دخل الدار لم يبق بها شيطان إلا خرج. ثم جلس لوقا إلى جانب الملك، فقال له: بلغنى أنك تحيى الموتى، فأحى لى برذونى هذا. فقال له: إن أطعتنى فيما أقول لك أحى برذونك. قال الملك: مرنى بما شئت. قال: ادع ابنك وامرأتك، وكان ابنه ولىّ عهده وامرأته منه بمكان، فدعاهما، فأخذ لوقا بقائمة من قوائم البرذون، وكلّ من الملك وابنه وامرأته بقائمة، ثم قال الحوارىّ بالفارسية: «اللهمّ ربّ السموات والأرض، خالق السموات والأرض وما فيهما لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، أحى هذا العضو الذى فى يدى» فتحرّك ذلك العضو. ثم قال للملك: قل كما قلت، فقال الملك مثل قوله. فتحرّك العضو الذى فى يده. ثم قال لابنه: قل كما أقول، فقال فتحرّك العضو الثالث، ثم قال لامرأته: قولى كما قلت، فدعت بدعائه، فتحرّك العضو الذى فى يدها. ثم قال لهم: قولوا جميعا كما أقول، فقالوا كلهم: «اللهم

ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه

ربّ السموات والأرض خالق السموات والأرض وما فيهما لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك أحى هذا البرذون» . فقام البرذون حيّا ينفض ناصيته. فعجب الملك والناس من ذلك. وسأله الملك عن خبره فأخبره أنه رسول عيسى بن مريم إليه والى قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فآمنوا به. وقد قيل: إن الذى أرسل إلى أرض فارس متى الحوارىّ، وإنه لمّا دخل على الملك كان الملك سكرانا، فلمّا أحيا الفرس أمر الملك أصحابه بقتل متّى فقتلوه. فلمّا أفاق الملك من سكره سأل عنه فقيل له: إنك أمرت بقتله فقتلناه، فقال: ما علمت بذلك. فقاموا إليه وغسلوه وكفّنوه ودفنوه. ويقال: إنّ الله تعالى بعد دفنه خسف بالملك وأولاده وأهله. والله أعلم. ولنصل أخبار الحواريّين بخبر جرجيس وإن لم يكن منهم، فقد كانت له قصّة عجيبة تلتحق بهم. ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم ب «يواقيت البيان فى قصص القرءان» بإسناده عن وهب بن منبّه قال: كان بالموصل ملك يقال له داديه «1» ، وكان قد ملك الشام كله ودان له أهله، وكان جبّارا عاتيا، وكان يعبد صنما يقال له أفلون، وكان جرجيس عبدا صالحا من أهل فلسطين قد أدرك بقايا من حواريّى عيسى عليه السلام، وكان تاجرا عظيما كثير المال عظيم الصدقة، وكان لا يأمن ولاية المشركين

عليه مخافة أن يفتنوه عن دينه. فخرج يريد الموصل «1» ومعه مال يريد أن يهديه إليه حتى لا يجعل لأحد من الملوك عليه سلطانا دونه. فجاءه حين جاءه وقد برز فى مجلس له وأمر بصنمه أفلون فنصب وأوقد نارا، فمن لم يسجد لصنمه ألقى فى النار. فلمّا رأى جرجيس ذلك قطع به وهاله وأعظمه وحدّث نفسه بجهاده، وألقى الله تعالى فى نفسه بغضه ومجاهدته. فعمد إلى المال الذى أراد أن يهديه له فقسمه فى أهل ملّته حتى لم يبق منه شىء وكره أن يجاهده بالمال. ثم أقبل عليه وقال له: إنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وإنّ فوقك ربّا هو الذى ملّكك وغيرك، وهو الذى خلقك ورزقك ويحييك ويميتك ويضرّك وينفعك، وإنك عمدت الى خلق من خلقه قال له: كن، فكان أصمّ أبكم لا ينطق ولا يسمع ولا يغنى عنك من الله شيئا، فزيّنته بالذهب والفضة فتنة للناس، ثم عبدته من دون الله. فكان من جواب الملك إيّاه أن سأله عن حاله وأمره ومن هو ومن أين هو. فأجابه جرجيس: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته أذلّ عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت واليه أصير. فقال له الملك: لو كان ربّك الذى تزعم كما تقول لرئى عليك أثره كما رئى أثرى على من حولى وفى طاعتى. فأجابه جرجيس بتحميد الله وتعظيم أمره وقال: أتعدل أفلون الأصمّ الأبكم الذى لا يغنى عنك شيئا بربّ العالمين الذى قامت السموات والأرض بأمره!. أو تعدل طرفلينا «2» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك بما نال إلياس

بولاية الله تعالى؛ فإنّ إلياس كان فى بدء أمره آدميّا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق فلم تزل به كرامة الله تعالى حتى أنبت له الريش وألبسه النور فعاد إنسيّا ملكيّا سماويّا أرضيّا يطير مع الملائكة! أم تعدل مخلنطيس «1» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك، بالمسيح بن مريم وما نال بولاية الله تعالى فإنّ الله فضّله على رجال العالمين وجعله [وأمه «2» ] آية للمعتبرين! أم تعدل أمر هذه الروح الطيّبة التى اختارها الله لكلمته وسوّدها على إمائه وما نالت بولاية الله تعالى، بأزبيل «3» وما نالت بولايتك فإنها كانت من شيعتك وعلى ملّتك، فأسلمها الله مع عظم ملكها حتى اقتحمت عليها الكلاب فى بيتها فانتهشت لحمها وولغت فى دمها، وقطّعت الضباع أوصالها!. فقال الملك: إنك لتحدّثنا عن أشياء ليس لنا بها علم؛ فأتنى بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما حتى أنظر إليهما، فإنى أنكر أن يكون هذا من البشر. قال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرّة بالله تعالى. وأمّا الرجلان فلن تراهما ولا يريانك إلّا أن تعمل بعملهما فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أمّا نحن فقد أعذرنا اليك وتبيّن لنا كذبك لأنك فخرت بأمور عجزت عنها. ثم خيّره الملك بين العذاب وبين السجود لأفلون. فقال جرجيس: إن كان أفلون هو الذى رفع السماء ووضع الأرض فقد أصبت، وإلّا فاخسأ أيها النّجس الملعون. فلمّا سمعه الملك غضب وسبّه وسبّ إلهه وأمر بخشبة فنصبت له وجعل عليها أمشاط الحديد فخدش بها جسده حتى تقطّع لحمه وجلده وعروقه، ونضح خلال ذلك الخلّ والخردل، فحفظه الله تعالى من ذلك الألم والهلاك. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستّة مسامير من حديد فأحميت، حتى إذا جعلت نارا سمرّ

بها رأسه حتى سال دماغه، فحفظه الله من الألم والهلاك. فلمّا رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس وأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل فى جوفه وأطبق عليه فلم يزل فيه حتى برد [حرّه «1» ] . فلمّا رأى أنّ ذلك لم يقتله دعا به فقال: يا جرجيس، أما تجد ألم هذا العذاب الذى تعذّب به؟ فقال: إنّ ربّى الذى أخبرتك به حمل عنّى [ألم العذاب «2» ] وصبّرنى لأحتجّ عليك. فلمّا قال له ذلك أيقن الملك بالشرّ وخافه على نفسه وملكه، واجتمع رأيه أن يخلّده فى السجن. فقال له الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا فى السجن [يكلّم الناس «3» ] يوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب فى السجن يشغله عن كلام الناس. فأمر به فبطح [فى السجن «4» ] على وجهه ثم أوتد [له «5» ] فى يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد [فى كل ركن منها «6» وتد] ، ثم أمر بأسطوان من رخام فوضع على ظهره، وحمل ذلك الأسطوان ثمانية عشر رجلا، فظلّ يومه [ذلك «7» ] موتدا تحت الحجر. فلمّا أدركه الليل أرسل الله تعالى [اليه «8» ] ملكا فقلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبح أخرجه من السجن وقال له: الحق بعدوّك فجاهده فى الله حقّ جهاده، فإنّ الله يقول لك: أبشر واصبر فإنّى قد ابتليتك بعدوّك هذا سبع سنين يعذّبك ويقتلك فيهنّ أربع مرّات، فى كل ذلك أردّ إليك روحك، فإذا كانت الرابعة تقلبّت روحك وأوفيتك أجرك. قال: فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وجرجيس قد وقف على رءوسهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى. فقال له الملك: يا جرجيس من أخرجك من السجن؟ قال: أخرجنى الذى سلطانه فوق سلطانك. فلمّا قال له ذلك ملىء غيظا ودعا بأصناف العذاب حتى لم يخلّف منها شيئا. فلمّا رآها جرجيس أوجس فى نفسه خيفة وفزعا منها، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته وهم يسمعون.

فلمّا فرغ من عتابه نفسه مدّوه بين خشبتين ثم وضعوا سيفا على مفرق رأسه فنشروه حتى سقط من بين رجليه وصار قطعتين، فعمدوا إلى أجزائه فقطّعوها قطعا، وللملك سبعة أسود ضارية، وكانوا صنفا من أصناف عذابه، فرموا بجسده إليها. فأمرها الله تعالى فخضعت له برءوسها وأعناقها وقامت على براثنها، فظلّ يومه ذلك ميّتا وهى أوّل موتة ماتها. فلمّا أدركه الليل جمع الله جسده الذى قطّعوه بعضه إلى بعض حتى سوّاه، ثم ردّ الله تعالى اليه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجبّ فأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أنّ القدرة التى خلق الله تعالى بها آدم من التراب هى التى أخرجتك من قعر الجبّ، الحق بعدوّك وجاهده فى الله حقّ جهاده ومت موت الصابرين. فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وقد أقبل جرجيس وهم فى عيد لهم عكوف عليه صنعوه فرحا بموت جرجيس. فلمّا نظروا إليه وقد أقبل قال الملك: ما أشبه هذا بجرجيس! قالوا: كأنه هو. قال الملك: ما بجرجيس من خفاء إنه لهو، ألا ترون الى سكون ريحه وقلّة هيبته. قال جرجيس: أنا هو، بئس القوم أنتم! قتلتم ومثّلتم فأحيانى الله بقدرته، فهلّموا الى هذا الرب العظيم الذى أراكم ما أراكم. فلما قال لهم ذلك أقبل بعضهم على بعض وقالوا: ساحر سحر أعينكم. وجمعوا من كان ببلادهم من السحرة. فلمّا جاءوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علىّ من كبير سحرك ما يقرّ عينى. قال: ادع لى بثور من البقر. فلمّا أتى به نفث فى إحدى أذنيه فانشقّت باثنتين، ثم نفث فى الأخرى فإذا هو ثوران، ثم دعا ببذر فحرث وبذر، فشبّ الزرع واستحصد، ثم درس وذرى وطحن وعجن وخبز، كلّ ذلك فى ساعة واحدة. فقال الملك: هل تقدر أن تمسخه لى دابّة؟ قال الساحر: أىّ دابّة أمسخه لك؟ قال: كلبا. قال: ادع لى بقدح من ماء.

فلمّا أتى بالقدح نفث فيه الساحر ثم قال: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره. فلمّا فرغ منه قال له الساحر: ماذا تجد؟ قال: ما أجد إلّا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله بى بهذا الشراب فقوّانى به عليكم. فأقبل الساحر على الملك فقال له: اعلم أيها الملك إنك لو كنت تقاسى رجلا مثلك اذا لقد كنت غلبته، ولكنك تقاسى جبّار السموات والأرض. وهو الملك الذى لا يرام. قال: وكانت امرأة مسكينة من أهل الشام سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو فى أشدّ ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إنّى امرأة مسكينة ولم يكن لى مال إلا ثورا أحرث عليه فمات، فجئتك لترحمنى وتدعو الله تعالى أن يحيى لى ثورى. فذرفت عيناه، ثم دعا الله تعالى أن يحيى لها ثورها، وأعطاها عصا وقال لها: اذهبى الى ثورك فاقرعيه بهذه العصا وقولى له: احى بإذن الله. فقالت: يا جرجيس، مات ثورى منذ أيام ومزّقته السباع، وبينى وبينه أيام. فقال: لو لم تجدى منه إلّا سنّا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله تعالى. فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، وكان أوّل شىء بدا لها أحد روقيه وشعر أذنيه، فجمعت أحدهما الى الآخر ثم قرعتهما بالعصا وقالت كما أمرها، فقام الثور بإذن الله تعالى وعملت عليه. قال: فلما قال الساحر للملك ما قال، قال رجل من أصحاب الملك، وكان أعظمهم من بعد الملك، إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وإنكم عذّبتموه فلم يصل اليه عذابكم، وقتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا يدرأ عن نفسه الموت وأحيا ميّتا قط؟ فقالوا له: إنّ كلامك لكلام رجل قد صغا إليه فلعلّه استهواك. فقال: بل آمنت بالله، واشهدوا أنّى برىء مما تعبدون. فقام اليه الملك وأصحابه بالخناجر فقتلوه. فلمّا رأى القوم ذلك اتّبع جرجيس أربعة آلاف رجل. فعمد اليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يعذّبهم بأنواع العذاب حتى أفناهم. فلمّا

فرغ منهم قال لجرجيس: هلّا دعوت ربك فأحيا لك أصحابك هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك!. فقال له جرجيس: ما خلّى بينك وبينهم حتى حان لهم. فقال رجل من عظماء أصحابه يقال له مخلنطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن إلهك هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، وإنى سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدّقتك وكفيتك، إنّ حولنا أربعة عشر كرسيّا ومائدة، وبيننا أقداح وصحاف وهى من أشجار شتّى، فادع إلهك ينشئ هذه الكراسىّ والأوانى كما بدأها أوّل مرّة حتى تعود خضراء يعرف كلّ عود منها بلونه وورقه وزهره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علىّ وعليك، وإنه على الله لهيّن، ودعا الله عزّ وجل، فما برحوا من مكانهم حتى اخضرّت تلك الكراسىّ والأوانى كلها وساخت عروقها وألبست اللحاء وتشعّبت فأورقت وأزهرت وأثمرت. فلمّا نظروا الى ذلك انتدب له مخلنطيس الذى تمنّى عليه ما تمنّى فقال: أنا أعذّب لكم هذا الساحر عذابا يضلّ عنه كيده. فعمد الى نحاس فصنع منه صورة ثور أجوف واسع، ثم حشاه نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو فى جوفه، ثم أوقد تحت الصورة حتى التهبت وذاب كل شىء فيها واختلط، ومات جرجيس فى جوفها. فلمّا مات أرسل الله عزّ وجل ريحا عاصفا فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد وبرق وصواعق، وأرسل الله تبارك وتعالى إعصارا ملأت بلادهم عجاجا وقتاما حتى اسودّ ما بين السماء والأرض، ومكثوا أياما متحيّرين فى تلك الظّلمة لا يفصلون بين الليل والنهار، وأرسل الله تعالى ميكائيل فاحتمل الصورة التى فيها جرجيس، حتى اذا أقلّها ضرب بها الأرض ففزع من روعها أهل الشام أجمعون فخرّوا على وجوههم صعقين، وانكسرت الصورة فخرج منها جرجيس حيّا. فلمّا وقف يكلّمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض ورجعت اليهم أنفسهم. فقال له رجل يقال له طرفلينا: لا ندرى

يا جرجيس أأنت تصنع هذه الأعاجيب أم ربّك! فإن كان ربك هو الذى يصنع هذا فادعه يحى موتانا؛ فإنّ فى هذه القبور أمواتا منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف. فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح ويريكم هذه الأعاجيب إلّا كانت عليكم حجّة، فتستوجبوا غضبه، ثم أمر بالقبور فنبشت وهى عظام رفات وأقبل على الدعاء، فما برحوا من مكانهم حتى نظروا الى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، واذا فيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: يا شيخ، ما اسمك؟ فقال: يا جرجيس اسمى نوبيل. قال: متى متّ؟ قال: فى زمان كذا وكذا. فحسبوا فإذا هو مات منذ أربعمائة سنة. فلمّا نظر الملك وأصحابه الى ذلك قالوا: ما بقى من أصناف العذاب شىء إلّا وقد عذّبتموه به إلّا الجوع والعطش، فعذّبوه بهما. فعمدوا الى بيت عجوز كبيرة، وكان لها ابن أعمى أصمّ أبكم مقعد، فحصروه فى بيتها ولا يصل اليه من عند أحد طعام ولا شراب. فلمّا بلغ به الجوع قال للعجوز: هل بقى عندك من طعام أو شراب؟ قالت: لا والذى يحلف به ما عهدنا الطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج ألتمس لك شيئا. فقال لها جرجيس: هل تعرفين الله تعالى؟ قالت نعم. قال: فإيّاه تعبدين؟ قالت لا. فدعاها الى الله عز وجلّ فصدّقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفى بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فاخضرّت تلك الدّعامة وأنبتت له كل فاكهة تؤكل أو تعرف، حتى كان فيها اللّوبيا واللّبان «1» مثل البردىّ يكون بالشام، وظهر للدّعامة فروع من فوق البيت أظلّته وما حوله. فأقبلت العجوز وهو فيما شاء يأكل رغدا. فلمّا رأت الذى حدث فى بيتها من بعدها قالت: آمنت بالذى أطعمك، فادع هذا الرّب العظيم ليشفى ابنى. قال: ادنيه منّى، فأدنته، فبصق

فى عينيه فأبصر، ونفث فى أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه رحمك الله. قال: خذيه فإنّ له يوما عظيما. وخرج الملك يوما ليسير فى مدينته، إذ وقع بصره على الشجرة، فقال: إنى أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به. قالوا: تلك شجرة نبتت لذلك الساحر الذى أردت أن تعذّبه بالجوع، فهو فيما شاء وقد شبع منها وأشبع العجوز الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر الملك بالبيت فهدم وبالشجرة لتقطع. فلمّا همّوا بقطعها أيبسها الله تعالى وردّها كما كانت أوّل مرّة، فتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجلة وأوقرها أسطوانا وجعل فى أسفل العجلة خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا فنهضت بالعجلة نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، فأمر بقطعه فأحرقت بالنار، حتى اذا عادت رمادا بعث بذلك الرّماد وبعث معه رجالا فذرّوه فى البحر، فلم يبرحوا من مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء: يا بحر، إنّ الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيّب، فإنّى أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله تعالى الريح فأخرجته ثم جمعته حتى صار الرّماد صبرة كهيئة قبل أن يذرّوه؛ فخرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا ورجع جرجيس، فأخبروا الملك خبر الصوت [الذى سمعوا «1» ] والريح التى جمعته، فقال: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لى ولك مما نحن فيه؟ ولولا أن يقول الناس إنك قهرتنى وغلبتنى لاتّبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة واذبح له شاة واحدة، ثم إنى أفعل ما يسرّك. فقال له: نعم، مهما شئت فعلت، فأدخلنى على صنمك. ففرح الملك بقوله فقام وقبّل يديه ورجليه ورأسه وقال: إنّى أعزم عليك ألّا تظل هذا اليوم إلّا عندى، ولا تبيت هذه الليلة إلّا فى بيتى وعلى فراشى، حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، ويرى الناس كرامتك علىّ،

فأخلى له بيت فظلّ فيه جرجيس، حتى اذا أدركه الليل قام يصلّى ويقرأ الزّبور، وكان أحسن الناس صوتا. فلمّا سمعت امرأة الملك استجابت له، فلم يشعر إلّا وهى خلفه تبكى معه، فدعاها جرجيس الى الإيمان فآمنت به، وأمرها فكتمت إيمانها. فلمّا أصبح غدا به الملك الى بيت الأصنام ليسجد لها. [وقيل للعجوز التى كان سجن فى بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك فأصغى الى الدنيا وقد خرج به الملك الى بيت أصنامه ليسجد لها «1» ] فخرجت العجوز تحمل ابنها على عاتقها وتوبّخ جرجيس والناس مشغولون عنها. فلمّا دخل جرجيس بيت الأصنام ودخل الناس معه نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس اليه مقاما؛ فدعا ابن العجوز باسمه فنطق وأجابه ولم [يكن «2» ] يتكلّم قبل ذلك، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشى على رجليه وهما مستويتان وما وطئ على الأرض قبل ذلك قط. فلمّا وقف بين يدى جرجيس قال: اذهب فادع لى هذه الأصنام وهى حينئذ سبعون صنما على منابر من ذهب، وهم يعبدون الشمس والقمر معها. فقال له الغلام: كيف أدعو الأصنام؟ قال: قل لها إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذى خلقك إلّا أجبتيه. قال: فلمّا قال لها الغلام ذلك أقبلت تدحرج الى جرجيس، فلمّا انتهت اليه ركض الأرض برجله فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربا فرقا من الخسف، فلمّا مرّ بجرجيس أخذ بناصيته، فخضع له وكلّمه جرجيس فقال له: أخبرنى أيها الرّوح النّجسة والخلق الملعون، ما الذى يحملك على أن تهلك نفسك وتهلك الناس وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون الى جهنّم؟ فقال له إبليس: لو خيّرت بين ما أشرقت عليه الشمس وأظلم عليه الليل وبين هلكة واحد من بنى آدم وضلالته طرفة عين لاخترته على ذلك كله، وإنه ليقع لى من الشهوة واللذّة فى ذلك مثل جميع ما يتلذّذ به جميع الخلائق. ألم تعلم يا جرجيس أنّ الله تعالى

أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة فسجدوا كلّهم وامتنعت أنا من السجود وقلت أنا خير منه!. فلما قال هذا أخلاه جرجيس. فما دخل إبليس منذ ذلك اليوم جوف صنم ولا يدخله بعدها فيما يذكرون أبدا. [فقال الملك: يا جرجيس خدعتنى وغدرتنى وأهلكت آلهتى «1» .] فقال جرجيس للملك: إنما فعلت ذلك لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت منّى فكيف ثقتك- ويلك- بآلهة لم تمنع أنفسها منّى! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلّا ما ملّكنى ربّى. فلمّا قال جرجيس هذا كلّمتهم امرأة الملك وكشفت لهم إيمانها، وعدّدت عليهم [أفعالهم «2» ] أفعال جرجيس والعبر التى أراهم الله تعالى، وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل إلّا دعوة فيخسف الله بكم الأرض كما خسف بأصنامكم. الله الله أيها القوم فى أنفسكم!. فقال لها الملك: ويحك يا سكندرة! ما أسرع ما أضلّك هذا الساحر فى ليلة واحدة وأنا أقاسيه منذ سبع سنين فلم يظفر منّى بشىء قطّ! فقالت: أما رأيت الله كيف يظفره بك ويسلّطه عليك فيكون له الفلج والحجّة عليك فى كل موطن!. فأمر بها الملك عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التى كان عليها علّق، وحملت عليها الأمشاط التى جعلت على جرجيس. فلمّا تألّمت قالت: ادع ربك يا جرجيس فيخفّف عنّى فإنى قد المنى العذاب. فقال لها: انظرى فوقك. فلمّا نظرت ضحكت. فقال لها: ما الذى يضحكك؟ قالت: أرى ملكين فوقى معهما تاج من حلّى الجنة ينتظران به روحى أن تخرج. فلمّا خرجت أتيا بذلك التاج ثم صعدا بها الى الجنة. قال: فلمّا قبض الله تعالى روحها أقبل جرجيس على الدعاء فقال: اللهمّ أنت أكرمتنى بهذا البلاء لتعطينى فضائل الشهداء، فهذا آخر أيامى التى وعدتنى فيه الراحة من بلائك، فإنّى أسألك ألّا تقبض روحى ولا أزول من مكانى هذا حتى تنزل بهؤلاء القوم من

التذييل على القسم الثالث من الفن الخامس

سطوتك ونقمتك ما لا قبل لهم به حتى تشفى به صدرى وتقرّ به عينى؛ فإنهم ظلمونى وعذّبونى. اللهمّ وأسألك ألّا يدعو بعدى داع فى بلاء وكرب فيذكرنى ويشير باسمى إلّا فرّجت عنه ورحمته وأجبته وشفّعتنى فيه. فلمّا فرغ من هذا الدعاء أمطر الله عليهم نارا من السماء. فلمّا رأوا ذلك عمدوا اليه وضربوه بالسيوف غيظا عليه من شدّة الحريق ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده. ثم احترقت المدينة بجميع ما فيها وصارت رمادا، فحملها الله من وجه الأرض وجعل عاليها سافلها، فمكثت زمانا يخرج من تحتها دخان منتن لا يشمّه أحد إلّا سقم سقما شديدا. وكان من آمن بجرجيس وقتل معه أربعة وثلاثون ألفا وامرأة الملك. قالوا: وكان جرجيس فى أيام ملوك الطوائف. وحيث انتهى بنا القول فى سرد ما شرحناه من قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وما اتصل بذلك من الأخبار؛ فلنذكر الآن التذييل الذى شرحناه فى ترجمة هذا القسم للسبب الذى قدّمناه. وبالله المستعان. التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم الى الأرض، وما يكون من الفتن والحروب، وخروج من يخرج ويتغلّب على البلاد، وخروج المهدىّ والدّجال ونزول عيسى بن مريم وقتله الدّجال، وخروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، ووفاة عيسى بن مريم، وما يكون بعده من أشراط الساعة ويوم القيامة والنفخ فى الصّور والحشر والمعاد. مما أورد إن شاء الله تعالى ذلك من كتب الحديث الصحيح النبوىّ، ومن كتاب المبتدا للكسائىّ، ومن كتاب العاقبة للشيخ أبى محمد عبد الحقّ بن عبد الحقّ بن عبد الله الأزدىّ الإشبيلىّ على سبيل الاختصار.

الباب الأول من التذييل على القسم الثالث من الفن الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم

الباب الأوّل من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر الحوادث التى تظهر قبل نزول عيسى بن مريم ولنبدأ بذكر الملاحم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ستصا لحكم الرّوم صلحا آمنا، ثم تغزون أنتم وهم عدوّا «1» فتنتصرون وتغنمون وتسلمون ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذى تلول، فيرفع الرجل من أهل الصليب الصليب فيقول غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم اليه فيدقّه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة فيأتون حينئذ تحت ثمانين غاية «2» تحت كل غاية اثنا عشر ألفا» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «اذا وقعت الملاحم بعث الله بعثا من الموالى هم أكرم العرب فرسا وأجوده سلاحا يؤيّد الله بهم الدّين» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينيّة وخروج الدجّال فى سبعة أشهر «3» » . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف «4» الأنوف كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة «5» ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشّعر «6» » . وفى الحديث

ذكر خبر المتغلبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام

الآخر: «إنّ من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة. وإنّ من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون الشّعر» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين عراض الوجوه كأنّ أعينهم حدق الجراد كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة ينتعلون الشّعر ويتّخذون الدّرق يربطون خيولهم بالنخل «1» » . خرّج هذه الأحاديث ابن ماجه «2» . ذكر خبر المتغلّبين على البلاد وذلك مما يظهر من الفتن قبل نزول عيسى عليه السلام قال أبو الحسن الكسائىّ عن كعب الأحبار: ولابدّ أن يحدث بين يدى نزول عيسى علامات وحروب وفتن، فأوّل من يخرج ويغلب على البلاد رجل اسمه الأصهب من بلاد الجزيرة، ويخرج الجرهمىّ من بلاد الشام، ويخرج القحطانىّ بأرض اليمن، وهو أمثل هؤلاء الثلاثة شوكة. فبينا هؤلاء الثلاثة فى مواضعهم وقد تغلّبوا على أمكنتهم بالظلم والجور إذا هم بالرجل السّفيانىّ قد خرج من غوطة دمشق، وقيل: إنه يخرج من الشام، وقيل: إنه يخرج من الوادى اليابس. وأخواله من كلب، واسمه معاوية بن عنبسة. وهو ربع من الرجال، دقيق الوجه. طويل الأنف، محدودب، جهورىّ الصوت، يكسر عينه اليمنى؛ يحسبه الذى يراه كأنه أعور وليس بأعور، يظهر فى أوّل أمره بالزهد ويبذل الأموال، ويخطّب له على منابر الشام، ويكون جريئا على سفك الدماء لمن خالفه، ويعطّل الجمعة والجماعة. وعلامة بدء أمره أنه يخرج فى كل مدينة دجّال يدعو إلى نفسه، ويظهر الفسق حتى إنهم يفجرون فى المساجد، فيخرج عليهم السّفيانىّ

ذكر خبر خروج المهدى

حتى ينزل أرض دمشق، فيجتمع اليه القوم ويبايعونه، ويفرّق الأموال الكثيرة بينهم حتى يقولوا هذا خير أهل الأرض. ثم يسير فى الشام وعلى مقدّمته رجل من جهينة يقال له ناجية حتى ينزل العراق، فيخرج اليه القحطانىّ جيشا كثيرا فيهزمهم ناجية هزيمة قبيحة، فعند ذلك يوجّه السّفيانىّ ثلاث جيوش: جيش الى الكوفة فيقتلون قتلا ذريعا، وجيش الى خراسان فيقتلون ويحرّقون، وجيش الى الروم حتى يكثر القتل منهم فى الدنيا وفى كل طريق. فعند ذلك يجتمع الصالحون على السّفيانىّ ويخوّفونه عقوبة الله فى سفك الدماء، فيأمر بقتلهم وقتل العلماء والزّهّاد فى جميع الآفاق. فعند ذلك يجتمع المسلمون على رجل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له محمد بن علىّ فيبايعونه ويسمّونه المهدىّ. والله أعلم. ذكر خبر خروج المهدىّ قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: يبايع بين مكة والرّكن، ويكون أوّل أمره على عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل: إنه يخرج [قبل هذا ولىّ «1» ] من قرية من قرى حرس «2» فى ثلاثين رجلا، ثم يجتمع اليه المؤمنون من كل ناحية، ثم ينكسف القمر ثلاث ليال متواليات، ثم يظهر المهدىّ بمكة ويشيع أمره؛ فيبلغ ذلك [الزّهرانىّ صاحب «3» ] السّفيانىّ، فيبعث الى المهدىّ جيشا ثلاثين ألفا فينزلون فى البرّيّة. ثم يخرج السّفيانىّ، الى البيداء، فإذا استقرّ بالموضع خسف الله تعالى بهم الأرض، فيأخذهم الى أعناقهم حتى لا يفلت منهم إلّا رجلان يخرجان بفرسيهما، فإذا وصلوا الى القوم رأوهم وقد خسف الله بهم، فيخسف الأرض بواحد منهما، ويحوّل الله وجه الآخر الى قفاه، فيبقى كذلك مدّة حياته. ثم يخرج المهدىّ

بمن معه الى بلاد الروم فيسير حتى يسمع بهلاك السّفيانىّ وأصحابه. قال: وذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «1» . فيحمد المهدىّ الله تعالى على ذلك، ويخرج الى بلاد الروم فى نحو مائة ألف فيصل الى القسطنطينيّة، فيدعو ملك الروم الى الإسلام فيأبى فيقاتله، ويدوم القتال بينهم شهرين، ثم ينهزم ملك الروم. ويدخل [المسلمون «2» ] الى القسطنطينية، فينزل المهدىّ على بابها، ولها سبعة أسوار، فيكبّر سبع تكبيرات فينهدم كلّ سور منها بتكبيرة. ويدخلها المهدىّ ويقتل خلقا كثيرا ويقتل ملك الروم، ثم يرفع [عنهم «3» ] السيف، ويأخذ المسلمون من الغنائم ما لا يحصى، حتى إنّ الرجل ليأخذ من الجوهر ما يعجز عن حمله. فبينما هم كذلك إذ يأتيهم الخبر من خليفة المهدىّ بخروج الدجّال واجتماع الناس عليه، فيتركون تلك الغنائم وينصرفون الى بلادهم مسرعين لمحاربة الدجّال. فيقال: إن المهدىّ يسير نحو الدّجال وعلى رأسه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلتقون ويقتتلون قتالا شديدا، فيقتل من أصحاب الدجّال أكثر من ثلاثين ألفا، ثم ينهزم الدجّال فيمرّ نحو بيت المقدس، فيأمر الله الأرض بإمساك قوائم خيله، ويرسل عليهم ريحا حمراء فتقتل منهم أربعين ألفا. قال: ثم يقبل المهدىّ بجيشه زهاء «4» مائة ألف، فى أيديهم الرايات البيض. فيقول المهدىّ [لعسكر الدجّال «5» ] : ويلكم! أتشكّون فى هذا الأعور الكذّاب «6» أنه الدجّال؟ فيقولون: لا، ولكنّا نعيش فى طعامه. فيمسخون فى الحال قردة وخنازير. ثم ينزل عيسى بعد ذلك الى الأرض ويصلّى خلف المهدىّ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر خبر خروج الدجال وصفته

ذكر خبر خروج الدجّال وصفته وما يكون من أمره الى أن ينزل عيسى عليه السلام قال كعب: إنّ الدجّال رجل طويل، عريض الصدر، مطموس العين اليمنى، واليسرى كأنها كوكب درّىّ، مكتوب بين عينيه: «كافر» ، يقرؤه كل كاتب أو غير كاتب. ويدّعى أنه الربّ، ومعه يومئذ جبل من خبز، وجبل من لحم، وأجناس الفواكه والخمور، ومعه أصحاب الملاهى يمشون بين يديه بالطبول والطنابير والمعازف والعيدان والنايات والصّنوج وغير ذلك، فلا يسمعه أحد إلا وتبعه وفتنه إلّا من عصمه الله. ويكون معه نار وجنّة، وهو يقول: من أطاعنى أدخلته الجنّة، ومن عصانى ولم يسجد لى ألقيته فى النار. قال: وعلامة خروجه أن تهبّ ريح مثل ريح قوم عاد، وتسمع صيحة عظيمة مثل صيحة قوم صالح، ويكون مسخا كمسخ أصحاب الرّس، وذلك عند ترك الناس الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فإذا أخذوا فى سفك الدماء واستحلّوا الرّبا وشيّدوا البنيان وشربوا الخمور، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فعند ذلك يخرج الدجّال من جهة المشرق من قرية يقال لها سيراباد «1» بين الأهواز وأصفهان، ويخرج على حمار له. قال: وهو أحمر الحاجبين، أشعر الأنف، تخرج من خلل أسنانه رائحة لا يشمّها أحد إلّا صار اليه نتنه، فى جبهته قرن مكسور تخرج منه الحيّات والعقارب، محدودب الظهر، قد صوّرت آلات السلاح فى جسده حتى الرمح والفأس والسهم والدّرق. وهو يتناول السحاب بيده، ويخوض البحار الى كعبيه، ويستظلّ فى ظلّ أذن حماره خلق كثير من أولاد الزّنا، عليهم خفاف مخروطة، لخفافهم مناقير كمناقير العقبان، لأصابعهم أظافير كالمناجل، ومعه قوم

من السّحرة يقلبون الجبال خبزا والأنهار شرابا، ولا يطعم ولا يسقى إلّا من آمن به. ومعه صاحب لوائه من قريته ينادى بأعلى صوته: هذا ربكم فاعرفوه. فإذا سار الدجّال سارت معه جبال طعامه وأنهار شرابه، وإذا وقف وقفت. يطوف الأرض شرقها وغربها حتى يدخل أرض بابل فيلقاه الخضر، فيقول له الدجّال: أنا ربّ العالمين. فيقول له الخضر: كذبت يا دجّال! إنّ ربّ العالمين ربّ السموات والأرضين. فيقتله الدّجال ويقول: لو كان لهذا إله كما يزعم لأحياه. فيحيى الله الخضر من ساعته فيقوم ويقول: ها أنا يا دجّال، قد أحيانى الله ربّى. ثم يقبل الخضر على أصحابه ويقول: ويلكم! لا يفتننّكم هذا الكافر. ويقال: إنه يقتل الخضر ثلاث مرّات ويحييه الله تعالى. ثم يخرج الدجّال نحو مكة، فإذا دنا منها رأى الملائكة «1» محدقين بالبيت الحرام قد نشروا أجنحتهم على الكعبة، يخرج من خلل أجنحتهم مثل شرر النّيران، فلا يقدر على دخولها. ثم يسير الى المدينة فيجدها كذلك. ثم يمضى الى بيت المقدس فلا يقدر على دخوله لكثرة من حوله من الملائكة. واختلف فى مدّة إقامته فى الأرض، فقيل أربعين سنة، وقيل أربعين يوما، على ما نورد ذلك من الحديث الصحيح النبوىّ الذى يشمل ذكر هذه الفتن كلها. قال: وأمّا المسلمون فإنهم يصومون ويصلّون كما كانوا غير أنهم فى غمّ، قد تركوا المساجد ولزموا البيوت، وتطلع الشمس متلوّنة: مرّة بيضاء، ومرّة صفراء، ومرّة حمراء، ومرّة سوداء، وتكون الأرض فى الزلزلة والرجفة، ثم يكون بينه وبين المهدىّ ما قدّمنا، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام.

الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفن الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجال و ...

الباب الثانى من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى خبر نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجّال و ... خروج يأجوج ومأجوج وفسادهم وهلاكهم، ووفاة عيسى عليه السلام لمّا رأيت أهل السّير قد أكثروا من القول فى نزول عيسى عليه السلام وزادوا فى القول ونقصوا منه، عدلت عن أقوالهم، وأوردت ما أذكره من ذلك من الحديث الصحيح النبوىّ، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم. وختمت هذا الباب بالحديث الشامل فى خروج الدجّال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وغير ذلك. وهذه الأحاديث خرّجتها من كتاب السّنن للإمام الحافظ أبى عبد الله محمد ابن يزيد بن ماجه القزوينى، رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين. ذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر فتنة الدجّال وما يلاقيه الناس منه، قال: «فبينما هم كذلك إذ بعث الله عيسى بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين «1» واضع «2» كفّيه على أجنحة ملكين، اذا طأطأ رأسه قطر «3» ، وإذا رفع رأسه يتحدر منه جمان كاللؤلؤ، ولا يحلّ لكافر أن يجد ريح نفسه إلّا مات. ونفسه ينتهى حيث ينتهى طرفه، فينطلق حتى يدرك الدجّال فيقتله عند باب لدّ «4» . قال: «ثم يأتى نبىّ الله عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله فيمسح وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم فى الجنة» . والله أعلم.

ذكر خبر يأجوج ومأجوج

ذكر خبر يأجوج ومأجوج صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ يأجوج ومأجوج ليحفرون السدّ كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله عزّ وجل أشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله أن يبعثهم إلى الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله واستثنوا فيعودون اليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الأرض فينشفون المياه ويتحصّن الناس منهم فى حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليهم الدم الذى أجفط «1» فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا» فى أقفائهم فيقتلهم بها» . قال صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن وتشكر «3» شكرا من لحومهم ودمائهم» . وفى الحديث الآخر: «إنّ الله تعالى يوحى إلى عيسى أنّى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لأحد بقتالهم فاحرز عبادى إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبريّة فيشربون ما فيها ثم يمرّ آخرهم فيقولون لقد كان فى هذا ماء مرّة وليحصر نبىّ الله عيسى عليه السلام وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبىّ الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل الله عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى «4» كموت نفس واحدة ويهبط نبىّ الله عيسى وأصحابه فلا يجدون موضع شبر إلّا قد ملأه زهمهم «5» ونتنهم ودماؤهم فيرغبون إلى الله عزّ وجل فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم

فتطرحهم حيث شاء الله عزّ وجل. ثم يرسل الله [عليهم «1» ] مطرا لا يكنّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسله حتى يتركه كالزّلفة «2» ، ثم يقال للأرض أنبتى ثمرتك وردّى بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرّمانة فتشبعهم ويستظلّون بقحفها «3» ، ويبارك الله فى الرّسل «4» حتى إن اللّقحة «5» من الإبل تكفى الفئام «6» من الناس، واللّقحة من البقر تكفى القبيلة، واللقحة من الغنم تكفى الفخذ «7» . فبينماهم كذلك إذ بعث الله عليهم ريحا طيّبة فتأخذ تحت آباطهم فتقبض روح كلّ مسلم ويبقى سائر الناس يتهارجون «8» كما يتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» . وفى الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: «لمّا كان ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم لقى إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدءوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فردّ الحديث إلى عيسى بن مريم فقال قد عهد إلىّ فيما دون وجبتها «9» ، فأمّا وجبتها فلا يعلمها إلّا الله، فذكر خروج الدجّال قال فأنزل فأقتله فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، فلا يمرّون بماء إلّا شربوه ولا بشئ إلّا أفسدوه، فيجئرون إلى الله تعالى فأدعو الله أن يميتهم فتنتن الأرض من ريحهم، فيجئرون إلى الله فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم

فيلقيهم فى البحر ثم تنسف الجبال وتمدّ الأرض مدّ الأديم فعهد إلىّ متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل لا يدرى أهلها متى تفجأهم بولادتها» . قال العوّام بن حوشب وهو من رواة هذا الحديث: ووجد تصديق ذلك فى كتاب الله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «1» . وفى الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيعمّون الأرض وينحاز منهم المسلمون حتى تصير بقيّة المسلمين فى مدائنهم وحصونهم ويضمّون إليهم مواشيهم، حتى إنهم ليمرّون بالنهر فيشربونه حتى ما يذكرون فيه شيئا، فيمرّ آخرهم على أثرهم فيقول قائلهم لقد كان بهذا المكان مرّة ماء، ويظهرون على الأرض، فيقول قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ولننازلن أهل السماء، حتى إنّ أحدهم ليهزّ حربته إلى السماء فترجع مخضّبة بالدم، فيقولون قد قتلنا أهل السماء. فبينما هم كذلك إذ بعث الله دوابّ كنغف الجراد فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد يركب بعضهم بعضا، فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسّا، فيقولون من رجل يشرى نفسه وينظر ما فعلوا، فينزل منهم رجل قد وطنّ نفسه على أن يقتلوه فيجدهم موتى، فيناديهم ألا أبشروا فقد هلك عدوّكم، فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم فما يكون لهم رعى إلّا لحومهم فتشكر عليها كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قطّ» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيوقد المسلمون من قسىّ يأجوج ومأجوج ونشّابهم وأترستهم سبع سنين» . والله المعين.

الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجال

الحديث الجامع لأخبار عيسى بن مريم عليه السلام والدجّال قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينى فى سننه: حدّثنا علىّ بن محمد قال حدّثنا عبد الرحمن المحاربىّ عن إسماعيل بن رافع أبى رافع عن أبى زرعة السّيبانىّ «1» يحيى بن أبى عمرو عن أبى أمامة الباهلىّ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثا حدّثناه عن الدجّال وحذّرناه، فكان من قوله أن قال: «إنه لم تكن فتنة فى الأرض منذ ذرأ «2» الله ذرّية آدم صلى الله عليه وسلم أعظم من فتنة الدجّال، وإنّ الله عزّ وجل لم يبعث نبيّا إلّا حذّر أمّته الدجّال. وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة. فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكلّ مسلم، وإن يخرج من بعدى فكلّ امرئ حجيج نفسه، والله خليفتى على كل مسلم. وإنه يخرج من حلّة بين الشام والعراق فيعيث «3» يمينا ويعيث شمالا يا عباد الله فأثبتوا فإنّى سأصفه لكم صفة لم يصفها إيّاه نبىّ قبلى: إنه يبدأ فيقول أنا نبىّ، ولا نبىّ بعدى، ثم يثنّى فيقول أنا ربكم، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإنّ ربكم عز وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه «كافر» يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب. وإنّ من فتنته أنّ معه جنة ونارا، فناره جنة، وجنته نار. فمن ابتلى بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم. وإنّ من فتنته أن يقول لأعرابىّ أرأيت إن بعثت لك أباك وأمّك أتشهد أنّى ربّك فيقول نعم، فيتمثّل له شيطانان فى صورة أبيه وأمّه فيقولان يا بنىّ اتبعه فإنه ربك. وإنّ من فتنته أن يسلّط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار حتى تلقى شقّين، ثم يقول

انظروا الى عبدى هذا فإنّى أبعثه الآن، ثم يزعم أنّ له ربّا غيرى، فيبعثه الله ويقول له الخبيث من ربّك؟ فيقول ربّى الله وأنت عدوّ الله أنت الدجّال، والله ما كنت بعد أشدّ بصيرة بك منّى اليوم» . قال أبو الحسن الطّنافسىّ فحدثنا المحاربىّ حدّثنا عبيد الله ابن الوليد الوصّافىّ عن عطيّة عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك الرجل أرفع أمّتى درجة فى الجنة» . قال قال أبو سعيد: والله ما كنّا نرى ذلك الرجل إلّا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله. قال المحاربىّ ثم رجعنا الى حديث أبى رافع قال: «وإنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحىّ فيكذّبونه فلا تبقى لهم سائمة إلّا هلكت. وإن من فتنته أن يمرّ بالحىّ فيصدّقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمدّه خواصر وأدرّه ضروعا. وإنه لا يبقى شىء من الأرض إلّا وطئه وظهر عليه إلّا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب «1» من نقابهما إلّا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة «2» حتى ينزل عند الظّريب «3» الأحمر عند منقطع السّبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلّا خرج إليه، فتنفى الخبث منها كما ينفى الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص. فقالت أمّ شريك بنت «4» أبى العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال هم يومئذ قليل وجلّهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح. فبينما إمامهم قد تقدّم يصلّى بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه السلام الصبح، فرجع ذلك

الإمام ينكص (يمشى القهقرى) ليتقدّم عيسى عليه السلام يصلّى بالناس، فيضع عليه السلام يديه بين كتفيه ثم يقول له تقدّم فصلّ فإنها لك أقيمت فيصلّى بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام افتحوا الباب «1» فيفتح ووراءه الدّجال ومعه سبعون ألف يهودىّ كلهم ذو سيف محلّى وساج «2» ، فإذا نظر اليه الدجّال ذاب كما يذوب الملح فى الماء فينطلق هاربا، ويقول عيسى عليه السلام إنّ لى فيك ضربة لن تسبقنى بها فيدركه عند باب اللّدّ الشرقىّ فيقتله فيهزم الله اليهود فلا يبقى شىء مما خلق الله عزّ وجل يتوارى به يهودىّ إلا أنطق الله ذلك الشىء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابّة إلّا الغرقدة «3» فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال يا عبد الله المسلم هذا يهودىّ فتعال اقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّ أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسى. فقيل له يا رسول الله كيف نصلّى فى تلك الأيام القصار؟ قال تقدّرون فيها الصلاة كما تقدّرونها فى هذه الأيام الطّوال ثم صلّوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون عيسى بن مريم فى أمّتى حكما «4» عدلا وإماما مقسطا «5» ، يدقّ الصليب «6» ، ويذبح الخنزير «7» ، ويضع «8» الجزية، ويترك الصدقة «9» فلا يسعى على

شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتتزع حمة «1» كلّ ذات حمة حتّى يدخل الوليد يده فى الحيّة فلا تضرّه، وتفرّ «2» الوليدة الأسد فلا يضرّها، ويكون الذئب فى الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السّلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلّا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كماثور «3» الفضّة- وقيل كفاثور الفضة- تنبت نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرّمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدّريهمات. قالوا يا رسول الله: وما يرخّص الفرس؟ قال: لا يركب لحرب أبدا. قيل له: فما يغلى الثور؟ قال تحرث الأرض كلّها. وإنّ قبل خروج الدجّال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء فى السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء فى السنة الثانية فتحبس ثلثى مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثى نباتها، ثم يأمر الله السماء فى السنة الثالثة فتحبس مطرها كلّه فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض فتحبس نباتها كلّه فلا تنبت خضرا، ولا تبقى ذات ظلف إلّا هلكت إلّا ما شاء الله عزّ وجل. قيل: فما يعيش الناس فى ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجرى ذلك عليهم مجرى الطعام» . قال المحاربىّ: ينبغى أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدّب حتى يعلّمه الصبيان فى المكاتب.

الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفن الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام إلى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى

الباب الثالث من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى ذكر ما يكون بعد وفاة عيسى بن مريم عليه السلام الى أن ينفخ إسرافيل فى الصور النفخة الأولى ذكر خروج الدابّة وطلوع الشمس من مغربها عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدّابة ومعها خاتم سليمان بن داود وعصا موسى بن عمران، فتجلو «1» وجه المؤمن بالعصا، وتخطم «2» أنف الكافر بالخاتم، حتى إنّ أهل الحواء «3» ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضى الله عنهما قال: ذهب بى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الدّابة من هذا الموضع» فإذا فتر فى شبر. قال ابن بريدة: فحججت بعد ذلك بسنين فأرانا عصا له، فاذا هى بعصاى هذه كذا وكذا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها؛ فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» . وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل الايات خروجا طلوع الشمس من مغربها. وخروج الدابّة على الناس ضحى» . قال عبد الله: فأيّتهما ما خرجت قبل الأخرى فالأخرى

ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى

منها قريب. قال عبد الله: ولا أظنها إلّا طلوع الشمس من مغربها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من قبل مغرب الشمس بابا مفتوحا عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا» . والله الهادى للصواب. ذكر خبر قيام الساعة والنفخة الأولى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال صاحب الصّور مذ وكّل به مستعدّا ينظر نحو العرش الى أن يؤمر فينفخ قبل أن يرتدّ اليه طرفه كأنّ عينيه كوكبان درّيّان» . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الصّور؟ فقال: «قرن ينفخ فيه» . وعنه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ* قال: «الصور كهيئة القرن» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجّالون كذّابون قريب من ثلاثين كلّهم يزعم أنه رسول الله، وحتّى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتّى يكثر فيكم المال فيفيض حتّى يهمّ ربّ المال من يقبل صدقته، وحتّى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه لا أرب لى به، وحتّى يتطاول الناس فى البنيان، وحتى يمرّ الرّجل بقبر الرّجل فيقول يا ليتنى مكانه، وحتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا. ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن

الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ السّاعة وهو يليط «1» حوضه فلا يسقى فيه. ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته الى فيه فلا يطعمها» . هذا من صحيح البخارى «2» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر خبر الدجّال وقتله قال: «3» «.... ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة. ثم يرسل الله عز وجل ريحا باردة من قبل الشأم فلا يبقى على وجه الأرض أحد فى قلبه مثقال ذرّة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتّى لو أنّ أحدكم دخل فى كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه. قال فيبقى شرار الناس فى خفّة الطير «4» وأحلام السّباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون! فيقولون فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم فى ذلك دارّ «5» رزقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ فى الصّور فلا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا «6» ورفع ليتا. قال وأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله- أو قال ينزل الله- مطرا كأنه الطّلّ أو الظّل- الشكّ من الراوى- فتنبت منه أجساد الناس؛ ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال يأيّها الناس هلمّوا الى ربّكم» . ويروى أن هذا المطر الذى تنبت منه الأجساد كمنىّ الرجال.

الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور

الباب الرابع من التذييل على القسم الثالث من الفنّ الخامس فى أخبار يوم القيامة والحشر والمعاد والنفخة الثانية فى الصور ذكر يوم القيامة وأسمائه هو اليوم الذى وصفه الله عز وجل بالعظمة فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ «1» . ووصفه الله بالطّول فقال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا «2» . وليوم القيامة أسماء جاء بها القرآن، وقد ذكرها عبد الحقّ فى كتاب العاقبة فقال: «يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة! يوم الحسرة والندامة، يوم يجد كلّ عامل عمله أمامه، يوم الدمدمة، يوم الزلزلة، يوم الصاعقة، يوم الواقعة، يوم الراجفة، يوم الرادفة، يوم الغاشية، يوم الداهية، يوم الآزفة، يوم الحاقّة، يوم الطامّة، يوم الصاخّة، يوم التّلاق، يوم الفراق، يوم الميثاق، يوم الانشقاق، يوم القصاص، يوم لات حين مناص، يوم التّناد، يوم الأشهاد، يوم الميعاد، يوم المآب، يوم العذاب، يوم الفرار، يوم القرار، يوم المرصاد، يوم السائلة، يوم المناقشة، يوم الحساب، يوم القضاء، يوم الجزاء، يوم البكاء، يوم البلاء، يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا، يوم الحشر، يوم النشر، يوم الجمع، يوم البعث، يوم العرض،

ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية

يوم الوزن، يوم الحقّ، يوم الحكم، يوم الفصل، يوم الخزى، يوم عقيم، يوم عظيم، يوم عسير، يوم عبوس، يوم قمطرير، يوم النشور، يوم المصير، يوم الدّين، يوم اليقين، يوم النفخة، يوم الصّيحة، يوم الرّجفة، يوم الرجّة، يوم الزجرة، يوم الشدّة، يوم الفزع، يوم الجزع، يوم القلق، يوم العرق، يوم الميقات، يوم تخرج الأموات وتظهر المخبآت، يوم الإشفاق، يوم الأنشقاق، يوم الانكدار، يوم الانتشار، يوم الانفطار، يوم الافتقار، يوم الوقوف، يوم الانصداع، يوم الانقطاع، يوم معلوم، يوم موعود، يوم مشهود، يوم تبلى السرائر، يوم تخرج الضمائر، يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، يوم يدعى فيه إلى النار، يوم تسجر «1» فيه النار، يوم تقلّب فيه الوجوه فى النار، يوم البروز فيه إلى الله، يوم الصّدور إلى الله، يوم لا تنفع المعذرة، يوم لا يرضى إلّا المغفرة. قال: وأهول أسمائه وأشنع ألقابه: يوم الخلود، يوم لا انقطاع لعذابه، ولا آخر لعقابه، ولا يكشف عن كافر ما به. نعوذ بالله من غضبه وبلائه، برحمته وآلائه. والله معين العاجزين. ذكر الحشر والمعاد والنفخة الثانية جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «2» قيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. قال: ثم يأمر الله ملك الموت أن يقبض روح جبريل وميكائيل وإسرافيل، ثم يأمر ملك الموت أن يموت فيموت ولا يبقى إلا الله، فينادى جلّ جلاله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «3» فلا يجيبه أحد، فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.

ثم يمكث الناس فى البرزخ «1» أربعين عاما، ثم يحيى الله عز وجل إسرافيل فيأمره أن ينفخ النفخة الثانية؛ قال الله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2» . وقال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «3» . وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» . روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يأكل التراب كلّ شىء من الإنسان إلّا عجب «5» الذّنب» . قيل: يا رسول الله، وما هو؟ قيل: «مثل حبّة خردل ومنه ينشأ» . وفى الحديث الآخر: «ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل» . وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله وعزتى وجلالى ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده، فتدخل الأرواح فى الأرض إلى الأجسام، فتدخل فى الخياشيم ثم تمشى مشى السمّ فى اللّديغ» . قال: «وتجتمع الأرواح كلها فى الصّور، ثم ينفخ إسرافيل فيه فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، ثم تدخل فى الأجساد» كما تقدّم. وفى الحديث الصحيح أنّ عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله، كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: «حفاة عراة» . قالت: يا رسول الله، والنساء؟ قال: «والنساء» . قالت: يا رسول الله، فما نستحيى؟ قال: «يا عاشة الأمر أهمّ من أن ينظر بعضهم الى بعض» . وعن أبى موسى الأ شعرىّ رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمّا عرضتان فجدال ومعاذير، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف فى الأيدى، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» قال: «يقوم أحدهم فى رشحه «2» الى أنصاف أذنيه وهو اليوم الذى قال الله تعالى فيه كَلَّا لا وَزَرَ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «3» * يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الأوّلين والآخرين فى صعيد واحد فيسمعهم الداعى وينفذهم البصر» يريد أرضا مستويّة لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة، أرض بيضاء لم يسفك عليها دم قطّ، ولا عمل عليها خطيئة ولا ارتكب فيها محرّم. قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . وفى حديث «4» ثوبان: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سئل أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: «هم فى الظّلمة دون الجسر» والجسر هو الصراط. وفى حديث عائشة «إنهم على الصراط» . قال الله عزّ وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ «5» . وقال تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «6» أى يقول بعضهم لبعض سرّا، فيقول أعدلهم قولا وأرجحهم عقلا: إن لبثتم إلا يوما. قال الله عزّ وجل: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «7» . وروى عن مجاهد أنه قال: للكفّار هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا بعثوا قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا! فتخرج الخلائق مذعورين خائفين وجلين، وإذا المنادى ينادى: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ «8» ، فيطمع فى ذلك النداء المؤمنون والكافرون، فينادى المنادى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا

حديث لقيط بن عامر

وَكانُوا مُسْلِمِينَ «1» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم» . قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إنّ الذى أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتّقون بوجوههم كلّ حدب «2» وشوك» . وفى حديث مسلم بن الحجّاج عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «أليس الذى أمشاه على رجليه فى الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . والأحاديث الصحيحة فى هذا الباب كثيرة جدّا لو استقصيناها لطال الكلام وانبسط القول، وخرج التأليف عن شرطه الذى قدّمناه، فلنختم هذا الباب بحديث لقيط بن عامر العقيلىّ فإنه حديث جامع لأكثر ما فى هذا الباب. حديث لقيط بن عامر قال أبو بكر بن أبى خيثمة بإسناده الى لقيط بن عامر العقيلىّ قال: خرجت أنا وصاحب «3» لى حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لانسلاخ «4» رجب، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فوافيناه «5» ] حين انصرف من صلاة «6» الغداة

فقام [فى الناس «1» ] خطيبا فقال: «أيها الناس! ألا إنى قد خبأت لكم صوتى منذ أربعة أيام لأسمعكم اليوم. ألا فهل من امرئ بعثه قومه [فقالوا اعلم لنا ما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضّلال «2» ] . ألا إنى مسئول هل بلّغت. ألا اسمعوا تعيشوا «3» ألا اجلسوا «4» » فجلس الناس وقمت أنا وصاحبى، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ [فضحك لعمر الله وهزّ رأسه وعلم أنّى أبتغى لسقطه «5» ] فقال: «ضنّ ربك عز وجل بمفاتيح خمس «6» من الغيب لا يعلمها إلا الله «7» » . فقلت: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «علم المنية [قد علم متى منيّة أحدكم ولا تعلمونه «8» ] . وعلم المنّى حين «9» يكون فى الرّحم [قد علمه ولا تعلمونه «10» ] وعلم ما فى غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه «11» . وعلم يوم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين «12» فيظّل يضحك قد علم أنّ غوثكم قريب» . قال لقيط: لم لن نعدم من ربّ يضحك خيرا. «وعلم يوم الساعة» . قلت: يا رسول الله، إنى سائلك عن حاجتى «13» . قال: «سل عمّا شئت» . قلت: يا رسول الله،

علّمنا مما لا يعلم الناس «1» ومما تعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا من مذحج التى تدنو إلينا، وخثعم التى توالينا، وعشيرتنا التى نحن منها «2» ] . قال: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفّى نبيّكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصحيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شىء إلّا مات والملائكة الذين مع ربك، فأصبح «3» ربك يطوف فى الأرض وقد خلت «4» عليه البلاد، فأرسل ربك السماء [بهضب «5» ] من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميّت إلا شقّت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه فيستوى جالسا، فيقول ربك مهم «6» لما كان فيه، فيقول: يا رب أمتّنى «7» أمس اليوم، لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله» . فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا

بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: «أنبئك بمثل ذلك فى إلّ «1» الله الأرض أشرفت عليها وهى مدرة بالية فقلت لا تحيا أبدا ثم أرسل ربك عليها «2» السماء، فلم تلبث عليها إلا أياما حتى أشرفت عليها فإذا هى شرية «3» واحدة، فلعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء «4» ومن مصارعكم فتنظرون إليه ساعة وينظر اليكم» . قلت: يا رسول الله، [وكيف «5» ] ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر اليه؟ قال: «أنبئكم بمثل ذلك فى إلّ الله الشمس والقمر آية [منه «6» ] صغيرة ترونهما ساعة واحدة «7» ويريانكم لا تضارّون «8» فى رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وتروه «9» منهما أن تروهما ويرياكم لا تضارّون فى رؤيتهما» . قلت: يا رسول الله، فماذا يفعل بنا ربّنا إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية [له «10» ] صفحاتكم لا يخفى عليه [منكم «11» ] خافية، فيأخذ ربك [بيده «12» ] غرفة من الماء فينضح [بها «13» ] قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم منها قطرة، فأمّا المسلم

فتدع وجهه مثل الرّيطة «1» البيضاء، وأمّا الكافر فتخطمه بمثل الحمم «2» الأسود. ألا ثمّ ينصرف [نبيّكم «3» ] ويتفرّق على أثره الصالحون، فتسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول حسّ «4» ، فيقول ربك وإنّه «5» . ألا فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلّا وقع عليها قدح يطهّره «6» من الطّوف والبول «7» والأذى. وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا» . قلت: يا رسول الله، فبم نبصر الأرض «8» ؟ قال: «بمثل ساعتك هذه» وذلك مع طلوع الشمس فى يوم أشرقته «9» الأرض وواجهته الجبال. قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال «الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلّا أن يعفو الله» . قلت:

يا رسول الله، ما الجنة وما النار «1» . قال: «لعمر إلهك إن «2» للنار لسبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما. وإن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلّا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» . قلت: يا رسول الله، فعلام نطّلع من الجنّة؟ قال: «على أنهار من عسل مصفّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وماء غير آسن، [وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون «3» ] وخير من مثله معه وأزواج مطهّرة» . قلت: يا رسول الله، ولنا فيها أزواج أو منهنّ مصلحات «4» ؟ قال: «الصالحات للصالحين تلذّونهنّ مثل لذّاتكم فى الدنيا ويلذذنكم غير أن لا توالد فيها» . انتهى التذييل على القسم الثالث بعون الله وتعالى وحسن توفيقه. والله الموفّق. للصواب.

القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية،

القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، وخبر سيل العرم ووقائع العرب فى الجاهلية، ويشتمل على خمسة أبواب الباب الأوّل فى أخبار ذى القرنين الذى ذكره الله عزّ وجل فى كتابه العزيز فى سورة الكهف. قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً «1» . واختلف فى تسميته ذا القرنين، فقيل: لبلوغه أطراف الأرض، وإنّ الملك الموكّل بجبل قاف سمّاه بذلك. وهذا القول محكىّ عن ابن عبّاس رضى الله عنهما. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه كانت له ذؤابتان من الذهب. ويعزى هذا القول إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه رأى فى منامه أنه يدنو من الشمس فيضع يده فى قرنيها من شرقها وغربها، فقصّ رؤياه على قومه فسمّوه ذا القرنين، وهذا القول مروىّ عن وهب. وقيل: إنما سمّى به لأن الله تعالى كان قد بعثه إلى قوم فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله ثم بعثه اليهم فضربوه على قرنه الآخر فمات، ثم أحياه الله، فسمّى ذا القرنين. وقيل: إنما سمّى بذلك لأنه أفنى قرنين من الناس. وقيل: لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمّه. وقيل: لأنه أعطى علم الظاهر والباطن.

وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم. وقيل غير «1» ذلك. والله تعالى أعلم. قال وهب: كان ذو القرنين رجلا من أهل الإسكندرية يقال له الإسكندروس. والعجب كونه نسبه أنه من أهل الإسكندرية، وقد نقل جماعة من أهل التاريخ أن الإسكندر هو الذى أنشأ الإسكندرية وبناها، فكيف يكون من أهلها وهو الذى أنشأها واليه نسبت!. وروى عن وهب أيضا أن ذا القرنين كان خارجيا فى قومه، ولم يكن بأفضلهم نسبا ولا حسبا ولا موضعا، ثم قال بعد ذلك: إن الله تعالى بعثه نبيّا ورسولا. ولا يكون الأنبياء إلّا من أفضل قومهم حسبا وأشرفهم نسبا. وقد يكون هذا النقل لاختلاف الروايات. وما آفة الأخبار إلّا رواتها. قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبىّ فى تفسيره عن ابن إسحاق قال حدّثنى من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم: أنّ ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر، اسمه مرزبان «2» بن مرذبة اليونانىّ من ولد يونان بن يافث ابن نوح. قال وقال ابن هشام: اسمه الإسكندر، وهو الذى بنى الإسكندرية، فنسبت إليه. قال وقيل: اسمه هرمس، ويقال هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب بن ذى يزن الحميرىّ. وقال وهب: هو رومىّ. وقيل: إنه أفريدون [الذى قتل بيوراسب بن أرونداسب «3» ] الملك الفارسىّ «4» .

وقال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى قصصه- وذكر الخلاف فى نبوّته- قال: الصحيح إن شاء الله أنه كان نبيّا غير مرسل، كما روى عن وهب وغيره من أهل الكتب. قال وقالوا: كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه إسكندروس. قال ويقال: كان اسمه ابن عيّاش «1» ، وكان عياش عبدا صالحا. قال وهب: ونشأ ذو القرنين فى علم وأدب وثروة وعفّة، ولم يزل يتخلّق بمكارم الأخلاق ويسمو إلى معالى الأمور حتى بعدت همّته، واشتدّ أمره، وعلا صوته، وعزّ فى قومه، وألقى الله تعالى عليه الهيبة، وحدّث نفسه بمعالى الأمور. قال الثعلبىّ: فلمّا استحكم ملكه واستجمع أمره أوحى الله تعالى إليه: يا ذا القرنين، إنّى بعثتك إلى جميع الخلائق ما بين الخافقين، وجعلتك حجّتى عليهم، وهذا تأويل رؤياك. وإنى باعثك إلى أمم الأرض كلهم وهى سبع أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمّتان بينهما عرض الأرض، وأمّتان بينهما طول الأرض، وثلاث أمم فى وسط الأرض، وهم الإنس والجنّ ويأجوج ومأجوج. فأمّا الأمّتان اللتان بينهما طول «2» الأرض فأمّة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى [بحيالها عند مطلع الشمس «3» ] يقال لها منسك. وأمّا الأمّتان اللتان بينهما عرض «4» الأرض فأمّة فى قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى بحيالها فى قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فلمّا قال الله تعالى له ذلك قال ذو القرنين: إلهى إنك قد ندبتنى إلى أمر عظيم لا يقدر قدره «5» إلا أنت؛ فأخبرنى عن هذه الأمم التى بعثتنى إليها بأىّ قوّة أكاثرهم، وبأىّ حيلة وجمع أكابرهم، وبأىّ صبر أقاسيهم، وبأىّ لسان أناطقهم؛ وكيف لى بأن أفقه لغاتهم، وبأىّ سمع أسمع أقوالهم، وبأىّ بصر أنفذهم، وبأىّ

حجّة أخاصمهم، وبأىّ عقل أعقل عنهم، وبأىّ قلب وحكمة أدبّر أمرهم، وبأىّ قسط أعدل بينهم، وبأىّ حلم أصابرهم، وبأىّ معرفة أفصل بينهم، وبأىّ علم أتقن أمرهم، وبأىّ يد أسطو عليهم، وبأىّ رجل أطؤهم، وبأىّ طاقة أحصيهم، وبأىّ جند أقاتلهم، وبأىّ رفق أتألفهم، وليس عندى يا إلهى شئ مما ذكرت يقوم لهم «1» ويقوى عليهم وأنت الرؤف الرحيم، الذى لا تكلّف نفسا إلا وسعها، ولا تحمّلها إلّا طاقتها، ولا تشقيها؛ بل أنت ترحمها. فقال الله تعالى له: إنى سأطوّقك ما حمّلتك، وأشرح لك صدرك وسمعك فتسمع وتعى كلّ شئ، وأوسّع لك فهمك فتفقه كلّ شئ، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شئ، وأفتح لك بصرك فينفذ فى كل شئ، وأحصى لك قوّتك «2» فلا يفوتك شئ، وأشدّ لك عضدك فلا يهولك شئ، وأشيّد لك ركنك فلا يغلبك شئ، وأشدّ لك قبلك فلا يفزعك شئ، وأشدّ لك يديك «3» فتسطو على كلّ شئ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شئ، وأسخّر لك النور والظلمة وأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك. قال: فلما قيل له ذلك حدّث نفسه بالمسير، وألحّ عليه قومه بالمقام، فلم يفعل وقال: لابدّ من طاعة الله تعالى. قال وهب: وكان أوّل ما بدأ به أن أخذ قومه بالإسلام فأسلموا قهرا من عند آخرهم، ثم أمرهم أن يبنوا له مسجدا ويجعلوا طوله أربعمائة ذراع، وعرضه مائتى ذراع، وسمك حائطه اثنين وعشرين ذراعا، وارتفاعه فى السماء مائة ذراع، وأمرهم أن ينصبوا فيه سوارى. قالوا: يا ذا القرنين، كيف لنا بخشب يبلغ ما بين الحائطين؟ فلمّا كمل البناء أمرهم بردمه بالتراب، ثم فرض على الموسر قدره من الذهب وعلى المقتر قدره، وأمرهم أن يجعلوا ذلك الذهب كقلامة الظّفر

ويخلطوه بالتراب وكبسوا التراب حتى ساوى البناء، ثم أمرهم بعد ذلك أن يتّخذوا أعمدة من النحاس بدلا من الخشب فصنعوها، وجعلوا على كل حائط اثنى عشر ذراعا، فكان طول كل عمود من النحاس مائتين وأربعة وعشرين ذراعا، فتمكّنوا من ذلك بسبب الردم. فلمّا استقرّ «1» السقف بما فيه أمر الإسكندر المساكين أن يحوّلوا التراب، ومن خرج له شئ من الذهب فهو له، فسارعوا إلى ذلك ونقلوه واستغنوا بما فيه، ثم جنّد القوم أربعين ألفا، وهم أوّل جند اتّبعوه. وقال الثعلبىّ رحمه الله: إنّ الإسكندر جنّد المساكين بما حصل لهم من قراضة الذهب، وكانوا أربعين ألفا، جعلهم أربعة أجناد، فى كل جند عشرة آلاف. قال: ثم عرض جنده فوجدهم فيما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل غير المساكين، وهم أربعون ألفا؛ ثم انطلق يؤمّ الأمّة التى عند مغرب الشمس، فسار لا يمرّ بأمّة إلّا دعاهم إلى الله تعالى، فإن أجابوه قبل ذلك منهم، وإن أبوا عليه غشيتهم الظّلمة فلبست مدائنهم ومنازلهم وأعشت أبصارهم، فيتحيّروا حتى يجيبوه، أو يأخذهم عنوة. ولم يزل كذلك حتى بلغ مغرب الشمس. قال الله تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ «2» أى ذات حمأة، ومن قرأ حامية فمعناه حارّة وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً الآيات إلى قوله: يُسْراً . قال الثعلبىّ: فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله تعالى، وقوّة وبأسا لا يطيقه إلا الله تعالى، ورأى ألسنا مختلفة وأهواء متشتّتة، وهذه الأمّة هى ناسك. فلمّا رأى ذلك كاثرهم بالظّلمة فضرب حولهم ثلاث عساكر فأحاط بهم من كل مكان حتى جمعهم فى مكان واحد، ثم أخذ عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وعبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه،

فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخلهم الظّلمة، فدخلت فى أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخلت فى بيوتهم وغشيتهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كل جانب، فصاحوا وتحيّروا وأشفقوا من الهلكة، فعجّوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة فدخلوا فى دعوته، فجنّد منهم أمما عظيمة وجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم والظّلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم والنور أمامهم، وسار يريد الأمّة التى فى قطر الأرض التى يقال لها هاويل، فكان إذا انتهى إلى بحر أو نهر بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ونظمها فى ساعة، ثم حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود، فإذا قطع ذلك البحر أو النهر فتقها ثم دفع إلى كل رجل منهم لوحا فلا يكرثه حمله، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ففعل بهم كما فعل بالأمة التى قبلها. قال: ولما فرغ منها مضى حتى انتهى إلى منسك وهى الأمة التى عند مطلع الشمس. قال الله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً* كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً «1» . قال: وقوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً وذلك أنهم كانوا فى مكان لا يستقرّ عليه بناء، وكانوا يكونون فى أسراب «2» لهم، حتى إذا زالت الشمس خرجوا الى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن «3» : كانت أرضهم أرضا لا تحتمل البناء، فكانوا إذا طلعت الشمس عليهم تهوّروا فى الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فتراعوا كما ترعى البهائم. وقال الكلبىّ: هم أمّة يقال لها منسك عراة حفاة عماة عن الحقّ. قال: وحدّثنى عمرو بن مالك بن أميّة قال: وجدت رجلا بسمرقند يحدّث الناس

وهم مجتمعون حوله، فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرنى أنه حدّثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس، قال: خرجت حتى جاوزت الصين، ثم سألت عنهم فقيل: [لى «1» ] إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا [يرينيهم «2» ] ، فسرت بقيّة عشيّتى وليلتى حتى صبّحتهم، فإذا أحدهم يفترش أذنه ويلبس «3» الأخرى. وكان صاحبى يحسن لسانهم فسألوه فقال: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مثل الصلصلة، فغشى علىّ فوقعت، فلمّا أفقت وجدتهم يمسحوننى بالدهن فإذا الشمس طلعت على الماء، وهى عليه كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلمّا ارتفعت دخلوا فى سرب لهم وأنا وصاحبى، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك فيطرحونه فى الشمس فينضج. نرجع إلى تتمة أخبار الإسكندر ومطلع الشمس. قالوا: ولمّا بلغ الإسكندر مطلع الشمس فعل بمنسك كما فعل بالأمم التى قبلها وجنّد منها جنودا، ثم كرّ حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهى بدء تاويل، وهى الأمّة التى بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض. فلمّا بلغها عمل فيها كما عمل بمن قبلها. ولمّا فرغ من الأمم الذين هم بأطراف الأرض وطاف الشرق والغرب عطف منها إلى الأمم التى هى فى وسط الأرض من الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. فلمّا كان فى بعض الطريق مما يلى منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمّة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين، إنّ بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب ويفترسون الدوّاب والوحوش كما يفترسها السباع، ويأكلون هوّام الأرض من الحيّات والعقارب وكل ذى روح مما خلق الله تعالى. وليس لله خلق ينمون نماءهم ولا يزدادون كزيادتهم. فإن أتت مدّة على ما نرى من

نمائهم وزيادتهم فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض ويخلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقّعهم أن يطلع علينا أوّلهم من [بين «1» ] هذين الجبلين «2» . قال الشيخ عبد الوهاب بن المبارك الأنماطىّ فى كتابه عن وهب بن منبّه: إنّ يأجوج ومأجوج أجفلوا «3» فى زمن ذى القرنين يريدون أرضا وأمّة من الأمم، وكانوا إذا توجّهوا لوجه لم يعدلوا عنه ولا يميلون ولا يعرّجون، وكانت تسمع همهمتهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم. فلما سمعت تلك الأمّة حسّهم استغاثوا بذى القرنين، وهو يومئذ فى ناحية أرضهم من شرقى أرض الترك والخزر وقالوا: يا ذا القرنين، إنه قد بلغنا ما آتاك الله من السلطان والملك، وما ألبسك من الهيبة، وما أيّدك به من جنود أهل الأرض ومن النور والظلمة، وإنّا جيران يأجوج ومأجوج، وليس بيننا وبينهم إلا شواهق الجبال، وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الصّدفين «4» ، فهل نجعل لك خرجا [على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا «5» ] . قال الله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً «6» أى جعلا وأجرا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أى حاجزا فلا يصلون إلينا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أى قوّانى خَيْرٌ من خراجكم ولكن فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا كالحائط. قالوا: وما تلك القوّة؟ قال: فعلة وصنّاع

يحسنون البناء والعمل والآلة. قالوا: وما تلك الآلة: قال آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ يعنى قطعه، واحدتها زبرة، وأتونى بالنّحاس. قالوا: من أين لنا الحديد والنّحاس [ما يكفى هذا العمل «1» ] ؟ قال، سأدلّكم على معادن الحديد والنحاس، فضرب لهم فى جبلين حتى فلقهما، ثم استخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس. قالوا: فبأىّ قوّة نقطع الحديد والنحاس؟ فآستخرج معدن السامور وهو أشدّ ما خلق الله بياضا، وهو الذى قطع به سليمان صخور بيت المقدس وجواهره، كما تقدّم. قال الثعلبىّ: ولمّا شغلهم الإسكندر فى استخراج الحديد والنحاس سار نحو يأجوج ومأجوج ليعلم علمهم، فانطلق يؤمّهم حتى انتهى إليهم وتوسّط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد ذكرهم وأنثاهم، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منّا. وروى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط فى الطول، لهم مخاليب فى أيديهم موضع الأظافر، وأنياب وأضراس كالسّباع، يسمع لها حركة إذا أكلوا كقضم البغل المسنّ أو الفرس القوىّ، ولهم من الشعر فى أجسادهم ما يواريهم وما يتّقون به الحرّ والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة والأخرى زغبة، يفترش إحداهما ويلتحف الأخرى، ويصيّف فى إحداهما ويشتّى فى الأخرى «2» . وقال الأنماطىّ فى خبره:

ولهم أخفاف كأخفاف الإبل. قالوا: وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا قد عرف أجله الذى يموت فيه. وذلك أنّ الذكر منهم لا يموت حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد «1» ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت

وترك طلب المعيشة. قالوا: وهم يرزقون التنيّن فى أيام الربيع، يقذفه عليهم السحاب من البحر فى كل عام مرّة. فإذا تأخّر عنهم وقت عادته استمطروه كما يستمطر الغيث لحينه، فإن قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وكثروا وأكلوا منه حولا كاملا لا يأكلون غيره، ويقدّدونه فيعمّهم على كثرتهم. قال: وهم يتداعون تداعى الحمام، ويعوون عواء الذئاب، ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا. فلمّا عاينهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصّدفين فقاس ما بينهما، ثم أوقد على ما جمع من الحديد والنحاس فصنع منه زبرا أمثال الصخور العظام، ثم أذاب النّحاس فجعله كالطين وألاط به تلك الصخور الحديد ثم بناه. قالوا: وكيفيّة بنائه على ما ذكره أهل السّير: أنه لمّا قاس ما بين الجبلين وجد ما بينهما مائة فرسخ، ثم حفر له الأساس حتى بلغ الماء، وجعل عرضه خمسين فرسخا، ثم وضع الحطب بين الجبلين، ثم نسج عليه الحديد، ثم نسج الحطب على الحديد، فلم يزل يحوّل الحديد على الحطب والحطب على الحديد حتى ساوى بين الصّدفين، وهما الجبلان، ثم أمر بالنار فأرسلت فيه، ثم قال انفخوا ثم جعل يفرغ القطر «1» وهو النحاس المذاب، فجعلت النار تأكل الحطب ويصير النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس، فصار كأنه برد «2» حبرة من صفرة النحاس وحمرته، وسواد الحديد وغبرته؛ فصار سدّا طويلا عظيما حصينا. قال الله تعالى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً «3» وقد روى أنّ رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج. قال: «انعته لى» . قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. قال: «قد رأيته» .

ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالى لطلب عين الحياة

وقد ذكرنا خبر السدّ فيما سلف من كتابنا «1» هذا عن سلّام التّرجمان حين أرسله الواثق إلى السدّ فرآه، وهو فى الباب الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا. قال الأنماطىّ قال وهب: فبلغنا- والله أعلم- أنهم يأتونه فى كل سنة مرّة، وذلك أنهم يسيحون فى بلادهم حتى إذا انتهوا إلى ذلك الرّدم حبسهم فرجعوا يسيحون فى بلادهم، فهم كذلك حتى تقرب الساعة، فإذا جاء أشراطها فتحه الله عز وجل؛ فذلك قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «2» ، وقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا «3» . والله أعلم. ذكر خبر دخول ذى القرنين الظلمات مما يلى القطب الشمالىّ لطلب عين الحياة قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: قال علىّ رضى الله عنه: ملك ذو القرنين ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة اسمه رفائيل يأتيه ويزوره. فبينما هما ذات يوم يتحادثان إذ قال ذو القرنين: يا رفائيل، حدّثنى عن عبادتكم [فى السماء «4» ] . فبكى وقال: يا ذا القرنين، وما عبادتكم [بشىء «5» ] عند عبادتنا! إنّ فى السماء من الملائكة من هو قائم أبدا لا يجلس، ومنهم من هو ساجد لا يرفع رأسه أبدا، ومنهم الراكع لا يستوى أبدا قائما، يقولون: سبحان الملك القدّوس، ربّ الملائكة والرّوح، ربنا ما عبدناك حقّ عبادتك. فبكى ذو القرنين بكاء شديدا ثم قال: إنى لأحبّ أن

أعيش فأبلغ من عبادة ربّى حقّ طاعته. قال رفائيل: أو تحبّ ذلك؟ قال نعم. قال: فإنّ لله عينا فى الأرض تسمّى عين الحياة فيها من الله عزيمة، إنّ من يشرب منها شربة لم يمت أبدا حتى يكون هو الذى يسأل ربّه الموت. قال ذو القرنين: هل تعلم موضع تلك العين؟ قال الملك: لا، غير أنّا نتحدّث فى السماء أنّ لله تعالى فى الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جانّ، فنحن نظن أنّ العين فى تلك الظلمة. فجمع ذو القرنين علماء أهل الأرض وأهل دراسة الكتب وآثار النبوّة فقال لهم: أخبرونى هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله وما جاءكم من أحاديث الأنبياء ومن كان قبلكم أنّ الله وضع فى الأرض عينا سمّاها عين الحياة؟. قالوا لا. وقال عالم من العلماء «1» : إنّى قرأت وصيّة آدم، وصّى أنّ الله تعالى خلق فى الأرض ظلمة لم يطأها «2» إنس ولا جانّ ووضع فيها عين الخلد. فقال ذو القرنين: فأين وصيّته فى الأرض؟ قال: على قرن الشمس. فبعث ذو القرنين وحشر إليه العلماء والأشراف والملوك، ثم سار يطلب مطلع الشمس، فسار اثنتى عشرة سنة إلى أن بلغ طرف الظّلمة، فإذا ظلمة تقوم «3» مثل الدّخان ليست بظلمة ليل، فعسكر هناك، ثم جمع العلماء وقال: إنّى أريد أن أسلك هذه الظلمة. قالوا: إنه من كان قبلك من الأنبياء والملوك لم يطلبوا هذه الظلمة فلا تطلبها، فإنّا نخاف أن ينبثق عليك أمر تكرهه فيكون فيه فساد [أهل «4» ] الأرض. فقال: لابدّ من أن أسلكها. قالوا: أيها الملك كفّ عنها ولا تطلبها فإنّا لو نعلم أنك إن طلبتها ظفرت بما تريد ولم يسخط علينا ربّنا لاتّبعناك، ولكنّا نخاف العتب من الله عزّ وجل وفساد الأرض ومن عليها. فقال: لابدّ أن أسلكها.

قالوا: شأنك بها. قال: أىّ الدوابّ بالليل أبصر؟ قالوا: الخيل. قال: فأىّ الخيل أبصر؟ قالوا: الإناث. قال: فأىّ الإناث أبصر؟ قالوا: البكارة. فجمع ذو القرنين ستّة آلاف فرس بهذه الصفة، ثم انتخب من عسكره [أهل الجلد والعقل «1» ] ستّة آلاف رجل، فدفع إلى كلّ رجل فرسا، وعقد للخضر عليه السلام على مقدّمته ألفين، وبقى هو فى أربعة آلاف. وقال ذو القرنين للناس: لا تبرحوا من معسكركم هذا إلى اثنتى عشرة سنة، فإن رجعنا إليكم وإلا فارجعوا إلى بلادكم. فقال الخضر: أيها الملك، إنّا نسلك ظلمة لا ندرى كم المسير فيها ولا يبصر بعضنا بعضا، فكيف نصنع إذا ضللنا! فدفع إلى الخضر خرزة حمراء وقال: حيث يصيبكم الضلال فاطرح هذه فى الأرض فإذا صاحت فليرجع إليها أهل الضلال أين صاحت. فسار الخضر بين يديه، يرتحل الخضر وينزل ذو القرنين. فبينما الخضر يسير إذ عرض له واد فظنّ أنّ العين فيه وألقى ذلك فى قلبه. فقام على شفير الوادى وقال لأصحابه: قفوا لا تبرحو. ورمى بالخرزة فى الوادى ومكث طويلا حتى أجابته الخرزة، فطلب صوتها فانتهى إليها فإذا هى إلى جانب العين. فنزع الخضر ثيابه ثم دخل العين، فإذا ماؤها أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من الشهد، فشرب واغتسل وتوضّأ ولبس ثيابه، ثم رمى الخرزة نحو أصحابه، فوقعت الخرزة وصاحت، فرجع إلى صوتها حتى انتهى إلى أصحابه، فركب وقال: سيروا على اسم الله. ومرّ ذو القرنين فأخطأ الوادى فسلكوا تلك الظّلمة أربعين يوما وليلة، ثم خرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وإلى أرض حمراء ورملة خشخاشيّة «2» ، فإذا هو بقصر مبنىّ فى تلك الأرض طوله فرسخ فى فرسخ عليه باب، فنزل ذو القرنين بعسكره، ثم خرج وحده فدخل القصر، فإذا حديدة قد وضع طرفاها على جانبى القصر من هاهنا وهاهنا،

وإذا طائر أسود يشبه الخطّاف مزموم بأنفه إلى الحديدة، معلّق بين السماء والأرض. فلمّا سمع الطائر خشخشة ذى القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. فقال: يا ذا القرنين، أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلىّ! ثم قال الطائر: يا ذا القرنين، حدّثنى؛ قال سل؛ فقال: هل كثر بناء الآجرّ والجصّ فى الأرض؟ قال نعم؛ فانتفض الطائر انتفاضة ثم انتفخ فبلغ ثلث الحديدة، ثم قال: يا ذا القرنين، هل كثرت شهادات الزور فى الأرض؟ قال نعم؛ فانتفض الطائر ثم انتفخ فملأ الحديدة وسدّ ما بين جدارى القصر، ففرق ذو القرنين فرقا عظيما. فقال الطائر: لا تخف، حدّثنى. قال سل. قال: هل ترك الناس [شهادة أن «1» ] لا إله إلّا الله بعد؟ قال لا، فانضم الطائر ثلثه ثم قال: هل ترك الناس الصلاة المفروضة بعد؟ قال لا، فانضمّ ثلثاه. ثم قال: يا ذا القرنين، هل ترك الناس غسل الجنابة بعد؟ قال لا؛ فعاد الطائر كما كان. ثم قال: يا ذا القرنين، اسلك هذا الدّرج درجة درجة إلى أعلى القصر، فسلكها وهو خائف وجل لا يدرى على ماذا يهجم، حتى انتهى إلى سطح ممدود، عليه صورة رجل شابّ قائم، وعليه ثياب بيض، رافعا وجهه إلى السماء، واضعا يديه على فيه، فلمّا سمع خشخشة ذى القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين. قال: يا ذا القرنين، إنّ الساعة قد اقتربت، وإنا منتظر أمر ربّى يأمرنى أن أنفخ [فأنفخ «2» ] ، ثم أخذ صاحب الصّور شيئا بين يديه كأنه حجر وقال: خذه يا ذا القرنين، فإن شبع هذا شبعت، وإن جاع جعت؛ فأخذه ونزل إلى أصحابه فحدّثهم بأمر الطائر وما قال له وما ردّ عليه، وما قال صاحب الصّور. ثم جمع علماء عسكره فقال: أخبرونى عن هذا الحجر ما أمره؟ [فقالوا: أيها الملك، أخبرنا عما قال لك فيه صاحب الصور. فقال ذو القرنين: إنه قال لى: إن شبع هذا شبعت وإن جاع جعت «3» ] فوضعوا

ذلك الحجر فى إحدى كفّتى ميزان وأخذوا حجرا مثله فوضعوه فى الكفة الأخرى ثم رفعوا الميزان فإذا هو يميل، [فوضعوا معه آخر فاذا هو يميل بهنّ «1» ] فلم يزالوا يضعون حتى وضعوا ألف حجر فمال بالألف جميعا، فقالوا: انقطع علمنا دون هذا الحجر لا ندرى أسحر هو أم علم [ما نعلمه «2» ] ! فقال الخضر: نعم أنا أعلمه، فأخذ الميزان بيده ثم وضع الحجر فى كفّتها وأخذ كفّا من تراب فجعله فى الكفّة الأخرى ثم رفع الميزان فاستوى. فخرّت العلماء سجّدّا لله تعالى وقالوا: هذا علم لم يبلغه علمنا. فقال الخضر عليه السلام: أيّها الملك، إنّ سلطان الله عزّ وجل قاهر لخلقه، وأمره نافذ فيهم، وحكمه جار عليهم؛ وإنّ الله تعالى ابتلى خلقه بعضهم ببعض، فابتلى العالم بالعالم، والجاهل بالجاهل، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم؛ وإنه ابتلانى بك وابتلاك بى. قال ذو القرنين: صدقت، فأخبرنى ما هذا؟ فقال الخضر: أيها الملك، هذا مثل ضربه لك صاحب الصّور، [إن الله تعالى مكّن لك فى البلاد، وأعطاك منها ما لم يعط أحدا، وأوطأك منها ما لم يؤطى أحدا، فلم «3» ] تشبع، وآتيت نفسك شرّها، حتى بلغت من سلطان الله ما لم يطأه إنس ولا جانّ، فهذا مثل ضربه لك، إن ابن آدم لا يشبع أبدا دون أن يحثى عليه التراب، ولا يملأ جوفه إلّا التراب. فبكى ذو القرنين وقال: صدقت، لا جرم [أنى «4» ] لا طلبت أثرا فى البلاد بعد مسيرى هذا حتى أموت، ثم انصرف راجعا. فلمّا توسّط الظّلمة وطئ وادى الزّبرجد، فقال من معه لما سمعوا الخشخشة تحت حوافر دوابّهم: ما هذا أيّها الملك؟ فقال: خذوا منه فإنه من أخذ منه ندم، ومن تركه ندم. فمنهم من أخذ، ومنهم من ترك. فلمّا خرجوا من الظلمة إذا هو الزبرجد. فندم الآخذ كونه لم يكثر، والتارك كونه لم يأخذ. قال:

فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخى ذا القرنين لو ظفر بوادى الزّبرجد فى المبتدأ ما ترك منه شيئا حتى أخرجه إلى الناس لأنه كان راغبا فى الدنيا ولكنّه ظفر به وهو زاهد فى الدنيا لا حاجة له فيها» . قال الثعلبىّ: ثم رجع إلى العراق وملك ملوك الطوائف، ومات فى طريقه بشهرزور «1» . وقال علىّ رضى الله عنه: [ثم إنه «2» ] رجع إلى دومة «3» الجندل فأقام بها حتى مات. وصرّح الثعلبىّ فى سياقة أخباره أنه الذى قتل دارا بن دارا، وأنه لم تطل مدّة عمره. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر قاتل دارا بن دارا فى أخبار ملوك اليونان. وحكى الأنماطىّ عن وهب فى خبر دخول الإسكندر الظّلمات: أنه لمّا انتهى إلى مغرب الشمس ترك من معه هناك وسار على الماء فى الظلمة ثمانية أيام وثمانى ليال حتى انتهى إلى جبل قاف، وإذا هو بملك قابض على الجبل يسبّح الله تعالى؛ فخرّ ذو القرنين ساجدا لله تعالى فلم يرفع رأسه حتى قوّاه الله تعالى على النظر إلى الملك. فقال له: كيف قويت يابن آدم على أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك؟! قال: قوّانى الله الذى قوّاك على قبض هذا الجبل. فأخبرنى عن هذا الجبل. قال: إنه قاف المحيط بالأرض كلها، ولولا هو لانكفأت الأرض بأهلها، وليس على ظهر الأرض أعظم منه، وإنه لمحيط بها كالحلقة، وهو أوّل جبل أثبته الله، فرأسه ملصق بسماء الدنيا، وأسفله راسخ فى الأرض السفلى.

وحكى إبراهيم بن وصيف شاه فى كتاب العجائب الكبير: أنّ ذا القرنين لمّا سار إلى الظّلمة مرّ بجزيرة فيها أمّة رءوسهم رءوس الكلاب العظام بادية أنيابهم، يخرج من أفواههم مثل لهب النار، وأنهم خرجوا إلى مراكبه فحاربوه فتخلّص منهم، وسار فرأى نورا ساطعا فقصده فاذا هو قد بلغ جزيرة القصر. قال: وهذه الجزيرة فيها قصر مبنىّ بالبلّور الصافى عالى الطول يشفّ حتى يرى نوره على البعد، فأراد النزول بها، فمنعه بهرام فيلسوف الهند وعرّفه أنّ من نزل اليها وقع عليه النوم وعزب عقله فلا يستطيع الخروج منها حتى يهلك. قال: ويقال إنه ظهر لهم منها قوم قصار زعر، لباسهم ورق الشجر. فسأل بهرام عن صبرهم على المقام بها، فعرّفوه أنّ بها ثمرا اذا أكلوا منه زال عنهم ذلك، وذكروا أنهم إذا كان الليل ظهر بين شرف القصر مثل المصابيح تسرج إلى الصّبح ثم تخمد نهارا إلى الليل فتوقد. قال: ويقال إنه مرّ فى طريقه بجزيرة التّنّين «1» وإنها جزيرة فيها جبال وأنهار وأشجار وزروع وهى عامرة، وعلى مدينتها حصن عال، وبها تنّين عظيم قد سام أهلها أقبح سوم. فلمّا دخلها الإسكندر استغاثوا به من التّنين وأنه أتلف مواشيهم حتى إنهم جعلوا له فى كل يوم ثورين ينصبونهما قريبا من موضعه، فيخرج فيبتلعهما. فأمر الإسكندر بثورين عظيمين فسلخا وحشا جلودهما زفتا وكبريتا وكلسا وزرنيخا، وجعل مع تلك الأخلاط كلاليب حديد، وجعلهما فى ذلك المكان. وخرج التنّين وأقبل كالسحابة السوداء وعيناه [تلمعان «2» ] كالبرق، والنار تخرج من جوفه، فابتلعهما ومضى، فأضّطرمت تلك الأشياء فى جوفه، فلمّا أحسّ بثقلها ذهب ليقذفها، فتشبّكت

الكلاليب فى حلقه فخرّ وفتح فاه ليستروح، فأمر الإسكندر بقطع الحديد فأحميت وحملت على ألواح من حديد وقذفت فى حلقه فمات. ففرح أهل ذلك الموضع بموته وألطفوا الإسكندر وحملوا اليه من طرائف ما عندهم. وكان فيما حملوه اليه دابّة فى خلق الأرنب، شعرها أصفر يبرق كالذهب، يسمّونها المعراج «1» ، وفى رأسها قرن واحد أسود، اذا رأتها الأسود وسباع الوحش وكلّ دابّة هربت منها. وقال الأنماطىّ فى سياقة أخبار الإسكندر عن وهب تلو خبر السدّ: ثم انطلق ذو القرنين بعد ذلك، فبينما هو يسير إذ مرّ على شيخ يصلّى، فوقف عليه بجنوده حتى إذا انصرف من صلاته قال له: كيف لم يرعك ما حضرك من الجنود؟! قال: كنت أناجى من جنوده أكثر من جنودك، وسلطانه أعزّ من سلطانك، وقوّته أشدّ من قوّتك؛ ولو صرفت وجهى إليك لم أدرك حاجتى قبله. قال له: هل لك أن تنطلق معى وأواسيك بنفسى وأستعين بك على بعض أمرى؟ قال: نعم، إن ضمنت لى أربعة خصال: نعيم لا يزول، وصحة لا سقم فيها، وشباب لا كبر فيه، وحياة لا موت فيها. قال له ذو القرنين: وأىّ مخلوق يقدر على هذه الخصال!. قال الشيخ: فإنّى مع من يقدر عليها ويملكها، فتركه وسار. فبينما هو يسير إذ دفع الى الأمة الصالحة من قوم موسى الذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فوجد أمّة مقسطة عادلة يقسمون بالسّويّة، ويحكمون بالعدل ويتواسون، فكلمتهم واحدة، وقلوبهم مؤتلفة مستقيمة، وسيرتهم مستوية، وقبور موتاهم فى أفنيتهم، وليس على بيوتهم «2» أبواب تغلق، وليس عليهم أمراء، ولا قضاة بينهم، ولا أشراف

يتفاوتون، ولا يتفاضلون ولا يختلفون ولا يتنازعون ولا يتسابّون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا تصيبهم الآفات؛ فعجب من أمرهم وقال: أخبرونى خبركم أيّها القوم؛ فإنّى قد أحصيت الأرض شرقها وغربها، وسهلها وجبلها، وبرّها وبحرها، ونورها وظلمتها، فلم أر مثلكم. قالوا: سلنا عمّا بدا لك نخبرك. قال: ما بال قبوركم فى أفنيتكم وعلى أبواب بيوتكم؟ قالوا: لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم لا أبواب عليها؟ قالوا: ليس فينا متّهم ولا ظنين، ولا فينا إلّا مؤتمن أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لأنّا لا نتظالم. قال: فما بالكم ليس فيكم أغيناء؟ قالوا: لأنّا لا نتكاثر. قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل أنّا متواسون متراحمون. قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لأنّا لا نتنافس. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم ليس بينكم حكّام؟ قالوا: نحن لا نختصم. قال: فما بال كلمتكم واحدة؟ قالوا: من قبل أنّا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبرونى من قبل ماذا تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: من صحّة صدورنا، فنزع الله بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسويّة. قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟ قالوا من قبل الذل والتواضع. قال: فأخبرونى بماذا أنتم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنّا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل. قال: فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: لأنّا لا نغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل أنّا لا نتوكّل إلّا على الله، ولا نستمطر بالأنواء ولا بالنجوم. قال: أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا: وجدنا آباءنا يعطون مسكينهم، ويواسون فقيرهم، ويوقّرون غنيّهم، ويعفون عمّن ظلمهم، ويحسنون الى من أساء اليهم،

ويحملون عمّن جهل عليهم، ويستغفرون لمن سبّهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون أمانتهم، ويحفظون وفاءهم لصلاحهم، ويوفون بعهدهم، ويصدقون فى مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم؛ فأصلح الله تعالى لهم بذلك أمرهم، وحفظهم به ما كانوا أحياء. قال: فأقام ذو القرنين عندهم حتى قبضه الله عزّ وجل، ولم تطل مدّة إقامته فيهم. قال وهب: عاش منذ بعثه الله تعالى الى أن قبض خمسائة عام. وقال غيره: أكثر من ذلك. وقد ذكر فى المعمّرين. وقيل: إنه عاش ألف وستمائة وخمسين سنة ومات فى حياة أمه. وقيل: إنه أدرك إبراهيم الخليل واجتمع معه وأركبه من دوابّه. حكاه الأزرقىّ وأبو عبيد البكرىّ. والله أعلم.

الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر

الباب الثانى من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأصقاع، وهم ملوك الهند والصين والترك وجبل الفتح وملوك مصر ذكر أخبار ملوك الهند قال المسعودى فى مروج «1» الذهب: ذكر جماعة من أهل النظر والبحث الذين واصلوا البحث والعناية بتأمّل شأن هذا العالم [وبدئه «2» ] أنّ الهند كانت فى قديم الزمان الفرقة التى فيها الصلاح والحكمة، وأنه لمّا تجيّلت الأجيال وتحزّبت الأحزاب حاولت الهند أن تضمّ المملكة وتستولى على الحوزة وتكون الرياسة فيها. قال كبراؤهم: نحن كنّا أهل البدء وفينا التناهى، ولنا الغاية والصدر والأنتهاء، ومنّا سرى الأب الى الأرض، فلا شاقّنا أحد ولا عاندنا ولا أراد بنا الاغتماص «3» إلّا أتينا عليه وأبدناه أو يرجع «4» الى طاعتنا. فأجمعت على ذلك رأيها ونصبت لها ملكا، وهو «البرهمن» الأكبر والملك الأعظم، واليه تنسب طائفة البراهمة بالهند، لا الى إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلّم. وهذا «البرهمن» هو الإمام المقدّم فيهم الذى ظهرت فى أيامه الحكمة وتقدّمت العلماء، وأمر باستخراج الحديد من معادنه، وضربت فى أيامه السيوف والخناجر وكثير من أنواع السلاح وآلات القتال، وشيّد الهياكل ورصّعها بالجواهر النفيسة المشرقة، وصوّر فيها الأفلاك والبروج الاثنى عشر برجا والكواكب، وبيّن بالصورة

كيفيّة العالم، وأرى «1» بالصورة أيضا كيفيّة أفعال الكواكب فى هذا العالم وإحداثها للأشخاص الحيوانيّة من الناطقة وغيرها، وبيّن حال المدبّر الأعظم الذى هو الشمس، وبرهن على ذلك كلّه وقرّبه إلى عقول العوامّ «2» وأذهانهم ففهموه، وغرس فى نفوس الخواصّ دراية ما هو أعلى من ذلك، وأشار إلى المبدئ الأوّل المعطى لسائر الموجودات [وجودها الفائض عليها بجوده «3» ] . فانقادت له الهند، وأراهم وجه مصالح الدنيا وأخصبت بلادهم. وجمع الحكماء فى أيامه كتاب «السند هند «4» » ، وتفسيره دهر الدهور «5» ، ومنه فرّعت الكتب، ككتاب الأزجهير والمجسطى، وفرّع [من الأزجهير الأركند ومن المجسطى «6» ] كتاب بطلميوس، ثم عمل منها بعد ذلك الزّيجات. وأحدثوا التسعة الأحرف المحيطة بالحساب الهندىّ. وكان البرهمن هذا أوّل من تكلم فى أوج «7» الشمس، وذكر أنه يقيم فى كلّ برج ثلاثة آلاف سنة، ويقطع الفلك فى ستّة وثلاثين ألف سنة، الى غير ذلك من هذا الفنّ. وكان ملك البرهمن الى أن هلك ثلاثمائة سنة وستا وستين سنة، وولده يعرفون بالبراهمة. والهند تعظّمهم الى وقتنا هذا، وهم أعلى أجناسهم وأشرفهم، وهم لا يتغذّون بشىء من الحيوانات. وفى رقاب النساء والرجال منهم خيوط صفر يتقلّدون بها كحمائل السيوف، تفرّق بينهم

ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود

وبين غيرهم من أنواع الهند. وقد تنوزع فى البرهمن، فمنهم من زعم أنه آدم وأنه رسول من الله الى الهند، ومنهم من زعم أنه كان ملكا، على حسب ما قدّمناه وهو الأشهر. ولمّا هلك البرهمن جزعت عليه الهند جزعا شديدا، وملّكت عليها ولده الأكبر. ذكر تنصيب ابن البرهمن وهو الباهبود «1» وكان ولىّ عهد أبيه من بعده. فسار فيهم سيرة أبيه وأحسن النظر إليهم، وزاد فى بناء الهياكل، وقدّم الحكماء ورفع من مقدارهم وزاد فى مراتبهم، وحثّهم على تعليم الناس الحكمة وبعثهم على طلبها. وكان ملكه الى أن هلك مائة سنة. وفى أيامه عمل النّرد ولعب به، وجعل ذلك مثالا للمكاسب، وأنها لا تنال بالكيس ولا بالحيل فى هذه الدنيا، وأن الرزق لا يتأتّى فيها بالحذق. وذكر أن أردشير بن بابك أوّل من وضع النّرد ولعب بها، وأرى تقلّب الدنيا بأهلها واختلاف أمرها. وجعل بيوتها أثنى عشر بعدد الشهور، وجعل مهاركها «2» ثلاثين بعدد أيام الشهر، والفصوص أمثلة للقدر وتقلبه بأهل الدنيا وأن الانسان يلعب بها فيبلغ بإسعاد القدر له فى مراده بها ما يريد، وأن الحازم الفطن لا يتأتّى له ما يتأتّى لغيره اذا لم يسعده القدر، وأن الأرزاق لا تنال فى هذه الدنيا إلا بمقادير. ثم ملك بعده رامان «3» ، فكان ملكه نحوا من خمسين ومائة سنة. قال: وله سير وأخبار وحروب مع ملوك فارس وملوك الصين. ثم ملك بعده فور، وهو الذى قتله الإسكندر بن فيلبس اليونانىّ مبارزة. وكان ملكه الى أن قتل أربعين ومائة سنة.

ثم ملك بعده تسام «1» ، وهو الذى وضع كتاب كليلة ودمنة الذى نقله ابن المقفّع. وكان ملكه مائة وعشر سنين «2» ، وقيل غير ذلك. ثم ملك بعده بلهيت. وفى أيامه صنعت الشّطرنج فقضى بلعبها على النّرد، وبيّن الظفر الذى يناله الحازم والنكبة التى تلحق الجاهل وحسب حسابهما، ورتّب لذلك كتابا للهند يتداولونه بينهم، ولعب بها مع حكمائه. وكانت مدّة ملكه الى أن هلك نحوا من ثمانين سنة، وفى بعض النسخ أنه ملك ثلاثين ومائة سنة. ثم ملك بعده كوش «3» ، فأحدث للهند آراء فى الديانات على حسب ما رأى من صلاح الوقت، وما يحتمله أهل العصر من التكليف، وخرج عن مذاهب من سلف. وكان فى مملكته وعصره سندباد، وله كتاب الوزراء السبعة والمعلم والغلام وامرأة الملك، وهو الكتاب المترجم بكتاب السندباد. وعمل لهذا الملك الكتاب الأعظم فى معرفة العلل والأدواء والعلاجات وأشكال الحشائش وصفتها. وكان ملك هذا الملك الى أن هلك عشرين ومائة سنة. ولمّا هلك اختلفت الهند فى آرائها فتحزّبت الأحزاب وتجيّلت الأجيال، وانفرد كل رئيس بناحيته، فملّك على أرض السند ملك، وعلى أرض القّنوج ملك، وعلى أرض قشمير ملك. فكانت مدّة اجتماع الكلمة ببلاد الهند على ملك واحد على هذا الحكم نحوا من ألف سنة وستّ وستين سنة، وعلى القول الآخر ألف سنة ومائة سنة وست عشرة سنة. وعدّة ملوكهم سبعة ملوك. والله تعالى أعلم.

وملك بعد كوش بمدينة المانكير وهى الحوزة الكبرى ملك يسمّى البلهرا. قال المسعودىّ: وأرض الهند أرض متّسعة فى البرّ والبحر والجبال، وملكهم يتّصل بملك الزّنج وهى دار مملكة المهراج. وهذه المملكة فرز بين مملكة الهند والصين. قال: ومن عادة الهند أنها لا تملّك الملك حتى يبلغ عمره أربعين سنة، ولا تكاد ملوكهم تظهر لعوامّهم إلّا فى كل برهة معلومة من الزمان. ويكون ظهور الملك للنظر فى أمور الرعيّة. وقال أيضا: رأيت فى بلاد سرنديب» ، وهى جزيرة من جزائر البحر اذا مات ملكهم صيّروه على عجلة صغيرة البكر، وشعره ينجّر على الأرض، وامرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه وتنادى: أيها الناس، هذا ملككم بالأمس قد ملككم وجاز فيكم أمره قد صار الى ما ترون من ترك الدنيا، وقبض روحه ملك الملوك الحىّ القديم الذى لا يموت، فلا تغترّوا بالحياة بعده، وكلام هذا معناه من الترهيب والتزهيد فى هذا العالم. ويطاف به فى جميع شوارع المدينة وهو كذلك؛ ثم يفصل بأربع قطع وقد هيّئ له الصندل والكافور وسائر أنواع الطّيب ويحرق بالنار ويذرّى رماده فى الرياح. قال: وكذلك فعل أكثر أهل الهند بملوكهم وخواصّهم لغرض يذكرونه. قال: والملك مقصور فى أهل بيت لا ينتقل منهم الى غيرهم. وكذلك بيوت الوزراء والقضاة وسائر أرباب المراتب، تتوارث مناصبهم ولا تغيّر ولا تبدّل. وعندهم أنّ ملكهم متى شرب الشراب فقد استحق الخلع. والله الهادى.

ذكر أخبار ملوك الصين

ذكر أخبار ملوك الصين قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب «1» : لمّا قسم فالغ «2» بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح سار ولد عامور «3» بن توبل «4» بن يافث بن نوح يسرة المشرق، فكان منهم أجناس الترك. وسار الجمهور من ولد عامور «5» على ساحل البحر حتى انتهوا الى أقاصيه من بلاد الصين، فتفرّقوا فى تلك البقاع والبلاد وقطنوها وعمّروها، وكوّروا الكور، ومصروا الأمصار، ومدّنوا المدن، واتخذوا للملك مدينة عظيمة سمّوها إيقو «6» ، وبينها وبين ساحل البحر الحبشىّ، وهو بحر الصين مسيرة ثلاثة أشهر، مدن وعمائر متصلة. فكان أوّل من تملّك عليهم فى هذه الديار نسطيرطاس «7» بن ماعور «8» بن بزنج «9» بن عامور «10» . قال: ولمّا ملك فرّق أهله فى تلك الديار، وشقّ الأنهار، وغرس الأشجار، وطعّم الثمار، وقتل السباع. وكانت مدّة ملكه ثلاثمائة سنة ونيّفا وهلك. فقام بالأمر بعده ولده عرون بن نسطيرطاس، فجعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب الأحمر جزعا عليه وتعظيما له، وأجلسه على سرير من الذهب مرصّع بالجوهر، وجعل مجلسه دونه، وسجد له وهو فى جوف ذلك التمثال، وسجد معه أهل مملكته، وفعل ذلك فى كل نهار فى طرفيه. وكانت مدّة ملكه بعد أبيه نحوا من مائتى سنة وخمسين سنة ثم هلك.

فملك بعده ابنه عبيرون «1» بن عرون. ولمّا ملك جعل جسد أبيه عرون فى تمثال من الذهب ونصبه دون مرتبة جدّه، وكان يبدأ بالسجود لجدّه ثم يسجد لأبيه، وساس الرعيّة بأحسن سياسة، وساواهم فى جميع أمورهم، وشملهم بعدله، وكثر النسل، وأخصبت الأرض. وكان ملكه الى أن هلك مائتى سنة. ولمّا مات ملك بعده ولده عثينان «2» بن عبيرون. قال: ولمّا ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وجرى فى أمره على ما سلف من عادتهم فى السجود والتعظيم. وطالت مدّته فى الملك، واتسعت مملكته حتى اتصلت بلاده ببلاد الترك من بنى عمه. واتّخذ فى أيامه كثير من المهن مما لطف فى الرقة من الصنائع، وعاش أربعمائة سنة ثم هلك. فملك بعده ابنه حرانان «3» بن عثينان. قال: ولما ملك جرى فى جسد أبيه على عادتهم، ثم أمر باتّخاذ الفلك وحمل فيها الرجال، وحمل معهم لطائف بلاد الصين وسفّرهم نحو بلاد الهند والسند والى إقليم بابل وسائر الممالك مما قرب وبعد فى البحر. وأهدى الى الملوك الهدايا العجيبة والتحف النفيسة. وأمر أصحابه الذين سفّرهم أن يجلبوا إليه ما فى كل بلد من الطرائف والتحف والمأكول الذى لا يوجد فى بلاده، والمشروب والغروس وأصناف الأقمشة والأمتعة وغير ذلك. وأمرهم أن يتعرّفوا سياسة كلّ ملك، وملّة كل أمة وشرائعها ونهجها الذى هى عليه، وأن يرغّبوا الناس فيما فى بلادهم من الجواهر والطّيب والآلات. فتفرّقت تلك المراكب فى البلاد وفعلوا ما أمرهم به، فلم يردوا على مملكة من الممالك إلّا أعجبوا بهم واستظرفوا ما معهم. فأنشأت الملوك المحيطة ممالكهم

بالبحار السفن وجهّزت نحو الصين، وحملوا إليهم ما ليس عندهم، وكاتبوا ملكهم وكافئوه على ما كان قد هاداهم به من تحف بلاده، فعمرت بلاد الصين، واستقامت أمور مملكته الصين. فكانت مدّة حياته فى الملك نحوا من مائتى سنة وهلك، فجزع أهل مملكته عليه وحزنوا حزنا شديدا، وأقاموا النياحة عليه شهرا. وملك بعده ابنه توتال «1» بن حرانان. قال: ولما ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وسلك فيه سنّة من تقدّمه من آبائه، واستقام أمره، وأحدث من السّنن المحمودة ما لم يحدثه أحد من الملوك قبله. وقال لأهل مملكته: إنّ الملك لا يثبت إلا بالعدل لأنه ميزان البارى، وإنّ من العدل الزيادة فى الإحسان مع الزيادة فى العمل. وخصّ وشرّف وتؤج ورتّب الناس فى رتبهم، ووقفهم على طرائفهم. وخرج يرتاد موضعا يبنى فيه هيكلا، فوافى موضعا عامرا بالنبات، حسن الاعتمام بالزهر، تخترقه المياه. فحطّ الهيكل هناك. وجلبت له أنواع الأحجار المختلفة الألوان، فشيّد الهيكل وجعل على أعلاه قبّة، وجعل لها مخارق للهواء متساوية. وجعل فى الهيكل بيوتا لمن أراد الانفراد للعبادة. فلمّا فرغ من الهيكل نصب فى أعلاه تلك التماثيل التى فيها أجسام من سلف من آبائه، وقال: فى ترك ذلك على ما هو عليه خروج عن حدّ الحكمة، ويكون ذلك الى غير غاية ونهاية. وأمر بتعظيم تلك الأجساد التى جعلها فى أعلى القبّة. ثم جمع الخواصّ من أهل مملكته وأخبرهم أنّ من رأيه أن يضمّ الناس الى ديانة يرجعون إليها فيجتمع الشمل ويتساوى النظام، وقال: إنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن عليه الخلل، ودخول الفساد والزلل؛ فرتّب لهم سياسة وشريعة «2» وفرائض، ورتّب لهم قصاصا

للنفوس والأعضاء، وقاعدة تستباح بها الفروج وتصحّ بها الأنساب. وجعل مما رتّبه وقرّره لوازم ونوافل، وأوجب عليهم صلوات لخالقهم تقرّبا الى معبودهم [منها «1» ] إيماء لا ركوع فيها ولا سجود [فى أوقات من الليل والنهار معلومة، ومنها بركوع وسجود «2» ] فى أوقات من السنين وفى شهور محدودة. ورسم لهم أعيادا، وأوجب على الزّناة منهم حدودا، وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مقرّرة، وألّا يستبحن بالنكاح وقتا من الأوقات، وإن أقلعن عما كنّ عليه [تكف الجزية عنهنّ «3» ] . وما يكون من أولادهنّ ذكورا «4» يكونون للملك جندا وعبيدا، وما يكون من أولادهنّ إناثا فلأمهاتهنّ ويلحقن بصنعتهنّ. وأمر بقرابين للهياكل ودخن وأبخرة للكواكب، وجعل لكل كوكب منها دخنا «5» يتقرّب إليه بها معمولة من أنواع الطّيب والعقاقير. وأحكم لهم جميع الأمور، فاستقامت أيامه وكثر النسل. فكانت مدّة حياته نحوا من مائة وخمسين سنة ثم مات، فجزعوا عليه جزعا عظيما، وجعلوه فى تمثال من الذهب ورصّعوه بالجوهر وبنوا له هيكلا عظيما، وجعلوا فى أعلاه سبعة أنواع من الجوهر على ألوان الكواكب السبعة وأشكالها، وجعلوا يوم وفاته صلوات وعيدا يجتمعون فيه عند [ذلك «6» ] الهيكل، وصوّروا صورته وذكروا سيرته فى لوح من الذهب، وجعلوه فى أعلى الهيكل من حيث تراه الأبصار ليكون ذلك مثالا لمن يرد بعده فى السياسة ونهج السيرة وصوّروا صورته على أبواب المدينة. وعلى الدنانير والفلوس والثياب. وأكثر أموالهم الفلوس الصّفر والنّحاس. قال: واستقرّت هذه المدينة دار ملك الصين وهى مدينة إيقو «7» . قال: ولهم مدينة عظيمة

نحو ما يلى مغرب الشمس من أرضهم يقال لها مدو، وتلى بلاد التّبّت. والحرب بين أهل مدو وبين أهل بلاد التّبّت سجال. ولم تزل الملوك ممن طرأ بعد هذا الملك أمورهم منتظمة، وأحوالهم مستقيمة، والخصب والعدل لهم شامل، والجور فى بلادهم معدوم، يقتدون بما نصب لهم تونال من الأحكام. وحروبهم على عدوّهم قائمة، وثغورهم مشحونة، والرزق على الجنود جار، والتجّار يختلفون اليهم فى البرّ والبحر من كل بلد. ودينهم دين من سلف من آبائهم، وهى ملّة تدعى السّمنية «1» ، [عباداتهم «2» ] نحو من عبادات قريش قبل الاسلام، يعبدون الصّور ويتوجهون نحوها بالصلوات. فاللبيب فيهم يقصد بصلاته الخالق عزّ وجل، ويقيم التمثال من الأصنام وغيرها مقام قبلة. والجاهل ومن لا علم له يشرك هذه التماثيل با [لاهية «3» ] الخالق ويعتقدهما «4» جميعا، وأنّ عبادتهم الأصنام تقرّبهم الى الله زلفى، وأنّ منزلتهم فى العبادة تنقص عن البارئ لجلالته وعظمته وسلطانه، وأنّ عبادتهم لهذه الأصنام طاعة له ووسيلة، الى أن ظهرت فى أهل الصين آراء ونحل حدثت من مذاهب الثّنويّة «5» وأهل الدهر. وقد كانوا قبل ذلك فى الآراء وعبادة التماثيل على حسب ما عليه عوامّ الهند وخواصّهم، فتغيّرت أحوالهم وبحثوا وتناظروا، إلّا أنهم ينقادون فى جميع أحكامهم الى ما نصب لهم من القاعدة التى قدّمناها. قال: وملكهم متصّل بملك الطّغرغر «6» . وكان اعتقاد

الطّغرغر القول بإله النور والظّلمة، وكانوا قبل ذلك جاهليّة جهلاء، سبيلهم فى الاعتقاد سبيل أنواع الترك، الى أن وقع إليهم شيطان من شياطين المانيّة «1» ، فزخرف لهم كلاما يريهم فيه تضادّ هذا العالم وتنافيه من موت وحياة وصحّة وسقم وغنى وفقر وضياء وظلام واجتماع وافتراق واتصال وانفصال وشروق وغروب ووجود وعدم وليل ونهار وغير ذلك من سائر المتضادّات، وذكر لهم أنواع الآلام المعترضة لأجناس الحيوان الناطق والصامت، وما يعرض للاطفال والبله والمجانين، وأنّ البارى غنىّ عن إيلامهم، وأراهم أنّ هناك ضدّا شديدا دخل على الخير الفاضل فى فعله وهو الله، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا، فاجتذب بذلك عقولهم ودانوا به. فإذا كان ملك الصين سمنىّ المذهب يذبح الحيوانات، فتكون الحرب بينه وبين ملك الترك قائمة، وإذا كان مانىّ المذهب كان الأمر بينهم «2» مشاعا. قال: وملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك. قال: وأهل الصين شعوب وقبائل كشعوب العرب وأفخاذها، ولهم مراعاة لحفظ أنسابهم. وينتسب الرجل منهم الى خمسين أبا وأكثر الى أن يتصل بعامور «3» . ولا يتزوّج «4» أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر.

قال المسعودىّ: ولم تزل أمور الصين مستقيمة فى العدل على حسب ما جرى به الأمر فيما سلف من ملوكهم الى سنة أربع وستين ومائتين؛ فإنه حدث فى ملك الصين أمر زال به النظام وانتقض به حكم شرائعهم ومنع من الجهاد. وكان سبب ذلك أنّ خارجيّا خرج ببلد من مدن الصين وهو من غير بيت الملك، يقال له ياسر، شرّير. وكان فى ابتداء أمره يطلب الفتوّة، ويجتمع اليه أهل الدعارة والشرّ، فلحق الملوك وأرباب التدبير غفلة عنه لخمول ذكره، وأنه ممن لا يبالى به؛ فاشتدّ أمره، ونما ذكره، وكثر عتوّه، وقويت شوكته، وقطع أهل الشرّ المسافات نحوه. فسار من موضعه وشنّ الغارات، ولم يزل كذلك حتى نزل مدينة خانقو «1» ، وهى المدينة العظيمة. قال: وهى على نهر عظيم أكبر من دجلة أو نحوه، تدخله السفن التى ترد من بلاد البصرة وسيراف «2» وعمان «3» ومدن الهند وجزائر الزابج «4» . وبين هذه المدينة وبحر الصين مسيرة

ستة أيام أو سبعة، وفيها خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وغيرهم من أهل الصين. فقصد الخارجىّ هذه المدينة، والتقى بجيوش الملك فهزمها، وحاصر المدينة وفتحها واستولى على المملكة، وقتل من أهل مدينة خانقو خلقا لا يحصون كثرة، فأحصى من قتل فيها من المسلمين والنصارى واليهود غير أهل الصين فزادوا على مائتى ألف. ثم سار بجيوشه الى بلد بلد فافتتحه، وقصد مدينة إيقو، وهى دار المملكة، وهو فى ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل. فخرج اليه الملك فى خواصّه فى نحو مائة ألف والتقيا، فكانت الحرب بينهم سجالا نحو شهر وصبرا جميعا، ثم كانت على الملك فانهزم، وأمعن الخارجىّ فى طلبه. وانحاز الملك الى مدينة فى أطراف أرض الصين. واستولى الخارجىّ على حوزة الصين واحتوى على دار الملك وخزائن الملوك السالفة وما أعدّوه للنوائب. وعلم أنه لا يقوم بالملك لأنه ليس من بيته، فأخرب البلاد واستباح الأموال وسفك الدماء. فكاتب ملك الصين ملك الترك أمرخان واستنجده، فأنجده ملك الترك بولده فى نحو أربعمائة ألف فارس وراجل. وقد استفحل أمر الخارجىّ فالتقى الفريقان، فكانت الحرب بينهما سجالا نحو سنة وقتل من الطائفتين ما لا يحصى كثرة، ثم فقد الخارجىّ فقيل قتل وأسر ولده وخواصّ أصحابه، وعاد ملك الصين الى دار ملكه. قال: والعامّة تسميّة «بغيور» «1» ، وتفسيره ابن السماء تعظيما له. والاسم الذى يخاطب به ملوك الصين طمغاجيان، ثم لقّبوا بعد ذلك ملكهم بالخان. قال: ولمّا كان من أمر هذا الخارجىّ الذى ذكرناه تغلّب صاحب كل عمل على عمله، وضعف ملك الصين عن مقاومتهم. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما آل اليه ملك الصين عند ذكرنا لأخبار الدولة الجنكز خانيّة. والله أعلم.

ذكر أخبار ملوك الترك

ذكر أخبار ملوك الترك قال المسعودىّ: وقد تنازع الناس فى الترك وبدئهم، فذكر كثير منهم أن ولد عامور بن توبل بن يافث بن نوح لمّا قسم فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح كما ذكرنا فى أخبار ملوك الصين ساروا يسرة المشرق، فقطع قوم منهم من ولد رعو على سمت الشمال وانتشروا فى الأرض، فصاروا عدّة ممالك، منهم الدّيلم «1» ، والجيل «2» ، والطّيلسان «3» ، والتتر «4» ، وفرغانة «5» ، وأهل جبل الفتح من أنواع الّلكز «6» واللان «7» والخزر «8» والأبخاز «9» والسّرير «10» وكمشك وسائر تلك الأمم المنتشرة فى ذلك الصّقع

والأرمن إلى طرابزندة «1» إلى بحر مانيطش «2» ونيطش «3» وبحر الخزر إلى البلغار «4» ومن اتصل بهم من الأمم. وعبر ولد عامور نهر بلخ، ويمّم بلاد الصين الأكثر منهم وتفرّقوا فى تلك البلاد وانتشروا فى تلك الديار، منهم الختّل وهم سكّان ختلان «5» وورسنان «6» والأسروشنة «7» ، والسّغد «8» وكانوا بين بخارى وسمرقند «9» ، ثم الفراغنة والشاش «10» وإسپيجاب «11» وأهل بلاد الفاراب «12» ، فبنوا المدن والضياع، وانفرد منهم ناس غير هؤلاء فسكنوا البوادى

ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم

وهم الترك الخزلج «1» والتّغزغز وهم أصحاب مدينة كوشان «2» ، وهى مملكة بين بلاد خراسان والصين. قال: ومن الترك الكيماكية «3» والبرسخانية «4» والغزيّة «5» والجفرية «6» . قال: وأشدّهم بأسا الغزّيّة، وأحسنهم صورا الخزلجيّة، وكانوا على بلاد فرغانة والشاش وما يلى ذلك الصّقع. قال: وفيهم كان الملك، ومنهم خاقان الخوّاقين، وكان ملكه يجمع سائر ممالك الترك وينقاد إليه ملوكها. قال: ولحق فريق من ولد عامور بتخوم الهند، فأثّرت فيهم تلك البقاع فصارت ألوانهم خلاف ألوان الترك ولحقوا بألوان الهند. ولهم حضر وبواد، وسكن فريق منهم بلاد التّبّت وملّكوا عليهم ملكا وكان ينقاد إلى ذلك الخاقان. فلمّا زال ملك خاقان سمّى أهل التّبّت ملكهم بخاقان تشبيها بملوك الترك. ذكر جبل الفتح وما عليه من الملوك والأمم قال المسعودىّ: وأمّا جبل الفتح فهو جبل عظيم اشتمل على كثير من الممالك والأمم، وفيه اثنتان وسبعون أمّة، لكل أمّة ملك ولغة تخالف لغة الأخرى. وهو ذو شعاب وأودية، ومدينة الباب والأبواب على شعب من شعابه، وهى التى بناها كسرى. وعلى أحد شعاب هذا الجبل بحر الخزر مما يلى الباب والأبواب، ومملكة

شروان، ويلى هذه المملكة مملكة الأرّان «1» ، وملكها يدعى الأرّان شاه. ومنها مملكة الموقانية «2» ، ومملكة الّلكز، وهى أمّة لا تحصى كثرة تسكن أعالى هذا الجبل، وهؤلاء ينقادون إلى ملك شروان، ومنهم كفّار لا ينقادون اليه يقال لهم الدّودانيّة «3» جاهلية لا يرجعون إلى قبلة. ويلى ملك شروان ملك طبرستان. ومن ممالك الجبل مملكة حيزان «4» ، وهى داخلة فى جملة الخزر. ومملكة الخزر تلى مملكة حيزان، وبين مملكة الخزر ومدينة الباب ثمانية أيام. ومدينة الخزر اسمها سمندر «5» . ومن مدن الخزر أيضا مدينة إتل «6» بينها وبين سمندر سبعة أيام، وهى ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالى بلاد الترك، ويتشعب منه شعبة نحو بلاد البلغار ويصب فى بحر ما نيطش. وفى هذه المدينة [خلق «7» ] من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية. فالملك وحاشيته وجيشه من اليهود، والجاهلية بها من الصقالبة والروس، وهم يحرقون موتاهم ودوابّ من يموت وآلاته. واذا مات الرجل منهم أحرقت معه امرأته، وإن ماتت المرأة لا يحرق معها الزوج. وأما المسلمون فهم جند الملك، ويعرفون باللارسية، وهم ناقلة من بلاد خوارزم كانوا قد وفدوا الى هذه المملكة لقحط أصاب بلادهم فى صدر

الإسلام. فاستعان بهم الملك فأقاموا عنده على شروط، منها: أن يقيموا شعار الإسلام، وأن تكون الوزارة فيهم، وإنه اذا كانت الحرب بينه وبين المسلمين لا يحضرونها ويحاربون معه سائر الكفار. وبالمدينة قضاة سبعة: اثنان من المسلمين، واثنان للخزر يحكمان «1» بحكم التوراة، واثنان من النصارى يحكمان بالإنجيل، وواحد من الصقالبة والروس والجاهلية يحكم بالقضايا العقلية. واذا ورد ما لا علم لهم به من النوازل الكبار اجتمعوا الى قضاة المسلمين فتحاكموا اليهم وانقادوا لما توجبه الشريعة الإسلامية. وليس فى الملوك من عنده جند مرتزقة غير ملك الخزر. قال: وفى دار مملكة الخزر رجل يكون اسمه خاقان لا يركب ولا يظهر للخاصّة ولا للعامّة، ولا يستقيم ملك الخزر لملكهم إلّا أن يكون عنده خاقان معه فى قصره. فإذا أجدبت أرض الخزر أو نابت بلادهم نائبة أو حرب، جاءت الخاصّة والعامّة الى ملك الخزر وقالوا له: قد تطيّرنا بخاقان وبأيامه وتشاء منا به، فاقتله أو سلّمه إلينا نقتله، من غير أن يكون قد عمل ما يوجب ذلك؛ فتارة يقتله، وتارة يسلّمه اليهم فيقتلونه، وتارة يمانع عنه ويرقّ له. واذا قتل خاقان أقاموا غيره. قال: وللخزر زوارق يركبون فيها من نهر فوق المدينة يصبّ الى نهر يقال له برطاس، عليه أمم من الترك حاضرة داخلة فى جملة ملوك الخزر، وعمائرهم متّصلة بين مملكة الخزر والبلغر، يرد هذا النهر من نحو بلاد البلغر. ومن بلاد برطاس تحمل جلود الثعالب السّود التى يعرف وبرها بالبرطاسىّ. قال المسعودىّ: ويبلغ ثمن الجلد منها مائة دينار. وتلبسها الملوك وهو عندهم أغلى من السمّور «2» والفنك «3» ، والحمر دونها فى الثمن.

قال: وفى أعالى نهر الخزر مصبّ يتّصل بخليج من نهر نيطش، وهو بحر للّروس لا يسلكه غيرهم، وهم على ساحل من سواحله. وهى أمّة عظيمة لا تنقاد الى ملك ولا الى شريعة. وفى أرض الرّوس معدن من الفضّة. قال: والرّوس أمم كثيرة «1» ، فمنهم جنس يقال لهم البوداغية «2» ، وهم الأكثر، يختلفون بالتجارات الى بلاد الأندلس والقسطنطينية ورومية. قال: وبين مملكة حيزان التى ذكرناها وبين الباب والأبواب أناس من المسلمين عرب لا يحسنون غير اللغة العربية فى آجام هنالك وغياض وأودية وأنهار، ولهم قرى قد سكنوها، وهم على نحو من ثلاثة أميال من مدينة الباب والأبواب. قال: ويلى مملكة حيزان مما يلى الفتح والسّغد ملك يقال له برزينان «3» مسلم، ويعرف بلد هذا الملك بالكرج. وكل ملك يلى هذه المملكة يدعى برزينان. ثم يلى مملكة برزينان ملك يقال له عينق «4» ، وهم يدينون بدين النصرانيّة، لا ينقادون لملك، ولهم رؤساء، وهم مهادنون لأهل مملكة اللّان. ثم يليهم مما يلى السور والجبل مملكة يقال لها زره كران. وتفسير ذلك بالعربية عمّال الزرد؛ لأن أكثرهم يعملون الزّرد والسيوف واللّجم والرّكب وغير ذلك من آلات الحديد. وهم ذوو أديان مختلفة من المسلمين والنصارى واليهود. وبلدهم بلد ممتنع خشن قد امتنعوا فيه ممن جاورهم من الأمم لخشونته. ثم يلى هؤلاء ملك السرير «5»

ويدعى قبلان شاه يدين بالنصرانية. ودار مملكته تعرف بخندج «1» ، وله اثنتا عشرة ألف قرية يستعبد منهم من شاء. وبلده بلد منيع. وهو شعب من جبل الفتح. وهذا الملك يغير على الخزر ويستظهر عليهم. ثم يلى هذه المملكة اللّان. وملكها يقال له كركنداج «2» ، وهذا الاسم غالب على سائر ملوكهم. وكانوا جاهليّة ثم دانوا بالنصرانيّة، ثم رجعوا فيها بعد العشرين والثلاثمائة. وصاحب اللّان يركب فى ثلاثين ألف فارس. ثم يلى ملك اللان أمّة يقال لها كمشك. وتفسير هذا الاسم بالفارسية التّيه والصّلف. وهم بين جبل الفتح وبحر الروم. وهى تنقاد الى دين المجوسيّة. قال: وليس فى الأمم التى ذكرناها أنقى أجسادا، ولا أصفى لونا، ولا أحسن رجالا، ولا أصبح نساء، ولا أقوم قدودا، ولا أرقّ أخصارا وأظهر أردافا، ولا أحسن شكلا من هذه الأمّة. ونساؤهم موصوفات بلذّة الخلوة. ولباسهنّ البياض والدّيباج الرومىّ والسّقلاطون «3» وغير ذلك من أنواع الديباج المذهب. واللّان تستظهر على هذه الأمّة إلّا أنها تمتنع منهم بقلاع لها على ساحل البحر. وتلى هذه الأمّة على ساحل البحر أمّة يقال لبلدهم السبع بلدان، وهى أمّة كثيرة ممتنعة بعيدة الدار. ويلى هذه الأمّة أمّة عظيمة يقال لها إرم [ذات العماد «4» ] ذو وخلق عجيب جاهليّة الآراء. ويلى هذه الأمّة صحراء نحو من مائة ميل، بين جبال أربعة، كل جبل منها ذاهب فى الهواء، فى وسط هذه الصحراء دارة مقوّرة كأنها خطّت ببركار «5» ،

منحوتة فى حجر صلد، استدارتها نحو من خمسين ميلا قطع قائم كأنه حائط مبنىّ، يكوّن قعرها نحوا من ميلين، لا سبيل الى الوصول الى مستوى تلك الدارة، ويرى بها بالليل نيران كثيرة فى مواضع مختلفة، ويرى فيها بالنهار قرى وأنهار تجرى، وفيها ناس وبهائم إلّا أنهم يرون لطاف الأجسام لبعد قعر الموضع لا يدرى من أىّ الأمم هم. ولا سبيل الى صعودهم ولا الى النزول اليهم من جهة من الجهات. ووراء تلك الجبال خسفة أخرى قريبة القعر فيها آجام وغياض، فيها نوع من القرود منتصبة القامات مستديرة الوجوه، الأغلب عليها صور الناس وأشكالهم إلا أنهم ذوو شعور. قال: وربّما وقع فى النادر منها القرد اذا احتيل عليه فى اصطياده، فيكون فى نهاية الفهم والدراية. وربّما حمل الواحد منها الى الملوك فيعلّم القيام على رأسه بالمذبّة. ولهم خاصيّة بمعرفة المسموم من المآكل والمشارب. فإذا دنا الطعام منها شمّته ويلقى لها الشىء منه فإن أكلته أكله الملك، وإن امتنعت علم الملك أنّ ذلك مسموم. قال: وفيما بين بلاد الخزر وبين بلاد المغرب أمم أربع من الترك ترجع فى أنسابها الى أب واحد، وهم حضر وبدو، ذوو منعة وبأس شديد. ولكل أمّة منها ملك. ومسافة كل مملكة منها أيام، متّصلة ممالكهم بعضها ببحر نيطش. وتتّصل غاراتهم ببلاد رومية وما يلى بلاد الأندلس. وهى تستظهر على سائر من هنالك من الأمم. وبينهم وبين الخزر واللّان مهادنة، وبلادهم تتّصل بممالك الخزر. فالجيل الأوّل منهم يقال له نجا. ويليه بجعود «1» . ويليه بجناك؛ وهى أشدّ هذه الأمم الأربع بأسا، ويليه أنو جرذد «2» . وكانت لهم حرب مع الروم بعد العشرين والثلاثمائة. ويلى بلاد الّلان أيضا أمة يقال لها الأنجاز تدين بالنصرانية، وملك اللّان مستظهر عليهم وهم متّصلون بجبل الفتح. ثم يلى بلاد الأبخاز ملك الخزرية، وهم أمّة عظيمة منقادة

الى دين النصرانية تدعى خزران ولها ملك. قالوا: وكانوا يؤدّون الخراج الى صاحب ثغر تفليس. وتليهم أمّة يقال لها الصمصحيّة نصارى، ومنهم جاهليّة لا ملك لهم. ويليهم بين ثغر تفليس وقلعة باب الّلان مملكة يقال لها الصنباريّة «1» ، وملكهم يقال له كريشكوش «2» ، ينقادون الى النصرانيّة، ويزعمون أنهم من العرب من نزار بن معدّ. ثم يلى مملكة الصنباريّة مملكة شكى «3» وهم نصارى. ويليهم مملكة أخرى وهى مأوى الصعاليك والذّعّار، ثم تتصل بمملكة الموقانيّة وهى التى على ساحل بحر الخزر. والله أعلم بالصواب. تم الجزء الرابع عشر، ويليه الجزء الخامس عشر وأوّله: ذكر أخبار مصر كمل طبع «الجزء الرابع عشر من نهاية الأرب فى فنون الأدب» بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الثلاثاء 27 محرّم سنة 1362 (2 فبراير سنة 1943) محمد نديم ملاحظ المطبعة بدار الكتب المصرية (مطبعة الدار 82/1938/2500) .

فهرس الجزء الخامس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب .... صفحة ذكر أخبار مصر ومن ملكها من الملوك قبل الطوفان وبعده، وما بنوه من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصنعة، وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار وغير ذلك من عجائبها وأخبارها 1 ملوكها قبل الطوفان 1 ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها 22 ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك 40 ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك 43 ذكر خبر هاروت وماروت 52 ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه 69 ذكر أخبار أتريب الملك 75 ذكر أخبار صا بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السّلام 81 ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها 115 ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون الى مدينته 119 ذكر نبذة من أخبار من ملك مصر بعد غرق فرعون 138

الباب الثالث من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم؛ وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانية واليونان والسريان والكلوانيين والروم والصقالبة والنوكبرد والإفرنجة والجلالقة وطوائف السودان 142 ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول 142 ذكر أخبار بختنصّر 158 ذكر أخبار ملوك الطوائف 164 ذكر أخبار الملوك الساسانية 166 ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته 195 ذكر خطبة أنو شروان 207 ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم 223 ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله 226 ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم 234 ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه 238 ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين 243 كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر 252 ذكر أخبار ملوك السريان 255 ذكر أخبار ملوك الكلوانيين وهم ملوك النبط ملوك بابل 258 ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم 263 ذكر خبر أصحاب الكهف 266 ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية 273 ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام 279 ذكر أخبار ملوك الصقالبة والنوكبرد 284 ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقة 285

ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم 287 الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتصل بهذا الباب خبر سيل العرم 291 ذكر أخبار ملوك قحطان 291 ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك الى حمير 309 ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان 311 ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان 315 ذكر خبر سدّ مأرب وسيل العرم 332 الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أيام العرب ووقائعها فى الجاهلية 338 ذكر واقعة طسم وجديس 339 ذكر حروب قيس فى الجاهلية. يوم منعج لغنىّ على عبس 344 يوم النفرات لبنى عامر على بنى عبس 346 يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر 348 يوم رحرحان لعامر على تميم 349 يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم 350 يوم الحريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم 353 ذكر حرب داحس والغبراء، وهى من حروب قيس 356 يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان 358 يوم ذى حسى لذبيان على عبس 359 يوم اليعمرية لعبس على ذبيان 360 يوم الهباءة لعبس على ذبيان 360 يوم الفروق لبنى عبس 362 يوم قطن 363

يوم غدير قلبى 363 يوم الرقم لغطفان على بنى عامر 364 يوم النتاءة لعبس على بنى عامر 364 يوم شواحط لبنى محارب على بنى عامر 365 يوم حوزة الأوّل لسليم على غطفان 365 يوم حوزة الثانى 367 يوم ذات الإئل 368 يوم اللوى لغطفان على هوازن 369 يوم الظعينة بين دريد بن الصمة وربيعة بن مكدّم 370 يوم الصلحاء لهوازن على غطفان 373 ذكر حرب قيس وكنانة. يوم الكديد لسليم على كنانة 373 يوم فزارة لكنانة على سليم 374 يوم الفيفاء لسليم على كنانة 374 ذكر حرب قيس وتميم. يوم السؤبان لبنى عامر على بنى تميم 375 يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم 377 يوم المرّوت لبنى العنبر على بنى قشير 377 يوم دارة مأسل لتميم على قيس 378 أيام تميم على بكر. يوم الوقيط 379 يوم النباح وثيتل لبكر على تميم 381 يوم زورود الثانى لبنى يربوع على بنى تغلب 383 يوم ذى طلوح لبنى يربوع على بكر 383 يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر 385 يوم القحقح وهو يوم ماله لبنى يربوع على بكر 385 يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر 386

يوم العظالى لبنى يربوع على بكر 386 يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر 388 يوم مخطط لبنى يربوع على بكر 389 يوم جدود 389 يوم سفوان 390 يوم نقا الحسن وهو يوم الشقيقة لبنى ضبة على بنى شيبان 391 أيام بكر على تميم. يوم الزويرين 391 يوم الشيطين لبكر على تميم 393 يوم صعفوق لبكر على تميم 393 يوم مبايض لبكر على تميم 394 يوم فيحان لبكر على تميم 395 يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم 395 يوم الحاجز لبكر على تميم 396 يوم الشقيق لبكر على تميم 396 ذكر حرب البسوس. وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل 396 ذكر مقتل كليب وائل 398 يوم النهى 400 يوم الذنائب 400 يوم واردات 401 يوم عنيزة 401 يوم قضة 402 يوم تحلاق اللمم 404 الكلاب الأوّل 406 يوم الصفقة وهو يوم الكلاب الثانى 407

يوم طخفة 413 يوم فيف الريح 414 يوم زرود الأوّل 415 يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل 416 يوم الجبابات 417 يوم الشعب 417 يوم غول الثانى 418 يوم الخندمة 418 يوم اللهيماء 419 يوم خزاز 420 يوم النسار 421 يوم ذات الشقوق 421 يوم خوّ 422 أيام الفجار- الفجار الأوّل 423 الفجار الثانى 424 الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن 424 الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن 425 يوم شمظة وهو يوم نخلة من الفجار الآخر 427 يوم العبلاء 428 يوم شرب 428 يوم الحريرة 429 يوم عين أباغ 430 يوم ذى قار 431

الجزء الخامس عشر

الجزء الخامس عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الرابع من الفن الخامس في أخبار الملوك] [تتمة الباب الثاني من القسم الرابع من الفن الخامس] ذكر أخبار مصر ومن ملكها من الملوك قبل الطوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة، وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار وغير ذلك من عجائبها وأخبارها فأمّا ملوكها قبل الطّوفان فقد ذكرهم إبراهيم بن القاسم الكاتب فى مختصر كتاب العجائب الكبير الذى ألّفه إبراهيم بن وصيف شاه. قال: أوّل من ملك مصر من الملوك قبل الطوفان نقراوس «1» ، ومعناه ملك قومه وعظيمهم. وذلك أن بنى آدم لمّا بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا وتغلّب عليهم بنو قابيل تحمّل نقراوس «2» الجبّار ابن مصرايم بن براكيل بن زرابيل بن غرناب بن آدم فى نيّف وسبعين رجلا من بنى غرناب جبابرة، كلّهم يطلبون موضعا ينقطعون فيه من بنى آدم. فلمّا نزلوا على النيل ورأوا سعة البلد وحسنه أقاموا فيه وبنوا الأبنية، وقالوا: هذا بلد زرع؛ [وبنى نقراوس «3» مصر] وسمّاها باسم أبيه مصرايم ثم تركها «4» . وكان نقراوس

جبّارا له أيد وبسطة، وكان مع ذلك كاهنا عالما، له معاون من الجنّ، فملك بنى أبيه ولم يزل مطاعا فيهم. وقد كان وقع إليه من العلوم التى كان زرابيل علّمها من آدم. قال: فهو وبنوه الجبابرة الذين بنوا الأعلام، وأقاموا الأساطين العظام، وعملوا المصانع، ووضعوا الطّلّسمات، واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الأرض ولم يطمع طامع فيهم. وكل علم جليل فى أيدى المصريين إنما هو من فضل علم أولئك القوم، كان مرموزا على الحجارة. فيقال إن فليمون الكاهن الذى كان ركب مع نوح عليه السّلام فى السفينة هو الذى فسّرها لهم وعلمهم كتابتها، وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر فليمون فى موضعه. قال: ثم أمرهم نقراوس حين استقرّ أمرهم ببناء مدينة فقطعوا الصخور والأحجار من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص وبنوا مدينة وسمّوها أمسوس «1» ، وأقاموا بها أعلاما، طول كل علم مائة ذراع، وعمروا الأرض، وأمرهم ببناء المدائن والقرى، وأسكن أهل كل بيت ناحية من أرض مصر. وهم الذين حفروا النيل حتى أجروا ماءه اليهم، ولم يكن معتدل الحفر إنما كان يتسطح ويتفرّق فى الأرض. قال: ووجّه الى بلد النوبة جماعة حتى هندسوه وشقّوا منه أنهارا الى مواضع كثيرة من مدنهم التى بنوها، وشقّوا نهرا عظيما الى مدينتهم أمسوس يجرى فى وسطها وغرسوا عليه الغروس، فكثر خيرهم وعزّت أرضهم وتجبّر ملكهم. قال: وبعد مائة وعشرين سنة من ملكه أمر بإقامة الأساطين العظام وزبر عليها ذكر دخولهم البلد، وكيف نزلوا به، وحربهم لمن حاربوه من

الأمم. ثم أمر ببناء قبّة على أساطين مثبتة فى الرّصاص، طولها مائة ذراع، وجعل على رأسها مرآة من زبرجد أخضر، قطرها سبعة أشبار، ترى خضرتها على أمد بعيد. قال: وفى مصاحف المصريين أنه سأل الذى كان معه أن يعرّفه مخرج النيل، فحمله حتى أجلسه على جبل القمر خلف «1» خطّ الأستواء على البحر الأسود «2» الزّفتى، وأراه النيل كيف يجرى فوق ذلك البحر «3» الأسود مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ثم يخرج الى بطائح «4» هناك. ويقال: إنه عمل بيت التماثيل هناك، وعمل فيه هيكلا للشمس. ورجع الى أمسوس فقسم البلد بين بنيه، فجعل لنقارس الجانب الغربى، ولسورب الجانب الشرقى، ولأبنه الصغير وهو مصرام مدينة سمّاها برسان «5» وأسكنه فيها، وأقام فيها أساطين وشقّ لها نهرا وغرس بها غروسا. وعمل بأمسوس عجائب كثيرة، منها صورة طائر على أسطوانة عالية، يصفر كل يوم مرّتين عند طلوع الشمس وعند غروبها صفيرا مختلفا، فيستدلّون به على ما يكون من الحوادث فيتأهّبون لها؛ ومخزن للماء المقسوم على جناتهم مائة وعشرين قسما لا يقدر أحد أن يحوز ما ليس له. وعمل وسط المدينة صنمين من حجر أسود، اذا تقدّم السارق لم يقدر على الزوال عنها حتى يسلك بينهما، [فإذا دخل بينهما أطبقا عليه فيؤخذ «6» ] .

وله أعمال كثيرة سوى هذه. قال: وعمل فى برسان صورة [من] نحاس مذهب على منار عال لا تزال عليها سحب تظلّها، من استمطرها أمطرت عليه ماء، فهلكت فى الطوفان. وعمل على حدود بلادهم أصناما من نحاس مجوّف وملأها نارا وكبريتا وجلب اليها روحانيّة [النار «1» ] ، فإن قصدهم قاصد بسوء أرسلت تلك الأصنام من أفواهها نارا أحرقته. وكان حدّ بلادهم الى داخل الغرب مسافة أيام كثيرة عامرا كلّه بالقصور والبساتين، وكذلك فى المشرق الى البحر، ومن الصعيد الى بلاد علوة. «2» وعمل فوق جبال بطرس منارا يفور بالماء يسقى ما تحته من المزارع. وملكهم مائة وثمانين سنة. فلما مات لطّخوا جسده بالأدوية الممسكة، وجعلوه فى تابوت من ذهب، وعملوا له ناووسا مصفّحا بالذهب، وجعلوا معه كنوزا من أنواع الجواهر وتماثيل الزّبرجد، وكنزا من الصّنعة المعمولة، وأوانى الذهب، والطّلّسمات التى تدفع الهوامّ وغيرها، وزبروا عليه تاريخ الوقت. ولما مات ملك بعده ابنه نقارس بن نقراوس، فتجبّر وعلا أمره، وبنى مدينة يقال لها خلجة، «3» وعمل فيها جنّة صفّح حيطانها بصفائح الذهب والحجارة الملوّنة، وغرس فيها أصناف الفواكه والغروس الحسنة، وأجرى تحتها الأنهار، وأمر بإقامة الأساطين والأعلام، وركّب «4» عليها أصناف العقاقير والأدوية وجميع العلوم. وكان معه شيطان يعمل له التماثيل العجيبة. وهو أوّل من بنى بمصر هيكلا

وجعل فيه صور الكواكب السبعة، وزبر على رأس كل كوكب محارته «1» وما يعمله من المنافع والمضارّ، وألبسه الثياب الفاخرة وأقام له كاهنا وسدنة. وخرج مغرّبا حتى بلغ البحر المحيط وعمل عليه أعلاما، وجعل على رأس كل علم أصناما تسرج عيونها بالليل كأنها مصابيح، ورجع على بلاد السودان الى النيل، وأمر ببناء حائط على جانب النيل، وجعل له أبوابا يخرج الماء منها. وبنى فى صحراء الغرب وراء الواحات ثلاث مدن على أساطين، وجعل شرفها من الحجارة الملوّنة التى تشفّ، وجعل فى كل ناحية منها ثلاث خزائن للحكمة، وهى أوّل عجائب الأرض، جعل الدخول الى هذه المدائن من الأساطين التى بنيت عليها. ففى إحدى هذه الخزائن صنم الشمس الذى هو أعظم أصنامهم، وهى معلّقة عليه فى بيت شرفها، «2» وعلى رأسه إكليل فيه كواكبها الثابتة. وفى إحداها «3» صنم للشمس رأسه رأس طاووس فى جسد إنسان من ذهب أزرق، وعيناه جوهرتان صفراوان، وهو جالس على سرير مغنطيس، وفى يده مصحف العلوم. وفى إحداها «4» صنم رأسه رأس إنسان وجسده جسد طائر، وصورة امرأة جالسة من زئبق معقود، لها ذؤابتان، وفى يدها مرآة وعلى رأسها صورة كوكب، وهى رافعة بالمرآة الى وجهه، ومطهرة فيها سبعة ألوان، من الماء السائل لا يختلط بعضها ببعض ولا يوارى بعضها بعضا، وصورة شيخ من حجر الفيروزج، وبين يديه

صبية يعلّمهم، وهم من أصناف العقيق والجوهر. وفى الخزانة الثانية صورة هرمس [يعنى «1» عطارد] وهو مكبّ ينظر الى مائدة بين يديه من نوشادر على قوائم كبريت أحمر، وفى وسطها مثل الصّحفة من جوهر أحمر فيها دواء أخضر من الصنعة، وصورة عقاب من زمرّد أخضر عيناه من ياقوت أصفر، وبين يديه حيّة من فضّة قد لوت ذنبها على رجليه ورفعت رأسها كأنها تريد أن تنفخ عليه، وفى ناحية منها صورة المرّيخ راكبا على فرس وبيده سيف مسلول من حديد أخضر، وعمود من جوهر أخضر، عليه قبّة من ذهب فيها صورة المشترى، وقبّة [من أدرك «2» ] على أربعة أعمدة من جزع أزرق فى سقفها صورة الشمس والقمر متحاذبين فى صورة امرأة ورجل كأنهما يتحادثان، وقبة من كبريت أحمر فيها صورة الزّهرة على صورة امرأة ممسكة بضفيرتها وتحتها رجل من زبرجد أخضر، فى يده كتاب فيه علم من علومهم كأنه يقرأ فيه عليها «3» . وجعل فى كل خزانة من بقية الخزائن من العجائب ما لا يحدّ، وعلى باب كل مدينة طلّسمات تمنع من دخولها فى صور مختلفة لا يشبه بعضها بعضا، وفى كل مدينة من الجوهر النفيس والذهب والفضة والكبريت الأحمر والتّربة الصنعيّة فى البرانىّ الملوّنة، وصنوف الأدوية النفيسة المؤلّفة والسموم القاتلة. وعلّم كل باب من الأساطين بعلامة يعرف بها يصعد اليها من مسارب تحت الأرض. قال: وجعل بين «4» هذه المدائن

وبين مدينة خلجة، وهى التى عمل فيها الجنة، سبعة أميال الى الغرب، وبينها وبين الأخرى أربعة عشر ميلا، وبين الأخرى واحد وعشرون ميلا. وكان له من مدينته إلى هذه المدائن أسراب تحت الأرض يصل منها اليها، وكذلك من بعضها الى بعض. وعمل عجائب كثيرة أزالها الطوفان، وركبت هذه الأرض الرمال فأزالت طلّسماتها. قال: وملك نقارس مائة سنة وسبع سنين ثم هلك فعمل له ناووس، وجعل معه من الأشياء العجيبة ما يطول الأمر بذكره. ثم ملك بعده أخوه مصرام بن نقراوس، فبنى للشمس هيكلا من المرمر الأبيض وموّهه بالذهب، وجعل وسط الهيكل كالعرش «1» من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر وأرخى عليها كلل الحرير الملوّن، وأمر أن يوقد عليها بطيّب الأدهان، وجعل فى الهيكل قنديلا من الزجاج الصافى، وجعل فيه حجرا مدّبرأ يضىء كما يضىء السراج وأكثر منه ضوءا، وأقام له سدنة، وعمل له سبعة أعياد فى السنة. وقيل: إن مصر سمّيت به. وتسمّى به مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح بعد الطوفان لأنه وجد اسمه مزبورا على الحجارة. وكان فليمون الكاهن أخبرهم أخبار هؤلاء الملوك. وكان مصرام هذا قد ذلّل الأسد فى وقته فكان يركبها. وصحبه الروحانىّ الذى كان مع أبيه لما رأى من حرصه على لوازم الهياكل والقيام بأمور الكواكب، وأمره أن يحتجب عن الناس. وألقى على وجهه بسحره نورا عظيما لا يقدر أحد أن يتمكّن من النظر اليه. فادّعى أنه إله، وغاب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف عليهم رجلا من ولد غرناب وكان كاهنا. ويقال: إنّ مصرام ركب فى عرش وحملته الشياطين حتى انتهى الى وسط البحر الأسود، فعمل فيه القلعة الفضّة وجعل عليها صنمين من النحاس وزير عليها: أنا مصرام الجبّار، كاشف الأسرار، الغالب القهار، صنعت

الطّلّسمات الصادقة، وأقمت الصّور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة، ليعلم من بعدى أنه لا يملك أحد ملكى، وكل ذلك فى أوقات السعادة. وكان قد عمل فى جنّته شجرة مولدة يؤكل منها جميع الفواكه، وقبّة من زجاج أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكّل بها شياطين إذا اختلط الظلام نادوا: لا يخرج أحد من منزله حتى يصبح وإلّا هلك، وكان أوّل من عمل له ذلك. وأمرهم أن يجتمعوا له، وجلس لهم فى مجلس عال مزيّن بأصناف الزينة وتجلّى لهم فى صورة هالتهم وملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا على وجوههم ودعوا له. فأمر بإحضار الطعام والشراب فأكلوا وشربوا ورجعوا إلى مواضعهم ثم لم يروه بعد. وبلغ بكهانته ما لم يبلغه أحد من آبائه. ثم ملك بعده عنقام «1» الكاهن؛ فعدل فيهم، وعمل مدينة عجيبة قرب العريش جعلها لهم حرسا. وقيل: إنّ إدريس عليه السلام رفع فى زمانه. قال: ويحكى عنه أهل مصر حكايات كثيرة تخرج عن العقول. وكان قد رأى فى علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين التى تصحبه أن تبنى له مكانا خلف خطّ الأستواء بحيث لا يلحقه الفساد، فبنى له القصر الذى فى سفح جبل القمر، وهو قصر النحاس الذى فيه التماثيل، وهى خمسة وثمانون تمثالا، يخرج ماء النيل من حلوقها وينصبّ الى بطيحة. ولمّا عمل له ذلك القصر أحبّ أن يراه قبل أن يسكنه، فجلس فى قبتّه وحملته الشياطين على أعناقها اليه. فلمّا رأى حكمة بنيانه وزخرفة حيطانه وما فيه من النقوش وصور الأفلاك والكواكب، وغير ذلك من صنوف العجائب- وكان يسرج بغير مصابيح، وتنصب فيه موائد يوجد عليها من كل الأطعمة ولا يدرى من يعملها، وكذلك الأشربة فى أوان، يستعمل منها ولا تنقص. وفى وسطه [بركة «2» ]

من ماء جامد الظاهر ترى حركته من وراء ما جمد منه، وأشياء كثيرة من هذا النوع وإن كانت تنبو عن العقول- أعجبه ما رأى، ورجع الى مصر فاستخلف ابنه عرناق وأوصاه بما يريده وقلّده الملك، ورجع الى ذلك القصر فأقام به حتى هلك هناك. واليه تعزى مصاحف القبط التى فيها تواريخهم وجميع ما يجرى الى آخر الزمان. قالوا: ولم تطل مدّة ملكه. ثم ملك بعده ابنه عرناق بن عنقام «1» . ملك بعد أبيه وعمل عجائب كثيرة، منها شجرة صفر فيها أغصان حديد بخطاطيف حادّة اذا تقرّب منها الظالم والكاذب تقرّبت اليه تلك الخطاطيف فتعلّقت به وشكّت بدنه ولم تفارقه حتى يحدّث عن نفسه بالصدق ويعترف بظلمه ويخرج عن ظلامة خصمه. وعمل صنما من صوّان أسود وسمّاه عبد قزويس «2» ، أى عبد زحل، فكانوا يحتكمون اليه، فمن زاغ عن الحقّ ثبت فى مكانه فلم يقدر على الخروج منه حتى ينصف من نفسه ولو أقام سنة أو أكثر. ومن كانت له حاجة منهم أو طلب شيئا بخّر الصنم ليلا ونظر الى الكواكب وذكر اسم عرناق وتضرّع فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله. قال: وكان عرناق ربما حملته أطيار عظام وتمرّ به وهم يرونه. وكان ربما غضب على ناس فجعل ماءهم مرّا لا يذاق، وسلّط عليهم وحوش الأرض وسباعها وهوامّها. قال: وتجرّأ على صيد السباع والوحوش، وعمل عجائب، منها أنه عمل شجرة من حديد ذات أغصان لطّخها بدواء مدبّر، فكانت تجتلب كل صنف من الوحش. قال: وفى كتب المصريين أنّ هاروت وماروت كانا فى وقته وعلّما أهل مصر أصنافا من

السحر، ونقلا بعد الطوفان الى بابل. وكان عرناق يجتلب النساء بسحره ويغتصبهنّ، وكان يسكن الجنة التى عملها نقارس، فاحتالت عليه امرأة من المغصوبات فسمّته فهلك وبقى مدّة لا يعرف خبره. وكان من رسمه- إذا خلا بنسائه- لا يقربه أحد، فلمّا تأخر خبره عن الناس هجم عليه فتى من بنى نقراوس يقال له لوخيم «1» ومعه نفر من أهله، فوجدوه ملقى فى فراشه جيفة. فأمر أن توقد له نار فأحرقه فيها. وجمع النسوة اللواتى كنّ فى الجنة، فمن كانت من نسائه تركها، ومن كانت من المغصوبات سرّحها الى أهلها، ففرح الناس بذلك وبما نزل به. وملك بعده لوخيم وجلس على سرير الملك ولبس تاج أبيه، وأمر بجمع الناس وقام فيهم وتكلّم وذكر ما كان عليه عرناق الأثيم من سوء السيرة واغتصاب النساء وسفك الدماء ورفض الهياكل والاستخفاف بالكهنة الى أن هلك، وأنه أحقّ بتراث أبيه «2» وجدّه. وضمن للناس العدل والإحسان والقيام بأمرهم ودفع كل أذى عنهم. فرضى الناس به وأطاعوه وقالوا: أنت أحقّ بالملك، ولا زلت دائم السعادة طويل العمر قائما بتجويد الهيا كل وتعظيمها. فركب الى هيكل الشمس فقرّب له بقرا كثيرا، وسار فى الناس بالعدل. قال: وكانت الغرانيق «3» قد كثرت فى زمن عرناق فأهلكت زروع الناس. فعمل لوخيم أربع منارات من نحاس فى أربعة جوانب أمسوس، وجعل على كل منارة صورة غراب فى فمه حيّة قد التوت عليه فلم يقربهم شىء من تلك الطيور، فكانت كذلك حتى أزالها الطوفان.

قال: ومن ملوكهم خصليم وهو أوّل من عمل مقياسا لزيادة الماء؛ وذلك أنه جمع أصحاب العلوم والهندسة فعملوا بيتا من رخام على حافة النيل، وجعل فى وسطه بركة من نحاس صغيرة فيها ماء موزون، وعلى حافتى البركة تمثال عقابين من نحاس ذكر وأنثى. فإذا كان فى أوّل الشهر الذى يزيد فيه الماء «1» فتح باب البيت وحضر الكهّان وأمناء الملك وتكلّموا بكلام لهم حتى يصفر أحد العقابين، فإن صفر الذكر كان الماء زائدا، وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصا، ثم يعتبرون الماء فكلّ إصبع يكون فى تلك البركة فهو ذراع من زيادة النيل، وكل إصبع ينقص فهو نقصان ذراع. فإذا علموا ذلك حفروا الترع وأصلحوا الجسور. وعمل على النيل القنطرة التى هى ببلاد النّوبة. وكان له ابن سمّاه هرصال «2» ، أى خادم الزّهرة، لرؤيا كانت رأتها أخت الملك أن الزّهرة تخاطبها، وكفلت الغلام عمّته، واسمها خرداقة، «3» وأدّبته أحسن التأديب، وزوّجته عشرين «4» امرأة من بنات الملوك والعظماء، وبنت له مدينة فيها عجائب كثيرة، احتفلت بها وزيّنتها بأحسن النقوش والزينة والعمارة، وعملت فيها حمّاما معلّقا على أساطين يرتفع الماء إليها حارّا من غير وقيد. «5» ولمّا هلك خصليم دفن فى ناووس. ثم ملك بعده ابنه هرصال بن خصليم فتحوّل إلى المشرق وسكنه، وبنى مدينة هى إحدى المدائن ذوات العجائب، وعمل فى وسطها صنما للشمس يدور بدورانها ويبيت مغرّبا ويصبح مشرّقا. ويقال: إنه عمل من تحت النيل سربا. وهو أوّل

من عمل ذلك. وخرج متنكّرا يشقّ الأمم إلى أن بلغ بابل، ورأى ما عمل الملوك من العجائب. وعلم حال ملكها فى الوقت وسيرته ومجارى أموره. ويقال: إنّ نوحا عليه السلام ولد فى وقته. قال: وولد لهرصال عشرون ولدا، جعل مع كل ولد منهم قاطرا «1» وهو رأس الكهنة. وتزعم القبط أنه بعد مائة وسبع وعشرين سنة من ملكه لزم الهياكل وتعبّد للكواكب فأخفته عن أعين الناس. وأقام بنوه على حالهم كل واحد منهم فى قسمه الذى أعطاه إياه يدبّره ولا يشركه فيه غيره. وأمور الناس جارية على سداد، فأقاموا كذلك سبع سنين. ثم وقع بين الإخوة تشاجر، واجتمع رأى الكهنة على أن يجعلوا أحدهم ملكا، ويقيم كل واحد منهم فى قسمه. فاجتمعوا فى ذلك اليوم فى دار المملكة، وقام رأس الكهّان فتكلّم وذكر هرصال وسعادة أيامه وما شملهم فيها من الخير، وأخبر بما رأته الجماعة من تقليد أحدهم الملك. فإن كان هرصال لم يمت ورجع إليهم لم ينكر ما فعلوه لأنهم أرادوا بذلك حفظ ملكه، وإن لم يرجع كان الأمر قد جرى على ما سلف من قيام ملك بعد ملك فاجتمع رأيهم على أكبر ولده وهو: ندسان «2» بن هرصال. فملك وسار سيرة أبيه وحمد الناس أمره. وعمل قصرا من خشب ونقشه بأحسن النقوش، وصوّر فيه صور الكواكب ونجّده بالفرش وحمله على الماء وكان يتنزّه فيه. فبينما هو فيه إذ زاد النيل زيادة عظيمة وهبّت ريح عاصف فانكسر القصر وغرق الملك. وكان قد نفى إخوته إلى المدائن

الداخلة فى الغرب. واقتصر على امرأة من بنات عمّه، وكانت ساحرة، فتفرّد بها واستخلف بعض وزرائه على الملك وأقبل على لذّته ولهوه. فلمّا هلك كتمت امرأته الساحرة موته، وكان أمرها ونهيها يخرجان إلى الوزير عن الملك. وأقام الناس تحت طاعته سبع سنين لا يعلمون بأمره. فلما رأى إخوته طول غيبته جمعوا جموعا كثيرة وقدّموا على أنفسهم أحدهم وهو شمرود «1» الجبّار وساروا إلى أمسوس. وبلغ ذلك امرأة ندسان الساحرة فأمرت الوزير بالخروج إليهم ومحاربتهم، ففعل ذلك ولقيهم فمزّقوه وقتلوا كثيرا ممن كان معه، ودخلوا مدينة أمسوس، وأتوا دار المملكة فلم يروا ندسان وأيقنوا بهلاكه. وملك شمرود بن هرصال فسرّ الناس به، ووعدهم بحسن السّيرة فيهم وتغيير ما كانوا ينكرونه على أخيه. واستولى على كنوزه وخزائنه ففرّقها على إخوته، وأقطعهم جميع ما كان فى يد ندسان. وطلب امرأته الساحرة وابنها ليقتلهما، فانتقلت إلى مدينة أهلها من الصعيد، وكانوا كلّهم كهّانا سحرة، فامتنعت بهم، وأرسلت إلى الناس وعرّفتهم أنّ ابنها الملك فى وقته؛ لأنّ أباه قلّده الملك وأمرها أن تدبّر أمره حتى يكبر، فصدّقوها وأجابوها وقالوا: إنّ الغلام مغصوب على ملك أبيه، وإنّ شمرود متغلب. فاجتمع فى ناحيتها جماعة من أهل البلد وزحف ابن الساحرة وقد عمل له السحرة أصنافا من التخاييل الهائلة والنيران المحرقة، فقامت الحرب بينهم أياما؛ فانهزم شمرود وإخوته وتعلّقوا ببعض الجبال. وملك توميدون «2» بن ندسان وهو ابن الساحرة. ودخل دار الملك وجلس على السرير ولبس التاج الذى كان لأبيه وأطاف به بطانة أبيه، وهو يومئذ حدث السنّ،

وكانت أمه تدبّر أمره، فقتل كلّ من كان مع شمرود. وطلب شمرود حتى ظفر به، واجتمع الناس لينظروا ما يصنع به، فشدّ رأسه برأس أسطوانة قائمة، ورجلاه برأس أسطوانة أخرى. وكان طوله فيما يذكر القبط عشرين ذراعا، ووكّلت الساحرة به حرسا لتقتله يوم عيدها، وكان قريبا، فصاح بالليل صيحة مات منها بعض الحرس وهرب الباقون. فلمّا اتّصل بها ذلك أوقدت نارا وأمرت بإنزاله وجعلت تقطع منه عضوا عضوا وترميه فى النار. قال: وخرج «1» ابنها كاهنا منجّما، وعملت له الشياطين قبّة الزّجاج الكبيرة الدائرة على دوران الفلك، وصوّروا عليها صور الكواكب، وكانوا يعرفون الطالع منها وما يحدث بطلوعه بعد ستين سنة. ثم ماتت أمّه الساحرة وأوصت أن يجعل جسدها تحت صنم القمر فإنه يخبرهم بالعجائب وما يسألون عنه ففعلوا ذلك. وذل الناس لابنها وهابوه، وكان يتصوّر لهم فى صور كثيرة، وملكهم مائة سنة وستين سنة. ولمّا حضره الموت أمرهم أن يعملوا له صنما من زجاج على شقّين ويطبق على جسده بعد أن يطلى بالأدوية الممسكة ويلحم ويقام فى هيكل الأصنام، ويجعل له عيد فى السنة ويقرّب له قربان، وتدفن علومه وكنوزه تحته، ففعلوا ذلك كله. ولمّا مات ملك بعده ابنه شرناق «2» بن توميدون، فعمل بسيرة أبيه وجدّته، واجتمع الناس عليه. وزحف رجل من بنى صرابيس «3» بن إرم من ناحية العراق، فتغلّب

على الشام، وأراد أن يزحف إلى مصر، فعرف أنه لا يصل اليها لسحر أهلها، فأراد أن يدخلها متنكّرا ليقف على أحوالها، فخرج فى نفر حتى بلغ الحصن الذى كانوا بنوه على مصر. فسألهم الحرس الموكّلون به عن أمرهم، فعرّفوهم أنهم قصدوا بلدهم ليسكنوه، فحبسوهم وطالعوا الملك بخبرهم. وكان الملك قد رأى فى منامه كأنه قائم على منار لهم عال، وكأن طائرا عظيما انقضّ عليه ليختطفه، فحاد عنه حتى كاد يسقط عن المنارة فجاوزه ولم يضرّه، فانتبه مرعوبا، وبعث إلى رأس الكهنة فقصّ عليه رؤياه، فعرّفه أن ملكا يطلب ملكه فلا يصل اليه. فنظر فى علمه فرأى أنه قد دخل بلده. فلما وردت الرسل بذكر القوم علم أن الملك فيهم؛ فوجّه جماعة من أصحابه فاستوثقوا منهم وحملوهم اليه، وقد كان أمرهم أن يطوفوا بهم فى أعمال مصر كلها ليروا ما فيها من الطّلّسمات والأصنام المتحرّكات والعجائب المعجزات، فبلغوا بهم إلى الإسكندرية، ثم ساروا بهم إلى أمسوس وطيف بهم على عجائبها. ثم سير بهم إلى الجنّة التى عملها مصرام، وكان الملك مقيما بها وأمر السحرة بإظهار التهاويل والتخاييل، فجعلوا يتعجّبون مما رأوا الى أن وصلوا الى شرناق الملك والكهنة حوله وقد أظهروا صنوف العجائب، وجعلوا بين يدى الملك نارا عظيمة لا يصل اليه إلا من خاضها ولا تضرّ إلا من أضمر للملك غائلة، وأمر بدخولها، فشقّوها واحدا واحدا لم ينلهم منها أذّى، وكان الملك آخرهم، فلمّا دنا من النار أخذته فولّى هاربا. فأتى به شرناق فسأله عن أمره فأقرّ، فأمر بقتله على أسطوانة عند باب الحصن من ناحية الشام، فقتل وزبر عليه: هذا فلان المتغلّب على الشام أضمر غائلة الملك، طلب ما لا يصل اليه فعوقب بهذا. وأمر بإخراج الباقين من بلاده فأخرجوا. وقيل لهم: قد وجب عليكم القتل لصحبتكم من أراد الفساد فى الأرض، ولكنّ الملك عفا عنكم. فكانوا لا يمرّون على أحد إلّا حدّثوه بما رأوا من العجائب، فانقطعت أطماع الملوك عن

الوصول الى مصر والتعرّض إليها. وعملت فى أيامه عجائب كثيرة، منها أنه عمل على باب كل مدينة بطّة نحاس قائمة على أسطوانة، فإذا دخل الغريب من الباب صفّقت بجناحيها وصرخت، فيؤخذ ويكشف عن أمره. وشقّ الى مدائن الغرب نهرا من النيل، وبنى على عبره منازل وأعلاما وغرس بينها غروسا، وكان اذا خرج إليها سار فى عمارة متّصلة. وملكهم مائة سنة وثلاثين سنة ثم مات. وملك بعده ابنه سهلوق بن شرناق، وكان كاهنا منجّما، فأفاض العدل وقسم ماء النيل قسما موزونا، صرف الى كل ناحية قسمها، ورتّب المراتب وجعلها على سبعة أقسام: فالطبقة الأولى الملك وولده وأهل بيته ومن يلى عهده ورأس الكهّان والوزير الأكبر وقائد الجيش الأكبر وصاحب خاتم الملك وصاحب خزانته. والطبقة الثانية مراتب العمّال والمتولّين جباية الأموال والإشراف على النفقات فى أمر المملكة ومصالح البلد والعمارات وقسمة المياه. والطبقة الثالثة الكهّان وأصحاب الهياكل وخدمتها ومتولو القرابين والمشرفون على جميع ما يتقرّب به من بواكير الفواكه والرياحين وفتىّ البقر والفراريح الذكور ورءوس خوابى الشراب. والطبقة الرابعة المنجّمون والأطباء والفلاسفة. والطبقة الحامسة أصحاب عمارة الأرض ومتولّو أمر الزراعة. والطبقة السادسة أصحاب الصناعات والمهن فى كلّ فنّ، والمشرفون على أعمالهم ونقل ما يستحسنون منها الى خزانة الملك. والطبقة السابعة أصحاب الصّيد من الوحش والسّباع والطير والهوامّ والخشاش، والمشرفون على أخذ دمائها ومرائرها وشحومها وحملها الى الأطبّاء لإصلاح العقاقير وتأليف الأدوية. وتقدّم ألا يدخل أهل مهنة ولا صناعة فى غيرهم، ومن قصّر فى عمله عوقب، ومن أحسن فى عمله جوزى بقدره. وكانت رتبة الألحان والملاهى فى قسمة الملك. وتقدّم فى استنباط المعادن وبناء المدائن ونصب الأعلام والمنارات وإبداع الصناعات وجرّ المياه وتوليد غرائب

الأشجار. وأقام على أعالى الجبال سحرة يقسمون الرياح ويمنعون من يقصدهم ويقصد بلادهم بأذّى، وكذلك كلّ مفسد من طائر وسبع ووحش وهوامّ، وأجرى أمر البلاد والناس على سداد، وجعل فى كلّ صنف من الناس صنفا من الكهنة يعلّمونهم الدين، ودينهم يومئذ الصابئة الأولى. ويرفع كلّ صنف منهم ما يجرى من أمر ما يتولّونه الى الملك فى كلّ يوم. وعمل البيت ذا القباب النوريّة الثلاث، وأوقد فيه النار الدائمة تعظيما للنور. والقبط تزعم أنه أوّل من وضع بيتا لتعظيم النار. وقيل: إن جم الفارسىّ إنما بنى بيت النار- وهو أوّل من عمل ذلك للفرس- اقتداء بسهلوق مصر. وكان السبب فى عمل سهلوق بيت النار أنه رأى أباه فى نومه يقول له: انطلق الى جبل كذا من جبال مصر فإنّ فيه كوّة من صفتها كذا وكذا، وإنك واجد على باب الكوّة أفعى لها رأسان، وإنها اذا رأتك كشّت فى وجهك، فليكن معك طيران صغيران، فإذا رأيت الأفعى فاذبحهما لها وألقهما إليها، فإنه يأخذ كلّ رأس من رأسيها أحد الطيرين وتتنحّى الى سرب قريب من الكوّة فتدخله، فإذا غابت عنك فادخل الكوّة فإنك تنتهى الى «1» آخرها الى صورة امرأة جميلة الخلق، وهى من نور حارّ يابس، وسوف يقع عليك وهجها وتحسّ بحرارة شديدة، فلا تقرب منها فتحترق، وقف وسلّم عليها فإنها تخاطبك فاسكن الى خطابها، وانظر ما تقوله لك فاعمل به، فإنك تشرف بذلك. وهى حافظة كنوز جدّك مصرام التى رفعها الى مدائن العجائب المعلّقة وهى تدلّك عليها. وتنال مع ذلك شرفا فى بلدك وطاعة فى قومك، ثم مضى وتركه. فلمّا انتبه سهلوق جعل يفكّر فيما رأى ويتعجّب منه، ورأى أن ينفّذ ما أخبره به أبوه، فمضى الى الجبل وحمل الطيرين معه وفعل جميع ما أمره أبوه الى أن وقف حذاء المرأة وسلّم عليها، فقالت له: أتعرفنى؟ قال: لا، لأنّى ما رأيتك قبل وقتى هذا.

قالت: أنا صورة النار المعبودة فى الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيى ذكرى وتتّخذلى بيتا وتوقد فيه نارا دائمة بقدر واحد، وتتّخذ لها عيدا فى كل سنة تحضره أنت وقومك فإنك تتّخذ بذلك عندى يدا وتنال به شرفا وملكا الى ملكك، وأمنع عنك وعن بلدك من يطلبك ويعمل الحيلة عليك، وأدلك على كنوز جدّك مصرام. فلمّا سمع ذلك منها ضمن لها أن يفعل، ودلّته على الكنوز التى كانت لجدّه تحت المدائن المعلّقة، وكيف يصير إليها ويمتنع من الأرواح الموكّلة بها وما يبخّرها به. فلمّا فرغ من ذلك قال لها: كيف لى بأن أراك فى الأوقات وأسألك عمّا أريده، أأصير اليك فى هذا المكان أو غيره؟ قالت: أمّا هذا المكان فلا تقدر بعد وقتك هذا عليه؛ لأنّ الأفعى التى رأيتها فيه قيّمته لأنّ فيه آية تمنع أن يوقف عليها فى وقتنا هذا، ولكن إن أحببت أن ترانى فدخّن فى البيت الذى تعمله لى بكذا وكذا: أشياء ذكرتها له، منها: عظام ما يقرّبه له من القرابين والذبائح والصّموغ، فإنى أتخيّل لك وأخبرك بكل حقّ وباطل مما يكون فى بلدك. فلمّا سمع ذلك منها سرّ به وغابت عنه، وظهرت الأفعى وخرج هاربا وجعل على الكوّة سدّا، وعمل ما أمرته به وأخرج كنوز جدّه. وعمل من العجائب بأمسوس وغيرها ما يطول شرحه. وعمل القبّة المركّبة على سبعة أركان، ولها سبعة أبواب، على كل باب صورة معمولة، وكان يقال لها قبّة القصر. وكان السبب فى بنائها أنّ بعض الكهّان جار فى قضيّة قضى بها؛ وذلك أن بعض العامّة أتاه يشكو امرأته- وكان يحبّها والمرأة تبغضه- وسأله أن يقوّمها له، وكانت المرأة من أهل بيت الكاهن، فمالأها على زوجها، وأمره بتخليتها فلم يفعل، فحبسه وشدّد عليه، وكان من أهل الصناعات، فاجتمع جماعة من أهل صنعته ممّن كان قد عرف حال المرأة معه وأنها له ظالمة وهو لها منصف، فوقفوا على ظلم الكاهن فاستعدوا عليه عند خليفة الملك. فأحضر الكاهن وسأله، فذكر أنه لم يحكم إلّا بواجب. فأحضر

رؤساء الكهنة والقوم الذين شهدوا للرجل، فوقف على ظلم الكاهن فأخرج الرجل وحبس الكاهن مكانه، وأمر بعقوبة المرأة وردّها إلى زوجها ورفع ذلك إلى الملك، فأمر بإخراج الكاهن من رسم الكهانة، وأن يعاقب ويحبس إلى أن يرى فيه رأيه. واهتمّ الملك لذلك وخشى أن يجرى من غير ذلك الكاهن فى أمر الرعيّة مثل ما جرى منه، فبات مهموما. ثم فكّر فى أمر النار، فأتى إلى بيت النار ودخّن بالدّخنة التى أمرته بها، فأتته وخاطبته. فسألها أن تعمل له عملا يقف به على حقيقة أمر المظلوم من الظالم، فأمرته أن يعمل بيتا مركّبا على سبعة أركان ويجعل له سبعة أبواب فى كل ركن باب، ويعمل فى وسطه قبّة من صفر، ويصوّر عليها صور الكواكب السبعة، ويعمل تحت القبّة مطهرة من جوهر ملوّن، ويجعل فيها سبعة أدهان من أشجار مختلفة؛ وتكون القبّة معلّقة على سبعة أساطين، ويعمل على الباب الأوّل تمثال أسد رابض، وحذاءه من الجانب الآخر لبؤة رابضة من صفر ويقرّب لهما جرو أسد ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الثانى صورة ثور وبقرة ويذبح لهما عجلا ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الثالث صورة خنزير وحذاءه خنزيرة ويذبح لهما خنّوصا «1» ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب الرابع صورة فرس وحجر «2» ويذبح لهما مهرا ويبخرهما بشعره. وعلى الباب الخامس صورة ثعلب وحذاءه أنثاه ويذبح لهما جرو ثعلب ويبخّرهما بوبره. وعلى الباب السادس صورة حمار وحذاءه أتان ويذبح لهما عيرا ويبخّرهما بشعره. وعلى الباب السابع صورة ديك وحذاءه دجاجة ويذبح لهما فرّوجا ويبخّرهما بريشه. ويلطخ وجوهها جميعا بدم ما يذبح. ثم يحرق بقيّة القربان ويجعل تحت عتب أبوابها وتغلّق الأبواب، ويقام للبيت سدنة يوقدونه ليله ونهاره. فإذا «3» فرغ ذلك

يتكلّم على باب الكواكب السبعة، فإنى سوف ألقى روحانيّة الكواكب على تلك الصور فتنطق. وإذا فرغت من ذلك فاجعل لكل مرتبة من المراتب التى قسمتها بابا من تلك الأبواب، وليكن باب الأسد لأهل بيت المملكة، وسائر الأبواب لسائر المراتب. فإذا تقدّم الخصمان إلى شىء من تلك الصور التصقت بالظالم وشدّت عليه شدّا عنيفا يؤلمه حتى يخرج لخصمه من حقّه، الذكر للذكر، والأنثى للأنثى، فيعرف بذلك المظلوم من الظالم، ومن كان له قبل أحد حقّ ودعاه الى تلك الصور فلم يجئ معه فأتاه المظلوم، وقد عرّف الصورة ذلك، أقعد الظالم من رجليه وخرس لسانه ولم يتحرّك. فاستراح الملك الى تلك الصورة. ولم تزل على ذلك حتى أزالها الطوفان مع ما أزال من أعمالهم وطلّسماتهم وعجائبهم. وعملت فى أيام سهلوق أعمال كثيرة، وكتبت سيرته وما عمل من العجائب فى مصحف. وعمل عقاقير كثيرة وتماثيل ومحرّكات وصنعة، وأمر أن يحمل ذلك كلّه إلى ناووس عمله لنفسه فى الجبل الغربىّ ونقل اليه حكمه. وهلك بعد أن ملك تسعا وستين سنة وحمل إلى ناووسه، وأقام أهل المملكة ووجوه المدينة ونساؤهم عند ناووسه شهرا يبكون عليه ويتوجّعون عنده، واغتّموا عليه غمّا لم يغتمّوه على ملك قبله، وأقاموا لناووسه سدنة يخدمونه. وملك بعده ابنه سوريد بن سهلوق؛ وكان أبوه قد قلّده الملك قبل مهلكه، فملك واقتفى سيرة أبيه فى العمارة ومصالح البلد والإنصاف بين الناس والأخذلهم من نفسه وأهل بيته، وعمل الهياكل وبنى المنارات، ونصب الأعلام والطّلّسمات فأحبّه الناس. وبنى بالصعيد ثلاث مدائن وعمل فيها عجائب كثيرة. وهو أوّل من جبى الخراج بمصر، وألزم أهل الصناعات على أقدارهم، وأوّل من أمر بالإنفاق على الزّمنى والمرضى من خزائنه. وعمل مرآة من أخلاط كان ينظر منها جميع الأقاليم ما أخصب منها وما أجدب وما حدث فيها، وكانت المرآة على منارة من النحاس وسط مدينة أمسوس،

وكان يعلم من المرآة من يقصد مدينته من جميع النواحى فيتأهّب له. وهو أوّل من عمل صحيفة فى كلّ يوم يكتب فيها جميع ما يكون فى يومه وما يعمله ويرفع اليه، ثم يخلد فى خزانته يوما بيوم. وإذا مضى الشهر نقلت إلى مصحف الملك وختمه بخاتمه، وما صلح أن يزبر على الحجارة زبره: وكذلك ما عمل من الصنائع وما أحدث منها. وكان يعطى الرغائب على الصّناعات العجيبة والحكم الغريبة. وعمل فى المدائن صورة امرأة جالسة فى حجرها صورة صبىّ كأنها ترضعه، فمن أصابتها علّة بجسمها مسحت ذلك الموضع من جسد تلك الصورة فيزول عنها ما تجد، وكذلك إن قلّ لبنها مسحت ثديها، وإن أحبّت أن يعطف عليها زوجها مسحت وجهها يدهن طيّب وقالت افعلى كذا وكذا، وإن قلّت حيضتها مسحت فوق ركبها، وإن كثر دمها ونزفت مسحت تحت ركبها، وإن أصاب ولدها شىء فعلت مثل ذلك بالصبىّ فيبرأ، وإن عزّت «1» ولادتها ومسحت رأس الصبىّ سهلت ويسهل افتضاضها، وإذا بخرته ومسحته بدهن طيّب منع جميع التوابع. وإذا وضعت الزانية يدها عليها ارتعدت حتى تكفّ عن زناها. وما كان من أعمال الليل بخّرت ليلا، وما كان من أعمال النهار بخّرت نهارا. وكانت تعمل أعمالا كثيرة إلى أن أزالها الطوفان. قال: وفى بعض كتب القبط أنها وجدت بعد الطوفان وأنهم استعملوها وعبدوها. وصورتها مصوّرة فى جميع البرابى، واسمها نبلوية، والذى دلّهم عليها قرابة فليمون «2» الكاهن. قال: وعمل سوريد عجائب كثيرة، منها الصنم الذى يقال له نكرس «3» المعمول من عدّة أخلاط كان يعمل أعمالا كثيرة فى الطبّ ودفع الأسقام

ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها

والعلل، ويعرفون به من تبرئه الأدوية فيعيش، وإن كان يموت فله علامات فيقصرون عن علاجه، وكانوا يغسلون المواضع التى بإزاء أعضاء العلل منه ويسقى لصاحب الداء فيزول عنه. وهو أوّل من عمل الأفروثنات «1» وزبر فيها جميع العلوم. وهو الذى بنى الهرمين الكبيرين. ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها قال: كان بناء الأهرام قبل الطوفان بنحو ثلاثمائة سنة. وقد ذكرنا فيما سلف من كتابنا «2» هذا نبذة من خبر الأهرام فى الباب الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل؛ وذلك فى السّفر الأوّل من هذه النسخة. ونحن الآن نذكر من خبرها خلاف ما قدّمناه مما أورده إبراهيم بن القاسم الكاتب مما اختصره من كتاب العجائب الكبير لإبراهيم بن وصيف شاه. قال: كان سبب بنائها أن الملك سوريد رأى رؤيا أفزعته؛ رأى كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الناس يخرّون على رءوسهم، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة، فغمّه ذلك ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث فى العالم أمر عظيم. ثم رأى بعد ذلك [بأيام] كأنّ الكواكب الثابتة [نزلت الى الأرض «3» ] فى صور طيور تنصبّ «4» ، وكأنها تتخطّف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأنّ الجبلين انطبقا عليهم، وكأنّ الكواكب النيّرة مظلمة كاسفة؛ فانتبه أيضا مذعورا فزعا، فدخل الى هيكل الشمس وجعل يمرّغ خدّيه ويبكى. ولمّا أصبح أمر

بجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصرفآ جتمعوا، وكانوا مائة وثلاثين، فخلابهم وقصّ عليهم رؤياه، فأعظموه وأكبروه وأوّلوه على أمر عظيم يحدث فى العالم. فقال لهم فليمون- وكان من كبارهم وكان لا يبرح من حضرة الملك لأنه رأس كهنة أمسوس-: إنّ فى رؤيا الملك لعجبا وأمرا كبيرا، والملوك رؤياهم لا تجرى على فساد ولا كذب لعظم أخطارهم، وكبر أقدارهم. وأنا أخبر الملك عن رؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لأحد من الناس. فقال له الملك: قصّها علينا. قال: رأيت كأنى مع الملك على رأس المنار الذى فى أمسوس، وكأنّ الفلك قد انحطّ من موضعه حتى قارب سمت رءوسنا، وكان علينا كالقبّة «1» المحيطة بنا، وكأنّ [الملك قد رفع يديه نحو السماء وكواكبها «2» ] قد خالطتنا فى صور مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انضمّوا الى قصره، وكأنّ الملك رافع يديه ليدفع الفلك أن يبلغ رأسه، وأمرنى أن أفعل فعله ونحن على وجل شديد، إذ رأينا منه نورا مضيئا طلعت علينا منه الشمس، فكأنّا استغثنا بها، فخاطبتنا بأنّ الفلك سيعود الى موضعه اذا مضت ثلاثمائة دورة، وكأنّ الفلك لصق بالأرض ثم عاد الى موضعه، ثم انتبهت فزعا. فعند ذلك قال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب فانظروا هل من حادثة تحدث. فنظروا فأخبروه بأمر الطوفان وبعده بذكر النار [التى تخرج من برج الأسد تحرق العالم «3» ] ، فذكروا له أن ذلك يكون فى وقت عيّنوه له من مقارنات النجوم ونزولها فى الأبراج على ما حرّروه من الدقائق، وشرحه إبراهيم فى كتابه مما لا فائدة لنا فى ذكره. قال: فلما تبيّن ذلك له أمر بقطع الأساطين العظام ونشر البلاط

الكبير المصفّح، واستخراج الرصاص من أرض المغرب، وإحضار الصخور السود التى جعلها أساسا من ناحية أسوان، وكانت تحمل على أطواف «1» . وقيل: كانت لهم فراقلّ من خوص لها عذب وعليها كتابة منقوشة، فكانوا إذا ضربوا بها الحجارة عدت على وجه الأرض وحدها مقدار رمية سهم حتى وضعت الأساسات. وأمر أن يزبر على البلاط المنشور المهندم جميع علومهم. ثم بنى الأهرام الثلاثة الأول: الشرقىّ، والغربىّ، والملوّن؛ فكانوا يجعلون فى وسط البلاطة قلب حديد قائما ويركّبون عليه بلاطة أخرى مثقوبة الوسط، ثم يدخل ذلك القلب الحديد فى ثقب البلاطة التى تطبق عليه، ويذاب الرّصاص ويصبّ حول البلاطة بعد أن تؤلّف الكتابة التى عليها. وجعل أبوابها من تحت الأرض بأربعين ذراعا فى آزاج «2» مبنيّة بالحجارة فى الأرض، طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا. قال: فأما باب الهرم الشرقىّ فإنه من الناحية الجنوبية «3» على قياس مائة ذراع من وسط حائط الهرم الى الناحية الجنوبيّة، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج ثم يدخل اليه منه. وأما باب الهرم الغربىّ فمن الناحية الغربيّة يقاس أيضا من وسط الحائط الغربىّ الى الغرب مائة ذراع، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج المبنىّ ويدخل منه اليه. وأما باب الهرم الملوّن فمن الناحية البحرية «4» يقاس أيضا من وسط الحائط البحرىّ مائة ذراع، ويحفر حتى ينزل الى باب الأزج. وجعل طول كل واحد منها أربعمائة

ذراع بالملكى، يكون خمسمائة بذراعنا. وجعل تربيع كل واحد أربعمائة ذراع. وبناها فى الاستواء الى أربعين ذراعا ثم هرّمها «1» . وكان أوّل بنائهم لها فى أوقات السعادة، فلمّا فرغ منها كساها ديباجا ملوّنا من أعلاها الى أسفلها، وعمل لها عيدا عظيما لم يبق فى المملكة أحد إلّا حضره. ثم أمر «2» بعمل ثلاثين جرنا من حجارة الصوّان ملوّنة فجعلت فى الهرم الغربىّ، ونقل اليها من الكنوز والأموال والجواهر المعدنيّة، والجواهر المسبوكة الملوّنة، والآلات الزّبرجد. والتماثيل المعمولة، والطّلّسمات، والحديد الفاخر، والسلاح الذى لا يصدأ، والزجاج الذى ينطوى «3» ولا ينكسر، والنواميس والمولّدات والدّخن وأصناف العقاقير والمفردات والمؤلّفات والسموم وغير ذلك شيئا كثيرا لا يدرك وصفه. ونقل الى الآخر وهو الشرقىّ أصنام الكواكب والقباب الفلكيّة، وما عمل أجداده من التماثيل والدّخن التى يتقرّب بها لها ومصاحفها، وما عمل لها من التواريخ والحوادث التى مضت، والحوادث التى تحدث، والأوقات التى تحدث فيها، ومن يلى مصر من الملوك الى آخر الزمان، وكون الكواكب الثابتة وما يحدث بكونها وقتا وقتا، وجعل فيها المطاهر» التى فيها المياه المدبّرة والبودقات الدهنية وما أشبه هذه الأشياء. وجعل فى الهرم الآخر أجساد الكهنة فى توابيت من الصوّان الأسود، وعند كل كاهن منهم مصحف فيه عجائب صناعته وسيرته وما عمل فى وقته. وكانوا سبع مراتب. فالمرتبة الأولى القاطرون، وهم الذين يعبدون الكواكب السبعة لكل كوكب

سبع سنين، ومعنى القاطرون جامع العلوم. والمرتبة الثانية لمن يعبد ستّة من الكواكب وهم اللاحقون بالدرجة الأولى. ثم يسمّون صاحب الخمسة وما دونها كل واحد باسم، فجعل فى كل ناحية من الهرم مرتبة من هذه المراتب، فأجسادهم هناك وما عملوه من العجائب. وجعل فى الحيطان «1» من كل جانب مما يدور أصناما [تعمل «2» ] بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها، وكذلك أصحاب النواميس ومن عالج شيئا من الأشياء وجعل فيها أموال الكواكب التى أهديت إليها الكواكب وأموال الكهنة. وجعل لكل هرم منها خادما؛ فخازن «3» الهرم الشرقىّ صنم من جزع أسود [مجزّع بأسود] وأبيض له عينان مفتوحتان [برّاقتان، وهو] جالس على كرسىّ، ومعه شبيه بالحربة، إذا نظر إليه الناظر سمع من جهته صوتا كالرعد يكاد يفزع قلبه، فيهيم على وجهه ويختلس عقله، ولا يكاد يفارق الهرم حتى يموت فيه. وجعل خازن الهرم الآخر من حجر الصّوّان المجزّع، معه شبيه بالحربة، وعلى رأسه حيّة تطوّق «4» بها، من قرب منه وثبت عليه من ناحيته وتطوّقت فى عنقه فقتلته [ثم تعود إلى مكانها] . وجعل خازن الهرم الثالث صنما صغيرا من حجر البهتة «5» على قاعدتيه، من نظر إليه اجتذبه إليه حتى يلتصق به فلا يفارقه حتى يموت. فلمّا فرغ من ذلك حصنها «6» بالأرواح وذبح لها

الذبائح لتمنع «1» عن نفسها [من أرادها] إلا من قرّب إليها وعمل لها أعمال الوصول فإنه يصل اليها. قال: وذكر القبط أنه كتب عليها اسم الملك والوقت الذى بناها فيه، ويقول: إنا بنيناها فى ستّ سنين «2» فقل لمن يأتى بعدنا يهدمها فى ستمائة سنة فإن الهدم أهون من البنيان. وإنا كسوناها الدّيباج الملوّن المذهب المرقوم بالذهب فقل لمن يأتى بعدنا يكسوها حصيرا. فنظروا فوجدوا أحدا لا يقوم بهدمها وكسوتها لأنه لا يستطاع ذلك ولا يقدر عليه. قال: وحكى عن هذه الأهرام عجائب يطول الشرح بذكرها؛ منها أن المأمون لمّا دخل إلى مصر أحبّ أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك. فقال: لا بدّ من فتح شىء «3» منه. فعولجت الثّلمة المفتوحة منه فأنفق عليها مالا كثيرا لنار توقد وخلّ يرشّ ومنجنيقات ترمى بها، فوجد عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا. فلما انتهوا الى داخل الهرم وجدوا خلف الحائط عند النقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب دنانير، وزن كل دينار أوقية «4» من أواقينا، وكان عددها ألف دينار، فعجبوا من ذلك ولم يعرفوا ما معناه، ثم أتى المأمون بالذهب والمطهرة فجعل يتعجّب من الذهب وحسنه وجودته وحمرته، فقال: ارفعوا لى حساب ما أنفقتموه على هذه الثّلمة ففعلوا، فوجده بإزاء المال الذى أصابوه لا يزيد ولا ينقص. فعجب المأمون من معرفتهم على طول المدد بأنهم سيفتحونه من ذلك الموضع بعينه، ومعرفتهم بمقدار ما ينفق عليه وتركهم مقداره

فى موضعه، فقال: كان هؤلاء القوم من العلوم بمنزلة لا ندركها نحن ولا أمثالنا. وقيل: إنّ المطهرة التى وجد فيها الذهب كان من زبرجد، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته، وكانت أحد ما حمل من عجائب مصر. ومن عجائب أخبارها أنّ المأمون لمّا فتح الهرم أقام الناس سنين يقصدونه ويدخلون فيه وينزلون الزلّاقة التى فيه، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك. وأنّ جماعة من الأحداث اهتمّوا، وكانوا عشرين رجلا، على أن يدخلوا الهرم ولا يبرحوا منه حتى يقفوا على منتهى أمره، فأخذوا معهم من الطعام والشراب ما يكفيهم لشهرين، وأخذوا السكك والحبال والشمع والوقيد والفؤس والقفاف ودخلوا الهرم، ونزل أكثرهم فى الزلّاقة الأولى والثانية، ومضوا فى أرض الهرم فرأوا فيه خفافيش بقدر العقبان تضرب وجوههم، فانتهوا إلى لصب «1» فى حائط تخرج منه ريح باردة لا تفتر، فذهبوا ليدخلوا فانطفأت سرجهم، فجعلوها فى زجاج وذهبوا ليدخلوا فكاد اللّصب ينطبق عليهم فهابوه فقال أحدهم: اربطوا وسطى بحبل وأنا أدخل، فإذا كاد اللّصب ينطبق فجرّونى إليكم؛ وكان على باب اللّصب أجرنة «2» فارغة فعلموا أنّ أجساد موتاهم داخل ذلك اللصب، فربطوه بالحبل، فلمّا تقحّم «3» اللصب انطبق عليه فجرّه أصحابه فلم يقدروا على نزعه وسمعوا عظامه تتكسّر، وسمعوا صيحة هائلة فسقطوا على وجوههم لا يعقلون. فلمّا أفاقوا طلبوا الخروج فأخرجهم أصحابهم بشدة، وسقط بعضهم فى وقت صعودهم من الزلّاقة فنزل، وخرجوا من الهرم فجلسوا فى سفحه متعجّبين، فإنهم كذلك إذ أخرجت لهم الأرض صاحبهم

يتكلّم بكلام كاهنىّ فسّره لهم بعض أصحاب الديارات بالصعيد: هذا جزاء من يطلب ما ليس له؛ ثم سقط ميّتا، فحملوه وفطن بهم فأخذوا وأتى بهم إلى الوالى فحدّثوه بالخبر. وفى خبر آخر: أنّ قوما دخلوا الهرم وانتهوا إلى أسفله وطوّفوه فعرض لهم مثل الطريق فساروا فيه فوجدوا قبّة تحتها كالمطهرة يقطر فيها ماء فينشّ «1» ثم يغيض «2» ولم يدروا ما هو، ووجدوا موضعا كالمجلس المربّع حيطانه كلّها بحجارة ملوّنة عجيبة، فقلّع أحدهم منها حجرا وجعله فى كمّه فانسدّت أذناه من الريح، ولم تزل «3» تصر وهو معه، ووجدوا مكانا كالفوّارة العظيمة فيها ذهب مضروب كثير يكون الدينار منه زهاء مائة مثقال، فأخذوا منه شيئا فلم يستطيعون أن يمشوا ولم يتحرّكوا حتى تركوه من بين أيديهم. ووجدوا فى مكان آخر كالصّفّة فيها شيخ من حنتم «4» أخضر كأنه مشتمل بشملة، وبين يديه تماثيل صغار فى صور الصّبيان وكأنه يعلمهم، فأخذوا منه شيئا فلم يقدروا أن يتحرّكوا فردّوه، ومشوا أيضا فى ذلك الطريق فوجدوا بيتا مسدودا فيه دوىّ هائل وزمزمة فلم يتعرّضوا له، ومضوا فوجدوا كالمجلس المرّبع فيه صورة ديك من جواهر معمولة، قائم على أسطوانة خضراء، وله عينان يسرج منهما المجلس، فلما قربوا منه صوّت بصوت مفزع وخفق بجناحيه، فتركوه ومضوا حتى بلغوا صنما من حجر أبيض فى صورة امرأة منكّسة على رأسها ومن جانبيها أسدان من حجارة كأنهما يريدان نهسها «5» ، فجعلوا يتعوّذون ويقرءون إلى أن جاوزوها. قال: وقيل إنهم مشوا حتى لاح لهم نور فاتّبعوه فإذا بفوّهة مفتوحة فخرجوا منها فإذا هم

فى صحراء، وإذا على باب تلك الفوهة تمثالان من حجر أسود معهما كالمزراقين فعجبوا من ذلك. ووجدوا أجرنة منقورة وأسطوانات مخروطة، فساروا منها بعدا فانتهوا إلى ماء وجدوه فى نقار «1» حذاء تلك الفوهة، وأخذوا نحو المشرق فساروا يوما حتى وصلوا إلى الأهرام من خارج فأخبروا والى مصر بخبرهم، فوجّه معهم من يدخل من تلك الفوهة، فطافوا فلم يجدوها وأشكل عليهم أمرها. ووجد الآخذ للحجر الحجر جوهرا نفيسا فباعه بمال. قال: وحكى أنّ قوما فى زمن أحمد بن طولون «2» دخلوا الهرم فوجدوا فى طاق فى أحد بيوته أستاندانة زجاجا ثخينة فأخذوها وخرجوا، ففقدوا رجلا منهم فدخلوا فى طلبه، إذ خرج عليهم الرجل عريانا يضحك ويقول: لا تتعبوا فى طلبى، ورجع هاربا الى أن دخل، فعلموا أن الجنّ استهوته وشاع أمرهم، فأخذوا الأستاندانة منهم ومنع الناس من الدخول الى الهرم، ووزنت الأستاندانة فكانت أربعة أرطال زجاجا أبيض صافيا، فانتبه رجل من أهل المعرفة لها وقال: لم تعمل إلّا لشىء، وملأها ماء ووزنها فوجد وزنها وهى ملأى مثل وزنها فارغة لا تزيد ولا تنقص فكانت أعجوبة. وحكى أن قوما دخلوا الهرم ومعهم من يريدون يعبثون به، فلمّا همّوا بذلك خرج عليهم غلام أسود أمرد فى يده عصا فأخذ فى ضربهم، فخرجوا هاربين وتركوا ما كان معهم من طعام وشراب وبعض ثيابهم. وحكى أن رجلا دخل بامرأة ليفجر بها فصرعا جميعا ولم يزالا مجنونين مشهورين حتى ماتا.

قال: وفى بعض مصاحف القبط أن سوريد الملك لما أخبره كهنته بخبر النار المحرقة وأنها تخرج من برج الأسد فتحرق العالم، عمل فى الأهرام مسارب موّجهة الى آزاج ضيّقة تجتلب الرياح الى داخل بصوت هائل. وعمل فيها مسارب يدخل منها ماء النيل الى مكان ينتهى الى موضع من أرض الغرب وأرض الصعيد، وملأ تلك الأسراب عجائب وطلّسمات وأصناما تنطق. قال: وحكى بعض القبط أن سوريد لمّا أخبره منجّموه قال: انظروا لبلدنا هذا هل تلحقه آفة؟ فنظروا فقالوا: يلحقه طوفان ويلحقه خراب يقيم فيه عدّة سنين وتغلب عليها التنانين. قال: كيف يكون خرابها؟ قالوا: يقصدها ملك فيقتل أهلها ويغنم مالها ويهدم مصانعها. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم تكون عمارتها من قبله. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم يقصدها قوم مشوّهون من ناحية مصبّ النيل فيأتون على أكثرها. قال: ثم ماذا؟ قالوا: ثم ينقطع نيلها ويجلو أهلها عنها؛ فأمر أن يكتب جميع ذلك على الأهرام. قال: وذكر رجل من أهل الغرب ممن يختلف الى الواح ويحمل الشّمار «1» على جمل له أنه بات فى بعض الليالى قرب الهرم فما زال يسمع الضوضاء والعطعطة فهاله ذلك وتباعد عنه بجمله، وكان يرى حول الهرم شبه النيران تأتلق، فلم يزل مرعوبا الى أن سرقته عيناه فنام وأصبح وهو فى الموضع الذى جمع منه الشّمار وشماره موضوع بحاله، فتعجّب من ذلك وشدّ شماره على جمله ورجع الى الفسطاط وآلى على نفسه ألّا يقرب من الهرم بعد ذلك.

قال: والقبط يذكرون أنّ روحانيّة الهرم الغربى فى صورة امرأة عريانة مكشوفة الفرج حسناء لها ذؤابتان، فإذا أرادت أن تستفزّ الإنسىّ ضحكت اليه فاختلسته الى نفسها فيدنو منها فتستهويه ويزول عقله. قال: وقد رأى جماعة هذه المرأة تدور حول الهرم وقت القائلة وعند غروب الشمس. وروحانيّة الهرم الشرقى غلام أمرد أصفر عريان له ذؤابة. قال: وقد رأوه أيضا يطوف حوله. وروحانيّة الهرم الملوّن فى صورة شيخ يرى عليه برطلة «1» وفى يده مجمرة من مجامر الكنائس وهو يبخّر كذلك فى جميع الأفروثنات «2» . وأمّا روحانيّات البرابى: فبربا إخميم «3» روحانيّتها غلام أسود عريان. وروحانيّة بربا قفط «4» فى صورة جارية سوداء تحمل صبيّا أسود صغيرا. وروحانية بربا دندرة «5» فى صورة إنسان رأسه رأس أسد وله قرنان. وروحانية بربا بوصير «6» فى صورة شيخ

أبيض عليه زىّ الرهبان ومعه مصحف يحمله. وروحانية بربا سمنّود «1» فى صورة شيخ آدم طوال أشيب صغير اللحية. وروحانيّة بربا عدىّ فى صورة راع عليه كساء ومعه عصا. وهذه البربا فى أعمال المرتاحيّة «2» من عمل أشمون طنّاح «3» بقرب تلبانة عدىّ «4» . قال: ولكلّ من هذه الأهرام والبرابى قرابين وبخورات تظهر كنوزها وتؤلّف بين الناس والروحانيّين الذين بها.

ولنرجع إلى أخبار الملوك

ولنرجع الى أخبار الملوك قال: وأقام سوريد فى الملك مائة سنة وسبع سنين، وقد كان منجّموه عرّفوه الوقت الذى يموت فيه واليوم والساعة، فأوصى الى ابنه هرجيب وعرّفه ما يعمل، وأمره أن يدخل جسده الهرم، وأن يجعله فى الجرن الذى أعدّه لنفسه ويغشّيه بكافور، ويحمل معه ما أعدّه من فاخر الثياب والسلاح والآلات، فامتثل جميع ما أمره به. ولما مات ملك بعده ابنه هرجيب «1» بن سوريد فسار بستره أبيه فى العدل والعمارة والرأفة بالناس، فأحبّوه. وبنى الهرم الأوّل من أهرام دهشور وحمل اليه من المال والجوهر. وكان غرضه جمع المال وعمل الكيمياء واستخراج المعادن ودفن ما تهيّأ له من الكنوز فى كل سنة. وكانت له ابنة أفسدت مع بعض خدمه فنفاها الى ناحية الغرب، وأمر أن تبنى لها مدينة هناك ويقام عليها علم ويزبر عليها اسمها، وأسكن معها كل امرأة مسنّة من أهل بيته. قال: وشجّ رجلا فأمر بقطع أصابعه، ووجد سارقا من العامّة فملّك رقّه الذى سرق منه، وعمل منارات ومصانع وطلّسمات، وملكهم نيّفا وسبعين سنة. وملك عليهم بعده ابنه منقاوش بن هرجيب وكان جبّارا أثيما فآذى الناس وسفك الدماء واغتصب النساء واستخرج كنوز آبائه، وبنى قصورا بالذهب والفضة [وأجرى «2» ] فيها الأنهار، وجعل حصباءها من صنوف الجواهر، وتخرّق «3» فى الهبات وأغفل العمارات فأبغضه الناس، وأباح أصحابه غصب نساء العامّة. وأطاف به أهل الشرّ من كل ناحية، وكان يفترع النساء قبل أزواجهنّ، وامتنع عليه قوم

فى شىء أمرهم به فأحرقهم بالنار، وسلّط رجلا من الجبّارين اسمه قرناس «1» من ولد وراديس بن آدم على الناس ووجّهه لمحاربة الأمم الغربية فقتل منهم أمما. وكان أشجع أهل زمانه ثم هلك، فأغتمّ عليه الملك وأمر أن يدفن مع الملوك فى الهرم. ويقال: بل عمل له ناووسا وأقام عنده أعلاما وزبر عليها اسمه وما عمله فى وقته. وملك منقاوش ثلاثا وسبعين سنة ومات، فجعل فى الهرم مع أجداده فى حوض مرمر مصفّح بالذهب والجوهر، وحمل معه كثير من ذخائره وأمواله وسلاحه وعجائبه. وملك بعد ابنه أقروش «2» بن منقاوش، وكان عاقلا فخالف آثار أبيه وعدل فى الناس وردّ النساء الّلاتى غصبهنّ منقاوش الى أهلهنّ. وعمل فى وقته فوّارة قطرها مائة ذراع وطولها خمسون ذراعا، وركّب فى جميع جوانبها أطيارا تصفر بأصناف اللغات المطربة لا تفتر. وعمل فى وسط المدينة منارتين من صفر عليهما صورة رأس إنسان من صفر كلّما مضت ساعة من النهار صاح ذلك الرأس صياحا عاليا، وكذلك الليل، فيعلم به دخول الساعات، وجعل فيه علامة لكلّ ساعة تمضى تعرف بها عدّتها. وعمل منارا آخر وجعل على رأسه قبّة صفر مذهب ولطخها بلطوخات، فإذا غربت الشمس اشتعلت تلك القبّة نارا «3» يضىء بها أكثر المدينة لا تطفئها الأمطار ولا الرّياح، فإذا كان النهار قلّ ضوءها بضوء الشمس. ويقال: إنه أهدى الدرمسيل [بن محويل «4» ] الملك ببابل مائدة «5» من الزبرجد قطرها خمسة أشبار، وكان استهداه ذلك ليجعلها فى بيت القربان. ويقال إنها وجدت بعد الطوفان. ويقال أيضا: إنه عمل على الجبل

الشرقىّ صنما عظيما قائما على قاعدة [وهو «1» ] مصبوغ بلطوخ أصفر مصوّر بالذهب ووجّهه الى الشمس يدور معها حتى تغرب، ثم يدور ليلا الى الناحية الجنوبيّة حتى يحاذى الشمس «2» مع الصبح، فلم يزل الى أن سقط فى أيام فرغان «3» الملك فتهشم. وكان نصبه تعظيما للشمس. ويقال: إن أقروش كان يطلب الولد فنكح ثلاثمائة أمرأة يبتغى الولد منهنّ فلم يكن ذلك. وقيل: إنّ فى عصره عقمت الأرحام لما أراد الله عزوجل من هلاك العالم بالطوفان، وعقمت أرحام البهائم ووقع الموت فيها. وقيل: إن الأسد كثرت فى وقته حتى كانت تتخلّل البيوت، فاحتالوا لها بالطّلّسمات المانعة والحيل المضرّة لها، فكانت تغيب وقتا وتعود، فرفعوا ذلك الى الملك فقال: هذه علامة مكروهة، وأمر أن تعمل أخاديد وتملأ نارا واجترّوا إليها الأسد بالدّخن التى تجلب روحانيتها وألقوها على تلك النّيران، فاجتلبتها تلك الدخن فتهافتت فى تلك النيران فاحترقت. وبنى فى وقته مدائن فى ناحية الغرب تلفت بالطوفان مع أكثر مدنهم. قال: وارتفعت الأمطار عنهم وقلّ الماء فى النيل فأجدبوا، وهلك الزرع بالنار والريح الحارّة وغيرها، فأضرّ ذلك بهم، فاحتالوا لدفع النار بطلّسماتهم فكانت تذهب وتعود. وقيل: إنّ الذى فعل بهم ذلك ساحر من سحرتهم كان منقاوش غصبه امرأته فكان يعمل الحيلة قليلا قليلا فى إفساد طلّسماتهم؛ لأن لكل طلسم شىء تبطل به روحانيته. وبهذه العلّة دخل بختنصّر الفارسىّ مصر وقد كانت ممتنعة من جميع الملوك. فلمّا أفسد ذلك الساحر الطلّسمات، سلّط عليهم تلك الآفات وأفسد طلّسمات التماسيح فهاجت عليهم ومنعتهم الماء وعذّبهم عذابا كبيرا الى أن

فطنوا به من قبل تلاميذه؛ وذلك أن أحدهم لامه على فعله فانتهره ونفخ فى وجهه فأظلم عليه بصره، فجاء الى وزير الملك وعرّفه القصّة فأنهاها الى الملك، فأمر الملك بإدخاله عليه فأدخل، فسأله عن الخبر فعرّفه يفعل الساحر، فأنفذ اليه جيشا ليأتوه به، فلمّا نظر الساحر الى القوم وقد أقبلوا دخّن دخنة أغشت أبصارهم وارتفعت منها عجاجة نار أحرقت وحالت بينه وبينهم، فهالهم ذلك، فرجعوا الى الملك وعرّفوه ما جرى فأمر بجمع السحرة، وكان من رسم السحرة أن يعاهدوا ملوكهم على أن يكونوا معهم ولا يخالفونهم ولا ينالهم منهم مكروه ولا يبغونهم الغوائل، فمن فعل ذلك سلب علمه، وكان للملك أن يسفك دمه ودم أهل بيته وولده، وكانوا مع الملوك على هذه الحال يوفون بعهودهم. فلمّا اجتمع السحرة عند الملك أخبرهم خبر الساحر، وكان يقال له: أختاليس، وبما عمله وقال: تحضرونه إلىّ وإلّا أهلكتكم؛ فسألوه النّظرة «1» فأنظرهم، فأخذوا أولادهم ونساءهم وخرجوا هاربين، فلمّا خرجوا عنه تكلّموا بينهم وقالوا: إنكم لتعرفون كثرة علم أختاليس وشدّة سحره، وما نرى لنا به طاقة، ومنقاوش الملك الذى نقض عهده وتعدّى عليه وأخذ امرأته غصبا، فاحتالوا لخلاصكم منه؛ فأجمعوا أنهم يصدقون الملك عن أنفسهم، ويستأذنونه فى الذهاب اليه ومداراته حتى يأتوه به بعد أن يأخذوا له أمانا منه ويجدّد العهد بينه وبينه. فمضوا الى الملك وصدقوه عن أنفسهم، فأجابهم الى ما سألوه من ذلك، ثم مضوا الى أختاليس فلطفوا به ووعظوه الى أن أجابهم الى ما أرادوا، فكتبوا الى الملك بذلك، فكتب للساحر أمانا وعهدا، فرجع وردّت اليه امرأته، فأكرمها وردّها الى دار الملك، وعرّفهم أنه لا يرى فى ذمّته أن يلابس امرأة لابسها الملك على حال من الأحوال لما كانوا يراعونه من حقوق الملك، فسرّ الناس بذلك وعجبوا من عقله

وحكمته، وصلح أمر الناس، وعمل أختاليس طلّسمات وعجائب كثيرة. قال: وملكهم أقروش أربعا وستين سنة، وهلك وليس له ولد ولا أخ، فدفن فى الهرم وجعلت معه أمواله وذخائره وجواهره والصنائع التى عملت فى وقته، واجتمع الناس على تمليك رجل من أهل بيت الملك. فملّكوا عليهم أرمالينوس، فلمّا ملك أمر بجمع الناس وقال: أرى الأمم الغربية قد تطرّقت إليكم فى نواحيكم، ويوشك أن تسير إليكم، وأنا مانع لبلادكم ودمائكم منهم بغزوهم والخروج إليهم وتحويلكم إياهم، وأحتاج الى معونة من حكمائكم بالأعمال الهائلة والتخاييل العجيبة، فشكروه ودعوا له بالتوفيق. وقالت الحكماء: نحن نخرج مع الملك إذا خرج ونبلغ له مجابه أو يقيم ونحن نخرج مع الجيش مكانه ونبذل أنفسنا دونه. فامتنع من ذلك وخرج فى جيش عظيم وحارب تلك الأمم ونكأ «1» فيها أعظم نكاية، ورجع غانما وخلّف فى وجوههم جيشا، فاجتمعت تلك الأمم فهزمت جيشه ورجع أصحابه مغلوبين فعظم ذلك عليه. وكانت أصابته علّة من تغيّر الهواء فأنفذ ابن عمّ له يقال له فرعان بن مسور، وكان أحد الجبابرة الذين لا يطاقون، وهو أوّل «2» فرعون تسمّى بهذا الاسم ومن سمّى بعده سمّى تشبيها به؛ فأنفذه الملك أرمالينوس فى جيش عظيم فأجلى تلك الأمم ونفاها الى أطراف البحر، وعاد ومعه خلق كثير من الأسرى والرءوس، فأمر الملك بنصب تلك الرءوس حول مدينته وقتل جميع الأسرى. وكان منهم كاهن فأمر الملك أن يوشر «3» بمنشار، وهو أوّل من فعل

ذلك، فأعلم «1» الملك فرعان وألبسه خلعا منظومة بالجوهر، وأمر بأن يطاف به ويذكر فضله، وأمر له ببعض قصوره. واتفق أن امرأة من نساء الملك عشقته وراسلته فامتنع فرعان من ذلك وفاء للملك، ولأنّ التحظّى الى نساء الملوك كان من الأمور العظيمة عندهم. فلمّا طال ذلك عليها أحضرت ساحرة ولا طفتها وذكرت لها حالها ووجدها بفرعان، فضمنت لها بلوغ مأربها منه وسحرته لها، فاهتاج اليها وندم على ردّها وجعل يدسّ اليها الى أن اجتمعت معه، وتمكّن حبّ كلّ واحد منهما من صاحبه، الى أن ذاكرته أمر الملك وأنها لا تأمن أن يتّصل به خبرهما وقالت: أنا أعمل الحيلة فى قتله وتكون أنت الملك وأكون لك ونأمن على أنفسنا. فمن شدّة ما عنده من حبّها حسّن لها ذلك، فسمّت الملك فى شرابه فمات لوقته وحمل الى الهرم. وملك بعده فرعان بن مسور وجلس على سرير الملك فلم ينازعه أحد، وفرح الناس بمكانته لشجاعته. وهو الذى كان الطوفان فى وقته. قال: ولمّا ملك علا فى الأرض وتجبّر واغتصب الناس أموالهم وأنفسهم ونساءهم، وعمل ما لم يعمله ملك قبله؛ وأسرف فى القتل وهابته الملوك وأقرّوا له. وهو الذى كتب الى الدرمسيل ملك بابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام. وذلك أن الدرمسيل بن محويل كتب الى الأقاليم يسألهم: هل يعرفون آلهة غير الأصنام؟ ويذكر قصّة نوح وأنه يريد تغيير ذلك، وأن له إلها غيرها، فكلّ أنكر ذلك. ولمّا أخذ نوح فى بناء السفينة كتب فرعان الى الدرمسيل يشير عليه بإحراقها، وكان عند أهل مصر خبر الطوفان ولكنهم لم يقدروا كثرته وطول مقامه على الأرض، فاتّخذوا السراديب تحت الأرض

ذكر خبر كهان مصر وحالهم مع الملوك

وصفّحوها بالزجاج وحبسوا فيها الرياح بتدبيرهم، واتخذ فرعان منها عدّة له ولأهل بيته. وكان فرعان قد أقصى الكهّان وباعدهم، وكانوا مع الملوك على خلاف ذلك. ولنصل هذا الخبر بخبر الكهّان وما كانوا عليه. ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك قال: وكهّان مصر أعظم الكهان علما، وأجلّهم فى الكهانة حديثا. وكان حكماء اليونان يصفونهم بذلك، ويشهدون لهم به ويقولون: أخبرنا حكماء مصر بذلك فاستفدناه منهم. وكانوا ينحون فى كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هى التى تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وهى التى علّمتهم أسرار الطبائع، ودلّتهم على العلوم المكنونة؛ فعملوا الطلّسمات المشهورة، والنواميس الجليلة، وولّدوا الولادات الناطقة، والصور المتحرّكة؛ وبنوا العالى من البنيان، وزبروا علومهم فى الصلب من الصّوّان، وانفردوا بعمل البرابى، ومنعوا بها الأعداء من بلدهم، وعجائبهم ظاهرة. وكان الذى يتعبّد منهم الكواكب السبعة المدبّرة، لكلّ كوكب سبع سنين، فإذا بلغ هذه الرتبة سمّى قاطرا «1» ، وكان يجلس مع الملك فى المرتبة ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام له. وكان من رسمهم فى كل يوم أن يدخل القاطر إلى الملك فيجلس إلى جانبه، ويدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصناعات فيقفوا حذاء القاطر، وكلّ واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعدّاه إلى سواه، ويسمّى عبد كوكب كذا، كما كانت العرب تسمّى عبد شمس، فيقول القاطر للكاهن: أين صاحبك؟ فيقول:

فى البرج الفلانى فى الدرجة الفلانية فى دقيقة كذا، ويسأل الآخر حتى إذا عرف مستقرّ الكواكب قال للملك: ينبغى لك أن تعمل اليوم كذا، وتضع بنيان كذا، وتوجّه جيشا إلى ناحية كذا، وتجامع فى وقت كذا، وتأكل فى وقت كذا، وجميع ما يراه صلاحا له فى أموره كلّها؛ والكاتب قائم يكتب جميع ما يقوله القاطر، ثم يلتفت إلى أهل الصناعات فيقول: انقش أنت صورة كذا على حجر كذا، واغرس أنت كذا، واصنع أنت كذا، حتى يمرّ على أهل الصناعات؛ فيخرجون إلى دار الحكمة ويضعون أيديهم فى تلك الأعمال، ويستعمل الملك جميع ما يأمره القاطر. ويشرح ذلك اليوم فى الصحيفة وتطوى وتودع فى خزانة الملك، فعلى ذلك كانت تجرى أمورهم. وكان الملك إذا نابه أمر جمعهم واصطفّ الناس لهم فى شارع المدينة، ثم يدخلون ركبانا يقدم بعضهم بعضا، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كلّ واحد منهم بأعجوبة: فمنهم من يعلو وجهه نور كنور الشمس فلا يقدر أحد على النظر إليه، ومنهم من يكون عليه بدنة «1» جوهر أخضر أو أحمر أو من ذهب منسوج. ومنهم من يدخل راكبا أسدا متوشّحا بحيّات عظام. ومنهم من تكون عليه قّبة من نور أو من جوهر فى صنوف من العجائب كثيرة. ويصنع كلّ واحد منهم ما يدلّه عليه كوكبه الذى يعبده؛ فإذا دخلوا على الملك قالوا: أرادنا الملك لأمر كذا وقد علمنا، أو أضمر الملك كذا والصواب فيه كذا. فكانوا مع ملوكهم على هذه الحال حتى ملك فرعان فأبعدهم. وكان فليمون «2» رئيس الكهّان، فرأى فيما يرى النائم كأنّ مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها، وكأنّ الأصنام

تهوى على رءوسها، وكأنّ ناسا ينزلون من السماء معهم مقامع «1» فيضربون الناس بها، وكأنه قد تعلّق بأحدهم وقال له: ما لكم تفعلون بالخلق هذا! أما ترحمونهم؟ فقال: لأنهم كفروا بإلهم. قال: أفما لهم من خلاص؟ قالوا: نعم، من أراد الخلاص فليلحق بصاحب السفينة، فانتبه وهو يخاطبه، فبقى مرعوبا مما رآه. وكان له امرأة وولدان ذكر وأنثى ومعه تلاميذه، فأجمع على أن يلحق بنوح عليه السلام، ثم نام أيضا فرأى كأنه فى روضة خضراء، وكأنّ فيها طيورا بيضاء تفوح منها رائحة طيّبة، وكأنه تعجّب من حسنها إذ تكلّم بعض الطيور فقال لأصحابه: سيروا بناننج المؤمنين. قال له فليمون: ومن هؤلاء المؤمنون؟ قال: أصحاب السفينة. فانتبه مرعوبا وأخبر أهله وتلاميذه بذلك ثم نام. فلمّا كان الغد أتى الملك فقال: إن رأى الملك أن ينفذنى إلى در مسيل لأعرف حال هذا الرجل الذى عمل السفينة فأشاهده وأناظره على ما جاء به من هذا الدّين الذى أظهره وأتبيّن حقيقة أمره فليفعل؛ فإنى أرجو أن يكون ذلك سببا لهلاكه ودفعه عما يدّعيه، فأعجب الملك ذلك منه وأذن له فى الخروج، فسار بأهله وولده وتلاميذه حتى انتهوا إلى أرض بابل وقصد نوحا وسأله أن يشرح له دينه ففعل ذلك، فآمن به وجميع من معه، فقال نوح عليه السلام: من أراد الله عزوجل به الخير لم يصدفه أحد عنه. فلم يزل فليمون مع نوح عليه السلام يخدمه هو وولده وتلاميذه إلى أن ركبوا السفينة. وأمّا فرعان الملك فإنه أقام منهمكا فى ضلاله وظلمه، مقبلا على لهوه، واستخفّ بالكهنة والهياكل، وضاقت الدنيا بأهلها، وكثر الهرج والظلم، وفسدت الزروع،

ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك

وأجدبت النواحى، وظلم الناس بعضهم بعضا، ولم يكن أحد ينكر ذلك عليهم، وسدّت الهياكل والبرابى، وطيّنت أبوابها، وجاءهم الطوفان وأقبل المطر عليهم، وكان فرعان سكران فلم يقم إلّا بخرير الماء، فوثب مبادرا يريد [الهرب «1» إلى] الهرم فتخلخلت الأرض به، وطلب الأبواب فخانته رجلاه وسقط على وجهه وجعل يخور كما يخور الثور، إلى أن أهلكه الله تعالى بالطوفان، ومن دخل الأسراب منهم هلك بغمّها، ولحق الماء من الأرض والأهرام إلى آخر التربيع، وهو ظاهر عليها إلى الآن، وانقرضت ملوك الدنيا أجمع بالطوفان ولم يسلم إلا أصحاب السفينة كما تقدّم. فعدّة من سمّى لنا من ملوك مصر قبل الطوفان على هذا السّياق تسعة عشر ملكا، ثم ملكها بعد الطوفان من نذكره. ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك قال إبراهيم بن القاسم الكاتب: قال إبراهيم بن وصيف شاه: أجمع أهل الأثر أنّ أوّل من ملك مصر بعد الطوفان مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وذلك بدعوة سبقت له من جدّه. وكان السبب فى ذلك أنّ فليمون الكاهن سأل نوحا عليه السلام أن يخلطه بأهله وولده وقال: يا نبىّ الله، إنى قصدتك رغبة فى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتصديقك يا نبىّ الله، وتركت وطنى وبلدى فاجعل لى رفعة وقدرا أذكر بهما من بعدى، فزوّج نوح عليه السلام بيصر بن حام بنت فليمون الكاهن فولدت له ولدا سمّاه فليمون مصريم «2» باسم بلده، فلمّا أراد نوح قسمة الأرض بين بنيه قال له فليمون: ابعث معى يا نبىّ الله ابنى حتى أمضى به إلى بلدى وأظهره على كنوزه وأوقفه على علومه ورموزه، فأنفذه معه فى جماعة من أهل بيته، وكان

غلاما مراهقا، فلمّا قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك فى الموضع مدينة وسمّاها درسان «1» ، أى باب الجنة؛ فزرعوا وغرسوا الأشجار والأجنّة من درسان الى البحر. [فصارت هناك «2» ] زروع وأجنّة وعمارة وكان الذين مع مصريم جبابرة؛ فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع وأقاموا فى أرغد عيش. ونكح مصريم امرأة من بنات الكهنة فولدت له ولدا سمّاه قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنة من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر، وهم: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا، وكثروا وعمّروا الأرض وبورك لهم فيها. وقيل: كان عدد من وصل مع مصريم ثلاثين نفرا فبنوا مدينة سمّوها مافه، ومعنى مافه ثلاثون بلغتهم، وهى منف؛ وكشف أصحاب فليمون عن كنوز مصر وعلّموهم خطّ البرابى، وأثاروا لهم المعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج والأسباد شم «3» وغير ذلك، ووصفوا لهم عمل الصنعة، فجعل الملك أمرها الى رجل من أهل بيته يقال له مقيطام، فكان يعمل الكيمياء فى الجبل الشرقىّ فسمّى به المقطّم، وعلّموهم أيضا عمل الطلّسمات. وكانت تخرج من البحر دوابّ تفسد زرعهم وأجنّتهم وبنيانهم فعملوا لها الطلّسمات فغابت ولم تعد. وبنوا على عبر البحر مدنا منها: رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا فى وسطها قبّة على أساطين من نحاس مذهب والقبّة مذهبة، ونصبوا فوقها مرآة من أخلاط شتّى قطرها خمسة أشبار؛ وكان ارتفاع القبّة مائة ذراع؛ فكانوا اذا قصدهم قاصد من الأمم التى حولهم، فإن كان مما يهمّهم أو من البحر عملوا لتلك المرآة عملا فألقت شعاعها على ذلك الشىء فأحرقته؛ فلم تزل على حالها الى أن غلب عليها

البحر فنسفها. وقيل: إن الإسكندر إنما عمل المنارة تشبّها بها. وقد ذكرنا خبر المنارة فيما تقدّم من كتابنا هذا «1» . وقال: لما حضرت مصريم الوفاة عهد الى ابنه قبطيم بن مصريم؛ فقسم قبطيم مصر بين بنيه الأربعة: فجعل لابنه قفطريم من قفط الى أسوان الى النّوبة، ولأشمون من أشمون الى منف، ولأتريب الحوف كلّه الى الشجرتين الى أيلة من الحجاز، ولصا من ناحية صا البحيرة الى قرب برقة؛ وقال لأخيه فارق: لك من برقة الى المغرب، فهو صاحب إفريقية. وولده الأفارق. وأمر كل واحد من بنيه أن يبنى لنفسه مدينة فى موضعه. وأمر مصريم عند موته أن يحفروا له فى الأرض سربا وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما فى خزائنه من الذهب والجوهر، ويزبروا عليه أسماء الله تعالى المانعة من أخذه. فخفروا له سربا طوله مائة وخمسون ذراعا، وجعلوا فى وسطه مجلسا مصفّحا بصفائح الذهب، وجعلوا له أربعة أبواب، على كل باب منها تمثال من ذهب عليه تاج مرصّع بالجوهر، جالس على كرسىّ من ذهب قوائمه من زبرجد، وزبروا فى صدر كل تمثال آيات عظاما مانعة، وجعلوا جسده فى جرن من المرمر مصفّح بالذهب وزبروا على مجلسه: مات مصريم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة عام مضت من أيام الطوفان، ومات ولم يعبد الأصنام، إذ لا هرم ولا سقام، ولا حزن ولا اهتمام، وحصنه بأسماء الله العظام، لا يصل اليه إلا ملك ولدته سبعة ملوك يدين بدين الملك الديّان، ويؤمن بالبعث والفرقان، الداعى الى الإيمان فى آخر الزمان. وجعلوا معه فى ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف

برنية [مملوءة «1» ] من الدرّ الفاخر والصّنعة الإلهية، والعقاقير البرّيّة، والطلّسمات العجيبة، وسبائك الذهب مكدّسة بعضها على بعض، وسقّفوا ذلك بالصخور العظام وهالوا فوقها الرمال [بين جبلين «2» ] . واستقلّ قبّطيم بالملك بعد أبيه. ويقال: إنّ قبط مصر منسوبون اليه. وهو أوّل من عمل العجائب وأثار المعادن، وشقّ الأنهار. ويقال: إنه لحق البلبلة «3» وخرج منهم بهذه اللغة القبطية، وعمل ما لم يعمله أبوه من نصب الأعلام والمنارات والعجائب والطلّسمات. وملكهم قبطيم [أربعمائة و «4» ] ثمانين سنة ومات؛ فاغتمّ عليه بنوه وأهله ودفن فى الشرق فى سرب تحت الجبل الكبير الداخل، وصفّحوه بالمرمر الملوّن وجعلت فيه منافذ للرّياح؛ فهى تتخرق فيه بدوىّ عظيم هائل، وجعل فيه من الكبريت الأحمر وأكر من نحاس مطليّة بأدوية مشعلة لاتطفأ، ولطّخوا جسده بالمرّ والكافور والموميا، وجعلوه فى جرن من ذهب فى ثياب منسوجة بالمرجان والدرّ، وكشفوا عن وجهه وجعلوه تحت قبّة ملوّنة، فى وسطها درّة معلّقة تضىء كالسراج، والقبّة على أعمدة بين كلّ عمودين تمثال فى يده أعجوبة، وجعلوا حول الجرن توابيت مملوءة جوهرا وذهبا وتماثيل وصنعة وغير ذلك، وحول ذلك مصاحف القبط والحكمة، وسدّوا عليه بالصخور والرّصاص وزبروا عليه كما زبروا على ناووس أبيه. وملك بعده ابنه قفطريم بن قبطيم؛ وكان أكبر ولد أبيه؛ وكان جبّارا عظيم الخلق، وهو الذى وضع أساسات الأهرام الدّهشوريّة وغيرها ليعمل منها كما عمل الأوّلون، وهو الذى بنى دندرة ومدينة الأصنام. ودندرة: بلد من بلاد إقليم قوص، وهى فى البرّ الغربىّ مشهورة هناك. قال: وأثار من المعادن ما لم يثره غيره،

وكان يجرّ من الذهب مثل حجر الرحى، ومن الزّبرجد كالأسطوانة، ومن الأسبادشم فى صحراء الغرب كالقلّة. وعمل من العجائب شيئا كثيرا. وبنى منارا عاليا على جبل قفط يرى من البحر الشرقىّ، ووجد هناك معدن زئبق فعمل منه بركة كبيرة، فيقال إنها هناك الى الآن؛ وأما المنار فسقط. وعمل عجائب كثيرة. ويقال: إنه بنى المدائن الداخلة وعمل فيها عجائب كثيرة، منها: الماء الملفوف القائم كالعمود لا ينحلّ ولا يذوب، والبركة التى تسمّى فلسطين، أى صيّادة الطير، إذا مرّ عليها الطير سقط فيها ولم يمكنه أن يبرح حتى يؤخذ. وعمل أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر إذا قربت الأسد والحيّات والأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر صفيرا عاليا فترجع تلك الدوابّ هاربة. وكان على أربعة أبواب هذه المدينة أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلّا ألقى عليه النوم والسّبات، فينام عندها ولا يستيقظ حتى يأتيه أهل المدينة وينفخون فى وجهه فيقوم، وإن لم يفعلوا ذلك لم يزل نائما عند الأصنام حتى يهلك. وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس، وعلى رأس المنارة صورة صنم من أخلاط كثيرة، وفى يده كالقوس كأنه يرمى عنها، فإن عاينه غريب وقف فى موضعه لم يبرح حتى ينجيه أهل المدينة. وكان ذلك الصنم يتوجّه إلى مهبّ الرياح الأربع من نفسه. قال وقيل: إن هذا الصنم على حالته إلى الآن، وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم أن تقع عين الإنسان عليه فلا يزال قائما حتى يتلف. قال: وكان بعض الملوك عمل على قلعه فما أمكنه، وهلك لذلك خلق كثير. ويقال: إنه عمل فى بعض المدن الداخلة مرآة من أخلاط ترى جميع ما يسأل الإنسان عنه وهى غربىّ البلد. قال: وعمل خلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة

ووكّل بها الروحانيّين الذين يمنعون منها؛ فما يستطيع أحد أن يدنو منها ولا يدخلها أو يعمل قرابين أولئك الروحانيين فيصل إليها حينئذ ويأخذ من كنوزها ما أحبّ من غير مشقّة ولا ضرر. قال: وأقام قفطريم ملكا أربعمائة سنة. وأكثر العجائب عملت فى وقته ووقت ابنه البودسير «1» . وكان الصعيد أكثر عجائب من أسفل الأرض. قال: وفى آخر أيام قفطريم هلكت عاد بالريح العقيم. ولمّا حضرت قفطريم الوفاة عمل له ناووس من الجبل الغربىّ قرب مدينة الكهنة، كان عمله لنفسه قبل موته فى سرب فى الجبل كهيئة الدار الواسعة وجعل دورها خزائن منقورة، وجعل فى سقوفها مسارب للرياح، وبنى ذلك بالمرمر، وجعل فى وسط الدار مجلسا على ثمانية أركان مصفحا بالزجاج الملوّن المسبوك، وجعل فى سقفه جواهر وحجارة تسرج، وجعل فى كل ركن من أركان المجلس تمثالا من الذهب بيده كالبوق، وجعل تحت القبّة دكّة مصفّحة بالذهب، وجعل لها حوافى زبرجد، وفرش فوق الدكّة فرش الحرير، وجعل عليها جسده بعد أن لطخ بالأدوية الممسكة، ومن جوانبه آلات الكافور المخروطة، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج ملكه، وعن جوانب الدكّة أربع تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك مثل صور النساء وألوانهن، بأيديهن كالمراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب سيف صاعقىّ قائمه من الزبرجد، وجعل فى تلك الخزائن: من الزبرجد وسبائك الذهب والتيجان والجواهر وبرانى الحكم وأصناف العقاقير والطّلّسمات، ومن المصاحف الحاوية لجميع العلوم، ما لا يحصى قدره كثرة؛ وجعل على باب المجلس ديك من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين مزبور عليه آيات عظام مانعة، وجعل على مدخل كل أزج صورتين من نحاس مشوّهتين بأيديهما

سيفان كالبرق، ووراءهما بلاطة تحتها لوالب فمن وطئها ضرباه بأسيافهما فقتلاه، وفى سقف كل أزج كرة عليها لطوخ مدبّر يسرج، وسدّ باب الأزج بالأساطين ورصّوا على سقفه البلاط العظام وردموا فوقها الرمال، وزبروا على باب الأزج: هذا الداخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم الشديد قفطريم ذى الأيد والفخر، والغلبة والقهر، أفل نجمه وبقى ذكره وعلمه، فلا يصل أحد اليه، ولا يقدر بحيلة عليه، وذلك بعد سبعمائة وسبعين، ودورات مضت من السنين. قال: ولمّا مات قفطريم ملك بعده ابنه البودسير بن قفطريم؛ فتجبّر وتكبّر وعمل بالسحر واحتجب عن العيون، وقد كان أعمامه أشمون وأتريب وصا ملوكا على أحيازهم إلّا أنه قهرهم بجبروته وقوّته، فكان الذكر له كما كان لأبيه. ويقال: إنه أرسل هرمس الكاهن المصرىّ إلى جبل القمر الذى يخرج النيل من تحته حتى عمل هناك هيكل التماثيل النحاس، وعدل إلى البطيحة التى ينصبّ اليها ماء النيل. ويقال: إنه الذى عدّل جانبى النيل وقد كان يفيض [فى مواضع وينقطع فى مواضع «1» ] ، وأمره البودسير أن يسير مغرّبا فينظر الى ما هناك، فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون كثيرة العشب، فبنى منائر ومتنزهات، وحوّل اليها جماعة من أهل بيته فعمروا تلك النواحى وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب كلها عمارة، وأقامت كذلك مدة كثيرة وخالطهم البربر فتناكحوا؛ ثم إنهم تحاسدوا وبغى بعضهم على بعض، وكانت بينهم حروب فخرب البلد وباد أهله إلا بقية منازل تسمّى الواحات هى موجودة الى وقتنا هذا. ويقال: إنه عمل عجائب كثيرة فى وقته، منها: قبّة لها أربعة أركان وفى كلّ ركن منها كوّة يخرج منها كالدخان الملتفّ فى ألوان شتّى [يستدلّون بكل

لون على شىء «1» ] ؛ فما خرج منه أخضر دلّ على العمارة وحسن النبات والزرع وصلاحه، وإن خرج الدخان أبيض دلّ على الجدب وقلّة الزكاء «2» ، وإن خرج أحمر دلّ على الدماء والحروب وقصد الأعداء، وإن كان أسود دلّ على كثرة الأمطار والمياه وفساد بعض الأرض بذلك، وإن كان أصفر دلّ على النيران وآفات تحدث فى الفلك، وما كان منها مختلطا دلّ على مظالم الناس وتعدّى بعضهم على بعض وإهمال ملوكهم لهم، وأشياء من هذا الضرب. وكانت هذه القبّة على منار أقام زمنا طويلا ثم هدمه بعض الملوك البربر؛ لأنه أراد غزو قوم بتلك الناحية فعلموا بحاله فانتقلوا عن ذلك الموضع الى قرب النيل فلمّا جاء ولم يجدهم هدمه. ومما عمل له فى الصحراء التى تقرب منه- وكانت الوحش قد كثرت وأفسدت عليهم زرعهم وكذلك خنازير الماء- شجرة من نحاس عليها أمثال تلك الوحوش ملجمة أفواهها بخيوط من نحاس، فما يجوز بها من الوحش لا يستطيع الحراك ولا البراح من عندها حتى يؤخذ قبضا ويقتل؛ فأشبع الناس فى لحوم تلك الوحوش وانتفعوا بجلودها زمانا طويلا إلى أن انتزعها بعض ملوك الغرب سرّا من أهل مصر وقدّر أن ينصبها فى بلدهم فتعمل له مثل ذلك، فلمّا عملها بطلت؛ لأنهم كانوا يعملون ما يعملون بطالع يأخذونه له، فلا يزال عمله مستقيما إلى أن تغيّر عن مكانه فبطل عمله. ومما عمل فى وقته أنّ غرابا نقر عين صبىّ من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل شجرة من نحاس عليها تمثال غراب من نحاس فى منقاره حربة بادية الطرفين. منشور الجناحين، وكتب على ظهره كتابا؛ فكانت الغربان تقع على تلك الشجرة

ولا تبرح حتى تؤخذ فتقتل، ففنى أكثر الغربان وزالت عن تلك الناحية إلى ناحية الشام. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن أصاب بعض ملوكهم علّة ووصف له فيها لحم غراب يطبخه ويأكله ويشرب من مرقه فلم يوجد، فوجّه الى آخر العمل الذى بمصر من ناحية الشام من يأتيه بغراب فأبطأ عليه، فأمر بنزع الشجرة فرجع الغربان وأخذ منها ما عولج به الملك قبل أن يرجع رسوله. ومما عمل فى وقته- وكانت الرمال قد كثرت عليهم من ناحية الغرب حتى ظهرت على زروعهم- فعمل لذلك صنما من صوّان أسود على قاعدة منه وعلى كتفه شبه القفّة فيها كالمسحاة، ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه حروفا، وأقامه الكاهن بطالع أخذه له ووجهه إلى الغرب؛ فانكشفت تلك الرمال ورجعت إلى ورائها. فتلك الأكداس العالية فى صحراء الغرب منها. ولم تزل الرمال تندفع عنهم إلى أن زال ذلك الصنم عن موضعه. قال: وأقام البودسير مدّة واحتجب عن الناس، وكان يتجلّى لهم فى صورة وجه عظيم، وربما خاطبهم ولا يرونه، ثم غبر «1» مدّة وهم فى طاعته إلى أن رآه ابنه عديم وهو يأمره بالجلوس على سرير الملك. فجلس عديم «2» بن البودسير على الملك وكان جبارا لا يطاق، عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ليعمل هرما كما عمل الأوّلون. قال: وكان فى وقته الملكان اللذان

ذكر خبر هاروت وماروت

هبطا من السماء، وكانا فى بئر يقال لها أفناوه، وكانا يعلّمان أهل مصر السحر. ويقال: إن عديم استكثر من علمهما ثم نقلا إلى بابل. قال: وأهل مصر من القبط يقولون إنهما شيطانان يقال لهما: مهلة ومهالة، وليس هما الملكين. والملكان ببابل فى بئر هناك يغشاها السحرة إلى يوم الساعة. ولنصل هذا الفصل بخبر هاروت وماروت وإن لم يكن منه؛ وإنما الشئ بالشئ يذكر. والله أعلم. ذكر خبر هاروت وماروت قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ «1» ) الآية. قال أبو إسحاق الثعلبىّ فى تفسيره: وكانت قصّتهما- على ما ذكره ابن عباس رضى الله عنه والمفسّرون- أنّ الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بنى آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة؛ وذلك فى زمن إدريس عليه السلام فيعيّرونهم بذلك، ودعت عليهم الملائكة وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم فى الأرض واخترتهم فهم يعصونك؛ فقال الله عزّوجل لهم: لو أنزلتكم إلى الأرض وركّبت فيكم ما ركّبت فيهم لركبتم ما ارتكبوا؛ فقالوا: سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نعصيك؛ قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم. قال: وقال الكلبىّ: قال الله لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عزّا وهو هاروت، وعزايا وهو ماروت، وغيّر اسمهما لمّا قارفا الذنب، وعزاييل؛ فركّب الله فيهم الشهوة التى ركّبها فى بنى آدم وأهبطهم إلى الأرض، وأمرهم أن يحكموا

بين الناس بالحق، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير حق، ونهاهم عن الزنا وشرب الخمر. فأما عزاييل فإنه لمّا وقعت الشهوة فى قلبه استقال ربّه وسأله أن يرفعه إلى السماء فأقاله ورفعه، فسجد أربعين سنة ثم رفع رأسه. ولم يزل بعد ذلك مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى. وأما الآخران فإنهما بقيا على ذلك، وكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء. قال قتادة: فما مرّ عليهما أشهر حتى افتتنا. قال الثعلبىّ: قالوا جميعا: وذلك أنه اختصم اليهما ذات يوم الزّهرة، وكانت من أجمل النساء. قال علىّ رضى الله عنه: كانت من أهل فارس، وكانت ملكة فى بلدها، فلمّا رأياها أخذت بقلوبهما، فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت، ثم عادت فى اليوم الثانى ففعلا مثل ذلك، فأبت وقالت: لا! إلا تعبدا ما أعبد، وتصلّيا لهذا الصنم، وتقتلا النفس، وتشربا الخمر. فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء؛ فإن الله عزوجل نهانا عنها، فانصرفت؛ ثم عادت فى اليوم الثالث ومعها قدح من خمرو فى أنفسهم من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر؛ فشربا فانتشيا ووقعا بالمرأة وزنيا، فلمّا فرغا رآهما إنسان فقتلاه. قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم فمسخ الله عزوجل الزّهرة كوكبا. وقال علىّ بن أبى طالب والسدّى والكلبىّ رضى الله عنهم: إنها قالت لهما: لن تدركانى حتى تخبرانى بالذى تصعدان به إلى السماء. فقالا: باسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما بمدركانى حتى تعلّمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علّمها! قال: إنى أخاف الله. قال الآخر: فأين رحمة الله! فعلّماها ذلك. فتكلّمت به وصعدت

إلى السماء. فمسخها الله تعالى كوكبا. فعلى قول هؤلاء هى الزّهرة بعينها، وقيّدوها فقالوا: هى هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسية «ناهيد» ، وبالنبطية «بيدخت» . قال: ويدلّ على صحة هذا القول ما رواه الثعلبىّ بسنده إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلا قال: «لعن الله سهيلا إنه كان عشّارا «1» باليمن ولعن الله الزّهرة فإنها فتنت ملكين» . وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما ذات ليلة فقال لى: ارمق الكوكبة فإذا طلعت فأيقظنى، فلمّا طلعت أيقظته، فجعل ينظر إليها ويسبّها سبّا شديدا، فقلت: رحمك الله تسبّ نجما سامعا مطيعا لله؟ ما له يسبّ! فقال: إن هذه كانت بغيّا فلقى الملكان منها ما لقيا. وقال نافع: كان ابن عمر رضى الله عنهما إذا رأى الزّهرة قال: لا مرحبا بها ولا أهلا. وروى أبو عثمان النهدى عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن المرأة التى فتن بها الملكان مسخت، فهى هذه الكوكبة الحمراء، يعنى الزّهرة. قال الثعلبىّ: وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا: إن الزهرة من الكواكب «2» السبعة السيّارة التى جعلها الله قواما للعالم، وإنما كانت هذه التى فتنت هاروت وماروت امرأة، كانت تسمّى زهرة من جمالها، فلمّا بغت جعلها الله تعالى شهابا،

فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذلك سهيل العشّار. والله أعلم. قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حلّ بهما فقصدا إدريس عليه السلام فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عزوجل ففعل ذلك، فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذّبان. واختلف العلماء فى كيفيّة عذابهما فقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: هما معلّقان بشعورهما إلى قيام الساعة. وقال قتادة: كبّلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما. وقال مجاهد: إن جبّا ملئ نارا فجعلا فيه. قال حصيف: معلّقان منكّسان فى السلاسل. وقال عمير بن سعد: منكوسان يضربان بسياط الحديد. وروى أنّ رجلا أراد تعلم السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلّقين بأرجلهما، مزرقّة أعينهما، مسودّة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع، وهما يعذّبان بالعطش، فلمّا رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله إلا الله، وقد نهى عن ذكر الله هناك. فلمّا سمعا كلامه قالا: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالا: من أىّ أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قالا: وقد بعث؟ قال نعم. قالا: الحمد لله! وقد أظهرا الاستبشار. فقال الرجل: وممّ استبشاركما؟ قالا: إنه نبىّ الساعة. وقد دنا انقضاء عذابنا.

قال: وأمّا كيفية تعلّم السحر، فقد روى فيه خبر جامع، وهو ما رواه أبو إسحاق بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: قدمت علىّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته تسأله عن شىء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به؛ قالت عائشة رضى الله عنها لعروة: يابن أختى، فرأيتها تبكى حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تبكى حتى إنى لأرحمها! تقول: إنى أخاف أن أكون قد هلكت؛ قالت: كان لى زوج فغاب عنّى فدخلت علىّ عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فلعلّه يأتيك، فلمّا كان الليل جاءتنى بكبشين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كثير حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السحر، قالا: إنما نحن فتنة فلا تكفرى وارجعى، فأبيت فقلت: لا، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما فقالا: فعلت؟ قلت نعم، قالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أرشيئا، فقالا: لم تفعلى، إرجعى إلى بلادك فلا تكفرى، قالت: فأبيت، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت فاقشعرّ جلدى فرجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: هل رأيت شيئا؟ فقلت: لم أرشيئا، فقالا: كذبت لم تفعلى، إرجعى إلى بلادك فلا تكفرى فإنك على رأس أمرك؛ قالت: فأبيت، فقالا: إذهبى إلى ذلك التنّور فبولى فيه، فذهبت إليه فبلت فرأيت فارسا مقنّعا بحديد خرج منّى حتى ذهب فى السماء وغاب عنّى حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت؛ قالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنّعا بالحديد خرج منّى حتى ذهب فى السماء حتى ما أراه، قالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك؛ اذهبى. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا، وما قالا لى شيئا. فقالت: لن تريدى شيئا إلا كان؛ خذى هذا القمح فابذرى،

ولنرجع إلى أخبار عديم بن البودسير الملك.

فبذرت، قلت: أطلعى، فأطلعت «1» ، فقلت، أحقلى، فأحقلت «2» ، ثم قلت: أفركى «3» ، فأفركت، ثم قلت: أطحنى، فأطحنت، ثم قلت: أخبزى، فأخبزت. فلما رأيت أنى لا أريد شيئا إلا كان، سقط فى يدى وندمت. والله يا أمّ المؤمنين ما فعلت شيئا قطّ، ولا أفعله أبدا. قال: وقال بعضهم: إنهما لا يتعمّدان تعليم السحر ولكنهما يصفانه ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، فيتعلّم الشقىّ منهما فى خلال صفتهما ويترك موعظتهما ونصيحتهما، فلا يكون على هذا التأويل كفرا وإنما يكون العمل به كفرا. وقد أنكر بعضهم أن يكونا ملكين قال: وإنما كانا ملكين. وقرئ فى الشواذّ: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) (بكسر اللام) . وقيل: كانا علجين ببابل «4» . حكاه القاضى عياض فى كتاب الشفا «5» . والله تعالى أعلم. ولنرجع إلى أخبار عديم بن البودسير الملك. قال: وعديم أوّل من صلب «6» ؛ وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات، وكان لها زوج من أصحابه، فأمر

بصلبهما على منارتين، وجعل ظهر كلّ منهما إلى ظهر صاحبه، وزبر على المنارتين اسمهما وما فعلاه وتاريخ الوقت الذى عمل ذلك بهما فيه، فانتهى الناس عن الزنا. قال: وبنى أربع مدائن وأودعها صنوفا كثيرة من عجائب الأعمال والطّلّسمات وغير ذلك، وكنز فيها كنوزا كثيرة. وعمل فى الشرق منارا وأقام على رأسه صنما «1» موجّها إلى الشرق، مادّا يديه يمنع دوابّ البحر والرمال أن تتجاوز حدّه، وزبر فى صدره تاريخ الوقت الذى نصبه فيه؛ ويقال: إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا؛ ولو لاه لغلب الماء المالح من البحر الشرقىّ على أرض مصر. وعمل قنطرة على النيل فى أوّل بلاد النوبة ونصب عليها أربعة أصنام موجّهة [إلى أربع جهات الدنيا «2» ] فى يدى كل صنم جرس يضرب به إذا أتاهم آت من تلك الناحية؛ فلم تزل بحالها إلى أن هدمها فرعون موسى. وهو الذى عمل البربا على باب النوبة، ويقال: إنه عمل فى إحدى المدائن الأربع التى ذكرناها حوضا من صوّان أسود مملوءا ماء لا ينقص على طول الدهر ولا يتغيّر؛ وكان أهل تلك الناحية يشربون منه ولا ينقص ماؤه؛ وإنما عمل ذلك لبعدهم عن النيل وقربهم من البحر لمالح. وقد ذكر بعض كهنة القبط أن ذلك لقربهم من البحر المالح، لأن الشمس فيما ذكروا ترفع بحرّها بخارا فيحصل من ذلك البخار حرّ بالهندسة، وقيل بالسحر. وملكهم عديم مائة سنة وأربعين سنة، ومات وهو ابن سبعمائة سنة وثلاثين سنة. وقيل: إنه دفن فى إحدى المدائن ذات العجائب فى أزج من رخام ملوّن بزرقة، مبطّن برخام أصفر، وطلى جسده بما يمسكه، وجعل حوله كثير من ذخائره، وذلك وسط المدينة، فهى محروسة بما يمنع منها من الروحانيّين.

قال: وذكر بعض القبط أنّ عديما هذا عمل لنفسه فى صحراء قفط على وجه الأرض قبّة عظيمة من زجاج أخضر برّاق، معقودة على ثمانية آزاج من صنفها، على رأسها أكرة من ذهب، عليها طائر من ذهب، متوشّح بجوهر، منشور الجناحين، يمنع من الدخول إليها، وقطرها مائة ذراع فى مثلها، وجعل جسده فى وسطها على سرير من ذهب مشبّك وهو مكشوف الوجه، وعليه ثياب منسوجة بذهب مغروزة بجوهر منظوم؛ والآزاج مفتحة، طول كل أزج ثمانية أذرع، وارتفاع القبّة أربعون ذراعا تلقى الشعاع على ما حولها من الأرض، وجعل حوله فى القبّة مائة وسبعون مصحفا من مصاحف الحكمة، وسبع موائد عليها أوانيها، منها: مائدة من أدرك رمّانىّ أحمر وآنيتها منها. ومائدة من ذهب فيلمونى «1» يخطف البصر، وهو من الذهب الذى تعمل منه تيجان الحكماء، وآنيتها منها. ومائدة من حجر الشمس المضئ بآنيتها. ومائدة من الزبرجد المخروط الذى يخالطه شعاع أصفر بآنيتها، قال: وهذا الزبرجد إذا نظرت إليه الأفاعى سالت عيونها. ومائدة من كبريت أحمر ومدبّر بآنيتها. ومائدة من ملح مدبّر برّاق يكاد نوره يخطف الأبصار بآنيتها. ومائدة من زئبق معقود وقوائمها وحافاتها من زئبق أصفر معقود مضىء، وعليها آنية من زئبق أحمر معقود. وجعل فى القبّة جواهر كثيرة ملوّنة وبرانىّ صنعة مدبّرة، وجعل حوله سبعة أسياف صاعقية وكاهنية وأتراس من حديد أبيض مدبّر، وجعل معه تماثيل أفراس من ذهب، [عليها سروج من ذهب «2» ] وسبعة توابيت من الدنانير التى ضربها وصوّر عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقاقير والسمومات والأدوية فى برانىّ الحنتم «3» ، ومن أصناف الأحجار شىء كثير.

قال: وقد ذكر من رأى تلك القبة وأقاموا عليها أياما فما قدروا على الوصول إليها، وأنهم إذا قصدوها وكانوا منها على مقدار ثمانية أذرع دارت القبّة عن أيمانهم وشمائلهم وقد عاينوا ما فيها. ومن أعجب ما ذكروا أنهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا أزجا فلا يرون غير الصورة التى يرونها من الأزج الآخر على معنى واحد. وذكروا أنهم رأوا وجهه فى قدر ذراع ونصف بالذراع الكبير، ولحيته كبيرة مكشوفة، وقدّروا طول بدنه عشرة أذرع وزيادة، وأنهم لمّا تهيأ أن يصلوا إليها فنى ماؤهم وخافوا على أنفسهم فرجعوا ليمتاروا ما يكفيهم من الزاد ففعلوا، ثم رجعوا فأقاموا أياما يطوفون تلك الصحراء، ثم أخبروا أنهم رأوا بها عجائب كثيرة وصنوفا من الوحش لم يروا مثلها. قال: وفى كتبهم أنهم لا يصلون إليها إلا بأن يذبح لها ديك أفرق ويبخّر بريشه من بعد، ثم يسأل من المرّيخ الوصول حتى يصل، وتكون الكواكب النيّرة على مثل ما كانت عليه وقت نصبها من اجتماعها فى البروج: يكون زحل والمشترى والمرّيخ فى برج واحد، والشمس والقمر فى برج واحد، والزّهرة وعطارد فى برج واحد، ويتكلّم عليها بصلاة الكهنة سبع مرّات، فإذا وصل إليها لطّخ حائطها بدم الديك الذى قرّبه لها ويأخذ ما شاء من المال والتماثيل ولا يكثر المقام فيها ولا يقيم غير ساعة واحدة. قال: وذكر هؤلاء الذين رأوها أنهم لم يكونوا من تلك الناحية وإنما خرجوا يطلبون غيرها؛ فإنهم سألوا أهل قفط عنها فلم يجدوا من يعرفها ولا رآها غير رجل شيخ منهم، فإنه ذكر أن ابناله خرج فى بعض الأمور ومعه جمل له فرآها ولم يصل إليها، وبحث عن أمرها فعرف أن قوما من الشرق جاءوا فى طلبها وأنهم أقاموا يطوفون بقفط أياما وخرجوا إليها فما رجع أحد منهم ولا عرف لهم خبر.

قال: وكان عديم قد أوصى إلى ابنه شدّاث عند موته أن ينصب فى كل حيّز من أحياز عمومته منارا ويزبر عليه اسمه، فانحدر إلى الأشمونين فعمل منارا وزبر عليه اسمه وعمل بها ملاعب، وعمل فى صحرائها منارا وأقام عليه صنما ذا رأسين باسم كوكبين كانا مقترنين فى الوقت «1» . وخرج إلى أتريب وبنى فيها قبّة عظيمة مرتفعة «2» على عمد وأساطين بعضها فوق بعض، وجعل على رأسها صنما صغيرا من ذهب، وعمل هيكلا للكواكب. وكان أبوه البودسير أوّل من أقام للكواكب فأخذ ذلك عنه. ومضى إلى حيّز صا فعمل فيه منارا على رأسه مرآة من أخلاط تورى الأقاليم، ورجع إلى أبيه فعهد له بالملك. فملك شدّاث «3» بن عديم وهو الذى بنى الأهرام الدهشوريّة من الحجارة التى قطعت فى زمان أبيه. قال: من أنكر أن يكون العاديّة دخلوا مصر إنما غلطوا باسم شدّاث بن عديم فقالوا شدّاد بن عاد لأنه أكثر ما يجرى على ألسنتهم، وقلة ما يجرى على ألسنتهم شدّاث بن عديم؛ وإلا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر ولا قوى على أهلها غير بخت نصّر. وشدّاث الذى عمل مصاحف النار نجيّات «4» ، وعمل هيكل أرمنت «5» وأقام فيه أصناما بأسماء «6» الكواكب من ذهب وفضة وحديد أبيض ونحاس

مذهب ورصاص مصفّى وزئبق معقود. وهذه الأجساد المعدنيّة فى طباع الكواكب وفى قسمتها. فلما فرغ منه زيّنه بأحسن زينة ونقشه بأحسن النقوش من الجواهر الملوّنة والزجاج المعمول الملوّن وكساه الوشى والديباج ولم يترك شيئا من التحف إلا عمله، وكذلك عمل فى المدن الداخلة من أنصنا «1» هيكلا، والقبّة التى أقامها بأتريب «2» وهيكلا شرقىّ الإسكندرية، وأقام لزحل صنما من صوّان أسود على عبر النيل من الجانب الغربىّ. وبنى شدّاث من الجانب الشرقىّ مدائن وجعل فيها صورة صنم قائم له إحليل إذا أتاه المعقود والمسحور ومن لا ينتشر فمسّه بكلتا يديه أزال عنه ذلك وانتشر وقوى على الباه، وجعل فى إحداها بقرة لها ضرعان كبيران إذا مسحتهما المرأة التى انعقد لبنها درّ وصلح أمرها. وفى أيامه بنيت قوص «3» العالية، بناها لابن له كان سخط على أمّه فحوّلها إليها وأسكن معها قوما من أهل الحكمة وأهل الصناعات. وقيل: إن شطب «4» بنيت فى أيامه؛ وعمل الصورتين الملتصقتين لكثرة النسل. وكانت الحبش والسودان عاثوا فى بلده فأخرج لهم ابنه منقاوش فى جيش عظيم فقتل منهم وسبى واستعبد الذين سباهم وصار ذلك سنّة لهم، واقتطع معدن الذهب من أرضهم وأقام ذلك

السبى يعملون فيه ويحملون الذهب إليه؛ وهو أوّل من أحبّ الصيد واتخذ الجوارح، وولّد الكلاب السلوقيّة من الذئاب والكلاب الأهلية، وعمل البيطرة وما تعالج به الدوابّ، وعمل من العجائب والطلّسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة، وجمع التماسيح، بطلّسم عمله لها، إلى بركة بناحية أسيوط فكانت تنصبّ إليها من النيل انصبابا فتقتلها، وتستعمل جلودها فى السفن وغيرها، وتستعمل لحومها فى الأدوية والعقاقير المؤلّفة. قال: وبعض القبط يحكى أنه عمل بمصر اثنتى عشرة ألف أعجوبة وطلّسما، ولم يعمل فى بلد كما عمل فيها ولا تهيّأ لأهله ما تهيّأ لهم من ذلك. قال: وأقام شدّاث فى الملك تسعين سنة وخرج يطرد «1» فأكبّ فرسه فى وهدة فقتله. وفى بعض كتبهم: أنه أخذ بعض خدمه، وقد خالفه فى أمر من الأمور، فأمر بطرحه من أعلى الجبل إلى أسفل فطرح فتقطّع جسده، وندم على فعله ذلك فرأى فى منامه أنه سيصيبه مثل ذلك فكان يتوقّاه، وآلى على نفسه ألا يعلو جبلا، وأوصى إن أصابه شىء أن يجعل ناووسه فى الموضع الذى يلحقه فيه ما يلحقه، ويزبر عليه: ليس ينبغى لذى القدرة أن يخرج عن الواجب ويفعل ما لا يجوز له فعله، وهذا ناووس شدّاث بن عديم بن قفطريم الملك، عمل ما لا يحلّ له فكوفئ عليه بمثله. قال: ولمّا هلك عمل له سرب فى سفح الجبل فيه قبّة على مجلس قد صفّح بالفضّة وجعل فيه على سرير ملكه، وجعل معه من الأموال والجواهر والتماثيل وأصناف الحكم والمصاحف شىء كثير. وكان له أربعمائة وأربعون سنة. وملك بعده ابنه منقاوش «2» بن شدّاث؛ فملك بحزم وحنكة وأظهر مصاحف الحكم وأمر بالنظر فيها، وأن ينسخ منها لهم بخطّ العامّة ليفهموها، وردّ الكهنة إلى

مراتبهم. وهو أوّل من عمل له الحمّام من ملوك مصر. وكان كثير النكاح؛ تزوّج عدّة نساء من بنات عمه وبنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا بجميع ما يصلحه من البنيان العجيب والصور المتقنة والغروس الحسنة والآلات العجيبة، وأسكنهنّ فيها. وقد قال بعض أهل الأثر: إنه الذى بنى منف لبناته وكنّ ثلاثين بنتا ونقلهنّ إليها، وعمل مدنا غيرها ومصانع، وعمل هيكلا لصور الكواكب وأصنامها على ثمانية فراسخ من منف، وعمل بتلك الناحية طلّسمات كثيرة وعجائب أغرب فيها بفضل حكمة أبيه وجدّه، وعمل فى السنة اثنى عشر عيدا لكل شهر عيد يعمل فيه من الأعمال ما كان موافقا لبرج ذلك الشهر؛ وكان يطعم الناس فى تلك الأعياد ويوسّع عليهم، ففرح الناس به ورأوا معه ما لم يروه مع غيره، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح على أحد، وألزم أصحاب الكيمياء العمل فكانوا لا يفترون ليلا ولا نهارا؛ فاجتمع عنده أموال عظيمة وجوهر كثير وزجاج نفيس مسبوك وغير ذلك، فأحبّ كنزه فدعا أخاله فقال له: قد ترى كثرة هذا الذهب والجوهر، وما عمل من هذه التماثيل الكثيرة، ولست آمن أن يتسامع بنا الملوك فيغزونا من أجله، فأمعن فى أرض الغرب ثم انظر مكانا حريزا خفىّ الأثر ثم أحرزه فيه ثم استره بعلامات واكتب صفة المكان وطريقه وعلامته. قال: ويقول أهل الأثر: إنه حمل معه اثنتى عشرة ألف عجلة، منها من الجوهر ثلاثمائة عجلة، وسائرها من الذهب الإبريز الصفائح والمضروب، ومن آلات الملوك وطرائفهم وسلاحهم وأوانيهم؛ فسار فى الجنوب يوما ثم أخذ مغرّبا اليوم الثانى وبعض الثالث، فانتهى إلى جبل أسود منيف ليس له مصعد بين جبال مستديرة حوله، فعمل تحت ذلك الجبل أسرابا ومغاور ودفن فيها ما كان معه وردمها وزبر عليها ورجع؛ فمكث أربع سنين يبعث كل سنة عجلا عظيمة تدفن فى نواح شتّى.

وهو الذى عمل فى أنديمس المدينة بيتا تدور به تماثيل لجميع العلل، وكتب على رأس كل تمثال ما يصلح له من العلاج، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك ضنّا بالحكمة. وعمل فى هذه المدينة صورة امرأة مبتسمة لا يراها مهموم إلا زال همّه ونسيه؛ وكان الناس يأتونها ويطوفون حولها ثم عبدوها من بعد. وعمل تمثالا روحانيّا من صفر مذهب بجناحين لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده، وكان الناس يمتحنون به فامتنعوا من الزنا فرقا منه، واستمرّ كذلك إلى زمن كلكمن الملك؛ وذلك أن بعض نسائه، وكانت حظية عنده، عشقت رجلا من خدم الملك وخافت أن ينتهى إليه خبرها فيمتحنها بذلك الصنم فيقتلها، فاحتالت لذلك فخلا بها الملك فى بعض الليال، وهما يشربان، فأخذت فى ذكر الزوانى وجعلت تسبهنّ وتذمهنّ، فذكر الملك ذلك الصنم وما فيه من المنافع للناس، وما يستحقّ من عمله من الثناء والذكر الجميل؛ فقالت المرأة: إنه كذلك وقد صدق الملك، غير أن منقاوش لم يصب الرأى فى أمره؛ قال الملك: وكيف قلت ذلك؟ قالت: لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لصلاح العامّة دون نفسه، وهذا أكبر العجز؛ وإنما كان حكم هذا التمثال أن ينصب فى دار الملك حيث تكون نساؤه وجواريه، فإن اقترفت إحداهنّ ذنبا علم بها فيكون رادعا لهنّ متى عرض بقلوبهنّ شىء من الشهوة؛ لأن شهواتهنّ أغلب وأكثر من شهوات الرجال؛ ولو حدث- وأعوذ بسعد الله الأعلى- فى دار الملك شىء من هذا فأحبّ امتحانه فضح نفسه وشاع فى الخاصّ والعامّ أمره، وإن عاقب بغير أمر يتحققه كان متعدّيا آثما، وإن لم يمتحنه صبر على المكروه. قال الملك: صدقت، فكيف الوجه فى هذا الأمر؟ قالت: يأمر الملك بنزع هذا الصنم من مكانه ونقله إلى داره ففعل فبطل عمله، وامتحن فلم يصنع شيئا، فعملت المرأة ما كانت همت به وانهمكت فيه.

قال: ويقال: إن منقاوش بنى هيكلا للسحرة على جبل القصير وقدّم عليه رجلا منهم يقال له مسّيس، فكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب المقلعة إلّا بضريبة يأخذونها منهم للملك. وكان الملك إذا ركب عملوا بين يديه التخاييل «1» العجيبة، فيجتمع الناس إليهم ويعجبون من أعمالهم، وأمر أن يبنى لهم هيكل للعبادة يكون لهم خصوصا، وجعل فيه قبّة فيها صورة الشمس والكواكب، وجعل حولها أصناما وعجائب، وكان الملك يركب إليه ويقيم سبعة أيام، وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذى عمل فيه، وهما بعين شمس، ونقل منقاوش إلى عين شمس كنوزا وجواهر وطلّسمات وعقاقير وعجائب ودفنها بها وبنواحيها. قال: وكان منقاوش قسم خراج البلاد أرباعا: فربع منه للملك خاصة يعمل منه ما يريد، وربع لأرزاق خدمه، وربع ينفق فى مصالح الأرض وما يحتاج إليه من حفر ترعها وعمل جسورها وتقوية أهلها على العمارة، وربع يدفن لحادثة تحدث وحاجة تنزل. وكان خراج البلد فى ذلك الوقت مائة ألف ألف وثلاثة آلاف دينار. وهو مقسوم على مائة وثلاث كور بعدّة الآلاف. وأقام ملكا إحدى وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل: من سمّ جعل له فى طعامه، وعمل له ناووس فى صحراء المغرب، وقيل: فى غربىّ قوص؛ ودفن معه من مصاحف الحكمة والصنعة المعمولة وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شىء كثير، ودفن معه روحانىّ الشمس من ذهب يلمع، وله جناحان من زبرجد، وصنم على صورة امرأته التى كانت أحظى نسائه عنده وكان يحبّها، فأمر أن تعمل صورتها

فى هياكلهم جميعا، فعمل له تمثالها من ذهب بذؤابتين من ذهب أسود، وألبست حلّة من جواهر منظومة وجعلت جالسة على كرسىّ، فكانت تجعل بين يديه فى موضع تجلس فيه يتسلّى بذلك عنها، فدفنت معه عند رجليه. وملك بعده ابنه مناوش بن منقاوش؛ ملك بوصيّة من أبيه، فطلب الحكمة على عادة أبيه واستخرج كتبها وأكرم أهلها، وبذل فيهم الجوائز وطلب الإغراب فى عمل العجائب، وكان كل واحد من ملوكهم يجهد جهده فى أن تعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله وتثبت فى كتبهم وتزبر على الحجارة فى تواريخهم. قال: ومناوش هذا أوّل من عبد البقر من أهل مصر، وكان السبب فى ذلك أنه اعتلّ علّة يئس منه فيها، وأنه رأى فى منامه صورة روحانىّ عظيم يخاطبه ويقول له: إنك لا يخرجك من علّتك إلا عبادة البقر لأن الطالع كان وقت حلولها بك فى صورة ثور بقرنين؛ ففعل ذلك، وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة، وعمل له مجلسا فى قصره وسقفه بقبّة مذهبة، فكان يبخّره ويطيّب موضعه، ووكّل به سادنا يقوم به ويكنس تحته، وكان يتعبّد له سرّا من أهل مملكته، فبرأ من علّته وعاد إلى أحسن أحواله. ويقال: إنه أوّل من عمل العجل وضبّبها بالذهب، وعمل فيها قبابا من الخشب المذهبة وفرشت بأحسن الفرش، وكان يركب عليها مع من أحبّ. وقيل: إنه عمل له ذلك فى علّته لأنه كان لا يقدر على الركوب؛ وكانت البقر تجرّه فإذا مرّ بالمكان النزه أقام فيه، وإن مرّ بالمكان الخراب أمر بعمارته. وقيل: إنه نظر إلى ثور أبلق من البقر الذى يجرّ عجلته فأعجبه حسن بشرته فأمر بترفيهه وسوقه بين يديه إلى كل موضع يسلكه إعجابا به، وجعل عليه جلّا من الدّيباج المنسوج بالذهب، فلما كان فى بعض الأيام- وقد خلا فى موضع منفرد عن أتباعه والثور قائم بين يديه-

إذ خاطبه الثور وقال: لو رفّهنى الملك عن السير معه وجعلنى فى الهيكل وعبدنى وأمر أهل مملكته بعبادتى كفيته جميع ما يريده، وعاونته على أمره، وقوّيته فى ملكه، وأزلت عنه جميع علله؛ فارتاع لذلك وأمر بالثور أن يغسل ويطيّب وينظّف ويدخل الهيكل، وأمر بعبادته. وعبد ذلك الثور مدّة وصارت فيه آية أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلّا أطراف ورق القصب الأخضر فى كل شهر مرّتين، فافتتن الناس به وصار ذلك أصلا لعبادة البقر. قال: وابتنى مناوش مواضع وكنز فيها كنوزا وأقام أعلاما. وبنى فى صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارا ودفن حولها كنوزا. قال: ويقال: إن هذه المدينة قائمة، وإن قوما جازوا بها من نواحى الغرب وقد أضلّوا الطريق فسمعوا بها عزيف الجنّ ورأوا أضواء نيرانهم. قال: وفى بعض كتبهم أنّ ذلك الثور، بعد مدّة من عبادتهم له، أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف، ويؤخذ من رأسه هو شعرات، ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه، ويجعل ذلك فى التمثال، وعرّفهم «1» أنه يلحق بعالمه وأمرهم أن يجعلوا «2» جسده فى جرن من حجر [أحمر «3» ] ويدفن فى الهيكل وينصب تمثاله عليه، ويكون ذلك وزحل فى شرفه والشمس مسعودة تنظر إليه من تثليث والقمر فى الزيادة، وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة ففعلوا ذلك، وعملت الصورة من ذهب ملمّع على شبه الثور، وجعل له قرنان من ذهب وكلّلا بأصناف الجواهر، وجعلوا عينيه جزعتين سوادا فى بياض، ودفن جسد الثور فى الجرن الأحمر. قال: وجعل فى المدينة شجرة تطلع كل لون من الفاكهة، ومنارا فى وسطها طوله ثمانون ذراعا، وعلى رأسه قّبة تتلون فى كل يوم لونا حتى تمضى سبعة أيام

ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه

ثم تعود إلى اللون الأوّل فيكسو المدينة من تلك الألوان، وجعل حول المنار ماء شقّه إليه من النيل، وجعل فى ذلك الماء سمكا من ذلك اللون، وجعل حول المدينة طلّسمات رءوسها رءوس قردة وأبدانها أبدان الناس، كل واحد منها لدفع مضرّة أو اجتلاب منفعة، وعمل على أبواب المدينة، وهى أربعة أبواب «1» ، على كل باب صنما، ودفن تحت كلّ صنم كنزا من الكنوز؛ وباب كل واحد منها على قياس مائة ذراع منه إلى الجهة التى وجهه منصرف إليها، وكتب على كل واحد منها قربانه وبخوره والوصول إليه، وأسكنها السحرة فكانت تعرف بمدينة السحرة، ومنها كانت أصناف السحرة تخرج. قال: وأقام مناوش فى الملك سبعا وثلاثين سنة وملك، وعمل له ناووس تحت الجبل الغربىّ، وجعل وصيّته إلى ابنه من بعده هرميس بن منقاوش، فملك إحدى عشرة سنة لم يبن بنيانا ولا نصب منارا ولا عمل فى أيامه أعجوبة حتى إنه لم يكن يذكر فى عداد ملوكهم. فهذا ما أورده فى أخبار قفطريم بن قبطيم وبنيه على توال واتساق فلنذكر أخبار أشمون. ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه هو أشمون بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام؛ وهو أخو قفطريم أبى الملوك الذين قدّمنا ذكرهم. كان ملكه من أشمونين إلى منف، ومن الشرق إلى البحر المالح، ومن الغرب إلى حدود برقة، وهو آخر حدّ مصر،

ومن الصعيد إلى حدّ أخميم. وكان ينزل مدينة الأشمونين وله بنيت وباسمه سمّيت، وكان طولها اثنى عشر ميلا فى مثلها. قال إبراهيم: وأشمون أوّل من اتّخذ الملاعب بأنصنا والبهنسا وغيرها، وبنى القصور وغرس الغروس، وبنى مدينة تعرف بقمنطر ذات العجائب، وهى بالقرب من مدينة السحرة التى تقدّم ذكرها فى أخبار منقاوش. قال: وفى وسط هذه المدينة قبّة تمطر شتاء وصيفا مطرا خفيفا، وتحت القبّة مطهرة فيها ماء أخضر يتداوى به من كل داء فيبرئه، وفى شرقها سرب لطيف له أربعة أبواب، لكل باب منها عضادة صورة وجه يخاطب كل واحد منها صاحبه بما يحدث فى قومه، ومن دخل تلك البربا على غير طهارة نفخوا عليه فأصابته علّة فظيعة لا تفارقه إلى أن يموت. وكانوا يقولون إنّ فى وسطه مهبط النور وهو فى صورة العمود، من اعتنقه لم يحتجب عن نظره شىء من الروحانيّات، ويسمع كلامهم ويرى ما يعملون، وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب فى يده مصحف فيه علوم الكهنة، فمن أحبّ ذلك العلم أتى تلك الصورة فمسحها بيديه وأمرّهما على صدره، فيثبت ذلك العلم فى صدره. ويقال: إن هاتين المدينتين قمنطر ومدينة السحرة بنيتا على اسم هرمس وهو عطارد، وأنهما بحالهما. قال: وحكى عن رجل أنه أتى عبد العزيز بن مروان، وهو على مصر، فعرّفه أنه تاه فى صحراء الشرق وأنه وقع على مدينة خراب، وأنه وجد فيها شجرة تحمل من كل فاكهة، وأنه أكل منها وتزوّد؛ فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتى هرمس وفيها كنوز كثيرة؛ فوجّه عبد العزيز معه جماعة وحمل معهم زادا وماء، فأقاموا يطوفون شهرا فى تلك الصحارى فلم يقفوا لها على أثر. ويقال: إن أشمون عمل فى وقته على باب الأشمونين إوزّة من نحاس، فكان الغريب إذا دخل المدينة صاحت الإوزّة وخفقت بجناحيها فيعلم به، فإن أحبّوا منعوه، وإن أحبّوا تركوه.

قال: وفى أيامه كثرت الحيّات فكانوا يصيدونها ويعملون من لحومها الأدوية والدّرياقات، ثم ساقوها بسحرهم إلى وادى الحيّات فى جبال لوبية ومراقية فسجنوها هناك. قال: وهو أوّل من عمل النوروز بمصر ورتبه سبعة أيام يدمنون فيها الأكل والشرب واللهو. وفى زمانه بنيت البهنسا وأقام بها أسطوانات، وجعل فيها «1» مجلسا من زجاج أصفر وعليه قبّة مذهبة، فكانت الشمس إذا طلعت على القبّة ألقت شعاعها على المدينة. وعمل فيها عجائب كثيرة يطول الشرح بذكرها. قال: ويقال إن أشمون كان أوّل إخوته ملكا، وكان أعدل بنى أبيه وأرغبهم فى صنعة تبقى ويبقى ذكرها. وهو الذى بنى المجالس المصفّحة بالزجاج الملوّن فى وسط النيل. وتزعم القبط أنه بنى سربا تحت الأرض من الأشمرنين إلى أنصنا تحت النيل. وقيل: إنه عمله لبناته لأنهنّ كنّ يمضين إلى هيكل الشمس. وكان هذا السرب مبلّط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الثخين الملوّن. وقيل: إنه كان أطول إخوته ملكا. وقال أهل الأثر: إنه ملك ثمانمائة سنة، وإن قوم عاد انترعوا منه الملك بعد ستمائة سنة من ملكه وأقاموا تسعين سنة واستوبؤا البلد فانتقلوا [إلى الدّثينة من طريق الحجاز إلى وادى القرى فعمروها «2» ] واتخذوا [بها «3» ] المنازل والمصانع فسلّط الله عليهم الذّرّ فأهلكهم، وعاد ملك مصر إلى أشمون بعد خروجهم من البلد. ويقال: إنه ملكهم ثمانمائة سنة وثلاثين سنة، ودفن فى أحد الأهرام الصّغار القبليّة. وقيل: بل عمل له ناووس فى غربى الأشمونين ودفن معه فيه من الأموال والعجائب شىء كثير، وأصنام الكواكب السبعة التى كانت فى هيكل المرآة التى ترى منها الأقاليم، ودفن معه ألف سرج من ذهب وفضّة، وعشرة آلاف

خابية صغار من ذهب وفضّة وزجاج، وألف عقّار مدبّرة لفنون الأعمال وزبر عليه اسمه ومدّة ملكه والوقت الذى مات فيه. واستخلف ابنه مناقيوس بن أشمون. وكان جلدا محنّكا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام، وجمع الحكمة ومصاحف الملوك والحكماء وعمل العجائب، وبنى لنفسه مدينة وانفرد بها، وعمل عليها حصنا ونصب عليه أربعة أعلام، فى كل ركن من أركانه علم، وبين تلك الأعلام ثمانون صنما من نحاس وأخلاط، فى أيديها آلات السلاح وزبر على صدرها آياتها. قال: وكان بمنف رجل من أولاد الكهنة من أعلم الناس بالسحر وأبصرهم بأخذ التماسيح والسباع، وكان يعلّم الغلمان السحر فإذا حذقوا علّم غيرهم؛ فأمر الملك أن تبنى له مدينة ويحوّل إليها فبنيت، وهى إخميم. وملك مناقيوس نيّفا وأربعين سنة ومات فدفن فى الهرم المحاذى لإطفيح، ونقل معه شىء كثير من المال والجواهر والآنية والتماثيل، وزبر عليه اسمه والوقت الذى مات فيه. وملك بعده ابنه- ولم يسمّه إبراهيم «1» - فكان أحزم من أبيه، فعظم فى عيون أهل مصر. وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه. وأوّل من عمل البيمارستانات لعلاج المرضى والزمنى وأودعها العقاقير ورتّب فيها الأطبّاء وأجرى عليهم ما يسعهم، وأقام الأمناء على ذلك، وصنع لنفسه عيدا وسماه عيد الملك؛ فكان الناس يجتمعون اليه فى يوم من السنة، فيأكلون ويشربون

سبعة أيام وهو يشرف عليهم فى مجلس قد بنى له على عمد قد طوّقت ذهبا وألبست فاخر الذهب المنسوج، وعليه قبّة مصفّحة من داخلها وخارجها بالذهب والزجاج المسبوك، وكان يعطى كلّ قوم قسطهم من النظر ثم يكثرون الدعاء له وينصرفون الى مواضعهم. وفى أيامه بنيت سنتريّة «1» فى صحراء الواحات، عملها من حجارة بيض مربّعة على تقدير واحد، وجعل فى كل حائط من حيطانها بابا فى وسطه شارع ينتهى الى الحائط المجاور له من الجهة الأخرى، وجعل فى كل شارع أبوابا يمنة ويسرة تنتهى طرقاتها الى داخل المدينة، وجعل فى وسط هذه المدينة ملعبا يدور به من كل ناحية سبع درج؛ وعمل عليه قبّة من خشب مدهون على عمد «2» عظيمة من رخام، وفى وسطه منار من رخام عليه صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها، وبسائر نواحى القبّة صور معلّقة تصفر وتصيح بلغات مختلفة. وكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب وحوله بنوه وأقار به وأبناء الملوك، وعلى الدرجة الثانية رؤساء الكهنة [والوزراء «3» ] ، وعلى الثالثة رؤساء الجيش، وعلى الرابعة أصحاب الفلسفة والمنّجمون والأطبّاء وأصحاب العلوم، وعلى الخامسة أصحاب العمارات، وعلى السادسة أصحاب المهن، وعلى السابعة العامّة؛ فيقال لكل طائفة منهم: انظروا من دونكم ولا تنظروا من فوقكم، فإنكم لا تلحقونهم. فكان فى هذا ضرب من التأديب. قال: وكان للملك عدّة نسوة، وكان يحبّ منهنّ امرأتين ويتحظّاهما ويجمع بينهما فى مجلس واحد، فمال لإحديهما فى بعض الأيام دون الأخرى، فغارت

وغرب عقلها وتناولت سكّينا ودخلت الى الملك وهو مغتر وتلك المرأة جالسة الى جنبه فضربتها بالسكّين، وقام الملك دونها ليمنعها منها فضربته على فؤاده فخرّ صريعا، وقبض على المرأة وحبست، ومات الملك. وقد أوصى بقتل المرأة ووضع رأسها على ناووسه. ومدّة ملكه ستون سنة. وملك بعده ابنه مرقورة الملك؛ فدخل عليه العظماء وهنوه ودعوا له بدوام الملك والنعمة، وكان حازما عاقلا، فأخذ فى حسن التدبير وتقويم العمارة وترتيب المراتب، وجعل لرأس الكهّان الحكومة فى أمر الدّين. قال: وفى كتبهم أنه أوّل من ذلّل السباع بمصر وركبها. قال: وبنى [المدن «1» وعمّر] الهياكل وأقام الأصنام التى غربى منف، وكان ملكه نيّفا وثلاثين سنة، وعمل له ناووس على طريق الغرب على مسافة يومين. وقلّة ابنه بلاطس بن مرقورة، فملك وهو صبىّ، وكانت أمّه تدبّر الملك مع الوزراء والكهنة، وكانت حازمة مجرّبة، فأجرت الأمور على ما كانت فى حياة أبيه، وأحسنت الى الأولياء، وعدلت فى الرعيّة، ووضعت عنهم بعض الخراج فأحبّوها. وعملت فى وقته البركة العظيمة فى صحراء الغرب، وجعل فى وسطها عمود طوله ثلاثون ذراعا، فى أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فهى لا تنقص أبدا، وجعل حولها أصنام حجارة ملوّنة من كل صنف على صور الحيوان والوحش والطير، وكان كل جنس يأتى الى صورته ويألفها فيؤخذ ولا يدرى. قال: ولمّا ترعرع الملك أحبّ الصيد ولهج به، فعملت له أمّه متنزّها فيه مجالس مركّبة على أساطين من المرمر مصفّحة بالذهب، عليها قباب مرصّعة بالتصاوير

ذكر أخبار أتريب الملك

العجيبة والنقوش المؤلّفة، يطلع من تحتها الماء فى فوّارات وتنصب الى أنهار مصفّحة بالفضّة تفضى الى حدائق فيها بدائع الغروس، عليها تماثيل تصفر بأصناف اللغات، ونضّدت بأنواع الفواكه، وأرخت عليها ستور الدّيباج المنسوجة بالذهب، واختارت له من بنات الملوك الحسان وأزوجته منهنّ، وبنت حول تلك الجنة مجالس يجلس فيها الوزراء والكهنة وأشراف أهل الصناعات يرفعون اليه ما يعملونه، فكان أكثر مقام الملك فى تلك الجنة، فإذا فرغوا من أعمالهم نقل اليهم الطعام والشراب من مطبخه، ولا يزالون فى أكل وشرب بقية يومهم وليلتهم، وأقاموا على ذلك والأمور جارية على السداد. وكانت أيامه سعيدة كثيرة الخصب والسعة للناس والعدل فيهم والإحسان اليهم. وكان له يوم يخرج فيه الى الصيد ويرجع الى جنّته فيأمر لمن معه بالجوائز والأطعمة والأشربة، ويجلس يوما للناس فينظر فى أمورهم ومصالحهم ويقضى حوائجهم، ويجلس يوما للخلوة بنسائه، ثم جدر فمات؛ وعمل له ناووس فى جنّته وجعل فيه من الأموال والجواهر والصنعة والتماثيل كما كان يجعل لآبائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وانتقل الملك إلى أعمامه. ذكر أخبار أتريب الملك هو أتريب بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. قال: وكان أتريب قد انتقل إلى حيّزه بعد وفاة أبيه قبطيم، وهى المدينة التى كان أبوه بناها له، وكان طولها اثنى عشر ميلا، ولها اثنا عشر بابا، وفى شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على عمد بعضها فوق بعض، منها قبّة فى وسط المدينة، وقبّتان فى طرفيها، وجعل على كل ركن منها مرقبا كبيرا يوقد ليلا، وعلى كل باب من أبوابها

حرسا كثيرا، وجعل فى كل جانب منها ملعبا ومجالس ومتنزّهات تشرف من تلك المجالس عليها، وشقّ فى عرضها «1» نهرا وعمل عليه قناطر معقودة، وبنى فوقها مجالس يتّصل بعضها ببعض، وجعل حوله منازل تدور بالخليج متّصلة بالقناطر على رياض مزروعة وخلفها الأجنّة والبساتين؛ وعلى كل باب من أبوابها أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة وأصنام ينبع الماء من آذانها، ومن داخل كل باب صورة شيطانين من صفر، فكان إذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذى عن يمنة الباب، وإن كان من أهل الريب «2» بكى الشيطان الذى عن يسرة الباب، وجعل فى كل متنزّه منها من الوحوش الآلفة والطير المغرّدة كل مستحسن، وجعل فوق قباب المدينة صورا تصفر إذا هبّت الرياح، ونصب له فيها مرايا ترى البلدان البعيدة والعجائب الغريبة، وبنى حذاءها فى الشرق مدينة وجعل فيها ملاعب وأصناما بارزة كثيرة فى خلق مختلفة، وجعل فى وسطها بركة إذا مرّ بها الطير سقط عليها فلا يبرح حتى يؤخذ، وجعل لها حصنا [باثنى عشر بابا «3» ] وجعل على كل باب من أبوابها تمثالا يعمل أعجوبة وعمل حولها أجنّة، وجعل ما يقرب منها من ناحية الشرق مجلسا منقوشا على ثمانى أساطين، وفوق المجلس قبّة عليها طائر منشور الجناحين يصفر كل يوم ثلاث صفرات: بكرة، ونصف النهار، وعند الغروب، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة وأكثر من العمارات، وأقام رجلا يقال له برسان يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير، فى كل دينار سبعة مثاقيل عليها صورته، وعمل منها تماثيل كثيرة. وعاش أتريب فى الملك ثلاثمائة سنة وستين سنة،

وكانت سنّه خمسمائة سنة. وعمل له ناووس فى جبل بالشرق حفر [له «1» ] تحته سرب بطّن بالزجاج [والمرمر «2» ] وجعل على سرير من ذهب [مرصّع «3» ] وحملت إليه ذخائره، وجعل على بابه صورة تنّين لا يدنو منه أحد إلّا أهلكه، وزبر عليه اسمه وتاريخ وقته، وسفوا عليه الرمال. وملكت بعده ابنته [تدرورة «4» ] فدبّرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة ثم ماتت. فقام بالملك بعدها أخوها «5» فليمون «6» بن أتريب؛ فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهّان [على مواضعهم «7» ] ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ فى العمارات وطلب الحكم وعمل بها. وفى أيامه بنيت تنّيس الأولى التى غرّقها البحر، وكان بينها وبين البحر شىء كثير، وحولها الزروع والأشجار والكروم والقرى ومعاصر الخمر وغيرها وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له [فى «8» ] وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب، وتزيّن بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدأ النيل فى الزيادة انتقل الملك إليها فأقام بها إلى النّوروز ورجع. وكان للملك بها أمناء يقسّمون المياه ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتى يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له متنزّها.

ويقال: إن الجنّتين اللتين ذكرهما الله تعالى فى كتابه كانتا لأخوين من أهل بيت الملك أقطعهما الملك ذلك الموضع. وقد تقدّم ذكر خبرهما عند ذكرنا لبحيرة «1» تنّيس، وهو فى الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل فى ذكر البحار والجزائر وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا. قال: وفى زمان فليمون بنيت دمياط على اسم غلام له كانت أمّه ساحرة لفليمون. قال: وملك فليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناووسا فى لجبل الشرقىّ، وحوّل إليه من الأموال والجواهر وسائر الذخائر شيئا كثيرا، وجعل من داخله تماثيل تدور بلوالب فى أيديها سيوف فمن دخلها قطّعته بسيوفها. وجعل عن يمينه ويساره أسدين من نحاس مذهب بلوالب أيضا فمن دنا منهما حطّماه، وزبر على الناووس: هذا قبر فليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصريم، عمّر عمرا، وبقى دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه، وليأخذ مما بين يديه. وصار الملك بعده إلى ابنه قرسون بن فليمون؛ وجلس على سرير الملك، ودخل إليه عظماء أهل البلد والخاص والعام فهنؤه بالملك، فتقدّم فى أمر الهياكل والكهنة وطلب الحكمة؛ وكان حدثا جميلا فعشقته إحدى نساء أبيه، وكانت تتولى طيبة «2» وتزعم أن أباه أمرها بذلك، ثم بعثت إلى ساحرة من أعلم السحرة بمنف «3»

فسألتها أن تسحره لها وبذلت لها على ذلك أموالا، وإذا الساحرة قد عشقته أشدّ من عشقها، فسعت بامرأة أبيه وعرّفته ما بذلت لها على ذلك، فأبعدها عن مجلسه ومنعها من الدخول إليه. وبلغ ملكا من ملوك حمير أن ملك مصر صار إلى غلام حدث غرّ فطمع فيه وسار إليه فى جموع عظيمة، فخرج قرسون نحوه فالتقوا بأيلة «1» واقتتلوا قتالا شديدا حتى تفانّى الفريقان، فأتت تلك الساحرة إلى الملك فقالت: ما تجعل لى إن أعنتك على عدوّك حتى تفضّ جموعه وتظفر به؟ قال حكمك؛ فأخذت عليه بذلك العهود والمواثيق، وأصبحوا للحرب فدخّنت الساحرة بدخن عجيبة وأظهرت تخاييل هائلة، فهرب الحميرىّ فى نفر يسير من ثقاته، وقتل بقية أصحابه، وحاز جميع ما كان فى خزائنهم، وعاد الملك إلى منف بالظفر والغنيمة، فأتته الساحرة فسألته الوفاء بالشرط فقال: احتكمى ما أحببت، فهذه الأموال والخزائن بين يديك؛ فقالت: ما أريد غير الملك؛ فقال: ويحك! إنك لست من أهل بيت الملك، وقد علمت ما فى هذا على الملك؛ فقالت: قد كان الملوك قبلك يغصبون نساء الناس ويلدن منهم ولا يسألون عن ولاداتهم، وأنا ابنة فلان رئيس الكهنة، ويوشك أن يحتاج الملك إلىّ بعد هذا. ولم تزل به حتى انصرف قلبه اليها، فتزوّجها وأحبّها وحظيت عنده. فضاقت الأرض بامرأة أبيه فأخذت فى أعمال الحيلة عليها؛ فدسّت جارية لها عاقلة لطيفة على ساقى الملك الذى يتولّى شرابه، فاختلطت بجواريه حتى

تمكّنت من إناء كان فيه شراب للملك فألقت فيه سمّا وعادت فى الوقت إلى مولاتها وأخبرتها، فدخلت إلى الملك فسجدت له وقالت: قد كنت للملك ناصحة، وعليه مشفقة، فأقصانى واختصّ هذه الساحرة الفاجرة، وقد سمّت شرابه فى إناء من صفته كذا وكذا، فليسقها الملك منه ليعلم صدقى؛ فدعا الملك بالإناء فوجده على ما ذكرت، فأحضر الساحرة وأمرها بشرب قدح منه فشربته ولم تعلم ما فيه فسقط لحمها عن عظمها، فأمر بدفنها فى ناووس وزبر عليه اسمها وما همّت به وما صار أمرها إليه، وعاد إلى امرأة أبيه وتزوّج بها وحسنت حالها عنده. قال: وفى أيامه عمل المنار على بحر القلزم «1» وجعلت على رأسه مرآة من أخلاط تجتذب المراكب على شاطىء البحر، فلا يمكنها أن تبرح أو تعشّر، فإذا عشّرت سترت المرآة فتجوز المراكب. قال: وأقام قرسون ملكا مائتين وستين سنة؛ وقد كان عمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقىّ. وجعل فى وسطه قبّة فيها اثنى عشر بيتا، فى كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدّة ملكه. قال: وملك بعده ثلاثة أو أربعة. فهؤلاء الذين سمّاهم من أولاد أتريب ممن ملك منهم. والله أعلم «2» .

ذكر أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام

ذكر» أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام قال: ولمّا قسم قبطيم الأرض بين بنيه الأربعة كما تقدّم وانتقل كل واحد منهم إلى حيّزه، خرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيّزه، وهو بلد البحيرة وما يليها إلى برقة، ونزل مدينة صا، وذلك قبل أن تبنى الإسكندرية. وكان صا أصغر ولد أبيه وأحبّهم إليه، فلمّا ملك حيّزه أمر بالنظر فى العمارة، وبنى المدائن والبلدان والهياكل، وعمل فى إظهار العجائب كما صنع إخوته، وطلب الزيادة فى ذلك. وكان مرهون «2» الهندى «3» صاحب بنائه «4» ، فبنى له من حدّ صا إلى حدّ لوبية ومراقية على عبر البحر أعلاما، وجعل على رءوس تلك الأعلام مرايا من أخلاط شتّى: فكان منها ما يمنع من دوابّ البحر وأذاهم، ومنها ما إذا قصدهم عدوّ من الجزائر الداخلة وأصابها الشمس ألقت شعاعها على مراكبهم فأحرقتها، ومنها ما يرى المدائن التى تجاورهم من عدوة البحر وما يعمله أهلها، ومنها ما ينظر منها إلى إقليم مصر فيعلم ما يخصب وما يجدب منه فى كل سنة. وجعل فيها حمامات توقد من نفسها ومستشرفات. وكان كل يوم فى موضع منها بمن يخصّه من حشمه وخدمه، وجعل حولها بساتين وسرّح فيها الطيور المغرّدة والوحش المستوحش والمستأنس والأنهار المطردة والرياض المونقة،

وجعل شرف القصر من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس فتنشر شعاعها على ما حولها؛ ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله. فكانت العمارة ممتدّة إلى برقة فى رمال من رشيد إلى الإسكندرية إلى برقة. وكان الرجل يسافر فى أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا فى ظلال تستره من الشمس. وعمل فى تلك الصحارى قصورا وغرس فيها غروسا، وساق إليها من النيل أنهارا. وكان يسلك من الجانب الغربىّ إلى حدّ الغرب فى عمارة متصلة. قال: فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم فى تلك الصحارى وخربت تلك المنازل وباد أهلها. قال: ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكى ما رأى فيها من الآثار والعجائب. قال: ومن ملوكهم مرقونس؛ وكان [فاضلا «1» ] حكيما، محبّا للنجوم والحكمة، فعمل فى أيامه درهم إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم ولا يطلب عليه زيادة، فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط، فإذا تمّ ذلك بينهما وقع فى وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوى عشرة أضعافه، وإن أحبّ أن يدخل فى وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل. قال: وقد وجد هذا الدرهم فى كنوزهم فى أيام بنى أميّة، فكان الناس يتعجّبون منه. وقد كانوا وجدوا درهما آخر قيل إنه عمل فى وقته أيضا يكون فى ميزان الرجل، فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ الدرهم من ميزانه وقلبه «2» وقال: اذكر العهد، ومضى فابتاع به ما أراد، فإذا أخذ السّلعة ومضى إلى بيته

وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ووجد البائع حيث وضعه ورقة آس أو قرطاس أو مثل ذلك بدور «1» الدرهم. وقيل: إن فى وقته عملت الآنية الزجاج التى توزن، فإذا ملئت [ثم «2» ] وزنت لم تزد على وزنها الأوّل شيئا، وهى تحمل من الماء بوزنها. وعمل أيضا فى وقته الآنية التى إذا جعل الماء فيها صار خمرا فى لونه ورائحته وسكره. قال: وقد وجد من هذه الآنية بإطفيح «3» فى إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد ابن طولون شربة جزع «4» بعروة زرقاء ببياض. وكان الذى وجدها أبو الحسن [الصائغ «5» ] الخراسانىّ هو ونفر معه، فجلسوا ليأكلوا على عبر النيل وشربوا الماء بها فوجدوه خمرا فسكروا منه ورقصوا، فوقعت الشربة فانكسرت على عدّة قطع، فاغتمّ الرجل وجاء بها إلى هارون مكسورة، فأسف عليها وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكى. وفى أيامه عملت الصورة الحنتمية من الضفادع والخنافس والذباب والعقارب وسائر الحشرات «6» ، فكانت إذا جعلت فى موضع من المواضع اجتمع إليها ذلك الجنس بعينه ولا يقدر أن يفارقها حتى يقتل. وعمل فى صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن، وجعل فى وسطه قبّة من الزجاج خضراء صافية اللون؛ وكانت إذا طلعت عليها الشمس ألقت شعاعها على المواضع البعيدة. وعمل من أربع جهاته أربعة مواضع عالية من الزجاج، كلّ مجلس منها بلون، ونقش كلّ مجلس منها بما

يخالف لونه من الطلّسمات العجيبة والنقوش الغريبة والصور البديعة؛ كل ذلك من زجاج مطابق يشفّ. وكان يقصد هذا الملعب ويقيم فيه الأيام الكثيرة. وعمل له ثلاثة أعياد فى كل سنة، فكانوا يحجّون إليه ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام؛ فلم يزل ذلك الملعب بحاله تقصده الأمم لتنظر إليه لأنه لم يكن له نظير ولا شكل، ولا عمل [فى العالم «1» ] مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لأنه تعاطى مثله فلم يقدر على ذلك. وكانت أمّ مرقونس ابنة ملك النوبة، وكان أبوها يعبد نجما يقال له السّها، ويسمّيه إلها، فسألت ابنها أن يعمل لها هيكلا ويفردها «2» به، فعمله لها وصفّحه بالذهب والفضّة [وأقام فيه صنما «3» ] وأرخت عليه ستور الحرير، فكانت تدخل إليه مع جواريها وحشمها وتسجد له كل يوم ثلاث مرّات. وعملت فى كل شهر عيدا تقرّب له فيه القرابين وتبخّره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة فكان يقوم به ويبخّر [هـ «4» ] ويقرّب [له «5» ] ، ولم تزل بابنها حتى سجد له ودعا الناس إلى عبادته. قال: ولمّا رأى الكاهن أنّ الأمر قد أحكم له من جهة الملك فى عبادة الكواكب، أحبّ أن يكون له مثالا فى الأرض على صورة شىء من الحيوان يتعبّد له ليكون حذاء عينيه؛ فأقام يعمل الحيلة فى ذلك إلى أن اتفق بمصر كثرة العقبان حتى أضرّت بالناس، فأحضره الملك وسأله عن كثرتها فقال: إنّ إلهك أرسلها لتعمل له نظيرا يسجد له. فقال الملك: إن كان ذلك يرضيه فأفعله، فعمل تمثال عقاب طوله ذراعان فى عرض ذراع من ذهب مسبوك، وعمل عينيه من ياقوتتين،

وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر [أخضر «1» ] ، وجعل فى منقاره كرة «2» معلّقة وسروله بأدرك أحمر، وأقامه على قاعدة [من «3» ] فضّة منقوشة، وركّبها على قائمة زجاج أزرق، وجعله فى أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير، وجعل [له] دخنة معمولة من جميع الأفاويه والصمغ، وقرّب له بعجل أسود وبكارة الفراريج وبواكير الفواكه والرياحين. فلما تمّت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود له فأجابوه. ولم يزل [الكاهن «4» ] يجهد نفسه فى عبادته، وعمل له عيدا دعاهم فيه إلى أن يبخّر له فى أنصاف الشهور بالمندل وترشّ الهياكل بالخمر العتيقة [التى تؤخذ «5» ] من رءوس الجوابى «6» ، ونطق لهم العقاب وعرّفهم أنه أزال عنهم العقبان وضررها؛ وكذلك يفعل فى غيرها ممّا يخافون؛ فسرّ الكاهن بذلك ووجّه إلى أمّ الملك فعرّفها ذلك فصارت الى الهيكل، فلمّا سمعت كلام العقاب سرّها ذلك وأعظمته، وبلغ الملك خبره فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه، فسجد له وأقام له سدنة وأمر أن يزيّن بأصناف الزينة، وكان الملك يقوم بذلك الهيكل ويسجد لتلك الصورة ويسألها عمّا يريد «7» فتخبره. وعمل من الكيمياء والذهب ما لم يعمله أحد من الملوك. فيقال: إنه دفن فى صحراء الغرب خمسمائة دفين. ويقال: إنه عمل على باب صاعمودا وجعل عليه صنما فى صورة امرأة جالسة وفى يدها مرآة ينظر فيها العليل [أو ينظر له أحد فيها «8» ] فإن كان يموت رآه ميّتا، وإن كان يعيش رآه حيّا؛ والمسافر، فإن كان مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رآه مولّيا علموا أنه متماد، وإن كان مريضا أو ميّتا رأوه كذلك. وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى

رأسه كالبرنس «1» وفى يده كالعكّاز إذا مرّ به رجل تاجر جعل بين يديه شيئا من الذهب على قدر بضاعته، وإن حاذاه «2» عن بعد ولم يفعل ذلك لم يقدر على الجواز ويبيت قائما مكانه، فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق فى الزمنى والفقراء. وعمل فى وقته كل أعجوبة طريفة، وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلّسم وصنم. وعمل لنفسه ناووسا فى داخل أرض الغرب عند جبل يقال له سدام، وعمل تحته رحى طوله مائة ذراع فى ارتفاع ثلاثين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وصفّحه بالمرمر والزجاج الملوّن المسبوك وسقفه بالحجارة الصافية، وعمل فيما دار به مصاطب لطافا مبلّطة بالزجاج، وعمل على كل مصطبة فيها أعجوبة وتمثالا مما عمل فى وقته، وعمل فى وسط الأزج دكّة من زجاج ملوّن، على كل ركن من أركانها صورة تمنع من الدنوّ إليها، وبين كل صورتين كالمنارة عليها حجر مضىء، وجعل فى وسط الدكّة حوضا من ذهب يكون جسده فيه بعد تضميده بالأدوية الممسكة، ونقل إليه ذخائره من الجوهر والذهب وغير ذلك، وأمر أن يسدّ باب الأزج بالصخور والرّصاص وتهال عليه الرمال. وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة، وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة فنسكت عامّة نسائه بعده ولزمن الهيكل. وعهد بالملك إلى ابنه أنساد بن مرقونس؛ فملك بعد أبيه وهو غلام ابن خمس وأربعين سنة، وكان معجبا جبّارا طمّاح العين، فنكح امرأة من نساء أبيه وانكشف أمره معها، وكان أكبر همّه اللهو واللعب، فجمع كل مله كان فى مملكته وقصده كل من هذه سبيله، وجعل تدبير الملك إلى وزير له يقال له

مسرور، ورفض العلوم والهياكل والكهنة والنظر فى أمور الناس. وعمل قصورا من خشب عليها قباب من خشب منقوشة ممّوهة وجعلها على أطواف فى النيل، فكان يشرب عليها مع من يحبّه من نسائه وخدمه ومن يلهيه. وعمل عجلا فى البرّ وحمل عليها الأروقة المذهبة وفرشها بفاخر الفرش، فكان يتنزّه عليها ويجرّها البقر ويقيم فى نزهته شهورا لا يمرّ بموضع نزه إلّا أقام فيه أياما. وولّد من الشجر توليدا كثيرا. واستتفد أكثر ما فى خزائن أبيه لجوائز الملهين والنفقات فى غير وجه. فلمّا أسرف فى ذلك اجتمع الناس إلى وزيره فأنكروا عليه حاله وسألوه مسألته والمشورة عليه أن يقع عمّا هو عليه فضمن لهم ذلك، وفاوضه فيه فلم ينته عنه، وسلّط أصحابه على الناس فأساءوا إليهم وأضروا بهم. وخرج فى بعض الأيام إلى متنزّه كان له قد صفّح مجالسه بصفائح الذهب والفضة، وغريب الزجاج الملوّن، والجواهر المخروطة، والصهاريج المرّخمة الملوّنة، وأمال إليه المياه، وغرس فيه الرياحين والثمار، وفرش مجالسه بأصناف الفرش؛ وكان إذا أحبّ أن يخلو بامرأة من نسائه خلابها هناك؛ فإنه فى ذلك المكان، وقد أقام به أياما، إذ خرج غلام لبعض حرمه فأتى بعض التجّار فى حاجة أراد أخذها بغير ثمن، فمنعه التجّار منها، فوثب بهم فضربوه حتى أسالوا دمه وحمل، واتصل الخبر بالوزير وصاحب الجيش فركبا إلى الموضع وأنكرا على الناس فأغلظوا لهما، فانصرفا وعرّفا الملك الخبر، فأراهما أنه لم يحفل بذلك، وأمر بالنداء فى الناس من تعرّض لكم من خدم الملك وأصحابه بأذى فاقتلوه، فشكره الناس وحمدوا فعله على ذلك، وتواصوا بالوثوب على أصحابه، حتى إذا مضى لذلك أسبوع وجه الملك إلى الوزير وصاحب الجيش فعرّفهما أنه قد عزم على الركوب إلى صحراء الغرب يتصيّد هناك، وامر أن يركب معه الجيش ويتزوّدوا لثلاثة أيام ففعلوا، وخرج إلى البرّية فسار حتى إذا اختلط

الظلام رجع الجيش حتى وافى باب المدينة، وأمر أصحابه أن يضعوا السيف فى الناس فقتلوا خلقا كثيرا، ثم أمر أن ينادى: هذا جزاء من أقدم على الملوك من رعاياهم وأصحاب منهم، وأخرب الموضع الذى ضرب فيه الغلام، فاستغاث به الناس، فتقدّم إلى وزيره أن يطرح نفسه بين يديه ويسأله فيهم، ففعل وأمّنهم وقال: من عاد إلى مثل ما كان فقد حلّ لنا دمه، فدعوا له وانصرفوا. ثم احتجب عن الناس واستخف بالكهنة والهياكل فأبغضته العامّة والخاصّة وبغوا الغوائل فاحتال عليه خاصّته بطبّاخه وساقيه فسمّاه وهو ابن مائة وعشرين سنة فمات. وصار الملك من بعده إلى ابنه صابن أنساد بن مرقونس؛ قال: وأكثر القبط تزعم أن صابن مرقونس أخو أنساد. فملك وهنأه الناس، فوعدهم بالعدل فيهم، والإحسان إليهم، وحسن النظر لهم، وسكن منف وحكم الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلّسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهين وأهل الشرّ ممن كان يصحب أخاه، ونصب العقاب الذى كان أبوه عمله، وشرف هيكله ودعا إليه. وعمل فى منف مرآة كان يرى منها ما يخصب من بلده وما يجدب. وبنى بداخل الواحات مدينة غرس حولها نخلا كثيرا. ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة. وعمل خلف المقطّم صنما يقال له صنم الحيلة، فكان كل من تعذّر عليه أمر يأتيه فيبخّره فيتيسّر عليه ذلك الأمر «1» . وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجرى فى حدودهم. وعمل على غربى النيل منائر يوقد عليها إذا قصدهم قاصد أو نابهم أمر. ويقال: إنه بنى أكثر منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية. قال: وكان لمّا ملك البلد بأسره جمع الحكماء إليه ونظر فى النجوم- وكان بها حاذقا- فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على

يدرجل [يأتى «1» ] من ناحية الشأم، فجمع كل فاعل بمصر وبنى فى الواح الأقصى مدينة جعل طول حصنها فى الأرتفاع خمسين ذراعا وأودعها جميع الحكم والأموال. وبنى المدينة «2» التى وقع عليها موسى بن نصير فى زمن بنى أميّة، وكان قد أخذ على الواح الأقصى، وكان عنده علم منها، وأقام سبعة أيام يسير فى رمال وصحارى سمت الغرب والجنوب إلى أن ظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب حديد، فأصعد إليها الرجال ليقفوا على ما فيها لمّا لم يمكنه فتح أبوابها، ولغلبة الرمال على ما حولها؛ فكانوا إذا علوا الحصن وأشرفوا عليها وثبوا إليها؛ وعرض حصنها عشرون ذراعا؛ فلمّا أعياه أمرها تركها ومضى، فهلك فى تلك الطريق جماعة من أصحابه. فلم يسمع بأحد بعد موسى بن نصير ولا قبله وقع عليها. قال: وفى تلك الصحارى أكثر متنزّهاتهم ومدائنهم العجيبة؛ إلا أنّ الرمال غلبت عليها. ولم يبق بمصر ملك إلا وقد عمل للرمال دفعا ثم تفسد طلّسماتهم على تقادم الأيام.

وقال: وحكى قوم من «1» التّنّاء فى ضياع الغرب: أنّ عاملا من عمّالهم عنف بهم فهربوا ودخلوا فى صحراء الغرب وحملوا معهم زادا إلى أن يصلح أمرهم ويرجعوا إلى بلادهم، وكانوا على يوم وبعض آخر قد لحجوا» فى سفح الجبل، فوجدوا عيرا أهليّا قد خرج من بعض شعابه، فتبعه نفر منهم، فأخرجهم إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه تطّرد «3» وقوم يسكنون هناك ويزرعون، فخاطبوهم وعجبوا منهم وسألوهم عن حالهم فعرّفوهم أنهم منذ كانوا يسكنون تلك الناحية ويتناسلون ويزرعون ولا يطالبهم أحد بخراج ولا يؤذيهم، وأنهم لم يدخلوا إلى ضياع الغرب قطّ، وقالوا لهم انتقلوا إلينا؛ فخرج القوم بعد أن صلحت أمورهم واجتمعوا على الرجوع إلى ذلك الموضع والسكنى فيه بأهليهم ومواشيهم، فخرجوا يطلبون الطريق مدّة فما عرفوا الطريق ولا تأتّى لهم الوصول إليه بعد ذلك فأسفوا على مافاتهم منه. وحكى أيضا عن آخرين ضلّوا الطريق فى الغرب، فوقفوا على مدينة عامرة، كثيرة الناس والمواشى والنخيل والشجر، فأضافوهم وأكلوا عندهم وشربوا، وباتوا فى طاحونة يعمل فيها الخبز «4» ، فسكروا من الشراب وناموا، فلم ينتبهوا إلّا عند طلوع الشمس، فوجدوا أنفسهم فى مدينة كبيرة خراب ليس فيها أحد، فارتاعوا لذلك وخرجوا على وجوههم كالهاربين، وساروا يومهم على غير سمت حتى قرب المساء، فظهرت لهم مدينة أخرى عظيمة أكبر من الأولى وأعمر، وأكثر أهلا ودوابّ ومواشى وشجرا ونخلا، فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة، فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون؛ وإذا لبعض أهل المدينة وليمة فانطلقوا بهم معهم، فأكلوا وشربوا

وغنّوهم بأصناف الملاهى، وسألوهم عن حالهم فحدّثوهم أنهم ضلّوا عن الطريق فى هذه الصحارى، فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم واضح مستقيم لا يمكن أن تغلطوا فيه، فإن أحببتم المسير وجّهنا معكم من يوقفكم على سنن الطريق الكبير الذى يوصلكم إلى منازلكم، وإن أحببتم أن تقيموا عندنا رفدناكم وكنتم إخواننا وأحبابنا. قالوا: فسررنا بذلك من قولهم، وأجمع بعضنا على المقام معهم، وأجمع من كان له منا أهل وولد على أن يسير إلى منزله ويحمل أهله وولده ويعود إليهم. قال: وبتنا عندهم فى خير مبيت، فرحين بما ساق الله إلينا. فلمّا كان من الغد انتبهنا فوجدنا أنفسنا فى مدينة عظيمة ليس فيها أحد من الناس وقد تشعّب بعض حصنها، إلّا أن حولها نخلا قد تساقط ثمره وتكدّس حوله، فلحقنا من الخوف لذلك والارتياع ما استوحشنا له، وخرجنا على وجوهنا هاربين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها، وإنّا لنجد روائح الشراب منّا ومعانى الخمار ظاهرة، فلم نزل نسير يومنا أجمع وليس بنا جوع ولا عطش، حتى إذا كان المساء رأينا راعيا يرعى غنما فسألناه عن العمارة وعن الطريق فدلّنا على الطريق وقال: إنّ العمارة حذاؤكم؛ وإذا بنقار «1» من ماء المطر فشربنا منه وبتنا عليها، ثم أصبحنا فإذا نحن فى خلاف موضعنا الذى كنّا فيه، وإذا آثار العمارة والناس فما سرنا إلّا بعض يوم حتى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد، فكنّا نحدّث الناس ولا يقبلون منا. قال: وهذه مدائن القوم القديمة قد غلب عليها الجانّ، ومنها ما قد سترته عن العيون فلا ينظر إليها أحد. قال: وذكر بعض القبط أن رجلا من بنى الكهنة الذين قتلهم أنساد سار إلى ملك الإفرنجة فذكر له كنوز مصر وعجائبها وخيرها، وضمن له أن يوصّله إلى ملكها

وأموالها، ويدفع عنه أذى طلّسماتها حتى يبلغ جميع ما يريده ويعرّفه مواضع الكنوز. فلمّا اتصل بصا الملك أنّ صاحب الإفرنجة يتجهّز إليه، عمد إلى جبل بين البحر المالح وشرقى النيل فأصعد إليه أكثر كنوزه وما فى خزائنه، وبنى عليها قبابا وصفّحها بالرّصاص، وأمر ففتحوا جوانب الجبل إلى منتهى خمسين ذراعا، وجعلوا فى انتهاء المنحوت منه شبه الطرر البارزة خارجة من النحت بقدر مائة ذراع وهو بين جبال وعرة، فحصّن أمواله هناك. وتجهّز إليه صاحب الإفرنجة فى ألف مركب، فكان لا يمرّ بشىء من أعلام مصر ومناراتها وأصنامها إلّا هدمه وكسره بمعونة الكاهن له. حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها وهدم كثيرا من معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد وصعد إلى منف فحاربه أهل النواحى، وجعل ينهب ما مرّ به ويقتل من قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة ليأخذ كنوزها فوجدها ممتنعة بالطلّسمات الشداد والمياه العميقة والخنادق الشدّاخات، فأقام عليها أياما كثيرة يعالج أن يصل إليها، فلمّا لم يمكنه ذلك قتل الكاهن، وهلك جماعة من أصحابه، واجتمع أهل النواحى على مراكبه وأصحابه فقتلوا منهم خلقا وأحرقوا بعض المراكب. ولما تيقّن أهل مصر تلف الكاهن الذى كان معه أرسلوا إليه سحرهم وتهاويلهم، وأتت مع ذلك رياح غرقت كثيرا من مراكبه، وكانّ جل مرامه أن ينجو بنفسه فما عاد إلى الإفرنجة إلا وقيذا «1» بجراحات أصابته، ورجع الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع صا إلى منف فأقام بها وترك ما كنزه على حاله. قال: ولم يزل بعد ذلك يغزو بلاد الروم وأهل الجزائر ويخرّبها فهابته الملوك، وتتّبع الكهنة فقتل منهم خلقا، وأقام سبعا وستين سنة، وكانت سنة مائة وسبعين سنة وهلك، فدفن بمنف فى ناووس عمله وسط المدينة من تحت الأرض، وجعل

المدخل إليه من خارج المدينة من الجهة الغربية، وحمل إليه أموالا عظيمة وجواهر كثيرة، وتماثيل وطلّسمات وغير ذلك كما فعل أجداده. وكان فيه أربعة آلاف تمثال ذهب على صور شتّى برّية وبحرية، وتمثال عقاب من جوهر أخضر جعل عند رأسه، وتمثال تنّين من ذهب مشبّك عند رجليه وزبر عليه اسمه وسيرته وغلبته للملوك. وعهد إلى ابنه تدارس بن صا؛ فملك الأحياز كلها بعد أبيه وصفا له ملك مصر. وكان محنّكا مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور؛ فأظهر العدل، وأقام الهياكل وأهّلها قياما حسنا. وبنى غربى منف بيتا عظيما للزّهرة وزبر جميع الأخبار- وكان صنم الزهرة من لا زورد مذهّب متوّجا بذهب- وسوّره بسوارين من الزّبرجد الأخضر؛ وكان فى صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبّر، وفى رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف ونعلان من ذهب، وفى يدها قضيب مرجان وهى تشير بسبّابتها كالمسلّمة على من فى الهيكل، وجعل حذاءها من الجانب الآخر تمثال بقرة ذات قرنين وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجه البقرة محاذ «1» يا لوجه الزهرة، وجعل بينهما مطهرة من أخلاط للأجساد على عمود رخام مجزّع فيها ماء مدبّر يستشفى به من كل داء، وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها فى كل سبعة أيام، وجعل فيه كراسىّ للكهنة مصفّحة بذهب وفضّة، وقرّب له ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به. وكانت فرش الهيكل وستوره عن يمين تمثال الزهرة ويساره. وكان فى قبّته صورة رجل راكب على فرس له جناحان وله حربة فى سنانها رأس إنسان معلق، وبقى هذا إلى زمان بخت نصر

وهو الذى هدمه. ويقال: إن تدارس الملك هذا هو الذى حفر خليج سخا، وارتفع مال البلد فى أيامه مائة ألف ألف [دينار «1» ] وخمسين ألف [ألف «2» ] دينار. وقصده بعض عمالقة الشأم فخرج إليه واستباحه ودخل إلى فلسطين فقتل منها خلقا كثيرا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر وهابته الملوك. قال: وعلى رأس ثلاثين سنة من ملكه طمع السودان من الزّنج والنّوبة فى أرضه فعاثوا وأفسدوا، فأمر بجمع الجيوش وأعدّ المراكب ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: بلوطس فى ثلاثمائة ألف، وقائدا آخر فى مثلها، ووجّه فى البحر «3» ثلاثمائة سفينة فى كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب [ثم خرج فى جيوش كثيرة، فلقى جموع السودان «4» ] وكانوا فى زهاء ألف ألف فهزموهم، وقتلوا أكثرهم أبرح قتل، وأسر منهم خلقا كثيرا، وتبعهم حتى وصل إلى أرض الفيلة من بلاد الزّنج «5» فأخذ منها عدّة من النمور والوحش وذللها وساقها معه إلى مصر. وعمل على حدود بلده منارات وزبر عليها مسيره وظفره والوقت الذى سار فيه. ولمّا وصل إلى مصر اعتلّ ورأى رؤيا تدلّ على موته، فعمل لنفسه ناووسا ونقل إليه شيئا كثيرا من أصنام الكواكب والذهب والجوهر والصنعة والتماثيل وهلك؛ فحمل إليه وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وجعل عليه طلّسما تمنع منه. وعهد إلى ابنه ماليق بن تدارس؛ فملك بعد أبيه. وكان غلاما كريما حسن الوجه، مجرّبا، مخالفا لأبيه وأهل بلده فى عبادة الكواكب والبقر.

ويقال: إنه كان موحّدا على دين أجداده قبطيم ومصريم، وكانت القبط تذمّه لذلك. وكان سبب إيمانه فيما حكى أنه رأى فى منامه أن رجلين لهما أجنحة أتياه فآختطفاه وحملاه إلى الفلك، فأوقفاه بين يدى شيخ أسود أبيض الرأس واللحية، فقال: هل عرفتنى؟ فدخلته فزعة الحداثة، وكانت سنه نيّفا وثلاثين سنة، فقال له: ما أعرفك! فقال: أنا قرويس، يعنى زحل، فقال: قد عرفتك، أنت إلهى، فقال: إنك وإن كنت تدعونى إلها فإنى مربوب مثلك، وإلهى الذى خلق السموات والأرض وخلقنى وخلقك، فقال: وأين هو؟ فقال: هو فى العلوّ لا تراه العيون، ولا تلحقه الأوهام، وهو الذى جعلنا سببا لتدبير العالم الأسفل. قال له ماليق الملك: فكيف أعمل؟ قال: تضمر فى نفسك ربوبيّته علينا. وتخلص فى وحدانيّته وتعرف بأزليّته. ثم إنه أمر الرجلين فأنزلاه؛ فانتبه وهو مذعور، فدعا رأس الكهنة فقصّ عليه رؤياه فقال: قد نهاك عن عبادة الأوثان فإنها لا تضرّ ولا تنفع، فقال له: من أعبد؟ قال: الله الذى خلق السموات والكواكب التى فيها والأرض ومن عليها. فكان الملك يحضر الهيكل فإذا سجد انحرف عن الصنم وأضمر السجود لخالق السموات والأرض دون غيره، ثم أخذ فى الغزو والغيبة عن أهل مصر وجال فى البلدان. قال: وقال بعض أهل مصر: إنّ الله تعالى أيّده بملك من الملائكة يعضّده ويرشده، وربما أتاه فى نومه، فأمره أن يأمر الناس باتخاذ كل فاره من الخيل، واتخاذ السلاح وما يصلح للأسفار، وإعداد الزاد، واتخذ فى بحر الغرب مائتى سفينة، وخرج فى جيش عظيم فى البرّ والبحر، فلقيه جموع البربر فى جموع لا تحصى فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إلى إفريقية وسار منها، وكان لا يمرّ بأمة إلّا أبادها إلى أن عدّى من ناحية الأندلس يريد الإفرنجة، وكان بها ملك عظيم يقال له: أرقيوس، فأقام يحاربه شهرا ثم طلب صلحه وأهدى له هدايا كثيرة فسار عنه، ودوّخ الأمم المتّصلة

بالبحر الأخضر «1» وأطاعه أكثرها. ومرّ بأمّة عراة لهم حوافر فى أرجلهم، وقرون صغار، وشعور كشعور الدوابّ، ولهم أنياب بارزة من أفواههم، فقاتلهم قتالا شديدا حتى أثخنهم، فنفروا منه إلى غيران «2» لهم مظلمة عظام. والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة، وعمل أعلاما على البحر وزبر عليها اسمه ومسيره، وخرب مدن البربر حيث كانت، وألجأهم إلى قرون الجبال ورجع؛ فتلقّاه أهل مصر بأصناف اللهو والطيب والرياحين، وفرشت له الطرقات ولقوه بابنه بلهقانس وكان ولد بعد مسيره فسرّبه. واتصل خبره بالملوك فهابوه وحملوا إليه الهدايا من كل وجه ومكان. قال: وبلغه أن قوما من البربر سحرة لهم تخاييل عجيبة وبخورات يدلّون بها، وأنهم فى مدينة لهم يقال لها: قرميدة، فى الغرب من مصر، قد ملّكو عليهم امرأة ساحرة يقال لها: اسطافا، فاتصل به كثرة أذاهم للناس فغزاهم، فلما قرب منهم ستروا عنه مدينتهم بسحرهم فلم يرها، وطمّوا مياههم فلم يعرفها، فهلك أكثر أصحابه عطشا. فلما ستروا عنه البلد صعد إلى ناحية الجنوب، ثم رجع على غير الطريق التى سار إليهم فيها، فمرّ بهيكل كان لهم يحضرونه فى أعيادهم، فهدم بعضه وسقط منه موضع على جماعة ممن تولّى هدمه فأهلكهم، فلما رأى ذلك تركهم وانصرف، وخرجوا إلى هيكلهم فبنوا ما سقط منه وحرسوه بطلّسمات محكمة، ونصبوا فوق قبّته طلّسما من نحاس مذهب، وكان إذا قصده أحد صاح صياحا منكرا يرعد منه من سمعه ويبهت فيخرجون إليه ويصطلمون «3» . وكانت ملكتهم أحذق منهم بالسحر فقالت:

إنى أعمل الحيلة فى إفساد مصر وأضرّ وآذى أهلها، فعملت أشياء وأرسلتها مع من ألقاها فى النيل، ففاض النيل على مزارعهم وغلّاتهم، وكثرت فيه التماسيح والضفادع، وكثرت العلل فى الناس، وانبثّت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء وقال: أخبرونى عن هذه الحوادث التى حدثت فى بلادنا ما هى؟ ولم لم تشرحوها فى طالع السنة؟ فاجتمعوا فى دار حكمتهم ونظروا حتى علموا أنه من ناحية الغرب، وأنّ امرأة عملته وألقته فى النيل، فعلم أنه من فعل تلك الساحرة، فقال لهم: اجهدوا أنفسكم فى هلاكها فقد بلغت فيكم مرادها، فاجتمعوا للهيكل الذى فيه صور الكواكب وأصنامها، وسألوا الملك الحضور معهم فلم يمكنه الخلاف عليهم. فلما أمسى لبس مسحا وافترش رمادا واستقبل مصلاه وأقبل على الابتهال إلى الله والتضرّع وقال: يا ربّ يا الله، أنت إله الآلهة، وخالق الخلق، ولا يكون شىء إلا بقضائك، أسألك أن تكفينى أمر هؤلاء القوم، وغلبه السهر فأغفى فى مصلاه، فرأى آتيا يقول له: قد رحم الله تضرّعك، وأجاب دعاءك، وهو مهلك هؤلاء القوم ومدمّر عليهم، وصارف عنك الماء المفسد والدوابّ المضرّة. فلمّا أصبح الكهنة غدوا عليه وسألوه حضور هيكلهم، فقال لهم: قد كفيتكم أمر عدوّكم وأهلكتهم، وأزلت الماء الفاسد والدوابّ المضرّة عنكم، ولن تروا بعدها شيئا تكرهونه، فنظر بعضهم إلى بعض كالمنكرين لقوله وقالوا: قد سررنا بما ذكره الملك، وهم يضمرون الاستهزاء به والتكذيب له، ومضوا إلى دار الحكمة فقال بعضهم: الرأى ألا تقولوا فى هذا شيئا، فإن كان حقّا وقفتم عليه، وإن كان باطلا اتسع لكم اللفظ فى لومه، وسيتبين لكم أمره. فلما كان بعد يومين انكشف ذلك الماء الفاسد، وهلكت تلك الدوابّ المضرّة، فعلموا أن الذى أخبرهم به حقّ؛ وأمر قائدا من قوّاده ورجالا من الكهنة أن يمضوا

حتى يعلموا علم هؤلاء القوم، فأتوا المدينة فوجدوا حصنها قد سقط وقد هلكوا بأجمعهم واحترقوا واسودّت وجوههم؛ ووجدوا الأصنام منكّسة على وجوهها، وأموالهم ظاهرة بين أيديهم، فطرقوا المدينة فلم يجدوا فيها غير رجل واحد كان مخالفا لهم بسبب رؤيا رآها؛ ووجدوا من الأموال والجواهر وأصنام الذهب والتماثيل ما لا يحصى ولا تعرف له قيمة، ووجدوا صورة كاهن لهم من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباد شم؛ ووجدوا صورة روحانىّ من ذهب، ورأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من درّ، وفى يده مصحف فيه كثير من علومهم فى دفّتين مرصّعتين بجوهر ملوّن؛ ووجدوا مطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة من زجاج أخضر مسبوك، وفيها فضلة من الماء الدافع لأسقامهم، وفرسا من فضّة من عزم عليه بعزائمه ودخنه بدخنة وركبه طار به فيما يزعمون، وغير ذلك من العجائب والأصنام؛ فحملوا من ذلك ما قدروا عليه من الأموال والجواهر، وسأل الملك ذلك الرجل: ما أعجب ما رأيت من أعمالهم؟ فقال: نعم أخبرك أيها الملك؛ إنه قصدهم بعض ملوك البربر، وكان جبّارا من أهل بيت سحر، فجاء بالجموع الكثيرة وتخاييل هائلة، فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجأوا إلى أصنامهم يخضعون لها ويتضرّعون إليها، وكان لهم كاهن عظيم الشأن، فسار إليه رؤساؤهم وشكوا اليه مادهمهم من عدوّهم، فأتى إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافّتها وأحاط رؤساء الكهنة بها وزمزم على ماء البركة، فلم يزل كذلك حتى فار الماء وفاض، وخرجت من وسطه نار تتأجج، وظهر من وسطها وجه كدارة الشمس وعلى صورتها وضوئها، فخرّ الجماعة وسجدوا لذلك الوجه، وتجلّلهم نور؛ وجعل يعظم حتى ملأ البركة، وصعد حتى خرق سقف القبّة، ثم ارتفع إلى رأسها وسمعته يقول: قد كفيتكم شرّ عدوّكم، وأمرهم أن يأخذوا دوابّهم ففعلوا

ذلك، وهلك الملك الذى قصدهم وجميع من كان معه، وانصرفوا؛ فأقبلوا يأكلون ويشربون، فقلت لبعض الكهنة: لقد رأيت عجبا من ذلك الوجه فما هو؟ فقال: تلك الشمس تبدّت لنا فى صورتها وأهلكت عدوّنا، صاحت بهم صيحة أحرقتهم فأصبحوا خامدين. قال: وكان هذا الرجل عاقلا فاتخذه ماليق وزيرا. ولم يزل ماليق على التوحيد، وهو مع ذلك يساير أهل البلد خوفا من اضطراب ملكه، وأمر أن يعمل له ناووس، فكان يقصده ويتعبّد فيه، وأمر ألا يدفن معه ذهب ولا جوهر، فلم يدفن معه شىء سوى الطّيب وصحيفة مكتوبة بخطه فيها: هذا ناووس ملك مصر ماليق، مات مؤمنا بالله العظيم لا يعبد معه غيره، بريئا من الأصنام وعبادتها، مؤمنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، عاش كذا وكذا سنة، ملك فيها كذا وكذا، فمن أحبّ النجاة من عذاب الآخرة فليدن بما دان به. وأوصى ألا يدفن معه فى ناووسه أحد من أهله، وكان قد كنز كنوزا عظيمة وزبر عليها أن تخرجها أمة النبىّ المبعوث فى آخر الزمان. واستخلف ابنه حرمان «1» بن ماليق. قال: وكان ليّنا سهل الخلق، لم يمت أبوه حتى شرح له التوحيد، وأمره أن يدين به، ونهاه عن عبادة الأصنام؛ وكان معه على ذلك فى حياته، ثم رجع عنه بعد وفاته الى دينهم. وكان سبب رجوعه الى عبادة الأصنام أنّ أمّه كانت من بنات كبار الكهّان، فنقلته بعد موت أبيه الى دينها وغلبته على رأيه، وأمرت بتجديد الهياكل وتشدّدت فى عبادة الأصنام. وتزوّج حرما امرأة من بنى عمّه فأحبّها حبّا شديدا وهام بها، فأفسدته على جميع نسائه،

فاشتدّ ذلك على أمه، وكانت له قهرمانة من أهل سيوط ساحرة لا تطاق، وكانت تميل الى هذه المرأة لأنها كانت تعشق أخاها؛ فزادت فى سحرها لتلك المرأة فأوحشت ما بين الملك وأمّه حتى رفضها واستخفّ بأمرها، وزاد الأمر حتى حلف ألّا يجاورها، وأنه يغزو وينصرف فلا يرجع الى مصر أو يتّصل به موتها، ففعل ذلك وغزا بلد الهند وأرض السودان. وكان سبب خروجه الى الهند أن ملكا من ملوكها يقال له مسور خرج فى عدد كثير وسايرته مراكبه فى البحر ففتح بلدانا وجزائر، وأكثر القتل والسبى؛ وذكرت له مصر فقصدها واعتلّ فرجع من طريقه، فأمر حرما الملك بعمل مائة سفينة على شكل سفن الهند، وتجهّز وركب وحمل معه المرأة ووجوه أصحابه وقوّاده، واستخلف ابنه كلكن على مصر وكان صبيّا، وجعل معه وزيرا يقال له لاون، وكاهنا يقال له ويسموس، وخرج فمرّ على ساحل اليمن وعاث فى مدائنه. وكان لا يمرّ بمدينة إلا أقام صنما وزبر عليه اسمه ومسيره ووقته، وبلغ سرنديب «1» فأوقع بأهلها، وغنم منها مالا وجوهرا كثيرا، وحمل معه حكيما لهم، وبلغ جزيرة بين الهند والصين بها قوم سمر طوال يجرّون شعورهم، ورأى لهم الدوابّ والطيور وشجر الطيب والنارجيل والفواكه التى لا تكون إلا عندهم، فأذعنوا له بالطاعة وحملوا اليه أموالا وهدايا فقبلها وسار عنهم. وأقبل يتنقّل فى تلك الجزائر عدّة سنين؛ فقيل: إنه أقام فى سفره سبع عشرة سنة، ورجع إلى مصر بالظّفر والغنيمة، ووجد أمه قد هلكت، ووجد ابنه على الملك كما استخلفه؛ فسرّ بذلك وهابه من حوله من الملوك. وبنى عدّة هياكل وأقام فيها أصنام الكواكب؛ لأنها- فيما زعم- هى التى أيّدته فى سفره حتى ظفر بما ظفر به وغنم ما غنمه. وقد كان حمل

معه من الهند حكيما وطبيبا، وكان معهما من كتبهم وحكمهم ما أظهرا به فى مصر عجائب مشهورة، وحمل معه صنما من أصنام الهند من الذهب مقرّطا بالجوهر، فنصبه على بعض الهياكل التى عملها. وكان حكيم الهند يقوم به ويخدمه ويقرّب له. وكان يخبرهم بما يريدون منه. قال: وأقام حرما بعد منصرفه من الهند مدّة ثم غزا نواحى الشام فأطاعه أهلها وهادوه ورجع إلى مصر. ثم غزا نواحى النوبة والسودان فصالحوه على خراج يحملونه له، ورفع أقدار الكهنة وزاد فى تعظيم دينهم؛ فصوّروه فى هياكلهم ومضاجعهم، وملكهم خمسا وسبعين سنة. وعمل لنفسه فى صحراء الغرب ناووسا، وعمل برقودة «1» مصانع وعجائب، وأقام بها إلى أن مات وابنه كلكن بمنف، فضمد جسده بالمومميا والكافور والمرّ، وجعل فى تابوت من ذهب، وجعل معه مال كثير، وجوهر نفيس، وسلاح عجيب، وتماثيل وصنعة وعقاقير، ومصحف الحكمة. وصوّر فى جانب الناووس صورا وزبر عليها ذكر السفن التى سار فيها، والبلدان التى فتحها، وسدّ باب الناووس وزبر عليه اسمه ومدّته وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وقتل جماعة من نسائه أنفسهنّ عليه. وكان جميلا سمح الأخلاق، واغتمّ عليه الكهنة لإكرامه لهم، وأهل المملكة لاتباعه لهم. وملك بعده ابنه كلكن بن حرما، وعقد التاج على رأسه بالإسكندرية بعد موت أبيه وأقام بها شهرا ورجع إلى منف. وكان أصناميّا على دين أبيه واستبشر به أهل مصر. وكان يحبّ الحكمة وإظهار العجائب ويقرّب أهلها ويكثر جوائزهم. ولم يزل يعمل الكيمياء فى مدّة ملكه؛ فحزن أموالا عظيمة بصحارى الغرب. وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر وكان مكتوما. وكان الملوك قبله

أمروا بترك صنعتها لئلا تجتمع ملوك الأمم على غزوهم، فعملها كلكن وملا دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب بمصر أكثر منه فى وقته ولا الخراج؛ لأنه كان فى وقته- فيما حكاه القبط- مائة ألف ألف وبضعة عشر ألف ألف مثقال. قال: وكان المثقال الواحد من الصّنعة يطرح على القناطير الكثيرة فيصبغها، فاستغنوا عن إثارة المعادن لقلّة حاجتهم إليها. وعمل من الحجارة المسبوكة الملوّنة الصمّ التى تشفّ شيئا كثيرا لم يعمل مثله أحد ممن تقدّمه. وعمل من الأدرك «1» الملوّن والفيروزج أشياء تخرج عن العقول، حتى كان يسمّى حكيم الملوك. وغلب جميع الكهنة فى علومهم، وكان يخبرهم بما يغيب عنهم، فهابوه واحتاجوا إلى علمه. وكان نمروذ بن كنعان الذى أهلكه الله تعالى على يد إبراهيم الخليل عليه السلام فى وقته، فيقال: إنه لما اتصل بنمروذ خبر حكمته استزاره فوجّه إليه أن يلقاه منفردا من أهله وحشمه بموضع كذا، ففعل النمروذ ذلك وسار إلى الموضع الذى ذكره، وأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة، وقد أحاط به نور كالنار، وحوله صور هائلة قد خيّل بها، وهو متوشّح بثعبان محتزما ببعضه، والثعبان فاغر فاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك الثعبان رأسه ضربه بالقضيب. فلما رآه النمروذ هاله أمره وخاطبه؛ فاعترف له بجليل الملك والحكمة، وسأله أن يكون ظهيرا له. وتقول القبط: إن كلكن الملك كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربىّ فى قبّة تلوح على رأسه. وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم. ويقولون: إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم استتر عنهم مدّة حتى توهّموا أنه هلك. وكان يجول فى الأرض وحده حتى طمعت الملوك التى حوله

فى ملكه؛ فقصده ملك من ملوك الغرب يقال له «سادوم» فى جيش عظيم، وأقبل من ناحية المغرب من نحو وادى هبيب «1» ليكبس البلد، فأقبل حتى وافاهم، ثم جلّلهم بشىء من سحره كالغمام شديد الحرارة، فأقاموا تحته أياما لا يدرون أين يتوجّهون، فطار إلى مصر فآستأنس الناس لمقدمه، فعرّفهم ما جرى وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا خبرهم، فوجدوهم ودوابّهم أمواتا فعجبوا لذلك، وهابه الكهنة هيبة لم يهابوها أحدا قبله، وصوّروه فى جميع الهياكل، وملكهم زمانا. وبنى فى آخر عمره هيكلا لزحل من صوّان أسود فى ناحية الغرب، وجعل له عيدا، وجعل فى وسطه ناووسا، وحمل إليه ما أراد من ذهب وجوهر، وحكم وعقاقير، وعرّفهم بموته، وجعل على باب الناووس طلّسمات تمنع منه، وغاب عنهم فلم يقفوا على موته. وكان قد أوصى إلى ابنه ماليا بن كلكن فملك بعد أبيه. وكان شرها كثير الأكل والشرب، منفردا بالرفاهة، غير ناظر فى شىء من الحكمة، وجعل أمر البلد إلى وزير له. وكان معجبا بالنساء؛ وكان له ثمانون امرأة، ثم اتخذ امرأة من بنات الملوك التى بمنف وكانت عاقلة سديدة الرأى، وكان بها معجبا فحمته النساء. وكان له بنون وبنات، وكان أكبر بنيه يقال له: طوطيس، فكان يستجهل أباه فأعمل الحيلة فى قتله، وإنما حملته على ذلك أمه وجماعة نسائه وبعض وزراء أبيه؛ فهجم عليه فى وزرائه وهو سكران وتلك المرأة عنده فقتله وقتل المرأة وصلبها.

وملك بعده ابنه طوطينس بن ماليا وجلس على سرير الملك. وكان جبّارا جريئا شديد البأس مهيبا؛ فدخل عليه الأشراف وهنئوه ودعوا له، وأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم، ووعدهم الإحسان. والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام. ويقولون إن الفراعنة سبعة هو أوّلهم. قال: ثم تذاكر الناس ما فعله بأبيه وأنكروه واستقبحوا صلبه المرأة فأنزلها ودفنها، واستخفّ بالكهنة والهياكل. ولنذكر خبره مع إبراهيم الخليل عليه السلام فى أمر سارة «1» ، ونورد من ذلك ما أورده أهل الأثر وما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ من هذه القصة. قال إبراهيم بن القاسم الكاتب فى سياقه أخباره: لما فارق إبراهيم عليه السلام قومه والنمروذ بن كنعان ونزل الشام ثم خرج إلى مصر ومعه سارة امرأته وخلّف ابن أخيه لوطا بالشام وسار إلى مصر، وكانت سارة أحسن نساء العالمين فى وقتها، ويقال إن يوسف الصدّيق ورث جزءا من حسنها لأنها جدّة أبيه. قال: فلما سار إبراهيم إلى مصر وأتى الحرس المقيمون على أبواب المدينة فرأوا سارة وعجبوا من حسنها ورفعوا خبرها إلى طوطيس «2» . وقد روينا فى ذلك حديثا بسندنا الذى قدّمناه إلى أبى عبد الله البخارىّ رحمه الله قال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل بها قرية «3» فيها ملك

من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هى من أحسن النساء؛ فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التى معك؟ قال: أختى. ثم رجع إليها فقال: لا تكذّبى حديثى فإنى أخبرتهم أنك أختى؛ والله إن «1» على الأرض من مؤمن غيرى وغيرك؛ فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت توضّأ وتصلى، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغطّ «2» حتى ركض برجله. قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال «3» هى قتلته فأرسل، ثم قام اليها فقامت توضّأ وتصلى وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله. قال عبد الرحمن: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: فقالت: اللهم إن يمت فيقال هى قتلته فأرسل فى الثانية أو فى الثالثة. فقال: والله ما أرسلتم الىّ إلا شيطانا! إرجعوها الى إبراهيم وأعطوها آجر، «4» فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة» . هذا ما رويناه من صحيح البخارى «5» . وقد ورد فى أخبار طوطيس زيادات نذكرها؛ وهو أن الملك لما أطلقته فى المرة الثالثة قال لها: إن لك ربّا عظيما لا يضيّعك؛ وأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت: هو قريبى وزوجى. قال: فإنه ذكر أنك أخته. قالت: صدق أنا أخته فى الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم! ووجهها الى ابنته حوريا، وكانت من العقل والكمال بمكان كبير، فألقى الله تعالى محبة سارة فى قلبها فعظّمتها حوريا وأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها جوهرا ومالا، فأتت

به إبراهيم عليه السلام فقال لها: ردّيه فلا حاجة لنا به فردته؛ فذكرت حوريا ذلك لأبيها فعجب منها وقال: هؤلاء من قوم كرام ومن أهل بيت طهارة فتحيّلى فى برّها بكل حيلة، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجوارى يقال لها آجر، وهى هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وعملت لها سلالا من الحلوى وقالت: يكون معك هذا للزاد. وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليّا مصبوغا مكلّلا. فقالت: أشاور صاحبى؛ فأتت إبراهيم عليه السلام فشاورته فقال: إذا كان مأكولا فخذيه، فقبلته منها وخرج إبراهيم عليه السلام. فلما أمعنوا فى السير أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلىّ، فعرّفت إبراهيم ذلك، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التى جعلها للسبيل وفرّق بعضه فى وجوه البرّ، وكان يضيف كل من مرّ به. قال: وعاش طوطيس إلى أن وجهت إليه هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر نهر فى شرقىّ مصر يمرّ بسفح الجبل حتى ينتهى إلى مرفأ السفن فى البحر المالح، فكان يحمل إليهما الحنطة وأصناف الغلّات فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدّة. ويقال: إن كل ما حلّيت به الكعبة فى ذلك العصر هو مما أهداه ملك مصر. ويقال: إنه لكثرة ما كان طوطيس يحمله إلى الحجاز سمّته العرب «جرهم الصادق» وكذلك يسمّيه كثير من أهل الأثر. وقد تقدّم فى قصة «1» إبراهيم الخليل عليه السلام أن اسم الملك صادوق، ويقال: إنه سأل إبراهيم عليه السلام أن يبارك له فى بلده، فدعا بالبركة لمصر، وعرّفه إبراهيم أن ولده سميلكها ويصير أمرها إليه. قال: وطوطيس أوّل الفراعنة بمصر؛ وذلك أنه أكثر القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبنى عمه وخدمه ونسائه، وأكثر الكهنة والحكماء. وكان حريصا على الولد

فلم يرزقه الله ولدا غير ابنته حوريا، وكانت عاقلة حكيمة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء، فأبغضته وأبغضه الخلق: الخاص والعام. فلما رأت أمره يزيد خافت على زوال ملكهم فسمّته فهلك. وكان ملكه سبعين سنة. ولما مات اختلفوا فيمن يملّكوه عليهم بعده فقالوا: لا يملّك علينا أحد من أهل بيته، وأرادوا تمليك بعض ولد أتريب؛ فقام بعض الوزراء ودعا إلى تمليك ابنته لصنيعها فيه، ولما كانت تنكر عليه، وتبعه أكثر القوّاد والوجوه فتمّ لها الأمر. وملكت حوريا بنة طوطيس وجلست على سرير الملك، ووعدت الناس بالإحسان، وأخذت فى جمع الأموال وحفظها، فاجتمع لها من الأموال والجوهر والحلىّ والطيب ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة ورؤساء السّحرة ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وتعظيمها. وسار من لم يرضها إلى مدينة أتريب وملّكوا عليهم رجلا من ولد أتريب يقال له أنداخس؛ فعقد على رأسه تاجا وانضمّ إليه جماعة من بنى عمه وأهل بيته، فأنفذت إليه جيشا فحاربه؛ فلما رأى أنه لا طاقة له بها دعاها إلى الصلح وخطبها إلى نفسه وقال لها: إن الملك لا يقوم بالنساء، وخوّفها أن يزول ملكهم بمكانها؛ فعملت صنيعا وأمرت أن يحضره الناس على منازلهم، فحضروا وأكلوا وشربوا وبذلت لهم الأموال وعرّفتهم ما جرى من خطبتها، فبعض صوّب الرأى، وبعض امتنع وقالوا: لا يتولّى علينا غيرها لمعرفتنا بعقلها وحكمتها، وهى وارثة الملك؛ ووثبوا على نفر ممن خالفها فقتلوهم، وخرجوا فى جيش كثيف فلقوا جيش الخارج بأتريب فهزموه وقتلوا كثيرا من أصحابه، فهرب إلى أرض الشام وبها الكنعانيون من ولد عمليق، فاستغاث بملكهم وضمن له أخذ مصر وفتحها، فجهزه بجيش عظيم إلى مصر، فاجتمع الناس كلهم إلى حوريا، ففتحت خزائن أبيها وفرّقت ما فيها على الناس فأحبّوها، وقوّت السحرة بالمال ووعدتهم الإحسان.

فلما تقدّم أنداخس بالجيوش أمرت السّحرة أن يعملوا له عملا، وكان على جيوشهم قائد من عظماء قوّاد ملكهم يقال له جيرون؛ فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء إلى جيرون سرّا من أنداخس تعرّفه رغبتها فى تزويجه، لأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل أنداخس تزوّجت به وسلمت إليه ملك مصر ومنعت منه صاحبه. فرغب فى ذلك وسمّ أنداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله؛ فوجهت إليه أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى تظهر فى بلدى قوّتك وحكمتك وتبنى لى مدينة عجيبة- وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام وعمل العجائب- وقالت له: انتقل من موضعك هذا إلى غربىّ بلدى فثمّ آثار لنا كثيرة فاقتف تلك الأعمال الغريبة وابن عليها. ففعل ذلك وبنى لها مدينة بصحراء الغرب يقال لها تندومة «1» ، وجرّ إليها من النيل نهرا وغرس عليها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا، وعمل فوقه منظرا وصفّحه بالذهب والفضة والصّفر والرخام الملوّن والزجاج المسبوك وأبدع فى عمله. وكانت تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه وهو لا يعلم. فلما فرغ من بناء المدينة قالت له: إن لنا مدينة حصينة كانت لأوائلنا وقد خربت منها أمكنة [وتشعّث حصنها «2» ] فامض إليها واعمل فى إصلاحها إلى أن أنتقل إلى هذه المدينة التى بنيتها وأنقل إليها جميع ما يحتاج إليه، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة فأنفذ إلىّ جيشا حتى أصير إليك وأنظر ما صنعته، وأبعد عن مدينتى وأهل بيتى فإنى أكره أن آتيك بالقرب منهم. فمضى وجدّ فى عمل الإسكندرية الثالثة. قال: وأهل التاريخ يسوقون شيئا من أخبار أنداخس ويذكرون أنه الذى قصد الوليد بن دومع العمليقى، وهو ثانى الفراعنة. وكان سبب قصده له أنه كانت به علّة فوجّه إلى المواضع ليحمل إليه من مياهها حتى يعرف ما يلائم جسده، فوجّه

غلاما له فأتى مملكة مصر ووقف على كثرة خيراتها «1» وحمل إلى صاحبه من مائها وألطافها وعاد إليه، فعرّفه حال مصر فقصدها فى جيش كثيف حتى حطّ عليها، وكاتب الملكة وخطب إليها نفسها، فوجهت إليه من أشرف على حاله فوجد قوما عظاما لا يقوم بحربهم، فأجابته إلى التزويج وألطفته وشرطت عليه أن يبنى لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته ويجعلها مهرا لها، فأجابها ودخل مصر وانتهى إلى ناحية الغرب ليبنى لها المدينة ناحية الإسكندرية، فأمرت أن يتلقّى بأصناف الرياحين والفواكه وتخلّق وجوه الخيل؛ فمضى إلى الإسكندرية- وقد خربت بعد خروج العاديّة «2» منها- فنقل منها ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها ووضع أساس مدينة عظيمة وبعث إليها مائة ألف فاعل، فأقام فى بنائها مدّة وأنفق جميع ما كان معه من المال، وكان كلما بنى بناء خرجت من البحر دوابّ تقلعه فإذا أصبح لم يجد منه شيئا؛ فاهتمّ لذلك. وكانت حوريا قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها فى مطبخه، وكانت مع راع يثق به، وكان ذلك الراعى يطوف بها ويرعاها هناك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه فإن صرعها كانت له وإن صرعته أخذت رأسين من المعز؛ فكانت على طول الأيام تصرعه وتأخذ من الغنم حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحب تلك الصورة عن رعيها، وتغير هو أيضا فى جسمه ونحل، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله وحال الغنم فخبّره الخبر خوف سطوته فقال: أى وقت تخرج؟ قال: قرب المساء. فلبس ثياب الراعى وتولّى رعية «3» الغنم يومه إلى المساء، وخرجت الجارية فشرطت عليه كما شرطت على الراعى، فأجابها وصارعها فصرعها وقبض عليها وشدّها فقالت له: إن كان لا بدّ

من أخذى فسلّمنى لصاحبى الأوّل فإنه ألطف بى، وقد عذّبته مرة بعد مرة، فردّها إليه وقال له: سلها عن هذا البنيان الذى بنيته ويزول من ليلته من يفعل به ذلك؛ وهل فى بنائه من حيلة؟ فسألها الراعى عن ذلك فقالت: إن دوابّ البحر التى تنزع بنيانكم. قال: فهل فيها من حيلة؟ قالت: نعم. قال: وما هى؟ قالت: تعمل توابيت من زجاج كثيف بأغطية وتجعل فيها قوما يحسنون الصناعة فى التصوير، وتجعل معهم صحفا وأنقاشا وزادا يكفيهم أياما، وتجعل التوابيت فى المراكب بعد أن تشدّها بالحبال، فإذا توسّطوا الماء صوّر المصوّرون جميع ما مرّ بهم وترفع تلك التوابيت من الماء، فإذا وقفتم على تلك الصور فآعملوا لها أشباها من الصّفر أو من الحجارة أو من الرصاص وانصبوها أمام البنيان الذى تبنونه من جانب البحر، فإن تلك الدوابّ إذا خرجت ورأت صورها هربت ولم تعد. فعرّفه الراعى ذلك ففعله، وتمّ بناء المدينة. وقال قوم من أهل التاريخ: إن صاحب البناء والغنم جيرون [المؤتفكىّ «1» ] وكان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم بعد حوريا وقهرهم جيرون وملك مصر. وذكروا أن الأموال التى كانت مع جيرون نفدت كلها فى تلك المدّة ولم يتم البناء، فأمر الراعى فسأل تلك الجارية فقالت: إن فى المدينة التى خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رءوسها تماثيل [من «2» ] صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا ولطّخ العمود الذى عليه التمثال من دم الثور، وبخّره بشعر من ذنبه وشىء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له: هذا قربانك فأطلق لى ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التى يتوجّه إليها وجه التمثال مائة ذراع واحفر، وليكن ذلك فى وقت امتلاء القمر واستقامة زحل؛ فإنك تنتهى بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة فلطّخها بمرارة الثور وأقلعها فإنك تنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا فى آخره خزانة مقفلة ومفتاح

القفل تحت عتبة الباب فخذه ولطّخ الباب ببقية مرارة الثور ودمه وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعره، وادخل الباب بعد أن تخرج الرياح التى فيه، فإنه يستقبلك صنم فى عنقه لوح من صفر معلق مكتوب فيه جميع ما فى الخزانة من مال وجوهر وتمثال وأعجوبة، فخذ منه ما شئت ولا تتعرض لميت تجده ولا لما عليه؛ وكذلك فافعل بكل عمود وتمثاله؛ فإنك تجد فى تلك الخزائن نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم. فلما سمع ذلك سرّ به وفعله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا؛ فتم بناء المدينة. واتصل ذلك بحوريا فساءها؛ وإنما كانت أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة عليه. فيقال: إنه فيما وجد من العجائب درج ذهب مختوم بطين ذهب فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر ومعها عرق جوهر أحمر، من اكتحل من ذلك الذّرور وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره وأضاء بصره حتى يدرك النظر إلى أصناف الروحانيين، ووجد تمثال من الذهب إذا أظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شىء صوّت وأجاب عنه. ويقال: إنه كان فى كل خزانة عشر أعجوبات. قال: فلما فرغ جيرون من بناء المدينة وجه إليها يعلمها ذلك ويحثّها على القدوم، فحملت إليه فرشا فاخرة وقالت: ابسطها فى المجلس الذى تجلس فيه، وأقسم جيشك أثلاثا وأنفذ إلىّ ثلثه، حتى إذا بلغت ثلث الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الباقى، ويكونون من ورائى لئلا يرانى أحد إذا دخلت عليك، ولا يكن عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك فإنى أوافيك فى جوار تكفيك الخدمة ولا أحتشمهنّ؛ ففعل. وأقامت تحمل إليه الجهاز والأموال حتى علم بمسيرها ووجه إليها ثلث جيشه فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، فلما أتوها استنزلهم جواريها وحشمها وأقبلوا عليهم بتلك الأطعمة والأشربة والطيب والكساء

واللهو فلم يصبح منهم أحد يعيش، ولقيها الثلث الثانى والثالث بعده ففعلت بهم كذلك، وهى توجّه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونه، إلى أن دخلت عليه هى وظئرها وجوار كنّ معها، فنفخت ظئرها فى وجهه نفخة بهت إليها ورشّت عليه ماء كان معها فارتعدت مفاصله فقال: من ظنّ أنه يغلب النساء فقد كذبته نفسه وغلبته النساء، ثم فصدت عروقه وأسالت دمه وقالت: دماء الملوك شفاء. وأخذت رأسه فوجّهت به إلى قصرها فنصب عليه وحملت تلك الأموال الى منف. وبنت منارا بالاسكندرية وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلت به وتاريخ الوقت. قال: ولما اتصل خبرها بالملوك الذين يتاخمون بلدها، هابوها وأذعنوا لها وهادوها. وعملت بمصر عجائب كثيرة، وأقطعت أهل بيتها وقوّادها وحشمها أقطاعا كثيرة، وأمرت أن يبنى على حدّ مصر من ناحية النوبة حصن وقنطرة يجرى ماء النيل من تحتها. واعتلت حوريا فاجتمع اليها أهل مملكتها وسألوها أن تقدّم عليهم ملكا، ولم يكن فى ذلك الوقت من ولد أبيها وأهل بيته من يصلح لذلك، فقلدت عمتها دليفة بنت ماموم «1» ، وكانت عذراء من عقلاء النساء وكبراهنّ، فعهدت اليها وأخذت لها المواثيق على أهل مصر ألا يسلموها وأن يتبعوا أمرها، وسلمت اليها مفاتيح خزائنها، وأطلعتها على مواضع كنوز آبائها وكنوزها، وأمرت أن يضمّد جسدها بالكافور وتحمل الى المدينة التى بنيت لها فى صحراء الغرب، وقد كانت عملت لها فيها ناووسا وعملت فيه عجائب ونقلت اليه أصنام الكواكب، وزينته بأحسن الزينة ونصّبت له قومة، وأسكنت تلك المدينة جماعة من الكهنة وأصحاب العلوم والمهن وبعض الجيش، وعمرت تلك المدينة فلم تزل على حالها من العمارة الى أن خرّبها بختنصّر وحمل بعض كنوزها.

وجلست دليفة بنت ماموم على سرير الملك بعد وفاة حوريا، واجتمعت الكلمة عليها وأحسنت الى الناس ووضعت عنهم خراج سنة، وقام عليها أيمين يطلب بثأر خاله انداخس، واستنصر بملك العمالقة «1» فوجّه معه قائدا من قوّاده فى جيش كثيف، فأخرجت اليه دليفة بعض قوّادها فالتقوا بالعريش، وجعل سحرة الفريقين يظهرون التخاييل الهائلة والعجائب العظيمة والأصوات التى تقرع الأسماع وتؤلمها، فأقاموا مدّة يتكافئون الحرب ويتراجعون فهلك بينهم خلق كثير، ثم انهزم أصحاب دليفة الى منف وسار أصحاب أيمين فى آثارهم، ومضت دليفة فى جمع من جيوشها الى ناحية الصعيد فنزلت الأشمونين وأنفذت من قدرت عليه من الجيوش ووقعت الحرب بينهم بناحية الفيوم وخلّى أصحاب دليفة الماء بينهم وبين عدوّهم، واستنجدت دليفة بأهل مدائن الصعيد فحاربوا أصحاب أيمين حتى أزالوهم عن منف، وكانوا قد ظفروا بها وعاثوا فيها، فهزموهم حتى ركبوا المراكب وعدوا الى ناحية الحوف، وكان معهم ساحر من أهل ناحية قفط فأظهر بسحره نارا حالت بينهم وبين أصحاب دليفة، فلما زاد الأمر وأشفق أهل مصر من خروجها عن أيديهم سفر السفراء بينهم على أن يجعلوا البلد قسمة بينهم فأجاب كل منهما الى الصلح، ثم غدرت دليفة بعد ذلك بأيمين وأخرجت الأموال والجواهر وفرقتها فى الناس، وكان بعضهم قد لامها فى الصلح، فرجعت الى الحرب فأقاموا ثلاثة أشهر ثم ظهر أيمين عليها وهزمها الى ناحية قوص وسار خلفها وتمكن من المملكة، فلما رأت ذلك سمّت نفسها فهلكت. وملك بعدها أيمين؛ فتجبر وقتل خلقا كثيرا ممن كان حاربه. وكان الوليد بن دومع العمليقى قد خرج فى جيش كثيف يتنقل فى البلدان ويقهر ملوكها ليسكن

ما يوافقه منها؛ فلما صار بالشام انتهى اليه خبر مصر وعظم قدرها، وأن أمرها قد صار الى النساء وبادت ملوكها، فوجه غلاما له يقال له عون، فسار الى مصر وفتحها وحوى أموالا، ومولاه لا يعرف خبره ولا يشك فى هلاكه وهلاك الجيش الذى معه، لما كان يسمع عما بمصر من الطلّسمات والسحر؛ ثم اتصل به خبره فسار الى مصر فتلقاه عون وعرّفه أنه كان عزم على المسير اليه وإنما أراد تعديل البلد وإصلاحه فقبل قوله ودخل. وملك مصر الوليد بن دومع العمليقىّ، واستباح أهلها وأخذ أموالها وقتل جماعة من كهنتها، ثم سنح له أن يخرج فيقف على مصبّ النيل ويعرف ما بناحيته من الأمم ويغزوهم، فأقام ثلاث سنين يستعدّ لخروجه، وأصلح ما يحتاج اليه، واستخلف عونا على البلد وخرج فى جيش كثيف فلم يمرّ بأمة إلا أبادها. فيقال: إنه أقام فى سفره سنين كثيرة، وإنه مرّ على أمم من السودان وجاوزهم، ومرّ على أرض الذهب وفيها قضبان نابتة؛ ولم يزل يسير حتى بلغ البطيحة «1» التى ينصبّ ماء النيل اليها من الأنهار التى تخرج من تحت جبل القمر «2» ؛ ثم سار حتى بلغ هيكل الشمس فدخله. ويقال: إنه خوطب فيه. وسار حتى بلغ جبل القمر؛ وهو جبل عال. وإنما سمى جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه لخروجه عن خط الاستواء. ونظر الى النيل يخرج من تحته. وقد تقدّم خير النيل «3» .

ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها

قال: ودخل الوليد القصر الذى فيه تماثيل النحاس التى عملها هرمس الأوّل فى وقت البودسير الأوّل بن قفطريم. قال: ولما بلغ الوليد جبل القمر رأى جبلا عاليا فأعمل الحيلة وصعد عليه ليرى ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزفتىّ المنتن، ونظر إلى النيل يجرى عليه كالأنهار الرقاق، وأتته من ذلك البحر روائح منتنة هلك كثير من أصحابه من ريحها فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك. قال: وذكر قوم أنهم لم يروا شمسا ولا قمرا وإنما رأوا نورا أحمر كنور الشمس عند مغيبها. وأقام الوليد فى غيبته أربعين سنة. وأما عون الذى استخلفه بمصر فإنه فعل فى غيبة الوليد ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها قال: ولما مضت من غيبة الوليد بن دومع سبع سنين تجبّر غلامه عون بمصر، وادّعى أنه الملك، وأنكر أن يكون غلاما للوليد، وأنه أخوه وقلّده الملك بعده، ووثب على الناس وغلبهم بالسحرة وأسنى جوائزهم ولم يمنعهم محابّهم؛ فمالوا إليه ووثّقوا أمره، فلم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه. وكان مع ذلك يلزم الهياكل ويكرم الكهنة، فكانوا يمسكون عنه إشفاقا منه وخوفا من السحرة الذين معه؛ إلى أن رأى فى منامه الوليد بن دومع وكأنه يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك، وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل، ونكحت بنات الملوك وأخذت الأموال بغير واجب، ثم أمر بقدور فملئت زيتا وأحميت على أنه يغمر فيها، فلما غلت أمر بنزع ثيابه فأتى طائر فى صورة عقاب فاختطفه من أيديهم وحلق به فى الجوّ وجعله فى هوّة على رأس جبل، وأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حية، فانتبه مرعوبا طائر العقل. وقد

كان فى فعله ذلك وتملّكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة كاد عقله يزول، خوفا منه لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوّته. ولم يتيقّن هلاكه وأضمر فى نفسه الهرب من مصر بما معه من الأموال. قال: ولما رأى الرؤيا لم يشك فى حياة الوليد وأنه سيعود، فأطلع بعض السّحرة ممن يثق به على أمره وقال: إنى خائف من الوليد وقد عزمت على الخروج من مصر فما الوجه عندكم؟ قالوا: نحن ننجيك منه على أن تقبل منا. قال: قولوا، قالوا: تعمل عقابا وتعبده؛ فإن الذى حصّنك منه أحد الروحانيين وهو يريد ذلك منك. قال عون: أشهد لقد قال لى وأنا معه: أعرف لى هذا المقام ولا تنسه. قالوا: قد بينا لك. فأجابهم إلى ذلك وعمل عقابا من ذهب وعمل عينيه جوهرتين ووشّحه بأصناف من الجوهر، وعمل له هيكلا لطيفا وجعله فى صدره وأرخى عليه ستور الحرير، وأقبل أولئك يبخّرونه ويقرّبون إليه ويسحرون إلى أن نطق لهم، فأقبل عون على عبادته ودعا الناس إليها فأجابوه. فلما مضى لذلك مدّة أمره العقاب ببناء مدينة يحوله إليها وتكون معقلا له وحرزا من كل أحد. فأمر عون أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا كل أرض سهلة حسنة الاستواء، ويكون المدخل إليها بين هجول «1» صعبة وجبال وعرة، ويتوخّوا أن تكون قريبة من ناحية مغيض الماء التى هى اليوم الفيوم. وكانت مغيضا لماء النيل حتى أصلحها يوسف عليه السلام على ما نذكره إن شاء الله. وإنما أراد عون بذلك ليجرّ الماء منها إلى مدينته التى يبنيها؛ فخرج أصحابه وأقاموا شهرا يطوفون الصحارى حتى وجدوا له بغيته، ولم يبق فاعل ولا مهندس ولا أحد ممن

يبصر البناء ويقطع الصخور وينحتها إلا وجّه به عون إليها، وأنفذ معهم ألف رجل من جيشه وسبعمائة ساحر يعاونونهم بالروحانيين الذين فى طاعتهم، وأنفذ معهم جميع الآلات وأقام يحمل لهم الزاد إلى هناك شهورا على العجل؛ وطريق العجل على الفيوم واضحة فى صحراء الغرب وخلف الأهرام- وهى التى يقصدها أصحاب المطالب- مشهورة. قال: فلما تكامل له ما أراد من ذلك ومن نحت الأحجار خطّوا المدينة فرسخين فى فرسخين، وحفروا فى الوسط بئرا وجعلوا فى تلك البئر تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ونصبوه على قاعدة من نحاس وجعلوا وجهه إلى الشرق، وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له فى شرفه، وأخذوا خنزيرا فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره، وأخذوا شيئا من عظامه ولحمه ومرارته فجعلوه فى جوف ذلك الخنزير النحاس، وجعلوا فى أذنيه شيئا من مرارته، وأحرقوا بقية الخنزير، وجعلوا رماده فى قلة نحاس بين يدى الخنزير النحاس، ونقشوا عليه آيات زحل، ثم شقوا فى البئر أخدودا من أربعة وجوه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، ومدّوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها مسارب تجتلب الرياح إليها، ثم سدّوا البئر وعملوا عليها قبة على عمد مربعة، وجعلوا منها شوارع كل شارع ينتهى إلى باب من أبواب المدينة وفصلوها بالطرقات والمنازل، وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديها حراب ووجوهها مقابلة لتلك الأبواب، وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود وفوقه أحمر وفوقه أصفر وفوقه أخضر، وفوق الجميع أبيض يشفّ، مثبتة كلها بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وقلوبها أعمدة من حديد على وضع بناء الأهرام؛ وجعل طول حصنها ستين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، ونصب على كل رأس باب من أبوابها فى أعلا الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط ناشر الجناحين أجوف، وعلى كل ركن صورة فارس بيده حربة ووجهه

إلى خارج المدينة؛ وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقى ينحدر فى صبب إلى الباب الغربى ويخرج إلى صهاريج هناك، وكذلك من الباب الجنوبى إلى الشمالى، وقرّب لتلك العقبان عقبانا ذكورا، واجتذب الرياح إلى أفواه التماثيل، فكانت الرياح إذا دخلتها سمعت لها أصوات شديدة لا يسمعها أحد إلا هالته، وصمّدها «1» بعفاريت تمنع الداخل إليها إلا أن يكون من أهلها، ونصب العقاب الذى كان يعبده تحت القبة التى فى وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان فى كل ركن منها وجه شيطان، وجعلها على عمود يديرها، والعقاب يدور إلى كل الجهات الأربع، ويقيم فيها ربع السنة، يقرب إليه من جهتها. فلما فرغ من ذلك كله حمل إليها جميع الأموال والجواهر المخزونة بمصر وما وجده فى خزائن الملوك، ومن التماثيل والحكم وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والتجار، وقسم المساكن بينهم لا يختلط أهل صنعة بغيرها، وعمل لها ربضا «2» يحيط بها، وبنى فيه منازل لأصحاب المهن والزراعة، وعقد على تلك الأنهار قناطر يمرّ عليها الداخل إلى المدينة، وجعل الماء يدور حول الرّبض؛ ونصب عليها أعلاما وحرسا؛ ثم غرس وراء ذلك بالبرية النخل والكروم وأصناف الأشجار، ومن وراء ذلك مزارع الغلات من كل جهة، وكان يرتفع له بها فى كل سنة ما يكفيه لعشر سنين، كل ذلك خوفا من الوليد. قال: وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام؛ فكان عون يخرج إليها فيقيم بها عشرة أيام ثم يعود إلى منف، وكان لها أربعة أعياد فى السنة؛ وهى الأوقات التى يتحوّل العقاب فيها. فلما تمّ ذلك كله لعون اطمأنّ قلبه، وسكنت نفسه.

ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته

ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته قال: ثم وافا كتاب الوليد بن دومع من نواحى النوبة إلى عون يأمره أن ينفذ إليه الأزواد وينصب له الأسواق؛ فوجّه إليه ذلك فى المراكب وعلى الظهر «1» ، وحوّل جميع عياله ومن اصطفاه من بنات ملوك مصر وكبرائها إلى المدينة، حتى إذا قرب دخول الوليد إلى مصر خرج عون إلى مدينته وخلّف خليفة على مصر يكون بين يدى الوليد. ودخل الوليد مدينة منف وتلقاه أهل مصر وشكوا إليه عونا وما حلّ بهم منه. قال: وأين هو؟ قالوا: فرّ منك. فغضب الوليد وأمر بجيش كثيف ينفذ إليه، فعرّفوه أن الجيش لا يصل إليه، وأخبروه خبر المدينة وكيف بناها وخبر السّحرة الذين معه. فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه ويحذّره التخلف عنه، ويقسم أنه إن لم يفعل وظفر به بضّع لحمه بضعا. فردّ جوابه يقول: ما على الملك منى مؤنة، وأنا لا أتعرّض إلى بلده ولا أعيث فيه؛ لأنى عبده، وأنا له فى هذا الموضع أردّ كل عدوّ يأتيه من نواحى الغرب، ولا أقدر على المصير إليه لخوفى منه، فليقرّنى الملك بحالى كأحد عمّاله وأوجه إليه ما يلزمنى من الخراج والهدايا. ووجه إليه بأموال جليلة وجوهر نفيس. فلما رأى ذلك كفّ عنه. وأقام الوليد بمصر فآستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم. وملكهم مائة وعشرين سنة فأبغضوه وسئموا أيامه. واتفق أنه ركب فى بعض الأيام إلى الصيد فألقاه فرسه فى وهدة فهلك. وكان ابنه الريان ينكر عليه فعله ولا يرضاه. فلما هلك عمل له ناووسا قرب الأهرام. وقيل: بل دفن فى الهرم.

ثم ملك بعده ابنه الريان بن الوليد بن دومع؛ وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه نهراوش «1» ، وجلس على سرير الملك. وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا متمكنا؛ فتكلم ومنّى الناس وضمن لهم الإحسان وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فأثنوا عليه وشكروه، وأمر بفتح الخزائن وفرّق ما فيها على الخاصّ والعامّ، وتمكنت منه أريحيّة الصّبا فملّك على الرعية رجلا من أهل بيته يقال له أطفين، وقيل فى اسمه: قطفير، وقيل: قوطيفر، وهو الذى يسميه أهل الأثر العزيز. وكان من أولاد الوزراء. وكان عاقلا أديبا متمكنا صائب الرأى كثير النزاهة مستعملا للعدل والعمارة والإصلاح. وأمر الريان أن ينصب له فى قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه ويغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج بجميع الوزراء والعمال والكتاب بين يديه؛ فكفى الريّان ما خلف سريره «2» وقام بجميع أمره وأخلاه للذّاته؛ فأقام الريان منعكفا على قصفه ولهوه منغمسا فى لذّته لا ينظر فى عمل ولا يظهر للناس ولا يخاطبهم، فأقاموا بذلك حينا. هذا والبلد عامر. وبلغ الخراج فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف مثقال فجعلها أقساما، فما كان للملك وأسبابه وموائده حمل إليه، وما كان فى أرزاق الجيش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصالح البلد وأهل المهنة صرف إليهم، والملك مع ذلك غير سائل عن شىء؛ قد عملت له مجالس من الزجاج الملوّن وأجرى حولها الماء وأرسلت فيها الأسماك المقرّطة، فكانت الشمس إذا وقعت على المجلس منها أرسل شعاعا عجيبا يبهر العيون. وعملت له عدّة متنزهات على عدد أيام السنة، فكان كل يوم فى موضع منها، وفى كل موضع منها من الفرش والآنية والآلات ما ليس فى غيره.

فلما اتصل بملوك النواحى تشاغل الريان بلذاته وتدبير العزيز لأمره، قصده رجل من العمالقة يقال له عاكن بن بيحوم وكنيته أبو قابوس، وقصد مصر حتى نزل على حدودها، فأنفذ إليه العزيز جيشا كثيفا وجعل عليه قائدا يقال له بريانس، فأقام ثلاث سنين يحاربه، ثم ظفر به العمليقى ودخل من الحدود وهدم أعلاما ومصانع كثيرة، وتمكن طمعه فى البلد فأعظم أهل مصر ذلك واجتمعوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون ويرفعون أصواتهم حتى سمعها الملك فقال: ما بال الناس؟ فأخبر خبر العمليقى وأنه قد دخل عمل مصر وعاث وأفسد المزارع والمصانع والأعلام، وأنه سار بجيشه إلى قصر الملك، فارتاع الريان لذلك وأنف منه وانتبه من غفلته وعرض جيوشه وأصلح أمره وخرج فى ستمائة ألف مقاتل سرى الأتباع، فالتقوا من وراء الأحواف فى تلك الصحراء، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العمليقى واتبعه الربان إلى حدود الشام وقتل من أصحابه خلقا وأفسد زرعهم وأكثر أشجار الفواكه والزيتون، وأحرق وصلب ونصب أعلاما على الموضع الذى بلغه وزبر عليها: إنى لمن يجاوز هذا المكان بالمرصاد. فلما تمّ له هذا الظفر هابته الملوك ولا طفوه وأعظموه. وقيل: إنه بلغ الموصل وضرب على الشام خراجا وبنى عند العريش مدينة لطيفة وشحنها هى وتلك الناحية بالرجال، ورجع إلى مصر فحشد جنوده من جميع الأعمال، واستعدّ لغزو ملوك الغرب فخرج فى تسعمائة ألف واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحّى عن طريقه، ومنهم من دخل تحت طاعته. ومرّ بأرض البربر فأجلى كثيرا منهم، ووجه قائدا يقال له مريطس فى سفن فركب البحر من ناحية رقودة. ومرّ الريان بجزائر بنى يافث فعاث فيها واصطلم «1» أهلها، وخرج من ناحية أرض البربر فقتل بعضهم وصالح بعضهم وحملوا إليه الأموال، ومضى إلى إفريقية وقرطاجنّة فصالحوه على أموال

وألطاف كثيرة حملوها إليه، ومرّ حتى بلغ مصبّ البحر الأخضر «1» وهو موضع الأصنام النحاس، فأقام هناك صنما وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى خرج فيه، وضرب على أهل تلك النواحى خراجا، وعدّى إلى الأرض الكبيرة وصار فى الإفرنجة، والأندلس فى حوزهم وعليها لذريق الأصغر، فحاربه أياما وقتل من أصحابه خلقا وصالحه بعد ذلك على ذهب مضروب، وعلى ألا يغزو مصر ويمنع من رام ذلك من جميع أهل النواحى، وانصرف مشرّقا فشقّ بلد البربر فلم يمر بموضع إلا خرج أهله بين يديه وأهدوا له ودخلوا تحت طاعته. ثم أخذ نحو الجنوب ومر ببلد الكوسانيين فحاربوه فقتل خلقا كثيرا، وبعث قائدا إلى مدينة على عبر البحر الأخضر «2» فخرج إليه ملك المدينة وأهلها فعرّفهم حال الريان ومصالحة الملوك له فقالوا: ما بلغنا أحد قط، وسألهم هل ركب هذا البحر أحد؟ فقالوا: ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياما، وأتى الريان فتلقّوه بهدايا وفاكهة أكثرها الموز؛ وحجارة سود فإذا جعلت فى الماء صارت بيضاء، ثم تركهم وسار إلى أمم السودان حتى بلغ ملك الدمدم «3» الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة بأيديهم العمد الحديد، وخرج ملكهم على دابة وهو عظيم الخلق له قرون، وكان جسيما أحمر العينين، فظفر بهم فانهزموا إلى أوحال وأدغال فلم يتهيأ له اتباعهم فيها، وجازهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة صغار يثبون بها من غير ريش. ومرّ على عبر البحر المظلم فغشيهم منه غمام فرجع شمالا حتى انتهى إلى جبل يقال له وسن، فرأى فوقه تمثالا من حجر أحمر يومى

بيده: إرجعوا، وعلى صدره مزبور: ما ورائى أحد. فتركه وسار راجعا فانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها. ومضى حتى بلغ الوادى المظلم فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته. وسار حتى انتهى إلى وادى الرمل ورأى على عبره أصناما عليها أسماء الملوك قبله فأقام معها صنما وزبر عليها اسمه. فلما أسبت «1» الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود، وسمع جلبة وصياحا هائلا فخرج فى شجعان أصحابه حتى أشرف على السباع المقرنة الأنوف، فإذا بعضها تهرّ وتأكل بعضها بعضا، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع، وعدّى وادى الرمل ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه ورفعوها عنهم بالرّقى التى يعرفونها، ثم جاوزهم حتى انتهى إلى مكان صلوفة وهى حية عظيمة، فهجموا عليها ولم يعرفوها وظنوا أنها جبل، ثم عرجوا عنها وتعوّذوا منها بالرّقى. قال: ويزعم القبط أنه منعها من الحركة بسحره وتركها فهلكت. وقيل: إن تعريج هذه الحية ميل وأنها كانت تبتلع السباع هناك. وسار حتى بلغ مدينة الكند «2» ، وهى مدينة الحكماء، فتهاربوا منه إلى جبل صعدوه من مواضع يعرفونها من داخل مدينتهم لم يعرفها غيرهم، ولم يجد الريان ومن معه إلى الصعود إليها سبيلا، فأقاموا عليها أياما وكادوا يهلكون من العطش، فنزل إليهم من الجبل رجل يقال له مندوس، كان من أفاضل الحكماء وقد لبس شعره جسده، فقال: أين تريد أيها المغرور الممدود له فى الأجل! المرزوق الكفاية! أتعبت نفسك وجيشك! ألا اقتنعت بما تملكه واتكلت على خالقك [وربحت الراحة «3» ] وتركت العناء والغرور بهذا الخلق. فعجب الملك من قوله وسأله عن الماء فدلّه عليه، وسأله عن

موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه احد ولا بلغه قبلك أحد. قال: فما عيشكم؟ قال: من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع بأكله ويكفينا اليسير. قال: فمن أين تشربون؟ قال: من نقار الماء من الأمطار. قال: فلم هربتم منا؟ قال: رغبة عن خلطتكم وإلا فليس لنا ما نخاف عليه. قال: فكيف تكونون إذا حميت عليكم الشمس؟ قال: فى غيران تحت هذه الجبال. قال: فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم؟ قال: إنما يريد المال أهل البذخ ونحن لا نستعمل منه شيئا، استغنينا عنه بما قد اكتفينا به، وعندنا منه ما لو رأيته لحقّرت ما عندك. قال: فأرنيه، فانطلق به مع نفر من أصحابه إلى أرض فى سفح جبلهم فيها قضبان الذهب نابتة، وأراهم واديا حافتاه حجارة الزبرجد والفيروذج، فأمر الرّيان أصحابه أن يأخذوا من كبار تلك الحجارة ففعلوا؛ ورآهم الحكيم يصلّون إلى صنم يحملونه معهم، فسألهم ألا يقيموا بأرضهم خوفا من عبادة الأصنام؛ فسأله الملك أن يدله على الطريق ففعل، وودّع الحكيم وسار على السمت الذى وصفه له. فلم يمر بأمة إلا أبادها وأثر فيها إلى أن بلغ بلد النوبة، فصالح أهلها على مال يحملونه إليه، ثم أتى دنقلة فأقام بها علما وزبر عليه اسمه ومسيره. ومرّ يريد منف؛ فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقّونه بالفرح والسرور والطيب والرياحين والملاهى إلى أن بلغ منف، فلم يبق أحد من أهلها إلا خرج إليه مع العزيز وتلقّوه بأصناف الطيب والبخورات والرياحين. وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الملوّن وفرشه بأحسن الفرش المذهبة، وغرس حوله جميع الأشجار والرياحين، وجعل فيه صهريجا من زجاج سمائى، وجعل فى أرضه شبه السمك من زجاج أبيض وأنزله فيه، وأقام الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة. وأمر بعرض جيشه فوجد أنه قد فقد منهم سبعون ألفا، وكان قد خرج فى ألف ألف، ووجد من انضاف إليه من الغرباء والمأسورين نيّفا

وخمسين ألفا، وكان مسيره وغيبته إحدى وعشرين سنة. فلما سمع الملوك بذكره وما فتح من البلاد وما أسرها بوه، وخافوا شدّة بأسه وعظم سلطانه. وتجبّر وبنى بالجانب الشرقى قصورا من الرخام ونصب عليها أعلاما، فكان يقيم بها الأيام الكثيرة. وكان الخراج قد بلغ فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف فأحبّ أن يتمه مائة ألف ألف دينار، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح الجسور والزيادة فى استنباط الأراضى حتى بلغ ذلك وزاد عليه. ثم كان من خبر يوسف الصديق عليه السلام وبيعه بمصر وخبره مع امرأة العزيز وسجنه وقصته مع صاحبى الملك ورؤيا الملك وتعبيرها وتولية الريان بن الوليد يوسف عليه السلام رتبة العزيز وخبر القحط، ما قدّمنا ذكره فى أخبار يوسف عليه السلام، وهو فى السفر الحادى «1» عشر من نسخة الأصل. فلا فائدة فى إعادته. إلا أنه قد وردت زيادات أخر لم ترد هناك نحن نذكرها الآن. وهو ما حكاه مؤلف هذا الكتاب الذى نقلنا منه إبراهيم بن القاسم الكاتب عن إبراهيم بن وصيف شاه قال: إن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر بأهله وولده، خرج يوسف عليه السلام فى وجوه أهل مصر فتلقاه وأدخله على الملك؛ وكان يعقوب عليه السلام مهيبا جميلا فقرّبه الملك وعظّمه وقال له: يا شيخ، كم سنوك وما صناعتك وما تعبد؟ فقال: أما سنّى فعشرون ومائة سنة، وأما صناعتى فلنا غنم نرعاها وننتفع بها، وأما الذى أعبد فربّ العالمين، وهو الذى خلقنى وخلقك، وهو إله آبائى وإلهك وإله كل شىء. قال: وكان فى مجلس الملك فنيامين، وهو كاهن جليل القدر، فلما سمع كلام يعقوب ضاق به ذرعا وقال للملك بلغتهم: أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا.

فقال له الملك: فأنّى «1» لنا خبره؟ فقال الكاهن: أرنا إلهك أيها الشيخ. قال: إلهى أعظم من أن يرى. قال: فإنا نحن نرى آلهتنا. قال: لأن آلهتكم ذهب وفضة ونحاس وخشب، وما يعمله بنو آدم عبيد إلهى الذى احتجب عن خلقه بعزّ ربوبيته، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. قال له فنيامين: إن لكل شىء دليلا، وكل شىء لا تراه العيون فليس بشىء، فغضب يعقوب وقال: كذبت يا عدوّ الله وطغيت فى هذه الدنيا؛ إن الله سبحانه وتعالى شىء وليس كالأشياء، وهو خالق كل شىء لا إله إلا هو. قال: فصفه لنا. قال: إنما يوصف المخلوقون ولا يوصف الخالق عزوجل؛ لأنه يرتفع عن الصفات؛ لأنه واحد قديم مدبّر للأشياء فى كل مكان يرى ولا يرى. ثم قام يعقوب مغضبا، فأجلسه الملك وأمر فنيامين أن يكفّ عنه ويكون بين يديه ويأخذ فى غير هذا. ثم قال الملك: كم عدّة من دخل معك إلى مصر؟ قال ستّون رجلا. قال الكاهن: كذلك نجده فى كتبنا؛ إن خراب مصر يجرى على أيديهم. قال الملك: فهل يكون فى أيامنا؟ قال: لا، ولا إلى مدّة كبيرة. والصواب أن يقتله الملك ولا يستبقى من ذرّيته أحدا. قال الملك: إن كان الأمر كما تقول فما يمكننا أن ندفعه ولا نقتل هؤلاء، وإن لهم إلها عظيما، وقد قبل قلبى هذا الشيخ، ومالى إلى قتله من سبيل، فخاطبه بألين الكلام؛ فجرت بينهما بعد ذلك مخاطبات ألان له فيها القول. قال: ثم إن يعقوب عليه السلام أحبّ أن يعرف خبر مصر ومدائنها وكيف بنيت وخبر طلّسماتها وعجائبها. فسأله عن ذلك وسأله بحقّ الملك ألا يكتمه شيئا من أمرها فأخبره. قال: وأقام يعقوب عليه السلام مع الريان بن الوليد الملك يعظّمه ويبجّله إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى أن يحمل إلى مكانه من الشأم، فحمل فى تابوت

وخرج معه يوسف عليه السلام ووجوه مصر حتى بلغ الى موضعه ورجعوا. وقيل: إن عيصو منعهم من دفنه هناك لأن إسحاق عليه السلام كان قد وهبه الموضع فاشتراه يوسف عليه السلام منه. ويقال: إن الريان آمن بيوسف وكتم إيمانه خوفا من فساد ملكه. وملك الريان مائة وعشرين سنة. وفى وقته عمل يوسف عليه السلام الفيوم لابنة الملك، وكان أهل مصر قد وشوا به وقالوا: قد كبر ونقص نفعه فاختبره. فقال له الملك: قد وهبت هذه الناحية لابنتى، وكانت مغايض للماء فدبّرها. قال: فقلع أدغالها، وساق المنهى «1» ، وبنى اللّاهون «2» ، وجعل الماء فيه مقسوما موزونا، وفرغ من ذلك كله فى أربعة أشهر، فعجبوا من حكمة يوسف عليه السلام. قال: ولما مات الريان بن الوليد ملك بعده ابنه دريموس «3» بن الريان ابن الوليد ويسميه أهل الأثر دارم، وهو الفرعون الرابع عندهم. قال: ولما ملك خالف سنّة أبيه، وكان يوسف عليه السلام خليفته كما كان مع أبيه، وذلك بأمر الريان. وكان يوسف يسدّده فربما قبل منه وربما خالفه، وظهر فى وقته معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأبان «4» منه شيئا عظيما، وعمل منه صنما على اسم القمر؛ لأن طالعه كان بالسرطان، ونصبه على القصر الرخام الذى كان أبوه بناه فى شرقى النيل، ونصب حوله أصناما كلّها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل لها عيدا فى كل سنة «5» ، وهو إذا نزل القمر السرطان.

وكان يتنقّل الى مواضع شتّى يتنزّه فيها، وإذا أراد أن يضرّ الناس بشىء منعه يوسف عليه السلام ودفعه عنه الى أن توفّى يوسف عليه السلام، كما تقدّم فى خبر وفاته، فاستوزر الملك دارم بعده بلاطس بن منسا الكاهن، فكان بلاطس يطلق له ما كان يوسف يمنعه عنه، وحمله على أذى الناس وأخذ أموالهم فبلغ منهم كل مبلغ. وعمل الوادى المنحوت بين الجبلين فى الناحية الغربية وكنز الأموال فلا يوصل إليها، وجعل صقالة من الوادى الى باب الخبّاء، وجعل له بابا من الحديد يتوصّل إليه من تلك الصقالة، وصمده بجماعة من العفاريت يمنعون من ذلك الخباء، فمن رامه من الناس سقط فى الوادى. وقال آخرون: كنزها فى موضع منه يدخل إليه وينظر الى الأموال مكشوفة مضروبة، فى كل دينار عشرة مثاقيل عليها صورته، فإن أخذ الداخل منها شيئا انطبق عليه الباب فلم يقدر على الخروج، فإذا ردّه الى موضعه انفتح له الباب. وهو بحاله الى هذا الوقت كما زعموا. قال: ثم زاد دارم فى التجبّر الى أن اختلع كلّ امرأة جميلة بمدينة منف من أهلها؛ ولا يسمع بامرأة حسناء فى ناحية من النواحى إلا وجّه فحملت إليه. وفشا ذلك فى المملكة واضطرب الناس من فعله وشقّ عليهم أمره الى أن شغبوا عليه وعطّلوا الصنائع والأعمال والأسواق فعدا على جماعة منهم فقتلهم. وزاد الأمر حتى اجتمعوا على خلعه، فخاف بلاطس الوزير أن يفسد أمر المملكة فدخل على الملك وأشار عليه أن يتودّد الى الناس ويعتذر إليهم ويردّ نساءهم فأبى إلا مخالفته، وهمّ أن يخرج الى الناس فى خاصّته ويقتل منهم وقال: إنما هم عبيدى وعبيد آبائى. فلم يزل يرفق به الى أن سكن غضبه؛ فأمره أن يعتذر الى الناس عنه، ففعل الوزير ذلك وذكر عنه جميلا، فأبى الناس أن يقبلوا منه دون مخاطبتهم الملك فضمن لهم ذلك وخاطبه وأشار به عليه، فأمره أن ينادى فى الناس بالحضور فى يوم عيّنه،

ثم لبس أرفع ثيابه وأكبر تيجانه وجلس ودخل الناس عليه فذكروا ما حلّ بهم من أخذ أموالهم، وعرّفوه أنه لم يجر عليهم من ملك قبله مثل هذا، فاعتذر إليهم ووعدهم الإقلاع عما شكوا منه وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين. ثم أمر بعمل قصر من خشب على أساطين خشب ممدودة بأضلاع مسمّرة يتنزّه فيه، فعمل ودهن بالأدهان والأصباغ الملوّنة المذهبة، وضبّب بالفضة والنحاس المذهب، وعمل فوقه قبة من الفضة المذهبة مصوّرة بالزجاج الملوّن وعلّق فيها الحجر المضىء الذى أتى به أبوه من المغرب. فلما فرغ القصر فرشه بأحسن الفرش وجعله طبقتين: طبقة له يجلس فيها مع من يحبّه، وطبقة لحشمه، وجعل حول ذلك أروقة ملصقة بالمجلس يجلس فيها من يريد؛ فكان يركب فيه بمن احبّه من خاصته ونسائه ويصعّد فيه فى الماء إلى ناحية الصعيد وتتبعه المراكب فيها أصحابه وغلمانه بالعدد والسلاح وينحدر إلى أسفل الأرض، فإذا مرّ بمكان يستحسنه أقام فيه أياما. واتفق أنه خرج فى بعض الأيام مصعّدا فوثب رجل من الإسرائليين على رجل من سدنة الهياكل فضربه حتى أدماه وعاب دين الكهنة، فغضب القبط لذلك وخاطبوا خليفة الملك أن يخرجهم من مصر فآمتنع دون مشاورة الملك، وكتب إليه يعرّفه ذلك، فكتب إليه ألا يحدث فى القوم حادثة دون موافاته، فشغبوا وأجمعوا على خلعه وتمليك غيره، وتعرّض بعضهم الى ذكر الملك فحشد أهل الصعيد وانحدر اليهم، فحاربوه فهلك بينهم خلق كثير. وعاونته امرأة أبيه، وكانت ساحرة، فأظهرت من سحرها وتخاييلها ودخنها ما أعماهم عن النظر، وأضعف حواسهم وأسكرهم، فقتل خلقا منهم وصلب خلقا على عبر النيل، ورجع إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء ونهب الأموال واستخدام الأشراف والوجوه من القبط ومن بنى إسرائيل؛

فأجمع الكل على ذمه. وكانت الساحرة لا تخلّيه من معونتها الى أن ركب فى ذلك القصر فى بعض الليالى وقد أحدق النيل بالبلد، وهو من الجبل الى الجبل، وامتدّ القمر على الماء، فأراد أن يعدّى من العدوة الى العدوة الأخرى فلم يتهيأ له سوق القصر بسرعة لعظمه، فركب مركبا لطيفا مع ثلاثة من خدمه والساحرة، فلما توسّط البحر هاجت ريح عاصف فغرق هو ومن معه، وأصبح الناس شاكّين فى أمره لا يعلمون ما نزل به، الى أن وجدت جثته بشطّنوف «1» فعرف بخاتمه وبجوهر كان يتقلّد به فحمل الى منف. وملك بعده ابنه معاديوس بن دريموس؛ ويسميه أهل الأثر معدان ابن دارم، وهو الفرعون الخامس. وذلك بتدبير الوزير؛ فأجلسه على سرير الملك وبايعه الجيش، وكان صبيا فكرهه الناس ثم رضوا به، فأسقط عن الناس الخراج الذى كان أبوه أسقطه، وزادهم سنة وأحسن إليهم فأطاعوه؛ واستقام له الأمر وردّ نساءهم. وكان ينكر على أبيه فعله ولا يرضاه؛ فلذلك رضوا به. قال: وفى زمانه كان طوفان أضرّ ببعض البلد فلزم الملك الإقبال على الهياكل والتعبد، وطلب القاطر ووجوه الكهنة بالحضور معه، وأنصف بعض الناس من بعض. وكثر بنو إسرائيل وعابوا الأصنام وثلبوها. وكان الوزير قد هلك فاستوزر كاهنا يقال له املاده، فلما رأى ما فعله بنو إسرائيل أنكره وأمر أن يفردوا بناحية من البلد لا يختلط بهم أحد غيرهم، فأقطعهم موضعا فى قبلىّ منف، واجتمعوا إليه وعملوا لأنفسهم معبدا كانوا يتلون فيه صحف إبراهيم عليه السلام، واتفق أن رجلا من أهل بيت الكهنة عشق امرأة من بنى إسرائيل كانت قد جاءته

لتشتكى أخاها أنه غصبها ميراثها، وأرادت أن يعتنى بأمرها عند وزير الملك، فرآها ابنه فأحبها وسأل والده أن يزوّجه منها، فخطبها من أهلها فأبوا ذلك، فأنكر الناس فعلهم واجتمعوا الى الوزير وقالوا: هؤلاء قوم يعيبوننا ويرغبون عنّا، ولا نحب أن يجاورونا إلا أن يدينوا بديننا. فقال الوزير: قد علمتم إكرام الريان الملك لجدّهم يوسف عليه السلام، وقد وقفتم على بركة جدّهم يوسف عليه السلام حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه فلا تخوضوا فى هذا، فأمسكوا. قال: وتغلّب أحد ملوك الكنعانيين على الشام وامتنع أهله أن يحملوا الضريبة التى كانت عليهم لملك مصر، فأنكر أهل مصر ذلك وأشفقوا من غلبة صاحب الشام على بلدهم، فحضّوا الملك على غزو الشام فقال: إن رام أحد حدود بلدنا غزوناه، وما لنا فى ذلك البلد من حاجة؛ فاستنقصوا رأيه. وأقام على ملازمة الهياكل والتعبّد فيها؛ فيزعم القبط أنه بينا ذات يوم قائم فى هيكل زحل حذاء صورته، وقد أجهد نفسه فى التعبد، إذ تغشّاه النوم فتجلّى له زحل وخاطبه وقال: قد جعلتك ربّا على أهلك وأهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم وعلى غيرهم، وسأرفعك إلىّ فلا تخل من ذكرى؛ فعظم عند نفسه، واتصل خبره بأهل البلد، وأخبرهم سدنة الهيكل أنهم رأوا النور وسمعوا الخطاب، وأعظم الناس أمره، فتجبّر فى نفسه وأمر الناس أن يسمّوه ربّا، وترفّع أن ينظر فى شىء من أمر الملك، وأحضر الناس وقال: قد وقفتم على ما خصصت به دون الملوك، وهذه موهبة يلزمنى الشكر لواهبها عليها، ولست أتفرّغ للنظر فى أموركم، وقد رأيت أن أجعل الملك إلى ابنى أكسامس، وأكون من ورائه إلى أن يغيب شخصى عنكم كما وعدت، وقد أيدته بالقاطرين، فانظروا كيف تكونون، ولا تتظالموا فإنكم منى بمرأى ومسمع،

فرضوا بذلك وقالوا: نحن عبيد الملك ومن رضيته الآلهة فحكم الخلق أن يرضوه ولا يخالفونه. فملك ابنه أكسامس بن معاديوس؛ ويسميه أهل الأثر كاسم ابن معدان، وهو الفرعون السادس، وجلس على سرير الملك وتوّج بتاج أبيه وقام القاطرون بين يديه، فجعل لكل واحد منهم رتبة، ورتّب الناس مراتب، وقسم الكور والأعمال، وأمر باستنباط العمارات وإظهار الصناعات، ووسع على الناس فى أرزاقهم وعلى حاشيته وحاشية أبيه، وأمر بتنظيف الهياكل وتجديد لباسها وأوانيها، وزاد فى القرابين؛ وكلما أتى شيئا من ذلك لم تخالفه الكهنة وقدّروا أن ذلك عن أمر أبيه برضى الكواكب، واحتجب أبوه عن الناس. وأقام كاسم أعلاما كثيرة حول منف وجعل عليها أساطين يمرّ عليها من بعضها إلى بعض. وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد وأسفل الأرض مدنا كثيرة وأعلاما ومنائر للوقود والطلّسمات. وعمل كرة من الفضة على عمل البيضة الفلكية ونقش عليها صور الكواكب الثابتة ودهنها بدهن الصينى وركّبها على منار فى وسط منف. وعمل فى هيكل أبيه روحانىّ زحل من ذهب أسود مدبّر. وعمل فى وقته الميزان الذى يعتبر به الناس، وجعلت كفّتاه من ذهب وعلائقه من فضّة وخيوطه سلاسل ذهب، وكان معلقا فى هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفّتيه حقّ، والأخرى باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء كل شىء من الكواكب؛ فيدخل الظالم والمظلوم ويأخذ كل واحد منهما فصّا من تلك الفصوص ويسمى عليها ما يريد، ويجعل أحد الفصين فى كفّة والآخر فى الأخرى، فتثقل كفة الظالم وترتفع كفة المظلوم. وكذلك من أراد سفرا أخذ فصين فذكر على واحد اسم السفر، والآخر اسم الجلوس، ويجعل كل واحد فى كفة، فإن لم يرتفع أحدهما على الآخر جلس،

وإن ارتفعا خرج، وإن ارتفع أحدهما مكث شهرا. ومن نحو هذا من غائب ودين وفساد وصلاح. ويقال إن بختنصّر لما ظفر بمصر حمله فى جملة ما حمل الى بابل وجعله فى بيت من بيوت النار. قال: وطالب كاسم الناس بلزوم الأعمال وإظهار الصنائع، فعملت كل غريبة منها: التنّور الذى يشوى من غير نار فيه، والقدور التى يطبخ فيها من غير نار، والسكين التى تنصب فإذا رآها شىء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها، والماء الذى يستحيل نارا، والزجاج الذى يستحيل هواء، وأشياء من ذلك. قال: فأقام فى أوّل ولايته ثلاث سنين بأجمل أمر وأصلح حال، ومات وزير أبيه الذى كان معه فاستخلف رجلا من أهل بيت المملكة يقال له طلما، وكان شجاعا فارسا كاهنا كاتبا حكيما دهيّا متصرّفا فى كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك فصلح أمر المملكة بمكانه وأحبه الناس، فعمل معالم كثيرة وعمر خرابا وبنى مدنا من الجانبين. ورأى فى نجومه أنه ستكون شدّة فاستعمل ما استعمله نهراوش، وبنى بناحية رقودة والصعيد ملاعب ومصانع. وشكا القبط اليه حال الإسرائليين فقال: هم عبيد لكم، فكان القبطىّ اذا أراد حاجة سخر الإسرائيلى، وكان القبطىّ يضرب الإسرائيلىّ فلا ينكر عليه أحد، وإن ضرب الإسرائيلىّ القبطىّ قتل، فكان أوّل من أذى بنى إسرائيل، ويفعل نساء القبط بنساء بنى إسرائيل ما يفعل الرجال بالرجال من السّخر والضرب. قال: وفى أيام أكسامس بنيت منارة الإسكندرية. وفى زمانه هاج البحر المالح فغرّق كثيرا من القرى والجنان والمصانع. وحكى أن أكسامس تغيّب عن الناس مدّة. وقيل: مات وكتموا موته. وكانت مدّة ملكه إلى أن غاب إحدى وثلاثين سنة، وأقام طلما إحدى عشرة سنة يدبّر المملكة ثم اضطرب الناس على

طلما وتغيّروا واتصل بهم أنه قتل الملك بسمّ سقاه إياه فاجتمعوا وقالوا: لابدّ لنا من النظر إلى الملك، فعرّفهم أنه قد تخلّى عن الملك وولّى ابنه لاطس فلم يقبلوا ذلك. فأمر طلما الجيوش فركبت فى السلاح وأجلس لاطس بن أكسامس على سرير الملك ولبس التاج. وكان جريئا معجبا فوعد الناس جميلا وقال: أنا مستقيم لكم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وأمر ونهى وألزم الناس أعمالهم، وحط جماعة من الوجوه عن مراتبهم، وصرف طلما عن خلافة المملكة واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا الملك ودفع إليه خاتمه، وأنفذ طلما عاملا على الصعيد وأنفذ معه جماعة من الإسرائيليين، وعمل الأعلام وأصلح الهياكل وبنى قرى كثيرة، وأثيرت «1» فى أيامه معادن كثيرة وكنوز فى صحراء المشرق، واستعمل آنية كثيرة من الجوهر الأخضر وأصناف الزجاج. وكان محبّا للحكم ثم تجبّر وعلا، وأمر ألا يجلس أحد فى مجلسه ولا فى قصر الملك من الكهنة وغيرهم، بل يقومون على أرجلهم إلى أن ينصرفوا، وزاد فى أذى الناس والعنف بهم، ثم منع الناس فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت، وجمع أموالهم وطلب النساء فانتزع كثيرا منهنّ، وفعل فى ذلك أكثر من فعل من تقدّمه من الملوك، وقهر الناس بالسطوة واستعبد بنى إسرائيل وقتل جماعة من الكهنة فأبغضه الخاص والعامّ. وكان طلما لما صرفه لاطس عن خلافته وجد «2» فى نفسه وأضمر الغدر به. فلما خرج إلى الصعيد احتجز الأموال فلم يحملها، وحال بين الملك وبين المعادن، وأراد أن يقيم ملكا من ولد قبطريم ويجلسه فى الملك، فأشار بعض الكهنة على طلما أن يطلب الملك لنفسه وعرّفه أنه سيكون له حال. فلما شجّعه الكاهن وجرّأه على

ذلك دعا إلى نفسه وكاتب وجوه أهل البلد، فبعض أجابه وبعض توقف، ورفع كل واحد من ولد الملوك رأسه وطمع فى الملك. قال: وفى بعض كتبهم أن بعض الروحانيين ظهر له وقال: إنى أطيعك إن أطعتنى، وأقلدك مصر زمانا طويلا، فأجابه إلى ما سأله وقرّب له أشياء ذكرها له، منها غلام إسرائيلىّ؛ فعاونه حينئذ وكان له رسولا الى رؤساء مصر، فكان يتصوّر بصور بعضهم ويشير بتمليكه عليهم إلى أن استقام له الأمر، قال: ولما منع طلما لاطس من مال الصعيد كتب بصرفه عن العمل فأبى أن ينصرف، فوجه اليه قائدا من أهل بيته وقلده مكانه وأمره أن يحمله اليه، فحاربه وأعانه الروحانىّ فظفر به طلما واعتقله ثم خلّاه وقرّبه وأدخله فى جملته، واتصل الخبر بلاطس فأنفذ اليه قائدا آخر فهزمه طلما وسار فى أثره بجيش كثيف، وكاتب جميع القوّاد وأهل البلد وبذل لهم الأموال، وخرج اليه لاطس فحاربه طلما وعاونه الروحانىّ فظفر به طلما وقتله وسار حتى دخل منف وعاث فيها. وملك طلما بن قومس؛ ونزل قصر المملكة وجلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان فى خزائنهم. قال: وطلما هذا هو ابن قومس، وهو الذى يذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يسمونه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة. وذكروا أن الفراعنة سبعة فأوّلهم: طوطيس بن ماليا، ثم الوليد بن دومع، ثم ابنه الريان بن الوليد، ثم دريموس بن الريان، ثم معاديوس بن دريموس، ثم أكسامس بن معاديوس، ثم طلما. قال: وكان طلما فيما زعموا قصيرا. قيل: كان طوله أربعة أشبار، طويل اللحية، أشهل العينين، صغير العين اليسرى، فى جبينه شامة. ويقولون: إنه

كان أعرج. وزعم قوم أنه من القبط. قال: والدليل على ذلك ميله إليهم ونكاحه فيهم؛ ونسب أهل بيته مشهور عندهم. وقد اختلف الناس فى سبب ملكه وعمن تلقّى الملك، فقيل ما ذكرناه، وقيل ما قدّمناه «1» فى قصة موسى بن عمران عليه السلام، والله تعالى أعلم. قال: ولما جلس طلما على سرير الملك اضطرب الناس عليه فبذل الأموال وأرغب من أطاعه، وقتل من خالفه، فاعتدل الأمر له. وكان أوّل ما عمل أن رتّب المراتب، وشيّد الأعلام، وبنى المدن، وخندق الخنادق، وعمل بناحية العريش حصنا، وكذلك على حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه فى نفسه ونسبه، فأثار بعض الكنوز وصرفها فى بناء المدن والعمارات، وحفر خلجانا كثيرة. ويقال: إنه الذى حفر خليج السّردوس «2» ، وكان كلما عرّجه الى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا؛ فاجتمع له من ذلك شىء كثير، فأمر بردّه «3» على أهله.

وانتهى الخراج فى وقته الى سبعة وتسعين ألف ألف دينار، وكان ينزل الناس على مراتبهم. وهو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من الإسرائليين رجل يقال له إمرى، وهو عمران أبو موسى عليه السلام، وهو أخو مزاحم لأبويه، ومزاحم أبو آسية، فهى ابنة عمّ موسى وبنت خالته، فجعل فرعون عمران حارسا لقصره يتولى حفظه وفتحه وإغلاقه. وكان رأى فى كهانته أن هلاكه على يد مولود من الإسرائليين، فمنعهم المناكحة ثلاث سنين؛ لأنه رأى أن ذلك المولود يكون فيها. ثم كان من خبر موسى فى حمل أمه به وولادته وغير ذلك من أمره ما قدّمنا «1» ذكره فى قصة موسى عليه السلام فلا فائدة فى إعادته. وقد نقل أن موسى عليه السلام لمّا كبر عند فرعون عظم شأنه وردّ فرعون إليه كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة؛ ثم وجهه فرعون لغزو الكوثانيين، وكانوا قد عاثوا فى أطراف مصر، فخرج فى جيش كثيف فرزقه الله عزوجل الظّفر، فقتل منهم خلقا وأسر خلقا وانصرف سالما فسرّ به فرعون وآسية. قال: واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون وأراد أن يستخلفه حتى قتل رجلا من أشراف القبط فكان من أمره ما تقدّم ذكره. والله أعلم. هذا ما أورده إبراهيم فى كتابه؛ ولم يذكر من أخبار ملوك مصر بعد غرق فرعون شيئا ولا ذكر من ملك بعده. وقد أشار المسعودى فى مروج الذهب الى نبذة من أخبار من ملك مصر بعد غرق فرعون نحن نذكرها. وأما سياقة أخباره فيما كان قبل فرعون فهذا الذى ذكرناه أتمّ منه وأكثر استيعابا.

ذكر نبذة من أخبار من الملك مصر بعد غرق فرعون

ذكر نبذة من أخبار من الملك مصر بعد غرق فرعون قال أبو الحسن على بن عبد الله المسعودى فى كتابه مروج الذهب «1» ومعادن الجوهر: لما أهلك الله تعالى فرعون وقومه بالغرق خشى من بقى بمصر من الذرارى والنساء والعبيد أن يغزوهم ملوك الشام والمغرب؛ فملكوا عليهم امرأة يقال لها دلوكة؛ فبنت على أرض مصر حائطا يحيط بجميع البلاد من حدّ أرض رفج الى برقة، وجعلت الحرّاس على مسافة كل ميل منها يصل أخبار بعضهم الى بعض، فإذا حدث أمر فى أوّل ملكها بليل رفعت النيران فى وقت حدوثه فعلم فى آخر المملكة بالخبر من ليلته، وإن كان بالنهار دخن. وهذا الحائط موجود الى حين وضعنا لهذا الكتاب ويسمى حائط العجوز. وقيل فيه: حائط «2» الحجوز. وقيل: إنها بنت هذا الحائط من خوفها على ولدها. واتخذت دلوكة بمصر البرابى وصوّرت فيها الصور، وأحكمت آلات السحر، وجعلت فى البرابى صور من يرد فى البر ودوابّهم إبلا كانت أو خيلا، ومن يرد

فى البحر فى المراكب من بلاد الغرب وسواحل الشام، وأحكمت جميع ذلك بحركات فلكيّة. فكان إذا ورد عليها عدوّ من نحو الحجاز واليمن عوّرت تلك الشخوص التى فى البرابى من الإبل وغيرها فيحدث العور فى ذلك الجيش وتهلك دوابّهم، وكذلك كل من يقدم عليها من البر والبحر اذا بلغها خبر مقدمه صنعت فى تلك الصور ما يحدث مثله فى ذلك الجيش من الآفات، فهابها سائر ملوك الأمم. وخبر هذه المرأة مشهور. وأكثر هذه البرابى باق الى وقتنا هذا وفيها التصاوير إلا أنها لا فعل لها. وقد قيل فى البرابى: إنها اتخذت مع الأهرام قبل الطوفان. والله تعالى أعلم. وقيل أيضا: إن مما أنشأته هذه المرأة منارة الإسكندرية، وقد تقدّم ذكر خبرها فى المبانى القديمة وهو فى السفر «1» الأول من كتابنا هذا من هذه النسخة. قال: وملكت هذه المرأة نحوا من ثلاثين سنة، وقيل أقل من ذلك. ولما هلكت دلوكة ملك بعدها دركوس «2» بن بلوطس. ثم ملك بعد ولده بورش. «3» ثم ملك بعده ولده بغاش «4» بن بورش نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده دنيا «5» ابن بورش نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده بلوطس عشرين سنة. ثم ملك بعده بلوطس بن متناكيل «6» أربعين سنة. ثم ملك بعده مالس «7» بن بلوطس. ثم ملك

بعده بوليه «1» بن متناكيل؛ وكانت له حروب وسير فى الأرض وهو فرعون الأعرج «2» الذى غزا بنى إسرائيل وخرّب بيت المقدس. ثم ملك بعده وينوس بن مرينوس «3» ثمانين سنة. ثم ملك بعده قومس «4» بن بغاس «5» عشر سنين. ثم ملك بعده مكاييل وكانت له حروب مع ملوك الغرب، وهو الذى غزاه بختنصّر فقتله وقتل رجاله وخرّب أرض مصر، فقيل إنها خرّبت مدة أربعين سنة. وانقرض ملك الفراعنة. وملك الروم أرض مصر فتنّصر أهلها؛ ولم تزل بيد ملوك الروم الى أن ملك كسرى أنو شروان فارس فغلبت جيوشه على الشام وسارت نحو مصر، فملك الفرس أرض مصر، وغلبوا عليها نحوا من عشر سنين. وكانت بين الروم وفارس حروب كثيرة، فصار أهل مصر يؤدّون خراجين: للروم وللفرس، ثم انجلت الفرس عن الشام ومصر لأمر حدث فى بلادهم، فغلبت الروم على مصر والشام وأظهروا النصرانية، واستمرّ ذلك الى أن جاء الله تعالى بالإسلام. وكان المقوقس ينوب عن ملك الروم، وهادى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تزل الديار المصرية

والشام بيد ملوك الروم الى أن فتحت فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه على ما سنورد ذلك إن شاء الله تعالى فى خلافة عمر فى الباب الثانى من القسم الخامس من هذا الفن، وهو فى السفر السابع عشر من هذه النسخة. قال المسعودى رحمه الله: والذى اتفقت عليه التواريخ، مع تباين ما فيها، فى عدد ملوك مصر الى آخر أيام الفراعنة أنهم اثنان وثلاثون ملكا. قال: فمن ملوك بابل الى آخر أيام ابنة ماموم- يشير الى دليفة- أحد عشر ملكا وملكة. ومن العماليق أربعة ملوك. ومن الفراعنة من لدن الوليد بن مصعب فرعون موسى بن عمران عليه السلام، والى أن خرج بختنصّر الفارسىّ على مكاييل وقتله سبعة عشر ملكا بما فى ذلك من ملك دلوكة، وهو إنما يشير الى من ملكها بعد الطوفان. وأما من ملكها قبل الطوفان فإنه لم يتعرّض الى ذكرهم. قال: وملكها من الروم سبعة ملوك. ومن اليونان عشرة ملوك. قال: وذلك قبل ظهور المسيح عليه السلام. قال: وملكها أناس من الفرس فكانت مدّة من ملكها من الفراعنة ومن بعدهم والعماليق والفرس والروم واليونان ألفى سنة وثلاثمائة سنة. والله أعلم بالصواب.

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم؛

الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم؛ وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانية واليونان والسريان والكلوانيين والروم والصقالبة والنوكبرد والإفرنجة والجلالقة وطوائف السودان ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول وقد اختلف الناس فى الفرس وأتسابهم وكم من دولة كانت لهم. وسنذكر هاهنا مقالاتهم فى ذلك واختلافهم. فمن الناس من زعم أنهم من فارس بن ياسور ابن سام بن نوح، وهذا قول هشام بن محمد. ومنهم من زعم أنهم من ولد يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومنهم من زعم أنهم من ولد هدرام ابن أرفخشد بن سام بن نوح، وأنه ولد له بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا؛ فسمّوا الفرس لفروسيتهم، وفى ذلك يقول حطّان بن المعلّى الفارسىّ: وبنا سمّى الفوارس فرسا ... نا ومنّا مناجب الفتيان «1» وزعم قوم أن الفرس من ولد لوط من ابنتيه رشا ورغوشا. وذكر آخرون أنهم من ولد بوّان بن أران بن الأسود بن سام بن نوح، ولبوّان هذا ينسب شعب بوّان وهو أحد متنزّهات الدنيا. وقد تقدّم ذكره فى باب الرياض «2» من الفن الرابع.

ومن الناس من يرى أن الفرس من ولد إيران بن أفريدون، ولا خلاف بين الفرس أجمع أنهم من ولد كيومرث «1» وهو الأشهر، وإليه يرجع جميع الفرس الأول وملوك الطوائف والملوك الساسانية. وأما التنازع فى دولهم فمن الناس من زعم أنهم أربعة أصناف، وأن الصنف الأوّل منهم كان من كيومرث إلى أفريدون وهم الجرهانية، وقيل الجهدهانية. والصنف الثانى من كيان إلى دارا بن دارا وهم الكيانية. والصنف الثالث ملوك الطوائف. والصنف الرابع الساسانية. ومن الناس من جعلهم صنفين: فجعل الصنف الأوّل من كيومرث إلى دارا بن دارا. والصنف الثانى من أردشير بن بابك إلى يزدجرد ابن شهريار المقتول فى خلافة عثمان رضى الله عنه. فمدّة ملكهم فى الدولة الأولى ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وستة وعشرون سنة. وعدّة ملوكهم عشرون ملكا فيهم امرأة واحدة. فأوّل ملك ملك من الفرس الأول كيومرث وقيل فيه جيومرث. وقد اختلف فى نسبه، فمن الناس من قال: إنه ولد آدم «2» لصلبه. ومنهم من قال: إنه ولد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. وقد قيل: إنه أوّل ملك ملك من بنى آدم. وكان السبب فى ملكه أنه لمّا كثر البغى والظلم فى الناس اجتمع أكابر أهل زمانه ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه فيما يأمر وينهى، فأتوه وقالوا: أنت أكبر أهل زمانك وبقية أبينا، والناس قد بغى بعضهم على بعض، وأكل القوىّ الضعيف، فضمّ أمرنا إليك وكن القائم بصلاحنا. فأخذ عليهم العهود والمواثيق بالسمع والطاعة له وترك الخلاف عليه. فصنعوا له تاجا ووضعوه على رأسه. وهو أوّل من وضع التاج على رأسه. فاستوثق له الأمر وقام

بأمر الناس وحسنت سيرته فيهم. وكانت مدّة ملكه عليهم أربعين سنة. وكان ينزل إصطخر من أرض فارس حتى مات. واختلف فى مقدار عمره، فقيل: إنه عاش ألف سنة، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم. فلما مات قام بالأمر من بعده أو شهنج ابنه وقيل: أخوه، وقيل: أو شهنج ابن فيشداد «1» بن كيومرث. وفى الناس من يزعم أنه أوّل ملك ملك من الفرس، وهو الذى جمع الأقاليم السبعة، ورتب الملك ونظّم الأعمال، ولقّب بفيشداد، وتفسيره بالعربية أوّل سيرة العدل. ويقال: إن أوشهنج هذا كان بعد الطوفان بمائتى سنة، وهو أوّل من قطع الحجر وبنى به، واستخرج المعادن، وبنى مدينتى بابل والسوس. وكان فاضلا حسن السياسة محمود الأثر. قال: ونزل الهند وتنقّل فى البلاد وعقد التاج وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أنه نفى أهل الفساد والدعارة من البلدان وألجأهم إلى رءوس الجبال وجزائر البحر، واستخدم منهم من كان يصلح للخدمة وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الخير والصلاح. وكانت مدّة ملكه أربعين سنة. ولما مات ملك بعده طهمورث «2» وقيل فيه طهورث بن أنوجهان بن أوشهنج، وقيل بل بينهما عدّة آباء. قال: ولما ملك سار فى الناس سيرة جدّه أوشهنج. وكان ينزل نيسابور. وقيل إنه الذى أنشأها ثم جدّدها بعد ذلك سابور. وقيل: إنه أوّل من كتب بالفارسية «3» ونفى أهل الدعارة والشرّ واستقام له نظام الملك. قيل: وفى أيامه ظهر بوداسف الذى «4» أحدث دين الصابئة. وكان ملكه ثمانين سنة. وقيل ثلاثين سنة.

ولما مات ملك بعده أخوه جمشيد «1» ، وتفسير شيد: الشعاع، سمى بذلك لوضاءة وجهه. قال: ولما ملك سلك سيرة من تقدّم وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب وأمر لكل واحد وظيفة وأمره أن يلزمها. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرط «2» وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وجباية الأموال وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل. فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس الى أن جاء الإسلام. وكان ملكه ستمائة سنة. وقيل سبعمائة سنة وستة أشهر. وقيل ألف سنة إلا عشر سنين. وفى أيامه أحدث النيروز «3» وجعله عيدا، وأمر الناس أن يتنعموا فيه. ثم بدّل سيرته بالجور بعد الإنصاف، والظلم بعد العدل، والإساءة بعد الإحسان، فثقلت وطأته على الناس. ثم أظهر الكبر على وزرائه وكتّابه وقوّاده. ثم انهمك على لذّاته وترك مراعاة كثير من السياسة الملوكية التى جرت عادة الملك أن يتولّاها بنفسه. وقيل: إنه ادّعى الإلهية فخرج عليه بيوراسب، وكان من جملة عمّاله، واستجلب الناس وجمعهم عليه واستصلحهم لنفسه، وقصد جمشيد بعد أن كثرت أتباعه وقويت شوكته، فهرب منه فاتبعه حتى أدركه وظفر به ونشره بمنشار. وملك بعد جمشيد بيوراسب؛ وهو الذى يسمّيه العرب الضحّاك. قالوا: وهو بيوراسب «4» بن أرونداسف بن بغاداس بن طوخ بن قروال بن ساعل بن فرس ابن كيومرث، وهو الدّهّاك، فعرّب اسمه فقيل الضحّاك. وقيل: إنه ملك ألف سنة. وزعم قوم أنه نمروذ. وزعم قوم آخرون أنه كان من عمّال بيوراسب على كثير من أعماله.

قال: ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلها، فسار فيها بالجور والعسف وسفك الدماء والصلب، وهوّل على الناس ومحاسيرة من تقدّمه من الملوك، وسنّ الأعشار واتخذ الملاهى والغناء. وكان على منكبيه سلعتان «1» يحرّكهما إذا شاء كما يحرّك يده، فادّعى أنهما حيّتان تهويلا على ضعفاء الناس. وقد تقدّم ذكره فى الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل «2» من نسخة الأصل فى أخبار أعياد الفرس، فلا حاجة الى إعادة ما قدّمنا ذكره من أمره. قال: ولما عمّ الناس جوره كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بأصبهان رجل يقال له كابى «3» من عوامّ الناس. ويقال: إنه كان حدّادا. وكان الضحاك قتل لكابى ابنين، فبلغ به الجزع على ولديه مبلغا عظيما، فقام وأخذ عصا وعلّق عليها جرابا. وقيل: بل علّق النّطع الذى كان يشدّه على وسطه يتّقى به النار إذا صنع الحدادة. وقيل: بل كان جلد أسد. وقيل: بل جلد نمر، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فحمل الناس ما كانوا فيه من البلاء إن اتبعوه وأطاعوه، فاستفحل أمره، وكثرت أتباعه، واجتمع عليه أشراف الناس وأكابرهم؛ فقصد بيوراسب. فلما أشرف عليه هرب عن منازله، فجاء أشراف الناس إلى كابى الأصبهانى واجتمعوا عليه ليملّكوه، فامتنع من ذلك وقال: إنى لست من بيت الملك، ولكن التمسوا من هو من بيت الملك فنولّيه علينا. وكان أفريذون «4» بن اثفيان قد استخفى من الضحاك

فى بعض النواحى، فجاء إلى كابى الأصبهانىّ ففرح الناس به واستبشروا بمقدمه، وكان مرشحا للملك فملّكوه عليهم، وصار كابى من جملة أعوان أفريذون. قال: وتفاءل الفرس وتبركوا بذلك العلم الذى كان قد رفعه كابى الأصبهانى وعظّموه ورصّعوه بعد ذلك بالجواهر وسمّوه الدّرفس وجعلوه علمهم الأكبر الذى يتبرّكون به، وهو الذى صار الى المسلمين فى وقعة القادسية «1» . وكانت الفرس لا ينشرونه إلا فى الأمور العظيمة. قال: ولما هرب بيوراسب ملك بعده أفريذون؛ وهو التاسع من ولد جمشيد. قال: فأوّل ما بدأ به أن اتبع بيوراسب فأدركه بدنباوند «2» وقتله. وفى يوم قتله أحدث المهرجان على ما قدّمناه «3» . قال: ثم ردّ أفريذون مظالم الناس وأمر بالإنصاف وبسط العدل، ونظر الى ما كان بيوراسب قد اغتصبه من أموال الناس وأملاكهم وأراضيهم، فردّ ذلك على أهله، وما لم يجد أهله وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان مؤثرا للعلم وأهله. وكان صاحب طبّ وفلسفة ونجوم. وزعم بعض الفرس أن بيوراسب الضحاك هو النمروذ، وأن أفريذون هو إبراهيم عليه السلام. قال: ودام ملكه خمسمائة سنة. وقال: هو أوّل من تسمى بكى، فكان يقال له: كى أفريذون، وهى كلمة يراد بها التنزيه؛ أى روحانىّ منزّه متصل بالروحانية. وهو أوّل من ذلّل الفيلة وقاتل بها الأعداء. قال: وكان لأفريذون

ثلاثة أولادوهم: سرم وقيل فيه سلم، وطوخ «1» ، وإيرج وقيل فيه إيران؛ فخشى أفريذون ألا يتفقوا بعده وأن يبغى بعضهم على بعض، وظن أنه إذا قسم الملك بينهم فى حياته بقى الأمر بعده على انتظام واتساق فقسمه بينهم. فجعل الروم والشام وناحية المغرب لسرم. وجعل الترك والصين لطوخ. وجعل العراق والهند لإيرج، وهو صاحب التاج والسرير. ففى ذلك يقول شاعرهم: وقسمنا ملكنا فى دهرنا ... قسمة اللحم على ظهر الوضم «2» فجعلنا الروم والشام الى ... مغرب الشمس الى الملك سرم ولطوخ جعل التّرك له ... فبلاد الصين يحويها ابن عم ولإيران جعلنا عنوة ... فارس الملك وفزنا بالنعم فلما مات أفريذون وثب طوخ وسرم بأخيهما إيران فقتلاه وملكا الأرض بينهما، ولذلك نشأت العداوة بين الترك والروم، وقامت الحروب، وطلب بعضهم بعضا بالدماء. فكان من سوء عاقبة غدرهما بأخيهما وتغلبهما على ملكه أن نشأ ابن لإيران بن أفريذون يقال له منوجهر، وقيل اسمه منواشجهر، وقيل فيه منوشهر، فغلب على ملك أبيه إيران. وملك منوجهر بن إيران بلاد فارس، ثم نشأ ابن لطوخ التركى فنفى منوجهر عن بلاده وجرت بينهما حروب، ثم ظفر منوجهر وعاد الى ملكه، ونفى ولد طوخ وقوى أمره وظهر اسمه. وكان منوجهر موصوفا بالعدل والإحسان فى مملكته. ويقال: إنه أوّل من خندق الخنادق، وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة «3» ، وجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا وألبسهم لباس

المذلّة. ولما قوى أمره سار نحو الترك وطلب بدم أبيه فقتل عمّيه اللذين قتلا أباه، وأدرك ثأره وانصرف الى بلاده. ثم نشأ فراسياب «1» بن ترك من ولد طوخ بن أفريذون وإليه ينسب الترك، فحارب منوجهر وحاصره بطبرستان «2» ، ثم اصطلحا وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ، فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوجهر. وكان لمنوجهر هذا خطب تدل على سداد رأيه، ووفور عقله، وجودة فهمه؛ قد ذكرنا بعضها فى الباب الرابع «3» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. قال: وفى أيام منوجهر ظهر موسى بن عمران عليه السلام. قال: ولما مات منوجهر تغلّب فراسياب على إقليم بابل اثنتى عشرة سنة، وأكثر الفساد، وخرّب البلاد، وطمّ الأنهار ودفن القنى، فقحط الناس الى أن ظهر زوّبن طهماسب فأخرجه عن بلاد فارس الى تركستان. وملك زوّبن طهماسب وقيل فيه: زاع، وقيل فيه: زاب، وقيل: راسب، وهو من أولاد منوجهر، وبينه وبين منوجهر عدّة آباء. قال: ولما ملك ابتدأ فى عمارة ما خرّبه فراسياب، وأمر ببناء ما هدم من الحصون، وحفر الأنهار والقنى، حتى عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه، ووضع عن الناس الخراج

سبع سنين، فعمرت البلاد فى أيامه، ودرّت معايش الناس، واحتفر بالسواد «1» نهرا وسماه الزاب، وبنى على حافتيه مدينة وهى التى تسمى المدينة العتيقة، وكوّرها كورا، وجعلها ثلاثة طساسيج «2» : الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسقل، ونقل إليها بذور الرياحين، وأصول الأشجار، وزوّ هذا أوّل من اتخذ ألوان الطبيخ، وأنواع الأطعمة، وقسم الغنائم على جنوده. وكانت مدّة ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده كرشاسب بن أسباس؛ وأمه من سبط يامين بن يعقوب عليه السلام. قال: وكان مسكنه ببابل. ومدّة ملكه عشرون سنة. وبعض المؤرّخين لم يذكره فى الملوك. وقال الشيخ أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: إن كرشاسب كان وزيرا لزوّ بن طهماسب، وأنه من أولاد طوخ ابن أفريذون. قال: وقد حكى أن زوّا وكرشاسبا اشتركا فى الملك. قال: والصحيح من أمره أنه كان وزيرا لزوّ ومعينا له، والذى أثبت كرشاسب فى الملوك الشيخ عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الحضرمى الشلبى فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، وقال: ولم يذكره بعض المؤرّخين. ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ؛ وقيل فيه: ابن زاب بن تور، وسلك سبيل أبيه فكوّر الكور، وبين حدودها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلات لأرزاق الجند. وكان حريصا على العمارة، مانعا لحوزته. والملوك الكييّة «3» من نسله. وكان بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكانت إقامته فى الحدّ

الذى بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ. وكان ملكه مائة وعشرين سنة ثم مات. وملك بعده كيقابوس «1» بن كينة بن كيقباذ الملك. قال: ولما ملك شدّد على أعدائه، وقتل خلقا كثيرا من عظماء البلاد وسكن بلخ، وولد له ابن لم ير مثله فى عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش وضمه الى رستم الشديد بن دستان من ولد كرشاسب. وكان أصبهبذا بسجستان وما يليها من قبل كيقابوس وأمره بتربيته. فمضى به رستم الى سجستان وتخيّر له الحواضن والمراضع الى أن عقل، فجمع له المعلمين، ثم علّمه الفروسية حتى فاق فيها، فقدم به على أبيه وهو كامل الصفات من العقل والأدب والفروسية، فامتحنه والده فوجده فوق ما يحب. قال: وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال يقال إنها بنت فراسياب ملك الترك؛ ويقال: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش وهويها، ويقال: إنها كانت ساحرة فسحرته، وآل أمرهما الى أن انكشف لأبيه كيقابوس واطّلع على ما كان من أمر ابنه وزوجته، فأشفق سياوخش على نفسه وخشى عاقبة أبيه فتلطف فى البعد عنه، فسأل رستم أن يشير على أبيه لإرساله لحرب فراسياب ملك الترك، وكان قد تجدّدت بين فراسياب وكيقابوس وحشة، ففعل رستم ذلك وخاطب كيقابوس فيه واستأذن له فى جند يضمهم إليه، فأذن له وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص سياوخش الى بلاد الترك، فسار حتى التقى بفراسياب فانتظم الصلح بينهما من غير حرب، فكتب سياوخش الى أبيه يخبره بما كان بينه وبين فراسياب من الصلح والاتفاق، فكتب إليه كيقابوس بإنكار ذلك عليه وأمره بمناهضته ومناجرته الحرب، فرأى سياوخش

أنه إن فعل ما أمره به والده من الحرب ونقض الهدنة من غير سبب وقع يوجب نقضها، يكون ذلك عارا عليه ومنقصة، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه وأجمع رأيه على الهرب منه، فكتب الى فراسياب ملك الترك يطلب منه الأمان لنفسه، وعرّفه أنه آثر اللحاق به فأجابه الى ذلك. وكان السفير بينهما أحد عظماء الترك وأكابرهم يسمى قيران. فلما استوثق سياوخش من ملك الترك سار نحوه وانصرف من كان معه من جند أبيه ورجعوا إليه. قال: ولما وصل سياوخش الى فراسياب ملك الترك أكرمه وعظّمه وزوجه بابنته، وهى أم كيخسرو الذى ملك الفرس. ولم يزل على إكرامه الى أن ظهر له من أدبه وحسن سياسته وجميل تلطفه ما أشفق منه وخشى على ملكه لميل الناس إليه فقتله. وكانت ابنة الملك قد اشتملت من سياوخش على حمل، فقصد أن يسقطه وتحيّلوا فى ذلك فلم تسقط؛ ثم جاء قيران، وهو الذى كان السفير فى الصلح بين الترك وسياوخش، وأنكر ما كان من فعل الملك وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته زوجة سياوخش إليه لتكون عنده الى أن تضع وقال: اذا أردت بعد ذلك قتل ولدها فاقتله؛ فأجابه الملك الى ذلك وسلّم إليه ابنته، فكانت عنده الى أن وضعت كيخسرو؛ فلما وضعته امتنع قيران من قتله وستر أمره، فكان عند قيران حتى بلغ، ثم احتال جدّه كيقابوس الى أن أخرجه هو وأمّه من بلاد الترك. قال أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وللفرس فى أمر كيقابوس خرافات كثيرة منها: أنهم يزعمون أن الشياطين مسخوه، وقوم منهم يزعمون أن سليمان بن داود عليهما السلام أمرهم بذلك فى خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة: من الصعود الى السماء، وبناء مدينة كنكر بأسوار من ذهب وفضة

وحديد ونحاس وأنهار، وأنها ما بين السماء والأرض؛ وأشياه ذلك مما تحيله العقول السليمة؛ لأن ذلك ليس فى قدرة البشر. قال: ولما تمّ لكيقابوس أكثر ما كان يقصده سار من خراسان ونزل بابل وترك ما كان يتولاه بنفسه من السياسات، واحتجب عن الناس وتعاظم عليهم، وآثر الخلوة، فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه وغزته الملوك؛ فكان بعد ذلك يغزوهم فيظفر بهم مرّة وينكب أخرى، الى أن غزا بلاد اليمن، والملك بها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة بن ذى المنار. فلما أتاه كيقابوس خرج اليه ذو الأذعار فى جموعه من حمير وولد قحطان، فظفر به ذو الأذعار وأسره واستباح عسكره وحبسه فى بئر وأطبق عليه طبقا، فخرج رستم الشديد من سجستان فى جموع كثيرة من الفرس؛ فالفرس تزعم أنه أوغل فى بلاد اليمن واستخرج كيقابوس من محبسه، واليمن تقول غير ذلك، وأن ملكهم ذاالأذعار لما بلغه إقبال رستم خرج اليه فى جموعه وجنود عظيمة، وخندق كل منهما على نفسه وعسكره، وأنهما أشفقا على جندهما من البوار، فاتفقا على أن دفع لهم ملك اليمن كيقابوس وانصرف رستم من غير حرب ورجع بكيقابوس الى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق وأقطعه سجستان. ونسخة الكتاب الذى كتبه: من كيقابوس بن كيقباذ الى رستم. إنى قد أعتقتك من العبودية، وملّكتك بلاد سجستان، واجلس على سرير من فضة مموّه بالذهب، والبس قلنسوة من الحرير منسوجة بالذهب متوجة. قال: ومما يدل على صحة ما نقل من أمر كيقابوس قول الحسن بن هانىء: وقاظ «1» قابوس فى سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحاسبها

ولما مات كيقابوس ملك بعده ولد ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقابوس. قال: ولما ملك عقد التاج على رأسه وخطب رعيته خطبة بليغة أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب ملك الترك، وكتب إلى جوذرز بأصبهان- وكان أصبهبذا على خراسان- يأمره بالمسير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن ينتخب ثلاثين ألف راجل ويضمهم إلى طوس [بن نوذران «1» ] وكان فيمن أشخص معه برزافره [بن كيقاوس «2» ] عمّ كيخسرو وابن جوذرز وجماعة من إخوته، وتقدّم كيخسرو إلى طوس، وأمره أن يقصد فراسياب وطراخنته «3» وحذره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له من أبيه سياوخش يقال له فروذ، وكان قد رزقه من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش قد تزوّجها لما سار إلى فراسياب فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ، فسار طوس وكان من غلطه الذى فعله أنه لما صار بالقرب من المدينة التى فيها فروذ حاربه فقتل فروذ فى الوقعة. فلما اتصل الخبر بكيخسرو غضب لذلك وشقّ عليه، فكتب إلى عمه برزافره ذلك كتابا غليظا يخبره بما ورد عليه من خبر طوس ومخالفته له ومحاربته لأخيه فروذ وقتله إياه، وأمره بإشخاص طوس إليه مقيدا مغلولا، وأن يتقدّم هو على العسكر ويتوجه. ففعل برزافره ذلك وتولى أمر العسكر، وسار وعبر النهر المعروف بكاشرود، وانتهى خبره إلى فراسياب فوجه للقائه وحربه جماعة من إخوته وطراختنه، فالتقوا وفيهم قيران وإخوته، فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره عمّ كيخسرو فى ذلك اليوم فشل لمّا اشتدت الحرب، فهرب وانحاز بالعلم إلى رءوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز الأمر، فقتل منهم فى تلك الملحمة فى وقعة

واحدة سبعون رجلا، وقتل خلق كثير، وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو، فرئيت الكابة فى وجهه وامتنع عن الطعام والشراب أياما، ثم أتاه جوذرز وشكا إليه عمه برزافره وأنه كان سبب الهزيمة، ولاطفه كيخسرو وقال: إن حقك لازم لنا لخدمتك إيانا، وهذا جندنا وخزائننا مبذولة لك فاطلب ترتك «1» واستعدّ وتجهّز للتوجه إلى فراسياب. فنهض جوذرز وقبّل يده وقال: نحن رعيتك وعبيدك أيها الملك، فإن كانت آفة أو نازلة فلتكن بالعبيد دون الملوك، وأولادى الذين قتلوا فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاستيفاء «2» من الترك. فكتب كيخسرو إلى وجوه عساكره وأكابر أجناده يأمرهم بموافاته فى صحراء تعرف بشاه اسطون من كورة بلخ فى وقت وقّته لهم، فوافوه فى ذلك الوقت، وشخص كيخسرو بأصبهبذيته وأصحابهم وفيهم برزافره عمه وجوذرز وولده، فعرض كيخسرو الجند بنفسه حتى عرف عدّتهم واطّلع على أحوالهم، ثم أحضر جوذرز وثلاثة نفر معه من القوّاد فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه ليحيطوا بهم من جميع جهاتهم، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، ودفع اليه يومئذ درفس «3» كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك لأحد من القوّاد، بل مع أولاد الملوك. قال: وأمر أحد القوّاد بالدخول مما يلى الصين وضم اليه ثلاثين ألف رجل، وأمرهم بالدخول من ناحية الخزر من طريق بين جوذرز وبين الذى دخل من طريق الصين، ودخل جوذرز من ناحية خراسان وبدأ بقيران والتحمت بينهما

الحرب واشتدّ القتال، فقتل جوذرز أخالقيران، ثم قتل قيران مبارزة، ثم قصد فراسياب والتحمت عليه العساكر من كل جهة، واتبع كيخسرو القوم بنفسه وقصد الوجه الذى كان فيه جوذرز، وقد أثخن فى القتل وقتل أصبهبذ فراسياب والمرشح للملك بعده، وجماعة كثيرة من إخوته وأولاده، وأسر برويز وهو الذى قتل سياوخش. قال: ولما جاء كيخسرو وجد جوذرز قد أحصى الأسرى والقتلى وما غنم من الكراع «1» والأموال، فوجد ما فى يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره ورأس قتيله [عند علمه «2» ] لينظر إلى ذلك كيخسرو عند موافاته. فلما وافى كيخسرو موضع الملحمة تلقاه جوذرز وعرض عليه الأسرى والقتلى، فرأى قيران قتيلا، وأتى بقاتل «3» أبيه الذى مثّل به بعد قتله. فقتله كيخسرو شرّ قتلة؛ قطعه عضوا عضوا ثم ذبحه، وأحسن صلة جوذرز وفوّض إليه الوزارة التى يقال لها بزر جفر «4» مذار وجعل إليه مع ذلك أصبهان وجرجان، وأحسن لكل من أبلى من قوّاده ورجاله، ثم أتته أخبار قوّاده الثلاثة الأخر أنهم قد أحاطوا بفراسياب، وبرز فراسياب ومن بقى من ولده وعساكره وتوجه نحو كيخسرو بجيوش عظيمة، فيقال إن كيخسرو أشفق منه وهابه حتى ظن أنه لا قبل له به، ودام القتال بين العسكرين أربعة أيام، فقتل شيده مقدّم عسكر فراسياب، وكانت هذه

الحرب معه، ثم أقبل فراسياب فى جمع عظيم من الأتراك والتقى هو وكيخسرو ونشبت بينهما حروب عظيمة يقال إنه لم ير مثلها قبلها قط على وجه الأرض، فكانت الدائرة على الترك، وانهزم فراسياب وكثر القتل فى أصحابه وأتبعه كيخسرو حتى أدركه بأذربيجان فظفر به واستوثق منه بالحديد ووبّخه على ما كان منه من قتل سياوخش، فلم يكن له حجة، فذبحه ثم انصرف. وقد غنم غنائم عظيمة لا تحصى وأدرك بثأره. قال: ولما فرغ كيخسرو من أمر الترك ورجع إلى بلاده واستقرّ بدار ملكه زهد فى الملك وتنّسك، وأعلم وجوه أهل بيته وأكابر مملكته أنه قد عزم على التخلى والأنفراد وترك الملك؛ فجزعوا من ذلك وسألوه ألا يفعل، فأبى عليهم. فلما أيسوا منه سألوه أن ينصب فى الملك من يراه له أهلا، فأشار بيده إلى لهراسف وأعلمهم أنه خاصته ووصيته، فقبل لهراسف ذلك وأقبل الناس عليه. وفقد كيخسرو. فمنهم من يقول: إنه غاب للتنسك، وبعضهم يقول غير ذلك، إلا أنه لم تعلم جهة وفاته. قال: وكان ملكه ستين سنة. قال: وفى أيام ملكه كان سليمان بن داود عليه السلام. ثم ملك بعده لهراسف «1» ؛ وقيل فيه بهراسف بن تنوفى بن كيمش وهو ابن أخى كيقابوس ويلقب بكى لهراسف. قال: ولما ملك اتخذ سريرا من ذهب مكللا بالجوهر للجلوس عليه، وبنيت له بأرض خراسان مدينة، وسماها بلخ الحسناء. قال: وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود، وعمر الأرض. وكانت شوكة الأتراك اشتدّت فى زمانه، فنزل بلخ لمقاتلتهم، ووجه بختنصر

ذكر أخبار بختنصر

أصبهبذا ما بين الأهواز إلى أرض الروم، من غربىّ الفرات. وسنذكر أخباره إذا انتهت أخبار لهراسف. قال: وكان لهراسف بعيد الهمة، طويل الفكرة، شديد القمع للملوك المحيطة لإيران شهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يؤدّون إليه إتاوة معلومة فى كل سنة، ويقرّون له أنه ملك الملوك هيبة له، واستمتر فى الملك إلى أن كبرت سنّة وأحس بالضعف فاعتزل الملك ونصب ابنه بشتاسب «1» . وكان ملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. ذكر أخبار بختنصّر ويقال فى اسمه بالفارسية بخترشه «2» ، وكان مرزبانا للهراسف، ومعنى المرزبان أنه ملك على ربع من أرباع المملكة. وقد قدّمنا أن الملك لهراسف كان قد جعله أصبهبذا ما بين الأهواز إلى أرض الروم. قال: فسار حتى أتى دمشق فصالحه أهلها، ووجه قائدا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بنى إسرائيل، وهو رجل من بنى داود النبىّ عليه السلام، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه وقالوا له: إنك هادنت أهل الكفر وخذلتنا واستعدّوا للقتال؛ فكان عاقبة ذلك أن قائد بختنصر- لما بلغه ما كان من بنى إسرائيل- كتب إليه يخبره بقتلهم ملكهم، فأجابه بختنصر أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأمره بضرب أعناق الرهائن الذين معه. وسار بختنصر حتى أتى بيت

المقدس فأخذ المدينة عنوة وقتل المقاتلة وسبى الذرّية وهرب الباقون إلى مصر، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: أن عبيدا لى هربوا منى إليك فسرّحهم إلىّ وإلا غزوتك وأوطأت خيلى بلادك، فكتب إليه ملك مصر: إنهم ليسوا عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، وامتنع من إنفاذهم اليه، فغزاه بختنصر وقتله وسبى أهل مصر، ثم سار فى أرض المغرب حتى بلغ أقصى نواحيها. قال صاحب كتاب تجارب الأمم: وقد حكى أهل التوراة وغيرهم فى أمر بختنصر أقوالا مختلفة، فذكروا منها: أن بختنصر لما خرّب بيت المقدس أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس، فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. قال: ولما انصرف إلى بابل اجتمع معه سبايا بيت المقدس من بنى إسرائيل وغيرهم، فاختار منهم سبعين ألف صبىّ، فلما فرّق الغنائم على جنوده سألوه أن يقسم فيهم الصبيان، فقسمهم فى الملوك منهم، فأصاب كل رجل منهم أربعة، وكان من أولئك الغلمة الذين سباهم، دانيال النبىّ وحنين ومنشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط بشر بن يعقوب. ثم غزا بختنصر العرب، وذلك فى زمن معدّ بن عدنان. قال: وكانت مدّة غلبة بختنصر إلى أن مات أربعين سنة، ثم قام ابن له يقال له أو نمروذ «1» ثم [هلك، وملك مكانه ابن له يقال «2» له] بلتنصر، وذلك فى زمن بهمن، فلم يرض بهمن أمره فعزله وملّك مكانه كيرش، وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببنى إسرائيل ويمكّنهم من النزول حيث سألوا، أو الرجوع إلى أرضهم، وأن يولّى

عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال فولاه أمرهم. فكانت مدّة خراب بيت المقدس سبعين سنة، وقيل غير ذلك. ولنرجع إلى أخبار الفرس. ولما اعتزل لهراسف الملك كما ذكرناه، ملك بعده كى بشتاسف «1» بن كى لهراسف. قال: ولما ملك بنى مدينة فسا «2» ، وهو أوّل من بسط دواوين الكتاب لا سيما ديوان الرسائل، وكان له ديوانان أحدهما: ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات، فكل ما يرد فإلى ديوان الخراج، وكل ما يصرف فمن ديوان النفقات. وكان له كاتب موكل بدار المملكة، فإن وقع تقصير بأحد فى منزلته، أو حطّ من درجته رجع إلى ذلك الكاتب ليبين له حال مرتبته فيجرى على رسمه وعادته. وفى أيامه ظهر زرادشت [بعد ثلاثين سنة من ملكه فادّعى النبوّة «3» ] فأراده على قبول دينه فامتنع من ذلك ثم صدّقه وقبل دعواه، وأتاه بكتاب يكتب فى جلد اثنتى عشرة ألف بقرة حفرا فى الجلود ونقشا بالذهب، فصير بشتاسف ذلك الكتاب بإصطخرو وكل به الهرابذة «4» ، ومنع من تعليمه العامة. وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة، وهادن كى خرزاسف بن كى سواسف ابن أخى «5» فراسياب ملك الترك على ضروب من الصلح، وفى جملة شريطة الصلح ألا يكون

ببلاد خرزاسف دابة موقوفة فى منزلة الدوابّ التى تكون على أبواب الملوك، وغير ذلك مما وقعت عليه المهادنة. فأشار زرادشت على بشتاسف بنقض الهدنة ومفاسدة ملك الترك، فبلغ ملك الترك ذلك، فغضب وكتب إليه كتابا غليظا من جملته أن يوجه إليه زرادشت، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته؛ فأجابه بشتاسف بجواب أغلظ من كتابه وآذنه بالحرب وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك هو. فسار كل منهما الى الآخر، ومع كل واحد منهما إخوته وأهل بيته، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدائرة على الترك، وقتل اسفنديار بن بشتاسف بيدرفش «1» الساحر مبارزة؛ وقتلت الترك قتلا ذريعا، وهرب ملكهم خرزاسف ورجع بشتاسف الى بلخ. قال: فلما مضت لتلك الحرب سنون سعى رجل يقال فروخ «2» بإسفنديار الى بشتاسف ونسبه أنه تطاول للملك، وزعم أنه أحقّ به، فأفسد بذلك قلب بشتاسف عليه، وصدق مقالة فروخ، فأخذ فى التدبير على إسفنديار وجعل يرسله الى حرب بعد حرب، وهو يظفر وينجح ويرجع بالغنائم، ثم أمر بتقييده فقيّد، وصيره فى الحبس فى حصن من حصونه، وسار بشتاسف الى جبل يقال له طميدر لدراسة دينه والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف فى مدينة بلخ، وقد كبرت سنه وهرم وعجز. قال: فاتصل هذا الخبر بخرزاسف ملك الترك، فجمع من الجنود ما لا يحصى كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ حتى [إذا «3» ] انتهى الى تخوم ملك فارس قدّم أمامه

جوهرمز «1» أخيه، وكان مرشحا للملك، فى جماعة كثيرة من المقاتلة، وأمرهم أن يغذّوا السير حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا بأهلها ويشنوا الغارة على المدن والقرى. ففعل جوهر مز ذلك وسفك الدماء واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى، وأتبعه خرزاسف ملك الترك حتى انتهى الى مدينة بلخ، فأحرق الدواوين وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسف وأخذ درفس كابيان، وسار فى طلب بشتاسف فتحصن منه فى جبل طميدر؛ فعند ذلك ندم بشتاسف على ما كان منه فى حق ابنه إسفنديار؛ فيقال: إنه وجه من استخرجه من محبسه، وجاءه به؛ فلما دخل عليه اعتذر منه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل معه كما فعل لهراسف به. وقلده أمر عساكره وندبه لحرب ملك الترك. فطابت نفس إسفنديار بكلام أبيه له، وتأهب لوقته، وسار بالجنود صبيحة النهار نحو الترك. فلما قرب منهم تبادروا لحربه؛ فكان ممن خرج اليه منهم جوهر مزواندرمان، فالتقوا والتحمت بينهم الحرب، فانقضّ إسفنديار على عساكر الترك بنفسه واختلط بهم، وقاتل حتى ثلم فيهم ثلمة عظيمة، وفشا فى الترك أن إسفنديار قد أطلق من محبسه، وأنه هو الذى يقاتلهم، فانهزموا لا يلوون على شىء. واسترجع إسفنديار من الترك الدّرفس وعاد الى أبيه، فاستبشر وأمره باتّباع القوم وقتال خرزاسف وقتله- إن ظفر به- بجدّه لهراسف، وقتل جوهر مز واندرمان بمن قتل من ولده، وأن يهدم حصون الترك ويحرّق مدنهم ويقتل أهلها بمن قتلوا من أهل بلاده، ويستنقذ من سبوه من بناته. فدخل إسفنديار بلاد الترك ورام ما لم يرمه أحد قبله، واعترض العنقاء ورماها على ما يزعم الفرس، ودخل مدينة الصفر عنوة، وقتل ملكها وأخوته ومقاتلته، واستباح

أمواله وسبى ذراريه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح الى أبيه. ولم يستقل إسفنديار هذا بالملك. والذى ملك الفرس بعد بشتاسف أردشير «1» بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف. وتفسير بهمن بالعربية: الحسن النيّة. قال: ولما ملك أردشير انبسطت يده وتناول الممالك حتى ملك الأقاليم. وكانت ملوك الأرض تحمل اليه الإتاوة، وابتنى بالسواد مدينة وهى المعروفة بهمينيا «2» ، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان. قال: وكان بهمن كريما متواضعا. وكانت تخرج كتبه: من أردشير بهمن عبد الله وخادم الله والسائس لأمركم. ويقال: إنه غزا رومية الداخلة فى ألف ألف مقاتل. ومن المؤرخين من ذهب الى أن بهمن هذا هو الذى جهّز بختنّصر لغز والعرب وغيرهم. وكانت مدّة ملك أردشير [مائة «3» و] اثنتى عشرة سنة. ولما مات ملكت بعده ابنته جماز هرازاد، وهى جمانى «4» أمّ ابنه دارا. قال: وكانت قد حملت منه بدارا الأكبر وسألته أن يعقد التاج للذى فى بطنها ويؤثره بالملك، ففعل أردشير ذلك. وكان ابنه ساسان يتصنع للملك ولا يشكّ أنه يكون هو الملك بعد أبيه. فلما رأى ما فعل أبوه شقّ ذلك عليه، فلحق بإصطخر وتزهّد، وخرج عن حلية الملوك، واتخذ غنيمة وكان يتولّاها بنفسه، فاستشنع «5» الناس ذلك

ذكر أخبار ملوك الطوائف

من فعله وقالوا: صار ساسان راعيا، ولم تزل جمانى قائمة بأمر الملك، ضابطة له، وأغزت الروم جيشا [بعد «1» جيش] وأوتيت ظفرا، فقمعت الأعداء وشغلتهم عن التطرّق الى شىء من بلادها، ونال رعيّتها بتدبيرها رفاهية وأمن الى أن كبر ابنها. فملك دارا بن أردشير بهمن. قال: ولما كبر حوّل التاج الى رأسه ونزل بابل. وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك، يؤدون اليه الخراج. وابتنى بفارس مدينة وسماها دارا بجرد. ورتّب دوابّ البريد. وكانت مدّة ملكه اثنتى عشرة سنة. وملك بعده ابنه دارا بن دارا بن أردشير؛ وكان دارا هذا حقودا جبارا، فملّه قومه. وغزاه الإسكندر بن فيلبس اليونانى، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل دارا بن دارا. وسنذكر خبر مقتله فى أخبار الإسكندر. فهؤلاء ملوك الفرس الأول. ثم تبدّد ملك الفرس وانتثر لقتل دارا بن دارا، واستقل الإسكندر بالملك. وملك بعده من نذكره من ملوك اليونان، وتفرّق ملك الفرس أربعمائة سنة الى أن عاد الى بنى ساسان. وهأنا ذاكر خبر ملوك الطوائف ما بين دارا بن دارا وأردشير بن بابك. ذكر أخبار ملوك الطوائف وملوك الطوائف هم الذين ملكوا بلاد فارس ما بين دارا بن دارا وأردشير ابن بابك الذى جمع ملك الفرس بعد تبدّده، ونظمه بعد انتثاره. وكان من خبرهم أن الإسكندر لما قتل دارا بن دارا وغلب على بلاد الفرس هم بقتل أكابرهم، فكتب الى معلّمه أرسطا طاليس يستشيره فى ذلك، فنهاه عن قتلهم وقال: هذا

من الفساد فى الأرض، وإذا قتلتهم أنبتت أرض بابل امثالهم؛ وأشار عليه أن يفرّق المملكة بين أولاد الملوك، فإنهم يتنافسون الملك فلا يجتمعون على ملك واحد منهم، فمتى خالفك واحد كانت مؤنته عليك خفيفة؛ ففعل ذلك، وفرّق الملك حتى أمكنه أن يتجاوز أرض فارس الى بلاد الهند والصين. فكانت ملوك الطوائف فى إقليم بابل لا يدين بعضهم الى بعض. فكان من ملوكهم الذين ملكهم الإسكندر: أشك بن دارا الأكبر؛ فقوى أشك هذا وعظّمته الملوك وقدّموه على أنفسهم، وبدأوا به فى كتبهم إليه إجلالا له، وبدأ فى كتبه اليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا اليه من غير أن يطيعوه أو يستعمل أحدا منهم أو يعزله، وكثرت جموعه وسار الى أنطيخس، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وتقدّم أنطيخس اليه والتقيا ببلاد الموصل واقتتلا فقتل انطيخس، وغلب أشك على السواد، وصار فى يده من الموصل الى الرىّ وأصفهان، ولذلك عظّمته ملوك الطوائف. ثم ملك جوذرز بن أشكان. وهو الذى غزا بنى إسرائيل المرة الثانية؛ وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكرياء عليهما السلام، فسلطه الله تعالى عليهم فأكثر فيهم القتل فلم يعد لهم جماعة بعد ذلك، ورفع الله عنهم النبوّة وأنزل بهم الذل. وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانية؛ فأوّلهم أشك بن أشكان، ثم سابور بن أشكان، وفى أيامه ظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بأرض فلسطين. ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر. ثم ملك بيزن الأشغانى. ثم ملك جوذرز الأشغانى. ثم نرسى الأشغانى. ثم هرمز. ثم أردوان الأشغانى. ثم كسرى الأشغانى. ثم بلاش الأشغانى. ثم أردوان الأصغر

ذكر أخبار الملوك الساسانية

الأشغانى. ثم اردشير بن بابك. فكانت مدة هؤلاء، الى أن وثب أردشير بن بابك على الأردوان فقتله، مائتين وستا وستين سنة. وفى أيام ملوك الطوائف اصطلمت «1» طسم وجديس. وسنذكر إن شاء الله خبرهم. ذكر أخبار الملوك الساسانية وهم الفرس الأخر. وأوّل من ملك منهم أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر. وكان من أعظم ملوك الطوائف وملوك الأشغانية، فوثب بالأردوان وقتله واستولى على الممالك وقاد الملوك الى طاعته رغبة ورهبة. وكتب الى ملوك الطوائف يدعوهم الى الاجتماع اليه: بسم الله ولىّ الرحمة. من أردشير المستأثر دونه بحقه، المغلوب على ثراث آبائه، الداعى الى قوام دين الله وسنته، المستنصر بالله، الذى وعد المحقّين الفلح «2» ، وجعل لهم العواقب؛ الى من بلغه كتابى هذا من ملوك الطوائف. سلام عليكم بقدر ما تستوجبون بمعرفة الحق، وإنكار الباطل والجور. ودعاهم الى الطاعة: فمنهم من أقرّ له بالطاعة، ومنهم من تربّص حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه فكانت عاقبة أمره الى القتل والهلاك؛ حتى استوثق له الأمر. فكانت طائفة الأشكانية ممن امتنعت من طاعة أردشير، فأقسم أنه لا يبقى منهم- إن قدر عليهم- رجلا ولا امرأة. فلما غلب عليهم ما نجا منهم إلا من أخفى اسمه ونسبه. وقد كان أخذ فى جملة من أخذ منهم ابنة ملكهم، وكانت بارعة الجمال، وافرة العقل. فلما رآها قال لها: أنت من بنات ملوكهم؟ قالت: بل من خدمهم. فاصطفاها لنفسه، فحملت منه. فلما علمت بالحمل شهرت نفسها وقالت: أنا ابنة ملكهم.

فعند ذلك أمر شيخا من رجاله الذين يثق بهم يقال له هرجند «1» [بن سام] بأن يودعها فى بطن الأرض إشارة الى قتلها. فقالت: أيها الشيخ، إننى قد حملت من الملك فلا تبطل زرعه. فعمل لها سربّا تحت الأرض وجعلها فيه، ثم عمد الى مذاكيره فجّبها ووضعها فى حقّ وختم عليه ورجع الى الملك وقال: قد أودعتها بطن الأرض؛ ودفع له الحقّ وقال: إن فيه وديعة وأحب أن يكون عند الملك الى أن أحتاج اليه، فاستودعه الملك؛ وأقامت الجارية فى السّرب حتى كلمت مدّة حملها، فوضعت غلاما فسماه الشيخ: شاه بور، أى ولد الملك؛ فسماه الناس سابور. وبقى أردشير هذا دهرا لا يولد له، فرآه الشيخ فى بعض الأيام وقد ظهر عليه الحزن، وكان خاصا به، فقال له: ما هذا الحزن سرّك «2» الله أيها الملك وعمرك. فقال: من أجل أنه ليس لى ولد يرث ملكى. فقال له الشيخ: إن لك عندى ولدا طيبا فادع بالحقّ. وأمر أردشير بإحضاره فأحضر، ففضّ ختمه فإذا فيه مذاكير الشيخ وكتاب فيه: إنه لما أمرنى الملك بقتل المرأة الأشكانية التى علقت من ملك الملوك أردشير لم أر أن أبطل زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمرنى، وتبرأت اليه من نفسى لئلا يجد عائب الى عيبها سبيلا؛ فسرّ أردشير بذلك، وأمر الشيخ أن يجعل الغلام بين مائة غلام من أشباهه فى الهيئة وأقرانه فى السن، ثم يدخلهم عليه، ففعل ذلك، فعرفه أردشير من بينهم وقبلته نفسه، ثم أمرهم أن يلعبوا فى حجرة الإيوان بالصّوالج، فدخلت الأكرة الإيوان، فأحجم الغلمان عن دخولهم وأقدم سابور، فأمر أردشير عند ذلك بعقد التاج له.

وكان أردشير من أهل العقل والمعرفة وحسن التدبير، وله وصايا ومكاتبات صدرت عنه تدل على حكمة ورجاحة عقل. وقد تقدّم إيرادها فى الباب الرابع «1» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. وكانت مدّة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر. ثم ملك بعده ابنه سابور بن أردشير؛ والعرب تسميه سابور الجنود. وسابور هذا هو الذى حصر الضّيزن «2» ، وملك حصن الحضر، وهو من مبانى العرب المشهورة. وقد تقدّم ذكره فى الباب «3» الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل. فلا حاجة الى إعادة ذكره. وفى أيامه ظهر مانى الزنّديق تلميذ قاردون وقال بالاثنين، فرجع سابور الى مذهب مانى والقول بالنور والبراءة من الظلمة، ثم عاد الى دين المجوسية وترك المانويّة، وهو المسمى عندهم بدين الثّنويّة. وكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. وقيل إحدى وثلاثين سنة ونصف سنة وثمانية عشر يوما. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور؛ وهو الذى يدعى هرمز البطل، ويلقّب أيضا بالجرىء. وبنى مدينة رامهرمز بين كور الأهواز. وكانت مدة ملكه سنة وعشرة أشهر. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن هرمز. قال: ولما ملك جاءه مانى الزنديق فعرض عليه مذاهب الثنوية فأجابه الى ذلك احتيالا منه عليه، الى أن أحضر له دعاته للتفرقين فى البلاد الذين يدعون الناس الى مذاهب الثنوية. فلما أحضرهم اليه قتلهم وقتل مانى وسلخه.

وفى أيام مانى هذا ظهر اسم الزنادقة الذين أضيفت اليهم الزندقة. وذلك أن الفرس كان لهم كتاب يسمونه السنا، وكان له شرح يسمى الزند. فكان من أتاهم بزيادة على ما فى كتابهم يسمونه زنديا. فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس فعربته وقالت زنديق. فالثنوية هم الزنادقة، فألحق هذا الاسم بسائر من اعتقد القدم وأبى حدوث العالم وأنكر البعث. والذى أتى الفرس بهذا الكتاب زرادشت فى زمن الفرس الأوّل. وقد قدّمنا ذكره فى أخبار بشتاسف. وهذا زرادشت هو الذى تزعم المجوس أنه نبيّها الذى أرسل اليها. وكان زرادشت خادم شعيا فدعا شعيا عليه فبرص. وكان صاحب نيرجات «1» وسحر. وكان يحزر «2» بعض الكوائن قبل أن تقع مما كان قد سمعه من شعيا وقت خدمته له، وادّعى النبوّة فى المجوس وعمل لهم الكتاب الذى قدّمنا ذكره، وزعم أنه أنزل عليه من السماء، وجعل كلامه فيه يدور على نيّف وسبعين حرفا، فلم يقدر أحد منهم على قراءته فاختصره لهم وسمى مختصره الزند. فلما قام مانى بدين الثنوية سمته المجوس «زندين» وسموا أصحابه الزنادنة لأنه زاد فى شرعهم الذى شرعه لهم زرادشت، فقتل بهرام هذا مانيا وصلبه على باب «3» من أبواب مدينة من مدنه بالعراق؛ فيدعى ذلك الباب الى آخر وقت باب مانى. وكانت مدة ملك بهرام ثلاثا «4» وثلاثين سنة وثلاثة أشهر. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام. قال: ولما ملك أقبل فى أوّل ملكه على اللهو والصيد والنّزه، وترك ملكه لا يفكر فيه ولا فى رعيته؛ فخربت البلاد ونقصت

بيوت الأموال. فلما كان فى بعض الأحيان ركب الى بعض متنزهاته وصيده فجنّه الليل وهو يسير نحو المدائن، وكانت ليلة قمراء. فدعا بالموبذ لأمر خطر بباله، والموبذ عند المجوس كالقسيس عند النصارى، فجعل يحادثه فتوسطا فى مسيرهم بين خرابات كانت من أمهات الضياع فخربت فى ملكه، وإذا بوم يصيح وآخر يحاوبه، فقال الملك: أترى أحدا من الناس أعطى فهم ما يقول هذا الطائر؟ فقال الموبذ: أنا أيها الملك ممن خصه الله تعالى بذلك. قال: فما يقول هذا الطائر، وما يقول الآخر؟ فقال الموبذ: هذا يوم ذكر يخاطب بومة أنثى ويقول: متّعينى من نفسك حتى يخرج من بيننا أولاد يسبحون الله تعالى. فأجابته البومة: إن الذى دعوتنى اليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، إلا أننى أشترط عليك شرائط. فقال: وما هى؟ فقالت: أن تقطعنى من خرابات أمهات الديار عشرين قرية مما خربت فى أيام هذا الملك السعيد. فقال له الملك: فما الذى قال الذكر؟ قال الموبذ: كان من قوله لها: إن دامت أيام هذا الملك السعيد أقطعتك منها ألف قرية، فما تصنعين بها؟ قالت: فى اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد، فنقطع كل واحد من الأولاد ضيعة. فقال الذكر: هذا سهل ما حيى الملك. فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذ عمل فى نفسه وفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته وخلا بالموبذ وقال له: ما هذا الكلام الذى خاطبتنى به؟ فقد حركت منى ما كان ساكنا. فقال: صادفت من الملك وقت سعد بالعباد والبلاد، فجعلت الكلام مثلا وموقظا على لسان الطائر عند سؤال الملك إياى. فقال له الملك: أيها الناصح للملك، [المنبه «1» على] ما أغفله من أمور ملكه، وأضاعه من أمور بلاده ورعيته، اكشف لى عن هذا الغرض ما المراد منه. فقال له: أيها الملك! ان الملك

لا يتمّ إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عزّ للملك إلا بالرجال، ولا قيام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل هو الميزان المنصوب بين البرية، نصبه الربّ وجعل له قيّما وهو الملك. قال: أما ما وصفت فحّق، فأبن لى عما اليه تقصد، وأوضح لى فى البيان. قال: نعم أيها الملك! عمدت الى الضياع فأقطعتها الخدم وأهل البطالة فعمدوا الى ما تعجل من غلاتها فاستعجلوا المنفعة وتركوا العمارة والنظر فى العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا فى الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على الرعية وعمّار الضياع فانجلوا عن ضياعهم، وقلّت الأموال، وهلكت الجند والرعية، وطمع فى ملك فارس من طمع فيه من الملوك والأمم، لعلمهم بانقطاع المواد التى بها تستقيم دعائم الملك. فلما سمع الملك ذلك أقام فى موضعه ثلاثة أيام، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، فانتزعت الضياع من أيدى الخاصة والحاشية وردّت إلى أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا بالعمارة، وقوى من ضعف منهم، وعمرت البلاد، وكثرت الأموال، وقويت الجند، وانتظم ملكه حتى كانت أيامه تدعى بالأعياد، لما عمّ الناس من الخصب، وشملهم من العدل. وكان ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام البطل، وكان يدعى شكان شاه، وهو الذى يقال له شاهنشاه «1» . فكان ملكه أربعين «2» سنة وأربعة أشهر. ثم ملك بعده أخوه نرسى بن بهرام الثانى فكان ملكه تسع سنين. وقيل سبع سنين وخمسة أشهر.

ثم ملك بعده ابنه هرمز بن نرسى. قال: وكان فظا إلا أنه كان يرفق بالرعية، وكان حسن السيرة فيهم. وكان ملكه سبع سنين وخمسة أشهر. ثم ملك بعده ابنه سابور بن هرمز؛ وهو الملقب بذى الأكتاف. وكان هرمز قد تركه حملا فى بطن أمه، فعقدوا التاج على بطنها، وقام الوزراء بتدبير الأمر مدّة حملها، وفى مدّة رضاع سابور وطفولته وصغره حتى كبر؛ فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق وأجابهم، ووجه البريد إلى الآفاق والأطراف، ورتّب الوزراء والكتاب وقرّر العمال. قال: وكان قد شاع فى الممالك أن ملك الفرس صغير السنّ، وأنه يتدبّر برأى وزرائه، ولا يدرى ما يراد منه، ولا ما يكون من الأمر، فطمع فى مملكة الفرس الترك والروم والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى الفرس بلاد العرب. وكانت العرب من أحوج الأمم إلى تناول شىء من المعايش لسوء حالهم وشظف عيشهم، فانبسطت أيديهم فى البلاد وغلبوا أهلها عليها واتسعت حالهم وكثرت مواشيهم، وأفسدوا فى بلاد فارس، ومكثوا كذلك حينا، وقد أمنوا جانب الفرس واطمأنّوا من قتالهم لقلة هيبتهم. وكان الذى غلب على سواد العراق من العرب جمرة العرب ولد إياد بن نزار. وكان يقال لها طبق لإطباقها على البلاد، وملكها يومئذ الحارث بن الأغر الإيادى. قال: ولما ترعرع سابور جعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود الذين فى الثغور، وأن الأخبار وردت عليهم أن أكثرهم قد أخلّ، وعظّموا عليه الأمر وهوّلوه، فقال لهم: لا يهولنّكم ذلك، فالخطب فيه غير جسيم، والحيلة فى ذلك يسيرة. وأمر الكتّاب أن يكتبوا الى أولئك الجنود أنه قد انتهى إلىّ طول مكثكم فى النواحى التى أنتم فيها، وعظم عنائكم وذبّكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحب منكم الانصراف الى أهله فلينصرف مأذونا له فى ذلك،

ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر فى موضعه عرفنا له ذلك؛ وتقدّم الى من اختار الانصراف منهم بلزوم أهله وبلاده الى وقت الحاجة إليه. فلما سمع الوزراء قوله ورأيه استحسنوه وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود مازاد على ما سمعناه. ثم تتابعت آراؤه فى تقويم أصحابه وقمع أعدائه؛ حتى إذا تمت له ستّ عشرة سنة جمع أساورته وأمرهم بالاستعداد لقتال العرب. وكانت إياد تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق. وكان فى جيش سابور رجل منهم يقال له لقيط «1» ، فكتب الى إياد شعرا ينذرهم وهو: سلام فى الصحيفة من لقيط ... الى من بالجزيرة من إياد بأن الليث آتيكم دليفا «2» ... فلا يحبسكم سوق النّقاد أتاكم منهم سبعون ألفا «3» ... يزجّون الكتائب كالجراد

فلم يعبئوا بكتابه، وسراياهم تكرّنحو العراق وتغير على السواد. فلما تجهّز القوم نحوهم ظفربهم سابور فعمّهم بالقتل، وما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض وبار «1» ، وخلع سابور أكتاف كثير منهم، فلذلك سمّى ذا الأكتاف. وكان سابور فى مسيره أتى البحرين وفيها بنو تميم فهربوا، وشيخها يومئذ عمرو بن تميم بن مرة وعمره ثلاثمائة سنة، وكان يعلّق فى عمود البيت فى قفّة، فأرادوا حمله فأبى عليهم إلا أن يتركوه فى ديارهم وقال لهم: أنا هالك اليوم أو غدا فتركوه. فلما صبحت خيل سابور الديار لقوها خالية، فلما سمع عمرو صهيل الخيل جعل يصيح بصوت ضعيف، فحمل إلى سابور، فلما نظر إلى دلائل الهرم ومرور الأيام عليه قال له: من أنت أيها الفانى؟ قال: أنا عمرو بن تميم بن مرة، قد بلغت من الكبر ما ترى، وقد هرب الناس منك لإسرافك فى القتل، فآثرت الفناء على يديك ليبقى من بقى من قومى، ولعل الله يجرى على يديك فرجهم، وأنا سائلك عن أمر إن أذنت فيه؛ فقال سابور: أقتلهم لما ارتكبوا فى بلادى وأهل مملكتى؛ فقال عمرو: فعلوا ذلك ولست بقيّم عليهم؛ فلما ملكت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك؛ قال سابور: وأقتلهم لأنا نجد فى مخزون علمنا وما سلف من أنباء أوائلنا أن العرب ستدال علينا. فقال عمرو: هذا أمر تظنه أم تتحققه؟ قال: بل أتحققه ولا بدّ أن يكون؛ فقال عمرو: فلم تسئ إليها؟ والله لئن تبقى عليها وتحسن إليها ليكافئون قومك عند إدالة الدوله إليهم بإحسانك، وإن أنت طالت بك المدّة كافئوك عند مصير الأمر إليهم إن كان حقا، وإن كان باطلا فلم تتعجل الإثم وتسفك دماء رعيتك؟ فقال

سابور: الأمر صحيح والحقّ ما قلت، ولقد صدقت فى القول ونصحت. فنادى منادى سابور بأمان الناس ورفع السيف. ويقال: إن عمرا بقى بعد هذا الوقت ثمانين سنة. ثم سار سابور إلى أرض الروم ففتح المدن وقتل خلائق من الروم وقال لمن معه: إنى أريد أن أدخل بلاد الروم متنكرا لأتعرّف أحوالهم وسيرهم ومسالك «1» بلادهم، فإذا بلغت من ذلك حاجتى انصرفت الى بلدى فسرت إليهم بالجنود؛ فحذّروه التغرير بنفسه فلم يقبل قولهم. وسار متنكرا الى أرض القسطنطينية فصادف وليمة لقيصر اجتمع فيها الخاص والعامّ، فدخل فى جملتهم وجلس على بعض موائدهم، وقد كان قيصر أمر مصوّرا أتى عسكر سابور فصوّره وجاء الى قيصر بالصورة، فأمر بها فصوّرت على آنية الشراب من الذهب والفضة، وأتى بعض من كان على المائدة التى عليها سابور بكأس، فنظر بعض الخدم الى الصورة التى على الكأس، وسابور مقابل له، فانطبعت مثالا لصورة سابور، فقام الى الملك فأخبره، فمثل بين يدى الملك، فسأله عن خبره فقال: أنا من أساورة سابور وهربت منه لأمر خفته منه. فلم يقبل ذلك منه، وقدّم إلى «2» السيف فأقرّ بنفسه، فجعل فى جلد بقرة، وسار قيصر فى جنود حتى توسط العراق، فافتتح المدن، وشنّ الغارات، وعقر النخل، وانتهى الى مدينة نيسابور، وقد تحصن بها وجوه فارس، فنزل عليها وحضر عيدا للنصارى فأغفل الموكّلون بسابور أمره، وأخذ منهم الشراب، وكان بالقرب من سابور أسارى من الفرس، فراطنهم بالفارسية أن يحلّ بعضهم بعضا، وأمرهم أن يصبّوا عليه زقاق «3» الزيت ففعلوا، فلان عليه

الجلد وتخلص، وأتى المدينة فراطنهم فرفعوه بالحبال، ففتح خزائن السلاح وخرج على الروم فكبس جيشهم عند ضرب النواقيس، فانهزم الروم، وأتى بقيصر أسيرا، فأبقى عليه وضمّ إليه من أسر من أصحابه، وأخذهم بغرس الزيتون بالعراق بدلا من النخل التى عقروها؛ ولم يكن الزيتون بالعراق قبل ذلك. وفى فعل سابور ودخوله الى أرض الروم يقول بعض شعراء الفرس: وكان سابور صفوا فى أرومته ... اختير منها فأضحى خير مختار إذ كان بالروم جاسوسا يجول بها ... حوم المنيّة «1» من ذى كيد مكّار فاستأسروه، وكانت كبوة عجبا ... وزلّة سبقت من غير عثّار وأصبح الملك الرومىّ مغتربا ... أرض العراق على هول وأخطار فراطن الفرس بالأبواب فافترقوا ... كما تجاوب أسد الغاب «2» بالغار فجذّ بالسيف أصل الروم فامتحقوا ... لله درّك من طلّاب أوتار إذ يغرسون من الزيتون ما عضدوا ... من النخيل وما حفّوا بمنشار وسابور هذا هو الذى بنى الإيوان المعروف بإيوان كسرى، وبنى السّوس «3» والكرج «4» ونيسابور «5» . قال صاحب كتاب تجارب الأمم: وبنى بالسواد مدينة نرجس سابور، وبنى الأنبار «6» . قال: وبنى مدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل

طبيبا من الهند وأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس. وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه. ثم ملك بعده أردشير بن هرمز وهو أخو سابور بن هرمز هذا. قال: ولما ملك ظهر منه شرّ كثير وقتل من العظماء وذوى الرياسة خلقا كثيرا، فاجتمع الناس على خلعه فخلعوه بعد أن ملك أربع سنين. ثم ملّكوا عليهم بعده سابور بن سابور. قال: ولما ملك استبشرت الرعية برجوع ملك أبيه إليه، فأحسن السيرة ورفق بالرعيّة. وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها [من العرب «1» ] ، وفيه يقول شاعر إيادىّ: على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنّعم وكان ملكه خمس سنين وأربعة أشهر، وسقط عليه فسطاط كان ضرب عليه فمات. وملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذى الأكتاف، وهو الملّقب كرمان شاه؛ لأن سابور كان ولّاه كرمان. قال: وكان حسن السيرة، جميل السياسة، محمود الأثر، محبّبا للرعية. وكان ملكه عشر سنين. وقيل إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. وملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام المعروف بالأثيم. قال: وكان فظّا غليظا، ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ما آتاه الله من ذكاء ذهن وحسن أدب فى غير موضعهما؛ وذلك أنه كان كثير الرّويّة فى المضارّ من الأمور، واستعمل الذى أوتيه فى الدهاء والحيل، واستخف بكل علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم، وتعاظم عليهم واستطال بما عنده. وكان معجبا بنفسه سيىء الخلق، حتى بلغ من شدته وحدّته أنه كان يستعظم صغار الزلات، ولا يرضى فى عقوبتها إلا بما لا يستطاع.

وكان لا يقدر أحد من بطانته- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يشفع عنده لمن ابتلى به وإن كان ذنب المبتلى به يسيرا، ولم يكن يأتمن أحدا على شىء ألبتّة، ولا يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من المعروف اذا أولاه ويستجزل ذلك، فإن جسر على كلامه أحد فى أمر قال له: ما قدر جعالتك فى هذا الأمر الذى كلمتنا فيه، وما الذى بذل لك بسببه؟ وما أشبه ذلك. فلما اشتدت بليّة الناس به، وكثرت إهانته للعظماء، وأكثر من سفك الدماء، واستعمل الضعفاء فى الأعمال الشاقّة، وحمّلهم ما لا طاقة لهم به، تضرّعوا الى الله عز وجل وسألوه أن ينقذهم منه. فزعم الفرس أنه كان ذات يوم مطلعا من قصره إذ رأى فرسا عائرا لم ير مثله قط فى الخيل من حسن الصورة وتمام الخلقة حتى وقف على بابه، فتعجب الناس من ذلك، فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه به، فحاول السوّاس وأصحاب المراكيب أن يلجموه أو يسرجوه فعجزوا عن ذلك، ولا مكّنهم الفرس من نفسه، فخرج يزدجرد بنفسه الى الفرس وتقدم اليه وأسرجه وألجمه ولبّبه وهو لم يتحرّك، فلما استدار ورفع ذنبه ليثفره «1» رمحه الفرس على فؤاده رمحة فهلك منها لساعته، ثم لم يعاين الفرس بعد ذلك؛ فأكثرت الفرس فى حديثه فظنّوا الظنون. وكان أحسنهم مذهبا وأمثلهم طريقة من قال: إنما استجاب الله عز وجل دعاءنا. فكان ملكه الى أن هلك إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. وقيل اثنتين وعشرين سنة غير شهرين. قال: وكان ابنه بهرام جور فى حجر النعمان بن المنذر بن ماء السماء أسلمه أبوه اليه ليرّبيه بالحيرة لصحة هوائها. وقد تقدّم خبره فى ذكر بناء الخورنق «2» والسدير.

فعدل الفرس عنه لسوء أثر يزدجرد فيهم وملّكوا عليهم كسرى، وهو رجل من عترة ساسان، فاستعان بهرام جور بالعرب وأرسل الى الفرس وأعلمهم إنكاره سيرة أبيه، ووعدهم بإصلاح ما فسد، وأنه إن مضى لملكه سنة ولم يف لهم بما بذل تبّرأ من الملك طائعا، فمال اليه قوم وبقيت طائفة مع كسرى، فتراضوا أن يوضع تاج الملك بين أسدين مشبلين فمن تناوله فهو الملك. وكان بهرام جور شجاعا بطلا، فلما وقف هو وكسرى الى جانب الأسدين هابهما كسرى، فوثب بهرام جور فإذا هو على ظهر الأسد وعصر جنبيه بفخذيه، فلما تمكّن منه قبض على أذنيه، ولم يزل يضرب رأس الأسد برأس الآخر حتى قتلهما. فكان كسرى أوّل من هتف به وأذعن له. فملك بهرام جور بن يزدجرد؛ فأحسن السيرة، وجلس سبعة أيام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضّهم على تقوى الله وطاعته. وكان جلوسه على سرير الملك وهو ابن عشرين سنة، فغبر زمانا وهو يحسن السيرة، ويعمر البلاد، ويدرّ الأرزاق، ثم آثر اللهو على ذلك وكثرت خلواته بأصحاب الملاهى حتى كثرت عليه الملامة من أرباب دولته، وطمع من حوله من الملوك فى استباحة بلاده والغلبة على ملكه. وكان أوّل من سبق الى مغالبته ومكاثرته خاقان ملك الترك، وغزاه فى مائتى ألف وخمسين ألفا من الأتراك، فبلغ الفرس إقبال الترك فى هذه الجموع العظيمة فهالهم ذلك، ودخل على بهرام جور جماعة من عظماء الفرس وأهل الرأى والنجدة وقالوا: أيها الملك، قد أرهقك من بائقة «1» عدوّك ما يشغلك عما أنت فيه من اللهو والتلذذ، فتأهّب له لئلا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار. وكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه يجيب القوم بأن يقول: الله ربنا قوىّ ونحن أولياؤه. ثم يقبل على ما هو عليه من اللهو والصيد.

قال: ثم أظهر بهرام جور التجهز الى أذربيجان ليتنسّك فى بيت نارها، ويتوجه منها الى أرمينية ويتصيد فى آجامها، وسار فى سبعة رهط من عظماء الفرس وأهل البيوتات، وثلاثمائة رجل من رابطته ذوى بأس وشدّة ونجدة، واستخلف أخاله يقال له نرسى على ملكه، فما شك الناس- لما بلغهم ذلك- أنه هرب من خاقان، فتآمر الفرس فى مراسلة خاقان والانقياد الى طاعته والإقرار له بالخراج؛ مخافة منه أن يستبيح بلادهم، فاتصل هذا الخبر بخاقان فاطمأنّ وترك التحفظ والاستعداد وآثر المسالمة. وتعرّف بهرام خبر خاقان وحال جنده وما هم عليه من الطمأنينة والفتور وعدم الاستعداد، فسار بمن معه وبيّت خاقان وقتله بيده. فلما علم الأتراك أن ملكهم خاقان قد قتل انهزموا لا يلوون على شىء وخلّفوا أثقالهم وأموالهم. فأكثر بهرام فيهم القتل وأمعن فى طلبهم، وحاز غنائم لم يسمع بمثلها، وسبى من ذرّيتهم كثيرا. وكان مما غنمه تاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاد الترك وانصرف بالظفر والغنائم، وكتب الى أهل مملكته يعلمهم بما حصل له من الظفر بخاقان وجموعه بمن كان معه من أولئك القوم الذين استصحبهم معه. وكان بهرام يتكلّم بلغات كثيرة، منها اللغة العربية. ومما حفظ من شعره يوم ظفره بخاقان: أقول له لما فضضت جموعه ... : كأنك لم تسمع بصولات بهرام وأنّى حامى ملك فارس كلّها ... وما خير ملك لا يكون له حامى ومن شعره أيضا: لقد علم الأنام بكل أرض ... بأنّهم قد اضحوا لى عبيدا ملكت ملوكهم وقهرت منهم ... عزيزهم المسوّد والمسودا

فتلك أسودهم تبغى «1» حذارى ... وترهب من مخافتى الورودا وكنت إذا تشاوس «2» ملك أرض ... عبأت له الكتائب والجنودا فيعطينى المقادة أو أوافى ... به يشكو السلاسل والقيودا قال: ولما قتل خاقان بعث بهرام جور أحد قوّاده إلى ما وراء النهر فغزاهم وأقرّوا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية. قال: وأسقط بهرام جور عن رعيته إثر هذا الظفر خراج ثلاث سنين، وترك ما كان قد بقى من الخراج ولم يستخرج من قسط تلك السنة، وكان سبعين ألف ألف درهم، وقسم فى الفقراء ما لا عظيما وفى أهل البيوتات والأحساب عشرين ألف ألف درهم؛ ونحل بيت النار بأذربيجان جميع ما غنمه من الترك من اليواقيت والجواهر والتاج والإكليل. ويقال إن بهرام دخل إلى أرض الهند متنكرا فمكث حينا لا يعرف حتى بلغه أن فيلا قد هاج وقطع السّبل وأهلك الناس، فسألهم أن يدلوه عليه، فرفع أمره إلى الملك فأرسل معه رسولا، فلما انتهى إليه أوفى «3» الرسول على شجرة لينظر ما يصنع بهرام مع الفيل، فصرخ بالفيل فخرج اليه، فجعل يرميه ويثبّت النّشّاب بين عينيه، ثم دنا وأخذ بمشفره وجذبه جذبة خرّمنها الفيل، ثم احتز رأسه وأقبل به إلى الملك فحباه وأحسن اليه. ثم إن ملكا من أعداء ذلك الملك أقبل لغزوه فجزع ذلك الملك من كثرة جنود الملك الذى أتى نحوه، فقال له بهرام: لا يهولنّك أيها الملك أمره؛ فركب بهرام وقال لأساورة الهند: احموا ظهرى، وانظروا إلى عملى، وكانوا لا يحسنون الرمى، وأكثرهم رجالة، فحمل عليهم حملة هدّهم بها، ثم جعل يضرب الرجل فيقطعه

نصفين، ويأتى الفيل فيضرب مشفره ويكبّه ويأخذ من عليه فيقتله، ويأخذ الفارس فيذبحه على قربوس سرجه، ويتناول الرجلين فيضرب أحدهما بالاخر فيموتان جميعا، ويرمى فلا تقع له نشابة إلا فى رجل، فولّوا أمامه منهزمين، وحمل الذين كانوا يحرسون ظهره عليهم فأكثروا القتل فيهم، فزوّجه ملك الهند بنته ونحله الدّيبل «1» ومكران وما يليهما من أرض السند وأشهد له بذلك، وانصرف بهرام جور إلى مملكته وضمّ ذلك إلى بلاده وحمل خراجها إليه، ثم أغزى بهرام جور أخاه نرسى إلى بلاد الروم فى أربعين ألفا فدخل القسطنطنية وهادن ملك الروم على إتاوة يحملها إلى أخيه. ثم مضى بهرام جور إلى أرض السودان على طريق اليمن فأوقع بهم وعاد إلى مملكته وهلك بعد ذلك فى ماء. وذلك أنه توجه إلى الصيد فشدّ على عير وأمعن فى طلبه، فارتطم فى ماء فى سبخة فغرق فيه، فسارت أمه إلى ذلك الموضع بمال عظيم ونزلت بالقرب منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه، فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة حتى صار من ذلك آكاما عظاما ولم يقدروا على [استنقاذ «2» ] جثته. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة. وحكى عنه فى صغره ما يدلّ على نباهته، وجودة فكرته وجميل رأيه. فمن ذلك أنه قال للنعمان بن المنذر لما بلغ عمره خمس سنين: أحضر لى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد. فقال له بهرام: أما تعلم أيها الرجل أنى من ولد الملوك، وأن الملك

صائر إلىّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه زين لهم وركن، وبه يعرفون. أما تعلم أن كل ما يتقدّم فى طلبه، ينال فى وقته، وما لم يتقدّم فيه ويطلب فى وقته، ينال فى غير وقته، وما يفرّط فيه وفى طلبه يفوت ولا ينال؟ عجّل علىّ بما سألتك. فبعث المنذر من ساعته إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلمين الفقهاء والرماة، وجمع له حكماء الروم وفارس وغيرهم، وألزمهم إياه، ووقّت أوقاتا لكل منهم؛ فتعلّم بهرام من كل علم أحسنه، وسمع الحكمة ووعى ما سمع منها، وثقف كلّ ما علم بأيسر شىء، وبلغ أربع عشرة سنة، وقد فاق معلّميه، وحفظ للنعمان حقّ التربية، فملّكه على العرب لمّا صار الملك إليه. ولما هلك بهرام جور ملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام جور؛ فسار بسيرة أبيه؛ ولم يزل قامعا لعدوّه، كثير الرفق برعيته. وكان له ابنان أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. ودام ملك يزدجرد تسع عشرة سنة، وقيل ثمانى عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما ثم هلك. فتغلّب على الملك بعده ابنه هرمز بن يزدجرد. ولما ملك هرمز هرب منه فيروز ولحق ببلاد الهياطلة «1» ، وأخبر ملكها بقصته وقصة أخيه هرمز، وذكر أنه أحقّ منه بالملك، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل به أخاه، فأبى عليه ملك الهياطلة وقال: سأعلم خبره ثم آمرك بعد ذلك بما تفعل. وكشف ملك الهياطلة عن خبر هرمز وتعرّف أحواله فبلغه أنه غشوم ظلوم؛ فقال عند ذلك: إن الجور لا يرضاه الله تعالى، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسته؛ وأمدّ فيروز بالعساكر ودفع له الطالقان «2» ؛ فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، فظفر بأخيه فحبسه.

وملك فيروز بن يزدجرد. ولما ملك أظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن إلا أنه كان مشئوما على رعيته، فقحط الناس فى زمانه سبع سنين، فأحسن فيها الى الناس، وقسم ما فى بيوت الأموال. ويقال: إن الأنهار غارت فى مدّة القحط، وكذلك القنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهلكت الوحوش والطير، وجاعت الدوابّ حتى كادت لا تطيق الحمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة، فبلغ من حسن سياسة فيروز لهذا الأمر أن كتب الى جميع الرعية: أنه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنه قد ملّكهم أنفسهم، وأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويصلحهم، وكتب بإخراج ما فى المطامير من الأطعمة وقسمها فى الناس، وترك الاستئثار عنهم وتساوى بهم، وأخبر أهل الغنى والشرف، بكل مدينة وقرية، أنه إن بلغه أن إنسانا مات جوعا عاقب أهل تلك المدينة أو الجهة التى يموت بها، وينكّل بهم أشدّ النكال. فقيل إنه لم يهلك فى هذا القحط والمجاعة من رعيته إلا رجل واحد من رستاق «1» . قال: ثم أغاثه الله فأمطرت السماء، وجرت الأنهار ونبعت العيون، وصلحت الأشجار، وسمنت المواشى؛ فاستوثق له الملك، وأخذ فى غزو أعدائه وقهرهم. وبنى مدنا إحداها بين جرجان [وباب «2» صول] وأخرى بناحية آذربيجان. ثم سار بجنوده نحو خراسان لقصد حرب أخشنوار «3» ملك الهياطلة لأشياء كانت فى نفسه، ولأن الهياطلة كانوا يأتون الذّكران ويركبون الفواحش فسار اليهم؛ فلما

بلغ أخشنوار ملك الهياطلة خبره خافه واشتدّ رعبه منه، وعلم أنه لا طاقة له به، وأن جيشه يضعف عن مقابلة الجيوش التى أقبل بها فيروز فحار فى أمره؛ فتقدّم اليه رجل كبير السنّ من أهل بلاده وقال: أنا أفدى الملك وأهل مملكته بنفسى، فليأمر الملك بقطع يدىّ ورجلىّ ويؤثر فى جسدى آثار العقوبة بضرب السياط، ويلقنى فى الطريق التى يمرّ فيروز بها، ويحسن إلى ولدى وعيالى الذين أخلفهم؛ ففعل به ذلك وأمر بإلقائه فى الطريق. فلما مرّ به فيروز أنكر حاله، فأخبره أن أخشنوار فعل به ذلك؛ لأنه أشار عليه بالانقياد إلى طاعة فيروز والإقرار بعبوديته، وأن يحمل إليه من الأموال والتحف ما يرضيه؛ فرقّ له الملك فيروز ورحمه وأمر بحمله معه، فنهاه أكابر قومه عن تقريبه فلم يرجع إليهم، ثم قال له ذلك الأقطع كالمتنصّح «1» له: أنا أدلّ الملك على طريق مختصر تدخل منه فى مفازة إلى بلاد أخشنوار، فتصادف غرّته؛ وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك؛ وأخذ الأقطع بفيروز ومن معه وعدل بهم عن الطريق الجادّة وشرع يقطع بهم مفازة بعد مفازة. فلما شكوا العطش منّاهم بقرب الماء وقطع المفازة. ولم يزل يتقدّم بهم حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على التقدّم ولا الرجوع، فتبين لهم أمره، فعندها سقط فى أيدى القوم وقالوا لفيروز: ألم ننهك عن هذا الرجل فلم تنته؟ فهلك أكثر أصحابه من العطش، ومضى على وجهه بمن نجا معه؛ فوافى أخشنوار وقومه؛ وهو ومن نجا معه على أسوإ حال، وقد أجهدهم العطش، فدعوا أخشنوار إلى الصلح على أن يخلى سبيلهم وينصرفوا إلى بلادهم، وعاهدوه على ألا يغزوهم أبدا، فرضى أخشنوار بذلك وحصل اتفاقهما على أن يجعلا بينهما حدّا لا يتجاوزه واحد منهما، ووضع عند الحدّ حجر، وحلفّه أخشنوار أنه لا يتجاوز ذلك الحجر،

فخلف له وأخذ عليه العهود والمواثيق وأطلقه أخشنوار، فعاد فيروز إلى بلاده. فلما سار إلى مملكته داخلته الحميّة وحملته الأنفة على محاربة أخشنوار والغدر به، فنهاه أهل مملكته عن ذلك وقبّحوا عليه نقض العهود والمواثيق، فلم يرجع الى أقوالهم وأبى إلا غزوه. وسار بجيوشه حتى أتى الحدّ الذى بينهما والحجر الذى حلف أنه لا يتجاوزه الى بلاد الهياطلة، فأمر فيروز بالحجر أن يصمد فيه خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجره أمامه وأمر العسكر ألا يتجاوز ذلك الحجر ولا يتقدّم الفيلة، وزعم أنه يكون قد وفى بيمينه ولم يتجاوز ما عاهد عليه. فلما بلغ أخشنوار ذلك أرسل اليه يقول: إن الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، ونهاه عن الغدر وقبّحه عليه، وهو لا يكترث بقوله، وأحجم أخشنوار عن محاربة فيروز وكرهها، ثم أعمل الفكرة وأخذ يفكر فى وجوه المكايد والمكر والخداع، فخفر حول عسكره خندقا عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعا، وغطاه بخشب ضعيف وألقى عليه التراب، ثم ارتحل بمن معه ومضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحيل أخشنوار بجنده من معسكره، فما شك أنه انهزم منه، فركب فى طلبه وأغذّ السير بجنوده- وكان مسلكهم على الخندق- فلما مروا عليه تردّى فيروز وعامة جنوده فيه فهلكوا عن آخرهم وعطف عليهم أخشنوار واحتوى على كل شىء كان فى معسكر فيروز، وأسر موبذان موبذ وجماعة من نساء فيروز منهنّ دخت ابنة فيروز، فكان هذا عاقبة مكره. وكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ولما هلك تنازع الملك بعده ابناه قباذ وبلاش؛ فملك بلاش بن فيروز ابن يزدجرد. وكان حسن السيرة حريصا على العمارة؛ وبلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتا خرب وجلا عنه أهله إلا عاقب صاحب القرية التى فيها ذلك

البيت على تركهم إنعاش أهله وسدّ فاقتهم حتى لا يضطرون إلى الجلاء عن أوطانهم. ثم هلك بعد أربع سنين. وملك بعده أخوه قباذ بن فيروز. قال: وكان قباذ لما ملك أخوه بلاش سار الى خاقان يستنصره على أخيه ويذكر أنه أحقّ منه بالملك؛ فمطله بذلك أربع سنين ثم جهزه بجيش، فلما عاد وبلغ نيسابور بلغه وفاة أخيه بلاش. وكان قباذ فى مسيره إلى خاقان مرّ على نيسابور متنكرا وتزوّج بها بابنة رجل من الأساورة وواقعها، فحملت منه بأنو شروان وتركها بنيسابور، فلما عاد فى هذا الوقت سأل عن الجارية فأتى بها وابنه منها أنوشروان، فتبرّك بهما وفرح بابنه، ثم عاد إلى بلاد فارس وبنى مدينة أرّجان وحلوان وعدّة مدن أخر. قال: وكان لقباذ خال يقال له سوخرا «1» وقيل فيه: ساخورا، وكان يخلف فيروز والد قباذ على مدينة الملك بالمدائن، فجمع جموعا كثيرة من الفرس وقصد أخشنوار ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه واستنقذ جميع من كان أسره من الفرس ومن سباه من نساء فيروز، وأكثر ما كان قد احتوى عليه أخشنوار من خزائن فيروز؛ فعظم قدره عند الفرس، وحسن فيهم أثره، وكبرت منزلته عند بلاش وقباذ إلى أن لم يبق بينه وبين الملك إلا مرتبة واحدة، وتولى سياسة الأمر بحنكة وتجربة؛ ومال إليه الناس وأطاعوه، واستخفوا بقباذ ولم يعبأوا بأمره، وهان عندهم فما حملت نفسه هذه الإهانة والذّلّ، فأخذ فى التدبير على ساخورا وكتب إلى سابور الرازى، وهو الذى يقال له اللبيب، وهو أصبهبذ البلاد، فى القدوم عليه بمن قبله من الجند، فقدم بهم سابور فخاطبه قباذ فى أمر خاله، فوافقه سابور عليه، فأمره

قباذ بالتلطف فى هذا الأمر وكتمانه، وإعمال الحيلة وحسن التدبير فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد خاله ساخورا عنده، فتقدّم سابور إليه وهو آمن، فألقى وهقا «1» فى عنقه واجتذبه وأوثقه بالحديد ثم أودعه السجن، وقتله قباذ وخافته الفرس بعده. وفى أيام قباذ ظهر مزدق- ويقال فيه: مزدك، وتفسيره: حديد الملك؛ وإليه تضاف المزدقية، ويقال لهم العدلية- وقال: إن الله تعالى إنما جعل الأرزاق فى الأرض مبسوطة ليقسّمها عباده بينهم بالسوية، ولكن الناس يظلمون؛ واستأثر بعضهم على بعض، فانضم اليه جماعة وقالوا: نحن نقسم بين الناس بالسويّة ونردّ على الفقراء حقوقهم من الأغنياء، ومن عنده فضل من المال والقوت والنساء والمتاع وغير ذلك فليس هو له ولا أولى به من غيره؛ فافترص السّفلة ذلك واغتنموه واتبعوا مزدك وأصحابه، فقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل فى داره فيغلبونه على ما فيها من ماله ونسائه ولا يستطيع أن يردّهم عنه ولا يدافعهم. ورأى الملك قباذ رأى مزدك وأصحابه وتابعهم فازداد قوة، فلم يلبث الناس إلا قليلا حتى صار الأب لا يعرف ولده، ولا الولد يعرف والده، ولا يملك أحد شيئا، وصيّرت العدلية قباذ فى مكان لا يصل اليه غيرهم، فاجتمعت الفرس على خلع قباذ من الملك ففعلوا ذلك. وملّكوا عليهم عند ذلك جاماسف بن فيروز. وهو أخو قباذ. وقيل: إن المزدكية هم الذين أجلسوه. قال: ولما ملك جاماسف قبض على أخيه قباذ وحبسه فاحتالت أخت قباذ فى خلاصه. وذلك أنها أنت الى الحبس الذى هو

فيه وحاولت الدخول الى أخيها، فمنعها الموكّل به من الدخول اليه، وطمع أنه يفضحها، وأعلمها أنه لا يمكّنها من العبور إليه إلا إن وافقته على قصده، فأطمعته فى نفسها وقالت: إنى لا أخالفك فى شىء مما تهواه منى، فمكّنها من الدخول الى السجن والاجتماع بأخيها قباذ، فدخلت اليه وأقامت عنده أياما، ثم لفته فى بساط أمرت بعض الغلمان أن يحمله فحمله على عاتقه، فلما مر الغلام بالموكّل بالحبس سأله عن حمله فاضطرب الغلام فلحقته وقالت: إنه فراش كنت أفرشه تحتى وعركت «1» فيه؛ وأنها خرجت لتتطهر وتعود، فصدّقها ولم يمسّ البساط ولم يدن منه استفذارا له على مذهبهم فى ذلك، فمضى الغلام به وخرجت أخته فى أثره، وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة يستمد ملكها ليمده بجيش بحارد، من خالفه، ويقال: إن زواجه بأمّ كسرى أنو شروان كان فى هذه السفرة لا فى تلك، وأنه تزوّجها بأبرشهر «2» ، وهى ابنة رجل من عظمائها، وأنه رجع به وبأمه عند عوده من بلاد الهياطلة. قال: وسار قباذ الى ملك الهياطلة فأقام عنده عدّة سنين، ثم عاد الى بلاده بأمداده، فغلب على أخيه ونزعه من الملك بعد أن ملك ستّ سنين. ثم عاد قباذ الى الملك ثانيا، ولما عاد الى الملك وجد ابن ساخورا قد وثب فى جماعة من أصحابه على مزدك فقتله، فسعى به الى قباذ فقتله بمزدك. قال: ثم غزا الروم وافتتح آمد، ثم أدبر ملكه لسوء عقيدته. وهلك قباذ إثر ذلك. وكان سبب هلاكه أن الحارث بن عمرو الكندىّ قتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، وملك العرب وما كان ملكه النعمان، فبعث قباذ بن فيروز

الى الحارث بن عمرو يقول: إنه كان بيننا وبين الملك الذى كان قبلك عهد، وإنى أحبّ لقاءك؛ وخرج للقائه فى عدد وعدّة، وجاءه الحارث والتقيا بمكان، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواه وبطبق آخر على حالته، فوضعا بين أيديهما، وجعل المنزوع بين يدى قباذ، والذى هو بنواه بين يدى الحارث، فجعل الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، وقباذ يأكل التمر ولا يحتاج الى إلقاء شىء. فقال للحارث: مالك لا تأكل كما آكل؟ فقال الحارث: إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا، وعلم أن قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح على ألا يجاوز الحارث وأصحابه الفرات، إلا أن الحارث استضعف قباذ وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يغبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد ففعلوا ذلك، فجاء الصريخ الى قباذ وهو بالمدائن، فكتب الى الحارث بن عمرو أن لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد، وأنه يحب لقاءه فلقيه، فقال قباذ كالعاتب له: قد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك، فطمع الحارث فيه من لين كلامه وقال: ما علمت بذلك ولا شعرت به، وإنى لا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كل العرب تحت طاعتى، ولا أتمكن منهم إلا بالمال والجنود. فقال له قباذ: فما الذى تريد؟ قال: أريد أن تعطينى من السواد ما أتخذ به سلاحا، فأمر له بما بلى جانب العرب من أسفل الفرات؛ وهو ستة طساسيج؛ فعند ذلك زاد طمع العرب فيه، أرسل الحارث بن عمرو الى تبّع وهو باليمن: إنى قد طمعت فى ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شىء؛ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم ولا يستحل هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك؛ فبادر إليه بجندك وعدّتك، وأطمعه فى الفرس. فجمع تبّع جنوده وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر الحيرة فنزل عليه، ووجه ابن أخته

شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله. وملك بعده ابنه كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز. ولما ملك استقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأى، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر؛ فجدّد سيرة أردشير وعمل بها، ونظر فى عهده وأخذ نفسه به، وأدّب رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم فاستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر فى تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها. وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرادشت الثانى الذى كان من أهل فسا، وأبطل ملة المزدكية وقتل على ذلك خلقا كثير، وسفك من الدماء بسبب إبطال هذين المذهبين ما لا يحصى كثرة، وقتل قوما من المانويّة، وثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب فى ذلك كتبا بليغة الى أصحاب الولايات والأصبهبذين، وقوّى ملك الفرس بعد ضعفه بإدامة النظر وهجر الملاذّ وترك اللهو، وقوّى جنوده بالأسلحة والأمتعة والكراع «1» ، وعمّر البلاد وحفظ الأموال وثمّرها، وسدّ الثغور واستعاد كثيرا من الأطراف التى غلب عليها الأمم. قال: وأما تدبيره فى أمر المزدكية وإبطال ما فعلوه فإنه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسّم أموالهم فى أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن عرف من الذين كانوا يدخلون على الناس فى بيوتهم، ويشاركونهم فى أموالهم وأهاليهم، وردّ الأموال الى أربابها. وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو فى سيمائه، وأمر بكل امرأة غلب عليها أن يؤخذ الغالب عليها حتى يغرم لها مهر مثلها، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين تزويج غيره؛ إلا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ اليه. وأمر بكل من أضرّ برجل فى ماله أو ظلمه أن يؤخذ منه الحق، ويعاقب الظالم

بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوى الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له فأنكح بناتهم للأكفاء وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف وأغنيائهم. وأمرهم بملازمة بابه ليستعين بهم فى أعماله، وخيّر نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن فى الأحرار، ويبتغى لهنّ الأكفاء من البعول، ثم أمر بكرى الأنهار وحفر القنى. وأمر بإعادة كل جسر قطع، أو قنطرة خربت أن تردّ الى أحسن ما كانت عليه، وتخيّر الحكام والعمال وأمرهم أن يسيروا بسيرة أردشير ووصاياه. فلما انتظمت له هذه الأمور واستوثق له الملك ووثق بجنده سار نحو أنطاكية فافتتحها، وأمر أن تصوّر له المدينة على هيئتها وذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن تبنى له مدينة على صفتها الى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية، ثم نقل أهل أنطاكية اليها. فلما دخلوا باب المدينة مضى كل أهل بيت الى ما يشبه منازلهم التى كانوا فيها بأنطاكية. وفتح مدينة هرقل ثم الإسكندرية، ثم أخذ نحو الخزر، ثم الى الهياطلة فقتل ملكهم بفيروز، وصاهر خاقان ملك الترك، وتجاوز بلخ وأنزل جنوده فرغانة، وبنى باب الأبواب. وقد ذكرناه فى المبانى القديمة «1» . ولما بنى هذا السور هابته الملوك وراسلته وهادنته؛ فورد عليه رسول ملك الروم بهدايا فنظر الى إيوانه فرأى فى ميزانه اعوجاجا، فقال: ما هذا الاعوجاج؟ فقيل له: إن عجوزا لها منزل فى جانب هذا الاعوجاج فأرادها الملك على بيعه وأرغبها فى الثمن فأبت، فلم يكرهها وبقى الاعوجاج على ما ترى. فقال الرومىّ: هذا الاعوجاج أحسن من هذا الاستواء. وكتب إليه ملك الصين: من نقفور «2» ملك

الصين، صاحب قصر الدرّ والجوهر، الذى يخرج من قصره نهران يسقيان العود والكافور، والذى توجد رائحته على فرسخين، والذى يخدمه بنات ألف ملك، والذى فى مربطه ألف فيل أبيض، الى أخيه كسرى أنوشروان. وأهدى إليه هدايا عظيمة. وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم ملوك الشرق، وصاحب قصر الذهب، وأبواب الياقوت والدرّ، الى أخيه كسرى أنوشروان ملك فارس، صاحب التاج والراية. وأهدى إليه هدايا؛ منها ألف منّ «1» من العود يذوب على النار كالشمع، ويختم عليه كما يختم على الشمع. وجام من الياقوت الأحمر فتحته شبر مملوء درّا، وعشرة أمنان كافور كالفستق، وجارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدّيها، وكأن بين أجفانها لمعان البرق مع إتقان شكلها، مقرونة الحاجبين، لها ضفائر تجرها؛ وفراش من جلود الحيّات ألين من الحرير وأحسن من الوشى. وكان كتابه فى لحا الشجر المعروف بالكاذى «2» مكتوبا بالذهب. وكتب إليه ملك التّبّت: من ملك التبت ومشارق الأرض المتاخمة للصين والهند، الى أخيه كسرى المحمود السيرة والقدر، ملك المملكة المتوسطة فى الأقاليم السبعة، أنو شروان. وأهدى إليه أنواعا مما عمل من عجائب أرض تبت، منها مائة جوشن ومائة ترس تبّتّية مذهبة، وأربعة آلاف منّ من المسك من نوافج غزلانية. واستغاث به ابن ذى يزن يستصرخه على الحبشة فبعث معه قائدا من قوّاده. وسنورد ذلك إن شاء الله فى خبر سيف بن ذى يزن.

ولما استتبّ له الأمر ووظّف الوظائف على الترك والخزر والهند والروم وغيرهم، نظر فى الخراج وأبواب المال. وكانت رسوم الناس جارية على الثلث من البقاع، ومن بعضها الربع والخمس والسدس على حسب العمارة. وكان قباذ أبوه قد مسح الأرض وهلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة؛ فجمع أنوشروان أهل الرأى فاتفقوا على أن جعلوا على كل جريب من الحنطة والشعير درهما، وعلى الجريب من الكرم ثمانية دراهم، وعلى الرّطاب تسعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كل ستّ نخلات دقل «1» مثل ذلك، وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك، ولم يضعوا إلا على نخل فى حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا فيما سوى ذلك من الغلّات السبع، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتّاب، ومن كان فى خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثنى عشر درهما، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم، على قدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا هذه الوضائع الى كسرى فرضيها وأمر بإمضائها وجباية مبلغها فى ثلاثة أنجم فى كل سنة، وسماها ابراسيار. ومعنى ذلك الأمر المتراضى به. وكان أنوشروان- لما أراد أن يضع هذه الوضائع- أمر بإتمام المساحة التى بدأ بها قباذ، وأحصى النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم؛ ثم أمر الكتاب فأخرجوا جمل ذلك غير تفصيله، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم. ثم قال كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان «2»

ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته

هذه المساحة وضائع، ونأمر بإنجامها فى السنة ثلاثة أنجم، ونجمع فى بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور أو طرف من الأطراف فتق «1» أو ما نكرهه واحتجنا الى تداركه أو حسمه بذلنا الأموال التى عندنا ولم نحتج الى استئناف جبايتها، فما الذى ترون فيما رأيناه من ذلك وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة، ولا نطق بكلمة. فكرر كسرى عليهم القول ثلاثا، فقام رجل من عرضهم وقال: أتضع أيها الملك- عمرك الله- خالدا من هذا على الفانى؟ من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها. فقال له كسرى: ياذا الكلفة المشئوم، من أىّ طبقات الناس أنت؟ فقال: من الكتّاب. فقال كسرى: اضربوه بالدّوىّ حتى يموت، فضربه الكتاب خاصة تبرؤا منهم الى كسرى من رأيه، وما صدر من مقالته حتى قتلوه. وقال الناس: نحن راضون بما ألزمتنا أيها الملك به من خراج. ثم اجتمعت الآراء على وضع ما ذكرناه من الوضائع، فاستقرّت على ذلك إلى أن جاء الإسلام، وبها أخذ عمر رضى الله عنه لما فتحت بلاد فارس. ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته قال الشيخ أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: إنه قرأ فيما كتبه أنو شروان من سيرة نفسه فى كتاب عمله فى سيرته وما ساس به مملكته: قال كسرى: كنت يوما جالسا بالدّسكرة وأنا سائر الى همذان لنصيف هناك؛ وقد أعدّ الطعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان والهياطلة والصين وقيصر ونقفور؛ ودخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل الى السّتر فى ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن والوثوب علينا، فأشار علىّ بعض خدمى

أن أخرج إليه بسيفى، فعلمت أنه إن كان إنما هو رجل واحد فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فإنّ سيفى لا يغنى شيئا؛ فلم أخف ولم أتحرّك من مكانى؛ وأخذه بعض الحرس فإذا هو رجل رازىّ من حشمنا وخاصّتنا، فلم يشكّوا أنّ على رأيه كثيرا من الناس، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر للشرب حتى يستبين الأمر، فلم أجبهم الى ذلك لئلّا ترى الرسل منّى جبنا، فخرجت لشربى، «1» فلما فرغنا هدّدت الرازىّ بالعقوبة وقطع اليمين، وسألته أن يصدقنى عن الذى حمله على ذلك، وأنه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك؛ فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أنى إن قتلته وإن قتلنى أدخل الجنة. فلما فحصت عن ذلك وجدته حقّا؛ فأمرت بتخلية الرازىّ وبردّ ما أخذ منه، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين أشاروا عليه حتى لم أدع منهم أحدا. وقال أنو شروان: إنى لما أحضرت القوم الذين اختلفوا فى الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت فى إظهار دينهم الخبيث، حتى إنى سألت أفضلهم رجلا على رءوس الناس عن استحلاله قتلى، فقال: نعم، استحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا! فلم آمر بقتله حتى إذا حضر وقت الغداء أمرت أن يحبس الغداء وأرسلت اليه بطرف الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عنّى أنّ بقائى له أنفع مما ذكر؛ فأجاب الرسول إنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه عن ذات نفسى ولا أكتمه شيئا مما أدين به، وإنما أدين بما أخذته من مؤدّبى.

قال أنو شروان: لمّا غدربى قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إلىّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت على مساكين الروم وضعفائهم وضعفاء مزارعيهم مما بعث به قيصر بعشرة آلاف دينار، وذلك فيما وطئته من أرض الروم دون غيرها. وقال: لمّا أمرت بتصفح أمر الرعية بنفسى ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج؛ فإنّ فيه مع الأجر تزيين [أهل «1» ] المملكة وغناهم وقدرة الوالى على أن يستخرج منهم إن هو احتاج الى ذلك- وقد كان فى آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج عنهم السنة والسنتين والتخفيف أحيانا مما يقوّيهم على عمارة أرضيهم- جمعت العمال ومن يؤدّى الخراج فرأيت من تخليطهم ما لم أرله حيلة إلا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل؛ فاستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة فى نفسى، وجعلت فى كل بلد مع كل عامل أمناء يحفظون عليه، ووليت قاضى القضاة بكل كورة النظر فى أهل كورته، وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون الى رفعه إلينا الى القاضى الذى وليته أمر كورهم حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضى، وأن تعطى به البراءة، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يزاد الخراج ممن لم يدرك من الأحداث، وأن يرفع القاضى وكاتب الكورة وكاتب أهل الكورة وكاتب أهل البلد والعامل محاسبتهم الى ديواننا وقت الكتب بذلك. وقال: رفع الينا موبذان موبذ أنّ قوما سمّاهم من أهل الشرف، بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر، دينهم مخالف لما رويناه عن نبينا وعلمائنا، وأنهم يتكلمون بدينهم سرّا ويدعون اليه الناس، وأن ذلك مفسدة للملك، وحيث

لا تقوم الرعيّة [إلا «1» ] على هوى واحد، فيحرّمون جميعا ما يحرّم الملك، ويستحلّون ما يستحلّ الملك فى دينه؛ فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك قوى بجنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فآستظهر على قتال الأعداء؛ فأحضرت أولئك المختلفين فى الأهواء، وأمرت أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّوا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتى وعن بلادى ومملكتى، ويتتبع كل من هو على هواهم فيفعل به ذلك. وقال: إن الترك الذين فى ناحية الشمال كتبوا إلينا بما أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا- إن لم نعطهم شيئا- من أن يغزونا، وسألوا خصالا إحداها أن نتخذهم فى جندنا، ونجرى عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكرج «2» وبلنجر «3» وتلك الناحية ما يعيشون به، فرأيت أن أسير فى ذلك الطريق الى باب صول «4» ، وأحببت أن يعرف من قبلنا من الملوك هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك وكثرة الجنود وتمام العدّة وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم، ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا اليه، وأحببنا بمسيرنا أن نجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان «5» ، والقرب من المجلس واللطف فى الكلام ليزيدهم ذلك مودّة لنا ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا، وأحببت أيضا التعهد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم فى مسيرنا. فسرت فى طريق همذان وأذربيجان. فلما بلغت الى باب الصول ومدينة فيروز خسرو يمّمت تلك المدائن العتيقة، وتلك الحدود، وأمرت ببناء حصون أخر. فلما بلغ

خاقان الخزر نزولنا هناك تخوّف أن نغزوه، فكتب أنه لم يزل- منذ ملكت- يحب موادعتى، وأنه يرى الدخول فى طاعتى؛ ورأى بعض قوّاده- لمّا شاهد حاله- تركه وأتانا فى ألفين من أصحابه؛ فقبلناه وأنزلناه فى تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلموا من دخل من الترك فى طاعتنا ما فى طاعة الولاة من المنفعة العاجلة فى الدنيا، والثواب الآجل فى الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحبة «1» والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا، وأقمت لهم فى تلك التخوم الأسواق، وأصلحت طرقهم «2» وقوّمت السكك. ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال فإذا هو بحيث لو كان بوسط فارس لكان منزلنا بها فاضلا. وقال: فلما أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر فى أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر فى أمرهم، وإحصاء مظالمهم، وإنصافهم. وأمرت موبذ كل ثغر ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك الىّ. وأمرت بعرض الجند، من كان منهم بالباب بمشهد منّى، ومن غاب فى الثغور والأطراف بمشهد من القائد وبادوستان «3» والقاضى وأمين من قبلنا. وأمرت بجمع أهل كور الخراج فى كل ناحية من مملكتى الى مصرها «4» مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين. وسرّحت من

قبلى من عرفت صحبته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه الى كل مصر ومدينة حيث أولئك العمال والغلمان وأهل الأرض ليجمعوا بينهم وبين أهل أراضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه، فما نفذ لهم فيه أمر أو صحّ فيه القضاء فرضى به أهله فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه الىّ. وبلغ اهتمامى بتفقّد ذلك ما لولا الذى أدارى من الأعداء والثغور لباشرت أمر الخراج والرعية بنفسى قرية قرية حتى أتعهدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتى؛ غير أنى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، الأمر الذى لا يغنى فيه أحد غنائى ولا يقدر على إحكامه غيرى، ولا يكفينيه كاف، مع الذى فى الشخوص الى قرية قرية من المئونة على الرعية من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إخراجه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا مع تخوّفنا أن يشتغل أهل الخراج عن عمارة أراضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه من ذلك مئونة فى تكلّف السير الى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهده فى السنة كلها فى أوقات العمارة، ففعلنا ذلك بهم ووكّلنا موبذان «1» موبذ بذلك، وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به، ورجونا أن يجرى مجرانا وأشخصناه وقلّدناه ذلك. قال: ولما أمّن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء فلم يبق منهم إلا نحو ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصونهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص عن الرعية، وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج. وكان بلغنا أن أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا فى ذلك،

فأمرت بالكتب الى قاضى كورة كورة أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به الىّ ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون فيمن يشخص بعض سفلتهم أيضا فعل ذلك. فلما حضروا جلست للناس وأذنت لهم بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت فى تلك الكتب والمظالم، فأيّة مظلمة كانت من العمال ومن وكلائنا، أو من وكلاء أولادنا ونسائنا وأهل بيتنا حططناها عنهم بغير بينة؛ لعلمنا بضعف أهل الخراج منهم، وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأيّة مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل وأوجب الفحص عنه شهود البلد وقاضيها سرّحت معه أمينا من الكتاب، وأمينا من فقهاء ديننا وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا. ولم يجعل الله لذوى قرابتنا ورحمنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل؛ فإن من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّته وقوّته، فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من جاوره إلّا أن يكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل؛ فدعانا الذى اطلعنا عليه من ظلم أولئك ألا نطلب البيّنة عليهم فيما ادّعى قبلهم. ولم نزل نردّ المظالم، ولم نرد أيضا ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، منيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فإن الحقّ واسع للضعفاء والأقوياء والفقراء والأغنياء؛ ولكنا لما أشكلت الأمور فى ذلك علينا كان الحمل على خواصّنا وخدمنا أحبّ الينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم، وأهل الفاقة والحاجة منهم. وعلمنا أن أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا. وعلمنا مع ذلك

أن الذين أعدينا «1» عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا الى ما لا يرجع اليه أولئك. ولعمرى إن خواصّنا الينا، وآثر خدمنا فى أنفسنا الذين يحفظون سيرتنا فى الرعية، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة وينصفونهم؛ فإنه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمتنا التى هى حرزهم وملجأهم. قال: ثم كتب الينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا، أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكل صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظ فى عبوديتنا، وسألوا أن نأذن لهم فى القدوم بأصحابهم لخدمتنا، والعمل لما نأمرهم به، وألا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنا سنرى فى كل ما نأمرهم به من قتال وغيره كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا، فرأيت فى قبولى إياهم عدة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا، وقد كان فيما سلف يستأجر منهم قيصر لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة. وكان لهم فى ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك؛ لأن الترك ليس عندهم لذة للحياة، فهو الذى يجرئهم مع شقاء معايشهم على الموت؛ فكتبت اليهم إنّا نقبل من دخل فى طاعتنا، ولا نبخل على أحد بما عندنا، وكتبت الى مرزبان «2» الباب آمره بأن يدخلهم أوّلا أوّلا، فكتب إلىّ إنه قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالهم. ولما بلغنى ذلك أحببت أن أقرّبهم الىّ ليعرفوا إحسانى إليهم، وأعظّمهم ليطمئنّوا الى قوّادنا، حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا كان كل واحد بصاحبه واثقا، فشخصنا الى أذربيجان، فلما نزلتها أذنت

لهم فى القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر، ورسول صاحب الروم، ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور «1» ، وكابل «2» شاه، وصاحب سرنديب «3» ، وصاحب كله «4» ، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا فى يوم واحد، وانتهيت الى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين ألفا فأمرت أن يصفّوا هناك وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابى وممن قدم علىّ ومن دخل فى طاعتى وعبوديّتى من لم يسعهم مرج كان طوله عشرة فراسخ، فحمدت الله كثيرا وأمرت أن يصفّ أولئك الأتراك فى أهل بيوتاتهم على سبع مراتب، ورأست عليهم منهم، وأقطعتهم وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لى باللان «5» ، وقسمتهم فى كل ما احتجنا اليه من الثغور، وضممتهم الى المرزبان؛ فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم فيما نوجههم له ما يسرنا فى جميع البلدان والثغور وغيرها.

قال: وكتب الىّ خاقان الأكبر يعتذر الىّ من بعض غدراته ويسأل المراجعة والتجاوز؛ وذكر فى كتابه ورسالته أن الذى حمله على عداوتى وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدنى الله أن أتجاوز عنه، وتوثّق لى بما أطمئنّ اليه. وذكر أن قيصر قد أرسل اليه وزعم أنه يستأذننى فى قبول رسله، وأنه لا يعمل فى قبول رسل أحد إلا بما آمره، ولا يجاوز أمرى، ولا يرغب فى الأموال ولا فى المودّات لأحد إلا برضائى، وكان دسيس «1» لى فى الترك يكاتبنى بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إياى، فأجبته: إنى لعمرى ما أبالى إن طبيعة نفسك وغريزتك غدرت بنا أم أطعت غيرك فى ذلك، وما ذنبك فى طاعة من أطعت فى ذلك إلا كذبتك فيما فعلته برأى نفسك، وإنى قد استحققت أشد العقوبة. وكتبت أنى لا أظن شيئا من الوثيقة تفى لكم إلا وقد كنت ضيعته، ولا أظن شيئا وثقت لنا به من قبل اليوم ثم غدرتم، فكيف نطمئنّ اليك ونثق بقولك؟ ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب فى اليمين. وذكرت أن رسل قيصر عندك، ووقفنا على استنئذانك إيانا فيهم؛ وإنى لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه. وأحببت أن أعلمه أنى لا أبالى بشىء مما جرى بينهما. ثم سرحت لمرمة المدائن والحصون التى بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف اليها ما يحتاج اليه الجند، وأمرت أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان فى المرة الأولى وهم على حال الصلح. قال: وكان شكرى لله تعالى لما وهب لى وأعطانى متصلا بنعمه الأول التى وهبها لى فى أوّل خلقه إياى؛ فإنما الشكر والنّعم عدلا كفّتى الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخفّ الى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه، فإذا كانت النعم

كثيرة والشكر قليلا انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ الحامل. وكثير النعم يحتاج صاحبها الى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولما وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، ونظرت فى أحبّ الأعمال الى الله وجدته الشىء الذى أقام به السموات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار وبرأ به البريّة. وذلك الحقّ والعدل فلزمتهما. ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التى بها معايش الناس والدوابّ والطير وسكان الأرض. ولما نظرت فى ذلك وجدت المقاتلة أجراء أهل العمارة، ووجدت أهل العمارة أجراء المقاتلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان المدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم، فحقّ على أهل العمارة أن وفّوهم أجورهم؛ فإن عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أو هنوهم فقوى عدوّهم؛ فرأيت من الحق على أهل الخراج ألا يكون لهم من عمارتهم إلا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم، ورأيت ألا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن والمقاتلة، فإنى إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج؛ وذلك أنه إذا فسد «1» العامر فسد المعمور، وكذلك أهل الأرض والأرض، فإنه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم هلكت المقاتلة الذين قوّتهم بعمارة الأرض؛ فلا عمارة للأرض إلا بفضل ما فى يد أهل الخراج؛ فمن الإحسان الى المقاتلة والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم، وأدع لهم فضلا فى معايشهم؛ فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند وقوتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوتهم. ولقد ميزت ذلك بجهدى وطاقتى، وفكرت فيه فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على هؤلاء إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين والرجلين المترادفتين.

ولعمرى ما أعفى أهل الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج. ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على أهل الخراج والبلاد إبقاء الرجل على ضيعته التى منها معيشته وحياته وقوّته، ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثار للمقاتلة على أنفسهم. قال: ولما فرغنا من إصلاح العامة والخاصة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة كان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذى دبّر الله العظيم خلائقه به، وشكرت الله على نعمته والمقاتلة فى أداء حقه على مواهبه، وأحكمنا أمر المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، وأقبلنا بعد ذلك على السّير والسّنن، ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم من أمورنا، والأكبر فالأكبر عائدا على جندنا ورعيتنا، ونظرنا فى سير آبائنا من لدن بستاسف الى ملك قباذ أقرب آبائنا. ثم لم نترك إصلاحا فى شىء من ذلك إلا أخذناه، ولا فساد إلا أعرضنا عنه، ولم يدعنا حبّ الآباء إلى قبول ما لا خير فيه من السنن، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته. ولما فرغنا من النظر فى سير آبائنا وبدأنا بهم، وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع خقا إلا آثرناه، ووجدنا الحق أقرب القرابة. نظرنا فى سير أهل الروم والهند فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار «1» ذلك عقولنا، وميزانه بأحلامنا، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا الى ما تميل به أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه وتقدّمنا إليهم فيه؛ غير أنا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته، ونحسدهم ما قبلنا، ولا منع ذلك انقباض بعلم ما عندهم، فإن الإقرار بمعرفة الحقّ

ذكر خطبة أنوشروان

والعلم والاتباع له من أعظم ما تزيّنت به الملوك. ومن أعظم المضرة على الملوك الأنفة من العلم والحميّة من طلبه، ولا يكون عالما من لا يتعلّم. ولما استقصيت ما عند هاتين الأمتين من حكمة التدبير والسياسة، ووصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته بالرأى، وأخذت به نفسى، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منا، وثبت على الأمر الذى نلت به الظفر والخير، ورفضت سائر الأمم لأنى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ لها نعمة. قال ابن مسكويه: وقرأت مع هذه السير فى آخر هذه الكتاب الذى كتبه أنوشروان فى سيرة نفسه أن أنوشروان لما فرغ من أمور المملكة وهذبها جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنساك والموابذة وأماثل الناس معهم فخطبهم فقال: ذكر خطبة أنوشروان قال: أيها الناس، أحضرونى فهمكم، وارعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فإنى لم أزل واضعا سيفى على عنقى منذوليت عليكم غرضا للسيوف والأسنة، وكل ذلك للمدافعة عنكم، والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى الشرق، وتارة فى آخر المغرب، وأخرى فى نهاية الجنوب، ومثلها فى جانب الشمال، ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع فى بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطنية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهوله، وأصبر على المخمصة «1» والمخافة، وأكابد البرد والحر، وأركب هول البحر وخطر المفازة؛

إرادة هذا الأمر الذى قد أتمة الله لكم: من الإثخان فى الأعداء، والتمكن فى البلاد، والسعة فى المعاش، ودرك العز، وبلوغ ما نلتم؛ فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة، والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتّلهم؛ فهم بين مقتول هالك، وحىّ مطيع لكم سامع؛ وقد بقى لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة؛ وهؤلاء الذين بقوا أخوف عندى عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم من الذين غلبتموهم من أعدائكم، وأصحاب السيوف والرماح والخيول؛ وإن أنتم أيها الناس غلبتم عدوّكم هذا الباقى، غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظّفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة، وتمّ بكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والصحة والسلامة؛ وإن أنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدوّ بكم فأين الظّفر الذى كان منكم، فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقى مثل ما قتلتم من ذلك العدوّ الماضى؛ وليكن جدّكم فى هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصح وأشدّ، فإن أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة، وأشدهم شوكة، وليس الذى كنتم تخافون من عدوّكم الذى قاتلتم بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن؛ فاطلبوه وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد؛ فإن بذلك اجتماع إصلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة فى الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه فى الآخرة. ثم اعلموا أن عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم لم يكونوا ليبلغوا منكم- إن ظهروا عليكم وغلبوكم- مثل الذى يبلغ هذا العدوّ منكم إن غلبكم وظهر عليكم؛ فإن بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.

يأيها الناس، إنى قد نصبت «1» لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرّمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال؛ أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرّع إليكم هذا التضرّع فى قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة فى طلب الجدّ منكم، والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنما فعلت هذا لعظم خطره، وشدّة شوكته، ومخافة صولته بكم. وإن أنا أيها الناس لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها، فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم؛ فأنشدكم الله أيها الناس لمّا أعنتموتى عليه حتى أنفيه عنكم، وأخرجه من بين أظهركم فيتمّ بلائى عندكم، وبلاء الله فيكم عندى، وتتمّ النعمة علىّ وعليكم، والكرامة من الله لى ولكم، ويتمّ هذا العز والنصر، وهذا الشرف والتمكين، وهذه الثروة والمنزلة. يأيها الناس، إنى تفكرت بعد فراغى من كتابى هذا، وما وصفت من نعمة الله علينا فى الأمر الذى لمّا غلب دارا الملوك والأمم وقهرها، واستولى على بلادها، ولمّا تحكّم أمر هذا العدوّ، هلك وهلكت جنوده بعد السلامة والظّفر والنصر والغلبة؛ وذلك أنه لم يرض بالأمر الذى تمّ له به الملك، واشتدّ به السلطان، وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتال له بوجوه النميمة والبغى؛ فدعا البغى الحسد «2» فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بغض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف؛ ثم أتاهم الإسكندر وهم على ذلك من تفرّق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء

وقوّة العداوة فيما بينهم والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذى شمل قلوب العامة من الشر والضغينة، ونبت فيها من العداوة والفرقة، وكفى الإسكندر مؤنة نفسه؛ وقد اتعظت بذلك اليوم وذكرته. يأيها الناس، فلا أسمعنّ فى هذه النعمة تفرقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا، ولا وشاية ولا سعاية، فإن الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا، وأكرم عنه ولا يتنا، وما نلت ما نلت بنعمة ربنا وحمده بشىء من الأمور الخبيثة التى نفتها العلماء، وعافتها الحكماء؛ ولكن نلت هذه الرتبة بالصحة والسلامة، والحب للرعية، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التى سميناها، أعنى من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم، مثل ما أخذنا عن الهند والروم لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولا تصلح أمة قط وملكها على ظهور هذه الأخلاق التى هى أعدى أعدائكم. يأيها الناس، إن فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح غنى لنا عما نطلب بهذه الأخلاق الرديئة المشئومة؛ فأكفونى فى ذلك أنفسكم، فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إلىّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فأما أنا أيها الناس فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم. يأيها الناس، إنى قد أحببت أن أنفى عدوّكم الظاهر والباطن؛ فأما الظاهر منهما فإنّا بحمد الله ونعمته قد نفيناه وأعاننا الله عليه وحصد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم، فافعلوا فى هذا العدوّ كما فعلتم فى ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذى عملتم فى ذلك، واحفظوا عنّى ما أوصيكم به فإنى شفيق عليكم ناصح لكم. أيها الناس، من أحيا هذه الأمور فينا فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإن هذه أكثر مضرة، وأشدّ شوكة، وأعظم بلية، وأضر تبعة.

واعلموا أن خيركم يأيها الناس من جمع إلى بلائه السالف عندنا المعونة لنا على نفسه فى هذا الغابر. واعلموا أن من غلبه هذا غلبه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك؛ وذلك أن بالسلامة والألفة والمودّة والاجتماع والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد والبغى والنميمة والسبّ يكون ذهاب العز، وانقطاع القوّة وهلاك الدنيا والآخرة؛ فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة، وضيافة السابلة «1» ، وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل فيكم من الأمم، فإنهم فى ذمّتى، ولا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإن الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق، فلا تصلحوا إلا معها، وبالله تعالى ثقتنا فى الأمور كلها. ثم هلك أنو شروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن كسرى أنو شروان. وأمه قاقم بنة خاقان ملك الترك. وقيل: بل ابنة ملك من ملوك الخزر. قال: وكان كثير الأدب، حسن السياسة، جميل النية، وافر الإحسان إلى الضعفاء والمساكين. وكان من سيرته المرتضاة أنه يجرى الخير والعدل على الرعية، ويشدّد على العظماء المتسلطين على الضعفاء. وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى المياه ليصيف هناك، فأمر فنودى فى مسيره أن يتحامى مواضع الحروث، ولا يسير فيها الراكب لئلا يضروا بأحد، ووكّل بتعهد ما يجرى فى عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره وتغريمه لصاحب

الحرث عوضا عما أفسده له. وكان ابنه كسرى أبرويز فى عسكره فغار مركب من مراكبه ووقع فى حرث كان على الطريق، فأفسد ما مرّ عليه، فأخذ ودفع إلى الرجل الموكل من جهة هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دوابّه شيئا من الحرث، فلم يجسر الرجل الموكل من جهة هرمز أن ينفّذ أمر هرمز فى ابنه أبرويز، فرفع الأمر إلى هرمز فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرّم كسرى أبرويز لصاحب الحرث؛ فخرج الرجل لإنفاذ الأمر، فدس له كسرى رهطا من العظماء يسألونه التثبت فى الأمر، فكلّموه فلم يجب إلى ذلك. فسألوه تأخير إنفاذ الأمر فى المركب حتى يكلموا هرمز، ففعل، ولقى أولئك الرهط هرمزا وأعملوه أن ذلك المركب الذى غار إنما غار زعارة «1» ، وأنه أخذ لوقته. وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وبتره، لما فى ذلك من سوء الطّيرة فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب فجدعت أذناه وبترذنبه، وغرم كسرى كما يغرم غيره من الجند ثم ارتحل. قال: وركب ذات يوم فى أوان إيناع الكرم يريد ساباط «2» المدائن، وكان ممرّه على بساتين وكروم، فنظر بعض الأساورة إلى كرم فرأى حصرما، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامه وقال: اذهب بها إلى المنزلة واطبخها بلحم واصنع منها مرقة فإنها نافعة فى هذا الإبّان، فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصاح به، فبلغ إشفاق الأسوار من عقوبة هرمز أن دفع إنى حافظ الكرم منطقة محلّاة بالذهب كانت فى وسطه، وسأله أن يأخذها عوضا عما أخذه من الحصرم، ولا يرفع الأمر إلى الملك.

فهذه كانت سيرته فى العدل، وهذا كان خوف جنده وأساورته منه. وكان مظفّرا منصورا، وكان أديبا داهيا، إلا أنه كان مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء. وقيل: إنه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل منهم، ولم يكن له رأى إلا فى تآلف السّفلة وأسقاط الناس واستصلاحهم. وحبس خلقا كثيرا من العظماء، وحطّ مراتب جماعة كبيرة، وقصّر بالأساورة ففسدت عليه نيات أكابر جنده وعظماء مملكته، فكان عاقبة سوء هذا التدبير أن خرج عليه جماعة من الملوك منهم شابه [شاه «1» ] ملك الترك فى ثلاثمائة ألف مقاتل، وسار إلى باذغيس «2» ، وذلك بعد مضىّ إحدى عشرة سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم فى ثمانين ألف مقاتل، وخرج عليه ملك الخزر حتى سار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق كثير، فنزلوا فى شاطئ الفرات وشنّوا الغارات على أهل السواد، فاجترأ عليه أعداؤه وغزوا بلاده. فأما شابه [شاه «3» ] ملك الترك فإنه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء ملكه من الفرس يؤذنهم بإقباله فى جيوشه زمرا زمرا، وأعلمهم أنه يريد غزو الروم، ويسلك إليهم من بلادهم، وأمرهم أن يعقدوا له قناطر على كل نهر يمرّ عليه فى بلادهم من الأنهار التى لا قناطر عليها، وكذلك فى الأودية، وأن يسهّلوا له الطرق والمسالك وقال: فإننى قد أجمعت على المسير إلى بلاد الروم من بلادكم، فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وجمع أكابر مملكته وعرض ذلك عليهم، وشاورهم فيما يفعله، فاجتمعت الآراء على قصد ملك الترك وحربه، فندب إليه رجلا من أهل الرأى والنجدة يقال له بهرام جوبين، فاختار بهرام من العسكر اثنى عشر ألفا

من الكهول دون الشباب، وسار بهم حتى انتهى إلى هراة «1» وباذغيس، ولم يشعر شابه [شاه «2» ] ملك الترك ببهرام حتى وافاه ونزل بالقرب من معسكره، فكانت بينهما حروب كثيرة آخرها أن بهرام جوبين قتل شابه برمية رماه [بها «3» ] فاستباح عسكره، وأقام بهرام موضعه، فوافاه برموذة «4» بن شابه وكان يعدل بأبيه، فحار به فهزمه بهرام جوبين وحصره فى بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة، فيقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة وقرمائتى ألف وخمسين ألف بعير فى مدّة تلك الأيام، فشكره هرمز على ذلك، وأمره أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك فلم يره بهرام صوابا، ثم خاف سطوة هرمز. وحكى له أن الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم فى جنب ما وصل إليه منها، وأنه يقول فى مجالسه قد ترفّه بهرام واستطاب الدّعة، وبلغ ذلك الجند فخافوا مثل خوفه. فيقال إن بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره وأجلسهم على مراتبهم ثم خرج عليهم فى زىّ النساء وبيده مغزل وقطن حتى جلس فى موضعه؛ وحمل إلى كل واحد من أولئك القوم مغزل وقطن ووضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه وقالوا: ما هذا الزىّ! فقال بهرام: إن كتاب الملك ورد علىّ بذلك ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين له، فأظهروا أنفة وحميّة وأجمعوا كلهم على خلع

هرمز، فخلعوه وأظهروا أن ابنه كسرى أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممن كان بحضرة هرمز. ولما اتصل ذلك بهرمز أنفذ جيشا كثيفا مع بعض قوّاده لمحاربة بهرام جوبين، فأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة أبيه ببهرام، فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة ومن الأصبهبذين، فأعطوه بيعتهم ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل القائد الذى كان قد بعثه هرمز لمحاربة بهرام جوبين، وهو أذبيحشيش، وهزيمة الجيش الذى كان معه واضطراب أمر هرمز أبيه، وكتبت أخت أذبيحشيش إلى كسرى أبرويز تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أن العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأن بهرام جوبين إن سبقه إلى المدائن احتوى على الملك. قال: ولم يلبث العظماء أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه «1» وبسطام خالا أبرويز وخلعوه وسملوا عينيه، وتركوه تحرّجا من قتله. فكان ملكه إلى أن خلع وسمل اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان. قال: ولما ملك بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس على السرير ومنّاهم، وأمرهم بالسمع والطاعة، فاستبشر الناس به ودعوا له وأجابوه ودخلوا تحت طاعته. فلما كان فى اليوم الثانى أتى إلى أبيه فسجد له، واعتذر وقال: إنك تعلم أيها الملك إننى برىء مما جناه إليك هؤلاء القوم الذين فعلوا بك ما فعلوا، وإنما هربت خوفا منك وإشفاقا على نفسى، فصدّقه هرمز وقال: يا بنىّ! إن لى إليك حاجتين فاسعفنى بهما، إحداهما: أن

تنتقم لى ممن عاون على خلعى وسمل عينىّ ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى تؤنسنى كل يوم بثلاثة نفر ممن لهم أصالة رأى، وتأذن لهم بالدخول إلىّ؛ فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أطلنا «1» ومعه أهل الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى؛ فإنهم وجوه أصحابك؛ ولكن إن أمكننى الله من المنافق فأنا خليفتك وطوع أمرك. قال: وأما بهرام جوبين فإنه ورد إلى النهروان، فخرج كسرى أبرويز إليه وواقفه بها وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير. كل ذلك فى استصلاح بهرام ورجوعه إلى الطاعة، وهو لا يجيب إلى ذلك ولا يردّ إلا ما يسوء أبرويز حتى يئس منه وأجمع على حربه والتقوا واقتتلوا. وكان بينهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلاثة نفر من الأتراك، وكانوا من أشدهم وأعظمهم شجاعة ووسامة، وكانوا قد التزموا لبهرام بقتل أبرويز، وضمن لهم بهرام على ذلك أموالا عظيمة. قال: ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا فسار الى أبيه وشاوره فرأى المسير الى الروم، وأحرز نساءه وشخص فى عدّة يسيرة فيهم بندويه وبسطام وكردى أخو بهرام؛ لأنه كان معاديا لأخيه، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام، وأشفقوا أن يردّ هرمز الى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز فى ردّهم فيتلفوا؛ فذكروا ذلك لأبرويز واستأذنوه فى إتلاف هرمز فلم يحر جوابا، فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما الى هرمز فخنقوه ثم رجعوا الى كسرى فقالوا: سر على خير طالع، وأيمن طائر؛ فحثّوا دوابّهم وساروا الى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له: خرشيذان

وساروا الى بعض الديارات التى فى أطراف العمارة، فلما أوطنوه للراحة لحقتهم خيل بهرام جوبين، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك فإن القوم قد طلبوك «1» . فقال كسرى: ما عندى حيلة. فقال بندويه: إنى سأحتال لك بأن أبذل نفسى دونك؛ قال: وكيف ذلك؟ قال: تدفع لى ثوبك وزينتك لأعلو الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإن القوم إذا وصلوا ورأوا هيئتك علىّ اشتغلوا بى عن غيرى، وطاولتهم حتى تفوتهم، ففعل ذلك. وخرج أبرويز ومن معه، ثم وافت خيل بهرام الدير وعليهم قائد لهم يقال له بهرام ابن سياوش فاطلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه زينة أبرويز وثيابه، وأوهمهم أنه هو، وسأله أن ينظره الى غد ليصير فى يده سليما ويسير به الى بهرام جوبين، فأمسك عنه وحفظ الدير ليلة كاملة بالحرس. فلما أصبح اطلع عليه فى بزّته وحليته وقال: إن علىّ وعلى أصحابى بقية شغل من استعداد وصلوات وعبادات فأمهلنا. ولم يزل يدافعه حتى مضى عامة النهار وأمعن أبرويز، وعلم بندويه أنه قد فاتهم، ففتح الباب حينئذ وأعلم بهرام سياوش بأمره، فانصرف به الى بهرام جوبين فحبسه. وأما بهرام جوبين فإنه دخل المدائن وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء فخطبهم وذمّ أبرويز ودار بينهم كلام، فكان كلهم منصرفا عنه إلا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا، ثم إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فظهر بهرام على ذلك، فقتل سياوش وأفلت بندويه ولحق بأذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية فكاتب ملك الروم منها، وراسله بجميع من كان معه وسأله نصرته، فأجابه الى ذلك وزوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وأمدّه بثياذوس أخيه ومعه ستون ألفا من المقاتلة، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير

أمرهم، ورجل آخر من أبطال الروم، كان يعدّ بينهم بألف رجل، وسأله ترك الأتاوة التى كان أبوه ومن قبله من ملوك الفرس يستأدونها من ملوك الروم إذا هو ملك، فأجابه الى ذلك، وفرح بالجيش الذى أمدّه به ملك الروم، واغتبط بهم وأراحهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء وسار بهم حتى نزل من أذربيجان فى صحراء تدعى الدنق «1» فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذى الناحية يقال له موسيل فى أربعين ألف مقاتل، فانضمّوا إليه، ووافاه الناس بالخيل من أصبهان وفارس، وانتهى الى بهرام جوبين مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حروب شديدة قتل فيها الكمىّ الرومىّ بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه فقدّ رأسه وبدنه، وعاد فرسه بنصف بدنه الباقى الى المعركة. فلما رآه أبرويز استضحك؛ فعظم ذلك على الروم وعاتبوا أبرويز وقالوا له: هذا جزاؤنا منك! يقتل كميّنا وواحد عصره فى طاعتك وبين يديك ونصحك ونصرتك وأنت تضحك لقتله! فاعتذر بأن قال: إنى والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ علىّ أن فقدت مثله أكثر مما شقّ عليكم، ولكنى رأيتكم تستصغرون شأن جوبين وتنكرون هربى منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة تعذروننى وتعلمون يقينا أن هربى إنما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم فى الأبطال. ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو جوبين وبندويه وبسطام حربا شديدا وصل فيها بعضهم الى بعض، وآخر الأمر أن أبرويز استظهر استظهارا يئس منه بهرام جوبين، وعلم

أنه لا حيلة له فيه ولا قدرة عليه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم سار الى الترك، وسار أبرويز الى المدائن بعد أن فرق فى الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم الى ملك الروم. قال: ولبث بهرام جوبين فى الترك مكرما عند الملك حتى احتال عليه كسرى أبرويز بتوجيهه رجلا يقال له هرمز الى الترك بجوهر نفيس وغيره من الهدايا الى امرأة ملك الترك حتى دسّت لبهرام من قتله؛ فاغتمّ خاقان لموته وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمهما بلوغ الحوادث ببهرام، وسأل كردية أخت بهرام أن يتزوّجها وفارق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا لينا، ثم ضمت إليها من كان مع أخيها بهرام من المقاتلة، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، فأتبعها ملك الترك أخاه نطرا «1» فى اثنى عشر ألف فارس. فيقال إن كردية قاتلت وقتلت نطرا بيدها، ومضت لوجهها حتى بلغت حدود أرض فارس، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانا من أبرويز، فلما قدمت عليه اغتبط بها وتزوّج بها أبرويز. قال: ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذى نصره وأمدّه ويهاديه إلى أن وثبت الروم عليه فى شىء أنكروه منه فقتلوه وملّكوا غيره، فبلغ ذلك أبرويز فتألم له وأوى إلى أبرويز ابن الملك المقتول، فتوجه أبرويز وملكه على الروم، ووجه معه جنودا كثيفة مع شهرياز فدوّخ بهم البلاد. وملك صاحب كسرى بيت المقدس وأخذ خشبة الصلب وبعث بها إلى كسرى، وذلك فى أربع وعشرين سنة من ملكه، ثم احتوى على مصر والاسكندرية وبلاد النوبة، وبعث مفاتيح ثغر الإسكندرية إلى كسرى فى سنة ثمان وعشرين من ملكه، وقصد قسطنطينية فأناخ

على ضفة الخليج الذى هو بالقرب منها وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرّب بلاد الروم غضبا على أهلها لما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ومع ذلك لم يخضعوا لابن ملكهم المقتول ولا منحوه الطاعة، ولا مال اليه واحد منهم؛ غير أنهم قتلوا الملك الذى ملّكوه عليهم بعد أبيه المسمى قوقا لما ظهر لهم من فجوره وسوء تدبيره؛ وملّكوا عليهم رجلا يقال له هرقل. فلما رأى هرقل عظم ما فيه أهل بلاد الروم من تخريب جنود فارس بلادهم، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريهم، واستباحتهم أموالهم تضرّع إلى الله وأكثر الدعاء وابتهل. فيقال إنه رأى فى منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس قد دخل عليه، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إنى قد أسلمته فى يدك، فلم يقصص رؤياه تلك فى يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثالها، فرأى فى بعض لياليه كأن رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها فى عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع، ثم دفعه إليه وقال له: ها قد دفعت اليك كسرى برقبته. فلما تتابعت هذه الأحلام قصّها على عظماء الروم وذوى العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعدّ هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذى فيه شهرياز «1» صاحب كسرى وعدل الى غيرها، وسار حتى أوغل فى بلاد أرمينية ونزل نصيبين سنة، وكان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأما شهرياز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه فى الجثوم على الموضع الذى هو به وترك البراح، ثم بلغه أن هرقل قد أقام بجنوده

بنصيبين، فوجه كسرى لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزار «1» فى اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى- وهى الموصل- على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وهو يومذاك بدسكرة «2» الملك، فنفذ الجيش لمنعه من جواز دجلة، فعسكروا حيث أمرهم كسرى، فقطع هرقل دجلة من موضع آخر الى الناحية التى فيها جنود فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فأخبروه أن هرقل فى سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزار ومن معه من الجند أنهم عاجزون عن مناهضته، فكتب إلى كسرى غير مرة أن هرقل قد دهمه بما لا طاقة له به ولا قبل من الجنود الكثيرة. كل ذلك يجيبه كسرى بأنه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقبالهم، وبذل دماء الفرس فى طاعته. فلما تتابعت على راهزار أجوبة كسرى بذلك عبّأ جنده وناهض الروم بهم؛ فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل من الفرس، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم لا يلوون على شىء، وبلغ كسرى ذلك فانحاز من دسكرة الملك الى المدائن، وتحصّن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وسار هرقل بجيوش الروم حتى كان قريبا من المدائن، فاستعدّ كسرى لقتاله، فلما بلغه ذلك انصرف الى أرض الروم، وكتب كسرى الى قوّاد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلّوه على كل رجل انهزم منهم، ومن فشل فى تلك الحرب، ولم يرابط مركزه، وأمر بعقوبتهم بحسب ما استوجبوا، فأحوجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب الى شهرياز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله فى ذلك ويصف ما نال هرقل منه ومن بلاده.

وقد حكى أن كسرى عرّف أن له امرأة فى فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال فدعاها وقال: إنّى أريد أن أبعث الى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيرى علىّ أيّهم أستعمل، فوصفت له أولادها فقالت: هذا فرّخان أنفذ من سنان؛ وهذا شهرياز «1» أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا؛ فاستعمل شهرياز؛ فسار الى الروم فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم. فلّما ظهرت فارس على الروم جلس فى بعض الأيام فرّخان يشرب؛ فقال فرّخان لأصحابه: لقد رأيت أنّى جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهرياز: اذا أتاك كتابى هذا فابعث إلىّ برأس فرّخان، فكتب اليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرّخان، وإن له نكاية فى العدوّ وصيتا فلا تفعل، فكتب اليه: إنّ فى رجال فارس خلفا منه، فعجّل إلىّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا الى أهل فارس: إنّى قد نزعت عنكم شهرياز واستعملت فرّخان، فانقاد له شهرياز وقال: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره وجلس عليه فرّخان، ثم دفع البريد صحيفة صغيرة الى فرّخان كان كسرى قد أعطاها له وقال له: اذا انقاد شهرياز الى طاعة فرّخان فاعط فرّخان هذه الصحيفة، فلما قرأها فرّخان قال: علىّ بشهرياز! فأتى به فقدّم ليضرب عنقه فقال: لا تعجّل علىّ حتى أكتب وصيّتى، ثم دعا بسفط وأخرج منه ثلاث صحائف، وهى التى كان كسرى أمر شهرياز فيها بقتل فرّخان وقال له: كلّ هذه راجعت كسرى فيها عنك، وأنت تريد أن تقتلنى بكتاب واحد؟ فردّ الملك إلى «2» أخيه واعتذر

ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم

منه، فكتب شهرياز الى هرقل ملك الروم: إنّ لى إليك حاجة لا تحملها البرد، ولا تبلّغها الصّحف، فألقنى ولا تأتينى إلّا فى خمسين روميّا، فإنّى أيضا ألقاك فى خمسين فارسيّا، فأقبل هرقل فى خمسمائة [ألف «1» ] رومىّ، وجعل يضع العيون بين يديه فى الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، فأتته عيونه أنه ليس مع شهرياز إلا خمسين رجلا. قال: ثم التقيا وقد بسط لهما فى قبّة من الدّيباج ضربت لهما، فاجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا يترجم لكلّ منهما عن قول الآخر؛ فقال شهرياز لهرقل: إنّ الذين خرّبوا مدينتك وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخى بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد قتل أخى وكتب إلىّ بقتله فأبيت، ثم أمر أخى أن يقتلنى وقد خلعناه جميعا ونحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما ووفّقتما، ثم أشار أحدهما الى صاحبه: إنّ السرّ إنما يكون بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، قال الآخر: نعم، فقاما جميعا الى الترجمان بسكّينيهما فقتلاه، واتفقا على قتال كسرى أبرويز. ومما اتفق فى أيامه من الحوادث يوم ذى قار، وسنذكره- إن شاء الله تعالى- فى أيام العرب ووقائعها، ولم نذكر فى هذا الموضع يوم ذى قار على سبيل الإيراد له بل على سبيل التنبيه عليه. ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم قال: كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة «2» أصحابه فى جيش جرّار الى بلاد الروم، فنكأ «3» فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشام، وبلغ الدرب فى آثار الروم، فعظم أمره حتى خافه

أبرويز، فكاتبه بكتابين، يأمره فى أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به، ويقبل إليه، ويأمره فى الكتاب الآخر أن يقيم بمكانه، وأنه لمّا تدبّر أمره، وأجال الرأى لم ير من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له: أعطه الكتاب الأوّل بالأمر بالقدوم، فإن أجاب الى ذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياما وأعلمه أن الكتاب الثانى ورد عليك وأوصله اليه ليقيم بموضعه. فخرج رسول كسرى حتى أتى صاحب الجيش ببلاد الشام فأوصل اليه الكتاب، فلمّا قرأه قال: إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لى وكره موضعى، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلى وأنا فى نحر العدوّ؛ فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل اليه الكتاب الثانى بالمقام وأوهمه أنّ رسولا ورد به. فلمّا قرأه قال: هذا تخليط ولم يقع منه موقعا، ودسّ الى ملك الروم من باطنه فى إيقاع الصلح بينهما على أن يخلى الطريق لملك الروم حتى يدخل الى بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق، وللفارسىّ ماوراء ذلك من بلاد فارس، فأجابه ملك الروم الى ذلك وتنحّى الفارسىّ عنه فى ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطريق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسيا، «1» وكسرى على غير استعداد، وجنده متفرّقون فى أعماله. فلما أتاه الخبر وثب عن سريره وقال: هذا وقت حيلة ومكيدة، لا وقت شدّة، وجعل ينكث الأرض مليّا، ثم دعا برقّ فكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق الى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وأطماعهم فى نفسك، وتخلية الطريق حتى اذا تولج بلادنا أخذته من أمامه، وأخذته ومن ندبناه معك من خلفه فيكون فى ذلك

بواره، وقد تمّ فى هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك فى الإيقاع به يوم كذا وكذا، ثم دعا راهبا فى دير بجوار مدينته وقال له: أىّ جار كنت لك، قال: أفضل جار، فقال: قد بدت لنا اليك حاجة، فقال الراهب: الملك أجلّ من أن يكون له إلىّ حاجة، ولكن عندى بذل نفسى، فما الذى يأمر به الملك؟ قال كسرى: تحمل لى كتابا الى فلان صاحبى، قال نعم، قال كسرى: ستمرّ بأصحابك النصارى فأخفه، فلما ولّى عنه الراهب قال له كسرى: أعلمت ما فى الكتاب؟ قال لا، قال: فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. فلما قرأه أدخله فى جيبه ثم مضى. فلما صار فى عسكر الروم ونظر إلى الصّلبان والقسّيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلب الراهب وأشفق عليهم وقال فى نفسه: أنا شرّ الناس إن حملت بيدى حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق؛ فصاح الراهب: أنا لم يحملنى الملك كسرى رسالة ولا معى كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى أيضا وجّه رسولا قبل ذلك وأمره أن يمرّ بعسكر الروم كأنه رسول الى كسرى من صاحبه الذى وافق ملك الروم ومعه كتاب فيه: إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم، وأن أخدعه وأخلى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك فى إعلامى وقت خروجه اليه. فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: قد عجبت من أن يكون هذا الفارسىّ معى على كسرى، ووافاه كسرى أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا فاتبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم فأحبّ أن يخلى نفسه ويستر ذنبه. فلمّا فاته ما دبّر خرج خلف ملك الروم يقتل فيهم ويأسر، فلم يسلم منهم إلّا القليل.

ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله

ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله قال: وكان سبب ذلك تجبره واحتقاره للعلماء وعتوّه، وذلك أنه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم، وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله الى قسطنطينية وأفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر والأوانى والآلات ما يليق بذلك، وأمر أن يحصى ما جبى من بلاده وسائر أبواب المال سنة ثمانى عشرة من ملكه، فرفع إليه أنّ الذى جبى فى تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب كان ستمائة ألف ألف درهم، وأمر أن يحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسفون «1» من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز اثنتى عشرة ألف بدرة من أنواع الجواهر وغير ذلك. قال: فعتا وتجبّر واستهان بالناس والأحرار، وبلغ من جرأته أنه رأى رجلا كان على حرس باب الخاصّة، يقال له: زاذان فرّوخ، فأمره أن يقتل كل مقيّد فى سجن من سجونه، فأحصوا من بالسجون من المقيّدين فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا، فلم يقدر زاذان فرّوخ على قتلهم، وتوقّف عن إمضاء أمر كسرى وأعدّ عللا له فيما أمره به فيهم، فكان هذا أحد الأسباب التى كسب بها كسرى عداوة أهل مملكته مع وجود احتقاره إيّاهم، واستخفافه بهم، واطّراحه لعظمائهم. ومن ذلك أنه سلّط علجا، يقال له: فرّخان زاذ، على الخراج فاستخرج بقاياهم منهم بعنف وعذاب. ومن ذلك أنه أجمع على قتل الفلّ «2» الذين انصرفوا إليه من

قبل هرقل، فأكّدت هذه الأسباب بغضه، واستطال الناس مدّته، فكان نتيجة ذلك أنّ قوما من العظماء انصرفوا إلى عقر بابل «1» ، وفيه شيرى «2» بن أبرويز مع إخوته، وقد كان كسرى أبرويز وكّل بهم مؤدّبين وأساورة، يحولون بينهم وبين من يجتمع بهم من الناس، ويمنعونهم من البراح، فأخذه العظماء وأقبلوا به إلى مدينة بهرسير «3» ودخلوها ليلا، فخلّى عمّن كان فى سجونها وأخرجهم، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا غلبوا وفرّوا من هرقل وأمر كسرى بقتلهم، فنادوا: قباذ شاهنشاه، وصاروا كلّهم عند الصباح إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ «4» له بالقرب من قصره، يعرف بباغ الهندوان «5» ، فارّا مرعوبا، فأخذ وحبس بمكان غير دار المملكة، فى دار رجل يقال له: مار اسفند، إلى أن قتل بعد حديث طويل ومراسلات كانت بينه وبين ابنه شيرى بمواطأة العظماء، بعد تقريع عظيم، وتوبيخ كثير، على ما كان منه، ومن سوء تدبيره، وقبح فعاله، وهو يجيبهم بأجوبة إقناعيّة، وله مراسلات ووصايا كتبها إلى ابنه من السجن؛ قد ذكرنا بعضها فيما سلف من هذا الكتاب. وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكه. وبمضىّ آثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، كانت هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.

قال: ولمّا قبض على كسرى خلّف فى بيت المال من الورق «1» أربعمائة ألف بدرة سوى الكنوز والذخائر والجواهر والآلات. وكان وزيره والقائم بتدبير دولته بزرجمهر الحكيم. ولبزرجمهر هذا قضايا وحكم ومواعظ فى أيدى الناس. ويقال: إنّ بزرجمهر هذا إنما كان وزيرا لكسرى أنو شروان، وهو الذى قتله. وذلك أنّ بزرجمهر ترك المجوسيّة ورجع إلى دين عيسى بن مريم عليه السلام ودان به، فقتله كسرى لذلك. ويقال: إنه وجد فى منطقته لمّا قتل كتاب فيه: إذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر فى الناس طباعا فالثّقة بكلّ أحد عجز، وإذا كان الموت نازلا فالطّمأنينة إلى الدنيا حمق. قالوا: ولمّا بلغ بزرجمهر من العمر خمس عشرة سنة دخل على كسرى، وقد جلست الوزراء على كراسيها والمرازبة «2» فى مجالسها. فوقف وحيّا الملك بتحيّة الملوك ثم قال: الحمد لله المأمون نعمه، المرهوب نقمه، الدالّ عليه، بالرغبة اليه، المؤيّد الملك، بسعوده فى الفلك، حتّى رفع شأنه، وعظم سلطانه، وأنار به البلاد، وأنعش به العباد، وقسّم به فى التقدير، وجوه التدبير، فرعى رعيّته بفضل نعمته، وحماها الموبلات، وأوردها المعشبات، وذاد «3» عنها الأكّالين، وألّفها بالرّفق واللين، إنعاما من الله عليه، وتثبيتا لما فى يديه. وأسأله أن يبارك له فيما آتاه، ويخيّر له فيما استرعاه، ويرفع قدره فى السماء، ويسير ذكره على وجه الماء، حتى لا يبقى له بينهما مناوى، ولا يوجد له مساوى. وأستوهب الله له

حياة لا يتنغّص فيها، وقدرة لا يحيد أحد عنها، وملكا لا بؤس فيه، وعافية تديم له البقاء، وتكثر له النّماء؛ وعزّا يؤمّنه من انقلاب رعيّته، أو هجوم بليّته، فإنه مؤتى الخير، ودافع الشرّ. فلمّا سمعه كسرى أمر فحشى فمه بنفيس الجواهر، ولم تمنعه حداثة سنّه أن استوزره، وقلّده خيره وشرّه؛ فكان أوّل داخل، وآخر خارج. وكان أبوه خامل القدر، وضيع الحال، سفيه المنطق، اسمه البختكان. قال: ولمّا قبض على أبرويز ملك بعده ابنه: قباذ بن أبرويز ويعرف قباذ بشيرويه. وقباذ هذا هو القابض على أبيه والقاتل له، وقتل سبعة عشر أخا له، وقيل ثمانية عشر، ذوى آداب وشجاعة؛ فكان عاقبة ذلك أنّ الله عز وجلّ ابتلاه بالأسقام، فانتقض عليه بدنه، ولم يلتذ بشىء من ملاذّ الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا؛ وكان يبكى حتى يرمى التاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وفى أيامه فشا الطاعون فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر، وقيل أكثر من ذلك. وملك بعد وفاته ابنه أردشير بن شيرويه وهو ابن سبع سنين ولم يوجد من بيت الملك غيره. قال: ولمّا ملّكته الفرس عليها حضنه رجل يقال له: مهآذر جشنس، «1» فأحسن سياسة الملك. وكان شهر براز «2» المقيم بثغر الروم فى جند ضمّهم اليه كسرى أبرويز

وابنه شيرويه، وكانا يكتبان اليه ويستشيرانه فى الأمر الذى يهمهما ويعملان برأيه. فلمّا مات شيرويه وملّكت الفرس عليها ابنه أردشير- مع حداثة سنه- لم يشاوره عظماء الفرس فى ذلك، فعظم عليه انفرادهم عنه، وجعل ذلك ذنبا لهم، وبسط يده وطمع فى الملك، واستهان بعظماء الفرس، ودعا الناس لنفسه، وأقبل بجنده نحو المدائن، فعمد مهآذر جشنس الى مدينة طيسبون، فحصّنها وحوّل أردشير ومن بقى من نسل الملوك ونسائهم والأموال والخزائن والكراع «1» وغير ذلك إليها؛ فورد شهر براز الى مدينة طيسبون وحاصرها ونصب عليها المجانيق، فعجز عنها لحصانتها، فأخذ فى أعمال المكايد والحيل، فلم يزل يتلّطف برجل يقال له: نيوخسرو ويراسله هو وغيره، حتى فتحوا له باب المدينة فدخلها، وقتل جماعة من الرؤساء واستصفى أموالهم وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة ونصفا، وقيل: إنما ملك نصف سنة، وقيل: خمسة أشهر. وملك بعده شهر براز، وقيل فيه: شهريار، ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال: ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء؛ فدعا بالطست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ أمامه ما يستتر به، وبقى يتبرّز فى ذلك الطست. قال: ثم آمتعض رجل يقال له: فسفرّوخ «2» [بن ما خرشيذان «3» ] وأخوان له من قتل شهر براز أردشيرين شيرويه وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع والبيض،

وبأيديهم السيوف والتّراس «1» والرّماح؛ فإذا حاذاهم الملك وضع كلّ واحد منهم ترسه على قريوس سرجه، ثم يضع جبهته عليه كهيئة السجود. قال: واتفق ركوب شهر براز فى بعض الأيام فوقف فسفرّوخ وأخواه وهم بالقرب من بعضهم بعضا، فلمّا حازاهم شهر براز طعنه فسفرّوخ، ثم طعنه أخواه فسقط عن دابّته، فشدّوا رجله بحبل وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم العظماء «2» على ذلك، وقتلوا جماعة ممن كان قد ساعد شهر براز على قتل أردشير. فكان ملكه أربعين يوما، وقيل عشرين يوما. وملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز ويقال لها: بوران دخت. قال: فأحسنت السّيرة وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور، وإعادة ما تشعّث من العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت الى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هى عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهية والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر؛ ولكنّ ذلك بالله عز وجلّ، وحسن النيّة واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملك رجل يقال له: جشنسده وهو ابن عمّ أبروير، وكان ملكه أقلّ من شهر، وقيل: إن الذى ملك يزدجرد بن كسرى وهو طفل.

ثم ملكت بعده آزرميدخت بنت كسرى أبرويز، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ فرّخ هرمز أصبهبذ خراسان؛ فأرسل إليها يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت اليه: التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت اليه قضاء حاجتك منّى؛ فصر الىّ ليلة كذا وكذا، ففعل وركب اليها فى تلك الليلة، وتقدّمت الى صاحب حرسها أن يرصده فى الليلة التى تواعدا للالتقاء فيها، فإذا رآه يقتله، فرصده صاحب الحرس؛ فلمّا جاء قتله وجرّ برجله وطرحه فى رحبة دار الملك. فلمّا أصبح الناس ورأوه علموا أنه لم يقتل إلّا لأمر عظيم، ثم أمرت بتغييب جثّته فغيّبت. وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا- وهو رستم صاحب القادسيّة- عظيم البأس، قويّا فى نفسه، فلمّا بلغه ما صنع بأبيه أقبل فى جند عظيم حتى نزل المدائن؛ فقبض على آزرميدخت وسمل عينيها وقتلها بعد ذلك. فكانت مدّة ملكها ستة أشهر. واختلف فيمن ملك بعد آزرميدخت، فقيل رجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى [بن] مهرجشنس «1» ، فلبس التاج وقتل بعد أيام. ويقال: بل كان رجل يسكن ميسان يقال له فيروز، فملّكوه كرها. وكان ضخم الرأس، فلمّا توّج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيّر العلماء من افتتاح الأمر بالضيق وقتلوه. ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان قد لجأ الى موضع من الغرب بالقرب من نصيبين، يقال له: «حصن الحجارة» حين قتل شيرويه بن كسرى أبرويز إخوته، وهو فرّخ زاباذ «2» خسرو بن كسرى أبرويز، فانقاد الناس له طوعا زمانا

يسيرا ثم استعصوا عليه وخالفوه. وكان ملكه ستة أشهر. وكان أهل اصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز باصطخر، وكان قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته. فلمّا بلغ عظماء أهل اصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا الملك فرّخ زاذ خسرو أتوا يزدجرد ببيت نار أردشير، فتوّجوه هناك وملّكوه، وكان حدثا، ثم أقبلوا به الى المدائن وقتلوا فرّخ زاذ خسرو بحيل احتالوها عليه. وملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان بن بهرام بن يزدجرد بن سابور بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك؛ فملك وكان العظماء والوزراء يدبّرون الملك لحداثة سنّه، وهو آخر الملوك الساسانيّة وعليه انقرضت دولتهم، فلم تقم لهم قائمة، وتردّد الى بلاد خراسان والى بلاد الترك، وعاد فقتل بمرو من بلاد خراسان فى سنة إحدى وثلاثين من الهجرة لسبع سنين خلت من خلافة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وكانت مدّة ملك يزدجرد منذ ملك وإلى أن قتل عشرين سنة، إلّا أنّ فيها مدّة لا يعدّ فيها مع الملوك؛ لأنه كان مشرّدا طريدا على ما نذكر أخباره مفصّلة، وكيف فتحت بلاده ومدنه بلدا بلدا، ومدينة مدينة فى خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان رضى الله عنهما. فعدّة ملوك الفرس الأول والساسانيّة على هذا المساق الذى ذكرناه اثنان وخمسون ملكا منهم ثلاث نسوة. فالفرس الأول عشرون ملكا منهم امرأة واحدة. والملوك الساسانيّة اثنان وثلاثون ملكا فيهم امرأتان. وذكر بعض المؤرّخين أنّ ملوك الفرس ستّون ملكا، وأنّ مدّة ملكهم أربعة آلاف سنة وسبعون سنة وشهورا. والله أعلم.

ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم

ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم قد تنازع الناس فى اليونانيّين، فذهبت طائفة منهم أنهم ينتمون الى الروم ويضافون الى ولد إسحاق؛ وقالت طائفة: إنّ يونان هو ابن يافث بن نوح. وقال آخرون: إنه يافث بن الأصغر. وذهب قوم الى أنهم من ولد أوراش بن «1» ماذان ابن سام بن نوح. وذهب آخرون الى أنهم من قبيل متقدّم فى الزمن الأوّل. وقال المسعودىّ: وقد ذكر أنّ يونان أخو قحطان، وأنه من ولد عابر بن شالخ، وأن أمره فى الانفصال عن دار أخيه كان سبب «2» الشكّ فى الشركة فى النسب، وأنه خرج من أرض اليمن. وكان يونان جبّارا عظيما، وسيما جسيما. وكان جزل الرأى، كبير الهمّة، عظيم القدر. وهكذا ذكر يعقوب بن إسحاق الكندىّ فى نسب يونان أنه أخ لقحطان، وردّ عليه أبو العباس [عبد «3» الله بن محمد] الناشى فى قصيدته حيث قال: أبا يوسف إنّى نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صحّ منك ولا عقدا وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا أتقرن إلحادا بدين محمد ... قد جئت شيئا- يا أخا كندة- إدّا وتخلط قحطانا بيونان ضلّة ... لعمرى لقد باعدت بينهما جدّا قيل: ولمّا كثر ولد يونان خرج يطلب موضعا يسكنه، فأتى الى موضع من الغرب، فأقام به هو ومن معه من ولده، وكثر نسله إلى أن أدركه الموت، فجعل

وصيّته إلى الأكبر من ولده واسمه جريبوش، وأوصاه بأولاده ونسله، ومات وبقى ابنه على مكانه، وكثر نسلهم فغلبوا على بلاد الغرب من الفرنجة والنّوكبرد والصقالبة وغيرهم. وذكر بطليموس فى كتابه: أن أوّل ملك ملك من ملوك اليونانين فيلبّس وتفسيره محبّ الفرس، وقيل اسمه نفليص، وقيل فيلفوس. وكانت مدّة ملكه سبع سنين. ثم ملك بعده ابنه الإسكندر ذو القرنين وليس هو صاحب الخضر رضى الله عنه. والإسكندر هذا هو الذى قتل دارا بن دارا ملك الفرس، ونثر عقد مملكة فارس، وقرّر ملوك الطوائف فيما ذكرناه. وكان سبب قتله لدارا أن سائر الملوك كانت تؤدّى الإتاوة الى ملوك الفرس منذ دوّخ بختنصّر البلاد، وذلّل لهم الملوك على ما ذكرناه آنفا فى أخبار الفرس، ولا حاجة الى إعادته. قالوا: وكان فيلبّس أبو الإسكندر قد صالح دارا على إتاوة يؤدّيها اليه فى كل سنة. فلمّا ولى الإسكندر وظهر أمره، وكان بعيد الهمّة، فامتنع أن يودّى الى دارا الخراج الذى كان يحمله أبوه اليه، فأسخط دارا ذلك، فكتب اليه يؤنّبه بسوء صنيعه بتركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج وقال فى كتابه: إنما دعاك الى حبس ذلك الصّبا والجهل، وبعث اليه بصولجان وكرة وبقفيز من السمسم. يعلمه بذلك أنه إنما ينبغى لك أن تلعب مع الصبيان بالصولجان ولا تتقلّد الملك ولا تلبث به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به وتعاطى الملك بعد أن أمره باعتزاله بعث اليه بمن يأتيه به فى وثاق. وأنّ عدّة جنوده الذين يبعث بهم اليه كعدّة حبّ السمسم الذى بعث به إليه.

فكتب إليه الإسكندر فى جواب ذلك: أنه قد فهم ما كتب به، ونظر الى ما أرسله إليه من الصّولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقى الكرة الى الصّولجان وإحرازه إيّاها، وأنه شبّه الأرض بالكرة، وتفاءل بملكه إياها واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا الى ملكه، وبلاده الى حيّزه؛ وأنه نظر الى السمسم الذى بعث به كنظره الى الصولجان والكرة لدسمه، وبعده عن المرارة والحرافة «1» ، وبعث الى دارا مع كتابه بصرّة من خردل، وأعلمه فى الجواب أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذى بعث به فى القوّة والحرافة والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه. فلمّا وصل الى دارا جواب كتاب الإسكندر. جمع جنده وتأهّب لحربه وسار نحو بلاده، وتأهّب الإسكندر أيضا للقائه وسار نحو دارا، فالتقيا جميعا بأرض الجزيرة «2» واقتتلا سنة، وقد كان دارا ملّه قومه وأحبّوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوه الفرس بالإسكندر وأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، ثم وثب على دارا حاجباه فقتلاه وتقرّبا برأسه إلى الإسكندر، فلما أتوه بها أمر بقتلهما وقال: هذا جزاء من تجرّأ على ملكه. وقد ذكر أنه سيق اليه أسير غدر به صاحب شرطته، فقال له الإسكندر: بما اجترأ عليك صاحب شرطتك؟ قال: بتركى ترهيبه وقت إساءته، وإعطائى إيّاه وقت الإحسان باليسير من فعله نهاية رغبته، فقال الإسكندر: نعم العون على إصلاح القلوب الموغرة الترغيب بالأموال، وأصلح منه الترهيب وقت الحاجة، ثم أمر الإسكندر بقتله.

وقد قيل: إنه لمّا هزمه الإسكندر فرّ جريحا فخرج فى طلبه فى ستّة آلاف حتى أدركه، ثم لم يلبث دارا أن هلك، فأظهر الإسكندر عليه الحزن ودفنه فى مقابر الملوك «1» . وقيل: إنّ الإسكندر كان قد نادى ألّا يقتل دارا وأن يؤسر. فلمّا علم الإسكندر بما تمّ على دارا سار حتى وقف عنده [فرآه يجود «2» بنفسه] فنزل [الإسكندر «3» ] عن دابته وجلس عند رأسه، وأخبره أنه ما أمر بقتله، وأنّ الذى أصابه لم يكن عن رأيه. وقال: سلنى ما بدا لك فإنّى أسعفك به، فقال له دارا: لى اليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لى من الرجلين اللذين قتلانى وسمّاهما له، والأخرى أن تتزوّج ابنتى روشنك، فأجابه الى ذلك، وأمر بصلب الرجلين اللذين فتكا بدارا. ويقال: إنّ الرجلين اللذين قتلاه إنما فعلا ذلك عن رأى الإسكندر، وأنه كان شرط لهما شرطا على قتله، فلما طعناه دفع اليهما ما كان شرطه لهما ثم قال: قد وفّيت لكما بالشرط ولم تكونا شرطتما لأنفسكما وأنا قاتلكما لا محالة، فإنه ليس ينبغى لقتلة الملك أن يستبقوا إلّا بذمّة لا تخفر، فقتلهما وصلبهما.

ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه

ويقال: إن الإسكندر فى الأيّام التى نازل فيها دارا كان يسير اليه بنفسه على أنه رسول فيتوسّط العسكر ويعرف كثيرا مما يحتاج اليه، فكان دارا يستحسن سمته، ويحسن صلته ومجازاته، ثم اتّهمه، وأحسّ الإسكندر بذلك فما عاد اليه بعدها. ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه من ذلك أنه لمّا التقى بدارا يوم الحرب أمر مناديه فنادى: يا معشر الفرس، قد علمتم ما كتبنا لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل عن العسكر وله منّا الوفاء بما ضمنّاه، فاتهمت الفرس بعضها بعضا، وكان ذلك أوّل اضطراب حدث فيهم. ومن ذلك أنه لمّا شخص عن فارس الى أرض الهند تلقاه ملكها قور «1» فى جمع عظيم من الهنود ومعه ألف فيل عليها المقاتلة بالسلاح وفى خراطيمها السيوف والعمد، فلم تقف لها دوابّ الإسكندر وفرّت فكانت الهزيمة عليه، فلمّا بلغ الإسكندر مأمنه أمر باتّخاذ فيلة من نحاس «2» مجوّفة وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع وجرت على العجل، وعاود حرب الهند، وجعل بين كلّ تمثالين جماعة من أصحابه. فلمّا نشبت الحرب أمر بإشعال النيران فى أجواف تلك التماثيل وانكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فخرجت

النيران من خراطيم التماثيل فولّت الفيلة مدبرة ورجعت على أصحابها، فكانت الدائرة على الهند وقتل ملكهم قور. ومما يحكى عنه أنه نزل على مدينة حصينة فتحصّن فيها أهلها، فتعرّف خبرها فقيل له: إن فيها من الميرة ما يكفيهم زمنا طويلا، وإنّ بها من العيون والأنهار ما لا يقدر على قطعه، فارتحل عنها ودسّ جماعة من التّجار متنكّرين، فدخلوها وأمدّهم بالأموال الكثيرة، وأمرهم أن يبتاعوا الأقوات ويغالوا فى أثمانها، ففعلوا ذلك حتى حازوا أكثر ما فيها. فلما علم الإسكندر بذلك كتب اليهم يأمرهم بإحراق ما حصلوه من الأقوات وأن يهربوا، ففعلوا كما أمرهم، وعاد الى المدينة وحاصرها وزحف عليها فأعطوه الطاعة وملك المدينة. وكان إذا أراد أن يحاصر مدينة شرّد من حولها من أهل القرى وتهدّدهم بالسبى فيلجأوا الى المدينة ويعتصموا بها، فلا يزال كذلك حتى يعلم أنه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا فى الميرة فيحاصرهم حينئذ فيفتح المدينة. ومما يحكى عنه أنه كتب الى معلّمه أرسطاطاليس «1» ، وكان الإسكندر يشاوره فى كثير من أموره، ويقتدى بآرائه، ويعمل بما يشير به عليه ولا يعدل عنه. وأرسطاطاليس هذا هو تلميذ أفلاطون، وأفلاطون صاحب الفراسة تلميذ سقراط.

ويحكى عن أفلاطون أنه كان يصوّر له صورة إنسان لم يره قطّ ولا عرفه فيقول: صاحب هذه الصورة من أخلاقه كذا، ومن هيئته كذا، فيكون الرجل كما أخبر عنه، فيقال: إنه صوّر له صورة نفسه، فلمّا عاينها قال: هذا رجل محبّ فى الزنا فقيل له: إنها صورتك، فقال: نعم أنا كذلك، ولولا أنى أملك نفسى لفعلت وإنى لمحبّ فيه. نرجع إلى أخبار الإسكندر فيما كتب به الى أرسطاطاليس وما أجابه به قالوا: إنه كتب اليه يخبره أنّ فى عسكره من الروم جماعة من خاصّته لا يأمنهم على نفسه لما يرى من بعدهممهم فى شجاعتهم وكثرة آلتهم، وأنه لا يرى لهم عقولا تفى بتلك الفضائل التى تمنعهم من الإقدام والجرأة عليه، وأنه يكره الإقدام عليهم بالقتل بمجرّد الظّنّة مع وجوب الحرمة. فكتب إليه أرسطاطاليس: قد فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. أمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله فرفّهه فى معيشته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش توهن العزم، وتحبب السلامة، وتباعد من ركوب الخطر والغرر «1» ، وليكن خلقك حسنا تخلص اليك النيّات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله، فليس ينبغى مع الاستئثار محبّة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك إذا اشترى لم يسأل عن مال مولاه، وإنما يسأل عن خلقه.

وكتب اليه الإسكندر يعلمه أنه شاهد بإيران شهر «1» رجالا ذوى أصالة فى الرأى، وجمال فى الوجوه، ولهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم هيئات وخلفا لو كان عرف حقيقتها لما غزاهم، وأنه إنما ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنه لا يأمن إذا ظعن عنهم وثوبهم ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم. فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمت كتابك فى رجال فارس؛ فأما قتلهم فهو من الفساد فى الأرض، ولو قتلتهم لأنبتت أرض فارس أمثالهم، لأنّ إقليم بابل يولد أمثال هؤلاء الرجال من أهل العقل، والسداد فى الرأى، والاعتدال فى التركيب؛ فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنك تكون قد وترت القوم وكثّرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممّن بعدهم، وإخراجك إيّاهم فى عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّى أشير عليك برأى هو أبلغ لك فى كل ما تريد من القتل وغيره، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم وممّن يستصلح للملك ويترشّح له، فتقلّدهم البلدان وتولّيهم الولايات ليصير كلّ واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم. ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره وأمكنه أن يتجاوز أرض فارس إلى أرض الهند حتى قتل ملكها مبارزة بعد حروب عظيمة. ثم صار إلى أرض الصّين وطاف مما يلى القطب الشمالىّ ورجع إلى العراق فمات فى طريقه بشهر زور «2» ، ويقال: بل فى قرية من قرى بابل. وكان عمره ستّا وثلاثين

سنة. وفى بعض النسخ ثلاثا وثلاثين سنة. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة وشهورا. وقيل: سبعة عشر سنة. وقتل دارا فى السنة الثالثة من ملكه. قال: وبنى الإسكندر اثنتى عشرة مدينة وسمّاها كلّها الإسكندرية منها: مدينة جىّ «1» بأصبهان، وثلاث مدن بخراسان وهى: هراة «2» ومرو «3» وسمرقند. وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك «4» . وبنى بأرض يونان سبع مدن. ومن عجيب ما قيل فى نسب الإسكندر: أنه من ولد دارا الأكبر، وأنه أخو دارا الأصغر، وذلك أن دارا الأكبر بن أردشير تزوّج ببنت ملك الزّنج هلاى، فلمّا حملت» منه استخبث ريحها، فأمر أن تحتال لذلك، فكانت تغتسل بماء السندروس «6» فأذهب ذلك كثيرا من دفرها «7» ، ثم عافها وردّها [إلى أهلها «8» ] وقد علقت منه بالإسكندر فقيل له الإسكندروس. هذا ما نقله عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم

ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين

بكمامة الزهر وصدفة «1» الدرّ، قال: واختلف فى مدّته فذكر الخوارزمىّ فى تاريخه أنه [كان «2» ] قبل الهجرة بتسعمائة سنة، وثلاث وثلاثين سنة. وذكر أبو محمد ابن قتيبة فى كتاب المعارف: أن بينه وبين الهجرة أربعمائة «3» سنة. والله أعلم بالصواب. ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين فأما خبره مع ملك الهند قال عبد الملك بن عبدون: إن الإسكندر لمّا دوّخ البلاد وقهر الملوك سار نحو الهند وقتل ملكها الأعظم فورا صاحب مدينة المانكير «4» . فلما دانت له ملوك الهند بلغه أنّ بأقاصى ديارها ملكا من ملوكها ذا حكمة وسياسة وإنصاف لرعيّته، وأنه ليس فى بلاد الهند من فلاسفتهم وحكمائهم مثله يقال له

كندكان، وأنه قاهر لنفسه مانع [لها «1» ] من الشهوة الغضبية، فكتب إليه الإسكندر كتابا يقول فيه: أما بعد، فإذا أتاك كتابى هذا فإن كنت قائما فلا تقعد، وإن كنت ماشيا فلا تلتفت حتى تدخل فى طاعتى، وإلّا مزّقت ملكك وألحقتك بمن مضى من ملوك الهند من قبلك. فلمّا ورد عليه الكتاب أجاب بأحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه قد اجتمع عنده أشياء لم تجتمع عند غيره مثلها: فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن منها؛ وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن تسأله لحدّة مزاجه وحسن قريحته، واعتداله فى بنيته، واتساعه فى علمه؛ وطبيب لا يخشى عليه معه داء ولا شىء من العوارض إلا ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع بهذه البنية، وحلّ العقدة التى عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسم الحسّىّ، وإذا كانت بنية الإنسان وهيكله قد نصبا فى هذا العالم غرضا للآفات والحتوف والبلايا؛ وقدح اذا ملاته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص منه شىء، وإنّى منفذ جميع ذلك الى الملك وصائر اليه. فلمّا قرأ الإسكندر كتابه قال: كون هذه الأشياء عندى ونجاة هذا الحكيم من صولتى أحبّ الىّ من ألا تكون عندى ويهلك. فأنفذ اليه الإسكندر جماعة من الحكماء اليونانيين والروم فى عدّة من الرجال وتقدّم اليهم أنه إن كان قد صدق فيما كتب به إلىّ فاحملوا ذلك الى عندى واتركوه فى موضعه، وإن تبيّنتم الأمر على خلاف ذلك، وأنه أخبر عن الشىء على خلاف ما هو به فقد خرج عن حدّ الحكمة فأشخصوه الىّ. فلمّا انتهوا الى مملكة الملك خرج اليهم وتلقّاهم بأحسن لفاء، وأنزلهم بأحسن منزل. فلما كان فى اليوم الثالث جلس لهم مجلسا خاصّا للحكماء دون من كان معهم من المقاتلة. فقال بعضهم لبعض: إن صدقنا فى الأوّل صدقنا فيما بعد ذلك مما ذكر.

فلمّا أخذت الحكماء مراتبها واستقرّت بها مجالسها أقبل عليهم مباحثا فى أصول العلوم الفلسفية وفروعها، وعلى كم فنّ يحتوى العلم الفلسفىّ فى أصوله، والى كم يتفرّع. قال عبد الملك بن عبد الله بن عبدون- رحمه الله-: وقد ذكر أن العلم الفلسفىّ ينقسم على أربعة أنواع: أحدها الرياضيّات، والثانى المنطقيّات، والثالث الطبيعيّات، والرابع الإلهيّات. قال: فأما الرياضيّات فأربعة أنواع: الواحد علم الحساب، والثانى علم الهندسة، والأصل فيه النقطة، وهى فيه كالواحد فى علم الحساب، والثالث علم النجوم، والرابع علم الموسيقى. وهو علم تأليف الألحان. وأما العلوم المنطقيّات فخمسة أنواع: الواحد معرفة صناعة الشعر، وأنواع البديع كالتكافؤ والتفريع والحشو والتتبيع والتسميط والترصيع والالتفاتة والإشارة والمقابلة والاستعارة والتبليغ والتلويح والتصدير والتوشيح والتجنيس والتضادّ والترديد والاستطراد والتقسيم والتسهيم والإحالة والتتميم. والثانى معرفة صناعة الخطابة. والثالث صناعة الجدل. والرابع صناعة البرهان. والخامس صناعة المغالطين فى المناظرة ولجدل. وأما العلوم الطبيعيّات فسبعة أنواع: الواحد علم المبادى الجسمانيّة، وهى خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة. والثانى علم السماء والأرض، وهو معرفة ماهية جواهر الأفلاك والكواكب وكيفيتها وكيفية تركيبها وعلّة دورانها، وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التى دون فلك القمر أولا، وما علّة حركات الكواكب واختلافها فى السرعة والإبطاء، وما علّة سكون الأرض فى وسط الفلك فى المركز، وهل خارج العالم جسم آخر أم لا. وهل

فى الكون والفساد موضع فارغ لا شىء فيه، وما شاكل هذه المباحث. والثالث علم الكون والفساد وهو علم معرفة جواهر الأركان [الأربعة «1» ] التى هى النار والهواء والماء والأرض. والرابع علم حدوث الجواهر بتغيّرات الهواء وتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على الأركان الأربعة وانفعالاتها بعضها ببعض بقدرة الله تعالى. والخامس علم المعادن التى تنعقد من البخارات المختنقة فى بطن الأرض والعصارات المتحلّلة من الهواء. والسادس علم النبات على اختلاف أنواعه فى هيآته وأشكاله واختلاف صموغه وطعومه وخواصّه وروائحه ومنافعه ومضارّه. السابع علم الحيوان، وهو معرفة كلّ جسم يغتذى ويحسّ ويعيش ويتحرّك على اختلاف أنواعه، وما شاكل ذلك مما ينسب الى علم الطبيعيّات كعلم الطبّ والبيطرة وسياسة الدوابّ والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخل فى علم الطبيعيات. وأما العلوم الإلهيّات فخمسة أنواع؛ أوّلها: معرفة البارى سبحانه وتعالى بجميع صفاته، وأنه أوّل كلّ شىء وآخر كلّ شىء، والخالق لكلّ شىء، والعالم بكلّ شىء، وأنه ليس كمثله شىء. والثانى علم الروحانيّات من الجواهر البسيطة العقليّة، وهى الصورة المجرّدة من الهيولى المستعملة للأجسام المطهّرة، ومعرفة ارتباط أبعضها ببعض، وقبض بعضها عن بعض، وهى أفلاك روحانيّة تحيط بأفلاك جسمانيّة. والثالث علم النفوس والأرواح السارية فى الأجسام الفلكيّة والطبيعيّة من لدن الفلك المحيط الى منتهى مركز الأرض. والرابع علم السياسة وهى خمسة انواع؛ أولها: السياسة النبويّة، والسياسة الملوكيّة، والسياسة العامّيّة والسياسة الخاصّيّة والسياسة الذاتيّة. فأما السياسة النبويّة فالله تبارك وتعالى يختصّ بها من يشاء من

عباده ويهدى لاتباعهم من يشاء لا معقّب لحكمه، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون. وأما السياسة الملوكية فهى حفظ الشريعة على الأمة وإحياء السنّة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما السياسة العامّيّة فهى الرياسات على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان وقادة الجيوش وترتيب أحوالهم على ما يجب وينبغى من الأمور وإتقان التدبير. وأما السياسة الخاصّيّة فهى معرفة كلّ إنسان بنفسه، وتدبيره أمر غلمانه وأولاده، ومن يليهم من أتباعه وقضاء حقوق الإخوان. وأما السياسة الذاتية فهى أن يتفقّد الإنسان أفعاله وأحواله وأخلاقه وشهوته فيزمّها بزمام عقله، وغضبه فيردعه وما شاكل ذلك. والخامس من العلوم الإلهيات علم المعاد وكيفية انبعاث الأرواح وقيام الأجساد وحشرها للحساب يوم الدين، ومعرفة حقيقة جزاء المحسنين وعقاب المسيئين. *** نرجع إلى خبر الملك الهندىّ مع أصحاب الإسكندر، قال: ولمّا تكلّم مع الحكماء اليونانيين فى العلوم الفلسفية وطال الخطب فى مناظرتهم أخرج الجارية اليهم، فلمّا ظهرت لأبصارهم لم يقع طرف كلّ واحد منهم على عضو من أعضائها فتعدّى ببصره إلى غير ذلك العضو اشتغالا بحسنه عمّا سواه حتى خاف القوم على عقولهم، ثم رجعوا إلى أنفسهم وقهروا سلطان هواهم، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدّم الوعد به وصرفهم، وبعث بالفيلسوف والطبيب والجارية والقدح [معهم «1» ] . فلمّا وردوا على الإسكندر أمر بإنزال الفيلسوف والطبيب، ونظر إلى الجارية فحار عند مشاهدتها، فأمر قيّمة الجوارى بالقيام عليها، ثم صرف همّته إلى الفيلسوف والطبيب وإلى علم ما عندهما، وقصّ عليه الحكماء ما جرى لهم مع الملك الهندىّ من

المباحث فى العلوم الفلسفيّة، فأعجبه ذلك وتأمّل أغراض القوم ومقاصدهم، وأقبل ينظر فى مطاردة الهند يعلّلها فى معلولاتها، وما يصفه اليونانيون أيضا من عللها فى معلولاتها على حسب ما قدّمت من أوضاعها، ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما خبّر عنه، فأجال فكره فيما يختبره به، فدعا بقدح فملاه سمنا ولم يجعل للزيادة عليه موضعا، ودفعه لرسول وقال: احمل هذا إلى الفيلسوف ولا تكلّمه بشىء، فلمّا دفعه اليه دعا الفيلسوف بألف إبرة فغرزها فى السمن وصرفه اليه، فأمر الإسكندر بضرب تلك الإبر كرة متساوية الأجزاء وردّها اليه، فأمر الفيلسوف ببسطها وجلائها حتى صارت جسما تردّ صورة مقابليها لصفائها وردّها إلى الإسكندر، فدعا بطست وجعل تلك المرآة فيه وصبّ عليها الماء حتى غمرها وردّها اليه، فأخذها الفيلسوف وعمل منها طرجهارة «1» طافية على الماء وصرفها اليه، فملأها الإسكندر ترابا وردّها اليه، فلمّا نظر الفيلسوف إلى التراب تغيّر لونه وبكى ثم ردّها إلى الإسكندر ولم يضع فيها شيئا. فلمّا كان فى اليوم الثانى جلس الإسكندر جلوسا خاصّا ودعا بالفيلسوف، ولم يكن رآه قبل ذلك اليوم، فلمّا أقبل نظر الإسكندر [من الفيلسوف «2» ] إلى رجل طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية فقال فى نفسه: هذه بنية تضادّ الحكمة، فإذا اجتمع له حسن الصورة والفهم كان أوحد زمانه، فأدار الفيلسوف إصبعه حول وجهه ثم وضعه على أرنبة أنفه وأسرع نحو الإسكندر وحيّاه بتحية الملك، فأشار اليه بالجلوس وقال: لم أدرت إصبعك حول وجهك ووضعتها على أرنبة

أنفك؟ قال: علمت أنك تقول فى نفسك، إذا نظرت إلى حسن صورتى وإتقان بنيتى قلّما تجتمع هذه الخلقة مع الحكمة، وإذا كان على هذا كان صاحبها أوحد زمانه، فأريتك مصداقا لما سنح لك أنه كما ليس لك فى الوجه إلا أنف واحد فكذلك ليس فى ديار الهند على هذه الصفة أحد غيرى. فقال الإسكندر: حسن ما أتيت به! فما بالك حين بعثت اليك بالقدح السمن غرزت فيه الإبر وردّدته؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إنّ قلبى قد امتلأ علما فليس لأحد فيه مستزاد، فأعلمتك أنّ علمى سيزيد فيه كما زادت هذه الإبر فى هذا السمن. قال: فما بالك حين عملت لك الإبر كرة صنعت منها مرآة صقيلة وصرفتها إلىّ؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إن قلبى قد قسا من سفك الدماء واشتغل بهذا العالم فلا يقبل العلم ولا يرغب فيه، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فى ذلك، كما جعلت من الكرة مرآة مورية للأجسام. قال: فما بالك حين جعلتها لك فى الطست وصببت عليها الماء جعلتها طرجهارة طافية على الماء؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إنّ الأيام قد قصرت والأجل قريب، ولا يدرك العلم الكثير فى المهل القليل، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فيه فى غير مدّة طويلة، كما جعلت هذه المرآة الراسبة طافية فى أسرع وقت. قال: فما بالك حين ملأت ذلك الإناء ترابا ردّدته إلىّ ولم تحدث فيه شيئا؟. قال: علمت أنك تقول: ثم الموت، وأنه لا بدّ منه، فأخبرتك أن لا حيلة فى ذلك. قال الإسكندر: قد أجبتنى على مرادى فى جميع ذلك ولأحسننّ إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة. فقال له الفيلسوف: لو أحببت المال لما كنت عالما، ولست أدخل على علمى ما يضادّه، فإن القنية توجب الخدمة، وقد ملكت أيها الملك الرحيم بسيفك أجسام رعيّتك فأملك قلوبهم بإحسانك فهو خزانة سلطانك، واحذر العامّة فإنها إذا قدرت

أن تقول قدرت أن تفعل فاحترز من أن تقول تأمن أن تفعل، فالملك السعيد من ملك الرعيّة بالرغبة والرهبة، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الإحسان، فخيّره الإسكندر فى المقام معه، أو الانصراف إلى بلاده، فاختار الرجوع إلى موضعه. وأمّا القدح فملأه ماء ثم أورد عليه الناس فلم ينقص شربهم منه شيئا، فيقال إنه كان معمولا من خواصّ الهند الروحانيّة مما تدّعيه الهند، ويقال إنه كان لآدم أبى البشر عليه السلام، مبارك له فيه حين كان بأرض سرنديب، فورث عنه إلى أن انتهى إلى هذا الملك الهندىّ. وأما الطبيب فإنه كان له معه منظرات دلّت على ثبوت قدمه فى علمه، وأنه كما وصف صاحبه أوكاد. هذا خبره مع ملك الهند. وأما خبره مع ملك الصين؛ قال ابو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وفى الرواية الصحيحة أن الإسكندر لمّا انتهى إلى بلاد الصين أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره فقال: هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن فى الدخول عليك، قال: أدخله، فأدخله فوقف بين يدى الإسكندر وسلّم ثم قال: إن رأى الملك أن يستخلينى فعل، فأمر الإسكندر من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلّهم عنه وبقى حاجبه فقال: إنّ الذى جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر الإسكندر أن يفتّش ففتّش، فلم يجد معه سلاحا، فوضع بين يديه سيفا مسلولا وقال له: قف مكانك وقل ما شئت، وأخرج الحاجب ومن كان قد بقى عنده، فلمّا خلا المجلس قال له: أنا ملك الصين لا رسوله، جئت لأسألك عما تريد، فإن كان ممّا يمكن عمله ولو على أصعب الوجوه عملته

وأغنيتك عن الحرب، فقال له الإسكندر: وما الذى آمنك منّى؟ قال: علمى بأنك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة ولا مطالبة بذحل «1» ، وأنك تعلم أنك إن قتلتنى لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم قتلى من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيرى ثم تنسب [أنت «2» ] إلى غير الجميل وضدّ الحزم. فأطرق الإسكندر وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له: إن الذى أريد منك ارتفاع «3» مملكتك لثلاث سنين عاجلا ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة. قال: هل غير هذا؟ قال لا، قال: قد أجبتك، ولكن سلنى كيف تكون حالك، قال: كيف تكون؟ قال: أكون أوّل قتيل محارب، وأوّل أكيلة مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين. قال: أكون أصلح قليلا وأفسح مدّة، قال: فإن قنعت بارتفاع سنة. قال: يكون فى ذلك بقاء ملكى، وذهاب لجميع لذّتى. قال: فإن قنعت منك بثلث الارتفاع كيف تكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء ومصالح العباد، ويكون الباقى لجيشى «4» ولسائر أسباب الملك. قال الإسكندر: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف. فلمّا طلعت الشمس أقبل جيش الصين وقد طبّق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدّوا للحرب بعد

كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر

الأمن والطمأنينة إلى السّلم. فبينما هم كذلك إذ طلع ملك الصين وهو راكب وعليه التاج، فلمّا تراءى الجمعان نظر الإسكندر إلى ملك الصين فظنّ أنه حضر للحرب، فصاح به: أغدرت؟ فترجّل ملك الصين وقال: لا والله، قال: فادن منّى فدنا منه، فقال له الإسكندر: ما هذا الجيش الكثير؟ فقال: إنّى أردت أن أريك أنّى لم أطعك من قلّة وضعف، ولكنّى رأيت العالم العلوىّ مقبلا عليك ممكنّا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوىّ غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلّل له بالتذلّل لك، فقال الإسكندر له: ليس مئلك من يسام الذّل، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بينى وبين الملوك من يستحقّ التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك. فقال ملك الصين: ولست تخسر [إذا «1» ] ثم انصرف عنه الإسكندر. فبعث إليه ملك الصين بضعف «2» ما قرّر معه وانصرف عن الصين. كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر قال: لمّا توفّى الإسكندر جعل فى تابوت من الذهب، واجتمع الحكماء فتقدّم الأوّل «3» فقال: قد كان الإسكندر يخبأ الذهب، وقد أصبح الآن يخبؤه الذهب. وتقدّم الثانى «4» اليه والناس يبكون ويجزعون فقال: حركّنا بسكونه. وتقدّم

الثالث «1» اليه فقال: قد كان يعظنا فى حياته، وهو اليوم أوعظ منه أمس. وتقدّم اليه الرابع فقال: قد جاب الأرضين وسلكها، ثم حصل منها فى أربعة قوائم. ووقف عليه الخامس «2» فقال: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظلّ الغمام كيف انجلى. ووقف عليه السادس فقال: قد أمات هذا الميّت كثيرا من الناس لئلّا يموت، وقد مات الآن. ووقف عليه السابع «3» فقال: مالك لا تقلّ عضوا من أعضائك، وقد كنت تستقلّ بملك العباد. وقال الثامن «4» : مالك لا ترغب بنفسك عن المكان الضيّق، وقد كنت ترغب بها عن رحّب البلاد. وقال التاسع: كان لا يقدر عنده على الكلام، واليوم لا يقدر عنده على الصّمت. وقال العاشر: قد كان غالبا فصار مغلوبا، وآكلا فصار مأكولا. وقال الحادى عشر «5» : ما كان أقبح إفراطك فى التجبّر أمس مع شدّة خضوعك اليوم!. وقالت بنت دارا: ما كنت أحسب أنّ غالب أبى يغلب. وقال رئيس الطبّاخين: قد نضّدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. قال: ولما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه من بعده فأباه واختار العبادة والنّسك. فملك بعد الإسكندر على اليونانيين بطليموس، وهذه التسمية لكلّ من ملك اليونان ككسرى للأكاسرة من الفرس، وقيصر للروم، وخاقان للترك، وطرخان للخزر، والنجاشىّ للحبشة. قال: وكان بطليموس هذا شابّا مدبّرا حكيما عالما. وكان ملكه أربعين سنة، وقيل عشرين سنة، وقيل إنه أوّل من اقتنى البزاة وضرّاها ولعب بها.

ثم ملك بعده بطليموس الثانى، وهو الذى يقال له: محبّ الأخ، واسمه هيقلوس، وكان ملكه ستّا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس محبّ الأب، وكانت مدّة ملكه سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده بطليموس، وهو صاحب علم الفلك والنجوم وكتاب المجسطى. فكان ملكه أربعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس محبّ الأمّ. فكان ملكه خمسا وثلاثين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الصائغ. فكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الإسكندرانىّ. فكان ملكه اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده بطليموس الحديدىّ. فكانت مدّة ملكه ثمانين سنة. ثم ملك بعده بطليموس الجوّال. فكان ملكه أيضا ثمانين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده بطليموس الحرب. فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. ثم ملكت بعده ابنته قلوبطرة، وكانت حكيمة متفلسفة معظّمة للحكماء، ولها كتب مصنّفة فى الطبّ والزينة وغير ذلك، مترجمة باسمها ومنسوبة إليها، وكان زوجها بطليموس ويسمّى أنطونيوس مشاركا لها فى ملك مقدونية وهى مصر. فلمّا أراد الله تعالى ذهاب ملك اليونانيين أيّد عليهم ملك رومية وهو أغسطس، فسار إليها، وكان له مع الملكة قلوبطرة وزوجها حروب كثيرة، فقتل زوج قلوبطرة، فأراد ملك الروم أن يتروّجها لعلمه بحكمتها وليتعلّم منها، فراسلها فعلمت مراده منها، فطلبت حيّة تكون بالحجاز ومصر والشام، وهى نوع من الحيّات تراعى الإنسان حتى إذا نظرت الى عضو من أعضائه قفزت أذرعا نحوه فلم تخطئ ذلك العضو بعينه

ذكر أخبار ملوك السريان

حتى تثفل عليه سمّا فيموت لوقته ولا يعلم ما خبره، فيتوهّم الناس أنه مات فجأة حتف أنفه. فاحتملت لها. فلمّا كان فى اليوم الذى علمت فيه أن أغسطس يدخل فى قصرها أمرت بأنواع الرياحين والزهور أن تبسط فى مجلسها وأمام سريرها، وجلست على سرير ملكها والتاج على رأسها وفرّقت حشمها وقرّبت يدها من الإناء الذى فيه تلك الحيّة فضربتها فماتت لوقتها، وانسابت الحيّة فى تلك الرياحين ودخل أغسطس حتى انتهى الى المجلس، فنظر إليها جالسة وهو يظنّ أنها باقية، فدنا منها فتبيّن له أنها قد ماتت، فنظر الى تلك الرياحين فقفزت عليه تلك الحيّة فرمته بسمّها وقد خفّ، فبطل شقّه الذى ضربته من جهته، ولولا أنّ سمّها كان قد نقص لمات، فعجب من قتلها لنفسها وما كادته به من إلقاء الحيّة، وكانت قلوبطرة هذه آخر من ملك من اليونانيين. والله أعلم. ذكر أخبار ملوك السّريان قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب «1» : ذكر ذوو العناية بأخبار ملوك العالم أنّ أوّل الملوك بعد الطوفان ملوك اليونان، قال: وقد تنوزع فيهم وفى النبط، فمن الناس من رأى أن السريانيين هم النّبط، ومنهم من رأى أنهم إخوة لولد «2» ماس بن نبيط، ومنهم من رأى غير ذلك على حسب تباين الناس فى الأجيال الماضية والقرون الخالية. قال: فكان أوّل من ملك منهم رجل يقال له سوشان، وهو أوّل من وضع التاج على رأسه فى تاريخ السريانيّين. قال: وانقاد له ملوك الأرض، فكان ملكه ستّ عشرة سنة باغيا فى الأرض، ومفسدا فى البلاد، وسفّا كاللدماء.

ثم ملك بعد يريز «1» ، وكان ملكه إلى أن هلك عشرين سنة. ثم ملك بعده سماسير بن أبوبا. فكان ملكه تسع سنين. ثم ملك بعده أهريمون فحطّ الخطط، وكوّر الكور، وجدّ فى أمره، وأتقن ملكه، وعمر أرضه. فلّما استقامت له الأحوال وانتظم ملكه بلغ بعض ملوك الهند وهو رتبيل، وهو اسم لمن يملك هذه الجهة من الهند، ما القوم عليه من القوّة، وما بلادهم عليه من العمارة، وأنهم يحاولون الممالك، وقد كان هذا الملك الهندىّ غلب على من حوله من ممالك الهند وانقادت إلى أحكامه، وذلك أنّ ملكه كان مما يلى بلاد الهند والسّند، فسار نحو بلاد بست «2» وغزنين «3» ونغر «4» وبلاد الداور «5» على النهر المعروف بالهندمند، وهو نهر ببلاد سجستان ويعرف بنهر بست تجرى فيه السفن منها إلى سجستان. قال: وكان بين ملك الهند وملك السريانيّين حروب كثيرة نحوا من سنة ثم أجلت الحرب عن قتل السريانىّ واحتوى الهندىّ على الصّقع وملكه، فكان ملك أهريمون عشر سنين.

قال: وبقى ذلك الصّقع بيد الملك الهندىّ حتى سار إلى بعض الملوك فأتى عليه وملك العراق وردّ السريانيين. فملّكوا عليهم تسنوا «1» بن سماسير. فكان ملكه إلى أن هلك ثمانى سنين. ثم ملك بعده أهريمون. فكانت مدّة ملكه اثنتى عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه هوريا فزاد فى العمارة وأحسن للرعايا وغرس الأشجار. فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. ثم ملك بعده ماروت «2» واستولى على الملك. فكان ملكه خمس عشرة سنة. وقيل أكثر من ذلك. ثم ملك بعده أزور وسلحاس «3» ، ويقال إنهما كانا أخوين. قال: فأحسنا السيرة، وتعاضدا على تدبير الملك. ويقال: إنّ أحد هذين الملكين كان جالسا ذات يوم فى أعلا قصره فنظر إلى طائر قد فرّخ هنالك، وهو يصيح ويضرب بجناحه، فنظر إلى حيّة تنساب إلى الوكر لتأكل الفراخ التى للطائر، فدعا بقوس وسهم ورمى الحيّة فقتلها، وسلمت الفراخ، وغاب الطائر وعاد إلى الملك بعد هنيهة وفى منقاره حبّة وفى مخاليبه حبّتان، وطار حتى وازى الملك، وألقى الحبّ بين يديه فتناوله الملك وقال: ما ألقى هذا الطائر هذا الحبّ إلا لأمر قصد به مكافأتنا على ما فعلناه من خلاص فراخه، ولم يعرف ما هو ذلك الحبّ، واستدعى الحكماء وأراهم فما عرفوه، فقال له حكيم: ينبغى أن يزرع هذا الحبّ ببطن الأرض لينظر ما يكون منه، فأحضر الأكرة وأمرهم بزرعه فزرعوه، والملك

ذكر أخبار الملوك الكلوانيين وهم ملوك النبط ملوك بابل

يراعيه حتى طلع وأزهر وحصرم وأعنب، وهم لا يقربونه خشية أن يكون متلفا، فأمر الملك أن يعصر ماؤه ويودع الآنية وأخرج الحبّ منه وترك بعضه على حاله. فلمّا صار فى الآنية غلا وقذف بالزبد وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك: علىّ بشيخ كبير، فأتى به، فسقاه من هذا العصير. فلمّا شرب منه ثلاثا صال وتكلّم وصفّق بيديه وحرّك رأسه ووقع برجليه على الأرض، فظهر عليه الطّرب والفرح وتغنّى. فقال الملك: هذا شراب مذهب للعقل، وأخلق به أن يكون قتّالا، ألا ترون إلى هذا الشيخ كيف عاد الى حال الصّبا وقوّة الشباب، ثم أمر الملك بالشيخ فرقد، فسكن ونام. فقال الملك: هلك، ثم أفاق الشيخ وطلب الزيادة من الشراب وقال: لقد شربته فكشف عنّى الهموم والغموم، وأزال عنّى الأحزان. فقال الملك: هذا أشرف شراب الرجل، فأكثر من غرس الكروم، واختصّ به دون غيره من الناس، واستعمله بقيّة أيامه، ثم نما بعد ذلك وكثر فى أيدى الناس. وهذا آخر ما أورده المسعودىّ من أخبار السّريان. ذكر أخبار الملوك الكلوانيّين وهم ملوك النّبط ملوك بابل قال المسعودىّ «1» ، ذهب «2» جماعة من أهل البحث والعناية بأخبار ملوك العالم أنهم ملوك العالم الذين مهّدوا الأرض بالعمارة، وأنّ الفرس الأول إنما أخذوا الملك من هؤلاء كأخذ الروم الملك من اليونان. فكان أوّل من ملك منهم نمروذ الجبّار. فكان ملكه نحوا من ستين سنة. وقد قدّمنا أخبار نمروذ «3» فى قصّة إبراهيم عليه السلام.

قال: ونمروذ هذا هو الذى احتفر أنهارا بالعراق آخذة من الفرات، فيقال: إنّ من ذلك نهر كوثى «1» على طريق الكوفة، وهو بين قصر «2» ابن هبيرة وبغداد. ثم ملك بعده أبولس، وكان عظيم البطش جبّارا فى الأرض. وكان ملكه نحوا من سبعين سنة. ثم ملك بعده فيزمنوس. وكان باغيا فى الأرض، ملك نحوا من مائة سنة. ثم ملك بعده سوسوس. فكان ملكه نحوا من تسعين سنة. ثم ملك بعده كورس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده اذ فرنجوا «3» . فكان ملكه نحوا من عشر سنين. ثم ملك بعده سيهزم. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أكثر. ثم ملك بعده قوسيس. فكان ملكه نحوا من سبعين سنة. ثم ملك بعده أنبوش «4» . فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده إيلاوس. فكان ملكه نحوا من خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده الجلوس. وكان ملكه نحوا من أربعين سنة.

ثم ملك بعده أونوبس «1» . فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده بعنكلوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين شهرا. ثم ملك بعده سفرين «2» . فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أقلّ. ثم ملك بعده مارنوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده رسطاليم «3» . فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. ثم ملك بعده أسطوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده تاولوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده العداس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده أطيروس. فكان ملكه نحوا من ستين سنة. ثم ملك بعده ساوساس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده فارينوس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل خمسا وأربعين سنة. ثم ملك بعده أدرموس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. وغزاه ملك من ملوك فارس فى عقر داره. ثم ملك بعده مسروس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة. ثم ملك بعده أفروس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة. ثم ملك بعده طاطاوس. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة.

ثم ملك بعده لاوسيس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل خمسا وأربعين سنة. ثم ملك بعده قريطوس. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده قروطاوس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده قراقريس. فكان ملكه نحوا من خمسين سنة، وقيل اثنتين وأربعين سنة. ثم ملك بعده بوليس قنطروس. فكان ملكه نحوا من عشرين سنة. ثم ملك بعده قولا قسما. [فكان ملكه «1» ] نحوا من ستين سنة. ثم ملك بعده هيقلس. فكان ملكه خمسا وثلاثين سنة، وقيل خمسين سنة. وكانت له حروب مع ملوك الصقالبة. ثم ملك بعده سموجد. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة. ثم ملك بعده مردوج. فكان ملكه نحوا من أربعين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده سنحاريب. فكان ملكه نحو من ثلاثين سنة، وهو الذى ابتنى بيت المقدس. ثم ملك بعده منوشا. فكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة، وقيل أقلّ من ذلك. ثم ملك بعده بختنصّر الجبّار. فكان ملكه خمسا وأربعين سنة، وقد تقدّم أن بختنصّر «2» لم يكن ملكا وإنما كان مرزبانا لملوك الفرس الأول، إلا أن يكون هذا غير ذاك. والله أعلم. ثم ملك بعده بيطسقر. فكانت مدّة ملكه نحوا من ستّين سنة، وقيل أقلّ من ذلك.

ثم ملك بعده دارنوس. فكان ملكه إحدى وثلاثين سنة، وقيل أكثر من ذلك. ثم ملك بعده كشرخوش [فكان ملكه] عشرين سنة. ثم ملك بعده قرطياسة تسعة أشهر. ثم ملك بعده فيجسمنه. فكان ملكه إحدى وأربعين سنة. ثم ملك بعده أجرست. فكان ملكه ثلاثا وستين سنة. ثم ملك بعده شعيا. فكان ملكه ثلاثين سنة «1» ، وقيل تسعة أشهر. ثم ملك بعده داريوس. فكان ملكه عشرين سنة، وقيل تسع عشرة سنة. ثم بعده أنطجست. فكان ملكه تسعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده اليسع. فكان ملكه خمس عشرة سنة، وقيل عشرين سنة. قال المسعودىّ: فهؤلاء الملوك الذين أتينا على أسمائهم، وذكرنا مدّة ملكهم، هم الذين شيّدوا البنيان، ومدّنوا المدن، وكوّروا الكور، وحفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، واستبطوا المياه، وأثاروا الأرض، واستخرجوا المعادن من الحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك، وطبعوا السيوف، واتّخذوا عدّة الحرب، ونصبوا قوانين الحروب، ورتّبوا الميمنة والميسرة والأجنحة، وجعلوا ذلك مثالا لأجزاء أعضاء الإنسان، ورتّبوا الأعلام؛ فجعلوا أعلام القلب على صورة الفيلة والنسور وما عظم من أجناس الحيوان؛ وجعلوا أعلام الميمنة والميسرة على صورة السباع؛ وجعلوا فى الأجنحة أمثال ما لطف منها كالنمر والذئب؛ وجعلوا فى الطلائع كصور الحيّات وما خفى فعله من هوامّ الأرض؛ وتغلغل القوم فى هذه المعانى. قال: والذى ذكرناه من أخبارهم هو المشهور. والله تعالى أعلم.

ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم

ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم قال المسعودىّ «1» : قد تنازع الناس فى الروم ولأىّ علّة سمّوا بهذا الأسم، فقيل لإضافتهم لمدينة رومية واسمها بالرومية روماس، فعرّب هذا الاسم فسمّى من كان بها روما، والروم لا يسمّون أنفسهم فى لغتهم إلّا رومس. «2» ومنهم من رأى أن هذا الاسم اسم الأب الأوّل، وهو روم بن شماخلين بن هوبان بن علفا بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومنهم من رأى أنهم سمّوا باسم جدّهم رومس ابن لبطى بن نويفل بن رومىّ بن الأصغر بن النفر بن العيص، وقيل غير ذلك. وقد ذكرنا فى الأنساب شيئا من ذلك. قال المسعودىّ: وغلبت الروم على ملك اليونانيين، فكان أوّل من ملك منهم طوخاس وهو جانيوس الأصغر بن روم بن شماخلين، فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. وقيل إنّ أوّل من ملك من ملوك الروم قيصر، واسمه غالوس أوليوس. فكان ملكه ثمانى عشرة سنة. وقيل أوّل من ملك منهم بعد ملوك اليونانيين برومية بوليس. فكان ملكه سبع سنين ونصفا. قال: ورومية بنيت قبل الروم بأربعمائة سنة. ثم ملك بعده ابنه أغسطس قيصر. وكان ملكه ستّا وخمسين سنة، وهو أوّل من تسمّى بقيصر، وإنما سمّى بذلك لأنّ أمّه ماتت وهى حامل به فشقّ بطنها عنه، ومعنى قيصر بقر، وكان يفتخر بأنّ النساء لم تلده، وحقيقة هذه اللفظة بالعجميّة

جيشر، قيل إنما سمى جيشر لأنه ولد بشعر يبلغ عينيه، واسم الشعر بالعجميّة حساريه وقيل جشايره، فعرّب فقيل قيصر، وهو صاحب قلوبطرة ملكة اليونان على ما ذكرناه. واحتوى هذا الملك على مقدونية وهى مصر والإسكندرية، وحاز ما فيهما من الخزائن، وكانت له حروب كثيرة، وكان يعبد الأوثان. وبنى بأرض الروم مدنا تنسب إليه، وكوّر كورا. فمن مدنه قيسارية. ولاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه ولد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وعاش هذا الملك بقيّة عمره وقد بطل شقّه لما ثفلت عليه الحيّة على ما قدّمناه فى أخبار قلوبطرة. ثم ملك بعده طياريس. فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. قال: ولثلاث سنين بقيت من ملكه رفع المسيح عليه السلام. قال: ولمّا هلك هذا الملك برومية اختلفت الروم وتحزّبت وأقاموا على اختلاف الكلمة والتنازع مائتى سنة وثمانيا وأربعين سنة لا نظام لهم ولا ملك يجمعهم. ثم ملّكوا عليهم طباريس عابس بمدينة رومية. فكانت مدّة ملكه أربع سنين. ثم ملك بعده قلورس برومية. فكان ملكه أربع عشرة سنة، وهو أوّل ملك من ملوك الروم شرع فى قتل النصارى واتباع المسيح عليه السلام، فقتل منهم خلقا كثيرا، وكانت الروم تعبد التماثيل. ولما هلك هذا الملك ملك بعده نيرون. قال: واستقام ملكه ورغب فى عبادة التماثيل والأصنام، وكان ملكه أربع عشرة سنة وشهورا. ثم ملك بعده ططس واسبابوس مشتركين فى الملك. فكان ملكهما ثلاث عشرة سنة، ولسنة من ملكهما سارا الى الشام، فكانت لهما حروب عظيمة مع بنى إسرائيل قتل فيها من بنى إسرائيل ثلاثمائة ألف وخرّبا بيت المقدس وأزالا رسمه، وكان يعبدان الأصنام.

قال المسعودىّ: وذكر فى بعض التواريخ أنّ الله تعالى عاقب الروم من ذلك اليوم الذى خرّبوا فيه بيت المقدس أن يسبى منهم فى كلّ يوم سبى فلا يوم إلّا والسّبى واقع فيهم قلّ ذلك أو كثر. ثم ملك بعدهما ذو مطيانس. فكانت مدّة ملكه خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده تبرنوس. فكانت مدّة ملكه سنة واحدة. ثم ملك من بعده طومانوس. فكانت مدّة ملكه تسع عشرة سنة. ثم ملك بعده أذربالس. فكانت مدّة ملكه إحدى عشرة سنة، وخرّب سائر ما بقى بالشام لبنى إسرائيل. ثم ملك بعده أبطونيس. فكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة. قال: وبنى بيت المقدس وسمّاه إيلياء. ثم ملك بعده قرمودس. فكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك بعده سيريرس. فكانت مدّة ملكه ثمانى عشرة سنة. ثم ملك بعده ولده أنطويس. فكانت مدّة ملكه تسع سنين. ثم ملك بعده أنطويس الثانى. فكانت مدّة ملكه أربع سنين، وفى آخر ملكه مات جالينوس الطبيب. ثم ملك بعده الإسكندر مامياس، وتفسير مامياس العاجز. فكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك بعده عردياس. فكانت مدّة ملكه ستّ سنين. ثم ملك بعده ديقيوس وقيل فيه دقيوس. فكانت مدّة ملكه ستين سنة. قال: فأمعن فى قتل النصارى، ومن هذا الملك هرب أصحاب الكهف.

ذكر خبر أصحاب الكهف

ذكر خبر أصحاب الكهف قال الشيخ عبد الوهّاب بن المبارك بن أحمد بن الحسين الأنماطىّ فى كتاب المبتدإ يرفعه الى وهب بن منبّه: إنّ أصحاب الكهف كانوا فتية من الروم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) الآيات التى فى سورة الكهف «1» . قال: وكان فى إيمانهم عبرة وتفكّر منهم فى عظم الله وجلاله وملكه وسلطانه وأصناف خلقه، لم يأتهم بذلك وحى ولم يقرءوا كتابا، ولم يدركوا زمان نبوّة، وكانوا فى زمن فترة قبل أن يبعث الله عزّ وجلّ عيسى بن مريم عليه السلام، وهذا القول مخالف لما ذكرناه آنفا، فإنّ المساق الذى قدّمناه من أخبار ملوك الروم يقتضى أن بين رفع عيسى عليه السلام وبين ملك دقيوس ما يزيد على مائتى سنة. والله عزّ وجلّ أعلم. قال: وكانوا شبّانا متقاربين فى السنّ قلّما يتفاوتون، وكانوا من فصيلة واحدة يجمعهم النسب، وكانوا فى حسب عظيم من أحساب الروم، من ولد عظمائهم وملوكهم وأشرافهم، وكان للروم فيهم هوى وصبابة شديدة، وكان ملك الروم الأوّل فى آباء أولئك الفتية وينقل فى فصيلتهم التى كانوا منها أكثر من أربعمائة عام حتى انقرضت تلك الفصيلة وزال الملك عنهم. فكان أولئك الفتية عقب أولئك الملوك وبقيّتهم، وكان الروم يتمنّون ملكهم ويمدّون اليهم أعناقهم لما قد بلغهم ما كان الناس فيه فى زمن أسلافهم من الخفض والدعة والعافية والبسط والأمن والسّعة، فكانوا يؤمّلونهم ويرجونهم، وكانت ملوك الروم قد جفوهم وحرموهم وأقصوهم وأضرّوا بهم مخافة منهم على ملكهم لما يعلمون من رأى الروم فيهم، وكانوا مع

ذلك يكفّون عنهم أذاهم، ويعرفون أنهم مفزع الروم إن اختلفوا ومعوّلهم عليهم، فلم تزل تلك حالهم فيما بينهم وبين ملوكهم وقومهم حتى أراد الله تعالى بهم ما أراد من هداهم والإيمان الذى نوّره الله فى قلوبهم. قال قائل منهم: إنى قد رأيت رأيا وقع فى قلبى وأمرا ثبت فيه، فلست أبصر غيره، وليس يخرجه من قلبى شىء، اسمعوا أعرض عليكم، إنّى فكّرت فى خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والسحاب والمطر، والأحياء والأموات، والنبات، والصّغار والكبار، والبقاء والفناء، والشدّة والرخاء، وتقلّب الدنيا بأهلها، والأطباق التى تنصرف عليها الخلق طبقا بعد طبق، وقوما عن قوم: من موت وحياة، ونقص وزيادة، وخفض ورفع، وغنى وفقر، وطول عمر ونقص آخر، وموت صغير وهرم كبير، وأشباه لذلك كثيرة، وهى أكثر من أن تعدّ وتوصف أو تحصى؛ فلمّا نظرت فيها وأعملت الرأى والنظر أجمع رأيى على أنّ لها خالقا بديعا ابتدعها؛ وربّا يملكها ويدبّرها، ويخلقها ويرزقها، ويغنيها ويفقرها، ويرفعها ويخفضها، ويحييها ويميتها ويفنيها، تتقلّب فى قبضته وتعيش برزقه؛ فلمّا تمّ لى الرأى نظرت فى عظمة هذا الربّ الذى ابتدع هذا الخلق وضبطه، ودبّره وأحكم أمره، فإذا قدرته تأتى من وراء ذلك كلّه، ليس من هذا الخلق شىء يفوتها ولا يخرج منها، وإذا هى محيطة بكلّ شىء ومن وراء كلّ شىء، ثم نظرت فى عظمة الربّ هل أصفها كما وصفتها القدرة، وهل أعلم كنهها؟ فتحيّرت فيها، وعجز عنها الحلم والعلم، وحسر عنها العقل والنظر، وما بقى مما لم أذكره لكم معرفة القلب ولا نصفه إلّا أنه قد ألهم بمعرفته وأسرّ بها أكثر وأعظم وأعجب مما وصفت وشرحت لكم، فماذا تقولون، وماذا تعرفون، وماذا تفعلون؟

قالوا: قد قلت قولا عظيما ووصفت أمرا عجيبا، وما نحسبك إلّا قد أصبت فيه الرأى والنظر، وقد صدّقناك وتابعناك ورأينا رأيك وواقع قلوبنا منه ومن معرفته مثل الذى عرفت وواقع قلبك، وإن كنّا لنرى مثل الذى رأيت من أعاجيب هذا الخلق وعظمة هذا الخالق، وإن كان ليكثر أن يخطر على قلوبنا منه مثل ما خطر على قلبك، ولكنّا لم نشرح منه ما شرحت ولم نصف منه ما وصفت، ولم نعمل الرأى والنظر فى معرفته مثل ما أعملت وعرفت، ولكنّ الله أراد هداك وتفضيلك وإكرامك بما سبقت إليه من هذا القول وهذا العلم وهذه المعرفة، ولكن حدّثنا عمّا نسألك عنه، وإنما نظرنا فيه بعد ما سمعنا قولك؛ هل ينبغى لهذا الربّ الذى وصفته بما وصفته من العظمة أن يكون له شريك فى ملكه، أو حاجة إلى شىء من خلقه، أو هل يغلبه شىء يستعين عليه بغيره؟ قال لهم: لو كان له شريك فى شىء من أمره لضبط ما ضبط، ولو كانت به حاجة إلى أحد من خلقه لكان مثلهم، ولو كان يستعين على شىء يغلبه بغيره إذا ما بلغت قدرته ما بلغت، ولا أحاطت بما أحاطت به، ولا وسع ما اتّسع له من أمر خلقه، وتدبير ما خلق ورزق وأمات وأحيا. قالوا له: صدقت وعرفنا ما تقول وثبت فى قلوبنا، ولكن حدّثنا ما بال خلقه يشركون به وهم يعرفونه حقّ معرفته. قال: لأنه خلق فيهم الأهواء وطبع فيهم الشهوات، وجبلهم على الضعف، وثبّت معهم الشيطان، فمن قبل هذا عدلوا به وهم يعرفون أنّ الذين يدعون من دونه لا يحيونهم ولا يميتونهم، ولا يخلقونهم ولا يرزقونهم، ولا يضروّنهم ولا ينفعونهم، إذا مسّهم الضّرّ فإيّاه يدعون وإليه يجأرون؛ فعند ذلك اجتمع رأيهم على أن يأووا إلى الكهف، وأن يعتزلوا قومهم

وما يعبدون من دون الله، فعندها قالوا: (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) إلى قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) * قال: فلمّا اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله آووا إلى الكهف رجاء أن ينشر لهم ربهم من رحمته ويهيّىء لهم من أمرهم مرفقا. قال: وأرادوا أن يكونوا فى عزلة من قومهم وشركهم حتى يفرق لهم رأيهم، فألقى الله عليهم السّبات. قال: وهم من مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس «1» ، وملك الروم يومئذ دقيوس، ويقال- والله أعلم- إنّ عدّتهم سبعة، كان عبد الله بن عباس يسمّيهم بأسمائهم ويقول: ما يعلمهم إلا قليل وأنا من أولئك القليل، منهم مرطالوس، ونونوس، ودانيوس، وسراقيون، واسطاطالوس، ومكسلميس، وتمليخا، وهو الذى بعثوه بورقهم إلى المدينة ليرتاد لهم. هذا قول ابن عباس، قال: وكانوا قوما يطلبون الصّيد لما مسّهم من الضّرّ والحاجة ليس لهم كبير معيشة غيره، فقالوا قولهم هذا ونظروا ما نظروا، وهم يومئذ فى الجبل الذى فيه كهفهم يطلبون الصيد ومعهم كلابهم وبزاتهم وقسيّهم ونبلهم. فلمّا أجمع رأيهم أن يأووا إلى الكهف ليأتمروا فيه، هل يقيمون مع قومهم على شركهم، أم يفارقونهم فينتجعون ناحية من الأرض يحلّون فيها ويوحّدون فيها ربّهم. فبينا هم على ذلك ألقى الله عليهم السّبات وأخفى على جميع خلقه مكانهم، وصرف عنهم الأبصار والعقول، فليس يبصرهم أحد ولا يفطن بمكانهم، فلبثوا فى كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، حتى انقرضت الأمّة التى كانوا فيها والملك الذى كان عليهم، وظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وآمن به الناس واتّبعوا ملّته ورفعه الله اليه وذهب زمانه وزمان أهل ملّته وهم فى كهفهم.

قال: وقد كان عيسى بن مريم عليه السلام قبل أن يرفعه الله يحدّث عنهم وعن إيمانهم وبصيرتهم، وكيف تفكّروا فى عظمة إلهم، وكيف ألقى الله عليهم السّبات فى كهفهم، وكيف أخفى مكانهم عن الناس، ولا ينبغى لأحد أن يهتدى إليهم ولا يعرف مكانهم، وكان يخبر أنّ الله سيردّ إليهم أرواحهم ويدلّ على كهفهم ليكونوا عبرة لمن خلفهم إن أراد أن يعتبر بهم. قال: فردّ الله اليهم أرواحهم بعد أن لبثوا فى كهفهم العدّة التى ذكرها الله عزّ وجلّ فى القرآن ولزمهم كلبهم، فلبث سنيهم كلّها، كما أخبر الله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) . والوصيد: فناء الكهف الذى فيه موضع الباب، وكان الكلب من كلاب صيدهم ولم يطعم ولم يشرب ليجعله الله آية من آياتهم. قال: فلمّا ردّ الله عليهم أرواحهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) إلى قوله: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) وهم حينئذ يظنّون أنّ قومهم أحياء، وأنهم على ما يعهدون من حالهم وشركهم وعتوّ ملكهم، فانطلق رجل منهم يقال له تمليخا، وكان أشدّهم وأنجدهم، فتوجّه حتى إذا خالط ربض المدينة أنكره وأنكر ما وجد به من الناس والدوابّ والبنيان وغير ذلك، ووجد الناس على حال لم يكن يعهدها وسنّة لم يكن يعرفها، ووجدهم يبتاعون بورق لا يشبه الورق الذى معه، فتحيّر وأنكر وأقبل وأدبر، وأبطأ على أصحابه حتى خافوا عليه، وظنّوا أنه فطن به وقدر عليه. فلمّا طال عليه ذلك دخل المدينة من ناحية أخرى من نواحيها خفية فوجد حال أهل المدينة على حال أهل الرّبض فى كلّ شىء، فلمّا شكّ وارتاب والتبس عليه رأيه عمد إلى مشيخة من أهل المدينة توسّم فيه الخير ليتجسّس ويسمع قولهم، فوجد معهم الإنجيل يقرءونه، فسمع ما فيه من توحيد الله وعظمته وعذابه وسنّته وشرائعه وحلاله وحرامه، فعرف ذلك وأذعن اليه وأنصت يسمع حتى إذا

فرغوا من قراءتهم سألهم عن كتابهم فقالوا: هذا كتاب الله الإنجيل الذى أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام نبيّه. قال: وأين عيسى؟ قالوا: قد رفعه الله تعالى اليه. قال: وكم لبث فيكم؟ قالوا: ثلاثا وثلاثين سنة. قال: وهل رأيتموه وأتيتموه وأدركتم زمانه؟ قالوا: لا، كان قبل أن نولد، ووجدنا كتابه فى أيدى آبائنا. قال: أفكلّ هذه المدينة تؤمن بهذا النبىّ وبهذا الكتاب وتعمل بما فيه مما أسمع من حلاله وحرامه؟ قالوا: نعم، إلّا مستحقّا بذنب أو ظالما لنفسه. قال: فهل سمعتم بالملك الذى يقال له دقيوس؟ قالوا: نعم. قال: فكم له منذ هلك؟ قالوا: أكثر من ثلاثمائة عام. قال: فهل بقى له عقب، أو لأحد من أهل مملكته يعمل بعمله؟ قالوا: لا. قال: فلو أراد أحد أن يعمل بمثل عمله ما كنتم تفعلون به؟ قالوا: نقتله أو نخرجه من بين أظهرنا. فلمّا آمنهم واطمأنّ إليهم ورأى سمت الإسلام وهديه عليهم وفّقه الله وهداه لمسألة سألهم عنها. قال: أخبرونى، هل كان نبيّكم عيسى عليه السلام يخبركم عن سبعة رهط خرجوا من هذه المدينة فى زمن دقيوس وقومه، وهربوا إلى الله بأنفسهم ودينهم فرارا من دقيوس وقومه، وما كانوا يعبدون من دون الله حتى آووا الى الكهف فى هذه الجبال فاستخفوا فيها. فلمّا قال لهم هذا أوجسوا فى أنفسهم أنه منهم، قالوا: نعم، قد كان يخبرنا عنهم فلعلك منهم فإنّا ننكر حالك كلّه. قال: فهل كان عيسى عليه السلام فيما بلّغكم سمّى أصحاب الكهف؟ قالوا: نعم؛ قال: فسمّوهم لى بأسمائهم، فسمّوهم حتى إذا ذكروا اسمه تمليخا قال: فأنا تمليخا وأنا أحدهم، فخرّوا له سجّدا كما صنع إخوة يوسف بيوسف يوم دخلوا عليه؛ وكانت تحيّتهم فيما بينهم السجود يومئذ، ثم أدخلوه مسجدهم وعظّموه ووقّروه وأكرموه ورفعوه وجمعوا له أهل مدينتهم وقرّاءهم وفقهاءهم، فتبرّكوا به، وجعلوا له عيدا

عظيما، وأقام أياما بين أظهرهم ثم قال لهم: إنّ أصحابى الذين يحدّثكم عنهم عيسى عليه السلام لا أراهم إلّا وقد خافوا علىّ وساء ظنّهم وهم يظنّون أنّ دقيوس حىّ؛ وأنّ الزمان زمانه، وأنّ الدين دينه، فانطلقوا بنا نعلمهم كيف أهلكه الله وقومه وطهّر الأرض منهم، وكيف استبدل الله به وبأهل ملّته أمّة يوحّدونه ويعرفونه ويهدون بالحقّ وبه يعدلون. فانطلقوا معه حتى انتهوا الى الكهف فوجدوا كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد فقالوا حين رأوه: وهذا الكلب أيضا من علاماتكم التى كان يحدّثنا عنها عيسى عليه السلام، وقد كان يحدّث أنّ أصحاب الكهف لا ينظر إليهم أحد من خلق الله من يوم يدخلون الكهف إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام إلا رجل واحد منهم، وهو الذى يدلّ عليهم وعلى مكانهم، وأنت هو؛ فدخل على أصحابه فأخبرهم بما رأى وما لقى، ثم كان آخر العهد بهم. قال الله عزّ وجلّ: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) . قال: فبنوه حول الكهف وجعلوا الكهف فى وسطه وكتبوا القصّة على حيطانه. قال وهب: فبلغنى- والله أعلم- أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ نزول أخى عيسى بن مريم عليه السلام علم للساعة، وإنّ الله يبشرهم عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وإنه يحجّ فى سبعين ألفا فيهم أصحاب الكهف لأنهم لم يموتوا، ثم تقبل ريح صفراء يمانيّة، ألين من الحرير، وريحها ريح المسك فتقبض روح عيسى عليه السلام وأرواح من معه. انتهى خبر أصحاب الكهف، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار ملوك الروم. قال: ثم ملك بعد دقيوس جالش. فكانت مدّة ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده قليطانس. فكانت مدّة ملكه عشر سنين، ثم كانت بعده ملوك الروم المتنصّرة.

ذكر أخبار ملوك الروم المتنصرة وهم ملوك القسطنطينية

ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية قال المسعودىّ «1» : لمّا هلك قليطانس ملك بعده قسطنطين برومية، وهو أوّل من انتقل من ملوك الروم عن رومية إلى بيزنطيا، وهى القسطنطينية، فبناها هذا الملك وسمّاها بهذا الاسم. قال: وكان خروجه من رومية ودخوله فى دين النصرانية لستّ خلت من ملكه، وذلك أنّ أمّه هلانا «2» خرجت إلى أرض الشام وبنت الكنائس وسارت إلى بيت المقدس وطلبت الخشبة التى تزعم النصارى أنّ عيسى عليه السلام صلب عليها، فلمّا ظفرت بها حلّتها بالذهب والفضة واتّخذت يوم وجودها عيدا، وهو عيد الصليب، لأربع عشرة ليلة خلت من أيلول. وهى التى ابتنت كنيسة حمص على أربعة أركان، واستخرجت الدفائن بمصر والشام، وصرفت ذلك فى بناء الكنائس وتشييد دين النصرانية، فكلّ كنيسة بالشام ومصر من بناء هذه الملكة هلانا. قال: ولسبع عشرة سنة خلت من ملك قسطنطين اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا بمدينة نيقية «3» بأرض الروم فأقاموا دين النصرانية. وهذا الاجتماع أوّل

الاجتماعات الستة التى تذكرها الروم فى كلامهم وتسمّيها القوانين، ومعنى هذه الاجتماعات السّنودسات واحدها سونودس. فالأوّل بنيقية وكان الاجتماع فيه على أرنوس، وهذا اتفاق من سائر أهل دين النصرانية. والسّنودس الثانى بقسطنطينية على مقدونس، وعدّة المجتمعين فيه من الأساقفة مائة وخمسون رجلا. والثالث بأقسيس وعدّة من اجتمع فيه من الأساقفة مائة رجل. والرابع بخلقدونية «1» وعددهم ستمائة وستون رجلا. والخامس بقسطنطينية وعددهم مائة وستة وأربعون رجلا. والسادس كان فى [ملكة «2» ] المدن، وعدّتهم مائتان وثمانون رجلا. قال: وكان السبب فى دخول قسطنطين فى دين النصرانية أنه خرج فى بعض حروب أبرجان أو غيرهم من الأمم، فكانت الحرب بينهم سجالا نحوا من سنة، ثم كانت عليه فى بعض الأيام فقتل من أصحابه خلق كثير وخاف البوار فرأى «3» فى نومه كأنّ رماحا نزلت من السماء فيها عذب «4» وأعلام على رأسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس وأنواع الجواهر والخشب، وقيل له: خذ هذه الرماح وقاتل بها عدوّك تنتصر، فجعل يحارب فى النوم فرأى عدوّه قد انهزم، فاستيقظ من نومه ودعا بالرماح وركّب عليها الصّلبان مثل ما رأى، ورفعها فى عسكره وزحف إلى عدوّه فكسرهم وأخذهم السيف، فرجع إلى مدينة نيقية وسأل عن تلك الصّلبان وهل يعرفون ذلك فى شىء من الآراء والنّحل؟ فقيل له: إنّ بيت المقدس من أرض الشام يجمع هذا المذهب، وأخبروه بما فعله من قبله من الملوك من قتل

النصارى، فبعث إلى الشام وبيت المقدس وحشر له ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا فأتوه بنيقية فقص عليهم أمره فشرعوا له دين النصرانيّة؛ فهذا هو السّنودس الأوّل. وقيل: إنّ أمّه كانت قد تنصّرت وأخفت ذلك عنه قبل هذه الرؤيا. وكان ملكه إلى أن هلك إحدى وثلاثين سنة، وقيل خمسا وعشرين. ثم ملك بعده قسطنطين بن قسطنطين. فكانت مدّة ملكه أربعا وعشرين سنة. وابتنى كنائس كثيرة وشيّد دين النصرانية. ثم ملك بعده ابن عمه بوليانس «1» المعروف بالحنيفى ويسمّى البرباط. قال: ولما ملك رجع عن دين النصرانية وغيّر رسومها وغزا العراق فى ملك سابور بن أردشير فأتاه سهم غرب «2» فذبحه. ولمّا هلك جزع من كان معه من الملوك والبطارقة ففزعوا إلى بطريق كان معظّما عندهم يقال له يونياس «3» ، وقيل: إنه كان كاتبا للملك الماضى، فأبى عليهم إلّا أن يرجعوا إلى دين النصرانية، فأجابوه إلى ذلك فملّك عليهم يونياس المذكور. قال: ولمّا ملك كان له مراسلات مع سابور ومهادنة واجتماع، ثم انصرف بجيوش النصرانيّة موادعا لسابور وأخلف عليه ما أتلف الملك الماضى من أرضه بأموال حملها إليه وهدايا من ألطاف الروم، وشيّد النصرانيّة وأعاد معالمها، ومنع من عبادة الأصنام والتماثيل، وقتل من كان على عبادتها. فكان ملكه سنة.

ثم ملك بعده أوالس قال: ولمّا ملك كان على دين النصرانيّة ثم رجع عنه، وهلك فى بعض حروبه، فكان ملكه الى أن هلك أربع عشرة سنة. وقيل: إن فى أيامه استيقظ أهل الكهف. ثم ملك بعده غراطيانس «1» . فكانت مدّة ملكه خمس عشرة سنة، ولسنة من ملكه كان اجتماع النصرانيّة، وهو آخر الاجتماعات، فأتمّوا القول فى روح القدس، وهو السّنودس الثانى. ثم ملك بعده بدرسيس الأكبر، وتفسير هذا الاسم عطيّة الله. قال: ولما ملك قام بدين النصرانية وعظّم أمرها وابتنى الكنائس، ولم يكن من أهل بيت المقدس ولا من الروم؛ بل كان أصله من الأشبان، وهم بعض الأمم السالفة. قال: وقد كانت ممن ملكت الشام ومصر والمغرب والأندلس. وقد تنازع الناس فيهم، فذكر الواقدىّ فى كتاب فتوح الأمصار أنّ بدءهم من أهل أصبهان، وأنهم ناقلة من هنالك، وهذا يوجب أنهم من قبل ملوك فارس. قال: وذكر عبيد الله بن خرّداذبه نحو ذلك، وساعدهما على ذلك جماعة من أهل السّير والأخبار. قال المسعودىّ: والأشهر من أمرهم أنهم من ولد يافث بن نوح، وهم اللذارقة ملوك الأندلس واحدهم لذريق، وقد تنوزع فى دياناتهم، فمنهم من رأى انهم على دين المجوس، ومنهم من رأى أنهم على مذهب الصابئة وغيرهم من عبدة الأصنام. قال: وكان ملك بدرسيس الى أن هلك تسع عشرة سنة. ثم ملك بعده أوقاديس «2» . فكان ملكه أربع عشرة سنة [وكان «3» ] على دين النصرانية.

ثم ملك بعده بدرسيس الأصغر، وذلك بمدينة أقسس، وجمع مائتى أسقف وهو الاجتماع الثالث من الأسنودسات، ولعن فيه نسطورس البطرك، وإليه تنسب النسطوريّة من النصارى. وكان ملك هذا الملك الى أن هلك اثنتين وأربعين سنة. ثم ملك بعده مرقياقس «1» وزوجته بلجاريا. فكانت ملكة معه. وكان ملكهما سبع سنين، وفى أيامهما كان خبر اليعاقبة ووقوع الخلاف بينهم فى الثالوث. قال: وأكثر اليعاقبة من النصارى بالعراق وتكريت والموصل والجزيرة ومصر وأقباطها إلا اليسير فإنهم ملكيّة، والنوبة والأرمن يعاقبة؛ ومطران اليعاقبة بين الموصل وبغداد وتكريت، وكان لهم بالقرب من رأس «2» عين واحد فمات، وانتقل مطرانها الى بلاد حلب وقنّسّرين والعواصم. قال المسعودىّ: وكرسى اليعاقبة [رسمه «3» ] أن يكون بمدينة أنطاكية، وكذلك لهم كرسى بمصر. ثم ملكا بعدهما ليون الأصغر بن ليون. فكان ملكه ستّ عشرة سنة، وفى أيامه أحرم مسعدة «4» اليعقوبىّ بطرك الإسكندرية، واجتمع له من الأسقافة ستمائة وثلاثون أسقفا. وفى تاريخ الروم أنّ عدّة المجتمعة ستمائة وستون رجلا، وذلك بخلقدونية، وهذا الاجتماع هو السّنودس الرابع عند الملكية. واليعاقبة لا تعتدّ بهذا السنودس.

قال: واليعاقبة أضيفت الى يعقوب البرذعىّ وبه عرفت، وكان من أهل أنطاكية، وكان يعمل البراذع بها. ثم ملك بعده ابن له على دين الملكية. فكانت مدّة ملكه الى أن هلك سنة. ثم ملك بعده بير وهو من بلاد الأرمينان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكان يميل الى رأى اليعاقبة، وكان له حروب مع خوارج خرجوا عليه فى دار ملكه فظقر بهم. ثم ملك بعده نسطاس، وكان يذهب الى مذهب اليعاقبة، وهو الذى بنى مدينة عمّوريّة، وأصاب كنوزا ودفائن عظيمة. وكان ملكه تسعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده نوسطيانس تسع سنين. ثم ملك بعده سطيانس. فكان ملكه تسعا وثلاثين سنة، وبنى كنائس كثيرة، وشيّد دين النصرانيّة وأظهر مذاهب الملكية، وبنى كنيسة الرّها. وهى إحدى عجائب مبانى العالم. قال: وقد كان فى هذه الكنيسة منديل يعظّمه أهل دين النصرانية، وهو أن اليسوع الناصرىّ حين أخرج من ماء المعموديّة نشّف به، فلم يزل هذا المنديل يتداول الى أن قرّر على كنيسة الرّها؛ فلمّا اشتدّ أمر الروم على المسلمين وحاصروا الرّها فى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة أعطى هذا المنديل للروم فوقعت الهدنة عليه، وفرح الروم به فرحا عظيما. ولما هلك هذا الملك ملك بعده قوسطيس وهو ابن أخيه، وكان ملكه الى أن هلك ثلاث عشرة سنة.

ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام

ثم ملك بعده طباريس. فكان ملكه أربع سنين، وأظهر فى مدّة ملكه أنواعا من اللباس والآلات وآنية الذهب والفضة وغير ذلك من آلات الملوك. ثم ملك بعده مورقيس، وقيل فيه موريقس. فكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وهو الذى نصّر كسرى أبرويز على بهرام جوبين على ما قدّمناه، ثم قتل وانتصر أبرويز لولده وبعث بجيوش الفرس، وكانت له حروب ذكرناها. ثم ملك بعده قرقاس «1» . فكان ملكه الى أن قتل أيضا ثمانى سنين. ثم ملك بعده هرقل وكان بطريقا فى بعض الجزائر قبل ذلك. قال: ولمّا ملك عمّر بيت المقدس وذلك بعد انكشاف الفرس عن الشام، وبنى الكنائس. ولسبع سنين خلت من ملكه كانت هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام قال المسعودىّ: وجدت فى كتب التواريخ تنازعا فى مولد النبىّ صلى الله عليه وسلم وفى عصر من كان من ملوك الروم؛ فمنهم من ذهب الى ما قدّمناه، ومنهم من رأى أنّ مولده صلى الله عليه وسلم كان فى ملك نوسطينوس. وكان ملكه سبعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده نوسطينوس الثانى، وكان ملكه عشرين سنة. ثم ملك بعده هرقل بن نوسطينوس، وهو الذى ضرب الدنانير والدراهم الهرقليّة. وكان ملكه خمس عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه مورق بن هرقل، وهو الذى كتب الزّيجات فى النجوم، وعليه يعمل أهل الحساب. وفى تواريخ ملوك الروم فيمن سلف وخلف أنّ الملك

للروم كان فى وقت ظهور الإسلام وخلافة أبى بكر وعمر هرقل. وليس هذا الترتيب فيما عداها من كتب تواريخ أهل السّير. وفى تواريخ أصحاب السّير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر وملك الروم قيصر بن فوق. ثم ملك بعده قيصر بن قيصر، وذلك فى أيام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. ثم ملك بعده هرقل بن قيصر فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الذى حاربه أمراء الإسلام الذين فتحوا الشام على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى خلافة عمر رضى الله عنه. ثم ملك بعده مورق بن هرقل فى خلافة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. ثم ملك بعده فوق بن مورق فى خلافة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وأيام معاوية بن أبى سفيان. ثم ملك بعده فلقط «1» بن مورق بقيّة أيام معاوية بن أبى سفيان، وكانت بينهما مراسلات ومهادنات، وكان ملكه فى آخر أيام معاوية وأيام يزيد ابنه ومعاوية ابن يزيد ومروان بن الحكم وصدرا من أيام ابنه عبد الملك بن مروان. ثم ملك بعده لاوى «2» بن فلقط فى بقيّة أيام عبد الملك بن مروان. ثم ملك بعده جيرون بن لاوى فى أيام الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك أخيه وعمر بن عبد العزيز، ثم اضطرب ملك الروم لما كان من أمر مسلمة بن عبد الملك بن مروان وغزو المسلمين لهم فى البرّ والبحر، فملّكوا عليهم رجلا من غير

أهل بيت الملك من أهل مرعش «1» يقال له جرجس «2» . فكان ملكه تسع عشرة سنة. ولم يزل ملك الروم فى اضطراب الى أن ملك عليهم قسطنطين بن اليون، وذلك فى خلافة أبى العباس السفّاح وأبى جعفر المنصور. ثم ملك بعده اليون بن قسطنطين، وكانت أمّه أرسى ملكة معه ومشاركة له فى الملك لصغر سنّه. وملك فى أيام المهدى والهادى. ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون بن قسطنطين، وكانت أمّه مشاركة له وسملت عيناها بعد موته. ثم ملك بعده نقفور بن استبراق، وكان لهذا الملك مراسلات وحروب مع الرشيد، وغزاه الرشيد فأعطى القود من نفسه من بعد بغى كان منه فى بعض مراسلاته، فانصرف الرشيد عنه ثم غدر ونقض ما كان أعطاه من الانقياد، فكتم الرشيد أمره لعارض علّة كان وجدها بالرّقّة «3» ، ثم تجهّز وغزاه فنزل على هرقلة «4» ؛ وذلك فى سنة سبعين ومائة، فحاصرهما سبعة عشر يوما فأصيب خلق من المسلمين وفنيت الأزواد والعلوفات، ثم فتحها عنوة. وقيل: إنهم بادروا لمّا فتحها بطلب الأمان فأمّنوا. والأشهر أنه فتحها عنوة. ثم ملك بعده استبراق بن نقفور بن استبراق. وكان ملكه فى أيام الأمين، ولم يزل ملكا حتى غلب على الملك قسطنطين بن فلقط، وكان ملكه فى خلافة المأمون.

ثم ملك بعده توقيل وذلك فى خلافة المعتصم، وهو الذى فتح زبطرة «1» وغزاه المعتصم بعد فتح عمّوريّة. ثم ملك بعده ميخائيل بن توقيل، وذلك فى خلافة الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين، ثم كان بين الروم تنازع فى الملك، فملّكوا عليهم توقيل بن ميخائيل ابن توقيل. ثم غلب على الملك بسيل الصقلبىّ «2» ولم يكن من أهل بيت الملك. وكان ملكه فى أيام المعتزّ والمهتدى وبعض أيام المعتمد. ثم ملك بعده اليون بن بسيل. فكان ملكه بقيّة أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد الى أن هلك. ثم ملك بعده الإسكندروس فلم تحمد الروم أمره فخلعوه. وملّكوا عليهم أخاه لاوى بن اليون بن بسيل الصقلبىّ. فكان ملكه بقيّة أيام المعتضد وأيام المكتفى وصدرا من أيام المقتدر.

ثم هلك وخلّف ولدا صغيرا يقال له قسطنطين فملك وغلب على مشاركته فى الملك أرمنوس بطريق البحر صاحب حربه. قال: فزوّج قسطنطين الصبىّ بابنته، وذلك فى بقيّة أيام المقتدر وأيام القاهر والراضى والمتقى، وذلك فى سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة. قال المسعودىّ: فملوك الروم فى هذا الوقت ثلاثة، فالأكبر منهم والمدبّر للأمور أرمنوس المتغلّب على الملك، ثم قسطنطين بن لاوى بن اليون بن بسيل، والثالث ابن لأرمنوس يخاطب بالملك اسمه اسطفانس وجعل أرمنوس ابنا له آخر صاحب الكرسىّ بالقسطنطينية، وهو البطريك الأكبر الذى يأخذون عنه دينهم، وقد كان خصاه قبل ذلك أبوه وقرّبه الى الكنيسة. وهذا آخر من ذكره المسعودىّ من ملوك الروم ولم نجد من ضبط أمرهم بعده على اتساق فنذكره. قال: فعدّة ملوك الروم المتنصّرة من قسطنطين بن هلاى الذى أظهر دين النصرانيّة بالروم الى هذا الوقت أحد وأربعون ملكا، ولم يعدّ [ابن «1» ] أرمنوس. وسنيهم خمسمائة سنة وسبع سنين. وقال فى ملوك رومية: والذى وجدت فى أكثر كتب التواريخ مما اتفقوا عليه أن عدّة ملوك الروم الذين ملكوا مدينة رومية، وهم الذين ذكرهم فى كتابه وذكرناهم نحن فى كتابنا هذا، تسعة «2» وأربعون ملكا، وجميع عدد سنى ملكهم، من أوّل من ملكهم على حسب ما ذكرناه من الخلاف فى صدر هذا الفصل إلى قسطنطين ابن هلاى، أربعمائة سنة وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة أيام. والله أعلم.

ذكر أخبار ملوك الصقالبة والنوكبرد

ذكر أخبار ملوك الصّقالبة والنّوكبرد قال المسعودىّ: الصقالبة من ولد ماراى بن يافث بن نوح، وإليه يرجع سائر أجناس الصقالبة وبه يلحقون فى أنسابهم. ومنهم من ينقاد إلى دين النصرانيّة اليعاقبة، ومنهم من لا كتاب له ولا ينقاد إلى شريعة. وهم أجناس: فمنهم جنس كان الملك فيهم قديما فى صدر الزمان، وكان ملكهم يدعى ماجك، وهذا الجنس يدعى لبنانا «1» ، وكان يتلو هذا الجنس قديما فى صدر الزمان سائر أجناس الصقالبة وهم اصطبرانة، وملكهم يدعى بصقلاح. وجنس يقال له نامجين، وملكهم يدعى عرابة «2» ، وهذا الجنس أشجع الصقالية، وجنس يدعى مناى «3» ، وملكهم رتبيل، ثم جنس يقال له سرتين، وهو جنس مهيب عندهم، ثم جنس يقال له مراوة، ثم جروانيق وصاصين وخشانين ونرانجابين. قال: والجنس الذى يدعى سرتين يحرقون أنفسهم بالنار، وإذا مات لهم ملك أو رئيس يحرقونه ويحرقون دوابّه، ولهم أفعال كأفعال الهند. قال: ومن الصقالية جنس التحق بالخزر والروس. قال: والأوّل من ملوك الصقالية ملك الدير، وله مدن واسعة وعمائر كثيرة، وهو يحارب الروم والفرنج والنوكبرد وغيرهم من الأمم، والحرب بينهم سجال: ثم يلى هذا الملك من بلاد الصقالية ملوك الترك. قال: والصقالية أجناس كثيرة، ثم اختلفت الكلمة بين أجناسهم فزال نظامهم وملّك كلّ جنس منهم عليهم ملكا. هذا ما أورده المسعودى من أخبار الصقالية. والله أعلم.

ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقه

وأما النّوكبرد فقال المسعودىّ فيهم: إنهم أيضا من ولد يافث وبلادهم متّصلة ببلاد المغرب، ولهم جزائر كثيرة فيها أمم من الناس. وهم ذو بأس شديد ومنعة، ولهم مدن كثيرة ويجمعهم بلد واحد. قال: وأسماء ملوكهم فى سائر الأعصار أريكس، والمدينة العظمى من مدنهم ودار مملكتهم تبّت «1» وهى مدينة عظيمة يخترقها نهر عظيم من أعظم الأنهار اسمه سابيط والمدينة على جانبيه. قال: ومن مدنهم التى كان المسلمون ببلاد الأندلس قد غلبوهم عليها وسلبوها منهم وسكنوها ثم استعادها النّوكبرد بعد ذلك من المسلمين مدينة تارة ومدينة طارينو ومدينة سيرنية، ولم يذكر من أمرهم خلاف ذلك فنذكره. ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقه قال المسعودىّ «2» : لا خلاف أنّ الإفرنجة والجلالقة والصقالية والنّوكبرد والأسبان والترك والخزر وبرجان واللان ويأجوج ومأجوج وغير من ذكرنا ممن سكن بلاد الشمال من ولد يافث بن نوح. قال: والإفرنجة أشدّ هؤلاء الأجناس بأسا، وأمنعهم وأكثرهم عدّة، وأوسعهم ملكا، وأحسنهم نظاما، وانقيادا لملوكهم، وأكثرهم طاعة. قال: والجلالقة أشدّ من الإفرنجة وأعظم منهم نكاية. والرجل الواحد من الجلالقة يقاوم عدّة من الإفرنجة. ثم قال: وكلمة الإفرنجة متفّقة على ملك واحد

لا تنازع بينهم فى ذلك، ومدنهم تزيد على مائة وخمسين مدينة غير الكور. وكانت أوائل بلادهم قبل ظهور الإسلام فى البحر فى جزيرة رودس وجزيرة إقريطش، ثم ملكوا بلاد الغرب واستولوا عليها. قال: وأوّل ملوك الإفرنجة قلويا «1» وكان مجوسيا فنصّرته امرأته عرضلة. ثم ملك بعده ابنه لذريق. ثم ملك بعده ابنه دفسوت. «2» ثم ملك بعده ابنه قادله. ثم ملك بعده ابنه بيبق. ثم ملك بعده قادله. وكانت ولايته ستّا وعشرين سنة، وذلك فى أيّام الحكم صاحب الأندلس، وتدافع أولاده بعده ووقع الاختلاف بينهم حتى تفانت الإفرنجة بسببهم. وسار لذريق بن قادله فملك ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر، وهو الذى أقبل إلى طرطوشة فحاصرها. ثم ملك بعده قادله بن لذريق تسعا وثلاثين سنة وستّة أشهر. ثم ملك بعده ابنه لذريق ستّة أعوام، ثم خرج عليه قائد للإفرنجة يسمّى يوسة فملك الإفرنجة وأقام فى الملك ثمانى سنين. وهو الذى صالح المجوس على بلده سبع سنين بستمائة رطل ذهبا وستمائة رطل فضّة يؤدّيها صاحب الإفرنجة إليهم.

ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم

ثم ولى بعده قادله وأقام فى الملك إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر. ثم ولى بعده لذريق بن قادله واستمرّ فى الملك إلى سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة. هذا ما أورده المسعودىّ من أخبارهم فى كتابه المترجم بمروج «1» الذهب ومعادن الجوهر. ثم أتسعت بعد ذلك ممالكهم وانبسطت أيديهم واستولوا على أكثر بلاد الغرب وغيرها. ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم قال المسعودىّ: لمّا تفرّق ولد نوح فى الأرض سار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطعوا نيل مصر. ثم افترقوا فسارت طائفة منهم ميمّمين المشرق، وهم النّوبة والحبشة والزنج. وسار فريق منهم نحو المغرب، وهم أنواع كثيرة: الزغاوة والكانم «2» ومرنك وكوكو والحمى «3» وغانة وغير ذلك من أنواع الأحابش والدمادم، ثم افترق الذين يمّموا بين المشرق والمغرب، فصارت الزّنج من المكمين «4» والمسكو ودبرا وغيرهم من أنواع الزّنج. قال: ومن مدنهم بربرا وهى مدينة على خليج من البحر الحبشىّ يسمّى الخليج البربرىّ، طوله خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل.

قال: وليست هذه بربرا هى التى تنسب إليها البرابرة الذين بالمغرب من أرض إفريقية. قال: ولباس هؤلاء الزّنج جلود النمورة، وهى جلود كبيرة تحمل من أرضهم الى بلاد الإسلام. قال: وأقاصى بلاد الزنج بلاد سفالة وأقاصيه بلاد الواق واق، وهى أرض كثيرة الذهب كثيرة العجائب والخصب، حارّة. واتّخذ بها الزنج دار مملكة وملّكوا عليهم ملكا اسمه «وقليمى» وهى نسبة لسائر ملوكهم فى سائر الأعصار. قال: ويركب وقليمى وهو ملك من ملوك الزنج فى ثلاثمائة ألف راكب، ودوابّهم البقر، وليس فى أرضهم خيل ولا بغال ولا إبل ولا يعرفونها، وإنما يركبون البقر بالسروج واللّجم، ويقاتلون عليها وهى تعدو بهم كالخيل. قال المسعودىّ: رأيت بالرىّ نوعا من هذه البقر تبرك كما يبرك الجمل وتحمل وتثور بأجمالها، وتحمل عليها الميتة من الخيل والإبل وغيرها فتنهض بحملها. والغالب على هذا النوع من البقر حمرة الحدق وسائر البقر تنفر منها. قال: ولا يقع البرد فى بلاد الزّنج. قال: ومنهم ناس محدّد والأسنان يأكل بعضهم بعضا. قال: ومساكن الزّنج من حدّ الخليج المشعّب من أعلى النيل الى بلاد سفالة والواق واق، ومقدار مسافة مساكنهم واتصالها فى الطول والعرض سبعمائة فرسخ: برّ وأودية وجبال ورمال. قال المسعودىّ: ومعنى تسمية ملك الزنج «وقليمى» أى ابن الربّ الكبير؛ لأنه اختارهم لملكهم والعدل فيهم، فمتى جار الملك عليهم فى حكمه أو حاد عن الحقّ قتلوه وحرّموا عقبه الملك. وزعموا أنه إذا فعل ذلك فقد بطل أن يكون ابن الربّ الذى هو ملك السماء والأرض، ويسمّون الخالق عزّ وجلّ (مكليجو) وتفسيره الربّ الكبير.

قال: والزّنج أولو فصاحة فى ألسنتهم وفيهم خطباء بلغتهم؛ يقف الرجل الزاهد منهم فيخطب على الخلق الكثير منهم يرغّبهم فى القرب من ربّهم ويبعثهم على طاعته، ويرهبهم من عقابه، ويذكّرهم من سلف من ملوكهم وأسلافهم، وليس لهم شريعة يرجعون اليها بل رسوم لملوكهم، وأنواع من السياسات يرجعون اليها ويسوسون بها رعيّتهم، وأكثر أكلهم الموز، وهو كثير ببلدهم، وغالب أقواتهم الذّرة ونبت يقال له الكلارى «1» يقتلع من الأرض كالكمأة والراسن، ويأكلون العسل واللحم. قال: ومن هوى منهم شيئا من نبات أو حيوان أو جماد عبده. وجزائرهم لا تحصى كثرة وفيها النارجيل. وأمّا النّوبة وما قيل فيها فافترقت فرقتين فى شرقىّ النيل وغربيّه وأناخت على شطّيه واتّصلت ديارها بديار مصر، واتّسعت مساكنها على شاطئ النيل مصعدة. ومدينتهم دنقله. والفريق الآخر من النوبة يقال له غلوة وينزل مدينة الملك واسمها سرتة. وأمّا البجة وما قيل فإنّها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر وتشعّبوا فرقا وملّكوا عليهم ملوكا، وفى أرضهم معادن الذهب. قال: وانضاف إلى البجة طائفة من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان وتزوّجوا من البجة. وأمّا الحبشة وما قيل فيها فإنّ دار ملكهم كعبر، وهى مدينة عظيمة، وهى دار مملكة النجاشىّ. وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة، ويتّصل ملك النجاشىّ بالبحر الحبشىّ، وله ساحل فيه مدينة كبيرة، وهو مقابل لبلاد اليمن. فمن مدن الحبشة

على الساحل: الزّيلع والدّهلك وناصع، وفى هذه المدن جماعة من المسلمين إلّا أنهم فى ذمّة الحبشة. قال: وبين ساحل الحبشة ومدينة غلافقة، وهى ساحل زبيد من أرض اليمن، ثلاثة أيام عرض البحر. قال: ومنه عبرت الحبشة الى اليمن حين ملكته فى أيام ذى نواس، وهذا الموضع هو أقلّ هذا البحر عرضا. قال: وهنالك جزائر بين الساحلين منها: جزيرة العقل فيها ماء يشرب فيفعل فى القرائح والذكاء فعلا جميلا، وبها جزيرة أسقطرة. وأما غير هؤلاء من الحبشة فمنهم من أمعن فى المغرب مثل: الزّغاوة والكوكو والقراقر ومديدة ومريس والمبرس والملانة والقوماطين ودويلة والقرمة. قال: ولكل طائفة من هؤلاء الطوائف وغيرهم ملك يرجعون اليه.

الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتصل بهذا الباب خبر سيل العرم

الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتّصل بهذا الباب خبر سيل العرم ذكر أخبار ملوك قحطان قال المؤرّخون: لم يكن للعرب ملك حقيقىّ، وإنما كان من ملك حمير فى بلاد اليمن سمّى ملكا، وقد كانوا فى بعض الأوقات يخرجون من بلادهم ويسيحون فى الأرض حتّى بلغوا أقصى المغرب، وبلغوا من حدود المشرق سمرقند، وبلغوا باب الأبواب، ودخلوا بلاد الهند ولم يستقرّوا فى غير بلادهم، فلا يعدّ ذلك ملكا، وإنما هو غارة. فأوّل ملوك قحطان عبد شمس، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإنما سمّى سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. قال عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة «1» الزهر وصدفة الدرّ: إنّ عبد شمس هذا ملك أربعمائة سنة وأربعا وثمانين سنة. قال: وقد اختلف فى أوّل من ملك منهم، فقيل يعرب بن قحطان. قال: وهو أوّل من نطق بالعربية، وأوّل من حيّاه ولده بتحية الملك: أبيت اللّعن، وأنعم صباحا. والأشهر أنّ عبد شمس سبأ هو أوّل ملوكهم. والله أعلم. ثم ملك بعده ابنه حمير بن سبأ، قال: وكان أشجع الناس فى وقته، وأفرسهم وأجملهم. وقيل: إنه إنما سمّى حمير لكثرة لباسه الأحمر من الثياب، وكان يلقّب

بالعرنجج، وهو أوّل من وضع تاج الذهب على رأسه من ملوك اليمن. وكان ملكه خمسين سنة، وذلك فى عصر قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ثم ملك بعده أخوه كهلان بن سبأ. فكان ملكه إلى أن هلك ثلاثمائة سنة. واختلف فيمن ملك بعده، فقيل: ملك بعده أبو مالك بن عسكر بن سبأ. فكان ملكه ثلاثمائة سنة. وقيل ملك بعد كهلان الرائش وهو الحارث بن شدّاد «1» ، وكان الحارث أوّل من غزا منهم، وأصاب الغنائم، وأدخلها اليمن، وبينه وبين حمير خمسة عشر أبا، وسمّى الرائش لأنه لمّا أدخل الغنائم والأموال والسّبى بلاد اليمن فراش الناس [فى أيامه «2» ] . وفى عصره مات لقمان النسور. قال: وذكر الرائش هذا نبيّنا صلى الله عليه وسلم فى شعره، فقال من قصيدته: ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبىّ لا يرخّص فى الحرام يسمّى أحمدا يا ليت أنّى ... أعمّر بعد مخرجه بعام قال: وكان ملكه مائة وخمسا وعشرين سنة. هكذا نقل عبد الملك بن عبدون وذكر الخلاف فى أبى مالك والرائش على ما ذكرناه. وأمّا غيره فإنه لم يذكر كهلان ابن سبأ ولا أبا مالك، بل قال: إنّ حمير عهد إلى ابن ابنه الملطاط بن عمرو بن حمير. قال: وفى أيامه انقرض ملك صحار وجاسم ابنى دارم وبادوا. قالوا: ثم ملك بعده ابنه أبرهة ويقال له ذو المنار. قالوا: سمّى بذلك لأنه أوّل من أقام المنار فى مغازيه على الطريق، وذلك أنه أوغل فى بلاد المغرب والسودان، واتّخذها ليهتدى بذلك فى قفوله. وكان ملكه مائة وثلاثين سنة،

وقيل مائة وثلاثا وثمانين سنة. هكذا ذكر ابن قتيبة فى كتاب المعارف أن الذى ملك أبرهة. وقال المسعودىّ: إنّ الذى ملك بعد الرائش جبّار بن غالب بن زيد ابن كهلان وقال: إنّ ملكه كان مائة وعشرين سنة. والله أعلم. ثم ملك بعد أبرهة على ما ذكر ابن حمدون فى تذكرته ابنه إفريقش، وهو ذوا الأذعار. قال: سمّى بذلك لأنه خرج نحو بلاد المغرب وأوقع بقوم لهم خلق منكرة فذعر الناس منهم وفرّقوا. قال ابن عبدون: وغزا إفريقش بلاد المغرب حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم ببلاد المغرب. وكان البربر بقيّة من قتل يوشع بن نون. قال: وإفريقش هو الذى بنى إفريقية وبه سمّيت. ثم ملك بعده ابنه العبد ويلقّب ذا الشناتر، وهى الأصابع فى لغة حمير. قال: وخرج نحو العراق فاحتضر فى طريقه. هكذا ذكر ابن حمدون. وقال عبد الملك: إنّ الذى ملك بعد إفريقش أخوه العبد بن أبرهة. قال: وهو ذو الأذعار، سمّى بذلك لأنه كان فيما ذكر أهل الأخبار غزا بلاد النسناس فقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم فى صدورهم فذعر الناس منهم فسمّى بذى الأذعار. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة. وقد قدّمنا أنّ ذا الأذعار هو إفريقش. والله أعلم. ثم ملك بعده الهدهاد بن عمرو بن شرحبيل. هكذا قال ابن حمدون والمسعودىّ، إلّا أنّ المسعودىّ لم يذكر عمرا وقال الهدهاد بن شرحبيل. وسمّاه ابن قتيبة هدّاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام. وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وقيل سبعة، وقيل ستة. وقد قدّمنا

خبر بلقيس وأنها ابنة ذى أشرح، وأنّ والدها لم يكن ملكا وإنما كان وزيرا لملك حمير وهو شراحى الحميرىّ. والله تعالى أعلم. واختلف فيمن ملك بعد الهدهاد، قال المسعودىّ: تبّع الأوّل. وكان ملكه أربعمائة سنة. وقال ابن قتيبة أقلّ من ذلك، وقال: ملك بعد الهدهاد ابنته بلقيس وهى صاحبة سليمان بن داود عليهما السلام. وكان ملكها مائة وعشرين سنة. وقد أتينا على أخبارها فيما سلف من هذا الكتاب «1» فى قصّة سليمان عليه السلام. ثم ملك بعدها ياسر بن عمرو بن شرحبيل وهو ناشر النّعم، قالوا: سمّى بذلك لإنعامه على العرب، وكان شديد السلطان، وسار غازيا وأوغل فى بلاد المغرب حتى بلغ وادى الرمل ولم يبلغه أحد قبله، وهو رمل جار، ولم يجد وراء ذلك مجازا لكثرة الرمل وجريانه، فبينما هو مقيم إذ انكشف الرمل فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يعودوا إليه وهلكوا عن آخرهم، فأمر بصنم من نحاس فنصب على صخرة عظيمة على شفير الوادى وكتب على صدره بقلم المسند «2» : هذا الصنم لناشر النّعم الحميرىّ ليس وراءه مذهب ولا يتكلّفن أحد ذلك فيعطب، ورجع من هناك. وكان ملكه خمسا وثمانين سنة على رواية ابن قتيبة. وقال المسعودىّ: خمسا وثلاثين. ثم ملك بعده أبو كرب شمر بن إفريقش، ويسمّى يرعش لارتعاش كان به. قال: وخرج نحو العراق فى زمن بستاسف أحد ملوك الفرس فأعطاه بستاسف الطاعة، وسار نحو الصين حتى نزل فى طريقه ببلاد الصغد، فاجتمع أهل تلك

الأرض بمدينة سمرقند فأحاط بهم شمرو افتتحها عنوة وأسرف فى القتل وخرّب المدينة وهدمها فسمّيت شمركند، وعرّبت بعد ذلك فقالوا: سمرقند. ومعنى شمركند، أى خرّبها شمر. وفيه يقول دعبل بن علىّ يفتخر باليمن من قصيدة: هموا كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الشاش «1» كانوا كاتبينا وهم سمّوا بشمر سمرقندا ... وهم غرسوا هناك التّبّتينا قال: ولما فرغ من بلاد الصّغد سار نحو الصين فأيقن ملكها بالبوار، فآحتال وزير له بأن جدع أنفه وأتى الى شمر، وهو بمفازة بينها وبين الصين عشر مراحل، ومتّ إليه بأن ملك الصين فعل به ذلك لأنه نصحه ألّا يحارب شمر وخالف رأيه، فسأله شمر عن الطريق والماء، فقال له: بينك وبين الماء ثلاث مراحل، فتزوّد لثلاثة أيام، فلمّا قطعها أعوزه الماء وكشف له الرجل أمره فمات هو وأصحابه عطشا. قال ابن قتيبة: وكانت مدّة ملكه مائة وسبعا وثلاثين سنة. وقال المسعودىّ: ثلاثا وخمسين سنة. ثم ملك بعده ابنه أبو مالك بن شمر، قال: وتأهّب للأخذ بثأر أبيه فبلغه أنّ بالمغرب واديا من الزبرجد، فحمله الشّره على طلبه وترك ما عزم عليه فمات فى طريقه. ثم ملك بعده ابنه تبّع الأقرن بن أبى مالك بن شمر. قال: وطلب ثأر جدّه وأتى سمرقند فعمّرها وجدّد بناءها، ثم أتى الصين وأخرب مدينتها وابتنى هناك

مدينة أسكن فيها ثلاثين ألف رجل. قال الحمدونىّ فى كتابه المترجم بالتذكرة: هم إلى اليوم هناك فى زىّ العرب، ولهم بأس وشدّة- يعنى يوم صنّف كتابه وهو فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة أو نحو ذلك- قال: وفى أوانه كان بوار طسم وجديس على ما نذكره فى وقائع العرب. قال: وفى أوانه أيضا كان سيل العرم وتفرّق سبأ. وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. قال ابن قتيبة: وكان ملك تبّع الأقرن ثلاثا وخمسين سنة. قال المسعودىّ: إنّ ملكه كان مائة وثلاثا وستّين سنة. ولم يذكرا الملك الذى كان قبله، ونسبا هذا الملك أنه ابن شمر. ثم ملك بعده على ما رواه ابن حمدون- وهو إن شاء الله أشبه بالصواب- أسعد ابن عمرو. قال: وملك والملك متشتّت فاستفزّ قومه فنهضوا معه فى ملوك اليمن حتى قتلهم ملكا ملكا، وانتظم له ملك اليمن، فوجّه بابن عمّ له يقال له القيطون إلى الحجاز فبغى وظلم فقتله اليهود. ولمّا بلغ أسعد ذلك غضب وحلف ليقتلنّ كلّ يهودىّ فى الأرض، وتجهّز فى مائة ألف حتّى ورد يثرب، فاجتمع الأوس والخزرج وأخبروه بقصّة ابن عمّه وفجره وظلمه فعفا عن اليهود وقال: لست أرضى بالظلم ولو علمت ذلك منه لقتلته، وأتاه بنو هذيل بن مدركة فرغّبوه فى الكعبة وما فيها من الذهب والجوهر، فقدم مكّة لذلك، فاجتمع إليه أحبار اليهود وقالوا: إنّ هذا البيت العتيق الذى ليس لله عزّ وجلّ بيت فى الأرض غيره وقد رام إفساده كثير من الملوك فأبادهم الله. وفى هذه البلدة يكون مولد نبىّ آخر الزمان اسمه محمد وأحمد من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو خاتم الرسل، وإنّما أراد من دلّك على

ذلك هلاكك، فضرب أعناق الهذليّين وأقام بمكة ستّة شهور ينحر فى كلّ يوم ألف ناقة، وكسا البيت وعلّق عليه بابا من الذهب. ولمّا هلك ملك بعده ابن عمّه مرثد بن عبد كلال بن تبّع الأقرن المعروف بذى الأعواد. قال: وكان ملكه أربعين سنة. ولمّا هلك ملك بعده أولاده وكانوا أربعة مشتركين فى الملك على كلّ واحد منهم تاج. قال: وخرجوا إلى مكة ليقلعوا الحجر الأسود ويبتنوا بيتا بصنعاء يكون حجّ الناس إليه؛ فاجتمعت كنانة وقلّدوا أمرهم فهر بن مالك والتقوا فقتل ثلاثة من الملوك وأسر الرابع. ولمّا أسر هؤلاء ملكت بعدهم أختهم أبضعة ابنة ذى الأعواد. قال: وكانت فاجرة فقتلها قومها. ثم ملك بعد أولاد ذى الأعواد ملكيكرب بن عمرو بن سعد بن عمرو، وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وتحرّج عن سفك الدماء فلم يغز ولم يخرج من اليمن. ثم ملك بعده تبّع أسعد بن ملكيكرب. قال: ولمّا ملك غزا بنى معدّ بتهامة فى ثلاثمائة ألف طالبا لدماء الملوك الأربعة، واجتمع بنو معدّ وعقدوا الرّياسة لأميّة ابن عوف الكنانىّ المعروف بالعنسىّ، ثم نفست ربيعة أن تكون الرّياسة فى مضر فقعدت عنهم، فضعفت مضر عن تبّع وسألوه الصلح على أن يؤدّوا إليه عقل الملوك الأربعة، عن كلّ ملك ألف ناقة. وكذلك كانت دية الملوك فى الجاهليّة. وديات من قتل معهم من الجنود لكلّ رجل مائة ناقة، فقبل تبّع ما بذلوه وانصرف إلى أرضه ووقع الشرّ بين الحيّين: ربيعة ومضر، فأرسلت ربيعة إلى تبّع رسلا فعقد بينهم حلفا وعقدا، وهو الحلف الباقى بين ربيعة واليمن إلى أن جاء الإسلام. وأقام تبّع هذا بأرض الشام ما شاء الله، ثم سار إلى الهند فى البحر وباشر الحرب بنفسه فبرز

اليه ملك الهند، وهو ابن فوز الذى قتل الإسكندر أباه فقتله تبّع بيده، وتحصّنت اليهود بمدينتهم وحاصرهم تبّع شهرا حتى سألوه الأمان فآمنهم وقفل إلى بلاده. ثم ملك بعده ابنه حسّان بن تبّع. قال: فغزا العراق فى ثلاثمائة ألف وأتى فى طريقه مكة، وقد عادت إليها خزاعة عند وفاة فهر بن مالك، فأعطاه بنو نزار الطاعة. وروى عنه شعر يخبر فيه ببعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم: شهدت على أحمد أنّه ... رسول من الله بارى النّسم فلو مدّ عمرى إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عمّ قال: ولمّا ورد العراق وجد الفرس وسلطانهم واه وقد مات هرمز وولدت امرأته غلاما، وهو سابور ذو الأكتاف، ومربّيه أحد عظماء الفرس، فلم يقم بضبط الملك؛ فاستقبلوه بالطاعة وأقرّوا له بالخراج، فأقام بالعراق حولا وعزم على غزو الصين فساء ذلك حمير وقالوا: نغيب عن أولادنا وعيالنا ولا ندرى ما يحدث بهم، فمشوا إلى عمرو أخى حسّان الملك وبعثوه على قتل أخيه على أن يملّكوه عليهم ويعود بهم الى بلادهم، وأعطوه العهود والمواثيق إلّا رجل يقال له ذو رعين، فقال لهم: إنكم إن قتلتم ملككم ظلما خرج الأمر منكم فلم يحفلوا به، فأقبل بصحيفة مختومة وقال لعمرو بن تبّع: لتكن هذه الصحيفة وديعة لى عندك الى وقت حاجتى إليها، وأقبل عمرو ليلا الى أخيه حسّان وهو نائم فى فراشه فقتله وانصرفت حمير الى بلادها. هكذا نقل ابن حمدون فى تذكرته. وقال أبو علىّ أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم فى أخبار الفرس: إنّ ملك الفرس يوم ذاك هو قباذ بن فيروز وهو أبو كسرى أنو شروان، وإنّ الملك الذى غزاه من ملوك حمير هو تبّع والد حسّان، وكان معه لما غزا

الفرس ابنه حسّان وابن أخيه شمر. قال: فسار تبّع حتى نزل الحيرة ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح الى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله. قال: ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح وابنه حسّان إلى الصّغد وقال: أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كلّ واحد منهما فى جيش عظيم يقال إنهما ستمائة ألف وأربعون ألفا، وبعث ابن أخيه- واسمه يعفر- إلى الروم. قال: فأمّا يعفر فإنه سار حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والأتاوة ومضى إلى رومية فحاصرها، ثم أصابهم جوع ووقع فيهم الطاعون فتفرّقوا، وعلم الروم بذلك فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. وأمّا شمر ذو الجناح فإنه سار حتى انتهى إلى سمرقند فحاصرها فلم يظفر منها بشئ، فلمّا رأى ذلك طاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها فاستمال قلبه ثم سأله عن المدينة وملكها فقال: أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الأكل والشرب والجماع، ولكن له بنت هى التى تقضى أمر الناس، فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه، ثم بعث معه هديّة إليها وقال: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذى بلغنى من عقلها لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وإنّى لم أجئ ألتمس مالا، وإنّ معى من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لى الأرض كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. فلمّا انتهت رسالته إليها قالت: قد أجبته فليبعث بالمال، فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، فى كلّ تابوت رجلان، وكان بسمرقند أربعة أبواب على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. قال: وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدّم بذلك الى رسله الذين وجّههم، فلمّا صاروا

بالمدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا وأخذوا بالأبواب، ونهد «1» شمر فى الناس فدخل المدينة وقتل أهلها، واحتوى على ما فيها. ثم سار إلى الصين فلقى الترك فهزمهم، وانتهى إلى حسّان بن تبّع بالصين فوجده قد سبقه إليها بثلاث سنين. قال: وفى بعض الروايات وهى المجتمع عليها: إنّ حسّان وشمرا انصرفا فى الطريق الذى كانا أخذا فيه حتى قدما على تبّغ بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطّيب والسّبى، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم، فكانت وفاة تبّع باليمن. وكان ملكه مائة سنة وإحدى وعشرين سنة. قال: وأمّا فى الرواية الأخرى فإنّ تبّعا أقام وواطأ ابنه حسّان وابن أخيه شمر أن يملكا الصين ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار، فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر فى ليلة. قال: وقد ذكر بعض الرّواة أنّ الذى سار فى المشرق من التبابعة تبّع الأخير؛ وهو تبّع تبّان أسعد أبو كرب بن مليك بن زيد بن عمرو بن ذى الأذعار، وهو أبو حسّان. انتهى ما أورده ابن مسكويه من أخبارهم، فلنرجع إلى مساق ما قدّمناه مما نقله ابن حمدون. قال: ثم ملك بعده حسّان بن تبّع أخوه، فقتله عمرو بن تبّع. قال: وانصرف بالقوم إلى بلادهم فسلّط الله عليه السّهر فكان لا ينام، فجمع الكهنة والقياف والعرّافين فسألهم عن ذلك فلم يعرفوه، فقال له رجل منهم: إنه يقال من قتل أخاه ظلما سلّط الله عليه السهر وحرم النوم، فأحال بالذنب على حمير وجعل يقتل من أشار عليه بقتل أخيه واحدا بعد واحد، ثم أرسل إلى ذى رعين ليلحقه بمن قتل من

أصحابه، فقال: أيّها الملك إنّى خالفت القوم فيما زيّنوا لك من قتل أخيك. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: الصحيفة التى أودعتها عندك، فأخرجها فقرأها فإذا فيها: ألا من يشترى سهرا بنوم ... خلىّ من يبيت قرير عين فإن تك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذى رعين قال: فخلّى عمرو سبيله. قال: ولمّا قتل عمرو أشراف قومه وصناديدهم تضعضع أمر حمير ووهى ملكها، فطمع فيه بنو كهلان بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، فوثب ربيعة ابن نصر بن الحارث بن عمرو بن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان فى قومه وجمعهم من أقطار الأرض، وجمع له عمرو بن تبّع والتقوا فقتل عمرو بن تبّع. وملك بعده ربيعة بن نصر المقدّم ذكره قال: وكان قد رأى رؤيا أزعجته وعبّرت له أنّ الحبشة تملك بلاده؛ فوجّه ابن أخيه جذيمة بن عمرو بن نصر ومعه ابنه عدىّ بن ربيعة وهو صبىّ، ووجّه معهما حرمه وخزائنه، وكتب لهم الى سابور ذى الأكتاف، فأسكنهم سابور الحيرة وملّكهم ما حولها. قال: ولمّا بلغ عدىّ بن ربيعة الحلم زوّجه جذيمة أخته رقاش فولدت له عمرو بن عدىّ. وهؤلاء ملوك الحيرة على ما نذكره فى أخبارهم. قال: ولمّا مات ربيعة بن نصر تجّمعت حمير فآذنت كهلان بحرب أو إعادة الملك فيهم، ودخل بينهم السفراء فسلّموا الملك الى حمير فملّكت حمير عليها أبرهة ابن الصّبّاح بن لهيعة «1» بن شيبة الحمد بن مرثد بن الحير بن سيف بن مصلح

ابن عمرو بن مالك بن زيد بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سعد ابن زرعة بن ذى المنار. قال: فملك عليهم ومكث طول أيّام سابور ذى الأكتاف ثم مات. فملك بعده ابن عمه صهبان بن محرّث. قال: فبعث عمّاله على أرض العرب، واستعمل على ولد سعد بن عدنان ابن خاله الحارث بن عمرو بن معاوية بن كندة ابن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان، وكان الحارث يلقّب بآكل المرار، وهو جدّ امرئ القيس الشاعر بن حجر بن الحارث، وهو جدّ الأشعث بن قيس ابن معد يكرب بن جبلة بن عدىّ بن الحارث المذكور؛ فقسّم الحارث مملكته بين ولده، وكانوا ثلاثة: فملّك ابنه حجرا على أسد وكنانة، وملّك شرحبيل على قيس وتميم، وملّك [سلمة «1» ] على ربيعة، فمكثوا كذلك حينا حتى مات أبوهم الحارث فوثبت بنو أسد على حجر فقتلوه، ووثبت قيس وتميم على شرحبيل فطردوه، فغضب صهبان وتجهّز للمسير الى مضر، فاستغاثت مضر بربيعة وجاءت وفودهم إليهم واستنصروهم، ورئيسهم كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، واجتمعت ربيعة ومضر والرياسة على الحّيين لكليب؛ فقاتلوا صهبان وعظماء قومه، وهو اليوم المشهور فى العرب، فقتل صهبان. وفى هذا اليوم يقول عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد فى خزاز «2» ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنوا أبينا

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا قال: ولمّا قتل صهبان بن محرّث ملك بعده الصّبّاح بن أبرهة بن الصّبّاح. قال: وكان نجدا جلدا، فسار الى معدّ فى مئتى ألف يطلب ثأر صهبان. قال: وتجّمعت معدّ ورئيسهم كليب أيضا، وكانت الحرب بينهم بموضع يسمّى الكلاب، فآنهزمت اليمن. وهذان اليومان من مفاخر نزار على اليمن، وامتنعت معدّ بعد ذلك على اليمن حتى قتل كليب بن ربيعة. قال: ولما مات الصّبّاح ملك بعده ابن عمّ له فاسق، وقيل: إن الذى ملك لخنيعة ذو شناتر، قال: ولم يكن من أهل بيت الملك، فأغرى بحبّ الأحداث من أبناء الملوك، فكان يطالبهم بما يطالب به النسوان، وكان لا يسمع بأحد من فتيان العرب وأولاد الملوك حسن الصورة إلّا استدعاه وطالبه بهذا الفعل القبيح، ولم يزل على هذه الطريقة المذمومة حتّى نشأ غلام من أبناء ملوك حمير اسمه زرعة ابن كعب ويدعى ذانواس؛ سمّى بذلك لأنه كان له ذؤابتان تنوسان على عاتقه، وكان وضيئا، فاستدعاه لمثل ما كان يدعو اليه غيره، فجعل تحت إخمصه سكّينا، فلمّا خلا به الملك واثبه ذونواس فقتله ثم حزّ رأسه، وكان له كوّة يشرف منها على عبيده إذا قضى حاجته من الغلام الذى يكون عنده ويضع مسواكا فى فيه، فلمّا قتله ذو نواس جعل السواك فى فيه، وجعل رأسه فى تلك الكوّة التى كان يشرف منها على عبيده، ثم خرج على العبيد فقالوا [له «1» ] : ذو نواس، أرطب أم يباس؟. فقال لهم: سل نخماس، استرطبان ذو نواس. استرطبان لا باس «2» . وتفسير ذلك:

سلوا الرأس التى فى الكوّة تخبركم واتركوا ذا نواس، قال: فأجمعت حمير عليه أمرها وقالوا: ينبغى أن نملّكه لأنه أراحنا من هذا الفاسق. فملك عليهم ذو نواس زرعة هذا. قال: ولمّا ملك واستتبّ له الأمر فارق عبادة الأوثان ودخل فى دين اليهوديّة وقتل من كان فى بلاد اليمن على دين عيسى ابن مريم عليه السلام ممن امتنع من موافقته، ثم قصد نجران وبها عبد الله بن الثامر وأصحابه وهم على دين عيسى عليه السلام، فسألهم الدخول فى اليهوديّة فامتنعوا، فقتل عبد الله بن الثامر بالسيف وأضرم للباقين نارا عظيمة فألقاهم فيها، وهم أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «1» ) . قال: ولم ينج منهم إلا نفر قليل. وكان سبب تهوّده أنّ حمير كان لها بيت نار فيه أصنامهم، وكان يخرج من تلك النار عنق يمدّ مقدار فرسخين، فحضر عنده قوم من اليهود وقالوا: أيها الملك إنّ هذا العنق من النار شيطان، فطلب منهم تبيان ذلك، فنشروا التوراة وقرءوها فتراجع ذلك العنق وطفئت تلك النار، فأعظم ذو نواس ذلك ودخل فى دين اليهوديّة. قالوا: ثم إنّ أحد الناجين من نجران- ويعرف بدوس بن «2» ذى ثعلبان- قصد قيصر ملك الروم مستنجدا به، ومعظّما عنده ما جرى على قومه وهم على دينه، فاعتذر اليه ببعد دياره وقال: سأكتب لك الى ملك على دينك قريب من ديارك، فكتب الى النجاشىّ ملك الحبشة، فلمّا عرض عليه الكتاب وحدّثه بما جرى على أهل ملّته غضب وحمى لأهل دينه، وندب من جنوده سبعين ألف رجل مع

ابن عمّه أرياط «1» ، وتقدّم إليه بأن يقتل كلّ من باليمن على دين اليهوديّة، فركب أرياط فى البحر حتى انتهى الى عدن فأحرق السفن وقال: يا معشر الحبشة، العدوّ أمامكم، والبحر وراءكم، ولا منجى لكم إلّا الصبر حتى تظفروا أو تموتوا كراما. قال: والتقوا واقتتلوا فانهزمت حمير بعد حرب عظيمة وقتل منهم خلقا كثيرا. قال: واقتحم ذو نواس البحر بفرسه وقال: والله الغرق أفضل من أسر السّودان، فغرق. وكان ملكه مائتى سنة وستين سنة، وهو آخر من ملك اليمن من قحطان. فجميع ما ملكوا من السنين ثلاثة آلاف سنة واثنتان وثمانون سنة. واستولت الحبشة على ملك اليمن ففرّق أرياط الأموال على أشراف الحبشة وحرم الضعفاء، فجمع أبرهة أحد قوّاد الحبشة جمعا منهم وخرج على أرياط وحاربه فقتله أبرهة بيده واستولى أبرهة على ملك اليمن. ولمّا بلغ خبرهما النجاشىّ غضب لقتل أرياط وحلف لأطأنّ أرض أبرهة سهلها وجبلها برجلى، ولأجزّنّ «2» ناصيته بيدى، ولأهرقنّ دمه بكفّى، وتجهّز للمسير الى أرض اليمن، فبلغ ذلك أبرهة فملأ جرابين من تراب السّهل والجبل، وعمد الى ناصيته فجزّها ووضعها فى حقّ، واحتجم وجعل دمه فى قارورة وختم عليه وعلى الحقّ الذى فيه ناصيته بالمسك، وبعث بذلك الى النجاشىّ وكتب إليه يعتذر مما فعله أرياط وأنه خالف سيرتك فى العدل، وقد بلغنى ما حلفت، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأها هنالك برجلك، وجزّ ناصيتى بيدك، وأهرق دمى بكفّك، وبرّ فى يمينك، ولطّف غضبك عنّى فإنما أنا عبد من عبيدك، وعامل من

عمّالك. فأعجب النجاشىّ عقل أبرهة وأقرّه على مكانه ورضى عنه؛ فبقى الى زمان كسرى أنو شروان وهو صاحب الفيل. وكانت قصّته أنه نظر الى أهل اليمن يتأهّبون للحجّ، فسأل عن أمرهم، فأخبر أنهم يخرجون حجّاجا الى مكة فقال: أنا أكفيهم تجشّم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها بصنعاء فيكون حجّ اليمن إليها، وأمر ببنائها فبنيت. وقد تقدّم وصفها فى الفنّ الأوّل «1» فى المبانى، ونصب عند المذبح درّة عظيمة تضىء فى الليلة الظلماء كما يضىء السّراج، ثم نادى فى أهل مملكته بالحجّ إليها، فغضب العرب لذلك، فانطلق رجلان من خثعم فأحدثا فى البيت الذى بناه ولطّخاه بالعذرة. وقيل: إنّ الذى فعل ذلك رجل من كنانة، فاتّهم أبرهة قريشا بذلك، وكان حينئذ بصنعاء تجّار من قريش فيهم هشام بن المغيرة، فأحضرهم وسألهم عمّن أحدث فى بيعته، فأنكروا أن يكونوا علموا بشىء من ذلك، فقال أبرهة: ظننت أنكم فعلتم ذلك غضبا لبيتكم الذى يحجّ إليه العرب، فقال هشام بن المغيرة: إنّ بيتنا حرز تجتمع فيه السّباع مع الوحوش، وجوارح الطير مع البغاث، ولا يعرض منها شىء لصاحبه، وإنما ينبغى أن يحجّ الى بيعتك هذه من كان على دينك، فأمّا من كان على دين العرب فلا يؤثر على ذلك شيئا. فأقسم أبرهة ليسيرنّ الى البيت فيهدمه حجرا حجرا. فقال له هشام بن المغيرة: إنه قد رام ذلك غير واحد من الملوك فما وصلوا إليه لأنّ له ربّا يمنعه. فخرج أبرهة فى أربعين ألفا وسار بالفيل، فغضبت لفعله همدان وجمعت إليها قبائل من اليمن- وكان ملكهم رجلا من أشراف اليمن يقال له ذو نفر- فاستقبلوه فحاربوه فهزمهم وظفر بذى نفر ملك همدان ونفيل بن

حبيب سيّد خثعم أسيرين فأمر بضرب عنقهما. فقالا: أيها الملك، استبقنا لندلّك على الطريق فإنّا من أدلّ العرب، ففعل ذلك. فلمّا صاروا فى مفرق الطريقين: مكة والطائف، قال ذو نفر لابن حبيب: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود الى بيت الله تعالى فيهدمه! قال ابن حبيب: هلّم بنا لنأخذ به طريق الطائف فيشتغل بثقيف ولعلّه يرى ما يسوءه، فلم يشعر أهل الطائف صباحا إلّا والجيوش قد وردت عليهم، فخرج أبو مسعود الثقفىّ فى نفر منهم، فأعلم أبرهة أنها ليست طريقه، وسار أبرهة حتى أتى مكة واستاق السوائم ونزل على حدّ الحرم؛ فكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطّلب بن هاشم، فركب عبد المطّلب فرسه وقصد العسكر ودخل على أبرهة فأعجبه جماله وأكرمه ونزل عن سرير كان عليه وجلس دونه حتى لا يرفع عبد المطلب إليه، ثم قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتى أن يردّ علىّ الملك مائتى بعير أصابها لى. فلمّا قال له ذلك، قال له أبرهة: قد كان بلغنى شرفك فى العرب وفضلك فأحببتك، ثم دخلت علىّ فرأيت من جمالك ووسامتك ما زادنى حبّا، فنقصت عندى فى سؤالك إياى مائتى ناقة وتركت أن تسألنى فى الرجوع عمّا هممت به من هدم هذا البيت الذى هو شرفك وعزّك! قال عبد المطلب: أيها الملك، إنّ لهذا البيت ربّا سمينعه منك وأنا ربّ إبلى، وقد رام هدمه من لا يحصى من الملوك فرجعوا بين أسير وقتيل، فردّ إبله؛ واجتمع الى عبد المطّلب أشراف قومه فقالوا: اجعل له مالا نجمعه له ليرجع عما همّ به من هدم هذا البيت. قال لهم عبد المطلب: وما عيسى أن نجعل له من المال مع عظم ما هو فيه من الملك والسلطان! اطمئنّوا، الله أمددكم «1» ، فو الله لا يصل إليه أبدا. ثم أنشد عبد المطلب يقول: يا ربّ إنّ المرء يمنع ... جاره فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم ... بغيا وما جمعوا محالك إن كنت تاركهم وقب ... لمتنا فأمر ما بدالك «1» ثم علا جبل أبى قبيس هو وحكيم بن حزام ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برءوس الجبال، وأمّ أبرهة البيت وقدّم أمامه الفيل، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة محمود؛ فلمّا انتهى الفيل إلى طرف الحرم برك، فكانوا ينخسونه، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا أقحموه برك. فلم يزل كذلك بقيّة يومهم. فلمّا قارب المساء نظروا إلى طير قد أقبلت من نحو البحر لا تحصى كثرة أصغر من الحمام، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها ولا رأوا على خلقتها طيورا، وكان مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران فى رجليه، وحجر فى منقاره، على مقدار الحمص، فرفرفت على رءوسهم وأظّلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم، وهبّت ريح شديدة فزادت الحجارة صعوبة وقوّة، فكان الحجر منها إذا وقع على رأس الرجل منهم نفذ حتى يخرج من دبره، فإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره؛ فكان ما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم فى سورة الفيل: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «2» ) . وخرج عبد المطّلب وأصحابه فملأوا أيديهم من المال، وأرسل

ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك إلى حمير

إلى قريش فجاءوه من الجبال وغنموا ما شاءوا، فعظمت قريش فى أعين العرب وسمّوهم آل الله، وازداد عبد المطّلب وأصحابه شرفا. وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم بخمس وخمسين ليلة. وكان ذلك بعد عشرين سنة من ملك أنو شروان. وملك اليمن بعد أبرهة ابنه يكسوم. ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، وهو الذى زال ملكه على يد سيف بن ذى يزن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك إلى حمير وذلك أنّ حمير لمّا رأت ملك الحبشة قد دام عليهم وتوارثوه فيهم، اجتمع ساداتهم إلى سيف بن ذى يزن- وهو من أولاد ذى نواس الذى غلب الحبشة على اليمن فى أيام ملكه- وبذلوا له أن يجمعوا له نفقة تقيمه ليسير إلى بعض الملوك فيستنجده ففعل ذلك، وسار حتى وافى القسطنطينية إلى قيصر ملك الروم، فاستنجده فقال له قيصر: إنّ الجيش على دينى، وما كنت لأعينك عليهم، وأمر له بعشرة ألف درهم، فأبى أن يقبلها وقال: إذا لم تنصرنى فلا حاجة لى إلى مالك. وانصرف إلى كسرى واستنجده، فقال له كسرى: بعدت بلادك عن بلادنا مع قلّة خيرها، إنما فيها الشاء والبعير وما لا حاجة لى فيه. فقال له سيف: لا تزهدنّ أيها الملك فى بلادى فإنها فرضة العرب، وأرض التبابعة الذين ملكوا أقطار أقاليم الأرض، ودان لهم أهل الشرق والغرب. قال كسرى: ما كنت لأغرّر بجندى

فيما لا ينفعنى وأمر له بعشرة آلاف درهم. فلمّا انتهى إلى باب القصر نثرها فى الناس حتى أتى عليها، فبلغ ذلك كسرى فغضب وقال له: ما الذى حملك على استخفافك بصلتى حتى نثرتها فى الناس؟ قال: ما أصنع بالمال وتراب أرضى ذهب وفضّة! ثم خنقته العبرة، فرقّ له كسرى ووعده بالانتصار له، فأشار عليه بعض وزرائه فقال: إنّ فى سجونك بشرا كثيرا ممن استوجب القتل، فمر بإطلاقهم، وقوّهم بالمال والكراع «1» والسّلاح، ووجهّهم مع هذا العربىّ، فإن ظفروا كان ذلك زيادة فى ملكك، وإن قتلوا كان ذلك جزاء عن جرائمهم. فأعجب كسرى هذا الرأى وعمل به وقدّم عليهم وهرز بن كامخان، وكان من فرسان العجم وأهل البيوتات، وقد أناف على المائة من السنين، وكانت عدّتهم ثلاثة آلاف وستمائة رجل، فركبوا البحر فى سبع سفن، وأرسل سيف إلى اليمن ومخاليفها، فأتوه من أقاصى اليمن وأدانيها حتى صاروا فى عشرين ألفا، وتجهّز إليهم مسروق، فلمّا التقيا قال وهرز لسيف: أرنى ملكهم، فأراه إيّاه؛ وهو على فيل وعلى رأسه التاج وفيه ياقوتة حمراء مدلّاة على جبينه، فلبث ساعة ثم تحوّل إلى فرس ثم تحوّل إلى بغلة، فقال وهرز: ذلّ الأسود وباد ملكه، وأنا أرميه فتأمّل الرّمية، فإن رأيت أصحابه تصدّعوا عنه وحاصوا «2» يمينا وشمالا فاعلم أنّى قتلته، وإن لم يتحرّكوا من منازلهم فلم أصنع شيئا؛ ورماه، ففلق السهم الياقوتة نصفين وخرج من مؤخّر رأس مسروق، واضطربت الحبشة وماجوا، وحمل عليهم وهرز ومن معه والعرب فولّوا منهزمين، ودخلوا صنعاء وقتلوا كلّ أسود يوجد فى اليمن. وكتب وهرز إلى كسرى بالفتح، فكتب

ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان

إليه كسرى أن يسأل عن سيف «1» بن ذى يزن، فإن كان من أبناء الملوك فأقرّه على ملكه وانصرف عنه، وإن لم يكن من أبنائهم فاضرب عنقه وأقم فى الأرض متولّيا لهم. قال: فسلّم وهرز إليه ملكه وخلف من كان معه من العجم بصنعاء وانصرف إلى كسرى، وملك سيف اليمن لكسرى، وتداولتها الولاة بعده من قبل كسرى. وكان ملك الحبشة على اليمن اثنتين وسبعين سنة ثم انتزع عنهم. ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان قال عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرّ «2» : ومن أهل اليمن من خرج منها فملك الشام، وهم آل جفنة وأوّلهم: الحارث بن عمرو بن عامر ابن حارثة [بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك «3» ] بن زيد ابن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويكنى الحارث بأبى شمر. ثم تداولها منهم سبع وثلاثون ملكا. ومدّة ما ملكوا من السنين ستمائة سنة وست عشرة سنة إلى أن كان آخرهم جبلة بن الأيهم، وهو الذى تنصّر فى أيام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه بعد أن كان قد أقبل إلى عمرو أسلم.

ثم إنه كان فى الطواف فداس رجل طرف ردائه فلطمه جبلة، فأتى الرجل عمر رضى الله عنه فطلب جبلة ليقيده منه فنتصّر جبلة ولحق بهرقل صاحب القسطنطينية، فأقطعه هرقل الأموال والضياع والرباع، ثم ندم جبلة على ما كان منه وقال: تنصّرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنّفنى منها لجاج ونخوة ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمّى لم تلدنى وليتنى ... رجعت إلى القول الذى قاله عمر ويا ليتنى أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا فى ربيعة أو مضر ويا ليت لى بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومى ذاهب السمع والبصر وحكى أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث إلى هرقل رسولا يدعوه إلى الإسلام أو الى الجزية فأجاب إلى الجزية، فلمّا أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: ألقيت ابن عمّك هذا الذى عندنا- يعنى جبلة- الذى أتانا راغبا فى ديننا؟ فقال: ما لقيته. قال ألقه، قال الرسول: فذهبت إلى باب جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجّاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل. قال: فتلطّفت فى الدخول عليه حتى أذن لى، فدخلت فرأيته أصهب اللحية، وكان عهدى به أسود اللحية والرأس، فأنكرته وإذا هو قد ذرّ سحالة «1» الذهب على لحيته حتى صار أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من الذهب. قال: فلمّا عرفنى رفعنى معه على السرير. قال: وجعل يسألنى عن المسلمين وعن عمر رضى الله عنه؛ فذكرت خيرا وعرّفته أنّ المسلمين كثروا.

ثم انحدرت عن السرير فقال لى: لم تأبى الكرامة التى أكرمناك بها؛ قلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. قال: نعم! صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك من الدنس ولا تبال على ما قعدت. فلمّا سمعته يصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان منّى؟ قلت: نعم. قال: إن كنت تضمن لى أن يزوّجنى عمر ابنته ويولّينى الإمرة بعده رجعت إلى الإسلام. قال الرسول: فضمنت له التزويج ولم أضمن له الإمرة. قال: ثم أومأ إلى خادم كان على رأسه فذهب مسرعا فإذا خدّام قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضّة، وقال لى: كل. فقبضت يدى وقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل فى آنية الذهب والفضّة. قال: نعم! صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل فى الذهب وأكلت فى الخلنج «1» ، ثم جىء بطسات الذهب وأباريق الفضّة فغسل يده فيها وغسلت فى الصّفر «2» ، ثم أومأ إلى خادم فمرّ مسرعا فإذا خدم معهم كراسىّ الذهب مرصّعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن شماله، ثم جاءت الجوارى عليهنّ تيجان الذهب مرصّعة بالجواهر، فقعدن عن يمينه وعن شماله على تلك الكراسى، ثم جاءت جارية كأنها الشمس حسنا على رأسها تاج، على ذلك التاج طائر وفى يدها اليمنى جامة فيها مسك فتيت، وفى يدها اليسرى جامة فيها ماء ورد؛ فأومأت الجارية أو صفّرت بالطائر الذى على تاجها فوقع فى جام ماء الورد

فاضّطرب فيه، ثم أومأت إليه أو صفّرت فوقع فى جام المسك فتمرّغ فيه، ثم أومأت فطار حتى نزل على تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما عليه فى رأسه، فضحك جبلة سرورا به، ثم التفت الى الجوارى اللواتى عن يمينه وقال لهنّ: بالله أضحكننا، فاندفعن يغنّين بخفق عيدانهنّ ويقلن: لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق «1» فى الزّمان الأوّل يسقون من ورد البريص «2» عليهم ... بردى «3» يصفّق بالرّحيق السّلسّل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل أولاد جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية «4» الكريم المفضل قال: فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: أتدرى من يقول هذا؟ قلت لا؛ قال: حسان بن ثابت، ثم أشار الى الجوارى اللواتى عن يساره فقال لهنّ: بالله أبكيننا، فاندفعن يغنّين بخفق عيدانهنّ ويقلن: لمن الدار أقفرت بمعان «5» ... بين أعلى اليرموك «6» فالخمّان «7» ذاك مغنى لآل جفنة فى الدهر ... وحقّ تعاقب الأزمان

ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان

قد أرانى هناك دهرا مكينا ... عند ذى التاج مقعدى ومكانى «1» قال: فبكى حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدرى من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسّان، ثم أنشد: تنصّرت الأشراف الأبيات ثم سألنى عن حسّان أحىّ هو؟ قلت: نعم، فأمر له بكسوة ولى بمثلها، وأمر بمال لحسّان ونوق موقرة برّا ثم قال: إن وجدته حيّا فادفع الهديّة إليه، وإن وجدته ميتّا فادفعها إلى أهله وانحر النّوق على قبره. قال: فلمّا أخبرت عمر بخبره وما اشترط علىّ وما ضمنت له قال: فهلّا ضمنت له الأمر فإذا أفاء الله به قضى الله علينا بحكمه! ثم جهّزنى عمر إلى القسطنطينية إلى هرقل ثانية وأمرنى أن أضمن له ما اشترط، فلمّا دخلت القسطنطينية وجدت الناس قد انصرفوا من جنازته، فعلمت أنّ الشقاء غلب عليه فى أمّ الكتاب. ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان وأوّلهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «2» . وكان قد خرج من اليمن مع عمرو بن عامر حين أحسّوا بسيل العرم، وقد ذكرنا أنّ الملك ربيعة ابن نصر كان قد بعثهم إلى سابور فأسكنهم الحيرة وملكوا ما حولها. والله أعلم. قال: وكان ملك مالك على الحيرة عشرين سنة.

ثم ملك بعده ابنه جذيمة «1» وهو الوضّاح. قال: وكان يقال له ذلك لبرص كان به؛ ويقال أيضا فيه الأبرش، وكان ينزل الأنبار، وكان لا ينادم أحدا من الناس ذهابا بنفسه على الندماء، وكان ينادم الفرقدين فإذا شرب قدحا صبّ [فى الأرض «2» ] لهذا قدحا ولهذا قدحا. ويقال: إنه أوّل من عمل المنجنيق من الملوك، وأوّل من حذيت له النّعال. وأوّل من وقد بين يديه الشمع، وهو الذى قتلته الزّبّاء بحيلة. ثم ملك بعده ابن أخته عمرو بن عدىّ بن ربيعة. قالوا: وعمرو هذا هو الذى استهوته الجنّ دهرا طويلا ثم رجع؛ فبينما مالك وعقيل ابنا فارح وقيل- قالح- يقصدان جذيمة الملك بهديّة إذ نزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها: أمّ عمرو، فتعرّض لهما عمرو، وقد طالت أظفاره وشعره وساءت حالته وهيئته، فجلس إليهما- وكانا يأكلان- فمدّ إليهما يده مستطعما فناولته تلك الجارية طعاما فأكله، ثم مدّ يده ثانية فقالت: إن يعط العبد كراعا يبتع ذراعا! ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكأت «3» سقاءها، فقال عمرو: صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذى لا تصبحينا «4»

فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهما، ففرحا به وأقبلا على خاله- وقد كان جعل الجعائل لمن يأتيه به- فلمّا أتياه به قال جذيمة لهما: لكما حكمكما. فقالا: منادمتك. فكانا كما اختارا، وسار بهما المثل. ويقال: إنهما نادماه أربعين سنة، فما أعادا عليه حديثا مما حدّثاه به مرّة أخرى، بل كانا يحدّثانه بحديث جديد لم يسمعه منهما قبل. وعمرو هذا هو الذى أخذ بثأر خاله جذيمة من الزّبّاء وقتلها. وذلك أنّ قصير ابن سعد كان من غلمان جذيمة قال لعمرو: اضرب ظهرى واقطع أرنبة أنفى واتركنى والزّبّاء، فإنّى سأحتال لك عليها، ففعل به ذلك، ففرّ قصير إلى الزّبّاء وصار فى جملة رجالها وأراها النصح والاجتهاد فى حوائجها، وأنه غاشّ لعمرو ابن عدىّ؛ وجعل يتّجر لها ويذهب لعمرو فى السرّ فيعطيه الأموال فيأتيها بها، كأنّ ذلك من اجتهاده وحذقه فى التجارة حتى اطمأنّت له؛ فذهب إلى عمرو وأخذه وأخذ معه ألفى رجل وجعلهم فى جوالق على ألف جمل، ومعهم دروعهم وسيوفهم وجاء بهم على طريق يقال له الغوير «1» ، ولم يكن يسلكه قبل ذلك، فلمّا قرب من حصنها تقدّم إليها وأعلمها أنه قد أتاها بمال صامت، فأشرفت من أعلى قصرها تنظر إلى الجمال، فرأتها وكأنّها تنزع أرجلها من أوحال لثقل ما عليها، فقالت: «عسى الغوير أبؤسا» . فذهبت مثلا. ثم قالت: ما للمطايا مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا «2» باردا شديدا ... أم الرّجال جثّما قعودا

وقد كان قصير قال لها قبل ذلك كالناصح: ما ينبغى لمثلك «1» إلا أن يكون له موضع ليوم، فإنه لا يدرى ما تحدثه الأيام؛ فأرته سربا فى ناحية قصرها قد نفذت فيه إلى حصن أختها- وكانا على ضفّتى الفرات- قال: فلمّا دخلت الإبل على البوّاب ضجر لكثرتها، حتى إذا كان آخرها طعن فى جوالق بعود كان فى يده، فقابلت الطعنة خاصرة الرجل الذى كان فى الجوالق فحنق فقال البوّاب: لشنا لشنا «2» ؛ أى شىء فى الجوالق، فثارت الرجال من الجوالق بأيديهم السيوف، فهربت الزّبّاء إلى ذلك السّرب فإذا هى بقصير عند النفق ومعه عمرو بن عدىّ، والسيف فى يده، فمصّت خاتما كان فى يدها فيه سمّ ساعة وقالت: «بيدى لا بيد عمرو» . وفى ذلك يقول المتلمس: وفى طلب الأوتار ما حزّ أنفه ... قصير ورام الموت بالسيف بيهس

وعمرو هذا هو الذى يقال فيه: «شبّ عمرو عن الطّوق» . وكانت مدّة ملكه مائة سنة. ثم ملك بعده ابنه امرؤ القيس. فكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده ابنه عمرو بن امرئ القيس وهو محرّق العرب «1» . وكان ملكه خمسا وعشرين سنة، وكانت أمّه مارية التى يضرب المثل بقرطيها. ثم ملك بعده النعمان «2» بن المنذر فارس حليمة «3» ، وهو الذى بنى الخورنق «4» وكردس «5» الكراديس. وكان أعور «6» ، ويقال: إنه أشرف فى بعض الأيّام على ما حول الخورنق فقال: أكّل ما أرى إلى نفاد؟ قيل: نعم. قال: فأىّ خير فى ملك يكون آخره إلى نفاد! ثم انخلع من ملكه ولبس المسوح وسار فى الأرض. وقد ذكره عدىّ بن زيد فقال: وتفكّر ربّ الخورنق إذ أشرف ... يوما وللهدى تفكير سرّه حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرضا «7» والسّدير

فارعوى قلبه وقال: فما غبطة ... حىّ إلى الممات يصير؟ وكان ملكه خمسا وثلاثين سنة. ثم ملك الأسود بن النعمان. فكان ملكه عشرين سنة. ويقال: إنّ الأسود هذا هو الذى انتصر على غسّان وأسر عدّة من ملوكهم، وأراد أن يعفو عنهم، وكان للأسود ابن عمّ يقال له: أبو أذينة، قد قتل آل غسّان له أخا فى بعض الوقائع، فقال قصيدته المشهورة يغرى بهم الأسود بن النعمان: ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدار «1» ما وهبا وأحزم النّاس من إن فرصة عرضت ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا وأنصف الناس فى كلّ المواطن من ... سقى المعادين بالكأس الذى شربا وليس يظلمهم من راح يضربهم ... بحدّ سيف به من قبلهم ضربا والعفو إلّا عن الأكفاء مكرمة ... من قال غير الذى قد قلته كذبا قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد ... رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذّنبا هم جرّدوا السيف فاجعلهم له جزرا «2» ... وأوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا إن تعف عنهم تقول الناس كلّهم ... لم يعف حلما ولكن عفوه رهبا «3» وكان أحسن من ذا العفو لو هربوا ... لكنّهم أنفوا من مثلك الهربا همو أهلّة غسّان ومجدهم ... عال فإن حالوا ملكا فلا عجبا وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلا وابلا يروق العجم والعربا

أيحلبون دما منّا ونحلبهم ... رسلا «1» لقد شرّفونا فى الورى حلبا علام تقبل منهم فدية وهمولا ... فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا فلمّا أنشده هذه القصيدة رجع عن رأيه فى العفو عنهم وقبول الفداء منهم وقتلهم. والله أعلم. ثم ملك بعده المنذر «2» بن الأسود؛ وكانت أمّه ماء السماء «3» . وكانت مدّة ملكه أربعا وثلاثين سنة. ثم ملك بعده عمرو بن المنذر. فكان ملكه أربعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده المنذر بن عمرو بن المنذر. وكان ملكه ستّين سنة. ثم ملك بعده قابوس بن المنذر. فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة. ثم ملك بعده أخوه المنذر بن ماء السماء. ثم ملك بعده النعمان بن المنذر؛ وهو الذى قيل له: «أبيت اللّعن» وهو آخر من ملك من آلهم. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. وها نحن نذكر ما قيل فى سبب ملكه وزواله. قالوا: وكان عدىّ بن زيد العبّادىّ وابنه زيد بن عدىّ سبب ولايته وسبب هلاكه، وذلك أنّ عديّا وأخويه، وهما عمّار وعمرو، كانوا فى خدمة الأكاسرة ولهم من جهتهم قطائع، وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان بعث إلى كسرى أبرويز بعدىّ بن زيد وأخويه ليكونوا فى كتّابه يترجمون له، فلمّا مات

المنذر ترك من الأولاد اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب «1» ، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة كالسيوف «2» فجعل المنذر ابنه النعمان فى حجر عدىّ بن زيد هذا، وجعل ابنه الأسود فى حجر رجل يقال له: عدىّ بن أوس بن مرينا، وبنو مرينا «3» قوم لهم شرف، وهم من لخم، وترك المنذر بقيّة بنيه، وهم عشرة، يستقلّ كلّ واحد منهم بنفسه، وجعل المنذر على أمره كلّه إياس بن قبيصة الطائىّ، فلمّا مات قابوس طلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عدىّ بن زيد فقال له: من بقى من بنى المنذر، وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيّتهم فى ولد هذا الميّت، يعنى المنذر، وهم رجال نجباء؛ فكتب إليهم بالقدوم عليه، فقدموا فأنزلهم، على عدىّ بن زيد، وكان عدىّ يرى موضع النعمان لأنه فى حجره ويختاره على بقيّة إخوته فى الباطن، وهو يظهر لهم خلاف ذلك ويفضّلهم عليه فى الظاهر، ويكرم نزلهم ويخلو بهم ويريهم أنه لا يرجو النعمان، كلّ ذلك، ليطمئنّوا إليه ويرجعوا إلى رأيه، ثم خلا بكلّ منهم على انفراده وقال لهم: إن سألكم الملك: أتكفونى العرب فقولوا: نكفيهم إلّا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز.

قال: وكان عدىّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا، وكان يوصى الأسود ابن المنذر ويقول: قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتى اليك ورغبتى أن تخالف عدىّ بن زيد فيما يشير به عليك، فإنه والله لا ينصح لك أبدا، فلم يلتفت الأسود الى قوله. فلمّا أمر كسرى عدىّ بن زيد أن يدخلهم عليه قدّمهم رجلا رجلا، وكسرى يرى رجالا قلّما رأى مثلهم، فإذا سألهم هل تكفونى العرب قالوا: نكفيك العرب كلّها إلّا النعمان. فلمّا دخل النعمان عليه رأى رجلا دميما قصيرا أحمر الشعر فكلمّه وقال: هل تستطيع أن تكفينى العرب؟ قال نعم، قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: أيّها الملك إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز، فملكه وكساه وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم. فلمّا خرج وملك على العرب قال عدىّ ابن أوس بن مرينا للأسود بن المنذر: دونك فإنك خالفت الرأى. قال: ثم إنّ عدىّ بن زيد صنع طعاما فى بيعة وأرسل الى ابن أوس أن ائتنى مع من أحببت فإن لى حاجة، فأتاه فى أناس فتغدّوا فى البيعة، فقال عدىّ بن زيد لعدىّ بن أوس: يا عدىّ إنّ أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، إنّى عرفت أنّ صاحبك الأسود كان أحبّ إليك أن يملّك من صاحبى النعمان، فلا تلمنى على شىء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد علىّ شيئا لو قدرت عليه ركتبه، وأحبّ أن تعطينى من نفسك ما أعطيك من نفسى، فإنّ نصيبى من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. فقام عدىّ بن زيد الى البيعة وحلف ألّا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يروى عنه خيرا، وحلف عدىّ بن أوس على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا ويبغيه الغوائل ما بقى. وخرج النعمان حتى أتى منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة، فقال عدىّ بن أوس للأسود: إن لم تظفر أفلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّىّ الذى عمل بك ما عمل؟ فقد كنت أخبرتك

أن معدّا لا تنام عن مكرها، وأمرتك أن تخالفه فعصيتنى. قال: فما تريد؟ قال: ألّا تأتيك فائدة من ملكك ولا أرضك إلّا عرضتها علىّ، ففعل. وكان عدىّ بن أوس كثير المال، فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه الى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثرت هداياه عند النعمان صار من أكرم الناس عليه، وصار لا يقضى فى ملكه شيئا إلّا برأى عدىّ بن أوس. فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن أوس عنده تابعوه ولزموه؛ فكان يقول لمن يثق به من أصحاب النعمان: إذا رأيتمونى أذكر عدىّ بن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما يقول ولكنّه لا يسلّم عليه أحد، وإنه يقول: إن الملك- يعنى النعمان- إنما هو عامله، وإنه هو الذى ولّاه ما ولّاه. فلم يزالوا بهذا وأشباهه حتى أضغنوا النعمان عليه. ثم إنهم كتبوا كتابا عن عدىّ الى قهرمان «1» كان له، ودسّوا من أخذ الكتاب وأتى به النعمان فقرأه فغضب، وأرسل إلى عدىّ بن زيد يقول: عزمت عليك إلّا زرتنى فإنى قد اشتقت إليك، وكان عند كسرى، فاستأذنه فى زيارة النعمان فأذن له، فلمّا أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه، فجعل يقول الشعر ويستعطفه به، فكان مما قاله: أبلغ النّعمان عنّى مألكا «2» ... إنه قد طال حبسى وانتظارى لو بغير الماء حلقى شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصارى «3»

وقال أشعارا كثيرة كانت تبلغ النعمان فندم على حبسه وعلم أنه كيد فيه، فكان يرسل إليه ويعده ويمنّيه، فلمّا طال سجنه وأعياه التضرّع إلى النعمان كتب الى أخيه أبىّ- وهو عمّار- وهو مع كسرى يخبره بحاله، ويبعثه على السعى فى خلاصه، فدخل أبىّ على كسرى وكلّمه، فكتب إلى النعمان فى أمره وبعث رسولا بكتابه، فقال له أبىّ: إبدأ بعدىّ وانظره قبل أن تجتمع بالنعمان، ورشاه على ذلك، ففعل الرسول ذلك ودخل الى الحبس واجتمع بعدىّ وقال له: ما تحبّ أن أصنع؟ قال: أحبّ ألّا تخرج من عندى، وأعطنى كتاب كسرى لأرسله من قبلى. قال: لا أستطيع ذلك. قال: فإنك إن خرجت من عندى قتلت. فقال: لا بدّ أن آتى النعمان وأوصّله الكتاب من يدى، فانطلق إلى النعمان وأوصله الكتاب فقبّله وقال: سمعا وطاعة، ووصله بأربعة آلاف مثقال [ذهبا «1» ] وجارية [حسناء «2» ] وقال: إذا كان من غد فادخل عليه وأخرجه بنفسك. وكان أعداء عدىّ أتوا النعمان وأخبروه أنّ رسول كسرى دخل إلى عدىّ وأنه إن خرج من الحبس لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك، فأمرهم النعمان بقتله، فدخلوا عليه لمّا خرج الرسول من عنده وغمّوه «3» حتى مات، فلمّا أصبح الرسول دخل السجن فقال له الحرس: إنّ عديّا قد مات منذ أيام، ولم نجرؤ أن نخبر النعمان فرقا منه لعلمنا بكراهيته لذلك، فرجع الرسول إلى النعمان فقال:

إنّى كنت بدأت به فدخلت عليه وهو حىّ. فقال له النعمان: يبعثك الملك إلىّ فتدخل إليه قبلى، كذبت! ولكنّك ارتشيت وتهدّده، ثم استدعاه بعد ذلك وزاده جائزة وكسوة واستوثق «1» منه وصرفه الى كسرى. فلمّا رجع إليه قال له: قد مات قبل مقدمى على النعمان. قال: ثم ندم النعمان على قتل عدىّ ندما شديدا واجترأ أعداء عدىّ على النعمان وهابهم، ثم ركب النعمان فى بعض أيّامه للصّيد فلقى ابنا لعدىّ بن زيد، فكلّمه فإذا هو غلام ظريف ففرح به النعمان وقرّبه ووصله واعتذر إليه، ثم جهّزه «2» الى كسرى وكتب إليه: إنّ عديّا كان ممن أعين به الملك فى نصيحته ورأيه، فانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتى، وإنّ الملك لم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا، وقد أدرك له ابن ليس هو دونه، وقد سرّحته إلى الملك فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. فأجابه كسرى إلى ذلك ورتّبه فى وظيفة أبيه، وسأله عن النعمان فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات على منزلة أبيه وأعجب به كسرى. وكان لصاحب هذه الرّتبة على العرب وظيفة فى كلّ سنة من الأفراس والمهارة «3» والكمأة والأقط والأدم وغير ذلك، وهو يلى ما يكتب عن كسرى إلى العرب. قال: ثم تمكّن زيد بن عدىّ بن زيد عند كسرى حتّى كان يجتمع به فى أوقات خلواته، فدخل عليه فى بعض الأيّام فكلّمه فيما دخل بسببه؛ ثم جرى ذكر النساء. وكانت عند الأكاسرة صفات امرأة، ومن رسمهم أن يطلبوا للملك من هى متّصفة

بتلك الصفات. وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنو شروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسّانىّ، فكتب إلى أنو شروان بصفة الجارية فقال: هى معتدلة الخلق، نقيّة اللّون والثّغر، بيضاء قمراء وطفاء «1» دعجاء «2» حوراء عيناء [قنواء «3» ] شمّاء «4» [برجاء «5» ] زجّاء «6» أسيلة الخدّ، [شهيّة المقبّل «7» ] جثلة «8» الشّعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط عيطاء «9» ، عريضة الصدر، كاعب الثدى، ضخمة مشاش «10» المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طىّ البطن، خميصة الخصر، غرثى «11» الوشاح، رداح «12» الأقبال، رابية الكفل، مفعمة الساق «13» ، لفّاء الفخذين. ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين «14» ، عظيمة الركبة، مشبعة «15» الخلخال، لطيفة

الكعب [والقدم، قطوف المشى «1» ] ، مكسال «2» الضّحى، بضّة «3» المتجرّد، سموع للسيّد، ليست بخنساء «4» ولا سفعاء «5» ، رقيقة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذّ فى بؤس، حييّة رزينة، حليمة ركينة «6» ، كريمة الخال، تقتصر «7» بنسب أبيها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب «8» فى الأدب، رأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة «9» اللسان، رهوة «10» الصوت [ساكنته 1» ] ، تزين البيت «12» وتشين العدوّ إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق «13» عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة [إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست «14» ] . فقبلها أنو شروان وأمر بإثبات هذه الصفة فى ديوانه، «15» فكانت تتوارث

حتى انتهى الملك إلى كسرى أبرويز بن هرمز. فلمّا قرئت هذه الصفة عليه قال له زيد بن عدىّ: أيها الملك، أنا أخبر بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. فقال له كسرى: اكتب فيهنّ إليه. فقال: أيها الملك، إنّ شرّ شىء فى العرب وفى النعمان [خاصّة «1» ] أنهم يتكرّمون-[زعموا «2» ] فى أنفسهم- عن «3» العجم، فابعثنى اليه وابعث معى رجلا [من ثقاتك «4» ] يفقه العربية. فبعث معه رجلا جلدا [فهما «5» ] ، فخرج به زيد حتى أتى الحيرة ودخل على النعمان؛ فلما دخل عليه عظّم الرسول أمر كسرى وقال له: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده فأراد كرامتك [بصهره «6» ] وبعث إليك فيهنّ. فقال النعمان: وما صفة هؤلاء النّسوة؟ قال: هذه صفتهنّ قد جئناك بها، وقرأها على زيد بن عدىّ، فشقّ ذلك على النعمان وقال لزيد وللرسول: أما فى مها السّواد وعين فارس ما تبلغون به حاجتكم؟ فقال الرسول لزيد: ما المها والعين؟ قال: البقر. فقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أنّ ذلك يشقّ عليك لما كتب إليك، فأنزلهما [يومين عنده «7» ] ثم كتب الى كسرى. إنّ الذى طلب الملك ليس عندى. ثم قال لزيد: أعذرنى عنده. فلمّا رجعا الى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتنى به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنّتهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم، فسل هذا الرسول عن مقالة النعمان فإنى أكره أن أواجه الملك بما قاله، فقال للرسول: وما قال؟ قال إنه قال: أما فى بقر السواد [وفارس «8» ] ما يكفى الملك حتى يطلب

ما عندنا! فعرف الغضب فى وجه كسرى ثم قال: ربّ عبد قد قال هذا فصار أمره الى التّباب «1» ، فبلغ كلامه النعمان. وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وهو «2» يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه، فانطلق النعمان حتى أتى جبال طيّىء وهو متزوّج «3» منهم، فأرادهم أن يمنعوه فأبوا ذلك وقالوا: لولا صهرك لقتلناك، فإنه لا حاجة لنا فى معاداة كسرى، فأقبل يعرض نفسه على العرب فلا يقبلوه، حتى نزل بذى قار «4» ببنى شيبان سرّا فلقى هانئ بن قبيصة [بن هانئ «5» ] بن مسعود فأودعه سلاحه وتوجه إلى كسرى فلقى زيد بن عدىّ على قنطرة ساباط «6» ، فقال له: انج نعيم! فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن أفلت لأسقينّك بكأس أبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخيّة «7» لا يقطعها المهر الأرن «8» . قال: فلما بلغ كسرى أنه بالباب أمر به فقيّد وأبعده الى خانقين «9» ، فلم يزل بالسجن حتى مات بالطاعون.

قال ابن مسكويه فى كتاب تجارب الأمم: والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى «1» . والصحيح ما قلناه. وقال ابن عبدون: إنّ النعمان لمّا أقبل «2» الى المدائن «3» صفّ له كسرى ثمانية آلاف جارية عليهنّ المصبّغات وجعلهنّ صفّين، فلمّا صار النعمان بينهنّ قلن له: أما فينا للملك غنى عن بقر السّواد؟ وأنّ كسرى أمر بالنعمان فحبس بساباط المدائن، ثم أمر به فرمى بين أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. وفى ذلك يقول سلامة بن جندل «4» وذكر [قتل «5» ] كسرى أبرويز [للنّعمان «6» ] فقال: هو المدخل النّعمان بيتا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق «7» ثم ملك بعده إياس بن قبيصة وأتى الله تعالى بالإسلام. فهؤلاء ملوك العرب باليمن والشام والحيرة.

ذكر خبر سد مأرب وسيل العرم

ذكر خبر سدّ «1» مأرب وسيل العرم قد ذكر الله عزّ وجلّ ذلك فى كتابه العزيز فقال: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «2» آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) » الآية. روى عن فروة «4» بن مسيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لمّا أنزل فى سبأ ما أنزل قال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ فقال: «ليس بأرض ولا امرأة، ولكنّه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة، وأمّا الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون «5» وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم وبجيلة» . أخرجه أبو داود فى سننه والترمذىّ فى جامعه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن متّصلة العمارة مسيرة ستّة أشهر، وقيل أزيد من شهرين للراكب المجدّ، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة ستّة أشهر؛

فكانت المرأة إذا أرادت أن تجتنى من ثمارها [شيئا «1» ] وضعت المكتل «2» على رأسها وخرجت تمشى بين الأشجار وهى تغزل وتعمل ما شاءت، فلا ترجع إلّا وقد امتلأ مكتلها مما يتساقط فيه من الثمار. واختلف فى مأرب، فقيل: إنه اسم ملك تلك الأرض فسمّيت به، قال الشاعر «3» : من سبأ «4» الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقيل: هو اسم لقصر الملك، وفيه يقول أبو الطّمحان: ألم تروا مأربا ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان قال: وكان أوّل من خرج من اليمن بسبب سيل العرم عمرو بن عامر مزيقيا، وقد ذكرناه فى الأنساب «5» ، وإنّ سبب تسميته مزيقيا أنه كان يلبس فى كلّ يوم حلّة وقيل حلّتين، وهو الأشهر، ثم يمزّقهما عشيّة نهاره لئّلا يلبسهما غيره، فكان هذا دأبه فى كلّ يوم.

وكان سبب خروجه من اليمن واطّلاعه على خبر سيل العرم قبل حدوثه دون غيره من الناس أنه كان له امرأة كاهنة يقال لها: طريفة الخير، وكانت قد رأت فى منامها أنّ سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم أصعقت فأحرقت كلّ ما وقعت عليه، ففزعت طريفة الخير لذلك فزعا شديدا وأتت إلى زوجها عمرو بن عامر وقالت: ما رأيت اليوم أزال عنى النوم. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت غيما أرعد وأبرق طويلا ثم أصعق فما وقع على شىء إلّا احترق. قال: فلمّا رأى ما داخلها من الرّوع والفزع سكّنها. ثم إنّ عمرا بعد ذلك دخل حديقة له ومعه جارية من بعض جواريه، فبلغ ذلك امرأته طريفة فخرجت إليه ومعها وصيف لها اسمه سنان «1» ، فلمّا برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلها، واضعات أيديها على أعينها. قال: والمناجد: دوابّ تشبه اليرابيع «2» . فلمّا نظرت طريفة إليها قعدت الى الأرض ووضعت يديها على عينيها وقالت لغلامها: إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرنى، فلمّا ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعة، فلمّا عارضها خليج الحديقة التى فيها عمرو وثبت سلحفاة من الماء فوقعت فى الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب ولا تستطيع، وتستعفر بيديها وتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول. فلمّا رأتها طريفة الخير جلست إلى الأرض. فلمّا عادت السّلحفاة إلى الماء مضت طريفة حتى دخلت الحديقة على عمرو حين انتصف النهار فى ساعة شديدة الحرّ فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح، فلمّا رآها عمرو استحيى منها وأمر الجارية بالتنحّى

ثم قال لها: ما أتى بك يا طريفة؟ فكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إنّ الشجر لهالك، وليعودنّ الماء كما كان فى الزمن السالك. قال لها عمرو: ومن خبّرك بهذا؟ قالت: أخبرنى المناجيد بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد. قال: فما تقولين؟ قالت: أقول قول النّدمان لهفا، لقد رأيت سلحفاة تجرف التراب جرفا، وتقذف بالبول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكافأ. قال عمرو: وما ترين فى ذلك؟ قالت: هى داهية دهياء من أمور جسيمة، ومصائب عظيمة. قال: وما هو ويلك؟ قالت: أجل، إنّ فيه الويل، ومالك فيه من نيل، وإنّ الويل فيما يجىء به السيل. فألقى عمرو نفسه على فراشه وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: هو خطب جليل، وخزى طويل، وخلف قليل، والقليل خير من تركه. قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب الى السدّ فإن رأيت جرذا يكثر يديه فى السدّ الحفر، ويقلب برجليه مراجل الصّخر، فاعلم أن الغمر غمر «1» ، وإن [قد «2» ] وقع الأمر. قال: وما هذا الذى تذكرين؟ قالت: وعد من الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نكل. قال: فانطلق عمرو الى السدّ فحرسه فإذا لجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع إليها وهو يقول: أبصرت أمرا عادنى منه ألم ... وهاج لى من هوله برح السّقم من جرذ كفحل خنزير الأجم ... أو كبش صرم من أفاويق الغنم يقلب صخرا من جلاميد العرم ... له مخاليب وأنياب قضم ما فاته صخر من الصخر قصم

فقالت طريفة: وإنّ من علامة ما ذكرت لك أن تجلس فتأمر بزجاجة بين يديك؛ فإنّ الريح تملأها بتراب البطحاء من سهل الوادى ورمله، وقد علمت أنّ الجنان مظلّلة ما يدخلها شمس ولا ريح. فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه فلم تمكث إلّا قليلا حتى امتلأت من تراب البطحاء. فقال لها عمرو: متى يكون هلاك السدّ؟ فقالت: فيما بينك وبين سبع سنين. فقال: ففى أيّها يكون؟ فقالت: لا يعلم ذلك إلّا الله، ولو علمه أحد لعلمته، ولا تأتى علىّ ليلة فيما بينى وبين السبع سنين إلّا ظنت أنّ هلاكنا فى غدها أو مسائها. ثم رأى عمرو بعد ذلك فى منامه سيل العرم وقيل له: آية ذلك أن ترى الحصباء «1» قد ظهرت فى سعف النخل وكربه «2» ، فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنّ ذلك واقع، وأنّ بلادهم ستخرب لا محالة؛ فكتم ذلك وأخفاه وأجمع على بيع كلّ شىء له بأرض مأرب ويخرج منها هو وولده، ثم خشى أن ينكر الناس حاله فصنع وليمة جمع الناس لها وقرّر مع أحد أولاده أنه يأمره بأمر فى ملأ القوم فيخالفه فإذا لطمه عمرو فيلطمه الآخر، ففعل ذلك. فلمّا لطمه ابنه- وكان اسمه مالكا- صاح عمرو: واذلّاه! يوم فخر عمرو يهينه صبىّ ويضرب وجهه! وحلف ليقتلّنه، فسأله القوم ألّا يفعل، فحلف ألّا يقيم بموضع صنع به فيه هذا، وليبيعنّ أمواله حتى لا يورث بعده. فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه جميع ما هو له بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فباع أناس من الأزد، فلما كثر البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء، فلمّا اجتمعت لعمرو أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من اليمن، وخرج

لخروجه منها خلق كثير فنزلوا أرض عكّ حتى مات عمرو بن عامر وتفرّقوا بعده فى البلاد؛ فمنهم من صار الى الشام، وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر، ومنهم من صار الى يثرب، وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر، وصارت أزد الشّراة الى أرض الشّراة، وأزد عمان الى عمان، ومالك بن فهم الى العراق. ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيّىء فنزلت بجبلى طيّىء: أجا وسلمى، ونزل ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر تهامة، وسمّوا خزاعة لانخزاعهم [من أخواتهم «1» ] ، وتمزّقوا فى البلاد كما أخبر الله تعالى عنهم فقال: (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ثم أرسل الله عزّ وجلّ السيل على السدّ فهدمه. واختلف فى العرم ما هو؟ فقيل: السدّ واحدته عرمة، وقيل: هو الجرذ. وكان السدّ فيما يذكر قد بناه لقمان الأكبر بن عاد، وكان صفّه لحجارة السدّ بالرّصاص فرسخا فى فرسخ. ويقال: إنّ الذى بناه كان من ملوك حمير. وقد ذكر ذلك ميمون. ابن قيس الأعشى فقال: وفى ذلك للمؤتسى أسوة ... ومأرب عفّى عليها العرم رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء موّاره لم يرم فصاروا أيادى ما يقدرون ... منه على شرب طفل فطم فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤها إذ قسم

الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الخامس

الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أيام العرب ووقائعها فى الجاهليّة، وأنها لمن مآثرها السنيّة، واذا تأمّلها المتأمّل دلّته على مكارم أخلاقهم وكرم نجارهم، وحقّقت عنده أنهم ما أحجموا عن طلب أوتارهم، وعلم مكافأتهم للأقران، وسماحتهم بالنفوس والأبدان، وإقدامهم على الموت، ومبادرتهم عند الإمكان خشية الفوت. وقيل لبعض الصحابة رضى الله عنهم: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم فى مجالسكم؟ فقال: نتناشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليّتنا. وقال بعضهم: وددت أنّ لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا فى الجاهليّة. ألا ترى أنّ عنترة الفوارس جاهلىّ لا دين له، والحسن بن هانئ إسلامىّ، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع ابن هانئ دينه، فإنّ عنترة يقول: وأغضّ طرفى إن بدت لى جارتى ... حتى يوارى جارتى مأواها وقال أبو نواس الحسن بن هانئ: كأنّ الشباب مطيّة الجهل ... ومحسّن الضّحكات والهزل والباعثى والناس قد هجعوا «1» ... حتى أبيت خليفة البعل وسأذكر من وقائعهم ما يقوّى الجنان، ويبعث الجبان.

ذكر وقعة طسم وجديس

ذكر وقعة طسم وجديس وطسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وجديس بن عابر بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام، وهم العرب العاربة، على ما ذكر بعض المؤرّخين. وكان منزلهما اليمامة «1» ، واسمها فى وقتهم جوّ؛ وكان الملك عليهما رجلا من طسم يقال له: عمليق، وكان غشوما ظلوما. وكان سبب فنائهما أنّ عمليقا أتته ذات يوم امرأة اسمها هزيلة بنت مازن مع زوج لها اسمه ماش «2» . وكان قد طلّقها وأراد أخذ ولده منها، فترافعا إليه ليحكم بينهما، فقالت هزيلة: «أيها الملك، هذا ابنى حملته تسعا، ووضعته دفعا، وأرضعته شفعا، ولم أنل منه نفعا، حتى إذا تمّت أوصاله، واستوت خصاله «3» ، أراد أن يأخذه منّى قهرا «4» ويسلبنيه سرّا، ويترك يدى منه صفرا» . فقال الزوج: «قد أخذت المهر كاملا، ولم أنل منك طائلا، إلّا ولدا «5» جاهلا، فافعل ما كنت فاعلا» . فأمر الملك أن يجعل الولد فى غلمانه، فقالت هزيلة: أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأبرم حكما فى هزيلة ظالما لعمرى لقد حكّمت «6» لا متورّعا ... ولا فهما عند الحكومة عالما ندمت فلم أقدر على متزحزح ... وأصبح زوجى عاثر الرأى نادما

فلمّا بلغ عمليقا ذلك غضب وأقسم أنه لا تهدى عروس فى جديس لبعلها حتى يكون هو الذى يبدأ بها قبل زوجها. فلم يزل على ذلك دهرا حتى أهديت عفيرة «1» بنت عفار «2» الجديسيّة أخت الأسود بن عفار «3» سيّد جديس إلى بعلها، ويقال: إنّ اسمها الشّموس، فحملت إلى عمليق، فلمّا افترعها وخلّى سبيلها خرجت على قومها فى دمائها شاقّة جيبها عن قبلها ودبرها وهى تقول: لا أحد أذلّ من جديس ... هكذا يفعل بالعروس يرضى بهذا يا لقومى حرّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر لأخذة الموت كذا لنفسه ... خير من ان يفعل ذا بعرسه ثم قالت تحرّض جديسا على طسم: أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد الرّمل «4» أيصلح تمشى فى الدّماء فتياتكم ... صبيحة زفّت فى النساء إلى البعل فإن كنتمو لا تغضبوا عند هذه ... فكونوا نساء لا تفيق من الكحل ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العرائس وللغسل فلو أننا كنّا رجالا وكنتم ... نساء لكنّا لا نقرّ على الذّلّ فقبحا وسحقا للذى ليس دافعا ... ويختال يمشى بيننا مشية الفحل فموتواء كراما واصبروا لعدوّكم ... لحرب تلظّى بالضّرام من الجزل ولا تجزعوا فى الحرب يا قوم إنها ... تقوم بأقوام كرام على رجل

فاجتمعت جديس فقال لهم الأسود بن عفار، وكان مطاعا فيهم: لتطيعنّنى [فيما آمركم به «1» ] أو لأتّكئنّ على سيفى حتى يخرج من ظهرى. قالوا: فإنّا نطيعك. قال: إنّ طسما ليسوا بأعزّ منكم، ولكن ملك صاحبهم هو الذى يذعننا إليهم بالطاعة، ولو امتنعتم منهم لكان لكم النّصف «2» . قالوا: إنّ القوم أكثر منّا عددا وعددا. قال: إنّى صانع طعاما فأدعوهم إليه، فإذا جاءوكم متفضّلين فى الحلل نهضنا إليهم بأسيافنا. فقالت عفيرة لأخيها: لا تفعل! فإنّ الغدر ذلّة وعار، ولكن كاثروا القوم فى ديارهم فتظفروا أو تموتوا كراما. قال: بل نمكر بهم فنكون أمكن منهم. ثم صنع الأسود طعاما وأمر قومه أن يخترطوا سيوفهم ثم يدفنوها فى الرمل. ودعا عمليقا وقومه، فلمّا أتوا استثارت جديس السيوف وشدّوا عليهم فما أفلت منهم إلّا رياح بن مرّة، ففرّ إلى حسّان بن تبّع فاستغاث به وأخبره بما صنعته جديس بطسم فوعده النصرة، ثم نادى حسّان فى حمير بالمسير وأخبرهم بما صنعت جديس بطسم؛ فقالوا: وما جديس وطسم؟ قال: هما أخوان. قالوا: فما لنا فى هذا من أرب. قال حسّان: أرأيتم لو كان هذا فيكم أكان حسنا لملككم أن يهدر «3» دماءكم. وما علينا فى الحكم إلّا أن ننصف بعضهم من بعض. فقالوا: الأمر أمرك أيّها الملك فمرنا بما أحببت. فأمرهم بالمسير، فساروا حتى إذا كانوا من اليمامة على ثلاث ليال قال رياح بن مرّة لحسّان بن تبّع: أبيت اللعن! إنّ لى أختا متزوّجة فى جديس تنظر الراكب على مسيرة ثلاث ليال وأخاف أن تنذر قومها، فأمر كلّ إنسان أن يقتلع شجرة من الأرض ويجعلها أمامه، فأمرهم حسّان بذلك. ثم ساروا، فنظرت أخت رياح فقالت: يا جديس! لقد سارت إليكم الشّجر. فقالوا لها:

وما ذاك؟ قالت: أرى شجرا، من ورائه بشرا، وإنّى لا أرى رجلا من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا، فكذّبوها وغفلوا عن أخذ أهبة الحرب حتى صبّحتهم حمير. ففى ذلك تقول زرقاء اليمامة: خذوا لهم حذركم يا قوم ينفعكم ... فليس ما قد أراه اليوم يحتقر إنّى أرى شجرا من خلفه بشر ... فكيف تجتمع الأشجار والبشر صفّوا الطوائف منكم قبل داهية ... من الأمور التى يخشى وتنتظر إنّى أرى رجلا فى كفّه كتف ... أو يختصف النّعل خصفا ليس يعتذر «1» ثوروا بأجمعكم فى وجه أوّلهم ... فإنّ ذلك منكم- فاعلموا- ظفر وغوّروا كلّ ماء دون منزلهم ... فليس من دونه «2» نحس ولا ضرر أو عاجلوا القوم عند الليل إن رقدوا ... ولا تخافوا «3» لها حربا وإن كثروا فلمّا كان حسّان على مسيرة ليلة عبّأ جيشه ثم صبّحهم فاستباح اليمامة قتلا وسبيا، وهرب الأسود حتى نزل بطيّىء فأجاروه من كلّ من يطلبه وهم لا يعرفونه. وقبيلته فى طيّىء مذكورة. ثم إنّ حسانا أمر باليمامة فنزع عينيها فإذا فى داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد فثبّت لى بصرى. وقيل: إنها أوّل من اكتحل بالإثمد؛ فأمر بها فصلبت على باب جوّ. وقيل: سمّى جوّ باليمامة من ذلك الوقت. وفى ذلك يقول رياح بن مرّة لمّا أخذ بثأره:

غدر الحىّ من جديس بطسم ... آل طسم كما تدانى تدينى قد أتيناهم بيوم كيوم ... تركوا فيه مثل ما تركونى ليت طسما على منازلها تع ... لم أنّى قضيت عنّى ديونى وقد كرّرت الشعراء قصّة هذه المرأة وجوّ. فمن ذلك قول الأعشى على رواية ابن قتيبة: قالت أرى رجلا فى كفّه كتف ... أو يخصف النّعل لهفى «1» آية صنعا فكذّبوها بما قالت فصبّحهم ... ذو آل حسّان يزجى السمّ والسّلعا «2» فاستنزلوا آل جوّ من مساكنهم ... وهدّموا رافع البنيان فاتّضعا «3» وروى ابن إسحاق: كونى كمثل التى إن غاب «4» واحدها ... أهدت له من بعيد نظرة جزعا ثم أتى بالأبيات التى ذكرها ابن قتيبة. وقال المسيّب بن علس: لقد نظرت عين إلى الجزع نظرة ... إلى مثل موج المقعم المتلاطم إلى حمير إذ وجّهوا من بلادهم ... تضيق بهم لأيا فروج المخارم «5»

ذكر حروب قيس فى الجاهلية يوم منعج لغنى على عبس

وفيها يقول النّمر بن تولب: وفتاتهم عنز غداة تبيّنت ... من بعد مرأى فى الفضاء ومسمع قالت أرى رجلا يقلّب نعله ... تقليب ذى وصل له ومشسّع ورأت مقدّمة الخميس ودونها ... ركض الجياد إلى الصّباح يتّبع ذكر حروب قيس فى الجاهلية يوم منعج لغنىّ على عبس يوم منعج «1» . هو يوم الرّدهة «2» وفيه قتل شأس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسىّ؛ قتله رياح بن الأشلّ «3» الغنوىّ. وذلك أنّ شأسا أقبل من عند النعمان بن المنذر وقد أجزل حباءه. وكان من حبائه قطيفة حمراء ذات هدب «4» وطيب؛ فورد منعجا- وهو ماء لغنىّ- فأناخ راحلته إلى جانب الرّدهة وعليها خباء لرياح بن الأشلّ، وجعل يغتسل وامرأة رياح تنظر إليه، وهو كالثّور الأبيض، فانتزعه رياح بسهم فقتله، وضمّ متاعه ونحر ناقته وأكلها وغيّب أثره. وفقد شأس بن زهير، حتى وجدوا القطيفة الحمراء بسوق عكاظ قد باعتها امرأة رياح، فعلموا أنّ رياحا صاحب ثأرهم، فغزت بنو عبس غنيّا قبل أن يطلبوا قودا أو ديّة، مع الحصين بن زهير ابن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة. فلمّا بلغ ذلك غنيّا قالوا لرياح: انج، لعلّنا

نصالح القوم على شىء [أو نرضيهم بدية «1» ] . فخرج رياح رديفا «2» لرجل من بنى كلاب، وهما يظنّان أنهما قد خالفا وجهة القوم؛ فمرّ صرد «3» على رءوسهما فصرصر، فما راعهما إلّا خيل بنى عبس، فقال الكلابىّ لرياح: انحدر من خلفى والتمس نفقا فى الأرض فإنى شاغل القوم عنك، فانحدر رياح من عجز الجمل حتى أتى ضفّة «4» فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب وولج فيه، ومضى صاحبه، فسألوه فقال: هذه غنىّ جامعة، وقد استمكنتم منهم، فصدّقوه وخلّوا سبيله، فلمّا ولّى رأوا مركب الرجل خلفه فقالوا: من الذى كان خلفك؟ فقال: لا كذب! رياح بن الأشلّ، وهو فى أولئك الصّعدات «5» . فقال الحصينان لمن معهما: قد مكّننا الله من ثأرنا ولا نريد أن يشركنا فيه أحد، فوقفوا عنهما، ومضيا فجعلا يريغان رياحا بين الصّعدات، فقال لهما: هذا غزالكما الذى تريغانه، فابتدراه فرمى أحدهما بسهم فأقصده «6» ، فطعنه الآخر فأخطأه، ومرّت به الفرس، فاستدبره رياح بسهم فقتله ثم أتى قومه. ففى ذلك يقول الكميت بن زيد الأسدىّ، وكانت له أمّان من غنىّ: أنا ابن غنىّ والداى كلاهما ... لأمّين منهم فى الفروع وفى الأصل

يوم النفراوات لبنى عامر على بنى عبس

هم استودعوا زهرا نسيب «1» بن سالم ... وهم عدلوا بين الحصينين بالنّبل وهم قتلوا شأّس الملوك ورغّموا ... أباه زهيرا بالمذلّة والثّكل يوم النّفراوات «2» لبنى عامر على بنى عبس فيه قتل زهير بن جذيمة بن رواحة العبسىّ. وكانت هوازن تؤدّى إليه إتاوة، فأتته عجوز رهيش «3» من بنى نصر بن معاوية بسمن فى نحى «4» ، وشكت سنين تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعّها «5» بقوس فى يده عطل «6» فى صدرها، فاستلقت على قفاها منكشفة «7» ، فتألّى «8» خالد بن جعفر وقال: والله لأجعلنّ ذراعى فى عنقه حتى يقتل أو أقتل. وكان زهير مقداما فتفرّد من قومه ببنيه وبنى أخويه أسيد وزنباع يريغ «9» الغيث فى عشراوات «10» له وشول؛ فأتاه الحارث [بن عمرو «11» ]

ابن الشّريد، وكانت تماضربنة [عمرو بن] الشّريد تحت زهير، فلمّا عرف الحارث مكانه أنذر عليه بنى عامر بن صعصعة رهط خالد بن جعفر، فركب منهم ستّة فوارس فيهم خالد بن جعفر وصخر بن الشّريد وحندج بن البكّاء ومعاوية بن عبادة ابن عقيل فارس الهرّار. ويقال لمعاوية: الأخيل، وهو جدّ ليلى الأخيليّة. فقال أسيد لزهير: أعلمتنى راعية غنمى أنها رأت على رأس الثنيّة أشباحا ولا أحسبها إلّا خيل بنى عامر، فألحق بنا بقومنا. فقال له زهير: «كلّ أزبّ «1» نفور» وكان أشعر القفا، فذهبت مثلا، فتحمّل أسيد بمن معه وبقى زهير وابناه ورقاء والحارث. وصبّحتهم الفوارس فارمدّت «2» بزهير فرسه القعساء ولحقه خالد ومعاوية الأخيل، فطعن معاوية القعساء فقلبت زهيرا، وخرّ خالد فرفع المغفر عن رأس زهير وقال: يالعامر اقتلونا جميعا! وأقبل معاوية فضرب زهيرا على مفرق رأسه ضربة بلغت الدّماغ، وأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا وعليه درعان فلم تغن شيئا، وأجهض «3» ابنا زهير القوم عن زهير واحتملاه وقد أثخنته الضربة فمنعوه الماء فقال: اسقونى وإن كانت نفسى فيه، فسقوه فمات بعد ثالثة من الأيام، فقال فى ذلك ورقاء بن زهير: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول «4» أبادر فشلّت يمينى يوم أضرب خالدا ... ويمنعه منّى الحديد المظاهر

يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر

فياليت أنى قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدنى تماضر «1» لعمرى لقد بشّرت بى إذ ولدتنى ... فماذا الذى ردّت عليك البشائر وقال خالد بن جعفر فى قتله زهيرا: بل كيف تكفرنى هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربّهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر بناتهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائنا وبكارا «2» يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر فيه قتل خالد بن جعفر ببطن عاقل «3» . وذلك أنه قدم على الأسود «4» بن المنذر أخى النعمان ومعه عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر، فالتقى خالد بن جعفر والحارث ابن ظالم بن غيط بن مرّة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث بن ظالم: يا حار، أما تشكر يدى عندك أن قتلت عنك سيّد قومك زهيرا وتركتك سيّدهم؟ فقال: سأجزيك شكر ذلك. فلمّا خرج الحارث قال الأسود لخالد: ما دعاك إلى أن تتحرّش بهذا الكلب وأنت ضيفى؟ فقال: إنما هو عبد من عبيدى، ولو وجدنى نائما ما أيقظنى. وانصرف خالد إلى قبّته فلامه

يوم رحرحان لعامر على تميم

عروة الرّحال، ثم ناما وأشرجت «1» عليهما القبّة، وكان مع الحارث تبيع له من بنى محارب يقال له خراش، فلمّا هدأت العيون أخرج الحارث ناقته وقال الخراش: كن لى بمكان كذا، فإن طلع كوكب الصبح ولم آتك فانظر أحبّ البلاد اليك فاعمد لها؛ ثم انطلق الحارث حتى أتى قبّة خالد فهتك شرجها ثم ولجها وقتله، فنادى عروة عند ذلك: واجوار الملك! فأقبل إليه الناس، وسمع الأسود الهتاف وعنده امرأة من بنى عامر يقال لها: المتجرّدة، فشقّت جيبها. ففى ذلك يقول عبد الله ابن جعدة: شقت عليك العامريّة «2» جيبها ... أسفا وما تبكى عليك ضلالا يا حار لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعشا «3» ولا معزالا «4» واغرورقت عيناى لمّا أخبرت ... بالجعفرىّ وأسبلت إسبالا فلنقتلنّ بخالد سرواتكم ... ولنجعلن للظالمين نكالا فإذا رأيتم عارضا متهلّلا ... منّا فإنّا لا نحاول مالا يوم رحرحان لعامر على تميم ولمّا هرب الحارث بن ظالم ونبت به البلاد لجأ الى معبد بن زرارة فأجاره؛ فقالت بنو تميم لمعبد: مالك أويت هذا المشئوم الأنكد وأغريت بنا الأسود؟ وخذلوه غير بنى ماوية وبنى عبد الله بن دارم. وبلغ الأحوص بن جعفر بن كلاب مكان الحارث بن ظالم، وأنه عند معبد بن زرارة، فغزا معبدا فالتقوا برحرحان «5» فانهزمت

يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم

بنو تميم وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطّفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، فوفد لقيط بن زرارة عليهما فى فدائه فقال لهما: لكما عندى مائتا بعير، فقالا: أبا نهشل، أنت سيّد الناس، وأخوك معبد سيّد مضر فلا تقبل فيه إلا دية ملك، فأبى أن يزيدهم وقال: إنّ أبانا أوصانا ألا نزيد أحدا فى ديتنا على مائتى بعير، وقال: لا توكلوا العرب أنفسكم ولا تزيدوا بفدائكم على فداء رجل منكم، ورحل لقيط عن القوم. قال: فمنعوا معبدا الماء وضاروه حتى مات هزالا. وقيل: بل أبى معبد أن يطعم شيئا أو يشرب حتى مات هزالا. ففى ذلك يقول عامر بن الطفيل: قضينا الجون عن عبس وكانت ... منيّة معبد فينا هزالا وقال جرير: وليلة وادى رحرحان رفعتم «1» ... فرارا ولم تلووا رفيق النّعائم تركتم أبا القعقاع فى الغلّ معبدا ... وأىّ أخ لم تسلموا للأداهم وقال أيضا: وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحت فتاتكم بغير مهور يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: يوم جبلة «2» أعظم أيام العرب «3» ، وذلك أنه لمّا انقضت وقعة رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبنى عامر وألّب عليهم. وبين يوم

رحرحان ويوم جبلة سنة. ويوم جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة «1» ، وهو عام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو عبس يومئذ فى بنى عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بنى ذبيان لعداوتهم لبنى عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلّها غير بنى بدر، وتجّمعت لهم تميم كلّها غير بنى سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، ثم أتى لقيط الجون «2» الكندىّ وهو ملك هجر «3» [وكان يحيّى من بها من العرب «4» ] فقال له: هل لك فى قوم عادين قد ملأوا الأرض نعما «5» وشاء، فأرسل معى ابنيك فما أصبنا من مال وسبى فلهما، وما أصبنا من دم فلى، فأجابه الجون الى ذلك وجعل له موعدا رأس الحول، ثم أتى لقيط النعمان ابن المنذر فاستنجده وأطمعه فى الغنائم، وكان لقيط وجيها عند الملوك، فلمّا كان على قرن الحول من يوم رحرحان أقبلت الجيوش الى لقيط، وأقبل سنان بن أبى حارثة المرّىّ فى غطفان وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمّه حسّان بن وبرة الكلبىّ. فلمّا توافوا خرجوا إلى بنى عامر وقد أنذروا بهم وتأهّبوا لهم، فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحى هوازن لقيس بن زهير: ما ترى؟ فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلّا وجدت فى أحدهما المخرج! فقال قيس بن زهير: الرأى أن نرحل بالعيال والأموال حتى

تدخل شعب جبلة فتقاتل القوم [دونها «1» ] من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشّعب، وإنّ لقيطا رجل فيه طيش فسيقتحم عليك الجبل، فأرى أن تأمر بالإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل، ثم تجعل الذرارى وراء ظهورنا وتأمر بالرجّالة فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشّعب حلّت الرجّالة عقل الإبل ثم لزمت أذنابها فإنها تنحدر عليهم وتحنّ الى مراعيها ووردها، ولا يردّ وجوهها شىء، ويخرج الفرسان فى أثر الرجّالة الذين خلف الإبل فإنها تحطّم ما لقيت وتقبل عليهم الخيل وقد حطّموا من عل. فقال الأحوص: نعم ما رأيت وأخذ برأيه، وكان مع بنى عامر يومئذ بنو عبس، وغنىّ فى بنى كلاب، وباهلة فى بنى صعب، والأبناء أبناء صعصعة. وكان رهط المعقّر البارقّى يومئذ فى بنى نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلّها فيهم غير قيس. قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم فوجدوا بنى عامر قد دخلوا شعب جبلة فنزلوا على فمه، فقال لهم رجل من بنى أسد: خذوا عليهم فم الشّعب حتى يعطشوا ويجوعوا، فأتوا حتى دخلوا عليهم الشّعب، وكانوا قد عقلوا الإبل [وعطّشوها «2» ] ثلاثة أخماس، وذلك اثنتا عشرة ليلة لم تطعم شيئا، فلمّا دنوا حلّوا عقلها فأقبلت تهوى، فظنّ القوم عند ذلك أنّ الشّعب قد هدّ عليهم، والرجّالة فى آثارها آخذين بأذنابها فدقّت كلّما لقيت، فانهزموا لا يلوون على أحد، وقتل لقيط وأسر حاجب بن زرارة، أسره ذو الرّقيبة، وأسر سنان بن أبى حارثة المرّىّ أسره عروة الرحّال، فجزّ ناصيته وأطلقه، وأسر عمرو بن أبى عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق، فجزّ ناصيته وخلّاه طمعا فى المكافأة فلم يفعل، وقتل معاوية بن

يوم الخريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم

الجون ومنقذ بن طريف الأسدىّ، ومالك بن ربعىّ بن جندل بن نهشل، فقال جرير فى ذلك: كأنك لم تشهد لفيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا يال دارم ويوم الصفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم يعنى بالحزن يوم الوقيط. وقال أيضا فى بنى دارم: ويوم الشّعب قد تركوا لقيطا ... كأنّ عليه خملة أرجوان وكبّل حاجب بشمام حولا ... فحكّم ذا الرّقيبة وهو عانى وقالت دختنوس أخت لقيط ترثى لقيطا: فرّت بنو أسد فرا ... ر الطّير عن أربابها عن خير خندف كلّها ... من كهلها وشبابها وأتمّها حسبا إذا ... ضمّت الى أحسابها «1» يوم الخريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم قال أبو عبيدة: لما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر الكلابىّ أتى صديقا له من كندة. فالتفّ عليه وطلبه الملك فخفى ذكره، ثم شخص من عند الكندىّ وأضمرته «2» البلاد حتى استجار بزياد أحد بنى عجل بن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا لمعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم فإنه لا طاقة

لنا بالشّهباء ودوسر، وهما كتيبتان للأسود بن المنذر، فأبت عجل ذلك عليهم، فلمّا رأى الحارث بن ظالم ذلك كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بنى عجل الى جبلى طيّىء فأجاروه، فقال فى ذلك: لعمرى لقد حلّت بى اليوم ناقتى ... الى ناصر من طيّىء غير خاذل فأصبحت جارا للمجرّة فيهم ... على باذخ يعلو يد المتطاول اذا أجأ لفّت علّى شعابها ... وسلمى فأنّى أنتم من تناولى «1» فمكث عندهم حينا. ثم إن الأسود بن المنذر لمّا أعجزه أمره أرسل الى جارات كنّ للحارث بن ظالم استاقهنّ وأموالهنّ، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين فآندسّ فى الناس «2» حتّى علم مكان جاراته ومرعى إبلهنّ فأتاهنّ واستنقذهنّ واستاق إبلهنّ فألحقهنّ بقومهنّ. واندسّ فى بلاد غطفان حتّى أتى سنان بن أبى حارثة المرّىّ وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود بن المنذر قد استرضع ابنه شرحبيل عند سلمى امرأة سنان، وهى من بنى غنم بن دودان بن أسد، فكانت لا تأمن على ابن الملك أحدا، فاستعار الحارث بن ظالم سرج سنان، وهو فى ناحية الشّربّة، فأتى به سلمى امرأة سنان وقال لها: يقول لك بعلك: ابعثى ابنك مع الحارث فإنى أريد أن أستأمن له الملك، وهذا سرجه لك آية. قال: فزيّنته ودفعته اليه، فأتى به ناحية من الشّربّة فقتله وهرب من فوره، وهرب سنان بن أبى حارثة. فلمّا بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بنى ذبيان فقتل وسبى، وأخذ الأموال، وأغار على بنى دودان رهط سلمى، فقتلهم وسباهم، ثم وجد بعد ذلك نعلى شرحبيل فى جانب الشّربّة عند بنى محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصّفا وقال: إنى أحذيكم نعالا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم. ثم إن سيّار بن عمرو بن جابر

الفزارىّ احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير ورهنه بها قوسه، فوفاه بها وقال فى ذلك: ونحن رهنّا القوس ثمّت فوديت ... بألف على ظهر الفزارىّ أقرعا بعشر مئين للملوك وفى بها «1» ... ليحمد سيّار بن عمرو فأسرعا قال: ثم هرب الحارث فلحق بمعبد بن زرارة فاستجار به فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان التى تقدّم ذكرها. ثم هرب حتى لحق بمكة وقريش لأنه يقال: إنّ مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان إنما هو مرّة بن عوف بن لؤىّ بن غالب، فتوسّل إليهم بهذه القرابة وقال فى ذلك: اذا فارقت ثعلبة بن سعد ... وإخوتهم نسبت الى لؤىّ الى نسب كريم غير وغل ... وحىّ من أكارم كلّ حىّ فإن يك منهم أصلى فمنهم ... قوانين الإله بنو قصىّ فقالوا له: هذا نسب رحم كرشاء «2» اذا استغنيتم عنها أدبرتم. قال: فشخص [الحارث «3» ] عنهم غضبان وقال فى ذلك: ألا لستم منّا ولا نحن منكم ... برئنا إليكم من لؤىّ بن غالب غدونا «4» على نشر الحجاز وأنتم ... بمنشعب «5» البطحاء «6» بين الأخاشب «7» وتوجّه الى الشام فلحق بيزيد بن عمرو الغسّانىّ فأجاره وأكرمه. وكانت ليزيد ناقة محماة، فى عنقها مدية وزناد وصرّة ملح، يمتحن بها رعيّته لينظر من يجترئ عليه،

ذكر حرب داحس والغبراء وهى من حروب قيس

فوحمت امرأة الحارث فاشتهت شحما فانطلق الى الناقة فانتحرها وأتاها بشحمها وفقدت الناقة فأرسل الى الخمس التغلبىّ، وكان كاهنا، فسأله عنها، فأخبره أنّ الحارث صاحبها، فهمّ به الملك ثم تذمّم «1» من ذلك، فأوجس الحارث فى نفسه شرّا فأتى الخمس التغلبىّ فقتله، فلمّا فعل ذلك دعا به الملك فأمر بقتله، فقال: إنك قد أجرتنى فلا تغدرنى، قال الملك: لا ضير إن غدرت بك مرّة فقد غدرت بى مرارا، وأمر ابن الخمس به فقتله، وأخذ ابن «2» الخمس سيف الحارث، فأتى به سوق عكاظ فى الأشهر الحرم «3» ، فأراه قيس بن زهير العبسىّ فضربه به قيس فقتله. ذكر حرب داحس والغبراء وهى من حروب قيس قال أبو عبيدة: حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ابنى بغيض ابن ريث بن غطفان. وكان السبب الذى هاجها أنّ قيس بن زهير وحمل ابن بدر تراهنا على داحس والغبراء أيّهما يكون له السّبق. وكان داحس فحلا لقيس بن زهير. والغبراء حجر «4» لحمل بن بدر، فتواضعا الرّهان على مائة بعير، وجعلا

منتهى الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين ليلة، ثم قاداهما إلى رأس الميدان بعد أن ضمراهما أربعين ليلة. وكان فى طرف الغاية شعاب كثيرة، فأكمن حمل بن بدر فى تلك الشّعاب فتيانا على طريق الفرسين وأمرهم إن جاء داحس سابقا أن يردّوه عن الغاية، ثم أرسلوهما، فلما أحضرا خرجت الأنثى عن الفحل فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس، فقال قيس: رويدا يعدوان الجدد إلى الوعث وترشح أعطاف الفحل، فلمّا أوغلا عن الجدد وخرجا إلى الوعث برز داحس عن الغبراء فقال قيس: «جرى المذكّيات «1» غلاب «2» » فذهبت مثلا. فلمّا شارف داحس الغاية ودنا من الفتية وثبوا فى وجه داحس فردّوه عن الغاية، ففى ذلك يقول قيس بن زهير: وما لاقيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد «3» همو فخروا علىّ بغير فخر ... وردّوا دون غايته جوادى وثارت الحرب بين عبس وذبيان ابنى بغيض، فركدت أربعين سنة لم تنتج ناقة ولا فرس فيها لاشتغالهم بالحرب. فبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكا إلى قيس بن زهير يطلب منه حقّ السّبق، فقال قيس: كلّا لا مطلتك به، ثم أخذ الرمح فطعنه فدقّ صلبه، ورجعت فرسه غائرة، واجتمع الناس فحملوا دية مالك مائة ناقة عشراء «4» وزعموا أنّ الرّبيع بن زياد العبسىّ حملها وحده فقبضها حذيفة وسكن الناس.

يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان

ثم إن مالك بن زهير نزل اللقاطة «1» من أرض الشربّة «2» فأخبر حذيفة بمكانه، فعدا عليه فقتله، ففى ذلك يقول عنترة: فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان فليتهما لم يجريا قيد غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان فقالت بنو عبس: مالك بن زهير بمالك بن حذيفة وردّوا علينا مالنا، فأبى حذيفة أن يردّ شيئا، وكان الربيع بن زياد مجاورا لبنى فزارة. قال: فلمّا قتل مالك بن زهير جعل بنو فزارة يتساءلون ويقولون: ما فعل حماركم؟ قالوا: صدناه، فقال لهم الربيع: ما هذا الوحى؟ قالوا: قتلنا مالك ابن زهير، قال: بئس ما فعلتم بقومكم! قبلتم الدّية ورضيتم بها ثم غدرتم! فقالوا: لولا أنك جارنا لقتلناك، وكانت خفرة الجار ثلاثا، فقالوا له: بعد ثلاث ليال أخرج عنّا، فخرج واتّبعوه فلم يلحقوه حتى لحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فعاقده. ثم نهضت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان إلى بنى فزارة وذبيان ورئيسهم الربيع بن زياد، ورئيس بنى فزارة حذيفة بن بدر. يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان فالتقوا بذى المريقب «3» من أرض الشّربّة فاقتتلوا، فكانت الشوكة فى بنى فزارة قتل منهم عوف بن بدر بن عمرو بن أبى الحصين، أحد بنىّ عدىّ بن فزارة وجماعة كثيرة. وفى هذه الوقعة يقول عنترة الفوارس: ولقد علمت إذ التقت فرسانها ... يوم المريقب أنّ ظنّك أحمق

يوم ذى حسى لذبيان على عبس

يوم ذى حسى لذبيان على عبس ثم إن ذبيان تجمّعت لما أصابت بنو عبس منهم يوم المريقب فزارة بن ذبيان ومرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان وأحلافهم، فنزلوا فتوافوا بذى حسى «1» ، وهو وادى الصفا من أرض الشّربّة، فهزمت بنو عبس وخافت ألّا تقوم بجماعة بنى ذبيان واتّبعوهم حتى لحقوهم، فقالوا: التفانى أو تقيدونا، فأشار قيس بن زهير على الربيع بن زياد ألّا يناجزهم، وأن يعطوهم رهائن من أبنائهم حتى ينظروا فى أمرهم، فتراضوا أن يكون رهنهم عند سبيع بن عمرو أحد بنى ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فدفعوا إليه ثمانية من الصّبيان، فانصرفوا وتكافأ الناس، فمكث رهنهم عند سبيع حتى حضرته الوفاة، فقال لابنه مالك بن سبيع: إنّ عندك مكرمة لا تبيد «2» إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة، وكأنى بك لو متّ قد أتاك خالك حذيفة بن بدر فعصر لك عينيه وقال: هلك سيّدنا ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا تشرف بعدها أبدا، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم. فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك وخدعه حتى دفعهم إليه، فأتى بهم اليعمريّة «3» ، فجعل يبرز كلّ يوم غلاما فينصبه غرضا ويقول له: ناد أباك، فينادى أباه حتى يقتله.

يوم اليعمرية لعبس على ذبيان

يوم اليعمريّة لعبس على ذبيان قال: فلما بلغ ذلك من فعله بنى عبس أتوهم باليعمريّة فلقوهم بحرّتها فقتلوا منهم اثنى عشر رجلا، منهم مالك بن سبيع الذى نبذ بالغلمة إلى حذيفة، وأخوه يزيد بن سبيع، وعامر بن لوذان، والحارث بن زيد، وهرم بن ضمضم أخو حصين. ويقال ليوم اليعمريّة: يوم ذى نفر لأنهما متجاوران. يوم الهباءة لعبس على ذبيان قال: ثم اجتمعوا فالتقوا فى يوم قائظ إلى جنب جفر الهباءة «1» واقتتلوا من أوّل النهار إلى أن انتصف، وحجز الحرّ بينهم، وكان حذيفة بن بدر يحرق فخذيه الركض، فقال قيس بن زهير: يا بنى عبس، إنّ حذيفة غدا إذا احتدمت الوديقة «2» مستنقع فى جفر الهباءة فعليكم بها، فخرجوا حتى وقعوا على أثر صارف: فرس حذيفة، والحيفاء: فرس حمل بن بدر، فقفوا أثرهما حتى توافوا مع الظهيرة على الهباءة، فبصر بهم حمل بن بدر فقال: هذا قيس بن زهير قد أتاكم، فوقف قيس وأصحابه على جفر الهباءة وهو يقول: لبّيكم لبّيكم! يعنى إجابة الصّبية الذين كانوا ينادونهم إذ يقتلون! وفى الجفر حذيفة وحمل وبدر ومالك بنو بدر، وورقاء بن بلال «3»

من بنى ثعلبة بن سعد. وحنش بن عمرو «1» ، فوقف عليهم شدّاد بن معاوية العبسىّ، فحال بينهم وبين خليهم، ثم توافت فرسان بنى عبس فقال حمل: ناشدتك بالرحم يا قيس، فقال: لبّيكم لبّيكم! فعرف حذيفة أنه لن يدعهم فانتهر حملا فقال: إيّاك والمأثور من الكلام، فذهبت مثلا، وقال لقيس: لئن قتلتنى لا تصلح غطفان بعدها أبدا! فقال: أبعدها الله ولا أصلحها، وجاءه قرواش بمعبلة «2» فقصم صلبه، وقتل الربيع بن زياد حمل بن بدر، فقال قيس بن زهير يرثيه: تعلّم أنّ خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم «3» ولولا ظلمه ما زلت أبكى ... عليه الدهر ما بدت النجوم ولكنّ الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغى مرتعه وخيم أظنّ الحلم دلّ علىّ قومىّ ... وقد يستجهل الرّجل الحليم وما رست الرجال وما رسونى ... فمعوجّ وآخر مستقيم ومثّلوا بحذيفة بن بدر كما مثّل بالغلمة، فقطعوا مذاكيره وجعلوها فى فيه وجعلوا لسانه فى استه، ففى ذلك يقول قائلهم: فإنّ قتيلا بالهباءة فى استه ... صحيفته إن عاد للظّلم ظالم متى تقرأوها تهدكم من ضلالكم ... وتعرف إذا مافضّ عنها الخواتم

يوم الفروق لبنى عبس

وقال عمرو بن الأسلع: إنّ السماء وإنّ الأرض «1» شاهدة ... والله يشهد والإنسان والبلد أنى جزيت بنى بدر بسعيهم ... على الهباءة قتلا ما له قود لمّا التقينا على أرجاء جمّيتها ... والمشرفيّة فى أيماننا تقد علوته بحسام ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد فلمّا أصيب أهل الهباءة واستعظمت غطفان قتل حذيفة، تجمّعوا، وعرفت بنو عبس أن ليس لهم مقام بأرض غطفان، فخرجوا الى اليمامة فنزلوا بأخوالهم من بنى حنيفة، ثم رحلوا عنهم فنزلوا ببنى سعد بن زيد مناة. يوم الفروق لبنى عبس ثم إنّ بنى عبس غدروا بجوارهم فأتوا معاوية بن الجون فاستجاسوا عليهم وأرادوا أكلهم، فبلغ ذلك بنى عبس ففرّوا ليلا، وقدّموا ظعنهم، ووقفت فرسانهم بموضع يقال له الفروق، وأغارت بنو سعد ومن معهم من جنود الملك على محلّتهم فلم يجدوا إلّا مواقد النيران فاتبعوهم حتى أتوا الفروق، فإذا بالخيل والفرسان وقد تواترت الظّعن عنهم، فانصرفوا عنهم؛ ومضى بنو عبس فنزلوا ببنى ضبّة فأقاموا فيهم. وكان بنو حذيفة من بنى عبس يسمّون بنى رواحة، وبنو بدر من فزارة يسمّون بنى سودة، ثم رجعوا إلى قومهم وصالحوهم، فكان أوّل من سعى فى الحمالة حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرّة، فمات، فسعى فيها ابنه هاشم بن حرملة، وإليه أشار الشاعر: أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباءتين ويوم اليعمله ترى الملوك حوله مرعبله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له!

يوم قطن

يوم قطن فلمّا توافوا للصلح وقفت بنو عبس بقطن «1» وأقبل حصين بن ضمضم فلقى تيحان أحد بنى مخزوم بن مالك ففتله بأبيه ضمضم. وكان عنترة بن شدّاد العبسىّ قتله بذى المريقب، فأشارت بنو عبس وحلفاؤهم بنو عبد الله بن غطفان وقالوا: لا نصالحكم ما بلّ البحر صوفة وقد غدرتم بنا غير مرّة، وتناهض الناس: عبس وذبيان، فالتقوا بقطن، فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عتبة، ثم سفرت السفراء، بينهم، وأتى خارجة بن سنان أبا تيحان بابنه فدفعه اليه وقال: فى هذا وفاء من ابنك! فأخذه فكان عنده أياما، ثم حمل خارجة لأبى تيحان مائة بعير فأدّاها اليه واصطلحوا وتعاقدوا. يوم غدير قلبى قال أبو عبيدة: فاصطلح الحيّان إلّا بنى ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فإنهم أبوا ذلك وقالوا: لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها، فخرجوا من قطن حتى وردوا غدير قلبى، فسبقتهم بنو عبس الى الماء فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا، فأصلح بينهم عوف ومعقل ابنا سبيع من بنى ثعلبة وإياهما يعنى زهير بقوله: تداركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم «2» فوردوا حربا وخرجوا عنه سلما. تمّ خبر داحس والغبراء.

يوم الرقم لغطفان على بنى عامر

يوم الرقم لغطفان على بنى عامر غزت بنو عامر فأغاروا على بلاد غطفان بالرّقم «1» - وهو ماء لبنى مرّة- وعلى بنى عامر: عامر بن الطّفيل- ويقال يزيد بن الصّعق- فركب عتبة بن حصين فى بنى فزارة، ويزيد بن سنان فى بنى مرّة- ويقال الحارث بن عوف- فانهزمت بنو عامر، فزعمت غطفان أنهم أصابوا من بنى عامر يومئذ أربعة وثمانين رجلا، فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع، كانت بنو عامر قد أصابوا فيهم، فقتلوهم أجمعين. وانهزم الحكم بن الطّفيل فى نفر من أصحابه، فيهم خوّات بن كعب حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال فى ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا «2» يوم النّتاءة «3» لعبس على بن عامر يقال: خرجت بنو عامر تريد أن تدرك بثأرها يوم الرّقم، فهجموا على عبس بالنّتاءة وقد أنذروا بهم، فالتقوا، وكان على بنى عامر: عامر بن الطّفيل، وعلى بنى عبس: الربيع بن زياد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر، وقتل منهم هزار بن مرّة، قتله الأحنف بن مالك، ونهشل بن عبيدة بن جعفر، قتله أبو زغبة ابن حارث وعبد الله بن أنس بن خالد، وهزمت بنو عامر هزيمة قبيحة.

يوم شواحط لبنى محارب على بنى عامر

يوم شواحط «1» لبنى محارب على بنى عامر غزت سريّة من بنى عامر بن صعصعة بلاد غسّان، فأغاروا على إبل لبنى محارب بن خصفة، فأدركهم الطلب، فقتلوا من كلاب تسعة «2» نفر وارتدّوا إبلهم فلما رجعوا وثبت بنو كلاب على جسر- وهم من بنى محارب، وكانوا حاربوا إخوتهم، فخرجوا من عندهم فحالفوا بنى عامر بن صعصعة- فقالوا: نقتلهم بقتل بنى محارب من قتلوا منّا، فقام خداش بن زهير دونهم حتى منعهم من ذلك وقال: أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... عقيلا وأبلغ إن لقيت أبا بكر فيا أخوينا من أبينا وأمّنا ... إليكم إليكم لا سبيل الى جسر دعوا جانبى إنّى ساترك جانبا ... لكم واسعا بين اليمامة والقهر «3» أنا فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذمّ واختار الوفاء على الغدر يوم حوزة «4» الأوّل لسليم على غطفان قال أبو عبيدة. كان بين معاوية بن عمرو بن الشريد وبين هاشم بن حرملة أحد بنى مرّة:- مرّة غطفان- كلام بعكاظ، فقال معاوية: والله لوددت أنى قد سمعت بظعائن يندبنك، فقال هاشم: والله لوددت أنى قد بريت الرطبة- وهى جمّة

معاوية، وكانت الدهر تنطف ماء ودهنا وإن لم تدهن- فلمّا كان بعد [حين «1» ] تهيّأ معاوية ليغزو هاشما، فنهاه أخوه صخر، فأبى وغزاهم يوم حوزة، فرآه هاشم ابن حرملة قبل أن يراه معاوية، وكان هاشم ناقها من مرض أصابه، فقال لأخيه دريد بن حرملة: إنّ هذا إن رآنى لم آمن أن يشدّ علىّ، وأنا حديث عهد بشكيّة، فاستطرد له [دونى «2» ] حتى تجعله بينى وبينك، ففعل، فحمل عليه معاوية وأردفه «3» هاشم، فاختلفا طعنتين فأردى «4» معاوية هاشما عن فرسه الشماّء، وأنفذها هاشم سنانه عن عانة معاوية، وكرّ عليه دريد وظنّه قد أردى هاشما، فضرب معاوية بالسيف فقتله، وشدّ خفاف بن عمرو على مالك بن حمار الفزارىّ [فقتله «5» ] . قال: وغارت الشمّاء فرس هاشم حتى دخلت فى جيش بنى سليم فأخذوها وظنوا أنها فرس الفزارىّ الذى قتله خفاف، ورجع الجيش، فلما دنوا من صخر أخى معاوية قال لهم: ما صنع معاوية؟ قالوا قتل! قال: فما هذه الفرس؟ قالوا: قتلنا صاحبها! قال: إذا قد أدركتم ثأركم، هذه فرس هاشم بن حرملة. قال: فلما دخل رجب ركب صخر بن عمرو الشمّاء صبيحة يوم حرام، فأتى بنى مرّة، فلمّا رأوه قال لهم هاشم: هذا صخر فحيّوه وقولوا له خيرا، وهاشم مريض من الطعنة التى طعنه معاوية، فقال: من قتل أخى؟ فسكتوا، فقال: لمن هذه الفرس التى تحتى؟ فسكتوا، فقال هاشم: هلّم أبا حسّان إلى من يخبرك! قال: من قتل أخى؟ فقال [هاشم «6» ] : إذا أصبتنى أو دريدا فقد أصبت ثأرك! فقال: هل كفّنتموه؟ قال: نعم، فى بردين: أحدهما بخمس وعشرين بكرة

يوم حوزة الثانى

وأروه قبره، فلمّا رأى القبر جزع عنده ثم قال: كأنكم أنكرتم ما رأيتم من جزعى، فو الله ما بتّ منذ عقلت إلّا واترا أو موتورا، وطالبا أو مطلوبا حتى قتل معاوية، فما ذقت طعم نوم بعده. يوم حوزة الثانى قال: ثم غزاهم [صخر] فلما دنا منهم مضى على الشمّاء، وكانت غرّاء محجّلة، فسوّد غرّتها وتحجيلها، فلما رأته بنت لهاشم قالت لعمّها دريد: أين الشمّاء؟ قال: هى فى بنى سليم. قالت: ما أشبهها بهذه الفرس! فقال: هذه بهيم «1» والشمّاء غرّاء محجّلة، ثم اضّطجع فلم يشعر حتى طعنه صخر، قال: فثاروا وتناذروا، وولّى صخر وطلبته غطفان عامّة يومها، وعارض دونه أبو شجرة بن عبد العزّى، وكانت أمّه خنساء أخت صخر، وصخر خاله، فردّ الخيل عنه حتى أراح فرسه ونجا إلى قومه، فقال خفاف بن ندبة لمّا قتل معاوية: قتلنى الله إن برحت من مكانى حتى أثأر به! فشدّ على مالك سيّد بنى شمخ فقتله، وقال صخر فى قتله دريدا: ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء تزغل «2» مثل غطّ المنخر ولقد قتلتكم ثناء وموحدا ... وتركت مرّة مثل أمس الدّابر قال أبو عبيدة: وأما هاشم بن حرملة فإنه خرج منتجعا فلقيه عمرو بن قيس الجشمىّ، فتبعه وقال: هذا قاتل معاوية، لا وألت نفس إن وأل «3» ، فلما دنا منه أرسل عليه معبلة ففلق قحفه فقتله.

يوم ذات الأثل

يوم ذات الأثل قال أبو عبيدة: ثم غزا صخر بن عمرو بن الشّريد بنى أسد بن خزيمة فاكتسح إبلهم، فأتى الصريخ بنى أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة الأسدىّ صخرا فى جنبه وفات القوم بالغنيمة، ومرض صخر من الطّعنة قريبا من الحول حتّى ملّه أهله، فسمع امرأة من جاراته تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك؟ قالت: لا حىّ فيرجى، ولا ميّت فينسى، لقد لقينا منه الأمرّين! وكانت أمّه إذا سئلت عنه تقول: أرجو له العافية إن شاء الله! فقال فى ذلك: أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتى ... وملّت سليمى مضجعى ومكانى فأىّ امرئ ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلّا فى أذى وهوان وما كنت أخشى أن أكون جنازة «1» ... عليك ومن يغترّ بالحدثان لعمرى لقد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان قال: فلمّا طال عليه البلاء- وقد نتأت قطعة من جنبه مثل اليد فى موضع الطعنة- قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ، فقال شأنكم! فقطعوها فمات، فقالت أخته الخنساء ترثيه: وقائلة والنعش قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسى على صخر! ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر!

يوم اللوى لغطفان على هوازن

يوم اللّوى «1» لغطفان على هوازن قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصّمّة- واسم الصّمّة: معاوية الأصغر- من بنى غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن- وكان لعبد الله ثلاثة أسماء وثلاث كنّى، فاسمه: عبد الله، وخالد، ومعبد، وكنيته أبو فرعان، وأبو دفافة، وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصّمّة لأبويه- فأغار على غطفان فأصاب منهم إبلا عظيمة فاطّردها، فقال له أخوه دريد: النجاء فقد ظفرت، فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتى- والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاما لأصحابه، ويقسم ما أصاب عليهم- فأقام وعصى أخاه، فتبعته فزارة فقاتلوه وهو بمكان يقال له اللّوى، فقتل عبد الله، وارتثّ «2» دريد فبقى فى القتلى، فلما كان فى بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: إنى أرى عينية تبصّ، فانزل فانظر إلى سبّته «3» ، فنزل فكشف ثوبه فإذا هى ترمّز «4» ، فطعنه، فخرج دمّ قد احتقن. قال دريد: فأفقت عندها، فلمّا جاوزوا نهضت، فما شعرت إلّا وأنا بين عرقوبى جمل امرأة من هوازن، فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرّك! قلت: لا، بل من أنت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيّارة. قلت: وأنا من هوازن، أنا دريد بن الصّمّة. قال: وكانت فى قوم مختارين لا يشعرون بالوقعة، فضمّته وعالجته حتى أفاق.

يوم الظعينة بين دريد بن الصمة وربيعة بن مكدم

يوم الظعينة بين دريد بن الصّمّة وربيعة بن مكدّم قال أبو حانم عن أبى عبيدة قال: خرج دريد بن الصّمّة فى فوارس من بنى جشم حتى إذا كانوا فى واد يقال له: الأخرم، وهم يريدون الغارة على بنى كنانة، إذ رفع له رجل فى ناحية الوادى ومعه ظعينة، فلمّا نظر اليه قال لفارس من أصحابه: صح به: خلّ الظّعينة وانج بنفسك، فانتهى اليه الفارس، فصاح به وألحّ عليه، فألقى زمام الراحلة وقال للظعينة: سيرى على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن إنّ انثنائى دون قرنى شائنى ... أبلى بلائى واخبرى وعايتى ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه وأعطاه للظّعينة، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلمّا انتهى اليه ورآه صريعا صاح به فتصامّ عنه، فظنّ أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظّعينة ورجع وهو يقول: خلّ سبيل الحرّة المنيعه ... إنّك لاق دونها ربيعه فى كفّه خطّية مطيعه ... أولا فخذها طعنة سريعه والطّعن منّ فى الوغى شريعه ثم حمل عليه فصرعه، فلمّا أبطأ على دريد بعث فارسا [ثالثا «1» ] لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين ونظر إليه يقود ظعينته ويجرّ رمحه. فقال له: خلّ سبيل الظّعينة، فقال للظعينة: اقصدى قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال: ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس أرداهما عامل رمح يابس

ثم حمل عليه فصرعه وانكسر رمحه، وارتاب دريد وظنّ أنهم قد أخذوا الظّعينة وقتلوا الرجل، فلحق ربيعة وقد دنا من الحىّ، فوجد أصحابه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا والخيل ثائرة بأصحابها، فدونك هذا الرّمح فإنّى منصرف إلى أصحابى فمثبّطهم عنك، فانصرف دريد وقال لأصحابه: إنّ فارس الظّعينة قد حماها وقتل فرسانكم وانتزع رمحى، ولا مطمع لكم فيه فانصرفوا، فانصرف القوم، فقال دريد: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامى الظّعينة فارسا لم يقتل أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل متهلّلا تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل يزجى ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث «1» خشين وقع الأجدل يا ليت شعرى من أبوه وأمّه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل وقال ربيعة بن مكدّم: إن كان ينفعك اليقين فسائلى ... عنّى الظعينة يوم وادى الأخرم إذ هى لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم إذ قال لى أدنى الفوارس ميتة ... خلّ الظّعينة طائعا لا تندم فصرفت راحلة الظّعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم وهتكت بالرّمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم

ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لى الغداة تكّرمى ثم لم تلبث بنو كنانة «1» أن أغارت على بنى جشم «2» ، فقتلوا وأسروا دريد بن الصّمّة فأخفى نفسه، فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءه نسوة تتهادين إليه، فصرخت إحداهنّ وقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جرّ علينا قومنا! هذا والله الذى أعطى ربيعة رمحه يوم الظّعينة! ثم ألقت عليه ثوبها وقالت: يا آل فراس، أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادى! فسألوه: من هو؟ فقال: أنا دريد بن الصّمّة فمن صاحبى؟ قالوا: ربيعة بن مكدّم، قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم! قال: فما فعلت الظّعينة؟ قالت المرأة: أنا هيه، وأنا امرأته، فحبسه القوم وآمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغى لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا! وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلّا برضا المخارق الذى أسره، فانبعثت المرأة فى الليل، وهى ريطة بنت جذل الطّعان، تقول: سنجزى دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امرئ يجزى بما كان قدّما فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرّمح الطويل المقوّما [فقد أدركت كفّاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذى كان أنعما «3» ] فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التى تملأ الفما فلو كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما

يوم الصلعاء لهوازن على غطفان

[ففكّوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشّرّ سلّما «1» ] فلما أصبحوا أطلقوه، فكسته وجهّزته ولحق بقومه، فلم يزل كافّا عن غزو بنى فراس حتى هلك. يوم الصّلعاء لهوازن على غطفان قال: فلمّا كان فى العام المقبل غزاهم دريد بن الصّمّة بالصّلعاء «2» ، فخرجت إليه غطفان فقال دريد لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى خيلا عليها رجال كأنهم الصبيان، أسنّتها عند آذان خيلها. قال: هذه فزارة، ثم قال: أنظر ما ترى؟ قال: أرى قوما كأنّ عليهم ثيابا غمست فى لجاب المعزى، قال: هذه أشجع، ثم قال: أنظر ما ترى؟ قال: أرى قوما يجرّون رماحهم سودا، يخدّون الأرض بأقدامهم، قال: هذه عبس، أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا، فالتقوا بالصلعاء فاقتتلوا، فكان الظفر لهوزان على غطفان، وقتل دريد ذؤاب بن زيد بن قارب. ذكر حرب قيس وكنانة يوم الكديد «3» لسليم على كنانة فيه قتل ربيعة بن مكدّم فارس بنى كنانة، وهو من بنى فراس بن غنم بن مالك ابن كنانة، وهم أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم، وكان

يوم فزارة لكنانة على سليم

ربيعة بن مكدّم يعقر على قبره فى الجاهليّة، ولم يعقر على قبر أحد غيره، وقتلته بنو سليم يوم الكديد، ولم يحضر يوم الكديد أحد من بنى الشّريد. يوم فزارة لكنانة على سليم قال أبو عبيدة: لمّا قتلت بنو سليم ربيعة بن مكدّم فارس كنانة ورجعوا، أقاموا ما شاء الله، ثم إنّ ذا التاج مالك بن خالد بن صخر بن الشّريد- واسم الشّريد عمرو، وكانت بنو سليم قد توّجوا مالكا وأمّروه عليهم- فغزا بنى كنانة، فأغار على بنى فراس ببزرة «1» ، ورئيس بنى فراس عبد الله بن جذل، فدعا عبد الله إلى البراز، فبرز إليه هند بن خالد بن صخر بن الشّريد، فقال له عبد الله: من أنت؟ قال: أنا هند بن خالد، قال عبد الله؛ أخوك أسنّ منك، يريد مالك ابن خالد، فرجع فأخبر أخاه، فبرز له، فشدّ عبد الله على مالك بن خالد فقتله، فبرز إليه أخوه كرز بن خالد بن صخر، فشدّ عليه عبد الله أيضا فقتله، فشدّ عليه أخوهما عمرو بن خالد بن صخر، فتجالدا طعنتين، فجرح كلّ واحد منهما صاحبه وتحاجزا. يوم الفيفاء «2» لسليم على كنانة قال أبو عبيدة: ثم إنّ بنى الشّريد حرّموا على أنفسهم النساء والدّهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة، فغزا عمرو بن خالد بن صخر بن الشّريد بقومه حتى أغار على

ذكر حرب قيس وتميم يوم السؤبان لبنى عامر على بنى تميم

بنى فراس، فقتل منهم نفرا؛ منهم: عاصم بن المعلّى، ونضلة، والمعارك، وعمرو ابن مالك، وحصن، وشريح؛ وسبى سبيا فيهم ابنة مكدّم أخت ربيعة، فقال عباس بن مرداس فى ذلك: ألا أبلغن عنّى ابن جدل ورهطه ... فكيف طلبناكم بكرز ومالك غداة فجعناكم بحصن وبابنه ... وبابن المعلّى عاصم والمعارك ثمانية منهم ثأرناهم به ... جميعا وما كانوا بواء «1» بمالك نذيقكم- والموت يبنى سرادقا ... عليكم- شباحدّ السيوف البواتك تلوح بأيدينا كما لاح بارق ... تلألأ فى داج من الليل حالك ذكر حرب قيس وتميم يوم السّؤبان «2» لبنى عامر على بنى تميم قال أبو عبيدة: أغارت بنو عامر على بنى تميم وضبّة فاقتتلوا، ورئيس ضبّة حسّان بن وبرة، وهو أخو النعمان بن المنذر لأمّه، فأسره يزيد بن الصّعق، وانهزمت تميم؛ فلمّا رأى ذلك عامر بن مالك بن جعفر حسده، فشدّ على ضرار بن

عمرو الضبّىّ «1» ، وهو الرّديم «2» ، فقال لابنه: إذا همّ أغنه عنّى، فشدّ عليه فطعته، فتحوّل عن سرجه إلى جنب أبدانه، ثم لحقه، فقال لأحد بنيه: أغنه عنّى، ففعل مثل ذلك، ثم لحقه، فقال لابن له آخر، ففعل مثل ذلك، فقال: ما هذا إلّا ملاعب الأسنّة! [فسمّى عامر من يومئذ ملاعب الأسنّة «3» ] فلما دنا منه قال له ضرار: إنى لأعلم ما تريد، أتريد اللّبب «4» ؟ قال نعم! قال: إنك لن تصل إلىّ ومن هؤلاء عين تطرف، كلهم بنو عامر، قال له عامر: فأحلنى على غيرك، فدلّه على حبيش بن الدّلف وقال: عليك بذلك الفارس، فشدّ عليه فأسره، فلما رأى سواده وقصره، جعل يتفكّر، وخاف ابن الدّلف أن يقتله،

يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم

فقال: ألست تريد اللّبب؟ قال بلى، قال: فأنّى لك به. وفادى حسّان بن وبرة نفسه من يزيد بن الصّعق بألف «1» بعير، [فداء الملوك «2» ] فكثر مال يزيد ونبه. قال أبو عبيدة: ثم أغار بعد ذلك يزيد بن الصّعق على عصافير النعمان بذى لبان، وذو لبان: عن يمين العرنيين. يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم قال: غزا عمرو بن عدس من بنى دارم، وهو فارس بنى مالك بن حنظلة، فأغار على بنى عبس، فأخذ إبلا ونساء «3» ثم أقبل، حتى إذا كان أسفل من ثنيّة أقرن نزل فابتنى بجارية من السّبى، ولحقه الطلب فاقتتلوا، فقتل أنس الفوارس بن زياد العبسىّ عمرا: وانهزمت بنو مالك بن حنظلة، وقتلت بنو عبس أيضا حنظلة بن عمرو- وقال بعضهم: قتل فى غير هذا اليوم- وارتدّوا ما كان فى أيدى بنى مالك. يوم المرّوت «4» لبنى العنبر على بنى قشير أغار بحير «5» بن سلمة بن قشير على بنى العنبر بن عمرو بن تميم، فأتى الصريخ بنى عمرو بن تميم حتى لحقوه وقد نزل المرّوت، وهو يقسم المرباع ويعطى من معه،

يوم دارة مأسل لتميم على قيس

قتلا حق القوم واقتتلوا، فطعن قعنب بن عتّاب المثلّم بن عامر القشيرى فصرعه فأسره، وحمل الكدّام، وهو يزيد بن أزيهر المازنى على بجير بن سلمة فطعنه فأرداه عن فرسه، ثم أسره، فأبصره قعنب بن عتّاب، فحمل عليه بالسيف فضربه فقتله، وانهزم بنو عامر. يوم دارة مأسل لتميم على قيس غزا عتبة بن شتير بن خالد الكلابىّ بنى ضبّة، فاستاق نعمهم، وقتل حصين بن ضرار الضبىّ زيد الفوارس، فجمع أبوه ضرار قومه وخرج ثائرا بابنه حصين، وزيد الفوارس يومئذ حدث لم يدرك، فأغار على بنى عمرو بن كلاب، وأفلت منه عتبة بن شتير وأسر أباه شتير [بن خالد «1» ] وكان شيخا كبيرا، فأتى به قومه فقال: يا شتير، اختر واحدة من ثلاث، قال: اعرضها علىّ، قال: إمّا أن تردّ ابنى حصينا! قال: إنّى لا أنشر الموتى! قال: وإمّا أن تدفع إلىّ ابنك عتبة أقتله به! قال: لا يرضى بذلك بنو عامر، قال: وإمّا أن أقتلك. قال: أما هذه فنعم! فأمر ضرار ابنه أدهم أن يقتله، فلمّا قدّمه ليضرب عنقه نادى شتير: يا آل عامر، صبرا بصبىّ! كأنه أنف أن يقتل بصبىّ، فقال فى ذلك شمعلة: وخيّرنا شتيرا من ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا جعلت السيف بين اللّيت «2» منه ... وبين قصاص لمّته عذارا

أيام تميم على بكر يوم الوقيط

أيام تميم على بكر يوم الوقيط «1» قال فراس بن خندف: تجمّعت اللهازم لتغير على تميم وهم غارّون «2» ، فرأى ذلك ناشب بن بشامة العنبرىّ الأعور، وهو أسير فى بنى سعد بن مالك من بنى ثعلبة، فقال لهم: أعطونى رسولا أرسله إلى بنى العنبر أوصيهم بصاحبكم خيرا ليولوه ما تولوننى من البرّ. وكان حنظلة بن طفيل المرثدىّ أسيرا فى بنى العنبر، فقالوا: على أن توصيه ونحن حضور، قال نعم، فأتوه بغلام «3» ، فقال: أتيتمونى بأحمق، وما أراه مبلّغا عنّى! قال الغلام: لا والله ما أنا بأحمق، وقل ما شئت فإنّى مبلّغه، فملأ الأعور كفّه من الرمل فقال: كم فى كفّى منه؟ قال: شىء لا يحصى كثرة، ثم أومأ الى الشمس فقال: ما تلك؟ قال: هى الشمس. قال: فاذهب إلى أهلى فأبلغهم عنّى التحيّة وقلّ لهم: ليحسنوا إلى أسيرهم [ويكرموه «4» ] فإنى عند قوم محسنين إلىّ [مكرمين «5» لى] وقل لهم ليعروا جملى الأحمر: ويركبوا نافتى العيساء «6» ، ويرعوا حاجتى فى بنى مالك، وأخبرهم أن العوسج «7» قد أورق، وقد اشتكت النساء، وليعصموا همّام بن بشامة فإنه مشئوم محدود «8» . ويطيعوا ابن الأخنس فإنه حازم ميمون.

قال: فآتاهم الرسول فأبلغهم، فقال بنو عمرو بن تميم: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة عيساء، ولا جملا أحمر! فشخص الرسول، ثم ناداهم هذيل: يا بنى العنبر، قد بيّن لكم صاحبكم، أمّا الرمل الذى قبض عليه فإنه يخبركم أنه أتاكم عدد لا يحصى، وأمّا الشمس التى أومأ إليها فإنه يقول: إن ذلك أوضح من الشمس، وأمّا جمله الأحمر فهو الصّمّان «1» : يأمركم أن تعروه «2» ، وأما ناقته العيساء فهى الدّهناء «3» ، يأمركم أن تتحرزوا فيها، وأما أبناء مالك فإنه يأمركم أن تنذروا بنى مالك بن زيد مناة، وأن تمسكوا الحلف بينكم وبينهم، وأما العوسج الذى أورق، فيخبركم أنّ القوم قد لبسوا السلاح، وأمّا تشكّى النساء فيخبركم إنهنّ قد عملن حجلا يغزون به. قال: فتحرّزت عمرو فركبت الدّهناء وأنذروا بنى مالك فقالوا: ما ندرى ما تقول بنو عمرو، ولسنا متحوّلين لما قال صاحبهم. قال: فصبّحت اللهازم بنى حنظلة فوجدوا عمرا قد جلت، وكان على الجيش أبجر بن جابر العجلىّ، وشهدها ناس من بنى تميم اللات، وشهدها الفرز بن الأسود بن شريك فى بنى شيبان، فاقتتلوا، فأسر ضرار بن القعقاع بن زرارة، وتنازع فى أسره بشر بن العوراء من تيم اللات، والفرز بن الأسود فجزّوا ناصيته وخلوا أسره من تحت الليل، وأسر عمرو بن قيس من بنى ربيعة بن عجل عثجل بن الماموم بن شيبان بن علقمة من بنى زرارة، ثم منّ عليه، وأسرت غمامة بنت الطّود بن عبيد بن زرارة، واشترك فى أسرها الخطيم بن هلال، وظربان بن زياد، وقيس بن خليد، فردّوها إلى أهلها، وأسر

يوم النباج وثيتل لبكر على تميم

حنظلة بن المأموم بن شيبان بن علقمة، أسره طلبة بن زياد أحد بنى ربيعة بن عجل، وأسر حوثرة بن بدر من بنى عبد الله بن دارم، فلم يزل فى الوثاق حتى قال أبياتا يمدح فيها بنى عجل فأطلقوه، وأسر نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وعمرو بن ناشب، وأسر سنان بن عمرو أحد بنى سلامة من بنى دارم، وأسر حاضر بن ضمرة، وأسر الهيثم بن صعصعة، وهرب عوف بن القعقاع عن إخوته، وقتل حكيم النهشلىّ، وكان يقاتل ويرتجز: كلّ امرئ مصبّح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وفيه يقول عنترة: وغادرنا حكيما فى مجال ... صريعا قد سلبناه الإزارا يوم النّباج وثيتل «1» لبكر على تميم قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: غدا قيس بن عاصم فى مقاعس وهو رئيس عليها- ومقاعس هم: صريم، وربيع، وعبيد، بنو الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم- ومعه سلامة بن ظرب بن نمر الحمانى فى الأجارب وهم: حمان، وربيعة، ومالك، والأعرج، بنو كعب بن سعد ابن زيد مناة بن تميم، فغزوا بكر بن وائل فوجدوا بنى ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واللهازم وهم: بنو قيس وتيم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد ابن ربيعة بالنّباج وثيتل، وبينهما روحة، فتنازع قيس بن عاصم وسلامة بن ظرب فى الإغارة، ثم اتفقا على أن يغير قيس على أهل النّباج، ويغير سلامة على

أهل ثيتل. قال: فبعث قيس بن عاصم الأهتم سبقة له- والسبقة: الطيعة- فأتاه الخبر فلما أصبح قيس سقى خيله، ثم أطلق أفواه الروايا وقال لقومه: قاتلوا فإنّ الموت بين أيديكم، والفلاة من ورائكم. فلما دنوا من القوم صبحا سمعوا ساقيا يقول لصاحبه: يا قيس، أورد، فتفاءلوا به، فأغاروا على النّباج قبل الصبح، فقاتلوهم قتالا شديدا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فأسر الأهتم حمران بن بشر بن عمرو ابن مرثد، وأصابوا غنائم كثيرة، فقال قيس لأصحابه: لا مقام دون الثيتل، فالنجاة، فأتوا ثيتل ولم يغزوا سلامة وأصحابه بعد، فأغار عليهم قيس بن عاصم، فقاتلوه ثم انهزموا، فأصاب إبلا كثيرة، فقال ربيعة بن طريف: فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عز عزيز وموئل وأنت الذى حربت «1» بكر بن وائل ... وقد عضّلت «2» منها النّباج وثيتل غداة دعت يا آل شيبان إذ رأت ... كراديس «3» يزجيهنّ ورد محجّل وقال قرّة بن قيس بن عاصم: أنا ابن الذى شقّ المزاد «4» وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حضّرا فصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... فلم يجدوا إلّا الأسنّة مصدرا على الجرد «5» يعلكن الشكيم «6» عوابسا ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدّرا فلم يرها الراءون إلا فجاءة ... نثرن عجاجا بالسّنابك أكدرا

يوم زرود الثانى لبنى يربوع على بنى تغلب

سقاهم بها الذّيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا وحمران أدّته إلينا رماحنا ... فنازع غلا فى ذراعيه أسمرا وجثّامة الذّهلىّ قدناه عنوة ... إلى الحىّ مصفود اليدين مفكّرا. يوم زرود «1» الثانى لبنى يربوع على بنى تغلب أغار خزيمة بن طارق التغلبىّ على بنى يربوع وهم بزرود، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو تغلب، وأسر خزيمة بن طارق، أسره أنيف بن جبلة الضبّىّ- وهو فارس السليط، وكان يومئذ نقيلا «2» فى بنى يربوع- وأسيد بن حنّاءة السليطى، فتنازعا فيه، فحكّما بينهما الحارث بن فراد، فحكم بناصية خزيمة للأنيف، على أنّ لأسيد على أنيف مائة من الإبل. قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتى بعير وفرس، فقال أنيف: أخدتك قسرا يا خزيم بن طارق ... ولاقيت منّى الموت يوم زرود وعانقته والخيل تدمى نحورها ... فأنزلته بالقاع غير حميد يوم ذى طلوح «3» لبنى يربوع على بكر كان عميرة بن طارق بن حصينة بن أريم بن عبيد بن ثعلبة، تزوّج مريّة بنت جابر، أخت أبجر بن جابر العجلىّ، فابتنى بها فى بنى عجل، فأتى أبجر أخته امرأة

عميرة يزورها فقال لها: إنى لأرجو أن آتيك ببنت النّطف امرأة عميرة التى فى قومها، فقال له عميرة: أترضى أن تحار بنى وتسبينى؛ فندم أبجر وقال لعميرة: ما كنت لأغزو قومك، ثم غزا أبجر والحوفزان متساندين، هذا فيمن تبعه من بنى شيبان، وهذا فيمن تبعه من اللهازم، وساروا بعميرة معهم قد وكل به أبجر أخاه حرقصة بن جابر، فقال له عميرة: لو رجعت إلى أهلى فاحتملتهم، فقال حرقصة: افعل، فكّر عميرة على ناقته، فسار يومين وليلة حتى أتى بنى يربوع، فأنذرهم الجيش، فاجتمعوا حتى التقوا بأسفل ذى طلوح، فكان أوّل فارس طلع عليهم عميرة، فنادى: يا أبجر، هلّم! فقال من أنت؟ قال: أنا عميرة، فكذّبه، فسفر عن وجهه، فعرفه، فأقبل إليه، والتفّت الخيل بالخيل، فأسر الجيش إلا أقلّهم، وأسر حنظلة ابن بشر بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- وكان فى بنى يربوع- الحوفزان بن شريك، أخذه معه أبو مليل «1» ، وأخذ ابن طارق سوادة بن يحيى ابن عمّ أبجر، وأخذ أبو عنمة الضّبّىّ الشاعر مع بنى شيبان، فافتكّه متمّم بن نويرة، وأسر شريك بن الحوفزان، وأسود وفلحس، وهما من بنى سعد بن همّام، فقال جرير يذكر يوم ذى طلوح: ولمّا لقينا خيل أبجر تدّعى ... بدعوى لجيم قبل ميل العواتق صبرنا وكان الصّبر منّا سجيّه ... بأسيافنا تحت الظّلال الحوافق فلمّا رأوا أن لا هوادة عندنا ... دعوا بعد كرب يا عمير بن طارق

يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر

يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر وذلك أنّ بنى مليل عبد الله بن الحارث بن عاصم بن عبيد، وعلقمة أخاه انطلقا يطلبان إبلا لهما حتى وردا ملهم من أرض اليمامة، فخرج عليهما نفر من بنى يشكر، فقتلوا علقمة وأخذوا أبا مليل، فكان عندهم ما شاء الله ثم خلّوا سبيله، وأخذوا عليه عهدا وميثاقا ألا يخبر بأمر أخيه أحدا، فأتى قومه فسألوه عنه فلم يخبرهم، فقال وبرة بن حمزه: هذا قد أخذ عليه عهد وميثاق، فخرجوا يقصّون الأثر وبينهم شهاب بن عبد القيس حتى وردوا ملهم، فلما رآهم أهل ملهم «1» تحصّنوا، فحرّقت بنو يربوع بعض زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلمّا رأى ذلك القوم نزلوا إليهم فقاتلوهم، فهزمت بنو يشكر، وقتل عمرو بن صابر صبرا، ضربوا عنقه، وقتل عيبنة بن الحارث بن شهاب بن مثلّم بن عبيد بن عمرو رجلا آخر منهم، وقتل مالك بن نويرة حمران بن عبد الله وقال: طلبنا بيوم مثل يومك علقما ... لعمرى لمن يسعى بها كان أكرما قتلنا بجنب العرص عمرو بن صابر ... وحمران أقصدنا هما والمثلما فلله عينا من رأى مئل خيلنا ... وما أدركت من خيلهم يوم ملهما يوم القحقح وهو يوم مالة لبنى يربوع على بكر أغارت بنو أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان على بنى يربوع ورئيسهم مجبة ابن ربيعة بن ذهل، فأخذوا إبلا لعاصم بن قرط أحد بنى حميد، وانطلقوا، فطلبهم

يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر

بنو يربوع، فناوشوهم، فكانت الداثرة على بنى ربيعة، وقتل المنهال بن عصمة المجبّة بن ربيعة، فقال فى ذلك ابن حمران الرياحىّ: وإذا لقيت القوم فآطعن فيهم ... يوم اللّقاء كطعنة المنهال ترك المجبّة للضباع مجدّلا ... والقوم بين سوافل وعوال يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر أغارت طوائف من بنى يربوع على بنى أبى ربيعة برأس العين فاطّردوا النّعم، واتبعهم معاوية بن فراس فى بنى أبى ربيعة فأدركوهم، فقتل معاوية وفاتوا بالإبل، فقال سحيم فى ذلك: أليس الأكرمون بنو رياح ... نمونى منهم عمّى وخالى همو قتلوا المجبة وابن تيمّ ... تنوح عليهما سود المال وهم قتلوا عميد بنى فراس ... برأس العين فى الحجج الخوالى وذادوا يوم طخفة عن حماهم ... ذياد غرائب الإبل النّهال يوم العظالى «1» لبنى يربوع على بكر قال أبو عبيدة: وهو يوم أعشاش ويوم الأفاقة ويوم الإياد ويوم مليحة. قال: وكانت بكر بن وائل تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يجيرونهم ويجهزونهم، فأقبلوا من عند عامل عين التمر فى ثلاثمائة فارس متساندين، يتوقعون انحدار بنى يربوع فى الحزن- قال: وكانوا يشتون خفافا فإذا انقطع الشتاء انحدروا إلى الحزن-

قال: فاحتمل بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد من بنى سليط، أوّل الحىّ، حتى أسهلوا ببطن مليحة، فطلعت بنو زبيد فى الحزن حتّى حلّوا الحديقة بالأفاقة، وحلّت بنو عبيد وبنو عتيبة بروضة الثمد. قال: وأقبل الجيش حتى نزلوا هضبة الخصىّ، ثم بعثوا رئيسهم فصادفوا غلاما شابّا من بنى عبيد يقال له قرط بن أضبط، فعرفه بسطام فقال له: أخبرنى ما ذاك السواد الذى أرى بالحديقة؟ قال: هم بنو زبيد. قال: أسيد بن حنّاءة؟ قال: نعم، قال: كم هم؟ قال خمسون بيتا، قال: فأين بنو عتيبة وبنو أريم؟ قال: نزلوا روضة الثّمد. قال: فأين سائر الناس؟ قال هم محتجزون بجفاف «1» . قال: فمن هناك من بنى عاصم؟ قال: الأحيمر وقعنب ومعدان أبناء عصمة. قال: فمن فيهم من بنى الحارث بن عاصم؟ قال: حصين ابن عبد الله. فقال بسطام لأصحابه: أطيعونى تقبضوا على هذا الحىّ من زبيد، وتصبحوا سالمين غانمين. قالوا: وما يغنى عنّا بنو زبيد لا يودون رحلتنا. قال: إن السلامة إحدى الغنيمتين. فقال له مغروق: انتفخ سحرك يا أخا الصهباء، قال له هانئ: أجبنا. قال: ويلكم إنّ أسيدا لم يظلّه بيت قط شاتيا ولا قائظا، إنما بيته القفر، فإذا أحسّ بكم أحال على الشقراء، فركض حتى يشرف مليحة «2» ، فينادى: يا آل يربوع! فيركب فيلقاكم طعن ينسيكم الغنيمة، ولا يبصر أحدكم مصرع صاحبه، وقد جئتمونى وأنا تابعكم، وقد أخبرتكم ما أنتم لاقون غدا. فقالوا: نلتقط بنى زبيد، ثم نلتقط بنى عبيد وبنى عتيبة كما نلتقط الكمأة، ونبعث فارسين فيكونان بطريق أسيد، فيحولان بينه وبين بنى يربوع، ففعلوا. فلما أحسّ بهم أسيد ركب الشقراء وخرج نحو بنى يربوع، فابتدره الفارسان فطعنه

يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر

أحدهما فألقى نفسه فى شقّ فأخطأه، ثم كرّ راجعا حتى أشرف مليحة، فنادى: يا صباحاه! يا آل يربوع، غشيتم، فتلاحقت الخيل حتى توافوا بالعظالى، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على بكر، قتل منهم مغروق بن عمرو، فدفن بثنيّة مغروق، وبه سمّيت، وغيره. وأما بسطام فألّح عليه فارس من بنى يربوع، وكان دارعا على ذات النسوع «1» ، وكانت إذا أجدّت «2» لم يتعلق بها شئ من خيلهم، ففاقت الطلب حتى أتى قومه. يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر ويقال له يوم الثعالب «3» . قال: غزا بسطام بن قيس، ومغروق بن عمرو، والحارث بن شريك- وهو الحوفزان- بلاد بنى تميم، وهذا اليوم قبل يوم العظالى، فأغاروا على بنى ثعلبة بن يربوع، وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدىّ ابن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، فلذلك قيل له يوم الثعالب. وكان هؤلاء جميعا متجاورين بصحراء فلج «4» فاقتتلوا، فانهزمت الثعالب، فأصابوا فيهم واستاقوا إبلا من نعمهم، ولم يشهد عتيبة بن الحارث بن شهاب هذه الوقعة لأنه كان نازلا يومئذ فى بنى مالك بن حنظلة. قال: ثم اسروا على بنى مالك، وهم بين صحراء فلج وبين الغبيط، فاكتسحوا إبلهم، فوكبت عليهم بنو مالك، فيهم عتيبة بن الحارث ابن شهاب، ومعه فارسان من فرسان بنى يربوع، وتأثّف «5» اليهم الأحيمر بن عبد الله، وأسيد بن حنّاءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحىّ- وهو رئيس

يوم مخطط لبنى يربوع على بكر

بنى يربوع وربيع، والحليس، وعمارة، بنو عتيبة بن الحارث، ومعدان وعصمة ابنا قعنب، ومالك بن نويرة، والمنهال بن عصمة أحد بنى رياح بن يربوع، وهو الذى يقول فيه متمّم بن نويرة فى شعره الذى يرثى به أخاه مالكا: لقد كفّن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا فأدركوهم بغبيط المدرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأدركوا ما كانوا استاقوا من أموالهم، وأسر بسطام، أسره عتيبة، فلم يزل عنده حتى فادى نفسه. قيل: إنه فدى نفسه بأربعمائة بعير وثلاثين فرسا، ولم يكن غيره عكاظىّ أعلى فداء منه، على أن جزّ ناصيته وعاهده ألا يغزو بنى شهاب أبدا. يوم مخطّط لبنى يربوع على بكر قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس والحوفزان الحارث متساندين يقودان بكر بن وائل، حتى وردوا على بنى يربوع بالفردوس، وهو بطن لإياد، وبينه وبين مخطط ليلة، وقد نذرت بهم بنو يربوع فالتقوا بالمخطّط، فاقتتلوا، فانهزمت بكر، وهرب الحوفزان وبسطام ففاتا ركضا، وقتل شريك بن الحوفزان، قتله شهاب ابن الحارث أخو عتيبة، وأسر الأحيمر بن عبد الله بن الضريس الشّيبانىّ. يوم جدود غزا الحوفزان وهو الحارث بن شريك فأغار على من بالقاعة من بنى سعد بن زيد مناة، فأخذ نعما كثيرا ونساء فيهنّ الزرقاء من بنى ربيع بن الحارث، فأعجب بها وأعجبت به، فلم يتمالك أن وقع بها، فلما انتهى الى جدود «1» منعهم بنو يربوع

يوم سفوان

ابن حنظلة أن يردوا الماء، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، فقاتلوهم، فلم يكن لبنى بكر بهم يد «1» ، فصالحوهم على أن يعطوا بنى يربوع بعض غنائمهم حتى يردوا الماء، فقبلوا ذلك منهم وأجازوهم، فلما أتى الصريخ بنى سعد، ركب قيس ابن عاصم فى أثر القوم حتى أدركهم بالأشيمين «2» ، فألّح قيس على الحوفزان، وقد حمل الزرقاء خلفه رديفا على فرسه الزّبد، وعقد شعرها على صدره، فأخذ قيس بن عاصم بحيث يكلّم الحوفزان، فقال له قيس: يا أبا حمّاد، أنا خير لك من الفلاة والعطش، قال له: ما يشاء الزبد. فلما رأى قيس أنّ فرسه لا يلحفه نادى الزرقاء فقال: ميلى به يا جعار، فجزّ الحوفران قرونها بالسيف ودفعها بمرفقه وألقاها عن عجز فرسه فردّها قيس بن عاصم الى بنى ربيع. يوم سفوان قال أبو عبيدة: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان، فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميما عنه. فاقتتلوا قتالا شديدا، فظهرت عليهم بنو تميم وشلوهم حتى بلغوا المحدث، وكانوا قبل ذلك يتوعّدون بنى مازن، فقال فى ذلك الودّاك المازنىّ: رويدا بنى شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلى على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت فى القنا المتدانى عليها الكماة الغرّ من آل مازن ... ليوث طعان كلّ يوم طعان تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان

يوم نقا الحسن وهو يوم الشقيقة لبنى ضبة على بنى شيبان

مقاديم وصّالون فى الروع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يمان إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة حرب أم لأىّ مكان يوم نقا الحسن وهو يوم الشّقيقة «1» لبنى ضبّة على بنى شيبان فيه قتل بسطام. قال أبو عبيدة: غزا بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس ابن خالد- وقيس بن مسعود هو ذو الجدّين، وأخوه السليل بن قيس من بنى ضبة ابن أدّ بن طابخة- فأغار على ألف بعير لمالك بن المنتفق فيها فحلها قد فقأ عينه، وكان فى الإبل مالك بن المنتفق، فركب فرسا له ونجا ركضا حتى إذا دنا من قومه نادى: يا صباحاه، فركبت بنو ضبّة، وتداعت بنو تميم، فتلاحقوا بالنقا، فقال عاصم بن خليفة لرجل من فرسان قومه: أيّهم رئيس القوم؟ قال: حاميتهم صاحب الفرس الأدهم- يعنى بسطاما- فعلا عاصم عليه بالرمح فطعنه، فلم تخطئ صماخ أذنه حتى خرج الرمح من الناحية الأخرى وخرّ. فلما رأى ذلك بنو شيبان خلّوا سبيل النّعم وولّؤا الأدبار، فمن قتيل واسير، وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام فى سبعين من بنى شيبان: وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة: ويوم شقائق الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالا قصارا شككنا بالرّماح وهنّ زور ... صماخى كبشهم حتى استدارا أيام بكر على تميم يوم الزّويرين قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل تنتجع أرض بنى تميم فى الجاهلية ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع لم يدعوا عودة يصيبونها ولا شيئا يظفرون به

إلا اكتسحوه، فقال بنو تميم: امنعوا هؤلاء القوم من رعى أرضكم، فحشدت تميم، وحشدت بكر واجتمعت، فلم يتخلّف عنهم إلا الحوفزان بن شريك فى أناس من بنى ذهل بن شيبان، وكان غازيا، فقدّمت بكر عليهم عمرا الأصمّ أبا مفروق- وهو عمرو بن قيس بن مسعود بن عمرو بن أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان- فحسد سائر ربيعة الأصمّ على الرياسة، فأتوه فقالوا: يا أبا مفروق، إنّا قد زحفنا لتميم وزحفوا لنا أكثر ما كنّا وكانوا قط. قال: فما تريدون؟ قالوا: نريد أن نجعل كلّ حىّ على حياله، ونجعل عليهم رجلا منهم، فنعرف غناء كل قبيلة، فإنه أشدّ لاجتهاد الناس. قال: والله إنى لأبغض الخلاف عليكم، ولكن يأتى مفروق فينظر فيما قلتم. فلما جاء مفروق شاوره أبوه، فقال له مفروق: ليس هذا أرادوا، وإنما أرادوا أن يخدعوك عن رأيك وحسدوك على رياستك، والله لئن لقيت القوم فظفرت لا يزال لنا الفضل بذلك أبدا، ولئن ظفر بك لا تزال لنا رياسة نعرف بها، فقال الأصمّ: يا قوم، قد استشرت مفروقا فرأيته مخالفا لكم، ولست مخالفا رأيه وما أشار به. فأقبلت تميم بجملين مجلّلين مقرونين مقيّدين وقالوا: لا نولّى حتى يولى هذان الجملان، وهما الزّويران، فأخبرت بكر بقولهم الأصمّ فقال: وأنا زويركم إن خشّوهما فخشونى، وإن عقروهما فاعقرونى، قال: والتقى القوم فاقتتلوا قتالا شديدا. فأسرت بنو تميم حراث بن مالك أخا بنى مرّة بن همام، فركض به رجل منهم وقد أردفه، فاتبعه ابنه قتادة بن حراث حتى لحق الفارس الذى أسر أباه، فطعنه فأرداه عن فرسه، واستنقذ أباه، ثم انهزمت بنو تميم. وقال رجل من بنى سدوس: يا سلم إن تسألى عنّا فلا كشف ... عند اللّقاء ولسنا بالمقاريف

يوم الشيطين لبكر على تميم

نحن الذين هزمنا يوم صبّحنا ... جيش الزّورين فى جمع الأحاليف ظلّوا وظلنا نكّر الخيل وسطهم ... بالشّيب منّا وبالمرد الغطاريف يوم الشّيّطين لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لمّا ظهر الإسلام- قبل أن يسلم أهل نجد والعراق- سارت بكر بن وائل الى السواد وقالت: نغير على بنى تميم بالشّيّطين «1» ، فإنّ فى دين ابن عبد المطلب أنه من قتل نفسا قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها. فارتحلوا من لعلع بالذّرارىّ والأموال، فأتوا الشيّطين فى أربع، وبينهما مسيرة ثمانية أميال فسبقوا الخبر فصبّحوهم وهم لا يشعرون، ورئيسهم يومئذ بشر بن مسعود بن قيس بن خالد ذى الحدّين، فقتلوا بنى تميم قتلا ذريعا وأخذوا أموالهم. قال: قتل من بنى تميم يوم الشّيّطين ولعلع ستمائة رجل، قال: فوفد وفد من بنى تميم الى النبىّ صلى عليه وسلم فقالوا: ادع الله على بكر بن وائل! فأبى صلى الله عليه وسلم. يوم صعفوق لبكر على تميم أغارت بنو ربيعة على بنى سليط بن يربوع يوم صعفوق، فأصابوا منهم أسرى، فأتى طريف بن تميم العنبرىّ فروة بن مسعود، وهو يومئذ سيّد بنى ربيعة، ففدى منهم أسرى بنى سليط ورهنهم ابنه، فأبطأ عليهم فقتلوا ابنه.

يوم مبايض لبكر على تميم

يوم مبايض لبكر على تميم قال أبو عبيدة: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ فى الشهر الحرام، وأمن بعضهم بعضا، تقنّعوا كى لا يعرفوا، فكان طريف بن تميم لا يتقنّع، فوافى عكاظ وقد كشفت بكر بن وائل، وكان طريف قد قتل شراحيل الشيبانىّ أحد بنى عمرو بن ربيعة، فقال خميصة: أرونى طريفا، فأروه إيّاه، فتأمّله ونظر إليه، ففطن له طريف فقال: مالك تنظر؟ فقال: أتوسّمك لأعرفك، فلله علىّ إن لقيتك أن أقتلك أو تقتلنى. قال: فمضى لذلك ما شاء الله، ثم إن بنى عائدة حلفاء بنى ربيعة بن ذهل، خرج منهم رجلان يصيدان، فعرض لهما رجل من بنى شيبان، فذعر عليهما صيدهما، فوثبا عليه فقتلاه، فثارت بنو مرّة بن ذهل بن شيبان يريدون قتلهما، فأبت بنو ربيعة ذلك عليهم، فقال هانئ بن مسعود: يا بنى ربيعة، إنّ إخوتكم قد أرادوا ظلمكم فانمازوا «1» عنهم، ففارقوهم، وساروا حتى نزلوا بمبايض: - ماء لهم- فأبق عبد لرجل من بنى ربيعة، وسار الى بلاد تميم، فأخبرهم أن حيّا جديدا، أى منتقى من قومه، من بكر بن وائل نزول على مبايض وهم بنو ربيعة، فقال طريف العنبرىّ: هؤلاء فأرى يا آل تميم، وأقبل معه أبو الجدعاء أخو بنى طهيّة، وجاءه فدكىّ بن أعبد المنقرىّ فى جمع من بنى سعد بن زيد مناة، فأنذرت بهم بنو ربيعة؛ فانحاز بهم هانئ بن مسعود، وهو رئيسهم، الى علم مبايض، وأقام عليه وشرّفوا بالأموال والسرح «2» ، وصبّحتهم تميم، فقال لهم

يوم فيحان لبكر على تميم

طريف: أطيعونى وافرغوا من هؤلاء الأكلب يصف لكم ما وراءهم، فقال لهم أبو الجدعاء- رئيس حنظلة- وفدكىّ- رئيس بنى سعد بن زيد مناة: أنقاتل أكلبا أحرزوا أنفسهم ونترك أموالهم؟ ما هذا برأى! وأبوا عليه. وقال هانئ لأصحابه: لا يقاتل رجل منكم، ولحقت تميم بالنّعم والبغال فأغاروا عليها، فلمّا ملأوا أيديهم من الغنيمة قال هانئ بن مسعود لأصحابه: احملوا عليهم، فهزموهم. وقتل طريف العنبرىّ، قتله خميصة الشيبانىّ. يوم فيحان لبكر على تميم قال أبو عبيدة: لمّا فدى نفسه بسطام بن قيس من عتيبة بن الحارث إذ أسره يوم الغبيط بأربعمائة بعير فقال: لأدركنّ عقر إبلى، فأغار بفيجان، فأخذ الربيع بن عتيبة واستاق ماله، فلمّا سار يومين شغلوا عن الربيع بالشراب، فبال على قيده حتى لان؛ ثم خلعه وانحلّ منه، ثم أجال فى متن ذات النسوع- فرس بسطام- وهرب، فركبوا قى أثره، فلمّا يئسوا منه ناداه بسطام: يا ربيع، هلمّ طليقا، فأبى، وأتوه فى نادى قومه يحدّثهم، فجعل يقول فى أثناء حديثه: إيها يا ربيع! انج يا ربيع! وأقبل ربيع حتى انتهى إلى أدنى بنى يربوع فإذا هو براع فاستسقاه وضربت الفرس برأسها فماتت، فسمّى ذلك المكان هبير الفرس، فقال له أبوه عتيبة: أما إذ نجوت بنفسك فإنى مخلف لك مالك. يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم قال: فخرج عتيبة فى نحو من خمسة عشر فارسا من بنى يربوع، فكمن فى جنبى ذى قار حتى مرّت بهم إبل بنى الحصين، وهى بالعدوانة: اسم ماء لهم،

يوم الحاجز لبكر على تميم

فصاحوا بمن فيها من الحامية والرعاية، ثمّ استاقوها، فأخلف للربيع ما ذهب له وقال: ألم ترنى أفأت على ربيع ... جلادا فى مباركها وخورا وأنّى قد تركت بنى حصين ... بذى قار يرمّون الأمورا يوم الحاجز لبكر على تميم قال أبو عبيدة: خرج وائل بن صريم اليشكرىّ من اليمامة، فلقيه بنو أسيد ابن عمرو بن تميم، فأسروه وجعلوا يغمسونه فى المناء فى الركّية ويقولون: يأيها المانح دلوى دونكا حتى قتلوه، فغزاهم أخوه باعث بن صريم يوم حاجز، فأخذ ثمامة بن باعث ابن صريم رجلا من بنى أسيد وجيها فيهم فقتله، وقتل على الظّنة مائة منهم. يوم الشقيق لبكر على تميم قال أبو عبيدة: أغار أبجر بن جابر العجلىّ على بنى مالك بن حنظلة، فسبى سليمى بنت محصن، فولدت له أبجر، ففى ذلك يقول أبو النجم: ولقد كررت على طهيّة كرّة ... حتّى طرقت نساءها بمساء ذكر حرب البسوس وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب: لم تجتمع معدّ كلّها إلّا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظّرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث.

وعامر هو قائد معدّ يوم البيداء حين تمدحجت مذحج وسارت الى تهامة، وهى أوّل واقعة كانت بين تهامة واليمن. والثانى: ربيعة بن الحارث بن مرّة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب وهو قائد معدّ يوم السّلّان، وهو يوم كان بين أهل تهامة واليمن. والثالث: كليب بن ربيعة، وهو الذى يقال فيه: أعزّ من كليب وائل، وقاد معدّا كلّها يوم خزاز، ففضّ جموع اليمن وهزمهم، واجتمعت عليه معدّ كلّها وجعلوا له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر «1» بذلك حينا من الدهر، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمى مواقع السحاب فلا يرعى حماه ويقول: وحش أرض كذا فى جوارى فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. وكانت بنو جشم وبنو شيبان فى دار واحدة بتهامة، وكان كليب قد تزوّج جليلة بنة مرّة بن ذهل بن شيبان أخت جسّاس بن مرّة، وكانت لها ناقة يقال لها: السراب، وبها يضرب المثل فى التشاؤم، فيقال: «أشأم من السراب» و «أشأم من البسوس» وهى معقولة بفناء بيتها فى جوار جسّاس بن مرّة، فمرّت بها إبل لكليب، فلما رأت السراب الإبل تازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها حتى انتهت الى كليب، وهو على الحوض، ومعه قوس وكنانة، فلما رآها أنكرها، فانتزعها بسهم فخرم ضرعها، فنفرت وهى ترغو، فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلّاه! واجاراه.

ذكر مقتل كليب وائل

ذكر مقتل كليب وائل قال: فأجمشت جسّاسا، فركب فرسا له مغرورا به، وتبعه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فطعنه جسّاس فقصم صلبه، وطعنه عمرو بن الحارث من خلفه فقطع قطنه، فوقع كليب وهو يفحص برجله وقال لجسّاس: أغثنى بشربة من ماء، فقال له: تجاوزت شبيثا «1» والأحصّ «2» ، ففى ذلك يقول عمرو بن الأهتم: وإنّ كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذى تريان فلمّا حشاه الرمح كفّ ابن عمّه ... تذكّر ظلم الأهل أىّ أوان وقال لجسّاس أغثنى بشربة ... وإلّا فخيّر من رأيت مكانى فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير زؤان وقال نابغة بنى جعد: أبلغ عقالا أنّ خطّة داحس ... بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليمانى المسهّم وقال لجسّاس أغثنى بشربة ... تدارك بها منّا علىّ وأنعم فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو متوسّم قال: فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهى، وتشمّر المهلهل أخو كليب- واسمه عدىّ بن ربيعة، وإنما قيل له المهلهل لأنه

أوّل من هلهل الشعر، أى أرقّه- فاستعدّ المهلهل لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع اليه قومه، فأرسل رجالا منهم الى بنى شيبان يعذر اليهم فيما وقع من الأمر، فأتوا مرّة بن ذهل بن شيبان وهو فى نادى قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرّحم، وانتهكتم الحرمة، وإنّا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالا أربعا، لكم فيها مخرج ولنا مقنع، قال مرّة: ما هى؟ قالوا: تحيى لنا كليبا أو تدفع لنا جسّاسا قاتله فنقتله به، أو همّاما فإنه كفء له، أو تمكّننا من نفسك فإنّ فيك وفاء من دمه، فقال: أمّا إحيائى كليبا فهذا ما لا يكون. وأمّا جسّاس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدرى أىّ البلاد احتوت عليه. وأمّا همّام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة، كلّهم فرسان قومهم فلن يسلّموه لى فأدفعه اليكم يقتل بجريرة غيره. وأمّا أنا فما هو إلّا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أوّل قتيل بينهما، فما أتعجّل من الموت، ولكن لكم عندى خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بنىّ الباقون فعلّقوا فى عنق أيّهم شئتم نسعة فانطلقوا به الى رجالكم فاذبحوه ذبح الجزور وإلّا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بكر بن وائل، فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، تبذل لنا صغار ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب. ووقعت الحرب بينهم، ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، واعتزلت قبائل بكر بن وائل، وكرهوا مجامعة بنى شيبان ومساعدتهم على قتال إخوتهم، وأعظموا قتل جسّاس كليبا بناب من الإبل، فظعنت لجيم عنهم، وكفّت يشكر عن نصرتهم، وانقبض الحارث بن عباد فى أهل بيته، وهو أبو بجير وفارس النعامة. وقال المهلهل يرثى كليبا من أبيات:

يوم النهى

بات ليلى بالأنعمين «1» طويلا ... أرقب النّجم ساهرا أن يزولا كيف أهدى ولا يزال قتيل ... من بنى وائل ينسّى قتيلا فى قصيدة طويلة. وقال أيضا يرثيه من أخرى: نعى النعاة كليبا لى فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها القائد الخيل تردى فى أعنّتها ... زهوا إذا الخيل لجّت فى تعاديها من خيل تغلب ما تلقى أسنّتها ... إلّا وقد خضّبوها من أعاديها يهزهزون من الخطّىّ مدمجة ... كمنا أنابيبها زرقا عواليها ترى الرّماح بأيدينا فتوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها لا أصلح الله يوما من يصالحكم ... ما لاحت الشّمس فى أعلى مجاريها يوم النّهى فالتقوا بماء يقال له: النّهى «2» ، كانت بنو شيبان نازلة عليه، ورئيس تغلب المهلهل، ورئيس شيبان الحارث بن مرّة، فكانت الدائرة لبنى تغلب، ولم يقتل فى ذلك اليوم أحد من بنى مرّة. يوم الذنائب ثم التقوا بالذنائب، وهى أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتل من بكر مقتلة عظيمة، وفيه قتل شراحيل بن مرة بن همّام بن مرّة بن شيبان، وهو جدّ الحوفزان، قتله عتّاب بن سعد بن بن زهير بن جشم، وقتل من بنى ذهل بن

يوم واردات

ثعلبة عمرو بن سدوس بن شيبان، وقتل من بنى قيس بن ثعلبة سعد بن ضبيعة بن قيس وتيم بن قيس بن ثعلبة، وهو أحد الحرقيّين «1» ، وكان شيخا كبيرا، فحمل فى هودج، فلحقه عمرو بن مالك بن الفدوكس بن جشم فقتله. يوم واردات ثم التقوا يوم واردات وعليهم رؤساؤهم الذين تقدّم ذكرهم، فظفرت بنو تغلب، واستحرّ «2» القتل فى بنى بكر، فيومئذ قتل الشعثمان: شعثم وعبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة وسيّار بن الحارث بن سيّار، وفيه قتل همّام ابن مرّة أخو جسّاس لأبويه، فمرّ به مهلهل مقتولا فقال: والله ما قتل بعد كليب قتيل أعزّ علىّ فقدا منك يوم عنيزة. يوم عنيزة ثم التقوا بعنيزة، فظفرت بنو تغلب، ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب على بنى بكر، فمنها يوم الحنو، ويوم عويرضات، ويوم أنين، ويوم ضرية، ويوم القمصيبات، كلها لتغلب على بكر، أصيبت فيها بكر حتى ظنوا أن لن يستقبلوا أمرهم. وقال المهلهل يصف هذه الأيام وينعاها على بكر فى قصيدة طويلة أوّلها: أليلتنا بذى حسم «3» أنيرى ... اذا أنت انقضيت فلا تحورى «4» فإن يك بالذنائب «5» طال ليلى ... فقد أبكى من اللّيل القصير

يوم قضة

فلو نبش المقابر عن كليب ... لأخبر بالذنائب أىّ زير وإنّى قد تركت بواردات «1» ... بجيرا فى دم مثل العبير «2» هتكت به بيوت بنى عباد ... وبعض القتل أشفى للصدور على أن ليس عدلا من كليب ... اذا برزت مخبّأة الخدور وقال المهلهل أيضا وقد أشرف فى الدماء: أكثرت قتل بنى بكر بربّهم ... حتّى بكيت وما يبكى لهم أحد آليت بالله لا أرضى بقتلهم ... حتّى أبهرج بكرا أينما وجدوا أبهرج: أى أدعهم بهرجا، لا يقتل بهم قتيل، ولا تؤخذ بهم دية. وقال أيضا: قتلوا كليبا ثمّ قالوا أربعوا ... كذبوا وربّ الحلّ والإحرام حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعضّ كلّ مثقّف بالهام ويقمن ربّات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام حتى يعضّ الشيخ بعد حميمه ... ممّا يرى ندما على الإبهام يوم قضة قال: ثم إنّ المهلهل أسرف فى القتل ولم يبال بأىّ قبيلة من قبائل بكر وقع، وكانت أكثر بكر قعدت عن نصرة بنى شيبان لقتلهم كليبا، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل تلك الحروب، حتى قتل ابنه بجير بن الحارث بن عباد، فلمّا بلغه قتله قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابنى وائل، وظنّ أنّ المهلهل قد أدرك به ثأر

كليب وجعله كفؤا له، فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب. وكان المهلهل قال لمّا قتل بجير بن الحارث: بؤبشسع نعل كليب، فلمّا سمع الحارث ذلك غضب، وكان له فرس يقال له النعامة، فركبها وتولّى قتال تغلب بنفسه، فكانت الدائرة فيه على تغلب، فتفرّقت قبائل تغلب وهرب المهلهل. وقال الحارث بن عباد: قرّبا مربط النعامة منّى ... لقحت حرب وائل عن حيالى قرّبا مربط النعامة منّى ... شاب رأسى وأنكرتنى رجالى لم أكن من جناتها علم اللّ ... هـ وإنى بحرّها اليوم صال فى قصيدة طويلة نحو المائة بيت كرّر فيها: قرّبا مربط النعامة منّى فى خمسين بيتا. وكان أوّل يوم شهده الحارث يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وفيه يقول طرفة: سائلوا عنّا الّذى يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللّمم يوم تبدى البيض عن أسؤقها «1» ... وتلفّ «2» الخيل أعراج «3» النّعم «4»

يوم تحلاق اللمم

يوم تحلاق اللّمم ويوم تحلاق اللّمم، إنما سمّى بذلك لأن الحارث بن عباد لمّا تولّى الحرب قال لقومه: احملوا معكم نساءكم يكنّ من ورائكم، فإذا وجدن جريحا منهم قتلوه، وإذا وجدن جريحا منّا سقينه وأطعمنه، فقالوا: ومن أين يتميّز لهنّ؟ فقال: احلقوا رءوسكم لتمتازوا بذلك، ففعلوا، فسمّى به، فقال جحدر بن ضبيعة- وكان من شجعانهم-: اتركوا لمّتى وأقتل لكم أوّل فارس يقدمهم، فتركوه، وهو الذى قتل عمرا وعامرا التغلبيّان، طعن أحدهما بسنان «1» رمحه، والآخر بزجّه «2» ، ثم صرع بعد ذلك، فلمّا رأته نساء بكر دون حلق ظنّوه من تغلب فأجهزوا عليه. وفى هذا اليوم أسر الحارث بن عباد المهلهل عدىّ بن ربيعة وهو لا يعرفه فقال له: دلّنى على عدىّ وأخلى عنك، فقال له عدىّ: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال نعم، قال فأنا عدىّ، فجزّ ناصيته وتركه وقال فيه: لهف نفسى على عدىّ ولم أع ... رف عديّا إذ أمكنتنى اليدان وكان الحارث آلى ألّا يصالح تغلبا حتى تكلّمه الأرض، فلمّا كثرت وقائعه فى تغلب ورأت تغلب أنها ما تقوم له حفروا سربا تحت الأرض وأدخلوا فيه رجلا وقالوا له: اذا مرّ بك الحارث فغنّ بهذا البيت: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض فلما مرّ الحارث اندفع الرجل وغنّى بالبيت، فقيل للحارث قد برّ بقسمك فابق بقيّة قومك، فأمسك، فاصطلحت بكر وتغلب.

ثم إنّ المهلهل فرّ بنفسه فنزل بمذحج فى بنى جنب «1» ، فخطبوا اليه ابنته، وقيل أخته، فمنعهم، فأجبروه على تزويجها وساقوا اليه جلودا من أدم، فقال فى ذلك: أعزز على تغلب بما لقيت ... أخت بنى الأكرمين من جشم أنكحها فقدها الأراقم «2» فى ... جنب وكان الخباء من أدم لو بأبانين «3» جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب بدم ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يغنون فى ذلّة ولا عدم ثم اشترى المهلهل عبدين يغزوان معه، فغزا بهما حتى طال عليهما ذلك، فاختارا الراحة منه، فأجمعا على قتله بموضع قفر، فلمّا شعر بما همّا به ولم ير لنفسه ملجأ قال لهما: أبلغا عنّى هذه المراسلة، فقالا هات، فقال: من مبلغ عنّى بأنّ مهلهلا ... لله درّكما ودرّ أبيكما فلمّا قتلاه وانصرفا نحو بيته فقالا: مات بأرض كذا وذكرا وصيتّه، فلم يدر أحد ما أراد، فقالت ابنته: والله ما كان أبى ردىّ الشعر، ولا سفساف الكلام، وإنما أراد أن يخبركم أنّ العبدين قتلاه، وإنما معنى البيت: من مبلغ عنّى بأنّ مهلهلا ... أضحى قتيلا بالفلا مجدّلا لله درّكما ودرّ أبيكما ... لا يبرح العبدان حتّى يقتلا فقتل العبدان بعد أن أقرّا بذلك. وقيل: إنه أصبح قتيلا بين رجلى جمل هاج. والله تعالى أعلم بالصواب.

الكلاب الأول

الكلاب الأوّل قال أبو عبيدة: لمّا تسافهت بكر بن وائل وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها؛ ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القوىّ الضعيف، فنرى أن نملّك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوىّ، ويردّ على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكنّنا نأتى تبّعا فنملّكه علينا، فأتوه [فذكروا له أمرهم «1» ] فملّك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندىّ، فقدم فنزل بطن عاقل «2» . ثم غزا ببكر بن وائل حتى انتزع عامّة ما فى أيدى ملوك الحيرة اللخميّين، وملوك الشام الغسانّيين، وردّهم الى أقاصى أعمالهم، ثم طعن فى نيطة فمات فدفن ببطن عاقل. واختلف ابناه شرحبيل وسلمة فى الملك، فتواعد الكلاب «3» ، فأقبل شرحبيل فى ضبّة والرّباب كلّها، وبنى يربوع، وبكر بن وائل. وأقبل سلمة فى تغلب والنّمر وبهراء ومن تبعه من بنى مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلى تغلب السفّاح، وإنما قيل له السفّاح لأنه سفح أوعية قومه وقال لهم: اندروا الى ماء الكلاب، فسبقوا ونزلوا عليه، وإنما خرجت بكر مع شرحبيل لعداوتها لبنى تغلب، فالتقوا على الكلاب، واستحرّ القتل فى بنى يربوع، وشدّ أبو حنش على شرحبيل فقتله، وكان شرحبيل قد قتل ابنه حنشا، فأراد أبو حنش أن يأتى برأسه الى سلمة، فخافه فبعثه مع عسيف له، فلما رآه سلمة دمعت عيناه وقال له:

يوم الصفقة وهو يوم الكلاب الثانى

أنت قتلته؟ قال لا، ولكن قتله أبو حنش، إنما أدفع الثواب الى قاتله، فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة فى ذلك: ألا أبلغ أبا حنش رسولا ... فمالك لا تجىء الى الثّواب تعلّم أنّ خير الناس طرّا ... قتيل بين أحجار الكلاب يوم الصّفقة وهو يوم الكلاب الثانى قال أبو عبيدة: كان يوم الكلاب متّصلا بيوم الصّفقة «1» . وكان من حديث الصفقة أنّ كسرى كان قد أوقع ببنى تميم، فأخذ الأموال وسبى الذرارىّ بمدينة هجر «2» ، وذلك أنهم أغاروا على لطيمة له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصّفقة، ثم إنّ بنى تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحجى منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، ولا تأمنون دوران العرب. فجمعوا سبعة من رؤسائهم وشاوروهم فى أمرهم، وهم: أكثم بن صيفىّ الأسدىّ، والأحيمر بن يزيد بن مرّة المازنىّ، وقيس بن عاصم المنقرىّ، وأبير بن عصمة التيمىّ، والنعمان بن جسّاس التيمىّ، وأبين بن عمرو السعدىّ، والزبرقان بن بدر السعدىّ فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال أكثم بن صيفىّ، وكان يكنى أبا حنش: إنّ الناس قد بلغهم ما لقينا، ونخاف أن يطمعوا فينا وإنى قد نيّفت على التسعين، وقد نحل قلبى كما نحل جسمى، وأخاف ألّا يدرك ذهنى الرأى لكم، فليعرض علىّ

كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره فإنى متى أسمع الحزم أعرفه، فقال كلّ منهم ما عنده، وأكثم [ساكت] لا يتكلّم، حتى قام النعمان بن الجسّاس فقال: يا قوم، أنظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأىّ ماء أنتم حتى تنفرج الحلقة عنكم، وقد صلحت أحوالكم، وانجبر كسيركم، وقوى ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلّا قدّة، فقال أكثم: هذا [هو «1» ] الرأى، فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلى اليمن، وأسفله مما يلى العراق. فنزلت سعد والرّباب بأعلى الوادى، ونزلت حنظلة بأسفله. قال: وكانوا لا يخافون أن يغزوا فى القيظ، لبعد تلك الصحارى وشدّة الحرّ بها وقلة المياه، فأقاموا بقيّة القيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى اذا تهوّر «2» القيظ بعث الله ذا العيينتين، وهو من أهل مدينة هجر، فمرّ بقدّة وصحاريها، فرأى ما بها من النّعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر فقال: هل لكم فى جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة حمراء، ليس دونها نكبة؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء «4» مطروحون بقدّة. فمشى بعضهم الى بعض وقالوا: اغتنموها من بنى تميم. فأخرجوا معهم أربعة أملاك يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرّم، وهم كلّهم حارثيّون ومعهم عبد يغوث الحارثىّ، وم كان كلّ واحد منهم على ألفين، فمضوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلة قال جرير بن جزء الباهلىّ لابنه: يا بنىّ، هل لك فى أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذلك؟ قال: هذا الحىّ من تميم قد لجأوا هاهنا مخافة كسرى، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملى الأرحبىّ، وسرسيرا رويدا

عقبة «1» من الليل، ثم حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفناته فى بوله، فشدّ حبليه ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير إلا أعطاكه حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به. قال الباهلّى: فحللت بالكلاب قبل الجيش فناديت: يا صباحاه! فإنهم ليثبون إلىّ ليسألونى من أنت؟ إذ أقبل رجل منهم من بنى شقيق على مهر قد كان فى النّعم فنادى: يا صباحاه، قد أتى على النّعم، ثم كرّ راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثىّ وهو أوّل الرعيل، فطعنه فى رأس معدته فسبق اللّبن الدم، فقال عبد يغوث: أطيعونى وامضوا بالنّعم وخلّوا العجائز من تميم ساقطة أفواهها، فقالو: أما دون أن تنكح بناتهم فلا. وقال ضمرة بن لبيد الحماسىّ ثم المذحجىّ الكاهن: أنظروا اذا سقتم النّعم فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] تنتظر العصبة أن تنتظم الأخرى حتى تلتحق بها فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النّعم فإن أمرهم شديد. وتقدّمت سعد والرّباب فى أوائل الخيل والتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الجسّاس، ورئيس بنى سعد قيس بن عاصم، فالتقى القوم، فكان النعمان أوّل صريع، واقتتل الفريقان حتى حجز بينهم الليل، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد! يريد سعد بن زيد، ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! يريد سعد العشيرة، فلما سمع قيس ذلك نادى: يا آل كعب! يريد كعب بن سعد، ونادى عبد يغوث: يا آل كعب! يريد كعب بن عمرو، فلما رأى ذلك نادى:

يا آل مقاعس! فلما سمع وعلة ابن عبد الله الجرمىّ- وكان صاحب لواء أهل اليمن- نادى: يا آل مقاعس، تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أوّل من انهزم، فحملت عليهم سعد والرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلّا فارسا فإنّ الرجّالة لكم، ثم جعل يرتجز ويقول: لمّا تولّوا عصبا شوازبا «1» ... أقسمت لا أطعن إلّا راكبا إنّى وجدت الطّعن فيهم صائبا وأمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة، ويعرقبوا من لحقوه، ولا يشتغلوا بالقتل عن اتباعهم، فحزّوا دوابرهم، وفى ذلك يقول وعلة: فدى لكم أهلى وأمى ووالدى ... غداة كلاب إذ تحزّ الدوابر وأسر عبد يغوت، أسره مصاد بن ربيعة بن الحارث وكتّفه وأردفه خلفه، وكان مصاد قد أصابته طعنة فى مأبضه، وكان عرقه يهمى «2» ، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أوّل النهار، ثم ظفر به بعد فى آخره، ونادى مناد: قتل اليزيدون، وشدّ قبيصة بن ضرار الضّبّىّ على ضمرة بن لبيد الحماسىّ الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم، ثم أسر عبد يغوث، أسره عصمة بن أبير التيمىّ. قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد فوجده صريعا، وكان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا فى يديه، فعلم أنه الذى أجهز عليه فآقتصّ أثره فلحقه وقال: ويحك! إنى رجل أحبّ اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش. قال: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير، فآنطلق به عصمة حتى جثاه عند الأهتم على

أن جعل له من فدائه جعلا، فتركه الأهتم عند امرأته العبشميّة، فأعجبها جماله وكمال خلقته، وكان عصمة الذى أسره غلاما نحيفا، فقالت له: من أنت؟ قال: أنا سيّد القوم، فضحكت وقالت: قبّحك الله سيّد قوم حين أسرك مثل هذا، ففى ذلك يقول عبد يغوث: وتضحك منّى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى «1» قبلى أسيرا يمانيا فآجتمعت الرّباب الى الأهتم وقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان فأخرجه إلينا، فأبى الأهتم أن يخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيّين: الرّباب وسعد، فتنة حتى أقبل قيس بن عاص المنقرىّ فقال: أيؤتى قطع حلف الرّباب من قبلنا؟ فضرب فاه بقوس فهتّمه، فسمّى الأهتم، فقال الأهتم: إنما دفعه إلى عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلّا لمن دفعه إلىّ، فليجئ فيأخذه، فأتوا عصمة فقالوا: يا عصمة، قتل سيّدنا النعمان وفارسنا مصاد، وثأرنا أسيرك، فما كان ينبغى لك أن تستحييه! فقال: إنى ممعل وقد أصبت الغنى، ولا تطيب نفسى على أسيرى، فاشتراه بنو جسّاس بمائة بعير، فدفعه إليهم، فخشوا أن يهجوهم، فشدّوا على لسانه نسعة، فقال: إنكم قاتلى لا محالة، فدعونى أذمّ أصحابى وأنوح على نفسى! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا، فعقد لهم ألّا يفعل، فأطلقوا لسانه، فقال قصيدته التى أوّلها:

ألا لا تلومانى كفى اللّوم ما بيا ... فما لكما فى اللّوم خير ولا ليا ومنها: أقول وقد شدّوا لسانى بنسعة «1» ... أمعشر تيم أطلقوا لى لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا «2» ... فإنّ أسارى لم يكن من توانيا «3» وقد علمت عرسى مليكة أننى ... أنا اللّيث معديّا عليه وعاديا ومنها: كأنّى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى «4» قاتلى عن رجاليا ولم أسبإ «5» الزّقّ الرّوىّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا قال: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ «6» بمصاد! فقال بنو النعمان: يا لكاع! نحن نشتريه بأموالنا ونبؤ بمصاد، فوقع بينهم فى ذلك الشرّ، ثم اصطلحوا.

يوم طخفة

يوم طخفة «1» قال: كانت الرّفادة، وقيل الردافة «2» ، ردافة الملوك لعتّاب بن هرمىّ بن رياح، ثم كانت لقيس بن عتّاب، فسأل حاجب بن زرارة النعمان أن يجعلها للحارث بن مرط بن سفيان بن مجاشع، فسألها النعمان بنى يربوع وقال: أعقبو إخوتكم فى الرفادة، قالوا: إنهم لا حاجة لهم فيها، وإنما سألها حاجب جسدا لنا وأبوا عليه، فقال الحارث بن شهاب وهو عند النعمان: إنّ بنى يربوع لا يسلّمون ردافتهم إلى غيرهم. وقال حاجب: إن بعث الملك إليهم جيشا لم يمنعوه ولم يمتنعوا. فبعث النعمان إليهم قابوسا ابنه، وحسّان بن المنذر؛ فكان قابوس على الناس، وحسّان على المقدّمة، وبعث معهم الصنائع والوضائع- فالصنائع: من كان يأتيه من العرب، والوضائع: المقيمون بالحيرة- فالتقوا بطخفة، فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليجزّ ناصيته، فقال قابوس: إنّ الملوك لا تجزّ نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه، وأما حسّان بن المنذر فأسره بشر ابن عمرو الرياحىّ، ثم منّ عليه وأرسله، ففى ذلك يقول مالك بن نويرة: ونحن عقرنا مهر قابوس بعد ما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب «3» عليه دلّاص «4» ذات نسج وسيفه ... جراز من الهندىّ أبيض مقضب

يوم فيف الريح

يوم فيف الريح «1» قال أبو عبيدة: تجمّعت قبائل مذحج وأكثرها بنو الحارث بن كعب، وقبائل من مراد وجعفىّ وزبيد وخثعم، وعليهم أنس بن مدرك، وعلى بنى الحارث الحصين، فأغاروا على بنى عامر بن صعصعة بفيف الرّيح، وعلى بنى عامر، عامر بن مالك ملاعب الأسنّة. قال: فاقتتل القوم، فكسروهم، وارفضت قبائل من بنى عامر، وصبرت بنو نمير، وأقبل عامر بن الطّفيل وخلفه دعىّ بنى جعفر فقال: يا معشر الفتيان، من ضرب ضربة أو طعن طعنة فليشهدنى [فكان «2» ] الفارس إذا ضرب ضربة أو طعن طعنة، قال عند [ذلك] : أبا على، فبينما هو كذلك إذ أتاه مسهر بن يزيد «3» الحارثىّ، فقال له من ورائه: عندك يا عامر والريح عند أذنه فوهصه- أى طعنه-، قأصاب عينه، فوثب عامر عن فرسه ونجا على راحلته، وأخذ مسهر رمح عامر، ففى ذلك يقول عامر بن الطفيل من أبيات: لعمرى وما عمرى علىّ بهيّن ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر وقال مسهر- وقد زعم أنهم أخذوا امرأة عامر-: وهصت بخرص «4» الرمح مقلة عامر ... فأضحى نحيفا فى الفوارس أعورا وغادر فينا رمحه وسلاحه ... وأدبر يدعو فى الهوالك جعفرا وكنّا إذا قيسيّة ذهبت بنا ... جرى دمعها من عينها فتحدّرا مخافة ما لاقت حليلة عامر ... من الشرّ إذ سربالها قد تعفّرا

يوم زرود الأول

قال: وكانت هذه الوقعة وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأدرك مسهر بن يزيد الإسلام فأسلم. يوم زرود الأوّل غزا الحوفزان حتى انتهى الى زرود «1» خلف جبل من جبالها، فأغاروا على نعم كثير لبنى عبس فاجتازوها، وأتى الصريخ «2» لبنى عبس فركبوا، ولحق عمارة بن زياد العبسىّ الحوفزان فعرفه- وكانت أمّ عمارة قد أرضعت مضر بن شريك، وهو أخو الحوفزان- فقال: يا بنى شريك، قد علمتم ما بيننا وبينكم، قال الحوفزان- وهو الحارث بن شريك-: صدقت يا عمارة، فانظر كلّ شىء هو لك فخذه، فقال عمارة: لقد علمت نساء بنى بكر بن وائل أنّى لن أملا أيدى أزواجهنّ وأبنائهنّ شفقة عليهنّ من الموت، فحلّ عمارة ليعارض النّعم ليردّه، وحال الحوفزان بينه وبين النّعم، فعثرت بعمارة فرسه فطعنه الحوفران، وطعنه نعامة بن عبد الله بن شريك: وأسر ابنا عمارة: سنان وشدّاد، وكان فى بنى عبس رجلان من طيىء: ابنان لأوس ابن حارثة، مجاورين لهم، وكان لهما أخ أسير فى بنى يشكر، فلمّا فقدته بنو شيبان نادوا: يا ثارات معدان! فعند ذلك قتلوا ابنى عمارة وهرب الطائيّان بأسيرهما. فلما برئ عمارة من جراحه أتى طيئا فقال: ادفعوا إلىّ هذا الكلب الذى قتلنا به، فقال الطائىّ لأوس: ادفع الى بنى عبس صاحبهم، فقال لهم: تأمرننى أن أعطى بنى عبس قطرة من دمى، وإن ابنى أسير فى بنى يشكر؟ فو الله ما أرجو فكاكه

يوم غول الأول وهو يوم كنهل

إلّا بهذا. فلما قفل الحوفزان من غزوه بعث الى بنى يشكر فى ابن أوس، فبعثوا به اليه، فافتدى به معدان، وقال نعامة بن شريك: استنزلت رماحنا سنانا ... وشيخنا بطخفة عنانا ثم أخوه قد رأى هوانا ... لمّا فقدنا بيننا معدانا يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل قال أبو عبيدة: أقبل ابنا هجيمة- وهما من غسّان- فى جيش فنزلا فى بنى يربوع، فجاورا طارق بن عوف بن عاصم بن ثعلبة بن يربوع، فنزلا معه على ماء يقال له: كنهل، فأغار عليهما أناس من ثعلبة بن يربوع، فاستاقوا نعمهما وأسروا من كان فى النّعم، فركب قيس بن هجيمة بخيله حتى أدرك بنى ثعلبة، فكّر عليه عتيبة بن الحارث، فقال له قيس: هل لك يا عتيبة الى البراز؟ قال؛ ما كنت لأسأله وأدعه، فبارزه، قال عتيبة: فما رأيت فارسا أملأ لعينى منه، فطعننى فأصاب قربوس سرجى، حتى وجدت مسّ السّنان فى باطن فخذى، ثم أرسل الرمح وهو يرى أن قد أثبتنى [وانصرف «1» ] فأتبعته الفرس، فلما سمع زجلها «2» رجع جانحا على قربوس سرجه، وبدا لى فرج الدّرع فطعنته بالرمح، فقتلته وانصرفت فلحقت النّعم، وأقبل الهرماس بن هجيمة فوقف على أخيه قتيلا، ثم اتبعنى فقال: هل لك فى البراز؟ فقلت: لعلّ الرجعة خير لك، قال: أبعد قيس؟ ثم شدّ علىّ وضربنى على البيضة، فخلص السيف الى رأسى، فضربته فقتلته، فقال جرير: وساق ابنى هجيمة يوم غول ... الى أسيافنا قدر الحمام

يوم الجبابات

يوم الجبابات «1» قال أبو عبيدة: خرج بنو ثعلبة بن يربوع فمرّوا بناس من طوائف بكر بن وائل بالجبابات، خرجوا سفّارا، فنزلوا وسرّحوا إبلهم ترعى، وفيها نفر منهم يرعونها، منهم: سوادة بن يزيد بن بجير العجلىّ، ورجل من بنى شيبان، وكان محموما، فمرّت بنو ثعلبة بن يربوع بالإبل فاطّردوها وأخذوا الرجلين من بنى شيبان، فسألوهما: من معكما؟ قالا: معنا شيخ من يزيد بن بجير العجلىّ فى عصابة من بكر بن وائل خرجوا سفّارا يريدون البحرين، فقال الربيع ودعموص ابنا عتيبة بن الحارث بن شهاب: أنذهب بهذين الرجلين وهذه الإبل ولم يعلموا من أخذها، ارجعوا بنا حتى يعلموا من أخذ إبلهم وصاحبيهم لنعنيهم بذلك، فقال عميرة لهما: ما وراءكما إلا شيخ ابن يزيد قد أخذتما أخاه وأطردتما إبله، دعاه، فأبيا ورجعا إليه وأخبراهم وتسمّيا لهم، فركب شيخ ابن يزيد فاتّبعهما وقد ولّيا، فلحق دعموصا فأسره، ومضى ربيع حتى أتى عميرة فأخبره أن أخاه قد قتل، فرجع على فرس له يقال لها الخنساء حتى لحق القوم، فافتكّ منهم دعموصا على أن يردّ عليهم أخاهم وإبلهم، فردّها إليهم، فكفر بنو عتيبة ولم يشكروا عميرة، فقال عميرة فى ذلك: ألم تر دعموصا يصدّ بوجهه ... إذا ما رآنى مقبلا لم يسلّم ألم تعلما يا ابنى عتيبة مقدمى ... على ساقط بين الأسنّة مسلم فعارضت فيه القوم حتى انتزعته ... جهارا ولم أنظر له بالتّلوّم يوم الشّعب غزا قيس بن شرقاء التغلبىّ، فأغار على بنى يربوع بالشّعب، فاقتتلوا، فانهزمت بنو يربوع، فأسر سحيم بن وثيل الرّياحىّ، فقال سحيم فى ذلك:

يوم غول الثانى فيه قتل طريف شراحيل وعمرو بن مرثد المحلمى

أقول لهم بالشّعب إذ يأسروننى ... ألم تعلموا أنّى ابن فارس زهدم ففدى نفسه، وأسر أيضا متمّم بنّ نويرة، فوفد مالك بن نويرة على قيس بن شرقاء فى فدائه فقال: هل أنت يا قيس بن شرقاء منعم ... أو الجهد إن أعطيته أنت قابله فلما رأى وسامته قال: بل منعم، فأطلقه له. يوم غول الثانى فيه قتل طريف شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمىّ غزا طريف بن هشيم فى بنى العنبر بن تميم، فأغار على بكر بن وائل بغول، فاقتتلوا، ثم إنّ بكرا انهزمت، فقتل طريف شراحيل أحد بنى ربيعة، وقتل أيضا عمرو بن مرثد، وقتل المجشّر. يوم الخندمة «1» كان رجل من مشركى قريش يحدّ حربة يوم فتح مكة، فقالت له امرأته: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه! [فقالت له: ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شىء «2» ] فقال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعض نسائهم، وأنشأ يقول: إن يقبلوا اليوم فما لى علّة ... هذا سلاح كامل والّه وذو غرارين سريع السّلّه

يوم اللهيماء

فلما لقيهم خالد [بن الوليد «1» ] يوم الخندمة انهزم الرجل لا يلوى على شىء، فلامته امرأته فى ذلك، فقال: إنّك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه ولقيتنا بالسّيوف المسلمه ... يفلقن كلّ ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه ... لم تنطقى فى اللّوم أدنى كلمه وهذه القصّة نذكرها- إن شاء الله- فى أثناء السيرة النبويّة فى يوم فتح مكة. يوم اللهيماء «2» قال أبو عبيدة: كان سبب الحرب التى كانت بين [عمرو بن الحارث بن تميم ابن سعد بن هذيل، وبين عمرو «3» ] بن عدىّ بن الدّئل بن بكر بن عبد مناة، أنّ قيس بن عامر بن غريب أخا بنى عمرو بن عدىّ وأخاه سالما، خرجا يريدان بنى عمرو بن الحارث، على فرسين، يقال لأحدهما: اللّعاب، والآخر: عفزر، فباتا عند رجل من بنى نفاثة، فقال النّفاثىّ لقيس واخيه: أطيعانى وارجعا، لأعرفنّ رماحكما تكسر فى قتاد نعمان، قالا: إنّ رماحنا لا تكسر إلّا فى صدور الرجال! قال: لا يضرّكما؛ وستحمدان أمرى، فأصبحا غاديين. فلما شارفا متن اللهيماء من نعمان، وبنو عمرو بن الحارث فويق ذلك بموضع يقال له أديمة، وأغارا على غنم لجندب بن أبى أعيبس، وفيها جندب، فتقدّم إليه قيس، فرماه جندب على حلمة ثديه وبعجه قيس بالسيف فأصابت ضبّة السيف وجه جندب، وحزّ قيس

يوم خزاز

ونفرت الغنم نحو الدار فتبعها وحمل سالم على جندب بفرسه عفزر، فضرب جندب خطم الفرس بالسيف فقطعه، وضربه سالم بالسيف فقطع إحدى ثدييه، فخّر جندب ووقف عليه سالم، وأدرك العشى سالما، فخرج وترك سيفه فى المعركة وثوبه بحقويه، ولم ينج إلا بحفن سيفه ومئزره فقال حذيفة بن أنيس فى ذلك من أبيات: كشفت غطاء الحرب لمّا رأيتها ... تميل على صفو من اللّيل أعسرا أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرّا ويمشى إذا ما الموت كان أمامه ... كذا الشّبل يحمى الأنف أن يتأخرا نجا سالم والنفس منه بشرقة ... ولم ينج إلّا جفن سيف ومئزرا وطاب عن اللّعّاب نفسا ورمّة ... وغادر قيسا فى المكرّ وعفزرا يوم خزاز قال أبو عبيدة: تنازع عامر ومسمع ابنا عبد الملك، وخالد بن جبلة، وإبراهيم بن محمد بن نوح العطاردى، وغسّان بن عبد الحميد، وعبد الله بن سالم الباهلىّ، ونفر من وجوه أهل البصرة كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون فى الرياسة يوم خزاز. فقال خالد بن جبلة: كان الأحوص ابن جعفر الرئيس. وقال عامر ومسمع: كان الرئيس كليب وائل. وقال ابن نوح: كان الرئيس زرارة بن عدس، وهذا فى مجلس أبى عمرو بن العلا، فتحاكموا إليه فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة، ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، غير أن أهل اليمن كان الرجل منهم يجئ ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمّال صدقاتهم اليوم،

يوم النسار

وكان أوّل يوم امتنعت معدّ عن [الملوك «1» ] : ملوك حمير، وكانت نزار لم تكثر بعد، فأوقدوا نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخّنوا ثلاثة أيام، فقيل له: وما خزاز؟ قال: هو جبل [قريب من أمرة على يسار الطريق «2» ] خلفه صحراء منعج «3» ، ففى ذلك اليوم امتنعت نزار من أهل اليمن، قال عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد فى خزاز ... رفدنا فوق رفد الرّافدينا فكنّا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا قال أبو عمرو بن العلاء: ولو كان جدّه كليب وائل قائدهم ورئيسهم ما ادّعى الرفادة وترك الرياسة. يوم النّسار قال أبو عبيدة: تحالفت أسد وطيىء وغطفان، ولحقت بهم ضبّة وعدىّ، فغزوا بنى عامر فقتلوهم قتلا شديدا، فغضبت بنو تميم لمقتل بنى عامر، فتجمّعوا حتى لحقوا طيئا وغطفان وحلفاءهم من ضبّة وعدىّ يوم الفجار، فقتلت تميم [طيّئا «4» ] أشدّ مما قتلت عامر يوم النّسار، فقال بشر بن أبى خازم: غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعقبوا بالصّيلم يوم ذات الشقّوق قال: فحلف ضمرة بن ضمرة النهشلىّ وقال: الخمر علىّ حرام حتى يكون لنا يوم يكافئه، فأغار عليهم يوم ذات الشقوق فقتلهم وقال فى ذلك:

يوم خو

الآن ساغ لى الشّراب ولم أكن ... آتى الفجار ولا أشدّ تكلمى حتّى صبحت على الشّقوق بغارة ... كالتّمر تنثر فى جرين «1» الجرّم وأفأت يوما بالجفار بمثله ... وأجزت نصفا من حديث الموسم ومشت نساء كالنساء عواطلا ... من بين عارفة النساء وأيّم ذهب الرّماح بزوجها فتركنه ... فى صدر معتدل القناة مقوّم يوم خوّ قال أبو عبيدة: أغارت بنو أسد على بنى يربوع فاكتسحوا إبلهم، فأتى الصريخ الحىّ فلم يتلاحقوا إلّا مساء بموضع يقال له خوّ «2» ، وكان ذؤاب بن ربيعة الأسدىّ على فرس أنثى، وكان عتيبة بن الحارث بن شهاب على حصان يستنشى ريح الأنثى فى سواد الليل ويتبعها، فلم يعلم عتيبة إلّا وقد أقحم فرسه على ذؤاب ابن ربيعة، وعتيبة غافل لا يبصر ما بين يديه، فرآه ذؤاب فطعنه فى نحره فقتله، ولحق الربيع بن عتيبة فشدّ على ذؤاب فأسره وهو لا يعلم أنه قاتل أبيه، فلم يزل عنده أسيرا حتى فاداه أبوه ربيعة بإبل قاطعه عليها، وتواعدا بسوق عكاظ فى الأشهر الحرم أن يأتى هذا بالإبل وهذا بالأسير، فأقبل أبو ذؤاب بالإبل، وشغل الربيع بن عتيبة فلم يحضر سوق عكاظ، فظنّ ربيعة أبو ذؤاب أن ذؤابا قتل بعتيبة، فقال يرثيه: أبلغ قبائل جعفر مخصوصة ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب إنّ المودّة والهوادة بيننا ... خلق كسحق الرّيطة المنجاب ولقد علمت على التجلّد والأسى ... أنّ الرّزيّة كان يوم ذؤاب

أيام الفجار

إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأحبّهم فقدا على أعدائه ... وأشدّهم فقدا على «1» الأصحاب فلما بلغ إليهم الشعر قتلوا ذؤاب بن ربيعة. أيام الفجار «2» الفجار الأوّل قال أبو عبيدة: أيام الفجار عدّة، فأوّلها بين كنانة وهوازن. وكان الذى هاجه أنّ بدر بن معشر أحد بنى عقال بن مليك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة جعل له مجلسا بسوق عكاظ، وكان منيعا فى نفسه، فقام فى المجلس وقام على رأسه قائم وأنشأ يقول: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا فى عينه لا يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف «3» ... كأنّهم لجّة بحر مسدف «4» قال: ومدّ رجله وقال: أنا أعزّ العرب، فمن زعم أنه أعزّ منّى فليضربها، فضربها الأحيمر بن مازن أحد بنى دهمان بن نضر بن معاوية، فأندرها «5» من الركبة

الفجار الثانى

وقال: خذها إليك أيها المخندف! قال أبو عبيدة: إنما خرصها خريصية يسيرة وقال فى ذلك: نحن بنو دهمان ذو التّغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف [نبنى على الأحياء بالمعرّف «1» ] قال أبو عبيدة: فتحاور الحيّان عند ذلك حتى كاد يكون بينهم قتال، ثم تراجعوا ورأوا أنّ الخطب يسير. الفجار الثانى قال: كان الفجار الثانى بين قريش وهوازن، وكان الذى هاجه أنّ فتية من قريش قعدوا الى امرأة من بنى عامر بن صعصعة وضيئة بسوق عكاظ. وقالوا: بل أطاف بها شباب من بنى كنانة وعليها برقع [فأعجبهم ما رأوا من هيئتها «2» ] ، فسألوها أن تسفر عن وجهها، فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشدّ دبر درعها بشوكة إلى ظهرها وهى لا تدرى، فلما قامت تقلّص الدّرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر الى وجهها فقد رأينا دبرها، فنادت المرأة: يا آل عامر! فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أميّة وأصلح بينهم. الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن وكان الذى هاجه أنّ رجلا من بنى كنانة كان عليه دين لرجل من بنى نضر بن معاوية، فأعدم الكنانىّ، فوافى النضرىّ بسوق عكاظ بقرد، فأوقفه فى سوق عكاظ فقال: من يبيعنى مثل هذا بما لى على فلان حتى أكثر فى ذلك. وإنما فعل ذلك تعييرا للكنانىّ ولقومه، فمرّ به رجل من بنى كنانة فضرب القرد بالسيف

الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن

فقتله، فهتف النضرىّ: يا آل هوازن! وهتف الكنانىّ: يا آل كنانة! فهاج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم رأوا الخطب يسيرا فتراجعوا. قال أبو عبيدة: إنما سميت هذه الأيام بالفجار لأنها كانت فى الأشهر الحرم، وهى الشهور التى يحرّمونها، وهذه يقال لها أيام الفجار الأوّل. الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن وإنما هاجها البّراض بقتله عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، فأبت أن تقتل بعروة البّراض لأن عروة سيّد هوازن، والبّراض خليع من بنى كنانة، وأرادوا أن يقتلوا به سّيّدا من قريش. وهذه الحرب كانت قبل مبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم بستّ وعشرين سنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت أنبل على أعمامى يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة» يعنى أناولهم النبل. وكان سبب هذه الحرب أنّ النعمان بن المنذر اللّخمىّ ملك الحيرة كان يبعث الى سوق عكاظ فى كلّ عام لطيمة «1» فى جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له، حتى تباع هنالك ويشترى له بها من أدم الطائف ما يحتاج إليه. وكانت سوق عكاظ تقوم فى أوّل يوم من ذى القعدة، فيتسوّقون إلى حضور الحجّ، ثم يحجّون، فجّهز النعمان عير اللطيمة ثم قال: من يجيرها؟ فقال البّراض بن قيس الضمرىّ: أنا أجيرها على بنى كنانة، فقال النعمان: ما أريد إلّا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال عروة الرحّال- وهو يومئذ رجل هوازن- أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن! أنا أجيرها لك على أهل الشّيح والقيصوم من أهل

نجد وتهامة! فقال البّراض: أعلى بنى كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلّهم! فدفعها النعمان إلى عروة، فخرج بها وتبعه البرّاض، وعروة لا يخشى منه شيئا، إلى أن نزل بأرض يقال لها أوارة «1» ، فشرب من الخمر وغنّته قينة، ثم نام، فجاء البّراض فدخل عليه، فناشده عروة وقال: كانت منّى زلّة، وكانت الغفلة منى ضلّة، فقتله وخرج وهو يرتجز ويقول: قد كانت الغفلة منّى ضلّه ... هلّا على غيرى جعلت الزّلّه فسوف أعلو بالحسام القلّه وقال: وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بنى بكر ضلوعى هتكت بها بيوت بنى كلاب ... وأرضعت الموالى بالضّروع جمعت له يدىّ بنصل سيف ... أفلّ فخرّ كالجذع الصّريع واستاق اللطيمة إلى خيبر، واتّبعه المساور بن مالك الغطفانىّ، وأسد بن خيثم الغنوىّ حتى دخلا خيبر، فكان البرّاض أوّل من لقيهما، فقال لهما: من الرجلان؟ قالا: من غطفان وغنىّ. قال البرّاض: ما شأن غطفان وغنىّ بهذا البلد؟ قالا: ومن أنت؟ قال: من أهل خيبر. قالا: ألك علم بالبرّاض؟ قال: دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا. قالا: فأين يكون؟ قال: وهل لكما [به «2» ] طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا، فنزلا وعقلا راحلتيهما. قال: أيّكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ قال الغطفانىّ: أنا. قال: فانطلق أدلّك عليه، فانطلقا حتى انتهيا إلى خربة فى جانب خيبر خارجة عن البيوت، فقال البرّاض: هو فى هذه الخربة وإليها يأوى، فأنظرنى حتى أنظر

يوم شمظة وهو يوم نخلة من الفجار الاخر

أثمّ هو أم لا، فوقف له ودخل البرّاض ثم خرج إليه وقال: هو قائم فى البيت الأقصى خلف هذا الجدار، فهل عند سيفك صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ فأعطاه سيفه، فهزّه البرّاض ثم ضربه فقتله، ووضع السيف خلف الباب وأقبل إلى الغنوىّ فقال: ما وراءك؟ قال: أجبن من صاحبك، تركته قائما فى البيت الذى فيه الرجل، والرجل نائم لا يتقدّم إليه ولا يتأخّر عنه، قال الغنوىّ: يا لهفاه! لو كان لى من ينظر راحلتينا، قال البرّاض: هما علىّ إن ذهبتا، فانطلق الغنوىّ والبرّاض خلفه حتى إذا جاور الغنوىّ باب الخربة أخذ البرّاض السيف من خلف الباب ثم ضربه حتى قتله وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما وانطلق. وبلغ قريشا خبر البرّاض بسوق عكاظ، فخلصوا نجيّا، واتّبعتهم قيس لمّا بلغهم أنّ البرّاض قتل عروة الرحّال، وعلى قيس أبو براء عامر بن مالك، فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، فنادوهم.: يا معشر قريش، إنّا نعاهد الله ألّا نبطل دم عروة أبدا، أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا معكم هذه الليلة من العام القابل، فقال حرب بن أميّة لأبى سفيان ابنه: قل لهم: إنّ موعدكم قابل فى هذا اليوم، فقال خداش بن زهير فى هذا اليوم، وهو يوم نخلة، من أبيات أوّلها: يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم وكانت العرب تسمّى قريشا سخينة لأكلها السّخن. يوم شمظة «1» وهو يوم نخلة من الفجار الاخر قال: فجمعت كنانة قرشيّها وعبد منانها والأحابيش ومن لحق بهم من بنى أسد بن خزيمة، وألبس يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمىّ «2» السلاح بأداة

يوم العبلاء

كاملة، سوى ما ألبس من قومه، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة. قال: وجمعت سليم وهوازن وجموعهما وأخلافهما، غير كلاب وبنى كعب، فإنهما لم يشهدا يوما من أيام الفجار غير يوم نخلة، فاجتمعوا بشمظة من عكاظ فى هذه الأيام التى تواعدوا فيها على قرن الحول، وعلى كلّ قبيلة من قريش وكنانة سيّدها، وكذلك على قبائل قيس، غير أنّ أمر كنانة كلّها الى حرب بن أميّة، وعلى إحدى مخبتيها عبد الله بن جدعان، وعلى الأخرى كريز بن ربيعة، وحرب بن أميّة فى القلب، وأمر هوازن كلّها الى مسعود بن معتب الثقفىّ، فزحف بعضهم الى بعض، فكانت الدائرة فى أوّل النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان من آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحرّ القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ويقال ثمانون، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة. يوم العبلاء قال: ثم رجع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قرن الحول من يوم عكاظ، والرؤساء عليهم الذين ذكرناهم فى يوم شمظة، فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على كنانة. وفى هذا اليوم قتل العوّام بن خويلد والد الزبير، قتله مرّة بن معتب الثقفىّ، وقال رجل من ثقيف: منّا الذى ترك العوّام مجندلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار يوم شرب «1» ثم جمع هؤلاء وأولئك فالتقوا على قرن الحول فى اليوم الثالث من أيام عكاظ، فالتقوا بشرب، وهو أعظم أيامهم والرؤساء عليهم وعلى المجنبتين من ذكرنا، وحمل

يوم الحريرة

ابن جدعان يومئذ مائة رجل على مائة بعير ممن لم تكن له حمولة، فالتقوا، وقد كان لهوازن على كنانة يومان متواليان: يوم شمظة والعبلاء، فحمشت قريش وكنانة، وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، فانهزمت هوازن وقتلت قتلا ذريعا، فقال عبد الله بن الزّبعرى يمدح بنى المغيرة: ألا لله قوم ... لدت أخت بنى سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره «1» الخصم وذو الرّمحين أشباك «2» ... من القوّة والحزم فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمى وأبو عبد مناف: هاشم بن المغيرة. وذو الرّمحين: أبو ربيعة بن المغيرة، قاتل يوم شرب برمحين. وأمّهم ريطة بنت سعد بن سهم، فقال فى ذلك جذل الطعان: جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا فاستقبلوا بضراب فضّ جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عطفوا يوم الحريرة «3» ثم جمع هؤلاء وأولئك والتقوا على رأس الحول بالحريرة، وهى حرّة إلى جنب عكاظ، والرؤساء على هؤلاء [وأولئك «4» ] هم الذين كانوا فى سائر الأيام، وكذلك على المجنبتين إلّا أنّ أبا مساحق بن قيس اليعمرىّ قد كان مات، فكان بعده على بكر بن عبد مناة ابن كنانة أخوه جثامة بن قيس، فكان يوم الحريرة لهوازن على كنانة، وهو آخر الأيام الخمسة التى تزاحفوا فيها، فقتل يومئذ أبو سفيان بن أميّة أخو حرب بن

يوم عين أباغ

أميّة، وقتل من بنى كنانة ثمانية نفر، قتلهم عثمان بن أسيد بن مالك من بنى عامر ابن صعصعة، وقتل جماعة أخر، فقال خداش بن زهير: إنّى من النّفر المحمّر أعينهم ... أهل السّوام وأهل الصّخر واللّوب الطّاعنين نحور الخيل مقبلة ... بكلّ سمراء لم تغلب ومغلوب وقد بلوتم وأبلوكم بلاءهم ... يوم الحريرة ضربا غير تكذيب لا قيتم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بزرّاعة عوج العراقيب فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإنّى غير مغلوب وقال الحارث بن كلدة الثّقفىّ: تركت الفارس البّذاخ منهم ... تمجّ عروقه علقا عبيطا دعست لبانه بالرّمح حتّى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا لقد أرديت قومك يابن صخر ... وقد جشّمتهم أمرا سليطا وكم أسلمت منكم من كمىّ ... جريحا قد سمعت له غطيطا مضت أيّام الفجار الآخر، وهى خمسة أيام فى أربع سنين. قال أبو عبيدة: ثم تداعى الناس إلى السلّم على أن يذروا الفضل ويتعاهدوا ويتواثقوا. يوم عين أباغ «1» قال أبو عبيدة: كان ملك العرب المنذر الأكبر بن ماء السماء، ثم مات فملك ابنه عمرو، ثم هلك فملك بعده أخوه قابوس، ثم مات فملك أخوه المنذر بن المنذر

يوم ذى قار

ابن ماء السماء. وذلك فى مملكة كسرى بن هرمز، فغزاه الحارث الغسّانىّ، وكان بالشام من جهة قيصر، فالتقوا بعين أباغ، فقتل المنذر، فولّى كسرى النعمان بن المنذر، ثم سعى الى كسرى فى النعمان فقتله، وقد تقدّم ذكر سبب ولايته ومقتله. وكان النعمان لمّا تحقّق غضب كسرى عليه هرب، ثم علم أنه لا منجى له من يد كسرى فقدم إليه فقتله. واستعمل كسرى على العرب إياس بن قبيصة الطائىّ. وكان النعمان لمّا شخص الى كسرى أودع حلقته، وهى ثمانمائة درع وسلاحا كثيرا، هانىء بن مسعود الشّيبانىّ، وجعل عنده ابنته هندا التى تسمّى حرقة، فلمّا قتل النعمان قالت فيه الشعراء، فقال زهير بن أبى سلمى من أبيات: ألم تر للنّعمان كان بنجوة ... من الشرّ لو أنّ امرأ كان ناجيا فلم أر مخذولا له مثل ملكه ... أقلّ صديقا باذلا أو مواسيا يوم ذى قار قال أبو عبيدة: يوم ذى قار هو يوم الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذى قار، وكلّها حول ذى قار. قال أبو عبيدة: لم يكن هانىء بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانىء بن قبيصة بن هانىء بن مسعود، لأنّ وقعة ذى قار كانت وقد بعث النبىّ صلى الله عليه وسلم وخبّر أصحابه بها فقال: «اليوم أوّل يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبى نصروا» . ولما قتل النعمان كتب كسرى إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يضمّ ما كان للنعمان، فأبى هانىء بن قبيصة أن يسلّم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل، فقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبىّ فقال: يا خير الملوك، ألا أدلّك

على غرّة بكر بن وائل، قال نعم، قال: أقرّها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا نزلت بكر حنو ذى قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيّرهم بين ثلاث خصال: إمّا أن يسلّموا الحلقة، وإمّا أن يعرّوا الدّيار، وإمّا أن يأذنوا بحرب. فتنازعت بكر بينها، فهمّ هانىء بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر وقال: لا طاقة لكم بجموع الملك، فلم تر من هانىء سقطة قبلها. وقال حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلىّ: لا أرى غير القتال، فإنّا إن ركبنا الفلاة لمتنا عطشا، وإن أعطينا بأيدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذراريّنا، فراسلت بكر عنها وتوافت بذى قار، ولم يشهدها أحد من بنى حنيفة، ورؤساء بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانىء بن قبيصة الشيبانىّ، ويزيد بن مسهر الشّيبانىّ، وحنظلة بن ثعلبة العجلىّ. فقال حنظلة بن ثعلبة لهانىء بن قبيصة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتكم ذمّتنا عامّة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها بين قومك، فإن تظفر فستردّ عليك، وإن تهلك فأهون مفقود، ففرّقها فيهم. وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالما. قال: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنّمر. وعقد لخالد بن يزيد البهرانىّ على قضاعة وإياد. وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء ودو سر. وعقد للهامرز التّسترىّ على ألف من الأساورة، وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذى الجدّين- وكان عامله على طفّ سفوان- يأمره أن يوافى إياس بن قبيصة، فسار إليه.

وسار إياس بمن معه من الجند وغيرهم، فلما دنوا من بكر أقبل قيس بن مسعود الى قومه ليلا، فأمرهم بالصبر ثم رجع. فلما التقى الزّحفان وتقرّب القوم، قام حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلىّ فقال: يا معشر بكر، إنّ نشّاب الأعاجم يفرّقكم، فعاجلوهم الى اللّقاء وابدءوهم بالشدّة، وقال هانىء بن مسعود: يا قوم، مهلك مقدور، خير من منجى مغرور. إنّ الجزع لا يردّ القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر، المنيّة خير من الدنيّة، واستقبال المنيّة خير من استدبارها، فالجدّ الجدّ، فما من الموت بدّ. ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن «1» النساء فسقطن الى الأرض وقال: ليقاتل كلّ رجل عن حليلته، فسمّى مقطّع الوضن. قال: وقطع يومئذ سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من مناكبها لتخفّ أيديهم لضرب السيوف فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكرىّ الهامرز مبارزة، ثم قتل يزيد بعد ذلك. فضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، واتبعتهم بكر حتى دخلوا السواد فى طلبهم، وأسر النعمان بن زرعة التغلبىّ. ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أوّل من انصرف إلى كسرى بالهزيمة هو. وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلّا نزع كتفيه. فلمّا أتاه إياس بن قبيصة سأله عن الجيش فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم. فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس فقال: أخى قيس بن قبيصة مريض بعين التّمر، فأردت أن آتيه، فأذن له. ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: إياس، فظنّ أنه قد حدّثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم

صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر فى أحد الأصلين الفتوغرافيين المرموز له بنسخة (ا)

وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه. وقد أكثرت الشعراء فى يوم ذى قار. فمن ذلك ما قاله أعشى بكر من قصيدة له: لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا ... فى يوم ذى قار ما أخطاهم الشّرف لمّا أمالوا الى النّشّاب أيديهم ... ملنا ببيض لمثل الهام تختطف بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم فى آذانها النّطف كأنما الآل فى حافات جمعهم ... والبيض برق بدا فى عارض يكف ما فى الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطّعن فى اللّبات منحرف وقال الأعشى يلوم قيسا من أبيات: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل رحلت ولم تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغنّى عنك ما أنت فاعل فعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريّت ممّا تمرّ المغازل شفى النفس قتلى لم توسّد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل لعلّك يوم الحنو إذ صبّحتهم ... كتائب لم تعصك بهنّ العواذل «1» قال: ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود بما فعل مع قومه حبسه حتى مات فى حبسه، ففيه قال الأعشى: وعرّيت من أهل ومال جمعته صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر فى أحد الأصلين الفتوغرافيين المرموز له بنسخة (ا) [انتهت أيام العرب على وجه الاختصار وحذف التكرار من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» لمؤلفه أحمد بن عبد الوهاب القرشىّ المعروف بالنّويرىّ

صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر أيضا فى الأصل الثانى الفتوغرافى المرموز له بنسخة (ب)

رحمة الله تعالى عليه وغفرانه على يد كاتبه فقير رحمة ربه الشامل نور الدين بن شرف الدين العالمى، فى اليوم السابع والعشرين من شهر رجب الفرد من شهور سنة سبع وستين وتسعمائة من الهجرة النبوية، وصلى الله على نبيّنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا الى يوم الدين، ويليه الجزء الرابع عشر من نسخة الأصل وأوّله: (القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية) ] . صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر أيضا فى الأصل الثانى الفتوغرافى المرموز له بنسخة (ب) [انتهت أيام العرب على وجه الاختصار، وحذف التكرار، بعون الله تعالى وتوفيقه ويمنه، وبتمامها كمل الجزء الثالث عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء الرابع عشر من الكتاب، وهو الجزء الرابع من التاريخ: القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية. وحسبنا الله ونعم الوكيل] . «وكتب بالهامش مانصه: بلغ مؤلفه مقابلة بأصله والحمد لله» . أنجزت- بعون الله وحسن توفيقه- تصحيح وتحقيق الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة دار الكتب المصرية فى يوم الأحد 17 من ذى الحجة سنة 1368 هـ (9 أكتوبر سنة 1949 م) . ويليه الجزء السادس عشر وأوّله: «القسم الخامس من الفنّ الخامس فى أخبار الملّة الإسلامية» . محمد عبد الجوّاد الأصمعىّ المصحح بالقسم الأدبى بدار الكتب المصرية

كمل طبع «الجزء الخامس عشر من (نهاية الأرب فى فنون الأدب) » بمطبعة دار الكتب المصرية فى يوم الأربعاء 11 محرّم سنة 1369 (2 نوفمبر سنة 1949) محمد نديم مدير المطبعة بدار الكتب المصرية (مطبعة دار الكتب المصرية 15/1942/1500)

[مقدمة الجزء السادس عشر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بيان رتب شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرىّ كتابه «نهاية الأرب» على خمسة فنون: الفنّ الأوّل فى السماء والآثار العلوية، والأرض والمعالم السفلية. والثانى فى الإنسان وما يتعلق به. والثالث فى الحيوان. والرابع فى النبات. والخامس فى التاريخ. وقد أنجز القسم الأدبى بالدار فيما مضى طبع خمسة عشر جزءا؛ تشتمل على الفنون الأربعة الأولى، وقسم من فنّ التاريخ؛ يبدأ بخلق آدم؛ ثم تاريخ الرسل من بعده، وأخبار الأمم والملوك فى مختلف الأصقاع، إلى وقت ظهور الإسلام. واليوم تقدّم الدار إلى قراء العربية ثلاثة أجزاء، من السادس عشر إلى الثامن عشر؛ وقد حرصت على أن تخرج هذه الأجزاء الثلاثة معا، لأنها تنتظم موضوعا واحدا من فنّ التاريخ، هو تاريخ السيرة النبوية العطرة. وقد بسط المؤلف القول فى سيرته صلوات الله عليه؛ مبتدئا بذكر نسبه ونسب آبائه، ثم تاريخه من يوم مولده إلى وفاته؛ متناولا جميع الأحداث التى لابست حياته، والمشاهد التى اقترنت بجهاده، وأخباره مع الوفود، وكتبه إلى الملوك؛ مع ذكر شمائله ومعجزاته؛ جامعا مستوعبا، فى تفصيل محكم، وتبويب متناسق. معتمدا فى ذلك على النقل من كتب السير والمغازى، وتواريخ الصحابة؛

وأمهات كتب التفسير، وكتب السنة الصحاح. ومما نقل عنه كتب لم يسبق نشرها؛ وأخرى مما لم نعثر عليه من التراث القديم فى هذا الباب. وبهذا الجمع والتأليف جاءت هذه الأجزاء أوفى مرجع لسيرة الرسول عليه السلام. وقد اعتمد القسم الأدبى فى تحقيق هذه الأجزاء على نسختين: النسخة الأولى مصوّرة عن نسخة مخطوطة بمكتبة «كبريلى» بالآستانة؛ وتتألف من واحد وثلاثين جزءا؛ وهى بالدار برقم (549) معارف عامة. وأصلها مكتوب بقلم معتاد واضح، وعناوين الفصول والأبواب بخط الثلث؛ وهى مكتوبة بخطوط مختلفة، وأكثر أجزائها بخط «نور الدين بن شرف الدين العاملى» ، كتبها ما بين سنتى 966، 967 هـ. وفى كل صفحة خمسة وثلاثون سطرا، ومتوسط الكلمات فى السطر خمس عشرة كلمة، وقد رمز لهذه النسخة بحرف (ا) . أما الثانية؛ فهى نسخة مصوّرة عن نسخة مخطوطة بمكتبة «أياصوفيا» بالآستانة؛ وهى كسابقتها تتألف من واحد وثلاثين جزءا، والموجود منها بالدار ثمانية عشر جزءا غير متصلة؛ محفوظة برقم (551) معارف عامة، وبآخر كل جزء منها عبارة تشير إلى أنها بخط المؤلف؛ كتبت ما بين سنتى 721، 730 هـ تقريبا. وعناوين الفصول والأبواب فيها بالخط الثلث، وتحتوى كل صفحة على سبعة عشر سطرا، ومتوسط كلمات كل سطر ثمانى كلمات. وقد رمز إليها بالحرف (ج) . وبأوّل كل جزء منها وقفية للكتاب على المكتبة المحمودية التى أنشأها محمود الأستادار بخط الموازنيين «1» بالقاهرة؛ وتاريخ هذه الوقفية سنة 797 هـ.

أما النسخة التى رمز إليها فى الجزء الثامن بالحرف (ب) فهى قطعة مصوّرة عن مكتبة مشيخة علماء الإسكندرية، وتنتهى فى ص 69 من ذاك الجزء. وقد رجعنا فى تحقيق الجزء السادس عشر إلى نسخة (ا) فقط؛ أما السابع عشر والثامن عشر فقد رجعنا فى تحقيقهما إلى (ا) و (ج) . وقد وقع فى النسختين كثير من الغموض والتحريف؛ فبذلنا غاية الجهد فى بيان الغامض، وإيضاح المبهم، وحل المشكل، ورجعنا فى ذلك إلى ما أمكن الرجوع إليه من مصادر المؤلف؛ ثم إلى أمهات كتب التاريخ والتفسير والحديث واللغة. وقام الأستاذ محمد بن تاويت الطنجى الأستاذ الآن بجامعة أنقرة بتركيا، بتحقيق ثلاث عشرة ملزمة من الجزء السادس عشر؛ وتولى مصححو القسم الأدبى تصحيح بقية هذا الجزء، مع الجزأين: السابع عشر والثامن عشر. وقد جدّت الدار أخيرا فى استحضار بقية الأجزاء الباقية من النسخة المنسوبة لخط المؤلف من المكتبات المختلفة؛ واستكمال نسخ هذا الكتاب وأجزائه من المكتبات الأخرى، ليتم تحقيق بقية هذه الأجزاء على المنهج العلمى القويم؛ ونأمل أن يتم هذا قريبا إن شاء الله. ومن الله العون والحول، والهداية والتوفيق. 16 رجب سنة 1374 18 مارس سنة 1955 محمد أبو الفضل إبراهيم مدير القسم الأدبى بدار الكتب المصرية

فهرس الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ .... صفحة القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الملة الإسلامية الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الخامس فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 نسبه الطاهر صلى الله عليه وسلم 2 ذكر أمهات رسول الله صلى الله عليه وسلم 5 ذكر نبذة من أخبار آبائه 6 خبر انتزاع البيت ومكة من خزاعة ومن ولى البيت بعد إسماعيل عليه السلام، إلى أن انتزعه قصى ابن كلاب 22 ذكر ولاية هاشم الرّفادة والسقاية 34 أخبار عبد المطلب بن هاشم 39 ذكر ما قيل فى سبب تسميته وكنيته 40 ذكر حفر عبد المطلب زمزم، وما وجد فيها 43 ذكر خبر استسقاء عبد المطلب لبنى قيس عيلان، وهذيل ومن معهما 48

ذكر نذر عبد المطلب نحر ابنه، وخروج القداح على عبد الله والد رسول الله، وفدائه 50 ذكر زواج عبد الله آمنة بنت وهب، أمه عليه السلام 56 خبر المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب 58 حمل آمنة برسول الله، وما رأته فى ذلك 63 وفاة عبد الله بن عبد المطلب 66 ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم 67 ذكر أسمائه وكناه 72 ذكر ما جاء فى تسميته محمدا، وأحمد، ومن تسمى بمحمد قبله من العرب، واشتقاق ذلك 75 أسماؤه فى الكتب المنزلة 78 أسماؤه ونعوته التى جرت على ألسنة أئمة الأمة 79 مراضعه وإخوته من الرضاعة وما ظهر من معجزاته فى زمن الرضاعة وحال طفوليته 80 وفاة أمه 87 كفالة جده له 88 خروجه إلى الشام مع عمه أبى طالب، وخبر بحيرا الراهب 90 رعيته الغنم 93 حضوره حلف الفضول 94 خروجه إلى الشام المرة الثانية، وحديث نسطورا 95 تزويجه خديجة بنت خويلد 97

حضوره هدم الكعبة وبناءها 99 اختلاف قريش فى رفع الركن وتراضيهم به صلى الله عليه وسلم، وخبر النجدىّ 102 ذكر المبشرات به صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك 105 خبر سلمان الفارسىّ وقصته فى سبب إسلامه وهجرته إلى المدينة 129 خبر سيف بن ذى يزن وقصته مع عبد المطلب وتبشيره به صلى الله عليه وسلم 137 خبر من ذكر صفته صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه وذكّر قومه بها 148 ذكر بشائر كهان العرب به صلى الله عليه وسلم 153 خبر مازن الطائىّ فى سبب إسلامه 165 ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم، وما بدئ به من النبوة 168 ذكر فترة الوحى عنه، وما أنزل بعد فترته 176 ذكر فرض الصلاة 178 أول من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله 180 خبر إسلام على بن أبى طالب 181 خبر إسلام زيد بن حارثة 183 ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصديق 187 ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش 192 ذكر دعائه صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام 195 ذكر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهروا بالعداوة 198 ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمره وما كان بينهم من المحاورات 199

ذكر تحزّب قريش عليه صلى الله عليه وسلم، وأذاهم له ولأصحابه 203 ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب 208 ذكر مشى عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن 209 اجتماع أشراف قريش إليه صلى الله عليه وسلم، وما عرضوا عليه، وما طلبوا منه أن يريهم إياه ويخبرهم به 212 قصة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيه 217 خبر النضر بن الحارث وما قال لقريش وإرسالهم إياه إلى أحبار يهود بيثرب، ومعه عقبة بن أبى معيط، وما عادا به 219 ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف مما سألوه عنه 222 ذكر ما أنزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم، من تسيير الجبال وغيره 225 ذكر ما كان من عناد قريش بعد ما عرفوا من صدقه فيما حدّث 227 ذكر أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 228 ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش 229 هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى 232 رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكة، وما قيل فى سبب رجوعهم 233 ما ورد فى توهين حديث الغرانيق 236 الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة، ومن هاجر إليها من الصحابة، 241 ذكر إرسال قريش إلى النجاشى فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وإسلامه 247

إسلام عمر بن الخطاب 253 تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب 258 ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة 262 ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر 265 أسماء من هلك بأرض الحبشة من هاجر إليها 267 من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش، وما أنزل فيهم 268 خروج أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى الهجرة، وعوده وجواره ورده الجوار 275 وفاة أبى طالب بن عبد المطلب ومشى أشراف قريش إليه 277 وفاة خديجة بنت خويلد 279 خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعوده إلى مكة «خبر الإسراء والمعراج 283 ذكر من قال إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة 293 ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه 295 ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك 300 ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم 302 خبر مفروق بن عمرو وأصحابه 306 بيعة العقبة الأولى 310 بيعة العقبة الثانية 312 بيعة العقبة الثالثة 313

تسمية من شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل آية 317 أنزلت فى القتال 321 أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة «اجتماع قريش فى دار الندوة 326 ذكر ابتداء هجرته صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه 330 خبر الغار وما قيل فيه 331 خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر من الغار إلى المدينة، وخبر سراقة بن مالك وأمّ معبد 333 قدومه مع أبى بكر إلى المدينة 339 خروجه من قباء، وتحوّله إلى المدينة 341 بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة 344 بناء المسجد الذى أسس على التقوى، وهو مسجد قباء 345 ذكر ما أصاب المهاجرين من حمّى المدينة 346 ذكر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 347 ذكر كتابه الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود 348 أخبار المنافقين من الأوس والخزرج، وما أنزل فيهم من القرآن 351 ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة له صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن 362 إسلام عبد الله بن سلام ومخيريق 363 سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتراطهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به 370

كتابه صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر 372 ما قاله أحبار يهود فى أوائل السور 373 ذكر شىء من مقالات يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك 374 ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودىّ بين الأوس والخزرج من الفتنة 378 ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم، وما أنزل الله تعالى فى ذلك 380 قصة الرجم 384 ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم 390 ذكر الكلام على مشكل حديث السّحر 393 خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 395 ذكر الحوادث بعد الهجرة، من السنة الأولى إلى العاشرة حوادث السنة الأولى 396 حوادث السنة الثانية 397 ذكر صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة 397 ذكر خبر الأذان 399 حوادث السنة الثالثة 400 حوادث السنة الرابعة 400 نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم 401 حوادث السنة الخامسة 402 ما وقع بين المهاجرين والأنصار فى غزوة المريسيع 402

حديث الإفك، وما أنزل الله تعالى من براءة عائشة رضى الله عنها 405 خبر التيمم 417 حوادث السنة السادسة 418 هجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وما أنزل الله تعالى فى هجرة النساء 418 حوادث السنة السابعة 419 حوادث السنة الثامنة 420 اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، وخطبته عليه 420 إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن أبى طلحة 421 حوادث السنة التاسعة 423 خبر مسجد الضرار وهدمه، ومن اتخذه من المنافقين 427 إسلام كعب بن زهير، وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم 429 حجّ أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه بالناس، وأذان علىّ رضى الله عنه بسورة براءة 439 حوادث السنة العاشرة، وفيها كانت حجّة الوداع 440

الجزء السادس عشر

الجزء السادس عشر [تتمة الفن الخامس في التاريخ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الملّة الإسلاميّة لمّا انتهى الغرض فى التاريخ إلى الغاية التى ذكرتها، والقصص فى الأخبار التى أوردتها، والدول والوقائع التى انتخبتها، مما طالعته وجررتها؛ عمدت إلى ذكر الملّة الإسلامية التى فضّلها الله تعالى على سائر الملل، ورفع أهلها بالعمل الصالح ووفّقهم لصالح العمل، ووعدهم برحمته؛ فهم من وعده فى أمن، وحذّرهم عقابه؛ فهم من وعيده على وجل، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم وأنفسهم فبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة وعدل، وجعله شافعا لذنوبهم فى يوم أحجم فيه من سواه عن الشفاعة وبنفسه اشتغل، وجعلهم به خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله؛ إذ حجد غيرهم ونكل؛ فهم الشهداء على الناس لأبيائهم، وناهيك بها رتبة تقدّم بها أواخر القوم على الأول. وقلت: بالله التوفيق، ومنه الإعانة وعليه المكل.

الباب الأول من القسم الخامس من الفن الخامس فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الباب الأوّل من القسم الخامس من الفن الخامس فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى السيرة التى ظهرت آياتها، واشتهرت معجزاتها، وأشرقت أنوارها، وانتشرت أخبارها، وعمّت فضائلها، وطابت بكرها وأصائلها، وحسنت أوصافها، وكثر إنصافها، وجاءت فى ظلمة الضّلالة تتقّد، وما أنكر العدوّ فضائلها بل شهد: وفضائل شهد العدوّ بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء تالله لقد عجز الواصفون عن وصفها، واعترف المادحون بالتقصير عن بلوغ اليسير من مدى مدحها: وإذا أردت لك الثناء فما الّذى ... - والله قد أثنى عليك- أقول ولنبدأ بذكر نسبه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وإن كنا قدّمناه مستوفى فى باب الأنساب «1» ، فلا غنية عن سرده ههنا. هو أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله، بن عبد المطّلب- واسم عبد المطّلب: شيبة الحمد- بن هاشم- واسم هاشم عمرو- بن عبد مناف-[واسمه «2» ] المغيرة- بن قصىّ- واسمه زيد- بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، ابن لؤىّ، بن غالب، بن فهر. وإلى فهر جمّاع قريش، ومن كان فوق فهر فليس

هو بقرشىّ. وفهر هو ابن مالك، بن النّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة- واسم مدركة «1» عامر- بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان. روى عن ابن عباس، رضى الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز فى نسبه معدّ بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: «كذب النسّابون «2» » . قال الله عز وجل: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «3» ) . قال ابن عباس: لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه. وعن هشام بن محمد «4» قال: سمعت من يقول: «كان معدّ على عهد عيسى بن مريم عليه السلام» . وقد تقدّم فى باب الأنساب، وهو الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الثانى من كتابنا «5» هذا، فى السفر الثانى من هذه النسخة، ما اختاره الشريف أبو البركات «6» محمد بن أسعد بن على بن معمر الحسينىّ الجوّانىّ «7» النسابة

فى «مقدّمته «1» » بعد معدّ: بن عدنان، بن أدّ، بن أدد «2» ، بن اليسع، بن الهميسع، بن سلامان، بن نبت، بن حمل، بن قيذار، بن إسماعيل الذبيح، بن إبراهيم الخليل، صلى الله عليهم وسلم، ابن تارح، وهو آزر، بن ناحور «3» ، بن ساروغ، بن أرغو، ابن فالغ، بن عابر، وهو هود النبىّ عليه السلام- وهو جمّاع قيس ويمن ونزار وخندف- بن شالخ، بن أرفحشذ، بن سام، بن نوح [النبىّ «4» ] عليه السلام، بن لمك، بن متّوشلخ، بن أخنوخ، وهو إدريس النبىّ عليه السلام، بن يارد، ابن مهلائيل بن قينان، بن أنوش، بن هبة الله شيث، بن أبى البشر آدم عليه السلام «5» . هذا ما أورده الشريف الجوّانى قال: وعليه أكثر أئمة الأنساب. وسنزيد إن شاء الله تعالى، فى أخبار آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيادة حسنة يحتاج إلى إيرادها من عدنان فمن بعده، تقف عليها «6» قريبا، إن شاء الله تعالى، بعد ذكرنا لأمهاته صلى الله عليه وسلم.

ذكر أمهات رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أمهات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبد الله محمد بن سعد رحمه الله تعالى فى طبقاته «1» الكبرى: «أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه قال: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، ابن زهرة، بن كلاب بن مرّة. وأمّها برّة، بنت عبد العزّى، بن عثمان، بن عبد الدّار، بن قصىّ؛ بن كلاب. وأمّها أمّ حبيب، بنت أسد، بن عبد العزّى، ابن قصىّ بن كلاب. وأمّها برّة بنت عوف، بن عبيد، بن عويج، بن عدىّ، ابن كعب، بن لؤىّ. وأمّها قلابة بنت الحارث، بن مالك، بن حباشة، بن غنم، بن لحيان، بن عادية، بن صعصعة، بن كعب، بن هند، بن طابخة، بن لحيان، بن هذيل، بن مدركة، بن الياس، بن مضر. وأمّها أميمة بنت مالك، ابن غنم بن لحيان، بن عادية، بن صعصعة. وأمّها دبّ «2» بنت ثعلبة، بن الحارث، ابن تميم، بن سعد، بن هذيل، بن مدركة. وأمّها عاتكة بنت غاضرة، بن حطيط، بن جشم، بن ثقيف، بن منبّه «3» ، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان- واسمه النّاس- بن مضر. وأمّها ليلى بنت عوف، بن ثقيف «4» . وأمّ وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب قيلة. ويقال: هند بنت أبى قيلة» . وقال ابن الكلبىّ: «كتبت للنبىّ صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهنّ سفاحا، ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية» .

ذكر نبذة من أخبار آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعده إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب

وعن محمد بن علىّ بن الحسين «1» أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم؛ لم يصبنى من سفاح أهل الجاهلية شىء؛ لم أخرج إلّا من طهرة «2» » . والله الفعّال. ذكر نبذة من أخبار آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعده إلى أبيه عبد الله بن عبد المطّلب قد تقدّم ذكر آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى باب الأنساب، وذكرنا كلّ أب من آبائه وأولاده ومن أعقب منهم، وجعلنا العمدة على سرد عمود النسب الشريف على ما تقف عليه هناك فى السفر الثانى من كتابنا هذا «3» من هذه النسخة، وسردنا النسب أيضا آنفا. وقد رأينا أن نذكر فى هذا الموضع نبدة أخرى زيادة على ذلك نذكر فيها الأسماء، والكنى، والأمّهات، وبعض الوقائع والأخبار، مما لم يتقدّم ذكره، فنقول وبالله التوفيق: أمّا عدنان فإليه انقطع علم أهل الأنساب حقيقة؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا انتهى فى النسب إلى معدّ بن عدنان أمسك، ثم قال: «كذب النسّابون» . قال الله جلّ ثناؤه: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) . وقد روى أنه قال: «عدنان بن أدد» . والله أعلم.

وأما معد بن عدنان

وأمّا معدّ بن عدنان ، فكنيته «1» أبو قضاعة، كنّى بولده قضاعة وهو بكره. ومعدّ (بتحريك العين وتشديد الدال) ، وفى طىّء معد (بتسكين العين) بن مالك ابن قميئة «2» ، وفى خثعم أيضا معد (بتسكين العين) بن الحارث، بن تميم، بن كعب، بن مالك، بن قحافة. وأمّ معدّ بن عدنان: مهدد، بنت اللهم بن جلحب الجرهميّة «3» ، وقيل فيها مهاد بنت لهم. وقيل اللهم بنت جلحب، وفى رواية خليد، بن طسم «4» ، بن يلمع، ابن عابر، بن اسليخيا، بن لاوذ «5» ، بن سام، بن نوح. حكاه الزّبير بن بكّار. وذكر عبد الملك بن حبيب أنّ ولد معدّ بن عدنان سبعة عشر رجلا، درج منهم بلا عقب تسعة، وأعقب ثمانية. وقال أبو الربيع بن سالم «6» : ذكر الزّبير بن أبى بكر «7» ، أن بختنصّر لمّا أمر بغزو بلاد العرب «8» ، وإدخال الجنود عليهم وقتلهم لقتلهم «9» انبياء الله تعالى، وردّهم رسالاتهم،

وأما نزار بن معد،

أمر إرميا بن حلقيا- وكان فيما ذكر نبىّ بنى إسرائيل فى ذلك الزمان- أن أئت معدّ بن عدنان الذى من ولده خاتم النبيين، واحمله معك إلى الشام، وتولّ أمره. وقال السّهيلىّ: «أوحى الله تعالى إلى إرميا أن أحمل معدّ بن عدنان على البراق إلى أرض العراق» ، فإنى مستخرج من صلبه نبيّا اسمه محمد؛ فحمل معه معدّ وهو ابن اثنتى عشرة سنة، وكان مع بنى إسرائيل إلى أن كبر وتزوّج امرأة اسمها معانة» . قال أبو الرّبيع بن سالم: «ويقال المحمول عدنان، والأوّل أكثر. قال: وفى حديث ابن عبّاس رضى الله عنهما: إن الله تعالى بعث ملكين فاحتملا معدّا، فلما رفع الله تعالى بأسه عن العرب، ردّاه إلى موضعه من تهامة، فكان بمكة ونواحيها مع أخواله من جرهم» . وقال الزّبير: «حدّثنى علىّ بن المغيرة قال: لمّا بلغ بنو معدّ عشرين رجلا، أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم ثلاث مرّات فقال: يا ربّ، دعوتك على قوم فلم تجبنى فيهم بشىء. قال: يا موسى، دعوت على قوم فيهم «2» خيرتى فى آخر الزمان» . وفى هذه الرواية ما فيها من المنافاة لما تقدّم من أنه كان مع إرميا، ومن قال إنه كان على عهد عيسى عليه السلام «3» . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع. وأمّا نزار بن معدّ، فكنيته «4» أبو إياد، وقيل أبو ربيعة. ونزار (بكسر النون) . قال السهيلىّ: «5» «من النّزر وهو القليل. وكان أبوه حين ولد له، ونظر إلى النور بين

وأما مضر بن نزار

عينيه، وهو نور النّبوّة الذى كان ينتقل فى الأصلاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فرح به فرحا شديدا، ونحر وأطعم وقال: إنّ هذا كلّه نزر لحقّ هذا المولود، فسمّى نزارا لذلك» . وأمّ نزار: معانة بنت جوشم «1» بن جلهمة، بن عمرو «2» ، بن هلينيّه بن دوّة «3» ، بن جرهم. قال السهيلى: «ويقال اسمها ناعمة» . وأما مضر بن نزار فأمه «4» [و] أم إياد: سودة بنت عكّ، بن الذّيب «5» ، بن عدنان. وقال محمد بن الحسين فى كتاب «التحفة «6» » : إنّ أم مضر اسمها سودة بنت عكّ، قال: وقيل حبّية بنت عكّ. وقاله الزبير بن بكّار. وروى أن أم مضر خاصة سودة بنت عكّ؛ وربيعة وأنمار وإياد أمهم شقيقة بنت عكّ؛ وإلى مضر تنتسب مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السّوداء سميت بذلك لسكناها المظالّ. وقال الزبير عن غير واحد من أهل العلم بالنّسب: إنهم قالوا: لما حضرت نزارا الوفاة، آثر إيادا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة «7» حمراء فسمّى مضر الحمراء،

وأعطى ربيعة فرسه، فسمّوا ربيعة الفرس، وأعطى أنمارا جارية له تسمّى بجيلة فحضنت بنيه «1» ، فسمّى بجيلة أنمار. وقد تقدم ذكر خبر أولاد نزار فى الأمثال عند قولهم: «إن العصا من العصيّة «2» » ، و «إن خشينا من أخشن «3» » ، وقصتهم مع الأفعى الجرهمىّ «4» ، وهو فى الباب الأوّل من القسم الثانى من الفن الثانى فى السفر الثالث من هذه النسخة من كتابنا هذا «5» . قال ابن الأثير الجزرىّ «6» : «ومضر أوّل من حدا، وكان سبب ذلك أنه سقط عن بعيره، فانكسرت يده فجعل يقول: يا يداه! يا يداه! فأتته الإبل من المرعى، فلما صلح وركب حدا، وكان من أحسن الناس صوتا. وقيل بل انكسرت يد مولى له فصاح، فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء وزاد الناس فيه» . قال السّهيلى: وفى الحديث: «لا تسبّوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مؤمنين «7» » وروى عبد الملك بن حبيب بسنده إلى سعيد بن المسيّب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تسبّوا مضر فإنه كان مسلما على ملة إبراهيم «8» » . وعن عبد الملك بن حبيب والزبير وجماعة: أن ربيعة ومضر الصّريح من ولد إسماعيل ابن إبراهيم، عليهما السلام. قال: وحدثنى أبو معاوية، عن ابن جريج، عن عطاء،

وأما الياس بن مضر،

عن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: «مات أدد والد عدنان، وعدنان، ومعدّ بن عدنان، وربيعة، ومضر، وقيس عيلان، وتميم، وضبّة، وأسد، وخزيمة، على الإسلام على ملة أبيهم إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بما يذكر به المسلمون «1» » . والله الموفق. وأما الياس بن مضر، فكيته «2» أبو عمرو. وقال صاحب الاشتمال «3» : قال الزبير: ولد مضر بن نزار الياس بن مضر، فلما أدرك الياس أنكر على بنى إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبان فضله فيهم، ولان جانبه لهم، حتى جمعهم رأيه ورضوا به، فردّهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت سنّتهم تامة على أوّلها. وهو أوّل من أهدى البدن إلى البيت، وهو أوّل من وضع [حجر «4» ] الرّكن للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح. فكان الياس أوّل من ظفر به، فوضعه فى زاوية البيت. وبعض الناس يقولون: إنما كان ذهب بعد إبراهيم وإسماعيل. قال: وفى هذا كله نظر. قال: وقال الزبير: ولم تزل العرب تعظّم الياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة، كتعظيمها لقمان وأشباهه. قال ابن دحية «5» : وهو وصىّ أبيه، وكان ذا جمال بارع ودين، تعظمه العرب قاطبة، وهو أوّل من مات بالسّلّ. قال السّهيلى «6» : «وإنما سمى السلّ داء ياس وداء «7» الياس لأن الياس بن مضر مات به «8» » .

وأما مدركة بن الياس

ولما مات أسفت امرأته خندف عليه أسفا شديدا. وكانت نذرت، إن هلك، [أ] لّا تقيم فى بلد مات فيه، ولا يظلّها بيت، وتسيح فى الأرض، وحرّمت الرجال والطيّب بعده. فلما هلك خرجت ساتحة حتى هلكت. وكانت وفاته يوم الحميس، فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس. قال السهيلىّ: «ويذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم [أنه «1» ] قال: «لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا» . وذكر أنه كان يسمع فى صلبه لمبية النبىّ، صلى الله عليه وسلم، بالحج «2» » . والله أعلم. وأما مدركة بن الياس فقال «3» ابن السائب: واسمه عمرو. وقال ابن إسحاق والزبير: عامر «4» ، وكنيته أبو الهذيل، وقيل أبو خزيمة. وأمه خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. واسم أمها ضريّة بنت ربيعة بن نزار، وبها سمى «حمى «5» ضريّة» . وأما خزيمة بن مدركة فكنيته «6» أبو أسد، وأمه سلمى بنت أسلم بن الحاف ابن قضاعة. وقيل سلمى بنت أسد بن ربيعة، وخزيمة هذا هو الذى نصب هبل على الكعبة، فكان يقال هبل خزيمة، هكذا ذكره ابن الأثير «7» . وروى عن عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أن خزيمة مات على ملة إبراهيم عليه السلام.

أما كنانة بن خزيمة

أما كنانة بن خزيمة ، فكنيته «1» أبو النّضر، وأمّه عوانة بنت سعد بن قيس [بن عيلان «2» ] ، ويقال: بل هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان. قال أبو الحسن سلّام ابن عبد الله بن سلام الإشبيلىّ: وقال أبو عمرو العدوانى لابنه فى وصيته: «يا بنى أدركت كنانة بن خزيمة- وكان شيخا مسنّا عظيم القدر، وكانت العرب تحج إليه لعلمه وفضله- فقال: إنه قد آن خروج نبىّ بمكة يدعى أحمد، يدعو إلى الله، وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتّبعوه تزدادوا شرفا إلى شرفكم، وعزّا إلى عزّكم، ولا تتعدوا ما جاء به، فهو الحق» . والله الموفق. وأما النّضر بن كنانة . فكنيته «3» أبو يخلد، كنّى بابنه يخلد «4» . واسم النّضر قيس. قال أبو ذرّ الخثنىّ: النّضر: الذّهب الأحمر «5» . وهو النّضار؛ سمّى النّضر بذلك لوضاءته وإشراق وجهه. وأمّه برّة بنت مر بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر أخت تميم بن مرّ. والذى عليه أكثر أهل السّير والمؤرّخين أن كنانة خلف على برّة بعد أبيه خزيمة، على ما كانت الجاهلية تفعله؛ إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها «6» . ويردّ هذا ما روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما ولدنى من سفاح أهل الجاهلية شىء؛ ما ولدنى إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام «7» » ، وقول ابن الكلبىّ: «كتبت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم خمسمائة أمّ، فلم أجد فيها شيئا مما كان من أمر الجاهلية» . وقد تقدّم ذكر ذلك آنفا.

وقد اعتذر القائلون هذا القول عنه بأعذار، وأقاموا أدلة على أنه ليس يسقاح ولا من أمر الجاهلية. وفى أعذارهم وأدلّتهم بعض تكلّف. وقد حصل الظفر- ولله الحمد والمّنة- بما يزيل هذا الإشكال، ويرفع هذا الاحتمال، ويخلّص من مهاوى هذه الشّبه؛ وهو الصحيح، إن شاء الله تعالى، وسنذكره بعد ذكر أعذارهم وأدلّتهم. أما ما استدلوا به على تقدير أن يكون كنانة خلف على برة بنت مرّ بن ادّ بعد أبيه، فقال السّهيلىّ «1» ، رحمه الله، فى قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «2» ) ؛ أى إلا ما قد سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام، قال: وفائدة لاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أنه لم يكن فى أجداده بغية ولا سفاح؛ ألا ترى أنه لم يقل فى شىء نهى عنه فى القرآن (إلا ما قد سلف) نحو: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى «3» ) ؛ ولم يقل (إلا ما قد سلف) ، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «4» ) * ولم يقل (إلا ما قد سلف) ، ولا فى شىء من المعاصى التى نهى عنها إلا فى هذه [لآية «5» ] ، وفى الجمع بين الأختين؛ لأن الجمع بينهما قد كان مباحا فى شرع من قبلنا؛ وقد جمع يعقوب عليه السلام، بين راحيل «6» وأختها ليا؛ فقوله: (إلا ما قد سلف) التفات إلى هذا المعنى وتنبيه على هذا المعزى. ونقل السّهيلىّ هذه التكتة عن القاضى أبى بكر بن العربىّ. واعتذار من اعتذر عن هذه الواقعة على هذا المنوال.

وأما مالك بن النضر،

وأما ما ارتفع به هذا الإشكال، فهو ما نقله أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ برحمه الله- فى كتاب له سماه «كتاب الأصنام» قال فيه: «وخلف: كنانة بن خزيمة على زوجة أبيه بعد وفاته، وهى برّة بنت أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر، وهى أمّ أسد بن الهون؛ ولم تلد لكنانة ولدا ذكرا ولا أنثى، ولكن كانت ابنة أخيها، وهى برّة بنت مرّ بن أدّ بن طابخة: أخت تميم بن مرّ عند «1» كنانة بن خزيمة، فولدت له النّضر بن كنانة» . قال: «وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه لاتّفاق اسمهما «2» وتقارب نسبهما» . قال: «وهذا الذى عليه مشايخنا وأهل العلم بالنسب» . قال: «ومعاذ الله أن يكون أصاب [نسب «3» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم مقت نكاح؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام، حتى خرجت من أمى وأبى» . قال: «ومن اعتقد غير هذا فقد كفر وشكّ فى هذا الخبر. قال: والحمد لله الذى طهّره من كل وصم وطهّر به» . وأما مالك بن النّضر، فكنيته «4» أبو الحارث، وأمّه عاتكة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس عيلان، ولقبها عكرشة، وقيل عوانة بنت سعد القيسية، وقيل غير ذلك. ومالك هو أبو قريش كلها. وأما فهر بن مالك - وهو قريش، وفهر لقب غلب عليه- فكنيته «5» أبو غالب، وهو جمّاع قريش فى قول هشام بن الكلبىّ. وأم فهر جندلة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض الجرهمى «6» ؛ ومن جاوز فهرا فليس هو من قريش.

وقد اختلف فى تسمية قريش قريشا، ومن أوّل من تسمّى به، فقال محمد بن كعب «1» : إنما سميت قريش قريشا لتجمّعها بعد تفرّقها، وقال محمد بن سلام: لما جمع قصىّ قبائل النّضر، وحارب بهم خزاعة، وغلب على الحرم، سمّوا قريشا لاجتماعهم. وقيل: إنما سمّوا قريشا لأنهم يتقرّشون البضاعات فيشترونها. وقيل: جاء النّضر بن كنانة فى ثوب له فقالوا: قد تقرّش فى ثوبه كأنه جمل قريش، أى شديد مجتمع. وقيل: أوّل من سماهم بهذا الاسم قصىّ بن كلاب. قاله المبّرد. وقال الشّعبىّ: النّضر بن كنانة هو قريش، وإنما سمى قريشا لأنه كان يقرّش عن خلّة الناس وحاجتهم فيسدّ ذلك بماله، والتقريش: هو التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم فيزوّدونهم «2» بما يبلّغهم، فسموا بذلك من فعلهم. وقال الزبير بن بكّار قال عمىّ: قريش بن بدر بن يخلد بن النّضر كان دليل بنى كنانة فى تجارتهم، فكان يقال «قدمت غير قريش» ، وأبوه بدر بن يخلد صاحب بدر [الموضع «3» ] الذى كانت به الوقعة المشهورة، وذكر عن عمه أن فهرا هو قريش، قال: وقد اجتمع «4» النسّاب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرّقت عن فهر. والذى عليه من أدركت من نسّاب قريش أن ولد فهر بن مالك قريش، ومن جاوز فهرا فليس من قريش.

وأما غالب بن فهر

وروى عن هشام بن السائب: أن النّضر بن كنانة هو قريش. وقيل عنه فى موضع آخر: ولد مالك بن النّضر فهرا وهو جمّاع قريش. وقال أبو عبيدة معمر ابن المثنّى: أوّل من وقع عليه اسم قريش النّضر بن كنانة، فولده قريش دون سائر بنى كنانة. وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: قريش مأخوذ من القرش، وهو وقع الأسنّة بعضها على بعض «1» ؛ لأن قريشا أحذق الناس بالطّعان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سأل «2» عمرو بن العاص: لم سميت قريش قريشا؟ قال: بالقرش، دابّة فى البحر تأكل الدوابّ لشدّتها. وقال: المطرّزىّ «3» : هى ملكة الدواب، وسيّدة الدواب وأشدّها، فكذلك قريش سادات الناس. وكان فهر رئيس الناس بمكّة. والله أعلم. وأما غالب بن فهر ، فكنيته «4» أبو تيم، وأمه ليلى بنت الحارث، بن تميم، «5» بن سعد، بن هذيل، بن مدركة؛ ولغالب هذا من الولد: لؤىّ، وتيم الأدرم؛ وكان تيم كاهنا، وإنما قيل له تيم الأدرم لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر. وفى قريش تيمان: تيم بن مرّة، وتيم الأدرم. قال ابن قتيبة «6» : «بنو الأدرم من أعراب قريش ليس بمكّة منهم أحد «7» » . والله أعلم.

وأما لؤى بن غالب،

وأما لؤىّ بن غالب، فكنيته «1» أبو كعب، وأمه عاتكة بنت يخلد، بن النّضر بن كنانة، وهى إحدى «2» العواتك الّلاتى ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل أمه سلمى بنت عمرو بن ربيعة (وهو لحىّ بن حارثة «3» ) الخزاعية. وأما كعب بن لؤىّ، فكنيته «4» أبو هصيص، وأمه ماوية «5» بنت كعب بن القين ابن جسر القضاعية. قيل: إنما سمى كعب كعبا لارتفاعه على قومه، وشرفه فيهم. وكان عظيم القدر عند العرب؛ فلهذا أرّخوا بموته إلى عام الفيل، ثم أرّخوا بالفيل؛ روى أبو نعيم فى «الدّلائل» عن الطّبرانى بسنده إلى عبد العزيز بن أبى ثابت قال: «أرّخت كنانة من موت كعب بن لؤىّ، وأرّخت قريش بعد موته من عام الفيل؛ وبين موت كعب والفيل خمسمائة سنة وعشرون سنة «6» » . «وكعب هذا أوّل من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العرب تسمّى يوم الجمعة العروبة» ؛ قاله السهيلى «7» . ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنى عن أهل العلم، وإنما سماه الجمعة لاجتماع قريش فيه وخطبته [فيهم «8» ] . وأوّل من قال «أما بعد» كعب؛ فكان يقول: «أما بعد، فاستمعوا وافهموا» . ثم قال: «حرمكم عظّموه وتمسّكوا به، وسيأتى لكم نبأ «9» عظيم، وسيخرج له نبىّ كريم» .

وأما مرة بن كعب،

قال السّهيلىّ: «وكان يخطبهم ويذكّرهم «1» بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد ويقول: يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... إذا قريش تبغّى الحقّ خذلانا «2» » وأما مرّة بن كعب، فكنيته «3» أبو يقظة، وأمه مخشية، وقيل وحشية بنت شيبان، بن محارب، بن فهر. وفى مرّة يجتمع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب أبى بكر الصّديق، وطلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما. وأما كلاب بن مرّة، فكنيته «4» أبو زهرة، واسمه حكيم. وكلاب لقب غلب عليه، وسبب ذلك أنه كان محبّا للصيد مولعا به، وكان أكثر صيده بالكلاب، وجمع منها شيئا كثيرا، فكان إذا مرّ بقوم بكلابه قالوا: هذه كلاب ابن مرة، فغلب ذلك عليه؛ وفيه يقول الشاعر: حكيم بن مرّة ساد الورى ... ببذل النّوال وكفّ الأذى وأمّ كلاب هند بنت سرير «5» ، بن ثعلبة، بن الحارث، بن فهر، بن مالك، بن كنانة. ويقال: إن كلابا هذا أوّل من جعل فى الكعبة السيوف المحلّاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة.

وأما قصى بن كلاب

وأما قصىّ بن كلاب فاسمه «1» زيد، وكنيته أبو المغيرة، وقصىّ لقبه، ويلقّب أيضا مجمّعا. قال السّهيلىّ، فى قصىّ «تصغير قصىّ: أى بعيد» . وقال الرّشاطىّ: «وإنما قيل له قصىّ لأن أباه كلاب بن مرّة كان قد تزوّج فاطمة بنت سعد بن سيل، واسم سيل، خير بن حمالة، «2» بن عوف، بن عثمان «3» ، بن عامر (و «4» هو الجادر «5» ) بن جعثمة «6» ، وهو يشكر «7» ، وهم من الأزد. فولدت له زهرة وزيدا، ثم هلك كلاب وزيد صغير فطيم» ، وقال السّهيلى «8» : إنه كان رضيعا، «فتزوّج فاطمة أمّ قضىّ ربيعة بن حرام، بن ضنّة، بن عبد، ابن كبير «9» ، بن عذرة، بن سعد، بن زيد، بن قضاعة، فاحتملها ربيعة ومعها زيد، فربى زيد فى حجر ربيعة، فسمّى قصيّا لبعده عن دار قومه» . وقال الخطّابى: «سمى قصيا لأنه قصّى قومه، أى تقصّاهم بالشام فنقلهم إلى مكة» . قال الرّشاطى: «ثم «10» إن زيدا وقع بينه وبين ربيعة شر، فقيل له: ألا تلحق بقومك؟ وعيّر بالعربة، وكان لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة، فرجع قصىّ إلى أمه، وشكا لها ما قيل له، فقالت له: يا نبىّ،

أنت أكرم منه نفسا وأبا، أنت ابن كلاب بن مرّة، وقومك بمكة عند البيت الحرام. فأجمع «1» قصىّ على الخروج، فقالت له أمه: أقم حتى يدخل الشّهر الحرام، فتخرج فى حاجّ العرب، فلما دخل الشهر الحرام خرج مع حاجّ قضاعة حتى قدم مكة، فحجّ وأقام بمكة» . وكان الذى بلى أمر البيت يومئذ حليل، بن حبشية، بن سلول، بن كعب، ابن عمرو الخزاعى. فخطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبّى. فعرف حليل نسبه فزوّجه، وأقام قصىّ معه، فولدت له حبّى أولاده، وهم: عبد مناف، وعبد العزّى، وعبد الدار، وعبد، وبرّة، وتخمر (وهى بالتاء المثناة من فوق وخاء معجمة ساكنة وميم مضمومة وراء) . فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل، وأوصى بولاية البيت لابنته حبّى. فقالت: إنى لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعلت «2» ذلك إلى سليم ابن عمرو، بن بوىّ، بن ملكان، وهو أبو غبشأن، ويقال له المحترش، فاشترى قصىّ منه ولاية البيت بزقّ خمر وقعود «3» ، فضربت به العرب المثل، فقالوا: «أخسر من صفقة أبى غبشان «4» » . فنازعته خزاعة البيت فانترعه منهم. والله الناصر.

ذكر خبر انتزاع قصى البيت ومكة من خزاعة ومن ولى البيت بعد إسماعيل عليه السلام إلى أن انتزعه قصى بن كلاب

ذكر خبر انتزاع قصىّ البيت ومكّة من خزاعة ومن ولى البيت بعد إسماعيل عليه السلام إلى أن انتزعه قصىّ بن كلاب قال محمد بن إسحاق بن يسار «1» : «لما توفى لله تعالى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وولى البيت بعده ابنه نابت بن إسماعيل ما شاء الله أن يليه، ثم ولى البيت بعده مضاض ابن عمرو الجرهمى، وبنو نابت مع جدّهم مضاض بن عمرو وأخوالهم من جرهم، وجرهم وقطوراء يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عمّ، وكانا ظعنا من اليمن، فأقبلا سيّارة «2» ، وعلى جرهم مضاض بن عمرو، وعلى قطوراء السّميدع، رجل «3» منهم. فلما نزلا مكة وأبا بلدا ذا ماء وشجر، فأعجبهما فنزلا به؛ فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان «4» فما حاز، ونزل السّميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد «5» فما حاز، وكان كل منهما يعشر «6» من دخل مكة ممّا يليه، وكلّ منهما فى قومه لا يدخل على صاحبه» . «ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض، وتنافسوا الملك بها، ومع مضاض بنو إسماعيل وبنو تابت، وإليه ولاية البيت دون السّميدع، فسار بعضهم إلى بعض؛ فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان فى كتيبته سائر إلى السّميدع ومع كتيبته عدّتها من الرماح والدّرق والسيوف والجعاب، يقعقع [بذلك «7» ] ؛ فيقال ما سمى قعيقعان قعيقعان إلا لذلك. وخرج السّميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال، فيقال ما سمى أجياد أجيادا

إلا لخروج الجياد من الخيل منه «1» مع السّميدع. فالتقوا بفاضح «2» واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السّميدع، وفضحت قطوراء؛ فيقال ما سمّى فاضح فاضحا إلا لذلك» . ثم إنّ القوم تداعوا إلى الصّلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ: شعبا بأعلى مكة، فاصطلحوا به، وأسلموا الأمر إلى مضاض. فلما اجتمع إليه أمر مكة، وصار ملكها له، نحر للناس فطبخوا وأكلوا «3» ، فيقال ما سميت المطابخ المطابخ إلا لذلك» . وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت المطابخ لما كان تبّع نحر بها وأطعم وكانت منزله. والله أعلم» . «فكان الذى كان بين مضاض والسّميدع أوّل بغى كان بمكة. ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكّام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك لخئولتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغى أو قتال؛ فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا فى البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم» . «ثم إنّ جرهما بغوا بمكة، واستحلّوا خلالا من الحرمة، وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها، فرقّ أمرهم. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة؛ فاذنوهم بالحرب فافتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة؛ وكانت مكة فى الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا» .

قال ابن إسحاق: «فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمىّ بغزالى الكعبة «1» وبحجر الركن، فدفنها فى زمزم؛ وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن. فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا؛ فقال عمرو بن [الحارث «2» ] بن مضاض فى ذلك، وليس بمضاض الأكبر» . والله المعين: [وقائلة والدّمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدّمع منها المحاجر «3» ] كأن لم يكن بين الحجون «4» إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر [فقلت لها والقلب منّى كأنّما ... يلجلجه بين الجناحين طائر «5» ] بلى! نحن كنّا أهلها فأزالنا ... صروف الليالى والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعزّ فما يحظى لدينا المكاثر ملكنا فعزّزنا فأعظم. بملكنا ... فليس لحىّ غيرنا ثمّ فاخر ألم تنكحوا من خير شخص «6» علمته ... فأبناؤه منّا ونحن الأصاهر فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للنّاس تجرى المقادر أقول إذا نام الحلىّ ولم أنم: ... أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدّلت منها أوجها لا أحبّها ... قبائل منها حمير ويحابر «7» وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة ... بذلك عضّتنا السّنون الغوابر

[وبدّلنا كعب بها دار غربة ... بها الذئب يعوى والعدوّ المكاشر «1» ] فسحّت دموع العين تبكى لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر «2» وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظلّ به أمنا وفيه العصافر وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... اذا خرجت منه فليست تغادر وقال أيضا يشير إلى بكر وغبشان الذين خلفوا مكة بعدهم: يأيها الناس سيروا إنّ قصركم «3» ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثّوا المطىّ وأرخوا من أزمّتها ... قبل الممات وقضّوا ما تقصّونا كنّا أناسا كما كنتم فغيّرنا ... دهر فأنتم كما كنّا تكونونا قال ابن هشام «4» : «حدّثنى بعض أهل العلم بالشعر؛ أن هذه الأبيات أوّل شعر قيل فى العرب، وأنها وجدت مكتوبة فى حجر باليمن، ولم يسمّ لى قائلها» . قال ابن إسحاق «5» : «ثم إنّ غبشان من خزاعة وليت البيت دون بنى بكر ابن عبد مناة، وكان الذى يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشانىّ، وقريش إذ ذاك حلول وصرم «6» ، وبيوتات متفرّقون فى قومهم من بنى كنانة، فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب ابن عمرو الخزاعىّ. فخطب قصىّ بن كلاب إلى حليل ابنته حبّى، فرغب فيه حليل فزوّجه، فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العرّى، وعبدا» . «فلما انتشر ولد قصىّ وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصىّ أنه أولى بالكعبة، وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر، وأنّ قريشا فرعة «7» إسماعيل بن

إبراهيم وصريح ولده، فكلّم رجالا من قريش وبنى كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة، فأجابوه» . وكان ربيعة بن حرام من عذرة بن سعد بن زيد مناة قد قدم مكة بعد هلاك كلاب، فتزوّج فاطمة بنت سعد بن سيل- وزهرة يومئذ رجل، وقصىّ فطيم- فاحتملها إلى بلاده، فحملت قصيّا معها وأقام زهرة، فولدت لربيعة رزاحا. فلما بلغ قصىّ وصار رجلا أتى مكة فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته والقيام معه؛ فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته: حنّ بن ربيعة، ومحمود ابن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة، وهم لغير فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعة فى حاجّ العرب، وهم مجمعون لنصرة قصىّ» . «وكان الغوث بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضريلى الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده صوفة «1» . وإنما ولى الغوث ذلك لأن أمّه كانت من بنى جرهم، وكانت لا تا، فنذرت لله إن هى ولدت رجلا أن تصدّق به على الكعبة عبدا لها يخدمها، ويقوم عليها؛ فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة فى الدّهر الأوّل مع أخواله من جرهم، فولى الإجازة بالناس من عرفة، لمكانه الذى كان به من الكعبة، وولده من بعده حتى انقرضوا» . «وكان الغوث بن مرّ إذا دفع بالناس قال: لا همّ إنى تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه «2»

قال ابن إسحاق: «كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، حتى إذا كان يوم النّفر أتوا لرمى الجمار، ورجل من صوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمى، فكان ذوو الحاجات المتعجّلون يأتونه فيقولون له: قم فارم حتى نرمى [معك «1» ] ؛ فيقول: لا والله، حتى تميل الشمس؛ فيظلّ ذوو الحاجات يرمونه بالحجارة ويقولون له: ويلك! قم فارم، فيأبى عليهم؛ حتى إذا مالت الشمس قام فرمى، ورمى الناس معه» . «فإذا فرغوا من رمى الجمار، وأرادوا النّفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزى صوفة، فلم يجر أحد من الناس حتى يمرّوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلّى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم؛ فكانوا كذلك حتى انقرضوا، فورثهم فى ذلك بنو سعد بن زيد مناة، من تميم، وكانت من بنى سعد فى آل صفوان بن الحارث بن شجنة؛ فكان صفوان هو الذى يجيز الناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام كرب بن صفوان؛ وفى ذلك يقول أوس بن مغراء من قصيدة: لا يبرح الناس ما حجّوا معرّقهم ... حتّى يقال أجيزوا آل صفوانا «2» «وكانت الإفاضة فى عدوان يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو سيّارة عميلة بن الأعزل، وكان أبو سيّارة يدفع بالناس على أتان له، وبه ضرب المثل: «أصبر من عير أبى سيّارة «3» » ؛ لأنه دفع بأهل الموسم عليه أربعين عاما» .

نعود إلى أخبار قصىّ بن كلاب، « [فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين فى أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، فأتاهم قصىّ «1» ] بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقال: لا تجر- لنحن أولى بهذا منكم «2» -، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصىّ على ما كان بأيديهم من ذلك» . «وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصىّ، وعرفوا أنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم «3» وأجمع لحربهم، وخرجت إليه خزاعة وبنو بكر، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى فى الفريقين، ثم تداعوا إلى الصلح، وأن يحكّموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن «4» عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضى أن قصيّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كلّ دم أصابه قصىّ من خزاعة وبنى بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدّية مؤدّاة، وأن يخلّى بين قصىّ وبين الكعبة ومكة. «5» فسمّى يعمر بن عوف يومئذ الشّدّاخ، لما شدخ من الدّماء ووضع منها» . قال «6» : «فولى قصىّ البيت وأمر مكّة، وجمع قومه من منازلهم الى مكة، وتملّك على قومه وأهل مكة فملّكوه، إلا أنه أقرّ للعرب ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه

دينا فى نفسه لا ينبغى تغييره؛ فأقرّ آل صفوان، وعدوان، «1» والنّنسأة، ومرّة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم الله به ذلك كلّه» . «فكان قصىّ أول من أصاب ملكا من بنى كعب بن لؤىّ، وكانت إليه الحجابة، والسّقاية، والرّفادة، والنّدوة، واللّواء؛ فحاز شرف مكة كلّه، وقطع مكّة رباعا بين قومه، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم من مكة، فسمّته قريش مجمّعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره؛ فما تنكح امرأة، ولا يتزوّج رجل من قريش، ولا «2» يتشاورون فى أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا فى داره؛ يعقده لهم بعض ولده، وما تدّرع جارية إذا بلغت أن تدّرع من قريش إلا فى داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدّرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها» . «فكان أمره فى قومه من قريش فى حياته وبعد موته، كالدّين المتّبع لا يعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار النّدوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة؛ ففيها كانت قريش تقضى أمورها» قال الشاعر: قصىّ لعمرى كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر «3» قال ابن إسحاق «4» : «فلما فرغ قصىّ من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه إلى بلاده» . قال: «فلم يزل قصىّ على ذلك، فلما كبر ورقّ عظمه- وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف فى زمان أبيه وذهب كلّ مذهب،

وعبد العزّى وعبد- قال لابنه عبد الدار: أما والله يا بنى لألحفنّك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك؛ لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء [لحربها «1» ] إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا فى دارك.، فأعطاه داره: دار النّدوة التى لا تقضى قريش أمرا إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللّواء والسّقاية والرّفادة» . «وكانت الرّفادة خرجا تحرجه قريش فى كل موسم من أموالها إلى قصىّ بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاجّ، فيأكله من لم تكن له سعة ولا زاد. وقصىّ هو الذى فرض ذلك، فقال [لهم «2» ] حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحاجّ ضيف الله وزوّار بيته، وهم أحق الضّيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا. قال «3» : «فلما هلك قصىّ بن كلاب أقام أمره فى قومه من بعده بنوه، فاختطّوا مكة رباعا، بعد الذى كان قد قطع لقومه «4» بها، فكانوا يعطونها «5» فى قومهم وفى غيرهم من حلفائهم، ويبيعونها، فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع» ، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى فى هاشم بن عبد مناف. وحكى أبو عبد الله محمد بن عائذ «6» الدمشقى فى «مغازيه» زيادة فى خبر قصىّ نذكرها فى هذا الموضع، وإن كان قد نقص فى غيره، فقال فى أثناء ما حكاه:

«إن البيت كان حوله غيضة والسّيل يدخله، ولم يرفع البيت حينئذ، فإذا قدم الحاجّ وطئوه حتى تذهب الغيضة، فإذا خرجوا نبتت» . قال: «فلما قدم قصىّ قطع الغيضة، وابتنى حول البيت دارا، ونكح حبّى بنت حليل» . وقال أيضا: «إن قصيّا قال لامرأته حبّى: قولى لجدّتك تدلّ بنتك على الحجر، فلم تزل بها حتى قالت: إنى أعقل أنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، ونزلوا منزلا وهو معهم، فبرك الجمل الذى كان عليه الحجر، فضربوه فقام، ثم ساروا فبرك، فضربوه فقام، ثم برك الثالثة فقالوا: ما برك إلا من أجل الحجر، ودفنوه، وذلك أسفل مكة، وإنى لأعرف حيث برك، فخرجوا بالحديد وخرجوا بها معهم، فأرتهم حيث برك أوّلا وثانيا وثالثا، فقالت: احفروا ههنا. فحفروا حتى يئسوا منه، ثم ضربوا فأصابوه وأخرجوه، فأتى به قصىّ، فوضعه فى الأرض، فكانوا يتمسحون به وهو فى الأرض، حتى بنى قصىّ البيت» . قال: «ومات قصىّ ودفن بالحجون» . والله أعلم بالصواب. وأما عبد مناف بن قصىّ فكنيته «1» أبو عبد شمس، واسمه المغيرة، وعبد مناف [لقبه «2» ] ، وسبب ذلك أنّ أمه حبّى بنت حليل الخزاعية أخدمته مناة، وكان مناة صنما عظيما لهم، فسمى عبد مناة به. ثم نظر قصىّ، فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوّله عبد مناف. قاله السّهيلىّ «3» . [و «4» ] مناف «مفعل» من أناف ينيف إنافة إذا ارتفع. وقال المفضّل: الإنافة الإشراف والزيادة، وبه سمّى عبد مناف لطوله، ومنه تقول: مائة ونيّف، أى شىء زائد على المائة.

او كان قصىّ يقول: لى أربعة بنين سميت ابنين بإلهى، وهما عبد مناف وعبد العزّى، وواحدا بدارى، وهو عبد الدار، وواحدا بى، وهو عبد قصىّ. حكاه محمد بن عائذ فى «مغازيه» عن أمّ سلمة. وقال محمد بن سعد «1» : «أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه قال: لما ملك قصىّ بن كلاب قام عبد مناف بن قصىّ على أمر قصىّ بعده وأمر قريش إليه، واختطّ بمكة رباعا بعد الذى كان قصىّ قطع لقومه» . قال: «و «2» ولد عبد مناف ستة نفر، وست نسوة، وهم: عبد المطّلب بن عبد مناف وكان أكبرهم، وهو الذى عقد الحلف لقريش من النّجاشىّ فى متجرها إلى أرضه، وهاشم، واسمه عمرو، وهو الذى عقد الحلف لقريش من هرقل لأن تختلف إلى الشأم آمنة، وعبد شمس بن عبد مناف، وتماضر بنت عبد مناف، وحيّة «3» ، وقلابة، وبرّة، وهالة، وأمّهم عاتكة الكبرى «4» بنت مرّة، بن هلال، بن فالج، بن ثعلبة «5» بن ذكوان، بن ثعلبة، بن بهثة، بن سليم، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس عيلان، بن مضر. ونوفل بن عبد مناف، وهو الذى عقد الحلف لقريش من كسرى إلى العراق، وأبو عمرو بن عبد مناف، واسمه «6» عبيد، درج ولا عقب له، وأمهم واقدة بنت

أبى عدىّ، وهو عامر، بن عبدنهم، بن زيد، بن مازن «1» ، بن صعصعة؛ وريطة بنت عبد مناف، ولدت بنى هلال، بن معيط «2» من بنى كنانة، بن خزيمة، وأمّها «3» الثقفية» . وأما هاشم بن عبد مناف، فكنيته «4» أبو نضلة، وقيل أبو يزيد، وقيل بل كان يكنّى بابنه أسد؛ واسمه عمرو، وهاشم لقب لقّب به. روى عن ابن عبّاس «5» رضى الله عنهما أنه قال «6» : «كان اسم هاشم عمرا، وكان صاحب إيلاف قريش، وإيلاف قريش: دأب قريش، وهو أوّل من سنّ الرحلتين لقريش؛ ترحل إحداهما فى الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النّجاشىّ فيكرمه ويحبوه، ورحلة فى الصّيف إلى الشام إلى غزّة وربما بلغ أنقرة «7» ، فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه؛ فأصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام، فأمر بخبز كثير فخبز له، وحمله فى الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، فهشم ذلك الخبز، يعنى كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر بطبخها، ثم كفأ القدور على الجفان، فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أوّل الحيا بعد السّنة التى أصابتهم؛ فسمّى بذلك هاشما، وفى ذلك يقول عبد الله بن الزّبعرى:

ذكر ولاية هاشم الرفادة والسقاية

عمرو العلى هشم الثّريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف» قال: «فحسده أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا مال، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنّه وقدره، فلم تدعه قريش وأحفظوه» قال: «فإنى أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكّة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضى أميّة بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعىّ، فنفّر «2» هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أميّة إلى الشام، فأقام بها عشر سنين؛ فكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم وأميّة، ثم ولى هاشم الرّفادة والسّقاية» . ذكر ولاية هاشم الرّفادة والسّقاية قال: «إن هاشما، وعبد شمس، والمطّلب، ونوفلا: بنى عبد مناف أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بنى عبد الدار بن قصىّ مما كان قصىّ جعل إلى عبد الدار من الحجابة، واللّواء، والرّفادة، والسّقاية، والنّدوة، ورأوا أنهم أحقّ به منهم لشرفهم عليهم، وفضلهم فى قومهم، وكان الذى قام بأمرهم هاشم، فأبت بنو عبد الدار أن تسلم ذلك إليهم، وقام بأمرهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار؛ فصار مع بنى عبد مناف بن قصىّ بنو أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، وبنو زهرة ابن كلاب، وبنو تيم بن مرّة، وبنو الحارث بن فهر؛ وصار مع بنى عبد الدار

بنو مخزوم، وسهم، وجمح، وبنو عدىّ بن كعب؛ وخرجت من ذلك بنو عامر ابن لؤىّ، ومحارب بن فهر؛ فلم يكونوا مع واحد من الفريقين، فعقد كلّ قوم على أمرهم حلفا مؤكّدا: ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، «ما بلّ بحر صوفة «1» » . فأخرجت بنو عبد مناف، ومن صار معهم، جفنة مملوءة طيبا، فوضعوها حول الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا، ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسمّوا المطيّبين. وأخرجت بنو عبد الدار ومن كان معهم جفنة من دم، فغمسوا أيديهم فيها، وتعاقدوا وتحالفوا: ألا يتخاذلوا ما بلّ بحر صوفة؛ فسمّوا الأحلاف، ولعقة الدّم «2» ، وتهيئوا للقتال، وعبّئت كلّ قبيلة؛ فبينما الناس على ذلك، إذ تداعوا إلى الصّلح على أن يعطوا بنى عبد مناف بن قصىّ السّقاية والرّفادة، وتكون الحجابة واللّواء ودار النّدوة إلى بنى عبد الدار كما كانت، ففعلوا، وتحاجز الناس؛ فلم تزل دار النّدوة فى بنى «3» عبد الدار، حتى باعها عكرمة بن عامر، ابن هاشم، بن عبد مناف، بن عبد الدار، بن قصىّ، من «4» معاوية بن أبى سفيان؛ فجعلها معاوية دار الإمارة» . قال: «وولى هاشم بن عبد مناف بن قصىّ السّقاية والرّفادة، وكان رجلا موسرا، فكان يخرج فى كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون، فيرسل كل إنسان بمائة مثقال هر قلية، وغيرهم يرسل بالشىء اليسير على

قدر حالهم، فكان هاشم، إذا حضر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل فى موضع زمزم، ثم يستقى فيها الماء من البئار التى بمكة فيشربه الحاجّ، وكان يطعمهم قبل التّروية بيوم بمكة، وبمنى، وجمع «1» ، وعرفة؛ وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسّمن، والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى «2» ، والماء يومئذ قليل، [فى حياض الأدم «3» ] ، إلى أن يصدروا من منى، ثم تنقطع الضيافة ويتفرق الناس إلى بلادهم» . قال: «وهاشم بن عبد مناف هو الذى أخذ الحلف لقريش من قيصر أن تختلف آمنة، فكتب له كتابا، وكتب إلى النّجاشى أن يدخل قريشا أرضه وكانوا تجّارا، فخرج هاشم فى عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النّبط، فصادفوا سوقا تقوم بها فى السنة يحشدون لها، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها أأيّم هى أم ذات زوج؟ فقيل له أيّم كانت تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرا ومعبدا ثم فارقها، وكانت لا تنكح الرجال، لشرفها فى قومها، حتى يشرطوا لها أنّ أمرها بيدها، فإذا كرهت رجلا فارقته «4» ؛ وهى سلمى بنت عمرو، بن زيد، «5» بن لبيد، بن خداش، ابن عامر، بن غنم، بن عدىّ، بن النجّار، فخطبها هاشم، فعرفت شرفه ونسبه فزوّجته نفسها، ودخل بها وصنع طعاما، ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه، وكانوا

أربعين رجلا من قريش، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أياما؛ فعلقت سلمى بعبد المطّلب، وولدته وفى رأسه شيبة، فسمّى شيبة. وخرج هاشم فى أصحابه إلى الشام حتى بلغ غزّة فمات، ودفن بغزّة «1» وله عشرون سنة، وقيل خمس وعشرون سنة، ورجعوا بتركته إلى ولده، وأوصى هاشم إلى أخيه المطّلب ابن عبد مناف. وحكى ابن الأثير «2» أنه لما تزوّج سلمى شرط لها أبوها ألا تلد ولدا إلا فى أهلها، فحملها هاشم إلى مكّة فحملت منه، فلما أثقلت ردّها إلى أهلها ومضى إلى الشام؛ وقيل إنه لم ينقلها، وإنه خرج إلى الشام هو وعبد شمس، فماتا جميعا بغزّة فى عام واحد، وبقى مالهما إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام؛ فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر غزوة غزاها جاءه قيس بمالهما، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مال هاشم إلى العبّاس بن عبد المطّلب، ففرّقه على كبراء بنى هاشم، ودفع مال عبد شمس إلى سفيان بن حرب، ففرّقه على كبراء بنى عبد شمس. وقد حكى ابن الأثير «3» : أن عبد شمس مات بمكة فقبر بأجياد، وذلك بعد وفاة هاشم «4» بغزّة. قال: ثم مات نوفل بسلمان «5» من طريق العراق، ومات المطلب بردمان «6» من أرض اليمن «7» والله أعلم.

وقيل «1» : إن هاشما وعبد شمس توءمان، وإن أحدهما ولد قبل الآخر، قيل: إن الأوّل هاشم، وقيل: إنهما ولدا وأصبع أحدهما ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيّت، فسال «2» دم فقيل يكون بينهما دم. والله تعالى أعلم. قال ابن الكلبى «3» : وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمسة نسوة، وهم: شيبة الحمد، وهو عبد المطّلب، ورقيّة ماتت وهى جارية لم تبرز، وأمّهما سلمى بنت عمرو، وأبو صيفىّ واسمه عمرو وهو أكبرهم، وأمه هند، بنت عمرو، بن ثعلبة، بن الحارث، بن مالك، بن سالم، بن غنم، بن عوف، بن الخزرج. وأسد ابن هاشم وأمّه قيلة، وكانت تلقّب الجزور «4» ، بنت عامر، بن مالك، بن جذيمة، وهو المصطلق بن خزاعة، ونضلة بن هاشم، والشّفاء، وأمهما أميمة «5» بنت عدىّ، ابن عبد الله، بن دينار، بن مالك، بن سلامان، بن سعد، بن قضاعة «6» . والضّعيفة «7» بنت هاشم، وخالدة بنت هاشم، وأمهما أمّ عبد الله، وهى واقدة بنت أبى عدىّ، ويقال عدىّ، وهو عامر، بن عبدنهم، بن زيد، بن مازن، بن صعصعة؛ وحيّة «8»

ذكر أخبار عبد المطلب بن هاشم

بنت هاشم، وأمها [أم «1» ] عدىّ بنت حبيب، ابن الحارث، بن مالك، بن حطيط ابن جشم بن قسىّ وهو ثقيف. والله عز وجل أعلم بالصواب. ذكر أخبار عبد المطلب بن هاشم قال ابن قتيبة «2» : «واسمه عامر» . والصحيح «3» عندهم ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار وغيره أن اسمه شيبة، وكنيته أبو الحارث، كنّى باسم ولده الحارث، وهو أكبر ولده. ولعبد المطّلب كنية أخرى، وهى أبو البطحاء؛ ولتسميته بهذين الاسمين، وتكنبته بأبى البطحاء أسباب نذكرها قريبا إن شاء الله تعالى. وأمّ عبد المطلب سلمى بنت عمرو «4» ، بن زيد، بن لبيد، بن خداش، بن عامر، بن غنم، ابن عدىّ، بن النّجار «5» . وقال ابن إسحاق: سلمى بنت زيد، بن عمرو، بن لبيد، بن [حرام، ابن «6» ] خداش، بن جندب، بن عدىّ، بن النّجّار «7» . وقد تقدم آنفا خبر زواج هاشم بها.

ذكر ما قيل فى سبب تسميته وكنيته

ذكر ما قيل فى سبب تسميته وكنيته أمّا سبب تسميته شيبة فقيل إن أمّه ولدته وفى رأسه شيبة «1» ، وكانت ظاهرة فى ذؤابته، فسمّته شيبة، وذلك فى غيبة أبيه. وقيل: إن أباه أوصاها إذا ولدت ذكرا أن تسمّيه شيبة، فهو شيبة الحمد «2» . وفى تسميته «3» عبد المطلب أنه لما مات هاشم أقام شيبة بالمدينة عند أمه إلى أن بلغ سبع سنين، فمرّ رجل من بنى الحارث «4» بن عبد مناف بالمدينة «5» ، فإذا غلمان ينتضلون «6» ، فجعل شيبة إذا أصاب «7» قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء «8» ، فقال له الحارثىّ «9» من أنت قال: أنا شيبة بن هاشم، بن عبد مناف. فلما أتى الحارثىّ مكّة قال للمطلب، وهو بالحجر «10» : يا أبا الحارث، رأيت ابن أخيك هاشم بيثرب، وأخبره بحاله، ولا يحسن بك أن تترك مثله، فقال المطّلب: والله لا أرجع إلى أهلى حتى آتى به؛ فأعطاه الحارثىّ ناقته فركبها وقدم المدينة عشاء، فإذا غلمان يضربون

كرة، فعرف ابن أخيه، فقال للقوم: هذا «1» ابن هاشم؟ قالوا نعم، فبلغ أمّه أنه جاء ليأخذه فقالت: والله لو أنّ لك مالا «2» مثل أحد ما أعطيتك إياه، فقال: لا أنصرف حتى أخرج به؛ إنّ ابن أخى قد بلغ، وهو غريب عن قومه. فيقال إنها دفعته إليه فأخذه بإذنها. وقيل إنه أخذه اختلاسا، وأعانه على أخذه رجل من خزاعة. وقال ابن سعد فى طبقاته «3» عن محمد بن واقد الأسلمىّ: إن ثابت بن المنذر ابن حرام، وهو أبو حسّان بن ثابت الشاعر، قدم مكّة معتمرا، فلقى المطّلب، وكان له خليلا، وكان المطّلب قد ولى السّقاية والرّفادة بعد موت هاشم، فقال له ثابت: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا؛ لقد نظرت إليه، وهو يناضل «4» فتيانا من أخواله، فيدخل مرماتيه «5» جميعا فى مثل راحتى هذه، ويقول كلما خسق «6» : أنا ابن عمرو العلى! فقال المطّلب: لا أمسى حتى أحرج إليه فأقدم به، فخرج «7» فورد المدينة، فنزل فى ناحية، وجعل يسأل عنه حتى وجده يرمى فى فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه، ففاضت عيناه، وضمّه إليه وكساه حلّة يمانية، وأنشأ يقول: عرفت شيبة والنّجّار قد حفلت ... أبناؤها حوله بالنّبل تنتضل عرفت أجلاده منّا «8» وشميته ... ففاض منّى عليه وابل سبل «9»

فأرسلت سلمى إلى المطّلب، فدعته إلى النّزول عليها فقال: شأنى أخفّ من ذلك؛ ما أريد أن أحلّ عقدة حتى أقبض ابن أخى فألحه ببلده وقومه، فقالت: لست بمرسلته معك، وغلّظت عليه فقال: لا تفعلى «1» فإنى غير منصرف حتّى أحرج به معى، فإنّ المقام ببلده خير له من المقام ههنا، وهو ابنك حيث كان؛ فلما رأت أنه غير مقصّر حتى يخرج به استنظرته ثلاثة أيام، وتحوّل المطّلب إلهم ونزل عندهم «2» ، وأقام ثلاثا ثم احتمله وانطلقا جميعا، ودخل به إلى مكّة فقالت «3» قريش: هذا عبد المطّلب! فقال: ويحكم إنما هو ابن أخى شيبة بن عمرو. وقيل إنه لما دخل إلى مكّة دخلها وشيبة معه على عجز ناقته، وذلك ضحى «4» ، والناس فى أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحّبون بقدوم المطّلب ويقولون له: من هذا معك؟ من هذا وراءك؟ فيقول: هذا عبدى، وفى رواية هذا عبد ابتعته «5» بيثرب، فأدخله المطّلب منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا معك؟ قال: عبدلى؛ واشترى له حلّة فلبسها، ثم خرج به العشىّ إلى مجلس بنى عبد مناف وأعلمهم «6» أنه ابن أخيه؛ فجعل شيبة يطوف بمكّة، فإذا مرّ بقوم قالوا: هذا عبد المطّلب، فغلب ذلك عليه. وفى تكنبته بأبى البطحاء أنه أستسقى لأهل مكّة فسقوا لوقتهم، فقال له مشايخ قريش عند ذلك: هنيئا لك أبا البطحاء. وسنذكر إن شاء الله تعالى

ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما وجد فيها

هذه القصّة بطولها فى المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهذه أسباب تسميته وتكنيته «1» . والله أعلم. وكان عبد المطلب جسيما، أبيض، وسيما، طوالا، فصيحا؛ ما رآه أحد قطّ إلا أحبّه. قال الواقدى: وأقام عبد المطّلب بمكّة حتّى أدرك، وخرج المطّلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن، فهلك بردمان من أرض اليمن، فولى عبد المطّلب بعده الرّفادة والسّقاية؛ فلم يزل ذلك بيده وهو يطعم «2» الحاجّ ويسقيهم فى حياض الأدم حتى حفر زمزم، فترك السّقى فى الحياض، وسقاهم من زمزم، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم. والله أعلم. ذكر حفر عبد المطّلب زمزم وما وجد فيها قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله بسند رفعه إلى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال «3» : قال عبد المطّلب؛ إنى لنائم فى الحجر، إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة «4» قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عنى؛ فلمّا كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال «5» : احفر زمزم، قال: قلت وما زمزم؟ قال: لا تنزف «6» أبدا ولا تذمّ «7» ، تسقى الحجيج الأعظم، وهى بين الفرث

والدّم، عند نقرة الغراب الأعصم «1» ، عند قرية النمل «2» . قال «3» : فلما بيّن له شأنها، ودلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله «4» ، ومعه ابنه الحارث، وليس «5» له يومئذ ولد غيره فحفر، فلمّا بدا لعبد المطّلب الطى «6» كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطّلب، إنّها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقّا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بينى وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بنى سعد بن هذيم «7» ، قال نعم. وكانت بمعان «8» من أشراف الشّام فركب عبد المطّلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب «9» من كل قبيلة من قريش نفر

والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا «1» حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشّام، فنى ماء عبد المطّلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، وقالوا: إنّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم؛ فلما رأى عبد المطّلب ما صنع القوم، وما يتخوّف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع رأيك «2» ، فمرنا بما شئت، قال: فإنى أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوّة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه فى حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا [واحدا «3» ] فيموت ضيعة «4» ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل رجل «5» منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا؛ ثم إن عبد المطّلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت عجز «6» ، ألا نضرب فى الأرض، ونبتغى لأنفسنا؟ فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد. ارتحلوا! فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطّلب إلى ناقته «7» فركبها، فلمّا انبعثت به انفجرت من تحت خفّها عين [من «8» ] ماء عذب، فكبّر عبد المطّلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب، وشرب أصحابه،

واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا «1» إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطّلب، والله لا نحاصمك فى زمزم أبدا، إن الذى سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذى سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها. هذا أحد ما قيل فى حفر زمزم. وفى رواية أخرى: أنه قيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذمّ، تسقى الحجيج «2» الأعظم، مثل نعام جافل «3» لم يقسم. ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهى بين الفرث والدّم «4» . قال ابن إسحاق «5» : فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال: فأين «6» هى؟ قيل له عند قرية النّمل، حيث ينقر الغراب غدا. فغدا «7» عبد المطّلب ومعه ابنه الحارث، فوجد قرية النّمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين: إساف ونائلة «8» اللّذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها، فجاء بالمعول، وقام ليحفر حيث أمر، فقامت

إليه قريش حين رأوا جدّه فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما؛ فقال عبد المطّلب لابنه الحارث: ذد عنّى حتى أحفر، فو الله لأمضينّ لما أمرت به، فلمّا عرفوا أنه غير نازع «1» خلّوا بينه وبين الحفر وكفّوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتّى بدا له الطّىّ، فكبّر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين «2» من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكّة، ووجد فيها سيوفا قلعيّة «3» وأدراعا، فقالت له قريش: لنا معك فى هذا شرك» وحقّ، قال: لا. ولكن هلم إلى أمر نصف «5» بينى وبينكم؛ نضرب عليها بالقداح «6» ، قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولى قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شىء كان له، ومن تخلّف قدحاه فلا شىء له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين له، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها عند هبل، وهبل صنم فى جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم «7» ، وقام عبد المطّلب يدعو، وضرب «8» صاحب

ذكر خبر استسقاء عبد المطلب لبنى قيس عيلان وهذيل ومن معهم

القداح، فخرج الأصفران على الغزالين [للكعبة «1» ] ، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطّلب، وتخلّف قدحا قريش؛ فضرب عبد المطّلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب فى الباب الغزالين «2» ، فكان أول ذهب حلّيته الكعبة. وقيل إنه جعل القفل والمفتاح من ذهب الغزالين «3» . وعن محمّد بن عمرو بن واقد قال: كانت جرهم «4» حين أحسّوا بالخروج من مكة دفنوا غزالين وسبعة أسياف قلعيّة، وخمسة أذراع [سوابغ «5» ] ، فوجدها عبد المطّلب. هذا خبر حفر زمزم وما وجد فيها، وقد تقدّم ذكر سبب خبر ردمها فى أثناء أخبار قصىّ بن كلاب؛ فلنذكر من أخبار عبد المطّلب خلاف ذلك. والله الموفق للصواب. ذكر خبر استسقاء عبد المطّلب لبنى قيس عيلان «6» وهذيل ومن معهم حكى الزّبير بن بكّار فى أنساب قريش وبنى هاشم، وبنى عبد المطّلب قال: روى إبراهيم بن محمد الشافعى عن أبيه، عن الوليد بن خالد المخزومىّ، عن سعد بن حذافة الجمحىّ، عن محمد بن عطية العوفى، عن رجل من هذيل قال: قحطت بلاد

قيس، وأجدبت فلم تصبهم سماء يعقد بها الثّرى، ولا ينبت بها الكلأ، فذاب الشّحم، وذهب اللحم، وتهافتوا ضرّا وهزلا، فاجتمعوا للمشورة وإجالة الرأى، وقد عزموا على الرّحلة وانتجاع البلاد، فقالت فرقة منهم: انتجعوا بلاد سعد وبطن العشر «1» ، وقالت فرقة أخرى: إنّ تميما عدد. كثير لا يفضل منهم ما يكفيكم، وقالت فرقة أخرى: لينتجع كلّ ولد أب منكم ولد أب من غيركم، واعقدوا معهم حلفا تشركونهم به فى ربعهم «2» ؛ فقام رجل حسن الوجه، مجتمع الخلق، جيّد الرأى، فقال: يا بنى عيلان «3» ، إنكم قد أصبحتم فى أمر ليس بالهزل؛ هذا أمر عظيم خطره، متباعد أمره؛ قد بلغنا أن عبد المطّلب بن هاشم سيّد البطحاء استسقى فسقى، ودعا فأجيب، واستجير به فأجار، فاجعلوا قصدكم إليه، ووفادتكم عليه، فإن ذلك أوكد للسّبب، وأوجه فى الطّلب. قالوا: أحسن الرّأى، فرحلت قيس وهذيل، ومن دنا منهم حتّى أتوا عبد المطّلب، فقالوا: أفلح الوجه أبا الحارث! نحن ذووا أرحامك الواشجات «4» ، أصابتنا سنون مجدبات، أهزلن السّمين، وأنفدن «5» المعين، وقد بلغنا خبرك، وبان لنا «6» أمرك، وكلاما نحو هذا. فقال: موعدكم جبل عرفات، ثم خرج فى بنيه وبنى أميّة حتى أتى جبل عرفات، فصعد الجبل فقال: الّلهم ربّ الريح العاصف، والرّعد القاصف، والبرق الخاطف، منشىء السّحاب، ومالك الرّقاب، ذى المنن العظام، والأيادى الجسام؛ هذه مضر

ذكر نذر عبد المطلب نحر ابنه وخروج القداح على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدائه

خير البشر، تشكو سوء الحال، وشدّة الإمحال، قد احدودبت ظهورها، وغارت عيونها، وشعثت شعورها، وقد خلّفوا نساء ضلّعا، وصبيانا رضّعا، وبهائم رتّعا. فآتهم اللهم ريحا جرّارة، وسحابا درّارة، تضحك أرضهم، وتكشف ضرّهم. فما فرغ من كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها ودق شديد، فقال: هى هى، ثم قال يا معشر مضر، ارجعوا فقد سقيتم، فرجعوا واخضرّت أرضهم، وكثرت مياههم. هذا ما أورده الزّبير بن بكّار راوى هذه القصّة، والله أعلم. [و] كانت بعد أن استسقى لقريش، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى مستوفى فى المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا. والله تعالى عز وجل أعلم. ذكر نذر عبد المطّلب نحر ابنه وخروج القداح على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدائه قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى «1» ، عن محمد بن عمر بن واقد الأسلمىّ بسند رفعه إلى عبد الله بن عبّاس وغيره رضى الله عنهم: «إن عبد المطّلب بن هاشم لما رأى قلّة أعوانه فى حفر زمزم نذر لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتّى يراهم- أن يذبح أحدهم، فلما تكاملوا عشرة «2» وهم: الحارث، والزّبير «3» ، وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق «4» ، والمقوّم «5» ، وضرار، والعبّاس» . هكذا نقل محمد

ابن سعد، وعد من العشرة حمزة والمقوّم؛ و «1» يردّ هذا العدد ما روى أن عبد المطّلب لم يتزوج أمّ حمزة إلا بعد الفداء، وقدعدّ محمد بن السائب الكلبىّ أولاد عبد المطّلب الذكور اثنى عشر، فيهم المغيرة، وقثم؛ وعدّهم الزّبير بن بكّار ثلاثة عشر فيهم عبد الكعبة، وحمزة، والمقوّم، والمغيرة؛ هؤلاء الثلاثة إخوة أشقّاء كلّهم لهالة بنت وهيب «2» ، وزواج عبد المطّلب هالة هذه كان بعد الفداء على ما حكاه ابن سعد أيضا عن الواقدى، ولعلّ العشرة تكمل بقثم وعبد الكعبة. والله تعالى أعلم. فلنرجع إلى سياقة خبر محمد بن سعد قال: «فلما تكاملوا عشرة جمعهم، ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله [به «3» ] ، فما اختلف عليه منهم أحد، وقالوا: أوف بنذرك، وافعل ما شئت، فقال: ليكتب كل رجل منكم اسمه فى قدحه ففعلوا، فدخل عبد المطّلب فى جوف الكعبة وقال للسادن «4» : اضرب بقداحهم فضرب، فخرج قدح عبد الله أولها، وكان عبد المطّلب يحبّه، فأخذ بيده يقوده إلى المذبح ومعه المدية، فبكى بنات عبد المطّلب وكنّ قياما، وقالت إحداهنّ لأبيها: أعذر فيه بأن تضرب فى إبلك السّوائم التى فى الحرم، فقال للسّادن: اضرب عليه بالقداح، وعلى عشرة من الإبل «5» ، وكانت الديّة يومئذ عشرة من الإبل، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعل يزيد عشرا عشرا، كلّ ذلك

يخرج القدح على عبد الله حتى كملت مائة «1» ، فضرب [بالقداح «2» ] فخرج على الإبل، فكبّر عبد المطّلب والناس معه، واحتمل بنات عبد المطّلب أخاهنّ عبد الله، وقدّم عبد المطّلب الإبل فنحرها بين الصّفا والمروة، وخلّى بينها وبين كلّ من وردها من إنسىّ أو سبع أو طائر، لم يذبّ «3» عنها أحدا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا. قال ابن عباس رضى الله عنهما: كانت الدية «4» يومئذ عشرا من الإبل، وعبد المطّلب أوّل من سنّ دية النّفس مائة من الإبل، فجرت فى قريش والعرب مائة «5» ، وأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه «6» . هذا ما أورده محمد بن سعد فى طبقاته. وقال أبو محمد عبد الملك «7» بن هشام فى السّيرة: قال ابن إسحاق: وكان عبد المطّلب قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند «8» حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتّى يمنعوه، لينحرنّ أحدهم لله تعالى عند الكعبة، فلمّا توافى بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله «9» بذلك، فأطاعوه وقالوا كيف نصنع؟ قال: ليأخذ «10» كلّ رجل منكم قدحا، ثم ليكتب «11» فيه اسمه، ثم ائتونى «12» ،

ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل فى جوف الكعبة، وكان هبل «1» على بئر فى جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هى التى يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، كلّ قدح منها فيه كتاب، قدح فيه «العقل» إذا اختلفوا فى «العقل» «2» من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة «3» ، فعلى من خرج قدح «العقل» حمله؛ وقدح فيه «نعم» للأمر إذا أرادوه يضرب به فى القداح، فإن خرج قدح «نعم» عملوا به؛ وقدح فيه «لا «4» » ، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر؛ وقدح فيه «منكم» ؛ وقدح فيه «ملصق» ؛ وقدح فيه «من غيركم» ؛ وقدح فيه «المياه» إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح فيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميّتا، أو شكّوا فى نسب أحدهم، ذهبوا إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها «5» ، ثم قرّبوا صاحبهم الذى يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا! هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحقّ فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب! فإن خرج عليه «منكم» كان منهم وسيطا «6» ، وإن خرج عليه «من غيركم» كان حليفا، وإن خرج عليه «ملصق» كان على

منزلته فيهم «1» ، لا نسب له «2» ولا حلف، وإن خرج فى «3» شىء مما سوى هذا ممّا يعملون به «نعم» عملوا به، وإن خرج عليه «لا» أخّروه عامه ذلك «4» حتى يأتوه به مرّة أخرى؛ ينتهون فى أمورهم إلى ذلك ممّا خرجت به القداح؛ فقال عبد المطّلب لصاحب القداح: اضرب على بنىّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذى نذره، فأعطاه «5» كلّ رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطّلب أصغر بنى أبيه «6» ، وهو أحبّ ولده إليه، وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطّلب عند هبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذ «7» عبد المطّلب بيده وأخذ الشّفرة، ثم أقبل «8» إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطّلب؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه «9» حتى تعذر «10» فيه؛ لئن فعلت هذا لا يزال الرّجل يأتى بابنه حتّى يذبحه، فما بقاء

الناس على هذا؟! وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمر «1» بن مخزوم [بن يقظة «2» ]- وكان عبد الله ابن أخت القوم-: لا تذبحه حتى تعذر فيه «3» ، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلق به إلى الحجاز فإنّ به عرّافة لها «4» تابع فسلها، ثم أنت «5» على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه «6» ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته «7» ، فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها- فيما يزعمون- بخيبر، فركبوا [إليها «8» ] حتى جاءوها فسألوها، وقصّ عليها عبد المطّلب خبره [وخبر ابنه «9» ] ، فقالت لهم «10» : قد جاءنى الخبر، كم الدّيّة فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل «11» ، قالت: فارجعوا إلى بلادكم «12» وقرّبوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل «13» حتى يرضى ربّكم،

ذكر زواج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب أم النبى صلى الله عليه وسلم

وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه، فقد رضى ربكّم ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى قدموا مكّة وفعلوا «1» ذلك، والقداح تقع على عبد الله، وعبد المطّلب يزيد عشرا عشرا، وهو قائم يدعو حتّى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى، رضى ربّك «2» يا عبد المطّلب، فقال «3» عبد المطّلب: لا والله! حتى أضرب عليه «4» بالقداح ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل، وعبد المطّلب قائم يدعو، فخرج القدح فى كلّ مرّة على الإبل، فنحرت عند ذلك. وذكر نحو ما تقدّم. ذكر زواج عبد الله بن عبد المطّلب آمنة بنت وهب أمّ النبى صلى الله عليه وسلم روى محمد بن سعد «5» عن محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه، قال: كانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة «6» بن كلاب، فى حجر عمّها وهيب بن عبد مناف، فمشى إليه عبد المطلب بابنه عبد الله أبى النبىّ صلى الله عليه وسلم،

فخطب عليه آمنة فزوّجها عبد الله، وخطب إليه عبد المطّلب بن هاشم فى مجلسه ذلك ابنته هالة بنت وهيب على نفسه، فزوّجه إياها، فكان تزوّجهما فى مجلس واحد، فولدت هالة لعبد المطّلب حمزة «1» ، وكان حمزة عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النّسب، وأخاه من الرّضاعة. ونقل أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ «2» رحمه الله: أن عبد الله ابن عبد المطّلب تزوج آمنة وهو ابن ثلاثين سنة «3» . قال: وقيل بل كان يؤمئذ ابن خمس وعشرين سنة. وعن محمد بن السائب الكلبىّ عن أبيه، وعن أبى الفيّاض الخثعمى قالا: لما تزوّج عبد الله آمنة أقام عندها ثلاثا، وكانت تلك السّنّة عندهم. وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام «4» عن محمد بن إسحاق: إن عبد المطلب لما فدى ابنه عبد الله أخذ بيده، وخرج به حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيّد بنى زهرة نسبا وشرفا، فزوّجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا، قال: فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها «5» مكانه فوقع عليها، فحملت «6» برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر خبر المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب وما أبدته من سبب ذلك

ذكر خبر المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطّلب وما أبدته من سبب ذلك قد اختلف فى هذه المرأة، فمنهم من يقول: هى قتيلة «1» ، بنت نوفل، بن أسد، ابن عبد العزّى، بن قصىّ، وهى أخت «2» ورقة بن نوفل. قال السّهيلى «3» : اسمها رقيّقة «4» بنت نوفل تكنّى أم قتال، وهى أخت ورقة بن نوفل. ومنهم من يقول «5» : هى فاطمة بنت مرّ الخثعمية، وقيل غيرها. ونحن نذكر ما قالوه فى ذلك. فأما عبد الملك بن هشام فقال «6» : لما انصرف عبد المطلب يوم الفداء آخذا بيد ابنه عبد الله، فمرّ به على امرأة من بنى أسد، وهى أخت ورقة بن نوفل، وهى عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبى، قالت: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع علىّ الآن. قال: أنا مع أبى «7» ، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطّلب حتى أتى وهب ابن عبد مناف. وذكر خبر زواجه بآمنة، وأنه وقع عليها كما ذكرناه آنفا. قال: ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علىّ اليوم ما كنت عرضت علىّ بالأمس؟ قالت له: فارقك النّور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة.

وقال الواقدىّ «1» : هى قتيلة بنت نوفل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها امرأة من بنى أسد، وهى أخت ورقة. قال الواقدىّ: كانت «2» تنظر وتعتاف «3» ، فمرّ بها عبد الله فدعته يستبضع منها، ولزمت طرف ثوبه فأبى وقال: حتى آتيك، وخرج مسرعا «4» حتى دخل على آمنة فوقع عليها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى المرأة وهى تنتظره فقال: هل لك فى الذى عرضت علىّ؟ فقالت: لا. مررت وفى وجهك نور ساطع، ثم رجعت وليس فيه ذلك النور. قال «5» : وقال بعضهم قالت: مررت وبين عينيك غرّة مثل غرّة الفرس، ورجعت وليس هى فى وجهك. وقال «6» محمد بن عمر بن واقد، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى، عن أبيه، عن أبى الفيّاض «7» الخثعمى، قال: مرّ عبد الله بامرأة من خثعم يقال لها: فاطمة

بنت مرّ «1» ، وكانت من أجمل الناس وأشبّه وأعفّه «2» ، وكانت قد قرأت الكتب «3» ، وكان شباب قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوّة فى وجه عبد الله فقالت: يا فتى! من أنت؟ فأخبرها، قالت: هل لك أن تقع علىّ وأعطيك «4» مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال: أمّا الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه فكيف بالأمر «5» الذى تنوينه «6» ثم مضى إلى امرأته آمنة، فكان معها، ثم ذكرا الخثعمية وجمالها، وما عرضت عليه، فأقبل عليها فلم ير منها من الإقبال عليه آخرا كما رآه منها أولا، فقال: هل لك فيما قلت لى؟ فقالت: «قد كان ذاك مرّة فاليوم لا «7» » ، فذهبت مثلا، وقالت: أىّ شىء صنعت بعدى؟ قال: وقعت على زوجتى آمنة، قالت: إنى والله لست

بصاحبة زنية «1» ، ولكنى رأيت نور النبوّة فى وجهك، فأردت أن يكون ذلك فىّ، وأبى الله إلا يجعله حيث جعله. وبلغ شباب قريش ما عرضت على عبد الله وتأبّيه عليها، فذكروا ذلك لها، فأنشأت تقول: إنى رأيت مخيلة «2» عرضت «3» ... فتلألأت بحناتم القطر فلمأتها نورا «4» يضىء له «5» ... ما حوله كإضاءة الفجر ورأيته شرفا «6» أبوء به ... ما كلّ قادح زنده يورى لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدرى «7» وقالت أيضا «8» : بنى هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان «9» كما غادر المصباح بعد خبوّه «10» ... فتائل قد ميثت له بدهان

وما كلّ ما يحوى الفتى من تلاده «1» ... بحزم «2» ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدّان يصطرعان ستكفيكه إمّا يد مقفعلة «3» ... وإمّا يد مبسوطة ببيان ولما قضت منه أمينة ما قضت ... نبا بصرى عنه وكلّ لسانى «4» وعن أبى يزيد المدنى «5» قال: نبّئت أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة من خثعم فرأت بين عينيه نورا ساطعا إلى السماء فقالت: هل لك فىّ؟ قال: نعم حتى أرمى الجمرة، فانطلق فرمى الجمرة، ثم أتى امرأته آمنة بنت وهب، ثم ذكر الخثعمية «6» فأتاها فقالت: هل أتيت امرأة بعدى؟ قال نعم، امرأتى آمنة بنت وهب، قالت: فلا حاجة لى فيك، إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء، فلما وقعت عليها ذهب؛ فأخبرها أنها قد حملت بخير «7» أهل الأرض. وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار، أنه حدّث «8» أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل فى طين له، وبه آثار من الطّين، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت عليه من آثار الطّين،

ذكر حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأته، وما قيل لها

فخرج من عندها فتوضّأ وغسل ما كان به من ذلك الطّين، ثم خرج عامدا إلى آمنة فمرّ بها، فدعته فأبى عليها «1» ، وعمد إلى آمنة فدخل عليها؛ فأصابها فحملت بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ بامرأته تلك فقال لها: هل لك؟ قالت: لا. مررت بى وبين عينيك غرة، فدعوتك فأبيت «2» ، ودخلت على آمنة فذهبت بها. قال ابن إسحاق «3» : وزعموا أن امرأته تلك كانت تحدّث: أنّه مرّ بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن تكون تلك بى، فأبى علىّ، ودخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمّه. والله الفعال. ذكر حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأته، وما قيل لها حملت به صلى الله عليه وسلم أيام التّشريق فى شعب أبى طالب عند الجمرة الوسطى، رواه أبو عمر بن عبد البرّ «4» عن الزبير بن بكّار، وحكاه غيره أيضا. وقيل حملت به فى دار وهيب «5» بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. وروى محمد بن عمر بن واقد الأسلمى «6» قال: حدّثنى علىّ بن يزيد، بن عبد الله، بن وهب بن زمعة عن أبيه، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لمّا حملت به آمنة بنت وهب كانت تقول: ما شعرت أنى حملت به، ولا وجدت له ثقلة «1» كما تجد النساء، إلا أنى قد أنكرت رفع حيضتى، فربما كانت ترفعنى وتعود؛ وأتانى آت، وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنّك حملت؟ فكأنى أقول ما أدرى، فقال: إنك قد حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها، وذلك يوم الإثنين، قالت: فكان ذلك مما يقّن عندى الحمل، ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى «2» أتانى ذلك الآتى فقال: قولى: «أعيذه بالواحد الصّمد، من شرّ كلّ حاسد» . قالت: فكنت أقول ذلك. وفى رواية محمد بن إسحاق «3» أنه قيل لها: إنك قد حملت بسيّد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: «أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا» «4» . وفى رواية أخرى: امرت أمّه وهى حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمّيه أحمد. قالت أمه: فذكرت ذلك لنسائى، فقلن لى: تعلّقى حديدا فى عضديك وفى عنقك، قالت: ففعلت، فلم يكن يترك علىّ إلا أياما، فأجده قد قطع، فكنت لا أتعلقه. وعن الزّهرىّ قال: قالت آمنة: لقد علقت به، فما وجدت له مشقّة حتى وضعته. قال ابن إسحاق «5» : ورأت «6» حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. قد تواترت الأخبار الصحيحة بذلك.

وحكى الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبى فى كتاب «الأعلام» له عن ابن عباس رضى «1» الله عنهما أنه قال: وكان من دلائل حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كلّ دابّة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: حمل بمحمد وربّ الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها؛ ولم تبق كاهنة فى قريش ولا فى قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبها؛ وانتزع علم الكهنة منهم ولم يبق سرير لملك من ملوك الدّنيا إلا أصبح منكوسا. قال: وقال كعب الأخبار: وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا كلّها منكوسة مضغوطة فيها شياطينها، وأصبح عرش إبليس عدوّ الله منكوسا. قال: وقال ابن عباس رضى الله عنهما: وأصبح كلّ ملك أخرس «2» لا ينطق يومه ذلك، وفرّت وحوش «3» المشرق إلى وحوش «4» المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار [صار «5» ] يبشّر بعضهم بعضا، وله فى كلّ شهر من شهوره «6» نداء فى الأرض، ونداء فى السماء: أن أبشروا، فقد آن لأبى القاسم أن يخرج «7» إلى الأرض ميمونا مباركا. والله الموفّق الفعّال.

ذكر وفاة عبد الله بن عبد المطلب

ذكر وفاة عبد الله بن عبد المطّلب روى أبو عبد الله محمد بن سعد، بسند يرفعه إلى محمد بن كعب، وأيوب بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، قالا: خرج عبد الله بن عبد المطّلب إلى الشام إلى غزّة فى عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمرّوا بالمدينة وعبد الله يومئذ مريض فقال: أنا أتخلّف عند أخوالى بنى عدىّ ابن النجّار، فأقام عندهم مريضا شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطّلب عن عبد الله، فقالوا: خلّفناه عند أخواله وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب ولده الحارث «1» ، فوجده قد توفّى ودفن فى دار النابغة «2» ، وهو رجل من بنى عدىّ بن النّجار، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل. ولعبد الله يوم توفّى خمس وعشرون سنة. قال الواقدى: هذا هو أثبت الأقاويل، والرواية فى وفاة عبد الله وسنّه عندنا. وعن هشام بن السائب الكلبىّ عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفى عبد الله بن عبد المطّلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، ويقال سبعة أشهر، وقيل شهران. قال محمد بن سعد: والأول أثبت. وقال السّهيلىّ «3» : «وأكثر العلماء على أنه كان فى المهد» ، قال: «ذكره الدّولابى «4» وغيره» . والله تعالى أعلم.

ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الواقدى: وترك عبد الله بن عبد المطّلب أمّ أيمن، واسمها بركة، وخمسة أجمال أوارك، يعنى تأكل الأراك، وقطعة غنم؛ فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله خير الوارثين. ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة شرفها الله تعالى؛ قال الزّبير بن بكّار «1» : ولد صلى الله عليه وسلم فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجّاج. قال القرطبى رحمه الله فى كتاب «الأعلام» له: إنّ الدار كانت فى الزّقاق المعروف بزقاق المولد «2» ، وكانت فى مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يد عقيل بن أبى طالب ثم فى أيدى ولده، ثم اشتراها محمد بن يوسف الثّقفىّ من ولد عقيل، فأدخل البيت «3» فى دار بناها وسمّاها البيضاء، فكان البيت فى الدار إلى أن حجّت الخيزران «4» أمّ الهادى والرشيد، فأخرجت البيت وجعلته مسجدا يشرع فى زقاق المولد. وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل بعد قدوم أصحاب الفيل بخمس وخمسين ليلة «5» ، فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، قيل لليلتين خلتا منه، وقيل

أوّل اثنين منه من غير تعيين، وقيل ولد فى شهر رمضان لاثنتى عشرة ليلة خلت منه «1» ، وهو العشرون من نيسان سنة ثمانمائة واثنتين للإسكندر ذى القرنين. والمشهور أنه ولد فى شهر ربيع الأوّل؛ فيقول القائل: كيف يمكن أن تكون حملت به فى أيام التّشريق، وولد فى شهر ربيع الأوّل، والمدّة بينهما إمّا أربعة أشهر، أو ستة عشر شهرا، ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم ولد لأقل من تسعة أشهر ولا أكثر منها؟ فالجواب أن الحج إذ ذاك لم يكن محصورا فى ذى الحجّة، بل قد ثبت أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه حج بالناس فى السنة التاسعة من الهجرة، ووافق الحج فى ذى القعدة، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجّة الوداع فى السنة العاشرة، خطب فقال فى خطبتة: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض «2» ، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر «3» الذى بين جمادى وشعبان» ، فيمكن أن يكون الحجّ لمّا حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وافق فى جمادى الآخرة؛ ولا يمتنع هذا والله أعلم. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به، تعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدت له مشقّة حتى وضعته؛

فلما «1» فصل منّى خرج منه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها، ورفع رأسه إلى السماء. وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشّام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى «2» . وعن حسان ابن عطية: أن النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ولد وقع على كفّيه وركبتيه «3» شاخصا بصره إلى السماء. قالت أمّه: فولدته نظيفا والله كما يولد السّخل ما به قذر. وقالت فاطمة بنت عبد الله أمّ عثمان بن [أبى] العاصى «4» ، وكانت شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعته أمّه آمنة وذلك ليلا، قالت: فما شىء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإنى لأنظر إلى النّجوم تدنو حتى إنى لأقول لتقعنّ «5» علىّ. وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت رحمه الله، عن آمنة قالت: لمّا ولدت محمدا صلى الله عليه وسلم ثم خرج من بطنى نظرت إليه، فإذا هو ساجد لله عزّ وجلّ رافع يديه «6» إلى السماء كالمتضرّع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت تنزل من السماء حتى غشيته، فغّيبته عن عينى برهة، فسمعت قائلا يقول: طوفورا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار كلّها ليعرف جميع الخلائق كلها باسمه

وصفته، ويعرفوا بركته، إنه حبيب لى، لا يبقى شىء من الشّرك إلا ذهب به. قالت «1» : ثم انجلت عنى فى أسرع من طرفة عين، فإذا أنا به مدرج فى ثوب أبيض أشدّ بياضا من اللبن، وتحته حريرة خضراء قد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرّطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قد قبض محمد صلى الله عليه وسلم مفاتيح النّصرة، ومفاتيح الدنيا، ومفاتيح النبوّة. وذكر الخطيب أيضا عنها فى شأن المولد: قالت: رأيت سحابة أعظم من الأولى ولها نور «2» ، أسمع فيها صهيل الخيل، وخفقان الأجنحة، وكلام الرجال» ، حتى غشيته، قالت: وغيّبت «4» عنى وجهه أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت مناديا ينادى: طوفوا بمحمد جميع الأرضين، وعلى موالد النبيّين، واعرضوه على كل روحانىّ من الجنّ، والإنس، والملائكة، والطير، والوحوش؛ وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم «5» ، ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وجمال يوسف، وشدّة موسى وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود، وحبّ دانيال، ووقار إلياس وعصمة يحيى، وزهد عيسى؛ واغمسوه فى جميع «6» أخلاق النبيّين عليه وعليهم السلام. ثم «7» انجلت عنّى فى أسرع من طرفة العين، فإذا به قد قبض على حريرة خضراء

مطويّة طيّا شديدا، ينبع من تلك الحريرة ماء معين، وإذا قائل «1» يقول: بخ بخ! قبض محمد صلى الله عليه وسلم على الدنيا كلّها، لم يبق خلق كثير «2» من أهلها إلا دخل فى قبضته طائعا بإذن الله. ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عن أبيه، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا «3» ، قال: وأعجب ذلك عبد المطّلب، وحظى عنده، فقال: ليكوننّ لابنى هذا شأن. وفى رواية: لمّا ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلت إلى جدّه عبد المطلب، فجاء البشير وهو جالس فى الحجر مع ولده ورجال من قومه، فأخبره أن آمنة ولدت غلاما، فسرّ بذلك، وقام هو ومن معه، فدخل عليها، فأخبرته بكل ما رأت، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميّه. قال: فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة، وقام عندها يدعو الله، ويشكر ما أعطاه. قال الواقدىّ: وأخبرت أنّ عبد المطلب قال يومئذ: الحمد لله الذى أعطانى ... هذا الغلام الطيّب الأردان قد ساد فى المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذى الأركان حتى أراه بالغ البنيان ... اعيذه من شرّ ذى شنان من حاسد مضطرب العنان وقال القرطبىّ: وقال أبو طالب: كنت تلك الليلة التى ولد فيها محمد فى الكعبة أصلح فيها ما تهدّم منها، فلما انتصف الليل، إذا أنا بالبيت الحرام قد مال بجوانبه

ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكناه

الأربعة، فخرّ ساجدا فى مقام إبراهيم عليه السلام، كالرجل الساجد، ثم استوى قائما، وأنا أسمع له تكبيرا عجيبا ينادى: الله أكبر! الله ربّ محمد المصطفى! الآن طهّرنى ربى من أنجاس المشركين، وحميّة الجاهلية! ونظرت إلى الأصنام كلها تنتفض كما ينتفض الثوب، ونظرت إلى الصنم الأعظم «هبل» قد انكبّ فى الحجر، وسمعت مناديا ينادى: ألا إن آمنة قد ولدت محمدا! وقد سكبت عليها سحائب الرحمة، هذا طست الفردوس قد انزل ليغسل فيه الثّانية. وعن حسّان بن ثابت الأنصارىّ، قال «1» : والله إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلّ ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ على أطمة «2» يثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك! مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد «3» به. ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكناه وأسماؤه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها ما جاء بنصّ القرآن، ومنها ما نقل إلينا من الكتب السالفة والصّحف المنزلة، ومنها ما جاء فى الأحاديث الصحيحة ومنها ما اشتهر على ألسنة الأئمة من الأمّة رضوان الله عليهم. روى عن جبير بن مطعم، قال «4» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لى «5» خمسة

أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى «1» ، وأنا العاقب» . قيل لأنه عقب غيره من الأنبياء. وروى عنه عليه السلام: «لى عشرة أسماء» ، فذكر الخمسة هذه، قال: «وأنا رسول الرحمة، ورسول الرّاحة، ورسول الملاحم، وأنا المقفّى؛ قفّيت النبيّين، وأنا قيّم» . قال القاضى عياض: والقيّم: الجامع الكامل، قال: كذا وجدته ولم «2» أروه وأرى صوابه: قثم «3» بالثاء، وروى النقّاش «4» عنه عليه [الصلاة و] السلام «5» «لى فى القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويس، وطه، والمدّثّر، والمزّمّل، وعبد الله» . وفى حديث أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه: أنه كان عليه السلام يسمّى لنا نفسه أسماء؛ فيقول: أنا محمد، وأحمد، والمقفّى، والحاشر، ونبىّ التّوبة ونبىّ الملحمة، ويروى المرحمة، والرحمة؛ ومعنى المقفّى: معنى العاقب. وقد جاءت من ألقابه وأسمائه صلى الله عليه وسلم فى القرآن عدّة كثيرة سوى ما ذكرناه، منها النّور؛ لقوله تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، والسّراج المنير، والشاهد، والمبشّر والنذير، وداعى الله؛ قال الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)

والبشر لقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) * ، والمنذر لقوله: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) ، والمذكّر لقوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ، والشهيد لقوله: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، والخبير لقوله تعالى: (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قال القاضى بكر بن العلاء «1» : المأمور بالسؤال غير النبىّ صلى الله عليه وسلم، والمسئول الخبير هو النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ والحق المبين لقوله تعالى: (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، وقوله: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، وقوله: (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، قيل: محمد وقيل: القرآن، والرءوف الرحيم؛ لقوله تعالى: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، والكريم، والمكين، والأمين؛ لقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ، والرسول، والنبى الأمّىّ؛ لقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) ، والولىّ، لقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، والفاتح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم، فى حديث الإسراء عن ربه تعالى: «وجعلتك فاتحا وخاتما» ، وفيه من قول النبى صلى الله عليه وسلم فاتحا وخاتما، وقدم الصدق؛ قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؛ قال قتادة والحسن وزيد بن أسلم: قدم صدق هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعروة الوثقى قيل: محمد، وقيل: القرآن؛ والهادى، لقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

ذكر ما جاء فى تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد ومن تسمى بمحمد قبله صلى الله عليه وسلم من العرب، واشتقاق ذلك

ذكر ما جاء فى تسميته صلّى الله عليه وسلّم محمدا وأحمد ومن تسمّى بمحمد قبله صلى الله عليه وسلم من العرب، واشتقاق ذلك أما اشتقاق هذه التسمية، فمحمد اسم علم، وهو منقول من صفة من قولهم: رجل محمّد؛ وهو الكثير الخصال المحمودة؛ والمحمّد فى لغة العرب: هو الذى يحمد حمدا بعد حمد مرة بعد مرة. قال السهيلى «1» : «لم يكن محمد حتى كان أحمد حمد ربّه فنبّأه وشرّفه؛ فلذلك تقدّم اسم أحمد على [الاسم الذى «2» هو] محمد فذكره عيسى عليه السلام باسمه أحمد» . وهو صلى الله عليه وسلم أول من سمّى بأحمد، ولم يسمّ به أحد قبله من سائر الناس؛ وفى هذا حكمة عظيمة باهرة؛ لأن عيسى عليه السلام قال: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمّى أحد به ولا يدعى به مدعوّ قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب. وأما محمد «3» ، فإن الله تعالى حمى أن يسمّى به أحد من العرب، ولا من غيرهم إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده صلى الله عليه وسلم: أن نبيّا يبعث اسمه محمد قد قرب إبّان مولده، فسمّى قوم من العرب أبناءهم. قال أبو جعفر محمد بن حبيب «4» : وهم ستة لا سابع لهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جدّ الفرزدق الشاعر، وهو أوّل «5» من سمّى محمدا، ومحمد بن أحيحة «6» بن الجلاح

الأوسىّ، ومحمد بن حسّان الجعفىّ، ومحمد بن مسلمة الأنصارى «1» ، ومحمد بن براء البكرىّ، ومحمد بن خزاعىّ السّلمى، وذكر فيهم أيضا محمد بن اليحمدىّ من الأزد واليمن تقول: إنه أوّل من تسمّى بمحمد. وذكر أبو الخطّاب بن دحية فيهم: محمد بن عتوارة اللّيثى «2» الكنانىّ، ومحمد بن حرماز «3» بن مالك التّميمى «4» المعمرىّ. وقال أبو بكر بن فورك: «لا يعرف فى العرب من تسمّى قبله بمحمد سوى محمد بن سفيان، ومحمد بن أحيحة، ومحمد بن حمران «5» ، وإن آباء هؤلاء «6» الثلاثة وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأوّل، فأخبرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلّف امرأته حاملا، فطمع فى ذلك «7» فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد ذكر أن يسميّه محمدا» .

وذكر ابن سعد فيهم: محمد الجشمىّ. وقال ابن الأثير «1» : محمد بن عدىّ بن ربيعة بن سعد بن سواد بن جشم بن سعد؛ عداده فى أهل المدينة «2» . وروى عبد الملك بن أبى سويد المنقرىّ عن جد أبيه خليفة، قال: سألت محمد «3» بن عدىّ كيف سمّاك أبوك محمدا؟ فضحك، ثم قال: أخبرنى أبى عدىّ بن ربيعة، قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن ربيعة «4» بن كنانة، بن حرقوص ابن مازن، وأسامة بن مالك بن العنبر «5» نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير، فأشرف علينا ديرانىّ فقال: إنى لأسمع لغة ليست لغة أهل هذه البلاد فقلنا: نعم! نحن من مضر، قال: أى المضرين؟ قلنا: خندف، فقال: إنه يبعث وشيكا نبىّ منكم، فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا ما اسمه؟ قال: محمد فأتينا ابن جفنة، فلما انصرفنا ولد لكل منا ابن فسمّاه محمدا. وقال محمد بن سعد: «أخبرنا محمد بن على، عن مسلمة، عن علقمة، عن قتادة بن السّكن «6» ، قال: كان فى بنى تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد الجشمىّ فى بنى سواد، ومحمد الأسيّدى «7» ، ومحمد الفقيمىّ «8» ؛ سمّوهم طمعا فى النبوّة؛ ثم حمى الله تعالى كل من تسمّى بمحمد أن يدّعى النبوّة، أو يدّعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكّك أحدا فى أمره، حتى تحقّق ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع.

ومن أسمائه فى الكتب المنزلة صلى الله عليه وسلم

ومن أسمائه فى الكتب المنزلة صلّى الله عليه وسلم «العظيم» ، وقع فى أوّل سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمّة عظيمة «1» . و «الجبّار» ، سمّى بذلك فى كتاب داود عليه السلام، فقال: تقلّد أيها الجبّار سيفك فإن ناموسك وشرائعك «2» مقرونة بهيبة يمينك. قالوا «3» : ومعناه فى حق النبى صلى الله عليه وسلم: إما لإصلاحه الأمة بالهداية «4» والتعليم، أو لقهره أعداءه، أو لعلو منزلته على البشر، وعظيم «5» وعظيم خطره. ونفى الله عز وجل عنه جبرية التكبّر فى القرآن فقال: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) . ومن أسمائه فيها «6» : «المتوكّل» ، و «المختار» ، و «مقيم السّنّة «7» » ، و «المقدّس «8» » ، و «روح الحق» ، وهو معنى البارقليط «9» فى الإنجيل؛ وقال ثعلب: البارقليط: الذى يفرق بين الحق والباطل.

ومن اسمائه ونعوته عليه السلام التى جرت على ألسنة أئمة الأمة

ومنها ماذ ماذ «1» ؛ ومعناه طيّب طيّب، وحمطايا «2» ، والخاتم والخاتم؛ حكاه كعب الأحبار، قال: فقلت فالخاتم الذى ختم به الأنبياء، والخاتم أحسن الأنبياء خلقا وخلقا، ويسمّى بالسريانية مشفّج «3» ، والمنحمنّا «4» ، واسمه أيضا فى التوراة: أحيّد «5» ، وروى ذلك عن ابن سيرين رحمه الله. ومن اسمائه ونعوته عليه السلام التى جرت على ألسنة أئمّة الأمّة المصطفى، والمجتبى، والحبيب، ورسول ربّ العالمين، والشفيع المشفّع والمتّقى، والمصلح، والطاهر، والمهيمن، والصادق، والضّحوك، والقتّال «6» ، وسيّد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وحبيب الله وخليل الرحمن، وصاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والشفاعة والمقام المحمود، وصاحب الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرّفيعة، وصاحب التاج والمعراج والقضيب، وراكب البراق والناقة والنّجيب، وصاحب الحجّة والسلطان، والخاتم والعلامة والبرهان، وصاحب الهراوة والنّعلين. صلى الله عليه وسلم.

ذكر مراضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوته من الرضاعة، وما ظهر من معجزاته فى زمن رضاعه وحال طفوليته صلى الله عليه وسلم

قالوا: ومعنى صاحب القضيب: السّيف، وقع ذلك مفسّرا فى الإنجيل؛ قال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمّته كذلك «1» ؛ وأما الهراوة التى وصف بها، فهى فى اللّغة العصا، ولعلها القضيب الممشوق الذى انتقل إلى الخلفاء «2» ؛ وأما صاحب التاج، فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب. وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم، وعن أنس أنه لما ولد له إبراهيم، جاءه جبريل فقال: السلام عليك يأبا إبراهيم «3» . ذكر مراضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوته من الرّضاعة، وما ظهر من معجزاته فى زمن رضاعه وحال طفوليته صلى الله عليه وسلم قال محمد بن عمر بن واقد الأسلمى: أوّل من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثويبة «4» ، وهى جارية أبى لهب، أرضعته بلبن ابنها مسروح «5» أياما قبل أن تقدم حليمة السّعدية، وكانت قد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومى؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكّة، وكانت خديجة تكرمها وهى يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبى لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها

بصلة وكسوة، حتى جاء خبرها أنها قد ماتت سنة سبع عند مرجعه من خيبر، فقال: ما فعل ابنها مسروح؟ فقيل: مات قبلها ولم يبق من قرابتها أحد. ثم أرضعته حليمة بنت أبى ذؤيب، وأبو ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة «1» ، ابن جابر بن رزام بن ناصرة «2» بن فصيّة «3» بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان «4» بن مضر؛ واسم أبيه الذى أرضعه «5» : الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن ملّان بن ناصرة؛ ويقال هلال «6» بن ناصرة بن فصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن. وإخوته من الرضاعة منها: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة «7» بنت الحارث وهى الشّيماء «8» ، وكانت الشّيماء تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمها. قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق «9» كانت حليمة بنت أبى ذؤيب تحدّث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه فى نسوة من بنى سعد بن بكر تلتمس الرّضعاء

قال الواقدى: إنهن كنّ عشرا، قالت: فى سنة شهباء «1» لم تبق شيئا «2» ، فخرجت على أتان. لى قمراء «3» معنا شارف «4» لنا، والله ما تبصّ «5» بقطرة، وما تنام لنا ليلتنا أجمع مع صبيّنا الذى معى «6» من بكائه من الجوع، ما فى ثديىّ ما يغنيه، وما فى شارفنا ما يغذّيه، ولكنا نرجو «7» الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذمّت «8» بالرّكب حتى شقّ ذلك عليهم ضعفا وعجفا «9» حتى قدمنا مكة، فما منّا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا «10» نرجو المعروف من أبى الصّبىّ؛ فكنا نقول: يتيم، ما عسى أن تصنع أمّه وجدّه؟ فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبنّ «11» إلى ذلك اليتيم فلآخذنّه؛ قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت «12» : فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره؛ فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته فى حجرى، أقبل عليه ثدياى بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه

أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجى إلى شارفنا تلك فإذا بها حافل، فحلب منها ما شرب وشربت، حتى انتهينا ريّا وشبعا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: قلت والله إنى لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا فركبت أتانى وحملته عليها معى، فو الله لقطعت بالرّكب ما يقدر عليها شىء «1» من حمرهم، حتى إن صواحبى ليقلن لى: ويحك يا بنت أبى ذؤيب [ويحك «2» ] ! اربعى «3» علينا. أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله! إنها لهى هى، فيقلن: والله إن لها لشأنا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن وما يجدها «4» فى ضرع حتى كان الحاضر «5» من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب، قالت: فلم نزل نتعرّف من الله الزيادة والخيرة حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا «6» ، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شىء على مكثه فينا لما كنّا نرى من بركته، فكلّمنا أمّه. وقلت لها: لو تركت بنىّ عندى حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم تزل «7» به حتى ردّته معنا فرجعنا به

فو الله إنه بعد مقدمنا بأشنهر مع أخيه لفى بهم «1» لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتدّ «2» ، فقال لى ولأبيه: ذاك أخى القرشىّ قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقّا بطنه، فهما يسوطانه «3» ، قالت «4» : فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا «5» وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا: مالك يا بنىّ؟ قال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعانى فشقّا بطنى، فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو؟ قالت: فرجعنا إلى خبائنا، فقال لى أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمّه، فقالت: ما أقدمك يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابنى، وقضيت الذى علىّ، وتخوّفت الأحداث عليه، فأدّيته عليك «6» كما تحبيّن، قالت: ما هذا شأنك فاصدقينى خبرك! فلم تدعنى حتى أخبرتها؛ قالت: أفتخوّفت عليه الشيطان؟ قلت نعم. قالت كلّا والله! ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنىّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى! قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منّى نور أضاء له قصور بصرى «7» من من أرض الشام، ثم حملت به، فو الله ما رأيت من حمل قطّ كان أخفّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، ورافع رأسه إلى السّماء؛ دعيه عنك وانطلقى راشدة. هكذا نقل ابن هشام فى سيرته عن ابن إسحاق.

وقال محمد بن سعد فى كتابه المترجم بالطّبقات عن الواقدىّ: كان عمره يوم شقّ بطنه أربع سنين، وإن حليمة أتت به أمّه آمنة بنت وهب وأخبرتها خبره وقالت: إنا لا نردّه إلّا على جدع أنفنا؛ ثم رجعت به أيضا، فكان عندها سنة أو نحوها، لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، ثم رأت غمامة تظلّه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك من أمره، فقدمت به إلى أمّه لتردّه وهو ابن خمس سنين، فأضلّها «1» فى الناس، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطّلب فأخبرته، فالتمسه فلم يجده، فقام عند الكعبة فقال: لا همّ ردّ راكبى محمّدا ... اردده ربّى واصطنع عندى يدا أنت الذى جعلته لى عضدا ... لا يبعد الدهر به فيبعدا أنت الذى سمّيته محمّدا قال ابن اسحاق «2» : يزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطّلب، فقالا: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكّة، فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوّذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمّه آمنة. وعن خالد بن معدان الكلاعىّ «3» : أنّ نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك، قال: نعم. أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى عيسى «4» ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت فى بنى سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، إذ أتانى رجلان

عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، فأخذانى فشقّا بطنى، ثم استخرجا «1» قلبى فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا بطنى وقلبى بذلك الثّلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمّته، فوزننى بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمّته لوزنها. قال محمد بن إسحاق «2» : وحدّثنى بعض أهل العلم أن مما هاج أمّه السّعدية على ردّه إلى أمه، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه، أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلّبوه ثم قالوا لها: لنأخذنّ هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به منهم. ونقل محمد بن سعد «3» : أن آمنة أمّ النبى صلى الله عليه وسلم لمّا دفعته لحليمة السعديّة قالت لها: احفظى ابنى، وأخبرتها بما رأت، فمرّ بها اليهود فقالت: ألا تحدّثونى عن ابنى هذا؟ فإنّى حملته كذا، ووضعته كذا، ورأيت كذا، كما وصفت آمنة «4» ، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه! ثم قالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا. هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه «5» ، قالت: فذهبت به. وحضنته صلى الله عليه وسلم أمّ أيمن [بركة «6» ] الحبشيّة حتى كبر، فأعتقها وزوّجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثها من أبيه. والله أعلم.

ذكر وفاة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر وفاة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدىّ وغيره من أهل العلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغت سنّه ستّ سنين خرجت به إلى أخواله بنى عدىّ بن النّجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أمّ أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به فى دار النابغة «1» ، فأقامت به عندهم شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك لمّا نظر إلى أطم بنى عدىّ بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمان من أخوالى؛ ونظر إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمّى، وفى هذه الدار قبر أبى عبد الله، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدىّ بن النجّار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه «2» ، فقالت أمّ أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هذا نبىّ هذه الأمّة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كلّه من كلامه؛ ثمّ رجعت به إلى مكّة، فلمّا كانوا بالأبواء «3» [توفّيت آمنة بنت وهب فقبرها هناك، فرجعت به أمّ أيمن على البعيرين الّلذين قدموا عليهما إلى مكّة، وكانت تحضنه مع أمّه ثم بعد أن ماتت، فلما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ] فى عمرة الحديبية قال: «إن الله أذن لمحمد فى زيارة قبر أمّه» فأتاه صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له «5» ، فقال: أدركتنى رحمتها فبكيت. والله الرحمن.

ذكر كفالة عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر كفالة عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولما توفّيت أمّه آمنة قبضه إليه جدّه عبد المطلب وضمّه إليه ورقّ عليه رقّة لم يرقّها على ولده، وكان يقرّبه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، ويجلس على فراشه؛ وكان يوضع لعبد المطّلب فراش فى ظلّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابنى، فو الله إنّ له لشأنا، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره بيده، ويسرّه ما يراه يصنع. وقال قوم من بنى مدلج «1» لعبد المطلب: احتفظ به، فإنّا لم نر قدما أشبه بالقدم التى فى المقام منه؛ فقال عبد المطلب لأبى طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. وسنذكر إن شاء الله خبر سيف بن ذى يزن مع عبد المطلب، وما بشّره من أمر النبى صلى الله عليه وسلم. قالوا: وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا قال: علىّ بابنى فيؤتى به إليه فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانى سنين، هلك عبد المطّلب بن هاشم؛ ولما حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا طالب بحفظه وكفالته؛ [وكانت «2» ] وفاة عبد المطّلب ابن هاشم لثمان مضين من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون، وهو يومئذ

ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل ابن مائة وعشر سنين «1» حكاه السّهيلىّ «2» ؛ قال: «وهو أوّل من خضب بالسّواد من العرب» . قال ابن قتيبة «3» : إنّه كبر وعمى، وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش فى رءوس الجبال، ويقال له الفيّاض لجوده، ومطعم طير السماء. قال ابن الأثير «4» : «وهو أوّل من تحنّث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين» . وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتذكر موت عبد المطّلب؟ قال: نعم. أنا يومئذ ابن ثمانى سنين، قالت أمّ أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ يبكى خلف سرير عبد المطّلب. قال: ولما هلك عبد المطلب ولى زمزم والسقاية عليها بعده ابنه العبّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنّا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهى بيده، فأقرّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما مضى. وعن عبد الله بن عبّاس وغيره، قالوا: لما توفّى عبد المطلب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمّه أبو طالب، قيل بوصية من عبد المطلب، فأحبّه حبّا شديدا، وكان لا يفارقه، وكان «5» يخصّه بالطعام «6» ، وكان إذا أكل عيال أبى طالب جميعا أو فرادى

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبى طالب، وخبر بحيرا الراهب

لم يشبعوا «1» ، وإذا أكل معهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شبعوا؛ فكان إذا أراد أن «2» يغذّيهم قال: كما أنتم حتّى يحضر ابنى؛ فيأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فيفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك؛ وكان الصّبيان يصبحون رمصا شعثا، ويصبح عليه السلام دهينا كحيلا «3» . ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمّه أبى طالب، وخبر بحيرا الراهب قالوا: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة وعشرة أيّام، خرج أبو طالب فى ركب تاجرا إلى الشأم، فلما تهيّأ للرحيل تعلّق به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فرقّ له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به «4» ، ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا، فخرج به معه، فلما نزل الرّكب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصّومعة راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، وهو لا يكلمهم، فصنع «5» لهم طعاما كثيرا، وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى صومعته، فى الرّكب حين أقبلوا، وغمامة تظلّه من بين القوم،

فلما نزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، نظر إلى الغمامة وقد أظلّت الشجرة، وتهصّرت «1» أغصانها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظلّ تحتها «2» ، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إلى القوم فقال: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحبّ «3» أن تحضروا كلّكم؛ صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحرّكم؛ فقال له رجل منهم: يا بحيرا إنّ لك لشأنا اليوم: قال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول فاجتمعوا إليه، وتخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنّه فى رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا فى القوم لم ير الصّفة التى يعرف، فقال: يا معشر قريش لا يتخلّف منكم أحد عن طعامى، قالوا: ما تخلّف عنك أحد ينبغى أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنّا تخلف فى رحالهم، قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر، فقال رجل من قريش: واللّات والعزّى إن كان للؤما بنا أن يتخلّف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام «4» فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللّات والعزّى إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال: لا تسألنى بهما! فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له: فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه! فقال: سلنى

عمّا بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه «1» ، وهيئته، وأموره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثمّ نظر إلى خاتم النبوّة بين كتفيه، وكان مثل أثر المحجم، فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى؟ قال له بحيرا: ما هو بابنك «2» ، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخى، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمّه حبلى به، قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده فاحذر «3» عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شرّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده، فخرج أبو طالب سريعا حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام. وروى أنّ زريرا وتمّاما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب، قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل ما رأى بحيرا فى ذلك السّفر الّذى كان فيه مع عمّه أبى طالب، فأرادوه، فردّهم «4» عنه بحيرا، وذكّرهم الله وما يجدون فى الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لا يخلصوا إليه، فعرّفهم ما قال «5» لهم فتركوه وانصرفوا عنه؛ قال: فشبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه لما يريد به من كرامته واصطفائه إنّه خير الحافظين. والله المعين.

ذكر رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم

ذكر رعيته «1» صلّى الله عليه وسلّم الغنم عن عبد الله بن عمير رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبىّ إلا قد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيّا إلا راعى غنم» ، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، رعيتها لأهل مكّة بالقراريط «2» . وعن أبى سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّوا على النّبى صلّى الله عليه وسلّم بثمر الأراك فقال: عليكم بما اسودّ منه، فإنّى كنت أجتنيه إذ أنا راعى الغنم، قالوا: يا رسول الله، رعيتها؟ قال: نعم. وما من نبىّ إلّا قد رعاها. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه نحوه. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام «3» : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، وقيل ابن عشرين، هاجت حرب الفجار «4» ، فشهدها صلّى الله عليه وسلّم، وكان ينبّل على أعمامه أى يردّ عليهم النّبل «5» .

ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول

وقد تقدّم ذكر حرب الفجار فى وقائع العرب، وذلك فى الباب الخامس من القسم الرابع من الفن الخامس من كتابنا هذا؛ وهو فى السفر الثالث عشر من هذه النسخة والله الموفّق للصّواب وإليه المرجع. ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول قال محمّد بن عمر بن واقد [بسند] يرفعه إلى حكيم بن حزام: كان حلف الفضول منصرف قريش من حرب الفجار، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ابن عشرين سنة، وكان الفجار فى شوّال، وهذا الحلف فى ذى القعدة «1» ، وكان أشرف حلف كان قطّ، وأوّل من دعا إليه الزّبير بن عبد المطّلب، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة، وبنو أسد بن عبد العزّى وبنو تيم فى دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ مع المظلوم حتّى يؤدّى إليه حقّه «ما بلّ بحر صوفة» ، فسّمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وقال ابن هشام «2» : تعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه؛ وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته. وعن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحبّ أنّ لى بحلف حضرته فى دار ابن جدعان حمر النّعم وأنّى أغدر به «3» ؛ هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم «ما بلّ بحر صوفة» ، ولو دعيت به لأجبت «4» ، وهو حلف الفضول.

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام المرة الثانية فى التجارة وحديث نسطور

قال الواقدىّ: ولا نعلم أحدا سبق بنى هاشم بهذا الحلف. وحكى أبو الفرج الأصفهانىّ «1» فى سبب تسمية هذا الحلف حلف الفضول: أن قوما من قريش قالوا فى هذا الحلف: هذا والله فضل من الحلف، فسمى حلف الفضول؛ قال: وقال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم «2» فى هذا الأمر لا يقرون «3» ظلما ببطن مكّة إلا غيّروه؛ وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن سماعة. وروى أيضا بسنده «4» إلى أبى إسحاق بن الفضل قال: إنّما سمّت قريش هذا الحلف حلف الفضول لأنّ نفرا من جرهم يقال لهم الفضل والفضال والفضيل تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه قريش، قال: وقال الواقدىّ «5» : والصحيح أنّ قوما من جرهم يقال لهم فضل وفضالة وفضال ومفضل تحالفوا على مثل هذا «6» فلما تحالفت قريش بهذا الحلف سمّوه بذلك. والله الموفّق للصواب. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام المرة الثانية فى التجارة وحديث نسطور قال: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة قال له عمّه أبو طالب: أنا رجل لا مال لى، وقد اشتدّ الزمان علينا، وهذه عير قومك قد

حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك فى عيراتها «1» ، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك؛ وبلغ خديجة ذلك، فأرسلت إليه تقول: أنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك، فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ميسرة غلام خديجة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، فساروا حتى قدموا بصرى «2» ، فنزلا فى ظلّ شجرة، فقال نسطورا «3» الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبىّ. ثم سأل ميسرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفى عينيه حمرة «4» ؟ قال: نعم لا تفارقه؛ قال: هو نبىّ «5» ، وهو آخر الأنبياء؛ ثم باع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلعة فوقع بينه وبين رجل تلاخ، فقال له: احلف باللّات والعزّى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حلفت بهما قطّ، وإنّى لأمرّ فأعرض عنهما، فقال الرجل القول قولك، ثم قال لميسرة «6» : هذا والله نبىّ تجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم؛ وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّيرى ملكين يظلان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كلّه، وباعوا تجارتهم، وربحوا ضعف ما كانوا يربحون؛ فلما رجعوا وكانوا بمرّ الظّهران «7» قال ميسرة: يا محمّد! انطلق إلى خديجة فأخبرها

ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد

بما صنع الله على وجهك «1» ، فإنّها تعرف [لك «2» ] ذلك، فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى دخل مكّة فى ساعة الظّهيرة وخديجة فى علية «3» لها، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره، وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فخبّرها «4» بما ربحوا فى وجههم ذلك، فسّرت به، فلمّا دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا مذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال نسطورا، وبما قال الآخر الذى حالفه «5» فى البيع، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمّت له. والله المعين. ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد قال الواقدى بسند يرفعه إلى نفيسة بنت منية «6» ؛ قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ امرأة حازمة جلدة شريفة لبيبة؛ وهى يومئذ أوسط «7» قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكلّ قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا «8» لها الأموال؛ فأرسلتنى «9» دسيسا إلى محمد بعد أن رجع فى عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوّج؟ فقال: ما بيدى ما أتزوّج به، قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشّرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هى؟ قلت خديجة، قال: وكيف لى بذلك؟

قلت علىّ «1» ، فأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها. وقيل: إنّها أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: يا بن العمّ! إنى قد رغبت فيك لقرابتك منّى، وشرفك فى قومك، وسطتك «2» وأمانتك عندهم، وحسن خلقك وصدق حديثك؛ ثم عرضت نفسها عليه، فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة ابن عبد المطّلب حتى دخل على خويلد بن أسد، وقيل: بل عمرو بن خويلد بن أسد، وقيل: بل عمرو بن أمية عمّها، وكان شيخا كبيرا وهو الصحيح، فخطبها إليه. قيل: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: «الحمد لله الذى جعلنا من ذرّية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء «3» معدّ، وعنصر «4» مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكّام على الناس؛ ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان فى المال قلّ فإن المال ظلّ زائل، وأمر حائل، ومحمد من «5» قد عرفتم قرابته؛ وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصّداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل «6» » . فتزوّجها صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام، وخديجة يومئذ بنت ثمان وعشرين سنة، وقيل: بنت أربعين سنة، وأصدقها صلى الله عليه

ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها

وسلم ثنتى عشرة أوقية ونشّا ذهبا؛ الأوقية أربعون، والنّشّ عشرون، فذلك خمسمائة درهم. وروى ابن هشام «1» : أنه أصدقها صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة. ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وبناءها قالوا: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة شهد هدم الكعبة وبناءها، وتراضت قريش بحكمه فيها؛ وكان سبب هدم الكعبة وبنائها ما روى عن ابن عباس، ومحمد بن جبير بن مطعم، قالا: كانت الجروف «2» مطلّة على مكة، وكان السّيل يدخل من أعلاها حتى يدخل البيت فانصدع، فخافوا أن ينهدم، وسرق منه حليه وغزال من ذهب كان عليه درّ وجوهر. قال محمد بن إسحق «3» : وكان كنز الكعبة فى بئر فى جوفها، فوجد عند دويك مولى لبنى مليح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده، وزعمت قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك. وكانت الكعبة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وكانوا يهمّون بذلك ويهابون هدمها، فلما سرق الكنز حملهم ذلك على هدمها وبنائها؛ قال «4» : وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدّة لرجل من تجّار الروم فتحطمت. قال الواقدى: كان رأس أصحاب السفينة رجلا روميا اسمه باقوم «5» ، فخجّتها «6» الريح إلى

الشّعيبة «1» ، وكانت مرفأ السفن قبل جدّة فتحطّمت؛ فخرج الوليد بن المغيرة فى نفر من قريش فابتاعوا خشبها، وقدم معهم باقوم الرومىّ. قال ابن اسحق «2» : فأعدّوا الخشب لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطىّ نجار، فتهيأ لهم فى أنفسهم بعض ما يصلحها؛ وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها، فتتشرّق «3» كل يوم على جدار الكعبة، ولا يدنو منها أحد إلا احزألّت «4» أى رفعت رأسها وكشّت «5» وفتحت فاها، فكانوا يهابونها؛ فبينا هى يوما تتشرّق بعث الله طائرا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا؛ عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله عز وجل الحية. فلما أجمعوا أمرهم «6» على هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو خال أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا فى بنائها من كسبكم إلا طيّبا، لا يدخل فيها مهر بغىّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. ويقال إن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم هو الذى قال هذا القول. قال الواقدىّ: فأمروا بجمع الحجارة، وببناء الكعبة منها؛ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل

ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط به: أى سقط من قيام، ونودى: عورتك! فكان ذلك أوّل ما نودى، فقال له أبو طالب: يا بن أخى اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابنى [ما أصابنى «1» ] إلا من التّعرّى؛ فما رؤيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة بعد ذلك. قال ابن إسحاق «2» : ثم إن قريشا جزّأت «3» الكعبة، فكان شق «4» الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانىّ لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضمّوا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، وكان شقّ الحجر لبنى عبد الدّار ابن قصىّ وبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عدىّ بن كعب، وهو الحطيم «5» . وقال الواقدىّ: وقع لبنى عبد مناف وزهرة وجه البيت، وهو ما بين الركن الأسود إلى ركن الحجر، ووقع لبنى أسد بن عبد العزّى وبنى عبد الدار ما بين ركن الحجر إلى ركن الحجر الآخر، ووقع لتيم ومخزوم ما بين ركن الحجر إلى الرّكن اليمانىّ، ووقع لسهم وجمح وعدىّ وعامر بن لؤىّ ما بين الركن إلى الركن الأسود. قال ابن إسحاق «6» : ثمّ إن الناس هابوا هدمها، وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم فى هدمها، فأخذ المعول؛ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع «7» ،

ذكر اختلاف قريش فى رفع الركن وتراضيهم بالنبى صلى الله عليه وسلم وخبر النجدى

ويقال: لم نزغ «1» ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير؛ ثم هدم من ناحية الركنين، فتربّص الناس به تلك «2» الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء فقد رضى الله ما صنعنا فنهدم، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى أساس إبراهيم عليه السلام، فأفضوا إلى حجارة خضر كالأسنّة «3» آخذ بعضها بعضا، فأدخل رجل من قريش عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقّضت مكة «4» بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس. قال: ثم «5» إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، كلّ قبيلة تجمع على حدة، وبنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن «6» . والله المستعان. ذكر اختلاف قريش فى رفع الرّكن وتراضيهم بالنبى صلى الله عليه وسلم وخبر النجدىّ قال ابن إسحاق «7» : ولما بلغ البنيان إلى موضع الركن اختصموا فيه، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتخالفوا واعتدّوا للقتال «8» ، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملؤة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدىّ بن كعب

ابن لؤىّ على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم، فسمّوا لعقة الدّم؛ فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان إذ ذاك أسنّ قريش كلّها: يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل داخل يدخل «1» ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، هذا محمد، رضينا به؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلّم إلىّ ثوبا فأتى به، وقيل: بل بسط رداءه فى الأرض، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: ليأت «2» من كل ربع من أرباع قريش رجل، فكان من ربع بنى عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفى الربع الثانى أبو زمعة، والربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، والربع الرابع قيس بن عدىّ. هكذا نقل الواقدى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كلّ رجل منكم بزواية من زوايا الثّوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فى موضعه، فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبىّ صلى الله عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن، فقال العباس بن عبد المطلب: لا. ونحّاه، وناول [العباس «3» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا، فشدّ به الركن، فغضب النّجدىّ حين نحّى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنه ليس يبنى معنا فى البيت إلا منّا؛ فقال النّجدىّ: يا عجبا لقوم أهل شرف، وعقول، وسنّ، وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنّا، وأقلّهم مالا، فرأسوه عليهم فى مكرمتهم وجودهم كأنهم

خدم له، أما والله ليفرقنّهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا وجدودا «1» . ويقال إن النّجدىّ إبليس لعنه «2» الله. فقال أبو طالب: إن لنا أوله وآخره ... فى الحكم والعدل الذى لا ننكره وقد جهدنا جهده لنعمره ... وقد عمرنا خيره وأكثره «3» فإن يكن حقّا ففينا أوفره قال: ثم بنوا حتى انتهوا إلى موضع الخشب، وكان خمسة عشر جائزا «4» سقفوا البيت عليه، وبنوه على ستة أعمدة، وأخرجوا الحجر من البيت، قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا فى «5» بنيان الكعبة، ولولا حداثة عهدهم بالشّرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدى أن يبنوه، فهلمّ أريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة «6» أذرع فى الحجر، وقال صلى الله عليه وسلم: ولجعلت لها بابين شرقيّا وغربيا، أتدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: فقلت: لا أدرى. قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلا من أرادوا. قال ابن هشام «7» : وكانت الكعبة على عهد النبىّ صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطىّ «8» ثم كسيت البرود «9» ، وأوّل من كساها الديباج الحجّاج ابن يوسف «10» .

ذكر المبشرات برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك

وحيث انتهينا إلى هذه الغاية من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنذكر من بشّربه. ذكر المبشّرات برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده ومبعثه وبعد ذلك جاءت البشائر برسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائه صلوات الله عليهم، وفيما «1» نقل إلينا من كلامهم، ووجد بخطّهم، وبشّر به أحبار يهود، وعلماء النّصارى، عما انتهى إليهم من العلوم التى تلقّوها عن الأنبياء صلوات الله عليهم، ونقلوها من صحفهم، ومخّبئات كتبهم، وذخائر أسرارهم، حتى اعترف قوم بنبوّته صلى الله عليه وسلم قبل مولده وظهوره بما شاء الله من السنين، وأوصوا به من بعدهم؛ (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) ؛ وبشّر به أيضا قبل مبعثه كهّان العرب، عما كان يأتيهم من أخبار السّماء على لسان شياطينهم الذين كانوا يسترقون السّمع ومنعوا بالشّهب، كما أخبرنا الله تعالى فى قوله: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) ، ونطق الجانّ من أجواف الأصنام بالبشارة به، فكان ذلك سببا لإسلام من سمع أصواتها ممن سبقت له من الله الحسنى، وهداه وأرشده إلى اتّباع الحق، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فأما ما جاءت به الكتب المنزلة من الله تعالى مما يدل على نبوّة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء ذلك فى القرآن العزيز، وفى التوراة، والإنجيل، وزبور داود، وكتب الأنبياء: شعيا، وشمعون، وحزقيل عليهم السلام.

فأما ما جاء فى القرآن العزيز

فأما ما جاء فى القرآن العزيز فقد قال الله عز وجل: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) . قال أهل التفسير: أخذ الله الميثاق بالوحى، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته، وأخذ عليه «1» ميثاقه: إن أدركه ليؤمننّ به؛ وقيل: أن يبيّنه لقومه، ويأخذ ميثاقهم أن يبيّنوه لمن بعدهم؛ وقوله تعالى: (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه «2» ، أنه قال: لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده، إلا أخذ عليهم العهود فى محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث وهو حىّ ليؤمنن به ولينصرنّه ويأخذ العهد بذلك على قومه. ونحوه عن السّدّى وقتادة. وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) . روى عن قتادة: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: كنت أول الأنبياء فى الخلق، وآخرهم فى البعث. قال القاضى عياض: فلذلك وقع ذكره مقدّما هنا قبل نوح وغيره، صلى الله عليهم أجمعين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشّر بى عيسى» الحديث. يشير بدعوة إبراهيم عليه السلام إلى قوله تعالى إخبارا عنه: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

وأما ما جاء فى كتب الله السالفة

وأما ما جاء فى كتب الله السالفة ، فقد علمنا قطعا أن أهل الكتاب بدّلوا فى كتب الله تعالى المنزلة على أنبيائهم، وحرّفوا كلمها عن مواضعه، وحذّفوا منها أشياء فيها صريح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا منهم وحسدا وجحودا ونكالا وافتراء على الله تعالى. هذا لا مرية عندنا فيه ولا خلاف، وقد اتّفقوا على أشياء فى كتبهم وترجموا عنها بالعربية، تدل على نبوّة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن نذكرها إن شاء الله، وكتموا فيها ما أخبر به من أسلم من أحبار يهود وغيرهم، وعرض ذلك على من استمرّ على كفره، فلم يسعه إنكاره بل أقرّبه، على ما نذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فأما ما اتفقوا عليه مما جاء فى التوراة وترجموه بالعربية ورضوا ترجمته فمن ذلك قوله: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . وفى ترجمة «1» أخرى كذلك: «تجلى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» . قال العلماء: وفى هذا تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الطّور «2» هو الجبل الذى اصطفى الله تعالى موسى عليه بتكليمه، وساعير: جبل بالشام منه ظهرت نبوّة عيسى بن مريم، وبالقرب منه قرية الناصرة التى ولد فيها، وفاران: هى مكة شرفها الله تعالى.

قال الشيخ حجة الدين أبو هاشم «1» محمد بن ظفر فى كتابه المترجم بخير البشر «2» : لا يخالف فى هذا أحد من أهل الكتاب. قال: «وأما قوله: جاء الله من طور سيناء فإن مجىء «3» الله هو مجىء كتابه وأمره كما قال الله تعالى: (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ؛ أى أتاهم أمره. وقوله: «وأشرق لنا من ساعير» كناية عن ظهور أمره «4» وكلامه، قال: وكذلك قوله: «واستعلن من جبال فاران» ، أى ظهر أمره، وكتابه، وتوحيده، وحمده، وما شرعه رسوله من ذكره بالأذان والتلبية «5» وغير ذلك؛ قال ابن ظفر «6» : «وقرأت فى ترجمة للتوراة خطابا لموسى عليه السلام، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه فأخذتهم الرّجفة خصوصا، ثم سائر بنى إسرائيل عموما: والله ربك يقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربّك فى حوربت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله «7» ربى لئلا أموت، فقال الله لى «8» : نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لهم: كلّ شىء آمره به، وأيّما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه. وفى هذا «9» أدلّة على نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم، منها قوله: «من إخوتهم» ، وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان الموعود «10» من

وأما ما اتفقوا عليه، ورضوا ترجمته مما فى الإنجيل

بنى إسحاق، لكان من أنفسهم، لا من إخوتهم، كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم فى دعوته: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) ، وكما قال تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ ومنها قوله: «نبيا مثلك» ، وقد قال فى التوراة: «لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى» ، وفى ترجمة أخرى: «مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا» ؛ ومنها قوله: «أجعل كلامى فى فمه» ، فهو واضح أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم، لأن معناه: أوحى إليه بكلامى فينطق به؛ وقوله: «أيّما رجل لم يطع من تكلّم باسمى فإنى أنتقم منه» دليل على كذب اليهود فى قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كلّ نبى دعا إلى دين سمّى نسخا لبعض ما شرعه موسى صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. وأما ما اتفقوا عليه، ورضوا ترجمته مما فى الإنجيل فمن ذلك ما ترجموه فى الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: «إن أحببتمونى فاحفظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كلّه، فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه فى تبليغ رسالات ربه، وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلّدة أبدا» ، ولم يأت بذلك بعد عيسى إلا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنه ما ترجموه: «إن هذا الكلام الذى سمعتموه ليس هو لى، بل للأب الذى أرسلنى، كلّمكم بهذا وأنا معكم، فأما البارقليط: روح القدس الذى يرسل أبى باسمى، فهو يعلّمكم كلّ شىء، ويذكّركم جميع ما أقول لكم» . قال ابن ظفر: قولهم: «أبى» : فهذه اللفظة عندنا مبدلة محرّفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة

تعظيم يخاطب بها المتعلّم معلّمه الذى يستمدّ العلم منه؛ قال: ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية؛ قال: وأما قوله: «يرسله أبى باسمى» فهو إشارة إلى شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالصّدق والرسالة، وما تضمّنه القرآن من مدحه وتنزيهه عما افتراه اليهود فى أمره. ومما ترجموه ورضوا ترجمته قولهم: إنه قال: «إذ قال البارقليط الذى أرسل إليكم من عند أبى، روح الحق الذى يخرج من الأب، فهو يشهد لى، وأنتم تشهدون لى أيضا لكينونتكم معى من أوّل أمرى» . قال: قوله «روح الحق الذى يخرج من الأب» كناية عن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) . وقوله: «يشهد لى» تصريح بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يشهد للمسيح عليه السلام بالنبوّة، والنزاهة عما افترى عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيّه ورسوله، كتاب سوى القرآن، ولم تزل الأمم تكذّب المتّبعين للمسيح، واليهود يفترون العظائم من البهتان، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فشهد للمسيح بما شهد به حواريّوه الذين كانوا معه من أوّل أمره، والمهتدون من أمته. قال: ومما رضوه من الترجمة أيضا عن الإنجيل قوله فيه: «إن انطلاقى خير لكم، لأنى إن لم أنطلق لم يأتكم البارفليط؛ فإذا انطلقت أرسلت به إليكم، فإذا جاء فنّد أهل العلم» . قال: فهذا ظاهر، وقوله: «أرسلت به إليكم» إن كان سالما من التحريف، فمعناه مثل معنى قوله: «إن لم أنطلق لم يأتكم» ، وقوله: «فنّد» وصف صريح للنبىّ صلى الله عليه وسلم، فهو الذى فنّد علماء اليهود والنّصارى فيما أطبقوا عليه من أن المسيح قتل وصلب بعد أن عذّب، وما انفرد

وأما ما جاء فى زبور داود عليه السلام مما ترجمه أهل الكتاب،

به علماء اليهود من بهتانهم فى الطّعن على المسيح، وما انفرد به علماء النّصارى من الدعوة إلى ألوهية المسيح، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنّد جميعهم. والتّفنيد: التخطئة وتقبيح القول والرأى. قال ابن ظفر: وقرأت فى ترجمة أخرى للإنجيل: أنه قال: «البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلّمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى وبخ العلماء من أهل الكتاب على كتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدّين بالثّمن البخس من عرض «1» الدنيا، وهو الذى أخبر بالحوادث والغيوب. وقال ابن ظفر: والذى صح عندى فى معنى البارقليط: أنه الحكيم الذى يعرف السّر؛ وقد تقدّم ما يدلّ على أنه الرسول. وأما ما جاء فى زبور داود عليه السلام ممّا ترجمه أهل الكتاب، فمن ذلك قوله: «اللهم اجعل جاعل السّنة يحيا، يعلّم الناس أنه بشر» ؛ ويفهم من هذا: أن داود عليه السلام أطلعه الله تعالى على ما سيقوله النصارى فى المسيح إذا أرسله، من أنه إله معبود، فدعا الله سبحانه بأن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيعلّمهم أن المسيح بشر. وفيه أيضا مما ترجموه: «أنه فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك، إلى الأبد، فتقلّد السّيف، فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك؛ والأمم يخرون تحتك» ؛ قال: فالذى قرنت شريعته بهيبة يمينه، وخرّت الأمم تحته، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما ترجموه من كتاب شعيا عليه السلام ورضوا ترجمته

ومنها، وذكر رجلا فقال: «فإذا قام جاز «1» من البحر إلى البحر، ومن عند الأنهار إلى منقطع البرّ، وخرّ أهل الجزائر قدّامه على وجوههم وركبهم، ولحس أعداؤه التراب لهيبته، وجاءته الملوك بالقرابين، ودانت له الأمم بالطاعة؛ لأنه يخلّص الضعيف المغلوب البائس ممن هو أقوى منه، ويقوّى الضعيف الذى لا ناصر له، ويرحم المساكين، ويصلّى ويبارك عليه فى كلّ وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد» . فهذا فى غاية الظّهور أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما ترجموه من كتاب شعيا «2» عليه السلام ورضوا ترجمته فقوله «3» : «عبدى الذى سرّت به نفسى أنزل عليه وحيى، فيظهر فى الأمم عدلى، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته فى الأسواق «4» ؛ يفتح العيون العور، والآذان الصّمّ، ويحيى القلوب الغلف؛ وما أعطيه لا أعطى «5» أحدا، مشقّح «6» يحمد الله حمدا جديدا، يأتى من أقصى الأرض، تفرح البرية وسكانها يهلّلون الله على كلّ شرف، ويكررونه على كل رابية، ولا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوّى الصدّيقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذى لا يطفأ، أثر سلطانه على كتفيه» .

قال ابن ظفر «1» : هذه ترجمة السريانيين، وعبّر العبرانيون عنه بأن قالوا: «على كتفيه علامة النبوّة» ؛ فهذا كلّه صريح فى البشارة به صلى الله عليه وسلم، مع ما فيه من ذكر قيام دولة العرب بقوله: «تفرح البريّة وسكّانها» ؛ وأما قوله: [مشقّح «2» ] فهو محمد، لأن الشّقح بلغتهم الحمد. ومما ترجموه منه أن شعياء عليه السلام قال «3» : «قم نظّارا فانظر ما ترى، فأخبر به، فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار، والآخر على جمل؛ يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها» فهذه بشارة صريحة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه راكب الجمل لا محالة، ولأن ملك بابل إنما ذهب بنبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى يد أصحابه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال «4» : وقد كان على باب من أبواب الإسكندرية صورة جمل من نحاس، عليه راكب من نحاس. فى هيئة العرب مؤتزر مرتد، عليه عمامة، وفى رجليه نعلان، كلّ ذلك من نحاس؛ وكانوا إذا تظالموا يقول المظلوم للظالم: أعطنى حقّى قبل أن يخرج هذا فيأخذ لى بحقّى منك، شئت أو أبيت، ولم يزل الصّنم على ذلك حتى افتتح عمرو بن العاص أرض مصر، فغيّبوا الصنم. ومنه: «أيّتها العاقر! افرحى واهتزّى وانطلقى بالتسبيح، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلى» . قال: فالعاقر مكة، لأنهابواد غير ذى زرع، أو لأن الله لم يبعث

ومن كتاب شمعون عليه السلام مما ترجموه ورضوا ترجمته

بها نبيا فى ذلك الزمن دون غيرها، فهى عاقر، وقوله: «انطلقى بالتسبيح» إشارة إلى عمارتها بأهل ذكر الله، وقوله: «يكون أهلك أكثر من أهلى» ، قال: إن سلم من التحريف وسوء العبارة «فمن» زائدة، والمعنى أن المسلمين يكونون أكثر أهل طاعة الله وتوحيده «1» ، وقد أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم أن أمّته أكثر أهل الجنة. والآل والأهل يكنّى بهما عن [الجماعة] الخاصّة «2» ، قال عبد المطلب بن هاشم: نحن آل الله فى بلدتنا ... لم نزل آلا «3» على عهد إرم ولمّا روجع أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى استخلافه عمر بن الخطّاب وقيل له: ماذا تقول لربك وقد استخلفت علينا فظّا غليظا؟ فقال: أقول تركت على أهلك خير أهلك. والله الفعّال. ومن كتاب شمعون عليه السلام ممّا ترجموه ورضوا ترجمته قوله: «جاء الله بالبيّنات «4» من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته» ، وقد تقدّم أن جبال فاران هى جبال مكّة شرّفها الله، ومجىء الله هو مجىء كتابه. ومن كتاب حزقيل عليه السلام مما ترجموه من قصة ذكر فيها ظهور اليهود وعزّتهم، وكفرانهم للنعم، فشبّههم فيها بالكرمة حيث «5» قال: «لم تلبث تلك الكرمة أن قلعت «6» بالسخطة، ورمى بها على الأرض، فأحرقت السمائم أثرها، فعند ذلك غرس غرس فى البدو، وفى الأرض المهملة العطشى، فخرجت من أغصانه الفاضلة نار فأكلت تلك الكرمة حتى لم يوجد فيها قضيب» .

ومما نقل من كلام خيقوق،

قال: فلا شك أن أرض البدو المهملة العطشى هى أرض العرب، وغرس الله الذى غرسه فيها هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخزى الله به اليهود والله أعلم. وممّا نقل من كلام خيقوق، وهو الذى زعمت اليهود أنه ادّعى النبوّة فى عهد بختنصّر، وحكوا عنه أنه قال: «إذا جاءت الأمّة الآخرة يسبّح بهم صاحب الجمل- أو قال: راكب الجمل- تسبيحا جديدا فى الكنائس الجدد، فافرحوا، وسيروا إلى صهيون بقلوب آمنة، وأصوات عالية، بالتسبيحة الجديدة التى أعطاكم الله فى الأيام الآخرة، أمّة جديدة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين، فينتقمون من الأمم الكافرة فى جميع الأقطار» . ولا شكّ أن راكب الجمل أو صاحب الجمل من الأنبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم، والأمّة الجديدة هى العرب، والكنائس الجدد هى المساجد، وصهيون: مكة، والتسبيحة الجديدة: «لبّيك اللهم لبّيك» . ونقل أيضا عن خيقوق هذا أنه قال: «جاء الله من اليمن، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأضاءت الأرض لنوره، وحملت خيله فى البحر» . والله أعلم. ومما وجد بخط موسى بن عمران عليه السلام ما روى معمر عن الزّهرى أنه قال: أشخصنى هشام بن عبد الملك إلى الشام، فلما كنت بالبلقاء وجدت حجرا مكتوبا عليه بالخط العبرانىّ، فطلبت من يقرؤه، فأرشدت إلى شيخ، فانطلقت به إلى الحجر، فقرأه وضحك، فقلت: ممّ تضحك؟ قال: أمر عجيب، مكتوب على هذا الحجر: باسمك اللهم جاء الحقّ من ربك، لسان عربىّ مبين؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكتبه موسى بن عمران بخطّ يده.

وأما ما كتمه أهل الكتاب مما فيه صريح ذكر النبى صلى الله عليه وسلم

وإنما ألحقنا هذا الخبر بما قبله لأن موسى صلى الله عليه وسلم إنما يكتب بخطه ما تلقّاه عن الله تعالى، أو عن كتبه المنزلة؛ وهذا الذى أوردناه مما جاء فى كتب الله السالفة هو الذى أبداه أهل الكتاب وأثبتوه، وترجموه ورضوا ترجمته فى تحريفهم وتبديلهم. وأما ما كتمه أهل الكتاب ممّا فيه صريح ذكر النبى صلى الله عليه وسلم ودلّنا عليه وأخبرنا به من أسلم «1» منهم ممّن جاز لنا أن نروى عنه ونقبل روايته؛ مثل وهب، وكعب الأحبار، وأبى ثعلبة بن أبى مالك. فأما «2» ما جاء عن وهب بن منبّه. فإنه روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض كتب الله المنزلة على نبىّ من بنى إسرائيل: «أن قم فى قومك، فقل يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ لأن الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل: أنى ربّيتهم بنعمتى، وآثرتهم بكرامتى، واخترتهم لنفسى، وأنى وجدت بنى إسرائيل كالغنم الشاردة التى لا راعى لها، فرددت شاردها، وجمعت ضالّتها، وداويت مريضها، وجبرت كسيرها، وحفظت سمينها؛ فلما فعلت بها ذلك بطرت، فتناطحت كباشها، فقتل بعضها بعضا. فويل لهذه الأمّة الخاطئة، ويل لهؤلاء القوم الظالمين؛ إنى قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء حتما، وجعلت له أجلا مؤجّلا لا بدّ منه، فإن كانوا يعلمون الغيب فليخبروك متى حتمته، وفى أى زمان يكون ذلك، فإنى مظهره على الدين كله، فليخبروك متى يكون هذا، ومن القيّم به، ومن أعوانه وأنصاره، إن كانوا يعلمون الغيب فإنى باعث بذلك رسولا من الأمّييّن ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا قوّال بالهجر والخنى، أسدّده

بكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، وأجعل السكينة على لسانه، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه والحقّ شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملّته، أرفع به من الوضيعة، وأغنى به من العيلة، وأهدى به من الضلالة، وأؤلّف به بين قلوب متفرّقة، وأهواء مختلفة، وأجعل أمّته خير الأمم إيمانا بى وتوحيدا «1» لى، وإخلاصا بما جاء به رسولى، ألهمهم التسبيح والتحميد والتمجيد لى فى صلواتهم «2» ومساجدهم ومنقلبهم ومثواهم، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى يقاتلون فى سبيلى صفوفا، ويصلّون «3» لى قياما وركوعا وسجودا، يكبّروننى على كلّ شرف، رهبان بالليل، أسد بالنهار؛ ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم» . ومنه ما روى عنه أنه قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة: «قال الله تبارك وتعالى: وعزّتى وجلالى لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل نبيا عربيا أمّيا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم، ويفرّون منها. قال موسى: سبحانك وتقدّست أسماؤك! لقد كرّمت هذا النبى وشرّفته، قال الله عز وجل: يا موسى إنى أنتقم من عدوّه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وسلطانه ومن معه «4» على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، وأذلّ من خالف شريعته؛ يا موسى: بالعدل ربّيته «5» ، وبالقسط أخرجته؛

وأما ما جاء عن كعب الأحبار رحمه الله،

وعزّتى لأستنقذنّ به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم، وختمتها بمحمد، مثل كتابه الذى يجىء به، فاعقلوه يا بنى إسرائيل مثل السّقاء المملوء لبنا يمخض فيخرج زبدا، بكتابه أختم الكتب، وبشريعته أختم الشرائع، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من الله برىء، أجعل أمّته يبنون فى مشارق الأرض ومغاربها مساجد، إذا ذكر اسمى فيها ذكر اسم ذلك النبىّ معى، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول. وأما ما جاء عن كعب الأحبار رحمه الله، فمن ذلك ما روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يا كعب، أدركت النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن موسى بن عمران تمنّى أن يكون فى أيامه فلم تسلم على يده، ثم أدركت أبا بكر وهو خير منّى فلم تسلم على يده، ثم أسلمت فى أيّامى، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فإنى كنت أتثبّت حتى أنظر كيف الأمر؟ فوجدته كالذى هو فى التوراة. قال عمر: كيف هو فيها؟ قال: رأيت فى التوراة أن سيد الخلق، والصفوة من ولد آدم، يظهر من جبال فاران من منابت القرظ من الوادى المقدّس، فيظهر التوحيد والحق، ثم ينتقل إلى طيبة، فتكون حروبه وأيامه بها، ثم يقبض فيها، ويدفن بها. قال عمر: ثم ماذا يا كعب؟ قال كعب: ثم يلى بعده الشيخ الصالح. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت متّبعا. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى بعده القرن الحديد- وفى لفظ: مدرع من حديد- قال عمر: وادفراه «1» ! ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يقتل شهيدا؛ قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب

الحباء والكرم، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يقتل مظلوما، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلى صاحب المحجّة البيضاء، والعدل والسواء، صاحب الشّرف التامّ، والعلم الجام «1» ، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت شهيدا سعيدا، قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم ينتقل الأمر إلى الشام؛ قال عمر: حسبك يا كعب. ومما جاء عنه ما روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: أن رجلا جاء إلى كعب الأحبار من بلاد اليمن فقال له: إن فلانا الحبر اليهودىّ أرسلنى إليك برسالة، قال كعب: هاتها! فقال: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيّدا شريفا مطاعا؟ فما الذى أخرجك من دينك إلى أمّة «2» محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا؟ قال: نعم، قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفرّ منك وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالذى ردّ موسى إلى أمّه، وأسألك بالذى فلق «3» البحر لموسى، وأسألك بالذى ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كلّ شىء، ألست تجد فى كتاب الله أن أمّة محمد ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب، وثلث يدخلون الجنة برحمة الله، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة؛ فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلنى فى أىّ هذه الثلاثة شئت. ومنه ما رواه عطاء بن يسار وأبو صالح عنه «4» أنه قال: أجد فى التوراة: أحمد عبدى المختار، لا فظّ، ولا غليظ، ولا صحّاب فى الأسواق، ولا مجز

بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، أمّته الحمّادون؛ يحمدون الله على كلّ حال، ويسبّحونه فى كلّ منزلة، ويكبّرونه على كل شرف، يأتزرون على أوساطهم، ويصونون أطرافهم «1» ، وهم رعاة الشمس، ومؤذّنهم ينادى فى جوّ السماء، وصفّهم فى الصلاة سواء؛ رهبان بالليل، أسد بالنهار، لهم بالليل دوىّ كدوىّ النحل، يصلّون الصلاة حيثما أدركتهم من الأرض؛ مولده مكّة، مهاجره طابة، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الأمّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح الله به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا. ومنه ما روى أن معاوية بن أبى سفيان قال لكعب: دلّنى على أعلم الناس بما أنزل الله على موسى لأسمع كلامك معه، فذكر له رجلا من اليهود باليمن، فأشخصه إليه، فجمع معاوية بينهما، فقال له كعب: أسألك بالذى فرق البحر لموسى أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمة مرحومة، وهى خير أمّة أخرجت للنّاس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل «2» ، ويؤمنون بالكتاب الآخر «3» ، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذّاب، فاجعلهم يا ربّ أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟ قال الحبر: نعم أجد ذلك، ثم قال: كعب للحبر: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر، وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد

لهم طهور، يتطهّرون به من الجنابة كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، حيث كانوا فلهم مسجد، غرّ محجّلون من الوضوء، فاجعلهم أمتى. قال: هم أمة أحمد؟ فقال الحبر: نعم أجد ذلك؛ قال: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: رب إنى أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإذا عملها أضعفت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإذا عملها كتبت عليه سيئة مثلها، فاجعلهم أمّتى، قال: هم أمّة أحمد؟ قال الحبر: نعم، أجد ذلك؛ قال كعب: أنشدك الله الذى فرق البحر لموسى، أتجد فى كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة فقال: يا رب إنى أجد أمّة يأكلون كفّاراتهم وصدقاتهم، إنهم يطعمونها مساكينهم ولا يحرقونها كما كان غيرهم من الأمم يفعل؟. وجاء فى حديث آخر غير هذا ممّا هو منسوب إلى كتب الله السالفة: «يأكلون قرابينهم «1» فى بطونهم» . والمراد الضحايا. ومنه ما روى عنه أنه قال: كان لأبى سفر من التوراة يجعله فى تابوت ويختم عليه، فلما مات أبى فتحته، فإذا فيه: إن نبيا يخرج فى آخر الزمان هو خير الأنبياء «2» ، وأمّته خير الأمم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يكبّرون الله على كل شرف، ويصفّون فى الصلاة كصفوفهم فى القتال، قلوبهم مصاحفهم، يأتون يوم القيامة غرّا محجّلين، اسمه أحمد، وأمته الحمّادون، يحمدون الله على كل شدّة، رخاء، مولده مكة، ودار هجرته طابة، لا يلقون عدوّا إلا وبين أيديهم

وأما ما جاء عن أبى ثعلبة وهو أبو مالك،

ملائكة معهم رماح، تحنّن الله عليهم كتحنّن «1» الطير على فراخها، يدخلون الجنّة؛ يأتى ثلث منهم يدخلون «2» الجنة بغير حساب، ثم يأتى ثلث منهم بذنوب وخطايا، فيغفر لهم، ويأتى ثلث «3» بذنوب وخطايا عظام، فيقول الله: اذهبوا بهم فزنوهم وانظروا إلى أعمالهم، فيزنونهم «4» ويقولون: ربنا! وجدناهم قد أسرفوا على أنفسهم، ووجدنا أعمالهم من الذنوب أمثال الجبال، غير أنهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، فيقول الله: وعزّتى لا أجعل من أخلص لى الشهادة كمن كفر بى؛ قال كعب: فأنا أرجو أن أكون من هذه الثلاثة إن شاء الله تعالى. ومنه ما روى أن رجلين جلسا يتحدّثان وكعب الأحبار قريب منهما، فقال أحدهما: رأيت فيما يرى النائم كأن الناس حشروا، فرأيت النبيّين كلّهم لهم نوران نوران، ورأيت لأشياعهم «5» نورا نورا، ورأيت محمدا صلى الله عليه وسلم وما من شعرة فى رأسه ولا جسده إلا وفيها نور، ورأيت أتباعه ولهم نوران نوران، فقال له كعب: اتق الله تعالى يا عبد الله! وانظر ما تتحدّث «6» به، فقال الرجل: إنما هى رؤيا منام أخبرت بها على ما أريتها، فقال كعب: والذى بعث محمدا بالحق صلى الله عليه وسلم، وأنزل التوراة على موسى بن عمران، إنّ هذا لفى كتاب الله المنزل على موسى بن عمران كما ذكرت. وأما ما جاء «7» عن أبى ثعلبة وهو أبو مالك، وكان من أحبار يهود، فقد روى الواقدىّ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال له: يا أبا مالك! أخبرنى

وكان من هؤلاء أيضا عبد الله بن سلام ومخيريق؛

بصفة النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى التّوراة فقال: إن صفته فى توراة بنى إسرائيل «1» التى لم تبدّل ولم تغيّر أحمد، من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء؛ وهو النبىّ العربىّ، يأتى بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، فى عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوّة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشّملة، ويجتزئ بالبلغة ويركب الحمار «2» ، ويمشى فى الأسواق، سيفه على عاتقه، لا يبالى من لقى من الناس، معه صلاة لو كانت فى قوم نوح ما أهلكوا بالطّوفان، ولو كانت فى قوم عاد ما أهلكوا بالرّيح، ولو كانت فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة، مولده مكّة، ومنشؤه وبدء نبوّته بها، ودار هجرته يثرب بين لابتى حرّة ونخل وسبخة، وهو أمّىّ لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحمّاد يحمد الله على كلّ شدّة ورخاء، سلطانه بالشام، وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا، ثم يدال عليهم فيحصدهم حصدا، تكون له وقعات بيثرب، منها له ومنها عليه، ثم له العاقبة، معه قوم هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، وقربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوّه منه مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتى يجرح ويكلم، لا شرطة معه ولا حرس، الله يحرسه. وكان من هؤلاء أيضا عبد الله بن سلام «3» ومخيريق «4» ؛ وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى عند ذكر إسلامهما بعد الهجرة على ما تقف عليه هناك. هذه رواية من أسلم من أهل الكتاب.

وأما من بشر به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ممن لم يسلم ظاهرا،

وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين ممّن لم يسلم ظاهرا، ولا علم لهم إسلام، ومن أقرّ بنبوّته صلى الله عليه وسلم ولم يدر له مكان. فمن «1» هؤلاء من بشّر به وأخبر بنبوّته قبل مولده، ومنهم من ذكر ذلك حال مولده لقرائن كان يرقب وقوعها تدلّ على مولده فوقعت؛ ومنهم من بشّر به فى حال طفوليّته، ومنهم من بشّر به قبل مبعثه، ومنهم من ذكر صفته بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها وحقّق عندهم أنه هو، ودليل كلّ منهم ما كان يجده عنده من أخباره فى الكتب السالفة التى تلقّاها عن أسلافه، ومنهم من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره وصفته، ومنهم من أظهر تمثال صورته، وصور بعض أصحابه وهيئتهم، وكان ذلك مصوّرا فى بيوت فى بيعهم على ما تذكر ذلك مسهبا «2» إن شاء الله. فأما من بشّر به وأخبر بنبوّته وصفته صلّى الله عليه وسلم قبل مولده؛ فمن ذلك ما حكاه ابن إسحاق فى خبر تبّع الأوّل «3» ، قال: وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، واختار منهم واحدا، وأخرجه معه، وكان يسمّى عمار «4» يشا، وأخذه لينظر فى مملكته، وخرج معه مائة ألف من الفرسان، وثلاثة وثلاثون ألفا، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرّجّالة، وكان إذا أتى بلدة يختار منها عشرة رجال من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، فكان معه مائة ألف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من البلدان، فلم يهبه أهل مكة

ولم يعظّموه، فغضب لذلك، ثم دعا وزيره عمار «1» يشا وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة؟ فإنهم لم يهابونى، ولم يخافوا عسكرى، فقال: أيها الملك إنهم قوم عرب «2» جاهلون لا يعرفون شيئا، وإن لهم بيتا يقال له كعبة، وهم معجبون بهذا البيت، وهم قوم يعبدون الطّواغيت، ويسجدون للأصنام. فقال الملك: وهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم، فنزل بعسكره ببطحاء مكّة، وفكر فى نفسه دون الوزير، وعزم على هدم الكعبة، وتسميتها خربة، وأن يقتل رجالهم، ويسبى نساءهم، فأخذه الله بالصّداع، وتفجّر من عينيه وأذنيه ومنخريه وفمه ماء منتن، فلم يصبر عنه أحد طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره: اجمع العلماء والحكماء والأطبّاء وشاورهم فى أمرى، فاجتمع عنده الأطبّاء والعلماء والحكماء، فلم يقدروا على المقام عنده، ولم يمكنهم مداواته، فقال: إنى جمعت الأطبّاء والعلماء والحكماء من جميع البلدان، وقد وقعت فى هذه الحادثة ولم يقدروا على مداواتى، فقالوا بأجمعهم: إنا نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض، وهذا شىء من السماء لا نستطيع ردّ أمر السماء، ثم اشتدّ أمره، وتفرّق الناس عنه، ولم يزل أمره فى شدّة حتى أقبل الليل، فجاء أحد العلماء إلى الوزير وقال: إن بينى وبينك سرا، وهو إن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته، فاستبشر الوزير بذلك وأخذ بيده، وحمله إلى الملك، وأخبره بما قال الحكيم، وما التمسه من صدق الملك، حتى يعالج علّته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له فى الدّخول، فلما دخل قال: أريد الخلوة، فأخلى له المكان، فقال: نويت لهذا البيت سوءا؟ قال: نعم؛ إنى نويت خرابه، وقتل

رجالهم، وسبى ذراريّهم، فقال له: إنّ وجعك وما بليت به من هذا. اعلم أن صاحب هذا البيت قوىّ يعلم الأسرار، فبادر وأخرج من قلبك ما هممت به من أذى هذا البيت ولك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: أفعل، قد أخرجت من قلبى جميع المكروهات، ونويت جميع الخيرات، فلم يخرج العالم من عنده حتى برئ من علّته، وعافاه الله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم عليه السلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أوّل من كسا الكعبة، ودعا أهل مكة، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج إلى يثرب، وهى يومئذ بقعة فيها عين ماء ليس فيها بيت مبنىّ ولا بناء، فنزل على رأس العين هو وعسكره وجميع العلماء الذين كانوا معه، ومعهم رئيسهم عماريشا الذى كان يرى برأيه. ثم إن العلماء والحكماء اجتمعوا، وكانوا أربعة آلاف، فأخرجوا من بينهم أربعمائة هم أعلمهم، وبايع كلّ واحد منهم صاحبه أن لا يخرجوا من ذلك المقام وإن ضربهم الملك أو قتلهم، فلما علم الملك ما قد عزموا عليه، قال للوزير: ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معى، وأنا محتاج إليهم؟ وأىّ حكمة فى نزولهم فى هذا المكان، واختيارهم إياه على سائر النّواحى، فلما أتاهم الوزير وسألهم عما عزموا عليه، واختيارهم المقام بهذه البقعة، قالوا له: أيها الوزر! إن شرف ذلك البيت، وشرف هذه البقعة التى نحن فيها بشرف رجل يبعث فى آخر الزمان، يقال له محمد ووصفوه، ثم قالوا: طوبى لمن أدركه وآمن به، وقد كنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا، فلما سمع الوزير مقالتهم همّ بالمقام معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمرهم الملك أن يرتحلوا، فقالوا: لا نفعل، وقد أعلمنا الوزير بحكمة مقامنا، فدعا الوزير فأخبره بما سمع منهم، فتفكّر الملك وهمّ أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام وأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل رجل من العلماء

دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوّجها برجل منهم، وأعطى كلّ واحد منهم عطاء جزيلا، وأمرهم أن يقيموا فى ذلك الموضع إلى أن يجىء زمان النبى صلى الله عليه وسلم، ثم كتب كتابا وختمه بخاتم من ذهب، ودفعه إلى العالم الكبير، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا أوصى به أولاده بمثل ما أوصاه به، وكذلك أولاده حتّى ينتهى أمره إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وكان فى الكتاب: أما بعد فانى آمنت بك وبكتابك الذى أنزل عليك، وأنا على دينك وسنّتك، وآمنت بربك وربّ كلّ شىء، وآمنت بكل ما جاء من ربّك من شرائع الإيمان والإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لى، ولا تنسنى يوم القيامة، فإنى من أمّتك الأوّلين؛ وتابعيك «1» قبل مجيئك، وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وكتب على عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبىّ الله ورسوله، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين، صلّى الله عليه وسلّم، من تبّع الأوّل حمير بن حمير ابن وردع «2» أمانة لله فى يد من وقع اليه إلى أن يوصله إلى صاحبه، ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذى أبرأه من علّته. وصار تبّع من يثرب حتى مات بقلسان «3» من بلاد الهند. وكان من اليوم الذى مات فيه تبّع الى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا تزيد ولا تنقص، وكان الأنصار الذين نصروا النبى صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء والحكماء، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة، سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى؛ فكانوا يتعلّقون بناقته وهو يقول: خلّوا الناقة فإنها مأمورة، حتى جاءت الى دار أبى أيّوب، وكان من أولاد العالم الذى أبرأ تبعا برأيه.

ومن ذلك ما روى أن أبا كرب تبان بن أسعد ملك اليمن أحد التبابعة

قال ابن إسحاق: واستشار الأنصار عبد الرحمن بن عوف فى إيصال الكتاب الى النبى صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر خبره قبل هجرته، فأشار عبد الرحمن أن يدفعوه الى رجل ثقة، فاختاروا رجلا يقال له أبو ليلى وكان من الأنصار، فدفعوا الكتاب إليه وأوصوه بحفظه، فأخذ الكتاب وخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد النبىّ صلى الله عليه وسلم فى قبيلة من بنى سليم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه وقال: أنت أبو ليلى؟ فقال: نعم، قال: معك كتاب تبّع الأول؟ قال: نعم، فبقى الرجل متفكّرا، وقال فى نفسه: إن هذا من العجائب، ثم قال له أبو ليلى: من أنت، فإنى لست أعرفك؟ إن فى وجهك أثر السحر، وتوهمّ أنه ساحر، فقال له: بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبى صلى الله عليه وسلم ودفعه الى علىّ كرم الله وجهه، فقرأه عليه، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم كلام تبّع قال: مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرّات، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع الى المدينة، فرجع وبشّر القوم بقدوم النبى صلى الله عليه وسلّم. ومن ذلك ما روى أن أبا كرب تبان بن أسعد ملك اليمن «1» أحد التبابعة لما قصد بلاد الشرق «2» ، جعل طريقه على يثرب، فلم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له أهل المدينة ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلّة أحد بنى النجار؛ وهو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن النجّار، وطلّة أمّه؛ وهى بنت عامر بن زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة «3» .

ومن ذلك خبر سلمان الفارسى

قال محمد «1» بن إسحاق: وكان رجل من بنى عدىّ بن النجّار ويقال له أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبّع حين نزل بهم فقتله، وذلك أنه وجده فى عذق له يجدّه، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التّمر لمن أبّره، فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا، فكان أهل المدينة، وهم هذا الحىّ من الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه باللّيل، فيعجبه ذلك منهم ويقول: والله إن قومنا لكرام. وفى ذلك يقول حسّان بن ثابت من قصيدة لم يذكر فيها قومه: قروا تبّعا بيض المواضى ضحاة ... وكوم عشار بالعشيات نهّض قال فبينما تبّع على ذلك من «2» حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك يثرب وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك؟ قالا: هى مهاجر نبىّ يخرج من هذا الحرم من قريش آخر الزمان، تكون داره وقراره، فرأى تبّع أن لهما علما، فانصرف عن المدينة واتّبعهما على دينهما. ومن ذلك خبر سلمان الفارسىّ وقصته فى سبب إسلامه «3» وهجرته إلى المدينة. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: حدثنى سلمان الفارسىّ من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية يقال لها جىّ،

وكان أبى دهقان «1» قريته، وكنت أحبّ خلق الله إليه، ثم لم يزل به حبّه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار «2» الذى يوقدها لا يتركها تخبو ساعة؛ قال: وكان لأبى ضيعة عظيمة، فشغل فى بنيان له يوما، فقال يا بنى: إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب إليها، فأمرنى فيها ببعض ما يريد ثم قال: ولا تحتبس عنى، فإنك إن احتبست عنّى كنت أهمّ إلى من ضيعتى وشغلتنى عن كل شىء من أمرى؛ قال: فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلّون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس بحبس «3» أبى إياى فى بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدّين الذى نحن عليه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدّين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كلّه، فلما جئته قال: أى بنىّ! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت! مررت بأناس يصلّون فى كنيسة لهم، فأعجبنى ما رأيت من دينهم، فو الله ما زلت من عندهم حتى غربت الشّمس، قال: أى بنى! ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت له: كلا والله! إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى فجعل فى رجلى قيدا ثم حبسنى فى بيته، فبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجّار فأخبرونى بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النّصارى فأخبرونى بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الترجعة

إلى بلادهم، فآذنونى بهم، فلما أرادوا الترجعة أخبرونى بهم، فألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا الأسقفّ فى الكنيسة، فجئته فقلت: إنى رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك وكنيستك، وأتعلّم منك، وأصلّى معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصّدقة ويرغّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النّصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصّدقة ويرغّبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لى: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلّكم على كنزه، قالوا: فدلّنا عليه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه. قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلّى الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد فى الدنيا، ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، قال: فأحببته حبا لم أحبّه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان إنى قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبّه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: أى بنىّ، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به. قال: فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك، وأخبرنى أنك على أمره، فقال لى: أقم عندى، فأقمت عنده

فوجدته خير رجل على أثر «1» صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إنّ فلانا أوصى بى إليك، وأمرنى باللّحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنى والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنّا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبرى، وما أمرنى به صاحبى، فقال: أقم عندى، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال يا بنىّ والله ما أعلمه بقى أحد على أمرنا، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمّورية، فأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى وبم تأمرنى؟ قال: يا بنىّ والله ما أعلمه أصبح أحد على مثل ما كنّا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلّ زمان نبىّ هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوّة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغيّب، ومكثت بعمّورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرّ بى نفر من كلب تجّار فقلت لهم، احملونى إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتى هذه،

وغنيمتى هذه، قالوا: نعم. وأعطيتهموها وحملونى معهم، حتى [إذا] بلغوا وادى القرى ظلمونى فباعونى من رجل يهودىّ عبدا، فكنت عنده، ورأيت النخل؛ ورجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يحقّ فى نفسى؛ فبينا أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عمّ له من بنى قريظة من المدينة، فابتاعنى منه، فحملنى إلى المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى، فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرّقّ، ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إنى لفى رأس عذق لسيدى أعمل له فيه بعض العمل، وسيدى جالس تحتى إذ أقبل ابن عمّ له، حتى وقف عليه فقال: يا فلان، قاتل الله بنى قيلة «1» ، إنهم والله الآن لمجتمعون بقباء «2» ، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبىّ، قال: فلما سمعته أخذتنى العرواء «3» حتى ظننت أنى ساقط «4» على سيدى، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدى ولكنى لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت لا شىء إنما أردت أن أستثبته عما قال. قال سلمان: وكان عندى شىء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة، وهذا شىء كان عندى للصّدقة، فرأيتكم أحقّ به من غيركم، قال: فقرّبته إليه، فقال لأصحابه: كلوا! وأمسك يده

فلم يأكل. قال: قلت فى نفسى: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إنى قد رأيتك لا تأكل الصّدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: قلت فى نفسى: هاتان ثنتان. قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ببقيع الغرقد «1» قد تبع جنازة رجل من أصحابه، علىّ شملتان لى، وهو جالس فى أصحابه، فسلّمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته، عرف أنى أستثبت من شىء وصف لى، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبّله وأبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحوّل! فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثى كما حدثتك يابن عباس؛ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرّق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد. قال سلمان: ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، يعنى الآبار الصّغار، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانونى بالنّخل؛ الرجل بثلاثين ودية «2» ، والرّجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر؛ يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لى ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقّر «3» لها، فإذا فرغت فأتنى، أكن أنا

أضعها بيدى. قال: ففقّرت، وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معى إليها، فجعلنا نقرّب إليه الودىّ، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى إذا فرغنا «1» ، فو الذى نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأدّيت النخل، وبقى علىّ المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدّجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسىّ المكاتب؟ قال: فدعيت، فقال: خذ هذه فأدّها مما عليك يا سلمان، قال: وقلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علىّ؟ فقال: خذها، فإن الله سيؤدّى بها عنك، وفى رواية: فأخذها رسول صلى الله عليه وسلم فقلّبها على لسانه ثم قال: خذها فأوفهم منها. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها- والذى نفس سلمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقّهم منها، وعتق سلمان. فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرّا، ثم لم يفتنى معه مشهد. قال محمد بن إسحاق «2» بسند رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، أنه قال: حدّثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره: إن صاحب عمّورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين «3» يخرج فى كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة يعترضه ذووا الأسقام «4» ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى، فاسأله عن هذا الدّين الذى تبتغى، فهو يخبرك عنه، قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لى، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك،

وأما من بشر به عند مولده صلى الله عليه وسلم

حتّى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى، وغلبونى عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل إلى منكبه «1» ، قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إلىّ، قلت يرحمك «2» الله أخبرنى عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسألنى عن شىء ما يسأل عنه الناس اليوم، وقد أظلّ زمان نبىّ يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته، فهو يحملك عليه، ثم دخل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت «3» صدقتنى يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم «4» . وقد روى حديث إسلام سلمان على غير هذا الوجه، إلا أنه غير مناف له فيما هو مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع. وأما من بشّر به عند مولده صلى الله عليه وسلم للقرائن التى كان يتوقّع وقوعها تدل على مولده، فوقعت. فمن ذلك ما روى أن يهوديا قال لعبد المطّلب جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سيد البطحاء إن المولود الذى كنت حدّثتكم عنه قد ولد البارحة، فقال عبد المطلب: لقد ولد لى البارحة غلام، قال اليهودىّ: ما سميته؟ قال: سميته محمدا، قال اليهودىّ: هذه ثلاث يشهدن علىّ بنبوته؛ إحداهن: أن نجمه طلع البارحة، والثانية: أن اسمه محمد، والثالثة: أنه يولد فى صبابة قومه، وأنت يا عبد المطّلب صبابتهم «5» .

ومنه ما روى أن حسان بن ثابت قال:

ومنه ما روى أن حسّان بن ثابت قال: والله إنى لعلى أطمى «1» فارع فى السّحر إذ سمعت صوتا لم أسمع قط صوتا أنفد «2» منه، وإذا هو «3» صوت يهودىّ على أطم من آطام اليهود معه شعلة نار، فاجتمع الناس إليه وأنكروا صراخه فقالوا: مالك ويلك! قال حسّان: فسمعته يقول: هذا كوكب أحمر قد طلع، وهو كوكب لا يطلع إلّا بالنبوّة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، قال حسّان: فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما أتى به، قال: وكان أبو قيس أحد بنى عدىّ بن النجّار قد ترهّب ولبس المسوح، فقيل له يا أبا قيس! انظر ما قال هذا اليهودى! قال: صدق وإن انتظار أحمد هو الذى صنع به ما صنع، ولعلّى أن أدركه فأومن به، فلما بلغه ظهور النبى صلى الله عليه وسلم بمكّة آمن به، وقدم النبىّ صلى الله عليه وسلم المدينة وقد نالت السنّ من أبى قيس. وقد أشرنا إلى خبر حسّان هذا عند ذكرنا لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخبار فى هذا الباب كثيرة، فلا نطوّل بسردها. وأما من بشّر به صلى الله عليه بعد مولده فى حال طفوليته وحداثة سنه. فمن ذلك خبر سيف بن ذى يزن، وقصّته مع عبد المطلب؛ وكان من خبره ما رواه الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ رحمه الله فى كتابه المترجم بدلائل النبوّة قال: أخبرنا أبو سهل محمد بن نصرويه بن أحمد المروزىّ بنيسابور، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن صالح المعافرىّ، قال: حدثنا أبو يزن الحميرىّ إبراهيم ابن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال:

حدّثنى عمّى أحمد بن حبيش بن عبد العزيز، قال: حدّثنى أبى عفير، قال: حدّثنى أبى زرعة بن سيف بن ذى يزن، قال: لما ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته، وتذكّر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، وأتاه وفد قريش، منهم: عبد المطلّب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله ابن جدعان، وأسد بن عبد العزّى، ووهب بن عبد مناف، وقصىّ بن عبد الدار، فدخل عليه آذنه وهو فى قصر يقال له غمدان، والملك مضمّخ بالعبير، وعليه بردان أخضران، مرتد بأحدهما متّزر بالآخر، سيفه بين يديه، وعن يمينه وشماله الملوك، فأخبر بمكانهم فأذن لهم، فدخلوا عليه، فدنا منه عبد المطّلب فاستأذنه فى الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلّم بين يدى الملوك فقد أذنّا لك، فقال: إن الله عز وجل أحلّك أيها الملك محلا رفيعا شامخا منيعا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، فى أطيب موضع وأكرم معدن؛ وأنت- أبيت اللّعن- ملك العرب الذى عليه الاعتماد، ومعقلها الذى تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك ذكر «1» من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة بيت الله، أشخصنا إليك الذى أبهجنا من كشفك الكرب الذى فدحنا، فنحن وفد التّهنئة، لا وفد المرزئة. قال له الملك: من أنت «2» أيها المتكلّم؟ فقال: أنا عبد المطّلب بن هاشم، قال: ابن أخينا؟ قال: نعم، قال: ادنه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال:

مرحبا وأهلا [وأرسلها مثلا «1» ] ، وكان أوّل من تكلّم بها، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «2» ، يعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنّهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، ثم أنهضوا إلى دار الضّيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال «3» ، فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم فى الانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطّلب فأدناه ثم قال له: يا عبد المطلّب، إنى مفض إليك من سرّ علمى أمرا لو غيرك يكون لم أبح به، ولكنّى رأيتك معدنه، فأطلعتك عليه «4» ، فليكن عندك مخبّا «5» حتى يأذن الله عز وجل فيه؛ إنى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذى ادّخرناه لأنفسنا، واحتجنّاه «6» دون غيرنا، خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامّة، ولرهطك «7» كافة، ولك خاصّة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سرّ وبرّ، فما هذا فداك «8» أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة «9» ، كانت له الإمامة، ولكم به الزّعامة، إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه، لسألته من بشارته إياى «10» ما أزداد به سرورا. قال له الملك: هذا حينه الذى يولد فيه أو قد ولد؛ اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا

أنصارا يعزّبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستفتح «1» بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدخض أو يدحر الشيطان، وتخمد النيران وتكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال له عبد المطلب: عز جدّك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارّنى بإفصاح؟ فقد أوضح لى بعض الإيضاح، قال له سيف [ابن ذى يزن «2» ] : والبيت ذى الحجب، والعلامات على النّصب «3» ، إنك لجدّه يا عبد المطلب غير كذب، قال: فخرّ عبد المطّلب ساجدا، فقال له سيف ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك «4» ، فهل أحسست بشىء مما ذكرت؟ قال: نعم أيها الملك، إنه كان لى ابن وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وإنى زوّجته كريمة من كرائم قومى «5» آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام وسميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمّه. قال له ابن ذى يزن: إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك «6» واحذر عليه اليهود، فإنهم أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لست آمن أن تداخلهم النفّاسة، من أن تكون لكم الرياسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون «7» له الغوائل، وهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم من غير شك «8» ، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحى قبل مبعثه، لسرت

ومن ذلك رؤيا رقيقة بنت أبى صيفى

بخيلى ورجلى حتى أجىء يثرب دار ملكه «1» ، فإنى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنى أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعليت على- حداثة سنّه- أمره، ولأوطأت على أسنان العرب كعبه «2» ، ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك، ثم دعا بالقوم، وأمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد سود، وعشر إماء سود، وحلّتين من حلل البرود، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة ارطال فضة، ومائة من الإبل، وكرش مملوء عنبرا، ولعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال [له «3» ] : إذا حال الحول فأتنى بخبره، قال: فمات سيف بن ذى يزن قبل أن يحول عليه الحول، وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطنى رجل منكم بجزيل عطاء الملك، وإن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطنى بما يبقى لى ولعقبى ذكره وفخره، فإذا قيل وما هو؟ قال: سيعلم ما أقول ولو بعد حين. قال البيهقى «4» وقد روى هذا الحديث أيضا عن الكلبىّ أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما. ومن ذلك رؤيا رقيقة بنت أبى صيفىّ وقصة استسقاء عبد المطلب بن هاشم وكان من خبرها ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله بسند عن مخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفىّ بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب، قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع «5» ، وأرقّت العظم «6» ، قالت:

فبينما أنا نائمة اللهم أو مهوّمة إذا هاتف يصرخ بصوت صحل صيّت يقول: معشر قريش، إن هذا النبى المبعوث منكم قد أظلّكم أيامه، وهذا إبان نجومه، وفى رواية عنها: مبعوث منكم، وهذا إبان مخرجه فحيّهلا بالخير والخصب، وفى رواية بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظّاما جسّاما أبيض بضّا، أوطف الأهداب، سهل الخدّين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدى إليه، ألا فليخلص هو وولده وليهبط إليه «1» من كل بطن رجل فليشنّوا «2» من الماء، وليمسّوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن. وفى رواية وليطوفوا بالبيت سبعا، ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل، وليؤمّن القوم [ألا وفيهم الطاهر والطيب لذاته، ألا بعثتم إذا شئتم وعشتم] «3» ، قالت: فأصبحت- علم الله- مذعورة قد اقشعرّ جلدى، ووله عقلى، واقتصصت رؤياى، فوالحرمة والحرم ما بقى أبطحىّ إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا شيبة، وتتامّت «4» إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنّوا وطيّبوا «5» ، واستلموا وطافوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفقوا جنابيه ما يبلغ سعيهم مهلة، حتى إذا استوى بذروة الجبل، قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع أو كرب، فقال عبد المطلب: اللهم سادّ الخلّة، وكاشف الكربة، أنت معلم، وفى رواية عالم غير معلّم ومسئول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك وإماؤك عذرات «6» حرمك يشكون إليك سنتهم «7» أذهبت الخفّ والظلف، اللهم فأمطرن غيثا مغدقا مريعا؛ فوالكعبة ما راموا حتى تفجّرت السماء بمائها، واكتض «8»

وأما من بشر به صلى الله عليه وسلم قبيل مبعثه،

الوادى بتجيجه، فسمعت شيخان «1» قريش وجلّتها: عبد الله بن جذعان، وحرب ابن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء أى عاش بك أهل البطحاء، وفى ذلك تقول رقيقة: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا «2» الحيا واجلّود المطر فجاد بالماء جونىّ له سيل ... دان فعاشت به الأنعام «3» والشّجر منّا من «4» الله بالميمون طائره ... وخير من بشّرت يوما به مضر مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما فى الأنام له عدل ولا خطر وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم قبيل مبعثه، فمن ذلك خبر اليهودىّ الذى هو من بنى عبد الأشهل. وكان من خبره ما رواه أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان بين أبياتنا يهودىّ، فخرج على نادى قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أنّ بعثا كائن بعد الموت، وذلك قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويحك يا فلان، وهذا كائن؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟ قال: نعم، والذى يحلف به، لوددت أن حظّى من تلك النار أن توقدوا أعظم تنّور فى داركم فتحمونه، ثم تقذفوننى فيه، ثم تطبقوا علىّ، وأنّى أنجو من النار غدا فقيل له يا فلان، فما علامة ذلك؟ قال: نبى يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكّة

واليمن. قالوا: فمتى تراه؟ فرمى بطرفه، فرآنى وأنا مضطجع بفناء باب أهلى، وأنا أحدّث القوم [فقال] : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحىّ بين أظهرهم فامنا به وصدّقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: يا فلان، ألست الذى قلت ما قلت وأخبرتنا؟ فقال: بلى. ولكن لا أومن به. ومنه خبر إسلام أسيذ «1» وثعلبة ابنى سعية وراشد بن عبيد. روى البيهقى «2» رحمه الله عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بنى قريظة، قال: هل تدرون عمّ كان إسلام أسيد وثعلبة ابنى سعية، وأسد «3» بن عبيد، نفر من بنى هدل «4» لم يكونوا من بنى قريظة، ولا النّضير، كانوا فوق ذلك «5» ؟ فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيّبان، وكنيته أبو عمير، كذا ذكره الواقدى، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قطّ لا يصلّى الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنّا إذا أقحطنا وقلّ علينا المطر نقول: يا بن الهيّبان، اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدّموا أمام مخرجكم صدقة؛ فنقول: كم؟ فيقول: صاع من «6» تمر أو مدّين من شعير

فنخرجه، ثم «1» يخرج إلى ظاهر حرّتنا ونحن معه، فيستسقى، فو الله ما يقوم من مجلسه حتى يمرّ السّحاب «2» ؛ قد فعل ذلك غير مرّة ولا مرّتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجنى من أرض الخمر «3» والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إنه إنما أخرجنى [أنى «4» ] أتوقّع خروج نبىّ قد أظلّ زمانه، هذه البلاد مهاجره، [وكنت أرجو أن يبعث «5» ] فاتّبعه، [وقد أظلكم زمانه «6» ] فلا تسبقنّ إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدّماء، وسبى الذّرارىّ والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات؛ فلما كانت الليلة التى فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبابا أحداثا: يا معشر يهود: والله إنه للنّبىّ الذى ذكر لكم ابن الهيّبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله! إنها لصفته «7» ، ثم نزلوا فأسلموا، وخلّوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم؛ فلما فتح رسول الله الحصن ردّ ذلك عليهم. ومنه ما روى أن عبد الله بن مسعود كان يحدّث «8» عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما، «9» قال: خرجت إلى اليمن فى تجارة قبل أن يبعث النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت على شيخ من الأزد عالم، قد قرأ الكتب وحوى علما كثيرا، وأتى عليه من

السن ثلاثمائة وتسعون سنة «1» ، فلما تأملنى قال: أحسبك تيميا «2» فقلت: نعم، أنا من تيم ابن مرّة؛ أنا عبد الله بن عثمان بن عامر وبن عمرو بن كعب بن سعد «3» بن تيم بن مرّة، قال: بقيت «4» لى فيك واحدة، قلت: ما هى؟ قال: اكشف لى عن بطنك، قلت: لا أفعل أو تخبرنى لم ذلك، فقال: إنى لأجد فى العلم الصّحيح الصادق أن نبيّا يبعث بالحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخوّاض غمرات، وكشّاف معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، ولا «5» عليك أن ترينى ما خفى علىّ؛ قال أبو بكر رضى الله عنه: فكشفت له عن بطنى، فرأى شامة سوداء فوق سرّتى، فقال: هو أنت وربّ «6» الكعبة، وإنى متقدّم إليك فى أمر فاحذره، قلت: وما هو؟ قال إياك والميل عن الهدى وتمسّك بالطريقة المثلى، وخف الله عزّ وجلّ فيما أعطاك وخوّلك. قال أبو بكر رضى الله عنه: فقضيت باليمن أربى، ثم أتيت الشيخ لأودّعه، فقال «7» : أحامل أنت منّى أنباء إلى ذلك النّبىّ؟ قلت «8» : نعم، فأنشأ يقول:

ألم تر أنّى قد سئمت معاشرى ... ونفسى وقد أصبحت فى الحىّ راهنا «1» حييت وفى الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين ثم تسعين آمنا «2» وصاحبت «3» أحبارا أنا روا بعلمهم ... غياهب جهل ما ترى فيه طابنا «4» وكم راهب فوق عنشبيل «5» قائم ... لقيت وما غادرت فى البحث كاهنا وكلّهم لما تعطّشت قال لى ... بأن نبيّا سوف تلقاه دائنا «6» بمكة والأوثان فيها عزيزة ... فيركسها حتى تراها كوامنا «7» فما زلت أدعو الله فى كل حاضر ... حللت به سرّا وجهرا معالنا وقد خمدت منّى شرارة قوّتى ... وألفيت شيخا لا أطيق الشّواجنا «8» وأنت وربّ البيت تلقى محمدا ... بعامك هذا قد أقام البراهنا فحىّ رسول الله عنّى فإننى ... على دينه أحيا وإن كنت واهنا «9» فياليتنى أدركته فى شبيبتى ... فكنت له عبدا وإلا العجاهنا «10» عليه سلام الله ما ذرّ شارق ... تألّق هنّافا من النور هافنا «11»

وأما من ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ورؤيته له،

قال أبو بكر رضى الله عنه: فحفظت وصيته وشعره وقدمت مكة، فجاءنى شيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش مسلّمين علىّ، فقلت: هل حدث أمر؟ فقالوا «1» : حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى النّاس، ولولا أنت ما انتظرنا به، فإذ جئت فأنت البغية والنّهية «2» ، قال: فأظهرت لهم تعجّبا وصرفتهم على أحسن شىء «3» ، وذهبت أسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لى: هو فى منزل خديجة، فقرعت الباب عليه فخرج إلىّ فقلت: يا محمّد، فقدت من نادى قومك فاتهموك بالغيبة وتركت دين آبائك، فقال يا أبا بكر، إنى رسول الله إليك وإلى الناس كلهم [فآمن بالله «4» ] ، فقلت وما آيتك؟ قال: الشيخ الذى لقيته باليمن، قلت: وكم من شيخ قد لقيت، وبعت منه واشتريت، وأخذت وأعطيت! قال: الشيخ الذى أخبرك عنى، وأفادك الأبيات، قلت: من أخبرك بهذا يا حبيبى؟ قال: الملك العظيم الذى كان يأتى الأنبياء قبلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال أبو بكر رضى الله عنه: فانصرفت وما أحد أشدّ سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامى. وأما من ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه ورؤيته له، وذكّر قومه بها، وحقّق عندهم أنه هو، لما كان يجد عنده من العلم بصفته صلى الله عليه وسلم.

وأما من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره صلى الله عليه وسلم،

فمن ذلك ما روى «1» أن صفية بنت حيىّ بن أخطب قالت: كنت أحبّ الناس إلى أبى، وكان عمى أشدّ حبّا لى، فأتيا النبىّ صلى الله عليه وسلم بقباء، ثم رجعا من عنده ثقيلين لا يلتفتان نحوى، ولا ينظران إلىّ؛ فسمعت عمّى يقول لأبى: هل تعرفه؟ قال: نعم. قال فماذا عندك فيه؟ قال: عداوته إلى آخر الدّهر، قال عمى لأبى: أنشدك الله أن تطيعنى يأخى فى هذا، ثم اعصنى فيما سواه، هلّم نتبعه، فقال أبى: لا؛ والله لا أراك له عدوّا، فقال عمى: إنك تهلكنا، وتهلك نفسك، إن هذا نبىّ السّيف، وجعل عمى يكلّمه وهو يأبى إلا كلامه الأوّل، قالت صفية: فلما كان الليل، وجدت نسوة من بنى النّضير جالسات يقلن: والله ما أحسن حيىّ ابن أخطب بخلاف أخيه، إنا لنعلم أن هذا نبىّ مذكور فى الكتب، وقالت عجوز منهنّ: سمعت أبى يقول لإخوتى: إن نبيا من العرب يقال له أحمد، مولده بمكة، ودار هجرته يثرب، وهو خير الأنبياء، فإن خرج وأنتم أحياء، فاتّبعوه؛ قالت صفية: وإذا هن كلهنّ يزرين على أبى، ويتعتّبن عليه فعله. ومنه ما قاله كعب بن عمرو لبنى قريظة عند حصارهم. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات، وقد تقدّم خبر بحيرا، ونسطور، فلا فائدة فى إعادته هنا. وأما من أظهر صحفا كانت عنده فيها صريح ذكره صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما روى أن رجلا أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم بورقة ورثها عن أبيه عن جدّه، وذكر أن سلفه كانوا يتوارثونها على وجه الدهر، فإذا فيها: «اسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين فى تبار، هذا ذكر لأمّة تأتى فى آخر الزّمان، يأتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحر إلى أعدائهم، فيهم صلاة

وأما من أظهر تمثال صورته صلى الله عليه وسلم وصور بعض أصحابه رضى الله عنهم،

لو كانت فى قوم نوح ما هلكوا فى الطوفان؛ أو فى ثمود ما أهلكوا بالصّيحة» ، قال: فقرئت الورقة على الناس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظها. ومنه ما روى أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه نزل بالبليح «1» إلى جانب دير، فأتاه قيّم الدير فقال يا أمير المؤمنين: إنى ورثت عن آبائى كتابا قديما كتبه أصحاب المسيح عليه السلام؛ فإن شئت قرأته عليك؛ قال: نعم، هات كتابك؛ فجاء بكتاب فإذا فيه: الحمد لله الذى قضى ما قضى؛ وسطّر ما سطّر، إنّه باعث فى الأمّيين رسولا يعلّمهم الكتاب والحكمة، ويدلّهم على سبيل الجنة، لا فظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السّيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحّمادون لله فى كل هبوط ونشر وصعود، تذلل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، ينصر دينهم على كل من ناوأه. ومنه ما روى أن أبا ذؤيب الزّاهد قال: دخلت فى سياحتى ديرا فقلت للراهب القيّم عليه: أعندك فائدة؟ قال: نعم. لك يا عربىّ، قلت: هاتها! قال: فأخرج لى ورقة فيها أربعة أسطر، فذكر أنها من الكتب المنزلة؛ ففى السطر الأوّل منها: يقول الجبّار تبارك وتعالى: أنا الله لا إله إلا أنا وحدى لا شريك لى؛ والسطر الثانى: محمد المختار عبدى ورسولى؛ والسطر الثالث: أمته الحّمادون، أمته الحّمادون، أمّته الحمّادون؛ والسطر الرابع: رعاة الشمس، رعاة الشمس، رعاة الشمس. وأما من أظهر تمثال صورته صلى الله عليه وسلم وصور بعض أصحابه رضى الله عنهم، وذلك مصوّر عندهم فى بيوت فى بيعهم.

فمن ذلك ما روى عن دحية بن خليفة الكلبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر أنه قال: لقيت قيصر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدمشق، فأدخلت عليه خاليا، فناولته الكتاب فقبّل خاتمه وفضّه وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته وزعماء دينه فقام فيهم على وسائد بنيت له، ثم خطبهم فقال: هذا كتاب النبىّ الذى بشّر به عيسى المسيح، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنخروا نخرة عظيمة، وحاصوا فأومى إليهم بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جرّبتكم لأرى غضبكم لدينكم، ونصركم له، وصرفهم «1» ، ثم استدعانى من الغد فأخلانى، وأنّسنى بحديثه، وأدخلنى بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاثة عشر صورة، فإذا هى صور الأنبياء المرسلين صلى الله عليهم «2» وسلم فقال: انظر من صاحبك من هؤلاء، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم كأنما ينطق، فقلت: هو هذا، فقال: صدقت، ثم أرانى صورة عن يمينه فقال: من هذا؟ قلت: هذه صورة رجل من قومه اسمه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فأشار إلى صورة أخرى عن يساره، فقلت: هذه صورة رجل من قومه يقال له عمر رضى الله عنه، فقال: إنا نجد فى الكتاب أن بصاحبيه هذين يتمّ الله أمره. قال دحية: فلما قدمت على النبىّ صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال: صدق، بأبى بكر وعمر يتمّ الله هذا الأمر بعدى. والله الموفق. ومنه ما روى عن حكيم «3» بن حزام قال: دخلت الشام للتجارة «4» قبل أن أسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، فأرسل قيصر إلينا «5» ، فجئناه ومعنا أميّة بن

أبى الصّلت الثّقفىّ، فقال: من أى العرب أنتم؟ وما قرابتكم من هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى؟ فقال حكيم: فقلت أنا ابن عمه، يجمعنى وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقىّ فيما أريكموه وأسألكم عنه؟ قلنا: نعم، نصدقك أيها الملك، فقال: أنتم ممن اتّبعه أو ممن ردّ عليه؟ قلنا: ممن ردّ عليه ما جاء به وعاداه، ولكنا نصدقك مع هذا، قال: احلفوا لى بآلهتكم لتصدقنّنى فى جميع ما أسألكم عنه وأعرضه عليكم، فحلفنا له وأعطيناه من المواثيق ما أرضاه، فسألنا عن أشياء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بها، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى كنيسة فى قصره، فأمر بفتحها ودخل ونحن معه، وجاء إلى ستر وأمر بكشفه فإذا صورة رجل، قال: أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا: لا. قال: هذه صورة آدم، ثم تتبّع أبوابا يفتحها ويكشف عن صور الأنبياء واحدا بعد واحد، ويقول: هذا صاحبكم «1» ؟ فنقول: لا. حتى فتح بابا وكشف لنا سترا عن صورة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، هذه صورة صاحبنا، فقال: أتدرون منذكم صوّرت؟ قلنا: لا. قال: منذ أكثر من ألف سنة، فإن صاحبكم «2» نبىّ مرسل فاتّبعوه، ولوددت أنى عنده فأشرب ما يغسل من «3» قدميه. وقد ورد فى الصحيحين «4» خبر قيصر مع أبى سفيان لمّا سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

وأما من بشر به صلى الله عليه وسلم من كهان العرب

ومنه ما روى عن جبير بن مطعم «1» أنه قال: لما بعث الله النبى صلى الله عليه وسلم: خرجت تاجرا إلى الشام، فأرسل إلىّ عظيم الأساقفة فأتيته فقال: هل تعرف هذا الرجل الذى ظهر بمكة، يزعم أنه نبىّ؟ قال: فقلت هو ابن عمى، فأخذ بيدى وأدخلنى بيتا فيه تماثيل وقال: انظر ترى صورته ههنا؟ فنظرت فلم أرشيئا فأخرجنى من ذلك البيت، وأدخلنى بيتا أكبر منه فيه مثلها، وقال: انظر هل تراه ههنا، فنظرت فإذا صورة النبىّ صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة أبى بكر وهو آخذ بعقب النبى صلى الله عليه وسلم، وإذا صورة عمر وهو آخذ بعقب أبى بكر، فقال: هل رأيته؟ فقلت: نعم هوذا، قال: أتعرف الذى أخذ بعقبه؟ قلت: نعم، هو ابن أبى قحافة، قال: وهل تعرف الذى هو آخذ بعقبه؟ قلت نعم، هذا عمر بن الخطاب ابن عمّنا، فقال: أشهد أنه رسول الله، وأن هذا هو الخليفة من بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا. وهذا باب متسع لو استقصيناه لطال، ولو سطرنا ما وقفنا عليه منه لا نبسطت هذه السيرة، وخرجت عن حدّ الاختصار، وفيما أوردناه كفاية. فلنذكر بشائر كهّان العرب والله أعلم. وأما من بشّر به صلى الله عليه وسلم من كهّان العرب فقد قدمنا فى الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الثانى من كتابنا هذا أخبار الكهنة، وذكرنا طرفا من إخبارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، مما نستثنيه فى هذا الموضع، ونذكر ما عداه، ولا يشترط الاستيعاب لتعذّره، ولا إثبات جميع ما وقفنا عليه أيضا من ذلك لأنه يوجب البسط والإطالة، بل نذكر من ذلك ما نقف إن شاء الله تعالى عليه مما فيه الكفاية، وإن كانت نبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم أظهر

فمن بشائر الكهان رؤيا ربيعة بن نصر وتأويل سطيح وشق لها.

وأشهر وأقطع من أن يحتاج فيها إلى ذكر ما ذكرناه، وما نذكره، وإنما نورد ما أوردناه ليقف عليه من لم يتتبع أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا طالع سيره، وليعلم أن امره صلى الله عليه وسلم لم يفجأ الناس، بل جاءهم على بيّنة واستبصار، وآثار وأخبار، ومعجزات ظهرت، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى. فمن بشائر الكهّان رؤيا ربيعة بن نصر وتأويل سطيح وشقّ لها. قال محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبىّ «1» : كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التّتابعة، فرأى رؤيا هالته [وفظع بها «2» ] ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا [عائفا ولا «3» ] منجّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرونى بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئنّ إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشقّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما «4» ، فإنهما يخبرانه بما سأل عنه. قال ابن هشام: واسم سطيح «5» : ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدىّ بن مازن بن غسّان «6» . وشقّ بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس ابن عبقر بن أنمار بن نزار.

قال ابن إسحاق: فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شقّ، فقال له: إنى رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها فأخبرنى بها، فإنك إن قضيتها أصبت «1» تأويلها، قال: أفعل؛ رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة «3» ، فأكلت منها كلّ ذات جمجمة «4» ؛ فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك فى تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرّتين «5» من حنش، لتهبطنّ أرضكم الحبش، فليملكنّ ما بين أبين «6» إلى جرش» ، فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بحين، أكثر من ستّين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا. بل ينقطع لبضع وسبعين «8» من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم «9» ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبىّ زكىّ، يأتيه الوحى من قبل العلىّ، قال: وممن هذا النبىّ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النّضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدّهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأوّلون

والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال: أحقّ ما تخبرنى؟ قال: نعم، والشّفق والغسق، والفلق إذا اتّسق؛ إن ما أنبأتك به لحقّ. ثم قدم عليه شقّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتّفقان أم يختلفان؟ فقال «1» : نعم، رأيت حممة «2» ، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتّففا، وأن قولهما واحد، فقال له الملك: ما أخطأت ياشقّ منها شيئا، فما عندك فى تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرّتين من إنسان، لينزلنّ أرضكم السودان، فليغلبنّ على كلّ طفلة «3» البنان، وليملكنّ ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك ياشقّ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا. بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذوشان، ويذيقهم أشدّ الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدنىّ «4» ولا مدنّ «5» يخرج عليهم من بيت ذى يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتى بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع فيها الأحياء والأموات، ويجمع فيها الناس للميقات، يكون فيه لمن اتّقى الفوز والخيرات، قال: أحقّ ما تقول؟ قال: إى وربّ السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إنّ ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض «6» ، قال: فوقع فى نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهّز بنيه وأهل بيته

ومن ذلك ما روى أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة،

إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور، فأسكنهم فى الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النّعمان بن المنذر. ومن ذلك ما روى أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة، فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنّونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، فأوسعهم عطاء، واشتدّ سروره بتقريظ الخطباء والشعراء، فبينا هو على ذلك أرى فى المنام رؤيا أخافته وذعرته وهالته فى حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى ما تذكّر منها شيئا، وثبت ارتياعه فى نفسه لها، فانقلب سروره حزنا، فاحتجب عن الوفود حتى أساءوا الظن به، ثم حشد الكهّان، فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول: أخبرنى عما أريد أن أسألك، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندى، حتى لم يدع كاهنا علمه، فتضاعف قلقه، فقالت له أمّه، وكانت قد تكهّنت: أبيت اللعن! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه، لأن أتباع الكواهن من الجن ألطف من أتباع الكهّان، فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهّان فلم يجد عند واحدة منهن علم ما أراد علمه، فلما يئس من طلبته سلا عنها؛ ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيّد فأوغل فى الصيد، وانفرد عن أصحابه، فرفعت له أبيات فى ذرى جبل وقد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتا منها كان منفردا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت: انزل بالرّحب والسّعة، والأمن والدّعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح نام فلم يستيقظ حتى تصرّم الهجير، فجلس يمسح عينيه فإذا بين يديه فتاة لم ير مثلها جمالا وقواما، فقالت له: أبيت اللّعن أيها الملك الهمام! هل لك فى الطعام؟ فاشتدّ إشفاقه، وخاف على نفسه لما رأى أنها قد عرفته، وتصامم عن كلمتها، فقالت له:

لا حذر، فداك البشر، فجدّك الأكبر، وحظّنا بك الأوفر، ثم قرّبت إليه ثريدا وقديدا وحيسا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله ثم سقته لبنا صريفا وضريبا فشرب ما شاء، وجعل يتأمّلها مقبلة ومدبرة فملأت عينيه حسنا، وقلبه هوى، ثم قال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمى عفيراء، قال لها: من الذى دعوته الملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، الحاشر الكواهن والكهّان، لمعضلة يعلّ بها الجان، قال يا عفيراء: أتعلمين ما تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك الهمام، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذى جرس صادع: هلمّوا إلى المشارع، هلموا إلى المشارع، روىّ جارع، وغرق كارع. قال الملك: أجل هذه رؤياى! فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير «1» الزوابع، ملوك تبابع، والنهر علم واسع، والداعى نبى شافع، والجارع ولىّ له تابع، والكارع عدوّله منازع. قال: يا عفيراء أسلم هذا النبىّ أم حرب؟ قالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء «2» من العماء، إنه لمبطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. قال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. قال الملك: يا عفيراء، من قومه؟ قالت: مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، يتجلّى عن ذبح وإسار، قال: يا عفيراء: إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يعزبهم فيعزّون «3» ، ويدمّث بهم الحزون، فإلى نصره يعتزون، فأطرق

ومن ذلك ما روى عن لهيب بن مالك اللهبى أنه قال:

الملك يؤامر نفسه فى خطبتها، فقالت: أبيت اللّعن! إن تابعى غيور، ولأمرى صبور، وناكحى مقبور، والكلف بى ثبور. فنهض الملك مبادرا، فجال فى صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء. ويشبه ما ذكرناه رؤيا الموبذان وقد تقدّمت فى أخبار الكهان. ومن ذلك ما روى عن لهيب بن مالك اللهبىّ أنه قال: حضرت عند «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الكهانة «2» فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! نحن أوّل من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند القذف بالنجوم؛ وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة، وكان أعلم «3» كهّاننا، فقلنا له: يا خطر «4» ، هل عندك علم من هذه النجوم التى يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها، وقد خفنا سوء عاقبتها، فقال: ائتونى بسحر «5» ، أخبركم الخبر، بخير أم ضرر «6» . وأمن أم حذر؛ قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص إلى السماء بعينيه، فناديناه يا خطر، فأومأ إلينا أن امسكوا

فأمسكنا، فانقضّ نجم من السماء عظيم، فصرخ الكاهن: أصابه إصابه «1» ، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، بلبله بلباله «2» ، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله؛ ثم أمسك طويلا، ثم قال: يا معشر بنى قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسمت بالكعبة ذات الأركان، والبلد المؤتمن السكان «3» . قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب بكفّ ذى سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشان، يبعث بالتنزيل والقرآن، وبالهدى وفاضل الفرقان، تبطل به عبادة الأوثان. قال: قلنا يا خطر، إنك لتذكر أمرا عجيبا، فماذا ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومى ما أرى لنفسى ... أن يتبعوا خير نبى الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث من مكة دار الحمس «4» بمحكم التنزيل غير اللبس قلنا: يا خطر، وممّ «5» هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش. ما فى حكمه طيش، ولا فى خلقه هيش «6» ، يكون فى جيش وأىّ جيش، من آل قحطان وآل ريش «7» . قال: قلنا بيّن لنا من أىّ قريش هو، قال: والبيت ذى الدّعائم، والرّكن

ومنه ما روى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت من قومه،

والأحائم «1» ، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كلّ ظالم؛ ثم قال: هذا هو البيان، أخبرنى به رئيس الجانّ؛ ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجنّ الخبر؛ ثم سكت «2» فأغمى عليه، فما أفاق إلا بعد ثلاث «3» فقال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد نطق عن مثل نبوّة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده» . والله أعلم. ومنه ما روى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت من قومه، فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حىّ من تميم، فإذاهم مجتمعون إلى كاهنة تقول: «العزيز من والاه، والذّليل من خالاه، والموفور من مالاه، والموتور من عاداه» ؛ قال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: «صاحب حلّ وحرم، وهدى وعلم وبطش وحلم، وحرب وسلم، رأس رءوس، ورائض يموس «4» ، وماحى بوس، وماهد وعوس، «وناعش منعوس «5» » ؛ قال سفيان: من هو لله أبوك؟ قالت: «نبىّ مؤيدّ، قد آن حين يوجد، ودنا أو ان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود، بكتاب لا يفنّد، اسمه محمد» ؛ قال سفيان: لله أبوك، أعربىّ هو أم عجمىّ؟ قالت: «أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معدّ بن عدنان، فقدك يا سفيان» ؛ فأمسك سفيان عن سؤالها، ثم إن سفيان ولد له غلام فسماه محمدا لما رجاه من أن يكون النبىّ الموصوف. ومنه ما روى أن عمرو بن معديكرب عوتب على ارتداده عن الإسلام فقال: والله ما هو إلا الشّقاء، ولقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يوحى إليه، قيل: كيف كان ذلك يا أبا ثور؟ قال: حدث بين بنى زبيد تناجش وتظالم، ونما

وأما من بشر به عليه الصلاة والسلام من الجان

إلى أن سفك بعضهم دماء بعض، ففزع حلماؤهم إلى كاهن لهم رجوا أن يكون عنده المخرج مما نزل بهم، فقال الكاهن: «أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، والبحار ذات الأمواج، والجبال ذات الفجاج، إنّ هذا الإمراج والارتجاج، للقاح ذو نتاج» ؛ قالوا: وما نتاجه؟ قال: «ظهور نبىّ صادق، بكتاب ناطق، وحسام والق «1» » ، قالوا: أين يظهر؟ وإلام يدعو؟ قال: «يظهر بصلاح؛ ويدعو إلى الفلاح، ويعطّل القداح، وينهى عن الرّاح والسّفاح، وعن كل أمر قباح» ؛ قالوا: ممن هو؟ قال: «من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير الحوّم، والسباع الصوّم» ؛ قالوا: وما اسمه؟ قال: «اسمه محمد، وعزّه سرمد، وخصمه مكمد» . فهذه جملة كافية من أخبار الكهّان. فلنذكر ما نطق به الجانّ من أجواف الأصنام، وما سمع من الهواتف، والله المستعان. وأما من بشّر به عليه الصلاة والسلام من الجانّ الذين نطقوا من أجواف الأصنام وما سمع من العتائر. فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى سبب إسلام عمر، وأنه كان قد ضمن لقريش قتل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخرج لذلك، فمرّ بقوم من خزاعة وقد اعتمدوا صنما لهم يريدون أن يتحاكموا إليه، فقالوا لعمر: ادخل لتشهد الحكم، فدخل معهم، فلما مثلوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول «2» : يأيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام «3»

ومسند «1» الحكم إلى الأصنام ... أصبحتم كراتع الأنعام أما ترون ما أرى أمامى ... من ساطع يجلو دجى الظلام قد لاح للناظر من تهام ... وقد بدا للناظر الشآمى محمد ذو البرّ والإكرام ... أكرمه الرحمن من إمام قد جاء بعد الشّرك بالإسلام ... يأمر بالصلاة والصيام والبرّ والصّلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام فبادروا سبقا إلى الإسلام ... بلا فتور وبلا إحجام قال: فتفرّق القوم عن الصنم ولم يحضره يومئذ أحد إلّا أسلم؛ ثم ذكر ابن عباس انطلاق عمر إلى منزل أخته على ما نذكر ذلك أو نحوه عند ذكرنا إسلام عمر رضى الله عنه. قال: ثم خرج لقصد النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلقيه رجال من بنى سليم «2» قد تنافروا إلى صنم لهم ليحكم بينهم اسمه الضّمار «3» ، فدعوا عمر إلى الدخول معهم إليه ففعل، فلما وقفوا بين يدى الصّنم سمعوا هاتفا من جوفه يقول: أودى الضّمار وكان يعبد مرة «4» ... قبل الكتاب وقبل بعث محمد إن الذى ورث النبوّة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى سيقول من عبد الضّمار ومثله ... ليت الضّمار ومثله لم يعبد

أبشر أبا حفص بدين صادق ... تهدى إليه بالكتاب المرشد واصبر أبا حفص قليلا إنه ... يأتيك عن فرق أعزّ بنى عدى لا تعجلنّ فأنت ناصر دينه ... حقّا يقينا باللسان وباليد قال: فعجب القوم منه ونكّسه عمر، وغيّر الله ما فى صدره من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه ما روى أن وائل بن حجر وكان ملكا مطاعا «1» ، وكان له صنم من العقيق الأحمر يعبده ويحبّه حبّا شديدا، ولم يكن يكلّم منه، إلا أنه كان يرجو ذلك، فيكثر له السجود، ويعتر له العتائر، فبينا هو نائم فى الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذى فيه الصّنم، فقام من مضجعه وأتاه فسجد أمامه، فإذا قائل «2» يقول: يا عجبا «3» لوائل بن حجر ... يخال يدرى وهو ليس يدرى ماذا يرجّى من نحيت صخر ... ليس بذى عرف ولا ذى نكر ولا بذى نفع ولا ذى ضرّ ... لو كان ذا حجر أطاع أمرى «4» قال وائل: فرفعت رأسى واستويت جالسا، ثم قلت: قد أسمعت أيها الناصح، فماذا «5» تأمرنى؟ فقال: ارحل إلى يثرب ذات النّخل ... وسر إليها سير مشمعلّ تدن بدين «6» الصائم المصلّى ... محمد المرسل «7» خير الرسل

ومنه خبر مازن الطائى فى سبب إسلامه

قال وائل: ثم خرّ الصنم لوجهه فانكسر أنفه، واندقّت عنقه، فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا حتى أتيت المدينة؛ وذكر إسلامه بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم. والله المعين. ومنه خبر مازن الطائى فى سبب إسلامه رواه البيهقى فى دلائل النبوّة بسند قال: كان مازن الطائىّ «1» بأرض عمان بقرية تدعى سمايل «2» ، وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له باجر «3» ، قال مازن: فعترت «4» ذات يوم عتيرة، والعتيرة: الذبيحة «5» ، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن: أقبل إلىّ أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعدل، عن حرّ نار تشعل، وقودها بالجندل. قال مازن: فقلت والله إن هذا لعجب، ثم عترت بعد عشرة أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا آخر أبين من الأوّل وهو يقول: يا مازن اسمع تسرّ، ظهر خير وبطن شرّ، بعث نبىّ من مضر، بدين الله الكبر «6» ، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر؛ قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب، إنه لخير يراد بى؛ وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال «7» :

خرج رجل بتهامة يقول لمن أتاه: أجيبوا داعى الله عز وجل، يقال له أحمد، قال: فقلت هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت «1» إلى الصنم فكسّرته أجذاذا، وشددت راحلتى ورحلت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرح إلىّ الإسلام فأسلمت، وأنشأت أقول: كسرت باجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلّا بتضلال فالهاشمىّ هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منّى «2» على بال يا راكبا بلّغن عمرا وإخوته «3» ... أنى لما قال ربّى باجر قالى قال مازن: فقلت يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر، وبالهلوك «4» من النساء، وألحّت علينا السنون «5» فأذهبن الأموال، وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد، ويأتينى بالحيا، ويهب لى ولدا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اللهم أبدله بالطّرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، [وبالخمر ريّا لا إثم فيه، وبالعهر عفّة الفرج «6» ] وائته بالحيا، وهب له ولدا. قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر «7» ، ووهب لى حيان بن مازن، وأنشأت أقول:

ومنه ما روى عن جبير بن مطعم عن أبيه قال:

إليك رسول الله خبّت مطيّتى ... تجوب الفيافى من عمان إلى العرج لتشفع لى يا خير من وطئ الحصا ... فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج «1» إلى معشر خالفت فى الله دينهم ... فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجى «2» وكنت امرأ بالعهر «3» والخمر مولعا ... شبابى حتى آذن الجسم بالنّهج «4» فبدّلنى بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا وحصّن لى فرجى فأصبحت همّى فى جهاد ونيّتى ... فلله ما صومى ولله ما حجّى قال مازن: فلما رجعت إلى قومى أنّبونى وشتمونى، وأمروا شاعرهم فهجانى، فقلت إن هجوتهم فإنما أهجو نفسى، فتركتهم، قال: ثم إن القوم ندموا وكنت القيّم بأمورهم، فقالوا ما عسى أن نصنع به، فجاءنى منهم أزفلة «5» عظيمة فقالوا: يابن عمّ، عبنا عليك أمرا فنهيناك عنه، فإذ أبيت فنحن تاركوك، ارجع معنا، فرجعت معهم، فأسلموا بعد كلّهم. ومازن هذا هو الذى أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض عمان. ومنه ما روى عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا جلوسا عند صنم لنا، فإذا صائح يصيح من جوفه: اسمعوا إلى العجب، وتوقّعوا حادثا قد اقترب، استراق السمع ذهب، وترمى [الجنّ] بالشهب، لنبىّ من العرب، هاشمىّ النسب،

ومنه ما روى عن عبد الله بن ساعدة الهذلى أنه قال:

مولده بمكّة، ومهاجره يثرب؛ قال: وهذا قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه ما روى عن عبد الله بن ساعدة الهذلى أنه قال: كنا نعبد صنما يقال له سواع، وكانت لى غنم فجربت فسقتها إليه وأدنيتها منه أرجو بركته، فسمعت مناديا من جوف الصّنم يقول: العجب كل العجب، سدلت الحجب، ورميت الجن بالشّهب، وسقطت النّصب، ونزل خير الكتب، على خير العرب؛ قال: فسقت غنمى وعدت إلى أهلى، وقد بغّضت إلىّ الأوثان، فجعلت أنقّب عن الحوادث حتى بلغنى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأسلمت. وسنذكر إن شاء الله تعالى فى خبر إسلام الجن ما هتفوا به فأسلم بسببه من أسلم لمّا سمعوا- ما تقف عليه هناك. وحيث ذكرنا ما ذكرنا من المبشّرات، فلنذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم. ذكر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدئ به من النبوّة روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوّة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة «1» ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فى نوم إلا جاءت كفلق الصّبح «2» ، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.

وروى محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبى عن عبد الملك بن عبيد الله «1» بن أبى سفيان ابن العلاء بن حارثة «2» الثقفىّ، وكان واعية «3» ، عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوّة؛ كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت «4» ، ويفضى إلى شعاب «5» مكّة وبطون «6» أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة؛ فمكث صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى شهر رمضان. وعن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فى حراء، وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن محمد بن موسى الخوارزمىّ قال: بعث نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. فكان من مولده إلى أن بعثه الله عز وجل أربعون سنة ويوم.

وعن عبد الله بن الزبير وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء [شهرا «1» ] من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه من كرامته ما أراد، من السنة التى بعثه فيها، وذلك فى شهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء «2» كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ؛ [قال «4» ] : قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتّنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ؛ قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع. فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) . قال: فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى، وهببت من نومى، فكأنّما كتب «6» فى قلبى كتابا؛ قال: فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسى أنظر [إلى السماء «7» ] ؛ فإذا جبريل فى صورة رجل صافّ قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا

جبريل، [قال «1» ] : فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى [عنه «2» ] فى آفاق السماء، فما أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدّم أمامى وما أرجع ورائى حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا [أعلى «3» ] مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف فى مكانى ذلك؛ ثم انصرف عنى. وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها [مضيفا إليها «4» ] فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك حتى بلغوا [أعلى «5» ] مكة ورجعوا إلىّ، فحدّثتها «6» بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا بن عمّ واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجونّ «7» أن تكون نبىّ هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى «8» ، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر فى الجاهلية وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذى نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبىّ هذه الأمة، فقولى له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو

يطوف بالكعبة فقال: يا بن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذى نفسى بيده إنك لنبىّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنّه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه «1» ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبّل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. وذكر الإمام العدل سليمان التّيمى فى سيره «2» أن النبى صلى الله عليه وسلم حين أخبر خديجة عن جبريل، ولم تكن سمعت باسمه قطّ، ركبت «3» إلى بحيرا الرّاهب إلى الشام، قال الزهرىّ هو حبر من يهود تيماء، فسألته عن جبريل، فقال لها: قدّوس قدّوس، يا سيدة نساء قريش، أنّى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلى ابن عمّى أخبرنى أنه يأتيه، فقال: قدّوس قدّوس ما علم به إلا نبىّ، فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشياطين لا تجترئ «4» أن تتمثّل به ولا تتسمّى به. وكان غلام لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس اسمه عدّاس من أهل نينوى «5» مدينة يونس عليه السلام، عنده علم من الكتاب أرسلت تسأله عن جبريل فقال: قدّوس [قدّوس «6» ] أنّى لهذه البلاد بذكر جبريل يا سيدة نساء قريش؟ فأخبرته بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عدّاس مثل قول الراهب.

وروى البخارىّ- رحمه الله- فى صحيحه «1» بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة «2» الجرس وهو أشدّه علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلّمنى فأعى ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم «4» عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. وبسنده «5» عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنّث فيه، وهو التعبّد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاء الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلونى زمّلونى، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد

خشيت على نفسى، فقالت خديجة: كلّا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصّر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانىّ «1» ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى. قال ابن شهاب «2» : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارىّ قال وهو يحدّث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: بينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسىّ بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلونى زمّلونى، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، فحمى الوحى وتتابع. قال محمد بن إسحاق «3» : وحدّثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزّبير أنه حدّث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا

الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاقعد «1» على فخذى ايمنى، قال: فتحوّل فقعد «2» على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس فى حجرى، فتحوّل فجلس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم: قال: فحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت يابن عمّ: اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك، ما هذا بشيطان. وكانت خديجة رضى الله عنها أوّل من آمن بالله وبرسوله وصدّق بما جاء به. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ أمره ثلاث سنين ثم أمره الله تعالى بإظهار دينه والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه. قال: وقال الشعبى: أخبرت أن إسرافيل تراءى له ثلاث سنين. وروى ابن عبد البر بسنده إلى الشعبىّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين، ووكّل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل عليه السلام. وفى رواية عنه: ثم بعث إليه جبريل بالرسالة. وعنه أيضا قال: أنزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين، فقرن نبوّته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، وكان يعلّمه الكلمة والشىء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة.

ذكر فترة الوحى عن النبى صلى الله عليه وسلم وما أنزل بعد فترته

ذكر فترة الوحى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل بعد فترته قال «1» : وفتر الوحى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة «2» حتى شقّ ذلك عليه وأحزنه. واختلف فى مدة فترة الوحى، فقال ابن جريح: احتبس عنه الوحى اثنى عشر يوما، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: خمسة عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين. وقال مقاتل: أربعين يوما. والله أعلم. روى البخارىّ «3» - رحمه الله- عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وساق الحديث بنحو ما تقدّم، قال: وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مراراكى يتردّى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل وقال له مثل ذلك. قال: وتكلم المشركون عند فترة الوحى بكلام، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) السورة بكمالها؛ وقيل فى سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ترك قيام الليل ليلتين أو ثلاثا لشكوى «4» أصابته، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث «5» ، فأنزل الله تعالى السورة.

قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى «1» ) : تضمّنت هذه السّورة من كرامة الله تعالى لنبيّه وتنويهه به وتعظيمه إياه ستّة وجوه: الأوّل- القسم له عما أخبر به من حاله بقوله: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أى وربّ الضحى، وهذا لمن عظم درجات المبّرة. الثانى- بيان مكانته عنده وحظوته لديه بقوله: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أى ما تركك وما أبغضك، وقيل ما أهملك بعد أن اصطفاك. الثالث- قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) . قال ابن إسحاق: أى مالك فى مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك الله من كرامة الدنيا. وقال سهل: أى ما ذخرت لك من الشفاعة والمقام المحمود خير لك مما أعطيتك فى الدنيا. الرابع- قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام فى الدّارين والزّيادة. قال ابن إسحاق «2» : يرضيه بالفلج فى الدّنيا والثواب فى الآخرة. وقيل: يعطيه الحوض والشفاعة، وروى عن بعض آل النبى «3» صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فى القرآن آية أرجى منها. ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمّته النار» .

ذكر فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الخامس- ما عدّه الله تعالى عليه من نعمه، وقرّره من آلائه قبله فى بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له فأغناه بما آتاه، أو بما جعله فى قلبه من القناعة والغنى، ويتيما فحدب عليه عمّه وآواه إليه، وقيل: آواه إلى الله، وقيل: يتيما لا مثال لك فآواك إليه، وقيل المعنى ألم يجدك فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا، وآوى بك يتيما، ذكّره بهذه المنن، وأنه- على المعلوم من التفسير- لم يهمله فى حال صغره وعيلته ويتمه، وقبل معرفته به ولا ودّعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه واصطفائه. والله أعلم السادس- أمره بإظهار نعمته عليه، وشكر ما شرّفه به بنشره وإشادة ذكره بقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، فإنّ من شكر النعمة التحدّث بها، وهذا خاصّ له، عامّ لأمته. وقال ابن إسحاق «1» : أى بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوّة، فحدّث بها أى اذكرها وادع إليها. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّا «2» إلى من يطمئنّ إليه من أهله. قال: ثم فرضت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. والله الموفّق لطاعته. ذكر فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عن عائشة أمّ المؤمنين- رضى الله عنها- أنها قالت «3» : افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما افترضت ركعتين «4» ركعتين كلّ صلاة، ثم إن الله تعالى أتمّها فى الحضر أربعا، وأقرها فى السّفر على فرضها الأوّل ركعتين. قال محمد بن إسحاق:

وحدّثنى بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه فى ناحية الوادى، فانفجرت منه عين فتوضّأ جبريل «1» ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر [إليه «2» ] ليريه كيف الطّهور للصلاة، ثم توضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضّأ، ثم قام به جبريل فصلّى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل «3» ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضّأ لها ليريها كيف الطّهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضّأت كما توضّأ [لها «4» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلّى بها كما صلى به جبريل، فصلّت بصلاته «5» . وعن عبد الله بن عباس «6» رضى الله عنهما قال: «لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلّى به الظّهر حين مالت الشمس، ثم صلّى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشّفق، ثم صلّى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاء فصلّى به الظهر من غد حين «7» كان ظلّه مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثليه، ثم صلّى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل الأوّل، ثم صلّى به الصبح مسفرا غير مشرق، ثم قال: يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس «8» » .

ذكر أول من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصدق بما جاء به من عند الله

ذكر أوّل من أسلم وآمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به من عند الله قد تقدّم أن أوّل من آمن خديجة رضى الله عنها، وذهب محمد بن إسحاق «1» إلى أن أوّل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى وصدّق بما جاء به «2» من الله تعالى علىّ بن أبى طالب، ثم زيد بن حارثة «3» مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر الصدّيق «4» رضى الله عنهم. وسنذكر إن شاء الله إسلام كل واحد منهم. أما إسلام أبى بكر الصديق رضى الله عنه فالذى عليه الأكثرون أنه أوّل من أسلم من الذكور، وقد روى أبو الفرج بن الجوزىّ رحمه الله فى كتابه المترجم (بصفة الصفوة «5» ) عن ابن عبّاس، وحسّان بن ثابت، وأسماء بنت أبى بكر، وإبراهيم النّخعىّ، قالوا كلّهم: أوّل من أسلم أبو بكر، قال: وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: أدركت أبى ومشيختنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وصالح ابن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد الأخنسى، وهم لا يشكّون أن أوّل القوم [إسلاما «6» ] أبو بكر. وروى أبو الفرج «7» بسنده عن ابن عباس أنه قال: «أوّل من صلى أبو بكر رضى الله عنه» ، ثم تمثّل بأبيات حسّان بن ثابت: إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبىّ، وأولاها بما حملا الثانى التالى المحمود مشهده ... وأوّل الناس حقا صدّق الرسلا والله يهدى من يشاء.

وأما إسلام على بن أبى طالب رضى الله عنه

وأما إسلام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه - فقد اختلف فى سنّه حال إسلامه؛ فقيل: أسلم وهو ابن عشر سنين «1» ، وقيل: تسع سنين، وقيل اثنتى عشرة سنة، وقيل أكثر من ذلك إلى عشرين سنة، وهو بعيد، لأنه آمن فى ابتداء الأمر وظهور النبوّة. والله أعلم. وكان من حديث إسلامه ما رواه محمد بن إسحاق «2» عن عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد بن جبر بن أبى الحجّاج، قال: كان من نعمة الله على علىّ بن أبى طالب ومما صنع الله له وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس، وكان من أيسر بنى هاشم: يا عبّاس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف [عنه «3» ] من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت «4» رجلا فنكفلهما «5» عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى لقيا «6» أبا طالب، فقالا [له] : إنا نريد «7» أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما [أبو طالب «8» ] : إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما؛ ويقال قال: عقيلا وطالبا؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العبّاس

جعفرا [فضمّه إليه «1» ] ، فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتّبعه علىّ وآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم «2» . قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علىّ بن أبى طالب مستخفيا من عمه أبى طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصلوات فيها «3» ، فإذا أمسيا رجعا؛ فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصلّيان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخى، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟ قال: أى عمّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم «4» ، بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحقّ من أجابنى إليه، وأعاننى عليه، أو كما قال. فقال أبو طالب: أى ابن أخى، إنى والله «5» لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شىء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لابنه علىّ: أى بنىّ ما هذا الدين الذى أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقته بما جاء به، وصليت معه لله واتّبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.

وأما إسلام زيد بن حارثة رضى الله عنه

وأما إسلام زيد بن حارثة «1» رضى الله عنه - فقال «2» محمد بن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزّى بن امرئ القيس الكلبى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نسبه ابن الكلبىّ فقال: زيد ابن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزّى بن يزيد «3» بن امرئ القيس بن عامر ابن النّعمان بن عبدودّ بن امرئ القيس بن نعمان بن عمران بن عبد عوف بن عوف ابن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللّات بن رفيدة بن ثور بن كلب ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمر ابن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال أبو عمر «4» : وربّما اختلفوا فى الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شىء فيها «5» . قال «6» : ولم يتابع ابن إسحاق على قوله «7» «شرحبيل» وإنما «شراحيل» . وقال ابن الكلبى: وأمّ زيد سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت، من بنى معن من طيئ «8» .

قال ابن إسحاق «1» : وصلّى زيد بعد علىّ بن أبى طالب. قال أبو محمد عبد الملك ابن هشام: وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق منه «2» زيد بن حارثة، وصيف، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد، وهى يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختارى يا عمّة، أىّ هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبنّاه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأقم عندى، وإن شئت فانطلق مع أبيك» ؛ قال: بل أقيم عندك؛ فلم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله، فصدّقه وأسلم وصلّى معه، فلما أنزل الله عزّ وجلّ: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) قال: أنا زيد ابن حارثة. وقد روى أبو عمر وغيره أن حارثة لما فقد ابنه زيدا قال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحىّ يرجّى «3» أم أتى دونه الأجل فو الله ما أدرى وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض «4» أم غالك الجبل فياليت شعرى هل لك الدهر رجعة «5» ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل «6»

تذكّرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطّفل «1» وإن هبّت الأرواح هيّجن ذكره ... فيا طول ما حزنى عليه وما وجل سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التّطواف أو تسأم الإبل حياتى أو تأتى علىّ منّيتى ... وكلّ امرئ «2» فان وإن غرّه الأمل سأوصى به قيسا وعمرا كليهما ... وأوصى يزيدا ثم من بعده جبل «3» يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، ويزيد أخا زيد لأمّه، وهو يزيد بن كعب ابن شراحيل. قال: فحجّ «4» ناس من كلب «5» فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، وقال لهم: أبلغوا أهلى «6» هذه الأبيات، فإنى أعلم أنهم قد جزعوا علىّ، فقال: أحنّ إلى قومى وإن كنت نائيا ... فإنّى قعيد البيت عند المشاعر فكفّوا من الوجد الذى قد شجاكم ... ولا تعملوا فى الأرض نصّ الأباعر فإنّى بحمد الله فى خير أسرة ... كرام معدّ كابرا بعد كابر فانطلق الكلبيّون فأعلموا أباه، فقال: ابنى ورب الكعبة، فوصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكّة «7» ، فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد المطّلب،

يابن هاشم، يابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكّون العانى، وتطعمون الأسير، جئناك فى ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا فى فدائه؛ قال: ومن هو؟ قالا: زيد «1» بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلّا غير ذلك» ؟ قالوا: وما هو؟ قال: «ادعوه فأخيّره «2» ، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارنى فهو لى، فو الله ما أنا بالذى أختار على من اختارنى أحدا» . قالوا «3» : قد زدتنا على النّصف وأحسنت إلينا، فدعاه «4» فقال: «هل تعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم، قال «من هذا «5» » ؟ قال: أبى، وهذا عمى، قال: «فأنا من قد علمت «6» ، وقد رأيت صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما» ، فقال زيد: ما أنا بالذى «7» أختار عليك أحدا، أنت منى مكان الأب والعمّ، فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرّيّة، وعلى أبيك وعمك وأهل «8» بيتك؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا معشر من حضر، اشهدوا أنّ زيدا ابنى يرثنى وأرثه» . فلما رأى ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما وانصرفا. ودعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ، فدعى يومئذ زيد بن حارثة، ودعى الأدعياء إلى آبائهم. والله أعلم.

ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصديق - رضوان الله عليهم -

ذكر من أسلم بدعاء أبى بكر الصدّيق- رضوان الله عليهم- قال محمد بن إسحاق «1» : لما أسلم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه أظهر إسلامه، ودعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رجلا مألفا «2» لقومه محببّا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشرّ، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام «3» من وثق به من قومه ممّن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه رضى الله عنه، عثمان بن عفّان «4» ، والزّبير بن العوّام «5» ، وعبد الرحمن بن عوف «6» ، وسعد بن أبى وقّاص «7» ، وطلحة بن عبيد الله، فجاء «8» بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا «9» له، فأسلموا وصلّوا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت عنده كبوة «10» ونظر وتردّد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم «11» عنه حين ذكرته له وما تردّد فيه» .

قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام الناس فصلّوا وصدّقوا بما جاء من الله. ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجرّاح «1» ، وأبو سلمة، واسمه عبد الله بن عبد الأسد «2» ، والأرقم بن أبى الأرقم، واسم أبى الأرقم عبد مناف بن أسد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم «3» ، وعثمان بن مظعون «4» ، وأخواه قدامة «5» ، وعبد الله «6» ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤىّ «7» ، وسعيد بن زيد «8» ، وامرأته فاطمة» بنة الخطّاب أخت عمر،

وأسماء «1» وعائشة «2» بنتا أبى بكر، وكانت عائشة صغيرة، وخبّاب بن الأرتّ «3» حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقّاص «4» أخو سعد، وعبد الله بن مسعود «5» ، ومسعود بن القارى، وهو مسعود بن ربيعة، [أو الربيع «6» ] ، وسليط بن عمرو ابن عبد شمس «7» ، وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة «8» ، وامرأته أسماء بنت سلامة ابن مخرّبة التميمية «9» ، وخنيس بن حذافة بن قيس «10» ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب «11» ، وعبد الله بن جحش «12» وأخوه أبو أحمد بن جحش «13» حليفا بنى أمية،

وجعفر بن أبى طالب «1» ، وامر أنه أسماء بنت عميس «2» ، وحاطب بن الحارث بن معمر، وامرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله «3» ، وأخوه خطّاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار «4» ، ومعمر بن الحارث بن معمر «5» ، والسائب بن عثمان بن مظعون «6» ، والمطّلب ابن أزهر بن عبد عوف «7» ، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صيرة، والنّحام واسمه نعيم بن عبد الله «8» ، وعامر بن فهيرة «9» مولى أبى بكر الصدّيق، وخالد بن سعيد بن العاص ابن أميّة «10» ؛ وقد روى أن خالد بن سعيد كان خامس من أسلم، وأن إسلامه كان بعد سعد بن أبى وقّاص، حكاه أبو عمر «11» ، وامرأته أمينة «12» بنت خلف بن أسعد، وحاطب

ابن عمرو بن عبد شمس «1» ، وأبو حذيفة واسمه مهشم «2» بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف؛ ويقال فى اسمه هشيم؛ ويقال هاشم، وواقد «3» بن عبد الله بن عبد مناف ابن عرين «4» بن ثعلبة، وخالد «5» ، وعامر «6» ، وعاقل «7» ، وإياس «8» ، بنو البكير بن عبد ياليل وعمّار «9» بن ياسر حليف بنى مخزوم، وصهيب «10» بن سنان. قال ابن إسحاق «11» : ثم دخل الناس [فى الإسلام «12» ] أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام [بمكّة وتحدّث «13» به] . ولنذكر من كانت له سابقة فى الإسلام غير من ذكرنا والله الموفّق للصواب.

ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش

ذكر تسمية من كانت لهم سابقة فى الإسلام من العرب من غير قريش كانت لجماعة سابقة إسلام، وهم من غير قريش، فرأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع لسابقتهم فى الإسلام. منهم أبو ذرّ «1» جندب بن جنادة الغفارىّ، واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، والمشهور ما ذكرناه، واختلف أيضا فيما بعد جنادة، فقيل جنادة بن قيس بن عمرو ابن صعير بن حرام بن غفار، وقيل جنادة بن صعير بن عبيد بن حرام بن غفار، ويقال جنادة بن سفيان بن عبيد بن [صعير «2» بن] حرام بن غفار؛ أسلم أبو ذرّ بعد ثلاثة، وقيل: بعد أربعة، فكان خامسا، وله فى سبب إسلامه حديث حسن، نذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لأخبار وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد غفار على ما تقف عليه، وهو فى السّفر السادس عشر من كتابنا هذا. وأسلم بسبب إسلامه أخوه أنيس «3» بن جنادة وأمّهما رملة بنت الوقيعة الغفاريّة «4» . ومنهم عمرو بن عبسة «5» بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتّاب بن امرئ القيس ابن بهثة بن سليم، يكنى أبا نجيح، ويقال أبو شعيب. قال أبو عمر بن عبد البر «6» : روينا عنه من وجوه أنه قال: ألقى فى روعى أن عبادة الأوثان باطل، فسمعنى رجل وأنا أتكلم بذلك، فقال: يا عمرو، إن بمكة رجلا يقول كما تقول، قال: فأقبلت إلى مكة

أوّل ما بعث النبى صلى الله عليه وسلم وهو مستخف «1» ، فقيل لى: إنك لا تقدر عليه إلا باللّيل حين يطوف، فقمت بين يدى الكعبة فما شعرت إلا بصوته يهلّل، فخرجت إليه فقلت من أنت؟ قال: أنا نبىّ الله، فقلت وما نبىّ الله؟ قال: رسول الله، قلت وبم أرسلك؟ قال: بأن يعبد «2» الله وحده ولا يشرك به شىء، وتكسر الأوثان وتحقن الدماء، [وتوصل الأرحام] «3» ، قلت: ومن معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد، يعنى أبا بكر وبلالا، فقلت: ابسط يدك أبايعك، فبايعته على الإسلام. قال: فلقد رأيتنى وأنا ربع «4» الإسلام، قال: قلت أقيم معك يا رسول الله؟ قال: «لا. ولكن الحق بقومك فإذا سمعت أنى قد خرجت فاتبعنى» ، قال: فلحقت بقومى، فمكثت دهر امنتظرا «5» خبره حتى أتت رفقة من يثرب فسألتهم الخبر «6» ، فقالوا: خرج محمد بن مكة إلى المدينة. قال: فارتحلت فأتيته فقلت: أتعرفنى؟ قال: «نعم، أنت الرجل الذى أتيتنا بمكّة» . وروى أبو «7» عمر أيضا بسنده إلى أبى أمامة الباهلى أنه حدث عن عمرو بن عبسة «8» قال: «رغبت عن آلهة قومى فى الجاهلية ورأيت أنها آلهة باطلة «9» ؛ يعبدون الحجارة، وهى لا «10» تضرّ ولا تنفع، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين، فقال: يخرج رجل من مكّة يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، وهو يأتى بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتّبعه، فلم يكن لى همّ

إلا مكّة أسأل هل حدث فيها حدث «1» ؟ فيقولون: لا. فأنصرف إلى أهلى، وأهلى من الطريق غير بعيد، فأعترض الركبان خارجين من مكة فأسألهم هل حدث فيها حدث؟ فيقولون: لا. فإنى لقاعد على الطريق يوما «2» إذ مرّ بى راكب فقلت من أين أنت «3» ؟ قال: من مكّة، قلت: هل فيها من خبر؟ قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبى الذى أريد، فشددت راحلتى، وجئت مكة، ونزلت منزلى الذى كنت أنزل فيه، فسألت عنه، فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا إلبا عليه، فتلطّفت حتى دخلت عليه، فسلّمت ثم قلت: من أنت؟ قال: «نبىّ الله «4» » ، قلت: وما النبى؟ قال: «رسول الله» ، قلت: من أرسلك؟ قال: «الله» ، قلت بم أرسلك؟ قال: «أن توصل الارحام، وتحقن الدماء، وتؤمن السبل، وتكسر الأوثان، ويعبد الله وحده لا يشرك به شىء» . فقلت: نعم ما أرسلت به؛ أشهدك أنى قد آمنت بك وصدّقتك، أمكث معك أم ما تأمرنى «5» ؟. قال: «قد رأيت كراهة الناس لما جئت به، فامكث فى أهلك، فإذا سمعت أنى خرجت مخرجا فاتّبعنى» . فلما سمعت «6» به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه فقلت: يا نبىّ الله، هل تعرفنى؟ قال: «نعم، أنت السّلمىّ الذى جئتنى بمكّة فقلت لى كذا، وقلت لك كذا «7» » .

ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام

ومنهم عتبة «1» بن غزوان بن جابر، ويقال عتبة بن غزوان بن الحارث بن جابر ابن وهب» بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن [الحارث بن «3» ] مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس «4» عيلان بن مضر بن نزار المازنى حليف لبنى نوفل بن عبد مناف «5» ، يكنى أبا عبد الله، وقيل أبا غزوان، كان إسلامه بعد ستّة رجال، فهو سابع سبعة [فى إسلامه، وقد قال ذلك فى خطبته بالبصرة: «لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله سابع سبعة «6» ] ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتى قرحت أشداقنا» . رضى الله عنهم أجمعين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم. ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام قال محمد بن إسحاق «7» : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا فى الشّعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقّاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبى وقّاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى «8» بعير، فشجّه «9» ، فكان أول دم هريق فى الإسلام.

ثم أمر «1» الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء «2» به من عند الله وأن ينادى الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله تعالى، فكان يدعو «3» ثلاث سنين مستخفيا، إلى أن أمر الله بإظهار الدعاء. قال محمد بن سعد «4» : قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى «5» : لما أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس نزول الوحى عليه، ويدعوهم إلى الإيمان به، كبر ذلك عليه، فنزل قوله عز وجل: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، قالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبّة، فقال [لهم «6» ] : «أيها الناس، انصرفوا فقد عصمنى الله» ؛ قيل: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك، فبلّغ عند ذلك الرسالة. وعن الزهرىّ «7» ، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله تعالى من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن بالله؛ وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم فى مجالسهم يشيرون إليه: إنّ غلام بنى عبد المطلب ليكلّم من السماء، فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التى يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فعند ذلك عادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناكروه؛ وأجمعوا علاقة «8» .

قال ابن عباس «1» رضى الله عنه: لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا فقال: «يا معشر قريش» ، فقالت قريش: محمد على الصّفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا: مالك يا محمد؟ فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوننى» ؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد يا بنى عبد المطلب يا بنى عبد مناف يا بنى زهرة» ، حتى عدّد الأفخاد من قريش «إن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين، وإنى لا أملك لكم من الدّنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله» قال: فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) السورة كلّها. قال الواقدى «2» : لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ومن معه، وفشا أمره بمكّة، ودعا بعضهم بعضا، فكان أبو بكر يدعو ناحية سرّا، وكان سعيد بن زيد مثله «3» ، وعثمان مثل ذلك، [وكان عمر يدعو علانية وحمزة ابن عبد المطلب «4» ] وأبو عبيدة بن الجرّاح؛ فغضبت قريش من ذلك، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد والبغى، وأشخص به «5» منهم رجال فبادوه، وتستّر آخرون وهم على ذلك الرّأى، إلا أنهم ينزّهون أنفسهم عن القيام والإشخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهروا بالعداوة

ذكر أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين جاهروا بالعداوة قالوا: كان «1» أهل العداوة والمباداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الجدل والخصومة: أبو جهل بن هشام، وأبو لهب بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدىّ، والوليد بن المغيرة، [وأمية وأبىّ ابنا خلف، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة «2» ] ، والعاص بن وائل، والنّضر ابن الحارث، ومنبّه بن الحجاج، وزهير بن أبى أمية، والسائب بن صيفىّ [بن عابد «3» ] ، والأسود بن عبد الأسد، والعاص بن سعيد بن العاص، والعاص بن هشام «4» ، وعقبة بن أبى معيط، وأبو الأصدى «5» ، وهو الذى نطحته الأروى، والحكم ابن أبى العاص، وعدىّ بن الحمراء؛ وذلك أنهم كانوا جيرانه؛ والذين «6» كانت تنتهى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: أبو جهل، وأبو لهب، وعقبة ابن أبى معيط؛ وكان عتبة «7» وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل عداوة، ولكنهم لم يشخصوا بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ كانوا كنحو قريش، ولم يسلم من هؤلاء إلا أبو سفيان والحكم بن أبى العاص.

ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم من المحاورات

ذكر دخول قريش على أبى طالب فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم من المحاورات قال محمد بن إسحاق «1» : لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم «2» من شىء أنكروه عليه، ورأوا أن عمّه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم «3» يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب، وهم: عقبة وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس، وأبو سفيان صخر بن حرب، وأبو البخترىّ العاص بن هشام، والأسود بن المطّلب بن أسد، وأبو جهل عمرو بن هشام، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج ابن عامر، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّى بيننا وبينه، فإنك على سبيل «4» ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردّهم ردّا جميلا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى» الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرّجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا «6» فيه، وحضّ بعضهم بعضا عليه،

ثم مشوا إلى أبى طالب مرّة أخرى فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإيّاك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين؛ ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه. فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا، فأبق علىّ وعلى نفسك، ولا تحمّلنى من الأمر ما لا أطيق؛ قال: فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه «1» فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال «2» له: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشّمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» ؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» وقام، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخى، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يابن أخى فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا. قال «4» : ثم إن قريشا لما عرفوا «5» أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم فى ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد «6» فتى فى قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتّخذه ولدا فهو لك خير، وأسلم لنا ابن أخيك هذا

الذى قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل «1» ، قال «2» : والله لبئس ما تسوموننى، أتعطوننى «3» ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا، فقال له المطعم «4» بن عدىّ ابن نوفل بن عبد مناف بن قصىّ: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؛ فقال له أبو طالب: والله ما أنصفونى، ولكنك «5» أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك، فحقب «6» الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا. قال الواقدى «7» : لما أجابهم أبو طالب بما قدّمناه من أنهم ما أنصفوه قالوا له: فأرسل إليه فلنعطه النّصف، فأرسل إليه أبو طالب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخى، هؤلاء عمومتك، وأشراف قومك، وقد أرادوا ينصفونك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع» قالوا: تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم «8» إن أعطيتكم هذه هل أنتم معطىّ كلمة إن أنتم تكلّمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم» ؟ فقال أبو جهل: إنّ هذه لكلمة مربحة، نعم، وأبيك

لنقولنّها وعشر أمثالها، قال: «قولوا لا إله إلا الله» ، فاشمأزّوا ونفروا منها وغضبوا، وقاموا وهم يقولون: (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ، ويقال: إن الذى تكلّم بها عقبة بن أبى معيط، وقالوا: لا نعود إليه أبدا، وما خير من أن نغتال محمدا «1» . فلما كان من تلك «2» الليلة، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيانا من بنى هاشم وبنى المطّلب، ثم قال: ليأخذ كلّ واحد حديدة صارمة، ثم ليتبعنى إذا دخلت المسجد فليجلس كلّ فتى منكم إلى عظيم من عظمائهم، فيهم ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل، فإنه لم يغب عن شرّ إن كان محمد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل، فجاء زيد بن حارثة، فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال: يا زيد، أحسست «3» ، ابن أخى؟ قال: نعم، كنت معه آنفا، فقال أبو طالب: لا أدخل بيتى أبدا حتى أراه، فخرج زيد مسرعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت عند الصّفا، ومعه أصحابه يتحدّثون؛ فأخبره الخبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى طالب، فقال: يابن أخى، أين كنت؟ أكنت فى خير؟ قال: نعم، قال: ادخل بيتك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فوقف على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطّلبيّون، فقال: يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا. فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عما فى أيديكم، فكشفوا فإذا كلّ رجل معه حديدة صارمة، فقال: والله لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحدا حتى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدّهم انكسارا أبو جهل.

ذكر تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهم له ولأصحابه

ذكر تحزّب قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذاهم له ولأصحابه قال ابن إسحاق «1» : لما أيست قريش من أبى طالب، وأنه لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسلمه أبدا، تامروا «2» بينهم على من فى القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [الذين أسلموا معه «3» ] ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فقام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ذلك فى بنى هاشم وبنى المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى لهب فإنه تمادى على غيّه وكفره. قال «4» : ثم اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش؛ إنه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستفد «5» عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولكم بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا: نقول كاهن؛ قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة «6»

الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما «1» هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول شاعر؛ قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «2» ؛ قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعدق «3» ، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين «4» المرء وأبيه، وبين المرء [وأخيه، وبين المرء «5» ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل الناس حين قدموا الموسم، لا يمرّبهم أحد إلا حدّروه إياه وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى فى الوليد ابن المغيرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أى خصيما مخالفا (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) . قال ابن هشام: بسر «6» أى كرّه وجهه، (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) .

قال ابن إسحاق «1» : وأنزل الله فى النّفر الذين كانوا معه يصنّفون القول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من عند الله: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أى أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) . قال ابن إسحاق» : وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها. قال «3» : ثم ابتدأت قريش فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا به صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذّبوه وآذوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مبا لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم «4» على كفرهم. قال محمد بن إسحاق «5» : حدّثنى يحيى بن عروة عن الزّبير عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، قال: قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا «6» من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون «7» من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثلما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قطّ؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا،

وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا؛ لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا؛ فبينما هم فى ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك فى وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذّبح «1» » . قال: فأخذت كلمته القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدّهم فيه وصاة «2» قبل ذلك ليرفؤه «3» بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه القول، انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا دنا منكم وباداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم فى ذلك طلع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول: «نعم، أنا الذى أقول ذلك» . قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع «4» ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ، ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشا نالوا منه قطّ «5» .

قالت أم كلثوم بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق «1» رأسه ممّا جبذوه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر. وخرّج الترمذىّ الحكيم فى «نوادر الأصول» ، من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجأه وهذا يتلتله «2» ، فاستغاث النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأذا ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ، والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ، فقال علىّ «3» : والله ليوم أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه فى كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل. قال ابن هشام «4» : حدّثنى بعض أهل العلم: أن أشدّ مالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش: أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلّا كذّبه وآذاه [لا «5» ] حرّ ولا عبد، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل الله عز وجل عليه: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) .

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق «1» : حدّثنى رجل من أسلم كان «2» واعية: أن أبا جهل بن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصّفا فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان تسمع ذلك، ثم انصرف أبو جهل عنه عامدا إلى نادى قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه «3» ، راجعا من قنص له، وكان حمزة أعزّ فتى فى قريش وأشدّه شكيمة، فلما مر بمولاة ابن جدعان قالت له: يا أبا عمارة: لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى جهل ابن هشام؛ وجده ههنا جالسا فآذاه وسبّه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمد، فغضب حمزة، فخرج يسعى حتى دخل المسجد فنظر إلى أبى جهل جالسا فى القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها، فشجّه شجّة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا «4» على دينه أقول ما يقول، فردّ ذلك علىّ إن استطعت، فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا، وتمّ حمزة على إسلامه، وعلى ما بايع «5» عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله؛ فلما أسلم حمزة عرفت

ذكر مشى عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن، واعترافهما أنه لا يشبه شيئا من كلامهم، وما أشار [به] عتبة على أشراف قريش فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سمينعه، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه قبل، قال: وكان إسلام حمزة قبل إسلام عمر ابن الخطاب- رضى الله عنهما- بثلاثة أيام «1» . ذكر مشى عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعهما القرآن، واعترافهما أنه لا يشبه شيئا من كلامهم، وما أشار [به] عتبة على أشراف قريش فى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال محمد بن إسحاق «2» : حدّثنى يزيد بن زياد «3» ، عن محمد بن كعب القرظىّ قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيّدا- قال يوما وهو جالس فى نادى قريش، والنبىّ صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمّد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفّ عنّا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخى، إنّك منّا حيث قد علمت من السّطة فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت «4» به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى

من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها «1» بعضها، قال: «قل يا أبا الوليد أسمع» ، قال: يابن أخى، إن كنت إنما تريد ممّا جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيّا «2» تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطّبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع «3» منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد» ؟ قال: نعم، قال: «فاستمع منى» ، قال: أفعل، قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ «4» ) . ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما «5» يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى السّجدة «6» فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» . فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك

يا أبا الوليد؟ قال: ورائى أنى سمعت قولا والله «1» ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشّعر، ولا بالسّحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بى، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذى سمعت نبأ [عظيم «2» ] ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم «3» ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به؛ فقالوا «4» : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «5» بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشّعر فكلّمه، ثم أتانا ببيان أمره؟ فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ إن كان كذلك، فأتاه عتبة فقال «6» : يا محمد، أنت خير أم هاشم؟ [أنت خير أم عبد المطّلب «7» ] ؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبم تشتم آلهتنا، وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوّجناك عشر نسوة تختار من أىّ بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغنى بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلّم؛ فلما فرغ من حديثه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) «1» حتى بلغ قوله تعالى: (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) «2» ، فأمسك عتبة على فى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وناشده الرّحم أن يكفّ، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم؛ فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلّم محمّدا أبدا، وقال: لقد علمتم أنّى من أكثر قريش مالا، ولكنى أتيته، وقصّ عليهم القصّة، قال: فأجابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ علىّ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم) إلى قوله: (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فيه، فخفت أن ينزل بكم العذاب. وأما الوليد بن المغيرة فقد روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ «3» بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له «4» ، وأنك كاره له، فقال «5» :وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منّى، ولا بأشعار الجنّ؛ والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، [و «6» ] والله إن لقوله الذى يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال:

ذكر اجتماع أشراف قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره «1» ، فنزل قوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... ) «2» الآيات. وعن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: اقرأ علىّ، فقرأ عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) «3» ، قال: أعد علىّ، فأعاد عليه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإنّ [عليه لطلاوة «4» ، وإن] أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. ذكر اجتماع أشراف قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عرضوا عليه وما طلبوا منه أن يريهم ويخبرهم به من القصص، وأخبار من سلف وغير ذلك من غيّهم، وما أنزل عليه فى ذلك ممّا سنذكره إن شاء الله تعالى، ويترجم على بعض ما انطوت عليه هذه الترجمة من القصص بما يدل عليها، ويبيّنها من التراجم وإن كانت داخلة فيها. قال محمد بن إسحاق «5» : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكّة فى قبائل قريش، فى الرجال والنساء. وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم اجتمعت أشراف قريش من كلّ قبيلة، كما روى عن سعيد بن

جبير وابن عباس، قالا: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان ابن حرب، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ بن هشام، والأسود ابن المطّلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبى أميّة، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج السّهميّان، وأمية ابن خلف، أو من اجتمع منهم، فاجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدالهم فيما كلّمهم فيه بداء، وكان حريصا عليهم، يحبّ رشدهم «1» ، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت [على قومك «2» ] ، لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وسببت «3» الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقى أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك، وكلّموه بنحو ما كلّمه به عتبة بن ربيعة على ما قدّمناه آنفا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بى [ما «4» ] تقولون، ما جئت بما جئتكم أطلب به أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنّ الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل عليكم «5» كتابا، وأمرنى أن أكون بشيرا ونذيرا، فبلّغت لكم رسالات ربّى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّى ما جئتكم به فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن

تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» أو كما قال- صلى الله عليه وسلم-. [قالوا يا محمد «1» ] : فإن كنت غير قابل منّا شيئا ممّا عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقلّ ماء ولا أشدّ عيشا منّا، فسل لنا ربّك الذى بعثك به فليسيّر عنّا هذه الجبال التى ضيقّت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق «2» لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصىّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت لنا ما سألناك عرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظّكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا له: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضّة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنّك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذى يسأل ربّه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا» ،- أو كما قال- «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظّكم

فى الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل، فإنّا لا نؤمن لك إلّا أن تفعل. فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله، إن شاء يفعله بكم فعل» قالوا: يا محمد، أفما علم ربّك أنّا سنجلس معك ونسألك عمّا سألناك عنه ونطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك بما هو صانع فى ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منّا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة قبيلا؛ فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة- وهو ابن عمّته- فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل- أو كما قال له- فو الله لا أو من بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصكّ، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدّقك؛ ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته ممّا كان يطمع به من قومه حين دعوه «1» .

ذكر قصة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيه، وكفايته إياه ورجوعه إلى قومه وإخبارهم بما شاهد

ذكر قصّة أبى جهل فى الحجر الذى قصد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وما شاهده من حماية الله تعالى لنبيّه، وكفايته إيّاه ورجوعه إلى قومه وإخبارهم بما شاهد قال ابن إسحاق: ولمّا قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنّ محمد قد أبى إلّا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ «1» آلهتنا؛ وإنى أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم؛ قالوا: والله لا نسلمك لشىء أبدا، فامض لما تريد، فلمّا أصبح أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّى إلى بيت المقدس: وكان إذا صلّى صلّى بين الركن اليمانىّ والحجر الأسود: وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وقام يصلّى وقريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أتى «2» نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل [به «3» ] ما قلت لكم البارحة، فلمّا دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل؛ والله ما رأيت مثل هامته

ولا قصرته «1» ولا أنيابه لفحل قطّ، فهمّ أن يأكلنى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك جبريل لو دنا لأخذه» . ومثل هذه القصة أيضا، ما رواه ابن إسحاق قال: قدم رجل من إراش- ويقال إراشة «2» - بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشىّ حتى وقف على ناد من أندية قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى ناحية المسجد جالس، فقال الإراشىّ: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى «3» على أبى الحكم بن هشام؛ فإنّى رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبنى على حقّى؛ فقال له القوم: أترى ذلك الرجل الجالس؟ - يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزءون به- اذهب إليه فهو مؤديك عليه؛ فأقبل الإراشىّ حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم قد غلبنى على حقّ لى قبله، وأنا غريب وابن سبيل، ولقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه فأشاروا لى إليك، فخذ [لى «4» ] حقّى منه يرحمك الله، قال: «انطلق إليه» ، وقام معه صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوه قام [معه «5» ] قالوا لرجل ممّن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع؟ قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: «محمّد فاخرج إلىّ» فخرج وما فى وجهه رائحة «6» (أى دم) قد انتقع «7» لونه فقال: أعط هذا الرجل حقّه

ذكر خبر النضر بن الحارث، وما قال لقريش، وإرسالهم إياه إلى يثرب إلى أحبار يهود وعقبة بن أبى معيط وما عادا به

قال: نعم، لا يبرح «1» حتّى أعطيه [الّذى له «2» ] ، ودخل فخرج إليه بحقّه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإراشىّ: الحق بشأنك؛ فأقبل الإراشىّ حتّى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لى حقّى، وجاء الرجل الّذى بعثوه معه فأخبرهم الخبر، قال: ثمّ لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! والله ما رأينا مثل ما صنعت قطّ! قال: ويحكم! والله ما هو إلّا أن ضرب علىّ بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإنّ فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ، والله لو أبيت لأكلنى. ذكر خبر النّضر بن الحارث، وما قال لقريش، وإرسالهم إيّاه إلى يثرب إلى أحبار يهود وعقبة بن أبى معيط وما عادا به قال: ولمّا رجع أبو جهل إلى قريش، وألقى الحجر من يده وقصّ عليهم ما شاهد قام النضر بن الحارث بن كلدة فقال: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب- وقد جاءكم بما جاءكم به- قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السّحرة؛ نفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة؛ تخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلّها؛

هزجه ورجزه. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، ما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. قال ابن إسحاق: وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممّن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ورستم «1» وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكّر فيه بالله وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه فى مجلسه إذا أقام، ثم قال: والله يا معشر قريش أنا أحسن حديثا منه، فهلمّ «2» فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه، ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا منى! قيل: والنضر هذا هو الذى قال [فيما بلغنى «3» ] : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) «4» ، قال ابن عباس: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) * «5» ، وكلّ ما ذكر فيه الأساطير من القرآن. قال: فلما قال لهم النضر بن الحارث ما قال بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم

علم حسن- ليس عندنا- من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقال لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبىّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل، ما كان من أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب؛ وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فاتّبعوه فإنه نبىّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا فى الدهر الأوّل قد كانت لهم قصّة عجب؛ وعن رجل كان طوّافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ وأخبرنا عن الرّوح ما هى؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن بالمشيئة، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله فى ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف «1» أهل مكّة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا «2» بشىء ممّا سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكة؛ ثم جاءه جبريل من الله بسورة الكهف فيها خبر ما سألوا عنه، فيقال: إنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عنّى حتى سؤت ظنّا؛ فقال له جبريل:

ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف مما سألوه عنه

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) «1» . ذكر ما اشتملت عليه سورة الكهف ممّا سألوه عنه قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله تعالى: افتتح الله عزّ وجلّ السورة بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) يعنى محمدا. قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) أى معتدلا لا اختلاف فيه. قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أى عاجل عقوبته فى الدنيا وعذابا أليما فى الآخرة. قوله: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أى دار الخلد لا يموتون فيها، الّذين صدّقوك بما جئت به ممّا كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم من الأعمال. قوله: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) يعنى قريشا فى قولهم: إنّا نعبد الملائكة وهى بنات الله. قوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) الّذين أعظموا فراقهم «2» . قوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله. قوله: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) أى مهلك نفسك لحزنه صلى الله عليه وسلم عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم، أى لا تفعل. قوله: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أى أيّهم أتبع لأمرى، وأعمل لطاعتى. قوله: (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) «3» أى الأرض،

وإنّ ما عليها لفان وزائل، ولكن المرجع إلىّ فأجزى كلّا بفعله، فلا تأس، ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. ثم استقبل القصّة فيما «1» سألوه عنه من شأن الفتية. فقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ، أى قد كان من آياتى فيما وضعت على العباد من حجتى «2» ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذى يرقم فيه بخبرهم، وجمعه رقم. ثم قال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) إلى قوله: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أى لم يشركوا بى كما أشركتم [بى «3» ] ما ليس لكم به علم. قال: والشّطط، الغلوّ «4» ومجاوزة الحق. قوله: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) ، أى بحجّة بالغة. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) إلى قوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) . قال ابن هشام: تزاور، تميل، وهو من الزّور، و (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) ، أى تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قوله: (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أى فى الحجّة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممّن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم فى صدق نبوّتك بتحقيق الخبر عنهم. قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) إلى قوله (بِالْوَصِيدِ) «5» الوصيد: الباب. قال عبيد «6» بن وهب العبسىّ منشدا: بأرض فلاة لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر

والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد ووصدان قوله: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) إلى قوله (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أهل الملك (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) . قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) إلى قوله: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) يعنى أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم، فانهم لا علم لهم بهم. قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ) إلى قوله (رَشَداً) أى لا تقولنّ لشىء سألوك عنه كما قلت فى هذا: إنى مخبركم غدا، واستثن بمشيئة الله (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) لخير مما سألتمونى عنه رشدا، فإنّك لا تدرى ما أنا صانع فى ذلك. قوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أى سيقولون ذلك. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أى لم يخف عليه شىء مما سألوا عنه، وقال الله عزّ وجل، فيما سألوه عنه من أمر الطّواف، وهو ذو القرنين: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) «1» الآيات، إلى آخر خبره. وقد ذكرنا قصة ذى القرنين فى الباب الأوّل من القسم الرابع من الفنّ الخامس من كتابنا هذا، وهى فى الجزء الثانى عشر «2» من هذه النسخة، ولا فائدة فى إعادتها. وقال تعالى فيما سألوه عنه من [أمر «3» ] الرّوح «4» : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «5» روى عن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال

ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى، وما سألوه لنفسه، وما قالوه له بعد ذلك

أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «1» إيّانا تريد أم قومك؟ قال: كلّا. قالوا: فإنّك تتلو فيما جاءك إنّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كلّ شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها فى علم الله قليل، وعندكم فى ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه» فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «2» ، أى أن التوراة فى هذا من علم الله قليل. ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطّع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى، وما سألوه لنفسه، وما قالوه له بعد ذلك أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم فيما سأله قومه لأنفسهم فيما قدّمنا ذكره؛ قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) «3» ، أى لا أصنع من ذلك إلّا ما شئت. وأنزل عليه فى قولهم: خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه قوله تعالى: (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) «4» . (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) «5» ، أى من أن تمشى فى الأسواق

وتلتمس المعاش (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) . وأنزل عليه فى ذلك: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) «1» ، أى جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى ولا يخالفوا لفعلت. وأنزل عليه فيما قال عبد الله بن أميّة: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «2» ) ، وأنزل عليه فى قولهم: إنّا قد بلغنا [أنك «3» ] إنّما يعلّمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا؛ قوله تعالى: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) . «4» . وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما همز به قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) «5» إلى آخر السورة. قال ابن هشام: لنسفعن: لنجذبنّ ولنأخذنّ. والنادى: المجلس الذى يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم، وجمعه أندية. يقول: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) «6» أى أهل ناديه، كما قال تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) «7» أى أهل القرية. وأنزل عليه فيما عرضوه عليه من أموالهم: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) «8»

ذكر ما كان من عناد قريش بعد ذلك وعقودهم

ذكر ما كان من عناد قريش بعد ذلك وعقودهم «1» قال: فلمّا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحقّ، وعرفوا صدقه فيما حدّث، وموقع نبوّته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عمّا سألوه عتوا على الله واستمرّوا فى طغيانهم وعلى كفرهم، فقال قائلهم: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) «2» فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم. فقال أبو جهل يوما- وهو يهزأ برسول الله وما جاء به من الحقّ-: يا معشر قريش، يزعم محمد أنّما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا [وكثرة «3» ] ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم. فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) «4» إلى آخر القصّة. قال: ولمّا قال بعضهم لبعض: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو فى صلاته يتفرّقون عنه، ويأبون أن يسمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلّى استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنّهم قد عرفوا به أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم أن يستمع؛ وإن خفض صلى الله عليه وسلم صوته ظنّ الّذى يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته؛ وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه، فأنزل الله تعالى قوله:

ذكر أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) «1» يقول: لا تجهر بصلاتك فيفرّوا «2» عنك، ولا تخافت بها، فلا يسمعها من يحبّ أن يسمعها ممّن يسترقها دونهم لعلّه يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به. ذكر أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم روى عن عروة بن الزّبير عن أبيه قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود. قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ «3» من رجل يسمعهموه. فقال عبد الله بن مسعود: أنا؛ قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعونى، إن الله سمينعنى؛ قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى وقت الضّحى وقريش فى أنديتها، ثم قال رافعا صوته: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) «4» ثم استقبلها يقرؤها، وتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمّ عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمّد؛ فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى «5» وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا بوجهه، فقالوا: هذا الذى خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون علىّ منهم الآن، وإن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا؛ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون. والله الموفّق.

ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش وعذابهم ليفتنوهم عن دينهم

ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قريش وعذابهم ليفتنوهم عن دينهم قال محمّد بن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذّبونهم بالضّرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكّة إذا اشتد الحرّ؛ من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن «1» من شدّة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يعصمه الله، فكان بلال بن رباح «2» مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما لبعض بنى جمح مولّدا من مولّديهم، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، فكان أميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظّهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكّة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللّات والعزّى؛ فيقول- وهو فى ذلك البلاء- أحد أحد، فكان ورقة بن نوفل يمرّ به وهو يعذّب بذلك وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال؛ ثم يقبل على أميّة بن خلف وهو يصنع به ذلك فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنّه حنانا «3» ؛ حتى مرّ به أبو بكر الصديق رضى الله عنه يوما وهم يصنعون به ذلك، فقال لأميّة: ألا تتقى الله فى هذا المسكين، حتّى متى! فقال: أنت أفسدته فأنقذه ممّا ترى. قال: أفعل، عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت؛ قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر

غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ستّ رقاب؛ وهم عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأحدا «1» ، وأمّ عميس «2» ، وزنّيرة- وكانت روميّة لبنى عبد الدار- فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلّا اللّات والعزّى، وما ينفعان. فردّ الله إليها بصرها؛ وأعتق النهديّة وابنتها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدّار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيّدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا؛ فقال أبو بكر: حلّ «3» يا أم فلان؛ فقالت: حلّ أنت؛ أفسدتهما فاعتقهما، قال فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا؛ قال: أخذتهما وهما حرّتان، ارجعا إليها طحينها؛ قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردّه إليها؛ قال: وذاك إن شئتما. ومرّ بجارية من بنى مؤمّل (حىّ من بنى عدىّ بن كعب) - وكانت مسلمة- وكان عمر يعذّبها لتترك الإسلام، وعمر يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا ملّ قال: إنى أعتذر إليك، لم أتركك إلّا ملالة، فيقول: كذا يفعل الله بك. فآبتاعها فأعتقها؛ فقال أبو قحافة لأبى بكر: يا بنىّ، أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنّك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؛ فقال أبو بكر: يا أبت إنّى إنما أريد لله عزّ وجلّ ما أريد؛ فيقال: إنّ هذه الآيات أنزلت فيه رضى الله عنه قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) إلى قوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضى) «4» . قال محمد بن إسحاق: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمّه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظّهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة، فيمرّ بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنّة» ،

فأما أمّه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام «1» . قال أبو عمر: وهى سميّة، كانت أمة لأبى حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فزوّجها من حليفه ياسر بن عامر بن مالك العبسى، فولدت له عمّارا، فأعتقه أبو حذيفة. وسميّة هذه أوّل شهيدة فى الإسلام. وجاءها أبو جهل بحربة فى قبلها فقتلها، فقال عمّار: يا رسول الله، بلغ منا- أو بلغ منها كلّ مبلغ- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبرا يا أبا اليقظان، اللهم لا تعذّب أحدا من آل «2» ياسر بالنار» . قال ابن إسحاق: وكان أبو جهل هو الذى يغرى بهم فى رجال قريش إذا سمع برجل قد أسلم، فإن كان له شرف ومنعة أنّبه وخزّاه: فيقول: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفّهن حلمك ولنفيّلنّ «3» رأيك، ولنضعنّ شرفك؛ وإن كان تاجرا، قال: والله لنكسدنّ «4» تجارتك، ولنهلكنّ مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به. وروى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس رضى الله عنهم: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه؛ حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضرّ الذى به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللّات والعزّى إلهان من دون الله، فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمرّ بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم ممّا يبلغون من جهده. والله المعين.

ذكر هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى

ذكر هجرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحبشة، وهى الهجرة الأولى قال محمد بن إسحاق: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله تعالى ومن عمّه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد- وهى أرض صدق- حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك من خرج منهم مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة كانت فى الإسلام. قال الواقدىّ: خرجوا متسلّلين سرّا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة «1» منهم الراكب والماشى، ووفّق الله لهم ساعة جاءوا سفينتين للتجّار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم فى نصف رجب من السنة الخامسة من حين تنّبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرجت قريش فى آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوهم. قال ابن إسحاق. كان أوّل من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس عثمان بن عفان معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بنى عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة، معه امرأته سهلة ابنة سهيل، ولدت بأرض الحبشة محمد بن [أبى «2» ] حذيفة. ومن بنى أسد بن عبد العزّى: الزبير بن العوّام. ومن بنى عبد الدار: مصعب بن عمير بن هاشم. ومن بنى زهرة بن كلاب:

ذكر رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكة، وما قيل فى سبب رجوعهم

عبد الرحمن بن عوف. ومن بنى مخزوم: أبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة. ومن بنى جمح: عثمان بن مظعون بن حبيب. ومن بنى عدىّ بن كعب: عامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم؛ ومن بنى عامر بن لؤىّ: أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى «1» ؛ ومن بنى الحارث ابن فهر: سهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة. قال: هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، وكان عليهم عثمان بن مظعون. وزاد الواقدىّ: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، فجعلهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة. قال: فقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار «2» ، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه. والله أعلم. ذكر رجوع أهل هذه الهجرة إلى مكّة، وما قيل فى سبب رجوعهم قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه: لمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قومه كفّا عنه، جلس خاليا، فتمنّى فقال: ليته لا ينزل علىّ شىء ينفّرهم عنى، وقارب رسول الله صلى الله [عليه وسلم «3» ] قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) «4» حتى بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) «5» . ألقى الشيطان على لسانه كلمتين: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» ولما بلغ «الغرانيق العلا» ، وفى أخرى: «والغرانقة «6» العلا، تلك الشفاعة ترتجى»

قال الواقدىّ: فتكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهما «1» ، ثم مضى فقرأ السورة كلّها، وسجد وسجد القوم جميعا، ورفع المغيرة بن الوليد ترابا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. ويقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابا فسجد عليه، ورفعه إلى جبهته- وكان شيخا كبيرا- فرضوا بما تكلّم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فأمّا إذ جعلت لها نصيبا عندك فنحن «2» معك، فكبر ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قولهم حتى «3» جلس فى البيت فلمّا أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة، فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قلت على الله ما لم يقل» . فأوحى الله إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) ، إلى قوله: (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) . وقال: ففشت تلك السّجدة فى الناس حتى بلغت أرض الحبشة، فبلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل مكّة قد سجدوا فأسلموا، حتى إن الوليد ابن المغيرة وأبا أحيحة قد سجدا خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال القوم: فمن بقى بمكّة إذا أسلم هؤلاء! قالوا: عشائرنا أحبّ إلينا؛ فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة، فسألو لهم عن قريش

ذكر ما ورد فى توهين هذا الحديث والكلام عليه فى التوهين والتسليم

وعن حالهم، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير، فتابعه الملأ، ثم ارتدّ عنها، فعاد يشتم آلهتهم، وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم فى الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا، ندخل فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع. قال: فدخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيرا، ثم رجع إلى أرض الحبشة. قال الواقدىّ: فكان خروجهم فى شهر رجب سنة خمس (يريد من النبوّة «1» ) ، فأقاموا شعبان ورمضان وقدموا فى شوال من السنة. وحيث ذكرنا هذا الحديث فلنذكر ما جاء فى توهينه. ذكر ما ورد فى توهين هذا الحديث والكلام عليه فى التوهين والتسليم قال القاضى عياض بن موسى بن عياض رحمه الله، فى كتابه المترجم (بالشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلى الله عليه وسلم: اعلم أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما فى توهين أصله، والثانى [على «2» ] تسليمه. أمّا المأخذ الأوّل فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه فى الصلاة، وآخر يقول قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة؛ وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها؛ وآخر يقول: إن الشيطان قالها على

لسانه، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «والله ما هكذا أنزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية «1» ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما فيما أحسب- الشك فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان بمكة- وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا تعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبىّ، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبّه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه. وأما حديث الكلبىّ فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار البزار إليه، قال: والذى منه فى الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ) وهو بمكة، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. هذا توهينه من طريق النقل، والله أعلم بالصواب. وأما جهة المعنى: فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرّذيلة. أما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى

يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أنّ من القرآن ما ليس منه، حتى ينبّهه جبريل عليهما السلام، وذلك كله ممتنع فى حقّه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا- وذلك كفر- أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله، وقد تقرر بالبرهان والإجماع عصمته عليه السلام من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقوّل على الله؛ لا عمدا ولا سهوا «1» ، وقد قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) «2» الآية، وقال: (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) «3» الآية. ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام «4» ، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم؛ ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك- وهذا لا يخفى على أدنى متأمل- فكيف بمن رجح حلمه، واتّسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأقل شبهة؛ ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصّولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا فى قصة الإسراء وقصة القضية «5» ، ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت،

ولا تشغيب «1» للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت؛ فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة؛ فدل على بطلها، واجتثاث أصلها. قال القاضى عياض: ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين. ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) الآيتين، وهاتان الآيتان ترددان الخبر الذى رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمونه هذا. ومفهومه أن الله عصمه من أن يفترى، وثبّته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا! وهم يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه السلام: «افتريت على الله وقلت ما لم يقل» ؛ وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعّف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له!، وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كل ما فى القرآن كاد فهو ما لا يكون، قال الله تعالى: (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) «2» ، ولم يذهب. قال القاضى القشيرىّ «3» : ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كان ليفعل صلى الله عليه وسلم. وأما المأخذ الثانى- وهو مبنىّ على تسليم الحديث لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته- فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ذكرها القاضى عياض «4» وضعّف بعضها، واستحسن بعضا، نذكر منها ما استحسنه وجوّزه إن شاء الله.

منها ما ذكره القاضى أبو بكر فى أجوبته عن هذا الحديث، قال: لعل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك أثناء تلاوته؛ على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، لقول إبراهيم عليه السلام: (هذا رَبِّي) «1» على أحد التأويلات، يريد: أهذا ربّى؟! ولقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) «2» بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته، وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. قال القاضى عياض: ولا يعترض على هذا بما روى أنه كان فى الصلاة، فقد كان الكلام فيها قبل [غير «3» ] ممنوع، قال: والذى يظهر ويترجح فى تأويله عند القاضى أبى بكر، وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربّه يرتّل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآى تفصيلا فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله تعالى، وتحقّقهم من حال النبى صلى الله عليه وسلم فى ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف منه. وقد حكى موسى بن عقبة فى مغازيه نحو هذا، وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك فى أسماع المشركين وقلوبهم. قال القاضى عياض: ويكون ما روى من حزن النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وقد قال الله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) «1» الآية، فمعنى (تمنى) تلا، قال الله تعالى: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) «2» أى تلاوة، وقوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) «3» أى يذهبه ويزيل اللبس به، ويحكم آياته، قال: ومما يظهر فى تأويله أيضا أن مجاهدا روى هذه القصة: «والغرانقة العلا» . فإن سلمنا القصة قلنا: لا يبعد أنّ هذا كان قرآنا، والمراد بالغرانقة العلا، وأن شفاعتهنّ لترتجى: الملائكة على هذه الرواية، وبهذا فسر الكلبىّ الغرانقة أنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم وردّ عليهم فى هذه السورة بقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) «4» ، فأنكر الله كل هذا من قولهم؛ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح، فلما تأوّله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك، وزينه فى قلوبهم، وألقاه إليهم؛ نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما للتلبيس سبيلا، كما نسخ كثيرا من القرآن ورفعت تلاوته. قال: وكان فى إنزال الله تعالى لذلك حكمة، وفى نسخه حكمة، ليضلّ به من يشاء، ويهدى من يشاء وما يضل به إلا الفاسقين، و (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) «5» . وقيل: إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة [وبلغ إلى ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفار أن يأتى بشىء من ذمّها، فسبقوا

ذكر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة ومن هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلى «1» ] مدحها بتلك الكلمتين؛ ليخلطوا تلاوة النبىّ صلى الله عليه وسلم ويشغبوا عليه على عادتهم، وقولهم: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) «2» ، ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه، وأشاعوا ذلك وأذاعوه، وأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه، فسلّاه الله تعالى بقوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) * «3» الآية، وبين للناس الحقّ من ذلك من الباطل، وحفظ القرآن وأحكم آياته، ودفع ما لبّس به العدوّ؛ كما ضمنه الله تعالى من قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «4» الآية، هذا ما ورد فى الجواب عن هذا الحديث. فلنرجع إلى تتمة أخباره وسيره صلى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. ذكر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة ومن هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدىّ: لما قدم أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم من الهجرة الأولى اشتدّ عليهم قومهم، ونيطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذى شديدا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله؛ فهجرتنا الأولى، وهذه الآخرة إلى النجاشىّ ولست معنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم مهاجرون إلى الله وإلىّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله. قال ابن سعد: وكان عدّة من خرج فى هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانون ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع غرائب. وقد عدّهم أبو محمد عبد الملك بن هشام حسبما رواه عن محمد بن إسحاق بن يسار- رحمهم الله تعالى-

فلم يزد على ذلك. وأورد أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ رحمه الله فى كتاب (الاستيعاب) ؛ فى تراجم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم؛ أنهم ممن هاجروا إلى أرض الحبشة ممن لم يذكرهم ابن هشام، نحن نذكرهم إن شاء الله تعالى وننبّه عليهم. قال ابن هشام: كان منهم من بنى هاشم بن عبد مناف، جعفر بن أبى طالب معه امرأته أسماء بنت عميس «1» ولدت بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر، ومن بنى أميّة بن عبد شمس عثمان بن عفان رضى الله عنه، معه امرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة، معه امرأته فاطمة بنت صفوان، وأخوه خالد بن سعيد، معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعية، ويقال فيها همينة، ولدت بأرض الحبشة سعد» بن خالد، وآمنة بنت خالد. ومن حلفائهم من بنى أسد بن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب؛ وأخوه عبيد الله ابن جحش، معه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب. وذكر أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن جحش أنه هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه أبى أحمد وعبد الله، فعلى هذا يكون أبو أحمد ممن هاجر إلى الحبشة؛ واسمه عبد بن جحش، وكان أعمى، وعدّ أيضا محمد بن عبد الله بن جحش أنه هاجر مع أبيه وكان صغيرا. قال ابن هشام: وقيس بن عبد الله رجل من بنى أسد بن خزيمة، معه امرأته بركة بنت يسار [مولاة «3» ] أبى سفيان بن حرب، ومعيقيب بن أبى فاطمة؛ [وهؤلاء «4» ] آل سعيد بن العاص.

ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. قال أبو عمر: معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ولدت له هناك محمد بن أبى حذيفة. قال ابن هشام: وأبو موسى الأشعرىّ واسمه عبد الله ابن قيس. قال أبو عمر فى ترجمة عبد الله بن قيس: الصحيح «1» أن أبا موسى رجع بعد قدومه مكة، ومحالفته من حالف من بنى عبد شمس إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلا فى سفينة، فألقتهم الريح إلى النجاشى بأرض الحبشة فوافقوا خروج جعفر وأصحابه منها، فأتوا معهم، وقدمت السفينتان معا: سفينة الأشعريين، وسفينة جعفر وأصحابه. والله تعالى أعلم بالصواب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان حليف لهم من بنى مازن؛ ومن بنى زمعة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن الحارث مات بالحبشة. قال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خالد بن حزام بن خويلد بن أسد «2» : إنه هاجر إلى أرض الحبشة فى المرّة الثانية، فنهشته حيّة، فمات فى الطريق قبل وصوله. والله المستعان وإليه المردّ. ومن بنى عبد [الدار «3» ] بن قصىّ مصعب: بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط «4» بن سعد بن حريملة «5» بن مالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار، وجهم بن قيس بن عبد بن شرحبيل بن هاشم بن عبد الدار معه امرأته [أمّ «6» ] حرملة بنت عبد بن الأسود الخزاعية- ويقال: حريملة- وابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم؛ وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف؛

ابن عبد الدار بن قصى أخو مصعب، وفراس بن النضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار. وقال أبو عمر فى ترجمة أبى بكر «1» : مولى لبنى عبد الدار؛ قال يقال: إنه من الأزد كان ممن عذب فى الله فلم يزل كذلك حتى كانت الهجرة الثانية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن أبى وقّاص، وأبو وقاص مالك بن وهيب، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف، معه امرأته رملة بنت أبى عوف، ولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن المطلب. قال أبو عمر بن عبد البر: وطليب بن أزهر بن عبد عوف وأخوه المطلب، هاجر مع أخيه إلى أرض الحبشة وبها ماتا جميعا. قال ابن هشام: ومن حلفائهم من هذيل: عبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود. ومن بهراء المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وكان يقال له: المقداد بن الأسود ابن عبد يغوث بن عبد مناف بن زهرة، وذلك أنه كان تبنّاه فى الجاهلية وحالفه. حكاه ابن إسحاق. ومن بنى تميم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، معه امرأته ريطة بنت الحارث ابن جبيلة، ولدت له بأرض الحبشة موسى بن الحارث، وزينب بنت الحارث، وفاطمة بنت الحارث «2» ، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد بن هلال، معه امرأته أم سلمة هند بنت أبى أمية بن المغيرة، ولدت له بأرض الحبشة زينب، وشماسا واسمه عثمان بن عثمان بن الشريد، وهبّار بن سفيان بن عبد الأسد، وأخوه عبد الله بن سفيان، وهشام بن أبى حذيفة بن المغيرة، وسلمة بن هشام بن المغيرة

وعيّاش بن أبى ربيعة بن المغيرة. ومن حلفائهم معتّب بن عوف بن عامر- وهو الذى يقال له عيهامة- ونسبه أبو عمر فقال: معتب بن عوف بن عمر بن الفضل ابن عفيف بن كليب بن حبشية. قال ابن هشام، ويقال: حبشية بن سلول، وهو الذى يقال له: معتب بن حمراء، وعمّار بن ياسر. ذكره أبو عمر، وشك فيه ابن هشام. ومن بنى جمح عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون. قال أبو عمر: والسائب بن مظعون ممن هاجر إلى أرض الحبشة، وهو أخو عثمان لأبويه، حكاه عن العدوى. قال ابن هشام: وحاطب ابن الحرث بن معمر، معه امرأته فاطمة بنت المجلّل بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، وقيل ولدا هناك، وأخوه حطاب «1» بن الحارث، معه امرأته فكيهة بنت يسار، وقيل: ولدت له ابنه محمدا هناك؛ وسفيان بن معمر بن حبيب معه ابناه: جابر وجنادة، ومعه امرأته أمهما حسنة، وابنها شرحبيل بن حسنة، وهو شرحبيل بن عبد الله أحد بنى الغوث بن مرّ، وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: هو شرحبيل بن عبد الله من بنى جمح، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب ابن حذافة بن جمح. قال الواقدى: ونبيه بن عثمان بن ربيعة. والله أعلم. ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص: خنيس بن حذافة، وعبد الله ابن الحارث، وهشام بن العاص بن وائل، وقيس بن حذافة، وأبو قيس بن الحارث ابن قيس، وعبد الله بن حذافة بن قيس، والحارث بن الحارث بن قيس، ومعمر ابن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم، يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب

ابن الحارث بن قيس. وقال أبو عمر: وتميم بن الحارث بن قيس، والحارث ابن قيس بن عدىّ، وهو والد بشر والحارث، وعمير بن رئاب بن حذيفة، ومحمية ابن جزء «1» حليف لهم من زبيد. ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة، وعروة بن عبد العزّى، وعدى بن نضلة وابنه النعمان، فمات عدىّ بالحبشة، فورثه ابنه النعمان، وهو أول وارث فى الإسلام، وعامر بن ربيعة حليف لآل الخطاب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة. ومن بنى عامر بن لؤى أبو سبرة بن أبى رهم بن عبد العزّى معه امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وسليط بن عمرو بن عبد شمس، وأخوه السكران بن عمرو، معه امرأته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة بن قيس معه امرأته عمرة بنت السعدىّ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسعد بن خولة حليف لهم من اليمن. ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وسهيل بن وهب وهو ابن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة، وعياض بن زهير بن أبى شداد، وعمرو بن الحارث بن زهير، وعثمان بن عبد غنم بن زهير، وسعد بن عبد قيس ابن لقيط بن عامر، والحارث بن عبد قيس بن لقيط. وقال أبو عمر بن عبد البر: إن عبد الله بن عرفطة بن عدىّ بن أمية بن خدارة بن عوف بن النجار بن الخزرج الأنصارىّ هاجر إلى أرض الحبشة مع جعفر بن أبى طالب، وهو حليف لبنى الحارث بن الخزرج، وذكره ابن منده «2» أيضا فجميع من هاجر على هذا الحكم

ذكر إرسال قريش إلى النجاشى فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وطلبهم منه وإسلامه

بما فيه من زيادات ابن عبد البرّ؛ خلا أبناءهم الذين خرجوا معهم صغارا، ومن ولد هناك اثنان وتسعون رجلا، وثمانى عشرة امرأة، والأبناء الصغار سبعة. والله أعلم. ذكر إرسال قريش إلى النجاشىّ فى شأن من هاجر إلى الحبشة، وطلبهم منه وإسلامه عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشىّ، [أمنّا «1» ] على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشىّ فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشىّ هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشىّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشىّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلّمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشى، ونحن عنده بخير دار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلّما النجاشىّ، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم، فقالوا: نعم، ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشىّ فقبلها، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد

ضوى «1» إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع إلى كلامهم النجاشىّ، فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فأسلمهم لهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم، قالت «2» : فغضب النجاشىّ وقال: لا ها الله! إذا لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى؛ حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم «3» ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا أجبتموه «4» ، قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا نبيّنا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشىّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله؛ سألهم فقال: ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى؛ ولا فى دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذى كلّمه جعفر بن أبى طالب فقال: أيها الملك، كنّا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام [ونأكل «5» ] الميتة، ونأنى الفواحش، ونقتطع «6» الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوىّ

منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة [و «1» ] الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدقناه، وآمنّا به واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا [ما «2» ] حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء، قال: نعم، قال: فاقرأه علىّ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) «3» ، قال: فبكى والله النجاشى حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلّت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فلا والله لا أسلّمهم إليكما، ولا يكادون. قالت: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبى ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم

عبد. قالت: ثم غدا عليه [من «1» ] الغد فقال: يأيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه، فأرسل إليهم فسألهم عنه. قالت أمّ سلمة: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟، قالوا: نقول والله كما قال الله، وما جاءنا به نبينا؛ كائنا فى ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشىّ بيده إلى الأرض، ثم أخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ممّا قلت هذا العود. فناخرت «2» بطارقته من حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، والله أنتم شيوم بأرضى- والشّيوم: الآمنون- من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم! وما أحب أن لى دبرا من ذهب، وأنى آذيت رجلا منكم- والدّبر بلسان الحبشة الجبل- ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علىّ ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. قال الزهرىّ: فحدثت عروة بن الزبير حديث «3» أمّ سلمة قال: هل تدرى ما قوله: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ علىّ ملكى. فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» ؟ قلت: لا، قال: فإن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها حدثتنى

أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشىّ، وكان للنجاشىّ عمّ له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشىّ، وملّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنى عشر رجلا يتوارثون «1» ملكه من بعده، فغدوا على أبى النجاشىّ فقتلوه وملّكوا أخاه، فمكثو على ذلك حينا، ونشأ النجاشىّ مع عمه، وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه، قالت: والله لقد غلب «2» هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملّكه علينا قتلنا أجمعين، لقد عرف أننا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمّه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنّا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من دياركم، فخرجوا به إلى السوق؛ فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينته وانطلق به حتى إذا كانت العشاء من ذلك اليوم؛ هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزع الحبشة إلى ولده، فاذا هو محمّق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلّموا والله أن ملككم «3» الذى لا يقيم أمركم غيره للذى بعتم «4» غدوة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قال: فخرجوا فى طلبه، فأخذوه من الرجل الذى باعوه له، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير

الملّك وملكوه، فجاءهم التاجر الذى باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى، وإما أن أكلمه: فى ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئا، قال: فإذا والله أكلمه، قالوا: فدونك. فجاء فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم فى السوق بستمائة درهم، فأسلموا إلىّ غلامى، وأخذوا دراهمى، حتى إذا سرت بغلامى؛ أدركونى فأخذوه منّى، ومنعونى دراهمى، فقال لهم النجاشىّ: لتعطنّه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده؛ فليذهبن به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: «ما أخذ الله منّى الرشوة حين ردّ على ملكى، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فىّ فأطيع الناس فيه» . قال: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه، وعدله فى حكمه. قال ابن إسحاق، وحدثنى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشىّ: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعلها «1» فى قبائه عند المنكب الأيمن «2» ، وخرج إلى الحبشة وصفّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أنّ عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله فقال النجاشىّ ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى

ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه

صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشىّ صلى عليه، واستغفر له. وسنذكر إن شاء الله تعالى خبر إسلامه. ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعزّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو أبى جهل «1» بن هشام» . وعن سعيد بن المسيّب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب أو أبا جهل بن هشام قال: «اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك» فشدّ دينه بعمر، وعنه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب» . قال ابن إسحاق ومحمد بن سعد فى طبقاته: ليس بينهما تناف إلا فى مغايرة بعض الألفاظ، أو زيادة أوردها أحدهما دون الآخر، ونحن نورد ما يتعين إيراده منها. قالا: خرج عمر بن الخطاب متوشّحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا فى بيت عند الصفا، وهم قريب أربعين: من بين رجال ونساء «2» ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبى قحافة، وعلى بن أبى طالب فى رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمنّ خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله النّحّام، وهو رجل من قومه من بنى عدىّ بن كعب كان قد أسلم وهو يخفى إسلامه عن عمر، فقال: أين تريد يا عمرا؟ فقال:

أريد محمدا، هذا «1» الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك «2» يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا! فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذى أنت عليه؛ قال: أفلاك أدلك على العجب يا عمر؟ إنّ ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذى أنت عليه. قال ابن إسحاق: فقال له نعيم: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعند هما خبّاب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها: (طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خبّاب فى مخدع لهم- أو فى بعض البيت- وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها «3» ، فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة «4» التى سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما اتبعتما «5» محمدا على دينه. فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحقّ فى غير دينك! فوثب عمر على ختنه فبطش به ووطئه وطئا شديدا، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالا: نعم قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع

فارعوى «1» ، وقال [لأخته «2» ] : أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد- وكان عمر كاتبا- فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها «3» ، قال: لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها إليها، فطمعت فى إسلامه وقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها (طه) ، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب بن الأرتّ خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيّه، فإنى سمعته أمس يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» ، فالله الله يا عمر! فقال له عمر: فدلّنى على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشّحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب «4» ، فرآه وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، فقال حمزة: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ايذن له» فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة، فأخذ بحجزته- أو بمجمع ردائه- ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: «ما جاء بك يابن الخطاب؟، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة» . قال أنس بن مالك فى روايته: «حتى ينزل الله بك من الخزى

ما أنزل بالوليد بن المغيرة» . فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف بها أهل البيت أن عمر قد أسلم. قال محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته: أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار ابن الأرقم بعد أربعين أو نيّف وأربعين من رجال ونساء قد أسلموا قبله. وقال ابن المسيّب: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة. وعن عبد الله بن ثعلبة قال: أسلم عمر بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة. ويردّ هذه الأقوال أن إسلام عمر كان بعد الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة؛ وقد تظافرت الروايات أنّ أهل الهجرة كانوا أكثر من ثمانين رجلا، ولعل إسلامه وقع وفى مكة ممن أسلم هذه العدّة التى ذكرت؛ خلاف من هاجر إلى أرض الحبشة. والله أعلم. قال ابن إسحاق: حدّثنى نافع «1» عن ابن عمر رضى الله عنهم قال: لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أى قريش أنقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر «2» الجمحىّ، قال: فغدا عليه، قال عبد الله بن عمر: وغدوت معه أتبع أثره وأنظر ماذا يفعل

وأنا غلام أعقل «1» كلّ ما رأيت، حتى جاءه، فقال: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجرّ رداءه، واتبعه عمر واتبعت أبى، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم فى أنديتهم حول الكعبة- ألا إنّ ابن الخطاب قد صبأ «2» ، فيقول عمر من خلفه: كذبت، ولكنّى أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح- يعنى أعيا- وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله لو قد كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة «3» وقميص موشّى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بنى عدىّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا! خلّوا عن الرجل، قال: فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. قال: فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبه، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، جزاه الله خيرا؟ قال: ذاك العاص ابن وائل السّهمىّ، لا جزاه الله خيرا. قال عبد الله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلّى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا وصلّى عند الكعبة وصلينا معه. وقال: إن إسلام عمر كان فتحا، وإنّ هجرته كانت نصرا، وإنّ إمارته كانت رحمة.

ذكر تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب وانحياز بنى هاشم وبنى المطلب إلى أبى طالب ودخولهم فى شعبه

وعن صهيب بن سنان قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إلى الله علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به. وكان إسلام عمر فى ذى الحجة من السنة السادسة من النبوّة، وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب وانحياز بنى هاشم وبنى المطلب إلى أبى طالب ودخولهم فى شعبه قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل السّير: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا فيه أمنا وقرارا، وأن النجاشىّ قد أكرمهم، ومنع [من لجأ إليه «1» ] منهم، وأنّ عمر قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، وجعل الإسلام يفشو فى القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب؛ على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة، ثم تعاهدوا وتعاقدوا وتوافقوا على ذلك، ثم علّقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم. وكان كاتب الصحيفة «2» منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن

عبد الدار بن قصىّ، ويقال: عمه بغيض بن عامر، قاله الزبير وابن الكلبىّ؛- ويقال: النضر بن الحارث- فشلّت يده. قال محمد بن عمر بن واقد: وحصروا بنى هاشم فى شعب «1» أبى طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانحاز بنو المطلب إلى أبى طالب فى شعبه مع بنى هاشم، وخرج أبو لهب إلى قريش، وظاهر هم على بنى هاشم وبنى المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادّة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشّعب، فمن قريش من سرّه ذلك، ومنهم من ساءه، وقال: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة! فأقاموا فى الشّعب ثلاث سنين، ثم أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما فيها من جور وظلم، وبقى ما كان فيها من ذكر الله. قال: فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى طالب، فذكر ذلك أبو طالب لإخوته، وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفّار قريش: إن ابن أخى قد أخبرنى- ولم يكذبنى قطّ- أن الله سلّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقى فيها ما ذكر به الله، فإن كان ابن أخى صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا، فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها. فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط فى أيديهم، ونكسوا على رءوسهم. فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة. فقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع

أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشّعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببنى هاشم: فيهم مطعم بن عدىّ، وعدى بن قيس، وزمعة ابن الأسود، وأبو البخترىّ بن هشام، وزهير بن أبى أمية. ولبسوا السلاح؛ ثم خرجوا إلى بنى هاشم وبنى المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، وكان خروجهم من الشّعب فى السنة العاشرة من النبوّة، وقيل: كان مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى الشّعب سنتين. وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام، عن أبى عبد الله محمد بن إسحاق- رحمهم الله- فى سبب نقض الصحيفة غير ما قدّمناه مما حكاه محمد بن سعد عن الواقدىّ. قال ابن إسحاق بعد أن ذكر من شدّة ما لاقاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشّعب من الضائقة ما ذكر: ثم إنه قام فى نقض الصحيفة- التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب- نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو «1» بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤىّ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمّه، وكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف فى قومه، فكان يأتى بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب ليلا، وقد أوقره طعاما، حتى إذا أقبله فم الشّعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشّعب عليهم، ويأتى به قد أوقره برّا، فيفعل به مثل ذلك. قال: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة المخزومىّ- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير، وقد رضيت أنّا نأكل الطعام ونلبس

الثياب، وننكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبى الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها؛ قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا؛ قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدىّ فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا؛ قال: ويحك، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير، قال: ابغنا رابعا، قال: فذهب إلى أبى البخترىّ بن هشام فقال له نحوا مما قال لمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال زهير والمطعم وأنا معك، قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود ابن المطلب، فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم، فقال: وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمّى له القوم، فاتّعدوا خطم الحجون «1» ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أوّل من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل

ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة

- وكان فى ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشقّ! قال «1» زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت، قال أبو البخترىّ: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به، قال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها! وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان «2» - وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد- وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا «باسمك اللهم» . ثم حكى ابن هشام نحوا ممّا ذكره الواقدىّ من خبرها على ما قدّمناه، وأن أولئك الرهط الذين ذكرناهم صنعوا ما صنعوا مما ذكرناه بعد كلام أبى طالب. والله تعالى أعلم. ذكر من عاد من أرض الحبشة ممن هاجر إليها، وكيف دخلوا مكة قال ابن إسحاق رحمهما الله: وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلامهم كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا. فكان من قدم عليه مكة، منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا وأحدا، ومن حبس عنه حتى فاته ذلك. ومن مات منهم بمكة من بنى عبد شمس: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، معه امرأته سهلة بنت سهيل.

ومن حلفائهم عبد الله بن حجش بن رئاب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم. ومن بنى أسد بن عبد العزّى الزبير بن العوّام. ومن بنى عبد الدار مصعب بن عمير، وسويبط بن سعد. ومن بنى عبد [بن «1» ] قصىّ طليب بن عمير. ومن بنى زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن عمرو؛ حليف لهم، وعبد الله بن مسعود؛ حليف لهم. ومن بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد؛ معه امرأته أمّ سلمة، وشمّاس ابن عثمان، وسلمة بن هشام، حبسه عمه بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق «2» ، وعيّاش ابن أبى ربيعة بن المغيرة، ومن حلفائهم عمّار بن ياسر «3» ، ومعتّب بن عوف من خزاعة. ومن بنى جمح عثمان بن مظعون وابنه السائب بن عثمان، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون. ومن بنى سهم خنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل؛ حبس بمكة فلم يهاجر إلا بعد الخندق. ومن بنى عدىّ بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة. ومن بنى عامر بن لؤى عبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو. حبس بعد الهجرة، فلما كان يوم بدر انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله

عليه وسلم، وأبو سبرة بن أبى رهم، معه امرأته أمّ كلثوم «1» ، والسّكران بن عمرو معه امرأته سودة بنت زمعة؛ مات بمكة قبل الهجرة. ومن حلفائهم سعد بن خولة. ومن بنى الحارث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح، وعمرو ابن الحارث بن زهير، وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال. فجميع من قدم مكة ثلاثة وثلاثون رجلا، فكان من دخل منهم بجوار عثمان ابن مظعون دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح فى أمان من الوليد، قال: والله إنّ غدوّى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشّرك، وأصحابى «2» وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيبنى لنقص كبير فى نفسى، فمشى إلى الوليد ابن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمّتك، وقد رددت إليك جوارك؛ فقال له: يا بن أخى، لعله آذاك أحد من قومى، قال: لا، ولكنى أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فردّ علىّ جوارى علانية كما أجرتك علانية، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علىّ جوارى، قال: صدق، وجدته كريما وفىّ الجوار «3» ، ولكنى أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان. وأبو سلمة بن عبد الأسد دخل بجوار من أبى طالب بن عبد المطلب، فمشى إليه رجال من بنى مخزوم فقالوا: يا أبا طالب «4» ، منعت منا ابن أخيك محمدا؛ فمالك

ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، ومن قدم بعد ذلك ومن هلك منهم هناك

ولصاحبنا تمنعه منّا! قال: إنه استجار بى؛ وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون توثّبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد، فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. قال: وأقام بقيتهم بأرض الحبشة إلى سنة سبع من الهجرة، فقدموا بعد فتح خيبر، وقد رأينا أن نذكرهم فى هذا الموضع؛ لتكون أخبارهم متوالية. ذكر من قدم من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، ومن قدم بعد ذلك ومن هلك منهم هناك قال ابن إسحاق: كان من قدم منهم إلى خيبر فى سنة سبع من الهجرة مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى السفينتين ستة عشر رجلا، وهم من بنى هاشم بن عبد مناف: جعفر بن أبى طالب، معه امرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الله؛ ولد بأرض الحبشة. ومن بنى عبد شمس خالد بن سعيد بن العاص، معه امرأته أمينة بنت خلف، وابناه سعيد بن خالد، وأمة بنت خالد؛ ولدتهما بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد، ومعيقيب «1» بن أبى فاطمة، وأبو موسى الأشعرىّ؛ واسمه عبد الله بن قيس. ومن بنى أسد الأسود «2» بن نوفل بن خويلد.

ومن بنى عبد الدار [بن «1» ] قصىّ جهم بن قيس، معه ابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بنت جهم، وكانت معه امرأته أمّ حرملة بنت عبد الأسود؛ هلكت بأرض الحبشة. ومن بنى زهرة بن كلاب عامر بن أبى وقّاص، وعتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل. ومن بنى تيم بن مرّة الحارث بن خالد بن صخر، هلكت امرأته ريطة بالحبشة. ومن بنى جمح عثمان بن ربيعة بن أهبان. ومن بنى سهم محمية بن الجزء «2» حليف لهم من بنى زبيد. ومن بنى عدىّ بن كعب معمر بن عبد الله بن نضلة. ومن بنى عامر بن لؤىّ أبو حاطب بن عمرو، ومالك بن ربيعة: معه امرأته عمرة بنت السعدىّ. ومن بنى الحارث بن فهر الحارث بن [عبد «3» ] قيس بن لقيط، وحمل معهم نساء من نساء من هلك هناك. هؤلاء الذين قدموا مع جعفر فى السفينتين. وقدم بعد ذلك ستة وعشرون رجلا، وهم: من بنى أمية قيس بن عبد الله الأسدىّ، أسد خزيمة، حليف لهم.

وهلك بأرض الحبشة ممن هاجر إليها ثمانية، وهم:

ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، قتل يوم حنين شهيدا. ومن بنى عبد الدار: أبو الروم بن عمير، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بنى تيم بن مرة عمرو بن عثمان بن عمرو. ومن بنى مخزوم هبّار بن سفيان، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبى حذيفة ابن المغيرة. ومن بنى جمح سفيان بن معمر، وابناه جنادة وجابر، وأمّهما حسنة «1» ، وأخوهما لأبيهما شرحبيل بن حسنة. ومن بنى سهم قيس بن حذافة بن قيس، وأبو قيس بن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وأخ له من أمّه من بنى تميم يقال له: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والسائب بن الحارث بن قيس، وعمير بن رئاب، ابن حذيفة. ومن بنى عامر بن لؤىّ سليط بن عمرو. ومن بنى الحارث بن فهر عثمان بن عبد غنم، وسعيد «2» بن عبد قيس بن لقيط، وعياض بن زهير بن أبى شدّاد. وهلك بأرض الحبشة ممن هاجر إليها ثمانية، وهم: من بنى عبد شمس، من حلفائهم عبيد الله بن جحش بن رئاب، تنصّر ومات بأرض الحبشة نصرانيا، وكانت معه امرأته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش وما أنزل فيهم

ومن بنى أسد عمرو بن أمية بن الحارث. ومن بنى زهرة بن كلاب المطلب بن أزهر بن عوف، ومعه امرأته رملة بنت أبى عوف، فولدت له هناك عبد الله بن المطلب. ومن بنى جمح حاطب بن الحارث بن معمر، وكان معه امرأته فاطمة بنت المحلّل «1» بن عبد الله، وابناه محمد والحارث، فقدمت امرأته وابناه مع جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه فى أحد السفينتين، وأخوه خطاب بن الحارث، وكان معه امرأته فكيهة بنت يسار قدمت مع جعفر أيضا. ومن بنى سهم عبد الله بن الحارث بن قيس. ومن بنى عدىّ بن كعب عروة بن عبد العزّى بن حرثان، وكان مع عدىّ ابنه النعمان، فقدم مع من قدم من المسلمين. فهؤلاء الذين ذكرناهم هم الذين ذكرهم ابن إسحاق، وعدّهم أنهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، وحصر عدّتهم كما تقدّم. وأمّا من ذكرنا ممن ذكر أبو عمر يوسف بن عبد البرّ فى كتابه أنهم ممن هاجر إلى أرض الحبشة فلم نقف على تاريخ عودهم فنذكره. ذكر من أنزل فيه القرآن من مشركى قريش وما أنزل فيهم قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: ولمّا حمى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من قريش ومنعه منها، وقام عمه أبو طالب وقومه من بنى هاشم وبنى عبد المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، جعلت قريش يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، والقرآن ينزل فيهم، منهم من سماه الله تعالى، ومنهم من نزل فيه فى عامّة من ذكر الله من الكفار.

فكان من سمى ممن نزل فيه القرآن أبو لهب بن عبد المطلب، وامرأته أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب، فأنزل الله فيهما قوله: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) . قال: وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. [قال ابن إسحاق: فذكر لى أن أمّ جميل حمالة الحطب، حين سمعت ما أنزل فيها، وفى زوجها من القرآن أتت رسول الله «1» ] وهو جالس فى المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وفى يدها فهر «2» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إنى لشاعرة: مذمّما عصينا ... وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت. قال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عنى. وأمية بن خلف بن وهب الجمحىّ؛ كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله تعالى فيه قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، السورة كلها.

قال ابن هشام: الهمزة: الذى يشتم الرجل علانية، ويكسر عينه عليه ويغمز به. واللّمزة: الذى يعيب الناس سرّا ويؤذيهم. والعاص بن وائل السّهمىّ؛ كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . والكوثر: ماء هو خير من الدنيا وما فيها؛ وقيل: الكوثر: العظيم، وقيل: الخير الكثير. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر الذى أعطاك الله؟ فقال: نهر فى الجنة كما بين صنعاء إلى أيلة «1» ، آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا، وأنزل الله فيه قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) ، إلى قوله: (وَيَأْتِينا فَرْداً) «2» ، وكان سبب ذلك أن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نشأ بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل السّهمىّ سيوفا عملها له؛ حتى كان له عليه مال، فجاءه يتقاضاه، فقال: يا خبّاب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضّة أو ثياب أو خدم! قال خباب: يلى، قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة حتى أرجع إلى تلك الدار؛ فأقضيك هنالك حقّك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك آثر عند الله منى، ولا أعظم حظّا فى ذلك، فأنزل الله ذلك فيه.

وأبو جهل بن هشام؛ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: والله يا محمد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذى تعبده، فأنزل الله فى ذلك: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) «1» ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله. ولما ذكر الله شجرة الزّقوم تخويفا لهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزّقوم التى يخوّفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزّبد، والله لئن استمكنا منها لنزقمنها، فأنزل الله فيه: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) «2» ، أى ليس كما يقول. والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصىّ؛ كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فدعا فيه إلى الله، وتلا فيه القرآن، وحذّر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه فى مجلسه إذا قام فحدّثهم عن رستم وملوك الفرس وإسفنديار، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا منّى، وما حديثه إلا أساطير الأوّلين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه: (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) «3» . وأنزل فيه: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) * «4» . ونزل فيه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) «5» ، والأفّاك: الكذّاب.

قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النّضر بن الحارث حتى جلس معهما، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعرض له النّضر تكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) «1» ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبعرى السهمىّ حتى جلس، فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النّضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم! فقال عبد الله بن الزّبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسألوا محمدا: أكلّ ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان حضر معه فى المجلس من قول عبد الله، ورأوا أنه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلّ من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته» ، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) «2» ، أى عيسى بن مريم، وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله.

ونزل فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله قوله تعالى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، إلى قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) «1» . ونزل فيما ذكر من أمر عيسى عليه السلام أنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) «2» ، أى يصدّون عن أمرك، ثم ذكر عيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) «3» ، أى ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) «4» . والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ، حليف بنى زهرة، وكان من أشراف القوم، وممن يستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردّ عليه، فأنزل الله فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله: (زَنِيمٍ) «5» ، والزّنيم: العديد «6» للقوم. والوليد بن المغيرة قال: أينزل على محمد وأترك! وأنا لبيب قريش وسيّدها! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفىّ سيد ثقيف، ونحن «7» عظيما القريتين! فأنزل

الله تعالى فيه: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، إلى قوله: (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) «1» . وأبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وعقبة بن أبى معيط- وكانا متصافيين حسنا ما بينهما- فجلس عقبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيّا، فأتى عقبة فقال: ألم يبلغنى «2» أنك جالست محمدا وسمعت منه! ثم قال: وجهى من وجهك حرام أن أكلمك- واستغلظ من اليمين- إن أنت جلست أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل عدوّ الله عقبة بن أبى معيط، فأنزل الله فيهما: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) «3» . ومشى أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بعظم «4» ] بال قد ارفتّ «5» ؛ فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى «6» ؟ ثم فته بيده ونفخه فى الريح نحو النبى صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار» ، فأنزل الله تعالى فيه: (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) «7» .

ذكر خروج أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى الهجرة وعوده، وجواره ورده الجوار

واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب ابن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل- وكانوا ذوى أسنان فى قومهم- فقالوا: يا محمد؛ هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد؛ فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا كنا قد أخذنا بحظّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ... السورة. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبىّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس؛ ويرى معك! فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) «1» . والله المستعان. ذكر خروج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الهجرة وعوده، وجواره وردّه الجوار قال: وكان أبو بكر رضى الله عنه كما روى الزهرىّ عن عروة عن عائشة رضى الله عنها حين ضاقت عليه مكة، وأصابه فيها ما أصابه من الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار من

مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدّغنّة «1» ، ويقال فيه: الدّغينة- أخو بنى الحارث بن بكر ابن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنى المصطلق بن خزاعة، تحالفوا جميعا فسمّوا الأحابيش «2» للحلف- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا علىّ، قال: ولم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة؛ قام ابن الدّغنّة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضنّ له أحد إلا بخير؛ فكفّوا عنه. قال: وكان لأبى بكر مسجد على باب داره فى بنى جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا؛ إذا قرأ القرآن استبكى، فتقف عليه الصبيان والعبيد والنساء فيعجبون لما يرون من هيئته، فمشى من قريش إلى ابن الدّغنّة رجال فقالوا: إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرقّ، ونحن نتخوّف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدّغنّة إليه فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت به، وتأذّوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال: أو أردّ عليك جوارك، وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد علىّ جوارى، قال: قد رددته عليك، فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد ردّ علىّ جوارى فشأنكم بصاحبكم.

ذكر وفاة أبى طالب بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى أشراف قريش إليه فى مرضه، وما قالوه وأنزل فيهم

ذكر وفاة أبى طالب بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى أشراف قريش إليه فى مرضه، وما قالوه وأنزل فيهم كانت وفاة أبى طالب بعد نقض الصحيفة، وخروج بنى هاشم وبنى المطلب من الشّعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام. حكاه الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبوية. وقال محمد بن سعد: كان بينهما شهر وخمسة أيام «1» . قال «2» محمد بن إسحاق: لما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله، فمشى إليه أشراف قريش وهم: عقبه بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، وتخوّفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكفّ عنا ونكفّ عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه. فبعث إليه فجاءه فقال له: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمة «3» واحدة يملكون بها العرب، وتدين لهم بها العجم» فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات، فقال: «تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه» ، قال: فصفّقوا بأيديهم، وقالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؛ إن أمرك لعجب! ثم قال

بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل يعطيكم شيئا مما تريدون؛ فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرّقوا. فقال أبو طالب: والله ما رأيتك سألتهم شططا. قال: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «1» ، فجعل يقول له: «يا عمّ فأنت فقلها؛ أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة» ، قال: يا بن أخى لولا مخافة السّبّة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظنّ قريش أنى قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. قال ابن عباس: فلما تقارب من أبى طالب الموت، نظر العباس إليه يحرّك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أسمع» ، ثم هلك أبو طالب. والذى ورد فى الصحيح: أن آخر ما سمع من أبى طالب؛ هو على دين عبد المطلب. قال ابن إسحاق: وأنزل الله فى الرهط الذين اجتمعوا إلى أبى طالب وقالوا ما قالوا، قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) «2» . قال: يريدون بالملّة الآخرة النصارى؛ لقولهم: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) «3» .

ذكر وفاة خديجة بنت خويلد زوج النبى صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها

ذكر وفاة خديجة بنت خويلد زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها كانت وفاة خديجة رضى الله عنها بعد وفاة أبى طالب كما تقدّم، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على ما صححه الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله فى مختصر السيرة النبويّة، قال: وبقيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحى خمس عشرة سنة، وبعده تسع سنين وثمانية أشهر، وهى أوّل من أسلم من النساء بلا خلاف، ولعلها أوّل من أسلم من الناس، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزير صدق. روى أن آدم عليه السلام قال: «إنى لسيد البشر يوم القيامة إلا رجل من ذريتى فضل علىّ باثنين؛ كانت زوجته عونا له، وكانت زوجتى عونا علىّ، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطانى» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» ، قالوا: والقصب هاهنا: اللؤلؤ. ودفنت خديجة بالحجون، ولم تكن شرعت الصلاة على الميت بعد. والله أعلم. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وعوده إلى مكة قال: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم تكن تناله فى حياة عمه. قال محمد بن سعد «1» : فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال: يا محمد، امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيّا فاصنعه، لا واللّات، لا يوصل إليك

حتى أموت. قال: وسبّ ابن الغيطلة النبىّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب فنال منه، فولّى وهو يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكنى أمنع ابن أخى أن يضام، حتى يمضى لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرّحم، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يذهب ويأتى، ولا يعترض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبى معيط، وأبو جهل ابن هشام إلى أبى لهب فقالا: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقالا «1» له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: «مع قومه» ، فخرج أبو لهب إليهما فقال: قد سألته فقال: «مع قومه» ، فقالا: يزعم أنه فى النار، فقالا: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟، فقال: «نعم، ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار» . فقال أبو لهب: والله لا برحت لك عدوّا أبدا، وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار، فاشتدّ عليه هو وسائر قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. قال محمد بن سعد: خرج ومعه زيد بن حارثة، وذلك فى ليال بقين من شوّال سنة عشر من حين النبوّة، فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمد، أخرج من بلدنا والحق بمجابك «2» من الأرض. وأغروا به سفهاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه. حتى لقد شجّ فى رأسه شجاجا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة.

وقال ابن إسحاق «1» : لما أغروا به سفهاءهم؛ لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط «2» لعتبة وشيبة ابنى ربيعة، فجلس فى ظل حبلة «3» ، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف، فتحركت له رحمتهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه فى هذا الطبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل حتى وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقال له: كلّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله» فأكل، فنظر عدّاس إليه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أىّ البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك» ؟. قال: نصرانىّ، وأنا رجل من أهل نينوى «4» ، فقال له: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى» ؟ فقال عدّاس: وما يدريك ما يونس؟ قال: «ذاك أخى، كان نبيا وأنا نبىّ» ، فأقبل عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه وقدميه ويديه، فقال أحد ابنى ربيعة لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدى، ما فى الأرض شىء خير من هذا العبد، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبىّ، قالا: ويحك يا عدّاس! لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة «5» أتاه جنّ نصيبين «6» ، على ما نذكر ذلك إن شاء

الله فى أخبار الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقف عليه هناك، وهو فى آخر وفادات العرب. قال: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» ، ثم انتهى إلى حراء، فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدىّ يقول: «أدخل فى جوارك» ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: تلبّسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإنى قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام مطعم بن عدىّ على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إنى قد أجرت محمدا؛ فلا يهجه أحد منكم، فانتهى صلى الله عليه وسلم إلى الرّكن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم وولده مطيفون به، فلذلك قال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى رثائه لمطعم من قصيدته: فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس، أبقى مجده اليوم مطعما «1» أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبّى مهلّ وأحرما وحكى محمد بن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف؛ والحليف لا يجير؛ فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بنى عامر «2» لا تجير على بنى كعب، فبعث إلى المطعم بن عدىّ فأجابه.

ذكر خبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى البيت المقدس، وخبر المعراج به صلى الله عليه وسلم

ذكر خبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى البيت المقدس، وخبر المعراج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا، وإلى سدرة المنتهى، وما شاهد فى ذلك من الكرامة والاصطفاء والمناجاة، وفرض الصلاة، وغير ذلك مما يراه من آيات ربّه الكبرى، صلّى الله عليه وسلم وخبر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح متفق على صحته بنص الكتاب والأحاديث الصحيحة. أما الكتاب العزيز، فقد قال الله عزّ وجل: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) «1» . وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) «2» . وأما الأحاديث الواردة فى ذلك فسنذكرها إن شاء الله تعالى. وكان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر.

وقال ابن سعد فى طبقاته عن عائشة وأمّ هانئ وابن عباس قالوا: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة من شعب أبى طالب [إلى بيت المقدس «1» ] . والله أعلم. والأحاديث الصحيحة بصحة الإسراء قد جاءت من طرق كثيرة، وقد رأينا أن نبدأ منها بأكملها وأجمعها، وهو حديث ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه، ثم نذكر زيادات عن غيره يتعين ذكرها. أما حديث ثابت البنانىّ «2» فهو مما رويناه بإسناد متصل عن مسلم بن الحجاج، قال حدّثنا شيبان بن فرّوخ، قال حدّثنا حماد بن سلمة، قال حدّثنا ثابت البنانىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه» . قال: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التى يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السّماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم صلى الله عليه وسلم، فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابنى الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما وسلم، فرحّبا بى ودعوا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة،

وذكر مثل الأوّل ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن، فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحّب بى ودعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فذكر مثله، فإذا أنا بهارون «1» فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى فرحّب بى، ودعا لى بخير، ثم عرج بى إلى السماء السابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها «2» كالقلال» . قال: «فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلىّ ما أوحى، ففرض علىّ خمسين صلاة فى كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمّتك لا يطيقون ذلك «3» ، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل» . قال: «فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب خفف عن أمّتى، فحطّ عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنى خمسا» ، قال «4» : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: «فلم أزل أراجع بين ربى تعالى، وبين موسى حتى قال: يا محمد، إنهنّ خمس صلوات، كل يوم وليلة بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها

كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» . قال: «فنزلت «1» حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه» . وروى يونس عن ابن شهاب عن أنس قال: كان أبو ذرّ يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج سقف بيتى «2» ، فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فذكر القصة. وروى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة الحديث بمثله، وفيه تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وخلاف فى ترتيب الأنبياء والسموات؛ وحديث ثابت عن أنس أتقن وأجود. وهذان الحديثان يدلان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شقّ جوفه عند الإسراء، وقد تقدم الخبر أنه شقّ جوفه وهو عند ظئره فى حال طفوليته، فيكون على هذا شقّ جوفه مرتين. والله أعلم بالصواب. ونقل عن الشيخ عبد القادر محمد بن أبى الحسن الصعبىّ فى مختصر السيرة له قال: روى أبو داود الطيالسىّ فى مسنده «3» ، قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال أخبرنى أبو عمران الجونىّ عن رجل عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو وخديجة شهرا، فوافق ذلك رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع: السلام عليكم، قالت: فظننت أنه فجئه الحقّ «4» ، فقال:

«أبشروا فإن السلام خير» ، ثم رأى يوما آخر جبريل عليه السلام على الشمس جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، قال: فبهتّ منه، قالت «1» : فانطلق يريد أهله، فإذا هو بجبريل عليه السلام بينه وبين الباب، قال: «فكلمنى حتى أنست به ثم وعدنى موعدا، فجئت لموعده، واحتبس علىّ جبريل، فلما أراد أن يرجع إذا هو وميكائيل عليهما السلام، فهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض، وبقى ميكائيل بين السماء والأرض» ، قال: «فأخذنى فسلقنى لحلاوة القفا «2» ، وشقّ عن بطنى، فأخرج منه ما شاء الله، ثم غسله فى طست من ذهب ثم أعاده، ثم كفانى كما يكفأ الإناء، ثم ختم فى ظهرى حتى وجدت مسّ الخاتم، ثم قال لى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ولم أقرأ كتابا قط، فأخذ بحلقى حتى أجهشت بالبكاء، ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) إلى قوله: (ما لَمْ يَعْلَمْ) » . قال: «فما نسيت بعد، فوزننى برجل فوزنته، ثم وزننى بآخر فوزنته، ثم وزننى بمائة، فقال ميكائيل: تبعته أمته وربّ الكعبة» . قال: «ثم جئت إلى منزلى، فما يلقانى حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله» . فيدل هذا الحديث على أنه شقّ جوفه أيضا عند الوحى، فيكون شقّ جوفه ثلاث مرات؛ مرة وهو عند ظئرة، ومرة عند الوحى فى أول النبوة، كما يقتضى هذا الحديث، ومرة ثالثة عند الإسراء؛ كما روى عن أبى ذرّ، ومالك بن صعصعة. والله أعلم.

وإنما أوردنا حديث الطيالسىّ فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، لأن موضعه يصلح أن يكون عند ذكر حديث المبعث، وقد أثبتنا هناك الأحاديث الصحيحة؛ فلنرجع إلى ما نحن فيه من حديث الإسراء. وأمّا ما ورد فى الأحاديث الأخر من الروايات التى يتعين ذكرها: فمنها حديث ابن شهاب وفيه قول كل نبىّ: «مرحبا بالنبىّ الصالح، والأخ الصالح إلا آدم وإبراهيم فقالا له: والابن الصالح» . وفيه من طريق ابن عباس رضى الله عنهما: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» . وعن أنس: «ثم انطلق بى حتى أتيت سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لم أدر ما هى» ، قال: «ثم أدخلت الجنة» «1» . وفى حديث مالك بن صعصعة: «فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى ما يبكيك؟ قال: ربّ، هذا غلام بعثته بعدى، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتى» . وفى حديث أبى هريرة: «وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة فأممتهم فقال قائل: يا محمد، هذا مالك خازن النار فسلّم عليه، فالتفت «2» فبدأنى بالسلام» . وفى حديث أبى هريرة: «ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة وصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة، قالوا: يا جبريل من هذا

معك؟، قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيّاه من أخ وخليفة! فنعم الأخ ونعم الخليفة! ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم» . وذكر كلام كل واحد منهم؛ وهم إبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان. ثم ذكر كلام النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: وإن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: «كلكم أثنى على ربه، وأنا أثنى على ربى؛ الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى فاتحا وخاتما» . فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء؛ نحو ما تقدم. وفى حديث ابن مسعود: «وانتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة؛ إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط «1» من فوقها فيقبض [منها «2» ] » . قال تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ، قال: فراش من ذهب. وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه، من طريق الربيع بن أنس: «فقيل لى: هذه سدرة المنتهى، ينتهى إليها كل أحد من أمتك خلا «3» على سبيلك» . وهى السّدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغيرّ طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى. وهى شجرة يسير الراكب فى ظلها سبعين عاما، وإن ورقة منها مظلّة الخلق. فغشيها نور، وغشيتها الملائكة.

قال: فهو قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ؛ فقال تبارك وتعالى له: «سل» ، فقال: «إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلّمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخّرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما؛ سخّرت له الجنّ والإنس والشياطين والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلّمت عيسى التوارة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، وأعذته وأمّه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل» . فقال «1» له ربّه: «قد اتخذتك حبيبا» فهو مكتوب فى التوراة: «محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك «2» إلى الناس كافة، وجعلت أمتك [هم «3» ] الأوّلون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلتك أوّل النبّيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثانى ولم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى، لم أعطها نبيّا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفى الرواية «4» الأخرى، قال: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمّته المقحمات «5» . وقال: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ؛ الآيتين. قيل: رأى جبريل فى صورته له ستمائة جناح. وفى حديث شريك: «أنه رأى موسى فى السابعة» قال: بتفضيل

كلام الله، قال: «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلم إلا الله، فقال موسى: لم أظن أن يرفع علىّ أحد» . وقد روى عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس. وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد ذات يوم إذ دخل علىّ جبريل عليه السلام فوكز بين كتفىّ، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكرى الطائر، فقعد فى واحدة، وقعدت فى الأخرى فنمت «1» حتى سدّت الخافقين، ولو شئت لمسست السماء، وأنا أقلّب طرفى، ونظرت جبريل كأنه حلس «2» لا طئ «3» ، فعرفت فضل علمه بالله علىّ؛ وفتح لى باب السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونى الحجاب وفرجه الدرّ والياقوت، ثم أوحى الله إلىّ ما شاء أن يوحى» . وذكر البزّار عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: لمّا أراد الله أن يعلّم رسوله الأذان جاءه جبريل بداية يقال لها البراق، فذهب يركبها، فاستصعبت عليه، فقال لها جبريل: أسكنى، فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم؛ فركبها حتى أتى بها إلى الحجاب الذى يلى الرحمن تعالى، فبينا هو كذلك إذ خرج ملك [من «4» ] الحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل، من هذا؟» . قال: والذى بعثك بالحقّ إنى لأقرب الخلق مكانا، وإنّ هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى؛ أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن

لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب: «صدق عبدى، أنا لا إله إلا أنا» . وذكر مثل هذه فى بقيّة الأذان، إلا أنه لم يذكر جوابا عن قوله: حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، وقال: ثم أخذ الملك بيد محمد فقدّمه، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح «1» . قال القاضى عياض بن موسى رحمه الله: ما فى هذا الحديث من ذكر الحجاب فهو فى حقّ المخلوق لا فى حقّ الخالق، فهم المحجوبون، والبارى جل اسمه منزّه عما يحجبه؛ إذ الحجب إنما تحيط بمقدّر محسوس «2» ، ولكنّ حجبه على أبصار خلقه وبصائرهم وإدراكاتهم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، كقوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) «3» . قال: فقوله فى هذا الحديث: «الحجاب» يجب أن يقال: إنه حجاب حجب به من ورائه من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته، وعجائب ملكوته وجبروته. ويدل عليه من الحديث قول جبريل عن الملك الذى خرج من ورائه: إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه، فدلّ [على «4» ] أن هذا الحجاب لم يختص بالذات. ويدل عليه قول كعب فى تفسيره: سدرة المنتهى، قال: إليها ينتهى علم الملائكة، وعندها يجدون أمر الله لا يجاوزها علمهم. قال: وأما قوله «الذى يلى الرحمن» ، فيحمل على حذف المضاف [أى «5» ] الذى يلى عرش الرحمن، أو أمرا ما من عظيم آياته، أو مبادئ حقائق معارفه مما هو أعلم به، كما قال تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) «6» أى أهلها.

ذكر من قال: إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة

وقوله: «فقيل من وراء الحجاب، صدق عبدى، أنا أكبر» فظاهره أنه سمع فى هذا الموطن كلام الله ولكن من وراء حجاب، كما قال تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) «1» [أى «2» ] وهو لا يراه؛ حجب بصره عن رؤيته، فإن صحّ القول بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد هذا أو قبله رفع الحجاب عن بصره حتى رآه. والله أعلم بالصواب. ذكر من قال: إن الإسراء كان بالجسد وفى اليقظة قد اختلف العلماء على ثلاث مقالات؛ فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام. وذهبت طائفة إلى أنّ الإسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح. والذى عليه الأكثرون- وقال به معظم السلف- أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة. قال القاضى عياض بن موسى بن عياض: وهذا هو الحق، وهو قول ابن عبّاس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبو هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حبّة البدرىّ، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج؛ وهو قول الطبرىّ، وابن حنبل، وغيرهما، وقد أبطلوا حجج من قال خلاف ذلك بأدلّة يطول علينا شرحها. قال القاضى عياض: والحقّ [من هذا «3» ] والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح فى القصة كلها، وعليه تدل الآية، وصحيح الأخبار والاعتبار-

ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل [إلا «1» ] عند الاستحالة، وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل: (بِعَبْدِهِ) - وقوله «2» : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) . ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أنّ خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته إلى ما ذكر فى الحديث من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس فى رواية أنس، أو فى السماء على ما روى غيره، وذكر مجىء جبريل له بالبراق، وخبر المعراج واستفتاح السماء، فيقال «3» : ومن معك؟ فيقول: محمد، ولقائه الأنبياء فيها، وخبرهم معه، وترحيبهم به، وشأنه فى فرض الصلاة ومراجعته مع موسى فى ذلك، وفى بعض هذه الأخبار: «فأخذ- يعنى جبريل- بيدى، فعرج بى إلى السماء» إلى قوله: «ثم عرج بى حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صوت «4» الأقلام؛ وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره» . قال ابن عباس رضى الله عنهما: هى رؤيا عين رآها النبى صلى الله عليه وسلم لا رؤيا منام، والآى فى ذلك كثيرة، والأدلة واضحة، فلا نطوّل بسردها، وفيما أوردناه منها فيما قدّمنا ذكره كفاية. والله أعلم.

ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ومناجاته له، وكلامه ودنوه وقربه من ربه عز وجل، ومن جوز ذلك ومن منعه، وما قيل فى مشكل حديث الدنو والقرب

ذكر ما ورد فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه تبارك وتعالى، ومناجاته له، وكلامه ودنوّه وقربه من ربّه عزّ وجلّ، ومن جوّز ذلك ومن منعه، وما قيل فى مشكل حديث الدّنوّ والقرب أما الرؤية فقد اختلف السلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربّه عزّ وجل، فأنكرته عائشة. روى عن مسروق أنه قال لعائشة رضى الله عنها: يا أمّ المؤمنين، هل رأى محمد ربّه؟ فقالت: لقد قف «1» شعرى مما قلت؛ ثلاث من حدّثك بهنّ فقد كذب، [من حدّثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب «2» ] ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) «3» الآية [ثم ذكر الحديث «4» ] . وقالت جماعة بقول عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود. ومثله عن أبى هريرة: إنما رأى جبريل، واختلف عنه. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته فى الدنيا [جماعة «5» ] من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رآه بعينه. وروى عطاء عنه: رآه بقلبه، وعن أبى العالية [عنه «6» ] رآه بفؤاده مرتين. وذكر ابن إسحاق: أن ابن عمر رضى الله عنهما أرسل إلى ابن عباس رضى الله عنهما يسأله: هل رأى محمد ربّه؟ قال: نعم، والأشهر [عنه «7» ] أنه رأى ربه بعينيه. وقال: إن الله اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمدا بالرؤية.

وحجته قوله: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) . وقال الماوردىّ: قيل إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد، فرآه محمّد مرتين، وكلّمه موسى مرتين. وحكى أبو الفتح الرازىّ، وأبو الليث السّمرقندىّ ذكرها «1» عن كعب. وروى عبد الله بن الحارث، قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أمّا نحن بنى هاشم فنقول: إنّ محمدا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إنّ الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلمه موسى، ورآه محمد بقلبه. وحكى السّمرقندىّ عن محمد بن كعب القرظىّ، وربيع بن أنس: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربى» - وذكر كلمة- فقال: «يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى» . الحديث. وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه، وحكاه أبو عمر الطّلمنكىّ عن عكرمة، وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم. وحكى النقّاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس، بعينه رآه رآه، حتى انقطع نفس أحمد. وقد اختلف فى تأويل الآية عن ابن عباس وعكرمة والحسن وابن مسعود، فحكى عن ابن مسعود، وعكرمة: رآه بقلبه. وعن الحسن وابن مسعود: رأى جبريل. وعن ابن عطاء فى قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) «2» ، قال: شرح صدره للرؤية، وشرح صدر موسى للكلام.

وقال أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعرىّ وجماعة من أصحابه: إنه رأى الله ببصره وعينى «1» رأسه وقال: كل آية أوتيها نبىّ من الأنبياء عليهم السلام فقد أوتى مثلها نبيّنا، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية. قال القاضى أبو الفضل عياض بن موسى رحمه الله: والحق الذى لا امتراء فيه أن رؤيته تعالى فى الدنيا جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها فى الدنيا سؤال موسى عليه السلام لها، ومحال أن يجهل نبىّ ما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذى لا يعلمه إلا من علّمه الله، فقال له الله تعالى: (لَنْ تَرانِي) أى لن تطيق ولا تحتمل رؤيتى، ثم ضرب له مثالا بما هو أقوى من نبيّه موسى وأثبت وهو الجبل. قال: وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته فى الدنيا، بل فيه جوازها على الجملة، وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة. قال: ولا حجة لمن يستدلّ على منعها بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لاختلاف التأويلات فى الآية، وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية، وعدم استحالتها على الجملة. وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، أى لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقد قيل: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) . وإنما يدركه المبصرون. قال: وكل هذه التأويلات لا تقتضى منع الرؤية ولا استحالتها، وحيث تتطرّق التأويلات وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع سبيل، وكذلك وجوب الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والقول بأنه رآه بعينه. فليس فيه قاطع أيضا ولا نصّ، إذ المعوّل فيه على آيتى النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع متواتر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.

وأما المناجاة والكلام والقرب والدنوّ وما جاء من الكلام على مشكل هذا الحديث؛ فقد اختلف فى الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقوله: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، وهل كان ذلك الوحى بواسطة أو بغير واسطة؟ فأكثر المفسرين على أن الموحى الله إلى جبريل، وجبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [فذكر عن «1» ] جعفر بن محمد الصادق، قال: أوحى الله إليه بلا واسطة. ونحوه عن الواسطى، وإليه ذهب بعض المتكلمين وحكوه عن ابن مسعود وابن عباس، وأنكره آخرون. وحكى النقاش عن ابن عباس عنه عليه السلام فى قوله تعالى: (دَنا فَتَدَلَّى) ، قال: «فارقنى جبريل، وانقطعت الأصوات عنى فسمعت كلام ربى، وهو يقول: ليهدأ روعك يا محمد، ادن ادن» . وقد تقدم ذكر حديث الأذان، وقول الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر. وقد احتجوا بقوله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) «2» ، فقالوا: هى ثلاثة أقسام؛ من وراء حجاب كتكليم موسى، وبإرسال الملائكة كحال جميع الأنبياء، وأكثر أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم، الثالث قوله: (وَحْياً) . قالوا: ولم يبق من تقسيم صور الكلام إلا المشافهة مع المشاهدة، وقد قيل: الوحى هنا ما يلقيه فى قلب النبىّ صلى الله عليه وسلم دون واسطة، وكلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن اختصه من أنبيائه جائز غير ممتنع. وأما قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فأكثر المفسرين أن الدنوّ والتدلّى منقسم ما بين محمد وجبريل عليهما السلام، أو مختص

بأحدهما من الاخر، أو من سدرة المنتهى. وقال ابن عباس: هو محمد دنا فتدلى من من ربه. وقيل: معنى دنا قرب، وتدلّى: زاد فى الفرب، وقيل: هما بمعنى واحد أى قرب. وحكى مكىّ والماوردىّ عن ابن عباس، هو الربّ دنا من محمد فتدلى إليه، أى أمره وحكمه. وحكى النقاش عن الحسن، قال: دنا من عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فقرب منه فأراه ما شاء أن يريه من قدرته وعظمته. قال وقال ابن عباس: هو مقدّم ومؤخر، تدلّى الرفرف «1» لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فجلس عليه، ثم رفع فدنا من ربه. وفى الصحيح عن أنس بن مالك: «عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه بما شاء، وأوحى إليه خمسين صلاة» . الحديث. وعن محمد بن كعب: هو محمد دنا من ربه، فكان قاب قوسين. وقال جعفر ابن محمد: أدناه ربه منه، حتى كان منه كقاب قوسين، قال جعفر: والدنوّ من الله لا حدّ له، ومن العباد بالحدود. وقال أيضا: انقطعت الكيفية عن الدنو، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوّه، ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه، وزال عن قلبه الشك والارتياب! وقد تكلموا على مشكل هذا الحديث، فقال القاضى عياض رحمه الله: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب هنا من الله وإلى الله فليس بدنوّ مكان ولا قرب مدى، بل كما ذكرنا «2» عن جعفر الصادق ليس بدنوّ حدّ، وإنما دنوّ النبىّ صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، ومن الله تعالى له مسرة وتأنيس، وبسط

ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك وما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وصفه لهم البيت المقدس، وإخباره لهم بخبر عيرهم، وارتداد من ارتد

وإكرام، ويتأوّل فيه ما يتأوّل فى قوله: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» على أحد الوجوه، نزول إفضال وإجمال، وقبول وإحسان. وقال الواسطى: من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمّ مسافة، بل كل ما دنا بنفسه من الحق تدلّى بعدا، يعنى عن درك حقيقته، إذ لا دنوّ للحقّ ولا بعد. وقوله: (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، فمن جعل الضمير عائدا إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحلّ، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفّى، وإنافة المنزلة والمرتبة من الله له، ويتأوّل [فيه «1» ] ما يتأوّل فى قوله: «من تقرّب منى شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» ، قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد أخذ الكلام فى هذا المعنى حقّه، فلنذكر ما كان بعد الإسراء [من «2» ] الأخبار. ذكر ما كان بعد الإسراء من إنكار قريش لذلك وما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من وصفه لهم البيت المقدّس، وإخباره لهم بخبر عيرهم، وارتداد من ارتدّ روى الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقى بسنده عن شدّاد بن أوس رضى الله عنه، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسرى بك؟ فذكر نحو ما تقدّم من خبر الإسراء، وفيه زيادة ونقص، قال: وفيه أن جبريل عليه السلام أنزله فصلى بيثرب، ثم صلى

بمدين عند شجرة موسى عليه السلام، ثم صلى ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم عليه السلام، ثم صلى فى المسجد الأقصى، وأنه صلى الله عليه وسلم مرّ بعير لقريش بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرا قد جمعه فلان، قال: «فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد» . قال: «ثم أتيت أصحابى قبل الصبح بمكة، فأتانى أبو بكر فقال: يا رسول الله، أين كنت الليلة فقد التمستك فى مظانّك؟ فقلت «1» : علمت أنّى أتيت بيت المقدس الليلة؟. فقال: يا رسول الله، مسيرة شهر! فصفه لى، قال: «ففتح لى صراط كأنى أنظر إليه، لا يسألنى عن شىء إلا أنبأته عنه» . فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبى كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة، فقال: «إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، ينزلون بكذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم «2» عليه مسح «3» أسود، وغرارتان سوداوان» وإنهم أشرفوا ينظرون. فأقبلت العير نصف النهار على ما وصف لهم صلى الله عليه وسلم. وفى رواية يونس بن بكير فى زيادة المغازى: أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى يجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» . فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولى النهار ولم تجئ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألونى عن أشياء

ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم

من بيت المقدس، لم أثبتها «1» فكربت كربا ما كربت مثله قطّ، فرفعه الله لى أنظر إليه ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح الناس يتحدّثون بذلك، فارتد ناس ممن آمنوا به وصدّقوه، وسعوا إلى أبى بكر فقالوا: هل لك فى صاحبك؟ يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل الصبح! قال: نعم، إنى لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى أبو بكر رضى الله عنه الصدّيق. ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبائل العرب فى المواسم قال محمد بن عمر بن واقد بسند يرفعه إلى غير واحد، قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أوّل نبوّته يدعو مستخفيا، ثم أعلن فى الرابعة، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين؛ يوافى المواسم كل عام يتبع الحاجّ فى منازلهم بعكاظ ومجنّة، وذى المجاز «2» يدعوهم؛ حتى بلّغ رسالة ربه تعالى، وأبو لهب يمشى وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، فيقول: «اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا» ، قال الواقدىّ: فكان من سمّى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة «3» ، وفزارة،

وغسّان «1» ، ومرّة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكّاء، وكندة، وكلب «2» ، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. قال محمد بن إسحاق: حدّثنى حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عبّاد يحدّث «3» أبى قال: إنّى لغلام شابّ مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: «يا بنى فلان، إنى رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بى وتصدّقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به» ، قال: وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان، عليه حلّة عدنيّة، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بنى فلان؛ إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجنّ من بنى مالك بن أقيش؛ «4» إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبى: يا أبت من هذا الرجل [الذى «5» ] يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب. قال ابن إسحاق: حدّثنى الزهرىّ أنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بنى عامر ابن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب،

ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف «1» نحورنا [للعرب دونك «2» ] ؛ فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه، فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنّ، حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون فى ذلك الموسم، فلما قدموا عليه فى ذلك العام، سألهم عما كان فى موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش؛ ثم أحد بنى عبد المطلب، يزعم أنه نبىّ يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بنى عامر، هل لها من تلاف! هل لذناباها من مطلب «3» ! والذى نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلىّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم. قال: وحدّثنى عاصم بن عمر «4» عن قتادة الأنصارى عن أشياخ من قومه قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف [مكة «5» ] حاجا أو معتمرا؛ وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل لجلده وشرفه ونسبه وشعره، فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك؟ قال: مجلة «6» لقمان (يعنى حكمة لقمان) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علىّ؛ فعرضها عليه، فقال: «إن هذا لكلام حسن،

لكن الذى معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله علىّ هو هدى ونور» . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إنّ هذا لقول حسن؛ ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قال: فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث «1» . قال ابن إسحاق أيضا: وحدّثنى الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد ابن معاذ عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من بنى الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاهم فجلس إليهم فقال: «هل لكم فى خير مما جئتم له» ؟، فقالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علىّ الكتاب» . قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال لهم إياس بن معاذ- وكان غلاما حدثا-: أى قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من [تراب «2» ] البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ؛ وقال: دعنا منك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة، فكان وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس ابن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرنى من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع. والله أعلم.

ذكر خبر مفروق بن عمرو وأصحابه وما أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دعائه قبائل العرب

ذكر خبر مفروق بن عمرو وأصحابه وما أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دعائه قبائل العرب روى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى بسنده عن عبد الله بن عباس، قال: حدّثنى «1» علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم من فيه، قال: لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر رضى الله عنه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدّم أبو بكر، وكان مقدّما فى كل خير، وكان رجلا نسابة، فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا من ربيعة، قال: وأى ربيعة أنتم؟ من هامها «2» أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى، [فقال أبو بكر: وأىّ هامتها العظمى «3» ] أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم عوف الذى يقال «4» [له] : «لا حرّ بوادى عوف» ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم جسّاس بن مرّة، حامى الذمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس، أبو اللواء، ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان «5» قاتل الملوك، وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف «6» صاحب العمامة الفردة، قالوا: لا؛ قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.

قال فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال أبو بكر: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم من ذهل الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بنى شيبان يقال له دغفل حين بقل «1» وجهه، فقال: إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا نعرفه أو نحمله يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟ قال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة، فمن أىّ القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرّامى من سواء الثّغرة، أمنكم قصىّ الذى جمع القبائل من فهر؟ فكان يدعى فى قريش مجمعا؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف «2» ؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذى كأنّ وجهه القمر يضىء فى الليلة الداجية؟ قال: لا، قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: لا، قال: فمن أهل الرّفادة أنت؟ قال: لا، واجتذب أبو بكر زمام ناقته راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام: صادف درّ السيل درءا «3» يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصرعه

أما والله لو شئت لأخبرتك من قريش، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علىّ: فقلت: يا أبا بكر؛ لقد وقعت من الأعراب على باقعة «1» ، قال: أجل يا أبا الحسن، «ما من طامّة إلا وفوقها طامّة» ، و «البلاء موكل بالمنطق» . قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدّم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بأبى وأمى هؤلاء غرر الناس! وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه «2» ، وكان أدنى القوم مجلسا، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جدّ؛ فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشدّ ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشدّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللّقاح «3» ، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلّك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا هو ذا، قال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، وإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر يظلّه بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تأوونى وتنصرونى، فإنّ قريشا قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنىّ الحميد» . فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما سمعت كلاما أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «1» ، فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، «2» فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك «3» قوم كذبوك وظاهروا «4» عليك- وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا. قال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنى أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أوّل ولا آخر، إنه زلل فى الرأى، وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الزلّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر فى العاقبة، وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنّى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنّى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا، ومشايعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين «5» : اليمامة والسّمامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصّيران» ؟. فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأمّا ما كان من أنهار كسرى؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره

ذكر بيعة العقبة الأولى

غير مقبول، وأما ما كان مما يلى مياه العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا؛ أنا لا نحدث حدثا، ولا نأوى محدثا، فإنى أرى أن هذا الأمر الذى تدعونا إليه يا أخا قريش مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نأويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلّا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثّكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبّحون الله وتقدّسونه» ؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) «1» ) ، ثم نهض قابضا على يد أبى بكر وهو يقول: «يا أبا بكر، أيّة أخلاق فى الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم من بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم» ، قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سرّ بما كان من أبى بكر، ومعرفته بأنسابهم. ذكر بيعة العقبة الأولى قال محمد بن إسحاق: فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [فى «2» ] الموسم الذى لقى فيه الأنصار «3» ، فعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم» ؟ قالوا:

نفر من الخزرج، قال: «أمن موالى يهود» ؟ قالوا: نعم، قال «1» : «أفلا تجلسون أكلمكم» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض [عليهم «2» ] الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان يهود معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم؛ فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم: إن نبيّا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلّموا والله أنه للنّبىّ الذى توعّد «3» به يهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فتقدم عليهم فتدعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدّقوا. قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى «4» : فاختلف علينا فى أوّل من أسلم من الأنصار وأجاب. فذكروا الرجل بعينه، وذكروا الرجلين، وذكروا أنه لم يكن أحد أوّل من الستة. وذكرهم. وقال محمد بن عمر بن واقد: هذا عندنا أثبت ما سمعنا فيهم، وهو المجمع عليه، وهم من بنى النجّار: أسعد بن زرارة بن عدس، وعوف بن الحارث [وهو «5» ] ابن عفراء. ومن بنى زريق: رافع بن مالك. ومن بنى سلمة بن سعد: قطبة

ذكر بيعة العقبة الثانية (وقد ترجم عليها بعضهم بالأولى)

ابن عامر بن حديدة. ومن بنى حرام بن كعب: عقبة بن عامر بن نابى. ومن بنى عبيد بن عدى بن ساعدة: جابر بن عبد الله؛ ولم يذكر ابن إسحاق غيرهم. قال: ثم قدموا المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسلم من أسلم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدى: وأوّل مسجد قرئ به القرآن بالمدينة مسجد بنى زريق. والله أعلم. ذكر بيعة العقبة الثانية (وقد ترجم عليها بعضهم بالأولى) قال: فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا. قال محمد بن سعد: ليس [فيهم «1» ] عندنا خلاف، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وكان من هؤلاء خمسة ممّن حضر البيعة الأولى من الستة المجمع عليهم، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر بن حديدة، ومنهم من وقع الاختلاف فيه: هل شهد البيعة الأولى أو لم يشهدها؟ وهم ستة نفر: معاذ بن الحارث [وهو «2» ] ابن عفراء، أخو عوف، وذكوان بن [عبد «3» ] قيس بن خلدة، وعبادة بن الصامت ابن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس. وممن لم يشهد البيعة الأولى بلا خلاف: العباس بن عبادة بن نضلة.

ذكر بيعة العقبة الثالثة وهم السبعون (وترجم عليها ابن سعد بالثانية)

روى محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء- وذلك قبل أن تفترض الحرب- على ألّا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه فى الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذب، وإن شاء غفر. قال: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم فى الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة. قال محمد بن سعد: ثم انصرفوا إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وكان أسعد ابن زرارة يجمّع «1» بالمدينة بمن أسلم، وروى أن مصعب كان يجمّع بهم. والله أعلم. ذكر بيعة العقبة الثالثة وهم السبعون (وترجم عليها ابن سعد بالثانية) قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى، عن محمد بن عمر بن واقد، بإسناد إلى عبادة بن الصامت، وسفيان بن أبى العوجاء، وقتادة، ويزيد بن رومان، قال الواقدى: دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما حضر الحج مشى أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا بعضهم إلى بعض يتواعدون المسير إلى الحج، وموافاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام يومئذ فاش بالمدينة، فخرجوا وهم سبعون يزيدون رجلا أو رجلين فى خمر «2» الأوس والخزرج،

وهم خمسمائة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فسلّموا عليه، ثم وعدهم منى، وسط أيام التشريق ليلة النّفر الأوّل؛ إذا هدأت الرّجل [أن» ] يوافوه فى الشّعب الأيمن إذا انحدروا من منى بأسفل «2» العقبة، وأمرهم ألّا ينبهوا نائما، ولا ينتظروا غائبا. قال: فخرج القوم بعد هدءة يتسلّلون، الرجل والرجلان، وقد سبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع، معه العباس بن عبد المطلب، ليس معه غيره. وقال محمد بن إسحاق: إنهم سبقوه إلى الشّعب وانتظروه، وهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدىّ، حتى أقبل ومعه عمّه العباس. قال ابن سعد: فكان أوّل من طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم: رافع ابن مالك الزّرقىّ، ثم توافى السبعون، ومعهم امرأتان، فكان أوّل من تكلم العباس ابن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، إنكم قد دعوتم محمدا إلى ما دعوتموه إليه، ومحمد من أعزّ الناس فى عشيرته، يمنعه والله منا من كان على قوله، ومن لم يكن منا على قوله منعه للحسب والشرف، وقد أبى محمد الناس كلّهم غيركم «3» ، فإن كنتم أهل قوّة وجلد وبصر بالحرب؛ واستقلال بعداوة العرب قاطبة، ترميكم عن قوس واحدة، فارتئوا رأيكم «4» ، ولا تفرّقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإنّ أحسن الحديث أصدقه.

وقال ابن إسحاق: «1» إنّ العباس قال: يا معشر الخزرج، إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عزّ من قومه، ومنعة فى بلده، وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللّحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عزّ ومنعة من قومه وبلده. قال ابن سعد: فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت، وإنا والله لو كان فى أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق- فيما رواه بسنده عن كعب بن مالك: فقلنا له: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب فى الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعونى فيما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «2» - يعنى نساءنا- فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل «3» الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. قال ابن سعد: ويقال: إن أبا الهيثم بن التّيهان كان أوّل من تكلم فأجاب إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ، وقالوا: نقبله على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ قال: ولغطوا. فقال العباس وهو آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه

وسلم: أخفوا جرسكم فإن علينا عيونا، وقدّموا ذوى أسنانكم فيكونون هم الذين يلون كلامنا منكم، فإنا نخاف قومكم عليكم، ثم إذا بايعتم فتفرّقوا إلى محالكم. فتكلّم البراء بن معرور، فأجاب العباس، ثم قال: ابسط يدك يا رسول الله، وكان أوّل من ضرب على يد رسول الله البراء بن معرور- ويقال: أبو الهيثم بن التيهان، ويقال: أسعد بن زرارة- ثم ضرب السبعون كلّهم على يده وبايعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ موسى أخذ من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيبا فلا يجدنّ منكم أحد فى نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لى جبريل» ، ثم قال «1» للنقباء: «أنتم كفلاء على غيركم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم، قال: فلما بايعوا وكملوا، صاح الشيطان على العقبة بأبعد صوت سمع: يا أهل الأخاشب، هل لكم فى محمد والصّبأة معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفضّوا إلى رحالكم» ، فقال العباس ابن عبادة بن نضلة: يا رسول الله، والذى بعثك بالحقّ لئن أحببت لنميلنّ على أهل منى بأسيافنا، وما أحد عليه سيف تلك الليلة غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نؤمر «2» بذلك فانفضّوا إلى رحالكم» ، فتفرّقوا إلى رحالهم، فلما أصبح القوم غدت عليهم جلّة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة، وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وايم الله ما حىّ من العرب أبغض إلينا إن شبّت «3» بيننا وبينه الحرب منكم، قال: فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم

ذكر تسمية من شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم

بالله ما كان هذا وما علمنا، وجعل ابن أبىّ يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومى ليفتاتوا علىّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومى حتى يؤامرونى، فلما رجعت قريش من عندهم رحل البراء بن معرور؛ فتقدّم إلى بطن يأجج «1» ، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وجعلت قريش تطلبهم فى كل وجه، ولا تعدّوا طريق «2» المدينة؛ وحزّبوا عليهم، فأدركوا سعد بن عبادة، فجعلوا يده إلى عنقه بنسعة «3» ، وجعلوا يضربونه ويجرّون شعره، وكان ذا جمّة «4» حتى دخلوا «5» مكة، فجاءه مطعم بن عدىّ، والحارث بن أمية بن عبد شمس فخلصاه من أيديهم، وائتمرت الأنصار حين فقدوا سعد بن عبادة أن يكّروا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم، فرحل القوم جميعا إلى المدينة. ذكر تسمية من شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق: كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فكان من شهدها من الأوس أحد عشر رجلا، وهم أسيد بن الحضير، وأبو الهيثم بن التيّهان، وسلمة ابن سلامة بن وقش، وظهير بن رافع بن عدىّ، وأبو بردة هانئ بن نيار، ونهير ابن الهيثم بن نابى، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر، وعبد الله ابن جبير بن النعمان، ومعن بن عدىّ بن الجدّ بن عجلان، وعويم بن ساعدة. وشهدها من الخزرج أحد وستون رجلا: منهم من بنى النجّار أحد عشر رجلا،

وهم أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة، وأخوه عوف ابن الحارث، وأخوه معوّذ بن الحارث، وعمارة بن حزم بن زيد، وأسعد بن زرارة ابن عدس «1» ، وسهل بن عتيك بن النعمان، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود، وقيس بن أبى صعصعة، وعمرو بن غزيّة ابن عمرو بن ثعلبة. ومن بنى الحارث بن الخزرج سبعة نفر، وهم: سعد بن الربيع بن عمرو، وخارجة بن زيد بن أبى زهير، وعبد الله بن رواحة، وبشير بن سعد بن ثعلبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو، وعقبة ابن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة «2» . ومن بنى بياضة بن عامر بن زريق ثلاثة نفر، وهم: زياد بن لبيد بن ثعلبة ابن سنان، وفروة [بن «3» ] عمرو بن ودقة «4» ، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان. ومن بنى زريق بن عامر بن زريق ثلاثة نفر: رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلّد بن عامر بن زريق- وكان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بمكة فهاجر، فكان يقال له: مهاجرىّ أنصارى- وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد. ومن بنى سلمة بن سعد بن علىّ بن أسد أحد عشر رجلا: البراء بن معرور ابن صخر، وابنه بشر بن البراء، وسنان بن صيفىّ بن صخر، والطفيل بن النعمان

ابن خنساء، ومعقل بن المنذر بن سرح، ويزيد بن المنذر بن سرح، ومسعود ابن يزيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد، ويزيد بن حرام بن سبيع، وجبّار ابن صخر بن أمية بن خنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء. ومن بنى سواد بن غنم بن كعب بن سلمة: كعب بن مالك بن أبى كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد، وهو الشاعر. ومن بنى غنم بن سواد بن غنم خمسة نفر، وهم: سليم بن حديدة، ويزيد ابن عامر بن حديدة، وهو أبو المنذر «1» ، وأبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو، وصيفىّ ابن سواد بن عباد، وقطبة بن عامر بن حديدة، أخو يزيد. ومن بنى نابى بن عمرو بن سواد بن غنم خمسة نفر: ثعلبة بن غنمة بن عدىّ ابن نابى، وعمرو بن غنمة بن عدىّ، وعبس بن عامر بن عدىّ. وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وخالد بن عمرو بن عدىّ. ومن بنى حرام بن كعب سبعة «2» نفر، وهم: عبد الله بن عمرو بن حرام، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع- والجذع ثعلبة ابن زيد-، وعمير بن الحارث بن ثعلبة، وخديج بن سلامة بن أوس، ومعاذ ابن جبل بن عمرو بن أوس، مات بعمواس عام الطاعون. ومن بنى عوف بن الخزرج أربعة نفر، وهم: عبادة بن الصامت بن قيس، والعباس بن عبادة بن نضلة- وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فأقام «3» فكان يقال له: مهاجرىّ أنصارى، قتل يوم أحد-

وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة حليف لهم من بنى عصيّة من بلىّ، وعمرو بن الحارث بن لبدة بن عمرو. ومن بنى سالم بن غنم بن عوف- وهم بنو الحبلىّ- رجلان: رفاعة بن عمرو ابن ثعلبة بن مالك، وعقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد حليف لهم، وكان ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى مكة، فكان يقال له: مهاجرى أنصارىّ. ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان: سعد بن عبادة بن دليم ابن حارثة، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وامرأتان، وهما: نسيبة ابنة كعب ابن عمرو، وهى أم عمارة، وأم منيع، واسمها أسماء بنت عمرو بن عدىّ بن نابى، ولم يصافحهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا يصافح النساء، وإنما كان يأخذ عليهن، فإذا أقررن قال: اذهبن، وكان النقباء من هؤلاء اثنى عشر رجلا، وهم: أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة ابن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت بن قيس، وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو بن حنيس «1» ويقال: ابن خنيس، هؤلاء من الخزرج. ومن الأوس ثلاثة نفر: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وأهل العلم يعدّون أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدّون رفاعة. والله أعلم بالصواب.

ذكر أول آية أنزلت فى القتال

ذكر أوّل آية أنزلت فى القتال قال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة الأولى لم يؤذن له فى الحرب، ولم تحلل له الدماء، وإنما أمر بالدعاء إلى الله، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم، وأخرجوهم من بلادهم، فلما عتت قريش على الله؛ أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال، فكانت أوّل آية أنزلت فى إذنه تعالى له فى الحرب، قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) «1» . ثم أنزل الله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) «2» ، أى حتى يعبد الله لا يعبد غيره. ذكر أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: لما أذن الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم فى الحرب، وبايعه الأنصار على الإسلام، والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللّحوق بإخوانهم من الأنصار؛

وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانا، ودارا تأمنون بها» ، فخرجوا أرسالا «1» ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ينتظر الإذن من الله فى الهجرة إلى المدينة، فكان أوّل من هاجر من المهاجرين من قريش: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ابن هلال بن عبد الله المخزومىّ، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة بسنة، وكان قد قدم من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار هاجر إلى المدينة، فنزل بقرية بنى عمرو بن عوف بقباء على أحمد بن مبشّر ابن عبد المنذر، ثم كان أوّل من قدمها بعد أبى سلمة عامر بن ربيعة حليف بنى عدىّ بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم «2» ، ثم عبد الله بن حجش ابن رئاب، حليف بنى أمية ابن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن حجش، وهو أبو أحمد، وكان رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكّة بغير قائد، وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب، نزل هؤلاء كلهم بقباء على أحمد ابن مبشر أيضا، ثم قدم المهاجرون أرسالا، ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين من المسلمين، منهم: زيد بن الخطّاب أخو عمر، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وخنيس ابن حذافة السهمىّ، وواقد بن عبد الله التميمىّ حليف بنى عدىّ، وعبد الله وعمرو ابنا سراقة بن المعتمر- ويقال: عمر بدل عمرو- وخولىّ بن أبى خولىّ، حليف الخطاب، وأخوه مالك- ويقال: هلال بن أبى خولىّ بدل مالك- وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وخالد، وعامر. ويقال: وكان مع عمر ابنه عبد الله ابن عمر.

قال ابن إسحاق: فنزل عمر بن الخطاب، وعيّاش بن أبى ربيعة فى بنى عمرو ابن عوف بقباء، فجاء أبو جهل والحارث ابنا هشام إلى عيّاش إلى المدينة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فكلماه فى الرجوع، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمشط رأسها مشط، ولا تستظلّ من شمس حتى تراك، فرقّ لها. قال عمر ابن الخطاب: فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا [ليفتنوك «1» ] عن دينك فاحذرهم، فو الله لو آذى أمّك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حرّمكة لاستظلّت. فقال: أبرّ قسم أمى، ولى هناك مال فآخذه. قال عمر: فقلت له: يا عياش، والله إنك لتعلم أنى من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. قال: فأبى إلا أن يخرج معهما، فقلت: أما إذ فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخى والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى «2» على ناقتك؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض أوثقاه «3» رباطا، ثم دخلا به [مكة «4» ] ، وفتناه فافتتن. رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر. قال ابن إسحاق: ودخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا. قال ابن عمر فى حديثه فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى

الكفر لبلاء أصابهم، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم، وفى قولنا وقولهم لأنفسهم: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) » ، قال عمر: فكتبتها بيدى فى صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، فلما قرأها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: «من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن أبى العاص» ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقى امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين- تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا قد حبسا فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «2» فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما «3» ، ثم حملهما على بعيره وسار بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت نعود إلى تتمة أخبار عمر فى هجرته- قال ابن إسحاق: ونزل عمر بن الخطاب حين نزل «4» المدينة ومن لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله

ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمىّ- وكان صهره على ابنته حفصة خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده- وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمىّ، حليف لهم، وخولىّ بن خولىّ، ومالك بن خولىّ، حليفان لهم، وبنو البكير الأربعة: إياس، وعاقل، وعامر، وخالد، حلفاؤهم، وهم من بنى سعد بن ليث، على رفاعة بن المنذر بقباء «1» ، ثم تتابع المهاجرون «2» ، فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف «3» أخى بلحارث بن الخزرج «4» ، ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة، ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد الغنويّان حليفا حمزة ابن عبد المطلب، وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم ابن هدم «5» أخى بنى عمرو بن عوف بقباء- ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة- ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه الطّفيل والحصين، ومسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، وسويبط بن سعد بن حريملة «6» ، أخو بنى عبد الدار، وطليب بن عمير أخو بنى عبد بن قصىّ، وخبّاب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخى بلعجلان بقباء، ونزل

ذكر اجتماع قريش فى دار الندوة، وتشاورهم فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم على قتله، وحماية الله تعالى له، وخبر الشيخ النجدى، وهو إبليس، خزاه الله

عبد الرحمن بن عوف فى رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخى بلحارث ابن الخزرج فى دار بلحارث، ونزل الزبير بن العوام، وأبو سيرة بن أبى رهم بن عبد العزّى على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة «1» دار بنى جحجبى «2» . ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بنى عبد الدار على سعد بن معاذ ابن النعمان فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبى حذيفة، وعتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخى بنى عبد الأشهل فى دار بنى عبد الأشهل. ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت ابن المنذر أخى حسان بن ثابت فى دار بنى النجار. وكان يقال: نزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا. ذكر اجتماع قريش فى دار الندوة، وتشاورهم فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم على قتله، وحماية الله تعالى له، وخبر الشيخ النجدىّ، وهو إبليس، خزاه الله قال محمد بن إسحاق، يرفعه إلى عبد الله بن عباس وغيره قالوا: لما «3» رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيع وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا فى دار الندوة- وهى دار قصىّ بن

كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها- يتشاورون ما يصنعون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، فلما اجتمعوا لذلك، واتّعدوا له، غدوا فى يوم الموعد، وهو اليوم المسمى يوم الزّحمة «2» ، فاعترضهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بتّ «3» - قال الواقدى: مشتمل «4» الصماء فى بتّ- قال: فوقف على باب الدار، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذى اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألّا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع أشراف قريش، وهم: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وطعيمة بن عدىّ، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، والنّضر بن الحارث بن كلدة، وأبو البخترىّ ابن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، وأبو جهل ابن هشام، ونبيه ومنّبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، وغيرهم ممن لا يعدّ من قريش، فقال بعضهم لبعض: إنّ هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا ممن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهير والنابغة، ومن مضى منهم حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدىّ: لا والله، ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنّ أمره من وراء الباب الذى أغلقتم

دونه إلى أصحابه، ولأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى، فانظروا فى غيره، فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله [ما «1» ] نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدىّ: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، والله لئن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حىّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم ليسير بهم إليكم حتى يطأكم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد؛ دبّروا فيه رأيا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: إنّ لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فتيا، ثم نعطى كلّ فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا، [فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا «2» ] ، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. فقال النجدىّ: القول ما قال الرجل؛ هذا الرأى لا أرى «3» غيره. وحكى أن هذا الرأى كان رأى الشيخ النجدىّ، وأنه لما أشار به قالوا: كلّهم: صدق النجدىّ، صدق النجدىّ! والله أعلم. قال: فتفرّق القوم وقد أجمعوا على ذلك. فأتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، وقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، قال: فلما كانت عتمة

من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «نم على فراشى، وتسجّ ببردى هذا الحضرمىّ الأخضر، فنم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم» . قال: فقال أبو جهل ومن معه على الباب: إن محمدا يزعم أنكم إذا تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردنّ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب فى يده، ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم» ، وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس: (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) . إلى قوله: (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) «1» . ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا ينظرون فيه فيرون عليا على الفراش متسجّيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علىّ عن الفراش؛ فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذى حدّثنا.

ذكر ابتداء هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه

قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل من القرآن فى ذلك اليوم قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) «1» وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) «2» . ذكر ابتداء هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه قال محمد بن إسحاق: لمّا هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أقام هو بمكة بعدهم ينتظر الإذن من الله تعالى فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة إلا أبو بكر الصديق، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، ومن حبس أو فتن. وكان أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة كثيرا فيقول له: «لا تعجل لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا» ، فيطمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه. وروى عن عائشة أم المؤمنين بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشية، [حتى «3» ] إذا كان اليوم الذى أذن الله تعالى فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره،

ذكر خبر الغار وما قيل فيه

فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عنّى من عندك» قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى؟ قال: «إن الله أذن لى فى الخروج» . فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! قال: «الصحبة» . قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ، ثم قال: يا نبىّ الله، إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقط- وقيل: الأريقط- الليثى وكان مشركا، يدلّهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. قال ابن إسحاق: ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا أبو بكر وآل أبى بكر، وعلى بن أبى طالب، أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده، حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس. ذكر خبر الغار وما قيل فيه قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور- جبل بأسفل مكة- فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. قال ابن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أن الحسن بن أبى الحسن قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا دخل أبو بكر قبل

رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يردّه عليهم. وكان عبد الله بن أبى بكر يكون فى قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون فى شأن النبىّ صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى فى رعاء من أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره الغنم حتى يعفّى عليه. وقال محمد بن سعد بسنده إلى زيد بن أرقم وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة رضى الله عنهم: إن النبىّ صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت فى وجه النبىّ صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت على وجهه فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بأسيافهم وعصيّهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعا، نظر أوّلهم فرأى الحمامتين فرجع فقال له أصحابه: مالك لم تنظر فى الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، فعرف أن الله عز وجل درأ عنه بهما. وقال بعض من حضر فى طلبه: إن عليه من العنكبوت ما هو قبل ميلاد محمد. وقال أبو بكر رضى الله عنه: فنظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ! قال: ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر.

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه من الغار، وتوجههما إلى المدينة، وما كان من أمر سراقة بن مالك، وأم معبد وغير ذلك إلى أن انتهيا إلى المدينة

قال محمد بن سعد: قالت عائشة رضى الله عنها: وجهزناهما أحبّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة فى جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت به الجراب، وقطعة أخرى صيرتها عصاما لفم القربة؛ فلذلك سميت أسماء ذات النّطاقين. قال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل ماله كلّه معه،- خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف- فانطلق بها معه، فدخل علينا جدّى أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قال فقلت: كلّا يا أبت، إنه ترك لنا خيرا كثيرا. قالت أسماء: فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوّة البيت حيث كان أبى يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يا أبت يدك على هذا المال، فوضع يده عليه وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم؛ فلا والله ما ترك لنا شيئا، ولكنى أردت أن أسكّن الشيخ بذلك. والله أعلم. ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه من الغار، وتوجههما إلى المدينة، وما كان من أمر سراقة بن مالك، وأم معبد وغير ذلك إلى أن انتهيا إلى المدينة كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه من الغار ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل، وذلك أنه لما مضت الأيام الثلاثة، وسكن عنهما الناس أتاهما عبد الله بن الأريقط براحلتيهما وبعير له، فقرّب أبو بكر رضى الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّم له أفضلهما «1»

ثم قال: اركب فداك أبى وأمى يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنى لا أركب بعيرا ليس لى» ، قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى! قال: «لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها «1» به» ؟، قال: كذا وكذا، قال: «قد أخذتها بذلك» . قال محمد بن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم من نعم بنى قشير، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما وهى القصواء. قال ابن إسحاق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر رضى الله عنه مولاه عامر بن فهيرة خلفه ليخدمهما فى الطريق. قال أبو بكر رضى الله عنه: أسرينا ليلتنا ويومنا حتى إذا قام قائم الظهيرة وانقطع الطريق، ولم يمرّ أحد، رفعت لنا صخرة لها ظلّ لم تأت عليه الشمس. قال: فسويت للنبىّ صلى الله عليه وسلم مكانا فى ظلها، وكان معى فرو ففرشته، وقلت للنبىّ صلى الله عليه وسلم: نم حتى أنفض ما حولك، فخرجت فإذا أنا براع قد أقبل يريد من الصخرة مثلما أردنا، وكان يأتيها قبل ذلك فقلت: يا راعى، لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل المدينة يعنى مكة، قال: قلت: هل فى شائك من لبن؟ قال: نعم، قال: فجاءنى بشاة فجعلت أمسح الغبار عن ضرعها وحلبت فى إداوة معى كثبة «2» من لبن، وكان معى ماء للنبىّ صلى الله عليه وسلم فى إدواة فصببت على اللبن من الماء لأبرده، فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام من نومه فشرب وقال: «ما آن الرحيل» ؟ قلت: بلى، قال: فأرسلنا حتى إذا كنا بأرض صلبة جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله قد أتينا، قال: «كلا» ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطم فرس سراقة- أى

احتبس إلى بطنه- فقال: قد أعلم أن قد دعوتما علىّ فادعوا لى، ولكما علىّ أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما. قال: فدعا له فرجع ووفى وجعل يردّ الناس ويقول: قد كفيتم ما هاهنا. وقد روى عن سراقة أنه قال لأبى جهل بن هشام: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأنّ محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه! عليك بكف القوم عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه بأمر يودّ الناس فيه بأسرهم ... بأنّ جميع الناس طرا «1» تسالمه وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى الزّهرى أنّ عبد الرحمن بن مالك ابن جعشم حدّثه عن أبيه عن عمه سراقة بن مالك قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة مهاجرا إلى المدينة، جعلت فيه قريش مائة ناقة لمن يردّه عليهم، فبينما أنا جالس فى نادى قومى أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا علىّ آنفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعينى أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالّة لهم، قال: لعله «2» . ثم قمت فدخلت بيتى وأمرت بفرسى فقيد إلى بطن الوادى، وأمرت بسلاحى فأخرج من دبر حجرتى، ثم أخذت قداحى التى «3» أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتى، ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره: «لا يضره» ، قال: وكنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة، فركبت الفرس فى أثره، فبينما فرسى يشتدّ بى عثر فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها فخرج السهم

الذى أكره «لا يضره» ، قال فأبيت إلا أن أتبعه فركبت فى أثره، فلما بدا لى القوم ورأيتهم عثر بى فرسى فذهبت يداه فى الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يده من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منّى وأنه ظاهر، فناديت القوم: أنا سراقة بن جعشم، أنظرونى أكلّمكم، فو الله لا يأتينكم منى شىء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «قل له وما تبتغى منا» ؟ فقال لى ذلك أبو بكر، قلت: تكتب لى كتابا يكون بينى وبينك، قال: «اكتب له يا أبا بكر» ، فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى خرقة ثم ألقاه إلىّ فأخذته فجعلته فى كنانتى، ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، فرحت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرّانة «1» ، فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون: إليك إليك ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله إنى لأنظر إلى ساقه فى غرزه «2» كأنها جمارة، فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابك أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبرّ، ادنه» ، قال فدنوت منه فأسلمت. والله الهادى للصواب. ومروا على خيمتى أم معبد الخزاعية، واسم أمّ معبد عاتكة بنت خالد بن منقذ ابن ربيعة، ويقال: عاتكة بنت خالد بن خليف» ، وكانت برزة «4» جلدة تجلس بفناء

القبة «1» تسقى وتطعم، فسألوها تمرا ولحما يشترونه منها، فلم يصيبوا عندها من ذلك شيئا، وكان القوم مرملين مسنتين «2» ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخيمة، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد» ؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: «هل بها من لبن» ؟ قالت: هى أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها» ؟ قالت: نعم، بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمّى الله، ودعا لها فى شاتها، فتفاجّت عليه- أى فتحت ما بين رجليها- ودرّت، ودعا بإناء يربض الرّهط- أى يرويهم- فحلب فيه ثجاّ «3» ثم سقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب إناء حتى ملأه ثم غادره عندها، وبايعها وارتحلوا عنها، وأصبح صوت بمكة عال يسمعونه، ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا «4» خيمتى أمّ معبد هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصىّ ما زوى «5» الله عنكم ... به من فعال لا تجارى «6» وسودد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرضد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... له بصريح «7» ضرّة «8» الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... تدرّ بها فى مصدر ثم مورد «9»

قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل أسفل من عسفان «1» ، ثم سلك بهما أسفل أمج «2» ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا «3» ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرّار «4» ، ثم سلك بهما ثنية المرة «5» ، ثم سلك بهما لقفا «6» - ويقال لفتا «7» - ثم أجاز بهما مدلجة «8» لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج «9» ، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطّن بهما [مرجح «10» ] من ذى الغضوين «11» ، ويقال: العصوين، ثم بطن ذى كشر «12» ، ثم أخذ بهما على الجداجد «13» ، ثم على الأجرد «14» ، ثم سلك بهما ذا سلم «15» [من بطن «16» ] أعداء مدلجة تعهن «17» ، ثم على العبابيد- ويقال: العبابيب. ويقال:

ذكر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه إلى المدينة

العثيانة- ثم أجاز بهما الفاجّة «1» ، ويقال: القاحة، ثم هبط بهما العرج «2» ، وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: أوس بن حجر على جمل له إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له: مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك ثنية العائر عن يمين ركوبة «3» - ويقال الغابر- حتى هبط بهما [بطن «4» ] رئم، ثم قدم بهما قباء على بنى عمرو بن عوف. قال الشيخ شرف الدين الدمياطى: وكان عبد الله بن الأريقط على كفره، ولم يعلم له إسلام. ذكر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضى الله عنه إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين الضّحا، وكادت الشمس تعتدل، وهو صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة. وقال الخوارزمىّ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا يوم الاثنين، وهو اليوم الثامن من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين من عام الفيل، ويوم عشرين من أيلول، فكان من مبعثه إلى يوم هاجر ودخل المدينة ثلاث عشرة سنة كاملة. قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا بخروجه من مكة وتوكّفوا «5» قدومه، يخرجون إذا صلوا

الصبح إلى ظاهر الحرّة ينتظرونه، فلا يبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيدخلون، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا على عادتهم، حتى إذا لم يبق ظل دخلوا بيوتهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت، فكان أول من رآه رجل من يهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة «1» ، هذا جدكم قد جاء، قال: فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنّه، وأكثر الأنصار لم يكن يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فأقبل الناس وما يعرفون من أبى بكر، حتى إذا زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفوه عند ذلك، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن هدم أخى بنى عمرو بن عوف، وهو الأصح، وكان إذا خرج من منزل كلثوم جلس للناس فى بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزل العزّاب من المهاجرين، ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه على خبيب بن إساف أحد بنى الحارث بن الخزرج بالسّنح. وقيل: بل نزل على خارجة بن زيد. وأقام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بمكة ثلاث ليال، حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن هدم، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء من يوم الاثنين إلى آخر يوم الخميس أربعة أيام.

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء وتحوله إلى المدينة، وصلاته الجمعة، ونزوله على أبى أيوب خالد بن زيد

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء وتحوله إلى المدينة، وصلاته الجمعة، ونزوله على أبى أيوب خالد بن زيد قال محمد بن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة من منزل كلثوم فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، وادى رانوناء «1» ، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. قال محمد بن سعد: صلاها بمن كان معه من المسلمين وهم مائة. قال ابن إسحاق: فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة، فى رجال من بنى سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا فى العدد والعدّة والمنعة، قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو فى رجال من بنى ساعدة، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال لأولئك، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة فى رجال من بلحارث من الخزرج، فقالوا مثل ذلك، وقال مثل ما قال، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بنى عدىّ بن النجار وهم أخواله اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة «2» فى رجال من بنى عدىّ بن النجار، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدّة والمنعة، فقال كما قال لأولئك، فخلوا سبيلها فانطلقت، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مربد «3» لغلامين يتيمين من بنى النجار، فى حجر

معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، فلما بركت ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل، فسارت غير بعيد، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت «1» ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: لما بركت الناقة جعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النزول عليهم، وجاء أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب فحطّ رحله فأدخله منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع رحله» ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، قال زيد بن ثابت: فأول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزل أبى أيوب هدية دخلت بها إناء قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمّى، فقال: «بارك الله فيك» ، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرم «2» الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة؛ ثريد وعراق «3» ، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون ذلك حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر. وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه. والله أعلم.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب زيد بن حارثة، وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، فقدما إلى مكة لفاطمة وأم كلثوم عليهما السلام ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وحمل زيد بن خارثة امرأته أمّ أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبى بكر فيهم عائشة، فقدموا المدينة فأنزلهم فى بيت حارثة بن النعمان، وكانت رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشة مع زوجها عثمان بن عفان. قال ابن إسحاق بسنده إلى أبى أيوب قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى السّفل، وأنا وأم أيوب فى العلو، فقلت له: يا نبىّ الله، بأبى أنت وأمى، إنى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى، فاظهر أنت وكن فى العلو، وننزل نحن ونكون فى السّفل، فقال: «يا أبا أيوب، إنّ أرفق بنا ومن يغشانا أن نكون فى سفل البيت» ، قال: فلقد انكسر حبّ «1» لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننّشف بها الماء؛ تخوّفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيمّمت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه، نبتغى بذلك البركة حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، قال: فردّه ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟ فكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك للبركة، قال: «فإنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى «2» فأما أنتم فكلوه» ، فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة. والله المستعان.

ذكر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة

ذكر بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيوته بالمدينة قال محمد بن سعد عن محمد بن عمر بن واقد قال: حدّثنى معمر بن راشد عن الزهرىّ قال: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد، وهو يومئذ يصلى فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا فى حجر أبى أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما. قال ابن سعد: وقال غير معمر عن الزهرى: فابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك، فكان جدارا مجدّرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلى بأصحابه فيه، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذى بالحديقة وبالغرقد الذى فيه أن تقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان فى المربد قبور جاهلية فأمر بها فنبشت، وبالعظام أن تغيّب، وكان فى المربد ماء مستنجل «1» فسيّروه حتى ذهب، فأسّس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأسسوا معه، فجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع، وفى هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربّع، ويقال: كان أقل من المائة، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة؛ ثم بنوه باللّبن، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل ينقل الحجارة معهم بنفسه، ويقول: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار» قال: وقال قائل من المسلمين يرتجز: لئن قعدنا والنبىّ يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل

ذكر بناء المسجد الذى أسس على التقوى وهو مسجد قباء

قال: ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن فقال: يا رسول الله، قتلونى؛ يحملون علىّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته «1» بيده، وكان رجلا جعدا، ويقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية» ، قال ابن سعد: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا فى مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو الباب الذى يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذى يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل طول الجدار بسطة، وعمده الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا تسقّفه؟ فقال: «عريش «2» كعريش موسى خشيبات وثمام «3» الشأن أعجل من ذلك» قال: وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء، بنى لعائشة رضى الله عنها [فى البيت الذى يليه شارع إلى المسجد «4» ] على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة «5» . ذكر بناء المسجد الذى أسّس على التقوى وهو مسجد قباء قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده إلى سهل بن سعد وأبى غزيّة وأبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنهم قال: لما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدّم جدار المسجد إلى موضعه اليوم وأسّسه، وقال:

ذكر ما أصاب المهاجرين من حمى المدينة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم

«جبريل يؤمّ بى البيت» ، ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحجارة لبنائه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت ماشيا، وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» ، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل. قال: وكان أبو أيوب يقول: هذا المسجد الذى أسس على التقوى. وكان أبىّ بن كعب وغيره يقولون: بل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر ما أصاب المهاجرين من حمّى المدينة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحّمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم. قالت: فكان أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة وبلال، موليا أبى بكر مع أبى بكر فى بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا [الحجاب «1» ] وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدّة الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: كلّ امرئ مصبّح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله قالت: فقلت والله ما يدرى أبى ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

ذكر مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه «1» كلّ امرئ مجاهد بطوقه ... كالثّور يحمى جلده بروقه «2» فقلت: والله ما يدرى عامر ما يقول؛ قالت: وكان بلال إذا تركته الحمّى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته «3» فيقول: ألا البيت شعرى هل أبيتنّ ليلة ... بفجّ «4» وحولى إذخر «5» وجليل «6» وهل أردن يوما مياه مجنّة «7» ... وهل يبدون لى شامة «8» وطفيل قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقلت: إنهم ليهذون، وما يعقلون من شدّة الحمى، فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ، وبارك لنا فى مدّها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» ؛ وهى الحجفة. ذكر مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كان ذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى محمد بن سعد عن الزهرىّ وغيره قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمواساة، يتوارثون بعد الممات دون ذوى الأرحام، وكانوا تسعين رجلا؛ خمسة

ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود، وإقرارهم على دينهم، وما اشترطه فيه عليهم ولهم

وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار، قال ويقال: مائة؛ خمسون من المهاجرين، وخمسون من الأنصار، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) «1» . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة فى الميراث. ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أمر بكتبه بين المهاجرين والأنصار، وموادعة يهود، وإقرارهم على دينهم، وما اشترطه فيه عليهم ولهم كان مضمون الكتاب على ما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق: «بسم الله الرحمن للرحيم، هذا كتاب من محمد النبىّ [صلى الله عليه وسلم «2» ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم «3» يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم «4» بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم «5» الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تقدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها

بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، [وبنو النّبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين «1» ] وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا» بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، وإنه لا يحالف «3» مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى «4» دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين؛ وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من [تبعنا «5» من] يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة «6» ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله عزّ وجل إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء «7» بعضهم عن بعض؛ بما نال دماءهم فى سبيل الله عزّ وجل،

وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإن من اعتبط «1» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولىّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافّة، ولا يحل لهم [إلا «2» ] القيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما فى هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شىء فإن مردّه إلى الله وإلى محمد [صلى الله عليه وسلم «3» ] وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «4» إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، [وإن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف «5» ] ، وإن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من بنى ثعلبة [كأنفسهم «6» ] وإن لبنى الشّطنّة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن البرّ دون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم، وإنّ بطانة «7» يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من قتل فبنفسه [فتك، وأهل بيته «8» ] إلا من ظلم، وإن الله على أبّر هذا «9» ، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، [وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ

ذكر أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أنزل فيهم من القرآن

بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة «1» ] ، وإن الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب فى الدين، على كل أناس «2» حصّتهم من جانبهم الذى قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة- ويقال مع البر المحسن- وإن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتّقى ومحمد رسول الله» . ذكر أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أنزل فيهم من القرآن وقد رأيت أن أجمع ما فرقه أهل السير من أخبار المنافقين، وأضم بعضه إلى بعض، وأورده جملة واحدة، فإن ذلك لم يكن فى وقت واحد ولا فى سنة بعينها، بل أورده أهل السير بحسب ما وقع، وفرقوه فى الغزوات وغيرها، فآثرت جمعه فى هذا الموضع، وما كان قد وقع فى غزاة أو حادثة نبهت عليه فى موضعه على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.

قال محمد بن إسحاق رحمه الله: كان رجال من الأوس والخزرج ممن أسلم وهو على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعثة، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره، واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جنّة من القتل، ونافقوا فى السّر، وكان هواهم مع يهود؛ لتكذيبهم وجحودهم الإسلام، فكان منهم من الأوس من بنى عمرو بن عوف، ثم من بنى لوذان بن عمرو بن عوف: زوىّ بن الحارث، ومن بنى حبيب بن عمرو: جلاس بن سويد بن صامت، وأخوه الحارث بن سويد، قال: وجلاس هو الذى قال عند تخلفه عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شرّ من الحمير، فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وكان فى حجر جلاس خلف على أمه بعد أبيه، فلما تكلم جلاس بهذا قال له عمير: والله يا جلاس، إنك لأحبّ الناس إلىّ، وأحسنهم عندى يدا، وأعزّهم علىّ أن يصيبه شىء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنّك، ولئن صمتّ عليها ليهلكن دينى، ولإحداهما أيسر علىّ من الأخرى، ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال، فحلف جلاس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لقد كذب علىّ عمير، وما قلت ما قال، فأنزل الله تعالى فيه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) «1» ، قال ابن إسحاق: فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. والله أعلم بالصواب.

وأما أخوه الحارث بن سويد فإنه قتل المجذّر بن ذياد البلوىّ فى يوم أحد ولحق بقريش، وكان المجذّر قتل سويد بن صامت فى بعض الحروب التى كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد قتله بأبيه. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون- أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقتله إن هو ظفر به ففاته، وكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه- فيما حكى عن ابن عباس رضى الله عنهما: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) «1» إلى آخر القصة. وكان من المنافقين من بنى ضبيعة ابن يزيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بجاد بن عثمان بن عامر. ونبتل ابن الحارث، وهو الذى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى: «من أحبّ أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» ، وكان رجلا جسيما أدلم «2» ، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع «3» الخدّين، وكان يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدث إليه ويسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذى قال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «4» ، وأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم به وبصفته فيما حكاه ابن إسحاق. وأبو حبيبة بن الأزعر، وكان ممن بنى مسجد الضّرار. وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) «5» ، ومعتّب هو الذى

قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قوله: (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) «1» إلى آخر القصة. وهو الذى قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله فيه: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) «2» . والحارث بن حاطب- وقال ابن هشام: ثعلبة والحارث ابنا حاطب، هما من بنى أمية بن زيد من أهل بدر، وليسا من المنافقين- والله أعلم. ومنهم عبّاد بن حنيف أخو سهل، وبحزج؛ وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وعمرو بن خذام، وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر ابن العطّاف وابناه زيد ومجّمع؛ وهم ممن بنى مسجد الضّرار. وكان مجمّع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره، فكان يصلى بهم فيه، فلما كان فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه كلّم عمر فى مجمّع ليصلى ببنى عمرو بن عوف فى مسجدهم، فقال عمر: لا، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضّرار! فقال: يا أمير المؤمنين والله الذى لا إله إلا هو ما علمت بشىء من أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا؛ فزعموا أن عمر تركه يصلى بقومه. ومن بنى أمية بن زيد بن مالك وديعة بن ثابت وهو ممن بنى مسجد الضّرار، وهو الذى قال: إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه وفيمن قال بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) «3» إلى آخر القصة. ومن بنى عبيد بن زيد بن مالك خذام بن خالد، وهو الذى أخرج مسجد الضّرار من داره، وبشر ورافع ابنا زيد. ومن بنى النّبيت مربع بن قيظىّ وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز حائطه، ورسول الله

صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد: لا أحلّ لك يا محمد إن كنت نبيّا أن تمرّ بحائطى، وأخذ فى يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به؛ فآبتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصيرة» ، وضربه سعد بن زيد بالقوس فشجّه؛ وأخوه أوس بن قيظىّ، وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: إن بيوتنا عورة، فأذن لنا أن نرجع إليها، فأنزل الله تعالى فيه: (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) «1» . ومن بنى ظفر- واسم ظفر كعب- حاطب بن أمية بن رافع، وبشير بن أبيرق، وهو أبو طعمة سارق الدّرعين الذى أنزل الله فيه: (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) «2» . وقزمان حليف لهم. قال ابن إسحاق بسنده: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنه لمن أهل النار» ، فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا حتى قتل تسعة من المشركين، وأثبتته الجراحة، فحمل إلى دار بنى ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قزمان، فقد أبليت اليوم، وقد أصابك ما ترى فى الله، قال: بماذا أبشّر، والله ما قاتلت إلا حميّة عن قومى، فلما اشتدّت به جراحه أخذ سهما من كنانته، فقطع به رواهش يده فقتل نفسه. قال ابن إسحاق: ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة إلا أن الضحاك بن ثابت أحد بنى كعب رهط سعد بن زيد قد كان يتّهم بالنفاق وحبّ يهود. قال ابن إسحاق: وكان جلاس ابن سويد قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر، هم الذين دعاهم رجال من قومهم من المسلمين فى خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى حكّام الجاهلية فأنزل الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ

أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) «1» إلى آخر القصة. فهؤلاء الذين ذكرناهم من الأوس. ومن الخزرج من بنى النجار رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو ابن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل. ومن بنى جشم بن الخزرج الجدّ بن قيس، وهو الذى يقول: يا محمد ائذن لى ولا تفتنّى، فأنزل الله تعالى فيه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) «2» ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له وهو فى جهازه إلى تبوك: «يا جدّ، هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر» ؟ قال: يا رسول الله، أو تأذن لى ولا تفتنّى؟ فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أذنت لك» ، فأنزل الله تعالى فيه ما أنزل. ومن بنى عوف بن الخزرج عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكان رأس المنافقين وكانوا يجتمعون إليه. قال محمد بن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيد أهلها عبد الله بن أبىّ بن سلول، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين- حتى جاء الإسلام- غيره؛ قال: ومعه رجل من الأوس هو فى قومه شريف مطاع، وهو أبو عامر عبد الله ابن عمرو بن صيفىّ بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وهو أخو حنظلة الغسيل «3» وكان قد ترهّب فى الجاهلية ولبس المسوح، وكان يقال له: الراهب، فشقيا بشرفهما.

فأما عبد الله بن أبىّ فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملّكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرّا على نفاق. وقد روى عن [أسامة ابن زيد «1» ] بن حارثة قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته، على حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف، وأردفنى صلى الله عليه وسلم خلفه، قال: فمر بعبد الله بن أبىّ بن سلول، وهو فى ظلّ مزاحم «2» أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمّم «3» من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلّم ثم جلس فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزّ وجلّ، وذكّر بالله وحذّر وبشّر وأنذر، قال: وهو زامّ «4» لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقّا، فاجلس فى بيتك فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته فى مجلسه بما يكره منه. فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به وأتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحبّ، وما أكرمنا الله به وهدانا له، فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذلّ ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازى بغير جناحه ... وإن جذّ يوما ريشه فهو واقع قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدوّ الله، فقال سعد: والله يا رسول الله، إنى لأرى فى وجهك شيئا؛ لكأنك

ومن المنافقين من أحبار يهود

سمعت شيئا تكرهه. قال: «أجل» ، ثم أخبره بما قال ابن أبىّ، فقال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا. وكانت مقالة عبد الله بن أبىّ هذه قبل تلفظه بالإسلام، وسنورد إن شاء الله تعالى من أخباره فى الغزوات، وانحيازه عن المسلمين بثلث الناس يوم أحد، وما قاله فى غزوة المريسيع وغيرها ما تقف عليه فى مواضعه، مما تستدل به على صحة نفاقه، وإصراره فى الباطن على كفره. وأما أبو عامر فإنه أبى إلا الإصرار على كفره، وفارق قومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وهو أوّل من أنشب الحرب يوم أحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان أبو عامر قد أتى النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال: فأنا عليها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها» ، قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها، قال: «ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية» ، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا- يعرّض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أى إنك ما جئت بها كذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله به ذلك» ، فكان هو ذاك؛ خرج إلى مكة، فلما افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات به طريدا غريبا وحيدا. ومن المنافقين من أحبار يهود ممن تعوّذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق: سعد ابن حنيف، وزيد بن اللّصيت، ونعمان بن «1» أوفى، وعثمان بن أبى أوفى. وزيد

ابن اللّصيت هو الذى قاتل عمر بن الخطاب بسوق بنى قينقاع، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء، ولا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجاءه الخبر بما قال ودلّه الله عليها-: «إن فلانا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته، وإنى والله لا آتيكم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها، وهى فى هذا الشّعب، قد حبستها شجرة بزمامها» ، فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف. ومنهم رافع بن حريملة وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» . ورفاعة [بن زيد «1» ] بن التابوت، وهو الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هبت ريح وهو قافل من غزوة بنى المصطلق واشتدّت، حتى أشفق منها المسلمون: «لا تخافوا، فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد رفاعة بن زيد مات ذلك اليوم الذى هبت فيه الريح. وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا. وكان هؤلاء يحضرون المسجد يسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون منهم، ويستهزئون بدينهم. قال ابن إسحاق: فاجتمع يوما منهم فى المسجد ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدّثون بينهم بأقصى أصواتهم «2» ، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا؛ فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس احد بنى النجار- وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية- فأخذ برجله يسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة! ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلبّبه

بردائه، ثم نتره «1» نترا شديدا، ولطم وجهه وأخرجه، وهو يقول: أفّ لك منافقا خبيثا! أدراجك «2» يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام عمارة ابن حزم إلى زيد بن عمرو- وكان رجلا طويل اللحية- فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه، ثم جمع عمارة يديه فلدمه «3» بها فى صدره لدمة خرّ منها، فقال: خدشتنى يا عمارة، قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك، فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد مسعود ابن أوس من بنى النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاما شابا ولا يعلم فى المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه. وقام عبد الله ابن الحارث من بلخدرة «4» رهط أبى سعيد الخدرىّ إلى الحارث بن عمرو، وكان ذا جمّة، فأخذ بجمّته فسحبه بها سحبا عنيفا على مامر به من الأرض حتى أخرجه، فقال له: لقد أغلظت يابن الحارث، فقال له: إنك أهل لذلك- أى عدوّ الله- لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زوىّ بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا، وأفّف «5» منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره. قال: فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين؛ وفى هؤلاء من المنافقين، وفى أحبار يهود أنزل الله تعالى صدر سورة البقرة إلى المائة منها؛ والله أعلم. فالذى منها مما يختص بالمنافقين قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) «6» إلى قوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) «7» . وقوله:

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) «1» أى شك فزادهم الله شكا. وقوله: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) «2» لأنهم كانوا يقولون: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وقوله: (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أى من تهود (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أى على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) «3» أى إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ثم ضرب الله لهم مثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) «4» الآية؛ أى يبصرون الحقّ ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله فى ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حقّ. ثم قال تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) «5» أى عن الخير، لا يرجعون إلى هدى. وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) «6» الصّيّب: المطر. قال ابن إسحاق: أى هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الذى هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف، من الذى هو فى ظلمة الصّيّب، يجعل أصابعه فى أذنيه من الصواعق حذر الموت. (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أى منزل ذلك بهم من النقمة. قوله: (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أى لشدة ضوء الحقّ (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أى يعرفون الحقّ ويتكلمون به، فهم من قولهم على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) «7» أى لما تركوا الحقّ بعد معرفته. والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن

وحيث ذكرنا ما ذكرنا من أخبار المنافقين، فلنذكر أخبار يهود، ونجمع ما تفرق منها على نحو ما تقدّم. ذكر شىء من أخبار يهود الذين نصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيهم من القرآن قال: لما أظهر الله تعالى دينه، واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اجتمع إليه إخوانه من المهاجرين والأنصار، واستحكم أمر الإسلام، نصبت احبار يهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا، مع تحققهم نبوته، وصحة رسالته، وأنه الذى نص الله تعالى عليه فى التوراة؛ فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنّتونه، وهم من بنى النضير: حيىّ بن أخطب، وأخواه أبو ياسر وحدىّ، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، والربيع ابن الربيع بن أبى الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليفه أيضا. ومن بنى ثعلبة بن الفطيون «1» - ويقال فيه الفطيوس- عبد الله بن صوريا الأعور، وهو أعلم أهل زمانه بالحجاز بالتوراة، وابن صلوبا، ومخيريق، وكان حبرهم. ومن بنى قينقاع: زيد بن الصّليت- ويقال فيه اللّصيت- وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان، وعزيز ابن أبى عزيز، وعبد الله بن صيف- ويقال ابن ضيف- وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشاس ابن عدىّ بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبى سكين، وعدىّ بن زيد، ونعمان بن أبى أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبى رافع، وخالد، وأزار بن

ذكر إسلام عبد الله بن سلام، ومخيريق

أبى أزار- ويقال فيه: آزر بن أبى آزر- ورافع بن حارثة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن سلام بن الحارث؛ وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. ومن بنى قريظة الزبير بن باطا بن وهب، وعزّال بن سموال، وكعب ابن أسد. وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو، والنّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبى نافع، وأبو نافع، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبى قشير، ووهب بن يهوذا. ومن يهود بنى زريق لبيد بن أعصم الساحر. ومن يهود بنى الحارثة: كنانة ابن صوريا. ومن يهود بنى عمرو بن عوف قردم بن عمرو. ومن يهود بنى النجار: سلسلة بن برهام؛ هؤلاء أحبار يهود، وأهل العداوة لله تعالى ولرسوله، لم يستثن منهم إلا عبد الله بن سلام ومخيريق، فإنهما أسلما. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع. ذكر إسلام عبد الله بن سلام «1» ، ومخيريق أمّا عبد الله بن سلام فإنه كان عالما حبرا من أحبار يهود؛ حكى محمد بن إسحاق عن خبر إسلامه رواية عن بعض أهله عنه قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته وإسلامه وزمانه الذى كنا نتوكّف «2» له، فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة،

فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا على رأس نخلة أعمل فيها، وعمتى خلدة «1» بنت الحارث تحتى جالسة، فلما سمعت الخبر كبّرت؛ فقالت عمتى حين سمعت تكبيرى: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: قلت لها: أى عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به؛ قالت: أى ابن أخى، هذا النبى الذى كنا نخبر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قلت نعم؛ قالت: فذاك إذا؛ قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت؛ فلما رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامى من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنّ يهود قوم بهت «2» ، وإنى أحبّ أن تدخلنى بعض بيوتك فتغيّبنى عنهم، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن علموا به بهتونى؛ قال: فأدخلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه ثم قال لهم: «أىّ رجل الحصين بن سلام فيكم» ؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا؛ فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته، فإنى أشهد أنه رسول الله، وأو من به، وأصدقه وأعرفه؛ فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بى، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؛؟ قال: وأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خلدة بنت الحارث فحسن إسلامها.

وأمّا مخيريق- قال ابن إسحاق: كان حبرا عالما، وكان غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد فى علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد وهو يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أنّ نصر محمد عليكم لحقّ؛ قالوا: إنّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت فى هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله؛ فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى يقول: «مخيريق خير يهود» ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها. قال: وكان مما أنزل الله تعالى فى أمر اليهود صدرا من سورة البقرة، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «1» أى إنهم قد كفروا بما عندك من ذكر لهم، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يستمعون منك إنذارا أو تحذيرا! وقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أى عن الهدى لن يصيبوه أبدا، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) «2» أى بما هم عليه من خلافك. وقوله تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ

وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) «1» ، أى لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولى وبما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التى بأيديكم. ثم قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) «2» أى تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدى إليكم فى تصديق رسولى، وتنقضون ميثاقى، وتجحدون ما تعلمون من كتابى. [ثم «3» ] عدّد عليهم أحداثهم فيما سلف، فذكر لهم العجل، وقولهم لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) «4» وصعقتهم عند ذلك، ثم إحياء الله لهم وإظلالهم بالغمام، وإنزاله عليهم المنّ والسّلوى، وقوله لهم: (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) «5» أى قولوا ما آمركم به أحطّ به ذنوبكم عنكم؛ وتبديلهم ذلك، إلى ما ذكره الله تعالى من أخبارهم مع موسى. ثم قال الله تعالى والخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) «6» قال الفريق الذى أخبر الله عنهم أنهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه؛ وهم الذين قالوا لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا، فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب موسى ذلك من ربه لهم، فقال تعالى: مرهم فليتطهّروا ويطهّروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى فوقعوا سجودا وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا، ثم انصرف بهم موسى إلى بنى إسرائيل، فلما جاءهم حرّف فريق ممن سمع ما أمرهم به، وقالوا

حين قال موسى لبنى إسرائيل: إنّ الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق: إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله تعالى لهم، فهم الذين عنى الله تعالى. ثم قال: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) «1» أى بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدّثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فأنزل الله تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) «2» أى تقرون بأنه نبىّ، وهو يخبرهم أنه النبىّ الذى كنا ننتظره ونجده فى كتابنا، اجحدوه فلا تقرّوا لهم به، قال الله تعالى: (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «3» أى إلا تلاوة؛ والأمىّ هو الذى يقرأ ولا يكتب، معناه أنهم لا يعلمون الكتاب فلا يدرون ما فيه، فهم يجحدون نبوّتك بالظن. وقوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) «4» قال ابن عباس رضى الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذّب الله تعالى الناس فى النار بكل ألف سنة من ايام الدنيا يوما واحدا فى النار من أيام الآخرة، وإنما هى سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله تعالى ذلك، ثم قال: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أى من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) «5» . ثم قال تعالى يذمّهم: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ

بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) «1» أى تركتم ذلك كله. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) «2» . قال ابن إسحاق: أفررتم على أنّ هذا حقّ من ميثاقى عليكم، (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) «3» ، أى أهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم، (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) وقد عرفتم أن ذلك عليكم فى دينكم، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أى أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفارا بذلك (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) «4» فأنبهم بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم فى التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسرائهم فكانوا فريقين، منهم بنو قينقاع ولفّهم «5» حلفاء الخزرج، والنّضير وقريظة، ولفّهم حلفاء الأوس، وكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النّضير وقريظة مع الأوس يظاهر كلّ واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم

التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب [أوزارها «1» ] افتدوا أساراهم تصديقا لما فى التوراة وأخذا به، يفتدى بنو قينقاع ما كان من أسراهم فى أيدى الأوس، [و «2» ] يفتدى بنو النّضير وقريظة ما كان فى أيدى الخزرج منهم، ويطلّون «3» ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم؛ يقول الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) «4» أى تفاديه بحكم التوراة وتقتله، وفى حكم التوراة: ألا تفعل: [تقتله «5» ] ، وتخرجه من داره، وتظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان ابتغاء عرض الدنيا. ثم قال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أى الآيات التى كانت له من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والخبر بكثير من الغيوب مما يأكلون وما يدّخرون فى بيوتهم، ثم ذكر كفرهم بذلك كله، فقال: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) «6» ثم قال: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ) «7» ؛ وذلك أنهم كانوا يقولون للأنصار لما كانوا على جاهليتهم: إنّ نبيا يبعث الآن قد أظلّ زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعه الأنصار

ذكر سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتراطهم على أنفسهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به، ورجوعهم عن الشرط

وكفر به يهود، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ، ثم قال: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) «1» ، غضب الله عليهم فيما صنعوا من مخالفتهم حكم التوراة، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبىّ الذى أرسل إليهم، ثم أنّبهم برفع الطور، واتخاذ العجل إلها من دون الله؛ ثم قال تعالى: (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «2» أى ادعوا بالموت على أىّ الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، فأعلمهم أنهم لم يتمنوه فقال: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) «3» أى بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، فيقال: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقى على الأرض يهودىّ إلا مات، ثم ذكر رغبتهم فى الحياة فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) «4» أى ما هو بمنجيه؛ وذلك أنّ المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأنّ اليهودىّ قد عرف ماله فى الآخرة من الخزى بما صنع فيما عنده من العلم. والله تعالى الهادى للصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر سؤال أحبار يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتراطهم على أنفسهم أنه إن أجابهم عما سألوه آمنوا به، ورجوعهم عن الشرط وذلك أنّ نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك؛ فقال: «عليكم بهذا عهد الله وميثاقه إن أخبرتكم بذلك لتصدقنّنى» ؟ قالوا: نعم؛

قال: «فآسألوا عما بدا لكم» قالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمّه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل هل تعرفون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه» ؟ قالوا: اللهم نعم، قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أن نوم الذى تزعمون أنى لست به تنام عينه وقلبه يقظان» ؟ [قالوا «1» : اللهم نعم، قال: «فكذلك نومى، تنام عينى وقلبى يقظان» ] قالوا: فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمون أنه كان أحبّ الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم على نفسه أحبّ الطعام والشراب إليه شكرا لله تعالى، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها» ؟ قالوا: اللهم نعم؛ قالوا: فأخبرنا عن الرّوح؟ قال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بنى إسرائيل، هل تعلمونه جبريل، وهو الذى يأتينى» ؟ قالوا: اللهم نعم، ولكنه يا محمد، لنا عدوّ، وهو ملك، إنما يأتى بالشدّة وبسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك، فأنزل الله فيهم: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)

ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر

وذلك أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان فى المرسلين قال بعض أحبار يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا، وو الله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم: (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أى باتباعهم السحر وعملهم به، (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) «1» ، قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: الذى حرم إسرائيل على نفسه: زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم، إلا ما على الظّهر، فإن ذلك كان يقرّب للقربان فتأكله النار. والله أعلم بالصواب. ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه إلى يهود خيبر عن ابن عباس رضى الله عنهما: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه، المصدّق بما جاء به موسى، ألا إنّ الله قد قال لكم: يا معشر أهل التوراة- وإنكم تجدون ذلك فى كتابكم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) «2» ؛ وإنّى أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذى أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسّلوى، وأنشدكم بالذى أيبس البحر لآبائكم حتى

ذكر ما قاله أحبار يهود فى قوله تعالى: (الم) *، و (المص) و (الر) *، و (المر)

أنجاهم من فرعون وعمله إلا اخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك فى كتابكم فلا كره عليكم؛ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) «1» فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه» . ذكر ما قاله أحبار يهود فى قوله تعالى: (الم) * ، و (المص) و (الر) * ، و (المر) حكى محمد بن إسحاق أنّ أبا ياسر «2» بن أخطب مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) «3» ، فأتى أخاه حيىّ بن أخطب فى رجال من يهود. فقال: تعلّموا، والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه: (الم. ذلِكَ الْكِتابُ) ، فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حيىّ فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: (الم) * ؟ فقال: «بلى» ، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ قال: «نعم» ، فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبىّ منهم ما مدّة ملكه، وما أكل أمته غيرك. فأقبل حيىّ بن أخطب على من معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون فى دين إنما مدّة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم» قال: ماذا؟ قال: (المص) قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون «4» ومائة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم (الر) * » . قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه

ذكر شىء من مقالات أحبار يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك

إحدى وثلاثون ومائتان، هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: «نعم (المر) » قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة، ثم قال: لقد لبّس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا عنه؛ فقال أبو ياسر لأخيه حيىّ ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم، لعله قد جمع هذا كلّه لمحمد؛ سبعمائة وأربع [وثلاثون «1» ] سنة، قالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيقال: إنّ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) «2» نزلت فيهم، وقيل: إنما نزلت فى وفد نجران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر شىء من مقالات أحبار يهود، وما أنزل من القرآن فى ذلك كان من مقالاتهم ما قاله مالك بن الضّيف «3» حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم فيه، فقال: والله ما عهد إلينا فى محمد عهد، وما أخذ له علينا ميثاق، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «4» . وقال ابن صلوبا الفطيونى «5» لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشىء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها؛ فأنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) «6» .

وقال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجرّ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك، فأنزل الله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) «1» قال: وكان حيىّ بن أخطب [وأخوه أبو ياسر بن «2» أخطب] من أشدّ يهود للعرب حسدا؛ فكانا جاهدين فى ردّ الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله عزّ وجل فيهما: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «3» قال: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شىء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شىء، وجحد نبوّة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) «4» . وقال رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله يكلمنا تكليما حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى فى ذلك: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) «5» . وقال عبد الله بن صوريا الفطيونىّ الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى

إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد؛ وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى فى أقوالهم: (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلى قوله: (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) «1» . وتكلموا عند صرف القبلة بما نذكره إن شاء الله فى حوادث السنة الثانية. قال: وسأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما فى التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) «2» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم عذاب الله، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، وخيرا منا، فأنزل الله فى ذلك: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) «3» . قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر جمع يهود فى سوق بنى قينقاع، وقال لهم: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا» فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا «4» لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عزّ وجل فى ذلك من قولهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا

فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) «1» . قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت «2» المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: وعلى أى دين [أنت «3» ] يا محمد؟ قال: «على ملة إبراهيم ودينه» قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلم إلى النوارة فهى بيننا وبينكم» ؛ فأنزل الله فيهما: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) «4» . وقال أحبار يهود ونصارى نجران حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا، فقال الأحبار: كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا؛ فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) «5» . وقال عبد الله بن صيف «6» ، وعدىّ بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ

ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودى بين الأوس والخزرج من الفتنة، ورجوعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم

تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) «1» . وقال أبو رافع القرظىّ حين اجتمعت الأحبار من يهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، تريد منا أن نعبدك كما يعبد النصارى عيسى بن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثنى ولا أمرنى» فأنزل الله تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» ، والربانيون هم العلماء والفقهاء؛ ثم ذكر تعالى ما أخذ الله عليهم وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم، فقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ) «3» إلى آخر القصة. والله أعلم. ذكر ما ألقاه شأس بن قيس اليهودىّ بين الأوس والخزرج من الفتنة، ورجوعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن إسحاق: مرّ شأس بن قيس، وكان شيخا عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، قد اجتمعوا فى مجلس يتحدثون، فغاظه ما هم عليه

من الألفة والجماعة وصلاح ذات البين على الإسلام، بعد ما كان بينهم من العداوة فى الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملا بنى قيلة «1» بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر شابا من يهود كان معه أن يجلس معهم «2» ، ثم يذكر يوم بعاث «3» وما كان قبله، وأن ينشدهم بعض ما كانوا قالوه من الأشعار يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، فكان الظّفر فيه للأوس، وكان عليهم يومئذ حضير بن سماك الأشهلىّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو ابن النعمان البياضىّ، فقتلا جميعا، ففعل الشاب ذلك، فتكلم القوم، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب؛ أوس بن قيظىّ الأوسىّ، وجبّار بن صخر الخزرجىّ، فتقاولا، ثم قال أحدهما للآخر: إن شئتم رددناها الآن «4» جذعة؛ فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، وهى الحرّة، وقالوا: السلاح السلاح، وخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: «يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم!» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى فى شأس بن قيس: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) «5»

ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم وما أنزل الله تعالى فى ذلك

وأنزل فى أوس بن قيظىّ وجبّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) «1» . ذكر ما تكلم به يهود فى شأن من أسلم منهم وما أنزل الله تعالى فى ذلك قال «2» : لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد، ومن أسلم معهم من يهود وآمنوا وصدّقوا، قال أهل الكفر من أحبار يهود: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله تعالى فيهم: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) «3» ،

قال: وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) ، [أى تؤمنون بكتابكم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم «1» ] ، (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) «2» ، قال: ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى بيت المدراس «3» على يهود، فوجد جماعة كثيرة منهم قد اجتمعوا إلى حبر من أحبارهم يقال له فنحاص، ومعه حبر آخر يقال له أشيع؛ فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل، فقال لأبى بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنّا بغنىّ، ولو كان عنّا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرّبا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الرّبا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا

وقال: والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت عنقك، أى عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بى صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «ما حملك على ما صنعت» ؟. فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيما- وذكر قوله- فلما قال ذلك غضبت لله وضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت [ذلك «1» ] ، فأنزل الله فى ذلك تصديقا لأبى بكر رضى الله عنه: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) «2» ، وأنزل الله تعالى فى أبى بكر وغضبه فى ذلك: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) «3» . قال: وكان كردم بن قيس، وأسامة بن حبيب ونافع بن أبى نافع، وبحرىّ بن عمرو، وحيىّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التّابوت، يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها، ولا تسارعوا فى النفقة، فإنكم لا تدرون علام يكون، فأنزل الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أى من التوراة التى فيها تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) «4» قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا تكلم «5» رسول الله صلى الله عليه وسلم

لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن فى الإسلام وعابه، فأنزل الله تعالى فيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) «1» . قال: وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا الأعور، وكعب ابن أسد، فقال: «يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أنّ الذى جئتكم به لحقّ» ، قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) «2» . قال: وقال سكين، وعدىّ بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شىء بعد موسى؛ فأنزل الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) «3» . ودخلت طائفة منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «أما والله إنكم لتعلمون أنّى [رسول من الله إليكم «4» ] » ! قالوا: ما نعلمه: وما نشهد عليه، فأنزل الله تعالى فى ذلك قوله تعالى:

ذكر قصة الرجم

(لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) «1» . وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا، وبحرىّ بن عمرو، وشأس ابن عدىّ «2» ، فكلّموه وكلّمهم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقوله النصارى، فأنزل الله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) «3» . قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، ورغّبهم فيه، وحذّرهم عقوبة الله، فأبوا وكفروا وجحدوا، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد ابن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته، فقال رافع ابن حريملة، ووهب بن يهود: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده، فأنزل الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «4» . ذكر قصة الرّجم روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: إن أحبار يهود اجتمعوا فى بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنى رجل بينهم «5» بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد، فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما

بعملكم من التّجبية- والتجبية: الجلد بحبل من ليف قد طلى بقار، ثم تسوّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين- فاتبعوه فإنما هو ملك، وصدّقوه، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبىّ، فاحذروه على ما فى أيديكم أن يسلبكموه، فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فآحكم فيهما، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدراس، فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إلىّ علماءكم» ، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فساءلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: هذا عبد الله بن صوريا أعلم من بقى بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنّا، فقال له: «يا بن صوريا، أنشدك الله، وأذكّرك بأيّامه عند بنى إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم فى التوراة» ؟ قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبىّ مرسل، ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجمهما، فرجما عند باب مسجده، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ، أى الرجم، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ

وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) «1» إلى آخر القصة. وروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرجما بباب مسجده، فلما وجد اليهودىّ مسّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ «2» عليها يقيها مسّ الحجارة حتى قتلا جميعا. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: لما حكّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما دعاهم بالتوراة، وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرّجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر، ثم قال: هذه يا نبىّ الله آية الرّجم، يأبى أن يتلوها عليك؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم» ؟! فقالوا: أما إنه كان فينا يعمل به، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل من بعده فأراد أن يرجمه فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانا، فلما قالوا ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التّجبية، وأماتوا ذكر الرّجم والعمل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به» . ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده، قال عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما: [كنت «3» ] فيمن رجمهما. قال: واجتمع كعب بن أسد

وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشأس بن قيس. وقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى محمد؛ لعلّنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتّبعك يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدّقك؟ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فأنزل الله فيهم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) «1» . قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار يهود أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبى نافع، وعازر بن أبى عازر، وخالد بن زيد، وأزار بن أبى أزار «2» ، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) «3» . قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم رافع ابن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الضّيف، ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة،

وتشهد أنها من الله حقّ؟ قال: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» . قالوا: فإنا نأخذ بما فى أيدينا؛ فإنا على الهدى والحقّ، ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) «1» . قال: وأتاه صلى الله عليه وسلم النّحّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحرىّ ابن عمرو، فقالوا: يا محمد، أما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إله غيره، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو» ؛ فأنزل الله تعالى فيهم وفى قولهم: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «2» . قال: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله تعالى فيهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) «3» . وقال جبل بن أبى قشير «4» ، وشمويل بن زيد لرسول الله صلى الله عليه

وسلم: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول؟ فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «1» . وقال محمود بن سيحان ونعمان بن أضاء، وبحرىّ بن عمرو، وعزير بن أبى عزير، وسلام بن مشكم، وفنحاص، وعبد الله بن صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحقّ يا محمد أن هذا الذى جئت به حقّ من عند الله؟ فإنا لا نراه متسقا كما تتسق التوراة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا به ما جاءوا به» فقالوا عند ذلك: يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟ فقال: «أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وأنى لرسول الله؛ تجدون ذلك مكتوبا عندكم فى التوراة» قالوا: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتى به. فأنزل الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «2» ، والظهير: العون. قال: وأتى رهط من يهود إلى «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم

حتى انتقع «1» لونه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكّنه، فقال: خفّض عليك يا رسول الله، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) «2» ، فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال له أول مرة، وجاءه من الله بجواب ما سألوه فقال: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) «3» ، وكانت سؤالات يهود وعنتهم وبغيهم وتحريفهم وتبديلهم كثيرة؛ قد نطق بذلك كله القرآن، وجاء بالردّ عليهم وبتكذيبهم وتفريقهم، ثم سلط الله عليهم المسلمين، وحكّم فيهم سيوفهم فقتلوهم وأجلوهم واستأصلوا شأفتهم، وأسروا وسبوا منهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى الغزوات والسرايا، فلما أيسوا وأبلسوا عمدوا إلى تخيّلات أخر من السّحر والسّم. ذكر ما ورد من أن يهود سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية سنة ست من مهاجره، ودخل المحرم سنة سبع، جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق، إلى لبيد بن الأعصم اليهودىّ حليف بنى زريق، وكان ساحرا، قد علمت ذلك يهود أنه أعلمهم بالسّحر وبالسّموم، فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحر منا، وقد سحرنا محمدا، فسحره منا الرجال والنساء فلم نصنع شيئا، وأنت

ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى «1» ، ونحن نجعل لك على ذلك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر فعقد فيه عقدا وتفل فيه تفلا، وجعله فى جفّ طلعة «2» ذكر، ثم انتهى به حتى جعله تحت أرعوفة «3» البئر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا أنكره، حتى يخيّل إليه أنه يفعل الشىء ولا يفعله، وأنكر بصره حتى دلّه الله على ذلك «4» ؛ فدعا جبير ابن إياس الزّرقىّ وكان ممن شهد بدرا فدله على موضع فى بئر ذروان «5» تحت أرعوفة البئر، فخرج جبير حتى استخرجه، ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال: «ما حملك على ما صنعت، فقد دلنى الله على سحرك وأخبرنى بما صنعت» ؟ فقال: حبّ الدنانير يا أبا القاسم. قال محمد بن سعد، قال إسحاق بن عبد الله: فأخبرت عبد الرحمن ابن كعب بن مالك بهذا الحديث، فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكنّ أسحر من لبيد وأخبث، وكان لبيد هو الذى ذهب به فأدخله تحت أرعوفة البئر، قال: فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الساعة بصره، ودسّ بنات أعصم إحداهنّ، فدخلت على عائشة فخبّرتها عائشة- أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره- ثم خرجت إلى أخواتها وإلى لبيد فأخبرتهم، فقالت إحداهنّ: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يك

غير ذلك فسوف يدلّهه «1» هذا السحر حتى يذهب عقله، فيكون بما نال من قومنا وأهل ديننا. فدله الله عليه: وفى الصحيح عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سحر «2» ، حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشىء ولم يصنعه، حتى إذا كان ذات يوم رأيته يدعو، فقال: «أشعرت «3» أن الله قد أفتانى فيما استفتيته «4» ، أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلىّ، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب «5» ، فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال: فى مشط ومشاطة فى جفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: فى ذى «6» ذروان» ، فآنطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع أخبر عائشة فقال: «كأنّ نخلها رءوس الشياطين، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء» ، قالت فقلت: يا رسول الله، فأخرجه للناس، قال: «أمّا والله قد شفانى، وخشيت أن أثوّر على الناس منه شرا» «7» . وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخّذ «8» عن النساء وعن الطعام والشراب، فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه؛ فقال: أحدهما لصاحبه:

ذكر الكلام على مشكل حديث السحر

ما شكواه؟ قال: طبّ- يعنى «1» سحر- قال: ومن فعله؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودىّ، قال: ففى أى شىء جعله؟ قال: فى طلعة، قال: فأين وضعها؟ قال: فى بئر ذروان تحت صخرة، قال: فما شفاؤه؟ قال تنزح البئر، وترفع الصخرة وتستخرج الطّلعة. وارتفع الملكان؛ فبعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى علىّ وعمّار فأمرهما أن يأتيا الرّكىّ فيفعلا الذى سمع، فأتياها وماؤها كانه قد خضب بالحنّاء فنزحاها، ثم رفعا الصخرة فأخرجا طلعة، فإذا فيها إحدى عشرة عقدة، ونزلت هاتان السورتان: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد، وانتشر نبىّ الله صلى الله عليه وسلم للنساء والطعام والشراب. وجاء فى حديث آخر أن جبريل وميكائيل عليهما السلام أخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن السّحر، وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ لبيدا، فاعترف فعفا عنه، روى عفوه عنه عن غير واحد؛ قال عكرمة: ثم [كان «2» ] يراه بعد عفوه فيعرض عنه. وحيث ذكرنا حديث السّحر فلا بأس أن نصله بالكلام على مشكله. والله أعلم بالصواب. ذكر الكلام على مشكل حديث السّحر وقد تكلم القاضى عياض بن موسى بن عياض على هذا الحديث فقال: هذا الحديث صحيح متفق على صحته، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرّعت به لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشّرع، وقد نزّه الله الشّرع والنبى صلى الله عليه وسلم عما يدخل فى أمره لبسا، وإنما السّحر مرض من الأمراض

وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح فى نبوته، وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشىء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة «1» فى شىء من تبليغه وشريعته، ويقدح فى صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروّه عليه فى أمر دنياه التى يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للافات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم يتجلى عنه كما كان. وأيضا فقد فسّر هذا الحديث الآخر من قوله: «حتى يخيّل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» . وقد قال سفيان «2» : وهذا أشدّ ما يكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه فى ذلك قول، بخلاف ما أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات. وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل لشىء أنه فعله، وما فعله لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السّداد، وأقواله على الصحة. قال: هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث. قال: لكنه قد ظهر لى فى هذا الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعين ذوى الأضاليل يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيّب، وعروة بن الزبير، وقال فيه عنهما: سحر يهود بنى زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه فى بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره «3» . ثم دلّه الله على ما صنعوا، فاستخرجه من البئر. فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما يسلّط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أتى فى بصره، وحبسه عن وطء

ذكر خبر الشاة التى سم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم

نسائه، ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه يأتى أهله ولا يأتيهنّ» ، أى يظهر له من نشاطه ومتقدّم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهنّ أصابته أخذة بالسّحر، فلم يقدر على إتيانهنّ، كما يعترى من أخّذ واعترض، قال: ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشدّ ما يكون من السّحر. والله أعلم بالصواب. ذكر خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك فى غزاة خيبر، بعد أن افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما افتتح خيبر وحصونها واطمأنّ، أهدت إليه زينب ابنة الحارث امرأة سلام بن مشكم وهى ابنة أخى مرحب الذى بارز يوم خيبر، وقتل- على ما نذكره إن شاء الله- شاة مصليّة، وقد سألت: أىّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذّراع، وأكثرت فيها السّمّ، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان معه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها. وروى الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى دلائل النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم أساغها، ثم قال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم فإنّ كتف هذه الشاة يخبرنى أنها قد بغيت فيه «1» » ، قال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت، فما منعنى أن ألفظها إلا أنى أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت

ذكر الحوادث بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية على حكم السنين؛ من السنة الأولى إلى السنة العاشرة خلا ما استثنيناه، وقدمناه

ما فى فيك لم أكن لأرغب بنفسى عن نفسك، ثم دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك» ؟ قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر بن البراء. والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتلها، قيل: سلّمها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها. والله تعالى أعلم. وحيث ذكرنا من سيرته صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه، فلنذكر هنا حوادث السنين بعد الهجرة خلا الغزوات والسّرايا والوفود، فإنا نورد ذلك إن شاء الله تعالى فيما بعد على ما تقف عليه. ذكر الحوادث بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية على حكم السنين؛ من السنة الأولى إلى السنة العاشرة خلا ما استثنيناه، وقدّمناه حوادث السنة الأولى فيها جعلت صلاة العصر أربع ركعات، وكانت ركعتين وذلك بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة حين ارتحل من قباء إلى المدينة، صلاها فى طريقه ببنى سالم على ما تقدّم، وهى أوّل جمعة صلاها، وأوّل خطبة خطبها فى الإسلام. وفيها بنى صلى الله عليه وسلم مسجده ومساكنه، ومسجد قباء على ما تقدّم. وفيها آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد مقدمه بثمانية أشهر، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفيها أسلم عبد الله بن سلام. وفيها ولد عبد الله بن الزبير بالمدينة. وفيها مات أبو قيس كلثوم بن الهدهد، وهو أوّل من مات من المسلمين بالمدينة. ومات سعد بن زرارة أبو أمامة. وفيها أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضى الله عنها.

حوادث السنة الثانية

حوادث السنة الثانية فى هذه السنة توفيت رقيّة بنت النبى صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وتوفى عثمان بن مظعون بعد [رجوع «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة بدر وشهدها عثمان. وفيها صرفت القبلة. ذكر صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة وما تكلم به اليهود وما أنزل الله تعالى فى ذلك من القرآن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، كما ورد فى صحيح البخارى وغيره. وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فقال: «يا جبريل وددت أن الله تعالى صرف وجهى عن قبلة يهود» ، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله تعالى: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) «2» . قال محمد بن سعد: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر فى مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، قال ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ بشر بن البراء ابن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وحانت الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب فسمى المسجد مسجد القبلتين، وذلك يوم الاثنين للنصف من شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره صلى الله عليه وسلم.

وروى البخارىّ أن أوّل صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة ابن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبى رافع، والحجاج ابن عمرو، والربيع بن الربيع بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولّاك عن قبلتك التى كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟! ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها [نتّبعك «1» ] ونصدّقك- وإنما يريدون فتنته عن دينه- فأنزل الله: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) «2» ، أى إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه الى القبلة الأخرى. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ

ذكر خبر الأذان

إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) «1» . والله أعلم. ذكر خبر الأذان قال محمد بن سعد بسنده إلى نافع «2» بن جبير، وعروة بن الزبير، وزيد بن أسلم، وسعيد بن المسيّب، قالوا: كان الناس فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالأذان ينادى منادى النبى صلى الله عليه وسلم: «الصلاة جامعة» ؛ فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهمّه أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء «3» يجمعون بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: البوق، وقال بعضهم: الناقوس؛ فبينماهم على ذلك إذ نام عبد الله ابن زيد الخزرجىّ، فأرى فى المنام أن رجلا مرّ وعليه ثوبان أخضران وفى يده ناقوس، قال فقلت: أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكى أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لكم من ذلك؛ تقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حىّ على الصلاة، حىّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فأتى عبد الله ابن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك وليؤذّن بذلك» ، ففعل. وجاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: لقد رأيت مثل الذى رآه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد»

حوادث السنة الثالثة

فذلك أثبت. قالوا: وأذّن بالأذان وبقى ينادى فى الناس: «الصلاة جامعة» ؛ للأمر يحدث، فيحضرون له يخبرون به، مثل فتح يقرأ، أو أمر يؤمرون به، فينادى: «الصلاة جامعة» ، وإن كان فى غير وقت الصلاة. وقد قدّمنا خبر الأذان من رواية على بن أبى طالب فى قصة الإسراء. والله أعلم. وفى هذه السنة فرض صوم رمضان فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، وفرضت زكاة الفطر قبل العيد بيومين، وفيها ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين، أحدهما عن أمته، والآخر عن محمد وآله، وفيها ولد النعمان بن بشير، وفيها أعرس علىّ بن أبى طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضى عنهما. والله أعلم. حوادث السنة الثالثة فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنهما. وفيها توفّى عثمان بن مظعون عند بعضهم. وفيها تزوّج عثمان بن عفان رضى الله عنه أمّ كلثوم بنت النبى صلى الله عليه وسلم فى جمادى الآخرة. وفيها ولد الحسن بن على رضى الله عنهما فى النصف من رمضان. حوادث السنة الرابعة فيها حرّمت الخمر فى شهر ربيع الأول، وقيل: حرّمت فى السنة الثالثة. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فى غزوة ذات الرّقاع. وفيها قصرت الصلاة. وفيها ولد الحسين بن على رضى الله عنهما. وفيها ماتت زينب بنت خزيمة الهلالية أم المؤمنين. وفيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة

ذكر نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم

فى شوال، وتزوّج زينب بنت جحش فى ذى القعدة على الصحيح. وفيها نزل الحجاب. ذكر نزول الحجاب على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبب نزول الحجاب ما رواه البخارى عن ابن شهاب قال: أخبرنى أنس بن مالك، قال: كان أول ما أنزل الحجاب فى مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش؛ أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا، وبقى منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه كى يخرجوا، فمشى صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضى الله عنها، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعت معه حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يتفرقوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى بلغ عتبة حجرة عائشة، فظنّ أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا؛ فأنزل الله الحجاب، فضرب بينى وبينه سترا، وأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية «1» . وعن عروة بن الزّبير أن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عمر رضوان الله عليه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك يا رسول الله، قالت: فلم يفعل. وكان أزواج

حوادث السنة الخامسة

النبىّ صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع «1» فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو فى المجلس، فقال: عرفتك يا سودة- حرصا على أن ينزل الحجاب- فأنزل الله [الحجاب «2» ] . وفى هذه السنة فرضت الزكاة فى المال. حوادث السنة الخامسة فيها تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت زيد النّضرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. وفيها زلزلت المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستعتبكم فأعتبوه «3» » . وفيها سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل. وقد تقدم ذكر ذلك فى الباب الأول من القسم الثالث من الفن الثالث فى الجزء التاسع من هذه النسخة. وفيها كانت غزوة بنى المصطلق بالمريسيع. وحدث فى هذه الغزوة وقائع نذكرها فى هذا الموضع؛ فيها ما وقع بين المهاجرين والأنصار، وحديث الإفك، وخبر التّيمّم. ذكر ما وقع بين المهاجرين والأنصار «4» فى غزوة المريسيع وما قاله عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق قال محمد بن إسحاق: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق «5» - فى نزوله عن غزوته إياهم، وردت واردة الناس،

ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنىّ- حليف بنى عوف بن الخزرج- على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهنىّ: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبىّ، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم- غلام حدث- فقال: أو قد فعلوها! قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش «1» هذه إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك؛ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من حضره من قومه وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم «2» أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. قال: فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال عمر: مر به عبّاد بن بشر فليقتله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا، ولكن أذّن بالرحيل» ، فارتحل الناس فى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، وجاء عبد الله بن أبىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله: ما قلت ما قال زيد بن أرقم عنّى، وما تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فلما استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه أسيد بن حضير فقال: يا نبىّ الله، والله لقد رحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. قال: «أو ما بلغك

ما قال صاحبكم» ؟ قال: أىّ صاحب؟ قال: «عبد الله بن أبىّ» قال، وما قال يا رسول الله؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل» قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا. قال: ثم متن «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم «2» الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا إلا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. قال: وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان من عبد الله بن أبىّ. قال: ثم هبت ريح شديدة تخوّفها الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخوّفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار» . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بنى قينقاع- وكان من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين- مات ذلك اليوم. ونزلت السورة التى ذكر الله تعالى فيها المنافقين فى ابن أبىّ ومن قال بقوله، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: «هذا الذى أوفى لله بأذنه» . وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبىّ بن سلول ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبىّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه، إنى أخشى أن تأمر غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله يمشى فى الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل

ذكر حديث الإفك وما تكلم به من تكلم من المنافقين وغيرهم فيه وما أنزله الله تعالى من براءة عائشة، وفضل أبيها رضوان الله عليهما

النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نترفّق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» ، وكان بعد ذلك إذا أحاث حدثا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفّونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لى اقتله لأرعدت [له «1» ] آنف لو أمرتها اليوم [بقتله «2» ] لقتلته» ، فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى. ومن الحوادث فى هذه الغزوة حديث الإفك. ذكر حديث الإفك وما تكلم به من تكلم من المنافقين وغيرهم فيه وما أنزله الله تعالى من براءة عائشة، وفضل أبيها رضوان الله عليهما هذا الحديث قد تداوله الرواة وأهل الأخبار والسّير، فمنهم من زاد فيه زيادات كثيرة، وذكر تحامل من تحامل فى أمر الإفك، وتعصّب من تعصّب، فعلمت أن إيراد ذلك من أقوالهم يقتضى أن يصير فى نفس من سمعه من أهل السنّة شيئا ممن تكلم عليه بما تكلّم، ولعل ذلك لم يقع، فرأيت أن أقتصر منه على ما ثبت فى صحيح البخارىّ، واتصّل لنا بالرواية الصحيحة، وذكرت زيادات ذكرها ابن إسحاق- رحمه الله- ويحتاج إلى إيرادها مما لا ضرر فيه، نبهت عليها بعد مساق الحديث على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بحديث البخارىّ «3» : حدّثنا الشيخان المسندان المعمّران؛ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وستّ الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر ابن أسعد بن المنجا التّنوخيّة الدّمشقيان قراءة عليهما وأنا أسمع، بالمدرسة المنصورية

التى هى بين القصرين بالقاهرة المعزّية، فى جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزّبيدىّ، فى شوّال سنة ثلاثين وستمائة، بدمشق بالجامع المظفّرىّ بسفح جبل قاسيون، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزىّ «1» قراءة عليه ونحن نسمع ببغداد، فى آخر سنة اثنتين وأوّل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفّر الداودىّ «2» فى شوّال وذى القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن حمويه السّرخسىّ فى صفر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربرىّ بفر «3» بر سنة ستّ عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ قراءة عليه بتبريز سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة فى سنة اثنتين وخمسين، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكلّ حدّثنى طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض؛ الذى حدّثنى عروة عن عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم؛ أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج

أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج [بها «1» ] رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا فى غزوة «2» غزاها فخرج سهمى، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل فى هودجى وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذنوا بالرّحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى فإذا عقد لى من جزع ظفار «3» قد انقطع، فالتمست عقدى وحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى، فاحتملوا هودجى فرحلوه على بعيرى الذى كنت ركبت، وهم يحسبون أنّى فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم، إنما تأكل العلقة «4» من الطعام، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدى بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلى الذى كنت به، وظننت أنهم سيفقدونى فيرجعون إلىّ، فبينما أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمىّ ثم الذّكوانىّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلى، فرأى سواد إنسان نائم، فأتانى فعرفنى حين رآنى، وكان يرانى قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى، فخمّرت وجهى بجلبابى، وو الله ما كلّمنى كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بى الراحلة حتى أتينا الجيش

بعد ما نزلوا موغرين «1» فى نحر الظهيرة، فهلك من هلك «2» - وكان الذى تولى الإفك عبد الله بن أبىّ بن سلول- فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشىء من ذلك، وهو يريبنى «3» فى وجعى؛ أنّى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذى كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم «4» ثم ينصرف، فذلك الذى يريبنى، ولا أشعر بالشّر حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معى أمّ مسطح قبل المناصع- وهو متبرّزنا- وكنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التبرز [قبل «5» ] الغائط، فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهى بنت أبى رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر ابن عامر خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأمّ مسطح قبل بيتى قد فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح [فى مرطها «6» ] ، فقالت: تعس مسطح؛ فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟! قالت: أى هنتاه، أو لم تسمعى ما قال؟ قالت قلت: وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضى، قالت: فلما رجعت إلى بيتى، ودخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «كيف تيكم» ؟ فقلت: أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوىّ،

فقلت لأمّى: يا أمّتاه، ما يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنيّة، هوّنى عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت فقلت: سبحان الله! ولقد تحدّث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ «1» لى دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وأسامة بن زيد رضى الله عنهما حين استلبث الوحى «2» يستأمرهما فى فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذى يعلم من براءة أهله، وبالذى يعلم لهم فى نفسه من الودّ، فقال: يا رسول الله، أهلك وما نعلم إلا خيرا. وأما علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير «3» ، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أى بريرة، هل رأيت من شىء يريبك» ؟ قالت بريرة: لا والذى بعثك بالحقّ، إن رأيت عليها أمرا أغمصه «4» عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتى الداجن «5» فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فآستعذر من عبد الله بن أبىّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرنى «6» من رجل قد بلغنى أذاه فى أهل بيتى! فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان

يدخل على أهلى إلّا معى» . فقام سعد بن معاذ الأنصارىّ فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة «1» . فقال لسعد: كذبت، لعمر الله «2» لا تقتله، ولا تقدر على قتله، وقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم «3» حتى سكتوا وسكت. قالت: فبكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواى عندى، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لى دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدى، فقالت: فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى فاستأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكى معى، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أمّا بعد يا عائشة، فإنه قد بلغنى عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبى: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله

ما أدرى ما اقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّى: أجيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن: إنّى والله لقد علمت؛ لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ فى أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إنّى بريئة لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أنّى بريئة منه لتصدقنّى، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبى يوسف، قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) . قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشى، قالت: وأنا حينئذ أعلم أنى بريئة، وأن الله يبرئنى ببراءتى، ولكن والله ما كنت أظن أنّ الله منزل فى شأنى وحيا يتلى، ولشأنى فى نفسى كان أحقر من أن يتكلّم الله فىّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئنى الله بها. قالت: فو الله ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما يأخذه من البرحاء «2» ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان «3» من العرق- وهو فى يوم شات- من ثقل القول الذى ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرّى عنه وهو يضحك، فكانت أوّل كلمة تكلّم بها: «يا عائشة، أمّا الله فقد برّاك» ، فقالت أمّى: قومى إليه، قالت فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجل، وأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ

فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) «1» ، قالت عائشة: فلما أنزل الله تعالى هذا فى براءتى، قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذى قال لعائشة- رضى الله عنها- ما قال، فأنزل الله سبحانه وتعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «2» . قال أبو بكر رضى الله عنه: بلى والله إنى أحبّ أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى فقال: «يا زينب، ماذا علمت أو رأيت» ؟، فقالت: يا رسول الله، أحمى سمعى وبصرى، ما رأيت إلا خيرا، قالت: وهى التى كانت تسامينى «3» من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. انتهى حديث البخارىّ.

وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى عروة بن الزّبير، وعبد الله ابن عبد الله بن عتبة، وعبد الله بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم يحدّث عن عائشة- رضى الله عنهم- بنحو هذا الحديث، وزاد فيه من قول أسامة ابن زيد؛ فأثنى خيرا، وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا هو الكذب والباطل. قال: وأمّا علىّ بن أبى طالب فإنه قال: يا رسول الله، إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، واسأل الجارية فإنها ستصدقك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها علىّ بن أبى طالب فضربها ضربا شديدا، وقال: اصدقى رسول الله. وساق نحو ما تقدم. وقال فى خبر الوحى: قالت فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حنى تغشّاه من الله ما كان يتغشّاه، فسجّى بثوبه، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأمّا أنا حين رأيت ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت؛ قد عرفت أنى منه بريئة، وأنّ الله غير ظالمى، وأمّا أبواى، فو الذى نفس عائشة بيده، ما سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. وساق الحديث بنحو ما تقدم. ثم قال: قالت ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل عليه من القرآن فى ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم؛ فقال رجل من المسلمين فى ذلك: لقد ذاق حسّان الذى كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح «1» تعاطوا برجم الغيب زوج نبيّهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا «2»

وآذوا رسول الله فيها فجلّلوا ... مخازى تبقى عمّموها وفضّحوا وصبّت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح «1» وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة مسطح- وهو عوف بن أثاثة بن عبّاد ابن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه سلمى بنت صخر بن عامر خالة أبو بكر الصدّيق. قال: وذكر الأموى عن أبيه عن ابن إسحاق قال قال أبو بكر يذكر مسطحا: يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة ... من الكلام ولم تتبع بها طمعا وأدركتك حميّا معشر أنف ... ولم تكن قاطعا يا عوف من قطعا هلّا حربت من الأفوام إذ حسدوا ... فلا تقول ولو عاينته قذعا لمّا رميت حصانا غير مقرفة ... أمينة الجيب لم نعلم لها خضعا فيمن رماها وكنتم معشرا أفكا ... فى سىّء القول من لفظ الخنا شرعا فأنزل الله وحيا فى براءتها ... وبين عوف وبين الله ما صنعا فإن أعش أجز عوفا عن مقالته ... شرّ الجزاء إذا ألفيته تبعا ولعل هذا الشّعر إن صحّ عن أبى بكر فيكون قاله قبل نزول قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) الآية. فإنه قد صح أن أبا بكر قال عند نزولها: والله إنّى أحبّ أن يغفر الله لى، ورجع إلى مسطح النفقة التى كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا. وقال محمد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار عن بعض رجال بنى النجار: أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: ألا تسمع ما يقول

الناس فى عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أمّ أيوب فاعلة؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله؛ قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال أهل الإفك، ثم قال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، أى فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته. قال ابن إسحاق: وكان حسّان بن ثابت قال شعرا يعرّض فيه بصفوان بن المعطّل، فاعترضه صفوان فضربه بالسيف، ثم قال: تلقّ ذباب السّيف عنك فإنّنى ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر فوثب ثابت بن قيس بن شمّاس على صفوان بن المعطّل حين ضرب حسّان فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك «1» ! ضرب حسّان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله؛ فقال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله؛ قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فدعا حسّان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى، فحملنى الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حسّان، أتشوّهت «2» على قومى أن هداهم الله للإسلام» ؟ ثم قال: «أحسن يا حسّان فى الذى قد أصابك» قال: هى لك؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا عنها بيرحا- وهى قصر بنى حديلة- كانت ما لا لأبى طلحة وتصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسّان فى ضربته، وأعطاه

سيرين- أمة قبطيّة- فولدت له عبد الرحمن بن حسّان. قال: وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لقد سئل عن ابن المعطّل فوجدوه رجلا حصورا ما يأتى النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضى الله عنه. وقال حسّان بن ثابت يعتذر من الذى كان منه فى شأن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1» عقيلة حىّ من لؤىّ بن غالب ... كرام المساعى مجدهم غير زائل «2» مهذّبة قد طيّب الله خيمها ... وطهّرها من كلّ سوء وباطل «3» فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم ... فلا رفعت سوطى إلىّ أناملى وكيف وودّى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلّهم ... تقاصر عنها سورة «4» المتطاول فإنّ الذى قد قيل ليس بلائط «5» ... ولكنه قول امرئ بى ما حل «6» وقد روينا عن البخارىّ رحمه الله بالإسناد المتقدم، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن عائشة

ذكر خبر التيمم

رضى الله عنها قالت: جاء حسّان بن ثابت يستأذن عليها، قلت: أتأذنين لهذا؟ قالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم؟ قال سفيان: تعنى ذهاب بصره، فقال: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قالت: لكن أنت «1» . وعن مسروق أيضا قال: دخل حسّان على عائشة فشبّب فقال: حصان رزان...... البيت. قالت: لست كذلك، قلت: تدعين هذا يدخل عليك وقد أنزل الله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) ؟ قالت: وأىّ عذاب أشدّ من العمى! وقد كان يردّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر خبر التيمم من أهل العلم من ذهب إلى أن آية التيمم أنزلت فى غزوة المريسيع «2» ، ومنهم من ذهب إلى أنها أنزلت فى غيرها. روى أبو عبد الله محمد البخارىّ رحمه الله بسنده عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لى، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر الصّدّيق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال:

حوادث السنة السادسة

حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى، فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التّيمم فتيمّموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هى بأوّل بركتكم يا آل أبى بكر. قالت: فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته. حوادث السنة السادسة «1» فيها كانت غزوة الحديبيّة، وبيعة الرّضوان، وهدنة قريش، على ما نذكر ذلك كله فى الغزوات إن شاء الله تعالى، وفيها قحط الناس، فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فى شهر رمضان فسقوا، وفيها هاجرت أمّ كلثوم. ذكر هجرة أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وما أنزل الله تعالى فى هجرة النساء لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبيّة، بعد أن حلت الهدنة، وتقررت القضيّة، وكان فيما وقع عليه الصّلح: أنه من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليّه ردّه إليهم، وردّ من ردّ من رجال المسلمين، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى الغزوات. ثم هاجرت أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة، فخرج أخواها عمارة والوليد، ابنا عقبة، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردّها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش، فلم يفعل؛ وذلك أن الله عزّ وجل

[حوادث السنة السابعة]

أنزل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) «1» ، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء لذلك، وأمر بردّ صدقاتهنّ إليهم إن هم ردّوا على المسلمين صدقات من حبسوا عنهم من نسائهم. قال ابن إسحاق: ولما أنزل الله تعالى قوله: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، كان ممن طلّق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، طلّق امرأتيه قريبة ابنة أبى أمية ابن المغيرة، فتزوّجها بعده معاوية بن أبى سفيان، وأمّ كلثوم بنت جرول أمّ عبيد الله ابن عمر الخزاعية، فتزوّجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم، وكانوا إذ ذاك على شركهم. والله أعلم. [حوادث السنة السابعة «2» ] فيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث الهلالية. وفيها أسلم أبو هريرة- واسمه فى الجاهلية عمير بن عامر بن عبد ذى الشّرى، وفى الإسلام عبد الرحمن بن صخر الدّوسىّ، وأسماؤه كثيرة بحسب ما ورد من اختلاف أقوال الرواة، وقد صححوا ما ذكرناه، والله أعلم- وعمران بن حصين. وفيها حرّمت الحمر الأهلية، ومتعة النساء

حوادث السنة الثامنة

على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى غزوة خيبر. وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّسل إلى الملوك، وقدم حاطب بن أبى بلتعة من عند المقوقس بمارية بنت شمعون القبطية أمّ إبراهيم عليه السلام وأختها شيرين. وفيها قدم جعفر بن أبى طالب ومن كان قد بقى من المهاجرين بأرض الحبشة، وقد تقدم ذكرهم. حوادث السنة الثامنة فيها ولد إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية. وفيها توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها وهبت سودة زوج النبى صلى الله عليه وسلم يومها لعائشة رضى الله عنها حين أراد طلاقها. وفيها عمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب عليه. ذكر اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر وخطبته عليه روى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: «إن القيام قد شقّ علىّ» ، فقال له تميم الدارىّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فى ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لى غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره أن يعمله» ، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه فى موضعه [اليوم «1» ] ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه وقال: «منبرى هذا على ترعة من ترع الجنة، وقوائم منبرى رواتب فى الجنة» . وعن سهل بن سعد

ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة

وقد سئل عن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى عود هو؟ فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة- امرأة سماها- فقال: «مرى غلامك النجار يعمل لى أعوادا أكلّم الناس عليها» ، فعمل هذه الثلاث درجات من طرفاء الغابة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه فى هذا الموضع. وقد روى عن باقوم الرومىّ أنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرا من طرفاء، ثلاث درجات: القعدة ودرجتيه؛ رواه عنه صالح مولى التّوءمة «1» . حكاه أبو عمر فى ترجمة باقوم. ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه كان من حنين الجذع ما نذكره إن شاء الله تعالى فى معجزاته صلى الله عليه وسلم. وفى هذه السنة أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، على ما نشرح ذلك. ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة كان سبب إسلامهم على ما حكاه محمد بن إسحاق بسنده يرفعه إلى عمرو بن العاص، قال عمرو: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيى، ويسمعون منّى، فقلت لهم: تعلّموا والله أنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا منكرا، وإنّى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنّجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النّجاشىّ، فإنّا أن نكون تحت يديه أحبّ إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إن هذا

لرأى، قلت: فاجمعوا ما يهدى له، وكان أحبّ ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضّمرىّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه فى شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النّجاشىّ وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها، فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال لى: مرحبا بصديقى، أهديت لى من بلادك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا، ثم قرّبته إليه فأعجبه، ثم قلت له: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدوّ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فعضب، ثم مدّ يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه النّاموس الأكبر الذى كان يأتى موسى صلى الله عليه وسلم لتقتله! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتّبعه، فإنه والله لعلى الحقّ، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبا يعنى له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمتهم إسلامى. ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت خالد بن الوليد وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ فقال: لقد استقام المنسم «1» ،

حوادث السنة التاسعة

وإن الرجل لنبىّ، أذهب والله فأسلم فحتى متى! قال قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنى أبايعك على أن يغفرلى ما تقدّم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر، فقال: «يا عمرو: بايع، فإن الإسلام يجبّ «1» ما كان قبله، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها» ، فبايعت ثم انصرفت. قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما فأسلم حين أسلما. حوادث السنة التاسعة فيها آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، وأقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا. وكان سبب الإيلاء ما رواه البخارىّ بسنده عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهنّ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لى: أهدت لها امرأة من قومها عكّة عسل، فسقت النبىّ صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالنّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولى له: أكلت مغافير، سيقول لك: لا، فقولى له: ما هذه الريح التى أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتنى حفصة شربة عسل، فقولى له: جرست «2» نحله العرفط، وسأقول ذلك، وقولى أنت يا صفية ذلك، قالت: تقول سودة فو الله ما هو إلا أن قام على

الباب فأردت أن أبادئه بما أمرتنى به فرقا منك. ومن رواية مسلم- قالت تقول سودة: فو الذى لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذى قلت لى، وإنه لعلى الباب فرقا منك. قال البخارىّ: فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: «لا» قلت: فما هذه الريح التى أجد منك؟ قال: «سقتنى حفصة شربة عسل» فقالت: جرست نحله العرفط، فلما دار الىّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لى فيه» قالت: تقول سودة والله لقد حرمناه «1» ، قلت لها: اسكتى «2» . وفى رواية عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إنى أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكنى كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبرى بذلك أحدا» ، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «3» . وروى مسلم بن الحجاج فى صحيحه بسنده عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، وكان منزلى فى بنى أمية بن زيد بالعوالى، فتغضّبت يوما على امرأتى، فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فانطلقت فدخلت

على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم [فقلت: أتهجره إحدا كنّ إلى الليل؟ قالت: نعم، فقلت «1» ] : قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحدا كنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا هى قد هلكت، لا تراجعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا، وسلينى ما بدا لك، ولا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، يريد عائشة. ومن رواية البخارىّ قال: خرجت حتى دخلت على أمّ سلمة لقرابتى منها فكلمتها، فقالت أمّ سلمة: عجبا لك يابن الخطّاب! دخلت فى كل شىء حتى تبتغى أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فأخذتنى والله أخذا كسرتنى عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. رجعنا إلى حديث مسلم- قال عمر: وكان لى جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتينى بخبر الوحى وغيره، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدّث أن غسّان تنعل الخيل لغزونا «2» ، فنزل صاحبى، ثم أتانى عشاء فضرب بابى، ثم نادانى فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا، أجاءت غسّان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق النبىّ صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، وقد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصبح شددت علىّ ثيابى، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهى تبكى، فقلت: أطلقكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدرى، ها هو ذا معتزل فى هذه المشربة، فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت

حتى انتهيت إلى المنبر فجلست، فإذا عنده رهط جلوس يبكى بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبنى ما أجد، ثم أتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلىّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرا، فإذا الغلام يدعونى، فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متّكئ على رمل «1» حصير قد أثّر فى جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلىّ وقال: «لا» فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبت على امر أتى يوما فإذا هى تراجعنى، فأنكرت أن تراجعنى، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هى قد هلكت، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنك أن كانت جارتك هى أوسم منك وأحبّ إلى رسول الله منك، فتبسم أخرى. ومن رواية البخارىّ- قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت حديث أمّ سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التّبسم فيما قبلها. قال مسلم فى حديثه: فقلت أستأنس «2» يا رسول الله؟ قال: «نعم» فجلست فرفعت رأسى فى البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يردّ البصر

ذكر خبر مسجد الضرار وهدمه ومن اتخذه من المنافقين

إلا أهبا «1» ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال: «أفى شك أنت يابن الخطاب، أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا» فقلت: استغفر لى يا رسول الله، قال: وكان أقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا من شدة موجدته «2» عليهنّ حتى عاتبه الله عزّ وجلّ. وعن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما مضى تسع وعشرون ليلة دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- بدأ بى- فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت ألّا تدخل علينا شهرا، وإنك دخلت من تسع وعشرين، أعدّهن؟ فقال: «إنّ الشهر تسع وعشرون» ثم قال: «يا عائشة، إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلى حتى تستأمرى أبويك» ثم قرأ علىّ الآية: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) حتى بلغ (أَجْراً عَظِيماً) » فقالت عائشة: قد علم والله أن أبوىّ لم يكونا ليأمرانى بفراقه، فقلت: أو فى هذا أستأمر أبوىّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفيها هدم رسول الله مسجد الضّرار. ذكر خبر مسجد الضرار وهدمه ومن اتخذه من المنافقين وكان هدم مسجد الضّرار عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان أصحابه الذين بنوه اثنى عشر رجلا: وهم خذام بن خالد ومن داره خرج، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد ابن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبحزج من بنى ضبيعة، وبجاد بن عثمان من بنى ضبيعة، ووديعة بن ثابت، فأتوا رسول الله

صلى الله عليه وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذى العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فقال: «إنّى على جناح سفر وحال شغل- أو كما قال صلى الله عليه وسلم- ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه» فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذى أوان- بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدّخشم أخا بنى سالم بن عوف، ومعن بن عدىّ، أو أخاه عاصم بن عدىّ، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدّخشم، فقال مالك لمعن: أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النّخل فأشعل فيه نارا، ثم [خرجا «1» ] يشتدّان حتى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) «2» وفيها لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العجلانىّ وبين امرأته فى مسجده بعد صلاة العصر فى شعبان، وكان عويمر قدم من تبوك فوجدها حبلى. وفى شوّال منها

ذكر إسلام كعب بن زهير بن أبى سلمى وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم

مات عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصلّ بعدها على منافق؛ لقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) «1» الآية. وفيها ماتت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشىّ فى اليوم الذى مات فيه بالحبشة، قيل: فى شهر رجب. وفيها أسلم كعب بن زهير. والله أعلم بالصواب. ذكر إسلام كعب بن زهير بن أبى سلمى وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن الطائف كتب أخوه بجير بن زهير إليه يخبره أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش كابن الزّبعرى، وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فابح إلى نجائك من الأرض. وكان كعب قد كتب إلى أخيه بجير لمّا بلغه إسلامه: ألا أبلغا عنّى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا؟ شربت مع المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا «2» وخالفت أسباب الهدى واتّبعته ... على أىّ شىء ويب غيرك دلّكا «3» على خلق لم تلف أمّا ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

ويروى: على خلق لم تلف يوما أبا له ... عليه وما تلفى عليه أبا لكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إمّا عثرت: لعّا لكا «1» ! وبعث بها إليه، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لما سمع «2» ] قوله «سقاك بها المأمون» : «صدق وإنه لكذوب، [أنا المأمون «3» ] » ولما سمع قوله «على خلق لم تلف أمّا ولا أبا عليه» قال: « [أجل «4» ] لم يلف عليه أباه ولا أمه» فكتب بجير إلى كعب: من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم إلى الله- لا العزّى ولا اللّات- وحده ... فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى علىّ محرّم قال: فلما بلغ كعبا كتاب أخيه ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره «5» من عدوّه، فقالوا: هو مقتول، فقال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوّه، وخرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلّى الصبح فصلّى معه، ثم أشار الجهنىّ لكعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه، فقام حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائيا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله، دعنى وعدوّ الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا «1» » . قال: فغضب كعب على هذا الحىّ من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وأنشد كعب قصيدته؛ وهى: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيّم عندها لم يجز مكبول «2» وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول «3» هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «4» تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنّه منهل بالرّاح معلول «5» شجّت بذى شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «6» تنفى الرّياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل «7»

ويل أمّها خلّة لو أنّها صدقت ... بوعدها أو لو أنّ النّصح مقبول «1» لكنها خلّة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل «2» فما تقوم على حال تكون به ... كما تلوّن فى أثوابها الغول «3» كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل «4» وما تمسّك بالعهد التى زعمت ... إلّا كما يمسك الماء الغرابيل «5» أرجو وآمل أن يعجلن فى أبد ... وما لهنّ إخال الدهر تعجيل «6» فلا يغرنك ما منّت وما وعدت ... إنّ الأمانىّ والأحلام تضليل أمست سعاد بأرض ما يبلّغها ... إلا العتاق النّجيبات المراسيل «7» ولا يبلّغها إلا عذافرة ... فيها على الأين إرقال وتبغيل «8»

من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول «1» ترمى النّجاد بعينى مفرد لهق ... إذا توقّدت الحزّان والميل «2» ضخم مقلّدها فعم مقيّدها ... فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل «3» حرف أخوها أبوها من مهجّنة ... وعمّها خالها قوداء شمليل «4» يمشى القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقراب زهاليل «5» عيرانة قذفت بالنّحض من عرض ... مرفقها عن بنات الزّور مفتول «6»

قنواء فى حرّتيها للبصير بها ... عتق مبين وفى الخدّين تسهيل «1» كأنّ ما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللّحيين برطيل «2» تمرّ مثل عسيب النّخل ذا خصل ... فى غارز لم تخوّنه الأحاليل «3» تهوى على يسرات وهى لاهية ... ذوابل وقعهنّ الأرض تحليل «4» سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهنّ سواد الأكم تنعيل «5» يوما يظلّ به الحرباء مرتبئا ... كأنّ ضاحيه فى النار مملول «6» وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... بقع الجنادب يركضن الحصى قيلوا «7»

كأنّ أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفّع بالقور العساقيل «1» أوب يدى فاقد شمطاء معولة ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل «2» نوّاحة رخوة الضّبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول «3» تفرى اللّبان بكفّيها ومدرعها ... مشقّق عن تراقيها رعابيل «4» تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم ... إنك يابن أبى سلمى لمقتول «5» وقال كلّ صديق كنت آمله ... لا ألهينّك إنّى عنك مشغول «6» فقلت خلّوا طريقى لا أبا لكم ... فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول «7» نبّئت أنّ رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل «8»

لا تأخذنّى بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فىّ الأقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظلّ ترعد من وجد بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل «1» حتى وضعت يمينى ما أنازعها ... فى كفّ ذى نقمات قوله القيل «2» فلهو أخوف عندى إذ أكلّمه ... وقيل إنّك منسوب ومسئول «3» من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... فى بطن عثّر غيل دونه غيل «4» يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس معفور خراذيل «5» إذا يساور قرنا لا يحلّ له ... أن يترك الفرن إلّا وهو مفلول «6» منه تظلّ حميرا الجوّ نافرة ... ولا تمشّى بواديه الأراجيل «7»

ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مطرّح البزّ والدّرسين مأكول «1» إنّ الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «2» أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... كأنّ طلعته فى الليل قنديل «3» فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لمّا أسلموا زولوا «4» زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء ولا ميل معازيل «5» يمشون مشى الجمال الزّهر يعصمهم ... ضرب إذا عرّد السّود التّنابيل «6» شمّ العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود فى الهيجا سرابيل «7» بيض سوابغ قد شكّت لها حلق ... كأنّها حلق القفعاء مجدول «8»

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطّعن إلّا فى نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل «1» قال ابن إسحاق: فلما قال كعب فى قصيدته: «إذا عرّد السّود التنابيل» ، وإنما أراد معشر الأنصار، وخصّ المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت الأنصار عليه، فقال بعد ذلك يمتدح الأنصار من قصيدة له: من سرّه كرم الحياة فلا يزل ... فى «2» مقنب من صالحى الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إنّ الخيار «3» هم بنو الأخيار المكرهين السّمهرىّ بأذرع ... كسوالف «4» الهندىّ غير قصار والناظرين بأعين محمرّة ... كالجمر غير كليلة الإبصار والبائعين نفوسهم لنبيّهم ... للموت يوم تعانق وكرار «5» يتطهّرون «6» يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفّار دربوا كما دربت ببطن خفيّة «7» ... غلب الرّقاب من الأسود ضوارى وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار «8»

ذكر حج أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالناس وأذان على رضى الله عنه بسورة براءة

ضربوا عليّا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار «1» لو يعلم الأقوام علمى كلّه ... فيهم لصدّقنى الذين أمارى قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى «2» قال ابن هشام: ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشد «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول» : «لولا ذكرت الأنصار بخير، فإنّ الأنصار لذلك أهل» . ذكر حج أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه بالناس وأذان علىّ رضى الله عنه بسورة براءة قال: وفى ذى القعدة سنة تسع من الهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه أميرا على الحاج ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضى الله عنه ومن معه من المسلمين، ثم نزلت سورة براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينهم وبينه، ألّا يصدّ عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام، وكان عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، فأذّن فى الناس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى

حوادث السنة العاشرة

أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدّته» فخرج علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه بالطريق، فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال: أمير أو مأمور؛ قال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر رضى الله عنه للناس حجهم، وذلك فى ذى القعدة، حتى إذا كان يوم النحر قام علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأذن فى الناس بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته» وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم «1» ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمّة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدّة فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. حوادث السنة العاشرة فيها كانت حجّة الوداع، سنذكرها إن شاء الله تعالى فى حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها نزل فى يوم جمعة قوله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «2» . وفيها نزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) «3»

صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع عشر فى الأصل الثانى المرموز له بحرف (ا)

الآية. وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك. وفيها مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأوّل. وفى كل سنة من هذه السنين العشر غزوات وسرايا ووقائع تذكر إن شاء الله تعالى فى مواضعها؛ والله المستعان الهادى. صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع عشر فى الأصل الثانى المرموز له بحرف (ا) «كمل الجزء الرابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب؛ للشيخ الإمام شهاب الدين أحمد النّويرىّ رحمه الله تعالى، على يد كاتبه أضعف الخلق وأحقرهم إلى الرحمة، نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ولوالديه، ولمن يطالعه ويدعو له. آمين» . تم بعون الله تعالى تحقيق الجزء السادس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة دار الكتب المصرية فى يوم الخميس 17 من جمادى الثانية سنة 1374 هـ الموافق 10 من فبراير سنة 1955 م. ويليه الجزء السابع عشر، وأوله: «ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

فهرس المراجع

فهرس المراجع 1: الاستيعاب لابن عبد البر، حيدر آباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهبية 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1754 م لإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية 1327 الأصنام لابن الكلبى، دار الكتب المصرية 1343 الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى، بولاق 1285 الاكتفا بما تضمنه من مغازى المصطفى، مخطوطة دار الكتب 2441 حديث. الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 8 مصطلح. الإنباه على قبائل الرواه لابن عبد البر نشره القدسى 1350 الأنساب للسمعانى، ليدن 1912 م. البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1351 تاريخ ابن الأثير، بولاق 1290 تاريخ الخميس للديار بكرى، الوهبية بمصر 1283 تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط دار الكتب 1041 تاريخ تيمور. تاريخ الطبرى، الحسينية بالقاهرة 1336 تاريخ اليعقوبى، النجف 1358 تهذيب الأسماء واللغات للنووى، المنيرية بالقاهرة. تهذيب التهذيب، حيدر آباد 1327 تهذيب الكمال للمزى، مخطوطة دار الكتب المصرية 25 مصطلح. التيجان فى ملوك حمير، حيدر آباد 1347 ثمرات الأوراق لابن حجة، الوهبية 1300 الجامع الصغير للسيوطى، بولاق 1286 جمهرة الأنساب لابن حزم، المعارف 1948 م 2: حلية الأولياء لأبى نعيم، السعادة 1357 الحماسة بشرح التبريزى حياة الحيوان للدميرى، الباببى الحلبى 1305 الخبر عن البشر للمقريزى، مخطوطة دار الكتب 947 تاريخ. خزانة الأدب للبغدادى، بولاق 1219 خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجى، بولاق 1301 خير البشر لابن ظفر، القاهرة 1280 خير البشر، مخطوطة دار الكتب 15 مجاميع دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب المصرية 212 حديث. دلائل النبوّة لأبى نعيم، حيدر آباد 1320 الروض الأنف للسهيلى، الجمالية بمصر 1332 السيرة الحلبية، مصر 1320 السيرة النبوية لابن هشام، مصطفى الحلبى 1355، وجوتنجن 1860 م. شرح السيرة للخشنى، هندية 1329 شرح الشفاء للخفاجى نسيم الرياض. شرح الشفاء للشمنى مزيل الخلفا. شرح المواهب اللدنية للزرفانى، بولاق 1278 صفة الصفوة، حيدر آباد 1355 طبقات ابن سعد، ليدن 1321 طبقات القرّا، السعادة 1351 عيون الأثر لابن سيد الناس نشره القدسى 1356 الكامل فى الضعفاء لابن عدى، مخطوطة 96 مصطلح. كنوز الحقائق للمناوى، مصر 1305 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284

1 المحبر لابن حبيب، حيدر آباد 1361 مزيل الخفا عن ألفاظ الشفاء للشمنى، مخطوطة دار الكتب 375 حديث. المعارف لابن قتيبة، الحسينية 1353 معجم البلدان، السعادة 1324 معجم الطبرانى، مخطوطة دار الكتب 1353 حديث. المعمرين لأبى حاتم، السعادة 1323 المقتفى من سيرة المصطفى لبدر الدين بن حبيب الموصلى، مخطوطة دار الكتب 309 تاريخ. 2 المقدّمة الفاضلية، مخطوطة دار الكتب 19 تاريخ. الميسر والقداح لابن قتيبة، السلفية نسب قريش، مخطوط دار الكتب 4151 تاريخ. نسب معد لابن الكلبى، مخطوطة 9959 تاريخ. نسيم الرياض، الآستانة 1267 النهاية لابن الأثير، بولاق 1311 الوافى بالوفيات، مخطوط دار الكتب 1219 تاريخ. وفيات الأعيان، بولاق 1299.

فهرس الجزء السّابع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات 1 أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم 2 سريّة عبيدة بن الحارث بن المطلب إلى بطن رابع 2 سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار 3 غزوة الأبواء 4 غزوة بواط 4 غزوة بدر الأولى 5 غزوة ذى العشيرة 5 سرية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة 6 غزوة بدر الكبرى 10 رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر 11 خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر 15 قتال الملائكة مع المسلمين 26

ورود الخبر بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش، وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب 31 تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 33 تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة بدر 44 تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر 44 تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر 51 خبر أسارى بدر، وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه منهم، ومن أسلم بسبب ذلك 54 خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو وإطلاقه 56 خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه، وإرساله زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك 57 خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة 61 من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء 61 خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير 62 سريّة عمير بن عدى بن خرشة الخطمى إلى عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد 65 سرية سالم بن عمير العمرى إلى أبى عفك اليهودى 66 غزوة بنى قينقاع 67 غزوة السويق 70 غزوة قرقرة الكدر 71

مقتل كعب بن الأشرف اليهودى 72 غزوة غطفان إلى نجد 77 غزوة بنى سليم ببحران 79 سرية زيد بن حارثة إلى القردة 80 غزوة أحد 81 خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه 100 تسمية من استشهد من المسلمين يوم أحد 104 تسمية من قتل من المشركين يوم أحد 108 ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك 111 غزوة حمراء الأسد 126 سرية أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى 127 سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى 128 سرية المنذر بن عمرو الساعدى إلى بئر معونة 130 سرية مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرجيع 133 غزوة بنى النضير 137 ما أنزل الله عز وجل فى بنى النضير 140 قصة برصيصا 148 غزوة بدر الموعد 154 غزوة ذات الرقاع، وخبر صلاة الخوف 158 خبر غورث بن الحارث المحاربى لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 159

خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبيه 160 غزوة دومة الجندل 162 غزوة بنى المصطلق، وهى غزوة المريسيع 164 غزوة الخندق وهى غزوة الأحزاب 166 تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق، ومن قتل من المشركين 178 ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق، وما ورد فى تفسير ذلك 179 غزوة بنى قريظة 186 نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسؤال الأوس فيهم وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم 190 سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق النضرى بخيبر 197 سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء 200 غزوة بنى لحيان 200 غزوة الغابة وهى غزوة ذى قرد 201 سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الغمر 203 سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة 204 سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصة 204 سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم 205 سرية بن زيد بن حارثة إلى العيص 206

سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 206 سرية زيد بن حارثة إلى حسمى 207 سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى 208 سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل 209 سرية على بن أبى طالب إلى بنى سعد بن بكر بفدك 209 سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة 210 سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام اليهودى بخيبر 211 سرية كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين 213 سريّة عمرو بن أمية الضمرى وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة 214 غزوة الحديبية 217 تجمع قريش للحرب 218 بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعى إلى قريش بمكة 226 بيعة الرضوان 227 ذكر هدنة قريش، وما وقع فيها من الشروط 229 رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ونزول سورة الفتح 234 خبر أبى بصير بن أسيد بن جارية 245 غزوة خيبر 248 خبر بنى سهم حين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 255 فتح الوطيح والسلالم من حصون خيبر 257

تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر 259 قسم غنائم خيبر 261 تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس، وما أعطاهم منها 263 خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله 266 انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح 268 سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 270 سرية أبى بكر الصديق إلى بنى كلاب بنجد 271 سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك 272 سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة 272 سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى يمن وجبار 273 سرية ابن أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم 274 سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى بنى الملوح بالكديد 274 سريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك 276 سرية شجاع بن وهب الأسدى إلى بنى عامر بالسىّ 276 سرية كعب بن عمير الغفارى إلى ذات أطلاح 277 سرية مؤتة 277 تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة 283 سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل 283

سرية أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط 284 سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة 285 سريته إلى بطن إضم 286 غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح 287 خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكة، وإعلام الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عز وجل فى ذلك من القرآن 291 خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة 296 خبر أبى سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 297 محبىء العباس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح 299 دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة 302 شعر ضرار بن الخطاب يوم الفتح 304 من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه 307 إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم ابن مرة بن كعب 310 إسلام عبد الله بن الزبعرى وشعره فى ذلك 311 دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد وطوافه بالبيت، ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام 312

سرية خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها 314 سرية عمرو بن العاص إلى سواع وكسره 315 سرية سعد بن زيد الأشهلى إلى مناة 315 سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء 316 خبر عبد الله بن علقمة مع حبيشة ومقتله 317 غزوة حنين إلى هوازن وثقيف 323 سرية الطفيل بن عمرو الدوسى إلى ذى الكفّين 335 مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة، وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة 339 قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبابا إليهم 341 تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين 345 مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 346 استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة، ورجوعه إلى المدينة 348 سرية عيينة بن حصن الفزارى إلى بنى تميم 348 خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق 349 سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم 350

سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب 350 سرية علقمة بن مجزّز المدلجى إلى الحبشة 351 سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس 352 سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب 352 غزوة تبوك 352 سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك 356 خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه 358 أخبار المنافقين، وما تكلموا به فى غزوة تبوك، وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن 359 خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب 361 سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن 368 سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشراة 370 حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره 371 خطبته فى حجة الوداع 373 عمرة القضاء 375

الجزء السابع عشر

الجزء السابع عشر [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه التوفيق والإعانة ذكر غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يتصل بذلك من الوقائع التى لم تذكر فى حوادث السنين لتعلقها بالغزوات كانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى حضرها بنفسه سبعا وعشرين غزّاة، كلّها بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وهى: غزوة الأبواء، وهى غزوة ودّان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة ذى العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بنى قينقاع، ثم غزوة السّويق، ثم غزوة قرقرة الكدر، وهى غزوة بنى سليم، ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهى غزوة ذى أمر «1» ، ثم غزوة بنى سليم ببحران، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بنى النّضير، ثم غزوة بدر الموعد «2» ، ثم غزوة ذات الرّقاع، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، ثم غزوة الخندق، وهى غزوة الأحزاب، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان، ثم غزوة الغابة، وهى غزوة ذى قرد، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطّائف، ثم غزوة تبوك، ومنهم من عدّ عمرة القضاء مع الغزوات، وكانت بعد خيبر وقبل الفتح.

ذكر أول لواء عقده صلى الله عليه وسلم

قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذه الغزوات فى تسع، وهى: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطّائف؛ وقيل: إنه قاتل فى بنى النّضير، والغابة. وسراياه صلّى الله عليه وسلّم نحو من ستّين سريّة «1» . ذكر أوّل لواء عقده صلّى الله عليه وسلّم كان أوّل لواء عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّه حمزة بن عبد المطلب فى شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لواء أبيض، حمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنوىّ، حليف حمزة، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثين رجلا من المهاجرين يعترض لعير «2» قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام فى ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف «3» البحر من ناحية العيص «4» ، فالتّقوا، وصفّوا للقتال، فمشى مجدىّ بن عمرو الجهنىّ، وكان موادعا للفريقين جميعا، إلى هؤلاء مرة، وإلى هؤلاء مرة، حتى حجز بينهم. ذكر سرية عبيدة بن الحارث بن المطّلب إلى بطن رابغ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وعقد له لواء أبيض،

ذكر سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار

حمله مسطح بن أثاثة بن المطّلب بن عبد مناف. حكاه محمد بن سعد. قال ابن إسحاق: أو ثمانين رجلا من المهاجرين، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنيّة المرة، فلقى به جمعا عظيما من قريش. قال الشيخ شرف الدين الدمياطىّ رحمه الله: فلقى أبا سفيان بن حرب، وهو فى مائتين، على ماء يقال له أحياء، من بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة، فكان بينهم الرّمى ولم يسلّوا السيوف ولم يصطفّوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقّاص أوّل من رمى بسهم فى سبيل الله، ثم انصرف الفريقان على حاميتهم «1» ؛ وكان على القوم عكرمة بن أبى جهل. وقال أبو محمد بن هشام: كان عليهم مكرز بن حفص ابن الأخيف. قال ابن إسحاق: وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانىّ حليف بنى زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنىّ حليف بنى نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما جاءا مع القوم ليتوصّلا بهم «2» . وقدّم ابن إسحاق هذه السّريّة على سرية حمزة. ذكر سريّة سعد بن أبى وقّاص إلى الخرّار «3» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجره فى عشرين رجلا من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهرانىّ، وساروا يتعرضون لعير قريش، وعهد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا يجاوز الخرار. قال سعد: فخرجنا على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، حتى صبّحناها صبح خمس، فنجد العير قد مرّت بالأمس.

ذكر غزوة الأبواء

ذكر غزوة الأبواء «1» وهى غزوة ودّان «2» وبينهما ستة أميال وهذه الغزوة أول غزاة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وكانت فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج فى المهاجرين ليس فيهم أنصارىّ حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش، فلم يلق كيدا. وفى هذه الغزاة وادع مخشىّ بن عمرو الضّمرىّ، وكان سيّدهم فى زمانه، على ألّا يغزو بنى ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا. وكانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة. ذكر غزوة بواط غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأسه ثلاثة عشر شهرا من مهاجره «3» وحمل لواءه سعد «4» بن أبى وقّاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد «5» بن معاذ. [وقال ابن هشام: استعمل عليها السائب بن عثمان بن مظعون.]

ذكر غزوة بدر الأولى

وخرج فى مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش، فيها أميّة بن خلف الجمحىّ ومائة رجل من قريش وألف وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا، وهى من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهى قريب من ذى خشب مما يلى طريق الشام، وبين بواط والمدينة نحو من أربعة برد، فلم يلق كيدا، فرجع صلّى الله عليه وسلّم «1» . ذكر غزوة بدر الأولى «2» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، لطلب كرز بن جابر الفهرىّ، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كرز قد أغار على سرح «3» المدينة فاستاقه، وكان يرعى بالجمّاء، فطلبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يلحقه، فرجع إلى المدينة. ذكر غزوة ذى العشيرة العشيرة، بالشين المعجمة، وقيل بالسين المهملة، وقيل: العشيرا بالألف. غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة، على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومىّ.

ذكر سرية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة

وخرج فى خمسين ومائة، ويقال فى مائتين من المهاجرين ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها «1» ، وخرج يعترض لعير قريش حين ابتدأت إلى الشام، فبلغ ذا العشيرة، وهى لبنى مدلج بناحية ينبع، فوجد العير التى خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهى العير التى خرج أيضا يريدها حين رجعت من الشام، فكانت فيها وقعة بدر الكبرى. وفى هذه الغزاة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة. وفيها كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا رضى الله عنه أبا تراب «2» ، وقيل فى غيرها. ذكر سرّية عبد الله بن جحش الأسدى إلى نخلة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجره فى اثنى عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا. قال ابن إسحاق: وكتب [له «3» ] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ويمضى لما أمره به، ولا يستكره أحدا من أصحابه.

قال: وكان معه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكّاشة بن محصن، وعتبة ابن غزوان بن جابر، وسعد بن أبى وقّاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التّميمىّ، وخالد بن البكير أحد بنى سعد بن ليث، وسهيل بن بيضاء. هؤلاء الذين عدّهم ابن إسحاق؛ وكان معهم المقداد بن عمرو، حكاه محمد بن سعد. قال ابن إسحاق: فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت فى كتابى هذا فأمض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم» . فلما نظر عبد الله فى الكتاب قال: سمع وطاعة. ثم ذكر ذلك لأصحابه وقال لهم: قد نهانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشّهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمضوا كلّهم، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضلّ سعد بن أبى وقّاص وعتبة بن غزوان بعيرهما، فتخلّفا فى طلبه، ومضى عبد الله وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما «1» وتجارة من تجارة قريش- قال ابن سعد: وخمرا- وفيها عمرو بن الحضرمىّ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هابوهم؛ وكان عكّاشة حلق رأسه ليطمئن «2» القوم؛ فأمنوا. وقال لهم «3» عثمان: لا بأس عليكم منهم. قال: فسّرحوا ركابهم، وصنعوا طعاما. قال: فتشاور القوم فيهم، وذلك آخر يوم من شهر رجب، فقالوا: والله لئن

تركتموهم فى هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به، وإن قتلتموهم لتقتلنّهم فى الشهر الحرام. فتردّد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجّعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم؛ فخرج واقد بن عبد الله يقدم المسلمين، فرمى عمرو بن الحضرمىّ بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل «1» بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما قدموا عليه قال: ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام. ووقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا؛ فأسقط «2» في يد القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم المسلمون فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال «3» ، وأسروا الرجال؛ وأكثر الناس فى ذلك، فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أى إن كنتم قتلتم فى الشهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ؛ أى قد كانوا يفتنون المسلمين فى دينهم حتى يردّوهم إلى الكفر بعد إيمانهم، فذاك أكبر عند الله من القتل.

قال: فلما نزلت الآيات قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش فى فدائهما، فقال: لا. حتى يقدم صاحبانا، يعنى سعد ابن أبى وقّاص، وعتبة بن غزوان، فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة، فكان بها حتى مات كافرا. قال: فلما تجلّى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا فى الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها اجر المجاهدين؟ فأنزل الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفىء فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه، وخمسه إلى الله ورسوله. قال ابن هشام: وهى أوّل غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمىّ أول من قتل المسلمون، وعثمان والحكم أول من أسر المسلمون. وفى هذه السريّة سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. وقال عبد الله بن جحش فى هذه الواقعة، ويقال إنها لأبى بكر الصدّيق رضى الله عنه؛ والذى صحّحه ابن هشام أنها لعبد الله بن جحش، أبياتا يخاطب بها قريشا: تعدّون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد صدودكم عمّا يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد

ذكر غزوة بدر الكبرى

وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلّا يرى لله فى البيت ساجد فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باع وحاسد سقينا من ابن الحضرمىّ رماحنا ... بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القدّ عاند «1» ذكر غزوة بدر الكبرى «2» ، ويقال فيها بدر القتال، وما يتّصل بها كان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع بإقبال أبى سفيان بن حرب من الشام فى العير التى لقريش، وهى التى خرج إليها فى غزوة ذى العشيرة، وكان فيها أموال قريش وتجاراتهم، وفيها منهم ثلاثون أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص بن وائل، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها، فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقل بعض. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس «3» الأخبار، ويسأل من لقى من الرّكبان عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخوّفا على ما معه؛ فأخبره بعض الركبان: أن

ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استنفر أصحابه لقصده، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفارىّ؛ فبعثه إلى مكة، وأمره أن يستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه؛ فأسرع ضمضم إلى مكة. ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وخروج قريش إلى بدر قال محمد بن إسحاق رحمه الله بسنده إلى عبد الله بن عبّاس، وعروة بن الزبير رضى الله عنهم. قالا: ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس، فقالت له: والله لقد رأيت رؤيا أفظعتنى وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شرّ أو مصيبة، فاكتم عنى ما أحدّثك به، قال: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح «1» ، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يا آل غدر «2» ! لمصارعكم فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينماهم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر! لمصارعكم فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على

رأس أبى قبيس «1» فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها مكة «2» فلا دار منها إلا دخلتها منها فلقة؛ قال العباس: والله إنّ هذه لرؤيا! وأنت «3» فاكتميها. ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبه بن ربيعة، وكان صديقا له؛ فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة؛ ففشا الحديث حتى تحدّثت به قريش. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأت إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم؛ فقال لى أبو جهل: يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبيّة؟ قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت: وما رأت؟ فقال: يا بنى عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! فقد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال: انفروا فى ثلاث، فسنتربّص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب؛ قال العباس: فو الله ما كان منى إليه كبير إلا أنّى جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا، قال: ثم تفرّقنا. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم تكن

عندك غيرة «1» لشىء مما سمعت! قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان منّى إليه من كبير؛ وأيم الله لأتعرّضنّ له، فإن عاد لأكفينّكنّه. قال: فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إنى لأمشى نحوه أتعرض له ليعود لبعض ما قال، فأوقع به، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ «2» ، فقلت فى نفسى: ما له لعنه الله! أكلّ هذا فرق منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره، قد جدع «3» بعيره وحوّل رحله، وشقّ قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللّطيمة «4» اللّطيمة! أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث! قال العباس: فشغلنى عنه، وشغله عنّى ما جاء من الأمر. فتجهّز الناس سراعا وقالوا: أيظنّ محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمىّ؟ كلّا! والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إمّا خارج، وإما باعث رجلا مكانه، وأوعبت «5» قريش فلم يتخلّف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلّب تخلّف، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت لأبى لهب عليه، فخرج عنه. وروى أبو الفرج علىّ بن الحسين الأصفهانىّ فى كتابه المترجم بالأغانى «6» بسند يرفعه إلى مصعب بن عبد الله قال:

قامر أبو لهب العاصى بن هشام فى عشرة من الإبل فقمره «1» ، ثم فى عشرة فقمره، [ثم فى عشرة فقمره «2» ] ، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيئا، فقال له: إنى أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب، فهلّم أقامرك يابن عبد المطلب، فأيّنا غلب كان عبد الصاحبه. قال: افعل، ففعل. فقمره أبو لهب، فكره أن يسترقّه فتغضب بنو مخزوم، فمشى إليهم فقال: افتدوه منى بعشرة من الإبل. فقالوا: لا والله ولا بوبرة. فاسترقّه، فكان يرعى له إبله إلى أن خرج المشركون إلى بدر. قال: وقال غير مصعب: فاسترقه واحتبسه قينا «3» يعمل [الحديد «4» ] . فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجه أبو لهب عنه لأنه كان عليلا، على أنه إن عاد أعنقه، فقبل العاصى. قال ابن اسحاق: وكان أميّة بن خلف قد أجمع القعود [وكان شيخا «5» جليلا جسيما ثقيلا] فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين قومه بمجمرة «6» ، فوضعها بين يديه، وقال: يا أبا علىّ، استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهّز وخرج مع الناس. قال: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. فكادوا ينثنون؛ فتبدّى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك المدلجىّ، وكان من أشراف كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء مما تكرهونه فخرجوا سراعا. هذا ما كان من أمر قريش.

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين إلى بدر

ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين إلى بدر قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لثمان خلون من شهر رمضان. وقال محمد بن سعد: خرج يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره، واستعمل على المدينة عمرو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله، ليصلّى بالناس، ثم ردّ أبا لبابة من الرّوحاء «1» واستعمله على المدينة، وخرج صلّى الله عليه وسلّم فى ثلاثمائة رجل وخمسة عشر رجلا، كان من المهاجرين منهم أربعة وسبعون، وسائرهم من الأنصار بعد أن ردّ من أصحابه من استصغرهم، ولم يكن غزا بالأنصار قبلها. قال محمد بن سعد: وتخلّف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية لعلّة، ضرب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهامهم، وأجورهم؛ ثلاثة من المهاجرين: وهم عثمان بن عفان، خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على امرأته رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مريضة، فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، بعثهما يتحسّسان خبر العير، وخمسة من الأنصار، وهم: أبو لبابة بن عبد المنذر، خلّفه على المدينة، وعاصم بن عدىّ، خلّفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب، رده من الرّوحاء إلى بنى عمرو بن عوف لشىء بلغه عنهم، والحارث بن الصّمة، وخوّات بن جبير، كسرا بالرّوحاء.

وكانت إبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سبعين بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ يعتقبون بعيرا. قال محمد بن سعد يرفعه إلى ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة، وعلىّ، زميلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا كانت عقبة النبى صلّى الله عليه وسلّم قالا له: اركب يا رسول الله حتى تمشى عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى على المشى منّى، وما أنا أغنى عن الأجر منكما.» قال ابن إسحاق: وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتقبون بعيرا؛ وكان أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، يعتقبون بعيرا. قال ابن سعد: وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد ابن أبى مرثد الغنوىّ. قال ابن إسحاق: وفرس للزّبير بن العوّام. قال: ودفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللّواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض، قال: وكان أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب، والأخرى مع الأنصار. قال ابن سعد: وكان لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّاقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

قريبا من الصّفراء» بعث بسبس بن عمرو، وعدىّ بن أبى الزّغباء الجهنيّين إلى بدر يتحسّسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره. ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم إلى ذفران- واد يسار الصّفراء- وأتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله! فنحن معك فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد «2» لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيرا، ودعا له. ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس- وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل؛ قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللّقاء،

لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم» . ثم ارتحل صلّى الله عليه وسلّم من ذفران «1» حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقفا على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرانى من أنتما؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أو ذاك بذاك؟ قال نعم. قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن صدق الذى أخبرنى فهم «2» اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى ترك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه- وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذى به قريش- ثم قال: من أنتما؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن من ماء. ويقال: إن الشيخ سفيان الضّمرىّ. قال: ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوّام، وسعد بن أبى وقّاص، فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له عليه الخبر، فأصابوا راوية «3» لقريش فيها أسلم، غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بنى العاص، فأتوا بهما؛ فسألهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قريش، فقالا: هم وراء هذا الكئيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندرى.

قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسعا، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترىّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، والنّضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميّة بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت أفلاذ كبدها. قال: وبلغ أبا سفيان الخبر بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ماء بدر، فرجع إلى أصحابه سريعا وصرف وجه عيره عن الطريق، فساحل بها «1» ، وترك بدرا يساره، وانطلق. وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة «2» ، رأى جهيم بن الصّلت بن مخرمة ابن عبد المطلب رؤيا فقال: إنّى فيما يرى النائم، أو إنى «3» لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممّن كان قتل يوم بدر من أشراف قريش، ورأيته ضرب فى لبّة بعيره، ثم أرسله فى العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح «4» من دمه. قال: فبلغت أبا جهل بن هشام فقال: وهذا أيضا نبىّ آخر من بنى عبد المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.

قال: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا؛ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا؛ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم فيه سوق فى كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان «1» ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعينا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا. فمضت قريش حتى نزلوا العدوة «2» القصوى من الوادى، والقلب «3» ببدر فى العدوة «4» الدنيا، قال: وبعث الله السماء، وكان الوادى دهسا «5» ، فأصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منها ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير. وقال ابن سعد: كان المسلمون يومئذ يميدون من النعاس ونزلوا على كثيب «6» أهيل، فمطرت السماء فصار مثل الصّفا «7» يسعون عليه سعيا. وأنزل الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ «8» النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) . قال ابن إسحاق: وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء

من ماء بدر نزل به، فأتاه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله، هذا المنزل منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل الرأى والحرب والمكيدة» . قال يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نعوّر «1» ما وراءه من القلب، ثم نبتنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أشرت بالرأى» ، فنهض بالناس وسار حتى [إذا «2» ] أتى أدنى ماء من القوم، نزل عليه؛ ثم أمر بالقلب فعوّرت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية. فقال سعد بن معاذ: يا نبىّ الله، نبتنى لك عريشا «3» تكون فيه، وتكون عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ لك حبّا منهم، ولو ظنّوا أن تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك؛ فأثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه خيرا، ثم بنى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عريش، فمكان فيه. قال: وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلمّا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «4» وفخرها، تحادّك «5» وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «6» الغداة.»

قال ابن سعد: كانت قريش تسعمائة وخمسين، وخيلهم مائة فرس، وكان لهم ثلاثة ألوية؛ لواء مع أبى عزيز بن عمير، ولواء مع النّضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبى طلحة. قال ابن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار وغيره، عن أشياخ من الأنصار، قال: لما اطمأنّ القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحىّ فقالوا: احزر «1» لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر، أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب فى الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكنى رأيت يا معشر قريش البلايا «2» تحمل المنايا، نواضح «3» يثرب تحمل الموت الناقع «4» ، قوم ليس معهم [منعة «5» ] ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرصا لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعى؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس؛ فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك ألّا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمىّ. قال: قد فعلت، علىّ عقله «6» ؛ فأت ابن الحنظليّة، يعنى أبا جهل بن هشام، قال: فأتيته فقلت: يا أبا الحكم، قد أرسلنى إليك عتبة

بكذا وكذا، فقال: انتفخ والله سحره «1» حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فأنشد خفرتك «2» ومقتل أخيك. فقام عامر فاكتشف «3» ثم صرخ: واعمراه! وا عمراه! فحميت الحرب» وحقب «5» أمر الناس، واستوسقوا «6» على ما هم عليه من الشر. قال: فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومىّ، وكان رجلا شرسا سيّء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه، أو أموتنّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ «7» قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره، ثم جاء إلى الحوض يريد أن يبرّ يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله. ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا برز من الصفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوّذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار؛ قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

عمّه حمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وعبيدة بن الحارث، فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فسمّى كل رجل منهم نفسه، قالوا: نعم أكفاء كرام؛ فبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعلىّ فإنهما لم يمهلا مبارزيهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت «1» صاحبه، وكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا «2» عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه «3» إلى أصحابه. قال محمد بن سعد: وفى عبيدة وعتبة نزل قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) . قال: ثم زحف الناس ودنا بعضهم من بعض. وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة. وعدّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّفوف، ورجع إلى العريش، فدخله هو وأبو بكر الصدّيق ليس معه غيره فيه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يناشد «4» ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبىّ الله، بعض مناشدتك ربّك، فإن الله منجزك ما وعدك. وخفق «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفقة ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النّقع «6» .

قال ابن إسحاق: ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، وكان أول قتيل قتل من المسلمين، ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بنى عدىّ بن النجّار، وهو يشرب فى الحوض بسهم، فأصاب نحره، فقتل. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس يحرّضهم، وقال: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ، فقال عمير بن الحمام أخو بنى سلمة، وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ «1» ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل. وقال عوف بن الحارث- وهو ابن عفراء- يا رسول الله: ما يضحك «2» الربّ من عبده؟ قال: غمسه يده فى العدوة حاسرا. فنزع درعا كانت عليه، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل. قال: ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت «3» الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدّوا؛ فكانت الهزيمة على قريش، فقتل الله من صناديد قريش من قتل، وأسر من أسر. قال محمد بن سعد: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لما نزلت: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، قلت: وأىّ جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يثب فى الدرع وثبا وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، فعملت أن الله تعالى سيهزمهم.

قال: ولمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فى العريش «1» ] وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشّح السيف، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يخافون عليه كرّة العدوّ، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنّى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؛ قال: أجل: والله يا رسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشّرك، فكان الإثخان فى القتل أحبّ إلىّ من استبقاء الرجال. وفى هذا اليوم أنزل الله تعالى الملائكة فقاتلوا مع المسلمين. قال محمد بن سعد: لما صفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وعبّأهم للحرب، جاءت ريح لم ير مثلها شدّة ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى ثم ذهبت، فجاءت ريح أخرى، فكانت الأولى جبريل عليه السلام فى ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية ميكائيل عليه السلام فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثالثة إسرافيل فى ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سيما الملائكة يومئذ عمائم قد أرخوها بين أكتافهم: خضر وصفر وحمر من نور، والصّوف فى نواصى خيلهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: إنّ الملائكة قد سوّمت فسوّموا. فأعلموا بالصوف فى مغافرهم «2» وقلانسهم. قال: وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق. وقال ابن إسحاق: حدّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدّث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: حدّثنى رجل من بنى غفار قال:

أقبلت أنا وابن عمّ لى حتى أصعدنا فى جبل يشرف [بنا «1» ] على بدر [ونحن مشركان «2» ] ننظر الوقعة على من تكون الدائرة «3» ، ننتهب مع من ينتهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم «4» حيزوم. قال: فأمّا ابن عمى فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه. وأما أنا فكدت أن أهلك، ثم تماسكت. وروى ابن إسحاق عن أبى أسيد مالك بن ربيعة- وكان شهد بدرا- قال- بعد أن ذهب بصره-: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشّعب «5» الذى خرجت منه الملائكة، لا أشكّ ولا أتمارى «6» . وعن أبى داوود المازنىّ، قال: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قتله غيرى. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: كانت سما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها فى ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا، وفى حديث آخر عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم. إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لم تقاتل الملائكة فى يوم سوى يوم بدر، وكانوا فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.

قال: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: أحد أحد. قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز وهو [يقاتل «1» و] يقول: ما تنقم الحرب العوان منّى ... بازل عامين حديث سنّى «2» . لمثل هذا ولدتنى أمّى قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه أمر أن يلتمس أبو جهل بن هشام فى القتلى، فمرّ به عبد الله بن مسعود، قال: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه، فقال لى: لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا، ثم قال: أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ فقلت: لله ولرسوله؛ ثم احتززت رأسه، ثم جئت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدوّ الله أبى جهل؛ فقال: الله «3» الذى لا إله غيره؟ قلت: نعم والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، طرحوا فيه إلا أميّة بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها فذهبوا ليحرّكوه فتزايل «4» ، فأقرّوه وألقوا عليه ما غيّبه من التراب والحجارة، قالت: ولما ألقوا فى القليب، وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يأهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى

ربى حقا» قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم: «لقد علموا أنّ ما وعدهم ربهم حق» . وعن أنس رضى الله عنه نحوه، إلا أنّ فيه: فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيّفوا «1» ؟ قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم «2» ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبونى» . قال ابن إسحاق: وكان الفتية الذين قتلوا ببدر- فنزل فيهم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) - الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أميّة بن خلف، والعاص ابن منبّه. وذلك أنهم كانوا أسلموا بمكة، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم خرجوا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا كلّهم. قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فى العسكر ممّا جمع الناس فجمع، واختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ وقال الذين كفروا يقاتلون العدوّ: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم؛ وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخافة أن يخالف إليه العدوّ: ما أنتم بأحقّ منّا، لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذا منحنا الله

أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنّا خفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم أحقّ به منا. فأنزل الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ، نزلت السورة بجملتها فى غزوة بدر. قال: ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين والنّفل «1» ، وجعل على النّفل عبد الله بن كعب المازنىّ، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق «2» وبين النازية «3» ، يقال له: سير، إلى سرحة «4» [به «5» ] وهو من المدينة على ثلاث ليال، فقسم هناك النّفل الذى أفاء الله على المسلمين على السواء. قال ابن سعد: وتنفّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبّه بن الحجّاج، فكان صفيّه يومئذ؛ وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهمه مع المسلمين، وفيه جمل أبى جهل بن هشام، وكان مهريّا «6» ، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة بشيرا إلى المدينة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية. قال ابن سعد يرفعه إلى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت،

فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرجوا، فقال: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم» . ففتح الله يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، فاكتسبوا وشبعوا. وقال يرفعه إلى عكرمة قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من أهل بدر: عليك بالعير ليس دونها شىء، فناداه العباس: إنه لا يصلح ذلك لك، قال: لم؟: قال: لأنّ الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، فقد أعطاك ما وعدك. ذكر ورود الخير بمصاب أهل بدر على من بمكة من كفار قريش وهلاك أبى لهب بن عبد المطلب قال ابن إسحاق: كان أوّل من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعىّ، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج، وأبو البخترىّ، وجعل يعدّد أشراف قريش، فقال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر،: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس فى الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد داخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه [وكان

ذا مال كثير متفرّق فى قومه «1» ] . وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة [وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا «2» ] ، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كتبه «3» الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوّة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أمّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس على طنب «4» الحجرة، وكان ظهري إلى ظهره، فبينما هو جالس إذ قال الناس «5» : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال أبو لهب: هلمّ إلىّ، فعندك لعمرى الخير. قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «6» شيئا ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة [بيدى «7» ] ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، فثاورته «8» فاحتملنى، فضرب بى الأرض، ثم برك على صدرى، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلقت «9» رأسه شجّة منكرة، وقالت:

ذكر تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

أتستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام مولّيا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة «1» فقتلته. وقالت قريش فى قتلى بدر مراثى كثيرة ذكرها ابن هشام وغيره، تركنا إيرادها رغبة فى الاختصار، ولأنه ليس تحت ذلك كبير فائدة فيما نحن بصدده، إلا أنها تشهد بقتل من قتل ممن نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر تسمية من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جميع من شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ومن ضرب له فيها بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون «2» ، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون. فأما من شهد بدرا من المهاجرين، ومن ضرب له بسهمه وأجره، فشهدها من بنى هاشم بن عبد مناف اثنا عشر رجلا، وهم: سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحمزة بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة، وأنسة الحبشى، وأبو كبشة الفارسى، موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو مرثد كنّاز بن حصين، وابنه مرثد، حليفا حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، ومسطح، واسمه عوف بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب «3» .

ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف وحلفائهم خمسة عشر رجلا، وهم: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه. ومن حلفائهم من بنى أسد ابن خزيمة عبد الله بن جحش بن رئاب، وعكّاشة بن محصن، وشجاع بن وهب ابن ربيعة، وأخوه عقبة، ويزيد بن رقيش «1» بن رئاب، وأبو سنان بن محصن ابن حرثان «2» أخو عكّاشة، وابنه سنان، ومحرز بن نضلة بن عبد الله وربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو. ومن حلفائهم بنى كبير «3» بن غنم بن دودان بن أسد: ثقف بن عمرو، وأخواه مالك، ومدلج «4» ، وهم من بنى حجر آل بنى سليم، وأبو مخشى، حليف لهم. ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: عتبة بن غزوان، وخبّاب مولاه. ومن بنى أسد بن عبد العزّى ثلاثة نفر، وهم: الزبير بن العوّام وحاطب بن أبى بلتعة، وسعد مولاه. ومن بنى عبد الدار رجلان، وهما: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، وسويبط بن سعد بن حريملة، ويقال: ابن حرملة بن مالك بن عميلة بن السّبّاق بن عبد الدار.

ومن بنى زهرة بن كلاب وحلفائهم تسعة نفر، وهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو وقّاص مالك بن أهيب «1» ، وأخوه عمير بن أبى وقّاص. ومن حلفائهم: المقداد بن عمرو بن ثعلبة، وعبد الله بن مسعود ابن الحارث، ومسعود بن ربيعة بن عمرو، وذو الشّمالين «2» عمير بن عبد عمرو بن نضلة، وخبّاب بن الأرتّ. ومن بنى تميم بن مرّة ومواليهم أربعة نفر، وهم: أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، ومواليه، بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وصهيب بن سنان. ومن بنى مخزوم خمسة نفر، وهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وشمّاس بن عثمان بن الشّريد، واسم شمّاس عثمان، والأرقم بن أبى الأرقم، وأبو الأرقم هو عبد مناف بن أسد، وعمّار بن ياسر، ومعتّب بن عوف بن عامر حليف لهم. ومن بنى عدىّ بن كعب وحلفائهم اثنا عشر رجلا، وهم: عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، وأخوه زيد، ومهجع مولى عمر، وعمرو بن سراقة بن المعتمر وأخوه عبد الله، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين، حليف لهم، [وعامر «3» ابن البكير، وأخواه خالد، وإياس، حلفاء بنى عدىّ، وخولىّ بن أبى خولىّ، وأخوه مالك، حليفان لهم- ومنهم من عدّ هلال بن أبى خولى- وعامر بن أبى ربيعة، حليف لهم] .

ومن بنى جمح خمسة نفر، وهم: عثمان بن مظعون، وابنه السّائب وأخواه قدامة، وعبد الله، ابنا مظعون، ومعمر بن الحارث بن معمر. ومن بنى سهم بن عمرو: خنيس بن حذافة بن قيس. ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر، وهم: [أبو سيرة «1» بن أبى رهم بن عبد العزّى، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزّى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو- وكان قد خرج مع أبيه سهيل، فلما نزل الناس بدرا فرّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهدها معه- وعمير بن عوف، مولى سهيل بن عمرو، وسعد ابن خولة، حليف لهم.] ومن بنى الحارث بن فهر خمسة نفر، وهم] : أبو عبيدة عامر بن عبد الله ابن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسهيل بن ربيعة بن هلال، وأخوه صفوان بن وهب «2» ، وهما ابنا بيضاء، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة. هؤلاء الذين شهدوا بدرا من المهاجرين. وأما من ضرب له بسهمه وأجره، فثلاثة نفر، وهم «3» : عثمان بن عفّان- وقد تقدّم خبره- وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا قد بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام يتحسّسان له خبر العير، فقد ما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا؛ قال: وأجركما.

وأما من شهدها من الأوس ومن غاب وضرب له فيها بسهمه وأجره، فهم أحد وستون رجلا، شهدها منهم ستة وخمسون رجلا، وهم: سعد بن معاذ ابن النعمان، وأخوه عمرو بن معاذ، والحارث بن أنس بن رافع «1» ، وسعد بن زيد ابن مالك، وسلمة بن سلامة بن وقش، وعبّاد بن بشر بن وقش، وسلمة بن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز «2» ، والحارث بن خزمة بن عدىّ، حليف لهم، ومحمد بن مسلمة بن خالد، حليف لهم، [وسلمة «3» بن أسلم بن حريش، حليف لهم] ، وأبو الهيثم بن التّيّهان، وأخوه عبيد بن التيهان- قال ابن هشام: ويقال: عتيك بن التيهان- وعبد الله سهيل «4» ، وقتادة بن النعمان بن زيد، وعبيد ابن أوس بن مالك- وعبيد هو الذى يقال له: مقرّن، لأنه قرن أربعة أسرى فى يوم بدر، وهو الذى أسر عقيل بن أبى طالب يومئذ، [ونصر «5» بن الحارث بن عبد بن رزاح بن كعب] ، ومعتّب بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف لهما من بلىّ، ومسعود بن سعد بن عامر، ويقال فيه: مسعود بن عبد سعد، وأبو عبس بن جبر بن عمرو، وأبو بردة بن نيار، واسمه هانئ، حليف لهم من بلىّ، وعاصم بن ثابت بن قيس، ومعتّب بن قشير، وأبو مليل بن الأزعر بن زيد، وعمرو بن معبد بن الأزعر، وقيل فيه: عمير بن معبد، وسهل بن حنيف «6» بن واهب، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر «7» ، وأخوه

رفاعة، وسعد بن عبيد بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ورافع بن عنجدة، وعبيد ابن أبى عبيد، وثعلبة بن حاطب، وأنيس بن قتادة بن ربيعة. ومعن بن عدىّ ابن الجدّ من حلفائهم، وثابت بن ثعلبة، وعبد الله بن سلمة، وزيد بن أسلم بن ثعلبة، وربعىّ بن رافع بن زيد، هؤلاء الخمسة من حلفائهم من بلىّ، وعبد الله ابن جبير بن النعمان [وعاصم «1» بن قيس بن ثابت، وأبو ضيّاح ثابت بن النعمان وأخوه أبو حنّة- ويقال: أبو حيّة- وسالم بن عمير بن ثابت بن النعمان، والحارث ابن النعمان] بن أمية، ومنذر بن محمد بن عقبة، وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة من حلفائهم، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ومنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة ابن عرفجة، والحارث بن عرفجة، وتميم مولى بن غنم، وجبر» بن عتيك بن الحارث ومالك بن نميلة، حليف لبنى معاوية من مزينة، والنعمان بن عصر «3» ، حليف لبنى معاوية من بلىّ. هؤلاء الذين شهدوها من الأوس. وأما من ضرب له بسهمه وأجره منهم فخمسة نفر، وهم: أبو لبابة واسمه بشير بن عبد الله، والحارث بن حاطب، وحاطب بن عمرو بن عبيد وعاصم بن عدىّ بن الجدّ بن العجلان، وخوّات بن جبير بن النعمان. وأما من شهدها من الخزرج ومواليهم وحلفائهم فمائة وسبعون رجلا: خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد بن ربيع بن عمرو بن أبى زهير وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس، وخلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو

وبشير بن سعد بن ثعلبة، وأخوه سماك «1» بن سعد، وسبيع بن قيس بن عيشة «2» بن أمية، وأخوه عبّاد بن قيس، وعبد الله بن عبس، ويزيد بن الحارث بن قيس وخبيب بن إساف بن عتبة، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة، وأخوه حريث بن زيد، وسفيان بن نسر «3» بن عمرو بن الحارث، وتميم بن يعار «4» بن قيس، وعبد الله ابن عمير بن عدىّ، وزيد بن المزين «5» بن قيس، وعبد الله بن عرفطة بن عدىّ، وعبد الله بن ربيع بن قيس، وعبد الله بن عبد الله بن أبىّ [بن «6» ] مالك، وأوس ابن خولى بن عبد الله بن الحارث، وزيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء وعقبة بن وهب بن كلدة، حليف لهم من بنى عبد الله بن غطفان، ورفاعة بن عمرو بن ثعلبة، وعامر بن سلمة بن عامر، حليف لهم من اليمن، وأبو حميضة «7» عبّاد بن قشير بن المقدّم، وعامر بن البكير، حليف لهم، ونوفل بن عبد الله بن نضلة، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأخوه أوس بن الصّامت والنعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وهو الذى يقال له: قوقل «8» ؛ وثابت بن هزّال ابن عمرو بن قريوش، ويقال: قريوس، ومالك بن الدّخشم بن مالك، وربيع

ابن إياس، حليف لبنى لوذان من اليمن، والمجذّر بن زياد بن عمرو؛ واسم المجذر، عبد الله حليف لهم من بلىّ، وعباد «1» بن الخشخاش بن عمرو، حليف، ونجّاب بن ثعلبة بن خزمة «2» ويقال: بحّاث، وعبد الله بن ثعلبة بن خزمة، وعتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية، حليف لهم، وهو من بنى سليم، وأبو دجانة سماك بن خرشة. قال ابن هشام: سماك بن أوس بن خرشة، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة، وأبو أسيد مالك بن ربيعة، ومالك بن مسعود البدىّ «3» ، وعبد ربه بن حقّ ابن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف. ومن حلفائهم من «4» جهينة: كعب بن جمّاز بن ثعلبة- ويقال: حمار، وهو من غبشان- وضمرة، وبسبس، وزياد، بنو عمرو. وعبد الله بن عامر من بلىّ. وخراش بن الصّمة بن عمرو بن الجموح، وتميم مولى خراش بن الصّمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوّذ بن عمرو بن الجموح، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وعقبة بن عامر بن نابى، وحبيب بن أسود، مولى لهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد بن الحارث، وثعلبة الذى يقال له: الحذع، وعمير «5» بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث، وبشر بن البراء ابن معرور بن صخر، والطّفيل بن مالك بن النعمان، وسنان بن صيفىّ بن صخر وعبد الله بن الجدّ بن قيس بن صخر، وخارجة بن حميّر، وعبد الله بن حمير، حليفان

لهم من أشجع من بنى دهمان، وجبّار بن صخر بن أمية بن خناس، ويزيد بن المنذر ابن سرح، وأخوه معقل بن المنذر، وعبد الله بن النّعمان بن بلدمة، ويقال: بلدمة وبلذمة، والضحّاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة، وسواد بن زريق بن ثعلبة؛ ومعبد بن قيس بن صخر، وأخوه عبد الله بن قيس، وعبد الله بن عبد مناف بن النعمان، والنعمان بن يسار مولى لبنى النعمان، وأبو المنذر بن يزيد بن عامر بن حديدة، وسليم بن عمرو بن حديدة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعنترة «1» مولى سليم ابن عمرو، وعبس بن عامر بن عدىّ، وثعلبة بن غنمة بن عدىّ، وأبو اليسر، وهو كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو، وسهل «2» بن قيس [بن أبى «3» كعب، وعمرو بن طلق بن زيد بن أمية، ومعاذ بن جبل بن عمرو، وحارثة بن مالك بن غضب ابن جشم، وقيس بن محصن بن خالد بن مخلّد، ويقال: قيس] بن حصن، وأبو خالد، وهو الحارث بن قيس بن خالد بن مخلّد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وأخوه عقبة بن عثمان بن خالدة بن مخلّد، وذكوان بن [عبد «4» ] قيس بن خلدة بن مخلّد، ومسعود ابن خالدة بن عامر بن مخلد، وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد، وأسعد بن مزيد ابن الفاكه بن زيد بن خلدة، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد، ومعاذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وأخوه عائذ بن ماعص، ومسعود بن سعد بن قيس ابن خلدة، ورفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وأخوه خلّاد بن رافع، وعبيد ابن زيد بن عامر، وزياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان، وفروة بن عمرو بن ودفة «5»

ابن عبيد، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان، ورجيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة، وعطية بن نويرة بن عامر بن عطية، ورافع بن المعلّى بن لوذان، وأبو أيوب خالد ابن زيد بن كليب «1» بن ثعلبة، وثابت بن خالد بن النّعمان، وعمارة بن حزم بن زيد ابن لوذان بن عمرو، وسراقة بن كعب بن عبد العزّى بن غزيّة، وحارثة بن النعمان ابن زيد بن عبيد، وسليم بن قيس بن فهد «2» ، وسهيل بن رافع بن أبى عمرو بن عائذ، وعدى بن أبى الزّغباء، حليف لبنى عائذ من جهينة، ومسعود بن أوس ابن زيد، وأبو خزيمة بن أوس بن زيد، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد، وعوف، ومعوّذ، ومعاذ، بنو الحارث بن رفاعة، وهم بنو عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، والنعمان بن عمرو بن رفاعة بن سواد، ويقال: نعيمان؛ وعامر بن مخلّد بن الحارث ابن سواد، وعبد الله بن قيس بن خالد بن خلدة بن الحارث بن سواد، وعصيمة، حليف لبنى سواد من أشجع، وديعة بن عمرو، حليف لهم من جهينة، وثابت بن عمرو بن زيد بن عدّى بن سواد- قال ابن هشام: وزعموا أن أبا الحمراء مولى الحارث بن عفراء شهد بدرا- وثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك، والحارث بن الصّمة بن عمرو بن عتيك، كسر بالرّوحاء، فضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه، وأبىّ بن كعب بن قيس، وأنس بن معاذ بن أنس بن قيس، وأوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبو شيخ أبىّ بن ثابت «3» بن المنذر بن حرام. قال ابن هشام: أبو شيخ [أبىّ بن ثابت «4» ] أخو «5» حسان بن ثابت، وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، وحارثة بن سراقة بن الحارث بن عدىّ،

وعمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدىّ، وسليط بن قيس بن عمرو بن عتيك بن مالك، وأبو سليط- وهو أسيرة بن عمرو- وثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدىّ، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك، ومحرز بن عامر «1» بن مالك بن عدىّ، وسواد بن غزيّة بن أهيب، حليف لبنى عدىّ بن النجار. وأبو زيد قيس «2» بن سكن بن قيس، وأبو الأعور بن الحارث بن ظالم بن عبس ابن حرام، ويقال: أبو الأعور الحارث بن ظالم، وسليم بن ملحان، وأخوه حرام- واسم ملحان: مالك بن خالد بن زيد- وقيس بن أبى صعصعة- واسم أبى صعصعة: عمرو بن زيد بن عوف- وعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف، وعصيمة، حليف لبنى مازن بن النجار من بنى أسد بن خزيمة، وأبو داود عمير ابن عامر بن مالك بن خنساء، وسراقة بن عمرو بن عطيّة بن خنساء، وقيس بن مخلّد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب، ومسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار، وأخواه لأمه الضّحّاك، والنّعمان، ابنا عبد عمرو، وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعد بن سهيل بن عبد الأشهل، وكعب بن زيد بن قيس بن مالك، وبجير بن أبى بجير، حليف لبنى قيس بن مالك. هؤلاء الذين عدّهم محمد بن إسحاق. قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم يذكرون فى الخزرج ممن شهد بدرا عتبان ابن مالك بن عمرو بن العجلان، ومليل بن وبرة بن خالد بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان، وهلال بن المعلّى بن لوذان بن حارثة.

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر كان من استشهد من المسلمين فى غزاة بدر أربعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة نفر، وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، قتله عتبة بن ربيعة، قطع رجله فمات بالصفراء فى قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وعمير «1» بن أبى وقّاص، وهو أخو سعيد، وذو الشّمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعى، حليف لبنى زهرة، وعاقل بن البكير، حليف لبنى عدىّ بن كعب من بنى سعد بن ليث، ومهجع، مولى عمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر. ومن الأنصار ثمانية وهم: سعد بن خيثمة، ومبشّر بن عبد المنذر بن زنبر، ويزيد بن الحارث، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلّى، وحارثة بن سراقة بن الحارث، وعوف، ومعوّذ، ابنا الحارث بن رفاعة. ذكر تسمية من قتل من المشركين فى غزوة بدر كانت عدّة من قتل من المشركين فى غزوة بدر سبعين رجلا من بنى عبد شمس ومواليهم وحلفائهم أربعة عشر رجلا، وهم: عقبة ابن أبى معيط، قتل صبرا «2» بعرق الظبية «3» عند قفول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقال- حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله-: فمن

للصّبيّة يا محمد؟ قال: النار! فقتله عاصم بن ثابت بن الأقلح، وحنظلة بن أبى سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: اشترك فيه حمزة بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن حارثة، والحارث بن الحضرمىّ، وعامر بن الحضرمى، حليفان لهم. قتل عامرا عمّار ابن ياسر، وقتل الحارث النّعمان بن عصر، حليف الأوس، وعمير بن أبى عمير، وابنه، موليان لهم. قتل عميرا سالم مولى أبى حذيفة، وعبيدة بن سعيد ابن العاص بن أميّة بن عبد شمس، قتله الزبير بن العوّام، والعاص بن سعيد بن العاص ابن أمية، قتله عاصم بن ثابت بن الأفلح، صبرا، وقيل: قتله علىّ بن أبى طالب، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، اشترك فيه عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب وعلىّ بن أبى طالب؛ وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزة بن عبد المطلب، والوليد بن عتبة بن ربيعة، قتله على بن أبى طالب، وعامر بن عبد الله، حليف لهم من بنى أنمار، قتله علىّ، ووهب بن الحارث، حليف لهم من بنى أنمار، وعامر ابن زيد، حليف لهم من اليمن. ومن بنى نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما: الحارث بن عامر ابن نوفل، قتله خبيب بن إساف، وطعيمة بن عدىّ بن نوفل، قتله على، ويقال: حمزة؛ وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده الى ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل طعيمة بن عدى صبرا هو عقبة بن أبى معيط والنّضر بن الحارث. ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ سبعة نفر: زمعة بن الأسود ابن المطلب بن أسد، قتله ثابت بن الجذع، وقيل اشترك فيه حمزة وعلى، مع

ثابت، والحارث بن زمعة، قتله عمار بن ياسر، وعقيل بن الأسود بن المطلب قتله حمزة، وعلىّ، وأبو البخترىّ- وهو العاص بن هشام- قال ابن هشام: العاص ابن هاشم بن الحارث بن أسد، قتله المجذّر البلوىّ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عن قتله، لأنه كان أكفّ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمّا كان بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة كما تقدّم، فلما لقيه المجذّر قال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهانا عن قتلك، وكان مع أبى البخترى زميل له قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة- رجل من بنى ليث- فقال أبو البخترى، وزميلى، فقال المجذّر: لا والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بك وحدك. فقال: لا والله إذا لأموتنّ أنا وهو جميعا! لا تحدّث عنّى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة، وقال يرتجز. لن يسلم ابن حرّة زميلة «1» ... حتى يموت أو يرى سبيله ثم اقتتلا، فقتل المجذر أبا البخترىّ، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والذى بعثك بالحق، لقد جهدت «2» عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلنى، فقاتلته فقتلته. ونوفل بن خويلد بن أسد، قتله علىّ بن أبى طالب، وعقبة بن زيد، حليف لهم من اليمن، وعمير، مولى لهم. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ أربعة نفر وهم: النضر بن الحارث

ابن علقمة بن كلدة، قتله علىّ صبرا بالصّفراء «1» ، ولما بلغ ابنته «2» قتيلة بنت النضر خبر مقتله كتبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعرا. يا راكبا إن الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق «3» بلّغ به ميتا بأن تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «4» منى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق «5» هل يسمعنّ النضر إن ناديته ... بل كيف يسمع ميّت لا ينطق ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «6» قسرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «7» أمحمد أولست ضنء نجيبة ... فى قومها والفحل فحل معرق «8» ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق النضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعزّ ما يغلو به ما ينفق «9»

فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك بكى حتى أخضلّت لحيته وقال: «لو بلغنى شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه» حكاه أبو عمر عن عبد الله ابن إدريس، وحكاه الزبير بن بكّار، وقال: فرّق لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دمعت عيناه، وقال لأبى بكر: «يا أبا بكر لو كنت سمعت شعرها ما قتلت أباها» وزيد بن مليص، مولى عمير بن هاشم، قتله بلال بن رباح، مولى أبى بكر، ويقال: قتله المقداد بن عمرو. ونبيه بن زيد بن مليص، وعبيد بن سليط حليف لهم من قيس. ومن بنى تيم بن مرّة أربعة نفر وهم: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صهيب بن سنان. ومالك بن عبيد الله بن عثمان، أسر فمات فى الإسار، فعدّ فى القتلى. وعمرو بن عبد الله بن جدعان. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة أربعة وعشرون رجلا: أبو جهل- واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- ضربه معاذ ابن عمرو بن الجموح فقطع رجله، وضرب ابنه [عكرمة «1» ] يد معاذ فطرحّها، ثم ضربه معوّذ بن عفراء حتى أثبته، وتركه وبه رمق، ثم وقف «2» عليه عبد الله بن مسعود واحتزّ رأسه كما تقدّم، والعاص بن هشام بن المغيرة، قتله عمر بن الخطاب، وكان خال عمر. ويزيد بن عبد الله، حليف لهم من بنى تميم، قتله عمّار بن ياسر.

وأبو مسافع الأشعرىّ، حليف لهم، قتله أبو دجانة الساعدىّ. وحرملة بن عمرو حليف لهم، قتله خارجة بن زيد، ويقال: بل علىّ [بن أبى طالب «1» ] . ومسعود ابن أبى أميّة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب. وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، قتله حمزة [بن عبد المطلب «2» ] ويقال: علىّ؛ وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله علىّ، ويقال: عمّار بن ياسر، ورفاعة بن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «3» ابن مخزوم، قتله سعد بن الربيع، والمنذر بن أبى رفاعة بن عابد، قتله معن بن عدىّ، وعبد الله بن المنذر بن أبى رفاعة، قتله علىّ بن أبى طالب، والسّائب ابن أبى السائب بن عائذ بن عبد الله بن عمر «4» بن مخزوم على ما حكاه ابن إسحاق. وقال ابن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إن السائب هذا ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وأعطاه يوم الجعرانة «5» من غنائم حنين، فقد وقع فيه الخلاف. والأسود بن عبد الأسد «6» بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة، وحاجب، ويقال: حاجز «7» بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ، قتله على بن أبى طالب. وعويمر بن السائب بن عويمر، قتله النعمان ابن مالك القوقلىّ مبارزة، وعمرو بن سفيان، وجابر بن سفيان، حليفان لهم من طيئ، قتل عمرا يزيد بن رقيش، وقتل جابرا أبو بردة بن نيار. وحذيفة ابن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله سعد بن أبى وقاص، وهشام بن أبى حذيفة

ابن المغيرة، قتله صهيب بن سنان. وزهير بن أبى رفاعة، قتله أبو أسيد مالك ابن أبى ربيعة. والسائب بن أبى رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف. وعائذ بن السائب بن عويمر، أسر ثم افتدى فمات فى الطريق من جراحة جرحه إياها حمزة ابن عبد المطلب، وعمير، حليف لهم من طيّئ، وخيار «1» ، حليف لهم من القارة «2» . ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب لؤىّ سبعة نفر وهم: منبّه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بنى سلمة وابنه العاص بن منبّه، قتله علىّ. ونبيه بن الحجاج، قتله حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبى وقاص، اشتركا فيه، وأبو العاص بن قيس بن عدىّ بن سعد بن سهم، قتله علىّ، ويقال: النعمان القوقلىّ، وقال: أبو دجانة، وعاصم بن أبى عوف بن صبيرة «3» بن سعيد بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر أخو بنى سلمة. والحارث بن منبّه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان، وعامر بن أبى عوف بن صبيرة أخو عاصم، قتله عبد الله بن سلمة، ويقال: أبو دجانة. ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤىّ أربعة نفر، وهم: أميّة ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله رجل من الأنصار من بنى مازن ويقال: قتله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب «4» بن إساف، اشتركوا فيه. وابنه علىّ بن أميّة بن خلف، قتله عمّار بن ياسر. وأوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علىّ بن أبى طالب، ويقال: قتله الحصين بن الحارث بن المطلب وعثمان بن مظعون، اشتركا فيه، وسبرة بن مالك، حليف لهم.

ذكر تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر

ومن بنى عامر بن لؤىّ من حلفائهم رجلان، وهما: معاوية بن عامر حليف لهم من عبد القيس، قتله علىّ، ويقال: عكّاشة بن محصن. ومعبد بن وهب، حليف لهم من بنى كلب، قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقال: أبو دجانة. فجميع من انضبط لنا بالأسماء ممن قتل من المشركين يوم بدر ثمانية وستون على الشك فى السائب بن أبى السائب، والذى ثبت فى صحيح البخارىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين فى يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا. ذكر تسمية من أسر من المشركين فى غزوة بدر كانت عدّة من أسر من المشركين فى يوم بدر سبعين رحلاعا ما ورد فى الصحيح ودلّت عليه الآية [فى] قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها «1» ) يعنى يوم أحد، وكان قد قتل من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، والذى انضبط لنا بالأسماء من أسرى بدر ستة وستون رجلا. من بنى عبد المطلب بن هاشم أربعة نفر، وهم: العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو الخزرجىّ، وكان رجلا قصيرا، والعباس رجلا طويلا ضخما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أعانك عليه ملك كريم» . وعقيل بن أبى طالب بن عبد المطلب، أسره عبيد بن أوس بن مالك الأوسى، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعتبة، حليف لهم من بنى فهر، قال: وكان العباس وعقيل خرجا مكرهين. ومن بنى عبد المطلب بن عبد مناف خمسة نفروهم: السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن عبد المطّلب، ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب، وعقيل بن عمرو حليف لهم، وأخوه تميم بن عمرو، وابنه عمرو بن تميم.

ومن بنى عبد شمس بن عبد مناف تسعة نفر وهم: عمرو بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس، والحارث بن أبى وجزة- ويقال: وحرة بن أبى عمرو- ابن أمية، وأبو العاص بن نوفل بن عبد شمس، وأبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وخالد بن أسيد بن أبى العيص. ومن حلفائهم: أبو ريشة بن أبى عمرو، وعمرو بن الأزرق، وعقبة بن عبد الحارث بن الحضرمى، وأبو العريض يسار، مولى العاص بن أمية. ومن بنى نوفل بن عبد مناف أربعة نفر، وهم: عدىّ بن الخيار بن نوفل وعثمان بن عبد شمس، حليف لهم من بنى مازن بن منصور، وأبو ثور، حليف لهم ونبهان، مولى لهم. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ ثلاثة نفر وهم: أبو عزيز بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والأسود بن عامر حليف لهم، وعقيل، حليف لهم من اليمن. ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصىّ أربعة نفروهم: السّائب بن أبى حبيش ابن المطلب بن أسد، والحويرث بن عبّاد بن عثمان بن أسد. قال ابن هشام: هو الحارث بن عائذ بن عثمان بن أسد، وعبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث، وسالم بن شمّاخ، حليف لهم. ومن بنى تيم بن مرّة رجلان وهما: مسافع بن عياض بن صخر بن عامر ابن كعب بن سعد بن تيم، وجابر بن الزبير، حليف لهم. ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة عشرة نفروهم: خالد بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسره سواد بن غزيّة، وأمية بن أبى حذيفة

ابن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وصيفىّ ابن أبى رفاعة بن عابد بن عبد الله بن عمر «1» بن مخزوم، وأبو المنذر بن أبى رفاعة ابن عابد، وأبو عطاء عبد الله بن السائب بن عابد، وقيس بن السائب، والمطلب ابن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، وخالد بن الأعلم، حليف لهم من خزاعة، ويقال: عقيلىّ. وزعموا أنه أوّل من فرّ منهزما «2» ، وهو الذى يقول: ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا «3» ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب خمسة نفروهم: أبو وداعة ابن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وهو أوّل أسير افتدى من أسرى بدر، افتداه ابنه المطلب بن أبى وداعة، وفروة بن قيس بن عدىّ بن حذافة بن سعيد ابن سهم، وحنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعيد بن سهم، والحجّاج «4» بن الحارث ابن قيس بن عدى بن سعيد «5» بن سهم، وأسلم، مولى نبيه بن الحجاج. ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب أحد عشر نفرا وهم: عبد الله بن أبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح [وأخوه «6» عمرو بن أبىّ، وأبو عزّة عمرو ابن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح] والفاكه، مولى أمية بن خلف ووهب بن عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وربيعة بن

ذكر خبر أسارى بدر وما كان من فدائهم، ومن من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأطلقه منهم) ، ومن أسلم بسبب ذلك

درّاج بن العنبس بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وأبو رهم بن عبد الله حليف لهم، وموليان لأميّة بن خلف، أحدهما: نسطاس، وأبو رافع، غلام أمية ابن خلف. قال ابن هشام: وحليف لهم ذهب عنى اسمه. ومن بنى عامر بن لؤىّ خمسة نفر وهم: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدودّ ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، أسره مالك بن الدّخشم أخو بنى سالم ابن عوف، وعبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وعبد الرحمن بن مشنوء ابن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وحبيب بن جابر، والسائب ابن مالك. ومن بنى الحارث بن فهر أربعة نفر وهم: الطّفيل بن أبى قنيع، وعتبة بن عمرو ابن جحدم، وشافع، وشفيع، حليفان لهم من اليمن. ذكر خبر أسارى بدر وما كان من فدائهم، ومن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وأطلقه منهم) ، ومن أسلم بسبب ذلك قال: لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزاة بدر ومعه الأسارى سمع العباس وهو يئنّ ويتأوّه، قد آلمه الوثاق، فقلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة لذلك، فاستأذنه أصحابه رضى الله عنهم، فى أن ينفّسوا عن العباس وثاقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن فعلتم ذلك بجميع الأسرى فنعم وإلا فلا» . أو كما قال: فنفّسوا عن جميع الأسرى. ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فرّق الأسارى بين أصحابه وقال: «استوصوا بهم خيرا» . ثم جاءه جبريل عليه السلام فى أمر الأسارى

فقال: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم أخذتم منهم الفداء، (واستشهد «1» قابلا منكم سبعون. قال: فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فجاءوا- أو من جاء منهم) - فقال: «هذا جبريل يخيّركم بين أن تقدّموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدّتهم» . فقالوا: بل نفاديهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون. ففادوهم. رواه محمد بن سعد. وروى ابن قتيبة عن ابن إسحاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للعباس: «افد نفسك وابنى أخويك: عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفك، فإنك ذو مال» . فقال: يا رسول الله، إنى كنت مسلما ولكنّ القوم استكرهونى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تقول حقا فالله يجزيك به، وأما ظاهر [أمرك «2» ] فقد كان علينا» . قال: فإنه ليس لى مال. قال: «فأين المال الذى وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت: إن أصبت فى سفرى هذا فللفضل كذا، ولعبد الله كذا» . قال: والذى بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيرها، وإنى لأعلم أنك رسول الله. ففدى نفسه بمائة أوقيّة، وكل واحد بأربعين أوقية، وقال: «تركتنى أسأل الناس فى كفّى» . قال: «وأسلم العباس، وأمر عقيلا فأسلم» . وروى محمد بن سعد قال: لما أسر نوفل بن الحارث ببدر قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افد نفسك» . قال: ما لى شىء أفتدى به. قال: «افد نفسك

ذكر خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو بن أبى سفيان وإطلاقه

برماحك التى بجدّة» . فقال: والله ما علم أحد أن لى بجدّة رماحا غيرى بعد الله، أشهد أنك رسول الله. ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح. وقيل: كان إسلام نوفل وهجرته أيام الخندق. قال ابن إسحاق: وكانت قريش حين ورد عليهم الخبر بمصرع أصحاب بدر ناحوا على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا «1» بهم لا يأرب «2» عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. فقال المطلب ابن أبى وداعة: صدقتم، لا تعجلوا؛ وانسلّ من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به. ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فكان أعلى ما فدى به أسير أربعة آلاف درهم فما دونها إلى ألف درهم. وقال محمد بن سعد فى طبقاته: كان فداء أسارى يوم بدر أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فمن لم يجد عنده شيئا «3» أعطى عشرة من غلمان المدينة، فعلّمهم الكتابة، فإذا حذقوا فهو فداؤه. وكان أهل مكّة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون. [قال «4» ] : فكان زيد بن ثابت ممن علّم. ذكر خبر أبى سفيان فى أسر ابنه عمرو بن أبى سفيان وإطلاقه قال محمد بن إسحاق: وكان عمرو بن أبى سفيان فى الأسارى، فقيل لأبى سفيان: افد ابنك عمرا، فقال: أيجمع علىّ دمى ومالى! قتلوا حنظلة، وأفدى عمرا! دعوه فى أيديهم يمسكوه ما بدالهم. فلم يزل كذلك حتى قدم سعد بن النعمان

ذكر خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه

ابن أكّال، أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، وكان شيخا مسلما، فى غنم له بالبقيع «1» ، وقد «2» كانت قريش عهدوا أنهم لا يعرضون لحاج أو معتمر إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان: أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه ... تفاقدتم «3» لا تسلموا السيّد الكهلا فإنّ بنى عمرو لئام أذلّة ... إذا لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا «4» قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان فيفتكّوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعثوا به إلى أبى سفيان، فحلّى سبيل سعد ابن النعمان. ذكر خبر أبى العاص بن الربيع فى فدائه وإرساله «5» زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة وإسلامه بعد ذلك، وردّ زينب عليه بغير نكاح جديد. قال ابن إسحاق: وكان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى ابن عبد شمس، ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوج ابنته زينب. أسره خراش بن الصّمة، أحد بنى حرام.

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكان لهالة بنت خويلد أخت خديجة، فسألت خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يزوجه زينب، فزوجه بها، وذلك قبل أن ينزل الوحى على رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فكان معها وهو على شركه وهى مسلمة. فلما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فداء أبى العاص [بمال، وبعثت «1» فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص] فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لها رقّة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها [مالها «2» ] فافعلوا» . قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردّوا عليها الذى بعثت به، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه أن يخلّى سبيل زينب، ولم يظهر ذلك، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: «كونا ببطن يأجج «3» حتى تمرّ بكما زينب، فتصحباها حتى تأتيانى بها» . فخرجا وذلك بعد بدر بشهر، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فتجهّزت لذلك، وقدّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهى فى هودج لها، وتحدّث بذلك رجال قريش، فخرجوا فى طلبها، حتى أدركوها بذى طوى «4» ، فكان أوّل من سبق إليها هبّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى الفهرىّ، فروّعها بالرمح وهى فى هودجها، وكانت حاملا فطرحت، فنثر حموها كنانته ثم قال: والله لا يدنو منى

رجل إلا وضعت فيه سهما، فتكركر «1» الناس عنه. ثم جاء أبو سفيان بن حرب فى جلّة [من «2» ] قريش فقال: أيها الرجل، كفّ عنا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت له ببنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذلّ أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثؤرة «3» ، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدّث الناس أن قد رددناها فسلّها سرا وألحقها بأبيها. قال: ففعل. فأقامت ليالى حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقامت عنده بالمدينة وفرّق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام- وكان رجلا مأمونا- بمال له وأموال رجال من قريش، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سريّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستجار بها، فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة الصبح وكبّر وكبر الناس معه خرجت «4» زينب من صفّة النساء [وقالت] : أيها الناس، إنى قد أجرت أبا العاص ابن الربيع. فلمّا سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت» ؟ فقالوا: نعم، قال: «أما والذى نفس محمد بيده

ما علمت بشىء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم» . ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل على ابنته وقال: «أى بنيّة، أكرمى مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلّين له» . قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السريّة الذين أصابوا مال أبى العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منّا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردّوا عليه الذى له فإنّا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحقّ به» . قالوا: يا رسول الله، بل نردّه عليه، فردّوه عليه، حتى إنّ الرجل ليأتى بالدّلو، ويأتى الرجل بالشّتّة «1» والإداوة «2» ، حتى إنّ أحدهم ليأتى بالشّظاظ «3» ، حتى ردّوا عليه ماله بأسره لم يفقد منه شيئا، ثم احتمل إلى مكة، فأدّى إلى كلّ ذى مال من قريش ماله، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيّا كريما؛ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوّف أن يظنّوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدّاها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب على النكاح «4» الأوّل، ولم يحدث شيئا.

ذكر خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة

نرجع إلى تتمة أخبار أسارى بدر: ذكر خبر الوليد بن الوليد بن المغيرة قد تقدّم أنه كان ممن أسر يوم بدر، وكان الذى أسره عبد الله بن جحش ويقال: أسره سليط بن قيس المازنىّ الأنصارىّ، فقدم فى فدائه أخواه: خالد وهشام، فتمنّع عبد الله بن جحش حتى افتكّاه بأربعة آلاف درهم. فجعل خالد يريد ألا يبلغ ذلك، فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمّك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت. ويقال: إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لعبد الله بن جحش: لا تقبل فى فدائه إلا شكّة أبيه الوليد- وكانت درعا فضفاضة وسيفا وبيضة- فأبى ذلك خالد وأطاع هشام لأنه أخوه لأبويه، فأقيمت الشكة بمائة دينار، فطاعا بها وسلّماها إلى عبد الله، فلما افتدى أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل أن تفتدى وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا أنى جزعت من الإسار. فحبسوه بمكة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو له فيمن دعا له من مستضعفى المؤمنين، ثم أفلت ولحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد عمرة القضيّة «1» . حكاه ابن عبد البرّ. ذكر من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أسارى بدر وأطلقه بغير فداء قال ابن إسحاق: وكان ممن منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء: أبو العاص بن الربيع هذا الذى تقدّم خبره. والمطّلب بن حنطب «2» بن الحارث

ابن عبيد المخزومىّ، وكان لبعض بنى الحارث بن الخزرج، فترك فى أيديهم حتى خلّوا سبيله، فلحق بقومه، وصيفىّ بن أبى رفاعة المخزومىّ، ترك فى يد أصحابه فلم يأت أحد فى فدائه، فأخذوا عليه العهد ليبعثنّ إليهم بفدائه وخلّوا سبيله، فلم يف لهم بشىء، وأبو عزّة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن وهب بن حذافة بن جمح كان محتاجا ذا بنات فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال، فامنن علىّ، فمنّ عليه وأخذ عليه ألّا يظاهر عليه أحدا؛ فقال أبو عزّة فى ذلك: من مبلغ عنّى الرسول محمدا ... فإنك حقّ والمليك حميد وأنت امرؤ تدعو إلى الحقّ والهدى ... عليك من الله العظيم شهيد وأنت امرؤ بوّئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود «1» فإنك من حاربته لمحارب ... شقىّ ومن سالمته لسعيد ولكن إذا ذكّرت بدرا وأهله ... تأوّب ما بى حسرة وقعود «2» ومنهم وهب بن عمير الجمحى، ولإطلاقه سبب نذكره. ذكر خبر عمير بن وهب وإسلامه، وإطلاق ولده وهب بن عمير. قال ابن إسحق فى سبب إطلاق وهب بن عمير: إنّ أباه عمير بن وهب بن خلف بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب جلس مع صفوان بن أميّة فى الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير- قال: وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، ممن كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة- فذكر أصحاب القليب «3» ومصابهم. فقال صفوان: والله إن

فى العيش بعدهم خير، فقال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علىّ ليس له [عندى «1» ] قضاء، وعيال أخشى عليهم الضّيعة «2» بعدى، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى قبلهم علة؛ ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: علىّ دينك، أنا أقصيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا لا يسعنى «3» شىء ويعجز عنهم؛ قال له عمير: فاكتم علىّ شأنى وشأنك؛ قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، ثم سمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، إذ نظر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشّحا السيف، فقال عمر: هذا الكلب عدوّ الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشرّ، وهذا الذى حرّش «4» بيننا وحرزنا «5» للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبىّ الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشّحا بسيفه، قال: فأدخله علىّ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما رآه قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: انعموا صباحا- وكانت تحيّة أهل الجاهلية بينهم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد أكرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عمير، بالسلام تحيّة أهل الجنة؛ قال: أما والله إن كنت يا محمد بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير

الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف فى عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت شيئا! قال: اصدقنى، ما الذى جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك؛ قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة فى الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علىّ وعيال عندى لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره «1» إلا أنا وصفوان فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحقّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فقّهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» ، ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحبّ أن تأذن لى فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم. قال: فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان يسأل عنه الرّكبان حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذّى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير.

ذكر سرية عمير بن عدى بن خرشة الخطمى إلى عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد

قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب أو الحارث بن هشام، قد ذكر أن أحدهما [الذى «1» ] رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر، كما أخبر الله تعالى عنه فى قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وكان إبليس قد تشبّه لقريش بسراقة بن مالك بن جعشم وقال: أنا جار لكم من بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة، كما قدّمنا ذكر ذلك، قال: وكانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه. فلما التقى الجمعان يوم بدر ورأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال لهم ما قال. وقد أخذت هذه الغزوة حقّها من البسط والإطالة وإن كان ذلك على سبيل الاختصار، فلنذكر غيرها من الغزوات والسّرايا. والله المستعان. ذكر سرية عمير بن عدىّ بن خرشة الخطمىّ إلى عصماء بنت مروان من بنى أميّة بن زيد «2» قال محمد بن سعد: كانت سريّة عمير لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكانت عصماء عند يزيد بن زيد بن حصن «3» الخطمى، وكانت تعيب الإسلام وتؤذى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وتحرّض عليه. وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدىّ فى جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه فى صدرها،

ذكر سرية سالم بن عمير العمرى إلى أبى عفك اليهودى

فجسّها بيده- وكان ضرير البصر- ونحّى الصّبىّ عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلّى الصبح مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قتلت بنت مروان؟ قال: نعم، فهل علىّ فى ذلك شىء؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان «1» . قال محمد بن إسحاق: فرجع عمير بن عدىّ إلى قومه، وبنو خطمة يومئذ كثير موجهم «2» في شأن ابنه مروان، ولها يومئذ بنون خمسة رجال، فقال: يا بنى خطمة، أنا قتلت ابنة مروان، فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون «3» . قال: فذلك اليوم أوّل ما عزّ الإسلام فى دار بنى خطمة، وكان من أسلم منهم يستخفى بإسلامه، وعمير هو أوّل من أسلم من بنى خطمة. قال: وأسلم يوم قتلها رجال من بنى خطمة لما رأوا من عزّ الإسلام. ذكر سريّة سالم بن عمير العمرىّ إلى أبى عفك اليهودىّ قال ابن سعد: كانت سريّة سالم فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وكان أبو عفك «4» من بنى عمرو بن عوف شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان «5» يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول الشعر، فقال سالم

ذكر غزوة بنى قينقاع

ابن عمير- وهو أحد البكّائين «1» وقد شهد بدرا-: علىّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه؛ فجاء وقد نام أبو عفك بالفناء فى ليلة صائفة، فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خشّ فى الفراش، فصاح [عدوّ الله «2» ] ، فثار إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه. ذكر غزوة بنى قينقاع (وهى بضم النون وقيل بكسرها «3» ) غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم السبت النصف من شوّال على رأس عشرين شهرا من مهاجره. قال ابن سعد: وكانوا حلفاء عبد الله بن أبىّ بن سلول، وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، فوادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغى والحسد، ونبذوا العهد والمدّة، فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) «4» . وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق فى سبب غزوة بنى قينقاع: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمعهم بسوق بنى قينقاع «5» ثم قال: يا معشر يهود، احذروا من الله

مثل ما نزل بقريش من النّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنّى نبىّ مرسل، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم؛ قالوا: يا محمد، لا يغرّنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس. فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» ) . حكاه ابن إسحاق بسند يرفعه إلى ابن عباس. وقال ابن هشام فى سبب هذه الغزاة: إنّ امرأة من العرب حلّت بجلب «2» لها، فباعته بسوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضبهم، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع. عدنا إلى مساق حديث ابن سعد؛ قال: فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، ثم سار إليهم فحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى القعدة، وكانوا أوّل من غدر من اليهود، وحاربوا وتحصّنوا فى حصنهم، فحاصرهم أشدّ الحصار، حتى قذف الله فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموالهم، وأن لهم النساء والذّرّيّة، فأمر

بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السّلمى. فكلّم عبد الله بن أبىّ فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألحّ عليه، فقال: خذهم، لعنهم الله «1» ؛ وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولّى إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات «2» ، فما كان أقلّ بقاءهم فيها. وقال ابن إسحاق فى خبر عبد الله بن أبىّ بن سلول: إنه قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمكنه الله من بنى قينقاع، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ. وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، أحسن فى موالىّ. قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده فى جيب درع «3» النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسلنى، وغضب حتى ظهر ذلك فى وجهه، ثم قال: ويحك! أرسلنى؛ قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالىّ، أربعمائة حاسر «4» وثلاثمائة دارع «5» ، قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم فى غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم لك. وحكى أيضا قال: كان لبنى قينقاع من عبادة بن الصامت من الحلف مثل الذى لهم من عبد الله بن أبىّ، فمشى عبادة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبرّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: أتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. فأنزل الله تعالى فيه وفى عبد الله بن أبىّ:

ذكر غزوة السويق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» ) إلى قوله: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ «2» ) وذلك لعبادة بن الصامت. قال محمد بن سعد: وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [من سلاحهم «3» ] ثلاث قسىّ، منها: الكتوم، كسرت بأحد، والرّوحاء، والبيضاء، وأخذ درعين: الصّغديّة، وأخرى فضّة؛ وأخذ ثلاثة أسياف: سيف قلعىّ «4» ، وسيف يقال له: بتّار؛ وسيف آخر؛ وثلاثة أرماح، ووجد فى حصنهم سلاحا كثيرا وآلة الصّياغة، فأخذ صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «5» والخمس، وفضّ «6» أربعة أخماس على أصحابه، وكان الذى تولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة. ذكر غزوة السّويق قال محمد بن سعد: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لخمس خلون من ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من مهاجره، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما رجع المشركون من بدر إلى مكة حرّم الدّهن حتى يثأر من محمد وأصحابه.

ذكر غزوة قرقرة الكدر ويقال قرارة الكدر وهى غزوة بنى سليم

قال ابن إسحاق: نذر ألا يمسّ رأسه ماء من جنابة «1» حتى يغزو محمدا صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: فخرج فى مائتى راكب، وقيل: فى أربعين راكبا، فمرّ بالعريض،- بينه وبين المدينة نحو من ثلاثة أميال- فقتل رجلا من الأنصار، وأجيرا له، وحرّق أبياتا هناك وتبنا، ورأى أن يمينه قد حلّت، ثم ولّى هاربا، وبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج فى مائتى رجل من المهاجرين والأنصار فى أثرهم، وجعل أبو سفيان [وأصحابه «2» ] يتخفّفون للهرب «3» فيلقون جرّب السويق «4» وهى عامّة أزوادهم، فأخذها المسلمون؛ فسمّيت غزوة السويق، ولم يلحقهم وانصرف. وكانت غيبته عن المدينة خمسة أيام. قال محمد بن إسحاق: بلغ قرقرة الكدر «5» ثم انصرف راجعا، فقال المسلمون حين رجع بهم: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم. ذكر غزوة قرقرة الكدر ويقال قرارة الكدر وهى غزوة بنى سليم غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنّصف من المحرّم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره، وهى ناحية معدن بنى سليم، وبينه وبين المدينة ثمانية برد، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، وحمل لواءه علىّ بن أبى طالب، وكان

ذكر مقتل كعب بن الأشرف اليهودى وخبر سريته

قد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن بهذا الموضع جمعا من بنى سليم وغطفان، فسار إليهم فلم يجد فى المحالّ أحدا، ووجد رعاء» منهم غلام يقال له: يسار، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ظفر بالنعم فانحدر به إلى المدينة، فاقتسموا غنائمهم بصرار، على ثلاثة أميال من المدينة، وكانت النّعم خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماس على المسلمين، فأصاب كلّ رجل منهم بعيران، وصار يسار فى سهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه حين رآه يصلى. وكانت غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمس عشرة ليلة. ذكر مقتل كعب بن الأشرف اليهودىّ وخبر سريّته قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق وأبو محمد عبد الملك بن هشام ومحمد بن سعد- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض-: كانت سريّة قتل كعب بن الأشرف لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل على رأس خمسة وعشرين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنه كان رجلا شاعرا يهجو النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ويحرّض عليهم ويؤذيهم، وكان لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشير بن إلى من بالمدينة من المسلمين بخبر بدر، فقال كعب بن الأشرف- وكان رجلا من طيئ، ثم أحد بنى نبهان، وكانت أمّه من بنى النّضير «2» -: أحقّ هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب

وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما تيقّن الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطّلب بن أبى وداعة السّهمى، وجعل يحرّض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينشد الأشعار «1» ويبكى أصحاب القليب من قريش. ثم رجع إلى المدينة فشبّب «2» بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى ابن الأشرف بما شئت» ؛ وقال: «من لى بابن الأشرف فقد آذانى» ؟ فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله؛ قال: «فافعل إن قدرت «3» على ذلك» . فرجع [محمد بن «4» ] مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يمسك رمقه؛ فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «لم تركت الطعام والشّراب» ؟ فقال: يا رسول [الله «5» ] ؛ قلت لك قولا لا أدرى هل أفى لك به أولا؟ قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله؛ لا بدّ لنا من أن نقول «6» ، قال: «قولوا ما بدا لكم، فأنتم فى حلّ من ذلك» . فاجتمع على قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش- وكان أخا كعب من

الرّضاعة- وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر «1» ، أخو بنى حارثة، فقدّموا إليه سلكان بن سلامة، فجاءه فتحدّث معه ساعة، وتناشدا شعرا، ثم قال أبو نائلة سلكان: ويحك يابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عنى؛ قال: أفعل، قال: قد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا «2» عن قوس واحدة، وقطعت عنا السّبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا؛ فقال كعب: أنا ابن الأشرف، والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول؛ فقال له سلكان: إنّا نريد التّنحى منه، ومعى رجال من قومى على مثل رأيى، وقد أردت أن آتيك بهم، فنبتاع منك طعاما وتمرا، ونرهنك مايكون لك فيه ثقة ووفاء؛ فقال أترهنونى نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشبّ أهل يثرب وأعطرهم؛ فقال: هذا رهينة وسق «3» ، وهذا رهينة وسقين، ولكنّا نرهنك سلاحنا وقد علمت حاجتنا إلى السلاح؛ فقال: نعم إن فى الحلقة «4» لوفاء، وإنما أراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، ثم رجع سلكان إلى أصحابه، وأخبرهم الخبر وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ففعلوا. ومشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع «5» الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ورجع صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، وتوجّهوا،

وكانت ليلة مقمرة، حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة؛ قال: إنّه أبو نائلة، لو وجدنى نائما ما أيقظنى؛ فقالت: والله إنى لأعرف فى صوته الشرّ، فقال لها: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. وفى حديث البخارىّ من رواية سفيان «1» عن عمرو عن جابر بن عبد الله قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم؛ فقال: إنما هو أخى محمد بن مسلمة، ورضيعى أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة بليل لأجاب؛ قالوا: ونزل إليهم فتحدّثوا معه ساعة ثم قالوا: هل لك يابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب «2» العجوز فنتحدّث به بقيّة ليلتنا. فقال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم وضع أبو نائلة [يده «3» ] فى فود رأس ابن الأشرف، ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قطّ من هذا! فقال: هذا عطر أمّ فلان، يريد امرأته، ثم مشى قليلا وعاد لمثلها حتى اطمأنّ، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه وقال: اضربوا عدوّ الله. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا «4» في سيفى حين رأيت أسيافنا لم تغن، فأخذته وقد صاح عدوّ الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته فى ثنّته «5» ، ثم تحاملت عليه حتى انتهى إلى عانته «6» . ثم حزّوا رأسه وحملوه معهم؛ وأصيب الحارث بن أوس، فجرح فى رأسه أو رجله، أصابه بعض أسياف أصحابه

قال محمد بن مسلمة: فخرجنا حتى سلكنا على بنى أمية بن زيد، ثم على بنى قريظة ثم على بعاث «1» حتى استندنا «2» في حرّة «3» العريض، وقد أبطأ علينا الحارث، ونزفه «4» الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا فاحتملناه وجئنا به. قال ابن سعد: فلما بلغوا بقيع الغرقد كبّروا، وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبّر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أفلحت الوجوه» قالوا: وجهك «5» يا رسول الله؛ ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله. قال ابن إسحاق، قال محمد بن مسلمة: وتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جرح صاحبنا فبرأ، فرجعنا إلى أهلينا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدوّ الله، فليس بها يهودىّ إلا وهو خائف على نفسه. وفى مقتل كعب بن الأشرف يقول عبّاد بن بشر: صرخت به فلم يعرض لصوتى ... وأوفى طالعا من رأس جدر «6» فعدت له فقال من المنادى ... فقلت أخوك عبّاد بن بشر وهذى درعنا رهنا فخذها ... لشهر إن وفى أو نصف شهر

ذكر غزوة غطفان إلى نجد (وهى غزوة ذى أمر؛

فقال معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغنى من غير فقر فأقبل نحونا يهوى سريعا ... وقال: أما «1» لقد جئتم لأمر وفى أيماننا بيض حداد ... مجرّبة بها الكفار نفرى «2» فعانقه ابن مسلمة المردّى ... به الكفار كالليث الهزبر وشدّ بسيفه صلتا عليه ... فقطّره أبو عبس بن جبر «3» فكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعزّ نصر وجاء برأسه نفر كرام ... هم ناهيك «4» من صدق وبرّ ذكر غزوة غطفان إلى نجد (وهى غزوة «5» ذى أمر؛ ناحية النّخيل، وقصة دعثور بن الحارث «6» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل «7» على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن جمعا

من بنى ثعلبة ومحارب بذى أمر تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. جمعهم رجل منهم يقال له: دعثور بن الحارث من بنى محارب، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وخرج لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل فى أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فأصابوا رجلا منهم بذى» القصّة يقال له جبار من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره من خبرهم «2» وقال: لن يلاقوك، لو سمعوا بمسيرك هربوا فى رءوس الجبال، وأنا سائر معك. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم وضمّه إلى بلال، ولم يلاق صلّى الله عليه وسلّم أحدا. قال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد البيهقىّ، رحمه الله: وهربت منه الأعراب فوق ذروة من الجبال، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذا امر وعسكربه فأصابهم مطر كثير، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى ذى أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجفّ، وألقاها على شجرة ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كل ما يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت الأعراب لدعثور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنك محمد، وقد انفرد من أصحابه حيث إن غوّث «3» بأصحابه لم يغث حتى تقتله؛ فاختار سيفا من سيوفهم صارما، ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد، من يمنعك منّى اليوم؟ قال: الله. ودفع جبريل فى صدره فوقع

ذكر غزوة بنى سليم بجران

السيف من يده، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام على رأسه، فقال: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه، ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه ثم قال: والله لأنت خير منى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بذلك منك. فأتى قومه، فقالوا: أين ما كنت تقول وقد أمكنك والسيف فى يدك؟ قال: قد كان والله ذلك رأيى، ولكن نظرت إلى رجل أبيض «1» طويل فدفع فى صدرى فوقعت لظهرى، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه؛ وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ونزلت هذه الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ «2» ) الآية. ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة. ذكر غزوة بنى سليم بجران «3» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لستّ خلون من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا من مهاجره- وبحران من ناحية الفرع «4» ، وبين الفرع وبين المدينة ثمانية برد- وذلك أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم وأغدّ «5» السير حتى ورد بحران فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال.

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى القردة

ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى القردة (بالقاف، وضبطه ابن الفرات بالفاء وكسر الراء المهملة) بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال جمادى الآخرة، على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وهى أوّل سريّة خرج زيد فيها أميرا يعترض لعير قريش فيها صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، وعبد الله بن أبى ربيعة، ومعه مال كثير، وكان دليلهم فرات بن حيّان العجلىّ، فخرج بهم على ذات عرق، طريق العراق. قال ابن إسحاق: وفيها أبو سفيان بن حرب، وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم الذى كانوا يسلكون إلى الشام حين «1» وقعة بدر فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج منهم تجّار، وفيهم أبو سفيان بن حرب معه فضّة كثيرة، وهى أعظم تجارتهم. قال ابن سعد: فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فوجّه زيد بن حارثة فى مائة راكب، فاعترضوا لها، فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم، وقدموا بالعير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخمسّها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقى بين «2» أهل السريّة، وأسر فرات بن حيّان، فأسلم، فترك من القتل. والقردة: من أرض نجد بين الرّبذة والغمرة.

ذكر غزوة أحد

ذكر غزوة أحد قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا يوم السبت لسبع خلون من شوّال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت يوم السبت للنصف من شوّال. وذلك أن قريشا لما أصيب من أصيب منهم يوم بدر، ورجع من نجا منهم إلى مكة، وجدوا العير التى قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة فى دار النّدوة، فمشت أشراف قريش إلى أبى سفيان، فقالوا: نحن طيّبوا أنفس أن تجهّزوا بربح هذه «1» العير جيشا إلى محمد؛ فقال أبو سفيان: وأنا أوّل من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معى؛ فباعوها فكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، فسلّم إلى أهل العير رءوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون فى تجارتهم للدينار دينارا. قال ابن سعد وغيره: وفيهم نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ «2» ) وبعثت قريش رسلهم إلى العرب يدعونهم «3» إلى نصرهم فأوعبوا «4» وألبوا «5» . قال ابن سعد: وكتب العبّاس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبر قريش، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن الرّبيع بكتاب

العباس. وأرجف «1» المنافقون واليهود بالمدينة، وخرجت قريش من مكة بحدّها «2» وجدّها وأحابيشها «3» ، ومن تابعها من كنانة وأهل تهامة، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس «4» وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا معهم بالظّعن «5» التماس الحفيظة «6» ، وألا يفرّوا، وكان معهم خمس عشرة امرأة، فخرج أبو سفيان ابن حرب- وهو قائد الناس- «7» معهم بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بن أبى جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أميّة ببرّة «8» بنت مسعود بن عمرو ابن عمير الثّقفيّة، وهى أم عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبّه بن الحجّاج، وهى أم عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبى طلحة- عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- بسلافة بنت سعد بن شهيد «9» الأنصاريّة، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرّب «10»

مع ابنها «1» أبى عزيز بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى «2» نساء بنى الحارث ابن عبد مناة. قال محمد بن إسحاق: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيّا، يقال له: وحشىّ، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمد بعمىّ طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلّما مرّت بوحشىّ أو مر بها، قالت: ويها «3» أبا دسمة؛ اشف واستشف، وكان وحشىّ يكنى بأبى دسمة. قال ابن سعد: وشاع خبرهم ومسيرهم فى الناس حتى نزلوا ذا الحليفة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنسا ومؤنسا ابنى فضالة، ليلة الخميس لخمس مضين من شوّال عينين له، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم، وأنهم قد خلّوا إبلهم وخيلهم فى الزرع الذى بالعريض «4» حتى تركوه ليس به خضراء، ثم بعث الحباب ابن المنذر [بن الجموح فدخل فيهم «5» ] فخزرهم، وجاءه بعلمهم، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فى عدّة ليلة الجمعة، عليهم السلاح فى المسجد بباب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحرست المدينة حتى أصبحوا، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة كأنّه فى درع حصينة، وكأنّ سيفه ذا الفقار قد انقصم من عند ظبته، وكأن بقرا تذبح، وكأنه مردف كبشا فأخبر بها أصحابه وأوّلها، فقال: أما الدّرع الحصينة فالمدينة، وأما انقصام سيفى

فمصيبة فى نفسى، وأما البقر التى تذبح فقتل فى أصحابى، وأما مردف كبشا، فكبش الكتيبة يقتله [الله «1» ] إن شاء الله: فكان رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فأحبّ أن يوافق على «2» رأيه، فاستشار أصحابه فى الخروج، فأشار عبد الله بن أبىّ بن سلول ألا يخرج، وكان ذلك رأى الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: امكثوا فى المدينة، واجعلوا النساء والذرارىّ فى الآطام» . فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، فطلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخروج إلى عدوّهم ورغبوا فى الشهادة، وقالوا: اخرج بنا إلى عدوّنا لا يرون أنّا [قد «4» ] جبنّا عنهم وضعفنا. فغلبوا على الأمر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة بالناس ووعظهم وأمرهم بالجدّ والجهاد «5» ، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتّهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بالشخوص، ثم صلّى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالى «6» ، ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيته ومعه أبو بكر وعمر، فعمّاه وألبساه «7» ، وصفّ «8» الناس له ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد ابن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردّوا الأمر إليه. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد لبس لأمته «9» ، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه «10» ، واعتمّ وتقلّد السيف، وألقى التّرس فى ظهره، فندموا جميعا على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا ينبغى

لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، فانظروا ما آمركم به فافعلوا وامضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم. ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء المهاجرين إلى على بن أبى طالب، ويقال: إلى مصعب بن عمير، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ويقال: إلى سعد بن عبادة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم ركب فرسه وتنكّب «1» القوس وأخذ قناة بيده، والمسلمون عليهم السلاح قد أظهروا الدروع، فيهم مائة دارع، وخرج السّعدان أمامه يعدوان، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، كل منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله، فمضى حتى إذا كان بالشّيخين «2» - وهما أطمان، كان يهودى «3» ويهودية يقومان عليهما يتحدّثان، فلذلك سميّا بالشيخين، وهما فى طرف المدينة- التفت فنظر إلى كتيبة خشناء «4» لها زجل «5» ، فقال: ما هذه؟ قالوا: حلفاء ابن أبىّ من يهود. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تستنصروا «6» بأهل الشّرك على أهل الشرك. وعرض من عرض بالشيخين، فردّ من ردّ، وأجاز من أجاز. قال محمد بن إسحاق: أجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ سمرة «7» بن جندب الفزارىّ، ورافع بن خديج أحد بنى حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان

قد ردّهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعا رام. فأجازه، فقيل له: إن سمرة يصرع رافعا، فأجازه. وردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وعمرو بن حزم، وأسيد بن ظهير، ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة. وردّ عرابة ابن أوس وهو الذى يقول فيه الشمّاخ «1» . إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين قال ابن سعد: وبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشيخين، وكان نازلا فى بنى النّجار، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا، يطيفون بالعسكر، وأدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السّحر، ودليله أبو خيثمة «2» ، فانتهى إلى أحد، فخانت الصلاة، وهو يرى المشركين، فأمر بلالا فأذّن وأقام، فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا. قال ابن إسحاق: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّوط «3» بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبىّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسناها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النّفاق، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بنى سلمة، يقول: يا قوم،

أذكّركم الله أن تخذلوا «1» قومكم ونبيّكم عند ما حضر عدوّهم؛ قالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنّه يكون قتال. قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فيسغنى الله عنكم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: انخزل عبد الله بن أبىّ بثلمائة، وبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبعمائة ومعه فرسه وفرس لأبى بردة بن نيار. وأقبل يصفّ أصحابه ويسوّى الصّفوف على رجليه، وعليه درعان ومغفر «2» وبيضة، وجعل له ميمنة وميسرة، وجعل أحدا وراء ظهره، واستقبل المدينة؛ وجعل عينين «3» - جبلا- عن يساره، وجعل عليه خمسين من الرّماة، واستعمل عليهم «4» عبد الله بن جبير، وقال: قوموا على مصافّكم هذه «5» فاحموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا. وأقبل المشركون، وقد صفّوا صفوفهم، واستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل، ولهم مجنّبتان «6» مائتا فرس، وجعلوا على الخيل صفوان بن أميّة، ويقال: عمرو بن العاص. وعلى الرّماة عبد الله بن أبى ربيعة، وكانوا مائة رام، ودفعوا اللّواء إلى طلحة بن أبى طلحة- واسم أبى طلحة عبد الله ابن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار- فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من

يحمل لواء المشركين؟ فقيل: عبد الدار. فقال: نحن أحقّ بالوفاء منهم، أين مصعب ابن عمير؟ قال: هأنذا؛ قال: خذ اللّواء؛ فأخذه مصعب، فتقدّم به بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، فقال: وما حقّه يا رسول الله؟ قال: تضرب به فى العدوّ حتى ينحنى؛ قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقّه. فأعطاه إيّاه. وكان أبو دجانة إذا أعلم بعصابة له حمراء علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصّفين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: إنها لمشية يبغضها الله ورسوله، إلا فى هذا الموطن. قال ابن هشام: إن الزّبير بن العوّام قال: وجدت «1» في نفسى حين سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرنّ ما يصنع. فاتّبعته، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه. فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. وجعل يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل ألا أقوم الدهر فى الكيّول «2» ... أضرب بسيف الله والرّسول

قال الزّبير: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وكان فى المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا ذفّف «1» عليه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته «2» ، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدله عنها، قال الزّبير، فقلت: الله ورسوله أعلم. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمش «3» الناس حمشا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أضرب به امرأة. قالوا: وكان أوّل من أنشب الحرب يوم أحد أبو عامر عبد عمرو «4» بن صيفىّ ابن مالك بن النعمان، أحد بنى ضبيعة بن زيد، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه خمسون غلاما من الأوس، وكان بعد قريشا أن لو قد لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق- وكان فى الجاهلية يسمّى الراهب، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسق، كما قدمنا من خبره- قال: فلما سمع ردّهم عليه، قال: لقد أصاب قومى بعدى شرّ. ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضخهم «5» بالحجارة فراضخوه، حتى ولّى هو وأصحابه هاربين.

قال: وكان أبو سفيان قد قال لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرّضهم بذلك على القتال: يا بنى عبد الدّار، إنكم قد وليتم لواء «1» يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإمّا أن تكفونا لواءنا «2» ، وإمّا أن تخلّوا بيننا وبينه فنكفيكموه؛ فهمّوا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك أراد أبو سفيان. قال: ولما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة فى النّسوة اللاتى معها، وأخذن الدّفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرّضنهم، فقالت هند فيما تقول: ويها بنى عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكلّ بتار «3» وقالت أيضا: نحن بنات طارق «4» ... نمشى على النّمارق «5» إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق فراق غير وامق «6»

قال. وكان شعار المسلمين يوم أحد. أمت، أمت. ودنا القوم بعضهم من بعض، والرّماة يرشقون خيل المشركين بالنّبل، فتولّى «1» هوارب، فبرز طلحة ابن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، وقال: من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب، فالتقيا بين الصفّين، فبدره علىّ بضربة على رأسه حتى فلق هامته، فوقع وهو كبش الكتيبة، فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك وكبّر، وكبّر المسلمون، وشدّوا على كتائب المشركين يضربونهم حتى نغضت «2» صفوفهم، ثم حمل لواء المشركين عثمان بن أبى طلحة، وجعل يرتجز وهو أمام النّسوة: إنّ على أهل اللواء حقّا ... أن يخضبوا الصّعدة أو تندقّا «3» فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، وبدا سحره «4» ، ثم رجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقى الحجيج. فحمل اللواء أبو سعد بن أبى طلحة، فرماه سعد بن أبى وقّاص فأصاب حنجرته، فأدلع «5» لسانه إدلاع الكلب، فقتله. ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبى طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، فقتله. ثم حمله كلاب بن طلحة ابن أبى طلحة، فقتله الزّبير بن العوّام. ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبى طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله. ثم حمله أرطاة بن شرحبيل، فقتله علىّ بن أبى طالب.

ثم حمله شريح بن قاسط «1» ، فقتل. ثم حمله صؤاب غلامهم «2» ، وهو حبشىّ، فقاتل يومئذ حتى قطعت يده، فاعتنق اللواء حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهمّ هل أعذرت، واختلف فى قاتله، فقيل: قتله سعد بن أبى وقّاص، وقيل: على بن أبى طالب، وقيل: قتله قزمان على الأصح. قال: فلما قتل أصحاب اللواء صار ملقى، حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثيّة فدفعته لقريش، فلاثوا «3» به. ثم انكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهضوهم «4» عن العسكر، ووقعوا ينهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم. قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى الزّبير بن العوّام، أنه قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير. قال ابن سعد: وتكلّم الرّماة الذين على الجبل واختلفوا بينهم، وثبت أميرهم عبد الله بن جبير فى نفر يسير دون العشرة، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووعظ أصحابه وذكّرهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لم يرد رسول الله هذا، قد انهزم المشركون، فما مقامنا هاهنا؟ فانطلقوا يتبعون العسكر ينتهبون معهم، وتركوا الجبل. فنظر خالد بن الوليد إلى خلوّ الجبل وقلة أهله،

فكرّ بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل، فحملوا «1» على المسلمين، واستدارت رحاهم، وحالت الريح فصارت دبورا، وكانت قبل ذلك صبا، ونادى إبليس- لعنه الله-: إن محمدا قد قتل. واختلط المسلمون فصاروا يقتتلون «2» على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من العجلة والدهش، وقتل مصعب ابن عمير، فأخذ اللواء ملك فى صورة مصعب، وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل، ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزّى يا لهبل «3» . فقتل من أكرمه الله بالشهادة من المسلمين، حتى خلص العدوّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثبت صلّى الله عليه وسلّم معه «4» عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وسبعة «5» من الأنصار. ورمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوسه حتى اندقّت سيتها «6» ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، ثم ذبّ بالحجارة. وكسرت يومئذ رباعيته «7» صلّى الله عليه وسلّم، وكلمت شفته، وشجّ فى وجهه، وجرح فى وجنته، وكسرت البيضة على رأسه، فسال الدم على وجهه، فجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم؟ فأنزل الله تعالى فى ذلك: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «8» ) .

وروى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى أبى سعيد الخدرى: أن عتبة بن أبى وقّاص رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السّفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزّهرىّ شجّه فى جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخل حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومصّ مالك بن سنان أبو أبى سعيد الخدرىّ، الدّم من وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [ثم «1» ] ازدرده، فقال صلّى الله عليه وسلّم: من مسّ دمه دمى لم تمسّه النار. قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى محمود بن عمرو: لما غشى القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من رجل يشترى لنا نفسه؟ فقام زياد بن السّكن [فى خمسة من الأنصار، وبعضهم يقول: إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن «2» ] . فقاتلوا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا رجلا يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت فئة المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أدنوه منى. فأدنوه منه، فوسّده قدمه، فمات، وخدّه على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: وقاتلت أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنيّة يومئذ، فحدّثت وقد سئلت عن خبرها، فقالت: خرجت أوّل النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدولة والرّيح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف، حتى خلصت الجراحة إلىّ. وكان على عاتقها جرح أجوف له غور،

فقيل لها: من أصابك بهذا؟ فقالت: ابن قمئة «1» ، أقمأه «2» الله، لما ولّى الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبل يقول: دلّونى على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضر بنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات «3» ، ولكنّ عدوّ الله كان عليه درعان. قال ابن إسحاق: وترّس دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو دجانة بنفسه، يقع النّبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النّبل. ورمى سعد ابن أبى وقّاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمّى، حتى إنه ليناولنى السهم ما له من نصل، فيقول: ارم به. قال: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما. قال: وانتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار، قد «4» ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك: لقد وجدنا به سبعين ضربة؛ وأصيب عبد الرحمن بن عوف فى فمه فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، فأصابه بعضها فى رجله فعرج.

قال ابن إسحاق: وكان أوّل من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كعب بن مالك، قال كعب: عرفت عينيه تزهران تحت «1» المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأشار إلىّ: أن أنصت، قال: فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهضوا [به] ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر، وعمر، وعلىّ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، والحارث بن الصّمة، ورهط من المسلمين، فلما أسند «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الشعب أدركه أبىّ بن خلف، وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجال منّا؟ قال رسول الله: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصّمة، قال: فلما أخذها انتفض ما انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء «3» عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه بها طعنة فى عنقه تدأدأ» منها عن فرسه مرارا؛ وكان أبىّ بن خلف قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: إنّ عندى العود- فرسا- أعلفه كل يوم فرقا «5» من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنا أقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدّم فيه، فقال: قتلنى والله محمد؛ قالوا: ذهب والله فؤادك! والله إن بك

بأس؛ قال: إنه قد قال لى بمكة: أنا أقتلك، [والله «1» ] لو بصق علىّ لقتلنى. فمات عدوّ الله بسرف «2» وهم قافلون إلى مكة، وفى ذلك يقول حسان بن ثابت: لقد ورث الضّلالة عن أبيه ... أبىّ يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رمّ عظم ... وتوعده وأنت به جهول «3» وقد قتلت بنو النّجار منكم ... أميّة إذ يغوّث: يا عقيل «4» وتبّ ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل، لأمّهما الهبول «5» وأفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم، أسرته قليل وقال حسان أيضا فيه: ألا من مبلغ عنّى أبيّا ... فقد ألقيت فى سحق السعير «6» تمنّى بالضّلالة من بعيد ... وتقسم أن قدرت مع النّذور تمنّيك الأمانى من بعيد ... وقول الكفر يرجع فى غرور فقد لاقيت طعنة ذى حفاظ ... كريم البيت ليس بذى فجور «7» له فضل على الأحياء طرّا ... إذا نابت ملمّات الأمور قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فم الشّعب خرج علىّ بن أبى طالب حتى ملأ درقته «8» من الماء، فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشرب منه، فوجد له ريحا، فعافه وغسل عن وجهه الدّم.

قال: وبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّعب، معه أولئك النّفر من أصحابه، إذ علّت عالية من قريش الجبل، وكان على تلك الخيل خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ [إنه «1» ] لا ينبغى لهم أن يعلونا! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدّن «2» وظاهر بين درعين، فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها «3» . قال ابن هشام: وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا. قال ابن إسحاق: ولما أراد القوم الانصراف أشرف أبو سفيان على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت «4» فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء «5» ، قتلانا فى الجنّة، وقتلاكم فى النار؛ فقال له أبو سفيان: هلمّ إلىّ يا عمر؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر: ايته فانظر ما شأنه؛ فأتاه، فقال له أبو سفيان:

أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهمّ لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قمئة وأبرّ- لقول ابن قمئة لهم: إنى قتلت محمدا- قال: واسم ابن قمئة عبد الله. وروى البخارى عن البراء قال: وأشرف أبو سفيان فقال: أفى القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر- رضوان الله عليه- نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل «1» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ، قال أبو سفيان: لنا العزّى «2» ولا عزّى لكم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، قالوا: ما تقول؟ قال قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم؛ قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر [بها «3» ] ولم تسؤنى. قال ابن سعد: ثم نادى أبو سفيان عند انصرافه: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: قل له: نعم هو بيننا وبينك موعد. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب فقال: اخرج فى آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا «4» الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم

يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها، ثم لأناجزنّهم «1» . قال علىّ: فخرجت فى آثارهم فرأيتهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، وتوجهوا إلى مكّة. ذكر خبر «2» مقتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، وما فعلته هند بنت عتبة، وما قالته من الشعر، وما أجيبت به كان حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، قد قتل من ذكرنا من المشركين آنفا، ومرّ به سباع بن عبد العزّى الغبشانىّ، وكان يكنى بأبى نيار، فقال له حمزة: هلّم إلىّ يابن مقطّعة البضور «3» - وكانت أمّة أم أنمار مولاة شريق بن عمر بن وهب الثقفىّ، وكانت ختّانة بمكة- فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. فقال وحشىّ غلام جبير بن مطعم: والله إنى لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيّأ أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه سباع، فلما رآه حمزة قال له ما قال، فضربه حمزة فقتله، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت فى ثنّته «4» ، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء «5» نحوى فغلب، فتركته وإيّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، فلم يكن لى بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق. قال ابن إسحاق: ووقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجد «6» عن الآذان والآنف، حتى

اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم قلائد وخدما «1» ، وأعطت قلائدها وخدمها وقرطها وحشيّا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تسطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها، ثم قالت: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمّه وبكرى شفيت نفسى وقضيت وترى «2» ... شفيت وحشىّ غليل صدرى فشكر وحشىّ علىّ عمرى ... حتى ترمّ أعظمى فى قبرى «3» فأجابتها هند بنت أثاثة بن عبّاد بن المطلب «4» فقالت: خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا بنت وقّاع عظيم الكفر «5» صبّحك الله غداة الفجر ... بالهاشميّين الطّوال الزّهر بكل قطّاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلىّ صقرى «6» إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضّبا منه ضواحى النّحر «7» ونذرك السّوء فشرّ نذر وقالت هند غير ذلك من الشعر وأجيبت بمثله، وتركنا ذلك اختصارا.

قال ابن إسحاق: ومرّ الحليس بن زبّان «1» أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش بأبى سفيان، وهو يضرب فى شدق حمزة بزجّ الرمح، ويقول: ذق عقق «2» . فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيّد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما «3» ؛ قال: ويحك! اكتمها عنّى، فإنها كانت زلة. قال ولما فرغ الناس لقتلاهم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده، وجدع أنفه وأذناه. فقال حين رآه: لولا أن تحزن صفيّة وتكون ستّة من بعدى لتركتك حتى تكون فى بطون السّباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى موطن من المواطن لأمثّلن بثلاثين رجلا منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيظه على من فعل بعمّه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثّلن بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى قوله: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «4» ) قال: فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصبر. ونهى عن المثل «5» .

قال ابن هشام: ولما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمزة قال: لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إلىّ من هذا! ثم قال: جاءنى جبريل عليه السلام فأخبر أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب فى أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله. قال ابن إسحاق يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمزة فسجّى «1» ببرد، ثم صلّى عليه وكبّر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلّى عليهم وعليه معهم، حتى صلّى عليه ثنتين وسبعين صلاة «2» . قالت: وأقبلت صفيّة بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابنها الزّبير ابن العوام: القها فارجعها لا ترى ما بأخيها. فقال [لها «3» ] : يا أمّاه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن ترجعى، فقالت: ولم؟ وقد بلغنى أنه قد مثّل بأخى، وذلك فى الله عزّ وجلّ، فما أرضانى «4» أنا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ ولأصبرنّ «5» إن شاء الله تعالى. فلما جاء الزبير إلى رسول الله [صلّى الله عليه وسلّم «6» ] وأخبره بذلك قال: خلّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، وصلّت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن. قال: واحتمل ناس [من المسلمين «7» ] قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها. ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.

ذكر [تسمية] من استشهد من المسلمين يوم أحد

ذكر [تسمية «1» ] من استشهد من المسلمين يوم أحد قال ابن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا، كان منهم من المهاجرين من بنى هاشم: حمزة بن عبد المطلب، رضى الله عنه، وقد تقدم خبر مقتله. ومن بنى أمية: عبد الله بن جحش، حليف لهم من بنى أسد بن خزيمة «2» قتله أبو الحكم «3» بن الأخنس بن شريق. ومن بنى عبد الدار بن قصىّ: مصعب ابن عمير، قتله عبد الله بن قمئة الليثىّ. ومن بنى مخزوم بن يقظة: شمّاس بن عثمان قتله [أبىّ «4» ] بن خلف. لم يذكر ابن إسحاق غير هؤلاء الأربعة. وقال محمد بن سعد فى طبقات الكبرى: وعبد الله، وعبد الرحمن، ابنا الهبيب، من بنى سعد بن ليث، ووهب بن قابوس المزنىّ، وابن أخيه الحارث بن عقبة ابن قابوس. وزاد الثعلبى سعدا مولى عتبة، ولم يذكر الأربعة الذين ذكرهم ابن سعد، بل عدّ المهاجرين خمسة. واستشهد من الأنصار، من بنى عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وهم: عمرو بن معاذ بن النّعمان أخو سعد، والحارث بن أنس بن رافع «5» ، وعمارة بن زياد بن السّكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وأخوه عمرو بن ثابت، وأبوهما ثابت، ورفاعة [بن «6» ] وقش، واليمان أبو حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن

جابر، أصابه المسلمون فى المعركة ولا يدرون، وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يديه «1» ، فتصدّق ابنه حذيفة بديته على المسلمين، وصيفىّ بن قيظى، [وخباب ابن قيظى «2» ] ، وعبّاد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ. ومن أهل راتج «3» ثلاثة نفر، وهم: إياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيّهان، ويقال: عتيك بن التيّهان. وحبيب بن زيد بن تيم. ومن بنى ظفر: يزيد «4» بن حاطب بن أميّة بن رافع. ومن بنى عمرو بن عوف، رجلان، وهما: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وحنظلة بن أبى عامر بن صيفىّ بن النعمان، وهو غسيل الملائكة، وكان قد التقى هو وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شدّاد بن الأسود فقتله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن صاحبكم لتغسله الملائكة. فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لذلك غسّلته الملائكة. وقال شدّاد بن الأسود حين قتل حنظلة: لأحمينّ صاحبى ونفسى ... بطعنة مثل شعاع الشمس ومن بنى عبيد بن زيد «5» : أنيس بن قتادة. ومن بنى ثعلبة بن عمرو ابن عوف رجلان، وهما: أبو حيّة «6» بن عمرو بن ثابت، وعبد الله بن جبير

ابن النّعمان، وهو أمير الرّماة. ومن بنى السلّم بن امرئ القيس بن مالك: خيثمة أبو سعد بن خيثمة. ومن حلفائهم من بنى العجلان: عبد الله بن سلمة. ومن بنى معاوية بن مالك رجلان، وهما: سبيع بن حاطب بن الحارث، ويقال: سويبق «1» بن الحارث. ومالك بن نميلة، حليف لهم من مزينة. ومن بنى النّجار ثم «2» من بنى سواد بن مالك خمسة نفر، وهم: عمرو بن قيس بن زيد بن سواد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلّد، ومالك بن إياس. ومن بنى مبذول رجلان، وهما: أبو هبيرة بن الحارث ابن علقمة، وعمرو بن مطرف «3» بن علقمة. ومن بنى عمرو بن مالك بن النجار رجلان، وهما: أوس بن ثابت بن المنذر، وهو أخو حسان، وإياس بن عدىّ. ومن بنى عدىّ بن النجار رجل واحد، وهو: أنس بن النّضر بن ضمضم بن زيد ابن حرام بن جندب بن عامر بن عدىّ بن النجّار، وقد تقدّم خبره. ومن بنى مازن بن النجّار رجلان، وهما: قيس بن مخلّد، وكيسان عبدلهم. ومن بنى دينار بن النجار رجلان، وهما: سليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو. ومن بنى الحارث بن الخزرج ثلاثة نفر، وهم: خارجة بن زيد بن أبى زهير، وسعد ابن الربيع بن عمرو بن أبى زهير- حكى محمد بن سعد فى طبقاته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق «4» ، قال الأنصارىّ:

فقلت له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنى السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف «1» . قال الأنصارى: ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته خبره. وأوس بن الأرقم بن زيد، من بنى الأبجر، وهم بنو خدرة، ثلاثة نفر، وهم: مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبد [بن «2» ] الأبجر، وهو أبو أبى سعيد الخدرىّ، وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر بن عبّاد بن الأبجر، وعتبة بن ربيع ابن رافع بن معاوية. ومن بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج رجلان، وهما: ثعلبة بن سعد بن مالك بن خالد، وثقيف «3» بن فروة بن البدىّ. ومن بنى طريف، رهط سعد بن عبادة رجلان، وهما: عبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لهم من جهينة. ومن بنى عوف بن الخزرج خمسة نفر، وهم: نوفل ابن عبد الله، وعبّاس بن عبادة بن نضلة، ونعمان «4» بن مالك بن ثعلبة، والمجذّر ابن زياد، حليف لهم من بلىّ، وعبادة بن الحسحاس. ومن بنى الحبلى، رفاعة

ذكر تسمية من قتل من المشركين يوم أحد

ابن عمرو، ومن بنى سلمة «1» ثم من بنى حرام أربعة نفر، وهم: عبد الله بن عمرو ابن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وخلّاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أيمن «2» مولى عمرو بن الجموح. ومن بنى سواد بن غنم ثلاثة نفر، وهم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل «3» بن قيس بن أبى كعب بن القين. ومن بنى زريق [بن عامر «4» ] رجلان، وهما: ذكوان «5» بن عبد قيس، وعبيد بن المعلّى بن لوذان. ومن بنى خطمة من الأوس: الحارث بن عدىّ بن خرشة بن أمية. ومن بنى سالم «6» بن عوف: عمرو بن إياس. ذكر تسمية من قتل من المشركين يوم أحد قتل من المشركين يوم أحد اثنان وعشرون رجلا: من بنى عبد الدار بن قصىّ أحد عشر رجلا- وهم أصحاب اللواء- طلحة بن أبى طلحة، قتله على بن أبى طالب، وأبو سعيد بن أبى طلحة، قتله سعد بن أبى وقّاص، ويقال: على، وعثمان بن أبى طلحة، قتله حمزة بن عبد المطلب، ومسافع بن طلحة «7» بن أبى طلحة، قتله عاصم ابن ثابت بسهم، والجلاس بن طلحة، قتله عاصم أيضا كما تقدّم، وكلاب بن طلحة والحارث بن طلحة، قتلهما قزمان حليف لبنى ظفر، وأرطاة بن عبد بن شرحبيل ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله حمزة، ويقال: قتله على، وأبو زيد «8» ابن عمير بن هاشم، قتله قزمان، وصؤاب غلام لهم حبشىّ، قتله قزمان، والقاسط

ابن شريح بن هاشم، قتله قزمان. ومن بنى أسد بن عبد العزّى بن قصىّ: عبد الله ابن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد: قتله على بن أبى طالب. ومن بنى زهرة ابن كلاب رجلان، وهما. أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، حليف لهم، قتله على بن أبى طالب، وسبّاع بن عبد العزّى- واسم عبد العزى عمرو بن نضلة بن غبشان- حليف لهم من خزاعة، قتله حمزة كما تقدم. ومن بنى مخزوم أربعة نفر، وهم: هشام بن أبى أمية بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن العاص بن المغيرة، قتله قزمان أيضا، وأبو أمية بن أبى حذيفة بن المغيرة، قتله على بن أبى طالب، وخالد بن الأعلم حليف لهم، قتله قزمان. ومن بنى جمح رجلان، وهما: عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وهو أبو عزّة، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبرا- وكان قد أسر يوم بدر، فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه كما ذكرنا، فقال: لا أكثر عليك جمعا؛ فلم يف، وخرج يوم أحد مع المشركين فأسر، ولم يؤسر يومئذ غيره، فقال: منّ علىّ يا محمد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك، تقول: سحرت «1» محمدا مرتين، ثم أمر عاصم بن ثابت ابن الأفلح فضرب عنقه- وأبىّ بن خلف بن حذافة بن جمح، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كما تقدم. ومن بنى عامر بن لؤى رجلان، وهما: عبيدة «2» بن جابر وشيبة بن مالك بن المضرب، قتلهما قزمان، ويقال: قتل «3» عبيدة بن جابر عبد الله بن مسعود.

قال محمد بن سعد فى طبقاته: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ من أحد، فصلى المغرب بالمدينة، وشمت عبد الله بن أبىّ بن سلول والمنافقون بما نيل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه وأصحابه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لن ينالوا منّا مثل هذا اليوم حتى نستلم الرّكن. قال: وبكت الأنصار على قتلاهم، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البكاء فبكى، وقال: لكنّ حمزة لا بواكى له، فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بنى عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن، ثم يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكاءهنّ على حمزة خرج عليهنّ وهنّ على باب مسجده يبكين، فقال: ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكن. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [يومئذ «1» ] عن النوح. وروى عن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه، قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بامرأة من بنى دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبيّن؛ قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؛ قال: فأشير لها إليه صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛ رضى الله عنها. ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانت فاطمة- رضى الله عنها- تغسل جرحه؛ وعلىّ يسكب الماء عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدّم إلا كثرة، عمدت إلى قطعة من حصير فأحرقتها، وألصقت ذلك على الجرح فاستمسك الدّم، ولم يبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة إلا تلك.

ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك

الليلة، ثم أصبح فخرج فى طلب العدوّ إلى حمراء الأسد، على ما نذكره إن شاء الله. ولنصل غزوة أحد بتفسير ما أنزل الله تعالى فيها من القرآن. ذكر ما أنزل «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة أحد، وما ورد فى تفسير ذلك قال محمد بن إسحاق، رحمه الله: وكان مما أنزل الله تعالى فى غزوة أحد من القرآن ستون آية من سورة آل عمران، أول ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ «2» الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أبو إسحاق «3» أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى- رحمه الله- فى تفسيره المترجم بالكشف والبيان عن تفسير القرآن: إن المشركين أقاموا بأحد يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وذكر نحو ما قدمناه من خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة السبت للنصف من شوّال، وأنه صلّى الله عليه وسلّم جعل يصفّ أصحابه للقتال كما يقوم القدح، إذا رأى صدرا خارجا قال: تأخّر، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الآية «4» ، وقوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) تفشلا، أى تجبنا وتضعفا ومتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهما بنو سلمة بن الخزرج، وبنو حارثة بن الأوس،

وكانا جناحى العسكر، وذلك أن عبد الله بن [أبىّ بن سلول «1» ] لما انخزل بثلث الناس كما قدمنا وقال هو ومن وافقه من أصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) ؛ همّ «2» بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف معه، فعصمهم الله تعالى فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته، فقال: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أى ناصرهما وحافظهما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* ثم ذكّرهم الله منّته عليهم إذا نصرهم «3» ببدر، فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) . «ليقطع طرفا» أى يهلك طائفة «أو يكبتهم» أى يهزمهم «فينقلبوا خائبين» أى لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم. قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) . اختلف العلماء فى سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود: أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان بن عفان منهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وتاب عليهم، وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة، وقتادة، ومقسم: أدمى رجل من هذيل يقال له: عبد الله ابن قمئة وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله، وشجّ عتبة بن أبى وقاص رأسه وكسر رباعيته صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عليه وقال: اللهم

لا يحل «1» عليه الحول حتى يموت كافرا [قال: «2» فما حال الحول حتى مات كافرا] فأنزل الله تعالى عليه «3» هذه الآية. وقال الربيع والكلبىّ: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ فى وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، لعلمه فيهم أن كثيرا منهم سيؤمنون. قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) قيل: أمثال. وقيل: أمم. والسّنّة الأمّة، قال الشاعر: ما عاين الناس من فضل كفضلهم ... ولا رأوا مثلهم فى سالف السّنن وقيل: أهل سنن؛ وقيل: أهل شرائع؛ قال: معنى الآية: قد مضت وسلفت منّى فيمن قبلكم من الأمم الماضية المكذّبة الكافرة سنن بإمهالى واستدراجى إيّاهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلى الذى أجلت- لإدالة «4» أنبيائى- وأهلكتهم. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) * أى منهم، فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجلى الذى أجّلت فى نصرة النبىّ وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال: هذه الآية «5» تعزية من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إيّاهم على قتال عدوّهم، ونهى عن العجز

والفشل، فقال تعالى: «ولا تهنوا» أى لا تضعفوا ولا تجبنوا من جهاد أعدائكم [بما «1» نالكم يوم أحد من القتل والقرح. «ولا تحزنوا» على ظهور أعدائكم] ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة «وأنتم الأعلون» أى لكم تكون العاقبة بالنصر «2» والظفر «إن كنتم مؤمنين» . قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أى جرح يوم أحد فقد مسّ القوم جرح مثله يوم بدر. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعنى إنما كانت هذه المداولة ليرى الله الذين آمنوا- يعنى منكم- ممن نافق، فيميز بعضهم من بعض. وقيل: المعنى «وليعلم الله الّذين آمنوا» بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن كلّفهم. «ويتّخذ منكم شهدآء» يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد، فاتّخذ الله منهم شهداء. قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) يعنى يطهّر الذين آمنوا من ذنوبهم «ويمحق الكافرين» يفنيهم ويهلكهم وينقصهم. ثم عزّاهم الله تعالى فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) . قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)

وذلك أنه لما قتل عبد الله بن قمئة مصعب بن عمير، وصرخ صارخ- يقال: هو إبليس، لعنه الله- ألا إن محمدا قد قتل. وانهزم الناس، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من بنى أبى سفيان. وجلس بعض الصحابة وألقوا «1» بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. فقال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان قد قتل محمد فإن ربّ محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه؛ ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما قال «2» هؤلاء- يعنى المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء- يعنى المنافقين- ثم قاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- انطلق إلى الصخرة، وهو يدعو الناس، فانحدر إليه طائفة من أصحابه، فلامهم صلّى الله عليه وسلّم على الفرار، فقالوا: يا نبىّ الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت «3» قلوبنا فولّينا مدبرين. فأنزل الله تعالى: «وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات» أى على فراشه «أو قتل انقلبتم على أعقابكم» أى رجعتم إلى دينكم الأوّل الكفر «ومن ينقلب على عقبيه» فيرتدّ عن دينه «فلن يضرّ الله شيئا» بارتداده، وإنما يضرّ نفسه «وسيجزى الله الشّاكرين» أى المؤمنين. قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)) قيل: الربّيّون الألوف والرّبّة «4» الواحدة عشرة آلاف. وقيل: الربّيون العلماء والفقهاء. وقيل: الأتباع

وقيل: الرّبانيون الولاة، والربّيون الرعيّة. وقيل: الرّبيّون الذين يعبدون الرّب تعالى. قال: ومعنى الآية، فما ضعفوا عن الجهاد «لما أصابهم فى سبيل الله» لما نالهم من الجراح وقتل الأصحاب، وما عجزوا بقتل نبيهم «وما ضعفوا وما استكانوا» قال قتادة والربيع: يعنى وما ارتدوا عن بصيرتهم» ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّهم حتى لحقوا بالله تعالى. قال السّدّى: وما ذلّوا. وقال عطاء: وما تضرّعوا. وقال مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوّهم، ولكنّهم صبروا على أمر ربّهم، وطاعة نبيّهم، وجهاد عدوّهم «والله يحبّ الصّابرين» . قوله تعالى: (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)) [قال «2» : معنى الآية، «قولهم» عند قتل نبيهم «إلّا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا» يعنى خطايانا «وثبّت أقدامنا» لئلا تزول «وانصرنا على القوم الكافرين» ] . قوله تعالى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا)) يعنى النصر والغنيمة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)) الجنّة «3» (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) *. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا)) قال علىّ، رضى الله عنه: يعنى المنافقين فى قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا فى دينكم. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)) أى ترجعوا على أوّل أمركم الشّرك (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)) * أى فتصيروا مغبونين (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أى ناصركم وحافظكم على دينكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) .

قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) قال السدّى: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنهم ندموا، وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشّريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله تعالى «1» في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما همّوا به، فأنزل الله تعالى: «سنلقى فى قلوب الّذين كفروا الرّعب» يعنى الخوف (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)) أى حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر الله «2» تعالى عن مصيرهم، فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) أى مقام الكافرين. قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) قال محمد بن كعب القرظىّ: لما رجع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ [فأنزل «3» الله تعالى «ولقد صدقكم الله وعده» أى الذى وعد بالنصر] والظفر، وهو قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا» ) الآية. وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [للرّماة «4» ] : «لا تبرحوا مكانكم فلن تزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وقوله [تعالى «5» ] : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) أى تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا، وذلك عند هزيمتهم كما تقدّم. قوله: (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ)) «فشلتم» : أى جبنتم وضعفتم «وتنازعتم» أى اختلفتم. وهو ما وقع بين الرّماة، ونزول أكثرهم لتحصيل الغنيمة كما تقدّم، فكانت الهزيمة بسبب ذلك. قوله: (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ))

وهو الظفر والغنيمة. قوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا «1» ) يعنى الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعنى الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير أمير الرماة حتى قتلوا. قوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أى ردّكم عنهم بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أى فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ) يعنى ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) . ثم رجع إلى الخطاب، فقال: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) قال يقال: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت فى جبل أو غيره، والإصعاد: السير فى مستوى الأرض وبطون الأودية والشّعاب، والصعود: الارتفاع على الجبال وغيرها. وقال المبرد: أصعد إذا أبعد فى الذهاب. قال الشاعر: ألا أيّهذا السائلى أين أصعدت «2» ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا وقال الفرّاء: الإصعاد الابتداء فى كل سفر، والانحدار الرجوع منه. وقوله: «ولا تلوون على أحد» يعنى ولا تعرجون ولا تقيمون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا وفرارا، قال الكلبى: «على أحد» يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) يعنى فى آخركم ومن ورائكم: إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، فأنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة. (فَأَثابَكُمْ) أى فجازاكم؛ جعل الإثابة بمعنى العقاب، كقوله: «فبشّرهم بعذاب أليم» ؛ معنى الآية: أى جعل مكان الثواب الذى كنتم ترجون (غَمًّا بِغَمٍّ) قال الحسن: يعنى بغمّ المشركين يوم بدر. وقال غيره: غما على غمّ. وقيل: غما متصلا بغم، فالغم الأوّل «3» ما فاتهم من الغنيمة

والظفر، والغم الثانى ما نالهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأوّل ما أصابهم من القتل والجراح، والغم الثانى ما سمعوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فأنساهم الغم الأوّل. وقيل: غير هذه الأقوال. والله أعلم. قوله تعالى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أى من الفتح والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والهزيمة؛ هذا أنساكم ذلك الغمّ، وهمّكم ما أنتم فيه عما كان قد أصابكم قبل. وقال المفضّل: «لا» صلة. معناه: لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم فى خلافكم إياه، وترككم المركز (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) *. قوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) . روى عن عبد الله بن الزبير عن أبيه، رضى الله عنهما، قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتدّ الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم، والله إنّى لأسمع قول معتّب بن قشير والنّعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما. أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد خوف، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. وعن أنس عن أبى طلحة قال: رفعت رأسى

يوم أحد ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته «1» من النعاس. قال أبو طلحة: وكنت ممن ألقى الله «2» تعالى عليه النعاس يومئذ، فكان السيف يسقط من يدى فآخذه، ثم يسقط السوط من يدى فآخذه من النوم. «وطائفة» يعنى المنافقين [معتب «3» بن قشير وأصحابه] «قد أهمّتهم أنفسهم» أى حملتهم على الهمّ «يظنّون بالله غير الحقّ» أى لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل. «ظنّ الجاهليّة» أى كظن أهل الجاهلية والشّرك «يقولون هل لنا» أى ما لنا، لفظه استفهام ومعناه جحد «من الأمر من شىء» يعنى التّصرف «قل إنّ الأمر كلّه لله» وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كانت لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة، ولم يقتل رؤساؤنا. فذلك قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» ) فقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلّم- قل لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ» ) أى لخرج «الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم» أى مصارعهم «وليبتلى الله» أى ليختبر الله «ما فى صدوركم وليمحّص» أى يخرج ويظهر (ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ) أى بما فى القلوب من خير أو شر «4» . قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) أى انهزموا منكم يا معشر المؤمنين (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) * جمع المسلمين وجمع المشركين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أى

حملهم على الزّلل. وقال الكلبى: زين لهم أعمالهم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أى بشؤم ذنوبهم. قال المفسرون: بتركهم المركز. وقال الحسن: بما كسبوا قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم من الهزيمة. (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) . قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى المنافقين عبد الله بن أبىّ وأصحابه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في النفاق، وقيل: فى النسب. (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) ساروا وسافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) غزاة فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ) يعنى قولهم وظنّهم (حَسْرَةً) * وحزنا (فِي قُلُوبِهِمْ) * والحسرة: الاغتمام «1» على فائت كان يقدر «2» بلوغه. قال الشاعر: فوا حسرتى لم أقض منك لبانتى ... ولم نتمتّع بالجور وبالقرب «3» ثم أخبر تعالى أن الموت والحياة إلى الله، سبحانه، لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال عز وجل: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) . قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ) أى فى العاقبة (وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أى من الغنائم (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أى فى العاقبة. قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أى سهلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك فلم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أى جافيا سيّىء الخلق قليل الاحتمال. (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قال الكلبى: فظّا فى القول، غليظ

القلب فى الفعل (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أى لتفرّقوا عنك، وأصل الفضّ الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. قال أهل الإشارة فى هذه الآية: منه العطاء ومنه الثناء «1» . (فَاعْفُ عَنْهُمْ) * أى عمّا أتوا يوم أحد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) * حتى أشفعك فيهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أى استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب: شرت الدابّة وشوّرتها إذا استخرجت جريها، وعلمت خبرها، قال: ومعنى الآية وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس «وشاورهم فى بعض الأمر» . قال الكلبى: يعنى فأظهرهم فى لقاء العدوّ، ومكايدة الحرب عند الغزوة. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله: «وشاورهم فى الأمر» قال أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا فى الأمر شقّ عليهم، فأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم فى الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لأنفسهم، فإذا شاورهم عليه السلام عرفوا إكرامه لهم. قال: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أى لا على مشاورتهم. وقرأ جعفر الصادق، وجابر ابن زيد، «فإذا عزمت» بضم التاء، أى عزمت لك ووفقتك وأرشدتك فتوكّل على الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) . قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) أى يعنكم ويمنعكم من عدوّكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) مثل يوم بدر (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أى يترككم ولا ينصركم، والخذلان القعود عن النصر، والإسلام «2» للهلكة والمكروه، قال: وقرأ عبيد بن عمير «وإن يخذلكم» بضم الياء وكسر الذال، أى يجعلكم مخذولين، ويحملكم على الخذلان والتخاذل،

كما فعلتم بأحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد خذلانه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) *. قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) أى بأحد (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين رجلا، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أى من أين لنا هذا القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، والوحى ينزل عليه، وهم مشركون؟ وقد تقدّم فى قصة أسارى بدر خبر التخيير قتلهم أو مفاداتهم، ويقتل منهم مثلهم فى العام القابل، واختيارهم الفداء، وذلك قوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أى بأخذكم الفداء واختياركم القتل، (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) *. قوله تعالى: (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أى بأحد من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) * أى بقضائه وقدره وعلمه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أى ليميز، وقيل: ليرى. وقيل: لتعلموا أنتم أن الله قد علم نفاقهم، وأنتم لم [تكونوا «1» ] تعلمون ذلك. (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أى لأجل دين الله وطاعته (أَوِ ادْفَعُوا) أى عن أهلكم وبلدكم وحريمكم، وقيل: أى كثّروا سواد المسلمين ورابطوا إن لم تقاتلوا، ليكون ذلك دفعا وقمعا للعدوّ (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) وهو قول عبد الله بن أبىّ وأصحابه الذين انصرفوا معه، كما تقدّم من خبرهم عند اتباع عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بنى سلمة لهم ومناشدته لهم فى الرجوع. قال الله تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك أنهم كانوا يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبين الله تعالى نفاقهم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) .

قوله تعالى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) قيل: فى النسب لا فى الدين، وهم شهداء أحد. (وَقَعَدُوا) يعنى وقعد هؤلاء القائلون عن الجهاد (لَوْ أَطاعُونا) وانصرفوا عن محمد، وقعدوا فى بيوتهم (ما قُتِلُوا) قال تعالى: (قُلْ) لهم يا محمد (فَادْرَؤُا) أى فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن الحذر لا يغنى عن القدر. قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طيور «1» خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعدّ الله لهم من الكرامة، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم، وما صنع الله عز وجل بنا، كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه. فقال «2» عز وجل: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم. ففرحوا بذلك واستبشروا، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآيات، [إلى «3» ] قوله «أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» ) . وقال قتادة والربيع: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله «4» صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا بأحد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وعن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: جعل الله تعالى أرواح شهداء أحد فى أجواف طير خضر، تسرح فى الجنة حيث شاءت، وتأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطّلع الله عز وجل إليهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا فأزيدكموه؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثانية، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ربنا، ألسنا نسرح فى الجنة فى أيها شئنا؛ ثم اطلع إليهم الثالثة، فقال: هل تشتهون من شىء فأزيدكموه؟ فقالوا: ليس فوق ما أعطيتنا شىء إلا أنا أحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل فى سبيلك، فنقتل مرة أخرى فيك؛ قال: لا؛ قالوا: فتقرئ نبيّنا منا السلام، وتخبره بأن قد رضينا، ورضى عنا؛ فأنزل الله، عز وجل هذه الآية. وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قتل أبى يوم أحد، وترك علىّ بنات، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أبشرك يا جابر؟ قلت: بلى يا رسول «1» الله؛ قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله تعالى وكلّمه كفاحا «2» ؛ فقال: يا عبد الله سلنى ما شئت؛ فقال: أسألك أن تعيدنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا؛ فقال: يا عبد الله، إنى قضيت ألا أعيد إلى الدنيا خليقة قبضتها؛ قال: يا رب، فمن يبلغ قومى ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله تعالى: أنا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد روى أن هذه الآية نزلت فى أصحاب بئر معونة؛ وقيل: فى شهداء بدر. والأحاديث الواردة والأخبار تدل على أنها فى شهداء أحد، والله أعلم.

ذكر غزوة حمراء الأسد

ذكر غزوة حمراء الأسد «1» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند منصرفه من أحد، قال ابن سعد: لثمان خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره. وقال ابن إسحاق: كانت يوم الأحد لست عشرة خلت من شوّال. وهذا الخلاف مرتب على ما تقدّم فى غزوة أحد. قال ابن سعد وغيره: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحد مساء يوم السبت بات تلك الليلة على بابه ناس من وجوه الأنصار، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح يوم الأحد أمر بلالا أن ينادى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس. فقال جابر بن عبد الله: إن أبى خلفنى يوم أحد على أخوات لى، فلم أشهد الحرب، فأذن لى أسير «2» معك؛ فأذن له، فلم يخرج معه أحد ممن لم يشهد أحدا غيره. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلوائه، وهو معقود لم يحلّ، فدفعه إلى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويقال: إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه. وخرج رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم، وهو مجروح، وحشد «4» أهل العوالى حيث أتاهم الصّريخ، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وخرج الناس معه، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة فى آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد- وهى من المدينة على عشرة أميال- وهم يأتمرون بالرجوع،

ذكر سرية أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى

وصفوان بن أميّة ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين، فقطعوا عليهما فقتلوهما، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، فدفن الرجلين فى قبر واحد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالى خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم فى كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلى المدينة فدخلها يوم الجمعة، وقد غاب خمس ليال، وكان قد استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. وقال محمد بن إسحاق، ورفع الحديث إلى أبى السائب مولى عائشة بنت عثمان: إن رجلا من بنى عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخروج فى طلب العدوّ، قلت لأخى، وقال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحا من أخى، فكان إذا غلب حملته عقبة «1» ومشى عقبة، حتى انتيهنا إلى ما انتهى إليه المسلمون. قال: وأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) هم الذين ساروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح، إلى قوله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . ذكر سريّة أبى سلمة بن عبد الأسد المخزومى بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قطن- وهو جبل بناحية فيد، به ماء لبنى [أسد بن «2» ] خزيمة- فى هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره.

ذكر سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى

وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم، أن طليحة وسلمة ابنى خويلد قد سارا فى قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث أبا سلمة وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، فأصابوا إبلا وشاء «1» ، ولم يلقوا كيدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة. ذكر سريّة عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلى بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة. وذلك أنه بلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أن سفيان بن خالد «2» بن نبيح الهذلىّ ثم اللّحيانى- هكذا سماه محمد بن سعد فى طبقاته. وقال ابن إسحاق: خالد بن سفيان بن نبيح قد جمع الجموع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث إليه عبد الله بن أنيس وحده فقتله وجاء برأسه. وكانت غيبته ثمانى عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. قاله ابن سعد. وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، قال قال عبد الله ابن أنيس: دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّه «3» قد بلغنى أن ابن «4» سفيان الهذلىّ جمع الناس ليغزونى وهو بنخلة أو بعرنة «5» فأته فاقتله. فقلت يا رسول الله انعته لى حتى أعرفه؛ قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه

أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة. قال: فخرجت متوشّحا بسيفى، حتى دفعت [إليه «1» ] وهو فى ظعن يرتد لهن منزلا، وذلك وقت العصر، فلما رأيته وجدت له ما قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بينى وبينه مجاولة «2» تشغلنى عن الصلاة، فصليت وأنا أمشى نحوه، أومئ برأسى، فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. قال: أجل، أنا فى ذلك. قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبّات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أفلح الوجه؛ قلت: قد قتلته؛ قال صدقت. ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا، فقال: أمسك هذه العصا عندك. قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه؟ قلت: أعطانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمرنى أن أمسكها عندى؛ فقالوا: أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟ قال: فرجعت إليه فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال: آية بينى وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصّرون «3» يومئذ، قال: فقرنها عبد الله ابن أنيس بسيفه، فلم تزل معه حتى مات، ثم أمر بها فضمّت فى كفنه، ثم دفنا جميعا. قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس فى ذلك: تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفرى كلّ جيب مقدّد «4» تناولته والظّعن خلفى وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد مهنّد «5»

ذكر سرية المنذر بن عمرو الساعدى إلى بئر معونة

عجوم لهام الدّار عين كأنّه ... شهاب غضى من ملهب متوقّد «1» أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد «2» أنا ابن الذى لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزنّد «3» فقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبىّ محمد «4» وكنت إذا همّ النبىّ بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد. ذكر سرية المنذر بن عمرو السّاعدى إلى بئر معونة كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجره. وذلك أن عامر بن مالك بن جعفر أبو براء ملاعب الأسنة «5» الكلابى وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأهدى «6» له فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد «7» ، وقال: لو بعثت معى نفرا من أصحابك إلى قومى لرجوت أن يجيبوا دعوتك. قال: أخاف عليهم أهل نجد؛ قال: أنا لهم جار. فبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين رجلا من الأنصار شببة «8» يسمون القرّاء «9» ، وأمّر

عليهم المنذر بن عمرو، فساروا حتى نزلوا بئر معونة- وهى بين أرض بنى عامر وحرّة بنى سليم، كلا البلدين منها قريب، وهى إلى حرّة بنى سليم أقرب- فلما نزلوها سرحوا ظهرهم، وقدّموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، إلى عامر بن الطّفيل، فوثب على حرام فقتله؛ واستصرخ عليهم بنى عامر فأبوا، وقالوا: لا نخفر «1» جوار أبى براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم، عصيّة ورعلا وذكوان، فنفروا معه. واستبطأ المسلمون حراما، فأقبلوا فى أثره، فلقيهم القوم فأحاطوا بهم، وكاثروهم «2» فاقتتلوا، فقتل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم سليم بن ملحان، والحكم بن كيسان. قال ابن إسحاق: فقتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار فإنهم تركوه، وبه رمق بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. قال: وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضّمرى، ورجل من الأنصار- قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح- فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه «3» الطير لشأنا؛ فأقبلا لينظرا، فإذا القوم فى دمائهم، والخيل التى أصابتهم واقفة. فقال الأنصارى لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنخبره الخبر؛ قال الأنصارى: ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم «4» أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجزّ ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه.

فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة «1» من صدر قناة «2» أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه، وكان معهما عقد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوار لم يعلم به عمرو، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما تؤرة من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن سعد: وقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقتل أصحاب بئر معونة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبت من بينهم» ! ثم أخبره بقتل العامريين، فقال: «بئس ما صنعت، قد كان لهما منى أمان وجوار، لأدينّهما» ! وبعث بديتهما إلى قومهما، وقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا فى صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان وعصيّة وبنى لحيان. وروى عن أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: قرأنا بهم قرآنا زمانا، ثم إن ذلك رفع أو نسى: «بلّغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا «3» » . وقال أنس ابن مالك: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد «4» على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. قال ابن سعد: وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى تلك الليلة التى وصل إليه فيها خبر أصحاب بئر معونة مصاب خبيب بن عدىّ ومن معه، فدعا رسول

ذكر سرية مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرجيع

الله صلّى الله عليه وسلّم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنى يوسف، اللهم عليك ببنى لحيان وعضل والقارّة وزعب ورعل وذكوان وعصيّة، فإنهم عصوا الله ورسوله» «1» . ذكر سريّة مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى الرّجيع كانت فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رهط من عضل والقارة، وهم إلى الهون بن خزيمة، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا [من أصحابك «2» ] يفقّهونا ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الاسلام. فبعث صلّى الله عليه وسلّم معهم عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، ومرثد بن أبى مرثد الغنوى، وخبيب بن عدىّ؛ وزيد بن الدّثنة «3» ، وخالد بن البكير «4» الليثى، وعبد الله بن طارق، ومعتّب بن عبيد أخو عبد الله «5» لأمّه. وأمّر عليهم عاصما، وقيل: مرثدا؛ فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع- وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز- غدروا [بهم «6» ] واستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم

إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا، فقالوا: إنا ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد بن أبى مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، ومعتّب بن عبيد؛ فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقاتلوا حتى قتلوا، رضى الله عنهم. وأما زيد بن الدّثنة وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق، فرغبوا فى الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بمرّ «1» الظّهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن «2» ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه؛ فقبر هناك. وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدّثنة فقدموا بهما مكة، فأباعوهما «3» من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فابتاع خبيبا حجر «4» بن أبى إهاب التميمى، حليف بنى نوفل، لعقبة بن الحارث ابن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه. وابتاع زيد بن الدّثنة صفوان بن أميّة، ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس؛ إلى التّنعيم «5» ، فأخرجوه من الحرم ليقتله، واجتمع لذلك رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن «6» مكانك نضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا

الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلى. فقال أبوسفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا؛ ثم قتله نسطاس. وأما خبيب بن عدى فروى عن ماوية «1» مولاة حجر بن أبى إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب قد حبس فى بيتى، فلقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل، قالت: وقال لى حين حضره القتل: ابعثى إلىّ بحديدة أتطهّر بها للقتل؛ فأعطيت غلاما من الحىّ الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل؛ قالت: فو الله ما هو إلا أن قد ولّى الغلام بها إليه؛ فقلت: ما صنعت! أصاب والله الرجل ثأره بقتل «2» هذا الغلام، فيكون رجلا برجل؛ فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدرتى حتى بعثك بهذه الحديدة! ثم خلّى سبيله «3» . ويقال: إن الغلام ابنها. قال ابن إسحاق: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع «4» ركعتين فافعلوا. قالوا: دونك فاركع ركعتين. [فركع «5» ركعتين] أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال: ثم رفعوه على خشبته، فلما أوثقوه، قال:

اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا؛ ثم قال: اللهم أحصهم «1» عددا، واقتلهم بددا «2» ، ولا تغادر منهم أحدا «3» . ثم قتلوه، رحمه الله ورضى عنه. قال ابن «4» هشام: أقام خبيب فى أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم، ثم قتلوه. وروى ابن إسحاق أنه قال حين صلب «5» : لقد جمع الأحزاب حولى وألّبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع «6» وقد قرّبوا «7» أبناءهم ونساءهم ... وقرّبت من جذع طويل ممنّع وكلّهم بيدى العداوة جاهدا ... علىّ لأنى فى وثاق بمضيع «8» إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما جمّع الأحزاب لى عند مصرعى فذا العرش صبرنى على ما أصابنى ... فقد بضّعوا لحمى وقد ضلّ مطمعى «9»

ذكر غزوة بنى النضير

وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «1» وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناى من غير مدمع «2» وما بى حذار الموت، إنى لمّيت ... ولكن حذارى حرّ نار تلفع «3» فلست بمبد للعدوّ تخشّعا ... ولا جزعا إنّى إلى الله مرجعى ولست أبا لى حين أقتل مسلما ... على أى حال كان فى الله مضجعى وفى رواية ابن شهاب: على أى جنب كان فى الله مصرعى قالوا: وصلب بالتّنعيم، وكان الذى تولى صلبه عقبة بن الحارث، وأبو هبيرة العدوى «4» . ذكر غزوة بنى النّضير غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل، سنة أربع، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجره. وكان سبب هذه الغزوة على ما حكاه محمد بن سعد، ومحمد بن إسحاق، وعبد الملك بن هشام، دخل حديث بعضهم فى بعض، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خرج إلى بنى النضير يستعينهم فى دية الكلابيّين أو العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمرى، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت. وكان

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد جلس إلى جنب جدار من بيوتهم، وهو فى نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلىّ، رضوان الله عليهم، فخلا بعض بنى النضير إلى بعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل «1» يعلو هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش «2» ابن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك؛ فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما أراد القوم، فنهض مسرعا كأنه يريد الحاجة فتوجه إلى المدينة، فلما أبطأ على أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا «3» رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: رأيته قد دخل المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتوه، فقالوا: يا رسول الله، قمت ولم نشعر. قال: همّت يهود بالغدر فأخبرنى الله بذلك فقمت. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم محمد بن مسلمة: «أن أخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا [أى من «4» الأيام] فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه» . فمكثوا أياما يتجّهزون، وأرسلوا إلى ظهر لهم بذى الجدر» وتكاروا إبلا من ناس من أشجع، فأرسل إليهم عبد الله بن أبىّ: أن أقيموا فى حصونكم، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معى ألفين من قومى وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. ووافقه على ذلك وديعة «6» بن مالك بن أبى قوقل، وسويد وداعس، وقالوا

لهم: إن قوتلتم نصرناكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فطمع حيّى بن أخطب فيما قال ابن أبىّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود. واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وسار فى أصحابه، وعلى بن أبى طالب يحمل لواءه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، فلما رأوه تحصنوا بحصونهم، وقاموا عليها معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، وخذلهم عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فلم ينصروهم، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ست ليال، ثم أمر بقطع النّخيل وتحريقها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها! وكان الله عز وجل أمر رسوله، صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا: نخرج من بلادك. فقال: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة «1» . فنزلوا على ذلك. وكانت مدّة حصرهم خمسة عشر يوما، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فحملوا النساء والصبيان وتحملوا على سبعمائة بعير، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف «2» بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبى الحقيق، وكنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق، وحيّى بن أخطب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هؤلاء فى قومهم بمنزلة بنى المغيرة فى قريش. وحزن المنافقون [عليهم «3» ] حزنا شديدا، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأموال والحلقة، فوجد من الحلقة خمسين

درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة سيف وأربعين سيفا، وكانت بنو النضير صفيّا «1» لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خالصة له حبسا «2» لنوائبه، لم يخمّسها ولم يسهم منها لأحد، إلا أنه أعطى ناسا من أصحابه، ووسّع فى الناس، فكان ممن أعطاه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين أبو بكر [الصديق «3» ] رضى الله عنه، أعطاه بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم «4» ، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الصراطة «5» ، والزبير بن العوّام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة «6» ، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالا، يقال له: مال ابن خرشة. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته. قال: ولما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير، قال: امضوا فإن هذا أوّل الحشر وإنا على الأثر. وأنزل الله عز وجل فى بنى النضير سورة «الحشر» بكمالها. يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) .

قال الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى، رحمه الله: «أهل الكتاب» بنو النضير «من ديارهم» التى كانت بيثرب «لأوّل الحشر» قال الزهرى: كانوا من سبط «1» لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم فى الدنيا، قال: وكانوا أوّل حشر فى الدنيا حشر إلى «2» الشام. وقال الكلبى: إنما قال: «لأوّل الحشر» لأنهم أوّل حشر من أهل الكتاب، ونفوا من الحجاز. وقال مرّة الهمدانىّ: كان هذا أوّل الحشر من أهل المدينة، والحشر الثانى من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا «3» من الشام فى أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعلى يديه. وقال قتادة: كان هذا أوّل الحشر، والحشر الثانى: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلّف. «ما ظننتم» أيها المؤمنون «أن يخرجوا» من المدينة «وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله» حيث درّبوها وحصنوها «فأتاهم الله» أى أمر الله وعذابه « [من «4» ] حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرّعب» قيل: بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. «يخربون بيوتهم بأيديهم» قال ابن إسحاق: وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم. وقال ابن زيد: كانوا يقتلون العمد، وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب «5» ، حتى الأوتاد، يخربونها لئلا يسكنها المسلمون حسدا منهم وبغضا. وقال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم «6» هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التى

بعدها، فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتى خرجوا منها أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من باطنها، فذلك قوله عز وجل: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» .) ثم قال تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الآية «الْجَلاءَ» عن الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل وبالسّبى «1» كما فعل ببنى قريظة «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ.) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا «2» اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» . قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) قال ابن إسحاق: اللينة: ما خالف العجوة من النخل. وقال ابن هشام: ما لم تكن برنيّة «3» ولا عجوة. وقال عكرمة وزيد بن رومان وقتادة: النخل كلّه لينة ما خلا العجوة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، اللينة: النخلة والشجرة. وقال سفيان: هى كرام النخل. وقيل: هى النخلة القريبة من الأرض. وقال مقاتل: هو ضرب من النخل، يقال لثمرها «4» : اللّون، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارج، يغيب فيه الضّرس، وكان من أجود ثمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف «5» ، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك يقطع شق عليهم. قال: وجمع اللينة لين. وقيل: ليان «6» .

قال الثعلبى: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنى النضير، وتحصنوا فى حصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخيل، وعقر الشجر؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد فى الأرض؟ فشق ذلك على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ووجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون «1» في ذلك فسادا، واختلف المسلمون فى ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها. فأنزل الله تعالى الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذنه تعالى. وفى قطع نخيل بنى النضير يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بنى لؤىّ ... حريق بالبويرة مستطير وقوله تعالى: «وليخزى الفاسقين» أى وليذل اليهود ويخزيهم ويغيظهم. قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «أفآء الله» أى ردّ على رسوله ورجع إليه، ومنه فىء الظلّ [منهم «2» ] أى من بنى النضير من الأموال «فما أوجفتم» أوضعتم «3» «عليه من خيل ولا ركاب» وهى الإبل، يقول: لم تقطعوا إليها شقّة، ولم تنالوا فيها مشقة، ولم تكلفوا مؤنة «4» ، ولم تلقوا حربا. وإنما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلا التى

صلّى الله عليه وسلّم، فإنه ركب جملا فافتتحها صلحا، وأجلاهم عنها وخزن أموالهم فسأل المسلمون النبى صلّى الله عليه وسلّم القسمة، فأنزل الله عز وجلّ الآية، فجعل أموال بنى النضير خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة. قال: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان، أحدهما سفيان ابن عمير بن وهب، والثانى سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: إن أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف «1» المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينفق على أهله منه نفقة سنته، وما بقى جعله فى الكراع «2» والسلاح عدّة فى سبيل الله. قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) قال ابن عباس رضى الله عنهما: القرى هى قريظة والنّضير، وهما بالمدينة، وفدك، وهى من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة وينبع جعلها الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، يحكم فيها ما أراد، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال: و (الْقُرْبى) * قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أى بين

الرؤساء والأغنياء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفى منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم: لك المرباع منها والصّفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول «1» فجعل الله تعالى [هذا «2» ] لرسوله عليه السلام يقسمه فى المواضع التى أمر بها. وقوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أى ما أعطاكم من الفىء والغنيمة «وما نهاكم عنه» من الغلول وغيره «فانتهوا» . قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ) * يعنى كى لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ولكن يكون (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أى فى إيمانهم. قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر، وخرجوا حبّا لله ورسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيه من شديدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها. وعن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قالا: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة، يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهما فى الزكاة.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال: قوله (تَبَوَّؤُا) توطنوا (الدَّارُ) * اتخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار، أسلموا فى ديارهم وابتنوا المساجد قبل قدوم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأحسن الله الثناء عليهم. وقوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ) * أى من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» أى حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أى مما أعطى المهاجرين من الفىء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قسم أموال بنى النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار «1» منها شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم فى هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم عليكم شىء من الغنيمة» فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا «2» وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولم نشاركهم فيها. فأنزل الله عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والشحّ فى كلام العرب: البخل ومنع الفضل.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ «1» رَحِيمٌ) قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: للفقراء المهاجرون، والذين تبوّءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألا تكون خارجا من هذه المنازل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أمر الله عز وجل بالاستغفار لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد عليه السلام فسببتموهم، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أوّلها» . قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) نزلت هذه الآيات فى شأن عبد الله بن أبىّ ومن وافقه فى إرسالهم لبنى النضير وقعودهم عنهم، كما تقدّم آنفا، وقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم الله تعالى. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) . قوله تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «2» بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أعلم الله تعالى المؤمنين أن اليهود لا يبرزون لهم بالقتال، ولا يقاتلونهم إلا فى قرى محصنة، أو من

ذكر قصة برصيصا

وراء جدار (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعنى بعضهم فظّ على بعض، وبعضهم عدوّ لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة. وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال قتادة: أهل الباطل مختلفة [أهواؤهم «1» ، مختلفة شهاداتهم، مختلفة] أعمالهم، وهم مجتمعون فى عداوة أهل الحق. وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) *. قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعنى مثل هؤلاء اليهود (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم مشركو مكة (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) * يوم بدر. قال مجاهد وقال ابن عباس: يعنى بنى قينقاع؛ وقيل: مثل قريظة كمثل بنى النضير. ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود فى تخاذلهم فقال تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وهى قصّة برصيصا العابد مع الشيطان. ذكر قصة برصيصا روى أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبى بسند يرفعه إلى ابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية. قال: كان راهب فى الفترة يقال له برصيصا، قد تعبّد «2» في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه فى أمره الحيل، فلم يستطع له بشىء، فجمع ذات يوم مردة الشيطان، فقال: ألا أحد منكم يكفينى أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذى تصدّى لرسول الله صلّى الله عليه

وسلّم، وجاءه فى صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحى، فجاء جبريل حتى دخل بينهما، فدفعه بيده دفعة هينة، فوقع من دفعة جبريل إلى أقصى الهند. فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك. فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان، وحلق وسط رأسه، ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه برصيصا، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا فى عشرة «1» أيام، ولا يفطر إلا فى عشرة أيام، فكان يواصل الصوم الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة فى أصل صومعته، فلما انقتل برصيصا اطلع من صومعته، فرأى الأبيض قائما منتصبا يصلى فى هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله تدبر فى نفسه حين لهى عنه فلم يجبه، فقال له: إنك ناديتنى وكنت مشغولا عنك، فحاجتك «2» ؟ قال: حاجتى أنى أحببت أن أكون معك فأتأدّب بك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، فتدعو لى وأدعو لك؛ قال: إنى لفى شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فإن الله عز وجل سيجعل لك فيما أدعوه للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لى. ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلى، فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلما انفتل رآه قائما يصلى، فلما رأى برصيصا شدّة اجتهاده، وكثرة تضرعه وابتهاله إلى الله عز وجل كلّمه، وقال له: حاجتك؟ قال: حاجتى أن تأذن لى فأرتفع إليك. فأذن له، فارتفع فى صومعته، فأقام الأبيض معه حولا يتعبد، لا يفطر إلا فى كل أربعين يوما [ولا ينفتل عن صلاته إلا فى كل أربعين يوما «3» ] مرة، وربما مدّ إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت «4» إليه نفسه، وأعجبه شأنه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إنى منطلق، فإن لى صاحبا

غيرك، ظننت أنك أشدّ اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذى رأيت. قال: فدخل على برصيصا أمر عظيم، وكره مفارقته للذى رأى من شدّة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندى دعوات أعلمكها تدعو بهن، فهن خير لك مما أنت فيه، يشفى الله بها السقيم، ويعافى بها المبتلى والمجنون؛ قال برصيصا: إنى أكره هذه المنزلة، لأن لى فى نفسى شغلا، وإنى أخاف إن علم بهذا الناس شغلونى عن العبادة؛ فلم يزل به الأبيض حتى علمه. ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه فى صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ فقالوا: نعم؛ فقال لهم: إنى لا أقوى على جنيته، ولكنى سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافى؛ فقالوا له: دلّنا. قال: انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الذى إذا دعى به أجاب. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان. وكان يفعل الأبيض بالناس مثل هذا الذى فعل بالرجل، ثم يرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات فاستخلف أخاه، وكان عمها ملك بنى إسرائيل، فعذبها وخنقها، ثم جاء إليهم فى صورة رجل متطبب، فقال لهم: أعالجها؟ قالوا: نعم. فعالجها فقال: إن الذى عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تتقون به تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردّونها «1» صحيحة، قد ذهب عنها شيطانها؛ قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا؛ قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منا ويجيبنا إلى هذا؟ هو أعظم شأنا من ذلك. قال: انطلقوا وابتنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، ولتكن

هذه الصومعة التى تبنون لزيقة صومعته، فإن قبلها وإلا تضعونها «1» في صومعتها، ثم قولوا له: هى أمانة عندك، فاحتسب فيها. قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك، فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض، ثم اطلعوا عليه ووضعوا الجارية فى صومعتها، وقالوا له: يا برصيصا، هذه أختنا قد عرض لها عدوّ من أعداء الله، فهى أمانة عندك فاحتسب فيها. ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين تلك الجارية وما بها من الجمال، فأسقط «2» في يده، ودخل عليه أمر عظيم، قال: فجاءها الشيطان فخنقها؛ فلما رأى برصيصا ذلك انفتل عن صلاته، فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته، ثم جاءها الشيطان فخنقها، وكان يكشف عن نفسها ويتعرّض [بها «3» ] لبرصيصا، وجاءه الشيطان، فقال: ويحك! واقعها فلن تجد مثلها، فستتوب بعد، فتدرك ما تريد من الأمر الذى تريد؛ فلم يزل به حتى واقعها، فافترشها، فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟ فإن سألوك فقل: جاء شيطانها فذهب بها ولم أقو عليه. قال: ففعل. فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاءه الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقى طرف إزارها خارجا فى التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته، فجاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون فى بعض الأيام يسألون عنها، ويطلبون إلى برصيصا ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه. قال: فصدّقوه وانصرفوا. فلما أمسوا وهم مكروبون، جاء الشيطان إلى كبيرهم

فى المنام، فقال له: ويحك! إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها فى موضع كذا وكذا من جبل كذا وكذا. فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث، فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط مثلما قال الأكبر، فلم يخبر به أحدا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لإخوته: والله لقد رأيت كذا وكذا. فقال الأوسط: وأنا والله لقد رأيت مثله. وقال الأكبر: وأنا والله لقد رأيت كذا وكذا، فانطلقوا بنا إلى برصيصا؛ فأتوه، فقالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها وحال شيطانها! فكأنكم اتهمتمونى. فقالوا: لا والله لا نتهمك. فاستحيوا منه وانصرفوا عنه، فجاءهم الشيطان فقال، ويحكم! إنها لمدفونة فى موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. قال: فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا فى نومهم، قال: فمشوا فى مواليهم، ومواليهم معهم الفؤس والمساحى «1» ، فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه وانطلقوا به إلى الملك، فأقرّ على نفسه؛ وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر، يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة، اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض عيانا، وذلك أن إبليس لعنه الله، قال للأبيض: وما يغنى عنك ما صنعت؟ إن قتل فهو كفارة لما كان منه. فقال الأبيض: أنا أكفيكه. فأتاه فقال: يا برصيصا، أتعرفنى؟ قال: لا. قال: أنا صاحبك الذى علمك الدعوات فاستجيب لك، ويحك! أما اتقيت الله فى أمانة خنت أهلها، وأنك أعبد بنى إسرائيل! أما استحيت! أما راقبت الله فى دينك! فلم يزل يعيره ويونجه، ثم قال له فى آخر ذلك: ألم يكفك

ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس! فإن متّ على هذه الحال لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعنى فى خطة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك. قال: وما هى؟ قال: تسجد لى. قال: أفعل. فسجد له، فقال «1» : يا برصيصا، هذا الذى أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إنى برىء منك، إنى أخاف الله رب العالمين. يقول الله تعالى: (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعنى الشيطان وذلك الإنسان. (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) . قال ابن عباس رضى الله عنهما: فضرب الله هذا المثل ليهود بنى النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، أن يحلى بنى النضير من المدينة، فدسّ المنافقون إليهم فقالوا: لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم كنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. قال: فأطاعوهم؛ فدرّبوا على حصونهم وتحصنوا فى ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فناصبوه الحرب، يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله. قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) * أى فى أداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعنى يوم القيامة.

ذكر غزوة بدر الموعد

قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (نَسُوا اللَّهَ) * أى نسوا حق الله وتركوا أوامره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [يعنى «1» حظ أنفسهم] أن يقدموا لها خيرا (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) . فقد أتينا- أكرمك الله- على تفسير ما أنزل من القرآن فى شأن بنى النضير مما يتعلق بشرح أخبارهم خاصة على حكم الاختصار، ولم نتعرض إلى ما سوى ذلك من التفسير. ذكر غزوة بدر الموعد غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهلال ذى القعدة، على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. حكاه محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق: كانت فى شعبان. وجعلها بعد غزوة ذات الرقاع، فتكون على رأس اثنين وأربعين شهرا من الهجرة، والأشبه ما قاله ابن سعد، لأن الميعاد كان على «2» رأس الحول من غزوة أحد، وغزوة أحد كانت فى شوّال على ما اتفقا عليه، ولم يتخلفا فى الشهر وإنما فى أيام ذكرناها هناك. قال محمد بن سعد: لما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج، وقدم نعيم بن مسعود الأشجعى مكة، فقال له أبو سفيان: إنى قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى ببدر، وقد جاء ذلك الوقت، وهذا عام جدب، وإنما يصلحنا عام خصب غيداق «3» ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيجترئ علينا، فنجعل لك عشرين فريضة «4» يضمنها «5»

إليك سهيل بن عمرو على أن تقدم المدينة فتخذل أصحاب محمد. قال: نعم. فحملوه على بعير، فأسرع السير حتى قدم المدينة، فأخبرهم بجمع أبى سفيان [لهم «1» ] وما معه من العدّة والسلاح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذى نفسى بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معى أحد. واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وسار بالمسلمين وهم ألف وخمسمائة، والخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبى طالب، وخرج المسلمون ببضائع وتجارات لهم، وكانت بدر الصغرى مجتمعا يجتمع فيه العرب، وسوقا تقوم لهلال ذى القعدة إلى ثمان تخلو منه، ثم يتفرّق الناس إلى بلادهم. فانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى بدر ليلة هلال ذى القعدة؛ وقامت السوق صبيحة الهلال فأقاموا بها ثمانية أيام، وباعوا ما خرجوا به من التجارات، فربحوا للدرهم درهما، وانصرفوا، وقد سمع الناس بمسيرهم، وخرج أبو سفيان بن حرب من مكة فى قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مجنّة- وهى «2» مرّ الظهران- ومنهم من يقول: بلغوا عسفان «3» . ثم قال: ارجعوا فإنه لا يصلحنا إلا عام خصب غيداق، نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن، وعامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فسمى أهل مكة هذا الجيش جيش السّويق، يقولون: خرجوا يشربون السويق. قال: وقدم معبد ابن أبى معبد الخزاعى مكة بخبر مسير رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، فقال صفوان بن أمية لأبى سفيان: قد نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترءوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم.

وقال عبد الله بن رواحة: وعدنا أبا سفيان وعدا «1» فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا «2» تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا «3» عصيتم رسول الله أفّ لدينكم ... وأمركم السّىء «4» الذى كان غاويا فإنى وإن عنّفتمونى لقائل ... فدى لرسول الله أهلى وماليا أطعناه لم نعد له فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، ورجعوا إلى المدينة. وأنزل الله عز وجل فى شأن هذه الغزوة قوله تعالى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . قال السّدّى: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى بدر لميعاد أبى سفيان أتاهم المنافقون فقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم فى دياركم [فقاتلوكم «5» ] وظفروا، فإن أتيتموهم فى ديارهم لا يرجع منكم أحد. فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . فالناس فى هذه الآية أولئك المنافقون. وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبى سفيان، فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا.

كثيرة فاخشوهم؛ فقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . فأنزل الله عز وجل (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ) يعنى أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فَزادَهُمْ «1» إِيماناً يعنى تصديقا ويقينا وجرأة وقوّة. وقوله: «فانقلبوا» فانصرفوا ورجعوا «بنعمة من الله» أى بعافية لم يلقوا بها عدوا، وبرأت جراحتهم «وفضل» أى ربح وتجارة، وهو «2» ما أصابوا من السوق فربحوا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لم يصبهم قتل ولا جرح ولم ينلهم «3» أذى ولا مكروه (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) في طاعة الله وطاعة رسوله «4» صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) . [ثم «5» ] قال تعالى: (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى ذلك الذى قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ من فعل الشيطان ألقى فى أفواهم لترهبوهم وتجبنوا عنهم «يخوّف أولياءه» أى يخوفكم «6» بأوليائه، يعنى يخوف المؤمنين بالكافرين، قال السدّى: يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم. وقرأ عبد الله بن مسعود «يخوّفكم أولياءه» قال: وكان أبىّ بن كعب [يقرأ «7» ] «يخوّفكم بأوليائه» «فلا تخافوهم وخافون» فى ترك أمرى «إن كنتم مؤمنين» مصدقين بوعدى فإنى متكفل لكم بالنصر والظفر.

ذكر غزوة ذات الرقاع، وخبر صلاة الخوف وقصة غورث بن الحارث المحاربى، وخبر جابر بن عبد الله

ذكر غزوة ذات الرّقاع «1» ، وخبر صلاة الخوف وقصة غورث بن الحارث المحاربى، وخبر جابر بن عبد الله واختلف فى تسمية ذات الرقاع، فقيل: جبل فيه بقع حمر وبيض وسود. وقيل: لأنهم رقعوا راياتهم. وقيل: ذات الرقاع، شجرة بذلك الموضع. وفى صحيح البخارى أنهم نقبت «2» أقدامهم، فلفّوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. والله أعلم. قال محمد بن سعد: كانت فى المحرم على رأس سبعة وأربعين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بنى النضير فى الجمادى الأولى، فتكرن على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذرّ الغفارىّ، ويقال: عثمان بن عفان. ولم يقل ابن سعد غير «3» عثمان رضى الله عنه. وذلك أن قادما قدم المدينة يجلب «4» ، فأخبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أن أنمارا وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم فى أربعمائة، ويقال: سبعمائة من أصحابه؛ فمضى حتى أتى محالّهم بذات الرقاع- وهو جبل فيه بقع فيها حمرة وسواد وبياض- فلم يجد فى محالّهم أحدا إلا نسوة، فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رءوس الجبال، وحضرت الصلاة، فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف.

ذكر خبر غورث بن الحارث المحاربى

روى أبو محمد عبد الملك بن هشام بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطائفة ركعتين، ثم سلّم، وطائفة مقبلون على العدوّ، فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين، ثم سلّم. وروى عنه أيضا من طريق آخر، قال: صفنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفين، فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، الصف الأوّل وتقدّم الصف الآخر حتى قاموا مقامهم، ثم ركع النبى صلّى الله عليه وسلّم جميعا، ثم سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الذين يلونه معه، فلما رفعوا رءوسهم سجد الآخرون بأنفسهم سجدتين، وركع النبى صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهما بأنفسهم سجدتين. هكذا روى عن جابر في صلاة الخوف بذات الرقاع. وروى ابن هشام أيضا بسنده إلى عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما، فى صلاة الخوف، ولم يذكر ذات الرقاع، قال: يقوم الإمام وتقوم معه طائفة، وطائفة مما يلى عدوهم، فيركع بهم الإمام ويسجد بهم، ثم يتأخرون فيكونون مما بلى العدوّ، ويتقدّم الآخرون فيركع بهم الإمام ركعة ويسجد بهم، ثم تصلى كل طائفة بأنفسهم ركعة، فكانت لهم مع الإمام ركعة ركعة وصلوا بأنفسهم ركعة ركعة. ذكر خبر غورث «1» بن الحارث المحاربىّ لما أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحماه الله منه وأمكن نبيه صلّى الله عليه وسلّم من عدوّه وعفوه عنه وكان من خبر غورث بن الحارث أنه قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. وكان رسول

ذكر خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبى صلى الله عليه وسلم لأبيه

الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه فاخترط «1» سيفه، ثم قال: من يمنعك منى؟ فقال: الله. فأرعدت يد غورث، وسقط سيفه، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه، فعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. ومن رواية الخطابىّ: أن غورث ابن الحارث المحاربىّ أراد أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه، منتضيا «2» سيفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنيه بما شئت» . فانكبّ غورث من وجهه من زخلة «3» زلّخها بين كتفيه، وندر «4» سيفه من يده، وقيل: فيه نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) الآية. وقيل: نزلت فى غير هذه القصة. ذكر خبر جابر بن عبد الله فى جمله، واستغفار النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لأبيه روى محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذات الرّقاع من نخل «5» على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جعلت الرّفاق تمضى، وجعلت أتخلّف، حتى أدركنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «مالك يا جابر» ؟ قلت: يا رسول الله، أبطأ علىّ «6» جملى هذا؛ قال: «أنخه» ؛ فأنخته، وأناخ رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم، ثم قال: أعطنى هذه العصا من يدك، أو أقطع لى عصا من شجرة؛ قال: ففعلت. فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق «1» ناقته مواهقة. قال: وتحدّثت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتبيعنى جملك هذا يا جابر» ؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك؛ قال: «لا، ولكن بعنيه» ؛ قال: قلت: فسمنيه؛ قال: «قد أخذته بدرهم» ؛ قلت: لا، إذا تغبنّى «2» يا رسول الله! قال: «فبدرهمين» ؛ قلت: لا. فلم يزل يرفع «3» لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأوقيّة؛ قلت: فقد رضيت «4» ؟ قال: «نعم» ؛ قلت: هو لك؛ قال: «أخذته» . ثم قال: «يا جابر، هل «5» تزوجت بعد» ؟ قلت: نعم يا رسول الله؛ قال: «أثيّبا أم بكرا» ؟ قلت: بل ثيّبا؛ قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك» ؟ قلت: يا رسول الله، إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رءوسهن وتقوم عليهن؛ قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنّا لو جئنا صرارا «6» أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت «7» بنا، فنفضت نمارقها» . قلت: يا رسول الله ما لنا من نمارق؛ قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا» . فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل ودخلنا؛ قال: فحدّثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت:

ذكر غزوة دومة الجندل

فدونك، فسمع وطاعة. قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، [ثم «1» جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] فرأى الجمل، فقال: «ما هذا» ؟ قالوا: هذا جمل جاء به جابر؛ قال: «فأين جابر» ؟ فدعيت له، فقال: «يابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» ودعا بلالا فقال له: «اذهب بجابر فأعطه أوقيّة» . قال: فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا. قال: فو الله ما زال ينمى عندى ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا؛ يعنى يوم الحرّة «2» . وقال محمد بن سعد: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جابرا عن دين أبيه فأخبره، فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تلك الليلة خمسا وعشرين مرة. قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعال «3» بن سراقة بشيرا إلى المدينة بسلامته وسلامة المسلمين، وقدم صرارا يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم- وصرار على ثلاثة أميال من المدينة، وهى بئر جاهلية على طريق العراق- وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة. ذكر غزوة دومة الجندل وهى بضم الدال؛ سميت بدومى «4» بن إسماعيل لأنه كان نزلها، وهى غير دومة التى بفتح الدال.

غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغه صلّى الله عليه وسلّم أن «1» يومة الجندل جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة- وهى طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أوست عشرة ليلة- فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى، وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأوّل فى ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بنى عذرة، يقال له: مذكور؛ فلما دنا منهم إذا هم مغرّبون، وإذا آثار النّعم «2» والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب. وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرّقوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بهاأياما، وبث السرايا وفرّقها، فرجعت ولم تصب منهم أحدا «3» وأخذ منهم رجل واحد، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم؛ فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة لعشر بقين من شهر ربيع الآخر، ولم يلق كيدا. وفى هذه الغزوة وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن حصن أن يرعى بتغلمين «4» وما والاه إلى المراض «5» ، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة على طريق الرّبذة.

ذكر غزوة بنى المصطلق، وهى غزوة المريسيع

ذكر غزوة بنى المصطلق «1» ، وهى غزوة المريسيع غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة خمس من الهجرة. حكاه محمد بن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شعبان سنة ست؛ وجعلها بعد غزوة ذى قرد. وكان سبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن الحارث بن أبى ضرار سيّد بنى المصطلق سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجابوه وتهيئوا للمسير، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريدة بن الحصيب الأسلمى للوقوف على حقيقة الخبر، فأتاهم وكلم الحارث ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فندب صلّى الله عليه وسلّم الناس، فأسرعوا فى الخروج، وقادوا الخيول، وهى ثلاثون فرسا، عشرة منها للمهاجرين وعشرون للأنصار، وخرج معه خلق كثير من المنافقين، لم يجتمعوا فى غزاة قط مثلها، واستخلف صلّى الله عليه وسلّم على المدينة زيد بن حارثة. وقال ابن هشام: استعمل عليها أبا ذرّ الغفارى. قال: ويقال: نميلة بن عبد الله الليثى. قال ابن سعد: وكان معه صلّى الله عليه وسلّم فرسان: لزاز، والظّرب، وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، فبلغ الحارث بن أبى ضرار ومن معه مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتفرّق عنه من كان معه من العرب وخافوا خوفا شديدا، وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المريسيع- وهو ماء لبنى المصطلق بينه وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد- فنزل به وضرب قبّته، ومعه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ عائشة، وأم سلمة، وتهيّئوا للقتال، وصفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر.

الصدّيق رضى الله عنه، ورواية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنّبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت من القوم إنسان، قتل منهم عشرة، وأسر سائرهم، وسبيت النساء والذّرارى، وغنمت النعم والشاء، ولم يستشهد من المسلمين إلّا رجل واحد، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب، وأمر بجمع الغنائم فجمعت، واستعمل عليها شقران مولاه، وقسم السبى والنعم والشاء، فعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت الرّثّة» فيمن يريد «2» ، قال: وكانت الإبل ألفى «3» بعير والشاء خمسة آلاف شاة، والسبى مائتى أهل بيت، وصارت جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له «4» . فكاتباها على تسع أواق من ذهب، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتابتها، فأدّى «5» عنها، وتزوّجها على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار أزواجه صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: وكان من السبى من منّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من أفدى، فافتديت «6» المرأة والذرّيّة بست فرائض، وقدموا المدينة ببعض السبى، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأة من بنى المصطلق إلّا رجعت إلى قومها. وكان شعار المسلمين يوم بنى المصطلق: يا منصور أمت أمت؛ وغاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزاته هذه ثمانية وعشرين يوما، وقدم المدينة لهلال رمضان.

ذكر غزوات الخندق، وهى غزوة الأحزاب

وفى هذه الغزاة تكلم عبد الله بن أبىّ بن «1» سلول المنافق بما تكلم به من قوله: (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) . ووقع حديث الإفك، وقد قدّمنا ذكر ذلك كلّه فى حوادث السنين بعد الهجرة، فى حوادث السنة الخامسة. ذكر غزوات الخندق، وهى غزوة الأحزاب وكانت فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حكاه ابن سعد. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوّال. قال محمد بن سعد ومحمد بن إسحاق وعبد الملك بن هشام، رحمهم الله تعالى، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير وساروا إلى خيبر، خرج نفر من أشرافهم ووجوههم، منهم سلام بن أبى الحقيق، وحيىّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلى، وأبو عمّار الوائلى، فى نفر من بنى النضير، ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا مكّة على قريش، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا «2» سنكون معكم عليه حتى نستأصله؛ فقالت قريش لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا «3» خير أم دينه؟ فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ «4» وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ

اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) قالوا: فلما قالت اليهود [ذلك «1» ] لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعوا لذلك، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان وسليما، ودعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلموهم «2» أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم «3» واجتمعوا معهم؛ فتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، وكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء فى دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب، ووافتهم بنو سليم بمرّ الظّهران، وهم سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبى الأعور السّلمى الذى كان مع معاوية بصفّين، وخرجت بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدى، وخرجت غطفان وفزارة، معهما ألف بعير، يقودهم عيينة «4» بن حصن بن حذيفة ابن بدر، وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعر «5» بن رخيلة بن نويرة بن طريف، وخرج معهم غيرهم.

فكان جميع من وافى الخندق عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، ومرجع أمرهم إلى أبى سفيان بن حرب، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصولهم «1» من مكة ندب «2» الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم فى أمرهم، فأشار عليه سلمان الفارسىّ بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سفح سلع «3» ، وجعل سلعا خلف ظهره، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترغيبا للمسلمين فى الأجر، فعملوا وجدّوا فى العمل ودأبوا «4» ، وأبطأ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن المسلمين فى ذلك العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون «5» بالضعف من العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة، ذكرها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستأذنه، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى عمله فى الخندق، فأنزل الله تعالى فى أولئك من المؤمنين قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم قال تعالى فى المنافقين: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «6» فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ

يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . قال: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وروى محمد بن سعد [بسند «1» ] يرفعه إلى سهل بن سعد قال: جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا، فقال «2» صلّى الله عليه وسلّم: «لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة «3» » . وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: لا همّ «4» لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الأولى لقد «5» بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا [أبينا «6» ] يرفع بها صوته صلّى الله عليه وسلّم. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حفر الخندق معجزات نذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لمعجزاته، ومنها ما يتعيّن ذكره هاهنا، وهو ما حكاه محمد بن إسحاق عن جابر بن عبد الله قال:

اشتدت على الناس فى بعض الخندق كدية «1» ، فشكوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو لذى بعثه بالحق لأنهالت حتى عادت «2» كالكثيب، لا تردّ فأسا ولا مسحاة. قالوا: وفرغوا من حفر الخندق فى ستّة أيام، وكانوا يعلمون فيه نهارا وينصرفون ليلا، ورفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان فى الآطام، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين لثمان مضين من ذى القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، ويحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة. وأقبلت قريش ومن شايعها وتابعها، واجتمع إليها بعد فراغ الخندق، فصار الخندق بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم، وظهور المسلمين إلى سلع، وخرج حيىّ ابن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى، صاحب «3» عقد بنى قريظة، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دون حيى باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فناداه حيّى: ويحك يا كعب! افتح لى. قال: ويحك! إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فعادوه مرارا، وهو يأبى عليه حتى [قال «4» له حيىّ] : والله إن «5» أغلقت دونى إلا عن جشيشتك «6» أن آكل معك «7» .

فأحفظه «1» ذلك، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام «2» ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، [ومن دونه «3» ] غطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى «4» على جانب أحد، وقد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتنى والله بذلّ الدهر، وبجهام «5» قد هراق ماءه، يرعد ويبرق، ليس فيه شىء، ويحك يا حيىّ! فدعنى وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل به حيى حتى سمح له، أن أعطاه «6» عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك. فنقض كعب بن أسد «7» عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين وصحّ ذلك عنده كبّر، وقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال: ونجم النفاق وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وخيف على الذرارىّ والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث سلمة بن أسلم فى مائتى رجل، وزيد بن حارثة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذرارى من بنى قريظة، وكان

عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع غيره من الأنصار يحرسونه كل ليلة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون وجاه العدوّ لا يزالون يعتقبون خندقهم ويحرسونه، والمشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب فى أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، [ويغدو «1» عمرو بن العاص يوما] ، ويغدو هبيرة بن أبى وهب يوما، ويغدو ضرار بن الخطّاب الفهرى يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويجتمعون مرّة ويتفرّقون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقدّمون رماتهم فيرمون، فرمى حبّان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله «2» ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة. ويقال: رماه أبو أسامة الجشمى. قال ابن هشام: ولما اشتدّ على الناس البلاء بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّى، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى [بينه «3» و] بينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله، أمر تحبّه فتصنعه، أم شىء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تصنعه لنا؟ قال: بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «4» من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد

كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوامنها تمرة إلا قراء «1» أو بيعا، أفحين «2» أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا. قال ابن سعد: ثم اجتمع رؤساؤهم أن يغدوا يوما، فغدوا جميعا ومعهم رؤساء سائر الأحزاب، وطلبوا مضيقا من الخندق يقتحمون «3» خيلهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكبدة ما كانت العرب تصنعها؛ فقيل لهم: إن معه رجلا فارسيا، فهو أشار عليه بذلك؛ قالوا: فمن هناك إذا، فصاروا إلى مكان ضيّق أغفله المسلمون، فعبر منه عكرمة بن أبى جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطّاب، وهبيرة بن أبى وهب، وعمرو بن عبد ودّ [فجعل «4» عمرو بن عبد ودّ] يدعو إلى البراز، ويقول: ولقد بححت من النداء ... لجمعهم هل من مبارز وكان ابن تسعين سنة، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها منه؛ قال له: أجل. قال له «5» : فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لى بذلك؛ قال: فإنى أدعوك إلى النّزال؛ قال: يا بن

أخى، فو الله ما أحبّ أن أقتلك؛ فقال له علىّ: ولكنى والله أحبّ أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ رضى الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة بن أبى جهل يومئذ رمحه وهو منهزم عن عمرو. فقال حسّان بن ثابت: فرّ وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل وولّيت تعدو كعدو الظّليم «1» ... منهم ما إن «2» تجور عن المعدل ولم تلق ظهرك مستأنسا ... كأنّ قفاك قفا فرعل «3» قال ابن سعد: وحمل الزبير بن العوّام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقّه باثنتين، ثم اتّعدوا أن يغدوا «4» من الغد، فباتوا «5» يعبّئون أصحابهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم ذاك إلى هوىّ «6» من الليل، ما يقدرون أن يزولوا من موضعهم، ولم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه ظهرا ولا عصرا ولا مغربا ولا عشاء حتى كشفهم الله تعالى، فرجعوا متفرّقين إلى منازلهم وعسكرهم، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام أسيد بن حضير على الخندق فى مائتين من المسلمين، وكرّ خالد بن الوليد فى خيل من المشركين يطلبون غرّة من المسلمين فناوشوهم ساعة ومع المشركين وحشىّ، فزرق الطفيل بن النعمان بمزراقة فقتله وانكشفوا، وصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قبّته فأمر بلالا فأذّن وأقام للظهر فصلّى، ثم بعد

ذلك لكل صلاة إقامة إقامة، وصلّى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات، وقال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» . ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل طمعا فى الغرّة، قال: وحصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن هلال بن حلاوة «1» بن الأشجع ابن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنى قد أسلمت، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل «2» عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية، فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إياكم، وخاصّة ما بينى وبينكم؛ قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم؛ فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تجلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة «3» أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم «4» ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا «5» من أشرافهم، ليكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه؛ قالوا: لقد أشرت علينا بالرأى. ثم خرج حتى أتى قريشا،

فقال لأبى سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّى لكم وفراقى محمّدا، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت منه علىّ حقا أن أبلّغكموه نصحا لكم، فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل؛ فما هو؟ قال: تعلّموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ [لك «1» ] من القبيلتين: قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، ونعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلى وعشيرتى، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى «2» ؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى؛ قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثلما قال لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم. فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل، فى نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ فيما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذى نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم «3» الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا «4» إلى بلادكم وتتركونا، والرجل فى بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش

وغطفان: والله إن الذى حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم ابن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم، وقال أبو سفيان: ألا أرانى أستعين بإخوة القردة والخنازير! فوقع الاختلاف والخذلان بينهم، وبعث الله عزّ وجلّ عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فكفأت القدور وطرحت الأبنية. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما وقع بينهم من الاختلاف أرسل حذيفة بن اليمان إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. قال حذيفة: دعائى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثنّ شيئا. فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى، فقلت: من أنت؟ فقال: فلان ابن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع «1» والخفّ، وأخلفنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الرّيح ما ترون، فارتحلوا فإنّى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلىّ ألّا أحدث شيئا

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق ومن قتل من المشركين

حتى آتيه، ثم لو «1» شئت، لقتلته بسهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر. وسمعت غطفان ما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانصرف راجعا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح. وكان شعار المسلمين فى غزوة الخندق ((حم لا ينصرون)) . ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن الخندق قال لأصحابه: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزوهم «2» . فكان كذلك. قال ابن سعد: وكانت مدّة الحصار خمس عشرة ليلة، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسبع ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس. وقد ذكرنا ما قاله غيره فى ذلك. ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة الخندق ومن قتل من المشركين قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: واستشهد من المسلمين فى غزوة الخندق أنس بن أوس بن عتيك من بنى عبد الأشهل، قتلة خالد بن الوليد؛ وعبد الله بن سهل «3» الأشهلىّ، وثعلبة بن عنمة بن عدىّ، قتله هبيرة بن أبى وهب؛ وكعب بن زيد

ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن فى غزوة الخندق وما ورد فى تفسير ذلك

من بنى دينار، قتله ضرار بن الخطّاب. وسعد «1» بن معاذ مات من جراحة بعد بنى قريظة، والطّفيل بن النعمان بن جشم. وقتل من المشركين أربعة نفروهم: عثمان بن أمية بن منبّه بن عبيد بن السبّاق من بنى عبد الدار بن قصىّ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ودّ، ويقال: وابنه حسل بن عمرو، قتلهما على بن أبى طالب رضى الله عنه. ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن فى غزوة الخندق وما ورد فى تفسير ذلك أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- فى أمر الخندق والأحزاب قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قال أبو إسحاق أحمد ابن محمد بن إبراهيم الثعلبى رحمه الله: قوله: ( «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ» ) يعنى الأحزاب: قريش وغطفان ويهود قريظة والنّضير. ( «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً» ) * قال: وهى الصّبا «2» . قال عكرمة: قالت الجنوب للشّمال ليلة الأحزاب: انطلقى بنصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت الشّمال: إن الحرّة «3» لا تسرى بالليل؛ وكانت الريح التى أرسلت

عليهم الصّبا، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» . قوله: «وجنودا لم تروها» هى الملائكة، ولم تقاتل يومئذ، قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم باللّيل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطّعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها فى بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم حتى كان سيد كلّ حىّ يقول: يا بنى فلان، هلّم [إلى؛ فإذا اجتمعوا عنده قال: النّجاء النّجاء، أتيتم. لما بعث الله عليهم من الرعب، فانهزموا من غير قتال «1» ] . قوله تعالى: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) قال: قوله: ( «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ» ) يعنى من فوق الوادى من قبل المشرق، عليهم مالك بن عوف النّصرىّ، وعيينة ابن حصن الفزارى فى ألف من غطفان، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدى فى بنى أسد، وحيّى بن أخطب فى يهود بنى قريظة. ( «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» ) يعنى من بطن الوادى من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب فى قريش ومن تبعه، وأبو الأعور السّلمى من قبل الخندق. وقال ابن إسحاق: الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوا من أسفل منهم قريش وغطفان. ( «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ» ) أى مالت وشخصت ( «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» ) زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع. ( «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» ) قال: أما المنافقون فظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأما المؤمنون فأيقنوا أن ما وعدهم الله حقّ، وأنه سيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون.

قوله تعالى: (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) قال: أى اختبروا ومحّصوا، ليعرف المؤمن من المنافق «وزلزلوا» : حرّكوا وخوّفوا «زلزالا» تحريكا «شديدا» . قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) قال: يعنى معتّب بن قشير وأصحابه ( «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ) * أى شكّ وضعف اعتقاد. وقد قدّمنا فى أخبار المنافقين ما تكلم به معتّب بن قشير فى هذه الغزوة. قوله تعالى: (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) . ( «قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ» ) أى من المنافقين: وهم أوس بن قيظىّ وأصحابه؛ قال مقاتل: هم بنو سالم. قال ابن عباس رضى الله عنهما: قالت اليهود لعبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) فى الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أى خالية ضائعة، وهى مما يلى العدوّ، وإنا لنخشى عليها العدوّ والسّرّاق، قال: وقرأ ابن عباس وأبو رجاء العطاردىّ «عورة» بكسر الواو، يعنى قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة. وأخبر تعالى أنها ليست بعورة، إن يريدون إلا الفرار. قوله تعالى: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها «1» وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) قال: يقول: لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة (مِنْ أَقْطارِها) جوانبها ونواحيها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الشرك «لأتوها» أى لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا (وَما تَلَبَّثُوا) وما احتبسوا

عن الفتنة (إِلَّا يَسِيراً) ولأسرعوا إلى الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، قال: هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن والفرّاء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى هلكوا. قوله تعالى: (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) قال: (عاهَدُوا اللَّهَ) * أى من قبل غزوة الخندق «لا يولّون» عدوّهم «الأدبار» قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بنى سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألّا يعودوا لمثلها، فذكر الله لهم الذى أعطوه من أنفسهم. وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر، ورأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. فساق الله تعالى ذلك إليهم فى ناحية المدينة. وقال مقاتل والكلبى: هم السبعون رجلا الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وقالوا له: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: «لكم النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة» . قالوا: قد فعلنا. فذلك عهدهم (وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أى عنه. قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قال «1» : أى الذى كتب عليكم «2» (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل.

قوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أى نصرة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) *. قوله تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) قال: «المعوّقين» المثبطين منكم للناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا) ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) الحرب (إِلَّا قَلِيلًا) * دفعا وتعذيرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة «1» رأس، ولو كانوا لحما لألتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل: نزلت فى المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين وقالوا: ما الذى يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا لنشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا، هلمّ إلينا. فأقبل عبد الله بن أبىّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبى سفيان ومن معه، وقالوا: ما ترجون من محمد؟ فو الله ما يرفدنا «2» بخير، وما عنده خير، ما هو إلا [أن «3» ] يقتلنا هاهنا، انطلقوا إلى إخواننا وأصحابنا. يعنى اليهود، فلم يزدد «4» المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا. وقال ابن زيد: لما كان يوم الأحزاب انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد أخاه، بين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال: أنت هاهنا فى الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الرماح والسيوف! فقال: هلم إلى هذا، والذى يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا؛ فقال: كذبت والذى

يحلف به- وكان أخاه من أبيه وأمه- أما والله لأخبرن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمرك. فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فوجده قد نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية. قوله تعالى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) قال: «أشحّة» بخلاء «عليكم» بالخير والنفقة فى سبيل الله، وصفهم الله تعالى بالجبن والبخل (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رءوسهم من الخوف والجبن، أى كدوران [أعين «1» ] الذى يغشى عليه من الموت (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ) أى عضوكم ورموكم بألسنة حداد ذربة «2» ، وأصل السلق: الضرب. قال قتادة: يعنى بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا قد شهدنا معكم القتال، ولستم بأحق بالغنيمة منا؛ وأما عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) يعنى الغنيمة (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) . قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) يعنى هؤلاء يحسبون الجماعات لم ينصرفوا عن قتالهم، وقد انصرفوا جبنا منهم وفرقا (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أى يرجعوا إليهم كرّة ثانية (يَوَدُّوا) من الخوف والجبن (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) أى خارجون إلى البادية (فِي الْأَعْرابِ) أى معهم (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أى يسأل بعضهم بعضا عن أخباركم، وما آل إليه أمركم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) يعنى رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيرا.

ثم قال تعالى مشيرا إلى المؤمنين: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) قال: قوله: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) * أى سنّة صالحة، [أن «1» ] تنصروه وتؤازروه، ولا تتخلّفوا عنه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان نصرته كما فعل هو، إذ كسرت رباعيته وجرح، وقتل عمّه حمزة، وأوذى بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك، واستنّوا «2» بسنّته (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أى فى الرخاء والبلاء، ثم ذكر المؤمنين بوعود الله تعالى، فقال: (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الآية، قال: ووعد الله إيّاهم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) . قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) قال: قوله: «صدقوا» أى وفوا به. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعنى فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتى استشهد. والنحب: النذر، والنحب أيضا: الموت، قال ذو الرمّة: عشيّة فرّ الحارثيّون بعد ما ... قضى نحبه فى ملتقى القوم هوبر «3»

ذكر غزوة بنى قريظة

أى مات، قال مقاتل: قضى نحبه، أى أجله، فقتل على الوفاء، يعنى حمزة وأصحابه الذين استشهدوا بأحد، رضوان الله عليهم. وقيل: قضى نحبه، أى بذل جهده فى الوفاء بعهده، من قول العرب: نحب فلان فى سيره يومه وليلته؛ إذ مدّ فلم ينزل، قال جرير: بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشيّة بسطام جرين على نحب «1» (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قال ابن إسحاق: ينتظر ما وعد الله به من نصره، والشهادة على [ما «2» ] مضى عليه أصحابه. (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أى ما شكّوا وما تردّوا فى دينهم، وما استبدلوا به غيره. ثم قال تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) يعنى قريشا وغطفان (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أى بالملائكة والريح (وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ، وبيده الفضل والمنة. ذكر غزوة بنى قريظة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجره. وقال ابن إسحاق: فى شوّال منها. قال محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد، دخل حديث بعضهما فى بعض، قالا: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق إلى المدينة هو والمسلمون،

ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل- عليه السلام- النبىّ صلّى الله عليه وسلّم معتجرا «1» بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة «2» عليها قطيفة من ديباج، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم؛ قال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم: إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير «3» إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن فى الناس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم ألّا تصلّوا العصر إلّا فى بنى قريظة. واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، فأعطاه لواءه، وقدّمه إلى بنى قريظة، فسار [علىّ «4» ] حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع حتى لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال: أظنّك سمعت منهم لى أذى؛ قال: نعم يا رسول الله؛ قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم قال لهم: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا. ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم على بئر من آبار بنى قريظة من ناحية أموالهم يقال لها: بئر أنّا؛ ويقال: بئر أنّى «5» ؛ وتلاحق به الناس، فأتى رجال من بعد العشاء «6» الآخرة لم يصلّوا العصر لقول رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم. لا يصلّين أحد العصر إلا ببنى قريظة. فشغلهم ما لم يكن منه بدّ فى حربهم وأبوا أن يصلّوا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتوا بنى قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، وتخوّف ناس فوت الصلاة فصلّوا، فما عنّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا من الفريقين، ولا عابهم الله تعالى فى كتابه. قال: وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، فحاصرهم خمسة عشر يوما. قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: خمسا وعشرين ليلة أشد حصار حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب. وكان حيىّ بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد، فلما أيقنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هى؟ قال: نتابع هذا الرجل [و «1» ] نصدّقه، وفو الله لقد تبين لكم أنه نبىّ مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم؛ قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره؛ قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبينه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمرى لنجدنّ النساء والأبناء؛ قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش «2» بعدهم؟ قال: فإذا أبيتم علىّ هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة؛ قالوا: تفسد علينا سبتنا، وتحدث فيه ما لم يحدث

من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؛ قال: ما بات منكم رجل منذ ولدته أمّه ليلة [واحدة «1» ] من الدهر حازما. ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا أبا لبابة «2» بن عبد المنذر لنستشيره فى أمرنا؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش «3» إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقه، أى إنه الذبح، قال أبو لبابة: فو الله ما زلّت «4» قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله علىّ. قال: فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره وكان قد استبطأه قال: أما لو كان جاءنى لأستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. فأنزل الله تعالى فيه: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . قالت أم سلمة رضى الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السّحر وهو يضحك، فقلت: ممّ تضحك أضحك الله سنك يا رسول الله؟. قال: تيب على أبى لبابة. قالت: فقلت: أفلا أبّشره يا رسول الله؟ قال: بلى، إن شئت. فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله هو الذى يطلقنى بيده؛ فلما مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.

ذكر نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤال الأوس فيهم؛ وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم

قال ابن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا فى الجذع ستّ ليال، تأتيه امرأته فى كلّ وقت صلاة، فتحلّه للصلاة، ثم تعود فتربطه. هذا ما كان من أمر أبى لبابة؛ وأما يهود فإن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد «1» بن عبيد، وهم نفر من هدل، قال ابن إسحاق: ليسوا من بنى قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا فى الليلة التى نزل بنو قريظة فى صبيحتها على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظىّ فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى- وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا- فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى عثرات «2» الكرام؛ ثم خلّى سبيله، فخرج على وجهه، فلم يدر أين توجّه من الأرض إلى آخر الدهر، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه؛ ومنهم من يزعم أنه أوثق. والله أعلم. ذكر نزول بنى قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسؤال الأوس فيهم؛ وتحكيم سعد بن معاذ وحكمه فيهم بحكم الله تعالى وقتلهم قال: ولما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت

فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت. يعنون بنى قينقاع لما أطلقهم «1» صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبىّ بن سلول «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال: فذاك سعد بن معاذ. وكان سعد فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة، كانت تداوى الجرحى محتسبة، فأتاه قومه فحملوه على حمار، ووطّئوا له بوسادة من أدم، ثم أتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولّاك «3» ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه قال: لقد أنى لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه [من قومه «4» ] إلى دار بنى عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، لكلمته التى سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيّدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار؛ والأنصار يقولون: قد عمّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم؛ قال: وعلى من هاهنا؟ فى الناحية التى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم؛ قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن نقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارىّ «5» والنساء. فقال

له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة «1» أرقعة. أى من فوق سبع سموات، ويقال: إن اليهود سألوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ. والله تعالى أعلم. قال: ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة، وأمر بهم فأدخلوا «2» المدينة، فحبسهم فى دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة، فحفر بها خنادق، وجلس هو وأصحابه وبعث إليهم فأخرجوا إليه أرسالا «3» ، فضربت أعناقهم، وفيهم حيىّ بن أخطب، وكعب بن أسد، واختلف فى عددهم فقيل: كانوا ستمائة أو سبعمائة. وقيل: بين الثمانمائة والتسعمائة؛ قال: وقالوا لكعب بن أسد، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع، وأنه من ذهب [به «4» ] منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! قال: وأتى بحيىّ ابن أخطب، وعليه حلّة [له «5» ] فقّاحية «6» قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل

على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوّال الثعلبىّ: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل «1» يبغى العزّ كلّ مقلقل وروى محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة. قالت: والله إنها لعندى تحدّث معى، وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل رجالها فى السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله؛ قلت لها: ويلك! مالك؟ قالت: أقتل؛ قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته؛ قالت: فانطلق بها، فضربت «2» عنقها، فكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدىّ: واسم تلك المرأة: بنانة «3» امرأة الحكم القرظىّ؛ وكانت قتلت خلّاد بن سويد، طرحت عليه رحىّ، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنقها بخلاد بن سويد. قال: وكان علىّ بن أبى طالب والزبير بن العوّام رضى الله عنهما يضربان أعناق بنى قريظة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس هناك. وروى محمد بن إسحاق عن الزهرى أن الزّبير بن باطا القرظىّ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن- وكان قد منّ على ثابت بن قيس بن شمّاس فى الجاهليّة [يوم بعاث «4» ] أخذه فجزّ ناصيته ثم خلّى سبيله- فجاءه «5» ثابت يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال:

يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ فقال: وهل يجهل مثلى مثلك؛ قال: إنى قد آن أن أجزيك بيدك عندى؛ قال: إنّ الكريم يجزى الكريم؛ ثم أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، قد كانت للزبير عندى يد، وله علىّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لى دمه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وهب لى دمك؛ قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أهله وولده؛ قال: هم لك. فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى امرأتك وولدك، فهم لك؛ قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما له؛ فقال: هو لك؛ فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطانى مالك فهو لك؛ قال: أى ثابت، ما فعل الذى كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيه «1» عذارى الحىّ، كعب بن أسد؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل سيّد الحاضر والبادى حيىّ بن أخطب؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا كررنا «2» ، عزّال بن سموءل «3» ؟ قال: قتل؛ قال: فما فعل المجلسان؟ يعنى بنى كعب بن قريظة، وبنى عمرو بن قريظة؛ قال: ذهبوا وقتلوا؛ قال: فإنى أسألك بيدى عندك «4» يا ثابت إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش

بعد هؤلاء من خير، وما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبّة. فقدّمه ثابت فضرب عنقه. فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا. وفى هذه الواقعة يقول ثابت بن قيس: وفت ذمّتى أنّى كريم وأننى ... صبور إذا ما القوم حادوا «2» عن الصبر وكان زبير أعظم الناس منّة ... علىّ فلمّا شدّ كوعاه «3» بالأسر أتيت رسول الله كيما أفكّه ... وكان رسول الله بحرا لنا يجرى قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بقتل من أنبت منهم؛ فسألته سلمى بنت قيس بن المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قد صلّت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء- على رفاعة بن سموءل القرظىّ، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفها، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمّى، هب لى رفاعة بن سموءل، فإنه قد زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها، فاستحيته. قال: ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، فاصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء عمرو بن قريظة، ثم أخرج الخمس من

المتاع والسبى، ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يزيد وقسمه بين المسلمين، وكانت السّهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية «1» بن جزء الزبيدى، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتق منه، ويهب، ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرّثّة، وهى السّقط من متاع البيت. وقال محمد بن إسحاق: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصارىّ أحد بنى عبد الأشهل بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين: خلّاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الأنصارى الخزرجى، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، ومات أبو سنان ابن محصن بن حرثان، أخو بنى أسد بن خزيمة. وأنزل الله عزّ وجل فى شأن بنى قريظة قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال قوله: (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) يعنى قريظة ظاهروا قريشا وغطفان (مِنْ صَياصِيهِمْ أى حصونهم ومعاقلهم، واحدتها صيصية (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذرارىّ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قال يزيد بن رومان [وابن «2» ]

ذكر سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلام ابن أبى الحقيق النضرى بخيبر

زيد ومقاتل: يعنى خيبر. وقال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم. ذكر سرية عبد الله بن عتيك إلى أبى رافع سلّام ابن أبى الحقيق النضرىّ بخيبر قال محمد بن سعد فى طبقاته: كانت فى شهر رمضان سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: كانت هذه السريّة بعد غزوة بنى قريظة. فتكون فى ذى الحجة سنة خمس من الهجرة، وهو الصحيح إن شاء الله، ويدلّ عليه أن محمد بن سعد لما ذكر عبد الله بن عتيك فى الطبقات قال فى ترجمته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه فى ذى الحجة سنة خمس إلى أبى رافع سلّام بن أبى الحقيق بخيبر. قال محمد بن إسحاق: لما أصابت الأوس كعب بن الأشراف قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا. فتذاكروا: من رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج خمسة نفر، وهم: عبد الله ابن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعى، وخزاعىّ «1» بن أسود، حليف لهم من أسلم. قالوا «2» : وكان أبو رافع بن أبى الحقيق قد أجلب فى غطفان ومن حوله من مشركى العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

فأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى قدموا خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرّجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدّموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهوديّة، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهديّة. ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فعلوه بأسيافهم «1» ، قال ابن أنيس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر، فاتكأت بسيفى على بطنه حتى سمعت خشّة فى الفراش، وعرفت أنه [قد «2» ] قضى، وجعل القوم يضربونه جميعا، ثم نزلوا وصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار. قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن [عتيك «3» ] سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت «4» يده وثئا شديدا، قال ابن هشام: ويقال: رجله؛ قالوا: فحملناه حتى أتينا منهرا من عيونهم- والمناهر؛ واحدتها منهرة، وهو فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم- فدخلنا فيه. قال محمد بن سعد: وخرج الحارث أبو زينب فى ثلاثة آلاف فى آثارهم يطلبونهم بالنيران، فلم يروهم، فرجعوا، ومكث القوم فى مكانهم يومين حتى سكن الطلب. قال ابن إسحاق: فقلنا: فكيف لنا أن نعلم بأن عدوّ الله قد مات؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس، فوجده ورجال من يهود حوله، وامرأته فى يدها مصباح تنظر فى وجهه وتحدّثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت [نفسى «5» ] وقلت: ابن عتيك بهذه البلاد!

ثم أقبلت تنظر فى وجهه وتقول «1» : فاظ «2» وإله يهود. قال: فما سمعت كلمة كانت ألذّ فى نفسى منها؛ وجاءنا فأخبرهم بالخبر، قالوا: فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده فى قتله، كلنا يدّعيه، فقال: هاتوا أسيافكم. فجئناه بها، فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله ابن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال الشيخ شرف الدين [عبد المؤمن «3» ] بن خلف الدّمياطى رحمه الله فى سيرته: وفى حديث آخر أن الذى قتله عبد الله بن عتيك وحده، قال: وهو الصواب. والله أعلم. وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ فى قتل سلام بن أبى الحقيق وابن الأشرف: لله درّ عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يا بن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد فى عرين مغرف «4» حتى أتوكم فى محلّ دياركم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفّف «5» مستنصرين «6» لنصر دين نبيّهم ... مستصغرين لكلّ أمر مجحف «7»

ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، وهم بنو قرط وقريط من بنى كلاب

ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، وهم بنو قرط وقريط من بنى كلاب بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعشر خلون من المحرم، على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجره فى ثلاثين راكبا إلى القرطاء «1» ، وهم ينزلون بناحية ضرية «2» وبين ضريّة والمدينة سبع ليال، فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يعرض للظّعن، وانحدر إلى المدينة، فخمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، وفضّ ما بقى على أصحابه، فعدلوا الجزور بعشرين من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة. وغاب سبع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرّم. ذكر غزوة بنى لحيان بناحية عسفان «3» غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره على ما أورده محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق: فى جمادى الأولى سنة ست. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد على عاصم بن ثابت وأصحابه- أصحاب الرّجيع- وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام. قال ابن سعد: وعسكر لغرّة هلال شهر ربيع الأوّل فى مائتى رجل، معهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ثم أسرع المسير حتى انتهى إلى بطن غران، وبينها وبين عسفان خمسة أميال، حيث كان مصاب.

ذكر غزوة الغابة، وهى غزوة ذى قرد وهى على بريد من المدينة فى طريق الشام

أصحابه، فترحّم عليهم ودعا لهم، فسمعت [بهم «1» ] بنو لحيان، فهربوا «2» في رءوس الجبال فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، فبعث السرايا فى كلّ ناحية، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان، ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» . وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة. ذكر غزوة الغابة، وهى غزوة ذى «3» قرد وهى على بريد من المدينة فى طريق الشام غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ست من مهاجره. قالوا: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «4» ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، فأغار عيينة بن حصن ليلة الأربعاء فى أربعين فارسا فاستاقوها وقتلوا ابن أبى ذرّ. وقال محمد بن إسحاق: وكان فيهم رجل من غفار وامرأة [له «5» ] ، فقتلوا الرجل وحملوا المرأة [فى اللقاح «6» ] . وجاء الصّريخ، فنودى: الفزع الفزع! فنودى:

«يا خيل الله اركبى» ؛ وكان أوّل ما نودى بها؛ وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج غداة الأربعاء، فكان أوّل من أقدم المقداد بن عمرو، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء فى رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وخلّف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة. قال المقداد: فخرجت فأدركت أخريات العدوّ، وقد قتل أبو قتادة الحارث بن ربعىّ حبيب بن عيينة بن حصن، وغشّاه برده، فلما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، فرأوا حبيبا مسجّى «1» ببرد أبى قتادة [فاسترجع «2» الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس بأبى قتادة] ، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه. وقال ابن سعد: إن الذى قتل حبيبا هو المقداد بن عمرو، قتله وقتل قرفة «3» بن مالك بن حذيفة بن بدر؛ وإن أبا قتادة قتل مسعدة، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسه وسلاحه، وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا «4» وابنه عمرو بن أوبار، وهما على بعير واحد، فقتلهما. واستشهد من المسلمين يومئذ محرز بن نضلة، قتله مسعدة، وأدرك سلمة «5» بن الأكوع القوم وهو على رجليه، فجعل يراميهم بالنبل ويقول: خذها وانا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضّع «6»

ذكر سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى الغمر غمر مرزوق، وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد

حتى انتهى إلى ذى قرد- وهى ناحية خيبر ممّا يلى المستناخ- قال سلمة: فلحقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس والخيول عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح «1» ، وأخذت بأعناق القوم. فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «ملكت فأسجح «2» » ؛ ثم قال: «إنهم الآن ليقرون «3» في غطفان» . وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد، فاستنفذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى، وهى عشرة، وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة يتحسّس الخبر، وقسم فى كلّ مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، وقيل: سبعمائة. ذكر سرية عكاشة بن محصن الأسدىّ إلى الغمر غمر «4» مرزوق، وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عكاشة بن محصن إلى الغمر فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر «5» به القوم فهربوا، فنزلوا عليا بلادهم، ووجدوا دارهم خلوفا «6» ، فبعث عكاشة شجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم، فتحمّلوا فأصابوا ربيئة «7»

ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصة

لهم، فأمّنوه، فدلّهم على نعم لبنى عمّ له، فأغاروا عليها فاستاقوا مائتى بعير، وأرسلوا الرجل، وحدروا «1» النعم إلى المدينة، وقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلقوا كيدا. ذكر سرية محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة بذى القصّة قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة إلى بنى ثعلبة، وهم بذى القصّة فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره، وبين ذى القصة وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، طريق الرّبذة، بعثه فى عشرة نفر فوردوا عليهم [ليلا «2» ] فأحدق به القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، يضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب، ومر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى أربعين رجلا إلى مصارع القوم فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء، فساقه ورجع. ذكر سرية أبى عبيدة بن الجرّاح إلى ذى القصّة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ من مهاجره فى أربعين رجلا من المسلمين، وسبب ذلك أن بلاد بنى ثعلبة وأنمار أجدبت، ووقعت سحابة بالمراض إلى تغلمين، والمراض على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، واجتمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا- موضع على سبعة أميال من المدينة- فبعث رسول الله

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم

صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة ومن معه حين صلّوا المغرب، فمشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصّة مع عماية «1» الصبح- وهى «2» موضع فى طريق العراق- فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم فتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه ورثة «3» من متاعهم. وقدم المدينة بذلك، فخمسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقسم ما بقى عليهم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة فى شهر ربيع الآخر سنة ست من الهجرة إلى بنى سليم، فسار هو ومن معه حتى ورد الجموم- ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد- فأصابوا عليه امرأة من مزينة يقال لها: حليمة؛ فدلّتهم على محلّة من محالّ بنى سليم، فأصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنيّة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمزنيّة نفسها وزوجها، فقال بلال ابن الحارث المزنىّ فى ذلك: لعمرك ما أخنى «4» المسول ولا ونت «5» ... حليمة حتى راح ركبهما معا

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى العيص لعير قريش

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى العيص لعير قريش بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة ستّ من مهاجره فى سبعين ومائة راكب إلى العيص- وبينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذى المروة ليلة- وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعثه ومن معه ليتعرض لها، فأخذوها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسروا ناسا ممّن كان فى العير، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدم بهم المدينة، فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجارته، ونادت فى الناس حين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر: إنى قد أجرت أبا العاص. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [ما علمت «1» بشىء من هذا] قد أجرنا من أجرت. ورد عليه ما أخذ «2» له كما تقدّم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى الطّرف إلى بنى ثعلبة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الآخرة سنة ستّ من مهاجره إلى الطّرف- وهو ماء قريب من المراض، دون النّخيل، على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، طريق البقرة على المحجّة- فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبّح زيد بالنّعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم «أمت أمت» .

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى حسمى، وهى وراء وادى القرى

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى حسمى، وهى وراء وادى القرى قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة إلى حسمى فى جمادى الآخرة أيضا، وذلك أن دحية بن خليفة الكلبى أقبل من عند قيصر صاحب الروم حين بعثه إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابه، وقد أجازه «1» وكساه، ومع دحية تجارة له، حتى إذا كان بواد يقال له: شنار أو شنان «2» ؛ أغار عليه الهنيد بن عارض، وقيل: [ابن «3» عوص؛ وابنه عارض بن الهنيد، وقيل:] عوص ابن الهنيد؛ الضّلعيّان «4» فى ناس من جذام بحسمى، فقطعوا عليه الطريق وأخذوا ما معه، فلم يتركوا عليه إلا سمل «5» ثوب، فسمع بذلك نفر من بنى الضّبيب-[رهط «6» رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب- فنفروا إلى الهنيد وابنه، وفيهم من بنى الضّبيب] النعمان بن أبى جعال حتى لقوهم فاقتتلوا، وانتمى يومئذ قرّة بن أشقر الضّفارىّ «7» ثم الضّلعىّ، فقال: أنا ابن لبنى؛ ورمى النعمان بسهم فأصاب ركبته، وقال: خذها وأنا ابن لبنى؛ ولبنى أمّه، ثم استنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة فى خمسمائة رجل وردّ معه دحية، فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار ومعه دليل من بنى عذرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى

وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا ألف بعير وخمسة آلاف شاة ومن النساء والصبيان مائة، فرحل رفاعة «1» بن زيد الجذامى فى نفر من قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدفع إليه كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم، وقال: يا رسول الله، لا تحرّم علينا حلالا ولا تحلّ لنا حراما. فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال أبو يزيد بن عمرو: يا رسول الله، أطلق لنا من كان حيّا، ومن قتل فهو تحت قدمىّ هاتين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صدق أبو يزيد؛ فبعث معهم عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلّى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فتوجّه علىّ رضى الله عنه، فلقى رافع بن مكيث الجهنى بشير زيد بن حارثة على ناقة من إبل القوم، فردها علىّ عليهم، ولقى زيدا بالفحلتين «2» - وهى بين المدينة وذى المروة- فأبلغه [أمر «3» ] رسول «4» الله صلّى الله عليه وسلّم، فرد عليهم كلّ ما كان أخذ منهم. ذكر سرية زيد بن حارثة إلى وادى «5» القرى قال محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد ابن حارثة إلى وادى القرى أميرا فى شهر رجب سنة ست من الهجرة. ولم يذكر غير ذلك.

ذكر سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل

ذكر سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة «1» الجندل قال محمد بن سعد رحمه الله: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من مهاجره، فأقعده بين يديه وعمّه بيده وقال: اغز بسم الله، وقاتل «2» في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغلّ «3» ولا تغدر، ولا تقتل وليدا. وبعثه إلى كلب «4» بدومة الجندل، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم. فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبىّ، وكان نصرانيا وهو رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة، وهى أم أبى سلمة «5» بن عبد الرحمن. ذكر سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى بنى سعد بن بكر بفدك قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب رضى الله عنه فى شعبان سنة ست من الهجرة إلى بنى سعد بن بكر بفدك فى مائة رجل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار على رضى الله عنه بمن معه، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى انتهى

ذكر سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى وقتل أم قرفة

إلى الهمج «1» - وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال- فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم فقال: أخبركم على أن تؤمّنونى؟ فأمّنوه فدلّهم، فأغاروا عليهم فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد بالظّعن ورأسهم وبربن عليم، فعزل علىّ رضى الله عنه صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقوحا تدعى الحفدة» ، ثم عزل الخمس وقسم الغنائم على أصحابه، وقدم المدينة ولم يلق كيدا. ذكر سريّة زيد بن حارثة إلى وادى القرى وقتل أم قرفة كانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان دون وادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، ثم استبلّ «4» زيد بن حارثة، وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. حكاه محمد بن سعد فى طبقاته. وقال محمد بن إسحاق: إن الذى أصاب زيد بن حارثة كان عند غزوة وادى القرى، فإنه أصيب بها ناس من أصحابه، وارتثّ «5» زيد من بين القتلى، ولعل هذه السرية هى التى كانت فى شهر رجب من السنة.

ذكر سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام اليهودى بخيبر

قال ابن سعد: فخرج زيد بن حارثة بمن معه فكمنوا النهار وساروا الليل، ونذرت «1» بهم بنو بدر، ثم صبّحهم زيد وأصحابه وكبّروا وأحاطوا بالحاضر «2» ، وأخذوا أم قرفة، وهى فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة ابن بدر، فكان الذى أخذ الجارية سلمة بن الأكوع، فوهبها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لحزن بن أبى وهب، قال: وعمد قيس ابن المحسّر إلى أم قرفة، وهى عجوز كبيرة، فربط بين رجليها حبلا، ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطّعاها «3» ، وقتل النعمان وعبد الله ابنا مسعدة بن حكمة بن مالك ابن بدر، وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه عريانا يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما ظفّره الله به. ذكر سريّة عبد الله بن رواحة إلى أسير «4» بن رزام «5» اليهودىّ بخيبر كانت هذه السريّة فى شوال سنة ستّ من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنه لما قتل أبو رافع سلّام بن أبى الحقيق كما ذكرنا أمرت يهود عليها أسير بن رزام، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر من المسلمين فى شهر رمضان سرا

فسأل عن خبره وغرّته «1» ، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة فقدموا على أسير فقالوا له: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؛ قال: نعم، ولى منكم مثل ذلك؛ قالوا: نعم؛ فقالوا له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع أسير فى ذلك، فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف «2» من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة «3» ثبار ندم أسير، قال عبد الله ابن أنيس- وكان فى السريّة: فأهوى بيده إلى سيفى، ففطنت له ودفعت بعيرى فقلت: غدرا أى عدوّ الله! فعل ذلك مرتين، فنزلت فسبقت القوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف، فأندرت «4» عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مخرش «5» من شوحط «6» ، فضربنى به فشجّنى مأمومة «7» ، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدّا، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم أقبلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحدّثناه الحديث، فقال: قد نجاكم الله من القوم الظالمين. وتفل صلّى الله عليه وسلّم على شجّة عبد الله بن أنيس فلم تقح ولم تؤذه.

ذكر سرية كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين

ذكر سريّة كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيّين كانت هذه السرية فى شوّال سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: قدم نفر من عرينة ثمانية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واستوبئوا «1» المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى لقاحه، وكانت ترعى بذى الجدر- ناحية قباء قريبا من عير، على ستة أميال من المدينة- فكانوا فيها حتى صحّوا وسمنوا، فعدوا على اللقاح فاستاقوها، فأدركهم يسار مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشّوك فى لسانه وعينيه حتى مات، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فبعث فى أثرهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهرىّ، فأدركوهم فأحاطوا بهم وأسروهم «2» وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بالزّغابة «3» بمجتمع السّيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك. وأنزل الله تعالى على رسوله: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) . فلم يسمل بعد ذلك عينا، وكانت اللقاح خمس عشرة لقحة غزارا فردوها إلى المدينة، ففقد منها لقحة تدعى الحناء، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، فقيل: نحروها.

ذكر سرية عمرو بن أمية الضمرى وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة

ذكر سرية عمرو بن أمية الضّمرىّ وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب بمكة قال محمد بن سعد فى طبقاته: وذلك أن أبا سفيان بن حرب قال لنفر من قريش: ألا أحد يغترّ «1» محمدا فإنه يمشى «2» في الأسواق؟ فأتاه رجل [من «3» الأعراب] فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدّه «4» بطشا، وأسرعه «5» شدّا، فإن أنت قوّيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، ومعى خنجر مثل خافية «6» النسر؛ قال: أنت صاحبنا؛ فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطو أمرك؛ فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبّح ظهر الحرّة صبح سادسة، ثم أقبل فسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دلّ عليه، فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فى مسجد بنى عبد الأشهل، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا ليريد غدرا» . فذهب ليجنى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجدبه أسيد بن الحضير بداخلة «7» إزاره، فإذا بالخنجر، فسقط «8» في يده، وقال: دمى دمى! وأخذ أسيد بلبّته فذعته «9» ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصدقنى، ما أنت؟» قال: وأنا آمن؟ قال: نعم؛ فأخبره بخبره، فخلّى عنه صلّى الله عليه وسلّم.

وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمرىّ، وسلمة بن أسلم ابن أبى «1» حريس إلى أبى سفيان بن حرب، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه؛ فدخلا مكة، ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان فعرفه، وأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، وقالوا: لم يأت عمرو لخير؛ فحشد له أهل مكة وتجمعوا، فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد الله ابن مالك بن عبد الله «2» التميمى [فقتله «3» ] وقتل آخرين من بنى الدّيل، سمعه يتغنى ويقول: ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسّسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، [فقدم «4» به المدينة] فجعل يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله يضحك؛ هكذا حكى محمد بن سعد. وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عمرو بن أميّة الضّمرى، ومعه جبّار بن صخر الأنصارىّ، وذلك بعد مقتل خبيب بن عدىّ وأصحابه، قال: فخرجا حتى قدما مكة، وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج «5» ، ثم دخلا مكة ليلا، فقال جبّار بن صخر لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؛ قال عمرو: فطفنا وصلينا، ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو الله إنا لنمشى بمكة إذ نظر إلىّ رجل فعرفنى، فقال: عمرو بن أمية، والله إن قدمها إلا لشرّ؛ فقلت لصاحبى: النجاء؛ فخرجنا نشتدّ حتى أصعدنا فى جبل، وخرجوا فى طلبنا، حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فدخلنا كهفا

فى الجبل فبتنا، وقد رضمنا» دوننا حجارة، فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له، فغشينا ونحن فى الغار، فقلت: إن رآنا صاح بنا فنؤخذ فنقتل؛ قال: فخرجت إليه فضربته على ثدييه «2» بخنجر كنت قد أعددته لأبى سفيان، فصاح صيحة أسمع أهل مكة، ورجعت فدخلت مكانى، وجاءه الناس يشتدّون وهو بآخر رمق، فقالوا: من ضربك؟ قال: عمرو بن أمية. ومات لوقته، ولم يدلّ علينا، فاحتملوه، فقلت لصاحبى لما أمسينا: النجاء؛ فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب، فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو؛ قال: فلما حاذى عمرو الخشبة شدّ عليها واحتملها، وخرجا شدّا، وخرجوا وراءه، حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى بالخشبة فى الجرف، فغيّبه الله عنهم، فلم يقدروا عليه. قال عمرو: وقلت لصاحبى: النجاء، حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه، فإنى سأشغل عنك القوم؛ قال: ومضيت حتى خرجت على ضجنان «3» ، ثم أويت إلى جبل فدخلت كهفا، فبينا أنا فيه إذ دخل علىّ شيخ من بنى الدّيل أعور، فى غنيمة له؛ فقال: من الرجل؟ قلت: من بنى بكر، فمن «4» أنت؟ قال: من بنى بكر؛ فقلت: مرحبا؛ فاضطجع، ثم رفع عقيرته فقال: ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولست أدين دين المسلمينا

ذكر غزوة الحديبية وما وقع فيها من بيعة الرضوان ومهادنة قريش وغير ذلك

فقلت فى نفسى: ستعلم؛ فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها «1» في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليها حتى بلغت العظم، ثم خرجت حتى جئت العرج «2» ، ثم سلكت ركوبة «3» ، حتى إذا هبطت النّقيع «4» إذا رجلان من قريش من المشركين، كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة يتحسّسان؛ فقلت: استأسرا؛ فأبيا، فرميت أحدهما بسهم فقتلته، ثم استأسر الآخر فأوثقته رباطا، وقدمت به المدينة. ولم يذكر أحد منهما تاريخ هذه السريّة، فى أى شهر كانت، فأذكره. ذكر غزوة الحديبية «5» وما وقع فيها من بيعة الرّضوان ومهادنة قريش وغير ذلك كانت غزوة الحديبية فى ذى الحجة سنة ست من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن سعد: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيئوا، ولبس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثوبين، وركب راحلته القصواء «6» وخرج، وذلك يوم الاثنين لهلال ذى القعدة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. وقال ابن إسحاق: استعمل على المدينة نميلة بن

عبد الله اللّيثى. قال ابن سعد: ولم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه «1» بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف فى القرب، وساق بدنا «2» وساق أصحابه بدنا، فصلى الظهر بذى الحليفة: ثم دعا بالبدن التى ساق فجلّلت «3» ، ثم أشعرها «4» في الشقّ الأيمن وقلّدها «5» ، وأشعر أصحابه أيضا، وهى موجّهات إلى القبلة، وهى سبعون بدنة، فيها جمل أبى جهل الذى غنمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، وأحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولبّى، وقدّم عبّاد بن بشر أمامه طليعة فى عشرين فارسا من خيل المسلمين، وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار، وخرج معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين ألف وأربعمائة على الصحيح، وقيل: ألف وستمائة؛ ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها، وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صدّه عن المسجد الحرام، وعسكروا ببلدح «6» وقدّموا مائتى فارس إلى كراع «7» الغميم، عليهم خالد بن الوليد، ويقال: عكرمة ابن أبى جهل. قال محمد بن إسحاق: قال الزهرىّ: لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى- قال ابن هشام: ويقال: بسر- فقال:

يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ «1» المطافيل، قد لبسوا جلود النور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله ألا ندخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بينى وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظن قريش؟ والله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة «2» » . قال محمد بن سعد: ودنا خالد بن الوليد فى خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبّاد بن بشر فتقدم فى خيله، فأقام بإزائه وصفّ أصحابه، وحانت صلاة الظهر، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف، فلما أمسى صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: تيامنوا فى هذا الموضع العضل «3» - موضع منعطف فى الوادى- فإن عيون قريش بمرّ الظّهران وبضجنان. فسار حتى دنا من الحديبية، وهى طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، فوقفت «4» يدا راحلته على ثنيّة تهبط على غائط القوم، فبركت.

وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى تفسيره: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان بغدير الأشطاط «1» قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعىّ، فقال: إنى تركت كعب بن لؤىّ وعامر بن لؤى قد جمعا لك الأحابيش «2» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت؛ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا علىّ، أترون أن نميل على ذرارى هؤلاء الذين عاونوهم «3» فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وإن يحبئوا [تكن «4» ] عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟ فقام أبو بكر رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: فروحوا إذا؛ فراحوا، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبى، وذكر من قوله ومن جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قدمناه إلى قوله: أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فخرج بهم على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه. ففعلوا،

فقال: والله إنها للحطّة «1» التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقبلوها؛ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس: اسلكوا ذات اليمين، فى طريق يخرجه على ثنية المرار «2» على مهبط من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة «3» الجيش، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خالفهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا سلك ثنيّة المرار بركت به ناقته، فقال الناس: حل «4» حل؛ فقال: ما حل؛ قالوا: خلأت «5» القصواء؛ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس «6» الفيل؛ ثم قال: والذى نفسى بيده لا تدعونى قريش إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ؛ ثم قال للناس: «انزلوا» فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء، إنما يتبرّضه «7» الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكا الناس إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه، يقال له: ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل فى تلك البئر فغرزه فى جوفها

فجاش «1» الماء بالرّى، حتى صدروا «2» عنه؛ ويقال: إن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية فى القليب يميح «3» على الناس، فقالت: يأيها المائح دلوى دونكا ... إنى رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجّدونكا ... أرجوك للخير كما يرجونكا فقال ناجية: قد علمت جارية يمانية ... أنّى أنا المائح واسمى ناجية وطعنة ذات رشاش واهية ... طعنتها تحت صدور العادية «4» قال ابن إسحاق: ناجية بن جندب بن عمير الأسلمى؛ قال: وزعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذى نزلت بسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن إسحاق والثعلبى: روى عن الزّهرى عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه، وكانت خزاعة عيبة «5» نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة، فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر ابن لؤى قد نزلا أعداد «6» مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددناهم «7» مدة

ويخلوا بينى وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا «1» ، فو الله لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى، أو لينفذنّ الله أمره. قال بديل: سنبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فى أن تحدثنا عنه بشىء؛ وقال ذوو الرأى منهم: هات كما سمعته يقول؛ قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال لهم: إنه لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموه وجبهوه «2» وقالوا: إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا يحدّث «3» بذلك عنا العرب؛ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر ابن لؤىّ، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا قال: هذا رجل غادر. وفى رواية: «فاجر» . فلما انتهى إليه وكلمه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحوا مما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زيّان «4» ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش، وهو أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: هذا من قوم يتألّهون «5» ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه. فلما رأى الهدى يسيل «6» عليه من عرض الوادى فى قلائده، قد أكل أو باره «7» من طول الحبس عن محلّه «8» رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما

لما رأى، فقال لهم ذلك؛ فقالوا له: يا حليس، إنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّما له؟ والذى نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد؛ فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس، ودعنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به؛ قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بن مسعود الثقفى، فقال لهم: يا معشر قريش، إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنى ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب «1» الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك «2» لتفضّها بهم؟ يا محمد، أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة [أبدا «3» ] وإنى لأرى وجوها وأوشابا من الناس خليفا «4» أن يفرّوا ويدعوك، وايم الله، لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا غدا عنك. وأبو بكر الصديق رضى الله عنه خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم قاعد، فقال لعروة: امصص بظر «5» اللات، أنحن ننكشف عنه؟ - واللات طاغية ثقيف التى كانوا

يعبدونها- فقال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبى قحافة؛ قال: أما والله لولا يد «1» كانت لك عندى لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ألا تصل إليك؛ قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظّك وما أغلظك «2» ! قال: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال: أى غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ - وكان المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بنى مالك من «3» ثقيف، صحبهم فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما الإسلام فقد قبلناه، وأما المال فإنه مال غدر، ولا حاجة لنا فيه» . قال: ولما قتلهم المغيرة تهايج الحيّان من ثقيف: رهط القتلى ورهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر، فلذلك قال للمغيرة ما قال- قال: ثم كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عروة بنحو ما كلم به أصحابه، فقام من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون «4» النظر إليه تعظيما

له. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر فى ملكه، وكسرى فى ملكه، والنجاشىّ فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قومه قطّ «1» يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت فى كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم. وفى رواية قال: وإنه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعىّ إلى قريش بمكة، وحمله على بعير يقال له: الثّعلب، ليبلّغ أشرافهم ما قد جاء له، فعقروا الجمل وأرادوا قتل خراش، فمنعته الأحابيش، فخلّوا سبيله. قال: وبعثت قريش أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا وأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وكانوا رموا فى العسكر بالحجارة والنّبل. ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه إلى مكة، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدىّ بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إيّاها، وغلظتى عليها، ولكنى أدلّك على رجل أعزّ بها منّى، عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثه إلى أبى سفيان ابن حرب وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا

ذكر بيعة الرضوان

البيت ومعظما لحرمته. فخرج حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فلما فرغ عثمان من الرسالة قال له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قتل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نبرح حتّى نناجز القوم» . ودعا الناس إلى البيعة. ذكر بيعة الرّضوان كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، قال الثعلبىّ: وكانت سمرة «1» . قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه أن عثمان بن عفّان قتل قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ؛ ودعا الناس إلى البيعة، قال: فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت. وقال عبد الله ابن مغفّل: كنت قائما على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك اليوم وبيدى غصن من السّمرة أذبّ عنه وهو يبايع الناس، فلم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على ألا يفرّوا. قال جابر بن عبد الله: فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجدّ بن قيس أخو بنى سلمة، لكأنى أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، مستترا بها عن الناس. وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل من بنى أسد يقال له: [أبو «2» ] سنان ابن وهب. ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الذى ذكروا من أمر عثمان باطل. واختلف فى عدد أهل بيعة الرضوان، وهو مبنىّ على الاختلاف فى عدد

أصحاب عمرة الحديبية كما تقدم، لم يتخلف منهم إلا الجدّ بن قيس، قالوا: ولما بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى. روى أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فسأله عن عثمان رضى الله عنه، أكان شهد بدرا؟ قال: لا؛ قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا؛ قال: فكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟ قال: نعم. قال: فانطلق الرجل؛ فقيل لعبد الله بن عمر: إن هذا يرى أنك قد عبته، قال: علىّ به؛ فأتى به فقال: أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه [وأجره «1» ] ؛ وأما بيعة الرضوان فقد بايع له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فقد عفا الله عنهم، فاجهد علىّ جهدك «2» . وأنزل الله عزّ وجلّ فى الّذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه البيعة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) . قال الكلبىّ: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم. ثم قال تعالى: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الجنة. وقوله تعالى فى السورة أيضا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) . قيل: فتح خيبر؛ روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» .

ذكر هدنة قريش وما وقع فيها من الشروط

ذكر هدنة قريش وما وقع فيها من الشروط قال: ثم بعثت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهيل بن عمرو أخا بنى عامر بن لؤىّ، فقالوا: إيت محمدا فصالحه، ولا يكن فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد سهل أمركم، القوم مأتون إليكم بأرحامهم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدى وأظهروا التلبية، لعلّ ذلك يلين قلوبهم» . فلبّوا من نواحى العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية، قال: وانتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتكلم فأطال، وتراجعا، ثم جرى الصلح بينهما، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقا؟ قال: بلى؛ قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى؛ قال: أو ليسوا المشركين؟ قال: بلى؛ قال: فعلام نعطى الدّنية «1» في ديننا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس نعصى «2» رأيه، فاستمسك بغرزه «3» ، حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق؛ قال عمر: أو ليس كان يحدّثنا أنا سنأتى البيت نطوف به؟ قال: بلى؛ أفأخبرك أنك «4» تأتيه العام؟ قال: لا؛ قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: ثم جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألست رسول الله؟ قال: «بلى» قال: ألسنا على الحق

وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» ؛ قال: فلم نعطى الدنيّة فى ديننا إذا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى» . وفى رواية قال: «إنى عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيّعنى» . قال عمر: ألست تحدّثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، هل أخبرتك أنك تأتيه العام؟» قال عمر: لا؛ قال: «فإنك آتيه ومطوّف به» . قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ، فما زلت أصوم وأتصدّق وأصلّى وأعتق من الذى صنعت [يومئذ «1» ] مخافة كلامى الذى تكلمت به حتى رجوت خيرا. قالوا «2» : ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ فقال سهيل: أما الرحمن فلا أدرى ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم [كما كنت تكتب، قال المسلمون: لا والله لا تكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب: باسمك اللهم «3» » ] فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنى لرسول الله وإن كذّبتمونى» ؛ ثم قال لعلىّ: «امح رسول الله» . فقال: والله لا أمحوك أبدا. فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس يحسن يكتب فمحاه؛ ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن

بعض، وعلى أنه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغى من فضل الله فهو آمن على نفسه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام، يبتغى من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، وعلى أنه من أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يردّوه عليه» . فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم ورددناه إليهم فإن علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا» . وأن بيننا عيبة «1» مكفوفة، وأنه لا إسلال «2» ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» . فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى أن تخلّوا بيننا وبين البيت [فنطوف «3» به.] » فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنك أخذتنا ضغطة «4» ، ولكن لك ذلك من العام المقبل؛ فكتب: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف فى القرب، وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدى حيثما حبسناه محلّه، لا تقدّمه علينا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نسوقه وأنتم تردّون وجوهه» ! قال: فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف فى قيوده،

وقد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد تمت القضيّة بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا؛ ثم جعل يجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ليفتنونى عن دينى؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا فى الله تعالى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا جندل، احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عاقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر» . قال: فوثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى جندل يمشى إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب- ويدنى قائم السيف منه- قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضنّ الرجل بأبيه. قال: وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا وهم لا يشكّون فى الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبى جندل شرّا إلى ما بهم، قالوا: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب، وفرغت القضيّة أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين: أبا بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبى وقّاص، ومحمود بن مسلمة «1» أخا بنى عبيد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وهو مشرك، وعلى بن أبى طالب، وكان هو كاتب الصحيفة. قال: فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم من قضيته سار مع الهدى، وسار الناس، فلما كان الهدى دون الجبال التى تطلع على وادى الثنّية عرض له المشركون، فردّوا وجوهه، فوقف النبى صلّى الله عليه وسلّم حيث حبسوه، وهى الحديبية، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا» . قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقى من الناس؛ فقالت له أم سلمة رضى الله عنها: يا نبىّ الله، اخرج ولا تكلّم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حلّافك فيحلقك. فقام صلّى الله عليه وسلّم فخرج فلم يكلّم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته ودعا حلّاقه فحلقه، وكان الذى حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعىّ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا «1» غمّا. قال عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله المحلّقين» . قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ قال: «يرحم الله المحلقين» ؛ قالوا: يا رسول الله، والمقصّرين؟ [قال «2» : «يرحم الله المقصّرين» ] قالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحّم على المحلّقين دون المقصّرين؟ قال: «لأنهم لم يشكّوا» . قال ابن عمر: وذلك أنه تربّص قوم قالوا: لعلّنا نطوف بالبيت.

ذكر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزول سورة الفتح

ذكر رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزول سورة الفتح قال الزّهرى: وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وجهه ذلك قافلا حتى كان بين مكّة والمدينة نزلت سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) . روى قتادة، عن أنس قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله عزّ وجل: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآية كلها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لقد أنزلت علىّ آية هى أحبّ إلىّ من الدنيا كلها) . وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير فى بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يسير معه ليلا، فسأله [عمر «1» ] عن شىء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، قال عمر رضى الله عنه: فحركت بعيرى حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل فىّ قرآن، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه، فقال: «لقد أنزلت علىّ الليلة آية لهى «2» أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس» . ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) . وقد اختلف فى الفتح، ما هو؟ فقال قتادة عن أنس: فتح مكة، وقال مجاهد والعوفىّ: فتح خيبر، وقال آخرون: فتح الحديبية، ويدل عليه ما روى عن مجمّع بن جارية الأنصارى،- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزّون «3» الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نوجف «4» ، فوجدنا النبى صلّى الله عليه وسلّم

واقفا على راحلته عند كراع الغميم «1» ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذى نفسى بيده إنه لفتح» . وقال الشعبىّ رحمه الله: فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، واطعموا نخل خيبر، وبلغ «2» الهدى محلّه، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال مقاتل بن حيّان: يسّرنا لك يسرا بيّنا. وقال مقاتل بن سليمان: لما نزل قوله تعالى: (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فرح بذلك المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدرى ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلا واحد؛ فأنزل الله عز وجل بعد ما رجع من الحديبية: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أى قضينا لك قضاء بينا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فنسخت هذه الآية تلك. قال سفيان الثورى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) ما عملت فى الجاهلية (وَما تَأَخَّرَ) كل شىء لم يعمله. وقال عطاء بن أبى مسلم الخراسانى: (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) يعنى ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك (وَما تَأَخَّرَ) ذنوب أمتك بدعوتك. وقال الزيادىّ: أى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) * أى بالنبوة والحكمة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أى ويثبتك عليه، وقيل: يهدى بك، (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) غالبا، وقيل: معزّا. قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ، قال الثعلبىّ: أى الرحمة والطمأنينة. قال ابن عباس رضى الله عنهما: بعث الله عز وجل نبيّه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوه زادهم

الصلاة، [فلما صدّقوه «1» زادهم الزكاة] ، الصيام، فلما صدّقوه زادهم الحجّ، ثم زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله عز وجل: (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أى تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الضحّاك: يقينا مع يقينهم. وقال الكلبى: هذا فى أمر الحديبية. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ على الناس قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بين الله ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) ثم قال تعالى (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) إن لم ينصر محمد والمؤمنون (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) * بالذلّ والعذاب (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) إلى قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ثم ذكر الله تعالى قصة البيعة، وقد تقدّمت. ثم قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قال ابن عباس ومجاهد: يعنى أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدّيل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادى، ليخرجوا معه حذرا من قريش

أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة وساق معه الهدى، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب وقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) ، الآية. أى إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ثم كذبهم فى اعتذارهم واستغفارهم، وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: «يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم» . قوله تعالى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أى هالكين فاسدين، لا تصلحون لشىء من الخير. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) . قوله تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قال: (الْمُخَلَّفُونَ) * أى عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) يعنى غنائم خيبر (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أى إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) معناه يريدون أن يغيّروا وعد الله الذى وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن غنائم أهل مكة، إذا «1» انصرفوا عنها عن صلح ولم يصيبوا منها شيئا. وقال ابن زيد:

هو قوله عز وجل: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) قال: والأول أصوب، لأن قوله تعالى: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) نزلت فى غزوة تبوك. قال: (كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أى من قبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أى أن نصيب معكم من الغنائم. قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، قال ابن عباس وعطاء بن أبى رباح وعطاء الخراسانىّ وعبد الرحمن بن أبى ليلى ومجاهد: هم فارس. وقال كعب الأحبار: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال عكرمة: هوازن. وقال سعيد بن جيبر: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهرىّ ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى: (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضى الله عنه إلى قتال بنى حنيفة فعلمنا أنهم هم. قوله تعالى: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال أهل الزّمانة: «1» فكيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) * يعنى عن التخلف عن الجهاد والقعود عن الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) * يعنى فى ذلك (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) .

ثم أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم برضاه عن أهل بيعة الرضوان، فقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ، وقد تقدّم ذكر ذلك آنفا. ثم قال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) . وهى الفتوح التى تفتح لهم إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعنى خيبر. وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لغزوة خيبر. ثم قال تعالى: (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال: معناه «1» ووعدكم الله بفتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عباس وعبد الرحمن بن أبى ليلى والحسن ومقاتل: هى فارس والروم، وقال الضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هى خيبر، وعدها الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وهى رواية عطية وباذان عن ابن عباس. وقال قتادة: هى مكة. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم. قوله تعالى: (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، قال: يعنى أسدا وغطفان وأهل خيبر. وقال قتادة: يعنى كفار قريش، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) . وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ؛ واختلفوا فى هؤلاء، فقال أنس: إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من جبل التنعيم «2» عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلما «1» فأعتقهم، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وقد قدمنا ذكرهم. وقال عبد الله بن مغفل: كنا مع النبى صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية فى أصل الشجرة، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه بين يديه يكتب كتاب الصلح وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا فى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فخلى عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل الآية. وقيل: غير ذلك. والله تعالى أعلم. ثم قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الآية. وهى قصة الحديبية وقد تقدم شرحها. وقوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، قال: قوله: (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أى تقتلوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، قال ابن زيد: إثم. وقال ابن إسحاق: غرم الدّية. وقيل: الكفارة، لأن الله عز وجل إنما أوجب على قاتل المؤمن فى دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم قاتله إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. والمعرّة المشقة، وأصلها من العرّ وهو الجرب. قال: فلولا ذلك لأذن لكم فى دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك. (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)

أى فى دين الإسلام «من يشاء» من أهل مكة قبل أن تدخلوها. قال: وقال بعض العلماء: قوله «لعذّبنا» جواب لكلامين أحدهما (وَلَوْلا رِجالٌ) والثانى (لَوْ تَزَيَّلُوا) أى تميّزوا. وقال قتادة فى قوله: (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) أى أن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركى مكة. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال: «هم المشركون من أجداد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وممن كان بعدهم فى عصره، كان فى أصلابهم المؤمنون، فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله الكافرين عذابا أليما» . قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ، قال ابن إسحاق: يعنى سهيل بن عمرو حين حمى «1» أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ، قال: كلمة التقوى يعنى الإخلاص؛ وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فى قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : «لا إله إلا الله» . وهو قول ابن عباس وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة والضحاك وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وعكرمة وطلحة بن مصرّف والربيع والسدّىّ وابن زيد. وقال عطاء الخراسانىّ: هى لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن علىّ رضى الله عنه قال: كلمة التقوى: لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن عمر. وقال عطاء بن أبى رباح: هى لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وعن الزهرىّ: كلمة التقوى هى بسم الله الرحمن الرحيم. قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) ، قال: الرؤيا التى أراها إياه فى مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. قوله: (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أى أن الصلاح كان فى الصلح. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) قيل: صلح الحديبية. ثم قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) أى أنك نبىّ صادق فيما تخبر. ثم وصف تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) . قال الثعلبىّ رحمه الله تعالى: قوله: «محمّد رسول الله» تم الكلام هاهنا، يعنى الكلام الأوّل، ثم قال مبتدئا: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أى غلاظ لا تأخذهم فيهم رأفة. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أى متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) * أى يدخلهم جنّته. «ورضوانا» يرضى عنهم. «سيماهم» علامتهم. (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) واختلف العلماء فى هذه السيماء، فقال قوم: هو نور وبياض فى وجوههم يوم

القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا؛ وهى رواية العوفى عن ابن عباس. وقال عطاء بن أبى رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال آخرون: هو السّمت الحسن والخشوع والتواضع. وقال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) أهو الأثر يكون بين عينى الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عينى الرجل مثل ركبة البعير، وهو أقسى قلبا من الحجارة، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريح: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو التهيّج وصفرة الوجه وأثر السهر. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم بمرضى. وقال عكرمة وسعيد بن جبير: هو أثر التراب فى جباههم. وقال عطية الخراسانىّ: دخل فى هذه الاية كل من حافظ على الصلوات الخمس. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) أى ذلك الذى ذكرت «مثلهم» صفتهم (فِي التَّوْراةِ) * قال: وهاهنا تم الكلام. ثم قال: (وَمِثْلَهُمْ) * صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ؛ قال أنس: «شطأه» نباته. وقال ابن عباس: سنبله. وقال مجاهد والضحاك: ما يخرج تحت الحلقة «1» فينمو ويتم. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. وقال السدّى: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى. وقال الفراء: الأشطأ: الزرع إذا نبت سبعا أو ثمانيا أو عشرا. وقال الأخفش: فراخه، يقال: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرّخ، قال الشاعر: أخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر قال: وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، يعنى أنهم كانوا يكونون قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون. قال قتادة: مثل أصحاب

ذكر خبر أبى بصير ومن لحق به وانضم إليه

محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. «فآزره» قوّاه وأعانه وشدّ أزره. «فاستغلظ» ، فغلظ وقوى. «فاستوى» تم وتلاحق نباته وقام. (عَلى سُوقِهِ) أصوله. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يعنى أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضى الله عنهم ليغيظ بهم الكفار. قال الثعلبىّ بسند يرفعه إلى الحسن فى قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) قال: محمد رسول الله. والّذين معه» ، أبو بكر. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر بن الخطاب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) عثمان بن عفان (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) على بن أبى طالب. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) * طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، قال: هم المبشّرون، أولهم أبو بكر وآخرهم أبو عبيدة. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) قال: نعتهم فى التوراة والإنجيل كمثل زرع. وقال: الزرع: محمد صلّى الله عليه وسلّم. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أبو بكر الصديق. «فآزره» عمر بن الخطاب. «فاستغلظ» عثمان؛ يعنى استغلظ عثمان للإسلام. (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) على بن أبى طالب، يعنى استقام الإسلام بسيفه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال: المؤمنون. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قال: قول عمر لأهل مكة: لا نعبد الله سرّا بعد اليوم. رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر خبر أبى بصير ومن لحق به وانضم إليه قد اختلف فى اسمه، فقيل: عبيد بن أسيد بن جارية. وقال ابن إسحاق: عتبة بن أسيد بن جارية. وعن أبى معشر قال: اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن

أسيد بن عبد الله بن سلمة بن عبد الله بن غيرة بن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف ابن منبّه بن بكر بن هوازن، حليف لبنى زهرة. وخبره وإن لم يكن داخلا فى جملة الغزوات والسرايا فليس هو مناف لها، وموجب إيرادنا إياه فى هذا الموضع لتعلقه بغزوة الحديبية، ولأن ردّه كان من شروط الهدنة. ونحن نورده هاهنا على ما أورده الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى، رحمه الله تعالى، فى كتابه المترجم بدلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، وما أورده أبو محمد عبد الملك بن هشام عن محمد ابن إسحاق رحمهم الله تعالى، يدخل حديث بعضهم فى حديث بعض، قالوا: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة انفلّت رجل من أهل الإسلام من ثقيف، يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفىّ من المشركين، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما مهاجرا، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤىّ، ومعه مولى لهم، ويقال: كانا من بنى منقذ، أحدهما مولى والآخر من أنفسهم، اسمه جحش بن جابر، وكان ذا جلد ورأى فى أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس فى طلب أبى بصير جعلا، فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . فقال: يا رسول الله، أتردّنى إلى المشركين يفتنوثنى فى دينى؟ قال: «انطلق، فإن الله سيجعل لك فرجا

ومخرجا» ، ودفعه إليهما، فخرجا به، حتى إذا كانا بذى الحليفة «1» سلّ جحش سيفه، ثم هزّه وقال: لأضربنّ بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم؛ قال: ناولنيه أنظر إليه. فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف جحش بفيه، وهو نائم، فقطع به إساره، ثم ضربه به حتى برد؛ وطلب الآخر فجمز «2» مذعورا مستخفيا، حتى دخل المسجد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» ؛ فأقبل واستغاث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ويحك! مالك؟» فقال: قتل صاحبكم صاحبى. وجاء أبو بصير يتلوه، فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: وفت ذمتك يا رسول الله، وأدّى الله عنك، دفعتنى إليهما فتعرفت أنهم سيعذبوننى ويفتنوننى عن دينى، فقتلت المنفذىّ، وأفلتنى هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه مسعر «3» حرب لو كان معه رجال!» ، وجاء أبو بصير بسلبه فقال: خمّس يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى إن خمسته لم أوف لهم بالذى عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت» . فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا مسلمين من مكة حيث قدم، ولم يطلبهم أحد، وساروا حتى نزلوا بين العيص وذى المروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش مما يلى سيف البحر، لا تمر

بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو- واسم أبى جندل العاص بن سهيل «1» على ما أورده الزبير بن بكار- فى سبعين راكبا أسلموا، فلحقوا بأبى بصير حين «2» بلغهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويل امه مسعر حرب لو كان معه رجال» ، فقطعوا مادة قريش من طريق الشام. وكان أبو بصير يصلى لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبى جندل ناس من بنى غفار وأسلم وجهينة وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وقال أبو جندل فى ذلك: أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنّا بذى المروة بالساحل فى معشر تخفق راياتهم ... بالبيض فيها والقنا الذّبّل «3» يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل» فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله بأرحامهم «5» إلا آواهم، وقالوا: لا حاجة لنا بهم. قال البيهقىّ: وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره. فلما كان ذلك من أمرهم، علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمنع

ذكر غزوة خيبر وفتحها وما يتصل بذلك

أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير لهم فيما أحبوا وكرهوا. وحكى البيهقى: أن هؤلاء هم الذين مرّ بهم أبو العاص بن الربيع فأخذوا ما معه، فلما بلغهم ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا من أسروا من أصحاب أبى العاص، وردّوا إليهم جميع ما أخذوه حتى العقال، وقد تقدم خبر أبى العاص، وقيل: إنما أخذ فى غير هذه السّريّة. والله أعلم. قال: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا إلى أبى بصير وأبى جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مرّ بهم من قريش وعيراتهم. فقدم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبى جندل وأبى بصير، وأبو بصير قد أشرف على الموت، فمات وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه ناس من أصحابه، ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش. ذكر غزوة خيبر وفتحها وما يتصل بذلك قال محمد بن سعد: غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره. وقال محمد بن إسحاق وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى: فى المحرم من السنة. وخيبر على ثمانية برد من المدينة. قالوا: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتهيؤ لغزاة خيبر، واجلب «1» من حوله يريدون الغزاة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرجنّ معنا

إلا راغب فى الجهاد» ، وشقّ ذلك على من بقى بالمدينة من اليهود، فخرج واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارىّ، قاله ابن سعد والبيهقى. وقال ابن إسحاق: استخلف نميلة بن عبد الله الليثى؛ وأخرج معه من أزواجه أم سلمة رضى الله عنها. قال ابن إسحاق: لما سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر قال فى مسيره لعامر بن الأكوع- وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان-: «انزل يابن الأكوع، فخذ لنا من هناتك «1» » ، فنزل يرتجز برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا «2» فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحمك ربّك» . ومن رواية البيهقى: «غفر لك ربّك» . قال: وما خص بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا قط إلا استشهد. قال ابن إسحاق: فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: وجبت والله يا رسول الله، لو متّعتنا بعامر؛ فقتل يوم خيبر شهيدا، رجع سيفه عليه وهو يقاتل، فكلمه كلما شديدا فمات.

قال: ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة سلك على عصر «1» فبنى له فيه «2» مسجدا، ثم على الصهباء «3» ، ثم أقبل بجيشه حتى نزل بواد يقال له: الرّجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما سمعت غطفان بمنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة «4» سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسّا، وظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم، وخلوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين خيبر. قال: ولما أشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خيبر قال لأصحابه: «قفوا» فوقفوا، ثم قال: «اللهم ربّ السموات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أظللن، وربّ الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله» . قال: ولما نزل بساحتهم ولم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، وأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم، وغدوا إلى أعمالهم، معهم المساحى «5» ، والكرازن- وهى الفئوس- والمكاتل- وهى الزنابيل- فلما نظروا إلى

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: محمد والخميس «1» - يعنون الجيش- فولوا هاربين إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ، ووعظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، وفرّق بينهم الرايات، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر، إنما كانت الأولوية «2» ، فكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السوداء من برد لعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفعه إلى على بن أبى طالب، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد بن عبادة؛ وكان شعارهم: «يا منصور أمت» ، وكانت حصون خيبر حصونا ذوات عدد، منها النّطاة، وحصن الصّعب ابن معاذ، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزّبير «3» ، هذه حصون النطاة. والشّقّ وبه حصون منها: حصن أبىّ، وحصن النّزار. وحصون الكتيبة منها: القموص، والوطيح، وسلالم. وسنذكر إن شاء الله فتحها حصنا حصنا. قال: وخرج مرحب اليهودىّ من حصنهم، قد جمع سلاحه وهو يقول: قد علمت خيبر أنّى مرحب ... شاكى «4» السلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرّب «5» إن حماى للحمى لا يقرب

ثم يقول: هل من مبارز؟ فأجابه كعب بن مالك وهو يقول: قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرّج الغمّى جرىء صلب إذ شبّت الحرب تليها الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب «1» نطاكم حتى يذال «2» الصعب ... نعطى الجزاء أو يفىء النّهب «3» بكفّ ماض ليس فيه «4» عتب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لهذا» ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس؛ قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» . فخرج إليه حتى دنا منه، فحمل مرحب عليه فضربه، فاتّقاه بالدّرقة، فأمسكت سيفه، وضربه محمد بن مسلمة فقتله. وقد روى أن الذى قتل مرحبا على بن أبى طالب رضى الله عنه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى اللواء عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجبنّه أصحابه ويجبنّهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذته الشقيقة «5» فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر رضى الله عنه راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع، فأخذها عمر رضى الله عنه فقاتل قتالا شديدا أشدّ من القتال الأوّل، ثم رجع، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فقال: «أما والله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يأخذها عنوة» . وفى رواية قال: «يفتح الله على

يديه» . فبات الناس يذكرون ليلتهم أيّهم يعظاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين على بن أبى طالب» ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه؛ قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه سلمة بن الأكوع فدعاه، فجاء على بعير له حتى أناخ قريبا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أرمد، قد عصب عينيه بشقّة برد قطرىّ «1» ، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالك؟» قال: رمدت؛ فقال: «ادن منى» فدنا منه فتفل فى عينيه، ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، وما وجعهما حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية وقال: «امض حتى يفتح الله عليك» قال: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: «انفذ على «2» رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فو الله لئن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم» روى هذا الحديث أو نحوه أهل الصحة. ومن رواية ابن إسحاق عن سلمة بن الأكوع قال: فنهض علىّ بالراية وعليه حلّة أرجوان حمراء، وقد أخرج خملها «3» ، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهّب كان حماى كالحمى لا يقرب

فبرز له علىّ بن «1» أبى طالب فقال: أنا الذى سمّتنى أمّى حيدرة «2» ... كليث غابات شديد قسورة «3» أكيلكم بالسّيف كيل السّندرة «4» فاختلفا ضربتين، فبدره علىّ رضى الله عنه فضربه، فقدّ الحجر والمغفر وفلق رأسه، حتى أخذ السيف فى الأضراس. ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنى ياسر ... شاكى السلاح بطل مغاور «5» إذا الليوث أقبلت تبادر ... إن حماى فيه موت حاضر وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام رضى الله عنه، وهو يقول: قد علمت خيبر أنى زبّار ... قرم «6» لقوم غير نكس «7» فرّار أين حماة المجد «8» ؟ أين الأخيار؟ ... ياسر، لا يغررك جمع الكفّار فجمعهم مثل السّراب الختّار «9» فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابنى يا رسول الله؟ قال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ثم التقيا، فقتله الزبير. ومن رواية أخرى عن سلمة قال: فخرج

على رضى الله عنه يهرول هرولة وإنّا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رأيته فى رضم حجارة تحت الحصن، فاطّلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علىّ بن أبى طالب؛ فقال اليهودىّ: علوتم وما أنزل الله على موسى. وقال ابن إسحاق أيضا من رواية أبى رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: خرجنا مع علىّ رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترّس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة، أنا ثامنهم» ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه. قال محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى وغيرهما: إن بنى سهم من أسلم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، جهدنا وما بأيدينا من شىء؛ فلم يجدوا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا يعطيهم إياه؛ فقال: «اللهم وإنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوّة، وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها غناء، وأكثرها طعاما وودكا «2» » ، فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصّعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر منه طعاما وودكا. قال البيهقى: وافتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصن ناعم، فانتقل من كان من يهود بحصن مصعب بن معاذ وحصن ناعم إلى قلعة الزّبير، ويقال: حصن ناعم أوّل ما افتتح من حصونهم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فمات. قال: وحصن

الزبير حصن منيع فى رأس «1» قلّة، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به ثلاثة أيام، فجاءه رجل من اليهود يقال له: غزال؛ فقال: يا أبا القاسم، تؤمننى على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النّطاة، وتخرج إلى أهل الشّق؟ فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك، فأمّته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهله وماله، فقال اليهودى: إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، لهم دبول «2» تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإذا قطعت مشربهم عليهم أصحروا «3» لك. فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ قتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر، وأصيب من يهود فى ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان آخر حصون النطاة؛ فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النطاة تحوّل إلى أهل الشّق، وبه حصون، فكان أوّل حصن بدأ به صلّى الله عليه وسلّم حصن أبىّ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قلعة يقال لها سموان؛ فقاتل عليها أهل الحصن قتالا شديدا، وخرج رجل من اليهود يقال له غزول؛ فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فسقط السيف من يده وهرب إلى الحصن، فتبعه الحباب فقطع عرقوبيه، فوقع، فذفّف «4» عليه، فخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز له رجل

من المسلمين من آل جحش، فقتل الجحشىّ، وقام مكانه يدعو إلى البراز، فبرز له أبو دجانة، قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر، يختال فى مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفّف عليه وأخذ سلبه؛ درعه وسيفه: فنفله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وأحجموا عن البراز، فكبّر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة الأنصارىّ، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظّبىّ إلى حصن النّزار، فعلّقوه وامتنعوا فيه، وزحف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه فقاتلهم، فكانوا أشدّ أهل الشّق رميا بالنبل والحجارة، حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها، ثم أخذ كفّا من حصباء، فحصب به حصنهم فرجف الحصن بهم، ثم ساخ فى الأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذا، ثم تحوّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكتيبة، فافتتح القموص، حصن أبى الحقيق، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب. قالوا: ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم: الوطيح والسّلالم، وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة ليلة حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم. قال البيهقىّ: حصرهم أربعة عشر يوما وهم لا يطلعون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينصب المنجنيق «1» عليهم، فلما أيقنوا

بالهلكة سألوا الصلح، وأرسل ابن أبى الحقيق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنزل فأكملك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» ، فنزل كنانة بن الربيع ابن أبى الحقيق فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتلة، وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلّون بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة «1» ، وعلى البزّ إلا ثوبا على ظهر إنسان؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وبرئت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله إن كتمتونى شيئا» فصالحوه على ذلك. وكان عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق كنز بنى النضير، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، فجحد أن يكون يعلم مكانه، وقال: نفد فى النفقة والحروب؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان أكثر من ذلك» ، ثم جاء رجل من يهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك، أقتلك؟» قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقى، فأبى أن يؤدّيه، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزّبير بن العوام به، فقال: «عذّبه حتى تستأصل ما عنده» ، فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. ويقال: كان ذلك بعد فتح حصن القموص، وقبل فتح الوطيح والسّلالم.

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر

قال محمد بن إسحاق: ولما نزل أهل خيبر على الصلح سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاملهم فى الأموال على النّصف؛ «على أنا إذا شئنا [أن «1» ] نخرجكم أخرجناكم» ، قال: ولما سمع أهل فدك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتتح حصون خيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يسألونه أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلّوا له الأموال، ففعل؛ وكان ممن مشى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فى ذلك محيّصة بن مسعود أخو بنى حارثة، ثم سألوا أن يعاملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النّصف كما عامل أهل خيبر، فأجابهم إلى ذلك؛ «على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» ؛ فكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. ولما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر قدم عليه جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه من أرض الحبشة ومن كان بقى بها من المسلمين، فقبّله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين عينيه والتزمه، وقال: «ما أدرى بأيهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر!» . ذكر تسمية من استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر قالوا: استشهد من المسلمين فى غزوة خيبر تسعة عشر رجلا. من قريش وحلفائهم خمسة نفر، وهم رفاعة بن مسروح، من بنى أمية بن عبد شمس، ومن حلفائهم ربيعة بن أكثم بن سخبرة، وثقف بن عمرو بن سميط، ومن حلفاء بنى أسد

ابن عبد العزّى أبو عمير عبد الله بن الهبيب- ويقال ابن الهبيب- بن أهيب الليثىّ، ومسعود بن ربيعة، حليف لبنى زهرة، من القارة. ومن الأنصار أربعة عشر رجلا، وهم: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسومة، وفضيل بن النعمان، ومسعود بن سعد بن قيس، ومحمود بن مسلمة، وأبو ضيّاح النعمان بن ثابت، والحارث بن حاطب، ممن شهد بدرا، وعروة بن مرّة بن سراقة، وأوس بن الفائد «1» ، وأنيف بن حبيب، وثابت بن إثلة «2» ، وطلحة، ومبشر، وعمارة بن عقبة، وعامر بن الأكوع الأسلمىّ، وكان قد برز له يهودى، فبرز إليه وهو يقول: قد علمت خيبر أنى عامر ... شاكى السلاح بطل مغامر واختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودىّ فى ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، فأصاب ركبة نفسه وساقه، فمات منها. قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: بطل عمل عامر؛ فأتيت نبى الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاحب أبكى، فقلت: يا رسول الله، أبطل عمل عامر؟ فقال: «ومن قال ذلك؟» قلت: بعض أصحابك؛ قال: «كذب من قاله، بل له أجره مرّتين، إنه لجاهد مجاهد» . واستشهد الأسود الراعى- واسمه أسلم، وهو من أهل خيبر- وكان من حديثه ما حكاه محمد بن إسحاق وأبو بكر البيهقى رحمهما الله: أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من

ذكر قسم غنائم خيبر

يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام؛ فعرضه عليه، فقال: فماذا لى إن أنا شهدت وآمنت بالله؟ قال: «لك الجنة إن أنت متّ على ذلك» ، فأسلم وقال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندى، فكيف أصنع بها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجها من عسكرنا، واحصب «1» وجوهها، فإن الله سيؤدى عنك أمانتك، وسترجع إلى ربّها» . ففعل الأسود وقال: ارجعى إلى صاحبك، فو الله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن. ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى لله صلاة قطّ، فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع خلفه، وسجّى بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه الآن زوجته من الحور العين» . وقتل من يهود ثلاثة «2» وأربعون، منهم: الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبى الحقيق، وأخوه. ذكر قسم غنائم خيبر قال محمد بن سعد: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغنائم فجمعت، واستعمل عليها فروة بن عمرو البياضىّ، وأمر بذلك فجزّئ خمسة أجزاء، وكتب فى سهم منها لله، وسائر السّهمان أغفال، فكان أوّل ما خرج سهم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأمر ببيع الأربعة أخماس فيمن يزيد، فباعها فروة، وقسم ذلك بين

أصحابه؛ وكان الذى ولى إحصاء الناس زيد بن ثابت، فأحصاهم ألفا وأربعمائة رجل، والخيل مائتى فرس، فكانت السّهمان على ثمانية عشر سهما، لكل مائة سهم، وكان الخمس الذى صار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطى منه على ما أراه الله. وقال محمد بن إسحاق: كانت المقاسم على أموال خيبر؛ على الشّق ونطاة والكتيبة، فكانت الكتيبة خمس الله، وسهم النبى صلّى الله عليه وسلّم وذوى القربى واليتامى والمساكين، وطعم أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين أهل فدك بالصلح، منهم محيّصة بن مسعود، أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها ثلاثين وسقا «1» من شعير، وثلاثين وسقا من تمر، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين؛ قال: وقسمت خيبر على أهل الحديبية، من شهد منهم ومن غاب، ولم يغب عنها إلّا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسهم من حضرها. وقال: وكان وادياها: وادى السّرير ووادى خاص، وهما اللذان قسمت عليهما خيبر، فكانت نطاة والشّق ثمانية عشر سهما، نطاة خمسة أسهم، والشق ثلاثة عشر سهما، فقسمت الشق ونطاة على ألف سهم وثمانمائة سهم، فكان لكلّ سهم رأس جمع إليه مائة رجل؛ قال: ثم قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتيبة- وهو وادى خاص- بين قرابته ونسائه ورجال من المسلمين ونساء أعطاهم منها. وروى بشير بن يسار قال: لما افتتح النبى صلّى الله عليه وسلّم خيبر أخذها عنوة، فقسمها على ستة وثلاثين سهما، فأخذ لنفسه ولنوائبه وما ينزل به ثمانية عشر سهما، وقسم بين الناس ثمانية عشر سهما. والله أعلم.

ذكر تسمية من قسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتيبة التى خرجت للخمس وما أعطاهم منها

وروى أبو داود فى سنته بسنده إلى عقبة بن عامر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل: «أترضى أن أزوّجك فلانة؟» قال: نعم؛ وقال للمرأة: «أترضين أن أزوّجك فلانا؟» قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زوجنى فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإنّى أشهد كم أنّى أعطيتها من صداقها سهمى بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف. ذكر تسمية من قسم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة التى خرجت للخمس وما أعطاهم منها قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتيبة- وهو وادى خاص «1» - لفاطمة ابنته رضى الله عنهامائتى وسق، ولعلىّ بن أبى طالب مائة وسق، ولأسامة بن زيد مائتى وسق، وخمسين وسقا نوى، ولعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها مائتى وسق، ولأبى بكر الصديق رضى الله عنه مائة وسق، ولعقيل بن أبى طالب مائة وسق وأربعين وسقا، ولبنى جعفر خمسين وسقا، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، وللصلت بن مخرمة وابنيه مائة وسق؛ للصلت منها أربعون وسقا. وقال أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة قاسم بن مخرمة بن المطلب: أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأخيه الصلت مائة وسق من خيبر، ولأبى نبقة خمسين وسقا، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقا، ولابن القاسم بن مخرمة أربعين وسقا، ولبنات عبيدة بن الحارث وابنه الحصين بن الحارث مائة وسق، ولبنى عبيد بن عبد يزيد ستين وسقا، ولابن

أوس بن مخرمة ثلاثين وسقا، ولمسطح بن أثاثة وابن إلياس خمسين وسقا، ولأم رميثة أربعين وسقا، ولنعيم «1» بن هند ثلاثين وسقا، ولبحينة بنت الحارث ثلاثين وسقا، ولعجير بن عبد يزيد ثلاثين وسقا، ولأم الحكم «2» بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقا، ولجمانة بنت أبى طالب ثلاثين وسقا، ولعبد الله بن الأرقم الزهرى خمسين وسقا، ولعبد الرحمن بن أبى بكر أربعين وسقا، ولحمنة بنت جحش ثلاثين وسقا، ولأم الزبير أربعين وسقا، ولضباعة بنت الزبير أربعين وسقا، ولابن أبى خنيس ثلاثين وسقا، ولأم طالب أربعين وسقا، ولأبى نضرة عشرين وسقا، ولنميلة الكلبىّ خمسين وسقا، ولعبد الله بن وهب وابنيه تسعين وسقا، لابنيه منها أربعون وسقا، ولأم حبيب بنت جحش ثلاثين وسقا، ولملكو بن عبدة ثلاثين وسقا، ولنسائه صلّى الله عليه وسلّم سبعمائة وسق. وقال ابن إسحاق أيضا: وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنسائه من فتح خيبر مائة وسق وثمانين وسقا، ولفاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة وثمانين وسقا، ولأسامة بن زيد أربعين وسقا، وللمقداد بن الأسود خمسة عشر وسقا، ولأمّ رميثة خمسة أوسق. شهد عثمان بن عفان وعباس وكتب. قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصا «3» بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا؛ قال: إن شئتم فلكم، وإن شئتم قلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض. ولم يخرص عليهم عبد الله إلا عاما واحدا ومات.

وروى أبو داود رحمه الله فى سننه بسنده عن جابر بن عبد الله من رواية ابن جريج عن أبى الزبير عنه، قال: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وإن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق، ثم خرص «1» عليهم بعده جبّار بن صخر بن أمية بن خنساء، أخو بنى سلمة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم، حتى عدوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن سهل، أخى بنى حارثة، فقتلوه، وكان قد خرج إليها فى أصحاب له يمتار «2» منها تمرا، فوجد فى عين قد كسرت عنقه، فاتهمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بقتله، وجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل، وابنا عمه حويّصة ومحيّصة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم عبد الرحمن- وكان أصغرهم، وهو صاحب الدم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كبّر «3» كبّر» فسكت، وتكلم حويّصة ومحيّصة، ثم تكلم بعدهما، فذكروا قتل صاحبهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتسمّون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم؛ قال: «أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، ثم يبرءون من دمه؟» ، فقالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود، ما هم فيه من الكفر أعظم أن يحلفوا على إثم. قال: فوداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمائة ناقة. قال «4» : واستقرت خيبر بيد يهود على ما عاملهم عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته، ثم أقرها أبو بكر رضى الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأيديهم على المعاملة، ثم أقرهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدرا من خلافته،

ذكر خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوفى أمواله

ثم بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» ؛ ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود، فقال: إن الله قد أذن فى إجلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن له عهد منه فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر بن الخطاب من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذا ما كان من أمر خيبر على سبيل الاختصار، فلنذكر ما اتفق بعد فتح خيبر مما يتعين إلحاقه بهذه الغزوة لتعلقه بها، فمن ذلك خبر الشاة التى سمّ فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر ذلك فى أخبار يهود، وهو فى الجزء الرابع عشر من هذه النسخة «1» ، ومنه خبر الحجاج بن علاط. ذكر خبر الحجاج بن علاط وما أوصله إلى أهل مكة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى استوفى أمواله قالوا: وكان الحجاج بن علاط السّلمىّ ثم البهزىّ أسلم وشهد خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فتحت خيبر قال: يا رسول الله، إن لى بمكة ما لا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة، ومال مفرّق فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله. فأذن له، فقال: إنه لا بدّ لى يا رسول الله من أن أقول. قال: «قل» ، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنيّة البيضاء «2» رجالا من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغهم أنه قد سار

إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الرّكبان، فلما رأونى قالوا: الحجاج بن علاط عنده والله الخبر؛ قال: ولم يكونوا قد علموا بإسلامى، فقالوا: أخبرنا يا أبا محمد، فإنه بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهى بلد يهود وريف بالحجاز؛ قال: قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم؛ فالتبطوا «1» بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة، فيقلتوه بين أظهرهم بمن أصاب من رجالهم. فقاموا وصاحوا بمكة، وقالوا: لقد جاءكم الخبر، وهذا محمد، إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فلّ «2» محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. قال: فقاموا فجمعوا لى مالى كأحثّ «3» جمع سمعت به. قال: وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى الحق بخيبر، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار؛ قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنّى، أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيم «4» التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الخبر الذى جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم؛ قلت: فاستأخر عنى حتى أفرغ. قال: فلما فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ علىّ حديثى يا أبا الفضل، فإنى أخشى الطلب ثلاثا، ثم قل ما شئت. قال: أفعل؛ قلت: فإنى والله تركت ابن أخيك

ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح

عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب- ولقد افتتح خيبر، وانتثل «1» ما فيها، وصارت له ولأصحابه؛ قال: ما تقول يا حجاج! قلت: إى والله، فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ ما لى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، فهو والله على ما تحب. قال: وسرت حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلّة له، وتخلّق «2» وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة؛ قال: كلا، والله الذى حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه؛ قالوا: يا لعباد الله! انفلت عدوّ الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك. ذكر انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى، ونومهم عن صلاة الصبح قالوا: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر انصرف إلى وادى القرى، فنزل به مع غروب الشمس، ومعه غلام له يقال له: مدعم؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامىّ، فبينا هو يضع رحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه سهم غرب «3» فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا والذى نفس محمد بيده إن شملته «4» لتحترق عليه فى النار» . كان غلّها

من فىء المسلمين يوم خيبر، فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى؛ فقال: «يقدّ لك مثلهما من النار» . قال أبو بكر أحمد البيهقىّ رحمه الله بسند يرفعه إلى أبى هريرة رضى الله عنه، وساق نحو الحديث فى قتل مدعم، ثم قال: وكانت يهود قد ثوى إليها ناس من العرب، فاستقبلونا بالرّمى حيث نزلنا، ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون من آطامهم، فعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وصفّهم للقتال، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله. فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير ابن العوام فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة الأنصارىّ رضى الله عنه فقتله، حتى قتل منهم اثنا «1» عشر رجلا، كلما قتل رجل منهم دعى من بقى إلى الإسلام. قال: ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلى بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنم أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادى القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخل بأيدى يهود، وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما كان من أمر خيبر وفدك ووادى القرى صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجزية،

ذكر سرية عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة

وأقاموا بأيديهم أموالهم، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة؛ فلما كان ببعض الطريق قال من آخر الليل: «من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام» ؟ وجاء فى الحديث: «من رجل يكلأ لنا الليل» ؟. فقال بلال: أنا يا رسول الله. فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل الناس فناموا، وقام بلال يصلى، فصلى ما شاء الله أن يصلى، ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام، فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول أصحابه استيقاظا، فقال: «ماذا صنعت بنا يا بلال» ؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك. قال: «صدقت» . ثم اقتاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بعيره «1» ] غير كثير ثم أناخ، فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة «2» ، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس، فلما سلّم أقبل على الناس فقال: «إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) «3» » . وفى الحديث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استيقظ واستيقظ أصحابه أمرهم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادى، وقال: «إن هذا واد به شيطان» فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادى، ثم أمرهم أن ينزلوا وأن يتوضئوا ... الحديث بنحو ما تقدم. ذكر سريّة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة «4» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة- وهى ناحية العبلاء، على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- وهى ناحية العبلاء على أربع ليال من مكة، طريق صنعاء ونجران- فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالّهم «5» فلم يلق بها أحدا. فانصرف راجعا إلى المدينة.

ذكر سرية أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى بنى كلاب بنجد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعبان سنة سبع من مهاجره.

ذكر سرية أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى بنى كلاب بنجد بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره. روى عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع أبى بكر رضى الله عنه إذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم، وكان شعارنا: أمت أمت. قال: فقتلت بيدى سبعة أهل أبيات من المشركين. وعنه أيضا قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر إلى فزارة. وهذا الذى صححه مسلم. وعن إياس بن مسلمة بن الأكوع قال: حدثنى أبى قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر رضى الله عنه، أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا، فلما كان بينه وبين القوم ساعة أمرنا أبو بكر فعرّسنا «1» ، ثم شنّ الغار فورد الماء، فقتل من قتل وسبى من سبى. ثم [قال «2» سلمة: فرأيت عنقا «3» ] من الناس فيهم الذرارىّ، فخشيت أن يسبقونى إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بنى فزارة، معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر رضى الله عنه فنفلنى ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقينى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السوق، فقال: «يا سلمة، هب لى المرأة» . فقلت: يا رسول الله، قد أعجبتنى وما كشفت لها ثوبا؛ ثم لقينى من الغد فى السوق، فقال: «يا سلمة، هب لى المرأة، لله أبوك!» . فقلت: هى لك يا رسول الله؛ فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة، ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة. روى هذا الحديث مسلم.

ذكر سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك

ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارى إلى فدك بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة سبع من مهاجره فى ثلاثين رجلا إلى بنى مرّة بفدك، فخرج فلقى رعاء الشاء، فسأل عن الناس فقيل: فى نواديهم، فاستاق النّعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركهم «1» الدّهم «2» منهم عند الليل، فباتوا يرمونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير وأصبحوا، فحمل المرّبون عليهم فأصابوا أصحاب بشير، وقاتل بشير حتى ارتثّ «3» وضرب كعبه، وقيل: قد مات. ورجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثى يخبرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم بعده بشير بن سعد. ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره إلى بنى عوال «4» ، وبنى عبد بن ثعلبة، وهم بالميفعة، وهى وراء بطن نخل إلى النّقرة قليلا بناحية نجد، وبينها وبين المدينة ثمانية برد. بعثه فى مائة وثلاثين رجلا، ودليلهم يسار، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهجموا عليهم جميعا، ووقعوا وسط محالّهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء فحدروه إلى المدينة، ولم يأسروا أحدا. وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذى قال لا إله إلا الله، وهو نهبك بن مرداس بن ظالم من بنى ذبيان بن بغيض، وقال ابن إسحاق: مرداس بن نهيك؛ حليف لهم من الحرقة من جهينة. ونقل أبو عمر بن عبد البر أنه عامر بن الأضبط الأشجعىّ، وأن رسول الله صلّى الله

ذكر سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى يمن وجبار

عليه وسلّم وداه. قال أسامة: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلمّا شهرنا عليه السلاح قال: أشهد أن لا إله إلّا الله؛ فلم ننزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبره؛ فقال: «يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنه إنما قالها تعوّذا من القتل؛ قال: «فمن لك بها يا أسامة» ؟ قال: فو الّذى بعثه بالحقّ إنه ما زال يردّدها علىّ حتّى لوددت أنّ ما مضى من إسلامى لم يكن، وكنت أسلمت يومئذ، وأنّى لم أقتله. قال: قلت: أنظرنى يا رسول الله، إنى أعاهد الله ألّا أقتل رجلا يقول: «لا إله إلا الله» أبدا. قال: «يقول بعدى يا أسامة» ، قلت: بعدك، وفى بعض طرق هذا الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة حين قال: «يا رسول الله، إنما قالها تعوّذا من القتل» «هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب» !. ذكر سريّة بشير بن سعد الأنصارىّ إلى يمن «1» وجبار «2» كانت هذه السريّة فى شوّال سنة سبع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن جمعا من غطفان بالجناب «3» قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا بشير بن سعد فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا حتى أتوا يمن وجبار، وهو نحو الجناب- والجناب يعارض سلاح «4» وخيبر ووادى القرى- فدنوا

ذكر سرية ابن أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم

من القوم فأصابوا لهم نعما كثيرا، وتفرّق الرّعاء فحدّروا الجمع، فتفرّقوا ولحقوا بعلياء بلادهم، وخرج بشير بن سعد فى أصحابه حتى أتى محالّهم فلم يجد فيها أحدا، فرجع بالنّعم، وأصاب منهم رجلين، فأسرهما وقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما، فأرسلهما صلّى الله عليه وسلّم. ذكر سريّة ابن أبى العوجاء السّلمىّ إلى بنى سليم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى الحجّة سنة سبع من مهاجره فى خمسين رجلا إلى بنى سليم، وذلك بعد انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة بعد عمرة القضاء، فخرج إليهم وتقدّمه عين لهم كان معه، فحذّرهم، فتجمّعوا، فأتاهم ابن أبى العوجاء وهم معدّون له، فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه. فتراموا ساعة بالنّبل، وجعلت الأمداد تأتى حتى أحدقوا بهم من كلّ ناحية، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامّتهم، وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتّى بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدموا المدينة فى أوّل يوم من صفر سنة ثمان من الهجرة. ذكر سريّة غالب بن عبد الله الليثىّ إلى بنى الملوح بالكديد «1» كانت فى صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى عن جندب بن مكيث الجهنىّ قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غالب ابن عبد الله الليثىّ، ثم أحد بنى كلب بن عوف فى سريّة، فكنت فيهم، وأمرهم أن يشنّوا الغارة على بنى الملوّح بالكديد- وهم من بنى ليث- قال: فخرجنا

حتى إذا كنا بقديد «1» لقينا الحارث بن البرصاء، فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإسلام. قلنا: إن تكن مسلما لم يضررك رباطنا يوما وليلة. قال: فشددناه وثاقا، وخلّفنا عليه رويجلا منّا أسود، وسرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمنّا فى ناحية الوادى، وبعثنى أصحابى ربيئة «2» ، فخرجت حتى آتى تلّا مشرفا على الحاضر «3» ، فاستندت فيه، فعلوت فى رأسه، فنظرت إلى الحاضر، فو الله إنّى لمنبطح على التلّ إذ خرج رجل منهم من خبائه، فقال لامرأته: إنى لأرى على التلّ سوادا ما رأيته فى أوّل يومى، فانظرى إلى أوعيتك، هل تفقدين منها شيئا؟ لا تكون الكلاب جرّت بعضها قال: فنظرت، فقالت: لا والله ما أفقد شيئا. قال: فناولينى قوسى وسهمين، فناولته، فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى، فأنزعه فأضعه، وثبّت مكانى، ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى، فأنزعه فأضعه، وثبتّ مكانى، فقال لامرأته: لو كان ربيئة لقد تحرّك، لقد خالطه سهماى لا أبا لك! فإذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تمضغهما الكلاب؛ قال: ثمّ دخل، وأمهلناهم حتى اطمأنّوا وتأمّوا- وكان وجه السّحر- شننّا عليهم الغارة، واستقنا النعم، فخرج صريخ القوم فى قومهم، فجاء ما لا قبل لنا به، فخرجنا بها نحدرها حتى مررنا بابن البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا، وأدركنا القوم حتّى نظروا إلينا، ما بيننا وبينهم إلّا الوادى- وادى قديد- فأرسل الله تعالى الوادى بالسّيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر، فجاء بشىء ليس لأحد به قوّة، ولا يقدر على أن يجاوزه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا، وإنّا لنسوق نعمهم

ذكر سرية غالب بن عبد الله الليثى أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك

ما يستطيع رجل منهم أن يجيز إلينا، ونحن نحدوها سراعا حتى فتناهم، فلم يقدروا على طلبنا، قال: فقدمنا بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن سعد: وكانوا بضعة عشر رجلا، وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت! ذكر سريّة غالب بن عبد الله الّليثى أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك كانت فى صفر سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد هيّأ الزبير بن العوّام رضى الله عنه، وقال له: «سر حتى تنتهى إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم» ، وهيّأ معه مائتى رجل، وعقد له لواء، فقدم غالب بن عبد الله من الكديد، وقد أظفره الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اجلس» . وبعث غالب بن عبد الله فى مائتى رجل، فيهم أسامة بن زيد، فسار حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، فأصابوا نعما، وقتلوا قتلى. ذكر سريّة شجاع بن وهب الأسدىّ إلى بنى عامر بالسّىّ «1» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسّىّ، من ناحية ركبة «2» ، من وراء المعدن «3» ، وهى من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، فسار حتى صبّحهم وهى غارّون، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وغابت هذه السريّة خمس عشرة ليلة.

ذكر سرية كعب بن عمير الغفارى إلى ذات أطلاح

ذكر سريّة كعب بن عمير الغفارىّ إلى ذات أطلاح «1» بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الأوّل سنة ثمان من الهجرة فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، من أرض الشام، وهى من وراء وادى القرى، فوجدوا جمعا كثيرا من جمعهم، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنّبل، فلمّا رأى ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتلوهم أشدّ القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك عليه، وهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى مواضع أخر، فتركهم. ذكر سريّة مؤتة ومؤتة «2» بأدنى البلقاء بالقرب من الكرك «3» . كانت هذه السريّة فى جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدىّ إلى ملك بصرى بكتاب، فلمّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره، فاشتدّ ذلك عليه، وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف «4» ، وهم ثلاثة آلاف،

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمير القوم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبى طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم» ، وعقد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء أبيض وسلّمه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام «إن أجابوا، وإلّا فاستعينوا عليهم بالله وقاتلوهم» ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشيّعا لهم حتّى بلغ ثنيّة الوداع «1» ، فوقف وودّعهم وانصرف عنهم. فقال عبد الله بن رواحة: خلف السلام على امرئ ودّعته ... فى النّخل خير مودّع «2» وخليل فلمّا ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردّكم صالحين غانمين!. فقال ابن رواحة: لكنّنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزّبدا «3» فى أبيات «4» أخر. قال: فلمّا فصلوا «5» من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدّم الطلائع أمامه،

وقد نزل المسلمون معان «1» من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرفل قد نزل مآب «2» من أرض البلقاء فى مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم رجل من بلىّ ثم أحد إراشة؛ يقال له: مالك بن زافلة «3» ، فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشجّعهم عبد الله ابن رواحة، وقال: يا قوم، والله إنّ التى تكرهون للّتى خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدّين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنّما هى إحدى الحسنين: إمّا ظهور «4» ، وإمّا شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. قال: فمضى الناس حتّى إذا كانوا بتخوم «5» البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها المشارف، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة «6» ، ووافاهم المشركون، فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع «7» والدّيباج والحرير والذهب

فعبّأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عدرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى مسيرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عباية بن مالك- ويقال: عبادة- ثم التقوا واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضى الله عنه براية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل طعنا بالرماح، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها «1» ، فكانت أوّل فرس عرقبت فى الإسلام، وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا، ووجدنا فيما أقبل من بدنه «2» اثنتين وسبعين ضربة بسيف «3» وطعنة برمح. وحكى أبو محمد عبد الملك بن هشام أن جعفر بن أبى طالب أخذ اللّواء بيمينه فقطعت يده، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله تعالى بذلك جناحين فى الجنّة يطير بهما حيث شاء. وقال محمد بن إسحاق: كان جعفر يقاتل وهو يقول: يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علىّ إن لاقيتها ضرابها قال: ولمّا قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الرّاية، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه «4» ويتردّد بعض التردّد، ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرّهنّه

إن أجلب الناس وشدّ والرّنّة «1» ... مالى أراك تكرهين الجنّة قد طال ما قد كنت مطمئنّة ... هل أنت إلّا نطفة فى شنّة «2» وقال أيضا رضى الله عنه: يا نفس إلّا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت وإن تولّيت فقد شقيت يريد بقوله: «فعلهما» صاحبيه زيدا وجعفرا؛ ثم نزل. فأتاه ابن عمّ له بعرق «3» من لحم، فقال: شدّ بهذا صلبك، فإنّك قد لقيت فى أيّامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس «4» منه نهسة، ثم سمع الحطمة «5» من ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه وتقدّم، فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم، وقال: يا معشر الناس «6» ، اصطلحوا على رجل منكم؛ فقالوا: أنت؛ قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلمّا أخذ الراية دافع القوم، وحاشى «7» بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، وانكشف. فكانت

الهزيمة، فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين، ورفعت الأرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نظر إلى معترك القوم، فلما أخذ خالد بن الوليد اللواء قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن حمى الوطيس «1» » . قال محمد بن إسحاق: ولمّا أصيب القوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنّوا أنّه قد كان فى عبد الله ابن رواحة بعض ما يكرهون؛ فقال: «ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . قال ابن إسحاق: وكان قطبة بن قتادة العذرىّ حمل على مالك بن زافلة فقتله وهو على المائة ألف الّتى اجتمعت من العرب، فقال فى ذلك: طعنت ابن زافلة بن الإراش ... برمح مضى فيه ثمّ انحطم «2» ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم «3» قال: ولمّا سمع أهل المدينة بإقبال جيش مؤتة تلقّوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون فى وجوههم التراب ويقولون: يا فرّار، فررتم فى سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليسوا بفرّار، ولكنّهم كرّار إن شاء الله» .

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة

ذكر تسمية من استشهد من المسلمين يوم مؤتة استشهد من قريش ومواليهم أربعة نفر، وهم: جعفر بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومسعود بن الأسود بن حارثة ابن نضلة، ووهب بن سعد بن أبى سرح. واستشهد من الأنصار: عبد الله ابن رواحة، وعبّاد بن قيس، والحارث بن النعمان بن إساف، وسراقة بن عمرو وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عبّاد، رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى ذات السّلاسل «1» وهى وراء وادى القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيام، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة. وسبب بعث هذه السريّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ جمعا من قضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة «3» المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن يمرّ به من بلىّ «4» وعدرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلمّا قرب من القوم بلغه أنّ لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث «5» الجهنىّ

ذكر سرية أبى عبيدة بن الجراح، وهى سرية الخبط

إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستمدّه، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح فى مائتين، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلحق بعمرو؛ فأراد أبو عبيدة أن يؤمّ الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علىّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة «1» ، وسار حتى وطئ بلاد بلىّ، ودوّخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين، ولقى فى آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرّقوا، ثم قفل وبعث عوف بن مالك الأشجعىّ بريدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان فى غزاتهم. ذكر سريّة أبى عبيدة بن الجرّاح، وهى سريّة الخبط «2» بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة بن الجرّاح فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة فى ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- إلى حىّ من جهينة بالقبليّة مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال، فأصابهم فى الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم. روى عن عبادة بن الصامت قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة إلى سيف «3» البحر، عليهم أبو عبيدة بن الجرّاح، وزوّدهم جرابا من تمر، فجعل يقوتهم إيّاه حتى صاروا إلى أن يعدّه لهم عدّا، ثم نفد التمر حتى كان يعطى كلّ رجل منهم كلّ يوم تمرة، فقسمها يوما بيننا، فنقصت تمرة عن رجل، قال: فوجدنا فقدها ذلك

ذكر سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب بنجد

اليوم، فلمّا جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابّة «1» من البحر فأصبنا من لحمها وودكها، «2» فأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنّا وابتللنا «3» ، وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعه على طريقه، ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منّا، فخرج من تحتها وما مسّت رأسه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبرها، وسألناه عمّا صنعنا فى ذلك من أكلنا إيّاها، فقال: «رزق رزقكموه الله» . قال ابن سعد: وانصرفوا ولم يلقوا كيدا. ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى خضرة وهى أرض محارب بنجد قالوا: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شعبان سنة ثمان من الهجرة ومعه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشنّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرافهم «4» ، واستاقوا النّعم، فكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وسبوا سبيا كثيرا، وجمعوا الغنائم، فأخرجوا الخمس، وقسموا ما بقى على السريّة، فأصاب كلّ رجل منهم اثنا عشر بعيرا، وعدل البعير بعشر من

ذكر سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى بطن إضم

الغنم، وصارت فى سهم أبى قتادة جارية وضيئة، فاستوهبها منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوهبها له، فوهبها صلّى الله عليه وسلّم لمحميّة بن جزء. وغابوا فى هذه السريّة خمس عشرة ليلة. ذكر سريّة أبى قتادة بن ربعىّ الأنصارىّ إلى بطن إضم كانت هذه السريّة فى أوّل شهر رمضان سنة ثمان من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: لمّا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغزو أهل مكّة بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر سريّة إلى بطن إضم- وهى فيما بين ذى خشب وذى المروة وبينها وبين المدينة ثلاثة برد- ليظنّ ظانّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توجّه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان فى السريّة محلّم بن جثّامة اللّيثى، فمرّ عامر بن الأضبط الأشجعىّ، فسلّم بتحيّة الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلّم بن جثّامة فقتله لشىء كان بينهما، وسلبه بعيره ومتاعه، فلمّا لحقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل فيهم من القرآن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ «1» ) الآية. فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذى خشب، فبلغهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه إلى مكّة، فأخذوا على يين «2» ، حتى لقوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّقيا.

ذكر غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح والسبب الذى أوجب نقض العهد وفسخ الهدنة

ذكر غزوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح والسبب الّذى أوجب نقض العهد وفسخ الهدنة كانت هذه الغزوة فى شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية. وسبب ذلك أنّه لمّا دخل شعبان من هذه السنة كلّمت بنو نفاثة- وهم من بنى بكر- أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرّجال والسلاح، وكانت خزاعة قد دخلت فى عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده يوم الحديبية كما قدّمنا ذكر ذلك، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدها، قالوا: فلمّا سألوهم ذلك وعدوهم ووافوهم بالوتير «1» متنكّرين متنقّبين، فيهم صفوان بن أميّة، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص بن الأخيف، فبيّتوا خزاعة ليلا، وهم غارّون «2» آمنون فقتلوا منهم عشرين رجلا، ثم ندمت قريش على ما صنعت، وعلموا أن هذا نقض للمدّة والعهد الّذى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعىّ فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرونه بالّذى أصابهم ويستنصرونه. قال ابن إسحاق: قدم عمرو بن سالم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فوقف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس، فقال: يا ربّ إنّى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا «3» قد كنتم ولدا وكنّا والدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا «4»

فانصر هداك الله نصرا أبدا «1» ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... إن سيم خسفا وجهه تربّدا «2» فى فيلق «3» كالبحر يجرى مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا ... وجعلوا لى فى كداء رصّدا «4» وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتّلونا ركّعا وسجّدا «5» يقول: قتلنا وقد أسلمنا، ويروى بدل قوله: ... قد كنتم ولدا وكنّا والدا نحن ولدناكم فكنت ولدا قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت يا عمرو بن سالم» . وروى محمد بن سعد فى طبقاته، قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يجرّ رداءه ويقول: «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب ممّا أنصر منه نفسى» . ثم عرض له سحاب، فقال: إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بنى كعب. قال محمد بن إسحاق: وقدم بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم

ثم انصرفوا راجعين إلى مكّة، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «كأنّكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد فى المدّة» ، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان «1» ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليشدّ العقد، ويزيد فى المدّة، فقال له أبو سفيان: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: تسيّرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى؛ قال: أو ما جئت محمّدا؟ قال: لا، وفارقه، فقال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء إلى يثرب لقد علف النوى بها، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّدا؛ ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فدخل على ابنته أمّ حبيبة، وذهب ليجلس على فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فطوته، فقال: يا بنيّة، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّى، قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: والله لقد أصابك بعدى يا بنيّة شرّ، ثم خرج حتّى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّمه، فلم يردّ عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبى بكر وكلّمه أن يكلّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما أنا بفاعل؛ ثم أتى عمر بن الخطّاب فكلّمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فو الله لو لم أجد إلّا الذّرّ لجاهدتكم به؛ ثم دخل على علىّ بن أبى طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعندها الحسن ابنها غلام يدب بين يديها، فقال: يا علىّ،

إنّك أمسّ القوم بى رحما، وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعنّ «1» كما جئت خائبا، فاشفع لى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمّد، هل لك أن تأمرى بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنىّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: يا أبا الحسن، إنى أرى الأمور قد اشتدّت علىّ، فانصحنى، قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنّك سيّد بنى كنانة. فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّى شيئا؟ قال: لا والله، ما أظنّه، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان فى المسجد فقال: أيّها الناس، إنّى قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق، فلمّا قدم مكّة على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلّمته، فو الله ما ردّ علىّ شيئا، ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطّاب فوجدته أعدى العدوّ، ثمّ جئت «2» عليّا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علىّ بشىء صنعته، فو الله ما أدرى هل يغنى شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا؛ قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب منك «3» ، فما يغنى عنك ما فعلت «4» ، ثم تجهّز

ذكر خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكة، وإعلام الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عز وجل فى ذلك من القرآن

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخفى مقصده، ثم أعلم الناس أنه سائر إلى مكّة، وامرهم بالجدّ والتهيّؤ، وقال: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها» . والله المعين. ذكر خبر حاطب بن أبى بلتعة فى كتابه إلى أهل مكّة، وإعلام الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وأخذه الكتاب، وما أنزل الله عزّ وجلّ فى ذلك من القرآن قال: ولمّا أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى مكّة كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأمر فى المسير إليهم، ثم أعطاه امرأة يقال إنها من مزينة- وقيل: هى سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب- وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها ثم قتلت عليه قرونها وخرجت به، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علىّ بن أبى طالب، والزبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذّرهم ما قد أجمعنا فى أمرهم، فخرجا فأدركاها بالخليفة، خليفة بنى أبى أحمد، فاستنزلاها والتمسا فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علىّ: أحلف بالله لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنفتّشنّك، فقالت: أعرض عنّى، فأعرض، فحلّت قرون «1» رأسها فاستخرجت الكتاب ودفعته إليه، فأتيا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا حاطبا فقال: «ما حملك على هذا» ؟. قال: يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيّرت

وما بدّلت، ولكنّنى امرؤ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة، ولى بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنقه، فإنّ الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . هذه رواية محمد بن إسحاق. وقال الشيخ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبىّ رحمه الله: إن المرأة سارة مولاة عمرو بن صيفىّ بن هاشم بن عبد مناف، وإنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهّز لفتح مكة، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسلمة جئت» ؟ قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت» ؟ قالت: لا؛ قال: «فما حاجتك» ؟ قالت: كنت كثيرة العشيرة والأصل والموالى، وقد ذهبت موالى، واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى وتحملونى. قال لها: «فأين أنت من شباب أهل مكّة» ، وكانت مغنيّة نائحة، قالت: ما طلب منّى شىء بعد وقعة بدر: فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى عبد المطّلب وبنى المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة؛ فأتاها حاطب بن أبى بلتعة حليف بنى أسد بن عبد العزّى، فكتب معها إلى أهل مكّة كتابا، وأعطاها عشرة دنانير. قال الثعلبىّ: هذه رواية زاذان عن ابن عبّاس رضى الله عنهما، قال: وقال مقاتل بن حيّان: أعطاها عشرة دراهم وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة، وكتب فى الكتاب: «من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكّة، إن

رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم» . فخرجت سارة، ونزل جبريل، فأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا، وعمر، والزبير، وطلحة، وعمارا، والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلّهم فرسانا، وقال لهم: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ «1» فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها، وخلّوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها فى ذلك المكان الّذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب، فبحثوها، وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا، فهمّوا بالرجوع، فقال علىّ رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسلّ سيفه، وقال لها: أخرجى الكتاب وإلّا والله لأجردنّك، ولأضربنّ عنقك، فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذوائبها قد خبأته فى شعرها، فخلّوا سبيلها، ولم يتعرّضوا لما معها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب» ؟ قال: نعم، قال: «ما حملك على ما صنعت» ؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك من نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت غريبا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلى، فأردت أن أنخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأنّ كتابى لا يغنى عنهم شيئا، فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره، فقام

عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم يوم بدر» . وأنزل الله عزّ وجلّ فى شأن حاطب ومكاتبته المشركين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ «1» ) ، قال: أى من مكّة لأن آمنتم بالله ربّكم؛ قال: فى الكلام تقديم وتأخير، ونظم الآية: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) ، ثم قال تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، ثم قال تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) قال: يثقفوكم يروكم ويظهروا «2» ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أى بالقتل، (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أى بالشتم، (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم. قوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قال: معنى الآية: لا تدعونّكم قراباتكم ولا أولادكم التى بمكة إلى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم، ومظاهرتهم، فلن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم التى عصيتم الله لأجلهم

(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار. قوله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» ) الآية، ثم قال تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «2» ) قال: قوله: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ «3» ) يعنى فى إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء؛ قال: فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم من المشركين فى الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، فعلم الله تعالى شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» ) ؛ قال: ففعل الله عزّ وجل ذلك بأن أسلم كثير من مشركى مكّة، فصاروا للمؤمنين أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم. قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «5» ) معناه: أن تعدلوا فيهم بالإحسان والبرّ، واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت فى خزاعة، منهم هلال بن عويمر، وخزيمة، وسراقة بن مالك ابن جعشم، وبنو مدلج، وكانوا صالحوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على ألّا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا.

ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، ومن جاءه فى طريقه قبل دخوله مكة

وقال عبد الله بن الزبير: نزلت فى أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهم، وذلك أنّ أمّها قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسعد من بنى مالك بن حسل قدمت عليها المدينة بهدايا وهى مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هديّة، ولا تدخلى علىّ بيتى حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فسألت لها عائشة رضى الله عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها عليها منزلها، وتقبل هديّتها، وتحسن إليها، وتكرمها. وقال مرّة الهمذانىّ وعطية العوفىّ: نزلت فى قوم من بنى هاشم، منهم العباس. ثم قال تعالى: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» ) قال: وهم مشركو مكّة. فلنرجع إلى أخبار غزوة الفتح. ذكر خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة، ومن جاءه فى طريقه قبل دخوله مكّة قال: ولمّا تهيّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للغزاة بعث إلى من حوله من العرب فجلبهم، وهم أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه فى الطريق، وكان المسلمون فى غزوة الفتح عشرة آلاف، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم؛ قاله محمد بن سعد. وقال محمد بن إسحاق، وأبو بكر أحمد البيهقى: استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفارى، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، فلمّا انتهى

إلى الصلصل «1» قدم أمامه الزبير بن العوّام فى مائة من المسلمين، وصام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس حتى إذا كان بالكديد «2» بين عسفان «3» وأمج «4» أفطر، ونادى مناديه: من أحبّ أن يفطر فليفطر، ومن أحبّ أن يصوم فليصم. قال ابن سعد: فلما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقديد «5» عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل. قال محمد بن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل مرّ الظّهران «6» وهو فى عشرة آلاف من المسلمين، فسبّعت «7» سليم، وبعضهم يقول: ألّفت مزينة، وفى كلّ القبائل عدد وإسلام، وأوعب معه المهاجرون والأنصار. قال: ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض الطريق لقيه عمّه العباس بن عبد المطلب. قال ابن هشام: لقيه بالجحفة «8» مهاجرا بعياله، وكان قبل ذلك بمكّة على سقايته، وقد قدّمنا أنه أسلم عند انصراف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بدر، قال: ولقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، لقياه بنيق العقاب «9» بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، وكلّمته أمّ سلمة رضى الله عنها فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك، وابن عمتك وصهرك. فقال: «لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى، وأما ابن عمّتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال» ، فلما خرج الخبر بذلك إليهما ومع أبى سفيان بنىّ له

قال: والله لتأذننّ لى أو لآخذنّ بيد بنىّ هذا، ثم لنذهبنّ فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا؛ فلمّا بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقّ لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه، فأسلما، وأنشد أبو سفيان بن الحارث يتعذر ممّا كان قد مضى من فعله، فقال: لعمرك إنّى يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللّات خيل محمد لكا لمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوانى حين أهدى واهتدى هدانى هاد غير نفسى ودلّنى ... على الحقّ من طرّدت كلّ مطرّد «1» أصدّ وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأى يلم «2» ويفنّد أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد فى كلّ مقعد «3» فقل لثقيف: لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك: غيرى أوعدى فما كنت فى الجيش الذى نال عامرا ... وما كان عن جرّا لسانى ولا يدى قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع «4» جاءت من سهام «5» وسردد قال: ولمّا بلغ إنشاده قوله: «من طرّدت كل مطرّد» ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صدره وقال: «أنت طرّدتنى كل مطرّد» . قال: ولمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ الظّهران نزلها عشيّا، وأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر

ذكر مجىء العباس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح

عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال العبّاس: فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك «1» ، فقلت: لعلّى أجد بعض الحطّابة أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتى مكّة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. ذكر مجىء العبّاس بأبى سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلام أبى سفيان، وخبر الفتح قال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه: وكان أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء قد خرجوا فى تلك الليالى يتحسّسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، فو الله إنّى لأسير على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل ابن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، فيقول له بديل: هذه والله خزاعة قد حمستها «2» الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ وأقلّ أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: يا أبا الفضل، قلت: نعم، قال: مالك فداك أبى وأمّى! قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله فى الناس، واصباح قريش والله!

قال: فما الحيلة فداك أبى وأمّى!، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك؛ قال: فركب خلفى، ورجع صاحباه؛ قال: فجئت به، كلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عليها قالوا: عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته، حتى مررت بنار عمر ابن الخطّاب. قال ابن سعد: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل عمر تلك الليلة على الحرس؛ قال العباس: فقال عمر: من هذا؟ وقام إلىّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابّة قال: أبو سفيان عدوّ الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتدّ نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البلغة فسبقته، فاقتحمت عن البلغة، ودخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى أضرب عنقه. قال العبّاس، قلت: يا رسول الله، قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دونى، فلمّا أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من رجال بنى عدىّ بن كعب ما قلت هذا، ولكنّك قد عرفت أنّه من رجال بنى عبد مناف؛ فقال عمر: مهلا يا عبّاس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إلىّ من إسلام الخطّاب لو أسلم، وما بى إلا أنى قد عرفت أن إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ؛ قال: فذهبت به إلى رحلى، فبات عندى، فلما أصبح غدوت

به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن «1» لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله» ، قال: بأبى أنت وأمّى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد؛ قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله» ؟؛ قال: بأبى أنت وأمى! ما أحملك وأكرمك وأوصلك! أما والله هذه فإنّ فى النفس منها حتّى الآن شيئا؛ فقال له العبّاس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك؛ قال: فشهد شهادة الحقّ، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحبّ هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال: «نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» ؛ فلمّا ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبّاس، احتبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل «2» حتى تمرّ به جنود الله فيراها» . قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه؛ قال: ومرّت القبائل على راياتها كلّما مرّت قبيلة قال: يا عبّاس، من هذه؟. فأقول: سليم، فيقول: ما لى ولسليم، ثم تمرّ القبيلة، فيقول: من هذه؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لى ولمزينة، حتى مرّت القبائل، فما تمرّ قبيلة إلّا سألنى عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لى ولبنى فلان! حتى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار- وإنّما سمّيت بالخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها- وهم لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عبّاس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ذكر دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة شرفها الله تعالى صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة

فى المهاجرين والأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت: ويحك! إنها النبوّة، قال: فنعم إذا، ثم قلت: النّجاة «1» إلى قومك، فسار حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشار به، فقالت: اقتلوا الحميت «2» الدّسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم! لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دارى فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. والله يؤيّد بنصره من يشاء. ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكّة شرّفها الله تعالى صلحا، ودخول خالد بن الوليد ومن معه من القبائل عنوة قال: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذى طوى «3» ، وقف على راحلته معتجرا «4» بشقّة برد حبرة حمراء وإنه ليضع رأسه تواضعا لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمسّ واسط الرحل، ثم فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجيش من ذى طوى، وكانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ مع سعد بن عبادة رضى الله عنه، فأمر رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم الزبير بن العوّام، وكان على المجنّبة اليسرى أن يدخل فى بعض الناس من كدى «1» ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كدء «2» ، فلمّا وجّه سعد للدخول قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، وفى رواية تستحلّ الكعبة؛ فسمعها عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلىّ بن أبى طالب: «أدركه فخذ الراية منه، فادخل أنت بها» . حكاه ابن إسحاق. وقال محمد بن سعد: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الراية من سعد ودفعها لابنه قيس بن سعد. وذكر يحيى بن سعد الأموىّ فى السّير: أن سعد بن عبادة لمّا أخذ الراية مرّ على أبى سفيان، فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتيبة الأنصار حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، وقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا؛ وإنى أنشدك الله فى قومك، فأنت أبرّ الناس وأوصلهم وأرحمهم. وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، والله ما نأمن سعدا أن تكون منه فى قريش صولة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا» . وقال ضرار بن الخطّاب الفهرىّ يومئذ:

يا نبىّ الهدى إليك لجا «1» حىّ قريش ولات حين لجاء حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السّماء والتقت حلقتا البطان على القوم ... ونودوا بالصيلم الصّلعاء «2» إنّ سعدا يريد قاصمة الظهر ... بأهل الحجون والبطحاء خزرجىّ لو يستطيع من الغيظ ... رمانا بالنّسر والعوّاء «3» وغر الصّدر لايهمّ بشىء ... غير سفك الدّما وهتك النساء قد تلظّى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسّوءة السّوآء إذ ينادى بذلّ حىّ قريش ... وآبن حرب بدا من الشّهداء فائن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللّواء أهل اللّواء ثم ثابت إليه من بهم الخز ... رج والأوس أنجم الهيجاء لتكوننّ بالبطاح قريش ... فقعة القاع فى أكفّ الإماء «4» فانهينه فإنّه أسد الأس ... د لدى الغاب والغ فى الدماء إنّه مطرق يريد لنا الأم ... ر سكوتا كالحيّة الصّمّاء «5» قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن اللواء لم يخرج

عنه إذ صار إلى ابنه، وأبى سعد أن يسلّم اللواء إلّا بأمارة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامته، فعرفها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس. قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد، وكان على المجنّبة اليمنى، أن يدخل ببعض الناس من اللّيط أسفل مكّة، وكان معه: أسلم، وسليم وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب، وأقبل أبو عبيدة بن الجرّاح بالصفّ من المسلمين ينصبّ لمكّة بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذاخر «1» ، حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هناك قبّة، ونهى عن القتال، وعبر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأماكن التى أمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلوا منها، لم يلقوا كيدا، إلّا خالد بن الوليد فإن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو جمعوا جمعا من قريش، ووقفوا بالخندمة «2» ليقاتلوا خالد بن الوليد، ويمنعوه من الدخول، وشهروا السلاح وروموا بالنّبل، فصاح خالد فى أصحابه وقاتلهم، فقتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة نفر من هذيل، وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثنيّة أذاخر رأى البارقة «3» فقال: «ألم أنه عن القتال» ؟ فقيل: يا رسول الله، إنّ خالد بن الوليد قوتل فقاتل؛ فقال: «قضاء الله خير» ، وقتل من المسلمين رجلان كانا سلكا طريقا غير طريق خالد فقتلا، وهما كرز بن جابر الفهرىّ، وحبيش «4» بن خالد الخزاعىّ. قاله محمد بن سعد.

وقال ابن إسحاق: قتل من المشركين يومئذ اثنا عشر أو ثلاثة عشر رجلا. وقال: وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر يعدّ سلاحا ويصلح منه قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له امرأته: لماذا تعدّ ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمّد وأصحابه شىء؛ قال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالى علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «1» وذو غرارين سريع السّلّة «2» ثم شهد يوم الخندمة، فلما انهزم القوم دخل على امرأته وقال: أغلقى علىّ بابى؛ قالت: فأين الذى كنت تقول؟ فقال: إنّك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة «3» ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كلّ ساعد وجمجمة ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه «4» لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لا تنطقى فى اللّوم أدنى كلمه «5» قال ابن هشام: ويروى للرعّاش الهذلىّ.

ذكر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم يوم فتح مكة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه

وكان ممن فرّ يومئذ هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو زوج أمّ هانئ بنت أبى طالب أخت علىّ لأبويه؛ فأسلمت، وهرب هبيرة إلى نجران، وقال معتذرا من فراره: لعمرك ما ولّيت ظهرى محمّدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكننى قلّبت أمرى فلم أجد ... لسيفى غناء إن ضربت ولا نبلى وقفت فلمّا خفت ضيعة موقفى ... رجعت لعود كالهزير إلى الشّبل قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة وحنين والطائف: شعار المهاجرين: يا بنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بنى عبد الله، وشعار الأوس: يا بنى عبيد الله؛ وكان الفتح يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. ذكر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم يوم فتح مكّة وسبب ذلك، ومن قتل منهم، ومن نجا بإسلامه قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر أصحابه بقتل ستّة نفر وأربع نسوة، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عكرمة بن أبى جهل، وهبّار ابن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، ومقيس بن صبابة الليثى، والحويرث ابن نقيذ بن وهب، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمىّ، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى، وقريبة.

فأمّا عكرمة بن أبى جهل فإنه هرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنه، فخرجت فى طلبه إلى اليمن حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه. حكى الزبير بن بكّار قال: لما أسلم عكرمة قال: يا رسول الله، علّمنى خير شىء تعلمه أقواله؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ، فقال عكرمة: أنا أشهد بهذا، وأشهد بذلك من حضرنى، وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لى؛ فاستغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقها فى صدّ عن سبيل الله إلّا أنفقت ضعفها فى سبيل الله، ولا قتالا قاتلته إلّا قاتلت ضعفه؛ ثم اجتهد فى الجهاد والعبادة حتى استشهد رحمه الله فى خلافة عمر بن الخطّاب بالشام؛ وقيل: استشهد فى آخر خلافة أبى بكر، قيل: فى يوم اليرموك. وقيل: فى يوم مرج «1» الصّفّر، وقيل: أجنادين «2» . والله أعلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فإنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحى؛ فارتدّ ورجع إلى قريش، فلما كان يوم الفتح فرّ إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وهو أخوه من الرضاعة، فغيّبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأمن له بعد أن اطمأن الناس؛ فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صمت طويلا، ثم قال: «نعم» ؛ فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: «لقد صمّت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» ،

فقال رجل من الأنصار: فهلّا أو مأت إلىّ يا رسول الله؟ فقال: «إن النبىّ لا يقتل بالإشارة» ، ثم أسلم عبد الله بن سعد بعد ذلك. وأمّا مقيس بن صبابة، فإن أخاه هشام بن صبابة كان قد صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بنى المصطلق بالمريسيع، فأصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدوّ، فقتله خطأ، فقدم مقيس هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة، وأظهر الإسلام، وقال: يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخى، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدية أخيه، فأقام غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكّة مرتدّا، فنذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتله لذلك، فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله على بن أبى طالب رضى الله عنه، لأنه كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان العباس بن عبد المطلب حمل بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة وأمّ كلثوم من مكّة يريد بهما المدينة، فرمى بهما الحويرث إلى الأرض. وأمّا عبد الله بن خطل، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدّقا «1» ، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه وهو مسلم، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فقتله ثم ارتدّ، وكانت فرتنى وقريبة قينتاه تغنيّان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتل ابن خطل

ذكر إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب

سعيد بن حريث المخزومىّ، وأبو برزة الأسلمىّ، اشتركا فى دمه، وقتلت إحدى قينتيه وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّنها. وهند بنت عتبة أسلمت. ولما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيعة على النساء، ومن الشرط فيها ألّا يسرقن ولا يزنين، قالت: وهل تزنى الحرّة أو تسرق يا رسول الله؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» ، قالت: قد ربّيناهم صغارا، وقتّلتهم أنت ببدر كبارا، أو نحو هذا من القول، وشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ زوجها أبا سفيان شحيح لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال: «خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك أنت وولدك» . وأما سارة فاستؤمن لها، فأمّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما هبّار فإنه هرب فلم يوجد، ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. ذكر إسلام أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب روى محمد بن إسحاق بسنده إلى أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما قالت: لما وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذى طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أى بنيّة، اظهرى بى على جبل أبى قبيس- قالت: وكان قد كفّ بصره- فأشرفت به عليه فقال لها: أى بنيّة؛ ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا، قال: تلك الخيل؛ قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى ذلك السواد مقبلا ومدبرا؛ قال: أى بنيّه، ذلك الوازع،- يعنى الذى يأمر الخيل ويتقدّم إليها- ثم قالت: قد والله انتشر السواد؛ فقال: قد والله إذا دفعت الخيل، فأسرعى بى إلى بيتى؛ قالت: فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل

إلى بيته؛ قالت: وفى عنق الجارية طوق من ورق «1» ، فتلقّاها رجل فاقتطعه من عنقها، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلّا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه» ؟ قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحقّ أن يمشى إليك من أن تمشى إليه أنت، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: «أسلم» ، قالت: فأسلم؛ قالت: فدخل به أبو بكر وكأنّ رأسه ثغامة «2» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غيّروا هذا من شعره» ، ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلام طوق أختى؛ فلم يجبه أحد؛ قالت: فقال: أى أخيّة، احتسبى طوقك، فو الله إنّ الأمانة فى الناس اليوم القليل. وأسلم عبد الله بن الزبعرى عام الفتح وحسن إسلامه، وكان ممن يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الأذى فى الجاهلية، فأسلم واعتذر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وله فى مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى فى كفره، منها قوله: منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرّواق بهيم «3» ممّا أتانى أنّ أحمد لامنى ... فيه فبتّ كأننى محموم يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين غشوم «4»

ذكر دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وطوافه بالبيت ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام

إنى لمعتذر إليك من الذى ... أسديت إذ أنا فى الضّلال مقيم أيام تأمرنى بأغوى خطّة ... سهم، وتأمرنى بها مخزوم وأمدّ أسباب الردى ويقودنى ... أمر الغواة، وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبىّ محمّد ... قلبى ومخطئ هذه محروم مضت العداوة وانقضت أسبابها ... وأتت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والدىّ كلاهما ... وارحم فإنك راحم مرحوم وعليك من سمة المليك علامة ... نور أغرّ وخاتم مختوم أعطاك بعد محبّة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم ذكر دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وطوافه بالبيت ودخوله الكعبة، وما فعل بالأصنام قال: ولما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة واطمأنّ النّاس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته يستلم الرّكن بمحجن فى يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده وطرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ألا كلّ مأثره «1» أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمىّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاجّ؛ ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلّظة، مائة من الإبل، أربعون منها فى بطونها أولادها؛ يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظّمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب» ، ثم تلا قوله

تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» ) ؛ ثم قال: «يا معشر قريش، ما ترون أنّى فاعل فيكم» ؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم؛ قال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» ؛ ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه ومفتاح الكعبة فى يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السّقاية؛ فقال: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعى له، فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء» ؛ حكاه محمد بن إسحاق. وقال محمد بن سعد: دفع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح وقال: «خذوها يا بنى أبى طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» ؛ ودفع السقاية إلى العبّاس بن عبد المطّلب. قال عبد الملك بن هشام: حدّثنى بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّرا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام، (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2» ) ثم أمر بتلك الصور كلّها فطمست. قال: ودخل الكعبة ومعه بلال بن رباح، فأمره أن يؤذّن، فأذّن وأبو سفيان بن حرب وعتّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: أكرم الله أسيدا ألّا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه؛ فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محقّ لاتّبعته؛ فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا

ذكر سرية خالد بن الوليد إلى العزى وهدمها

لو تكملت لأخبرت عنّى هذه الحصى؛ فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد علمت الّذى قلتم» ، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. وقال أبو محمد بن هشام بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرّصاص، فجعل النبى صلّى الله عليه وسلّم يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام ويقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) «1» ، فما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى صنم منها فى وجهه إلّا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلّا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلّا وقع. قال محمد بن سعد: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما، وكان أعظمها هبل، وساق الحديث نحو ما تقدّم، فقال تميم بن أسد الخزاعىّ فى ذلك: وفى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا قال: ولما كان من الغد يوم الفتح خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الظهر فقال: «إن الله قد حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام إلى يوم القيامة، ولم تحلّ لى إلّا ساعة من نهار، ثم رجعت لحرمتها بالأمس، فليبلّغ شاهدكم غائبكم، ولا يحلّ لنا من غنائمها شىء» ، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، وبثّ السرايا، ثم خرج إلى حنين. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى العزّى وهدمها قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى العزّى ليهدمها، وذلك بعد الفتح، لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، فخرج فى ثلاثين فارسا

ذكر سرية عمرو بن العاص إلى سواع وكسره

من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «هل رأيت شيئا» ؟ قال: لا، قال: «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ؛ فرجع خالد وهو متغيّظ، فجرّد سيفه، فخرجت إليه امرأة عربانة سوداء تاثرة «1» الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «نعم، تلك العزّى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» ، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بنو شيبان من بنى سليم. ذكر سريّة عمرو بن العاص إلى سواع وكسره بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان بعد الفتح أيضا إلى سواع، وهو صنم هذيل ليهدمه؛ قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك؛ قلت: لم؟ قال: تمتّع؛ قلت: حتى الآن أنت فى الباطل ويحك! وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا؛ ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ذكر سريّة سعد بن زيد الأشهلىّ إلى مناة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان أيضا إلى مناة- وكانت بالمشلّل «2» للأوس والخزرج وغسّان- ليهدمها، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة؛ قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشى إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل

ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ابن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء

وتضرب صدرها؛ فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك؛ ويضربها سعد بن زيد فيقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه، ولم يجدوا فى خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ابن عبد مناة بن كنانة، وهو يوم الغميصاء قالوا: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيم بمكة، بعثه فى شوّال إلى بنى جذيمة بن عامر، وكانوا أسفل مكة على ليلة منها بناحية يلملم؛ داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، فخرج فى ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبنى سليم، فانتهى إليهم خالد بن الوليد، فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون، قد صلّينا وصدّقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا، وأذّنّا فيها؛ قال: فما بال السلاح عليكم؟ فقالوا: إنّ بيننا وبين بعض العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح؛ قال: فضعوا السلاح؛ قال: فوضعوه، فقال لهم: استأسروا؛ فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعض وفرّقهم فى أصحابه، فلما كان فى السّحر نادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه؛ أى فليجهز عليه بالسيف. فأمّا بنو سليم فقتلوا من كان فى أيديهم، وأمّا المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم، فبلغ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما صنع خالد، فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» ؛ وبعث علىّ بن أبى طالب فودى «1» لهم قتلاهم وما ذهب منهم.

وقد حكى أبو الفرج على بن الحسين الأصفهانى «1» ، خبر هذه السريّة فى قصة عبد الله بن علقمة أحد بنى عامر بن عبد مناة بن كنانة وخبر مقتله، وذكر خبره مع حبيشة، فروى بسند رفعه إلى ابن دأب قال: كان من حديث عبد الله بن علقمة أنه خرج مع أمه وهو إذ ذاك يفعة: دون المحتلم، لتزور جارة لها، وكانت لها بنت يقال لها: حبيشة إحدى بنات عامر بن عبد مناة، فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت فى نفسه؛ فانصرف وترك أمّه عند جارتها، فبقيت عندها يومين، ثم أتاها ليرجعها إلى منزله، فوجد حبيشة قد زيّنت لأمر كان فى الحىّ، فازداد بها عجبا، وانصرف بأمّه فى غداة تمطر، فمشى معها وجعل يقول: فما أدرى بلى إنّى لأدرى ... أصوب القطر أحسن أم حبيش حبيشة والذى خلق الهدايا ... وما إن عندها للصبّ عيش «2» قال: فسمعت ذلك حبيشة، فتغافلت عنه، وكرهت قوله، ثم مشى مليّا فإذا هو بظبى على ربوة من الأرض، فقال: يا أمّتا خبّرينى غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب أأنت أحسن أم ظبى برابية ... لابل حبيشة فى عينى وفى أربى قال: فزجرته أمّه، وقالت: ما أنت وهذا، أنا مزوّجتك بنت عمّك، فهى أجمل من تلك، وأتت امرأة عمّه فأخبرتها خبره وقالت: زيّنى ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فلما رآها أطرق، فقالت له أمّه: أيهما الآن أحسن؟ فقال:

إذا غيّبت عنّى حبيشه مرّة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا كأنّ الحشا حرّ السعير يحشّه «1» ... وقود الغضى فالقلب مضطرم جمرا قال: وجعل يراسل الجارية وتراسله، حتى علقته كما علقها، وكثر قوله الشعر فيها، فمن ذلك قوله «2» : حبيشة هل جدّى وجدّك جامع ... بشملكم شملى وأهلكم أهلى؟ وهل أنا ملتّف بثوبك مرّة ... بصحراء بين الأيكتين إلى النّخل؟ ومرتشف من ريق ثغرك مرّة ... كراح ومسك خالطا عسل النّحل فلما بلغ أهلها خبره، حجبوها عنه مدّة، وهو يزيد غراما بها، ويكثر قوله الشعر فيها، فأتوها فقالوا لها: عديه السّرحة، فإذا أتاك فقولى له: نشدتك الله إن أحببتنى فما على الأرض شىء أبغض إلىّ منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين؛ فواعدته، وجلسوا قريبا يسمعون، وجلست عند السرحة، وأقبل عبد الله لموعدها، فلمّا دنا منها دمعت عينها، والتفتت حيث أهلها جلوس، فعرف أنهم قريب، فرجع، وبلغه ما أمروها به أن تقوله، فأنشأ يقول: فلو قلت ما قالوا لزدت جوى جو «3» ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر ولم يك حبّى عن نوال بذلته ... فيسلينى عنك التجلّد والهجر «4» وما أنس م الأشياء لم أنس دمعها ... ونظرتها حتى يغيّبنى القبر

قال: وبعث النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على أثر ذلك خالد بن الوليد إنى بنى عامر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلّا قاتلهم، فصبحهم خالد بالغميصاء وقد علموا به وخافوه، وكانوا قد قتلوا الفاكه بن الوليد وعمّه الفاكه بن المغيرة فى الجاهلية، فلمّا صبحهم خالد ومعه بنو سليم وهم يطلبونهم بمالك ابن خالد بن صخهر بن الشريد، وإخوته كرز وعمرو والحارث، وكانوا قتلوهم فى موطن واحد. فلما صبحهم خالد ورأوا معه بنى سليم زادهم ذلك نفورا، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا: نحن مسلمون؛ قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله؛ فقال لهم حذيم «1» بن الحارث أحد بنى أقرم: يا قوم، لا تلقوا سلاحكم، فو الله ما بعد وضع السلاح إلّا القتل؛ قالوا: والله لا نلقى سلاحنا ولا ننزل، فما نحن لك ولا لمن معك بآمنين؛ قال خالد: فلا أمان لكم؛ فنزلت فرقة منهم فأسروهم، وتفرّق بقيّة القوم فرقتين؛ فأصعدت فرقة وسفلت أخرى. قال ابن دأب: فأخبرنى من لا أتّهم عن عبيد الله بن أبى حدود الأسلمىّ قال: كنت يومئذ فى جند خالد، فبعثنا فى إثر ظعن مصعدة يسوق بها فتية، فقال: أدركوا أولئك؛ فخرجنا فى أثرهم حتى أدركناهم، فمضوا ووقف لنا غلام على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويرتجز ويقول: أرخين أطراف الذّيول وارتعن «2» ... مشى حييّات كأن لم يفزعن إن يمنع اليوم نساء تمنعن فقاتلنا طويلا، فقتلناه ومضينا، حتى لحقنا الظّعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأوّل، فجعل يقاتلنا ويقول:

أقسم ما إن خادر ذو لبدة «1» ... يرزم «2» بين أيكة ووهده يفرس ثنيان الرجال وحده ... بأصدق الغمداة منّى نجده فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظّعن، وإذا فيهن غلام وضىء به صفرة فى لونه كالمنهوك، فربطناه بحبل، وقدّمناه لنقتله، فقال: هل لكم فى خير؟ قلنا: ما هو؟ قال: تدركون بى الظعن أسفل الوادى ثم تقتلوننى؛ قلنا: نفعل؛ فخرجنا حتى نعارض الظّعن بأسفل الوادى، فلمّا كان بحيث يسمعون الصوت، نادى بأعلى صوته: اسلمى حبيش، عند فقد العيش؛ فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء؛ فقالت: وأنت فأسلم على كثرة الأعداء، وشدّة البلاء؛ قال: سلام عليك دهرا، وإن بقيت عصرا؛ فقالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعا ووترا، وثلاثة تترى؛ فقال: إن يقتلونى يا حبيش فلم يدع ... هواك لهم منّى سوى غلّة الصدر فأنت الّتى أخليت لحمى من دمى ... وعظمى وأسبلت الدموع على نحرى فقالت له: ونحن بكينا من فراقك مرّة ... وأخرى وآسيناك فى العسر واليسر وأنت فلا تبعد فنعم فتى الهوى ... جميل العفاف والمودّة فى ستر فقال لها: أريتك إن طالبتكم فوجدتكم ... بحرّة «3» أو أدركتكم بالخوانق «4» ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق»

فقالت: بلى والله، فقال: فلا ذنب لى قد قلت إذ نحن جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق «1» أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الخليط بالحبيب المفارق قال ابن أبى حدود: فقدّمناه فضربنا عنقه، فاقتحمت الجارية من خدرها حتى أهوت نحوه، فالتقمت فاه، فنزعنا منها رأسه، وإنها لتتبّع نفسها «2» حتى ماتت مكانها، وأفلت من القوم غلام من بنى أقرم يقال له السّميدع حتى اقتحم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره ما صنع خالد وشكاه. قال ابن دأب: فأخبرنى صالح بن كيسان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل أنكر عليه أحد ما صنع» ؟ قال: نعم، رجل أصفر «3» ربعة، ورجل طويل أحمر؛ فقال عمر رضى الله عنه: أنا والله يا رسول الله أعرفها، أمّا الأوّل فهو ابنى، وأمّا الآخر فمولى أبى حذيفة، وكان خالد قد أمر كلّ من أسر أسيرا أن يقتله، فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة أسيرين كانا معهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبى طالب بعد فراغه من حنين، وبعث معه بإبل وورق، وأمره أن يديهم، فوادهم. ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقال: قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحلّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا علم وممّا لم يعلم؟، فقالوا: نعم، قال: فدفعته إليهم، وجعلت أديهم حتى إنّى لأدى ميلغ «4» الكلب،

وفضلت فضلة فدفعتها إليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقبلوها» ؟ قلت: نعم؛ قال: «فو الذى أنا عبده لذاك أحبّ إلىّ من حمر النّعم» . وروى أبو الفرج أيضا «1» بسند رفعه إلى عمر بن شبّة، قال: قالوا: يروى أن خالدا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسئل عن غزاته بنى جذيمة، فقال: إن أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحدّثت، فقال: «تحدّث» ، فقال: لقيناهم بالغميصاء بعد وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب، فمنحنا الله عز وجل أكتافهم، فاتبعناهم نطلبهم، فإذا غلام له ذوائب على فرس فى أخريات الناس، فبوّأت «2» له الرمح فوضعته بين كتفيه. فقال: لا إله، فقبضت الرمح، فقال: إلّا اللّات أحسنت أو أساءت، فهشمته هشمة أرديته بها، ثم أخذته أسيرا، فشددته وثاقا، ثم كلّمته فلم يكلّمنى، واستخبرته فلم يخبرنى؛ فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بنى جذيمة يسوق بهنّ المسلمون، فقال: يا خالد، فقلت: ما تشاء؟ فقال: هل أنت واقفى «3» على هذه النسوة؟ فأبيت، فآلى «4» علىّ أصحابى، ففعلت، وفيهنّ جارية تدعى حبيشة، فقال: لها: ناولينى يدك، فناولته يدها فى ثوبها، فقال: اسلمى حبيش. قبل نفاد العيش. فقالت: حييّت عشرا، وتسعا تترى، وثمانيا أخرى، فقال: أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بنخلة «5» أو أدركتكم بالخوانق ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق

ذكر غزوة حنين، وهى إلى هوازن وثقيف

فقالت: بلى، فقال: فقد قلت إذ أهلى وأهلك جيرة ... أثيبى بودّ قبل إحدى الصّفائق أثيبى بودّ قبل أن تشحط النّوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإنى لا ضيعت سرّ أمانة ... ولا راق عينى بعد عينك رائق «1» قال خالد: فغاظنى ما رأيت من غزله وشعره فى حاله تلك، فقدّمته فضربت عنقه، فأقبلت الجارية تسعى حتى أخذت برأسه فوضعته فى حجرها، وجعلت ترشفه وتقول: لا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... ولا يبعدنّ المدح مثلك من مثلى «2» ولا تبعدن يا عمرو حيّا وهالكا ... فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل فمن لطراد الخيل تشجر بالقنا ... وللنّحر يوما عند قرقرة البزل «3» فما زالت تبكى وتردّد هذه الأبيات حتى ماتت، وإنّ رأسه لفى حجرها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد وقفت لى يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته» . والله أعلم. ذكر غزوة حنين، وهى إلى هوازن وثقيف غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكّة، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا وأوعبوا وبغوا، وجمع أمرهم مالك بن عوف النّصرى، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وأمرهم فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس «4» ، وجعلت الأمداد تأتيهم.

قال محمد بن إسحاق: اجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، ونصر، وجشم كلها، وسعد بكر، وناس من بنى هلال، وهم قليل. قال: ولم يشهدها من قيس عيلان إلّا هؤلاء، وغابت عنها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم؛ قال: وفى بنى جشم دريد بن الصّمّة، وهو شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التّيمّن برأيه ومعرفته بالحرب. قال: وفى ثقيف سيّدان لهم فى الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود بن معتّب، وفى بنى مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه «1» . وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى: كان على ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفىّ. قال: وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف. قال ابن إسحاق: وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. قال: ولما نزل مالك بأوطاس، اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصّمّة، والصّمّة: معاوية الأصغر بن بكر ابن علقة، وقيل: علقمة بن خزاعة بن غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن فى شجار له يقاد به- والشّجار الهودج- فلما نزل دريد قال: بأىّ واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس «2» ، ثم قال: مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار «3» الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار

الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به،- أى صاح- ثم قال: راعى ضأن والله! وهل يردّ المنهزم شىء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ؛ ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من «1» عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك: إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة «2» هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ادفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصّبّاء «3» على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك، قد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله، لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعنىّ يا معشر هوازن أو لأتّكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى. وكره أن يكون لدريد بن الصّمّة فيها ذكر ورأى، قالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى. يا ليتنى فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع أقود وطفاء الزّمع ... كأنها شاة صدع «4»

ثم قال مالك بن عوف للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة رجل واحد؛ قال: وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم من الرّعب، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فلم يردّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. قال ابن إسحاق: ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبرهم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدود الأسلمىّ، وأمره أن يدخل فى الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل؛ ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فأجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسير إلى هوازن لقتالهم، وذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «أعرنا سلاحك نلق به عدوّنا» ؛ فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عاريّة مضمونة حتى نؤدّيها إليك» ؛ قال: ليس بهذا بأس؛ فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة يوم السبت لستّ ليال خلون من شوّال فى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح بهم مكة، وألفان من أهل مكة. قال الثعلبىّ: قال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة. وقال الكلبىّ: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قطّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن نغلب اليوم من قلّة» ، حكاه ابن إسحاق. وقال محمد بن سعد: قال ذلك أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. قال الثعلبىّ: ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له: سلمة بن سلامة.

قال ابن سعد: وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناس من المشركين كثير، منهم صفوان بن أمية. قال محمد بن إسحاق بسند يرفعه إلى الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، وكان لكفار قريش ومن سواهم من العرب سدرة «1» عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط. يأتونها كل سنة يعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما؛ قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله. جعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: «الله أكبر، قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) «2» إنها السّنن، لتركبن سنن من كان قبلكم» ، قالوا: وانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوّال، فلما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم فى وادى حنين، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حملة واحدة، وعبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فى السحر. وصفّهم صفوفا، ووضع الألوية والرايات فى أهلها مع المهاجرين: لواء يحمله علىّ بن أبى طالب، وراية يحملها سعد بن أبى وقّاص، وراية يحملها عمر بن الخطّاب، ولواء الخزرج يحمله حباب بن المنذر- ويقال: سعد بن عبادة- ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفى كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم مسمّى. وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها قوم منهم مسمّون، وكان رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم قد قدم سليما من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل على المقدّمة حتى قدم الجعرّانة. قال: وانحدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وادى حنين على تعبئته، وركب بغلته البيضاء «دلدل» ، ولبس درعين والمغفر والبيضة، فاستقبلهم من هوازن شىء لم يروا مثله قطّ من السواد والكثرة، وذلك فى غبش «1» الصبح وخرجت الكتائب من مضيق الوادى وسعته، فحملوا حملة، وانكشفت الخيل خيل بنى سليم مولّيه، وتبعهم الناس منهزمين، وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين، وجعل يقول: يا أنصار الله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله، وثبت معه يومئذ أبو بكر، وعمر، والعباس بن عبد المطلب، وعلىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان واسمه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أمّ أيمن بن عبيد فى أناس من أهل بيته وأصحابه. قال الكلبىّ: كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين، وانهزم سائر الناس عنه، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول للعباس: ناد، يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة «2» ، يا أصحاب سورة البقرة، فنادى- وكان صيّتا- فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها يقولون: يا لبّيك يا لبّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى قتالهم فقال: «الآن حمى الوطيس «3» . أنا النبىّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب»

ثم قال للعباس بن عبد المطلب: ناولنى حصيات، فناوله حصيات من الأرض، ثم قال: «شاهت الوجوه» ورمى بها وجوه المشركين، وقال: «انهزموا وربّ الكعبة» وقذف الله فى قلوبهم الرعب، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد. قال محمد بن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جفاة مكّة الهزيمة، تكلّم رجال بما فى أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه فى كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية: ألا بطل السّحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فضّ الله فاك! فو الله لأن يربّنى «1» رجل من قريش أحبّ إلىّ من أن يربّنى رجل من هوازن؛ وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة: اليوم أدرك ثأرى من محمد- وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدا. قال: فبادرت لأقتله، فأقبل شىء حتى غشّى فؤادى، فلم أطق ذلك، فعلمت أنه ممنوع منّى. وفى رواية أخرى، قال شيبة بن عثمان: استدبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة. فأطلع الله رسوله على ما فى نفسى، فالتقت إلىّ وضرب فى صدرى وقال: «أعيذك بالله يا شيبة» ، فأرعدت فرائصى، فنظرت إليه وهو أحبّ إلىّ من سمعى وبصرى فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأنّ الله أطلعك على ما فى نفسى. وروى محمد بن إسحاق بسنده إلى العبّاس قال: إنى لمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء وقد شجرتها «3» بها، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت،

ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين رأى ما رأى من الناس « [أين «1» ] أيها الناس» ، فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال: «يا عباس، اصرخ، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة» قال: فأجابوا لبّيك لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره فلا يقدر على ذلك، ويأخذ درعه فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله، فيؤمّ الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا؛ فأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ركائبه، فنظر إلى مجتلد «2» القوم، فقال: «الآن حمى الوطيس» . قال جابر بن عبد الله: فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أمّ سليم ابنة ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة، وهى حازمة وسطها ببرد لها. وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ سليم» ؟ قالت: نعم، بأبى وأمّى يا رسول الله! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أو يكفى الله يا أمّ سليم» ؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أمّ سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا منّى أحد من المشركين بعجته «3» به.

وقال محمّد بن إسحاق: حدّثنى أبى إسحاق بن يسار أنه حدّث عن جبير ابن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد «1» الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت، فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادى، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم تكن إلّا هزيمة القوم. قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة «2» ، وتبعت خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سلك فى نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثّنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان- وهو ابن الدّغنّة- دريد بن الصّمّة وهو فى شجار له أى هودج، فأخذ بخطام جمله وهو يظنّ أنه امرأة، فأناخ به، فإذا هو شيخ كبير والغلام لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد بى؟ قال: أقتلك؛ قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السّلمىّ، ثم ضربه بسيفه فلم يغن فيه شيئا، فقال: بئس ما سلّحتك أمّك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرّحل فى الشّجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدّماغ، فإنّى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فربّ والله يوم قد منعت فيه نساءك؛ فقتله. ولمّا رجع ربيعة إلى أمّه أخبرها بقتله إيّاه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا. قال ابن هشام: ويقال إن الذى قتل دريد بن الصّمّة هو عبد الله بن قنيع ابن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة؛ قال: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى آثار من توجّه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرىّ، فأدرك بعص من انهزم، فناوشوه القتال، فقتل منهم أبو عامر تسعة مبارزة وهو يدعو كلّ واحد منهم إلى الإسلام

ويقول: اللهم اشهد؛ ثم برز له العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعرىّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنّة» ، ودعا لأبى موسى. وقال ابن هشام فى خبر أبى عامر: إنه قتل تسعة مبارزة يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فيقتله أبو عامر، وبقى العاشر، فحمل كلّ منهما على صاحبه، فدعاه أبو عامر إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علىّ، فكفّ عنه أبو عامر، فأقلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر» ، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث من بنى جشم ابن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه. والآخر ركبته، فقتلاه، وولى الناس أبو موسى فحمل عليهما فقتلهما. وقال أبو الفرج الأصفهانى: إن الذى رمى أبا عامر فأصاب ركبته هو سلمة ابن دريد «1» بن الصّمّة. وإنه ارتجز فقال: إن تسألوا عنّى فإنّى سلمه ... ابن سمادير «2» لمن توسّمه أضرب بالسيف رءوس المسلمة قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنيّة من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضى ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف حتى مضى من لحق بهم من منهزمة الناس.

قال ابن هشام: وبلغنى أنّ خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنيّة، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا ترى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادّهم «1» فقال: هؤلاء بنو سليم، ولا بأس عليكم منهم؛ فلمّا أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما عارضى رماحهم أغفالا «2» على خيلهم، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم؛ فلما انتهوا إلى أصل الثنيّة سلكوا طريق بنى سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى فارسا طويل البادّ واضعا رمحه على عاتقه، عاصبا رأسه بملاءة حمراء، فقال: هذا الزبير بن العوّام، وأحلف باللات ليخالطنّكم، فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية، أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها. قالوا: ولما انهزم القوم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل من قدر عليه، فحنق المسلمون عليهم، فقتلوا الذرّيّة والنساء، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بامرأة قد قتلها خالد بن الوليد، فقال: «ما هذه» ؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبعض من معه: «أدرك خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة» ؛ وأنزل الله تعالى فى يوم حنين قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) «3»

قال الثعلبىّ: قال سعيد بن جبير: أمدّ الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين «1» . وقال الحسن ومجاهد: كانوا ثمانية آلاف. وقال الحسن: كانوا ستة عشر ألفا؛ قال سعيد بن جبير: حدثنى رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقفوا لنا حلبة شاة، فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء- يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فتلقّانا رجال بيض الثياب حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها. يعنى الملائكة. قال: وفى الخبر أنّ رجلا من بنى نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلّا بأيديهم، فأخبروا النبى صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «تلك الملائكة» . وقال محمد بن سعد: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم. قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم حنين من بنى هاشم أيمن بن عبيد، ومن بنى أسد يزيد بن زمعة بن الأسود، ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدىّ، ومن الأشعر بين أبو عامر. وقال ابن سعد: ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، واستحرّ القتل فى بنى نصر ابن معاوية، ثم فى بنى رئاب، فقال عبد الله بن قيس، وكان مسلما: هلكت

ذكر سرية الطفيل بن عمرو الدوسى إلى ذى الكفين

بنو رئاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجبر مصيبتهم» . قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسبايا والأموال فجمعت، وحدرت إلى الجعرانة، وعليها مسعود بن عمرو الغفارىّ، فوقف بها بالجعرانة حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة الطائف وهم فى حظائرهم يستظلّون بها من الشمس، ثم قسمها صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر سرية الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ إلى ذى الكفّين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان عند منصرفه من غزوة حنين، وتوجّهه إلى الطائف ليهدم ذا الكفّين صنم عمرو بن حممة الدّوسىّ، وأمره أن يستمدّ قومه ويأتيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفّين وجعل يحشّ النار فى وجهه ويقول: يا ذا الكفّين لست من عبّادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حششت «1» النار فى فؤادكا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم الطفيل معه بدبّابة «2» ومنجنيق. ذكر غزوة الطائف غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة ثمان من مهاجره، وذلك أنه لمّا انهزمت هوازن وثقيف يوم حنين، وجمعت السبايا والغنائم، سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين يريد الطائف، وقدّم خالد بن الوليد على مقدّمته،

وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيئوا للقتال، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلك على نخلة اليمانيّة، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرّغاء من ليّة «1» ، فابتنى بها مسجدا يصلّى فيه. قال ابن إسحاق: وأقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ببحرة الرّغاء حين نزلها بدم، وهو أوّل دم أقيد به فى الإسلام رجل من بنى أسد قتل رجلا من هذيل فقتل به؛ قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بليّة بحصن مالك ابن عوف، فهدم، ثم سلك فى طريق يقال لها: الضّيفة، فسأل عن اسمها. فقال: «ما اسم هذه الطريق» ؟ فقالوا: الضّيقة، فقال: «بل هى اليسرى» ، ثم خرج منها على نخب «2» حتى نزل تحت سدرة يقال لها: الصادرة، قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «إمّا أن تخرج وإمّا أن نخرّب عليك حائطك» ؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخرابه؛ ثم مضى حتى نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنّبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا. قال ابن إسحاق: وهم «3» سعيد بن سعيد بن العاص، وعرفطة بن جناب، حليف لهم من أسد بن الغوث. وعبد «4» الله بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، رمى فاندمل جرحه، ثم انتقض «5» بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه. ومن بنى مخزوم عبد الله بن أبى أميّة بن المغيرة.

ومن بنى كعب عبد الله بن عامر بن ربيعة، حليف لهم. ومن بنى سعد بن ليث جليحة بن عبد الله. ومن الأنصار ثابت بن الجذع، والحارث بن سهل بن أبى صعصعة، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة الأوسىّ. قال: فارتفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبّتين. وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانية عشر يوما، ويقال: خمسة عشر يوما، ونصب عليهم المنجنيق، ورمى عليهم به، وأهل الطائف أوّل من رمى بالمنجنيق فى الإسلام. قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشّدخة «1» دخل نفر من المسلمين تحت دبّابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنّبل، فقتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى أدعها لله وللرّحم» ، وندى منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» ؛ فخرج منهم بضعة عشر رجلا، منهم: أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشقّ ذلك على أهل الطائف، ولم يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى فتح الطائف، فاستشار نوفل بن معاوية الدّيلىّ، فقال: «ما ترى» ؟ فقال: ثعلب فى حجر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضررك.

قال محمد بن إسحاق: وبلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر رضى الله عنه: «يا أبا بكر؛ إنى رأيت أنّى أهديت لى قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها» ؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا لا أرى ذلك» . قال: ثم إن خويلة بنت حكيم بن أميّة السّلميّة، وهى امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله، [أعطنى «1» ] إن فتح الله عليك الطائف حلىّ بادية بنت غيلان ابن سلمة، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء قريش. قال: فذكر؟؟ لى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «وإن كان لم يؤذن لى فى ثقيف يا خويلة» ؟ فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما حديث حدّثتنيه خويلة فزعمت أنك قد قلته؟؛ قال: «قد قلته» . قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» ، قال: أفلا أؤذّن بالرحيل؟ قال: «بلى» قال: فأذّن عمر فى الناس بالرحيل؛ فضجّ الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاغدوا على القتال» ؛ فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا قافلون إن شاء الله» ؛ فسرّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرتحلون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك، وقال لهم: «قولوا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ؛ فلما ارتحلوا واستقلوا قال: «قولوا آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» ؛ وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ادع على ثقيف؛ فقال: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» .

ذكر مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلفة

ذكر مسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الجعرانة وقسم مغانم حنين، وما أعطاه المؤلّفة قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطائف رجع إلى الجعرانة فانتهى إليها ليلة الخميس لثلاث خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وقسم الفىء. قال محمد بن سعد: كان السّبى ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، والورق أربعة آلاف أوقية فضّة، فاستأنى «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسّبى أن يقدم عليه وفدهم، وبدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلّفة قلوبهم أوّل الناس. قالوا: فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل. قال: وابنى يزيد؟ قال: «أعطوه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل» ؛ قال: وابنى معاوية؟ فأعطاه أربعين أوقيّة ومائة من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النّضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثّقفىّ مائة من الإبل، وأعطى العلاء ابن جارية الثقفىّ خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى صفوان بن أميّة مائة من الإبل، وأعطى قيس بن عدىّ مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو العامرىّ

خمسين من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس التميمىّ مائة من الإبل، واعطى عيينة ابن حصن مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعين من الإبل، وقيل: أربعة، فقال فى ذلك: كانت نهابا تلافيتها ... بكرىّ على المهر فى الأجزع «1» وإيقاظى القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع «2» وقد كنت فى الحرب ذاتدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع «3» إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع «4» وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى المجمع «5» وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقطعوا عنّى لسانه» ، فأعطوه حتى رضى، قيل: أعطاه مائة من الإبل. قال ابن سعد: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك كلّه من الخمس، وهو أثبت الأقاويل عندنا، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثم فضّها «6» على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل، أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم للفرس الزائد.

ذكر قدوم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم ورد السبايا إليهم

ذكر قدوم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم وردّ السبايا إليهم قال: وقدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسّبى. قال ابن إسحاق بسنده إلى عبد الله بن عمرو: إنّ وفد هوازن وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بنى سعد بن بكر يقال له: زهير، يكنى بأبى صرد، فقال: يا رسول الله، إنما فى الحظائر «1» عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللّاتى كنّ معك يكفلنك، ولو أنا ملحنا «2» للحارث بن أبى شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذى نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ أن أبا صرد زهير بن صرد أنشد عند ذلك: امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر «3» امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزّق شملها، فى دهرها غير «4» يا خير طفل ومولود ومنتجب ... فى العالمين إذا ما حصّل البشر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر

فامنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلّنا كمن شالت نعامته «1» ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هذى البريّة إذ تعفو وتنتصر فاغفر عفا الله عما أنت واهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظّفر قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فردّ إلينا أبناءنا ونساءنا فهو أحبّ إلينا؛ فقال لهم: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبناءنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» ، ففعلوا ما أمرهم به؛ فقال: «أمّا ما كان لى ولبنى عبد المطّلب فهو لكم» ، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وقالت الأنصار مثل ذلك؛ فقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: يقول عباس لبنى سليم: وهّنتمونى «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«إنّ هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بسببهم، وخيّرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهم شىء فطابت نفسه أن يردّه فسبيل ذلك، ومن أبى فليردّ عليهم، وليكن ذلك قرضا علينا، فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل ما يفىء الله علينا» قالوا: رضينا وسلّمنا، فردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلّف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنّه أبى أن يردّ عجوزا صارت فى يده منهم، ثم ردّها بعد ذلك. وقد حكى محمد بن إسحاق سبب تمسّك عيينة بها وردّها، قال: فقال حين أخذها: أرى عجوزا إنى لأحسب لها فى الحىّ نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها؛ فلما ردّ الناس السّبايا بستّ فرائض أبى أن يردّها، فقال له زهير بن صرد: خذها عنك، فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد ولا درّها بماكد «1» ؛ فردّها بستّ فرائض حين قال له زهير ما قال. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطيّة، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكتّان بمصر. وحكى محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى فى ترجمة عيينة بن حصن فى هذه القصة قال: لمّا قدم وفد هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّ عليهم السبى، كان عيينة قد أخذ رأسها منهم، فنظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أمّ الحىّ، لعلّهم أن يغلوا بفدائها، وعسى أن يكون لها فى الحىّ نسب. فجاء ابنها إلى عيينة فقال: هل لك فى مائة من الإبل؟ قال: لا، فرجع عنه، فتركه ساعة، وجعلت العجوز تقول لابنها: ما إربك فىّ بعد مائة ناقة، اتركه فما أسرع ما يتركنى بغير فداء؛

فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة، والله ما أنا من هذه إلا فى غرور؛ ولا جرم والله لأبعدنّ أثرك منّى؛ قال: ثم مرّ به ابنها فقال له عيينة: هل لك فيما دعوتنى إليه؟ فقال: لا أزيدك على خمسين؛ فقال عيينة: لا أفعل؛ ثم لبث ساعة، فمرّ به وهو معرض عنه، فقال له عيينة: هل لك فى الذى بذلت لى؟، قال له الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة؛ قال عيينة: والله لا أفعل، فلما تخوّف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلوا قال: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟: فقال الفتى: هل لك إلى عشر فرائض؟ قال: لا أفعل؛ فلما رحل الناس ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتنى إليه إن شئت؟ قال الفتى: أرسلها وأحمدك، قال: لا والله ما لى حاجة بحمدك؛ فأقبل عيينة على نفسه لائما لها ويقول: ما رأيت كاليوم أمر أنكد، قال الفتى: أنت صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرة، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى؛ فقال له عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها؛ قال: فيقول الفتى: يا عيينة، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى فأخطأها من بينهم الكسوة، فهل أنت كاسيها ثوبا؟ قال: لا، والله ما لها ذاك عندى، قال: لا تفعل؛ فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولّى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرض، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كسا السبى قبطيّة قبطية، والقباطى: ثياب بيض تتّخذ من الكنّان بمصر. قال محمد بن إسحاق: وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد هوازن عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال: «أخبروا مالكا إن هو أتانى مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» ، فأخبر بذلك،

ذكر تسمية من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين

فخرج من الطائف فأدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة أو بمكّة، فردّ عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه. وقال حين أسلم منشدا: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فى الناس كلّهم بمثل محمّد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عمّا فى غد وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسّمهرىّ وضرب كلّ مهنّد فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر فى مرصد «1» فاستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل: ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا؛ لا يخرج لهم سرح «2» إلّا أغار عليه، حتى ضيّق عليهم، فقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو الثقفىّ فى ذلك: هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمه وأتونا فى منازلنا ... ولقد كنّا أولى نقمه ذكر تسمية من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرها عند قسم مغانم حنين قال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرهم وأعطاهم يوم الجعرانة من غنائم حنين: أبو سفيان ابن حرب، ومعاوية بن أبى سفيان، وطليق بن سفيان بن أميّة، وخالد بن أسيد

ذكر مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضاهم به

ابن أبى العيص «1» ، وشيبة بن عثمان بن أبى طلحة، وأبو السنابل بن بعكك بن الحارث، وعكرمة بن عامر بن هاشم، وزهير بن أبى أميّة بن المغيرة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وخالد بن هشام بن المغيرة، وهشام بن الوليد بن المغيرة، وسفيان بن عبد الأسد بن عبد الله، والسائب بن أبى السائب بن عائذ، ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم؛ العدويّان، وصفوان بن أميّة بن خلف الجمحى، وأحيحة بن أميّة بن خلف، وعمير بن وهب بن خلف، وعدىّ بن قيس ابن حذافة السّهمى، وحويطب بن عبد العزّى، وهشام بن عمرو بن ربيعة، ونوفل ابن معاوية بن عروة بن صخر الدّيلى، وعلقمة بن علاثة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وخالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وحرملة بن هوذة ابن ربيعة، ومالك بن عوف بن سعيد بن يربوع، وعبّاس بن مرداس السّلمىّ، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، والأقرع بن حابس بن عقال المجاشعىّ ذكر مقالة الأنصار فى أمر قسم الفىء، وما أجابهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورضّاهم به قال ابن إسحاق بسند يرفعه إلى أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه قال: لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى من تلك العطايا فى قريش وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت بهم القالة، حتى قال قائلهم: لقى والله رسول الله قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت؛ قسمت فى قومك، وأعطيت عطايا عظاما

فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىّ من الأنصار منها شىء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد» ؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلّا من قومى؛ قال: «فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمعهم فيها، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى عنكم، وجدة وجدتموها فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم» ! قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل ثم قال: «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» ؛ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟، لله ولرسوله المنّ والفضل، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة «1» من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رحالكم! فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، ولو سلكت الناس شعبا «2» وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ؛ قال: فبكى القوم حتّى أخضلوا «3» لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسما وحظّا؛ ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّقوا، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة معتمرا، وذلك ليلة الأربعاء لثنتى عشرة ليلة مضت من ذى القعدة، فأحرم بعمرة، ودخل مكّة، فطاف وسعى وحلق رأسه، ورجع إلى الجعرانة من ليلته.

ذكر استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة ورجوعه إلى المدينة

ذكر استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكّة ورجوعه إلى المدينة قال محمد بن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمرته استخلف عتّاب بن أسيد على مكّة، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس فى الدّين ويعلّمهم القرآن. قال ابن هشام: لما استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد على مكة رزقة كلّ يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيّها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، قد رزقنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم درهما كلّ يوم، فليست بى حاجة إلى أحد. قال: وحجّ عتّاب بالناس فى سنة ثمان على ما كانت العرب تحجّ عليه. قال ابن سعد: ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة سلك فى وادى الجعرانة، حتى خرج على سرف «1» ، ثم أخذ الطريق إلى مرّ الظّهران «2» ، ثم إلى المدينة، فقدمها صلّى الله عليه وسلّم فى بقية ذى القعدة أو فى أوّل ذى الحجّة. وقال ابن هشام: لستّ بقين من ذى القعدة. والله أعلم. ذكر سريّة عيينة بن حصن الفزارىّ إلى بنى تميم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة تسع من مهاجره إلى بنى تميم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء- وكانوا فيما بين السّقيا وأرض بنى تميم، وقد

ذكر خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق

حلّوا وسرّحوا ماشيتهم، فلما رأوا الجمع ولّوا- وأخذ منهم أحد عشر رجلا؛ ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا، فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث، فقدم فيهم عدّة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ورباح بن الحارث بن مجاشع، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم ابن سعد، وعمرو بن الأهتم، وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وفراس بن حابس، وكان من شأنهم وكلام خطيبهم وشاعرهم ما نذكر ذلك فى أخبارهم فى وفادات العرب إن شاء الله تعالى، وذلك فى السفر السادس عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة «1» . قال: وردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسرى والسّبى. قال ابن إسحاق: وكان ممّن قتل يومئذ من بنى العنبر: عبد الله وأخوان له بنو وهب، وشدّاد بن فراس، وحنظلة بن دارم. وكان ممّن سبى يومئذ أسماء بنت مالك، وكأس بنت أرىّ، ونجوة بنت نهد، وجميعة بنت قيس، وعمرة بنت مطر. ذكر خبر الوليد بن عقبة بن أبى معيط مع بنى المصطلق قال محمد بن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة ابن أبى معيط إلى بالمصطلق من خزاعة يصدّقهم، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنوّ الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقّونه بالجزور والغنم فرحا به، فلما رآهم ولّى راجعا إلى المدينة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم لقوه

ذكر سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم

بالسلاح يحولون بينه وبين الصّدقة، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم الرّكب الّذين لقوا الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر على وجهه، فنزل فى ذلك قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) «1» ، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، وبعث معهم عبّاد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم، ويعلّمهم شرائع الإسلام، ويقرئهم القرآن، ففعل، وأقام عندهم عشرا، ثم انصرف إلى المدينة. ذكر سريّة قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى صفر سنة تسع من مهاجره إلى حىّ من خثعم بناحية تبالة فى عشرين رجلا، وأمره أن يشنّ الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا، فسألوه فاستعجم عليهم، وجعل يصبح بالحاضر ويحذّرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر، فشنّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وساق المسلمون النّعم والشاء والنساء إلى المدينة، وجاء سيل فحال بينهم وبين قطبة، فما يجدون إليه سبيلا، وكانت سهامهم بعد الخمس لكلّ رجل أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم. ذكر سريّة الضحّاك بن سفيان الكلابىّ إلى بنى كلاب كانت فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع من الهجرة قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيشا إلى القرطاء «2» عليهم الضحّاك ابن سفيان بن عوف الكلابىّ، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزّجّ «3» ،

ذكر سرية علقمة بن مجزز المدلجى إلى الحبشة

زجّ لاوة، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموا، فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير الزّجّ، فدعا أباه إلى الإسلام، وأعطاه الأمان، فسبّه وسبّ دينه، فضرب الأصيد عرقوبى فرس أبيه، فلمّا وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة رمحه فى الماء، ثم استمسك به، حتى جاءه أحدهم فقتله، ولم يقتله ابنه، وفى هذه السريّة وفى الضحّاك بن سفيان يقول عبّاس بن مرداس: إنّ الذين وفوا بما عاهدتم ... جيش بعثت عليهم الضّحّاكا أمرته ذرب اللّسان «1» كأنه ... لمّا تكنّفه العدوّ يراكا طورا يعانق باليدين وتارة ... يفرى الجماجم صارما بتّاكا «2» ذكر سريّة علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة كانت هذه السريّة فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدّة، فبعث إليهم علقمة بن مجزّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر وقد خاض إليهم، فهربوا منه، فلمّا رجع تعجّل «3» بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، وفيهم عبد الله بن حذافة السّهمىّ، فأمّره علقمة على من تعجّل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال لهم: عزمت عليكم إلّا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعض القوم حتى ظنّ أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» .

ذكر سرية على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس صنم طيئ

ذكر سريّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس صنم طيئ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع فى خمسين ومائة رجل من الأنصار إلى الفلس (صنم طيئ) ليهدمه- (والفلس بضم الفاء وسكون اللام) - بعثهم على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنّوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخرّبوه وملأوا أيديهم من السّبى والنّعم والشاء، وفى السبى أخت عدىّ بن حاتم، وهرب عدىّ إلى الشام؛ وكان من خبره ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الوفود. قال: ووجدوا فى خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب، والمخذم، واليمان؛ وثلاثة أدرع، فلمّا نزلوا ركك «1» اقتسموا الغنائم، وعزل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفيّة «2» : رسوب، والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وعزل آل حاتم فلم يقسمهم، حتى قدم بهم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر سريّة عكّاشة بن محصن الأسدى إلى الجناب بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجره إلى الجناب، أرض عذرة وبلىّ، ولم يذكر ابن سعد من خبره غير ذلك. ذكر غزوة تبوك كانت غزوة تبوك فى شهر رجب سنة تسع من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سببها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لحم،

وجدام، وعاملة، وغسان، وقدّموا مقدّماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذى يريد ليتأهّبوا لذلك، وبعث إلى مكّة وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وذلك فى حرّ شديد، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، وقووا فى سبيل الله. قال ابن هشام: أنفق عثمان بن عفّان رضى الله عنه فى جيش العسرة فى غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإنّى عنه راض» . وجاء البكاءون وهم سبعة: سالم بن عمير، وهرمىّ بن عبد الله أخو بنى واقف، وعلبة بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنىّ، وعمرو بن عنمة، وسلمة بن صخر، والعرباض بن سارية الفزارىّ. قال: وفى بعض الرّواة من يقول: إنّ فيهم عبد الله بن مغفّل المزنىّ، ومعقل ابن يسار، وبعضهم يقول: البكاءون بنو مقرّن السبعة، وهم من مزينة، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحملونه، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ؛ فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون، فعذرهم الله تعالى. قال: وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودىّ، يثبّطون الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضّحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحّاك فى ذلك: كادت وبيت الله نار محمّد ... يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق

فظلت وقد طبّقت كبس سويلم ... أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى «1» سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف، ومن تشمل به النار يحرق وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى التخلّف من غير علّة، فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا. وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم، وهم اثنان وثمانون رجلا؛ ذكر أنهم نفر من بنى غفار، وكان عبد الله بن أبىّ بن سلول قد عسكر على ثنيّة الوداع فى حلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلّ العسكرين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستخلف على عسكره أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه، فصلّى بالناس، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلّف عبد الله بن أبىّ، ومن كان معه، وتخلّف نفر من المسلمين من غير شكّ ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع، وأبو خيثمة مالك بن قيس السّالمى، وأبو ذرّ الغفارىّ؛ وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتّخذوا لواء أو راية، ومضى صلّى الله عليه وسلّم لوجهه يسير بأصحابه حتى قدم تبوك فى ثلاثين ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس، فأقام بها عشرين ليلة يصلّى ركعتين ركعتين، ولحقه بها أبو خيثمة وأبو ذرّ. قال محمد بن إسحاق فى سبب مسير أبى خيثمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه جاء يوما إلى أهله بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّاما فى يوم

حارّ، فوجد امرأتين له فى عريشين «1» لهما فى حائطه، قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها وبردّت له فيه ماء، وهيّأت طعاما، فلمّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله فى الضّحّ «2» والرّيح والحرّ، وأبو خيثمة فى ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم، ما هذا بالنّصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهيّأ لى زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه «3» فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أدركه حين نزل تبوك. قال: ولمّا دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كن أبا خيثمة» ؛ قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة؛ فلمّا أناخ أقبل فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة» !، ثم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: خيرا ودعا له. وأما أبو ذرّ الغفارىّ، فإنه أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أثناء الطريق، وكان بعيره قد أبطأ عليه، فحمل متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أدركه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» فكان كذلك. قال: وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبوك وهرقل يومئذ بحمص، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر.

ذكر سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك

ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بتبوك خالد بن الوليد فى أربعمائة وعشرين فارسا سريّة إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وأكيدر من كندة، قد ملكهم، وكان نصرانيّا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد: «إنّك ستجده يصيد البقر» . فخرج خالد فى شهر رجب سنة تسع من الهجرة حتى كان من حصن أكيدر بمنظر العين فى ليلة مقمرة وصائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فبالت البقر تحكّ بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: ما رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا والله؛ قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج له، وركب وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له: حسّان، وخرجوا لمطاردة البقر، فلما خرجوا تلقّتهم خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشدّت عليه، فاستأسر أكيدر، وامتنع أخوه حسان، وقاتل حتى قتل، وكان عليه قباء من ديباج مخوّص «1» بالذهب، فاستلبه خالد، وبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجّبون منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتعجبون من هذا؟ فو الّذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أحسن من هذا» . قال: ولما أسر أكيدر وقتل حسّان، هرب من كان معهما، فدخل الحصن، وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة فرس، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، فعزل للنبى صلّى الله عليه وسلّم صفيّا خالصا، ثم أخرج الخمس، وقسم

ما بقى بين أصحابه، ثم خرج خالد بأكيدر وبأخيه مصاد. وكان فى الحصن- وبما صالحه عليه قافلا إلى المدينة، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكيدر، فأهدى له هديّة، وصالحه على الجزية، وحقّن دمه، ثم خلّى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال بجير بن بجرة: تبارك سائق البقرات إنّى ... رأيت الله يهدى كلّ هاد فمن يك حائدا عن ذى تبوك ... فإنّا قد أمرنا بالجهاد قال محمد بن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك أتاه يحنّة ابن رؤبة صاحب أيلة «1» ، فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء «2» وأذرح «3» ، فأعطوه الجزية، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحنّة كتابا، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبىّ رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة؛ سفنهم وسيّارتهم فى البر والبحر، لهم ذمّة الله ومحمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنّه لا يحول ماله دون نفسه. وإنّه طيّب لمن أخذه من الناس، وإنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر» . قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل على حرسه بتبوك عبّاد ابن بشر. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق كيدا.

ذكر خبر مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر وما قاله لأصحابه

وقدم المدينة فى شهر رمضان من السنة، وجاءه من كان قد تخلّف عنه، فحلفوا له، فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه حتى نزلت توبتهم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى آخر هذه الغزوة. قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم، وقال: «لا تزال عصابة من أمّتى يجاهدون على الحقّ حتّى يخرج الدجّال» . وكان فى غزوة تبوك وقائع غير ما قدّمناه، قد رأينا إيرادها فى هذا الموضع. منها خبر مرور رسول الله بالحجر. ومنها ما أنزل فى أمر المنافقين. ومنها خبر الثلاثة الّذين خلّفوا، وما أنزل من توبتهم. ذكر خبر مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر وما قاله لأصحابه قال محمد بن إسحاق: لمّا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره إلى تبوك بالحجر من مدين، نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلمّا راحوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يتوضّأ منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه للإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلّا ومعه صاحب له» ، ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر فى طلب بعير له، فأما الّذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه «1» ؛ وأما الذى ذهب فى طلب بعيره

ذكر أخبار المنافقين وما تكلموا به فى غزوة تبوك وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن

فاحتملته الرّيح حتى طرحته بجبل طيئ، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: «ألم أنهكم ألّا يخرج منكم أحد إلّا ومعه صاحبه» ! ثم دعا الّذى أصيب «1» فشفى، وأمّا الآخر فإن طيّئا أهدته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة. قال ابن هشام: بلغنى عن الزّهرىّ أنه قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر سجّى «2» ثوبه على وجهه، واستحثّ راحلته، ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلّا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . قال ابن إسحاق: لمّا أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعا، فأرسل لله تعالى سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. وفى هذه الغزوة ضلّت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيد بن لصيب «3» ما قال، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال، فأخبر بشأنها، ووجدت كما وصف صلّى الله عليه وسلّم على ما قدّمنا ذلك فى أخبار المنافقين. ذكر أخبار المنافقين وما تكلّموا به فى غزوة تبوك وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن كان ممّن أنزل الله عزّ وجلّ فيه من القرآن ما أنزل فى غزوة تبوك الجدّ ابن قيس، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لى ولا تفتنّى؛ وقد تقدّم خبره مع أخبار المنافقين.

وقال قوم منهم: لا تنفروا فى الحرّ زهادة فى الجهاد؛ فأنزل الله عزّ وجل فيهم: (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» ، وقال رهط من المنافقين: منهم وديعة ابن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف، ورجل من أشجع، حليف لبنى سلمة يقال له: مخشّ بن حميّر- وقيل: مخشىّ «2» - وغيرهما بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنكم غدا بهم مقرّنين فى الحبال، يقولون ذلك إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشىّ: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كلّ رجل منّا مائة جلدة، وأنا ننفلت أو ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل لهم: بلى قد قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمّار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلّى الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. وقال مخشىّ: يا رسول الله، قعد بى اسمى واسم أبى، فأنزل الله تعالى قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) «3» . فكان مخشىّ بن حمير ممن عفى عنه، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر. والله الموفق للصواب.

ذكر خبر الثلاثة الذين خلفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذرين من الأعراب

ذكر خبر الثلاثة الذين خلّفوا، وما أنزل فيهم وفى المعذّرين من الأعراب والثلاثة الذين خلّفوا لم يتخلّفوا عن شكّ ولا نفاق، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكان من خبرهم ما حدّثنا به الشيخان المعمّران المسندان شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى طالب نعمة الصالحىّ الحجّار، وست الوزراء أمّ محمد وزيرة بنت القاضى شمس الدين عمر بن أسعد بن المنجى التّنوخيّة الدّمشقيّان قراءة عليهما، وأنا أسمع فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبعمائة بالمدرسة المنصورية بالقاهرة المعزّيّة، قالا: حدّثنا الشيخ سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى الزبيدى، قال: حدّثنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزى قراءة عليه ونحن نسمع، قال: حدّثنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودىّ، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمّويه السّرخسىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن مطر الفربرىّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنّ عبد الله بن كعب بن مالك،- وكان قائد كعب من بنيه حين عمى- قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حين تخلّف عن قصّة تبوك قال كعب: لم أتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة غزاها إلا فى غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت فى غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد؛ ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أن لى بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها. كان من خبرى أنى لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قطّ حتى جمعتهما فى تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوّا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذى يريد، والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان. قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظن أنّه سيخفى له ذلك، ما لم ينزل فيه وحى الله عزّ وجلّ، وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظّلال، وتجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكى أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول فى نفسى: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بى حتى شمّر بالناس الجدّ. فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، ولم أفض من جهازى شيئا، فقلت: اتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ورجعت فلم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بى حتّى أسرعوا وتفرّط «1» الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم يقدر لى ذلك، فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطفت فيهم أحزننى أنّى لا أرى إلّا رجلا مغموصا «2» عليه بالنفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس فى القوم بتبوك: «ما فعل كعب» ؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره فى عطفيه «1» . فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمت عليه إلّا خيرا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال كعب بن مالك: فلما بلغنى أنه توجه قافلا حضرنى همّى، وطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلى، فلما قيل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ «2» قادما راح عنى الباطل، وعرفت أنّى لم أخرج منه أبدا بشىء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم يجلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: «تعال» ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه، فقال لى: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك» ؟ فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «3» ، ولكنّى والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّى ليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد «4» علىّ فيه إنى لأرجو فيه عقبى الله، لا والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى

ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله فيك» ، فقمت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى، فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر إليه المتخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما زالوا يؤنّبونى حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحدا؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك؛ فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمرى، وهلال بن أمية الواقفىّ، فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ فمضيت حين ذكروهما لى. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا- أيّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكّرت فى نفسى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف فى الأسواق، فلا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام علىّ أم لا؟ ثم أصلّى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلىّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال علىّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمّى، وأحبّ الناس إلىّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ علىّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمى أحبّ الله ورسوله؟

فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناى، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار. قال: فبينا أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطىّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءنى دفع إلىّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه: «أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» . فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيمّمت «1» بها التنور، فسجرته «2» بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينى، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلّقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربنّها، وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: «لا، ولكن لا يقربنّك» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شىء، والله مازال يبكى مذكان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدرينى ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أستأذنته فيها وأنا رجل شابّ! فلبثت بعد ذلك عشر

ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا؛ فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله، قد ضاقت علىّ نفسى، وضاقت علىّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى «1» على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل «2» صاحبىّ مبشّرون، وركض رجل إلىّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى، نزعت ثوبىّ فكسوته إباهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلقّانى الناس فوجا فوجا يهنّئوننى بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس حوله الناس، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنّأنى، والله ما قام إلىّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ؛ قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال:

«لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استتار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسول الله؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» ، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجّانى بالصدق، وإنّ من توبتى ألا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن ممّا أبلانى، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومى هذا كذبا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى «1» ، فأنزل الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) «2» . قال كعب: فو الله ما أنعم الله علىّ من نعمة قطّ بعد أن هدانى للإسلام أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ

ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بنى عبد المدان بنجران

لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) «1» . قال كعب: وكنا تخلفنا- أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا «2» فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وليس الذى ذكر الله مما خلّفنا تخلّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. انتهت غزوة تبوك، فلنذكر ما سواها من السرايا. ذكر سريّة خالد بن الوليد إلى بنى عبد المدان بنجران بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر من مهاجره، ولم يذكر من خبر هذه السريّة غير هذا فنذكره. ذكر سريّة على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن يقال: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين: إحداهما فى شهر رمضان سنة عشر من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، وعقد له لواء، وعمّه بيده، وقال: «امض لا تلتفت، فاذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك» ، فخرج فى ثلاثمائة فارس، وكانت أوّل خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهى بلاد مذحج، ففرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمىّ، فجمع إليه ما أصابوا، ثم لقى جمعهم

فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا ورموا بالنّبل، ثم حمل عليهم علىّ رضى الله عنه بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا، فتفرقوا وانهزموا، فكفّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حقّ الله، وجمع علىّ الغنائم فحمّسها، وقسم على أصحابه بقية المغنم، ثم قفل، فوافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حين قدمها للحج سنة عشر. حكاه ابن سعد «1» . وقال محمد بن إسحاق، لما رجع علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه من اليمن إلى مكة، دخل على فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجدها قد حلّت فقال: مالك يا بنت رسول الله «2» ؟ قالت: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نحلّ بعمرة فحللنا، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنى أهللت بما أهللت؛ قال: «فارجع فاحلل كما حلّ أصحابك» قال: يا رسول الله، إنّى قلت حين أحرمت: اللهم إنى أهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمد، قال: «فهل معك من هدى» ؟ قال: لا، فأشركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هديه، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى فرغا من الحجّ، ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى. قال: ولما أقبل علىّ من اليمن تعجّل إلى رسول الله، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذى كان مع علىّ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل؛ قال:

ذكر سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشراة ناحية البلقاء

ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا إذا قدموا فى الناس؛ قال: انزعها ويلك! قبل أن تنتهى بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردّها فى البزّ، فاشتكى الناس عليّا، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فقال: «أيها الناس، لا تشتكوا عليّا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله» أو «فى سبيل الله «1» » . ذكر سريّة أسامة بن زيد بن حارثة إلى أرض الشّراة «2» ناحية البلقاء وهذه السريّة هى آخر سريّة جهّزها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات قبل إنفاذها، وكانت لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيها أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلّم بن أسلم بن حريش، فتكلم قوم وقالوا: نستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة؟ ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة لقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحبّ الناس إلىّ، وإنهما لمخيلان لكلّ خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم» ، ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأوّل، وخرج الناس إلى الجرف، فتوفّى رسول الله صلّى

ذكر حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره

الله عليه وسلّم قبل خروج هذه السريّة، فلما ولّى أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به بعث أسامة. هذا ما أمكن إيراده من غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه. فلنذكر حجّه وعمره صلّى الله عليه وسلّم. ذكر حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمره قالوا: حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل هجرته إلى المدينة حجّتين، ولم يحجّ بعد الهجرة إلّا حجّة الوداع، وهى فى السنة العاشرة، وكانت فريضة الحجّ نزلت فى السنة السادسة من الهجرة، وفتحت مكّة فى سنة ثمان، فاستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتّاب بن أسيد، فحج بالناس تلك السنة، وفى السنة التاسعة حج أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه بالناس كما قدّمنا ذكر ذلك فى مواضعه، فلما كان فى السنة العاشرة أذّن فى الناس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة مغتسلا مدّهنا مترجّلا متجرّدا فى ثوبين صحاربيّن: إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة عشر من مهاجره، واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدىّ- ويقال: سباع ابن عرفطة الغفارىّ- قالوا: وصلّى الظهر بذى الحليفة ركعتين، وأخرج معه نساءه كلهنّ فى الهوادج، وأشعر هديه وقلّده، ثم ركب ناقته، فلما استوى عليها بالبيداء أحرم من يومه، وكان على هديه ناجية بن جندب، وقيل: إنه أهلّ بالحج مفردا، وقيل: قرنه بعمرة، ومضى صلّى الله عليه وسلّم يسير المنازل ويؤمّ أصحابه فى الصلاة فى مساجد له قد بناها الناس، فكان يوم الاثنين بمرّ الظّهران، فغربت له الشمس بسرف، ثم أصبح فاغتسل ودخل مكة نهارا وهو على راحلته القصواء، وكان تحته

صلى الله عليه وسلّم رحل رثّ عليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» ، فدخل من أعلى مكة من كداء حتى انتهى إلى باب بنى شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه فقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرّفه وعظّمه ممّن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرّا» ؛ ثم بدأ فطاف بالبيت، ورمل «1» ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وهو مضطبع «2» بردائه، ثم صلّى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك، وكان قد اضطرب بالأبطح، فرجع إلى منزله، فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر، ثم خرج يوم التروية إلى منى، فبات بها، ثم غدا إلى عرفات، فوقف بالهضاب منها، وقال: «كلّ عرفة [موقف إلّا بطن عرنة «3» ] » ، فوقف على راحلته يدعو، فلما غربت الشمس دفع فجعل يسير العنق «4» حتى جاء المزدلفة، فنزل قريبا من الغار، فصلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم بات بها، فلما برق الفجر صلّى الصبح، ثم ركب راحلته، فوقف على قزح «5» وقال: «كلّ المزدلفة موقف إلّا بطن محسّر «6» » ، ثم دفع قبل طلوع الشمس، فلما بلغ إلى محسر أوضع «7» ، ولم يزل يلّبى حتى رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى وحلق رأسه، وأخذ من شاربه وعارضيه، وقلم أظفاره، وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن، ثم أصاب الطّيب، ولبس القميص، ونادى مناديه بمنّى: إنها أيّام أكل وشرب وباءة، وجعل يرمى الجمار فى كلّ يوم عند زوال الشمس، ثم خطب الغد من يوم النّحر بعد الظهر

ذكر الخطبة التى خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم

على ناقته القصواء، ثم صدر يوم الصدر الآخر، وقال: «إنما هنّ ثلاث يقيمهنّ المهاجر بعد الصّدر» ، يعنى بمكة، ثم ودّع البيت، ثم انصرف راجعا إلى المدينة. ذكر الخطبة التى خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال محمد بن إسحاق: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبته التى بيّن فيها ما بيّن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلّى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كلّ ربا موضوع، وإن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا العبّاس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كلّ دم فى الجاهلية موضوع، وأن أوّل دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا فى بنى ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهلية» . «أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به، ممّا تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم» . «أيها الناس، إن النّسىء زيادة فى الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر الّذى بين جمادى وشعبان» .

«اما بعد أيّها الناس، فإن لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا، عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ فى المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنّى قد بلّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه» . «أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلّمن أن كلّ مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلّغت» ، فقال الناس: اللهم نعم، فقال: «اللهم اشهد» . وقال ابن إسحاق أيضا: حدّثنى يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد، قال: كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بعرفة ربيعة بن أميّة بن خلف. قال: يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قل يأيّها الناس إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول: هل تدرون أىّ شهر هذا؟ فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: «إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ بلد هذا؟» قال: فيصرخ به؛ قال: فيقولون: البلد الحرام، قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا» ، ثم يقول: «قل يأيّها الناس، إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول هل تدرون أىّ يوم هذا» ؟

وأما عمره صلى الله عليه وسلم

فيقولون: يوم الحجّ الأكبر؛ قال: فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا» . وعن عمرو بن خارجة قال: بعثنى عتّاب بن أسيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حاجة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفة، فبلغته، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ لغامها «1» ليقع على رأسى، فسمعته وهو يقول: «أيها الناس؛ إن الله قد أدى إلى كل ذى حقّ حقّه، وإنه لا تجوز وصيّته لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» . وأمّا عمره صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أربع عمر: عمرة الحديبية، وهى عمرة الحصر، وعمرة القضاء من قابل، وعمرة الجعرانة، والرابعة التى مع حجّته. وعن قتادة: قلت لأنس بن مالك: كم اعتمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أربعا، عدّ منها عمرته مع حجّته، وقد قدّمنا ذكر عمرة الحديبية مع الغزوات، وذكرنا عمرة الجعرّانة عند ذكرنا لقسم مغانم حنين، وعمرته مع حجّته قد اختلف فيها. وأمّا عمرة القضاء فقد أوردها بعض أهل السّير فى الغزوات، وترجم عليها: «عمرة القضيّة» ، وحجّة من أوردها فى الغزوات أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج معه السلاح، ولم يخرج به

صلى الله عليه وسلّم لقصد الغزاة، وإنما خرج به احتياطا. وكان من خبر هذه العمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استهل هلال ذى القعدة سنة سبع من مهاجره أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدّهم المشركون عنها بالحديبية، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منها إلا من مات أو قتل بخيبر، وخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم من المسلمين عمّارا ممن لم يشهدا الحديبية، فكانوا فى عمرة القضيّة ألفين، واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبا ذر الغفارىّ، حكاه ابن سعد- وقال ابن إسحاق: عويف بن الأضبط الدّيلىّ- وساق صلّى الله عليه وسلّم ستّين بدنة، وجعل على هدية ناجية بن جندب الأسلمىّ. قال ابن سعد: وحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلاح والبيض والدّروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة، قدّم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح، واستعمل عليه بشير بن سعد، وأحرم صلّى الله عليه وسلّم من باب المسجد، ولبّى والمسلمون معه يلبّون. ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مرّ الظّهران فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه، فقال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبّح هذا المنزل غدا إن شاء الله، فأتوا قريشا بالخبر، ففزعوا، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمرّ الظهران، وقدّم السلاح إلى بطن يأحج حيث [ينظر «1» ] إلى أنصاب الحرم، وخلّف عليه أوس بن خولىّ الأنصارى فى مائتى رجل، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال، فقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج على راحلته القصواء

والمسلمون متوشّحون السيوف، محدقون به صلّى الله عليه وسلّم يلبّون، فدخل على الثنية التى تطلعه على الحجون، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته وهو يقول: خلّوا بنى الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير فى رسوله يا ربّ إنّى مؤمن بقيله ... أعرف حقّ الله فى قبوله نحن قتلناكم «1» على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله قال ابن هشام: قوله «نحن قتلناكم على تأويله» إلى آخر الأبيات، لعمّار بن ياسر فى غير هذا اليوم. قال ابن سعد: ولما ارتجز ابن رواحة قال له عمر بن الخطّاب: إيّها «2» يابن رواحة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر، إنى أسمع» ؛ فأسكت عمر، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إيها «3» يابن رواحة!، قل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» ، فقالها ابن رواحة. ولم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه، وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم، ثم طاف بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدى عند المروة قال: «هذا المنحر، وكلّ فجاج مكّة منحر» ، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم؛ ففعلوا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثلاثا. وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، فلما كان عند الظهر من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى

فقالا: قد انقضى أجلك، فاخرج عنّا، فأمر أبا رافع فنادى بالرحيل وقال: لا يمسينّ بها أحد من المسلمين، وأخرج عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب من مكة، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل سرف وتتامّ الناس إليه، وأقام أبو رافع بمكة حتى أمسى، فحمل إليه ميمونة، فبنى عليها صلّى الله عليه وسلّم بسرف، ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. كمل الجزء السابع عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للتويرىّ رحمه الله. ويليه الجزء الثامن عشر وأوّله: (وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .

[صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء بنسخة ا]

[صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء بنسخة ا] «كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» للإمام النويرى رحمه الله، وكان الفراغ منه يوم الاثنين المبارك سلخ جمادى الأولى من شهور سنة سبع وستين وتسعمائة، وذلك على يد كاتبه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ بلدا، الشافعىّ مذهبا، غفر الله له ذنوبه، وستر عيوبه، ولمن يدعو له بالمغفرة والرحمة ولوالديه. آمين» . [صورة ما جاء فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج] «كمل الجزء الخامس عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكرى التيمى القرشى المعروف بالنويرى عفا الله عنهم، ووافق الفراغ من كتابته فى يوم الاثنين المبارك لسبع خلون من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة أحسن الله تقضّيها بالقاهرة المعزّيّة. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السادس عشر: ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .

فهرس المراجع

فهرس المراجع 1 الاستيعاب لابن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة، الوهية 1280 الإصابة فى تمييز الصحابة، الشرفية بمصر 1325 الأغانى، طبع بولاق 1285 الأغانى، طبع دار الكتب المصرية. الإكمال لابن ماكولا، مخطوطة دار الكتب 17 مصطلح حديث إمتاع الأسماع للمقريزى، طبع لجنة التأليف والترجمة 1941 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة بمصر 1351 تاريخ ابن الأثير، ليدن 1895 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م. تفسير الطبرى، بولاق. 1330 تفسير القرطبى، طبع دار الكتب المصرية. دلائل النبوّة للبيهقى، مخطوطة دار الكتب رقم 212 حديث ديوان الأعشين، بيانه 1927. ديوان حسان بن ثابت، الرحمانية 1347 2 ديوان الحماسة، طبع بن 1838 م. الروض الأنف للسهيلى، الجمالية 1332 السيرة النبوية لابن هشام، طبع الحلبى 1355 شرح السيرة لأبى ذر الخشنى، هندية بمصر 1329 شرح المواهب اللدنية للزرقانى، بولاق 1278 صحيح البخارى، بولاق 1296 صحيح مسلم، بولاق 1290 طبقات ابن سعد: ليدن 1322 الكشف والبيان للثعلبى، مخطوطة دار الكتب برقمى 256، 797 تفسير. عيون الأثر، القدسى 1356 معجم البلدان، جوتنجن 1899 م. معجم ما استعجم للبكرى، مطبعة لجنة التأليف والترجمة 1945 م. مغازى الواقدى، كلكتا 1855 م.

استدراك

استدراك ورد فى صفحة 53 سطر 6 البيت الآتى كما فى الأصلين: ولسنا على الأدبار تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما وصوابه هكذا: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما وهو للحصين بن الحمام المرّى من قصيدة له أوّلها: تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما يقول: نحن لا نولّى فنجرح فى ظهورنا فتقطر دماؤنا على أعقابنا؛ ولكن نستقبل السيوف بوجوهنا؛ فإن إصابتنا جراح قطرت دماؤنا على أقدامنا. انظر لسان العرب (مادة دمى) ، والحماسة للتبريزى ص 93، والشعر والشعراء ص 630

فهرس الجزء الثامن عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرىّ وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل الهجرة 1 وفد غفار، وقصة أبى ذرّ الغفارىّ، وسبب إسلامه وإسلام أخيه وأمّه، ثم إسلام غفار 2 طعام أبى ذرّ من ماء زمزم، وظهور فائدته وبركته، وما قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 4 وفد أزد شنوءة، وكيف كان إسلام ضماد 7 وفد همدان 8 عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهمدان 11 وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه، وذكر إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم 13 وفادة نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما نزل فيهم من القرآن 15 من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح 16 وفد عبس 17 وفد سعد العشيرة، وذكر صنمها فرّاص وتحطيمه 18

وفد جهينة 18 وفد مزينة 19 وفد سعد بن بكر، وذكر ما كان من ضمام بن ثعلبة، رسول سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 20 وفد أشجع 22 وفد خشين والأشعرين وسليم وإسلام الخنساء 23 وفد دوس 26 وفد أسلم 27 وفد جذام 28 من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة وفد ثعلبة وأسد، وما نزل فى ذلك من القرآن 30 وفد تميم، وما وقع فى ذلك من مفاخرة بين تميم والأنصار بالخطب والشعر، وما نزل فى وفد تميم من القرآن 32 وفد فزارة، واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 41 وفد مرّة 42 وفد محارب، وكلاب 43 وفد رؤاس بن كلاب 44 وفد عقيل بن كعب، وكتاب رسول الله لهم 45 وفد جعدة، وقشير بن كعب 47 وفد بنى البكّاء، وما ظهر فى ذلك من بركة رسول الله لبشر بن معاوية 48 وفد كنانة وبنى عبد بن عدىّ 49 وفد باهلة، وهلال بن عامر، ووفود زياد بن عبد الله 50

وفد عامر بن صعصعة، وخبر عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس، ومحاولة عامر وأربد اغتيال رسول الله، وما ظهر فى ذلك من عصمة الله رسوله، ونزول القرآن فى ذلك 51 خبر أحد طواغيت العرب 57 وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات، وما فى ذلك من حصار الطائف، واستخدام الدبابات 59 عهد رسول الله لثقيف، وإرساله أبا سفيان لهدم اللّات 63 قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دينا من مال اللّات 65 وفد عبد القيس 65 وفد بكر بن وائل 67 خبر أعشى قيس، وذكر قصيدته التى مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 68 وفد تغلب، وحنيفة 72 خبر مسيلمة الكذّاب، وادّعائه النبوة 73 وفد شيبان، وخبر قيلة بنت مخرمة مع حريث بن حسان فى شأن الدّهناء 74 وفادات أهل اليمن وفد طيئ وخبر زيد الخيل، وعدىّ بن حاتم 76 خبر عدىّ بن حاتم، وبعث رسول الله عليّا لهدم صنم طيئ وأسره سفّانة بنت حاتم 77 وفد تجيب 81 وفد خولان 82 وفد جعفىّ، وخبر الموءودة والوائدة التى سألوا عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 83 وفد مراد، وخبر فروة بن مسيك المرادىّ 84

وفد زبيد، وأخبار عمرو بن معدى كرب 85 وفد كندة والهيئة الممتازة التى ظهروا بها 87 وفد الصّدف وسعد هذيم 89 وفد بلىّ وبهراء 90 وفد عذرة 91 وفد سلامان 92 وفد كلب، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل دومة الجندل 93 وفد جرم، وخبر عمرو بن سلمة، وأنه كان يتلقّى القرآن من المسافرين وهو ابن ستّ 94 وفد الأزد وأهل جرش 96 وفد غسان، ووفد الحارث بن كعب 98 عهد رسول الله لعمرو بن حزم 100 وفد عنس 103 وفد الدارييّن وما كتب لهم به رسول الله، وما اختص به تميم الدارىّ وإخوته 104 وصف المؤلف للعهد النبوىّ الذى كتبه لتميم كما رآه فى بيت التميميين، ونص العهد 105 وفد الرّهاويّين 107 وفد غامد والنّخع، وذكر رؤيا رآها زراة بن عمر وفسّرها له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 108 وفد بجيلة، وبعث رسول الله جرير بن عبد الله البجلىّ لهدم ذى الخلصة وما ظهر من بركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 110 وفد خثعم 111 وفد حضر موت، وذكر وائل بن حجر الحضرمىّ ملك الحضارم 112

كتاب رسول الله لوائل بن حجر، وما فيه من جوامع الكلم، وأصول الأحكام 113 وفد مخوس بن معدى كرب أحد أقيال كندة 114 وفد أزد عمان، وإرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ إلى عمان ليعلمهم الشرائع 114 وفد غافق وبارق، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبارق 115 وفد ثمالة والحدّان 116 وفد مهرة، وعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم 117 وفد حمير، وعهد رسول الله لهم، وذكر رسل رسول الله إلى زرعة ذى يزن 118 وفد جيشان، وسلول 120 وفد نجران وسؤالهم رسول الله، وما أنزل الله فيهم من القرآن 121 ما يتوارثه رؤساء نجران من ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم فى كتبهم 123 تفسير آيات من أوائل سورة آل عمران 124 ذكر آية المباهلة وتفسيرها، وما كان من تخوّف النصارى من المباهلة 134 كتاب أمير المؤمنين عمر لنجران 137 خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن 138 ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 141 خبر سواد بن قارب، وإخبار الجنّ له بمبعث رسول الله، وإنشادهم الشعر فى ذلك 142 خبر خفاف بن نضلة الثقفىّ 146 أول خبر قدم المدينة عن مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان من الجنّ 147

خبر تميم الدارىّ بما سمع من الجنّ 147 خبر أبى خريم فاتك، وما سمع من الجنّ عن مبعث رسول الله 147 خبر مالك بن نفيع 149 خبر ذباب وكلام الصنم فرّاص- أو فرّاض- وظهور جنىّ له فى صورة كلب وحديثه له 150 ما روى عن ربيعة بن أبى براء من إخبار الجنّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 154 ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك وكتبه إليهم 156 ما نقش فى خاتمه عليه والسلام 157 ذكر تكلم رسله بلغة من أرسلوا إليهم بإلهام من الله، وخطبته فى رسله حين بعثهم 157 إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشى ملك الحبشة 157 تزويج النجاشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وإصداقه إياها عنه 158 إرسال دحية الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم، وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه 158 حديث هرقل مع ركب قريش فى أمره عليه السلام 159 ما حصل من الروم عند سماعهم قراءة الكتاب النبوىّ، وقول ابن الناطور صاحب إيلياء 161 إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى 163 إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس 164 إرسال شجاع بن وهب الأسدىّ إلى الحارث الغسانىّ ملك البلقاء 165 إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة بن على ملك اليمامة 166 إرسال العلاء بن الحضرمىّ إلى المنذر ملك البحرين، ومعه أبو هريرة 166

بعثه صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان 167 بعثه المهاجر بن أمية إلى ملك اليمن 168 بعثه أبا موسى الأشعرىّ ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وجرير بن عبد الله البجلىّ إلى ذى الكلاع وذى عمرو 168 ذكر كتابه إلى جبلة بن الأيهم 169 إرساله الأمراء والعمال إلى الأقطار الإسلامية 169 أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ المؤمنين خديجة أوّل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 170 سودة بنت زمعة 173 عائشة بنت أبى بكر الصدّيق 174 حكم من سبّ أبا بكر أو سبّ عائشة 175 حفصة بنت عمر بن الخطاب 176 زينب بنت خزيمة 178 أمّ سلمة هند بنت أبى أمية 179 زينب بنت جحش بن رئاب 180 ثناء عائشة على زينب بنت جحش 181 جويرية بنت الحارث 182 ريحانة بنت زيد بن عمر 184 أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان، وذكر زواجها وهى بالحبشة 184 صفية بنت حيى بن أخطب 186 رؤيا صفية قبل زواجها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم 187 ميمونة بنت الحارث 188

ذكر من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يدخل بهنّ ومن دخل بهنّ وطلقهنّ، ومن وهبت نفسها له فاطمة بنت الضحاك 190 عمرة بنت يزيد بن الجون 192 العالية بنت ظبيان، وأسماء بنت النعمان 192 أميمة بنت شراحيل 194 قتيلة بنت قيس 195 عمرة بنت معاوية الكندية، وأسماء بنت الصّلت 196 مليكة بنت كعب الليثى 197 ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ 197 الغفارية، وخولة بنت الهذيل، وشراف بنت خليفة الكلبية 198 خولة بنت حكيم، وليلى بنت الخطيم 199 ليلى بنت حكيم الأنصارية، وأم شريك غزية 201 الشّنباء 203 من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يتفق تزويجهنّ أمّ هانئ بنت أبى طالب، وضباعة بنت عامر بن قرط 204 صفية بنت بشامة، وجمرة بنت الحارث، وسودة القرشية 205 أمامة بنت عمه حمزة 206 أزواجه صلّى الله عليه وسلّم من العرب وأزواجه من غيرهم 206 الخلاف فى عدد من تزوّجهنّ 207 سراريه صلّى الله عليه وسلّم 207

أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم 208 وفاة إبراهيم وتأثره عليه السلام وما قاله حينئذ 210 زينب 211 رقية 212 فاطمة 213 أمّ كلثوم 214 ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحارث 215 قثم بن عبد المطلب، والزبير، وحمزة، والعباس 216 استسقاء عمر بالعباس 217 دعاء الاستسقاء 218 أولاد العباس 219 أبو طالب، وأبو لهب 220 عبد الكعبة، وحجل، وضرار، والغيداق 221 ذكر عمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفية 221 عاتكة بنت عبد المطلب، وأروى، وأميمة 222 برّة بنت عبد المطلب، وأمّ حكيم البيضاء 223 خدم رسول الله الأحرار وعددهم أنس بن مالك 223 هند وأسماء ابنا حارثة، وربيعة بن كعب 224

عبد الله بن مسعود 225 عقبة بن عامر، وبلال بن رباح، وسعد مولى أبى بكر 226 ذو مخمر بن أخى النجاشى، وبكير بن شدّاخ، وأبو ذرّ الغفارىّ 227 أسلع بن شريك، وأبو سلام الهاشمىّ 228 موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وثوبان بن بجدد 229 أبو كبشة، وأنسة، وشقران، ورباح، ويسار 230 أبو رافع، وأبو مويهبة، ورافع، وفضالة، ومدعم، وكركرة 231 زيد، وعبيد، وطهمان، ومابور، وواقد، وأبو ضميرة، وحنين 232 أبو عسيب، وسفينة، وأبو هند، وأنجشة 233 أنيسة، وأبو لبابة، ورويفع، وسعد 234 ذكر جماعة أخر من الموالى 234 موالى رسول الله من النساء 235 حراسه وكتّابه 236 رفقاؤه النجباء 237 صفاته الذاتية 237 وصف خاتم النبوّة 242 صفة شعره وطوله 242 عدد شيبه 243 ما كان يخضب به 244 صفاته المعنوية 245 ما ورد فى أكله وشربه ونومه والأصناف التى أكل منها، وأحبّ مأكول إليه 246

نومه صلّى الله عليه وسلّم وضحكه 248 نكاحه صلّى الله عليه وسلّم وما يتصل به 249 خلقه، وحلمه، واحتماله، وعفوه، وبعض من عفا عنهم 250 جوده، وكرمه، وسخاؤه، وسماحته 253 شجاعته، ونجدته 254 حياؤه، وإغضاؤه 256 حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم 256 عمله مع أصحابه 258 شفقته ورأفته ورحمته لجميع الخلق 259 وفاؤء وحسن عهده وصلته للرّحم 260 تواضعه صلّى الله عليه وسلّم 262 قصيدة فى شىء من صفاته 264 عدله وأمانته وعفته وصدق لهجته 265 وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه 266 زهده فى الدنيا 267 خوفه من الله وطاعته له وشدة عبادته 268 نظافة جسمه، وطيب ريحه وعرقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد 270 حديث هند بن أبى هالة وما تضمنه من أوصافه الذاتية والمعنوية 271 مجلسه وما كان يصنع فيه 277 سيرته فى جلسائه 278 أحواله وما ناله من شدّة العيش فى دنياه 279

تطيبه ولباسه وألوانه وأصنافه، وطوله وعرضه 283 الثياب الصّفر 284 الثياب الخضر والسواد من ثيابه، وأصناف لباسه وطولها وعرضها، والصوف وما ورد فيه 285 الحبرة من برود اليمن والسندس والحرير، وما ورد أنه لبسها ثم تركها 286 ما ورد فى ثيابه- صلى الله عليه وسلّم- القطنية وأنواعها 287 صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعائه عند لبسه جديدا 288 فراشه ووسادته 289 ما لبسه من الخواتم، والخلاف فى ذلك 290 نعله وخفاه ومرآته وقدحه وغير ذلك من أثاثه 292 ما ورد فى حجامته وحجّامه، وما قال فى الحجامة 294 سلاحه وأصنافه وأسماؤه 296 ذكر دوابه من الخيل والبغال والحمير وأسمائها 299 ذكر أنعامه من إبل وغنم وأسمائها وعددها 301 معجزاته 302 أعظم معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهى القرآن، ووجوه إعجازه 303 الكلام على انشقاق القمر 308 رجوع الشمس بعد غروبها، وحبسها 310 نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم 311 تفجير الماء وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه 312 تكثير الطعام ببركته ودعائه 314 كلام الشجرة وشهادتها له بالنبوّة 318

قصة حنين الجذع إليه 320 نطق الجمادات له 321 كلام الحيوانات وسكونها إذا رأته صلّى الله عليه وسلّم 323 تسخير الأسد لسفينة مولاه صلّى الله عليه وسلّم 327 كلام الأموات والأطفال له 328 إبراء المرضى وذوى العاهات بريقه صلّى الله عليه وسلّم 330 شفاء الجراحات بتفله 332 إجابة دعائه 333 انقلاب الأعيان بلمسه ومباشرته 335 إخباره بالغيوب 337 عصمته من الناس 342 ما جمعه الله له من العلوم والمعارف 344 القصيدة الشّقراطيسية فى معجزاته، وصفاته صلّى الله عليه وسلّم 347 ما أنزل عليه عند اقتراب أجله 359 استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع 361 ذكر ابتداء وجعه واستئذانه نساءه أن يمرض فى بيت عائشة 363 خطبته وأمره بسد الأبواب إلى مسجده إلا باب أبى بكر 364 ما قاله فى مرضه لأبى بكر 366 أمره أبا بكر أن يصلى بالناس فى مرضه 367 ما اتفق فى مرضه ولدّه 372 الكتاب الذى أراد أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التنازع 373 وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المرض 374 ما قاله عمر عند ما كثر اللغط، والاختلاف فى حضرته صلّى الله عليه وسلّم 374

ذكر أقوال العلماء فى الاعتذار عن عمر 375 اختلاف العلماء فى معنى الحديث: «أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا» 376 ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه 378 الدنانير التى قسمها فى مرضه الذى مات فيه 380 تخيير رسول الله بين الدنيا والآخرة عند الموت 382 ما قاله رسول الله عند نزول الموت به 383 ذكر وفاته 383 وفاته فى حجر عائشة 384 ما حدث عند وفاته فى الناس من شك فى وفاته وهلع البعض، وخطبة أبى بكر فيهم 385 غسل رسول الله، وتعزية الحضر عليه السلام فيه 388 تكفينه 391 الصلاة عليه 392 قبره ولحده وفرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدة حياته 393 وقت دفنه ومدة مرضه، وسنّه 395 ميراثه وما روى فيه 396 ما نال أصحابه من الحزن على فقده 398 رثاؤه صلّى الله عليه وسلّم والقصائد فى رثائه 399

الجزء الثامن عشر

الجزء الثامن عشر [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الأول من القسم الخامس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى ذكر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يتّصل بذلك كانت أكثر وفادات العرب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السنة التاسعة من الهجرة؛ ولذلك سمّيت سنة الوفود. وذلك أنّ العرب إنما كانوا ينتظرون فتح مكة وإسلام هذا الحىّ من قريش؛ فلما فتح الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم مكة- شرفها الله تعالى- وأسلم من أسلم من قريش، وفدت عند ذلك وفادات العرب من كل قبيلة وجهة، ودخلوا فى دين الله أفواجا، كما قال الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. وقد رأينا إيراد ذلك على نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، ونذكر ما أورده ابن سعد ممّن ذكرهم أبو محمد عبد الملك ابن هشام رحمه الله، إلا أنّا نبدأ من ذلك بذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة، ثم نذكر من وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى المدينة وقبل فتح مكّة، نقدّمهم على حسب السابقة، ثم نذكر من عدا هؤلاء من الوفود الذين وفدوا فى سنة تسع وما بعدها؛ نرتّبهم على ما رتّبهم محمد ابن سعد فى طبقاته فى التقديم والتأخير، ونستثنى منهم من تقدّم ذكره؛ فنقول وبالله التوفيق:

ذكر من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة

ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة قبل الهجرة وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة غفار، وأزد شنوءة، وهمدان، والطّفيل بن عمرو الدّوسىّ، ونصارى الحبشة. ذكر وفد غفار وقصّة أبى ذرّ الغفارىّ فى سبب إسلامه روى الشّيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى رحمه الله فى كتابه المترجم ب «دلائل النبوة» بسنده إلى عبد الله بن الصّامت، قال قال أبوذرّ رضى الله عنه: خرجنا عن قومنا غفار، وكانوا يحلّون الشّهر الحرام، فخرجت أنا وأخى أنيس وأمنّا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذى مال وذى هيئة «1» ، فأكرمنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، قال: فجاء خالنا فنثا «2» علينا ما قيل له؛ فقلت له: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته، ولا جماع «3» لك فيما بعد. قال: فقرّبنا صرمتنا «4» فاحتملنا عليها [ويغطّى خالنا ثوبه فجعل يبكى «5» ] وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فحبّر «6» أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال أبو ذرّ: وقد صلّيت يا بن أخى قبل أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنين. قال ابن الصامت: فقلت لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجّه حيث وجّهنى «7» الله؛ أصلّى عشاء

حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأنى خفاء «1» - يعنى الثوب- حتى تعلونى الشمس. فقال أنيس: إنّ لى صاحبا «2» بمكة فاكفنى حتى آتيك. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث «3» علىّ، ثم أتانى فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك «4» . قال: قلت ماذا يقول الناس فيه؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر وكاهن. قال: وكان أنيس أحد الشّعراء- وفى رواية عنه: والله ما سمعت بأشعر من أخى أنيس- لقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية أنا أحدهم. قال فقال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشّعر «5» فلم يلتئم، وما يلتئم والله على لسان أحد بعدى أنه شعر، وو الله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: قلت له هل أنت كافىّ حتى أنطلق فأنظر؟ فقال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا «6» له وتجهّموا. فانطلقت حتى قدمت مكة، فتضعّفت «7» رجلا منهم فقلت: أين هذا الذى تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلىّ، الصابئ «8» ! فمال علىّ أهل الوادى بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علىّ. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأنّى نصب «9» أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عنّى الدّم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يا بن أخى ثلاثين من بين ليلة ويوم ومالى طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع «10» . قال: فبينما أهل مكة فى ليلة

قمراء إضحيان «1» ، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين وهما تدعوان إسافا ونائلة «2» ، فأتتا علىّ فى طوافهما فقلت: أنكحا إحداهما الأخرى، فما ثناهما ذلك عما قالتا «3» . فأتتا علىّ فقلت: هن مثل الخشبة غير أنّى لا أكنى، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال لهما: ما لكما؟ قالتا: الصّابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وصاحبه [فاستلم الحجر ثم طاف بالبيت هو وصاحبه «4» ] ثم صلّى، فلما قضى صلاته قال أبو ذرّ: فأتيته فكنت أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام؛ فقال: «وعليك ورحمة الله» ، ثم قال: «ممن أنت» ؟ قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع يده على جبينه، فقلت فى نفسى: كره أنى انتميت إلى غفار، قال: فأهويت لآخذ بيده، فقدعنى «5» صاحبه وكان أعلم به منّى، ثم رفع رأسه فقال: «متى كنت هاهنا» ؟ قلت: منذ ثلاثين من ليلة ويوم «6» ، قال: «فمن كان يطعمك» ؟ قلت: ما كان لى من طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتّى تكسّرت عكن بطنى، وما وجدت على كبدى سخفة جوع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم «7» ، وشفاء سقم» فقال أبو بكر: يا رسول الله! إيذن لى فى إطعامه الليلة، ففعل، فانطلق رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابه، فجعل يقبض لنا من زبيب الطّائف، فكان ذاك أوّل طعام أكلته بها، قال: فغبرت «1» ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى وجّهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عنّى قومك لعل الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم» ؛ قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا فقال لى: ما صنعت؟ قلت: أسلمت وصدّقت، قال: فما بى رغبة عن دينك، فإنى قد أسلمت وصدّقت. ثم أتينا أمّنا، فقالت: مابى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت، قال: ثم احتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان يؤمّهم خفاف بن إيماء ابن رحضة الغفارىّ، وكان سيّدهم يومئذ «2» ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمنا؛ فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلم بقيّتهم؛ وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله! إخواننا «3» ؛ نسلم على الذى أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله» . وهذه الرواية فى خبر إسلام أبى ذرّ؛ قد روى مسلم فى صحيحه نحوها، وهى تخالف رواية البخارىّ. وروى البيهقىّ عن أبى ذرّ قال: كنت ربع «4» الإسلام، أسلم قبلى ثلاثة نفر وأنا الرابع؛ أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد

أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادى، فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ايتنى؛ فانطلق حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاما ما هو بالشعر. قال: ما شفيتنى فيما أردت، فتزوّد وحمل شنّة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علىّ بن أبى طالب؛ فقال: كأنّ الرجل غريب، قال: نعم، قال انطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألنى عن شىء ولا أسأله، فلما أصبحت من الغد رجعت إلى المسجد، وبقيت يومى حتى أمسيت وصرت إلى مضجعى، فمرّ بى علىّ بن أبى طالب، فقال: أما آن للرّجل أن يعرف منزله؟ فأقامه وذهب به معه، وما يسأل واحد منهما صاحبه عن شىء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علىّ معه، ثم قال: ألا تحدّثنى ما الذى أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتنى عهدا وميثاقا لترشدنى فعلت؛ ففعل؛ فأخبره علىّ أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به حقّ، وأنّه رسول الله، قال: فإذا أصبحت فاتّبعنى، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنّى أريق الماء، فإن مضيت فاتبعنى حتى تدخل مدخلى، قال: فانطلقت أقفوه حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلت معه وحبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتحيّة الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فكنت أوّل من حياه بتحية الإسلام، فقال: «وعليك السلام، من

ذكر وفد أزد شنوءة وكيف كان إسلام ضماد

أنت» ؟ قلت: رجل من غفار، فعرض علىّ الإسلام، فأسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجع إلى بلاد قومك، وأخبرهم، واكتم أمرك عن أهل مكة، فإنى أخشاهم عليك» ، فقلت: والذى نفسى بيده لأصرحنّ بها بين أظهرهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فثاب «1» القوم إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبّ عليه وقال: ويلكم! أولستم تعلمون أنّه من غفار، وأنّ طريق تجاركم إلى الشام عليهم! وأنقذه منهم، ثم عاد إلى مثلها، وثاروا «2» إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه، ثم لحق بقومه. وكان هذا أوّل إسلام أبى ذرّ. ومن رواية الّليت بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب قال: قدم أبو ذرّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة فأسلم، ثم رجع إلى قومه، فكان يسخر بآلهتهم، ثم إنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فلمّا رآه وهم فى اسمه، فقال: «أنت أبو نملة» ؟ قال: أنا أبو ذرّ، قال: «نعم أبو ذرّ» . ذكر وفد أزد شنوءة وكيف كان إسلام ضماد روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ- رحمه الله- بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم، قال: قدم ضماد «3» مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرياح، فسمع سفهاء الناس «4» يقولون: إنّ محمدا

ذكر وفد همدان

مجنون، فقال: آتى هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدىّ، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إنى أرقى من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من يشاء، فهلمّ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» ثلاث مرات، فقال: تالله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السّحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلمّ يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال له: «وعلى قومك» ؟ فقال: وعلى قومى، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسريّة: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: مطهرة» ، فقال: «ردّوها عليهم فإنهم قوم ضماد» . رواه مسلم فى صحيحه. وروى القاضى عياض بن موسى فى كتابه المترجم ب (الشّفا، بتعريف حقوق المصطفى) : أن ضمادا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعد علىّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر «2» ، هات يديك أبايعك. ذكر وفد همدان قال محمد بن سعد رحمه الله تعالى: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثنا حبّان ابن هانئ بن مسلم بن قيس بن عمرو بن مالك بن لأى الهمدانىّ ثم الأرحبىّ «3» عن أشياخهم، قالوا: قدم قيس بن مالك بن سعد «4» بن مالك بن لأى الأرحبىّ على رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، فقال: يا رسول الله أتيتك لأومن بك وأنصرك؛ فقال له: «مرحبا بك، أتأخذونى بما فىّ يا معشر همدان» ؟ قال: نعم؛ بأبى أنت وأمّى، قال: «فاذهب إلى قومك، فإن فعلوا فارجع أذهب معك» ، فخرج قيس إلى قومه، فأسلموا واغتسلوا فى جوف المحورة «1» - وهو ماء يغتسلون فيه- وتوجّهوا إلى القبلة، ثم خرج «2» بإسلامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: قد أسلم قومى وأمرونى أن آخذك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم وافد القوم قيس» ، وقال: «وفّيت وفّى الله بك» ، ومسح بناصيته، وكتب عهده على قومه همدان: أحمورها «3» وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة رسوله ما أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة؛ وأطعمه ثلاثمائة فرق «4» ، من خيوان مائتان: زبيب وذرة شطران «5» ، ومن عمران الجوف «6» مائة فرق برّ، جارية أبدا من مال الله. ومن طريق آخر له قال: عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه بالموسم على قبائل العرب، فمرّ به رجل من أرحب يقال له: عبد الله بن قيس بن أمّ

غزال، فقال: «هل عند قومك من منعة» ؟ قال: نعم، فعرض عليه الإسلام، فأسلم، ثم إنه خاف أن يخفره قومه «1» فوعده الحجّ من قابل، ثم وجّه الهمدانىّ يريد قومه، فقتله رجل من بنى زبيد يقال له ذباب، ثم إن فتية من أرحب قتلوا ذبابا الزّبيدىّ بعبد الله بن قيس. هذا قبل الهجرة. وأما بعد الهجرة، فقد روى محمد بن إسحق رحمه الله، قال: قدم وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم مالك بن نمط، وأبو ثور وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السّلمانى، وعميرة بن مالك الخارفّى، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطّعات الحبرات «2» والعمائم العدنيّة، برحال الميس «3» على المهريّة «4» والأرحبيّة «5» ، ومالك بن نمط، ورجل آخر؟؟ رتجزان بالقوم؛ يقول أحدهما: همدان خير سوقة وأقيال «6» ... ليس لها فى العالمين أمثال محلّها الهضب «7» ومنها الأبطال ... لها إطابات «8» بها وآكال

ويقول الآخر: إليك جاوزن سواد الرّيف ... فى هبوات «1» الصّيف والخريف مخطّمات بجبال اللّيف «2» فقام مالك بن نمط بين يديه، ثم قال: يا رسول الله! نصيّة «3» من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج «4» ، متّصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف «5» خارف ويام وشاكر، أهل السّود «6» والقود، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا آلهات الأنصاب، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع «7» ، وما جرى اليعفور «8» بضلع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم الحىّ همدان، ما أسرعها إلى النّصر، وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال «9» ، وفيهم أوتاد الإسلام» ، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من [محمد «10» ] رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب «11» الهضب وحقاف «12» الرّمل، مع

وافدها ذى المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها «1» ووهاطها «2» وعزازها «3» ، يأكلون علافها «4» ، ويرعون عافيها «5» ، لنا منهم من دفئهم «6» وصرامهم «7» ما سلّموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصّدقة الثّلب «8» والنّاب والفصيل «9» والفارض «10» والدّاجن «11» والكبش الحورىّ «12» ، وعليهم فيها الصّالغ «13» والقارح «14» ما أقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة، لهم بذلك عهد الله وذمام رسول الله عليه السلام، وشاهدهم المهاجرون والأنصار «15» » .

ذكر وفادة الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه

ذكر وفادة الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ وإسلامه قال محمد بن إسحق رحمه الله تعالى: كان الطّفيل بن عمرو الدّوسى يحدّث أنه قدم مكّة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، فمشى إليه رجال من قريش- وكان الطّفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا- فقالوا له: يا طفيل! إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا قد أعضل بنا، قد فرّق بين جماعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسّحر يفرّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا. قال الطّفيل: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت على ألّا أسمع منه شيئا ولا أكملّه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «1» فرقا «2» من أن يبلغنى شىء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه «3» ! قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يصلّى عند الكعبة، فقمت منه قريبا، فأبى الله إلّا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت فى نفسى: واثكل أمّى؛ والله إنّى لرجل لبيب شاعر، وما يخفى علىّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، فاتبعته حتى إذا دخل بيته [دخلت عليه «4» ] فقلت: يا محمد إنّ قومك قد قالوا لى كذا وكذا- للذى قالوا- فو الله ما برحوا يخوّفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف ألا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض علىّ أمرك. قال:

فعرض علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام، وتلا علىّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قطّ أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحقّ، فقلت: يا نبىّ الله! إنى امرؤ مطاع فى قومى، وأنا راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: «اللهم اجعل له آية» ، فخرجت إلى قومى، حتى إذا كنت بثنيّة تطلعنى على «1» الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح؛ قلت: اللهم فى غير وجهى! إنّى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم، قال: فتحوّل النّور فوقع فى رأس سوطى، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النّور فى سوطى كالقنديل المعلّق، وأنا أهبط إليهم من الثّنية حتى جئتهم، فأصبحت فيهم، قال: فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنّى يا أبت، فلست منك ولست منّى، قال: لم يا بنىّ؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال: أى بنىّ! فدينى دينك، قلت: فاذهب واغتسل، وطهّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك مما علّمت، فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى، فقلت: إليك عنّى فلست منك ولست منّى، قالت: لم؟ بأبى أنت وأمّى! قلت: فرّق بينى وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد عليه السلام. قالت: فدينى دينك، قلت: فاذهبى إلى حنا ذى الشّرى «2» - قال ابن هشام: ويقال حمى ذى الشّرى- فتطهّرى منه.

ذكر وفد نصارى الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم

قال: وكان ذو الشّرى صنما لدوس، وكان الحنا حمى حموه له، وبه وشل من ماء يهبط من جبل، [قال] فقالت: بأبى أنت وأمّى، أتخشى على الصّبيّة «1» من ذى الشّرى شيئا؟ قلت: [لا، أنا ضامن لك «2» ] ، قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت، فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا علىّ، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فقلت له: يا نبىّ الله! إنّه قد غلبنى على دوس الزّنى «3» ، فادع الله عليهم، فقال: «اللهمّ اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم» ، قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم أسلموا بعد ذلك، ووفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى- فيمن وفد بعد الهجرة. ذكر وفد نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النّصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلّموه، وسألوه- ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة- فلما فرغوا من مسألته صلّى الله عليه وسلّم دعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدّمع، ثم استجابوا لله تعالى وآمنوا به

ذكر من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقبل الفتح

وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره، فلمّا قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرّجل، فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. ويقال: إن النّفر من أهل نجران. والله أعلم. فيقال فيهم أنزل الله قوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» . إلى قوله: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1» » : وقيل: إنما نزلت هذه الآيات فى النّجاشى وأصحابه، والآيات التى فى سورة «المائدة» قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» . إلى «الشّاهدين «2» » ، وكان ممّن وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة الأوس والخزرج، وقد تقدم ذكرهم فى بيعة العقبة. ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل الفتح وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقبل فتح مكّة: عبس، وسعد العشيرة، وجهينة، ومزينة، وسعد بن بكر، وأشجع، وخشين، والأشعرون، وسليم، ودوس، وأسلم، وجذام.

ذكر وفد عبس

ذكر وفد عبس قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة رهط من بنى عبس فكانوا من المهاجرين الأوّلين، منهم ميسرة «1» بن مسروق، والحارث بن الربيع- وهو الكامل- وقنان «2» بن دارم، وبشر بن الحارث بن عبادة، وهدم «3» بن مسعدة، وسباع بن زيد، وأبو الحصن بن لقمان، وعبد الله بن مالك، وفروة بن الحصين بن فضالة فأسلموا؛ فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخير، وقال: «أبغونى رجلا يعشركم أعقد لكم لواء» فدخل طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم: يا عشرة. وقال من طريق آخر: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عيرا لقريش أقبلت من الشام [فبعث «4» ] بنى عبس فى سرية وعقد لهم لواء، فقالوا: يا رسول الله! كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ قال: «أنا عاشركم» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم ثلاثة نفر من بنى عبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنه قدم علينا قوم «5» فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هى معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا، ولو كنتم بصمد «6» وجازان «7» » .

ذكر وفد سعد العشيرة

ذكر وفد سعد العشيرة قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد الرحمن بن أبى سبرة الجعفىّ قال: لمّا سمعت سعد العشيرة بخروج النبى صلّى الله عليه وسلّم وثب ذباب- رجل من بنى أنس الله بن سعد العشيرة- إلى صنم يقال له فرّاص فحطمه، ثم وفد إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، وقال: تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاصا بدار هوان شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان» فلمّا رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيها كلكلى وجرانى «2» فمن مبلغ سعد العشيرة أنّنى ... شريت الّذى يبقى بآخر فانى ذكر وفد جهينة قال ابن سعد: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وفد إليه عبد العزّى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهنىّ، ومعه أخوه لأمه أبو روعة وهو ابن عم له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد العزّى: «أنت عبد الله» وقال لأبى روعة: «أنت رعت العدوّ إن شاء الله» وقال: «من أنتم» ؟ قالوا: بنو غيّان، قال: «أنتم بنو رشدان» وكان اسم واديهم غوى فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رشدا، وقال لجبلى جهينة الأشعر والأجرد: «هما من جبال الجنة

ذكر وفد مزينة

لا تطؤهما فتنة» ، وخطّ لهم مسجدهم، وهو أوّل مسجد خطّ بالمدينة، وجاء من جهينة عمرو بن مرّة الجهنىّ. روى عنه محمد بن سعد بسنده إليه قال: كان لنا صنم، وكنا نعظّمه، وكنت سادنه، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرته، وخرجت حتى أقدم المدينة على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقدمت فأسلمت وشهدت شهادة الحقّ، وآمنت بما جاء به من حلال وحرام، فذلك حين أقول: شهدت بأنّ الله حقّ وأنّنى ... لآلهة الأحجار أوّل تارك وشمّرت عن ساقى الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدّكادك «1» لأصحب خير النّاس نفسا ووالدا ... رسول مليك النّاس فوق الحبائك «2» قال: فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه إلّا رجلا واحدا ردّ عليه قوله، فدعا عليه عمرو بن مرّة فسقط فوه، فما كان يقدر على الكلام، وعمى واحتاج. ذكر وفد مزينة وهذا الوفد هو أوّل ما بدأ به محمد بن سعد من الوفود فى طبقاته، فقال: كان أول من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضر أربعمائة من مزينة «3» ، وذلك فى شهر رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهجرة فى دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» فرجعوا إلى بلادهم. وقال محمد بن سعد بسند يرفعه إلى أبى مسكين، وأبى عبد الرحمن العجلانىّ، «4»

ذكر وفد سعد بن بكر

قالا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من مزينة، منهم خزاعىّ بن عبد نهم «1» فبايعه على قومه مزينة، وقدم معه عشرة منهم، فيهم بلال بن الحارث، والنعمان ابن مقرّن «2» ، ثم خرج إلى قومه فلم يجدهم كما ظنّ فأقام، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسّان بن ثابت، فقال: «اذكر خزاعيّا ولا تهجه» فقال حسّان: ألا أبلغ خزاعيا رسولا ... بأنّ الذّمّ يغسله الوفاء وأنّك خير عثمان بن عمرو ... وأسناها إذا ذكر السّناء وبايعت الرّسول وكان خيرا ... إلى خير وآداك «3» الثّناء فما يعجزك أو ما لا تطقه ... من الأشياء لا تعجز عداء قال: و «عداء» بطنه الذى هو منه. فقام خزاعىّ فقال: يا قوم! قد خصّكم شاعر الرجل، فأنشدكم الله «4» . قالوا: فإنّا لا ننبو عليك «5» ؛ فأسلموا ووفدوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم. فدفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء مزينة يوم الفتح إلى خزاعىّ، وكانوا يومئذ ألف رجل. ذكر وفد سعد بن بكر قال محمد بن إسحق: بعثت بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم يقال له ضمام «6» بن ثعلبة- قال ابن سعد: فى شهر رجب سنة خمس «7» -

قال ابن إسحق بسنده إلى ابن عباس: فقدم وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله «1» ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس فى أصحابه. قال: وكان ضمام رجلا جلدا «2» أشعر ذا غديريتين، فأقبل حتّى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أصحابه، فقال أيّكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا ابن عبد المطلب» . قال: أمحمّد؟ قال: «نعم» . قال: يابن عبد المطلب! إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسئلة، فلا تجد «3» في نفسك. قال: «لا أجد فى نفسى، فاسأل عما بدا لك» قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهمّ نعم» قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله امرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: «اللهمّ نعم» . قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلّى هذه الصلاة الخمس؟ قال: «نعم» . قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزّكاة، والصّيام، والحج وشرائع الإسلام كلّها، ينشده عن كلّ فريضة منها كما ينشده فى التى قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنّى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وسأودّى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن صدق ذو العقيصتين «4» دخل الجنة»

ذكر وفد أشجع

قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أوّل ما تكلم به: بئست اللّات والعزّى! فقالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتق الجذام، اتّق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله لا ينفعان ولا يضران، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، فاستنقذكم «1» به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه، قال: فو الله ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضره «2» رجل أو امرأة إلا مسلما. قال: يقول عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة. ذكر وفد أشجع قال «3» : وقدمت أشجع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الخندق، وعام الخندق سنة خمس من الهجرة، وهم مائة، رأسهم مسعود «4» بن رخيلة بن نويرة ابن طريف، فنزلوا شعب سلع «5» ، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمر لهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد! لا نعلم أحدا من قومنا أقرب دارا منك منّا، ولا أقلّ عددا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم. ويقال: بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى قريظة، وهم سبعمائة فوادعهم. ثم أسلمو بعد ذلك.

ذكر وفد خشين

ذكر وفد خشين قال أبو عبد الله محمد بن سعد: قدم أبو ثعلبة الخشنىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهّز إلى خيبر، فأسلم وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين فنزلوا على أبى ثعلبة، فأسلموا وبايعوا ورجعوا إلى قومهم. ذكر وفد الأشعرين قالوا: وقدم الأشعرون «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم خمسون رجلا؛ منهم أبو موسى الأشعرى، ومعهم رجلان من عكّ. وقدموا فى سفن فى البحر، وخرجوا بجدّة، فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون: غدا نلقى الأحبّة ... محمّدا وحزبه ثم قدموا فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفره بخيبر، فلقوه صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه وأسلموا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأشعرون فى الناس كصرّة فيها مسك» «2» . ذكر وفد سليم قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بنى سليم، يقال له قيس ابن نسيبة «3» ، فسمع كلامه، وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كلّه، ودعاه رسول الله

صلى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: قد سمعت برجمة «1» الروم، وهينمة «2» فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم، فأطيعونى وخذوا بنصيبكم منه. فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقوه بقديد «3» وهم سبعمائة. ويقال: كانوا ألفا. وفيهم العباس بن مرداس السّلمى، وأنس بن عبّاس بن رعل، وراشد بن عبد ربه «4» ، فأسلموا وقالوا: اجعلنا فى مقدّمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدّم «5» ، ففعل ذلك بهم. وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راشدا رهاطا «6» وفيها عين يقال لها عين الرّسول. قال: وكان راشد يسدن «7» صنما لبنى سليم، فرأى يوما ثعلبين يبولان عليه، فقال: أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب ثم شدّ عليه فكسره. وأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ما اسمك» ؟ قال: غاوى بن عبد العزّى، فقال: «أنت راشد بن عبد ربّه» فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتح. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير بنى سليم راشد» وعقد له على قومه.

وروى محمد بن سعد أيضا، عن هشام بن محمد، قال حدّثنى رجل من بنى سليم من بنى الشّريد، قال: وفد رجل منا يقال له قدد «1» بن عمّار على النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه على الخيل؛ وأنشأ يقول: شددت يمينى إذ أتيت محمّدا ... بخير يد شدّت بحجزة مئزر وذاك امرؤ قاسمته نصف دينه ... وأعطيته كفّ «2» امرئ غير أعسر ثم أتى قومه فأخبرهم الخبر، فخرج معه تسعمائة، وخلّف فى الحىّ مائة، وأقبل يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فنزل به الموت، فأوصى إلى ثلاثة رهط من قومه؛ وهم: عباس بن مرداس وأمّره على ثلاثمائة، وجبّار بن الحكم وأمره على ثلاثمائة، والأخنس بن يزيد وأمّره على ثلاثمائة. وقال: ايتوا هذا الرحل حتى تقضوا العهد الذى فى عنقى ثم مات، فمضوا حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أين الرجل الحسن الوجه، الطويل اللسان، الصادق الأيمان» ؟. قالوا: يا رسول الله! دعاه الله فأجابه، وأخبروه خبره؛ فقال: «أين تكملة الألف الذين عاهدنى عليهم» ؟. قالوا: خلّف مائة فى الحىّ مخافة حرب «3» كان بيننا وبين بنى كنانة، قال: «ابعثوا إليها فإنه لا يأتيكم فى عامكم هذا شىء تكرهونه» . فبعثوا إليها فأتته بالهدّة «4» وعليها المنقع «5» بن مالك بن أمية، فشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفتح وحنين. وللمنقع يقول العباس بن مرداس: القائد المائة التى وفّى بها ... تسع المئين فتمّ ألف أقرع «6»

ذكر وفد دوس

وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة خنساء بنت عمرو بن الشّريد السّلمية الشاعرة- واسمها تماضر بنت عمرو بن الشّريد بن رباح بن ثعلبة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم- أنها قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع قومها من بنى سليم فأسلمت معهم. قال: فذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده، وهو يقول: «هيه «1» يا خناس» ويومئ «2» بيده. وشهدت الخنساء القادسيّة مع بنيها الأربعة. وسنذكر إن شاء الله خبرها معهم يوم القادسية، ووصيتها لهم فى الحرب فى خلافة عمر بن الخطاب، عند ذكرنا لفتح القادسية. ذكر وفد دوس «3» قالوا: لمّا أسلم الطّفيل بن عمرو الدّوسىّ- كما تقدم- دعا قومه فأسلموا، وقدم معه منهم المدينة سبعون أو ثمانون أهل بيت. وفيهم أبو هريرة وعبد الله ابن أزيهر الدّوسىّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر، فساروا إليه فلقوه هناك، فيقال: إنه قسم لهم من غنائم خيبر، ثم قدموا معه المدينة. فقال الطّفيل ابن عمرو: يا رسول الله! لا تفرّق بينى وبين قومى، فأنزلهم حرّة «4» الدّجاج، فقال أبو هريرة حين خرج من دار قومه:

ذكر وفد أسلم

يا طولها من ليلة وغنائها ... على أنّها «1» من بلدة الكفر نجّت وقال عبد الله بن أزيهر: يا رسول الله! إن لى فى قومى سلطة ومكانا فاجعلنى عليهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أخادوس، إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فمن صدق الله نجا، ومن آل إلى غير ذلك هلك. إن أعظم قومك ثوابا أعظمهم صدقا، ويوشك الحقّ أن يغلب الباطل» . وروى أبو عمر بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: بلغنى أنّ دوسا إنّما أسلمت فرقا من قول كعب بن مالك الأنصارى الخزرجى: قضينا من تهامة كلّ وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السّيوفا «2» نخيّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ: دوسا أو ثقيفا [فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف «3» ] . ذكر وفد أسلم قالوا: قدم عمير بن أفضى فى عصابة من أسلم، فقالوا: لقد آمنا بالله ورسوله، واتّبعنا منهاجك، فاجعل لنا عندك منزلة، تعرف العرب فضيلتنا، فإنّا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء، والنّصر فى الشّدّة والرّخاء، فقال رسول

ذكر وفد جذام

الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» . وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأسلم، ومن أسلم من قبائل العرب ممن يسكن السّيف «1» والسّهل كتابا؛ فيه ذكر الصدقة والفرائض فى المواشى. وكتب الصّحيفة ثابت ابن قيس، وشهد أبو عبيدة وعمر بن الخطاب رضى الله عنهم. ذكر وفد جذام قالوا: قدم رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامىّ «2» ، ثم أحد بنى الضّبيب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدا وأسلم، فكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا؛ فيه: «هذا كتاب من محمد رسول الله، لرفاعة بن زيد إلى قومه، ومن دخل معهم، يدعوهم إلى الله، فمن أقبل ففى حزب الله، ومن أبى فله أمان شهرين» فأجابه قومه وأسلموا. قال ابن إسحق وغيره: وبعث فروة بن عمرو بن النّافرة الجذامىّ، ثم النّفاثىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، واسم رسوله مسعود بن سعد وهو من قومه، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابه، وقبل هديته، وأجاز رسوله باثنتى عشرة أوقية ونشّ «3» ، وكتب إلى فروة جواب كتابه. وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان «4» وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه فحبسوه عندهم؛ فقال: فى محبسه ذلك:

طرقت سليمى موهنا أصحابى ... والرّوم بين الباب والقروان «1» صدّ الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفى «2» وقد أبكانى لا تكحلنّ العين بعدى إثمدا «3» ... سلمى ولا تدننّ للإتيان ولقد علمت أبا كبيشة أنّنى ... وسط الأعزّة لا يحصّ «4» لسانى فلئن هلكت لتفقدنّ أخاكم ... ولئن بقيت لتعرفنّ مكانى ولقد جمعت أجلّ ما جمع الفتى ... من جودة وشجاعة وبيان قال: فلما أجمعت الرّوم لصلبه على ماء لهم بفلسطين يقال له عفراء «5» قال: ألا هل أتى سلمى بأنّ حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرّواحل «6» على ناقة لم يضرب الفحل أمّها ... مشذّبة أطرافها بالمناجل قال: ولما قدّموه ليضربوا عنقه قال: أبلغ سراة المؤمنين بأنّنى ... سلم لربىّ أعظمى ومقامى فضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء. هذا ما تلخص لنا من أخبار من وفد بعد الهجرة وقبل الفتح، فلنذكر من وفد بعد الفتح.

ذكر من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة شرفها الله تعالى وعظمها

ذكر من وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة شرّفها الله تعالى وعظمها ولنبدأ من ذلك بذكر وفد ثعلبة؛ لأنه أوّل وفد كان بعد الفتح. ثم نذكر من وفد فى سنة تسع من الهجرة وما بعدها، ونورده نحو ما أورده أبو عبد الله محمد بن سعد فى طبقاته، إلا أنا نستثنى منهم من قدّمنا ذكره بحكم سابقتهم، وتقدّم إسلامهم. ذكر وفد ثعلبة قال أبو عبد الله محمد بن سعد رحمه الله: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة «1» ، فى سنة ثمان من الهجرة، قدم عليه أربعة نفر، وقالوا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، ونحن وهم مقرّون بالإسلام، فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضيافة، وأقاموا أياما ثم جاءوا ليودّعوه فأمر بلالا أن يجيزهم، كما يجيز الوفد، فجاء بنقر «2» من فضّة فأعطى كل رجل منهم خمس أواق، وقال: «ليس عندنا دراهم» وانصرفوا إلى بلادهم. ذكر وفد أسد قال محمد بن سعد: قدم عشرة رهط من بنى أسد بن خزيمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى أوّل سنة تسع من الهجرة، فيهم حضرمىّ بن عامر، وضرار ابن الأزور، فقال حضرمىّ: يا رسول الله! أتيناك نتدرّع الليل البهيم «3» ، فى سنة

شهباء «1» ، ولم تبعث إلينا بعثا، فنزل فيهم قوله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» . قال: وكان معهم قوم من بنى الزّنية وهم بنو مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان ابن أسد، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم بنو الرّشدة» . وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ رحمه الله: إنّ نفرا من بنى أسد، ثم من بنى الحلاف «3» بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فى سنة جدبة، فأظهروا شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكونوا مؤمنين فى السّر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون: أتتك الرب بأنفسها، على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذّرارىّ- يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. ويريدون الصّدقة، ويقولون: أعطنا. فأنزل الله عز وجل فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «4» الآيات. وقيل: نزلت فى الأعراب: مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار. وكانوا يقولون: آمنّا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أى انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسّبى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر تعالى أن حقيقة الأيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذى محلّه القلب.

ذكر وفد تميم

ذكر وفد تميم قال أبو عبد الله محمد بن سعد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث بشر بن سفيان. ويقال: النّحّام «1» العدوىّ على صدقات بنى كعب من خزاعة، فجاء وقد حلّ بنو احيهم بنو عمرو بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فجمعت خزاعة مواشيها للصدقة، فاستنكرت ذلك بنو تميم، وأبوا وابتدروا القسىّ، وشهروا السّيوف، فقدم المصدّق «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره «3» ؛ فقال: «من لهؤلاء القوم» ؟ فانتدب لهم عيينة بن حصن، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجرىّ ولا أنصارىّ فأغار عليهم، فأخذ منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى المدينة، فقدم فيهم عدّة من رؤساء بنى تميم، منهم عطارد بن حاجب، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورياح ابن الحارث، وعمرو بن الأهتم، وغيرهم كما ذكرنا ذلك فى الغزوات فى خبر سريّة عيينة. قال ويقال: كانوا تسعين أو ثمانين رجلا. قال ابن إسحق: والحتات بن يزيد أحد بنى دارم. قال: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارىّ، قالوا: فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال بالظهر؛ والناس ينتظرون خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعجلوا واستبطئوه، فنادوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجراته: يا محمد! اخرج إلينا. فخرج رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام «1» بلال، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، ثم أتوه؛ فقال الأقرع بن حابس: يا محمد، ايذن لى، فو الله إنّ حمدى لزين، وإنّ ذمّى لشين. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت، ذاك الله تبارك وتعالى» . حكاه ابن سعد. وحكى محمد بن إسحق أنهم قالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذى له علينا الفضل والمنّ؛ وهو أهله الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدّة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدّد مثل ما عدّدنا، وإنّا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا «2» من الإكثار فيما أعطانا، وإنّا نعرف [بذلك] «3» ] . أقول هذا «4» لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن الشّمّاس أخى بنى الحارث ابن الخزرج: «قم فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت فقال: الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شىء قطّ إلا من فضله، وكان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه

كتابه، وائتمنه على [خلقه «1» ] فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم المهاجرون من قومه وذوى رحمه؛ أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا. ثم كان أوّل الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحن؛ فنحن أنصار الله، ووزراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات. والسلام عليكم. فقام الزّبرقان بن بدر، فقال: نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع «2» [ويروى: «وفينا يقسم الرّبع» ، بدل «تنصب البيع «3» » ] . ... وكم قسرنا من الأحياء كلّهم عند النّهاب وفضل العزّ يتّبع ... ونحن يطعم عند القحط مطعمنا من الشّواء إذا لم يؤنس القزع «4» ... بما ترى الناس تأتينا سراتهم من كلّ أرض هويّا ثم نصطنع «5» [ويروى: من كلّ أرض هوانا ثم نتّبع «6» ]

فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا «1» فلا ترانا إلى حىّ نفاخرهم ... إلّا استقادوا وكانوا الرأس يقتطع فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع إنّا أبينا ولم يأبى «2» لنا أحد ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع قال محمد بن إسحق: وكان حسان بن ثابت غائبا، فبعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال حسان: جاءنى رسوله فأخبرنى أنه إنما دعانى لأجيب شاعر بنى تميم، فخرجت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أقول: منعنا رسول الله إذ حلّ وسطنا ... على أنف راض من معدّ وراغم منعناه لمّا حلّ بين بيوتنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم ببيت حريد عزّه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم «3» هل المجد إلّا السّودد «4» العود والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم قال: فلما انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت فى قوله وقلت على نحو ما قال. قال: ولما فرغ الزّبرقان من إنشاده، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسّان بن ثابت: «قم فأجب الرجل» فقام حسّان فقال:

إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع «1» يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع «2» [ويروى: يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذى شرعوا «3» ] قوم إذا جاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا «4» سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع «5» إن كان فى الناس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الرّقاع ولا يوهون ما رقعوا «6» إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالذّرى متعوا «7» أعفّة ذكرت فى الوحى عفّتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمع «8»

لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمع طبع «1» إذا نصبنا لحىّ لا ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع «2» تسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزّعانف من أظفارها خشعوا «3» لا يفخرون إذا نالوا عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع «4» كأنّهم فى الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية فى أرساغها فدع «5» خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الذى منعوا «6» فإنّ فى حربهم فاترك عداوتهم ... شرّا يخاض عليه السّمّ والسّلع» أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشّيع «8» أهدى لهم مدحتى قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع «9» فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا «10»

وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله: حدّثنى بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم أن الزّبرقان بن بدر لمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد بنى تميم، قام فقال: أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم «1» بأنّا فروع الناس فى كلّ موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم «2» وأنّا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم «3» وأنّ لنا المرباع فى كلّ غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم «4» فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال: هل المجد إلّا السّودد العود «5» والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النّبىّ محمدا ... على أنف راض من معدّ وراغم بحىّ حريد أصله وثراؤه «6» ... بجابية الجولان وسط الأعاجم نصرناه لمّا حلّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء «1» المغانم ونحن ضربنا الناس حتّى تتابعوا ... على دينه بالمرهفات الصّوارم «2» ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبىّ الخير من آل هاشم «3» بنى دارم لا تفخروا إنّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم «4» هبلتم، علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم «5» فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا فى المقاسم فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم «6» وأفضل ما نلتم من المجد والعلا ... ردافتنا عند احتضار المواسم «7» قالوا: فلما فرغ حسّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له «8» ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلم منّا. ونزل فى وفد بنى تميم قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «9» .

قال محمد بن سعد: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قيس بن عاصم: «هذا سيّد أهل الوبر» وردّ عليهم الأسرى والسّبى، وأمر لهم بالجوائز كما كان يجيز الوفد؛ ثنتى عشرة أوقية ونشّا «1» ، وهى خمسمائة درهم. قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الأهمّ قد خلّفه القوم فى ظهرهم «2» ، وكان أصغرهم ستّا، فقال قيس بن عاصم، وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله! إنه قد كان رجل منّا فى رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أعطى القوم، فبلغ عمرو بن الأهتم ما قاله قيس فيه؛ فقال: ظللت مفترش الهلباء «3» تشتمنى ... عند النبىّ فلم تصدق ولم تصب إن تنقصونا فإنّ الرّوم «4» أصلكم ... والرّوم لا تملك البغضاء للعرب وإنّ سوددنا عود وسوددكم ... مؤخّر عند أصل العجب والذّنب «5» وروى أن الزّبر قان فخر يومئذ فقال: يا رسول الله، أنا سيّد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظّلم، وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم. فقال عمرو: إنه شديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع فى أدانيه. فقال الزّبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه من أن يتكلم إلا الحسد.

ذكر وفد فزارة واستسقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم

فقال عمرو: أنا أحسدك؟! فو الله إنّك لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مبغض فى العشيرة، والله ما كذبت فى الأولى، ولقد صدقت فى الثانية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من البيان لسحرا» . ذكر وفد فزارة واستسقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم قال ابن سعد: لمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك، قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا؛ فيهم خارجة بن حصن، والحرّ ابن قيس بن حصن، وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاءوا مقرّين بالإسلام. وسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بلادهم، فقالوا: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت «1» مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث «2» عيالنا، فادع لنا ربك. فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر ودعا، فقال: «اللهمّ اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، فأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا «3» ، مريئا «4» مريعا «5» ، مطبقا «6» واسعا، عاجلا غير آجل، ناقعا غير ضارّ. اللهمّ اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» فمطرت، فما رأوا السماء ستّا «7» ، فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر، فدعا، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا، على الآكام والظّراب «8» ، وبطون الأودية، ومنابت الشّجر» . قال: فانجابت «9» السماء عن المدينة انجياب الثوب.

ذكر وفد مرة

وفى صحيح البخارىّ عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أصابت الناس سنة «1» على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب على المنبر يوم الجمعة، قام أعرابى فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، وما فى السماء قزعة «2» سحاب، قال: فثار «3» سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، قال: فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد [الغد «4» ] والذى يليه إلى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابى- أو رجل غيره «5» - فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، فقال: «اللهمّ حوالينا ولا علينا» قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلّا تفرّجت «6» ، حتى صارت المدينة فى مثل الجوبة «7» ، حتى سال الوادى وادى قناة «8» شهرا. قال: فلم يأت أحد من جهة إلا حدّث بالجود «9» . ذكر وفد مرّة قال: قدم وفد بنى مرّة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مرجعه من تبوك فى سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلا، رأسهم الحارث بن عوف؛ فقالوا: يا رسول الله، إنّا قومك وعشيرتك، ونحن قوم من لؤىّ بن غالب. فتبسّم

ذكر وفد محارب

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: «أين تركت أهلك» ؟ قال: بسلاح «1» وما والاها. قال: «كيف تركت البلاد» ؟ قال: والله إنّا لمسنتون «2» ، فادع الله لنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اسقهم الغيث» وأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق، عشرة أواق فضّة، وفضّل الحارث بن عوف، أعطاه ثنتى عشرة أوقية. فرجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد مطرت فى اليوم الذى دعا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد محارب قال: قدم وفد محارب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة عشر، فى حجّة الوداع، وهم عشرة نفر، منهم سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء؛ فأسلموا وقالوا: نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد فى تلك المواسم أفظّ ولا أغلظ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بنى محارب. قال: ومسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه خزيمة «3» بن سواء، فصارت له غرّة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى أهليهم. ذكر وفد كلاب قال: قدم وفد كلاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، وهم ثلاثة عشر رجلا، فيهم لبيد بن ربيعة، وجبّار بن سلمى، فأنزلهم

ذكر وفد رؤاس بن كلاب

دار رملة بنت الحارث، فقالوا: يا رسول الله، إنّ الضحاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله، وبسنّتك التى أمرته، وإنه دعانا إلى الله، فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصّدقة من أغنيائنا فردّها على فقرائنا. ذكر وفد رؤاس بن كلاب روى عن أبى نفيع طارق بن علقمة الرؤاسىّ أنه قال: قدم رجل منّا يقال له عمرو بن مالك بن قيس الرّؤاسىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بنى عقيل بن كعب مثل ما أصابوا منّا، فخرجوا يريدونهم، وخرج معهم عمرو بن مالك فأصابوا فيهم، ثم خرجوا يسوقون النّعم، فأدركهم فارس من بنى عقيل، يقال له ربيعة بن المنتفق بن عامر ابن عقيل، وهو يقول: أقسمت لا أطعن إلّا فارسا ... إذا الكماة لبسوا القوانسا «1» قال أبو نفيع: فقلت نجوتم يا معشر الرّجّالة سائر اليوم، فأدرك العقيلىّ رجلا من بنى عبيد بن رؤاس: يقال له المحرّش بن عبد الله بن عمرو بن عبيد بن رؤاس، فطعنه فى عضده فأخبلها «2» ، فاعتنق المحرّش فرسته، وقال: يا آل رؤاس! فقال ربيعة: رؤاس خيل أو أناس؟! فعطف على ربيعة عمرو بن مالك فطعنه فقتله. قال: ثم خرجنا نسوق النّعم، وأقبل بنو عقيل فى طلبنا حتى انتهينا إلى تربة «3» ، فقطع ما بيننا وبينهم وادى تربة، فجعل بنو عقيل ينظرون إلينا فلا يصلون

ذكر وفد عقيل بن كعب

إلى شىء فمضينا. قال عمرو بن مالك: فأسقط فى يدى، وقلت: قتلت رجلا، وقد أسلمت وبايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم! فشددت يدى فى غلّ إلى عنقى، ثم خرجت أريد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغه ذلك، فقال: «لئن أتانى لأضربنّ ما فوق الغلّ من يده» قال: فأطلقت يدى، ثم أتيته فسلّمت عليه فأعرض عنّى فأتيته عن يمينه فأعرض عنّى، فأتيته عن يساره فأعرض عنّى، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله، إن الربّ ليترضّى [فيرضى «1» ] ، فارض عنّى رضى الله عنك. قال: «قد رضيت عنك» . ذكر وفد عقيل بن كعب قال محمد بن السّائب: حدّثنا رجل من بنى عقيل بن كعب، عن أشياخ قومه، قالوا: وفد منّا من بنى عقيل بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربيع ابن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، ومطرّف بن عبد الله، وأنس بن قيس ابن المنتفق، فبايعوا وأسلموا، وبايعوه على من وراءهم من قومهم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقيق عقيق بنى عقيل، وهى أرض فيها عيون ونخل وكتب لهم بذلك كتابا فى أديم أحمر: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرّفا وأنسا؛ أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وسمعوا وأطاعوا» . ولم يعطهم حقّا لمسلم، وكان الكتاب فى يد مطرّف. ووفد عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل، فأعطاه ماء يقال له النّظيم وبايعه على قومه.

قال: وقدم عليه أبو حرب بن خويلد بن عامر بن عقيل، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه القرآن، وعرض عليه الإسلام، فقال: أما وايم الله لقد لقيت الله أو لقيت من لقيه، فإنّك لتقول قولا لا نحسن مثله، ولكن سوف أضرب بقداحى هذه على ما تدعونى إليه، وعلى دينى الذى أنا عليه، وضرب بالقداح، فخرج على سهم الكفر، ثم أعاد فخرج عليه ثلاث [مرّات «1» ] . فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبى هذا إلّا ما ترى، ثم رجع إلى أخيه عقال «2» بن خويلد، فقال له: قلّ خيسك. أى قلّ خيرك. فقال: هل لك فى محمد ابن عبد الله؟ يدعو إلى دين الإسلام، ويقرأ القرآن، وقد أعطانى العقيق إن أنا أسلمت، فقال له عقال: أنا والله أخطّك أكثر مما يخطّك محمد، ثم ركب فرسه وجرّ رمحه على أسفل العقيق، فأخذ أسفله وما فيه من عين، ثم إنّ عقالا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليه الإسلام، وجعل يقول له: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ فيقول: أشهد أن هبيرة بن النّفاضة نعم الفارس يوم قرنى لبان «3» . ثم قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ قال: «أشهد أنّ الصّريح تحت الرّغوة» «4» ، ثم قال له الثالثة: «أتشهد» ؟ قال: فشهد وأسلم.

ذكر وفد جعدة

قال: ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحصين بن المعلّى بن ربيعة ابن عقيل، وذو الجوشن «1» الضّبابىّ فأسلما. ذكر وفد جعدة قال محمد بن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب، فأعطاه صلّى الله عليه وسلّم بالفلج «2» ضيعة، وكتب له كتابا وهو عندهم. ذكر وفد قشير بن كعب قال: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى قشير، قبل حجة الوداع وبعد حنين، فيهم ثور بن عزرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير فأسلم، فأقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطيعة «3» ، وكتب له بها كتابا. وفيهم حيدة «4» بن معاوية ابن قشير، وفيهم قرّة بن هبيرة بن سلمة الخير بن قشير فأسلم، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكساه بردا، وأمره أن يتصدّق على قومه؛ أى يلى الصدقة «5» .

ذكر وفد بنى البكاء

ذكر وفد بنى البكّاء قال: وفد ثلاثة نفر من بنى البكّاء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع، فيهم معاوية بن ثور بن عبادة بن البكّاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله، ومعهم عبد عمرو البكّائى وهو الأصمّ، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وكتب له بمائه الذى أسلم عليه «ذى القصّة «1» » . وكان عبد الرحمن من أصحاب الصّفّة «2» ، فأنزلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزل وضيافة، وأجازهم ورجعوا إلى قومهم. وقال معاوية للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنى أتبرك بمسّك وقد كبرت، وابنى هذا برّ بى فامسح وجهه، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجه بشر بن معاوية، وأعطاه أعنزا عفرا «3» ، وبرّك عليهنّ «4» ، وكانت السّنة «5» تصيب بنى البكّاء ولا تصيبهم، وفى ذلك يقول محمد بن بشر بن معاوية: وأبى الذى مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا ... عفرا نواجل لسن باللّجبات «6» يملأن رفد الحىّ كلّ عشيّة ... ويعود ذاك الملء بالغدوات «7» بوركن من منح وبورك مانحا ... وعليه منّى ما حييت صلاتى «8»

ذكر وفد كنانة وبنى عبد بن عدى

ذكر وفد كنانة وبنى عبد بن عدىّ قالوا: وفد واثلة بن الأسقع الليثىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز إلى تبوك، فصلّى معه الصّبح، فقال: «من أنت؟ وما جاء بك؟ وما حاجتك» ؟ فأخبره عن نسبه، وقال: أتيتك لأومن بالله ورسوله؛ [فقال رسول الله: «1» ] «فبايع على ما أحببت وكرهت» . فبايعه ورجع إلى أهله فأخبرهم؛ فقال أبوه: والله لا أكلّمك كلمة أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهّزته، فخرج راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجده قد سار إلى تبوك. فقال: من يحملنى عقبة «2» وله سهمى؟ فحمله كعب بن عجرة حتى لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد معه تبوك. وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فجاء بسهمه «3» إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله وسوّغه إياه، وقال: إنما حملتك لله تعالى. قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى عبد بن عدى، وفيهم الحارث بن أهبان، وعويمر بن الأخرم، وحبيب وربيعة ابنا ملّة، ومعهم رهط من قومهم؛ فقالوا: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنوه «4» ، وأعزّ من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك، ولكنا لا نقاتل قريشا. وإنا لنحبك ومن أنت منه، فإن أصبت منّا أحدا خطأ فعليك ديته، وإن أصبنا أحدا من أصحابك فعلينا ديته. فقال: «نعم» فأسلموا.

ذكر وفد باهلة

ذكر وفد باهلة قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطرّف بن الكاهن الباهلىّ بعد الفتح وافدا لقومه، فأسلم وأخذ لقومه أمانا، وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه فرائض الصّدقات. ثم قدم نهشل بن مالك الوائلىّ من باهلة على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وافدا لقومه، فأسلم وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولمن أسلم من قومه كتابا فيه شرائع الإسلام. كتبه عثمان بن عفّان. ذكر وفد هلال بن عامر قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من بنى هلال، فيهم عبد عوف بن أصرم بن عمرو بن شعيثة «1» فأسلم؛ فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وفيهم قبيصة بن المخارق، فقال: يا رسول الله، إنّى حملت عن قومى حمالة «2» فأعنّى فيها؛ قال: «هى لك فى الصّدقات إذا جاءت» . قالوا: ووفد زياد بن عبد الله بن مالك، فلما دخل المدينة، توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكانت خالة زياد- أمّه عزّة بنت الحارث، وهو يومئذ شاب- فدخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فلما رآه غضب ورجع، فقالت: يا رسول الله، هذا ابن أختى، فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد، فصلّى الظهر، ثم أدنى زيادا فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه. فكانت بنو هلال تقول: مازلنا نتعرّف البركة فى وجه زياد. قال الشاعر لعلىّ بن زياد:

ذكر وفد عامر بن صعصعة وخبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس

يابن الذى مسح النبىّ برأسه ... ودعا له بالخير عند المسجد أعنى زيادا لا أريد سواءه ... من غائر أو متهم أو منجد «1» ما زال ذاك النور فى عرنيه ... حتى تبوّأ بيته فى الملحد ذكر وفد عامر بن صعصعة وخبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس قال محمد بن سعد: قدم عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وأربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر.- قال ابن إسحق: وأربد بن قيس ابن جزء «2» بن خالد بن جعفر، وجبّار بن سلمى بن مالك بن جعفر-[على رسول الله «3» صلّى الله عليه وسلّم]-.- قال ابن سعد- فقال عامر بن الطّفيل: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم» . قال: أتجعل لى الأمر من بعدك؟ قال: «ليس ذلك لك ولا لقومك» قال: أفتجعل لى الوبر ولك المدر؟ «4» قال: «لا، ولكنّى أجعل لك أعنّة الخيل، فإنك امرؤ فارس» . قال: أو ليست لى؟! لأملأنها عليك خيلا ورجلا «5» . ثم ولّيا؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اكفنيهما، اللهمّ واهد بنى عامر وأغن الإسلام عن عامر» - يعنى ابن الطّفيل. وقال ابن إسحق: قدم عامر بن الطّفيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم،

فقال: والله لقد كنت آليت ألّا أنتهى حتّى تتبع العرب عقبى، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد بن قيس: إذا قدمنا على الرجل فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عامر بن الطّفيل. يا محمد، خالّنى «1» . قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده» ، فجعل يكرر هذا القول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعيد عليه مقالته، وهو فى ذلك ينتظر من أربد ما أمره به، فلم يصنع أربد شيئا، وكان آخر ما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجلا، فلما ولّى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى عامر ابن الطّفيل» فلما خرجوا من عنده قال عامر لأربد: ويلك! أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندى على نفسى منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال له أربد: لا أبا لك! لا تعجل علىّ، والله ما هممت بالذى أمرتنى به من أمره إلا دخلت بينى وبين الرجل، حتى لا أرى غيرك! أفأضربك بالسيف! قال: وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطّفيل الطاعون فى عنقه، فمال إلى بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر، غدّة كغدّة البكر، وموت فى بيت سلوليّة «2» ! قال: ومات فواراه أصحابه، وخرجوا حتى قدموا أرض بنى عامر، فأتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لا شىء، والله لقد

دعانا إلى عبادة شىء لوددت أنه عندى الآن فأرميه بالنّبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه «1» ، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وقال أبو إسحق أحمد بن محمد الثعلبىّ فى هذه القصة، بسند يرفعه إلى عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أقبل عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة يريدان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالمسجد جالس فى نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف «2» الناس لجمال عامر، وكان أعور، وكان من أجمل الناس، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، هذا عامر ابن الطّفيل قد أقبل نحوك، فقال: «دعه فإن يرد الله به خيرا يهده» فأقبل حتى قام عليه. فقال: يا محمد، مالى إن أسلمت؟ فقال: «لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين» . قال: تجعل لى الأمر بعدك؟ قال: «ليس ذلك إلىّ، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء» . قال تجعلنى على الوبر وأنت على المدر؟. قال: «لا» . قال: فماذا تجعل لى؟ قال: «أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها» . قال: أو ليس ذلك لى اليوم؟! قم معى أكلّمك. فقام معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتنى أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف؛ فجعل يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويراجعه، فدار أربد خلف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله عزّ وجلّ عنه فلم يقدر على سلّه، وجعل عامر يومىء إليه، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: «اللهم

اكفنيهما بما شئت» . فأرسل الله عزّ وجلّ على أربد صاعقة فى يوم صائف فأحرقته، وولّى عامر هاربا، وقال: يا محمد، دعوت ربّك فقتل أربد، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا «1» ، وفتيانا مردا «2» ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يمنعك الله ذلك وأبناء قيلة» يعنى الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلوليّة وأنشأ يقول: تخيّر أبيت اللّعن إن شئت ودّنا ... وإن شئت حربا ذات بأس ومصدق وإن شئت فتيانا بكفّى أمرهم ... يكبّون كبش العارض المتألّق فلما أصبح ضمّ عليه سلاحه، وقد تغيّر لونه، وهو يقول: لعمرى وما عمرى علىّ بهينّ ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر «3» وقد علم المزنوق أنّى أكرّه ... على جمعهم كرّ المنيح المشهّر «4» إذا ازورّ من وقع السّنان زجرته ... وأخبرته أنّى امرؤ غير مقصر «5» وأخبرته أنّ الفرار خزاية ... على المرء ما لم يبد عذرا فيعذر «6» لقد علمت عليا هوازن أنّنى ... أنا الفارس الحامى حقيقة جعفر

فجعل يركض فى الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت! ثم أنشأ يقول: ألا قرّب المزنوق «1» إذ جدّ ما أرى ... لتعريض يوم شرّه غير حامد ألا قرّباه إنّ غاية جرينا ... إذا قرب المزنوق بين الصّفائد بنو عامر قومى إذا ما دعوتهم ... أجابوا ولبىّ منهم كلّ ماجد ويقول: واللّات لئن أصحر «2» إلىّ وصاحبه- يعنى ملك الموت- لأنفذتهما برمحى. قال: فلما رأى الله عزّ وجلّ ذلك منه، أرسل ملكا فلطمه بجناحه، فأرداه فى التراب، وخرجت على ركبته غدّة عظيمة فى الوقت، فعاد إلى بيت السّلوليّة وهو يقول: غدّة كغدّة البعير، وموت فى بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه، ثم أجراه حتى مات على ظهره. قال: فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثى؛ فمنها هذه الأبيات: قضّ اللّبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «3» ذهب الذين يعاش فى أكنافهم ... وبقيت فى خلف كجلد الأجرب «4» يتلذّذون ملاذة ومجانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشعب «5» فتعدّ عن هذا وقل فى غيره ... واذكر شمائل من أخ لك معجب «6»

إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها ... فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب» من معشر سنّت لهم أباؤهم ... والعزّ لا يأتى بغير تطلّب يا أربد الخير الكريم جدوده ... أفردتنى أمشى بقرن أعضب «2» وقال أيضا فيه: ما إن تعدّى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد «3» أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «4» يا عين هبلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد «5» فجّعنى الرّعد والصّواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النّجد «6» قال: وأنزل الله عزّ وجلّ فى هذه القصّة: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَحْفَظُونَهُ يعنى تلك المعقبات مِنْ أَمْرِ اللَّهِ . ثم قال تعالى مشيرا لهذين: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ «7» .

أى ملجإ يلجئون إليه. وقد قيل: والٍ يلى أمرهم، ويمنع العذاب عنهم. ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً . قال: خَوْفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقّته. وَطَمَعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1» قال الحسن: شديد الحقد «2» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: شديد الأخذ. وقد روى الثعلبىّ أيضا، عن إسحق الحنظلىّ، عن ريحان بن سعيد الشّامى، عن عبّاد بن منصور، قال سألت الحسن عن قوله عز وجل: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية. قال: كان رجل من طواغيت العرب، فبعث إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم نفرا ليدعوه إلى الله عز وجل ورسوله أن يؤمن، فقال لهم: أخبرونى عن ربّ محمد هذا الذى تدعونى إليه ما هو؟ وممّ هو؟ من دهب أم فصّة أم حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته، وانصرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلا أكفر قلبا، ولا أعتى على الله منه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى وأخبث، «3» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا، فبيناهم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول هذه المقالة؛

إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم، فرعدت وبرقت فرمت بصاعقة فاحترق «1» الكافر وهم جلوس، فجاءوا يسعون ليخبروا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لهم: احترق صاحبكم. قالوا لهم: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الساعة: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية. والله أعلم فى أيهما نزلت. ولنرجع إلى تتمة خبر وفد عامر بن صعصعة. قال محمد بن سعد فى طبقاته: وكان فى الوفد عبد الله بن الشّخّير، فقال: يا رسول الله، أنت سيدنا، وذو الطّول علينا. قال: «السيّد الله، لا يستهوينّكم الشيطان» . قالوا: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن علاثة بن عوف، وهوذة بن خالد بن ربيعة وابنه، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه جالسا إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوسع لعلقمة» فأوسع له، فجلس إلى جنبه، فقصّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرائع الإسلام، وقرأ عليه قرآنا، فقال: يا محمد، إن ربّك لكريم، وقد آمنت بك، وبايعت على عكرمة بن خصفة أخى قيس، وأسلم هوذة وابنه وابن أخيه. وروى ابن سعد عن عون بن أبى جحيفة السّوائىّ عن أبيه قال: قدم وفد بنى عامر وكنت معهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فوجدناه بالأبطح فى قبّة حمراء، فسلّمنا عليه، فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: بنو عامر بن صعصعة. قال: «مرحبا بكم أنتم منّ وأنا منكم» .

ذكر وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللات

ذكر وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات كان قدوم وفد ثقيف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلامها فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره «2» . قال أبو عبد الله محمد بن إسحق، وأبو محمد عبد الملك بن هشام، وأبو عبد الله محمد بن سعد رحمهم الله، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض: لمّا حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطائف لم يحضر عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الحصار، بل كانا بجرش «3» يتعلّمان صنعة العرّادات «4» والمنجنيق والدّبابات، فقدما وقد انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الطّائف، فنصبا المنجنيق والعرّادات والدبّابات واعتدّا للقتال، ثم ألقى الله فى قلب عروة الإسلام، فخرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبع أثره، حتى أدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّهم قاتلوك» فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبكارهم. قال: فكرر علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ثلاثا، فقال: «إن شئت فاخرج» فخرج، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا، فسار إلى الطائف، فسار خمسا

فقدم عشاء، فدخل منزله، فجاء قومه يحيّونه بتحيّة الشّرك، فقال: عليكم بتحية أهل الجنة «السّلام» . ودعاهم إلى الإسلام فخرجوا من عنده يأتمرون به، فلمّا طلع الفجر أوفى على غرفة له فأذّن بالصلاة، فخرجت ثقيف من كل ناحية، فرماه رجل يقال له أوس بن عوف أخو بنى سالم بن مالك- وقيل: بل هو وهب بن جابر رجل من الأحلاف- بسهم فأصاب أكحله «1» فلم يرقأ دمه، فقام أشراف قومه؛ وهم: غيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل، والحكم بن عمرو ابن وهب، ووجوه الأحلاف، فلبسوا السّلاح وحشدوا، فلما رأى عروة ذلك قال: قد تصدّقت بدمى على صاحبه؛ لأصلح بذلك بينكم، وهى كرامة أكرمنى الله بها، وشهادة ساقها الله إلىّ. وقال: ادفنونى مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات فدفنوه معهم، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره فقال فيه: «إنّ مثله فى قومه لكمثل صاحب «يس» دعا قومه إلى الله فقتلوه» . قالوا: ولحق أبو المليح بن عروة، وقارب بن الأسود بن مسعود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تولّيا من شئتما» فقالا: نتولّى الله ورسوله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وخالكما أبا سفيان بن حرب» فقالا: وخالنا أبا سفيان. قال ابن إسحق: ثم أقامت ثقيف بعد ما قتل عروة أشهرا، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا. وكان

مالك بن عوف قد أسلم كما قدّمنا فى غزوة حنين، وجعل يغير على سرحهم «1» . قال: وكان عمرو بن أمية أخا بنى علاج مهاجرا «2» لعبد يا ليل «3» بن عمرو، وكان من أدهى العرب، فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره، ثم أرسل إليه أن اخرج إلىّ، فاستعظم عبد ياليل مشيه إليه، وقال للرسول الذى جاءه: ويلك! أعمرو أرسلك إلىّ؟ قال: نعم، وها هو ذا واقفا فى دارك، فقال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك، وخرج إليه، فلمّا رآه رحّب به، فقال عمرو له: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة «4» ، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا فى أمركم. فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب «5» ، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع. فأجمعوا رأيهم أن يرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم، كما أرسلوا عروة بن مسعود، فعرضوا ذلك على عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: لست فاعلا حتى يرسلوا معى رجالا، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بنى مالك، فبعثوا معه الحكم بن عمرو بن وهب بن معتّب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتّب، ومن بنى مالك عثمان بن أبى العاص بن بشر أخا بنى يسار، وأوس بن عوف أخا بنى سالم،

ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بنى الحارث، فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب «1» القوم وصاحب أمرهم. وقال ابن سعد: كانوا بضعة عشر رجلا، وهو أثبت. قال ابن إسحق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة «2» ، ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت رعيتها نوبا «3» على أصحابه، فلما رآهم ترك الرّكاب عند الثّقفيين، وخرج يشتدّ «4» ليبشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة والإسلام، فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى أكون أنا أحدّثه؛ ففعل المغيرة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إليهم فعلّمهم كيف يحيّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. قال: ولما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ضرب عليهم قبّة فى ناحية مسجده- كما يزعمون «5» -، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كتبوا كتابهم، وكتبه خالد بيده، وهو:

«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبىّ رسول الله، إلى المؤمنين: إنّ عضاه «1» وجّ «2» وصيده [حرام «3» ] لا يعضد «4» ، من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبىّ- محمدا صلّى الله عليه وسلّم- وأن هذا أمر النبىّ محمد رسول الله. وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعدّه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . قال ابن إسحق: وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم. قال: وقد كان فيما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدع لهم الطّاغية وهى اللّات؛ لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمّى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا «5» بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وألّا يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصّلاة فإنه لا خير فى دين لا صلاة فيه» . فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة. فلما أسلموا

وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابهم، أمر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سنّا، وكان أحرصهم على التّفقّه فى الإسلام وتعلّم القرآن، فقال أبو بكر الصدّيق ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى عن عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان؛ تجاوز «1» في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصّغير والضّعيف وذا الحاجة» . قال ابن إسحق: ولما توجهوا إلى بلادهم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان فأبى ذلك عليه، وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم «2» ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بنو معتّب دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين ويقلن: لتبكينّ دفّاع «4» ... أسلمها الرّضّاع «5» لم يحسنوا المصاع «6»

ذكر وفد عبد القيس

قال: ويقول أبو سفيان بن حرب، والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك! أهلا لك «1» ! فلما هدمها المغيرة بن شعبة وأخذ ما لها وحليّها، أرسل إلى أبى سفيان، وحلّيها مجموع، ومالها من الذّهب والجزع «2» . وقد كان أبو مليح بن عروة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقضى عن أبيه عروة بن مسعود دينا كان عليه من مال الطاغية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه،- وعروة والأسود أخوان لأب وأمّ- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأسود مات مشركا» ، فقال قارب: يا رسول الله، لكن يصل مسلما ذا قرابة- يعنى نفسه- إنّما الدّين علىّ وأنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطّاغية؛ فلمّا جمع المغيرة مالها قال لأبى سفيان: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمرك أن تقضى عن عروة والأسود دينهما. فقضى عنهما. قال المغيرة: فدخلت ثقيف فى الإسلام، فلا أعلم قوما من العرب بنى أب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلاما، ولا أبعد أن يوجد فيهم غشّ لله ولكتابه منهم. ذكر وفد عبد القيس «3» قال محمد بن سعد: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل البحرين أن يقدم عليه منهم عشرون رجلا، فقدموا؛ رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ،

وفيهم الجارود بن عمرو بن حنش، ومنقذ بن حبّان وهو ابن أخت الأشجّ، وكان قدومهم عام الفتح، فقيل: يا رسول الله، هؤلاء وفد عبد القيس، فقال: «مرحبا بهم نعم القوم عبد القيس» . قال: ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا، فقال: «ليأتينّ ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الرّكاب، وأفنوا الزاد، بصاحبهم علامة، اللهمّ اغفر لعبد القيس، أتونى لا يسألون مالا، هم خير أهل المشرق» . قال: فجاءوا فى ثيابهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه، فقال: «أيكم عبد الله الأشجّ» ؟ فقال: أنا يا رسول الله. وكان رجلا دميما، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إنه لا يستقى «1» في مسوك «2» الرجال، إنما يحتاج من الرّجل إلى أصغريه لسانه وقلبه «3» » . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيك خصلتان يحبّهما الله تعالى» فقال عبد الله: وما هما؟ قال: «الحلم والأناة» «4» . قال: أشىء حدث أم جبلت عليه؟. قال: «بل جبلت عليه» . قال: وكان الجارود نصرانيا، فعرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام ورغّبه فيه. قال ابن إسحق: فقال يا محمد، إنّى قد كنت على دين، وإنى تارك دينى لدينك: أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وأسلم أصحابه.

ذكر وفد بكر بن وائل

قال ابن سعد: وأنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عبد القيس فى دار رملة بنت الحارث، وأجرى عليهم ضيافة، وأقاموا عشرة أيام، وكان عبد الله الأشجّ يسائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الفقه والقرآن، وأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز، وفضّل عليهم عبد الله الأشجّ؛ فأعطاه اثنتى عشرة أوقية ونشّا، ومسح صلّى الله عليه وسلّم وجه منقذ بن حبّان. ذكر وفد بكر بن وائل قال ابن سعد: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى الوفد بشير بن الحصاصيّة «1» ، وعبد الله بن مرثد، وحسّان بن خوط؛ ولذلك يقول رجل من ولد حسّان «2» : أنا ابن حسّان بن خوط وأبى ... رسول بكر كلّها إلى النّبى قالوا: وقدم معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجراب من تمر، فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبركة. وحيث ذكرنا وفد بكر بن وائل فلنذكر خبر الأعشى.

ذكر خبر أعشى بنى قيس وامتداحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه قبل لقائه

ذكر خبر أعشى بنى قيس وامتداحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجوعه قبل لقائه قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى خلّاد بن قرّة بن خالد السّدوسىّ، وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم، أنّ أعشى «1» بنى قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السّليم مسهّدا «2» وما ذاك من عشق النّساء وإنّما ... تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا «3» ولكن أرى الدّهر الّذى هو خائن ... إذا أصلحت كفّاى عاد فأفسدا «4» كهولا وشبّانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدّهر كيف تردّدا «5»

وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا «1» وأبتذل العيس المراقيل تغتلى ... مسافة ما بين النّجير فصرخدا «2» ألا أيّهذا السّائلى أين يمّمت ... فإنّ لها فى أهل يثرب موعدا «3» فإن تسألى عنّى فياربّ سائل ... حفىّ عن الأعشى به حيث أصعدا «4» أجدّت برجليها النّجاء وراجعت ... يداها خنافا ليّنا غير أحردا «5» وفيها إذا ما هجّرت عجرفيّة ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا «6»

وأمّا إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا ما يغيب وفرقدا «1» فآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتّى تلاقى محمّدا «2» متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندا «3» نبىّ يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا «4» له صدقات ما تغبّ ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا «5» أجدّك لم تسمع وصاة محمد ... نبىّ الإله حيث أوصى وأشهدا «6»

إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا «1» ندمت على ألّا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذى كان أرصدا «2» فإيّاك والميتات لا تقربنّها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتفصدا «3» ولا النّصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «4» ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا «5» وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّه ... لعاقبة ولا الأسير المقيّدا «6» وسبّح على حين العشيّات والضّحى ... ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا «7» ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبنّ المال للمرء مخلدا «8»

ذكر وفد تغلب

فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسلم، فقال له: يا أبا بصير إنه يحرّم الزّنى. فقال الأعشى له: والله إن ذلك لأمر مالى فيه من أرب. فقال: يا أبا بصير فإنه يحرّم الخمر. فقال: أمّا هذه فو الله إنّ فى النفس منها لعلالات «1» ، ولكنّى منصرف فأتروّى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات من عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد تغلب قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى تغلب «2» ، وهم ستة عشر رجلا مسلمين، ونصارى عليهم صلب الذّهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح صلّى الله عليه وسلّم النّصارى على أن يقرّهم على ذمّتهم «3» ، على ألّا يصبغوا أولادهم فى النّصرانية، وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم. ذكر وفد حنيفة قالوا: قدم وفد بنى حنيفة «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بضعة عشر رجلا، فيهم رجّال «5» بن عنقوة، وسلمى بن حنظلة، وطلق بن علىّ بن قيس،

وحمران بن جابر، وعلىّ بن سنان، والأقعس بن مسلمة «1» ، وزيد بن عمرو «2» ، ومسيلمة ابن حبيب، وهو الكذّاب. وعلى الوفد سلمى بن حنظلة، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث «3» ، وأجريت عليهم ضيافة. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه وشهدوا شهادة الحقّ، وخلّفوا مسيلمة فى رحالهم. وأقاموا أياما يختلفون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رجّال بن عنفوة يتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم، أمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائزهم: خمس أواق لكل رجل، فقالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه. وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» . فقيل ذلك لمسيلمة فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده. وأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إداوة من ماء فيها فضل طهوره، فقال: «إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم «4» ، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا» ففعلوا، وصارت الإداوة عند الأقعس بن مسلمة، وصار المؤذّن طلق بن علىّ، فأذّن فسمعه راهب البيعة، فقال: كلمة حقّ. وهرب فكان آخر العهد به. ثم ادّعى مسيلمة الكذّاب بعد ذلك النبوّة، وشهد له الرّجّال «5» أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشركه فى الأمر، فافتتن الناس به، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى فى خلافة أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه.

ذكر وفد شيبان

ذكر وفد شيبان قال: وقدم من بنى شيبان حريث «1» بن حسّان الشّيبانىّ، فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام وعلى قومه، وصحبه فى مسيره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيلة بنت مخرمة التّميميّة «2» ، وهى التى أرعدت من الفرق «3» لمّا أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها: «يا مسكينة عليك السّكينة» [فهدأت «4» ] . روى عن قيلة بنت مخرمة أنها قالت: إنّ حريث بن حسّان قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدّهناء «5» لا يجاوزها إلينا منهم إلّا مسافر أو مجاور. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا غلام اكتب له بالدّهناء» ، قالت قيلة: فلما رأيته أمر له بأن يكتب له بها، قلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدّهناء «6» عندك؛ مقيّد «7» الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال [رسول الله «8» ] : «أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتّان «9» » . فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، ضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: كنت أنا وأنت

[كما قيل «1» ] : «حتفها تحمل ضأن بأظلافها» » فقلت: أما والله أن كنت لدليلا فى الظّلماء، جوادا بذى الرّحل، عفيفا عن الرّفيقة، حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لا تلمنى على حظّى إذ سألت حظّك. فقال: وما حظّك فى الدّهناء لا أبا لك؟! قلت: مقيّد جملى تسأله لجمل امرأتك! قال: لا جرم، إنّى أشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّى لك أخ ما حييت إذ أثبت «3» هذا علىّ عنده. فقلت: [أما «4» ] إذ بدأتها فلن أضيعها. وحديث قيلة فيه طول ليس هذا موضعه.

ذكر وفادات أهل اليمن

ذكر وفادات أهل اليمن ذكر وفد طيّئ وخبر زيد الخيل وعدىّ بن حاتم قالوا: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد طيّئ خمسة عشر رجلا، رأسهم، وسيّدهم زيد الخيل بن مهلهل، من بنى نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس «1» النّبهانىّ، وهو قاتل عنترة، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيّئ، ومالك بن عبد الله بن خيبرى «2» من بنى معن، وقعين «3» بن خلف من جديلة «4» ، ورجل من بنى بولان «5» ، فدخلوا المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وأجازهم بخمس أواق فضة لكل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتى عشرة أوقية ونشّا. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ذكر لى رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لى إلّا ما كان من زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كلّ ما كان فيه» . وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «زيد الخير» وقطع له فيد «6» وأرضين معه، وكتب له بذلك كتابا، فخرج مع قومه راجعا، فقال رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم: «إن ينج زيد من حمّى المدينة فإنّه «1» » ، فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له قردة «2» أصابته الحمّى فمات، فعمدت امرأته إلى ما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كتب له فحرقته بالنار. هذا ما كان من خبر زيد الخيل. وأمّا عدىّ بن حاتم فكان من خبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس «3» - صنم طيّئ- ليهدمه ويشنّ الغارات، فخرج فأغار على حاضر آل حاتم، وأصابوا ابنة «4» حاتم، كما قدّمنا ذكر ذلك فى الغزوات والسّرايا، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ. وقيل: إنما سباها من خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيل كان عليها خالد بن الوليد، وهرب عدىّ بن حاتم حتى لحق بالشام. حكى محمد بن إسحق رحمه الله قال: كان عدىّ بن حاتم يقول- فيما بلغنى-: ما من رجل من العرب كان أشدّ كراهية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمع به منّى، أمّا أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير

فى قومى بالمرباع، أى آخذ منهم ربع مغانمهم التى يغنمونها، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكا فى قومى لما كان يصنع بى، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربىّ، وكان راعيا لإبلى: لا أبا لك! أعدد لى من إبلى جمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منّى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنىّ. ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة فقال: يا عدىّ، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإنى رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت: فقرّب إلىّ أجمالى. فقرّبها فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النّصارى بالشام، فسلكت الجوشيّة- ويقال الحوشيّة «1» - وخلّفت بنتا لحاتم فى الحاضر، فلمّا قدمت الشام أقمت بها، وتخالفنى خيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ، وقد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هربى إلى الشام، قال: فجعلت ابنة حاتم فى حظيرة «2» بباب المسجد كانت السّبايا تحبس فيها، فمرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة «3» ، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. قال: «ومن وافدك» ؟ قالت: عدىّ بن حاتم. قال: «الفارّ من الله ورسوله» ؟!. قالت: ثم مضى وتركنى، حتى إذا كان من الغد مرّ بى فقلت له مثل ذلك، فقال مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرّ بى وقد يئست، فأشار إلىّ رجل من خلفه أن قومى فكلّميه،

قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. فقال: «قد فعلت فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنينى» فسألت عن الرجل الذى أشار إلىّ أن كلّميه، فقيل علىّ بن أبى طالب، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بلىّ أو قضاعة «1» ، قالت: وإنما أريد أن آتى أخى بالشام، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومى، لى فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكسانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحملنى وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدىّ: فو الله إنّى لقاعد فى أهلى إذ نظرت إلى ظعينة تصوب «2» إلىّ تؤمّنا، قال: قلت ابنة حاتم، فإذا هى هى، فلما وقفت علىّ انسلخت «3» تقول: القاطع الظّالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقيّة والديك عورتك! قال: قلت: أى أخيّة! لا تقولى إلّا خيرا، فو الله ما لى من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قالت: ثم نزلت فأقامت عندى، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن نلحق به سريعا، فإن يكن الرّجل نبيا فللسّابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل فى عز اليمن، وأنت أنت. قال: قلت والله إن هذا الرّأى. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فدخلت عليه وهو فى مسجده، فسلمت عليه فقال: «من الرّجل» ؟ فقلت: عدى بن حاتم. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق بى إلى بيته، فو الله إنه لعامد بى إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كسيرة

فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى حتى إذا دخل بى بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إلىّ فقال: «اجلس على هذه» قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأرض، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: «إيه يا عدىّ بن حاتم ألم تك ركوسيا «1» ؟» قلت: بلى، قال: «أولم تك تسير فى قومك بالمرباع «2» » ؟ قلت: بلى؛ قال: «فإنّ ذلك لم يك يحلّ لك فى دينك» . قال: قلت أجل والله، وعرفت أنه نبىّ مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: «لعلّك يا عدىّ إنما يمنعك من دخول فى هذا الدّين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم، وقلّة عددهم، فو الله ليوشكن أن يسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان فى غيرهم، وايم الله ليوشكنّ أن يسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . قال عدىّ: فأسلمت. فكان عدىّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكوننّ؛ قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكوننّ الثالثة؛ ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه.

ذكر وفد تجيب

ذكر وفد تجيب قال ابن سعد: قدم وفد تجيب «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من مهاجره، وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم، وقال: «مرحبا بكم» وأكرم منزلهم وحيّاهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما كان يجيز به الوفد، وقال: «هل بقى منكم أحد» قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا. قال: «أرسلوه إلينا» ، فأقبل الغلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنى امرؤ من بنى أبناء الرّهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم فاقض حاجتى، قال: «وما حاجتك» ؟ قال: تسأل الله أن يغفر لى ويرحمنى ويجعل غناى فى قلبى. فقال: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الموسم بمنى «2» في سنة عشر، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغلام، فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله.

ذكر وفد خولان

ذكر وفد خولان قال: قدم وفد خولان «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدّقون برسوله، ونحن على من وراءنا من قومنا، وقد ضربنا إليك آباط الإبل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل عمّ أنس» «2» صنم لهم؛ فقالوا: بشرّ وعرّ «3» ، أبدلنا الله به ما جئت به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه. وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم، فجعل يخبرهم بها، وأمر من يعلّمهم القرآن والسّنن، وأنزلوا فى دار رملة بنت الحارث، وأجريت عليهم الضيافة، ثم جاءوا بعد أيام يودّعونه، فأمر لهم بجوائز ثنتى عشرة أوقية ونشّ، ورجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عمّ أنس. وممن أسلم من خولان أبو مسلم الخولانىّ العابد «4» ، واسمه عبد الله بن ثوب، ولم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قدم المدينة بعد وفاته، وله خبر عجيب مع الأسود العنسىّ، نذكره فى أخباره فى خلافة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه.

ذكر وفد جعفى

ذكر وفد جعفى قال ابن سعد: وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جعفىّ «1» ، وهما قيس بن سلمة بن شراحيل، وسلمة بن يزيد، وهما أخوان لأم، وأمهما مليكة بنت الحلو بن مالك، فأسلما فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بلغنى أنكم لا تأكلون القلب» وكانوا يحرّمون أكله، فقالا: نعم، قال: «فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله» ودعا بقلب فشوى، ثم ناوله سلمة فلما أخذه أرعدت يده فقال له: «كله» فأكله، وقال: على أنّى أكلت القلب كرها ... وترعد حين مسّته بنانى ثم قالا: يا رسول الله، إنّ أمّنا مليكة بنت الحلو كانت تفكّ العانى، وتطعم البائس، وترحم المسكين، وأنها ماتت وقد وأدت «2» بنية لها صغيرة، فما حالها،؟ قال: «الوائدة والموءودة فى النار «3» » فقاما مغضبين، فقال: «إلىّ فارجعا» فقال: «وأمّى مع أمّكما «4» » فأبيا ومضيا، وهما يقولان: والله إنّ رجلا أطعمنا

ذكر وفد مراد

القلب، وزعم أنّ أمّنا فى النار لأهل ألّا يتّبع، فلما كان ببعض الطريق، لقيا رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معه إبل من إبل الصّدقة، فأوثقاه وطردا الإبل، فبلغ ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم فلعنهما فيمن كان يلعن فى قوله: «لعن الله رعلا وذكوان وعصيّة ولحيان «1» وابنا مليكة» . قال محمد بن سعد: وقدم أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه ابناه سبرة وعزيز «2» فأسلموا. وسمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزيزا عبد الرحمن. وقال له أبو سبرة: يا رسول الله: إن بظهر كفّى سلعة «3» قد منعتنى من خطام راحلتى، فدعا بقدح، وجعل يضرب به على السّلعة. ويمسحها فذهبت، ودعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولابنيه، فقال: يا رسول الله، أقطعنى وادى قومى باليمن، وكان يقال له جردان «4» ففعل، قال: وعبد الرحمن هذا هو أبو خيثمة عبد الرحمن. ذكر وفد مراد قالوا: قدم فروة بن مسيك «5» المرادىّ «6» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، وقال فى ذلك:

ذكر وفد زبيد

لمّا رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرّجل خان الرّجل عرق نسائها «1» قرّبت راحلتى أؤمّ محمدا ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها «2» وبايع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزل على سعد بن عبادة، وكان يتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه، فأجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باثنتى عشرة أوقية، وحمله على بعير وأعطاه حلّة من نسج عمان، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصّدقات، وكتب له كتابا فيه فرائض الصّدقة، فلم يزل على الصّدقة حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر وفد زبيد قال ابن سعد: قدم وفد عمرو بن معدى كرب «3» الزّبيدىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فى عشرة نفر من زبيد، فنزل على سعد بن عبادة فأكرمه سعد وراح به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم هو ومن معه، وأقام أياما، ثم أجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانصرف إلى بلاده، فأقام مع قومه على الإسلام، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدّ، ثم رجع إلى الإسلام، وأبلى يوم القادسية وغيرها. قال محمد بن إسحق: كان عمرو بن معدى كرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادىّ حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا قيس، إنك سيد

قومك، وقد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له محمد خرج بالحجاز، يقال إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس «1» ، فركب عمرو ابن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وتحطّم «2» عليه، وقال: خالفنى وترك رأيى، فقال عمرو فى ذلك: أمرتك يوم ذى صنعا ... ء أمرا بيّنا رشده «3» أمرتك باتّقاء الل ... هـ تأتيه وتتّعده «4» فكنت كذى الحميّر غر ... ره ممّا به وتده «5» تمنّانى على فرس ... عليه جالسا أسده «6» علىّ مفاضة كالنّه ... ى أخلص ماءه حدده «7»

ذكر وفد كندة

تردّ الرّمح مثنىّ السّ ... نان عوائرا قصده «1» فلو لاقيتنى للقي ... ت ليثا فوقه لبده «2» تلاقى ضيغما شئن ال ... برائن ناشزا كتده «3» يسامى القرن إن قرن ... تيمّمه فيعتضده «4» فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده «5» فيدمغه فيخطمه ... فيخضمه فيزدرده «6» ظلوم الشّرك فيما أح ... رزت أنيابه ويده «7» ذكر وفد كندة قالوا: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بضعة عشر راكبا من كندة «8» . قاله ابن سعد- وقال ابن إسحق: فى ثمانين راكبا- فدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وقد رجّلوا «9» جممهم وتكحّلوا، عليهم جبب

الحبرة «1» قد كففوها بالحرير، وعليهم الدّيباج ظاهر مخوّص «2» بالذّهب، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تسلموا» ؟ قالوا: بلى، قال: «فما بال هذا عليكم «3» » قال: فشقّوه وألقوه، ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار «4» . فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «ناسبوا بهذا النّسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث» . قال: وكانا تاجرين، و [كانا «5» ] إذا شاعا فى بعض العرب، فسئلا ممن هما، قالا: نحن بنو آكل المرار: يتعزّزان «6» بذلك. وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية، وقد تقدم خبره فى وقائع العرب. قال: ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، نحن بنو النّضر بن كنانة، لا نقفو «7» أمّنا ولا ننتفى من أبينا» فقال الأشعث بن قيس: يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين. قال محمد بن سعد: فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشرة أواق، وأعطى الأشعث ثنتى عشرة أوقية.

ذكر وفد الصدف

ذكر وفد الصّدف قال ابن سعد: وفد وفد الصّدف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بضعة عشر رجلا، على قلائص «2» لهم، فى أزر وأردية، فصادفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بين بيته وبين المنبر، فجلسوا ولم يسلّموا فقال: «أمسلمون أنتم» ؟ قالوا: نعم. قال: «فهلّا سلّمتم» ، فقاموا فقالوا: السلام عليك أيّها النبىّ ورحمة الله، فقال: «وعليكم السلام، اجلسوا» فجلسوا، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أوقات الصلوات فأخبرهم بها. ذكر وفد سعد هذيم قال ابن سعد يرفعه إلى أبى النعمان عن أبيه قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدا فى نفر من قومى، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤمّ المسجد، فنجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّى على جنازة فى المسجد، فانصرف فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: من بنى سعد هذيم «3» ، فأسلمنا وبايعنا، ثم انصرفنا إلى رحالنا، فأمر بنا فأنزلنا وضيّفنا فأقمنا ثلاثا، ثم جئناه نودّعه، فقال: «أمّروا عليكم أحدكم» وأمر بلالا، فأجازنا بأواق من فضّة، ورجعنا إلى قومنا فرزقهم الله الإسلام.

ذكر وفد بلى

ذكر وفد بلىّ روى عن رويفع بن ثابت البلوىّ «1» قال: قدم وفد قومى فى شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم علىّ فى منزلى ببنى جديلة، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس مع أصحابه فى بقية من الغداة «2» ، فتقدم شيخ الوفد أبو الضّبيب «3» ، فجلس بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتكلم وأسلم، وأسلم القوم، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضّيافة، وعن أشياء من أمر دينهم فأجابهم، ثم رجعت بهم إلى منزلى، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتى [منزلى «4» ] يحمل تمرا يقول: «استعن بهذا التّمر» فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثا، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يودّعونه، فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، ثم رجعوا إلى بلادهم. ذكر وفد بهراء قال ابن سعد: قدم وفد بهراء «5» من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلا، فأقبلوا يقودون رواحلهم، حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببنى جديلة فخرج إليهم، فرحّب بهم وأنزلهم، وأتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا وتعلّموا الفرائض وأقاموا أياما، ثم جاءوا يودّعونه فأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهلهم.

ذكر وفد عذرة

ذكر وفد عذرة قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عذرة، فى صفر سنة تسع من مهاجره، وهم اثنا عشر رجلا، فيهم حمزة بن النعمان العذرىّ، وسليم وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبى رياح، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّموا بسلام الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصىّ لأمه، ونحن الذين أخرجوا خزاعة وبنى بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفنى بكم، ما منعكم من تحية الإسلام» ؟ قالوا: قدمنا مرتادين لقومنا «1» . وسألوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم فيها، فأسلموا وأقاموا أياما، ثم انصرفوا إلى أهليهم، وأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، وكسا أحدهم بردا. قال: ووفد زمل «2» بن عمرو العذرىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنشأ يقول حين وفد: إليك رسول الله أعلمت نصّها ... أكلّفها حزنا وقوزا من الرّمل «3» لأنصر خير النّاس نصرا مؤزّرا ... وأعقد حبلا من حبالك فى حبلى «4» وأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمى نعلى «5»

ذكر وفد سلامان

قال: وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما سمع من صنمه، فقال: «ذلك مؤمن الجن «1» » وعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء على قومه، فشهد به بعد ذلك صفّين «2» مع معاوية، ثم شهد به المرج «3» فقتل. ذكر وفد سلامان قال ابن سعد: وفد سبعة من سلامان «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة عشر، فصادفوه وهو خارج من المسجد إلى جنازة؛ فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليكم [السلام «5» ] من أنتم» ؟ قالوا: نحن من سلامان، قدمنا لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فأمر ثوبان «6» فأنزلهم حيث ينزل الوفد «7» ، فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظّهر جلس بين بيته وبين المنبر، فقدموا إليه فسألوه عن أشياء من أمر الصّلاة وشرائع الإسلام، وعن الرّقى «8» فأجابهم وأسلموا، وأجاز كلّ رجل منهم خمس أواق، ورجعوا إلى بلادهم.

ذكر وفد كلب

ذكر وفد كلب قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد بن «1» عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبىّ، «2» قال: شخصت أنا وعصام «3» - رجل من بنى رقاش من بنى عامر- حتى أتينا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا. وقال بسند آخر إلى ربيعة بن إبراهيم الدمشقى قال: وفد حارثة بن قطن بن زابر بن «4» حصن بن كعب بن عليم الكلبىّ، وحمل «5» بن سعدانة بن حارثة بن مغفّل ابن كعب بن عليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فعقد لحمل بن سعدانة لواء، فشهد به صفّين مع معاوية، وكتب لحارثة بن قطن كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل دومة الجندل «6» وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن، لنا الضّاحية «7»

ذكر وفد جرم

من البعل، ولكم الضّامنة من النّخل؛ على الجارية العشر، وعلى الغائرة «1» نصف العشر، لا يجمع سارحكم «2» ، ولا تعدّ فاردتكم» ، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقّها، [ولا يحظر «4» عليكم] النّبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات «5» ، لكم بذلك العهد والميثاق، ولنا عليكم النّصح والوفاء، وذمّة الله ورسوله، شهد الله ومن حضر من المسلمين» . ذكر وفد جرم قال ابن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جرم «6» ، يقال لأحدهما: الأسقع «7» بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح «8» بن عوف بن عميرة بن الهون ابن أعجب بن قدامة بن جرم [بن ربّان «9» ] بن حلوان بن عمران بن الحاف «10» بن قضاعة.

والآخر: هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح، فأسلما وكتب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا. وروى عن أبى يزيد- وقد قيل فيه بالباء الموحّدة أبو بريد- عمرو بن سلمة الجرمىّ أن أباه ونفرا من قومه، وفدوا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم حين أسلم الناس، وتعلّموا القرآن وقضوا حوائجهم، فقالوا: يا رسول الله من يصلّى بنا؛ أو لنا؟ فقال: «ليصلّ «1» بكم أكثركم جمعا- أو أخذا- للقرآن» . قال: فجاءوا إلى قومهم فلم يجدوا فيهم أحدا أكثر أخذا، أو جمع من القرآن ما جمعت، أو أخذت، قال: وأنا يومئذ غلام علىّ شملة «2» ، فقدّمونى فصلّيت بهم، فما شهدت مجمعا من جرم إلا وأنا إمامهم إلى يومى هذا. وعن عمرو بن سلمة أيضا قال: كنا بحضرة ماء ممرّ الناس عليه، وكنا نسألهم، ما هذا الأمر؟ فيقولون: رجل يزعم أنه نبىّ، وأنّ الله أرسله، وأنّ الله أوحى إليه كذا وكذا، فجعلت يومئذ لا أسمع شيئا من ذلك إلّا حفظته، كأنما يغرى «3» في صدرى بغراء، حتى جمعت فيه قرآنا كثيرا، وكانت العرب تلوّم «4» بإسلامها الفتح، يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق، وهو نبىّ. فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، فانطلق أبى بإسلام حوائنا ذلك، وأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقيم، ثم أقبل فلمّا دنا منّا تلقّيناه، فقال: جئتكم والله من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّا، ثم قال: إنه يأمركم بكذا وكذا،

ذكر وفد الأزد وأهل جرش

وينهاكم عن كذا وكذا، وأن تصلوا صلاة كذا فى حين كذا، وصلاة كذا فى حين كذا، إذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآنا. فنظر أهل حوائنا «1» فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا منّى للّذى كنت أحفظه من الرّكبان، فقدّمونى بين أيديهم، فكنت أصلّى بهم وأنا ابن ستّ سنين «2» ، وكان علىّ بردة كنت إذا سجدت تقلّصت «3» عنّى، فقالت امرأة من الحىّ: ألا تغطون عنّا است قارئكم؟ فكسونى قميصا من معقّد «4» البحرين، فما فرحت بشىء أشدّ من فرحى بذلك القميص. ومن رواية أخرى عنه: فعلّمونى الركوع والسجود، فكنت أصلّى بهم. ذكر وفد الأزد وأهل جرش قالوا: قدم صرد بن عبد الله الأزدىّ «5» في بضعة عشر رجلا من قومه، وفدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلوا على فروة بن عمرو، وأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، وأقاموا عشرة أيام، وكان صرد أفضلهم، فأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه، من أهل الشّرك من قبائل اليمن؛ فخرج حتى نزل جرش «6» وهى مدينة حصينة مغلقة، وبها

قبائل من قبائل اليمن. وقد ضوت «1» إليهم خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرهم صرد ومن معه فيها شهرا، ثم رجع قافلا، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر، ظنّ أهل جرش أنه إنما ولّى عنهم منهزما، فخرجوا فى طلبه حتى إذا أدركوه صفّ صفوفه، وحمل عليهم هو والمسلمون، ووضعوا سيوفهم فيهم حيث شاءوا، وأخذوا من خيلهم عشرين فرسا، فقاتلوهم عليها نهارا طويلا. وكان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشية بعد العصر؛ إذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بأىّ بلاد الله شكر» ؟ فقام الجرشيّان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك نسميّه أهل جرش، فقال: «إنه ليس بكشر ولكنه شكر» ، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: «إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن» قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر، أو إلى عثمان. «2» فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآن لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله فسلاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما. فقاما إليه فسألاه ذلك. فقال: «اللهم ارفع عنهم» فخرجا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا من صرد فى اليوم الذى قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال فى تلك الساعة، فقصّا على قومهما القصّة، فخرج وفدهم حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، فقال: «مرحبا بكم،

ذكر وفد غسان

أحسن الناس «1» وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم منى وأنا منكم» وجعل شعارهم مبرورا، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام «2» معلومة للفرس والراحلة وللمثيرة- بقرة الحرث- فمن رعاه من الناس فماله سحت «3» . ذكر وفد غسّان قال محمد بن سعد بسنده إلى محمد بن بكير الغسّانىّ، عن قومه من «4» غسّان، قالوا: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة عشر، المدينة ونحن ثلاثة نفر، فنزلنا دار رملة بنت الحارث، ثم أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلمنا وصدّقنا، فأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين «5» ، وأدرك الثالث عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة فخبّره بإسلامه فأكرمه «6» . ذكر وفد الحارث بن كعب وما كتب به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم قال ابن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فى أربعمائة من المسلمين، فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران «7» ،

وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم ففعل، فاستجاب له من هناك من بلحارث «1» بن كعب، ودخلوا فى الإسلام، ونزل خالد بن الوليد بين أظهرهم، فعلمهم الإسلام وشرائعه، وكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خالد: «أن بشّرهم وأنذرهم واقدم ومعك وفدهم» ، فقدم خالد ومعه وفدهم؛ فيهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المدان، وعبد الله بن عبد المدان، ويزيد بن المحجّل، وعبد الله بن قراد «2» ، وشدّاد بن عبد الله القنانىّ، وعمرو بن عبد الله، وأنزلهم خالد عليه، ثم جاء بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من هؤلاء الذين كأنهم رجال الهند» ؟ فقيل: بنو الحارث بن كعب، فسلّموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأجازهم بعشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال. هذا ما حكاه ابن سعد فى طبقاته. وقال ابن إسحق: لما وقفوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّموا عليه، وقالوا: نشهد أنك لرسول الله، وأنه لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا «3» » ؟ فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، فأعادها عليهم الثانية والثالثة، فلما أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«لو أنّ خالدا لم يكتب إلىّ أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم» فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: «فمن حمدتم» ؟ قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله. قال: «صدقتم» ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا. قال: «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم» قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم» . وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث قيس بن الحصين، وأجازهم بعشر أواق عشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال، أو فى صدر ذى القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقّههم فى الدّين ويعلّمهم السّنة، ويعلّمهم «1» الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتابا وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» عهد من محمد النبى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لعمرو بن حزم حين

بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله فى أمره كله ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلّم الناس القرآن ويفقّههم فيه، وينهى الناس، ولا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذى لهم والذى عليهم، ويلين للناس فى الحق، ويشتدّ عليهم فى الظّلم، فإنّ الله كره الظّلم، ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، ويبشّر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف «1» الناس حتى يفقّهوا فى الدّين، ويعلّم الناس معالم الحج وسنّته وفريضته، وما أمر الله به، والحج الأكبر: الحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة، وينهى الناس أن يصلّى أحد فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يحتبى «2» أحد فى ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن يعقص «3» أحد شعر رأسه فى قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج «4» عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا «5» بالسّيف، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده

لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، يغلّس بالصّبح، «1» ويهجّر بالهاجرة «2» حين تميل الشّمس، وصلاة العصر والشمس فى الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخّر حتى تبدو النجوم فى السماء، والعشاء أوّل الليل، وأمر بالسّعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرّواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين فى الصّدقة من العقار «3» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «4» نصف العشر، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل عشرين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع «5» : جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة «6» وحدها شاة، فإنها فريضة الله التى افترض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل

ذكر وفد عنس

ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يردّ عنها، وعلى كل حالم «1» ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف، أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» . ذكر وفد عنس قال محمد بن السّائب الكلبىّ: حدّثنا أبو زفر الكلبىّ عن رجل من عنس «2» ، قال: كان منّا رجل وفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه وهو يتعشّى، فدعا به إلى العشاء فجلس «3» ، فلما تعشّى أقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اشهد «4» أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» فقال العنسىّ: اشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فقال: «أراغبا جئت أم راهبا» فقال: أمّا الرّغبة فو الله ما فى يديك مال، وأمّا الرّهبة فو الله إنى لببلد ما تبلغه جيوشك، ولكنّى خوّفت فخفت، وقيل لى: آمن بالله فآمنت. فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على القوم فقال: «ربّ خطيب من عنس» فمكث يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يودّعه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اخرج» وبتّته «5» ، أى أعطاه شيئا، وقال: «إن أحسست شيئا فوائل «6» إلى أدنى «7»

ذكر وفد الداريين وما كتب لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اختص به تميم الدارى وإخوته

قرية» . فخرج فوعك «1» في بعض الطريق، فوأل إلى أدنى قرية فمات رحمه الله، واسمه ربيعة «2» . ذكر وفد الداريّين وما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما اختصّ به تميم الدارىّ وإخوته قال محمد بن سعد بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله، وروح بن زنباع الجذامىّ عن أبيه قالا: قدم وفد الدّاريّين «3» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من تبوك وهم عشرة نفر؛ فيهم تميم ونعيم ابنا أوس بن خارجة بن سود «4» بن جذيمة «5» ابن ذراع بن عدىّ بن الدّار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ويزيد بن قيس ابن خارجة، والفاكه بن النّعمان بن جبلة بن صفّارة بن ربيعة بن ذراع بن عدىّ ابن الدّار، وجبلة بن مالك بن صفّارة، وأبو هند والطّيّب ابناذرّ- قال ابن [إسحق «6» ] : برّ- وهو عبد الله بن ذرّ بن عمّيت بن ربيعة بن ذراع، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومرّة ابنا مالك بن سواد. «7» قال ابن إسحق: عرفة. وقال ابن هشام: عزّة. وقال ابن إسحق فى مرّة: مروان «8» . قال ابن سعد: فأسلموا وسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطيب عبد الله، وسمّى عزيزا عبد الرحمن.

قال: وأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم راوية خمر وأفراسا وقباء «1» مخوّصا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء وأعطاه العباس بن عبد المطلب، فقال: ما أصنع به؟ قال: «تنزع الذهب فتحليه نساءك، أو تستنفقه، ثم تبيع الدّيباج فتأخذ ثمنه» ، فباعه العباس من رجل من يهود بثمانية آلاف درهم. قال وقال تميم: لناجيرة من الرّوم، لهم قريتان يقال لأحداهما حبرى «2» والأخرى بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لى، قال: «فهما لك» فلما قام أبو بكر رضى الله عنه أعطاه ذلك، وكتب له به كتابا، وأقام وفد الدّاريّين حتى توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأوصى لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجادّ «3» مائة وسق من خيبر، هكذا حكى ابن سعد فى طبقاته. وشاهدت أنا عند ورثة الصاحب الوزير فخر الدين أبى حفص عمر، ابن القاضى المرحوم الرئيس مجد الدين عبد العزيز المعروف بابن الخليلى التميمىّ رحمه الله، كتابا يتوارثونه كابرا عن كابر، يقولون: هو كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كتبه لتميم الدارىّ وإخوته، وهو فى قطعة من أدم مربّعة دون الشّبر قد غلّفت بالأطلس «4» الأبيض، يزعمون أن ذلك من خفّ كان لأمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد بقى بهذه القطعة الأدم آثار أحرف خافية، لا تكاد تبين إلا بعد إمعان التأمّل، وتحقيق النظر، وعلى هذه القطعة

الأدم من الجلالة ولها من الموقع فى النفوس والمهابة ما يقوّى أنها صادرة عن المحل المنيف «1» ، وقرين هذه القطعة الأدم قرطاس أبيض قديم، يزعمون أن أسلافهم نقلوا ما فيه من الكتابة من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل أن تزول حروفه. وفيه تسعة أسطر بما فى ذلك من البسملة، وقد رأينا أن نضع ذلك فى هذا الكتاب على هيئته فى العدد، وإن لم يوافق الخط، وهو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هذا ما انطا «2» محمد رسول الله لتميم الدارىّ واخوته حبرون والمرطوم «3» وبيت عينون وبيت ابراهيم وما فيهن نطيه بتّ بذمتهم ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم فمن اذاهم اذاه الله فمن اذاهم لعنه الله شهد عتيق ابن ابو قحافة «4» وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وكتب على بن ابو طالب وشهد.

ذكر وفد الرهاويين

هكذا شاهدت تلك الورقة التى هى قرين الكتاب، والكتاب بأيديهم إلى وقتنا هذا؛ وهو العشر الآخر من ذى القعدة سنة ستّ عشرة وسبعمائة. وهذه الضّياع الأربعة المذكورة بأيديهم إلى وقتنا هذا، لا ينازعون فيها. وكان الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليلى رحمه الله، إذا نابته نائبة، أو صودر أو أوذى بوجه من وجوه الأذى، توسّل إلى الله تعالى بكتاب نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأظهره للملوك، فكفوا عن طلبه، وأفرجوا عنه. ولنرجع إلى أخبار الوفود. ذكر وفد الرّهاويّين والرّهاويّون حىّ من مذحج «1» ، قال ابن سعد: وفد خمسة عشر رجلا من مذحج على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتحدّث عندهم طويلا. وأهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم هدايا؛ منها فرس يقال له المرواح، فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه. فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض. وأجازهم كما يجيز الوفد؛ أرفعهم ثنتى عشرة أوقية ونسّا، وأخفضهم خمس أواق. ثم رجعوا إلى بلادهم. ثم قدم منهم نفر فحجّوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوصى لهم بجادّ مائة وسق من خيبر فى الكتيبة جارية عليهم، وكتب لهم بها كتابا، فباعوا ذلك فى زمن معاوية.

ذكر وفد غامد

ذكر وفد غامد قال: قدم وفد غامد «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد «2» ، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلّموا عليه وأقرّوا بالإسلام. وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه شرائع الإسلام، وأتوا أبىّ بن كعب فعلّمهم قرآنا. وأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما كان يجيز الوفد وانصرفوا. ذكر وفد النّخع قالوا: بعث النّخع «3» رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدين بإسلامهم، وهما أرطاة بن شراحيل بن كعب، من بنى حارثة بن سعد بن مالك بن النّخع، والجهيش واسمه الأرقم، من بنى بكر بن عوف من النّخع، فخرجا حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه وبايعا عن قومهما، فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنهما، وحسن هيئتهما؛ فقال: «هل خلّفتما وراء كما من قومكما مثلكما» ؟ قالا: يا رسول الله، قد خلّفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفّذ الأشياء، ما يشار كوننا فى الأمر إذا كان، فدعا لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقومهما بخير، وقال: «اللهمّ بارك فى النّخع» . وعقد لأرطاة لواء على قومه، وكان فى يده يوم الفتح، فشهد

به القادسيّة فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد فقتل- رحمهما الله- فأخذه سيف ابن الحارث من بنى جذيمة، فدخل به الكوفة. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمىّ، قال: كان آخر من قدم من الوفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع، وقدموا من اليمن للنّصف من المحرم، سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقرّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن، وكان فيهم زرارة بن عمرو. وحكى أبو عمر بن عبد البرفى ترجمة زرارة بن عمرو، والد عمرو بن زرارة، قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد النّخع، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فى طريقى رؤيا هالتنى. قال: «وما هى» ؟ قال: رأيت أتانا «1» خلّفتها فى أهلى ولدت جديا أسفع أحوى «2» ، ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى- يقال له عمرو- وهى تقول: لظى لظى، بصير وأعمى «3» . فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أخلّفت فى أهلك أمة مسرّة «4» ولدا» . قال: نعم. قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك «5» » قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منّى، أبك

ذكر وفد بجيلة

برص تكتمه» ؟ قال: والذى بعثك بالحق، ما علمه أحد قبلك. قال: «فهو ذاك، وأما النار فإنها فتنة تكون بعدى» . قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: يقتل الناس إمامهم، يشتجرون اشتجار أطباق الرأس «1» - وخالف بين أصابعه- دم المؤمن عند المؤمن أحلى من الماء، يحسب المسىء أنه محسن، إن متّ أدركت ابنك، وإن مات ابنك أدركتك» . قال: فادع الله لى ألّا تدركنى. فدعا له. قال: وكان قدوم زرارة بن عمرو هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى النّصف من شهر رجب سنة تسع. وقال الطبرى: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع وهم مائتا رجل، وفيهم زرارة بن قيس بن الحارث بن عدىّ بن الحارث بن عوف بن جشم ابن كعب بن قيس بن منقذ بن مالك بن النّخع فأسلموا. ذكر وفد بجيلة قال ابن سعد: قدم جرير بن عبد الله البجلىّ «2» سنة عشر المدينة، ومعه من قومه مائة وخمسون رجلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطلع عليكم من هذا الفجّ من خير ذى يمن على وجهه مسحة «3» ملك» فطلع جرير على راحلته ومعه قومه فأسلموا وبايعوا. قال جرير: فبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فبايعنى، وقال: «على أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، ثم [تقيم «4» ] الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح للمسلم، وتطيع الوالى وإن كان عبدا حبشيا» فقال: نعم، فبايعه.

ذكر وفد خثعم

وقدم قيس بن [أبى «1» ] غرزة الأحمسىّ- وقيل غرزة بن قيس البجلىّ- فى مائتين وخمسين رجلا من أحمس، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنتم» ؟ فقالوا: نحن أحمس «2» الله. وكان يقال لهم ذاك فى الجاهلية. فقال لهم: «وأنتم اليوم لله» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال: «أعط ركب بجيلة وابدأ بالأحمسيّين» ففعل. وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جرير ابن عبد الله «ما فعل ذو الخلصة «3» » ؟ قال: هو على حاله، قد بقى والله، نريح منه إن شاء الله، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هدمه، وعقد له لواء فقال: إنى لا أثبت على الخيل فمسح صدره، وقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا» فخرج فى قومه وهم زهاء مائتين، فما أطال الغيبة حتى رجع؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هدمته» ؟ قال: نعم، والذى بعثك بالحقّ، وأخذت ما عليه وأحرقته بالنار، فتركته كما يسوء من يهوى هواه، وما صدّنا عنه أحد. قال فبرّك «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ على خيل أحمس ورجالها. ذكر وفد خثعم قالوا: وفد عثعث بن زحر، وأنس بن مدرك، فى رجال من خثعم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما هدم جرير بن عبد الله ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنا بالله ورسوله، وما جاء من عند الله، فاكتب لنا كتابا نتبع ما فيه؛ فكتب لهم كتابا شهد فيه جرير بن عبد الله ومن حضر.

ذكر وفد حضرموت

ذكر وفد حضرموت قالوا: قدم وفد حضر موت مع وفد كندة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بنو وليعة ملوك حضر موت؛ جمد «1» ، ومخوس، ومشرح «2» ، وأبضعة، فأسلموا، وقال مخوس: يا رسول الله، ادع الله أن يذهب عنى هذه الرّتّة «3» من لسانى. فدعا له، وأطعمه طعمة من صدقة حضر موت. وقدم وائل بن حجر الحضرمىّ وافدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: جئت راغبا فى الإسلام والهجرة، فدعا له ومسح رأسه ونودى: «الصلاة جامعة» سرورا بقدوم وائل بن حجر. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاوية بن أبى سفيان أن ينزله بالحرّة، فمشى معه، ووائل راكب، فقال له معاوية: ألق إلىّ نعليك أتوقّى بهما الرّمضاء «4» . قال: لا، إنى لم أكن لألبسهما وقد لبستهما. ومن رواية: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة «5» لبس نعل ملك. قال: فأردفنى، قال: لست من أرداف الملوك، قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمى، قال: امش فى ظلّ ناقتى، كفاك به شرفا. ويقال: إن وائل بن حجر هذا وفد بعد ذلك إلى معاوية فى خلافته فأكرمه معاوية.

قال: ولما أراد وائل بن حجر الشّخوص إلى بلاده، كتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى لوائل بن حجر قيل حضر موت، إنك أسلمت وجعلت لك ما فى يدك من الأرضين والحصون، وأن يؤخذ منك من كل عشرة واحد. ينظر فى ذلك ذوو «1» عدل وجعلت لك ألا تظلم فيها ما قام الذين. والنبى- صلى الله عليه وسلّم- والمؤمنون عليه أنصار» . قال القاضى عياض بن موسى بن عياض- رحمه الله- وفيه: «إلى الأقيال «2» العباهلة «3» ، والأرواع «4» المشابيب «5» » . وفيه: «فى التّيعة «6» شاة لا مقوّرة الألياط «7» ولا ضناك «8» ، وأنطوا الثّبجة «9» ، وفى السّيوب «10» الخمس ومن زنى من امبكر «11» فاصقعوه مائة واستوفضوه «12» عاما، ومن زنى من امثيّب

ذكر وفد أزد عمان

فضرّجوه بالأضاميم «1» ، ولا توصيم فى الدّين «2» ، ولا غمّة «3» فى فرائض الله؛ وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفّل «4» على الأقيال» . قال محمد بن سعد بسنده إلى أبى عبيدة من ولد عمّار بن ياسر قال: وفد مخوس ابن معدى كرب بن وليعة فيمن معه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرجوا من عنده فأصاب مخوس اللّقوة «5» فرجع منهم نفر، فقالوا: يا رسول الله، سيّد العرب ضربته اللّقوة، فادللنا على دوائه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا مخيطا «6» فأحموه فى النار، ثم اقلبوا شفر عينيه، ففيها شفاؤه، وإليها مصيره، فالله أعلم ما قلتم حين خرجتم من عندى» . فصنعوه به فبرئ. ذكر وفد أزد عمان قالوا: أسلم أهل عمان «7» ، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ ليعلّمهم شرائع الإسلام، ويصدّق أموالهم «8» ، فخرج وفدهم إلى رسول الله

ذكر وفد غافق

صلى الله عليه وسلّم، فيهم أسد بن بيرح «1» الطاحىّ، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم، فقال مخرمة «2» العبدىّ واسمه مدرك بن خوط: ابعثنى إليهم فإن لهم علىّ منّة؛ أسرونى فى يوم جنوب «3» فمنّوا علىّ. فوجّهه معهم إلى عمان، وقدم بعدهم سلمة بن عبّاد «4» الأزدىّ فى ناس من قومه، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يعبد وما يدعو إليه، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ادع الله أن يجمع كلمتنا وألفتنا. فدعا لهم، وأسلم سلمة ومن معه. ذكر وفد غافق «5» قالوا: وقدم جليحة بن شجّار بن صحار الغافقىّ، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رجال من قومه، فقالوا: يا رسول الله، نحن الكواهل «6» من قومنا، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا. فقال: «لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فقال عوذ بن سرير الغافقىّ: آمنا بالله واتبعنا رسول الله. ذكر وفد بارق قالوا: قدم وفد بارق «7» ، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

ذكر وفد ثمالة والحدان

«هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لبارق ألا تجذّ ثمارهم، ولا ترعى بلادهم فى مربع «1» ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. ومن مرّبهم من المسلمين فى عرك «2» أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام. وإذا أينعت «3» ثمارهم فلابن السّبيل اللّقاط «4» بوسع بطنه من غير أن يقيه «5» » . ثم شهد أبو عبيدة بن الجرّاح، وحذيفة بن اليمان، وكتب أبىّ بن كعب. ذكر وفد ثمالة «6» والحدّان قالوا: قدم عبد الله بن غلس «7» الثّمالىّ ومسلمة بن هاران «8» الحدّانى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومهم، وكتب لهم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة فى أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شمّاس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد ابن مسلمة.

ذكر وفد مهرة

ذكر وفد مهرة قالوا: قدم وفد مهرة «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عليهم مهرىّ «2» بن الأبيض، فعرض عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام فأسلموا، وكتب لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من محمد رسول الله لمهرىّ بن الأبيض على من آمن به من مهرة ألّا يؤكلوا» ولا يعركوا «4» . وعليهم إقامة شعائر الإسلام، فمن بدّل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمّة الله وذمّة رسوله. اللّقطة «5» مؤدّاة، والسّارحة «6» مندّاة، والتّفث «7» السّيّئة، والرّفث «8» الفسوق» . وكتب محمد بن مسلمة الأنصارى.

ذكر وفد حمير

قالوا: ووفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من مهرة، يقال له زهير «1» ابن قرضم بن الجعيل من الشّحر «2» ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدنيه لبعد مسافته، فلما أراد الانصراف بتّته «3» ، وحمله، وكتب له كتابا. ذكر وفد حمير قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن مرارة «4» الرّهاوى، رسول ملوك حمير بكتابهم وإسلامهم، وذلك فى شهر رمضان سنة تسع عند مقدمه من تبوك، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنّعمان قيل ذى رعين، ومعافر، وهمدان. قال ابن إسحق: وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرّة الرّهاوىّ فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان- أما بعد ذلكم- فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلا هو- أما بعد- فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأنّ الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم

النبىّ وصفيّه «1» ، وما كتب على المؤمنين من الصّدقة، من العقار «2» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «3» نصف العشر، وإن فى الإبل الأربعين ابنة لبون، وفى ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفى كل خمس من الإبل شاة، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وأنّها فريضة الله التى فرض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدّى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر «4» المؤمنين على المشركين، فهو من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم وله ذمّة الله وذمّة رسوله، وإنّه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ فإنّه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يردّ عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد دينار واف، من قيمة المعافر «5» أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد- فإن رسول الله محمدا النبىّ أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة ابن نمر، ومالك بن مرّة، وأصحابهم، وأن اجمعوا له ما عندكم من الصّدقة، والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلى، وأنّ أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضيا. أما بعد- فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنّه عبده ورسوله، ثم إن مالك ابن مرّة الرّهاوىّ قد حدّثنى أنك أسلمت من أوّل حمير وقتلت المشركين، فأبشر

ذكر وفد جيشان

بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هو مولى غنيّكم وفقيركم، وأنّ الصّدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هى زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكا قد بلّغ الخبر، وحفظ الغيب وآمركم به خيرا، وأنّى أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم، وآمركم بهم خيرا، فإنهم «1» منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . ذكر وفد جيشان قال محمد بن سعد: قدم أبو وهب الجيشانىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفر من قومه، فسألوه عن أشربة تكون باليمن، فسمّوا له البتع «2» من العسل، والمزر «3» من الشّعير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تسكرون منهما» قالوا: إن أكثرنا سكرنا، قال: «فحرام قليل ما أسكر كثيره» ، وسألوه عن الرجل يتخذ الشراب فيسقيه عمّا له، فقال: «كلّ مسكر حرام» . ذكر وفد سلول قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النّمرىّ رحمه الله: قدم قردة بن نفاثة السّلولىّ، من بنى عمرو بن مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جماعة من بنى سلول، فأمّره عليهم بعد ما أسلم

ذكر وفد نجران وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله عز وجل فيهم من القرآن

وأسلموا؛ فأنشأ يقول: بان الشّباب فلم أحفل به بالا ... وأقبل الشّيب والإسلام إقبالا وقد أروّى نديمى من مشعشعة «1» ... وقد أقلّب أوراكا وأكفالا الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا قال وقد قيل: إن البيت الثالث للبيد، قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد فى الإسلام غيره، وكان قد عمّر مائة وخمسين سنة. قال أبو عمر: وقردة هذا هو الذى يقول: أصبحت شيخا أرى الشّخصين أربعة ... والشّخص شخصين لمّا مسّنى الكبر لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له ... وحال بالسّمع دونى المنظر القصر «2» وكنت أمشى على السّاقين معتدلا ... فصرت أمشى على ما تنبت الشّجر إذا أقوم عجنت الأرض متّكئا ... على البراجم حتّى يذهب النّفر «3» ذكر وفد نجران وسؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من القرآن قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستّون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وهم: العاقب عبد المسيح، والسّيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس،

ويزيد، ونبيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس. ومن هؤلاء الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، وهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح. قال محمد بن سعد: هو رجل من كندة والسّيد ثمالهم «1» ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم «2» وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم «3» . قال ابن سعد: وكان من الأربعة عشر كوز وهو أخو الحارث بن علقمة، وأوس أخو السّيد. قال: فتقدمهم كوز وهو يقول: إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها «4» مخالفا دين النّصارى دينها وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا [عليه «5» ] المسجد، عليهم ثياب الحبرة «6» وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلّون فى المسجد نحو الشّرق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوهم» ، ثم أتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعرض عنهم ولم يكلّمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيّكم هذا، فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه، بزىّ الرّهبان فسلّموا عليه فردّ عليهم.

قال محمد بن إسحق: وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه فى دينهم، فكانت ملوك الرّوم من أهل النّصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات؛ لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم، فلما وجّهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له، وإلى جنبه أخوه كوز،- ويقال فيه كرز «1» - فعثرت بغلة أبى حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنّه للنبىّ الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرّفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلّا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فكان يحدّث عنه هذا الحديث. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغنى أنّ رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد- يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم- فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبىّ واسمه فى الوضائع- يعنى الكتب- فلما مات لم يكن لابنه همّة إلا أن كسر الخواتم، فوجد فى الكتب ذكر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه فحجّ، وهو الذى يقول: إليك تعدو قلقا وضينها

قال ابن إسحق: ولما قدموا صلّوا فى المسجد نحو الشّرق، وكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم الثلاثة نفر: العاقب، والسيّد، وأبو حارثة، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون فى المسيح: هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، فهم يحتجّون فى قولهم: هو الله بأنه كان يحيى الموتى، ويبرئ من الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، ويحتجون فى قولهم إنه ابن الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم فى المهد، [وهذا «1» ] شىء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون فى قولهم إنه ثالث ثلاثة، بقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم. قال: فلما كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبران قال لهما: «أسلما» ، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعا كما لله ولدا، وعبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير» قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجبهما، فأنزل الله تعالى عليه فى اختلاف أمرهم كلّه صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها. فقال تعالى: (الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال «2» : افتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا وتوحيده، ليس معه شريك فى أمره: «الحىّ» أى الذى لا يموت، وقد مات عيسى وصلب فى قولكم. «القيّوم» القائم على مكانه من سلطانه

فى خلقه لا يزول، وقد زال عيسى. ثم قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ أى بالصدق فيما اختلفوا فيه وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أى الفصل بين الحقّ والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أى إنّ الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أى قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فى عيسى؛ إذ جعلوه إلها وعندهم من علمه غير ذلك. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أى قد كان عيسى ممن صوّر فى الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل. ثم قال تعالى تنزيها لنفسه وتوحيدا لها: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى «العزيز» فى انتصاره ممّن كفر به إذا شاء «الحكيم» فى حجته وعذره إلى عباده. ثم قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى فيهنّ حجة الربّ وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أى لهنّ تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم فى الحلال والحرام، ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أى ميل عن الهدى. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أى ما تصرّف منه؛ ليصدّقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا لتكون لهم حجّة وشبهة على ما قالوا «1» . ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أى اللّبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أى تأويل ذلك على

ماركبوا من الضلالة فى قولهم: خلقنا وقضينا. يقول تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فكيف يختلف وهو قول واحد، من ربّ واحد. يقول: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أى فى مثل هذا. ثم قال تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «1» . ثم قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يشهدون بذلك. قائِماً بِالْقِسْطِ أى بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أى ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل. قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أى العلم الذى جاءك أنّ الله الواحد الذى ليس له شريك. ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أى فيما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هى شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحقّ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أى الذين لا كتاب لهم أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. ثم جمع تعالى أهل الكتابين من اليهود والنصارى فيما أحدثوا وابتدعوا، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أى ربّ العباد والملك الذى لا يقضى فيهم غيره. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى

لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أى بتلك القدرة. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أى لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلّا أنت، أى إن كنت سلّطت عيسى على الأشياء التى بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق من الطّين، والإخبار عن الغيوب؛ لأجعله به آية للناس، وتصديقا له فى نبوّته التى بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطانى وقدرتى ما لم أعطه؛ «1» من إيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل، وإخراج الحىّ من الميّت، وإخراج الميت من الحىّ؛ ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكلّ ذلك لم أسلّط عيسى عليه، ولم أملّكه إياه، أفلم يكن لهم فى ذلك عبرة وبينة! أن لو كان إلها كان ذلك كلّه إليه، وهو فى قولهم يهرب من الملوك ويتنقل منهم فى البلاد، من بلد إلى بلد. ثم وعظ المؤمنين وحذّرهم فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أى ما مضى من كفركم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يقول: أطيعوا الله والرسول فأنتم تعرفونه وتجدونه فى كتابكم، فَإِنْ تَوَلَّوْا أى على كفرهم. ثم استقبل أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان بدء ما أراد الله تعالى به فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . ثم ذكر أمر امرأة عمران فقال: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أى جعلته عتيقا يعبد الله عزّ وجل، لا ينتفع به لشىء من الدنيا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِ

إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [أى ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محرّرا لك نذيرة «1» ] وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ . يقول الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى كفلها بعد أبيها وأمها؛ يذكرها باليتم، ثم قصّ خبرها وخبر زكريا، وما دعا به وما أعطاه؛ إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم، وقول الملائكة لها، فقال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ قال الثعلبىّ: القائل من الملائكة جبريل وحده، «اصطفاك» بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، «وطهّرك» من مسيس الرجال. وقيل: كانت مريم عليها السلام لا تحيض و «اصطفاك» بالتحرير فى المسجد «على نساء العالمين» قال: على عالمى زمانها، ولم تحرّر أنثى غيرها. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قال الثعلبى: قوله «اقنتى» أطيعى وأطيلى الصلاة لربك، قال: كلّمتها الملائكة شفاها. قال الأوزاعىّ: لما قالت لها الملائكة ذلك، قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا. ثم قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قال ابن إسحق: كفلها ها هنا جريج الراهب رجل من بنى إسرائيل نجّار، خرج السّهم عليه فحملها، وكان زكريّا قد كفلها قبل ذلك، فأصابت بنى إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها، فخرج السّهم على جريح الراهب فكفلها. يقول تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أى ما كنت معهم إذ يختصمون فى كفالتها، فخبّره تعالى

بخفىّ ما كتموا منه من العلم عندهم؛ لتحقيق نبوّته، والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه. ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أى هكذا كان أمره، لا كما يقولون فيه. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «وجيها» أى شريفا ذا جاه وقدر «ومن المقرّبين» عند الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ يخبرهم بحالاته التى يتقلب فيها فى عمره؛ كنقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلّا أنّ الله تعالى خصّه بالكلام فى مهده آية لنبوّته وتنزيها لأمّه. وقوله: «وكهلا» قال مقاتل: إذا اجتمع «1» قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسين بن الفضل: «كهلا» بعد نزوله من السماء. وقال ابن كيسان: أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل. وقيل: يكلّم الناس فى المهد صبيّا وكهلا؛ بشّرها بنبوته، فلأمه فى المهد معجزة وفى الكهولة دعوة. وقال مجاهد: «وكهلا» أى حليما «2» . قال تعالى إخبارا عن مريم: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم أخبرها بما يريد به فقال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قوله «الكتاب» أى الكتابة والخطّ. «والحكمة والتّوراة» التى كانت فيهم من عهد موسى قبله «والإنجيل» كتابا آخر أنزله الله إليه، لم يكن عندهم إلّا ذكره أنه كائن. يقول تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أى يحقّق بها نبوّتى أنّى رسول منه إليكم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ

قال الثعلبىّ: قراءة العامة بالجمع؛ لأنه خلق طيرا كثيرة، وقرّاء أهل المدينة «طائرا» ذهبوا إلى أنه نوع واحد من الطّير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاش، قال: وإنما خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا؛ ليكون أبلغ فى القدرة؛ لأن لها ثديا وأسنانا وهى تحيض وتطير، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا؛ ليتميز فعل الخلق من فعل الله عزّ وجل؛ وليعلم أن الكمال لله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ «الأكمه» الذى يولد أعمى وجمعه كمه. وقيل: هو الأعمى وهو المعروف من كلام العرب؛ قال سويد بن أبى كاهل: كمهت عيناه حتّى ابيضّتا ... فهو يلحى نفسه حتى نزع «1» والأبرص الذى فيه وضح، قال: وإنما خصّ هذين؛ لأنهما عياءان وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطّب؛ فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك. قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى فى اليوم الواحد خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء، على شرط الإيمان. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ قال الثعلبىّ: أحيا أربعة أنفس العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى: إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا إلى قبره. فانطلقت معهم إلى قبره وهو فى صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السلام: «اللهمّ ربّ السموات السّبع، إنك أرسلتنى إلى بنى إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم أنى أحيى الموتى بإذنك، فأحى العازر» ، قال: فقام عازر وودكه يقطر، فخرج من قبره وبقى وولد له. وأحيا ابن العجوز، مرّ به ميتا على عيسى عليه السلام،

وهو يحمل على سرير، فدعا الله تعالى عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السّرير على عنقه، ورجع إلى أهله، فبقى وولد له، وابنة العاشر «1» قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس؟ فدعا الله عزّ وجلّ فعاشت وبقيت وولدت، وسام بن نوح عليهما السلام، ودعا عيسى باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّى دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذنى الله من سكرات الموت، فدعا الله سبحانه ففعل. قال الكلبىّ: كان يحيى الأموات ب «يا حىّ يا قيّوم» . قال [تعالى «2» ] : وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى آية لكم أنى رسول من الله إليكم. يقول [تعالى] : وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أى لما سبقنى منها. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أى أخبركم أنه كان عليكم حراما فتركتموه، ثم أحلّه لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعته «3» . يقول [تعالى] : وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ

فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أى هكذا كان قولهم وإيمانهم، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجّونك، ثم ذكر تعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ قال أهل المعانى: المكر السّعى بالفساد فى ستر ومداجاة. وقال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبّ والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. ثم أخبرهم تعالى، وردّ عليهم فيما أقرّوا به لليهود من صلبه، وأنّ الله عصمه منهم، ورفعه إليه، فقال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ قال الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى التوفى ها هنا؛ فقال كعب والحسن والكلبىّ ومطر الورّاق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريح وابن زيد: معناه إنى قابضك ورافعك من الدنيا إلىّ من غير موت. قال: وعلى هذا القول تأويلان: أحدهما- إنى رافعك إلىّ وافيا لم ينالوا منك شيئا؛ من قولهم توفّيت هذا، واستوفيته أى أخذته تامّا. والآخر- إنى مسلّمك؛ من قولهم توفّيت منه كذا أى تسلّمته. وقال الربيع ابن أنس: معناه إنى منيمك ورافعك إلىّ فى نومك؛ ويدل عليه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أى ينيمكم؛ لأنّ النوم أخو الموت. وقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إنى مميتك. ويدل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ* قال: وله على هذا القول تأويلان: أحدهما- ما قال وهب: توفّى الله تعالى

عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه. وقال ابن إسحق: النصارى يزعمون أنّ الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه. والآخر- ما قال الضحاك وجماعة من أهل المعانى: إنّ فى الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّى رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا، ومتوفّيك بعد أن أنزلك من السماء. وقال أبو بكر بن محمد بن موسى الواسطىّ: معناه «إنّى متوفّيك» عن شهواتك وحظوظ نفسك. قال: وذلك أنه لمّا رفع إلى السماء صار حاله حال الملائكة. وقوله: «ورافعك إلىّ» قال البنانىّ والشّيبانىّ: كان عيسى عليه السلام على طور زيتا فهبّت ريح، فهرول عيسى، فرفعه الله عزّ وجلّ فى هرولته، وعليه مدرعة من شعر. وقيل: معناه ورافعك بالدرجة فى الجنة، ومقرّبك إلىّ بالإكرام. وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى مخرجك من بينهم ومنجيك منهم. وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قال قتادة والربيع والشّعبىّ ومقاتل والكلبىّ: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا دينه وسنّته من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما اتبعه من دعاه ربّا. «فوق الّذين كفروا» ظاهرين قاهرين بالعزّ والمنعة والدليل والحجّة. وقال الضحاك وعلىّ ومحمد بن أبان: يعنى الحواريين فوق الذين كفروا. وقيل: هم الرّوم. وقال ابن زيد: وجاعل النصارى فوق اليهود، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستدلّون مقهورون. قال: وعلى هذين القولين يكون معنى الاتباع: الادّعاء والمحبة لا اتباع الدّين والملّة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أى فى الآخرة. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أى من الدّين وأمر عيسى.

قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسّبى والجزية والذّلّة. وَالْآخِرَةِ بالنار. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ . قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية ظاهرة المعنى. قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أى هذا الذى ذكرته لك، قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «هو القرآن» . وقيل: هو اللّوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش، من درّة بيضاء، و «الحكيم» هو المحكم من الباطل؛ قاله مقاتل. وقال ابن إسحق: أى القاطع الفاصل، الحقّ الذى لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرا غيره. فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أى قد جاءك الحقّ فلا تمترينّ فيه، وإن قالوا خلق عيسى من غير [ذكر «1» ] ، فقد خلقت آدم [من تراب «2» ] بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر؛ فكان لحما ودما وعظما وشعرا وبشرا، كما كان عيسى، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا. ثم قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى من بعد ما قصصت عليك من خبره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ قوله: «نبتهل» أى نتضرع فى الدعاء. وقيل: نخلص فى الدعاء. وقيل: نجتهد ونبالغ فنقول لعن الله الكاذب منّا ومنكم. قال ابن إسحق: إِنَّ هذا الذى جئت به من الخبر عن عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ من أمره. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا أى إن أعرضوا عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أى الذين يعبدون غير الله تعالى، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.

ثم قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فدعاهم إلى النّصف، وقطع عنهم الحجّة، قال: فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من الله عزّ وجلّ عن عيسى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمره به من ملاعتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا لنبىّ مرسل، لقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قطّ فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألّا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك، ترضاه لنا، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فخرجت إلى الظّهر مهجّرا «1» ، فلمّا صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، سلّم ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح فدعاه له، وذلك قبل الهجرة.

فقال: «اخرج فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه» قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. هذا ما رواه ابن هشام عن ابن إسحق. وقال محمد بن سعد فى طبقاته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عرض عليهم المباهلة انصرفوا عنه، ثم أتاه عبد المسيح ورجلان من ذوى رأيهم، فقال: قد بدا لنا ألا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفى حلّة: ألف فى شهر رجب، وألف فى صفر، أو قيمة كل حلّة من الأواقى، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا: إن كان باليمن كيد «1» . ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبىّ رسول الله، على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم، لا يغيّر أسقف من سقّيفاه «2» ، ولا راهب من رهبانيّة، ولا واقف من وقفانيّته «3» ، وفى بعض الروايات لا يغيّر «4» وافه من وفهيّته، ولا قسيس من قسّيسيّته. والوافه: قيّم الكنيسة. قال: وأشهد على ذلك شهودا. منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة، ورجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما وأنزلهما فى دار أبى أيوب الأنصارىّ،

وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قبضه الله تعالى. ثم ولّى أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم: «هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران. من سار منهم إنه آمن بأمان الله، لا يضرّهم أحد من المسلمين؛ وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر- أما بعد- فمن وقعوا «1» به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب «2» الأرض، ما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم بمكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم- أمّا بعد- فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذّمّة. وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلّفوا إلّا من ضيعتهم «3» ، غير مظلومين ولا معنوف «4» عليهم. شهد عثمان بن عفان ومعيقيب بن أبى فاطمة. قال: فوقع ناس منهم بالعراق، فنزلوا النّجرانيّة التى هى ناحية الكوفة. وحيث ذكرنا وفادات العرب، فلا بأس أن نصل هذا الفصل بما يناسبه من خبر الجنّ فى إسلامها، ونلحق ذلك بما يتعلق به من إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن أسلم بسبب ذلك، فإنا عند ذكرنا للمبشّرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكرنا من ذلك طرفا، وأخّرنا بقيته لنذكره فى هذا الفصل، ونبهنا عليه هناك.

ذكر خبر إسلام الجن ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن

ذكر خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . وكان من خبر الجنّ ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشّهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا ما قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذى قد حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذى حال بينهم وبين خبر السماء، وانطلق الذين توجّهوا إلى نحو تمامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنخلة «2» وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّى بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن تسمّعوا «3» له فقالوا: هذا

الذى حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك رجعوا إلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً «1» . وأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ وإنما أوحى إليه قول الجنّ، رواه البخارىّ فى صحيحه عن موسى بن إسمعيل، عن أبى عوانة، عن أبى بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذهب محمد بن سعد إلى أن استماع الجنّ كان بنخلة، عند عود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطّائف، لما توجّه يدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له، وذلك قبل الهجرة. وقال الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى كتابه المترجم «بدلائل النبوّة، ومعرفة أحوال صاحب الشريعة» بعد أن ساق حديث البخارىّ قال: وهذا الذى حكاه عبد الله بن عباس إنما هو فى أول ما سمعت الجنّ قراءة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعلمت بحاله، وفى ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعى الجنّ مرّة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد الله ابن مسعود. وقد روى البيهقىّ بسنده إلى عبد الله بن مسعود خبر الجنّ فى القصّتين: أمّا الأولى فإنه قال: هبطوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا- قالوا صه- وكانوا سبعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا إلى قوله: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . وعن ابن مسعود أن النبى صلّى الله عليه وسلّم آذنته بالجنّ شجرة؛ رواه البخارىّ ومسلم فى الصحيحين.

وأما القصة الثانية، فرواها عن الشّعبىّ عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منّا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا: اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان فى وجه الصّبح أو قال فى السّحر، إذا نحن به يجىء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذى كانوا فيه، فقال: «إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، قال: وقال الشّعبىّ فسألوه الزّاد، وقال ابن أبى زائدة: قال عامر سألوه ليلتئذ الزّاد، وكانوا من جنّ الجزيرة، فقال: «كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى أيديكم أوفر ما كان لحما، وكلّ بعرة أوروثة علف لدوابّكم- قال- فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجنّ» رواه مسلم فى صحيحه. وكان فيما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم: «الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ» السورة؛ ويدل على ذلك ما رواه محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الرّحمن» على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للجنّ كانوا أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» * قالوا لا «1» ولا بشىء من آلاء ربّنا نكذّب» . ومن رواية أخرى عنه: «قالوا ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد» . وعن أبى المليح الهذلىّ أنه كتب إلى عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أين قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ؟ فكتب إليه: إنه قرأ عليهم بشعب يقال له المحجون. وروى عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلّى الله عليه وسلّم «أنّ نفرا

ذكر إخبار الجن أصحابهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم بسبب ذلك

من الجنّ خمسة عشر بنى إخوة وبنى عمّ يأتوننى الليلة فأقرأ عليهم القرآن» . وقيل: كانوا أكثر من هذا. وقد جاء عنه: أنه ذهب إلى موضعهم، قال: فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. ولما رأى عبد الله بن مسعود رجال الزّطّ «1» قال: ما رأيت شبههم إلا الجنّ ليلة الجنّ، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا. ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم بسبب ذلك روى أبو عبد الله محمد بن إسمعيل البخارى رحمه الله فى صحيحه، بسنده عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضى الله عنه لشىء قطّ يقول، إنى لأظنّه كذا إلا كان كما يظنّ «2» ؛ بينا عمر جالس إذ مرّ رجل جميل «3» ، فقال: لقد أخطأ ظنى أو إنّ هذا على دينه فى الجاهلية «4» ، ولقد كان كاهنهم؛ علىّ الرجل، فدعى له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظنّى أو إنّك على دينك فى الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإنى أعزم عليك «5» إلا ما أخبرتنى. قال: كنت كاهنهم فى الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنّيتك؟ قال: بينا أنا يوما فى سوق جاءتنى أعرف فيها الفزع، قالت:

ذكر خبر سواد بن قارب

ألم تر الجنّ وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها «1» ولخوقها بالقلاص وأحلاسها ... ويأسها بعد من أنساكها «2» قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قطّ أشدّ صوتا منه يقول: يا جليح «3» ، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله. فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبىّ. قال البيهقىّ: ظاهر هذه الرواية يوهم أنّ عمر رضى الله عنه بنفسه سمع الصّارخ يصرخ من العجل الذى ذبح، وكذلك هو صريح فى رواية ضعيفة عن عمر فى إسلامه، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه، والله تعالى أعلم. ذكر خبر سواد بن قارب روى البيهقىّ رحمه الله تعالى بسنده عن البراء، قال: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخطب الناس على منبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السّنة، فلما كانت السّنة المقبلة،

قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال فقلت: يا أمير المؤمنين، وما سواد ابن قارب؟ فقال: إنّ سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال: فبينا نحن كذلك؛ إذ طلع سواد بن قارب، فقال له عمر: يا سواد، أخبرنى ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: فإنّى كنت نازلا بالهند وكان لى رئىّ من الجنّ، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم؛ إذ جاءنى فى منامى ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤىّ بن غالب، ثم أنشأ يقول: عجبت للجنّ وأنجاسها ... وشدّها العيس بأحلاسها «1» تهوى إلى مكّة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها ثم أنبهنى وأفزعنى، وقال: يا سواد بن قارب، إنّ الله عز وجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان فى الليلة الثانية أتانى فأنبهنى، ثم أنشا يقول كذلك: عجبت للجنّ وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس قداماها كأذنابها «2» فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها «3»

فلما كان فى الليلة الثالثة أتانى فأنبهنى، ثم قال كذلك: عجبت للجنّ وتخبارها ... وشدّها العيس بأكوارها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس ذوو الشّرّ كأخيارها «1» فانهض إلى الصّفود من هاشم ... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها قال: فلما سمعته يكرر ليلة بعد ليلة وقع فى قلبى حبّ الإسلام من أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله، فانطلقت إلى رحلى فشددته على راحلتى، فما حللت نسعة «2» ولا عقدت أخرى حتى أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو بالمدينة والناس عليه كعرف الفرس «3» ، فلما رآنى قال: «مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك» قال قلت: يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه منى، قال سواد فقلت: أتانى رئيىّ بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب «4» ثلاث ليال قوله كلّ ليلة ... أتاك نبىّ من لؤىّ بن غالب فشمّرت عن ساقى الإزار ووسّطت ... بى الذّعلب الوجناء عند السّباسب «5»

فأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... وأنّك مأمون على كلّ غائب وأنّك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذّوائب «1» فكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب «2» قال: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه «3» ، وقال لى: «أفلحت يا سواد» فقال عمر: هل يأتيك رئيّك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتنى، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجلّ من الجنّ. قال البيهقىّ: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن، الذى لم يذكر اسمه فى الحديث الصحيح، وهو الحديث الذى ذكرناه آنفا قبل خبر سواد. وقد روى أيضا عن سواد بن قارب، من رواية سعيد بن جبير بنحو هذا، إلا أنه قال: كان سواد فى جبل من جبال الشّراة «4» ، وقال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، وقد ظهر، فأخبرته الخبر، وبايعته. قال البيهقىّ رحمه الله: وقوله أتيت مكة أقرب إلى الصّحة [مما رويناه فى الروايتين الأوليين «5» ] . والله تعالى أعلم.

ذكر خبر خفاف بن نضلة الثقفى

ذكر خبر خفاف بن نضلة الثّقفىّ روى أبو بكر البيهقىّ رحمه الله بسنده إلى ذابل بن طفيل بن عمرو الدّوسىّ، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قعد فى مسجده ذات يوم، فقدم عليه خفاف بن نضلة ابن عمرو بن بهدلة الثّقفىّ، فأنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كم قد تحطّمت القلوص بى الدّجى ... فى مهمة قفر من الفلوات «1» فلّ من التّوريس ليس بقاعه ... نبت من الإسنات والأزمات «2» إنّى أتانى فى المنام مساعد ... من جنّ وجرة كان لى وموات «3» يدعو إليك لياليا ولياليا ... ثمّ احزألّ وقال لست بآت «4» فركبت ناجية أضرّ بنيّها ... جمر تخبّ به على الأكمات «5» حتّى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات قال: فاستحسنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ من البيان كالسّحر، وإنّ من الشّعر كالحكم» .

ومن ذلك ما روى عن علىّ بن حسين، قال: أول خبر قدم المدينة، أن امرأة من أهل يثرب تدعى فاطمة «1» ، كان لها تابع من الجنّ فجاءها يوما فوقع على جدارها، فقالت: مالك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبىّ يحرّم الزّنى، فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجنّ، وكان أول خبر يحدّث به بالمدينة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر قال: أول خبر قدم المدينة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء فى صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم، فقالت له المرأة: انزل نخبرك وتخبرنا، قال: لا، إنه بعث بمكة نبىّ منع منا القرار، وحرّم علينا الزّنى. ومنه ما روى عن محمد بن عمر بن واقد، عن تميم الدّارىّ أنه قال: سرت إلى الشّام فأدركنى الليل، فأتيت واديا فقلت: أنا فى جوار عظيم هذا الوادى اللّيلة، فلما أخذت مضجعى إذا قائل لا أراه يقول: عذ بالله الأحد، فإنّ الجنّ لا تجير على الله أحدا، وأنه قد بعث رسول الأمّيّين، وصلّينا خلفه بالحجون، وأسلمنا واتبعناه، وآمنا به وصدّقناه، فأسلم تسلم. قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب «2» ، فسألت راهبه عما سمعت من الهاتف، فقال: صدق. وكان ذلك سبب إسلام تميم. ومنه ما روى عن أبى خريم «3» فاتك أنه قال: خرجت فى الجاهلية أطلب إبلا

أضللتها، فلما كنت بأبرق «1» العزّاف، عقلت ناقتى وتوسّدت ذراعها، وقلت: أعوذ بعظيم هذا المكان، فسمعت هاتفا يقول: تعوّذن بالله ذى الجلال ... ووحّد الله ولا تبالى ما هوّل الجنّ «2» من الأهوال قال فقلت: بيّن لى يرحمك الله، فقال: هذا رسول الله ذو الخيرات ... يدعو إلى الجنّة والنّجاة يأمر بالصّوم وبالصّلاة قال: فوقع فى قلبى الإسلام، فقلت: من أنت أيها الهاتف؟ فقال: أنا مالك بن مالك، إن أردت الإسلام فأنا أكفيك طلب ضالّتك حتى أردّها إلى أهلك، قال: فركبت راحلتى وقصدت المدينة، فقدمتها فى يوم جمعة، فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فأنخت بباب المسجد قلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، وإذا أبو ذرّ قد خرج فقال لى: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلنى إليك وهو يقول لك: «مرحبا قد بلغنى إسلامك فادخل فصلّ مع الناس» قال: فتطهرت ودخلت فصلّيت، ثم دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبايعنى وأخبرنى بالخبر قبل أن أذكره له، وقال لى: «أمّا إبلك فقد بلغت أهلك، وقد وفى لك صاحبك» فقلت: جزاه الله خيرا ورحمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آمين» .

ومنه ما روى عن مالك بن نفيع أنه قال: ندّ بعير لى، فركبت نجيبة وطلبته، حتى ظفرت به، فأخذته وانكفأت راجعا إلى أهلى، فأسريت ليلة حتى كدت أصبح، فأنخت النّجيبة والجمل وعقلتهما، واضطجعت فى ذرى كثيب رمل، فلما كحلنى الوسن سمعت هاتفا يقول: يا مالك، يا مالك، لو فحصت عن مبرك العود «1» البارك، لسرّك ما هنالك، قال: فثرت وأثرت البعير عن مبركه، واحتفرت «2» ، وإذا صنم بصورة امرأة، من صفاة صفراء كالورس، مجلوة كالمرآة، فآستخرجتها ومسحتها بثوبى ونصبتها، فاستوت قائمة، فما تمالكت أن خررت ساجدا لها، ثم قمت فنحرت البعير لها ورششتها بدمه، وسميتها غلاب، ثم حملتها على النّجيبة وأتيت بها أهلى، فحسدنى كثير من قومى عليها، وسألونى نصبها لهم ليعبدوها معى، فأبيت عليهم، فانفردت بعبادتها، وجعلت لها على نفسى كل يوم عتيرة «3» ، وكانت لى ثلّة من الضأن فأتيت على آخرها، وأصبحت يوما وليس لى ما أعتره، وكرهت الإخلاف بنذرى، فأتيتها فشكوت إليها ذلك، فإذا هاتف من جوفها يقول: يا مال يا مال «4» ، لا تأس على المال، سر إلى طوىّ «5» الأرقم، فخذ الكلب الأسحم، الوالغ فى الدّم، ثم صد به نعم «6» . قال مالك: فخرجت من فورى إلى طوىّ الأرقم، فإذا كلب أسحم هائل المنظر، قد وثب على قرهب- يعنى ثورا وحشيا- فصرعه وأنا أنظر إليه، ثم بقر بطنه، وجعل يلغ فى دمه، قال: فتهيبته، ثم أقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته لم يلتفت إلىّ، فشددت فى عنقه حبلا، ثم جذبته فتبعنى، فأتيت راحلتى فأثرتها، وقدتها إلى

القرهب، فأنختها وجررته وحملته عليها، ثم قدتها قاصدا إلى الحىّ، والكلب يلوذ بى فعنّت لى ظبية، فجعل الكلب يثب ويجاذبنى المرس» ، فتردّدت فى إرساله ثم أرسلته، فمرّ كالسهم حتى اختطفها، فأتيته فجاذبته إياها فأرسلها فى يدى، فاستفزنى السّرور، وأتيت أهلى فعترت الظبية لغلاب، ووزعت لحم القرهب، وبتّ بخير ليلة، ثم باكرت به الصّيد، فلم يفته حمار، ولا ما طله ثور، ولا اعتصم منه وعل، ولا أعجزه ظبى، فتضاعف سرورى به، وبالغت فى إكرامه، وسميته سحاما، فلبث بذلك ما شاء الله، فإنى لذات يوم أصيد به، فبصرت بنعامة على أدحيّها «2» ، وهى قريبة منى، فأرسلته عليها، فأجفلت أمامه، واتّبعتها على فرس جواد، فلما كاد الكلب يثب عليها، انقضّت عليه عقاب من الجوّ فكر راجعا نحوى فصحت به فما كذّب «3» ، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها، ونزلت العقاب أمامى على صخرة، وقالت: سحام، قال الكلب: لبّيك، قالت: هلكت الأصنام، وظهر الإسلام، فأسلم تنج بسلام، وإلا فليست بدار مقام. ثم طارت العقاب، وتبصّرت سحاما فلم أره، وكان آخر عهدى به. ومنه مما يشبه هذه القصة ما روى عن قتادة عن عبد الله بن أبى ذباب «4» عن أبيه، أنه قال: كنت مولعا بالصيد، وكان لنا صنم اسمه فرّاض، كنت كثيرا

ما أذبح له، ولم أكن أتخذ جارحا للصيد إلّا رمى بآفة، قلّما أدخل الحىّ صيدا حيّا؛ لأنى كنت لا أدركه إلا وقد أشفى على الهلاك، فلمّا طال بى ذلك أتيت فرّاضا، فعترت له عتيرة، ولطّخته من دمها، وقلت: فرّاض أشكو نكد «1» الجوارح ... من طائر ذى مخلب ونابح وأنت للأمر الشّديد الفادح «2» ... فافتح فقد أسهلت المفاتح فأجابنى مجيب من الصّنم؛ فقال: دونك كلبا جارحا مباركا ... أعدّ للوحش سلاحا شابكا «3» يفر حزون الأرض والدّ كادكا «4» قال: فانقلبت إلى خبائى، فوجدت به كلبا خلاسيّا «5» بهيما «6» عظيما؛ أهرت «7» الشّدقين، شابك الأنياب، شئن «8» البراثن، أشعر مهول المنظر، فصفرت به فأتانى، فلاذ بى وبصبص «9» ، فسميته حياضا «10» ، فاتخذت له مربطا بإزاء فراشى وأكرمته، ثم خرجت به إلى الصيد، فإذا هو أبصر بالصّيد منّى، وكان لا يثبت له شىء من الوحش، فقلت فيه: حياض إنك مأمول منافعه ... وقد جعلتك موقوفا لفرّاض

وكنت أعتر لفرّاض من صيده، وأقرى الضّيف، فلم أزل به من أوسع العرب رحلا «1» ، وأكثرها ضيفا، إلى أن ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل بى ضيف كان زار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه القرآن، فحدّثنى عنه، ورأيت حياضا كأنه ينصت لحديثه، ثم إنّى غدوت أقتنص بحياض، فجعل يجاذبنى ويأبى أن يتبعنى فأجذبه وأمسحه، إلى أن عنّ لى تولب- يعنى جحشا من حمير الوحش- قال: فأرسلته عليه فقصده، حتى إذا قلت قد أخذه حاد عنه، فساءنى ذلك، ثم أرسلته على رأل- يعنى فرخ نعامة- فصنع مثل ذلك، ثم أرسلته على بقرة، ثم على خشف «2» ، كل ذلك لا يأتى بخير، فقلت: ألا ما لحياض يحيد كأنما ... رأى الصّيد ممنوعا بزرق اللهاذم «3» قال: فأجابنى هاتف لا أراه: يحيد لأمر لو بدا لك عينه ... لكنت صفوحا عاذلا غير لائم قال: فأخذت الكلب وانكفأت راجعا، فإذا شخص إنسان عظيم الخلق، قد ركب حمارا وحشيا، فتربع على ظهره، وهو يساير شخصا مثله راكبا على قرهب، وخلفهما عبد أسود يقود كلبا عظيما بساجور «4» ، فأشار أحد الراكبين إلى حياض وأنشد: ويلك يا حياض لم تصيد ... اخنس وحد عمّا حوته البيد «5» الله أعلى وله التوحيد ... وعبده محمد السّديد سحقا لفرّاض وما يكيد ... قد ظلّ لا يبدى ولا يعيد

قال: فملئت رعبا، وذلّ «1» الكلب فما يرفع رأسا، وأتيت أهلى مغموما كاسف البال، فبتّ أتململ على فراشى، ثم خفتّ من آخر الليل فإذا نغمة «2» ، ففتحت عينى فرأيت الكلب الذى كان الأسود يقوده، وإذا حياض يقول له: أحسب صاحبى يقظان، قال: فتناومت، ثم قصدنى فتأمّلنى ورجع إليه، فقال: قد نام، فلا عين ولا سمع، قال: أرأيت العفريتين؟ وسمعت ما قالا، قال حياض: نعم، قال: إنهما قد أسلما واتبعا محمدا، وقد سلّطا على شياطين الأوثان، فما يتركان لوثن شيطانا، وقد عذّبانى عذابا شديدا، وأخذا علىّ موثقا ألّا أقرب وثنى، وأنا خارج إلى جزائر الهند، فما رأيك لنفسك؟ قال حياض: ما أمرنا إلا واحد، وذهبا، فقمت أنظر فلا عين ولا أثر، فلما أصبحت أخبرت قومى بما رأيت وسمعت، وقلت لهم: تخيروا من ينطلق معى إلى هذا النبى من حلمائكم وخطبائكم؛ فقالوا لى: أترغب عن دين آبائك؟ فقلت لهم: إذا كرهتم شيئا كرهته، فما أنا إلا واحد منكم، ثم انسللت منهم فكسرت الصنم، ثم قصدت المدينة فأتيتها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فجلست بإزاء منبره فعقّب خطبته بأن قال: «بإزاء منبرى رجل من سعد العشيرة، قدم علينا راغبا فى الإسلام، ولم يرنى ولم أره إلا ساعتى هذه، ولم أكلّمه ولم يكلّمنى قطّ، وسيخبركم خبرا عجيبا» ونزل فصلّى، ثم قال: «ادن يا أخا سعد العشيرة» فدنوت فقال: «أخبرنا عن حياض وفرّاض وما رأيت وسمعت» قال: فقمت على قدمىّ وقصصت القصّة، والمسلمون يسمعون، فسرّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ودعانى إلى الإسلام، وتلا علىّ القرآن فأسلمت، وقلت فى ذلك: تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاضا بدار هوان شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان

رأيت له كلبا يقوم بأمره ... فهدّد بالتّنكيل والرّجفان ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى وأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيه كلكلى وجرانى فمن مبلغ سعد العشيرة أننى ... شريت الذى يبقى بما هو فانى وقد تقدم فى خبر وفد سعد العشيرة ذكر هذه الأبيات، وأنها لذباب، وأنه الذى كسر الصّنم، إلا أنه لم يذكر البيت الذى فيه ذكر الكلب «1» ، والله تعالى أعلم. ومنه: ما روى أن ربيعة بن أبى براء، قال أخبرنى خالى فقال: لما أظهر الله علينا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بحنين انشعبنا فى كل مشعب، لا يلوى حميم على حميم، فبينا أنا فى بعض الشّعاب، رأيت ثعلبا قد تحوّى «2» عليه أرقم، والثعلب يعدو عدوا شديدا، فانتحيت «3» له بحجر فما أخطأه، وانتهيت إليه، فإذا الثعلب قد سبقنى بنفسه- أى هلك قبل أن أصل إليه- وإذا الأرقم قد تقطّع وهو يضطرب، فقمت لأنظر إليه، فهتف هاتف ما سمعت أفظع «4» من صوته يقول: تعسا لك وبؤسا، فقد قتلت رئيسا، وورثت بئيسا «5» ، ثم قال: يا داثر يا داثر، فأجابه مجيب من العدوة «6» الأخرى بلبّيك لبّيك، فقال: بادر بادر، إلى بنى العذافر، وأخبرهم بما صنع الكافر، فناديت: إنى لم أشعر، وأنا عائذ بك فأجرنى. قال: كلّا، والحرم الأمين، لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد غير ربّ العالمين. قال: فناديت؛ إنّى أسلم، فقال: إن أسلمت سقط عنك القصاص، وألبثك «7» الخلاص،

وإلّا فلا مناص. قال فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، فقال: نجوت وهديت، لولا ذاك لرديت «1» ، فارجع من حيث جيت. قال: فرجعت أقفو أدراجى «2» ، فإذا هو يقول: امتط السّمع «3» الأزلّ، يعل بك التّلّ، فهناك أبو عامر «4» يتبع الفلّ «5» . قال: فالتفت فإذا سمع كالأسد النّهد «6» ، فركبته ومرّ ينسل «7» ، حتى انتهى إلى تلّ عظيم، فتوقّل «8» فيه إلى أن تسنّمه، فأشرفت منه على خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوّبت الحدور «9» نحوهم، فلما دنوت منهم خرج إلىّ فارس، كالفالج «10» الهاتج، فقال: ألق سلاحك لا أمّ لك، فألقيت سلاحى. فقال: ما أنت؟ قلت: مسلم، قال: فسلام عليك ورحمة الله، قلت: وعليك السلام والرحمة والبركة، من أبو عامر؟ قال: أنا هو، قلت: الحمد لله، قال: لا بأس عليك؛ هؤلاء إخوانك المسلمون، أما رأيتك بأعلى التّل فارسا فأين فرسك؟ قال: فقصصت عليه القصّه، فأعجبه ما سمع منى: وسرت مع القوم أقفو بهم آثار هوازن حتى بلغوا من ذلك ما أرادوه. والأخبار فى مثل ذلك كثيرة، وقد أتينا منها بما نكتفى به، فنلذكر خلاف ذلك من سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ذكر رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إلى الملوك وغيرهم، وما كتب به إليهم، وما أجابوا به

ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين بعثهم إلى الملوك وغيرهم، وما كتب به إليهم، وما أجابوا به كانت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على ما أورده الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله، أحد عشر رجلا؛ وهم: عمرو بن أمية الضّمرىّ، ودحية بن خليفة الكلبىّ، وعبد الله بن حذافة السّهمىّ، وحاطب بن أبى بلتعة اللحمىّ، وعمرو بن العاص، وسليط بن عمرو العامرىّ، وشجاع بن وهب الأسدىّ، والمهاجرين أبى أمية المخزومىّ، والعلاء بن الحضرمىّ، وأبو موسى الأشعرىّ، ومعاذ بن جبل. هؤلاء الذين أثبتهم. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدى إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة «1» قتله شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، وبسبب قتله بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة مؤتة على ما قدمنا ذكره. ولعل الشيخ رحمه الله، إنما أثبت من الرسل من بلّغ الرسالة. وهذا لم يمهل حتى يبلّغها، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث غير هؤلاء، ممن نذكرهم إن شاء الله تعالى. فكان أوّل ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرسل فى المحرم، سنة سبع من مهاجره؛ أرسل ستّة من هؤلاء الرسل إلى ستّة ملوك، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية فى ذى الحجة سنة خمس جهّز الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبا، فقيل له: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ خاتما من

ذكر إرسال عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى ملك الحبشة وإسلامه

فضّة فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: «محمد» سطر «رسول» سطر «الله» سطر. وختم به الكتب، فخرج ستة نفر منهم فى يوم واحد وذلك فى المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم؛ حكاه محمد بن سعد فى طبقاته بسنده. وقال أبو عبد الله محمد بن إسحق بن يسار: حدّثنى يزيد بن أبى حبيب المصرىّ أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البلدان، وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال: فبعثت به إلى محمد بن شهاب الزّهرىّ، فعرفه، وفيه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه فقال لهم: «إن الله بعثنى رحمة وكافة، فأدّوا عنّى يرحمكم الله، ولا تختلفوا علىّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم» قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم؟ قال: «دعاهم لمثل ما دعوتكم له، فأمّا من قرّب «1» به فأحبّ وسلّم، وأمّا من بعّد «2» به فكره وأبى، فشكا ذلك عيسى منهم إلى الله، فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجّه إليهم» . قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به عن أبى بكر الهذلىّ، قال: بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه. وساق نحو الحديث ذكر إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النّجاشى ملك الحبشة وإسلامه بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشىّ، وكتب معه كتابين، يدعوه فى أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ النجاشىّ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم

ذكر إرسال دحية بن خليفة الكلبى إلى قيصر ملك الروم

وشهد شهادة الحقّ، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجابته، وتصديقه وإسلامه على يدى جعفر بن أبى طالب لله رب العالمين. وكان جعفر ممن هاجر إلى الحبشة كما قدّمنا ذكر ذلك. وفى الكتاب الثانى، يأمره أن يزوّجه أمّ حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الأسدىّ، فتنصر هناك ومات، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه من قبله من أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة وأن يحملهم، ففعل، وزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وأصدقها أربعمائة دينار، وأمر بجهاز المسلمين وما يصلحهم، وحملهم فى سفينتين مع عمرو بن أمية، وجعل كتابى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقّ من عاج، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها. ذكر إرسال دحية بن خليفة الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى- أما بعد- فإنّى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسين «1» ، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

وبإسنادنا المتقدّم، إلى أبى عبد الله محمد بن إسمعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، قال حدّثنا شعيب، عن الزهرىّ، قال أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أنّ هرقل أرسل إليه فى ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، فى المدّة التى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مادّ فيها أبا سفيان وكفّار قريش «1» ، فأتوه وهم بإيليا، فدعاهم فى مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبىّ؟ قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه منى، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذّبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علىّ كذبا لكذبت عنه «2» . ثم كان أوّل ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك «3» ؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدّ أحد منهم سخطة «4» لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر «5» ؟ قلت: لا، ونحن منه فى مدّة «6» لا ندرى ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكنّى كلمة

أدخل فيها شيئا «1» غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال «2» ، ينال منا وننال منه «3» ، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة، والصّدق، والعفاف، والصّلة، فقال لترجمانه: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت «4» : لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسى «5» بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يريدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ، وسألتك أيرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف، فإن كان ما يقول حقّا، فسيملك موضع قدمىّ هاتين، وقد

كنت أعلم أنه خارج «1» ، لم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنى أعلم أنّى أخلص إليه لتجشّمت «2» لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه «3» . ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذى بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» وذكره كما تقدّم. قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصّخب، وارتفعت الأصوات «4» ، وأخرجنا، فقلت لأصحابى حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة «5» ، إنه ليخافه ملك بنى الأصفر «6» ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علىّ الإسلام. قال: وكان ابن النّاطور صاحب «7» إيلياء وهرقل أسقفا «8» على نصارى الشام يحدّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس «9» ، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، فقال ابن الناطور، وكان هرقل حزّاء «10» : ينظر فى النّجوم، فقال لهم حين سألوه: إنى رأيت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنّك شأنهم،

واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم، إذ أتى هرقل برجل، أرسل به ملك غسّان، يخبر عن خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه، فحدّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية «1» ، وكان نظيره فى العلم، وسار هرقل إلى حمص «2» ، فلم يرم «3» حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأى هرقل على خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه نبىّ، فأذن هرقل لعظماء الروم فى دسكرة «4» له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلّقت، ثم اطّلع فقال: يا معشر الروم هل لكم فى الفلاح والرّشد؟ وأن يثبت ملككم فتبايعوا لهذا النبىّ، فحاصوا حيصة «5» حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردّوهم علىّ، وقال: إنى قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم فقد رأيت «6» . فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل. رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزّهرى. وقد قدّمنا من خبر هرقل فى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحقيق نبوءته عنده، فى فصل من بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تقف عليه هناك.

ذكر إرسال عبد الله بن حذافة السهمى إلى كسرى ملك الفرس

ذكر إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى ملك الفرس بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا؛ قال عبد الله: فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرئ عليه ثم أخذه فمزّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم مزّق ملكه» . وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذى بالحجاز، فليأتيا بخبره. فبعث باذان قهرمانه «1» ، ورجلا آخر، وكتب معهما كتابا، فقدما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، وقال: «ارجعا عنى يومكما هذا حتى تأتيانى الغد فأخبركما بما أريد» فجاءاه الغد، فقال لهما: «أبلغا صاحبكما أن ربّى قد قتل ربّه كسرى فى هذه الليلة لسبع «2» ساعات مضت منها- وهى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة- وأن الله تعالى سلّط عليه ابنه شيرويه فقتله» فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء «3» الذين باليمن.

ذكر إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية عظيم القبط، واسمه جريج بن مينا

ذكر إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط، واسمه جريج بن مينا بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا فأتاه، وأوصل إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأه، وقال خيرا، وجعل الكتاب فى حقّ من عاج، وختم عليه ودفعه إلى جاريته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعث إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت لك كسوة وبغلة تركبها. ولم يزد على هذا، ولم يسلم المقوقس، فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هديّته، وأخذ الجاريتين، وهما مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأختها شيرين، وبغلة بيضاء، لم يكن فى العرب يومئذ غيرها، وهى دلدل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المقوقس: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه «1» » . قال حاطب: كان المقوقس مكرما لى فى الضّيافة، وقلّة اللّبث ببابه، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام. وقال أبو عمر بن عبد البر: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصيّا اسمه مأبور، وذكر ذلك فى ترجمة مارية، ويقال: هو ابن عمّ مارية، والله أعلم. وقد ذكرنا فى (الحجّة البالغة، والأجوبة الدّامغة) ما كان بينهما من المحاورات، وذلك فى الباب الرابع عشر، من القسم الخامس، من الفنّ الثانى، فى السّفر الثّامن من هذه النسخة.

ذكر إرسال شجاع بن وهب الأسدى إلى الحارث بن أبى شمر

ذكر إرسال شجاع بن وهب «1» الأسدى إلى الحارث بن أبى شمر قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شجاع بن وهب الأسدى، إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى، ملك البلقاء من أرض الشام، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال «2» والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه- وكان روميّا اسمه مرى «3» - يسألنى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكنت أحدّثه عن صفته، وما يدعو إليه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبىّ بعينه، فأنا أو من به وأصدّقه، وأخاف من الحارث أن يقتلنى، وكان يكرمنى ويحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوما فجلس، ووضع التّاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع منّى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، علىّ بالناس! فلم يزل يفرض «4» حتى قام، وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: ألا تسير إليه، واله عنه، ووافنى بإيلياء. فلما جاءه جواب كتابه دعانى فقال لى: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدا، فأمر لى بمائة مثقال ذهب، ووصلنى مرى،

ذكر إرسال سليط بن عمرو العامرى إلى هوذة بن على الحنفى باليمامة

وأمر لى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- منّى السلام. فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صدق» ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح. ذكر إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة «1» بن علىّ الحنفى باليمامة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، فقدم عليه فأنزله وحباه، وقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم والعرب تهاب مكانى، فآجعل لى بعض الأمر أتّبعك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره عنه بما قال، فقرأ كتابه وقال: «لو سألنى سيابة «2» من الأرض ما فعلت، باد «3» وباد ما فى يديه» فمات عام الفتح. فهؤلاء السّتّة الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة سبع «4» . وبعث صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدىّ ملك البحرين.

قال محمد بن سعد: بعثه عند منصرفه من الجعرانة «1» إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه كتابا. فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه وتصديقه، و «أنى قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحبّ الإسلام، وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فأحدث إلىّ فى ذلك أمرك» فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية، وبألا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم «2» » . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمى، وأوصاه به خيرا، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العلاء فرائض الإبل، والبقر والغنم، والثمار والأموال، فقرأ العلاء كتابه على الناس وأخذ صدقاتهم. وبعث صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان. قال محمد بن سعد: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من مهاجره، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى «3» ، وهما من الأزد، والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى الإسلام، وكتب معه إليهما كتابا، قال عمرو: لما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليك وإلى أخيك، فقال: أخى المقدّم علىّ بالسّنّ والملك وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك، فمكشت أياما ببابه، ثم دعانى فدخلت عليه

فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففضّ خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنّى رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: دعنى يومى هذا وأرجع إلىّ غدا، فلما كان من الغد رجعت إليه، فقال: إنى فكّرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلا ما فى يدى، قلت: فإنى خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى أصبح فأرسل إلىّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدّقا بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخليا بينى وبين الصّدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى، فأخذت الصدقة من أغنيائهم، فرددتها فى فقرائهم، ولم أزل مقيما بينهم حتى بلغنا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وبعث صلّى الله عليه وسلّم المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث الحميرى، وهو الحارث بن عبد كلال ملك اليمن. وبعث صلّى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعرى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن. وكانا جميعا داعين إلى الإسلام، فأسلم عامّة أهل اليمن، ملوكهم وعامّتهم طوعا. هؤلاء الرسل الذين ذكرهم الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى فى مختصر السيرة. وقد ذكر محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث جرير بن عبد الله البجلى إلى ذى الكلاع بن ناكور بن حبيب ابن مالك بن حسّان بن تبّع، وإلى ذى عمرو يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصّبّاح «1» . وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجرير عندهم، فأخبره ذو عمرو بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع جرير إلى المدينة.

ولم يذكر محمد بن سعد المهاجر، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى اليمن مع معاذ بن جبل مالك بن مرارة. وذكر أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ، فى كتابه المترجم بالاستيعاب، فى ترجمة بن أبى أمية، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى الجارث كما قدّمنا. قال ابن سعد: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسّان يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهدى له هدية، ولم يذكر اسم المرسل إليه، ثم كان من أمر جبلة بن الأيهم، وخبر ارتداده ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وقال محمد بن إسحق رحمه الله: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث أمراءه وعمّاله على الصّدقات، إلى كل ما أوطأ «1» الإسلام من البلدان. فبعث المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسىّ وهو بها. وبعث زياد بن لبيد، أخا بنى بياضة الأنصارى، إلى حضر موت وعلى صدقاتها. وبعث عدىّ بن حاتم على طيّىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد. وبعث مالك بن نويرة اليربوعى على صدقات بنى حنظلة، وفرّق صدقات بنى سعد على رجلين منهم؛ فبعث الزّبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية. قال: وكان قد بعث العلاء بن الحضرمىّ على البحرين، وبعث علىّ بن أبى طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم، ويقدم عليه بجزيتهم. هذا ما وقفنا عليه من أخبار رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر من أخباره صلّى الله عليه وسلّم خلاف ذلك.

ذكر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة بن الحارث، وأمّ سلمة هند بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، وريحانة بنت زيد، وأم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب، وصفيّة بنت حيىّ ابن أخطب، وميمونة بنت الحارث؛ هؤلاء المدخول بهنّ، وهنّ ثنتا عشرة امرأة رضوان الله عليهنّ. وسنذكر إن شاء الله تعالى، بعد أن نذكر أخبار هؤلاء، من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يدخل بهنّ، ومن وهبت نفسها له، ومن خيرها فاختارت الدّنيا، ومن فارقها صلّى الله عليه وسلّم، ولنذكر أخبارهنّ على حسب اتصالهنّ به صلّى الله عليه وسلّم. فأوّل امرأة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ بن كلاب القرشية، رضى الله عنها، وكانت تدعى فى الجاهلية الطّاهرة «1» ، وأمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، واسم الأصمّ جندب ابن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤىّ. وكانت خديجة عند أبى هالة بن زرارة بن نبّاش بن عدىّ بن حبيب بن صرد بن سلامة بن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم التّميمى. قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر ابن عاصم النّمرى: هكذا نسبه الزّبير، وأمّا الجرجانىّ النّسّابة فقال: كانت خديجة قبل عند أبى هالة هند بن النّبّاش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدى

ابن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم، فولدت له هندا، قال: ثم اتفقا فقالا: ثم خلف عليها بعد أبى هالة عتيق بن عابد «1» بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم خلف عي؟؟ ها بعد عتيق المخزومى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة: كانت خديجة تحت عتيق بن عابد المخزومى، ثم خلف عليها بعده أبو هالة هند بن زرارة، قال أبو عمر: والأوّل أصح. وقال أبو محمد عبد المؤمن بن خلف: إنها ولدت لعتيق جارية تدعى هند، ثم هلك عنها فخلف عليها أبو هالة فولدت له ابنا وبنتا. وقال ابن إسحق: ولدت هند بن أبى هالة، وزينب بنت أبى هالة، وولدت لعتيق عبد الله وجارية، قال: ثم هلك فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر زواجه صلّى الله عليه وسلّم بها، فلا حاجة إلى إعادته. وولدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع أولاده، إلا إبراهيم. وقال أبو عمر: لا يختلفون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج فى الجاهلية «2» غير خديجة، ولا تزوّج عليها أحدا من نسائه حتى ماتت، وهى أوّل من آمن بالله عزّ وجلّ، وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم على الإطلاق. قال ابن إسحق رحمه الله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه، من ردّ عليه وتكذيب له إلا فرّج الله عنه بخديجة، تثبّته وتصدّقه وتخفّف عنه وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، وقد تقدّم من أخبارها فى ابتداء الوحى وامتحانها الأمر «3» ، وقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الذى يأتيه ملك،

وغير ذلك ما تقف عليه هناك، مما يستدل به على أنها رضى الله عنها أوّل من آمن بالله تعالى وبرسوله، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة المنتشرة، بفضل خديجة رضى الله عنها؛ فمن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيّدة نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون» . وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، وما بى أن أكون أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها، وأن كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهنّ. وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوما من الأيام فأدركتنى الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أبدلنى الله خيرا منها، آمنت بى إد كفر الناس، وصدّقتنى إذ كذّبنى الناس، وواستنى فى مالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها أولادا إذ حرمنى أولاد النساء» قالت عائشة: فقلت فى نفسى لا أذكرها بسيّئة أبدا. وقد قدّمنا من فضلها وما بشّرها به جبريل عليه السلام، وذكر وفاتها عند ذكرنا لزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها ما يستغنى عن إيراده فى هذا الموضع، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة. ولما ماتت خديجة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاتها بأيام:

سودة بنت زمعة بن قيس

سودة بنت زمعة بن قيس ابن عبد شمس بن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال فى حسل: حسيل. وأمها الشّموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد ابن خداش بن عامر بن غنم بن عدىّ بن النّجّار، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، بعد موت خديجة، وقبل العقد على عائشة على المشهور، وكانت قبل عند ابن عمّ لها يقال له السّكران بن عمرو، وهو أخو سهيل بن عمرو، من بنى عامر ابن لؤىّ. وأسنّت سودة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمّ بطلاقها، فقالت له: لا تطلقنى وأنت فى حلّ من شأنى، فإنما أريد أن أحشر فى أزواجك، وإنّى قد وهبت يومى لعائشة، وإنى ما أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم لبقية أزواجه دونها، ونوبتها لعائشة، فكانت كذلك حتى توفّى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع من توفّى عنهن من أزواجه. قال أبو عمر: وفى سودة نزل قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» «1» . وقيل: نزلت فى عمرة «2» ، ويقال: خولة بنت محمد بن مسلمة، وفى زوجها سعد بن «3» الرّبيع. ويقال فى غيرها. والله أعلم. وكانت وفاة سودة فى آخر زمان عمر بن الخطاب، ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد سودة:

عائشة بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما

عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما وأمها أمّ رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فى شوّال سنة عشر من النبوّة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وهى بنت ستّ أو سبع، وبنى بها بالمدينة على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وهى ابنة تسع سنين، وتوفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى بنت ثمانى عشرة سنة، ولم يتزوّج صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها، وكانت عائشة رضى الله عنها تذكر لجبير ابن مطعم بن عدىّ وتسمّى «1» له، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أرى عائشة فى المنام فى سرقة «2» من حرير متوفّى خديجة، فقال: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال وابتنى بها فى شوّال، فكانت تحبّ أن تدخل النساء من أهلها وأحبّتها فى شوّال على أزواجهنّ، وتقول: هل كان فى نسائه عنده أحظى منّى، وقد نكحنى وابتنى بى فى شوّال. قال أبو عمر: فكان مكثها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع سنين، روى عنها أنها قالت: تزوّجنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت سبع سنين، وبنى بى وأنا بنت تسع، وقبض عنّى وأنا بنت ثمانى عشرة. قال أبو عمر: واستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الكنية فقال لها: «اكتنى بابنك عبد الله بن الزبير» يعنى ابن أختها، وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدّثنى الصّادقة ابنة الصّدّيق، البريئة المبرّأة بكذا وكذا. ذكره الشّعبى عن مسروق. وقال أبو الضّحا عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد

صلى الله عليه وسلّم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبى رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا فى العامّة. وقال هشام ابن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطبّ ولا بشعر من عائشة» . وعن عبد الرحمن بن أبى الزّناد عن أبيه، قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتى فى رواية عائشة، ما كان ينزل بها شىء إلا أنشدت فيه شعرا. قال الزهرىّ: لو جمع علم عائشة إلى جميع علم أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وروى عن عمرو بن العاص قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أىّ الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قلت: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» . ومن حديث أبى موسى الأشعرى، وأنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثّريد على سائر الطعام «2» » . ومن فضل عائشة أن الله عز وجل أنزل فى براءتها ما أنزل، وقد ذكرنا ذلك فى حديث الإفك، فى حوادث سنة خمس من الهجرة، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا، من هذه النسخة. وروى عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: من سبّ أبا بكر جلد، ومن سبّ عائشة قتل، فقيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «3» فمن عاد لمثله فقد كفر. وعن القاضى أبى بكر بن الطيّب قال: إن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن ما نسبه إليه المشركون سبّح نفسه لنفسه؛ كقوله:

حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنها

«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ» «1» فى آى كثير. وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ» «2» سبح نفسه فى تنزيهها من السّوء، كما سبّح نفسه فى تنزيهه من السّوء. وفضائلها رضى الله عنها كثيرة مشهورة. وسنذكر إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا لوفاة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما خصّها به صلّى الله عليه وسلّم، فى مرضه الذى مات فيه، من تمريضه فى بيتها، وأنه مات صلّى الله عليه وسلّم فى بيتها وفى نوبتها، وبين سحرها ونحرها «3» ، وآخر ما دخل فمه ريقها، وناهيك بها فضيلة وخصوصية. وكانت وفاة عائشة رضى الله عنها بالمدينة، فى سنة سبع وخمسين، وقيل: فى سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا، فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلّى عليها أبو هريرة، ونزل فى قبرها خمسة: عبد الله، وعروة ابنا الزّبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وعبد الله بن محمد بن أبى بكر، والله أعلم. وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج عائشة: حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنها وهى أخت عبد الله بن عمر لأبيه وأمه، وأمّها زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، وكانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدىّ السّهمىّ، وكان

بدريا، فلما مات عنها وتأيّمت، ذكرها عمر لأبى بكر وعرضها عليه، فلم يرجع إليه أبو بكر كلمة، فغضب من ذلك عمر، ثم عرضها على عثمان حين مائت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوّج اليوم، فانطلق عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكا إليه عثمان، وأخبره بعرضه حفصة عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يتزوّج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوّج عثمان من هى خير من حفصة» ثم خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمر فتزوّجها، فلقى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب فقال: لا تجد علىّ فى نفسك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو تركها لتزوّجتها. وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأس ثلاثين شهرا من مهاجره. قال أبو عمر: وطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تطليقة ثم ارتجعها؛ وذلك أن جبريل عليه السلام قال له: «راجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، وأنها زوجتك فى الجنة» . وروى عن عقبة بن عامر قال: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر فحثى على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ الله يأمرك أن تراجع حفصة بنت عمر رحمة لعمر» . قال أبو عمر: وأوصى عمر بعد موته إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى عبد الله ابن عمر بما أوصى به إليها عمر، وبصدقة تصدّقت بها [بمال «1» ] وقفته بالغابة. واختلف فى وفاتها، فقال الدّولابىّ: عن أحمد بن محمد بن أيوب، توفيت

زينب بنت خزيمة بن الحارث

فى سنة سبع وعشرين، وقال أبو معشر: توفيت فى جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وقال غيره: توفيت فى شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة، وصلّى عليها مروان بن الحكم، وحمل سريرها، وهو إذ ذاك أمير المدينة لمعاوية بن أبى سفيان، وهذا الذى أشار إليه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى مختصر السيرة. قال: ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج حفصة بنت عمر: زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن القيسيّة الهوازنيّة العامرية الهلالية، وكانت تدعى فى الجاهلية «1» أمّ المساكين، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الطفيل بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف فطلقها، فخلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث فقتل عنها يوم بدر شهيدا، فخلف عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من مهاجره. وقيل: كانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد، فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى الأول اعتمد الشيخ أبو محمد، قال: ومكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت فى آخر شهر ربيع الآخر، وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفنها بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها، ولم يمت من أزواجه فى حياته غيرها، وغير خديجة، قال: وفى ريحانة «2» خلاف. وقال أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجانى النّسّابة: كانت زينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمها، قال أبو عمر: ولم أر ذلك لغيره، والله أعلم. ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة:

أم سلمة هند بنت أبى أمية

أمّ سلمة هند بنت أبى أمية حذيفة المعروف بزاد الرّاكب بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ القرشية المخزومية. وكان أبوها أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة بن علقمة ابن فرّاس. وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن برّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وولدت له عمر وزينب، فكانا ربيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر: ولدت له عمر وسلمة ودرّة «1» وزينب. قال، وكانت هى وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، ويقال أيضا: أمّ سلمة أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى بنت أبى حثمة زوج عامر بن ربيعة. تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة فى ليال بقين من شوّال سنة أربع من مهاجره، وقال أبو عمر: تزوجها فى سنة اثنتين «2» من الهجرة بعد وقعة بدر، عقد عليها فى شوّال، وابتنى بها فى شوّال، وقال لها: «إن شئت سبّعت عندك، وسبعت لنسائى، وإن شئت ثلّثت ودرت» فقالت: ثلّث. قال ابن هشام: زوجه إياها ابنها سلمة بن أبى سلمة، وأصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراشا حشوه ليف وقدحا وصحفة ومجشّة «3» . وقد اختلف فى وفاتها؛ فقيل: توفيت فى سنة ستين من الهجرة، وقيل: فى شهر رمضان أو شوال سنة تسع وخمسين،

زينب بنت جحش بن رئاب

وقال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: توفيت فى سنة اثنتين وستين. قال أبو عمر: وصلّى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد «1» بوصية منها، ودخل قبرها عمر وسلمة ابنا أبى سلمة، وعبيد الله بن عبد الله بن أبى أمية، وعبد الله بن وهب بن ربيعة، ودفنت بالبقيع رحمها الله، وهى آخر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موتا، وقيل: بل ميمونة آخرهن. والله أعلم. ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم بعدها: زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير- بالباء الموحّدة- ابن غنم بن دودان ابن أسد بن خزيمة. وكان اسم زينب برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب، وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال ذى القعدة سنة أربع على الصّحيح «2» ، وهى يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة، وكانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم فارقها، فلما حلّت «3» زوّجه الله إياها، وهى التى قال الله تعالى فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «4» ولما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكلم فى ذلك المنافقون، وقالوا حرّم

محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «1» . وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «2» ، فدعى زيد يومئذ زيد بن حارثة، وكان قبل ذلك يدعى زيد بن محمد. قالت عائشة رضى الله عنها: لم يكن أحد من نساء النبى صلّى الله عليه وسلّم يسامينى «3» في حسن المنزلة عنده غير زينب بنت جحش، وكانت تفخر على نساء النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ تقول: إن آباء كنّ أنكحوكنّ وأن الله أنكحنى إياه من فوق سبع سموات. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لزيد بن حارثة: «اذكرها علىّ» قال زيد: فانطلقت فقلت لها: يا زينب، أبشرى، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر «4» ربى؛ فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: «إن زينب بنت جحش أوّاهة» فقال رجل: يا رسول الله، ما الأوّاه؟ قال: «الخاشع المتضرع، وإِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ «5» . وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها؛ قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما لنسائه: «أسرعكنّ لحاقا بى أطو لكنّ «6» يدا» ، قالت: فكنّ يتطاولن أيهنّ أطول يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيديها وتتصدق. وعن عائشة رضى الله عنها أيضا، قالت كانت زينب بنت جحش

جويرية بنت الحارث

تسامينى فى المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما رأيت امرأة قطّ خيرا فى الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثا؛ وأوصل للرحم، وأعظم صدقة. ومن رواية أخرى عنها أنها ذكرت زينب فقالت: ولم تكن امرأة خيرا منها فى الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد تبذلا «1» في نفسها فى العمل الذى تتصدق به وتتقرب إلى الله عز وجل. وكانت وفاة زينب بالمدينة فى سنة عشرين من الهجرة، فى خلافة عمر، وقيل: فى سنة إحدى وعشرين، ودفنت بالبقيع رضى الله عنها. ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب: جويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن سعد ابن كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء «2» بن عامر ماء السّماء؛ الأزدية الخزاعية المصطلقية. سباها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم المريسيع «3» فوقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس بن شمّاس، وكاتبها على تسع أواق، فأدّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها كتابتها وتزوّجها. وقيل: جاء أبوها فافتداها، ثم أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ست من الهجرة. وروى عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أو لابن عم له-

فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة «1» ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستعينه فى كتابتها، قالت عائشة: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيّد قومه وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أولا بن عمّ له- فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعينك على كتابتى، قال: «فهل لك فى خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابتك وأتزوجك» ، قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» ؛ قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج بجويرية بنت الحارث فقال الناس: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا ما بأيديهم، فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. قال أبو عمر: وكانت جويرية قبل تحت مسافع بن صفوان المصطلقى، قال: وكان اسمها برّة، فغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمها وسماها جويرية، وحفظت جويرية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروت عنه، وتوفيت بالمدينة فى شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلّى عليها مروان بن الحكم وهو والى المدينة وقد بلغت سبعين سنة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهى بنت عشرين سنة. وقيل: توفيت فى سنة خمسين. والله أعلم. ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد جويرية:

ريحانة بنت زيد بن عمر بن خنافة بن شمعون

ريحانة بنت زيد بن عمر بن خنافة بن شمعون قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النّمرى رحمه الله: هى ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة «1» من بنى قريظة، وقيل من بنى النّضير. قال: والأكثر من بنى قريظة. قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: وكانت متزوجة رجلا من بنى قريظة، يقال له الحكم، وكانت قد وقعت فى السبى يوم بنى قريظة، وذلك فى ليال من ذى القعدة سنة خمس من الهجرة، فكانت صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخيرها بين الإسلام ودينها فاختارت الإسلام فأعتقها وتزوجها، وأمهرها اثنتى عشرة أوقية ونشّا، وأعرس بها فى المحرّم سنة ستّ، فى بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس من بنى النجار، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت بعد رجعته من حجّة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقيل: إنه لم يتزوّجها وكان يطؤها بملك اليمين، وأنه خيّرها بين العتق والتزويج، أو تكون فى ملكه، فقالت: أكون فى ملكك أخف علىّ وعليك، فكانت فى ملكه حتى توفّى عنها. قال: والأوّل أثبت. ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم: أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشية الأموية، وأمها صفيّة بنت أبى العاص بن أمية عمة عثمان بن عفان، هاجرت أمّ حبيبة مع زوجها عبيد الله «3» بن جحش إلى أرض الحبشة فى الهجرة الثانية، فولدت له هناك

حبيبة فكنيت بها، وتنصّر عبيد الله زوجها، وارتدّ عن الإسلام، ومات على ذلك، وثبتت أمّ حبيبة على دين الإسلام، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشىّ، كما قدّمنا ذكر ذلك فزوّجه إياها، وكان الذى عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على الأصح، وأصدقها النجاشىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة «1» وجهّزها إلى المدينة، وذلك فى سنة سبع من الهجرة، وهذا هو المعروف المشهور. وقيل: إن الذى زوّجها عثمان بن عفان، وأن العقد كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة. والأوّل أثبت. وروى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى محمد بن حسن عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسمعيل بن عمرو أن أمّ حبيبة قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشى جارية يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فاستأذنت علىّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كتب إلىّ أن أزوّجكه «2» فقلت: بشّرك الله بخير، وقالت: يقول لك الملك وكلّى من يزوّجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكّلته، وأعطيت أبرهة سوارى فضّة كانتا علىّ، وخواتم فضة كانت فى أصابعى سرورا بما بشّرتنى، فلما كان العشىّ أمر النجاشىّ جعفر بن أبى طالب ومن هناك من المسلمين يحضرون، وخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدّوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبّار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنه الذى بشر به عيسى بن مريم- أمّا بعد- فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلىّ أن أزوجه أمّ حبيبة بنت

صفية بنت حيى بن أخطب

أبى سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أصدقتها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدى القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- أما بعد- فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فبارك الله لرسوله. ودفع النجاشى الدّنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها؛ ثم أرادوا أن يقوموا، فقال النجاشى: اجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم السلام إذا تزوّجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرّقوا. وماتت أمّ حبيبة سنة أربع وأربعين «1» . وروى عن علىّ بن حسين قال: قدمت منزلى فى دار علىّ بن أبى طالب، فحفرنا فى ناحية منه فأخرجنا منه حجرا فإذا فيه مكتوب، هذا قبر رملة بنت صخر، فأعدناه مكانه، حكاه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة أم حبيبة «2» . ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أم حبيبة: صفيّة بنت حيىّ بن أخطب ابن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الحارث بن أبى حبيب بن النّضير بن النّحّام بن نحوم «3» ، من بنى إسرائيل من سبط هرون بن عمران عليه السلام. كان أبوها سيّد بنى النّضير، وأمّها برّة «4» بنت سموءل، أخت رفاعة «5» ، وكانت صفيّة عند سلام بن مشكم القرظىّ الشاعر، ففارقها فخلف عليها كنانة بن الربيع

ابن أبى الحقيق النّضرىّ «1» الشاعر، فقتل يوم خيبر، ولم تلد لأحد منهما شيئا، فاصطفاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه فأعتقها وتزوّجها وجعل عتقها صداقها، ولم تبلغ يومئذ سبع عشرة سنة. وحكى محمد بن إسحق فى مغازيه، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى فى دلائل النبوة، فى غزاة خيبر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما افتتح القموص: - حصن ابن أبى الحقيق- أتى بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وبأخرى معها، فمر بهما بلال على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصّكّت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أغربوا «2» عنى هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفاها لنفسه، وكانت صفية قد رأت فى المنام، وهى عروس بكنانة بن الربيع، أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها «3» ، فقال: ما هذا إلا أنك تمنّين ملك الحجاز محمدا: فلطم وجهها لطمة خضّر «4» عينها منها، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منه، فسألها ما هو فأخبرته هذا الخبر. وروى عن أنس بن مالك من رواية صهيب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما جمع سبى خيبر جاءه دحية فقال: أعطنى جارية من السّبى، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفيّة بنت حيىّ، فقيل: يا رسول الله، إنها سيّدة قريظة والنّضير،

ميمونة بنت الحارث

ما تصلح إلا لك، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذ جارية من السّبى غيرها» . وقال ابن شهاب: كانت مما أفاء الله عليه، حجبها وأولم عليها بتمر وسويق، وقسم لها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين، قال أبو عمر: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على صفية وهى تبكى، فقال لها: «ما يبكيك» ؟ قالت: بلغنى أن عائشة وحفصة تنالان منى، وتقولان نحن خير من صفية، نحن بنات عمّ رسول الله وأزواجه، قال: «ألا قلت لهنّ كيف تكنّ خيرا منّى وأبى هرون، وعمّى موسى، وزوجى محمد صلّى الله عليه وسلّم» . وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة؛ روى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقالت: إن صفية تحب السّبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر يسألها، فقالت: أما السّبت فإنى لم أحبّه منذ أبدلنى الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لى فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: فاذهبى فأنت حرة. وتوفّيت صفية فى شهر رمضان سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. ودفنت بالبقيع، وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أختها بثلثها، وكان يهوديا. ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها: ميمونة بنت الحارث ابن حزن بن بجير بن هزم «1» بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير، وقيل: من كنانة، وأن زهير بن الحارث بن كنانة.

وأخوات ميمونة لأبيها وأمها: أمّ الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث، زوج العباس بن عبد المطلب. ولبابة الصّغرى زوج الوليد بن المغيرة، أمّ خالد بن الوليد. وعصماء بنت الحارث، كانت تحت أبىّ بن خلف الجمحىّ. وعزّة بنت الحارث، كانت عند زياد بن عبد الله بن مالك الهلالى. وأخواتها لأمها: أسماء بنت عميس؛ كانت تحت جعفر بن أبى طالب، فولدت له عبد الله، وعونا ومحمدا، ثم خلف عليها أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فولدت له محمدا، ثم خلف عليها على بن أبى طالب، فولدت له يحيى، وقيل: إن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن أسامة بن الهاد اللّيثىّ، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن. وسلامة بنت عميس أخت أسماء. وسلمى بنت عميس كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبّه الخثعمى. وزينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمّها. قال أبو عمر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما: كان اسم ميمونة برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة، وقال: لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة معتمرا فى سنة سبع؛ وهى عمرة القضاء، خطب جعفر بن أبى طالب عليه ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس عند جعفر، وسلمى بنت عميس عند حمزة، وأم الفضل عند العباس، فأجابت جعفر ابن أبى طالب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فأنكحها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف «1» حلالا، وكانت قبله عند أبى رهم بن عبد العزّى بن أبى قيس بن عبدودّ بن

ذكر من تزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ولم يدخل بهن، ومن دخل بهن وطلقهن، ومن وهبت نفسها له صلى الله عليه وسلم:

نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال: بل كانت عند سبرة بن أبى رهم. حكاه أبو عبيدة، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: كانت ميمونة قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم عند حويطب بن عبد العزّى، وقيل: كانت فى الجاهلية عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفى ففارقها، وخلف عليها أبو رهم أخو حويطب فتوفّى عنها، فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن شهاب: وهى التى وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك قال قتادة، قال: وفيها نزلت وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها «1» للنّبىّ الآية، وقد قيل: إن الواهبة خولة وقيل: أمّ شريك. قال قتادة: وكانت ميمونة قبله عند فروة بن عبد العزّى بن أسد بن غنم بن دودان، قال أبو عمر: هكذا قال قتادة وهو خطأ، والصواب ما تقدم. والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد الدمياطى: وماتت ميمونة بسرف فى سنة إحدى وخمسين على الأصح؛ وقد بلغت ثمانين سنة. فهؤلاء نساؤه المدخول بهنّ، ومات صلّى الله عليه وسلّم عن تسع منهنّ؛ وهنّ: عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث وأمّ حبيبة بنت أبى سفيان؛ وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر من تزوجهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يدخل بهنّ، ومن دخل بهنّ وطلّقهنّ، ومن وهبت نفسها له صلّى الله عليه وسلّم: فاطمة بنت الضّحّاك ابن سفيان بن عوف بن كعب بن أبى بكر، وهو عبيد بن كلاب بن ربيعة ابن عامر الكلابية.

تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من الهجرة منصرفه من الجعرانة، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بعظيم الحقى بأهلك «1» » فكانت إذا استأذنت على أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم تقول: أنا الشّقيّة إنما خدعت. ودلهت «2» وذهب عقلها، وماتت سنة ستين. وروى عن ابن إسحق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجها بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين أنزلت آية التخيير «3» فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد تلقط البعر «4» ، وتقول: أنا الشّقية اخترت الدنيا. قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا عندى غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروى عن أبى سلمة وعروة عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خيّر أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله قالت وتتابع أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، قال قتادة وعكرمة: كان عنده حين خيّرهن تسع نسوة وهنّ اللواتى توفّى عنهن، قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: وقيل إنما طلقها لبياض «5» كان بها. وقيل: إنما فارقها لأنه كان إذا خرج طلعت إلى المسجد. وقيل: إن الضحّاك عرض ابنته فاطمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنها لم تصدّع «6» قطّ، فقال: «لا حاجة لى بها» . وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: كان فى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سناء «7» بنت سفيان بن عوف بن كعب ابن أبى بكر بن كلاب. ومنهن:

عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية

عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب الكلابية، وهو أصحّ. وفى رواية قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغه أن بها برصّا فطلّقها، ولم يدخل بها. وقيل: إنها التى تعوذت منه حين أدخلت عليه. وقيل غيرها. ومنهن: العالية بنت ظبيان بن الجون ابن عوف بن كعب بن أبى بكر بن عبيد بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت عنده ما شاء الله ثم طلّقها، قال: وقلّ من ذكرها. هؤلاء اللاتى ذكرن من بنى كلاب بن ربيعة بن عامر. قال أبو محمد: ومن الناس من جعل التى تزوجها من بنى عامر واحدة، اختلف فى اسمها، وأنه لم يتزوج من بنى عامر غيرها، قال: ومنهم من جعلهن جمعا، وذكر لكل واحدة منهن قصّة، وهؤلاء اللاتى ذكرناهن، هن المشهورات من بنى عامر. وممن ذكرن فى أزواجه صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت شريح. ذكرها أبو عبيدة فى أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومنهن: أسماء بنت النّعمان بن أبى الجون ابن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن الجون بن آكل المرار الكندى، تزوج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، زوجه إياها أبوها حين قدم «1» ، على اثنتى عشرة أوقية ونشّ، وبعث معه أبا أسيد؛ فحملها من

نجد حتى نزل بها فى أطم «1» بنى ساعدة، فقالت عائشة: قد وضع يده فى الغرائب «2» يوشك أن يصرفن وجهه عنا، وكانت من أجمل النساء، فقالت حفصة لعائشة، أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما: إنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك؛ فلما دخلت عليه وأغلق الباب، وأرخى الستر، مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ الحقى بأهلك» وأمر أبا أسيد أن يردّها إلى أهلها؛ وقال: «متّعها برازقيتين «3» » يعنى كرباسين، فكانت تقول: ادعونى الشّقية، وإنما خدعت؛ لما رؤى من جمالها وهيئتها، وذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حملها على ما قالت، فقال: «إنهنّ صواحب يوسف وكيدهنّ عظيم» قال: فلما طلع بها أبو أسيد على أهلها تصايحوا؛ وقالوا: إنك لغير مباركة، ما دهاك؟ فقالت: خدعت، وقيل لى كيت وكيت، فقالوا: لقد جعلتنا فى العرب شهرة، فقالت: يا أبا أسيد قد كان ما كان فما الذى أصنع؟ قال: أقيمى فى بيتك واحتجى إلا من ذى رحم، ولا يطمع فيك طامع بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنك من أمهات المؤمنين؛ فأقامت لا يطمع فيها طامع، ولا ترى إلا لذى محرم، حتى توفّيت فى خلافة عثمان بن عفّان عند أهلها بنجد. وقال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها، واختلفوا فى قصّة فراقه لها، فقال بعضهم: لما دخلت عليه دعاها فقالت: تعال أنت، وأبت أن تجىء، هذا قول قتادة وأبى عبيدة. وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله

أميمة بنت شراحيل

منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله منّى» فطلقها، قال قتادة: وهذا باطل إنما قال هذا لامرأة جميلة تزوّجها من بنى سليم. وقال أبو عبيدة: كلتاهما عاذتا بالله عز وجل منه صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم. وروى البخارىّ فى صحيحه حديث أبى أسيد السّاعدىّ قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أميمة بنت شراحيل فلما دخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين، وفى لفظ آخر، قال أبو أسيد: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجونية، فلما دخل عليها قال: «هبى لى نفسك» فقالت: وكيف تهب الملكة نفسها للسّوقة؟ فأهوى بيده إليها ليسكتها فقالت: أعوذ بالله منك، قال: «قد عذت بمعاذ» ثم خرج عليه السلام فقال: «يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها» . وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: خلف عليها المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة؛ فأراد عمر أن يعاقبهما، فقالت: والله ما ضرب علىّ الحجاب ولا سميت بأمّ المؤمنين، فكف عنهما، وقيل: تزوّجها عكرمة ابن أبى جهل فى الرّدة، وقيل: خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادى، وقال ابن أبزى: الجونيّة التى استعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تستعذ منه امرأة غيرها. قال أبو عمر رحمه الله: الاختلاف فى الكندية كبير جدا، منهم من يقول: هى أسماء بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أميمة بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أمامة بنت النّعمان، قال: واختلافهم فى سبب فراقها على ما رأيت، والاضطراب فيها وفى صواحباتها اللواتى لم يجتمع عليهنّ من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم عظيم. ومنهنّ:

قتيلة بنت قيس

قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية الكندية. روى عن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبى صلّى الله عليه وسلم خرج والغضب يعرف فى وجهه، فقال له الأشعث بن قيس: لا يسؤك الله يا رسول الله، ألا أزوّجك من ليس دونها فى الجمال والحسب؟ قال: «من» ؟ قال: أختى قتيلة، قال: «قد تزوجتها» قال: فانصرف الأشعث إلى حضر موت، ثم حملها حتى إذا فصل من اليمن، بلغه وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّها إلى بلاده وارتدّ وارتدّت معه فيمن ارتد؛ فلذلك تزوجت؛ لفساد النكاح بالارتداد. قال الشيخ أبو محمد: وكان تزوجها قيس بن مكشوح المرادىّ، وقيل: تزوجها عكرمة ابن أبى جهل، فوجد أبو بكر من ذلك وجدا شديدا، وقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، إنها والله ما هى من أزواجه، ما خيّرها ولا حجبها، ولقد برّأها الله منه بالارتداد الذى ارتدت مع قومها. وكان تزوّجه إياها سنة عشر، وقيل: قبل موته بشهرين، وقيل: تزوّجها فى مرضه. وقال قائلون: إنه صلّى الله عليه وسلم أوصى أن تخيّر، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت طلقها فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل. وكان عروة بن الزّبير ينكر ذلك، ويقول: لم يتزوج النبى صلّى الله عليه وسلم قتيلة بنت قيس، ولا تزوج كندية إلا أخت بنى الجون؛ ملكها، وأتى بها فلما نظر إليها طلّقها، ولم يبن بها صلّى الله عليه وسلّم. ومنهنّ:

عمرة بنت معاوية الكندية

عمرة بنت معاوية الكندية تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الشعبىّ: تزوّج امرأة من كندة، فجىء بها بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك أبو الفرج بن الجوزىّ فى التلقيح. ومنهن: أسماء بنت الصّلت وقيل: سناء بنت الصّلت، قال أبو عمر: وهو الصواب؛ قال: وقال علىّ ابن عبد العزيز بن على بن الحسن الجرجانى النّسابة: هى وسناء بنت الصّلت ابن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرىء القيس ابن بهثة بن سليم السّلمية؛ تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فماتت قبل أن تصل إليه. وقال غيره: فلما بشّرت بذلك ضحكت، وماتت من الفرح. وقال ابن إسحق: سناء بنت أسماء بن الصّلت السّلمىّ، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم طلقها. وقال أبو نصر ابن ماكولا: سناء بنت أسماء ماتت قبل أن يدخل بها. وقيل: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت أسماء: لو كان نبيا ما مات حبيبه، فخلّى سبيلها. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير الليثى: جاء رجل من بنى سليم إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن لى ابنة من جمالها وعقلها ما إنى لأحسد الناس عليها غيرك، فهمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوّجها، ثم قال: وأخرى يا رسول الله، لا والله ما أصابها عندى مرض قطّ، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا حاجة لنا فى ابنتك، تجيئنا نحمل خطاياها! لا خير فى مال لا يرزأ «1» منه، ولا جسم لا ينال منه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر: وفى سبب فراقها اختلاف، ولا يثبت فيها شىء من جهة الإسناد. ومنهنّ:

مليكة بنت كعب الليثى

مليكة بنت كعب الليثىّ روى محمد بن عمر الواقدى، عن أبى معشر، قال: تزوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت: أما تستحيين أن تنكحى قاتل أبيك؟ فاستعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلقها، فجاء قومها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة ولا ولىّ «1» لها، وأنها خدعت فارتجعها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنوه أن يزوّجوها قريبا لها من بنى عذرة، فأذن لهم فتزوّجها العذرىّ، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة «2» . قال محمد بن عمر: مما يضعف هذا الحديث، ذكر عائشة أنها قالت: ألا تستحيين، وعائشة لم تكن مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح، وعن عطاء بن يزيد الجندعى قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم مليكة بنت كعب الليثى فى شهر رمضان، سنة ثمان، ودخل بها فماتت عنده، قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون لم يتزوّج كنانية قطّ، وعن الزّهرى مثل ذلك. ومنهنّ: ابنة جندب بن ضمرة الجندعى قال أبو محمد الدمياطى رحمه الله: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ، وأنكر ذلك الواقدى، وقال: لم يتزوّج كنانية قط. ومنهنّ:

الغفارية

الغفارية قال أبو محمد الدمياطى: قال بعضهم تزوّج النبى صلّى الله عليه وسلّم امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها، فرأى بها بياضا، فقال: «الحقى بأهلك» ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. ومنهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة ابن قبيصة بن الحارث بن حبيب بن حرقة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن ثعلبة. وأمها [خرنق «1» ] بنت خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس الكلبىّ، أخت دحية بن خليفة. تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهلكت فى الطريق قبل وصولها إليه. حكاه أبو عمر بن عبد البرعن الجرجانىّ النسّابة. ومنهنّ: شراف «2» بنت خليفة بن فروة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبىّ قال أبو محمد الدمياطى: قال ابن الكلبى حدّثنا الشّرقىّ بن القطامى «3» قال: لما هلكت خولة بنت الهذيل، تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شراف بنت خليفة أخت دحية، ثم لم يدخل بها. وقال أبو عمر بن عبد البر: فهلكت قبل دخوله بها. وروى عن عبد الرحمن بن سابط، قال: خطب رسول الله صلّى

خولة بنت حكيم

الله عليه وسلّم امرأة من كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت ثم رجعت، فقال لها: «ما رأيت» ؟ فقالت ما رأيت طائلا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرت كل شعرة منك» فقالت: يا رسول الله، ما دونك سرّ. ومنهنّ: خولة بنت حكيم ابن أميّة بن حارثة بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالح بن ثعلبة بن ذكوان ابن امرئ القيس «1» بن سليم. ويقال فيها: خويلة بنت حكيم، وأمها صفيّة «2» بنت العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ. قال ابن الكلبىّ: كانت خولة بنت حكيم من اللائى وهبن أنفسهنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأرجأها وكانت تخدم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت عند عثمان بن مظعون فمات عنها. وعن عروة قال: خولة بنت حكيم ممن وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو عمر بن عبد البر: خولة تكنى أمّ شريك، وهى التى وهبت نفسها للنبىّ، فى قول بعضهم، وكانت امرأة فاضلة صالحة، روى عنها سعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن المسيّب، وهى التى قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فتح الله عليك الطائف فأعطنى حلىّ بادية بنت غيلان، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل كما تقدّم. ومنهنّ: ليلى بنت الخطيم بن عدىّ ابن عمرو بن سواد بن ظفر بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النّبيت بن مالك بن الأوس، وهى أخت قيس بن الخطيم، واسم الخطيم ثابت، واسم ظفر كعب.

قال محمد بن سعد: عن عاصم بن عمر بن قتادة «1» قال: كانت ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقبلها، وكانت تركب بعولتها «2» ركوبا شديدا، وكانت سيئة الخلق، فقالت: لا والله، لأجعلنّ محمدا لا يتزوّج فى هذا الحىّ من الأنصار، والله لآتيّنه، ولأهبنّ نفسى له، فأتت النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم مع رجل من أصحابه، فما راعه إلا بها واضعة يديها عليه، فقال: «من هذا؟ أكله الأسد» فقالت: أنا ليلى بنت سيّد قومها، قد وهبت نفسى لك، قال: «قد قبلتك؛ ارجعى حتى يأتيك أمرى» فأتت قومها فقالوا: أنت امرأة ليس لك صبر على الضّرائر، وقد أحل الله لرسوله أن ينكح ما شاء، فرجعت فقالت: إنّ الله أحل لك النّساء، وأنا امرأة طويلة اللسان لا صبر لى على الضّرائر، واستقالته فقال: «قد أقلتك» . وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو مولّ ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبيه، فقال: «من هذا؟ أكله الأسد» وكان كثيرا ما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطّير ومبارى الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسى، تزوّجنى، قال: «قد فعلت» فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوّجنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيرى، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب نساء، تغارين عليه فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله، أقلنى، قال: «قد أقلتك» قال: فتزوّجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له، فبينا هى فى حائط من حيطان المدينة تغتسل، إذ وثب عليها ذئب فأكل بعضها، وأدركت فماتت. ومنهنّ:

ليلى بنت حكيم الأنصارية

ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية، التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر بن عبد البر: ذكرها أحمد بن صالح المصرى فى أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم؛ ولم يذكرها «1» غيره فيما علمت. والله تعالى أعلم. ومنهنّ: أمّ شريك واسمها غزيّة بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمير بن معيص ابن عامر بن لؤىّ. وقال أبو عمر: غزيلة «2» الأنصارية من بنى النجّار. قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: اختلف فيها، فكان محمد بن عمر يقول: هى من بنى معيص بن عامر بن لؤىّ، وكان غيره يقول: هى دوسيّة من الأزد، وقيل: هى أنصارية. وروى ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن موسى بن محمد ابن إبراهيم التيمى، عن أبيه قال: كانت أمّ شريك امرأة من بنى عامر بن لؤىّ، معيصية وهبت نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقبلها، فلم تتزوّج حتى ماتت. وروى عن وكيع عن زكريّا عن عامر فى قوله عز وجل: «ترجى من تشاء منهنّ «3» » ؛ قال: كل نساء وهبن أنفسهن للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فدخل ببعضهنّ وأرجأ بعضا فلم ينكحن بعده، منهنّ: أمّ شريك. وعن الشّعبى قال: المرأة التى عزل «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ شريك الأنصارية. وعن على بن الحسين:

أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تزوّج أمّ شريك الدّوسية، ومثله عن عكرمة. وروى محمد بن سعد عن محمد بن عمر قال: حدّثنى الوليد بن مسلم، عن منير بن عبد الله الدّوسىّ قال: أسلم زوج «1» أمّ شريك- وهى غزيّة بنت جابر بن حكيم الدّوسية من الأزد- وهو أبو بكر، فهاجر إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مع أبى هربرة، ومع دوس حين هاجروا، قالت أمّ شريك: فجاءنى أهل أبى العكر فقالوا: لعلك على دينه، قلت: إى والله، إنى لعلى دينه، قالوا: لا جرم، والله لنعذبك عذابا شديدا، فارتحلوا بنا من دارنا، ونحن كنا بذى الخلصة، فساروا يريدون منزلا، وحملونى على جمل ثفال «2» ، شرّ ركابهم وأغلظه، يطعمونى «3» الخبر بالعسل، ولا يسقونى قطرة من ماء، حتى إذا انتصف النهار وسخنت الشمس، ونحن قائظون «4» ، فنزلوا فضربوا أخيبتهم وتركونى فى الشمس حتى ذهب عقلى وسمعى وبصرى، ففعلوا بى ذلك ثلاثة أيام، فقالوا لى فى اليوم الثالث: اتركى ما أنت عليه، قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، فأشير بإصبعى إلى السماء بالتوحيد، قالت: فو الله إنى لعلى ذلك، وقد بلغنى الجهد، إذ وجدت برد دلو على صدرى، فأخذته فشربت منه نفسا «5» واحدا، ثم انتزع منّى، فذهبت أنظر فإذا هو معلّق بين السماء والأرض، فلم

الشنباء

أقدر عليه، ثم دلّى الثانية فشربت منه نفسا، ثم رفع، فذهبت أنظر، فإذا هو بين السماء والأرض، ثم دلّى الثالثة فشربت منه حتى رويت، فأهرقت على رأسى ووجهى وثيابى، قالت: فخرجوا فنظروا، فقالوا: من أين لك هذا يا عدوّة الله؟ قالت فقلت لهم: إنّ عدوّ الله غيرى؛ من خالف دينه، فأما قولكم من أين هذا فمن عند الله رزقا رزقنيه الله، قالت: فانطلقوا سراعا إلى قربهم فوجدوها موكأة لم تحلّ، فقالوا: نشهد أن ربك هو ربنا، فإن الذى رزقك ما رزقك فى هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا، هو الذى شرع الإسلام، فأسلموا وهاجروا جميعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يعرفون فضلى عليهم، وما صنع الله إلىّ، قال: وهى التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت جميلة وقد أسنّت، فقالت: إنى وهبت نفسى لك، وأتصدّق بها عليك، فقبلها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت عائشة: ما فى امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أمّ شريك: فأنا تلك؛ فسماها الله مؤمنة، فقال تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «1» » . فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة: إنّ الله ليسرع لك فى هواك «2» يا رسول الله. ومنهنّ: الشّنباء ذكرها الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله، فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكر لها ترجمة. فلنذكر من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم.

ذكر من خطبهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ولم يتفق تزويجهن.

ذكر من خطبهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يتّفق تزويجهنّ. منهنّ: أمّ هانىء بنت أبى طالب ابن عبد المطلب بن هاشم، واسمها فاختة، وقال ابن الكلبى: اسمها هند، وهى أخت على بن أبى طالب، وعقيل وجعفر وطالب، شقيقتهم، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه، قال: خطب النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى طالب ابنته أمّ هانئ فى الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبى وهب «1» بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فزوجها هبيرة، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمّ، زوّجت هبيرة وتركتنى» ! فقال: يابن أخى إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم أسلمت ففرّق الإسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نفسها فقالت: والله إن كنت لأحبك فى الجاهلية، فكيف فى الإسلام، ولكنى امرأة مصبية وأكره أن يؤذوك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نساء ركبن المطايا نساء قريش، أحناه «2» على ولد فى صغره، وأرعاه على زوج فى ذات يده» . ومنهنّ: ضباعة بنت عامر بن قرا ابن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. روى هشام بن محمد الكلبى، عن أبيه عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانت ضباعة بنت عامر عند هوذة بن على الحنفى، فهلك عنها فورّثها مالا كثيرا،

صفية بنت بشامة بن نضلة العنبرى

فتزوجها عبد الله بن جدعان التّيمىّ، وكان لا يولد له فسألته الطلاق فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكان من خيار المسلمين، فتوفى عنها هشام، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وكانت تغطى جسدها بشعرها، فذكر جمالها عند النبى صلّى الله عليه وسلّم، فخطبها إلى ابنها سلمة بن هشام ابن المغيرة، فقال: حتى أستأمرها، وقيل للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنها قد كبرت فأتاها ابنها فقالت: ما قلت له؟ قال: قلت حتى أستأمرها، فقالت: وفى النبى صلّى الله عليه وسلّم يستأمر! ارجع فزوّجه، فرجع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فسكت عنه. ومنهنّ: صفيّة بنت بشامة «1» بن نضلة العنبرىّ قال أبو محمد: كان أصابها سباء، فخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إن شئت أنا، وإن شئت زوجك» فقالت: بل زوجى، فأرسلها فلعنتها بنو تميم. ومنهنّ: جمرة بنت الحارث بن عوف المزنىّ خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهى أمّ شبيب بن البرصاء الشاعر. ومنهنّ: سودة القرشيّة خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مصبية فقالت: أكره أن تصغو «2» صبيتى عند رأسك، فحمدها ودعا لها، ذكرها والتى قبلها ابن الجوزىّ

أمامة بنت عمة حمزة

فى التّلقيح. وروى عن مجاهد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب فردّ لم يعد، فخطب امرأة، فقالت: حتى أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له، فقال: «قد التحفنا لحافا غيرك» ولم يسم مجاهد اسم هذه المرأة. وعرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمامة بنت عمّة حمزة ابن عبد المطلب، وقيل: اسمها عمارة، فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «تلك ابنة أخى من الرضاعة» . وعرضت عليه أمّ حبيبة أختها. فجميع من ذكر من أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم المدخول بهنّ، وغير المدخول بهنّ، ومن وهبت نفسها له، أو خطبها ولم يتفق تزويجها، أو عرضت عليه فأباها، نحو أربعين امرأة على ما ذكرناه من الاختلاف، ومن أهل العلم من ينكر بعضهنّ، ويقول: إنما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة امرأة، ست منهنّ قرشيات لا شك فيهنّ، وهنّ: خديجة، وعائشة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وحفصة. ومن العرب: زينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وأسماء بنت النّعمان، وفاطمة بنت الضّحّاك، وزينب بنت خزيمة. ومن غيرهم: ريحانة بنت زيد من بنى النّضير، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب. وعن محمد بن يحيى بن حبّان قال: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة امرأة، فسمى هؤلاء، وزاد مليكة بنت كعب اللّيثية. وقال أبو عبيدة: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانى عشرة امرأة.

ذكر سرارى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

وقال محمد بن عمر الواقدىّ: المجمع عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج أربع عشرة امرأة، وهنّ اللائى سمّين، وفارق منهن الجونيّة والكلابية، ومات عنده خديجة، وزينب بنت خزيمة، وريحانة بنت زيد، وقبض عن تسع، وهنّ المذكورات اللاتى قدمنا ذكرهنّ. وقال أبو سعيد فى شرف النبوّة: إن جملة أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين امرأة، طلّق منهنّ ستّا، ومات عنده خمس، وتوفّى عن عشر؛ واحدة لم يدخل بها، وكان صداقه لنسائه لكل واحدة خمسمائة درهم، إلا صفيّة فإنه جعل عتقها صداقها، وأمّ حبيبة أصدقها عنه النجاشىّ. ذكر سرارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهنّ: مارية بنت شمعون القبطية وهى أم ولده إبراهيم، وكانت من جفن «1» من كورة أنصنا من صعيد مصر، أهداها له المقوقس جريح بن مينا، ولما ولدت مارية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه إبراهيم قال: «أعتقها ولدها» . وتوفيت مارية فى المحرم سنة ست عشرة، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلّى عليها عمر، ودفنت بالبقيع. وريحانة بنت زيد النّضرية، وقد تقدّم خبرها فى الزوجات. وقال أبو عبيدة: كان له أربع؛ وهنّ مارية وريحانة، وأخرى جميلة أصابها فى السّبى، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. وقال قتادة: كان للنبى صلّى الله عليه وسلّم وليدتان مارية وريحانة، وبعضهم يقول: ربيحة «2» القرظية.

ذكر أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: كان أول من ولد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة قبل النبوّة القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب، ثم رقيّة، ثم فاطمة، ثم أمّ كلثوم، ثم ولد له فى الإسلام «1» عبد الله فسمى الطّيّب والطّاهر، وأمهم كلهم خديجة رضى الله عنها. وكان أول من مات من ولده القاسم، ثم عبد الله ماتا بمكة، فقال العاصى بن وائل السّهمىّ: قد انقطع ولده فهو أبتر؛ فأنزل الله تعالى: «إنّ شانئك «2» هو الأبتر» وقيل: الطّيّب والطّاهر اثنان سوى عبد الله. وقيل: كان له الطّاهر والمطهّر ولدا فى بطن. وقيل: كان له الطّيّب والمطيّب ولدا أيضا فى بطن. وقيل: إنهم كلهم ماتوا قبل النبوّة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم. وأمّا البنات فكلهن أدركن الإسلام، وأسلمن وهاجرن، وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبارهنّ ومن تزوجهنّ، وما ولدن على ما تقف عليه، وهؤلاء كلهم أولاد خديجة ولدوا بمكة، ثم ولدت له مارية القبطية: إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولد فى ذى الحجة، سنة ثمان من الهجرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر الزّبير عن أشياخه، أن أمّ إبراهيم مارية ولدته بالعالية، فى المال «3» الذى يقال له اليوم (مشربة «4» إبراهيم) بالقفّ «5» ، وكانت قابلتها «6» سلمى مولاة النبى صلّى الله عليه وسلّم،

امرأة أبى رافع، فبشّر به أبو رافع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فوهب له عبدا، فلما كان يوم سابعه عقّ «1» عنه بكبش وحلق رأسه؛ حلقه أبو هند، وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقا على المساكين، وأخذوا شعره فدفنوه فى الأرض. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ولد لى الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» هذا يدل على أنه سمّاه فى وقت ولادته، قال الزبير: ثم دفعه إلى أمّ سيف امرأة قين «2» بالمدينة، يقال له: أبو سيف، قال الزبير: وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، فجاءت أمّ بردة بنت المنذر بن زيد الأنصارىّ، زوجة البراء بن أوس، فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أن ترضعه، فكانت ترضعه بلبن ابنها فى بنى مازن بن النجار، وترجع به إلى أمّه، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ بردة قطعة من نخل، فناقلت «3» بها إلى مال عبد الله بن زمعة. وتوفى إبراهيم فى شهر ربيع الأول سنة عشر، وقد بلغ ستة عشر شهرا؛ مات فى بنى مازن عند ظئره «4» أمّ بردة، وهى خولة بنت المنذر بن لبيد، وغسّلته ودفن بالبقيع. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو عاش لوضعت «5» الجزية عن كل قبطىّ» . وقال أيضا: «لو عاش إبراهيم ما رقّ «6» له خال» . وفى حديث أنس بن مالك تصريح أن إبراهيم إنما مات عند ظئره أمّ سيف؛ فإنه يقول: فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانطلقت معه، فصادفنا أبا سيف ينفخ فى كيره، وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت فى المشى بين يدى رسول الله

صلى الله عليه وسلّم، حتى أنتهيت إلى أبى سيف فقلت: يا أبا سيف، أمسك، جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمسك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصّبى فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول، قال: فلقد رأيته يكيد «1» بنفسه، فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا تقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» وقال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى على ابنه إبراهيم من غير رفع صوت، وقال: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . وعن عطاء، عن جابر قال: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل «2» ، فإذا ابنه إبراهيم فى حجر أمّه وهو يجود بنفسه، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه فى حجره، ثم قال: «يا إبراهيم إنا لا نغنى عنك من الله شيئا» ؛ ثم ذرفت «3» عيناه، ثم قال: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ» . قالوا: ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة» . وقال صلّى الله عليه وسلّم حين توفّى إبراهيم: «إن له مرضعا فى الجنة تتم رضاعه» . وصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، قال ابن عبد البر: هذا قول جمهور العلماء،

زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهو الصحيح، قال: وقد قيل إن الفضل بن عباس غسّل إبراهيم، ونزل فى قبره مع أسامة بن زيد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس على شفير القبر، قال الزبير: ورشّ قبره، وأعلم فيه بعلامة، وهو أول قبر رشّ عليه «1» . فلنذكر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تزوجهنّ، وما ولدن ووفاتهنّ، وهنّ أربع: زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هى أسنّ بناته رضى الله عنهنّ. قال أبو عمر بن عبد البر: ولدت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ثلاثين من مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، حكاه عن محمد بن إسحق السّرّاج عن عبيد الله بن محمد بن سليمان الهاشمى، وتزوج زينب أبو العاص بن ربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها- أمه هالة بنت خويلد- قبل أن ينزّل «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرّق بينهما الإسلام. وقد ذكرنا من خبر ابن العاص وأسره فى غزوة بدر وإطلاقه، وسقنا ذلك كله هناك، وخبر إسلامه، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ زينب عليه بغير مهر جديد، ولا نكاح جديد. وقيل: بل بمهر جديد ونكاح جديد- والله تعالى أعلم- وولدت له عليّا مات صغيرا، وأمامة وهى التى حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصلاة، وعاشت أمامة حتى تزوجها على بن أبى طالب بعد موت فاطمة، فكانت عنده حتى أصيب، فخلف عليها المغيرة بن يزيد بن الحارث بن عبد المطلب، فتوفيت عنده، وماتت زينب فى سنة ثمان من الهجرة.

ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال أبو عمر: وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد لها هبّار بن الأسود ورجل آخر فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت رضى الله عنها. ورقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبو العباس محمد بن إسحق السّراج، قال سمعت عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمى يقول: ولدت رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رقية عند عتبة بن أبى لهب، وأختها أمّ كلثوم عند عتيبة بن أبى لهب، فلما أنزل الله تعالى: «تبّت يدا أبى لهب» - السورة- قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمّالة الحب: فارقا ابنتى محمد، وقال أبو لهب: رأسى من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتى محمد، ففارقاهما، فتزوّج عثمان بن عفّان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنا فسماه عبد الله وبه كان يكنى، فبلغ الغلام ستّ سنين، فنقر عينه ديك وتورّم وجهه فمرض ومات. وماتت رقية رضى الله عنها فى شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر، ودفنت عند وصول زيد بن حارثة بالبشارة بوقعة بدر، وكانت قد أصابتها الحصبة، وتخلّف عثمان بن عفّان رضى الله عنه عن غزوة بدر بسبب مرضها، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو عمر بن عبد البر: كانت فاطمة هى وأختها أمّ كلثوم أصغر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى الصّغرى منهما. وقال ابن السّراج: سمعت عبيد الله الهاشمى يقول: ولدت فاطمة رضى الله عنها فى سنة إحدى وأربعين من مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد وقعة أحد. وقيل: إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة رضى الله عنها، بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إباها بتسعة أشهر ونصف، وكانت سنّها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف. قال أبو عمر: واختلف فى مهره إياها، فروى أنه مهرها درعه، وأنه لم يكن له ذلك الوقت صفراء ولا بيضاء، وقيل: تزوجها على أربعمائة وثمانين درهما فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ثلثها فى الطّيب، قال: وزعم أصحابنا أن الدّرع قدّمها علىّ من أجل الدخول، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه بذلك، فولدت رضى الله عنها له حسنا وحسينا ومحسنا فذهب محسن صغيرا. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى علىّ رضى الله عنه قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت: سميته حربا، قال: «بل هو حسن» فلما ولد الحسين قال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت: سميته حربا، قال: «بل هو حسين» فلما ولد الثالث جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت سميته حربا، قال: «بل محسن» ، ثم قال: «إنى سميتهم بأسماء ولد هارون شبّر وشبير ومشبّر «1» » . وولدت له رقيّة وزينب

وأم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأمّ كلثوم، فهلكت رقيّة، ولم تبلغ، وتزوج زينب عبد الله بن جعفر فماتت عنده، وولدت له على بن عبد الله بن جعفر، وتزوج أمّ كلثوم عمر بن الخطاب فولدت له زيد بن عمر، ثم خلف عليها بعده عون بن جعفر فلم تلد له حتى مات، وخلف عليها بعده محمد بن جعفر فولدت له حارثة ومات عنها. فخلف عليها عبد الله ابن جعفر فلم تلد له شيئا وماتت عنده، وقيل: بل توفّى عنها، وماتت فاطمة رضى الله عنها بعد وفاة أبيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقيل: بثمانية. وأمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكرنا الاختلاف فى أيهما أصغر سنّا هى أو فاطمة، وكانت عند عتيبة بن أبى لهب، فلما قال له أبواه ولأخيه ما قالا طلقّا بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبنيا بهما، وجاء عتيبة حين فارق أمّ كلثوم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك وسطا عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنى أسأل الله أن يسلط عليك كلبا من كلابه» وكان خارجا إلى الشام تاجرا مع نفر من قريش، حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزّرقاء ليلا، فأطاف «1» بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمّه «2» ، هو والله آكله بدعوة محمد، قاتلى «3» ابن أبى كبشة وهو بمكة وأنا بالشام. وقال أبو لهب: يا معشر قريش، أعينونا هذه الليلة، فإنى أخاف دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتيبة فى أعلاها وناموا حوله، فقيل: إن الأسد انصرف عنهم حتى ناموا وعتيبة

ذكر أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم

فى وسطهم، ثم أقبل يتخطّاهم ويتشمّمهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه «1» . قال أبو عمر: ولما ماتت رقية تزوج عثمان بن عفّان بأمّ كلثوم فى شهر ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة، وبنى عليها فى جمادى الآخرة من السنة، وتوفيت أمّ كلثوم رضى الله عنها فى السنة التاسعة من الهجرة، ولم تلد لعثمان شيئا، وكانت وفاتها فى شعبان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان: «لو كانت عندنا ثالثة زوّجنا كها يا عثمان» وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل فى حفرتها على بن أبى طالب، والفضل بن العباس وأسامة بن زيد. وقد روى أن أبا طلحة الأنصارى استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل معهم فى قبرها فأذن له. وغسّلتها أسماء بنت عميس وصفيّة بنت عبد المطلب، وهى التى شهدت أمّ عطيّة غسلها، وحكت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك» الحديث «2» . قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قبر أم كلثوم. ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العمومة أحد عشر، أولاد عبد المطلب ابن هاشم، وهم: الحارث - وبه كان يكنى؛ لأنه أكبر ولده، ومن ولد الحارث وولد ولده جماعة لهم صحبة من النبى صلّى الله عليه وسلّم، منهم أبو سفيان بن الحارث،

وقثم بن عبد المطلب

أسلم عام الفتح كما ذكرنا فى غزوة الفتح وشهد حنينا، ونوفل بن الحارث هاجر وأسلم أيام الخندق، وعبد شمس وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وقثم بن عبد المطلب - وهو أخو الحارث لأبويه؛ مات صغيرا. الثالث- الزبير بن عبد المطلب ، وكان من أشراف قريش. وابنه عبد الله ابن الزبير شهد حنينا وثبت يومئذ واستشهد بأجنادين «1» ، وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأمّ الحكم بنت الزبير، روت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. الرابع حمزة بن عبد المطلب كان يقال له: أسد الله وأسد رسوله، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى «2» . وهو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرّضاع «3» . وقد قدّمنا فى أنباء هذه السيرة خبر إسلامه ومقتله فى غزوة أحد. ولم يكن له إلا ابنة واحدة. وقيل: ابنتان. وقد ذكرنا هما فيمن عرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء فأباهنّ. والخامس العبّاس بن عبد المطّلب كان يكنى أبا الفضل بابنه الفضل بن العبّاس، وكان العباس أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وأمّه نتلة، ويقال: نتيلة بنة جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر وهو

الضّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النّمر بن قاسط. وهى أوّل عربية «1» كست البيت الحرام الحرير والدّيباج وأصناف الكسوة. وذلك أن العباس ضلّ وهو صبىّ، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرام، فوجدته ففعلت. وقد تقدّم من خبر العباس فى غزوة بدر عند أسره، وقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّى كنت مسلما، وإن القوم استكرهونى على الخروج. وقال أبو عمر بن عبد البر: أسلم العباس قبل خيبر وكان يكتم إسلامه. قال: ويقال إنه أسلم قبل بدر، وكان يكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأخبار المشركين، وكان يحبّ أن يقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مقامك بمكة خير» فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «من لقى منكم العباس فلا يقتله فإنه أخرج كرها» . وكان العباس أنصر الناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أبى طالب، وولى السّقاية بعد أبى طالب وقام بها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم العباس بعد إسلامه ويعظّمه ويجلّه، ويقول: «هذا عمى وصنو أبى» . وكان العباس جواد مطعما، وصولا للرّحم، ذا رأى حسن، ودعوة مرجوّة. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استسقى بالعباس فى سنة سبع عشرة وذلك عام الرّمادة «2» ، وكانت الأرض أجدبت إجدابا شديدا. فقال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة

الأنبياء. فقال عمر رضى الله عنه: هذا عمّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وصنو أبيه، وسيّد بنى هاشم. فمشى إليه عمر فشكا إليه ما فيه الناس. ثم قال: اللهم إنا قد توجّهنا إليك بعمّ نبينا وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. ثم قال: يا أبا الفضل قم فادع. فقام العباس فقال بعد حمد الله والثناء عليه: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب، ثم أنزل الماء منه علينا، فاشدد [به «1» ] الأصل، وأطل به الفرع، اللهم إنك لم تنزل بلاء إلا بذنب، ولم تكشفه إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بى إليك فاسقنا الغيث، اللهم شفّعنا فى أنفسنا وأهلينا، اللهم إنا شفعاء عمن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيا وادعا، نافعا طبقا سحّا «2» عامّا. اللهم لا نرجو إلا إيّاك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك. اللهم إليك نشكو جوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف، وضعف كل ضعيف. فى دعاء كثير. قال ابن عبد البر: وهذه الألفاظ كلها لم تجىء فى حديث واحد، ولكن جاءت فى أحاديث جمعتها واختصرتها ولم أخالف شيئا منها، وفى بعضها: فسقوا والحمد لله. وفى بعضها قال: فأرخت السماء عزاليها «3» فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوت الجفر «4» بالآكام، وأخصبت الأرض، وعاش الناس. فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسّان بن ثابت فى ذلك:

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرّة العبّاس عمّ النبى وصنو والده الذى ... ورث النّبىّ بذاك دون النّاس أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرّة الأجناب بعد الياس وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبى لهب: بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر توجّه بالعباس فى الجدب راغبا ... فما كرّ حتّى جاء بالدّيمة المطر وتوفى العباس- رضى الله عنه- بالمدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رجب. وقيل: من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين فى خلافة عثمان بن عفّان وصلّى عليه عثمان، ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل: تسع وثمانين سنة. وقال خليفة بن خيّاط: كانت وفاة العباس سنة ثلاث وثلاثين، ودخل قبره ابنه عبد الله. وكان للعباس من الولد: الفضل وهو أكبر أولاده وبه كنّى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم. ولهم صحبة. وعبد الرحمن ومعبد ولدا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشهدا بإفريقيّة فى خلافة عثمان بن عفّان، وأمّ حبيب، كلهم من أمّ الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهى أخت ميمونة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وفيها يقول عبد الله بن يزيد الهلالى: ما ولدت نجيبة من فحل ... بجبل نعلمه وسهل كستّة من بطن أمّ الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل عمّ النبى المصطفى ذى الفضل ... وخاتم الرّسل وخير الرّسل

والسادس من عمومته صلى الله عليه وسلم - أبو طالب

وكان له من غير أمّ الفضل أربعة ذكور، وهم: عون «1» ، والحارث أمّه من هذيل. وكثير وتمّام أمهما أمّ ولد «2» ، وكان أصغر أولاد العباس فكان العباس يحمله ويقول: تمّوا بتمّام فصاروا عشرة ... يا ربّ فاجعلهم كراما برره واجعل لهم ذكرا وأنم الثّمرة ويقال: ما رؤيت قبور أشد تباعدا بعضها من بعض من قبور بنى العباس، ولدتهم أمهم أمّ الفضل فى دار واحدة، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفّى عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند وكثير بينبع. وتوفّى العباس بعد أن كفّ بصره. ولم يسلم من أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا حمزة والعباس رضى الله عنهما. والسادس من عمومته صلّى الله عليه وسلّم- أبو طالب واسمه عبد مناف وهو أخو عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبويه. وعاتكة صاحبة الرّؤيا فى شأن بدر، أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وقد تقدّم من أخباره ونصرته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. وكان له من الولد طالب مات كافرا، وعقيل وجعفر وعلىّ وأمّ هانىء لهم صحبة، وجمانة. وحكى أبو عمر بن عبد البر: كان علىّ بن أبى طالب أصغر من أخيه جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين. والسابع من عمومة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أبو لهب.

الثامن - عبد الكعبة

واسمه عبد العزى كنّاه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن أولاده عتبة، ومعتّب ثبتا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، وعتيبة قتله الأسد بالزّرقاء كما تقدّم «1» . الثامن- عبد الكعبة ، وقيل: هو المقوّم «2» ، ومنهم من جعل المقوّم غير عبد الكعبة فجعل عمومته اثنى عشر. والتاسع- حجل «3» واسمه المغيرة. والعاشر- ضرار وهو أخو العباس لأبويه. والحادى عشر- الغيداق «4» سمى بذلك لأنه كان أكرم قريش، وأكثرهم إطعاما. ومنهم من جعل الغيداق حجلا وعدّهم عشرة. حكاه ابن عبد البر. وقد عدّ الزبير ابن بكّار أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر، وعدّ المقوّم غير عبد الكعبة، وجعله شقيق حمزة وحجل وصفيّة. والله أعلم بالصواب. ذكر عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان له من العمات صلّى الله عليه وسلّم ستّ: الأولى- صفيّة بنت عبد المطلب ، وأمّها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهى شقيقة حمزة والمقوّم وحجل، كانت صفية فى الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك عنها وتزوّجها العوّام بن خويلد بن أسد فولدت له الزّبير والسّائب وعبد الكعبة. وتوفيت فى خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة ولها ثلاث وسبعون سنة. ودفنت بالبقيع بفناء دار المغيرة بن شعبة، ولها هجرة.

وعاتكة بنت عبد المطلب

وعاتكة بنت عبد المطّلب اختلف فى إسلامها، وهى صاحبة الرؤيا «1» ، وكانت عند أبى أمية بن المغيرة ابن عبد الله المخزومى، فولدت له عبد الله أسلم وله صحبة «2» ، وزهيرا، وقريبة الكبرى. وأروى بنت عبد المطلب وقد اختلف أيضا فى إسلامها، وكانت عند عمير بن وهب بن عبد الدّار ابن قصىّ، فولدت له طليب بن عمير، وكان من المهاجرين الأوّلين، شهد بدرا وقتل بأجنادين شهيدا. وأميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رياب، ولدت له عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيدا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد «3» ، وزينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمّ حبيبة «4» وحمنة، كلهم له صحبة، وعبيد الله بن جحش، أسلم ثمّ تنصّر ومات بالحبشة كافرا.

وبرة بنت عبد المطلب

وبرّة بنت عبد المطلب وكانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة واسمه عبد الله، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأمّ حكيم البيضاء بنت عبد المطلب وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كريز، وهى أمّ عثمان بن عفان. هؤلاء أعمامه صلّى الله عليه وسلّم وعمّاته؛ أسلم منهم حمزة والعباس وصفية بلا اختلاف، واختلف فى عاتكة وأروى، وبقيتهم ماتوا على شركهم. قال أبو عمر ابن عبد البر: كان عبد الله أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طالب والزّبير وعبد الكعبة وأمّ حكيم وأميمة وأروى وعاتكة، أمهم كلهم فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عمران بن مخزوم، وكان حمزة والمقوّم وجحل وصفية أمهم هالة بنت وهيب، وكان العباس وضرار وقثم أمّهم نتيلة، وأمّ الحارث سمراء بنت جنيدب ابن جندب بن حرثان بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وقيل: صفية بنت جندب ابن حجير بن رياب بن حبيب بن سواءة، وأمّ أبى لهب لبنى بنت هاجر بن خزاعة. والله تعالى أعلم. فلنذكر خدمه صلّى الله عليه وسلّم: ذكر خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأحرار وهم أحد عشر رجلا أنس بن مالك بن النّضر ابن ضمضم بن زيد الأنصارى النجّارى، كان يكنى أبا حمزة، وأمّه أمّ سليم بنت ملحان الأنصارية. خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، عند مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة للهجرة، واختلف فى وقت

وهند وأسماء ابنا حارثة

وفاته فقيل: مات فى سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين. قال خليفة ابن خياط: مات أنس وله مائة وثلاث سنين، وقيل: كانت سنة إذ مات مائة وعشر سنين، وقيل: غير ذلك. وأقل ما قيل فيه مائة سنة إلا سنة، حكى هذه الأقوال أبو عمر بن عبد البر؛ قال: ويقال إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: إنه قدّم من صلبه وولد ولده نحوا من مائة قبل موته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له فقال: «اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له» قال أنس: فإنى لمن أكثر الأنصار مالا. ويقال: إنه ولد لأنس ثمانون ولدا منهم ثمانية وسبعون ذكرا وأنثيان. وهند وأسماء ابنا حارثة ابن هند الأسليمان؛ شهدا بيعة الرضوان فى إخوة لهما ستة، وهم: هند وأسماء وخراش وذؤيب وفضالة وسلمة ومالك وحمران، ولم يشهدها أخوة فى عددهم غيرهم، ولزم منهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم هند وأسماء، وكانا من أهل الصّفّة، ومات هند بالمدينة فى خلافة معاوية، وتوفى أسماء فى سنة ست وستين. بالبصرة وهو ابن ثمانين سنة. وربيعة بن كعب الأسلمى وهو ربيعة بن كعب بن مالك بن يعمر الأسلمىّ ابو فراس، وكان من أهل الصّفّة، وكان يلزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السفر والحضر، وصحبه قديما، ومات فى سنة ثلاث وستين بعد الحرّة.

وعبد الله بن مسعود

وعبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار «1» بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم الهذلىّ، وكنيته أبو عبد الرحمن، وهو حليف بنى زهرة، وأمه: أمّ عبد بنت عبدودّ بن سواء «2» بن قويم «3» بن صاهلة بن كاهل بن هذيل. أسلم عبد الله فى أوّل الإسلام، وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به وهو يرعى غنما لعقبة بن أبى معيط، فأخذ شاة حائلا من تلك الغنم فدّرت عليه لبنا غزيرا فأسلم، ثم ضمّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكان يلبسه نعليه إذا قام، وإذا جلس جعلهما فى درّاعته «4» حتى يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يمشى أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذنك علىّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع» سوادى «6» حتى أنهاك» . وكان يعرف فى الصحابة بصاحب السّواد والسّواك، وهو أحد من شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، ومات ابن مسعود بالمدينة فى سنة اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وقيل: عمّار، وقيل: الزبير بن العوّام ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه إليه بذلك، ولم يعلم عثمان فعاتب الزبير، وكان يوم توفّى ابن بضع وستين سنة.

وعقبة بن عامر بن عبس

وعقبة بن عامر بن عبس الجهنى من جهينة بن زيد «1» بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان يكنى أبا حمّاد، وقيل: أبا أسد «2» ، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا سعاد، وقيل: أبا الأسود، وقيل: أبا عمّار، وأبا عامر. وكان عقبة بن عامر صاحب بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقودها به فى الأسفار. قال أبو عمر: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان واليا عليها، وابتنى بها دارا، وتوفّى فى آخر خلافة معاوية. وبلال بن رباح المؤذّن مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، وكان يكنى أبا عبد الله، ويقال: أبا عبد الكريم، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا عمرو، وقد تقدّم خبره فى أوّل السيرة. وأمه حمامة، وكان خازنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآخى بينه وبين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان بلال رضى الله عنه صادق الإسلام طاهر القلب، وكان من مولّدى السّراة «3» . مات بدمشق سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن بمقبرتها عند الباب الصغير، وقيل: مات سنة إحدى وعشرين [وهو ابن سبعين سنة «4» ] . وسعد مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروى عنه الحسن البصرىّ، ويعدّ فى أهل البصرة.

وذو مخمر بن أخى النجاشى

وذو مخمر بن أخى النّجاشى ويقال: ابن أخته، ويقال فيه: ذو مخبر، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبد البر: وقد عدّه بعضهم فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، له أحاديث خرّجها أهل الشام وهو معدود فيهم. وبكير بن شدّاخ اللّيثى وقيل فيه: بكر، عدّه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . وأبو ذرّ الغفارىّ ويقال: أبو الذرّ، والأوّل أشهر. واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، فقيل: جندب بن جنادة، وهو أصحّ ما قيل فيه إن شاء الله. وذكر أبو عمر بن عبد البر الاختلاف فى اسمه، وترجم عليه بعد ذلك: جندب «2» بن جنادة بن سفيان بن عبيد ابن الواقفة بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار الغفارىّ، وأمّه رملة بنت الوقيعة، من بنى غفار، تقدّم خبر إسلامه فى وفد غفار فى أوّل هذا «3» السّفر، وأقام أبو ذرّ عند قومه بعد إسلامه حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

فصحبه إلى أن مات. وقد ذكرنا قصة أبى ذرّ فى غزوة تبوك، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده» وكان من خبره أنه خرج بعد وفاة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الشام، فلم يزل به حتى كانت خلافة عثمان بن عفان، فاستقدمه عثمان لشكوى معاوية، وأسكنه الرّبذة «1» ، فمات بها وصلّى عليه عبد الله بن مسعود، وكان قد أقبل من الكوفة فدعى إلى الصلاة عليه، فقال: من هذا؟ فقيل: أبو ذرّ، فبكى طويلا وقال: أخى وخليلى عاش وحده، ومات وحده، ويبعث وحده، طوبى له. وذلك فى سنة ست وثلاثين من الهجرة. روى عن أبى ذرّ جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرّزين فى الزهد والورع والقول بالحق؛ سئل علىّ رضى الله عنه عن أبى ذرّ فقال: ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس، ثم أوكأ «2» عليه ولم يخرج شيئا منه. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أظلّت الخضراء «3» ولا أقلّت الغبراء من ذى لهجة «4» أصدق من أبى ذرّ» و «من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر «5» إلى تواضع أبى ذرّ» . وفضائله كثيرة رضى الله عنه. وذكر أبو عمر بن عبد البر فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أسلع ابن شريك» الأعوجى التميمى خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصاحب راحلته، وأبو سلام الهاشمى، خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومولاه.

ذكر موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الشيخ «1» أبو محمد الدمياطى رحمه الله تعالى: ومواليه من الرجال أحد وثلاثون، وهم: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى - وكان لخديجة فاستوهبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأعتقه، وقد تقدّمت أخباره ومقتله فى مؤتة «2» . وأسامة بن زيد بن حارثة - وأمه أمّ أيمن، بركة مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات أسامة فى خلافة معاوية، فى سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة أربع وخمسين، وصححه أبو عمر. وكان عمره يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل: ثمانى عشرة، وسكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى القرى، ثم رجع إلى المدينة فمات بالجرف. وثوبان بن بجدد - وكنيته أبو عبد الله على الأصح، وهو من أهل السّراة «3» ، والسراة موضع بين مكة واليمن، وقيل: من حمير، وقيل: إنه من حكم بن سعد العشيرة، أصابه سباء فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، ولم يزل معه فى السفر والحضر إلى أن توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إلى الشام فنزل الرّملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا: وتوفى بها سنة أربع وخمسين،

وأبو كبشة سليم

وكان ممن حفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأدّى ما وعى. روى عنه جماعة من التابعين. وأبو كبشة سليم - شهد بدرا والمشاهد كلها، قيل: هو من فارس، وقيل: من مولّدى أرض دوس، وقيل: من مولّدى مكة، ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، وتوفى فى سنة ثلاث عشرة، فى اليوم الذى استخلف فيه عمر بن الخطاب، وقيل: توفى فى سنة ثلاث وعشرين، فى اليوم الذى ولد فيه عروة بن الزبير. والله تعالى أعلم. وأنسة - ويكنى أبا مسرح، ويقال أبو مسروح- وكان من مولّدى السّراة- اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. ذكره موسى بن عقبة فيمن شهد بدرا، وقال ابن إسحق: كان يأذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فيما حكاه مصعب الزبيرى، ومات فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وشقران - واسمه صالح، وكان حبشيا، قيل: ورثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبيه وأعتقه بعد بدر، قيل: اشتراه من عبد الرحمن بن عوف وأعتقه، وقيل وهبه له فأعتقه وأوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته «1» . ورباح - وكان أسود نوبيّا اشتراه من وفد عبد القيس وأعتقه، قال أبو عمر: وربما أذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم أحيانا؛ إذا انفرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ عليه الإذن. ويسار - وكان نوبيّا أصابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته، وهو الذى قتله العرنيّون كما تقدّم.

وأبو رافع

وأبو رافع - واسمه أسلم، وقيل؛ إبراهيم، وكان عبدا للعباس، فوهبه للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فلما أسلم العباس بشّر أبو رافع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه، فأعتقه وزوّجه سلمى مولاته، فولدت له عبيد الله، وكان عبيد الله كاتبا لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه فى خلافته كلها، قيل: وخازنا أيضا. ومات أبو رافع فى آخر خلافة عثمان بالمدينة، وقيل: فى خلافة علىّ، قيل: وكان أبو رافع قبطيّا. وأبو موبهبة - وكان من مولّدى مزينة، اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. ورافع «1» - قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه ولده، فأعتقه بعضهم وتمسّك بعضهم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعينه فوهب له، فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد حكى أبو عمر ذلك فى أحد القولين عن أبى رافع المقدّم ذكره. والله أعلم. وفضالة - وهو مذكور فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال ابن عبد البر: لا أعرفه بغير ذلك، قيل: إنه مات بالشام. ومدعم - أسود، وهبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفاعة بن زيد الجذامى، وهو الذى قتل بوادى القرى، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشّملة التى غلّها تشعل عليه نارا» «2» » . وكركرة «3» - وكان على بغلة النبى صلّى الله عليه وسلّم وكان نوبيّا أهداه له هوذة ابن على فأعتقه.

وزيد

وزيد - وهو جد «1» بلال بن يسار بن زيد. وعبيد، وطهمان - موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى طهمان، فقيل: طهمان، وقيل: طهوان، وقيل: ذكوان، وأما عبيد فروى عنه سليمان التّيمى. ومابور - أهداه إليه المقوقس، وقيل: كان خصيّا. وواقد، وأبو واقد «2» ، وهشام ، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله إن امرأتى لا تمنع يد «3» لامس، قال: «طلقها» قال: إنها تعجبنى. قال: «فاستمع بها» . وأبو ضميرة - قيل: اسمه سعد الحميرىّ، قال البخارى: وقيل فى اسمه غير ذلك. وكان مما أفاء الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جد حسين ابن عبد الله بن ضميرة، وقيل: وكان من العرب فأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب له كتابا يوصى به فهو بيد ولده، قال أبو عمر: وقدم حسين ابن عبد الله بن ضميرة على المهدى بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيصاء بأبى ضميرة وولده، فوضعه المهدى على عينيه، ووصله بثلاثمائة دينار. وحنين - قال أبو عمر بن عبد البر: كان عبدا وخادما للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فوهبه لعمه العباس فأعتقه العباس قال: وقد قيل إنه مولى على بن أبى طالب، وعدّه الشيخ أبو محمد فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وأبو عسيب

وأبو عسيب - واسمه أحمر. وأبو عبيدة «1» سفينة - فكان عبد الأمّ سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدّة حياته، فقال: لو لم تشترطى علىّ ذلك ما فارقته، وكان اسمه رباح، وقيل: عمير، وقيل: رومان. وقيل: مهران. قال الوافدى: وقال أبو عمر: مهران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سفينة. سمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سفينة بهذا الاسم؛ لأنه كان معه فى سفر؛ فكان كل من أعيا ألقى عليه متاعه سيفا أو ترسا، فمرّ النبى صلّى الله عليه وسلّم به فقال: «أنت سفينة» وكان أسود من مولّدى الأعراب. وأبو هند - وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقه زوجوا أبا هند وتزوجوا إليه، قال أبو محمد: ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من الحديبية وأعتقه. وأنجشة - وكان حاديا للجمال، وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له «يا أنجشة رفقا بالقوارير «2» » .

وأنيسة

وأنيسة - وكان حبشيا فصيحا شهد بدرا، وأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة. وأبو لبابة - كان لبعض عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، وهو معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ورويفع - سباه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هوازن فأعتقه. وسعد - وهو الذى روى عنه أبو عثمان النهدى. ذكره أبو عمر بن عبد البر. هؤلاء المشهورون من موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: وقد قيل إنهم أربعون، وزاد يوسف بن الجوزى: أبا كندير، وسلمان الفارسى، وسالما، وسابقا- ذكره أبو عمر- خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزيد بن رصولا «1» ، وعبيد الله بن أسلم، ونبيه: وقيل فيه: النّبيه، وقيل النّبيه، بضم النون وفتحها، ووردان. وذكر أبو عمر بن عبد البر فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة أخر، منهم أبو الحمراء واسمه هلال بن الحارث، ويقال: هلال بن ظفر، وأفلح، وذكوان، وفى اسمه خلاف، وأبو عبيد، له رواية، وأبو لقيط، وأبو السّمح أياد «2» ، وقيل: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضميرة بن أبى ضميرة، قال أبو عمر: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمّ ضميرة وهى تبكى فقال: «ما يبكيك أجائعة أنت أم عارية» ؟ فقالت: يا رسول الله، فرق بينى وبين ابنى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرق بين والدة وولدها» ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فابتاعه منه.

وكيسان، أو مهران

وكيسان، أو مهران - واسمه هرمز يكنى أبا كيسان، اختلف فيه على عطاء ابن السائب، فقيل: كيسان، وقيل: طهمان، وقيل: ذكوان، وأبو بكرة نفيع ابن مسروح، وهو ابن سميّة جارية الحارث بن كلدة الثّقفى، معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعتقه لما نزل إليه من حصن الطّائف، وأسلم فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبى الناس إلا أن ينسبونى فأنا نفيع بن مسروح، وكنّاه رسول الله أبا بكرة؛ لأنه تدلّى إليه من بكرة من الحصن. وأبو سلمى - راعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل: اسمه حارث، فهؤلاء عشرة أخر لتكملة خمسين. والله أعلم. ومن النساء ... «1» : أمّ عياش «2» ، وأميمة «3» ؛ وأمّ رافع سلمى «4» ، وبركة أمّ أيمن «5» ، ومارية «6» ، وريحانة «7» ، وربيحة، وميمونة بنت [أبى «8» ] عسيب، وخضرة «9» ، ورضوى، وأمّ ضميرة «10» . وذكر أبو عمر بن عبد البر أميمة لها رواية، وميمونة بنت أبى عنبسة غير ميمونة المذكورة آنفا، والله أعلم.

ذكر حراس رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر حرّاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزواته، وهم ثمانية: سعد بن معاذ حرسه يوم بدر حين نام بالعريش، وذكوان بن عبد الله بن قيس، ومحمد بن مسلمة الأنصارى حرسه بأحد، والزّبير ابن العوّام حرسه يوم الخندق، وعبّاد بن بشر، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو أيّوب الأنصارىّ حرسه بخيبر ليلة بنى بصفيّة، وبلال حرسه بوادى القرى. ولما أنزل الله تعالى: «يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس «1» » ترك عند ذلك الحرس. ذكر كتّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبىّ بن كعب، وثابت بن قيس بن شمّاس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدى، وزيد بن ثابت، ومعاوية ابن أبى سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد يكتبان الوحى. قال الشيخ الإمام الفاضل محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى الخزرجى الأندلسى ثم القرطبى رحمه الله تعالى فى كتاب الأعلام له: والعلاء بن الحضرمى، قال: وكان المداويم على الكتابة زيد ومعاوية، قال: ويقال إن معاوية لم يكتب له من الوحى شيئا، وإنما كان يكتب إلى الأطراف، وكتب له عبد الله بن سرح ثم ارتدّ، فلما كان يوم الفتح أسلم وحسن إسلامه، وذكر القضاعى: وكان الزبير ابن العوّام وجهم بن سعد يكتبان أموال الصدقة، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص النخل، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات.

ذكر رفقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أن كتابه عليه السلام ينتهون إلى ستة وعشرين، والله أعلم. قال: وقد قدّمنا ذكر رسله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر رفقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّجباء وهم اثنا عشر: أبو بكر، وعمر، وحمزة، وعلىّ، وجعفر، وأبو ذرّ، والمقداد، وسلمان، وحذيفة، وابن مسعود، وعمّار بن ياسر، وبلال بن رباح. وكان على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وعاصم بن «1» أبى الأقلح والمقداد، رضوان الله عليهم أجمعين يضربون الأعناق بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، وحيث ذكرنا من سيرته صلّى الله عليه وسلّم ما ذكرنا، فلنأخذ الآن فى ذكر صفاته الذاتية والمعنوية وأحواله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية قد وردت الأخبار الصحيحة والمشهورة من حديث علىّ بن أبى طالب وأنس ابن مالك وأبى هريرة والبراء بن عازب وعائشة أمّ المؤمنين وابن أبى هالة وأبى جحيفة وجابر بن سمرة وأمّ معبد «2» وابن عباس، ومعرّض بن معيقيب وأبى الطّفيل، والعدّاء بن خالد وخريم بن فاتك وحكيم بن حزام، وغيرهم رضوان الله عليهم: أنه كان صلّى الله عليه وسلّم ربعة «3» من القوم: لا بائن «4» من طول، ولا تقتحمه «5» عين من قصر،

غصن بين غصنين، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مشرب حمرة، وفى رواية أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق «1» ، ولا بالآدم، له شعر رجل «2» ، يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، وإذا قصر إلى أنصافهما، لم يبلغ شيبه فى رأسه ولحيته عشرين شعره، كأن عنقه جيد «3» دمية، فى صفاء الفضّة، وظاهر الوضاءة «4» مبلج «5» الوجه، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله، لم تعبه ثجلة «6» ولم تزر به صعلة «7» ، وسيما قسيما «8» ، فى عينيه دعج «9» ، وفى بياضهما عروق رقاق حمر، وفى أشفاره غطف «10» ، وفى صوته صهل «11» ، وروى صحل، وفى عنقه سطع «12» ، وفى لحيته كثاثة «13» ، إذا صمت فعليه الوقار «14» ، وإن تكلم سما «15» وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد،

وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق «1» فصل: لا نزر ولا هذر «2» كأنّ منطقه خرزات «3» نظم ينحدرن، واسع الجبين «4» ، أزجّ» الحواجب فى غير قرن، بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى «6» العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ «7» ، سهل «8» الخدّين، ضليع «9» الفم، أشنب «10» ، مفلّج «11» الأسنان، دقيق المسربة «12» ، من لبّته «13» إلى سرّته شعر يجرى كالقضيب، ليس فى بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، بادن «14» متماسك، سواء «15» سواء الصدر والبطن، سبيح «16» الصدر، ضخم الكراديس «17» ، أنور المتجرّد «18»

عريض الصدر، طويل الزّندين، رحب الراحة، شثن «1» الكفّين والقدمين، سائل الأطراف، سبط «2» القصب، خمصان «3» الأخمصين؛ مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا «4» ، وفى رواية: إذا مشى يقلع- كناية عن قوّة الخطو كالذى يمشى فى طين- ويخطو تكفّيا «5» ويمشى هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، بين كتفيه خاتم النبوّة كأنه زرّ «8» حجلة أو بيضة حمامة، لونه كلون جسده عليه خيلان «9» ، كأن عرقه الّلؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر «10» ، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم، قال البراء: ما رأيت من ذى لمّة «11» في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنّ الشمس تجرى فى وجهه، وإذا ضحك يتلألأ فى الجذر «12» ،

وقال جابر بن سمرة، وقد قال له رجل كأنّ وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل السيف، فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر. وكان مستديرا، وكان عمر بن الخطاب ينشد قول زهير بن أبى سلمى فى هرم بن سنان: لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المضىء لليلة «1» البدر ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن كذلك غيره. وفيه عليه السلام يقول عمه العباس «2» رضى الله عنه وأرضاه: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل «3» تطيف به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفضائل «4» وميزان حقّ لا يخيس شعيرة ... ووزّان عدل وزنه غير عائل «5»

ذكر صفة خاتم النبوة الذى كان بين كتفى النبى صلى الله عليه وسلم

ذكر صفة خاتم النبوّة الذى كان بين كتفى النبى صلّى الله عليه وسلّم روى عن جابر بن سمرة. وقد وصف النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ورأيت خاتمه عند كتيفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسمه، وعن أبى رمثة قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا رمثة ادن منّى امسح ظهرى» فدنوت منه «1» فمسحت ظهره، ثم وضعت أصابعى على الخاتم فغمزتها «2» ، فقيل له: وما الخاتم؟ فقال: شعر مجتمع عند كتفيه. وعنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالتفت فإذا خلف كتفيه مثل النّفّاخة «3» ، قلت: يا رسول الله، إنى أداوى فدعنى حتى أبطّها «4» وأداويها، قال: «طبّبها الذى خلقها» . وعنه من طريق آخر قلت: يا رسول الله إنى طبيب من أهل بيت أطبّاء، وكان أبى طبيبا فى الجاهلية، معروفا ذلك لنا فأذن لى فى التى بين كتفيك، فإن كانت سلعة «5» بططتها فشفا الله نبيه؛ فقال: «لا طبيب لها إلا الله» وهى مثل بيضة الحمامة. ذكر صفة شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطوله روى عن أبى إسحق قال: سمعت البراء يصف شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان شعره إلى شحمة أذنيه. وعنه قال: سمعت البراء يقول: ما رأيت أحدا من خلق الله أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

ذكر عدد شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال إنه خضب

إن جمّته لتضرب قريبا من منكبيه، وفى لفظ، من عاتقيه. وعن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك كيف كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان شعرا رجلا ليس بالسّبط ولا بالجعد بين أذنيه وعاتقه. وعن أنس: كان لا يجاوز شعره أذنيه، وعنه: كان إلى أنصاف أذنيه. وعن على رضى الله عنه قال: كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق الوفرة «1» ودون الجمّة. وعن أمّ هانئ قالت: رأيت فى رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضفائر أربعا. وعنها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة وله أربع غدائر. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير شعر اللحية «2» . وعن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد على قصاص «3» شعره. ذكر عدد شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن قال إنه خضب روى عن حميد الطويل قال: سئل أنس بن مالك هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما شانه الله بالشّيب، وما كان فيه من الشّيب ما يخضب، إنما كانت شعرات فى مقدّم لحيته، ولم يبلغ الشّيب الذى كان به عشرين شعرة. وفى رواية عن أنس أيضا: ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة. وعن جابر بن سمرة، وقد سئل عن شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان إذا دهن رأسه لم يتبيّن، وإذا لم يدهنه تبيّن. وعن محمد بن واسع؛ قيل:

وأما من قال إنه خضب صلى الله عليه وسلم

يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشّيب، فقال: «شيبتنى الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «1» وأخواتها» . وعن أبى سلمة؛ قيل: يا رسول الله، نرى فى رأسك شيبا، قال: «مالى لا أشيب وأنا أقرأ هودا وإذا الشّمس كوّرت «2» » وفى رواية «وما فعل بالأمم قبلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال أبو بكر: أراك قد شبت يا رسول الله، قال: «شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوّرت» ومن رواية «وأخواتها اقتربت السّاعة، والمرسلات وإذا الشّمس كوّرت» وفى رواية أخرى عن أنس قال قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه: بأبى وأمى يا رسول الله، وما أخواتها «3» ؟ قال: «الواقعة والقارعة وسأل سائل وإذا الشّمس كوّرت» هذا ما رأيناه مما ورد فى شيبه وسببه. وأما من قال إنه خضب صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عن عبد الله بن موهبة «4» قال: دخلنا على أمّ سلمة رضى الله عنها، فأخرجت إلينا صرّة فيها شعر من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مخضوبا بالحنّاء والكتم «5» . وعن ربيعة بن أبى عبد الرحمن قال: رأيت شعرا من شعره- يعنى النبى صلّى الله عليه وسلّم- فإذا هو أحمر، فسألت عنه فقيل لى: أحمر من الطّيب. وعن أبى جعفر قال: شمط «6» عارضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخضبه بحنّاء وكتم،

ذكر صفات رسول الله المعنوية صلى الله عليه وسلم

وعن أبى رمثة أنه وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ذو وفرة وبها ردع «1» من حنّاء، وكان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يصفّر لحيته بالخلوق «2» ، ويحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر، وعن عبد الرحمن الثّمالى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم. هذا ما أمكن إيراده من صفاته الذاتية، وسنذكر إن شاء الله بعد ذكر صفاته المعنوية، حديث هند بن أبى هالة؛ لجمعه بين صفاته الذاتية والمعنوية. ذكر صفات رسول الله المعنوية صلّى الله عليه وسلّم وما ورد فى أكله وشربه، ونومه وضحكه وعبادته ونكاحه، وخلقه وحلمه واحتماله، وعفوه وصبره على ما يكره، وجوده وكرمه. وسخائه وسماحته، وشجاعته ومجدته، وحيائه وإغضائه، وحسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه، وشفقته ورأفته ورحمته، ووفائه وحسن عهده، وصلته للرحم، وتواضعه وعدله وأمانته وعفّته، وصدق لهجته، ووقاره وصمته وتؤدته «3» ، ومروءته، وحسن هديه وزهده وخوفه ربه تعالى، وطاعته له وشدة عبادته صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.

فأما ما ورد فى أكله وشربه ونومه وضحكه وعبادته

فأما ما ورد فى أكله وشربه ونومه وضحكه وعبادته فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ من الأكل والشرب بالأقل، واعتمد من ذلك على ما يمسك الرّمق ويسدّ الخلّة، وقد جاءت الأخبار الصحيحة بذلك، ولم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلتهما وتذم بكثرتهما؛ لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم والحرص والشّره، وقلة ذلك دليل على القناعة وملك النفس وقمع الشهوة. وقد روينا بإسناد متصل عن المقدام بن معدى كرب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» . ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقد روى عنه عليه السلام أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف؛ أى كثرة الأيدى «1» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لم يمتلئ جوف النبى صلّى الله عليه وسلّم شبعا قط، وإنه كان فى أهله ولا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. قال أهل العلم: ولا يعترض على هذا بحديث بريرة، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أر البرمة فيها لحم» ؟ إذ لعل سبب سؤاله ظنّه اعتقادهم أنه لا يحل له، فأراد بيان سنته، إذ رآهم لم يقدّموا إليه مع علمه أنهم لا يستأثرون به عليه، فصدق عليهم ظنه، وبين لهم ما جهلوه من أمره، بقوله: «هو لها صدقة ولنا هدية» . وكان جلوسه صلّى الله عليه وسلّم للأكل جلوس المستوفز «2» ، مقعيا، ويقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» . وفى حديث صحيح قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنا فلا آكل متكئا» وليس معنى الاتّكاء

عند المحققين الميل على شقّ، وإنما الاتكاء هو التمكن للأكل، والتقعدد فى الجلوس له، كالمترّبع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه، وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع الطّعام من بين يديه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين» . وفى رواية يقول: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مودّع «1» ولا مستغنى عنه ربّنا» . وكان لا يأكل على خوان «2» ، ولا يمتنع من مباح، ولا يتأنّق فى مأكل، يأكل ما وجد، إن وجد تمرا أكله، أو خبزا أكله أو شواء أكله، وإن وجد لبنا اكتفى به، ولم يأكل خبزا مرقفا «3» ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخبز بالخل وقال: «نعم الإدام الخل» وأكل لحم الدجاج ولحم الحبارى «4» . وكان يحب الدّبّاء «5» ويأكله، ويعجبه الذّراع من الشاة، وقال: «إن أطيب اللحم لحم الظّهر» وقال: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة» وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهنّ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم خبز الشعير بالتمر، وقال: «هذا أدم هذا» وأكل البطيخ بالرّطب والقثّاء بالرّطب والتّمر بالزّبد، وكان يحب الحلواء والعسل، وكان يشرب قاعدا، وربما شرب قائما، ويتنفس ثلاثا وإذا فضلت منه فضلة وأراد أن يسقيها بدأ بمن عن يمينه، وشرب صلّى الله عليه وسلّم لبنا، وقال: «من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» وقال: «ليس شىء يجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن» .

وأما نومه صلى الله عليه وسلم

وأما نومه صلّى الله عليه وسلّم فكان قليلا، جاءت بذلك الآثار الصحيحة، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عينىّ تنامان ولا ينام قلبى» وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم لأن النوم على الجانب الأيسر أهنأ؛ لهدوّ القلب وما يتعلق به من الأعضاء الباطنة؛ لميلها إلى الجانب الأيسر، فيستدعى ذلك الاستثقال فيه والطول، وإذا نام النائم على الجانب الأيمن تعلق القلب وقلق، فأسرع الإفاقة ولم يغمره الاستغراق. وكان صلّى الله عليه وسلّم ينام أول الليل ثم يقوم من السّحر، ثم يوتر ثم يأتى فراشه، فإذا سمع الأذان وثب، وكان إذا نام نفخ، ولا يغطّ غطيطا، وإذا رأى فى منامه ما يروعه قال: «هو الله لا شريك له» وإذا أخذ مضجعه وضع كفّه اليمنى تحت خدّه، وقال: «ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك» وكان يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . وأما ضحكه صلّى الله عليه وسلّم فكان جلّه التّبسم، وربما ضحك من شىء معجب حتى تبدو نواجذه من غير قهقهة صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبارته صلّى الله عليه وسلّم فكان أفصح الناس، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، يباريها فى منزع بلاغتها، وقد تقدم من كلامه فى كتبه إلى ملوك اليمن وغيرها ما يدل على ذلك، وإن كان ذلك لا يحتاج فيه إلى إقامة دليل بعد أن أنزل القرآن بلغته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بيّن كلامه حتى يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه،

وأما النكاح وما يتعلق به

ويخزن لسانه لا يتكلم فى غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان يتمثّل بشىء من الشّعر ويتمثل بقوله «1» : ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وبغير ذلك، صلّى الله عليه وسلّم. وأما النكاح وما يتعلق به فهو مما يكثر التّمدح بكثرته وذلك؛ لأنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية وسنة مأثورة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء. مشيرا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «تناكحوا «2» فإنى مباه بكم الأمم» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن أقدره الله تعالى على ذلك وحببه له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه فى الساعة من الليل «3» والنهار، وهنّ إحدى «4» عشرة، رواه أنس، قال: وكنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين، خرّجه النّسائى. وعن طاوس: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوة أربعين رجلا فى الجماع، ومثله عن صفوان بن سليم. وقالت سلمى مولاته: طاف النبى صلّى الله عليه وسلّم ليلة على نسائه التسع، ويطهر من كل واحدة قبل أن يأتى الأخرى. وقال: «هذا أطهر وأطيب» .

وأما خلقه صلى الله عليه وسلم

وأما خلقه صلّى الله عليه وسلّم فقد قال الله عز وجل فيه مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» قال علىّ وأنس رضى الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم- فيما ذكره المحققون- مجبولا على ذلك فى أصل خلقته وأوّل فطرته، لم يحصل ذلك له باكتساب ولا رياضة، إلا بجود إلهى وخصوصيّة ربانيّة، ومن طالع سيرته منذ صباه وإلى آخر عمره، حقّق ذلك وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وأما حلمه واحتماله وعفوه مع القدرة، والصبر على ما يكره، فقد جعلوا بين هذه الألقاب فرقا، فقالوا: الحلم حالة توقير وثبات عند الأسباب المحرّكات، والاحتمال حبس النفس عند الآلام والمؤذيات، ومثله الصبر، ومعانيها متقاربة، وأما العفو فهو ترك المؤاخذة، وهذا كله مما أدّب الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» » روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالم، ثم ذهب فأتاه فقال: «يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك» . وقال تعالى مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ

مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» » وقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» » . وقد روى فى حلمه واحتماله وعفوه وصبره أحاديث كثيرة وقصص مشهورة، قد تقدم منها فى أخباره، فى أثناء هذه السيرة جملة كافية، ونحن نشير الآن فى هذا الموضع إليها، وننبّه فى هذه الترجمة عليها، منها قصة أحد حين ناله من أذى كفار قريش ما ناله مما قدمنا ذكره، فشق ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله، لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعّانا ولكنّى بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: «ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين» ديّارا» ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . ومنها قصتا غورث «4» بن الحارث، ودعثور بن الحارث حين أرادا أن يفتكا به، وأظفره الله بهما، وأمكنه منهما فعفا عنهما، كما تقدم ذكر ذلك فى غزوتى غطفان وذات الرّقاع، ومنها عفوه عن الذين هبطوا عليه فى عمرة الحديبية، وأرادوا قتله فأخذوا فأعتقهم صلّى الله عليه وسلم، ومنها صفحه عن قريش حين أمكنه الله منهم يوم الفتح، وهم لا يشكون فى استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم؛ لما تقدم من أذاهم له، فمازاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون إنى فاعل بكم» قالوا: خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «أقول كما قال أخى

يوسف «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «1» . ومما لم نذكره فيما أتينا عليه من سيرته صلّى الله عليه وسلّم، ما ورد فى الحديث الصحيح من قول الرجل له: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فلم يزده صلّى الله عليه وسلم فى جوابه إلا أن بين له ما جهله، ووعظ نفسه وذكّرها بما قال له، فقال: «ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» ونهى من أراد قتله من أصحابه. ومنه ما روى عن أنس رضى الله عنه قال: كنت مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابىّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد فى صفحة عاتقه. ثم قال: يا محمد، احمل لى على بعيرىّ هذين من مال الله الذى عندك، فإنك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده» ثم قال: «ويقاد «2» منك يا أعرابى ما فعلت بى» ؟ قال: لا، قال «لم» ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسّيئة السّيئة، فضحك النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر. ومنه خبر زيد بن سعنة «3» حين أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل إسلامه، وكان من أحبار يهود، فجاءه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل «4» فانتهره عمر بن الخطاب رضى الله عنه وشدّد له فى القول، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم، فقال رسول الله

وأما جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته صلى الله عليه وسلم

صلى الله عليه وسلّم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرنى بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضى» ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روّعه، فكان سبب إسلامه؛ وذلك أنه كان يقول: ما بقى من علامات النبوّة شىء إلا وقد عرفتها فى محمد إلا اثنتين؟ لم أخبرهما؛ يسبق حلمه جهله «1» ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما؛ فاختبرته بهذا فوجدته كما وصف. والحديث عن حلمه وصبره وعفوه كثير؛ روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ ما لم تكن حرمة من محارم الله، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن مجاهد فى سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة. وجىء إليه برجل فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تراع «2» لن تراع ولو أردت ذلك لم تسلّط علىّ» صلّى الله عليه وسلّم. وأما جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته صلّى الله عليه وسلّم ومعانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه- وسموه أيضا حرّية «3» - وهو ضدّ النّذالة. والسّماحة: التّجافى عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس، وهو ضد الشّكاسة. والسّخاء: سهولة الإنفاق وتجنّب اكتساب ما لا يحمد، وهو الجود، وهو ضد التّقتير؛ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأرفع، بهذا جاءت الأحاديث الصحيحة، منها ما رويناه فى صحيح البخارىّ عن ابن المنكدر

وأما شجاعته ونجدته صلى الله عليه وسلم

قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ما سئل النبى صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقال لا. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وأجود ما كان فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل عليهما السلام أجود بالخير من الرّيح المرسلة. وعن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى بلده وقال: أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة. وقد ذكرنا ما أعطاه صلّى الله عليه وسلّم من غنائم هوازن. وأخباره صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك كثيرة، وعطاياه فاشية، لو استقصيناها لطال بها التأليف، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم. فإن فضل ولم يجد من يعطيه وفجئه «1» الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عاما فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك فى سبيل الله، ثم يؤثر «2» من قوت أهله حتى يحتاج قبل انقضاء العام؛ صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين. وأما شجاعته ونجدته صلّى الله عليه وسلّم فقد قالوا: الشّجاعة فضيلة قوة الغضب، وانقيادها للعقل، والنّجدة: ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف؛ فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم منهما بالمكان الذى لا يجهل، قد شهد المواقف الصّعبة، وفرّ الكماة والأبطال عنه، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، وقد قدّمنا من أخباره وثباته وحملاته فى يومى أحد وحنين ما تقف عليه هناك. وقد روينا بإسناد متّصل عن البراء، وقد سأله رجل: أفررتم يوم حنين عن رسول الله

صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا النبىّ لا كذب» وزاد غيره «أنا ابن عبد المطلب» قيل: فمارىء يومئذ أحد كان أشد منه. وقال غيره: نزل النبى صلّى الله عليه وسلّم عن بغلته. وذكر مسلم عن العباس قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه، ثم نادى يا للمسلمين «1» . الحديث. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: إنا كنا إذا حمى البأس- ويروى اشتدّ البأس- واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا. وقيل: كان الشجاع الذى يقرب منه صلّى الله عليه وسلّم إذا دنا العدوّ لقربه منه. وعن أنس قال: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس؛ لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصّوت، فتلقاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبراء «2» الخبر، على فرس لأبى طلحة عرى «3» ، والسّيف فى عنقه، وهو يقول: «لن تراعوا» «4» . وقال عمران ابن حصين: ما لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أول من يضرب.

وأما حياؤه وإغضاؤه صلى الله عليه وسلم

وأما حياؤه وإغضاؤه صلّى الله عليه وسلّم والحياء: رقّة تعترى وجه الإنسان عند فعل ما يتوقّع كراهته أو ما يكون تركه خيرا من فعله. والإغضاء: التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء، وقد أخبر الله تعالى بحيائه فقال: «إنّ ذلكم كان يؤذى النّبىّ فيستحيى منكم» «1» وعن أبى سعيد الخدرىّ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء فى خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه فى وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا، ولكن يقول: «ما بال أقوام يصنعون- أو يقولون- كذا» ينهى عنه ولا يسمّى فاعله. وروى أنس رضى الله عنه أنه دخل عليه رجل به أثر صفرة، فلم يقل له شيئا- وكان لا يواجه أحدا بما يكره- فلما خرج قال: «لو قلتم له يغسل هذا» ويروى «ينزعها» . وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد، وأنه كان يكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره، صلّى الله عليه وسلّم. وأما حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس عشرة، وأكثرهم أدبا، وأبسطهم خلقا مع أصناف الخلق، انتشرت بذلك الأخبار الصحيحة، منها ما رويناه بسند متصل عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر قصة فى آخرها، فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا

ووطّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سعد: يا قيس، أصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال قيس: فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اركب» فأبيت، فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» فانصرفت، وفى رواية أخرى: «اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدّمها» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدع أحدا يمشى معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: «تقدّمنى إلى المكان الذى تريد» وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا عريا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» وكان فى أبى هريرة ثقل، فوثب ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم ركب صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» فلم يقدر على ذلك، فتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: لا، والذى بعثك بالحق لا صرعتك ثالثا. وكان لا يدع أحدا يمشى خلفه ويقول: «خلوا ظهرى للملائكة» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه، يتفقّد أصحابه، ويعطى كلّ جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده فى الحق سواء، هكذا وصفه ابن أبى هالة، قال: وكان دائم البشر سهل الخلق ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «1» ولا فحّاش،

ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعا «1» ، ويكافئ عليها، قال أنس: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين فما قال لى أفّ قطّ، وما قال لشىء صنعته لم صنعته، ولا لشىء تركته لم تركته، ومن رواية أخرى عنه قال: خدمته نحوا من عشر سنين فو الله ما صحبته فى سفر ولا حضر لأخدمه إلا وكانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أفّ قطّ، ولا قال لشىء فعلته لم فعلت كذا، ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلت كذا؟. وكان صلّى الله عليه وسلّم فى بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله، علىّ ذبحها، وقال آخر: علىّ سلخها، وقال آخر: علىّ طبخها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلىّ جمع الحطب» قالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال: «علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه» وقام فجمع الحطب. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: «لبيك» وكان يمازج أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى فى أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم «2» أحد أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينحّى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحّى رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يرقط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على

وأما شفقته ورأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق

أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التى تحته، ويعزم عليه فى الجلوس عليها إن أبى، ويكنّى أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّز فيقطعه بنهى أو قيام، ويروى: بانتهاء أو قيام، ويروى: أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفّف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد، إلى صلاته، وكان أكثر الناس تبسّما، وأطيبهم نفسا، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب. وأما شفقته ورأفته ورحمته صلّى الله عليه وسلّم لجميع الخلق فقد أخبر الله تعالى بذلك ووصفه بهذه الأوصاف؛ فقال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ «1» بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال تعالى: «2» وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين» فكان من شفقته على أمته صلّى الله عليه وسلّم تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمتى لأمرتهم بالسّواك مع كل وضوء» وخبر صلاة «3» الليل، ونهيهم عن الوصال، وكراهيته دخول الكعبة لئلا يعنت «4» أمّته، ورغبته لربه أن يجعل سبّه ولعنه لهم رحمة، وأنه كان يسمع بكاء الصّبى فيتجوّز «5» فى صلاته. ومن شفقته صلّى الله عليه وسلّم أن دعا ربه وعاهده فقال: «أيّما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة «6» وطهورا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» . ومن ذلك أنه لما كذّبه قومه أتاه جبريل عليه السلام فقال له:

وأما وفاؤه وحسن عهده وصلته للرحم صلى الله عليه وسلم

إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلّم عليه، فقال: مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق «1» عليهم الأخشبين، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» . وروى ابن المنكدر: أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، فقال: «أؤخّر عن أمتى لعل الله أن يتوب عليهم» . ومن ذلك ما روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبلغنى أحد منكم عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» . وقال ابن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخوّلنا «2» بالموعظة مخافة السّآمة علينا، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. وأما وفاؤه وحسن عهده وصلته للرحم صلّى الله عليه وسلّم فكان صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من ذلك الغاية التى لا يدرك شأوها، ولا يبلغ مداها، ولا يطمع طامع سواه بالاتّصاف بها، جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، من ذلك ما رويناه بإسناد متّصل عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها فى مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو فى مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت علىّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» . وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة» . وعن عائشة

أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة؛ لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها «1» ، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: «إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد «2» من الإيمان» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلّها ببلالها «3» » . وعن أبى قتادة قال: وفد وفد للنجاشى، فقام النبى صلّى الله عليه وسلّم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: «إنهم لأصحابنا مكرمين وإنى أحبّ أن أكافئهم» . ولما جىء بالشّيماء أخته من الرضاعة فى سبايا هوزان وتعرفت له، بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت أقمت عندى مكرّمة محبّة أو متّعتك ورجعت إلى قومك» فاختارت قومها فمتعها. وقال أبو الطّفيل: رأيت النبى صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت من هذه؟ قالوا: أمه التى أرضعته. وعن عمرو «4» بن السائب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرّضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجلسه بين يديه. وكان يبعث إلى ثوبية مولاة أبى لهب مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل من بقى من قرابتها فقيل: لا أحد. وفى حديث خديجة رضى الله عنها

وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم مع علو منصبه ورفعة مرتبته

أنها قالت له صلّى الله عليه وسلّم فى ابتداء النبوّة: أبشر فو الله لا يخزيك «1» الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ «2» ، وتكسب «3» المعدوم، وتقرى الضّيف، وتعين على نوائب «4» الحقّ. وأما تواضعه صلّى الله عليه وسلّم مع علوّ منصبه ورفعة مرتبته فكان صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس تواضعا، وأقلهم كبرا، وقد جاء أنه خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشقّ الأرض عنه، وأول شافع. ومما رويناه بسند متّصل عن أبى أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوكّئا على عصا، فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» . وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيث ما انتهى به المجلس جلس، وعن أنس: أن امرأة كان فى عقلها شىء جاءته فقالت: إن لى إليك حاجة، قال: «اجلسى يا أمّ فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك» قال: فجلست فجلس النبى صلّى الله عليه وسلّم إليها حتى فرغت من حاجتها. قال أنس: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رحل رثّ وعليه قطيفة ما تساوى أربعة دراهم، فقال:

«اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» . هذا وقد أهدى فى حجه ذلك مائة بدنة، ولما فتحت عليه مكة دخلها وقد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد يمسّ قادمته تواضعا لله تعالى. ومن تواضعه صلّى الله عليه وسلّم أنه لما دخل مكة جاءه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه بأبيه ليسلم فقال: «لم عنّيت «1» الشيخ يا أبا بكر ألا تركته حتى أكون أنا آتيه فى منزله» وقد تقدّم ذكر ذلك فى الفتح. وعن عائشة والحسن وأبى سعيد وغيرهم رضى الله عنهم، فى صفته صلى الله عليه وسلّم، وبعضهم يزيد على بعض، أنه كان صلّى الله عليه وسلّم فى بيته فى مهنة «2» أهله، يفلى «3» ثوبه، ويحلب شاته، ويرقّع ثوبه، ويخصف «4» نعله، ويخدم نفسه، ويقمّ «5» البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه «6» ، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها ويحمل بضاعته من السّوق. وعن أنس: أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضى حاجتها. ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: «هوّن عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «7» . وعن أبى هريرة قال: دخلت السّوق مع النبى صلّى الله عليه وسلّم فاشترى سراويل، وقال للوزّان «زن وأرجح» وذكر القصّة، قال: فوثب إلى يد النبى صلّى الله عليه وسلّم يقبّلها فجذب يده، وقال: «هذا يفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما

أنا رجل منكم» ثم أخذ السّراويل فذهبت لأحمله فقال: «صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله» . وقد ذكر الأمين العاصمىّ بعض ذلك فى قصيدة له فقال: يا جاعلا سنن النبى ... شعاره ودثاره «1» متمسّكا بحديثه ... متتبّعا أخباره سنن الشّريعة خذ بها ... متوسّما «2» آثاره وكذا الطريقة فاقتبس ... فى سبلها أنواره قد كان يقرى «3» ضيفه ... كرما ويحفظ جاره ويجالس المسكين يؤ ... ثر قربه وجواره الفقر كان رداءه ... والجوع كان شعاره يلقى بغرّة «4» ضاحك ... مستبشرا زوّاره بسط الرّداء كرامة ... لكريم قوم زاره ما كان مختالا ولا ... مرحا «5» يجرّ إزاره قد كان يركب بالرّدد ... فمن الخضوع حماره فى مهنة «6» هو أو صلا ... ة ليله ونهاره فتراه يحلب شاة من ... زله ويوقد ناره ما زال كهف مهاجري ... هـ ومكرما أنصاره برّا بمحسنهم مقي ... لا للمسىء عثاره يهب الذى تحوى يداه ... لطالب إيثاره

وأما عدله وأمانته وعفته وصدق لهجته صلى الله عليه وسلم

زكّى عن الدنيا الدّن ... يّة ربّه مقداره جعل الإله صلاته ... أبدا عليه نثاره «1» فاختر من الأخلاق ما ... كان الرسول اختاره لتعدّ سنّيّا وتو ... شك أن تبوّأ «2» داره وأما عدله وأمانته وعفّته وصدق لهجته صلّى الله عليه وسلّم فكان صلّى الله عليه وسلّم أعدل الناس، وآمن الناس، وأعفّ الناس، وأصدق الناس لهجة منذ كان، وكان يسمى قبل نبوّته الأمين، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنى لأمين فى السماء أمين فى الأرض» وقد صدّقه عداه فى مواطن كثيرة تقدّم ذكرها، وقد قدّمنا قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل: «ويحك إن لم أعدل فمن يعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» . وقال ابن خالويه: جزّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامّة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع أمّنه الله يوم الفزع الأكبر» . وعن الحسن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يأخذ أحدا بقرف «3» أحد ولا يصدّق أحدا على أحد» صلّى الله عليه وسلّم، ولم تمس يده امرأة قطّ لا يملك رقّها أو نكاحها أو تكون ذات محرم» .

وأما وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه صلى الله عليه وسلم

وأما وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه صلّى الله عليه وسلّم فقد روينا بإسناد متّصل عن خارجة بن زيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوقر الناس فى مجلسه لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. وروى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فى المجلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا «1» . وعن جابر بن سمرة: أنه تربّع، وربما جلس القرفصاء «2» ، وكان كثير السّكوت، لا يتكلم فى غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسّما وكلامه فصلا «3» لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم توقيرا له واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «4» فيه الحرم، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطّير. وفى صفته: يخطو تكفّؤا «5» ويمشى هونا «6» كأنما ينحطّ من صبب. «7» وفى الحديث الآخر: «إذا مشى مشى مجتمعا، يعرف فى مشيته أنه غير غرض ولا وكل؛ أى غير ضجر ولا كسلان. وقال عبد الله بن مسعود: إنّ أحسن الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن عبد الله: كان فى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترتيل «8» أو ترسيل، قال ابن أبى هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم،

وأما زهده فى الدنيا صلى الله عليه وسلم

والحذر، والتقدير، والتفكر. وقالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحب الطّيب والرائحة الحسنة ويحض عليها ويقول: «حبّب إلى من دنياكم النّساء، والطّيب وجعلت قرّة عينى فى الصلاة» . ومن مروءته صلّى الله عليه وسلّم نهيه عن النفخ فى الطعام والشراب، والأمر بالأكل مما يلى، والأمر بالسّواك، وإنقاء البراجم «1» والرّواجب، واستعمال خصال الفطرة «2» . صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين. وأما زهده فى الدنيا صلّى الله عليه وسلّم فحسبك من ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم توفّى ودرعه مرهونة عند يهودىّ فى نفقة عياله، بعد أن فتح الله عليه من الفتوحات ما ذكرناه، وآتاه من الأخماس والصفايا «3» ما قدمناه، فآثر «4» بذلك كله، وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا «5» » وسنذكر إن شاء الله تعالى فى أحواله ما ناله من شدّة العيش والجوع ما تقف عليه هناك. قالت عائشة رضى الله عنها: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر «6» شعير فى رفّ لى، وقال لى: «إنّى عرض علىّ أن تجعل لى

وأما خوفه ربه، وطاعته له، وشدة عبادته صلى الله عليه وسلم

بطحاء مكة ذهبا، فقلت لا يا ربّ أجوع يوما وأشبع يوما، فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضرّع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذى أشبع فأحمدك وأثنى عليك» . وفى حديث آخر: «إن جبريل عليه السلام نزل عليه فقال له: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا، وتكون معك حيثما كنت؟» فأطرق ساعة ثم قال: «يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له قد يجمعها من لا عقل له» فقال له جبريل: ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت. صلّى الله عليه وسلّم. وأما خوفه ربّه، وطاعته له، وشدّة عبادته صلّى الله عليه وسلّم فكان ذلك على قدر علمه بربه تبارك وتعالى؛ ولذلك قال فيما رويناه بسند متصل عن سعيد بن المسيّب: إن أبا هريرة كان يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . ومن رواية عن أبى عيسى الترمذىّ عن أبى ذرّ: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء «1» وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله واضع جبهته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات «2» تجأرون إلى الله، لوددت أنى شجرة تعضد «3» » . روى هذا الكلام: «وددت أنى شجرة تعضد» من قول أبى ذر

نفسه وهو أصح. وفى حديث آخر: صلّى رسول الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه. وفى رواية: كان يصلى حتى ترم قدماه، فقيل له أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟، قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» . وقالت عائشة رضى الله عنها: كان عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديمة «1» ، وأيّكم يطيق ما كان يطيق. وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه فى شعبان. وقال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فاستاك ثم توضأ ثم قام فصلى فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمرّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه يقول: «سبحان ذى الجبروت والملكوت والعظمة» ثم سجد، وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك. وعن حذيفة مثله، وقال: سجد نحوا من قيامه، وجلس بين السجدتين نحوا منه، وقال: حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة. وعن عبد الله بن الشّخّير قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولجوفه أزيز كأزيز «2» المرجل. وقال ابن أبى هالة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة، وروى سبعين مرة. وعن علىّ

ذكر نبذة مما ورد فى نظافة جسمه، وطيب ريحه، وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد صلى الله عليه وسلم

ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالى، والعقل أصل دينى، والحبّ أساسى، والشوق مركبى، وذكر الله أنيسى، والثقة كنزى، والحزن رفيقى، والعلم سلاحى، والصّبر زادى، والرّضا غنيمتى، والعجز فحرى، والزهد حرفتى، واليقين قوتى، والصدق شفيعى، والطاعة حسبى «1» ، والجهاد خلقى، وقرّة عينى فى الصلاة» . وفى حديث آخر: «وثمرة فؤادى فى ذكره، وغمّى لأجل أمتى، وشوقى إلى ربى» . ولنصل هذه الفصول التى شرحناها فى صفاته المعنوية صلّى الله عليه وسلّم بما ورد من طيب ريحه، وعرقه، وما يجرى هذا المجرى. ذكر نبذة مما ورد فى نظافة جسمه، وطيب ريحه، وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خصّه الله عز وجل من ذلك بخصائص لم توجد فى غيره، ومنحه منحا لم تكن فى سواه؛ من ذلك ما رويناه عن مسلم ابن الحجاج بإسناده، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما شممت عنبرا قطّ ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر ابن سمرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنّما أخرجها من جونة «2» عطّار. قال غيره: مسّها بطيب أو لم يمسّها، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبىّ فيعرف من بين الصبيان بريحها. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نام فى دار أنس فعرق، فجاءت أمّ أنس بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك

ذكر حديث هند بن أبى هالة وما تضمن من أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاتية والمعنوية

فقالت: نجعله فى طيبنا وهو من أطيب الطّيب. وذكر البخارى فى تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يمرّ فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه. وذكر إسحق بن راهويه: أن تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم. وروى المزنىّ «1» عن جابر قال: أردفنى النبى صلّى الله عليه وسلّم فالتقمت خاتم النبوّة بفمى وكان ينمّ علىّ مسكا. ونقل القاضى عياض بن موسى قال: حكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا أراد أن يتغوّط انشقت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة. وأسند محمد بن سعد فى هذا خبرا عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: إنك تأتى الخلاء ولا يرى منك شىء من الأذى. فقال: «يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء» قال القاضى عياض: وهذا الخبر وإن لم يكن مشهورا فقد قال قوم من أهل العلم بطهارة الحدثين منه صلّى الله عليه وسلّم. ومن ذلك حديث علىّ بن أبى طالب فى الوفاة وسنذكره إن شاء الله تعالى. وقد جاء عن أمه آمنة أنها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر. صلّى الله عليه وسلّم. ولنختم هذه الفصول بحديث هند بن أبى هالة لجمعه بين صفاته صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية. والله أعلم. ذكر حديث هند بن أبى هالة وما تضمن من أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية حدّثنا الشيخان المحدّثان شرف الدّين أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبىّ، وزين الدين أبو محمد عبد الحقّ بن قينان بن عبد المجيد القرشىّ- رحمهما الله- قراءة عليهما وأنا أسمع فى شهر رجب عام ثمانية وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ

أبو الحسن محمد بن أبى علىّ الحسين بن عتيق بن رشيق الرّبعى المالكى سماعا فى شوّال سنة ثمان وستين وستمائة بمصر، وبقراءة الشيخ زين الدين الثانى على الشيخ نظام الدين الحسين بن محمد بن الحسن بن الخليلى، وبإجازتهما من الحافظ أبى الحسين يحيى ابن على بن عبد الله القرشىّ، وتاج الدين على بن أحمد بن القسطلانىّ، قالوا أخبرنا أبو الحسين محمد بن أبى جعفر أحمد بن جبير الكنانى، قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن عيسى التميمىّ إجازة، قال أخبرنا القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبىّ رحمه الله تعالى، قال ابن القسطلانىّ: وأخبرنا أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء إجازة، قال أخبرنا أبو الفضل عياض إجازة، قال القاضى أبو الفضل حدّثنا القاضى أبو على الحسين بن محمد الحافظ رحمه الله بقراءتى عليه سنة ثمان وخمسمائة، قال حدّثنا الإمام أبو القاسم عبد الله ابن طاهر التميمىّ، قال قرأت عليه: أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن الحسن النيسابورىّ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدىّ، والقاضى أبو علىّ الحسن بن على بن جعفر الوخشىّ «1» ، قالوا: حدّثنا أبو القاسم على بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعىّ، قال أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشى، قال أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الحافظ؛ قال حدّثنا سفيان بن وكيع، قال حدّثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلىّ إملاء من كتابه، قال حدّثنى رجل من بنى تميم من ولد أبى هالة زوج خديجة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبى هالة عن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال سألت خالى هند بن أبى هالة. قال القاضى أبو علىّ رحمه الله: وقرأت على الشيخ أبى طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد بن خذاداذ الكرخى الباقلّانى، قال

وأجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون، قالا أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسىّ، قراءة عليه، فأقرّ به، قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى ابن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب المعروف بابن أخى طاهر العلوى، قال حدّثنا إسمعيل بن محمد ابن إسحق بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، قال: حدّثنى على بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين، عن أخيه موسى بن جعفر ابن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن على، عن على بن الحسين قال قال الحسن بن على- واللفظ لهذا السند-: سألت خالى هند بن أبى هالة عن حلية «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان وصّافا، وأنا أرجو أن يصف لى منها شيئا أتعلق به، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخما «2» مفخّما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب «3» ، عظيم الهامة «4» ، رجل «5» الشعر، إن انفرقت عقيقته «6» فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفّر، أزهر «7» اللون، واسع الجبين «8» ، أزجّ «9» الحواجب، سوابغ «10» من غير قرن، بينهما عرق

يدرّه «1» الغضب، أقنى «2» العرنين، له نور يعلوه، ويحسبه من لم يتأمله أشمّ «3» ، كثّ «4» اللحية، أدعج «5» ، سهل الخدّين، ضليع «6» الفم، أشنب «7» مفلّج «8» الأسنان، دقيق المسربة «9» ، كأنّ عنقه جيد دمية «10» في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، «11» سواء البطن والصّدر، مشيح «12» الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس «13» ، أنور المتجرد «14» ، موصول ما بين اللّبّة والسّرة بشعر يجرى كالخطّ، عارى الثديين «15» ، ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن «16» الكفّين والقدمين، سائل «17» الأطراف، أو قال سائن الأطراف، سبط القصب «18» ،

خمصان «1» الأخمصين، مسيح «2» القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال «3» زال تقلّعا، ويخطو تكفّؤا «4» ، ويمشى «5» هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة «8» ، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. قلت: صف لى منطقه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، وليست له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «9» ، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا «10» لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا «11» ليس بالجافى «12» ولا المهين، يعظّم النّعمة وإن دقّت، لا يذمّ شيئا لم يكن يذمّ ذواقا ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ بشىء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفّه كلها، وإذا تعجب

قلبها، وإذا تحدّث اتصل «1» بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح «2» ، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، ويفترّ «3» عن مثل حبّ الغمام. قال الحسن: فكتمتها الحسين بن على زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقنى إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومخرجه ومجلسه وشكله، فلم يدع منه شيئا، قال الحسين: سألت أبى- عليه السلام- عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له فى ذلك، فكان إذا آوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان من سيرته فى جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، قسمته على قدر فضلهم فى الدّين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذى ينبغى لهم، ويقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغونى حاجة من لا يستطيع إبلاغى حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره. قال فى حديث سفيان بن وكيع: «يدخلون روّادا «4» ، ولا يتفرّقون إلا عن ذواق «5» ، ويخرجون أدلة «6» » ، يعنى فقهاء، قلت: فأخبرنى عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، قال:

كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم، ويؤلّفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم وبولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره وخلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا؛ لكل حال عنده عتاد «1» ، لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. فسألته عن مجلسه عما كان يصنع فيه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطّن «2» الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهى به المجلس ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحقّ متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى. وفى الرواية الأخرى: صاروا عنده فى الحقّ سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى «3» فلتاته- وهذه الكلمة من غير الروايتين- يتعاطفون،

بالتقوى متواضعين، يوقّرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون «1» ذا الحاجة ويرحمون الغريب. فسألته عن سيرته صلّى الله عليه وسلم فى جلسائه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «2» ولا فحاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أوّلهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى المنطق، ويقول: «إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه» ولا يطلب الثناء «3» إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع. وزاد الآخر؛ قلت: كيف كان سكوته صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر، فأما تقديره ففى تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم صلّى الله عليه وسلّم فى الصبر، فكان لا يغضبه شىء يستفزّه. وجمع له فى الحذر أربع: أخذه بالحسن، ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأى بما أصلح أمّته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة. صلّى الله عليه وسلّم. فهذه جملة كافية من أوصافه صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر أحواله.

ذكر أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى دنياه، وما ناله من شدّة العيش فيها، وما روى من أحواله فى تطيّبه ولباسه وفراشه، ووسادته، وتختّمه وتنعّله، وخفّيه. وسواكه، ومشطه، ومكحلته ومرآته وقدحه، وما ورد فى حجامته، وما ملكه من السّلاح والدّواب وغير ذلك. صلّى الله عليه وسلّم أما ما ناله صلّى الله عليه وسلّم من شدة العيش فى دنياه فقد تقدّم من صفاته المعنوية زهده فى الدنيا وتقلّله منها، وأحلنا هناك على ما نورده فى هذا الموضع. وسنورد منه ما تقف عليه إن شاء الله. فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبيت الليالى المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم الشعير. وعن أنس بن مالك أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذه الكسرة» ؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» . وعن أبى هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يشدّ صلبه بالحجر من الغرث» «1» . وعن مسروق قال: بينهما عائشة تحدّثنى ذات يوم إذ بكت؛ فقلت: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ قالت: ما ملأت بطنى من طعام فشئت أن أبكى إلا بكيت؛ أذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان فيه من الجهد. وعنه قال: دخلت على عائشة أمّ المؤمنين وهى تبكى، فقلت: يا أمّ المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكى إلا بكيت؛

وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأتى عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برّ. وعنها رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد غداء وعشاء من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات حتى لحق بالله. ومن رواية عنها: ما رفع عن مائدته كسرة فضلا حتى قبض. وعن أبى هريرة قال: كان يمرّ بآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هلال، ثم هلال، ثم هلال، لا يوقد فى شىء من بيوته نار، لا لخبز ولا لطبيخ، قالوا: بأى شىء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: بالأسودين التمر والماء. قال: وكان له جيران من الأنصار- جزاهم الله خيرا- لهم منائح» يرسلون إليه بشىء من لبن. وعن الحسن قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «والله ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات» والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد أن تأسّى به أمته. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم مرتين حتى لحق بالله، ولا رفعنا له فضل طعام عن شبع حتى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب. فقيل لها: ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان الماء والتمر. قالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب «2» يسقونا من لبنها؛ جزاهم الله خيرا. وعن ابن شهاب: أن أبا هريرة كان يمرّ بالمغيرة بن الأخنس وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النّقىّ «3» واللحم السّمين، قال: وما النّقىّ؟ قال: الدقيق. فتعجب أبو هريرة ثم قال: عجبا لك يا مغيرة! رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبضه

الله عز وجل، وما شبع من الخبز والزيت فى يوم مرتين، وأنت وأصحابك تهذرون «1» ها هنا الدنيا بينكم. وعن قتادة قال: كنا نأتى أنس بن مالك وخبّازه قائم، فقال يوما: كلوا فما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّفا «2» حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا «3» قطّ. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما اجتمع فى بطن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم طعامان فى يوم قطّ، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أرسل أبو بكر رضى الله عنه قائمة شاة ليلا فقطعت، وأمسك علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو قطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمسكت عليه، فقيل لها: على غير مصباح؟ قالت عائشة: لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به، كان يأتى على آل محمد شهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا. وعن عمران بن زيد المدينى قال: حدّثنى والدى، قال: دخلنا على عائشة، فقلنا: سلام عليك يا أمّاه، قالت: وعليك، ثم بكت، فقلنا: ما بكاؤك يا أمّاه؟ قالت: بلغنى أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتى يلتمس لذلك دواء، فذكرت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، فذلك الذى أبكانى، خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وإن شبع من الخبز لم يشبع من التمر، فذلك الذى أبكانى. وعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّى يوم توفّى، ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود يوسق من شعير. وسئل سهل بن سعد:

أكانت المناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما رأيت منخلا فى ذاك الزمان، وما أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا. فقيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نطحنها ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار ويستمسك ما استمسك. وعن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يجوع، قال قلت لأبى هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قال: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاما أبدا إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة يتتبعون من المسجد، فلما فتح الله تعالى خيبر اتّسع الناس بعض الاتساع، وفى الأمر بعد «1» ضيق، والمعاش شديد فى بلاد ظف «2» ، لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر وعلى ذلك أقاموا. قال مخرمة بن سليمان: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ يوم نزل المدينة فى الهجرة إلى يوم توفّى، وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا يواسون، ولكن الحقوق تكثر والعدّام «3» يكثرون، والبلاد ضيقة ليس فيها معاش، إنما تخرج ثمرتهم من ماء ثمد «4» يحمله الرجال على أكتافهم، أو على الإبل، والإبل أقل ذلك، وربما أصاب نخلهم القشام «5» فتذهب ثمرتهم تلك السنة، والقشام: شىء يصيب البلح مثل الجدرى فينتثر؛ فهذه كانت حاله صلّى الله عليه وسلّم فى عيشه فى غالب أوقاته، وهى سنّة الأنبياء صلوات الله عليهم.

وأما تطيبه صلى الله عليه وسلم

وأما تطيبه صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب، وكان يتطيب بالغالية «1» وبالمسك، حتى يرى وبيصه «2» في مفارقه، ويتبخّر بالعود ويطرح معه الكافور، وكان يعرف فى الليلة المظلمة بطيب ريحه صلّى الله عليه وسلّم. وأما لباسه صلّى الله عليه وسلّم وما روى من ألوانه وأصنافه وطوله وعرضه فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يتجمّل لأصحابه، فضلا عن تجمّله لأهله، ويقول: «إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّا لهم ويتجمّل» ولبس صلّى الله عليه وسلّم من الثياب البياض والحمرة والصّفرة والخضرة والسّواد. أما البياض وما جاء فيه- فقد روى عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بالبياض من الثياب فليلبسها أحياؤكم وكفّنوا فيها موتاكم فإنها من خير ثيابكم» وفى رواية عنه «البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب وكفّنوا فيها موتاكم» . وعن أبى قلابة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أحبّ ثيابكم إلى الله البياض، فصلّوا فيها وكفّنوا فيها موتاكم» . وأما الثياب الحمر- فروى عن البراء قال: ما رأيت أحدا كان أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعنه: ما رأيت من ذى لمّة «3» أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عون بن أبى جحيفة عن أبيه

قال: أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالأبطح، وهو فى قبّة حمراء، فخرج وعليه جبّة له حمراء وحلّة عليه حمراء. وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس يرده الاحمر «1» في العيدين والجمعة. وعن أبى جعفر محمد بن علىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر؛ ويعتمّ «2» يوم العيدين، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا. وأما الثياب الصّفر- فقد روى عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسيّة «3» فاشتمل بها، فكأنى أنظر إلى أثر الورس على عكنه «4» . وعن بكر بن عبد الله المزنى قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مورّسة، فإذا دار على نسائه رشّها بالماء. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ربما صبغ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قميصه ورداؤه وإزاره بزعفران وورس، ثم يخرج فيها. وعن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه بالزعفران: قميصه ورداءه وعمامته. وعن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه رداء وعمامة مصبوغين بالعبير «5» ، والعبير عندهم الزّعفران. وعن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.

وأما الثياب الخضر- فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الثياب الخضر. وعن أبى رمثة قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه بردان أخضران. والله المنعم. وأما السّواد وما ورد فيه- فقد روى عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وعن حريث عن أبيه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، وعليه عمامة سوداء، هذا ما وقفنا عليه من ألوان لباسه صلّى الله عليه وسلّم. فأما أصناف لباسه صلّى الله عليه وسلّم وطولها وعرضها، فإنه عليه الصلاة والسلام لبس الصوف والحبرة والقطن، ولبس السّندس «1» والحرير، ثم تركه، وورد فى ذلك أخبار نذكر منها ما أمكن. أما الصوف وما ورد فيه- فقد روى عن أبى بردة قال: دخلت على عائشة رضى الله عنها فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه الملبّدة، فأقسمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض فيهما. وعنها رضى الله عنها قالت: جعل للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بردة سوداء من صوف فلبسها. وعن سهل بن سعد: قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببردة منسوجة، فيها حاشيتاها. قال سهل: وتدرون ما البردة؟ قالوا: الشّملة، قال: نعم، هى الشّملة، فقالت: يا رسول الله، نسجت هذه البردة بيدى فجئت بها أكسوكها، قال: فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها، فخرج علينا وإنها لإزاره، فحسّنها فلان- لرجل من القوم سماه- فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه البردة!

أكسنيها، فقال: «نعم» فجلس ما شاء الله فى المجلس ثم رجع، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، كسيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد علمت أنه لا يرد سائلا! فقال الرجل: والله ما سألته إياها لألبسها، ولكن لتكون كفنى يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه. وأما الحبرة وهى من برود اليمن فيها حمرة وبياض فكانت من أحبّ اللباس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى عن قتادة قال قلت لأنس بن مالك: أىّ اللباس كان أحبّ وأعجب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: الحبرة. وعن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى صلّى الله عليه وسلّم من حبرة له حاشيتان. وأما السّندس والحرير- فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبس ذلك ثم تركه. روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقة «1» من سندس فلبسها، فكأنّى أنظر إلى يديها تذبذبان «2» من طولها. فجعل القوم يقولون: يا رسول الله، أنزلت عليك من السماء؟ فقال: «وما تعجبون منها، فو الذى نفسى بيده إن منديلا من مناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها» ثم بعث بها إلى جعفر بن أبى طالب فلبسها، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لم أعطكها لتلبسها» قال: فما أصنع بها؟ قال: «ابعث بها

إلى أخيك النجاشى» . وعن عقبة بن عامر قال: أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّوج- يعنى قباء حرير- فلبسه، ثم صلّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له، ثم قال: «لا ينبغى هذا للمتقين» . وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما سلّم قال: «اذهبوا بخميصتى هذه إلى أبى جهم فإنها ألهتنى آنفا عن صلاتى وأتونى بأنجبانىّ «1» أبى جهم» . وأما القطن وما ورد فى أطوال ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرضها فروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كنت يوما أمشى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد بحرانىّ «2» غليظ الحاشية. وعنه: كان قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطنيا قصير الطول قصير الكمّين. وعن بديل «3» قال: كان كمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ. وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما: أن طول رداء النبى صلّى الله عليه وسلّم أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر.

ذكر صفة إزرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يقوله إذا لبس ثوبا جديدا

وعنه: أن ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يخرج فيه إلى الوفد- ورداؤه حضرمىّ- طوله أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق، فطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قميصا قصير اليدين والطول. وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: كنت مع عمر، فى حديث رواه عنه قال فقال: رأيت أبا القاسم وعليه جبّة شاميّة ضيقة الكمّين. ذكر صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان يقوله إذا لبس ثوبا جديدا روى عن يزيد بن أبى حبيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرخى الإزار من بين يديه، ويرفعه من ورائه. وعن عكرمة مولى ابن عباس، قال: رأيت ابن عباس إذا ائتزر أرخى مقدّم إزاره، حتى تقع حاشيتاه على ظهر قدميه؛ ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت له: لم تأتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتزر هذه الإزرة. وعن أبى سعيد الخدرىّ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا سمّاه باسمه؛ قميصا أو إزارا أو عمامة، ويقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» . وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا لبس ثوبا- أو قال- إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى، وأتجمّل به فى حياتى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس الكساء الصوف وحده فيصلى فيه، وربما ليس الإزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفيه بين كتفيه يصلى فيه. وكان يلبس القلانس

ذكر فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ووسادته

تحت العمائم، ويلبسها دونها [ويلبس العمائم «1» دونها] ويلبس القلانس ذات الآذان فى الحرب، وربما نزع قلنسوته، وجعلها سترة بين يديه وصلّىّ إليها، وربما مشى بلا قلنسوة ولا عمامة ولا رداء، راجلا يعود المرضى كذلك فى أقصى المدينة. وكان يعتمّ ويسدل طرف عمامته بين كتفيه. وعن علىّ أنه قال: عمّمنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة، وسدل طرفها على منكبى، وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» . ذكر فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووسادته روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: دخلت امرأة من الأنصار علىّ فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة مثنيّة، فانطلقت فبعثت إلىّ «2» بفراش حشوه صوف، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ فقال: «ما هذا» ؟ قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصارية، دخلت علىّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا. فقال: «ردّيه» فلم أردّه، وأعجبنى أن يكون فى بيتى، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: «والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة» . وعنها: أنها كانت تفرش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة باثنتين «3» فجاء ليلة وقد ربّعتها فنام عليها، فقال: «يا عائشة ما لفراشى الليلة ليس كما كان يكون» ؟ قالت قلت: يا رسول الله، ربّعتها، قال: «فأعيديه كما كان» . وعنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة من أدم محشوّة ليفا، ودخل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على سرير

ذكر ما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخواتم، ومن قال لم يتختم

مرمول «1» بشريط، وتحت رأسه مرفقة «2» من أدم محشوّة بليف، وقد أثّر الشّريط بجنبه، فبكى عمر، فقال: «ما يبكيك» ؟ قال: يا رسول الله، ذكرت كسرى وقيصر يجلسون على سرر الذّهب ويلبسون السّندس والإستبرق، فقال: «أما ترضون أن تكون لكم الآخرة ولهم الدنيا» . وعن عبد الله بن مسعود قال: اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير فأثر الحصير بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتنا نبسط لك على هذا الحصير شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالى وللدنيا، وما أنا والدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ، وعن المغيرة ابن شعبة قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروة، وكان يستحب أن تكون له فروة مدبوغة يصلى عليها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى على الحصير والخمرة «3» ، كما روى فى الصحيحين. ذكر ما لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخواتم، ومن قال لم يتختّم قد قدّمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخذ الخاتم فى سنة سبع من الهجرة عند ما بعث رسله إلى الملوك، وختم به الكتب التى سيّرها إليهم؛ فلنذكر هنا ما لبسه من الخوانم. وقد روى أنه تختم بالذهب والفضة والحديد الملوىّ عليه الفضة، على ما نذكر ذلك من أقوالهم.

روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يجعل فصّه فى بطن كفه إذا لبسه فى يده اليمنى؛ فصنع الناس خواتيم من ذهب، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فنزعه، وقال: «إنى كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصّه من باطن كفى» فرمى به، وقال: «والله لا ألبسه أبدا» ونبذ النبى صلّى الله عليه وسلّم الخاتم، فنبذ الناس خواتيمهم. ثم اتخذ خاتما من فضّة فصّه منه، ونقش عليه «محمد رسول الله» ثلاثة أسطر، كان يختم به الكتب إلى الملوك. وقد روى أن خاتمه كان من حديد، ملوىّ عليه فضّة، وقيل: إنه رآه فى يد عمرو بن سعيد بن العاص حين قدم من الحبشة فقال: «ما هذا الخاتم فى يدك يا عمرو» ؟ قال: هذه حلقة يا رسول الله، قال: «فما نقشها» ؟ قال: محمد رسول الله، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه فتختمه، فكان فى يده حتى قبض، ثم فى يد أبى بكر حتى قبض، ثم فى يد عمر حتى قبض، ثم فى يد عثمان ستّ سنين، وفى السابعة وقع فى بئر أريس «1» . قال أنس ابن مالك: فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه. وروى عن ابن سيرين: أن نقشه كان «بسم الله، محمد رسول الله» . وقد روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقىّ، قال حدّثنا عطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبى فروة، عن سعيد بن المسيّب، قال: ما تختم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى الله، ولا أبو بكر حتى لقى الله، ولا عمر حتى لقى الله، ولا عثمان حتى لقى الله، هكذا روى. والصحيح أنه تختّم صلّى الله عليه وسلّم، وتختموا رضوان الله عليهم أجمعين كما ذكرنا.

ذكر نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخفيه

ذكر نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخفّيه روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان لنعله قبالان «1» . وعن عبد الله بن الحارث قال: كان نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها رمالان «2» شراكهما مثنىّ فى العقدة. وعن سلمة عن هشام بن عروة قال: رأيت نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة «3» معقّبة ملسّنة لها قبالان. وعن عبيد ابن جريح قال قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أراك تستحب هذه النّعال السّبتيّة «4» ، قال: إنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسهما ويتوضأ فيهما. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن صاحب الحبشة أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفّين ساذجين «5» فمسح عليهما، وفى رواية: أن النجاشى أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفين أسودين ساذجين فلبسهما ومسح عليهما. ذكر سواك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشطه، ومكحلته، ومرآته، وقدحه، وغير ذلك من أثاثه روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرقد ليلا ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوّك قبل أن يتوضأ. وعن قتادة عن

عكرمة قال: استاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم، فقيل لقتادة: إن أناسا يكرهونه، فقال: استاك والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم. وعن ابن جريج قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشط عاج «1» يمتشط به. وعن ثور عن خالد «2» بن معدان قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسافر بالمشط والمرآة والدّهن والمكحل «3» والسّواك. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه، ويسّرح لحيته بالماء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكحلة «4» يكتحل بها عند النوم ثلاثا فى كل عين. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل فى عينه اليمنى ثلاث مرات، واليسرى مرتين. وعن أبى رافع قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل بالإثمد وهو صائم. وعن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، كان يشرب فيه. وعن عطاء قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، فكان يشرب فيه. وعن حميد قال: رأيت قدح

ذكر ما ورد فى حجامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجامه

النبى صلّى الله عليه وسلّم عند أنس فيه فضّة، أو شدّ بفضّة. وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له ربعة «1» فيها مرآة ومشط عاج ومكحلة ومقراض «2» وسواك. وكان له قدح مضبّب «3» بثلاث ضبّات من فضّة- وقيل من حديد- وفيه حلقة يعلّق بها، وهو أكبر من نصف المدّ وأصغر من المدّ، وكان له قدح آخر يدعى الرّيّان، وتور «4» من حجارة يدعى المخضب. ومخضب «5» من شبه «6» يكون فيه الحنّاء والكتم «7» توضع عند رأسه إذا وجد فيه حرا، ومغسل من صفر «8» ، وقصعة، وصاع يخرج به فطرته، ومدّ، وكان له سرير، وقطيفة، وكان له كساء أسود كساه فى حياته، وكان له ثوبان للجمعة، غير سائر ثيابه التى يلبسها فى سائر الأيام، وكان له منديل يمسح به وجهه من الوضوء، وربما مسح بطرف ردائه صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ما ورد فى حجامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحجّامه روى عن أنس بن مالك قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحجمه أبو طيبة، وأمر له بصاعين؛ وأمرهم أن يخفّفوا عنه من ضريبته. واختلف فى اسم أبى طيبة، فقيل: دينار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة، وهو مولى

بنى حارثة. وعن جابر بن عبد الله قال: أخرج «1» إلينا أبو طيبة المحاجم لثمان عشرة من شهر رمضان نهارا، فقلت: أين كنت؟ قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحجمه. وعن أنس قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حجمه أبو طيبة مولى كان لبعض الأنصار، فأعطاه صاعين من طعام، وكلّم أهله أن يخفّفوا عنه من ضريبته، وقال: «الحجامة من أفضل دوائكم» . وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صائم، فغشى عليه يومئذ، فلذلك: كرهت الحجامة للصائم. وعن سمرة بن جندب قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا حجّامه فحجمه بمحاجم من قرون، وجعل يشرطه بطرف شفرة، فدخل أعرابىّ فرآه ولم يكن يدرى الحجامة، ففزع وقال: يا رسول الله، علام تعطى هذا يقطع جلدك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا الحجم» قال: يا رسول الله، وما الحجم؟ قال: «هو خير ما تداوى به الناس» . وعن عطاء وابن عباس- رضى الله عنهم- قالا: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم من وجع. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم ثلاثا، على الأخدعين «2» ثنتين، وعلى الكاهل واحدة. وعن سعد ابن أبى وقاص: أنه وضع يده على المكان الناتئ من الرأس فوق اليافوخ، فقال: هذا موضع محجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يحتجم، وجاء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسميها المغيثة. وكان خالد بن الوليد يحتجم

ذكر ما ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلاح

على هامته وبين كتفيه، فقيل له: ما هذه الحجامة؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحتجمها، وقال: «من أهراق منه هذه الدماء فلا يضره ألّا يتداوى بشىء لشىء» . وروى: أن الأقرع بن حابس دخل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم فى القمحدوة: وهى آخر الرأس، فقال: لم احتجمت وسط رأسك؟ قال: «يابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والمرض» وشك الراوى فى الجنون. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة فى الرأس هى المغيثة أمرنى بها جبريل حين أكلت طعام اليهودية» . وعنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلة أسرى بى ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة» . وعن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة فى الشهر دواء لداء السّنة» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وعن الأوزاعى، عن هرون بن رئاب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجم، ثم قال لرجل: «ادفنه لا يبحث عنه كلب» . ذكر ما ملكه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السلاح كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة أسياف: ذو الفقار تنفّله «1» يوم بدر، وهو الذى رأى فيه الرؤيا فى غزوة أحد، وكان قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمنبّه بن الحجاج السّهمى، وثلاثة أسياف، أصابها من سلاح بنى قينقاع، سيف

قلعىّ «1» ، وسيف يدعى البتّار «2» ، وسيف يدعى الحتف «3» ، وسيفان أصابهما من الفلس «4» ، سيف يدعى المخذم «5» ، وآخر يدعى الرّسوب «6» ، وسيف ورثه من أبيه «7» ، وسيف يقال له العضب «8» ، أعطاه إياه سعد بن عبادة، وآخر يدعى القضيب «9» ، وهو أوّل سيف تقلّد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أنس: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّة، وقبيعته فضّة «10» ، وما بين ذلك حلق الفضّة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم أربعة أرماح، ثلاثة أصابها من سلاح بنى قينقاع، وواحد يقال له المثنىّ. وكان له عنزة: وهى حربة دون الرّمح يمشى بها فى يده، وتحمل بين يديه فى العيدين، حتى تركز أمامه فيتخذها سترة يصلى إليها. وكان له أربعة «11» قسى: قوس من شوحط «12» تدعى الرّوحاء، وأخرى من شوحط تدعى البيضاء، وأخرى

من نبع «1» تدعى الصّفراء، وقوس تدعى الكتوم «2» كسرت يوم بدر. وكان له جعبة «3» تدعى الكافور، وكان له مخصرة «4» تسمى العرجون، وكان له محجن «5» قدر الذراع أو نحوه يتناول به الشىء، وهو الذى استلم به الرّكن «6» في حجة الوداع، وكان له درعان أصابهما من سلاح بنى قينقاع: درع يقال لها السّعدية «7» ، وأخرى يقال لها فضة. وعن محمد بن مسلمة قال: رأيت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعين، درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، ورأيت عليه يوم حنين درعين، ذات الفضول والسّعدية، ويقال: كانت عنده درع داود عليه السلام التى لبسها لما قتل جالوت، وكان له مغفر يقال له السّبوغ «8» ، وكان له صلّى الله عليه وسلّم ترس؛ روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا عتّاب بن زياد، قال حدّثنا عبد الله بن المبارك، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال سمعت مكحولا يقول: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى. وفى رواية أخرى: كان له صلّى الله عليه وسلّم ترس عليه تمثال عقاب، أهدى له فوضع يده عليه فأذهبه الله، وكان له منطقة من أديم مبشور «9» فيها ثلاث حلق من

ذكر دواب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل والبغال والحمير

فضّة، والإبزيم «1» من فضّة، والطّرف من فضّة، وكان له راية سوداء مخملة، يقال لها العقاب، ولواء أبيض وربما جعل الألوية من خمر نسائه صلّى الله عليه وسلّم، ورضى عنهنّ. ذكر دوابّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخيل والبغال والحمير أما خيله صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكرنا فى الباب الأول من القسم الثالث من الفنّ الثالث من كتابنا هذا، وهو فى السّفر التاسع من هذه النّسخة، أن خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى ملكها، على ما ظهر من مجموع الروايات التى أوردناها هناك تسعة عشر فرسا: وهى السّكب «2» ، والمرتجز «3» ، والبحر «4» ، وسبحة «5» ، وذو اللّمّة «6» ، وذو العقال «7» ، والّلحيف «8» ، ويقال فيه: الّلخيف بالخاء المعجمة، وقيل: النّحيف بالنون، واللّزاز «9» ، والظّرب «10» ، والورد «11» ، والسّجل «12» ، والشّحّا «13» ، والسّرحان «14» ،

والمرتجل «1» ، والأدهم «2» ، وملاوح «3» ، والعيسوب «4» ، واليعبوب «5» ، والمرواح «6» ، وقد يكون الأدهم هو السّكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا. وذكرنا هناك أخبار هذه الخيل ومن ذكرها. وذهب بعضهم إلى أن خيله صلّى الله عليه وسلّم كانت عشرة أفراس: السّكب، والمرتجز، ولزاز، واللّخيف، والظّرب، والورد، والضّرس «7» ، وملاوح، وسبحة، والبحر، ولم يذكر ما عداها، والله عز وجل أعلم. وأما بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمره فقد ذكرنا أيضا فى الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى السفر التاسع من كتابنا هذا، أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللاتى ملكهنّ كنّ سبعا، على ما ظهر من مجموع الروايات التى ذكرناها هناك، وهنّ دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضّة التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء «8» صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل،

ذكر نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبغلة أهداها له يوحنّا بن روزيه «1» ، وبغلة أهداها له النجاشى صاحب الحبشة، وفى البغلة التى ذكر أن كسرى أهداها له صلّى الله عليه وسلّم نظر، لما قدمناه من أنه مزّق كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يجبه. ومن أهل العلم من ذهب إلا أنهنّ كنّ ثلاثة: دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضة وهبها لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وبغلة أهداها له صاحب أيلة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم من الحمر: يعفور، وعفير، وقد ذكرناهما فى الباب المقدّم ذكره فى السّفر التاسع. ذكر نعم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «2» بالغابة، يراح له منها كل ليلة بقربتين عظيمتين من اللّبن، وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له الضحّاك ابن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، وكانت له مهريّة «3» أرسلها إليه سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، وكانت له القصواء «4» ، وهى التى هاجر عليها، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحى غيرها، وهى العضباء «5» ، والجدعاء «6» ، وقيل: العضباء غير القصواء، وقد ذكرنا فى الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث نعمه بأبسط من هذا.

ذكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم

وكان له صلّى الله عليه وسلّم مائة من الغنم. وكانت له سبع منائح «1» : عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورشة «2» ، وأطلال. وأطراف، وكانت أمّ أيمن ترعاهنّ، وكانت له شاة يختصّ بشرب لبنها، تدعى غيثة، وكان له ديك أبيض، هذا ما أمكن إيراده فى هذه الفصول، وهو بحسب الاختصار. وقد آن أن نأخذ فى ذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أخّرنا ذكر المعجزات إلى هذه الغاية لأمور: منها أنّ معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كانت فى مدة حياته، تقع خلال غزواته، وغالب أوقاته، فلو ذكرناها قبل نهاية ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلّم، لكنّا قد قدّمنا منها شيئا قبل وقته الذى وقع فيه. ومنها أنّا لمّا ذكرنا صفاته صلّى الله عليه وسلّم فيما تقدّم، استلزم إيراد أحواله تلو صفاته، وصار الكلام يتلو بعضه بعضا، ولو ذكرنا المعجزات فى خلال ذلك لانقطع الكلام وانفرط النظام، وأهمّ الأسباب فى تأخير ذكر المعجزات إلى هذه الغاية، أنا أردنا أن تكون معجزاته صلّى الله عليه وسلّم خاتمة لهذه السّيرة الشريفة، وتالية لهذه المناقب المنيفة «3» لا يجعل بعدها من أخباره صلّى الله عليه وسلّم إلا أخبار وفاته عليه السلام. ذكر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنى المعجزة أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها، ولا تكون معجزة إلا مع وجود التّحدى بالنبوّة، وأما مع عدم التحدى فهى كرامة، كأحوال الأولياء. والمعجزة على ضربين: ضرب هو من نوع قدرة البشر فعجزوا عن الإتيان بمثله؛ كالقرآن على رأى من رأى أن من قدرة البشر أن يأتوا بمثله، ولكن الله تعالى

فأما القرآن العظيم وما انطوى عليه من المعجزات،

صرفهم عن ذلك، فعجزوا عنه، وكصرف يهود عن تمنّى الموت، ونحو ذلك. وضرب هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام، وحبس الشمس، وردّها بعد غروبها. وها نحن نورد فى هذا الفصل من مشاهير معجزاته، وباهر آياته، ما تقف إن شاء الله تعالى عليه، وقد تقدم من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فى اثناء هذه السيرة ما تقدم، مما ننبّه عليه فى هذا الفصل، ونحيل عليه فى مواضعه، ونشرح ونبين ما أدمجناه قبل إن شاء الله تعالى. ومعجزاته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة: منها القرآن العظيم، وهو أكبرها آية، وأعظمها دلالة على صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم، ومنها انشقاق القمر، وحبس الشمس، وردّها، وتفجير الماء وانبعاثه ونبعه من بين أصابعه وتكثير الطعام، وكلام الشّجر، وسعيها إليه، وحنين الجذع، وتسبيح الطعام والحصى، وكلام الجمادات، وشهادة الحيوانات له صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة، وكلام الموتى، وإبراء المرضى، وإجابة الدعاء، وانقلاب الأعيان، وما أطلعه الله تعالى عليه من علم الغيوب، والإخبار بما كان ويكون، وما جمع له من المعارف والعلوم ومصالح الدنيا والدين، وسياسة العالم، والعصمة من الناس، وغير ذلك مما نشرحه ونبيّنه إن شاء الله تعالى. فأما القرآن العظيم وما انطوى عليه من المعجزات، فمعجزاته كثيرة نحصرها فى عشرة أوجه:

الوجه الأول - حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته،

الوجه الأوّل- حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة «1» العرب، وذلك أنهم خصّوا من البلاغة والحكم ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وحسبك أن القرآن أنزل بلغتهم، ومع ذلك فقد قرعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به، ووبّخهم وسفّه أحلامهم، وسبّ آلهتهم، وذمّ آباءهم، وشتت نظامهم، وفرّق جماعتهم، وأنزل الله تعالى فيهم ما أنزل من قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «3» وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «4» وغير ذلك، فنكصوا عن معارضته، وأحجموا عن مماثلته، ورضوا بقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ* وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «5» . ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «6» . واعترف فصحاؤهم عند سماعه أنه ليس من كلام البشر؛ كالوليد بن المغيرة وعتبة ابن ربيعة، على ما قدّمنا ذكر ذلك. الوجه الثانى من إعجازه- صورة نظمه العجيب، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، وسجعها ورجزها «7» وهزجها «8» وقريضها «9» ، ومبسوطها «10»

الوجه الثالث من إعجازه - ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد،

ومقبوضها «1» ، كما قال الوليد بن المغيرة لقريش عند اجتماعهم كما قدمناه، ومن ذلك جمعه بين الدليل والمدلول، وذلك أنه احتجّ بنظم القرآن، وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته، وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالتّالى له يفهم موضع الحجّة والتّكليف معا من كلام واحد. الوجه الثالث من إعجازه- ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد، كما جاء فى قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» . وقوله فى الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «3» . وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* «4» . وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «5» الآية. وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «6» السورة، فكان جميع ذلك: فتح الله مكة، وغلبت الروم فارس، وأظهر الله رسوله، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، واستخلف الله المؤمنين فى الأرض، ومكّن دينهم وملّكهم أقصى المشارق والمغارب، وما فيه من الإخبار بحال المنافقين واليهود، وكشف أسرارهم، وغير ذلك. الوجه الرابع- ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة والشرائع الداثرة «7» ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا من مارس العلوم من أهل الكتاب، واطلع على الكتب المنزلة القديمة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق، وغير ذلك مما فى كتبهم القديمة مما اعترف بصحته العلماء من أحبار يهود، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدّ عنه مع عدم إنكارهم لصحته، قال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «8» .

الوجه الخامس - الروعة التى تلحق قلوب سامعيه، وأسماعهم عند سماعه،

الوجه الخامس- الرّوعة التى تلحق قلوب سامعيه، وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التى تعتريهم عند تلاوته؛ قال الله عز وجل: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» ، وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2» هذا فى حق المؤمنين به، وأما من كذّب به فكانوا يستثقلون سماعه، ويودّون انقطاعه؛ ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن صعب مستصعب على من كرهه، وهو الحكم» وقد تقدّم أن عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلغ قوله: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» أمسك على فى «4» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرّحم أن يكفّ. الوجه السادس- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، وقد تكفل الله تعالى بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «5» . وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «6» وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العزيز باق منذ أنزله الله تعالى وإلى وقتنا هذا، وما بعده إن شاء الله إلى آخر الدهر، حجته قاهرة، ومعارضته ممتنعة. الوجه السابع- أن قارئه لا يملّ قراءته، وسامعه لا تمجّه مسامعه، بل الإكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبة، لا يزال غضّا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه أن يبلغ من البلاغة والفصاحة يملّ مع الترديد، ويسأم إذا

الوجه الثامن - أن الله تعالى يسر حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفظيه،

أعيد، وكذلك غيره من الكتب «1» لا يوجد فيها ما فيه من ذلك، وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن «أنه لا يخلق «2» على كثرة الردّ ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفضل ليس بالهزل» . الوجه الثامن- أن الله تعالى يسر حفظه لمتعلّميه، وقرّبه على متحفّظيه، قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* «3» فلذلك إن سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، وإن لازم قراءتها، ودوام مدارستها، لم يسمع بذلك عن أحد منهم، والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان فى المدّة القريبة والنّسوان، وقد رأينا من حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته. الوجه التاسع- مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها، والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة على أمر ونهى، وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وإثبات نبوّة وتوحيد، وتقرير وترغيب وترهيب، إلى غير ذلك، دون خلل يتخلل فصوله، والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوّته، ولانت جزالته، وقلّ رونقه، وتقلقلت ألفاظه، وهذا من الأمور الظاهرة التى لا يحتاج عليها إقامة دليل، ولا تقرير حجة، ولا بسط مقال. الوجه العاشر- جمعه لعلوم ومعارف لم تعهدها العرب، ولا علماء أهل الكتاب، ولا اشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والردّ على فرق الأمم بالبراهين الواضحة، والأدلة البينة السهلة الألفاظ، الموجزة المقاصد؛ لقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ

وأما انشقاق القمر، وحبس الشمس ورجوعها

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ «1» وقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2» وقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3» إلى غير ذلك مما اشتمل عليه من المواعظ والحكم وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب، وغير ذلك مما لا يحصيه وآصف، ولا يعده عاد، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «4» ، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ* «5» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله أنزل علىّ القرآن آمرا وزاجرا، وسنّة خالية، ومثلا مضروبا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرّدّ، ولا تنقضى عجائبه، هو الحقّ ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج «6» ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنّور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشّفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوج فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرّدّ» . وفى الحديث: «قال الله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلّم- إنى منزّل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، وفيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة، وربيع القلوب» . وقد عدّوا فى إعجازه وجوها كثيرة غير ما ذكرناه فلا نطوّل بسردها. وأما انشقاق القمر، وحبس الشمس ورجوعها - فكان ذلك من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.

وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «1» . وقد رويت قصة انشقاق القمر عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله ابن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم رضى الله عنهم، قال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا» قال ابن مسعود: حتى رأيت الجبل بين فرجتى القمر، وفى بعض طرقه: ومن رواية مسروق عنه أنه كان بمكة، وزاد: فقال كفّار قريش سحركم ابن أبى كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان قد سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فآسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا؟ فأتوا فسألوا فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك. وحكى السّمرقندى عن الضحاك نحوه. وقال: فقال أبو جهل هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا أرأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا، فقالوا- يعنى الكفار-: هذا سحر مستمر. وقال على رضى الله عنه، من رواية أبى حذيفة الأرحبى: انشق القمر، ونحن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم. وعن أنس: سأل أهل مكة النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين، حتى رأوا حراء بينهما، وفى رواية معمر، وغيره عن قتادة عنه: أراهم القمر مرتين انشقاقه «2» ، فنزلت الآية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وحكى الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الحليمىّ «3» الجرجانىّ

وأما رجوع الشمس

فى منهاجه قال: رأيت ببخارى الهلال وهو ابن ليلتين منشقّا بنضفين، عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، وما زلت أنظر إليهما حتى اتصلا، ثم لم يعودا كما كانا، ولكنهما صارا فى شكل أترجّة، ولم أمل طرفى عنهما إلى أن غاب، قال: وكان معى ليلتئذ جماعة كثيفة، من بين شريف وفقيه وكاتب وغيرهم من طبقات الناس، وكلّ رأى ما رأيت. قال: وأخبرنى من وثقت به، وكان خبره عندى كعيانى أنه رأى الهلال وهو ابن ثلاث منشقا بنصفين، قال: وإذا كان هكذا، ظهر أن قول الله عز وجل: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إنما هو على الانشقاق الذى هو من أشراط الساعة، دون الانشقاق الذى جعله الله تعالى آية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحجة على أهل مكة. وبالله التوفيق. وأما رجوع الشّمس - فقد روى عن أسماء بنت عميس أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يوحى إليه ورأسه فى حجر علىّ، فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت يا على» ؟ قال: لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فآردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، ووقفت على الجبال والأرض، وذلك بالصّهباء فى خيبر. خرّجه الطحاوى فى مشكل الحديث عن أسماء من طريقين، قال وكان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوّة. وأما حبسها - فقد روى يونس بن بكير فى زيادة المغازى عن ابن إسحق: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسرى به، وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى تجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولّى النهار ولم يجئ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس صلّى الله عليه وسلّم.

وأما نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم

وأما نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عن أنس بن مالك، وجابر، وعبد الله بن مسعود؛ قال أنس من رواية إسحق بن عبد الله بن أبى طلحة: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء «1» فلم يجدوه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوضوء «2» ، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم. ورواه أيضا عن أنس قتادة، وقال: بإناء فيه ماء ما يغمر أصابعه، ولا يكاد يغمر «3» ، قال: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وفى رواية عنه: وهم بالزّوراء عند السوق. وأما ابن مسعود، ففى الصحيح عنه من رواية علقمة: بينهما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتى بإناء فصبه فى إناء، ثم وضع كفّه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفى الصحيح عن سالم بن أبى الجعد عن جابر قال: «عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه ركوة «4» فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا: ليس عندنا ماء، إلا ما فى ركوتك، فوضع النبى صلّى الله عليه وسلّم يده فى الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، وفيه: فقلت كم كنتم؟ قالوا: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. وفى صحيح مسلم

وأما تفجيره وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم

فى ذكر غزوة بواط «1» ، قال جابر قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جابر ناد الوضوء» وذكر الحديث بطوله: وأنه لم يحد إلا قطرة فى عزلاء «2» شجب، فأتى به النبى صلّى الله عليه وسلّم فغمزه «3» ، وتكلم بشىء لا أدرى ما هو، وقال: «ناد بجفنة «4» الرّكب» فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط يده فى الجفنة، وفرق أصابعه، وصبّ جابر عليه، وقال: «بسم الله» قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت «5» : هل بقى أحد له حاجة؛ فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده من الجفنة وهى ملأى. هذا مختصر ما روى من تفجير الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم. وأما تفجيره وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما رواه مالك بن أنس رحمه الله فى الموطأ، عن معاذ بن جبل فى قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين، وهى تبضّ «6» بشىء من ماء مثل الشّراك «7» ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فى شىء، ثم غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس. وفى حديث ابن إسحق: فانحرق «1» من الماء ما له حسّ كحسّ الصواعق، ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا» . ومنه قصة «2» الحديبية، وقد تقدّم ذكرها فى الغزوات. ومن ذلك خبر صاحبة المزادتين، وهو مما روى عن عمران بن حصين، قال: أصاب النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عطش فى بعض أسفارهم، فوجّه رجلين من أصحابه، وأعلمهما أنهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان، الحديث «3» . فوجداها وأتيا بها النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجعل فى إناء من مزادتها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم أعاد الماء فى المزادتين، ثم فتحت عزاليهما، وأمر الناس فملأوا أ؟؟؟ قيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملأوه، قال عمران: ويخيل لى أنهما لم تزدادا إلا امتلاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها، وقال: «اذهبى فإنا لم نأخذ من مائك شيئا ولكن الله سقانا» . وعن عمرو بن شعيب أن أبا طالب قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم وهو رديفه بذى المجاز: عطشت وليس عندى ماء، فنزل النبى صلّى الله عليه وسلّم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: «اشرب» . وعن سلمة بن الأكوع؛ قال نبىّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل من وضوء؟» فجاء رجل بإداوة «4» فيها نطفة «5»

وأما تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم

فأفرغها فى قدح فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة أربع عشرة «1» مائة. وفى حديث غزوة تبوك، وما أصاب الناس من العطش، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن الله تعالى أرسل سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء، وقد تقدّم ذكره. ومن طريق آخر فى هذه القصة عن عمر: وذكر ما أصابهم من العطش فى جيش العسرة، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر رضى الله عنه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى الدّعاء، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت «2» السماء، فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية، ولم يجاوز العسكر. والحديث فى هذا الباب كثير. وأما تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم فقد روينا من ذلك أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة متّصلة، رأينا حذفها هاهنا اختصارا لاشتهارها وانتشارها، منها ما رويناه عن جابر رضى الله عنه: أن رجلا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال: «لو لم تكله لأكلتم منه وقام بكم» . ومن ذلك حديث أبى طلحة المشهور، وإطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانين أو سبعين رجلا من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده- أى إبطه- فأمر بها ففتّت، وقال فيها ما شاء الله أن يقول. وحديث جابر- رضى الله عنه- فى إطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير، وعناق «3» ، قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا» ، وإن

برمتنا لتغطّ «1» كما هى، وإن عجيننا ليخبز، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصق فى العجين والبرمة وبارك. ومن ذلك حديث أبى أيوب الأنصارى: أنه صنع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبى بكر رضى الله عنه من الطعام زهاء «2» ما يكفيهما، فقال له النبى الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار» فدعاهم فأكلوا حتى تركوه، ثم قال: «ادع ستين» فكان مثل ذلك، ثم قال: «ادع سبعين» فأكلوا حتى تركوا، وما خرج منهم أحد حتى أسلم وبايع، قال أبو أيوب: فأكل من طعامى مائة وثمانون رجلا. وعن سمرة بن جندب قال: أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون. ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما قال: كنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين ومائة، وذكر فى الحديث: عجن صاع من طعام، وصنعت شاة فشوى سواد «3» بطنها، قال: وأيم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد حزّله حزّة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتان فأكلنا أجمعون، وفضل فى القصعتين فحملته على البعير. ومن ذلك حديث عمر بن الخطاب، وأبى هريرة وسلمة بن الأكوع رضى الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه، فدعا ببقية الأزواد، فجاء الرجل بالحثية من الطعام وفوق ذلك، وأعلاهم الذى أتى بالصّاع من التمر، فجمعه على نطع، قال سلمة: فحزرته كربضة «4» البعير، ثم دعا الناس بأوعيتهم، فما بقى فى الجيش وعاء إلا ملأوه وبقى منه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدعو له أهل الصّفّة فتتّبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهى مثلها

حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق «1» فصنع لهم مدّا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى كما هو، ثم دعا بعسّ «2» فشربوا حتى رووا وبقى كأنه لم يشرب. وقال أنس ابن مالك: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوما سمّاهم، وكل من لقيت حتى امتلأ البيت والحجرة، وقدّم إليهم تورا «3» فيه قدر مدّ من تمر جعل حيسا «4» ، فوضعه قدّامه وغمس ثلاث أصابعه، وجعل القوم يتغدّون ويخرجون، وبقى التور نحوا مما كان، وكان القوم أحدا أو اثنين وسبعين. وفى رواية أخرى فى هذه القصة أو مثلها: أن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة، وأنهم أكلوا حتى شبعوا، وقال لى: «ارفع» فلا أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. وفى حديث جعفر بن محمد عن آله، عن على رضى الله عنهم أن فاطمة رضى الله عنها طبخت قدرا لغدائها، ووجهت عليّا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليتغدّى معها، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة، ثم له عليه السلام ولعلىّ، ثم لها، ثم رفعت القدر، وإنها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله. ومن ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يزوّد أربعمائة راكب من أحمس، فقال: يا رسول الله، ما هى إلا أصوع، قال: «اذهب» فذهب فزوّدهم منه، وكان قدر الفصيل الرّابض من التمر وبقى بحاله.

ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى دين أبيه، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ما له فلم يقبلوه، ولم يكن فى ثمرها سنين كفاف دينهم، فأمره النبى صلّى الله عليه وسلّم بجذّها وجعلها بيادر «1» في أصولها، ثم جاءه فمشى فيها ودعا، فأوفى جابر غرماء أبيه من ذلك، وفضل مثل ما كانوا يجذّون كل سنة. وفى رواية: مثل ما أعطاهم. قال: وكان الغرماء يهودا فعجبوا من ذلك. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أصاب الناس مخمصة فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هل من شىء» ؟ قلت: نعم، شىء من التمر فى المزود، قال: «فأتنى به» فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ودعا بالبركة، ثم قال: «ادع لى عشرة» فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: «خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبّه» فقبضت على أكثر مما جئت به فأكلت منه وأطعمت منه «2» حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وعمر، إلى أن قتل عثمان فانتهب منى فذهب. وفى رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق فى سبيل الله. وذكر مثل هذه الحكاية فى غزوة تبوك، وأن التمر كان بضع عشرة تمرة. ومنه أيضا حديث أبى هريرة رضى الله عنه حين أصابه الجوع، فاستتبعه النبى صلّى الله عليه وسلّم فوجد لبنا فى قدح قد أهدى إليه، وأمره أن يدعو أهل الصّفّة، قال فقلت: ما هذا اللبن «3» فيهم! كنت أحقّ أن أصيب منه شربة أتقوّى بها، فدعوتهم، وذكر أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم له أن يسقيهم، قال: فجعلت أعطى الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يأخذ الآخر حتى روى جميعهم، فأخذ النبى

وأما كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وانقيادها إليه وإجابتها دعوته صلى الله عليه وسلم

صلى الله عليه وسلّم القدح وقال: «بقيت أنا وأنت اقعد فاشرب» فشربت ثم قال: «اشرب» وما زال يقولها وأشرب حتى قلت: لا والذى بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا، فأخذ القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة، صلّى الله عليه وسلّم. وأما كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وانقيادها إليه وإجابتها دعوته صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفر فدنا منه أعرابىّ، فقال: «يا أعرابى أين تريد» ؟ قال: إلى أهلى، قال: «هل لك إلى خير» ؟ قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله» قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه الشجرة السّمرة» «1» وهى بشاطئ الوادى، فأقبلت تخدّ «2» الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها. وعن بريدة قال: سأل أعرابى النبى صلّى الله عليه وسلّم آية فقال له: «قل لتلك الشجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يدعوك» قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها، ثم جاءت تخد الأرض، تجرّ عروقها مغيرة «3» حتى وقفت بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابى: مرها فلترجع إلى منبتها فاستوت، فقال الأعرابى: إيذن لى أسجد لك، قال: «لو أمرت أحدا

أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» قال: فأذن لى أقبّل يديك ورجليك، فأذن له. ومن ذلك ما روى فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله قال: ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضى حاجته فلم ير شيئا يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادى، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إحداهما فأخذ بغصن من غصانها فقال: «انقادى علىّ بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «1» الذى يصانع قائده. وذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك، حتى إذا كان بالمنصف «2» بينهما قال: «التئما علىّ بإذن الله» فالتأمتا. وفى رواية أخرى؛ فقال: «يا جابر قل لهذه الشجرة يقول لك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الحقى بصاحبتك حتى أجلس خلفكما» ففعلت فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما، فخرجت أحضر «3» ، وجلست أحدّث نفسى، فالتفت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبل «4» والشجرتان قد افترقثا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقفة فقال «5» برأسه- هكذا- يمينا وشمالا. وروى أسامة بن زيد نحوه، قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه: «هل» «6» ؟ يعنى مكانا لحاجة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقلت:

إن الوادى ما فيه موضع بالناس «1» ، فقال: «هل ترى من نخل أو حجارة» ؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، فقال: «انطلق وقل لهن إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركنّ أن تأتين لمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقل للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهنّ، فو الذى بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاما خلفهنّ، فلما قضى حاجته قال لى: «قل لهنّ يفترقن» فو الذى نفسى بيده لرأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهنّ. وعن ابن مسعود مثله فى غزاة حنين. وعن يعلى بن مرة- وهو ابن سيّابة «2» - وذكر أشياء رآها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أن طلحة- أو سمرة- جاءت فأطافت به، ثم رجعت إلى منبتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها استأذنت أن تسلم علىّ» . وفى حديث ابن مسعود: آذنت «3» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالجنّ ليلة استمعوا له شجرة. وذكر أبو بكر بن فورك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سار فى غزوة الطّائف ليلا وهو وسن، «4» فآعترضته سدرة فانفرجت له نصفين، حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا، وهى هناك معروفة. وقد روى فى مثل ذلك أحاديث كثيرة. ومن ذلك قصّة حنين الجذع، والخبر بذلك مشهور منتشر خرّجه أهل الصحيح، ورواه جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم على جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار «5» ، وفى رواية أنس:

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نطق الجمادات

حتى ارتجّ المسجد بخواره «1» . وفى رواية سهل بن سعد: وكثر بكاء الناس لما رأوا به. وفى رواية المطلب بن أبى وداعة: حتى تصدّع وانشقّ، حتى جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليه فسكت. وزاد غيره: فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم «إن هذا بكى لما فقد من الذّكر» . وزاد غيره «2» : «والذى نفسى بيده لو لم ألتزمه «3» لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزّنا على رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن تحت المنبر. وفى حديث أبىّ بن كعب: فكان إذا صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلّى إليه، فلما هدم المسجد أخذه أبىّ فكان عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا. وذكر الإسفراينىّ: أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض فالتزمه، ثم أمره فعاد إلى مكانه. وفى حديث بريدة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن شئت أردك إلى الحالط الذى كنت فيه، تنبت لك عروقك، ويكتمل خلقك ويجدّد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك فى الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك» ، ثم أصغى له النبى صلّى الله عليه وسلّم يستمع ما يقول فقال: بل تغرسنى فى الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون فى مكان لا أبلى فيه. فسمعه من يليه «4» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قد فعلت- ثم قال- اختار دار البقاء على دار الفناء» . ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم نطق الجمادات كتسبيح الطعام فى جوفه، وتسبيح الحصى فى كفّه وكفّ من صبّه فى كفّه من أصحابه، وسلام الجبال والأحجار والأشجار عليه، وسجودها له، وغير ذلك مما يلتحق به على ما نشرحه إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك ما رويناه بإسناد متصل عن البخارىّ بسنده، عن علقمة [عن «1» ] عبد الله قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وفى غير هذه الرواية عن عبد الله ابن مسعود قال: كنا نأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطعام، ونحن نسمع تسبيحه. وقال أنس بن مالك: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم كفّا من حصى فسبّحن فى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهنّ فى يد أبى بكر فسبحن، ثم فى أيدينا فما سبحن. وروى أبو ذرّ مثله، وذكر أنهنّ سبحن فى كفّ عمر وعثمان. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: كنا بمكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. وعن جابر بن سمرة عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ» قيل: إنه الحجر الأسود. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» . وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. وفى حديث العباس بن عبد المطلب إذ اشتمل «2» عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وعلى بنيه بملاءته فأمّنت أسكفّة «3» الباب وحوائط البيت آمين آمين. وعن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: مرض النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبريل بطبق فيه رمّان وعنب، فأكل منه صلّى الله عليه وسلّم فسبّح. وعن أنس رضى الله عنه قال: صعد

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم كلام الحيوانات وسكونها وثباتها إذا رأته؛

النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان أحدا فرجف بهم فقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبىّ وصديق وشهيدان» ، ومثله عن أبى هربرة فى حراء «1» ، وزاد فيه: ومعه علىّ وطلحة والزّبير، وقال: «إنما عليك نبىّ أو صدّيق أو شهيد «2» » ، والخبر فى حراء أيضا عن عثمان قال: ومعه عشرة من أصحابه أنا فيهم، وزاد عبد الرحمن وسعدا، قال: ونسيت الاثنين. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حين طلبته قريش قال له ثبير «3» : اهبط يا رسول الله، فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبنى الله، فقال حراء: إلىّ يا رسول الله. وقد تقدّم ذكر خبر الأصنام، وسقوطها عند ما أشار إليها بالقضيب، حين فتح الله تعالى مكة عليه، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كلام الحيوانات وسكونها وثباتها إذا رأته؛ كقصة الدّاجن «4» ، وكلام الضّبّ والذّئب، والطائر والظّبية، وسجود الغنم والبعير، وخبر سفينة مولاه مع الأسد، وخبر العنز، وغير ذلك مما نورده إن شاء الله تعالى. فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عندنا داجن، فإذا كان عندنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرّ وثبت مكانه، فلم يجىء ولم يذهب، فإذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء وذهب. ومنه ما روى عن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى محفل من أصحابه إذ جاء أعرابى قد صاد ضبّا فقال: من هذا؟ قالوا: نبىّ

الله، فقال: واللّات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن «1» هذا الضّبّ. وطرحه بين يدى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا ضبّ» فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: «من تعبد» ؟ قال: الذى فى السماء عرشه، وفى الأرض سلطانه، وفى البحر سبيله، وفى الجنة رحمته، وفى النار عقابه، قال: «فمن أنا» ؟ قال: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين؛ وقد أفلح من صدّقك، وخاب من كذّبك. فأسلم الأعرابىّ. ومن ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبى سعيد الخدرىّ قال: بينا راع يرعى غنما له، عرض الذئب لشاة منها فأخذها الراعى منه، فأقعى الذئب وقال للراعى: ألا تتّقى الله، حلت بينى وبين رزقى! قال الراعى: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؛ رسول الله بين الحرّتين يحدّث الناس بأنباء «2» ما قد سبق، فأتى الراعى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قم فحدّثهم» ؛ ثم قال: «صدق» . وروى حديث الذئب عن أبى هريرة. وفى بعض الطرق عنه قال الذئب: أنت أعجب! واقفا على غنمك، وتركت نبيا لم يبعث الله نبيّا قطّ أعظم منه عنده قدرا، قد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشّعب فتصير فى جنود الله، قال الراعى: من لى بغنمى؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبى صلّى الله عليه وسلّم يقاتل، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها «3» » فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.

وروى أن أهبان بن أوس هو صاحب القصة ومكلّم الذئب. وروى أيضا أن صاحب القصة سلمة بن عمرو بن الأكوع، وأنها سبب إسلامه. وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة رافع بن عميرة الطائى أنه كلمه الذئب، وهو فى ضأن له يرعاها، فدعاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واللحاق به. قال: وزعموا أن رافع بن عميرة قال فى كلام الذئب إياه. رعيت الضّأن أحميها بكلبى ... من الضّبع الحفىّ وكل ذيب «1» فلمّا أن سمعت الذئب نادى ... يبشّرنى بأحمد من قريب سعيت إليه قد شمّرت ثوبى ... على السّاقين قاصدة الرّكيب فألفيت النّبىّ يقول قولا ... صدوقا ليس بالقول الكذوب يبشّرنى بدين الحقّ حتى ... تبيّنت الشّريعة للمنيب «2» وأبصرت الضّياء يضىء حولى ... أمامى إن سعيت ومن جنوبى فى أبيات أخر. وروى ابن وهب: أن مثل هذه القصة وقع لأبى سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية مع ذئب وجداه قد أخذ ظبيا، فدخل الظّبى الحرم فانصرف الذئب فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: واللّات والعزّى لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنا خلوفا «3» . وقد روى أيضا مثل هذا الخبر، وأنه جرى لأبى جهل وأصحابه.

وعن عباس بن مرداس السّلمىّ أنه لمّا تعجّب من كلام صنمه ضمار، وإنشاده الشعر الذى ذكرناه، فإذا طائر سقط، فقال: يا عباس، أتعجب من كلام ضمار، ولا تعجب من نفسك؟ إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الإسلام، وأنت جالس! وعن أنس رضى الله عنه قال: دخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار حائط «1» أنصارىّ، وفى الحائط غنم، فسجدت له فقال أبو بكر: نحن أحقّ بالسجود لك منها ... الحديث. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل النبى صلّى الله عليه وسلّم حائطا فجاء بعير فسجد له، وذكر مثله. ومثله فى الجمل عن ثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرّة، وعبد الله بن جعفر قال: «2» وكان لا يدخل أحد الحائط إلا شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم دعاه، فوضع مشفره فى الأرض وبرك بين يديه فحطمه؛ وقال: «ما بين السماء والأرض شىء إلا يعلم أنى رسول الله إلا عاصى الجنّ والإنس» . وفى حديث آخر: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم سألهم عن شأنه فأخبروه أنهم أرادوا ذبحه. وفى رواية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «إنه اشتكى كثرة العمل وقلة العلف» . وفى رواية: «إنه شكا إلىّ أنكم أردتم ذبحه بعد أن استعملتموه فى شاقّ العمل من صغره» فقالوا: نعم. وقد روى فى قصة العضباء وكلامها النبى صلّى الله عليه وسلّم، وتعريفها له بنفسها، ومبادرة العشب إليها فى الرّعى، وتجنّب الوحوش عنها، وندائهم لها أنّك لمحمد، وأنها لم تأكل ولم تشرب بعد موته حتى ماتت. ذكره الإسفرائنى. وروى ابن وهب: أن حمام مكة أظلت

ومنه ما روى من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم

النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتحها، فدعا لها بالبركة. وقد ذكرنا قصة الغار وخبر الحمامتين والعنكبوت. وعن عبد الله بن قرط قال: قرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدنات خمس أو ستّ أو سبع لينحرها يوم عيد، فازدلفن «1» إليه بأيّتهنّ يبدأ. وعن أمّ سلمة قالت: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى صحراء فنادته ظبية: يا رسول الله، قال: «ما حاجتك» ؟ قالت: صادنى هذا الأعرابىّ ولى خشفان فى ذلك الجبل، فأطلقنى حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: «وتفعلين» ؟ قالت: نعم، فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها، فانتبه الأعرابى. فقال: يا رسول الله، ألك حاجة؟ قال: «تطلق هذه الظّبية» فأطلقها، فخرجت تعدو فى الصحراء وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ومنه ما روى من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ وجّهه إلى معاذ باليمن، فلقى الأسد فعرّفه أنه مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه كتابه، فهمهم وتنحّى عن الطريق، وذكر فى منصرفه مثل ذلك. وفى رواية أخرى عنه: أن سفينة تكسرت به، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد؛ قال فقلت: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يغمزنى بمنكبه حتى أقامنى على الطريق. وروى أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ بأذن شاة لقوم من عبد القيس بين إصبعيه ثم خلّاها، فصار لها ميسما، وبقى ذلك الأثر فيها وفى نسلها. وقد روى عن إبراهيم بن حمّاد بسنده كلام الحمار الذى أصابه بخيبر، وقال له:

[ما اسمك «1» قال] : اسمى يزيد بن شهاب، فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم يعفورا وأنه كان يوجهه إلى دور أصحابه فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما مات، تردّى فى بئر جزعا وحزنا فمات. وخبر الناقة التى شهدت عند النبى صلّى الله عليه وسلّم لصاحبها أنه ما سرقها وأنها ملكه. وخبر العنز التى أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عسكره، وقد أصابهم عطش ونزلوا على غير ماء وهم زهاء ثلاثمائة، فحلبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأروى الجند، ثم قال لرافع: «املكها وما أراك «2» » فربطها فوجدها قد انطلقت. رواه ابن قانع وغيره، وفيه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذى جاء بها هو الذى ذهب بها» . وقال عليه السلام لفرسه، وقد قام إلى الصلاة فى بعض أسفاره: «لا تبرح بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا» وجعله قبلته «3» فما حرّك عضوا حتى فرغ من صلاته صلّى الله عليه وسلّم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما روى من كلام الأموات والأطفال وشهادتهم له بالنبوّة. فمن ذلك ما روى عن فهد «4» بن عطية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أتى بصبىّ قد شبّ لم يتكلم قطّ، فقال له: «من أنا» ؟ فقال: رسول الله. وعن معرّض بن معيقيب قال: رأيت من النبى صلّى الله عليه وسلّم عجبا، جىء

بصبىّ يوم ولد، فذكر مثله، وهو حديث مبارك اليمامة، ويعرف بحديث شاصونه «1» اسم راويه، وفيه؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت بارك الله فيك» ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شبّ، فكان يسمى مبارك اليمامة، وكانت هذه القصة بمكة فى حجة الوداع. وعن الحسن رضى الله عنه: أتى رجل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر له أنه طرح بنيّة له فى وادى كذا، فانطلق معه إلى الوادى وناداها باسمها «يا فلانة احيى بإذن الله» فخرجت وهى تقول: لبّيك وسعديك، فقال لها: «إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردّك عليهما» قالت: لا حاجة لى فيهما، وجدت الله خيرا لى منهما. وعن أنس رضى الله عنه أن شابا من الأنصار توفّى وله أمّ عجوز عمياء قال: فسجّيناه وعزّيناها فقالت: مات ابنى؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعيننى على كل شدّة، فلا تحمّلنّ علىّ هذه المصيبة «2» ، قال: فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا. وروى عن عبد الله بن عبيد الله الأنصارى قال: كنت فيمن دفن ثابت بن قيس ابن شمّاس- وكان قتل باليمامة- فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصدّيق، عمر الشهيد، وعثمان البرّ الرحيم «3» ، فنظرنا فإذا هو ميّت. وذكر عن النعمان بن بشير: أن زيد بن خارجة خرّ «4» ميتا فى بعض أزقة

المدينة، فرفغ وسجّى إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: أنصتوا أنصتوا، فحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله، النبىّ الأمىّ، وخاتم النبيين، كان ذلك فى الكتاب الأوّل، ثم قال: صدق صدق، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم عاد ميتا. ومن ذلك قصة الذّراع وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة. وقد تقدّم خبر الذراع. والله منجى المتقين ووليهم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إبراء المرضى وذوى العاهات، كردّ عين قتّادة، وكشف بصر الضرير، وتفله صلّى الله عليه وسلّم على جراحات فبرأت، وغير ذلك مما نشرحه إن شاء الله تعالى. أما عين قتادة بن النعمان فقد روينا بإسناد متّصل عن سعد بن أبى وقّاص: أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانت أحسن عينيه. وذكر الأصمعى عن أبى معشر المدنى قال: أوفد أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، بديوان المدينة إلى عمر بن عبد العزيز رجلا من ولد قتادة بن النعمان، فلما قدم عليه قال له: ممن الرجل؟ قال: أنا ابن الذى سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرد «1» فعادت كما كانت لأوّل أمرها ... فياحسن ما عين ويا حسن ما ردّ «2» فقال عمر بن عبد العزيز: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «3»

حكاه ابن عبد البر. وروى النّسائىّ عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لى عن بصرى. قال «1» : «فانطلق فتوضأ ثم صلّ ركعتين، ثم قل اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيّى «2» محمد نبى الرحمة يا محمد إنى أتوجّه بك إلى ربك أن يكشف عن بصرى اللهم شفعه فىّ» قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره. وروى أن ابن ملاعب «3» الأسنّة أصابه استسقاء فبعث إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ بيده حثوة من الأرض فنقل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا- يرى أنه قد هزئ به- فأتاه بها وهو على شفا فشربها «4» فشفاه الله. وذكر العقيلىّ عن حبيب بن فديك- ويقال فويك «5» - أن أباه ابيضّت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط فى الإبرة وهو ابن ثمانين. وأتنه امرأة من خثعمّ معها صبىّ به بلاء «6» لا يتكلم، فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه ثم أعطاها إباه وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام، وعقل عقلا، يفضل عقول الناس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره فثع» ثعّة فخرج

وأما الجراحات التى تفل عليها فبرأت فكثير

من جوفه مثل الجرو الأسود فشفى. وكانت فى كفّ شرحبيل الجعفى سلعة، تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فما زال يطحنها بكفّه حتى رفعها ولم يبق لها أثر. وسألته جارية طعاما وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: إنما أريد من الذى فى فيك، فناولها ما فى فيه، ولم يكن يسأل شيئا فيمنعه، فلما استقر فى جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشدّ حياء منها. وأما الجراحات التى تفل عليها فبرأت فكثير منها أنه صلّى الله عليه وسلّم بصق على أثر سهم فى وجه أبى قتادة، فى يوم ذى قرد «1» ، قال: فما ضرب علىّ، ولا قاح «2» . ومنها أن كلثوم بن الحصين رمى يوم أحد فى نحره، فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه فبرأ، وتفل على شجّة عبد الله ابن أنيس فلم تمدّ «3» . وتفل فى رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب حين قتل ابن الأشرف فبرئت، وعلى ساق على بن الحكم يوم الخندق، إذ انكسرت فبرئ مكانه وما نزل عن فرسه. وقطع أبو جهل يد معوّذ بن عفراء «4» في يوم بدر، فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب، ومن روايته: أن خبيب «5» بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربة على عاتقه حتى مال شقّه، فردّه رسول الله صلّى الله عليه

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم إجابة دعائه

وسلّم، ونفث عليه حتى صح. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وتفل فى عينى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارثا. واشتكى علىّ مرة فجعل يدعو، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اشفه أو عافه «1» » ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد ذلك. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إجابة دعائه وهذا فصل متسع جدّا، نذكر منه ما اشتهر وانتشر، وتواترت به الأخبار وتداولته الرّواة، ونقله أصحاب السّير، ولا شك ولا خلاف بين أحد من الأمة فى إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم؛ وقد روى عن حذيفة أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده. روى عن أنس بن مالك قال: قالت أمى يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له؛ قال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته» قال أنس: فو الله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة، وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدى هاتين مائة من ولدى، لا أقول سقطا ولا ولد ولد. ودعا صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن عوف بالبركة، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجر لرجوت أن أصيب تحته ذهبا، ولما مات حفر الذهب من تركته بالفؤس حتى مجلت «2» فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكنّ أربعا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إجداهن- لأنه طلقها فى مرضه- على نيف وثمانين ألفا، وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته. ودعا لمعاوية بالتمكين فى البلاد فنال الخلافة. ولسعد بن أبى وقّاص أن

يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له. ودعا أن يعزّ الله الإسلام بعمر أو بأبى جهل فاستجيب له فى عمر رضى الله عنه؛ قال ابن مسعود: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. وقال لأبى قتادة: «أفلح وجهك، اللهم بارك له فى شعره وبشره «1» » فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنّه ابن خمس عشرة. وقال للنابغة: «لا يفضض «2» الله فاك» قال: فما سقطت له سنّ، وكان، أحسن الناس ثغرا «3» ، إذا سقطت له سنّ نبتت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقيل: أكثر. ودعا لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما: «اللهم فقّهه فى الدين وعلمه التأويل» فسمى بعد الحبر وترجمان «4» القرآن. ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة فى صفقة «5» يمينه؛ فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا للمقداد بالبركة؛ فكان عنده غرائر من المال. ودعا كذلك لعروة بن أبى الجعد، قال: فلقد كنت أقوم بالكناسة «6» فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا. ودعا لعلىّ أن يكفى الحرّ والقرّ، فكان يلبس فى الشتاء ثياب الصيف، وفى الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حرّ ولا برد. ودعا على مضر فأقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا. وتقدم خبره فى دعائه فى الاستسقاء والاستضحاء «7» . ودعا على كسرى أن يمزّق ملكه فلم يبق له باقية، ولم تعد لفارس مملكة. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، فقال: «لا استطعت» «8» فلم يرفعها إلى فيه بعد. وقال فى عتبة بن أبى لهب: «اللهم سلّط

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انقلاب الأعيان

عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد كما تقدم. ودعا على مجلّم بن جثّامة، فمات لسبع فلفظته الأرض ثم ووروى فلفظته، فألقوه فى صدّين ورضموا «1» عليه بالحجارة، والصّدّ جانب الوادى. ودعواته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم انقلاب الأعيان فيما لمسه أو باشره؛ كسيف عكاشة بن محصن، وعبد الله بن جحش، وغير ذلك، وكان من خبر عكاشة أن سيفه انكسر يوم بدر فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذل «2» حطب، وقال: «اضرب به» فعاد فى يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد فى قتال أهل الردّة، وكان هذا السيف يسمى العون. ودفع لعبد الله بن جحش- وقد ذهب سيفه يوم أحد- عسيب «3» نخل فرجع فى يده سيفا. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على ماء «4» فسأل عنه، فقيل له اسمه بيسان وماؤه ملح، فقال: «بل هو نعمان وماؤه طيّب» فكان كذلك. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطى قتادة بن النعمان- وكان قد صلّى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة- عرجونا، وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا «5» ، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه به حتى يخرج فإنه الشيطان»

ومما يلتحق بهذا الفصل

فانطلق فأضاء له العرجون، ووجد السواد فضربه حتى خرج. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم زوّد أصحابه سقاء من ماء بعد أن أوكأه ودعا فيه، فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلوه فإذا به لبن طيب وفى فمه زبدة. رواه حمّاد بن سلمة. ومما يلتحق بهذا الفصل أنه صلّى الله عليه وسلّم ركب فرسا لأبى طلحة، كان يقطف «1» - أو- به قطاف، فلما رجع قال: وجدنا فرسك بحرا، فكان بعد لا يجارى. ونخس «2» جمل جابر بن عبد الله، وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه، وقد تقدم خبره. وخفق فرس جعيل الأشجعى بمخفقه «3» معه وبرّك عليها فلم يملك رأسها نشاطا، وباع من بطنها باثنى عشر ألفا. وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا قطوفا لسعد بن عبادة فرده هملاجا «4» لا يساير. ومن ذلك بركة يده صلّى الله عليه وسلّم فيما لمسه كقصة سلمان فى كتابته، وما غرس له صلّى الله عليه وسلّم من الودىّ «5» فأطعمت كلها من عامها، والذّهب الذى أعطاه، وقد تقدم ذكر ذلك فى إسلام سلمان. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح على رأس عمير بن سعد وبرّك فمات وهو ابن ثمانين سنة وما شاب. وكذلك السّائب ابن يزيد، ومدلوك «6» ، وكان يوجد لعتبة بن فرقد طيب يغلب طيب نسائه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح بيده على بطنه وظهره. ومسح على

رأس قيس بن زيد الجذامىّ، ودعا له فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض، وموضع كفّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وما مرّت يده عليه من شعره أسود، فكان يدعى الأغرّ. وروى مثل ذلك لعمرو بن ثعلبة الجهنىّ. ومسح وجه آخر فما زال على وجهه نور. ومسح وجه قتادة بن ملحان، فكان لوجهه بريق، حتى كان ينظر فيه كما ينظر فى المرآة. ونضح فى وجه زينب بنت أمّ سلمة نضحة من ماء، فما نعرف كان فى وجه امرأة من الجمال ما بها. ومسح على رأس صبى به عاهة فبرأ واستوى شعره، وعلى غير واحد من الصبيان المرضى والمجانين فبرءوا. وأتاه رجل به أدرة «1» فأمره أن ينضحها بماء من عين مجّ «2» فيها ففعل فبرأ. وعن طاوس: لم يؤت النبى صلّى الله عليه وسلّم بأحد به مسّ فصكّ فى صدره إلا ذهب. والمس: الجنون. ومجّ فى دلو من بئر ثم صبّ فيها ففاح منها ريح المسك. وشكا إليه أبو هريرة النسيان فأمره أن يبسط ثوبه، وغرف بيده فيه ثم أمره بضمه ففعل فما نسى شيئا بعد. ومن ذلك درور الشياه الحوائل «3» باللبن الكثير؛ كقصة شاة أمّ معبد، وأعنز معاوية بن ثور، وشاة أنس، وغنم حليمة، وشارفها «4» ، وشاة عبد الله بن مسعود، وشاة المقداد، والله أعلم. ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما أخبر به من الغيوب، وما يكون قبل وقوعه، فكان كما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم؛ روى عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه «5» ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابى هؤلاء،

وإنه ليكون منه الشىء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. وقال أبو ذرّ: لقد تركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يحرك طائر جناحيه فى السماء إلا ذكرنا منه علما «1» . ومما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم مما يكون فكان، ما أخرجه أهل الصحيح والأئمة، مما وعد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه من الظّهور على أعدائه، وفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق، وظهور الأمن حتى تظعن «2» المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله، وأن المدينة ستغزى «3» ، وتفتح خيبر على يدى علىّ فى غد يومه، وما يفتح الله على أمته من الدنيا، وما يؤتون من زهرتها «4» ، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وما يحدث بينهم من الفتون «5» والاختلاف والأهواء، وسلوك سبيل من قبلهم وافتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، وأنه ستكون لهم أنماط «6» ، ويغدو أحدهم فى حلّة ويروح فى أخرى، وتوضع بين يديه صحفة «7» وترفع أخرى، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة، ثم قال آخر الحديث: «وأنتم اليوم خير منكم يومئذ» وأنهم إذا مشوا المطيطاء «8» ، وخدمتهم بنات

فارس والروم، ردّ الله بأسهم بينهم، وسلّط شرارهم على خيارهم، وما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من قتالهم التّرك والخزر والرّوم، وذهاب كسرى وفارس، حتى لا كسرى ولا فارس بعده، وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده، وأن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر، وأخبر بذهاب الأمثل فالأمثل من الناس، وتقارب الزمان، وقبض العلم، وظهور الفتن والهرج، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «زويت «1» لى الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» فكان كذلك؛ امتدت فى المشارق والمغارب، ما بين أرض الهند أقصى المشرق إلى بحر طنجة «2» حيث لا عمارة وراءه، ولم تمتدّ فى الجنوب والشمال مثل ذلك. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعرب من شرّ قد اقترب» . وقوله: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة» ذهب ابن المدينى إلى أنهم العرب؛ لأنهم المختصّون بالسّقى بالغرب وهو الدّلو، وقيل: بل هم أهل المغرب، ومن رواية أبى أمامة: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك» قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بملك بنى أمية، وولاية معاوية، ووصاه، واتخاذ بنى أمية مال الله دولا «3» . وأخبر بخروج ولد العباس بالرايات السود، وملكهم أضعاف ما ملكوا، وأخبر بقتل علىّ رضى الله عنه، وأن أشقاها الذى يخضب هذه من هذه؛ أى لحيته من رأسه. وقال: يقتل عثمان وهو يقرأ المصحف، وأن الله عسى أن

يلبسه قميصا، وأنهم يريدون خلعه، وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «1» . وأن الفتن لا تظهر مادام عمر حيّا، وأخبر بمحاربة الزبير لعلىّ، ونباح كلاب الحوأب «2» على بعض أزواجه، وأنه يقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت، وأن عمّارا تقتله الفئة الباغية، وقال لعبد الله بن الزبير: «ويل للناس منك، وويل لك من الناس» وقال فى قزمان «3» وقد أبلى بلاء حسنا مع المسلمين: «إنه من أهل النار» فقتل نفسه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يكون فى ثقيف كذّاب ومبير «4» » فكان الكذاب المختار بن أبى عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف. وأخبر بالردّة، وأن الخلافة بعده ثلاثون، ثم ملكا، وقال: «إن هذا الأمر بدأ نبوّة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكا عضوضا «5» ، ثم يكون عتوّا وجبروّة وفسادا فى الأئمة» فكان كل ذلك كما أخبر. وأخبر أن سيكون فى أمته ثلاثون كذّابا فيهم أربع نسوة، وفى حديث آخر: «ثلاثون دجالا كذّابا آخرهم الدّجّال الكذّاب كلهم يكذب على الله ورسوله» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يوشك أن يكثر فيكم العجم يأكلون فيئكم «6» ، ويضربون رقابكم» فكان كذلك. وقال: «لا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه رجل من قحطان» «7» . وقال: «هلاك أمتى على يدى أغيلمة من قريش» قال أبو هريرة راوى الحديث: لو شئت سميتهم لكم،

بنو فلان وبنو فلان. وأخبر بظهور القدريّة والرافضة، وسبّ آخر هذه الأمة أوّلها. وأخبر بشأن الخوارج وصفتهم، والمخدج «1» الذى فيهم، وأن سيماهم التّحليق «2» . وقال: «خيركم قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتى بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون» . وقال: «لا يأتى زمان إلا والذى بعده شر منه» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بالموتان «3» الذى يكون بعد فتح المقدس. وما وعد من سكنى البصرة، وأن أمته يغزون فى البحر كالملوك على الأسرّة؛ فكان فى زمن يزيد بن معاوية. وقال: «إن الدّين لو كان منوطا «4» بالثريا لناله رجال من ابناء فارس» . وقال صلّى الله عليه وسلّم فى الحسن بن على رضى الله عنهما: «إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين» . وأخبر بقتل الحسين بالطّف «5» ، وأخرج بيده تربة، وقال: فيها مضجعه. وقال فى زيد بن صوحان: يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده فى الجهاد. وقال لسراقة: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى» فلما أتى بهما لعمر ألبسهما إياه، وقال: الحمد لله الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. وقال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربّل والصّراة «6» تجبى إليها خزائن الأرض يخسف بها» . فبنيت بغداد. وقال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان دعواهما واحدة» . وقال لعمر فى سهيل بن عمرو: «عسى أن يقوم مقاما يسرك يا عمر» فقام بمكة مقام أبى بكر يوم بلغهم موت النبى صلّى الله عليه وسلّم، وخطب بنحو خطبته، وثبّت الناس

ومن معجزاته عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته إياه مع كثرة أعدائه وتحزبهم واجتماعهم على أذاه

وقوّى بصائرهم، وقال لخالد حين وجهه إلى أكيدر: «إنك بحده يصيد البقر» فكان كذلك. وقد تقدّم خبره. وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بوقائع نحن نترقب وقوعها؛ كقوله: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة» . وأخبر بغير ذلك من الأمور التى وقعت فى حياته فى أماكن بعيدة، وأخبر بها حال وقوعها كموت النجاشى، وقتل أمراء مؤته، وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم. ومن معجزاته عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته إياه مع كثرة أعدائه وتحزبهم واجتماعهم على أذاه قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» . وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «2» . وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «3» . وقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «4» . وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «5» . روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من القبّة، فقال لهم: «يأيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله ربى عزّ وجل» . وقيل: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية استلقى، ثم قال: «من شاء فليخذلنى» . وقد تقدم من عصمة الله له وكفايته قصتا دعثور وغورث، وخبر

حمّالة الحطب، وأخذ الله تعالى على بصرها حين أرادته بالفهر «1» ، وخبر أبى جهل حين أراده بالحجر، وغير ذلك. وها نحن نورد فى هذا الموضع من ذلك خلاف ما قدّمناه؛ فمن ذلك ما روى عن الحكم بن العاص أنه قال: تواعدنا على النبى صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقى بتهامة أحد، فوقعنا مغشيا علينا، فما أفقنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فخرجنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: تواعدنا أنا وأبو جهم بن حذيفة ليلة قتل «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجئنا منزله فسمعنا له، فافتتح وقال: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ إلى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «3» فضرب أبو جهم على عضد عمر وقال: انج، وفرّا هاربين، فكانت من مقدّمات إسلام عمر. ومن ذلك خروجه صلّى الله عليه وسلّم على قريش حين اجتمعوا لقتله، فأخذ الله على أبصارهم حتى ذرا «4» التراب على رءوسهم وخلص منهم. وقصة الغار، وأخذ الله على أبصارهم، وخبر سراقة بن مالك بن جعشم، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفى خبر آخر أنّ راعيا عرف خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر حين هاجرا، فخرج يشتدّ «5» ليعلم قريشا بشأنهما، فلما دخل مكة ضرب على قلبه فما يدرى ما يصنع، وأنسى ما خرج له حتى رجع إلى موضعه. وذكر السّمرقندىّ: أن رجلا من بنى المغيرة أتى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليقتله، فطمس الله بصره فلم

ير النبى صلّى الله عليه وسلّم وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه ولم يرهم حتى نادوه، وذكر أنّ فيه وفى أبى جهل نزلت: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . وقد روى عن أبى هريرة أن أبا جهل وعد قريشا: لئن رأى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- يصلّى ليطأنّ رقبته، فلما صلّى النبى صلى الله عليه وسلّم أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولّى هاربا ناكصا على عقبيه متّقيا بيديه، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوى فيه، وأبصرت هولا عظيما، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تلك الملائكة لودنا لا ختطفته عضوا عضوا» ثم أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «2» إلى آخر السورة. وقد ذكرنا أيضا قصة شيبة بن عثمان بن أبى طلحة فى غزوة حنين. وعن فضّالة بن عمرو قال: أردت قتل النبى صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: «أفضالة» ؟ قلت: نعم، قال: «ما كنت تحدّث به نفسك» ؟ قلت: لا شىء، فضحك واستغفر لى ووضع يده على صدرى فسكن قلبى، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إلىّ منه. ومنه خبر عامر بن الطّفيل، وأربد بن قيس، وقد تقدم ذكر قصتهما «3» . ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور الشرائع وغير ذلك، كاطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على أخبار من سلف من الأمم، وقصص الأنبياء والرسل، وأخبار الجبابرة والقرون

الماضية، وحفظ شرائعهم، وسرد أنبائهم، وأيّام الله فيهم، ومعارضة كل فرقة من أهل الكتاب بما فى كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيّروه، واحتوائه صلّى الله عليه وسلّم على لغات العرب وغريب ألفاظها، والحفظ لأيامها وأمثالها وحكمها، ومعانى أشعارها، وما خصه الله تعالى به من جوامع الكلم، وما علمه من ضروب العلوم وفنون المعارف؛ كالطبّ والعبارة «1» والفرائض والحساب والأنساب وغير ذلك، مما جعل أهل هذه العلوم كلامه صلّى الله عليه وسلّم فيها قدوة وحجة وأصولا يرجعون إليها فى علومهم؛ كقوله عليه السلام: «الرؤيا لأوّل عابر وهى على رجل طائر» وقوله: «الرؤيا ثلاث؛ رؤيا حق، ورؤيا يحدّث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان» . وقوله: «إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب» . وقوله: «أصل كل داء البردة «2» » وقوله: «المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة» وقوله: «خير ما تداويتم به السّعوط «3» ، واللّدود «4» ، والحجامة، والمشىّ «5» ، وخير الحجامة يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، وفى العود «6» الهندى سبعة أشفية» وقوله: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه» . وقوله لكاتبه: «ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملى» . وقد وردت آثار بمعرفته حروف

وقد رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر القصيدة التى ابتسمت ثغورها بوصف معجزاته،

الخطّ، وحسن تصويرها؛ كقوله: «لا تمدّوا بسم الله الرحمن الرحيم» رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس، وقوله فى الحديث الآخر الذى يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه- صلى الله عليه وسلّم- فقال له: «ألق «1» الدّواة، وحرّف القلم، وأقم الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر «2» الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم» وإن لم تصح الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب، فلا يبعد أن يكون قد رزق علم الخطّ، ومنع الكتابة والقراءة. وكذلك حفظه صلّى الله عليه وسلّم لكثير من لغات الأمم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنه سنه «3» » وهى حسنة بالحبشية، وقوله: و «يكثر الهرج» وهو القتل بها، وقوله فى حديث أبى هريرة: «اشكنب «4» دردم» أى وجع البطن بالفارسية، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا من دارس العلوم، ومارس الكتب، وداوم المطالعة، وعكف على الاشتغال. وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله عز وجل: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» «5» وفى هذا أكبر آية، وأعظم دلالة، وأبين حجة، وأبهر معجزة له صلّى الله عليه وسلّم. وقد رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر القصيدة التى ابتسمت ثغورها بوصف معجزاته، وتحلّت نحورها بجواهر صفاته، ورفلت فى حلل الفخار من باهر آياته، وسحبت ذيول الافتخار بإشارات إلى غزواته، وفاح أرجها فأخجل المسك الدّارىّ «6» ، وأشرقت أنوارها على النيرين

فما ظنك بالدرارىّ، وهى قصيدة الشيخ الإمام العلامة أبى محمد عبد الله بن زكريا الشّقراطيسىّ «1» رحمه الله تعالى، وإنما اقتصرنا عليها وصرفنا الرغبة دون غيرها إليها لاشتمالها على جمل من أخباره السنية، ونكت من آثاره التى هى بكل خير ملية، وهى: الحمد لله منّا باعث الرسل ... هدى بأحمد منّا أحمد السّبل «2» خير البرية من بدو ومن حضر ... وأكرم الخلق من حاف ومنتعل «3» توراة موسى أتت عنه فصدّقها ... إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل «4» أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول ضاءت لمولده الآفاق وانصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطّفل «5» وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقاض منكسر الأرجاء ذا ميل «6» ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل خرّت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجنّ بالشّعل ومنطق الذئب بالتصديق معجزة ... مع الذراع ونطق العير والجمل «7» وفى دعائك بالأشجار حين أتت ... تسعى بأمرك فى أغصانها الذّلل وقلت عودى فعادت فى منابتها ... تلك العروق بإذن الله لم تمل

والسّرح بالشام لما جئتها سجدت ... شمّ الذوائب فى أغصانها الخضل «1» والجذع حنّ لأن فارقته أسفا ... حنين ثكلى شجتها لوعة الثّكل «2» ما صبر من صار من عين على أثر ... وحال من حال من حال إلى عطل «3» حيى فمات سكونا ثم مات لدن ... حيى حنينا فأضحى غاية المثل والشاة لمّا مسحت الكفّ منك على ... جهد الهزال بأوصال لها قحل «4» سحّت ودرّت بشكر الضرع حافلة ... فروّت الركب بعد النّهل بالعلل «5» وآية الغار إذ وقّيت فى حجب ... عن كل رجس لرجس الكفر منتحل «6» وقال صاحبك الصّدّيق كيف بنا ... ونحن منهم بمرأى الناظر العجل فقلت لا تحزن ان الله ثالثنا ... وكنت فى حجب ستر منه منسدل حمّت لديك حمام الوحش جاثمة ... كيدا لكل غوىّ القلب مختبل «7» والعنكبوت أجادت حوك حلّتها ... فما يخال خلال النّسج من خلل قالوا: وجاءت إليه سرحة سترت ... وجه النبىّ بأغصان لها هدل»

وفى سراقة آيات مبنيّة ... إذ ساخت الحجر فى وحل بلا وحل «1» عرجت تخترق السبع الطّباق إلى ... مقام زلفى كريم قمت فيه عل «2» عن قاب قوسين أو أدنى هبطت ولم ... تستكمل الليل بين المرّ والقفل «3» دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل «4» صعّدت كفّيك إذ كفّ الغمام فما ... صوّبت إلّا بصوب الواكف الهطل «5» أراق بالأرض ثجّا صوب ريّقه ... فحلّ بالأرض نسجا رائق الحلل «6» زهر من النّور حلّت روض أرضهم ... زهرا من النّور ضافى النبت مكتهل «7» من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل «8» تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السّبل بالسّبل «9» دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل

ويوم زورك بالزّوراء إذ صدروا ... من يمن كفّك عن أعجوبة مثل «1» والماء ينبع جودا من أناملها ... وسط الإناء بلا نهر ولا وشل «2» حتى توضأ منه القوم واغترفوا ... وهم ثلاث مئين جمع محتفل أشبعت بالصاع ألفا مرملين كما ... رؤيت ألفا ونصف الألف من سمل «3» وعاد ما شبع الألف الجياع به ... كما بدوا فيه لم ينقص ولم يحل أعجزت بالوحى أصحاب البلاغة فى ... عصر البيان فضلّت أوجه الحيل سألتهم سورة فى مثل حكمته ... فتلّهم عنه حين العجز حين تلى «4» ورام رجس كذوب أن يعارضه ... بعىّ غىّ فلم يحسن ولم يطل «5» مثبّج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزرىّ الزّور والخطل «6» يمجّ أول حرف منه سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل «7» كأنّه منطق الورهاء شذّبه ... لبس من الخبل أو مسّ من الخبل «8» أمرّت البئر واغورّت لمجّته ... فيها وأعمى بصير العين بالتّفل «9»

وأيبس الضّرع منه شؤم راحته ... من بعد إرساله بالرّسل منهمل «1» برئت من دين قوم لا قوام لهم ... عقولهم من وثاق الغىّ فى غلل «2» يستخبرون خفىّ الغيب من حجر ... صلد ويرجون غوث النصر من هبل «3» نالوا أذّى منك- لولا حلم خالقهم ... وحجّة الله بالإنذار لم تنل «4» واستضعفوا أهل دين الله فاصطبروا ... لكل معضل خطب فادح جلل «5» لاقى بلال بلاء من أميّة قد ... أحلّه الصبر فيه أكرم النّزل إذ أجهدوه بضنك الضّنك وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل «6» ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخورا جمّة الثّقل «7» فوحّد الله إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كنده ب الطّلّ فى الطّلل «8» إن قدّ ظهر ولىّ الله من دبر ... قد قدّ قلب عدوّ الله من قبل «9» نفرت فى نفر لم ترض أنفسهم ... إذ نافروا الرّجس إلّا القدس من نفل «10»

بأنفس بدّلت فى الخلد إذ بذلت ... عن صدق بذل ببدر أكرم البدل قالوا: محمد قد حلّت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل «1» فويل مكّة من آثار وطأته ... وويل أمّ قريش من جوى الهبل «2» فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللّوم والعذل أضربت بالصّفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل القوم فى المقل» رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الرّوع والوجل «4» عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل «5» أحبب بخيل من التّكوين قد جنبت ... لجانب عن جناب الحقّ معتزل «6» أعميت جيشا بكفّ من حصى فجثوا ... وعطّلوا عن حراك النّفل بالنّقل «7» ودعوة بفناء البيت صادقة ... غدا أميّة منها شرّ منخزل «8»

غادرت جهل أبى جهل بمجهلة ... وشاب شيبة قبل الموت من وجل «1» وعتبة الشّرّ لم يعتب فتعطفه ... منك العواطف قبل الفوت فى مهل «2» وعقبة الغمر عقباه لشقوته ... قد ظلّ من غمرات الغىّ فى ظلل «3» وكلّ أشوس عاتى القلب منقلب ... جعلته بقليب البئر كالجعل «4» وجاثم بمثار النّقع مشتغل ... بجاحم من أوار النار مشتعل «5» عقدت بالحزى فى عطفى مقلّدهم ... طوق الحمامة باق غير منتقل «6» أمسى خليل صغار بعد نخوته ... بالأمس فى خيلاء الخيل والخول «7» دام يديم زفيرا فى جوانحه ... جنح من الشّكّ لم يجنح ولم يمل «8» يقاد فى القدّ خنقا مشربا حنقا ... يمشى به الذّعر مشى الشارب الثّمل «9»

أوصاله من صليل الغلّ فى علل ... وقلبه من غليل الغلّ فى غلل «1» يظلّ يحجل ساجى الطرف خافضه ... بمسكة الحجل لا من مسكة الحجل «2» أرحت بالسيف ظهر الأرض من نفر ... أزحت بالصدق منهم كاذب العلل «3» تركت بالكفر صدعا غير ملتئم ... وآب منك بقرح غير مندمل «4» وأفلت السيف منهم كلّ ذى أسف ... على الحمام حماه آجل الأجل «5» قد أعتقته عتاق الخيل وهو يرى ... به إلى رقّ موت رقّة الغزل «6» فكم بمكة من باك وباكية ... بفيض سجل من الآماق منسجل «7» وكاسف البال بالى الصبر جدت له ... بوابل من وبال الخزى متّصل «8» فؤاده من سعير الغيظ فى غلل ... وعينه من غزير الدمع فى غلل «9»

قد أسعرت منه صدرا غير مصطبر ... وحمّلت منه قلبا غير محتمل «1» ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... يضيق عنها فجاج الوعر والسّهل «2» خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل «3» وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسدل «4» وأنت- صلى عليك الله- تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل «5» ينير فوق أغرّ الوجه منتجب ... متوّج بعزيز النصر مقتبل «6» تسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل خشعت تحت لواء العزّحين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل «7» وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملّكت إذ نلب منه غاية الأمل والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجوّ يزهر إشراقا من الجذل «8» والخيل تختال ميلا فى أعنّتها ... والعيس تنثال رهوا من ثنى الجدل «9»

لولا الذى خطّت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول أهلّ ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تكبيرا من الذّبل «1» الملك لله هذا عزّ من عقدت ... له النبوّة فوق العرش فى الأزل شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السّهل والقلل «2» من كل مهتصر لله منتصر ... بالسيف مختصر بالرّمح معتقل «3» يمشى إلى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى الكعوب كمشى الكاعب الفضل «4» قد قاتلوا دونك الأقيال عن جلد ... وجالدوا بجلاء البيض والجدل «5» وصلتهم وقطعت الأقربين معا ... فى الله لولاه لم تقطع ولم تصل وجاء جبريل فى جند لهم عدد ... لم يبتذلها أكفّ الخلق بالعمل بيض من العون لم تستلّ من عمد ... خيل من الكون لم تستنّ فى طيل «6»

أزكى البرية أخلاقا وأطهرها ... وأكثر الناس صفحا عن ذوى الزّلل زان الخشوع وقار منه فى خفر ... أرقّ من خفر العذراء فى الكلل «1» وطفت فى البيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل والكفر فى ظلمات الرّجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل «2» حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل «3» وحلّ أمن ويمن منك فى يمن ... لما أجابت إلى الإيمان فى عجل وأصبح الدين قد حفّت جوانبه ... بعزة النصر واستعلى على الملل «4» قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل أحبب بخلّة أهل الحقّ فى الخلل ... وعزّ دولته الغرّاء فى الدول أمّ اليمامة يوم منه مصطلم ... وحلّ بالشام شؤم غير مرتحل «5» تعرّقت منه أعراق العراق ولم ... يترك من التّرك عظما غير منتثل «6»

لم يبق للفرس ليث غير مفترس ... ولا من الحبش جيش غير منجفل «1» ولا من الصّين صون غير مبتذل ... ولا من الروم مرمى غير منتضل «2» ولا من النّوب جذم غير منجذم ... ولا من الزّنج جذل غير منجذل «3» ونيل بالسّيف سيف النّيل واتصلت ... دعوى الجنود فكلّ بالجلاد صلّى «4» وسلّ بالغرب غرب السيف إذ شرقت ... بالشرق قبل صدور البيض والأسل «5» وعاد كل عدوّ عزّ جانبه ... قد عاذ منك ببذل منه مبتذل «6» بذمّة الله والإيمان متّصل ... أو من شبا النّصل بالأموال منتصل «7» يا صفوة الله قد صافيت فيك صفا ... صفو الوداد بلا شوب ولا دخل «8» ألست أكرم من يمشى على قدم ... من البرية فوق السهل والجبل وأزلف الحلق عند الله منزلة ... إذ قيل فى مشهد الأشهاد والرسل قم يا محمد فاشفع فى العباد وقل ... تسمع وسل تعط واشفع عائدا وسل والكوثر الحوض يروى الناس من ظمأ ... برح وينقع منه لاعج الغلل «9»

ذكر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اقتراب أجله، وما كان يقوله مما استدل به على اقترابه

أصفى من الثلج إشراقا مذاقته ... أحلى من اللبن المضروب بالعسل نحلتك الودّ علىّ إذ نحلتكه ... أحبى بفضلك منه أفضل النّحل «1» فما لجلدى بنضج النار من جلد ... ولا لقلبى بهول الحشر من قبل يا خالق الخلق لا تخلق بما اجترمت ... يداى وجهى من حوب ومن زلل «2» واصحب وصلّ وواصل كلّ صالحة ... على صفيّك فى الإصباح والأصل صلّى الله عليه وسلّم وقد آن أن نأخذ فى ذكر أخبار وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونبدأ من ذلك بما أنزل عليه عند اقتراب أجله، ثم نذكر ابتداء وجعه والحوادث التى انفقت فى أثناء مرضه إلى حين وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند اقتراب أجله، وما كان يقوله مما استدل به على اقترابه كان مما استدل به على اقتراب أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نزول سورة الفتح، وتتابع الوحى، وتكرار عرض القرآن على جبريل، واستغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع والشهداء. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل عن قول الله عز وجل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «3» فقال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا الله وفتح علينا. وقال بعضهم: فتح المدائن والقصور. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، قال عمر: كذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو

أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه له؛ قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وذاك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «1» فقال عمر رضى الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا يقول فيها: «سبحانك ربّنا وبحمدك اللهم اغفرلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ داع من الله ووداع من الدنيا. وعنه رضى الله عنه قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة فقال: «إنه نعيت إلىّ نفسى» قالت: فبكيت، فقال: «لا تبكى فإنك أوّل أهلى بى لحوقا» فضحكت. وروى محمد بن سعد بسنده إلى أنس بن مالك: أن الله تبارك وتعالى تابع الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفّى، وأكثر ما كان الوحى فى يوم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى ابن سعد أيضا بسنده إلى عكرمة قال قال العباس: لأعلمنّ بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، فقال له: يا رسول الله، لو اتخذت عرشا فإن الناس قد آذوك، قال: «والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعونى رداتى ويصيبنى غبارهم حتى يكون الله يريحنى منهم» قال العباس: فعرفنا أن بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فينا قليل. وعن واثلة بن الأسقع قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أتزعمون أنى من آخركم وفاة، ألا وإنى من أوّلكم وفاة، وتتبعونى أفنادا «2» يهلك بعضكم بعضا» . وعن أبى صالح قال: كان جبريل يعرض القرآن كل سنة مرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام الذى

ذكر استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بقيع الغرقد والشهداء، وما روى من تخييره بين البقاء ولقاء الله تعالى، واختياره لقاء ربه عز وجل

قبض فيه عرضه عليه مرتين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتكف فى شهر رمضان العشر الأواخر، فلما كانت السنة التى قبض فيها اعتكف عشرين يوما. وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم نحوه. ذكر استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل بقيع الغرقد «1» والشّهداء، وما روى من تخييره بين البقاء ولقاء الله تعالى، واختياره لقاء ربه عز وجل روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج، فأمرت جاريتى بريرة فتبعته، حتى إذا جاء البقيع وقف فى أدناه ما شاء الله أن يقف، ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتنى فلم أذكر له شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت ذلك له فقال: «إنى بعثت لأهل البقيع لأصلى عليهم» . وعنها رضى الله عنها قالت: افتقدت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من الليل فتبعته فإذا هو البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط،» وإنابكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم» قالت: ثم التفت إلىّ فقال: «ويحها لو تستطيع ما فعلت» . وعنها رضى الله عنها قالت: وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضجعه من جوف الليل، فقلت: إلى أين بأبى أنت وأمى يا رسول الله؟ قال: «أمرت أن أستغفر لأهل البقيع» قالت: فخرج وخرج معه مولاه أبو رافع، وكان أبو رافع يحدّث قال: استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم طويلا ثم انصرف، وجعل يقول: «يا أبا رافع إنى خيّرت بين خزائن

الدنيا والخلد ثم الجنة وبين لقاء ربى والجنة فاخترت لقاء ربى» . وعن أبى مويهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جوف الليل: «يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معى» فخرج وخرجت معه حتى جاء البقيع فاستغفر لأهله طويلا، ثم قال: «ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شر من الأولى» ثم أقبل علىّ فقال: «يا أبا مويهبة إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» فقلت: بأبى أنت وأمى، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربى والجنة» ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف. والجمع بين هذه الأحاديث كلها غير مناف؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربما استغفر لأهل البقيع ليالى، ويؤيد هذا ويعضده ما رواه عطاء بن يسار عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كانت ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتانا وإياكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى فقيل له: اذهب فصلّ على أهل البقيع، ففعل ذلك ثم رجع فرقد، فقيل له اذهب فصلّ على الشهداء، فذهب إلى أحد فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدوّ الوجع الذى مات فيه صلّى الله عليه وسلّم. وعن عقبة بن عامر الجهنىّ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنانسوها» .

ذكر ابتداء وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستئذانه نساء أن يمرض فى بيت عائشة رضى الله عنها

ذكر ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستئذانه نساء أن يمرض فى بيت عائشة رضى الله عنها كان ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم الأربعاء، قيل: لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: لليلة بقيت من صفر. روى عن ابن شهاب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود- دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر- عن عائشة رضى الله عنها قالت: بدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوة الذى توفّى فيه وهو فى بيت ميمونة، فخرج فى يومه ذلك حتى دخل علىّ، قال ابن مسعود عنها: رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البقيع فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا يا عائشة وارأساه» قالت ثم قال، «وما ضرّك لو متّ قبلى فقمت عليك وكفّنتك وصليت عليك ودفنتك» قالت قلت: والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتتامّ «1» به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعزّ «2» به وهو فى بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرّض فى بيتى فأذنّ له، قالت: فخرج يمشى بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر، عاصب رأسه تخطّ قدماه حتى دخل بيتى، قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عباس فقال: هل تدرى من الرجل الآخر؟ قال قلت: لا، قال: على بن أبى طالب قالت عائشة: ثم غمر «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واشتدّ به وجعه، فقال:

ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمر به من سد الأبواب التى تشرع إلى مسجده إلا باب أبى بكر الصديق ووصيته بالأنصار

«هريقوا علىّ من سبع قرب من آبار شتّى» وفى رواية: «لم تحلل أو كيتهنّ «1» لعلى أعهد إلى الناس» قالت: فأجلسناه فى مخضب «2» لحفصة بنت عمر، ثم طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ، ثم خرج إلى الناس وصلّى بهم وخطبهم صلّى الله عليه وسلّم. ذكر خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أمر به من سدّ الأبواب التى تشرع إلى مسجده إلا باب أبى بكر الصديق ووصيته بالأنصار روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله» فبكى أبو بكر فقلت فى نفسى: ما يبكى هذا الشيخ أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرنا عن عبد خيّر فاختار؟ قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس، إنّ أمنّ الناس علىّ فى صحبته وما له أبو بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا كان أبو بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين فى المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبى بكر» . وعن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد؛ أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم الناس علىّ منّا فى صحبته وذات يده أبو بكر، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها فى المسجد إلا باب أبى بكر» قال قتيبة: قال الليث بن سعد، قال معاوية ابن صالح، فقال ناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم: «قد بلغنى الذى قلتم فى باب أبى بكر، وإنى أرى على باب أبى بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة» رواه محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى. وروى بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه عاصبا رأسه فى خرقة، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنه ليس أحد أمنّ علىّ فى نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متّخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل، سدّوا عنى كلّ خوخة فى هذا المسجد غير خوخة أبى بكر» وعن أبى الحويرث قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواب تسدّ إلا باب أبى بكر، قال عمر: يا رسول الله، دعنى أفتح كوّة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» . وعن أبى البدّاح بن عاصم بن عدىّ، قال قال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، ما بالك فتحت أبواب رجال إلى المسجد، ومالك سددت أبواب رجال؟ فقال: «يا عباس، ما فتحت عن أمرى ولا سددت عن أمرى» قالت عائشة رضى الله عنها فى حديثها: وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار، فقال: «يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار لا تزيد على هيئنها [التى هى عليها «1» ] اليوم، هم عيبتى «2» التى أويت إليها، أكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» . ومن رواية: «احفظونى فيهم؛ اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» .

ذكر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وفيه

ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وفيه روى عن أبى أمامة، عن كعب بن مالك قال: إنّ أحدث عهدى بنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بخمس، فسمعته [يقول «1» ] ويحرّك كفّه «إنه لم يكن نبىّ قبلى إلا وقد كان له من أمته خليل، ألا وإنّ خليلى أبو بكر، إنّ الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» . وعن أبى مليكة قال قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل يغلبه البكاء، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر» قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب. فقال: «إنكنّ صواحب يوسف، ادعوا إلىّ أبا بكر وابنه «2» ، فليكتب «3» أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع أو يتمنّى متمنّ «4» » ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون» قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون، فأبى الله ذلك والمؤمنون. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد، كلهم يحدّث عن عائشة رضى الله عنها- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالت: بدئ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» في بيت ميمونة فدخل علىّ وأنا أقول: وارأساه، فقال: «لو كان ذلك وأنا حىّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفّنك وأدفنك» فقلت: واثكلاه، فو الله إنك لتحبّ موتى، ولو كان ذلك لظلمت يومك معرّسا ببعض

ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى

أزواجك. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أنا وارأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك وإلى أخيك فأفضى أمرى، وأعهد عهدى، فلا يطمع فى الأمر، طامع ولا يقول القائلون: أو يتمنى المتمنون» . وقال بعضهم فى حديثه: «وبأبى الله إلا أبا بكر» . وعن محمد بن جبير قال: جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يذاكره فى الشىء، فقال: إن جئت فلم أجدك؟ قال: «فأت أبا بكر» . وعن عاصم بن عمرو بن قتادة، قال: ابتاع النبى صلّى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل فقال: يا رسول الله، إن جئت فلم أجدك؟ يعنى بعد الموت، قال: «فأت أبا بكر» ، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر، بعد الموت؟ قال: «فأت عمر» ، قال: فإن جئت فلم أجد عمر؟ قال: «إن استطعت أن تموت إذا مات عمر فمت» . ذكر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يصلّى بالناس فى مرضه، وخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كلّم به الناس، وكم صلّى أبو بكر بالناس صلاة، وما روى من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ائتم بأبى بكر رضى الله عنه عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى ما يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فقلت لحفصة: قولى له إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «إنكنّ لأتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلى بالناس» فلما دخل أبو بكر

فى الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه خفة فقام يهادى «1» بين رجلين، ورجلاه تخطّان فى الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسّه ذهب أبو بكر يتأخّر، فأوما إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى قاعدا؛ يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يقتدون بصلاة أبى بكر. رواه البخارى فى صحيحه. وروى محمد ابن سعد بسنده عن عبيد بن عمير الليثى نحوه. وقال: فلما فرغا من الصلاة قال أبو بكر: أى رسول الله، أراك أصبحت بحمد الله صالحا، وهذا يوم ابنة خارجة- امرأة لأبى بكر من الأنصار- فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مصلّاة أو إلى جنب المنبر، فحذّر الناس الفتن، ثم نادى بأعلى صوته، حتى إن صوته ليخرج من باب المسجد، فقال: «إنى والله لا يمسك الناس علىّ بشىء؛ لا أحلّ إلا ما أحلّ الله فى كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرّم الله فى كتابه» ثم قال: «يا فاطمة بنت محمد ويا صفية عمة رسول الله اعملا لما عند الله فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا» ثم قام من مجلسه ذلك، فما انتصف النهار حتى قبضه الله تعالى. وعن سعيد بن المسيّب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا، سلونى ما شئتم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عائشة فقلت لها حدّثينى عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت:

لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء «1» فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت: لا، هم ينتظرونك، فقال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت: ففعلنا فذهب فاغتسل فقال: «أصلّى الناس» ؟ قلت: لا، هم ينتظرونك، والناس عكوف فى المسجد ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلّى بالناس، فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا-: يا عمر، صلّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحقّ بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وجد فى نفسه خفّة فخرج بين رجلين أحدهما العباس، فصلى الظهر وأبو بكر يصلّى بالناس، قالت: فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ألّا يتأخر، وقال لهما: «أجلسانى إلى جنبه» فأجلساه إلى جنب أبى بكر فجعل أبو بكر يصلى، وهو قائم بصلاة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، والناس يصلون بصلاة أبى بكر، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم قاعد، قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدّثتنى به عائشة عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هات، فعرضت [حديثها «2» ] عليه فما أنكر منه شيئا غير أنه قال: سمّت لك الرجل الذى كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو علىّ بن أبى طالب. وروى محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن محمد عن عمارة بن غزيّة عن محمد بن إبراهيم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مريض لأبى بكر: «صلّ بالناس» فوجد رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم خفّة فخرج وأبو بكر يصلّى بالناس، فلم يشعر حتى وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده بين كتفيه، فنكص أبو بكر، وجلس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه، فصلّى أبو بكر وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصلاته، فلما انصرف قال: «لم يقبض نبىّ قطّ حتى يؤمّه رجل من أمته» . وروى نحوه عن أبى معشر، عن محمد ابن قيس. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى وجعه إذا خف عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس، وإذا وجد ثقله قال: «مروا الناس فليصلّوا» فصلّى بهم ابن أبى قحافة يوما الصبح فصلّى ركعة، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس إلى جنبه فأتمّ بأبى بكر، فلما قضى أبو بكر الصلاة أتمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فاته. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى مرضه بصلاة أبى بكر ركعة من الصبح ثم قضى الركعة الباقية. قال الواقدى: ورأيت هذا الثّبت عند أصحابنا؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلف أبى بكر. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عبد الله بن زمعة بن الأسود قال: عدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى توفّى فيه، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مر الناس فليصلوا» قال عبد الله: فخرجت فلقيت ناسالا أكلمهم، فلما لقيت عمر بن الخطاب لم أبغ من وراءه، وكان أبو بكر غائبا فقلت له: صلّ بالناس يا عمر، فقام عمر فى المقام وكان عمر رجلا مجهرا، فلما كبّر سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته، فأخرج رأسه حتى أطلعه للناس من حجرته، فقال: «لا، لا، لا، ليصل بهم ابن أبى قحافة» قال: يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضبا، قال: فانصرف عمر فقال لعبد الله بن زمعة: يابن أخى أمرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تأمرنى؟ قال فقلت: لا، ولكنى لما رأيتك لم أبغ من وراءك، فقال عمر: ما كنت أظنّ حين أمرتنى

إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس، فقال عبد الله: لمّا لم أر أبا بكر رأيتك أحقّ من حضر بالصلاة. وعن عبد الله ابن عباس قال: حضرت الصلاة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فلما قام أبو بكر مقام النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اشتدّ بكاؤه وافتتن، واشتدّ بكاء من خلفه، لفقد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، فلما حضرت الصلاة جاء المؤذّن إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: قولوا للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر رجلا يصلّى بالناس، فإن أبا بكر قد افتتن من البكاء والناس خلفه، فقالت حفصة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: مروا عمر يصلى بالناس حتى يرفع الله رسوله، قال: فذهب إلى عمر فصلّى بالناس، فلما سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تكبيره قال: «من هذا الذى أسمع تكبيره» ؟ فقال له أزواجه: عمر بن الخطاب، وذكروا له ما قاله المؤذّن، وما قالت حفصة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكنّ لصواحب يوسف، قولوا لأبى بكر فليصلّ بالناس» قال: فلو لم يستخلفه ما أطاع له الناس. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجعه إذا وجد خفّة خرج، وإذا ثقل وجاءه المؤذّن قال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فخرج من عنده يوما الآمر يأمر الناس يصلون وابن أبى قحافة غائب، فصلى عمر بن الخطاب بالناس فلما كبّر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، لا، أين ابن أبى قحافة» ؟ قال: فانتقضت الصفوف وانصرف عمر، قال: فما برحنا حتى طلع ابن أبى قحافة وكان بالسّنح «1» فتقدّم فصلّى بالناس. وعن أنس بن مالك: أن أبا بكر- رضى الله عنهما- كان يصلى بهم فى وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين

ذكر ما اتفق فى مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثم تبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا ونحن فى الصلاة من الفرح. قال: ونكص أبو بكر على عقبيه، فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أن أتموا صلاتكم» قال: ثم دخل وأرخى الستر، فتوفّى من يومه صلّى الله عليه وسلّم. وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال سألت أبا بكر بن عبد الله بن أبى سبرة: كم صلّى أبو بكر بالناس؟ قال: صلّى بهم سبع عشرة صلاة، قلت: من حدّثك ذلك؟ قال قال: حدّثنى أيوب بن عبد الرحمن ابن صعصعة، عن عبّاد بن تميم، عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: صلّى بهم أبو بكر ذلك. ذكر ما اتفق فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاف ما ذكرناه، من الّلدود الذى لدّ به، والكتاب الذى أراد أن يكتبه، والوصية التى أمر بها، والدنا نير التى قسمها، والسواك الذى استنّ به صلّى الله عليه وسلّم. فأمّا الّلدود «1» الذى لدّ به صلّى الله عليه وسلّم وما قال فيه- روى عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: تخوّفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات «2» الجنب وثقل فلددناه، فوجد خشونة اللّدّ فأفاق، فقال: «ما صنعتم بى» ؟ قالوا: لددناك، قال: «بماذا» ؟ قلنا: بالعود الهندى، وشىء من ورس وقطرات زيت، فقال: «من أمركم بهذا» ؟ قالوا: أسماء بنت عميس، قال: «هذا طبّ أصابته بأرض الحبشة، لا يبقى أحد فى البيت إلا التدّ إلا ما كان من عمّ رسول الله

وأما الكتاب الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التازع

صلى الله عليه وسلّم» يعنى العباس، ثم قال: «ما الذى كنتم تخافون علىّ» ؟ قالوا: ذات الجنب، قال: «ما كان الله ليسلطها علىّ» . وفى رواية عن أمّ بشر بن البراء؛ قال: «ما كان الله ليسلطها على رسوله، إنها همزة من الشيطان، ولكنها من الأكلة التى أكلتها أنا وابنك، هذا أوان قطعت أبهرى» «1» . ومن حديث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فجعل بعضهم يلدّ بعضا. وعن هشام «2» قال: كانت أمّ سلمة وأسماء بنت عميس هما لدّتاه، قال: فالتدّت يومئذ ميمونة وهى صائمة؛ لقسم النبى صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكان منه عقوبة لهم. وأما الكتاب الذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التازع فقد اختلفت الروايات فى هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وغيره، فمن رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال: اشتكى النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم الخميس فجعل- يعنى ابن عباس- يبكى ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد بالنبى صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا «3» بعده أبدا» قال فقال بعض من كان عنده: إنّ نبىّ الله هجر «4» ، قال فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أو بعد ماذا» ؟ فلم يدع به. ومن طريق آخر عن سليمان «5» بن أبى مسلم عن سعيد بن جبير قال: فتنازعوا ولا ينبغى عند نبىّ تنازع. فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا

يعيدون عليه. فقال: «دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه» . قال: وأوصى بثلاث، قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» وسكت عن الثلاثة، فلا أدرى قالها «1» فنسيتها، أو سكت عنها عمدا؟. ومن رواية طلحة بن مصرّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ايتونى بالكتف والدّواة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» . قال فقالوا: إنما يهجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذه الروايات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما. وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوفاة، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلّم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» فقال عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول ما قال عمر؛ فلما كثر اللّغط والاختلاف وغمر «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قوموا عنى» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرّزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى مرضه: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» . فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من لفلانة وفلانة- من مدائن الروم- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لن يموت حتى يفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى؛

فقالت زينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تسمعون للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعهد إليكم؟ فلغطوا فقال: «قوموا» فلما قاموا قبض النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مكانه. وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما كان فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتابا لا يضلون ولا يضلّون، فكان فى البيت لغط وكلام، وتكلم عمر بن الخطاب، قال: فرفضه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن محمد بن عمر الواقدىّ عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلونى بسبع قرب وأتونى بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقال النسوة: ايتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحاجته. قال عمر فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صح أخذتن بعنقه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هنّ خير منكم» . هذا ما وقفنا عليه من الروايات المسندة فى هذا الحديث، وقد تذرّعت به طائفة من الروافض، وتكلموا فيه وطعنوا على من لغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى امتنع من الكتابة. وقد تكلم القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله على هذا الحديث، وذكر أقوال العلماء وما أبدوه من الاعتذار عن عمر رضى الله عنه فيما قال، فقال رحمه الله تعالى، قال أتمنا فى هذا الحديث: النبىّ صلّى الله عليه وسلّم غير معصوم من الأمراض، وما يكون من عوارضها من شدّة وجع وغشى ونحوه، مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك

ما يطعن فى معجزته، ويؤدّى إلى فساد فى شريعته، من هذيان أو اختلال فى كلام، وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى فى الحديث «هجر» إذ معناه هذى يقال: هجر هجر إذا أفحش، وأهجر تعدية هجر، وإنما الأصح والأولى «أهجر» ؟ على طريق الإنكار على من قال لا نكتب، قال: وهكذا روايتنا فيه فى صحيح البخارى من رواية جميع الرواة فى حديث الزهرى ومحمد بن سلّام عن ابن عيينة، قال: وكذا ضبطه الأصيلى بخطه فى كتابه وغيره من هذه الطرق، وكذا رويناه عن مسلم فى حديث سفيان وعن غيره، قال: وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام، والتقدير: أهجر؟ أو أن يحمل قول القائل: «هجر» أو أهجر دهشة من قائل ذلك وحيرة؛ لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشدّة وجعه، وهول المقام الذى اختلفت فيه عليه، والأمر الذى همّ بالكتاب فيه، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهجر مجرى شدّة الوجع؛ لأنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر، كما حملهم الإشفاق على حراسته، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ونحو هذا. وأما على رواية: «أهجرا» ، وهى رواية أبى إسحاق المستملى فى الصحيح، فى حديث ابن جبير، عن ابن عباس من رواية قتيبة، فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه وسلّم، ومخاطبة لهم من بعضهم، أى جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين يديه هجرا ومنكرا من القول! والهجر بضم الهاء الفحش فى المنطق. وقد اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم عليه السلام أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم: أوامر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلّى الله عليه وسلّم لبعضهم ما فهموا أنه لم يكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم

لم يفهم ذلك، فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كفّ عنه إذ لم تكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأى عمر رضى الله عنه. ثم هؤلاء قالوا: ويكون امتناع عمر إمّا إشفاقا على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من تكليفه فى تلك الحال، وإما إملاء الكتاب، وأن يدخل عليه مشقة من ذلك كما قال: إنّ النبىّ اشتدّ به الوجع. وقيل: خشى عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون «1» في الحرج بالمخالفة، ورأى أن الأرفق بالأمة فى تلك الأمور سعة الاجتهاد، وحكم النّظر، وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطئ مأجورا، وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملّة، وأن الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوصيكم بكتاب الله وعترتى» . وقول عمر: حسبنا كتاب الله، ردّ على من نازعه، لا على أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم. وقد قيل: إن عمر خشى تطرّق المنافقين، ومن فى قلبه مرض لما كتب فى ذلك الكتاب فى الخلوة، وأن يتقوّلوا فى ذلك الأقاويل كادّعاء الرافضة الوصية وغير ذلك. وقيل: إنه كان من النبى صلّى الله عليه وسلّم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون على ذلك أم يختلفون، فلما اختلفوا تركه. وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان مجيبا فى هذا الكتاب لما طلب منه لا أنه ابتداء بالأمر به، بل اقتضاه منه بعض أصحابه، فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التى ذكرناها، واستدل فى مثل هذه القضية بقول العباس لعلىّ: انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا كان الأمر فينا علمناه، وكراهة علىّ هذا وقوله: «والله لا أفعل» الحديث. واستدل بقوله: «دعونى فإن الذى أنا فيه «3» خير» أى الذى أنا فيه خير من إرسال

وأما ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى مات فيه

الأمر وترككم، وكتاب الله «1» . وأن تدعونى مما طلبتم. وذكر أن الذى طلب كتابه «2» فى أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك. هذا ما أورده فى معنى هذا الحديث. والله تعالى أعلم. وأمّا ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه فقد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» ، حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغر غربها فى صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. وعن أمّ سلمة نحوه. وعن كعب بن مالك قال: أغمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساعة ثم أفاق، فقال: «الله الله فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم، وأشبعوا بطونهم، وألينوا لهم القول» . وعن الزهرىّ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر عهده أوصى ألا يترك بأرض العرب دينان. وعن مالك بن أنس عن إسمعيل بن أبى حكيم، عن عمر بن عبد العزيز قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه كان آخر ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بالرّهاويين الذين هم من أهل الرّهاء، قال: وأعطاهم من خيبر وجعل يقول: «لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين» . وعن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أنه قال: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالداريّين وبالرّهاويّين

وبالدّوسيين خيرا. وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بثلاث وهو يقول: «ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظنّ» . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبى هو وأمّى ونفسى له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمّنا عائشة وتشدد لنا فقال: «مرحبا بكم، حيّاكم «1» الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، آداكم الله» وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصى الله بكم؛ وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله إنى لكم منه نذير مبين ألّا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» . وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «4» قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله، وإلى جنة المأوى، وإلى سدرة المنتهى، وإلى الرفيق الأعلى والكأس الأوفى والحظ والعيش المهنّى» قلنا: يا رسول الله من يغسلك؟ قال: «رجال من أهلى الأدنى «5» فالأدنى» قلنا: يا رسول الله ففيم نكفّنك؟ قال: «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى ثياب مصر أو فى حلّة يمانية» قال قلنا: يا رسول الله، من يصلّى عليك؟ وبكينا وبكى، فقال: «مهلا رحمكم الله وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفة قبرى فى بيتى هذا، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى علىّ حبيبى وخليلى جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علىّ فوجا فوجا، فصلوا

وأما الدنانير التى قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى مات فيه

علىّ وسلموا تسليما، ولا تؤذونى بتزكية ولا برنّة، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال «1» من أهلى ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، وأقرئوا السلام على من غاب من أصحابى، وأقرئوا السلام على من يتبعنى على دينى من قومى إلى يوم القيامة» . قلنا: يا رسول الله، فمن يدخلك قبرك؟ قال: «أهلى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم» . وأما الدّنانير التى قسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه فقد روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دنانير فقسمها إلا ستة، فدفع الستة إلى بعض نسائه، فلم يأخذه النوم حتى قال: «ما فعلت الستة» ؟ قالوا: دفعتها إلى فلانة، قال: «ايتونى بها» فقسم منها خمسة فى خمسة أبيات من الأنصار، ثم قال: «استنفقوا هذا الباقى» وقال: «الآن استرحت» فرقد. وعن المطلب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، وهى مسندته إلى صدرها: «يا عائشة ما فعلت تلك «2» الذهب» ؟ قالت: هى عندى، قال: «فأنفقيها» ثم غشى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على صدرها، فلما أفاق قال: «هل أنفقت تلك الذهب يا عائشة» ؟ قالت: لا والله يا رسول الله، قالت: فدعا بها فوضعها فى كفّه، فعدّها فإذا هى ستة دنانير، فقال: «ما ظنّ محمد بربه أن لو لقى الله وهذه عنده» ! فأنفقها كلها، ومات من ذلك اليوم.

وأما السواك الذى استن به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته

وأما السّواك الذى استنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته فقد روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى صلّى الله عليه وسلّم فى شكواه، وأنا مسندته إلى صدرى، وفى يد عبد الرحمن سواك فأمرها أن تقضمه، فقضمته ثم أعطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن حديث آخر عنها قالت: فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه وهو فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، تريد أن أعطيك هذا السّواك؟ فقال: «نعم» فأخذته فمضغته حتى ليّنته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشدّ ما رأيته استنّ بسواك قبله ثم وضعه، فكانت عائشة تقول: كان من نعمة الله علىّ وحسن بلائه عندى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات فى بيتى، وفى يومى وبين سحرى «1» ونحرى، وجمع بين ريقى وريقه عند الموت. فقال لها القاسم بن محمد: قد عرفنا كل الذى تقولين، فكيف جمع بين ريقك وريقه؟ قالت: دخل عبد الرحمن بن أمّ رومان أخى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعوده، وفى يده سواك رطب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مولعا بالسّواك، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشخص بصره إليه، فقلت: يا عبد الرحمن، اقضم السواك فناولنيه، فمضغته ثم أدخلته فى فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتسوّك به، فجمع بين ريقى وريقه.

ذكر تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة عند الموت

ذكر تخيير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة عند الموت روى عن عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت سمعت أنه لا يموت نبىّ حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فأصابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحّة شديدة فى مرضه، فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» فظننت أنه خيّر. وعن المطلب بن عبد الله، قال قالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ما من نبىّ إلا تقبض نفسه ثم تردّ إليه فيخيّر بين أن تردّ إليه إلى أن يلحق» قالت: فكنت قد حفظت ذلك منه، فإنى لمسندته إلى صدرى فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت قد قضى وعرفت الذى قال، فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر، قالت: قلت إذا والله لا تختارنا، فقال: «مع الرفيق الأعلى فى الجنة» مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً . وعن سعيد بن المسيّب وغيره أن عائشة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه لم يقبض نبىّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر» قالت عائشة: فلما نزل برسول «2» الله صلّى الله عليه وسلّم ورأسه على فخذى غشى عليه ساعة، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السّقف سقف البيت، ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» قالت: فقلت الآن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذى كان يحدّثنا وهو صحيح، فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن أبى بردة بن أبى موسى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسندته عائشة إلى صدرها فأفاق، وهى تدعو له بالشفاء فقال: «لا، بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» .

ذكر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الموت به

ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الموت به روى عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم الموت دعا بقدح من ماء فجعل يمسح به وجهه، ويقول: «اللهم أعنّى على سكرات الموت» وجعل يقول: «ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل» . وعن عبد الله بن عباس وعائشة رضى الله عنهم قالا: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم طفق يلقى خميصته «1» على وجهه، فإذا اغتمّ بها ألقاها عن وجهه ويقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . ذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن محمد بن جعفر عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث نزل عليه جبريل فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» فلما كان فى اليوم الثانى هبط إليه جبريل فقال له مثل ذلك، وأجابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أجابه به بالأمس، فلما كان اليوم الثالث نزل إليه جبريل، وهبط معه ملك الموت، ونزل معه ملك يقال له إسمعيل، يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قطّ ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض على سبعين ألف ملك، ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل، فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف

تجدك؟ قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم استأذن ملك الموت فقال جبريل: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمىّ كان قبلك، ولا يستأذن على آدمىّ بعدك، قال: «ائذن له» فدخل ملك الموت فوقف بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله، يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمرنى به، إن أمرتنى أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، قال: «وتفعل يا ملك الموت» ؟ قال: بذلك أمرت أن أطيعك فى كل ما أمرتنى، فقال جبريل: يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك، قال: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» قال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئى الأرض إنما كنت حاجتى من الدنيا، فتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت التعزية يسمعون الصوت والحسّ، ولا يرون الشخص: السلام عليكم يأهل البيت ورحمة الله وبركاته «كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة» إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما جاء فى الأحاديث الصحيحة فى حجر عائشة وبين سحرها ونحرها. وقد قيل: إنه توفّى فى حجر علىّ، والصحيح الأوّل. وذلك فى يوم الاثنين حين اشتدّ «1» الضّحى، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، وقيل: لليلتين خلتا منه. ولما مات صلّى الله عليه وسلّم سجّى بثوب حبرة، كما روى عن عائشة وأبى هريرة رضى الله عنهما، ودخل أبو بكر رضى الله عنه على

ذكر ما تكلم به الناس حين شكوا فى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبة أبى بكر رضى الله عنه

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: بأبى وأمى ما أطيب محياك ومماتك. وفى لفظ: طبت حيا وميتا. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء أبو بكر فدخل عليه فرفعت الحجاب، فكشف الثوب عن وجهه، فاسترجع فقال: مات والله رسول الله، ثم تحوّل من قبل رأسه فقال: وانبياه، ثم حدر فمه فقبّل وجهه ثم رفع رأسه، فقال: واخليلاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته ثم رفع رأسه، فقال: واصفيّاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته، ثم سجّاه بالثوب ثم خرج. وعن عبد الرحمن بن عوف: أن عائشة أخبرته أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح «1» حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه يقبّله وبكى، ثم قال: بأبى أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متّها. ذكر ما تكلم به الناس حين شكّوا فى وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبى بكر رضى الله عنه روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى المسجد خطيبا فقال: لا أسمعنّ أحدا يقول إن محمدا قد مات، ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى ابن عمران، فلبث عن قومه أربعين ليلة، وإنى والله لأرجو أن تقطع أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، قال: وقام عمر خطيبا فوعد

المنافقين، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، لا يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يقطع أيدى أقوام وألسنتهم، قال: فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه، فقال العباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأسن «1» كما يأسن البشر، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات فادفنوا صاحبكم، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين؟ هو أكرم على الله من ذلك، فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله، ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا، أحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالم، وما كان راعى غنم يتبع بها صاحبها رءوس الجبال، يخبط عليها العضاة «2» بمخبطه ويمدر حوضها بيده، بأنصب ولا أرأب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فيكم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه فقال عمر: أغشيا؟ ما أشدّ غشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم قاما فلما انتهيا إلى الباب، قال المغيرة: يا عمر، مات والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنك رجل تحوسك «3» فتنة، ولن يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يفنى المنافقين، ثم جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس فقال له أبو بكر: اسكت؛ فسكت، فصعد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» ثم قرأ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى

أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» ثم قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. فقال عمر: هذا فى كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أيها الناس، هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه فبايه الناس. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل أبو بكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلّم الناس، فمضى حتى دخل بيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم الذى توفّى فيه، وهو بيت عائشة، وكشف عن وجه النبى صلى الله عليه وسلّم برد حبرة، كان مسجّى به فنظر إلى وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله، فقال: بأبى أنت؛ والله لا يجمع الله عليك موتتين، لقد متّ الموتة التى لا تموت بعدها، ثم خرج أبو بكر إلى الناس، وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فكله أبو بكر مرتين أو ثلاثا، فلما أبى عمر أن يجلس قام أبو بكر فتشهد، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فلما قضى أبو بكر تشهده قال: أما بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت، قال الله تبارك وتعالى: «ومامحمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزى الله الشّاكرين» . قال: فلما تلاها أبو بكر أيقن الناس بموت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وتلقاها الناس من أبى بكر حين تلاها أو كثير منهم، حتى قال قائل من الناس: والله لكأنّ الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت حتى تلاها أبو بكر. فزعم سعيد ابن المسيّب أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت «2» وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قد

ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غسله، وتكفينه وحنوطه

مات. وعن الحسن قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتمر أصحابه فقالوا: تربصوا بنبيكم صلّى الله عليه وسلّم لعله عرج به، قال: فتربصوا به حتى ربا بطنه، فقال أبو بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. وعن القاسم بن محمد بن أبى بكر رضى الله عنه أنه لما شك فى موت النبى صلّى الله عليه وسلّم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، وقالت: قد توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخرس عن الكلام لما راعه من موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما تكلم إلا بعد الغد، وأقعد آخرون، منهم على بن أبى طالب، ولم يكن فيهم أثبت من أبى بكر والعباس رضى الله عنهما، قالوا: وعزّى الناس بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكر ذلك للناس قبل موته، كما روى عن سهل بن سعد؛ قال قال رسول الله صلّى الله وسلّم: «سيعزّى الناس بعضهم بعضا من بعدى التّعزية بى» فكان الناس يقولون ما هذا؟ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقى الناس بعضهم بعضا يعزّى بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن غسّله، وتكفينه وحنوطه روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ذكروا غسله سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه فإنه طاهر مطهّر، ثم سمعوا صوتا بعده: اغسلوه فإن ذلك إبليس وأنا الخضر، وعزّاهم فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فآرجوا، فإن المصاب من

حرم الثواب. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلف الذين يغسلونه، فسمعوا قائلا لا يدرون من هو، يقول: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه، فغسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قميصه. وعن عبّاد بن عبد الله عن عائشة قالت: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نساؤه، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قبض اختلف أصحابه فى غسله، فقال بعضهم: اغسلوه وعليه ثيابه، فبينما هم كذلك إذ أخذتهم نعسة، فوقع لحى كل إنسان منهم على صدره، فقال قائل منهم لا يدرى من هو: اغسلوه وعليه ثيابه، قالوا: وكان الذى تولى غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان علىّ يغسله ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت ميتا وحيا. وقيل: كان علىّ يغسل النبى صلّى الله عليه وسلّم والفضل وأسامة يحجبانه، وقيل: غسل والعباس قاعد والفضل محتضنه، وعلىّ يغسله، وأسامة يختلف، وقيل: ولى غسله العباس بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، والفضل بن العباس وصالح مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يغسله أحد غيرى، فإنه «1» «لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» . قال علىّ: فكان الفضل وأسامة يناولانى الماء من وراء الستر، وهما معصوبا العين. قال علىّ: فما تناولت عضوا إلا كأنما يقلبه معى ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله. وقيل: كان معهم شقران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن المسيّب قال: غسل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكفّنه أربعة علىّ والعباس والفضل وشقران، وقيل: لم يحضره العباس، بل كان بالباب،

وقال: لم يمنعنى أن أحضر غسله إلا أنى كنت أراه يستحى أن أراه حاسرا. وقيل: حضره عقيل بن أبى طالب، وأوس بن خولىّ، وذلك أن أوس بن خولىّ قال: يا علىّ، أنشدك الله فى حظّنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له علىّ: ادخل، فدخل فجلس، وقيل: إنما دخل لأن الأنصار قالت: نناشدكم الله فى نصيبنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأدخلوا رجلا منهم يقال له أوس بن خولىّ يحمل جرّة بإحدى يديه. والذى أثبته الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله فى مختصر السيرة قال: تولى غسله علىّ والعبّاس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وحضره أوس ابن خولىّ الأنصارىّ. وعن علىّ رضى الله عنه قال: لما أخذنا فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغلقنا الباب دون الناس جميعا، فنادت الأنصار نحن أخواله، ومكاننا من الإسلام مكاننا، ونادت قريش نحن عصبته، فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين، كل قوم أحقّ بجنازتهم من غيرهم، فنشدتكم الله فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه، والله لا يدخل عليه أحد إلا من دعى. وعن أبى جعفر محمد بن على قال: غسل النبى صلّى الله عليه وسلّم ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل فى قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء، وكان يشرب منها وولى [غسل «1» ] سفلته علىّ، والعباس يصبّ الماء، والفضل محتضنه يقول: أرحنى أرحنى، قطعت وتينى! إنى أجد شيئا ينزل علىّ مرتين. وعن عبد الله ابن الحارث: أن عليا غسله، يدخل يده تحت القميص، والفضل يمسك الثوب عليه، والأنصارىّ ينقل الماء وعلى يد علىّ خرقة تدخل يده وعليه القميص. وعن عبد الله بن جعفر الزهرى عن عبد الواحد بن أبى عون، قال قال رسول الله صلّى

وأما تكفينه صلى الله عليه وسلم

الله عليه وسلّم لعلّى فى مرضه الذى توفى فيه: «اغسلنى يا علىّ إذا متّ» فقال: يا رسول الله، ما غسلت ميتا قط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك ستهيّأ، أو تيسّر» قال على: فغسلته فما آخذ عضوا إلا تبعنى، والفضل أخذ بحضنه يقول: أعجل يا علىّ انقطع ظهرى. وعن سعيد بن المسيّب قال: التمس علىّ من النبى صلّى الله عليه وسلم عند غسله ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبى أنت وأمى؛ طبت حيا وميتا. هذا ما لخصناه فى غسله صلّى الله عليه وسلّم مما أورده محمد بن سعد فى طبقاته على سبيل الاختصار وحذف الأسانيد. والله أعلم. وأما تكفينه صلّى الله عليه وسلّم فقد اختلف فيه؛ فقيل: كفّن فى ثلاثة أثواب بيض كرسف «1» ، وقيل: فى ثلاثة أثواب أحدها حبرة، وقيل: فى ريطتين «2» وبرد نجرانىّ «3» . وقيل: فى ثلاثة أثواب برود يمانية غلاظ إزار ورداء ولفافة. وقيل: فى حلّة حمراء وقبطية «4» . وقيل: فى حلّة يمانية وقميص. وقيل: فى حلّة حبرة وقميص. وقيل: فى سبعة أثواب. والذى ورد فى الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كفّن فى ثلاثة أثواب بيض سحوليّة من ثياب سحول- بلدة باليمن- ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة. وحنّط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى حنوطه المسك، وأبقى منه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه شيئا ادّخره لحنوطه إذا مات.

ذكر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: أول من صلّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العباس بن عبد المطلب، وبنو هاشم، ثم خرجوا، ثم دخل المهاجرون والأنصار، ثم الناس رفقا رفقا «1» ، فلما انقضى الناس دخل عليه الصبيان صفوفا، ثم النساء، وقيل: النساء والصبيان. وذكر البيهقى عن الواقدىّ عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى قال: وجدت هذا فى صحيفة بخط أبى، فيها: لما كفّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلّموا كما سلم أبو بكر [وعمر «2» ] وصفّوا صفوفا لا يؤمّهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما فى الصفّ الأول حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنا نشهد أن قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعزّ الله به دينه، وتمّت كلماته، فأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتّبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرّفه «3» بنا فإنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، لا نبتغى بالإيمان بدلا، ولا نشترى به ثمنا أبدا. فيقول الناس آمين آمين، ثم يخرجون ويدخل آخرون حتى صلّوا عليه: الرجال والنساء ثم الصبيان. وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده عن علىّ رضى الله عنهم قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السرير قال علىّ: لا يؤمّ أحد؛ هو إمامكم حيّا وميتا، فكان يدخل الناس رسلا

ذكر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحده وما فرش تحته ومن فرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدة حياته صلى الله عليه وسلم

رسلا «1» ، فيصلّون عليه صفّا صفّا، ليس لهم إمام ويكبّرون، وعلىّ قائم بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أنه قد بلّغ ما أنزل إليه ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمّت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه. فيقول الناس: آمين، آمين. وقد قيل فى سبب صلاة الناس عليه أفذاذا: إنما فعلوا ذلك ليكون كل منهم فى الصلاة أصلا لا تابعا لأحد. وقيل: ليطول وقت الصلاة فيلحق من يأتى من حول المدينة. ذكر قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولحده وما فرش تحته ومن فرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدّة حياته صلّى الله عليه وسلّم روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته اختلفوا فى مكان دفنه؛ فقال بعضهم: ندفنه فى مصلّاه. وقال بعضهم: عند المنبر. وقال بعضهم: ادفنوه مع أصحابه بالبقيع. فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما دفن نبىّ قط إلّا فى المكان الذى توفّى فيه» . وقيل: قال «ما مات نبىّ إلا دفن حيث يقبض» فرفع فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى عليه وحفر له تحته، وذلك فى بيت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. ثم اختلفوا أيلحد له أم لا؟ وكان فى المدينة حفّاران أحدهما يلحد وهو أبو طلحة، والآخر لا يلحد وهو أبو عبيدة. فاتفقوا على أن من جاء منهما أوّلا عمل عمله «2» ، فجاء الذى يلحد فلحد لرسول الله صلّى الله

عليه وسلّم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان بالمدينة رجلان: أبو عبيدة ابن الجرّاح يضرح حفر أهل مكة، وأبو طلحة الأنصارىّ هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد. فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة، وقال للآخر: اذهب إلى أبى طلحة، وقال: اللهم خر لرسولك، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد له. وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الّلحد لنا والشّقّ لغيرنا» . وقيل قال: «والشّقّ لأهل الكتاب» . قيل: وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى اللحد فيعجبه فألحد له، وأطبق له تسع لبنات وفرش تحته فى قبره قطيفة حمراء كان يغطّى بها صلّى الله عليه وسلّم نزل بها شقران. وأما من نزل قبره صلّى الله عليه وسلّم فالعباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران مولاه، وقيل: أدخلوا معهم عبد الرحمن ابن عوف، قيل: وعقيل وأسامة بن زيد، وصالح «1» ، وأوس بن خولىّ. والذى صححه الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: العباس وعلىّ والفضل وقثم وشقران. وزعم المغيرة بن شعبة أنه نزل قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قبره. روى عن الشعبى قال: كان المغيرة يحدّثنا ها هنا، يعنى [بالكوفة] قال: [أنا «2» ] آخر الناس عهدا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لما دفن وخرج علىّ من القبر ألقيت خاتمى فقلت: يا أبا الحسن خاتمى، قال: انزل فخذ خاتمك، فنزلت فأخذت خاتمى، ووضعت يدى على اللّبن ثم خرجت. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه

وأما وقت دفنه صلى الله عليه وسلم ومدة مرضه

وسلّم فى لحده، ألقى المغيرة بن شعبة خاتمة فى القبر، ثم قال: خاتمى، خاتمى! فقالوا: ادخل فخذه، فدخل ثم قال: أهيلوا علىّ التراب، فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه فخرج، فلما سوّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اخرجوا عنى «1» حتى أغلق الباب، فإنّى أحدثكم عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لعمرى لئن كنت أردتها لقد أصبتها. وأنكر على بن عبد الله بن عباس هذا، وقال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قثم بن العباس، كان أصغر من كان فى القبر، وكان آخر من صعد. والله أعلم. وأما وقت دفنه صلّى الله عليه وسلّم ومدة مرضه فقيل: دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الأربعة، وقيل: ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس. والله أعلم. وسنّم «2» قبره ورشّ عليه الماء. وكانت مدّة مرضه اثنى عشر يوما. وقيل: أربعة عشر يوما. وكان مرضه بالصّداع صلّى الله عليه وسلّم. وأما سنّه صلّى الله عليه وسلّم ومدّة مقامه بالمدينة من حين هجرته إلى يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم فقد روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى، وقد بلغ من السّن ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل: ستين. وروى محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن القاسم، قال حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فى السنة التى قبض فيها: «إن جبريل كان يعرض علىّ

ذكر ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روى فيه

القرآن فى كل سنة مرة، فقد عرض علىّ العام مرتين، وأنه لم يكن نبىّ إلا عاش نصف عمر أخيه الذى كان قبله، عاش عيسى بن مريم مائة وخمسا وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة» ومات فى نصف السنة. والذى نقلناه أوّلا هو الذى صححه العلماء. والله أعلم. وكان مقامه بالمدينة من لدن الهجرة إلى أن توفّى صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين. ذكر ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما روى فيه روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنا لا نورث، ما تركناه صدقة» . وروى محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، قال حدّثنا معمر ومالك وأسامة بن زيد عن الزهرىّ عن عروة عن عائشة؛ قال محمد بن عمر: وحدّثنى معمر وأسامة بن زيد وعبد الرحمن ابن عبد العزيز عن الزهرى عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقّاص وعباس بن عبد المطلب قالوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة» يريد بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتسم «1» ورثنى دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملى فإنه صدقة» . وعن عائشة: إن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبى صلّى الله عليه وسلّم التى بالمدينة وفدك، وما بقى من خمس خيبر، فقال أبو بكر

رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» إنما يأكل آل محمد فى هذا المال، وإنى والله لا أغيّر شيئا من صدقات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حالها التى كانت عليها فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبى بكر، فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر. وعن أبى جعفر «1» قال: جاءت فاطمة إلى أبى بكر تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علىّ بن أبى طالب، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا صدقة» وما كان النبى يعول فعلىّ، فقال علىّ: «وورث سليمن داود «2» » وقال زكريا: «يرثنى ويرث من آل يعقوب «3» » قال أبو بكر: هو هذا، والله تعلم مثل ما أعلم. فقال علىّ: هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا. وعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما كان اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بويع لأبى بكر فى ذلك اليوم، فلما كان من الغد جاءت فاطمة إلى أبى بكر- رضى الله عنهما- معها علىّ رضى الله عنه فقالت: ميراثى من رسول الله أبى، صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمن الرّثّة «4» أو من العقد «5» ؟ قالت: فدك وخيبر وصدقاته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك إذا متّ، فقال أبو بكر: أبوك والله خير منى، وأنت والله خير من بناتى، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا

ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله من الحزن على فقده، ونبذة مما رثوه به صلى الله عليه وسلم

صدقة» يعنى هذه الأموال القائمة، فتعلمين أن أباك أعطاكها؟ فو الله لئن قلت نعم لأقبلنّ قولك وء لأصدقنك. قالت: جاءتنى أمّ أيمن فأخبرتنى أنه أعطانى فدك. قال: فسمعته يقول هى لك؟ فإذا قلت قد سمعته فهى لك، فأنا أصدّقك وأقبل قولك. قال: قد أخبرتك ما عندى. وعن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخى ميمونة قال: والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا تركها صدقة. وعن زرّبن حبيش: أن إنسانا سأل عائشة رضى الله عنها عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسألنى؟ لا أبا لك! توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يدع دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا. وعن ابن عباس نحوهن، قال: وترك درعه رهنا عند يهودىّ بثلاثين صاعا من شعير. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم ترك يوم مات ثوبى حبرة وإزارا عمانيا «1» ، وثوبين صحاريين، وقميصا صحاريا، وجبّة يمنية، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطئة «2» ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة مورّسة. صلّى الله عليه وسلّم. هذا الذى أورده الشيخ محب الدين الطبرىّ فى مختصر السيرة. ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله من الحزن على فقده، ونبذة مما رثوه به صلّى الله عليه وسلّم روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما ثقل النبى صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها صلّى الله عليه وسلّم:

«ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلّى الله عليه وسلّم قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ينعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه! قال: فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب؟. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكت أمّ أيمن، فقيل لها أتبكين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما والله ما أبكى عليه ألّا أكون أعلم أنه ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكن أبكى على خبر السماء انقطع. وعن عبد الرحمن ابن سعد بن يربوع قال: جاء علىّ بن أبى طالب يوما متقنعا متحازنا، فقال أبو بكر: أراك متحازنا، فقال علىّ: إنه عنانى ما لم يعنك، قال يقول أبو بكر: اسمعوا ما يقول! أنشدكم الله أترون أحدا كان أحزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّى؟. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس. وعن القاسم بن محمد: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب بصره فدخل عليه أصحابه يعودونه، فقال: إنما كنت أريدهما لأنظر بهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّا إذ قبض الله نبيّه فما يسرّنى «1» أن ما بهما بظبى من ظباء تبالة «2» . وأمّا عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فإنها لازمت قبره صلّى الله عليه وسلّم. ورثى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من أصحابه وعمّاته رضى الله عنهم فقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه:

يا عين فابكى ولا تسأمى ... وحقّ البكاء على السّيّد على خير خندف «1» عند البلا ... ء أمسى يغيّب فى الملحد فصلّى المليك ولىّ العباد ... وربّ البلاد على أحمد فكيف الحياة لفقد الحبيب ... وزين المعاشر فى المشهد فليت الممات لنا كلّنا ... وكنّا جميعا مع المهتدى وقال أيضا رضوان الله عليه: لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت علىّ بعرضهنّ الدّور وارتعت روعة مستهام واله ... والعظم منّى واهن مكسور «2» أعتيق ويحك إنّ حبّك قد ثوى ... وبقيت منفردا وأنت حسير «3» يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيّبت فى جدث علىّ صخور «4» فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: ارقت فبات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول «5» وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل

وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل نبىّ كان يجلو الشكّ عنها «1» ... بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السّبيل فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرسول وقال عبد الله بن أنيس: تطاول ليلى واعترتنى القوارع ... وخطب جليل للبليّة جامع غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستكّ منها المسامع فلو ردّ ميتا قتل نفسى قتلها ... ولكنّه لا يدفع الموت دافع فآليت لا آسى على هلك هالك ... من الناس ما اوفى ثبير وفارع ولكنّنى باك عليه ومتبع ... مصيبته إنّى إلى الله راجع وقد قبض الله النبيّين قبله ... وعاد أصيبت بالرّزى والتّبايع «2» فياليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل فى قريش من إمام ينازع ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمّة هذا الأمر والله صانع «3» علىّ أو الصّدّيق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع فإن قال منّا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع فيالقريش قلّدوا الأمر بعضهم ... فإنّ صحيح القول للناس نافع ولا تبطئوا عنها فواقا فإنّها ... إذا قطعت لم تمن فيها المطامع «4»

وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ: آليت حلفة برّ غير ذى دخل ... منّى أليّة حقّ غير إفناد «1» تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل النّبى نبىّ الرّحمة الهادى ولا مشى فوق ظهر الأرض من أحد ... أوفى بذمّة جار أو بميعاد من الذى كان نورا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد مصدّقا للنّبيين الألى سلفوا ... وأبذل الناس للمعروف للجادى «2» خير البريّة إنّى كنت فى نهر ... جار فأصبحت مثل المفرد الصّادى «3» أمسى نساؤك عطّلن البيوت فما ... يضربن خلف قفا ستر بأوتاد مثل الرّواهب يلبسن المسوح وقد ... أيقنّ بالبؤس بعد النّعمة البادى «4» وقال أيضا: ما بال عينك لا تنام كأنّما ... كحلت مآفيها بكحل الأرمد جزعا على المهدىّ أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد يا ويح أنصار النبىّ ورهطه ... بعد المغيّب فى سواء الملحد جنبى يقيك التّرب لهفى ليتنى ... غيّبت قبلك فى بقيع الغرقد «5» يا بكر آمنة المبارك ذكره ... ولدته محصنة بسعد الأسعد «6» نورا أضاء على البريّة كلّها ... من يهد للنّور المبارك يهتدى

أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا لهف نفسى ليتنى لم أولد بأبى وأمىّ من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النّبىّ المهتدى وظللت بعد وفاته متبلّدا «1» ... يا ليتنى صبّحت سمّ الأسود «2» أو حلّ أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو فى غد فتقوم ساعتنا فنلقى سيّدا ... محضا مضاربه كريم المحتد «3» يا ربّ فاجمعنا معا ونبيّنا ... فى جنة تفقى «4» عيون الحسّد فى جنّة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسّؤدد والله أسمع «5» ما حيبت بها لك ... إلّا بكيت على النبىّ محمّد ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الإثمد ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم يجحد «6» والله أهداه لنا وهدى به ... أنصاره فى كلّ ساعة مشهد صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطّيبون على المبارك أحمد ووقفت فاطمة الزّهراء رضى الله عنها على قبره صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما ضرّ من قد شمّ تربة أحمد ... ألا يشمّ مدى الزّمان غواليا «7» صبّت علىّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيّام صرن لياليا وقالت رضى الله عنها: أغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران

والأرض من بعد النبىّ كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرّجفان فلتبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكلّ يمانى وليبكه الطّود المعظّم جوّه ... والبيت ذو الأستار والأركان «1» يا خاتم الرّسل المبارك صنوه «2» ... صلّى عليك منزّل الفرقان نفسى فداؤك ما لرأسك مائلا ... ما وسّدوك وسادة الوسنان وقالت صفية بنت عبد المطلب: أفاطم بكّى ولا تسأمى ... بصبحك «3» ما طلع الكوكب هو المرء يبكى وحقّ البكا ... على الماجد السّيد الطيّب «4» فأوحشت الأرض من فقده ... وأىّ البريّة لا ينكب فمالى بعدك حتى المما ... ت إلّا الجوى الدّاخل المنصب «5» فبكّى الرسول وحقّت له ... شهود المدينة والغيّب لتبكيك شمطاء مضرورة ... إذا حجت الناس لا تحجب «6» ليبكيك شيخ أبو ولدة ... يطوف بعقوته أشهب «7» ويبكيك ركب إذا أرملوا ... فلم يلف ما طلب الطّلّب «8» وتبكى الأباطح من فقده ... وتبكيه مكّة والأخشب «9» فعينى مالك لا تدمعين ... وحقّ لدمعك يستسكب

وقالت صفية أيضا: عين جودى بدمعة تسكاب ... للنّبىّ المطّهر الأوّاب عين من تندبين بعد نبىّ ... خصّه الله ربّنا بالكتاب فاتح خاتم رءوف رحيم ... صادق القيل طيّب الأثواب مشفق ناصح شفيق علينا ... رحمة من إلهنا الوهّاب رحمة الله والسّلام عليه ... وجزاه المليك حسن الثّواب وقالت أروى بنت عبد المطلب: ألا يا عين ويحك أسعدينى ... بدمعك ما بقيت وطاوعينى ألا يا عين ويحك واستهلىّ ... على نور البلاد وأسعدينى فإن عذلتك عاذلة فقولى ... علام وفيم ويحك تعذلينى «1» على نور البلاد معا جميعا ... رسول الله أحمد فاتركينى فإلّا تقصرى بالعذل عنّى ... فلومى ما بدا لك أو دعينى لأمر هدّنى وأذلّ ركنى ... وشيّب بعد جدّتها قرونى وقالت عاتكة بنت عبد المطلب: يا عين جودى ما بقيت بعبرة ... سحّا على خير البريّة أحمد يا عين فاحتفلى وسحىّ واسمحى ... فابكى على نور البلاد محمّد «2» أنّى لك الويلات مثل محمّد ... فى كلّ نائبة تنوب ومشهد فابكى المبارك والموفّق ذا التّقى ... حامى الحقيقة ذا الرّشاد المرشد من ذا يفكّ عن المغلّل غلّه ... بعد المغيّب فى الضّريح الملحد

أم من لكلّ مدفّع ذى حاجة ... ومسلسل يشكو الحديد مقيّد «1» أم من لوحى الله ينزل بيننا ... فى كلّ ممسى ليلة أو فى غد فعليك رحمة ربّنا وسلامه ... يا ذا الفواضل والنّدى والسّؤد وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطّلب بن عبد مناف أخت مسطح: أشاب ذوائبى وأذاب ركنى ... بكاؤك فاطم الميت الفقيدا «2» فأعطيت العطاء فلم تكدّر ... وأخدمت الولائد والعبيدا «3» وكنت ملاذنا فى كلّ لزب ... إذا هبّت شآمية برودا «4» وإنّك خير من ركب المطايا ... وأكرمهم إذا نسبوا جدودا رسول الله فارقنا وكنّا ... نرجّى أن يكون لنا خلودا أفاطم فاصبرى فلقد أصابت ... رزيّتك التّهائم «5» والنّجودا وأهل البرّ والأبحار طرّا ... فلم تخطئ مصيبته وحيدا وكان الخير يصبح فى ذراه «6» ... سعيد الجدّ قد ولد السّعودا ورثاه صلّى الله عليه وسلّم غير هؤلاء مما لو استقصينا ذلك لطال، واتّسع فيه المجال، ومراثيه صلّى الله عليه وسلّم ومدائحه كثيرة تزداد فى كل عصر، وتتضاعف فى كلّ دهر، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا.

[صورة ما هو مكتوب بآخر هذا الجزء بنسخة]

[صورة ما هو مكتوب بآخر هذا الجزء بنسخة] كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى رحمه الله تعالى. وكان الفراغ منه فى يوم الاثنين المبارك تاسع جمادى الأولى سنة سبع وستين وتسعمائة، على يد كاتبه أفقر الخلق إلى رحمة ربه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ، غفر الله له ولوالديه، ولمن يقرأ له ولهم الفاتحة آمين. [صورة ما هو مكتوب فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج] كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه: أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بالنويرىّ عفا الله عنهم. ووافق الفراغ من كتابته فى يوم السبت المبارك لأربع بقين من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة؛ أحسن الله تقضيها، بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السابع عشر الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس فى أيام الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثير. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أتممنا بعون الله تعالى تحقيق الجزء الثامن عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة الدار، فى يوم السبت 14 من ربيع الثانى سنة 1374 هـ (11 من ديسمبر سنة 1954 م) . يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوّله: «الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين» . محمد محمد حسنين إبراهيم إطفيش المصحح بالقسم الأدبى المصحح بالقسم الأدبى

فهرس المراجع

فهرس المراجع 1 أسباب النزول للواحدى، هندية 1315 الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الأثير؛ الوهبية سنة 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1854 م. الإصابة فى تمييز الصحابة لابن حجر، السعادة والشرفية سنة 1323 الأصنام لابن الكلبى دار الكتب 1343 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1348 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م. تفسير الثعلبى مخطوط، رقم 1246 تفسير. تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى، حيدرآباد 1327 الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبى، دار الكتب المصرية. الجامع الصغير للسيوطى، بولاق سنة 1286 دلائل النبوة للبيهقى مخطوط، رقم 212 حديث. دلائل النبوّة لأبى نعيم الأصفهانى، حيدرآباد 1320 ديوان الأعشين، بيانة 1927 م. ديوان حسان بن ثابت الأنصارى، الرحمانية 1347 ديوان لبيد بن ربيعة، ليدن 1891 م. ومخطوط دار الكتب 547 أدب. الروض الأنف لأبى القاسم السهيلى، الجمالية 1332 سنن النسائى، الميمنة 1312 السيرة الحليية، بولاق 1292 2 شرح أبى شامة على القصيدة الشقراطيسية مخطوط رقم 247 أدب بدار الكتب. ورقم 16116 ز. سيرة ابن هشام، جوتنجن 1858 م. والحلبى بمصر 1355 شرح بانت سعاد لابن هشام، بولاق سنة 1290 شرح البخارى للقسطلانى، بولاق 1293 شرح ديوان زهير بن أبى سلمى، دار الكتب 1363 شرح ديوان كعب، دار الكتب 1369 شرح ديوان ليبد برواية الطوسى، فينّا 1880 م. شرح السيرة النبوية لأبى ذر، الخشنى، مطبعة هندية 1329 شرح الشفا للشهاب الخفاجى، الآستانة 1267 شرح قصيدة الأعشى الدالية مخطوط رقم 1736 أدب بدار الكتب. شرح المواهب للزرقانى، المطبعة الأميرية بولاق 1278 الشفا للقاضى عياض، الآستانة 1290 صحيح البخارى، المطبعة الأميرية 1296 صحيح الترمذى، بولاق 1292 صحيح ابن ماجه، مصر 1313 صحيح مسلم: بولاق 1290 والآستانة 1331 الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، ليدن 1322 عقد الجمان، فى تاريخ أهل الزمان نسخة مصورة بدار الكتب رقم 71 م.

1 الكتاب لسيبويه، بولاق 1316 لباب النقول، فى أسباب النزول للسيوطى، الحلبى 1302 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284 المعارف لابن قتيبة، جوتنجن 1850 م. معجم البلدان لياقوت الحموى، ليبزج 1868 م. مغنى اللبيب لابن هشام، الحلبى سنة 1302 2 المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى، الحلبى مصر 1324 المقتضب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموى- مخطوط بدار الكتب رقم 2785 تاريخ. الموطأ فى الحديث للإمام مالك بن أنس، السعادة 1331 النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، مصر 1311

الجزء التاسع عشر

الجزء التاسع عشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تصدير هذا هو الجزء التاسع عشر من كتاب «نهاية الأرب» لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى، تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أن أصدرت دار الكتب منه ثمانية عشر جزءا. ويشتمل هذا الجزء على تاريخ الثلاثة الأوائل من الخلفاء الراشدين: أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم، وذكر صفاتهم ومناقبهم والأحداث التى عاصرت حياتهم، والفتوح التى كانت فى أثناء خلافتهم. وقد سرت فى تحقيقه على المنهج الذى سار عليه القسم الأدبى بدار الكتب فيما أخرج من أجزاء؛ من الاعتماد على ما يقابل كل جزء من النسخ المخطوطة والمصورة بها. وقد وافق هذا الجزء من هذه النسخ نسختان: الأولى: النسخة المصورة عن مكتبة كبريلى بالأستانة، وهى نسخة كاملة تقع فى واحد وثلاثين جزءا؛ محفوظة بالدار برقم (549- معارف عامة) . والثانية: نسخة مصورة عن نسخة محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بالأستانة، وهذه النسخة كسابقتها تقع فى واحد وثلاثين جزءا أيضا. ويظن أنها بخط المؤلف؛ إلا أنها نسخة ناقصة، والأجزاء الموجودة منها بدار الكتب ثمانية عشر جزءا غير متصلة، محفوظة بدار الكتب برقم (551- معارف عامة)

وقد سبق أن وصفت هاتان النسختان فى مقدمة الجزء السادس عشر. وقد رمزت إلى النسخة الأولى بالحرف (ك) وإلى الثانية بالحرف (ص) . وقد رجعت فى التحقيق أيضا إلى تاريخ اليعقوبى، وتاريخ الطبرى، والمسعودى، وابن الأثير، وابن كثير، وكتاب الرياض النضرة للمحبّ الطبرى؛ إذ كانت هذه الكتب هى المادة نقل عنها المؤلف فى هذا الفن؛ فن التاريخ. ووشيت حواشيه بالقدر من التعليقات الذى يعين على تحرير النص وفهمه. وأسأل الله أن يوفق لإتمام نشر بقية أجزائه وطبعها، كما أسأله جلّ شأنه أن يجعل هذا العمل نافعا مقبولا. محمد أبو الفضل إبراهيم

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اللهمّ يسّر ولا تعسّر، واختم بخيراتك إنّك على كل شىء قدير، وصلّى الله على سيّدنا محمد. الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلىّ ابن أبى طالب، وأيّام الحسن بن علىّ رضوان الله عليهم أجمعين

ذكر خلافة أبى بكر الصديق وشىء من أخباره وفضائله

ذكر خلافة أبى بكر الصديق وشىء من أخباره وفضائله هو أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم [1] بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، ومجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند مرّة بن كعب. وأمه سلمى- وكنيتها أمّ الخير- بنت صخر بن كعب بن سعد ابن تيم [1] بن مرّة، وهى بنت عمّ أبيه. وكان رضى الله عنه ينعت بعتيق، وقد اختلف فى سبب نعته بذلك؛ فقال اللّيث بن سعد، وجماعة معه: إنّما قيل له عتيق لجماله وعتاقة وجهه. وقال مصعب الزّبيرىّ وطائفة من أهل النّسب: إنّما سمّى عتيقا لأنّه لم يكن فى نسبه شىء يعاب. وقال آخرون: كان له أخوان: أحدهما يسمّى عتيقا، والآخر عتيقا؛ مات عتيق قبله، فسمّى باسمه. وروى عن موسى بن طلحة، قال: سألت أبى طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبت، بأىّ شىء سمّى أبو بكر عتيقا؟ قال: كانت أمّه لا يعيش لها ولد، فلمّا ولدته استقبلت به البيت، وقالت: اللهمّ إنّ هذا عتيقك من الموت فهبه لى.

_ [1] ك: «تميم» وصوابه ما أثبته من ص.

وقال آخرون: إنّما سمّى عتيقا لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النّار فلينظر إلى هذا» ، فسمّى عتيقا بذلك. وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: إنّى لفى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه بالفناء:؛ وبينهم الستر، إذ أقبل أبو بكر رضى الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا» . قالت: وإنّ اسمه الذى سمّاه أهله لعبد الله بن عثمان، وسمّى رضى الله عنه بالصّدّيق؛ لمبادرته إلى تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كلّ ما جاء به. وقيل: بل قيل له الصديق؛ لتصديقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خبر الإسراء. وقال أبو محجن الثقفىّ فى أبى بكر رضى الله عنه: وسمّيت صدّيقا، وكلّ مهاجر ... سواك تسمّى باسمه غير منكر [1] سبقت إلى الإسلام، والله شاهد، ... وكنت جليسا بالعريش المشهّر وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنّبىّ المطهّر يعنى بقوله: «بالعريش» فى يوم بدر؛ لأنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العريش؛ لم يكن معه فيه غيره. وبقوله: وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا

_ [1] الاستيعاب 965.

ذكر نبذة من فضائل أبى بكر الصديق ومآثره فى الجاهلية والإسلام

قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا . [1] ولنبدأ من أخباره رضى الله عنه بذكر شىء من فضائله، والله المستعان، وعليه التّكلان. ذكر نبذة من فضائل أبى بكر الصديق ومآثره فى الجاهلية والإسلام كان رضى الله عنه فى الجاهلية وجيها، رئيسا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناق فى الجاهلية- والأشناق الدّيات- فكان إذ حمل شيئا قالت فيه قريش: صدّقوه، وامضوا حمالته [2] وحمالة من قام معه أبو بكر، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدّقوه. وكان رضى الله عنه ممّن حرّم الخمر على نفسه، وتنزّه عنها فى الجاهليّة، وكانت أشراف قريش تختلف إليه وتزوره، وتستشيره وتقتدى برأيه، وتتربص فى الأمور المعضلة إذا غاب إلى أن يقدم، ويدلّ على ذلك ما قدّمناه فى أوائل السّيرة النبويّة من خبره مع الشيخ الكبير الأزدىّ فى سفره إلى اليمن، وما بشّره الأزدىّ به من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنّه يعاونه على أمره، وأنّ أبا بكر رضى الله عنه لمّا رجع إلى مكّة، جاءه شيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش

_ [1] سورة التوبة 40. [2] الحمالة بالفتح: الدية يحملها قوم عن غيرهم.

مسلمين عليه. وقولهم له: حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى الناس، ولولا أنت ما انتظرنا به؛ فإذ جئت فأنت النّهية [1] ، وقد تقدم ذكر هذه القصة فى المبشرات برسول الله صلى الله عليه وسلم [2] . ومثل ذلك لا ينتظر به إلا من لا يمكن أن يقطع الأمر دونه. وفى هذا أقوى دلالة على فضله وشرفه، ومكانته لديهم. وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما فيها من خير وشر. وأما فضائله رضى الله عنه ومناقبه فى الإسلام فكثيرة جدا، قد أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضائل ومناقب، وخصّه بمزايا لم يخصّ بها غيره، وذكره فى مواطن لم يذكر فيها سواه. وقد تقدم من ذلك جملة فى أثناء السيرة النبوية فنشير الآن إليها، ونذكر ما سواها ممّا تقف عليه إن شاء الله تعالى. فمن فضائله التى تقدم ذكرها سابقته فى الإسلام، وأنّه رضوان الله عليه أول من أسلم من الذكور، وأول من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده إلى الشعبىّ، قال: سألت ابن عباس- أو سئل ابن عباس رضى الله عنهما: أىّ الناس كان أوّل إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:

_ [1] فى السيرة الحلبية 1: 275: «فأنت الغاية والكفاية» . [2] نهاية الأرب 16: 148.

إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا [1] خير البرية، أتقاها وأعدلها [2] ... بعد النبىّ، وأوفاها بما حملا الثانى التالى المحمود مشهده [3] ... وأوّل الناس حقّا صدّق الرّسلا [4] ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان بن ثابت: هل قلت فى أبى بكر شيئا؟ قال: نعم؛ وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع، وهو: وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صعّدوا الجبلا فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أحسنت يا حسان» . وروى أنّ فيها بيتا خامسا، وهو: وكان حبّ رسول الله إذ علموا [5] ... خير البرية لم يعدل به رجلا [6] ومما يؤيد أنه رضوان الله عليه أول من أسلم ما رواه الجريرىّ، عن أبى نضرة، قال: قال أبو بكر لعلىّ رضى الله عنهما: أنا أسلمت قبلك ... ، فى حديث ذكره، فلم ينكر عليه. ومن ذلك أنه رضى الله عنه فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. روى عن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: أنها قالت، وقد قيل لها: ما أشدّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودا فى المسجد الحرام، فتذكّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما يقول فى آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

_ [1] ديوانه 299. [2] الديوان: «أتقاها وأرأفها» . [3] الديوان: «المحمود شيمته» . [4] الديوان: «وأول الناس طرا» . [5] الديوان: «قد علموا» . [6] الاستيعاب 3: 963- 965.

فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شىء صدقهم، فقالوا: ألست تقول فى آلهتنا كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فتشبّثوا به بأجمعهم، فأتى الصّريخ إلى أبى بكر، فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم! أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ [1] ! فلهوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبلوا يضربونه. قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمسّ شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ومنها، أنه رضى الله عنه أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يملكه، طيّبة بذلك نفسه. روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفا، أنفقها كلّها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفى سبيل الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعنى مال مثل ما نفعنى مال أبى بكر» . ومن رواية أخرى عنه قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف دينار، وأعتق سبعة كلّهم يعذّب فى الله، أعتق بلالا، وعامر ابن فهيرة، وزنّيرة، والنّهدية [2] وابنتها، وجارية بنى نوفل، وأم عبيس. وقد تقدّم خبرهم فى السيرة النبوية. ومنها، أنه رضى الله عنه أسلم على يديه بدعائه نصف العشرة

_ [1] سورة غافر 28. [2] ص: «والهدية» .

المشهود لهم بالجنة، وهم: الزّبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، رضوان الله عليهم أجمعين. وأسلم أبواه، وصحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسلم بنوه كلّهم، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبوه أبو قحافة، وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، وابن ابنه محمد ابن عبد الرحمن، وليست هذه المنقبة لأحد من الصحابة غيره. ومن ذلك أنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الغار، ورفيقه فى هجرته، وناهيك بهما! وسمّاه عز وجل فى كتابه: «صاحبه» . فقال تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [1] . روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه؛ لم يأمن على نفسه غيره حتى دخلا الغار. وعن حبيب بن أبى ثابت فى قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [2] . قال: على أبى بكر؛ فأمّا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت عليه السّكينة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «أنت صاحبى على الحوض، وصاحبى فى الغار» . وعن سفيان بن عيينة، قال: عاتب الله عز وجلّ المسلمين

_ [1] سورة التوبة 40.

كلّهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أبا بكر، فإنه خرج من المعاتبة، قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ. ومن فضائله ومزاياه رضى الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدمه للصّلاة [1] بالمسلمين فى حياته، وأمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد، إلّا باب أبى بكر، وقد تقدّم ذلك [2] . ومنها ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «رأيت فى المنام أنّى وزنت بأمّتى فرجحت، ثم وزن أبو بكر فرجح، ثمّ وزن عمر فرجح» . وهذا دليل على أنه رضوان الله عليه أرجح من الأمة أكثر من مرتين، فإنه رجح الأمة، وعمر رضى الله عنه فيهم، ورجح عمر الأمة. ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ لا محالة. وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ما سابقت أبا بكر إلى خير قطّ. إلّا سبقنى إليه؛ ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالصدقة، قال عمر بن الخطاب وكان عندى مال كثير. فقلت: والله لأفضلنّ أبا بكر هذه المرّة، فأخذت نصف مالى وتركت نصفه، فأتيت به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «هذا مال كثير، فما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم نصفه؛ وجاء أبو بكر بمال كثير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.

_ [1] ص: «فى الصلاة» . [2] ص: «ذكر ذلك» .

وفى رواية: قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى [1] ؛ نزلت فى أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: كنت عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّها [2] فى صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، مالى أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها فى صدره بخلال! فقال: «يا جبريل، أنفق ماله علىّ قبل الفتح» ، قال: فإنّ الله عزّ وجل يقرأ عليك السّلام، ويقول: قل له: أراض أنت علىّ فى فقرك هذا، أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربّى! أنا عن ربّى راض، أنا عن ربى راض، أنا عن ربى راض. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما، عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: هبط علىّ جبريل وعليه طنفسة، وهو متخلّل بها، فقلت: يا جبريل، لم نزلت إلىّ فى مثل هذا الزّىّ [3] ؟ قال إنّ الله أمر الملائكة أن تتخلّل فى السماء كتخلل أبى بكر فى الأرض. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم صائما اليوم؟» قال أبو بكر رضى الله عنه: أنا، قال: «من أطعم اليوم مسكينا؟» قال أبو بكر: أنا،

_ [1] سورة الليل 5، 6. [2] خلها فى صدره، يريد ربطها فى صدره. [3] ك: «الرى» تحريف.

قال: «من عاد اليوم مريضا؟» قال أبو بكر: أنا، فقال: «من شهد اليوم منكم جنازة؟» [فقال أبو بكر: أنا] [1] ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما اجتمعت هذه الخصال فى رجل قطّ إلّا دخل الجنة» . وعن ابن أبى أوفى، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل على أبى بكر وقال: «إنى لأعرف اسم رجل واسم أبيه، واسم أمّه؛ إذا دخل الجنّة لم تبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قال: مرحبا مرحبا!» ، فقال سلمان: إن هذا لغير خائب» : فقال: «ذاك أبو بكر بن أبى قحافة» . وعن سلمان بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر وعمر خير الأرض إلّا أن يكون نبيا» . قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه واحدة منهنّ يدخل بها الجنة» ، قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فىّ شىء منهنّ؟ قال: «نعم، جميعا من كلّ» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنّة الذى تدخل منه [2] أمّتى، فقال أبو بكر: وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنّة من أمّتى» . وعن أبى أمامة قال: استطال أبو بكر ذات يوم على عمر، فقام

_ [1] تكملة من ص [2] ص: عنه.

عمر مغضبا، فقام أبو بكر فأخذ بطرف ثوبه، فجعل يقول: ارض عنى، اعف عنّى، عفا الله عنك! حتى دخل عمر الدّار وأغلق الباب دون أبى بكر ولم يكلّمه؛ فبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلم فغضب لأبى بكر، فلمّا صلّى الظهر جاء عمر، فجلس بين يديه، فصرف النبىّ صلّى الله عليه وسلم وجهه عنه، فتحوّل يمينا فصرف وجهه عنه، فلمّا رأى ذلك ارتعد وبكى، ثم قال: يا رسول الله، قد أرى إعراضك عنى، وقد علمت أنك لم تفعل هذا إلّا لأمر قد بلغك عنى، موجدة علىّ فى نفسك [1] ، وما خير حياتى وأنت علىّ ساخط، وفى نفسك علىّ شىء! فقال: «أنت القائل لأبى بكر كذا وكذا، ثم يعتذر إليك فلا تقبل منه!» ثم قام النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنّ الله عز وجل بعثنى إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال صاحبى: صدقت؛ فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى!» ثلاثا. فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، رضيت بالله ربّا. وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيا. فقام أبو بكر فقال: والله لأنا بدأته، ولأنا كنت أظلم، فأقبل عمر على أبى بكر فقال: ارض عنى رضى الله عنك، فقال أبو بكر: يغفر الله لك! فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت أن أبعث رجالا من أصحابى إلى ملوك الأرض يدعونهم إلى الإسلام كما بعث عيسى بن مريم الحواريّين» .

_ [1] كذا فى ص وفى ك: «نفسى» .

قالوا: يا رسول الله، أفلا تبعث أبا بكر وعمر فهما أبلغ! فقال: «لا غنى لى عنهما؛ إنما منزلتهما من الدّين منزلة السمع والبصر من الجسد» . وعن أبى أروى الدّوسىّ، قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى أيّدنى بكما» . وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبى بكر: «يا أبا بكر، إنّ الله أعطانى ثواب من آمن بى منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وإن الله أعطاك يأبا بكر ثواب من آمن بى منذ بعثنى إلى يوم تقوم الساعة» وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لى وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر» . وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر [وعمر] [1] : «ألا أخبر كما بمثلكما من الملائكة، ومثلكما فى الأنبياء؟ أمّا مثلك أنت يا أبا بكر فى الملائكة فمثل ميكائيل، ينزل بالرحمة، ومثلك أيضا فى الأنبياء كمثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، وصنعوا به ما صنعوا، فقال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2] . ومثلك يا عمر فى الملائكة كمثل جبريل، ينزل بالبأس والشدّة والنّقمة على أعداء الله؛ ومثلك فى الأنبياء كمثل نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [3]

_ [2] تكملة من ص. [1] سورة إبراهيم 36. [3] سورة نوح 26.

وعن عمّار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتانى جبريل آنفا، فقلت له: يا جبريل، حدّثنى بفضائل عمر ابن الخطاب فى السماء. فقال: يا محمد، لو حدّثتك بفضائل عمر بن الخطاب فى السّماء مثل ما لبث نوح فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ما نفدت فضائل عمر، وإنّ عمر حسنة من حسنات أبى بكر» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: هبط جبريل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فوقف ثلاثا يناجيه؛ فمرّ أبو بكر الصديق فقال جبريل: يا محمّد، هذا ابن أبى قحافة؛ قال: يا جبريل، وتعرفونه فى السماء؟ قال: إى والذى بعثك بالحقّ؛ لهو أشهر فى السماء منه فى الأرض، وإن اسمه فى السماء للحليم» . وعن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه سلم: «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجح» . وعن عبد الرحمن بن أبى بكر؛ أنّه كان يوم بدر مع المشركين، فلمّا أسلم قال لأبيه: لقد اهتدفت [1] لى يوم بدر، فصرفت، عنك ولم أقتلك؛ فقال أبو بكر: لكنّك لو اهتدفت لى لم أنصرف [2] عنك. وعن ابن غنم، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر، وعمر: «لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتانى جبريل فقال: يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تستشير أبا بكر» .

_ [1] ك: «اهتديت» . [2] ص: «أصرف» .

وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد ومعه المهاجرون والأنصار، ما أحد منهم يرفع رأسه من حبوته إلا أبو بكر وعمر، فإنّه كان يبتسم إليهما ويبتسمان إليه. وعن الزّبير بن العوّام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك: «اللهمّ بارك لأمّتى فى أصحابى، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابى فى أبى بكر، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتّت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره. اللهم أعن عمر ابن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفّان، ووفّق علىّ بن أبى طالب، وثبّت الزبير، واغفر لطلحة، وسلّم سعدا، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بى [1] السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. وقيل: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجّة الوداع صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يأيّها الناس، إنّ أبا بكر لم يسؤنى قطّ، فاعرفوا ذلك له. يأيّها الناس، إنّى راض عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلىّ بن أبى طالب، وطلحة ابن عبيد الله والزّبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن ابن عوف والمهاجرين الأولين، فاعرفوا ذلك لهم. يأيّها الناس، إنّ الله قد غفر لأهل بدر والحديبية. يأيّها الناس، احفظونى فى أحبابى وأصهارى وفى أصحابى، لا يطلبنّكم الله بمظلمة أحد منهم، فإنها ليست فيما يوهب. يأيّها النّاس، ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، إذا مات الرجل، فلا تقولوا فيه إلا خيرا» ، ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم.

_ [1] ك: «فى» تحريف.

وعن عمرو بن العاص، أنّه أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أىّ الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: من الرجال، قال: أبوها. قال: ثم من؟ قال: عمر . وعن عبد الله بن أبى أوفى، قال: كنّا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّى مشتاق إلى إخوانى» ، فقلنا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله! قال: «كلّا، أنتم أصحابى وإخوانى» ، فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: «إنى لمشتاق إلى إخوانى، فقلنا: ألسنا إخوانك؟ فقال: لا، إخوانى قوم يؤمنون بى ولم يرونى. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «ألا تحبّ قوما بلغهم أنّك تحبنى فأحبوك لحبّك إياى، فأحبهم الله» ! وعنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على علىّ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحبّهما فحبّهما يدخل الجنّة» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وشكره واجب على أمتى» . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وعمر إيمان، وبغضهما كفر» . وعن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لمّا ولد أبو بكر الصّديق أقبل الله تعالى على جنّة عدن، فقال: وعزّتى وجلالى لا أدخلك إلّا من يحبّ هذا المولود» - يعنى أبا بكر.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ فى السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله تعالى لمن أحبّ أبا بكر وعمر؛ وفى السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر» وعن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد بين أبى بكر وعمر، وهو معتمد عليهما، فقال: «هكذا ندخل الجنة جميعا» . وعن عائشة رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة أبو بكر؛ الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر» . وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تأتى الملائكة بأبى بكر الصديق مع النبيّين والصّدّيقين تزفّه إلى الجنة زفّا» . وعن ثابت، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات! زفّته الملائكة إلى الجنة» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كأنّى بك يا أبا بكر على باب الجنّة تشفع لأمّتى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش:

ذكر صفة أبى بكر الصديق

ألا هاتوا أصحاب محمد» ، قال: فيؤتى بأبى بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان، فيقال لأبى بكر: قف على باب الجنّة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان فثقّل من شئت برحمة الله، وخفّف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفّان عصا آس، التى غرسها الله عزّ وجل فى الجنة، ويقال له: ذد النّاس عن الحوض» . وقد ورد فى الصحيحين من فضائل أبى بكر رضى الله عنه ما فيه مقنع، وفضائله رضوان الله عليه كثيرة، وقد ذكرنا جملة كافية، فلنذكر صفته. ذكر صفة أبى بكر الصديق كان رجلا نحيفا [1] طويلا أبيض، خفيف العارضين أجنأ [2] ، لا يستمسك إزاره، يسترخى عن حقويه [3] ، معروق الوجه [4] ، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عارى الأشاجع [5] . هكذا وصفته عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها. وكان يخضب بالحنّاء والكتم [6] .

_ [1] ك: «منحفا» تحريف. [2] أجنأ: أشرف كاهله على صدره. [3] الحقو، بالفتح ويكسر: الكشح والإزار أو معقد. [4] معروق الوجه: قليل اللحم فيه. [5] الأشاجع: أصول الأصابع التى تتصل بعصب ظاهر الكف. [6] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه.

ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على أمته من بعده وحجة من قال ذلك

ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على أمته من بعده وحجة من قال ذلك قال الفقيه الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ النمرىّ رحمه الله: استخلف [1] رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضى الله عنه على أمته من بعده؛ بما أظهر من الدلائل البينّة على محبّته فى ذلك، وبالتعريض الذى يقوم مقام التّصريح، ولم يصرّح بذلك لأنه لم يؤمر فيه بشىء. وكان صلى الله عليه وسلّم لا يصنع شيئا فى دين الله إلا بوحى، والخلافة ركن من أركان الدين. قال: ومن الدليل الواضح [2] على ما قلنا، ما حدّثنا سعيد ابن نصر وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا منصور بن سلمة. وأخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا الميمون بن حمزة الحسينىّ بمصر، قال: حدثنا الطّحاوىّ؛ قال: حدثنا المزنىّ، قال: حدّثنا الشافعىّ؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد بن أبى وقّاص عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسألها عن شىء، فأمرها أن ترجع إليه. فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - تعنى الموت- فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدينى فأت أبا بكر» .

_ [1] الاستيعاب 969 وما بعدها. [2] الاستيعاب: «الدلائل الواضحة» .

قال الشافعىّ رحمه الله: فى هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر. وقد تقدم فى السيرة النبويّة عن عاصم، عن قتادة، قال: ابتاع النبى صلى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل، فقال: يا رسول، إن جئت فلم أجدك؟ - يعنى الموت-، قال: فائت أبا بكر، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر؟ [يعنى] [1]- بعد الموت، قال: فائت عمر، قال: إن جئت فلم أجد عمر؟ قال: إن استطعت أن تموت إذا مات عمر، فمت. وساق أبو عمر [2] بن عبد البرّ فى أدلّته على استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أحاديث الصلاة، وكونه استخلفه أن يصلّى بالناس فى مرضه. وقد قدمنا ذكر ذلك كلّه فى خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وممّا يؤيد ذلك ويعضّده ما قدّمناه من حديث عائشة رضى الله عنها، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها: «لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك، أو أخيك فأقضى أمرى، وأعهد عهدى؛ فلا يطمع فى الأمر طامع، ولا يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون» ثم قال: «كلا يأبى الله ويدفع المؤمنون» ، أو «يدفع الله ويأبى المؤمنون» . وقال بعضهم فى حديثه: «ويأبى الله إلا أبا بكر» . وفى الحديث الآخر عن أبى مليكة، قال: قال النبىّ صلّى الله

_ [1] تكملة يقتضيها السياق. [2] ك: «أبو بكر» وهو خطأ.

عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» ، فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل يغلبه البكاء؛ ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب؛ قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر، قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، فقال: «إنكن صواحب يوسف، ادعوا أبا بكر وابنه؛ فليكتب؛ أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع، أو يتمنى متمنّ» . ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون!» . قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون. وفى هذا الحديث والذى قبله تصريح [1] على أنه الخليفة بعده، ودليل على أن الكتاب الّذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه، وتركه لما كثر عنده التنازع؛ إنما كان المراد به أن ينصّ على أبى بكر فى الخلافة. والله تعالى أعلم. وروى أبو عمر بسنده إلى عبد الله بن مسعود، أنه قال: اجعلوا إمامكم خيركم؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل إمامنا خيرنا بعده. وروى الحسن البصرىّ، عن قيس بن عباد، قال: قال لى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرض ليالى وأياما، ينادى بالصلاة فيقول: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» ؛ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نظرت، فإذا الصّلاة علم الإسلام، وقوام الدّين، فرضينا لدنيانا ما رضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا، فبايعنا أبا بكر [2] .

_ [1] ص: «التصريح» . [2] الاستيعاب 971.

وكان أبو بكر رضى الله عنه يقول: أنا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولذلك كان يدعى: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى عن ابن أبى مليكة، قال: قال رجل لأبى بكر يا خليفة الله، قال: لست خليفة الله؛ ولكن أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا راض بذلك. وروى أبو عمر بسنده، عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر رضى الله عنهما. وكان علىّ رضى الله عنه يقول: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا [1] فتنة يغفر الله فيها عمّن يشاء. وقال: رحم الله أبا بكر! كان أول من جمع بين اللّوحين [2] . وقال أبو عمر بن عبد البر: وروينا من وجوه، عن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، أنه قال: ولينا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا؛ وأحناه علينا [3] . وقال مسروق: حبّ أبى بكر وعمرو معرفة فضلهما من السنّة. وروى عن علىّ رضى الله أنه قال: لا يفضّلنى أحد على أبى بكر وعمر إلّا جلدته جلد المفترى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

_ [1] كذا فى ك، وفى ص «خبطنا» وفى الاستيعاب: «حفتنا» . [2] الاستيعاب 972. [3] الاستيعاب 972.

ذكر بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وخبر السقفية، وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الإمارة

ذكر بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وخبر السقفية، وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الإمارة بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالخلافة فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة من الهجرة؛ وهو اليوم الّذى مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى سقيفة [1] بنى ساعدة، وذلك قبل أن يشرع فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان من خبر سقيفة بنى ساعدة، أنّه لمّا توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اجتمعت الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة، وقالوا: نولّى هذا الأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد ابن عبادة، وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فلمّا اجتمعوا قال سعد لأبيه- أو لبعض بنى عمّه: إنى لا أقدر أشكو، أى أن أسمع القوم كلهم كلامى؛ ولكن تلقّ منى قولى فأسمعهموه [2] ، فكان سعد يتكلّم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع به صوته، فيسمع أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، إنّ لكم سابقة فى الدين، وفضيلة فى الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لبث بضع عشرة سنة فى قومه يدعوهم إلى عبادة

_ [1] ك: «فى السقيفة» . [2] ص: «فاستمعوه» ، وخبر يوم السقيفة فى تاريخ الطبرى 3: 203- 223

الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلّا رجال قليل؛ والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزّوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم فيما عمّوا به؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة؛ ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه. فكنتم أشدّ الناس على عدوّه من غيركم؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا [1] ؛ وحتى أثخن [2] الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب. وتوفّاه الله إليه وهو عنكم راض، وبكم قرير العين. استبدّوا بهذا الأمر دون النّاس؛ فإنه لكم دون الناس. فأجابوه بأجمعهم، أن قد وفّقت فى الرأى، وأصبت فى القول، ولن نعدو ما رأيت؛ نولّيك هذا الأمر؛ فإنك فينا رفيع، ولصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادّاوا الكلام، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش؟ فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولون. ونحن عشيرته وأولياؤه؛ فعلام تنازعوننا الأمر من بعده؟ فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا فمنّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر رضى الله عنه الخبر، فأقبل إلى منزل النبىّ صلّى الله

_ [1] داخرا، أى ذليلا. [2] أثخن: أو غل.

عليه وسلّم، فأرسل إلى أبى بكر، وأبو بكر فى الدار، وعلىّ بن أبى طالب دائب فى جهاز النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فأرسل إلى أبى بكر، أن اخرج إلىّ؛ فأرسل إليه: إنّى مشتغل، فأرسل إليه: إنه قد حدث [1] أمر لا بدّ لك من حضوره، فخرج إليه، فقال: أما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت فى سقيفة بنى ساعدة، يريدون أن يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة؛ وأحسنهم مقالة من يقول: منّا أمير ومن قريش أمير! فخرجا [2] مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدىّ وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا. فاقضوا أمركم بينكم؛ فإنّه لم يكن إلا ما تحبون، فقالوا: لا نفعل. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى حديثه: فقلت: والله لنأتينّهم! قال: فأتيناهم [3] وهم مجتمعون فى سقيفة بنى ساعدة وإذا بين أظهرهم رجل مزمّل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة. قلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم، فحمد الله وقال: أمّا بعد، فنحن الأنصار، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهطنا، وقد دفّت إلينا من قومكم دافّة. قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا

_ [1] ك: «قد حدث لك أمر» . [2] ص: «فخرجنا» . [3] ص: «خلفناهم» .

الأمر. وقد كنت زوّرت فى نفسى مقالة أقدّمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحدّ، وهو كان أوقر منى وأحلم، فلمّا أردت أن أتكلّم قال لى: على رسلك! وكرهت أن أغضبه، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، فما ترك شيئا زوّرت فى نفسى أن أتكلم به لو تكلمت، إلا قد جاء به، أو بأحسن منه. وقال: أمّا بعد، يا معشر الأنصار، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلا إلّا أنتم له أهل، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحىّ من قريش؛ هم أوسط العرب دارا ونسبا، وإنّى قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم. وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح. يقول عمر وهو على المنبر: وإنّى والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة، أن كنت أقدّم فتضرب عنقى أحبّ إلىّ من أن أؤمّر على قوم فيهم أبو بكر. قال: فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب؛ منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال عمر: وارتفعت الأصوات، وكثر اللغظ، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبى بكر: ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار، ثمّ نزوا على سعد؛ حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعدا! وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبى بكر، إنّا خشينا إن

فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما نرضى، أو نخالفهم فيكون فشل. ومن رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمر الأنصارىّ، وذكر ما تكلّم به أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وما قاله الأنصار، فقال بعد أن ساق ما تقدم أو نحوه، ثم قال: فبدأ أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلّم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمّته؛ ليعبدوا الله ويوحّدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، يزعمون أنّها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنّما هى حجر منحوت، وخشب منجور. ثم قرأ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [1] ، وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [2] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة [له] [3] والصبر معه، على شدّة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إيّاهم، وكلّ الناس لهم مخالف، وعليهم زار [4] ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف النّاس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد الله فى الأرض، وآمن بالله والرّسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم

_ [1] سورة يونس 18. [2] سورة الزمر 3. [3] تكملة من ص. [4] زار: محتقر.

ذلك إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار، أنتم من لا ينكر فضلهم فى الدّين، ولا سابقتهم العظيمة فى الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفاتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور. قال: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم. فإنّ الناس فى فيئكم وفى ظلّكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم؛ وأنتم أهل العزّ والثّروة، وأولو العدد والتجربة، وذوو البأس والنّجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وتنتقض [عليكم] [1] أموركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان فى قرن! إنه والله لا يرضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها صلى الله عليه وسلّم من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولّى أمورها من كانت النبوّة فيهم، وولىّ أمورهم منهم؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته؛ ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم أو متوّرط. فى هلكة!. فقام الحباب بن المنذر، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من

_ [1] زيادة من تاريخ الطبرى.

هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولّوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم؛ فإنه بأسيافكم دان [1] لهذا الدّين من لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرّجّب؛ أما والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعة [2] ! فقال له عمر: إذن يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر. فقال بشير بن سعد، أبو النعمان بن بشير: يا معشر الأنصار، إنّا والله لئن كنّا أولى فضيلة فى جهاد المشركين، وسابقة فى هذا الدّين، ما أردنا به إلا رضا ربّنا، وطاعة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، والكدح لأنفسنا؛ ما ينبغى لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغى به من الدنيا عرضا، فإن الله ولىّ المنة علينا بذلك؛ ألا إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وقومه أحقّ به وأولى. وايم الله لا يرانى الله أنازعهم هذا الأمر أبدا! فاتقوا الله ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم. فقال أبو بكر رضى الله عنه: هذا عمر وأبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا؛ فقالا: والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وثانى اثنين إذ هما فى الغار، وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصلاة، والصّلاة أفضل دين المسلمين،

_ [1] دان: خضع. [2] جذعة: فتية.

فمن ذا ينبغى له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك! ابسط نيايعك [1] فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه المنذر بن الحباب: يا بشير بن سعد، عققت عقاق [2] ! ما أحوجك [3] إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمّك الإمارة! قال: لا والله، ولكن كرهت أن أنازع قوما [حقا] [4] جعله الله لهم. قال: ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض- وفيهم أسيد بن حضير: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة، لازالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا [فقوموا] [4] فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، وانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمرهم. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه: فروى عن أبى بكر بن محمد الخزاعىّ: إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بها السكك ليبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلّا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنّصر. قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل النّاس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه، اقتلوه، قتله الله! ثم قام

_ [1] ص: «ابسط يدك نبايعك» . [2] ك: «عقتك عقاق» . [3] ص: «ما أخرجك إلى ما صنعت» . [4] تكملة من تاريخ الطبرى.

على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك [1] ؛ فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، ثم قال: والله لو حصصت منها شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة [2] . فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق هاهنا أبلغ! فأعرض عنه عمر؛ وقال سعد: أما والله لو أنّ بى من قوتى ما أقوى على النهوض لسمعتم منى فى أقطارها وسككها زئيرا يجحرك [3] وأصحابك. أما والله إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع. احملونى عن هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره، وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع؛ فقد بايع الناس وبايع قومك؛ فقال: أما والله حتّى أرميكم بما فى كنانتى من نبل، وأخضب منكم سنان رمحى، وأضربكم بسيفى ما ملكته يدى، وأقاتلكم بأهل بيتى ومن أطاعنى من قومى، فلا أفعل وايم الله: لو أن الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربى وأعلم ما حسابى. فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع؛ فقال له بشير بن سعد: إنه قد لجّ [وأبى] [4] وإنه ليس يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته. فاتركوه، فليس تركه يضارّكم، إنما هو رجل واحد. فتركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه

_ [1] أى تزال عن موضعها، وفى الطبرى: «عضدك» . [2] الواضحة من الأسنان: التى تبدو عند الضحك. [3] يجحرك وأصحابك، أى يدخلكم المضايق. [4] زيادة من تاريخ الطبرى.

لما بدا لهم منه؛ فكان سعد بن عبادة لا يصلّى بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وعن الضّحاك بن خليفة، أنّ سعد بن عبادة بايع. وعن جابر، قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبى بكر: إنّكم يا معشر المهاجرين حسدتمونى على الإمارة، وإنّك وقومى أجبرتمونى على البيعة؛ فقال أبو بكر: إنّا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت فى سعة، ولكنّا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة فيها؛ لئن نزعت يدا من طاعة، أو فرّقت جماعة لأضربنّ الذى فيه عيناك. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله؛ أنّ عمر رضى الله عنه قال: نشدتكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس! فقالوا: اللهمّ نعم، قال: فأيّكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم! فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله. وبايعوه [1] . قال: ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش، ثم بايعوه بعد غير سعد.

_ [1] الاستيعاب 970.

وقيل: إنه لم يتخلّف عن بيعته يومئذ أحد من قريش. وقيل: تخلّف عنه من قريش: علىّ، والزّبير، وطلحة، وخالد ابن سعد بن العاص. ثم بايعوه بعد. وقد قيل: إن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة رضى الله عنها، ثم لم يزل سامعا مطيعا له؛ يثنى عليه ويفضّله. وقيل: إنه تخلّف علىّ وبنو هاشم والزّبير وطلحة عن البيعة، وقال الزّبير: لا أغمد سيفى حتى يبايع علىّ، فقال عمر: خذوا سيفه، فاضربوا به الحجر؛ ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة. وقيل: إنّ عليّا لما سمع ببيعة أبى بكر خرج فى قميص، ما عليه إزار ولا رداء، عجلا حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه. وحكى محمد بن إسحاق رحمه الله؛ عن عبد الله بن أبى بكر، أنّ خالد بن سعيد بن العاص قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتربّص ببيعته لأبى بكر شهرين، وكان يقول: قد أمّرنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعزلنى، ثم بايع أبا بكر. فلمّا بعث أبو بكر الجنود إلى الشام، كان أول من بعث على ربع منها خالد بن سعيد، فلم يزل به عمر حتى عزله، وأمّر يزيد ابن أبى سفيان، وكان عمر رضى الله عنه قد اضطغن عليه تأخره عن بيعة أبى بكر. وعن عكرمة، قال: لمّا بويع لأبى بكر تخلّف عن بيعته علىّ، وجلس فى بيته، فلقيه عمر، فقال: تخلّفت عن بيعة أبى بكر،

فقال: إنّى أكتب بيمين حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألّا أرتدى برداء إلّا إلى الصلاة المكتوبة؛ حتى أجمع القرآن؛ فإنى خشيت أن ينفلت، ثم خرج فبايع. وعن مالك بن مغول [1] ، عن ابن أبجر، قال: لما بويع لأبى بكر الصديق جاء أبو سفيان بن حرب إلى علىّ، فقال: غلبكم على هذا الأمر أرذل بيت فى قريش! أما والله لأملأنّها خيلا ورجلا! فقال له علىّ: ما زلت عدوّ الإسلام وأهله، فما ضرّ ذلك الإسلام وأهله شيئا. إنّا رأينا أبا بكر لها أهلا. ورواه عبد الرزاق، عن ابن المبارك. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عليّا والزبير كانا حين بويع [2] لأبى بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها فى أمرهم، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها فقال: يا بنت رسول الله، ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك، وقد بلغنى أن هؤلاء النّفر يدخلون عليك، ولئن بلغنى لأفعلنّ ولأفعلنّ! ثم خرج وجاءوها فقالت لهم: إن عمر قد جاءنى وحلف إن عدتم ليفعلنّ، وايم الله ليفينّ بها، فانظروا فى أمركم، ولا تنظروا إلىّ؛ فانصرفوا ولم يرجعوا حتى بايعوا لأبى بكر. رضى الله عنهم أجمعين [3] . وهذا الحديث يردّ قول من زعم أن علىّ بن أبى طالب لم يبايع إلا بعد وفاة فاطمة رضى الله عنها.

_ [1] ص: «معول» . [2] ص: «بايع» . [3] الاستيعاب 975.

ولما بويع لأبى بكر رضى الله عنه، قال ابن [أبى] [1] عزّة القرشى الجمحىّ: شكرا لمن هو بالثّناء خليق ... ذهب الّلجاج وبويع الصّدّيق من بعد ما ذهبت بسعد بغله ... ورجا رجاء دونه العيّوق جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتى به الصديق والفاروق [2] وأبو عبيدة والّذين إليهم ... نفس المؤمّل للبقاء تتوق كنّا نقول لها علىّ والرضا ... عمر وأولاهم بتلك عتيق فدعت قريش باسمه فأجابها ... إنّ المنوّة باسمه الموثوق وروى عن سعيد بن المسيّب، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارتجّت مكة، فسمع أبو قحافة، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قالوا: أمر جلل، فمن ولى بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطى لما منع الله. والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] من الاستيعاب 976. [2] ص: «فأتاهم الصديق» .

ذكر ما تكلم به أبو بكر الصديق بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية العامة

ذكر ما تكلم به أبو بكر الصديق بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية العامة روى [1] أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر رضى الله عنه فى السّقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبى بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: أيها الناس، إنّى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلّا عن رأيى، وما وجدتها فى كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن قد كنت أرى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيدبّر أمرنا حتى يكون آخرنا، وإنّ الله قد أبقى فيكم كتابه الّذى هدى به رسوله، فإن اعتصتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإنّ الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثانى اثنين إذ هما فى الغار؛ فقوموا فبايعوا. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامّة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالّذى هو أهله، ثم قال: أمّا بعد؛ أيها النّاس، فإنّى قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقوّمونى، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قوىّ عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوىّ منكم الضعيف عندى، حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله، فإنّه لا يدعه قوم إلّا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلّا عمّهم الله بالبلاء.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 210.

أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم؛ قوموا إلى صلاتكم، يرحمكم الله. - يعنى بالصّلاة هنا، الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فإن خطبته هذه كانت قبل دفنه صلّى الله عليه وسلّم. وقول عمر بن الخطاب فى كلامه: «إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة» ، إشارة إلى ما كان قد تكلّم به عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إنكاره أنّه مات، على ما قدّمنا ذكره فى خبر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإنّما أوضحنا هذا الكلام فى هذا الموضع لئلا يتبادر إلى ذهن من يسمعه ممنّ لم يطالع ما قبله، ولا علم الواقعة فيتوهّم أن كلامه بذلك رجوع عمّا تكلّم به بالأمس فى شأن بيعه أبى بكر رضى الله تعالى عنه. وعن عاصم بن عدىّ، أنه قال [1] : وقام أبو بكر رضى الله عنه من بعد الغد- يعنى من يوم بيعته- فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: يأيّها الناس؛ إنما أنا مثلكم، وإنّى لا أدرى لعلكم ستكلّفوننى ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق، إنّ الله اصطفى محمّدا على العالمين، وعصمه من الآفات، فإنّما أنا متّبع ولست بمبتدع فإن استقمت فاتّبعونى، وإن زغت فقوّمونى، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة؛ ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإنما لى شيطان يعترينى، فإذا أتانى فاجتنبونى، لا أؤثّر فى أشعاركم وأبشاركم، وإنكم تغدون وتروحون

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 223، 224.

فى أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم ألّا يمضى هذا الأجل إلّا وأنتم فى عمل صالح فافعلوا، ولن تستيطعوا ذلك إلّا بالله. فسابقوا فى مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنّ قوما نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجدّ الجدّ، والوحى الوحى [1] ، والنّجاة النّجاة، وإنّ وراءكم طالبا حثيثا، أجلا مرّه سريع. واحذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبط به الأموات. وقام أيضا رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله لا يقبل من الأعمال إلّا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أنّ ما أخلصتم لله من أعمالكم، فطاعة أتيتموها، وحظّ ظفرتم به، وضرائب أدّيتموها، وسلف قدّمتموه من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، واعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وفكّروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس وأين هم اليوم! أين الجبّارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة ومواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدّهر وصاروا رميما، قد تركت عليهم القالات [2] ؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات.

_ [1] الوحى: الإسراع. [2] ص: «المقالات» .

وأين الملوك الّذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا، ونسى ذكرهم، وصاروا كلا شىء. ألا إنّ الله قد أبقى عليهم التّبعات، وقطع عنهم الشّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدّنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا. أين الوضّاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم! صاروا ترابا، وصار ما فرّطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن؛ وحصّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب! قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم فى ظلمات القبور، هل تحسّ منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا [1] ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم؛ فوردوا على ما قدّموا، فحلّوا عليه، وأقاموا للشّقوة أو السّعادة فيما بعد الموت؛ ألا إنّ الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، ولا يصرف به عنه شرّا إلا بطاعته واتّباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مذنبون، وأنّ ما عنده لا يدرك إلّا بطاعته. ألا وإنّه لا خير بخير بعده النّار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] الركز: الصوت الخفى.

ذكر انفاذ جيش أسامة

ذكر انفاذ جيش أسامة قد ذكرنا فى السّيرة النبويّة فى الغزوات والسّرايا؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد جهّز أسامة بن زيد قبل وفاته، وندب معه جماعة من أعيان المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر. وذكرنا أيضا ما تكلّم به من تكلّم من الصحابة فى شأنه، وما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما بلغه ذلك، من الثناء على أسامة ابن زيد وعلى أبيه زيد بن حارثة، واستخلافه للإمارة، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض وجيش أسامة بالجرف. فلمّا [1] بويع أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به أن أمر مناديه فنادى فى الناس من بعد الغد من متوفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّم بعث أسامة: ألا لا يبقينّ فى المدينة أحد من جند أسامة إلّا خرج إلى عسكره بالجرف. روى ذلك عن عاصم بن عدىّ. وعن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: لما بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، وجمع الأنصار على الأمر الذى افترقوا عنه، قال: ليتمّ بعث أسامة، وقد ارتدّت العرب، إمّا عامّة، وإمّا خاصّة فى كلّ قبيلة، ونجم النّفاق، واشرأبّت اليهوديّة والنّصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة، فى اللّيلة الشاتية؛ لفقد نبيّهم وقلّتهم، وكثرة عدوّهم. فقال له النّاس: إن هؤلاء جلّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغى لك أن تفرّق عنك جماعة المسلمين.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 225 وما بعدها.

فقال أبو بكر: والذى نفس أبى بكر بيده، لو ظننت أنّ السّباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته. وعن الحسن بن أبى الحسن، قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقف أسامة بالناس، ثم قال [1] لعمر بن الخطاب: ارجع إلى خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنه، يأذن لى [أن] [2] أرجع بالناس، فإنّ معى وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطّفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبى إلّا أن نمضى؛ فأبلغه عنّا، واطلب إليه أن يولّى أمرنا رجلا أقدم سنّا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة، فأتى أبا بكر، فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو خطفتنى الكلاب أو الذّئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإنّ الأنصار أمرونى أن أبلغك أنّهم يطلبون إليك أن تولّى أمرهم رجلا أقدم سنّا من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالسا. فأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمّك وعدمتك يابن الخطاب! استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأمرنى أن أنزعه!

_ [1] ص: «ثم قام» . [2] تكملة من ص.

فخرج عمر إلى النّاس، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمّهاتكم! ما لقيت فى سببكم اليوم من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم خرج أبو بكر رضى الله عنه حتى أتاهم، فأشخصهم وشيّعهم وهو ماش؛ وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبى بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنزل وو الله لا أركب، وما علىّ أن أغبّر قدمىّ فى سبيل الله ساعة؛ فإنّ للغازى بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وتمحى عنه سبعمائة خطيئة؛ حتى إذا انتهى أبو بكر، قال لأسامة: إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل، فأذن له. ثم قال: يأيّها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّى: لا تخونوا ولا تغلّوا [1] ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا [2] نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شىء فاذكروا اسم الله عليها. وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم [3] ،

_ [1] الغلول: أخذ شىء من الغنيمة خفية قبل القسمة. [2] عقر النخلة: قطعها من أصلها فسقطت. [3] فحصوا رءوسهم. أى أن الشيطان جعلها مفاحص كما تستوطن القطا مفاحصها.

ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين

وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله. ثم أوصى أسامة أن يفعل ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسار وأوقع بقبائل قضاعة الّتى ارتدّت، وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوما، وقيل: سبعين يوما، وقيل: أربعين؛ سوى مقامه ومقفله راجعا. وكان إنفاذ جيش أسامة من أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإنّ العرب قالوا: لو لم تكن لهم قوّة ما أرسلوا هذا الجيش؛ فكفّوا عن كثير مما كانوا عزموا على فعله. وذلك ببركة اتّباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين وما كان من أمرهم، وتجهيز أبى بكر الصديق الجيوش إليهم، وإلى من ارتدّ من قبائل العرب قال المؤرّخون: كان ادّعى النبوّة فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة، وهم: الأسود العنسى، وطليحة الأسدىّ، ومسيلمة الكذّاب، وادّعت النبوّة سجاح بنت الحارث التميميّة. فأما [1] الأسود العنسى، واسمه عبهلة بن كعب بن عوف العنسىّ- بالنّون الساكنة. وعنس بطن من مذحج- فكان يلقّب ذا الخمار لأنه كان متخمّرا أبدا.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 227 وما بعدها.

وقال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرىّ: إنه كان له حمار [1] معلم يقول له: اسجد لربك، فيسجد. ويقول له: ابرك فيبرك. فقيل له: ذا الحمار. والله تعالى أعلم. وكانت ردّته أوّل ردّة كانت فى الإسلام، وغلب على صنعاء إلى عمان إلى الطائف وكان من خبره ما روى عن الضحّاك بن فيروز الدّيلى عن أبيه؛ قال: أوّل ردّة كانت فى الإسلام باليمن، ردّة كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على يد ذى الخمار عبهلة بن كعب- وهو الأسود- فى عامّة مذحج، خرج بعد الوداع. وكان الأسود كاهنا مشعبذا [2] ، وكان يريهم الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبّان- وهى كانت موطنه وداره، وبها ولد ونشأ- فكاتبته مذحج وواعدوه نجران، فوثبوا عليها، وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، ثم أنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك فأجلاه، ونزل منزله، فلم يلبث عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع لباذام، حين أسلم، وأسلمت اليمن كلّها على جميع مخالفيها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام حياته لم يعزله عنها ولا عن شىء منها،

_ [1] ك: «جمار» تحريف. [2] الشعوذة والشعبذة: أخذ كالسحر، يرى شىء بغير ما عليه.

ولا أشرك معه فيها شريكا حتى مات باذام، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمل اليمن على جماعة من أصحابه، وهم: شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمدانىّ، وعبد الله بن قيس أبو موسى، وخالد ابن سعيد بن العاص، والطّاهر بن أبى هالة، ويعلى بن أميّة، وعمرو ابن حزم. وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضىّ، وعكّاشة ابن ثور بن أصغر الغوثىّ؛ على السّكاسك والسّكون، ومعاوية بن كندة. وبعث معاذ بن جبل معلّما لأهل البلدين: اليمن وحضرموت. وروى عن عبيد بن صخر، قال: بينما نحن بالجند؛ قد أقمناهم على ما ينبغى، وكتبنا بيننا وبينهم الكتب؛ إذ جاءنا كتاب من الأسود: أيها المتورّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفّروا ما جمعتم، فنحن أولى به. وأنتم على ما أنتم عليه، فقلنا للرسول: من أين جئت؟ قال: من كهف خبّان؛ ثم كان وجهه إلى نجران حتى أخذها فى عشر لمخرجه، وطابقه عوامّ مذحج؛ فبينا نحن ننظر فى أمرنا، ونحن نجمع جمعنا إذ أتينا. فقيل: هذا الأسود بشعوب [1] ، وقد خرج إليه شهر بن باذام، وذلك لعشرين ليلة من منجمه؛ فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدّبرة [2] ؛ إذ أتانا أنه قتل شهرا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء، لخمس وعشرين ليلة من منجمه. وخرج معاذ هاربا حتى مرّ بأبى موسى وهو بمأرب، فاقتحما حضرموت، فأمّا معاذ فإنه نزل فى السّكون، وأما أبو موسى فإنّه

_ [1] شعوب: قصر باليمن معروف بالارتفاع، أو بساتين بظاهر صنعاء- ياقوت. [2] الدبرة: الهزيمة فى القتال، وفى ص: «الدائرة» .

نزل فى السّكاسك، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطّاهر [1] إلّا عمرا وخالدا، فإنّهما رجعا إلى المدينة، والطّاهر يومئذ فى وسط بلادعك بحيال صنعاء؛ وغلب الأسود على ما بين صهيد- مفازة حضرموت- إلى عمل الطائف، إلى البحرين قبل عدن، وطابقت عليه اليمن، وعكّ بتهامة معترضون عليه، وجعل يستطير استطارة الحريق، وكان معه يوم لقى شهر بن باذام سبعمائة فارس سوى الرّكبان، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل من السواحل وعدن والجند؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف إلى الأحسية وغيرها. وعامله المسلمون بالبقيّة، وعامله أهل الرّدة بالكفر، والرجوع عن الإسلام. وكان خليفته فى مذحج عمرو بن معدى كرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه. فلمّا أثخن فى الأرض استخفّ بقيس وبفيروز وبداذويه وتزوّج امرأة شهر، وهى ابنة عم فيروز. قال أبو عبيد بن صخر: فبينا نحن كذلك بحضرموت، ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، أو أن يبعث إلينا جيشا، أو يخرج بحضرموت خارج يدّعى بمثل ما ادّعى به الأسود، فنحن على ظهر، تزوّج معاذ إلى بنى بكرة- حىّ من السّكون- امرأة يقال لها: رملة، فحدبوا لصهره علينا- وكان معاذ بها معجبا- فإن كان يقول فيما يدعو الله به: اللهم ابعثنى يوم القيامة مع السّكون، ويقول أحيانا:

_ [1] هو الطاهر بن أبى هالة وانظر الصفحة السابقة.

اللهم اغفر للسّكون؛ إذ جاءتنا كتب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يأمرنا [فيها] [1] أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته، وأن نبلغ كلّ من رجا عنده شيئا من ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم. فقام معاذ فى ذلك بالّذى أمره به، فعرفنا القوّة، ووثقنا بالنّصر. وعن جشيش بن الدّيلمىّ، قال: لمّا قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب النبىّ صلى الله عليه وسلّم يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنّهوض فى الحرب، والعمل فى الأسود، إمّا غيلة، وإمّا مصادمة، وأن نبلغ عنه من رأينا أنّ عنده نجدة [ودينا] [2] ، فعملنا فى ذلك، فرأينا أمرا كثيفا، ورأيناه قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث- وكان على جنده- فقلنا: يخاف على دمه [فهو لأول دعوة] [2] ، فدعوناه وأنبأناه الشأن، وأبلغناه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فكأنّما وقعنا عليه من السّماء، وكان فى غمّ وضيق بأمره، فأجابنا إلى ما أحببنا من ذلك، وكاتبنا النّاس، ودعوناهم. فأخبره الشيطان بشىء، فأرسل إلى قيس وقال: يا قيس، ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار فى العزّ مثلك؛ مال ميل عدوّك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول: يا أسود يا أسود! يا سوءة، يا سوءة! اقطف قنّته، وخذ من قيس أعلاه؛ وإلّا سلبك، أو قطف قنّتك.

_ [1] تكملة من ص. [2] تكملة من تاريخ الطبرى.

فقال قيس وحلف به؛ كذب وذى الخمار؛ لأنت أعظم فى نفسى، وأرجى عندى من أن أحدّث بك نفسى! فقال: ما أجفاك! أتكذّب الملك! صدق الملك، وعرفت الآن أنّك تائب مما اطّلع عليه منك، ثم خرج فأتانا فقال: يا جشيش، يا فيروز، يا داذويه! إنه قد قال وقلت: فما الرأى؟ فقلنا: نحن على حذر؛ فإنا فى ذلك، إذ أرسل إلينا؛ فقال: ألم أشرّفكم على قومكم! ألم يبلّغنى عنكم! فقلنا: أقلنا مرّتنا هذه؛ فنجونا، ولم نكد، وهو فى ارتياب من أمرنا وأمر قيس، ونحن فى ارتياب وعلى خطر عظيم؛ إذ جاءنا اعتراض عامر بن شهر وذى زود وذى مرّان وذى الكلاع وذى ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النّصر، وكاتبناهم؛ وأمرناهم ألا يحرّكوا شيئا حتى نبرم الأمر، وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. وكتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، إلى عربهم وساكنى الأرض من غير عربهم، فتنحّوا، وانضمّوا إلى مكان [واحد] [1] . وبلغه [2] ذلك، وأحسّ بالهلاك، وفرق لنا الرأى، فدخلت على آزاد- وهى امرأته- فقلت: يا بنت عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك؛ قتل زوجك، وطأطأ فى قومك القتل، وسفل بمن بقى منهم، وفضح النساء، فهل عندك من ممالأة عليه؟ فقالت: على أىّ أمره؟ قلت: إخراجه، فقالت: أو قتله! قلت: أو قتله، قالت: نعم والله ما خلق الله شخصا أبغض إلىّ منه؛ ما يقوم لله على حقّ، ولا ينتهى له

_ [1] من ص والطبرى. [2] ص: «وبلغهم» .

عن حرمة، فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر. فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراننى، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا: الملك يدعوك، فدخل فى عشرة من مذحج وهمدان فلم يقدر على قتله معهم. فقال: يا عبهلة بن كعب بن غوث، أمنّى تحصّن بالرجال! ألم أخبرك الحقّ وتخبرنى الكذابة [1] ! إنه يقول: يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا، حتى ظنّ أنه قاتله. فقال: إنه ليس من الحقّ أن أقتلك وأنت رسول الله؛ فمرنى بما أحببت، فأمّا الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلنى، وإمّا قتلتنى فموتة أهون علىّ من موتات أموتها كلّ يوم. فرقّ له وأخرجه؛ فخرج إلينا، فأخبرنا. وقال: اعملوا عملكم، وخرج إلينا فى جمع، فقمنا مثولا له، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخطّ خطّا، وأقيمت من ورائه، وقام من دونها فنحرها غير محبّسة ولا معقّلة، ثم خلّاها ما يقتحم الخطّ منها شىء، ثمّ خلاها فجالت إلى أن زهقت. فما رأيت أمرا كان أفظع منه، ولا يوما أو حش منه، ثم قال: أحقّ ما بلغنى عنك يا فيروز؟ - وبوّأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة؛ فقال: اخترتنا لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيّا ما بعنا نصيبنا منك بشىء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودينا! لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك؛ فإنّا بحيث تحبّ؛ فقال: اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هنا.

_ [1] ك: «وتخبرنى الكذبة» .

فاجتمع إلىّ أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور، ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل الحلّة بعدّة، حتى أخذ أهل كلّ ناحية بقسطهم. فلحق به قبل أن يصل إلى داره- وهو واقف علىّ- رجل يسعى إليه بفيروز، فاستمع له، واستمع له فيروز، وهو يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علىّ، ثم التفت فإذا به؛ فقال: مه! فأخبره بالّذى صنع؛ فقال: أحسنت، وضرب دابّته داخلا، فرجع إلينا فأخبرنا بالخبر، فأرسلنا إلى قيس، فجاءنا، فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأه؛ فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر، فأتيت المرأة، وقلت: ما عندك؟ قالت: هو متحرز متحرّس، وليس من القصر شىء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطّريق، فإذا أمسيتم فانقلبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس؛ وليس دون قتله شىء. وقالت: إنكم سترون فيه سراجا وسلاحا، فخرجت فتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله؛ فقال: ما أدخلك علىّ؟ ووجأ [1] رأسى حتى سقطت؛ وكان شديدا، وصاحت المرأة فأدهشته عنّى؛ ولولا ذلك لقتلنى؛ وقالت: ابن عمى جاءنى زائرا؛ فقال: اسكتى لا أبا لك! فقد وهبته لك [فتزيّلت عنى] [2] ، فأتيت أصحابى، فقلت: النّجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر، فإنّا على ذلك حيارى إذ جاءنى رسولها: لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإنى لم أزل به حتى اطمأنّ. فلمّا أمسينا عملنا فى أمرنا، وقد واطأنا أشياعنا، وعجلنا

_ [1] وجأر رأسه: ضربه. [2] من ص، وفى الطبرى: «فتزايلت» .

عن مراسلة الهمدانيّين والحميريّين، فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة، والتقينا [1] بفيروز- وكان أنجدنا وأشدّنا- فقلنا: انظر ماذا ترى؟ فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه فى مقصورته، فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة، فلمّا قام على الباب أجلسه الشيطان، فكلّمه على لسانه وإنه ليغطّ جالسا. وقال أيضا: مالى ولك يا فيروز! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ برأسه فقتله، فدقّ عنقه، ووضع ركبتيه فى ظهره فدقّه، ثمّ قام ليخرج، فأخذت المرأة بثوبه، وهى ترى أنّه لم يقتله، فقالت: أين تدعنى؟ قال: أخبر أصحابى بمقتله؛ فأنانا، فقمنا معه، فأردنا حزّ رأسه، فحرّكه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه. فقلت: اجلسوا على صدره، فجلس اثنان على صدره، وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة [2] ، فأمرّ الشّفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قطّ. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة، فقالوا: ما هذا، ما هذا؟ فقالت المرأة: النبىّ يوحى إليه؛ فخمد، ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا؛ ليس غيرنا ثلاثتنا [فيروز وداذويه وقيس] [3] ، فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذى بيننا

_ [1] ص: «واتقينا» . [2] البربرة: الصوت المختلط. [3] من ص والطبرى.

أو بين أشياعنا، ثم ينادي بالأذان فلمّا سمع بذلك، وطلع [1] الفجر، نادى داذويه بالشّعار، ففزع المسلمون والكافرون، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا. ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فناديتهم، أشهد أنّ محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذّاب، وألقينا إليهم رأسه؛ فأقام وبر الصلاة، وشنّها القوم غارة، ونادينا: يا أهل صنعاء؛ من دخل عليه داخل فتعلّقوا به، ومن كان عنده منهم أحد لم يخرج، فتعلّقوا به، ونادينا بمن فى الطريق: تعلّقوا بمن استطعتم، فاختطفوا صبيانا كثيرا، وانتهبوا ما انتهبوا، ثم مضوا خارجين. فلمّا برزوا فقدوا منهم سبعين فارسا ركبانا، وإذا أهل الطريق والدّور قد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيّل، ثم راسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما فى أيديهم، ونترك لهم ما فى أيدينا، ففعلوا؛ فخرجوا لم يظفروا بشىء. وتردّدوا فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجند، وأعزّ الله الإسلام وأهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أعمالهم، فاصطلحنا على معاذ بن جبل فكان يصلّى بنا، وكتبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، وذلك فى حياة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم صبيحة تلك الليلة، فأجابنا أبو بكر رضى الله عنه [2] .

_ [1] ص: «فأطلع» . [2] تاريخ الطبرى 3: 231- 236.

وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: أتى الخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من السماء الليلة التى قتل فيها العنسىّ ليبشّرنا فقال: قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين قيل: ومن هو؟: قال: فيروز. وعن فيروز؛ قال: قتلنا الأسود، وعاد أمرنا كما كان، إلّا أنّا أرسلنا إلى معاذ؛ فتراضينا عليه، فكان يصلّى بنا فى صنعاء، فو الله ما صلّى بنا إلا ثلاثا ونحن راجعون مؤمّلون، حتى أتى الخبر بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيرا ممّا كنا نعرف، واضطربت [1] الأرض. وكانت مدّة العنسىّ من حين ظهور أمره إلى أن قتل ثلاثة أشهر. وعن الضحاك بن فيروز، قال: كان ما بين خروجه بكهف خبّان إلى مقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل مستسرّا بأمره حتى نادى بعد. وقال أبو بشر الدّولابىّ: إنّه قتل فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. والله أعلم. وقيل: أتى الخير بمقتله إلى المدينة فى آخر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة، بعد إنفاذ جيش أسامة بن زيد، فكان ذلك أول فتح لأبى بكر الصديق رضى الله عنه. روى أبو عمر بن عبد البر بسند يرفعه إلى شرحبيل بن مسلم

_ [1] ص: «واضطرمت» .

الخولانىّ أنّ الأسود بعث إلى أبى مسلم عبد الله الخولانىّ، فلما جاءه قال: أتشهد أنّى رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فردّد ذلك عليه؛ كلّ ذلك يقول مثل ذلك. قال: فأمر بنار عظيمة فأجّجت، ثم ألقى فيها أبا مسلم، فلم تضرّه شيئا. فقيل له: انفه عنك والّا أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرّحيل، فأتى أبو مسلم المدينة وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، وقام فصلّى إلى سارية، وبصربه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الذى أحرقه الكذّاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك الله أنت هو! قال: اللهمّ نعم، قال: فاعتنقه عمر، وبكى. ثم ذهب [به] [1] حتى أجلسه فيما بينه وبين أبى بكر، ثم قال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أرى فى أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله صلّى الله عليه وسلّم [2] . هذا ما كان من أمر العنسىّ، وأمّا بقية الكذّابين؛ فسنذكر أخبارهم عند ذكرنا تجهيز أبى بكر الجيوش إن شاء الله تعالى.

_ [1] تكملة من ص. [2] الاستيعاب 1758.

ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان

ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان قالوا: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ارتدّت العرب كلّها إلا قريشا وثقيفا، وأتت وفود العرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه مرتدّين يقرّون بالصّلاة، ويمنعون الزكاة، فلم يقبل ذلك منهم وردّهم، وقال: والله لو منعونى عقالا [1] كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليها. وخرج فى جمادى الآخرة منها، واستخلف على المدينة أسامة بن زيد، وقيل: سنانا الضّمرىّ، وسار فنزل بذى القصّة [2] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث نوفل بن معاوية الدّيلمىّ [3] على الصّدقة، فلقيه خارجة بن حصين بالشّربّة [4] ، فأخذ ما فى يديه وردّه على بنى فزارة، ورجع نوفل إلى أبى بكر بالمدينة. فأوّل حرب كانت فى الرّدة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرب العنسىّ باليمن، ثم حرب خارجة بن حصين ومنظور بن زبان بن سيار فى غطفان، والمسلمون غارّون [5] ، فانحاز أبو بكر إلى أكمة فاستتر بها، ثم هزم الله المشركين.

_ [1] العقال: الحبل الذى يعقل به البعير الذى كان يؤخذ فى الصدقة. [2] ذو القصة: موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا. [3] ص: «الديلى» . [4] الشربة: موضع فى بلاد نجد. [5] غارون: غافلون، وفى ك: «غازون» .

وروى أن أوّل غزاة غزاها أبو بكر، كانت إلى بنى عبس وذبيان، وأنه قاتلهم وهزمهم، وأتبعهم حتى نزل بذى القصّة، وكان ذلك أول الفتح، ووضع أبو بكر رضى الله عنه بها النعمان بن مقرّن فى عدد ورجع إلى المدينة، فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم. فحلف أبو بكر رضى الله عنه: ليقتلنّ فى المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة. وقدمت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليمن واليمامة وبلاد بنى أسد، ووفود من كان كاتبه النبى صلى الله عليه وسلّم. وأمر أمره فى الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبى بكر، وأخبروه الخبر؛ فقال لهم: لا تبرحوا حتى تجىء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم، وأمرّ بانتقاض الأمور؛ فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبى صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلّم من كلّ مكان بانتقاض، عامة أو خاصّة، وتبسّط [1] من ارتدّ على المسلمين بأنواع الميل. فحاربهم أبو بكر رضى الله عنه بما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم [يحاربهم] [2] ، حاربهم بالرسل، فردّ رسلهم، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة بن زيد، وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على الصّدقة؛ وهم صفوان بن صفوان، والزّبرقان بن

_ [1] ك: «وبسط» . [2] تكملة من ص.

بدر، وعدىّ بن حاتم؛ فازداد المسلمون قوّة، ثم قدم أسامة بن زيد، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ومعه جنده ليستريحوا. ثم خرج بمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبى وقال: لأواسينّكم بنفسى، فسار إلى حسى وذى القصّة حتى نزل بالأبرق، فقاتل من به من المشركين فهزمهم، وأخذ الحطيئة أسيرا، وأقام بالأبرق أياما ثم رجع إلى المدينة، ولحق من انهزم من عبس وذبيان وطليحة. وروى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ أوّل من صادم أبو بكر رضى الله عنه بنى عبس وذبيان، عاجلوه، فقاتلهم قبل رجوع أسامة. ولما قدم أسامة استخلف على المدينة، ومضى حتى انتهى إلى الرّبذة، فتلقّى بنى عبس وذبيان وجماعة من بنى عبد مناة بن كنانة، فلقيهم بالأبرق، فقاتلهم فهزمهم الله عزّ وجلّ وفلّهم، ثم رجع إلى المدينة فعقد الألوية [1] . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 241- 249.

ذكر عقد أبى بكر رضى الله عنه الألوية

ذكر عقد أبى بكر رضى الله عنه الألوية وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد وما عهد. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرىّ رحمه الله فى تاريخه [1] ما مختصره ومعناه: لما رجع أبو بكر رضى الله عنه إلى المدينة، وأراح أسامة وجنده ظهرهم [وجمّوا] [2] ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء: عقد لخالد بن الوليد، وأمره بطليحة؛ فإذا فرغ سار إلى مالك ابن نويرة بالبطاح إن أقام له. وعقد لعكرمة وأمره بمسيلمة الكذّاب باليمامة. وعقد للمهاجر بن أبى أميّة، وأمره بجنود العنسى ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوخ، ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت. وعقد لخالد بن سعيد بن العاص، وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام. وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث. وعقد لحذيفة بن محصن الغلفانىّ، وأمره بأهل دبا.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 249 وما بعدها. [2] زيادة من تاريخ الطبرى.

ابن هرثمة، وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمع كل واحد منها فى عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة فى أثر عكرمة بن أبى جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة؛ وأنت على خيلك تقاتل أهل الرّدّة. وعقد لمعن بن حاجز- ويقال: لطريفة بن حاجز- وأمره ببنى سليم ومن معهم من هوازن. وعقد لسويد بن مقرّن؛ وأمره بتهامة اليمن. وعقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمره بالبحرين. ففصلت الأمراء من ذى القصّة، ولحق بكلّ أمير جنده، وعهد إلى كلّ أمير منهم، وكتب رضى الله عنه إلى سائر من ارتد نسخة واحدة، وهى: بسم الله الرّحمن الرّحيم من أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من بلغه كتابى هذا من عامّة أو خاصة. أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضّلالة والعمى، فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلّا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأقرّ بما جاء به. أما بعد؛ فإنّ الله أرسل محمدا بالحقّ من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ لينذر من كان حيّا.

ويحقّ القول على الكافرين، فهدى الله للحقّ من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإذنه من أدبر عنه؛ حتّى صار إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمّته، وقضى الذى عليه. وكان الله قد بيّن له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزله؛ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [1] ، وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [2] ، وقال للمؤمنين: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ . [3] فمن كان إنما يعبد محمدا، صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّ محمدا قد مات، ومن كان إنّما يعبد الله وحده لا شريك له، فإنّ الله له بالمرصاد، حىّ قيّوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوّه، يجزيه. وإنى أوصيكم بتقوى الله، وحظّكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيكم، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإنّ كل من لم يهده الله ضالّ، وكل من لم يعافه الله مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول. فمن هداه الله كان مهتديا، ومن أضلّه الله كان ضالّا، فإنّه قال

_ [1] سورة الزمر 30. [2] سورة الأنبياء 34. [3] سورة آل عمران 144.

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [1] . ولم يقبل منه فى الدّنيا عمل حتى يقرّبه، ولم يقبل له فى الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أنّ أقرّ بالإسلام، وعمل به اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان. وقال الله جلّ ثناؤه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا . [2] وقال: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [3] . وإنّى بعثت إليكم فلانا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان، وأمرته ألّا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرّ وكفّ، وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبى النساء والذرارىّ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام. فمن اتّبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كلّ مجمع لكم. والدّاعية الأذان؛ فإذا أذّن المسلمون فأذّنوا كفّوا عنهم، وإن لم

_ [1] سورة الكهف 17. [2] سورة الكهف 50. [3] سورة فاطر 6.

يؤذّنوا عاجدوهم؛ وإن أذّنوا اسألوهم ما علّتهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغى لهم. قال: فنفذت الرّسل بالكتب أمام الجنود، وخرجت الأمراء ومعهم العهود. بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى فلان؛ حين بعثه فيمن بعث لقتال من رجع عن الإسلام؛ عهد [1] إليه أن يتّقى الله ما استطاع فى أمره كلّه؛ سرّه وعلانيته، وأمره بالجدّ فى الله ومجاهدة من تولّى عنه، ورجع عن الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له، ثم ينبّئهم بالّذى عليهم والذى لهم، ويأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذى لهم؛ لا ينظرهم، ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم، فمن أجاب إلى أمر الله وأقرّ له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف [وإنّما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله] [2] ، وإذا أجاب الدّعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان، وحيث بلغ مراغمه [3] ؛ لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلّا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلّمه، ومن أبى قاتله؛ فإن أظهره الله [عليه] [2] قتل منهم كلّ

_ [1] الطبرى: «وعهد إليه» . [2] زيادة من تاريخ الطبرى. [3] المراغم: المهرب والمذهب ولحصن.

ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قيائل العرب وما آل إليه أمره بعد ذلك

قتلة، بالسلاح والنّيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلّا الخمس. فإنه يبلّغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألّا يدخل [فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونا، ولئلّا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقتصد] [1] بالمسلمين، ويرفق بهم فى السير والمنزل، ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصى بالمسلمين فى حسن الصحبة ولين القول. والله تعالى أعلم بالصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد. ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قيائل العرب وما آل إليه أمره بعد ذلك كان [2] خبر طليحة بن خويلد الأسدىّ؛ أسد خزيمة، أنّه ارتدّ فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادّعى النّبوّة، فلمّا ظهر أمره وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بنى أسد، وأمرهم بالقيام فى أمر طليحة ومن ارتدّ معه، ونزل المسلمون بواردات، ونزل المشركون بسميراء. فضعف أمر طليحة، وما زال المسلمون فى نماء، والمشركون فى نقصان حتى همّ ضرار بن الأزور أن يسير إلى طليحة، ولم يبق أحد

_ [1] زيادة من تاريخ الطبرى. [2] انظر تاريخ الطبرى 3: 259 وما بعدها.

إلّا أخذه سلما [1] ، فاتّفق أنّه ضرب ضربة بسيف فنباعنه، وشاعت تلك الضربة فى النّاس، وقالوا: إنّ السلاح لا يعمل فى طليحة، فبينما الناس على ذلك إذ ورد الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان، وكثر جمع طليحة واستطار أمره، وادّعى أنّ جبريل يأتيه، وسجع للناس الأكاذيب فكان مما أتى به قوله: «والحمام واليمام، والصّرد الصّوّام، قد ضمن قبلكم بأعوام، ليبلغنّ ملكنا العراق والشام» . وأمر طليحة الناس بترك السجود فى الصّلاة، وتبعه كثير من العرب، وكان أكثر أتباعه أسد وغطفان وطيّىء، ولما انهزمت عبس وذبيان التحقوا به ببزاخة، وأرسل طليحة إلى جديلة والغوث- وهما حيّان من طيّىء- أن ينضموا إليه، فتعجّل إليه أناس من الحيّين، وأمروا قومهم باللّحاق بهم، فقدموا على طليحة وكانوا معه. وبعث أبو بكر رضى الله عنه عدىّ بن حاتم الطّائىّ قبل توجيهه [2] خالد بن الوليد إلى قومه، وقال: أدركهم لا يؤكلوا؛ فخرج عدىّ إليهم؛ [ففتلهم فى الذّروة والغارب] [3] ، وخرج خالد بن الوليد فى أثره، وأمره أبو بكر رضى الله عنه أن يبدأ بطيّىء على الأكناف؛ ثم يكون وجهه إلى البزاخة، ثم يثلّث بالبطاح، ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن [4] له، وأظهر أبو بكر أنّه خارج إلى خيبر ومنصبّ عليهم منها، حتى يلاقيه بالأكناف، أكناف سلمى.

_ [1] السلم: الاستسلام. [2] الطبرى: «قبل توجيه خالد» . [3] زيادة من تاريخ الطبرى. [4] الطبرى: «يتحدّث إليه» .

قال ابن الكلبىّ: وإنّما قال ذلك أبو بكر مكيدة حتى يبلغ ذلك عدوّه فيرعبهم، وكان قد أوعب [1] مع خالد الناس، فخرج خالد، فازوار عن البزاخة وجنح إلى أجأ، وقدم عدىّ بن حاتم عليهم؛ ودعاهم إلى الإسلام؛ فأجابوه بعد امتناع، وقالوا له: أخّر عنّا الجيش حتى نستخرج من ألحق بالبزاخة منّا، فإنّا إن خالفنا طليحة وهم فى يديه قتلهم أو ارتهنهم، فاستقبل عدىّ خالدا وهو بالسّنح، فقال: يا خالد، أمسك عنى ثلاثا؛ تجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوّك؛ خير من أن تعجلهم إلى النّار. وتشاغل بهم، ففعل وعاد إليهم وقد أرسلوا إلى إخوانهم؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد، ولولا ذلك لم يتركوا، فعاد عدىّ بإسلامهم إلى خالد، وارتحل خالد يريد جديلة، فقال له عدىّ: إنّ طيّئا كالطائر، وإنّ جديلة أحد جناحى طيّىء، فأجّلنى لعلّ الله أن ينقذ جديلة لك كما أنقذ الغوث؛ ففعل، وأتاهم عدىّ؛ فلم يزل بهم حتى بايعوه؛ فجاء بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان خير مولود ولد فى أرض طيّىء وأعظمه عليهم بركة. قال هشام الكلبى: وسار خالد بن الوليد إلى طليحة، وكان أبو بكر رضى الله عنه قد جعل ثابت بن قيس على الأنصار وأمره إلى خالد، فلمّا دنا خالد من القوم، بعث عكّاشة بن محصن، وثابت ابن أقرم بن ثعلبة العجلانىّ البلوىّ حليف الأنصار [2] طليعة؛ حتى إذا

_ [1] أوعب الناس: جمعهم. [2] الطبرى: «أحد بنى العجلان» .

دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ينظران ويسألان، فلقياهما فبرز سلمة لثابت، وبرز عكّاشة لطليحة، فأما سلمة، فلم يمهل ثابتا أن قتله، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعنّى على الرّجل [فإنّه آكل] [1] ، فاعتونا على عكّاشه [2] ، فقتلاه ثم رجعا، وأقبل خالد بالناس، فمروا بثابت بن أقرم قتيلا، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطىّ بأخفافها، فكبر ذلك على المسلمين، ثم نظروا فإذا هم بعكّاشة صريعا، فجزع لذلك المسلمون وقالوا: قتل سيّدان من سادات المسلمين، وفارسان من فرسانهم. قال: ثمّ التقى المسلمون بطليحة ومن معه على بزاخة، واقتتلوا أشدّ قتال، وطليحة متلفّف فى كسائه بفناء بيته يتنبّأ لهم بزعمه، وكان عيينية ابن حصن بن حذيفة الفزارىّ مع طليحة فى سبعمائة من بنى فزارة يقاتل قتالا شديدا، فلما اشتدّ القتال كرّ عيينة على طليحة، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا؛ فرجع فقاتل حتى إذا ضرس [3] القتال، وهزّته الحرب كرّ عليه، فقال له: لا أبا لك! هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: لا، فقال عيينة: حتى متى؛ قد والله بلغ منّا! ثم رجع فقاتل؛ حتى إذا بلغ كرّ عليه فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم؛ قال: فما قال لك؟ قال: قال لى: «إنّ لك رحا كرحاه. وحديثا لا تنساه» . قال عيينة: قد علم الله أن سيكون لك حديث لا تنساه، ونادى عيينة: يا بنى فزارة؛ هكذا فانصرفوا، فهذا

_ [1] زيادة من الطبرى. [2] اعتونا: تعاونا. [3] ضرس القتال: اشتد، وفى ك: «ضرس من القتال» .

والله كذّاب، فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة، يقولون: ماذا تأمرنا؟ وكان طليحة قد أعدّ فرسه وراحلته عنده، فلمّا غشيه النّاس قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته النّوار على الراحلة فنجا بها، وقال للناس: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم سلك الجوشيّة ولحق بالشام فارفضّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وأتت قبائل سليم وهوازن وفزارة وأسد وغطفان، وتلك القبائل يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله وبرسوله ونسلّم لحكمه فى أموالنا وأنفسنا. فبايعهم خالد بن الوليد على الإسلام، ثمّ أقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة، يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيّىء قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام. قال أبو الحسن علىّ المعروف بابن الأثير: وكانت [1] بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمننّ بالله ورسوله، ولتقيمنّ الصلاة، ولتؤتنّ الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم! فيقولون: نعم، ولم يقبل من أحد [2] منهم إلا أن يأتوه بالذين حرّقوا ومثّلوا، وعدوا على المسلمين [3] فى حال ردّتهم، فأتوه بهم، فقبل منهم إلّا قرّة بن هبيرة سيّد بنى عامر ونفر معه أوثقهم، ومثّل بالذين عدوا على المسلمين فأحرقهم بالنيران بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم فى

_ [1] الكامل لابن الأثير 2: 236 وما بعدها. [2] ابن الأثير: من أسد وغطفان وطيىء وسليم» . [3] ابن الأثير: على الإسلام» .

الآبار [وأرسل إلى أبى بكر يعلمه ما فعل] [1] ، ورضخهم، وبعث بقرّة وبالأسارى إلى أبى بكر رضى الله عنه وكتب إليه: إنّ بنى عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت فى الإسلام بعد تربّص، وإنّى لم أقبل من أحد سألنى شيئا حتى يجيئونى بمن عدا على المسلمين، فقتلتهم كلّ قتلة، وبعثت إليك [2] بقرّة وأصحابه. فكتب أبو بكر إليه: ليزدك ما أنعم لله به عليك خيرا، فاتّق الله فى أمرك، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون، جدّ فى أمر الله ولا تنينّ ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلا قتلته، ونكّلت به غيره. وكان عيينة بن حصن ممن أسر، روى عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود. قال: أخبرنى من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقة فى حبل، ينخسه غلمان المدينة بالجريد يقولون: أى عدوّ الله، أكفرت بالله بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قطّ؛ حكاه أبو جعفر الطبرىّ [3] . قال: فتجاوز أبو بكر رضى الله عنه، وحقن له دمه. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأمّا طليحة وما آل إليه أمره؛ فإنّه لحق بالشام، ثم نزل على كلب، فأسلم حين بلغه إسلام أسد وغطفان، ولم يزل فى بنى كلب حتى مات أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وخرج فى خلافة أبى بكر

_ [1] زيادة من ان الأثير. [2] ص: «وبعث إليه» . [3] تاريخ الطبرى 3: 260.

ذكر خبر تميمم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد

إلى مكة معتمرا، ومرّ بجنبات المدينة. فقيل لأبى بكر هذا: طليحة، فقال: ما أصنع به؟ خلّوا عنه، فقد هداه الله للإسلام. فمضى نحو مكة، فقضى عمرته، ثم أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه للبيعة حين استخلف: فقال له عمر: أنت قاتل عكّاشة وثابت! والله لا أحبّك أبدا؛ فقال: يا أمير المؤمنين ما تنقم من رجلين أكرمهما الله بيدىّ، ولم يهنّى بأيديهما! فبايعه عمر ورجع إلى دار قومه فأقام حتى خرج إلى العراق. ذكر خبر تميمم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد كان [1] من خبر بنى تميم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فرّق عمّاله فيهم، فكان الزّبرقان بن بدر على الرّباب وعوف والأبناء؛ وكان سهم بن منجاب وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بنى عمرو، هذا على بهدى، وهذا على خضّم (قبيلتين من بنى تميم) ، ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بنى حنظلة، هذا على بنى مالك، وهذا على بنى يربوع. فأمّا صفوان فإنّه لما أتاه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه بصدقات بنى عمرو وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة فى قومه لحدث إن ناب. وأمّا قيس بن عاصم فإنه قسّم ما وليه من الصّدقات فى مقاعس والبطون؛ وإنّما فعل ذلك مخالفة للزّبرقان.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 267 وما بعدها.

وأمّا الزبرقان فإنّه أتبع صفوان بالصّدقات التى أخذها ممّن كانت تليه، وقدم بها إلى المدينة على أبى بكر وهو يقول ويعرّض بقيس بن عاصم: وفيت بأذواد الرّسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيرا مجيرها ثم ندم قيس بن عاصم على ما كان منه، فلما أظلّه العلاء بن الحضرمىّ تلقّاه بالصّدقة، وخرج معه؛ وقال فى ذلك: أبلغا عنّى قريشا رسالة ... إذا ما أتتها بيّنات الودائع قال: وتشاغل الناس فى تلك الحال بعضهم ببعض، ونشب الشّرّ، فتشاغلت عوف والأبناء بالبطون والرّباب بمقاعس، وتشاغلت عمرو وخضّم بمالك وبهدى بيربوع؛ فبينا الناس فى بلاد تميم على ذلك قد شغل بعضهم بعضا، فمسلمهم بإزاء من قدّم رجلا وأخّر أخرى، وتربّص وارتاب؛ إذ فجئتهم سجاح ابنة الحارث، قد أقبلت من الجزيرة؛ وكانت ورهطها فى بنى تغلب، فأتت تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بن عمران فى بنى تغلب، وعقّة بن هلان فى النّمر، وزياد بن فلان فى إياد، والسّليل بن قيس فى بنى شيبان، فأتاهم أمر دهىّ؛ هو أعظم مما فيه الناس؛ لهجومها عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة والتشاغل بما بينهم. وكانت سجاح ابنة الحارث ابن سويد بن عقفان هى وبنو أبيها بنو عقفان فى بنى تغلب، فاستجاب لها الهذيل، وترك النّصرانية، فراسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها وحملها على أحياء بنى تميم، فقالت: نعم

فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بنى يربوع، فإن كان ملك فالملك ملككم. وأرسلت إلى بنى مالك وحنظلة تدعوهم إلى الموادعة. فخرج عطارد بن حاجب، وسروات بنى مالك، حتى نزلوا فى بنى العنبر على سبرة بن عمرو هرّابا، وخرج أشباههم من بنى يربوع حتى نزلوا على الحصين بن نيار فى بنى مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك، فلما جاءت رسلها إلى بنى مالك تطلب الموادعة أجابها إلى ذلك وكيع بن مالك، فاجتمع وكيع ومالك بن نويرة وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضا، واجتمعوا على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضّم أم ببهدى، أم بعوف والأبناء، أم بالرّباب؟ وكفّوا عن قيس بن عاصم لما رأوا من تردّده وطمعوا فيه. فقالت سجاح: «أعدّوا الركاب، واستعدّوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرّباب، فليس دونهم حجابّ» ، وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها، وقالت لهم: «إنّ الدّهناء حجاز بنى تميم، ولن تعدو الرّباب، إذا شدّها المصاب، أن تكون بالدّجانى والدّهانى، فلينزلها بعضكم» . فتوجّه مالك بن نويرة إلى الدّجانى فنزلها، وسمعت بهذا الرّباب، فاجتمعوا لها: ضبّتها وعبد مناتها، فولى وكيع وبشر بنى بكر بن ضبّة، وولى ثعلبة بن سعد عقّة، وولى عبد مناة الهذيل، فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بنى ضبّة فهزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة، فاجتمع بعد ذلك رؤساء أهل الجزيرة، وقالوا لسجاح: ماذا تأمريننا؛ فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا؟ فقالت: اليمامة؛ فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة، وقد غلظ أمر مسيلمة فقالت: «عليكم باليمامة، ودفّوا

دفيف الحمامة [1] ، فإنها غزوة صرّامة، ولا يلحقكم بعدها ملامة» ، فنهدت [2] لبنى حنيفة، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها، وخاف إن هو شغل بها أن يدهمه شرحبيل بن حسنة والقبائل، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها. فأنزلت الجنود على الأمواه له وأمّنته، فجاءها فى أربعين من بنى حنيفة. وكانت سجاح راسخة فى النّصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة: لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد ردّ الله عليك النصف الذى ردّت قريش، فحباك [3] به، وكان لها لو قبلت؛ فقالت: «لا يردّ النّصف إلّا من حنف، فاحمل النّصف إلى خيل تراها كالسّهف» . فقال مسيلمة: «سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره فى كلّ ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربّكم فحيّاكم، ومن وحشة خلّاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار؛ لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربّكم الكبار، ربّ الغيوم والأمطار» . وقيل: إنّ مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها. فقالت له: انزل. قال: فنحّى عنك أصحابك، ففعلت. فقال مسيلمة: اضربوا لها قبّة وجمّروها لعلها تذكر الباه، ففعلوا، فلمّا دخلت القّبّة نزل مسيلمة. فقال لأصحابه: ليقف ها هنا عشرة،

_ [1] الدقيف: تحريك الجناحين والرجلين. [2] نهدت: نهضت. [3] ك: «فحياك» .

ثمّ دارسها. فقالت: ما أوحى إليك؟ فقال: «ألم تر إلى ربّك كيف فعلى بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق [1] وحشى» قالت: وماذا أيضا؟ قال: أوحى إلىّ «إنّ الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهنّ قعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا» . قالت: أشهد أنّك نبىّ. قال: هل لك أن أتزوّجك، وأذلّ [2] بقومى وقومك العرب؟ قالت: نعم، فقال: الا قومى إلى النّيك ... فقد هيّى لك المضجع فإن شئت ففى البيت ... وإن شئت ففى المخدع وإن شئت سلقناك [3] ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع قالت: بل به أجمع. قال: بذلك أوحى إلىّ، فأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم انصرفت إلى قومها. فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على حقّ، فاتّبعته فتزوّجته، قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت: لا. قالوا: فارجعى إليه، فقبيح على مثلك أن ترجع بغير صداق، فرجعت. فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال: مالك؟ قالت: أصدقنى صداقا. قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعىّ. قال: علىّ به، فأتاه. فقال: ناد فى أصحابك: إنّ مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمّد: صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة.

_ [1] الصفاق: الجلد الأسفل الذى تحت الجلد الذى عليه الشعر. [2] الطبرى: «فآكل» . [3] سلق الجارية: بسطها وجامعها، وفى ص: «صلقناك، وهما بمعنى.

قال: وكان من أصحابها الزّبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم. فقال: إنّ عامّة بنى تميم بالرّمل لا يصلّونها، فانصرفت سجاح ومعها أصحابها، فقال عطارد بن حاجب: أمست نبيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وقيل: إنّها صالحت مسيلمة على أن يحمل لها النّصف من غلّات اليمامة: وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فأعطى لها النصف وقال: خلّفى على السّلف من يجمعه لك، وانصرفى أنت بنصف العام، فانصرفت بالنّصف إلى الجزيرة، وخلّفت الهذيل وعقّة وزيادا؛ لينجزوا النّصف الثانى، فلم يفجأهم إلا دنوّ خالد بن الوليد، فارفضّوا. وكان من أمر مسيلمة وقتله ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. قال: ولم تزل سجاح بالجزيرة فى أخوالها من بنى تغلب حتى نقلهم معاوية بن أبى سفيان عام الجماعة، وجاءت معهم وحسن إسلامها وإسلامهم، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها. وقيل: بل لمّا قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها بالجزيرة، فماتت عندهم، ولم يسمع لها بذكر، والله تعالى أعلم. قال أبو جعفر الطبرىّ رحمه الله: وخرج [1] الزّبرقان والأقرع إلى أبى بكر؛ وقالا: اجعل لنا خراج البحرين؛ ونضمن لك ألّا يرجع من قومنا أحد، ففعل. وكتب الكتاب، وكان الذى يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله، وأشهد شهودا، منهم عمر بن الخطاب،

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 275.

فلما أتى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثم قال: لا والله ولا كرامة! ومزّقه ومحاه، فغضب طلحة، وأتى أبا بكر، فقال: أنت الأمير أم عمر؟ فقال: عمر؛ غير أن الطاعة لى، فسكت. وشهد الزّبرقان والأقرع مع خالد المشاهد كلّها حتى اليمامة، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة الجندل.

ذكر مسير خالد إلى البطاح ومقتل مالك بن نويرة

ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة قال أبو جعفر رحمه الله: لمّا [1] انصرفت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة، وندم وتحيّر فى أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعا حسنا؛ [ولم يتجبّرا] [2] ، وأخرجا الصّدقات واستقبلا بها خالد بن الوليد، فقال خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأركنّا نطلبه فى بنى ضبّة، فسار خالد يريد البطاح دون الحزن، وعليها مالك بن نويرة، وقد تردّدت الأنصار على خالد، وتخلّفت عنه. وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنّ الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا؛ فقال خالد: إن يك عهد اليكم هذا، فقد عهد إلىّ أن أمضى، وأنا الأمير، وإلىّ تنتهى الأخبار، ولو أنّه لم يأتنى له كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة فكنت إن أعلمته فاتتنى لم أعلمه حتى أنتهزها، وكذا لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له ومن معى من المهاجرين والتابعين بإحسان، ولست أكرهكم.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 276 وما بعدها. [2] زيادة من الطبرى.

ومضى خالد، وندمت الأنصار وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيرا، إنّه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنّكم الناس، فأجمعوا اللّحاق بخالد، وجرّدوا إليه رسولا، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى لحق البطاح، فلم يجدوا به أحدا. ووجد مالك بن نويرة قذ فرّقهم فى أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع حين تردّد عليه أمره، وقال: يا بنى يربوع، إنّا قد كنّا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدّين، وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح، وإنّى قد نظرت فى هذا الأمر فوجدت الأمر لا يتأتّى لهم بغير سياسة، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم، فتفرّقوا إلى دياركم، [وادخلوا فى هذا الأمر] . [1] فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم. وخرج مالك بن نويرة حتى رجع إلى منزله. فلمّا قدم خالد البطاح بثّ السّرايا وأمرهم بداعية الإسلام، أن يأتوه بكلّ من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة فى نفر معه من بنى ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد، وعرين وجعفر، فاختلفت السّرية فيهم، وفيهم أبو قتادة- وكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا- فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا فى ليلة باردة لا يقوم لها شىء، وجعلت تزداد بردا. فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئو أسراكم. وكانت فى لغة كنانة إذا قالوا: دثّروا الرجل فأدفئوه، كان دفؤه قتله، فظنّ القوم- وهى فى لغتهم القتل- أنّه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا. وسمع خالد الواعية [2] . فخرج وقد فرغ منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه.

_ [1] تكملة من تاريخ الطبرى. [2] الواعية: الصراخ والصوت على الميت.

وقد اختلف القوم فيهم؛ فقال أبو قتاده: هذا عملك! فزبره [1] خالد فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر فيه، فلم يرض إلّا أن يرجع إلى خالد، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة. وتزوّج خالد أمّ تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضى طهرها، وكانت العرب تكره النّساء فى الحرب، فقال عمر لأبى بكر: إنّ فى سيف خالد رهقا [2] ، فإن لم يكن هذا حقّا حقّ عليه أن تقيده، وأكثر عليه فى ذلك، وكان أبو بكر لا يقيد من عمّاله- فقال: هبه يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم ففعل. فأخبره خبره فعذره وقبل منه، وعنّفه فى التّزويج الذى كانت [تعيب] [3] عليه العرب. وقيل: إنّ عمر بن الخطاب ألحّ على أبى بكر فى عزل خالد. وقال: إنّ فى سيفة رهقا. فقال: يا عمر، لم أكن أشيم [4] سيفا سلّه الله على الكافرين. وقيل: ولما أقبل خالد قافلا دخل المسجد وعليه قبالا، عليه صدأ الحديد، معتجرا [5] بعمامة له. قد غرز فيها أسهما، فقام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثم قال: أقتلت أمرأ مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك. وخالد لا يكلّمه

_ [1] زبره: نهره. [2] الرهق: السفه والخفة وركوب الظلم. [3] تكملة من تاريخ الطبرى. [4] شام السيف: أغمده. [5] الاعتجار: لف العمامة.

ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة

ولا يظنّ إلّا أنّ رأى بكر على مثل رأى عمر فيه، حتى دخل على أبى بكر فأخبره الخبر، فاعتذر إليه، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان فى حربه تلك. وخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر جالس فى المسجد، فقال: هلمّ إلىّ يابن أمّ شملة؛ فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلّمه، ودخل بيته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى، ونعم الوكيل. ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة كان [1] من خبر مسيلمة أنّه لما قدم وفد بنى حنيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كما قدّمناه فى السيرة النبوية فى أخبار الوفود، وكان مسيلمه فى رحالهم، فلمّا أجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا؛ فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه، وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» ، فقيل ذلك لمسيلمة. فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده. ثم ادّعى النبوّة بعد ذلك، وكان الرّجّال [2] بن عنفوة قد هاجر إلى

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 281 وما بعدها. [2] ك «الرحال» ، بالحاء، صوابه من ص وتاريخ الطبرى.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، وفقه فى الدّين، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معلّما لأهل اليمامة، وليشغب على مسيلمة؛ ويشدّد من أمر المسلمين، وكان أعظم فتنة على بنى حنيفة من مسيلمة، شهد له أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنه قد أشرك معه؛ فصدّقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ والأمر على ذلك، فقويت شوكة مسيلمة، واشتدّ أمره، وكثرت جموعه، وتمكّن الرّجّال بن عنفوة من مسيلمة، وعظم شانه عنده، فكان لا يخالفه فى أمر ولا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان مسيلمة يصانع كلّ أحد ممّن اتّبعه، ويتابعه على رأيه، ولا يبالى أن يطّلع الناس منه على قبيح، وضرب حرما باليمامة؛ فكان محرّما، فوقع ذلك الحرم فى الأحاليف، (أفخاذ من بنى أسيّد كانت دارهم اليمامة) ، فصار مكان دارهم الحرم، والأحاليف: سبحان ونمارة، وبنو جروة، فكانوا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، فإن نذروا [1] بهم فدخلوا الحرم أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذاك ما يريدون؛ فكثر ذلك منهم، حتى استعدوا عليهم مسييلمة، فقال: انظروا الذى يأتى من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم: «والليل الأطحم [2] ، والذئب الأدلم [3] ، ما انتهكت

_ [1] نذروا: علموا. [2] الطحمة: سواد الليل. [3] الأدلم: الأسود الطويل.

أسيّد من محرم» ، ثم عادوا للغارة والعدوى [1] ، فقال: انتظروا الّذى يأتينى. ثم قال: «والليل الدّامس، والذئب الهامس [2] ، ما قطعت أسيّد من رطب ولا يابس» ؛ فقالوا: أمّا النخيل فمرطبة [3] وقد جدّوها [4] ، وأمّا الجدران فيابسة وقد هدموها، فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم. وكان فيما يقرؤه لهم فيهم: إنّ بنى تميم قوم طهر لقاح [5] ، لا مكروه عليهم ولا إتارة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كلّ إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن» . وكان يقول: والشّاء وألوانها، وأعجبها السّود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض؛ إنّه لعجب [محض] [6] ، وقد حرّم المذق، فما لكم تمجّعون [7] !. وكان يقول: «يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّى ما تنقّين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين» . وقال أيضا: «والمبذّرات زرعا، والحاصدات حصدا، والزّارعات قمحا، والطّاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثّاردات ثردا [8] ، واللّاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضّلّتم على الوبر،

_ [1] العدوى: العدوان والظلم. [2] الذئب الهامس: الشديد. [3] الطبرى: مرطبة. [4] جدوها: قطعوها. [5] قوم لقاح: لم يدينوا الملوك. [6] زيادة من الطبرى. [7] الطبرى: «لا تمجعون» . [8] ثرد الخبز: فتنة ثم بله بمرق.

وما سبقكم أهل المدر؛ ريفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه [1] ، والباغى فناوئوه» . قالوا: وأتته امرأة فقالت: إنّ نخلنا لسحق [2] ، وإن آبارنا لجرز [3] فادعى الله لمائنا ونخلنا، كما دعا محمّد لأهل هزمان، ففعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعا للنخل، وتمضمض من الماء، ومجّه فى الآبار، فيبست النخل، وغارت الآبار. وقيل: إنّه نزل على أولاد بنى حنيفة كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ بيده على رءوسهم، وحنّكهم، فقرع ولثغ من فعل به ذلك، وظهر ذلك كلّه بعد مهلكه. قالوا: وجاء طلحة النّمرىّ، فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا: مه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفى نور أو فى ظلمة؟ فقال: فى ظلمة، فقال: أشهد أنّك كذّاب، وأنّ محمدا صادق، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلىّ من صادق مضر. والله سبحانه أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

_ [1] المعتر: الفقير. [2] سحق: جمع سحوق؛ وهى الطويلة من النخل. [3] لجرز: الأرض جدية.

ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة

ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة قد ذكرنا أنّ أبا بكر الصدّيق لمّا عقد الألوية، عقد لعكرمة ابن أبى جهل، وأمره بمسيلمة، ثم أردفه شرحبيل بن حسنة، فعجّل عكرمة، وبادر الحرب ليذهب بصوتها، فواقعهم، فنكبوه، وأقام شرحبيل فى الطريق حتى أدركه الخبر. وكتب [1] أبو بكر رضى الله عنه إلى عكرمة: يابن أمّ عكرمة؛ لا أرينّك ولا ترانى على حالها، ولا ترجع فتوهن الناس، امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة، فقاتل معهما أهل عمان ومهرة، وإن شغلا فامض أنت، ثم تسير ويسير جندك؛ تستبرئون من مررتم به حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبى أميّة باليمن وحضرموت. وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتّى يأتيه أمره، ثم كتب إليه قبل أن يوجّه خالد بن الوليد بأيّام إلى اليمامة: إذا قدم عليك خالد ثم فرغتم- إن شاء الله- فالحق بقضاعة حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف. فلمّا قدم خالد على أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من البطاح رضى عنه، وقبل عذره كما ذكرنا، ووجّهه إلى مسيلمة، وأوعب معه الناس، وجعل على كلّ قبيلة رجلا، وجعل على المهاجرين أبا حذيفة بن عتبة، وجعل على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس،

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 314- 316، وابن الأثير 2: 246.

وتعجّل خالد حتّى قدم على أهل العسكر بالبطاح، وانتظر البعث الذى ضرب بالمدينة، فلمّا قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة، وبنو حنيفة يومئذ تزيد عدّتهم على أربعين ألف مقاتل. وعجّل شرحبيل بن حسنة، وبادر بالقتال قبل وصول خالد كما فعل عكرمة، فنكب كما نكب، فلما قدم خالد لامه، وسار خالد حتى إذا أطلّ على بنى حنيفة أسند خيولا لعقّة والهذيل وزياد، وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح، وإنّما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه، وأمدّ أبو بكر رضى الله عنه خالدا بسليط بن عمرو بن عبد شمس العامرىّ القرشىّ ليكون ردءا له من أن يأتيه أحد من خلفه؛ فخرج. فلمّا دنا من خالد وجد تلك الخيول التى انتابت تلك البلاد قد فرّقوا فهربوا، فكان منهم قريبا لهم، وأمّا مسيلمة فإنّه لما بلغه دنوّ خالد بن الوليد منه عسكر بعقرباء، واستنفر النّاس، فجعل النّاس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفىّ اليمامىّ- وكان رئيسا من رؤساء بنى حنيفة- فى سريّة يطلب بثأر له فى بنى عامر وبنى تميم، فلمّا كان خالد من عسكر مسيلمة على ليلة، إذا مجّاعة وأصحابه وقد غلبهم الكرى- وكانوا راجعين من بلاد بنى غامر- فعرّسوا دون ثنيّة اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم، ولا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: مجّاعة، وهذه حنيفة، فأوثقوهم، وأقاموا إلى أن جاءهم خالد فأتوه بهم، فظنّ أنّهم جاءوه

ليستقبلوه، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك، إنّما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بنى عامر وتميم، فأمر بهم أن يقتلوا، فقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرّا فاستبق هذا، ولا تقتله- يريدون مجّاعة- فقتلهم كلّهم دونه، وكانوا ثلاثة وعشرين راكبا- وقيل: أربعين. وقيل: ستّين- وصبر مجّاعة، وسار إلى اليمامة، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة، فنزلوا بعقرباء، وهى طرف اليمامة؛ دون الأموال، وريف اليمامة وراء ظهورهم. وقال شرحبيل بن مسيلمة [1] : يا بنى حنيفة، اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيّات، وينكحن غير حظيّات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم. فالتقوا بعقرباء واقتتلوا، وكانت راية المهاجرين يومئذ مع سالم مولى أبى حذيفة. وقيل: بل كانت مع زيد بن الخطاب، فلما قتل أخذها سالم، فقالوا له: تخشى علينا من نفسك شيئا؟ فقال: بئس حامل القرآن إنا إذا! وكانت راية الأنصار مع ثابت ابن قيس بن شمّاس، وكانت العرب على راياتها، وسجّاعة فى الأسر مع أمّ تميم زوجة خالد فى فسطاطها، واقتتل النّاس أشدّ قتال، ولم يلق المسلمون حربا مثلها، فانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى خالد، فزال عن الفسطاط، ووصلوا إليه وقطعوه، ودخل أناس من بنى حنيفة على أمّ تميم، فأرادوا قتلها، فمنعها مجّاعة. وقال: أنا لها جار، فنعمت الحرّة! فدفعهم عنها.

_ [1] ص: «مسلمة» .

ثم إنّ المسلمين تداعوا؛ فقال ثابت بن قيس: بئسما دعوتم أنفسكم إليه يا معشر المسلمين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك ممّا يعبد هؤلاء- يعنى أهل اليمامة- وأعتذر إليك ممّا يصنع هؤلاء- يعنى المسلمين- ثم قاتل حتى قتل، قطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله. - وله رضى الله عنه خبر عجيب نذكره إن شاء الله تعالى فى آخر هذه الوقعة- قالوا: وحمل خالد فى الناس حتى ردّهم أبعد ما كانوا، واشتدّ القتال، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة عليهم، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم. فلما رأى خالد ما النّاس فيه، قال: امتازوا اليوم أيّها الناس، لنعلم بلاء كلّ حىّ، ولنعلم من أين نؤتى! فلمّا امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم نستحيى من الفرار. وقاتل الناس قتالا عظيما، وثبت مسيلمة، فعرف خالد أنّ الفتنة لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، فبرز ودعا إلى البراز، فما يبرز له أحد إلا قتله، ودعا مسيلمة فأجابه؛ وعرض عليه أشياء، فكان إذا همّ بجوابه أعرض بوجهه يستشير شيطانه، فينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة، فركبه خالد وأرهقه فأدبر، وزال أصحابه، فكانت هزيمتهم، وقالوا لمسيلمة: أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكّم بن الطّفيل: يا بنى حنيفة، الحديقة الحديقة! فدخلوها، وأغلقوا بابها عليهم. قال: وكان البراء بن مالك أخو أنس؛ إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد الرجال عليه، ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور

الأسد، فأصابه ذلك، فقال: إلىّ أيها الناس؛ أنا البراء بن مالك؛ وقاتل قتالا شديدا، فلمّا دخل بنو حنيفة الحديقة، قال البراء: يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم فيها. فقالوا: لا نفعل، فاحتمل حتى أشرف على الجدار واقتحمها عليهم، وقاتل على الباب، وفتحه المسلمون، ودخلوا عليهم، فاقتتلوا أشدّ قتال، وكثر القتل فى الفريقين، فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة، واشترك فى قتله وحشىّ، مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة بن عبد المطّلب، ورجل من الأنصار، فولّت حنيفة عند قتله منهزمة، وأخذهم السّيف من كلّ جانب. وقتل محكّم اليمامة، قتله عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق، رضى الله عنه؛ رماه بسهم فى نحره وهو يخطب ويحرّض الناس فقتله، وقتل من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة ثلاثمائة وستّون، ومن المهاجرين من غير المدينة ثلاثمائة، وقتل من بنى حنيفة بعقرباء سبعة آلاف، وفى حديقة الموت مثلها، وفى الطّلب نحو منها؛ وخرج خالد بمجّاعة يرسف فى الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف القتلى حتى مرّ بمحكّم بن الطّفيل، وكان رجلا جسيما وسيما، فلمّا رآه خالد قال: هذا صاحبكم؟ قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكّم اليمامة. ثم مضى حتّى دخل الحديقة، فقلّب له القتلى، فإذا رويجل أصيفر أخينس [1] . فقال مجّاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه؛ فقال خالد لمجّاعة: هذا فعل بكم ما فعل! قال؛ قد كان ذلك يا خالد. وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان [2] الناس،

_ [1] أخينس، تصغير أخنس، والخنس محركة: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل فى الأرنبة. [2] سرعان الناس: أوائلهم.

وإنّ جماهير النّاس لفى الحصون، فقال: ويلك، ما تقول! قال: هو والله الحقّ، فهلمّ لأصالحكم على قومى. وجاء عبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عمر إلى خالد، فقالا له: ارتحل بالنّاس، فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبثّ الخيول فألتقط من ليس فى الحصون ثم أرى؛ فبثّ الخيول فحووا ما وجدوا من مال وصبيان، فضمّوهم إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجّاعة: إنّه والله ما جاءك إلّا سرعان النّاس، فإنّ الحصون لمملوءة رجالا، فهلمّ إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كلّ شىء دون النّفوس؛ ثمّ قال مجّاعة: أنطلق إليهم فأشاورهم، وننظر فى هذا الأمر، ثم أرجع إليك، فدخل مجّاعة الحصون وليس فيها إلا النّساء والصّبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى [1] ، فظاهر الحديد على النّساء، وأمرهنّ بنشر شعورهنّ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهم، ثم رجع إلى خالد، فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما ضيّعت، وقد أشرف لك بعضهم نقضا علىّ، وهم منّى براء، فنظر خالد إلى رءوس الحصون: وقد اسودّت وقد نهكت المسلمين الحرب، وأحبوا أن يرجعوا على الظّفر. فقال مجّاعة لخالد: إن شئت صنعت شيئا، فعزمت على القوم؛ تأخذ منى ربع السّبى وتدع ما بقى؛ فقال خالد: قد فعلت. قال: قد صالحتك، فلما فرغا فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصّبيان. فقال خالد لمجّاعة: ويحك! خدعتنى. فقال: قومى، ولم أستطع إلا ما صنعت.

_ [1] الطبرى: «ضعفاء» .

وقيل: إنّ خالدا صالح مجّاعة على نصف السّبى، والصّفراء، والبيضاء، والحلقة، والكراع، وحائط [1] من كل قرية يختار [2] خالد، ومزرعة يختارها، فتقاضوا على ذلك. ثم سرّحه وقال: أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا وتقبلوا لأنهدنّ إليكم ثم قال: لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل، فأتاهم مجّاعة، فقال: أمّا الآن فاقبلوا. فقال سلمة بن عمير الحنفى: لا والله لا نقبل؛ تبعث إلى أهل القرى والعبيد. فنقاتل ولا نقاضى خالدا؛ فإنّ الحصون حصينة، والطعام كثير، والشتاء قد حضر. فقال له مجّاعة: إنّك امرؤ مشئوم، وغرّك أنى خدعت القوم حتى أجابونى إلى الصّلح، وهل بقى منكم أحد فيه خير وبه دفع! وإنّما أنا بادرتكم. فخرج مجّاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا. فقال: بعد شرّ ما رضوا اكتب كتابك. فكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة بن مرارة وسلمة ابن عمير، وفلانا وفلانا. قاضاهم على الصّفراء والبيضاء ونصف السّبى. والحلقة والكراع. وحائط من كلّ قرية ومزرعة، على أن يسّلموا. ثم أنتم آمنون بأمان الله، لكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمة أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذمم المسلمين على الوفاء.

_ [1] الحائط هنا: البستان. [2] ص «يختاره خالد.

ووصل كتاب أبى بكر إلى خالد بقتل كلّ محتلم، وكان قد صالحهم فوفى لهم. ثمّ إنّ خالد بن الوليد قال لمجّاعة: زوّجنى ابنتك، فقال مجّاعة: مهلا، إنّك قاطع ظهرك وظهرى معك عند صاحبك. قال: أيّها الرجل، زوّجنى، فزوّجه، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب، إليه كتابا يقطر الدّم؛ يقول: يابن أمّ خالد؛ إنك لفارغ، تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد! فلما نظر خالد فى الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر- يعنى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وبعث خالد وفدا من بنى حنيفة إلى أبى بكر، فقدموا عليه. فقال لهم: ويحكم! ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل؟ قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا، كان أمرا لم يبارك الله له، ولا لعشيرته فيه. قال: على ذلك، ما الذى دعاكم به؟ قالوا: كان يقول: «يا ضفدع نقّى نقّى، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون» . فقال أبو بكر رضى الله عنه: سبحان الله، ويلكم! إن هذا الكلام ما خرج من إلّ ولا برّ [1] . فأين يذهب بكم! قال أبو جعفر: لما فرغ خالد من اليمامة. وكان منزله الذى

_ [1] الإل: العهد والقرابة.

ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله

به التقى الناس أباض (واد من أودية اليمامة) ؛ ثم تحوّل إلى واد من أوديتها يقال له: الوبر، فكان منزله بها [1] . ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله وتنفيذ وصيته للرؤيا التى رئيت بعد مقتله قد أشرنا عند ذكر مقتله أن له خبرا عجيبا نذكره، ورأينا إيراده هاهنا توفية للشرط. حكى الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، قال: لما [2] انكشف المسلمون يوم اليمامة. قال ثابت بن قيس وسالم مولى أبى حذيفة: ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم حفر كلّ واحد منهما له حفرة، وثبتا وقاتلا حتى قتلا. وكان على ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمرّ به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت فى منامه، فقال له: إنّى أوصيك بوصية، فإيّاك أن تقول هذا حلم فتضيّعه؛ إنى لمّا قتلت أمس مرّ بى رجل من المسلمين، فأخذ درعى، ومنزله فى أقصى النّاس، وعند خبائه فرس يستنّ فى طوله [3] ، وقد كفأ على الدّرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعى فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى أبا بكر- فقل له: إنّ علىّ من الدّين كذا وكذا، وفلان من رقيقى عتيق. فأتى الرجل خالدا فأخبره. فبعث إلى الدرع فأتى بها.

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 300. 301. [2] الاستيعاب لابن عبد البر 200 وما بعدها. [3] يستن: يقمص. والطول: الحبل.

ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم إلى الحطم وما كان من أمرهم

وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيّته [من بعد موته] [1] . قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيّته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله تعالى. ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم إلى الحطم وما كان من أمرهم والحطم اسمة شريح بن ضبيعة. قال أبو عبيدة فى سبب تسميته بالحطم: إنّه [2] كان غزا اليمن فى جموع جمعها من ربيعة، فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة، أسر فيها فرعان ابن مهدىّ بن معدى كرب عمّ الأشعث بن قيس، وأخذ على طريق مفازة؛ فضلّ بهم دليلهم، ثم هرب منهم، ومات فرعان عطشا، وهلك منهم ناس كثيرون بالعطش، وجعل شريح يسوق بأصحابه سوقا حثيثا حتى نجوا، ووردوا الماء؛ فقال فيه رشيد بن رميض هذه الأبيات: بات يقاسيها غلام كالزّلم ... نام الحداة وابن هند لم ينم هذا أوان الشّدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم خدلّج الساقين خفّاق القدم ... ليس براعى إبل ولا غنم ولا بجزّار على ظهر وضم فلقّب يومئذ الحطم لذلك.

_ [1] زيادة من الاستيعاب: [2] ك: «أنه كان عن اليمن فى جموع جمعها» ، والمثبت من ص.

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى رحمه الله: كان [1] من حديث أهل البحرين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشتكى هو والمنذر ابن ساوى فى شهر واحد، ثم مات المنذر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقليل، وارتدّ [2] بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأمّا بكر فتمّت على الردّة، وكان الذى ثنى عبد القيس الجارود بن المعلّى. وقيل فيه: الجارود بن عمرو بن حبيش بن يعلى [3] ، واسمه- فيما يقال- بشر بن عمرو، وإنّما قيل له الجارود؛ لأنّه أغار فى الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم فجرّدهم. - وهذه الزيادة فى اسم الجارود عن غير الطبرى- قال أبو جعفر: وكان الجارود قد قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان نصرانيّا فأسلم، ومكث بالمدينة حتى فقه، ثم رجع إلى قومه فكان فيهم؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت عبد القيس: لو كان محمد نبيّا لما مات؛ وارتدّوا؛ فبعث إليهم فجمعهم، وقال: يا معشر عبد القيس؛ إنّى سائلكم عن أمر فأخبرونى به إن علمتموه، ولا تجيبونى إن لم تعلموا؛ قالوا: سل عمّا بدا لك. قال: تعلمون أنّه كان لله تعالى أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: ترونه أو تعلمونه؟ قالوا: لا، بل نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا؛ قال: فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وأنا أشهد أنّ لا إله إلّا الله،

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 301 وما بعدها، الأغانى 15: 255. [2] ص: «وارتدت» . [3] ص: «حنش بن يعلى» .

وأن محمدا عبده ورسوله؛ قالوا: ونحن نشهد أنّ لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأنّك ضف؟؟؟ سيدنا وألنا؟؟؟. وثبتوا على إسلامهم وخلّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى، فكان المنذر مشتغلا بهم حياته، فلمّا مات حصر أصحابه فى مكانين، فكانوا كذلك حتى أنقذهم [1] العلاء بن الحضرمىّ. قال: ولما ارتدّت ربيعة ومن تابعها. قالوا: نردّ الملك فى آل المنذر، فملّكوا المنذر بن النّعمان بن المنذر، وكان يسمّى الغرور، فكان يقول بعد ذلك حين أسلم الناس وغلبهم السيف: لست بالغرور، ولكنى المغرور [2] . قال: ولمّا مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم خرج الحطم بن ضبيعة أخو قيس بن ثعلبة فيمن اتّبعه من بكر بن وائل على الرّدة، ومن تأشّب [3] إليه من غير المرتدّين؛ ممّن لم يزل كافرا حتى نزل القطيف [4] وهجر، وبعث بعثا إلى دارين، فأقاموا به ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدّون المنذر والمسلمين، وأرسل إلى الغرور ابن أخى [5] النعمان بن المنذر، فبعثه إلى جؤاثى، وقال له: اثبت، فإنّى إن ظفرت ملّكتك بالبحرين حتى تكون كالنّعمان بالحيرة، وبعث إلى جواثى فحصرهم، وألحّوا عليهم، وفى المسلمين المحصورين رجل من صالحى المسلمين. يقال له: عبد الله بن حذف،

_ [1] ص: «أنقدهم» تحريف. [2] ك: «الفرور» . [3] تأشب: تجمع إليه من هنا وهنا. [4] القطيف: مدينة بالبحرين. [5] فى الطبرى أخ: ى» «.

أحد بنى بكر بن كلاب، فاشتدّ عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكوا؛ فقال عبد الله بن حذف فى ذلك: ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا [1] فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود فى جؤاثى محصرينا كأنّ دماءهم فى كلّ فجّ ... شعاع الشمس يغشى النّاظرينا توكّلنا على الرّحمن إنّا ... وجدنا الصّبر للمتوكّلينا وكان أبو بكر الصّديق رضى الله عنه قد عقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمّره بالبحرين كما قدّمنا ذكر ذلك، فسار العلاء فيمن معه، فلمّا كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال فى مسلمة بنى حنيفة، وخرج مع العلاء من بنى عمرو وسعد والرّباب مثل عسكره، وسلك الدّهناء فنزل، وأمر النّاس بالنزول، فنزلوا، فنفرت الإبل فى جوف الليل، فما بقى بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلّا ذهب عليها فى عرض الرّمل، وذلك حين نزل الناس، وقبل أن يحطّوا، فما هجم على جمع من الغمّ ما هجم عليهم، وأوصى بعضهم إلى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعوا إليه؛ فقال: ما هذا الذى قد ظهر فيكم، وغلب عليكم؟ فقال النّاس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه [2] حتى نصير حديثا، فقال: أيّها النّاس، لا تراعوا، ألستم مسلمين! ألستم فى سبيل الله.! ألستم أنصار الله! قالوا: بلى. قال: فابشروا فو الله لا يخذل الله من كان فى مثل حالكم.

_ [1] الأبيات فى الأغانى 15: 256. [2] ص: «شمسها» .

ونادى المنادى بصلاة الصّبح حين طلع الفجر، فصلّى بهم، منهم المتيمّم، ومنهم من لم يزل على طهره، فلمّا قضى صلاته جثا لركبتيه، وجثا النّاس، فنصب فى الدّعاء، ونصبوا معه، فلمع لهم سراب [1] الشّمس، فالتفت إلى الصفّ. فقال: رائد ينظر ما هذا، ففعل، ثم رجع فقال: سراب. فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر، فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس معه، فمشوا حتى نزلوا عليه، فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد [2] من كلّ وجه، فأناخت عليهم، فأقام كلّ رجل إلى ظهره، فأخذه. قال منجاب بن راشد: فما فقدمنا سلكا [3] ؛ فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النّهل [4] ، وتروّينا، ثم تروّحنا. وكان أبو هريرة رفيقى فلمّا غبنا عن ذلك المكان. قال لى: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد. قال: فكن معى حتى تقيمنى عليه، فكررت به، فأتيت به على ذلك المكان، فقلت: لولا أنّى [لا أرى] [5] الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعا [6] قبل اليوم، وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم، هذا والله المكان، ولهذا رجعت بك، وملأت إدواتى ثم وضعتها على شفيره. فقلت: إن كان منّا من المنّ وكانت

_ [1] ك: «شراب» تصحيف. [2] الكرد: الطرد، وفى الأصول: «يرتكد» تصحيف، صوابه من تاريخ الطبرى. [3] السلك: جمع سلكة، وهو الخيط الذى يخاط به الثوب. [4] العلل: الشراب الثانى، والنهل: الشراب الأول. [5] من الطبرى. [6] كذا فى الطبرى، وفى الأصول: «نافعا» .

آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته، فإذا منّ من المنّ؛ فحمد الله. ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء بن الحضرمىّ إلى الجارود ورجل آخر: أن انضما فى عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما، وخرج هو فيمن جاء معه، وفيمن قدم عليه حتّى ينزل عليه ما يلى هجر، وتجمّع المشركون كلّهم إلى الحطم إلّا أهل دارين، وتجمّع المسلمون كلّهم إلى العلاء، وخندق المسلمون والمشركون، فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا. فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون فى عسكر المشركين ضوضاء شديدة، كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم؛ فخرج حتّى إذا دنا من خندقهم أخذوه؛ فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم، وجعل ينادى: يا أبجراه! فجاء أبجر فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: لا أصغّر بين اللهازم [1] ، فقال: والله إنى لأظنّك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة. فقال: دعنى من هذا، وأطعمنى؛ فإنّى قد متّ جوعا؛ فقرّب له طعاما فأكل، ثم قال: زوّدنى [2] واحملنى، فحمله على بعير، وخرج عبد الله بن حذف حتّى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عسكرهم، فوضعوا السّيوف فيهم حيث شاءوا، واقتحوا الخندق

_ [1] ص: «اللهاذم» تصحيف. وفى تاريخ الطبرى: «لا أضيعن الليلة» . [2] ك: «زدنى» .

هرّابا فمتردّ وناج، ودهش ومقتول أو مأسور، واستولى المسلمون على ما فى العسكر، ولم يسلم رجل إلا بما عليه، فأمّا أبجر فأفلت؛ وأمّا الحطم فإنّه دهش، وطار فؤاده، فقام إلى فرسه- والمسلمون خلالهم- فلمّا وضع رجله فى الرّكاب انقطع به فمرّ به، عفيف بن المنذر والحطم يستغيث؛ يقول: ألا رجل يعقلنى! فعرف صوته، فقال: أعطنى رجلك، فأعطاه رجله فنفحها فأطنّها [1] من الفخذ، وتركه، فقال: أجهز علىّ؛ فقال: لا، إنّى أحبّ [2] ألّا تموت حتى أمضّك [3] . وجعل الحطم لا يمرّ به أحد من المسلمين فى الليل إلا قال: هل لك فى الحطم أن تقتله! حتى مرّ عليه قيس بن عاصم فقتله، فلمّا رأى فخذه نادرة [4] ، قال: وا سوأتاه لو علمت الذى به لم أحرّكه! وخرج المسلمون بعد ما أخذوا الخندق على القوم يطلبونهم، فلحق قيس بن عاصم أبجر، فطعنه قيس فى العرقوب فقطعه، فكانت رادّة، وأصبح العلاء فقسّم الأنفال، ونفّل رجالا من أهل البلاء ثيابا. وأما أهل عمان ومهرة واليمن، فإنّ حذيفة بن محصن الحميرىّ وعرفجة سارا إلى القوم، فاقتتل المسلمون وأهل عمان قتالا شديدا فهزم المسلمون [المرتدين] [5] ، وقتلوا منهم فى المعركة عشرة آلاف، وسبوا الذّاررىّ، وجمعوا الغنائم، وبعثوا الخمس إلى أبى بكر، وقسّموا ما بقى، ثم خرجوا نحو مهرة، فكشف الله جنود المرتدّين، وقتل

_ [1] أطنها: قطعها. [2] ص: «أحبك» . [3] ك: «أفضك» . [4] نادرة: ساقطة. [5] تكملة من ص.

رئيسهم، وركبهم المسلمون، فقتلوا منهم من شاءوا، وأصابوا من شاءوا، وخمّسوا الغنائم، وبعثوا بالخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، وقسّموا ما بقى. وأمّا من بقى من بقية الأمراء الذين عقد لهم أبو بكر رضى الله عنه، وبعثهم إلى من ارتدّ من قبائل العرب، فإنّ كل أمير سار إلى من بعثه إليه فمن رجع عن الردة، وفاء إلى الإسلام قبل منه ومن أبى قتل، وأطفأ الله تلك النيران. روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنّه قال: لقد أقمنا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أنّ الله تعالى منّ علينا بأبى بكر، جمعنا على أن نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عرينة، ونعبد الله حتى يأتينا اليقين. فعزم الله لأبى بكر على قتالهم، فو الله ما رضى منهم إلا بالخطّة المخزية أو الحرب المجلّية، فأما الخطة المخزية فأن يقرّوا بأنّ من قتل منهم فى النار، وأنّ من قتل منّا فى الجنة، وأن يدوا قتلانا، ونغنم ما أخذنا منهم، وما أخذوا منّا مردود علينا، وأمّا الحرب المجلّية فأن يخرجوا من ديارهم. وكانت هذه الحروب التى ذكرناها. وهذه الوقائع كلّها فى سنة إحدى عشرة، وكان فيها حوادث أخر غير ما ذكرناها، نذكرها إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه بعد نهاية الغزوات. والله أعلم.

ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق

ذكر مسير خالد بن الوليد الى العراق وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية كان إرسال خالد بن الوليد إلى العراق فى المحرم سنة ثلاث عشرة من الهجرة [1] . قالوا: وكان الّذى هاج أبا بكر رضى الله عنه؛ أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فقال قيس بن عاصم: أما إنّه غير خامل الذّكر، ولا مجهول النّسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة [2] ، ذلك المثنّى بن حارثة الشيبانى. ثم قدم المثنّى على أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، ابعثنى على قومى، فإنّ فيهم إسلاما. أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتى من العدوّ؛ ففعل أبو بكر رضى الله عنه ذلك. وقدم المثنّى إلى العراق، فقاتل، وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد ويقول: إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ، وأذلّ الله المشركين، مع أنّى أخبرك يا خليفة رسول الله أنّ الأعاجم تخافنا وتتّقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ابعث خالد بن الوليد مددا للمثنّى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 261. وذكر الخبر فى سنة 12، وانظر الاستيعاب 1456. [2] العمارة: الحى العظيم، وفى الاستيعاب: «الغارة» .

الشام ألحّ على أهل العراق؛ حتى يفتح الله عليه. حكاه أبو عمر بن عبد البر من حديث الأصمعى عن سلمة بن بلال عن أبى رجاء العطاردى [1] . قال: كتب أبو بكر الصّديق رضى الله عنه إلى المثنّى بن حارثة: إنّى قد ولّيت خالد بن الوليد، فكن معه؛ وكان المثنّى بسواد الكوفة، فخرج خالد فتلقّاه، وقدم معه البصرة. وحكى أبو الحسن علىّ بن محمد الموصلى المعروف بابن الأثير فى تاريخه: «الكامل. قال: أرسل [2] أبو بكر رضى الله عنه خالد بن الوليد من اليمامة إلى العراق، وقيل: بل قدم إلى المدينة من اليمامة، فأرسله إلى العراق، وأوصاه أن يبدأ بفرج الهند، وهو الأبلّة، وأن يتألّف أهل فارس، وكلّ من كان فى ملكهم من الأمم، فصار حتى نزل بيانقيا، وباروسما وألّيس، فصالحه أهلها على عشرة آلاف دينار سوى جزية [3] كسرى، وكان على كلّ رأس أربعة دراهم فأخذ منهم الجزية، ثم سار حتّى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس الطائىّ، وكان أميرا عليها بعد النّعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة فاختاروا الجزية، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أوّل جزية أخذت من الفرس فى الإسلام، هى والقريّات التى صالح عليها، واشترط على أهل الحيرة أن يكونوا عيونا للمسلمين، فأجابوا إلى ذلك. ثم سار خالد لقتال هرمز، فلمّا سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير

_ [1] الاستيعاب 1457. [2] الكامل لابن الأثير 2: 261 وما بعدها. [3] ابن الأثير «خرزة» .

ذكر وقعة الثنى

الملك بالخبر واستمدّه والتقيا، وخرج هرمز، ودعا خالدا للبراز ووطّأ أصحابه على الغدر به، فبرز إليه خالد، ومشى نحوه راجلا، وبرز هرمز، واقتتلا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو، فأنهى أهل فارس وركبهم المسلمون؛ وسمّيت هذه الوقعة: ذات السّلاسل، وكانت عدّة أصحاب خالد ثمانية عشر ألفا، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبى بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنّى بن حارثة فى آثارهم، وبعث مقرّن إلى الأبلّة ففتحها، وجمع الأموال بها والسّبى. وقيل: إن الأبلّة فتحت فى خلافة عمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحاصر المثنّى حصن المرأة، فافتتحه، وأسلمت المرأة. ذكر وقعة الثنى قال [1] : ولما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد، أمدّه بقارن بن قريانس، فلقيه المنهزمون، فرجعوا معه وفيهم قباذ وأنوشجان، فنزلوا الثّنى- وهو النهر- وسار إليهم خالد، والتقوا، واقتتلوا، فبرز قارن فقتله معقل بن الأعشى، وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدىّ قباذ، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفا؛ سوى من غرق فى الماء، فقسّم خالد الفئ، بعد أن خمّسه،

_ [1] ساير المؤلف فى هذه التسمية ابن الأثير 2: 263. وأما الطبرى فقد أسماها «وقعة المذار» . والعرب تسمى كل نهر ثنيا.

ذكر وقعة الولجة

وأرسل بالأخماس إلى المدينة، وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت غنيمة عظيمة، وأخذ الجزية من الفلاحين، وكانوا ذمّة، وكان فى السّبى أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيّا. ذكر وقعة الولجة قال: [1] ولمّا وصل الخبر إلى أردشير بعث الأندرزغر [وكان فارسا من مولدى السّواد، وأرسل بهمن جازويه فى أثره فى جيش، وكان مع الأندرزغر] [2] الفرس والعرب الضّاحية والدهاقين، فعسكروا بالولجة، فجاءهم خالد إليها وكمن لهم كمينا، وقاتلهم قتالا شديدا، وخرج كمين خالد من خلفهم فانهزمت الأعاجم، وأخذهم خالد من أمامهم، والكمين من خلفهم، فقتل منهم خلق كثير. [ومضى] [2] الأندرزغر منهزما، فمات عطشا. وكانت هذه الوقعة فى صفر سنة اثنتى عشرة، فأصاب خالد ابنا لجابر بن بجير، وابنا لعبد الأسود [3] من بكر بن وائل. ذكر وقعة أليس قال: لمّا أصاب خالد بن الوليد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل، الّذين أعانوا الفرس، غضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الفرس، واجتمعوا على ألّيس [4] ، وعليهم عبد الأسود

_ [1] ابن الأثير. 3: 263. [2] تكملة من ص. [3] ك: «بن بكر بن وائل» . [4] ك: «اجتمعوا على الفرس» .

العجلىّ، وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وأمره بالقدوم على نصارى العرب، فقدم عليهم بهمن جابان، وأمره بالتوقف عن المحاربة حتى يقدم عليه، وسار بهمن إلى أردشير يشاوره فيما يفعل، فوجده مريضا فتوقّف؛ واجتمع على جابان نصارى عجل، وهم اللّات وضبيعة وجابر بن بجير، وعرب الضّاحية من أهل الحيرة، فسار إليهم خالد والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقال خالد: اللهمّ إن هزمتهم فعلىّ ألّا أستبقى منهم من قدرت عليه؛ حتّى أجرى من دمائهم نهرهم، فانهزمت فارس، فنادى منادى خالد: الأسر الأسر! إلا من امتنع فاقتلوه، فأقبل بهم المسلمون أسراء، ووكّل بهم من يضرب أعناقهم، فضرب أعناقهم يوما وليلة؛ فقال له القعقاع: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأجرى عليه [الماء] [1] فسمّى ذلك الماء نهر الدم، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، وكانت الوقعة فى صفر أيضا. ثم سار إلى أمغيشيا، وأصاب فيها ما لم يصب مثله من الغنائم، وأخربها، وبعث إلى أبى بكر بالسّبى والغنائم؛ فقال أبو بكر: عجز النّساء أن يلدن مثل خالد. رضى الله تعالى عنهما.

_ [1] من ابن الأثير.

ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة

ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة قال: [1] ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة، وحمل الرّجال والأثقال فى السفن، فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزادبه، فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه، فقطع الماء عن السّفن، فبقيت على الأرض، فسار خالد نحوه فلقيه على فرات بادقلى، فقتله، وقتل أصحابه، فلما بلغ الأزاذبة قتل ابنه هرب بغير قتال، ونزل المسلمون على الغريّين، وتحصّن أهل الحيرة فحصرهم فى قصورهم، وافتتح المسلمون الدّروب والدّور، وأكثروا القتل، فنادى القسّيسون والرّهبان: يا أهل القصور! ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين: قد قبلنا واحدة من ثلاث: إمّا الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة، فكفّوا عنهم، وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا. وقيل: مائتى ألف وتسعين ألفا. وكان فتح الحيرة فى شهر ربيع الأوّل، وكتب لهم خالد كتابا، فلمّا كفر أهل السواد ضيّعوه، فلما افتتحها المثنّى ثانية عاد بشرط آخر، فلمّا عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبى وقاص، ووضع عليهم [أربعمائة] [2] ألف. فقال خالد: ما لقيت قوما كأهل فارس، وما لقيت من أهل فارس كأهل ألّيس.

_ [1] ابن الأثير 2: 265، 266. [2] من ابن الأثير.

ذكر ما كان بعد فتح الحيرة

ذكر ما كان بعد فتح الحيرة قال [1] : وكان الدّهاقين يتربّصون بخالد، ما يصنع أهل الحيرة، فلمّا صالحهم واستأمنوا له أتته الدّهاقين من تلك النّواحى، فصالحوه على ألفى ألف. وقيل: ألف ألف، سوى ما كان لآل كسرى. وكتب إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فإن أجابوه وإلّا حاربهم. وجبى الخراج فى خمسين ليلة، وأعطاه للمسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، لاختلافهم بموت أردشير، إلّا أنّهم مجمعون على حرب خالد، وهو مقيم بالحيرة. ذكر فتح الأنبار قال: ثم [2] سار خالد إلى الأنبار، وإنّما سمّيت الأنبار، لأن أهراء [3] الطعام كانت بها أنابير، وكان [على] [4] من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلمّا التقوا أمر خالد رماته برشق السّهام، وأن يقصد واعيونهم، فرشقوا رشقا واحدا، ثم تابعوا، فأصابوا ألف عين، فسمّيت هذه الواقعة ذات العيون، فلما رأى شيرزاد ذلك، أرسل فى طلب الصّلح، فصالحه خالد على أن يلحقه مأمنه فى جريدة، وليس معهم من المتاع شىء.

_ [1] ابن الأثير 2: 268. [2] الكامل لابن الأثير 2: 269. [3] الأهراء: مخازن الغلال. [4] تكملة من ص.

ذكر فتح عين التمر

وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده. ذكر فتح عين التمر قال: ولما [1] فرغ خالد من الأنبار، استخلف عليها الزّبرقان اين بدر، وسار إلى عين التّمر، وبها مهران بن بهرام جوبين فى جمع عظيم من العجم، وعقّة بن أبى عقّة فى جمع عظيم من العرب؛ من النّمر، وتغلب، وإياد؛ وغيرهم. فقال عقّة لمهران: إنّ العرب أعلم بقتال العرب منكم، فدعنا وخالدا؛ فقال: نعم، وإن احتجتم إلينا أعنّاكم، فالتقى عقّة بخالد، فحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأسره، فانهزم أصحابه من غير قتال، وأسر أكثرهم. فلما بلغ الخبر مهران، هرب فى جنده وترك الحصن [2] ، فانتهى المنهزمون إليه وتحصّنوا به، فنازلهم خالد، فسألوا الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى، وقتل عقّة، ثم قتلهم عن آخرهم، وسبى [كلّ من] [3] بالحصن وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلّمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسّمهم فى أهل البلاد، منهم: أبو زياد مولى ثقيف، وأبو عمرة جدّ عبد الله بن عبد الأعلى

_ [1] ابن الأثير 2: 369. [2] ص: «ونزل الحصن» . [3] من ص.

ذكر خبر دومة الجندل

الشاعر، وسيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان بن عفان. وأرسل إلى أبى بكر بالخبر والخمس والسّبى، فكان أول سبى قدم المدينة من العجم، وجعل خالد على عين التمر عويمرا السّلمىّ. ذكر خبر دومة الجندل قال: ولمّا [1] فرغ خالد من عين التّمر أتاه كتاب عياض بن غنم؛ يستمده على من بإزائه من المشركين، فسار إليه، وكان بإزائه بهراء وكلب، وغسّان، وتنوخ، والضجاعم، وكانت دومة الجندل على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، فأمّا أكيدر فأشار بالصّلح، ولم ير قتال خالد، فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم، وسمع خالد بمسيره، فأرسل إلى طريقه، وأخذه أسيرا وقتله وأخذ ما كان معه، وسار حتى نزل بدومة، وجعلها بينه وبين عياض، وخرج الجودى إلى خالد فى جمع ممّن عنده من العرب، وأخرج طائفة إلى عياض، فهزمهم عياض، وهزم خالد من يليه، وأسر الجودى، وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم، فبقوا حوله، فقتلهم خالد، وقتل الجودى وقتل الأسرى إلّا أسرى كلب، فإنّ بنى تميم قالوا لخالد: قد أمّنّاهم، وكانوا حلفاءهم، فتركهم لهم، ثم أخذ الحصن فقتل المقاتلة، وسبى الذّريّة، فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال. وأقام خالد بدومة الجندل، فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب

_ [1] ابن الأثير 2: 270.

ثم كانت وقعة مصيخ

الجزيرة غضبا لعقّة، فكانت وقعة حصيد والخنافس، بين القعقاع بن عمرو، خليفة خالد على الحيرة، وبين روزبة وزرمهر. فقتل روزبه بحصيد، وانهزم الأعاجم إلى الخنافس؛ فتبعهم المسلمون، وهربوا إلى المصيّخ، إلى الهذيل بن عمران. ثم كانت وقعة مصيخ قال: [1] ولما انتهى الخبر إلى خالد كتب إلى القعقاع وأبى ليلى، وواعدهم فى وقت معلوم يجتمعون بالمصيّخ لقتال هذيل بن عمران ومن معه، فأغاروا عليه من ثلاثة أوجه وهم نائمون فقتلوهم، وأفلت الهذيل فى نفر قليل، وكثر فيهم القتل. وقعة الثنى والزميل وكان [2] ربيعة بن بجير بالثّنى والزّميل- وهما شرقىّ الرّصافة- قد خرج غضبا لعقّة، فلمّا أصاب خالد أهل المصيّخ سار إلى الثّنى وبيّتهم من ثلاثة أوجه، وأوقع بهم وقتلهم، فلم يفلت منهم مخبر، وسبى وغنم، وبعث بالخبر والخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، فاشترى علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- بنت ربيعة [ابن بجير] [3] التّغلبىّ، فولدت له عمر ورقيّة.

_ [1] ابن الأثير 2: 272. [2] ابن الأثير 2: 273. [3] من ص وابن الأثير.

ذكر وقعة الفراض

ذكر وقعة الفراض قال: ثم [1] سار خالد إلى الفراض، وهى تخوم الشّام والجزيرة، فأفطر فيها شهر رمضان لاتّصال الغزوات، وحميت الرّوم، واستعانوا بمن يليهم من الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب وإياد والنّمر، وساروا إلى خالد، وبلغوا الفرات، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الرّوم ومن معهم، وأمر خالد ألّا يرفع عنهم السيف، فقتل فى المعركة، وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض عشرا، ثم أذن بالرّجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة سنة ثنتى عشرة، وخرج من الفراض سرّا، ومعه عدّة من أصحابه يعسف [2] البلاد، حتى أتى مكّة فحجّ ورجع، وكانت غيبته عن الجند يسيرة؛ ولم يعلم بحجّه إلّا من أفضى إليه بذلك. ذكر فتوح الشام قال: وفى [3] سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر رضى الله عنه الجنود إلى الشأم، بعد منصرفه من مكّة إلى المدينة، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، وبعث يزيد بن أبى سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، وأمرهم أن يسلكوا على البلقاء من علياء الشام. وقيل: أوّل لواء عقده أبو بكر رضى الله عنه، عند توجيهه الجنود إلى الشام لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير،

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 274. [2] يعسف البلاد: يضرب فيها سيرا. [3] تاريخ ابن الأثير 2: 275 وما بعدها.

وولّى يزيد بن أبى سفيان- وكان عزله عن رأى عمر- وقدم عكرمة ابن أبى جهل على أبى بكر فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين، فجعل أبو بكر عكرمة ردءا للنّاس. وبلغ الرّوم ذلك، فكتبوا إلى هرقل، فخرج هرقل حتى أتى حمص، فأعدّ لهم الجنود، وأرسل أخاه إلى عمرو، فخرج نحوه فى تسعين ألفا، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفا سوى عكرمة؛ فإنّه فى ستة آلاف، فكتبوا إلى عمرو بن العاص: ما الرأى؟ فكاتبهم أنّ الرأى الاجتماع، وذلك أنّ مثلنا إذا اجتمع لا يغلب من قلّة. فاتّعدوا اليرموك ليجتمعوا به، وكان المسلمون كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كتبوا به إلى عمرو، فجاءهم كتابه بمثل ما رأى عمرو. وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالرّوم منزلا واسع المطرّد ضيق المهرب، ففعلوا، ونزلوا الواقواصة، وهى على ضفّة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وأقبل المسلمون، فنزلوا عليهم بحذائهم، فأقاموا صفر وشهرى ربيع لا يقدرون من الروم على شىء، حتى إذا انسلخ شهر ربيع الأول، كتبوا إلى أبى بكر يستمدونه، فكتب إلى خالد بن الوليد يلحق بهم، وأن يسير فى نصف العسكر، ويستخلف على النّصف الآخر المثنّى ابن حارثة الشّيبانىّ، ففعل. والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر مسير خالد بن الوليد إلى الشام وما فعل فى مسيره إلى أن التقى بجنود المسلمين بالشام

ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره إلى أن التقى بجنود المسلمين بالشام لما [1] ورد كتاب أبى بكر الصّديق رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد، يأمره بالمسير إلى الشام فى نصف العسكر سار كما أمره، فلما انتهى إلى سوى أغار على أهله، وهم بهراء، وأتاهم وهم يشربون الخمر، ومغنيهم يقول: ألا علّلانى قبل جيش أبى بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندرى ألا علّلانى بالزّجاج وكرّرا ... علىّ كميت اللّون صافية تجرى ألا علّلانى من سلافة قهوة ... تسلّى هموم النفس من جيّد الخمر أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم قبل الصّباح مع النّسر فهل لكم فى السّير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر [2] فقتل المسلمون مغنّيهم، وسال الدّم فى تلك الجفنة، وأخذوا أموالهم، وقتل حرقوص بن النعمان البهرانىّ. ثم سار خالد حتى أتى أرك، فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهلها، ثم صالحوه، ثم أتى القريتين، فقاتل أهلها وظفر بهم وغنم،

_ [1] ابن الأثير 2: 279 وما بعدها. [2] المعصرات: جمع معصر؛ وهى الفتاة التى دخلت فى شبابها.

وأتى حوارين [1] فقاتل أهلها فهزمهم، وسار حتى نزل ثنيّة العقاب، بالقرب من دمشق ناشرا رايته، وهى راية سوداء كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تسمّى العقاب، فسمّيت الثّنيّة بها، ثم سار فأتى مرج راهط [2] ، فأغار على غسّان، فقتل، وسبى، وأرسل سريّة إلى كنيسة بالغوطة، فقتلوا الرّجال، وسبوا النّساء، ثم سار حتى وصل إلى بصرى، وعليها أبو عبيدة ابن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبى سفيان، فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه خالد هو وأبو عبيدة، فلقيهم خالد، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم وطلبوا الصّلح، فصالحهم على كلّ رأس دينار فى كلّ عام، وجريب حنطة، فكانت بصرى أوّل مدينة فتحت بالشّام على يد خالد بن الوليد، وأهل العراق. وبعث الأخماس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. ثم سار فطلع على المسلمين فى شهر ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم منذرا لهم. واتفق قدوم خالد وقدوم باهان، ومع باهان القسيسون والشمامسة والرّهبان يحرّضون الرّوم على القتال، وخرج باهان، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، ورجع [3] ماهان والرّوم إلى خندقهم، وقد نال المسلمون منهم، فلزموا خندقهم غاية شهرهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] حوارين، من قرى حلب. [2] مرج راهط، بنواحى دمشق. [3] ك: «وجمع باهان والروم» .

ذكر وقعة أجنادين

ذكر وقعة أجنادين هذه الوقعة قد ذكرها ابن الأثير [1] رحمه الله بعد وقعة اليرموك، واعتمد فى ذلك على أبى جعفر الطبرى رحمه الله، فإنّه أوردها على منواله، ويقتضى سياق التاريخ أن تكون مقدّمة على وقعة اليرموك؛ وذلك أن خالد بن الوليد لما قدم بصرى وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ابن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، صالح أهلها على الجزية على ما تقدّم، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وهو مقيم بالعربات، واجتمعت الروم بأجنادين- وهى بين اليرموك وبيت جبرين من أرض فلسطين- وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه. وقيل: كان على الرّوم القبقلار. وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم، فنزلوا بأجنادين، فبعث القبقلار عربيّا إلى المسلمين يأتيه بخبرهم، فعاد إليه، فقال له: ما وراءك؟ فقال: باللّيل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجموه، لإقامة الحقّ فيهم، فقال: إن كنت صدقتنى فبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. ثم التقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وظهر المسلمون عليهم، وانهزم الروم، وقتل القبقلار وتذارق، واستشهد رجال من المسلمين. ثم جمع هرقل للمسلمين، فالتقوا باليرموك. والله سبحانه أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.

_ [1] ابن الأثير 2: 286. 287، وانظر تاريخ الطبرى 3: 415- 418.

ذكر وقعة اليرموك

ذكر وقعة اليرموك قال: واجتمع [1] المسلمون باليرموك، وقد تكامل عددهم ستّة وثلاثين ألفا، منهم جيش خالد تسعة آلاف، وجيش عكرمة ستّة آلاف. وقيل فى عددهم غير ذلك. وكان الرّوم فى مائتى ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم: ثمانون ألف مقيّد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل. وذلك فى جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وخرجوا للّقاء، فلما أحسّ المسلمون بخروجهم، قام خالد بن الوليد، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه؛ وقال: إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغى فيه الفخر. أخلصوا بجهادكم، وأريدوا الله بعملكم، وهلمّوا فلنتعاور [2] الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلّكم؛ ودعونى أميركم اليوم. فأمّروه، وهم يرون أنّ الأمر أطول مما صاروا إليه، وخرجت الروم فى تعبئة لم ير الرّاءون مثلها قطّ، وخرج خالد فى تعبئة لم يعبّئها العرب قبل ذلك، فخرج فى ستة وثلاثين كردوسا [3] إلى أربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وجعل عليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجعل على كردوس

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 394 وما بعدها. ابن الأثير 2: 281 وما بعدها. [2] ص: «فلتتعاون» . [3] الكردوس: القطعة العظيمة من الخبل.

من كراديس العراق إنسانا، وشهد اليرموك ألف رجل من الصحابة، فيهم من أهل بدر نحو المائة. فقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقلّ المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم! وإنّما تكثر الجنود بالنّصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرّجال. ثم أمّر خالد عكرمة والقعقاع بن عمرو- وكانا مجنّبنى القلب- فأنشبا القتال، فنشب والتحم الناس، وتطارد الفرسان؛ فإنّهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة، فسأله النّاس عن الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد تقبل إليهم؛ وإنّما كان قد جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره بوفاة أبى بكر سرّا، وأخبره بالّذى أخبر به الجند، فشكره وأخذ الكتاب، فجعله فى كنانته. وخرج جرجة [1] من عسكر الرّوم، وكان أحد عظمائهم، فوقف بين الصّفّين ليخرج إلى خالد، فخرج إليه، وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفّين حتى اختلفت أعناق دابّتيهما، وقد أمن كلّ منهما صاحبة. فقال جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، قد أنزل الله على نبيكم سيفا، فأعطاه لك، فلا تسلّه على قوم إلّا هزمهم الله! قال: لا، قال: ففيم سمّيت سيف الله؟ قال: إنّ الله بعث فينا نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فدعانا، فنفرنا منه، ثم إن بعضنا صدّقه وبعضنا باعده وكذّبه، فكنت ممّن كذّبه وقاتله

_ [1] ص: «جرحة» .

ثم هدانى الله فتابعته؛ فقال: أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين، ودعا لى بالنصر، فسمّيت سيف الله بذلك، فأنا أشدّ المسلمين على الكافرين المشركين؛ فقال: صدقت، فأخبرنى، إلام تدعونى؟ قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية، أو الحرب. قال فما منزلة الذى يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال: منزلتنا واحدة، قال: فهل له فى الأجر والذّخر مثلكم؟ قال: نعم، وأفضل؛ لأنّنا اتّبعنا نبيّنا وهو حىّ يخبرنا بالغيب، ونرى منه العجائب، وأنتم لم تروا مثلنا، ولم تسمعوا ما سمعنا، فمن دخل بنيّة وصدق، كان أفضل منّا. فقلّب جرجة ترسه، ومال مع خالد يعلّمه الإسلام، وأسلم، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشنّ [1] عليه قربة من الماء وصلّى به ركعتين. وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنّها منه حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فقال عكرمة بن أبى جهل: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى كلّ موطن، وأفرّ منكم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار ابن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا [2] جميعا جراجا، فمنهم من برئ، ومنهم من استشهد. وحمل خالد ومعه جرجة- والرّوم خلال المسلمين- فنادى الناس

_ [1] شن: صب. [2] أثبتو: جرحوا وبهم رمق.

فثابوا، وتراجعت الرّوم إلى مواقعهم، وزحف خالد بالمسلمين إليهم حتى تصافحوا بالسيوف، وضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النّهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصلّ صلاة سجد فيها إلّا الركعتين مع خالد، وصلّى الناس الظّهر والعصر إيماء، وتضعضع الرّوم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان، وخرجت خيلهم تشتدّ فى الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم أفرجوا لها، فذهبت، فتفرّقت فى البلاد، وأقبل خالد ومن معه على الرّجل، ففضّوهم؛ فكأنّما هدم بهم حائط، واقتحموا فى خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، فتهاوى فيها عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقترن، وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل فى المعركة من الفرسان والرجال، وقاتل النساء يومئذ، وكانت هزيمة الرّوم مع اللّيل. وصعد المسلمون العقبة وأصابوا ما فى عسكر الرّوم، قتل الله صناديد الرّوم ورءوسهم وأخا هرقل؛ وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص- أو بحمص- فنادى بالرّحيل عنها، وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمّر عليها أميرا كما أمّر على دمشق. هذا ما كان من واقعة اليرموك على سبيل الاختصار روى عن عبد الله بن الزّبير، قال: كنت مع أبى باليرموك وأنا صبىّ لا أقاتل؛ فلمّا اقتتل النّاس نظرت إلى أناس على تلّ لا يقاتلون، فركبت فذهبت إليهم؛ فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش

من مهاجرة الفتح، فرأونى حدثا فلم يتقونى. قال: فجعلوا إذا مال المسلمون، وركبهم الرّوم يقولون: إيه بنى الأصفر! وإذا مالت الرّوم، وركبهم المسلمون قالوا: ويح بنى الأصفر! فلما هزمت الرّوم أخبرت أبى بذلك، فضحك وقال. قاتلهم الله! أبوا إلا ضغنا! لنحن خير لهم من الرّوم. وقد حكى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله، أنّ أبا سفيان يوم اليرموك كان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله، الله! إنّكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنّهم ذادة الرّوم وأنصار الشّرك! اللهم إنّ هذا يوم من أيّامك، الّلهم أنزل نصرك على عبادك. والله أعلم. هذا ما وقع فى خلافة أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من الغزوات والحروب، والفتوحات، فلنذكر ما هو خلاف ذلك من الحوادث على السنين، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.

ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما ذكرناه

ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما ذكرناه سنة إحدى عشرة فيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها، وذلك فى ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان، وهى يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة، أو نحوها. وقيل: توفّيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر؛ قاله أبو جعفر [1] . ثم قال: والثّبت عندنا أنها توفّيت بعد ستة أشهر، وغسّلها علىّ بن أبى طالب، وأسماء بنت عميس، وصلّى عليها العباس ابن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلىّ والفضل بن عباس؛ قاله الواقدىّ. قال أبو عمر: فاطمة [2] أوّل من غطّى نعشها من النّساء فى الإسلام؛ وذلك أنّها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إنّى قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب، فيصفها. فقالت أسماء يا بنت رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبا. فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متّ فاغسلينى أنت وعلىّ، ولا تدخلى علىّ أحدا، فلمّا توفيت جاءت عائشة تدخل؛ فقالت أسماء: لا تدخلى، فشكت إلى أبى بكر. فقالت: إنّ هذه الخثعميّة تحول بيننا وبين بنت رسول الله، وقد جعلت لها مثل

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 240. [2] الاستيعاب 1897، 1898.

سنة اثنتى عشرة

هودج العروس؛ فجاء أبو بكر، فوقف على الباب. فقال: يا أسماء، ما حملك على أن [منعت] [1] أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلن على بنت رسول الله، وجعلت لها مثل هودج العروس؟. قالت: أمرتنى ألّا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذى صنعت وهى حيّة، فأمرتنى أن أصنع ذلك لها. قال أبو بكر: فاصنعى ما أمرتك، ثم انصرف [2] . وفيها انصرف معاذ بن جبل عن اليمن. واستقضى أبو بكر عمر بن الخطاب رضى الله عنهم. وفيها أمّر أبو بكر رضى الله عنه على الموسم عتّاب بن أسيد؛ وقيل: بل حجّ بالنّاس عبد الرّحمن بن عوف عن تأمير أبى بكر إيّاه. سنة اثنتى عشرة فيها مات أبو مرثد الغنوىّ، واسمه كنّاز بن حصن- ويقال ابن حصين- حليف حمزة بن عبد المطلب؛ صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وابنه مرثد، وابنه أنيس بن مرثد؛ وشهد بدرا هو وابنه مرثد، وشهد هو المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات وهو ابن ستّ وستين سنة. وفيها، فى ذى الحجّة مات أبو العاص بن الربيع، واختلف فى اسمه، فقيل: لقيط، وقيل مهشم، وقيل: هشيم، والأكثر لقيط بن الرّبيع بن عبد العزّى بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ

_ [1] من الاستيعاب 1898. [2] بعدها فى الاستيعاب: «فغسلتها» .

ذكر وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومدة خلافتة

العبشّمىّ ويسمى جرو [1] البطحاء، وهو صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، وأمّه هالة بنت خويلد، أخت خديجة أمّ المؤمنين، وأوصى إلى الزّبير بن العّوام، وتزوّج علىّ ابنته. وحجّ بالنّاس فى هذه السّنة أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، واستخلف على المدينة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وقيل: بل حجّ عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصّواب. ذكر وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومدة خلافتة قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه؛ فقال ابن اسحاق: فى يوم الجمعة لتسع [2] من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره: إنّه مات عشىّ يوم الاثنين. وقيل: ليلة الثلاثاء. وقيل: عشىّ يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة. قال ابن عبد البر: هذا قول أكثرهم [3] . وقيل: مكث فى خلافته سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليال. وقال ابن اسحاق: سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال. وقيل: سنتين وثلاثة أشهر واثنتى عشرة ليلة. وقال غيره: وعشرة أيام. وقال آخرون: وعشرين يوما. واختلف أيضا فى السّبب الذى مات منه، فذكر الواقدىّ: أنّه اغتسل فى يوم بارد، فحمّ. ومرض خمسة عشر يوما.

_ [1] ك: «قرم» . [2] ص: «لسبع ليال بقين» . [3] الاستيعاب 977.

وقال الزبير بن بكّار: كان به طرف من السّل. وروى عن سلّام ابن [أبى] [1] مطيع: أنه سمّ، وأن اليهود سمّته فى حريرة، وهى الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكفّ الحارث، وقال لأبى بكر: أكلنا طعاما مسموما، سمّ سنة، فمات بعد سنة. وقيل: أصل مرضه الغمّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وانتهت سنّه رضى الله عنه عند وفاته إلى سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثلاثا وستين سنة. قال أبو عمر بن عبد البر: لا يختلفون فى أن سنّه انتهت إلى ذلك، إلّا ما لا يصح [2] . وقد كان آخر ما تكلّم به: توفّنى مسلما، وألحقنى بالصالحين. وغسّلته زوجته أسماء بنت عميس بوصيّة منه وابنه عبد الرحمن، وأوصى أن يكفّن فى ثوبيه، ويشترى معهما ثوب ثالث، وقال: الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت، إنّما هو للمهملة [3] والصّديد. وصلّى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، وحمل على السّرير الذى حمل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سرير عائشة رضى الله عنها، وكان من خشبتى ساج منسوجا باللّيف فى ميراث عائشة، بأربعة آلاف درهم اشتراه مولى لمعاوية، وجعله للمسلمين. ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر بن الخطاب وعثمان وطلحة، وجعل رأسه عند كتفى النّبى صلّى الله عليه وسلّم، وألصقوا لحده بلحده، ودفن رضى الله عنه ليلا.

_ [1] تكملة من ص. [2] الاستيعاب 977. [3] المهملة: القيح.

ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه

ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه غير ما تقدّم قد ذكرنا فيما تقدّم من كتابنا هذا فى هذا السّفر وما قبله نبذة من أخباره، ولمعة من آثاره، وطرفا من مآثره السنيّة، وجملة من فضائله التى هى بجزيل الخيرات مليّة، وأحببنا أن نورد فى هذا الموضع نبذة أخرى غير ما قدّمنا، ونختم هذا الفصل بشىء من مناقبه كما بدأنا، ولا نشترط الاستيعاب لمناقبه ومآثره لتوفّرها، ولا الحصر لفضائله الجزيلة لتعدّدها وتكرّرها، بل نورد من كل نوع منها طرفا يحتوى على خصال منيعة، وأخلاق شريفة، ويتحقّق سامعه أنّه لو أنفق ملء أحد ذهبا ما بلغ مدّه ولا نصيفه. كان رضى الله تعالى عنه قد تقلّل من الدنيا جهد طاقته، واقتصر منها على بعض ما يسدّ به بعض خلّته وفاقته، وتجنّب أموال المسلمين جهده، وأنفق فى سبيل الله وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان عنده؛ نطق بفضله القرآن، جاهد فى دين الله فأذّلّ الله له وبه أهل الشّرك والطّغيان، وشمّر عن السّاعد فى قتال أهل الرّدّة حين استذلّهم الشيطان، وأقدم على حربهم بنفسه وجيوشه حين اشرأبّ النفاق ولمعت بوارقه، وناضلهم بكتبه وكتائبه حين ظهر الكفر ونشرت خوافقه، فأخمد الله تعالى به ما كان قد اضطرم من نيران الرّدة، وأفاء تلك القبائل التى كانت لحرب الإسلام مستعدة؛ إلّا من استمرّ منهم على كفره، وما نزع عن شرّه ومكره، وأبى إلّا جحود هذا الدّين

وقتال شعبه، ونفر عن الرّجوع والانضمام إلى حزبه؛ فإن الله تعالى قتله شرّ قتلة، وأباح للمسلمين ماله وأهله ونسله. روى أنّه لما ارتدت العرب، خرج أبو بكر رضى الله عنه شاهرا سيفه إلى ذى القصّة، فجاءه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأخذ بزمام راحلته، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: شم سيفك [1] لا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام ، وكان له رضى الله عنه بيت مال بالسّنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة؛ فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: لا، فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين، فلا يبقى فيه شىء، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه فى داره. ولما توفّى جمع عمر الأمناء، وفتح بيت المال فلم يجد فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة، فترحّموا عليه. وفى خلافته رضى الله عنه: انفتح معدن بنى سليم، فكان يسوّى فى قسمته بين السّابقين الأوّلين والمتأخّرين فى الإسلام، وبين الحرّ والعبد، والذّكر والأنثى. فقيل له: ليقدّم أهل السّبق على قدر منازلهم. فقال: إنّما أسلموا لله، ووجب أجرهم عليه، يوفّيهم ذلك فى الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ. وكان يشترى الأكسية ويفرّقها فى الأرامل فى الشتاء. قال أبو صالح الغفارىّ: كان عمر رضى الله عنه يتعهّد امرأة

_ [1] شم: اغمد.

عمياء فى المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر رضى الله عنه، كان يأتيها ويقضى أشغالها سرّا وهو خليفة؛ فقال: أنت هو لعمرى! وكان منزل أبى بكر رضى الله عنه بالسّنح [1] عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هناك ستة أشهر بعد ما بويع، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربّما ركب فرسه، فيصلّى بالنّاس؛ فإذا صلّى العشاء رجع إلى السّنح. وكان إذا غاب صلّى بالنّاس عمر، وكان يغدو كلّ يوم إلى السّوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربّما خرج هو بنفسه فيها، وربّما رعيت له، وكان يحلب للحىّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح [2] دارنا، فسمعها، فقال: بل لعمرى لأحلبنّها لكم، وإنى لأرجو ألا يغيّرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، ثمّ تحوّل إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته. وقال: لا تصلح أمور النّاس مع التجارة، وما يصلح إلا التّفرغ لهم؛ والنظر فى شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين، ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحجّ ويعتمر؛ فكان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين

_ [1] السنح، إحدى محال المدينة. [2] المنيحة: الناقة تدر اللبن؛ وجمعها منائح.

بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر. وقيل: إنّه قال: انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال؟ فاقضوه عنّى، فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف. وقيل: إنّه قال لعائشة رضى الله عنها: أما إنّا منذ ولّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنّا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فىء المسلمين إلّا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة، فإذا متّ فابعثى بالجميع إلى عمر؛ فلما مات بعثته إليه، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه على الأرض؛ وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، يكرّر ذلك، وأمر برفعه. فقال له عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبى بكر عبدا، وناضحا [1] ، وشقّ قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردّها عليهم. فقال: لا، والذى بعث محمدا لا يكون هذا فى ولايتى، ولا خرج أبو بكر منه وأتقلّده أنا. وقد قيل: إنّه رضى الله عنه، كان يأخذ من بيت المال فى كلّ يوم ثلاثة دراهم أجرة، وإنه قال لعائشة: انظرى يا بنيّة ما زاد فى مال أبيك منذ ولى هذا الأمر فردّيه على المسلمين. فنظرت فإذا بجرد [2] قطيفة لا تساوى خمسة دراهم، ومحشّة [3] ، فجاء الرّسول إلى عمر بذلك والنّاس حوله، فبكى عمر، وبكى النّاس؛ وقال: رحمك الله أبا بكر! لقد كلّفت من بعدك تعبا طويلا! فقال الناس: اردده يا أمير المؤمنين إلى أهله.

_ [1] الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء. [2] جرد قطيفة، قطيفة بالية. [3] المحشة: حديدة تحرك بها النار.

قال: كلّا، لا يخرجه من عنقه فى حياته، وأردّه إلى عنقه بعد وفاته. ثم أمر بذلك، فحمل إلى بيت المال. وحكى أنّ زوجته اشتهت حلوا، فقال: ليس لنا ما نشترى به. فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا فى عدّة أيام ما نشترى به؛ قال: افعلى، ففعلت ذلك؛ فاجتمع لها فى أيام كثيرة شىء يسير، فلمّا عرّفته ذلك أخذه، فردّه فى بيت المال. وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما استفضلت فى كلّ يوم، وغرامة لبيت المال فى المدة الماضية من ملك كان له. قيل: ولمّا حضرته الوفاة أتته عائشة رضى الله عنها وهو يعالج الموت، فتمثّلت: لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر [1] فنظر إليها كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك، ولكن قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [2] . إنّى قد نحلتك حائط كذا، وفى نفسى منه! فردّيه على الميراث؛ وقال: إنّما هو أخواك وأختاك! قالت: من الثانية؟ إنّما هى أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجه- يعنى زوجته- وكانت حاملا، فولدت أمّ كلثوم بعد موته. وهو رضى الله عنه أوّل وال فرضت له رعيّته نفقته، وأوّل خليفة ولّى وأبوه حىّ، وأوّل من جمع القرآن بين اللّوحين بمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسماه مصحفا، وهو أوّل من سمّى خليفة؛ رضوان الله عليه.

_ [1] البيت لحاتم الطائى، ديوانه 18. [2] سورة ق 19.

ذكر أولاد أبى بكر وأزواجه

ذكر أولاد أبى بكر وأزواجه تزوّج رضى الله عنه فى الجاهلية قتلة- ويقال: قتيلة- بنت عبد العزّى بن عبد [بن] [1] أسعد بن مضر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤىّ، فولدت له عبد الله وأسماء. وتزوّج أيضا فى الجاهلية أمّ رومان- بفتح الراء وضمها- واسمها زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب ابن أذينه بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة. أسلمت وهاجرت؛ وكانت قبل أبى بكر تحت عبد الله بن الحارث ابن سخبرة بن جرثومة الخير بن عادية بن مرّة الأزدىّ، وكان قدم بها مكّة، فحالف أبا بكر قبل الإسلام، ثم توفّى عن أمّ رومان، فولدت له الطّفيل، ثم خلف عليها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة؛ فالطّفيل أخوهما لأمّهما، توفيت أم رومان فى ذى الحجة سنة أربع، أو سنة خمس، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قبرها، واستغفر لها. وقال: اللهمّ لم يخف عليك ما لقيت أمّ رومان فيك وفى رسولك. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: «من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أمّ رومان» . وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أسماء بنت عميس الخثعميّة؛ وهى أخت ميمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلّم لأمّها، وكانت

_ [1] من ص، وفى ابن الأثير: قتيلة بنت عبد العزى بن عامر بن لؤى.

عند جعفر بن أبى طالب، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك محمد بن أبى بكر، ثم تزوّجها بعده علىّ بن أبى طالب، فولدت له يحيى بن علىّ. وزعم ابن الكلبى أن عون بن علىّ، أمّه أسماء، ولم يقله غيره. وقيل: كانت أسماء بنت عميس تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له ابنة تسمّى أمة الله. وقيل: أمامة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن الهاد الليّثى، ثم العتوارىّ، حليف بنى هاشم، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن بن شدّاد، ثم خلف عليها بعد شدّاد جعفر بن أبى طالب. وقيل: التى كانت تحت حمزة وشدّاد سلمى بنت عميس أختها أسماء، والله تعالى أعلم بالصواب. وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أيضا أمّ حبيبة بنت خارجة ابن زيد بن أبى زهير الأنصارية، من بنى الحارث بن الخزرج، فولدت له بعد وفاته أمّ كلثوم. ولنصل هذا الفصل بذكر شيىء من أولاد أبى بكر رضى الله عنهم. وأمّا عبد الله بن أبى بكر رضى الله عنهما، فكان قديم الإسلام إلّا أنّه لم يسمع له بمشهد إلّا شهوده الفتح وحنينا والطائف. ورمى بالطائف بسهم؛ قيل: رماه به أبو محجن، فاندمل جرحه، ثم انتقض عليه، فمات فى شوّال سنة إحدى عشرة. وكان قد ابتاع الحلّة التى أرادوا دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها بسبعة دنانير ليكفّن فيها، فلما حضرته الوفاة، قال: لا تكفّنونى فيها، فلو كان فيها خير كفّن رسول الله

صلّى الله عليه وسلم فيها، ودفن بعد الظهر، وصلّى عليه أبوه، ونزل قبره عمر بن الخطاب وطلحة وعبد الرحمن أخوه. وكان عبد الله رضى الله عنه زوج عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل العدويّة، أخت سعيد بن زيد، وكانت من المهاجرات، وكانت حسناء جميلة بارعة، فأولع بها، وشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها لذلك؛ فقال: هذه الأبيات: يقولون طلقها وخيّم مكانها ... مقيما، تمنّى النّفس أحلام نائم وإنّ فراقى أهل بيت جميعهم ... على كبرة منّى لإحدى العظائم أرانى وأهلى كالعجول تروّحت ... إلى بوّها قبل العشار الرّوائم فعزم عليه أبوه حتى طلقها، ثم تبعتها نفسه، فهجم عليه أبو بكر رضى الله عنه وهو يقول: أعاتك لا أنساك ماذرّ شارق ... وما ناح قمرىّ الحمام المطوّق أعاتك قلبى كلّ يوم وليلة ... إليك بما تخفى النفوس معلّق فلم أر مثلى طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها فى غير جرم تطلّق لها خلق جزل ورأى ومنصب ... وخلق سوىّ فى الحياء ومصدق فرقّ له أبوه، وأمره بمراجعتها فارتجعها؛ وقال هذه الأبيات: أعاتك قد طلّقت فى غير ريبة ... وروجعت للأمر الذى هو كائن كذلك أمر الله غاد ورائح ... على النّاس فيه ألفة وتباين وما زال قلبى للتفرّق طائرا ... وقلبى لما قد قرّب الله ساكن

فإنّك ممّن زيّن الله وجهه ... وليس لوجه زانه الله شائن فلما مات عبد الله صارت عاتكة ترثية بهذه الأبيات: رزئت بخير النّاس بعد نبيّهم ... وبعد أبى بكر وما كان قصّرا فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك، ولا ينفك جلدى أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكرّ وأحمى فى الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا ثم تزوّجت بعده زيد بن الخطاب، على اختلاف فى ذلك؛ فقتل عنها يوم اليمامة شهيدا، فتزوّجها عمر بن الخطاب فى سنة اثنتى عشرة، فأولم عليها، ودعا عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علىّ بن أبى طالب؛ فقال له: دعنى أكلّم عاتكة: قال: نعم، فأخذ بجانب الحذر. ثم قال: يا عديّة نفسها، أين قولك: فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك ولا ينفك جلدى أغبرا فبكت. فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟! كلّ النساء يفعلن هذا، ثم قتل عنها عمر، فقالت تبكيه: عين جودى بعبرة ونحيب ... لا تملّى على الجواد النّجيب فجعتنى المنون بالفارس المعلم ... يوم الهياج والتّثويب قل لأهل الضّرّاء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب وقالت أيضا ترثيه بهذه الأبيات: منع الرقاد فعاد عينى عائد ... مما تضمّن قلبى المعمود

يا ليلة حبست علىّ نجومها ... فسهرتها والشّامتون رقود قد كان يسهرنى حذارك مرّة ... فاليوم حقّ لعينى التّسهيد أبكى أمير المؤمنين ودونه ... للزائرين صفائح وصعيد ثم تزوّجها الزّبير بن العوّام فقتل عنها؛ فقالت ترثيه بهذه الأبيات: غدر ابن جرموز بفارس بهمّة ... يوم اللّقاء وكان غير معرّد يا عمرو لو نبّهته لوجدتة ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا بن فقع القردد ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله ... فيما مضى ممن يروح ويغتدى والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المتعمّد ثم خطبها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد انقضاء عدّتها، فأرسلت إليه. إنّى لأضنّ بك يا بن عمّ رسول الله عن القتل! وإنما ذكرنا ما ذكرنا من خبر عاتكة فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد؛ فالشّىء بالشىء يذكر، فلنذكر عبد الرحمن ابن أبى بكر. وأمّا عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه؛ فهو أسنّ ولد أبى بكر، وكان يكنى أبا عبد الله. وقيل: أبا محمد، بابنه محمد الذى يقال له: أبو عتيق، والد عبد الله بن أبى عتيق، وأدرك أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو وأبوه وجدّه، وجدّ أبيه؛ أربعتهم، أجمعوا على أنّ هذه المنقبة ليست

لغيرهم، روى البخارىّ رحمه الله، قال: قال موسى بن عقبة: ما نعلم أحدا فى الإسلام أدركوا هم وأبناؤهم النّبىّ صلى الله عليه وسلم أربعة إلّا هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن ابن أبى بكر، وابنه عتيق بن عبد الرحمن. وعبد الرحمن شقيق عائشة؛ شهد عبد الرحمن بدرا وأحدا مع قومه، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فذكر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «متّعنى بنفسك» . ثم أسلم عبد الرحمن، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هدنة الحديبية. وكان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكان رضى الله عنه من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، حضر اليمامة مع خالد بن الوليد، فقتل سبعة من كبارهم، منهم محكّم اليمامة طفيل، رماه بسهم فى نحره فقتله. ولما فتحت دمشق نفله عمر ليلى بنت الجودى، وكان قد رآها قبل ذلك، وكان يتشبّب بها. وشهد عبد الرحمن الجمل مع عائشة، وكان ابنه محمد يومئذ مع علىّ. قال أبو عمر بن عبد البر: ولما [1] قعد معاوية على المنبر، ودعا إلى بيعة يزيد، كلّمه الحسين بن علىّ وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرّحمن بن أبى بكر، فكان كلام عبد الرحمن: أهرقليّة! إذا مات كسرى كان كسرى مكانه! لا نفعل والله ابدا. وبعث إليه معاوية

_ [1] الاستيعاب 825.

بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد فردّها عبد الرحمن. وقال: أبيع دينى بدنياى! وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تمّ البيعة ليزيد. ويقال: إنه [مات] فجأة بموضع يقال له: الحبشىّ [1] على نحو عشرة أميال من مكّة، وحمل إلى مكة فدفن بها. وقيل: إنّه توفى فى نومة نامها، وكانت وفاته فى سنة ثلاث وخمسين. وقيل: سنة خمس وخمسين، والأول أشهر. ولما اتّصل خبر وفاته بعائشة أمّ المؤمنين أخته، ظعنت من المدينة حاجّة حتى وقفت على قبره، وتمثّلت بهذه الأبيات: وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قبل لن يتصدّعا [2] فلمّا تفرّقنا كأنّى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقالت: أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث متّ مكانك، ولو حضرتك ما بكيتك! رضى الله عنهما. وأما محمّد بن أبى بكر رضى الله عنهما، فإنه ولد فى عقب ذى الحجة سنة عشر من الهجرة بذى الحليفة، أو بالشجرة، وسمّته عائشة محمدا، وكنّته أبا القاسم، ثم كان محمد بعد وفاة أبى بكر فى حجر علىّ بن أبى طالب لما تزوّج أمّه أسماء بنت عميس، وكان محمّد على رجّالة علىّ يوم الجمل، وشهد معه أيام صفّين، ثم ولّاه مصر، فقتل بها. واختلفوا فى قتله، فقيل: قتله معاوية بن حديج صبرا،

_ [1] الحبشى: جبل بأسفل مكة. [2] البيتان لمتمم بن نورة من قصيدة مفضلية.

وذلك فى سنة ثمان وثلاثين؛ وقيل: إنّه لمّا ولّاه على مصر سار إليه عمرو بن العاص من قبل معاوية فاقتتلوا، فانهزم أصحاب محمد وفرّ هو، فدخل خربة فيها حمار ميّت، فدخل فى جوفه، فأحرق فى جوف الحمار؛ وقيل: بل قتله معاوية بن حديج فى المعركة، ثم أحرق فى جوف الحمار بعد ذلك، وقيل: إنّه أتى عمرو بن العاص فقتله صبرا بعد أن قال له: هل معك عهد؟ هل معك عقد من أحد؟ فقال: لا، فأمر به فقتل. وكان علىّ يثنى على محمد خيرا، ويفضّله؛ لانه كانت له عبادة واجتهاد؛ وكان ممّن دخل على عثمان حين أرادوا قتله، فقال له عثمان: لو رآك أبوك لم يرض بهذا المقام منك! فخرج عنه وتركه، روى محمد بن طلحة، عن كنانة مولى صفيّة بنت حيىّ- وكان شهد يوم الدّار- أنّه لم ينل محمد بن أبى بكر دم عثمان بشىء. قال: محمد بن طلحة: فقلت: لكنانة: فلم قيل: إنّه قتله؟ قال: معاذ الله أن يكون قتله! إنّما دخل عليه، فقال له عثمان: يا بن أخى، لست بصاحبى، وكلّمه عثمان بكلام فخرج ولم ينل دمه بشىء. فقلت لكنانة: فمن قتله؟ قال: رجل من أهل مصر يقال له: جبلة ابن الأيهم. وأمّا عائشة رضى الله عنها فقد تقدّم ذكرها فى السيرة النبوية فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ. وأما أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه فهى قديمة الإسلام. قال ابن إسحاق: أسلمت بعد سبعة عشر، وكانت تحت الزّبير

ابن العوام رضى الله عنه، وهاجرت إلى المدينة وهى حامل بعبد الله ابن الزبير، فوضعته بقباء، وكانت تسمّى ذات النّطاقين، وقد تقدّم الخبر فى تسميتها بذلك فى سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة إلى الهجرة. توفيت أسماء بمكّة فى جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين بعد مقتل ابنها عبد الله، وقد بلغت مائة سنة. وأمّ كلثوم [1] بنت أبى بكر رضى الله عنه، تزوّجها طلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما، فولدت له عائشة بنت طلحة، فتزوجها عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق. ولعائشة بنت طلحة أخبار تقدّم ذكرها، وتزوّجت عائشة بعد عبد الله مصعب بن الزبير، ولم تلد من أحد من أزواجها غير عبد الله، ولدت له عمران، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، تزوجها الوليد بن عبد الملك، وكان ابنها طلحة أجود أجواد قريش، وله يقول الحزين الدّيلىّ: فإن تك با طلح أعطيتنى ... عذافرة تستخفّ الضّفارا فما كان نفعك مرّة ... ولا مرّتين ولكن مرارا أبوك الذى صدّق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا وأمّك بيضاء تيميّة ... إذا نسب الناس كانت نضارا وطلحة هذا، ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وطلحة هذا هو جدّى الذى أنسب إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

_ [1] ص: «وأما أم كلثوم» .

ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه

ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه لمّا ولّى أبو بكر رضى الله عنه، قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء، فاستعملهما. فمكث عمر سنة لا يأتية رجلان فى محاكمة، وكان يكتب لأبى بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومن حضر، وكان حاجبه شديد مولاه، وكان عامله على مكّة عتّاب بن أسيد، ومات فى اليوم الّذى مات فيه أبو بكر. وقيل: مات بعده. وكان على الطّائف عثمان بن أبى العاص، وعلى صنعاء المهاجر ابن أبى أميّة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية، وعلى زبيد أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء الحضرمىّ. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وعبد الله بن ثور إلى جرش، وعياض بن غنم إلى دومة الجندل. وكان على الشام أبو عبيدة بن الجراح. وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص؛ كلّ رجل منهم على جند وعليهم خالد بن الوليد رضى الله عنه. وكان خاتمة خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الزّبير بن بكّار: وكان نقش خاتمه: «نعم القادر الله» . وقال غيره: كان نقش خاتمه: «عبد ذليل لربّ جليل» .

وعاش أبو قحافة بعده ستة أشهر وأياما. وفى المعجم الكبير للطّبرانىّ، قال: ومات أبو بكر، فورثه أبواه، وكانا قد أسلما، وماتت أمّ أبى بكر قبل أبيه، ومات أبوه وله سبع وتسعون سنة. والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم.

ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح من عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشىّ العدوىّ، ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند كعب بن لؤىّ. وأمة حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم- على ما صححه أبو عمر بن عبد البر-[1] وخطّأ من قال: إنّها بنت هشام بن المغيرة، وقال: لو كانت بنت هشام لكانت أخت أبى جهل، وإنما هى بنت عمّه لأن هاشما وهشاما أخوان، فهاشم والد حنتمة أمّ عمر، وهشام والد الحارث، وأبى جهل، وهاشم ابن المغيرة جدّ عمر لأبيه يقال له: ذو الرّمحين. ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وروى أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن جده، قال: سمعت عمر يقول: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين. قال الزّبير بن بكّار: كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من أشرف قريش، وإليه كانت السّفارة فى الجاهلية؛ وذلك أنّ قريشا كانت إذا وقعت بينهم حرب، أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرا ومفاخرا، ورضوا به. وقد تقدم خبر إسلامه، وإظهار الله تعالى الإسلام به، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حين قال: «اللهم أعزّ

_ [1] الاستيعاب 1144 وما بعدها.

الإسلام بأحدا الرجلين عمر بن الخطاب، أو بأبى جهل بن هشام» . فاستجيب فى عمر. قال ابن مسعود: مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر. ولقّب بالفاروق لإعلانه بالإسلام، ففرق بين الحقّ والباطل لمّا أسلم؛ رضى الله عنه.

ذكر نبذة من فضائل عمر رضى الله عنه ومناقبه

ذكر نبذة من فضائل عمر رضى الله عنه ومناقبه وفضائله رضى الله عنه كثيرة، ومناقبه جمّة مشهورة، قد قدّمنا منها فى ترجمة أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما ما تقدّم، ولنورد فى هذا الفصل من مناقبه خلاف ذلك: روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» . ونزل القرآن بموافقته فى أشياء؛ منها ما رآه فى أسرى بدر، وفى تحريم الخمر، وفى حجاب أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم، وفى مقام إبراهيم. وروى عن عقبة بن عامر وأبى هريرة رضى الله عنهما، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو كان بعدى نبىّ لكان عمر» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قد كان فى الأمم قبلكم محدّثون، فإن كان فى هذه الأمة أحد فعمر بن الخطاب» . وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى رأيت الرّىّ يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى عمر» . قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم . وعن جابر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

«دخلت الجنّة، فرأيت فيها دارا- أو قال: قصرا- وسمعت فيه ضوضأة، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فظننت أنى أنا هو؛ فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فلولا غيرتك يا أبا حفص لدخلته. فبكى عمر وقال: عليك يغار يا رسول الله! أو قال عليك أغار!» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتنى فى المنام، والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص منها إلى كذا، ومنها إلى كذا، ومرّ علىّ عمر بن الخطاب يجرّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، ما أولّت ذلك؟ قال: الدّين» . ومن رواية الّليث بن سعد، عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: «بينا أنا نائم والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثّدى ومنها دون ذلك، وعرض علىّ عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وعليه قميص يجرّه» ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدّين» . وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: خير النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، وقال: ما كنّا نبعد أنّ السّكينة [1] تنطق على لسان عمر. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: لو وضع علم أحياء العرب فى كفّة ميزان، ووضع علم عمر لرجح عليهم علم عمر. ولقد كانوا يرون أنّه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق فى نفسى من عمل سنة.

_ [1] السكينة، هنا: الإلهام.

ذكر صفة عمر رضى الله عنه

ذكر صفة عمر رضى الله عنه قد اختلف الناس فى صفة عمر رضى الله عنه؛ فقيل: كان شديد الأدمة [1] طوالا أكثّ اللحية، أصلع أعسر يسرا، يعمل بيديه جميعا، يخضب بالحناء والكتم [2] ، هكذا وصفه زرّ بن حبيش وغيره بأنّه كان شديد الأدمة. قال أبو عمر: وهو الأكثر عند أهل العلم بأيّام الناس وسيرهم وأخبارهم. قال [3] : ووصفه أبو رجاء العطاردىّ- وكان مغفلا- فقال: كان عمر طويلا جسيما أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد حمرة العينين، فى عارضيه خفّة، سبلته [4] كثيرة الشعر، فى أطرافها صهبة [5] . وذكر الواقدىّ من حديث عاصم بن عبيد الله بن عمر عن، أبيه، قال: إنّما جاءتنا الأدمة من قبل أخوالى بنى مظعون، قال: وكان أبيض، لا يتزوج إلا لطلب الولد. قال أبو عمر: وعاصم بن عبيد الله لا يحتجّ بحديثه، ولا بأحاديث الواقدىّ. قال: زعم الواقدىّ أنّ سمرة عمر وأدمته

_ [1] الأدمة: السمرة. [2] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر. [3] الاستيعاب 1144: وما بعدها. [4] السبلة: ما على الشارب من الشعر. [5] الصهب، محركة والصهبة: حمرة أو شقرة فى الشعر.

إنّما جاءت من أكله الزّيت عام الرّمادة [1] قال: وهذا منكر من القول. وأصحّ ما فى هذا الباب حديث سفيان الثّورىّ، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، قال: رأيت عمر شديد الأدمة. وقال أنس: كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر يخضب بالحناء بحتا. وعن مجاهد أنّ عمر كان لا يغيّر شيبه. وقال هلال بن عبد الله: رأيت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، رجلا آدم ضخما كأنّه من رجال سدوس، فى رجليه روح [2] . وقال بعضهم فى صفته: كان طويلا من النّاس كراكب الجمل، أمهق [3] أصلع. استخلفه أبو بكر رضى الله عنه قبل وفاته؛ وذلك أنه لمّا نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرنى عن عمر، فقال: إنّه أفضل من رأيك فيه إلّا أنّ فيه غلظة؛ فقال أبو بكر: ذلك لأنّه يرانى رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا ممّا هو عليه، وقد رمقته، فكنت إذا غضبت على رجل أرانى الرّضا عنه، وإذا لنت له أرانى الشّدة عليه. ودعا عثمان فقال له: أخبرنى عن عمر، فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما:

_ [1] قال فى القاموس: عام الرمادة فى أيام عمر هلكت فيه الناس والأموال. [2] قال فى القاموس: «الروح، بالتحريك: وسعة فى الرجلين دون الفجح، وكان عمر رضى الله عنه أروح» . [3] الأمهق: الأبيض كالجص لا يخالطه حمرة، وليس بنير.

لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركته ما عدوت عثمان، ولا أدرى لعله تارك، والخيرة له ألّا يلى من أموركم شيئا، ولوددت أنّى كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مضى من سلفكم. ودخل طلحة على أبى بكر فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت [1] ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربّك فسائلك عن رعيّتك؛ فقال: أجلسونى؛ فأجلسوه، فقال: بالله تفرّقنى، أو بالله تخوّفنى! إذا لقيت ربّى فساءلنى قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم أحضر أبو بكر عثمان بن عفان خاليا، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة إلى المسلمين؛ أمّا بعد- ثم أغمى عليه- فكتب عثمان: أما بعد؛ فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علىّ، فقرأ عليه، فكبرّ أبو بكر وقال: خفت أن يختلف الناس إن متّ فى غشيتى، قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله. فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على النّاس، فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولى له، ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يألكم نصحا، فسكت النّاس، فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا. وكان أبو بكر قد أشرف على الناس، وقال: أترضون بمن

_ [1] ك: «وقد لقيت» .

استخلفت عليكم؟ فإنّى ما استخلفت ذا قرابة، وإنّى قد استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا له وأطيعوا، وإنّى والله ما ألوت من جهد الرأى، فقالوا: سمعنا وأطعنا، ثم أحضر أبو بكر عمر، فقال: قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال: يا عمر؛ إنّ لله حقّا باللّيل لا يقبله فى النّهار، وحقّا فى النّهار لا يقبله فى الليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ وثقله عليهم! وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا حقّ إلّا أن يكون ثقيلا! ألم تر يا عمر أنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفّته عليهم، وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا باطل إلّا أن يكون خفيفا! ألم تر يا عمر أنّما نزلت آية الرخاء مع آية الشّدة، وآية الشدّة مع آية الرّخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا؛ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه! ألم تر يا عمر أنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت: إنّى لأرجو ألّا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنّه تجاوز [1] لهم ما كان من شىء، فإذا ذكرتهم قلت: أين عملى من أعمالهم! فإن حفظت وصيتى، فلا يكون غائب أحبّ إليك من الموت، ولست بمعجزه. وتوفّى أبو بكر رضى الله عنه، فلما دفن صعد عمر المنبر، فخطب النّاس ثم قال: إنّما مثل العرب مثل جمل أنف [2]

_ [1] ك: «تجاوزتم لهم» . [2] الجمل الأنف: المأنوف. وفى نهاية ابن الأثير: وهو الذى عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذى به. وقيل: الذلول» .

ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

اتّبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود. وأمّا أنا فو ربّ الكعبة لأحملنّكم على الطريق. وكان أول كتاب كتبه إلى أبى عبيدة بن الجراح بتوليته جند خالد بن الوليد، وبعزل خالد لأنّه كان عليه ساخطا خلافة أبى بكر كلها لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل فى حربه، وأوّل ما تكلم به عزل خالد، وقال: لا يلى لى عملا أبدا. ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفى خلافته رضى الله عنه كثرت الفتوحات على المسلمين، ولنبدأ من ذلك بذكر فتوح دمشق، وما والاه من المدن والثغور والحصون، ثم نذكر فتوحات العراق، وما والاه، ثم فتوح مصر، وما والاها، لتكون الفتوحات متوالية، ولا ينقطع خبرها بأخبار غيرها، ولا يتداخل فتوح بفتوح، ثم نذكر الغزوات إلى أرض الروم، ثم نذكر الوقائع بعد ذلك خلاف الفتوحات والغزوات على حكم السنين على ما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى على ذلك.

ذكر فتوح مدينة دمشق

ذكر فتوح مدينة دمشق قال: لمّا [1] هزم الله تعالى أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب الحميرىّ، وسار حتى نزل بالصّفّر؛ فأتاه الخبر أن الذين انهزموا من الرّوم اجتمعوا بفحل [2] ، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص؛ فكتب إلى عمر بذلك، فأمره أن يبدأ بدمشق فإنّها حصن الشام وبيت المملكة، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، فإذا فتحت دمشق سار إلى فحل، ثم يسير إلى حمص هو وخالد ابن الوليد، ويترك شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص بالأردنّ وفلسطين، فأرسل أبو عبيدة طائفة من المسلمين، فنزلوا بالقرب منها، وبثق [3] الرّوم الماء حول فحل، فوحلت الأرض، ونزل عليهم المسلمون، فكان أوّل محصور بالشام أهل فحل، ثم أهل دمشق. وبعث أبو عبيدة أيضا جندا، فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جندا فكانوا بين دمشق وفلسطين وسار هو وخالد بن الوليد، فقدما دمشق، وعليها نسطاس [4] ؛ فنزل أبو عبيدة على ناحية، وخالد على ناحية؛ ويزيد بن أبى سفيان على ناحية، وحصرهم المسلمون سبعين ليلة، وقاتلوهم بالزّحف والمجانيق، فكان هرقل بالقرب من حمص، فأمّد أهل دمشق بخيل، فمنعتها خيول المسلمين، وخذل

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 293، وما بعدها وتاريخ الطبرى: 434 وما بعدها. [2] فحل: اسم موضع بالشام. [3] بشق السيل موضع كذا: خرقه وشقه فانبثق. [4] ك: «فطاس» .

أهل دمشق. وولد للبطريق الذى على دمشق مولود، فصنع وليمة، فأكل القوم وشربوا، فعلم خالد بذلك دون غيره، وكان قد اتّخذ حبالا كهيئة السلاليم، فلمّا أمسى ذلك اليوم نهض بمن معه وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدىّ وأمثاله، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السّور فارتقوا إلينا، واقصدوا [1] الباب؛ وارتقى هو وأصحابه على السّور فى تلك الحبال، ثم انحدر ببعض من معه، وترك بذلك المكان الذى صعد منه من يحميه، وأمرهم بالتكبير، وجاء المسلميون إلى الباب وإلى الحبال، وقصد خالد الباب، وقتل من دونه، ثم قتل البوّابين، وفتح الباب، وقتل من عنده من الروم، ودخل أصحابه المدينة، وثار أهلها لا يدرون ما الخبر، فلما رأوا ذلك قصدوا أبا عبيدة، وبذلوا له الصلح، فقبله منهم، وفتحوا له الباب، وقالوا: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كلّ باب بصلح ممّن يليهم، ودخل خالد عنوة، والتقى والقوّاد وسط المدينه هذا قتلا ونهبا، وهذا صفحا وتسكينا، فأجروا جهة خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة؛ الدينار والعقار ودينار عن كل رأس، واقتسموا الأسلاب. وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، وأنّه قسّم الغنيمة على من حضر الفتح، وعلى الجنود التى على فحل وحمص وغيرهم، فجاء كتاب عمر إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال جند العراق إلى سعد بن أبى وقاص، فأرسلهم، وأمّر عليهم هاشم بن عتبة، وسار أبو عبيدة إلى فحل. والله أعلم.

_ [1] ك: «وانضدوا» تحريف.

ذكر شىء مما قبل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها

ذكر شىء مما قبل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها حكى عن كعب الأحبار، قال: أوّل حائط وضع على وجه الأرض بعد الطّوفان حائط حرّان ودمشق ثم بابل. واختلف فيمن اختطّ دمشق؛ فقيل: إن نوحا عليه السلام اختطها بعد حرّان. وقيل: نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص دمشق، وبنى مدينتهم وسمّاها جيرون. وقيل: هى إرم ذات العماد. وقيل: إن جيرون وبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان ابن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما. وعن وهب بن منبّه، قال: دمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل، وكان حبشيّا، وهبه له نمرود حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، فسماها على اسمه، وكان إبراهيم جعله على كل شىء له، وسكنها الرّوم بعد ذلك بزمان. وقيل: إنّ بيور اسب الملك بنى مدينة بابل، وبنى مدينة صور، وبنى مدينة دمشق. وقيل: كان زمن معاوية رجل صالح [بدمشق] [1] ، كان الخضر عليه السلام يأتيه فى أوقات، فبلغ ذلك معاوية، فجاء إلى الرجل وسأله أن يجمع بينه وبين الخضر، فذكر الرجل ذلك للخضر،

_ [1] تكملة من ص.

فأبى؛ فقال معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك؛ وحدّثناه، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق كيف كان، فسأله؛ فقال: نعم صرت إليها، فرأيت موضعها بحرا مستجمعا فيه المياه، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها فرأيتها غيضة، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها، فرأيتها بحرا كعادتها الأولى، ثم غبت عنها خمسمائة عام، وصرت إليها فرأيتها قد ابتدىء فيها بالبناء ونفر يسير فيها. وعن أبى البخترىّ قال: ولد إبراهيم عليه السلام على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمسين سنة من جملة الدهر الذى هو سبعة آلاف سنة، وذلك بعد بنيان دمشق بخمس سنين، وقال: جيرون عند باب مدينة دمشق من بناء سليمان، بنته الشياطين، وكان الشيطان الذى بناه يقال له: جيرون فسمّى به. وقيل: إن دمشق بناها دمشقين [1] غلام كان مع الإسكندر. وقيل: إنّ الذى بنى دمشق بناها على الكواكب السبعة، وجعل لها سبعة أبواب، وصوّر على باب كيسان زحل، وقيل: وجد فى كتاب: باب كيسان لزحل، وباب شرقى للشمس، وباب توما للزّهرة، وباب الصغير للمشترى، وباب الجابية للمرّيخ، وباب الفراديس لعطارد، وباب الفراديس الآخر المسدود للقمر. وقيل: إن ملك مصر بنى حصن دمشق؛ الذى هو حول المسجد، وداخل المدينة على مساحة مسجد بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد

_ [1] معجم البلدان: «دماشق» .

ذكر غزوة فحل

بيت المقدس، فوضعها على أبوابه؛ فهذه الأبواب التى على الحصن هى أبواب بيت المقدس. حكاه أبو القاسم علىّ بن الحسن بن هبة الله الدمشقى المعروف بابن عساكر فى تاريخ دمشق. ونعود إلى فتوح الشام. ذكر غزوة فحل وفحل [1] بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة وبعده لام، وهو بلد معروف بغور الشّام. قال: لما فتحت دمشق فى سنة ثلاث عشرة استخلف أبو عبيدة عليها يزيد بن أبى سفيان، وسار إلى فحل، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان. وكانت العرب تسمى هذه الغزوة ذات الرّدغة وبيسان وفحل. وكان خالد بن الوليد على المقدّمة، وعلى النّاس شرحبيل بن حسنة وعلى المجنّبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار ابن الأزور، وعلى الرّجل عياض بن غنم. فنزل شرحبيل بالنّاس على فحل، وبينهم وبين الروم تلك الأوحال، وكتبوا إلى عمر، وأقاموا ينتظرون جوابه، فخرج عليهم الرّوم، وعليهم سقلار بن مخراق فأتوهم، والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى الصباح، ويومهم إلى الليل، فانهزم الرّوم، وقد أظلم الليل عليهم، فحاروا، وأصيب رئيسهم سقلار والذى يليه [فيهم] [2] نسطورس، وظفر المسلمون بهم، وركبوهم، فلم يعرف

_ [1] تاريخ الطبرى 3: 442: وتاريخ بن الأثير 2: 295. [2] تكملة من ابن الأثير.

ذكر فتح بلاد ساحل دمشق

الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى تلك الأوحال التى كانوا أعدّوها مكيدة للمسلمين، فلحقهم المسلمون، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل، والقتل بالرّداغ، فأصيبت الروم، وهم ثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلّا الشّريد، فصنع الله للمسلمين وهم كارهون؛ كرهوا البثوق والأوحال، فكانت عونا لهم على عدوّهم، وغنموا أموالهم، وانصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص. وقد اختلف فى فتح فحل ودمشق، وذكروا أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين على رأى من جعلها بعد اليرموك؛ اجتمع الروم بفحل، فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحت، وكانت فحل فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق فى شهر رجب سنة أربع عشرة. وقيل: كانت وقعة اليرموك فى سنة خمس عشرة، ولم يكن للروم بعدها وقعة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح بلاد ساحل دمشق هذه الفتح أورده ابن الأثير [1] فى حوادث سنة ثلاث عشرة، قال: لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبى سفيان على دمشق، وسار إلى فحل، وسار يزيد إلى مدينة صيداء وبيروت، وجبيل وعرقة [2] ، وعلى مقدّمته أخوه معاوية، ففتحها فتحا يسيرا، وجلا كثير من أهلها، وتولّى فتح عرقة معاوية بنفسه فى ولاية يزيد. ثم غلب الروم على بعض هذه السواحل فى آخر خلافة عمر، وأول خلافة عثمان، وفتحها معاوية، ثم رمّها وشحنها [3] بالمقاتلة.

_ [1] الكامل لابن الأثير 2: 296. [2] بعدها فى ابن الأثير: «وهى سواحل دمشق» . [3] شحنها: جعل فيها الكفاية لضبطها.

ذكر فتح بيسان وطبرية

ذكر فتح بيسان وطبرية قال: لما [1] قصد أبو عبيدة حمص من فحل، أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان، فقاتلوا أهلها، وقتلوا منها خلقا كثيرا، ثم صالحهم من بقى على صلح دمشق، وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طبريّة، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضا، وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها الناس، وكتبوا بالفتح إلى عمر بن الخطاب، رضى الله تعالى عنه. ذكر الوقعة بمرج الروم كانت [2] هذه الوقعة فى سنة خمس عشرة؛ وذلك أنّ أبا عبيدة وخالدا سارا بمن معهما إلى حمص، فنزلا على ذى الكلاع، وبلغ هرقل الخبر فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الرّوم غرب دمشق، ونزل أبو عبيدة بالمرج أيضا، ونازله يوم نزوله شنس الرّومىّ فى مثل خيل توذر مددا لتوذر، وردءا لأهل حمص، فكان خالد بإزاء توذر، وأبو عبيدة بإزاء شنس، فسار توذر يقصد دمشق، فاتّبعه خالد فى جريدة وبلغ يزيد بن أبى سفيان الخبر [3] ، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد فأخذهم من خلفهم، فقتل توذر،

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 296 وتاريخ الطبرى 3: 443. [2] تاريخ ابن الأثير 2: 340 وتاريخ الطبرى 3: 598. [3] ك: «خالد بن أبى سفيان» والمثبت يوافق ما فى ابن الأثير.

ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيرز ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس

ولم يفلت من عسكره إلا الشّريد، وغنم المسلمون ما معهم، فقسّمه يزيد فى أصحابه وأصحاب خالد، وعاد يزيد إلى دمشق، ورجع خالد إلى أبى عبيدة، فوجده قد قاتل شنس بمرج الروم، فقتلت الروم مقتلة عظيمة، وقتل شنس، وتبعهم المسلمون إلى حمص بالسير إليها، وسار هو إلى الرّيف، وسار أبو عبيدة إلى حمص. ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيرز ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس قال [1] : وفى سنة خمس عشرة سار أبو عبيدة إلى حمص بعد وقعة ملك الروم، فسلك طريق بعلبك وحصرها، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم وصالحهم، وسار عنهم ونزل حمص ومعه خالد بن الوليد، فقاتل أهلها، ولقى المسلمون بردا شديدا، وحاصر الرّوم حصارا طويلا، وكان هرقل قد أرسل إليهم يعدهم المدد، وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتّجهيز إلى حمص، وسيّر سعد بن أبى وقاص السرايا من العراق إلى هيت فحصرها، وسار بعضهم إلى قرقيسياء فتفرق أهل الجزيرة، وعادوا عن نجدة أهل حمص، وكان أهل حمص يقولون: تمسّكوا بالمدينة [2] فإنّهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطّعت أقدامهم، فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع، فلما خرج الشتاء قام شيخ من الرّوم، ودعاهم إلى مصالحة المسلمين، فلم يجيبوه، وقام آخر فلم يجيبوه، فكبّر المسلمون تكبيرة

_ [1] ابن الأثير 2: 341. [2] ابن الأثير: «بمدينتكم» .

فانهدم كثير من دور حمص، وتزلزلت حيطانهم، وكبّروا الثانية والثالثة، فأصابهم أعظم من ذلك، وخرج أهلها يطلبون الصلح، ولم يعلم المسلمون بما حدث فيهم، فصالحوهم على صلح دمشق. وأنزلها أبو عبيدة السّمط بن الأسود الكندىّ فى بنى معاوية، والأشعث ابن ميناس فى السّكون، والمقداد فى بلىّ؛ وغيرهم، وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود. ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصّامت. وسار إلى حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على الجزية عن رءوسهم، والخراج عن أرضهم، ومضى نحو شيزر، فخرجوا إليه فصالحهم على مثل صلح أهل حماة. وسار إلى معرّة النعمان- وكانت تعرف بمعرّة حمص، ونسبت بعد ذلك إلى النّعمان بن بشير الأنصارى، فصالحوه على مثل صلح أهل حمص. ثم أتى اللّاذقية فقاتله أهلها، وكان لها باب عظيم يفتحه جمع من الناس، فعسكر المسلمون على بعد منها، ثم أمر فحفر حفائر عظيمة، تستر الحفرة منها الفارسين، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها، ورحلوا، فلمّا أجنّهم الليل عادوا، واستتروا فى تلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقيّة [وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا] [1] ، فأخرجوا سرحهم، وانتشروا بظاهر البلد، فلم يرعهم إلّا والمسلمون يصيحون بهم، ودخلوا المدينة معهم،

_ [1] تكملة من ص.

ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية

وملكت عنوة، وهرب قوم من النّصارى، ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم على خراج يؤدونه قلّوا أو كثروا، فردّت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون بها مسجدا جامعا؛ بناه عباده بن الصامت، ثم وسّع فيه بعد ذلك. ولما فتح المسلمون اللّاذقية جلا أهل جبلة من الرّوم عنها، وفتح المسلمون مع عبادة بن الصّامت أنطرطوس، وكان حصنا فجلا عنه أهله، وبنى معاوية أنطرطوس ومصّرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس، وفتحت سلمية؛ وقيل: إنها سميت سلمية لأنّه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكّة، انقلبت بأهلها، ولم يسلم منها غير مائة نفس، فبنوا لأنفسهم مائة منزل، وسميت «سل مائة» ، ثم حرّفها النّاس. فقالوا: سلمية، ثم مصّرها صالح بن علىّ بن عبد الله بن عباس. ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية وما تكلم به عند ذلك قال [1] : ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنّسرين، فلما زحف ونزل الحاضر زحف إليه الروم، وعليهم ميناس، وكان أعظمهم بعد هرقل، فقتل هو ومن معه على دم واحد. وسار خالد حتى نزل قنّسرين فتحصّن أهلها منه، ثم صالحوه على صلح أهل حمص، فأبى خالد إلّا إخراب المدينة، فأخربها، فلمّا بلغ ذلك هرقل- وكان بالرّها- سار إلى سميساط، ثم منها

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 343 وتاريخ الطبرى 3: 601.

ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم

إلى القسطنطينية، ولمّا سار علا نشزا، ثم التفت إلى الشّام. فقال: سلام عليك يا سوريّه، سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومىّ أبدا إلا خائفا، حتى يولد الولد المشئوم وليته لا يولد، فما أحلى فعله، وأمرّ فتنته على الرّوم. ثم سار وأخذ أهل الحصون التّى بين إسكندونه وطرسوس معه لئلّا يسير المسلمون فى عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وخلت تلك الحصون وشتّتها هرقل، فكان المسلمون إذا مرّوا بها لا يجدون بها أحدا، وربّما كمن عندها الرّوم، فأصابوا غرّة ممّن يتخلف من المسلمين، فاحتاط المسلمون لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المّآب. ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم وهى [1] سرمين، وقورس، وتلّ عزاز، ومنبج، ودلوك، ورعبان وبالس، وقاصرين، وجرجومة، ودرب بغراس، ومرعش، وحصن الحدث. قال: ولما فرغ أبو عبيدة من قنّسرين سار إلى حلب فبلغه أنّ أهل قنّسرين مضوا، وغدروا، فوجّه إليهم السّمط الكندىّ فحصرهم وفتحها، ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب، وهو قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك، وأتى حلب وعلى مقدّمته عياض بن الفهرىّ، فتحصّن أهلها، وحصرهم المسلمون، فلم يلبثوا أن طلبوا الصّلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وحصنهم وكنائسهم، فأعطوا ذلك، واستثنى عليهم موضع المسجد.

_ [1] تاريخ بن الأثير 2: 344.

وكان عياض بن غنم هو الذى صالح، فأجاز أبو عبيدة ذلك وقيل: صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم، وقد قيل: إنّ أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا؛ لأنّ أهلها انتقلوا إلى أنطاكية، وتراسلوا فى الصّلح، فلمّا تم الصّلح رجعوا، وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية، وقد تحصّن بها خلق كثير من قنّسرين وغيرها، فلما فارقها لقيه جمع العدوّ فهزمهم، وألجأهم إلى المدينة، وحصرها من نواحيها، فصالحوه على الجزية أو الجلاء، فجلا بعضهم وأقام بعضهم ثم نقضوا، فوجّه إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة، ففتحاها على الصّلح الأول. وكانت أنطاكية عظيمة الذّكر عند المسلمين، فلما فتحت كتب عمر إلى أبى عبيدة أن يرتّب جماعة من المسلمين بها مرابطة، ولا يحبس عنهم العطاء. وبلغ أبا عبيدة أنّ جمعا من الرّوم بين معّرة مصرين وحلب، فسار إليهم فهزمهم، وقتل عدة من البطارقة، وسبى وغنم، وفتح معرّة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله، فبلغت بوقة، وفتحت قرى الجومه وسرمين وتبرين، وغلبوا على جميع أرض قنّسرين وأنطاكية. ثم أتى أبو عبيدة حلب، وقد التاث أهلها، فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة، وسار يريد قورس، وعلى مقدّمته عياض ابن غنم، فلقيه راهب من أهلها، فسأله الصلح، فبعث به إلى أبى عبيدة، فصالحه على صلح أنطاكية، وبثّ خيله، فغلبوا على جمع أرض قورس، وفتح تلّ عزاز.

وكان سلمان بن ربيعة الباهلىّ فى جيش أبى عبيدة، فنزل فى حصن بقورس، يعرف بحصن سلمان، ثمّ سار أبو عبيدة إلى منبج، وعياض على مقدّمته، فلحقه، وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية، وسيّره إلى ناحية دلوك ورعبان، فصالحه أهلها على مثل صلح أهل منبح، واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الرّوم. وولّى أبو عبيدة كلّ كورة فتحها عاملا، وضمّ إليه جماعة، وشحن النواحى المخوفة، وسار إلى بالس، وبعث جيشا مع حبيب ابن مسلمة إلى قاصرين فصالحه أهلها على الجزية والجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلاد الرّوم، وأرض الجزيرة، واستولى المسلمون على الشام من هذه النّاحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى جهة فلسطين وكان بجبل اللّكام مدينة يقال لها: جرجومة، ففتحها حبيب من أنطاكيه صلحا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وسيّر أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم، وهو أوّل من سلكه، فلقى جمعا من الرّوم، ومعهم عرب من غسّان [وتنوخ] [1] وإياد يريدون اللّحاق بهرقل فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وسيرّ جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد، ففتحها بالأمان على إجلاء أهلها، فجلاهم وأخربها، وسيّر جيشا مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث ففتحه؛ وإنما سمّى الحدث لأنّ المسلمين لقوا عليه غلاما حدثا، فقاتلهم فى أصحابه، فقيل: درب الحدث. وقيل: لأنّ المسلمين أصيبوا به فسمّىّ بذلك، وكان بنو أميّة يسمّونه درب السّلامة، والله أعلم.

_ [1] من ص.

ذكر فتح قيسارية وحصن غزة

ذكر فتح قيسارية وحصن غزة وفى [1] سنة خمس عشرة أيضا فتحت قيساريّة. وقيل فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين. وذلك أنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى يزيد بن أبى سفيان: أن يرسل معاوية أخاه إلى قيساريّة، وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك، فسار معاوية إليها وحصر أهلها، فرجعوا إليه، وقاتلوه، فبلغت قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، ثم كملت فى الهزيمة مائة ألف وفتحها، وكان علقمة بن مجزّز قد حصر القيقار بغزّة وجعل يراسله فلم يشفه أحد ممّا يريد، فأتاه كأنّه رسول علقمة وكلّمه، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له فى الطريق، فإذا مرّ به قتله، ففطن به علقمة، فقال: إنّ معى نفرا يشركوننى فى الرّأى فأنطلق فآتيك بهم، فبعث القيقار إلى ذلك الرّجل ألّا يتعرّض له. فخرج علقمة من عنده، ولم يعد إليه، وفعل كما فعل عمرو بن العاص رضى الله عنه مع الأرطبون.

_ [1] تاريخ، ابن الأثير 2: 346، وتاريخ الطبرى 3: 603، 604.

ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة

ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة وسبسطية ونابلس وتبنى واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا قال: لمّا [1] انصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد بعد فحل إلى حمص- كما قدّمنا- نزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بيسان فافتتحها، وصالحه أهل الأردنّ، واجتمع عسكر الرّوم بعزّة وأجنادين وبيسان إلى الأرطبون بأجنادين، فسار عمرو وشرحبيل إليهم بها، واستخلف عمرو على الأردنّ أبا الأعور، وكان الأرطبون أدهى الرّوم وأبعدها غورا، وكان قد وضع بالرّملة جندا عظيما، وبإيلياء كذلك، فلمّا بلغ عمر بن الخطّاب الخبر قال: قد رمينا أرطبون الرّوم بأرطبون العرب، فانظروا عمّ تنفرج. وكان معاوية قد شغل أهل قيساريّة عن عمرو، وجعل عمرو علقمة بن حكيم، ومسروقا العكّى على قتال [أهل] [2] إيلياء، فشغلوا من بها عنه، وتتابعت الأمداد من عمر رضى الله عنه إلى عمرو، فأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شىء، ولا تشفيه الرّسل، فسار إليه بنفسه، ودخل إليه كأنّه رسول، ففطن به أرطبون، وقال: لا شكّ أن هذا الأمير، أو من يأخذ الأمير

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 346 وما بعدها. [2] من ص.

برأيه، فأمر إنسانا أن يقعد على طريقة، فإذا مرّ به يقتله؛ فأدرك عمرو، فقال له: قد سمعت منىّ، وسمعت منك، وقد وقع قولك منىّ بموقع، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر إلى هذا الوالى لنكاتفه فأرجع وآتيك بهم، فإن رأوا ما رأيت فقد رآه الأمير وأهل العسكر، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم. فقال: نعم، وردّ الرجل الّذى أمره بقتله، فخرج عمرو من عنده، وعلم الرّومىّ بعد مفارقته أنّه خدعه. فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت هذه الواقعة عمر. فقال: لله درّ عمرو! ثم التقوا، واقتتلوا بأجنادين قتالا شديدا كقتال اليرموك، فانهزم أرطبون إلى إيلياء، ففتح عمرو غزّة، وقيل: فتحت غزّة فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، ثم فتح سبسطية ونابلس بأمان على الجزية، وفتح مدينة لدّوتبنى وعمواس، وبيت جبرين ويافا. وقيل: فتحها معاوية رضى الله عنه، وفتح رفح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء

ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء كان [1] فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، سنة خمس عشرة. وقيل: ستّ عشرة، وذلك أن عمرو بن العاص لما فتح هذه الجهات الّتى ذكرناها، أرسل إلى أرطبون رجلا يتكلّم بالرّوميّه، وقال له: اسمع ما يقول، وكتب معه كتابا، فوصل إليه، وأعطاه الكتاب، وعنده وزراؤه، فقال لهم: لا يفتح عمرو شيئا من فلسطين بعد أجنادين. فقالوا له: من أين علمت ذلك؟ فقال: صاحبها صفته كذا وكذا، وذكر صفة عمر، فعاد الرسول إلى عمرو، وأخبره بذلك، فكتب عمرو إلى عمر رضى الله عنهما، يقول: إنى أعالج عدوّا شديدا، وبلادا قد ادّخرت لك، فرأيك. فعلم عمر أن عمرا لم يقل ذلك إلا لشىء سمعه، فسار عن المدينة. وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أنّ أبا عبيدة حصر بيت المقدس، فطلب أهله أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشّام، وأن يكون المتولّى للعقد عمر بن الخطّاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة، واستخلف عليها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكتب عمر إلى أمراء الأجناد بموافاته بالجابية ليوم سمّاه لهم، وأن يستخلفوا على أعمالهم، فوافوه، وكان أوّل من لقيهم يزيد بن أبى سفيان وأبو عبيدة ثم خالد بن الوليد على الخيول، عليهم الدّيباج والحرير، فنزل عن فرسه، ورماهم بالحجارة، وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إيّاى تستقبلوننى فى هذا

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 347، تاريخ الطبرى 3: 607.

الزّى! وانّما شبعتم منذ سنتين [1] ، وتالله لو فعلتم ذلك على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. فاعتذروا بالسلاح. ودخل عمر الجابية وعمرو وشرحبيل لم يقدما عليه، فبينما عمر بالجابية إذ فزع الناس إلى السّلاح. فقال: ما شانكم؟ قالوا: ألا ترى إلى الخيول والسّيوف! فنظر فإذا كردوسة [2] ، فقال: مستأمنة فلا تراعوا، فإذا هم أهل إيلياء يصالحونه على الجزية، وكان الّذى صالحه العوّام، لأن أرطبون والتّذارق دخلا مصر لمّا بلغهما مقدم عمر. وأخذوا كتابه على إيلياء وحيّزها، والرّملة وحيّزها. وجعل عمر رضى الله عنه علقمة بن حكيم على نصف فلسطين، وأسكنه الرّملة، وجعل علقمة بن مجزّز على نصفها الآخر، وأسكنه إيلياء، وضمّ عمرو بن العاص وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكبا، فقبّلا ركبته، فضمّ كلّ واحد منهما محتضنا [3] ، ثم سار إلى البيت المقدس وركب فرسه، فرأى به عرجا، فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه، فجعل يتجلجل به، فنزل وضرب وجهه وقال: لا أعلم من علّمك هذه الخيلاء؟ ثم لم يركب برذونا بعده، ولا كان ركبه قبله، وفتحت إيلياء على يديه، ولحق أرطبون ومن أبى الصلح بمصر، فلما ملكها المسلمون قتل. وقيل: بل لحق بالرّوم، فكان على صوائفهم، والتقى هو وصاحب صائفة [4]

_ [1] ك: «سنتان» . [2] الكردوسة: القطعة من الخيل، وفى ك وابن الأثير: «كردوس» . [3] ابن الأثير: «محتضنهما» . [4] الصائفة: غزوة الروم لأنهم كانوا يغزون صيفا لمكان البرد والثلج من الروم.

ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين

المسلمين، ومع المسلمين رجل من قريش [1] ، فقطع أرطبون يده، وقتله القرشى [2] ، وفيه يقول ويشير إلى يده: فإن يكن أرطبون الرّوم أفسدها ... فإنّ فيها بحمد الله منتفعا وإن يكن أرطبون الرّوم قطّعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين قال [3] : وفى سنة سبع عشرة قصد الرّوم أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيّج للرّوم على ذلك أنّ أهل الجزيرة أرسلوا إلى ملكهم، وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوه المعونة بأنفسهم. ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم، ضمّ أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنّسرين إليهم، فاستشاره أبو عبيدة فى المناجزة أو التحصن، فأشار بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم، وكتب إلى عمر بذلك. وكان عمر قد اتخذ بكل مصر خيولا على قدره من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، والقيّم عليها سلمان بن ربيعة الباهلىّ، وفى كل مصر من الأمصار

_ [1] ابن الأثير والطبرى: «من قيس يقال له ضريس» . [2] الطبرى وابن الأثير: «القيسى» . [3] ابن الأثير 2: 370، وتاريخ الطبرى 3: 599.

الثمانية على قدره، فإن كانت ثابتة ركبها المسلمون وساروا إلى أن يتجهز الناس. وكتب عمر إلى سعد بن أبى وقّاص: أن أندب النّاس مع القعقاع ابن عمرو وسرّحهم من يومهم؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب إليه أيضا: سرّح سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة؛ فإن أهل الجزيرة هم الّذين استثاروا الرّوم على أهل حمص، وأمره أن يسرّح عبد الله بن عتبان إلى نصبين، ثم ليقصدا حرّان والرّها، وأن يسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرّح عياض بن غنم، فإن كانت حرب فأمرهم إلى عياض. فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومه نحو حمص. وخرج عياض بن غنم ومن ندب إلى الجزيرة، وتوجّه كلّ أمير منهم إلى الكورة الّتى أمّر عليها، وخرج عمر من المدينة، وأتى الجابية إعانة لأبى عبيدة، فلمّا بلغ أهل الجزيرة الّذين أعانوا الرّوم على أهل حمص خبر الجنود الإسلاميّة تفرقوا إلى بلادهم، فأشار خالد على أبى عبيدة بالخروج إلى الرّوم، فخرج إليهم وقاتلهم، وفتح الله عليه، وقدم القعقاع بعد ثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم فى ذلك. فكتب إليهم: أن أشركوهم فى المغنم، فإنّهم نفروا إليكم، وانفرق لهم عدوّكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا؛ يكفون حوزتهم ويمدّون الأمصار؛ فلمّا فرغوا رجعوا. والله أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ذكر فتح الجزيرة وأرمينية

ذكر فتح الجزيرة وأرمينية قد اختلف أصحاب التّواريخ فى فتح الجزيرة وإرمينية، فمنهم من يقول: إن ذلك من فتوح أهل العراق، ومنهم من يقول: إنّها من فتوح أهل الشام. والأكثر على أنّها من فتوح أهل الشّام، ونحن نذكر القولين إن شاء الله تعالى: فأمّا من قال: إنّها من فتوح العراق فإنّه يقول [1] : إنّ سعد بن أبى وقّاص لمّا أمره عمر رضى الله عنه أن يبعث الجنود التى ذكرناها آنفا إلى نصيبن وحرّان والرّها والجزيرة مع من ذكرنا، وإن كان قتال فأمرهم إلى عياض بن غنم. فخرج عياض ومن معه؛ فأرسل سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة، فصالحوه على الذّمّة، وخرج عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه وفعلوا كفعل أهل الرّقّة، وخرج الوليد بن عقبة، فقدم على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، فنهض معهم مسلمهم وكافرهم إلّا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا إلى أرض الرّوم، ولما أخذوا الرّقّة ونصيبين ضمّ عياض إليه سهيلا وعبد الله، وسار بالنّاس إلى حرّان، فأجابه أهلها إلى الجزية، فقبل منهم. ثمّ إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرّها، فأجابوهما إلى الجزية، وأجروا كلّ ما أخذوا من الجزيرة عنوة مجرى الذّمّة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا، ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة.

_ [1] ابن الأثير 2: 372، تاريخ الطبرى 4: 53.

قال: ولمّا بلغ عمر رضى الله عنه أن إيادا دخلت الرّوم، كتب إلى ملك الرّوم يتهدّده إن لم يخرجهم، فأخرجهم، فخرج منهم أربعة آلاف، وتفرّقت [بقيتهم] [1] ممّا يلى الشّام والجزيرة من أرض الرّوم، فكلّ إيادىّ فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف. وقال ابن إسحاق: إنّ فتح الجزيرة كان فى سنة تسع عشرة، وقال: إنّ عمر كتب إلى سعد بن أبى وقّاص: إذا فتح الله الشّام والعراق فابعث جندا إلى الجزيرة. فبعث عياض بن غنم، و [بعث] [2] معه جيشا فيه أبو موسى الأشعرىّ، وعمر بن سعد ليس له فى الأمر شىء، فسار عياض ونزل على الرّها، فصالحه أهلها وأهل حرّان، ثم بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض إلى دارا فافتتحها. ووجّه عثمان بن أبى العاص إلى إرمينية الرابعة فقاتل أهلها، ثم صالحوه على الجزية، فعلى هذه الأقوال تكون الجزيرة وإرمينية من فتوح العراق. وأمّا من قال إنّها من فتوح الشام، فإنه يقول: إنّ أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها ففتحها، وكان قد كتب إلى عمر بن الخطّاب بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض ابن غنم- إذ أخذ خالد بن الوليد إلى المدينة- فصرفه إليه، فسيّره أبو عبيدة إلى المدينة ففتحها، وذلك فى سنة سبع عشرة. وقيل: إن أبا عبيدة لمّا توفّى استخلف عياضا، فورد عليه

_ [1] من ص. [2] من ص.

كتاب عمر بولاية حمص وقنّسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة فى سنة ثمانى عشرة للنّصف من شعبان فى خمسة آلاف، وعلى ميمنته سعيد بن عامر الجمحىّ، وعلى ميسرته صفوان بن المعطّل، وعلى مقدّمته ميسرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرّقّة، فأغاروا على الفلّاحين، وحصروا المدينة، وبثّ عياض السّرايا، فأتوه بالأسرى والأطعمة، وحصرها ستّة أيام، فطلب أهلها الصّلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريّهم وأموالهم ومدينتهم. وقال عياض: الأرض لنا، قد وطئناها وملكناها، فأقرّها فى أيديهم على الخراج، ووضع عنهم الجزية. ثم سار إلى حرّان فجعل عليها عسكرا، عليهم صفوان وحبيب بن مسلمة، فحصراها، وسار هو إلى الرّها، فقاتله أهلها ثم انهزموا، فحصرهم فى مدينتهم، فطلبوا الصلح فصالحهم، وعاد إلى حرّان، فوجد صفوان وحبيبا قد غلبا على حصون وقرى من أعمالها، فصالحه أهل حرّان على مثل صلح الرّها، وفتح سميساط، وأتى سروج وراس كيفا والأرض البيضاء، فصالحه أهلها على مثل صلح الرّها، ثم غدر أهل سميساط، فرجع إليهم وفتحها، ثم أتى قريّات الفرات، وهى جسر منبج وما يليها ففتحها، وبعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة، على يد حبيب أيضا، ورتّب فيها جندا من المسلمين مع عاملها. قال: وسار عياض إلى رأس عين، وهى عين الوردة، فامتنعت عليه، فتركها، وسار إلى تل موزن ففتحها على صلح الرّها سنة تسع عشرة. وسار إلى آمد، فصالحه أهلها بعد قتال، وفتح ميّافارقين على صلح الرّها ثم سار إلى نصيبين، فقاتله أهلها، ثم صالحوه على مثل ذلك،

وفتح طور عبدين، وحصن ماردين. وقصد الموصل، ففتح أحد الحصنين. وقيل: لم يصلها، وأتاه بطريق الزّوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب إلى بدليس، وبلغ خلاط فصالحه بطريقها، وانتهى إلى العين الحامضة من إرمينية، ثم عاد إلى الرّقّة ومضى منها إلى مدينة حمص، ومات فى سنة عشرين؛ فعلى هذا الخبر يكون ذلك من فتوح أهل الشام. وعلى كلا القولين ففتحها على يد عياض بن غنم. قال: ولما مات عياض استعمل عمر بن الخطّاب سعيد بن عامر ابن حذيم، فلم يلبث إلّا قليلا ومات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصارىّ، ففتح رأس عين بعد قتال شديد. وقيل: إنّ عياضا أرسل عمير بن سعد إليها ففتحها. وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه أرسل أبا موسى الأشعرىّ إلى رأس عين بعد وفاة عياض، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى فتوح الشام فى خلافة عمر رضى الله عنه؛ فلنذكر فتوح العراق، وما والاه. وإذا انتهت الفتوحات إن شاء الله تعالى ذكرنا الغزوات إلى أرض الرّوم من الشام.

ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس

ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس وغيرها وغزو الترك وفتح خراسان وسجستان وغير ذلك من الوقائع كان ابتداء أمر العراق أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ قدم على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه فى مرضه الّذى مات فيه، فأوصى أبو بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش معه إلى العراق، فلمّا أصبح عمر من اللّيلة الّتى مات فيها أبو بكر ندب النّاس إلى الخروج مع المثنّى بن حارثة، ثم بايع النّاس، وندبهم وهو يبايع ثلاثا، فلم ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين، وأكرهها إليهم لشدّة سلطانهم وشوكتهم، فلمّا كان اليوم الرابع ندب النّاس إلى العراق، فكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود الثّقفىّ، وهو والد المختار، وسعد بن عبيدة الأنصارىّ، وسليط بن قيس، وهو بدرىّ. وتتابع النّاس، وتكلّم المثنّى بن حارثة، فقال: أيّها النّاس، لا يعظمنّ عليكم هذا الوجه، فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقّى السّواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها. فأجتمع النّاس. وقيل لعمر: أمّرّ عليهم رجلا من التّابعين من المهاجرين والأنصار، فقال:: والله لا أفعل، إنّما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدوّ، فإذا فعل فعلهم قوم، وتثاقلواهم، كان الّذين ينفرون خفافا وثقالا ويسبقون أولى بالرّياسة، والله لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم أنتدابا، ثم دعا أبا عبيد وسعدا وسليطا. وقال لسعد وسليط: لو سبقتماه لولّيتكما، وأمّر أبا عبيد، وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر،

ذكر وقعة النمارق

ولم يمنعنى أن أؤمرّ سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفى التسرّع إلى الحرب ضياع، وأوصى أبا عبيد بجنده. وأمر عمر المثنّى بالتقدّم حتى يقدم عليه أصحابه، وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الرّدة، ففعلوا، وسار المثنّى فقدم الحيرة فى عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر وقعة النمارق كانت [1] هذه الوقعة فى سنة ثلاث عشرة، وذلك أن بوران كانت يومئذ على الفرس، فأرسلت إلى رستم بن الفرّخزاذ- وكان على فرج خراسان- فحضر، فتوّجته، ودعت مرازبة فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، فدانت له فارس، فكتب رستم إلى الدّهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث فى كلّ رستاق رجلا يثور بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلى، وبعث نرسى إلى كسكر، وواعدهم يوما، وبعث جندا لمصادمة المثنّى، وبلغ المثنّى الخبر فحذر، وعجل جابان ونزل النّمارق، وثاروا، وخرج أهل الرّساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنّى من الحيرة، فنزل خفّان لئلّا يؤتى من خلفه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد، فلمّا قدم أقام أيّاما ليستريح هو وأصحابه، واجتمع إلى جابان بشر كثير بالنّمارق، فسار إليه أبو عبيد، وجعل المثنّى على الخيل، وكان على مجنّبتى جابان جشنس ماه ومردانشاه، فالتقوا واقتتلوا بالنّمارق قتالا شديدا،

_ [1] ابن الأثير: 3: 298، الطبرى 3: 446.

ذكر وقعة السقاطية بكسكر

فهزم الله الفرس، وأسر جابان؛ أسره مطر بن فضّة التّيمى، وأسر مردانشاه، أسره أكتل بن شمّاخ العكلىّ فقتله. وأمّا جابان فإنّه خدع مطرا، وقال: هل لك أن تؤمنّنى، وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك، وكذا وكذا؟ فخلّى عنه، فأخذه المسلمون، وأتوا به أبا عبيد، وأخبروه أنّه جابان، وأشاروا عليه بقتله؛ فقال: إنّى أخاف الله أن أقتله، وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم، وتركه. وأرسل فى طلب من انهزم حتى أدخلوهم عسكر نرسى وقتلوا منهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر وقعة السقاطية بكسكر ولما [1] لحق من انهزم من الفرس بكسكر وبها نرسى، وهو ابن خالة الملك، سار أبو عبيد إليهم من النّمارق، والمثنّى فى تعبئته التى قاتل فيها، وكان على مجنّبتى نرسى بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما والزّوابى، وكانت بوران ورستم قد بلغهما خبر هزيمة جابان، فبعثا الجالينوس إلى نرسى مددا، فعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا من مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت الفرس، وهرب نرسى وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وجمعوا الغنائم. وأقام أبو عبيد وبعث المثنّى إلى باروسما، وبعث والقا إلى

_ [1] ابن الأثير 2: 399، تاريخ الطبرى 3: 450.

ذكر وقعة الجالينوس

الزّوابى، وعاصما إلى نهر جور، فهزموا من كان قد تجمّع هناك وأخربوا، وسبوا أهل زندورد وغيرها، وبذل لهم فرّوخ وفرونداذ على أهل باروسما والزّوابى وكسكر ونهر جوبر الخراج معجّلا، فأجابوه إلى ذلك وصاروا صلحا. والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد. ذكر وقعة الجالينوس قال: ولمّا [1] بعث رستم الجالينوس سار فنزل بباقسياثا من باروسما، فسار إليه أبو عبيد، وهو على تعبئته فالتقوا بها واقتتلوا، فهزم الله الفرس، وهرب الجالينوس، وغلب أبو عبيد على تلك النّواحى، ثمّ ارتحل حتى قدم الحيرة. ذكر وقعة قس الناطف ويقال لها: وقعة الجسر ووقعة المروحة ومقتل أبى عبيد وغيره لما [2] رجع الجالينوس إلى رستم منهزما، قال رستم: أىّ العجم أشدّ على العرب؟ قالوا: بهمن جاذوبه المعروف بذى الحاجب- وإنّما قيل له ذو الحاجب لأنّه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعها كبرا- فوجّهه ومعه فيله، وردّ الجالينوس، وقال لبهمن: إن انهزم

_ [1] ابن الأثير 2: 300، وذكرها الطبرى فى الموقعة التى قبلها. [2] تاريخ بن الأثير 2: 301، تاريخ الطبرى 3: 454.

الجالينوس مرّة ثانية فأضرب عنقه. فأقبل بهمن جاذويه ومعه «درفس كابيان» راية كسرى، وكانت من جلود النّمور، طولها أثنا عشر ذراعا فى عرض ثمانية أذرع، فنزل بقسّ النّاطف، وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت امرأته دومة أمّ المختار أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت أبا عبيد بما رأت؛ فقال: هذه إن شاء الله الشّهادة، وعهد إلى النّاس وقال: إن قتلت فعلى النّاس فلان، فإن قتل ففلان ... حتى أمّر الّذين شربوا من الإناء، ثم قال: إن قتل [أبو القاسم] [1] فعلى النّاس المثنّى. وبعث إليهم بهمن جاذويه يقول: إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبره إليكم؛ فنهاه الناس عن العبور، فأبى وترك الرأى، وقال: لا تكونوا أجرأ على الموت منّا، فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، فالتقوا واقتتلوا، فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة وإلى خيل الفرس، عليهم التّجافيف، رأت شيئا منكرا لم يكن رأت مثله، فلم تقدم عليهم، فاشتدّ الأمر على المسلمين، فترجّل أبو عبيد والناس، ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسّيوف، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلّا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطنها، واقلبوا عنها أهلها؛ ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ودفع الّذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك، فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله، وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبى عبيد فضربه أبو عبيد بالسّيف، وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه وقام عليه، فلمّا بصر به

_ [1] من ص.

الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثمّ أخذ الّلواء الّذى كان أمّره بعده، فقاتل الفيل حتى تنحّى عن أبى عبيد، فاجترّه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الّذى بعد أبى عبيد، وتتابع سبعة من ثقيف كلهم يأخذ الّلواء ويقاتل حتّى يموت، ثم أخذ المثنّى اللواء فهرب عنه النّاس، فلمّا رأى عبد الله بن مرثد الثّقفىّ ذلك بادر إلى الجسر فقطعه، وقال: أيها النّاس، موتوا على مامات عليه أمراؤكم أو تظفروا. وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق، وحمى المثنّى وفرسان من المسلمين الناس، وقاتل أبو زبيد الطائىّ حميّة للعرب، وكان نصرانيّا، ثم جاء العلوج وعقدوا الجسر، وعبر النّاس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنّى وحمى جانبه، فلما عبر ارفضّ عنه أهل المدينة، وبقى المثنّى فى قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه. وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقى ثلاثة آلاف، وقتل من الفرس ستّة آلاف، وأخبر عمر عمّن سار فى البلاد استحياء من الهزيمة، فاشتدّ ذلك عليه، وقال: الّلهم إنّ كلّ مسلم فى حلّ منىّ، أنا فئة كلّ مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان أنحاز إلىّ لكنت له فئة [1] . قال: وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس، وأنّهم قد ثاروا برستم، فرجع إلى المدائن. وكانت هذه الوقعة فى شعبان سنة ثلاث عشرة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] فئة، أى موئل.

ذكر وقعة أليس الصغرى

ذكر وقعة أليس الصغرى قال [1] : لمّا عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاء به من الخبر، فخرجا حتى إذا أخذا بالطريق، وبلغ المثنّى فعلهما، فاستخلف على النّاس عاصم بن عمر، وخرج فى جريدة [2] خيل يريدهما، فظنّا أنّه هارب، فاعترضاه، فأخذهما أسيرين. وخرج أهل ألّيس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى، فعقد لهم بها ذمّة، وقتلهما وقتل الأسرى. والله تعالى أعلم. ذكر وقعة البويب ولما [3] بلغ عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وقعة الجسر، ندب الناس إلى المثنّى، وكان فيمن ندب بجيلة، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله، فأتوا العراق، وقالوا: لا نكون إلّا بالشّام، فعزم عليهم عمر ونفّلهم ربع الخمس، فأجابوا، وسيّرهم إلى المثنّى، وبعث عصمة بن عبد الله الضّبّىّ فيمن معه، وكتب إلى أهل الرّدّة فلم يأته أحد إلّا رمى به المثنّى. وبعث المثنّى الرّسل إلى من يليه من العرب، فتوافوا إليه فى جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النّمرىّ فى جمع عظيم من النّمر، نصارى، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذانىّ إلى الحيرة، فسمع المثنّى ذلك وهو بين القادسيّة وخفّان، فاستبطن فرات بادقلى،

_ [1] ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 459. [2] الجريدة: خيل لا رجالة فيها. [3] تاريخ ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 460.

وكتب إلى جرير وعصمة ومن أتاه من الأمداد بالخبر، وأمرهم بقصد البويب، ومهران بإزائه من وراء الفرات، فأجتمع المسلمون بالبويب ممّا يلى الكوفة اليوم، وأرسل مهران إلى المثنّى يقول: إما أن تعبر إلينا، وإمّا أن نعبر إليك، فقال المثنّى: اعبروا، فعبر مهران فنزل بشاطئ الفرات، وعبّى المثنّى أصحابه، وكان فى شهر رمضان، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوّهم، فأفطروا، وأقبل الفرس فى ثلاثة صفوف، مع كلّ صفّ فيل، ورجّالتهم أمام فيلهم، ولهم زجل [1] . فقال المثنّى: إنّ الذى تسمعون فشل، فالزموا الصّمت، ثم التقوا، واقتتلوا أشدّ قتال وأعظمه، فقتل مهران؛ قتله غلام نصرانىّ من تغلب، واستولى على فرسه، فجعل المثنّى سلبه لصاحب خيله، وكان التّغلبى قد جلب خيلا هو وجماعة من تغلب، فلمّا رأوا القتال قاتلوا مع العرب، وانهزمت الفرس، وسبقهم المثنّى إلى الجسر فأفترق الأعاجم مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين، وقتل منهم قتلى كثيرة، فكانوا يحزرون [2] القتلى مائة ألف، وسمّى ذلك اليوم يوم الأعشار، وأحصى مائة رجل، قتل كلّ رجل منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الّليل، ومن الغد إلى الّليل، وأرسل المثنّى الخيل فى طلب العجم، فبلغوا السّيب، وغنموا من الغنائم والسّبى والبقر شيئا كثيرا، فقسّمه المثنّى فيهم، ونفّل أهل البلاء، وأعطى بجيلة ربع الخمس. وأرسل إليه الّذين تبعوا

_ [1] زجل، أى صوت. [2] الحزر: التخمين.

ذكر خبر سوقى الخنافس وبغداد

من انهزم يعرّفونه بسلامتهم، وأنّه لا مانع دون القوم، ويستأذنونه فى الإقدام، فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط؛ فتحصّن أهله منهم، وأستباحوا القرى، ورجعت مسالح الفرس إليهم، وسرّهم أن يتركوا ما وراء دجلة. ذكر خبر سوقى الخنافس وبغداد قال [1] : ثم خلّف المثنّى بالحيرة بشير بن الخصاصيّة، وسار يمخر السّواد، وأرسل إلى ميسان ودست ميسان، وأدنى المسالح، ونزل ألّيس (قرية من قرى الأنبار) ، وجاء المثنّى رجلان أحدهما أنبارىّ فدلّه على سوق الخنافس، والثانى حيرىّ ودلّه على سوق بغداد، فبدأ بسوق الخنافس؛ لأنّها كانت تقوم قبل سوق بغداد، وكان يجتمع بها تجّار مدائن كسرى والسّواد، وتخفرهم ربيعة وقضاعة؛ فأغار المثنّى على الخنافس يوم سوقها، فانتسف السّوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع فأتى الأنبار، فنزل أهلها إليه، وأتوه بالأعلاف والزّاد، وأخذ منهم الأدلّاء على سوق بغداد، وسار ليلا، فصبّحهم فى أسواقهم فوضع السّيف فيهم، وأخذ ما شاء، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلّا الذهب والفضّة والحرّ من كلّ شىء، ثم عاد راجعا حتى أتى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السّواد، ويشنّون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسور مثقب إلى عين التّمر، ولمّا رجع المثنّى إلى الأنبار بعث المضارب [2] إلى الكباث، وعليه فارس العنّاب التّغلبىّ، ثم لحقهم

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 306، الطبرى 3: 472. [2] ابن الأثير: «المضارب العجلى» .

المثنّى فسار معهم، فوجدوا الكباث وقد سار من كان به عنه، فسار المسلمون خلفهم، فقتلوا فى أخريات أصحاب فارس العناب، وأكثروا القتل ورجعوا إلى الأنبار، وسرّح المثنّى فرات بن حيّان التغلبى وعتيبة بن النّهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء بنى تغلب بصفّين، ثم اتّبعهما واستخلف على النّاس عمرو بن أبى سلمى الهجيمىّ، فلما دنوا من صفّين فرّ من بها، وعبروا الفرات إلى الجزيرة وفنى الزّاد الّذى كان مع المثنّى وأصحابه، فأكلوا رواحلهم إلّا ما لا بدّ منه حتّى جلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دبا وحوران فقتلوا من بها، وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء، وأخذوا العير فقال لهم المثنّى: دلّونى؛ فقال أحدهم: أمّنونى على أهلى ومالى، وأدلّكم على حىّ من تغلب، فأمّنه المثنّى، وسار بهم يومه، فهجم العشىّ على القوم والنّعم صادرة عن الماء، وأصحابها جلوس بأفنية البيوت، فقتل المقاتلة، وسبى الذّرّية، واستاق الأموال. وأخبر المثنّى أنّ جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة؛ فخرج المثنّى وعلى مجنّبتيه النّعمان بن عوف ومطر الشّيبانيّان، وعلى مقدّمته حذيفة بن محصن الغلفانىّ، فساروا فى طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاءوا من النّعم، وعادوا إلى الأنبار. ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتّى أغاروا على صفّين، وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم فى الماء، فجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمران [1]

_ [1] يذمران: يحضان.

ذكر خبر القادسية وأيامها

الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكّرانهم يوما من أيّام الجاهليّة، كانوا حرّقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنّى وقد غرّقوهم. فبلغ ذلك عمر، فبعث إلى عتيبة وفرات، فاستدعاهما وسألهما عن قولهما، فأخبراه أنّهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل [1] ، إنّما هو مثل، فاستحلفهما على ذلك وردّهما إلى المثنّى. وكانت هذه الوقائع الّتى ذكرناها بالعراق فى سنة ثلاث عشرة. ثمّ كانت وقعة القادسيّة، والله أعلم. ذكر خبر القادسية وأيامها كان [2] ابتداء أمر القادسيّة أنّ الفرس لمّا مات ملكها أزدشير تفرّقت آراؤها، وكان المسلمون قد فتحوا من بلادهم ما ذكرناه فى خلافة أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فى حياة أزدشير، ثم تابعوا الغارات عليهم، فاجتمعت الفرس وقالوا لرستم والفيرزان- وهما على أهل فارس-: لا زال بكما الاختلاف حتى أوهنتما [3] أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم. فاجتمعوا واستدعوا نساء كسرى وسراريّه، وكشفوا عمّن بقى من نسل الملوك الأكاسرة، فدلّوهم على يزدجرد، من ولد شهريار ابن كسرى، فاستدعوه وملّكوه عليهم وأطاعوه. فبلغ خبرهم المثنّى ابن حارثة، فكتب بذلك إلى عمر، فلم يصل الكتاب حتّى نقض

_ [1] ذحل، أى وتر، وفى ك: «دحل» تحريف. [2] ابن الأثير 2: 309 وما بعدها، تاريخ الطبرى 3: 477 وما بعدها، وذكر ذلك فى حوادث سنة 14. [3] ص: «أوهيتما» .

من كان له عهد من أهل السّواد، فخرج المثنّى حتّى نزل بذى قار، ونزل النّاس بالطّفّ فى عسكر واحد. ولما وصل كتاب المثنّى إلى عمر قال: والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب؛ وكتب إلى عمّاله على العرب: ألّا يدعوا من له نجدة أو رأى، أو فرس، أو سلاح إلّا وجّهوه إليه، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة. فاجتمع إليه النّاس، ولم يدع رئيسا ولا ذا رأى وشرف، ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا استشارهم فى الخروج بنفسه لغزو الفرس، وأجمع رأى وجوه أصحاب النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث رجلا من المسلمين ويضمّ إليه الجنود، واتّفق رأيهم على سعد بن أبى وقّاص، وكان على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوى الرأى والنّجدة والسّلاح، فجاء كتابه إلى عمر يقول: قد انتخبت لك ألف فارس، كلّهم له نجدة ورأى؛ إليهم انتهت أحسابهم. فأمره بحرب العراق وضمّ إليه الجيوش، فخرج فى أربعة آلاف، وأمدّه عمر بعد خروجه بألفى يمانىّ، وألفى نجدىّ. وكان المثنّى بن حارثة فى ثمانية آلاف، فلمّا سار سعد توفّى المثنّى قبل وصوله، واجتمع مع سعد ثمانية آلاف، ثم أتته قبائل العرب، فكان جميع من شهد القادسيّة بضعة وثلاثين ألفا؛ منهم تسعة وتسعون بدريا، وثلاثمائة وبضعة عشر ممّن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرّضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممّن كان شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصّحابة، فعبّأهم سعد بن أبى وقّاص، وأمّر الأمراء، وعرّف على

كلّ عشرة عريفا، وجعل أهل السّابقة على الرّايات؛ وسار بالجيوش حتى نزل القادسيّة بين العتيق والخندق بحيال القنطرة، وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس أحد، فأرسل عاصم بن عمرو يطلب غنما أو بقرا، فلم يقدر عليها، وتحصّن منه من هناك، فأصاب رجلا بجانب أجمة، فسأله عن البقر والغنم، فقال: لا أعلم؛ فصاح ثور من الأجمة: كذب عدوّ الله، ها نحن، فدخل عدوّ الله، فاستاق البقر وأتى بها العسكر، فقسّمها سعد على النّاس. ثم بثّ الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما قام بهم زمانا، فاستغاث أهل السّواد إلى يزدجرد وقالوا: إمّا أن تدفع العرب، وإمّا أن نعطيهم ما بأيدينا، فأرسل إلى رستم وأمره بالمسير للقاء المسلمين، فاستعفاه من ذلك وسأله أن يجهّز الجالينوس، فأبى يزدجرد إلّا مسيره، فعسكر بساباط، ثم استعفاه ثانية من المسير، فأبى عليه. واتّصلت الأخبار بسعد، فكتب إلى عمر فأجابه: لا تكربنّك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله، وتوكّل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والجلد يدعونه، فإنّ الله تعالى جاعل دعاءهم توهينا لهم؛ فأرسل نفرا، منهم: النّعمان بن مقرّن، وبسر بن أبى رهم، وحملة بن جويّة، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيّان، وعدىّ بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة الأسدىّ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسّان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب، والمغيرة بن شعبة، والمثنّى بن حارثة، إلى

يزدجرد دعاة، فقدموا عليه، فأحضر وزراءه، وأحضر رستم، واستشارهم فيما يقول لهم، وأجتمع النّاس ينظرون إليهم، ثم أذن إليهم، وأحضر التّرجمان، وقال له: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا، والولوع ببلادنا؟ من أجل أنّنا تشاغلنا عنكم أجترأتم علينا! فقال النّعمان بن مقرّن لأصحابه: إن شئتم تكلّمت عنكم، ومن شاء آثرته. قالوا: بل تكلّم؛ فقال: إنّ الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير. وينهانا عن الشّرّ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلّا وقاربه منها فرقة، وتباعد عنه فرقه، ثم أمر أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين؛ مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرّفنا جميعا فضل ما جاء به على الّذى كنّا عليه من العداوة والضّيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهوين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كلّه، فإن أبيتم فأمر من الشّر هو أهون من آخر شرّ منه، الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمنا عليه. على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم. وإن بذلتم الجزية قبلنا ومنعناكم، وإلّا قاتلناكم. فتكلّم يزدجرد فقال: إنّى لا أعلم أمّة فى الأرض أشقى ولا أقلّ عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضّواحى فيكفوننا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غدر لحقكم فلا يغرّنكم منّا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم،

وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت [1] القوم. فقام المغيرة بن زرارة فقال: أيّها الملك؛ إنّ هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وليس كلّ ما أرسلوا به قالوه، ولا كلّ ما تكلّمت به أجابوك عليه، فجاوبنى لأكون الّذى أبلغك وهم يشهدون على ذلك. وأمّا ما ذكرت من سوء الحال فهى على ما وصفت أو أشدّ، ثمّ ذكر من سوء عيش العرب، وإرسال النبىّ صلّى الله عليه وسلم إليهم نحو قول النّعمان، وقتال من خالفهم أو الجزية؛ ثم قال: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنحّى نفسك. فقال: لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكم، ثم قال: لا شىء لكم عندى؛ واستدعى بوقر [1] من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثمّ سوقوه حتّى يخرج من باب المدينة. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنّى مرسل إليكم [رستم] [3] حتى يدفنكم ويدفنه معكم فى خندق القادسيّة، ثم أورده بلادكم حتّى أشغلكم فى أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور. فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب، وقال: أنا أشرفهم، أنا سيّد هؤلاء؛ فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب، وقال لسعد عند عوده: أبشر فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم [4] .

_ [1] أسكت، مثل سكت. [2] الوقر: الحمل الثقيل. [3] من ص. [4] الأقاليد: جمع أقلود وهو المفتاح.

وقال يزدجرد لرسنم: ما كنت أرى أنّ فى العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابا منهم، ولقد صدقنى القوم، لقد وعدوا أمرا ليدركنّه أو ليموتنّ عليه، على أنّى وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التّراب على رأسه. فقال رستم: أيّها الملك؛ إنّه أعقلهم. وخرج رستم وبعث فى أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرّسول تلافينا أرضنا، وإن أعزوه سلبكم الله أرضكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم. فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شكّ، وكان منجّما كاهنا. ولما سار الوفد أغار سواد بن مالك التّميمىّ على النّجاف والفراض، فاستاق ثلاثمائة دابّة من بعير وحمار وثور، وأوقرها سمكا، وصبّح العسكر، فقسّمه سعد بين النّاس؛ فسمّى يوم الحيتان. وكانت السّرايا تسرى إلى طلب الّلحوم، فإنّ الطّعام كان كثيرا عندهم. وكانوا يسمّون الأيّام بها، منها يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سريّة أخرى، فأغاروا فأصابوا إبلّا لبنى تغلب والنّمر فأستاقوها. وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدّمته الجالينوس فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستّين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وجعل فى الميمنة الهرمزان، وفى الميسرة مهران بن بهرام الرازىّ. وأرسل سعد السّرايا ورستم بالنّجف، والجالينوس بين النّجف والسّيلحين. وطاف فى السّواد، فبعث سوادا وحميضة كلّ منهما فى مائة، فأغاروا على النّهرين، وبلغ رستم الخبر، فأرسل إليهم خيلا، وسمع سعد أنّ خيله قد وغلت، فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا الأزدىّ فى آثارهم،

فلحقهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلّصوا ما بأيديهم، فلمّا رأته الفرس هربوا، ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعد عمرو ابن معدى كرب وطليحة الأسدىّ طليعة، فسارا فى عشرة، فلم يسيروا إلّا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطّفوف قد ملئوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلّا التقدّم، ومضى حتّى دخل عسكر رستم، وبات فيه، فهتك أطناب بيت رجل واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحلّ فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به [1] النّاس، فركبوا فى طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة، ثم آخر فقتله، ثم ثالث، فرأى مصرع صاحبيه وهما أبنا عمّه، فازداد حنقا، فلحق به طليحة، فكرّ عليه طليحة فأسره، ولحق النّاس، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارس وأخبره الخبر، فسأل التّرجمان الفارسىّ فطلب الأمان، فأمّنه سعد، فقال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمّن قتل؛ باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن، وسمعت بالأبطال، ولم أسمع بمثل هذا، أنّ رجلا قطع عسكرين إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند، وهتك عليهم البيوت، فلمّا أدركناه قتل الأوّل، وهو يعدّ بألف فارس، ثم الثّانى وهو نظيره، ثم أدركته أنا، وما خلّفت بعدى من يعدلنى، وأنا الثّائر بالقتيلين، فرأيت الموت

_ [1] نذر به: علم به.

واستؤسرت، ثم أخبره عن الفرس. وأسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسيّة، وسمّاه سعد مسلما. ثم سار رستم وقدّم الجالينوس وذا الحاجب حتى وصل إلى القادسيّة، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله أربعة أشهر، رجاء أن يضجروا فينصرفوا، ووقف على العتيق بحيال [عسكر] [1] سعد، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه. وبات رستم ليلته. ثم أصبح وأرسل إلى سعد أن أرسل إلينا رجلا نكلّمه ويكلمنا، فأرسل إليه ربعىّ بن عامر، فأظهر رستم زينته، وجلس على سرير من ذهب، وبسط البسط والنّمارق والوسائد المنسوجة بالذّهب، وأقبل ربعىّ على فرسه، وسيفه فى خرقة، ورمحه مشدود بعصب [وقدّ] [1] ، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، ونزل وسطها بوسادتين شقّهما، وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التّهاون، وعليه درع؛ وأخذ عباءة بعيره فتدرّعها وشدّها على وسطه، فقالوا له: ضع سلاحك؛ فقال: لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى، فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له. فأقبل يتوكّأ على رمحه ويقارب خطوة، فلم يدع نمرقة ولا بساطا إلّا أفسده وهتكه، فلمّا دنا من رستم جلس على الأرض، وأركز رمحه على البسط؛ فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنّا لا نستحلّ العقود على زينتكم، فقال له التّرجمان- واسمه عبود

_ [1] من ص. [2] من ص.

من أهل الحيرة- ما جاء بكم؟ قال: الله، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أباه قاتلناه حتى يقضى الله إلى الجنّة أو الظّفر. فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتّى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإنّ ممّا سنّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن متردّدون عنكم ثلاثا فانظر فى أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إمّا الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فتقبل؟؟؟ فنكفّ عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك؛ أو المنابذة فى اليوم الرّابع إلّا أن تبدأنا، وأنا كفيل بذلك عن أصحابى. فقال: أسيّد أصحابك أنت؟ قال: لا، ولكنّا كالجسد الواحد، بعضنا من بعض، يجير أدنانا على أعلانا. فخلا رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم أو سمعتم كلاما قطّ أعزّ وأوضح من كلام هذا الرّجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسّيرة؛ إنّ العرب تستخفّ بالّلباس، وتصون الأحساب؛ ليسوا مثلكم. فلمّا كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن أبعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل فى نحو من ذلك

الزّىّ، فلم ينزل عن فرسه حتّى وقف على رستم. فقال له: انزل، قال: لا أفعل، فقال: ما جاء بك ولم يأت الأوّل؟ قال: إنّ أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا فى الشّدة والرّخاء، وهذه نوبتى. فقال: ما جاء بكم؟ فأجابه نحو الأوّل. فطلب رستم الموادعة إلى يوم ما. فقال: نعم، ثلاثا من أمس، فردّه. وأقبل رستم على أصحابه فقال: ويحكم! ألا ترون ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقّر ما نعظّم، وأقام فرسه على زبرجنا [1] ؛ وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو فى يمن الطائر، يقوم على أرضنا دوننا. فلمّا كان الغد أرسل أن ابعثوا لنا رجلا، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة، فأقبل عليهم، وعليهم التّيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة سهم [2] ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه [3] ؛ فقال: قد كان يبلغنا عنكم الأحلام [4] ، ولا أرى قوما أسفه منكم؛ إنّا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنّكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الّذى صنعتم أن تخبرونى أنّ بعضكم أرباب بعض؛ وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، وأنا لم آتكم ولكن دعوتمونى، اليوم علمت

_ [1] الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر. [2] الغلوة: مقدار مرمى السهم. [3] معكوه: دلكوه بالتراب. [4] الأحلام: جمع حلم وهو العقل.

أنّكم مغلوبون، وأنّ ملكا لا يقوم على هذه السّيرة ولا [على] [1] هذه العقول. فقالت السّفلة: صدق والله الأعرابىّ. وقالت الدّهاقين [2] : والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمّة! ثمّ تكلّم رستم، فحمد قوته، وعظّم أمرهم، وذكر تمكّنهم فى البلاد، وقوّة سلطانهم، وذكر معيشة العرب وما هم عليه من الفاقة، وقال: كنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم، فنأمر لكم بشىء من التّمر والشّعير، ثم نردّكم، وقد علمت أنّه لم يحملكم على ما صنعتم إلّا الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكلّ رجل منكم بوقر [3] تمر وتنصرفون عنا؛ فإنّى لست أشتهى أن أقتلكم. فتكلّم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ الله خلق كلّ شىء ورزقه، فمن صنع شيئا فإنّما هو بصنعه. فأمّا الّذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه، والله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم؛ وأمّا الّذى ذكرت فينا من سوء الحال والضيق فلسنا ننكره، والله ابتلانا به، والدّنيا دول، ولم يزل أهل الرّخاء يتوقّعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاكم الله تعالى لكان شكركم يقصر عمّا أوتيتم، فأسلمكم ضعف الشكر

_ [1] من ص وابن الأثير. [2] الدهاقين: جمع دهقان. وهو زعيم فلا حى العجم، أو رئيس الإقليم. [3] الوقر، بالكسر: الحمل.

إلى تغيّر الحال، ولو كنّا فيما ابتلينا به أهل الكفر لكان عظيم ما أبتلينا به مستجلبا من الله رحمة يردّه بها عنّا؛ إنّ الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا؛ ثم ذكر مثل ما تقدّم من ذكر الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وقال: إنّ عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه. فقال رستم إذا تموتون دونه! فقال المغيرة: يدخل من قتل منّا الجنّة، ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقى منّا بمن بقى منكم. فاستشاط رستم غضبا، ثم حلف ألّا يرتفع الصّبح غدا حتى أقتلكم أجمعين. وأنصرف المغيرة، وخلا رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرّجال، صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرّهم ألّا يختلفوا، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شىء. فلجّوا وتجلّدوا، فقال: أطيعونى يا أهل فارس؛ إنّى لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردّها. ثم أرسل إليه سعد ثلاثة من ذوى الرّأى، فقالوا له: إنّ أميرنا يدعوك لما هو خير لنا ولك؛ والعافية أن تقبل ما دعاك إليه، ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك، وداركم لكم وأمركم فيكم، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا، وكنّا عونا لكم على من أرادكم، فاتّق الله ولا يكوننّ هلاك قومك على يديك، وليس بينك وبين أن نغتبط بهذا الأمر إلّا أن تدخل فيه، وتطرد [به] [1] الشيطان عنك؛ فقال

_ [1] من ص.

لهم: إنّ الأمثال أوضح من كثير من الكلام، إنّكم كنتم أهل جهد وقشف [1] ، لا تنتصفون ولا تمتنعون، فلم نسىء جواركم، وكنّا نميركم [2] ونحسن إليكم، فلمّا طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، وصفتم لقومكم ذلك، ووعدتموهم ثم أتيتمونا، وإنّما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال: وما ثعلب! فانطلق الثّعلب فدعا الثّعالب إلى ذلك الكرم، فلمّا اجتمعوا إليه شدّ صاحب الكرم النقب الذى كنّ يدخلن منه فقتلهنّ. فقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا ونحن نميركم؛ فإنّى لا أشتهى أن أقتلكم. ومثلكم أيضا كالذّباب يرى العسل فيقول: من يوصلنى إليه وله درهمان، فإذا دخله غرق ونشب [3] ، فيقول: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وقال: ما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عدّة! قال: فتكلّم القوم، وذكروا سوء حالهم، وما منّ الله تعالى عليهم من إرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلافهم أوّلا، واجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأمّا ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك، ولكن إنّما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشّجر، وأجرى إليها الأنهار وزيّنها بالقصور، وأقام فيها فلّاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنّاتها، فخلا

_ [1] : القشف قذر الجلد وسوء الحال. [2] نميركم: نطعمكم. [3] نشب، أى وقع فيما لا مخلص منه.

الفلّاحون فى القصور على ما لا يحبّ، فأطال إمهالهم فلم يستجيبوا [1] ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فان ذهبوا عنها يختطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولا [2] لهؤلاء، فيسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن ما نقول حقا ولم يكن إلّا الدّنيا لما صبرنا عن الّذى نحن فيه من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبرجكم، ولقارعناكم [3] عليه؛ فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل أعبروا إلينا. ورجعوا من عنده عشيّا، وأرسل سعد إلى النّاس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم شأنكم والعبور، فأرادوا الجواز على القنطرة فمنعهم المسلمون، وقالوا: أمّا شىء غلبناكم عليه فلا نردّه عليكم، فباتوا يسكرون [4] العتيق بالتّراب والقصب والبراذع حتّى الصباح، وجعلوا طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار. ورأى رستم من اللّيل كأنّ ملكا نزل من السّماء، فأخذ قسىّ أصحابه فختم عليها، ثم صعد بها إلى السّماء، فاستيقظ مهموما، واستدعى خاصّته فقصّها عليهم، وقال: إنّ الله ليعظنا لو أتّعظنا، ثمّ ركب، وعبر وعليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه وعبر الفرس العتيق، ثم كانت الحرب. والله تعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.

_ [1] ابن الأثير: «فلم يستحيوا» . [2] خولا: خدما. [3] قارعناكم: قاتلناكم. [4] سكر النهر: سد فاه بالتراب.

ذكر يوم أرماث

ذكر يوم أرماث كان [1] يوم أرماث يوم الاثنين من المحرّم سنة أربع عشرة؛ وذلك أن الفرس لمّا عبروا العتيق، جلس رستم على سريره وضرب عليه عليه طيّاره، وعبّى فى القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرّجال، وفى المجنّبتين خمسة عشر [2] ؛ ثمانية وسبعة، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالا على كلّ دعوة رجلا [3] ، أوّلهم على باب إيوانه، وآخرهم مع رستم، فكلّما فعل شيئا قال الّذى معه للّذى يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثانى ذلك للثالث، وهكذا إلى أن ينتهى إلى يزدجرد فى أسرع وقت. قال: وأخذ المسلمون مواقفهم، وكان بسعد دماميل وعرق النّسا، فلا يستطيع الجلوس؛ إنّما هو مكبّ على وجهه، وفى صدره وسادة، وهو على سطح القصر يشرف على النّاس، فذكر النّاس ذلك، وعابه بعضهم فقال فى ذلك شعرا: نقاتل حتّى أنزل الله نصره [4] ... وسعد بباب القادسيّة معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم

_ [1] ابن الأثير 2: 324، وأرماث هو اليوم الأول من أيام القادسية. [2] ابن الأثير: «وفى المجنبتين ثمانية أو سبعة» . [3] كذا فى ابن الأثير وفى ك «رجل» . [4] فى ياقوت: «ألم تر أن الله أنزل نصره» .

فبلغت أبياته سعدا، فقال: اللهم إن كان كاذبا وقال الّذى قاله رياء وسمعة فاقطع عنّى لسانه، فإنّه لواقف فى الصّفّ يومئذ أتاه سهم غرب [1] ، فأصاب لسانه، فما تكلّم بكلمة حتّى لحق بالله تعالى. ونزل سعد إلى النّاس فاعتذر إليهم، وأراهم ما به من القروح فى فخذيه وأليتيه، فعذره النّاس وعلموا حاله. ولمّا عجز عن الرّكوب استخلف خالد بن عرفطة على النّاس، فاختلف عليه، فأخذ نفرا ممّن شغب عليه فحبسهم فى القصر، منهم أبو محجن الثّقفىّ، وقيل: بل كان قد حبس فى الخمر. وأعلم سعد النّاس أنّه قد استخلف خالدا، وإنّما يأمرهم خالد بأمره، فسمعوا وأطاعوا. وأرسل سعد نفرا من ذوى الرأى والنّجدة، منهم المغبرة، وحذيفة، وعاصم، وطليحة، وقيس الأسدىّ، وغالب، وعمرو بن معدى كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشمّاخ، والحطيئة وأوس بن معراء، وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض النّاس على القتال ففعلوا، وكان صفّ المشركين على شفير العتيق، وصفّ المسلمين على حائط قديس، والخندق من ورائهم، وكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، وأمر سعد النّاس فقرءوا سورة الجهاد، وهى الأنفال، فلمّا فرغ القرّاء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلّوا الظهر فإذا صلّيتم فانّى مكبّر فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا ولتستتمّ عدّتكم [2] ، ثم إذا كبّرت الثالثة فكبّروا، ولينشّط فرسانكم النّاس، فإذا كبّرت الرابعة فازحفوا

_ [1] سهم غرب: لا يدرى راميه. [2] ابن الأثير: «والبسوا عدتكم» .

حتّى تخالطوا عدوّكم، وقولوا: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فلما كبّر سعد الثالثة برز أهل النّجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم [1] . فبرز غالب بن عبد الله الأسدى، فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوّجا، فأسره غالب وأتى به سعدا. وخرج عاصم ابن عمرو [2] فطارد فارسيّا، فانهزم، فاتّبعه عاصم حتى خالط صفّهم فحموه، فأخذ عاصم رجلا على بغل وعاد به، فإذا هو خبّاز الملك، معه طعام من طعام الملك وخبيصة [2] ، فأتى به سعدا فنفّله [3] أهل موقفه. وخرج فارسىّ يطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدى كرب، فأخذه وجلد به الأرض وذبحه، وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة على المسلمين، ففرّقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمّن معها.

_ [1] بعدها فى ابن الأثير: «فاعتوروا الطعن والضرب» ، وقال غالب بن عبد الله الأسدى: قد علمت واردات المسائح ... ذات اللسان والبيان الواضح أنى سمام البطل المسالح ... وفارج الأمر المهم الفادح [2] فى ابن الأثير: وهو يقول: قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب أنى امرؤ يعانيه السبب ... مثل على مثلك يغريه العتب [2] الخبيصة: نوع من الحلوى. [3] نفله: أعطاه، والنفل الغنيمة.

فأرسل سعد إلى بنى أسد أن دافعوا عن بجيلة ومن معها، فخرج طليحة بن خويلد، وحمّال بن مالك فى كتائبهما، فباشروا الفيلة حتّى عدلها ركبانها، وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة. وقام [1] الأشعث بن قيس فى كندة، فأزالوا من بإزائهم من الفرس، ثم حمل الفرس، وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرّابعة من سعد، فاجتمعت الفرس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبّر سعد الرابعة، فزحف المسلمون إليهم، ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة، فحادت الخيول عنها، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بنى تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله. ثمّ نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وآخرين، [لهم] [2] ثقافة، فقال: يا معشر الرّماة؛ ذبّوا ركبان الفيلة عنهم بالنّبل، ويا معشر [أهل] [2] الثّقافة؛ استدبروا الفيلة، فقطّعوا وضنها [3] . وخرج يحميهم وقد جالت الميمنة والميسرة، وأقبل أصحاب عاصم، فأخذوا بأذناب الفيلة فقطّعوا وضنها، وأرتفع عواؤهم، فما بقى فيل إلّا عوى، وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، وردّ الفرس عنهم إلى مواقفهم، ودام القتال حتّى غربت الشمس، وحتّى ذهبت هدأة [4]

_ [1] ك: «وبهذا قام» . [2] من ص. [3] الوضن: جمع وضين؛ وهو بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج. [4] هدأة من الليل: جزء منه.

ذكر أغواث

من اللّيل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وقد أصيب من أسد تلك الليلة خمسمائة، وكانوا ردءا للنّاس، وكان عاصم حامية للنّاس. وكان سعد تزوّج سلمى امرأة المثنّى بن حارثة بعده، فلما جال النّاس فى هذا اليوم، جعل سعد يتململ جزعا على النّاس وهو لا يطيق الجلوس، فلمّا رأت ما يصنع الفرس، قالت: وامثنّاه، ولا مثنّى للخيل اليوم! فلطم وجهها وقال: أين المثنّى عن [1] هذه الكتيبة الّتى تدور عليها الرحا؟ يعنى أسدا وعاصما؛ فقالت: أغيرة وجبنا! فقال: والله لا يعذرنى أحد ان لم تعذرينى، وأنت ترين مابى ... والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. ذكر أغواث قال: [2] لما أصبح سعد وكّل بالقتلى من ينقلهم ليدفنوا، وأسلم الجرحى إلى النّساء يقمن عليهم، فبينا الناس على ذلك إذ طلعت نواصى الخيل من الشّام، وكان عمر لمّا فتحت دمشق قد كتب إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال أهل العراق، فأرسلهم وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدّمته القعقاع بن عمرو، فتعجّل القعقاع، فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطّعوا أعشارا وهم ألف، كلّما بلغ عشرة مدّ البصر سرّحوا عشرة، وتقدّم هو فى عشرة، فأتى الناس فسلّم عليهم،

_ [1] ك: «من» . [2] هو اليوم الثانى من أيام القادسية.

وبشّرهم بالجنود، وحرّضهم على القتال؛ وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البزاز، فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع، ونادى: بالثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر! واقتتلا، فقتله القعقاع. وجعلت خيله ترد إلى اللّيل، ونشط الناس، وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وانكسرت الأعاجم لقتل ذى الحاجب، فطلب القعقاع البراز، فخرج إليه الفيرزان والبندوان، فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسّيوف، فإنما يحصد الناس بها، فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس فى هذا اليوم ما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيلة؛ كانت توابيتها قد تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا عملها، وحمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وجلّلوها وبرقعوها، وطافت بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتثبّهون بالفيلة، ففعلوا فى يوم أغواث، كما فعل الفرس فى يوم أرماث، فنفرت خيل الفرس من الإبل، فلقوا منها أعظم ما لقى المسلمون من الفيلة، وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وقيل: وكان آخرهم يزرجمهر الهمذانىّ. وكان أبو محجن الثّقفىّ، واسمه مالك بن حبيب، وقيل: عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة

ابن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف، قد حبس فى القصر وقيّد. واختلف فى سبب ذلك؛ فقيل: كان قد خالف على خالد بن عرفطة خليفة سعد، وقيل: بل كان عمر قد جلده فى الخمر مرارا ثمانية وهو لا يتوب ولا يقلع، فنفاه إلى جزيرة فى البحر، وبعث معه رجلا، فهرب منه ولحق بسعد، فكتب إليه عمر بحبسه. وقيل: بل كان مع سعد، فأتى به وهو سكران، فأمر به إلى القيد، فلما التحم القتال قال: كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا إذا قمت عنّانى الحديد وأغلقت ... مصارع من دونى تقيم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا أخاليا وقد شفّ جسمى أنّنى كلّ شارق ... أعالج كبلا مصمتا قد برانيا فلّله درّى يوم أترك موثقا ... وتذهل عنّى أسرتى ورجاليا حبيسا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيرى يوم ذاك العواليا ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألّا أزور الحوانيا ثم قال لسلمى أبنه خصفة امرأة سعد: ويحك! خلّينى، ولك عهد الله إن سلّمنى الله أن أجىء حتى أضع رجلى فى القيد، وإن قتلت استرحتم منّى، فحلّت عنه، فوثب على فرس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ الرّمح وانطلق حتى كان بحيال الميمنة كبّر، ثم حمل على ميسرة الفرس، ثم رجع من خلف المسلمين وحمل على

ميمنتهم، وكان يقصف [1] النّاس قصفا منكرا، فتعجب النّاس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه. وقال بعض الناس: هو الخضر. وقال بعضهم: لولا أنّ الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنّه ملك. وجعل سعد يقول حين ينظر إليه وإلى الفرس: الصّبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبى محجن. وأبو محجن فى القيد، فلما انتصف الّليل وتراجع المسلمون والفرس، أقبل أبو محجن فدخل القصر، وأعاد رجليه فى القيد، وقال: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الحتوفا [2] وأنّا وفدهم فى كلّ يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا [3] وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا فإن أحبس فذلكم بلائى ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى: فى أىّ شىء حبسك؟ فقال: أما والله ما حبسنى بحرام أكلته ولا شربته؛ ولكنّى كنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لسانى، فقلت مرتجلا فى ذلك أبياتا: إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفننّى بالفلاة فإنّنى ... أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها

_ [1] يقصف الناس: يضربهم ضربا منكرا. [2] الحتوف: القتل. [3] العريف: رئيس الجماعة.

ذكر يوم عماس، وهو اليوم الثالث

فلذلك حبسنى، فلمّا أصبحت أتت سعدا فصالحته وأخبرته بخبر أبى محجن، فأطلقه، وقال: اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشىء تقوله حتّى تفعله، قال: لا جرم [والله] [1] لا أجيب لسانى إلى قبيح أبدا. وقد قيل: إنّ سعدا لمّا أخبر بأمره دعاه وحلّ قيوده، وقال: لا تجلدنّ على الخمر أبدا: فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فقد كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. وقيل: بل قال: قد كنت أشربها إذ يقام علىّ الحدّ وأطهر منها، فأمّا إذ بهرجتنى [2] فو الله لا أشربها أبدا. ذكر يوم عماس، وهو اليوم الثالث قال: [3] وأصبح الناس فى هذا اليوم وبين الصفّين من صرعى المسلمين ألفان من جريح وقتيل، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر، وجرحاهم إلى النّساء، [وكان النساء] [4] والصّبيان يحفرون القبور ويداوون الجرحى. وأمّا قتلى المشركين فبين الصّفّين لم ينقلوا، وبات القعقاع تلك الليلة يسرّب أصحابه إلى المكان الّذى كان فارقهم فيه، وقال: إذا طلعت الشّمس فاقتلوا مائة مائة، فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للنّاس رجاء جديدا. ولم يشعر به أحد، وأصبح النّاس على مواقفهم.

_ [1] من ص. [2] بهرجتنى: زيفتنى ولم تسمع قولى. [3] ابن الأثير 2: 331 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 3: 550 وما بعدها [4] من ص.

فلما بزغت الشمس أقبل أصحاب القعقاع، فحين رآهم كبّر وكبّر المسلمون، وتقدّموا وتكتّبت [1] الكتائب، واختلف الطّعن والضّرب، والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحابه حتّى انتهى إليهم هاشم، فأخبر بما صنع القعقاع، فعبّى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة المعروف بابن المكشوح المرادىّ، فكبّر وكبّر المسلمون، ثم حمل على الفرس فقاتلهم حتى خرق صفّهم إلى العتيق ثمّ عاد، وكانت الفرس قد أصلحوا توابيتهم وأعادوها على الفيلة، وأقبلت الرّجّاله حول الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرّجّالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت؛ لاختلاط خيل الفرس ورجالها بها. قال: ولما رأى سعد الفيول، وقد فرّقت الكتائب وعادت لفعلها، أرسل إلى القعقاع وعاصم ابنى عمرو: أن اكفيانى الفيل الأبيض، وكان بإزائهما والفيول كلّها آلفة له. وقال لحمّال والرّبيل: اكفيانى الفيل الأجرب وكان بإزائهما، فحمل القعقاع وعاصم برمحيهما وتقدّما فى خيل ورجل حتّى وضعاهما فى عينى الفيل الأبيض، فنفض رأسه، وطرح ساسته، ودلّى مشفره. فضربه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، وقتلوا من كان عليه. وحمل حمّال والرّبّيل الأسديّان على الفيل الأجرب، فطعنه حمّال فى عينه فأقعى، ثم استوى، وضربه الرّبيل فأبان مشفره، فتحيّر الفيل؛ إذا جاء إلى صفّ المسلمين زجروه بالرّماح ليرجع، وإذا أتى صفّ الفرس نخسوه ليتقدّم، فولّى الفيل وألقى نفسه فى العتيق،

_ [1] تكتبت: اجتمعت.

ذكر ليلة الهرير

وتبعته الفيلة فخرقت صفوف الأعاجم. واقتتل الفريقان حتّى المساء وهم على السّواء، فلما أمسى النّاس اشتدّ القتال، وصبر الفريقان فخرجا على السّواء. ثم كانت ليلة الهرير. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيدنا محمد. ذكر ليلة الهرير قيل: [1] وإنّما سمّيت بذلك لتركهم الكلام، وإنّما كانوا يهرّون هريرا، وهى الّليلة الّتى تلى يوم عماس. قال: وخرج مسعود بن مالك الأسدىّ، وعاصم بن عمرو، وقيس بن هبيرة وأشباههم، فطاردوا القوم، فإذا هم لا يشدّون ولا يريدون غير الزّحف، فقدّموا صفوفهم، وزاحفهم النّاس بغير إذن سعد، فكان أوّل من زاحفهم القعقاع، فقال سعد: الّلهم اغفرها له وانصره، قد أذنت له إذ لم يستأذنّى. ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا، فكبّر واحدة، فحملت أسد ثم النّخع، ثم بجيلة، ثم كندة، وسعد يقول عند حملة كلّ منهم: الّلهم اغفرها لهم، وانصرهم؛ ثم زحف الرؤساء، ورحا الحرب تدور على القعقاع، ولمّا كبّر الثّالثة لحق النّاس بعضهم بعضا، وخالطوا القوم، فاستقبلوا اللّيل بعد ما صلّوا العشاء، واقتتلوا ليلتهم إلى الصّباح، فلمّا كان عند الصّبح انتهى النّاس، فاستدلّ سعد بذلك على أنّهم الأعلون.

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 334.

ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس

ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس قال: وأصبح النّاس من ليلة الهرير- وتسمّى ليلة القادسيّة- وهم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلّها؛ فسار القعقاع فقال: إنّ الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإنّ النّصر مع الصّبر. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء صمدوا لرستم حتى خالطوا الّذين دونه، فلمّا رأت ذلك القبائل قام فيهم رؤساؤهم، وقالوا: لا يكوننّ هؤلاء أجدّ فى أمر الله منكم، ولا هؤلاء- يعنى الفرس- أجرأ على الموت منكم، وحملوا وخالطوا من بإزائهم، فاقتتلوا حتى قام قائم الظّهيرة، فكان أوّل من زال الفيرزان والهرمزان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النّقع [1] ، وهبّت ريح عاصف دبور، فقلعت طيّار رستم عن سريره، فهوى فى العتيق، ومال الغبار على الفرس، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السّرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين أطارت الرّيح الطيّار، واستظلّ بظلّ بغل من بغال كانت قد قدمت عليها حمول، فضرب هلال بن علّفة [2] حمل البغل الّذى تحت رستم، فقطع حباله وسقط عليه، فأزاله رستم عن ظهره، ثمّ ضربه هلال ضربة، ففرّ نحو العتيق، وألقى نفسه فيه، فاقتحمه هلال عليه، وأخذ يرجله

_ [1] النقع: التراب. [2] ك: «علقمة» .

ثم خرج به، وضرب جبينه بالسّيف حتّى قتله، ثم صعد على السّرير وقال: قتلت رستم وربّ الكعبة؛ إلىّ إلىّ! فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء، ولم يظفر بقلنسوته، وكانت بمائة ألف. وقيل: إنّ هلال بن علّفة لمّا قصد رستم رماه بنشابة أثبتت قدمه بالرّكاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله، ثم احتزّ رأسه فعلّقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين، وقام الجالينوس على الردم [1] ، ونادى الفرس إلى العبور، وانهزموا وأخذهم السيف والإسار، وأخذ ضرار بن الخطّاب الدّرفس، وهو العلم الأكبر الّذى كان للفرس، فعوّض عنه بثلاثين ألفا، وكانت قيمته ألف ألف ومائتى ألف، وجعل فى بيت المال. وقتل فى هذه المعركة من الفرس عشرة آلاف سوى من قتل قبلها، وأما المقترنون فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا. وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل فى ليلة الهرير ويوم القادسيّة ستّة آلاف، فدفنوا بالخندق، ودفن من كان قبل ليلة الهرير على مشرّق. وكان ممن استشهد فى حرب القادسيّة بنو خنساء الأربعة، وكان من خبرهم أنّ أمّهم الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشّريد السّلميّة، حضرت القادسيّة ومعها بنوها الأربعة، وهم رجال، فقالت لهم من أوّل الّليل: يا بنىّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين،

_ [1] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: الرمرم.

وو الله الذى لا إله إلّا هو، إنّكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم؛ وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثّواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية، خير من الدّار الفانية؛ يقول الله عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [1] ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها، واضطرمت لظّى على سبّاقها [2] ، وجلّلت نارا على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها؛ عند احتدام خميسها، [3] تظفروا بالغنم والكرامة، فى دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها، عازمين على قولها، فلمّا أضاء لهم الصّبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أوّلهم يقول: يا إخوتى إنّ العجوز النّاصحه ... قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه مقالة ذات تبيان واضحه ... فباكروا الحرب الضّروس الكالحه وإنّما تلقون عند الصّائحه ... من آل ساسان كلابا [4] نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه ... وأنتم بين حياة صالحه أو موتة تورث غنما رابحه

_ [1] سورة آل عمران 200. [2] الاستيعاب: «سياقها» . [3] الخميس: الجيش. [4] الاستيعاب: «الكلاب» .

وتقدّم فقاتل حتّى قتل، ثم حمل الثّانى وهو يقول: إنّ العجوز ذات حزم وجلد ... والنّظر الأوفق والرّأى السّدد قد أمرتنا بالسّداد والرّشد ... نصيحة منها وبرّا بالولد فبادروا الحرب حماة فى العدد ... إمّا لفوز بارد على الكبد أو ميتة تورثكم غنم الأبد [1] ... فى جنّة الفردوس والعيش الرّغد وقاتل حتى استشهد. ثم حمل الثالث وهو يقول: والله لا نعصى العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدبا وعطفا نصحا وبرّا صادقا ولطفا ... فباكروا الحرب الضّروس زحفا حتى تلفّوا آل كسرى لفّا ... أو تكشفوهم عن حساكم كشفا إنّا نرى التّقصير منكم ضعفا ... والقتل منكم نجدة وعرفا [2] وقاتل حتّى استشهد. ثم حمل الرابع وهو يقول: لست لخنساء ولا للأخرم ... ولا لعمرو ذى السّناء الأقدم إن لم أرد فى الجيش جيش الأعجم ... ماض على الهول خضمّ خضرم إمّا لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة فى السّبيل الأكرم وقاتل حتى قتل؛ رحمهم الله [3] . فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذى شرّفنى بقتلهم، وأرجو من ربّى أن يجمعنى بهم فى مستقرّ رحمته. فكان عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- يعطى الخنساء أرزاق

_ [1] الاستيعاب: «عز الأبد» . [2] الاستيعاب: «فيكم نجدة وزلفى» . [3] الاستيعاب 4: 827 أو ما بعدها.

أولادها الأربعة؛ لكلّ واحد مائتى درهم؛ حتى قبض رضى الله عنه. حكاه أبو عمر بن عبد البرّ فى ترجمة الخنساء. تعود إلى بقيّة أخبار القادسيّة؛ قال: وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله مثله، وأمر سعد القعقاع وشرحبيل باتّباعهم، وخرج زهرة بن الحويّة التّميمىّ فى آثارهم فى ثلاثمائة فارس، فلحق الجالينوس، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا أكثر الفرس وأسروهم. قيل: رئى شابّ من النّخع وهو يسوق ثمانين أسيرا من الفرس، وكان الرجل يشير إلى الفارسىّ فيأتيه فيقتله؛ وربّما أخذ سلاحه فقتله به؛ وربّما أمر الرجل فقتل صاحبه. ولحق سلمان بن ربيعة الباهلىّ وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة من الفرس قد نصبوا راية وقالا: لا نبرح حتّى نموت. فقتلهم سلمان ومن معه، وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضعة وثلاثون كتيبة من الفرس، استحيوا من الفرار، فقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكلّ كتيبة منها رئيس، فقتلهم المسلمون. وكتب سعد إلى عمر بالفتح، وبعدّة من قتلوا، ومن أصيبب من المسلمين، وسمّى من يعرف، وبعث بذلك سعد بن عميلة الفزارىّ، واستأذنه فيما يفعل. وأقام بالقادسيّة ينتظر جوابه، فأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلّف النساء والصّبيان بالعتيق، ويجعل

ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام

معهم جندا كثيفا، ويشركهم فى كلّ مغنم؛ ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم؛ ففعل. قيل: وكانت وقعة القادسية فى سنة ستّ عشرة. وقيل: فى سنة خمس عشرة، وأوردها أبو جعفر الطّبرىّ فى سنة أربع عشرة، وأوردها أبو الحسن بن الأثير فى تاريخه الكامل، فى حوادث سنة أربع عشرة؛ وذكر الخلاف فيهما. والله سبحانه وتعالى أعلم. فلنذكر ما كان بعد القادسية والله تعالى أعلم. ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام يوم برس، ويوم بابل، ويوم كوثى. وهذه الوقائع والأيّام الّتى نذكرها فى هذا الموضع تحت هذه التّرجمة، قد أوردها أبو الحسن علىّ بن الأثير- رحمه الله- فى تاريخه (الكامل) [1] فى حوادث سنة خمس عشرة، كأنّه رجّح قول أهل الكوفة: إنّ وقعة القادسيّة كانت فى سنة خمس عشرة. قال: لمّا فرغ سعد من القادسيّة أقام بها بعد الفتح شهرين، وكاتب عمر فيما يفعل، فكتب إليه بالمسير إلى المدائن كما قدّمنا، فسار من القادسيّة لأيّام بقين من شوّال، وكلّ الناس فارس [2] ، قد نقل الله إليهم ما كان فى عسكر الفرس، فوصلت مقدّمة المسلمين برس وعليها عبد الله بن المعتمّ، وزهرة بن الحويّة وشرحبيل

_ [1] الكامل 2: 354. [2] ابن الأثير: «وكل الناس مؤد» .

ابن السّمط، فلقيهم بها بصبهرى فى جمع من الفرس، فهزمهم المسلمون إلى بابل، وبها رؤساء القادسية: النّخيرجان، ومهران الرّازىّ، والهرمزان وأشباههم. وقد استعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى منهزما من برس، فوقع فى النهر، ومات من طعنة، كان طعنه زهرة، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فصالح زهرة، وعقد للمسلمين الجسور، وأخبرهم بمن اجتمع ببابل من الفرس، فأرسل زهرة إلى سعد يعرّفه بذلك، فقدم سعد إلى برس، وسيّر زهرة فى المقدّمة، وأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشما، فنزلوا على الفيرزان ببابل، واقتتلوا، وانهزم الفرس، وانطلقوا على وجهين: فسار الهرمزان نحو الأهواز، فأخذها، وأخرج الفيرزان نحو نهاوند، فأخذها وبها كنوز كسرى. وسار النّخيرجان ومهران إلى المدائن، وقطع الجسر، وأقام سعد ببابل، وقدّم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله اللّيثى، وكثير بن شهاب السّعدىّ حين عبرا الصراة، فلحقا بأخريات القوم، وفيهم فيومان والفّرخان فقتلاهما، وجاء زهرة فجاز سورا، وتقدّم نحو الفرس وقد نزلوا بين كوثى والدّير، وقد استخلف النّخيرجان ومهران على جنودهما شهريار، فنازلهم زهرة، فبرزوا لقتاله، وطلب شهريار المبارزة، فخرج إليه أبو نباتة نايل بن جعشم الأعرجىّ، وكان من شجعان تميم، فظفر به وقتله، وأخذ فرسه وسواريه

ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية

وسلبه، وانهزم أصحابه، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فقدّم إليه نايلا وألبسه سلاح شهريار وسواريه، وأركبه برذونه، فكان أوّل عربىّ سوّر بالعراق. وأقام سعد بها أيّاما. وقيل: كانت هذه الوقائع فى سنة ستّ عشرة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية قال [1] : ثم مضى زهرة إلى بهرسير فى المقدّمات، فتلقّاه شيرزاد دهقان ساباط بالصّلح، فأرسله إلى سعد فصالحه على الجزية، ولقى سعد كتيبة كسرى الّتى تدعى بوران، وكانوا يحلفون كلّ يوم ألّا يزول ملك فارس ما عشنا، فهزمهم، فقتل هاشم بن عتبة المقرّط، وهو أسد كان كسرى قد ألفه، فقبّل سعد رأس هاشم وبعثه فى المقدّمة إلى بهرسير، ووصلها سعد والمسلمون، فلمّا رأوا إيوان كسرى، كبّر ضرار بن الخطّاب، وقال: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وكبّر النّاس معه، فكانوا كلّما وصلت طائفة كبّروا، ثم نزلوا على المدينة، وكان نزولهم فى ذى الحجّة سنة خمس عشرة. والله أعلم.

_ [1] ابن الأثير 2: 354.

ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير

ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير كان [1] فتحها فى صفر سنة ستّ عشرة. وذلك أنّ سعد بن أبى وقّاص نزل عليها وحاصرها شهرين، ونصب عليها عشرين منجنيقا، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأرسل سعد الخيول، فأغارت على من ليس له عهد، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه، فقال: من جاءكم ممّن يعين عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به، فخلّى سعد عنهم، وأرسل إلى الدّهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذّمّة؛ فتراجعوا. قال: واشتدّ الحصار على أهل المدائن الغربيّة، حتى أكلوا السّنانير والكلاب، فبينما هم يحاصرونهم إذ أشرف عليهم رسول، فقال: يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا مايلينا من دجلة إلى جبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم! لا أشبع الله بطونكم! فقال له أبو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله عزّ وجلّ بما لا يدرى لا هو ولا من معه، فرجع الرّجل، فقطع الفرس دجلة إلى المدائن الشّرقيّة الّتى فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفزّر، ما قلت للرّسول؟ قال: والله ما أدرى [2] ، وأرجو أن أكون قد نطقت بالّذى هو خير [3] ، فنادى سعد فى

_ [1] أبن الأثير 2: 354، 355. [2] ابن الأثير: «والذى بعث محمدا يا لحق ما أدرى» . [3] بعدها فى ابن الأثير: «وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم» .

النّاس، فنهدوا إليهم [1] ، فما ظهر على المدينة [أحد] [1] ولا خرج إلّا رجل ينادى بالأمان، فأمّنوه؛ فقال لهم: ما بقى فى المدينة أحد يمنعكم؛ فدخلوا فما وجدوا فيها غير الأسارى وذلك الرّجل، فسألوه: لأىّ شىء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك بالصّلح فأجبتموه: ألّا صلح بيننا وبينكم أبدا حتى نأكل عسل أفريدون بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: يا ويلتيه [3] ، إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم ترّدّ علينا، فساروا إلى المدينة القصوى، ودخل المسلمون المدينة، وأنزلهم سعد المنازل. والله أعلم.

_ [1] نهدوا: هموا. [2] من ابن الأثير. [3] فى الأصول: «تأويله» ، وصوابه من ابن الأثير.

ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى

ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى قال [1] : وأقام سعد ببهرسير أيّاما من صفر، ثم قصد المدائن، وقطع دجلة، وهى تقذف بالزّبد لكثرة المدّ؛ وكان سبب عبوره أنّ علجا [2] جاءه فقال: ما مقامك؟ لا يأتى عليك ثالث حتى يذهب يزدجرد بكلّ شىء فى المدائن، فهيّجه ذلك على العبور، فقام وخطب النّاس، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، ويخلصون إليكم فى سفنهم إذا شاءوا، وليس وراءكم ما تخافون منه، فقد كفاكم الله أهل الأيّام، وقد رأيت من الرّأى أن تجاهدوا العدوّ؛ إلّا أنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؛ فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرّشد، فافعل. فندب الناس على العبور، وقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض [3] حتى تتلاحق به النّاس؛ لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس فى ستّمائة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فتقدّمهم عاصم فى ستين فارسا، قد اقتحموا دجلة، فلمّا رآهم الأعاجم، وما صنعوا أخرجوا للخيل الّتى تقدّمت مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرّماح الرّماح! أشرعوها، وتوخّوا العيون، فالتقوا،

_ [1] ابن الأثير 2: 256. [2] العلج: الرجل من كفار العجم. [3] الفراض: جمع فرضة، وهى محطة السفن من النهر.

فطعنهم المسلمون فى عيونهم، فولّوا ولحقهم المسلمون، فقتلوا أكثرهم، ومن نجا صار أعور، وتلاحق الستمائة بالسّتين [1] . ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها؛ أذن للنّاس فى الأقتحام، وقال: نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّى العظيم. واقتحم الناس دجلة يتحدّثون كما يتحدّثون فى البرّ، وطبّقوا دجلة حتّى ما يرى من الشّاطىء شىء. قال: ولم يكن بالمدائن أعجب من دخول الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبقى أحد إلّا انتشرت [2] له جرثومة من الأرض يستريح عليها؛ حتى ما يبلغ الماء حزام فرسه، فعبروا سالمين، لم يعدم منهم أحد، ولا عدم لأحد شى إلّا قدح لمالك بن عامر سقط منه فجرى فى الماء، ثم ألقته الرّيح إلى الشّاطىء، فأخذه صاحبه، فلمّا رأى الفرس عبورهم خرجوا هرّابا نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك. ولمّا هرب حمل أصحابه من بيت المال ما قدروا عليه ممّا خفّ، ومن النّساء والذّرارىّ، وتركوا فى الخزائن من المتاع والثّياب والألطاف ما لا تدرك قيمته، وتركوا ما قد أعدّوه للحصار من الأطعمة والغنم والبقر، وكان فى بيت المال ثلاثة آلاف ألف، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسيّة النصف، وبقى النّصف. وكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهى كتيبة

_ [1] بعدها فى ابن الأثير: «غير متعتعين» . [2] ابن الأثير: «اشمخرت» .

عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء وهى كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا فى سككها وأحاطوا بالقصر الأبيض وبه من بقى من الفرس، فأجابوا [1] إلى الجزية والذّمّة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة فى آثارهم إلى النّهروان، و [سرّح] [2] مقدار ذلك فى كلّ جهة. وكان سلمان الفارسىّ رائد المسلمين وراعيهم. دعا أهل بهرسير ثلاثا، وأهل القصر الأبيض ثلاثا. واتّخذ سعد إيوان كسرى مصلّى، ولم يغيّر ما فيه من التماثيل، ولمّا دخل الإيوان، قرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [3] . وصلّى فيه صلاة الفتح ثمانى ركعات لا يفصل بينهنّ [4] ، وأتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة، وكانت أوّل جمعة أقيمت بالمدائن فى صفر سنة ستّ عشرة.

_ [1] فى ابن الأثير: «ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية» . [2] زيادة من ابن الأثير. [3] سورة الدخان 25- 28. [4] بعدها فى ابن الأثير: «ولا يصلى جماعة» .

ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها

ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها قال: [1] وجعل سعد على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلىّ، فجمع ما فى القصر والإيوان والدور، وأحصى ما يأتيه به أهل الطّلب، ووجدوا بالمدائن قبابا تركيّة مملؤءة سلالا مختومة برصاص فيها آنية الذهب والفضّة، فكان الرجل يطوف ويبيع الذّهب بالفضّة مثلا [2] بمثل، ورأوا كافورا كثيرا فحسبوه ملحا فعجنوا به فوجدوه مرّا. وأدرك الطّلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النّهروان فازدحموا عليهم، فوقع منهم بغل فى الماء فأخذه المسلمون وفيه حلية كسرى وثيابه، وخرزاته ووشاحه، ودرعه المجوهر. ولحق بعض المسلمين بغلين مع فارسين فقتلهما، وأخذ البغلين فأوصلهما إلى صاحب الأقباض، وهو يكتب ما يأتيه به النّاس، فاستوقفه حتّى ينظر ما جاء به؛ فإذا على أحدهما سفطان [3] فيهما تاج كسرى مفسّخا [4] ، وكان حمله على أسطوانتين، وفيه الجوهر، وعلى البغل الثّانى سفطان فيهما ثياب كسرى من الدّيباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر، وغير الدّيباج منسوجا منظوما. وأدرك القعقاع فارسيّا فقتله وأخذ منه عيبتين فى إحدهما

_ [1] ابن الأثير 2: 358. [2] ابن الأثير: «متماثلين» . [3] السفط: وعاء كالجوالق، وفى الأصلين «يسقطان» تحريف؛ صواب من ابن الأثير. [4] ابن الأثير: «مرصعا» .

خمسة أسياف، وفى الأخرى ستّة أسياف، وأدرع منها درع كسرى، ومغافره وسيفه، ودرع هرقل وسيفه، ودرع شوبين وسيفه، ودرع سياوخش وسيفه، ودرع النعمان وسيفه، وبقيّة السّيوف لهرمز وقباذ وفيروز. وكان الفرس قد استلبوا أدراع ملوك الهند والترك والرّوم وسيوفهم لمّا غزوهم، فأحضر القعقاع ذلك إلى سعد فخيّره فى الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، ونفّل سائرها إلّا سيف كسرى [وسيف] [1] النعمان، فبعث بهما إلى عمر بن الخطاب؛ لتسمع العرب بذلك بعد أن حسبهما فى الأخماس، وبعث بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون. قال: وأدرك عصمة بن خالد الضّبىّ رجلين معهما حماران، فقتل أحدهما وهرب الآخر، وأخذ الحمارين وأتى بهما إلى صاحب الأقباض، فإذا على أحدهما سفطان فى أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضّة على ثفره ولبّته [2] الياقوت والزّبرجد، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّلة بالجوهر. وفى الآخر ناقة من فضّة عليها شليل [3] من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يصنعها على أسطوانتى التّاج. وأدّى المسلمون الأمانة فى المغنم، ولما جمعت الغنائم خمّسها سعد، وقسّم ما بقى من الخمس والنّفل [4] بين الناس، وكانوا ستّين ألفا كلّهم فارس،

_ [1] من ص. [2] ابن الأثير: «ولبابه» . [3] الشليل: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل. [4] النفل بالفتح: الغنيمة.

أصاب كلّا منهم اثنا عشر ألفا، ونفّل من الأخماس فى أهل البلاء، وقسّم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم فى الدّور، فأقاموا بالمدائن؛ حتّى نزلوا إلى الكوفة بعد فراغهم من جلولاء، وتكريت، والموصل. قال: وأرسل سعد فى الخمس كلّ شىء يتعجّب منه العرب، وأراد أن يخرج خمس القطيف فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب نفوسكم بأربعة أخماسه، ونبعث به إلى أمير المؤمنين [يضعه] [1] حيث يشاء؟ قالوا: نعم، فبعث به إلى عمر. والقطيف: بساط واحد طوله ستّون ذراعا، وعرضه مثل ذلك مقدار جريب. كانت الأكاسرة إذا ذهبت الرّياحين بعد الشّتاء شربوا عليه، فكأنّهم فى رياض، فيه طرق كالقصور، وفصوص كالأنهار، أرضه مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدرّ، وفى حافاته كالأرض المزروعة والمبقلة بالنّبات والورق من الحرير على قضبان الذّهب، وأزهاره الذّهب والفضّة، وثماره الجوهر وأشباه ذلك. فلمّا وصل إلى عمر استشار المسلمين فيه، فأشاروا بقطعه، فقطّعه بينهم، فأصاب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، ولم تكن أجود من غيرها.

_ [1] زيادة من ابن الأثير.

ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان

ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان كانت [1] وقعة جلولاء فى أول ذى القعدة سنة ستّ عشرة، بينها وبين المدائن تسعة أشهر، وسببها أنّ الفرس لمّا هربوا من المدائن انتهوا إلى جلولاء، فافترقت الطّرق بأهل أذربيجان والباب، وأهل الجبال وفارس، فقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم فإن كانت لنا فهو الّذى نحبّ، وإن كانت الأخرى كنّا قد قضينا الّذى علينا، وأبلينا عذرا. فاجتمعوا واحتفروا خندقا، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان، فبلغ ذلك سعدا، فأرسل إلى عمر، فبعث إليه أن سرّح هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص إلى جلولاء، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين السّواد والجبل، وليكن الجند اثنى عشر ألفا. ففعل سعد ذلك. وسار هاشم من المدائن فى وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فمرّ ببابل مهروذ، فصالحه دهقانها؛ على أن يفرش له جريب الأرض دراهم ففعل، ثم قدم جلولاء فحاصرهم فى خنادقهم، وأحاط بهم، وطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا، وراجعهم المسلمون نحو ثمانين يوما، كلّ ذلك ينصر المسلمون

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 24 وما بعدها ابن الأثير 2: 361 وما بعدها.

عليهم، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران، ومن سعد إلى المسلمين. وخرج الفرس يوما فقاتلوا قتالا شديدا، وأرسل الله عليهم ريحا حتى أظلمت عليهم البلاد، فسقط فرسانهم فى الخندق، فجعلوا فيه طرقا تصعد منها خيلهم، ففسد الخندق، فنهض المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله، ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أعجل. وانتهى القعقاع من الوجه الذى زحف منه إلى باب الخندق، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله، فحملوا وهم لا يشكّون أنّ هاشما فى الخندق، فإذا هم بالقعقاع، فانهزم الفرس يمنة ويسرة، واتّبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلّا القليل، وقتل منهم يومئذ مائة ألف، فجلّلت القتلى المجال، وما بين يديه وما خلفه، فسميّت جلولاء بما جلّلها من قتلاهم [1] ، وسار القعقاع فى الطلب حتى بلغ خانقين، فأدرك مهران الرازىّ فقتله، وأدرك الفيرزان، فنزل وتوقّل [2] فى الجبل فنجا، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهنّ إلى هاشم فقسّمهنّ، فاستولدهنّ المسلمون، وممّن ينسب إلى ذلك السّبى أمّ الشّعبىّ. قال: ولمّا بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الرّىّ، واستخلف على حلوان خسرشنوم [3] ، فلمّا وصل القعقاع قصر

_ [1] بعدها فى ابن الأثير: «فهى جلولاء الوقيعة» . [2] وقل فى الجبل: صعد، كتوقل. [3] ابن الأثير: «خسر سنوم» .

شيرين خرج إليه خسرشنوم، وقدم إليه الزّينبىّ دهقان حلوان، فقتله القعقاع، وهرب خسرشنوم، واستولى المسلمون على حلوان، وكان فتحها فى ذى القعدة، وبقى القعقاع بها إلى أن تحوّل سعد إلى الكوفة، فلحقه، واستخلف على حلوان قباذ، وكان أصله خراسانيّا، وكتبوا إلى عمر بالفتح، واستأذنوه فى العبور فأبى، وقال: لوددت أنّ بين السّواد والجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الرّيف السّواد، إنّى آثرت سلامة المسلمين [على الأنفال] [1] . قال: وجمعت الغنائم وقسّمت بعد الخمس، فأصاب كلّ فارس تسعة آلاف، وتسعة من الدّوابّ، وقسّم الفىء على ثلاثين ألفا. وقيل: إنّ الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف، وبعث سعد بالخمس إلى عمر، وهو ستّة آلاف ألف، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه، فكلّمه عمر فيما جاء له، فوصفه له، فقال له عمر: هل تستطيع أن تقوم فى النّاس بمثل ما كلّمتنى؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك! فقام فى النّاس فتكلّم بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأنفون من من الانسياح فى البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا [بالفعال] [1] أطلقوا ألسنتنا.

_ [1] من ابن الأثير.

قال: ولمّا قدم الخمس على عمر قال: والله لا يجنّه سقف حتى أقسمه، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه فى المسجد، فلمّا أصبح عمر جاء فى النّاس فكشف عنه، فلمّا جاء ونظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال عبد الرحمن ابن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله انّ هذا لموطن شكر. فقال عمر: [والله ما ذاك يبكينى، وبالله] [1] ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلّا ألقى الله بأسهم بينهم. ومنع عمر رضى الله عنه من قسمة السّواد لتعذّر ذلك بسبب الآجام والغياض، ومفيض [2] المياه، وما كان لبيوت النّار، ولسكك البرد، وما كان لكسرى ومن معه، وخاف الفتنة بين المسلمين فلم يقسّمه، ومنع من بيعه، فلا يحلّ بيع شىء من أرض السّواد ما بين حلوان والقادسيّة. قال: واشترى جرير أرضا على شاطىء الفرات، فردّ عمر ذلك الشراء وكرهه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] من ابن الأثير. [2] ابن الأثير: «وتبعيض المياه» .

ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة

ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة قد اختلف المؤرّخون فى وقت ولايته البصرة، وهل كانت من قبل عمر بن الخطّاب أو من قبل سعد بن أبى وقّاص بأمر عمر. فأمّا من يقول: إنّ ولايته من قبل عمر، فإنّه جعلها فى سنة أربع عشرة، وأنّ نزوله البصرة كان فى شهر ربيع الأوّل أو الآخر، بعثه عمر إليها، وكان بالبصرة قطبة بن قتادة السّدوسىّ يغير بتلك النّواحى، كما يغير المثنّى بالحيرة، فكتب إلى عمر يعلمه مكانه؛ وأنه لو كان معه عدد يسير لظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجّه إليه شريح بن عامر أحد بنى سعد بن بكر، فأقبل إلى البصرة ونزل بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة الأعاجم، فقتلوه. فبعث عمر عتبة بن غزوان، وقال له: إنّى قد استعملتك على أرض الهند وهى حومة من حومات العدوّ، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، ويعينك عليها. وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمىّ أن يمدّك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وادع إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبى فالجزية، وإلّا فالسّيف، وأوصاه ثم قال له: انطلق أنت ومن معك؛ حتى إذا كنتم فى [أقصى] [1] أرض العرب، وأدنى أرض العجم فأقيموا.

_ [1] من ص.

فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد [1] تقدّموا حتّى بلغوا حيال الجسر، فنزلوا، فبلغ صاحب الفرات خبرهم، فأقبل فى أربعة آلاف، فالتقوا فقاتلهم، عتبة بعد الزّوال وهو فى خمسمائة، فقتلهم أجمعين، ولم يبق إلّا صاحب الفرات، فأخذ أسيرا. وأمّا من يقول: إنّ سعد بن أبى وقّاص أرسله، فقال: إنّ البصرة مصّرت فى سنة ستّ عشرة بعد جلولاء وتكريت، فأرسله سعد إليها بأمر عمر، وإنّ عتبة لمّا نزل البصرة أقام بها نحو شهر، فخرج إليه أهل الأبلّة، وكان بها خمسمائة أسوار [2] يحمونها، وكانت مرفأ السّفن من الصّين، فقاتلهم عتبة فهزمهم؛ حتّى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، وألقى الله الرّعب فى قلوب الفرس، فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خفّ، وعبروا الماء، وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون وأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا، فاقتسموه بعد أن خمّسه عتبة، وكان المسلمون ثلاثمائة، وكان فتحها فى شهر رجب أو شعبان، ثم نزل موضع مدينة الرّزق، وخطّ موضع المسجد، وبناه بالقصب. وكان أوّل مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبى بكرة، فلمّا ولد نحر أبوه جزورا فكفتهم لقلّة الناس، ثم جمع الله أهل دستميسان، فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر مع أنس بن حجيّة. فقال له عمر: كيف النّاس؟ فقال: انهالت عليهم الدّنيا، فهم يهيلون الذّهب والفضّة، فرغّب النّاس فى البصرة فأتوها، واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيّرهم إلى

_ [1] المربد: سوق بالبصرة. [2] الأسوار، بضم الهمزة، الفارس من فرسان العجم، وجمعه أساورة.

ذكر فتح تكريت والموصل

الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصّلاة؛ إلى أن يقدم مجاشع فإذا قدم فهو الأمير. وسار عتبة إلى عمر، فطفر مجاشع بأهل الفرات. وجمع الفيلكان (عظيم من الفرس) ، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب فاقتتلوا. فقال نساء المسلمين: لو لحقنا بهم، فكنّا معهم؛ فاتّخذن من خمرهنّ رايات، وسرن إلى المسلمين. وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت بالبصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود. قال: أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر! وأخبره ما كان من المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات بالطّريق. وقيل فى وفاته غير ذلك: وكان ممّن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى، وأرطبان جدّ عبد الله بن عون بن أرطبان. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ذكر فتح تكريت والموصل وفى [1] سنة ستّ عشرة فى جمادى فتحت تكريت؛ وذلك أنّ الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت، وخندق عليه ليحمى أرضه ومعه الرّوم وإياد، وتغلب، والنّمر، والشّهارجة، فبلغ ذلك سعدا فكتب إلى عمر، فأمره: أن سرّح عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة.

_ [1] ابن الأثير 2: 364.

فسار عبد الله إلى تكريت، وحصر الأنطاق ومن معه أربعين يوما، وتزاحفوا فى المدّة أربعة وعشرين زحفا، ثم أرسل عبد الله إلى العرب الّذين مع الأنطاق يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، وأعلموا أنّ الرّوم قد نقلوا متاعهم إلى السّفن، فأرسل إليهم: إذا سمعتم التكبير فاعلموا أنّا على أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التى تلى دجلة، وكبّروا، واقتلوا من قدرتم عليه، ففعلوا ذلك، وأخذت الرّوم السيوف من كلّ جانب. وأرسل عبد الله ربعىّ بن أفكل إلى الحصنين وهما نينوى وهو الحصن الشّرقىّ، والموصل وهو الحصن الغربىّ، وقال: اسبق الخبر، وسرّح معه تغلب، وإياد، والنّمر، فأظهروا الظّفر والغنيمة، وبشروهم، ووقفوا بالأبواب. وأقبل ابن الأفكل فاقتحم الحصن فسألوا الصّلح، وصاروا ذمّة، وقسّمت الغنيمة، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الرّاجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس إلى عمر، وولّى الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة. وقيل: إنّ فتح الموصل كان فى سنة عشرين لمّا استعمل عمر عتبة بن فرقد لقصدها، وأنه فتح المرج، وبانهذرا، وباعذرا، وحبتون، وداسن وجميع معاقل الأكراد، وقردى وبازبدى، وجميع أعمال الموصل. وقيل: إنّ عياض بن غنم لمّا فتح بلد أتى الموصل ففتح أحد الحصنين، وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر، ففتحه على الجزية والخراج، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ذكر فتح ما سيذان

ذكر فتح ما سيذان لما [1] رجع هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص من جلولاء إلى المدائن بلغ سعدا أنّ آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا وخرج بهم إلى السّهل، فأرسل إليهم ضرار بن الخطّاب فى جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان واقتتلوا، فأسرع المسلمون فى المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيرا فقتله، ثم خرج فى الطّلب حتى انتهى إلى السّيروان، فأخذ ماسبذان عنوة، وهرب أهلها فى الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحوّل سعد إلى الكوفة، فسار إليه، واستخلف على ماسبذان ابن الهذيل الأسدىّ، فكانت أحد فروج الكوفة. وقيل: إنّ فتحها كان بعد وقعة نهاوند، والله أعلم. ذكر فتح قرقيسيا وفى [2] سنة ستّ عشرة أيضا، أرسل سعد بن أبى وقّاص عمر بن مالك بن عتبة فى جند، وجعل على مقدّمته الحارث بن يزيد العامرىّ، فخرج نحو هيت، فنازل من بها، وقد خندقوا عليهم، وكان أهل الجزيرة لمّا أمدّوا هرقل على أهل حمص كما ذكرنا، بعثوا جندا إلى أهل هيت، فلمّا رأى عمر اعتصامهم بخندقهم، ترك الأخبية على حالها، وخلّف عليهم الحارث [3] فى نصف النّاس،

_ [1] ابن الأثير 2: 366. [2] تاريخ ابن الأثير 2: 366. [3] ابن الأثير: «الحارث بن يزيد» .

ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى

وسار بالنّصف الثانى إلى قرقيسيا، فجاءها على غرّة فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزية. وكتب إلى الحارث: إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا وإلا خندق على خندقهم خندقا، واجعل أبوابه ممّا يليك حتى أرى رأيى. فراسلهم، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى وفى [1] سنة سبع عشرة فتحت الأهواز، ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كان فى سنة ستّ عشرة [2] ، وكان سبب هذا الفتح: أنّ الهرمزان، وهو أحد البيوتات السّبعة من أهل فارس لمّا انهزم يوم القادسيّة قصد خوزستان فملكها، وكان يغير على أهل بيسان، ودستميسان من مناذر، ونهر تيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان أمير البصرة سعدا، فأمدّه بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجّه عتبة بن غزوان سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة- وكانا من المهاجرين- فنزلا على حدود ميسان، ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بنى العمّ، فخرج إليهما غالب الوائلىّ، وكليب ابن وائل والكليبىّ، تواعدوا فى يوم، أنّ سلمى وحرملة يخرجان إلى الهرمزان، وأنّ غالبا وكليبا يثور أحدهما بمناذر، والآخر بنهر تيرى،

_ [1] تاريخ ابن الأثير 2: 379 وما بعدها. [2] ابن الأثير: «وقيل سنة عشرين» .

فلمّا: كان فى ليلة الموعد خرج سلمى وحرملة صبيحتها، وأنهضا نعيما ومن معه، والتقوا هم والهم مزان بين دلث ونهر تيرى، واقتتلوا؛ فبينما هم على ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهر تيرى، فانهزم بمن معه، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا، واتّبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بجبال سوق الأهواز، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين، فعندها طلب الهرمزان الصّلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز؛ فإنه لا يردّ عليهم، وجعل عتبة سلمى بن القين على مناذر مسلحة، وأمرها إلى غالب، وجعل حرملة على نهر تيرى، وأمرها إلى كليب، فكان سلمى وحرملة على مسالح البصرة، ثم وقع بين غالب وكليب وبين الهرمزان اختلاف فى حدود الأرضين، فحضر سلمى وحرملة لينظرا [1] فيما بينهم، فوجدا [2] الحقّ بيد غالب وكليب فحالا [3] بينه وبينهما، فكفر الهرمزان ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد وكثف [جنده] [4] . فكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب إلى عمر فأمره بقصده، وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السّعدىّ، وكانت له صحبة، وأمّره على القتال، وما غلب عليه.

_ [1] ك، ص: «لينظروا؛» والصواب ما أثبته من ابن الأثير. [2] ك: «فوجدوا» . [3] ك: «فجالا» بالجيم. [4] من ابن الأثير.

ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين

وسار الهرمزان ومن معه، وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: [إمّا] [1] أن تعبر إلينا أو نعبر إليك. قال: اعبروا إلينا، فعبروا فوق الجسر، واقتتلوا ممّا يلى سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها، واتّسقت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وبعث إليه بالأخماس. ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين ولما [2] انهزم الهرمزان من سوق الأهواز، جهّز حرقوص جزء ابن معاوية فى أثره، فاتّبعه وقتل من أصحابه حتى انتهى إلى قرية الشغر، فأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهى مدينة سرّق، فأخذها صافية، ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه. وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إليه وإلى حرقوص بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمّر جزء البلاد، وشقّ الأنهار، وأحيا الموات، وراسلهم الهرمزان فى طلب الصّلح، فأجاب عمر إلى ذلك، وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، فاصطلحوا على ذلك. ونزل حرقوص جبل الأهواز، فشقّ على النّاس الاختلاف إليه،

_ [1] من ص. [2] ابن الأثير 2: 382.

ذكر فتح رامهرمز

فبلغ ذلك عمر، فأمره بنزول السّهل، وألا يشقّ على مسلم ولا معاهد، وبقى حرقوص إلى يوم صفّين، ثم صار حروريّا وشهد النّهروان مع الخوارج. والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر فتح رامهرمز قد [1] اختلف النّاس فى وقت هذا الفتح، فقيل: كان فى سنة سبع عشرة. وقيل: سنة تسع عشرة. وقيل: فى سنة عشرين. وكان سببه أن يزدجرد وهو بمرو لم يزل يثير أهل فارس، أسفا على ما خرج من ملكهم، فتحرّكوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النّصرة، فنمى الخبر إلى حرقوص بن زهير، وجزء وسّلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بذلك. فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النّعمان ابن مقرّن وعجّل، فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحقّقوا أمره. وكتب إلى أبى موسى الأشعرى، وهو على البصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمّر عليهم سهل بن عدىّ، أخا سهيل، وابعث معه البراء بن مالك وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم. فخرج النّعمان بن مقرّن فى أهل الكوفة، وسار إلى الأهواز على

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 83، ابن الأثير 2: 382.

البغال، يجنبون [1] الخيل، فخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلمّا سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه، بادر رجاء أن يقتطعه، فالتقيا بأربك (موضع عند الأهواز) ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله عزّ وجلّ الهرمزان، فترك رامهرمز، ونزل تستر، وسار النعمان إلى رامهرمز فنزلها وصعد على إيذج [2] فصالحه تيرويه عليها ورجع إلى رامهرمز، وأقام بها، ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز. فأتاهم خبر الوقعة ومسير الهرمزان إلى تستر، فساروا نحوه، وسار أيضا النّعمان وحرقوص وسلمى وحرملة وجزء، فاجتمعوا على تستر، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز، وهم فى الخنادق، وأمدّهم عمر رضى الله عنه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعله على أهل البصرة، وعلى جميع النّاس أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فى هذا الحصار مائة مبارز سوى من قتل فى غير المبارزة، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور، وزاحفهم المسلمون [3] أيام تستر ثمانين زحفا يكون مرّة لهم ومرّة عليهم، فلمّا كان آخر زحف فيها، واشتدّ القتال، قال المسلمون: يا براء، اقسم على ربّك ليهزمنّهم، وكان مجاب الدّعوة فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى، فهزموهم حتى أدخلوهم

_ [1] يقال: جنب الدابة إذا قادها إلى جنبه. [2] الطبرى: «ثم صعد لا يذج» . [3] الطبرى: «المشركون» .

خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، فدخلوا مدينتهم [1] ، وأحاط بها المسلمون، فضاقت المدينة بهم. فبينما هم كذلك إذ خرج إلى النعمان رجل يستأمنه على أن يدلّه على مدخل يدخلون منه، ورمى فى ناحية أبى موسى بسهم مكتوب عليه: إن أمّنتمونى دللتكم على مكان تأتون منه المدينة، فأمّنوه فى سهم، ورمى إليهم بسهم آخر وقال: اسلكوا من قبل مخرج الماء؛ فإنّكم ستفتحونها. فندب أبو موسى النّاس فانتدبوا، وندب النّعمان أصحابه مع الرّجل الّذى جاءهم، فالتقوا هم وأهل البصرة على مخرج الماء، فدخلوا فى السّرب، ولمّا دخلوا المدينة كبّروا وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل. وقصد الهرمزان القلعة، فتحصّن بها، ولحق به جماعة، وطاف به الّذين دخلوا البلد، فنزل إليهم على حكم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان قسم الفارس ثلاثة آلاف، والرّاجل ألفا. وجاء صاحب السّهم والرّجل الذى خرج بنفسه فأمّنوهما، ومن أغلق بابه معهما. وخرج أبو سبرة فى أثر المنهزمين إلى السّوس، فنزل عليها، ومعه النّعمان وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر، فكتب بردّ أبى موسى إلى البصرة، فانصرف إليها، وأرسل أبو سبرة وفدا إلى عمر رضى الله عنه، فيهم: أنس بن مالك والأحنف بن قيس، ومعهم

_ [1] الطبرى: «وأرزوا إلى مدينتهم» .

الهرمزان فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الدّيباج المذهب، وتاجه كان مكلّلا بالياقوت و [عليه] [1] حليته؛ ليراه عمر والمسلمون. فوجدوا عمر فى المسجد متوسّدا برنسه، وكان قد لبسه لوفد قدم عليه من الكوفة، فلمّا انصرفوا توسّده ونام، فجلسوا وهو نائم والدّرة فى يده. فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، فقال: أين حرسه وحجّابه؟ فقالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. فقال: ينبغى أن يكون نبيّا، قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء [وكثر الناس] [1] . فاستيقظ عمر واستوى جالسا، ثم نظر إليه، وقال: ألهرمزان؟ قالوا: نعم، فقال: الحمد لله الذى أذلّ بالإسلام هذا وأشباهه، فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوبا صفيقا [2] . فقال له عمر: كيف رأيت عاقبة الغدر، وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنّا وإيّاكم فى الجاهليّة، كان الله قد خلّى بيننا وبينكم [فغلبناكم] ، [3] فلمّا كان الأمر معكم غلبتمونا. ثم قال له عمر: ما حجّتك وما عذرك فى انتقاضك مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء، فأتى به فى قدح غليظ. فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا، فأتى به فى

_ [1] من تاريخ الطبرى. [2] ثوب صفيق: ثخين كثير الغزل، ضد السخيف. [3] تكملة من ص.

ذكر فتح السوس

إناء يرضاه. فقال: إنّى أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال له عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه؛ فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لى فى الماء؛ وإنما أردت أن أستأمن به. قال: فإنّى قاتلك، قال: قد أمّنتنى. قال: كذبت، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمّنته. فقال: يا أنس، أنا أؤمّن قاتل مجزأة ابن ثور والبراء بن مالك! وكان الهرمزان قتلهما بيده فى هذه الوقعة، ثم قال: والله لتأتينّى بمخرج أو لأعاقبنّك، قال: قد قلت لا بأس عليك حتى تخبرنى وحتى تشرب، فقال عمر رضى الله عنه: خدعتنى، والله لا أنخدع إلّا أن تسلم، فأسلم، ففرض له فى ألفين فى كلّ سنة، وأنزله المدينة. والله أعلم. ذكر فتح السوس ولما [1] نزل أبو سبرة على السّوس فى سنة سبع عشرة بعد فتح تستر كان بها شهريار أخو الهرمزان، فأحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرّات، كل ذلك يصيب أهل السوس فى المسلمين، فأشرف عليهم الرّهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ ممّا عهد إلينا علماؤنا أنّ السّوس لا يفتحها إلّا الدّجّال، أو قوم فيهم الدّجّال، فإن كان فيكم فستفتحونها، وكان صاف بن صيّاد مع المسلمين فى خيل النّعمان. ثم ناوش أهلها المسلمين مرّة، وصاحوا بهم

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 89 وما بعدها، تاريخ ابن الأثير 2: 386 وما بعدها.

ذكر مصالحة جنديسابور

وغاظوهم، فأتى صاف باب السّوس فدقّه برجله، فقال: انفتح، وهو غضبان فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، وألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصّلح الصّلح! فأجابهم المسلمون إلى ذلك بعد أن دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا، ثم افترقوا. فسار النعمان حتى أتى أهل نهاوند، وكان كتاب عمر قد ورد بصرفه إليها لمّا تجمّعت الأعاجم بها، وسار المقترب، فنزل على جنديسابور. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر مصالحة جنديسابور قال [1] : وسار المسلمون عن السّوس فى سنة سبع عشرة، فنزلوا جنديسابور وزرّ [2] بن عبد الله يحاصرهم، فأقاموا بها، فلم يفجأ النّاس إلّا وقد فتحت الأبواب، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: أرسلتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية [على أن تمنعونا] [3] فقالوا: ما فعلنا، فإذا عبد يدعى مكنفا [4] كان أصله منها، فعل هذا، فقال المسلمون: هو عبد؟ قالوا: نعم، قالوا: نحن لا نعرف العبد من الحرّ، فإن شئتم فاغدروا، فكتبوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأجاز ذلك، وانصرفوا عنهم. والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] ابن الأثير 2: 387. [2] ابن الأثير: «ربن» . [3] من ص وابن الأثير. [4] ابن الأثير: «مكثفا» .

ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس

ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس وفى سنة سبع عشرة أذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فى الانسياج فى بلاد الفرس، وكان سبب ذلك أنّ عمر لما أتى بالهرمزان قال للوفد: لعلّ المسلمين يؤذون أهل الذّمّة، فلهذا ينتقضون بكم! قالوا: ما نعلم لا وفاء. قال: فكيف هذا! فلم يشفه أحد، قال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إنّك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد، وإنّ ملك فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا مادام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شىء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأنّ ملكهم هو الذى يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم، ونزيل ملكهم، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتنى والله، ورجع إلى قوله، وانتهى إلى رأيه، وأذن للمسلمين فى الانسياح. فأمر أبا موسى الأشعرىّ أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة، فيكون هنالك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولّاه مع سهيل بن عدىّ، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرّة وسابور إلى مجاشع بن مسعود السّلمىّ، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبى العاص الثّقفى ولواء فساودرا بجرد إلى سارية ابن زنيم الكنانىّ، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان، إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التّغلبىّ، فخرجوا ولم يتهيّأ مسيرهم إلى سنة ثمانى عشرة، وأمدّهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن

ذكر غزوة فارس من البحرين

عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة بن النّضر وبعبد الله بن عقيل وبربعىّ بن عامر، وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعىّ، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق. وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لفتوح هذه الجهات والمسير إليها، والله تعالى أعلم. ذكر غزوة فارس من البحرين كانت هذه الغزوة فى سنة سبع عشرة، وكان عمر رضى الله عنه يقول لمّا أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه، ولا يصلون إلينا. وكان العلاء بن الحضرمىّ على البحرين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه فعزله عمر، ثم أعاده، وكان يناوئ سعد بن أبى وقّاص، ففاز العلاء فى قتال أهل الرّدّة بالفضل، فلمّا ظفر سعد بأهل القادسيّة، وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم ممّا فعله العلاء. فأراد العلاء أن يصنع فى الفرس شيئا، فلم ينظر فى الطاعة والمعصية بجدّ، وكان عمر رضى الله عنه نهاه وغيره عن الغزو فى البحر. فندب العلاء الناس إلى فارس، فأجابوه، وفرّقهم جندا، فجعل على أحدها الجارود بن المعلّى، وعلى الآخر سوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع النّاس، وحملهم فى البحر إلى فارس، فخرجوا من البحر إلى إصطخر، وبإزائهم أهل

ذكر وقعة نهاوند وفتحها

فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فاقتتلوا قتالا شديدا بمكان يدعى طاوس، فقتل ابن السّوّار والجارود، وكان خليد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، فقتلوا من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة، ولم يجدوا فى الرجوع إلى البحر سبيلا، وأخذت الفرس عليهم طريقهم، فعسكروا وامتنعوا. فلمّا بلغ عمر ما صنع العلاء، أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: إنّى قد ألقى فى روعى كذا وكذا، نحو الّذى وقع، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، وهو تأمير سعد عليه. فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة اثنى عشر ألف مقاتل، فيهم: عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة والأحنف ابن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم حتى التقى بخليد، وتوالت الأمداد، ففتح الله على المسلمين، وأصابوا من المشركين ما شاءوا. والله تعالى أعلم. ذكر وقعة نهاوند وفتحها كانت [1] هذه الوقعة فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة تسع عشرة. وكان الذى هيّج أمر نهاوند أنّ المسلمين لمّا خلّصوا جند العلاء، وفتحوا الأهواز، كاتب الفرس ملكهم، وهو بمرو، وحرّكوه،

_ [1] ابن الأثير 3: 2 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 4: 114 وما بعدها.

فكاتب الملوك ما بين الباب والسّند وخراسان وحلوان، فاجتمعوا بنهاوند، ولمّا وصلها أوائلهم بلغ سعدا الخبر، فكتب به إلى عمر؛ وثار بسعد أقوام ووشوا به، وألّبوا عليه، وسعوا إلى عمر ولم يشغلهم ما نزل بالنّاس عنه. فقال عمر: والله لا يمنعنى ما نزل بكم من النّظر فيما لديكم، وكان من عزل سعد ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين. وقدم سعد على عمر، وقد استخلف على الكوفة عبد الله بن عبد الله عتبان، فأقرّه عمر. قال: ونفرت ملوك الأعاجم لكتاب يزدجرد، واجتمعوا بنهاوند على الفيرزان فى خمسين ومائة ألف مقاتل. وكان سعد قد كاتب عمر بالخبر كما ذكرنا، ثم شافهه به لمّا قدم عليه، وقال له: إنّ أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح، وأن يبدءوهم ليكون أهيب لهم على عدوّهم. فجمع عمر النّاس واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه، فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين، ثم أستنفرهم فأكون لهم ردءا؛ حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحبّ؛ فإنّ فتح الله تعالى عليهم صببتهم فى بلدانهم. فقال له طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين، قد أعلمتك الأمور، وعجمتك البلايا [1] ، واحتنكتك التّجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو فى يديك، ولا نكلّ عليك، إليك هذا الأمر،

_ [1] ابن الأثير: «البلابل» .

فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، وقدنا ننقذ؛ فإنّك ولىّ هذا الأمر؛ وقد بلوت وجرّبت واختبرت، فلم ينكشف شىء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. ثم عاد فجلس. فعاد عمر لمقالته، فقام عثمان بن عفّان رضى الله عنه، فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشّام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين؛ فإنّك إذا سرت [1] قلّ عندك ما قد تكاثر من عدد القوم. وقد كنت أعزّ عزا، وأكثر. يا أمير المؤمنين إنّك لا تستبقى بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام، فاشهده برأيك وأعوانك، ولا تغب عنه. وجلس. فعاد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمقالته، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: أمّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنّك إن أشخصت أهل الشّام من شامهم، سارت الرّوم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها، وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهمّ إليك ممّا بين يديك من العورات، والعيالات. [أقرر هؤلاء] [2] فى أمصارهم، واكتب لأهل

_ [1] ابن الأثير: «إذا سرت بمن معك» . [2] من ابن الأثير.

البصرة أن يتفرّقوا ثلاث فرق، فرقة فى حرمهم وذراريّهم، وفرقة فى أهل عهدهم؛ حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك قالوا: هذا أمير العرب فى أصلها، فكان ذلك أشدّ لكلبهم [1] عليك. وأمّا ما ذكرت من مسير القوم فالله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما تكره. وأمّا عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة؛ ولكن بالنصر. فقال عمر: هذا هو الرأى، وكنت أحبّ أن أتابع عليه. وقيل: إنّ طلحة وعثمان أشارا عليه بالمقام، والله تعالى أعلم. ثم قال عمر: أشيروا علىّ برجل أولّيه ذلك الثّغر، وليكن عراقيّا. فقالوا: أنت أعلم بجندك، وقد وفدوا عليك. فقال: والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكونّن أوّل الأسنّة إذا لقيها غدا. فقيل: من هو؟ قال: النّعمان بن مقرّن المزنىّ. فقالوا: هو لها. وكان النّعمان يومئذ معه جمع من أهل الكوفة قد افتتحوا جنديسابور والسّوس كما قدّمنا، فكتب إليه عمر رضى الله عنه يأمره بالمسير إلى ماه، فيجمع [2] الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل: بل كان النّعمان بكسكر، فسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين، فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار، وكتب عمر

_ [1] ك: «لكلمتهم» . [2] ابن الأثير: «لتجتمع» .

إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر [1] الناس مع النّعمان. فندب النّاس، فخرجوا وعليهم حذيفة بن اليمان، ومعه نعيم ابن مقرّن، فقدموا على النّعمان، وتقدّم عمر إلى الجند الّذين كانوا بالأهواز أن يشغلوا الفرس عن المسلمين، وعليهم المقترب، وحرملة، وورقاء، فأقاموا بتخوم أصفهان، وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع النّاس على النّعمان، وفيهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وجرير بن عبد الله البجلىّ والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. فرحل [النّعمان] [2] وعبّى أصحابه وهم ثلاثون ألفا، فجعل على مقدّمته نعيم بن مقرّن، وعلى مجنّبته حذيفة وسويد بن مقرّن، وعلى المجرّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى الأسبيذهان، والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنّبته الزردق ويهمن جاذويه، وقد توافى إليه بنهاوند كلّ من غاب عن القادسيّة. فلمّا رآهم النعمان كبّر وكبّر معه النّاس، فتزلزلت الأعاجم، وحطّت العرب الأثقال، وضرب فسطاط النّعمان، فابتدره أصحاب الكوفة، من كان من أشرافها، فضربوه، منهم: حذيفة ابن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصيّة، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والأشعث بن قيس الكندى وسعيد بن قيس الهمدانىّ، ووائل

_ [1] ابن الأثير: «ليستنفر» . [2] من ص.

ابن حجر وغيرهم، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النّعمان القتال بعد حطّ الأثقال فاقتتلوا يومى الأربعاء والخميس، والحرب بينهم سجال، ثم انجحروا فى خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار إن شاءوا خرجوا، وإن شاءوا أقاموا، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم؛ حتى إذا كان يوم الجمعة تجمّع أهل الرأى من المسلمين، وقالوا: نراهم علينا بالخيار، وأتوا النعمان فى ذلك، وهو يروّى فى الّذى رأوا فيه، فأخبروه، فبعث إلى من بقى من أهل النّجدات والرأى، فأحضرهم، وقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم، وأنّهم لا يخرجون إلينا إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الّذى فيه المسلمون من التّضايق، فما الرأى الذى به نستخرجهم إلى المناجزة، وترك التطويل؟ فتكلّم عمرو بن ثبىّ، وكان أكبر النّاس [يومئذ سنّا] [1] ، وكانوا يتكلّمون على الأسنان، فقال: التّحصّن عليهم أشدّ من المطاولة عليكم، فدعهم وقاتل من أتاك منهم، فردّوا عليه رأيه [جميعا] [2] . وتكلّم عمرو بن معدى كرب فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم، فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: إنّما تناطح بنا الجدران، وهى أعوان علينا.

_ [1] من ابن الأثير. [2] من ابن الأثير.

فقال طليحة بن خويلد الأسدىّ: أرى أن تبعث خيلا مؤدية لينشبوا القتال، فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا إلينا. فقاتلناهم حتّى يقضى الله فيهم وفينا ما أحبّ، فأمر [النعمان] القعقاع بن عمرو، وكان على المجرّدة، فأنشب القتال، وأخرجهم من خنادقهم كأنّهم جبال من حديد، وقد تواثقوا [1] ألّا يفرّوا وقرن بعضهم ببعض، كلّ سبعة فى قران، وألقوا حسبك الحديد بينهم؛ لئلّا ينهزموا، فلمّا خرجوا نكص القعقاع، فاغتنمتها الأعاجم ففعلوا كما ظنّ طليحة. وقالوا: هى هى. ولحق القعقاع بالنّاس، وانقطع الفرس عن حصنهم، وأمر النّعمان أصحابه أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا، واستتروا بالحجف [2] من الرّمى، وأقبل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح، والنّعّمان ينتظر بالقتال أحبّ السّاعات كانت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وذلك عند الزّوال، فلمّا كان قريبا من تلك الساعة ركب النّعمان فرسه، وسار فى النّاس يحرّضهم على القتال، ويذكّرهم ويمنّيهم الظّفر، وقال: إنّى مكبّر ثلاثا، فإذا كبّرت الثالثة فإنّى حامل، فاحملوا، فإن قتلت فالأمير بعدى حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم قال: اللهمّ أعزز دينك بنصر عبادك. وقيل: بل قال: اللهمّ إنّى أسألك أن تقرّ عينى اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، واقبضنى شهيدا.

_ [1] ابن الأثير: «توافقوا» . [2] الحجف: التروس من جلود بلا خشب.

فبكى النّاس ثم رجع إلى موقفه، فكبّر ثلاثا، والنّاس سامعون مطيعون مستعدّون للقتال، وحمل وحمل النّاس، وانقضّت رايته نحوهم انقضاض العقاب، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بوقعة كانت أشدّ منها، وصبر المسلمون صبرا عظيما، وانهزم الأعاجم، وقتل منهم ما بين الزّوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة حتى زلق النّاس والدّوابّ فى الدماء، فلمّا أقرّ الله عين النّعمان بالفتح استشهد، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمى بسهم فى خاصرته فمات، فسجّاه أخوه نعيم بن مقرّن بثوب، وأخذ الرّاية وناولها حذيفة، وتقدّم إلى موضع النّعمان. وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم، لئلا يهن الناس، ودام القتال فى الفرس حتى أظلم اللّيل، فانهزموا، ولزمهم المسلمون وعمى عليهم قصدهم، فأخذوا نحو اللهب [1] الّذى كانوا دونه، فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستّة، بعضهم على بعض فى قياد واحد فيقتلون جميعا، وعقرهم حسك الحديد، فمات منهم فى اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل منهم فى المعركة. وقيل: قتل فى اللهب ثمانون ألفا، وفى المعركة ثلاثون ألفا سوى من قتل فى الطّلب، ولم يفلت [2] إلّا الشّريد، ونجا الفيرزان من الصّرعى، فهرب نحو همذان، واتّبعه [3] نعيم بن مقرّن، وقدم

_ [1] اللهب: شق فى الجبل. [2] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: «لم يقتل» . [3] ابن الأثير: «فاتبعه» .

القعقاع أمامه، فأدركه بثنيّة همذن، وهى إذ ذاك مشحونة من بغال وحمر موقرة عسلا. فحبسه الدّوابّ [1] فلمّا لم يجد طريقا نزل عن دابّته، وصعد فى الجبل، فأدركه القعقاع، فقتله المسلمون على الثّنيّة، وقالوا: إنّ لله جنودا منها العسل، واستاقوا تلك الدّوابّ بأحمالها، وسمّيت الثّنيّة ثنيّة العسل، ودخل المنهزمون همذان، والمسلمون فى آثارهم، فنزلوا عليها، وأخذوا ما جولها، فلمّا رأى ذلك خسر شنوم استأمتهم. ولمّا تمّ الظّفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النّعمان، فقال لهم أخوه معقل: قد أقرّ الله عينه [بالفتح] [2] وختم له بالشّهادة، فاتّبعوا حذيفة، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة [بعد الهزيمة] [2] واحتووا على ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوه إلى صاحب الأقباض، وهو السائب بن الأقرع. وانتظروا إخوانهم الّذين على همذان مع نعيم والقعقاع، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النّار، وقال لحذيفة، أتؤمّننى ومن شئت، على أن أخرج لك ذخيرة لكسرى تركت عندى لنوائب الزّمان؟ قال نعم، فأحضر جوهرا نفيسا فى سفطين، فأرسلوهما [3] مع الأخماس إلى عمر رضى الله عنه بعد أن نفّل حذيفة منها، وأرسل ما بقى [4] مع السائب بن الأقرع الثّقفىّ.

_ [1] بعدها فى ابن الأثير: على أجله» . [2] من ابن الأثير. [3] ابن الأثير: «فأرسلهما» . [4] ابن الأثير: «البافى» .

قال السائب: فلمّا فرغت القسمة احتملت السّفطين، وجئت بهما إلى عمر، فإذا هو قد خرج يتوقّع الأخبار، وكان قد رأى الواقعة فبات يتململ، فقال ما وراءك؟ فقلت: فتح الله على المسلمين، واستشهد النّعمان بن مقّرن، فأعظم الفتح، واسترجع على النّعمان وبكى حتى نشج [1] ، ثمّ أخبرته بالسّفطين فقال لى: أدخلهما بيت المال حتّى ننظر فى شأنهما، والحق بجندك. قال: ففعلت، وخرجت مسرعا إلى الكوفة، وبات عمر، فلمّا أصبح بعث فى أثرى رسولا، فما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيرى، وأناخ بعيره على عرقوب بعيرى، وقال، الحق بأمير المؤمنين. قال: فركبت معه، وقدمت على عمر، فلمّا رآنى قال: مالى وللسائب! قلت: وماذا؟ قال: ويحك، والله ما هو إلّا أن نمت اللّيلة التى خرجت فيها، فأتت الملائكة تستحثّنى إلى السّفطين يشتعلان نارا، يقولون، لنكوينّك بهما، فأقول: إنى سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عنّى فبعهما فى أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما فى مسجد الكوفة، فابتاعهما منّى عمرو بن حريث المخزومىّ بألفى ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا. قال: وكان سهم الفارس بنهاوند ستّة آلاف، والرّاجل ألفين.

_ [1] نشج الباكى: غص بالبكاء من غير انتحاب.

ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما

ولمّا قدم سبى نهاوند المدينة، جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلّا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدى، وكان من نهاوند، فأسرته الرّوم، وأسره المسلمون. وكان المسلمون يسمّون [فتح] [1] نهاوند فتح الفتوح؛ لأنّه لم يكن للفرس بعده اجتماع، وملك المسلمون بلادهم. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده. ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما لما [2] انصرف أبو موسى الأشعرىّ من نهاوند، وكان قد جاء مددا على بعث أهل البصرة، فمرّ بالدّينور، فأقام عليها خمسة أيّام، وصالحه أهلها على الجزية، ومضى، فصالحه أهل الشّيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب الأقرع إلى الصّيمرة وهى مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحا، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمّد. ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما لما [3] انهزم المشركون من نهاوند دخل من سلم منهم همذان، فحاصرهم نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو، فلمّا رأى ذلك خسرشنوم استأمنهم، وقبل الجزية على أن يضمن همذان ودستبى، وألّا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وأمّنوه هو ومن معه

_ [1] من ص. [2] ابن الأثير 3: 7. [3] ابن الأثير 3: 7.

من الفرس، وأقبل كلّ من كان هرب، وبلغ الخبر أهل الماهين، فاقتدوا بخسرشنوم، وراسلوا حذيفة، فأجابهم، ودخل ماه دينار، وبهراذان على مثل ذلك. وكان قد وكّل النّسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم، فحاصرهم وافتتحها، فنسبت إلى النّسير. ولمّا رجع نعيم والقعقاع، كفر أهل همذان مع خسرشنوم، فخرج نعيم بن مقرّن إليها فى سنة اثنتين وعشرين، واستولى على جميع بلادها وحاصرها، فسأله أهلها الصلح ففعل، وفتحها الثانية، وقبل منهم الجزية. وقيل إن فتحها كان فى سنة أربع وعشرين، بعد وفاة عمر بستّة أشهر. والله أعلم. قال: وبينما نعيم بهمذان فى الفتح الثّانى، وهو فى اثنى عشر ألفا من الجند، فكاتب الديلم، وأهل الرّىّ، وأذربيجان، إذ خرج موتى فى الدّيلم، ونزل بواج الرّوذ، وأقبل الزّينبىّ أبو الفرّخان فى أهل الرّىّ وأقبل إسفنديار أخو رستم فى أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصّن منهم أمراء المسالح، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذانىّ، وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج الرّوذ قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدل وقعة نهاوند، فانهزم الفرس أقبح هزيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأرسل نعيم إلى عمر بقصد الرّىّ، وقتال من بها، والمقام بها بعد فتحها. وقيل: إنّ المغيرة بن شعبة، وهو عامل الكوفة أرسل جرير ابن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها، وأصيب بسهم فى عينه، فقال: أحتسبها عند الله الّذى زيّن بها وجهى.

ذكر فتح أصبهان وقم وكاشان

وقيل: كان فتحها على يد المغيرة نفسه. وقيل: فتحها قرظة ابن كعب الأنصارىّ رضى الله عنه، والله تعالى أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل. ذكر فتح أصبهان وقم وكاشان وفى [1] سنة إحدى وعشرين بعث عمر رضى الله عنه عبد الله ابن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان شجاعا من أشراف الصّحابة، ووجوه الأنصار، وأمدّه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعل على مجنّبتيه عبد الله بن ورقاء الرّياحىّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها. وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النّعمان الّذين بنهاوند نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيذان، وعلى مقدّمته شهريار بن جاذويه (شيخ كبيرفى جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدّمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فبرز الشيخ ودعا إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء فقتله عبد الله، وانهزم الفرس؛ فسمّى ذلك الرّستاق برستاق الشّيخ، وصالحهم الأسبيذان على الرّستاق، وهو أوّل رستاق أخذ من أصبهان. ثم سار عبد الله إلى مدينة جىّ، وهى مدينة أصبهان، والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بها، وحاصرها، فصالحه

_ [1] ابن الأثير 3: 8.

ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان

الملك عليها، على الجزية على من أقام، وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجزاهم ومن أبى وذهب كانت أرضه للمسلمين. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز، وقد صالح القوم، فدخل القوم فى الذّمة إلا ثلاثين رجلا من أهل أصبهان لحقوا بكرمان، ودخل عبد الله ومن معه المدينة، وكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه: أن سرحتّىّ تقدم على سهيل بن عدىّ؛ حتى تكون معه على قتال من بكرمان. فاستخلف على أصبهان السّائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل وصوله إلى كرمان، وافتتح أبو موسى قمّ وقاشان. ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين بعث المغيرة بن شعبة وهو أمير الكوفة البراء بن عازب فى جيش إلى قزوين، وأمره إن فتحها أن يغزو الدّيلم. فسار حتّى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه، ثم طلبوا الأمان، فأمّنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فأرسل أهلها إلى الدّيلم يطلبون النّصرة منهم، فوعدوهم، فوصل المسلمون إليهم، فخرجوا لقتالهم والدّيلم وقوف على الجبل لا يمدّون يدا، فلمّا رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصّلح، فصالحهم على مثل صلح أبهر. وغزا الدّيلم حتّى أدّوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والطيّلسان، وفتح زنجان عنوة. ولمّا ولّى الوليد بن عقبة الكوفة، غزا الدّيلم، وجيلان، وموقان، والبير والطّيلسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] ابن الأثير 3: 11.

ذكر فتح الرى

ذكر فتح الرى قال [1] : وسار نعيم بن مقرّن من واج الرّوذ بأمر عمر حتّى قدم الرّىّ، وخرج الزّينبىّ أبو الفرّخان منها، فلقى نعيما طالبا ومسالما ومحالفا لملك الرّىّ وهو سياوخش بن مهران بن بهرام بن جوبين، فاستمدّ سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس، وجرجان، فأمدّوه، والتقوا مع المسلمين فى سفح جبل الرّىّ الّذى بجانب مدينتها، فاقتتلوا. وكان الزينبىّ قال لنعيم: إنّ القوم قد كثروا وأنت فى قلّة، فابعث معى خيلا لأدخل بها مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإذا خرجنا نحن عليهم فإنّهم لا يثبتون لك. فبعث معه خيلا من اللّيل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبىّ المدينة، والقوم لا يشعرون، وبيّتهم نعيم، فشغلهم عن مدينتهم، واقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم، فانهزموا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأفاء الله تعالى على المسلمين بالرّىّ نحوا مما فى المدائن، وصالحهم الزينبىّ على الرّىّ، وأخرب نعيم مدينتهم، وهى الّتى يقال لها: العتيقة. فأمر الزينبىّ فبنى مدينة الرّىّ، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس، وراسله المصمغان فى الصّلح على شىء يفتدى به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك. وقد قيل: إنّ فتح الرّىّ كان على يد قرظة بن كعب بن ثعلبة

_ [1] ابن الأثير 3: 11.

ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان

الخزرجىّ فى سنة ثلاث وعشرين، حكاه أبو عمر بن عبد البرّ. وقيل: فى سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم. بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان قال [1] : لمّا أرسل نعيم بن مقرّن إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بالفتح والأخماس كتب إليه عمر رضى الله عنه بإرسال سويد بن مقرّن ومعه هند بن عمرو وغيره إلى قومس، فسار سويد نحوها، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، وكاتبه الّذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والّذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصّلح والجزية، وكتب لهم بذلك. ثم سار سويد إلى جرجان، فعسكر ببسطام، وكتب إلى ملك جرجان وهو رزبان صول، فصالحه على الجزية وكفاية حرب جرجان، وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقّاه رزبان قبل دخوله جرجان، ودخل معه، وعسكر سويد بها حتى جبى الخراج، وسدّ فروجها بترك دهستان، ورفع الجزية عمّن قام معه بمنعها، وأخذها من الباقين. وقيل: كان فتحها فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة ثلاثين فى خلافة عثمان. قال: وأرسل الإصبهبذ صاحب طبرستان إلى سويد فى الصّلح، على أن يتوادعا بها ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد،

_ [1] ابن الأثير 3: 12.

ذكر فتح أذربيجان

فقبل ذلك منه، وكتب له كتابا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب. ذكر فتح أذربيجان كان [1] عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، بعث بكير بن عبد الله إلى أذربيجان، وأمر نعيم بن مقرّن أن يمدّه بسماك بن خرشة، فأمّده به بعد فتح الرّىّ، فسار بكير حتى طلع بجبال جرميذان، فطلع عليه إسفنديار بن الفرّخزاذ مهزوما من واج الرّوذ، فاقتتلوا، فهزم الله الفرس وأخذ إسفنديار أسيرا، فقال له إسفنديار: الصّلح أحبّ إليك أم الحرب؟ قال: بل الصّلح. قال: أمسكنى عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم، أو أجىء لهم لم يقوموا لك، وجلوا إلى الجبال الّتى حولها، ومن كان على التحصين تحصّن ليوم ما، فأمسكه عنده وصارت إليه البلاد [2] إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة، وإسفنديار فى أسره، وقد افتتح [3] ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وكتب بكير إلى عمر يستأذنه فى التّقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عتبة بن فرقد، فأقرّ عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الّذى كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد. وكان بهرام بن الفرّخزاذ قصد

_ [1] ابن الأثير 3: 13. [2] من ابن الأثير. [3] ك: «انفتح» .

طريق عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلمّا بلغ خبره إسفنديار وهو فى الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصّلح، وطفئت نيران الحرب، فصالحه وأجاب أهل أذربيجان إلى ذلك، وعادت سلما، وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر، وبعثا بالخمس. ولمّا جمع عمر لعتبة عمل بكير، كتب لأهل أذربيجان كتابا بالصّلح.

ذكر فتح الباب

ذكر فتح الباب كان [1] فتح الباب فى سنة اثنتين وعشرين، وكان عمر رضى الله تعالى عنه ردّ أبا موسى الأشعرىّ إلى البصرة، وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النّور [2] إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن ابن ربيعة، وكان يدعى ذا النّور أيضا، وعلى مجنّبتيه [3] حذيفة بن أسيد الغفارىّ وبكير بن عبد الله اللّيثىّ، وكان بكير قد سبقه إلى الباب عند منصرفه من أذربيجان، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلىّ. وكان عمر قد أمدّ سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة، وجعل مكانه زياد بن حنظلة، فسار سراقة وعبد الرحمن بن أمامة، فلمّا أطلّ عبد الرحمن على الباب كاتبه ملكها شهريار، (من ولد شهريار الملك) ، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال له: إنّى نازل بإزاء عدوّ كلب، وأمم مختلفة ليس لهم أحساب [4] ، ولا ينبغى لذى الحسب والعقل أن يعينهم على ذى الحسب، وأنتم قد غلبتم على بلادى وأنا منكم، ويدى فى أيديكم، وجزيتى إليكم، والنّصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تسومونا الجزية، فتوهّنونا لعدوّكم، فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، وقال: لا بدّ من الجزية ممّن يقيم ولا يحارب العدوّ، فأتّفقا على ذلك، وأجازه عمر رضى الله عنه- وأرضاه واستحسنه.

_ [1] ابن الأثير 3: 14. [2] ك: «ذا النون» . [3] ك: «مجنبته» . [4] ك: «حساب» .

ذكر فتح موقان

ذكر فتح موقان ولما [1] فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله، وسلمان ابن ربيعة، وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبإرسالهم إلى عمر، فسرّ بذلك. ثم مات سراقة بعد أن استوثق له الأمر، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، ولم يفتتح أحد من القوّاد إلا بكير بن عبد الله؛ فإنّه صالح أهل موقان على الجزية؛ على كل محتلم دينار، وذلك بعد أن فضّ أهل موقان، ثم تراجعوا. وقيل: كان الفتح فى سنة إحدى وعشرين، وأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو التّرك. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر غزو الترك قال [2] : ولمّا أمر عمر رضى الله عنه عبد الرحمن بن ربيعة بغزو التّرك خرج بالنّاس [حتى قطع الباب] [3] فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر والترك. قال: إنّا لنرضى منهم

_ [1] ابن الأثير 3: 14. [2] ابن الأثير 3: 14. [3] من ابن الأثير.

أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنّا لا نرضى حتى نغزوهم فى ديارهم، وتالله إنّ معنا أقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الرّوم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلوا فى هذا الأمر بنيّة فلا يزال النّصر معهم، فغزا بلنجر، فقالوا: ما اجترأ علينا إلّا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا وتحصّنوا، ورجع بالغنيمة والظّفر. وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر، وعاد ولم يقتل منهم أحد، ثم غزاها أيّام عثمان بن عفّان رضى الله عنه غزوات، فظفر كما كان يظفر. ثم غزاهم بعد أن كان من أهل الكوفة فى حقّ عثمان رضى الله عنه ما نذكره، فتذامرت التّرك واجتمعوا فى الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين بسهم على غرّة، فقتله، وهرب الرّامى عن أصحابه، فلمّا نظر التّرك إلى المسلم وقد قتل خرجوا على عبد الرحمن ومن معه، واقتتلوا أشدّ قتال، ونادى مناد من الجوّ: صبرا عبد الرّحمن، وموعدكم الجنّة! فقاتل حتى قتل، وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة، فنادى مناد من الجوّ: صبرا سلمان. فقال سلمان: أو ترى جزعا! وخرج بالنّاس على جيلان إلى جرجان، ولم تمنعهم هذه الحرب من [اتخاذ جسد] [1] عبد الرّحمن، فهم يستسقون به حتّى الآن. والحمد لله وحده، وصلّى الله على من لا نبىّ بعده.

_ [1] من ابن الأثير.

ذكر غزو خراسان

ذكر غزو خراسان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين غزا الأحنف بن قيس خراسان، على قول بعضهم. وقيل: بل كان فى سنة ثمان عشرة، وسبب ذلك أنّ يزدجرد لمّا سار إلى الرّىّ بعد هزيمة أهل جلولاء، انتهى إليها، وبها أبان جاذويه، فوثب أبان عليه وأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان، تغدر بى! قال: لا؛ ولكن قد تركت ملكك، فصار فى يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شىء، وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصّكاك بكلّ ما أعجبه، وختم عليها وردّ الخاتم، ثم أتى بعد ذلك سعدا فردّ عليه كلّ شىء فى كتابه. وسار يزدجرد من الرّىّ إلى أصبهان، ثم إلى كرمان والنّار معه، ثم قصد خراسان والنّار معه، فنزل مرو، وبنى للنّار بيتا، واطمأنّ وأمن أن يؤتى، ودان له من بقى من الأعاجم. وكاتب الهرمزان، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطّبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن صخر العبدى. وقيل فيه: صحار بن عبّاس بن شراحبيل، ثم سار نحو مرو الشّاهجان، فأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله ابن الشّخّير، وإلى سرخس الحارث بن حسّان.

_ [1] ابن الأثير 3: 16.

فلمّا دنا الأحنف من مرو، خرج يزدجرد منها إلى مرو الرّوذ، ونزل الأحنف مرو الشّاهجان. وكتب يزدجرد إلى خاقان ملك التّرك وإلى ملك الصّغد وإلى ملك الصّين يستمدّهم. وخرج الأحنف من مرو الشّاهجان، واستخلف عليها خالد ابن النّعمان الباهلىّ بعد أن لحقته أمداد الكوفة. فلمّا سمع به يزدجرد سار من مرو الرّوذ إلى بلخ، ونزلها الأحنف، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد، وعبر النّهر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم، وافتتح ما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد إلى مرو الرّوذ، واستخلف على طخارستان ربعىّ ابن عامر، وكتب إلى عمر بالفتح. فقال عمر: وددت أنّ بيننا وبينها بحرا من نار. فقال علىّ: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنّ أهلها سينقضّون [منها] [1] ثلاث مرّات، وكتب إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النّهر ولا يجوزه. قال: ولمّا عبر يزدجرد مهزوما، أنجده خاقان التّرك، وأهل فرغانة والصّغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان، فنزلا بلخ. ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالرّوذ، فنزل المشركون عليه بها، وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النّهر إليه، خرج ليلا يتسمّع؛ لعلّه يسمع برأى ينتفع به، فمرّ برجلين ينقّيان علفا، وأحدهما يقول لصاحبه: أسندنا الأسير إلى هذا الجبل؛

_ [1] من ابن الأثير.

فكان النّهر بيننا وبين عدوّنا خندقا، وكان الجبل فى ظهورنا [1] ، فلا يأتونا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عزّ وجلّ. فرجع، فلمّا أصبح جمع النّاس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من البصرة عشرة آلاف، ومن الكوفة نحو منهم. وأقبلت التّرك ومن معها فنزلوا بهم، وجعلوا ينادونهم ويراوحونهم وينجحرون فى اللّيل. فخرج الأحنف ليلة طليعة لأصحابه؛ حتّى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف، فلمّا كان وجه الصّبح خرج فارس من التّرك وهو مطوّق، فضرب بطبله، ثم وقف، فحمل عليه الأحنف، فاقتتلا، فقتله الأحنف، وأخذ طوقه، ووقف واحد آخر وآخر بعده، ففعل بهما كذلك، ثم انصرف إلى سكره. وكانت عادة التّرك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من رجالهم أكفاء، كلّهم يضرب بطبله، ثم يخرجون بعدهم، فلمّا خرجوا وجدوا فرسانهم، فتطيّر خاقان من ذلك، وقال: قد طال مقامنا، وأصيب فرساننا، وليس لنا فى قتال هؤلاء القوم خير، ورجع. وارتفع النّهار ولم ير المسلمون أحدا، وأتاهم الخبر بانصراف التّرك إلى بلخ، وكان يزدجرد ترك خاقان يقاتل بمروالرّوذ، وانصرف إلى مرو الشّاهجان، فلمّا وصلها تحصّن حارثة بن النّعمان ومن معه، فحصرهم، واستخرج خزائنه من موضعها. وأراد أن يلحق خاقان لمّا بلغه انصرافه عن مرو الرّوذ إلى بلخ؛ فأشار عليه أهل فارس بمصالحة المسلمين، فأبى ذلك، فاعتزلوه

_ [1] ك: «ظهورها» .

وقاتلوه، فانهزم، واستولوا على خزائنه، وتوجّه هو نحو خاقان وعبر النّهر إلى فرغانة، وأقام ببلد التّرك مدّة خلافة عمر- رضى الله عنه- إلى أن كفر أهل خراسان فى زمن عثمان، فكاتبوه وكاتبهم، ثم قتل على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- فى خلافة عثمان. قال: ثم أقبل أهل فارس بعد انهزام يزدجرد على الأحنف، وصالحوه ودفعوا له الخزائن، وتراجعوا إلى بلادهم، واغتبطوا بالمسلمين، فأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسيّة. وسار الأحنف إلى بلخ ونزلها، ثم رجع إلى مرو الرّوذ، وكتب بهذا الفتح إلى عمر. قال: ولمّا عبر خاقان ويزدجرد إلى النّهر، لقيا [1] رسول يزدجرد الّذى كان أرسله إلى ملك الصّين، فأخبره أن ملك الصّين قال له: صف لى هؤلاء القوم الّذين أخرجوكم من بلادكم، فإنّى أراك تذكر قلّة منهم، وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم. فقال: سلنى عمّا أحببت. فقال: أيوفون بالعهد؟ قال: نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم فان أحببنا أجرونا مجراهم، أو الجزية، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم فى أمرائهم؟ قلت: أطوع قوم لرشيدهم. قال: فما يحلّون وما يحرّمون؟ فأخبره. قال: هل يحلّون ما حرّم عليهم، أو يحرّمون ما أحلّ لهم؟ قال: لا. قال: هؤلاء القوم لا يزالون على الظّفر

_ [1] ك: «لقوا» .

حتى يحلّوا حرامهم ويحرّموا حلالهم، ثم قال: أخبرنى عن لباسهم، فأخبره، وعن مطاياهم. قال: الخيل العراب، ووصفها لهم. قال: نعم الحصون! ووصف له الإبل وبركها وقيامها. فقال: هذه صفة دوابّ طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد: إنّه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجند أوّله بمرو وآخره بالصّين الجهالة بما يحقّ علىّ، ولكنّ هؤلاء القوم الّذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلا لهم سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك. فأقام بزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان. قال: ولمّا وصل كتاب الفتح إلى عمر رضى الله عنه، جمع النّاس وخطبهم، وقرأه عليهم، وحمد الله على إنجاز وعده، ثم قال: ألا وإنّ ملك المجوسيّة قد هلك، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضّرّ بمسلم، ألا وإنّ الله تعالى قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم، لينظر كيف تعملون، فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإنّى لا أخاف على هذه الأمّة إلّا من قبلكم. وقيل: إنّ فتح خراسان كان فى زمن عثمان رضى الله عنه، وسنذكره إن شاء الله سبحانه وتعالى فى موضعه.

ذكر فتح شهرزور والصامغان

ذكر فتح شهرزور والصامغان وفى [1] سنة اثنتين وعشرين كان فتح شهرزور؛ فتحها عتبة ابن فرقد صلحا على مثل صلح حلوان بعد قتال [2] ، وصالح أهل الصّامغان، وداراباذ على الجزية والخراج، وقتل خلقا كثيرا من الأكراد، وكتب إلى عمر: إنّ فتوحى قد بلغت أذربيجان، فولّاه إيّاها، وولىّ هرثمة بن عرفجة الموصل، ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها فى آخر خلافة الرّشيد. والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النّصير، والحمد لله وحده. ذكر فتح توج كان [3] فتحها فى سنة ثلاث وعشرين؛ وذلك أنه لمّا خرج أهل البصرة الّذين توجّهوا إلى بلاد فارس أمراء عليها، كان معهم سارية بن زنيم، فساروا، وأهل فارس مجتمعون بتوّج، فلم يقصدهم المسلمون، وتوجّه كلّ أمير إلى الجهة التى أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم، كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتّت أمورهم، فقصدهم مجاشع بن مسعود بسابور وأزدشير فالتقوا بتوّج، واقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس

_ [1] ابن الأثير 3: 19. [2] بعدها فى ابن الأثير: «فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت» . [3] ابن الأثير 3: 19.

ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدنية شيراز وأرجان وسينيز وجنابا وجهرم

وقتلهم المسلمون شرّ قتلة، وغنموا ما فى عسكرهم، وحصروا توّج فافتتحوها، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنمو ما فيها. وتوّج هى [التى] [1] استنقذتها جيوش العلاء بن الحضرمىّ أيّام طاوس، ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها، وأرسل مجاشع ابن مسعود بالبشارة والأخماس إلى عمر رضى الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدنية شيراز وأرّجان وسينيز وجنابا وجهرم وفى [2] سنة ثلاث وعشرين قصد عثمان بن أبى العاص [3] إصطخر [4] فالتقى هو وأهلها بجور، فاقتتلوا، وانهزم الفرس، وفتح المسلمون جور، ثمّ إصطخر، وقتلوا ما شاء الله، وفرّ منهم من فرّ. فدعاهم عثمان إلى الجزية والذّمّة، فأجابه الهربذ إليها، وتراجعوا. وكان عثمان قد جمع الغنائم وخمّسها، وبعث الخمس إلى عمر، وفتح كازرون والنّوبندجان وغلب على أرضها. وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، وأرّجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضا جنابا ففتحها، وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، ولقيه جمع من الفرس بناحية جهرم [فهزمهم] [5] وفتحها.

_ [1] من ابن الأثير. [2] ابن الأثير 3: 20. [3] ابن الأثير: «أبى العاص الثقفى» . [4] ابن الأثير: «أهل إصطخر» . [5] من ص.

ذكر فتح فساودرابجرد

وقيل: إنّ فتح إصطخر كان فى سنة ثمان وعشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر فتح فساودرابجرد وفى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد سارية بن زنيم الدّيلىّ فساودرابجرد، وانتهى إلى عسكرهم وحاصرهم ما شاء الله تعالى. ثم استمدّوا وتجمّعوا، وتجمّعت إليهم الأكراد من فارس [2] ، فدهم المسلمين أمر عظيم، وأتاهم الفرس من كلّ جانب، فرأى عمر رضى الله تعالى عنه فيما يرى النّائم تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النّهار، فنادى من الغداة: الصّلاة جامعة، حتى إذا كان فى السّاعة التى رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان قد رآهم والعدوّ فى صحراء، إن أقام المسلمون فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى الجبل لم يؤتوا إلّا من وجه واحد. فقام عمر فقال: يأيّها النّاس، إنّى رأيت هذين الجمعين ... وأخبر بحالهما، وصاح عمر رضى الله عنه وهو يخطب: يا سارية، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إنّ لله جنودا؛ ولعلّ بعضهم أن يبلّغهم. فسمع سارية ومن معه الصّوت، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزمهم الله. وأصاب المسلمون مغانم، وأصابوا سفطا فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية، وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر، فقدم

_ [1] ابن الأثير 3: 21. [2] ابن الأثير: «أكراد فارس» .

ذكر فتح كرمان

عليه، وأخبره الخبر، وقصة الجوهر، فصاح به عمر وقال: لا ولا كرامة! اقسمه بين الجند، وطرده، وردّ السّفط. وسأل أهل المدينة الرّسول، هل سمعوا يوم الوقعة شيئا؟ قال: سمعنا: «يا سارية الجبل» . وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه، ففتح الله سبحانه وتعالى علينا. والله أعلم بالصّواب، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. ذكر فتح كرمان وفيها [1] قصد سهيل بن عدىّ كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد [له] [2] أهلها واستعانوا بالقفص، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم، فقتل النّسير بن عمرو العجلىّ مرزبانها [3] ، وفتحها المسلمون. وقيل: إنّ الّذى فتحها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ فى خلافة عمر، ثم أتى الطّبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعنى الطّبسين، وأراد أن يفعل. فقيل: إنّها رستاق، فامتتع.

_ [1] ابن الأثير 3: 22. [2] من ص. [3] المرزبان، من ألقاب رؤساء الفرس.

ذكر فتح سجستان

ذكر فتح سجستان فى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها فالتقوا فى أدنى أرضهم، فهزمهم المسلمون واتّبعوهم حتى حاصروهم بزرنج، فطلبوا الصّلح على زرنج وما سادوا عليه من الأرضين، واصطلحوا على الخراج، فكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والتّرك، وأمما كثيرة. وقيل فى فتح سجستان غير هذا، وسنذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه. ذكر فتح مكران وفيها [2] قصد الحكم بن عمرو التغلبىّ مكران، ولحق به شهاب بن المخارق وسهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النّهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمدّ ملكهم ملك السّند، فأمّده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فهزموا، وقتل منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، واتّبعهم المسلمون يقتّلونهم أياما؛ حتى انتهوا إلى النّهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدىّ. فلمّا قدم المدينة سأله عمر عن مكران،

_ [1] ابن الأثير 3: 22. [2] ابن الأثير 3: 23.

ذكر فتح بيروذ من الأهواز

فقال: يا أمير المؤمنين، هى أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوّها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير منها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شرّ منها. فقال عمر: أسجّاع أنت أم مخبر! لا والله لا يغزوها لى جيش أبدا، وكتب إلى مهيل والحكم ألّا يجوزنّ مكران أحد من جنودكما، وأمرهما ببيع الفيلة الّتى غنمها المسلمون، وقسم أثمانها على الغانمين. ذكر فتح بيروذ من الأهواز وهى بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثنّاة من أسفل، وضمّ الراء وسكون الواو وذال معجمة. قال: لمّا [1] فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع كثير من الأكراد وغيرهم، وكان عمر رضى الله عنه قد عهد إلى أبى موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة كما ذكرنا؛ حتى لا يؤتى المسلمون فى أعقابهم. فسار أبو موسى والتقى معهم فى شهر رمضان، سنة ثلاث وعشرين ببيروز من بين نهر تيرى ومناذر، فقام المهاجر ابن زياد وقد تحنّط، فقاتل حتى قتل، واشتدّ جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر، وعظم عليه فقده، فرقّ له أبو موسى واستخلفه على جنده. وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان، وكان مع المسلمين بها حتى

_ [1] ابن الأثير 3: 24.

فتحت، ثم رجع إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد بيروذ، وغنم ما كان تجمّع بها. وأوفد أبو موسى وفدا إلى عمر بالأخماس، وطلب ضبّة بن محصن الغنوىّ أن يكون فى الوفد، فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبى بيروذ ستّين غلاما. فانطلق ضبّة إلى عمر شاكيا، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلمّا قدم ضبّة على عمر سلّم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا! فقال: أما الرّحب فمن الله، وأمّا الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إنّ أبا موسى انتقى ستّين غلاما من أبناء الدّهاقين لنفسه، وله جارية تغدّى جفنة، وتعشّى جفنة تدعى عقيلة، وله قفيزان، وله خاتمان؛ وفوّض إلى زياد بن أبى سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف. فاستدعى عمر أبا موسى، فلمّا قدم عليه حجبه أيّاما، ثم استدعاه، فسأل عمر ضبّة عمّا قال: فقال: أخذ ستّين غلاما لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء، ففديتهم وقسّمته بين المسلمين، فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلى أقوتهم به، وقفيز للمسلمين فى أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبّة: ما كذب ولا كذبت. فلمّا ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، فعلم أنّ ضبّة قد صدقه. قال: وولّى زيادا، قال: رأيت له رأيا ونبلا

ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد

فأسندت إليه عملى. قال: وأجاز الحطيئة بألف، قال: سددت فمه بمالى أن يشتمنى، فردّه عمر، وأمره أن يرسل إليه زيادا وعقيلة، ففعل. فلمّا قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسّنن، والقرآن، فرآه فقيها، فردّه، وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة، وقال عمر: ألا إنّ ضبّة غضب على أبى موسى وردّه مراغما، أن فاته أمر من أمر الدنيا يصدق عليه، وكذب فأفسد كذبه صدقه. فإيّاكم والكذب! فإنّه يهدى إلى النّار. ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد قال [1] : كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين، أمّر عليهم أميرا من أهل العلم، فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعىّ وقال له: سر باسم الله تعالى، وقاتل فى سبيل الله من كفر بالله؛ فإذا لقيتم عدوّكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزّكاة، وليس لهم من الفىء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الّذى لكم، وعليهم مثل الّذى عليكم، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصّنوا منكم وسألوا أن ينزلوا على حكم الله ورسوله، أو ذمّة الله ورسوله، فلا تجيبوهم؛ فإنكم لا تدرون ما حكم الله رسوله، وذمّتهما فيهم، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، ولا تمثّلوا.

_ [1] ابن الأثير 3: 25.

ذكر فتوح مصر وما والاها

فساروا حتّى لقوا عدوّا من الأكراد المشركين، فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذّريّة فقسّمها بينهم، ورأى سلمة جوهرا فى سفط، فاسترضى عنه المسلمين وبعثه إلى عمر، فغضب ووجأه فى عنق رسوله وأعاده، فباعه سلمة، وقسم ثمنه فى المسلمين، فكان الفصّ يباع بخمسة دراهم، وقيمته عشرون ألفا. ذكر فتوح مصر وما والاها كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقد اختلف فى السّنة التى فتحت مصر فيها، فقيل: فى سنة عشرين. وقيل: سنة ستّ عشرة. والصحيح أنها فتحت قبل عام الرّمادة، وكان عام الرّمادة فى سنة ثمانى عشرة؛ فإنّ عمرو ابن العاص حمل منها الطّعام إلى المدينة فى بحر القلزم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين. وقد اختلف أيضا فى سبب مسير عمرو إليها، واختلف فى كيفيّة الفتح، وكيف كان. وقد روى الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم- رحمه الله- فى فتوح مصر [1] أخبارا بأسانيد متّصلة إلى جماعة ممّن شهدوا الفتح وغيرهم، اختصرنا ذكرها، مدارها على ابن لهيعة عن عبد الله بن أبى جعفر وعيّاش بن عبّاس العتبانىّ وعلىّ بن يزيد

_ [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 53 وما بعدها.

ذكر مسير عمرو إلى مصر

ابن أبى حبيب، واللّيث بن سعد وغيرهم، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده. ذكر مسير عمرو الى مصر قالوا: لمّا قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى الجابية، قام إليه عمرو بن العاص رضى الله عنه، وخلا به فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لى أن أسير إلى مصر، وحرّضه عليها وقال: إنّك إنّك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب. فتخوّف عمر على المسلمين وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظّم أمرها عنده، ويهوّن عليه فتحها، حتّى ركّن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلّهم من عكّ، ويقال: ثلاثة آلاف وخمسمائة. وقيل: ثلثهم من غافق، وقال له: سر وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله تعالى، فإذا أدركك كتابى بالأنصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت وصلتها قبل ذلك فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره. فسار عمرو من جوف اللّيل، ولم يشعر به أحد من النّاس، واستخار عمر الله تعالى، فكأنّه تخوّف على المسلمين فى وجههم ذلك. فكتب إلى عمرو أن ينصرف بمن معه، فأدركه الكتاب [1] وهو

_ [1] أبن عبد الحكم: «فأدرك الكتاب عمرا» .

برفح، فتخوّف إن هو أخذ الكتاب، وفتحه أن يجد فيه الانصراف، فلم يأخذه من الرّسول، ودافعه حتّى انتهى إلى قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل عنها، فقيل: إنّها من أرض مصر، فأخذ الكتاب وقرأه على المسلمين، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى: قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل مصر أن أرجع؛ ولم يلحقنى كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله عزّ وجلّ. وقد قيل: إنّ عمرو بن العاص كان بفلسطين، فقدم [1] بأصحابه إلى مصر بغير إذن عمر، وكتب إليه يعلمه، فكتب عمر إليه، فأتاه كتابه وهو دون العريش، فلم يقرأ كتابه حتّى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه: من عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فإنّك سرت إلى مصر ومن معك، وبها جموع الرّوم؛ وإنّما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا بكلّ أمّتك [2] ما كانوا لذلك، وما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع. فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: من مصر. فتقدّم كما هو. ويقال: بل كان عمرو فى جنده بقيساريّة، فكتب إلى عمر بن الخطّاب، وعمر إذ ذاك بالجابية، وهو يستأذنه على [3] المسير إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحّوا من منزلتهم كأنّهم

_ [1] ك: «فتقدم» . [2] ابن عبد الحكم: «ثكل أمك» . [3] ك: «يستأذنه بالمسير» .

يريدون أن يتحوّلوا من منزل إلى منزل، فسار بهم ليلا، فلمّا فقده أمراء الأجناد استنكروا فعله، ورأوا أن قد غرّر، فرفعوا ذلك إلى عمر، فكتب إليه: إلى العاصى ابن العاص، أمّا بعد، فإنّك قد غرّرت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك وقد دخلت فامض، واعلم أنّى ممدّك. ويقال: إنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى عمرو بعد فتح الشّام: أن اندب النّاس إلى المسير معك، فمن خفّ معك فسر به. وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، وأسرع فى الخروج، ثم دخل عثمان بن عفّان رضى الله عنه على عمر، فأخبره عمر بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عمرا فيه إقدام وحبّ للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة؛ فيعرّض المسلمين للتهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا! فندم عمر على كتابه إلى عمرو، وكتب إليه أن ينصرف إن كان لم يدخل أرض مصر على ما تقدّم. قالوا: ونفرت راشدة وقبائل من العرب مع عمرو، فسار بهم، فأدركه عيد النّحر بالعريش، فضحّى هناك. ولمّا بلغ المقوقس مسير عمرو إلى مصر، توجّه إلى الفسطاط، وكان يجهّز الجيوش على عمرو، وكان على القصر رجل من الرّوم، يقال له: الأعيرج واليا تحت يد المقوقس.

وتقدّم عمرو فكان أوّل موضع قوتل به الفرما، قاتله الرّوم هناك قتالا شديدا. قال: وكان بالإسكندرية أسقفّ للقبط يقال له: أبو ميامين، فلمّا بلغه قدوم عمرو كتب إلى القبط يعلمهم أنّه لا يكون للرّوم دولة، وأنّ ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو. فيقال: إنّ القبط الّذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم سار عمرو من الفرما لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف، حتّى نزل بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتّى فتح الله عليه، ثم مضى حتّى أتى أمّ دمين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم، وجاء رجل من لخم- قيل: هو خارجة بن حذافة إلى- عمر، فقال له: اندب معى خيلا حتّى آتى من ورائهم عند القتال [1] ، فأخرج معه خمسمائة فارس، فسار بهم من وراء الجبل حتّى دخلوا مغار بنى وائل قبيل الصّبح، وكانت الرّوم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، وبثّوا فى أفنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين [2] أصبحوا، وخرجت الخيل من ورائهم فانهزموا حتّى دخلوا الحصن، وهو القصر الّذى يقال له: بابليون.

_ [1] ك: «الباب» . [2] ك: «حتى» .

ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط إلى الجزيرة

ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط إلى الجزيرة قال [1] : ولمّا انهزموا إلى القصر حصرهم عمرو بن العاص ومن معه حينا، وقاتلهم قتالا شديدا صباحا [2] ، ثم كتب إلى عمر يستمدّه، فأمّده بأربعة آلاف رجل، على كلّ ألف منهم رجل [وكتب إليه: قد أمددتك بأربعة آلاف] [3] على كلّ ألف رجل: الزّبير بن العّوام والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصّامت، وسلمة بن مخلد، ومنهم من جعل بدل سلمة خارجة بن حذافة وقال عمر له فى كتابه: اعلم أنّ معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة. وقيل: إنّه لمّا أشفق عمر، أرسل الزّبير فى اثنى عشر ألفا، فلمّا قدم تلقّاه عمرو، ثم أقبلا، فركب الزّبير وطاف بالخندق، وفرّق الرّجال حوله، وألحّ عمرو إلى القصر، ونصب عليه المنجنيق. وأبطأ الفتح. فقال الزّبير: إنّى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصّن من ناحية سوق الحمام، ثمّ صعد، وأمرهم أنّهم إذا سمعوا التّكبير أن يجيبوه جميعا، فلم يشعر الرّوم إلّا والزّبير على الحصن يكبّر وبيده السّيف، وتحامل النّاس على السّلّم حتى

_ [1] ابن عبد الحكم 61. [2] ابن عبد الحكم: «يصبحهم ويمسيهم» . [3] من ابن لحكم.

خشى عمرو أن ينكسر بهم، فنهاهم، ولمّا صاروا بأعلى الحصن كبّروا جميعا، وأجابهم المسلمون من خارج الحصن، فما شكّ أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، فعمد الزّبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون؛ فحينئذ سأل المقوقس الصّلح على نفسه ومن معه؛ على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كلّ رجل منهم، فأجابهم عمرو إلى ذلك. وكان مكثهم على باب القصر حتّى فتحوه سبعة أشهر، والله تبارك وتعالى أعلم. قال ابن عبد الحكم: وقد [1] سمعت فى فتح القصر وجها آخر، ورواه بسنده إلى خالد بن يزيد، عن جماعة من التّابعين، يزيد حديث بعضهم على حديث بعض، قالوا: لمّا حصر المسلمون بابليون، وبه جماعة من الرّوم، وأكابر القبط وعليهم المقوقس، فقاتلهم شهرا، فلمّا رأى القوم الجدّ من المسلمين تنحىّ المقوقس وجماعة من أكابر القبط ورؤسائهم، وخرجوا من باب القصر القبلىّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة. قال: وهى موضع الصّناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى زمن زيادة النّيل، وتخلّف الأعيرج بالقصر بعد المقوقس، ثم تحوّل إلى الجزيرة فى السّفن. والله أعلم.

_ [1] ابن عبد الحكم 64 وما بعدها.

ذكر ارسال المقوقس إلى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت

ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية قال [1] : وأرسل المقوقس إلى عمرو يقول: إنّكم قد ولجتم بلادنا [2] ، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا؛ وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الرّوم ومعهم من العدد والسّلاح، وقد أحاط بكم هذا النّيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع منهم؛ فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الرّوم؛ فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا ... ونحو ذلك من الكلام. فلما أتت رسول المقوقس عمرا حبسهم عنده يومين وليلتين؛ حتى خاف عليهم المقوقس وقال لأصحابه: أترون أنّهم يقتلون الرّسل ويحبسونهم، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنّما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، ثم ردّهم عمرو. وأجابه مع رسله: إنّه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم فى الإسلام وكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم

_ [1] ابن عبد الحكم 65. [2] ابن عبد الحكم: «فى بلادنا» .

فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين. فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتّواضع أحبّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم فى الدّنيا رغبة ولا نهمة؛ إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على الرّكب، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم. فقال المقوقس: والّذى يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد؛ ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل لم يجيبونا بعد اليوم، إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. ثم ردّ رسله إلى المسلمين، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه ان يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وأمره أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إلى إحدى هذه الثّلاث خصال. فلمّا دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود. وقدّموا غيره يكلّمنى. فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا، والمقدّم

علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دونتا بما أمره به، وأمرنا ألّا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغى أن يكون دونكم. قالوا: إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت [1] لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل كلّهم أشدّ سوادا منى، وأفظع منظرا؛ ولو سمعتهم ورأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابى، وإنّى بحمد الله مع ذلك ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى سبيل الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله عزّ وجلّ أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلّا درهما؛ لأنّ غاية أحدنا من الدّنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره [2] ، وشملة يلتحفها. فإن كان أحدنا لا يملك إلّا ذلك كفاه؛ وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الّذى بيده، وبلّغه ما كان فى الدّنيا؛ لأنّ الدّنيا ليست بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، وإنّما النّعيم والرّخاء فى الآخرة؛

_ [1] ك: «أردت» ، تخريف. [2] ك: «ليله ونهاره» .

وبذلك أمرنا ربّنا عزّ وجلّ، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه. فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها. ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به. فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن

فيه؛ إن كان ما قلتم حقا؛ فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالهم، وأشدّ تحريضا عليهم؛ لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا ولا أحبّ إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا؛ وإنّها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإنّ الله عزّ وجلّ قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [1] . وما منّا رجل إلّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشّهادة وألّا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منّا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ منّا ربّه أهله وولده؛ وإنّما همّنا ما أمامنا. وأمّا قولك: إنّا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السّعة؛ لو كانت الدّنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر ممّا نحن عليه، فانظر الّذى تريد فبيّنه لنا؛ فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل؛ بذلك أمرنى أميرى، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قبل إلينا. إمّا أجبتم إلى الإسلام الّذى هو الدّين الّذى لا يقبل الله تعالى

_ [1] سورة البقرة 249.

غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته. أمرنا الله أن نقاتل من من خالفه ورغب عنه؛ حتى يدخل فيه، فإن فعل فإنّ له مالنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التّعرض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كلّ عام أبدا، ما بقينا وبقيتم، ونقاتل من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم وبلادكم وأموالكم، ونقوم بذلك إن كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد الله إلينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسّيف حتى نموت عن آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الّذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم. فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلّا أن تتّخذونا خولا أو نكون لكم عبيدا ما كانت الدّنيا. فقال عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. قال: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا وربّ هذه السّماء، وربّ هذه الأرض، وربّنا وربّ كلّ شىء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذّلّ! أمّا ما أرادوا من

دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا؛ أن نترك دين المسيح بن مريم، وندخل فى دين غيره ولا نعرفه. وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا أبدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون. فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين. قالوا: وأىّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم؛ أمّا دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثّالثة. قالوا: أفنكون لهم عبيدا أبدا! قال: نعم، تكونون عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم، وأموالكم وذراريّكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدا تباعون وتمزّقون فى البلاد، مستعبدين أبدا فى البلاد. أنتم وأهلوكم وذراريّكم. قالوا: فالموت أهون علينا. فأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجيزة، وبالقصر من القبط والرّوم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال؛ حتى ظفروا بمن فى القصر، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسروا من أسروا، وانحازت السّفن كلّها إلى الجزيرة. هذا والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن

يتقدّموا نحو الصّعيد ولا غيره من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فو الله لنجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لنجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا؛ فعند ذلك أذعنوا إلى الجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه. فأرسل المقوقس إلى عمرو يقول له: إنّى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الرّوم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم، وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأصحابك؛ فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه. فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا تجبهم إلى شىء من الصّلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلّها لنا فيئا وغنيمة كما صار القصر لنا وما فيه. فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثّلاث الّتى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم. فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين عن كلّ نفس: شريفهم

ووضيعهم وضعيفهم، ومن بلغ الحلم منهم، ليس على الشّيخ الفانى، ولا على الصّغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا النساء شىء، وعلى أنّ للمسلمين عليهم النّزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين، أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيّام، مفترض ذلك عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرّض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدّة، فكان جميع من أحصى منهم بمصر أكثر من ستّة ألاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كلّ سنة. وروى عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: بلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف. قال: وشرط المقوقس للرّوم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا المقام أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرّية، وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الرّوم خرج، وعلى أنّ للمقوقس الخيار فى الرّوم خاصّة، حتى يكتب إلى ملك الرّوم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كلّه. فكتب إليه يقبّح رأيه ويعجّزه ويردّ عليه ما فعل، وأمره بقتال

المسلمين بالرّوم إن أبى القبط القتال، وكتب إلى جماعة الرّوم بمثل ذلك. فجمع المقوقس الرّوم وقال: اعلموا يا معشر الرّوم أنّى والله لا أخرج ممّا دخلت فيه، بعد أن ذكر لهم شجاعة العرب وصبرهم وجلدهم وحبّهم الموت وغير ذلك من حالهم، ثم قال: والله إنّى لأعلم أنّكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنّون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنّى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره ولم يعرفه. أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السّنة! ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجزّنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الرّوم ألّا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك، أو تظفر بهم، ولم أكن أخرج ممّا دخلت فيه، وعاقدتك عليه؛ وإنّما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، فقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض. وأمّا الرّوم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال، قال عمرو: وما هى؟ قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم، وألزمنى ما ألزمتهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم مقيمون لك عل ما تحبّ. وأما الثانية، فإن سألك الرّوم بعد اليوم أن تصالحهم

فلا تصالحهم حتّى تجعلهم فيئا وعبيدا؛ فإنّهم أهل ذلك؛ فإنّى نصحتهم فاستغشّونى [1] . وأمّا الثّالثة: فأطلب إليك إن أنا متّ أن تأمرهم [2] يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندريّة. فأجابه عمرو إلى ما طلب على أن يقيموا له الجسرين جميعا، والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندريّة، ويقيموا لهم الأنزال والضّيافة والأسواق، ففعلوا ذلك، وسارت القبط أعوانا للمسلمين على الرّوم.

_ [1] ابن عبد الحكم 73: «فاستغشوا نصحى» . [2] ص: «إن تأمرهم يدفنى» .

ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية

ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية قال [1] : واستعدّت الرّوم واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الرّوم، فيها جمع من الرّوم عظيم بالعدّة والسّلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص، ومن معه، وذلك حين أمكنه الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطّرق، وأقاموا الجسور والأسواق، وخرج عمرو فلم يلق من الروم أحدا حتّى بلغ ترنوط، فلقى بها طائفة من الرّوم، فقاتلوه قتالا خفيفا، فهزمهم، ومضى بمن معه حتى لقى جمع الرّوم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيّام، ثم فتح الله على المسلمين، وانهزم الرّوم. وقيل: بل لمّا انهزموا من ترنوط، بعث عمرو بن العاص شريك ابن سمىّ فى آثارهم، وكان على مقدّمة عمرو، فأدركهم شريك عند الكوم [2] ، فقاتلهم، فمن النّاس من يقول: إنّه هزمهم، ومنهم من يقول: إنّه قاتلهم إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الرّوم، فأمر شريك أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصّدفى، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحطّ عليهم من الكوم، وطلبته الرّوم فلم تدركه، فأتى عمرا

_ [1] ابن عبد الحكم 73. [2] ابن عبد الحكم: «عند الكوم الذى يقال له كوم شريك» .

فأخبره، فأقبل عمرو نحو الروم فأنهزموا، وبالفرس الأشقر [1] هذا سمّيت خوخة الأشقر الّتى بمصر؛ وذلك أنّه نفق [2] فدفنه صاحبه هناك، فسمّى المكان به. قال: ثمّ التقى عمرو والرّوم لسليطس، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، ثم هزمهم الله [3] . ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا هناك بضعة عشر يوما، وكان ابنه عبد الله بن عمرو على المقدّمة، ففشت فيه الجراحة وصلّى عمرو بالنّاس صلاة الخوف، بكلّ طائفة ركعة وسجدتين. ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الرّوم مقتلة عظيمة، واتّبعوهم حتّى بلغوا الإسكندرية فتحصّن بها الرّوم، وكانت عليهم حصون منيعة، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس، إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط، يمدّونهم بما احتاجوا من الأطعمة والأعلاف. هذا ورسل ملك الرّوم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب، والأمداد تأتيهم من قبله، وكان يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندريّة كان ذلك انقطاع ملك الرّوم وهلاكهم؛ لأنّه ليس للرّوم كنائس أعظم من كنائس الإسكندريّة، ونجهّز الملك ليباشر القتال بنفسه، وأمر ألّا يتخلّف عليه أحد من الرّوم، وقال: ما بقاء

_ [1] ابن عبد الحكم: «الفرس الأشقر الذى يقال له: «أشقر صدف وكان لا يجارى سرعة» . [2] نفق، أى هلك. [3] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو» .

الرّوم بعد الإسكندرية! فلمّا فرغ من جهازه أهلكه الله فمات وكفى الله المسلمين مؤنته. وكان موته فى سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الرّوم، ورجع جمع كبير ممّن كان توجّه لإعانة أهل الإسكندرية، فاستأسدت العرب عند ذلك، وألحّت بالقتال، فقاتلوا قتالا شديدا، فبرز رجل من الروم، وبرز له مسلمة بن مخلد، فصرعه الرّومىّ وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه ليقتله حتّى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقام له؛ ولكن غلبته المقادير، فشقّ ذلك على المسلمين. وكان مسلمة ثقيل للبدن، كثير اللّحم، فاشتدّ غضب عمرو، وقال: ما بال الرّجل المستّه الّذى يشبه النّساء يتعرّض إلى مداخل الرجال ويتشبّه بهم! فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتّى اقتحم المسلمون حصن الإسكندريّة، وقاتلوا فيه، ثم جاشت الرّوم حتّى أخرجوهم جميعا من الحصن، إلّا أربعة، منهم عمرو ابن العاص، ومسلمة بن مخلد، فأغلقوا الحصن عليهم، والتجئوا إلى ديماس [1] من حمّامات الروم، فأنزل الرّوم روميّا يتكلّم بالعربيّة، فقال لهم: إنّكم قد سرتم أسارى فى أيدينا، فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم. ثم قال لهم: إنّ فى أيدى أصحابكم منّا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود ونفادى بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.

_ [1] الديماس: الحمام.

ثم قال لهم الرّومّى: فهل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم، أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله؛ على أن يبرز منّا رجل، ومنكم رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلّينا سبيلكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه. فبرز رجل من الرّوم وقد وثقت الرّوم بنجدته وشدّته، فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: أنا أكفيك إن شاء الله. فقال عمرو: دونك؛ فربّما فرّجها الله بك. فبرز مسلمة للرّومّى فتجاولا ساعة، ثم أعان الله مسلمة فقتله، وكبّر وكبّر أصحابه، ووفى لهم الرّوم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا، والرّوم لا يدرون أن أمير القوم فيهم، ثم بلغهم ذلك، فأسفوا على ما فاتهم منه، وندم عمرو واستحبا من مقالته لمسلمة ما قال، فاستغفر له عمرو. قال [1] : ولمّا أبطأ الفتح على عمر، كتب إلى عمرو: أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، وأنكم تقاتلونهم منذ سنتين؛ وما ذاك إلّا لما أخذتم [2] وأحببتم من الدنيا ما أحبّ عدوّكم، وإنّ الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نيّاتهم. وقد كنت وجّهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أنّ الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف؛ إلّا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب النّاس وحضّهم على قتال

_ [1] ابن عبد الحكم: 79. [2] ابن عبد الحكم: «أحدثتم» .

عدوّهم، ورغّبهم فى الصّبر والنّيّة، وقدّم أولئك الأربعة فى صدور النّاس، ومر النّاس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزّوال يوم الجمعة؛ فإنّها ساعة نزول الرّحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النّصر. ففعلوا ففتح الله عليهم. قال [1] : ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فى قتال الرّوم، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنعقد له على الناس، فيكون هو الّذى يباشر القتال ويكفيكه. فقال عمرو: ومن ذاك؟ قال: عبادة بن الصّامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلمّا دنا منه أراد النّزول، فعزم عمرو عليه ألّا يفعل، وقال: ناولنى سنان رمحك، فناوله عبادة إيّاه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولّاه قتال الرّوم. فتقدّم عبادة فصافّ [2] الرّوم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندريّة من يومه ذلك، وكان حصارهم الإسكندرية أربعة عشر شهرا، خمسة أشهر فى حياة هرقل، وتسعة أشهر بعد موته، وفتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم، سنة عشرين، وقتل من المسلمين على الإسكندرية فى طول هذه المدة اثنان وعشرون رجلا.

_ [1] ابن عبد الحكم 79. [2] كذا فى ابن عبد الحكم، وفى الأصول: «فصادف» .

ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية

ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية قال:: ولمّا [1] فتحت، الإسكندريّة هرب الرّوم منها فى البرّ والبحر، فخلّف عمرو من أصحابه بها ألف رجل، ومضى فى طلب من انهزم من الروم فى البر، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية، فقتلوا من كان بها من المسلمين إلّا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرا، فكرّ راجعا إليها، ثأتاد رجل يقال له ابن بسّامة، كان بوابا بالإسكندريّة، فسأل عمرا أن يؤمنّه على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسّامة، فدخل عمرو، وكان مدخله من ناحية القنطرة التى يقال لها قنطرة سليمان، وكان مدخله الأوّل من باب المدينة الذى من ناحية كنيسة الذّهب، ووفى عمرو لابن بسّامة [2] . وبعث عمرو إلى عمر بن الخطّاب معاوية بن حديج بشيرا بالفتح، فقال معاوية: ألا تكتب معى كتابا؟ فقال عمرو: وما أصنع بالكتاب! ألست رجلا عربيا تبلّغ الرسالة، وما رأيت وحضرت! فقدم على عمر فأخبره [3] الخبر، فخرّ ساجدا، وجمع النّاس وأخبرهم، ثمّ كتب عمرو بعد ذلك إلى عمر:

_ [1] ابن عبد الحكم: ص 80 وما بعدها. [2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وقد بقى لابن بسامة عقب بالإسكندرية إلى اليوم» . [3] ابن عبد الحكم: «فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية» .

أمّا بعد، فإنّى قد فتحت مدينة لا أصف ما فيها؛ غير أنّى أصبت فيها أربعة آلاف بنية [1] ، بأربعة آلاف حمّام، وأربعين ألف يهودىّ عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك. قال ابن عبد الحكم [2] : لمّا فتح عمرو الإسكندريّة وجد فيها اثنى عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر. قال: ورحل [3] منها فى اللّيلة التى دخل فيها عمرو بن العاص، أو فى اللّيلة التى خافوا فيها دخوله سبعون ألف يهودىّ. قال: وقال حسين بن شفىّ بن عبيد: كان بالإسكندرية فيما أحصى من الحمّامات اثنا عشر ديماسا، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كلّ مجلس منها يسع جماعة نفر. وكان عدّة من بالإسكندريّة من الرّوم مائتى ألف من الرّجال، فلحق بأرض الرّوم أهل القوّة، وركبوا السّفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى من الأسارى ممّن بلغ الخراج، فأحصى يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصّبيان، فاختلف النّاس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثر النّاس يريدون قسمها. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فكتب إليه عمر: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وكانت مصر كلّها صلحا بفريضة دينارين

_ [1] ابن عبد الحكم: «منية» تحريف. [2] فتوح مصر لابن عبد الحكم 82. [3] ابن عبد الحكم: «ترحل» .

دينارين على كلّ رجل لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه أكثر من ذلك؛ إلّا أنّه يلزم بقدر ما يتوسّع فيه من الأرض والزّرع، إلا الإسكندريّة، فإنّهم كانوا يؤدّون الجزية والخراج على قدر ما يرى من وليّهم؛ لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة من غير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. قال: وكانت قرى من مصر قاتلت المسلمين، وظاهروا الرّوم عليهم، وهى: بلهيب، وقرية الخيس، وسلطيس، وقرسطا، وسخا. فسبوا، فوقعت سباياهم بالمدينة، فردّهم عمر بن الخطّاب إلى قراهم، وصيّرهم وجماعة القبط ذمّة، وكتب بردّهم. وقيل: إنّما كتب عمر فى أهل سلطيس خاصّة يقول: من كان منهم فى أيديكم، فخيّروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وان اختار دينه فخلّوا بينه وبين قريته، وأن تجعل القرى الّتى ظاهرت مع الإسكندريّة ذمّة للمسلمين، يضربون عليها الخراج.

ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة

ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة قال [1] : وقد ذهب آخرون إلى أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد. روى عن سفيان بن وهب الخولانىّ، قال: لمّا فتحنا مصر بغير عهد قام الزّبير بن العوّام، فقال: اقسمها يا عمرو، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر، فأجابه أن أقرّها حتّى يغزو منها حبل الحبلة. وقيل: إنّ الزّبير صولح على شىء أرضى به. وروى ابن لهيعة بسنده إلى عمرو بن العاص أنّه قال: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد، إن شئت قتلت، وإن شئت خمّست، وإن شئت بعت إلّا أهل أنطابلس؛ فإنّ لهم عهدا نوفى لهم به. وعن ربيعة بن أبى عبد الرّحمن أن عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد ولا عقد، وأنّ عمر بن الخطاب حبس درّها وضرعها [2] ؛ أن يخرج منه شىء نظرا للإسلام وأهله. وعن عروة بن الزّبير: أنّ مصر فتحت عنوة. وعن عبد الملك بن جنادة قال: كتب حيّان بن شريح- وكان من أهل مصر من موالى قريش- إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل

_ [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 88 وما بعدها. [2] ابن عبد الحكم: «وصرها» .

ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب

جزية موتى القبط على أحيائهم. فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد [1] . فكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيّان، أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم. وعن عبد الله بن بكير قال: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية فى سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذّف به، فسخّر رجلا من القبط، فكلّم فى ذلك فقال: إنّهم بمنزلة العبيد إن احتجت إليهم. وعن ابن شهاب أنه قال: كان فتح مصر، بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطّاب جميعا ذمّة، وحملهم على ذلك، ومضى ذلك فيهم إلى اليوم. ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب لمّا رأيت جماعة من المؤرّخين اقتصروا فى أخبار الإسكندريّة عند ذكرهم لفتوحها على ما ذكرت أو نحوه، ومنهم من اختصر ذلك، واقتصر على مجرّد الفتح، ولم يتعرّضوا إلى ما سواه من أخبارها، آثرت أن أضمّ إلى ما شرحته من أخبار فتحها ذكر أخبار بنائها، وسببه وما شاهدوه بأبنيتها من العجائب، وكيف تحيّل على وضعها حتّى تمّت، ودفع ظلمة الضّرر عن سكّانها لمّا ادلهمّت، لأنّ مثل هذا الثّغر العظيم الّذى شاع فى الآفاق ذكره واشتهر، وحمد

_ [1] بعدها فى ابن عبد الحكم: «إنما أخذوا عنون بمنزلة العبيد» .

من التجأ إليه ممّن نبت به الغربة وعاقبة السّفر، وحقّق باختياره صدق الخبر عنه وتيقّن الخبر، لا يقتصر فيه على هذه النّبذة التى ذكرناها، واللّمعة الّتى أوردناها؛ بل يتعيّن بسط القول فيه، وأن يتكلّم المؤلّف إذا انتهى إليه بملء فيه. وربّما اعترض علىّ معترض لم يطالع مجموع ما ألّفت، ولا وقف على جملة ما صنّفت، فيقول: كيف اقتصر على فتوح مصر على مجرّده وهى أصل بلاده، وقاعدة عباده، وبسط القول فى الإسكندرية وهى على الحقيقة من مضافاتها، وولاية من جملة ولاياتها! وقد تجول فيه خيل الاعتراض، ويعدل عن الانشراح إلى الانقباض، ويتوّهّم أنّ ذلك عن عجز أو قصر، وإن بسط العذر فيقول: عن ملال وضجر. وليس الأمر- ولله الحمد- كذلك؛ لأنّا ذكرنا أخبار مصر فى كتابنا هذا فى أربعة مواضع سلفت منه، فذكرنا خصائصها وما فضّلت به على غيرها فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وكلّ ذلك فى السّفر الأوّل من كتابنا فى خصائص البلاد، وذكرنا أخبار نيلها فى الباب السّابع من القسم الرّابع من الفنّ الأوّل فى الأنهار، وذكرنا أخبار ما بها من المبانى القديمة والآثار العظيمة، فى الباب الثّالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل. وذكرنا أخبار من ملكها من ملوك الأمم قبل الطّوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار، وغير ذلك من أخبارها وعجائبها، وذلك فى الباب الثانى

من القسم الرّابع من الفنّ الخامس، وهو فى السّفر الثّانى عشر، والثالث عشر من هذا الكتاب، فلا اعتراض بعد ذلك علىّ ولا تقصير تنتسب نسبته إلىّ. ولنأخذ الآن فى أخبار الإسكندرية، قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله [المسعودىّ] رحمه الله فى كتابه المترجم «بمروج الذّهب» [1] . ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونىّ لمّا استقام ملكه فى بلاده، سار يختار أرضا صحيحة الهواء، والتّربة والماء، فانتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فى موضعها آثار بنيان وعمدا كثيرة من الرّخام، وفى وسطها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد: «أنا شدّاد بن عاد، شددت بساعدىّ البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، الّتى لم يبن مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هاهنا كإرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم وكرم [2] ، من جميع العشائر والأمم، [وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم] [3] ، فأصابنى ما أعجلنى، وعمّا أردت إليه قطعنى مع وقوع [4] ما أطال همّى وشجنى، وقلّ نومى وسكنى، فارتحلت بالأمس عن دارى، لا لقهر ملك جبّار، ولا خوف جيش جرّار، ولا عن رغبة [5] ولا صغار؛ ولكن لتمام الأقدار [6] ، وانقطاع الآثار،

_ [1] مروج الذهب 1: 370 وما بعدها. [2] المسعودى: «إقدام وكرم» . [3] من المسعودى. [4] فى الأصلين: «وقوعها» ، وما أثبته من المسعودى. [5] المسعودى: «رهبة» . [6] المسعودى: «المقدار» .

وسلطان العزيز الجبّار، فمن رأى أثرى، وعرف خبرى، وطول عمرى، ونفاذ بصرى، وشدّة حذرى، فلا يغترّ بالدّنيا بعدى» ... وكلام كثير يرى فيه فناء الدّنيا، ويمنع من الاغترار بها، والسّكون إليها، لم يذكره المسعودىّ. قال [1] : فنزل الإسكندر مفكّرا يتدبّر هذا الكلام ويعتبر، ثم بعث بحشر الصّنّاع من البلاد، وخطّ الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا، وأمر بنقل الرّخام والمرمر والأحجار من جزيرة صقلّية، وبلاد إفريقيّة، وأقريطيش، وأقاصى [بحر] [2] الرّوم [3] . وجزيرة رودس وغيرها، فنقلت فى المراكب، وأمر الصّنّاع والفعلة أن يدوروا بما رسم لهم من أساس المدينة، وعمل على كلّ قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منطوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرّخام كان أمام مضربه. وعلّق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر النّاس والقوّام على الصّنّاع والبنّائين والفعلة، أنّهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها. وأحبّ الإسكندر أن يجعله فى وقت يختاره، وطالع سعد [4] يأخذه، فخفق الإسكندر يوما برأسه، فأخذته سنة فى حال ارتقابه للوقت [5] . فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير فحرّكه، وخرج صوت

_ [1] المصدر نفسه. [2] من المسعودى. [3] بعدها فى المسعودى: «مما يلى مصبه من بحر أقيانوس» . [4] المسعودى: «يختاره ذى طالع سعيد» . [5] المسعودى: «ارتقابه؟؟؟ الوقت المحمود» .

الجرس، وتحرّكت الحبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصّغار، وكان قد عمل ذلك بحركات فلسفيّة. فلمّا سمع الصّنّاع حسّ أصوات الجرس وصنعوا الأساس [1] دفعة واحدة وارتفع الضّجيج بالتّحميد والتّقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأخبر به، فقال: أردت أمرا والله أراد غيره، ويأبى الله إلّا ما يريده، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إيّاها. قال: ولمّا [2] أحكم بناؤها، وثبّت أساسها، وجنّ اللّيل عليهم، خرجت دوابّ من البحر أتت على جميع ذلك البنيان؛ فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدء الخراب فى عمرانها، وتحقّق مراد البارى فى زوالها. وتطيّر من فعل الدّوابّ، وتكرّر ذلك من فعل الدّوابّ فى كلّ يوم، والإسكندر يوكّل به من يحرسه، وهو يصبح خرابا، فقلق لذلك، وراعه ما رأى، ففكّر ما الّذى يصنع! وأىّ حيلة يعمل فى رفع أذى الدّوابّ عن المدينة، فسنحت له الفكرة ليلة، فلمّا أصبح أمر الصّنّاع أن يتّخذوا تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع فى عرض خمسة أشبار، وجعل فيه جامات من الزّجاج، وطليت بالقار وغيره من الأطلية التى تمنع الماء أن يدخل التّابوت، وجعل فيه مواضع للحبال، ودخل فيه ومعه رجلان من كتّابه ممّن له علم بإتقان التّصوير، وأمر أن يستر [3] عليه، وعليهم باب

_ [1] المسعودى: «فلما رأى الصناع تحرك الحبل وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس ... » . [2] المصدر نفسه 1: 371 وما بعدها. [3] المسعودى: «أن يسد عليه الأبواب» .

التّابوت، ويطلى بتلك الأطلية [1] ، وأمر بمركبين، فعلّق التّابوت بينهما وجعل فى أسفله من الخارج مثقلات الرّصاص والحديد، وشدّ حباله إلى المركبين، وأخرجهما إلى اللّجّة، وسمّر بعضها بخشب إلى بعض لئلّا يفترقا، وأرخوا التّابوت فى البحر، فاستقرّ بقراره، فنظر من تلك الجامات إلى دوابّ البحر وحيواناته؛ فإذا بصور شياطين على أمثال النّاس، رءوسهم كرءوس السّباع، وفى أيديهم الفئوس والمقامع والمناشير، يحاكون بذلك صنّاع المدينة، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصّور، وأحكموها فى القراطيس على هيئاتها وأشكالها وقدودها، ثم حرّك الحبال، فرفعه من بالمركب. فلمّا خرج أمر المصوّرين بتصوير تلك الصّور، وصنعها من النّحاس والحديد والحجارة، فعملت تماثيلها، ثم نصبها على الأعمدة بشاطئ البحر، وأمر بالبناء فبنى، فلمّا جنّ اللّيل، وظهرت تلك الدّوابّ من البحر، نظرت إلى أشكال صورها على العمد فرجعت إلى البحر ولم تعد، فتمّ بناء الإسكندريّة، وشيّدت، فأمر أن يكتب على أبوابها: «هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنّجاح، واليمن والسّرور، والثّبات على الدّهور [2] ، فلم يرد البارى ملك السّموات والأرض ومفنى الأمم أن أبنيها [3] كذلك، فبنيتها وأحكمتها، وشيّدت سورها، وآتانى الله من كلّ شىء [علما وحكما، وسهّل فى وجوه الأسباب، فلم يتعذّر علىّ فى العالم شىء] [4] ممّا

_ [1] المسعودى: «الأطلية الدافعة للماء» . [2] المسعودى: «فى الدهور» . [3] المسعودى: «نبنيها» . [4] من المسعودى.

أردته، ولا امتنع علىّ شىء ممّا طلبته، لطفا من الله عزّ وجلّ وصنعا لى، وصلاحا لعباده [1] من أهل عصرى، والحمد لله ربّ العالمين، لا إله إلّا الله هو ربّ كلّ شىء. ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث من العمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى آخر وقت دثور العالم. وكان بناؤها طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة تدوّرها [2] ، ويسير تحتها الفارس، وبيده رمح لا يطبق به حتّى يدور جميع أبراجها وقناطرها، وعمل لتلك العقود والأبراج مخاريق للضّياء، ومنافذ للهواء. قال: وكانت الإسكندريّة تضيئ باللّيل من غير مصباح لشدّة بياض الرّخام والمرمر، وأسواقها وأزقّتها وشوارعها مقنطرة بها لئلّا يصيب أهلها المطر. قال: وكان عليها سبعة أسوار من أحجار [3] مختلفة الألوان، بينها خنادق، بين كلّ خندق وسور فصل [4] . قال: وربّما علّق فيها شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض السّور أبصار النّاس لشدّة بياضه، فلمّا سكنها أهلها كانت آفات البحر تخطف أهل المدينة باللّيل، فيصبحون وقد فقد منهم العدد الكثير، فأهمّ ذلك الإسكندر، فاتّخذ الطّلّسّمات على أعمدة هنا لك،

_ [1] المسعودى: «صلاحا لى ولعباده» . [2] المسعودى: «عليها دور المدينة» . [3] المسعودى: «من أنواع الحجارة» . [4] المسعودى: «فصلان» .

تدعى المسالّ، وهى باقية إلى هذا العصر، فامتنع الدّوابّ من التّعرّض إلى أهلها بعد ذلك، فأمنوا. وأمّا المنارة فقد ذكرناها فى الباب الثالث من القسم الخامس من من الفنّ الأوّل فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادة ذكرها ثانيا. نعود إلى أخبار فتوح مصر إن شاء الله تعالى:

ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية إلى الفسطاط - واختطاطه

ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية إلى الفسطاط- واختطاطه قال [1] ابن لهيعة: إنّ عمرو بن العاص لمّا فتح الإسكندريّة ورأى بيوتها وبناءها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد لقيناها. فكتب إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إذا جرى النّيل. فكتب عمر إلى عمرو: إنى لا أحبّ أن ينزل المسلمون منزلا يحول بينى وبينهم الماء فى شتاء ولا صيف. فتحوّل عمرو من الإسكندريّة إلى الفسطاط؛ وإنما سمّيت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لمّا توجه إلى الإسكندرية، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرّخ. فقال عمرو: لقد تحرّم منّا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ فى موضعه، وأوصى به صاحب القصر، فلمّا قفل المسلمون من الإسكندريّة قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط- يريدون فسطاط عمرو، وكان مضروبا فى موضع دار عمرو بن العاص الّتى عمرّت بعد- واختطّ عمر والمسجد الجامع العمرى، وكان ما حوله حدائق وأعناب، فنصبوا الحبال حتى استقامت لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتّى وضعوا القبلة، واتخذ عمرو فى المسجد منبرا.

_ [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 91 وما بعدها.

فكتب إليه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه: أمّا بعد، فإنّه بلغنى أنك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما يحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون تحت قدميك! فعزمت عليك لما كسرته. قال: واختطّ الناس بعد ذلك. فكتب عمرو إلى عمر: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: أنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، ففعل، فكان يباع بها الرّقيق. قال: ولمّا اختطّ المسلمون تركوا بينهم وبين البحر والحصن فضاء لتغريق دوابّهم وإبادتها، فلم يزل كذلك حتّى ولى معاوية ابن أبى سفيان، فاشترى دور قوم منهم، وأقطعهم من ذلك الفضاء، فسمّيت القطائع، وبناها أولئك دورا لهم بدل دورهم. قال: واختّطت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو إلى عمر يعرّفه أمر الخطط. فكتب إليه عمر يقول له: كيف رضيت أن تفرّق أصحابك! ولم يكن ينبغى لك أن ترضى لأحد من أصحابك، أن يكون بينك وبينه بحر لا تدرى ما يفجؤهم. فلعلّك لا تقدر على غياثهم حتّى ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك وأعجبهم موضعهم، فابن عليهم من فئ المسلمين حصنا. فعرض عمرو ذلك عليهم، فأبوا، وأعجبهم موضعهم بالجزيرة،

ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وإبطال عمرو تلك العادة

فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن الّذى بالجيزة، فى سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه فى سنة اثنتين وعشرين. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وإبطال عمرو تلك العادة قال [1] ابن لهيعة: لمّا فتح عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط [2] ، فقالوا له: أيها الأمير، إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجرى إلّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشّهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضيناهما، وجعلنا عليها من الحلىّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النّيل. فقال لهم عمرو: إنّ هذا لا يكون فى الإسلام، وإنّ الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى، لا يجرى كثيرا ولا قليلا؛ حتّى همّوا بالجلاء، فلمّا رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بذلك، فكتب إليه: قد أصبت، إنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النّيل إذا أتاك كتابى. فلمّا قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة؛ فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر:

_ [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 149، 150. [2] فتوح مصر: «من أشهر العجم» .

ذكر ما قرر فى أمر الجزية من الخراج

أمّا بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القّهار الّذى يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة فى النّيل قبل يوم الصّليب بيوم، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء، فأصبحوا وقد أجرى الله [1] عز وجل النيل ستة عشر ذراعا فى ليلة، وانقطعت تلك السّنّة السّيّئة عن أهل مصر. ذكر ما قرر فى أمر الجزية من الخراج قال [2] : وكانت فريضة مصر لحفر خلجانها، وإقامة جسورها، وعمارة قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا، معهم الطّور والمساحى والأداة يعتقبون ذلك لا يدعونه [3] شتاء ولا صيفا. ثمّ كتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى عمرو أن يختم على رقاب أهل الذّمّة بالرّصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزّوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا. وألّا يضربوا الجزية إلّا على من جرت عليه المواسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبّهون بالمسلمين فى لبوسهم. قال: ولمّا استوسق لعمرو بن العاص الأمر، وأقرّ قبط مصر على جباية الرّوم، وكانت جبايتهم بالعدل: إذا عمرت القرية، وكثر أهلها زيد عليهم، فإذا قلّ أهلها وخربت نقصوا. فكانوا يجمعون خراج كلّ قرية وما فيها من الأرض العامرة، فيبدرون [3] فيخرجون من الأرض فدادين لكنائسهم وحمّاماتهم. ثم يخرج منها عدد لضيافة المسلمين،

_ [1] ابن عبد الحكم: «وقد أجره الله» . [2] ابن عبد الحكم 151 وما بعدها. [3] فى الأصلين: «فيبدون» ، وما أثبته من فتوح مصر.

ونزول السّلطان، فإذا فرغوا، نظروا إلى ما فى كلّ قرية من الصّنّاع والأجراء فقسّموا عليهم بقدر احتمالهم؛ فإن كانت فيها جالية قسموا عليها بقدر احتمالها، وقلّما كانت تكون إلا للرجل المنتاب أو المتزوّج، ثم ينظر ما بقى من الخراج فيقسّمونه بينهم على عدد الأرض، ثم يقسّمون ذلك بين من يريد الزّرع منهم على قدر طاقتهم، فإن عجز أحد وشكا ضعفا عن زرع أرضه، وزّعوا [1] ما عجز عنه على الاحتمال، وإن كان منهم من يريد الزّيادة، أعطى ما عجز عنه أهل الضّعف؛ فإنّ تشاحّوا قسموا ذلك على عدّتهم، وكانت قسمتهم على قراريط، الدنيار بأربعة وعشرين قيراطا، يقسّمون هذه الأرض على ذلك. قال: وكذلك روى عن النّبىّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا» . قال: وجعل [عليهم] [2] لكلّ فدّان نصف إردبّ قمحا، وويبتين من شعير إلّا القرط فلم تكن عليه ضريبة، والويبة يومئذ ستّة أمداد كأنّه يريد بذلك البدار. قال: وروى عن اللّيث بن سعد رحمه الله، أنّ عمرو بن العاص جبى مصر اثنى عشر ألف ألف دينار. وقال غير اللّيث: جباها المقوقس قبله بسنة عشرين ألف ألف دينار. قال اللّيث: وجباها عبد الله بن سعد حين استعمله عليها عثمان أربعة عشر ألف ألف دينار.

_ [1] فى الأصلين: «زرعوا» وما أثبته من ابن عبد الحكم. [2] تكملة من ص.

ذكر خبر المقطم

فقال عثمان لعمرو: يا أبا عبد الله: درّت بعدك اللّقحة بأكثر من درّها الأوّل. فقال عمرو: أضررتم بولدها. وكتب عمر إلى عمرو أن يسأل المقوقس عن مصر، من أىّ شىء تأتى عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو، فقال: تأتى عمارتها وخرابها من وجوه خمسة، أن يستخرج خراجها فى إبّان واحد، عند فراغ أهلها من زرعهم، ويرفع خراجها فى إبّان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، وتحفر فى كلّ سنة خلجها، وتسدّ ترعها وجسورها، ولا يقبل محل أهلها، يريد البغى، فإن فعل هذا فيها عمرت، وإن فعل بخلاف هذا خربت، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر خبر المقطم روى [1] عن اللّيث بن سعد، قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطّم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك. وقال [أكتب] [2] فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه، اسأله لم أعطاك به ما أعطاك وهى لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنّا لنجد صفتها فى الكتب، أنّ فيها غراس الجنّة. فكتب بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمرو: انّا لا نعلم غراس الجنّة إلّا للمؤمنين،

_ [1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 156 وما بعدها. [2] من ص وفتوح مصر. [3] فتوح مصر: «ماء» .

ذكر خبر خليج أمير المؤمنين

فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين، ولا تبعه بشىء، فكان أوّل رجل دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر. قالوا: والمقطّم ما بين القصير إلى مقطع الحجارة، وما بعد ذلك فمن اليحموم. وقد اختلف فى القصير، فقال ابن لهيعة: ليس بقصير موسى النبىّ عليه السّلام؛ ولكنّه موسى السّاحر. وقال كعب الأحبار: هو قصير عزيز مصر، كان إذا جرى النيل يترفّع فيه. ويقال: بل كان موقدا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من منف إلى عين شمس، وكان على المقطّم موفد آخر؛ فإذا رأوا النار علموا بركوبه، فأعدّوا له ما يريد، وكذلك إذا انصرف. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر خبر خليج أمير المؤمنين وهذا [1] الخليج كانت السّفن تسير فيه من مصر إلى بحر القلزم، تحمل الطّعام والأصناف إلى مكّة والمدينة. وكان من خبره على ما روى عن اللّيث بن سعد أنّ النّاس بالمدينة أصابهم جهد شديد فى خلافة عمر بن الخطّاب فى عام الرّمادة، فكتب إلى عمرو: من عبد الله أمير المؤمنين، إلى العاصى ابن العاص. سلام عليك، أمّا بعد؛ فلعمرى يا عمرو ما تبالى إذا شبعت

_ [1] فتوح مصر 162 وما بعدها.

أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معى، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! يردّد قوله. فكتب إليه عمرو: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص. أمّا بعد. فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، وقد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندى، والسّلام عليك ورحمة الله. وبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة، وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا، فلمّا قدمت على عمر وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كلّ بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطّعام. وبعث عبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام وسعد بن أبى وقّاص أن يقسّموها على النّاس، ويدفعوا [1] إلى أهل كلّ بيت بعيرا بما عليه، وأن يأكلوا الطّعام، وينحروا البعير فيأكلوا لحمه، ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذى كان فيه الطّعام لما أرادوا. فوسّع الله بذلك على النّاس، فلمّا رأى ذلك عمر حمد الله، وكتب إلى عمرو أن يقدم عليه، هو وجماعة أهل مصر، فقدموا عليه. فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله تعالى قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطّعام، وقد ألقى فى روعى لما أحببت من الرّفق بأهل الحرمين والتّوسعة عليهم [2] ، أن أحفر خليجا من نيل مصر حتّى يسيل فى البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطّعام

_ [1] ك: «فدفعوا» . [2] يعدها فى ابن عبد الحكم «حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين.»

إلى المدينة ومكّة، فإنّ حمله [على] [1] الظّهر يتعذّر، ولا نبلغ منه ما نريد. فانطلق أنت وأصحابك، فتشاوروا فى ذلك حتّى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم، وقالوا: نتخوّف أن يدخل فى هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا الأمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر، فلمّا رآه ضحك وقال: والّذى نفسى بيده لكأنىّ أنظر إليك يا عمرو، وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرت به، فثقل ذلك عليهم، وقالوا لك كذا وكذا، للّذى كان منهم. فقال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال عمر: يا عمرو، انطلق بعزيمة منّى حتى تجدّ فى ذلك، ولا يأتى عليك الحول حتّى تفرغ منه إن شاء الله تعالى. فانصرف عمرو، ثمّ احتفر الخليج الّذى كان فى حاشية الفسطاط الّذى يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النّيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتّى جرت فيه السّفن، فحمل فيه ما أراد من الطّعام إلى المدينة ومكّة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمّى خليج أمير المؤمنين، ثمّ لم يزل يحمل فيه الطّعام إلى زمن عمر بن عبد العزيز، ثمّ ضيّعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرّمل، فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التّمساح من ناحية طحا القلزم.

_ [1] من ص.

قال: ويقال: إنّ عمرو بن العاص قال لعمر بن الخطّاب. لمّا قدم عليه: يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنّه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلمّا فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج، واستدّ، وتركته التّجار؛ فإن شئت أن تحفره فننشىء به سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال له عمر: نعم، فافعل. فلمّا ذكر عمرو ذلك لأصحابه كرهوه على ما تقدّم، فعزم عمر على عمرو أن يحفره فحفره. ويقال: إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمّا كتب إلى عمرو بما كتب واستغاثه، كتب [عمرو] [1] إليه: أمّا بعد، فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، أتتك [2] عير أوّلها عندك وآخرها عندى، مع أنّى أرجو أن أجد السّبيل إلى أن أحمل إليك فى البحر. ثم إنّ عمرا ندم على كتابه فى الحمل إلى المدينة، وقال: إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة، فكتب إليه: إنّى نظرت فى أمر البحر، فإذا هو عسر لا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر: إلى العاصى بن العاص: قد بلغنى كتابك، تعتلّ فى الّذى كنت كتبت إلىّ به من أمر البحر، وايم الله لتفعلنّ أو لأقلعنّك بأذنك ولأبعثنّ من يفعل ذلك. فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر، ففعل، فبعث إليه عمر ألا تدع

_ [1] من ص. [2] ص: «جاءت» .

ذكر الخبر عن فتح الفيوم

بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلّها إلّا بعثت إلينا منه. ويقال: إنّما دلّ عمرو بن العاص على الخليج رجل من قبط مصر، أتاه فقال له: أرأيت إن دللتك على مكان تجرى فيه السّفن حتى تنتهى إلى المدينة ومكّة، أتضع عنّى الجزية. وعن أهل بيتى؟ قال: نعم، وكتب إلى عمر، فقال: افعل. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر الخبر عن فتح الفيوم روى [1] عن سعيد بن غفير وغيره، قالوا: لما تمّ الفتح للمسلمين، بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى الّتى حولها، فأقامت بالفيّوم سنة لم يعلم المسلمون بمكانها؛ حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فبعث عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصّدفىّ، فلمّا سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهمّوا بالانصراف فقال: لا تعجلوا، سيروا [2] ، فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيّوم، فهجموا عليها، فلم يكن عند أهلها قتال، وألقوا بأيديهم. قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصّدفى- وهو صاحب الفرس الأشقر على فرسه- ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيّوم، فلمّا رأى سوادها رجع إلى عمرو، فأخبره بذلك. ويقال: [بل] [3] بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصّعيد، فسار حتّى أتى القيس، فنزل بها، وبه سمّيت، فذكر ذلك لعمرو.

_ [1] فتوح مصر 169. [2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «فإن كان كذب، فما أقدركم على ما أردتم» . [3] من ص.

ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرت

فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه، فأجاز عليه البحر، وكانت أنثى، فأتاه بالخبر، ويقال: إنّه أجاز من ناحية الشّرقيّة حتى انتهى إلى الفيّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرت كان [1] فتح زويلة فى سنة إحدى وعشرين؛ وذلك أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهرىّ إليها، فافتتحها صلحا، وما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقيل: فتحها فى سنة عشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده. ثم سار عمرو بن العاص من مصر فى سنة اثنتين وعشرين إلى برقة، فصالح أهلها على الجزية، وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه، فلمّا فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب، فحاصرها شهرا، فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيّها، فخرج رجل من بنى مدلج يتصيّد فى سبعة نفر فسلكوا غرب المدينة، فلمّا رجعوا اشتدّ عليهم الحرّ، فأخذوا على جانب البحر ولم يكن السّور متّصلا بالبحر، وكانت سفن الرّوم فى مرساها تقابل بيوتهم، فرأى المدلجىّ وأصحابه مسلكا فى البحر إلى البلد، فدخلوا منه، وكبّروا، فلجأ الرّوم إلى سفنهم؛ لأنّهم ظنّوا أنّ المسلمين قد دخلوا المدينة، فنظر عمرو ومن معه، فرأى السّيوف فى المدينة، وسمعوا الصّياح، فأقبل

_ [1] بعدها فى عبد الحكم: «وكان يقال لفرسة الأعمى» . [2] ابن عبد الحكم 170 وما بعدها.

الجيش حتّى دخل المدينة، فلم يفلت من الروم إلّا بما خفّ حمله فى مراكبهم. وكان أهل حصن سبرت قد اطمأنّوا، فجهّز [1] إليهم جيشا كثيفا، فصبّحوها وقد فتح أهلها الباب، وسرّحوا مواشيهم فدخلها المسلمون مغالبة وغنموا ما فى الحصن، وعادوا إلى عمرو. ثم سار عمرو إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدّونها جزية، وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا بيعه من أولادهم فى جزيتهم. قال المؤرّخ: وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من بلاد الغرب؛ أنّهم كانوا بنواحى فلسطين، فلما قتل ملكهم جالوت، ساروا نحو الغرب، وتفرقوا، فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة برقة، وتعرف قديما بأنطابلس- وقيل فيها: أنطابلس- وانتشروا فيها حتى بلغوا السّوس، ونزلوا ونزلت هوّارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة مدينة سبرت، وجلا من كان بها من الرّوم [من أجل ذلك] [2] كذلك، وأقام الأفارق وهم خدم الرّوم على صلح يؤدّونه لمن غلب على بلادهم. انتهت الفتوحات فى خلافة عمر رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] ص «فجرد» . [2] زيادة من فتوح مصر.

ذكر الغزوات إلى أرض الروم

ذكر الغزوات إلى أرض الروم كان أوّل من غزا أرض الروم من المسلمين أبو بحريّة عبد الله ابن قيس فى سنة عشرين، وقيل: أوّل من دخلها ميسرة بن مسروق العبسى، فسلم وغنم، ثمّ غزاها معاوية بن أبى سفيان فى سنة اثنتين وعشرين، ودخلها فى عشرة آلاف فارس من المسلمين. وفى سنة ثلاث وعشرين غزا معاوية الصائفة، ومعه عبادة بن الصّامت وأبو أيّوب الأنصارى وأبوذرّ وشدّاد بن أوس. وفيها فتح معاوية رضى الله عنه عسقلان على صلح.

ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوحات والغزوات

ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوحات والغزوات سنة ثلاث عشر: فى هذه السّنة، توفى الأرقم بن أبى الأرقم يوم مات أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، وهو الّذى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا بداره بمكّة أوّل ما أرسل صلّى الله عليه وسلّم. سنة أربع عشرة: فى هذه السنة أمر عمر رضى الله عنه بالقيام فى شهر رمضان فى المساجد، وجمعهم على أبىّ بن كعب، وكتب إلى الأمصار بذلك. وفيها، ضرب عمر رضى الله عنه ابنه عبد الله وأصحابه فى شراب شربوه، وضرب أيضا أبا محجن الثّقفىّ فى الشّراب. وفيها حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس. وكان العمّال على مكّة: عتّاب بن أسيد فى قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبى وقّاص، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى البحر عثمان بن أبى العاص، وقيل: العلاء بن الحضرمىّ، وعلى عمارة حذيفة بن محصن. وفيها مات أبو قحافة، والد أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، ومات سعد بن عبادة الأنصارىّ، وكان أسنّ من أسلم ممّن بنى هاشم رضى الله عنه.

ذكر فرض العطاء وعمل الديوان

ذكر فرض العطاء وعمل الديوان سنة خمس عشرة: وفى هذه السنة فرض عمر رضى الله عنه للمسلمين الفروض، ودوّن الدّواوين، وأعطى العطايا على السّابقة فى الإسلام لا على البيوت. قال: ولمّا فرض العطايا أعطى صفوان بن أميّة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو فى أهل الفتح أقلّ ممّا أعطى من قبلهم، فامتنعوا من أخذه، وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منّا، فقال: إنّى إنّما أعطيتهم على السّابقة فى الإسلام لا فى الأحساب، فقالوا: نعم إذن، وأخذوا. وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشّام، فلم يزالا مجاهدين حتّى أصيبا فى بعض تلك الدّروب. وقيل: ماتا فى طاعون عمواس. وقيل: لمّا أراد عمر وضع الدّيوان، قال له علىّ بن أبى طالب، كرّم الله وجهه وعبد الرّحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهم: ابدأ بنفسك. فقال: لا، بل أبدأ بعمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ الأقرب فالأقرب. ففرض للعبّاس، وبدأ به، وجعل له خمسة وعشرين ألفا، [وقيل: فرض له اثنى عشر ألفا] [1] ثم فرض لأهل بدر لكلّ منهم خمسة آلاف، وألحق بهم أربعة لم يكونوا منهم، وهم: الحسن والحسين أبو ذرّ وسلمان [2] رضى الله تعالى عنهم.

_ [1] من ص. [2] ك: «وعثمان» .

وفرض لمن بعد بدر إلى الحديبية لكلّ منهم أربعة آلاف، وفرض لمن بعد الحديبية إلى قتال الرّدّة، لكل منهم ثلاثة آلاف، كان منهم من شهد الفتح. وفرض لأهل الأيّام قبل القادسيّة، وأهل الشّام، فى ألفين ألفين. وفرض لأهل البلاء منهم فى ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسيّة بأهل الأيام! قال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا. وقيل له: قد سوّيت من بعدت داره بمن قربت داره، وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحقّ بالزّيادة، لأنّهم كانوا ردءا للحتوف، وشجى؟؟؟ للعدوّ، فهلّا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوّينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد. والله أعلم. وفرض لمن بعد القادسيّة واليرموك ألفا ألفا. وفرض للرّوادف الّتى فى خمسمائة خمسمائة، وللرّوادف الثلث فى ثلاثمائة، سوّى كلّ طبقة فى العطاء، قويّهم وضعيفهم، عربيّهم وعجميّهم. وفرض للرّوادف الربع فيها فى مائتين وخمسين. وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين. وأعطى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رضى الله عنهن عشرة آلاف عشرة آلاف إلّا من جرى عليها الملك. فقال نسوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفضّلنا عليهنّ فى القسمة، فسوّ بيننا؛ ففعل، وفضّل عائشة

رضى الله عنها بألفين لمحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيّاها، فلم تأخذها. وجعل لنساء أهل بدر خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعدهم إلى الأيّام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسيّة مائتين مائتين، ثم سوّى بين النّساء بعد ذلك. وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستّين مسكينا وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبين، ففرض لكلّ إنسان منهم ولعياله جرييين فى الشّهر. وقال عمر رضى الله عنه قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، [ألف] [1] يجعلها الرجل فى أهله، وألف يتزوّدها معه، وألف يتجهّز بها، وألف يرتفق بها، فمات قبل أن يفعل. وقال له رجل عند فرض العطاء: يا أمير المؤمنين، لو [كنت] [1] تركت فى بيوت الأموال عدّة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك. وقانى الله شرّها، وهى فتنة لمن بعدى، بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله، [طاعة الله ورسوله] [1] ، هما عدّتنا الّتى بهما أفضينا إلى ما ترون؛ فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم. وقال عمر رضى الله عنه للمسلمين: إنّى كنت امرأ تاجرا [2]

_ [1] من ص. [2] ك: «تجرا» .

يغنى الله عيالى بتجارتى، وقد شغلتمونى بأمركم هذا، فما ترون أنّه يحلّ لى فى هذا المال؟ فأكثر القوم، وعلىّ رضى الله عنه ساكت، فقال: ما تقول يا علىّ؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك غيره. فقال القوم: القول ما قال علىّ. فأخذ قوته [1] ، واشتدت حاجة عمر رضى الله عنه. فاجتمع نفر [2] من الصّحابة منهم عثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، فقالوا: لو قلنا لعمر فى زيادة يزيدها إيّاه فى رزقه؟ فقال عثمان رضى الله عنه: هلمّوا فلنستبرئ ما عنده من وراء وراء. فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال، واستكتموها ألّا تخبر بهم عمر. فلقيت عمر فى ذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسؤنّهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم. قال: أنت بينى وبينهم، ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشّقين كان يلبسهما للوفد والجمع، قال: فأىّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبز شعير، فصببنا عليه وهو حارّ أسفل عكّة [2] لنا، فجعلتها دسمة حلوة، فأكل منها. فقال: أىّ بسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنّا نرقعه برقعة فى الصّيف فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثّرنا بنصفه، قال: يا حفصة، فأبلغيهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ [1] ك: «قوة» ، تحريف. [2] ك: «رجالا» . [3] العكة: إناء يوضع فيه السمن.

قدّر فوضع الفضول مواضعها، وتبلّغ بالتّرجية، فو الله لأضعنّ الفضول مواضعها، ولأتبلّغنّ بالترجية؛ وإنّما مثلى ومثل صاحبىّ كثلاثة سلكوا طريقا، فمضى الأول وقد تزوّد فبلغ المنزل، وتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتّبعه الثالث؛ فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق [1] بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. سنة ست عشرة: وفى هذه السّنة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وفيها غرّب [2] عمر رضى الله عنه أبا محجن الثّقفىّ إلى ناصع. وفيها حمى الرّبذة بخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى عليها عمر، ودفنها بالبقيع؛ وذلك فى المحرّم. وفيها كتب عمر التّاريخ بمشورة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. وفيها حجّ عمر بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى ونعم الوكيل.

_ [1] ك: «لزم» . [2] ك: «عذب» .

ذكر بناء الكوفة والبصرة

ذكر بناء الكوفة والبصرة سنة سبع عشرة: فى هذه السنة اختطّت الكوفة والبصرة، وتحوّل سعد بن أبى وقّاص من المدائن إلى الكوفة، وكان سبب ذلك أنّ سعدا أرسل إلى عمر بما فتح الله عليه، فلمّا رأى الوفد سألهم عن تغيّر ألوانهم وحالهم؛ فقالوا: وخومة [1] البلاد [غيّرتنا] [2] ، فأمرهم أن يرتادوا منزلا ينزله النّاس. وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد نزفت بطونها، وخفّت أعضاؤها، وتغيّرت ألوانها. وكان مع سعد، فكتب عمر إلى سعد: أخبرنى ما الّذى غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ الّذى غيّرهم وخومة البلاد، وأنّ العرب لا يوافقها إلّا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه، أن ابعث سلمان وحذيفة فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بينى وبينكم بحر ولا جسر، فأرسلهما سعد. فخرج سلمان حتّى أتى الأنبار، فسار فى غربىّ الفرات لا يرضى شيئا حتّى أتى الكوفة، وخرج حذيفة فى شرقىّ الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة- وكلّ رملة وحصباء مختلطين فهو كوفة- فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أمّ عمرو، ودير

_ [1] ك: «حومة» تحريف. [2] تكملة من ص.

سلسلة وخصاص خلال ذلك [1] ، فأعجبتهما البقعة، فنزلا وصليّا، ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزلا مباركا. فلمّا رجعا إلى سعد بالخبر، وقدم كتاب عمر أيضا عليه، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتمر، أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتّى نزل الكوفة فى المحرّم سنة سبع عشرة، فلمّا نزلها سعد كتب إلى عمر: نّى قد نزلت بكوفة، منزلا بين الحيرة والفرات، برّيّا بحريّا، نبت الحلفاء والنّصىّ [2] ، وخيّرت المسلمين بينها وبين المدائن، من أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولمّا استقرّوا عرفوا أنفسهم، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوّتهم. واستأذن ل الكوفة فى بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فاستقرّ لهم فيها فى الشهر الّذى نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات فيها ها. فكتب إليهم [عمر] [3] : إنّ العسكرة أشدّ لحربكم، وأذكر، وما أحبّ أن أخالفكم، فابتنى أهل المصرين بالقصب. ثمّ إنّ الحريق وقع بالكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشدّ نا، وكان الحريق فى شوّال. فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر اذنه فى البنيان باللّبن، فقدموا عليه بخبر الحريق، واستأذنوه،

_ [1] ك: «وخلال ذلك» . [2] النصى: نبت أبيض ناعم. [3] من ص.

فقال: افعلوا، ولا يزيد بناء، أحدكم عن ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا بالبنيان، والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى أهل البصرة بمثل ذلك، وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة عاصم بن الدّلف أبو الجرباء، وقدّر المناهج أربعين ذراعا، وما بين ذلك عشرين ذراعا، والأزقّة سبعة أذرع، والقطائع سبعين ذراعا. وأوّل شىء خطّ فيهما مسجداهما، وقام فى وسطهما رجل شديد النّزع، فرمى فى كلّ ناحية بسهم، وأمر أن يبنى ما وراء ذلك. وبنى ظلّة فى مقدّمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة فى الحيرة، وجعلوا على الصّحّن خندقا لئلّا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله، وهى قصر الكوفة، بناه روزبة من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له، حتّى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه. قال: وبلغ عمر أنّ سعدا قال: وقد سمع أصوات النّاس من السّوق: سكّتوا عنّى التّصويت، وإنّ النّاس يسمّونه قصر سعد. فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأمره أن يحرق باب القصر، ثم يرجع، ففعل. وبلغ سعدا ذلك، فقال: هذا رسول أرسل لهذا! فاستدعاه، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد، وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها، وأبلغه كتاب عمر إليه وفيه:

_ [1] من ص.

ذكر عزل خالد بن الوليد

بلغنى [1] أنّك اتّخذت قصرا جعلته حصنا، ويسمّى قصر سعد، وبينك وبين النّاس باب، فليس بقصرك؛ ولكنّه قصر الخبال، انزل منه ممّا يلى بيوت الأموال، وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله. فحلف له سعد ما قال الّذى قالوا، ورجع محمد، وأبلغ عمر قوله، فصدّقه. وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان وعليها ضرار بن الخطّاب، وقرقيسياء وعليها عمرو بن مالك، أو عمرو بن عقبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها. وولى سعد الكوفة بعد ما اختطّت ثلاث سنين ونصفا، سوى ما كان بالمدائن قبلها. والله تعالى أعلم. ذكر عزل خالد بن الوليد وفى هذه السّنة عزل خالد بن الوليد عمّا كان عليه من التّقدّم على الجيوش، وسبب ذلك أنّه أدرب [2] هو وعياض بن غنم، فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية بعد رجوع عمر إلى المدينة. وقيل: إنّ مسير خالد مع عياض كان لفتح الجزيرة، فبلغ النّاس

_ [1] ص: «بلغه» . [2] يقال أدرب القوم؛ إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم.

ما أصاب خالد، فانتجعه رجال وكان فيهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف، ودخل خالد الحمّام؛ قيل: حمّام آمد، فتدلّك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر: بلغنى أنّك تدلّكت بخمر، والله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه منه، فلا تمسّها أجسادكم. فكتب إليه: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّ آل المغيرة ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه. فلمّا فرّق خالد فى الّذين انتجعوه الأموال، سمع بها عمر، فكتب إلى أبى عبيدة بن الجرّاح مع البريد أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتّى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف، وإن زعم أنّها من إصابة، فقد أقرّ بخيانة. واعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله. وكان خالد على قنّسرين من قبل أبى عبيدة، فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثمّ جمع النّاس وجلس على المنبر، وقام البريد قبالة خالد، فسأل خالدا من أين أجاز الأشعث؟ فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يتكلّم. فقال بلال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته فلم يمنعه، ووضع قلنسوته، وأقامه وعقله بعمامته، وقال له: أمن مالك

أجزت؟ أم من إصابة أصبتها؟ فقال: لا، بل من مالى، فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثمّ عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قال: فأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول هو أم غير معزول! ولم يشافهه أبو عبيدة بذلك تكرمة له. فلمّا تأخّر قدومه على عمر ظنّ الّذى كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع خالد إلى قنسرين فخطب النّاس، وودّعهم، ثم رجع إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم سار إلى المدينة. فلمّا قدم على عمر شكاه وقال: شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنّك فى أمرى لغير مجمل، فقال له عمر: من أين هذا الثّراء؟ فقال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد على ستّين ألفا فلك. فقوّم عمر ماله، فرآه عشرين ألفا، فجعلها عمر فى بيت المال، ثمّ قال: يا خالد، والله إنّك علىّ لكريم، وإنّك إلىّ لحبيب. وكتب إلى الأمصار: إنّى لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ النّاس فخّموه وفتنوا به. فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، ولا يكونوا بعرض فتنة، وعوّضه عمّا أخذ منه. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل

ذكر بناء المسجد الحرام

ذكر بناء المسجد الحرام [وفى هذه السنة اعتمر عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكّة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم فى بيت المال حتى أخذوا، وكانت عمرته فى شهر رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، واستأذنه فأذن لهم وشرط عليهم، أنّ ابن السبيل أحقّ بالظلّ والماء] [1] . ذكر عزل المغيرة بن شعبة وفى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه المغيرة بن شعبة عن البصرة، واستعمل عليها أبا موسى الأشعرىّ، وكان سبب ذلك أنّه كان بينه أو بين أبى بكرة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طربق، وكانا فى مشربتين، فى كل واحدة منهما كوّة مقابلة للأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدّثون فى مشربته، فهبّت الرّيح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليردّه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّته، وهو بين رجلى امرأة، فقال للنّفر: قوموا وانظروا، فنظروا، وهم: أبو بكرة ونافع بن كلدة، وزياد بن أبيه، وهو أخو أبى بكرة لأمّه، وشبل بن معبد البجلىّ، فقال لهم: اشهدوا. قالوا: ومن هذه؟ قال: أمّ جميل بنت الأفقم، وكانت من بنى عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النّساء يفعلن ذلك

_ [1] من ص.

فى زمانها، فلمّا قامت عرفوها. فلمّا خرج المغيرة إلى الصّلاة منعه أبو بكرة. وروى أبو الفرج الأصبهانىّ صاحب الأغانى [1] فى كتابه بسند رفعه إلى أنس بن مالك وغيره: أنّ المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النّهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: آتى حاجة. فيقول له: حاجة ماذا! إنّ الأمير يزار ولا يزور. قال: وكانت المرأة التى يأتيها جارة لأبى بكرة. قال: فبينا أبو بكرة فى غرفة له مع أخويه نافع، وزياد، ورجل آخر يقال له: شبل بن معبد، وكانت غرفة جارته تحت غرفة أبى بكرة، فضربت الرّيح باب المرأة ففتحته، فنظر القوم؛ فإذا هم بالمغيرة ينكحها، فقال أبو بكرة: هذه بليّة ابتليتم بها، فانظروا، فنظروا؛ فإذا أبو بكرة نزل، فجلس حتّى خرج إليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا. قال: وذهب ليصلّى بالنّاس الظّهر، فمنعه أبو بكرة، فقال: والله ما تصلّى بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال النّاس: دعوه فليصلّ، فإنّه الأمير. ثم تقاربوا فى الرّواية فقاموا: وكتبوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا على البصرة، وأمره بلزوم السّنّة، فقال: أعنّى بعدّة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّهم فى

_ [1] الأغانى 16: 95 وما بعدها (طبعة دار الكتب) .

هذه الأمّة كالملح. قال: خذ من اخترت، فأخذ تسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام ابن عامر، وخرج بهم فقدم البصرة، ودفع كتاب إمرته إلى المغيرة وفيه: أمّا بعد: فإنّه بلغنى نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلّم إليه ما فى يدك، والعجل. فرحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشّهود، فقدموا على عمر، فقال له: المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأونى، أمستقبلهم أم مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة فعرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر! وإن كانوا مستدبرىّ فبأىّ شىء استحلّوا النّظر فى منزلى على امرأتى! والله ما أتيت إلّا امرأتى، وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنّه رآه على أمّ جميل، يدخله كالميل فى المكحلة، وأنّه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأمّا زياد فإنّه قال: رأيته جالسا بين رجلى امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا. قال: هل رأيت كالميل فى المكحلة؟ قال: لا، قال: هل تعرف المرأه؟ قال: لا، ولكن أشبّهها. قال: ففتح، وأمر بالثّلاثة فجلدوا الحدّ، فقال المغيرة: اشفنى من الأعبد. قال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمّت الشّهادة لرجمتك بأحجارك. وفى هذه السنة تزوّج عمر أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب،

سبب ولاية كعب بن سور قضاء البصرة

وهى بنت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل بها فى ذى القعدة. وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس فى هذه السنة. وفى هذه السنة أسلم كعب الأحبار. وفيها، فى ذى الحجة حوّل عمر رضى الله عنه المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت. سنة ثمان عشرة: وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندىّ على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة، وكعب هذا ممّن أسلم على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، وكان لولايته القضاء سبب نذكره. سبب ولاية كعب بن سور قضاء البصرة حكى عن الشّعبىّ، أنّه كان جالسا عند عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فجاءت امرأة فقالت: ما رأيت رجلا [قطّ] [1] أفضل من زوجى، إنّه ليبيت ليله قائما، ونهاره صائما فى اليوم الحارّ ما يفطر، فاستغفر لها عمر، وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنى بالخير وقاله، فاستحيت المرأة وقامت راجعة. فقال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين، هلّا أعدت المرأة على زوجها إذ جاءتك تستعديك! فقال: أكذلك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردّوا علىّ المرأة، فردّت. فقال لها: لا بأس بالحقّ أن تقوليه،

_ [1] من ص.

إنّ هذا زعم أنّك جئت تشتكين أنّه يجتنب [1] فراشك، قالت: أجل، إنّى امرأة شابّة، وإنّى أبتغى ما تبتغى النّساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، فقال: أمير المؤمنين أحقّ أن يقضى بينهما، فقال: عزمت عليك لتقضينّ بينهما؛ فإنّك فهمت من أمرهما ما لم أفهم! قال: فإنّى أرى أنّ لها يوما من أربعة أيّام؛ وكان زوجها له أربع نسوة، فإذا لم يكن له غيرها فإنّى أقضى لها بثلاثة أيّام ولياليهنّ يتعبّد فيهنّ، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله جاء رأيك الأوّل أعجب إلىّ من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة. فلم يزل قاضيا على البصرة إلى أن قتل يوم الجمل؛ وذلك أنّه لمّا اصطفّ النّاس للقتال خرج وبيده المصحف فنشره، وجال بين الصّفين يناشد النّاس فى دمائهم، فأتاه سهم غرب [2] فقتله. وقد قيل: إنّ المصحف كان فى عنقه، وعليه برنس وبيده عصا وهو آخذ بخطام الجمل، فأتاه سهم فقتله. وروى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله بسنده إلى محمد بن سيرين، قال: جاءت [3] امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فقالت: إنّ زوجى يصوم النهار، ويقوم اللّيل، فقال: ما تريدين؟ أتريدين أن أنهاه عن صيام النّهار، وقيام اللّيل! قال: ثم رجعت

_ [1] ك: «تجنب» . [2] سهم غرب، بالسكون ويحرك: لا يدرى راميه. [3] الاستيعاب لابن عبد البر 1318- 1320.

إليه فقالت مثل ذلك، فأجابها بمثل جوابه، ثم جاءت الثالثة فقالت له كما قالت، فأجابها بمثل جوابه. وكان عنده كعب بن سور، فقال كعب: إنّها امرأة تشتكى زوجها. فقال عمر: أمّا إذا فطنت لها فاحكم بينهما، فقام كعب: وجاءت بزوجها فقالت: يأيّها القاضى الفقيه أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده زهده فى مضجعى وتعبّده ... نهاره وليله ما يرقده ولست من أمر النّساء أحمده ... فامض القضا يا كعب لا تردّده فقال الزّوج: إنّى امرؤ قد شفّنى ما قد نزل ... فى سورة النّور وفى السّبع الطّول وفى كتاب الله تخويف جلل ... فردّها عنّى وعن سوء الجدل فقال كعب: إنّ السعيد بالقضاء من فصل ... ومن قضى بالحقّ حقّا وعدل إنّ لها عليك حقّا يا بعل ... من أربع واحدة لمن عقل امض لها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: أيّها الرجل إنّ لك أن تتزوّج من النّساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام، ولامرأتك هذه يوم، ومن أربع ليال ليلة، فلا تصلّ فى ليلتها إلّا الفريضة. فبعثه عمر قاضيا على البصرة. والله تعالى أعلم.

ذكر القحط وعام الرمادة

ذكر القحط وعام الرمادة وفى [1] هذه السّنة أصاب النّاس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرّمادة، وكانت الريح تسفى ترابا كالرّماد، فسمّى لذلك عام الرّمادة، واشتدّ الجوع حتّى كان الوحش يأوى إلى الإنس، وكان الرجل يذبح الشّاة فيعافها من فيحها [2] ، وأقسم عمر لا يذوق سمنا ولا لبنا، ولا لحما؛ حتّى يحيا النّاس. وكتب إلى الأمراء المقيمين بالأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه عمر قسمتها فيمن حول المدينة، فقسّمها وانصرف إلى عمله، وتتايع النّاس، واستغنى أهل الحجاز. وأرسل عمرو بن العاص الطّعام من مصر فى البرّ والبحر، فصار الطعام فى المدينة كسعر مصر. واستسقى عمر رضى الله عنه بالعبّاس بن عبد المطّلب عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أنّ أهل بيت من مزينة، قالوا لصاحبهم وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا، فاذبح لناشاة، فقال: ليس فيهنّ شىء، فلم يزالوا به حتّى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فى المنام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه،

_ [1] الكامل لابن الأثير 2: 388. [2] ابن الأثير: «قبحها» .

فقال: أبشر بالحياة، ائت عمر فأقرأه منّى السلام، وقل له: إنّى عهدتك، وأنت فى العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر. فجاء بلال حتّى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره ففزع وقال: رأيت مسّا؟ قال: لا. قال: فأدخله، فأدخله، فأخبره الخبر، فخرج عمر فنادى فى النّاس، وصعد المنبر، قال: نشدتكم الله الّذى هداكم للإسلام، هل رأيتم شيئا تكرهون؟ قالوا: اللهمّ لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنّما استبطأناك فى الاستسقاء، فاستسق بنا. فنادى فى النّاس، فخرج وخرج معه العبّاس ماشيا، فخطب وأوجز، وصلّى، ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنّا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنّا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلّا بك، اللهم فاسقنا، وأحى العباد والبلاد. وأخذ بيد العبّاس، وإنّ دموع العبّاس تتحادر على لحيته، فقال: اللهمّ إنّنا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك، وبقيّة آبائه، وأكبر رجاله، فإنّك تقول- وقولك الحقّ: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة) [1] ، فحفظتهما بصلاح أبيهما، فاحفظ اللهمّ نبيّك فى عمّه، فقد دنونا إليك مستشفعين ومستغفرين، ثم أقبل على النّاس؛ فقال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا. والعبّاس يقول وعيناه تذرفان. ولحيته تجول على صدره: اللهمّ أنت الرّاعى فلا تهمل الضّالة. ولا تدع الكبير بدار مضيعة؛

_ [1] سورة الكهف 82.

ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه

فقد ضرع الصّغير، ورقّ الكبير، وارتفعت الشّكوى، وأنت تعلم السّرّ وأخفى. اللهمّ فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنّه لا ييئس إلا القوم الكافرون. فنشأت طريرة [1] من سحاب، فقال النّاس: ترون، ترون! ثم مشت فيها ريح، ثم هدرت ودرّت، فو الله ما برحوا حتّى اعتلقوا الحذاء، وقلّصوا المآزر، فطفق النّاس بالعبّاس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئا لك ساقى الحرمين! فقال الفضل [2] بن العباس بن عتبة بن أبى لهب فى ذلك: بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر توجّه بالعبّاس فى الجدب راغبا ... إليه، فما إن رام حتّى أتى المطر ومنّا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه وفى هذه السنة كان طاعون عمواس بالشّام، وعمواس قرية بين الرّملة وبيت المقدس. قال ابن عبد البرّ: وقيل: إنّ ذلك لقولهم: عم واس. قال ذلك الأصمعىّ.

_ [1] الطريرة: الطريقة من السحاب. [2] ك: «الفضيل بن الفضل» .

مات فيه خمسة وعشرون ألفا، منهم: أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن الجرّاح. وقيل عبد الله بن عامر بن الجرّاح. قال أبو عمر: والصّحيح [1] أنّ اسمه عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك [ابن النّضر بن كنانة] [2] القرشىّ الفهرىّ. شهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم [وهاجر الهجرة] [2] الثانية إلى أرض الحبشة، وكان نحيفا معروق الوجه، طوالا [أجنأ] [3] وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وكان رضى الله عنه من كبار الصّحابة وفضلائهم، وأهل السّابقة [منهم] [2] . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح . وقد تقدّم فى أثناء السّيرة النّبوية خبر وفد نجران، وسؤالهم أن يبعث معهم من يحكم بينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» ، فبعثه معهم. وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا. فأخذ بيد أبى عبيدة، وقال: هذا أمين هذه الأمّة. وقال أبو بكر رضى الله عنه يوم السّقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين، يعنى عمر وأبا عبيدة.

_ [1] والاستيعاب 794. [2] من ص. [3] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره.

وقال له عمر رضى الله عنهما؛ إذ دخل عليه الشّام، وهو أميرها: كلّنا غيّرته الدّنيا غيرك. وكانت سنّه يوم توفّى ثمانيا وخمسين سنة، وكانت وفاته رضى الله عنه بالأردنّ، وصلّى عليه معاذ بن جبل، ونزل فى قبره هو وعمرو ابن العاص، والضّحّاك بن قيس. وقبر أبى عبيدة بالقرب من قرية عميا من غور الشّام معروف هناك، قد زرته أنا غير مرّة رضى الله عنه. ومنهم [1] : معاذ بن جبل، وهو أبو عبد الرّحمن معاذ بن جبل ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدىّ بن كعب بن عمرو بن إدّى ابن سعد بن علىّ بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصارىّ الخزرجى ثم الجشمىّ. وقد نسبه بعضهم فى نسب بنى سلمة بن سعد بن علىّ، قال ابن اسحاق: معاذ بن جبل من بنى جشم بن الخزرج، وإنّما ادّعته بنو سلمة، لأنّه كان أخا سهل بن محمّد بن الجدّ بن قيس لأمّه. قال الواقدىّ وغيره: كان معاذ بن جبل طوالا، حسن الشّعر عظيم العنينين، أبيض، برّاق الثّنايا، لم يولد له قطّ. وقال ابن الكلبىّ، عن أبيه: إنّه ولد له عبد الرّحمن بن معاذ. مات بالشام فى الطّاعون أيضا، فانقرض بنو إدّى بموته. وقيل: إنّ عبد الرحمن قاتل مع أبيه يوم اليرموك. ومعاذ بن جبل أحد السّبعين الّذين شهدوا بيعة العقبة، وآخى رسول الله صلّى الله

_ [1] أى وممن توفى فى هذه السنة.

عليه وسلّم بينه وبين عبد الله بن مسعود، قاله الواقدىّ، وقال: هذا ما لا خلاف عندنا فيه. وقال ابن اسحاق: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين جعفر بن أبى طالب. شهد معاذ بدرا والمشاهد كلّها، وبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاضيا إلى الجند من أرض اليمن، يعلّم النّاس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضى بينهم، وجعل إليه قبض الصّدقات من العمّال الّذين باليمن، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قسّم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبى أميّة على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبل على الجند، وأبى موسى الأشعرى على زبيد وزمعة وعدن والسّاحل. وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجّهه إلى اليمن، بم تقضى؟ قال: بما فى كتاب الله عزّ وجلّ. قال: فإنّ لم تجده؟ قال بما فى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الّذى وفّق رسول رسول الله لما يحبّ رسول الله» . وروى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده عن كعب بن مالك، قال: كان [1] معاذ بن جبل شابّا جميلا، من أفضل شباب قومه [2] ، سمحا، لا يمسك؛ فلم يزل يدّان حتّى أغلق ماله كلّه من الدّين، فأتى

_ [1] الاستيعاب 1402 وما بعدها. [2] الاستيعاب: «من أفضل سادات قومه» .

النّبىّ صلّى الله عليه وسلم، فطلب إليه ان يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا لمعاذ بن جبل من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فباع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماله كلّه فى دينه، حتّى قام معاذ بغير شىء، حتى إذا كان [عام] [1] فتح مكّة، بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلّم إلى طائفة من أهل اليمن ليجبره فمكث معاذ باليمن أميرا. وكان أوّل من اتّجر فى مال الله هو، فمكث حتّى أصاب وحتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا قدم قال عمر لأبى بكر: ارسل إلى هذا الرّجل فدع له ما يعيّشه، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: إنّما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا؛ إلّا أن يعطينى. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك لمعاذ، فقال معاذ: إنّما أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجبرنى، ولست بفاعل، ثمّ أتى معاذ عمر وقال: قد أطعتك، وأنا فاعل ما أمرتنى به، إنّى رأيت فى المنام أنّى فى حومة ماء؛ قد خشيت الغرق فخلّصتنى منه يا عمر. فأنى معاذ أبا بكر، فذكر ذلك له، وحلف له أنّه لا يكتمه شيئا فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئا، قد وهبته لك، فقال: هذا خير حلّ [2] ، وطاب، فخرج معاذ عند ذلك إلى الشام. قال أبو عمر: كان عمر قد استعمله فى الشام [حين مات أبو عبيدة] [3] ولما مات

_ [1] من الاستيعاب. [2] فى الأصلين: «حين» ، والمثبت من الاستيعاب. [3] من ص.

أبو عبيدة، استعمل عمر بن الخطّاب معاذ بن جبل على الشّام، فمات من عامه؛ وذلك فى الطّاعون، فاستعمل موضعه عمرو بن العاص. وقال المدائنىّ: مات معاذ بناحية الأردنّ فى طاعون عمواس فى سنة ثمانى عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين. وقال غيره: كان سنّه يوم مات ثلاثا وثلاثين سنة. وقبر معاذ بغور الشّام، بالقرب من قرية [1] القصير من شرقيّها معووف هناك، قد زرته غير مرّة، وبينه وبين قبر أبى عبيدة نحو من [مرحلة] [2] . ومنهم يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف، كان أفضل بنى أبى سفيان، وكان يقال له يزيد الخير. أسلم يوم فتح مكة، وشهد حنينا، واستعمله أبو بكر رضى الله تعالى عنه وأوصاه [3] ، وخرج يشيّعه راجلا. وروى أبو بشر الدّولابىّ: أنّه مات سة تسع عشرة بعد أن افتتح قيساريّة. ومنهم الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشىّ المخزومىّ، وهو أخو أبى جهل لأبويه. أسلم يوم الفتح، وحسن [4] إسلامه، وشهد حنينا، وأعطاه

_ [1] ك: «عمارة» . [2] تكملة من ص. [3] ك: «فأرضاه» . [4] ك: «وشهد إسلامه» .

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة من الإبل، وأعطى المؤلّفة قلوبهم، ثم خرج إلى الشّام فى خلافة عمر رضى الله عنه راغبا فى الرّباط والجهاد فتبعه أهل مكّة يبكون فراقه، فقال: إنّها النّقلة إلى الله تعالى، وما كنت لأوثر [1] عليكم [أحدا] [2] ، فلم يزل بالشّام يجاهد حتّى مات فى طاعون عمواس. وقال المدائنىّ: إنّه قتل يوم اليرموك، فى شهر رجب سنة خمس عشرة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنهم سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤىّ بن غالب القرشىّ العامرىّ. يكنى أبا يزيد، وكان أحد الأشراف من قريش وسادتهم، وهو الّذى عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية وقاضاه كما تقدّم. أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فى سهيل بن عمرو: «دعه فعسى أن يقوم مقاما نحمده» ، فكان المقام الّذى قامه فى الإسلام أنّه لما ماج أهل مكّة عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وارتدّ من ارتدّ من العرب، قام سهيل خطيبا فقال: والله إنّى لأعلم أنّ هذا الدّين سيمتدّ امتداد الشّمس من طلوعها إلى غروبها، فلا يغرّنكم هذا عن أنفسكم،- يعنى أبا سفيان- فإنّه يعلم من هذا الأمر ما أعلم؛ ولكنه قد جثم على صدره بحسد بنى هاشم.

_ [1] ك: «الأمير» تحريف. [2] تكملة من ص.

وأتى فى خطبتة بمثل ما جاء به أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالمدينة. وروى ابن المبارك عن جرير بن حازم [1] ، قال: سمعت الحسن يقول: حضر النّاس باب عمر بن الخطّاب، وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قطّ؛ إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيّها القوم: إنّى والله قد أرى الّذى فى وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من بابكم هذا الّذى تنافسون عليه، ثم قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى أن الله يرزقكم شهادة ثم. نفض ثوبه فقام ولحق بالشّام. وقال المدائنىّ: إنّه قتل باليرموك، والله تعالى أعلم. ومنهم: عتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثّقفى، مات وأبوه حّىّ، ومات غير هؤلاء، رحمهم الله تعالى.

_ [1] ك: «حاذرة» تحريف.

ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون

ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون قال [1] : لمّا هلك النّاس بالطاعون، كتب أمراء الأجناد إلى عمر رضى الله عنه بما فى أيديهم من المواريث، فجمع النّاس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لى أن أطوف على المسلمين فى بلدانهم؛ لأنظر فى آثارهم، فأشيروا علىّ، وكان أراد أن يبدأ بالعراق، فصرف كعب الأحبار رأيه عن ذلك، فخرج إلى الشّام، واستخلف على المدينة علىّ بن أبى طالب، وجعل طريقه على أيلة، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه النّاس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم- يعنى نفسه- فساروا أمامه، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها. وقيل للمتلقّين: قد دخل أمير المؤمنين، فرجعوا، وأعطى عمر الأسقّفّ [2] بها قميصه وقد تخرّق ظهره؛ ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقفّ قميصا غيره، [فلم يأخذه] [3] فلمّا قدم إلى الشام قسّم فيها الأرزاق، وسمّى الشّواتى والصّوئف، وسدّ فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدور بها، واستعمل عبيد الله بن قيس على السّواحل من كلّ كورة، واستعمل معاوية على دمشق

_ [1] ابن الأثير 2: 393. [2] الأسقف عند النصارى. القسيس، وهو دون المطراك. [3] من ص.

وخراجها بعد وفاة أخيه يزيد بن أبى سفيان، وعزل شرحبيل بن حسنة، وقام بعذره فى النّاس، وقال: إنّى لم أعزله عن سخطة، ولكنّى أريد رجلا أقوى من رجل، وكان شرحبيل على خيل الأردنّ، فضمّ ذلك إلى معاوية. قال: ولمّا قدم عمر رضى الله تعالى عنه تلقّاه معاوية فى موكب عظيم، فلما رآه عمر قال: هذا كسرى العرب، فلمّا دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم! قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: مع ما يبلغنى من وقوف ذوى الحاجات ببابك! قال: مع ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض، جواسيس العدوّ بها كثيرة، فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما يرهبهم، فإن أمرتنى فعلت، وإن نهيتنى انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شىء الا تركتنى فى مثل رواجب الفرس [1] ، لئن كان ما قلت حقّا، إنّه لرأى لبيب، وإن كان باطلا إنّها لخدعة أريب. قال: فمرنى يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. قال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادره وموارده جشّمنا ما جشّمناه. وروى أبو عمر بن عبد البرّ: أنّ عمر بن الخطّاب رزق معاوية على عمله بالشّام عشرة آلاف دينار فى كلّ سنة. قال المؤرّخ: واستعمل عمر رضى الله عنه عمرو بن عنبسة على

_ [1] الرواجب: مفاصل أصول الأصابع.

الأهراء [1] ، وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء، من ورثة كلّ منهم، ورجع عمر إلى المدينة فى ذى القعدة من السّنة. قال: ولمّا كان بالشّام وحضرت الصّلاة قال له النّاس: لو أمرت بلالا فأذّن! فأمره، فأذّن، فما بقى أحد ممّن أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وبلال يؤذّن إلّا بكى حتّى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم. وحجّ عمر رضى الله بالنّاس فى هذه السّنة. سنة تسع عشرة: فى هذه السنة سالت حرّة ليلى وهى بالقرب من المدينة نارا، فأمر [عمر] [2] بالصّدقة، فتصدّق النّاس، فانطفأت. وفيها مات أبىّ بن كعب. وقيل: مات سنة عشرين، وقيل اثنتين وعشرين. وقيل: اثنتين وثلاثين، والله تعالى أعلم. وحجّ عمر رضى الله تعالى عنه بالنّاس فى هذه السّنة. سنة عشرين من الهجرة: فى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه قدامة بن مظعون [3] عن البحرين، وولّى عثمان بن أبى العاص.

_ [1] ك: «الأهواز، تحريف. [2] من ص. [3] بعدها فى ابن الأثير: «وحده فى شرب الخمر» .

وقيل: بل استعمل أبا هريرة على البحرين، واليمامة [1] ، [وقيل: استعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة] [2] . وكان سبب عزل قدامة، أنّ الجارود بن المعلّى سيّد عبد القيس قدم على عمر من البحرين، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قدامة شرب فسكر، وإنّى رأيت حدّا من حدود الله حقّا علىّ أن أرفعه إليك. فقال عمر: من يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب، ولكن رأيته سكران يقئ. فقال عمر: لقد تنطّعت فى الشّهادة. ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا حدّ كتاب الله. فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ [فقال: شهيد] [2] . فقال: قد أدّيت شهادتك. فصمت الجارود، ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حدّ الله فقال عمر: ما أراك إلّا خصما، وما شهد أحد بعد إلّا رجلا واحدا. فقال الجارود: إنّى أنشدك الله! فقال عمر: لتمسكنّ عنّى لسانك وإلّا سؤتك. فقال: يا عمر، أما والله ما ذاك بالحقّ أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءنى! ثم قال: يا عمر، إن كنت تشك فى شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهى امرأة قدامة.

_ [1] فى ابن الأثير: «واستعمل أبا بكرة على اليمامة والبحرين. [2] من ص.

فأرسل عمر إلى هند ابنة الوليد ينشدها، فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّى حادّك، فقال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّونى، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ... [1] الآية. فقال عمر: أخطأت التأويل، إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّمه عليك، ثم أقبل عمر على النّاس فقال: ما ترون فى جلد قدامة؟ فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان مريضا، فسكت على ذلك أيّاما، ثم أصبح يوما قد عزم [2] على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون فى جلد قدامة؟ فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان وجعا، فقال عمر: لأن [3] يلقى الله تحت السّياط أحبّ إلىّ من أن ألقاه وهو فى عنقى. ائتونى بسوط تامّ، وأمر بقدامه فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره، فلم يزل كذلك حتّى حجّ عمر وقدامة معه، فلمّا قفلا من حجّهما، ونزل عمر بالسّقيا نام، فلمّا استيقظ قال: عجّلوا علىّ بقدامة، فو الله لقد أتانى آت فى منامى فقال: سالم قدامة فإنّه أخوك. فلمّا أتوه أبى أن يأتى، فأمر عمر به إن أبى أن يجرّوه إليه، فجاءه فاستغفر له عمر وكلّمه، فكان ذلك أوّل صلحهما.

_ [1] سورة المائدة 93. [2] ص: «قدم» . [3] ك: «لئن» .

ذكر اجلاء يهود خيبر منها

حكاه أبو عمر. قال: وكان قدامة خال عبد الله وحفصة ابنى عمر رضى الله عنهم [1] . ذكر اجلاء يهود خيبر منها وفى هذه السّنة أجلى عمر رضى الله عنه يهود خيبر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح الله عليه خيبر، دعا أهلها فقال لهم: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال [على] [2] أن تعملوها، وتكون ثمارها بيننا وبينكم، وأقرّكم على ما أقرّه الله عزّ وجلّ . فقبلوا ذلك [واشترط عليهم] [2] ، أنّا متى شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى السّيرة النّبويّة، فى غزاة خيبر. فلمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرّهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرّهم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقرّهم عمر رضى الله عنه بعده إلى هذه السّنة. ثم بلغه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الّذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعنّ فى جزيرة العرب دينان» ، ففحص عن ذلك حتّى أتاه الثّبت، فأرسل إلى يهود فقال: إنّ الله قد أذن لى فى إجلائكم، وقد بلغنى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان ، فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد

_ [1] الاستيعاب 1277. [2] من ص.

فليتجهّز [1] للجلاء، فأجلى من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق: حدّثنى نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: خرجت أنا والزّبير بن العوّام، والمقداد ابن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعهّدها، فلمّا قدمنا تفرقنا فى أموالنا. قال عبد الله: فعدا [2] علىّ تحت الليل شىء وأنا نائم على فراشى، فنزعت يداى من فرقى [3] ، فلمّا أصبحت استصرخت علىّ صاحباى، فأتيانى فسألانى: من صنع بك هذا؟ فقلت: لا أدرى، فأصلحانى ثم قدما بى على عمر، فقال [4] : هذا عمل [5] اليهود. ثمّ قام فى الناس خطيبا فقال: أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، فقدعوا يديه كما بلغكم، مع عدوتهم على الأنصارىّ قبله، لا نشكّ أنّهم أصحابه، ليس هناك عدوّ غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به؛ فإنّى مخرج اليهود، فأخرجهم. قال: وركب عمر فى المهاجرين والأنصار، وأخرج معه جبار ابن صخر بن أميّة- وكان خارص [6] أهل المدينة وحاسبهم- وزيد

_ [1] ك: «فليستجهز» . [2] ك: «فعدا» . [3] ك: «مرفقى» . [4] ك: «فقلت» . [5] ك: «عملت» . [6] الخارص: هو الذى يقطع النخل، وفى ك: «حارص» .

ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة

ابن ثابت، وهما قسّما خيبر على أهلها على أصل جماعة السّهمان التى كانت عليها. وفيها أيضا أجلى نصارى نجران إلى الكوفة. وفيها بعت عمر علقمة بن مجزز المدلجى إلى الحبشة، وكانت تطرفت بلاد الشام، فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل فى البحر أحدا أبدا- يعنى للغزو. وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وثلاثين فى خلافة عثمان رضى الله عنه.،. ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة سنة إحدى وعشرين: [وفى هذه السنة] [1] عزل عمر بن الخطاب رضى الله عنه سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة؛ حين شكاه أهلها، وولّى عمّار بن ياسر الصّلاة، وعبد الله بن مسعود بيت المال، وعثمان ابن حنيف مساحة الأرض، ثم عزل عمّارا؛ لأنّ أهل الكوفة شكوه، فاستعفى. وأعاد سعدا على الكوفة ثانية، ثم عزله، وولىّ جبير بن مطعم، ثم عزله قبل أن يخرج إليها، وكان سبب عزله أنّ عمر رضى الله عنه ولاه، وقال له: لا تذكره لأحد، فسمع المغيرة بن شعبة أنّ عمر

_ [1] من ص.

خلا بجبير بن مطعم، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير لتعرض عليها طعام السّفر، فقالت: نعم، جيئينى به. فلمّا علم المغيرة جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن ولّيت. وأخبره الخبر، فعزله، وولّى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها إلى أن قتل [عمر] [1] . وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه لمّا أراد أن يعيد سعدا إلى الكوفة أبى عليه، وقال: أتأمرنى أن أعود إلى قوم يزعمون أنّى لا أحسن أن [أصلّى، فتركه وولّى خالد بن الوليد] [2] . وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، قيل: كانت وفاته بحمص، ودفن فى قرية على ميل منها. وقيل: بل توفّى بالمدينة. ولمّا حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أوزهاءها وما فى جسدى موضع شبر الّا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثمّ هأنذا أموت على فراشى كما يموت العير! فلا نامت أعين الجبناء. حكى أبو عمر: أنّه لم تبق امرأة من بنى المغيرة إلّا وضعت لمّتها على قبر خالد بن الوليد، أى حلقت رأسها. قال المؤّرخ: وكان الأمراء فى هذه السّنة على الأمصار، عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة. ومعاوية

_ [1] من ك. [2] من ص.

ابن أبى سفيان على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسّواحل وأنطاكية وقلقية ومعّرة مصرين، والعمّال على بقية الأمصار من ذكرنا. وفيها ولد الحسن البصرى والشّعبىّ. وفيها مات العلاء [ابن] [1] الحضرمىّ أمير البحرين، فاستعمل عمر رضى الله عنه مكانه أبا هريرة. وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. سنة اثنتين وعشرين: فى هذه السنّة ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكان عمّاله على الأمصار من ذكرنا إلّا الكوفة والبصرة؛ فإنّ عامله على الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى. سنة ثلاث وعشوين: وفى هذه السنّة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وحجّ معه أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى آخر حجّة حجّها. وفيها كان مقتل عمر رضى الله عنه وأرضاه بمنّه وكرمه.

_ [1] من ص.

ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته

ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته قد [1] اختلف فى تاريخ مقتله رضى الله عنه، فقال الواقدىّ: لثلاث بقين من ذى الحجّة سنة ثلاث وعشرين. وقال الزّبير: لأربع بقين من ذى الحجّة. وروى عن معدان بن أبى طلحة اليعمرىّ، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة. وكانت خلافته رضى الله تعالى عنه عشر سنين ونصفا وخمس ليال، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصّحيح. وقتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنّ عمر رضى الله عنه خرج يوما يطوف فى الأسواق، فلقيه أبو لؤلؤة فيروز- وكان نصرانيّا، وقيل: مجوسيّا- وقد ذكرنا ما كان يقوله لمّا قدم سبى نهاوند: أكل عمر كبدى، فلمّا لقيه قال: يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة بن شعبة؛ فإنّه يكلّفنى خراجا كثيرا، قال: كم يحمّلك؟ قال: مائة درهم فى الشّهر. وقيل: إنّه قال: درهمان فى كلّ يوم، قال: وما صناعتك؟ قال: نجّار نقّاش حدّاد. قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغنى أنّك تقول: لو أردت أن أصنع رحا تطحن بالرّيح لفعلت. قال: نعم، قال:

_ [1] انظر خبر؟؟؟ مقتله رضى الله عنه فى تاريخ ابن الأثير 3: 26 وما بعدها.

فاعمل لى رحا. قال: إن سلمت لأعملنّ لك رحا يتحدّث بها أهل المشرق والمغرب. فقال عمر: قد أوعدنى العلج الآن، ثم انصرف عمر إلى منزله. فلمّا كان من الغد جاء كعب الأحبار إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنّك ميّت فى ثلاث، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب التوارة، قال عمر: إنّك لتجد عمر بن الخطّاب فى لتّوراة؟ قال: اللهم لا؛ ولكنّى أجد صفتك وحليتك. قال: وعمر لا يجد وجعا، ثم جاءه من الغد وقال: بقى يومان، ثم جاءه من غد الغد وقال: قد مضى يومان، وقد بقى يوم. فلمّا أصبح خرج عمر إلى الصّلاة، وكان يوكّل بالصفوف رجلا، فإذا استوت كبّر، ودخل أبو لؤلؤة فى النّاس، وفى يده خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، فضرب عمر ستّ ضربات، إحداهنّ تحت سرّته، وهى الّتى قتلته، وقتل معه كليب بن البكير اللّيثىّ وجماعة غيره. روى أنه طعن معه اثنا عشر رجلا، وقيل: ثلاثة عشر، مات منهم ستّة، فلمّا وجد عمر حرّ السّلاح سقط، وأمر عبد الرّحمن ابن عوف فصلّى بالنّاس وهو طريح، فاحتمل، فأدخل بيته ودعا عبد الرّحمن، فقال: إنّى أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير علىّ بذلك؟ قال: عمر: اللهمّ لا، فقال: والله لا أدخل فيه أبدا. قال: فهبنى صمتا؛ حتّى أعهد إلى النّفر الّذين توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض، ثم دعا عليّا، وعثمان.

والزّبير، وسعدا، وقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإنّ جاء وإلّا فاقضوا أمركم. أنشدك الله يا علىّ، إن وليت من أمور النّاس شيئا على ألّا تحمل بنى هاشم على رقاب النّاس. أنشدك الله يا عثمان، إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل بنى أبى معيط على رقاب النّاس. أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل أقاربك على رقاب النّاس. قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصلّ بالنّاس صهيب، ثم دعا أبا طلحة الأنصارىّ فقال: قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوص الخليفة من بعدى بالأنصار الّذين تبوّءوا الدّار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوص الخليفة بالعرب؛ فإنّهم مادّة الإسلام، أن تؤخذ من صدقاتهم حقّها، فتوضع فى فقرائهم، وأوص الخليفة بذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوفى لهم بعهدهم. اللهمّ هل بلّغت! لقد تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الرّاحة، ثم قال لابنه عبد الله: انظر من قتلنى؟ فقال: قتلك أبو لؤلؤة، فقال: الحمد لله الّذى لم يجعل منيّتى على يد رجل [ما] [1] سجد لله سجدة واحدة، وأرسل عبد الله ابنه إلى عائشة، فاستأذنها

_ [1] من ص.

أن يدفن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر رضى الله عنه، ثم قال: يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإن تساووا فكن مع الحزب الّذى فيه عبد الرّحمن بن عوف. يا عبد الله، ائذن للنّاس، فدخل عليه المهاجرون والأنصار، فجعلوا يسلّمون عليه، فيقول لهم: هذا عن ملإ منكم؟ فيقولون: معاذ الله! ودخل كعب الأحبار مع النّاس، فلما رآه عمر رضى الله تعالى عنه قال: وأوعدنى كعب ثلاثا أعدّها ... ولا شكّ أنّ القول ما قاله كعب وما بى حذار الموت إنّى لميّت ... ولكن حذار الذّنب يتبعه الذّنب قال: ولمّا طعن أبو لؤلؤة عمر، ومن طعن معه، رمى عليه رجل من أهل العراق برنسا، ثم نزل عليه، فلمّا رأى أنّه لا يستطيع أن يتحرّك، وجأ نفسه فقتلها. قال أبو عمر بن عبد البرّ: ومن أحسن شىء يروى فى مقتل عمر وأصحّه ما رواه بسنده إلى عمرو بن ميمون، قال: [1] شهدت عمر يوم طعن ومات، وما منعنى أن أكون فى الصّفّ المقدّم إلّا هيبته- وكان رجلا مهيبا- فكنت فى الصّفّ الّذى يليه، فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ففاجأ عمر قبل أن تستوى الصّفوف، ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب فإنّه قد قتلنى، وماج النّاس وأسرعوا إليه، فجرح

_ [1] الاستيعاب 1153.

ثلاثة عشر رجلا، فانكفأ عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر، فماج النّاس بعضهم فى بعض حتّى قال قائل: الصّلاة يا عباد الله، طلعت الشمس. فقدّموا عبد الرّحمن بن عوف فصلّى بنا بأقصر سورتين فى القرآن، (إذا جاء نصر الله والفتح) و (إنّا أعطيناك الكوثر) ، واحتمل عمر، ودخل النّاس عليه، فقال: يا عبد الله بن عبّاس، اخرج فناد فى النّاس: أعن ملإ منكم هذا؟ فخرج ابن عبّاس، فقال: أيّها النّاس، إنّ أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله! والله ما علمنا ولا اطّلعنا. وقال: ادعوا إلىّ الطبيب فدعى الطبيب فقال: أىّ الشّراب أحبّ إليك؟ فقال: النّبيذ، فسقى نبيذا فخرج من بعض طعناته، فقال النّاس: هذا دم، هذا صديد، فقال: اسقونى لبنا، فسقى لبنا، فخرج من الطّعنة، فقال له الطّبيب: لا أرى أن تمسى، فما كنت فاعلا فافعل. وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى عوف بن عوف بن مالك الأشجعىّ: أنّه [1] رأى فى المنام، كأنّ النّاس جمعوا، فإذا فيهم [رجل] [2] فرعهم فهو فوقهم بثلاثة أذرع. قال: فقلت: من هذا؟ فقالوا: عمر. قلت: ولم؟ قالوا: لأنّ فيه ثلاث خصال، لأنّه لا يخاف فى الله لومة لائم، وأنّه خليفة مستخلف، وأنّه شهيد مستشهد. قال: فأتى أبو بكر فقصّها عليه، فأرسل إلى عمر فدعاه ليبشّره،

_ [1] الاستيعاب 1156. [2] من الاستيعاب.

فجاء عمر فقال لى أبو بكر: اقصص، قال: فلمّا بلغت خليفة مستخلف، زبرنى [1] عمر وانتهرنى، وقال: اسكت، تقول هذا وهو حىّ! قال: فلمّا كان هذا بعد، وولى عمر، مررت بالمسجد وهو على المنبر، فدعانى وقال: اقصص علىّ رؤياك، فقصصتها، فلمّا قلت: إنّه لا يخاف فى الله لومة لائم قال: إنّى لأرجو أن يجعلنى الله منهم، قال فلمّا قلت: «خليفة مستخلف» قال: قد استخلفنى الله، وأسأله أن يعيننى على ما ولّانى، فلما أن ذكرّت: «شهيد مستشهد» ، قال: أنّى لى بالشّهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو! ثم قال: بلى يأتى الله بها إن شاء، يأتى الله بها إن شاء [2] . وقد روى معمر عن الزّهرى، عن سالم، عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهم: أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم رأى على عمر قميصا أبيض، فقال: أجديد قميصك هذا، أم غسيل؟ قال: بل غسيل. قال: «البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا، ويرزقك الله قرّة عين فى الدّنيا والآخرة» ، قال: وإيّاك يا رسول الله. وروى عن عائشة رضى الله عنها، قالت: ناحت الجنّ على عمر قبل أن يقتل بثلاث، فقالت: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه بأسوق

_ [1] زبرنى: نهرنى. [2] الاستيعاب 1156.

جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزّق فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق من أكمامها لم تفتّق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّ سبنتى أزرق العين مطرق [1] والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] السبنتى: النمر.

ذكر قصة الشورى

ذكر قصة الشورى قال: وقيل [1] لعمر: لو استخلفت يا أمير المؤمنين؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى [2] : سمعتك وسمعت نبيّك يقول: إنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى: سمعت نبيّك يقول: «إنّ سالما شديد الحبّ لله» . فقال له رجل: أدلّك على عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله! ما أردت بهذا ويحك! كيف أستخلف من عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا فى أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتى، إن كان خيرا قد أصبنا منه، وإن كان شرّا قد صرف عنّا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمّة محمّد! أما لقد جهدت نفسى، وحرمت أهلى، وإن نجوت كفافا لا أجر ولا وزر، إنّى لسعيد. أنظر فإن استخلفت، فقد استخلف من هو خير منّى، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، ولن يضيّع الله دينه. فخرجوا، ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدا! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتى أن أنظر فأولّى رجلا أمركم، وهو أحراكم أن يحملكم على الحقّ- وأشار إلى علىّ- فرهقتنى غشية،

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 34 وما بعدها. [2] ك: «إن يسألنى» .

فرأيت رجلا دخل الجنّة، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمه إليه، ويصيّره تحته، فعلمت أنّ الله بالغ أمره، فما أردت أن أتحمّلها حيّا وميّتا. عليكم هؤلاء الرّهط الّذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّهم من أهل الجنّة، وهم: علىّ وعثمان وعبد الرّحمن وسعد، والزّبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فلتختاروا منهم رجلا، فإذا ولّوا واليا فأحسنوا موازرته وأعينوه، وخرجوا. فقال العبّاس لعلىّ: لا تدخل معهم، إنّى أكره الخلاف، قال: إذن ترى ما تكره، فلما أصبح عمر دعا عليّا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرّحمن، والزبير، فقال: إنّى نظرت فوجدتكم رؤساء النّاس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم، وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنكم راض. إنّى لا أخاف النّاس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّى أخافكم فيما بينكم، فيختلف النّاس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاورا فيها. ووضع رأسه وقد نزفه الدّم، فدخلوا فتناجوا؛ حتى ارتفعت أصواتهم. فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد، فسمعه عمر: فانتبه، وقال: أعرضوا عن هذا، فإذا أنا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالنّاس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شىء له من الأمر، وطلحة شريككم فى الأمر، فإن قدم فى الأيّام الثّلاثة فأحضروه، وإن مضت الأيّام الثّلاثة قبل قدومه فامضوا

لأمركم. ومن لى بطلحة؟ فقال سعد بن أبى وقّاص: أنا لك به، ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر رضى الله عنه: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلى هذا الأمر إلا أحد هذين الرّجلين: علىّ أو عثمان. فإن ولّى عثمان، فرجل فيه لين، وإن ولّى علىّ ففيه دعابة [1] وأحر به أن يحملهم على الحقّ، وإن تولّوا سعدا فأهلها هو وإلّا فليستعن به الوالى؛ فإنّى لم أعزله عن ضعف ولا جناية، ونعم ذو الرأى عبد الرّحمن ابن عوف! فاسمعوا منه. وقال لأبى طلحة الأنصارى: يا أبا طلحة، إنّ الله تعالى طالما أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرّهط حتّى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتمونى فى حفرتى، فاجمع هؤلاء الرّهط فى بيت حتّى يختاروا رجلا. وقال لصهيب: صلّ بالنّاس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرّهط بيتا، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضى اثنان رجلا، واثنان رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه النّاس، فخرجوا، فقال علىّ لقوم معه من بنى هاشم: ان أطع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبدا، وتلقّاه

_ [1] ك: «رعاية» تحريف.

عمّه العبّاس فقال: عدلت عنّا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بى عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن، فسعد لا يخالف ابن عمّه، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفان فيولّيها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى. فقال له العبّاس: لم أدفعك فى شىء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر فى الشّورى ألّا تدخل معهم فأبيت. احفظ عنّى واحدة، كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرّهط؛ فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا حتّى يقوم به لنا غيرنا. وايم الله لا تناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير. فلمّا مات عمر ودفن، جمع المقداد أهل الشّورى فى بيت المسور ابن مخرمة، وقيل: فى بيت المال. وقيل: فى حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم. وجاء عمر بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنّا فى أهل الشّورى! فتنافس القوم فى الأمر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف منّى لأن تنافسوها، [لا] [1] والّذى

_ [1] من ص.

ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة الّتى أمر، ثم أجلس فى بيتى فأنظر ما تصنعون. فقال عبد الرّحمن: أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن نولّيها أفضلكم، فلم يجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها. قال عثمان: أنا أوّل من رضى، قال القوم: قد رضينا، وعلىّ ساكت، فقال ما تقول أبا الحسن؟ قال: أعطنى موثقا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم لرحمه، ولا تألوا [الأمّة، فقال: اعطونى مواثقكم على أن تكونوا معى على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلىّ ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين] [1] قال: فأخذ منهم ميثاقا، وأعطاهم مثله. فقال لعلىّ: تقول: إنّى أحقّ من حضر هذا الأمر، لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وسابقتك وحسن أثرك فى الدّين، ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك ولم تحضر إلى هؤلاء الرّهط، من تراه أحقّ به؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال: تقول: شيخ من بنى عبد مناف وصهر رسول الله وابن عمه ولى سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عنّى؟ ولكن لو لم تحضر، أىّ هؤلاء أحقّ به؟ قال علىّ. ولقى علىّ سعدا فقال: اتّقوا الله الّذى تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابنى هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [وبرحم عمّى حمزة ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا لعثمان علىّ. ودار عبد الرحمن ليلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف النّاس

_ [1] من ص.

يشاورهم؛ حتّى إذا كانت اللّيلة الّتى صبيحتها يستكمل الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق فى هذه اللّيلة كثير غمض، انطلق فادع الزّبير وسعدا؛ فدعاهما، فبدأ بالزّبير فقال له: خلّ عبد بنى مناف، وهذا الأمر، قال: نصيبى لعلىّ. وقال لسعد: اجعل نصيبك لى، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلىّ أحبّ إلىّ، أيّها الرّجل، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا. فقال: قد خلعت نفسى على أن اختار، ولو لم أفعل لم أردها، إنّى رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل ما رأيت أكرم منه، فمرّ كأنّه سهم لم يلتفت إلى شىء منها؛ حتّى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه، فاتّبع أثره حتّى خرج منها، ثم دخل فحل عبقرىّ يجرّ خطامه ومضى قصد الأوّلين، ثم دخل بعير رابع فوقع فى الرّوضة، ولا والله لا أكون الراتع الرابع، ولا يقوم مقام أبى بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النّاس عنه. قال: وأرسل المسور، فاستدعى عليّا فناجاه طويلا وهو لا يشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتّى فرّق بينهما الصّبح، فلمّا صلّوا الصبح جمع الرّهط، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السّابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال: أيّها النّاس، إنّ النّاس قد أحبّوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فأشيروا علىّ.

_ [1] ك: «قطعتها» .

فقال عمّار بن ياسر: إذا أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليّا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار إن بايعت عليّا، قلنا: سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبى سرح: إذا أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبى ربيعة: صدقت، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمّار ابن أبى سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة، فقال عمّار: أيّها النّاس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! فقال رجل من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبى وقّاص: يا عبد الرّحمن. افرغ قبل أن يفتتن النّاس، فقال عبد الرحمن: إنّى قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ فيها أيّها الرّهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمى وطاقتى. ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلىّ، فقال: نعم، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذاك فى رقبة عثمان، فبايعه. وقيل: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته الّتى عمّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقلّدا سيفه؛ حتّى ركب المنبر،

فوقف وقوفا طويلا، ثم دعا دعاء لا يسمعه النّاس، ثم تكلّم فقال: أيّها النّاس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرّجلين: إمّا علىّ، وإمّا عثمان. فقم إلىّ يا علىّ، فقام إليه فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهمّ لا، ولكن على جهدى من ذاك وطاقتى. قال: فأرسل يده ثمّ نادى: قم إلىّ يا عثمان، فأخذ بيده، وهو فى موقف علىّ الّذى كان فيه، فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد ثلاثا، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان، قال: فازدحم النّاس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من المنبر، وأقعد عثمان على الدّرجة الثّانية، فجعل النّاس يبايعونه، وتلكّأ علىّ. فقال عبد الرّحمن: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [1] . فرجع علىّ يشقّ النّاس حتى بايع عثمان وهو يقول: خدعة، وأىّ خدعة!

_ [1] سورة الفتح 10.

وقيل: لمّا بايع عبد الرحمن عثمان قال علىّ: ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم [هو] [1] فى شأن. فقال عبد الرحمن: يا علىّ، لا تجعل على نفسك حجّة ولا سبيلا، فخرج علىّ وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين. وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، إنّى لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا، لا أقول ولا أعلم أنّ رجلا أقضى بالعدل، ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعوانا عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتّق الله؛ فإنّى خائف عليك الفتنة. فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت؟ ومن هذا الرّجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل علىّ بن أبى طالب. فقال علىّ: إنّ النّاس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر بينها

_ [1] من ص.

فتقول: إن ولّى عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وإن كانت فى غيرهم تداولتموها بينكم. قال: وقدم طلحة فى اليوم الرّابع الذى بويع فيه عثمان، فقيل له: بايعوا لعثمان، فقال: كلّ قريش راض به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك، إن أبيت رددتها. قال: أتردّها؟ قال: نعم. ثم قال أكلّ النّاس بايعوك؟ قال، نعم. قال: قد رضيت، لا أرغب عمّا أجمعوا عليه، وبايعه. حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] ، عن عمرو بن ميمون. وفيه زيادة عن الطّبرىّ. وروى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله فى قصّة الشّورى، عن المسور بن مخرمة نحو ما تقدّم؛ الّا أنّه ذكر زيادات ذكرنا بعضها فى أثناء هذه القصّة، ونذكر بقيّتها الآن. قال [2] : لما دفن رضى الله عنه جمعهم عبد الرحمن وخطبهم، وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق. فتكلّم عثمان رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى اتخذ محمدا نبيّا وبعثه رسولا، وصدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبا، أو قرب رحما، صلّى الله عليه، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم، عند تفرّق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل

_ [1] الكامل لابن الأثير 3: 34- 40. [2] الطبرى 4: 234 وما بعدها.

علينا غيرنا الّا من سفه الحقّ، ونكل عن القصد، وأحر [1] بها يابن عوف أن تترك، وأجّدر بها [2] أن تكون إن خولف أمرك، وترك دعاوءك، فأنا مجيب وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم، وأستغفر الله لى ولكم. ثمّ تكلّم الزبير بعده، فقال: أمّا بعد، فإنّ داعى الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء، ولىّ الأعناق، ولن يقصّر عما قلت إلّا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقىّ، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدّت، تراح على أهلها، وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدّعوة، وإظهار السّنّة، لئلّا نموت موتة [3] عميّة، ولا نعمى عمى جاهليّة، فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم، وأستغفر الله لى ولكم. ثم تكلّم سعد فقال. الحمد لله بديئا، بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم أنارت الطّرق، واستقامت السّبل، وظهر الحقّ، ومات كلّ باطل، إيّاكم أيّها النّفر وقول الزّور، وأمنيّة أهل الغرور! فقد سلبت الأمانىّ قوما قبلكم، ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذوا الله عدوّا، ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... [4]

_ [1] فى الأصلين: «وأحرها» ، وما أثبته من الطبرى. [2] الطبرى: «وأحذر بها» . [3] الطبرى: «ميتة» . [4] سورة المائدة 78، 79.

إلى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ إنّى نكبت قرنى [1] وأخذت سهمى الفالج [2] ، وأخذت لطلحة بن ابن عبيد الله ما ارتضيت لنفسى، فأنّا كفيل به، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يابن عوف، بجهد النّفس، وقصد النّصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه الرّجوع، واستغفر الله لى ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم. ثم تكلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى بعث محمدا منّا نبيّا، وبعثه إلينا رسولا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب؛ لنا حقّ إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل، ولو طال السّرى. لو عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتّى نموت، لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، ولا قوّة الّا بالله. اسمعوا كلامى، وعوا منطقى، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السّيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضّلالة، وشيعة لأهل الجهالة ثم قال [3] : فإن تك جاسم هلكت فإنّى ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم

_ [1] كذا فى الطبرى. والقرن هنا الجعبة، ونكب قرنه، أى نثر ما فيه من السهام. وانظر اللسان [2] الفالج: المنتصر. [3] الطبرى: «ثم أنشأ يقول» .

مطيع فى الهواجر كلّ عىّ ... بصير بالنّوى من كلّ نجم فقال عبد الرحمن: أيّكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. وذكر نحو ما تقدم. فلنرجع إلى بقيّة أخبار عمر رضى الله عنه. قال: ومات عمر لأربع بقين من ذى الحجّة، قاله الواقدىّ. وقال غيره: يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم، سنة أربع وعشرين فى حجرة عائشة رضى الله عنها، ورأسه قبالة كتفى أبى بكر رضى الله عنهما، وصلّى عليه صهيب الرّومىّ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.

ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم وأزواجه

ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم وأزواجه تزوّج رضى الله عنه فى الجاهليّة زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة أمّ المؤمنين رضى الله عنهم. وتزوّج مليكة بنت جرول الخزاعىّ فى الجاهليّة [فولدت له عبيد الله ففارقها فى الهدنة، وقيل: كانت أمّ عبد الله وأمّ زيد الأصغر أمّ كلثوم بنت جرول الخزاعىّ] [1] . وكان الإسلام فرّق بينها وبين عمر. وتزوّج قريبة بنت أبى أميّة المخزومىّ فى الجاهليّة، ففارقها فى الهدنة أيضا، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وفريبة أخت أمّ سلمة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وتزوّج أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومىّ فى الإسلام، فولدت له فاطمة، فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها. وتزوّج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح الأوسىّ فى الإسلام، فولدت له عاصما فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها. وتزوّج أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وأمّها فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصدقها أربعين ألفا فولدت رقيّة وزيدا.

_ [1] من ص.

وتزوّج لهيّة [1] ، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر. وقيل: كانت أمّ ولد، وكانت عنده فكيهبة أمّ ولد فولدت له زينب، وهى أصغر ولد عمر. وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقد تقدّم خبرها عند ذكر عبد الله بن أبى بكر. ومن أولاده رضى الله عنه: عبد الرّحمن، وكنيته أبو شحمة؛ وقيل: إنه كان له ولد يقال له: مجبّر. ولنفصّل هذا الفصل بذكر شىء من أخبار من أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أولاد عمر، ومن ولد فى حياته [أما عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فإنّه أسلم مع أبيه، وهو صغير لم يبلغ الحلم وكان أول مشاهده] [2] الخندق. وقيل: أحد؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّه يوم بدر لصغر سنّه، وشهد الحديبية، وكان رضى الله عنه من أهل الورع والعلم، كثير الاتّباع لآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شديد التّحرّى والاحتياط فى فتواه. وكان لا يتخلّف عن السّرايا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير الحجّ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحفصة بنت عمر: «إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم من اللّيل» ، فما ترك بعدها قيام الليل. وقعد عن حرب علىّ لمّا أشكلت عليه لورعه، ثم ندم على ذلك

_ [1] ك. «لهبة» . [2] من ص.

حين حضرته الوفاة، فقال: ما أجد فى نفسى من أمر الدّنيا شيئا إلا أنّى لم أقاتل مع علىّ الفئة الباغية. قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عبّاس. وأفتى فى الإسلام ستّين سنة، ونشر نافع عنه علما جمّا. وروى عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه وغيره: أنّ مروان بن الحكم دخل فى نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان، فعرضوا عليه أن يبايعوا له، فقال: كيف لى بالنّاس؟ قال: تقاتلهم ونقاتل معك، قال: والله لو اجتمع علىّ أهل الأرض، إلا أهل فدك ما قاتلتهم فخرجوا من عنده ومروان يقول: إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا قال: وكانت وفاة عبد الله بمكّة سنة ثلاث وسبعين، بعد قتل ابن الزّبير بثلاثة أشهر أو نحوها، وقيل: ستّة أشهر، وأوصى أن يدفن فى الحلّ، فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، فدفن بذى طوى، بمقبرة المهاجرين. وكان الحجاج قد أمر رجلا فسمّ زجّ رمحه، وزحمه فى الطّريق، ووضع الزّجّ فى ظهر قدمه؛ وذلك أنّ الحجاج خطب يوما، وأخّر الصّلاة، فقال ابن عمر: إنّ الشّمس لا تنتظرك، فقال الحجّاج: لقد هممت أن أضرب الذى فيه عيناك. فقال: إن تفعل فإنّك سفية سلط [1] . وقيل: إنّه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج فلم يسمعه.

_ [1] السلط والسليط: الطويل اللسان.

وكان عبد الله يتقدّم فى المواقف بعرفة وغيرها [إلى المواضع] [1] الّتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقف فيها، فكان ذلك يعزّ على الحجّاج، فأمر الحجاج رجلا معه حربة مسمومة، فلما دفع النّاس من عرفة، لصق به ذلك الرّجل، فأمرّ الحربة على قدمه وهو فى غرز راحلته، فمرض منها إيّاما، فدخل عليه الحجّاج يعوده، فقال: من فعل ذلك بك يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قتلنى الله إن لم أقتله. قال: ما أراك فاعلا، أنت الذى أمرت الّذى نخسنى بالحربة. قال لا نفعل يا أبا عبد الرحمن وخرج عنه. وقيل: إنّه قال للحجّاج: إذ قال له: من فعل بك؟ قال: أنت الّذى أمرت بإدخال السّلاح فى الحرم، فلبث أيّاما ثم مات رضى الله عنه، وصلّى عليه الحجّاج. وأما عبد الرّحمن الأكبر، فإنّه أدرك لسنّه رسول الله صلّى الله عليه ولم يحفظ عنه. وعبد الرحمن الأوسط وهو أبو شحمة هو؛ الذى ضربه عمرو ابن العاص بمصر فى الخمر، ثم حمله إلى المدينة فضربه أبوه أدب الوالد، ثم مرض ومات بعد شهر. كذا رواه معمر عن الزّهرىّ، عن سالم، عن أبيه، وأهل العراق! يقولون: إنّه مات تحت سياط عمر. قال ابن عبد البرّ: وذلك غلط. وقال الزّبير: أقام عليه عمر حدّ الشراب، فمرض ومات وعبد الرحمن الأصغر، هو أبو المجبّر، واسم المجبّر عبد الرحمن

_ [1] من ص.

ابن عبد الرحمن بن عمر، سمّى المجبّر لأنّه وقع وهو غلام فتكسّر، فأتى به إلى عمته حفصة أمّ المؤمنين، فقيل لها: انظرى إلى ابن أخيك المكسّر فقالت: ليس بالمكسّر ولكنّه المجبّر. وقال الزّبير: هلك عبد الرحمن الأصغر، وترك ابنا صغيرا، أو حملا، فسمّته حفصة: عبد الرحمن، ولقّبته المجبّر، «وقالت: لعلّ الله يجبره. وعبيد الله بن عمر ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل أنّه روى عنه، ولا سمع منه، وهو الّذى حدّه عمر فى شرب الخمر، وهو الّذى وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه نصرانيّا اسمه جفينة من أهل الحيرة، وقد اتهمهما أنّهما أغريا أبا لؤلؤة بقتل عمر. وقتل أيضا ابنة لأبى لؤلؤة طفلة، ولما ضرب الهرمزان بالسّيف قال: لا إله إلّا الله، فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد ابن أبى وقّاص وحبسه فى داره، وأحضره عند عثمان. وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلنّ رجالا ممّن شرك فى دم أبى، يعرّض بالمهاجرين والأنصار. قالوا: وإنّما قتل هؤلاء، لأنّ عبد الرحمن أبى بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشيّة أمس الهرمزان، وأبا لؤلؤة، وجفينة، وهم يتناجون، فلمّا رأونى ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، وهو الخنجر الذى ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلمّا أحضره عثمان قال: أشيروا علىّ فى هذا الّذى فتق فى الإسلام ما فتق، فقال علىّ: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل

عمر أمس، ونقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إنّ الله قد أعفاك أن يكون لك هذا الحدث، ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه، وقد جعلتها دية، واحتملتها [1] فى مالى. وقيل فى فداء عبيد الله غير ذلك. [قال القماذيان بن الهرمزان [2]] : كانت العجم بالمدينة يستروح [3] بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبى، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال له: ما تصنع به؟ قال: أسنّ به، فرآه رجل، فلمّا أصيب عمر قال: رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله. فلمّا ولّى عثمان أمكننى منه، فخرجت به وما فى الأرض أحد إلّا معى، إلّا أنّهم يطلبون إلىّ فيه، فقلت لهم: ألى قتله؟ قالوا: نعم، وسبّوا عبيد الله، قلت: أفلكم منعه؟ قالوا: لا، وسبّوه، فتركته لله ولهم، فحملونى، فو الله ما بلغت المنزل إلّا على رءوس النّاس. والأوّل أصح وأشهر؛ لأنّ عليّا لما ولى الخلافة أراد قتل عبيد الله، فهرب منه إلى معاوية بالشّام، ولو كان إطلاقه بأمر ولىّ الدّم لم يعرض له علىّ رضى الله عنه. قال أبو عمر: وكان عبيد الله من أنجاد قريش وفرسانهم، قتل بصفّين مع معاوية، وكان يومئذ على الخيل، فرماه أبو زبيد الطائىّ.

_ [1] ك: «وأحتملها» . [2] من ص. [3] ك: «يتزوج» .

وقيل: كان قد خرج فى اليوم الذى قتل فيه، وجعل امرأتين له بحيث تنظران إلى فعله وهما: أسماء بنت عطارد بن حاجب التّميمىّ، وبحريّة بنت هانئ بن قبيصة، فلمّا برز شدّت عليه ربيعة فنشب [1] بينهم فقتلوه، وكان على ربيعة يومئذ زياد بن خصفة التّميمىّ، فقيل له: إنّ هذه بحريّة، فسقط عبيد الله ميّتا قرب فسطاطه، وقد بقى طنب من طنبة الفسطاط لا وتد له، فجرّوه، وشدّوا الطّنب برجله، وأقبلت امرأتاه حتّى وقفتا عليه، فبكتا وصاحتا، فخرج زياد بن خصفة [فقيل له: إن هذه بحرية بنت هانئ] [2] فقال: ما حاجتك يا بنت أخى؟ فقالت: زوجى قتل، تدفعه إلىّ، قال: نعم، فخذيه، فحملته على بغل، فذكر أنّ يديه ورجليه خطّتا على الأرض من فوق البغل [3] ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمّد.

_ [1] ك: «فثبت» . [2] من ص الاستيعاب. [3] الاستيعاب 1011، 1012.

ذكر عمال عمر رضى الله عنه وعنهم على الامصار

ذكر عمال عمر رضى الله عنه وعنهم على الامصار قد ذكرنا عمّا له فى حوادث السّنين، ورأينا أن نجمعهم فى هذا الموضع فنقول: كان عمّاله رضى الله عنهم: على مكّة عتّاب ابن أسيد، وعلى اليمن والطائف يعلى بن منية، وعلى البحرين واليمامة العلاء بن الحضرمىّ، ثمّ عثمان بن أبى العاص، ثم قدامة ابن مظعون، ثم أبا بكرة، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة- أول من كان بها- قطبة بن قتادة السّدوسىّ، يغزو بتلك الناحية، كما كان المثنّى يفعل بناحية الحيرة. ثم كتب إلى عمر يعلمه بمكانه، ويستمدّه، فوجّه إليه شريح بن عامر، أحد بنى سعد بن عمرو بن بكر، فسار إلى الأهواز، فقتاء الأعاجم بدارس، فاستعمل عمر عتبة بن غزوان، ففتح الأبلّة، ثم سار إلى عمر، فأعاده إلى عمله، فمات فى الطّريق، فكانت إمارته ستّة أشهر، فاستعمل بعده أبا سبرة بن أبى رهم على أحد الأقوال، ثم المغيرة بن شعبة، ثم عزله كما تقدّم بيانه، فاستعمل أبا موسى الأشعرى، ثمّ صرفه إلى الكوفة، واستعمل عمر بن سراقة، ثم صرفه إلى الكوفة، وصرف أبا موسى إلى البصرة فعمل عليها ثانية، ثمّ صرفه وأعاده ثالثة. وعلى مضافات البصرة جماعة [فكان على مناذر غالب الوائلىّ، وعلى نهر تيرى حرملة بن مريطة، وعلى سوق الأهواز حرقوص بن زهير.

وعلى الكوفة وما يليها] [1] ، أوّل من استعمل عليها سعد بن أبى وقّاص، فكان عليها إلى سنة عشرين، فعزله لشكاية أهلها، وأقرّ خليفته على الكوفة، وهو عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم استعمل عمر عمّار بن ياسر بن مسعود كما تقدّم، ثم المغيرة بن شعبة. وعلى ثغور الكوفة من قدّمنا ذكره، وعلى الجزيرة وما يليها عياض بن غنم، ثم ضمّه عمر إلى أبى عبيدة، واستعمل حبيب ابن مسلمة على خراج الجزيرة وعجمها، والوليد بن عقبة على عربها، وعلى الموصل من كان على حربها ربعىّ بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة ابن هرثمة؛ وذلك فى سنة ستّ عشرة. وقيل: كان على الحرب والخراج [بها عتبة بن فرقد، وقيل كان ذلك إلى عبد الله بن مغنم، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح] [3] ، وكان تحت يده جماعة على الأعمال، فكان خالد بن الوليد على قنّسرين، وحمص، ويزيد بن أبى سفيان على دمشق ومعاوية على الأردنّ، وعلقمة بن مجزّز على فلسطين وعبد الله بن قيس على السواحل. فلما مات أبو عبيدة استعمل عمر معاذ بن جبل فمات من عامه، فاستعمل يزيد بن أبى سفيان، فمات، فاستعمل معاوية على دمشق والأردنّ، ثم استقر فى سنة إحدى وعشرين عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة، ومعاوية بن أبى سفيان على البلقاء

_ [1] من ص. [2] من ص. [3] من ص.

كتابه

والأردنّ، وفلسطين، والسّواحل، وأنطاكية، وقلقية، ومعرّة مصرين. وعلى مصر عمرو بن العاص، وكان العمّال فى سنة وفاته إلى آخر سنة ثلاث وعشرين. وعلى مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعىّ، وعلى الطائف سفيان ابن عبد الله الثّقفىّ. وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبى ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبا موسى الأشعرىّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص: عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية، وعلى البحرين وما والاها عثمان ابن أبى العاص الثقفىّ. كتابه عبد الله بن خلف الخزاعىّ وزيد بن ثابت، وعلى بيت المال زيد ابن أرقم. قضاته يزيد بن أخت النّمر بالمدينة. وأبو أمية شريح بن الحارث الكندّى بالكوفة، ويقال: إنّ شريحا أقام قاضيا ستّين سنة إلى أيّام الحجّاج، فعطّل ثلاث سنين، وامتنع من الحكم، وذلك فى أيّام فتنة ابن الزّبير. ولمّا ولّى الحجّاج استعفاه، فأعفاه، ومات سنة سبع وثمانين وله مائة وعشرون سنة.

وقيل: مائة سنة، وليس هو فى عداد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم، بل من كبار التّابعين. وعلى قضاء البصرة كعب بن سور. وعلى قضاء مصر قيس بن العاص السّهمىّ، ثم كعب بن سيّار بن ضبّه، ثمّ عثمان بن قيس بن أبى العاص. وكان حاجبه يرفأ مولاه، وخاتمه خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال أبو عمر بن عبد البرّ: كان نقش خاتمة: «كفى بالموت واعظا يا عمر» .

ذكر خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه

ذكر خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه هو أبو عبد الله، وقيل: أبو عمرو، وقيل فى تكنيته بأبى عبد الله: إنّ رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولدت له ابنا فسمّاه عبد الله، فاكتنى به، ومات، ثم ولد له عمرو، فاكتنى به إلى أن مات. وقيل: إنّه كان يكنى أبا ليلى عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف،، ويجتمع مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عبد مناف، ولقّب بذى النّورين، لأنه تزوّج ابنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [رقيّة وأمّ كلثوم] [1] . وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: لم قيل: عثمان ذو النّورين؟ قال: لأنه لا نعلم أن أحدا أرسل سترا على ابنتى نبىّ غيره. وأمّه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بنت عبد شمس بن عبد مناف، وأمّها البيضاء، أمّ حكيم بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولد فى السّنة السادسة بعد عام الفيل. والله وسبحانه وتعالى أعلم. بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد.»

_ [1] من ص.

ذكر صفته ونبذة من فضائله

ذكر صفته ونبذة من فضائله كان رضى الله عنه طويل القامة، حسن الوجه وقيل: كان ربعة، ليس بالقصير ولا بالطّويل، حسن الوجه رقيق البشرة، كبير اللّحية، عظيما أسمر اللّون، كثير الشّعر، ضخم الكراديس [1] ، بعيد ما بين المنكبين، وكان يصفّر لحيتّه، ولما كبر شدّ أسنانه بالذّهب، وهو رضى الله عنه أحد العشرة الّذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ومات وهو عنهم راض. وله رضى الله عنه فضائل ومآثر وسابقة فى الإسلام قال علىّ رضى الله وعنه: كان عثمان أوصلنا للرّحم، وكان من الّذين آمنوا واتّقوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين. واشترى رضى الله عنه بئر رومة، وكانت ركيّة ليهودىّ، يبيع للمسلمين ماءها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يشترى بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه فى دلائهم، وله بها مشرب فى الجنّة؟» . فأتى عثمان اليهودىّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلّها، فاشترى منه نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى يومين، وإن شئت علىّ يوم ولك يوم، قال: لا، بل لك يوم ولى يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلمّا رأى اليهودىّ ذلك، قال: أفسدت علىّ ركيّتى، فاشتر النّصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يزيد فى مسجدنا؟»

_ [1] الكردوسة: كل عظمين التقيا فى مفصل.

ذكر بيعة عثمان رضى الله عنه

فاشترى عثمان رضى الله عنه موضع خمس سوار، فزاده فى المسجد. وجهّز رضى الله عنه جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا، وأتمّ الألف بخمسين فرسا. وعن قتادة رضى الله عنه، قال: حمل عثمان ما فى جيش العسرة على ألف بعير، وسبعين فرسا. وعن محمد بن بكير: أنّ عثمان رضى الله عنه، كان يحيى اللّيل بركعه يقرأ فيها القرآن. وروى أنّه كان يصوم الدّهر رضى الله عنه. ذكر بيعة عثمان رضى الله عنه بويع له بالخلافة كما تقدّم فى قصّة الشّورى، وقد اختلف فى يوم بيعته، وهو مرّتب على الخلاف فى تاريخ وفاة عمر رضى الله عنهما، فقيل: [فى] [1] يوم السّبت غرّة المحرم، سنة أربع وعشرين. ولم يذكر أبو عمر بن عبد البرّ غيره [2] . وقيل: يوم الاثنين لليلة بقيت من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته شهر المحرّم، سنة أربع وعشرين، قاله أبو جعفر. قال: وقيل: لعشر خلون من المحرّم بعد مقتل عمر بثلاث ليال.

_ [1] من ص. [2] الاستيعاب 1044.

قال: استخلف وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذّن صهيب، واجتمعوا فى ذلك بين الأذان والإقامة، فخرج فصلّى بالنّاس، وزادهم مائة مائة، ووفّد أهل الأنصار، وهو أوّل من صنع ذلك. قال: وقيل: لمّا بايع أهل الشّورى عثمان رضى الله عنه، خرج وهو أشدّهم كآبة، فأتى منبر النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم [فخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم] [1] وقال: أيها النّاس، إنّكم فى دار قلعة [2] ، وفى بقيّة أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبّحتم أو مسّيتم، ألا وإنّ الدّنيا طويت على الغرور فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* [3] واعتبروا بمن مضى، ثم جدّوا ولا تغفلوا؛ فإنّه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدّنيا وإخوانها الّذين أثاروها وعمروها، ومتّعوا بها طويلا! ألم تلفظهم! رموا بالدّنيا حيث رمى الله بها. واطلبوا الآخرة؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قد ضرب لها مثلا وللّذى هو خير، فقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ... إلى قوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا . [4]

_ [1] من ص. [2] دار قلعة، أى ليست دار إقامة، يقال: هم على قلعة، أى على رحلة، وفى حديث على: «أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، أى تحول دار وارتحال. [3] سورة فاطر 5. [4] سورة الكهف 46. والخطبة فى تاريخ الطبرى 4: 243.

وكان أوّل كتاب كتبه إلى عمّاله: أمّا بعد [1] ؛ فإنّ الله تعالى أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباة، وأنّ صدر هذه الأمّة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمّتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السّيرة أن تنظروا فى أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنّوا بالذّمة فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالّذى عليهم، ثم العدوّ الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء. وكان أول كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد فى الفروج: أمّا [2] بعد، فإنّكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر رضى الله عنه ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملإ منّا، ولا يبلغنا عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله بكم، ويستبدل بكم غيركم. فانظروا كيف تكونون، فإنّى أنظر فيما ألزمنى الله النّظر فيه والقيام عليه.

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 244. [2] تاريخ الطبرى 4: 245.

ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان

ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان ذكر خلاف أهل الاسكندرية وفى [1] سنة خمس وعشرين نقض أهل الإسكندرية الصّلح؛ وذلك أنّ الرّوم حضروا إليهم من القسطنطينيّة، ونفذ منهم منّويل الخصىّ، واتفقوا مع من بها من الرّوم، ولم يوافقهم المقوقس، وثبت على صلحه، فثبت لذلك. وسار عمرو بن العاص إليهم، وسار إليه الرّوم، واقتتلوا أشدّ قتال، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندريّة، وقتلوا منهم فى البلدة مقتلة عظيمة، وقتل منّويل الخصىّ. وكان الرّوم لمّا خرجوا من الإسكندريّة أخذوا أموال أهل تلك القرى، من وافقهم ومن خالفهم، فلمّا ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الّذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إنّ الرّوم أخذوا أموالنا ودوابّنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنّا على الطّاعة، فردّ عليهم ما غرموا من أموالهم بعد إقامة البيّنة. وهدم عمرو سور الإسكندريّة. ذكر غزو ارمينية وغيرها وما وقع من الصلح كان [2] عثمان رضى الله عنه قد استعمل سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، ثم عزله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط- وهو أخو عثمان لأمّه- فعزل الوليد عتبة بن فرقد عن أذربيحان،

_ [1] فتوح مصر 175، 176. [2] تاريخ الطبرى 4: 248، ابن الأثير 3: 43.

فنقضوا العهد فغزاهم الوليد فى سنة خمس وعشرين، وجعل على مقدّمته ابن شبيل الأحمسىّ، وأغار على أهل موقان وما جاورها، ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصّلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، فقبض المال ثم بثّ سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلىّ إلى أهل إرمينية فى اثنى عشر ألفا فقتل وسبى وغنم، ثم انصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد. وعاد الوليد وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة [1] . قال: ولمّا نزل الوليد بن عقبة الحديثة، أتاه كتاب عثمان رضى الله عنه يقول: إنّ معاوية كتب إلىّ أنّ الرّوم قد أجلبت على المسلمين فى جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدّهم أخوانهم من أهل الكوفة. فابعث إليهم رجلا له نجدة وبأس فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف من المكان الّذى يأتيك كتابى فيه، والسّلام. فقام الوليد فى النّاس، وأعلمهم الحال، وندبهم مع سلمان ابن ربيعة الباهلىّ، فانتدب معه ثمانية آلاف، فمضوا حتّى دخلوا مع أهل الشّام إلى أرض الرّوم، فشنّوا الغارات، فأصاب النّاس ما شاءوا، وافتتحوا حصونا كثيرة. وقيل: إنّ الذى أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة، كان سعيد بن العاص لمّا كان على الكوفة؛ وكان سبب ذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزى حبيب بن مسلمة فى أهل الشّام إرمينية، فوجّهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها، وضيّق على من كان بها،

_ [1] ك: «الحديبية» تحريف.

فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم، فلحقوا ببلاد الرّوم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهرا، ثم بلغه أنّ بطريق إرمنياقس- وهى ملطية، وسيواس وقونية، وما والاها من البلاد إلى خليج القسطنطينيّة- واسمه الموريّان، قد توجّه نحوه فى ثمانين ألفا من الرّوم. فكتب إلى معاوية بذلك، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص، يأمره بإمداد حبيب، فأمدّه بسلمان فى ستة آلاف، فأجمع حبيب على تبييت الرّوم، فسمعته امرأته أمّ عبد الله بنت يزيد الكلبيّة، فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان، ثم بيّتهم، فقتل من وقف له، ثم أتى السّرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، ولمّا انهزمت الرّوم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار فيها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال. ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها، فلقيه صاحب مكس، وهى من البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط وهى القرية التى يكون بها القرمز الّذى يصبغ به، فنزل على نهر دبيل، وسرّح الخيول إليها وحصرها، فتحصّن أهلها، فنصب عليهم منجنيقا، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه، وبثّ السّرايا فبلغت خيله ذات اللّجم؛ وإنّما سمّيت ذات اللّجم لأنّ المسلمين أخذوا لجم خيلهم، فكبسهم الرّوم قبل أن يلجموها، ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم. ثم وجّه سريّة إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة، وقدم عليه بطريق البسفرجان، فصالحه على بلاده، وأتى

السّيسبان فحاربه أهلها فهزمهم، وغلب على حصونهم. وسار إلى جرزان، وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها صلحا. وسار سلمان بن ربيعة إلى أرّان، ففتح البيلقان صلحا، على أن يؤمّنهم على دمائهم وأموالهم، وحيطان مدنهم، واشترط عليهم، الجزية والخراج، ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثّرثور (نهر بينه وبينها نحو فرسخ) فقاتله أهلها أيّاما، وشنّ الغارات على قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان، ودخلها، ووجّه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام، فقاتلوه فظفر بهم، فأقرّهم على الجزية، وأدّى بعضهم الصّدقة وهم قليل، ووجّه سريّة إلى شمكور ففتحوها، وهى مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتّى أخربها السّاورديّة، وهم قوم تجمّعوا لمّا انصرف يزيد بن أسيد عن إرمينية، فعظم أمرهم، ثم عمّرها بغا فى سنة أربعين ومائتين، وسمّاها المتوكّليّة، نسبة إلى المتوكّل. وسار سلمان إلى مجمع الرّسّ والكرّ، ففتح قبلة، وصالحه صاحب شكّى وغيرها على الإتاوه، وصالحه ملك شروان، وسائر ملوك الجبال فأهل مسقط والشّابران، ومدينة الباب. والله تعالى أعلم بالصواب.

ذكر غزو معاوية الروم

ذكر غزو معاوية الروم وفى [1] سنة خمس وعشرين، غزا معاوية بن أبى سفيان الرّوم، فبلغ عمّورية فوجد الحصون الّتى بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشّام والجزيرة؛ حتى انصرف من غزاته. ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحرّ العبسىّ الصائفة وأمره أن يفعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ذكر فتح كابل وفى [2] سنة خمس وعشرين بعث عثمان بن عفّان رضى الله عنه عبد الله بن عامر إلى كابل، فبلغها فى قول، وكانت أعظم من خراسان ولم يزل إلى أن مات معاوية، فامتنع أهلها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 44، تاريخ الطبرى 4: 247. [2] تاريخ ابن الأثير 3: 44.

ذكر غزو افريقية وفتحها

ذكر غزو افريقية وفتحها وفيها [1] بعث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبى سرح إلى أطراف إفريقيّة غازيا بأمر عثمان فغنم وعاد، وكتب إلى عثمان بستأذنه فى غزوها، فأذن له، وعزل عمرو بن العاص عن خراج مصر. واستعمل عبد الله بن سعد فى سنة ستّ وعشرين، فتنازعا الأمر. فكتب عبد الله إلى عثمان أنّ عمرا كسر علىّ الخراج، وكتب عمرو إنّ عبد الله كسر علىّ مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمرا واستقدمه، واستعمل عبد الله على حرب مصر وخراجها، وأمره أن يغزو إفريقيّة وقال: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس نفلا. وأمّر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع ابن الحارث على جند، وسرّحهما، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله ابن سعد على صاحب إفريقيّة، ثم يقيم عبد الله فى عمله [فخرجوا] [2] ووصلوا إلى أرض إفريقيّة فى عشرة آلاف من شجعان الإسلام، فصالحهم أهل إفريقيّة على مال يؤدّونه، ولم يقدموا على دخول إفريقيّة والتّوغّل فيها لكثرة أهلها. ثم أرسل عبد الله إلى عثمان يستشيره فى قصد إفريقيّة، وفتحها، فجهّز إليه عثمان جماعة من أعيان الصّحابة، منهم عبد الله بن عبّاس وغيره، فسار بهم ابن سعد إلى إفريقيّة.

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 45 وما بعدها. [2] من ص.

فكان من أمر فتح إفريقيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الباب السّادس من القسم الخامس من هذا الفنّ فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب بما هو أبسط من هذا القول، وهو السّفر الثّانى والعشرون من هذه النّسخة. قال: لمّا فتحت سبيطلة وهى دار الملك، وجد فيها من الأموال ما لم يكن فى غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرّاجل ألف دينار. وبعث عبد الله بن سعد جيوشه فى البلاد، فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل البلاد، فحصره وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقيّة على الفىء، ألف وخمسمائة ألف دينار. وسار عبد الله بن الزّبير إلى عثمان بالبشارة، وتنفّل [1] بابنة الملك، ثم عاد عبد الله بن سعد من إفريقيّة إلى مصر، وكان مقامه بها سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلّا ثلاثة عشر رجلا، وحمل خمس إفريقيّة إلى المدينة، فابتاعه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان وهو مما أخذ عليه، وأنكره الصّحابة رضى الله تعالى عنه، وقال فى ذلك عبد الرحمن بن حنبل أحد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم: أحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرا سدى ولكن جعلت لنا فتنة ... لكى نبتلى بك أو تبتلى

_ [1] فى ابن الأثير 3: 46: «ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك» .

ذكر فتح جزيرة قبرس

دعوت الطريد فأدنيته ... خلافا لما سنّه المصطفى وولّيت قرباك أمر العباد ... خلافا لسنّة من قد مضى وأعطيت مروان خمس الغنيم ... ة آثرته وحميت الحمى وما لا أتانى به الأشعرىّ ... من الفىء أعطيته من دنا فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منار الطّريق عليه الهدى فما أخذا غيلة درهما ... ولا قسّما درهما فى هوى قال: ولما فتحت إفريقيّة أمر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس أن يسير إلى الأندلس، فأتاها من البحر، ففتح الله تعالى على المسلمين. وفى سنة سبع وعشرين فتحت إصطخر، وهو الفتح الثانى، وكان فتحها الآن على يد عثمان بن أبى العاص. وقد ذكرنا الأول فى خلافة عمر. وفيها غزا معاوية بن سفيان رضى الله تعالى عنه قبرس. ذكر فتح جزيرة قبرس كان [1] فتحها على يد معاوية بن أبى سفيان، واختلف فى وقته، فقيل: فتحت فى سنة ثمان وعشرين، وقيل: فى سنة تسع وعشرين، وقيل: فى سنة ثلاث وثلاثين. وكان قد ألحّ على عمر رضى الله عنه فى غزو البحر، وذكر قرب

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 258، 262، تاريخ ابن الأثير 3: 48.

[الرّوم] [1] من حمص، وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: أن صف لى البحر وراكبه، فكتب إليه عمرو: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السّماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة، والشّكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلمّا قرأ كتاب عمرو، كتب إلى معاوية: والّذى بعث محمدا بالحقّ لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغنى أنّ بحر الشّام يشرف على أطول شىء من الأرض، فيستأذن الله كلّ يوم وليلة فى أن يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، لمسلم أحبّ إلىّ ممّا حوت الرّوم. فإيّاك أن تعرّض إلىّ، فقد علمت ما لقى العلاء منّى. وترك ملك الرّوم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، فلمّا كان زمن عثمان كتب معاوية إليه يستأذنه فى غزو البحر مرارا، فأجابه إلى ذلك وقال: لا تنتخب [الناس] [1] ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا، فاحمله وأعنه، ففعل. واستعمل عبد الله بن قيس الحارثىّ حليف بنى فزارة، وسار المسلمون إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر، فاجتمعوا عليها فصالحهم أهلها على جزية، وهى سبعة آلاف دينار فى كلّ سنة، ويؤدّون للرّوم مثلها، لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين

_ [1] من ص.

[منعهم] [1] ممّن أرادهم من ورائهم. وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوّهم من الرّوم، ويكون طريق المسلمين إلى العدوّ عليهم، فقبلوا ذلك منهم، وعادوا عنهم. وشهد هذه الغزاة جماعة من الصحابة، منهم: أبو ذرّ الغفارى، وعبادة بن الصّامت، ومعه زوجته أمّ حرام بنت ملحان، وأبو الدّرداء شدّاد بن أوس. وفى هذه الغزاة ماتت أمّ حرام، ألقتها بغلتها بجزيرة قبرس فاندقّ عنقها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرها أنّها من أوّل من يغزو فى البحر. قال: وبقى عبد الله بن قيس على البحر، فغزا خمسين غزاة فى البحر، من بين شاتية، وصائفة، لم ينكب أحد من جنده، وكان يدعو الله أن يعافيه فى جنده، ثم خرج هو فى قارب طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الرّوم، وعليه مساكين يسألون، فتصدّق عليهم، فرجعت امراة منهم إلى قريتها، فقالت: هذا عبد الله بن قيس فى المرفأ فبادروا إليه، وهجموا عليه، فقتلوه، بعد أن قاتلهم، فأصيب وحده، ونجا الملّاح حتّى أتى أصحابه فأعلمهم، فجاءوا حتّى رسوا بالمرفأ وعليهم سفيان بن عوف الأزدىّ، فخرج إليهم فقاتلهم. وقيل لتلك المرأة بعد ذلك: بأىّ شىء عرفت عبد الله بن قيس؟ قالت: كان كالتّاجر، فلمّا سألته أعطانى كالملك، فعرفته بهذا. ولمّا كانت سنة اثنتين وثلاثين أعان أهل قبرس الرّوم على غزو

_ [1] من ابن الأثير.

ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح إصطخر ودرابجرد

المسلمين بمراكب أعطوهم إيّاها، فغزاهم معاوية فى سنة ثلاث وثلاثين ففتحها عنوة، فقتل وسبى، ثم أقرّهم على صلحهم، وبعث إليهم اثنى عشر ألفا فبنوا المساجد، وبنى بها مدينة. وقيل: كانت الغزوة الثانية فى سنه خمس وثلاثين. وفى سنة ثمان وعشرين غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الرّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح إصطخر ودرابجرد وفى سنة تسع وعشرين نقض أهل فارس بعييد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله، وانهزم المسلمون. فبلغ الخبر عبد الله بن عامر أمير البصرة، فاستنفر أهل البصرة وسار إلى فارس، فالتقوا بإصطخر، واشتدّ القتال، فهزم المسلمون الفرس، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحت إصطخر عنوة، وأتى درابجرد، وقد غدر أهلها، ففتحها وسار إلى مدينة جور، فانتقضت إصطخر، فلم يرجع إليها، وتمّم السير إلى جور فحاصرها، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر، ويغزون نواحى كانت تنتقض عليهم، فلم يزل عبد الله بن عامر عليها حتّى فتحها. وكان سبب فتحها أنّ بعض المسلمين قام يصلّى ذات ليلة، وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجرّه وعدا به حتّى دخل

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 50: 51.

ذكر غزو طبرستان

المدينة من مدخل خفىّ، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتّى دخلوها منه وفتحوها عنوة، فلمّا فرغ ابن عامر منها عاد إلى إصطخر وفتحها عنوة بعد أن حاصرها ورماها بالمجانيق، وقتل بها خلقا كثيرا من الأعاجم، وأفنى أكثر أهل البيوتات، ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجئوا إليها. وقيل: إنّ أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور، فملكها عنوة، وعاد إلى جور، وأتى درابجرد فملكها، وكانت منتقضة أيضا، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها فى ذلّ. وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن استعمل على بلاد فارس هرم بن حيّان اليشكرىّ، وهرم بن حيّان العبدىّ، والخرّبت ابن راشد، والتّرجمان الهجيمىّ. وأمره أن يفرّق كور خراسان على جماعة، فيجعل الأحنف بن قيس على المروين. وحبيب بن قرّة اليربوعىّ على بلخ، وخارجة ابن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس ابن هبيرة وقيسا السّلمىّ على نيسابور، والله أعلم. ذكر غزو طبرستان فى [1] سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص عامل الكوفة طبرستان ومعه الحسن والحسين وابن عبّاس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان. وابن الزّبير وغيرهم، ولم يغزها غيره أحد على أصحّ الأقوال.

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 54.

ذكر غزو الصوارى

وقد ذكرنا فيما تقدّم فى خلافة عمر رضى الله عنه فتحها، والخلاف فيه. قال: فأتى سعيد جرجان، فصالحوه على مائتى ألف، ثم أتى طميسة وهى كلّها من طبرستان، متاخمة جرجان على البحر، فقاتله أهلها، فصلّى صلاة الخوف وحاصرهم، فسألوه الأمان فأعطاهم، على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، واحتوى على ما فى الحصن، وفتح سعيد نامية، وليست مدينة، هى صحارى.. والله أعلم. ذكر غزو الصوارى كانت [1] هذه الغزوة فى سنة إحدى وثلاثين، وقيل فى سنة أربع وثلاثين، وكان سببها أنّ المسلمين لمّا فعلوا بأهل إفريقيّة ما فعلوا عند فتحها، عظم ذلك على قسطنطين بن هرقل، فخرج فى جمع لم يجمع الرّوم مثله مذ كان الإسلام. قيل: خرج فى خمسمائة مركب، وقيل: فى ستّمائة، وخرج المسلمون، وعلى أهل الشّام معاوية بن سفيان، وعلى البحر عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فالتقوا، وقرّبوا السّفن بعضها إلى بعض، فاقتتلوا بالسّيوف والخناجر، فأنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحا، ولم ينج من الرّوم إلا الشّريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصّوارى بعد الهزيمة أيّاما ورجع.

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 58.

ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان

وأمّا قسطنطين فإنّه وصل فى مركبه إلى صقلّية، فقال أهلها: أهلكت النّصرانيّة، وأفنيت رجالها، لو أتانا أهل المغرب لم يكن عندنا من يمنعهم، ثم أدخلوه الحمّام وقتلوه. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان قال [1] : لمّا فتح عبد الله بن عامر بلاد فارس على ما قدّمناه، هرب يزدجرد إلى خراسان، فوجّه عبد الله فى طلبه مجاشع بن مسعود وقيل: غيره، فأتبعه إلى كرمان، وكثر الثّلج والبرد، فهلك جيش مجاشع، ورجع هو. واختلف فى قتل يزدجرد، فقيل: هرب من كرمان إلى مرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق، وأوصى به ما هويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالا فمنعه مخافة أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى التّرك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه وقتلوا أصحابه، فخرج ماشيا إلى وسط المرغاب، فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله. وقيل: بل قتله أهل مرو، ولم يسنتنصروا بالتّرك. وقيل: غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.

_ [1] ابن الأثير 3: 59.

ذكر فتح خراسان

ذكر فتح خراسان قال: [1] كان أهل خراسان قد غدروا لمّا قتل عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه، ونقضوا، فلمّا افتتح عبد الله بن عامر بلاد فارس عاد إلى البصرة، واسخلف على إصطخر شريك بن الأعور الحارثىّ، فبنى شريك مسجد إصطخر، ثم تجهّزا بن عامر من البصرة، واستخلف عليها زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان واستعمل عليها مجاشع بن مسعود السّلمى، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا. واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحارثىّ، وكانوا قد أعدّوا له أيضا، ونقضوا الصّلح. وسار عبد الله بن عامر إلى نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأتى الطّبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلها، وسار إلى قوهستان فقاتله أهلها، فقاتلهم حتّى ألجأهم إلى حصنه، وقدم عليه ابن عامر، فصالحه أهلها على ستّمائة ألف درهم، وبثّ سراياه ففتحت البلاد، وفتح بهق، وبشت، (وهى بالشّين المعجمة) ، وليست بست المعروفة، ثم فتح نيسابور بعد أن استولى على أعمالها، وبعد أن حاصرها أشهرا. وكان لكلّ ربع منها مرزبان من القرى يحفظه، فطلب أحدهم الأمان والصّلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم،

_ [1] ابن الأثير 3: 61.

وولّى نيسابور قيس بن الهيثم السّلمىّ، وسيّر جيشا إلى نسا، وبيورد ففتحوهما صلحا، وسيّر سريّة أخرى إلى سرخس، فقاتل أهلها، ثم طلبوا الأمان والصّلح على مائة رجل، فصالح مرزبانها على ذلك، فأحبيب إلى ذلك، وسمّى مائة رجل، ولم يذكر نفسه، فقتله، ودخل سرخس عتوة، وأتى مرزبان طوس إلى عبد الله، فصالحه على ستّمائة ألف درهم. وبعث جيشا إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فسار مرزبانها إلى ابن عامر وصالحه على هراة، وباذغيس وبوشنج على ألفى ألف درهم، ومائتى ألف درهم. وكانت مرو كلّها صلحا إلا قرية السّنج، (وهى بكسر السين المهملة) ، فإنّها فتحت عنوة. ووجّه الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمرّ برستاق يعرف برستاق الأحنف، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، ومضى إلى مرو الرّوذ، فقاتله أهلها، فهزمهم، ثم صالحهم مرزبانها على ستّمائة ألف درهم. فاجتمع أهل طخارستان والجوزجان والطّالقان، والفارياب ومن حولهم، فلقوه فى خلق كثير، فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم قتلا ذريعا، وعاد إلى مرو الرّوذ، ولحق بعض العدوّ بالجوزجان، فوجّه إليهم الأحنف بن قيس الأقرع بن حابس التّميمىّ فى جيش، وقال: يا بنى تميم، تحابّوا وتباذلوا تعتدل أموركم،

وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلّوا فيسلم لكم جهادكم. فسار الأقرع فلقى العدوّ بالجوزجان، فكانت بالمسلمين جولة، ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، وفتح الأحنف الطالقان صلحا، وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهى مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعين ألف. وقيل: سبعمائة ألف. فاستعمل على بلخ أسيد بن المتشمّس، ثم سار إلى خوارزم، وهى على نهر جيحون، فلم يقدر عليها، فعاد إلى بلخ. ولمّا تمّ هذا الفتح لعبد الله بن عامر، قال النّاس: ما فتح لأحد ما فتح عليك فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، فقال: لأجعلنّ شكرى لله على ذلك؛ أن أخرج محرما من موقفى هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان، واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس فى أرض طخارستان، فلم يأت بلدا منها إلا صالحه أهلها، وأذعنوا له، إلا سمنجان، فإنّه فتحها عنوة. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ذكر فتح كرمان

ذكر فتح كرمان قال [1] : لمّا سار عبد الله إلى خراسان استعمل مجاشع بن مسعود السّلمىّ على كرمان كما ذكرتا، وأمره أن يفتتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوة، واستبقى أهلها وأمّنهم، وبنى بها قصرا يعرف بقصر مجاشع، وأتى السّيرجان، وهى مدينة كرمان فأقام عليها أيّاما يسرة، وقد تحصّن أهلها فقاتلهم وفتحها عنوة، فجلا كثير من أهلها. وفتح جيرفت عنوة، وسار فى كرمان فدوّخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمّع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم، فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثير من أهل كرمان، فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران، وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم، واحتفروا لها القنىّ فى مواضع منها، وأدّوا العشر منها. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وصحبه وسلّم.

_ [1] ابن الأثير 3: 64.

ذكر فتح سجستان وكابل وغيرها

ذكر فتح سجستان وكابل وغيرها قد ذكرنا [1] أنّ عبد الله بن عامر استعمل على سجستان الربيع ابن زياد الحارثىّ وسجستان من الفتوحات فى خلافة عمر، ولمّا نقض أهلها؛ سار الربيع وقطع المفازة حتى حصن زالق، فأغار على أهله فى يوم مهرجان وأخذ الدّهقان، فافتدى نفسه بأن ركز [2] عنزة [3] وغمرها ذهبا وفضّة، وصالحه على صلح فارس، ثم أتى بلدة يقال لها: كركويه فصالحه أهلها، وسار إلى زرنج، فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرننج فنازلها، وقاتله أهلها، وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وأتى الرّبيع ناشروذ ففتحها، ثم شرواذ فغلب عليها، وسار إلى زرنج فنازله أهلها، فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه ليحضر عنده، فأمّنه، وجلس الربيع على جسد من أجساد القتلى، واتّكأ على آخر، وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلمّا رآهم المرزبان هاله ذلك، فصالحه على ألف وصيف مع كلّ وصيف جام من ذهب ودخل المسلمون المدينة. ثم سار منها إلى سناروذ، وهو واد، فعبره، وأتى القرية الّتى بها

_ [1] ابن الأثير 3: 64. [2] ك: «غرز» . [3] العنزة: رميح بين العصا والرمح، فيه زج.

مربط فرس رستم الشّديد، فقاتله أهلها فظفر بهم. ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة، وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملا، فأخرج أهلها العامل، وامتنعوا. فكانت ولاية الرّبيع سنة ونصفا، سبى فيها أربعين ألف رأس وكان كاتبه الحسن البصرىّ، فاستعمل ابن عامر عبد الرّحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها، فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفى ألف درهم وألف وصيف. وغلب عبد الرّحمن على ما بين زرنج والكشّ من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرّخّج على ما بينه وبين الداون، فلمّا انتهى إلى بلد الداون وحصرهم فى جبل الزّوز، ثم صالحهم ودخل الزّوز، وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتيين وقال للمرزبان: دونك الذّهب والجوهر، وإنّما أردت أن أعلمك أنّه لا يضرّ ولا ينفع. وفتح كابل، وزابلستان، وهى ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج، فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر، وانصرف فأخرج أهلها أميرا وامتنعوا. وفى سنة اثنتين وثلاثين غزا معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينيّة ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل: فاختة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.

ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله

ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله فى سنة [1] اثنتين وثلاثين جمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطّبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، وأقبل فى أربعين ألفا. وقال قيس بن الهيثم أمير خراسان من قبل ابن عار لعبد الله ابن خازم: ما ترى؟ فقال: أرى أن تخلّى البلاد؛ فإنّى أميرها، ومعى عهد ابن عامر؛ إن كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا كان قد افتعله، فكره قيس منازعته وخلّاه والبلاد. وأقبل إلى ابن عامر فلامه، وقال: تركت البلاد خرابا، وأقبلت! فقال: جاءنى تعهّدك.. ولمّا توجّه قيس بن خازم إلى قارن فى أربعة آلاف، أمرهم أن يحملوا الودك، فلمّا قربوا من ذلك، وقرب من الودك، أمر النّاس أن يدرج كلّ رجل منهم على زجّ رمحه خرقة أو قطنا، ثم يكثّروا دهنه، ثم سار حتّى أمسى، فقدّم أمامه ستمائة من أصحابه، ثم اتّبعهم، وأمر النّاس أن يشعلوا النيران فى أطراف الرّماح، وانتهت مقدّمته إلى معسكر قارن نصف اللّيل [فناوشوهم] [2] ، وهاج النّاس على دهش، وكانوا قد أمنوا من البيات، ودنا ابن خازم منهم، فرأوا النيران يمنة ويسرة تتقدّم وتتأخّر، وترتفع وتنخفض، فهالهم ذلك

_ [1] ابن الأثير 3: 68. [2] من ص.

وأهل المقدّمة يقاتلونهم ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن وانهزم المشركون، واتبعوهم يقتّلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضى وأقرّه على خراسان، فكان عليها حتّى انقضت حرب الجمل. وقيل: لمّا جمع قارن اسشار قيس بن عبد الله عبد الله بن خازم فيما يصنع [1] ؟ فأشار عليه أن يلحق بابن عامر، فيخبره بكثرة العدوّ، وقال له: إنك لا تطيق كثرة من قد أتاك، فاخرج بنفسك ونقيم نحن بالحصون ونطاولهم حتّى يأتينا مددكم. فخرج قيس، فلمّا أبعد أظهر ابن خازم عهدا، وقال: قد ولّانى ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به كاتقدّم. وفى سنة ثلاث وثلاثين غزا معاوية حصن المرأة من أرض الرّوم، بناحية ملطية. وفيها سار الأحنف بن قيس إلى خراسان، وفتح المروين: مرو الرّوذ ومرو الشّاهجان. انتهت الفتوحات والغزوات، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله على سيّدنا محمد

_ [1] ك: «ما يصنع» .

ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السنين

ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السّنين سنة أربع وعشرين فى [1] هذه السّنة كثر الرّعاف بالنّاس، فسمّى عام الرّعاف. وفيها استعمل عثمان سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، وعزل المغيرة بن شعبة عنها، فعمل سعد عليها سنة وبعض أخرى. وقيل: بل أقرّ عثمان عمّال عمر رضى الله عنه سنة؛ لأنّ عمر رضى الله عنه أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة، واستعمل سعدا. وحجّ عثمان بالنّاس. سنة خمس وعشرين فى هذه [2] السّنة عزل عثمان سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة فى قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط بن أبى عمرو ذكوان بن أميّة بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمّه، وسبب ذلك أنّ سعدا [3] رضى الله عنه اقترض من عبد الله بن مسعود قرضا، فلمّا تقاضاه ابن مسعود رضى الله عنه لم يتيسّر له قضاؤه، فارتفع بينهما الكلام فقال سعد: ما أراك إلّا ستلقى شرّا، هل أنت إلّا ابن مسعود، عبد [من] [4] هذيل! فقال: أجل، والله إنّى لابن مسعود، وانّك لابن حمينة [5] .

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 41. [2] ابن الأثير 3: 42. [3] فى الأصول: «عثمان» : وهو خطأ صوابه من ابن الأثير. [4] من ص. [5] ك: «حمته» .

وكان هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص حاضرا فقال: إنكما لصاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينظر إليكما. ثمّ ولّى عبد الله، فخرج واستعان بأناس على استخراج المال من سعد، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضا. فكان ذلك أوّل ما نزغ به الشيطان بين أهل الكوفة، وأوّل مصر [1] نزغ الشيطان بين أهله الكوفة. وبلغ الخبر عثمان، فغضب وعزل سعدا، وأقرّ عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملا لعمر، وعثمان بعده، فلمّا قدم الكوفة قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك! قال: لا تجزعنّ أبا اسحاق، كلّ ذلك لم يكن؛ وإنما هو الملك يتغدّاه قوم ويتعشّاه قوم آخرون. قال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا. وقيل: لمّا قدم الوليد أميرا على الكوفة، أتاه ابن مسعود فقال: ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. قال ابن مسعود: ما أدرى صلحت بعدنا أم فسد النّاس!. وفيها ولد يزيد بن معاوية، وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين وقد تقدّم. وحجّ بالنّاس عثمان.

_ [1] ك: «مصرع نزل» تحريف، وصوابه فى ص وابن الأثير.

سنة ست وعشرين

سنة ست وعشرين فى هذه السنة زاد عثمان بن عفان رضى الله فى المسجد الحرام ووسّعه، وابتاع أملاك قوم وامتنع آخرون، فهدم عليهم، ووضع الإيراد فى بيت المال، فصاحوا بعثمان فحبسهم، وقال: قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا! فكلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم. وفيها استعمل عثمان رضى الله عنه عبد الله بن أبى سرح على مصر، وكان أخا عثمان من الرّضاعة، وعزل عمرو بن العاص. سنة سبع وعشرين فى هذه السنة حجّ عثمان بالنّاس. وفيها من الغزوات ما تقدّم بيانه. سنة ثمان وعشرين فى هذه السّنة تزوّج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيّة، فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان رضى الله عنه الزوّراء. وحج بالنّاس عثمان رضى الله عنه فى هذه السّنة،

سنة تسع وعشرين

سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك قيل [1] : كان عزل أبى موسى الأشعرىّ عن البصرة، وعزل عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمال عبد الله بن عامر على أعمالها فى هذه السّنة. وقيل: كان لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان [وكان سبب عزل أبى موسى أن أهل إيذج والأكراد كفروا فى السنة الثالثة من خلافة عثمان] [2] فنادى أبو موسى فى النّاس وحضّهم على الجهاد، وذكر من فضل الماشى للجهاد ما ذكر، فحمل قوم على دوابّهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجّالة لينالوا فضل الماشى. وقال آخرون: لا نعجل حتّى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل، فلمّا خرج أخرج ثقله على أربعين بغلا، فعلقوا بعنان دابّته، فقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب فى المشى كما رغّبتنا، فضربهم بسوط، وتركوا دابّته، وأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كلّ ما نعلم نحبّ أن تسألنا عنه، فأبدلنا ما سواه، فقال: من تحبّون؟ فقال: غيلان بن خرشة، وفى كلّ أحد عوض من هذا العبد الذى قد أكل أرضنا.

_ [1] ابن الأثير 3: 49. [2] من ص.

أما منكم خسيس فترفعونه! أما منكم فقير فتجبرونه. يا معشر قريش حتّى متى يأكل هذا الشيخ الأشعرىّ هذه البلاد! فعزل عثمان أبا موسى؛ وأمّر عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ العبشمىّ، وهو ابن خال عثمان، وممّن ولد على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وعزل أيضا عثمان عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمل عبد الله على ذلك كلّه، وكان إذ ذاك ابن خمس وعشرين سنة. واستعمل عثمان رضى الله عنه على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، فأثخن فى خراسان حتّى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا اصلحها. واستعمل على سجستان عبد الله بن عمير اللّيثى، فأثخن فيها إلى كابل. وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر، فأثخن فيها حتى بلغ النّهر وبعث على كرمان عبد الرّحمن بن عبيس. ثم عزل عبد الله بن عمير عن سجستان. واستعمل عبد الله بن عامر فأقرّه عليها سنة ثم عزله. واستعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرّحمن بن عبيس، وأعاد عدىّ بن سهيل، وصرف عبد [2] الله ابن معمر إلى فارس؛ واستعمل مكانه عمير بن عثمان، واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكرىّ، واستعمل على سجستان فى سنة أربع عمران بن الفضل البرجمىّ.

_ [1] ك: «فترفعوه» . [2] ابن الأثير: «عبيد الله» .

ذكر الزيادة فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم

ذكر الزيادة فى مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم وفى [1] سنة تسع وعشرين أيضا فى شهر ربيع الأول، زاد عثمان رضى الله عنه فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستّة أبواب، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص. والله تعالى أعلم وهو حسبى. ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك وفى [2] هذه السّنة حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس، وضرب فسطاطه بمنى، وهو أوّل فسطاط ضرب بمنى، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة، فكان أوّل ما تكلّم به النّاس فى عثمان ظاهرا حين أتمّها، فعاب عليه ذلك غير واحد من الصّحابة، وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: ما حدث أمر، ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلّون ركعتين، وأنت صدرا من خلافتك. فقال: رأى رأيته. وبلغ الخبر عبد الرّحمن بن عوف، وكان معه، فجاءه وقال: ألم تصل فى هذا المكان ركعتين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 51. [2] تاريخ ابن الأثير 3: 53.

وعمر، وصلّيتهما أنت! قال: بلى؛ ولكنّى أخبرت من بعض النّاس أنّ بعض من حجّ من اليمن وجفاة النّاس قالوا: إنّ الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجّوا بصلاتى، وقد اتّخذت بمكّة أهلا ولى بالطّائف مال، فقال له عبد الرحمن: ما فى هذا عذر، أمّا قولك: اتخذت بها أهلا، فإنّ زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وإنما تسكن بسكناك. وأمّا مالك بالطّائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال. وأمّا قولك عن حاجّ اليمن وغيرهم فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينزل عليه الوحى والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلّوا ركعتين، وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأى رأيته. وقيل: كان ذلك سنة ثلاثين، والله أعلم.

سنة ثلاثين

سنة ثلاثين ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص فى هذه السنة [1] ، عزل عثمان رضى الله عنه الوليد بن عقبة عن الكوفة، واستعمل عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزله أنّ أهل الكوفة نسبوه أنّه يشرب الخمر، وذكروا ذلك لعثمان، فاستدعاه وطلب من ذكر ذلك عنه، فقال: أتشهدون أنّه يشرب الخمر؟ فقالوا لا، قال فكيف قلتم عنه إنّه شربها؟ فقالوا اعتصرناها من لحيته، وهو يقئ الخمر، فأمر بجلده، فجلده عبد الله بن جعفر بن أبى طالب أربعين. وقيل: إنّ الوليد مكر وصلّى بأهل الصّبح أربعا، ثم التفت إليهم وقال: أأزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا [معك [2]] فى زيادة منذ اليوم، فقال الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر [3] نادى وقد تمّت صلاتهم ... أأزيدكم؟ سكرا وما يدرى [4] فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشّفع والوتر

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 52، الاستيعاب 1552. [2] من ص. [3] ديوانه 85. [4] الديوان: «ثملا وما يدرى» .

وقال أيضا: تكلّم فى الصّلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنّفاق [1] ومجّ الخمر فى سنن المصلّى ... ونادى والجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدونى ... فما لكم وما لى من خلاق! قالوا: ولمّا استعمل سعيد بن العاص، قال بعض شعرائهم: فررت من الوليد إلى سعيد ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا [1] يلينا من قريش كلّ يوم ... أمير محدث أو مستشار لنا نار نخوّفها فنخشى ... وليس لهم ولا يخشون نار قال: واستعمل عثمان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة وهو والد عمرو بن سعيد الأشدق، فسار إلى الكوفة ومعه من كان فد شخص من أهل الكوفة مع الوليد، فلمّا وصلها صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإنى لكارة؛ ولكنّى لم أجد بدّا إذ أمرت أن أأتمر. ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، وو الله لأضربنّ وجهها حتّى أقمعها أو تعيينى، وإنّى لرائد نفسى اليوم. ونزل. وسأل عن أهل الكوفة، فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان: إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت حتى لا ينظر إلى ذى شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها. فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، ففضّل أهل السّابقة والقدمة،

_ [1] الاستيعاب 1555.

ممّن فتح الله عليه تلك البلاد؛ وليكن من نزلها غيرهم تبعا لهم إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق، وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء. واحفظ لكلّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل. فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسيّة، فقال: أنتم وجوه النّاس، والوجه ينبى عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذى الحاجة. وأدخل معهم من يحتمل من اللّواحق والرّوادف، وجعل القرّاء فى سمره، ففشت القالة فى أهل الكوفة. فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع النّاس وأخبرهم بما كتب، فقالوا له: أصبت لا تطمعهم، هم ليسوا له بأهل؛ فإنّه إذا نهض فى الأمور من ليس لها بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة، استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.

ذكر جمع القرآن

ذكر جمع القرآن كان سبب ذلك أنّ حذيفة بن اليمان كان قد توجّه مددا لعبد الرّحمن ابن ربيعة لحصار الباب، وكان مع سعيد بن العاص عامل الكوفة، فخرج معه سعيد بن العاص حتّى بلغ أذربيجان، فأقام حتى عاد حذيفه، فلمّا عادا ورجعا، قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت فى سفرتى هذه أمرا لئن نزل بالنّاس ليختلفنّ فى القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدا. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أنّ قراءتهم خير من قراءة غيرهم، وأنّهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على أبى موسى، ويسمّون مصحفه لباب القلوب. فلمّا وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة النّاس بذلك، وحذّرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكثير من التّابعين. فتفاوض حذيفة، وابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرّق النّاس وسار حذيفة إلى عثمان، وأخبره بما رأى، وقال: أنا النّذير العريان، فأدرك الأمّة. فجمع عثمان الصّحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه، فأرسل إلى

حفصة بنت عمر رضى الله عنهما: أن أرسلى إلينا بالصّحف لننسخها وكانت هذه الصّحف هى التى كتبت فى أيّام أبى بكر رضى الله عنه، وكانت عنده ثم عند عمر، ثم كانت عند حفصة، فأخذها عثمان منها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وابن عبّاس وسعيد بن العاص وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها فى المصاحف. وقال عثمان: إن اختلفتم فاكتبوا بلغة قريش؛ فإنّما نزل بلسانها. قال زيد: فجعلنا نكتب؛ فإذا اختلفنا فى شىء جمعنا أمرنا على رأى واحد، فاختلفنا فى التّابوت، فقلت: التّابوه. وقال النّفر القرشيّون التّابوت. فأبيت أن أرجع إليهم، وأبوا أن يرجعوا إلىّ فرفعنا ذلك إلى عثمان، فقال: اكتبوا التّابوت. قال زيد: وذكرت آية كنت سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم أجدها عند أحد حتّى وجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصارىّ وهى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم) [1] . قال: وكتبت أربع نسخ، فبعث نسخة إلى الكوفة، وأخرى إلى البصرة، وأخرى إلى الشّام، وأمسك واحدة لنفسه، وأعاد الصّحف إلى حفصة، وأمر أن يحرق ما سوى ذلك.

_ [1] سورة التوبة 128، 129.

ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم

وقيل: إنّ النّسخ كانت سبعة، وأنّه وجّه نسخة إلى مكّة، وأخرى إلى اليمن، وأخرى إلى البحرين، والأوّل أصحّ. قال: فعرف النّاس فضل عثمان إلّا أهل الكوفة، فإنّ المصحف لمّا قدم عليهم فرح به الصحابة، وامتنع عبد الله بن مسعود ومن وافقهم. فقام ابن مسعود. فيهم فقال: ولا كلّ ذلك، فإنكم قد سبقتم سبقا بيّنا، فاربعوا على ظلعكم. ولمّا قدم علىّ رضى الله عنه إلى أهل الكوفة، قام إليه رجل، وعاب عثمان بجمعه الناس على الصّحف، فنهاه، وقال: لو وليت منه ما ولى عثمان سلكت سبيله رضى الله عنهما. وفيها زاد عثمان رضى الله عنه النّداء الثّالث يوم الجمعة على الزّوراء، الله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم وفيها سقط خاتم النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم من يد عثمان فى بئر أريس وهى على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد، ولمّا سقط من يده، نزحوا ما فيها من الماء فما قدروا عليه، فلمّا أيس منه، صنع خاتما آخر على مثاله ونقشه، فكان فى إصبعه حتى قتل. وقيل: إنّه نقش عليه: «آمنت بالّذى خلق فسوّى» . وقيل: كان عليه «لتنصرنّ أو لتندمنّ» ، والله تعالى أعلم.

ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه إلى الربذة

ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر رضى الله عنه وفى [1] سنة ثلاثين أخرج عثمان رضى الله عنه أباذرّ الغفارىّ، واسمه جندب بن جنادة. وقد ذكر فى سبب ذلك أمور كثيرة، منها ما أورده أبو أحمد يحيى بن جابر البلاذرىّ، فى كتاب «جمل أنساب الأشراف» وغيره. قال البلاذرىّ: لمّا أعطى عثمان رضى الله عنه مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبى العاص- وهو أخو مروان- ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصارى مائة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشّر الكافرين بعذاب أليم: ويتلو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.. [2] الآية. فرفع مروان ذلك إلى عثمان، فأرسل إلى أبى ذرّ، أن انته عمّا يبلغنى عنك، فقال: أينهانى عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله! فو الله لأن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إلىّ من أن أسخط الله برضاه، فأغضب ذلك عثمان، وصبر وكفّ عنه، ثم قال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 56 وما بعدها. [2] سورة التوبة 34.

كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذرّ: يابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا! فقال عثمان: ما أكثر ذاك لى وأولعك بأصحابى! الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشّام، إلا أنّه كان يقدم حاجّا، ويسأل عثمان الإذن له فى مجاورة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذن له فى ذلك. وقيل: إنّه إنّما صار إلى الشام لأنّه [رأى البناء قد بلغ سلعا، فقال لعثمان: إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا بلغ البناء [سلعا] [1] فالهرب» ، فأذن لى آتى الشّام فأغزو هناك. فأذن له، فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت صلة فلا حاجة لى فيها. وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله فهى الخيانة، وإن كانت من مالك فهى الإسراف، فسكت معاوية. وكان أبو ذرّ يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هى فى كتاب الله، ولا سنّة نبيّه، والله إنّى لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذّبا، وأثرة بغير تقى. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذرّ مفسد عليك الشّام، فتدارك أهله إن كانت لك بهم حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان، فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، فاحمل جندبا إلىّ على أغلظ مركب وأوعره.

_ [1] من ص.

فوجّه معاوية مع أبى ذرّ من سار معه الليل والنهار، فلمّا قدم المدينة جعل يقول: [تستعمل] [1] الصّبيان، وتحمى الحمى، وتقرّب أولاد الطّلقاء! فبعث إليه عثمان: الحق بأىّ أرض شئت. فقال: بمكّة؟ فقال: لا، قال: فبيت المقدس؟ قال: لا، فبأحد المصرين؟ قال: لا، قال: ولكنى مسيّرك إلى الرّبذة، فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات. وذكر البلاذرى فيما حكاه كلاما كثيرا، وقع بين عثمان بن عفّان وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما بسبب ذلك أغضينا عن ذكره وحكى أنّ أبا ذرّ بلغه أنّ معاوية يقول: إنّ المال مال الله، ألا إنّ كلّ شىء فلله، وأنّه يريد أن يحتجبه دون الناس، ويمحو اسم المسلمين: فأتاه أبو ذرّ فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّى مال المسلمين. مال الله! فقال: يرحمك الله يا أبا ذرّ! ألسنا عباد الله، والمال ماله، قال: فلا تقله، قال: سأقول مال المسلمين. وكان أبو ذرّ يذهب إلى أنّ المسلم لا ينبغى أن يكون فى ملكه أكثر من قوت يومه وليلته إلّا شىء ينفقه فى سبيل الله أو يعدّه لغريم، ويأخذ بظاهر القرآن: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [2] الآية، وكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر

_ [1] من ص. [2] سورة التوبة 34.

الأغنياء، واسوا الفقراء، بشّروا الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء. وشكا الأغنياء ما يلقون منهم إلى معاوية، فأرسل معاوية إليه بألف دينار فى جنح اللّيل، فأنفقها، فلمّا صلّى معاوية الصّبح دعا معاوية رسوله الذى أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبى ذرّ، فقل له: أنقذ جسدى من عذاب معاوية، فإنه أرسلنى إلى غيرك، وأنّى أخطأت بك، ففعل ذلك. فقال له أبو ذرّ. يا بنىّ، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخّرنا ثلاثة أيّام حتّى نجمعها. فلمّا رأى معاوية أنّ فعله صدّق قوله كتب إلى عثمان: إنّ أباذرّ قد ضيّق علىّ، وقد كان كذا وكذا، الّذى يقوله الفقراء. فكتب إليه عثمان: إنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلّا أن تشب، فلا تنكإ القرح، وجهّز أبا ذرّ، وابعث معه دليلا، وكفكف النّاس ونفسك ما استطعت. فبعث له بأبى ذرّ، فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس فى أصل جبل سلع قال، بشّر أهل المدينة بغارة شعواء، وحرب مذكار [1] ودخل على عثمان فقال له: ما بال أهل الشّام يشكون ذرب [2]

_ [1] مذكار: قوية. [2] ذرب اللسان: حدته.

لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذرّ، علىّ أن أقضى ما علىّ، وأن أدعو الرّعيّة إلى الاجتهاد والاقتصاد، وما علىّ أن أجبرهم على الزّهد. فقال أبو ذرّ: لا ترضوا من الأغنياء حتّى يبذلوا المعروف، ويحسنوا إلى الجيران والإخوان، ويصلوا القرابات [1] ، فقال: كعب الأحبار- وكان حاضرا: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه، فضربه أبو ذرّ فشجّه، وقال: يابن اليهوديّة، ما أنت وما ها هنا! فاستوهب عثمان كعبا شجّته، فوهبه، فقال أبو ذرّ لعثمان: تأذن لى فى الخروج من المدينة؛ فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا؟ فأذن له، فبلغ الرّبذة [2] ، وبنى بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة [3] من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه فى كلّ يوم عطاء، وكذلك أجرى على رافع بن حديج، وكان قد خرج أيضا من المدينة لشىء سمعه. قال: وكان أبو ذرّ يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيّا، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب يثقل يد الرّجل، فقال: انظروا إلى هذا الّذى يزهّد فى الدّنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنّها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسا [4] لحوائجنا. وروى البخارىّ رحمه الله فى صحيحه بسنده إلى زيد بن وهب، قال: مررت بالرّبذة، فإذا أنا بأبى ذرّ- رضى الله عنه، فقلت له:

_ [1] ك: «القرابة» . [2] ك: «فنزل الربذة» . [3] الصرمة: القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين. [4] كذا فى الأصلين، ولعلها: «فئوسا» .

ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت فى الشّام، فاختلفت أنا ومعاوية فى الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله. قال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بينى وبينه فى ذاك [كلام] [1] ، وكتب إلى عثمان رضى الله عنه يشكونى، فكتب إلىّ عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر علىّ النّاس حتّى كأنّهم لم يرونى قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان رضى الله عنه فقال لى: إن شئت تنحّيت فكنت قريبا؛ فذلك الّذى أنزلنى هذا المنزل، ولو أمّروا علىّ حبشيّا لسمعت وأطعت. وأقام أبو ذرّ بالرّبذة إلى سنة اثنتين وثلاثين، فمات بها رضى الله عنه، ولمّا حضرته الوفاة قال لابنته: استشرفى يا بنيّة، هل ترين أحدا؟ قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتى بعد، ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الّذين يدفنوننى- فإنّه سيشهدنى قوم صالحون- فقولى لهم: يقسم عليكم أبو ذرّ ألّا تركبوا حتى تأكلوا؛ فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظرى، هل ترين أحدا؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب. قال: استقبلى الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات. فخرجت ابنته، فتلقّتهم [2] وقالت: رحمكم الله،

_ [1] من ص. [2] ص: «فلقيتهم» .

اشهدوا أبا ذرّ قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم، ونعمة عين، لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن سعود- رضى الله عنه- فبكى، وقال: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال «يموت وحده، ويبعث وحده» . فغسّلوه وكفّنوه، وصلّوا عليه ودفنوه، فقالت لهم ابنته: إنّ أبا ذرّ يقرأ عليكم السّلام، وأقسم ألّا تركبوا حتّى تأكلوا، ففعلوا، وحملوا أهله معهم حتّى أقدموهم مكّة، ونعوه إلى عثمان، فضمّ ابنته إلى عياله. وقيل: كانت وفاته فى سنة إحدى وثلاثين. وقيل: إنّ ابن مسعود لم يحمل أهل أبى ذرّ معه، إنّما تركهم حتّى قدم على عثمان بمكّة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم، فحملهم معه.

سنة احدى وثلاثين

سنة احدى وثلاثين فيها حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وصخر ابن حرب، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. سنة اثنتين وثلاثين فى هذه السّنة مات العبّاس بن عبد المطّلب، وكان قد كفّ بصره، وله من العمر ثمان وثمانون سنة. ومات عبد الله بن مسعود، وصلّى عليه عمّار بن ياسر، وقيل: عثمان. وتوفّى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الّذى أرى أمر الأذان. وتوفّى عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه

ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه هو أبو محمّد عبد الرحمن بن عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشىّ الزّهرىّ. وكان اسمه فى الجاهليّة عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرّحمن. وأمّه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة. ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم، وكان من المهاجرين الأوّلين، جمع الهجرتين جميعا؛ إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة مهاجرا [1] إلى المدينة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السّتّة الّذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم. وشهد عبد الرحمن بدرا، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دومة الجندل، وعمّمه بيده، وأسدلها بين كتفيه، وقال له: سر باسم الله، وأوصاه بوصايا الأمراء، ثم قال: إن فتح الله عليك فتزوّج بنت ملكهم أو شريفهم. وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضمضم الكلبىّ شريفهم، فتزوّج عبد الرحمن ابنته تماضر بنت الأصبغ، فهى أمّ أبى سلمة الفقيه

_ [1] ك «ثم قدم قبل الهجرة وهاجر إلى المدينة» .

ابن عبد الرحمن، وكان له من الولد سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، وإبراهيم، وحميد، وإسماعيل، وعروة قتل بإفريقيّة، وسالم الأصغر، وأبو بكر، وعبد الله الأكبر قتل بإفريقيّة، والقاسم، وعبد الله الأصغر، هو أبو سلمة الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، ومصعب، وعثمان، ومحمد، [ومعن] [1] وزيد، وأمّ القاسم ولدت فى الجاهلية، وجويرية، وهم لأمّهات أولاد شتّى ذكرهنّ الزّبير بن بكّار. ولعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، فضائل كثيرة، ومناقب جمّة؛ منها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلفه فى سفر. وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم. أنّه قال: «عبد الرحمن ابن عوف سيّد من سادات المسلمين» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عبد الرحمن بن عوف أمين فى السماء، وأمين فى الأرض» . وكان رضى الله عنه رجلا طويلا، أجنأ [2] ، أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، لا يغيّر لحيته ولا رأسه. وروى عن سهلة بنت عاصم زوجته قالت: كان عبد الرحمن أبيض أعين [3] ، أهدب الأشفار [4] ، أقنى [5] ، طويل النّابين

_ [1] من ص. [2] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره. [3] أعين: واسع العين. [4] الشفر: أصل منبت العين فى الجفن. [5] قنا الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه.

الأعليين، وربّما أدميا شفته، له جمّة [1] ، ضخم الكفّين، غليظ الأصابع، جرح [يوم أحد] [2] إحدى وعشرين جراحة، وجرح فى رجله، فكان يعرج منها. وقال أبو عمر بن عبد البرّ [3] : كان عبد الرّحمن تاجرا مجدودا [4] فى التّجارة وكسب مالا كثيرا، وخلّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا [5] فكان يأخذ من ذلك قوت أهله سنة، وخلّف مالا كثيرا جدا. روى عمرو بن دينار، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن بن عوف التّى طلّقها فى مرضه عن ثلث الثّمن، بثلاث وثمانين ألفا. وروى غيره أنّها صولحت بذلك على ربع الثمن من ميراثه. وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل: أن عبد الرّحمن بن عوف رضى الله عنه أوصى لكلّ رجل بقى من أهل بدر بأربعمائة دينار، وكان عدّتهم يومئذ مائة رجل، وقسّم ماله على ستّة عشر سهما، فكان كلّ سهم ثمانين وألف دينار. وقال أبو عمر: وروى أنّه أعتق فى يوم واحد ثلاثين عبدا. ولمّا حضرته الوفاه بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إنّ مصعب

_ [1] الجمة: مجتمع الشعر. [2] من ص. [3] الاستيعاب 847 وما بعدها. [4] مجدودا: محظوظا. [5] الناضح: البعير يستقى عليه.

ابن عمير كان خيرا منّى، توفّى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يكن له ما يكفّن فيه، وإنّ حمزة بن عبد المطلب كان خيرا منّى لم نجد له كفنا، وإنّى أخشى أن أكون ممن عجّلت له طيّباته فى حياته الدنيا، أو أخاف أن أحتبس [1] عن أصحابى بكثرة مالى. وقد تقدّم أن هذا المال الّذى اكتسبه كان ببركة دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكانت وفاته رضى الله عنه بالمدينة. فى هذه السّنة. وقيل: فى سنة إحدى وثلاثين، وصلّى عثمان رضى الله عنه عليه بوصيّة منه، ودفن بالبقيع. واختلف فى مبلغ سنّة، فقيل: توفّى وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين. والله أعلم.

_ [1] ك: «أحبس» .

سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم

سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم فى [1] هذه السّنة سيّر عثمان رضى الله عنه نفرا من أهل الكوفة إلى الشّام، وكان سبب ذلك أنّ سعيد بن العاص لمّا ولّاه عثمان الكوفة اختار وجوه النّاس، وأهل القادسيّة، وقرّاء أهل الكوفة، فكان هؤلاء يدخلون عليه فى منزله، وإذا خرج فكلّ النّاس يدخلون عليه، فدخلوا عليه يوما، فبينما هم يتحدّثون، قال حبيش ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إنّ من له مثل [2] النشاستج لحقيق أن يكون جواد، والله لو كان لى مثله لأعاشكم الله [به] [2] عيشا رغدا. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الّذى يلى الكوفة، فقالوا: فضّ الله فاك، والله لقد هممنا بك، فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه، فقالوا: يتمنّى سوادنا، ويتمنّى لكم أضعافه. فثار به الأشتر وجندب وابن ذى الحنكة [3] ، وصعصعة، وابن الكوّاء، وكميل، وعمير بن ضابئ، فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه،

_ [1] تاريخ ابن الأثير 3: 69، وتاريخ الطبرى 4: 317- 329، وفيها ذكر هذا الخبر فى حوادث سنة 33 [2] من ص. [3] ك: «الحبلة» .

فضربوهما حتى غشى عليها، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا، وفيم طليحة، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى النّاس، فقال: أيّها النّاس، قوم تنازعوا، وقد رزق الله العافية. فردّهم، فتراجعوا. وأفاق الرجلان، فقالا: قاتلنا غاشيتك، فقال: لا يغشّونى أبدا، فكفّا ألسنتكما ولا تجرّئا النّاس، ففعلا، وقعد أولئك النّفر فى بيوتهم، وأقبلوا يقعون فى عثمان رضى الله عنه. وقيل: بل كان السّبب فى ذلك أنّه كان يسمر عند سعيد وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحىّ، والأسود بن يزيد وعلقمة ابن قيس النّخعيّان، ومالك بن الأشتر، غيرهم. فقال سعيد: إنّما هذا السّواد بستان قريش، فقال الأشتر: تزعم أنّ السّواد الذى أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! وتكلّم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدىّ، وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من هاهنا لا يفوتنّكم الرّجل، فوثبوا عليه فوطئوه وطئا شديدا حتّى غشى عليه، ثم جرّوا برجله فنضح بماء فأفاق، وقال: قتلنى من انتخبت، فقال: والله لا يسمر عندى أحد أبدا، فجعلوا يجلسون فى مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا، واجتمع إليهم النّاس حتّى كثروا. فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان فى إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إنّ نفرا قد خلقوا

للفتنة، فقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل [منهم] [1] وإن أعيوك فارددهم [2] علىّ. فلمّا قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان عليهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغدّى ويتعشّى معهم. فقال لهم يوما: إنّكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، وحزتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغنى أنّكم نقمتم قريشا؛ ولو لم تكن قريش كنتم أذلّة، إنّ أئمتكم لكم جنّة، فلا تفترفوا عن جنّتكم، وإنّ أئمتكم يصبرون [3] لكم على الجور، ويحملون عنكم المئونة، والله لتنتهنّ أو ليبتلينّكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرّعيّة فى حياتكم وبعد وفاتكم. فقال صعصعة: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر النّاس، ولا أرفقها، ولا أمنعها فى الجاهليّة فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة؛ فإنّ الجنّة إن اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، وعلمت أنّ الّذى أغراكم على هذا قلّة العقول؛ وأنت خطيبهم، ولا أرى لك عقلا، أعظّم عليك أمر الإسلام وتذكّرنى الجاهليّة! أخزى الله قوما أعظموا أمركم. افقهوا عنّى- ولا أظنّكم تفقهون- أنّ قريشا لم تعزّ فى جاهليّة ولا

_ [1] من ص. [2] ك: «فردوهم» . [3] ك: «يصرون» .

إسلام إلّا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا بأشدّهم؛ ولكنّهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا فى جاهليّة- والنّاس بأكل بعضهم بعضا- إلا بالله، فبوّأهم [1] حرما آمنا، يتخطّف النّاس من حولهم، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا، إلّا وقد أصابه الدّهر فى بلده وحرمته؛ إلّا ما كان من قريش؛ فإنّهم لم يردهم أحد من النّاس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل؛ حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم، واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، فلا يصلح ذلك إلّا عليهم، فكان الله تعالى يحوطهم فى الجاهليّة، وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه! أفّ لك ولأصحابك!. أمّا أنت يا صعصعة، فإنّ قريتك شرّ القرى، أنتنها نبتا، وأعمقها واديا، وأعرفها بالشّرّ وألأمها، ألأم العرب ألقابا وأصهارا، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخطّ، وفعلة فارس، حتّى أصابتكم دعوة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، لم تسكن البحرين فتشركهم فى دعوة النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك [2] الإسلام وخلطك بالناس [3] أقبلت تبتغى دين الله عوجا، وتنزع إلى الذّلّة، ولا يضرّ ذلك قريشا، ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرّفكم بالشّرّ فأغرى بكم النّاس

_ [1] ك: «مأواهم» . [2] ك: «أنذرك» . [3] ك: «بالإسلام» .

وهو صارعكم، ولا ندركون بالشر أمرا أبدا؛ إلّا فتح الله عليكم شرّا منه وأخزى. ثمّ قام وتركهم، فتقاصرت إليهم أنفسهم. فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إنى قد أذنت فاذهبوا [1] حيث شئتم، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضرّه، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإنّ البطر لا يعترى الخيار، فاذهبوا حيث شئتم، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم. فلمّا خرجوا دعاهم وكلّمهم نحو كلامه الأوّل، وكتب إلى عثمان أنّه قدم علىّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشىء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنّما همّهم الفتنة، وأموال أهل الذّمّة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالّذين ينكئون أحدا إلّا مع غيرهم، فانه سعيدا ومن عنده عنهم؛ فإنّهم ليسوا لأكبر من شغب أو نكير. قال: ولمّا خرجوا من دمشق قالوا: لا نرجع إلى الكوفة، فإنّهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص، فدعاهم وقال: يا آلة الشّيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا! قد رجع الشيطان محسورا، وأنتم بعد نشاط، خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم [2] ، يا معشر من لا أدرى، أعرب أم عجم! لا تقولوا لى ما يبلغنى أنّكم قلتم لمعاوية: أنا ابن خالد بن

_ [1] ك: «تذهب» ، تحريف. [2] ك: «إن لم يؤذكم» .

الوليد، أنا أبن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الرّدّه. والله لمّن بلغنى يا صعصعة أنّ أحدا ممّن معى دقّ أنفك، ثمّ أمضّك، لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. وأقامهم شهرا، كلّما ركب أمشاهم. فلمّا مرّ به صعصغة قال: يابن الخطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشّرّ، مالك لا تقول كما بلغنى أنّك قلت لسعيد ومعاوية! فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتّى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان؛ احلل حيث شئت، قال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ فقال، ذاك إليك، فرجع إليه. وقد حكى بعض المؤرّخين من أخبارهم نحوما ما تقدم، وزاد فيه: إنّ معاوية لمّا عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، كان ممّا قال لهم: والله إنّى لا آمركم بشىء إلا قد بدأت فيه بنفسى، وأهل بيتى، وقد عرفت قريش أنّ أبا سفيان كان أكرمها، وابن أكرمها؛ إلّا ما جعل الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه انتخبه وأكرمه، وإنى لأظنّ أنّ أبا سفيان لو ولد النّاس لم يلد إلّا حازما. قال صعصعة: كذبت، لقد ولدهم خير من أبى سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس. فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم من القابلة فتحدث

عندهم طويلا ثمّ قال: أيّها القوم، ردّوا خيرا أو اسكتوا، وتفكّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم المسلمين فاطلبوه فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة، لك أن تطاع فى معصية الله عزّ وجلّ!. فقال: أليس أوّل ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا. قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: فإنّى آمركم الآن، إن كنت فعلت فإنّى أتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته، وطاعة نبيّه، ولزوم الجماعة، وأن توقّروا أئمّتكم، وتدلّوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ فى المسلمين من هو أحقّ به منك؛ من كان أبوه أحسن قدما من أبيك فى الإسلام وهو أحسن قدما فى الإسلام من أبيك. فقال: والله إنّ لى فى الإسلام قدما، ولغيرى كان أحسن قدما منّى، ولكن ليس فى زمانى أحد أقوى على ما أنا فيه منّى، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيرى أقوى منّى لم تكن عند عمر هوادة لى ولا لغيرى، ولم أحدث من الحدث ما ينبغى أن أعتزل عملى، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلىّ فاعتزلت عمله، فمهلا فإنّ فى ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر. ولعمرى، لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيّكم، ما استقامت

لأهل الإسلام يوما وليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإنّ لله لسطوات، وإنّى لخائف عليكم أن تتابعوا فى متابعة الشّيطان، ومعصية الرّحمن فيحلّكم بذلك دار الهوان فى العاجل والآجل. فوثبوا عليه، وأخذوا رأسه ولحيته. فقال: مه! إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم فىّ ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمرى إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم. فكتب إلى عثمان نحو ما تقدّم، فكتب إليه يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص إلى الكوفة، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم، فضجّ سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيّرهم إليه، فأنزلهم وأجرى عليهم رزقا. وكانوا [1] : الأشتر، وثابت بن قيس الهمدانى، وكميل بن زياد، وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وجندب بن زهير الغامدىّ، وجندب بن كعب الأزدىّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعىّ، وابن الكّواء. وفيها مات المقداد بن عمرو، المعروف بابن الأسود، وتوفّى الطّفيل والحصين ابنا الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم. وحجّ عثمان بالنّاس.

_ [1] ك: «وهم كانوا» .

سنة أربع وثلاثين ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرى

سنة أربع وثلاثين ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرىّ وفى [1] هذه السنة توجّه سعيد بن العاص أمير الكوفة إلى عثمان، وقد استعمل على أعماله قبل مسيره بسنة وبعض أخرى على أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى الرّىّ سعيد بن قيس، وعلى همذان النّسير العجلىّ، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى الموصل حكيم بن سلام الحرّانى، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى الباب سليمان بن ربيعة، وعلى حلوان عتيبة ابن النّهّاس. وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وخلت الكوفة من الرّؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الّذين كان ابن السّوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنّما نستعفى من سعيد. فتركه، وكاتب يزيد النّفر الّذين كانوا سيّروا من الكوفة إلى الشّام فى القدوم عليه، فسار الأشتر والّذين كانوا عند عبد الرّحمن بن خالد، فسبقهم الأشتر. فلم يفجأ النّاس بالكوفة يوم جمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدا يريده

_ [1] ابن الأثير 3: 73.

على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولى البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أنّ فيكم بستان قريش، فاستخلف النّاس، وجعل أهل الرأى ينهونهم فلا يسمعون منهم. فخرج يزيد، وأمر مناديا ينادى: من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فبقى أشراف النّاس وحلماؤهم فى المسجد، وعمرو ابن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأمر النّاس بالاجتماع والطاعة. فقال له القعقاع بن عمرو: أتردّ السّيل عن أدراجه؟ هيهات! لا والله لا يسكّن الغوغاء إلّا المشرفيّة [1] ويوشك أن تنتضى، ثم يعجّون [2] عجيج العدّان [3] ، ويتمنّون ما هم فيه اليوم، فلا يردّه الله عليهم أبدا، فاصبر. قال: أصبر، وتحوّل إلى منزله. وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة، وهى قريب من القادسيّة، ومعه الأشتر، ووصل إليهم سعيد بن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك، فقال: إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وإلىّ رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل. ثم انصرف عنهم، ومضى حتّى قدم على عثمان فأخبره الخبر، وأنّ القوم يريدون البدل، وأنهم يختارون أبا موسى. فولّاه عثمان، وكتب إليهم: أمّا بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد،

_ [1] المشرفية: سيوف تنسب إلى مشارف، قرى من أرض العرب تدنو إلى الريف. [2] يعجون: يصيحون. [3] ابن الأثير: «العيدان» ، الطبرى؛ العتدان. والعتود: الجدى الذى استكرش.

وو الله لأقرضنّكم عرضى، ولأبذلنّكم صبرى، ولأصلحنّكم جهدى، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه [إلّا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه] [1] إلّا ما استعفيتم منه. أنزل فيه عند ما أحببتم؛ حتى لا تكون لكم على الله حجّة، ولنصبرنّ كما ما أمرنا؛ حتّى تبلغوا ما تريدون. ورجع الأمراء من قرب الكوفة، فرجع جرير من قرقيسياء، وعتيبة [بن النهاس] [1] من حلوان، وخطبهم أبو موسى، وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان. فأجابوه إلى ذلك، وقالوا: صلّ بنا. فقال: لا، إلّا على السّمع والطاعة لعثمان، قالوا: نعم، فصلّى بهم. وأتاه ولاته فولّاهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.

_ [1] من ص.

ذكر ابتداء الخلاف على عثمان

ذكر ابتداء الخلاف على عثمان ومن ابتدأ بالجرأة عليه كان [1] أوّل من ابتدأ بالجرأة عليه عبد الرحمن بن عوف؛ وذلك أنّ إبلا من إبل الصدقة جىء بها إلى عثمان، فوهبها لبعض بنى الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأخذها، وقسّمها بين النّاس وعثمان فى الدار. وكان أول من اجترأ عليه فى المنطق جبلة بن عمرو السّاعدىّ، مرّ به عثمان وهو فى نادى قومه وبيده جامعة [2] ، فسلّم عثمان، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا! ثم قال لعثمان: والله لأطرحنّ هذه الجامعة فى عنقك، أو لتتركنّ بطانتك هذه الخبيثة؛ مروان وابن عامر [وابن سعد] [3] ، ومنهم من نزل القرآن بذمّه، وأباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه. وحكى أبو جعفر الطّبرىّ: أنّه مرّ به وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقال يا نعشل [4] والله لأقتلنّك ولأحملنّك على قلوص جرباء، ولأحملنّك إلى حرّة النّار [5] . قال: ثم جاءه مرّة أخرى، وعثمان على المنبر، فأنزله عنه

_ [1] ابن الأثير 3: 75 وما بعدها. وتاريخ الطبرى 4: 365 وما بعدها. [2] الجامعة: الغل يوضع فى العنق. [3] من ص، وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح. [4] فى القاموس: نعثل رجل من أهل مصر، قيل: كان يشبه عثمان رضى الله عنه، ويقال له إذا نيل منه» . [5] الطبرى 4: 365.

قال أبو جعفر: وعن أبى حبيبة، قال [1] : خطب عثمان النّاس فى بعض أيّامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنّك قد ركبت نهابير [2] ، وركبنا معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة، وشهر يديه، قال أبو حبيبة: فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ. قال: ثمّ خطب الناس بعد ذلك، فقام إليه جهجاه الغفارىّ فصاح: يا عثمان، ألا إنّ هذه شارف [3] ، قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك فى الجامعة، ولنحملنّك على الشّارف، ثم نطرحك فى جبل الدّخان. فقال عثمان: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلا عن ملإ من النّاس، وقام إلى عثمان شيعته من بنى أميّة، فحملوه فأدخلوه الدّار [4] . وروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه، قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم التى كان يخطب عليها أبو بكر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شظيّة منها فيها، فبقى الجرح حتّى أصابته الأكلة، فرأيتها تدوّد. ونزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج

_ [1] الطبرى 4: 366. [2] النهابير: المهالك. [3] الشارف من النوق: المسنة الهرمة. [4] الطبرى 4: 366.

بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر، فقتل [1] . هذا ما كان من أمر أهل المدينة. وأمّا ما كان من أهل الأمصار، فكان سبب خلافهم أنّ عبد الله ابن سبأ المعروف بابن السّوداء، كان يهوديّا، فأسلم أيّام عثمان، ثم تنقّل فى الحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام، يريد إضلال النّاس، فلم يقدر منهم على ذلك، وأخرجه أهل الشّام، فأتى مصر، فأقام فيهم، وقال لهم: العجب ممن يصدّق أنّ عيسى يرجع، ويكذّب أنّ محمدا يرجع، ووضع لهم الرّجعة، فقبلوا ذلك معه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنّه كان لكلّ نبىّ وصىّ، وعلىّ وصىّ محمّد، فمن أظلم ممّن لم يجز وصيّة رسول الله، ووثب على وصيّه! وإنّ عثمان أخذها بغير حقّ، فانهضوا فى هذا الأمر، وابدءوا بالطّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر تستميلوا به النّاس. وبثّ دعاته، وكاتب من استفسد فى الأمصار، وكاتبوه، ودعوا فى السّرّ [2] إلى ما عليه رأيهم. ثم كان أهل الكوفة أوّل من قام فى ذلك، فاجتمع ناس منهم فتذاكروا أعمال عثمان، فاجتمع رأيهم أن يرسلوا إليه عامر بن عبد الله التّميمىّ، ثم العنبرىّ، وهو الّذى يدعى عامر ابن عبد القيس، فأتاه، فدخل عليه فقال: إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا فى أعمالك، فوجدوك قد ارتكبت أمورا عظاما، فاتّق الله وتب إليه.

_ [1] كذا فى الطبرى وفى الأصلين: «فقيل» . [2] ك: «السير» .

فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإنّ النّاس يزعمون أنّه قارئ، ثم هو يجىء فيكلّمنى فى المحقّرات، وو الله ما يدرى أين الله؟ فقال عامر: بل والله إنّى لأدرى أنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية، وعبد الله بن سعد، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عامر، فجمعهم وشاورهم، وقال لهم: إن لكلّ أمير وزراء ونصحاء وإنكم وزرائى ونصحائى، وأهل ثقتى، وقد صنع النّاس ما قد رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالى، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر: أرى يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتّى يذلّوا لك، ولا تكون همّة أحدهم إلا فى نفسه وما هو فيه من دبر [1] دابّته وقمل فروته. وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الّذى تخاف، فإنّ لكلّ قوم قادة، متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: هذا هو الرأى لولا ما فيه. وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام. وقال ابن سعد: إنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال، تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، انّك قد ركبت

_ [1] الدبر: داء فى الإبل.

لنّاس بمثل بنى أميّة. فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما، وامض قدما. فقال له عثمان: مالك قمل فروك، أهذا الجدّ منك! فسكت عمرو حتّى تفرّقوا، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علىّ من ذلك؛ ولكنّى علمت أن بالباب من يبلّغ النّاس قول كلّ رجل منّا، فأردت أن يبلغهم قولى، فيثقوا بى، فأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا. ثم ردّ عثمان عماله إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز الناس فى البعوث، وردّ سعيد بن العاص إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة فردّوه كما نقدم، وتكاتب أهل الأمصار، لمّا أفسد أمرهم ابن السوداء [1] ، وصار أهل كلّ مصر يكتب إلى أهل المصر الآخر بعيوب يضعونها لولاتهم، وينالون منهم حتى ذاع ذلك فى سائر البلاد، ووصل إلى المدينة. فيقول أهل كلّ مصر: إنا لفى عافية مما ابتلى به هؤلاء. ثمّ تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغيرهم، بعضهم إلى بعض فى سنة أربع وثلاثين أن اقدموا فإنّ الجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وعظّموا عليه، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذبّ، إلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدىّ، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس، فكلّموا علىّ ابن أبى طالب رضى الله وأرضاه وكرّم وجهه.

_ [1] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ.

ذكر كلام على لعثمان وجوابه له

ذكر كلام على لعثمان وجوابه له قال [1] : ولمّا اجتمع الناس إلى علىّ رضى الله عنه، وكلّموه، دخل إلى عثمان فقال: إن الناس ورائى، وقد كلّمونى فيك، والله ما أدرى ما أقول لك، ولا أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشىء فنبلّغك، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسمعت منه، ونلت صهره، وما ابن أبى قحافة بأولى بالعمل منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشىء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك [2] إلى شىء، فالله، الله فى نفسك، فإنك والله ما تبصّر عن عمى، وما تعلّم من جهالة، وإن الطريق لواضح بيّن، وإن أعلام الدّين لقائمة. اعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله [عند الله] [3] إمام عادل، هدى وهدى، وأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مكروهة [4] ، فو الله إنّ كلّا لبيّن، وإن السّنن [5] لقائمة لها أعلام، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وأضلّ [6] ، فأمات سنة معلومة

_ [1] الطبرى 4: 336، وما بعدها، ابن الأثير 3: 76، 77. [2] ك: «سقناك» . [3] من ص والطبرى. [4] ك: «متروكة» ، وكذلك الطبرى. [5] ك: «السنة» . [6] الطبرى: «وضل به» .

وأحيا بدعة متروكة، وإنّى أحذّرك الله وسطواته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة الذى [1] ، يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها وتتركهم شيعا؛ لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا. فقال عثمان: قد علمت والله ليقولنّ الّذى قلت، أما والله لو كنت مكانى ما عنّفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، أن وصلت رحما، وسددت خلّة، وآويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان عمر ولىّ. أنشدك الله يا علىّ، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم، قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومنى أن ولّيت ابن عامر فى رحمه وقرابته؟ قال علىّ: إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّى إن بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصى العقوبة، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: وهم أقرباؤك أيضا. قال: أجل، إنّ رحمهم منّى لقريبة؛ ولكنّ الفضل فى غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية، فقد ولّيته؟ قال علىّ: أنشدك الله! هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ (غلام له) ؟ قال: نعم، قال: فإنّ معاوية يقطع الأمور دونك، ويقول للنّاس: هذا أمر عثمان، وأنت تعلم ذلك، فلا تغيّر عليه.

_ [1] الطبرى: «المقتول» .

ثمّ خرج علىّ من عنده، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر ثم قال: أمّا بعد، فانّ لكلّ شىء آفة، ولكلّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمّة، وعاهة هذه النّعمة، طعّانون يرونكم ما تحبّون، يسترون عنكم ما تكرهون، ويقولون لكم ويقولون، أمثال النّعام، يتبعون أوّل ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نغصا، ولا يردون [1] إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور [2] ، ألا فقد عبتم علىّ والله بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله؛ ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأتكم كتفى، وكففت يدى ولسانى عنكم، فاجترأتم علىّ. أما والله لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا، وأحرى أن قلت هلمّ أتى إلىّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابى، وأخرجتم منّى خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفّوا عنّى ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإنّى قد كففت [3] عنكم من لو كان هو الذّى يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقى هذا، ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلى، ولم يكونوا يختلفون عليه.

_ [1] ك: «ولا يرون» . [2] بعدها فى الطبرى: «وتعذرت عليهم المكاسب» . [3] ك: «كفكفت» .

فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعرأضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون فى دمن الثّرى فقال له عثمان: اسكت لاسكّت، دعنى وأصحابى، ما منطقك فى هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق! فسكت مروان، ونزل عثمان [1]

_ [1] بعدها فى ابن الأثير 3: 77 «عن المنبر، فاشتد قول الناس وعظم، وزاد تألبهم عليه» .

ذكر ارسال عثمان إلى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله

ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله وما يقول النّاس فيهم قال [1] : لما تكاتب أهل الأمصار بعيوب ولاتهم التى وضعوها، وشاع ذلك، وأتت الأخبار إلى المدينة، أتى أهل المدينة إلى عثمان وقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نخبرك عن النّاس بما يأتينا، وأخبروه، فاستشارهم فأشاروا أن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الأمصار، ليأتوه بأخبار العمّال، فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى إلى البصرة، وعمّار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشّام. وفرّق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمّار، فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام النّاس ولا عوامّهم. وتأخّر عمّار حتّى ظنّوا أنّه اغتيل، فجاء كتاب عبد الله بن أبى سرح يذكر أنّ عمّارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه، منهم عبد الله بن السّوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر. فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إنّى آخذ [عمّالى [2]] بموافاتى فى كلّ موسم، وقد رفع إلىّ أهل المدينة أن أقواما يضربون ويشتمون، فمن ادّعى شيئا من ذلك فليواف الموسم، ليأخذ بحقّه منّى أو من عمّالى، أو تصّدقوا فإنّ الله يجزى المتصّدقين.

_ [1] تاريخ الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها. [2] من ص.

فلمّا قرئ كتابه فى الأمصار بكى الناس بكاء شديدا، ودعوا لعثمان رضى الله عنه. وقدم عمّال الأمصار إلى مكّة فى الموسم: عبد الله عامر أمير البصرة، وعبد الله بن سعد أمير مصر، ومعاوية أمير الشّام وأدخل معهم فى المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص. فقال عثمان رضى الله عنه: ويحكم! ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة! إنّى والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بى، فقالوا: ألم تبعث؟ ألم نرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم ترجع رسلك ولم يشافههم أحد بشىء، والله ما صدقوا ولا برّوا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، ولا يحلّ الأخذ بهذه الإذاعة. فقال: اشيروا علىّ. فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى فى السّرّ، فيتحدّث به النّاس، ودواء ذلك طلب هؤلاء، وقتل الّذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من النّاس الّذى عليهم إذا أعطيتهم الّذى لهم، فإنّه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد ولّيتنى فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير، والرّجلان أعلم بناحيتيهما، والرأى حسن الأدب. وقال عمرو: أرى أنّك قد لنت لهم، وتراخيت عليهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريق صاحبيك، فتشتدّ فى موضع الشدّة، وتلين فى موضع الّلين. فقال عثمان: قد سمعت كلّ ما أشرتم به علىّ، ولكل أمر باب

يؤتى منه. إنّ هذا الأمر الّذى يخاف على هذه الأمة كائن، وإنّ بابه الّذى يغلق عليه فيكفكف به، اللين والمؤاتاة إلّا فى حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علىّ حجة حقّ. وقد علم الله أنّى لم آل الناس خيرا، وأنّ رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرّكها. سكّنوا النّاس، وهيّئوا لهم [1] حقوقهم؛ فإذا تعوطيت حقوق الله عزّ وجلّ فلا تدهنوا فيها. وكان هذا بمكّة. فلمّا قدم عثمان المدينة دعا عليّا وطلحة والزّبير، وعنده معاوية، فحمد معاوية الله، ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه، وولاة أمر هذه الأمّة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولّى عمره، ولو انتظرتم به الهرم لكان قريبا؛ مع أنّى أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شىء فهذه يدى لكم به، ولا تطمعوا النّاس فى أمركم، فو الله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبدا إلّا إدبارا [2] . فقال علىّ بن أبى طالب: مالك وذاك لا أمّ لك! قال: دع أمّى فإنّها ليست بشرّ أمّهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأجبنى عمّا أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخى، أنا أخبركم عنّى وعمّا وليت، إنّ صاحبىّ الّلذين كانا قبلى ظلما أنفسهما، ومن كان منهما بسبيل

_ [1] ك والطبرى: «وهبوا» . [2] ك: «الأدبار» .

احتسابا، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعطى قرابته، فأنا فى رهط أهل عيلة، وقلّة معاش، فبسطت يدى فى شىء من ذلك المال لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فأمرى لأمركم تبع. فقالوا: أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين. ولمّا رأى معاوية ما النّاس فيه قال لعثمان: اخرج معى إلى الشام فإنّهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به، فقال: لا أبيع جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإن كان فيه قطع خيط عنقى. قال: فأبعث إليك جندا منهم يقيمون معك لنائبة إن نابت المدينة، فقال: لا أضيّق على جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: والله إنك لتغتالنّ، فقال: حسبى الله ونعم الوكيل. وخرج معاوية، فمرّ بنفر من المهاجرين؛ فيهم علىّ وطلحة والزّبير وعلى معاوية ثياب سفره، فقام عليهم، فقال: إنّكم قد علمتم أنّ هذا الأمر كان النّاس يتغالبون عليه حتّى بعث الله نبيّه، فكانوا متفاضلين بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم، والنّاس لهم تبع، وإن طلبوا الدّنيا بالتغالب سلبوا ذلك وردّه الله إلى غيرهم، وإنّ الله على البدل لقادر، وإنى قد خلّفت

فيكم شيخا، فاستوصوا به [خيرا] [1] ، وكاتفوه تكونوا أسعد منه بذلك. وودّعهم ومضى إلى الشّام. فقال علىّ رضى الله تعالى عنه: كنت أرى فى هذا خيرا. فقال الزّبير: والله ما كان قطّ أعظم فى صدرك وصدورنا منه اليوم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] من ص.

سنة خمس وثلاثين

سنة خمس وثلاثين ذكر مسير من سار إلى عثمان رضى الله عنه من أهل الأمصار قال [1] : ولمّا فصل الأمراء عن المدينة، وقدموا على أمصارهم وذلك فى سنة خمس وثلاثين، وكان المنحرفون عن عثمان قد اتّعدوا يوما يخرجون فيه بالأمصار جميعا إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيّأ لهم ذلك. ولمّا رجع الأمراء ولم يتمّ لهم الوثوب تكاتبوا فى القدوم إلى المدينة، لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء، لتطير فى النّاس فخرج المصريّون وفيهم الرحمن بن عديس البلوىّ فى خمسمائة. وقيل: ستّمائة، وقيل: فى ألف، وفيهم كنانة بن بشر الّليثى، وسوادان بن حمران السّكونىّ، وعليهم جميعا الغافقىّ بن حرب العكّىّ. وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدىّ، والأشتر النّخعىّ، وزياد بن النّضر الحارثىّ، وعبد الله بن الأصمّ العامرىّ، وهم عداد أهل مصر. وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدىّ، وذريج ابن عبّاد العبدىّ، وبشر بن شريح القيسى، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.

_ [1] الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها.

فخرجوا جميعا فى شوّال، وأظهروا أنّهم يريدون الحجّ، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم فى طلحة، وتقدّم ناس من أهل الكوفة فنزلوا على الأعوص وهواهم فى الزّبير، وجاءهم ناس من أهل مصر وهواهم فى علىّ، ونزل عامّتهم بذى المروة. فاجتمع نفر من أهل مصر وأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، وأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزّبير، واجتمعوا بهم فكلّ طردهم وأبعدهم، فعادوا إلى أصحابهم. وقيل: إنّ عثمان لما بلغه نزولهم بذى خشب، جاء إلى علىّ وكلّمه فى ردّهم، فقال علىّ: على أىّ شىء أردّهم؟ فقال عثمان: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لى. فركب علىّ ومحمد بن مسلمة وابو المضرّس وكلّموهم فى الرّجوع، فرجعوا، فعاد علىّ إلى عثمان برجوعهم، فسرّ بذلك. فلمّا فارقه جاء مروان بن الحكم إلى عثمان من الغد فقال له: تكلّم وأعلم النّاس أنّ أهل مصر رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن أميرهم كان باطلا قبل أن يأتى النّاس من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع ردّه، ففعل عثمان، فلمّا خطب النّاس قال عمرو بن العاص: اتّق الله يا عثمان، فإنّك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وانّك هنالك! قملت والله جببتك، منذ عزلتك

عن العمل، فنودى من ناحية أخرى: تب إلى الله، فرفع رأسه وقال: اللهمّ إنى أوّل تائب. وخرج عمرو بن العاص حتّى أتى فلسطين. وفى رواية عن علقمة بن وقّاص: إنّ عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب، فقال: يا عثمان، إنّك قد ركبت بالنّاس النّهابير وركبوها، فتب إلى الله وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: وإنّك لهنا يابن النابغة! ثمّ رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله، اللهمّ أنا أوّل تائب إليك. قال ابن الأثير الجزرىّ: وقيل [1] : إنّ عليّا لمّا رجع من عند المصريّين بعد رجوعهم أتى عثمان، فقال: تكلّم كلاما يسمعه النّاس منك، ويشهدون عليك ويشهد الله على ما فى قلبك من النّزوع والإنابة [2] ؛ فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن أن يجىء ركب آخر من الكوفة والبصرة، فتقول: يا علىّ، اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتنى قد قطعت رحمك، واستخففت بحقّك. فخرج عثمان فخطب خطبة نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التّوبة، وقال أنا أول من اتّعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلى نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم فليروا رأيهم، فو الله لئن ردّنى الحقّ عبدا لأستنّ بسّنة العبد، ولأذلّنّ ذلّ العبد، وما عن الله مذهب إلّا إليه، فو الله لأعطينّكم [3] الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه، ولا أحتجب عنكم.

_ [1] تاريخه 3: 82. [2] ابن الأثير: «الأمانة» . [3] ك: «لأعطيتم» .

فرقّ النّاس وبكوا حتّى أخضلت [1] لحاهم، وبكى هو أيضا، فلمّا نزل وجد مروان وسعيد بن العاص ونفرا من بنى أميّة فى منزله، لم يكونوا شهدوا خطبته. فلمّا جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان: لا، بل اصمت، فإنّهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغى له أن ينزع عنها. فقال لها مروان: ما أنت وذاك؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبى وهو غائب تكذب عليه! وإنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما والله لولا أنّه عمّه، وأنّه يناله غمّه لأخبرتك عنه بما لم أكذب. قال: فأعرض عنها مروان، وقال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟ قال: تكلّم، فقال: بأبى أنت وأمّى! والله لوددت أنّ مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع، فكنت أوّل من رضى بها، وأعان عليها؛ ولكنّك قلت ما قلت حين قد بلغ الحزام الطّبيين، وبلغ السّيل الزّبى، وحين أعطى الخطّة الذّليلة الذّليل، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها، أحسن من توبة يخاف عليها، وأنت إن شئت تقرّ بالتّوبة، ولم تقرّ بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من النّاس. فقال عثمان: فاخرج إليهم وكلّمهم، فإنّى أستحيى أنّ أكلّمهم، فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال:

_ [1] أخضلت: ابتلت.

ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه! إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنّا، والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منّا أمر لا يسرّكم، ولا تحمدوا غبّ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنّا والله ما نحن بمغلوبين على ما فى أيدينا. فرجع النّاس، وأتى بعضهم عليّا فأخبره الخبر، فأقبل على عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للنّاس؟ قال: نعم، فقال علىّ. أى عباد الله، يا للمسلمين! إنّى إن قعدت فى بيتى قال لى: تركتنى وقرابتى قرابتى وحقّى، وإنّى إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث يشاء، بعد كبر السّنّ، وصحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقام مغضبا حتّى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلّا بتحرّفك عن دينك، وعن عقلك، مثل جمل الظّعينة. يقاد حيث يشاء ربّه. والله ما مروان بذى رأى فى دينه ولا نفسه، ولا وايم الله إنّى لأراه يوردك ثمّ لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على رأيك. فلمّا خرج علىّ دخلت على عثمان امرأته نائلة فقالت: قد سمعت قول علىّ لك، وليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء قال: فما أصنع؟ قالت: تتّقى الله، وتتّبع سنّة صاحبيك؛ فإنّك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند النّاس قدر ولا هيبة

ولا محبّة؛ وإنّما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علىّ فاستصلحته فانّ له قرابة [منك] [1] ، وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى علىّ فلم يأته وقال: قد أعلمته أنّى غير عائد، فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجلس بين يدى عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف، فأسوئ وجهك، فهى والله أنصح لى منك، فكفّ مروان. وأتى عثمان إلى علىّ بمنزله ليلا وقال له: إنّى غير عائد، وإنّى فاعل، فقال له علىّ: بعد ما تكلّمت على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، فخرج مروان إلى النّاس يشتمهم على بابك ويؤذيهم! فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتنى وجرأت النّاس علىّ، فقال له علىّ: والله إنّى لأكثر النّاس ذبّا عنك؛ ولكنّى كلّما جئت بشئ أظنّه لك رضا، جاء مروان بأخرى، فسمعت قوله، وتركت قولى. ولم يعد علىّ يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فغضب غضبا شديدا حتّى دخلت الرّوايا على عثمان رضى الله عنه. والله أعلم.

_ [1] من ص.

ذكر مقتل عثمان رضى الله عنه

ذكر مقتل عثمان رضى الله عنه ولمّا [1] عاد المصريّون وغيرهم، ظنّ أنّ الفتنة قد ركدت، والبلية قد سكنت، فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتّكبير فى نواحيها، وقد عاد القوم، فجاءهم أهل المدينة وفيهم علىّ، فقال: ما ردّكم بعد ذهابكم! وقيل: إنّ الّذى سألهم محمّد بن مسلمة، فأخرجوا صحيفة فى أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصّدقة، ففتّشنا متاعه، فوجدنا فيه هذه الصّحيفة، يأمر فيها عامل مصر بجلّد عبد الرحمن بن عديس وغيره، وصلب بعضنا. قيل: وكان الّذى أخذت منه الصّحيفة أبو الأعور السّلمىّ. فدخل علىّ ومحمد بن مسلمة على عثمان وأعلموه بما قال القوم، فأقسم بالله ما كتبه ولا علم به. فقال محمد: صدق، هذا من فعل مروان، ودخل عليه المصريّون، فلم يسلّموا عليه بالخلافة، وتكلّموا، فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذّمّة، وأنّه استأثر بالغنائم، فإن قيل له فى ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين، وذكر أشياء ممّا أحدثها عثمان بالمدينة. وقال: خرجنا من مصر نريد قتلك، فردّنا علىّ ومحمد بن مسلمة، وضمنا لنا النزوع عن كلّ ما تكلّمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا، فرأينا

_ [1] ابن الأثير 3: 84 وما بعدها، الطبرى 4: 365 وما بعدها.

غلامك وكتابك وعليه خاتمك، تأمر بجلدنا والمثلة بنا، وطول حبسنا. فحلف أنّه ما كتب ولا أمر ولا علم فقال محمّد وعلىّ: صدق [عثمان] [1] . قال المصريّون: فمن كتبه؟ قال: لا أدرى. قالوا: فيجترأ عليك، ويبعث غلامك وجمل الصّدقة، وينقش على خاتمك، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم! [قال: نعم] [2] . قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حقّ، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع. لضعفك عن هذا الأمر، وغفلتك، وخبث بطانتك، ولا نترك هذا الأمر بيد من يقطع الأمر دونه. فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله؛ ولكنّنى أتوب وأنزع. قالوا: قد رأيناك تتوب، ثمّ تعود، ولسنا منصرفين حتّى نخلعك، أو نقتلك [3] ، أو تلحق أرواحنا بالله، وإن منعك أهلك وأصحابك قاتلناهم. فقال: أمّا أن أتبرّأ من خلافة الله فالقتل أحبّ إلىّ من ذلك، وأمّا قتالكم من منعنى فإنّى لا آمر بقتل أحد بقتالكم، فمن قاتل فبغير أمرى. وكثرت الأصوات واللّغط، فقام علىّ وأخرج القوم ومضى إلى منزله.

_ [1] من ص. [2] من ص. [3] ك: «نتركك» .

قال: لمّا رجع أهل مصر، رجع أهل الكوفة وأهل البصرة فكأنّما كانوا على ميعاد [واحد [1]] ؛ فقال لهم علىّ رضى الله عنه: كيف علمتم يا أهل الكوفة، ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر، وقد سرتم مراحل حتّى رجعتم! هذا والله أمر بيّت بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا فى هذا الرجل، ليعتزلنا. قال: ثم أحاط القوم بعثمان، ولم يمنعوه من الصلاة، ولا منعوا من اجتماع النّاس به وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم، ويأمرهم بالحثّ للمنع عنه، وبعرّفهم ما النّاس فيه، فخرج أهل الأمصار على الصّعب والذّلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ [2] ، وبعث عبد الله ابن سعد معاوية بن حديج. وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو. وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة، منهم عقبة ابن عمرو، وعبد الله بن أبى أوفى، وحنظلة الكاتب وغيرهم من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن عليم وغيرهم. وقام بالبصرة عمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام ابن عامر وغيرهم من الصحابة.

_ [1] من ص. [2] ك: «العنزى» .

وقام بالشّام جماعة من الصّحابة والتّابعين، وكذلك بمصر. قال: ولمّا جاءت الجمعة التى على إثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلّى بالنّاس، ثم قام على المنبر وقال: يا هؤلاء، الله الله، فو الله إنّ أهل المدينة ليعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمّد، فامحوا الخطأ بالصواب. وقام محمد بن سلمة وقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم ابن جبلة، وقام زيد بن ثابت، فأقعده محمد بن أبى قتيرة [1] ، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا النّاس حتّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتّى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فأدخل داره، واستقتل نفر من أهل المدينة معه، منهم سعد بن أبى وقّاص، والحسن ابن علىّ وزيد بن ثابت وأبو هريرة، فعزم عليهم عثمان بالانصراف، فانصرفوا، وجاءه علىّ وطلحة والزّبير يعودونه، وعنده جماعة من بنى أميّة، منهم مروان بن الحكم، فقالوا كلّهم لعلىّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصّنع! والله لئن بلغت الذى تريد لنمرّن عليك الدّنيا، فقام مغضبا، وعاد هو والجماعة إلى منازلهم. قال: وصلّى عثمان بالنّاس فى المسجد بعد ما نزلوا به ثلاثين يوما، ثمّ منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ، وتفرّق أهل المدينة فى حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يجلس أحد ولا يخرج إلّا بسيفه؛ ليمتنع به [2] .

_ [1] ك: «قبيرة» . [2] ك: «لينتفع» .

قال: وفى أثناء ذلك استشار عثمان نصحاءه فى أمره، فأشاروا عليه بالإرسال إلى علىّ فى ردّهم، ويعطيهم ما يرضيهم؛ ليطاولهم حتّى تأتيه أمداده، فقال: إنّهم لا يقبلون التعلّل، وقد كان منّى فى المرّة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنّهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا عليّا وقال له: قد ترى ما كان من أمر النّاس، ولا آمنهم على دمى، فارددهم فإنّى أعطيهم ما يريدون من الحقّ منّى و [من] [1] غيرى. فقال علىّ: النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وقد كنت أعطيتهم عهدا فلم تف به، فلا تفردنى هذه المرّة فإنّى معطيهم عليك الحقّ. قال: أعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج علىّ إلى الناس فقال لهم: إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه، وقد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره، فقال النّاس: قبلنا، فاستوثق منه لنا؛ فإنّا لا نرضى بقول دون فعل، فدخل عليه علىّ فأعلمه، فقال: اضرب بينى وبينهم أجلا يكون لى فيه مهلة، فإنه لا أقدر على ردّ ما كرهوا فى يوم واحد منك. فقال له علىّ: أمّا ما كان بالمدينة فلا أجل لك فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك.. قال: نعم، فأحلّنى فيما فى المدينة ثلاثة أيّام، فأجابه إلى ذلك. وكتب بينهم كتابا على ردّ كلّ مظلمة، وعزل كلّ عامل كرهوه،

_ [1] من ص.

فكفّ الناس عنه، فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسّلاح، واتخذ جندا. فلمّا مضت الأيّام الثلاثة ولم يغيّر شيئا ثار به القوم. وخرج عمرو بن حزم إلى المصريّين فأعلمهم الخبر، وهم بذى خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عمّاله، وردّ مظالمهم. فقال: إن كنت أستعمل من أردتم، وأعزل من كرهتم، فلست فى شىء من الأمر، والأمر أمركم. فقالوا: والله لتفعلنّ أو لتخلعنّ أو لتقتلنّ. فأبى عليهم، فحصروه، واشتد الحصار، فأرسل إلى علىّ وطلحة والزّبير فحضروا، فأشرف عليهم وقال: يأيّها الناس، اجلسوا، فجلس المحارب والمسالم، ثم قال: يا أهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدى، ثم قال: أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، وأن يجمعكم على خيركم! أتقولون إن الله لم يستجب لكم، وهنتم عليه، وأنتم أهل حقّه! أم تقولون: هان على الله دينه، فلم يبال من ولّى، والدّين لم يتفرّق أهله حينئذ [1] ؟ أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، إنما كان عن مكابرة فوكّل الله الأمّة إذ عصته ولم يشاوروا فى الإمامة! أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمرى! وأنشدكم بالله! أتعلمون لى سابقة خير وقدم خير قدّم الله لى ما يوجب على كلّ من جاء بعدى أن يعرفوا لى فضلها، فمهلا لا تقتلونى فإنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر

_ [1] ك: «يومئذ» .

بعد إيمانه، أو قتل نفسا بغير حق. فإنكم إن قتلتمونى وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا. قالوا: أمّا ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر، ثم ولّوك فإنّ كلّ ما صنع الله الخيرة، ولكن الله جعلك بليّة ابتلى بها عباده. وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد كنت كذلك، وقد كنت أهلا للولاية، ولكن أحدثت ما علمته، ولا نترك إقامة الحقّ عليك مخافة الفتنة عاما [1] قابلا. وأمّا قولك: إنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد فى كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت، قتل من سعى فى الأرض فسادا، أو قتل من بغى، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شىء من الحقّ ومنعه وقاتل دونه. وقد بغيت ومنعت الحقّ وحلت دونه، وكابرت عليه، ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسّكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنّك لم تكابرنا عليه فإنّ الّذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنّما يقاتلون لتمسّك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك. فسكت عثمان ولزم الدار، وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا، إلا الحسن بن علىّ، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزّبير وأشباها لهم، واجتمع إليهم ناس كثير، وكانت مدة الحصار أربعين يوما، فلمّا مضت ثمانى عشرة ليلة، قدم ركبان من الأمصار فأخبروا خبر من تهيّأ لهم من الجنود، فحالوا بين النّاس وبينه، ومنعوه

_ [1] ك: «عاملا» تحريف. [2] ك: «لتقيتك» .

كلّ شىء حتّى الماء، فأرسل إلى علىّ سرّا، وإلى طلحة والزّبير، وإلى أزواج النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يقول لهم: إنّهم قد منعونى الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا، فكان أوّلهم إجابة علىّ، وأمّ حبيبة، فجاء علىّ فى الناس فقال: يأيّها الناس، إنّ الّذى تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرّجل الماء ولا المادّة؛ فإنّ الرّوم وفارس لتأسر فتطعم، وتسقى. فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، فرمى بعمامته فى الدّار بأنّى قد نهضت ورجعت، وجاءت أمّ حبيبة على بغلة لها إداوة [1] ، فضربوا وجه بغلتها فقالت: إنّ وصايا بنى أميّة عند هذا الرّجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل، فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسّيف، فنفرت، وكادت تسقط عنها، فتلقّاها النّاس، ثمّ ذهبوا بها إلى منزلها. فأشرف عثمان يوما، فسلّم عليهم، ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنّى اشتريت بئر رومة من مالى ليستعذب بها، فجعلت رشائى فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: فلم تمنعونى أن أشرب منها حتّى أفطر على ماء الملح! ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّى اشتريت أرض كذا فزدتها [2] فى المسجد؟ قيل: نعم. قال: فهل علمتم أنّ أحدا منع أن يصلّى فيه قبلى؟ ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنّى كذا وكذا أشياء فى شأنه؟

_ [1] الإدواة: الإناء. [2] ك: «فزودتها» .

ففشا النّهى فى النّاس، يقولون: مهلا عن أمير المؤمنين فقام الأشتر: فقال: لعلّه قد مكر به وبكم. قال: وبلغ طلحة والزبير ما لقى علىّ وأمّ حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقى عثمان يسقيه آل حزم فى الغفلات. قال: وخرجت عائشة رضى الله عنها إلى الحج، فاستتبعت أخاها محمدا، فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ. فقال له حنظلة الكاتب: تستتبعك أمّ المؤمنين فلا تتبعها، وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ! وإنّ هذا الأمر إن صار إلى التّغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول وبالله المستعان، وعليه التّكلان: عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلّا ذليلا وكانوا كاليهود أو كالنّصارى ... سواء كلّهم ضلّوا السّبيلا قال: ثم أشرف عثمان على النّاس، واستدعى عبد الله بن عبّاس، فأمره أن يحجّ بالنّاس، وكان ممن لزم الباب، فانطلق. قال: ولمّا رأى المصريّون أنّ أهل الموسم يريدون قصدهم بعد الحجّ مع ما يليهم من مسير أهل الأمصار، قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الّذى وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرّجل، فيشتغل النّاس عنّا. فتقدّموا إلى الباب، فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان

وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصّحابة، واجتلدوا فزجرهم عثمان، وقال: أنتم فى حلّ من نصرتى، فأبوا، ففتح الباب ليمنعهم، فلمّا خرج ورآه المصريّون رجعوا، فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على الصّحابة ليدخلنّ، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريّين فثاروا إلى الباب، وجاءوا بنار، فأحرقوا السّقيفة التّى على الباب، وثار بهم أهل الدار، وعثمان يصلّى، قد افتتح طه، فما شغله ما سمع حتّى أتى عليها، فلمّا فرغ جلس إلى المصحف فقرأ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [1] قال: ثمّ قال عثمان للحسن: إن أباك الآن لفى أمر عظيم من أمرك، فأقسمت عليك لما خرجت عليه، فتقدّموا فقاتلوا، ولم يستمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق الثّقفىّ حليف بنى زهرة وكان تعجّل الحج فى عصابة لينصروا عثمان وهو معه فى الدار، وارتجز. قد علمت ذات القرون الميل ... والحلى والأنامل الطّفول لتصدقن بيعتى خليلى ... بصارم ذى رونق مصقول لا أستقيل إذ أقلت قيلى وحكى أبو عمر [2] أنّ المغيرة بن الأخنس قال لعثمان حين أحرقوا بابه: والله لا قال الناس عنّا: إنّا خذلناك، وخرج بسيفه وهو يقول: لمّا نهّدمت الأبواب واحترقت ... تيمّمت منهنّ بابا غير محترق

_ [1] سورة آل عمران 173. [2] الاستيعاب 1444.

حقا أقول لعبد الله آمره ... إن لم تقاتل لدى عثمان فانطلق والله أتركه ما دام بى رمق ... حتّى يزايل بين الرأس والعنق هو الإمام فلست اليوم خاذله ... إنّ الفرار علىّ اليوم كالسّرق وحمل على النّاس فضربه رجل على ساقة فقطعها، ثم قتله، فقيل إنّ الّذى قتله تقطّع جذاما [1] بالمدينة. وقال قتادة: لمّا أقبل أهل مصر إلى المدينة فى شأن عثمان رأى رجل منهم فى المنام كأنّ قائلا يقول له: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنّار، وهو لا يعرف المغيرة، رأى ذلك ثلاث ليال، فجعل يحدّث أصحابه. فلمّا كان يوم الدّار. خرج المغيرة فقاتل [2] ، والرجل ينظر إليه فقتل ثلاثة، فلمّا قتلهم وثب إليه الرجل فحذفه، فأصاب رجله، ثم ضربه حتّى قتله، ثم قال: من هذا؟ فقالوا: المغيرة بن الأخنس، فقال: لا أرانى إلّا صاحب الرؤيا المبشّر بالنّار، فلم يزل بشرّ حال حتّى هلك. وخرج الحسن بن علّى وهو يقول: لا دينهم دينى ولا أنا منهم ... حتّى يسير إلى طمار شمام [3] وخرج محمد بن طلحة وهو يقول: أنا ابن من حامى عليه بأحد ... وردّ أحزابا على رغم معدّ

_ [1] فى الأصول: «خذاما» ، وما أثبته من الاستيعاب. [2] الاستيعاب: «يقاتل» . [3] طمار: المكان العالى من الجبل وغيره. وشمام: اسم جبل بالعالية.

وخرج سعيد بن العاص وهو يقول: صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب وكنّا غداة الرّوع فى الدّار نصرة ... نشافههم بالضّرب والموت ثاقب وكان آخر من خرج عبد الله بن الزّبير، وأقبل أبو هريرة والنّاس محجمون، فقال: هذا يوم طاب فيه الضّرب، ونادى: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [1] . وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله، فقال: يا قوم، لا تسلّوا سيف الله فيكم، فو الله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسّيف، ويلكم! مدينتكم محفوفة بالملائكة، فإن قتلتموه ليتركنّها. فقالوا: يابن اليهودية، ما أنت وهذا! فرجع عنهم. قال: ثمّ اقتحموا على عثمان داره، من دار عمرو بن حزم حتّى ملئوها ولم يشعر من بالباب منهم، ففى ذلك يقول الأحوص يهجو آل حزم. لا ترثينّ لحزمىّ رأيت به ... ضرّا ولو طرح الحزمىّ فى النّار [2] الباخسين لمروان بذى خشب ... والمدخلين على عثمان فى الدّار قال: ولمّا صاروا فى الدّار ندبوا رجلا ليقتله، فدخل عليه فقال: اخلعها ونتركك. قال: لست خالعا قميصا كساينة الله تعالى حتّى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشّقاوة، فخرج

_ [1] سورة غافر 41. [2] ديوانه 132، وروايته: «لا تأوين» .

عنه، فأدخلوا عليه رجلا من بنى ليث، فقال: لست بصارحبى لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا، ولن تضيّع، فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما، فرجع وفارق أصحابه. ودخل عليه جماعة كلّهم يرجع، آخرهم محمد بن أبى بكر، فلمّا خرج ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقى، فضربه الغافقىّ بحديدة، وضرب المصحف برجله، فدار المصحف، واستقرّ بين يديه، وجاء سودان ليضربه فأكبّت عليه نائلة بنت الفرافصة، واتّقت السيف بيدها فقطع أصابعها وشيئا من الكفّ، ونصف الإبهام فولّت، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجز، وضرب عثمان فقتله. وقيل: إنّ الّذى قتله كنانة بن بشر التّجيبىّ، وكان عثمان قد رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى تلك الليلة وهو يقول له: إنّك تفطر اللّيلة عندنا. ولما قتل قطر من دمه على المصحف على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ. قال: ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، فقال عثمان: من كفّ يده فهو حرّ، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما فى البيت، وخرجوا، وأغلقوا الباب على ثلاثة قتلى.

فلمّا خرجوا وثب غلام لعثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النّساء، وأخذ كلثوم التّجيبىّ ملاءة كانت على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وانتهب القوم بيت المال. قال: ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وأراد قطع رأسه، فوقعت نائلة وأمّ البنين عليه فصحن وضربن الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه، وأقبل عمير ابن ضابئ البرجمىّ فوثب على عثمان، فكسر ضلعا من أضلاعه، وقال له: سجنت أبى حتّى مات فى السّجن. وكان قتله يوم الجمعة لثمانى عشرة، أو سبع عشرة ليلة خلت من ذى الحجّة، سنة خمس وثلاثين. ذكره المدائنى عن أبى معشر عن نافع، وعن أبى عثمان النّهدىّ؛ أنّه قتل وسط أيّام التّشريق. وقال ابن اسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما من مقتل عمر بن الخطّاب، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الواقدىّ رحمه الله: قتل يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذى لحجة يوم التروية. وقد قيل: إنه قتل يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذى الحجة. روى هذه الأقوال كلّها أبو عمر بن عبد البرّ.

_ [1] من ص. [2] الاستيعاب 1048.

واختلف فى مدة الحصار. فقال الواقدىّ: حاصروه تسعة وأربعين يوما. وقال الزّبير بن بكّار: حاصروه شهرين وعشرين يوما؛ وقيل غير ذلك. وقد تقدّم أنّه رضى الله عنه صلّى بالنّاس بعد أن نزلوا به ثلاثين يوما، ثم منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ. وقد قيل: إنّه لمّا منع عثمان الصلاة جاء سعد القرظ وهو المؤذّن إلى علىّ بن أبى طالب، فقال: من يصلّى بالنّاس؟ فقام: خالد بن زيد، وهو أبو أيّوب الأنصارىّ، فصلّى أياما، ثم صلّى علىّ بعد ذلك بالنّاس. وقيل: بل أمر علىّ سهل بن حنيف فصلّى بالنّاس من أوّل ذى الحجّة إلى يوم العيد، ثم صلّى علىّ بالنّاس العيد، وصلّى بهم حتى قتل عثمان. والله أعلم. حكى أبو عمر بن عبد البرّ فى مقتل عثمان، قال: كان [1] أول من دخل عليه الدار محمّد بن أبى بكر، فأخذ بلحيته فقال: دعها يابن أخى، فو الله لقد كان أبوك يكرمها، فاستحيا وخرج، ثم دخل عليه رومان بن سرحان، رجل أزرق قصير مجدور، عداده فى مراد، وهو من ذى أصبح، معه خنجر، فاستقبله به، وقال: على على أىّ دين أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل ولكنى عثمان ابن عفّان، وأنا على ملّة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. قال: كذبت، وضربه على صدغه فقتله، فخرّ، فأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة.

_ [1] الاستيعاب 1044: 1045.

ودخل رجل من أهل مصر معه السّيف مصلتا فقال: والله لأقطعنّ أنفك، فعالج المرأة فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السّيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان يقال له رباح، ومعه سيف عثمان: أعنّى على هذا، وأخرجه، فضربه الغلام بالسيف فقتله. قال: وأقام عثمان يومه ذلك مطروحا إلى اللّيل، فحمله رجال على باب ليدفنوه، فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبرا قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلّى عليه جبير بن مطعم. وقال محمد بن طلحة: حدّثنى كنانة مولى صفية بنت حيىّ بن أخطب، فقال: شهدت مقتل عثمان، فخرج من الدار أمامى أربعة من شباب قريش مضرّجين بالدّم، محمولين، كانوا يذودون عن عثمان وهم الحسن بن علىّ، وعبد الله بن الزّبير، ومحمد بن حاطب، ومروان ابن الحكم. قال محمد بن طلحة: فقلت له: هل ندى محمّد بن أبى بكر بشىء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه فقال له عثمان: يابن أخى لست بصاحبى، وكلّمه كلاما فخرج، ولم يندّ بشىء من دمه. قال: فقلت لكنانة: من قتله؟ قال: رجل من أهل مصر، يقال له: جبلة بن الأيهم، ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول: أنا قاتل نعثل. وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى مالك بن أنس، قال [1] : لمّا قتل عثمان ألقى على المزبلة ثلاثة أيّام، فلمّا كان فى اللّيل أتاه اثنا عشر رجلا، منهم حويطب بن عبد العزّى وحكيم بن حزام،

_ [1] الاستيعاب 1047.

وعبد الله بن الزّبير، وجدىّ بن مالك بن أبى عامر، فاحتملوه، فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بنى مازن: والله لئن دفنتموه هاهنا، لنخبرنّ النّاس غدا، فاحتملوه، وكان على باب، وإنّ رأسه كان على الباب يقول: طق طق حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب [1] فاحتفروا له، وكانت عائشة بنت عثمان معها مصباح فى حقّ [2] ، فلمّا أخرجوه ليدفنوه صاحت، فقال لها ابن الزّبير: والله لئن لم تسكتى لأضربنّ الذى فيه عيناك، فسكتت، فدفن. قال مالك: وكان عثمان يمرّ بحشّ كوكب فيقول: إنّه سيدفن هاهنا رجل صالح. [3] . وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أرادوا أن يصلّوا على عثمان رضى الله عنه فمنعوه، فقال أبو جهم بن حذيفة: دعوه، فقد صلّى عليه الله ورسوله. وقد قيل: إنّ علىّ بن أبى طالب، وطلحة، والزبير، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامر بن نمير من أصحابه شهدوا جنازته. وقيل: إنه كفّن فى ثيابه ولم يغسل. واختلف فى سنة يوم قتل. فقال ابن اسحاق: قتل وهو ابن ثمانين سنة. وقال غيره: قتل وهو ابن ثمان وثمانين، وقيل: تسعين. وقال قتادة: قتل وهو ابن ستّ وثمانين سنة.

_ [1] حش كوكب: مكان خارج البقيع. [2] الاستيعاب: فى جرة. [3] الاستيعاب 1048.

وقال الواقدىّ: لا خلاف عندنا أنه قتل، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وهو قول أبى اليقظان. ودفن ليلا بموضع يقال له: حشّ كوكب، وكوكب رجل من الأنصار (الحشّ: البستان) ، كان عثمان قد اشتراه وزاده فى البقيع، وهو أوّل من قبر فيه. قال: وقد قيل: إنه صلّى عليه عمرو بن عثمان ابنه، وقيل: بل صلّى عليه حكيم بن حزام، وقال: بل صلّى عليه المسور بن مخرمة. وقيل: بل جبير بن مطعم. وقيل: بل مروان بن الحكم، وقيل: كانوا خمسة أو ستة وهم: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم ابن حذيفة، ونيار بن مكرم، وزوجتاه نائلة وأمّ البنين بنت عيينة. ونزل قبره دينار، وأبو جهم، وجبير، وكان حكيم ونائلة وأمّ البنين يدلونه، فلمّا دفنوه غيّبوا قبره. وروى أبو الفرج الاصفهانى بسند رفعه إلى نائلة بنت الفرافصه: كتبت [1] إلى معاوية، وبعثت بقميص عثمان رضى الله عنه مع النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن حاطب بن أبى بلتعة: من نائلة بنت الفراقصة، إلى معاوية بن أبى سفيان: أمّا بعد، فإنّى أذكّركم بالله الذى أنعم عليكم، وعلّمكم الإسلام وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من غواية الكفر [2] ، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم النعمة، فأنشدكم الله تعالى، وأذكّركم حقه

_ [1] الأغانى 16: 324 وما بعدها. [2] الأغانى: «من الكفر» .

وحق خليفته أن تنصروه بعزمة الله عليكم، فإنه قال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. وإن أمير المؤمنين بغى عليه، ولو لم يكن له عليكم [حقّ] [1] إلا حقّ الولاية ثمّ أتى عليه بما أتى لحقّ على كلّ مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه فى الإسلام، وحسن بلائه؛ فإنه أجاب داعى الله، وصدّق كتابه ورسوله، والله أعلم به إذا انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا، وشرف الآخرة. وإنّى أقصّ عليكم خبره، لأنّى مشاهدة أمره كلّه حتى أفضى إليه. إن أهل المدينة حصروه فى داره يحرسونه ليلهم ونهارهم، قياما على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شىء قدروا عليه حتى منعوه الماء يحضرونه الأذى، ويقولون له الإفك. فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر، وكان علىّ مع المحرّضين [2] للمصريّين فى أهل المدينة، ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذى أمر الله تبارك وتعالى به، فظلت تقاتل خزاعة، وبكر، وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من مزينة، وجهينة، [3] وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكنّى قد سمّيت الّذين كانوا أشدّ الناس عليه فى أول أمره وآخره، ثمّ إنه رمى بالنبل والحجارة، فقتل ممّن كان فى الدار ثلاثة نفر، فأتوه

_ [1] من ص والأغانى. [2] ك: «الحضريين» تصحيف، صوابه فى ص والأغانى. [3] ك: «هجين» تصحيف.

يصرخون إليه ليأذن لهم فى القتال، فنهاهم عنه، وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلهم فردّوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلّا جرأة فى الأمر وإغراقا، ثم أحرقوا باب الدار. فجاءه نفر من أصحابه وقالوا: إنّ فى المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر النّاس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتّى يأتوك، فانطلق، وقد كان نفر من قريش على عامّتهم السّلاح، فلبس درعه، وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعا، فوثب عليه القوم، فكلّمهم الزبير، وأخذ عليهم الميثاق فى صحيفة، بعث بها إلى عثمان رضى الله عنه: إنّ عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعرّوه بشىء، فكلّموه وتحرّجوا، فوضع السلاح فلم يكن إلّا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبى بكر؛ حتى أخذوه بلحيته ودعوه باللّقب، فقال: أنا عبد الله وخليفته، فضربوه فى رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه فى صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدّم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت فى العظم، فسقطت عليه، وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا به، فأتتنى بنت شيبة بن ربيعة، فألقت بنفسها معى عليه، فوطئنا وطئا شديدا وعرّيبا من ثيابنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم، فقتلوه رحمه الله فى بيته، وعلى فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه، وعليه دمه، وإنّه والله لئن كان أثم من قتله لا يسلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله عزّ وجلّ، فإنّا نشتكى ما مسّنا إليه، ونستنفر وليّه، وصالح عباده. ورحمة

الله على عثمان، ولعن الله من قتله، وصرعهم فى الدّنيا والآخرة مصارع الخزى والمذلّة، وشفى منهم الصّدور. فحلف رجال من أهل الشام ألّا يطئوا النساء حتّى يقتلوا قتلة عثمان، أو تذهب أرواحهم. وكان أمرهم فى القتال ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة إلا اثنى عشر يوما، قاله ابن إسحاق. وقال غيره: إلّا ثمانية أيام. وقيل: إلّا ستّة عشر يوما. روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، أنها قالت، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ادعوا لى بعض أصحابى، فقلت: أبو بكر؟، قال لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت: ابن عمّك علىّ؟ قال: لا، فقلت: عثمان؟ قال: نعم . فلمّا جاء قال لى بيده [1] فتنحّيت، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسارّه ولون عثمان متغيّر، فلمّا كان يوم الدّار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلىّ عهدا، وأنا صابر نفسى عليه. وعن موسى بن طلحة، قال: أتينا عائشة رضى الله عنها لنسألها عن عثمان فقالت: اجلسوا أحدّثكم عمّا جئتم له: إنّا عتبنا على عثمان رضى الله عنه فى ثلاث خلال- ولم تذكرهنّ- فعمدوا إليه حتّى إذا ماصوه كما يماص الثوب اقتحموا عليه الفقر الثّلاثة: حرمة البيت الحرام، والشهر الحرام، وحرمة الخلافة؛ ولقد قتلوه، وإنّه لمن أوصلهم للرّحم وأتقاهم لربّه.

_ [1] ك: «بعده» ، والأصوب ما أثبته من ص.

وعن أبى جعفر الأنصارىّ قال: دخلت مع المصريّين على عثمان، فلمّا ضربوه خرجت أشتدّ، حتّى ملأت فروجى عدوا، حتّى دخلت المسجد؛ فإذا رجل جالس فى نحو عشرة، عليه عمامة سوداء، فقال: ويحك! ما وراءك؟ قال: قلت: قد والله فرغ من الرّجل، قال: تبّا لكم آخر الدّهر! فنظرت، فإذا هو علىّ رضى الله عنه. وروى عن مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عثمان يخطب يقول: يأيّها الناس، ما تنقمون علىّ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرا! قال الحسن: وسمعت مناديا ينادى: يأيّها النّاس، اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، حتّى والله سمعته يقول: اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل، واغدوا على السّمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارّه، وخير كثير، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلّا يودّه وينصره، فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق، ولكنّهم لم يصبروا، وسلّوا السيف مع من سلّ، فصار عن الكفّار مغمدا، وعلى المسلمين مسلولا إلى يوم القيامة. وعن محمد بن سيرين، قال: كثر المال فى زمن عثمان حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم. وقد ذكر بعض من أرّخ أسبابا كثيرة، جعلها من أقدم على قتل عثمان ذريعة له، وتمسّك بها، أغضينا عن ذكرها، وهو رضى الله عنه مبرّأ من كلّ سوء ونقص، فلنذكر خلاف ذلك.

ذكر أزواج عثمان وأولاده

ذكر أزواج عثمان وأولاده تزوّج رضى الله عنه رقيّة، وأمّ كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له رقيّة عبد الله، هلك. وتزوّج فاخته بنت غزوان، فولدت له رقيّة عبد الله الأصغر. وتزوّج أمّ عمرو بنت جندب الدّوسيّة، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر، ومريم، وتزوّج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزوميّة، ولدت له الوليد، وسعيدا، وأم سعيد، وتزوّج أمّ البنين بنت عيينة بن حصن الفزاريّة، فولدت له عبد الملك، هلك. وتزوّج رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة وأمّ أبان، وأمّ عمرو، وتزوّج نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة. وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى سبب زواج عثمان نائلة سندا رفعه إلى خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: تزوّج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هندا بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه: قد بلغنى أنّك تزوّجت امرأة، فاكتب إلىّ نسبها وجمالها، فكتب إليه: أما بعد، فإنّ نسبها أنّها بنت الفرافصة بن الأحوص، وجمالها أنّها بيضاء مديدة. فكتب إليه: إنّ كان لها أخت فزوّجنيها، فكتب سعيد، وبعث إلى الفرافصة يخطب إحدى بناته على عثمان رضى الله عنه، فأمر الفرافصة ابنه ضبّا فزوّجها إيّاه، وكان ضبّ مسلما، والفرفصة

نصرانيا، فلمّا أرادوا حملها، قال لها أبوها: يا بنتى إنّك تقدمين على نساء من نساء قريش، هنّ أقدر على الطّيب منك، فاحفظى عنّى خصلتين: تكحّلى وتطيّبى بالماء حتّى تكون ريحك ريح من أصابه مطر. فلمّا قدمت على عثمان قعد على سريره، ووضع لها سريرا حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته فبدا الصّلع، فقال: يا بنت الفرافصة، لا يهولنّك ما ترين من صلعى، فإنّ وراءه ما تحبّين، وقال: إما أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك. فقالت: أمّا ما ذكرت من الصّلع فإنّى من نساء أحبّ بعولتهنّ إليهنّ السادة الصّلع، وأمّا قولك: إمّا أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك، فو الله ما تجشّمت من جنبات السّماوة أبعد ممّا بينى وبينك، بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها ودعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحى عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعى درعك. فنزعته، ثم قال لها: حلّى إزارك. فقالت: ذا إليك، فحلّ إزارها، وكانت من أحظى نسائه عنده [1] . ولدت له مريم. وقيل: ولدت له أمّ البنين بنت عيينة عبد الملك، وعثمة [2] وولدت له نائلة عنبسة، وكان له منها أيضا ابنة تدعى أمّ المؤمنين وأمّ البنين، كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبى سفيان. وقتل عثمان وعنده رملة بنت شيبة، ونائلة وأمّ البنين، وفاخته، غير أنّه طلّق أمّ البنين وهو محصور. فهؤلاء أزواجه فى الجاهليّة والإسلام، وأولاده رضى الله تعالى عنه.

_ [1] الأغانى 16: 323، 324. [2] ك: «عقبة» .

كتابه وقضاته وحجابه وأصحاب شرطته

كتابه وقضاته وحجابه وأصحاب شرطته كاتبه مروان بن الحكم، وقاضيه كعب بن سور، وحاجبه عمران، مولاه، وصاحب شرطته عبد الله بن قنفذ التّميمىّ، وهو أوّل من اتّخذ صاحب شرطة، وكان على الدّيوان وبيت المال زيد بن ثابت. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبى ونعم الوكيل. ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله كان عمّاله فى هذه السنة على مكّة عبد الله بن الحضرمىّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثّقفىّ، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وكان قد خرج منها ولم يولّ عثمان عليها أحدا، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الصّلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزنىّ وسماك الأنصارى، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندىّ، وعلى حلوان عتيبة بن النّهّاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النّسير، وعلى الرّىّ وأصفهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو [1] ، وعلى الشّام معاوية بن أبى سفيان. ولمعاوية عمّال وهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص، وحبيب بن مسلمة الفهرى على قنّسرين، وأبو الأعور السّلمى على الأردنّ، وعلقمة بن حكيم الكنانى على فلسطين وعبد

_ [1] ك: «عمر» .

الله بن قيس الفزارىّ على البحر، وكان عامل عثمان على مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، ثم سار إلى عثمان فى رجب سنة خمس وثلاثين، واستخلف عنه بمصر عقبة بن عامر، فقام محمد ابن أبى حذيفة فى شّوال، وأخرج عقبة، وتأمّر بمصر، وعاد عبد الله ابن سعد فلم يمكنه، فتوجّه إلى عسقلان، ومات بها. وكان القاضى بمصر عّمار بن قيس بن أبى العاص، ثم مات بعد مقتل عثمان فلم يكن بمصر قاض إلى أيّام معاوية بن أبى سفيان رضى الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم، وهو حسبى ونعم الوكيل.

ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر

ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر ولما قتل رضى الله عنه رثاه جماعة، منهم: حسّان بن ثابت وغيره فكان مما قال حسّان بن ثابت: إن تمس دار ابن أروى اليوم خالية ... باب صريع وباب مخرق خرب [1] فقد يصادف باغى الخير حاجته ... فيها ويأوى إليها الجود والحسب وقال أيضا ممّا رثاه به فى أبيات أخرى: من سرّه الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأدبة فى دار عثمانا [2] ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا صبرا فدى لكم أمّى وما ولدت ... قد ينفع الصبر فى المكروه أحيانا لتسمعنّ وشيكا فى ديارهم ... الله أكبر واثارات عثمانا وقد قيل: إنّ البيت الثانى من هذه الأبيات، «ضحّوا بأشمط» ليس له، وقال بعضهم: هو لعمران بن حطان وقال أبو عمر: وقد زاد أهل الشّام فيها أبياتا لم أر لذكرها وجها [3] قال ابن الأثير [4] : يعنى ما فيها من ذكر علىّ رضى الله عنه، وهو:

_ [1] ديوانه 22. [2] ديوانه 409. [3] الاستيعاب 1049. [4] الكامل 3: 96، 97.

يا ليت شعرى وليت الطير تخبرنى ... ما كان شأن علىّ وابن عفّانا [1] وقال أيضا: قتلتم ولىّ الله فى جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد [2] فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرّشيد المسدّد وقال كعب بن مالك: يا للّرجال لأمر هاج لى حزنا ... لقد عجبت لمن يبكى على الدّمن [3] إنّى رأيت قتيل الله مضطهدا ... عثمان يهدى إلى الأجداث فى كفن يا قاتل الله قوما كان أمرهم ... قتل الإمام الذكىّ الطيّب الرّدن لم يقتلوه على ذنب ألمّ به ... إلّا الّذى نطقوا زورا ولم يكن وقال أيضا- ونسبت لحسّان وقيل: للوليد بن عقبة، والله تعالى أعلم وكفّ يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أنّ الله ليس بغافل [4] وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التّواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن النّاس إدبار السّحاب الحوافل وقال حميد بن ثور الهلالىّ: إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... من أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا [5]

_ [1] ابن الأثير 3: 96. [2] ديوانه 103. [3] ديوانه 282. [4] الاستيعاب 105. [5] ديوانه 114.

صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لمّا رأى الله فى عثمان ما انتهكوا وقال قاسم بن أميّة بن أبى الصّلت: لعمرى لبئس الذّبح ضحيتم به ... وخنتم رسول الله فى قتل صاحبه [1] وقالت زينب بنت الزّبير بن العوّام: أعطشتم عثمان فى جوف داره ... شربتم كشرب الهيم شرب حميم [2] وكيف بنا أم كيف بالنّوم بعد ما ... أصيب ابن أروى وابن أمّ حكيم وقالت ليلى الأخيليّة: قتل ابن عفّان الإما ... م وضاع أمر المسلمينا [3] وتشّتتت سبل الرّشا ... د لصادرين وواردينا فانهض معاوى نهضة ... تشفى بها الداء الدّفينا أنت الّذى من بعده ... تدعى أمير المؤمنينا وقال أيمن بن خريم [4] : ضحّوا بعثمان فى الشّهر الحرام ضحى ... فأىّ ذبح حرام ويلهم ذبحوا وأىّ سنّة كفر سنّ أوّلهم ... وباب شرّ على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضلّ الله سعيهم ... بسفك ذاك الدم الذّاكى الذى سفحوا ورثاه غيرهم ممّن لو ذكرنا شعرهم لأنبسط به الخبر.

_ [1] الاستيعاب 1051 ونسبه إلى القاسم بن أمية بن أبى الصلت. [2] الاستيعاب 1051. [3] الاستيعاب 1051، وفيه: أيمن بن خزيمة. [4] الاستيعاب 1051.

تم الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الأرب ويليه الجزء العشرون وأوله أخبار على بن أبى طالب كرم الله وجهه.

فهرس الجزء التاسع عشر

فهرس الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى .... صفحة الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين: أبى بكر وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وابنه الحسن 7 ذكر خلافة أبى بكر الصديق 8 ذكر نبذة من فضائله ومآثره فى الجاهلية والاسلام 10 ذكر صفته 24 ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على أمته من بعده 24 ذكر بيعته وخبر يوم السقيفة وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الامارة 29 ذكر ما تكلم به بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية 42 ذكر انفاذ جيش أسامة 46 ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين وما كان من أمرهم وتجهيز أبى بكر الجيوش اليهم والى من ارتد من قبائل العرب 49 ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان 61 ذكر عقد أبى بكر الألوية وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد 64 ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قبائل العرب 69 ذكر خبر تميم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد 75 ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة 82 ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة 85 ذكر الحروب الكائنة بين المسلمين وبين أهل اليمامة وقتل مسيلمة 89 ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله 97 ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم الى الحطم وما كان من أمرهم 98

... صفحة ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية 106 ذكر وقعة الثنى 108 ذكر وقعة الولجة 109 ذكر وقعة أليس 109 ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة 111 ذكر ما كان بعد فتح الحيرة 112 ذكر فتح الأنبار 112 ذكر فتح عين التمر 113 ذكر خبر دومة الجندل 114 وقعة مصيخ 115 وقعة الثنى والزميل 115 ذكر وقعة الفراض 116 ذكر فتوح الشام 116 ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره الى أن التقى بجنود المسلمين بالشام 118 ذكر وقعة أجنادين 120 ذكر وقعة اليرموك 121 ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما تقدم 126 سنة احدى عشرة 126 سنة اثنتى عشرة 127 ذكر وفاة أبى بكر الصديق ومدة خلافته 128 ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه غير ما تقدم 130 ذكر أولاده وأزواجه 135 ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه 144 خلافة عمر بن الخطاب 146 ذكر نبذة من فضائله ومناقبه 148 ذكر صفته 150 ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافته 154 ذكر فتوح مدينة دمشق 155 ذكر شىء مما قيل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها 157

... صفحة ذكر غزوة فحل 159 ذكر فتح بلاد ساحل دمشق 160 ذكر فتح بيسان وطبرية 161 ذكر الوقعة بمرج الروم 161 ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيزر ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس 162 ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية 164 ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم 165 ذكر فتح قيسارية وحصن غزة 168 ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة وبسطية ونابلس وتبنى 169 ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء 171 ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين 173 ذكر فتح الجزيرة وأرمينية 175 ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس وغيرها 179 ذكر وقعة النمارق 180 ذكر وقعة السقاطية بكسكر 181 ذكر وقعة الجالينوس 182 ذكر وقعة قس الناطف (ويقال لها وقعة الجسر) 182 ذكر وقعة أليس الصغرى 185 ذكر وقعة البويب 185 ذكر خبر سوقى الخفانس وبغداد 187 ذكر خبر القادسية وأيامها 189 ذكر يوم أرماث 203 ذكر يوم أغواث 207 ذكر يوم عماس (وهو اليوم الثالث) 211 ذكر ليلة الهربر 213 ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس 214 ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام 219 ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية 221 ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير 222 ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها ايوان كسرى 224

... صفحة ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها 227 ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان 230 ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة 234 ذكر فتح تكريت والموصل 236 ذكر فتح ماسبدان 238 ذكر فتح قرقيسيا 238 ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى 239 ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين 241 ذكر فتح رامهرمز 242 ذكر فتح السوس 246 ذكر مصالحة جنديسابور 247 ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس 248 ذكر غزو فارس من البحرين 249 ذكر وقعة نهاوند وفتحها 250 ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما 260 ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما 260 ذكر فتح أصبهان وقم وقاشان 262 ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان 263 ذكر فتح الرى 264 ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان 265 ذكر فتح أذربيجان 266 ذكر فتح الباب 268 ذكر فتح موقان 269 ذكر غزو الترك 269 ذكر غزو خراسان 271 ذكر فتح شهرزور والصامغان 276 ذكر فتح توج 276 ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدينة شيراز وأرجان وسينينير وجنابا والنوبندجان وجهرم 277 ذكر فتح فسا ودرابجرد 278 ذكر فتح كرمان 279

... صفحة ذكر فتح سجستان 280 ذكر فتح مكران 280 ذكر فتح بيروذ من الأهواز 281 ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد 282 ذكر فتوح مصر وما والاها 284 ذكر مسير عمرو بن العاص الى مصر 285 ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط الى الجزيرة 285 ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية 291 ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان بينهم من الحروب الى أن فتحت الاسكندرية 302 ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية 307 ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة 310 ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب 311 ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية الى الفسطاط واختطاطه 319 ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وابطال تلك العادة 321 ذكر ما قرر فى أمر الجزية والخراج 322 ذكر خبر المقطم 324 ذكر خبر خليج أمير المؤمنين 325 ذكر الخبر من فتح الفيوم 329 ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرة 330 ذكر الغزوات الى أرض الروم 332 ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوح والغزوات 333 سنة ثلاث عشرة 333 سنة أربع عشرة 333 سنة خمس عشرة 334 ذكر فرض العطاء وعمل الديوان 334 سنة ست عشره 338

... صفحة سنة سبع عشرة 339 ذكر بناء البصرة والكوفة 339 ذكر عزل خالد بن الوليد 342 ذكر بناء المسجد الحرام 345 ذكر عزل المغيرة بن شعبة 345 سنة ثمان عشرة 348 ولاية كعب بن سور قضاء البصرة 348 ذكر القحط وعام الرمادة 351 ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه 353 ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون 361 سنة تسع عشرة 363 سنة عشرين 364 ذكر اجلاء يهود خيبر منها 366 سنة احدى وعشرين 366 ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة 368 سنة اثنتين وعشرين 370 سنة ثلاث وعشرين 370 ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته 371 ذكر قصة الشورى 378 ذكر أولاد عمر بن الخطاب وأزواجه 391 ذكر عمال عمر على الأمصار 398 كتابه 400 قضاته 400 ذكر خلافة عثمان بن عفان 402 ذكر صفته ونبذة من فضائله 403 ذكر بيعته 404 ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان 407 ذكر خلاف أهل الاسكندرية 407 ذكر غزو أرمينية وغيرها وما وقع من الصلح 407 ذكر غزو معاوية الروم 411

... صفحة ذكر فتح كابل 411 ذكر غزو افريقية وفتحها 412 ذكر فتح جزيرة قبرس 414 ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح اصطخر ودرابجرد 417 ذكر غزو طبرستان 418 ذكر غزو الصوارى 419 ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان 420 ذكر فتح خراسان 421 ذكر فتح كرمان 424 ذكر فتح سجستان 425 ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله 427 ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السنين 429 سنة أربع وعشرين 429 سنة خمس وعشرين 429 سنة ست وعشرين 431 سنة سبع وعشرين 431 سنة ثمان وعشرين 432 سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك 432 ذكر الزيادة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم 434 ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك 434 سنة ثلاثين 436 ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص 436 ذكر جمع القرآن 439 ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم 441 ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر 442 سنة احدى وثلاثين 449 سنة اثنتين وثلاثين 449 ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه 450 سنة ثلاث وثلاثين 454

... صفحة ذكر خبر من سار من الكوفة الى الشام وما كان من أمرهم 454 سنة أربع وثلاثين 462 ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرى 462 ذكر ابتداء الخلاف على عثمان ومن ابتدأ بالجرأة عليه 465 ذكر كلام على لعثمان وجوابه له 470 ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله وما يقوله الناس فيهم 474 سنة خمس وثلاثين 479 ذكر خبر مقتل عثمان 485 ذكر أزواجه وأولاده 507 ذكر كتابه وحجابه وأصحاب شرطته 509 ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله 509 ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر 511

المراجع الاستيعاب فى معرفة الأصحاب لابن عبد البر (مكتبة نهضة مصر) تاريخ ابن الأثير (نشرة منير الدمشقى) تاريخ الطبرى (نشرة دار المعارف) تاريخ المسعودى (نشرة المكتبة التجارية 1948 م) ديوان حاتم (طبع ببيروت سنة 1968 م) ديوان حسان (نشرة المكتبة التجارية سنة 1929 م) ديوان الحطيئة (مطبعة التقدم بالقاهرة) ديوان حميد بن ثور (طبع دار الكتب) السيرة الحلبية (طبع بولاق 1292 هـ) فتوح مصر لأبن عبد الحكم (طبع أوربا) نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى (طبع دار الكتب)

الجزء العشرون

الجزء العشرون [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني من القسم الخامس في أخبار الخلفاء الراشدين] [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه توفيقى] [1] ذكر خلافة على بن أبى طالب رضى الله عنه هو أبو الحسن علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت، وهاجرت، وهى أوّل هاشميّة ولدت (هاشميّا، وهو أوّل خليفة أبواه) [2] هاشميّان، ثم ابنه الحسن، ثم محمد الأمين، رضى الله عنهم [3] . ذكر صفته رضى الله تعالى عنه قال ابن الأثير الجزرىّ فى تاريخه [4] : كان- رضى الله عنه- شديد الأدمة، قصير القامة [5] ، كبير البطن، أصلع الرأس، عريض اللحية.

_ [1] ذكر هذا الافتتاح فى نسخة (ص) ، ولم يثبت فى نسختى (ك) و (ن) . [2] سقط هذا من نسخة (ك) ، وثبت فى (ص) و (ن) . [3] جاء فى أسد الغابة ج 5 ص 517 أن فاطمة بنت أسد «هى أول هاشمية ولدت لهاشمى وهى أيضا أول هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت الحسن، ثم زبيدة امرأة الرشيد ولدت الأمين، لا نعلم غيرهن، ثم إن هؤلاء الثلاثة لم تصف لهم الخلافة» . [4] الكامل ج 3 ص 199. [5] الذى قاله ابن الأثير فى تاريخه: «هو إلى القصر أقرب» وهذا هو المناسب لما يأتى.

وقال أبو عمر ابن عبد البر [1] رحمه الله: أحسن ما رأيت فى صفته رضى الله عنه- أنه كان ربعة [2] من الرجال، إلى القصر ما هو، أدعج [3] العينين، حسن الوجه، كأنّه القمر ليلة البدر حسنا، ضخم البطن عريض المنكبين، شثن الكفّين [4] ، أغيد [5] ، كأنّ عنقه إبريق فضّة، أصلع ليس فى رأسه شعر إلّا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاش [6] كمشاش السبع الضارى، لا يبين [7] عضده من ساعده، قد ادّمجت ادّماجا [8] إذا مشى تكفّأ [9] ، وإن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفّس، وهو إلى السّمن ما هو، شديد الساعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول [10] ، ثبت الجنان [11] قوىّ شجاع، منصور على من لاقاه، رضى الله عنه.

_ [1] فى كتابه «الاستيعاب فى أسماء الأصحاب» ج 3 ص 57، ثم انظر (وقعة صفين) ص 262. [2] ليس بالطويل البائن ولا بالقصير البائن، وقد جاء ذلك فى وصف النبى صلى الله عليه وسلم، كما تقدم ج 18 ص 237، إلا أن النبى كان أقرب إلى الطول، وعليا كان أقرب إلى القصر. [3] شديد سواد العينين مع سعتهما. [4] أى أنهما تميلان إلى الغلظ. [5] مائل العنق لين الأعطاف. [6] المشاش: رءوس العظام. [7] فى الاستيعاب: «لا يتبين» ، وهما بمعنى واحد. [8] أورد صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 156 صفة على رضى الله عنه مشتملة على مثل ما هنا، ثم قال فى شرح هذا الموضع منها: «يريد أن عظمى عضده وساعده الينهما قد اندمجا. وهكذا هو فى صفة الأسد، والضارى: المتعود للصيد» 10 هـ فيكون «ادّمجت» بتشديد الدال بمعنى «اندمجت» ، ويجوز أن يكون «أدمجت» بضم الهمزة وسكون الدال وكسر الميم، لقول اللغويين: رجل مدمج بسكون الدال أى كالحبل المحكم الفتل. [9] أسرع فى المشى كأنه يميل إلى قدام من سرعة مشيه. [10] أسرع فى المشى دون أن يعدو. [11] ثابت القلب.

ذكر نبذة من فضائله رضى الله تعالى عنه

ذكر نبذة من فضائله رضى الله تعالى عنه هو- رضى الله عنه- أوّل من أسلم، عند بعضهم، على ما فى ذلك من الاختلاف فيه وفى أبى بكر، رضى الله عنهما، وأيّهما سبق إلى الإسلام ... وقد ذكرنا ذلك كله فى ابتداء السيرة النبويّة، فى السّفر الرابع عشر من هذه النسخة [1] ، فلا فائدة فى إعادته، فلنذكر من فضائلة خلاف ذلك: أجمعوا [2] على أنه- رضى الله عنه- صلّى إلى القبلتين، وهاجر وشهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلّا غزوة تبوك [3] ، فإنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام خلّفة بالمدينة على عياله، وقال له: أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبىّ بعدى . رواه جماعة من الصحابة [4] . وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا آخى بين المهاجرين، [ثم آخى بين المهاجرين والأنصار [5]] ، قال فى كل واحد منهما لعلىّ: «أنت أخى فى الدنيا والآخرة» ، وآخى بينه وبين نفسه. ولذلك قال علىّ لأصحاب الشّورى [6] : أنشدكم [7] الله، هل

_ [1] أنظر ص 180 من السفر السادس عشر من هذه النسخة المطبوعة. [2] الاستيعاب ج 3 ص 33. [3] تبوك: موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق «ذكر غزوة تبوك» فى الجزء السابع عشر ص 352. [4] أنظر صحيح مسلم ج 15 ص 175 والرياض النضرة ج 2 ص 162 وغيرهما. [5] سقطت هذه الجملة من (ك) ، وثبتت فى (ص) ، (ن) كما فى الاستيعاب ج 3 ص 35 وقد سبق فى نهاية الأرب ج 16 ص 347 قوله: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار» . [6] روى ابن عبد البر بسنده عن أبى الطفيل قوله: لما احتضر عمر جعلها شورى بين على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد، فقال لهم على: أنشدكم الله.. الخ [7] أنشدكم: أسألكم وأستحلفكم.

فيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينه- إذ آخى بين المسلمين- غيرى؟ قالوا: اللهمّ لا وربّنا. وكان يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيرى إلّا كذّاب. وروى بريدة وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، كلّ منهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم غدير خمّ [1] : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» وفى رواية بعضهم «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» . وقد ذكرنا [2] فى غزوة خيبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ليس بفرّار، يفتح الله على يديه» وأنّه أعطى الراية لعلىّ، ففتح الله على يديه. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو شابّ، ليقضى بينهم، فقال: يا رسول الله إنّى لا أدرى ما القضاء؟ فضرب

_ [1] «خم» اسم رجل صباغ، أضيف إليه الغدير الذى بالجحفة بين مكة والمدينة. وقد جاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 169 قول البراء بن عازب: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودى فينا: «الصلاة جامعة» وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فصلى الظهر، وأخذ بيد على وقال: ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى، فأخذ بيد على وقال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وجاءت فى صحيح مسلم ج 15 ص 179 رواية أخرى عن زيد ابن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى «خما» بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال فى آخر الحديث: أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أ: كركم الله فى أهل بيتى . وانظر البداية والنهاية ج 17 ص 346. [2] ج 17 ص 252- 253، وانظر فى صحيح البخارى الحديثين 3465، 3466 وانظر صحيح مسلم بشرح النووى ج 15 ص 176.

رسول الله عليه الصلاة والسلام صدره بيده وقال: «اللهمّ اهد قلبه وسدّد لسانه [1] » قال علىّ فو الله ما شككت بعدها فى قضاء بين اثنين. ولما نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [2] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليّا وحسنا وحسينا فى بيت أمّ سلمة وقال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس [3] وطهّرهم تطهيرا [4] . قال أبو عمر: وروت طائفة من الصحابة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق. وقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «يهلك [5] فيك رجلان: محبّ مطر [6] وكذّاب مفتر [7] » . وقال له: «تفترق فيك أمّتى كما افترقت بنو إسرائيل فى عيسى.

_ [1] سدد لسانه: قومه ووفقه السداد، أى للصواب. [2] الآية 33 من سورة الأحزاب. [3] الرجس: الإثم، أو كل مستقذر من عمل، كما ذكره النووى. [4] هذا الحديث ذكره الترمذى فى صحيحه برواية أخرى فانظره بشرج النووى ج 15 ص 194، وهناك ج 15 ص 175 رواية تتعلن بآية أخرى. [5] كذا جاء فى (ن) و (ص) والاستيعاب ج 3 ص 37، وفى (ك) : «هلك» . [6] «مطر» من الإطراء، وهو مجاوزة الحد فى المدح والكذب فيه. [7] «مفتر» من الافتراء، وهو اختلاق الكذب.. وقد روى أحمد عن على رضى الله عنه قوله «يهلك فى رجلان: محب مفرط بما ليسا فى، ومبغض يحمله شنآنى على أن بهتنى» . وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 372 رواية لقول على «يهلك فى رجلان: محب غال ومبغض قال» . وجاء فى نهج البلاغة ج 3 ص 306 قول على «وسيهلك فى صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق. ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق.

وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم، وعلىّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه» . وقال فى أصحابه: «أقضاهم علىّ» . وقال عمر رضى الله عنه: «علىّ أقضانا» . وكان عمر يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن [1] ! وقال علىّ فى التى وضعت لستّة أشهر [2] ، فأراد عمر [3] رجمها: إن الله تبارك وتعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [4] [ويقول وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [5]] [6] . وكان- رضى الله عنه- أعلم الناس بالفرائض [7] ، وله فى ذلك أخبار. منها ما رواه أبو عمر ابن عبد البر [8] بسنده عن زرّ بن حبيش قال: جلس رجلان يتغدّيان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما مرّ بهما رجلّ، فسلّم،

_ [1] فى النهاية ولسان العرب: (معضلة) أراد المسألة الصعبة أو الخطة الضيقة المخارج من الإعضال أو التعضيل، ويريد بأبى حسن على بن أبى طالب. [2] ذكر الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما أن امرأة من جهينة تزوجت رجلا من قبيلتها ثم ولدت لستة أشهر بعد دخولها عليه. [3] تبع المؤلف أبا عمر ابن عبد البر فى كتابه الاستيعاب ج 3 ص 39 ولكن الذى رواه الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما عن الجهنى أن الذى أراد الرجم هو عثمان رضى الله عنه. [4] الآية 15 من سورة الأحقاف. [5] الآية 14 من سورة لقمان. [6] زيادة- عن ابن جرير وابن كثير فى تفسيرهما- يتم بها الاستدلال، وجاء فى رواية أخرى قوله تعالى «حولين كاملين» . [7] الفرائض: علم قسمة المواريث. وهى مأخوذة فى اللغة من الفرض، بمعنى التقدير، لأن المواريث مقدرة. [8] فى الاستيعاب ج 3 ص 41- 42.

فقالا له: [اجلس] [1] للغداء. فجلس وأكل معهما، واستوفوا فى أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال خذا هذه عوضا ممّا أكلت لكما ونلّته من طعامكما. [فتنازعا،] [2] وقال صاحب الخمسة الأرغفة: لى خمسة دراهم ولك ثلاثة. فقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين. فارتفعا إلى أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، فقصّا عليه قصّتهما، فقال لصاحب الثلاثة [الأرغفة] [3] : قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة. فقال: لا والله لا رضيت منه إلّا بمرّ الحق. فقال علىّ: ليس لك فى مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة. فقال الرجل: «سبحان الله يا أمير المؤمنين! هو يعرض علىّ ثلاثة فلم أرض وأشرت علىّ بأخذها فلم أرض، وتقول لى الآن: إنه لا يجب لك إلّا درهم واحد!» فقال له [علىّ] [4] : «عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا، فقلت: لا أرضى إلا بمر الحق، ولا يجب لك فى مر الحق إلا واحد.» فقال له الرجل: فعرّفنى [5] الوجه فى مر الحق حتّى أقبله. فقال: «أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثا؟ أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا نعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقلّ، فتحملون [فى] [6] أكلكم على السواء.» قال: بلى. قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، [وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث] ، [7] وله خمسة

_ [1] زيادة من الاستيعاب. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] زيادة من الاستيعاب. [4] زيادة من الاستيعاب. [5] كذا جاء الاستيعاب. وفى النسخة (ك) : «تعرفنى» . وفى النسخة (ن) تعرفنى» غير منقوطة الحرف الأول. [6] زيادة من الاستيعاب. [7] زيادة من الاستيعاب.

عشر ثلثا، أكل منها ثمانية وتبقى [له] [1] سبعة، وأكل لك واحدا من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة [بسبعته] [2] . فقال له الرجل: رضيت الآن!. وأتته امرأة وهو على المنبر فقالت: ترك أخى ستّمائة دينار وأعطيت دينارا! (وتظلمت من ذلك) فقال: لعل أخاك ترك زوجة وأمّا وبنتين واثنى عشر أخا وأنت. قالت: نعم. فقال: قد أستوفيت حقّك [3] . وهذه المسألة مشهورة مسطورة فى كتب الفقه، وتسمى «الدّيناريّه» و «المنبرية» [4] وهو- رضى الله عنه- ممّن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، هو وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة [5] . وعن [5] محمد بن سيرين قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضى

_ [1] زيادة من الاستيعاب. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] للزوجة خمسة وسبعون دينارا (الثمن) وللأم مائة دينار (السدس) وللبنتين أربعمائة دينار (الثلثان) . فلم يبق إلا خمسة وعشرون دينارا، لإخوتها أربعه وعشرون- كل منهم ديناران- ولها دينار واحد. [4] تطلق «المنبرية» فى كتب الفقه والميراث على مسألة أخرى للإمام على أيضا وقد كان يخطب على منبر الكوفة، قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 1 ص 6: «وهو الذى قال فى المنبرية صار ثمنها تسعا، وهذه المسألة لو أفكر الفرضى فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبة ارتجالا؟!» . [5] كان سالم بن معقل من الفرس، وأعتقته مولاته زوجة أبى حذيفة، فتولى أبا حذيفة، وتبناه أبو حذيفة إلى أن جاء حكم التبنى.» وقد صار سالم من خيار الصحابة وقرائهم المعروفين. [6] روى صاحب الاستيعاب ج 2 ص 2534 هذا الخبر بسنده. وذكره ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 2 ص 16 والسيوطى فى الإتقان ج 1 ص 59 وصاحب الرياض النضرة ج 1 ص 168.

الله عنه أبطأ [علىّ] [1] عن بيعته وجلس فى بيته، فبعث [2] إليه أبو بكر: ما بطّأ بك عنّى؟ أكرهت إمارتى؟ فقال؛: ما كرهت إمارتك، ولكنّى آليت أن لا أرتدى ردائى- إلّا إلى صلاة- حتى أجمع القرآن!: قال ابن سيرين: فبلغنى أنه كتبه على تنزيله، ولو وجد ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير. وفى علىّ- رضى الله عنه- يقول إسماعيل بن محمد الحميرىّ من أبيات: سائل قريشا بها إن كنت ذاعمه [3] : ... من كان أثبتها فى الدّين أوتادا؟ من كان أقدمها سلما [4] وأكثرها ... علما وأطهرها أهلا وأولادا؟ من وحّد الله إذ كانت مكذّبة ... تدعو مع الله أوثانا وأندادا؟ من كان يقدم فى الهيجاء إن نكلوا [5] ... عنها وإن بخلوا فى أزمة جادا؟

_ [1] سقط هذا من (ص) . وثبت فى (ك) و (ن) كما فى الاستيعاب. [2] جاء قيل هذا عند ابن أبى الحديد قوله: «فقيل لأبى بكر: إنه كره إمارتك» [3] العمه: التردد والتحير. [4] كذا جاء فى المخطوطة و «السلم» قد جاء فى الشعر بمعنى الإسلام، كقول امرئ القيس بن عابص: فلست مبدلا بالله ربا ... ولا مستبدلا بالسلم دينا وجاء بيت إسماعيل الحميرى فى الاستيعاب ج 3 ص 67 وأسد الغابة ج 4 ص 40 بلفظ «من كان أقدم إسلاما وأكثرها ... » . [5] الهيجاء: الحرب. ونكلوا: تأخروا وجبنوا.

ذكر بيعة على رضى الله تعالى عنه

من كان أعدلها حكما وأبسطها ... علما وأصدقها وعدا وإيعادا؟ إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن ... إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا! إن أنت لم تلق أقواما ذوى صلف [1] ... ذوى [2] عناد لحقّ الله جحّادا! وفضائله- رضى الله عنه- ومآثره كثيرة، وفيما أوردناه منها وما نورده بعد- إن شاء الله- كفاية عن بسط ... فلنذكر بيعته رضى الله عنه. ذكر بيعة على رضى الله تعالى عنه بويع له- رضى الله عنه-[بالخلافة [3]] يوم قتل عثمان [4] وقيل: بل بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين وقد اختلف فى كيفية بيعته: فقيل: إنه لما قتل عثمان- رضى الله عنه- اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليّا،

_ [1] الصلف: ادعاء ما لا يوجد إعجابا وتكبرا، والتكلم بالمكروه. [2] فى (ك) : «وذوى» . وفى (ن) و (ص) : «وذى» ، وفى الاستيعاب وأسد الغابة: «وذا» . [3] زيادة من الاستيعاب ج 3 ص 55 حيث نقل المؤلف منه هنا. [4] قتل عثمان رضى الله عنه يوم الجمعة لثمانى عشرة خلت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين.

وقالوا [له] [1] : إنه لا بدّ للناس من إمام، فقال: لا حاجة لى فى أمركم، من اخترتم رضيته. قالوا: لا نختار غيرك. فقال: لا تفعلوا، فإنى أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففى المسجد، فإنّ بيعتى لا تكون خفيا [2] ، ولا تكون إلّا [عن رضا المسلمين.] [3] وكان فى بيته، وقيل: فى حائط [4] لبنى عمرو بن مبذول، [5] فخرج إلى المسجد يتوكّأ على قوس، فبايعه الناس. وكان أوّل من بايعه طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب، فقال: «إنّا لله [6] ! أوّل من بدأ البيعة [7] يد شلّاء! [8] لا يتمّ هذا الأمر» . وبايعه الزّبير، فقال لهما: إن أحببتما أن تبايعانى وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنّما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنّه لا يبايعنا.

_ [1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 98 حيث نقل المؤلف منه هنا. وفى المخطوطة وأتوه وقالوا:» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «خفيه» . [3] هكذا جاءت الرواية فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 450 وهى الأصل، ونقلها ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 4. وجاء فى المخطوطة والكامل «فى المسجد» وقد سبق كر «المسجد» فى هذا الكلام. [4] الحائط- ههنا-: البستان من النخيل ونحوه إذا كان عليه جدار. [5] فرع من الخزرج، وقد كان أكثر الأنصار- من الأوس والخزرج- يؤيدون عليا. [6] هكذا جاء فى المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 98 وجاء فى رواية أخرى لابن الأثير- بعد ذلك-- ص 99: إنا لله وإنا إليه راجعون» . [7] هكذا جاء المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الرواية الأولى. وفى الرواية الأخرى: «أول يد بايعت» . [8] كان طلحة قد أبلى فى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى النبى بنفسه، فالتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصابعه. وسيبين المؤلف ذلك فى ذكر مقتل طلحة» .

وبايعه الناس، وجاءوا، بسعد بن أبى وقّاص [1] ، فقال له علىّ: بايع. فقال: «لا، حتّى يبايع الناس، والله ما عليك منّى باس» قال: خلوا سبيله. وجاءوا بابن عمر [2] ، فقال مثل قوله [3] ، فقال: ائتنى بكفيل [4] ، فقال: لا أرى كفيلا. قال الأشتر: دعنى أضرب عنقه! قال [علىّ] [5] : «دعوه، أنا كفيله،- إنّك- ما علمت- سيّىء الخلق صغيرا وكبيرا!» . وبايعه الأنصار إلا نفرا يسيرا، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلّد، وأبو سعيد الخدرى [6] ومحمد بن مسلمة، والنّعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا [7] عثمانيّة. ولم يبايع أيضا عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة [8]

_ [1] سعد هو أحد الستة الذين جعل فيهم عمر الشورى، كطلحة والزبير، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة ولزم بيته.. [2] كان عبد الله بن عمر من أهل الورع، ولورعه أشكلت عليه حروب على وقعد عنه، انظر الاستيعاب ج 2 ص 343. [3] أى قال: «لا حتى يبايع الناس» . [4] أى: ضامن ألا تبرح، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 451 «ايتنى بحميل» ، و «الحميل» بمعنى الكفيل، وفى شرح أبن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 340 «فأعطنى حميلا ألا تبرح» . [5] الزيادة عند ابن جرير وابن الأثير. [6] هو سعد بن مالك، نسب إلى جده «الأبجر» الذى يقال له خدرة» . [7] هكذا فى النسختين (ن) و (ص) . وفى «ك» : «وكانوا» . [8] فى المخطوطة «مسلمة» والتصويب من الكامل والقاموس وشرحه، وتجد ترجمته فى الاستيعاب ج 2 ص 86 والإصابة برقم 3381 ج 2 ص 65.

ابن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة ابن شعبة. وأخذ النّعمان بن بشير قميص عثمان الّذى قتل فيه وأصابع امرأته نائلة [1] ، وسار بهم [2] إلى الشام. وقيل فى بيعته: إنّ عثمان لمّا قتل بقيت المدينة خمسة أيّام وأميرها الغافقى بن حرب، وهم يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، فأتى المصريّون عليّا فباعدهم، وأتى الكوفيّون الزّبير فباعدهم، واتى البصريّون طلحة فباعدهم؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلى الخلافة، فأرسلوا إلى سعد يطلبونه [3] فقال: إنّى وابن عمر لا حاجة لنا فيها، وأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى، وقال بعضهم لبعض: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمّة، فجمعوا أهل المدينة وقالوا لهم: يا أهل المدينة، أنتم أهل الشّورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع، وقد أجلناكم [4] يومكم، فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ [5] عليّا وطلحة والزّبير وأناسا كثيرا. فغشى الناس عليا، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى! فقال علىّ:

_ [1] لما جاء المعتدون ليقتلوا عثمان انكبت عليه زوجته نائلة واتقت، السيف بيدها فقطع أصابعها. [2] كذا وقع فى المخطوطة. وفى الكامل: «به» ؛. [3] بعثوا إلى سعد بن أبى وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فأقدم نبايعك. [4] كذا فى النسختين (ن) و (ص) والكامل لابن الأثير. وفى (ك) : «أجلنا لكم» . [5] فى الكامل: «لنقتلن غدا» .

«دعونى والتمسوا غيرى، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: «ننشدك الله!، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام ألا ترى الفتنة؟ الا تخاف الله؟» قال: «قد أجبتكم، واعلموا أنّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتمونى فإنّما أنا كأحدكم [1] إلّا أنّى من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه» ... ثمّ افترقوا على ذلك، واتعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم، وقالوا إن دخل طلحة والزّبير فقد استقامت، فبعث البصريّون إلى الزّبير حكيم بن جبلة، ومعه نفر فجاءوا به يحدونه [2] بالسّيف، [فبايع] [3] . وبعثوا إلى طلحة الأشتر فى نفر، فأتاه فقال: دعنى أنظر ما يصنع الناس. فلم يدعه، فجاء به يتلّه تلّا [4] عنيفا فبايع.. فكان الزبير يقول: جاءنى لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت والسّيف على عنقى! وأهل مصر فرحون لما [5] اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا تبعا لأهل مصر، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير غيظا.

_ [1] كذا فى (ك) . وفى (ص) : «أحدكم» كما جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 56 وج 2 ص 170. [2] بحدونه: يسوقونه. [3] ثبتت فى النسخة (ك) وسقطت من (ن) . [4] أى يدفعه دفعا. [5] فى تاريخ الطبرى: «بما» .

قال [1] : ولمّا أصبحو يوم البيعة- وهو يوم الجمعة- حضر الناس المسجد، وجاء علىّ رضى الله عنه، فصعد المنبر وقال: «أيّها الناس عن ملإ وإذن [2] إنّ هذا أمركم، ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارها لأمركم، فأبيتم إلّا أن أكون عليكم، ألا وإنّه ليس لى دونكم إلّا مفاتيح مالكم معى وليس لى أن آخذ درهما دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحدّ [3] على أحد.» فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال: اللهمّ اشهد. قال: ولما جاءوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرها. فبايع ... ثم جىء بالزّبير، فقال مثل ذلك وبايع، وفى الزّبير اختلاف.. ثم جىء بعده بقوم كانوا قد تخلّفوا، فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله فى القريب والبعيد والعزيز والذليل. فبايعهم ... ثمّ قام العامّة فبايعوا ... وتفرّقوا إلى منازلهم. ورجع علىّ إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزّبير فى عدد من الصحابة، فقالوا: «يا علىّ، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا فى قتل هذا الرجل.» فقال: «يا إخوتاه، إنى لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟

_ [1] القائل ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 99 وأصل ذلك فى رواية الطبرى ج 3 ص 456. [2] أى: عن تشاور من مقدميكم وجماعتكم. [3] كذا فى (ن) و (ص) أى: أغضب. وفى تاريخ الطبرى: «أجد» بمعنى أغضب أيضا. وفى تاريخ ابن الأثير و (ك) : «آخذ» .

هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم [1] ، وثابت [2] إليهم أعرابكم [3] وهم خلالكم [4] يسومونكم [5] ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شىء ممّا تريدون؟» قالوا: لا. قال: «فلا والله لا أرى إلّا رأيا ترونه أبدا إلّا أن يشاء الله، إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة [6] . إنّ الناس من هذا الأمر- إن حرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتّى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدءوا عنّى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا» . واشتدّ علىّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج [وتركها] [7] على حالها، وإنّما هيّجه على ذلك هرب بنى أميّة وتفرّق القوم. وحكى أبو عمر ابن عبد البر [8] قال: لمّا بايع الناس علىّ بن أبى طالب دخل عليه المغيرة بن شعبة [9] ، فقال له: «يا أمير المؤمنين، إنّ لك عندى نصيحة» . قال: وما هى؟ قال: «إن

_ [1] «عبدان» بضم العين أو كسرها مع سكون الباء: جمع عبد. [2] ثابت: رجعت واجتمعت. [3] كذا فى النسخة (ن) وهو مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن كثير ورقع فى (ص) و (ك) : «أعرانكم» . [4] هكذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 458، ى: هم بينكم. وفى المخطوطة هنا «خلاصكم» . وفى تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 100: «خلاطكم» . [5] يسومونكم: يكلفونكم. [6] أى: ما أعينوا. [7] زيادة من ابن الأثير. [8] فى الاستيعاب ج 3 ص 390. [9] المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب المشهورين فى ذلك العهد، وهم: معاوية ابن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد، والمغيرة.

أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة على الكوفة، والزّبير على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرّت لك الخلافة فادرأهم [1] كيف شئت برأيك» . فقال [علىّ] [2] : «أمّا طلحة والزّبير فسأرى رأيى فيهما، وأمّا معاوية فلا يرانى الله مستعملا له ولا مستعينا به مادام على حاله، ولكنّى أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس [3] ، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى» . فانصرف عنه المغيرة مغضبا لمّا لم يقبل منه نصيحته.. فلمّا كان الغد أتاه فقال: «يا أمير المؤمنين، نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتنى به، فرأيت أنّك قد وفّقت للخير وطلبت الحق» . ثم خرج [4] عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال هذا الأعور؟ (يعنى المغيرة، وكان المغيرة قد أصيبت عينه يوم اليرموك) قال: أتانى أمس بكذا وأتانى اليوم بكذا. قال: نصحك والله [أمس] [5] وخدعك اليوم. فقال له علىّ: إن أقررت معاوية على ما فى يده كنت متّخذ المضلّين عضدا [6] .

_ [1] ادرأهم: ادفعهم. [2] زيادة من الاستيعاب. [3] فى الاستيعاب: «المسلمون» . [4] كذا جاء فى (ك) والاستيعاب. وفى (ص) : «وانصرف» . [5] سقط «أمس» من النسخة (ك) . وثبت فى (ص) . [6] فى القرآن الكريم: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ، الْمُضِلِّينَ عَضُداً فى الآية 51 من سورة الكهف.

وقال المغيرة فى ذلك: نصحت عليا فى ابن هند نصيحة ... فردّ [1] فلا يسمع لها الدهر ثانيه وقلت له: أرسل إليه بعهده ... على الشام حتّى يستقرّ معاويه ويعلم أهل الشام أن قد ملكته ... فأمّ ابن هند بعد ذلك هاويه وتحكم [2] فيه ما تريد فإنّه ... لداهية- فارفق به- وابن داهيه فلم يقبل النّصح الّذى جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافيه وروى [3] عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- نحوه، إلّا أنّه قال «أتيت عليّا بعد قتل عثمان، عند [4] عودى من مكّة [5] ، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليا به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لى قبل مرّته هذه «إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقيّة الناس، وإنّ الرأى اليوم يحرز [6] به

_ [1] فى مروج الذهب ج، ص 16: «فردت» . [2] سقط هذا البيت من نسخة الاستيعاب التى بأيدينا ومن مروج الذهب. [3] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 101 وتاريخ الطبرى ج 3 ص 460. [4] كذا فى تاريخ الطبرى وابن كثير، وجاء فى المخطوطة «بعد» . [5] كان عثمان- قبل مقلته- قد دعا ابن عباس واستعمله على الحج، فذهب إلى مكة وأقام للناس الحج، ثم رجع إلى المدينة بعد قتل عثمان بخمسة أيام. [6] كذا جاء فى النسخة (ص) . وفى النسخة (ك) : «تحرز» .

ما فى غد، وإن الضّياع اليوم يضيع به ما فى غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمّال عثمان على أعمالهم، حتّى تأتيك بيعتهم [ويسكن الناس] [1] ثمّ اعزل من شئت» فأبيت عليه ذلك، وقلت: لا أداهن فى دينى ولا أعطى الدّنيّة فى أمرى [2] . قال «فإن كنت أبيت علىّ فاعزل من شئت واترك معاوية، فإنّ فى معاوية جرأة، وهو فى أهل الشام يستمع منه، ولك حجة فى إثباته، فإنّ عمر بن الخطّاب [كان] [3] قد ولّاه الشام» فقلت؛ لا والله لا أستعمل معاوية يومين. ثمّ انصرف من عندى وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطىء، ثم عاد إلىّ الآن فقال: «إنّى أشرت عليك أوّل مرّة بالذّى أشرت، وخالفتنى فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك أن تصنع الّذى رأيت، فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة ممّا كان» .. قال ابن عبّاس: فقلت لعلىّ: أمّا المرّة الأولى فقد نصحك، وأمّا المرّة الثانية فقد غشّك. قال: ولم نصحنى؟ قلت: لأنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا [4] من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا «أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا» ويؤلبوا [5] عليك، فينتقض عليك أهل الشام [وأهل العراق، مع أنّى لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك] [6] وأنا أشير عليك أن تثبت

_ [1] ثبت هذا فى النسخة (ك) . وسقط من (ن) . [2] الدنيه: الخصلة المذمومة. [3] ثبت «كان» فى (ن) و (ص) . وسقط من (ك) . [4] وقع فى المخطوطة هنا «لا يبالون» مع ظهور الجزم بحذف النون فى «يقولوا» بعد «متى» الثانية. [5] هذا هو الظاهر المناسب للعطف على «يقولوا» . ووقع فى المخطوطة «ويؤلبون» . [6] ثبت هذا فى النسخة (ن) كما فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من (ك) .

معاوية، فإن بايع لك فعلىّ أن أقلعه من منزله. قال [علىّ] [1] : والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثّل: وما ميتة إن متها غيّر عاجز [2] ... بعار إذا ما غالت النفس غولها [3] فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع، لست صاحب رأى فى الحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحرب خدعة» [4] ؟ فقال: بلى. فقلت: أم [5] والله لئن أطعتنى لأصدرنّهم بعد [6] ورود، ولأتركنّهم ينظرون فى دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، فى غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عباس، لست من هنيّاتك [7] ولا من هنيّات معاوية فى شىء، فقلت له: أطعنى، والحق بمالك بينبع [8] ، وأغلق بابك

_ [1] ثبت هذا فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من المخطوطة. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وتاريخى ابن جرير وابن الأثير، وجاء فى (ص) : «م» . وجاء فى ديوان الأعشى ص 175: «فما» . [3] الغول: ما اغتال النفس وأهلكها، يقال «غالته غول» إذا وقع فى مهلكة. والبيت للأعشى فى ختام قصيدة.. وقد اقتدى بعلى بن أبى طالب فى تمثله بهذا البيت أبو العباس السفاح، فانه لما خرج يدعو إلى البيعة قال: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل يقول الأعشى: فما ميتة: إن متها ... الخ. [4] «خدعة» بسكون الدال مع فتح الخاء أو ضمها أو كسرها، أو بفتح الدال مع ضم الخاء، والمراد أن أمر الحرب ينقضى بخدعة. [5] «أم» كذا جاء فى المخطوطة. وهى بمعنى «أما» الاسنفتاحيه التى تجىء للتنبيه وتكثر قبل القسم، ولكن ألفها الأخيرة حذفت عن قلة، وقد جاءت «أما» فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. [6] كذا فى (ن) كما جاء ابن عند ابن الأثير وغيره، أى: أن ما يكون من حالة معهم حينئذ كحال من يرجع قوما عن الماء بعد وروده. وفى (ك) و (ص) : «بغير» . [7] «هنيات» تصغير «هنات» أو هنوات» ، وكل من هذه الكلمات تذكر عند إرادة خصال غير حسنة. [8] ينبع: قرية ذات نخيل وزرع ومياه فى غرب المدينة المنورة، على شاطى البحر. وفيها مال لعلى.

ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية رضى الله عنهما

عليك، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنّك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم [1] ليحمّلنّك الناس دم عثمان غدا! .. فأبى علىّ، وقال: تشير علىّ وأرى فإذا عصيتك فأطعنى قال: فقلت «أفعل، إنّ أيسر مالك عندى الطاعة» . فقال له علىّ: تسير إلى الشام فقد ولّيتكها. فقال ابن عباس: «ما هذا برأى، معاوية رجل من بنى أميّة، وهو ابن عم عثمان، وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقى بعثمان، وإنّ أدنى ما هو صانع أن يحبسنى فيتحكّم علىّ لقرابتى منك. وإن كلّ ما حمل علىّ حمل عليك [2] ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده» . فقال: لا والله لا كان هذا أبدا! وخرج المغيرة فلحق بمكة. ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية رضى الله عنهما وفى سنة ست وثلاثين فرّق علىّ- رضى الله عنه- عمّاله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عبّاس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل [3] بن حنيف على الشام. فأما سهل فإنه خرج، حتى إذا كان بتبوك [4] لقيته خيل [5] فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أىّ شىء؟ قال: على

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخى الطبرى وابن الأثير. وفى النسخة (ك) : «القوم» [2] كذا جاء فى المخطوطة. وعند الطبرى وابن الأثير: «وإن كل ما حمل عليك حمل على» [3] أخو عثمان بن حنيف، وهما صحابيان. [4] موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق ذكره. [5] أى: فرسان خيل.

الشام. قالوا: إن كان عثمان بعثك فحىّ هلا بك [1] ، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أو ما سمعتم بالّذى كان؟ قالوا: بلى ... فرجع إلى علىّ. وأمّا عمارة فلمّا بلغ زبالة [2] لقيه طليحة بن خويلد، وكان قد خرج يطلب بثأر عثمان، فقال له: ارجع فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم بدلا، فإن أبيت ضربت عنقك ... فرجع إلى علىّ. وأمّا قيس بن سعد فإنّه لما انتهى إلى أيله [3] لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا امض. فمضى حتى دخل [مصر] [4] ، فافترق أهل مصر فرقا: فرقة دخلت فى الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا، [5] وقالوا: «إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلّا فنحن على جديلتنا [6] حتّى نحرك [7]

_ [1] حى هلا: كلمة تقال عند الدعاء إل الشىء، والإقبال عليه، أى: أنك حينئذ أهل لهذا. [2] زبالة: قرية بطريق مكة من الكوفة، وكانت بها أسواق. [3] أيله: مدينة معروفه على خليج العقبة، وكانت مقصودة، لمن كانوا يقدمون من الحجاز إلى الفسطاط بطريق البر. [4] كذا فى النسخة (ن) وتاريخ ابن الأثير، وسقطت هذه الكلمة من (ك) . [5] جاء فى هامش النسخة (ص ما نصه: «خرنبا» بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح النون والباء الموحدة، بعدها ألف» ، وهو تابع لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 105 حيث ذكر هذا الضبط، ولكن المحققين لا يصححون هذا، بل يرون أنها» «خربتا» بفتح الخاء أو كسرها مع كسر الراء وسكون الباء قبل التاء المثناه الفوفية، وكذلك تكررت فى مواضع من الجزء الأول من النجوم الزاهرة، وقال ياقوت فى معجم البلدان: « «خزنبا: قال نصر: موضع من أرض مصر، لأهلها حديث فى قصة على ومحمد بن أبى بكر، وهو خطأ، وقد سألت عنه أهل مصر فلم يعرفوا إلا خربتا» ، وقال فى موضع آخر: «خربتا» : هكذا ضبط فى كتاب ابن عبد الحكم، وقد ضبط الحازمى بالنون ثم الباء، هو خطأ» . والمعروف الآن أن «خربتا» قرية تابعة لمحافظة «البحيرة» وأنها بكسر الخاء والباء مع سكون الراء. [6] الجديلة: الحال والطريقة. [7] نحرك: نصاب السيوف، وهذه الكلمة جاءت فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «تخزك

أو نصيب حاجتنا» ، وفرقة قالت نحن مع علىّ ما لم يقد من إخواننا [1] وهم فى ذلك مع الجماعة ... فكتب قيس إلى علىّ بذلك. وأمّا عثمان بن حنيف فسار حتّى دخل البصرة، ولم يردّه أحد ولا وجد لابن عامر [2] فى ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب، وافترق الناس بها: ففرقة دخلت فى الجماعة، وفرقة اتّبعت القوم، وقالت فرقة «ننظر ما يقول أهل المدينة فنصنع ما صنعوا» . وأمّا عبيد الله بن عبّاس فانطلق إلى اليمن، فخرج يعلى بن منية [3] بعد أن جمع المال- ولحق بمكة، وأنفق المال فى حرب الجمل. قال [4] : ولمّا رجع سهل بن حنيف دعا علىّ طلحة والزّبير فقال «إنّ الأمر الذى كنت أحذّركم قد وقع، وإنّ الّذى قد وقع لا يدرك إلّا بإماتة [5] ، وإنّها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت اضطراما، واستثارت» . فقالا [6] :- ائذن لنا نخرج من المدينة، فإما أن نكاثر، وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما أستمسك، فإذا لم أجد بدا فآخر الداء الكى!.

_ [1] أى: ما لم يقتل إخواننا بما فعلوه فى الخليفة عثمان بن عفان. [2] ابن عامر: عبد الله بن عامر بن كريز، وكان ابن خال عثمان بن عفان، وقد ولاه عثمان البصرة. [3] هو يعلى بن أمية بن أبى عبيدة بن همام بن الحارث التميمى الخنظلى حليف قريش، ينسب حينا إلى أبيه «أمية» وينسب حينا إلى أمه «منية» وسيأتى النسبان قريبا فى وقعة الجمل، وقد استعمله عمر بن الخطاب على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى، فعزله عمر، ثم استعمله عثمان ابن عفان على صنعاء اليمن، وانظر الاستيعاب ج 3 ص 661 وتهذيب الأسماء ج 2 ص- 165 والإصابة ج 3 ص- 668. [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 103. [5] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «باماتته» . [6] كذا جاء عند ابن الأثير، وفى المخطوطة: «فقالوا» .

وكتب إلى معاوية وإلى أبى موسى، فأجابه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم [للذى كان] [1] والراضى ومن بين ذلك، حتى كان على [كأنّه] [2] يشاهدهم.. وكان رسوله إلى أبى موسى معبد الأسلمى. وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهنى، فلم يجبه معاوية بشىء وكلّما تنجّز جوابه لم يزده على قوله: أدم إدامة حصن أو خذا [3] بيدى ... حربا ضروسا تشبّ الجزل والضّرما [4] فى جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... نعاء [5] شيّبت الأصداغ واللمما أعيى المسود بها والسّيّدون فلم ... يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما حتى إذا كان [الشهر الثالث من مقتل عثمان] [6] فى صفر دعا معاوية رجلا من بنى عبس، اسمه قبيصة، فدفع إليه طومارا [7] مختوما، عنوانه «من معاوية إلى علىّ» وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض

_ [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير. [2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 4643: «أو جدا» . [3] تشب: توقد. والجزل: الحطب اليابس الغليظ. والضرم: السعف الذى فى طرفه نار، والجمر. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) . وفى (ك) : شنعا» . [6] الزيادة من ابن الأثير:. [7] الطومار: الصحيفة.

على أسفل الطّومار. وأوصاه بما يقول، وأعاد رسول علىّ معه، فقدما المدينة فى شهر ربيع الأوّل، ودخل العبسىّ كما أمره معاوية، والناس تنظر إلى الطّومار، حتّى دفعه إلى علىّ، ففضّه، فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، إن الرّسل لا تقتل: قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود [1] . قال: ممّن؟ قال «من خيط رقبتك! وتركت ستّين ألف شيخ يبكى تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق!» قال: «أمنّى يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا بترة [2] عثمان؟ اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان! نجا- والله- قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله فإنه إذا أراد أمرا أصابه! اخرج.» قال وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسىّ، فقالوا [3] : «هذا الكلب رسول الكلب! اقتلوه!» فنادى: يا آل مضر. يا آل قيس، الخيل والنبل، وبالله أقسم ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصىّ! فانظروا كم الفحول والركاب؟» وتعاووا [4] عليه، فمنعته مضر، وجعلوا يقولون له: «اسكت» فيقول: «لا والله، والله لا يفلح هؤلاء أبدا، أتاهم ما يوعدون، لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم [5] .

_ [1] القود: القصاص. [2] جاء عند ابن جرير وابن الأثير: كترة» والترة: الثأر والظلم فيه، والموتور: المصاب بقتل حميمه ولم يدرك ثأره. [3] القائلون هم السبئية كما جاء عند ابن جرير وابن الأثير. [4] تعاووا (بالعين أو بالغين) أى: تجمعوا وتعاونوا. [5] فى القرآن الكريم: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ والمراد بالريح الدولة والقوة.

ذكر ابتداء وقعة الجمل

قال: وأظهر علىّ العزم على قتال معاوية، وكتب إلى عمّاله أن ينتدبوا الناس إلى الشام. ثم استأذنه طلحة والزبير فى العمرة، فأذن لهما. ودعا علىّ ابنه محمد بن الحنفيّة، فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمرو بن أبى سلمة- أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد- ميسرته، وجعل أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح (ابن أخى أبى عبيدة) على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن العبّاس. ذكر ابتداء وقعة الجمل ومسير عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة وما كان من الحرب إلى أن استقروا بها وإخراج عثمان بن حنيف عامل على رضى الله عنه كان ابتداء وقعة الجمل أنّ عائشة رضى الله عنها كانت قد خرجت إلى الحجّ وعثمان محصور- كما ذكرنا- فلمّا قضت الحجّ وعادت أتاها الخبر بقتله وخلافة علىّ، وهى يسرف [1] ، فرجعت إلى مكة وهى تقول: «قتل- والله- عثمان مظلوما! والله لأطلبنّ بدمه!» وطلبت مكة، فقصدت الحجر، فسمرت فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت: «أيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الامصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس، ونقموا [2] عليه استعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أمثالهم

_ [1] سرف: موضع على ستة أميال من مكة. [2] نقموا: أنكروا.

من قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم [1] ، [وهى أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها،] [2] فتابعهم، ونزع [لهم] [2] عنها (استصلاحا لهم) [2] ، فلمّا لم يجدوا حجّة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، وأستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! وو الله لو أنّ الّذى اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذّهب من خبثة أو الثّوب من درنه إذ ما صوه [3] كما يماص الثّوب بالماء!» فقال عبد الله بن [عمرو بن] [4] الحضرمى (وكان عامل عثمان على مكة) : «ها أنا [ذا] [5] أوّل طالب» ، فكان أوّل مجيب، وتبعه [6] بنو أميّة على ذلك، وكانوا قد هربوا من المدينة إلى مكة بعد قتل عثمان، وتبعهم سعيد بن العاص والوليد ابن عقبة.

_ [1] قال عثمان- رضى الله عنه دفاعا عن نفسه: «وأما الحمى فان عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت فى الحمى لما زاد فى إبل الصدقة» . انظر تاريخ ابن جرير الطبرى فى ج 3 ص سنة 390. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 468. [3] فى النهاية: «فى حديث عائشة قالت عن عثمان: مصتموه كما يماص الثوب ثم عدوتم عليه فقتلتموه، الموص: الغسل بالأصابع يقال: مصته أموصه موصا، أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه فلما أعطاهم ما طلبوا قتلوه» . [4] هذا هو الصواب، كما ذكراه ابن حجر فى الإصابة ج 2 ص 351 وابن جرير وغيره فى أسماء عمال عثمان، وهو غير عبد الله بن عامر بن كريز القرشى وإلى البصرة الذى يأتى مذكره بعد أسطر. وقد جاء فى المخطوطة «عبد الله بن عامر الحضرمى» وهو خطأ وقع أيضا فى نسخ الطبرى وابن الأثير فى هذا الموضع. [5] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 648. ووقع فى المخطوطة: «ها أنا أول طالب» . [6] كان عبد الله بن الحضرمى حليفا لبنى أمية.

وقدم عليهم عبد الله بن عامر [1] من البصرة بمال كثير ويعلى ابن أميّة (وهو ابن منية) [2] من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح. وقدم طلحة والزّبير من المدينة، فلقيا عائشة: فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: «إنّا تحمّلنا هرّابا [3] من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقّا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم» ، فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتى الشام. فقال ابن عامر: «قد كفاكم معاوية الشام، فأتوا البصرة، فإنّ لى بها صنائع، ولهم فى طلحة هوى» ، قالوا: «قبحك الله! فو الله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلّا أقمت كما أقام معاوية فنكتفى بك، ثم نأتى الكوفة فنسدّ على هؤلاء القوم مذاهبهم» . فلم يجدوا [4] عنده جوابا مقبولا. حتّى إذا استقام لهم الرأى على البصرة قالوا: «يا أمّ المؤمنين، دعى المدينة، فإنّ من معنا لا يطيق من بها من الغوغاء، [واشخصى [5] معنا إلى البصرة، فإنّا] [6] نأتى بلدا مضيعا، وسيحتجّون علينا [فيه] [6] ببيعة علىّ فتنهضينهم [7] كما أنهضت أهل مكة،

_ [1] سبق أنه ابن خال عثمان بن عفان وواليه على البصرة. [2] سبق ذكره وأنه عامل عثمان على صنعاء اليمن. [3] أى: ارتحلنا هاربين. [4] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير. وفى المخطوطة: «فلم تجد» . [5] أى: اذهبى. [6] الزيادة من تاريخ الطبرى. [7] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وفى المخطوطة «فتهضهم» .. وقد جاء فى بعض الروايات أن طلحة والزبير قالا لعائشة: «إنا نأتى أرضا قد أضيعت وصارت إلى على، وقد أجبرنا على على بيعته، وهم محتجون علينا بذلك وتاركوا أمرنا، إلا أن تخرجى فتأمرى ما أمرت بمكة» .

فإن أصلح الله الأمر كان الذى أردنا، وإلّا دفعنا [عن هذا الأمر] [1] بجهدنا، حتّى يقضى الله ما أراد» . فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فأبى، وقال: «أنا رجل من أهل المدينة، أفعل ما يفعلون» . فتركوه. وكان أزواج النّبى صلى الله عليه وسلم مع عائشة على قصد المدينة، فلما تغيّر رأيها إلى البصرة تركن [2] ذلك. وأجابتها حفصة على المسير معها، فمنعها أخوها عبد الله [3] . وجّهزهم يعلى بن منية بستّمائة ألف وستمائة بعير، وجهّزهم ابن عامر بمال كثير. ونادى مناديها: «إنّ أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين [4] والطلب بثأر عثمان وليس له مركب ولا جهاز فليأت» . فحملوا ستّمائة على ستمائة بعير، وساروا فى ألف- وقيل فى تسعمائة- من أهل المدينة ومكة، وتلاحقت بهم الناس، فكانوا فى ثلاثة آلاف رجل. وأعان يعلى بن منية الزّبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وفى المخطوطة «تركوا» . [3] عبد الله بن عمر بن الخطاب أخو أم المؤمنين حفصة لأبيها وأمها، كما سبق فى هذا الكتاب ج 18 ص- 176. [4] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «المحلون» يراد بهم هنا: الذين أحلوا ما حرم الله وانتهكوا حرماته، وهذا يناسب ما سبق قريبا من قول عائشة «سفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام» ، وفى المخطوطة «المخلين» بالخاء المعجمة، والمعنى عليه غير بعيد.

من قريش، وأعطى عائشة جملا، اسمه «عسكر» ، واشتراه بمائتى دينار، وقيل: بثمانين دينارا، وقيل: كان لرجل من عرينة، فابتيع منه بمهريّة [1] وأربعمائة درهم أو ستمائة درهم. وخرجت عائشة من مكة ومعها أمّهات المؤمنين إلى ذات عرق [2] فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم [3] كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم، وكان يسمّى «يوم النّحيب» .. وكتبت أمّ الفضل [4] بنت الحارث (أمّ عبد الله بن عبّاس) إلى علىّ بالخبر. ولما خرجت عائشة من مكة أذّن مروان [5] بن الحكم، ثم جاء حتّى وقف على طلحة والزّبير فقال: على أيّكما أسلّم [6] بالإمرة وأؤذّن بالصلاة فقال عبد الله بن الزّبير: على أبى عبد الله (يعنى أباه) . وقال محمد ابن طلحة: على أبى محمد (يعنى أباه) . فأرسلت عائشة إلى مروان فقالت: أتريد أن تفرّق أمرنا، ليصلّ بالناس ابن أختى [7] (تعنى

_ [1] ناقة مهرية من نوع سريع معروف من الإبل. ينسب إلى «مهرة» . [2] موضع على مرحلتين من مكة، ينزل فيه مريد لحج من أهل العراق ليحرم بالحج منه. [3] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، ووقع فى المخطوطة «يوما» . [4] هى لبابة بنت الحارث الهلالية، اشتهرت بكنيتها. [5] مروان بن الحكم القرشى الأموى أبو عبد الملك، وهو ابن عم عثمان وكاتبه فى خلافته. [6] كذا جاء عند ابن جرير. وفى المخطوطة: «أسأله» . [7] ابتعدت بذلك عن ذكر الشيخين اللذين وقع فيهما الاختلاف.

عبد الله بن الزّبير) . وقيل بل صلّى بالناس عبد الرحمن [1] بن عتّاب بن أسيد حتّى قتل. ولما انتهوا إلى ذات عرق لقى سعيد [2] بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه [3] فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ (يعنى عائشة وطلحة والزّبير) اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم! فقالوا: نسير فعلّنا نقتل قتلة عثمان ... فخلا سعيد ابن العاص بطلحة والزّبير، فقال: اصدقانى إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ قالا: نجعله لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: فلا أرانى أسعى إلّا لإخراجها من بنى عبد مناف [4] فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد [5] ، فقال المغيرة بن شعبة: «الرأى ما قال سعيد، من كان ها هنا من ثقيف فليرجع» ، ورجع. ومضى القوم، ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان، وكان دليلهم رجلا من عرينة، وهو الّذى ابتيع منه الجمل (على أحد الأقوال) ، قال العرنىّ: فسرت معهم، فلا أمرّ على واد إلّا

_ [1] هو من الأمويين، صحابى أو تابعى، انظر الإصابة ج 3 ص 72 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 3 ص 41. [2] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشى الأموى. [3] بنى أمية. [4] قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 42 «طلحة من تيم بن مرة والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصى، وليس أحد منها من بنى عبد مناف» . [5] عبد الله بن خالد أموى، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عتاب الذى سبق ذكره قريبا.

سألونى عنه، حتى طرقنا الحوأب- وهو ماء [1]- فنبحتنا كلابه فقالوا: أىّ ماء هذا؟ قلت: هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها، واسترجعت [2] وقالت: إنّى لهيه! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: «ليت شعرى أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب!» ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: «ردّونى! أنا والله صاحبة ماء الحوأب!» فأناخوا حولها يوما وليلة، فقال لها عبد الله بن الزّبير: «إنه كذب، وليس هو ماء الحوأب» ولم يزل بها وهى تمتنع حتّى قال لها: النّجاء النّجاء! قد أدرككم علىّ بن أبى طالب.» فارتحلوا نحو البصرة، فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمى فقال: (يا أمّ المؤمنين، أنشدك الله أن تقدمى اليوم على قوم لم تراسلى منهم أحدا، فعجّلى ابن عامر فإنّ له بها صنائع، فليذهب إليهم [3] » فأرسلته. وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة، وإلى الأحنف بن قيس وأمثاله، وأقامت بالحفير [4] تنتظر الجواب. ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدّؤلىّ وقال: انطلقا إلى عائشة واعلما علمها وعلم من معها، فأتياها وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك ليسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: «والله ما مثلى يسير بالأمر المكتوم

_ [1] من مياه العرب على الطريق بين البصرة ومكة. ويصلح هذا الموضع لنزول المسافرين. [2] قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [3] زاد ابن جرير الطبرى: «فليلقوا الناس حتى تقدمى ويسمعوا ما جئتم فيه» [4] الحفير: ما حفره أبو موسى الأشعرى على طريق البصرة إلى مكة فكان ماؤه عذبا.

إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع [1] القبائل غزوا حرم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحدثوا فيه الأحداث [2] ، وآووا فيه المحدثين [3] ، فاستوجبوا لعنة الله ولعنة الرسول، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلاتره [4] ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا فى دار قوم كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين [5] غير نافعين ولا منتفعين، لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت فى المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء، وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغى لهم أن يأتوا فى إصلاح هذه القصّة» وقرأت: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [6] [ثم قالت [7] :] «نهض [8] فى

_ [1] النزاع من القبائل: جمع «النازع» وهو الغريب الذى نزع عن أهله وعشيرته أى: بعد وغاب. [2] الأحداث: جمع حدث، وهو: الأمر الحادث المنكر الذى ليس بمعتاد ولا معروف فى السنة، كما ذكره صاحب النهاية «فى حديث المدينة: من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا» . [3] آووا المحدثين: نصروا الجانين أو أجاروهم من خصومهم وحالوا بينهم وبين أن يقتص منهم. [4] الترة: الثأر. [5] قد جاء اللفظان بمعنى واحد، وقد يكون المراد ب «مضرين» : الذين يكرهون غيرهم على الأمور التى يريدونها. [6] من الآية 114 من سورة النساء. [7] زيادة يقتضيها المقام. [8] عند الطبرى: «نهض» .

الإصلاح فيمن [1] أمر الله وأمر رسوله الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثّكم على تغييره فخرجا من عندها، فأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: «بلى، والسّيف على عنقى، وما أستقيل عليّا البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان» . ثم أتيا الزّبير فقالا له وقال مثل ذلك. فرجعا إلى عائشة فودّعاها، فودّعت عمران، وقالت يا أبا الأسود، إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ (الآية) [2] . وسرّحتهما، ونادى مناديها بالرّحيل. ومضيا حتّى أتيا عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر [3] . ... وطاعن القوم وجالد واصبر وابرز لهم مستلئما [4] وشمّر فاسترجع [5] عثمان، وقال: دارت رحى الإسلام [6] وربّ الكعبة! ونادى فى الناس، وأمرهم بلبس السلاح.

_ [1] عند الطبرى: «ممن» . [2] الآية 8 من سورة المائدة. [3] انفر: تقدم للقتال. [4] مستلئما: لا يسا اللأمة، هى الدرع عدة الحرب. [5] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. [6] روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين» .. قال الخطابى فى شرحه ج 4 ص 340: دوران الرحى كناية عن الحرب القتال، شبهها بالرحى الدوارة التى تطحن الحب، لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف حربا «فدارت رحانا واستدارت وحاهمو....» قال زهير «فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... » .

وأقبلت عائشة فيمن معها حتّى انتهوا إلى المربد [1] ، فدخلوا من أعلاه، ووقفوا حتّى خرج عثمان بن حنيف فيمن معه، وخرج إلى عائشة من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم كلّهم بالمربد: عائشة ومن معها فى ميمنته، وعثمان ومن معه فى ميصرته. فتكلّم طلحة، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحلّ منه [2] ، ودعا إلى الطلب بدمه، وحثّهم عليه. وتكلّم الزّبير بمثل ذلك. فقال من فى ميمنة المربد: صدقا وبرّا! وقال من فى ميسرته: «فجرا، وغدرا، وأمرا بالباطل! بايعا عليّا ثم جاءا يقولان ما يقولان!» وتحاثى [3] الناس وتحاصبوا [4] . فتكلّمت عائشة، فحمدت الله وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنّون على عثمان، ويزرون [5] على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا فى إصلاح بينهم، فننظر فى ذلك فنجده بريّا تقيّا وفيّا،

_ [1] المربد: كان من أعظم محال البصرة أسواقها سككها. [2] فى رواية ابن جرير: وذكر عثمان وفضله والبلد وما استحل منه وعظم ما أتى إليه. [3] تحاثى الناس: تراموا التراب فرماه بعضهم فى وجه بعض ولم يذكر أصحاب الصحاح والنهاية واللسان والقاموس وشرحه هذا اللفظ فى مادته، وذكروا «استحثى» لهذا المعنى الذى هو ظاهر فى التفاعل، مثل «تحاصبوا» الآتى، وسيأتى «تحاثوا» قريبا، كما جاء هذا اللفظ عند ابن جرير وابن الأثير. [4] تحاصبوا: تراموا بالحصباء، أى الحصى. [5] يزرون: يعيبون.

ونجدهم فجرة غدرة كذبه، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلمّا قدروا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلّوا الدم الحرام والمال الحرام، والبلد الحرام، بلاترة [1] ولا عذر، ألا إنّ فيما ينبغى- لا ينبغى لكم غيره- أخذ قتلة عثمان، وإقامة كتاب الله، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ (الآية [2] ) . فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين: فقالت فرقة: صدقت والله وبرّت وجاءت بالمعروف، وقالت فرقة خلاف ذلك. فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا [3] ، فلمّا رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف، حتّى وقفوا فى المربد فى موضع الدبّاغين، وبقى أصحاب عثمان على حالهم، يتدافعون حتّى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة [4] . وأقبل حكيم بن جبلة، وهو على خيل ابن حنيف، فأنشب القتال، فأشرع أصحاب عائشة رماحهم، وأمسكوا ليمسك [5] ، فلم ينته ولم ينثن، وأصحاب عائشة كافّون [إلّا ما دافعوا عن أنفسهم [6]] ثمّ اقتتلوا على فم السّكّة، وأشرف أهل الدّور ممن كان له فى أحد

_ [1] الترة: الثأر. [2] من الآية 23 من سورة آل عمران. [3] أرهجوا: أثاروا الغبار. [4] وبقى بعضهم مع عثمان بن حنيف على فم السكة، كما ذكره ابن جرير ج 3 ص 482. [5] هذا هو المناسب للفعلين بعده، وعبارة ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 109 «وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه» . وفى المخطوطة وتاريخ ابن جرير: «ليمسكوا» . [6] الزيادة من تاريخ ابن جرير.

الفريقين هوى، فرموا فى الأخرى بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا، حتّى انتهوا إلى مقبرة بنى مازن، فوقفوا بها مليّا [1] ، وثاب إليهم الناس، فحجز الليل بينهم. ورجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق [وباتوا يتأهبّون، وبات الناس يأتونهم، واجتمعوا بساحة دار الرزق [2]] . وأصبح عثمان فغاداهم [3] ، وخرج حكيم، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين بزغت الشمس إلى أن زالت، وقد كثر القتل فى أصحاب ابن حنيف، وفشت الجراحة فى الفريقين، ومنادى عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكفّ، فيأبون، حتّى إذا مسّهم الشرّ وعضّتهم الحرب نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح، فأجابوهم: وتداعوا [4] وكتبوا بينهم كتابا [5] على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة يسأل أهلها،

_ [1] مليا: زمنا طويلا. [2] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) . [3] غاداهم: أتاهم أفى وقت الغداة. [4] كذا فى المخطوطة، أى: دعا بعضهم بعضا. وعند الطبرى «تواعدوا» . وعند ابن الأثير «توادعوا» . [5] الكتاب- كما ذكره ابن جرير وغيره- هو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين، أن عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما فى يده، وأن طلحة والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما فى أيديهما، حتى يرجع أمين الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة، ولا يضار واحد من الفريقين الآخر فى مسجد ولا سوق ولا طريق ولا قرضة، بينهم عيبة مكفوفة، حتى يرجع كعب الخبر، فان رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير فالأمر أمرهما، وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته وإن شاء دخل معهما، وإن رجع أنهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان، فان شاء طلحة والزبير أقاما على طاعة على وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما، والمؤمنون أعوان الفالج منهما» .

فإن كان طلحة والزّبير أكرها على مبايعة علىّ خرج ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهم، وإن كانا لم يكرها على البيعة خرج طلحة والزّبير. فسار كعب [1] بن سور حتّى أتى المدينة، فقدمها يوم جمعة فسأل أهلها هل أكره طلحة والزّبير على بيعة علىّ أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة ابن زيد فإنه قال: اللهمّ إنّهما لم يبايعا إلّا وهما مكرهان. فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب وأبو أيّوب فى عدّة من الصحابة، منهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقالوا: اللهمّ نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله. وبلغ عليّا الخبر [2] ، فكتب إلى عثمان بن حنيف أنّهما لم يكرها على البيعة. فلمّا عاد كعب بن سور أمر عثمان بالخروج عن البصرة، فامتنع، واحتجّ بكتاب علىّ، فجمع طلحة والزّبير الرجال فى ليلة مظلمة ذات رياح ومطر، وقصدوا المسجد واقتتلوا، فقتل من أصحاب ابن حنيف أربعون رجلا، ودخل الرجال على ابن حنيف فأخرجوه [إليهما] [3] ، فما وصل وفى جهه شعرة، فاستعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة فى أمره، فأرسلت أن خلّوا سبيله، وبقى طلحة والزّبير بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس، واستتر من لم يكن معهما. وبلغ حكيم بن جبلة ما حلّ بعثمان [بن حنيف] [4] فقال: لست

_ [1] كان قاضى البصرة. [2] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» . [3] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» . [4] كذا جاء فى (ك) وتاريخ ابن الأثير. وسقط من (ن) .

ذكر مسير على إلى البصرة وما اتفق له فى مسيره ومن انضم إليه ومراسلته أهل الكوفة

أخاف الله إن لم أنصره. فجاء فى جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة- وكان بينه وبين عبد الله بن الزّبير محاورات [1]- ثمّ التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزّبير، وابن المحرّش [2] بحيال عبد الرحمن بن عتّاب، وحرقوص ابن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقتل حكيم وابنه وأخوه، وقتل ذريح، وأفلت حرقوص فى نفر من أصحابه وجىء إلى طلحة والزبير بمن كان فيهم ممن غزا المدينة، فقتلوا. وكانت هذه الوقعة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر من السنة وبايع أهل البصرة طلحة والزّبير. ذكر مسير على الى البصرة وما اتّفق له فى مسيره ومن انضمّ إليه ومراسلته أهل الكوفة قال: وكان علىّ رضى الله عنه قد تجهّز لقصد الشام لقتال معاوية، لما أظهر الخلاف عليه، كما تقدم، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزّبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك وأنهم يريدون البصرة سرّه ذلك، وقال: إن الكوفة فيها رجال [من] [3] العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عبّاس- رضى الله عنهما-:

_ [1] انظر المحاورات بين حكيم بن جبله وعبد الله بن الزبير عند ابن جرير وابن الأثير. [2] «ابن محرش» هكذا ضبطه بعض العلماء بالحاء المهملة والراء المشددة، وضبطه بعضهم بقوله «ابن المخترش» بالخاء المعجمة والتاء بعدها، واسمه: خويلد ابن عمرو بن صخر. [3] جاءت هذه الزيادة فى النسخة (ن) .

«إنّ الّذى سرّك من ذلك ليسوءنى، إنّ الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب على الّذى قد نال ما يريد، حتّى يكسر حدّته.» فقال علىّ: إنّ الأمر ليشبه ما تقول. وتهيّأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معه، فتثاقلوا فبعت إلى عبد الله بن عمر كميلا النّخعى [1] ، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: «إنّما أنا من أهل المدينة، وقد دخلوا فى هذا الأمر، فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم [وإن يقعدوا أقعد.» قال: فأعطنى كفيلا. قال: لا أفعل [2]] . فقال له علىّ: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتنى! دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى أهل المدينة وهم يقولون: «والله ما ندرى كيف نصنع؟ إنّ الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتّى يضىء!» فخرج من تحت ليلته، وأخبر أمّ كلثوم (ابنة علىّ، وهى زوجة عمر) بالّذى سمع وأنّه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علىّ ما خلا النهوض [3] . فأصبح علىّ فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشدّ من أمر طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية! قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام! فأتى السوق، وأعدّ

_ [1] كميل بن زيادة بن نهيك النخعى، كان شريفا مطاعا من رؤساء الشيعة، عاش حتى قتله الحجاج. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) كما جاءت عند ابن جرير وابن الأثير. وسقطت. من النسخة (ك) . [3] كان على رضى الله عنه قد قال لابن عمر حين دعاه إلى الخروج معه: «انهض معى» .

الظّهر [1] [والرّحال، وأعدّ] [2] لكل طريق طلّابا، وماج الناس، فسمعت أمّ كلثوم، فأتت عليّا فأخبرته الخبر [3] ، فطابت نفسه، وقال: «انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، وإنّه عندى ثقة» . فانصرفوا. ثم أتى عليّا الخبر بمسير طلحة والزّبير وعائشة من مكة نحو البصرة، فدعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم.» فتثاقلوا، فلمّا رأى زياد بن حنظله تثاقل الناس انتدب [4] إلى علىّ رضى الله عنه وقال له: من تثاقل عنك فإنّا نخفّ معك فنقاتل دونك. وقام أبو الهيثم [5] ابن التّيّهان وخزيمة بن ثابت. قال ابن الأثير [6] : «قال الحكم: ليس بذى الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيّام عثمان رضى الله عنه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر فى ترجمة [7] خزيمة بن ثابت

_ [1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) ، وعبارة ابن جرير: «ودعا بالظهر فحمل الرجال» ، وعبارة ابن الأثير: «وأعد الظهر والرجال» . [3] كذا جاء فى (ن) ، وفى (ك) : «بالخبر» . [4] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «ابتدر» . [5] أبوا الهيثم بن التيهان صحابى أنصارى، اسمه مالك، وله ترجمة فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة 2 ص 539 والاستيعاب ج 3 ص 368 والإصابة ج 3 ص 341 وأسد الغابة 4 ص 274. [6] فى الكامل ج 3 ص 113، وعبارته مأخوذة من ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 467. [7] ج 1 ص 417- 418 من الاستيعاب.

ذى الشهادتين [1] : (إنه شهد مع علىّ حرب الجمل وصفّين فدلّ على أنه هو، والله أعلم.) فأجابا عليّا إلى نصرته. وقال أبو قتادة الأنصارى لعلىّ: «يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلّدنى هذا السيف، وقد أغمدته زمانا، وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الّذين لم يألوا الأمة غشا، وقد أحببت أن تقدّمنى، فقدّمنى. قال [2] : ولما أراد علىّ المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزّبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة، فلمّا سار استخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمّر على المدينة سهل بن حنيف، وسار فى تعبئته الّتى كانت لأهل الشام، وذلك فى آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين. وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصرين متخففين فى تسعمائة، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه، وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها، فو الله لئن خرجت منها [3] لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا!» فسبّوه، فقال: «دعوه، نعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» . وسار حتّى انتهى إلى الرّبذة [4] ، فأتاه خبر سبقهم إلى البصرة، فأقام بها يأتمر ما يفعل.

_ [1] سمى خزيمة: «ذا الشهادتين» لأن النبى صلى الله عليه وسلم جعل شهادته كشهادة رجلين. [2] القائل ابن الأثير فى الكامل. [3] فى رواية ابن جرير الطبرى ج 3 ص 474: «لا ترجع إليها ولا يعود..» . [4] الربذة: قرية بين المدينة وفيد.

ذكر ارسال على إلى أهل الكوفة

ذكر ارسال على الى أهل الكوفة وعود رسله وإرسال غيرهم وما كان من إخراج أبى موسى الأشعرىّ عن الكوفة وانضمام أهل الكوفة إلى علىّ وما كان فى خلال ذلك من الأخبار قال: ولما أقام علىّ- رضى الله عنه- بالرّبذة أرسل منها محمد بن أبى بكر الصديق ومحمد بن جعفر رضى الله عنهم إلى أهل الكوفة، وكتب إليهم: «إنى قد اخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد، لتعود هذه الأمّة إخوانا» . فمضيا. وأقام بالرّبذة، وأرسل إلى المدينة، فأتاه ما يريد من دابّة وسلاح. ثم قام فى الناس فخطبهم وقال: إنّ الله تبارك وتعالى أعزّنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا إخوانا بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحقّ فيهم، والكتاب إمامهم، حتّى أصيب هذا الرجل بأيدى هؤلاء القوم الّذين نزغهم [1] الشيطان، لينزغ [2] بين هذه الأمّة، ألا وإنّ هذه لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنّه لا بد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن

_ [1] نزغهم: نخسهم ووسوس لهم. [2] ينزغ: يفسد.

هذه الأمّة ستفترق [1] على ثلاث وسبعين فرقة، شرّها فرقة تنتحلنى [2] ولا تعمل بعملى، وقد أدركتم ورأيتم [3] ، فالزموا دينكم، واهدوا بهديى، فإنه هدى نبيّكم، واتّبعوا سنّته، وأعرضوا عمّا أشكل عليكم حتّى تعرضوه على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، وبالقرآن حكما وإماما. قال: ثمّ أتاه جماعة من طيّىء، وهو بالرّبذة، فقيل له: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من يريد التسليم عليك. فقال: جزى الله كلّا خيرا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [4] . فلمّا دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا قال به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحب. فقال: «جزاكم الله خيرا! قد أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ووافيتم بصدقاتكم المسلمين» . فنهض سعيد بن عبيد الطائى فقال: «يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عن قلبه، وإنّى- والله- ما كلّ [5] ما أجد فى قلبى يعبّر عنه لسانى، وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح

_ [1] هذا مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد بن حنبل وأبو داود عن معاوية بن أبى سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون فى النار، وواحدة فى الجنة، وهى الجماعة» . انظر معالم السنن ج 4 ص 295. [2] تنتحلنى: تنتسب إلى. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الذى رواه ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير: «وقد أدركتهم ورأيتهم» . [4] من الآية 95 من سورة النساء. [5] كذا جاء عند الطبرى. وفى المخطوطة هذه العبارة: «وإنى والله ما أجد لسانى يعبر عما فى قلبى» .

لك فى السر والعلانية، وأقاتل عدوّك فى كل موطن، وأرى من الحقّ لك ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك» . فقال: «يرحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك» . [1] قال: ثم سار علىّ- رضى الله عنه- من الرّبذة، وعلى مقدّمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح، والراية مع ابنه محمد بن الحنفيّة، وعلىّ على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا، فلمّا نزل بفيد [2] أتته أسد وطيّىء، فعرّضوا عليه أنفسهم فقال: فى المهاجرين كفاية. وعرضت عليه بكر بن وائل أنفسها، فقال لها كذلك. قال: وانتهى إلى ذى قار [3] أتاه عثمان بن حنيف وليس فى وجهه شعرة [4]- وقيل: إنّه أتاه بالرّبذة- فقال: يا أمير المؤمنين بعثتنى ذا لحية وقد جئتك أمرد! قال: أصبت أجرا وخيرا!. وأقام بذى قار ينتظر جواب أهل الكوفة [5] . وكان من خبر محمد بن أبى بكر ومحمد بن جعفر أنّهما أتيا أبا موسى الأشعرىّ بكتاب علىّ، وقاما فى الناس بأمره، فلم يجابا بشىء، فلما أيسوا دخل ناس من أهل الحجا على أبى موسى فقالوا: ما ترى فى الخروج؟ فقال: «كان الرأى بالأمس ليس اليوم [6] ، إن

_ [1] زاد الطبرى وابن الأثير: «فقتل معه بصفين، رحمه الله» . [2] فيد: موضع فى منتصف الطريق بين العراق والحجاز. [3] ذوقار: موضع قريب من الكوفة، اشتهر عند العرب بوقعة مشهورة كانت بين بكر وكسرى. [4] كان محاربوه قد نتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه. [5] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير «أمسوا» . [6] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وفى تاريخ ابن جرير: «باليوم» .

الّذى تهاونتم به فيما مضى هو الذى جرّ عليكم ما ترون، إنّما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا» فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد، فأغلظا لأبى موسى، فقال لهما: «والله إنّ بيعة عثمان فى عنقى وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحدا حتّى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا» . فانطلقا إلى علىّ فأخبراه الخبر وهو بذى قار، فقال للأشتر وكان معه: «أنت صاحبنا فى أبى موسى والمعترض فى كل شىء، اذهب أنت وابن عبّاس فأصلح ما أفسدت» . فخرجا، فقدما الكوفة، فكلّما أبا موسى، واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فخطبهم أبو موسى فقال «أيّها الناس، إنّ أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الّذين صحبوه [فى المواطن] [1] أعلم بالله ورسوله ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقّا، وأنا مؤدّ إليكم نصيحة، كان الرأى ألّا تستخفّوا بسلطان الله، وألا تجترئوا على الله، وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتّى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة [منكم] [2] ، وهذه فتنة صمّاء [3] ، النائم [4] فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعى،

_ [1] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى. [2] الزيادة من رواية ابن جرير. [3] الفتنة الصماء هى التى لا سبيل إلى تسكينها، لأن الأصم لا يسمع النداء فلا يقلع عما بفعله: وقيل: هى كالحية الصماء التى لا تقبل الرقى. [4] هذا وما يتصل به بعده مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، وسيأتى ذكره قريبا.

فكونوا جرثومة [1] من جراثيم العرب، فأغمدوا السّيوف، وأنصلوا [2] الأسنّة، واقصعوا الأوتار، وآووا [3] المظلوم والمضطهد، حتّى يلتئم هذا الأمر، وتنجلى هذه الفتنة» . فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى علىّ، فأخبراه الخبر. فأرسل ابنه الحسن وعمّار بن ياسر، رضى الله عنهما، وقال لعمّار: انطلق فأصلح ما افسدت. فأقبلا حتّى دخلا مسجد الكوفة، فكان أوّل من رآهما مسروق [4] بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا [5] ! قال: فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولا صبرتم فكان خيرا للصابرين [6] !. فخرج أبو موسى فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار قال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤنى! فقطع الحسن عليهما [الكلام [7]] ، وأقبل على أبى موسى فقال له: «لم تثبط

_ [1] الجرثومة: الأصل. [2] انصلوا الأسنة: انزعوا أسنة الرماح، أى: أخرجوا الأسنة من أماكنها إبطالا للقتال. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخ ابن جرير وابن الأثير، أى: ضموه إليكم. وحوطوه بينكم. وفى النسخة (ك) : «وانصروا» . [4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير والقاموس والإصابه ج 3 ص 492 حيث ترجمته. وفى المخطوطة: «المسروق» . [5] أبشار: جمع بشر، و «بشر» اسم جنس جمعى واحده: بشرة، وهى ظاهر الجلد. [6] مأخوذ من قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ الآية 126 من سورة النحل. [7] الزيادة من الكامل لابن الأثير.

الناس عنّا؟ فو الله ما أردنا إلّا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شىء!» قال: صدقت، بأبى أنت وأمّى! ولكن» المستشار مؤتمن [1] ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشى، والماشى خير من الراكب [2] » وقد جعلنا الله إخوانا، وحرّم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمّار، وسبّه، وقام فقال: يا أيّها الناس إنّما قال له وحده «أنت فيها قاعدا خير منك قائما» !. فقام رجل من بنى تميم، فسبّ عمّارا وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا!. وثار زيد بن صوحان وأمثاله، وثار الناس، وقام زيد على باب المسجد، ومعه كتاب من عائشة إليه تأمره بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: «أمرت أن تقرّ فى بيتها [3] ، وأمرنا أن نقاتل حتّى

_ [1] «المستشار مؤتمن» حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه أمين على ما استشير فيه. [2] هذا الحديث رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، فقد رواه البخارى عن أبى هريرة فى الحديثين 6654، 6655، ورواه مسلم عن أبى هريرة وأبى بكرة، انظر شرح النووى ج 18 ص 8- 9، وروى الترمذى أن سعد بن أبى وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنها ستكون فتنة..» ثم عقبة بقوله «قال أبو عيسى: وفى الباب عن أبى هريرة وخباب بن الأرت وأبى بكرة» وابن مسعود وأبى واقد وأبى موسى وخرشة، وهذا حديث حسن» ج 9 ص 48- 49. [3] يشير إلى قول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ.

لا تكون فتنة [1] ، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به!» . فقال له شبث بن ربعىّ: يا عمانىّ [2] ، سرقت بجلولاء [3] فقطعت يدك! وعصيت أمّ المؤمنين [فقتلك الله [4]] !. وتهاوى الناس. قام أبو موسى فقال: أيّها الناس، أطيعونى، وكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوى إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف إنّ الفتنة إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت بيّنت [5] وإنّ هذه الفتنة باقرة [6] كداء البطن [7] ، تجرى بها [8] الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور، تذر الحكيم وهو حيران كابن أمس، شيموا [9] سيوفكم، واقصدوا [10] رماحكم، وقطّعو أوتاركم والزموا بيوتكم، خلّوا قريشا إذ أبوا إلّا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم [11] ، استنصحونى ولا تستغشونى، أطيعونى يسلم لكم دينكم،

_ [1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ*. [2] قال ابن جرير وابن الأثير: زيد من «عبد القيس» وهم يسكنون عمان. [3] جلولاء: قرية بالعراق كانت بها وقعة مشهورة على الفرس المسلمين. [4] الزيادة من أبن جرير. [5] أى أنها إذا أقبلت شبهت على القوم وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها ويركبوا منها مالا يجوز، فاذا أدبرت وانقضت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ. [6] كذا رواها ابن جرير فى تاريخة، وقال صاحب النهاية: فى حديث أبى موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيأتى على الناس فتنة باقرة تدع الحليم حيران» أى: واسعة عظيمة. وفى المخطوطة: «فاقرة» . [7] فى النهاية: «إن هذه لفتنة باقرة كداء البطن لا يدرى أنى يؤتى له» أى أنها مفسدة للدين مفرقة للناس وشبهها بداء البطن لأنه لا يدرى ما هاجه وكيف يداوى ويتأتى له. [8] كذا رواها ابن جرير، وفى المخطوطة: «به» . [9] شيموا: اغمدوا. [10] اقصدوا: اكسروا. [11] فى تاريخ الطبرى: «العلم بالإمرة» .

ودنياكم ويشقى بجر هذه الفتنة من جناها. فقام زيد، فشال يده المقطوعة، فقال: يا عبد الله بن قيس [1] ردّ الفرات عن أدراجه، اردده من حيث يجىء حتّى يعود كما بدأ فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه، سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ!. فقام القعقاع بن عمرو [2] فقال: «إنّى لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ لكم أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الحقّ لو أنّ إليه سبيلا، وأمّا ما قال زيد فزيد عدوّ هذا الأمير فلا تسنصحوه، والقول الّذى هو الحق أنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس، وتزع [3] الظالم، وتعزّ المظلوم وهذا أمير المؤمنين ملىء [4] بما ولى، وقد أنصف فى الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع» . وقال عبد خير الخيوانى: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير عليّا؟ قال: نعم! قال: هل أحدث علىّ ما يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدرى. قال: «لا دريت! نحن نتركك حتّى تدرك! هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة؟ إنّما الناس أربع فرق: علىّ

_ [1] عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعرى. [2] القعقاع بن عمرو التميمى كان من الصحابة والفرسان. [3] هكذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «تزع» بمعنى: تكف وتمنع وتزجر وفى المخطوطة «ترع» . [4] ملىء: مضطلع ناهض.

بظهر الكوفة، وطلحة والزّبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لاغناء بها ولا يقاتل بها عدوّ.» فقال أبو موسى: أولئك خير الناس وهى فتنة! فقال عبد خير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان بن صوحان: إنّه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال، يدفع الظلم، ويعزّ المظلوم، ويجمع الناس، وهذا وليكم [1] وهو يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه فى الدين، فمن نهض إليه فإنّا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمّار: «هذا ابن عمّ رسول الله عليه الصلاة والسلام، يستنفركم [2] إلى زوجة رسول الله وإلى طلحة والزّبير، وإنّى أشهد أنها زوجته فى الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا فى الحقّ، فقاتلوا معه» . فقال له رجل: أنا [3] مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له! فقال له الحسن: اكفف عنّا [يا عمّار] [4] فإنّ للإصلاح أهلا!. وقام الحسن رضى الله عنه، فقال: أيّها الناس أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، وو الله لأن يليه أولو النّهى أمثل فى العاجل والآجل، وخير فى العاقبة، اجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإنّ أمير المؤمنين يقول: «قد خرجت مخرجى هذا ظالما أو مظلوما، وإنى أذكّر

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى وابن الأثير «واليكم» . [2] يستنفركم: يستنصركم. [3] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى «لهو» [4] الزيادة من ابن جرير.

الله رجلا رعى حقّ الله إلّا نفر، فإن كنت مظلوما أعاننى، وإن كنت ظالما أخذ منى، والله إنّ طلحة والزّبير لأوّل من بايعنى وأوّل من عذر فهل استأثرت بمال أو بدّلت حكما؟» فانفروا، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا، وتكلم عدىّ بن حاتم، وهند بن عمرو، وحجر بن عدىّ، وحثّوا الناس على اللحاق بعلىّ وإعانته، فأذعن الناس للمسير. فقال الحسن رضى الله عنه: «أيّها الناس، إنّى غاد، فمن شاء منكم أن يخرج على الظّهر [1] ، ومن شاء فى الماء» ، فنفر معه تسعة آلاف، أخذ فى البرّ ستّة آلاف ومائتان، وبقيّتهم فى الماء. وقيل: إنّ عليّا- رضى الله عنه- أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمّار- إلى الكوفة، فدخلها والناس فى المسجد، وأبو موسى يخطبهم ويثبّطهم، والحسن وعمّار معه فى منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمرّ بقبيلة فيها جماعة إلّا دعاهم ويقول: اتّبعونى إلى القصر، فانتهى إلى القصر فى جماعة من الناس، فدخلوا (وأبو موسى فى المسجد يخطبهم ويثبّطهم، والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك وتنحّ عن منبرنا! وعمّار ينازعه) فأخرج الأشتر غلمان أبى موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: «يا أبا موسى، الأشتر قد دخل القصر، فضربنا، وأخرجنا» فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: «اخرج

_ [1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب.

لا أمّ لك! أخرج الله نفسك!» فقال: أجّلنى هذه العشيّة. فقال هى لك ولا تبيتنّ فى القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبى موسى، فمنعهم الأشتر، قال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس فى العدد المذكور. وقيل: إنّ عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، قال أبو الطّفيل: سمعت عليّا رضى الله عنه يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم، فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا!. وكان على كنانه وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرّياحى [1] ، وعلى سبع [2] قيس سعد بن مسعود الثّقفى عمّ المختار [3] ، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج [4] الذّهلى [5] ، وعلى مذحج والأشعريين حجر بن عدىّ، [وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم لأزدى، فقدموا على علىّ رضى الله عنه [6]] بذى قار، فلقيهم فى ناس فرحّب بهم، وقال: «يا أهل الكوفة، وليتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم،

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة وغيرها، والمعرف أن «معقل بن يسار» صحابى سكن البصرة» وحفر نهر معقل بها، ويقال له «المزنى» لأنه بن مزينة، وأن «الرياحى» هو «معقل بن قيس الرياحى» من تميم، وهو المذكور فى أمراء على يوم الجمل، وانظر الإصابة ج 3 ص 499. [2] روى الطبرى فى تاريخة ج 3 ص 513 أنه «خرج إلى على اثنا عشر ألف رجل وهم أسباع ... » ثم ذكر «سبع قيس» و «سبع بكر بن وائل» ، و «سبع مذحج» و «سبع بجيلة» . [3] المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى. [4] كذا جاء فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وفى المخطوطة «وعلة بن مجدوع» [5] من ذهل بن ثعلبة، من بكر. [6] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) .

ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة فى الصلح وإجابتهم إليه وانتظام الصلح وكيف أفسده قتلة عثمان

وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الّذى نريد، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد، إن شاء الله تعالى» . قال: وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النّفّار زيد بن صوحان والأشتر وعدىّ بن حاتم والمسّيب بن نجبه ويزيد ابن قيس وأمثال لهم ليسوا دونهم [إلّا أنهم] [1] لم يؤمّروا، منهم حجر بن عدىّ. ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة فى الصلح وإجابتهم إليه وانتظام الصلح وكيف أفسده قتلة عثمان قال: وأقام علىّ- رضى الله عنه- بذى قار، فأرسل القعقاع بن عمرو إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين وادعهما إلى الألفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة. (وكان القعقاع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم) . فخرج حتّى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال: أى أمّه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلد؟ قالت: أى بنىّ، الإصلاح بين الناس. قال: فابعثى إلى طلحة والزّبير حتّى تسمعى كلامى وكلامهما، فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إنّى سألت أمّ المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت الإصلاح، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان

_ [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .

أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبرانى ما وجه هذا الإصلاح فو الله لئن عرفناه ليصلحنّ ولئن أنكرناه لا يصلح [1] . قالا: قتلة عثمان، فإنّ هذا إن ترك كان تركا للقرآن! قال: «قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم! قتلتم ستّمائة رجل فغضبت لهم ستة آلاف واعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فارس، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والّذين اعتزلوكم فأديلو عليكم فالّذى حذرتم وقويتم [2] به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكرهون [3] ، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير!» قالت عائشة فما تقول أنت قال «أقول إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلا خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإن أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ وذهاب هذا الثأر [4] ، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خيركما كنتم، ولا تعرّضونا للبلاء فتتعرّضوا له فيصرعنا وإيّاكم، وايم الله إنّى لأقول هذا القول وأدعوكم إليه وإنى لخائف أن لا يتمّ حتّى يأخذ الله حاجته من هذه الأمّة التى قلّ

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وجاء فى (ك) : «لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح» . [2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وعند ابن جرير: «قربتم» ، وتأتى بمعنى «طلبتم» . [3] قال ابن كثير فى البداية والنهاية ج ص 237: يعنى أن الذى تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة ولكنه يترتب عليه مفسدة هى أربى منها. [4] هكذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 503، وجاء فى المخطوطة: «المال»

متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذى حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النّفر الرجل ولا القبيلة [الرجل] [1] قالوا: «قد أصبت وأحسنت، فارجع، فإن قدم علىّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر» . فرجع إلى علىّ، فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه [2] . وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علىّ بذى قار، قبل رجوع القعقاع، لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أىّ حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذى عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتالهم على بال. فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علىّ فأخبروه بخبرهم. ورجعت وفود أهل البصرة برأى أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة. فقام علىّ رضى الله عنه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمّة والجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الّذى يليه، ثم الّذى يليه، ثم حدث هذا الحدث الّذى جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه) وعلى الفضيلة (التّى منّ الله

_ [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير وجاء فى البداية والنهاية: «ولا القبيلة القبيلة» . [2] جاء فى البداية والنهاية بعد هذا: «وأرسلت عائشة إلى على تعلمه أنها جاءت الصلح، وفرح هؤلاء وهؤلاء» .

ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم وما اتفقوا عليه من المكيدة التى اقتضت نقض الصلح ووقوع الحرب

بها) ، وأرادوا ردّ الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ثم قال: ألا وإنّى راحل غدا، فارتحلوا، ولا يرتحلنّ معنا أحد أعان على عثمان بشىء من أمور الناس، وليغن السفهاء عنّى أنفسهم. والله أعلم بالصواب. ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم وما اتفقوا عليه من المكيدة التى اقتضت نقض الصلح ووقوع الحرب قال: ولما قال علىّ رضى الله عنه مقالته بذى قار، وأمر ألّا يرتحل معه أحد ممّن أعان على عثمان بشىء اجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدى بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسى وشريح بن أبى أوفى [1] والأشتر، فى عدّة [2] ممّن سار إلى عثمان أو رضى بسير من سار إليه وجاء معهم المصريون وابن السوداء [3] وخالد بن ملجم، فتشاوروا فقالوا «ما الرأى؟ هذا علىّ وهو والله أبصر بكتاب الله ممّن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم [4] والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه [5] ورأوا قلّتنا فى كثرتهم؟ وأنتم والله ترادون،

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخى الطبرى وابن الأثير «شريح بن أوفى» والخلاف فى هذا الاسم ملحوظ فى كثير من الكتب. [2] ذكر ابن كثير أنهم اجتمعوا «فى ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابى وسيذكر المؤلف هذا العدد قريبا فى كلام ابن السوداء. [3] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ. [4] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3، ص 507، وفى المخطوطة (سواهم) [5] يقال «شامت فلانا» إذا قاربته وتعرفت ما عنده.

وما أنتم بالحى [1] من شىء!» فقال الأشتر: «قد عرفنا رأى طلحة والزّبير فينا، وأمّا رأى علىّ فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأى الناس فينا واحد، فان يصصلحوا مع علىّ فعلى دمائنا، فهلمّوا بنا نثب على علىّ فنلحقه بعثمان، فتعود فتنه يرضى منّا فيها بالسكون.» فقال عبد الله بن السوداء «بئس الرأى والله [رأيت] [2] ، أنتم يا قتلة عثمان بذى قار ألفان وخمسمائة، أو نحو من ستّمائة، وهذا ابن الحنظليّة- يعنى طلحة- وأصحابه فى نحو خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا!» فقال علباء بن الهيثم «انصرفوا بنا عنهم، ودعوهم، فإن قلّوا كان لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ودعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتّى يأتيكم فيه من تقوون به، وامتنعوا من الناس.» فقال ابن السوداء «بئس والله ما رأيت، ودّ والله الناس أنّكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطّفكم الناس وكل شىء!» فقال عدىّ بن حاتم: «والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله فى خوض الحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإنّ لنا عتادا من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا، وأن أمسكتم أمسكنا!» فقال ابن السوداء: أحسنت! وقال سالم بن ثعلبة: «من كان أراد بما أتى الدنيا فإنى لم أرد ذلك، وو الله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شىء [3]

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، 3 ص 120، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «بأنجى» . [2] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ج 3 ص 121، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 3، ص 508 «لئن لقيتم غدا لا أرجع إلى بيتى» .

ذكر مسير على رضى الله عنه ومن معه من ذى قار إلى البصرة ووقعه الجمل

وأحلف بالله إنكم لتفرقون الناس بالسيف [1] فرّق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف!» فقال ابن السوداء: قد قال قولا. وقال شريح بن أبى أوفى: «أبرموا أمركم قبل أن يخرجوا [2] ، ولا تؤخروا أمرا ينبغى لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغى لكم تأخيره فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، ولا أدرى ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا!» وقال ابن السوداء: «يا قوم، إن عزّكم فى خلط الناس، فإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع، ويشغل الله عليّا وطلحة والزّبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون!» . فأبصروا الرأى، وتفرّقوا عليه، والناس لا يشعرون. ذكر مسير على رضى الله عنه ومن معه من ذى قار إلى البصرة ووقعه الجمل قال: ولما أصبح علىّ رضى الله عنه سار من ذى قار وسار معه الناس حتّى نزل على عبد القيس، فانضمّوا إليه، ثم سار فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزّبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، وذلك فى النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، [حكاه ابن الأثير [3] ،

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «لتفرقون السيف» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير «تخرجوا» ، وعند ابن الأثير «تحرجوا» . [3] فى الكامل ج 3 ص 121.

وقال أبو جعفر [1] : كانت وقعة الجمل فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخر سنة ست وثلاثين] [2] . وسبق علىّ أصحابه، وهم يتلاحقون به، فلما نزل قال أبو الجرباء للزّبير: الرأى أن تبعث [الآن] [3] ألف فارس إلى علىّ قبل أن يتوافى إليه أصحابه. فقال: «إنّا لنعرف أمور الحرب، ولكنّهم أهل دعوتنا، وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة! وقد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصلح، فأبشروا، واصبروا.» . وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزّبير: انتهزا بنا هذا الرجل، فإنّ الرأى فى الحرب خير من الشدّة) ! فقالا: « [إنّا وهم مسلمون] [4] ، إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو تكون فيه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه [اليوم] [5] ، وهم علىّ ومن معه، وقلنا نحن: لا ينبغى لنا أن نتركه [اليوم] [6] ولا نؤخره، وقد قال علىّ: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كاد يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين [بإيثار] [7] أعمّها منفعة.

_ [1] ابن جرير الطبرى فى تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 539 قد أتبعه بقوله «فى قول الواقدى» ، وما حكاه ابن الأثير منقول أيضا عن أبى جعفر الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 514 حيث قال: «فالتقوه عند موضع قصر عبيد الله بن زياد فى النصف من جمادى الآخر سنة 36 يوم خميس» . [2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) . [3] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [4] الزيادة من ابن جرير. [5] الزيادة من ابن جرير. [6] الزيادة من ابن جرير. [7] الزيادة من ابن جرير.

وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق من هؤلاء القوم. فأجاباه بنحو ما تقدم. قال: ولما نزل علىّ ونزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدى أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر على، فخرجا فى عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر علىّ، فقال الناس من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، إنما يرسل علىّ إليهم يكلمهم ويدعوهم. قال: وقام علىّ فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقرى فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علىّ: على الإصلاح وإطفاء النار [1] لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبوا. قال: تركناهم ما تركونا. وقال: فإن لم يتركونا. قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم فى هذا مثل الذى عليهم؟ قال: نعم. وقام إليه أبو سلام [2] الدالانى فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال نعم، إنّ الشىء إذا كان لا يدرك فالحكم [2] فيه أحوطه وأعمّه نفعا. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ قال: إنى لأرجو ألا يقتل منا ومنهم أحد نقّى قلبه لله إلّا أدخله الله الجنة.. وقال فى خطبته: «أيّها

_ [1] جاء فى رواية ابن جرير «النائرة» هى: (الفتنة) ، ونائرة الحرب: شرها وهيجها. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «أبو سلامة» . [3] كذا جاء عند ابن جرير، وجاء عند ابن الأثير: «أن الحكم» ، وجاء فى المخطوطة «أن الحلم» .

الناس املكوا [أنفسكم، وكفّوا] [1] عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإيّاكم أن تسبقونا، فإن المخصوم غدا من خصم اليوم» . وبعث إليهم حكيم بن سلام [2] ومالك بن حبيب، يقول: إن كنتم على ما فارقتم [عليه] [3] القعقاع فكفّوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين، قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون. وكان الأحنف قد بايع عليّا بالمدينة بعد قتل عثمان، لأنه كان قد عاد من الحج فبايع [4] ، فلما قدم طلحة والزّبير اعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف (والجلحاء من البصرة على فرسخين) فقال لعلىّ: إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنّك إن ظفرت عليهم غدا قتلت رجالهم وسبيت نساءهم! قال: «ما مثلى يخاف هذا منه! وهل يحلّ هذا إلّا لمن تولّى وكفر [5] ؟ وهم قوم مسلمون.» قال: اختر منّى واحدة من اثنتين: إمّا أن أقاتل معك، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. [قال: اكفف عنّا عشرة آلاف سيف.] [6] فرجع إلى الناس، فدلهم إلى القعود، ونادى: «يا آل خندف» ، فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل [7] تميم» ،

_ [1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 509. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «حكيم بن سلامة» . [3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير، وسوف يأتى فى الرد ما يؤيده. [4] انظر ما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 122 من قول الأحنف. [5] زاد ابن جرير فى روايته: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. [6] ثبتت هذه الجملة فى النسخة «ن» كما جاء عند ابن الأثير، سقطت من النسخة ك. [7] جاء فى المخطوطة والكامل «يا آل» بثبوت الهمزة الممددة فى هذا الموضع والموضعين التاليين له، وجاء فى تاريخ ابن جرير (بأل) بلا همزة فى المواضع الثلاثة

فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل سعد» ، فلم يبق سعدىّ إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علىّ دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين. قال: ولما تراءى الجمعان خرج الزّبير على فرس وعليه سلاح، فقيل لعلىّ: هذا الزّبير فقال: أما إنّه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر وخرج طلحة، فخرج إليهما علىّ، [فدنا منهما] [1] حتى، اختلفت أعناق دوابّهم، فقال لعمرى لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتّقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [2] ، ألم أكن أخاكما فى دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دماءكما؟ فهل من حدث أحلّ دمى؟ فقال طلحة: اللبث [3] على دم عثمان. فقال علىّ رضى الله عنه: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ [4] يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أتيت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبأت عرسك فى البيت! أما بايعتنى؟ قال: بايعتك والسيف على عنقى!. ثم قال للزّبير: ما أخرجك؟ قال أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منّا. فذكّره علىّ رضى الله عنه بأشياء، ثم قال: أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى غنم، فنظر إلىّ، فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبى طالب زهوه! فقال لك رسول الله عليه الصلاة

_ [1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 415. [2] من الآية 92 من سورة النحل. [3] وفى تاريخى ابن جرير وابن الأثير: ألبت» . [4] من الآية 25 فى سورة النور.

والسلام: «إنّك لتقاتله وأنت ظالم له» ؟! فقال: اللهم نعم ولقد كنت أنسيتها ولو ذكرت ما سرت مسيرى هذا، والله لا أقاتلك أبدا!. وقيل: إنّه قال له: كيف أرجع وقد التقت حلقتا البطان [1] ؟ هذا والله العار الّذى لا يغسله الدهر! قال يا زبير ارجع بالعار خير من أن ترجع بالعار وبالنار. فرجع الزّبير إلى عائشة فقال لها: يا أمّاه، ما شهدت موطنا إلّا ولى فيه رأى وبصيرة غير موطنى هذا! قالت: وما تريد أن تصنع قال: أدعهم وأذهب، ثم قال لابنه عبد الله: عليك بحربك [2] وأما أنا فأرجع إلى بيتى. فقال له: ما يردّك؟ قال: ما لو علمته لكسرك [3] . فقال له ابنه: بل رأيت عيون بنى هاشم تحت المغافر [4] فراعتك، وعلمت أنّ سيوفهم حداد تحملها فتية أنجاد. فغضب الزّبير ثم قال: أمثلى يفزّع بهذا؟ وأحفظه ذلك، وقال: إنّى حلفت إلّا أقاتله. قال: فكفّر عن يمينك وقاتله، فأعتّق غلامه مكحولا، وقيل: أعتق سرجس. ففى ذلك يقول عبد الرحمن بن سليمان التميمى: لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان

_ [1] البطان: الحزام الذى يجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا فقد بلغ الشد غايته، قال صاحب لسان العرب: ومن أمثال العرب التى تضرب للامر إذا اشتد: «التقت حلقتا البطان» . وفى مجمع الأمثال ج 2 ص 135: «يضرب فى الحادثة إذا بلغت النهاية» . [2] فى النسخة (ك) : «بحربك» ، وفى النسخة (ن) : (بحزبك) . [3] صرفك عن مرادك. [4] المغافر جمع المغفر أو المغفرة، وهو ما يلبسه الدارع على رأسه فى الحرب من الزرد ونحوه.

(فى أبيات أخر) . وقيل: إن الزّبير نزع سنان رمحه، وحمل على جيش علىّ، فقال علىّ لأصحابه: أفرجوا له فإنه قد أغضب، وإنّه منصرف عنكم فقالوا: إذن والله لا نبالى بعد رجوعه بجمعهم وما كنا نتّقى سواه. وقيل: إنّ الزّبير إنّما عاد عن القتال لمّا سمع أنّ عمّار بن ياسر مع علىّ، فخاف أن يقتل عمار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية» فردّه ابنه عبد الله [1] . وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزّبير وفرقة مع علىّ، وفرقة لا ترى القتال، منهم الاحنف بن قيس وعمران بن حصين. وجاءت عائشة فنزلت فى مسجد الحدّان [2] فى الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إنّ الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنّما هى بحور تدفّق، فأطعنى ولا تشهدهم واعتزل بقومك، فإنى أخاف الّا يكون صلح، ودع مضر ورببعة فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصلح أردنا، وإن اقتتلا كنّا حطاما عليهم غدا. (وكان كعب فى الجاهلية نصرانيّا) فقال صبرة: أخشى أن يكون فيك شىء من النصرانيّة! أتأمرنى أن أغيب عن إصلاح بين

_ [1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 3 ص 519 وابن الأثير فى تاريخه ج 3 ص 122 قول على للزبير بن العوام: «قد كنا نعدك من بنى عبد المطلب حتى بلغ ابنك ففرق بيننا وبينك» .. وقال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 6: ولم يزل الزبير مواليا لعلى متمسكا بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب، فنزع به به عرق من الأم، ومال إلى تلك الجهة، وانحرف عن هذه، ومحبة الوالد لولده معروفة فانحرف الزبير بانحرافه. [2] الحدان: إحدى محال البصرة القديمة، سميت باسم قبيلة من الأزد.

الناس، وأن أخذل أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير إن ردّوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان، والله لا أفعل هذا أبدا!. فأطبق أهل اليمن على الحضور. وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد فى الرّباب (وهم تيم وعدىّ وثور وعكل، بنو عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس، مضر، وضبّة ابن أدّ بن طابخة) [1] ، وحضر أيضا أبو الجرباء فى بنى عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع فى بنى حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السّلمى على سليم، وزفر بن الحارث فى بنى عامر و [أعصر بن النعمان على] [2] غطفان، ومالك بن مسمع على بكر، والخرّيت بن راشد على بنى ناجية، وعلى اليمن ذو الاجرة الحميرى. قال: ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعها وهم لا يشكّون فى الصلح، [ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون فى الصلح،] [3] ونزلت اليمن أسفل منهم وهم كذلك، ونزلت عائشة فى الحدّان، والناس بالزّابوقة على رؤسائهم. هؤلاء- وهم أصحاب عائشة- ثلاثون ألفا، وهؤلاء- وهم أصحاب علىّ- عشرون ألفا.

_ [1] قد يطلق الفظ «الرباب» على بنى عبد مناة بن أد، وكانوا قد تحالفوا مع بنى عمهم ضبة بن أد على بنى عمهم تميم بن مر بن أد، وقد يطلق لفظ «الرباب» عاما لهؤلاء المتحالفين من بنى عبد مناة وضبة. وهم خمس قبائل صاروا فى تجمعهم كاليد الواحدة. وقد سبق فى نهاية الأرب ج 2 ص 438 أنهم «سموا الرباب لانهم غمسوا أيديهم فى ربّ. إذ تحالفوا على بنى تميم» .. ويرى بعض العلماء أنهم سموا «ربابا» لأنهم كانوا فرقا وجماعات، فيكون «الرباب» جمع «الربة» بمعنى الفرقة. [2] الزيادة من ابن جرير. [3] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 516- 517 وابن الأثير 3- 123.

وردّوا حكيما ومالكا [1] : «أنّا على ما فارقنا عليه القعقاع» . ونزل علىّ بحيالهم، ونزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلّا الصلح، فخرج علىّ وطلحة والزّبير فتواقفوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك. وبعث علىّ رضى الله عنه من العشىّ عبد الله بن عباس إلى طلحة والزّبير، وبعثا إليه محمد بن طلحة، وأرسل علىّ وطلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهم بأمر الصلح، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية الّتى أشرفوا عليها والصلح، وبات الّذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم أحد، فخرجوا متسلّلين، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم فى وجوه أصحابهم الّذين أتوهم، وذلك فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة. قال: وبعث طلحة والزّبير إلى الميمنة وهم ربيعة أميرا عليها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتّاب، وثبتا فى القلب، وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا! قالا وقد علمنا أنّ عليّا غير منته حتّى يسفك الدّماء وأنّه لن يطاوعنا!

_ [1] سبق أن عليا «بعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب. يقول: إن كنتم عن ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر» فالرادون هنا هم قوم عائشة وطلحة والزبير الذين بعث إليهم على، وهم يردون على تلك الرسالة، فخرج الرسولان من عندهم حتى قدما على على بهذا الرد الذى ذكره المؤلف هنا، فارتحل على حتى نزل بحيالهم..

فردّ أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم، فسمع علىّ وأهل الكوفة الصّوت- وقد وضع السّبئيّة رجلا قريبا منه- فلما قال علىّ ما هذا قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل، فركبوا، وثار الناس، فأرسل علىّ صاحب الميمنة إلى الميمنة، وصاحب الميسرة إلى الميسرة، وقال: لقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتّى يسفكا الدماء وأنهما لن [1] يطاوعانا. والسّبئيّة لا تفتر، ونادى علىّ فى الناس: كفّوا فلا شىء!. وكان من رأيهم جميعا فى تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتّى يبدءوا (يطلبون بذلك الحجّة) وألّا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا سلبا، ولا يرزءوا بالبصرة سلاحا ولا ثيابا ولا متاعا. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: «يا أمّ المؤمنين، أدركى الناس، فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح [2] بك» . فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهى على الجمل وكانت بحيث تسمع الغوغاء وقفت، واقتتل الناس وقاتل الزّبير، فحمل عليه عمّار بن ياسر، فجعل يحوزه [3] بالرّمح والزّبير كافّ عنه، وقال له: أتقتلنى يا أبا اليقظان [4] ؟ قال [5] : لا يا أبا عبد الله! وإنّما كفّ الزّبير عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «تقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية» ، ولولا ذلك لقتله.

_ [1] كذا جاء عند ابن جرير 3 ص 518، وابن الأثير ج 3 ص 124، وجاء فى المخطوطة «لم» . [2] كذا جاء فى رواية ابن جرير. وجاء فى المخطوطة: «أن يصلح» . [3] يحوزه: يسوقه. [4] أبو اليقظان: كنية عمار بن ياسر. [5] كذا جاء فى رواية ابن جرير، وجاء فى المخطوطة: «فيقول» .

قال: ثم اعتزل الزّبير الحرب وانصرف، وصليها [1] طلحة، فأصابه سهم غرب [2] شكّ رجله بصفحة الفرس، ثم دخل البصرة ومات بها. وسنذكر إن شاء الله أخباره وأخبار الزبير بعد نهاية وقعة الجمل. وانهزم القوم يريدون البصرة، فلمّا رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا وعادوا فى أمر جديد. فقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ بخطام الجمل: خل عن الجمل وتقدّم بالمصحف فادعهم إليه. (وناولته مصحفا من هودجها) فاستقبل القوم [بالمصحف] [3] ، والسّبئيّة أمامهم (يخافون أن يجرى الصلح) [1] ، فرشقوه رشقا واحدا، فقتلوه ورموا أمّ المؤمنين فى هودجها، فجعلت تنادى: «البقيّة البقيّة يا بنىّ!» ويعلو صوتها «الله الله! اذكروا الله والحساب!» فيأبون إلّا إقداما، فكان أوّل شىء أحدثته حين أبوا أن قالت: «أيّها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!» وأقبلت تدعو، فضجّ الناس بالدعاء، فسمع علىّ فقال: ما هذه الضّجّة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان! وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام: أن اثبتا مكانكما. وحرّضت الناس حين رأت القوم

_ [1] صليها: قاسى شدتها. [2] سهم غرب- بسكون الراء أو فتحها-: لا يعرف راميه. [3] الزيادة من ابن جرير.

يريدونها ولا يكفّون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت [1] مضر الكوفة، حتى زحم علىّ، فنخس قفا محمد ابنه، وكانت الراية معه، وقال له: احمل. فتقدّم حتّى لم يجد متقدّما إلّا على سنان رمح، فأخذ علىّ الراية من يده، وقال: يا بنىّ بين يدىّ. وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا [2] قدّام الجمل حتّى ضرسوا [3] ، والمجنّبات [4] على حالها لا تصنع شيئا، واشتدّت الحرب، فأصيبب زيد بن صوحان، وأخوه سيحان، وارتثّ [5] أخوهما صعصعة، فلما رأى علىّ ذلك بعث إلى ربيعة وإلى اليمن: أن اجمعوا من يليكم. فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علىّ فقال: ندعوكم إلى كتاب الله: فقالوا: كيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله؟ وقد قتل كعب بن سور داعى الله ورمته ربيعة رشقا واحدا فقتلوه! ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، فذكّرت أصحابها، فاقتتلوا، حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فاقتتلوا، وتزاحف الناس، فظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة: خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلمار رأى ذلك يزيد بن قيس

_ [1] القصف: الدفع الشديد. [2] اجتلدوا: تضاربوا بالسيوف. [3] ضرسوا: عضتهم الحرب. [4] هكذا جاء عند ابن جرير 3 ص 523 ولكل جيش من الجيشين مجنبتان، وهما: ميمنتة وميسرته. وجاء فى المخطوطة: «والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا» والتثنية لا تناسب الفعل «تصنع» . [5] ارتث الجريح: حمل من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح.

أخذها فثبتت فى يده. ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل على رايتهم وهم فى الميسرة زيد [1] وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: «اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا فى شبهة وعلى ريبة» [حتى] [2] قتل. واشتدّ الأمر حتّى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم، وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة. فلما رأى الشّجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرّفوا إذا فرغ الصبر. فجعلوا يقصدون الأطراف (الأيدى والأرجل) فما رؤى وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعا مقطوعة ورجلا مقطوعة! وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله. فنظرت عائشة عن يسارها، فقالت: من القوم عن يسارى؟ فقال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. قالت: يا آل غسّان حافظوا اليوم فجلادكم [3] الّذى كنّا نسمع به! وتمثّلت: وجالد من غسّان أهل حفاظها ... وهنب [4] وأوس جمالدت وشبيب

_ [1] هو زيد بن صوحان العبدى، أخو صعصعة وسيحان، انظر ترجمته فى الاستيعاب ج 1 ص 559 والإصابة ج 1 ص 582، 568. [2] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 525، وجاء فى المخطوطة» : «وقتل» . [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «جلادكم» . [4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخ ابن جرير، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 126 «وكعب» .

فكانت الأزد يأخذون [1] بعر الجمل فيشمّونه ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك!. وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يمينى؟ قالوا بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل: وجاءوا إلينا فى الحديد كأنّهم ... من العزّة القعساء [2] بكر بن وائل إنّما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا بنو ناجية. قالت: بخ بخ [3] ! سيوف أبطحيّة [4] قرشية! فجالدوا جلادا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة، فقالت: ويها [5] ! جمرة الجمرات [6] فلما رقّوا خالطهم بنو عدىّ بن عبد مناه، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدىّ خالصنا إخواننا، فأقاموا رأس الجمل، وضربوا ضربا ليس بالتعذير [7] ، ولا يعدلون بالتّطريف، حتّى

_ [1] فى النسخة (ك) : «يأخذون» ، وفى النسخة» (ن) : «تأخذ» . [2] القعساء: الثابتة. [3] بخ: كلمة للمدح والاستحسان وإظهار الرضا، وتكرر للمبالغة فى ذلك. [4] الأبطح: مكان بمكة بين جبليها: أبى قبيس والأحمر، ويقال لمن ينزلون فى هذا المكان من قريش «قريش البطاح» . [5] ويها: كلمة إغراء وتحريض. [6] فى خزانة الأدب ج 1 ص 36: واعلم أن جمرات العرب ثلاث: وهم بنو نمير بن عامر وبنو الحارث بن كعب وبنو ضبة بن أد، والتجمير فى كلام العرب التجميع، وإنما سموا بذلك لأنهم متوافرون فى أنفسهم لم يدخل معهم غيرهم. [7] إذا قصر قوم فى أمر ولم يبالغوا فيه قيل: «عذروا» بتشديد الذال، والتعذير مصدر، وهو منفى هنا.

إذا كثر ذلك وظهر فى العسكرين جميعا راموا الجمل، وقالوا: لا يزول القوم أو يصرع الجمل. وصارت مجنّبتا علىّ إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضا. وأخذ عميرة بن يثربىّ رأس الجمل، وكان قاضى البصرة، فقال علىّ من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملى المرادى، فاعترضه ابن يثربىّ، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربىّ، ثم حمل علباء بن الهيثم، فقتله ابن يثربىّ، وقتل سيحان بن صوحان، وارتثّ صعصعه [1] ، فنادى عمار بن ياسر ابن يثربىّ: لقد عذت بحريز [2] وما إليك من سبيل فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إلىّ. فترك الزّمام فى يد رجل من بنى عدىّ وخرج، حتّى إذا كان بين الصفّين تقدّم عمّار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وعليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف، وهو أضعف من بارزه، فاسترجع [3] الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه! فضربه ابن يثربىّ، فاتّقاه عمّار بدرقته [4] ، فنشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، وأسفّ [5] عمّار لرجليه فضربه فقطعهما، فوقع على استه وأخذ أسيرا، فأتى به إلى علىّ، فقال: استبقنى! فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ وأمر به فقتل، وقيل: إنّ المقتول عمرو بن يثربىّ [6]

_ [1] انظر ما سبق قريبا. [2] عذت: التجأت. حريز: حصين. [3] استرجع الناس: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. [4] الدرقة: قطعة من جلد يحملها المحارب للوقاية من السيف، كالترس. [5] أسف: دنا. [6] انظر ترجمة عمرو بن يثربى فى الإصابة ج 3 ص 119.

وإنّ عميرة [1] بقى حتّى ولى قضاء البصرة من قبل معاوية. قال: ولما قتل ابن يثربىّ ترك العدوىّ الزّمام بيد رجل من بنى عدىّ، وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلىّ، فاقتتلا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا جميعا. وقام مقام العدوىّ الحارث الضّبّىّ، فما رؤى أشدّ منه، وجعل يقول [2] : نحن بنى [3] ضبّة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل [4] وارتجز غير ذلك. فلم يزل الأمر كذلك حتّى قتل على خطام الجمل أربعون رجلا، قالت عائشة: ما زال جملى معتدلا حتّى فقدت أصوات بنى ضبّة. قال [5] : وأخذ الخطام سبعون رجلا من قريش، كلّهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل.

_ [1] فى القاموس: «عمرو بن يثربى صحابى، وعميرة بن يثربى تابعى» . [2] جرى المؤلف هنا على أن القائل هو الحارث الضبى، كابن الأثير فى الكامل، وذكر ابن جرير فى تاريخه هذا القول ج 3 ص 526 وذكر قولا آخر ج 3 ص 536 أن القائل عمرو بن يثربى الضبى وهذا القول الثانى هو الذى اتجه إليه صاحب الإصابة ج 3 ص 119. [3] كذا جاء فى النهاية ولسان العرب بالنصب على الاختصاص ونص المبرد على نصبه مرتين فى الكامل، انظر رغبة الآمل ج 2 ص 67- 68 ج 4 ص 101 وجاء فى المخطوطة «بنو» . [4] بجل: حسب. [5] القائل: الشعبى، انظر تاريخ ابن جرير ج 3 ص 536.

وكان محمد بن طلحة ممّن أخذ بخطامه، وقال: يا أمّاه مرينى بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير ابنى [1] آدم إن [2] تركت. فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل وقال: «حم لا ينصرون» [3] واجتمع علية نفر [4] كلّهم ادّعى قتله، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففى ذلك يقول: وأشعث قوّام بآيات ربّه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخرّ صريعا لليدين وللفم [5] يذكّرنى حاميم والرمح شاجر ... فهلّا تلا حاميم قبل التقدّم [6] على غير شىء غير أن ليس تابعا ... عليّا، ومن لا يتبع الحقّ يندم

_ [1] كذا جاء فى الإصابة ج 3 ص 377 والبداية والنهاية ج 7 ص 243 وفيه إشارة إلى قصة ابنى آدم بسط أحدها يده لقتل أخيه وامتناع الاخر الآية 27 وما بعدها من سورة المائدة. وجاء فى المخطوطة وغيرها: «بنى» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «وإن» . [3] لعل هذا مأخوذ من الحديث النبوى الذى رواه أصحاب السنن: «إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون» وانظر شرحه فى النهاية واللسان (ح م م) وقد اقتصر المؤلف فيما يتعلق بشأن محمد بن طلحة و (حاميم) على هذه الرواية التى ذكرها ابن الأثير، وسيأتى فى الشعر قول قاتل محمد «يذكرنى حاميم» وقد اختلف العلماء فى تذكير حاميم، فقال بعضهم «كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم، يريد بما فى (حم عسق) من قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقال بعضهم: «كان شعار أصحاب على يوم الجمل (حم) وكان القاتل مع على. فلما طعن محمدا قال محمد (حم) فأنشد القاتل الشعر» وقال بعضهم: «قال محمد بن طلحة لما طعنه القاتل أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، فهذا معنى قوله: يذكرنى حاميم، أى تلاوة هذه الآية لأنها من (حم) سورة المؤمن» . [4] جاء فى تسمية العلماء لهؤلاء النفر: كعب بن مدلج الأسدى وابن المكعبر الضبى وشداد بن معاوية العبسى وعصام بن المقشعر وشريح بن أوفى أو ابن أبى أوفى- والأشتر النخعى ... وذكر الزبير أن الأكثر على أن الذى قتله وقال الشعر عصام بن مقشعر، وكذلك رجحه أبو عبيد الله المرزبانى فى موضعين من معجم الشعراء ص 269، 345. [5] من النحويين من استشهد بهذا البيت على أن اللام بمعنى «على» أى: على اليدين والفم، كقوله تعالى «ويخرون للأذنان» أى: على الأذنان. [6] استشهد بهذا البيت أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) منسوبا إلى شريح، انظر لسان العرب وتاج العروس، وكذلك استشهد به البخارى، فى تفسير سورة (المؤمن) من صحيحه، انظر فتح البارى 8 ص 391- 392 واستشهد به الزمخشرى فى (الكشاف) ج 1 ص 66.. و «شاجر» معناه: مختلف أو ذو طعن.

قال: وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف، فجعل لا يدنو منه أحد إلا خبطه بالسّيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير وهو يقول: يا أمّنا [1] يا خير أمّ نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم [2] وتختلى هامته [3] والمعصم فاختلفا ضربتين، فقتل كلّ واحد منهما صاحبه. وأحدق أهل النّجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلّا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلّا معروف، فينتسب: «أنا» فلان بن فلان» ، فإن كانوا ليقاتلون عليه وإنّه للموت لا يوصل إليه [إلّا بطلبة] [4] ! وما رامه أحد من أصحاب علىّ إلّا قتل أو أفلت ثمّ لم يعد، وحمل عدىّ بن حاتم عليهم ففقئت عينه. وجاء عبد الله بن الزّبير ولم يتكلم، فقالت عائشة: من أنت؟

_ [1] فى (ك) : «يا أمنا» . وفى (ن) : «يا أمتا» بالتاء. [2] يكلم: يجرح. [3] تختلى هامته: يقطع رأسه. [4] زيادة يقتضيها المقام ذكرها ابن جرير ج 3 ص 532.

قال ابنك وابن أختك. قالت: واثكل أسماء! فانتهى إليه الأشتر فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحا شديدا، وضربه عبد الله ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وسقطا على الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزّبير: «اقتلونى ومالكا» [1] فلو يعلمون من «مالك» لقتلوه، إنّما كان يعرف بالأشتر [2] ، فحمل أصحاب علىّ وعائشة فخلصوهما. قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبى البخترىّ القرشى فقتل [3] ، وأخذه عمرو بن الأشرف الأزدى فقتل، وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته، وجرح عبد الله بن الزّبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية وضربة، وجرح مروان بن الحكم. فنادى علىّ: اعقروا الجمل فإنّه إن عقر تفرّقوا. فضربه رجل، فسقط، فما سمع صوت أشدّ من عجيجه. وقيل فى عقر الجمل: إنّ القعقاع لقى الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل. فقال: هل لك فى العود؟ فلم يجبه، فقال: يا أشتر

_ [1] فى الكامل ج 3 ص 128 ومرج الذهب ج 2 ص 13: اقتلونى ومالكا. واقتلوا مالكا معى [2] الأشتر: اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة النخعى، وكان فارسا شجاعا من كبار الشيعة» ولقب بالأشتر لأن رجلا من إياد ضربه فى يوم البرموك على رأسه فسألت الجراحة قيحا إلى عينه فشترتها، هذا هو المشهور فى تلقيبه، وهناك وجه فى تلقيبه ذكره أسامة بن منقذ فى لباب الآداب ص 187- 188. [3] تبع المؤلف هنا ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 129 وهذا القول جاء فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخة 3 ص 528 ولكن ابن جرير ذكر قولا آخر ج 3 ص 545 بعد انتهاء وقعة الجمل يفيد أنه لم يقتل فيها. قال: قصدت عائشة مكة فكان وجهها من البصرة، وانصرف مروان والأسود بن أبى البخترى إلى المدينة من الطريق. ويؤيد القول ما ذكره ابن حجر فى ترجمة الأسود من كتاب الأصابة 1 ص 42 فارجع إليه.

بعضنا أعلم بقتال بعض منك. وحمل القعقاع، والزّمام مع زفر بن الحارث الكلابىّ، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بنى عامر إلّا أصيب قدّام الجمل، وزحف القعقاع إلى زفر بن الحارث، وقال لبجير بن دلجه- وهو من أصحاب علىّ-: يا بجير صح بقولك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا أو تصاب أمّ المؤمنين. فقال بجير: «يا آل ضبّة، يا عمرو بن دلجة، ادع بى إليك» فدعاه، فقال: أنا آمن حتّى أرجع عنكم؟. قالوا: نعم. فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر [1] البعير، قال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على قطع بطان [2] الجمل وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السّهام، ثم أطافا به، وفرّ من وراء ذلك من الناس. فلمّا انهزموا أمر علىّ مناديا فقال: ألا لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [3] ولا تدخلوا الدّور. وأمر علىّ نفرا أن يحملون الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبى بكر أن يضرب عليها قبّة، وقال انظر: هل وصل إليها شىء من جراحة؟ فأدخل رأسه هودجها، فقالت: من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت ابن الخثعميّة [4] ؟ قال: نعم. قالت: الحمد لله الذى عافاك.

_ [1] جرجر البعير: ردد صوته فى حنجرته. [2] بطان الجمل: الحزام الذى يجعل تحت بطنة. [3] أى: لا يقتل من صرع وجرح منهم. [4] الخثعمية: أسماء بنت عميس الخثعمية، وهى أخت ميمونه زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت أسماء من المهاجرات إلى الحبشة، وهى إذ ذاك زوج جعفر بن أبى طالب، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا. ثم هاجرت معه إلى المدينة، فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمدا هذا، ثم مات عنها أبو بكر فتزوجها على بن أبى طالب فولدت له يحيى بن على، وقد ثبت أنها ولدت محمد بن أبى بكر فى طريق المدينة إلى مكة فى حجة الوداع، كما فى حديث جابر الطويل فى صحيح مسلم، ثم نشأ محمد بن أبى بكر فى حجر على بن أبى طالب، إذ تزوج على أمه، ثم كان موقفه، فى موقعة الجمل مع أخته عائشة ما ذكره للؤلف، وسيذكر- فيما بعد- ولايته لمصر ومقتله وأن «عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا» .

وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر إليه، فاحتملا الهودج، فنحّياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البرّ [1] قالت: عقق [2] ! قال: يا أخيّة هل أصابك شىء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذا الضّلّال؟ قالت: بل الهداة! وقال لها عمّار: كيف رأيت بنيك اليوم يا أمّاه؟ قالت: لست لك بأمّ! قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الّذى نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها، فوضعوها ليس قربها أحد. وأتاها علىّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. قالت: ولك. وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعىّ حتى اطّلع فى الهودج، فقالت إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء. فقالت هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك! فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمى عريانا فى خربة من خربات الأزد!. ثم أتى وجوه الناس إلى عائشة، وفيها القعقاع بن عمرو، فسلّم عليها، فقالت: والله لوددت أنى متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة!

_ [1] البر: المحسن لمعاملة الأقربين من الأهل. [2] عقق: عاق أهله، من العقوق، ضد البر.

وكان علىّ يقول بعد الفراغ من القتال: إليك أشكو عجرى وبجرى [1] ... ومعشرا أعشوا [2] علىّ بصرى قتلت منهم مضرى بمضرى ... شفيت نفسى وقتلت معشرى! قال: ولمّا كان الليل أدخل محمد بن أبى بكر عائشة البصرة، فأنزلها فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى [3]- وهى أعظم دار فى البصرة- على صفيّة بنت الحارث بن [طلحة بن] [4] أبى طلحة بن عبد العزّى، وهى أمّ طلحة الطّلحات بن عبد الله بن خلف. وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة. وأقام علىّ بظاهر البصرة ثلاثا، وأذن للناس فى دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علىّ فى القتلى، فلما أتى كعب بن سور قال: «أزعمتم [5] أنّما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون!»

_ [1] فى النهاية ولسان العرب: «حديث على: أشكو إلى الله عجرى وبجرى، أى: همومى وأحزانى، وأصل العجرة: نفخة فى الظهر فاذا كانت فى البطن فهى بجرة وقيل: العجر العروق المتعقدة فى الظهر، والبجر: العروق المتعقدة فى البطن، ثم نقلا إلى الهموم والأحزان، أراد أنه يشكو إلى الله أموره كلها ما ظهر منها وما بطن. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير: «غشوا» ، وفى الكامل لابن الأثير: «أغشوا» . [3] عبد الله بن خلف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة رقم 24650 ص 303 وكان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة، وشهد وقعة الجمل مع عائشة فقتل، وكان أخوه عثمان مع على. [4] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 539 وسيرة ابن هشام ج 3 ص 6 81، 120 والإصابة ج 2 ص 237 ولسان العرب والقاموس مع تاج العروس وخزانة الأدب ج 3 ص 394. [5] كذا جاء فى المخطوطة موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «زعمتم» وهو أقرب لما يأتى.

وجعل كلّما مرّ برجل فيه خير قال: «زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم!» وصلى علىّ على القتلى من بين الفريقين، وأمر فدفنت الأطراف فى قبر عظيم، وجمع ما كان فى العسكر من شىء وبعث به إلى مسجد البصرة، وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا كان فى الخزائن عليه سمة السلطان. قال [1] : وكان جميع القتلى عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علىّ، ونصفهم من أصحاب عائشة، حكاه أبو جعفر الطبرى، وقال غيره: ثمانية آلاف. وقيل: سبعة عشر ألفا. قال أبو جعفر: وقتل من ضبّة ألف رجل، وقتل من عدىّ حول الجمل سبعون كلّهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. قال [2] : ولمّا فرغ علىّ من الواقعة أتاه الأحنف بن قيس [فى بنى سعد] [3] ، وكانوا قد اعتزلوا القتال، كما ذكرنا، فقال له علىّ: لقد تربّصت. فقال: ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الّذى سلكت بعيد، وأنت إلىّ غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، واستصف مودّتى لغد، ولا تقل [4] مثل هذا فإنّى لم أزل لك ناصحا. ثم دخل علىّ البصرة يوم الاثنين، فبايعه أهلها، حتّى الجرحى والمستأمنة، واستعمل علىّ عبد الله بن عبّاس على البصرة، وولّى

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131. [3] الزيادة من الكامل، ويقتضيها ضمير الجمع الآتى بعدها. [4] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 540 «ولا تقولن» .

زيادا الخراج وبيت المال، وأمر ابن عبّاس أن يسمع منه ويطيع وكان زياد معتزلا [1] . ثم راح علىّ رضى الله عنه إلى عائشة فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابنى خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع على، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكى، فلما رأته قالت له: يا على، يا قاتل الأحبّة، يا مفرق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه. فلم يردّ عليها شيئا، ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفيّة. أما إنّى لم أرها منذ كانت جارية! فلما خرج أعادت عليه القول، فكفّ بغلته، وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب (وأشار إلى باب فى الدار) وأقتل من فيه (وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر بمكانهم، فتغافل عنه) [2] . قال: ولمّا خرج من عند عائشة قال له رجل من الأزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: «مه [3] ، لا تهتكنّ سترا، ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّ النساء ضعيفات، ولقد كنّا

_ [1] كان زياد ممن اغتزل ولم يشهد المعركة، ولما جاء عبد الرحمن بن أبى بكر فى المستأمنين مسلما- بعد ما فرغ على من البيعة- قال له على رضى الله عنه: وعمك المتربص المقاعد بى (يعنى زيادا) . فقال: والله يا أمير المؤمنين إنه لك لواد وإنه على مسرتك لحريص ولكنه بلغنى أنه يشتكى، فلما قابل على زيادا واعتذر إليه زياد قبل عذره، واستشاره وأراده على رضى الله عنه على البصرة، فقال زياد: رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس فإنه أجدر أن يطمئنوا وينقادوا وسأكفيكه وأشير عليه. فكان ابن عباس. [2] عبارة ابن جرير: «وكان أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة، فأخبر على بمكانهم، فتغافل عنهم» . [3] مه: اسكت واكفف.

نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، فكيف إذا كنّ مسلمات؟» ومضى، فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمضّ شتيمة لك من صفيّة. فقال: ويحك لعلّها عائشة! قال: نعم، قال أحدهما: «جزيت عنّا أمّنا عقوقا» . وقال الآخر: «يا أمّتا [1] توبى فقد خطيت» . فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل على من كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط، وأخرجهما من ثيابهما. قال: وسألت عائشة رضى الله عنها عمّن قتل من الناس معها وعليها، فكلّما نعى واحد من الجميع قالت: رحمه الله! فقيل لها كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان فى الجنة وفلان فى الجنة [2] . ثم جهّز علىّ رضى الله عنه عائشة بكلّ ما ينبغى لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وبعث معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلّا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسيّر معها أخاها محمد بن أبى بكر رضى الله عنهم. فلمّا كان

_ [1] كذا جاء بالتاء فى النسخة (ك) ، ووقع فى النسخة (ن) : «يا أمى» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «يا أمنا» بالنون. [2] زاد ابن جرير: «وقال على بن أبى طالب يومئذ: إنى لأرجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه إلا أدخله الله الجنة» .

اليوم الذى ارتحلت فيه أتاها علىّ فوقف لها، وحضر الناس، فخرجت [وودعوها] [1] وودّعتهم وقالت: يا بنىّ، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بينى وبين علىّ فى القديم إلّا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتى لمن الأخيار. فقال علىّ رضى الله عنه: صدقت والله ما كان بينى وبينها إلا ذاك، وإنّها لزوجة نبيّكم فى الدنيا والآخرة. وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرّة شهر رجب سنة ستّ وثلاثين، وشيّعها علىّ أميالا، وسرّح بنيه معها يوما. وتوجّهت إلى مكّة، فأقامت إلى الحجّ، فحجّت، ثم رجعت إلى المدينة. قال: ولمّا فرغ علىّ من بيعة أهل البصرة نظر فى بيت المال، فرأى فيه ستّمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة درهم، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم، فخاض فى ذلك السّبئيّة، وطعنوا على علىّ [من وراء وراء] [2] ، وطعنوا فيه أيضا حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم [3] ! قال: وأراد علىّ رضى الله عنه المقام بالبصرة لإصلاح حالها،

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير البرى ج 3 ص 547. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 132 وسبقه ابن جرير. [3] فى تاريخ ابن جرير 3 ص 545: كان من سياسة على ألا يقتل مديرا ولا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا. فقال قوم يومئذ: ما يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم! فقال على: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتله، منى على الصدر والنحر، وإن لكم فى خمسه لغنى.

ذكر مقتل طلحة رضى الله عنه وشىء من أخباره

فأعجلته السّبئيّة عن المقام، فإنّهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل فى آثارهم، ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه. فلنرجع إلى مقتل طلحة والزبير. ذكر مقتل طلحة رضى الله عنه وشىء من أخباره هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشى التّيمى. وهو أقرب العشرة إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، يجتمع نسبه مع نسب أبى بكر فى عمرو بن كعب بن سعد. ويجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى مرّة ابن كعب. وأم طلحة: الحضرميّة، وهى الصّعبة بنت عبد الله بن عباد [1] ابن مالك بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عويف بن مالك بن الخزرج ابن إياد بن الصّدف [2] من حضرموت من كندة، يعرف أبوها عبد الله ب «الحضرمىّ» . ويعرف طلحة ب «طلحة الخير» و «طلحة الفيّاض» . قيل

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة «عباد» ، وجاء فى الاستيعاب والإصالة: «عماد» . [2] فى القاموس: الصدف- ككتف-: بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت. وفى جمهرة أنساب العرب ص 431: «والصدف هم فى بنى حضرموت، وهو الصدف ابن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر.» .

سمّى بالفيّاض لأنّه اشترى مالا بموضع يقال له «بيسان» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت إلا فيّاض» ، فسمّى بذلك من يومئذ. وهو رضى الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض [1] . وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وقسم له سهمه وأجره يوم بدر [2] . وقد تقدم خبره فى ذلك [3] . ثم شهد أحدا وما بعدها، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه، اتّقى عنه النّبل بيده حتى شّلّت إصبعه وضرب فى رأسه، وحمل رسول الله عليه الصلاة والسلام على ظهره حتى صعد الصخرة، فقال عليه السلام لأبى بكر رضى الله عنه: «اليوم أوجب طلحة [4] يا أبا بكر» .

_ [1] ذكر صاحب الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ماء يقال له: «بيسان» مالح، فقال هو «نعمان» وهو طيب، فغير اسمه فاشتراه طلحة، ثم تصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فبذلك قيل له «طلحة الفياض» . [2] لم يشهد طلحة وقعة بدر، كما سبق فى هذا الكتاب: أن طلحة وسعيد بن زيد كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سهميهما، قالا: يا رسول الله. وأجرنا. قال: وأجركما. [3] نهاية الأرب ج 17 ص 36. [4] شرح صاحبا النهاية ولسان العرب حديث «أوجب طلحة» بقولهما: أى عمل عملا أوجب له الجنة، وذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 251 أن الحديث أخرجه أحمد والترمذى، ثم ذكر ج 2 ص 253 رواية البغوى وغيره «أوجب طلحة الجنة» بذكر المفعول به.

ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه فقال: «من أحبّ أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» . وحكى أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله فقال: زعم بعض أهل العلم أنّ عليّا رضى الله عنه دعاه يوم الجمل، فذكّره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع طلحة عن قتاله، على نحو ما صنع الزّبير واعتزل فى بعض الصفوف، فرمى بسهم، فقطع من رجله عرق النّسا، فلم يزل دمه ينزف حتّى مات [1] . ويقال: إنّ السهم أصاب ثغرة نحره، وإنّ الذى رماه مروان بن الحكم وقال: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. وذلك أنّ طلحة- فيما زعموا- كان ممّن حاصر عثمان واشتد عليه. قال ابن عبد البر: ولا يختلف العلماء [2] فى أن مروان بن الحكم قتل طلحة يومئذ [3] ، واستدلّ على ذلك بأخبار [رواها من قول مروان تدل على أنه قاتله] [4] . قال: وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: والله إنّى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزّبير ممّن قال الله

_ [1] ذكر أبو عمر ابن عبد البر قول الأحنف: لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبد الله [2] فى الاستيعاب لابن عبد البر: «ولا يختلف العلماء الثقات» . [3] زاد ابن عبد البر «وكان فى حزبه» ، وقال فى موضع آخر كان مروان مع طلحة يوم الجمل، فلما اشتبكت الحرب قال مروان: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. ثم رماه بسهم..... الخ. [4] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .

تبارك وتعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [1] . وروى أبو عمر بسنده إلى قيس بن أبى حازم قال: رمى مروان طلحة يوم الجمل بسهم فى ركبته، فجعل الدّم يسيل، فإذا أمسكوه استمسك وإذا تركوه سال، فقال: دعوه فإنّما هو سهم أرسله الله. قال فمات، فدفنّاه على شاطئ الكلّاء [2] ، فرأى بعض أهله أنه أتاه فى المنام فقال: «ألا تريحوننى من هذا الماء فإنى قد غرقت!» ثلاث مرار يقولها، قال: فنبشوه فإذا هو أخضر كأنّه السّلق، فنزحوا [3] عنه الماء، فاستخرجوه، فإذا ما يلى الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا له دارا من دور آل أبى بكر بعشرة آلاف، فدفنوه فيها. وروى أيضا بسنده إلى علىّ بن زيد عن أبيه أن رجلا رأى فيما يرى النائم أنّ طلحة بن عبيد الله قال: «حوّلونى عن قبرى فقد آذانى الماء!» ثم رآه، حتّى رآه ثلاث ليال، فأتى ابن عبّاس فأخبره، فنظروا فإذا شقّة الذى يلى الارض فى الماء، فحوّلوه، قال: فكأنى أنظر إلى الكافور فى [4] عينيه لم يتغيّر إلّا عقيصته فإنها مالت عن موضعها. وقتل رضى الله عنه وهو ابن ستّين سنة، وقيل: ابن اثنتين وستّين، وذلك يوم الجمل، لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين.

_ [1] الآية 47 من سورة الحجر. [2] الكلاء: مرفأ السفن بساحل النهر، وأطلق على موضع بالبصرة. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فنزعوا» . [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 2 ص 24: «بين عينيه» .

ذكر مقتل الزبير بن العوام رضى الله عنه وشىء من أخباره

وكان رضى الله عنه رجلا آدم، حسن الوجه، كثير الشّعر، ليس بالجعد القطط [1] [ولا بالسّبط] [2] وكان لا يغيّر شعره [3] . وسمع علىّ رجلا ينشد: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر فقال: ذاك أبو محمد طلحة بن عبيد الله. وحكى الزّبير [4] أنّه سمع سفيان بن عيينة يقول: كانت غلّة طلحة بن عبيد الله ألفا وافيا كلّ يوم! (قال: والوافى وزنه وزن الدّينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التى تعرف بالبغلية) . ذكر مقتل الزبير بن العوام رضى الله عنه وشىء من أخباره هو أبو عبد الله الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، القرشى الأسدى. وأمّه صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشّورى، وهو قديم الإسلام، واختلف فى سنّه يوم أسلم، فقيل:

_ [1] القطط: الكثير الجعودة. [2] كذا ثبت فى النسخة (ن) كالاستيعاب ج 2 ص 225، وسقط من النسخة (ك) ، والسبط من الشعر: المنبسط المسترسل، والمراد أن شعر طلحة: كان وسطا بين الجعد والمسترسل (وهما ضدان) . [3] كانوا يكرهون تغيير الشيب بنتف شعره، وأما تغيير لونه فغير مكروه، فمن ذوى الشيب من يقبل عليه، ومنهم من لا يقبل ... وقد ذكر الرياض النضرة ج 2 ص 262 أن الزبير بن العوام «كان لا يغير شيبه» كذلك. [4] هو الزبير بن بكار فى الرياض النضرة ج 2 ص 258.

خمس عشرة سنة، وقيل ست عشرة، وقيل: اثنتى عشرة سنة وقيل: ثمانى سنين. والأول أصح. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين أخى بين المهاجرين، ولما أخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش. وكان له رضى الله عنه من الولد- فيما حكاه بعضهم- عشرة، وهم: عبد الله وعروة ومصعب والمنذر وعمرو وعبيدة وجعفر وعامر وعمير وحمزة. وكان الزّبير رضى الله عنه أوّل من سلّ سيفا فى سبيل الله، وذلك أنه نفخت فيه نفخة من الشّيطان: «أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام» ، فأقبل يشقّ الناس بسيفه، والنبىّ صلى الله عليه وسلم بأعلى مكّة، فقال له رسول الله: ما لك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت! فصلّى عليه ودعا له. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزّبير ابن عمّتى وحواريّى من أمّتى» . وقال: «لكلّ نبىّ حوارىّ، وحواريّى الزّبير» . وسمع ابن عمر رضى الله عنه رجلا يقول: «أنا ابن الحوارىّ» ، فقال إن كنت ابن الزّبير وإلّا فلا. وذكر [1] فى معنى «الحوارىّ» : الخالص، وقيل الخليل، ولذلك قال جرير [2] :

_ [1] ابن عبد البر فى الاستيعاب ج ص 581- 582. [2] فى ديوان جرير ص 454، وقبله: إنى تذكرنى الزبير حمامة ... تدعو بمجمع نخلتين هديلا قالت قريش: ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا! لو كان يعلم غدر آل مجاشع ... نقل الرحال فأسرع التحويلا بالهف نفسى إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا

أفبعد مقتلهم خليل محمد [1] ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا وقيل: الحوارىّ: الناصر. وقيل: الصاحب المستخلص. وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه للزّبير مرّتين: يوم أحد ويوم بنى قريظة، فقال: «ارم فداك أبى وأمّى!» [2] . قال أبو عمر ابن عبد البر: وكان الزبير تاجرا! مجدودا [3] فى التجارة، قيل له يوما: بم أدركت فى التجارة ما أدركت؟ فقال: لأنى لم أشتر غبنا [4] ولم أردد ربحا والله يبارك لمن يشاء. وروى عن كعب قال: كان للزّبير ألف مملوك يؤدّون إليه الخراج فما يدخل بيته منه درهما واحدا. يعنى أنه كان يتصدق بذلك. وكان سبب قتله رضى الله عنه أنّه لما انصرف من وقعة الجمل وفارق الحرب مرّ بالأحنف فقال: هذا الذى جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم بعضا ثم لحق ببيته! ثم قال للناس: من يأتينى بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز: أنا. وقيل: إنّ الزّبير لمّا انصرف نزل بعمرو بن جرموز، فقال له: «يا أبا عبد الله، جنيت حربا ظالما أو مظلوما ثمّ تنصرف! أتائب أم عاجز؟» فسكت عنه الزّبير، ثم عاوده، فقال: ظنّ فىّ كلّ شىء

_ [1] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله: دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا [2] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله: دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا [3] مجدودا: صاحب حظ. [4] غبنا: خدعا.

غير الجبن. فانصرف عنه ابن جرموز وهو يقول: «والهفى على ابن صفيّة! أضرمها نارا ثم أراد أن يلحق بأهله! قتلنى الله إن لم أقتله!» ثم رجع إليه كالمتنصّح، فقال: «يا أبا عبد الله دون أهلك فياف، فخذ نجيبى [1] هذا وخلّ فرسك ودرعك، فإنهما شاهدان عليك بما نكره» . وأراد بذلك أن يلقاه حاسرا [2] ، ولم يزل به حتّى تركهما عنده وأخذ نجيبه، وسار معه ابن جرموز كالمشيّع له، حتّى انتهيا إلى وادى السّباع [3] ، فاستغفله [4] ابن جرموز وطعنه. وقيل: إنّه اتبعه إلى الوادى فقتله وهو فى الصلاة. وقيل: بل قتله وهو نائم. وفى ذلك تقول عاتكة [5] بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية زوجته ترثيه [6] : غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرّد [7] يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان [8] ولا اليد

_ [1] النجيب من الإبل: القوى السريع. [2] حاسر: لا درع عليه ولا وقاية. [3] وادى السباع: على أربعة فراسخ من البصرة، كما فى خزانة الأدب ج 4 ص 350 وانظر معجم البلدان. [4] فى خزانة الأدب ج 2 ص 458: «وأراه أنه يريد مسايرته ومؤانسته، فقتله غيلة» . [5] عاتكة من المهاجرات، حسناء بارعة الجمال، تزوجت مرات وقتل أزواجها ورثتهم بشعرها، وسيذكر المؤلف فى هذا الجزء ترجمة أخيها: سعيد بن زيد. [6] انظر هذا الرثاء فى الأغانى ج 6، ص 126 وذيل أمالى القالى ص 112 والموشى ص 80 والاستيعاب ج 4 ص 364 وابن عساكر ج 5 ص 366 والرياض النضرة ج 2 ص 304. [7] يقال للجيش «بهمة» ، ومنه قولهم «فلان فارس بهمة» والمعرد: الهارب [8] الجنان: القلب.

كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع القردد [1] ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله [2] ... فيما مضى ممّن يروح ويغتدى والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمّد [3] قال: فلمّا رجع برأسه وسلبه [4] قال له رجل من قومه: «فضحت والله اليمن أوّلها وآخرها بقتلك الزّبير رأس المهاجرين وفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريّه وابن عمّته! والله لو قتلته فى حرب لعزّ ذلك علينا ولمسّنا عارك! فكيف فى جوارك وحرمك؟!» قال: وأتى ابن جرموز عليّا، فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزّبير. فقال علىّ رضى الله عنه ائذن له وبشّره بالنار، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار! فقال ابن جرموز: أتيت عليا برأس الزّبي ... ر أرجو لديه به الزّلفه

_ [1] الغمرة: الشدة، ولفقع: نوع من الكمأة، والقردد: أرض مرتفعة إلى جنب وهده، يشبهون بهذا الفقع الرجل الذليل لأن الدواب تنجله بأرجلها. [2] ويروى: «فاذهب فما ظفرت يداك بمثله» . [3] هذا البيت من شواهد النحو. انظر العينى ج 2 ص 278 والسيوطى ص 26 وخزانة الأدب ج 4 ص 350- 351. [4] السلب: ما يأخذه القاتل مما كان القتيل من سلاح وثياب ودابة.

فبشّر بالنار إذ جئته ... فبئس بشارة ذى التّحفه وسيان عندى قتل الزّبير ... وضرطة عير بذى الجحفه [1] وحكى أبو عمر ابن عبد البر فى كتابه المترجم ب «الاستيعاب» [2] من رواية عمرو بن جاوان عن الاحنف بن قيس قال: لما بلغ الزبير سفوان (موضعا بالبصرة كمكان القادسيّة من الكوفة) لقيه النعر [3] (رجل من بنى مجاشع) فقال: «أين تذهب يا حوارىّ رسول الله؟ إلىّ، فأنت فى ذمّتى لا يوصل إليك» ، فأقبل معه، وأتى إنسان الأحنف فقال: هذا الزّبير قد لقى بسفوان، فقال الأحنف: «ما شاء الله كان، قد جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسّيوف، ثم يلحق ببيته وأهله!!» فسمعه عميرة [4] بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع فى غواة من غواة بنى تميم، فركبوا فى طلبه، فلقوه مع النعر، فأتاه عميرة بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزّبير على فرس له يقال له «ذو الخمار» [5] ، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى صاحبيه: «يا نفيع

_ [1] انظر الأبيات مع شىء من التغيير فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص- 79. [2] ج 1 ص 585. [3] جاء فى شرح ديوان جرير ص 455 أنه «النعر بن الزمام من بنى مجاشع» . [4] المشهور فى اسم القاتل «عمرو» كما سبق فى شعر عاتكة، وقد يقال له. «عميرة» أو «عمير» كما فى الاستيعاب ج 1 ص ح 584 والرياض النضرة 2 ص 273. [5] فى القاموس: «ذو الخمار: فرس الزبير بن العوام يوم الجمل» .

يا فضالة» فحملوا عليه حتّى قتلوه ... قال: [1] وهذا [2] أصّح مما تقدّم. وكان مقتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة [3] سنة ست وثلاثين. وكانت سنّه يوم قتل سبعا وستّين سنة، وقيل ستّا وستين. وكان الزّبير رضى الله عنه أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية. وقال حسّان بن ثابت يمدح الزّبير ويفضّله: [4] أقام على عهد النبىّ وهديه ... حواريّه والقول بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالى ولى الحقّ والحقّ أعدل هو الفارس المشهور والبطل الذى ... يصول إذا ما كان يوم محجّل [5]

_ [1] أبو عمر ابن عبد البر. [2] يؤيده ما ورد فى ديوان جرير، وقد ذكر جرير حادثة الزبير فى هجائة للفرزدق المجاشعى قريبا من أربعين مرة، ولم يكن جرير بعيدا عن عصر الزبير. [3] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة ج 2 ص 274، وجاء فى الاستيعاب ج 1 ص 584 والإصابة ج 1 ص 546 «جمادى الأولى» ، ولكن صاحب الاستيعاب أعقب ذلك بقوله «وفى ذلك اليوم كانت وقعة الجمل» وقد قال ابن جرير ج 3 ص 539 «وكانت الواقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 36 فى قول الواقدى» . [4] ديوان حسان ص 338- 339. [5] محجل: مشهور.

وإن امرأ كانت صفية أمه ... ومن أسد فى بيته لمرفّل [1] له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل [2] فكم كرّة ذبّ الزّبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطى ويجزل [3] إذا كشفت عن ساقها الحرب حشّها ... بأبيض سبّاق إلى الموت يرقل [4] فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدّهر ما دام يذبل [5] وروى [6] عن عبد الله بن الزّبير رضى الله عنهما أنه قال: لمّا وقف الزّبير يوم الجمل دعانى، فقمت إلى جنبه، فقال «يا بنىّ: إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّى لا أرانى [7] إلّا سأقتل اليوم

_ [1] مرفل: معظم. [2] مؤثل: مؤصل. [3] جاءت فى الأصل «كرة» وهى المناسبة لسياق البيت وجاءت فى بعض الكتب «كربة» . ذب: دفع. [4] كشفت الحرب عن ساقها: اشتدت. حشها: أشعلها. أبيض: سيف. يرقل: يسرع. [5] يذبل: جبل بنجد، يريد دائما. [6] روى البخارى فى صحيحه هذا الحديث (291) بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله بن الزبير، وهذا فى باب (بركة الغازى فى ماله حيا وميتا) . [7] لا أرانى: لا أظننى.

مظلوما، وإنّ من أكبر همّى لدينى، أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئا؟ [1] وقال: يا بنى بع مالنا واقض دينى. وأوصى بالثّلث وثلثه لبنيه (يعنى بنى عبد الله بن الزّبير) يقول: الثلث إليك [2] فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام وكان بعض ولد عبد الله قد وازى [3] بعض بنى الزّبير: خبيب وعبّاد [4] ، وله [5] يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله فجعل يوصينى بدينه ويقول: يا بنىّ إن عجزت عن شىء منه فاستعن عليه مولاى. قال [6] : فو الله ما دريت ما أراد، حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله تعالى. فو الله ما وقعت فى كربة من دينه إلّا قلت: «يا مولى الزّبير اقض عنه دينه» فيقضيه. فقتل الزّبير رضى الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين منها الغابة [7] وإحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر. قال [8] : وإنّما كان دينه الذى عليه أنّ الرجل كان يأتيه بالمال

_ [1] قال ذلك استكثارا لما عليه وإشفاقا من دينه. [2] فى صحيح البخارى «ثلث الثلث» . [3] وازى: ساوى، وللغويين كلام فى هذا اللفظ. [4] هما ولدا عبد الله بن الزبير. [5] أى الزبير. [6] عبد الله بن الزبير. [7] الغابة: أرض عظيمة من عوالى المدينة. [8] عبد الله بن الزبير.

فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير رضى الله عنه لا [1] ، ولكنّه سلف، فإنّى أخشى عليه الضّيعة. وما ولى إمارة قطّ ولا جباية خراج ولا شيئا إلّا أن يكون فى غزوة مع النبى صلى الله عليه وسلم أو مع أبى بكر أو عمر أو عثمان رضى الله عنهم. قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدته ألفى ألف ومائتى ألف. قال: فلقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخى كم على أخى من الدّين؟ فكتمه وقال: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفى ألف ومائتى ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا فإن عجزتم عن شىء منه فاستعينوا بى. قال: وكان الزّبير رضى الله عنه اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزّبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لى قطعة. فقال عبد الله لك من ههنا إلى ههنا. فباع منها [2] فقضى دينه فأوفاه، وبقى

_ [1] أى: لا أقبضه وديعة. [2] أى: من الغابة والدور.

منها [1] أربعة أسهم ونصف، فقدم [2] على معاوية وعنده عمرو بن عثمان [3] والمنذر بن الزبير وابن زمعة [4] ، فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟ قال: كلّ سهم [5] بمائة ألف. قال: كم بقى قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية: كم بقى فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. (قال وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف [6] ) قال: فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادى بالموسم أربع سنين: «ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه» . قال: فجعل كلّ سنة ينادى بالموسم، فلمّا مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث، فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله [7] خمسون ألف ألف ومائتا ألف. هكذا أورده البخارىّ رحمه الله فى صحيحه، وعقد جملة المال فى آخره على ما ذكرنا.

_ [1] أى: من الغابة بغير بيع. [2] عبد الله بن الزبير. [3] ابن عفان. [4] عبد الله بن زمعة. [5] أى: من أصل ستة عشر سهما. [6] فربح مائتى ألف. [7] الذى تركه الزبير عند وفاته، ويحتوى على الوصية والميراث والدين.

ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها

والذى دلّ عليه الحساب أنّ جملة المال تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف، وذلك أنّ نصيب الزوجات الأربع (وهو الثّمن بعد وفاء الدّين ورفع الثلث الذى أوصى به لبنى عبد الله) اشتمل على أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، يضرب فى ثمانية فتكون ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف، ويكون ثلث الوصية (وهو نصف هذه الجملة) تسعة عشر ألف ألف ومائتى ألف، والدّين ألفى ألف ومائتى ألف، فتخرج الجملة على ما ذكرناه [1] . ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها كانت وقعة صفّين فى أواخر سنة ست وثلاثين وأوائل سنة سبع وثلاثين. وذلك أنه لما فرغ علىّ رضى الله عنه من حرب الجمل أقام بالبصرة، ثمّ انتقل إلى الكوفة، وأرسل إلى جرير بن عبد الله البجلى- وكان عثمان قد استعمله على همذان- وإلى الأشعث بن قيس- وكان على أذربيجان- فأمرهما بأخذ البيعة والحضور إليه، ففعلا ذلك. وأراد علىّ أن يرسل إلى معاوية رسولا، فقال جرير: أرسلنى إليه [2] فقال الأشتر لعلىّ: لا تفعل [فإنّ هواه مع معاوية] [3] فقال علىّ

_ [1] الجملة التى ذكرها المؤلف هى التى انتهى إليها الحساب فى آخر قسم المال، منها تسعة آلاف ألف وستمائة ألف حصلت من نماء العقار والأرضين فى المدة التى أخر فيها عبد الله بن الزبير قسم التركة استبراءا للدين، والباقى جملته الأصلية التى أوردها البخارى، انظر شرح الكرمانى للبخارى ج 13 ص 103 وإرشاد السارى ج 6 ص 370، وغيرهما. [2] جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 560 «ابعثنى إليه، فإنه لى ود، حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول فى طاعتك» . [3] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (د) ، وسقطت من (أ) .

دعه حتّى ننظر ما يرجع به. فبعثه، وكتب معه إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار عليه [1] ، وما كان من نكث طلحة والزّبير وحرب الجمل، ودعاه إلى البيعة والدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار. فلما قدم جرير على معاوية ما طله بالجواب، واستشار عمرو بن العاص، وكان قد قدم عليه وانضمّ إليه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار معاوية، فأشار عمرو عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم عليّا دم عثمان، ففعل، فأجمع أهل الشام على حرب علىّ. فعاد جرير إلى علىّ وأعلمه ذلك، وأنّ أهل الشام يبكون على عثمان ويقولون: إنّ عليّا قتله، وآوى قتلته، وإنهم لا ينتهون عنه حتّى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلىّ: كنت نهيتك عن إرسال جرير، وأخبرتك بعداوته وعشه، فأبيت إلّا إرساله. ثم تقاول الأشتر وجرير مقاولة أدّت إلى مفارقة جرير لعلىّ ولحاقه بمعاوية. قال: وخرج علىّ رضى الله عنه، فعسكر بالنّخيلة، [2] وتخلّف عنه نفر من أهل الكوفة، منهم ميسرة الهمدانى ومسعود [3] أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين. وقدم عليه عبد الله بن العباس فى أهل البصرة. وبلغ ذلك معاوية، فاستشار عمرو بن العاص، فقال له: «أمّا إذا سار علىّ بنفسه فى الناس فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك

_ [1] على بيعته. [2] النخيلة: موضع قرب الكوفة من جهة الشام. [3] كذا جاء الاسمان فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 142 «منهم مرة الهمدانى ومسروق» .

ومكيدتك.» فتجهّز معاوية بأهل الشام، وقد حرّضهم عمرو وضعّف عليّا وأصحابه، وقال: «إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم ووهّنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم، وأهل البصرة مخالفون لعلىّ بمن قتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنّما سار علىّ فى شرذمة قليلة، وقد قتل خليفتكم، فالله الله فى حقّكم أن تضيّعوه، وفى دمكم أن تطلّوه!» وكتب معاوية (فى أجناد) [1] أهل الشام، وعقد لواء لعمرو، ولواء لابنيه: عبد الله ومحمد، ولواء لغلامه وردان. وسار معاوية وتأنّى فى مسيره. قال: وبعث [2] علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر الحارثىّ فى ثمانية آلاف، وبعث شريح بن هانئ فى أربعة آلاف، وسار علىّ من النّخيلة، وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد ابن مسعود (عمّ المختار بن أبى عبيد الثّقفى) ، ووجه من المدائن معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتّى يوافيه على الرّقّة. فلما وصل علىّ [3] الرقة قال لأهلها ليعملوا جسرا يعبر عليه إلى أهل الشام، فأبوا، وكانوا قد ضمّوا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج، وخلف عليهم الأشتر، فناداهم الأشتر: «أقسم بالله لئن لم تعملوا جسرا لأمير المؤمنين يعبر عليه

_ [1] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 562، وجاء فى المخطوطة (إلى) قال ابن الأثير فى النهاية: «الشام خمسة أجناد: فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين، كل واحد منها يسمى جندا، أى المقيمين بها من المسلمين المقاتلين» . [2] المراد بهذه البعثة تقديم طليعة أمام الجيش. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى (ك) والكامل: «إلى» .

لأجرّدنّ فيكم السّيف، ولأقتلنّ الرجال ولآخذنّ الأموال!» فلقى بعضهم بعضا وقالوا: «إنّه الأشتر، وإنّه قمن أن يفى لكم بما حلف عليه أو يأتى بأكثر منه!» فنصبوا جسرا فعبر عليه علىّ وأصحابه. قال: ولما بلغ [1] علىّ الفرات دعا زياد بن النّضر وشريح بن هانىء فيمن معهما فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الّتى خرجا عليها من الكوفة، وكان سبب عودهما أنّهما أخذا من الكوفة على شاطىء الفرات مما يلى البرّ، فلمّا بلغا» عانات» بلغهما أنّ معاوية قد أقبل فى جنود الشام، فقالا: «والله ما هذا لنا برأى، أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، وما لنا خير أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا» فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهلها، فرجعوا! [حتّى عبروا] [2] من هيت [3] ، فلحقوا عليّا دون قرقيسيا [4] ، فقال علىّ: مقدّمتى تأتينى من ورائى! فأخبره شريح وزياد بما كان، فقال: سدّدتما. فلمّا عبر الفرات سيّرهما أمامه. فلمّا انتهيا إلى سور الرّوم لقيهما أبو الأعور السّلمىّ فى جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علىّ فأعلماه. فأرسل علىّ إلى الأشتر، وأمره بالسرعة، وقال: «إذا

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 564 ووقعه صفين ص 170 «قطع» . [2] زيادة من ابن جرير الطبرى ونصر بن مزاحم. [3] بلد على الفرات من جهة بغداد. [4] بلد على نهر الخابور بينه وبين الفرات.

قدمت فأنت عليهم، وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك، حتّى تلقاهم فتدعوهم، وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زيادا، وعلى ميسرتك شريحا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد تباعد من يهاب البأس، حتّى أقدم عليك، فإنّى حثيث السّير فى أثرك إن شاء الله تعالى» . وكتب إلى شريح وزياد بذلك، وأمرهما بطاعة الأشتر.. فسار الأشتر حتّى قدم عليهم، وكفّ عن القتال، ولم بزالوا متوقفين حتّى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور، فثبتوا له واضطربوا ساعة، ثمّ انصرف أهل الشام، وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم، وصبر بعضهم لبعض، ثمّ انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، وقال أرونى أبا الأعور! فتراجعوا، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذى كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر فصفّ أصحابه مكان أصحاب أبى الأعور بالأمس، وقال الأشتر لسنان بن مالك النّخعىّ: انطلق إلى أبى الأعور فادعه إلى البراز. فقال: إلى مبارزتى أو مبارزتك؟ فقال: للأشتر لو أمرتك بمبارزته لفعلت. قال: «نعم والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفى لفعلت. فدعا له، وقال: إنّما تدعو لمبارزتى. فخرج إليهم فقال: أمّنونى فإنّى رسول. فأمّنوه، فانتهى إلى أبى الأعور فقال له: إنّ الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه. فسكت طويلا، ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمّال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه، وعلى أن سار إليه

فى داره حتّى قتله وأصبح متّبعا بدمه، لا حاجة لى فى مبارزته. فقال له سنان: قد قلت فاستمع منّى أجبك. قال: لا حاجة لى فى جوابك، اذهب عنّى. فصاح به أصحابه، فانصرف عنه، ورجع إلى الأشتر فأخبره، فقال: لنفسه نظر. فوقفوا حتّى حجز اللّيل بينهم وعاد، الشاميّون من الليل [1] . وأصبح علىّ رضى الله عنه غدوة عند الأشتر، وتقدّم الأشتر ومن معه [2] فانتهى إلى معاوية، فواقفه، ولحق بهم علىّ، فتواقفوا طويلا. ثم إنّ عليّا طلب لعسكره موضعا ينزل فيه، فكان معاوية قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح [3] ، أخذ شريعة [4] الفرات، وليس فى ذلك الموضع شريعة غيرها، وجعل معاوية على الشّريعة أبا الأعور. فأتى الناس عليّا، فأخبروه بفعلهم، وتعطّش الناس، فدعا صعصعة بن صوحان، فأرسله إلى معاوية يقول: «إنّا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فقدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، [وبدأتنا بالقتال] [5] ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس

_ [1] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 566: «انصرفوا من تحت ليلتهم» . [2] فى تلك المقدمة. [3] كل موضع واسع يقال له «أفيح» . [4] الشريعة: مورد الناس أو الحيوان على الماء الجارى. [5] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 568.

من الماء، والناس غير منتهين [أو يشربوا] [1] ، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا» . فجاء صعصعة إلى معاوية وقصّ عليه الرسالة، فاستشار معاوية أصحابه وقال: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة وعبد الله [2] بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان، اقتلهم عطشا قتلهم الله! فقال عمرو بن العاص: «خلّ بين القوم وبين الماء فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن بغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم» . فأعاد الوليد وابن سعد مقالتهما، قالا: «امنعهم الماء إلى الليل، فإن هم لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! قال صعصعة: إنّما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق (يعنى الوليد ابن عقبة) . فشتموه وتهدّدوه. (وقد قيل: إنّ الوليد وابن أبى سرح لم يشهدا صفّين.) ورجع صعصعة فأخبر بما كان ... وسيّر معاوية الخيل إلى أبى الأعور ليمنعهم الماء. فلمّا سمع علىّ ذلك قال لأصحابه: قاتلوهم على الماء!. فقال الأشعث بن قيس الكندىّ: أنا أسير إليهم. فسار

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير، و «أو» بمعنى «إلى» أو «إلا» . [2] هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح بن الحارث بن حبيب القرشى العامرى. وكان أخا عثمان من الرضاعة، وسيذكره المؤلف قريبا بلفظ «ابن أبى سرح» ، وانظر الإصابة ج 2 ص 316- 317.

إليهم، فلما دنوا منهم ثاروا إلى وجوههم يرمونهم بالنّبل، فتراموا ساعة، ثم تطاعنوا بالرّماح، ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا [بها] [1] ساعة. وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلىّ القسرى (جدّ خالد بن عبد الله فى الخيل إلى أبى الاعور، فاقتتلوا ... وأرسل علىّ شبث بن ربعىّ الرياحى، فازداد القتال. فأرسل معاوية عمرو بن العاص فى جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور [ويزيد بن أسد] [2] .. وأرسل علىّ الأشتر فى جمع عظيم وجعل يمدّ الأشعث وشبثا.. فاشتدّ القتال حتى خلّوا بينهم وبين الماء، وصار فى أيدى أصحاب علىّ، فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام، فأرسل علىّ إلى أصحابه أن خذوا من الماء حاجتكم، وخلّوا عنهم، فإن الله تعالى نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم. ومكث علىّ رضى الله عنه يومين لا يرسل إليهم أحدا ولا يأتيه منهم أحد.

_ [1] الزيادة من ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 567. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 145.

ذكر ارسال على إلى معاوية وجوابه [1]

ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه [1] قال: ثمّ دعا علىّ رضى الله عنه أبا عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصارى وسعيد بن قيس الهمدانى وشبث بن ربعىّ التميمى، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله تعالى وإلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث يا أمير المؤمنين ألا نطمعه فى سلطان توليه إيّاه ومنزلة يكون له بها عندك أثرة إن هو بايعك؟ قال انطلقوا إليه واحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه. وكان ذلك أوّل ذى الحجة من سنة ست وثلاثين. فأتوه فدخلوا عليه، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصارىّ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإنى أنشدك الله أن لا تفرّق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها» . فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال «صاحبى ليس مثلك، إنّ صاحبى أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر فى الفضل والدّين والسابقة فى الاسلام والقرابة بالرسول [2] صلّى الله عليه وسلم» قال: فماذا تقول [3] ؟ قال نأمرك [4] بتقوى الله وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعو إليه من الحق فإنّه أسلم لك فى دنياك وخير لك فى عاقبة أمرك. قال معاوية: «ونترك دم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبدا!» قال: فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن

_ [1] زاد بعده فى المخطوطة: «وأيام صفين الستة» ، وسيأتى ذكر هذه الأيام الستة فى غير هذا الفصل. [2] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 571: «من الرسول» . [3] فى الكامل ج 3 ص 146: «يقول» . [4] فى الكامل: «يأمرك» .

ربعىّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية، قد فهمت ما رددت على ابن محصن، وإنّه والله لا يخفى علينا ما تطلب، إنك لم تجد شيئا تستغوى به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أنك أبطأت عليه بالنصر [1] ، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التى أصبحت تطلب، وربّ متمنّى أمر وطالبه يحول الله دونه، وربما أوتى المتمنى أمنيته وفوق أمنيّته، وو الله مالك فى واحدة منها خير، والله إن أخطاك ما ترجو إنّك لشرّ العرب حالا، وإن أصبت ما تتمنّاه لا تصيبه حتّى تستحقّ من ربّك صلّى النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله» . قال: محمد الله معاوية، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ أوّل ما عرفت به سفهك وخفّة حلمك أنّك قطعت على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثمّ اعترضت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولؤمت أيّها الأعرابىّ الجلف الجافى فى كلّ ما ذكرت ووصفت!. انصرفوا من عندى فليس بينى وبينكم إلّا السّيف!» وغضب، وخرج القوم، فقال له شبث [2] «أتهول بالسّيف؟ أقسم بالله لنعجّلنّها إليك!» . فأتوا عليّا رضى الله عنه فأخبروه بذلك. فكان علىّ يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه، ويخرج إليه آخر

_ [1] أى: عثمان. [2] أى: قال له وهو خارج، وعبارة ابن جرير الطبرى: «وخرج القوم وشبث يقول» ، وكذلك قال ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 211.

من أصحاب معاوية ومعه جماعة، فيقتتلان فى خيلهما، ثمّ ينصرفان. وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام خشية الاستئصال والهلاك. فكان علىّ يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدىّ الكندى، ومرة شبث بن ربعىّ، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النّضر الحارثى، ومرّة زياد بن خصفة التّيمىّ، ومرّة سعيد بن قيس الهمدانى، ومرّة معقل بن قيس الرّياحى، ومرّة قيس بن سعيد الأنصارى. وكان الأشتر أكثر خروجا. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبا الأعور السّلمى، وحبيب بن مسلمة الفهرى، وابن ذى الكلاع [1] الحميرى، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السّمط الكندى، وحمزة بن مالك الهمدانى. فاقتتلوا أيّام ذى الحجّة كلّها، وربّما اقتتلوا فى اليوم الواحد مرّتين.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة هنا مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وكان الأولى أن يقولوا: «وذا الكلاع» لأنه هو نفسه «ذو الكلاع الأصغر» الذى كان فى هذا العهد، فلا موجب لنسبته إلى جده الأكبر، وقد ذكره لفظ «ذى الكلاع» بن عبد البر وابن حجر وكثير من علماء الحديث، وسيذكره المؤلف أيضا بلفظ «ذى الكلاع» لابن جرير وابن كثير هنا لك. واسمه: «أسميفع» وقد يختصر فيقال «سميفع» أو «أيفع» ابن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذى الكلاع الأكبر، وكان ذو الكلاع الأصغر رئيسا فى قومه، وقد أسلم فكتب إليه النبى صلى الله عليه وسلم بالتعاون على مسيلمة الكذاب وغيره، وكان يكنى «أبا شرحبيل» أو «أبا شراحيل» .

ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم وما كان بينهما من المراسلة والأجوبة فى الشهر

ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم وما كان بينهما من المراسلة والأجوبة فى الشهر قال: وفى شهر المحرم سنة سبع وثلاثين جرت موادعة [1] بين علىّ رضى الله عنه ومعاوية بن أبى سفيان، توادعا على ترك الحرب بينهما حتّى ينقضى الشهر، طمعا فى الصلح.. واختلفت فيه بينهما الرسائل. فبعث على رضى الله عنه عدىّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبى وشبث بن ربعىّ وزياد بن خصفة. فتكلّم عدىّ بن حاتم، فحمد الله، فقال: «أمّا بعد، فقد جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمّتنا، ويحقن [2] به الدماء، ويصلح [3] به ذات البين، إنّ ابن عمّك سيّد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها فى الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصيبك [4] وأصحابك مثل يوم الجمل» . فقال له معاوية: «كأنك جئت مهدّدا لم تأت مصلحا، هيهات يا عدىّ، كلّا! والله إنّى لابن حرب [5] ،

_ [1] أى: مسالمة على ترك الحرب فى المدة المذكورة. [2] فى النسخة (ك) : «ونحقق» . [3] فى النسخة (ن) : «ونصلح» . [4] فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «لا يصبك» . [5] معاوية هو ابن أبى سفيان صخر بن حرب، فاسم جده «حرب» ، ولا تخفى مناسبة ذكره لحال الحرب.

ما يقعقع لى بالشّنان [1] ! وإنّك والله لمن المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإنى لأرجو أن تكون ممّن يقتله الله به» . فقال شبث وزياد بن خصفة جوابا واحدا: أتيناك فيما يصلحنا وإيّاك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال [2] ، دع ما لا ينفع، وأجبنا فيما يعمّ نفعه. وقال يزيد بن قيس: إنّا لم نأت إلّا لنبلّغك ما أرسلنا به إليك ونؤدّى عنك ما سمعنا منك، ولم نخدع أن ننصح لك، وأن نذكر ما تكون به الحجّة عليك، ويرجع إلى الألفة والجماعة، إنّ صاحبنا من قد عرف المسلمون فضيله، ولا يخفى عليك، فاتّق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنّا والله ما رأينا فى الناس رجلا قطّ أعمل بالتقوى ولا أزهد فى الدّنيا ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه» . فحمد الله معاوية، ثم قال: أمّا بعد، فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأمّا الجماعة التّى دعوتم إليها فنعمّاهى [3] ، وأمّا الطاعة

_ [1] (يضرب المثل) «ما يقعقع له بالشنان» لمن لا يتضع لحوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له. والقعقعة: تحريك الشىء يسمع له صوت، والشنان: جمع شن، وهى القربة البالية، وأصل المثل أنهم كانوا إذا أرادوا حث الإبل على السير حركوا قربة بالية يسمع لها صوت فتفزع الإبل وتسرع، قال النابغة: كأنك من جمال بنى أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن وقد تمثل بهذا المثل- بعد معاوية- الحجاج الثقفى فى خطبة مشهورة، انظر الكامل للمبرد شرحه رغبة الآمل ج 4 ص 76، 87. [2] سبق ذكر المثل «ما يقعقع لى بالشنان» ، وروى ابن جرير فى آخر كلام معاوية تمثله بمثل ثان هو «قد حلبت بالساعد الأشد» أى أخذت بالقوة إذ لم يتأت الرفق. [3] كذا جاء فى وقعة صفين ص 223 وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 344. وجاء فى المخطوطة: «فمعنا هى» .

لصاحبكم فإنّا لا نراها، لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا، وفرّق جماعتنا، وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنّه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، فليدفع إلينا قتلة صاحبنا لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال شبث بن ربعىّ: يا معاوية أيسرّك أن تقتل عمّارا؟ قال «وما يمنعنى من ذلك؟ والله لو تمكّنت من ابن سميّة لقتلته بمولى عثمان [1] !» فقال شبث: «والذى لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتّى تندر الهام [2] عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك!» فقال معاوية: «لو كان كذلك لكانت عليك أضيق!» . وتفرّق القوم. وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة، فخلا به، وقال له: «يا أخا ربيعة، إنّ عليّا قطع أرحامنا، وقتل إمامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإنّى أسألك النصر عليه بعشيرتك، ثم لك عهد الله وميثاقه أن أولّيك إذا ظهرت [3] أىّ المصرين أحببت» . فقال زياد: «أمّا بعد، فإنى على بيّنة من ربّى، وبما [4] أنعم الله علىّ فلن أكون ظهيرا [5] للمجرمين!» وقام فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلّم رجلا منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلّا كقلب واحد!.

_ [1] فى رواية ابن أبى الحديد: «كنت أقتله بنائل مولى عثمان» . [2] تندر الهام: تسقط الرءوس. [3] ظهرت: غلبت. [4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 3 ووقعة صفين ص 224، وقد جاء فى القرآن الكريم قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وجاء فى المخطوطة: «وما» . [5] ظهيرا: عونا.

وبعث معاوية إلى علىّ حبيب بن مسلمة الفهرىّ وشرحبيل بن السّمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد فإنّ عثمان كان خليفة مهديّا، يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّونه من أجمعوا عليه» . فقال له علىّ رضى الله عنه: «ما أنت- لا أمّ لك- والعزل وهذا الأمر [1] ؟ اسكت! لست هنالك ولا بأهل له» . فقال؛: والله لترينّى بحيث تكره! فقال على: «وما أنت؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوّب وصعّد ما بدالك!» وقال شرحبيل؛ «ما كلامى إلّا مثل كلام صاحبى، فهل عندك جواب غير هذا!» فقال علىّ نعم [2] ، عندى جواب غيره:. ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: (أمّا بعد، فإنّ الله تعالى بعث محمدا بالحق، فأنقذ به من الضلالة والهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه، فاستخلف الناس أبا بكر، [ثم] [3] استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا [فى الأمة] [4] ، وقد وجدنا عليهما أن

_ [1] أصل العبارة عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 345: «ما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول فى هذا الأمر» . [2] كذا جاء فى رواية ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 4 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 345، وهذا هو الظاهر المناسب لما بعده، وجاء فى المخطوطة: «ليس» . [3] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وفى المخطوطة: «و» . [4] الزيادة من ابن جرير الطبرى وابن أبى الحديد وابن مزاحم فى وقعة صفين ص 226.

تولّيا الأمور [دوننا] [1] ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفرنا لهما ذلك، وولى الناس عثمان، فعمل بأشياء عابها الناس، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتانى الناس [وأنا معتزل أمورهم] [2] ، فقالوا لى: بايع. فأبيت، فقالوا: بايع فإنّ الأمّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يتفرّق الناس. فبايعتهم، فلم يرعنى إلّا شقاق رجلين قد بايعانى! وخلاف معاوية الذى لم يجعل [الله عزّ وجلّ له] [3] سابقة فى الدّين، ولا سلف صدق فى الإسلام، طليق ابن طليق، وحزب [4] من الأحزاب، لم يزل حربا لله ولرسوله هو وأبوه حتّى دخلا فى الإسلام كارهين، ولا عجب إلّا من خلافكم [5] معه، وانقيادكم له، وتتركون آل بيت [6] نبيّكم الذين لا ينبغى لكم شقاقهم ولا خلافهم، ألا إنّى أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم وللمؤمنين» . فقالا: تشهد أنّ عثمان قتل مظلوما. قال: لا أقول «إنّه قتل ظالما أو مظلوما» . قالا: من لم يزعم أنه قتل مظلوما فنحن منه براء. وانصرفا فقال علىّ رضى الله عنه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ

_ [1] الزيادة من ابن أبى الحديد. [2] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد. [3] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد. [4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وجاء فى المخطوطة: «حزبا» . [5] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب ل «خلافهم» الآتى بعده، وفى المخطوطة اختلافكم» . [6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «آل نبيكم»

عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [1] . ثمّ قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء فى الجدّ فى ضلالهم أجدّ منكم فى الجدّ فى حقّكم. قال: ولما انسلخ شهر الله المحرّم وانقضت مدّة الموادعة أمر علىّ رضى الله عنه مناديا فنادى [2] : «يا أهل الشام، يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن الطّغيان، ولم تجيبوا إلى الحقّ، وإنى قد نبذت إليكم على سواء [3] ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين» . قال: واجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتّبان الكتائب [4] ويعبئان الناس، وكذلك فعل علىّ رضى الله عنه. وقال علىّ للناس: لا تقاتلوهم حتّى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجّة، وترككم قتالهم [حتّى يبدءوكم] [5] حجّة أخرى

_ [1] الآيتان 80، 81 من سورة النمل. [2] ذكر نصر بن مزاحم وابن أبى الحديد أن المنادى مرثد بن الحارث الجشمى. [3] أى إنى قد طرحت إليكم عهدكم مستو أنا وأنتم فى العلم بإنهاء الموادعة التى كانت بينى وبينكم، يريد أنه لم يغدر بهم فيقاتلهم بغتة، بل أعلمهم بنبذ الموادعة، ليكون الطرفان على سواء فى العلم بذلك والاستعداد للخطوة التالية، وهذا مأخوذ من الآية 58 فى سورة الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. [4] الكتائب: جمع كتيبة، وهى القطعة من الجيش، وتكتيب الكتائب إعدادها. [5] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى، وهى فى نهج البلاغة مع شرحه لابن أبى الحديد ج 3 ص 417، وقد ذكرها ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 230.

فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [1] ، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل [2] ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا [إلّا بإذن] [3] ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم [إلّا ما وجدتم فى عسكرهم] [4] ، ولا تهيجوا امرأة [بأذى] [5] ، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّهنّ ضعاف القوى، والأنفس [6] . وحرّض أصحابه فقال رضى الله عنه: عباد الله، اتّقوا الله، وغضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة [7] والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [8] وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [9] اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.

_ [1] فى النهاية: «حديث على رضى الله عنه: لا يجهز على جريحهم. أى من صرع منهم وكفى قتاله لا يقتل، لأنهم مسلمون، والقصد من قتالهم دفع شرهم، فإذا لم يمكن ذلك إلا بقتلهم قتلوا» . [2] «مثل» بفتح الثاء مع تشديدها أو تركه، يقال: مثل بالقتيل، إذا قطع شيئا من أطرافه. [3] ، (4) ، (5) الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى. [6] فى الكامل ج 3 ص 149 بعد هذا. «وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه فى كل موطن» .. وأصل ذلك ما رواه نصر بن مزاحم عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا كان يأمرنا فى كل موطن لقينا معه عدوه ... الخ انظر وقعة صفين ص 229- 230 وابن أبى الحديد ج 1 ص 345. [7] كذا جاء فى المخطوطة والكامل ج 3 ص 150 وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 7 وشرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «والمبارزة» . [8] من الآية 45 فى سورة الأنفال. [9] من الآية 46 فى سورة الأنفال.

وأصبح علىّ رضى الله عنه فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى خيل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجّالة الكوفة عمّار بن ياسر، وعلى رجّالة البصرة قيس بن سعد بن عبادة، وهاشم بن عتبة بن أبى وقّاص المعروف بالمرقال [1] وجعل معه الراية، وجعل مسعر بن فدكىّ على قرّاء أهل الكوفة وأهل البصرة [2] . وبعث معاوية على ميمنته ابن ذى الكلاع الحميرىّ [3] ، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهّرىّ، وعلى مقدّمته أبا الأعور السّلمى و [كان] على خيل دمشق، [و] [4] عمرو بن العاص [على خيول الشام كلها] [4] وعلى رجّالة دمشق [4] مسلم بن عقبة المرى، وعلى [رجّالة] [5] الناس كلهم الضحاك بن قيس.. وبايع [6] رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكانوا خمسة صفوف. والتقوا أوّل يوم من صفر سنة سبع وثلاثين، وكان الذى خرج فى هذا اليوم الأشتر على أهل الكوفة، وحبيب بن مسلمة على أهل

_ [1] فى القاموس: والمرقال هاشم بن عتبة، لأن عليا رضى الله عنه أعطاه الراية بصفين فكان يرقل بها (أى: يسرع) ، وقال ابن جرير فى تاريخ ج 4 ص 31 هاشم يدعى المرقال لأنه كان يرقل فى الحرب. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير: «على قراء الكوفة وأهل البصرة» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر» . [3] انظر ما سبق، وفى شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «ذا الكلاع الحميرى» [4] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى. [5] فى المخطوطة: «وعلى رجالتها» ، وصرح ابن جرير ب «دمشق» . [6] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وتبايع» ، والذى هناك «وقعة صفين» ص 239.

الشام، فاقتتلوا عامّة النهار، ثمّ تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. ثمّ خرج فى اليوم الثانى هاشم بن عتبة فى خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السّلمى، فاقتتلوا يومهم ذلك، ثمّ انصرفوا. وخرج فى اليوم الثالث عمّار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشدّ قتال، وقال عمّار لزياد بن النّضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النّضر أخاه لأمّه [1] واسمه: عمرو بن [2] معاوية من بنى المنتفق، فلمّا التقيا تعارفا، فانصرف كلّ واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس وخرج من الغد فى اليوم الرابع محمد بن علىّ، هو «ابن الحنفيّة» وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، فى جمعين عظيمين، فاقتتلوا أشدّ القتال، وأرسل عبيد الله إلى محمد يدعوه للمبارزة، فخرج إليه، فحرّك علىّ دابّته، وردّ ابنه، وبرز علىّ إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وتراجع الناس [3] . وخرج فى اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس، خرج إليه الوليد

_ [1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وأمهما هند الزبيدية» . [2] فى (وقعة صفين) ص 241 «يقال له معاوية بن عمرو العقيلى» . [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 480 وغيره: «فقال ابن الحنفية: يا أبت لم منعتنى من مبارزته فو الله لو تركتنى لرجوت أن أقتله. قال على رضى الله عنه: يا بنى لو بارزته أنا لقتلته، ولو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك» .

لبن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وطلب ابن عبّاس الوليد ليبارزه فأبى، ثم انصرفا. [وخرج فى اليوم السادس قيس بن سعد الأنصارى وخرج إليه ابن ذى الكلاع الحميرىّ، فاقتتلوا قتالا شديد، ثم انصرفوا.] [1] قال [2] : ثم عاد الأشتر يوم الثلاثاء [3] ، وخرج إليه حبيب، فاقتتلا قتالا شديدا، وانصرفا عند الظهر. ثم إنّ عليّا رضى الله عنه قال: حتّى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام فى الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذى لا يبرم ما نقض، وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه، ولا اختلفت الأمّة فى شىء، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فنحن بمرأى من ربّنا ومسمع، فلو شاء عجّل النّقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الظالم، ويعلم المحقّ [4] أين مصيره، ولكنّه جعل الدّنيا دار الأعمال [5] ، وجعل الآخرة دار القرار، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [6] ، ألا وإنكم لاقو القوم غدا،

_ [1] الزيادة من الكامل ج 3 ص 150. [2] ابن الأثير فى الكامل. [3] قال ابن جرير «اليوم السابع» ثم قال: «وذلك يوم الثلاثاء» . [4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 481، وجاء فى المخطوطة «الحق» . [5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «الأغمار» . [6] من الآية 31 من سورة النجم.

ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة فى يومى الأربعاء والخميس وليلة الهرير ويوم الجمعة إلى أن رفعت المصاحف وتقرر أمر الحكمين.

فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله النصر والصبر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين. فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كعب بن جعيل [1] فقال: أصبحت الأمّة فى أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا صادقا غير كذب: ... إنّ غدا تهلك أعلام العرب! ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة فى يومى الأربعاء والخميس وليلة الهرير ويوم الجمعة إلى أن رفعت المصاحف وتقرّر أمر الحكمين. قال [2] : وعبّأ علىّ رضى الله عنه الناس ليلته حتّى الصباح، وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية فى أهل الشام، فسأل علىّ عن القبائل من أهل الشام، فعرف مواقفهم، فقال للأزرد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، إلّا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة، لم يكن بالشام منها أحد إلّا القليل، فصرفهم إلى لخم. فتناهض الناس يوم الأربعاء [3] ، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب.

_ [1] قال ابن أبى الحديد: وبات كعب بن جعيل التغلبى شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز وينشد ... الخ، والرجز هناك أكثر مما هنا. انظر وقعة صفين ص 253. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 151. [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 483: «يوم الأربعاء سادس صفر» .

فلمّا كان يوم الخميس صلّى علىّ بغلس، وخرج بالناس إلى أهل الشام، وجعل علىّ رضى الله عنه على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ (وله صحبة [1] ، وكان ممّن أسلم يوم الفتح، وقيل: قبله) ، وجعل على ميسرته عبد الله بن عبّاس، والقرّاء مع ثلاثة نفر: عمّار بن ياسر وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلىّ رضى الله عنه فى القلب فى أهل المدينة بين أهل الكوفة والبصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة. وزحف علىّ رضى الله عنه بهم إلى أهل الشام، ورفع معاوية قبّة عظيمة، وألقى عليها الثياب، وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبّته خيل دمشق، وزحف عبد الله بن بديل فى الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو فى الميسرة، فلم يزل يحوزهم [2] ويكشف خيلهم حتّى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظّهر. وحرّض عبد الله بن بديل أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبىّ عليه الصلاة والسلام: ألا إنّ معاوية ادّعى ما ليس له، ونازع الحقّ أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، وصال عليكم، بالأعراب والأحزاب الذين زيّن لهم الضّلالة، وزرع فى قلوبهم حبّ الفتنة، ولبّس عليهم الأمر، وزادهم رجسا إلى رجسهم، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين،

_ [1] انظر الاستيعاب ج 2 ص 268 والإصابة ج 2 ص 280. وجمهرة أنساب العرب ص 227. [2] يحوزهم: يجمعهم ويسوقهم.

فقاتلوا الطّغاة الجفاة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [1] ، قاتلوا الفئة الباغية الّذين نازعوا الأمر أهله، وقد قاتلتموهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما هم فى هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ، قوموا إلى عدو الله وعدوّكم رحمكم الله [2] . وقال الشّعبى [3] : كان عبد الله بن بديل رحمه الله فى صفّين عليه درعان وسيفان، وكان يضرب أهل الشام ويقول: لم يبق إلا الصبر والتوكل ... مع التمشى فى الرعيل الأول مشى الجمال فى حياض المنهل ... والله يقضى ما يشاء ويفعل [4] ولم يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية فأزاله عن موقفه وأزال أصحابه الذين كانوا معه. (وسنذكر خبر مقتله فى هذا اليوم فى موضعه إن شاء الله تعالى) . قال: وحرّض علىّ رضى الله عنه أصحابه، فقال رضى الله عنه فى كلام له: فسوّوا [5] صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدّموا

_ [1] الآية 14 من سورة التوبة. [2] اعتمد المؤلف فى نقل هذه الخطبة على كتاب الاستيعاب ج 2 ص 270. [3] انظر الاستيعاب والإصابة ج 2 ص 281. [4] روى ابن أبى الحديد ج 1 ص 486 هذا الرجز هكذا: لم يبق غير الصبر والتوكل ... والترس والرمح وسيف مصقل ثم التمشى فى الرعيل الأول ... مشى الجمال فى حياض المنهل فتجىء القافية مكسورة اللام. وما هنا مثل (وقعة صفين) ص 276. [5] ذكر على قيل ذلك قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ الآية 4 من سورة الصف، انظر ابن أبى الحديد ج 1 ص 3704.

الدّارع [1] ، وأخروا الحاسر [2] ، وعضّوا على الأضراس [3] ، فإنّه أنبى [4] للسّيوف عن الهام، والتووا فى أطراف الرّماح، فإنّه أمور [5] للأسنّة [6] ، وغضّوا الأبصار، فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدى شجعانكم واستعينوا بالصدق والصبر، فإن [7] بعد الصبر ينزل النصر. قال: وقام يزيد بن قيس الأرحبىّ يحرّض الناس، فقال: إنّ المسلم من سلم فى دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله ما يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونو جبّارين فيها ملوكا، فلو ظهروا عليكم- لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا- لرموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السّفيه الضّالّ، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده فى مجلسه، ثم يقول: «هذا لى ولا إثم علىّ» ، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه، وإنما هو مال الله أفاءه [8] الله علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا

_ [1] الدارع: لابس الدرع. [2] الحاسر: الذى لا درع عليه ولا مغفر. [3] قال ابن أبى الحديد: يجوز أن يريد أمرهم بالحنق والجد، ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ ورباطاته. [4] نبا السيف عن الرأس: كل ولم يحك فيه. [5] كذا ورد منصوصا عليه فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 267 ووقع فى المخطوطة وغيرها (أصون) . [6] قال ابن أبى الحديد: أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا، لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحرى أن يمور السنان، أى يتحرك عن موضع الطعنة فيخرج زالقا، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ فيقتل. [7] كذا جاء فى المخطوطة، ولعله «فإنه» . [8] أفاءه الله علينا: رده علينا وجعله لنا من أموال من خالف دينه.

عباد الله القوم الظالمين، فإنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وخبرتم، والله ما ازدادوا إلى يومهم إلّا شرّا [1] . قال: ولما انتهى عبد الله بن بديل بمن معه إلى قبّة معاوية؛ أقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل فى الميمنة، وبعث الى حبيب بن مسلمة فحمل بالميسرة على ميمنة علىّ فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتّى لم يبق إلّا ابن بديل فى مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء، قد استند بعضهم إلى بعض، وانجفل [2] الناس. وأمر علىّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من اهل المدينة، فاستقبلتهم جموع عظيمة لأهل الشام فاحتملتهم حتّى أوقفتهم فى الميمنة، وكان أهل اليمن فيما بين الميمنة إلى موقف علىّ فى القلب، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علىّ رضى الله عنه، فانصرف يمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة، ودنا أهل الشام منه فما زاده قربهم إلا إسراعا وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علىّ رضى الله عنه معه، والنّبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه [3] ، وما من بنيه أحد إلّا يقيه بنفسه، فبصر به أحمر مولى أبى سفيان أو عثمان، فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علىّ فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر، فأخذ علىّ

_ [1] عند ابن أبى الحديد ج 2 ص 485: «والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا» . [2] انجفل الناس: انقلعوا وأسرعوا فى الهزيمة. [3] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «بين عاتقيه ومنكبيه» .

بجنب [1] درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه. قال: ولما دنا منه أهل الشام قال له الحسن رضى الله عنه: ما ضرّك لو سعيت حتّى تنتهى إلى هؤلاء القوم من أصحابك؟ فقال: يا بنىّ إنّ لأبيك يوما لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السّعى، ولا يعجّل به إليه المشى، إنّ أباك والله لا يبالى أوقع على الموت أم وقع الموت عليه! قال: ولما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها، فصبّرهم وثبّت أقدامهم ... وقال لحضين [2] بن المنذر: يا فتى ألا تدنى رايتك هذه ذراعا؟ قال؛ والله عشرة أذرع. فأدناها حتّى قال علىّ رضى الله عنه: حسبك مكانك. قال ولمّا انتهى علىّ إلى ربيعة تنادوا بينهم: إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حىّ افتضحتم فى العرب! فقاتلوا قتالا شديدا ما قاتلوا مثله، فلذلك قال على رضى الله عنه [3] : لمن راية سوداء [4] يخفق ظلّها ... إذا قيل «قدّمها حضين» تقدّما

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 152: «بجيب» ، وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «فى جيب» . [2] كذا جاء (حضين) بالنون عند الطبرى وابن الأثير وابن أبى الحديد وغيرهم، وجاء فى المخطوطة: «حضير» . [3] قال ابن أبى الحديد: «أقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف برأيه ربيعة- وكانت حمراء- فأعجب عليا عليه السلام زحفه وثباته فقال: ... » [4] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير والكامل للمبرد ومروج الذهب وجمهرة أنساب العرب ولسان العرب (ح ض ن) . وجاء فى شرح ابن أبى الحديد: «حمراء» .

ويقدمها فى الموت حتّى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتّى تولّى وأحجما [1] جز الله قوما صابروا فى لقائهم ... لدى الموت قوما [2] ما أعفّ وأكرما! وأطيب أخبارا وأكرم شيمة [3] ... إذا كان أصوات الرّجال تغمغما [4] ربيعة أعنى أهل بأس ونجدة ... إذا ماهمو لاقوا خميسا عرمرما [5] قال: ومرّ الأشتر بعلىّ وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع [6] قبل الميمنة، فقال له علىّ: إيت هؤلاء القوم فقل لهم «أين فراركم من الموت الذى لن تعجزوه إلى الحياة التى لا تبقى لكم؟» . فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم ما قال علىّ، ثم قال: «أيّها الناس أنا الأشتر، إلىّ أنا الأشتر» ، فأقبل

_ [1] قيل: إن هذا البيت من أبيات لحضين بن المنذر نفسه صاحب الراية. [2] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء فى شرح ابن أبى الحديد وكتب النحو- باب التعجب- وشواهده: «خيرا» ، وهناك تغير آخر فى البيت. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء عند ابن أبى الحديد: «وأحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى» . [4] الغمغم: ما يحدث من الأصوات عند القتال. [5] خميسا عرمرما: جيشا كثيرا، وسمى الجيش بالخميس لأنهم كانوا يقسمونه بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب. [6] الفزع يأتى فى العربية بمعنى الخوف والاستناثة والإغاثة.

إليه بعضم وذهب البعض، فنادى: «أيّها الناس، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أخلصوا إلىّ مذحجا [1] » فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: «ما أرضيتم ربّكم، ولا نصحتم له فى عدوّكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب [2] ، وأصحاب الغارات، وفتيان الصياح، وفرسان الطّراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطّعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطلّ دماوهم، وما تفعلون [3] هذا اليوم فإنه مأثور عنكم بعده، فانصحوا واصدقوا عدوّكم اللقاء، فإن الله مع الصادقين، والذى نفسى بيده ما من هؤلاء- وأشار إلى أهل الشام- رجلّ على مثل جناح بعوضة من محمد [4] ، اجلوا سواد وجهى يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه!» . قالوا: تجدنا [5] حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم ممّا يلى الميمنة يزحف إليهم ويردّهم. واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا فى الميمنة حتّى أصبب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسا: كان أوّلهم ذؤيب بن [6] شريح، ثم

_ [1] كان الأشتر ينتسب إلى مذحج، ويقول فى رجزه فى حرب صفين: إنى أنا الأشتر معروف الشتر ... إنى أنا الأفعى العرافى الذكر لست ربيعيا ولست من مضر ... لكننى من مذحج الشم الترر [2] جاء فى رواية ابن جرير: «الحروب» . [3] جاء فى رواية ابن جرير «تفعلوا» فتكون (ما) قبلها شرطية جازمة. [4] هكذا جاء فى المخطوطة كما فى تاريخ ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير «من دين» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «من دين الله» . [5] عند ابن أبى الحديد: «خذبنا» . [6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى وابن أبى الحديد: «كريب» .

شرحبيل، ثم مرثد، ثم هبيرة، ثم يريم، ثم سمير، أولاد شريح قتلوا [1] ، ثم أخذ الراية عميرة [2] ثم الحارث ابنا بشير [3] فقتلا، ثم أخذها سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعا [4] ، ثم أخذ الراية وهب بن كريب فانصرف هو وقومه وهم يقولون: «ليت لنا عدّتنا من العرب، يحالفوننا على الموت، ثمّ نرجع، فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر!» ، فسمعهم الأشتر فقال لهم: أنا أحالفكم لى ألّا نرجع أبدا حتّى نظفر أو نهلك جميعا! فوقفوا معه. قال: وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلّا كشفها، ولا جمعا إلّا حازه وردّه، وقاتل قتالا شديدا، ولزمه الحارث بن جمهان [5] الجعفىّ، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتّى كشف أهل الشام، وألحقهم بمعاوية والصفّ الذى [6] معه، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل بن ورقاء وهو فى عصابة من القرّاء نحو المائتين أو الثلاثمائة قد لصقوا بالأرض كأنّهم

_ [1] يعنى أن هؤلاء الرؤساء الستة كانوا إخوة أبناء شريح، وقد قتلوا فى هذه المعركة واحدا بعد واحد. [2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى: «عميم» . [3] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وجاء فى المخطوطة: «بشر» . [4] ذكر الطبرى قتل هؤلاء الإخوة الثلاثة قبل قتل عميرة والحارث، وما جاء هنا مثل ما ذكره ابن الأثير فى الكامل. [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (جهمان) ويأتى الاختلاف أيضا فيما سيجىء. [6] كذا جاء فى (ك) ، وجاء فى (ن) : «الذين» .

جثا [1] ، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم، فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين (قال: حىّ صالح فى الميسرة يقاتل الناس أمامه. فقالوا: الحمد لله قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم. ثم قال عبد الله بن بديل رحمه الله [لأصحابه] [2] : استقدموا بنا. فقال له الأشتر: «لا تفعل، واثبت مع الناس، فقاتل، فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك» ، فأبى، ومضى نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال، وخرج عبد الله أمام أصحابه فقتل من دنا منه، حتّى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتّى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين، فبعث الأشتر الحارث بن جمهان الجعفىّ، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله، حتّى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر. وحكى أبو عمر ابن عبد البر عن الشعبى فى قتل عبد الله: أنّه لما انتهى إلى معاوية أزاله وأزال أصحابه عن مواقفهم، وكان مع معاوية يومئذ عبد الله بن عامر، فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرجمونه بالحجارة حتّى أثخنوه، وقتل، فأقبل معاوية وعبد الله بن عامر معه، فألقى عليه ابن عامر عمامته غطّى بها وجهه، وترحّم عليه [3] ، فقال معاوية: اكشفوا وجهه. فقال ابن عامر: والله لا تمثل [4] به وفىّ روح! فقال معاوية: اكشفوا عن وجهه فقد وهبناه لك. ففعلوا،

_ [1] الجثا: جمع جثوة، بمعنى أتربة مجموعة. [2] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «وكان له من قبل أخا وصديقا» . [4] فى الاستيعاب ج 2 ص 269: «بمثل» بالياء مبنيا للمجهول.

فقال معاوية: هذا كبش [1] القوم ورب الكعبه، اللهم أظفر بالأشتر والأشعث بن قيس، والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر [2] : أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت يوما به [3] الحرب شمّرا كليث هزبر كان يحمى ذماره ... رمته المنايا قصدها فتقطّرا ثمّ قال معاوية: إنّ نساء خزاعة لو قدرت أن تقاتلنى فضلا عن رجالها لفعلت. انتهى كلام الشّعبى [4] . قال: وزحف الأشتر لعكّ والأشعريّين، وقال لمذحج: اكفو ناعكّا. ووقف فى همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعريّين. فاقتتلوا قتالا شديدا إلى المساء، وقاتلهم الأشتر فى همدان وطوائف من الناس، فما زال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقوهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقّلين بالعمائم.

_ [1] يطلق العرب لفظ «الكبش» مجازا على قائد القوم ورئيسهم وحاميهم والمنظور إليه فيهم، قال عمرو بن معد يكرب: نازلت كبشهمو ولم ... أو من نزال الكبش بدا وقال عمرو بن الإطنابة: والضاربين الكبش يبرق بيضه ... الخ. [2] هو حاتم طيىء، كما ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 16. [3] عند ابن أبى الحديد: (وإن شمرت عن ساقها.....) . [4] انظر روايته فى (وقعة صفين) ص- 276- 278.

ودعا معاوية بفرسه فركبه، وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة [1] وكان جاهليا: أبت لى عفّتى [2] وأبى بلائى ... وإقدامى على البطل المشيح [3] وإعطائى على المكروه مالى [4] ... وأخذى الحمد بالثّمن الرّبيح وقولى كلّما جشأت وجاشت [5] : ... مكانك تحمدى أو تستريحى [6]

_ [1] ابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك الخزرجى الشاعر، والإطنابة: أمه، وهى امرأة من بلقين كما قال ابن جرير الطبرى. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 17 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 154 والأمالى للقالى ج 1 ص 258 والبداية والنهاية ج 7، ص- 264 والمزهر السيوطى ج 2 ص 197 ومجالس ثعلب ج 1 ص 83 ولباب الآداب ص 223، وجاء فى النسخة (أ) : «همتى» وجاء فى العقد الفريد ج 1 ص 104: «شيمتى» . [3] قال العينى فى شواهده الكبرى ج 4 ص 415 والسيوطى فى شرح المعنى ص 186: المشيح: المجد فى لأمر. [4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخى ابن جرير وابن الأثير والبداية والنهاية ج 7 ص 265، وجاء فى أمالى القالى ومجالس ثعلب والمزهر: «وإعطائى على الإعدام مالى» ، وجاء فى الكامل للمبرد ج 2 ص 23: «وإجشامى على المكروه نفسى» وجاء فى العقد الفريد وشواهد العينى وشواهد السيوطى ولباب الآداب ولسان العرب (ش ى ح) : «وإقدامى على المكروه نفسى» . [5]- هذه الرواية المشهورة، يريد بقوله (جشأت) نفسه، أى ارتفعت إليه من فزع وحزن، وجاشت أى خافت فهمت بالفرار. وقال البكرى فى شرح أمالى القالى ج 1 ص 574 575 من سمط الآلى: «وروى غير واحد: وقولى كلما جشأت لنفسى وهو أحسن» وهذه الرواية هى التى جاءت فى لسان العرب (ج ش أ) . [6] «مكانك» اسم فعل بمعنى اثبتى، وقوله «تحمدى» مضارع على صيغة المجهول مجزوم لوقوعه فى جواب الطلب باسم الفعل، أى: اثبتى تحمدى، أو تستريحى. وفى مجالس ثعلب: «مكانك تعذرى، أو تستريحى» .

قال [1] : فمنعنى هذا القول [2] من الفرار، ونظر إلى عمرو فقال له: «اليوم صبر، وغدا فخر» . فقال: صدقت. قال [3] : وتقدم عقبة بن حديد النميرى [4] وهو يقول: «ألا إن مرعى الدّنيا أصبح هشيما [5] ، وشجرها حصيدا [6] ، وجديدها سملا [7] ، وحلوها مرّ المذاق، وإنى قد سئمت الدنيا، وإنّى أتمنى الشهادة وأتعرض لها فى كل جيش وغارة، فأبى الله إلا أن يبلغنى هذا اليوم، وإنّى متعرّض لها من ساعتى هذه، وقد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله! (فى كلام طويل) [8] ، وقال: يا إخوتى، قد بعت هذه الدار بالّتى أمامها، وهذا وجهى إليها! فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك! فقاتلوا حتى قتلوا، وهم من أصحاب علىّ. وكان ممن قتل فى هذا اليوم من أصحاب علىّ أبو شداد قيس ابن المكشوح، واسم المكشوح [9] : هبيرة بن هلال (عند

_ [1] أى معاوية. [2] انظر رواية القالى لقول معاوية، وقد ذكر السيوطى فى شواهده ما قيل فى هذه الأبيات «أنها أجود ما قيل فى الصبر فى مواطن الحروب» وقد افتتح البحترى بها حماسته. [3] ابن الأثير فى الكامل. [4] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وعند ابن جرير: «النمرى» . [5] هشيما: يابسا متكسرا. [6] حصيدا: مقطوعا، وفى الكامل لابن الأثير: «خضيدا» . [7] سملا: باليا. [8] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 19. [9] المكشوح لقب قيل له لأنه ضرب على كشحه، أو كوى عليه.

أكثرهم) ، وكان قيس يومئذ صاحب راية بجيلة، وذلك أن بجيلة قالت له: يا أبا شداد خذ رايتنا اليوم. فقال: غيرى خير لكم. قالوا: ما نريد غيرك. قال فو الله لئن [1] أعطيتمونيها لا أنتهى بكم دون صاحب الترس المذهب (وكان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستر به معاوية من الشمس) ، قالوا: اصنع ما شئت. فأخذ الراية ثم زحف بها، فجعل يطاعنهم حتى انتهى إلى صاحب التّرس، وكان فى خيل عظيمة، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وشد أبو شداد على صاحب التّرس- وقيل: كان صاحب التّرس المذهب عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فاعترضه دونه مولّى رومىّ لمعاوية، فضرب قدم أبى شدّاد فقطعها، وضربه أبو شدّاد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتلوه، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسى، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل فى يده حتى تحاجز الناس.. وقتل غير هؤلاء ممن له صحبة. قال: وخرجت حمير فى جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، وتقدمهم ذو الكلاع [2] ، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عبّاس، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبى ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله

_ [1] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 18، وجاء فى الاصابة ج 3 ص 275 «إن» وجاء فى المخطوطة: «لو» . [2] هو ذو الكلاع الأصغر، ومن أجداده ذو الكلاع الأكبر، والتعبير هنا ب «ذو الكلاع» أولى من التعبير ب «ابن ذى الكلاع» فيما سبق.

ابن عمر وقال: يا أهل الشام، إن هذا الحى من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علىّ، فشدوا على الناس شدّة عظيمة، فثبتت ربيعة وصبرت صبرا حسنا إلّا قليلا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالا حسنا، ثم تراجع من انهزم من ربيعة، واشتد القتال حتّى كثرت القتلى، فقتل سمير بن الريان العجلىّ، وكان شديد البأس، وأتى زياد بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير، وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم! فقاتلوا معهم، فقتل ذو الكلاع الحميرى وعبيد الله بن عمر ابن الخطاب، وجرح عمّار بن ياسر فقال: «اللهمّ إنّك تعلم [أنّى] [1] لو أعلم أن رضاك فى أن أضع ظبة [2] سيفى فى بطنى ثم أنحنى عليها حتّى تخرج من ظهرى لفعلته! وإنّى لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته! والله إنّى لأرى قوما ليضربنّكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات [3] هجر لعلمت أننا على الحق وأنّهم على الباطل!» ثم قال: «من يبتغى رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد!» فأتاه عصابة فقال: «اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب

_ [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [2] ظبة السيف: طرفه وحده. [3] هكذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير والاستيعاب وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة والنهاية ولسان العرب، قال صاحب النهاية: «السعفات: جمع سعفة، بالتحريك وهى أغصان النخيل قيل: إذا يبست سميت سعفة وإذا كانت رطبة فهى شطبة وإنما خص هجر للمباعدة فى المسافة ولأنها موصوفة بكثرة النخيل (. وجاء فى النسخة (ن) : «شعاف» وفى النسخة (ك) : «شعاب» .

بدمه، ولكنّهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها، وعلموا أنّ الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه منها، ولم تكن لهم سابقة [1] يستحقّون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، فبلغوا ما ترون، ولولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان، اللهمّ إن تنصرنا فطال ما نصرت، وإن جعلت لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا فى عبادك العذاب الأليم!» ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمرّ بواد من أودية صفّين إلّا تبعه من كان هناك من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم. ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص- وهو المرقال- وكان صاحب راية علىّ رضى الله عنه، فقال: «يا هاشم، أعورا وجبنا؟ لا خير فى أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم» . فركب معه وهو يقول [2] . أعور يبغى أهله محلّا ... قد عالج الحياة حتّى ملّا لا بدّ أن يفلّ [3] أو يفلّا ... يتلّهم [4] بذى الكعوب [5] تلّا وعمّار يقول: «تقدّم يا هاشم، الجنّة تحت ظلال السيوف،

_ [1] فى تاريخ ابن جرير: «سابقة فى الإسلام» . [2] انظر ابن أبى الحديد ج 2 ص 269 ففيه زيادة. [3] يقل: يكسر. [4] يتلهم: يصرعهم، هكذا جاء (يتلهم) بالباء عند وابن جرير وابن الأثير ولم ينقط الحرف الأول فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «نتلهم» بالنون. [5] ذو الكعوب: الرمح.

والموت [فى] [1] أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزيّنت الحور العين، اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه [2] !» وتقدّم حتّى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: «يا عمرو، بعت دينك بمصر! تبّا لك! تبّا لك!» فقال: لا ولكن أطلب دم عثمان. قال: «أشهد على علمى فيك إنّك لا تطلب بشىء من فعلك وجه الله، وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا، فانظر إذا أعطى الناس على نيّاتهم ما نيّتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرابعة ما هى بأبرّ ولا أتقى!» . ثم قاتل عمّار فلم يرجع، وقتل، وقال قبل أن يقتل: إيتونى بآخر رزق لى من الدنيا! فأتى بضياح من لبن فى قدح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية، وإنّ آخر رزقه ضياح من لبن» (والضياح) ؛ الممزوج بالماء من اللبن [3] . قال: وقتلة أبو الغاديه [4] ، واحتزّ رأسه ابن حوىّ [5]

_ [1] الزيادة من ابن جرير، وجاء فى الكامل: «تحت» ، وسقطت الكلمة من المخطوطة. [2] يكتب هذا فى بعض الكتب على أسلوب كتابة الشعر. [3] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث عمار: إن آخر شربة تشربها ضياح، الضياح والضيح بالفتح: اللبن الخاثر يصب فيه الماء ثم يخلط، رواه يوم قتل بصفين وقد جئ بلبن يشربه» . [4] أبو الغادية اسمه يسار بن سبع الجهنى. [5] قال ابن حزم فى جمهرة أنساب العرب ص 405: «ولد السكسك بن أشرس بن كندة ثمانية عشر ذكرا، ولهم ثروة عظيمة بالشام، منهم حوى بن ماتع بن زرعة بن ينحض بن حبيب بن ثور بن خداش، من بنى عامر بن السكسك وهو قاتل عمار بن ياسر» .

السّكسكىّ، وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمّار «تقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن [1] » . فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول: إنّه يرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمّار مع معاوية، وأصيب عمّار بعده مع على، فقال عمرو لمعاوية: «والله ما أدرى بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحا: بقتل عمّار أو بقتل ذى الكلاع، والله لو بقى بعد قتل عمّار لمال بعامّة أهل الشّام إلى علىّ!» . فأتى جماعة إلى معاوية، كلّهم يقول: «أنا قتلت عمارا» ، فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوىّ فقال: أنا قتلته فسمعته يقول «اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه» . فقال له عمرو: أنت صاحبه. ثم قال «رويدا، والله ما ظفرت يداك [2] ، ولقد أسخطت ربّك!» . وقيل: إنّ أبا الغادية قتل عمّارا وعاش إلى زمن الحجّاج، فدخل عليه، فأكرمه الحجّاج وقال: أنت قتلت ابن سميّة؟ (يعنى عمارا) قال: نعم. قال: من سرّه أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذى قتل ابن سميّة. ثم سأله أبو الغادية حاجة فلم يجبه إليها، فقال: نوطّىء لهم الدنيا ولا يصلونا منها

_ [1] أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمار «تقتلك الفئة الباغية» فقد ورد فى الحديث الصحيح بروايات مختلفة عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة وأم سلمة عند مسلم والترمذى وغيرهما.. وأما «آخر شربة» فهو حديث رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 480 عن عبد الله بن سلمة، ونقله ابن أبى الحديد ج 2 ص 538 وانظر البداية والنهاية 7 ص 267. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى (ن) : «بذاك» .

ويزعم أنّى عظيم الباع يوم القيامة! [فقال الحجّاج] [1] : أجل والله من كان ضرسه مثل أحد، وفخذه مثل جبل ورقان، ومجلسه مثل المدينة والرّبذة، لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أنّ عمّارا قتله أهل الأرض لدخلوا كلّهم النار!. وقال أبو عبد الرحمن السلمى: لمّا قتل عمّار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا- وكنّا إذا تركنا القتال تحدّثوا إلينا وتحدثنا إليهم- فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله ابن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسى بينهم لئلّا يفوتنى ما يقولون، فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل فى يومكم هذا وقد قال رسول الله ما قال! قال وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون فى بناء مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين؟ فغشى عليه، فأتاه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول «ويحك يا ابن سميّة! الناس ينقلون لبنة لبنة، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة فى الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية!» . فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به! قال فخرج الناس من أخبيتهم وفساطيطهم يقولون [2] . إنّما قتله من جاء به. فلا أدرى من كان أعجب؟: أهو أم هم؟. قال: ولمّا قتل عمار قال علىّ رضى الله عنه لربيعة: أنتم درعى ورمحى.

_ [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 158 حيث نقل المؤلف. [2] كذا جاء فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «تقول» .

فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدمهم علىّ على بغلة، فحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهوا إليه، حتّى بلغوا معاوية، فناداه علىّ: فقال علام يقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك. فقال معاوية لعمرو: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال عمرو ما يحسن بك ترك مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدى!. قال [1] : وكان أصحاب على قد وكلوا به رجلين يحفظانه، لئلا يقاتل، فكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرّة فلم يرجع حتّى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال لولا أنّه انثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش [2] لأبى عبد الرحمن: هذا والله ضرب غير مرتاب!. قال [3] : وأما هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص فإنّه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلىّ. فأقبل إليه الناس، فحمل على أهل الشام مرارا، ويصبرون له، وقاتل قتالا شديدا، وقال لأصحابه: «لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم، فو الله ما هو إلّا حميّة العرب وصبرها تحت راياتها، وإنهم لعلى الضلال وإنّكم لعلى الحق» ثم حرّض أصحابه، وحمل فى عصابة من القرّاء فقاتل قتالا شديدا، فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحارث ابن المنذر التّنوخى، فطعنه فسقط، وأرسل إليه علىّ: أن قدّم

_ [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] الأعمش راوى هذا الحديث عن أبى عبد الرحمن السلمى. [3] كذا جاء عند ابن جرير وأن الأثير؛ وجاء فى المحظوطة (وهم لا يزالون) .

لواءك، فقال لرسوله: انظر إلى بطنى! فنظر إليه، فإذا هو قد انشق! قال [1] : ومرّ علىّ بكتيبة من أهل الشّام فرآهم لا يزولون [عن موقفهم] [2]- وهم غسّان- فقال: «إنّ هؤلاء لا يزولون إلّا بطعن [3] وضرب يفلق الهام ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكف، وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر وطلّاب الأجر؟» فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمدا فقال: «تقدّم نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك [4] ، حتّى إذا أشرعت فى صدورهم الرّماح فأمسك حتّى يأتيك أمرى» . ففعل، وأعد [لهم] [5] علىّ مثلهم وسيرّهم إلى ابنه محمد، وأمره بقتالهم، فحمل عليهم فأزالهم [6] عن مواقفهم، وأصابوا منهم رجالا. قال [7] : ومرّ الأسود بن قيس المرادى بعبد الله بن كعب [المرادى] [8] وهو صريع، فقال له عبد الله: يا أسود. قال: لبّيك. وعرفه [9] ونزل إليه وقال له: «عزّ علىّ مصرعك!

_ [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] الزيادة من ابن جرير. [3] جاء فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 268 «وإنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك» . [4] أى: على عادتك فى السكون والرفق. [5] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [6] كذا جاء فى (ك) وجاء فى (ن) : فحملوا عليهم فأزالوهم» . [7] ابن الأثير فى الكامل. [8] الزيادة من الكامل وتاريخ ابن جرير والاستيعاب والإصابة. [9] عرفه بآخر رمق، كما روى ابن جرير.

إن كان جارك ليأمن بوائقك [1] ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا! أوصنى رحمك الله!» قال: «أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المخلين [2] ، حتّى يظهر أو يلحق بالله، وأبلغه عنّى السلام وقل له: قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كان العالى» . ثمّ لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علىّ فأخبره، فقال: «رحمه الله! جاهد عدوّنا فى الحياة، ونصح لنا فى الوفاة!» .. وقيل: إن الذى أشار على علىّ بهذا عبد الرحمن بن حنبل الجمحى. قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها إلى الصباح، وهى ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصّفت الرّماح، وتراموا حتى نفد النّبل، وأخذوا السيوف، وعلى يسير بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة أن أن تقدّم على التى تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتّى أصبح، والمعركة كلّها خلف ظهره، والأشتر فى الميمنة، وابن عباس، فى الميسرة وعلىّ فى القلب، والناس يقتتلون من كل جانب (وذلك يوم الجمعة) وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة، وكان قد تولاها عشيّة الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، وهو يقول لأصحابه: ازحفوا قيد [3] هذا الرمح. ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك

_ [1] روى مسلم فى صحيحه ج 2 ص 17 عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» قال ابن الأثير فى النهاية: أى: غوائله وشروره، واحدها بائقة وهى الداهية. [2] كذا جاء فى المخطوطة بالخاء المعجمة، وجاء عند ابن جرير وابن الأثير (المحلين) بالحاء المهملة. [3] قيد: قدر.

بهم قال: ازحفوا قيد هذا القوس. فإذا فعلوه سألهم مثل ذلك، حتّى ملّ أكثر الناس الإقدام، فلما رأى الأشتر ذلك دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النّخعى، وخرج يسير فى الكتائب ويقول: من يشرى [1] نفسه ويقاتل مع الأشتر [حتّى] [2] يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه جمع كثير، فيهم حيّان بن هوذة النخعى وغيره، فرجع بهم إلى المكان الذى كان فيه، وقال لهم: «شدّوا شدّة- فدى لكم خالى وعمّى- ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين» ثمّ نزل فضرب وجه دابّته، وقال لصاحب رايته: أقدم بها. وحمل بالقوم [3] فضرب أهل الشام حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم، فقاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، وقتل صاحب رايته، فلمّا رأى علىّ الظّفر من ناحيته أمدّه بالرجال. فقال عمرو لوردان [4] : تدرى ما مثلى ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال «كالأشقر إن تقدّم عقر وإن تأخّر عقر [5] ! لئن تأخّرت لأضربنّ عنقك!» قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنّك حياض الموت ضع يدك على عاتقى. ثم جعل يتقدّم ويتقدم [6] ويقول: والله لأوردنّك حياض الموت. واشتد القتال. فلمّا رأى عمرو أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ، وخاف الهلاك،

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «يشترى» . [2] الزيادة من ابن جرير. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وحمل على القوم» . [4] وردان: مولى عمرو بن العاص. [5] عند ابن جرير: «نحر» . [6] كذا جاء فى المخطوطة. وجاء عند ابن جرير: «ثم جعل يتقدم وينظر إليه أحيانا» .

ذكر رفع أهل الشام المصاحف وما تقرر من أمر التحكيم وكتاب القضية

قال لمعاوية: هل لك فى أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلّا اجتماعا ولا يزيدهم إلّا فرقة؟ قال: نعم. قال: «نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها هذا حكم الله بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغى لنا أن نقبل. فتكون فرقة بينهم، فإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنّا إلى أجل» . ذكر رفع أهل الشام المصاحف وما تقرر من أمر التحكيم وكتاب القضية قال: ولما أشار عمرو بن العاص على معاوية برفع المصاحف أمر برفعها، فرفعت بالرماح [1] ، وقال [2] : «هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟» . فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «عباد الله، امضو على حقكم وصدقكم قتال عدوّكم [3] ، فإن معاوية وعمرا وابن أبى معيط وحبيبا [4] وابن أبى سرح والضحاك [5] ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال! ويحكم! والله

_ [1] قال نصر فى وقعة صفين وبن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ربطت المصاحف فى أطراف الرماح» . [2] كذا وقع فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير: «وقالوا» . [3] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 34، يقال «صدقوا القتال» إذا تصلبوا فيه واشتدوا، ووقع فى المخطوطة: «وقتال» . [4] عند ابن جرير: «وحبيب بن مسلمة» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 184 «وابن مسلمة» . [5] عند ابن جرير: «والضحاك بن قيس» .

ما رفعوها إلا خديعة ووهنا [1] ومكيدة!» فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله [2] ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونسوا عهده، ونبذوا كتابه!» . فقال مسعر بن فدكىّ التميمى وزيد بن حصين الطائى فى عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: «يا على، أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت [إليه] [3] ، وإلا دفعناك [4] برمّتك [5] إلى القوم أو ونفعل بك كما فعلنا بابن عفان!» : قال: «فاحفظوا عنّى نهيى إياكم، واحفظوا مقالتكم لى، [فإن تطيعونى فقاتلوا، وإن تعصونى فاصنعوا] [6] ما بدالكم!» . قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علىّ يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه، فقال: «ليست هذه الساعة بالساعة التى ينبغى لك أن تزيلنى [فيها] [7] عن موقفى، إنى رجوت أن يفتح الله لى!» .

_ [1] عند ابن جرير: «ودهنا» والدهن: إظهار خلاف المضمر. [2] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 161 «الكتاب» ، وفى تاريخ ابن جرير «هذا الكتاب» ، وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة: «القرآن» . [3] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [4] عند ابن جرير: «ندفعك» . [5] الأصل فى هذا التعبير أن يقال عند تسليم الأسير ونحوه، والرمة: قطعة حبل يشد بها الأسير، أى: يسلمونه إليهم بالحبل الذى شد به تمكينا لهم منه، ثم اتسع فيه حتى قالوا أخذت الشىء برمته، أى: كله. [6] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير قريب منه، وجاء فى المخطوطة: «افعلوا» دون بقية الجملة الشرطية. [7] الزيادة من ابن جرير.

فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت [1] الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال: «هل رأيتمونى ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟» فقالوا: «ابعث إليه فليأتك، وإلا والله اعتزلناك!» فقال: «ويلك يا يزيد! قل له أقبل إلى، فإن الفتنة قد وقعت!» فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: «والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة ابن العاص، ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟» فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوّه أو يقتل؟ قال: «لا والله! سبحان الله!» فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: «يا أهل العراق، يا أهل الذّلّ والوهن، أحين علوتم القوم وظنّوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه! فأمهلونى فواقا [2] فإنّى قد أحسست بالفتح، قالوا: لا. قال: أمهلونى عدو الفرس فإنى قد طمعت [فى النصر] [3] قالوا: إذن ندخل معك فى خطيئتك! قال: «فخبّرونى عنكم متى

_ [1] عبارة ابن جرير 4 ص 35: «فارتفع الرهج وعلت الأصوات» ، وكذلك قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 186 وزاد: «وظهرت دلائل الفتح والنصر لاهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام» . [2] فى النهاية ولسان العرب: «فواق الناقة» ، والفواق- بفتح الفاء وضمها:- ما بين الحلبتين من الراحة، ولكن لسان العرب تصحفت فيه كلمة «الأشتر» ب «الأسير» . [3] الزيادة من ابن جرير ج 4 ص 35 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 161 وابن أبى الحديد ج 1 ص 186.

كنتم محقّين؟: أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم فى النار! فقالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله، وندع قتالهم لله!» فقال: «خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السّود [1] ، كنا نظنّ صلاتكم زهادة فى الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحا يا أشباه النّيب الجلّالة [2] ، ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون!» فسبوه وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب وجوه دوابهم بسوطه، فصاح به وبهم علىّ رضى الله عنه، فكفّوا. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما. فجاء الأشعث بن قيس إلى على فقال له: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: إيته. فأتاه فقال: يا معاوية لأىّ شىء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فى كتابه، تبعثون رجلا ترضون، ونبعث رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما فى كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه» . فقال له الأشعث: «هذا الحق، هذا الحق» . فعاد إلى على فأخبره، فقال الناس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عمرا. فقال الأشعث وأولئك القوم

_ [1] ذكر ابن أبى الحديد أنهم «قد اسودت جباههم من السجود» . [2] النيب: النوق المسنة، والجلالة التى تأكل البعر.

الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى. فقال علىّ رضى الله عنه: «قد عصيتمونى فى أول الأمر، فلا تعصونى الآن، لا أرى أن أولّى أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن حصين [1] ومسعر بن فدكىّ: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه! قال على «فإنه ليس [لى] [2] بثقة، قد فارقنى وخذّل الناس عنى، ثم هرب منى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أولّيه ذلك» . قالوا «والله ما نبالى أنت كنت أم ابن عبّاس، لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء [3] » . قال على: فإنى أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعّر [4] الأرض غير الأشتر؟ قال: قد أبيتم إلا أبا موسى. قالوا: نعم: قال: فاصنعوا ما أردتم! فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض [5] فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال الحمد لله. قال: قد جعلوك حكما. قال: [إنا لله وإنا إليه راجعون [6]] وجاء أبو موسى حتى دخل فى العسكر. وجاء الأشتر عليا فقال: ألزّنى [7] بعمرو بن العاص، فو الله لئن ملأت عينى منه لأقتلنه!.

_ [1] «حصن» كذا جاء هنا فى المخطوطة، وهو الموافق لما فى الإصابة ج 1 ص 565، وجاء فيما سبق «حصين» وهو الموافق لما عند الطبرى وابن الأثير. [2] الزيادة من ابن جرير الطبرى. [3] زاد ابن جرير: «ليس إلى واحد منكا بأدنى منه إلى الآخر» . [4] سعر الأرض: أشعل فيها نار الحرب. [5] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 189 «وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض» . [6] من الآية 156 فى سورة البقرة. [7] ألزنى: شدنى وألصقنى بعمرو بن العاص.

وجاء الأحنف بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر الأرض [1] ، وإنّى قد عجمت [2] أبا موسى وحلبت أشطره [3] ، فوجدته كليل الشفرة [4] قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير فى أكفّهم ويبعد عنهم حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلنى حكما فاجعلنى ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحلّ عقدة أعقدها إلا عقدت [لك] [5] أخرى أحكم منها!» . فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب، فقال الأحنف بن قيس: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال. وحضر عمرو بن العاص عند علىّ لتكتب القضيّة بحضوره، فكتبوا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين» فقال عمرو: [7] هو أميركم أمّا أميرنا فلا. فقال له الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين فإنى أتخوّف إن محوتها ألّا ترجع إليك أبدا، لا تمحها وإن قتل [الناس] [8] بعضهم بعضا، فأبى ذلك علىّ

_ [1] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث الأحنف: قال لعلى حين ندب معاوية عمرا للحكومة: لقد رميت بحجر الأرض، أى: بداهية عظيمة تثبت ثبوت الحجر فى الأرض» [2] عجمت: عرفت. [3] أى: اختبر أحواله من خير وشر وحلو ومر تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة ما كان منها حفلا وغير حفل ودارا وغير دار. [4] الكيل: الذى لا يقطع. الشفرة: المدية، كما جا فى بعض الروايات. [5] روى ابن جرير هذه الكلمة فى هذا الموضع وجاءت فى المخطوطة بعد «أعقدها» . [6] فى النسخة (ك) : «ليكتب» . [7] زاد ابن جرير وابن كثير فى أول كلام عمرو بن العاص: أكتب اسمه واسم أبيه» . [8] الزيادة من ابن جرير ابن والأثير.

مليّا من النهار، ثم قال الأشعث بن قيس: امج هذا الاسم. فمحى، فقال علىّ رضى الله عنه: «الله أكبر! سنّة بسنة، والله إنّى لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: «محمد رسول الله» فقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرنى رسول الله عليه الصلاة والسلام بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال أرنيه. فأريته فمحاه بيده وقال: إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب!» . فقال عمرو: «سبحان الله! أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون؟» فقال علىّ رضى الله عنه: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدوا؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بينى وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا! فقال علىّ: إنى لأرجو أن يطهّر الله مجلسى منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان، قاضى علىّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، أنّا ننزل عند حكم الله وكتابة، وألّا يجمع بيننا غيره، وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فى كتاب الله- وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص- عملا به، وما لم يجدا فى كتاب الله تعالى فالسّنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان من علىّ رضى الله عنه ومن معاوية ومن الجند من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمّة لهما أنصار على الذى يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمّة ولا يردّاها فى حرب ولا فرقة حتّى

يعصيا، وأجّلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبّا أن يؤخرا ذلك أخّراه، وإن مكان قضيّتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وشهد جماعة من الطائفتين. وقيل للأشتر: لتكتب [1] فيها. فقال: «لا صحبتنى يمينى ولا نفعتنى بعدها شمالى إن خطّ لى فى هذه الصحيفة خط! أو لست على بيّنة من ربّى من ضلال عدوّى؟ أو لستم قد رأيتم الظّفر؟» . فقال له الأشعث: ما رأيت ظفرا هلمّ إلينا فإنه لا رغبة بك عنّا. فقال: «بلى والله الرغبة عنك فى الدنيا للدنيا وفى الآخرة للآخرة! ولقد سفك الله بسيفى دماء رجال ما أنت عندى خير منهم ولا أحرم دما!» . قال: وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مرّ على طائفة من بنى تميم، فيهم عروة بن أديّه (أخو أبى بلال) فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكّمون فى أمر الله الرجال، لا حكم إلّا لله. ثم شدّ بسيفه فضرب به عجز دابّة الأشعث ضربة خفيفة، واندفعت الدابّة، وصاح به أصحاب الأشعث فرجع. وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين.. واتفقوا أن يكون اجتماع الحكمين بدومه الجندل [2] ، أو بأذرح [3] ، فى شهر رمضان.

_ [1] فى الكامل لابن الأثير.: «ليكتب» . [2] دومة الجندل: موضع بين الشام والمدينة المنورة. [3] أذرح: بلد فى أطراف الشام، كما قال ياقوت، وقد كرر ذكر الخلاف فى الموضعين، وستأتى فى «ذكر اجتماع الحكمين» عبارة تفيد اتصال أذرح بدومة الجندل.

قال: وقيل لعلىّ: إن الأشتر لا يقرّ بما فى الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم. فقال علىّ رضى الله عنه: «وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلّا أن ترضوا فقد رضيت، وإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى كتابه، فتقاتلوا من ترك أمر الله. وأمّا الذى ذكرتم من تركه أمرى وما أنا عليه فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين، يا ليت فيكم مثله واحدا يرى فى عدوى ما أرى، إذن لخفّت علىّ مؤنتكم، ورجوت أن يستقيم لى بعض أودكم [1] ، وقد نهيتكم فعصيتمونى، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن [2] : وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحرّ [3] بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم، ويقطعوا الحرب، ويتربّصوا بكم ريب

_ [1] الأود: العوج. [2] أخو هوازن: دريد بن الصمة معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، شاعر فارس جاهلى، أدرك الإسلام فلم يسلم، ويخرج مع قومه هوازن فى يوم حنين مظاهرا للمشركين، وكان شيخا كبيرا فانيا ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته للحرب فقتل يومئذ على شركه ... والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رئى بها أخاه عبد الله، وهى فى الأغانى ج 10 ص 8- 9 من طبع دار الكتب المصرية والحماسة بشرح المرزوقى ج 2 ص 812- 821 والأصمعيات ص 111- 115 وجمهرة أشعار العرب ص 224- 227، وسيأتى تمثل ببيت آخر من هذه القصيدة. [3] استحر: اشند وكثر.

المنون، خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم [ما سألوا] [1] ، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتحيروا [2] ، وايم الله ما أظنّكم بعدها توفّقون لرشد، ولا تصيبون باب حزم» . قال: ثم تراجع الناس عن صفّين. هذا ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، وهو الذى اعتمد عليه عز الدين على بن محمد ابن الأثير الموصلى فى تاريخة (الكامل) ، من حرب [3] صفّين، وقد أسقطنا بعض ما أورداه، وأتينا بألفاظ لم يأتيا بها نسبناها إلى من حكاها ... وأخبار أيام صفّين كثيرة، قد بسط أهل التاريخ فيها القول، وذكروا ما اتفق فى أيامها يوما يوما، رأينا ترك ذلك والإغضاء عنه أولى، وكنا نؤثر ألّا نلمّ بذكر أيام صفّين ولا وقعة الجمل، وإنما ضرورة التاريخ دعت إلى ذلك. وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة بسر بن أرطاة من كتابه الاستيعاب [4] : أنّ معاوية أمر بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة، وكان معه بصفّين أن يلقى عليّا فى القتال، وقال له: «سمعتك تتمنّى لقاءه، فلو أظفرك الله وصرعته حصلت على دنيا وآخرة» ، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه، حتّى رآه فقصده فى الحرب، قال: وكان

_ [1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند ابن جرير ج 4 ص 40 «وتجوزوا» وعند ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163 «وتجيروا» . [3] كذا جاء فى النسخة (ك) . وفى النسخة (ن) : «خبر» . [4] ج 1 ص 160.

بسر بن أرطاة من الأبطال الطّغاة، فالتقيا، فصرعه علىّ، وعرض له معه مثل ما عرض- فيما ذكر- لعلىّ مع عمرو بن العاص. قال وذكر ابن الكلبى فى كتابه فى أخبار صفّين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفّين، فطعنه علىّ فصرعه، فانكشف له، فكفّ عنه، كما عرض له- فيما ذكروا- مع عمرو بن العاص، ولهم فيها أشعار مذكورة فى موضعها من [ذلك] [1] الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبى والمدائنى قول الحارث بن النضر السّهمى [2]- وكان عدوا لعمرو ابن العاص وبسر بن أرطاة-: أفى كلّ يوم فارس ليس ينتهى ... وعورته بين العجاجة [3] باديه يكفّ لها [4] عنه علىّ سنانه ... ويضحك منه [5] فى الخلاء معاويه بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه ... وعورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر [6] : ألا انظرا ... سبيلكما، لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلّا الحيا وخصاكما ... هما كانتا والله للنّفس واقيه ولولاهما لم تنجوا من سنانه ... وتلك بما فيها عن العود ناهيه وكونا [7] بعيدا حيث لا تبلغ القنا ... نحوركما إنّ التّجارب كافيه

_ [1] الزيادة من الاستيعاب، والاشارة إلى كناب ابن الكلبى. [2] شاعر من الصحابة، انظر الإصابة ج 1 ص 291. [3] العجاجة: ما أثير من الغبار حتى يكسو كل شىء جاء عليه، ورعاع الناس ... وفى الاستيعاب: «وسط العجاجة» . [4] فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 2 ص 301: «بها» . [5] فى لاستيعاب وشرح ابن أبى الجديد: «منها» . [6] عند بن أبى الحديد: «فقر لا لعمرو وابن أوطأة: «ابصرا» . [7] قبل هذا بيت عن ابن عبد البر وابن أبى الحديد، وهو: متى تلقيا الخيل المغيرة صحيحه ... وفيها على فاقركا الخيل ناحية.

قال أبو عمر: إنّما كان انصراف علىّ عنهما وعن أمثالهما من مصروع أو منهزم؛ لأنه كان لا يرى فى قتال الباغين عليه من المسلمين أن يتّبع مدبرا ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسيرا، وتلك عادته فى حروبه فى الإسلام، رضى الله عنه. وروى أبو عمر ابن عبد البر أيضا بسند يرفعه إلى يزيد ابن حبيب قال: اصطحب قيس بن خرشه، وكعب الأحبار، حتّى إذا بلغا صفّين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال: «لا إله إلا الله، ليهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شىء لم يهرق ببقعة من الأرض» فغضب قيس وقال: «وما يدريك يا أبا إسحاق؟ فإنّ هذا من الغيب الذى استأثر الله به» فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلّا وهو مكتوب فى التّوراة التى أنزل الله على نبيّه موسى بن عمران عليه السلام ما يكون عليه إلى يوم القيامة. واختلف فى عدّة من شهد صفّين، فقيل: كان جيش علىّ رضى الله عنه تسعين ألفا، وجيش معاوية مائة وعشرين ألفا، وقيل: أقل من ذلك [1] . وقتل من العراق خمسة وعشرون ألفا، منهم عمّار بن ياسر وخمسة وعشرون بدريّا، وقتل من عسكر معاوية خمسة وأربعون ألفا. قال، ولمّا رجع علىّ رضى الله عنه إلى الكوفة خالفه الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال، وكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله فى أخبار

_ [1] الاستيعاب ج 12 ص 242.

ذكر اجتماع الحكمين

الخوارج على علىّ، وكان فيما بين رجوع علىّ واجتماع الحكمين ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين. ذكر اجتماع الحكمين قال. ولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علىّ رضى الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانىء الحارثى، وأرسل عبد الله بن عباس يصلى بهم ويلى أمورهم، ومعهم أبو موسى الأشعرى. وأرسل معاوية عمرو بن العاص فى أربعمائة من أهل الشام، حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح [1] وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى أحد ما جاء فيه، ولا يسأله أهل الشام عن شىء، وكان أهل العراق يسألون ابن عبّاس عن كلّ كتاب يصل إليه من علىّ، فإن كتمه [2] ظنّوا به الظّنون وقالوا: نراه كتب بكذا وكذا، فقال لهم ابن عبّاس رضى الله عنه: «أما تعقلون، أما ترون رسول معاوية يجىء فلا يعلم أحد ما جاء به ولا يسمع لهم صياح؟ وأنتم عندى كلّ يوم تظنّون الظّنون» . قال وحضر معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن ابن أبى بكر الصديق، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرحمن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهرى، وأبو جهم بن حذيفة العدوى، والمغيرة بن شعبة. وكان سعد بن أبى وقّاص على ماء لبنى سليم بالبادية، فأتاه ابنه عمر فقال له: «إنّ أبا موسى وعمرا

_ [1] انظر ما سبق فى هذين الاسمين. [2] كما جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «كتمهم» .

قد شهدهم نفر من قريش فاحضر معهم، فإنّك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشّورى، ولم تدخل فى شىء كرهته هذه الأمّة، وأنت أحقّ الناس بالخلافة» فلم يفعل، وقيل: بل حضرهم سعد وندم على حضوره، فأحرم بعمرة من بيت المقدس. قال: ولما اجتمع الحكمان قال عمرو بن العاص؛ يا أبا موسى ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما، قال أشهد. قال: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى.. قال: «فما [1] يمنعك منه وبيته فى قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس ليست له سابقة فقل: وجدته ولىّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو أم حبيبة زوج النبىّ عليه الصلاة والسلام، وكاتبه، وقد صحبه» وعرّض له عمرو بسلطان، فقال أبو موسى: «يا عمرو، اتّق الله! أمّا ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف يولّاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصّبّاح، إنّما هو لأهل الدّين والفضل، مع أنى لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته على بن أبى طالب، وأمّا قولك إنّ معاوية ولىّ دم عثمان فولّه هذا الأمر، فلم أكن لأولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأوّلين، وأمّا تعريضك لى بالسلطان؛ فو الله لو خرج لى معاوية من سلطانه كلّه ما ولّيته، وما كنت لأرتشى فى حكم الله،

_ [1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 49 أن عمرا استشهد بقول الله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ثم قال فما يمنعك من معاوية ... الخ.

ولكنك إن شئت أن تحيى اسم عمر بن الخطاب» قال له عمرو: [1] فما يمنعك من ابنى عبد الله وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال له: إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته فى هذه الفتنة. فقال عمرو: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم. وكانت فى ابن عمر غفلة، فقال له: ابن الزبير: افطن وانتبه، فقال: والله لا أرشو عليها شيئا أبدا. وقال: يا ابن العاص إنّ العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردّنّهم فى فتنة. وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه فى الكلام، يقول له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنّ منّى فتكلم. فتعوّد ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كلّه أن يقدّمه فى خلع على. فلمّا أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى، وأراد أبو موسى عمرا على ابن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبّرنى ما رأيك؟ قال: «أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا» . فقال عمرو: الرأى ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبرّ، تقدم يا أبا موسى. فتقدّم أبو موسى، فقال له ابن عباس: «ويحك! والله إنى لأظنّه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فتقدّمه فليتكلّم به قبلك، فإنه رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك

_ [1] ذكر ابن جرير فى رواية أن عمرا قال لأبى موسى! إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك ... الخ.

الرضى بينكما، فإذا قمت فى الناس خالفك!» وكان أبو موسى مغفّلا، فقال: إنا قد اتفقنا، فتقدّم فقال: «أيّها الناس، إنّا قد نظرنا فى أمر هذه الأمّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من [أمر] [1] قد أجمع رأيى ورأى عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولّى الناس أمرهم من أحبّوا، وإنى خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه أهلا» . ثم تنحّى، وأقبل عمرو فقام وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتموه، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبّت صاحبى معاوية، فإنه ولىّ عثمان بن عفّان، والطالب بدمه، وأحقّ الناس بمقامه» ، فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايدة! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقنى على أمر ثم نزع عنه! فقال ابن عبّاس: لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لمن قدّمك فى هذه المقام! قال: غدر فما أصنع؟ قال ابن عمر [انظروا] [2] إلى ما صار أمر هذه الأمة: إلى رجل لا يبالى ما صنع وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: لو مات الأشعرىّ قبل هذا اليوم كان خيرا له. وقال أبو موسى لعمرو: «لا وفّقك الله، غدرت وفجرت، [إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» فقال له عمرو:] [3] إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. قال: والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة، ثم انصرف

_ [1] كذا جاء عند ابن جرير ج 4 ص 51 وابن الأثير ج 3 ص 168 وجاء فى النسخة (ك) (راء) ، وفى النسخة (ن) : «رأى» . [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير. [3] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) كما جاءت عند الطبرى وابن الأثير.

ذكر أخبار الخوارج الذين خرجوا على عهد على وما كان من أمرهم

عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح إلى علىّ رضى الله عنه، فكان علىّ إذا صلّى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيبا وعبد الرحمن ابن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر. وقيل: إن معاوية حضر الحكمين، وأنه قام عشية فى الناس فقال: أما بعد، من كان متكلما فى هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فأطلقت حبوتى وأردت أن أقول: «يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام» فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجماعة ويسفك بها دم، فكان ما وعد الله فى الجنان أحبّ إلى من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءنى حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت. فقال حبيب: وفّقت وعصمت. وقد ورد ذلك فى الصحيح. ذكر أخبار الخوارج الذين خرجوا على عهد علىّ وما كان من أمرهم كان أوّل من خرج على علىّ رضى الله عنه حسكة بن عتّاب الحبطىّ، وعمران بن فضيل البرجمىّ، خرجا فى صعاليك من العرب بعد الفراغ من وقعة الجمل، حتى نزلوا زالق [1] من سجستان، وقد نكبو [2] أهلها فأصابوا منها مالا، ثم أتوا زرنج [3] وقد خافهم

_ [1] زالق: سواد بسجستان. [2] جاء فى النسخة (ن) كما عند ابن الأثير: وقد نكث أهلها. [3] زرنج: قصبة سجستان.

ذكر خبرهم [3] بعد صفين

مرزبانها فصالحهم ودخلوها، فبعث علىّ عبد الرحمن ابن جرو الطائى فقتله حسكة، فكتب علىّ إلى عبد الله بن عبّاس يأمره أن يولى سجستان رجلا، ويسيّره إليها فى أربعة الآف، فوجّه ربعىّ [1] بن كأس العنبرى، ومعه الحصين بن أبى الحرّ العنبرى، فلمّا ورد سجستان قاتلهم حسكة فقتلوه وضبط ربعى البلاد. قال ابن الأثير [2] وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين ابن أبى الحر هذا، وهو من سجستان. ذكر خبرهم [3] بعد صفين قد ذكرنا فى وقعة صفين أنه لمّا رفعت المصاحف، تكلّم أولئك القوم مع علىّ بما ذكرناه، وأبوا إلّا ترك الحرب والرجوع إلى كتاب الله، وموافقة علىّ رضى الله عنه لهم فيما رأوه، على كره منه. فلما رجع علىّ من صفّين بعد كتابة الصحيفة، خالفت عليه الحروريّة [4] وأنكروا تحكيم الرجّال، ورجعوا على غير الطريق الذى أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البرّ وعادوا وهم أعداء متباغضون، يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم فى أمر الله! ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا! فلمّا انتهى علىّ إلى الكوفة فارقته الخوارج وأتت حروراء [5] فنزل بها

_ [1] ربعى بن كأس: كأس أمه وهى من أشراف العرب، وهو ربعى بن عامر التيمى. [2] فى الكامل ج 3 ص 135. [3] كذا جاء فى ك «، وجاء فى (ن) : «سيرهم» . [4] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163: «وخرجت، وكان ذلك أول ما ظهرت» [5] نقل ابن أبى الحديد ج 1 ص 215 عن كتاب صفين: «خرجوا إلى صحراء. بالكوفة تسمى حروراء» .

[منهم] [1] اثنا عشر ألفا، ونادى مناديهم: «إن أمير القتال شبث بن ربعىّ التميمى، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكرى، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» . فلما سمع علىّ رضى الله عنه وأصحابه ذلك، قامت إليه الشّيعة فقالوا له: «فى أعناقنا بيعة ثابتة [2] نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت» . فقالت الخوارج: «استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسى رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّ [3] وكرهوا، وبايعتم أنتم عليّا أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى» فقال لهم زياد بن النّضر: «والله ما بسط علىّ يده فبايعناه قطّ إلّا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولكنكم لمّا خالفتموه جاءته شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل» . قال: وبعث علىّ رضى الله عنه عبد الله بن العبّاس إلى الخوارج، وقال له. لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتّى آتيك. فخرج إليهم، فأقبلوا يكلّمونه، فلم يصبر حتّى راجعهم، فقال: «ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [4] . فكيف بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم؟» . فقالت الخوارج: «أمّا ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم فى الزّانى مائة جلدة، وفى

_ [1] الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «ثانية» . [3] عند ابن جرير وابن الأثير: «أحبوا» . [4] من الآية 35 فى سورة النساء.

السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا فى هذا» . قال ابن عبّاس: فإن الله تعالى يقول يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [1] فقالوا: وتجعل الحكم فى الصيد والحدث بين المرأة وزوجها كالحكم فى دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكّمتم فى أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه فى معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت «برآءة» إلّا من أقرّ بالجزية. وبعث علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر فقال: انظ بأىّ رءوسهم هم أشد إطافة. فأخبره أنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد ابن قيس، فخرج علىّ رضى الله عنه فى الناس حتّى أتى فسطاط يزيد ابن قيس، فدخله، فصلّى فيه ركعتين، وأمّره على أصبهان والرّىّ، ثم خرج حتّى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال له: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج [2] يوم القيامة. [ثم] [3] : قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفّين. قال: «أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، وقلتم: نجيبهم، قلت لكم: إنى أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسلوا بأصحاب دين!» وذكر ما كان قال لهم، ثم قال «وقد اشترطت

_ [1] من الآية 95 فى سورة المائدة. [2] الفلج- بفتح الفاء وضمها-: الفوز، وفى الكامل ج 3 ص 166: «من يفلح فيه كان أولى بالفلاح» . [3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.

ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين

على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء» . قالوا: فخبّرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال فى الدماء؟ فقال: «إنا لسنا حكّمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين دفّتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال» قالوا: فأخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: «ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعلّ الله عز وجل يصلح فى هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله» . فدخلوا من عند آخرهم. ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين قال [1] : لما أراد علىّ رضى الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج، وهما زرعة بن برج الطائى وحرقوص ابن زهير السعدى، فقالا له: لا حكم إلّا لله تعالى، فقال على رضى الله عنه: لا حكم إلا لله تعالى، قال حرقوص: «تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، وارجع بنا إلى عدونا نقاتلهم حتّى نلقى ربنا» . فقال على: قد أردتكم على ذلك فعصيتمونى، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [2] فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغى أن تتوب منه. فقال علىّ رضى الله عنه: ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأى، وقد نهيتكم، فقال زرعة: يا على لئن لم

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 169 وأصله عند ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 52. [2] من الآية 91 فى سورة النحل.

تدع تحكيم الرجال لأقاتلنّك أطلب وجه الله. فقال على: «بؤسا لك! ما أشقاك! كأنى بك قتيلا تسفى [1] عليك الرياح!» قال: وددت لو كان ذلك، فخرجا من عنده يحكّمان. وخطب على رضى الله عنه يوما، فحكّمت [2] المحكّمة فى جوانب المسجد، فقال علىّ: «الله أكبر! كلمة حقّ أريد بها باطل [3] ان سكتوا غممناهم [4] ، وإن تكلموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم» . فوثب يزيد بن عاصم المحاربى فقال: «الحمد لله غير مودّع ربنا ولا مستغنى عنه، اللهم إنّا نعوذ بك من إعطاء الدّنيّة فى ديننا، فإن إعطاء الدنية فى الدين إدهان فى أمر الله وذلّ راجع بأهله إلى سخط الله، يا علىّ أبالقتل تخوّفنا؟ أما إنى لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أيّنا أولى بها صليّا» . ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة، فأصيبوا مع الخوارج بالنّهروان، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنّخيلة. ثم خطب علىّ رضى الله عنه يوما آخر، فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم توالى عدّة رجال يحكّمون، فقال علىّ: «الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفىء

_ [1] سفت الريح التراب تسفيه: ذرته أو حملته. [2] أى قالوا: «لا حكم إلا الله» . [3] جاء فى نهج البلاغة شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 214: ومن كلام له عليه السلام فى الخوارج لما سمع قولهم «لا حكم إلا الله» قوله عليه السلام: كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد الناس من أمير بر أو فاجر، يعمل فى إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ... وفى رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال: حكم الله أنتظر فيكم!. [4] غممناهم: غطيناهم وسترناهم، وفى (ك) : «عممناهم» .

ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين

ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما ننظر فيكم أمر الله» . ثم رجع إلى مكانه من الخطبة. ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين وتوليتهم أمرهم عبد الله بن وهب وخروجهم عن الكوفة وانضمام خوارج البصرة إليهم، وما كاتبهم علىّ به وجوابهم وغير ذلك قال: ولمّا كان من أمر الحكمين ما ذكرناه، لقى بعض الخوارج بعضا واجتمعوا فى منزل عبد الله بن وهب الراسبى، فخطبهم، فزهّدهم فى الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم قال اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلّة، فقال حرقوص بن زهير: «إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله [1] مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون» وقال حمزة بن سنان الأسدى: «يا قوم، إن الرأي ما رأيتم فولّوا أمركم [2] رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها» فعرضوها على زيد بن حصين [3] الطائى فأبى، وعرضوها على حرقوص فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «فالله» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : (أموركم) . [3] كذا جاء فى المخطوطة، وهذا الاسم يقال فيه «حصن» كما ذكره ابن حجر فى الإصابة، ويقال فيه «حصين» كما ذكره الطبرى وابن الأثير، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك

ابن أوفى العبسىّ فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال: «هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة فى الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت» فبايعوه لعشر خلون من شوال سنة سبع وثلاثين، وكان يقال: له ذو الثفنات [1] . ثم اجتمعوا فى منزل شريح بن أبى أوفى [2] العبسى، فقال ابن وهب: اشخصوا [3] بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق. قال شريح: «نخرج إلى المدائن، فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا» . فقال زيد بن حصن: «إنكم إن خرجتم مجتمعين تتبّعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا من جسر [4] النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة» . قالوا: هذا الرأى. وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللّحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوا. قال: ولما غزم من بالكوفة من الخوارج على الخروج، تعبّدوا ليلتهم- وكانت ليلة الجمعة- ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسى وهو يتلو قول الله تعالى:

_ [1] كان عبد الله بن وهب قد أثر طول السجود فى ثفناته، والثفنات: جمع ثفنة. وهى الركبة.. وهناك من غير الخوارج «ذو الثفنات» زين العابدين على بن الحسين بن على وعلى بن عبد الله بن عباس. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى النسخة (ن) : «شريح بن أوفى» . [3] اشخصوا: اذهبوا. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «مر» .

فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [1] قال: وخرج معهم طرفة بن عدى بن حاتم الطائى، فأتبعه أبوه ليرده فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع. وأرسل عدى إلى سعد بن مسعود عامل علىّ على المدائن يحذّره أمرهم، فحذر، وأخذ أبواب المدائن، وخرج فى الخيل، واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبى عبيد، وسار فى طلبهم فأخبر عبد الله ابن وهب خبره، فترك طريقه وسار على بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرج فى خمسمائة فارس عند المساء، [فانصرف إليهم عبد الله فى ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة] [2] وامتنع القوم منهم، وقال أصحاب سعد لسعد. «ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر، خلّهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن أمرك باتّباعهم فاتّبعهم، وإن كفاكهم غيرك كان فى ذلك عافية لك» فأبى عليهم، فلما جن عليهم الليل عبر عبد الله بن وهب دجلة إلى أرض جوخى [3] ، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه. وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، منهم القعقاع بن قيس الطائى عم الطّرماح ابن حكيم، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائى.

_ [1] الآيتان 21، 22 من سورة القصص. [2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) ، وجاءت فى (ن) والكامل لابن الأثير ج 3 ص 170 وتاريخ ابن جرير ج 4 ص 56. [3] جوخى مقصور الآخر مع فتح الجيم أوضمها: نهر عليه كورة واسعة فى سواد بغداد.

قال: ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليّا أصحابه وشيعته فبايعوه، وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا فى خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمى، فعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم أبا الأسود الدّؤلى، فلحق بهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج [1] مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بعبد الله ابن وهب. قال: ولما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى الأشعرى إلى مكة، وردّ علىّ ابن عباس رضى الله عنهما إلى البصرة، قام علىّ بالكوفة خطيبا فقال: «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أمّا بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم فى هذين الرجلين وفى هذه الحكومة أمرى، ونحلتكم [2] رأيى، لو كان لقصير [3] أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازان [4] : أمرتهمو أمرى بمنعرج اللّوى [5] ... فلم يستبينوا الرّشيد إلا ضحى الغد

_ [1] أدلج: سار بالليل. [2] نحلتكم: اعطيتكم. [3] هو قصير بن سعد صاحب جذيمة الأبرش، وله قصة مع الزباء ذات أمثال، والمثل المراد هنا: «لا يطاع لقصر أمر» . [4] أخو هوازن هو دريد بن الصمة، والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رثى بها أخاه عبد الله، وقد سبق ذكر دريد وقصيدته. [5] منعرج اللوى: منعطف الرمل.

ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بينة ولا سنّة ماضية، واختلفا فى حكمهما وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح [1] المؤمنين، استعدّوا وتأهبّوا للمسير إلى الشام، وأصبحوا فى معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين» . ثم نزل. وكتب إلى الخوارج بالنّهروان: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أمّا بعد فإن الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله تعالى، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابى هذا فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدوّنا وعدوّكم، ونحن على الأمر الأول الذى كنّا عليه» . فكتبوا إليه: «أمّا بعد فإنك لم تغضب لربّك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بينا وبينك، وإلّا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحبّ الخائنين» . فلما قرأ كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم ويمضى بالناس [حتّى يناجز أهل الشام] [2] فقام فى أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد فإنه من ترك الجهاد فى الله وداهن فى أمره كان

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) . وجاء فى (ن) : «وصالحو» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .

على شفاهلكة، إلا أن يتداركه الله بنعمته، فاتقوا الله تعالى، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نور الله، وقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين، الذين ليسوا بقرّاء القرآن ولا فقهاء فى الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل فى سابقة الإسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسّروا [1] للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . وكتب إلى ابن عباس رضى الله عنه: «أمّا بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنّخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدوّنا من أهل المغرب، فاشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولى، وأقم حتى يأتيك أمرى، والسلام عليك» . فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس، وندبهم مع الأحنف ابن قيس، فشخص ألف وخمسمائة، فخطبهم [2] وقال: «يا أهل البصرة، أتانى كتاب أمير المؤمنين، فأمرتكم بالنفير [3] إليه، فلم يشخص منكم إلا ألف وخمسمائة، وانتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبيدكم. ألا انفروا مع جارية [4] بن قدامة السعدىّ، ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلا، فإنّى موقع بكلّ من وجدته متخلفا

_ [1] تيسروا: تهيئوا. [2] ذكر ابن جرير فى روايته لسبب الخطبة ج 4 ص 58 أن ابن عباس استقلهم، أى رآهم قليلا. [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «بالنفر» . [4] وقع فى المخطوطة «حارثة» بالحاء المهملة، والصواب «جارية» كما نص عليه بالجيم ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 113، 181، 183 وله ترجمة فى حرف الجيم من من الاستيعاب ج 1 ص 245 وأسد الغابة ج 1 ص 263 والإصابة ج 1 ص 218.

عن دعوته، عاصيا لإمامه، فلا يلومن رجل إلا نفسه» . فخرج جارية واجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا عليّا وهم ثلاثة آلاف ومائتان. فجمع على رضى الله عنه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع [1] ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا أهل الكوفة، أنتم إخوانى وأنصارى وأعوانى على الحق، وأصحابى إلى جهاد المخلين [2] ، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة، فأتانى منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لى رئيس كلّ قبيلة ما فى عشيرته من المقاتلة [وأبناء المقاتلة] [3] الذين أدركو القتال، وعبدان عشيرته ومواليهم، ويرفع ذلك إلينا. فقام إليه سعيد بن قيس الهمدانى فقال: يا أمير المؤمنين، سمعا وطاعة، أنا أول الناس أجاوب بما طلبت. وقام معقل بن قيس، وعدىّ بن حاتم، وزياد بن خصفة، وحجر بن عدّى، وأشراف الناس والقبائل، فقالوا متل ذلك، وكتبوا له ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم [ومواليهم] [4] أن يخرجوا معهم، فرفعوا له أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، فكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفا، سوى أهل البصرة وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل.

_ [1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 181: «وكانت الكوفة يومئذ أسباعا» وأسباع جمع سبع بضم السين، وقد مضت الإشارة إلى هذا فيما سبق. [2] (المخلين) جاء بالخاء المعجمة فى (ك) ، وبالحاء المهملة فى (ن) ، وقد سبقت الإشارة إلى مثل هذا. [3] ثبتت هذه العبارة فى (ن) . وسقطت من (ك) . [4] الزيادة من ابن جرير الطبرى، ويأتى ما يناسبها.

وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة، وبلغ عليا رضى الله عنه أن الناس يقولون: «لو ساربنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المخلين» . فقال لهم: «بلغنى أنكم قلتم كيت وكيت! وإن غير هؤلاء الخارجين أهمّ إلينا، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم، كيما [1] يكونوا جبّارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا» .. فناداه الناس أن سربنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. وقام إليه صيفى بن نشيل [2] الشيبانىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادى من عاداك، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسربنا إلى عدوك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع» . وقام إليه محرز بن شهاب التميمىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، إن قلب شيعتك كقلب رجل واحد فى الاجتماع على نصرتك، والجد فى جهاد عدوّك، فأبشر بالنصر، وسربنا إلى أىّ الفريقين أحببت، فإنّا شيعتك الذين نرجو فى طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف فى خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال» .. وأجمع على المسير [علىّ] [3] إلى الشام، فشغله عن ذلك أمر الخرارج وقتالهم على ما نذكره.

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ووقع فى النسخة فى (ك) : «كما» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى: «فسيل» . [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .

ذكر قتال الخوارج

ذكر قتال الخوارج قيل: كان سبب ذلك أن الخوارج من البصرة لما دنوا من من النهروان رأوا رجلا يسوق بامرأة على حمار، فدعوه وانتهروه فأفزعوه، وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: أفزعناك! قال: نعم قالوا لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال: حدثنى أبى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسى فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسى كافرا ، قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول فى أبى بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. فقالوا: ما تقول فى عثمان فى أوّل خلافته وفى آخرها؟ قال: إنه كان محقّا فى أولها وآخرها، قالوا: فما تقول فى علىّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، وأنفذ بصيرة. قالوا: إنك تتبع الهوى وتوالى الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا بامرأته وهى حبلى متمّ [1] حتى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فتركها فى فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن. فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد فى الأرض. فلقى صاحب الخنزير فأرضاه. فلما رأى عبد الله

_ [1] حبل متم: قريبة الوضع.

ابن خبّاب ذلك منهم قال: «إن كنتم صادقين فيما أرى فما على منكم من بأس، إنّى مسلم ما أحدثت فى الإسلام حدثا، ولقد أمنتمونى، فقلتم: لا روع عليك» فأضجعوه فذبحوه، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله. فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيىء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية. فلما بلغ عليّا رضى الله عنه ذلك بعث إليهم الحارث بن مرّة العبدىّ ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. وأتى الخبر إلى على، فقال له الناس: «يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا فى عيالنا وأموالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام» . فأجمع علىّ رضى الله عنه على ذلك، وخرج وسار إليهم. فأرسل إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل قلوبكم [1] ، ويردّكم إلى خير مما أنتم عليه [من أمركم] [2] فقالوا: كلّنا قتلهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم. فراسلهم مرة بعد أخرى. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فكلّمهم ونصحهم، وأشار عليهم بالمراجعة والدخول فيما خرجوا منه، فأبوا. وخطبهم أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه وحذّرهم تعجيل الفتنة. وأتاهم علىّ رضى الله عنه فكلّمهم ووعظهم وذكرهم. فتنادوا: «لا تخاطبوهم

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى ابن جرير الطبرى «يقلب قلوبكم» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) . وسقطت من (ك) .

ولا تكلمّوهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة» . فعاد علىّ عنهم. ثم إن الخوارج قصدوا الجسر، فقال أصحاب علىّ له: إنهم عبروا النهر، فقال: لن يعبروه، فأرسلوا طليعة، فعاد. وأخبر [1] أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد، فقال: قد عبروا النهر. فقال علىّ رضى الله عنه: «والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، وو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة» . وتقدم علىّ إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكّوا فى قوله وارتاب به بعضهم، فلما رأوهم لم يعبروا كبّروا وأخبروا عليّا رضى الله عنه بحالهم، فقال والله ما كذبت ولا كذبت. ثم عبّأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدىّ، وعلى ميسرته شبث بن ربعىّ أو معقل بن قيس الرّياحى، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصارى رضى الله عنه، وعلى الرّجالة أبا قتادة الأنصارىّ رضى الله عنه، وعلى أهل المدينة- وهم سبعمائة أو ثمانمائة. قيس بن سعد ابن عبادة رضى الله عنه. وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائى، وعلى الميسرة شريح بن أبى أوفى العبسىّ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدىّ، وعلى رجّالتهم حرقوص بن زهير السّعدىّ. وأعطى علىّ رضى الله عنه أبا أيّوب الأنصارىّ راية أمان، فناداهم

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) وهو المناسب لما يأتى بعده، وفى النسخة (ك) : «فعادوا وأخبروا» .

أبو أيوب فقال: «من جاء هذه الراية فهو آمن ممّن لم يقتل ولم يتعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم فى سفك دمائكم» . فقال فروة بن نوفل الأشجعىّ: «والله ما أدرى على أى شىء نقاتل عليا؟: أرى أن أنصرف حتى تتضح لى بصيرتى فى قتاله، أو أتابعه» . فانصرف فى خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين [1] والدّسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة. وخرج إلى علىّ رضى الله عنه نحو مائة، وكان الخوارج فى أربعة آلاف؛ فبقى مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى علىّ رضى الله عنه وكان قد قال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدءوكم. فتنادوا. الرواح إلى الجنة. فحملوا على الناس فافترقت خيل علىّ فرقتين، فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة،، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسّيوف فما لبثوا أن أناموهم، فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس، وجاءتهم الخيل من نحو علىّ فأهلكوا فى ساعة، فكأنّما قيل لهم موتوا فماتوا. قال: وأخذ علىّ ما فى عسكرهم من شىء، فأما السّلاح والدّواب

_ [1] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وياقوت وغيرهم. قال ياقوت: هى بلدة مشهورة فى طرف النهروان من ناحية الجبل. وفى المخطوطة: «البندجين» .

وما شهر [1] عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه ردّه على أهله حين قدم. وطاف عدىّ بن حاتم فى القتلى على ابنه طرفة، فدفنه، ودفن رجال قتلاهم، فقال علىّ حين بلغه ذلك تقتلونهم ثم تدفنونهم! ارتحلوا. فارتحل الناس ولم يقتل من أصحاب علىّ إلا سبعة؛ منهم يزيد بن نوبرة وله صحبة [2] وسابقة. وهؤلاء الخوارج هم الذين ورد فى أمرهم فى الصحيح [الحديث] [3] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يخرجون يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة [4] علامتهم رجل مخدج اليد [5] » فالتمسه علىّ فى القتلى فوجده، فنظر فى عضده فإذا لحم مجتمع كثدى المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدّت امتدت حتى تحاذى يده الطّولى، ثم تترك فتعود إلى منكبه. وكان علىّ رضى الله عنه يحدّث الناس بهذا الحديث قبل وقعة الخوارج [6] .

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى الكامل لابن الأثير، وجاء فى تاريخ الطبرى «وما شهدوا به عليه الحرب» . [2] انظر الاستيعاب ج 3 ص 655 وأسد الغابة ج 5 ص 122 والإصابة ج 3 ص 664. [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) . [4] أى يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشىء المرمى به ويخرج منه. [5] مخدج اليد: ناقص اليد. [6] انظر فى صحيح البخارى «كتاب استتابة المرتدين» ومن أبوابه «باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» و «باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن ينفر الناس عنه» وقد روى بسنده عن على رضى الله عنه الحديث «سيخرج قوم.» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما «أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية: أسمعت النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدرى ما الحرورية؟ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فى هذه الأمة- ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة عن أبى سعيد قال ( ... آيتهم رجل إحدى يديه أو قال ثدييه مثل ثدى المرأة أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: أشهد أنى سمعت من النبى صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جىء بالرجل على النعت الذى نعته النبى صلى الله عليه وسلم» وانظر حديث (ذى الثدية) عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 202- 205 وانظر فى النهاية ولسان العرب شرحه فى المواد: خ د ج، ود ن، ث د ن، ث د ى، م ر ق، ر م ى، د ر د ر.

وقيل كانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثلاثين. قال: ولمّا فرغ علىّ رضى الله عنه من هذه الوقعة حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله قد أحسن بكم، وأعزّ نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم. قالوا: «يا أمير المؤمنين، نفدت سهامنا، وكلّت سيوفنا، ونصلت [1] أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا [2] ، فارجع إلى مصرنا. فلنستعدّ [بأحسن عدّتنا] [3] ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عدّتنا فإنه أقوى لنا على عدوّنا» . وكان الذى تولّى كلامه الأشعث بن قيس، فأقبل حتّى نزل النّخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطّنوا على الجهاد لعدوهم أنفسهم، وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا فيه أياما ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا من وجوه الناس وترك العسكر خاليا. فلما رأى علىّ ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه فى المسير. وخطبهم مرة بعد أخرى، وحثّهم على الخروج إلى الشام فلم يتهيأ له ذلك. وحيث

_ [1] فصلت: خرجت. [2] قصدا: قطعا. [3] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى.

ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان

ذكرنا أخبار الخوارج فلنذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النّهروان. والله الموفق للصواب. ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان قال: ولما قتل أهل النّهروان خرج أشرس بن عوف الشّيبانىّ على علىّ رضى الله عنه بالدّسكرة فى مائتين، ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علىّ رضى الله عنه الأبرش بن حسان فى ثلاثمائة فواقعه، فقتل الأشرس فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين. ثم خرج هلال بن علقمة [1] من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد، فأتى ماسبذان، فوجه إليه علىّ معقل بن قيس الرّياحىّ فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم فى جمادى الأولى منها. ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة فى مائة وثمانين رجلا، فأتى المعركة التى أصيب فيها هلال وأصحابه فصلّى عليهم، ودفن من قدر عليه منهم، فوجه علىّ إليه جارية بن قدامة السّعدىّ، وقيل حجر بن عدى؛ فاقتتلوا بجرجرايا [2] من أرض جوخى فقتل الأشهب وأصحابه فى جمادى الآخرة منها. ثم خرج سعيد بن قفل التيمىّ من تيم الله بن ثعلبة فى شهر رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل، فأتى درزيجان [3] وهى من المدائن

_ [1] ابن الأثير: «الكامل ح 3 ص 183. [2] جرجرايا: بلد من أعمال النيهووان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرق. [3] هكذا جاءت الكلمة فى معجم البلدان لياقوت، وقد وردت هذه الكلمة فى النسخة (ن) غير منقوطة الرابع والخامس، وفى (ك) جعلا تاء فجيما، وعند ابن الأثير جعلا نونا فجيما.

على فرسخين، فخرج إليهم مجيعد بن [1] مسعود فقتلهم فى الشهر المذكور. ثم خرج أبو مريم السّعدىّ التميمىّ فأتى شهر ذور وأكثر من معه من الموالى. وقيل: لم يكن معه من العرب غير خمسة نفر، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل: أربعمائة. وجاء حتّى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل علىّ إليه يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل، وقال: ليس بيننا غير الحرب، فبعث إليه شريح بن هانئ فى سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقى شريح فى مائتين، فانحاز إلى قرية فرجع إليه بعض أصحابه، ودخل الباقون الكوفة، فخرج علىّ بنفسه، وقدّم بين يديه جارية بن قدامة السّعدىّ، فدعاهم جارية إلى طاعة علىّ وحذّرهم القتل، فلم يجيبوا، ودعاهم علىّ أيضا فأبوا عليه، فقتلهم أصحاب علىّ ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمّنهم. وكان فى الخوارج أربعون رجلا [جرحى] [2] فأمر علىّ بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برئوا. وكان قتلهم فى شهر رمضان المعظم سنة ثمان وثلاثين.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 188: «سعد بن مسعود» وقد سبق فى هذا الجزء أنه كان «على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفى» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : (فتراجع) . [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .

ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى وبنى ناجية على على رضى الله عنه وما كان من أمرهم

ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى وبنى ناجية على علىّ رضى الله عنه وما كان من أمرهم قال [1] وفى سنة ثمان وثلاثين أظهر الخرّيت بن راشد الناجى الخلاف على علىّ رضى الله عنه، وكان قد شهد مع علىّ الجمل وصفّين فى ثلاثمائة من بنى ناجية خرجوا إليه من البصرة، وأقاموا معه بالكوفة إلى هذه السنة، فجاء إلى علىّ فى ثلاثين راكبا، فقال له: «يا على والله لا أطيع لك أمرا، ولا أصلّى خلفك، وإنى غدا مفارق لك» . فقال له على: «ثكلتك أمّك! إذا تعصى ربّك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك؛ خبرنى لم تفعل ذلك؟» قال: «إنك حكّمت الرّجال، وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زار وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين» . فقال له علىّ: «هلمّ أدارسك الكتاب، وأناظرك فى السّنن، وأفاتحك أمورا أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر» . قال: فإنى عائد إليك. قال: «لا تستهوينّك الشياطين، ولا يستخفنك الجهّال، والله لئن استرشدتنى وقبلت منى لأهدينك سبيل الرّشاد» . فخرج من عنده منصرفا إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه. فقال زياد بن خصفة البكرىّ: «يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فنأسى عليهم، إنهم قلما يزيدون فى عددنا لو أقاموا، ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183.

كثيرة ممن يقدمون عليه [1] من أهل طاعتك، فأذن لى فى اتباعهم حتى أردّهم عليك» . فقال: تدرى أين توجهوا؟ قال: لا، ولكنى أسأل وأتبع الأثر، فقال له: اخرج يرحمك الله، وأنزل دير أبى موسى، وأقم حتى يأتيك أمرى. فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر وائل، وأعلمهم الخبر فسار [معه] [2] منهم مائة وثلاثون رجلا. فقال: حسبى. ثم سار فأتى دير أبى موسى فنزله ينتظر أمر على. وأتى عليا كتاب من قرظة بن كعب الأنصارىّ يخبره أنهم توجهوا نحو، نفّر [3] ، وأنهم قتلوا رجلا من الدّهاقين، كان قد أسلم، فأرسل علىّ رضى الله عنه إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم، وأنهم قتلوا رجلا مسلما، ويأمره بردّهم إليه، فإن أبوا يناجزهم. وسيّر الكتاب مع عبد الله بن وأل، فاستأذنه فى المسير مع زياد، فأذن له، وسار بالكتاب إلى زياد. وساروا حتى أتوا نفّر، فقيل: إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذاد [4] وهم نزول، قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخرّيت: أخبرونى ما تريدون؟ فقال له زياد- وكان مجربا رفيقا-: «قد ترى ما بنا من التعب، والذى جئناك

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 88، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 183: «عليك» . [2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) [3] نفر: قرية بالعراق. [4] المذار: بلد بالعراق.

له لا يصلحه الكلام علانية، ولكن ننزل ثم نخلو جميعا، فنتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظا لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمرا نرجو فيه العافية لم نرده عليك» . قال: فانزل. فنزل زياد ومن معه على ماء هناك، فأكلوا شيئا وعلفوا دوابهم، ووقف زياد فى خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم وقال: إنّ عدّتنا كعدّتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال فلا تكونوا أعجز الفريقين. وخرج زياد إلى الخرّيت، فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالّون تعبون فتركناهم حتّى استراحوا، هذا والله سوء الرأى. فدعاه زياد وقال: ما الذى نقمته [1] على أمير المؤمنين وعلينا حتّى فارقتنا؟» فقال: «لم أرض صاحبكم إماما، ولا سيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشّورى» . فقال له زياد: «وهل يجتمع الناس على رجل يدانى صاحبك الذى فارقته علما بالله وسنّته وكتابه. مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسابقته فى الإسلام» ؟ فقال [له] [2] : «ذلك ما قال لك» . فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ قال: ما أنا قتلته إنما قتله (طائفة من) [3] أصحابى. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما إلى ذلك سبيل. فدعا زياد أصحابه، ودعا الخرّيت أصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فتطاعنوا بالرماح حتّى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف، حتى انحنت، وعقرت عامّة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «نقمت» . [2] ثبتت الكلمة فى (ن) وسقطت من (ك) . [3] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .

زياد رجلان، ومن أولئك خمسة، وجاء الليل فحجز بينهم، وقد كره بعضهم بعضا، وجرح زياد. فسار الخرّيت من الليل، وسار زياد إلى البصرة. وأتاهم خبر الخرّيت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها، وتلاحق به ناس من أصحابه فصاروا نحو مائتين، وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بخبرهم، وأنه مقيم يداوى الجرحى وينتظر أمره. فلما قرأ على كتابه قام معقل بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، كان ينبغى أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمرى ليصبرنّ لهم، فإن العدّة تصبر للعدة» . فقال على تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن معقل [1] الأزدى وكتب على إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلا شجاعا معروفا بالصلاح فى ألفى رجل إلى معقل، وهو أمير أصحابه حتّى يأتى معقلا، فإذا لقيه كان معقل الأمير، وكتب إلى زياد بن خصفة يشكره ويأمره بالعود. قال: واجتمع على الخرّيت علوج كثير من أهل الأهواز أرادوا كسر الخراج، ولصوص وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج [فى كسره] [2] ، فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 93: «المغفل» بالغين المعجمة والفاء، وانظر ما يأتى. [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 185.

(وكان عاملا لعلىّ فى قول من يزعم أنه لم يمت فى سنة سبع وثلاثين) . فقال ابن عبّاس لعلىّ: أنا أكفيك فارس بزياد؛ يعنى ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها، فأرسله فى جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدّوا الخراج واستقاموا. قال: وسار معقل بن قيس، وقدم الأهواز، وأقام ينتظر مدد البصرة، فأبطئوا عليه، فسار يطلب الخرّيت، فلم يسر يوما حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائى، فساروا جميعا فلحقوهم بقرب جبل من جبال رامهرمز، فصفّ معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل [1] ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضّبىّ من أهل البصرة. وصفّ الخرّيت أصحابه، فجعل من معه من العرب ميمنة، ومن معه من أهل البلد والعلوج [2] ميسرة ومعهم الأكراد، فحرّك معقل دابّته [3] مرتين، ثم حمل فى الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين من بنى ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحوا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد. وانهزم الخرّيت فلحق بأسياف البحر وبها جماعة كبيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علىّ، ويخبرهم أن الهدى فى حربه، حتى ابتعه منهم ناس كثير. وأقام معقل بأرض الأهواز، وكتب إلى علىّ رضى الله عنه بالفتح فقرأ علىّ الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى النسخة (ن) : «معقل» ، وانظر ما سبق. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «العلوج» دون واو قبلها. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «رأسه» ، وفى تاريخ الطبرى «رايته» .

أن تأمر معقلا يتبع آثار الفاسق حتّى يقتله أو ينفيه، فإنّا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثنى عليه وعلى من معه، ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه. فسأل معقل عنه فأخبر بمكانه بالأسياف، وأنه قد ردّ قومه عن طاعة علىّ وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب. وكان قومه قد منعوا الصّدقة عام صفّين وذلك العام، فسار إليهم معقل وأخذ على فارس فانتهى إلى أسياف البحر، فلما سمع الخرّيت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن عليّا لم ينبغ له أن يحكّم. وقال للآخرين من أصحابه: إنّ عليّا حكّم ورضى فخلعه حكمه الذى ارتضاه. وقال سرّا للعثمانية. أنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوما. فأرضى كلّ صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدّوا أيديكم على صدقاتكم، وصلوا بها أرحامكم، وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا؛ فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذى خرجنا منه خير من دين هؤلاء الذى لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، فقال لهم الخرّيت، ويلكم [1] ، لا ينجيكم من القتل إلا قتال هؤلاء القوم والصبر، فإنّ حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبة ولا عذرا. فخدعهم وجمعهم وأتاهم من كان من بنى ناجية وغيرهم خلق كثير. فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان؛ وقال: «من أتاها من الناس فهو آمن إلّا الخرّيت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة» . فتفرق عن الخرّيت جل من كان معه من غير قومه. وعبّأ معقل

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «ويحكم» .

أصحابه، وزحف بهم نحو الخرّيت ومعه أصحابه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم، وحرّض كلّ واحد منهما أصحابه، ثم حمل معقل ومن معه فقاتلوا قتالا شديدا وصبروا، ثم إن النّعمان بن صهبان [الراسبى] [1] بصر بالخرّيت، فحمل عليه فطعنه، فصرع عن دابّته، ثم اختلفا ضربتين، فقتله النعمان؛ وقتل معه فى المعركة سبعون ومائة رجل، وذهب الباقون يمينا وشمالا، وسبى معقل من أدركه من حريمهم وذراريهم، وأخذ رجالا كثيرا، فأما من كان مسلما فخلّاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأمّا من كان ارتّد فعرض عليهم الإسلام، فرجعوا، فخلّى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلّا شيخا نصرانيا منهم يقال له الرّماحس لم يسلم فقتله. وجمع من منع الصدقة، وأخذ منهم صدقة عامين. واحتمل الأسارى وعيالهم وأقبل بهم، وشيعهم المسلمون، فلما ودّعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتّى رحمهم الناس. ثم مرّ بهم حتى أقبل على مصقلة بن هبيرة الشّيبانى، وهو عامل علىّ على أردشير [2] خرّه، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: «يا أبا الفضل، يا حامى الرجال، ومأوى العضب [3] وفكّاك العناة [4] ، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا» . فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدّقنّ عليكم إنّ الله يجزى المتصدقين [5] . فاشتراهم

_ [1] الزيادة جاءت فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) . [2] أردشير خره: اسم كورة من أعظم كور فارس، وهو اسم مركب معناه: بهاء أردشير، وأردشير ملك من ملوك الفرس. [3] العضب: جمع الأعضب، وهو من لا ناصر له. [4] العناة: جمع العانى، وهو الأسير. [5] مأخوذ من الآية 88 فى سورة يوسف.

من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجّل المال إلى أمير المؤمنين. فقال أنا باعث الآن بعضه ثم [أبعث كذلك] [1] حتى لا يبقى منه شىء؛ وأقبلى معقل إلى علىّ فأخبره بما كان منه فاستحسنه. وبلّغ عليا أنّ مصقلة أعتق الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه بشىء، فقال: ما أظنّ مصقلة إلّا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدا، وكتب إليه بحمل المال أو يحضر عنده، فحضر عنده، وحمل من المال مائتى ألف. قال ذهل بن الحارث: فاستدعانى مصقلة ليلة فطعمنا، ثم قال: إن أمير المؤمنين يسألنى هذا المال [2] ولا أقدر عليه. فقلت: والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: «والله ما كنت لأحمّلها قومى؛ أما والله لو كان ابن هند [3] ما طالبنى بها، ولو كان ابن عفّان لو هبها لى» . قال فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأى، لا يترك منها شيئا. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية. وبلغ عليا ذلك فقال: ما له أقرحه الله! فعل فعل السيّد وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على دينه [4] ، فإن وجدنا [5] له شيئا أخذناه وإلّا تركناه» . ثم سار علىّ إلى داره فهدمها، وأجاز عتق السّبى، وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينا على معتقهم.

_ [1] زيادة تؤخذ من ابن جرير، وفى المخطوطة: «لذلك» . [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى النسخة (ك) : «فلا» . [3] ابن هند: معاوية بن أبى سفيان. [4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «حبسه» . [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «تهيأ» .

وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعة لعلىّ، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب، اسمه حلوان يقول له: «إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة، فأقبل ساعة يلقاك رسولى والسلام [عليك] [1] فأخذه مالك بن كعب الأرحبىّ فسرحه إلى علىّ رضى الله عنه، فقطع علىّ يده، فمات. وكتب [2] نعيم إلى أخيه يلومه على لحاقه بالشام، وما فعله من هربه.. وأتاه [3] التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم فوداه لهم. وقال مصقلة: لعمرى لئن عاب أهل العراق ... علىّ انتعاش بنى ناجيه لأعظم من عتقهم رقهم ... وكفّى بعتقهمو حاليه [4] وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلا غاليه [5] وحيث ذكرنا من أخبار علىّ ما قدمناه، فلنذكر ما وقع فى مدة خلافته خلاف ذلك على حكم السنين.

_ [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [2] انظر الشعر الذى كتبه نعيم إلى أخيه فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 104 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 187. [3] أى أتى التغلبيون مصقلة، لأنه الذى بعث التغلبى فكان سببا فى هلاكه. [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «عاليه» . [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «وعاليت إن العلا عاليه» .

ذكر ما اتفق فى مدة خلافته رضى الله عنه

ذكر ما اتفق فى مدة خلافته رضى الله عنه خلاف ما قدمنا ذكره على حكم السنين مما هو متعلق به خاصة، خلاف ما هو مختص بمعاوية فإنا نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى سنة ست وثلاثين ذكر ولاية قيس بن سعد مصر وما كان بينه وبين معاوية من المكاتبة وما أشاعه معاوية عنه حتّى عزله علىّ رضى الله عنه عن مصر واستعمل محمد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما. قال: وفى سنة ست وثلاثين فى ثالث صفر بعث علىّ رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر، وقال له: «سر إلى مصر قد ولّيتكها واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها ومعك جند؛ فإن ذلك أرعب لعدوك وأعزّ لوليك، وأحسن [1] إلى المحسن، واشدد على المريب، وارفق بالعامّة والخاصّة، فإن الرّفق يمن» . فقال له قيس: «أمّا قولك أخرج إليها بجند فو الله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة» . وخرج قيس حتى دخل مصر [2] فى سبعة من أصحابه كما ذكرنا ذلك. ولما قدم صعد المنبر وجلس عليه، وأمر بكتاب علىّ رضى الله عنه فقرىء على أهل مصر بإمارته عليهم، ويأمرهم بمتابعته ومساعدته

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فأحسن» . [2] فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 96 أنه وصل إليها فى مستهل شهر ربيع الأول

وإعانته على الحقّ. ثم قام قيس فقال: «الحمد لله الذى جاء بالحق، وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيّها الناس: إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم [نعمل] [1] لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم» . فقام الناس فبايعوه. واستقامت مصر، وبعث قيس عليها عمّاله إلّا قرية يقال لها خربتا [2] فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بنى كنانة ثم من بنى مدلج اسمه يزيد بن الحارث. وكان مسلمة بن مخلّد أيضا قد أظهر الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قيس» : ويحك!. أعلىّ تثب؟! فو الله ما أحبّ أن لى ملك الشام إلى مصر وأنى قتلتك» . نبعث إليه مسلمة: إنى كاف عنك ما دمت أنت والى مصر. وبعث قيس إلى أهل خربتا إنى لا أكرهكم على البيعة، وإنى أكفّ عنكم. فهادنهم وجبى الخراج، ليس أحد ينازعه. فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية، لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علىّ فى أهل العراق، وقيس فى أهل مصر، فيقع بينهما، فكتب معاوية إلى قيس: «سلام [3] عليكم؛ أمّا بعد، فإنكم نقمتم [4] على عثمان ضربة بسوط، أو شتمة لرجل، أو تسيير آخر، أو استعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحلّ لكم؛ فقد ركبتم عظيما

_ [1] كذا جاء عند الطبرى ج 3 ص 551 وابن الأثير ج 3 ص 173، وجاء فى المخطوطة: «تعلم» . [2] انظر فى أوائل هذا الجزء فى (ذكر تفريق على عماله) الكلام فى هذا اللفظ وهل هو «خرنبا» أو «خربتا» ؟. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وعند بن الأثير: «عليك» . [4] كذا جاء فى المخطوطة، وفى النجوم الزاهرة ج 1 ص 99 «فإنكم إن كنتم نقمتم» .

وجئتم أمرا إدّا، فتب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأمّا صاحبك، فإذا استيقنّا أنه أغرى به الناس، وحملهم حتّى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان، وسلنى ما شئت فإنى أعطيكه، واكتب إلىّ برأيك» . فلما أتاه الكتاب أحبّ أن يدافعه ولا يبدى له أمره، ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: «أمّا بعد، فقد [بلغنى كتابك و] [1] فهمت ما ذكرته [فيه، فأمّا ما ذكرت] [1] من قتل عثمان، فذلك شىء لم أفارقه، وذكرت أن صاحبى هو الذى أغرى به حتّى قتلوه فهذا ما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتى لم تسلم [من دم عثمان] [1] فأوّل الناس كان فيها قياما عشيرتى، وأمّا ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لى فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، وليس يأتيك من قبلى ما تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى» . فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا [2] ، فكتب إليه: «أمّا بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلى يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل، والسلام.

_ [1] الزيادة من النجوم الزاهرة. [2] «فلم يأمن مكره ومكينته» كما فى النجوم الزاهرة.

فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا تفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما فى نفسه، فكتب إليه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بى وطمعك فىّ، واستسقاطك رأيى، أتسومنى الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرنى بالدخول فى طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزّور، وأضلّهم سبيلا، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس. وأمّا قولك: إنّى مالئ عليك مصر خيلا ورجلا [1] ، فو الله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهمّ إليك إنك لذو وجد [2] ، والسلام. فلما رأى معاوية كتابه أيس منه، وثقل عليه مكانه، ولم تنجع حيله فيه فكاده، من قبل علىّ، فقال لأهل الشام: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى غزوه، فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ورسله ونصيحته لنا سرا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويحسن إليهم. وافتعل كتابا [3] عن قيس بالطّلب بدم عثمان، والدخول معه فى ذلك، وقرأه على أهل الشام. فبلغ ذلك عليا فأعظمه وأكبره، ودعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يربيك إلى

_ [1] فى النجوم الزاهرة: «وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل وغيره. «إنك للوجد» والجد: الحظ. [3] انظر تاريخ الطبرى ج 3 ص 554 والنجوم الزاهرة ج 3 ص 101.

إلى ما لا يريبك [1] اعزل قيسا عن مصر. فقال: والله إنى لا أصدّق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله، فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك. فبينما هم كذلك إذ جاء كتاب قيس يخبر بحال المعتزلين وكفّه عن قتالهم، فقال ابن جعفر: ما أخوفنى أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم، فكتب إليه يأمره بقتالهم، فأجابه: «أما بعد، فقد عجبت لأمرك! تأمرنى بقتال قوم كافّين عنك، مفرغيك لعدوّك ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوّك؛ فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإن الرأى تركهم، والسلام. فلما قرأ الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ ابعث محمد ابن أبى بكر [2] على مصر واعزل قيسا. فبعث محمدا إلى مصر- وقيل: بعث الأشقر النّخعىّ فمات بالطريق فبعث محمدا- فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس: «ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيّره؟ أدخل أحد بينى وبينه؟» قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال، لا: والله لا أقيم. وخرج إلى المدينة وهو غضبان، فأخافه مروان بن الحكم فخرج من المدينة هو وسهيل بن حنيف إلى علىّ رضى الله عنه فشهدا معه صفّين، فبعث معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عندى من قيس بن سعد فى رأيه ومكانه.

_ [1] حديث رواه الترمذى والنسائى وأحمد بن حنبل عن الحسن بن على وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . [2] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 139: «وكان ابن جعفر أخا محمد أبى بكر لأمه» .

ولما قدم قيس على علىّ وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسى أمورا عظاما من المكايد وعظم محلّ قيس عنده وأطاعه فى الأمر كله. قال. وأما محمد بن أبى بكر فإنه لما قدم مصر قرأ كتاب علىّ رضى الله عنه إلى أهل مصر عليهم، ثم قام فقال: «الحمد لله الذى هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمى عنه الجاهلون، ألا إنّ أمير المؤمنين ولّانى أمركم، وعهد إلىّ ما سمعتم، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتى وأعمالى طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادى له، وإن رأيتم عاملا لى بغير الحقّ فارفعوه إلى وعاتبونى فيه، فإنى بذلك أسعد وأنتم جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته» . ثم نزل. فلم يلبث إلا شهرا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس بن سعد، فقال لهم: إما أن تدخلوا فى طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنّا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرنا إليه، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا وأخذوا حذرهم، وكانت وقعة صفّين وهم هائبون لمحمد، فلما رجع علىّ ومعاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا فيه، وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحارث بن جهمان [1] الجعفىّ إلى أهل خربتا فقاتلهم فقتلوه، فبعث إليهم رجلا من كلب يدعى ابن مضاهم فقتلوه. ثم كان من خبر محمد بن أبى بكر ما نذكره إن شاء الله تعالى.

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «جمهان» مثل ابن جرير وابن الأثير.

سنة سبع وثلاثين

وفى هذه السنة قدم أبراز مرزبان مرو إلى علىّ رضى الله عنه بعد الجمل مقرا بالصلح، فكتب له كتابا إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور، فبعث علىّ خليد بن قرّة- وقيل: ابن طريف- اليربوعىّ إلى خراسان. وفيها مات حذيفة بن اليمان قبل وقعة الجمل. وفيها مات سلمان الفارسىّ فى قول بعضهم، وكان عمره مائتين وخمسين سنة هذا أقلّ ما قيل فيه، وقيل: ثلاثمائة وخمسين سنة، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه الصلاة والسلام. وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه على الرّىّ يزيد بن حجيّة التّيمىّ (تيم الّلات) فكسر من خراجها ثلاثين ألفا، فكتب إليه علىّ يستدعيه، فحضر فسأله عن المال، وقال: أين ما غللته من المال؟ فقال: ما أخذت شيئا؛ فخفقه بالدّرة خفقات وحبسه، فوكل به سعدا مولاه فهرب منه يريد الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من على، وبقى بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق فولّاه الرىّ. وقيل: إنه شهد مع علىّ الجمل وصفّين والنّهروان، ثم ولّاه بعد ذلك الرىّ وهو الصحيح. سنة سبع وثلاثين فيها بعث علىّ رضى الله عنه جعدة بن هبيرة المخزومى إلى خراسان بعد عودته من صفّين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا

سنة ثمان وثلاثين

فرجع إلى علىّ، فبعث خليد بن قرّة اليربوعى، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو. وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس [1] رضى الله عنهما. سنة ثمان وثلاثين فى هذه السّنة ملك عمرو بن العاص مصر، وقتل محمد بن أبى بكر على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية. ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى حين بعثه معاوية إلى البصرة وما كان من أمره إلى أن قتل وفى هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبى بكر بعث معاوية عبد الله ابن عمرو الحضرمىّ إلى البصرة، وقال له: إنّ جلّ أهلها يرون رأينا فى عثمان، وقد قتلوا فى الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودّون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم فى الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فانزل فى مضرو تودّد للأزد فإنهم كلّهم معك، وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم ترابيّة [2] كلّهم وأحذرهم. فسار ابن الحضرمىّ حتّى قدم البصرة، وكان ابن عباس قد خرج إلى على بالكوفة، واستخلف زياد ابن أبيه على البصرة، فنزل ابن الحضرمىّ فى بنى تميم، فأتاه العثمانية وحضره غيرهم، فخطبهم وقال: «إن إمامكم إمام الهدى قتل مظلوما، قتله علىّ فطلبتم بدمه، فجزاكم الله خيرا» .

_ [1] قال ابن الأثير فى الكامل؛ «وكان عامل على على اليمن» . [2] أى من شيعة «أبى تراب» وتلك كنية على رضى الله عنه.

فقام الضحاك بن قيس [1] الهلالىّ وكان على شرطة ابن عباس فقال: قبّح الله ما جئتنا به، وما تدعونا إليه، وسبّه، وذكر فضل علىّ رضى الله عنه،. فقال عبد الله بن خازم [2] السّلمىّ للضحاك: اسكت، فلست بأهل أن تتكلم، ثم أقبل على ابن الحضرمىّ فقال: نحن أنصارك ويدك، والقول قولك، اقرأ كتابك. فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكّرهم فيه آثار عثمان، ويدعوهم إلى الطلب بدمه، ويضمن أنه يعمل فيهم بالسّنّة، ويعطيهم عطاءين فى كلّ سنة. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف، فقال: لا ناقتى فى هذا ولا جملى. واعتزل القوم. وقام عمرو بن مرجوم [3] العبدىّ [4] فقال: أيها الناس، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم الواقعة. وكان العباس بن صحار العيدىّ مخالفا لقومه فى حبّ علىّ، فقام وقال: لننصرّنك بأيدينا وألسنتنا. فقال له المثنى بن مخرّبة [5] العبدىّ: والله لئن لم ترجع إلى المكان الذى جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا، ولا يغرنك هذا الذى تكلم. (يعنى ابن صحار) .

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «زيد» . [2] بالخاء المعجمة والزاى، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183. [3] بالجيم كما نص عليه صاحب الإصابة، وجاء فى النسخة (ن) «مرحوم» وفى النسخة (ك) محروم» . [4] من عبد القيس، قال ابن سعد: قدم فى وفد عبد القيس،. [5] بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل.

فقال ابن الحضرمىّ لصبرة بن شيمان: أنت ناب من أنياب العرب فانصرنى. فقال: لو نزلت فى دارى لنصرتك. فلما رأى زياد ذلك خاف، فاستدعى حضين بن المنذر ومالك ابن مسمع، وقال: أنتم يا معشر بكر بن وائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته، وقد كان من ابن الحضرمىّ ما ترون، وأتاه من أتاه، فامنعونى حتى يأتى [أمر] [1] أمير المؤمنين» . فقال حضين بن المنذر: نعم. وقال مالك- وكان يميل إلى بنى أمية-. هذا أمر لى فيه شركاء أستشير فيه وأنظر [2] . فلما رأى زياد تثاقل مالك أرسل إلى صبرة بن شيمان الحدّانىّ الأزدىّ يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين، فقال: إن حملته إلى دارى أجرتكما، فنقله إلى داره بالحدّان ونقل المنبر، فكان يصلّى الجمعة بمسجد الحدّان. وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بالخبر، فأرسل إليه أعين ابن ضبييعة المجاشعىّ ثم التميمى، ليفرق قومه عن ابن الحضرمى، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فقدم أعين فأتى زيادا فنزل عنده، وجمع رجالا وأتى قومه، ونهض إلى ابن الحضرمىّ ومن معه فدعاهم فشتموه، وواقفهم نهاره، ثم انصرف عنهم، فدخل عليه قوم، قيل: إنهم من الخوارج، وقيل: وضعهم ابن الحضرمى على قتله، فقتلوه غيلة، فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم، فأرسلت تميم إلى الأزد: إنا لم نتعرض لجاركم

_ [1] الزيادة من ابن الأثير. [2] الزيادة من ابن الأثير.

فما تريدون إلى جارنا؟ فكرهت الأزد قتالهم، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه. وكتب زياد إلى على بخبر أعين وقتله، فأرسل علىّ جارية بن قدامة السّعدىّ وهو من بنى سعد من تميم، وبعث معه خمسين رجلا من تميم، وقيل: خمسمائة رجل، وكتب إلى زياد يأمره بمعونته والإشارة عليه. فقدم جارية البصرة، فحذّره زياد ما أصاب أعين، فقام جارية فى الأزد وجزاهم خيرا، وقال: عرفتم الحقّ إذ جهله غيركم. وقرأ كتاب علىّ إلى أهل البصرة يوبّخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء. فقال صبرة ابن شيمان: سمعا لأمير المؤمنين وطاعة: نحن حرب لمن حاربه، وسلم لمن سالمه. وصار جارية إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علىّ رضى الله عنه ووعدهم، فأجابه أكثرهم. فسار إلى ابن الحضرمىّ ومعه الأزد ومن تبعه من قومه، وعلى خيل ابن الحضرمىّ عبد الله بن حازم السّلمىّ، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك ابن الأعور فصار مع جارية، فانهزم ابن الحضرمىّ فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن حازم، [فأتته] [1] أمه عجلى وكانت حبشية، فأمرته بالنزول فأبى، فقالت: والله لتنزلنّ أو لأنزعنّ ثيابى. فنزل ونجا، وأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمىّ وسبعون رجلا منهم معه، وعاد زياد إلى القصر.

_ [1] فى الأصل «فأمر أمه عجلى ... » الخ. وما أثبتناه عن ابن الأثير.

سنة تسع وثلاثين

قال وكان قصر سنبيل لفارس وصار لسنبيل السعدىّ، وحوله خندق. وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر، فقال عمرو بن العرندس: رددنا زيادا إلى داره ... وجار تميم دخانا ذهب لحا الله قوما شووا جارهم ... ولم يدفعوا عنه حرّ اللهب وقال جرير [1] : غدرتم بالزّبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا فأصبح جارهم بنجاة عزّ ... وجار مجاشع أمسى رمادا فلو عاقدت حبل أبى سعيد ... لذاد القوم ما حمل النّجادا وأدنى الخيل من رهج المنايا ... وأغشاها إلا سنّة والصّعادا [2] قال [3] : وحجّ بالناس فى هذه السّنة قثم بن العبّاس من قبل علىّ [4] رضى الله عنهم. سنة تسع وثلاثين فى هذه السّنة بثّ معاوية سراياه فى بلاد على رضى الله عنه، فكان من خبرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية. وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه زياد بن أبيه على كرمان وفارس فضبطها بعد أن اضطربت أمورها [5] .

_ [1] انظر ديوان جرير ص 142- 143. [2] الصعا: الرماح، والصعدة- فى الأصل-: القناة المستوية. [3] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 188. [4] وكان قثم عاملا لعلى على مكة، كما قال ابن الأثير. [5] قال ابن الأثير: سبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمى واختلف الناس على على، طمع أهل فارس وكرمان فى كسر الخراج فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم. الخ.

سنة اربعين

وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس من قبل علىّ، وقيل: قثم بن العباس، وقيل: إن معاوية بعث يزيد بن شجرة الرّهاوىّ ليحجّ [بالناس فاختلف هو وعبيد الله بن عباس، ثم اتفقا على أن يحج] [1] بالناس شيبة بن عثمان فحّج. والله أعلم. وفيها توجّه الحارث بن مرّة العبدى إلى بلاد السّند غازيا متطوعا بأمر علىّ رضى الله عنه فغنم وأصاب سبيا كثيرا، وقسم فى يوم واحد ألف رأس وبقى غازيا إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه [إلا قليلا] [2] فى سنة اثنتين وأربعين. سنة اربعين فى هذه السّنة بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ففعل من الأفعال القبيحة وسفك من الدماء المحرمة ما نذكره فى أخبار معاوية. وفيها جرت مهادنة بين علىّ ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب، ويكون لعلى العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة، واتفقا على ذلك. وفيها فارق عبد الله بن عباس البصرة ولحق بمكة فى قول أكثر أهل التاريخ، وسبب ذلك أنه مر بأبى الأسود فقال له: «لو كنت من البهائم لكنت جملا، ولو كنت راعيا لما بلغت المرعى» . فكتب أبو الأسود إلى علىّ رضى الله عنه: « ... إن ابن عمك قد أكل

_ [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وبها يظهر وجه الكلام، وسقط من النسخة (ك) . [2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 191.

ما تحت يده بغير علمك، ولم يسعنى كتمانك رحمك الله، فانظر فيما هناك وكتب إلىّ برأيك فيما أحببت والسلام» . فكتب إليه علىّ: «أما بعد فمثلك من نصح الإمام والأمة، ووالى على الحقّ، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلىّ، ولم أعلمه بكتابك فلا تدع إعلامى بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك والسلام. وكتب إلى ابن عباس فى ذلك، فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد فإن الذى بلغك باطل، وإنى لما تحت يدى ضابط، وله حافظ، فلا تصدّق الظّنين [1] والسلام. فكتب إليه علىّ: أمّا بعد، فأعلمنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت، وفيما وضعت» . فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد، فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك أنى [2] رزأته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإنّى ظاعن عنه والسلام» . واستدعى أخواله بنى هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالا وقال: هذه أرزاقنا اجتمعت، فتبعه أهل البصرة، فلحقوه بالطّفّ يريدون أخذ المال فقال قيس: والله لا يوصل إليه وفينا عين تطرف. فقال صبرة بن شيمان الحدّانىّ: «يا معشر الأزد إن قيسا إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدوّ، وإن الذى يصيبكم من هذا المال القليل، وهم لكم خير من المال» . فأطاعوه، فانصرفوا وانصرف معهم بكر وعبد القيس.. وقاتلهم بنو تميم فنهاهم الأحنف، فلم يسمعوا

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل، وجاء فى (ك) : «الضغين» . [2] رزأه ماله: أصاب منه شيئا.

ذكر مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وشىء من سيرته

منه، فاعتزلهم، وقاتلهم بنو تميم فحجز الناس بينهم.. ومضى ابن عباس إلى مكة المشرفة. وقيل بل أقام بالبصرة إلى أيام الحسن- رضى الله عنه وأرضاه، وشهد صلح الحسن ومعاوية. والأول أصح، والذى شهد الصلح عبيد الله بن عباس. ذكر مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وشىء من سيرته كان مقتله فى شهر رمضان سنة أربعين ليلة الجمعة. قيل: لسبع عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة ليلة. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. والأول أصح. وقاتله عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ ثم التّجوبىّ [1] ، وأصله من حمير، ولم يختلفوا [2] فى أنه حليف لمراد، وعداده فيهم. وكان سبب قتله أن عبد الرحمن هذا، والبرك بن عبد الله التّميمى الصريمى واسمه الحجاج، وعمرو بن بكر التّميمىّ السّعدىّ وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس، وعابوا ولاتهم، ثم ذكروا أهل النّهروان، وقالوا: «ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا نفوسنا، وقتلنا أئمة الضّلالة، وأرحنا منهم البلاد!» . فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليا. وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية

_ [1] فى القاموس «تجوب: قبيلة من حمير» وانظر فى الاستيعاب ج 3 ص 56 سبب التسمية. [2] هذا من كلام ابن عبد البر فى الاستيعاب.

وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا على ذلك، وسمّوا سيوفهم واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل منهم الجهة التى يريدها. فأما البرك بن عبد الله فإنه توجه إلى معاوية، فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف فوقع فى أليته، وأخذ فقتل. وقيل: لم يقتله وإنما قطع يده ورجله. وبعث معاوية إلى الساعدىّ، وكان طبيبا، فقال له: «اختر إمّا أن أحمى حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد» . فقال: «أمّا النار فلا صبر لى عليها، وأما الولد ففى يزيد وعبد الله ما تقرّ به عينى. فسقاه شربة فبرئ ولم يولد له بعدها. وأما عمرو بن بكر- فإنه جلس لعمرو بن العاص فى تلك الليلة، فما خرج لشكاية نالته فى بطنه، فأمر خارجة ابن حبيبة- وكان صاحب شرطته- أن يصلى بالناس، فخرج ليصلّى، فشدّ عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص فقتله. فأتى به إلى عمرو فقال: من هذا؟. قالوا: عمرو. قال ومن قتلت؟ قالوا: خارجة. قال: أما والله ما ظننته غيرك. فقال: أردتنى وأراد الله خارجة؛ وقتله عمرو. هكذا نقل ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] فى هذه الواقعة فى القاتل والمقتول.

_ [1] ج 3 ص 198.

وقال أبو عمر بن عبد البر [1] : إن القاتل اسمه زادويه رجل من بنى العنبر بن عمرو بن تميم، قال وقيل: مولى لبنى العنبر. وفى المقتول إنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد ابن عويج بن عدّى بن كعب القرشىّ العدوىّ، وأمه فاطمة بنت عمرو بن بجرة العدويّة. وقال فى ترجمته: كان أحد فرسان قريش، يقال: إنه كان يعدل بألف فارس، قال: وذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر ليمدّه بثلاثة آلاف فارس، فأمدّه بالزّبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وخارجة بن حذافة هذا، وقال: إنه لما قتل وأدخل القاتل على عمرو فقال: من هذا الذى تدخلونى عليه؟ فقالوا: عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلته؟ قيل: خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وقيل: إن ذلك من كلام عمرو كما تقدم. وفى ذلك يقول عبد الجيد بن عبدون: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بمن شاءت من البشر وأمّا عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله تعالى آمين- فإنه أتى الكوفة واشترى سيفا بألف، وسقاه السم حتى لقطه، وكان فى خلال ذلك يأتى عليا رضى الله عنه فيسأله فيعطيه، ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينه على قطام بنت علقمة، وهى تيم الرّباب، وقيل هى منى بنى عجل بن لجيم، وكانت ترى رأى الخوارج، وكان علىّ قد قتل أباها وإخوتها بالنّهروان، وكانت امرأة رائعة جميلة، فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه، فخطبها، فقالت: لقد آليت أن لا أتزوج إلّا على مهر لا أريد سواه. فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثة آلاف

_ [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 420- 421.

درهم وعبد وقينة وقتل على بن أبى طالب. فقال: «والله لقد قصدت لقتل على بن أبى طالب والفتك به، وما أقدمنى إلى هذا المصر غير ذلك، ولكنى لما رأيتك آثرت تزويجك» . فقالت: ليس إلّا الذى قلت لك. فقال لها: «وما يعنيك أو يعنينى [1] منك قتل علىّ؟ وأنا أعلم أنى إن قتلته لم أفت» . فقالت: «إن قتلته ونجوت فهو الذى أردت، تبلغ شفاء نفسى ويهنيك العيش معى، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها» . فقال لها: لك ما اشترطت ففى ذلك يقول ابن ملجم: ثلاثة آلاف وعبد وقيّنة ... وضرب علىّ بالحسام المصمّم فلا مهر أغلى من علىّ وإن غلا ... ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم [وقد رويت هذه لغيره، وأولها:] [2] فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم وقالت قطام له: إنى سألتمس لك من يشدّ ظهرك. فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد، فأجابها. ولقى ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعى فقال له: يا شبيب هل لك فى شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدنى على قتل علىّ بن أبى طالب، فقال: «ثكلتك أمّك! لقد جئت شيئا إدّا، كيف تقدر على ذلك؟» قال: «إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردا دون من يحرسه، فنكمن له فى المسجد،

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 3 ص 58 والرياض النضر ج 2 ص 246 «وما يغنينى وماذا يغنينى منك» بالغين المعجمة فى الكلمتين. [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . وقد روى ابن جرير الأبيات الثلاثة لابن مياس المرادى.

فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر فى الدنيا وبالجنة فى الآخرة» . فقال: «ويلك! إن عليا ذو سابقة فى الإسلام وفضل، والله ما تنشرح نفسى لقتله» . قال: «ويلك! إنه حكّم الرجال فى دين الله، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل، فلا تشكّن فى دينك» . فأجابه، وأقبلا حتى دخلا على قطام، وهى معتكفة فى المسجد الأعظم فى قبّة ضربتها لنفسها، فدعت لهم. وأخذوا أسيافهم وجلسوا قبالة السّدّة التى يخرج منها علىّ رضى الله عنه، فخرج إلى صلاة الصبح يوم الجمعة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، ووقع سيفه بعضادة الباب، وضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علىّ لا لك ولا لأصحابك. فقال علىّ رضى الله عنه: فزت ورب الكعبة! لا يفوتنكم الكلب!. وهرب شبيب خارجا من باب كندة، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عويمر، فصرعه، وأخذ سيفه، وجلس على صدره فصاح الناس: عليكم بصاحب السيف، فخاف عويمر على نفسه فتركه ونجا، فهرب شبيب فى غمار الناس. وهرب وردان إلى منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف وجاء بسيفه وقتل وردان. وأما ابن ملجم فإنه لما ضرب عليّا حمل على الناس، فأفرجوا له، فتلقّاه المغيرة بن الحكم بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، فرمى عليه قطيفة واحتمله وصرعه وقعد على صدره.

واختلفوا: هل ضربه فى الصلاة؟ أو قبل الدخول فيها؟ وهل استخلف من أتمّ بهم الصلاة أو هو أتمها؟ قال أبو عمر بن عبد [1] البر: والأكثر أنه استخلف جعدة [2] بن هبيرة، فصلّى بهم تلك الصلاة. قال: [3] ثم قال على رضى الله عنه لأصحابه حين أخذوا ابن ملجم: احبسوه فإن متّ فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى فى العفو أو القصاص. وقيل [4] : إنه قال لهم: «النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه وإن بقيت رأيت فيه رأيى، يا بنى عبد المطلب لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ إلّا قاتلى» . وأتت [5] أم كلثوم ابنة على رضى الله عنهما إلى ابن ملجم وهو مكتوف فقالت: «أى عدو الله، إنه لا بأس على أبى، والله مخزيك» . قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد شريته بألف وسممّته بألف، ولو كانت الضربة بأهل مصر ما بقى منهم أحد. قال: ثم أوصى علىّ رضى الله عنه أولاده بتقوى الله، ولم ينطق إلا بقول «لا إله إلا الله» حتى مات رضى الله عنه وأرضاه. روى [6] عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ

_ [1] فى الاستيعاب ج 3 ص 59. [2] أم جعدة هى أم هانىء أخت على بن أبى طالب. [3] أبو عمر أبن عبد البر. [4] انظر الكامل لابن الأثير ج 3 ص 196. [5] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 112 والكامل. [6] انظر لهذه الرواية وما بعدها الاستيعاب ج 3 ص 60- 61.

رضى الله عنه: من أشقى الأولين؟: قال: الذى عقر الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال؟ لا أدرى. قال: «الذى يضربك على هذا» يعنى يافوخه، «فيخضب هذه» يعنى لحيته. وعن ثعلبة الجمانى قال: سمعت على بن أبى طالب رضى الله عنه يقول: والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لتخضبن هذه (يعنى لحيته) من دم هذا (يعنى رأسه) وروى النسائى من حديث عمار بن ياسر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشقى الناس الذى عقر الناقة والذى يضربك على هذا - ووضع يده على رأسه- حتى تخضب هذه، (يعنى لحيته) وعن ابن سيرين عن عبيدة قال: كان على بن أبى طالب رضى الله عنه إذا رأى ابن ملجم قال [1] : أريد حياته [2] ويريد قتلى ... عذيرك [3] من خليلك من مراد

_ [1] قال على رضى الله عنه هذا البيت متملا به، وهو من قصيدة لعمرو بن، معديكرب الزبيدى قالها لابن أخته قيس بن مكشوح المرادى، وكان بينهما تباعد وتنافس فكان مما قاله قيس: فلولا قيتنى لا قيت قرنا ... وودعت الأحبة بالسلام ومما قاله عمرو بن معد يكرب: نمنانى ليلقانى قييس ... وددت وأينما منى ودادى «قييس» تصغير «قيس» . ويروى «أبى» . أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد ولو لاقيتنى ومعى سلاحى ... تكشف شحم قلبك عن سواد وقوله (أريد حياته ويريد قتلى) مما كثر التمثل به وإدخاله فى الشعر، فقد تمثل به عبيد الله بن زياد كما سيأتى وتمثل به غيرهما. [2] هكذا جاء فى بعض الروايات، وجاء فى بعض الروايات «حباءه» والحباء: العطية، قال البغدادى فى خزانة الأدب ج 4 ص 281: «يقول: أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلى وتمنيه موتى فمن يعذرنى منه؟ ويروى: أريد حياته» . [3] فى خزانة الأدب: البيت من شواهد سيبويه: قال الأعلم: الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل بدلا منه، والمعنى هات عذرك، والتقدير: اعذرنى منه عذرا، واختلف فى العذير، فمنهم من جعله مصدرا بمعنى العذر، وهو مذهب سيبويه، ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم» . وانظر سيبوية ومعه الأعلم فى الكتاب ج 1 ص 139.

وكان علىّ رضى الله عنه كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها- أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا- ويشير إلى لحيته ورأسه- خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير؟. وروى عمر بن شبّة عن أبى عاصم النّبيل [1] وموسى بن إسماعيل عن سكين بن عبد العزيز العبدى، أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن [بن ملجم] [2] يستحمل عليا فحمله، ثم قال: أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد أما إن هذا قاتلى. قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلنى بعد. وأتى علىّ رضى الله عنه فقيل له: ابن ملجم يسمّ سيفه، ويقول: إنه سيفتك به فتكة يتحدّث بها العرب. فبعث إليه فقال له: لم تسم سيفك؟ قال لعدوّى وعدوّك. فخلّى عنه. وفى كلام على رضى الله عنه يقول بكر بن حماد [3] : وهزّ علىّ بالعراقين لحية ... مصيبتها حلت على كلّ مسلم فقال: سيأتيها من الله حادث ... ويخضبها أشقى البريّة بالدّم فباكره بالسيف شلّت يمينه ... لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه ... تبوّأ منها مقعدا فى جهنّم

_ [1] أبو عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيبانى. [2] الزيادة من الاستيعاب ج 3 ص 60 حيث نقل المؤلف. [3] فى الاستيعاب ج 3 ص 66 «فيها» .

ففاز أمير المؤمنين بحظّه ... وإن طرقت فيه الخطوب بمعظم ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة ... حلاوتها شيبت [1] بصاب وعلقم وحكى عن عثمان بن المغيرة قال: لما دخل رمضان، كان على رضى الله عنه يتعشى ليلة عند الحسن رضى الله عنه، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن جعفر رضى الله عنهم، لا يزيد على ثلاث لقم، ثم يقول رضى الله عنه: يأتينى أمر الله وأنا خميص [2] ، وإنما هى ليلة أو ليلتان، فلم يمض قليل حتى قتل. وقال الحسن [3] ابن كثير عن أبيه قال: خرج علىّ رضى الله عنه [4] من الفجر، فأقبل الإوزّ يصحن فى وجهه، فطردوهن عنه، فقال: ذروهنّ فإنّهن نوائح، فضربه ابن ملجم فى ليلته. وقال الحسن بن على رضى الله عنهما يوم قتل على: خرجت البارحة وأبى يصلّى فى مسجد داره، فقال لى: «يا بنى إنى بتّ أوقظ أهلى لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر [5] فملكتنى عيناى فنمت، فسنح [6] لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللّدد [7] ، فقال لى: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلنى بهم من هو خير منهم وأبدلهم بى من هو

_ [1] شيبت: مزجت. [2] خميص: جائع. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى الرياض النضرة: «الحسين بن كثير» ، وفى النسخة (ك) : «الحسن بن كرب» . [4] فى الرياض النضرة ج 2 ص 245 حيث ذكر هذا الحديث: «إلى الفجر» . [5] ذكر ابن عبد البر فى آخر روايته لهذا الحديث فى الاستيعاب ج 3 ص 62 «وذلك فى صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان: صبيحة بدر» . [6] سنح: عرض. [7] جاء فى هامش النسخة (ك) : «الأود: العوج، واللدد: الخصومة» .

شر منى» فجاء ابن النّبّاح [1] فآذنه بالصلاة فخرج، وخرجت خلفه، فضربه ابن ملجم فقتله. وروى أبو عمر ابن عبد البر بسنده إلى عبد الله بن مالك قال: جمع الأطبّاء لعلىّ رضى الله عنه يوم جرح، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السّكّونى، وكان يقال له: أثير بن عمريا، وكان صاحب كسرى يتطبّب له، وهو الذى ينسب إليه صحراء أثير [2] ، فأخذ أثير رئة [شاة] [3] حارّة [4] ، فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله فى فى جراحة على، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض دماغ. وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنك ميّت. وفى ضربة ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجى يمدح ابن ملجم: لله درّ المرادى الذى سفكت ... كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا أمسى عشيّة غشّاه بضربته ... ممّا جناه من الآثام عريانا يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا إنى لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا

_ [1] فى الاستيعاب والرياض النضرة: «ثم انتبه، وجاءه مؤذنه بالصلاة» ، واسم مؤذنه: عامر بن النباح. [2] بالكوفة. [3] الزيادة من الاستيعاب حيث نقل المؤلف، ومن معجم البلدان لياقوت. [4] أى: حديثة الذبح.

فقال بكر بن حماد التّاهرتى [1] معارضا له: قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت ويحك للإسلام أركانا قتلت أفضل من يمشى على قدم ... وأول الناس إسلاما وإيمانا وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا صهر النبىّ ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نورا وبرهانا وكان منه على رغم الحسود له ... مكان هارون من موسى بن عمرانا وكان فى الحرب سيفا صار ما ذكرا ... ليثا إذا لقى الأقران أقرانا ذكرت قاتله والدمع منحدر ... فقلت: سبحان ربّ الناس سبحانا إنى لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا أشقى مراد إذا عدّت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا كعاقر الناقة الأولى التى جلبت ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ... قبل المنيّة أزمانا فأزمانا فلا عفا الله عنه ما تحمّله ... ولا سقى قبر عمران بن حطّانا لقوله فى شقى ظل مجترما ... ونال ما ناله ظلما وعدوانا: «يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلّا ليبلغ من ذى العرش رضوانا» بل ضربة من غوى أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا كأنه لم يرد قصدا بضربته ... إلّا ليصلى عذاب الخلد نيرانا

_ [1] التاهرتى: منسوب إلى «تاهرت» بفتح الهاء وسكون الراء، مدينة ببلاد المغرب، وكان أبو عبد الرحمن بكر بن حماد من حفاظ الحديث بهذه المدينة، وهو القائل: ما أخشن البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتاهرت! تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنما تنشر من تخت فنحن فى بحر بلا لجة ... تجرى بنا الريح على سمت وأبياته النونية التى ذكرها المؤلف تجدها فى الاستيعاب ج 3 ص 62- 63 ومروج الذهب ج 2 ص 43 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 199.

وقالت أم الهيثم بنت العريان النخعية، ومنهم من يرويها لأبى الأسود الدؤلى [1] : ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكى أمير المؤمنينا تبكّى أم كلثوم عليه ... بعبرتها فقد رأت اليقينا ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرّت عيون الشامتينا أفى شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس ضرّا أجمعينا قتلتم خير من ركب المطايا ... وذلّلها ومن ركب السّفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثانى والمبينا [2] وكلّ مناقب الخيرات فيه ... وحبّ رسول ربّ العالمينا لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسبا ودينا إذا استقبلت وجه أبى تراب [3] ... رأيت البدر فوق الناظرينا وكنّا قبل مقتله [4] بخير ... ترى مولى رسول الله فينا يقيم الحقّ لا يرتاب فيه ... ويعدل فى العدا والأقربينا

_ [1] عبارة الاستيعاب ج 3 ص 66 حيث نقل المؤلف: «وقال أبو الأسود الدؤلى، وأكثرهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية» ، والشعر منسوب إلى أبى الأسود فى ديوانه ص 174- 175 وفى إنباه الرواة ج 1 ص 19 والأغانى ج 12 ص 329 بعد أن ذكر خطبة أبى الأسود إثر مقتل على وأن معاوية كتب إليه ودس إليه رسولا يعده ويمنيه فقال هذه الأبيات، ونسبها أبو الفرج الأصبهانى نفسه فى كتابه (مقاتل الطالبيين) ص 43 إلى أم الهيثم بنت الأسود النخعية. ومما ينظر إليه ذكر الهيثم بن الأسود بن العريان فى البيان والتبيين، وهو نخعى، قال صاحب الإصابة ج 3 ص 621 يكنى «أبا العريان» . [2] المبين: القرآن، وفيه إشارة إلى الآية 10 من سورة الحجر. [3] فى الاستيعاب «أبى حسين» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) والاستيعاب، وفى النسخة (ك) : «موتته» .

وليس بكاتم علما لديه ... ولم يخلق من المتجبّرينا كأنّ الناس إذ فقدوا عليا ... نعام حار فى بلد سنينا فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإنّ بقية الخلفاء فينا قال: ولما مات علىّ رضى الله عنه غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفّن فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلّى عليه ابنه الحسن، وكبّر سبع [1] تكبيرات. قال: ولمّا قبض رضى الله عنه بعث الحسن رضى الله عنه إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: «هل لك فى خصلة؟ إنى والله أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلّا وفيت به، وإنى عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بينى وبينه، ولك عهد الله على أنى إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتّى أضع يدى فى يدك» . فقال له الحسن: لا والله. ثم قدّمه فقتله، فأخذه الناس فأدرجوه فى بوارى [2] وحرّقوه بالنار. واختلف فى موضع قبر علىّ رضى الله عنه، فقيل: دفن فى قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: فى رحبة الكوفة، وقيل: دفن بنجف

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ح 3 ص 97، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 114: «تسع تكبيرات» ، وجاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 247 «أربع تكبيرات» . [2] البوارى: جمع البورى وهو الحصير المنسوج من القصب.

الحيرة فى موضع بطريق الحيرة، وقيل: عند مسجد الجماعة [1] ، وقال الواقدى: دفن ليلا وأخفى قبره. وكانت مدة خلافته خمس سنين إلّا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، وقيل: وثلاثة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما. وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل: تسعا وخمسين، والأول أصح. وأما سيرته رضى الله عنه فى خلافته فقد تقدّم من فضائله ما قدّمناه فى صدر هذا الفصل. وكان من سيرته رضى الله عنه أنه يسير [2] فى الفىء بسيرة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه فى القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك فى بيت المال إلا ما يعجز عن قسمته فى يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّى غيرى، ولم يكن يستأثر من الفىء بشىء، ولا يخصّ به حميما ولا قريبا. وروى أبو عمر [3] بسنده إلى مجمّع التميمى [4] أن عليا رضى الله عنه قسم ما فى بيت المال بين المسلمين، ثم أمر به فكنس، ثم صلّى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة [5] .

_ [1] جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 117: «ودفن عند مسجد الجماعة فى قصر الإمارة» . [2] انظر الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 47. [3] فى الاستيعاب ح 3 ص 49 وكذلك ما بعده. [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب: «التيمى» . [5] وانظر الرياض النضرة ج 2 ص 229.

وبسنده إلى سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علىّ المال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع، ووجد فيه رغيفا فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم: أيّهم يعطى أولا. وعن معاذ [1] بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت على بن أبى طالب يقول: ما أصبت فيكم [2] إلا هذه القارورة أهداها إلىّ الدهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرّق كلّ ما فيه، ثم جعل يقول: أفلح من كانت له قوصرّه [3] ... يأكل منها كل يوم تمره [4] وعن عنترة الشيبانى قال: كان على رضى الله عنه يأخذ الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسمه بين الناس، ولا يدع فى بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه، إلا أن يغلبه شغل، فيصبح إليه وهو يقول. يا دنيا لا تغرّينى وغرّى غيرى. وكان [5] رضى الله عنه لا يخصص بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [6] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» [7]

_ [1] رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 49. [2] فى الاستيعاب: «من فيئكم» . [3] قوصرة بشد الراء وتخفف: وعاء للتمر، وانظر اللسان. [4] ويروى: مره. [5] انظر الاستيعاب ج 3 ص 47. [6] من الآية فى 57 سورة يونس. [7] من الآية 152 فى سورة الأنعام.

وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [1] إذا أتاك كتابى هذا فاحتفظ بما فى يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك. ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أنى لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك. ومواعظه رضى الله عنه ووصاياه لعماله إذ كان يخرجهم إلى أعماله [2] كثيرة مشهورة، وقد قدّمنا منها فى الباب الرابع، من القسم الخامس، من الفن الثانى، من كتابنا هذا، ما تقف عليه هناك، وهو فى السفر السادس من هذه النسخة [3] . قال أبو عمر بن عبد البر [4] : قد ثبت عن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما من وجوه أنه قال: لم يترك أبى إلا ثمانمائة درهم أو سبعمائة درهم فضلت من عطائه، كان يعدّها لخادم يشتريها لأهله وأمّا تقشفه فى لباسه ومطعمه، فكان من ذلك على الغاية القصوى. روى [5] عن عبد الله بن أبى الهذيل قال: رأيت عليا رضى الله عنه خرج وعليه قميص غليظ دارس، إذا مدّ كمّه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وعن الحسن بن جرموز عن أبيه قال: رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريّتان، مؤتزرا بالواحدة مرتديا بالأخرى، وإزاره إلى نصف الساق، وهو يطوف فى الأسواق، ومعه درّة يأمرهم بتقوى الله وصدق

_ [1] من الآيتين 85، 86 فى سورة هود. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) وسقط من النسخة (ك) . [3] انظر ج 6 ص 19- 32 من «نهاية الأرب» المطبوع. [4] فى الاستيعاب ج 3 ص 48. [5] هذا وما بعده من الاستيعاب.

ذكر أزواج على رضى الله عنه وأولاده وكاتبه وقاضيه وحاجبه

الحديث، وحسن البيع، والوفاء بالكيل والميزان. وعن [إسحاق بن] [1] كعب بن عجرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علىّ مخشوشن [2] فى ذات الله تعالى . ذكر أزواج على رضى الله عنه وأولاده وكاتبه وقاضيه وحاجبه أول زوجة تزوجها فاطمة [3] بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورضى عنها، ولدت له الحسن والحسين رضى الله عنهما، وقد قيل: إنها ولدت ابنا اسمه محسن توفى صغيرا، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. وتزوج بعدها أم البنين ابنة حرام [4] الكلابية، فولدت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين بالطّفّ. وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية، فولدت عبيد الله وأبا بكر قتلا مع الحسين، وقيل: إن عبيد الله قتله المختار بن أبى عبيد.

_ [1] الزيادة من الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 51 حيث نقل المؤلف، لأن الصحابى الراوى للحديث هو كعب بن عجرة. [2] ذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 225 رواية أبى عمر عن كعب بن عجرة، وذكر قبلها رواية احمد بن حنبل عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: اشتكى الناس عليا يوما، فقام رسول الله فينا فخطبنا فسمعته يقول: «أيها الناس، لا تشكوا عليا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله عز وجل» أو قال: «فى سبيل الله» ، ثم قال صاحب الرياض فى شرحه: الأخشن مثل الخشن، واخشوشن للمبالغة، أى: اشتدت خشونته. [3] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 118 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 199 «لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده» . [4] حرام: ذكره ابن حجر فى باب الحاء والراء من القسم الثالث فى الإصابة ج 1 ص 375 فقال: حرام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب ... الخ ووقع فى المخطوطة: «حزام» .

وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له محمدا الأصغر ويحيى، وقيل: إن محمدا لأمّ ولد، وقيل: إنها ولدت عونا. وله من الصّهباء بنت ربيعة التغلبية- وهى من السّبى الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التّمر فى خلافة أبى بكر- عمر ورقيّة، فعمّر عمر هذا حتّى بلغ خمسا وثمانين سنة، وحاز نصف ميراث علىّ رضى الله عنه، ثم مات بينبع. وتزوج علىّ رضى الله عنه أمامة بنت أبى العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم، فولدت له محمدا الأوسط. وله محمد الأكبر، وهو ابن الحنفية، أمّه خولة بنت جعفر، من بنى حنيفة. وتزوج أم سعيد ابنة عروة بن مسعود فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى. وكان له بنات من أمهات شتى، وهنّ: أمّ هانىء وميمونة وزينب الصّغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة، وكلهن لأمهات أولاد. وتزوج محياة [1] ابنة امرئ القيس [2] بن عدىّ الكلبية، فولدت له جارية هلكت صغيرة.

_ [1] «محياة» كذا جاء عند الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 119 وعند ابن حجر فى الإصابة ج 1 ص 113، ولم تنقط هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ووضعت نقطة خاء فى النسخة (ك) . [2] هو امرؤ القيس بن عدى بن أوس بن جابر الكلبى. كان أميرا على من أسلم بالشام من قضاعة فى عهد عمر بن الخطاب، وقد خطب إليه حينئذ على وابناه الحسن والحسين، فزوجهم بناته، فكانت سلمى زوجة للحسن. والرباب زوجة للحسين.

فجميع أولاد علىّ رضى الله عنه خمسة عشر ذكرا، وهم: الحسن والحسين ومحسن- على خلاف فيه- والعبّاس وجعفر وعبد الله وعثمان وعبيد الله وأبو بكر ومحمد بن الحنفية ومحمد الأوسط ومحمد الأصغر ويحيىّ وعون وعمر، النسل منهم للحسين والحسن [ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية] [1] ومن البنات تسع عشرة، وهن: زينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ورقية وأم الحسن ورملة الكبرى وأم هانىّ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة وجارية ابنة الكلبية، وكان كاتبه عبد الله [2] بن أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب له سعد بن نمران الهمدانى. قاضيه شريح بن الحارث. صاحب شرطته معقل بن قيس الرياحى، وقيل: سليمان بن صرد الخزاعى. حاجبه قنبر مولاه، وكان قبله بشر مولاه. نقش خاتمه: الملك لله الواحد القهار. وتقدم ذكر عمّاله..

_ [1] كذا ثبت هؤلاء فى النسخة (ن) ، كما ثبتوا فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200، وسقطوا من النسخة (ك) . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الإصابة ج 4 ص 67 فى أولاد أبى رافع القبطى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عبيد الله» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200 «كان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خازنا لعلى على المال» .

ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما

ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما هو أبو محمد الحسن بن على بن أبى طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسنذكر إن شاء الله نبذة من فضائله وأخباره عند ذكرنا لوفاته، ونذكر فى هذا الموضع ما يختص بالخلافة دون غيره. بويع له يوم وفاة أبيه فى شهر رمضان سنة أربعين، وأول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة، وقال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المحلّين. فقال له الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما يأتيان على كل شرط. فبايعه الناس، وكان الحسن يشرط عليهم: «إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت» . فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلّا القتال.. وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه، لمّا ضربه ابن ملجم دخل عليه جندب بن عبد الله فقال: «إن فقدناك- ولا نفقدك- أفنبايع الحسن؟» فقال على رضى الله عنه: «ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر» . فلما مات بايعه الناس، ولم تطل مدّته حتّى سلّم الأمر لمعاوية ابن أبى سفيان رضى الله عنه؛ لأسباب نذكرها إن شاء الله تعالى

ذكر تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية بن أبى سفيان

ذكر تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية بن أبى سفيان قال [1] : كان على بن أبى طالب رضى الله عنه قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، وتجهز لقصد الشام لقتال معاوية فقتل قبل ذلك. فلما بايع الناس الحسن تجهز بهذا الجيش، وسار من الكوفة فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند ما بلغه مسير معاوية إليه فى أهل الشام. ووصل الحسن إلى المدائن، وجعل قيس بن سعد بن عيادة على مقدمته فى اثنى عشر ألفا، وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبيد الله [2] بن عباس، فجعل عبيد الله [2] على مقدمته فى الطلائع قيس بن سعد. ووصل معاوية مسكن [3] . فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد فى العسكر: ألا إنّ قيس ابن سعد قتل فانفروا. فنفروا. وأتوا سرادق الحسن، وانتهبوا [4]

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 203. [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 203 «عبد الله» ، وانظر ما سبق فى فراق عبد الله بن عباس للبصرة. [3] فى الاستيعاب ج 1 ص 370: «وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض للسواد بناحية الأنبار» وسيأتى نقل المؤلف لذلك. [4] تبع المؤلف ابن جرير وابن الأثير فى قصة الانتهاب، وروى أبو الفرج الأصفهانى فى مقاتل الطالبين ص 63 أن الحسن لما نزل ساباط خطب خطبة قال فيها: «إن ما تكرهونه فى الجماعة خير لكم مما تحبون فى الفرقة» فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ وركبتهم الظنون، وثاروا، فشدوا على فسطاطه فانتهبوه ... الخ، وكذلك ذكر بن أبى الحديد فى شرحه لنهج البلاغة ج 4 ص 10.

ما فيه، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وأخذوا رداءه من ظهره، ووثب عليه رجل من الخوارج من بنى أسد يقال له ابن أقيصر [1] بخنجر مسموم فطعنه به فى أليته، ووثب الناس على الأسدى فقتلوه. فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن [2] ، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفى، عم المختار بن أبى عبيد، فقال له المختار وهو شاب: هل لك فى الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: تستوثق [3] من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: «عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله وأوثقه؟ بئس الرجل أنت!» فلما رأى الحسن رضى الله عنه [تفرق الناس عنه] [4] كتب إلى معاوية وشرط شروطا، وقال: إن أعطيتنى هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفى لى به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله ابن جعفر: إننى قد أرسلت إلى معاوية فى الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن: اسكت أنا أعلم بالأمر منك.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى مقاتل الطالبين ص 64: فقام إليه رجل من بنى أسد من بنى نصر بن قعين يقال له «الجراح بن سنان» فلما مر فى مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، ثم طعنه، فوقعت الطعنة فى فخذه ... الخ، ويشبهه ما جاء فى جمهرة أنساب العرب ص 184 حيث ذكر ابن حزم بنى نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ومنهم «جراح بن سنان الذى وجأ الحسن بن على رضى الله عنه بالحنجر فى مظلم ساباط» . [2] وأقام عند أميرها يعالج نفسه. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير: «توثق الحسن» . [4] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .

فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن جندب إلى الحسن قبل وصول الكتاب إليه، ومعهما صحيفة، بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط فى هذه الصحيفة التى ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده. فلما سلم الحسن رضى الله عنه الأمر لمعاوية، طلب الحسن أن يعطيه الشروط التى اشترطها فى الصحيفة [التى ختم عليها معاوية] [1] فأبى ذلك، وقال: قد أعطيتك ما كتبت تطلب. قال: ولما اصطلحا قام الحسن رضى الله عنه فى أهل العراق فقال: «يا أهل العراق إنه سخّى بنفسى عنكم ثلاث: قتلكم أبى وطعنكم إياى وانتها بكم متاعى» .. قال: وكان الذى طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما فى بيت مال الكوفة (ومبلغه خمسة آلاف ألف. وقيل: سبعة آلاف ألف) وخراج دار بجرد (من فارس) وأن لا يشتم علىّ. فلم يجبه إلى الكفّ عن شتم علىّ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به أيضا. فأما خراج دار بجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا، لا نعطيه أحدا. وقيل: كان منعهم بأمر معاوية أيضا وقيل: إن معاوية أجرى على الحسن رضى الله عنه بعد ذلك فى كل سنة ألف ألف درهم.

_ [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) .

وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. وقيل: فى جمادى الأولى فى النصف منه. وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية؛ لأنه لما راسله معاوية فى تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامه بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم فى مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقى فخاذل، وأما الباكى فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفه، فإذا أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، فإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا» . فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، فأمضى [1] الصلح. فلما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: «أيها الناس، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم عليه الصلاة والسلام الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهير» وكرر ذلك حتى ما بقى فى المجلس إلّا من بكى حتى سمع نشيجه، وأرسل إلى معاوية وسلّم إليه الأمر. فكانت خلافة الحسن على قول من يقول [ «سلّم الأمر فى ربيع

_ [1] فى الكامل ج 3 ص 204 «وأمض الصلح» .

الأول» خمسة أشهر ونصف شهر، وعلى قول من يقول «فى ربيع الآخر» ستة أشهر وأياما، وعلى قول من يقول [1]] «فى جمادى الأولى» سبعة أشهر وأياما. وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] رحمه الله أن الحسن رضى الله عنه لما [قتل أبوه بايعه أكثر من أربعين ألفا، كلهم قد كانوا بايعوا أباه عليّا قبل موته على الموت، ثم [3]] خرج لقتال معاوية وخرج معاوية لقتاله، فلما تراءى الجمعان- وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض السواد بناحية الأنبار- علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية أنه يصير الأمر إليه، على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشىء مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلّا أنه قال: أمّا عشرة أنفس فلا أؤمّنهم، فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه يقول: إنى آليت أنى متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده. فراجعه الحسن: أنى لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه. فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن رضى الله عنه: أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كلّه معاوية، فقال له عمرو بن العاص: إنه قد انفلّ [4] حدّهم وانكسرت

_ [1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) . [2] فى الاستيعاب ج 3 ص 370. [3] الزيادة من الاستيعاب. [4] انفل: انثلم وانكسر، والحد: اليأس والقوة.

شوكتهم. فقال له معاوية: «أما علمت أنه قد بايع عليا أربعون ألفا على الموت؟ فو الله لا يقتلون حتّى يقتل أعدادهم من أهل الشام، وو الله ما فى العيش خير بعد ذلك» . فاصطلحا على ما ذكرناه. وكان الحسن رضى الله عنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابنى هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [1] » قال: ولما بايع الحسن معاوية كان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار المؤمنين. فيقول: العار خير من النار. وروى أبو عمر بسنده [2] إلى أبى الغريف [3] قال: كنا فى مقدمة الحسن بن علىّ رضى الله عنهما على اثنى عشر ألفا بمسكن مستميتين، تقطر أسيافنا من الجدّ [4] والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمر طه [5] ، فلما جاءنا صلح الحسن كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن رضى الله عنه الكوفة أتاه شيخ منّا يكنى أبا عامر سيفان بن ليلى، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين. فقال: «لا تقل هذا يا أبا عامر، فإنى لم أذل المؤمنين، ولكنّى كرهت أن أقتلهم فى طلب الملك» .

_ [1] الحديث رواه البخارى فى صحيحه- رقم 3500- عن أبى بكرة سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح ... الخ ، انظر شرح الكرمانى ج 15 ص 21 ورواه أيضا الترمذى وغيره. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 372. [3] أبو الغريف: هو عبيد الله بن خليفة الهمدانى. [4] كذا جاء «الجد» فى النسخة (ك) بالجيم، وجاء فى (ن) «الحد» بالحاء. [5] فى جمهرة أنساب العرب ص 401: «أبو العمر طه عمير بن يزيد بن عمرو ابن شراحيل بن النعمان بن المنذر بن مالك بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، شيعى، قاتل مع حجر بن عدى، وولى ابنه الحسين بن أبى العمر طه شرطة الحجاج» .

قال أبو عمر: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياتة، لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد فى ذلك الوقت، ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء فى طلبها، وإن كان عند نفسه أحقّ بها. قال [1] : ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يأمر الحسن بن على فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية وقال: لا حاجة لنا بذلك: فقال عمرو: «ولكنى أريد ذلك ليبدو للناس عيّه، فإنه لا يدرى هذه الأمور ما هى» ولم يزل بمعاوية حتى أمر [2] الحسن رضى الله عنه أن يخطب، وقال له: يا حسن قم فكلّم الناس فيما جرى بيننا. فقام الحسن رضى الله عنه فتشهد وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فى بديهته: أمّا بعد أيّها الناس فإن الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإنّ لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عز وجل يقول: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [3] . فلما قالها، قال له معاوية: اجلس. ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذه من رأيك. ومن رواية [4] عن الشعبى أن الحسن خطب فقال: «الحمد لله

_ [1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب بسنده عن ابن شهاب ج 1 ص 373. [2] انظر مروج الذهب ج 2 ص 52 ومقاتل الطالبين ص 72 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 204. [3] من الآيات 109، 110، 111 فى سورة الأنبياء. [4] فى الاستيعاب ج 1 ص 374.

الذى هدا بنا أوّلكم وحقن بنا دماء آخركم، ألا إن أكيس الكيس التّقى، وأعجز العجز الفجور، وإنّ هذا الأمر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا أن يكون أحقّ به منّى، وإما أن يكون حقى فتركته لله تعالى وإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم» . ثم التفت إلى معاوية فقال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ . ثم نزل، فقال معاوية لعمرو: ما أردت إلّا هذا. وحقدها معاوية على عمرو. ولحق الحسن رضى الله عنه بالمدينة، بأهل بيته وحشمه، والناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة. والحسن رضى الله عنه آخر الخلفاء حقيقة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة ثلاثون ثم تكون ملكا وملوكا» [1] . فكانت هذه المدة من خلافة أبى بكر رضى الله عنه وإلى آخر أيام الحسن. ولم يزل الحسن رضى الله عنه مقيما بالمدينة إلى أن مات على ما نذكره إن شاء الله فى حوادث سنة تسع وأربعين. وحيث ذكرنا الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، وذكرنا أخبار من مات أو استشهد من العشرة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أثناء أخبار الخلفاء، فلنصل هذا الباب بذكر من بقى من العشرة، وهما: سعد بن أبى وقّاص وسعيد بن زيد، ليكمل عدّة العشرة فى هذا الباب، وإن كانت وفاتهما فى غير أيام الخلفاء.

_ [1] الحديث الذى رواه أحمد وغيره: «الخلافة بعدى فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» وفى رواية: «ثم يكون ملكا بعد ذلك» ، وجاء فى النهاية ثم «يكون ملك عضوض» بفتح العين، أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، ثم جاءت فيها رواية أخرى: «ثم يكون ملوك عضوض» بضم العين جمع عض وهو الخبيث الشرس.

ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته رضى الله عنه

ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته رضى الله عنه هو أبو إسحاق سعد بن أبى وقاص، واسم أبى وقاص مالك ابن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشى الزّهرى. كان رضى الله عنه سابع سبعة فى الإسلام، أسلم بعد ستة، وهو ابن تسع عشرة سنة. وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد السّتّة الذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض. وكان رضى الله عنه مجاب الدعوة مشهورا بذلك، تخاف دعوته وترجى لاشتهار إجابتها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «اللهم سدّد سهمه وأجب دعوته [1] » . وهو أول من رمى بسهم فى سبيل الله، وذلك فى سريّة عبيدة ابن الحارث، وقد تقدم ذكره فى السيرة النبوية فى الغزوات والسرايا. [2] وجمع رسول الله عليه الصلاة والسلام له بين أبويه فى قوله صلى الله عليه وسلم «ارم فداك أبى وأمّى» ولم يقل ذلك إلّا له وللزبير بن العوام. وكان أحد الفرسان الشجعان من قريش [3] ، وهو الذى كوّف

_ [1] وروى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: اللهم استجب لسعد إذا دعاك . [2] جاء فى نهاية الأرب المطبوع ج 17 ص 2: «ذكر سرية عبيدة بن الحارث ابن المطلب إلى بطن رابغ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ... » ثم جاء فى الصفحة التالية: «فكان بينهم الرمى ولم يسلوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقاص أول من رمى بسهم فى سبيل الله» . [3] زاد أبو عمر فى الاستيعاب ج 2 ص 21: «الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مغازيه» .

الكوفة ونفى الأعاجم وتولّى قتال الفرس [1] كما تقدم ذكر ذلك فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وكان أميرا على الكوفة، قشكاه أهلها ورموه بالباطل، فدعا على الذى واجهه بالكذب دعوة ظهرت إجابته فيها. ولمّا جعله عمر بن الخطاب فى أصحاب الشّورى قال: إن وليها سعد فذاك وإلّا فليستعن به الوالى فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وكلّمه ابنه عمر بن سعد أن يدعو لنفسه بعد مقتل عثمان فأبى. وكان رضى الله عنه ممّن لزم بيته وقعد فى الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشىء حتّى تجتمع الأمة على إمام، فطمع معاوية فيه وفى عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، فكتب إليهم [2] يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان، ويقول لهم إنهم لا يكفّرون ما أتوه من قتله وخذلانه إلّا بذلك، وقال: إن قاتله وخاذله سواء، فى نثر ونظم كتب به إليهم، فأجابه كلّ واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك، وينكر عليه مقالته، ويعرّفه أنه ليس بأهل لما يطلبه، وكان فى جواب سعد: معاوى داؤك الداء العياء ... وليس بما تجىء به دواء أيدعونى أبو حسن علىّ ... فلم أردد عليه ما يشاء وقلت له اعطنى سيفا قصيرا ... تماز به العداوة والولاء

_ [1] عبارة أبى عمر: «وتولى قتال فارس، أمره عمر بن الخطاب على ذلك، ففتح الله على يديه أكثر فارس، وله كان فتح القادسية وغيرها» . [2] انظر شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 260.

ذكر أخبار سعيد بن زيد رضى الله عنه ووفاته

فإنّ الشّرّ أصغره كبير ... وإنّ الظّهر مثقله [1] الدّماء أتطمع فى الذى أعيا عليا ... على ما قد طمعت به العفاء! ليوم منه خير منك حيّا ... وميتا أنت للمرء الفداء وأما أمر عثمان فدعه ... فإنّ الرّأى أذهبه البلاء وكانت وفاة سعد رضى الله عنه فى قصره بالعقيق، على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع وصلّى عليه مروان بن الحكم، واختلف فى وقت وفاته، فقال الواقدى: توفى فى سنة خمس وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقال أبو نعيم مات سنة ثمان وخمسين، وقال الزبير والحسن بن عثمان وعمرو بن على الغلّاس: توفى فى سنة أربع وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين، وذكر أبو زرعة عن أحمد بن حنبل رضى الله عنه قال: توفى وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وروى عن ابن شهاب أن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه: لما حضرته الوفاة دعا بخلق جبّة له من صوف، فقال: كفّنونى فيها فإنى كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر [وهى علىّ] [2] وإنما كنت أخبؤها لهذا اليوم، رضى الله تعالى عنه وأرضاه. ذكر أخبار سعيد بن زيد رضى الله عنه ووفاته هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشى العدوى. وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وفى الاستيعاب ج 2 ص 25 «تثقله» . [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الاستيعاب، وسقطت من (ك) .

وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضى الله عنه وصهره، كانت تحته فاطمة ابنة الخطاب أخت عمر، وكانت أخته عاتكة بنت زيد تحت عمر. وكان سعيد رضى الله عنه من المهاجرين الأولين، قديم الإسلام [1] لم يشهد بدرا، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وقد قدمنا ذكر ذلك فى غروة بدر [2] ، وشهد ما بعد بدر من المشاهد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وكان أبوه زيد بن عمرو يطلب دين الحنيفية- دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام- قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل مما ذبح لها، ولا يأكل الميتة ولا الدم، وخرج فى الجاهلية يطلب الدّين هو وورقة بن نوفل، فعرضت عليهما اليهود دينهم فتهوّد ورقة، ثم لقيا النصارى فترك ورقة اليهودية وتنصر، وأبى زيد أن يأتى شيئا من ذلك، وقال: ما هذا إلا كدين قومنا تشركون ويشركون، ولكنّكم عندكم من الله ذكر ولا ذكر عندهم. فقال له راهب: إنك تطلب دينا ما هو على الأرض اليوم. قال وما هو؟ قال: دين إبراهيم عليه السلام.

_ [1] فى الاستيعاب ج 2 ص 2 والإصابة ج 2 ص 46 والرياض النضرة ج 2 ص 303 أن إسلامه كان قديما قبل عمر بن الخطاب وكان إسلام عمر عنده فى بيته. [2] تقدم فى نهاية الأرب ج 17 ص 36 أن طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا. قال: وأجركما.. وكذلك جاء فى «ذكر مقتل طلحة» من هذا الجزء.

قال: وما كان عليه إبراهيم؟ قال: كان بعبد الله لا يشرك به شيئا، ويصلّى إلى الكعبة. فكان زيد على ذلك حتى مات.. ومن رواية أخرى قال: خرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو يطلبان الدين حتّى مرّا بالشام، فأما ورقة فتنصّر، وأمّا زيد فقيل له: إن الذى تطلب أمامك، فانطلق حتّى أتى الموصل فإذا هو براهب فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال من بيت إبراهيم. قال: ما تطلب؟ قال: الدّين. قال: فعرض عليه النصرانية، فقال: لا حاجة لى فيها، وأبى أن يقبل، فقال: إن الذى تطلب سيظهر بأرضك. فأقبل وهو يقول: لبّيك حقّا حقّا. تعبّدا ورقّا. [وقال] : [1] . مهما تجثّمنى فإنى جاشم. عذت بما عاذ به إبراهيم. قال: وأتى سعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنّ زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له. قال عليه الصلاة والسلام: «نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» فاستغفر له. قال أبو عمر: وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه قد أقطع سعيد بن زيد أرضا بالكوفة فنزلها وسكنها إلى أن مات، وسكنها من بعده من بنيه الأسود بن سعيد. وكانت وفاة [2] سعيد فى سنة خمسين أو سنة إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة رضى الله عنه وأرضاه.

_ [1] الزيادة من الاستيعاب ج 2 ص 4 حيث نقل المؤلف هذه الرواية كما نقل ما سبقها. [2] توفى بأرضه بالعقيق، وحمل إلى المدينة ودفن بها.

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية

الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية أول من ملك من ملوك هذه الدولة معاوية بن أبى سفيان، هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عبد مناف بن قصى. وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ولى معاوية دمشق عاملا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فى سنة ثمانى عشرة [1] كما ذكرنا ذلك فى خلافة عمر، [وأقام بقية أيّام عمر] [2] وأيام عثمان بن عفّان رضى الله عنهما بكمالها إلى أن قتل. فلما بويع علىّ رضى الله عنه امتنع من مبايعته، وكان بينهما من الحروب ما ذكرناه فى خلافة على. وسلّم عليه بالإمارة [3] بعد اجتماع الحكمين فى سنة سبع

_ [1] قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 3 ص 395: «ولاه عمر على الشام بعد موت أخيه يزيد» ثم ذكر أن ذلك كان فى ستة تسع عشرة. [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) . [3] المعروف أنه صار أميرا على الشام يجعله عاملا للخليفة هناك، قال أبو عمر فى الاستيعاب ج 3 ص 398: «كان أميرا بالشام نحو عشرين سنة وخليفة مثل ذلك» وأما بعد اجتماع الحكمين فقد سلم عليه أصحابه وأهل الشام خاصة بالخلافة، قال ابن جرير الطبرى فى تاريخ سنة 37 بعد اجتماع الحكمين ج 4 ص 53: «ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة» . وسيصرح المؤلف بهذا فى (ذكر ملك عمرو ابن العاص مصر) .

ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه

وثلاثين، وبويع له بعد وفاة علىّ رضى الله عنه فى ذى الحجة سنة أربعين ببيت المقدس، قاله أبو بشر الدّولابى [1] رحمة الله عليه، ثم بويع له البيعة العامّة بالكوفة بعد أن خلص له الأمر وتسلّمه من الحسن بن علىّ رضى الله عنهما، على ما تقدم، فى سنة إحدى وأربعين، فى شهر ربيع الأول لخمس بقين منه [وقيل: فى ربيع الآخر] [2] . وقيل: جمادى الأولى.. ولنبدأ من أخباره بما كان منها فى خلافة علىّ رضى الله عنه، ممّا لم نذكره هناك، ثم نذكر من أخباره بعد أن خلص له الأمر، فنبدأ هناك بما وقع فى أيّامه من الغزوات والفتوحات، ثم نذكر أخبار الخوارج عليه، ثم حوادث السنين خلاف ذلك على نحو ما قدمناه فى أخبار غيره، إن شاء الله تعالى. ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه كان عمرو بن العاص قد فارق المدينة وقدم إلى فلسطين فى آخر أيام عثمان، فأقام هناك حتى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد ذكرنا فى خلافة عثمان سبب خروج عمرو، فلما أتاه الخير بقتل عثمان قال: «أنا أبو عبد الله، أنا قتلته وأنا بوادى السبع [3]

_ [1] هو محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد الرازى الدولابى، ولعل بعض أجداده نسب إلى عمل الدولاب الذى يستقى به الماء، وهناك بعض المواضع يسمى «الدولاب» فهل نسب أبو نشر إليه مع كونه من الرى؟ [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] السبع بسكون الباء وفتحها، قال ياقوت: السبع: ناحية فى فلسطين بين بيت المقدس والكرك، فيه سبع آبار، سمى الموضع بذلك، وكان ملكا لعمرو بن العاص، أقام به لما اعتزل الناس، وأكثر الناس يروى هذا الموضع بفتح الباء.

إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيبا، وإن يله ابن أبى طالب فهو أكره من يليه إلى!» . فأتاه الخبر ببيعة على، فاشتد عليه، فأقام ينتظر ما يصنع الناس، فأتاه خبر مسير عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون، فأتاه خبر وقعة الجمل، فأرتج عليه. فسمع أن معاوية امتنع من بيعة على رضى الله عنه وأنه يعظم شأن عثمان، فدعا ابنيه [1] ، فاستشارهما، وقال: «ما تريان؟ أما على فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركى فى أمره» . فقال له ابنه عبد الله: «يا أبت، توفى النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس فى بيتك حتى يجتمع الناس» . وقال له محمد: «يا أبت، أنت ناب [2] من أنياب العرب، ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت» [3] . فقال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتنى بما هو خير لى فى دينى، وأما أنت يا محمد فأمرتنى بما هو خير لى فى دنياى وشرّ لى فى آخرتى» . ثم خرج ومعه ابناه حتّى قدم على معاوية (وقيل: إنه ارتحل من فلسطين وهو يبكى كما تبكى المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعى الحياء والدّين، حتى قدم دمشق) فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم

_ [1] فى الكامل لابن الأثير- حيث نقل المؤلف- ج 3 ص 141: «فدعا ابنيه عبد الله، ومحمدا» وقد ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 346 قول الواقدى: محمد بن عمرو بن العاص شهد صفين وقاتل فيها ولم يقاتل أخوه عبد الله، وقال الزبير مثل ذلك. [2] الناب: سيد القوم. وفى الإصابة ج 3 ص 381 «أنت فارس أبيات العرب» . [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، وجاء فى الإصابة: «ذكر» .

ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة وشىء من أخباره

عثمان. فقال لهم: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إليه، فقال له ابناه: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إليك، انصرف إلى غيره، فدخل عليه فقال: «والله لعجب لك أنى أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنى، إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن فى النفس ما فيها، حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا» . فصالحه معاوية وعطف عليه واقتدى بآرائه، وشهد عمرو معه صفين، وحكّمه، وكان من أمره معه ما تقدم، والله أعلم. ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة وشىء من أخباره كان أبوه حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتل يوم اليمامة وترك ابنه محمدا هذا، فكفله عثمان وأحسن تربيته. وكان فيما قيل قد أصاب شرابا فحده عثمان، ثم تنسّك بعد ذلك وأقبل على العبادة. وطلب من عثمان أن يولّيه عملا فقال له: لو كنت أهلا لذلك لولّيتك، فقال له: إنى قد رغبت [1] فى غزو البحر فأذن لى فى إتيان مصر. فأذن له وجهّزه، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظّموه. وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصوارى [2] ، وكان محمد

_ [1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135، ولم تتبين الكلمة فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «ركبت» . [2] غزوة الصوارى أو «ذات الصوارى» كان سببها أن المسلمين لما انتصروا فى أفريقيه خرج الروم فى جمع كبير، وخرج المسلمون للدفاع والجهاد، وكان عليهم فى هذه الحرب البحرية عبد الله بن سعد بن أبى سرح، جاء فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 80، 91 «ثم غزا فى البحر من ناحية الإسكندرية، فلقيه قسطنطين بن هرقل فى ألف مركب، وقيل: فى سبعمائة، والمسلمون فى مائتى مركب، وتقاتلا، فانتصر أمير مصر عبد الله وهزم الروم، وانما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة صوارى المركب واجتماعها» . ويقال: إنها سميت بذات الصوارى لأن هذا الاسم كان لإقليم يجلب منه قدماء المصريين الخشب لبناء سفنهم.. وقد أحسنت الجمهورية العربية المتحدة فى اختيارها ذكرى هذه المعركة البحرية فى احتفالها بيوم البحرية.

يعيب ابن سعد، ويعيب عثمان بتوليته [1] ، ويقول: استعمل رجلا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه. وكتب عبد الله إلى عثمان: إن محمدا قد أفسد على البلاد هو ومحمد بن أبى بكر. فكتب عثمان رضى الله عنه إليه: أمّا ابن أبى بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة، وأما ابن أبى حذيفة فإنه ابنى وابن أخى وتربيتى وهو فرخ قريش. فكتب إليه: إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير. فبعث عثمان إلى ابن أبى حذيفة ثلاثين ألف درهم ومحملا عليه كسوة. فوضعهما محمد فى المسجد وقال: يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعنى عن دينى ويرشونى، عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان، وبايعوه على رئاستهم. فكتب إليه عثمان يذكّره برّه به وتربيته إيّاه وقيامه بشأنه، ويقول له: كفرت إحسانى أحوج ما كنت إلى شكرك. فلم يردّه ذلك عن ذمّه وتأليب الناس عليه، وحثهم إلى المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.

_ [1] كان أول ما تكلم به محمد بن أبى حذيفة ومحمد بن أبى بكر فى حق عثمان فى غزوة الصوارى.

فلما سار المصريون إلى عثمان أقام هو بمصر، وخرج عنها عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فاستولى عليها وضبطها ولم يزل مقيما بها حتى قتل عثمان وبويع علىّ رضى الله عنه، واتفق معاوية وعمرو بن العاص [على خلاف علىّ] [1] فسار عمرو بن العاص إليه وقتله. وقد اختلف فى قتله، فمن المؤرخين من قال: إن عمرو بن العاص سار إلى مصر هو ومعاوية قبل مقدم قيس بن سعد إليها، وأرادا دخول مصر فلم يقدرا على ذلك، فخدعا محمدا حتى خرج إلى العريش فى ألف رجل فتحصن بها، فنصبا عليه المنجنيق حتّى نزل فى ثلاثين من أصحابه فقتل. وهذا القول ليس بشىء يعتمد عليه، وهو بعيد جدا، لأن على بن أبى طالب استعمل قيس بن سعد على مصر أول ما بويع، ولو كان قتل محمد بن أبى حذيفة [قبل وصول قيس بن سعد إلى مصر] [2] لاستولى معاوية على مصر، ولا خلاف أن استيلاء معاوية على مصر كان بعد صفّين، وإنّما ذكرنا هذا القول لنبين بطلانه، وقد علّله بعض المؤرخين بنحو هذا التعليل، واستدل على بطلانه [3] . وقد قيل غير ذلك: وهو أن محمد بن أبى حذيفة سيّر المصريين إلى عثمان، فلما حضروه [4] أخرج محمد عبد الله بن سعيد بن أبى سرح عن مصر وهو عامل عثمان [واستولى] [5] عليها، فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان، فطلع عليه راكب، فسأله،

_ [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135 حيث نقل المؤلف. [2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] انظر ابن الأثير فى تاريخه الكامل ج 3 ص 135. [4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 136: «حصروه» . [5] الزيادة من الكامل.

فأخبره بقتل عثمان وببيعة علىّ رضى الله عنه، فاسترجع، وأخبره بولاية قيس بن سعد على مصر، وأنه قادم بعده فقال عبد الله: «أبعد الله محمد بن أبى حذيفة! فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كفله وربّاه وأحسن إليه، فأساء جواره، وجهّز إليه الرجال، حتّى قتل، ثم ولى على [1] من هو أبعد منه ومن عثمان، ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرا ولم يره لذلك أهلا» . وخرج عبد الله هاربا حتّى قدم على معاوية [2] . وقيل: إن عمرو بن بن العاص سار إلى مصر بعد صفين، فلقيه محمد بن أبى حذيفة فى جيش كثير، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه فاجتمعا، فقال له عمرو: «إنه قد كان ما ترى، وقد بايعت هذا الرجل- يعنى معاوية- وما أنا راض بكثير من أمره، وإنى لأعلم أنّ صاحبك عليّا أفضل من معاوية نفسا وقدما، وأولى بهذا الأمر، فواعدنى موعدا ألتقى معك فيه فى غير جيش، تأتى فى مائة وآتى فى مثلها، وليس معنا إلّا السيوف فى القرب» . فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتّعدا العريش، ورجع عمرو إلى معاوية فأخبره الخبر، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما فى مائة، وجعل عمرو جيشا خلّفه، فلما التقيا بالعريش، قدم جيش عمرو [على أثره] [3] فعلم محمد أنه قد غدر به، فدخل قصرا بالعريش فتحصّن به، وحصره عمرو، ورماه بالمنجنيق حتّى أخذ أسيرا، فبعث به إلى معاوية فسجنه، وكانت

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عليه» . [2] عقب ابن الأثير فى الكامل هذا بقوله: «وهذا القول يدل على أن قيسا ولى مصر ومحمد بن أبى حذيفه حى، وهو الصحيح» .. [3] الزيادة من الكامل لابن الأثير.

ابنة [1] قرظة امرأة معاوية ابنة بن محمد عمة أبى حذيفة، أمّها فاطمة بنت عتبة، فكانت تصنع له طعاما ترسله إليه، فأرسلت إليه يوما فى الطعام مبارد، فبرد بها قيوده، وهرب، فاختفى فى غار، فأخذ وقتل. وقيل: إنه بقى محبوسا إلى أن قتل حجر بن عدىّ، ثم هرب فطلبه مالك بن هبيرة السّكونى، فظفر به فقتله غضبا لحجر، وكان مالك قد شفع إلى معاوية فى حجر فلم يشفعه. وقيل: إن محمد بن أبى حذيفة- لما قتل محمد بن أبى بكر- خرج فى جمع كثير على عمرو، فأمّنه عمرو، ثم غدر به، وحمله إلى معاوية، فحبسه، ثم إنه هرب، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه، وأمر بطلبه فسار فى طلبه عبيد الله بن عمر [2] بن ظلام الخثعمى فأدركه بحوارن فى غار، وجاءت حمر تدخل الغار، فلما رأت محمدا نفرت منه، وكان هناك ناس يحصدون، فقالوا: والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنا، فذهبوا إلى الغار فرأوه، وخرجوا من عنده، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا: هو فى الغار، فأخرجه، وكره أن يأتى به معاوية فيخلى سبيله، فضرب عنقه. والله أعلم.

_ [1] هى فاختة ابنة قرظة. [2] عند ابن جرير وابن الأثير: «عمرو» .

ذكر ملك عمرو بن العاص مصر ومقتل محمد بن أبى بكر ووفاة الأشتر وما يتصل بذلك

ذكر ملك عمرو بن العاص مصر ومقتل محمد بن أبى بكر ووفاة الأشتر وما يتصل بذلك قد ذكرنا فى أخبار على رضى الله عنه استعماله محمد بن أبى بكر على مصر، وما كان بينه وبين أهل خربتا [1] وقتلهم ابن مضاهم، ثم خرج معاوية بن حديج السّكونى، ودعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليا، فاستدعى الأشتر، وكان قد توجّه إلى نصيبين بعد صفّين، فحضر إليه فأخبره خبر أهل مصر، وقال له: «ليس لها غيرك، فاخرج إليها، فإنى لو لم أوصك اكتفيت برأيك، فاستعن بالله، واخلط الشّدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، وتشدّد حين لا يغنى إلا الشّدة» فخرج الأشتر إلى مصر، فبلغ معاوية ذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع فى مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان عليه أشد من محمد بن أبى بكر رضى الله عنه، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقلزم وهو الجابستار [2] وقال له: إن الأشتر وقد ولى مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت. فخرج الجابستار حتى أتى القلزم وأقام به. وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام فأكل وأتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه، فلما شربها مات.

_ [1] انظر ما سبق فى «خربتا» . [2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 71 «الجايستار» .

وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إنّ عليّا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون عليه [1] . وأقبل الذى سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبا، ثم قال: أمّا بعد، فإنه كانت لعلىّ يمينان، قطعت إحداهما يوم صفّين- يعنى عمّار بن ياسر-، وقطعت الأخرى اليوم- يعنى الأشتر-. فلما بلغ ذلك عليا قال: لليدين وللفم [2] ! [وكان ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله] [3] استرجع [4] وقال: «مالك! وما مالك؟ وهو موجود مثل ذلك؟ لو كان من حديد لكان قيدا، أو من حجر لكان صلدا، على مثله فلتبك البواكى!» [5] . ثم كتب إلى محمد بن أبى بكر باستقراره على عمله، وأوصاه. وقيل: إنه إنما ولى الأشتر بعد قتل محمد بن أبى بكر. قال: ولما كان من الحكمين ما كان، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، لم يكن له همّ إلّا مصر، وكان يهاب أهلها [لقربهم منه و] [6] لشدّتهم وما كان من رأيهم فى عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر [7] عليها ظهر على حرب على رضى الله عنه لعظم خراجها، فدعا

_ [1] ذكر ابن جرير وابن الأثير أنهم كانوا يدعون الله عليه كل يوم. [2]- هذه كلمة تقال للرجل إذا دعى عليه بالسوء، معناه: كبه الله لوجهه، أى خر إلى الأرض على يديه وفيه. [3] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 178. [4] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [5] قال ابن الأثير فى الكامل عقب هذا: «وهذا أصح، لأنه لو كان كارها له لم يوله مصر» . [6] الزيادة من الكامل. [7] ظهر: غلب.

معاوية عمرو بن العاص، وحبيب بن أبى مسلمة، وبسر بن أرطاه، والضحّاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد، وأبا الأعور والسّلمى، وشرحبيل بن السّمط الكندى، فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟ فإنى جمعتكم لأمر لى مهمّ. فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحدا، ولم نعلم ما تريد. فقال عمرو بن العاص: لتسألنا عن رأينا فى مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك، فاعزم واصبر، فنعم الرأى رأيت فى افتتاحها، فإن فيه عزّك وعزّ أصحابك، وكبت عدوك، وذلّ أهل الشقاق عليك. فقال معاوية: أهّمك يا بن العاص ما أهمكّ. وذلك أن عمرا صالح معاوية على قتال على رضى الله عنه على أن له مصر طعمة ما بقى. وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟ قالوا: ما نرى إلّا ما رأى عمرو. ثم كتب معاوية إلى مسلمة ابن مخلّد ومعاوية بن حديج السّكونى- وكانا قد خالفا عليّا- يشكرهما على ذلك، ويحثهما على الطلب بدم عثمان، ويعدهما المواساة فى سلطانه. وبعثه مع مولاه سبيع. فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلّد الأنصارى عن نفسه وعن ابن حديج: «أمّا بعد، فإن الأمر الذى بذلنا له أنفسنا، واتبعنا أمر الله نرجو به ثواب ربنا، والنّصر على من خالفنا، وتعجيل النّقمة على من سعى على إمامنا؛ وأما ما ذكرت من المواساة فى سلطانك، فبالله إن ذلك أمر ما له نهضنا، ولا إيّاه أردنا، فعجّل علينا [1] بخيلك

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن جرير الطبرى، وجاء فى الكامل: «إلينا» .

ورجالك، فإنّ عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك، والسلام. فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جندا. فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل، وأوصاه بالتؤدة وترك العجلة. وسار عمرو حتى نزل أدانى أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبى بكر: «أما بعد، فتنحّ عنّى بدمك يا بن أبى بكر، فإنّى لا أحب أن يصيبك منى ظفر؛ إنّ الناس بهذه البلاد قد أجمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها، إنى لك من الناصحين» وبعث إليه [بكتاب معاوية] فى المعنى، ويتهدده بقصده حصار عثمان. فأرسل محمد الكتابين إلى على رضى الله عنه، ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وأنه رأى التثاقل ممن عنده، ويستمده. فكتب إليه يأمره أن يضم شيعته إليه، ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوّه وقتاله. وقام محمد فى الناس فندمهم إلى الخروج إلى عدوّهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان، وخرج محمد بن أبى بكر بعده فى ألفين، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرّح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها، فألحقها بعمرو، فلمّا رأى ذلك بعث إلى معاوية بن خديج، فأتاه فى مثل الدّهم [1] ،

_ [1] الدهم: العدد الكثير.

فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فنزل كنانة عن فرسه ونزل معه أصحابه، فقاتل بسيفه حتّى قتل، وبلغ قتله محمد بن أبى بكر، فتفرّق عنه أصحابه، وأقبل عمرو بجمع، ولم يبق مع محمد أحد. فخرج محمد يمشى فى الطريق، فانتهى إلى خربة فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتّى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبى بكر، فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلا جالسا، فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا فاستخرجوه وكاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط. ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهم إلى عمرو وكان فى جنده، وقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال: قتلتم كنانة بن بشر وأخلّى أنا محمدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [1] هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبى بكر رضى الله عنه: اسقونى ماء. فقال ابن حديج: «لا سقانى الله إن سقيتك قطرة أبدا؛ إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنّك حتى يسقيك الله من الحميم والغسّاق» . فقال له محمد: «يا ابن اليهودية النّسّاجة، ليس ذلك إليك، إنّما ذلك إلى الله، يسقى أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وأمثالك، أما والله لو كان

_ [1] الآية 43 من سورة القمر.

سيفى بيدى ما بلغتم منّى هذا» . قال له: أتدرى ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: «إن فعلت بى ذلك فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنى لأرجو أن يجعلها الله عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظّى، كلّما خبت زادها الله سعيرا» . فغضب منه وقتله، ثم ألقاه فى جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار. فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت فى وتر [1] الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها، وامتنعت عائشة بعد ذلك أن تأكل شواء حتّى ماتت. وقد قيل: إن محمد بن أبى بكر قاتل عمرا ومن معه قتالا شديدا، فقتل كنانة وانهزم محمد، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدلّ عليه معاوية ابن حديج، فأحاط به، فخرج إليه محمد فقاتل حتى قتل. وكان ذلك فى سنة ثمان وثلاثين. قال: وأما علىّ رضى الله عنه، فإنه لما أتاه كتاب محمد ندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا فخطبهم وحثهم على الخروج ووبخهم على الثتاقل، فقام إليه كعب بن مالك الأرحبيىّ [2] فقال: يا أمير المؤمنين: اندب الناس؛ لهذا اليوم كنت أدخر نفسى، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته، وقاتلوا

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 79 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 180 «فى دبر الصلاة» . [2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 81- 82 «مالك بن كعب الهمدانى ثم الأرحبى» وسيأتى قريبا أن عين التمر فيها «مالك بن كعب» .

عدوّه وأنا أسير إليه، فخرج معه ألفان. فقال له على رضى الله عنه: سر فو الله ما أظنّك تدركهم حتى ينقضى أمرهم، فسار بهم خمسا. ثم قدم الحجّاج بن غزيّة من مصر فأخبره بالخبر، وأتاه عبد الرحمن بن شبيب الفزارى من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله، فقال على؛ أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافا: وأرسل إلى الجيش فأعادهم. وقام فى الناس خطيبا فقال: «ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبى بكر استشهد، فعند الله نحتسبه، أما والله إنه كان- ما علمت- لممّن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدّى المؤمن، والله لا ألوم نفسى على تقصير، وإنى بمقاساة الحرب لجد خبير، وإنى لأقدم على الأمر، وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم يا لرأى المصيب، وأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث، فلا تسمعون لى قولا، ولا تطيعون لى أمرا، حتّى تصير الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض بكم الأوتار، ودعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة [1] الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة فى جهاد العدوّ، ولا اكتساب

_ [1] الجرجرة: صوت يردده البعير فى حنجرته، والمراد الضجة والصياح.

ذكر سرايا معاوية إلى بلاد على بن أبى طالب رضى الله عنه

الأجر، ثم خرج إلىّ منكم جنيد متذائب [1] ، كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفّ لكم!» . ثم نزل رضى الله عنه. ذكر سرايا معاوية الى بلاد على بن أبى طالب رضى الله عنه لمّا كان من أسر الحكمين ما ذكرنا، وملك معاوية مصر، استشرفت نفسه إلى غير ذلك، فلما كان فى سنة تسع وثلاثين بثّ سراياه فى أطراف بلاد علىّ رضى الله عنه. فبعث النعمان بن بشير فى ألف رجل إلى عين التمر [2] وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلىّ فى ألف رجل، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة، ولم يبق معه إلّا مائة رجل، فلما سمع خبر النعمان كتب إلى علىّ رضى الله عنه يستمده، فندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، وجعل وراء القرية فى ظهر أصحابه، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستغيثه وهو قريب منه، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن فى خمسين رجلا، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، وذلك بعد أن قاتلوا قتالا شديدا، فلما رآهم أهل الشام انهزموا بعد العشاء، وظنوا أنّ لهم مددا، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر. وبعث سفيان بن عوف فى ستة آلاف، وأمره أن يأتى هيت [3]

_ [1] جاء فى النهاية: «وفى حديث على رضى الله عنه: خرج منكم إلى جنيد متذائب ضعيف، المتذائب: المضطرب من قولهم: تذاءبت الريح، أى اضطرب هبوبها [2] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربى الكوفة. [3] هيت: بلدة على الفرات من نواحى بغداد فوق الأنبار.

فيقطعها، ثم يأتى الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فأتى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلى تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلّا مائتا رجل، وكان سبب تفرقهم أن أميرهم كميل [1] بن زياد بلغه أن قوما بقرقيسيا [2] يريدون الغارة على هيت، فسار إليهم، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائب، فقاتل سفيان من وجد هناك فصبروا له، ثم قتل صاحبهم وهو أشرس ابن حسّان البكرىّ وثلاثون رجلا، واحتمل أصحاب سفيان ما فى الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية، وبلغ الخبر عليا فأرسل فى طلبهم فلم يدركوا. وبعث عبد الله ابن مسعدة بن حكيم بن مالك بن بدر الفزارىّ فى ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء [3] وأمره أن يأخذ صدقة من مرّ به من أهل البوادى ويقتل من امتنع، ففعل ذلك، وبلغ مكة والمدينة، واجتمع إليه بشر كثير من قومه. وبلغ ذلك عليا فأرسل المسيّب بن نجبة الفزارى فى ألفى رجل، فلحق عبد الله بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا حتّى زالت الشمس، وحمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله، ويقول له: النّجاء النّجاء. فدخل ابن مسعدة وجماعة من أصحابه الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصّدقة التى كانت مع ابن مسعدة وحصره ثلاثة

_ [1] هو كميل بن زياد بن نهيك النخعى. [2] قرقيسيا: بلد على نهر الخابور، وعندها مصب الخابور فى الفرات، فهى فى مثلث بين الخابور والفرات، كما ذكره ياقوت [3] تيماء: موضع فى أطراف الشام، بين الشام ووادى القرى.

أيام، ثم ألقى الحطب فى الباب وحرقه، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا: قومك يا مسيّب!: فرقّ لهم وأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءنى عيون فأخبرونى أن جندا قد أتوكم من الشام. وبعث معاوية أيضا الضحّاك بن قيس فى ثلاثة آلاف رجل، أمره أن يمر بأسفل واقصة [1] ، ويغير على كل من مر به ممن هو فى طاعة علىّ من الأعراب، فسار وقتل الناس وأخذ الأموال، ومضى إلى الثعلبية [2] فأغار على مسلحة علىّ وانتهى إلى القطقطانة [3] ، فلما بلغ ذلك عليا أرسل حجر بن عدى إليّه فى أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهما، فلحق الضحاك بتدمر فقتل من أصحابه [4] تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه. وسار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم رجع. وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرّهاوىّ [5] إلى مكة لأخذ البيعة له، وإقامة الحج بالناس، ومعه ثلاثة آلاف، فسار إلى مكة وبها قثم بن العباس من قبل علىّ، فأراد مفارقتها [6] ، واللحاق ببعض شعابها، فنهاه

_ [1] واقصة: موضع بطريق مكة من الكوفة. [2] الثعلبية: من منازل طريق مكة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية وسميت بثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء كما ذكره ياقوت. [3] القطقطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرية. [4] فى الكامل ج 3 ص 189 «فقتل منهم» . [5] قال ابن الأثير: الرهاوى: منسوب إلى الرهاء، قبيلة من العرب، وقد ضبطه عبد الغنى بن سعيد بفتح الراء، قبيلة مشهورة، وأما المدينة فبضم الراء. انظر القاموس. [6] لما سمع قثم بن العباس بمسمير يزيد بن شجرة خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشىء فعزم على مفارقة مكة.

أبو سعيد الخدرىّ، وكتب قثم إلى على يستمده، ووصل يزيد إلى مكة قبل التّروية بيومين، فما تعرض للقتال، ونادى فى الناس: أنتم آمنون إلّا من قاتلنا ونازعنا. واتفق قثم ويزيد أن يعتزلا الصلاة بالناس، واختارا شيبه بن عثمان، فصلّى بالناس وحج بهم، ولما انقضى الحج رجع يزيد إلى الشام، وأقبلت خيل علىّ مددا لقثم، وفيهم الرّيّان ابن ضمرة الحنفى، وأبو الطّفيل، وعليهم معقل بن قيس، فتبعوه فأدركوه وقد دخل وادى القرى، وظفروا بنفر من أصحابه فأخذوهم أسارى ورجعوا بهم إلى على، ففادى بهم أسارى كانت لهم عند معاوية. وبعث معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وبها شبيب بن عامر بنصيبين [1] ، فكتب إلى كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم، فسار كميل إليهم نجدة له فى ستمائة فارس، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السّلمىّ فقاتلهما كميل فهزمهما، وغلب على عسكرهما، وأكثر القتل فى أهل الشام، وقتل من أصحاب كميل رجلان، وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلا قد أوقع بالقوم فهنأه بالظّفر، واتّبع الشاميين فلم يدركهم، فعبر الفرات وبثّ خيله فأغارت على أهل الشام حتّى بلغ بعلبك [2] ، فوجه إليه معاوية حبيب بن مسلمة فلم يدركه، ورجع شبيب فأغار على نواحى الرقّة [3] ، فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها، ولا خيلا

_ [1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على طريق القوافل من الموصل إلى الشام. كما ذكره ياقوت. [2] بعلبك: مدينة قديمة بالشام مشهورة بآثارها. [3] الرقة: مدينة مشهورة على الفرات.

ولا سلاحا إلّا أخذه، وعاد إلى نصيبين. وكتب إلى علىّ رضى الله عنه فكتب إليه ينهاه عن أخذ أموال الناس إلّا الخيل والسلاح الذى يقاتلونه به، وقال: رحم الله شبيبا، لقد أبعد الغارة، وعجّل الانتصار. ولما فعل شبيب ذلك وقدم يزيد بن شجرة على معاوية بعث معاوية الحارث بن نمر التّنوخىّ إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان فى طاعة علىّ، فأخذ من أهل دارا [1] سبعة نفر من بنى تغلب، وكان جماعة من بنى تغلب قد فارقوا عليّا إلى معاوية فسألوه فى إطلاق أصحابهم فلم يفعل فاعتزلوه أيضا، وفادى معاوية بهم من كان أسرهم معقل بن قيس من أصحاب ابن شجرة. وبعث معاوية زهير بن مكحول العامرىّ إلى السّماوة [2] ليأخذ صدقات الناس، فبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر، وهم: جعفر بن عبد الله الأشجعىّ، وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين [3] ؛ ليأخذوا صدقه من فى طاعته من كلب وبكر بن وائل، فوافوا زهيرا فاقتتلوا، فانهزم أصحاب علىّ رضى الله عنه، وقتل جعفر، ولحق ابن العشبة بعلىّ فعنفه وعلاه بالدّرّة، فغضب ولحق بمعاوية. وأما ابن الجلاس فإنه مرّ براع فأخذ جبتّه وأعطاه جبة خزّ فأدركته الخيل،

_ [1] دارا: مدينة بين نصيبين وماردين. [2] بادية السماوة: بين الكوفة والشام. [3] كذا جاء فى المخطوطة، والظاهر هنا «الكلبيان؛» بالرفع، وجاء بالنصب فى الكامل لأنه لم يجىء فيه «وهم» فكانت الأسماء منصوبة.

ذكر مسير بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن وما فعله

فقالوا: أين أخذ هؤلاء التّرابيون [1] ؟ فأشار إليهم: أخذوا ها هنا. ثم أقبل إلى الكوفة. وبعث أيضا مسلم بن عقبة المرىّ إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علىّ ومعاوية جميعا، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك عليّا، فبعث مالك بن كعب الهمذانى فى جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلّا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما، وقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى بيعة علىّ، فأبوا وقالوا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام، فانصرف عنهم وتركهم. ذكر مسير بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن وما فعله وفى سنة أربعين بعث [2] معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة- واسم أبى أرطاة عمير، وقيل [3] عويمر الشّامىّ [4] من بنى عامر بن لؤى- إلى الحجاز واليمن فى ثلاثة آلاف فارس، فسار من الشام حتّى قدم المدينة، وعامل المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصارى من قبل علىّ رضى الله عنهما، ففرّ أبو أيّوب ولحق بعلى، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى: يا دينار، يا نجار، يا زريق

_ [1] أى أتباع أبى تراب على بن أبى طالب. [2] وذلك بعد تحكيم الحكمين، كما فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 106 والاستيعاب ج 1 ص 158. [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الاستيعاب ج 1 ص 154، وجاء فى جمهرة أنساب العرب ص 161 والإصابة ج 1 ص 147 «واسم أبى (أرطاة) عمير بن عويمر» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وقد قال أبو عمر فى الاستيعاب «يعد بسر بن أرطاة فى الشاميين» . وجاء فى النسخة (ك) : «الشيبانى» ، ومن المعروف أنه عامرى قرشى.

(وهذه بطون من الأنصار) شيخى شيخى، عهدته ههنا بالأمس، فأين هو؟! (يعنى عثمان) . ثم قال: والله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت بها محتلما إلّا قتلته. ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بنى سلمة [1] فقال: ما لكم عندى أمان ولا مبايعة حتّى تأتونى بجابر بن عبد الله. فأخبر، فانطلق إلى أمّ سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ماذا ترين؟ فإنى خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلاله!» فقالت: «أرى أن تبايع، وقد أمرت ابنى عمر بن أبى سلمة وختنى بن زمعة أن يبايعا» ، وكانت [2] ابنتها زينب تحت ابن زمعه [3] ، فأتى جابر إلى بسر فبايعه لمعاوية، وهدم بسر دورا بالمدينة. ثم انطلق حتّى أتى مكة، وفيها أبو موسى الأشعرى، فخافه أبو موسى على نفسه أن يقتله، فهرب، فقيل ذلك لبسر، فقال: ما كنت لأطلبه وقد خلع عليا. ولم يطلبه. وكتب أبو موسى إلى اليمن: أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل الناس ممّن أبى أن يقرّ بالحكومة. ثم مضى بسر إلى اليمن، وعامل اليمن من قبل علىّ رضى الله عنه عبيد الله بن عبّاس، فلما بلغه أمر بسر فرّ إلى الكوفة حتّى أتى

_ [1] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193 «بكسر اللام، بطن من الأنصار» وهم بنو سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، ومن بنى أسد جابر بن عبد الله، هو وأبوه صحابيان. [2] جاء بهذه الجملة ليشرح معنى «الختن» . [3] ابن زمعة: عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصى القرشى الأسدى، أمه: قريبة بنت أبى أمية، أخت أم سلمة، وزوجته: ابنة خالته زينب بنت أبى سلمة.

عليّا، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثى [1] ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه [2] ، ولقى ثقل [3] عبيد الله بن العباس رضى الله عنه وفيه ابنان صغيران لعبيد الله بن العبّاس فقتلهما، وهما عبد الرحمن وقثم. وقيل: إنهما كانا عند رجل من بنى كنانة بالبادية، فلما أراد قتلهما قال له الكنانى: «لم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلنى معهما!» ، فقتله، وقتلهما بعده. وقيل: إنّ الكنانىّ أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول! الليث من يمنع حافات الدار. ... ولا يزال مصلتا دون الجار. وقاتل حتّى قتل وأخذ بسر الغلاميين فذبحهما، فخرج نسوة من بنى كنانة، فقالت امرأة منهن: «ما هذا؟ قتلت الرجال فعلام تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يقتلون فى جاهلية ولا إسلام! والله إنّ سلطانا لا يقوم إلّا بقتل الضّرع [4] الصغير والشيخ الكبير وبرفع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء!» فقال لها بسر: والله لقد

_ [1] عبد الله بن عبد المدان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى الحارث بن كعب، فقال له: من أنت قال: أنا عبد الحجر. قال: أنت عبد الله. فأسلم وبايع. وأبوه عبد المدان اسمه عمرو. وجده الديان اسمه يزيد. وكان عبيد الله بن عباس قد تزوج عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان واستعان أباها عبد الله على اليمن. [2] مالك بن عبد الله بن عبد المدان. [3] الثقل: متاع المسافر وحشمه وكل شىء نفيس مصون. [4] الضرع: الضعيف.

هممت أن أضع فيكن السيف. فقالت له: تالله إنها لأخت التى صنعت وما أنا لها منك بآمنة! ثم قالت للنساء [التى [1] حولها] : ويحكنّ! تفرّقن!. وقتل بسر فى مسيره ذلك جماعة من شيعة علىّ باليمن. وبلغ عليا الخبر، فأرسل جارية بن قدامة فى ألفين، ووهب ابن مسعود فى ألفين، فسار جارية حتّى أتى نجران، فقتل بها ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، واتبعه جارية إلى مكة، فقال: بايعوا أمير المؤمنين. فقالوا: قد هلك فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب على فبايعوا خوفا منه. ثم سار حتّى أتى المدينة، وأبو هريرة يصلّى بالناس، فهرب منه، فقال جارية: لو وجدت أبا سنّور لقتلته. ثم قال لأهل المدينة: بايعوا الحسن بن على، فبايعوا، وأقام يومه، ثم عاد إلى الكوفة، ورجع أبو هريرة يصلّى بهم. وكانت أم ابنى عبيد الله أمّ الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ، وقيل: عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان، فلما قتل ولداها ولهت [2] عليها، فكانت لا تعقل ولا تصغى، ولا تزال تنشدهما فى المواسم وتقول:

_ [1] يبدأ من هنا مقدار كبير سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) . [2] ولهت: اشتد حزنها وذهب عقلها.

ها [1] من أحس بنيّىّ اللذين هما ... كالدّرتين تشظّى [2] عنهما الصدف هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... سمعى وعقلى فقلبى اليوم مختطف هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... مخّ العظام فمخّى اليوم مزدهف [3] من ذلّ والهة حيرى مدلّهة [4] ... على صبيّين ذلّا إذ غدا السّلف نبّئت بسرا وما صدّقت ما زعموا ... من قتلهم ومن الإثم الّذى اقترفوا أحنى على ودجى [5] إبنىّ [6] مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف قال [7] : فلمّا سمع علىّ بقتلهما جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله. فأصابه ذلك، وفقد عقله، فكان يهذى بالسّيف ويطلبه، فيؤتى بسيف من خشب، ويجعل

_ [1] «ها» كذا جاء فى المخطوطة موافقا للاستيعاب ج 1 ص 156، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 193: «يا» ، وكذلك أولا البيتين التاليين. [2] تشظى: انشق. [3] مزدهف: مذهوب به. [4] المدلهة: الساهية القلب الذاهية العقل. [5] الودج: عرق فى العنق يقطعه الذابح فلا يبق معه حياة. [6] همزة «ابن» همزة وصل، ولكنها صارت إلى القطع هنا لضرورة شعر. [7] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193.

بين يديه زقّ منفوخ، فلا يزال يضربه، فلم يزل كذلك إلى أن مات. قال [1] : ولما استقرّ الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عبّاس وعنده بسر، فقال لبسر: وددت أن الأرض أنبتنى عندك حين قتلت ولدىّ. فقال بسر: هاك سيفى. فأهوى عبيد الله ليتناوله، فأخذه معاوية وقال لبسر: «أخزاك الله شيخا قد خرفت! والله لو تمكّن منه لبدأ بى!» قال عبيد الله: أجل ثم ثنيت به. وقيل: إن مسير بسر إلى الحجاز كان فى سنة اثنتين وأربعين، وإنه أقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس، لا يقال له عن أحد «إنه شرك فى دم عثمان» إلّا قتله. وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] عن أبى عمرو الشيبانى قوله: لما وجّه معاوية بن أبى سفيان بسر بن أرطاة الفهرى لقتل شيعة علىّ، قام إليه معن أو [3] عمرو بن يزيد بن الأخنس السّلمى وزياد [4] بن الأشهب الجعدى فقالا: «يا أمير المؤمنين نسألك بالله والرّحم ألّا تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل قيسا بما قتلت بنو سليم من بنى فهر وكنانة يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة» . فقال له معاوية: يا بسر، لا أمر لك على قيس. فسار حتّى أتى المدينة فقتل ابنى عبيد الله بن عبّاس، وفرّ أهل المدينة ودخلوا الحرّة: حرّة بنى سليم.

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193. [2] الاستيعاب ج 1 ص 156. [3] المشهور فى هذه النسبة «معن بن يزيد بن الأخنس السلمى» ، وقد بايع النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم ثلاثتهم شهدوا بدرا مسلمين. [4] كان زياد بن الأشهب بن أدر بن عمرو بن ربيعة بن جعدة العامرى الجعدى من أشراف أهل الشام عظيم المنزلة عند معاوية.

هكذا قال الشيبانى: إنه قتل ابنى عبيد الله بالمدينة. والأكثر أنه قتلهما باليمن على ما ذكرنا. قال [1] : وفى هذه الخرجة أغار بسر على همدان وقتل وسبى نساءهم، فكنّ أوّل مسلمات سبين فى الإسلام. وقتل أحياء من بنى سعد. وروى أبو عمر [2] بسنده عن أبى الرّباب وصاحب له أنهما سمعا أبا ذر يدعو ويتعوذ فى صلاة صلّاها طال قيامها وركوعها وسجودها، قال: فسألناه: ممّ تعوّذت؟ وفيم دعوت؟ فقال: تعوذت بالله من يوم البلاء أن يدركنى ويوم العورة أن أدركه. فقلنا: وما ذاك؟ فقال: أما يوم البلاء فتلتقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضا، وأما يوم العورة فإن نساء من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنّ فأيّتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله ألّا يدركنى هذا الزمان ولعلكما تدركانه. قال: فقتل عثمان ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن فى السّوق. هذا ما كان من أخياره فى خلافة علىّ رضى الله عنه ممّا يدخل فيما نحن بصدده، فلنذكر الآن ما اتفق له فى مدة ولايته بعد أن خاص له الأمر، ونبدأ بالغزوات والفتوحات.

_ [1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب. [2] فى الاستيعاب.

ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام معاوية بعد أن استقل بالأمر

ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام معاوية بعد أن استقل بالأمر فى سنة اثنتين وأربعين كان غزو الروم، فهزموا، وقتل جماعة كبيرة من بطارقتهم. وفيها كان غزو اللان [1] . وفى سنة ثلاث وأربعين غزا بسر بن أرطاة الرّوم حتّى بلغ القسطنطينية، وشتّى بأرضهم، حكاه الواقدى، وأنكره غيره وقال: لم يشتّ بسر بأرض الروم قطّ، وكان بسر إذ ذاك يلى البصرة من قبل معاوية على ما نذكره فى حوادث السنين. وفيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فأتاها، فكان يغزو البلد وقد كفر أهله فيفتحه، حتى بلغ كابل، فحصرها أشهرا، ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمة عظيمة، فبات عليها عبّاد بن الحصين الحبطى ليلة- وكان على الشرطة- فما زال يطاعن المشركين حتّى أصبح، فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون، ودخلوا البلد عنوة [2] . وساروا إلى زراون، فهرب أهلها، فغلب عليها، ثم سار إلى خشّك، فصالحه أهلها. ثم أتى الرّخّج، فقاتلوه، فظفر بهم وفتحها، ثم صار إلى زابلستان- وهى غزنة وأعمالها- وكانوا قد نكثوا ففتحها. وعاد إلى كابل، وقد نكث أهلها ففتحها.

_ [1] اللان: بلاد واسعة فى طرف أرميلية. [2] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 217- حيث نقل المؤلف- قوله: «ثم صاروا إلى بست ففتحها عنوة» .

ذكر غزو السند

ذكر غزو السند قال: وفى سنة ثلاث وأربعين استعمل عبد الله بن عامر- وكان على البصرة وخراسان وسجستان- عبد الله بن سوّار العبدى على ثغر السند [1]- ويقال: بل كان ابن سوار من قبل معاوية- فغزا القيقان، فأصاب مغنما، ووفد على معاوية وأهدى له خيلا [2] ، ثم غزا القيقان مرة ثانية، فاستنجدوا بالترك، فقتلوه وكان كريما، لم يوقد أحد فى عسكره نارا [3] ، فرأى ذات ليلة فى عسكره نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: امرأة نفساء يعمل لها الخنبيص، فأمر أن يطعم الناس الخنبيص ثلاثة أيّام. وفى سنة أربع وأربعين دخل المسلمون بلاد الروم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وشتوا بها ... وغزا بسر بن أرطاة فى البحر. وفيها غزا المهلب بن أبى صفرة ثغر السند، وقاتلهم، ولقى المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارسا من الترك، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتلوا جميعا. وفى سنة ست وأربعين كان مشتى مالك بن عبد الله [4] بأرض

_ [1] كان قد توجه إلى ثغر السند فى سنة 38 وأول سنة 39 الحارث بن مرة العبدى متطوعا بإذن على بن أبى طالب، فظفر وأصاب مغنما، ثم قتل فى سنة 42 بأرض القيقان. [2] خيلا قيقانية، كما قال ياقوت فى معجم البلدان. [3] نارا غير ناره، كما قال ياقوت. [4] مالك بن عبد الله بن سنان بن سرح بن وهب بن الأقيصر الخثعى، وكان يعرف بمالك السرايا.

الروم، وقيل: بل كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: بل كان مالك بن هبيرة السّكونى [1] . وفى سنة سبع وأربعين كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم ومشتى أبى عبد الرحمن القينىّ [2] بأنطاكية. وفيها غزا الحكم بن عمرو بعض جبال الترك، ومعه المهلّب بن أبى صفرة فغنموا، وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق، فعيى الحكم بالأمر فولّى المهّلب الحرب، فلم يزل المهلّب يحتال حتّى أخذ عظيما من عظماء الترك، فقال له: إمّا أن تخرجنا من هذا المضيق أو أقتلك، فقال له التركى: «أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسيّر الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق آخر، فما يدركونكم حتّى تخرجوا منه» . ففعل ذلك، فسلم الناس بما معهم من الغنائم [3] . وفيها أيضا سار الحكم أيضا إلى بلاد الغور فغزا من بها وكانوا قد ارتدّوا، فأخذهم عنوة بالسيف، وفتحها، وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا، ولما رجع الحكم من هذه الغزاة مات [4] بمرو،

_ [1] مالك بن هبيرة بن خالد بن مسلم بن الحارث بن المخصف بن مالك بن الحارث ابن بكر بن ثعلبة بن عطية بن السكون كان شريفا بالشام. [2] أبو عبد الرحمن بن كعب بن ثعلبة بن القمينى، كان معروفا بكنيتة، ويقال له «ذو الشكوة» لأنه كانت له شكوة إذا قاتل، والشكوة: وعاء من جلد الماء واللبن. وهو من بنى القمين وهو النعمان بن جسر من تضاعة. [3] ذكر الطبرى هذه القصة فى سنة إحدى وخمسين. [4] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 186 حيث قال: وفى هذه السنة كانت وفاة الحكم بن عمرو الغفارى بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل.. الخ: وانظر ترجمة الحكم فى الاستيعاب ج 1 ص 314 والإصابة ج 1: ص 346.

ذكر غزوة القسطنطينية

فى قول بعضهم، وكان الحكم قد قطع النهر فى ولايته ولم يفتح، وكان أول المسلمين شرب من النهر مولّى للحكم، اغترف بترسه فشرب، وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلّى ركعتين، وكان أول المسلمين فعل ذلك. وفى سنة ثمان وأربعين كان مشتى عبد الرحمن القينى بأنطاكية وصائفة عبد الله بن قيس الفزارى، وغزوة مالك بن هبيرة السّكونى البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهنى بأهل مصر فى البحر وبأهل المدينة. ذكر غزوة القسطنطينية وفى سنة تسع وأربعين- وقيل: فى سنة خمسين- بعث معاوية جيشا كثيفا إلى بلاد الروم عليهم سفيان بن عوف وكان فى هذا الجيش عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وأبو أيّوب الأنصارى، وعبد العزيز بن زرارة الكلابى [1] وغيرهم. وأمر معاوية ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتلّ، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس فى غزاتهم جوع ومرض شديد، فقال يزيد: ما إن أبالى بما لاقت جموعهمو ... بالغذقذونة [2] من حمّى ومن موم [3]

_ [1] كان عبد العزيز بن زرارة رجلا شريفا ذا مال كثير، فأشرف عنبسة فواجه المال فأعجبه، فقال زرارة: اللهم انى أشهدك أنى حبست نفسى وأهلى ومالى فى سبيلك ثم أتى أباه فأخبره بذلك، فقال: ارتحل على بركة الله. فتوجه نحو الشام. وشهد غزاة القسطنطينية. [2] كذا جاء هذا الاسم- وهو اسم بلد- فى موضعين من معجم البلدان لياقوت محرفا كما حرف فى نسخ الكامل لابن الأثير. [3] الموم: نوع من الحمى ومن الجدرى.

إذا اتّكأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم (وأم كلثوم: امرأته، وهى ابنة عبد الله بن عامر) فبلغ معاوية شعره، فأقسم عليه: ليلحقن بسفيان فى أرض الرّوم ليصيبه ما أصاب الناس [3] . فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، فلحق بهم. وأوغل المسلمون فى بلاد الروم، حتّى بلغوا القسطنطينيّة، والتقوا بالروم، واقتتلوا فاشتدّت الحرب بينهم فى بعض الأيام فلم يزل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، فلم يقتل، فأنشأ يقول: قد عشت فى الدهر أطوارا على طرق ... شتّى، فصادفت منها اللين والبشعا كلّا بلوت، فلا النّعماء تبطرنى ... ولا تخشّعت من لأوائها جزعا [2] لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا ثمّ حمل على من يليه، فقتل فيهم، وانغمس بينهم، فشجره [3] الروم برماحهم، حتى قتلوه، رحمه الله، فبلغ قتله معاوية، فقال

_ [1] جاء فى معجم البلدان أن معاوية قال: «لا جرم ليلحقن بهم ويصيبه ما أصاب وإلا خلعته» . [2] تبطرنى: تجعلنى أطغى وأتكبر. واللأواء: الشدة والمحنة. [3] شجره: طعنه.

لأبيه: هلك والله فتى العرب! فقال: ابنى أو ابنك! قال ابنك فآجرك الله! فقال [1] : فإن يكن الموت أودى به ... وأصبح مخّ الكلابىّ ريرا [2] فكلّ فتى شارب كأسه ... فإمّا صغيرا وإمّا كبيرا قال: ثم رجعوا إلى الشام، وتوفّى أبو أيّوب الأنصارى عند القسطنطينيّة، فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به. وفى سنة خمسين غزا بسر بن أرطاة وسفيان بن عوف الأزدى أرض الروم، وغزا فضالة بن عبيد الأنصارى فى البحر. وفى سنة إحدى وخمسين كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أرطاة الصائفة. وفى سنة اثنتين وخمسين غزا سفيان بن عوف الأزدى الروم، وشتى بأرضهم، وتوفّى بها فى قول، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزارى، وقيل: إن الذى شتى فى هذه السنة بأرض الروم بسر بن أرطاة ومعه سفيان بن عوف. وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفى.

_ [1] فى الإصابة ج 1 ص 547 أنه استرجع، أى قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [2] مخ رير: ذائب فاسد من الهزال.

ذكر فتح جزيرة أرواد

ذكر فتح جزيرة أرواد وفى سنة أربع وخمسين فتح المسلمون يقدمهم جنادة بن أبى أميّة جزيرة أرواد بالقرب من القسطنطينية، وأقاموا بها سبع سنين، فلما مات معاوية وولى ابنه يزيد أمرهم بالعودة فعادوا. وفيها كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن ابن يزيد السّلمى. وفيها استعمل معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه على خراسان، فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أول من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى، ونسف، وبيكند. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة أربع وخمسين. وفى سنة خمس وخمسين كان مشتى سفيان بن عوف الأزدى بأرض الروم، فى قول، وقيل: بل شتّى فى هذه السنة عمرو بن محرز، وقيل: عبد الله بن قيس الفزارى، وقيل: بل مالك بن عبد الله وفى سنة ست وخمسين كان مشتى جنادة بن أبى أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود، وقيل: غزا فيها فى البحر يزيد بن شجرة وفى البرّ عياض بن الحارث. وفيها قطع سعيد بن عثمان بن عفّان النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فقاتلهم، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة ستّ وخمسين.

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى كما يأتى، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى.

ذكر أخبار الخوارج فى أيام معاوية وما كان من أمرهم

وفى سنة سبع وخمسين كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم. وفى سنة ثمان وخمسين غزا مالك بن عبد الله الخثعمى أرض الروم، وعمرو بن زيد الجهنى فى البحر، وقيل: جنادة بن أبى أميّة وفى سنة تسع وخمسين كان مشتى عمرو بن مرة الجهنى بأرض الروم فى البر، وغزا فى البحر جنادة بن أبى أميّة، وقيل لم يكن فى البحر غزاة فى هذه السنة. وفيها غزا المسلمون حصهن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السّلمى فصعد عمير السّور، ولم يزل يقاتل عليه وحده حتّى كشف الروم وصعد المسلمون، ففتحه بعمير. وفى سنة ستين كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية، ودخول جنادة رودس، وهدمه مدينتها فى قول بعضهم. فهذه الغزوات والفتوحات التى كانت فى أيام معاوية. فلنذكر أخبار الخوارج عليه وما كان من أمرهم. ذكر أخبار الخوارج فى أيام معاوية وما كان من أمرهم كان أول من خرج بعد أن استقل معاوية بالأمر فروة بن نوفل الأشجعى، وكان قد اعتزل فى خمسمائة من الخوارج، وسار إلى شهرزور، وترك قتال علىّ والحسن. فلما ولى معاوية قال: «جاء الآن ما لا شكّ فيه، سيروا إلى معاوية فجاهدوه» . فسار بهم حتى نزل النّخيلة (عند الكوفة) .

وكان الحسن بن علىّ قد سار يريد المدينة، فكتب إليه معاوية بدعوه إلى قتال فروة بن نوفل، فلحقه رسوله بالقادسيّة، أو قريبا منها، فلم يرجع، وكتب إلى معاوية يقول: «لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنى تركته [1] لصلاح الأمة وحقن دمائها» فأرسل إليهم معاوية جمعا من أهل الشام، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام. فقال معاوية لأهل الكوفة: والله لا أمان لكم عندى حتّى تكفونيهم! فخرج أهل الكوفة إليهم، فقاتلوهم، فقالت الخوارج لهم: «أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم؟ دعونا حتّى نقاتله، فإن أصبناه كنّا قد كفيناكم عدوّكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا» . فقالوا: لا بدّ لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة [2] ، فوعظوه، فلم يرجع، فأدخلوه الكوفة قهرا. فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبى الحوساء (رجل من طيّئ) فقاتلهم أهل الكوفة، فقتلوهم فى شهر ربيع الأول، أو ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين. وقتل ابن أبى الحوساء [3] ، وكان حين ولى أمر الخوارج قد خوّف من السلطان أن يصلبه إذا ظفر بهم، فقال:

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، أى: تركت القتال، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 205: «تركتك» . [2] لأن فروة أشجعى. [3] الذى قتل ابن أبى الحوساء هو خالد بن عرفطة، كما جاء فى الاستيعاب ج 1 ص 414 والإصابة ج 1 ص 410، وسيأتى له ذكر.

ما إن أبالى إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأوصال وأبشار تجرى المجرّة والنّسران عن قدر ... والشمس والقمر السارى بمقدار وقد علمت وخير القول أنفعه ... أنّ السعيد الّذى ينجو من النار ثم خرج حوثرة بن وداع، وذلك أنه لمّا قتل ابن أبى الحوساء اجتمع الخوارج فولّوا أمرهم حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدى، فقام فيهم، فعاب فروة بن نوفل فى شكّه فى قتال علىّ رضى الله عنه، ودعا الخوارج وساربهم من براز الرّوز- وكان بها- حتّى قدم النّخيلة فى مائة وخمسين، وانضمّ إليهم فلّ ابن أبى الحوساء، وهم قليل. فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك لعله يرقّ إذا رآك. فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال له: ألا آتيك بابنك لعلك إذا رأيته كرهت فراقه! فقال: أنا إلى طعنة برمح من يد كافر أتقلب فيه ساعة أشوق منّى إلى ابنى! فرجع أبوه فأخبر معاوية بمقالتة. فسيّر إليه عبد الله بن عوف بن أحمر [1] فى ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج، فدعا ابنه إلى البراز، فقال له: يا أبت لك فى غيرى سعة.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 206: «عبد الله ابن عوف الأحمر» .

فقاتله ابن عوف وقتله مبارزة، وقتل أصحابه إلّا خمسين رجلا دخلوا الكوفة، وذلك فى جمادى الآخرة من السنة [1] . ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة فندم على قتله، وقال: قتلت أخا بنى أسد سفاها ... لعمر أبى فما لقّيت رشدى قتلت مصلّيا محياه ليل ... طويل الحزن ذا برّ وقصد قتلت أخا تقى لأنال دنيا ... وذاك لشقوتى وعثار جدّى فهب لى توبة يا ربّ واغفر ... لما قارفت من خطأ وعمد ثم خرج فروة بن نوفل الأشجعى على المغيرة بن شعبة، وذلك بعد مسير معاوية، فوجّه إليه المغيرة خيلا عليها شبث بن ربعىّ، وقيل: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور، وقيل بالسواد. وخرج شبيب بن بحرة، وكان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّا، كما ذكرنا، فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه، فقال: أنا وابن ملجم قتلنا عليا. فوثب معاوية مذعورا من مجلسه

_ [1] أى: سنة إحدى وأربعين.

حتّى دخل منزله، وبعث إلى أشجع [1] وقال: «لئن رأيت شبيبا أو بلغنى أنه ببابى لأهلكنّكم!] [2] أخرجوه عن بلدكم!» . فكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق [3] أحدا إلا قتله. فلما ولى المغيرة خرج عليه بالطّفّ (بقرب الكوفة) ، فبعث المغيرة خيلا. عليها خالد بن عرفطة [4] ، وقيل: معقل بن قيس، فاقتتلوا، فقتل شبيب وأصحابه. وبلغ المغيرة أنّ معين [5] بن عبد الله- وهو رجل من محارب- يريد الخروج، فأخذه وحبسه وبعث إلى معاوية يخبره، فكتب إليه: إن شهد أنى خليفة فخلّ سبيله. فأحضره المغيرة، فأبى أن يشهد بخلافة معاوية [6] ، فقتله. ثمّ خرج أبو مريم مولى بنى الحارث بن كعب، ومعه امرأتان: قطام وكحيلة، وكان أوّل من أخرج معه النساء، فعاب عليه ذلك أبو بلال بن أديّة، فقال: قد قاتل النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بالشام، وسأردّهما فردّهما. فوجّه إليه

_ [1] كان شبيب بن بحرة منسوبا إلى قبيلة أشجع، كما كان فروة الخارجى أشجعيا، انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 111. [2] إلى هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) مع مراجعته على ما أثبته ابن الأثير فى الكامل. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (يأت) . [4] خالد بن عرفطة بن أبرهة بن سنان هو الذى قتل عبد الله بن أبى الحوساء الخارجى فيما سبق. [5] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 206: كان اسمه «معنا» فصغر. [6] وقال معين: أشهد أن الله عز وجل حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور.

المغيرة جابرا البجلى، فقاتله، فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا. وخرج أبو ليلى- وكان أسود طويلا- ومعه ثلاثون من الموالى فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرّياحى، فقتله بسواد الكوفة فى سنة اثنتين وأربعين. وخرج سهم بن غالب الهجيمى فى سنة إحدى وأربعين بالبصرة على عبد الله بن عامر، فى سبعين رجلا، منهم الخطيم الباهلى واسمه زياد [1] بن مالك، وإنما قيل له «الخطيم» لضربة ضربها على وجهه. فنزلوا بين الجسرين والبصرة [2] ، فمرّ بهم عبادة بن قرص [3] الليثى، وقد انصرف من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه، فقال لهم الخوارج: من أنتم؟ قالوا: قوم مسلمون. قالوا: كذبتم. قال عبادة: «سبحان الله! اقبلوا منّا ما قبل النبى صلى الله عليه وسلم منى، فإنى كذّبته وقاتلته، ثم أتيته فأسلمت، فقبل ذلك منّى» . قالوا: أنت كافر، وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، فخرج إليهم ابن عامر فقاتلهم، فقتل منهم عدّة، وانحاز بقيّتهم إلى أجمة، وفيهم سهم والخطيم، فأمّنهم ابن عامر ورجعوا، وكتب إلى معاوية، فأمره بقتلهم، فلم يقتلهم، وكتب إلى معاوية: إنّى جعلت لهم ذمّتك.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الاستيعاب ج 2 ص 452، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 209: «يزيد» . [2] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الكامل، وجاء فى الاستيعاب أنهم خرجوا «بناحية جسر البصرة» . [3] فى الإصابة ج 3 ص 269: «عبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير بن مالك ... والصحيح أنه ابن قرص بالصاد» وفى الاستيعاب ج 2 ص 451: «عبادة ابن قرص الليثى، ويقال: ابن قرط، والصواب عند أكثرهم: «قرص» .

ذكر خبر المستورد الخارجى

فلمّا أتى زياد بن أبيه البصرة فى سنة خمس وأربعين هرب الخطيم إلى الأهواز، واجتمع إلى سهم جماعة، فأقبل بهم إلى البصرة، فتفرق عنه أصحابه، فاختفى [1] وطلب الأمان [2] ، فلم يؤمّنه زياد، وبحث عنه وأخذه فقتله وصلبه فى داره.. وقيل: إنه لم يزل مستخفيا حتّى مات زياد، فأخذه عبيد الله بن زياد وصلبه فى سنة أربع وخمسين، فقال رجل من الخوارج: فإن تكن الأحزاب باءوا بصلبه ... فلا يبعدنّ الله سهم بن غالب وأما الخطيم فإن زيادا سأله عن قتل عبادة، فأنكره، فسيره إلى البحرين، ثم أعاده [3] بعد ذلك، وقيل: إنه قتله [4] . ذكر خبر المستورد الخارجى وفى سنة اثنتين وأربعين تحرك الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل يوم النهروان، واجتمعوا فى أربعمائة وأمّروا عليهم المستورد بن علّفة التّيمى، من تيم الرّباب، وبايعوه فى جمادى الآخرة، واتّعدوا للخروج فخرجوا فى غرّة شعبان سنة ثلاث وأربعين. فبلغ المغيرة أنهم اجتمعوا فى منزل حيّان بن ظبيان السّلمىّ وتواعدوا للخروج، فأرسل صاحب شرطته، وهو قبيصه بن الدمّون،

_ [1] قيل: إنهم تفرقوا عند استخفائه. [2] ظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر. [3] كذا ذكره ابن الأثير فى الكامل. [4] كذا ذكره أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 452.

فأحاط بدار حيّان، وإذا عنده معاد بن جوين وهو من رءوس الخوارج ونحو عشرين رجلا، وثارت امرأته وهى أمّ ولد كانت له [كارهة] [1] فأخذت سيوفهم وألقتها تحت الفراش، [وقاموا ليأخذوا سيوفهم] [2] فلم يجدوها فاستسلموا، فجىء بهم إلى المغيرة، فحبسهم بعد أن قرّرهم فلم يعترفوا بشىء قالوا: وإنما اجتمعنا لقراءة القرآن، ولم يزالوا فى السجن نحو سنة، وسمع إخوانهم فحذروا. وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة، واختلف الخوارج إليه، ثم تحول إلى دار سليم بن مجدوع العبدى، وهو مهره. وبلغ المغيرة الخبر وأنهم عزموا على الخروج فى تلك الأيام، فجمع الرؤساء فخطبهم وقال لهم: «ليكفنى كلّ رجل منكم قومه، وإلّا والله تحولت عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون» . فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلّا دلوهم على من يريد تهييج الفتنة. فبلغ المستورد ذلك فخرج من دار سليم بن محدوج، وأرسل إلى أصحابه فأمرهم بالخروج فخرجوا متفرقين، واجتمعوا فى نحو ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصرّاة [3] . وبلغ المغيرة بن شعبة خبرهم، فندب معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف فارس اختارهم من الشيعة.

_ [1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 212. [2] الزيادة من الكامل. [3] الصراة: نهر بالعراق.

وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى أن بلغوا المذار [1] فأقاموا بها. وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم، فندب شريك بن الأعور الحرثى، وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس أكثرهم من ربيعة، فسار بهم إلى المذار. وسار معقل وقدّم أمامه أبا الرّواغ فى ثلاثمائة، فأتى بهم إلى المذار وقاتل الخوارج عامة نهاره وهم يهزمونه ويعود إلى القتال، ثم أدركه معقل فى سبعمائة من أهل القوة، فجاء وقد غربت الشمس فصلوا المغرب، وحملت الخوارج عليهم فانهزم أصحاب معقل، وثبت هو فى نحو مائتين ونزل إلى الأرض فتراجع إليه أصحابه وأتاه بقية الجيش. فبينما هم على ذلك بلغ الخوارج أن شريك بن الأعور قد أقبل من البصرة فى ثلاثة آلاف، فأشار المستورد على أصحابه بالرجوع من حيث جاءوا، وقال: «إنا إذا رجعنا نحو الكوفة لم يتبعنا أهل البصرة، ويرجعوا عنا فنقاتل طائفة أسهل من قتال طائفتين» . فانحاز بأصحابه إلى البيوت، وخرج من الجانب الآخر وسار ليلته، ولم يعلم الجيش بمسيرهم، وبات معقل وأصحابه يتحارسون [2] إلى الصباح، فأتاهم خبر مسيرهم. وجاء شريك، فدعاه معقل أن يسير معه، فأبى أصحاب شريك اتّباعهم [3] ، فاعتذر إليه لمخالفة أصحابه ورجع.

_ [1] المذار: بلد بين واسط والبصرة. [2] كان معقل قد بعث من يأتيه بخبر الخوارج حين لم ير سوادهم، فعاد إليه يخبره بسيرهم، فخاف معقل أن تكون مكيدة منهم ليأتوا جيشه ليلا، فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا. [3] قالوا لشريك: لا والله لا نفعل، إنما أقبلنا نحو هؤلاء لننفيهم عن أرضنا ونمنعهم من دخولها، فإذا كفانا الله مؤنتهم فإنا منصرفون إلى مصرنا، وفى أهل الكوفة ما يمنعون به بلادهم من هؤلاء الأكلب.

ودعا معقل أبا الرواغ، وأمره باتباعهم، فى ستمائة فارس، فاتبعهم، فأدركهم نحو جرجرايا مع طلوع الشمس، فحمل المستورد على أبى الروّاغ، فانهزم أصحابه وثبت فى مائة فارس وقاتلهم طويلا، ثم عطف أصحابه من كل جانب، وصدقوهم القتال، فلما رأى المستورد ذلك علم أن معقلا إن أتاهم بمن معه هلكوا، فمضى بأصحابه وعبر دجلة إلى بهرسير، وتبعهم أبو الروّاغ حتى نزل بهم إلى ساباط، فقال المستورد: هؤلاء حماة معقل وفرسانه ولو علمت أنى أسبقهم إليه بساعة لسرت إليهم فواقعته، ثم ركب بأصحابه حتّى انتهى إلى جسر ساباط، فقطعه، ووقف أبو الرواغ ينتظرهم للقتال وقد عبّأ أصحابه. وسار المستورد حتى أتى ديلمان، وبها معقل، فلما رآهم نصب رايته [ونزل] [1] وقال: يا عباد الله الأرض الأرض! فنزل معه نحو مائتى رجل، فحملت الخوارج عليهم، فاستقبلوهم بالرماح جثاة على الرّكب، فلم يقدروا عليهم، فتركوهم، وعدلوا إلى خيولهم [فحالوا بينهم وبينها] [2] وقطعوا أعنّتها فذهبت، ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه فحملوا عليهم، واشتدّ الأمر على معقل ومن معه. فبينما هم كذلك أقبل أبو الروّاغ بمن معه، وكان سبب عوده أنه أقام ينتظر عودة الخوارج إليه، فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم فرأوا الجسر مقطوعا ففرحوا بذلك ظنا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبة، فرجعوا إلى أبى الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم، وأن الجسر قد قطعوه هيبة لهم، فقال أبو الرواغ: «لعمرى ما فعلوا هذا

_ [1] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 156. [2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 216.

إلّا مكيدة، وما أراهم إلا قد سبقوكم إلى معقل حيث علموا أن فرسان أصحابه معى، وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم، فالنجاء النجاء فى الطلب» ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر، فعبر عليه، واتّبع الخوارج، فلقيه أوائل الناس منهزمين، فصاح بهم: إلىّ إلىّ: فرجعوا. إليه، وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلا يقاتلهم، وما يظنونه إلا قتيلا، فجدّ فى السير، وردّ معه من لقيه من المنهزمين، وانتهى إلى العسكر، فرأى رأية معقل منصوبة والناس يقتتلون، فحمل أبو الرواغ وأصحابه على الخوارج فأزالهم غير بعيد. ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدّم يحرّض أصحابه، فشدوا على الخوارج شدّة منكرة، ونزل المستورد ومن معه إلى الأرض ونزل أصحاب معقل أيضا، ثم اقتتلوا طويلا من النهار بالسيوف أشدّ قتال، ثم إن المستورد نادى معقلا ليبرز إليه، فبرز إليه، فمنعه أصحابه، فلم يقبل [منهم] [1] وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه، فقال أصحاب معقل له: خذ رمحك. فأبى، وأقدم على المستورد، فطعنه المستورد برمحه، فخرج السّنان من ظهره، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد، فضربه بسيفه فخالط دماغه فماتا جميعا. وكان معقل قال لأصحابه: إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمى، فلما قتل معقل أخذ عمرو الراية، وحمل هو وأصحابه

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد قال معقل لأصحابه: لا والله لا يدعونى رجل إلى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل.

على الخوارج فقتلوهم، فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة، وانكفت [1] الخوارج بعد ذلك مدّة ولاية زياد بن أبيه إلى سنة خمسين. فخرج قريب الأزدى وزحّاف الطائى بالبصرة وهما ابنا خالة، وكان زياد يومئذ بالكوفة، وسمرة بالبصرة [2] فأتى الخوارج بنى ضبيعة [3] وهم سبعون رجلا فقتلوا منهم شيخا، فاشتد زياد فى أمر الخوارج فقتلهم وأمر سمرة بذلك، فقتل منهم بشرا كثيرا، وخطب زياد على المنبر فقال: «يا أهل البصرة والله لتكفنّنى هؤلاء. أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت رجل منهم لا تأخذون العام من عطاياكم درهما» فسار الناس إليهم فقتلوهم. ثم خرج زياد بن خراش العجلى فى سنة اثنتين وخمسين فى ثلاثمائة فأتى أرض مسكن من السّواد، فسرّح إليد زياد بن أبيه خيلا عليها سعد بن حذيفة، أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه [4] وخرج رجل من طىء اسمه معاذ فى ثلاثين رجلا [5] فبعث إليه زياد من قتله وقتل أصحابه، ويقال بل حلّ لواءه واستأمن. وخرج طوّاف بن غلّاق فى سنة ثمان وخمسين بالبصرة، وكان سبب خروجه أن قوما من الخوارج بالبصرة كانوا يجتمعون إلى رجل اسمه

_ [1] انكفتوا: انصرفوا عن الخروج القتال. [2] كان معاوية قد كتب بعهد زياد على الكوفة والبصرة، فاستخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة. [3] كان بنو ضبيعة بالبصرة لهم محلة هناك سميت «ضبيعة» باسمهم. [4] ماه: قصية الكوفة، لأن «مسكن» موضع بالكوفة، وماه قصبة البلد، فارسية.، كما فى القاموس. [5] أتوا نهر عبد الرحمن بن أم الحكم، ولذلك قيل لهم «أصحاب نهر عبد الرحمن» .

حرار [1] فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم عبيد الله بن زياد فحبسهم، ثم أحضرهم، وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضا ويخلّى سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقوا، وكان طواف ممن قتل، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم، قالوا أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئنّ بالإيمان، وندم طوّاف وأصحابه، وقال أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدّية، فأبوا قبولها، وعرضوا عليهم القود، فأبوا. ولقى طوّاف الهثهاث بن ثور السدوسى، فقال له: ما ترى لنا من توبة! فقال: ما أجد لك إلا آية فى كتاب الله عزّ وجل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . [2] فدعا طوّاف أصحابه إلى الخروج على أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه فى هذه السنة، وهم سبعون رجلا من عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد، وبلغ ذلك طوّافا فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم، فقتلوا رجلا، ومضوا إلى الجلحاء [3] ، فندب ابن زياد الشرط والبخارية [4] فقاتلوهم، فانهزم الشّرط حتى دخلوا البصرة، واتبعوهم، وذلك يوم الفطر فكاثرهم الناس، فقاتلوا فقتلوا، وبقى طوّاف فى ستة نفر

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «جرار» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 287 «جدار» . [2] الآية 110 من سورة النحل. [3] الجلحاء: موضع على فرسخين من البصرة. [4] البخارية: طائفة من بخارى، سباهم عبيد الله بن زياد ونقلهم إلى البصرة، وبنى لهم فيها سكة خاصة نسبت إليهم، وهم يبلغون الألفين ويجيدون الرمى بالنشاب، ففرض لهم عبيد الله عطاء وأسكنهم تلك السكة.

ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية وغيرهما من الخوارج

وعطش فرسه، فاقتحم به الماء، فرماه البخاريّة بالنّشّاب حتّى قتلوه وأخذ فصلب، ثم دفنه أهله. ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية وغيرهما من الخوارج قال: وفى سنة ثمان وخمسين اشتدّ عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم جماعة كثيرة، منهم عروة بن أديّة وكان سبب قتله أن عبيد الله بن زياد خرج فى رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس إليه، وفيهم عروة بن أديّة وهو أخو مرداس بن أديّة، وأديّة أمهما وأبوهما، جدير [1] وهو نميمى، فأقبل عروة على زياد يعظه، فكان ممّا قال له: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [2] قال: فلما قال له ذلك ظنّ ابن زياد أنه لم يقله إلّا ومعه جماعة [3] فركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ليقتلنّك. فاختفى، فطلبه ابن زياد فأتى الكوفة، فأخذ وأتى به إلى ابن زياد فقطع يديه ورجليه وقتله [4] وقتل ابنته. وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابدا مجتهدا عظيم القدر فى الخوارج

_ [1] هكذا بالجيم يكتبه بعضهم. ويراه بعضهم بالحاء (حدير) ، وفى جمهرة أنساب العرب ص 212: «وأبوهما جرير بن عامر بن عبيد بن كعب بن ربيعة» وذكر أنهما من بنى ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. [2] الآيات 128، 126، 130 من سورة الشعراء. [3] لما رأى فيه من الجرأة. [4] لما قطعت يداه ورجلاه دعا به ابن زياد وقال له: كيف ترى قال: أرى أنك أفسدت دنياى وأفسدت آخرتك، فقتله.

وشهد صفّين مع علىّ فأنكر التحكيم [1] ، وشهد النّهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه. وكانت البثجاء امرأة من بنى يربوع- تحرّض على ابن زياد وتذكر تجبّره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التّقيّة [2] لا بأس بها فتغيبى فإن هذا الجبار قد ذكرك. فقالت: أخشى أن يلقى أحد بسببى مكروها، فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها ورماها فى السوق، فمرّ بها أبو بلال فعض على لحيته وقال: «لهذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس! ما ميتة أموتها أحبّ إلىّ من ميتة البثجاء!» . ومرّ أبو بلال ببعير قد طلى بقطران فغشى عليه، ثم أفاق فتلا: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [3] . ثم إن ابن زياد ألح فى طلب الخوارج حتى ملأ منهم السجون. وحبس أبا بلال مرداس بن أديّة [4] ، فرأى السجان عبادته، فأذن له كل ليلة فى إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلا ويعود إلى السجن مع الصبح، وكان لمرداس صديق يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة فعزم على قتلهم [إذا أصبح] [5] ، فانطلق صديق مرداس إليه وأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفا أنه لا يرجع،

_ [1] قيل: إن أبا بلال أول من قال «لا حكم إلا لله» على مذهب الخوارج يوم صفين. [2] التقية: الحذر. [3] الآية 50 فى سورة إبراهيم. [4] حبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة بن أدية. [5] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 232.

فعاد على عادته، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: بلى، قال: وكيف أتيت؟ قال: لم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب [بسببى] [1] وأصبح ابن زياد فقتلهم، فلما أحضر مرداس قام السجان- وكان ظئرا [2] لعبيد الله- فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلّى سبيله. ثم خاف من ابن زياد، فخرج فى أربعين رجلا إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ثم يردّ الباقى، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم أسلم [3] بن زرعة الكلابى، وقيل: أبو الحصين التيمى، وكان الجيش ألفى رجل، وذلك فى سنة ستين، فلما أتوه ناشدهم أبو بلال الله أن ينصرفوا عنه، فأبو ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا أتردّنا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلا من الخوارج فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدءوكم بالقتال. فشدّ الخوارج على أسلم وأصحابه شدّة رجل واحد، فهزموهم، فقدموا البصرة، فلامه ابن زياد على ذلك، وقال: «هزمك أربعون وأنت فى ألفين؟ لا خير فيك!» فقال: لأن تلومنى وأنا حىّ خير من أن تثنى علىّ وأنا ميت وكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: «أبو بلال وراءك» . فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم، فانتهوا.

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى. [2] ظئره: زوج مرضعته، والأصل فى لفظ «الظئر» أن يطلق على المرضعة لغير أولادها، ثم أطلق على زوج المرضعة. [3] ذكر ياقوت فى معجم البلدان أنه «معبد بن أسلم الكلابى» .

ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان غير ما تقدم، على حكم السنين منذ خلص له الأمر إلى أن توفى إلى رحمة الله

وقال رجل [1] من الخوارج: أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسك [2] أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا هذا ما كان من أخبار الخوارج، فلنذكر حوادث السنين. ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان غير ما تقدم، على حكم السنين منذ خلص له الأمر إلى أن توفى إلى رحمة الله سنة احدى وأربعين فى هذه السنة خلص الأمر لمعاوية بن أبى سفيان؛ بمبايعة الحسن ابن على رضى الله عنهما له كما تقدم، فسمى هذا العام «عام الجماعة» وذلك لاجتماع الناس على إمام واحد، وهو معاوية. وروى أنه لما سار الحسن رضى الله عنه عن الكوفة عرض له رجل فقال: يا مسوّد وجوه المؤمنين. فقال: لا تعذلنى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى [3] بنى أميّة ينزون على منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [4] وهو نهر فى الجنة، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ

_ [1] هو عيسى بن فاتك الخطى، أحد بنى تميم الله بن ثعلبة كما ذكره ياقوت فى معجم البلدان، وذكر سبعة أبيات. [2] آسك: بلد من نواحى الأهواز قرب أرجان. [3] فى المنام. [4] الآية الأولى من سورة الكوثر.

ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد بن عبادة

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [1] يملكها بعدك بنو أميّة، وقد خرّج هذا الحديث [2] أهل الصحة. وكانت دولة بنى أمية ألف شهر. ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد بن عبادة فى هذه السنة تم الصلح بين معاوية وقيس بن سعد، وكان قيس قد خرج على مقدمة الحسن فى اثنى عشر ألفا كما ذكرنا. وقيل: إن عبيد الله بن عباس كان على مقدمته، وكان قيس بن سعد على مقدمة عبيد الله، فلمّا علم عبيد الله ما عزم عليه الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إليه يسأل الأمان لنفسه وعلى ما أصاب من مال وغيره، فأجابه إلى ذلك، وفارق عبيد الله جنده وتركهم بغير أمير، فأمّروا عليهم قيس بن سعد، وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشرط له ولهم على ما أصابوا من الدماء والأموال، فراسله معاوية فى الدخول فى طاعته، وأرسل إليه بسجلّ وختم أسفله، وقال: اكتب فيه ما شئت فهو لك، فاشترط لنفسه ولشيعة علىّ الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يشترط مالا، فأعطاه ذلك، ودخل قيس فى طاعة معاوية.

_ [1] الآيات 1، 2، 3 من سورة القدر. [2] هذا الحديث رواه الترمذى فى تعليقات ج 12 ص 252- 253 عن محمود ابن غيلان عن أبى داود الطيالسى عن القاسم بن الفضل الحدانى عن يوسف بن سعد، ثم قال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن، والقاسم بن الفضل الحدانى هو ثقة، وثقة يحيى ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهد، ويوسف بن سعد رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه» .، ورواه ابن جرير الطبرى فى تفسيره ج 30 ص 143 وإن كان لم يرجحه. ورواه الحاكم والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وذكر الآلوسى فى تفسيره ج 30 ص 188 قول المزنى فيه: «حديث منكر» ثم تردد فى هذا القول.

ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة

ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة وفى هذه السنة استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة. وكان قد استعمل عليها عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة وقال: «استعملت عبد الله على الكوفة، وأباه بمصر، فتكون أميرا بين نابى أسد» . فعزله، واستعمل المغيرة. وبلغ عمرو بن العاص ما قاله المغيرة، فدخل على معاوية وقال: «استعملت المغيرة على الخراج، فيغتال المال، ولا تستطيع أن تأخذه منه، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتقيك» فعزله عن الخراج وأقره على الصلاة [1] . ولما ولى المغيرة استعمل كثير بن شهاب على الرّىّ، وكان يكثر سب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنبر. ذكر استعمال بسر بن أرطاة على البصرة وعزله، واستعمال عبد الله ابن عامر عليها وفى هذه السنة استعمل معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة على البصرة، وكان سبب ذلك أن الحسن لما صالح معاوية وثب حمران ابن أبان على البصرة، فأخذها وغلب عليها، فبعث إليه معاوية بسر بن أرطاة؛ وأمره بقتل بنى زياد بن أبيه، وكان زياد على

_ [1] وبعد ذلك لقى المغيرة عمرو بن العاص فقال له: أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت به فى عبد الله قال: نعم، قال: هذه بتلك.

فارس، قد أرسله عليها على بن أبى طالب رضى الله عنه كما تقدم. فلما قدم بسر البصرة خطب على منبرها فشتم عليا، ثم قال: نشدت الله رجلا يعلم أنى صادق إلّا صدّقنى أو كاذب إلّا كذبنى، فقال أبو بكرة [1] ؛ اللهم إنّا لا نعلمك إلا كاذبا! فأمر به فخنق، فقام أبو لؤلؤة الضّبىّ فرمى نفسه عليه فمنعه، فأقطعه أبو بكرة مائة جريب [2] ، وقيل لأبى بكرة: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يناشدنا الله ثم لا نصدقه. وكان معاوية قد كتب إلى زياد: أن فى يديك مالا من مال الله فأدّ ما عندك منه. فكتب إليه زياد: «أنه لم يبق عندى شىء، وقد صرفت ما كان عندى فى وجهه، واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله تعالى» . فكتب إليه معاوية أن أقبل ننظر فيما وليت، فإن استقام بيننا أمر وإلا رجعت إلى مأمنك. فامتنع زياد. فأخذ بسر أولاده الأكابر، منهم عبد الرحمن وعبيد الله وعبّاد وكتب إليه: لتقدمنّ على أمير المؤمنين أو لأقتلنّ بنيك، فكتب إليه زياد: لست بارحا مكانى حتى يحكم الله بينى وبين صاحبك، وإن قتلت ولدى فالمصير إلى الله تعالى، ومن ورائنا الحساب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ

_ [1] أبو بكرة: نفيع بن الحارث أو مسروح، وكان قد تدلى إلى النبى صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، فكناه صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، واشتهر بهذه الكنية. [2] الجريب فى المساحة: قيل: عشرة آلاف ذراع، وقيل: ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقالوا: يختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم، والجريب فى الطعام أربعة أقفزة. انظر المصباح.

ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [1] فأراد بسر قتلهم وأتاه أبو بكرة [2] فقال له: قد أخذت ولد أخى بلا ذنب، وقد صالح الحسن معاوية على ما أصاب أصحاب علىّ رضى الله عنه حيث كانوا، فليس عليهم ولا على أبيهم سبيل، وأجّله أياما حتّى يأتى بكتاب معاوية، فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة، فلما أتاه قال له: يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال! قال: وما ذاك يا أبا بكرة؟ قال: بسر يريد قتل بنى أخى زياد، فكتب إليه بتخليتهم، فأخذ كتابه وعاد، فوصل البصرة يوم الميعاد، وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس، ينتظر بهم الغروب ليقتلهم، واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرون أبا بكرة؛ إذ رفع على نجيب أو برذون يكدّه [3] ، فوقف فنزل عنه وألاح بثوبه، وكبّر وكبّر الناس معه، وأقبل يسعى على رجليه، فأدرك بسرا قبل أن يقتلهم، فدفع إليه الكتاب، فأطلقهم. وكان زياد قد تحصّن بالقلعة التى تسمّى «قلعة زياد» . وأمّا بسر فلم يطل مقامه بالبصرة، بل عزله معاوية فى بقية سنة إحدى وأربعين، وأراد أن يستعمل عتبة بن أبى سفيان [4] ، فكلمه ابن عامر وقال له: إن لى بالبصرة ودائع وأموالا، فإن لم تولّنى عليها ذهبت. فولّاه البصرة، فقدمها فى آخر سنة إحدى وأربعين، وجعل إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب

_ [1] آية 227 من سورة الشعراء. [2] سيأتى فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سمية» أن سمية أم زياد ولدت أبا بكرة- واسمه نفيع- عند الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى. [3] يكده: يستعجله. [4] أى: أراد معاوية بن أبى سفيان أن يستعمل أخاه عتبة بن أبى سفيان على البصرة.

وعلى القضاء عميرة بن يثربىّ أخا عمرو، وقد تقدم فى وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها، وقيل: المقتول عمرو [1] . واستعمل ابن عامر قيس بن الهيثم على خراسان، وكان أهل باذغيس وهراة وبوشنج [2] قد نكثوا، فسار إلى بلخ، فأخرب نوبهارها [3] ، وكان الذى تولى ذلك عطاء [4] بن السائب مولى بنى ليث، واتخذ قناطر على ثلاثة أنهار من بلخ على فرسح، فقيل: قناطر عطاء، فسأل أهلها الصلح ومراجعة الطاعة، فصالحهم قيس، وقيل: إنما صالحهم الربيع ابن زياد سنة إحدى وخمسين، ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه، واستعمل عبد الله بن خازم، فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح، فصالحهم وحمل إلى ابن عامر مالا. وفيها ولد على بن عبد الله بن العباس، وقيل: ولد سنة أربعين قبل قتل على رضى الله عنه، والأول أصح. وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة بن أبى سفيان.

_ [1] الراجح أن المقتول فى وقعة الجمل هو عمرو بن يثربى أخو عميرة بن يثربى، انظر الإصابة ج 3 ص 119 وجمهرة أنساب العرب ص 195 والقاموس. [2] بوشنج: بلدة خصيبة من نواحى هراة، وكذلك «باذغيس» من نواحى هراة. [3] نوبهار ببلخ بناء: كان أهلها يعظمونه تعظيما، وتفسير النوبهار: البهار الجديد، وكان من عاداتهم أنهم إذا بنوا بناء يهتمون به كللوه بالريحان وتوخوا لذلك أول ريحان يطلع فى ذلك الوقت، فلما بنوا ذلك البيت جعلوا عليه أول ما يظهر من الريحان، فكان البهار، فسمى «النوبهار» لذلك. [4] وكان يقال له «عطاء الخشك» لأنه أول من دخل من المسلمين باب هراة الذى يقال له «خشك» .

سنة اثنتين وأربعين

سنة اثنتين وأربعين فى هذه السنة ولّى معاوية مروان بن الحكم المدينة، وخالد بن العاص بن هشام مكة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث ابن نوفل [1] . ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان فى هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية، وكان معاوية قد كتب إليه يتهدّده، حين قتل على رضى الله عنه، فقام زياد خطيبا فقال: العجب من ابن آكلة الكبود [2] ، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب يتهدّدننى وبينى وبينه ابنا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى ابن عباس والحسن بن على رضى الله عنهم- فى سبعين ألفا، واضعى سيوفهم على عواتقهم، أما والله لئن خلص إلى ليجدنىّ أحمر ضرّابا بالسيف [3] » فلما صالح الحسن معاوية اعتصم زياد بقلعته كما تقدم ثم، كان من خبر بنيه مع بسر بن أرطاة ما ذكرناه، فأهمّ معاوية أمره، وكان زياد قد استودع عبد الرحمن بن أبى بكرة ماله، فبلغ معاوية ذلك،

_ [1] عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشى الهاشمى، وأمه هى هند بنت أبى سفيان، فكان معاوية خاله، وكان مرضيا ظاهر الصلاح. [2] كانت هند بنت عتبة- وهى أم معاوية- فى جيش المشركين يوم أحد وقد شقت عن بطن حمزة بن عبد المطلب وأخرجت كبده، وجعلت تلوكها، فلم تستطيع أن تسيغها، فلفظتها. انظر نهاية الأرب ج 17 ص 101. [3] أحمر: شديدا. ثم انظر ما يأتى قريبا فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه» .

فبعث إلى المغيرة بن شعبة لينظر فى أموال زياد، فأخذ عبد الرحمن فقال له لئن كان أبوك أساء إلىّ لقد أحسن عمك [1]- يعنى زيادا- فكتب إلى معاوية: إنى لم أجد فى يد عبد الرحمن مالا يحلّ لى أخذه. فكتب إليه معاوية: أن عذّب عبد الرحمن. فقال لعبد الرحمن: احتفظ بما فى يدك، وألقى على وجهه حريرة [2] ونضحها بالماء فغشى عليه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم خلّاه، وكتب إلى معاوية: إنى عذّبته فلم أجد عنده شيئا. ثم دخل المغيرة على معاوية فقال له [3] : ذكرت زيادا واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتى. فقال المغيرة: ما زياد هناك؟ فقال معاوية: «داهية العرب! معه أموال فارس، يدبّر الحيل، ما يؤمننى أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هم قد أعادوا الحرب جذعة!» واستكتمه معاوية ذلك، فقال المغيرة: أتأذن لى يا أمير المؤمنين فى إتيانه؟ قال: نعم وتلطّف له، فأتاه المغيرة وقال له: إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثنى إليك، ولم يكن أحد يمدّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع فخذ لنفسك قبل التّوطين فيستغنى معاوية عنك.

_ [1] كان الشهود على المغيرة عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع وشل ابن معبد وزياد، وكلهم أولاد سمية، إلا أن زيادا لم يقطع الشهادة، فسلم المغيرة من الجلد بسبب زياد. [2] تطلق «الحريرة» على ما طبخ من الدقيق والدسم، وعلى قطعة الحرير. [3] قال معاوية للمغيرة حين نظر إليه: إنما موضع سر المرء إن ... باح بالسر أخوه المنتصح فإذا بحت بسر فإلى ... ناصح يستره أولا تبح فقال: يا أمير المؤمنين إن تستودعنى تستودع ناصحا شفيقا ورعا وثيقا فما ذاك يا أمير المؤمنين قال: ذكرت زيادا.... الخ.

قال: أشر علىّ وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن. فقال المغيرة: أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه. [قال: أرى] [1] ويقضى الله. وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه. فخرج زياد من فارس نحو معاوية، ومعه المنجاب بن راشد الضبّى، وحارثة بن بدر، وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما حمل منها إلى علىّ رضى الله عنه، وما انفق منها فى الوجوه التى تحتاج إلى النفقة، وما بقى عنده وأنه مودع للمسلمين، فصدّقه معاوية فيما أنفق وفيما بقى عنده وقبضه منه، وقيل: إن زيادا لما قال لمعاوية: قد بقيت بقية من المال، وقد أودعتها [قوما] [2] فمكث معاوية يروده، فكتب زياد كتبا إلى قوم يقول: قد علمتم ما لى عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب الله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ. الآية [3] فاحتفظوا بما عندكم. وسمى فى الكتب المال الذى أقرّ به لمعاوية، وأمر رسوله أن يتعرّض لبعض من يبلغ ذلك معاوية، ففعل رسوله، وانتشر ذلك، فقال معاوية لزياد حين وقف على الكتب: أخاف أن تكون مكرت بى فصالحنى على ما شئت، فصالحه على ألفى ألف درهم، وحملها زياد إليه، واستأذنه زياد فى نزول الكوفة فأذن له، فكان المغيرة يكرّمه ويعظّمه، وكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادا وحجر ابن عدى وسليمان بن

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 135. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 136. [3] الآية 72 من سورة الأحزاب.

سنة ثلاث وأربعين

صرد وشبيب بن ربعى وابن الكوّاء [1] وابن الحمق [2] بالصلاة فى الجماعة، فكانوا يحضرون معه الصلاة [3] . وحج بالناس فى هذه السنة عنبسة بن أبى سفيان. سنة ثلاث وأربعين فيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان واستعمل عبد الله بن خازم على خراسان وعزل قيس بن الهيثم عنها [4] وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة. وفيها توفى محمد بن مسلمة الأنصارى، وعبد الله بن سلام، وعمرو بن العاص. ذكر وفاة عمرو بن العاص وشىء من أخباره واستعمال عبد الله ابن عمرو على مصر كانت وفاته بمصر يوم عيد الفطر من هذه السنة على الأصح وكان له يوم مات تسعون سنة، ودفن بالمقطّم من ناحية السّفح، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع فصلّى بالناس صلاة العيد. وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم فى الجاهلية مذكورا بذلك فيهم.

_ [1] ابن الكواء: عبد الله بن أبى أوفى، ذكره الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 162 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219. [2] عمرو بن الحمق، كذا ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 147. [3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 311: «وإنما ألزمهم ذلك لأنهم كانوا من شيعة على» . [4] انظر ما قيل فى سبب ذلك فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 160 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 218.

وكان حسن الشّعر، فمن شعره يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النّجاشىّ: إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما قضى وطرا منه وغادر سبّة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما وكان أحد الدّهاة فى أمور الدنيا المقدّمين فى الرأى، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا استضعف رجلا فى رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد. يريد خالق الأضداد. حكى أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص وهو على المنبر عن أمّه، فسأله، فقال: أمّى سلمى بنت حرملة تلقّب النابغة من بنى عنزة، ثم أحد بنى جلّان، أصابتها رماح العرب [1] فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن واثل فولدت له، فأنجبت، فإن كان جعل لك شىء فخذه. قالوا: ولما حضرته الوفاة قال: «اللهم أمرتنى فلم آتمر، وزجرتنى فلم أنزجر» ووضع يده فى موضع الغلّ ثم قال: «اللهمّ لا قوىّ فأنتصر، ولا برىء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت» . فلم يزل يردّدها حتّى مات. وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى الشافعى رضى الله عنه أنه قال. دخل ابن عباس رضى الله عنهما على عمرو بن العاص فى مرضه فسلّم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: «أصبحت وقد أصلحت من دنياى قليلا، وأفسدت من دينى كثيرا، فلو كان

_ [1] سبيت وهى من بنى جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. [2] فى الاستيعاب ج 2 ص 513.

الذى أصلحت هو الذى أفسدت، والذى أفسدت هو الذى أصلحت لفزت، ولو كان ينفعنى أن أطلب طلبت، ولو كان ينجينى أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين، فعظنى بعظة أنتفع بها يابن أخى» . فقال ابن عباس: «هيهات يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا نشاء أن تبكى إلا بكيت، كيف يؤمر برحيل من هو مقيم؟» . فقال عمرو على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطنى من رحمة ربى، اللهم إن ابن عباس يقنّطنى من رحمتك فخذ منى حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله أخذت جديدا وتعطى خلقا، قال: ما لى ولك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها. وروى [1] بسنده إلى يزيد بن أبى حبيب: أن عبد الرحمن بن شماسة حدّثه قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى، فقال له ابنه عبد الله: «لم تبكى؟ أجزعا من الموت؟» قال: لا والله ولكن لما بعده، فقال له: لقد كنت على خير، وجعل يذكّره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام. فقال له عمرو: «تركت أفضل من ذلك كله، شهادة أن لا إله إلا الله، إنى كنت على ثلاثة أطباق [2] ، ليس منها طبق إلّا عرفت نفسى فيه، كنت أوّل شىء كافرا، فكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو متّ حينئذ وجبت لى النار، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشدّ الناس حياء منه، فما ملأت عينى من رسول الله صلى الله

_ [1] فى الاستيعاب ج 2 ص 514. [2] الأطباق: المراد بها الأحوال.

سنة أربع وأربعين

عليه وسلم حياء منه، فلو متّ يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو أسلم وكان على خير ومات على خير أحواله فترجى له الجنة، ثم تلبّست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى أعلىّ أم لى؟ فإذا متّ فلا تبكينّ علىّ باكية، ولا يتبعنى مادح ولا زار، وشدّوا علىّ إزارى فإنى مخاصم، وشنّوا علىّ التراب فإن جنبى الأيمن ليس بأحقّ من جنبى الأيسر، ولا تجعلنّ فى قبرى خشبة ولا حجرا، وإذا واريتمونى فاقعدوا عندى قدر نحر جزور وتقطيعها [[1] بينكم] أستأنس بكم!» . ولما مات استعمل معاوية بعده على مصر ابنه عبد الله بن عمرو. سنة أربع وأربعين فى هذه السنة حج معاوية بالناس. وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة، وهو أول من عملها بالمدينة، وكان معاوية قد عملها بالشام لمّا ضربه الخارجى. ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة واستعمال الحارث بن عبد الله فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وسبب ذلك أنه كان كريما حليما لينّا لا يأخذ على أيدى السفهاء، ففسدت البصرة فى أيامه، فشكا ذلك إلى زياد، فقال له: جرّد [فيهم] [2] السيف، قال: إنى أكره أن أصلحهم بفساد نفسى!. فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر، فأرسل إليه

_ [1] الزيادة من الاستيعاب. [2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 162.

يستزيره، فجاء إليه، فرده إلى [1] عمله، فلما ودعه قال له معاوية: «إنى سائلك ثلاثا [فقل: هنّ لك» .] [2] قال: هنّ لك وأنا ابن أم حكيم [3] فقال: ترد علىّ عملى ولا تغضب. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى دورك بمكّة. قال قد فعلت. قال: وصلتك رحم! قال ابن عامر: «يا أمير المؤمنين إنى سائلك ثلاثا، فقل هنّ لك» . قال هنّ لك وأنا ابن هند، قال: ترد علىّ مالى بعرفة. قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لى عاملا ولا تتبع لى أثرا. قال: قد فعلت. قال: وتنكحنى ابنتك هند. قال: قد فعلت. ويقال: إن معاوية قال له: «اختر إمّا أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك وأردك إلى العمل، أو أعز لك وأسوّغك ما أصبت» . فاختار العزل وأن يسوّغه ما أصاب، فعزله، واستعمل الحارث ابن عبد الله الأزدى، وكان ابن عامر قد استعمل على خراسان، قبل مقدمه عبد الله بن أبى شيخ اليشكرى، وقيل: بل استعمل عليها طفيل بن عوف اليشكرى.

_ [1] عند الطبرى وابن الأثير «على» . [2] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219. [3] كانت أم عامر والد عبد الله هى أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم.

ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سمية

ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سميّة وفى هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، وقد ذكر عز الدين أبو الحسن على بن الأثير فى تاريخه الكامل [1] سبب ذلك وكيفيته، وابتدأ حال سميّة فقال: كانت سميّة أم زياد لدهقان زندورد [2] ، بكسكر فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى، فعالجه، فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقرّبه، ثم ولدت نافعا فلم يقرّبه أيضا، فلما نزل أبو بكرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم حين حضر [3] الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدى، وكان قد زوج سميّة من غلام له اسمه عبيد [4] ، وهو رومى، فولدت له زيادا. قال: وكان أبو سفيان بن حرب سار [5] فى الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السّلولى- وأسلم أبو مريم [6] بعد ذلك، وصحب النبى صلى الله عليه وسلم- فقال أبو سفيان لأبى مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لى بغيّا، فقال هل لك فى سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع

_ [1] ج 3 ص 219- 221. [2] زندورد: بلد قرب واسط، وكسكر: كورة صارت قصبتها واسط. [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «حصر» ... هذا وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلا بالطائف، فنادى مناديه: «من خرج إلينا من عبيدهم فهو حر» فخرج إليه نافع ونفيع- يعنى أبا بكرة وأخاه- فأعتقهما، وانظر نهاية الأرب ج 17- 337، وانظر تسمية «أبى بكرة» فيما سبق من هذا الجزء. [4] انظر خزانة الأدب ج 2 ص 517. [5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «صار» . [6] أبو مريم السلولى: مالك بن ربيعة، وهو مشهور بكنيته.

عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته سنة إحدى [1] من الهجرة. فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعرى حين ولى البصرة. ثم إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استكفى زيادا أمرا، فقام فيه مقاما مرضيا، فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمتلها، فقال عمرو بن العاص: «لله در هذا الغلام. لو كان أبوه من قريش لساق العرب الناس بعصاه» . فقال أبو سفيان وهو حاضر: والله إنى لأعرف أباه ومن وضعه فى رحم أمه. فقال له على بن أبى طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا. قال: «مهلا يا أبا سفيان، اسكت، فإنك تعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا» . وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى ابن عبّاس: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث زيادا فى إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها (وذكر كلام عمرو بن العاص ومقالة أبى سفيان وكلام علىّ رضى الله عنه بنحو ما تقدم) قال: فقال أبو سفيان: أما والله لولا خوف شخص ... يرانى يا علىّ من الأعنادى لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المقالة عن زياد وقد طالت مجاملتى ثقيفا ... وتركى فيهمو ثمر الفؤاد

_ [1] كذا جاء فى الأصل، يريد السنة الأولى من الهجرة، وهذه إحدى الروايات فى ميلاد زياد. وفى الاستيعاب وأسد الغابة: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة. وقيل: يوم بدر، وفى الطبقات: ولد عام الفتح، وهو سنة ثمان من الهجرة. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 569.

نعود إلى ما حكاه ابن الأثير قال: فلما ولى علىّ رضى الله عنه الخلافة استعمل زيادا على فارس فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، فكتب إلى زياد يتهدّده، ويعرض له بولادة أبى سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام فى الناس فقال: «العجب [1] كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد [2] ، ورأس النفاق، يخوّفنى بقصده إيّاى وبينى وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار. أما والله لو أذن لى فى لقائه لوجدنى أحمر مخشيا [3] ضرّابا بالسيف» . وبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فكتب إليه: «إنى قد ولّيتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كان من أبى سفيان فلتة من أمانى الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثا ولا تحل لك نسبا، وإن معاوية يأتى الإنسان من بين يديه ومن خلف، وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر، والسلام» .. فلما قتل علىّ رضى الله عنه وكان من أمر زياد ومصالحة معاوية ما ذكرناه، وضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وضمن له عشرين ألف درهم؛ ليقول لمعاوية: «إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا، وصالحك على ألفى ألف درهم، والله ما أرى الذى يقال إلّا حقّا» فإذا قال لك يقال: وما يقال؟ فقل: إنه ابن أبى سفيان. ففعل مصقل ذلك.

_ [1] انظر ما سبق فى «ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان» . [2] آكلة الأكباد: أمه، أكلت كبد حمزة رضى الله عنه حين قتل يوم أحد، والمراد بأكلها أنها لاكنها، انظر نهاية الأرب ج 17 ص 100- 101. [3] يخشاه الناس.

ورأى معاوية أن يستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من شهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السّلولى، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندى وطلب منى بغيّا، فقلت ليس عندى إلّا سميّة فقال: ايتنى بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما. فاستلحقه معاوية. وكان استلحاقه أول ما ردّت فيه أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر. قال [1] : وقد اعتذر الناس عن معاوية فى استلحاقه إياه، فقالوا: إن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا، منها أن الجماعة يجامعون البغىّ فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقرّ نسب كلّ ولد إلى من كان ينسب إليه من أى نكاح كان، فتوهّم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين ما استلحق فى الجاهلية والإسلام. قال أبو عمر ابن عبد البر [2] : ولما ادّعى معاوية زيادا دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم، فقال: يا معاوية لو لم تجد إلا الزّنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة، فأقبل معاوية على مروان، وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: «والله لولا حلمى وتجاوزى لعلمت أنه لا يطاق،

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221. [2] فى الاستيعاب ج 1 ص 570- 571.

ألم يبلغنى شعره فىّ وفى زياد؟» . ثم قال لمروان أسمعنيه، فقال: ألا بلّغ [1] معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتى اليدان أتغضب أن يقال: أبوك عفّ ... وترضى أن يقال: أبوك زانى؟ فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها حملت زيادا ... وصخر من سميّة غير دان قال [2] : وهذه الأبيات تروى ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ [3] الحميرى الشاعر، ومن رواها له جعل أوّلها: ألا بلّغ [4] معاوية بن صخر ... مغلغلة من الرجل اليمانى قال أبو عمر: وروى عمر بن شبّة وغيره أن ابن مفرّغ لما شفعت فيه اليمانية إلى معاوية أو ابنه يزيد، وكان قد لقى من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقى من النّكال مما يطول شرحه، فلما وصل إلى معاوية بكى وقال: «يا أمير المؤمنين ركب منّى ما لم يركب من مسلم قطّ، على غير حدث فى الإسلام ولا خلع يد من طاعة» . وكان عبيد الله ابن زياد قد أمر به فسقى دواء، ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح فى ثيابه، فقال معاوية: ألست القائل؟: ألا بلّغ معاوية بن صخر ... وذكر الأبيات. فقال ابن مفرّغ: «لا والذى عظّم حقّك ورفع قدرك يا أمير المؤمنين

_ [1] فى الاستيعاب: «أبلغ» . [2] أبو عمر ابن عبد البر. [3] سمى جده «مفرغا» لأنه راهن على أن يشرب عسا من لبن ففرغه. [4] فى الاستيعاب: «أبلغ» .

ما قلتها قط ولقد بلغنى أن عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها إلىّ» قال ألست القائل؟: شهدتّ بأنّ أمّك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع أو لست القائل أيضا!: إنّ زيّادا ونافعا وأبا ... بكرة عندى من أعجب العجب همو رجال ثلاثة خلقوا ... فى رحم أنثى ما كلّهم لأب [1] ذا قرشىّ كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربى فى أشعار قلتها لزياد وبنيه تهجوهم! اغرب لا عفا الله عنك! فقد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زيادا لم يكن شىء مما كان، اذهب فاسكن أى أرض أحببت» . فاختار الموصل. قال أبو عمر: وليزيد بن مفرّغ فى هجو زياد وبنيه- من أجل ما لقى من عبّاد بن زياد بخراسان- أشعار كثيرة منها: أعبّاد ما للّؤم عنك محوّل ... وما لك أمّ فى قريش ولا أب وقل لعبيد الله مالك والد ... بحقّ ولا يدرى امرء كيف تنسب

_ [1] جاء فى مروج الذهب ج 2 ص 57: «فى رحم أثنى مخالفى النسب» .

وقوله [1] فى زياد: فكّر ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلّا بتأمير عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش فى الجماهير قال [2] : وكان أبو بكرة أخا زياد لأمّه، فلما بلغه أن معاوية استحلقه وأنه رضى بذلك آلى يمينا ألّا يكلّمه أبدا، وقال: «هذا زنّى أمّه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله! ما يصنع بأم حبيبة زوج النبى صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة عظيمة!» . فلما حجّ زياد ودخل المدينة أرادوا الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبى بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له فى الدخول عليها، [قيل] [3] وإنه حج ولم يزرها من أجل قول أبى بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرا لم يدع النصيحة على كل حال. قالوا [4] : وكتب زياد «إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها:

_ [1] روى أن عبيد الله بن زياد قال: ما هجيت بشىء أشد على من قول ابن مفرغ، فكر ففى ذاك.... الخ البيتين. [2] أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب. [3] الزيادة من الاستيعاب. [4] ذكر هذا القول ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221.

سنة خمس وأربعين

من زياد بن أبى سفيان» وهو يريد أن تكتب إليه «إلى زياد بن أبى سفيان» فكتبت إليه «من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد» . وكان يقال لزياد قبل الاستلحاق «زياد بن أبيه» و «زياد بن أمّه» و «زياد بن سميّة» و «زياد بن عبيد الثّقفىّ» . وروى أبو عمر [1] بسنده إلى أبى عثمان النهدى قال: اشترى زياد أباه عبيدا بألف درهم فأعتقه.. فكنّا نغيظه بذلك. سنة خمس وأربعين ذكر ولاية زياد البصرة وخراسان وسجستان وما تكلم به زياد عند مقدمه ومن استعمله زياد من العمال وفى هذه السنة عزل معاوية الحارث بن عبد الله الأزدى عن البصرة وكان قد استعمله عليها فى [أوّل] [2] هذه السنة، ثم عزله، فكانت ولايته أربعة أشهر، واستعمل زيادا على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان. فقدم زياد البصرة فى آخر شهر ربيع الآخر من السنة، فدخلها والفسق فيها ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء [3] لم يحمد الله فيها (وقيل: بل حمد الله

_ [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 568. [2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] ذكر الجاحظ فى البيان والتبيين ج 2 ص 6 «أن خطباء السلف الطيب وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التى لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد البتراء» .

فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمك فينا.) أمّا بعد فإنّ الجهالة الجهلاء والضّلالة العمياء والفجر [1] الموقد لأهله النار [2] الباقى عليهم سعيرها، ما يأتيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، فيثب [3] فيها الصغير، ولا ينحاش عنها الكبير كأن لم يسمعوا نبىّ الله، ولم يقرءوا كتاب الله، ولم يعلموا [4] ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته فى الزمن السّرمدى الذى لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا [5] وسدّت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية؟ ولا تذكرون أنكم أحدثتم فى الإسلام الحدث الذى لم تسبقوا إليه (وفى نسخة [6] بعد قوله «لم تسبقوا إليه» قال: من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله والضعيفة المسكينة فى النهار المبصر) هذه المواخير [7] المنصوبة، والضعيفة المسلوبة فى النهار المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن

_ [1] فى البيان والتبيين ج 2 ص 12 «والغى» : [2] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ الطبرى ج 4 ص 165 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 222، وجاء فى البيان والتبيين ج 2 ص 62 والعقد الفريد ج 4 ص 110 «الموفى بأهله على النار» . [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى والبيان والتبيين والعقد الفريد: «ينبت» . [4] جاءت الأفعال «يسمعوا» و «يقرءوا» و «يعلموا» بالياء فى النسخة (ك) ولم تنقط أوائلها فى النسخة (ن) ، وجاءت بالتاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى والكامل والبيان والعقد. [5] أى: طمحت ببصره إليها، من قولهم «امرأة مطروفة بالرجال» إذا كانت طماحة إليهم، وقيل: طرقت عينه أى صرفتها إليها، كما فى النهاية. [6] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ولم يثبت فى النسخة (ك) . [7] قال صاحب النهاية: المواخير جمع ماخور، وهو مجلس الريبة ومجمع أهل الفسق والفساد وبيوت الخمارين.

منكم نهاة [1] تمنع الغواة عن دلج [2] الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم الدّين! تعتذرون بغير العذر وتغطّون [3] على المختلس! كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه صنع من لا يخاف عاقبة ولا يخشى [4] معادا! ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السّفهاء، فلم يزل بهم ما ترون [5] من قيامكم دونهم حتّى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا فى مكانس [6] الريب!. حرام علىّ الطعام والشراب حتّى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا! إنى رأيت هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح به أوّله: لين فى غير ضعف، وشدة فى غير جبريّة وعنف. وإنّى أقسم بالله لآخذنّ الولىّ بالولىّ والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم فى نفسه بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد [7] ، أو تستقيم لى قناتكم! إن كذبة المنبر

_ [1] النهاة: جمع الناهى، كما تكون الغواة جمع الغاوى. [2] دلج الليل: يراد به السير فى الليل، وأكثره يكون للسرقة أو الفجور. [3] فى الكامل: «تعطفون» ، وفى البيان: «تغضون» . [4] فى تاريخ الطبرى والبيان والعقد: «ولا يرجو» . [5] فى العقد «بكم ما ترون» ، وكذلك بعض نسخ البيان، وفى بعضها: «بهم ما يرون» . [6] يقال: كنس الظبى فى كناسه أو مكنسه، إذا تغيب واستنر فى بيته، قال صاحب النهاية فى شرح هذه الجملة من خطبة زياد: المكانس: جمع مكنس، مفعل من الكناس، والمعنى استتروا فى مواضع الريبة. [7] «انج سعد فقد هلك سعيد» مثل من أمثال العرب، انظر مجمع الأمثال فى حرف النون ج 2 ص 301، و «سعد» و «سعيد» ابنا ضبة بن طابخة بن الياس بن مضر، وكانا قد زوجها فى طلب إبل لأبيهما نفرت فى الليل، فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فى طلبها حتى لقيه الحارث بن كعب فقتله وأخذ يرديه، انظر مجمع الأمثال ج 1 ص 301 والفاخر ص 59.

مشهودة [1] ، فإذا تعّلقتم علىّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتى! من بيّت [2] منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إيّاى ودلج الليل، فإنى لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم فى ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإيّاى ودعوى الجاهليّة [3] ، فإنى لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق قوما حرّقناه، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا! فكفّوا عنّى أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدى ولسانى، ولا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه! وقد كانت بينى وبين أقوام إحن [4] فجعلت ذلك دبر أذنى وتحت قدمى [5] ، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته، إنّى لو علمت أن أحدكم قد قتله [6] السلّ من بغضى لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدى لى صفحته، فإذا فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على

_ [1] روى أبو على القالى فى النوادر ص 185 قول زياد فى خطبته: «ألا وإنها ليست كذبة أكثر عليها شاهدا من الله ومن المسلمين من كذبة إمام على منبر» . [2] بيت: أصيب من شخص أوقع به ليلا. [3] ما كان عليه أهل الجاهلية من التعصب القبلى الأعمى يدعو بعضهم بعضا عند الحادث فيقول: «يا لفلان» ، وفى الصحيحين وغيرهما حديث النبى صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» . [4] إحن: جمع إحنة، بمعنى حقد. [5] روى المبرد فى الكامل قول زياد: «الإمرة تذهب الحفيظة، وكانت من قوم إلى هنات جعلتها تحت قدمى ودبر أذنى» ، وقال المرصفى فى شرحه ج 4 ص 116: «دبر: معناه خلف، يريد تصاممت فلم أصغ إليه» . [6] رواية المبرد فى الكامل: «أخذه» .

أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ ومسرور بقدومنا سيبتئس [1] أيّها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة [2] ، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطاناه، ونذود عنكم بفىء الله الذى خوّلناه، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أنى مهما قصّرت عنكم [3] فإنى لا أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتانى طارقا بليل، ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبّانه، ولا مجمّرا [4] لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذى إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا [5] ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّا لكم، أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، فإذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله [6] . وايم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى!.

_ [1] ذكر المسعودى فى مروج الذهب ج 2 ص 67 أن زيادا قال: ألا رب مسرور بما لا يسره ... وآخر مجزون بما لا يضره [2] ذادة: جمع ذائد، وسيأتى الفعل، «نذود» أى: ندافع. [3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل والبيان: «عنه» . [4] تجمير الجنود: حبسهم فى أرض العدو عن العودة إلى أهلهم، وقد جاء فى وصية عمر بن الخطاب قوله: «ولا تجمرهم فى البعوث فتقطع نسلهم» . [5] كذا جاء فى البيان والتبيين، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير: «ومتى تصلحوا يصلحوا» . [6] أذلاله: طرقه ومذاهبه، فالأذلال: جمع ذل- بكسر الذال- وهو ما مهد من الطريق، قال صاحب النهاية: «ومنه خطبة زياد؛: إذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله» .

فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: «كذبت، ذاك نبىّ الله داود عليه الصلاة والسلام [1] » . فقال الأحنف: «قد قلت فأحسنت، أيّها الأمير [2] والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لا نثنى حتّى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى» . فقال زياد: صدقت. فقام أبو بلال مرداس بن أديّة وهو يقول: [3] أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [4] فأوعدنا الله خيرا ممّا أوعدتنا يا زياد [5] فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما نريد منك ومن أصحابك سبيلا حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا!. (وقيل: إنه قال: حتى نخوض إليها [6] الدماء) .

_ [1] يشير إلى قول الله تعالى فى قصة داود: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ الآية 20 من سورة ص. [2] زاد الحصرى فى زهر الآداب ج 2 ص 1025 والقالى فى النوادر ص 186 وابن قتيبة فى عيون الأخبار ج 2 ص 242: «الفرس بشده، والسيف مجده، والمرء مجده، وقد بلغ بك جدك ما ترى» . [3] عند ابن جرير والجاحظ وابن عبد ربه: يهمس وهو يقول: [4] الآيات 37، 38، 39، 40، 41 من سورة النجم. [5] ذكر القالى فى نوادره أن أبا بلال بعد أن تلا القرآن قال: «وأنت تزعم أنك تأخذ بعضنا ببعض وتقتل بعضنا ببعض» وذكر الجاحظ فى البيان والتبيين أنه قال: «وأنت تزعم أنك تأخذ البرى بالسقيم والمطيع بالعاصى والمقبل بالمدبر» فسمعه زياد. [6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «إليه» .

وقيل: إنّه لمّا قدم العراق خطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم، والحقّ أحقّ أن يتّبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم، وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقى من عدوّى، وقد قدمت عليكم، وصار العدوّ صديقا مناصحا، والصديق عدوا مكاشحا، فاشتمل كلّ امرئ على ما فى صدره، فلا يكوننّ لسانه شفرة تجرى على ودجه، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفى بيده، فإن شهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره» . ثم نزل. واستعمل على شرطته عبد الله بن حصن.. وأجّل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر، وكان يؤخر العشاء الآخرة، ثم يصلّى ويأمر رجلا فيقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتّل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أنّ إنسانا يبلغ أقصى البصرة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج فلا يرى إنسانا إلا قتله. فخرج ذات ليلة، فأخذ أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: «لا والله قدمت بحلوبة لى، وغشينى الليل، فاضطررتها إلى موضغ، وأقمت لأصبح، ولا علم لى بما كان من الأمير» . قال: أظنك والله صادقا ولكن فى قتلك صلاح الأمة. ثم أمر به فضربت عنقه. وكان زياد أول من شدّد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وجرّد السيف، وأخذ على الظّنة، وعاقب بالشّبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتّى أمن بعضهم بعضا، وحتى كان الشىء يسقط من الرجل

ذكر عمال زياد بن أبيه

أو المرأة فلا يعرض له أحد حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق، وجعل الشّرط أربعة الآف. وقيل له، إن السبيل مخوفة فقال: «لا أعانى شيئا وراء المصر حتّى أصلح المصر، فإن غلبنى فغيره أشدّ غلبة منه» . فلما ضبط المصر وأصلحه تكلّف ما وراء ذلك وأحكمه، وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس خمسمائة لا يفارقون المسجد. والله أعلم. ذكر عمال زياد بن أبيه قال: ولمّا ولى زياد استعان بعدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، منهم عمران بن حصين الخزاعى ولّاه قضاء البصرة، وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب. فأمّا عمران فاستعفاه من القضاء فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثى، ثم أخاه عاصم، ثم زرارة بن أوفى. وجعل خراسان أرباعا، فاستعمل على مرو أمير بن أحمر اليشكرى وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفى، وعلى مرو الرّود والفارياب والطّالقان قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائى، ثم عزله واستعمل الحكم بن عمرو الغفارى، وكانت له صحبته، وكان زياد قد قال لحاجبه: ادع لى الحكم (يريد الحكم بن أبى العاص الثقفى) ليوليه خراسان، فجاء بالحكم الغفارى، فقال له زياد: ما أردتك ولكن الله أرادك، فولّاه خراسان وجعل معه رجالا على جباية الخراج، منهم أسلم بن زرعة الكلابى وغيره، وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم مات، واستخلف أنس بن

سنة ست وأربعين ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

أبى أناس بن زنيم فعزله زياد، وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفى بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثى رضى الله تعالى عنه [إلى خراسان] [1] فى خمسين ألفا من البصرة والكوفة. [وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم، وكان على المدينة] [2] سنة ست وأربعين ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وفى هذه السنة مات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان قد عظم أمره عند أهل الشام ومالوا إليه لغنائه بالروم ولآثار أبيه، فخافه معاوية، فأمر ابن أثال النصرانى أن يحتال فى قتله، [ضمن له أن] [3] ويضع عنه خراجه ما عاش، ويولّيه خراج حمص فلمّا قدم عبد الرحمن من الروم دسّ إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها، فمات بحمص، فوفّى له معاوية. ثمّ قدم خالد بن عبد الرحمن المدينة، فجلس يوما إلى عروة بن الزّبير فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؛ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال، فحمل إلى معاوية فحبسه أياما وغرمه ديته، ورجع إلى المدينة فأتى عروة فقال له ما فعل ابن أثال؟ فقال: قد كفيتكه ولكن ما فعل ابن جرموز؟ (يعنى قاتل الزبير) فسكت عروة. وقد روى [4] فى خبر عبد الرحمن بن خالد أن معاوية لمّا أراد البيعة

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 170. [2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [3] الزيادة من الكامل ج 3 ص 225. [4] انظر الاستيعاب ج 2 ص 408- 409.

ليزيد خطب أهل الشام وقال: «يا أهل الشام، إنى قد كبر سنّى وقرب أجلى، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم، وإنما أنا رجل منكم، فارتؤا رأيكم» . فأصفقوا [1] واجتمعوا. وقالوا: رضينا عبد الرحمن ابن خالد. فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها فى نفسه، ثم مرض عبد الرحمن فأمر معاوية طبيبا عنده مكينا أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات. ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا، هو وغلام له، فرصدا ذلك اليهودى، فخرج ليلا من عند معاوية، ومعه قوم، فهجم عليه المهاجر فهربوا عنه فقتله المهاجر. وقد قيل [1] إن الذى قتل ابن أثال أو اليهودىّ خالد بن المهاجر بن خالد، وأن عروة بن الزبير، كان يعيّره بترك الطلب بثأر عمه، فخرج خالد ونافع مولاه من المدينة حتّى أتيا دمشق، فرصد الطبيب ليلا عند مسجد دمشق، وكان يسمر عند معاوية، فلما انتهى إليهما ومعه قوم من حشم معاوية، حملا عليهم، فانفرجوا، وضرب خالد بن المهاجر اليهودىّ فقتله، ثم انصرف إلى المدينة، وقال لعروة بن الزبير: قضى لابن سيف الله بالحقّ سيفه ... وعرّى من حمل الذّحول [2] رواحله سل ابن أثال هل ثأرت ابن خالد؟ ... فهذا ابن جرموز فهل أنت قاتله؟

_ [1] انظر الاستيعاب ج 3 ص 436- 437. [2] الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر، يقول تعرت رواحله من الثأر إذا أخذت به.... هذا وفى الاستيعاب بيت بين البيتين وهو: فإن كان حقا فهو حق أصابه ... وإن كان ظنا فهو بالظن فاعله.

سنة سبع وأربعين

وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان. سنة سبع وأربعين فى هذه السنة عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها معاوية ابن حديج وكان عثمانيا، فمرّ به عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما فقال: «يا معاوية، قد أخذت جزاءك من معاوية، قد قتلت أخى محمدا لتلى مصر، فقد وليتها» . فقال: ما قتلت محمدا إلا بما صنع بعثمان، فقال عبد الرحمن: فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان ما شاركت معاوية فيما صنع، حيث عمل عمرو بالأشعرى ما عمل، فوثبت أول الناس فبايعته. وحجّ بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة ابن أبى سفيان. سنة ثمان وأربعين فى هذه السنة استعمل زياد غالب بن فضالة الليثى على خراسان وكانت له صحبة. وحجّ بالناس مروان بن الحكم وهو يتوقّع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له.

سنة تسع وأربعين

سنة تسع وأربعين فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، فى شهر ربيع الأول، وأمّر سعيد بن العاص [1] ، فكانت ولاية مروان المدينة ثمانى سنين وشهرين، وكان على قضاء المدينة عبد الله [2] بن الحارث بن نوفل، فعزله سعيد حين ولّى، واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن. ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه، فقيل: [فى سنة تسع وأربعين، وقيل: بل مات] [3] فى شهر ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: مات فى سنة إحدى وخمسين، ودفن فى بقيع الغرقد [4] ، وصلى عليه سعيد بن العاص أمير المدينة، قدّمه الحسين للصلاة عليه، وقال له لولا أنها سنّة ما قدمتك. قال أبو عمر بن عبد البر [5] : وقد كانت عائشة رضى الله عنها أباحت له أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتها،

_ [1] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، الأموى القرشى، أبو عثمان، لزم بيته بعد مقتل عثمان بن عفان، واعتزل أيام الجمل وصفين، فلم يشهد شيئا من تلك الحروب، إلى أن انتهى الأمر إلى معاوية فعاتبه على اعتزاله، ثم ولاه المدينة، فكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولايتها. [2] سبق ذكره. [3] الزيادة من النسخة (ن) والاستيعاب ج 1 ص 374، وسقطت من النسخة (ك) . [4] بقيع الغرقد،: مقبرة المدينة المنورة، وكان هذا الموضع قديما منبت الشجر المسمى بالغرقد. [5] فى الاستيعاب ج 1 ص 374.

وكان قد سألها ذلك فى مرضه، فلمّا مات منع من ذلك مروان بن الحكم وبنو أميّة. وروى [1] أبو عمر: أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: «يا أخى إن أباك رحمه الله لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر رجاء أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، وولّاها أبا بكر، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوّف لها أيضا، فصرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشكّ أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع له، ثم نوزع حتّى جرّد السيف، وطلبها، النبوّة والخلافة [2] ، فلا أعرفنّ ما استخفّك سفهاء أهل الكوفة: فأخرجوك، وإنى قد كنت طلبت إلى عائشة إذا متّ أن تأذن لى فأدفن فى بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم، وإنى لا أدرى لعلها كان ذلك منها حياء [3] ، فإن طابت نفسها فادفنّى فى بيتها، وما أظن إلّا أن القوم سيمنعونك إذا أردت ذلك، فإن فعلوا فلا تراجعهم فى ذلك، وادفنّى فى بقيع الغرقد، فإن لى بمن فيه أسوة فلمّا مات الحسن رضى الله عنه أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها

_ [1] فى الاستيعاب ج 1 ص 376. [2] روى الشيرازى فى الألقاب عن أم سلمة رضى الله عنها، قالت: إن عليا وفاطمة والحسن والحسين دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه الخلافة. فقال: «ما كان الله ليجمع فيكم أمرين: النبوة والخلافة» . ذكره فى البيان والتعريف. [3] زاد صاحب الاستيعاب: «فإذا أنامت فاطلب ذلك إليها» .

فقالت: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان بن الحكم [1] فقال: «كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه فى المقبرة ويريدون دفن الحسن فى بيت عائشة.» . فبلغ ذلك الحسين فدخل هو ومن معه فى السلاح، واستلأم مروان فى الحديد أيضا، فبلغ ذلك أبا هريرة رضى الله عنه فقال: «والله ما هو إلّا ظلم، يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه! والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ثم انطلق إلى الحسين فكلّمه وناشده الله وقال له: «أليس قد قال أخوك: إن خفت أن يكون قتال فردّنى إلى مقبرة المسلمين؟» . فلم يزل به حتى فعل، وحمله إلى البقيع، فلم يشهده يومئذ من بنى أمية إلّا سعيد بن العاص، فقدّمه الحسين للصلاة، وقال: هى للسنة [2] . وشهدها خالد بن الوليد بن عقبة بعد أن ناشد بنى أمية أن يخلوه يشهد الجنازة فتركوه فشهد دفنه فى المقبرة، ودفن إلى جنب أمّه فاطمة رضى الله عنهما. قال [3] : وقال أبو قتادة وأبو بكر بن حفص: سمّ الحسن ابن علىّ رضى الله عنهما، سمّته أمرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندى. قال: وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها [فى ذلك، وكان لها ضرائر] [4] وأنه وعدها بخمسين ألف

_ [1] ذكر ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228 وغيره أنهم لما أرادوا دفنه فى بيت عائشة عند النبى صلى الله عليه وسلم لم يعرض لهم سعيد بن العاص، وهو الأمير على المدينة، فقام مروان بن الحكم وجمع بنى أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «السنة» . [3] أبو عمر فى الاستيعاب ج 1 ص 325. [4] الزيادة من الاستيعاب.

درهم، وأن يزوّجها من يزيد، فلما فعلت وفّى لها بالمال، وقال: حبّنا ليزيد يمنعنا من الوفاء لك بالشرط الثانى. وروى قتادة قال: دخل الحسين على أخيه الحسن رضى الله عنهما فقال: «يا أخى إنى سقيت السمّ ثلاث مرات، ولم أسق مثل هذه المرة، إنى لأضع كبدى!» . فقال الحسين: من سقاك يا أخى؟ قال: «ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ أكلهم إلى الله.» . [1] فلمّا مات ورد البريد بموته على معاوية فقال: «يا عجبا من الحسن! شرب شربة من عسل بماء رومة [2] فقضى نحبه!» . وأتى ابن عبّاس معاوية فقال له: يابن عباس احتسب الحسر لا يحزنك الله ولا يسوءك. قال: أما ما أبقاك الله يا أمير المؤمنين فلا يحزننى الله ولا يسوؤنى، فأعطاه على كلمته ألف ألف درهم وعروضا وأشياء. وقال: خذها فاقسمها على أهلك. ومات الحسن رضى الله عنه وله من السن يومئذ سبع وأربعون سنة. وقيل: ستّ وأربعون سنة. وكان رضى الله عنه وأرضاه ورعا فاضلا، دعاه ورعه وفضله إلى ترك الخلافة رغبة فيما عند الله، وقال: والله ما أحببت منذ علمت ما ينفعنى ويضّرنى أن ألى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، على أن يراق فى ذلك محجمة دم. وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.

_ [1] وجاء فى رواية أخرى قول الحسن لأخيه الحسين: «فإن كان الذى أظن فالله أشد نقمة وإن كان غيره فما أحب أن يقتل بى برىء» . [2] روقه: بئر بالمدينة.

سنة خمسين

سنة خمسين ذكر وفاة المغيرة بن شعبة فى هذه السنة توفّى المغيرة بن شعبة بن أبى عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس وهو ثقيف. وكان الطاعون قد وقع بالكوفة فهرب المغيرة منه، فلما ارتفع عاد إلى الكوفة، وطعن فمات [1] فى شعبان من السنة، وكان طوالا أعور، ذهبت عينه يوم اليرموك، وتوفّى وهو ابن سبعين سنة. وكان المغيرة من الدّهاة، روى عن الشعبى قال: كان دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة [2] ، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة، وحكى الرياشى عن الأصمعى قال: كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. ولما دفن وقف على قبره مصقلة بن هبيرة الشيبانى وقال: إنّ تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا معلاق [3] حيّة فى الوجار [4] أربد [5] لا ين ... فع منه السّليم نفث الرّاقى

_ [1] مات فى داره بالكوفة حيث كان أميرا عليها لمعاوية، وسيأتى ذكر ذلك. [2] المبادهة: المفاجأة. [3] الألد: الشديد الخصومة، والمعلاق الشديد التعلق بالخصم. [4] الوجار بالفتح والكسر، الجحر. [5] الأربد: الحية الخبيثة.

ذكر ولاية زياد الكوفة

ثم قال، أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوّة لمن آخيت. وكان المغيرة كثير الزواج، قال أبو عمر [1] : قال نافع أحصن المغيرة ثلاثمائة امرأة فى الإسلام. قال [2] : وغيره [3] يقول: ألف امرأة ولمّا حضرته الوفاة استخلف على الكوفة ابنه عروة، وقيل: استخلف جريرا، فولّى معاوية زيادا. ذكر ولاية زياد الكوفة قال [4] : ولما مات المغيرة استعمل معاوية زيادا على الكوفة، وهو أوّل من جمع له بين الكوفة والبصرة، فسار إلى الكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وبالبصرة ستة أشهر. ولمّا وصل الكوفة خطبهم، فحصب وهو على المنبر، فجلس حتّى أمسكوا، ثم دعا قوما من خاصّته فأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثم قال: ليأخذنّ كلّ رجل منكم جليسه، ولا يقولنّ لا أدرى من جليسى. ثم أمر بكرسى فوضع [5] على باب المسجد، ثم دعاهم أربعة أربعة يحلفون: ما منّا من حصبك، فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف حبسه، حتى صاروا ثلاثين، وقيل: ثمانين، فقطع أيديهم، واتخذ زياد المقصورة حين حصب.

_ [1] فى الاستيعاب ج 3 ص 389. [2] أبو عمر يرويه فى الاستيعاب عن ابن وضاح. [3] غير نافع. [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228. [5] عند ابن جرير ج 4 ص 175 «فوضع له» .

ذكر ما قصده معاوية من نقل المنبر من المدينة إلى الشام ومن قصد ذلك بعده من الأمراء

قال: وأما سمرة فإنه أكثر القتل بالبصرة لمّا استخلفه زياد عليها، قال ابن سيرين: قتل سمرة فى غيبة زياد هذه ثمانية آلاف. فقال زياد: أتخاف أن تكون قتلت بريئا؟ قال: لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت. وقال أبو السّوار العدوى: قتل سمرة من قومى فى غداة واحدة سبعة وأربعين، كلهّم قد جمع القرآن. وركب سمرة يوما، فلقيت أوائل خيله رجلا فقتلوه، فمرّ به سمرة وهو يتشحّط فى دمه، فقال: ما هذا؟ قيل: أصابه أوائل خيلك، فقال إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنّتنا. ذكر ما قصده معاوية من نقل المنبر من المدينة إلى الشام ومن قصد ذلك بعده من الأمراء فى هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهم قتلة عثمان. فطلب العصا، وهى عند سعد القرظ [1] وحرّك المنبر، فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فتركه. وقيل: أتاه جابر وأبو هريرة فقالا: يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتنقل

_ [1] سعد القرظ: صحابى كان يؤذن فى حياة الرسول وللخلفاء من بعده، وقد اشتكى إلى النبى صلى الله عليه وسلم قلة المال فى يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق، فاشترى شيئا من قرظ، فباعه، فربح فيه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأمره بلزوم ذلك، فقيل له «سعد القرظ» ، والقرظ- بفتح القاف والراء- يطلق على ورق السلم وتمر السنط.

عصاه إلى الشام فانقل المسجد، فتركه وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع. فلما ولى عبد الملك بن مروان همّ بالمنبر، فقال قبيصة بن ذؤيب أذكرك الله أن [1] لا تفعل، إن معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على منبرى آثما فليتبوأ مقعده من النار» وهو مقطع الحقوق بينهم [2] بالمدينة. فتركه عبد الملك. فلما ولى الوليد ابنه وحج همّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيّب إلى عمر بن عبد العزيز فقال: كلّم صاحبك لا يتعرّض للمسجد ولا لله والسخط له، فكلّمه عمر فتركه. فلما حجّ سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد، فقال سليمان: «ما كنت أحبّ أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟ أخذنا الدنيا فهى فى أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الاسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح!» . وفيها عزل معاوية معاوية بن حديج عن مصر، واستعمل عليها مسلمة بن مخلّد مع إفريقية [3] وكان على إفريقية عقبة بن نافع، وكان قد اختطّ قيروانها، وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيّات فدعا الله عليها، فلم يبق منها شىء إلا خرج هاربا، حتّى إن كانت السباع لتحمل أولادها، وبنى الجامع، فلما عزله معاوية عن إفريقية

_ [1] فى الكامل ج 3 ص 230 «أن تفعل» . [2] فى الكامل «وعندهم» ، وقد تبع المؤلف الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 178. [3] قال الطبرى: «فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس» .

ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى

وأضافها إلى مسلمة بن مخلّد استعمل [1] على إفريقية مولى له يقال له: «أبو المهاجر» ، فلم يزل عليها حتّى هلك معاوية. وقيل: إن عقبة بن نافع ولى إفريقية فى هذه السنة وعمّر مدينة القيروان، وكانت غيضة على ما تقدم، فدعا الله تعالى، وكان مستجاب الدعوة، ثم نادى: «أيّتها الحيّات والسّباع، إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنّا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه» . فنظر الناس إلى الدوابّ تحمل أولادها وتنتقل، فأسلم كثير من البربر، وقطع الأشجار [وأمر ببناء المدينة، فبنيت] [2] وبنى المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم، وكان دور القيروان ثلاثة آلاف باع وستمائة باع. وسنذكر إن شاء الله تعالى ذلك بما هو أبسط من هذا فى أخبار إفريقة وبلاد الغرب. ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى وفى هذه السنة توفى الحكم بن عمرو الغفارى بمرو، على أحد الأقوال، وله صحبة، وكان زياد قد كتب [3] إليه: «إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أصطفى له الصّفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة» . فكتب إليه الحكم: «بلغنى ما أمر به أمير المؤمنين، وإنى وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل له

_ [1] عبارة الطبرى وابن الأثير: «ولى مسلمة بن مخلد مولى له يقال له أبو المهاجر افريقيه» . [2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 230 حيث نقل المؤلف. [3] كتب إليه بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل.

سنة احدى وخمسين

فرجا ومخرجا، والسلام عليك» . ثم قال للناس: اغدوا على أعطياتكم وما لكم، فقسمه بينهم [1] ، ثم قال: اللهم إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك. فمات، واستخلف لمّا حضرته الوفاة أنس بن أبى أناس. وحج بالناس فى هذه السنة معاوية، وقيل: بل حج ابنه يزيد. وفيها توفى عثمان بن أبى العاص الثقفى، وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، وأبو موسى الأشعرى، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وتوفى غيرهم من الصحابة [2] رضى الله عنهم. سنة احدى وخمسين فى هذه السنة استعمل زياد بن أبيه الربيع بن زياد الحارثى على خراسان بعد وفاة الحكم، وكان الحكم قد استخلف أنس بن أبى أناس كما ذكرنا فعزله زياد، وولى خليد بن عبد الله الحنفى، ثم عزله، وولى الربيع فى أول سنة إحدى وخمسين، وسير معه خمسين ألفا بعيالهم من أهل الكوفة والبصرة، منهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة، ولهما صحبة، فسكنوا خراسان، فلمّا قدمها غزا بلخ ففتحها صلحا، وكانت قد أغلقت بعد ما صالحهم الأحنف، وفتح قهستان عنوة وقتل من بناحيتها من الأتراك، وبقى منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم فى لايته. والله ولى التوفيق.

_ [1] أى: قسم بينهم ما غنموه من الغنائم مع عزله مقدار الخمس. [2] ممن توفى فى هذه السنة سعد بن أبى وقاص- على أحد الأقوال- وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعقيل بن أبى طالب ودحية بن خليفة الكلبى وزيد بن خالد الجهنى ومدلاج ابن عمرو السلمى.

ذكر مقتل حجر بن عدى وعمرو بن الحمق وأصحابهما

ذكر مقتل حجر بن عدى وعمرو بن الحمق وأصحابهما وفى هذه السنة كان مقتل حجر بن عدى وأصحابه، وسبب ذلك أن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة، أمر بشتم علىّ رضى الله عنه وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له وعيب أصحاب على، فأقام المغيرة على الكوفة وهو أحسن الناس سيرة، غير أنه لا يدع شتم علىّ والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فلما سمع ذلك حجر بن عدىّ قال: بل إياكم قد ذمّ الله ولعن! ثم قام فقال: أنا أشهد أن من تذمّون أحقّ بالفضل، ومن تزكّون أولى بالذم! فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكفّ عنه. فلما كان فى آخر إمارته قال فى علىّ وعثمان ما كان يقول، فقام حجر فصاح بالمغيرة صيحة سمعها كلّ من فى المسجد، وقال له: «مر لنا أيّها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا، وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين» . فقام أكثر من ثلثى الناس يقولون: صدق حجر وبرّ، مر لنا بأرزاقنا! فنزل المغيرة ودخل القصر، فجاءه أصحابه وقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك فى سلطانك؟ فقال لهم: «قد قتلته، سيأتى بعدى أمير يحسبه مثلى، فيصنع به ما ترونه، فيقتله، إنى قد قرب أجلى، ولا أحبّ أن أقتل خيار أهل هذه المصر فيسعد وأشقى، ويعز فى الدنيا معاوية ويشقى فى الآخرة المغيرة! [1] » ثمّ توفّى المغيرة [2] .

_ [1] جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 189 زيادة قول المغيرة: «ولكنى قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم: وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم حتى يفرق بينى وبينهم الموت. [2] ذكر ابن جرير أن المغيرة ولى الكوفة سنة 41 وتوفى سنة 51.

وولّى زياد، فقام فى الناس فخطبهم عند قدومه فترحّم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة. ورجع زياد إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علىّ رضى الله عنه، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث. فشخص إلى الكوفة، وصعد [1] المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وحجر جالس، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ غبّ البغى والغىّ وخيم، إن هؤلاء جمّوا فأشروا [2] ، وأمنونى فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشىء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل امّك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان [3] !» وأرسل إلى حجر يدعوه وهو فى ناحية المسجد، فأتاه الرسول يدعوه إليه، فقال أصحابه، لا يأتيه ولا كرامة! فرجع الرسول فأخبر زيادا، فأمر صاحب شرطته- وهو شدّاد بن الهيثم الهلالىّ- أن يبعث إليه جماعة، ففعل، فسبّهم أصحاب حجر فرجعوا فأخبروا زيادا.

_ [1] وقد لبس قباء سندس ومطرف خز أخضر، وفرق شعره. [2] جموا: استراحوا. وأشروا: بطروا وطغوا. [3] «سقط العشاء بك على سرحان» مثل عربى يضرب فى طلب الحاجة الذى يؤدى صاحبها إلى التلف، قيل: إن أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء فوقع على ذئب فأكله، و «السرحان» يأتى بمعنى الذئب، وقيل: «سرحان» اسم رجل فاتك يتقيه الناس فقال رجل: والله لأرعين إبلى هذا الوادى ولا أخاف سرحان، فهجم عليه سرحان وقتله وأخذ إبله.

فجمع أهل الكوفة وقال: «تشجّون بيد وتأسون بأخرى [1] ، أبدانكم معى وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم [2] ، والله لتظهرنّ لى براءتكم، أو لآتينكّم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم [3] » . فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأى إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كلّ رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله. ففعلوا ذلك، وأقاموا أكثر أصحابه عنه. وقال [4] زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتنى به، وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف [5] حتى تأتونى به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابتهم، فحمل عليهم، فقال أبو العمّرطة الكندى لحجر: «إنه ليس معك من معه سيف غيرى، وما يغنى عنك سيفى؟ قم فالحق بأهلك يمنعك قومك» . وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر، فغشيهم أصحاب زياد، وضرب رجل رأس عمرو ابن الحمق بعمود فوقع، وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج، وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة، وضرب بعض الشّرط يد عائد [6] بن حملة التميمى وكسر نابه، فأخذ عمودا

_ [1] مثل عربى، قال الزمخشرى فى أساس البلاغة: «فلان يشج مرة ويأسو أخرى، إذا أخطأ وأصاب» ، وقال الميدانى فى مجمع الأمثال: «يشج ويأسو: يضرب لمن يصيب فى التدبير مرة ويخطىء مرة، قال الشاعر: إنى لأكثر مما سمتنى عجبا ... يد تشج وأخرى منك تأسونى [2] الدحس: الإفساد والدس. [3] الأود: الاعوجاج، والصعر: الميل بالخد تهاونا واستكبارا. [4] فى تاريخ ابن جرير: «لما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه قال ... » . [5] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ج 3 ص 334، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 191 «وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق ثم يشدوا بها عليهم» ، وهذا هو المناسب لما يأتى. [6] فى الأصل «عامر» ، والتصويب من الكامل وغيره.

من بعض الشّرط فقاتل به، وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة، وأتى حجر ببغلته فقال له أبو العمرّطة: اركب فقد قتلتنا ونفسك. وحمله حتى أركبه، وركب أبو العمرطة فرسه، ولحقه يزيد بن ظريف المسلىّ فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه، وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط. فكان ذلك السيف أول سيف ضرب به فى الكوفة فى اختلاف بين الناس. ومضى حجر وأبو العمرّطة إلى دار حجر، واجتمع إليهما ناس كثير، ولم يأته من كندة كثير أحد، ثم اختفى حجر، وتنقّل من مكان إلى آخر، والطلب خلفه، حتى أتى الأزد، واختفى عند ربيعة بن ناجد. فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث، وقال له: والله لتأتينّى به أو لأقطعنّ كل نخلة لك، وأهدم دورك، ثم أقطعك إربا إربا، فاستمهله، فأمهله ثلاثا، وأقام حجر ببيت ربيعة يوما وليلة، فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له: ليأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة، منهم جرير ابن عبد الله، وحجر بن زيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له أن يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: «مرحبا أبا عبد الرحمن، حرب أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس! على أهلها تجنى براقش [1] » . فقال حجر: «ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة،

_ [1] براقش: كلبة سمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت، فدلت العدو على أصحابها بنباحها، فاستباحهم العدو وأوقع بهم، فضرب مثلا لكل من يعمل عملا يرجع ضرره إليه.

وإنى على بيعتى» . فأمر به إلى السجن، فلما ولى قال زياد: والله لأحرّضنّ على قطع خيط رقبته.. وطلب أصحابه. فخرج عمرو بن الحمق حتّى أتى الموصل ومعه رفاعة بن شدّاد، فاختيفا بجبل هناك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن ابن [عبد الله] [1] عثمان الثقفى، ويعرف بابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية [2] ؛ فسار إليهما فخرجا إليه، وكان عمرو قد استسقى بطنه، فأمسك، وركب رفاعة فرسه وحمل على القوم، فأفرجوا له، فنجا، وكتب عامل الموصل إلى معاوية بخبر عمرو بن الحمق، فكتب إليه معاوية: «إنه يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص [3] معه، فاطعنه كما طعن عثمان» . فطعنه فمات فى الأولى منها أو الثانية. وجدّ زيّاد فى طلب أصحاب حجر، فهربوا منه، وأخذ من قدر عليه منهم، فاجتمع له اثنا عشر رجلا فى السجن. ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ، وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبى موسى على ربع مذحج وأسد، فشهد هؤلاء أن حجر بن عدى جمع الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حربه، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا فى آل أبى طالب،

_ [1] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 4 ص 197 وانظر ترجمة عبد الرحمن فى الإصابة ج 3 ص 70 وترجمة أبيه عبد الله فى الإصابة ج 2 ص 344، والذى ذكره ابن جرير أن الذى سار إلى ابن الحمق ورفاعة هو عبد الله بن أبى بلتعة وبعد أن قبض على عمرو بن الحمق بعث به إلى عبد الرحمن الثقفى عامل البصرة. [2] لأن «أم الحكم» بنت أبى سفيان. [3] المشاقص: جمع مشقص، بكسر الميم: السهم العريض، أو النصل العريض أو الطويل من كل منهما.

وأنه وثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبى تراب [1] والترحّم عليه والبراءة من عدوه وأهل حزبه، وشهدوا أن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه على مثل رأيه وأمره. ونظر زياد فى شهادة الشهود فقال: إنى أحب أن يكونوا أكثر من أربعة، فدعا الناس ليشهدوا فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة ابن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبى معيط، وعمر بن سعد بن أبى وقّاص وغيرهم [2] . وكتب فى الشهود شريح بن الحارث القاضى وشريح بن هانىء، فكان شريح بن هانىء يقول: ما شهدت [3] . ثم دفع زياد حجر بن عدى الكندى وأصحابه (وهم الأرقم بن عبد الله الكندى، وشريك بن شدّاد الحضرمى، وصيفى بن فسيل الشيبانى، وقبيصة بن ضبيعة العبسى، وكريم بن عفيف الخثعمى وعاصم بن عوف البجلى، وورقاء بن سمى البجلى، وكدام بن حيّان، وعبد الرحمن بن حسان؛ العنزيان التميميان، ومحرز بن شهاب التميمى، وعبد الله بن حويّة السعدى التميمى) إلى وائل ابن حجر الحضرمى وكثير بن شهاب، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام، فلحقهم شريح بن هانئ بعد مسيرهم، وأعطى وائلا كتابا وقال: أبلغه أمير المؤمنين.

_ [1] أبو تراب: كنية على بن أبى طالب كرم الله وجهه. [2] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 200. [3] وكان شريح القاضى يقول: سألنى عنه فأخبرت أنه كان صواما قواما!

فساروا حتّى انتهوا إلى مرج عذراء [1] بالقرب من دمشق، وأتبعهم زياد برجلين وهما عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمدانى، فكملوا أربعة عشر رجلا، فلما انتهوا إلى مرج عذراء بعث معاوية إلى وائل بن حجر، وكثير بن شهاب فأدخلهما، وأخذ كتابهما فقرأه، ثم قرأ كتاب شريح فإذا فيه: «بلغنى أن زيادا كتب شهادتى، وإن شهادتى على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه» . فقال معاوية: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم. فقام يزيد بن أسد البجلى فاستوهبه ابنى عمه وهما عاصم وورقاء، وكان جرير بن عبد الله البجلى قد كتب بتزكيتهما وبراءتهما [2] فأطلقهما معاوية، وشفع وائل بن حجر فى الأرقم فتركه له، وشفع ابن الأعور السّلمى فى عتبة فتركه له، وشفع حمرة [3] بن مالك الهمدانى فى سعد بن تمران فوهبه له، وشفع حبيب بن مسلمة فى عبد الله بن حوية فتركه له، وقام مالك بن هبيرة السّكونى، فقال: دع لى ابن عمى حجرا، فقال: «هو رأس القوم، وأخاف إن خلّيت

_ [1] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 402: «انتهوا بهم إلى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا» . [2] كتب جرير بن عبد الله البجلى الصحابى: «إن امرأين من قومى من أهل الجماعة والرأى الحسن سعى بهما ساع ظنين إلى زياد، فبعث بهما فى النفر الكوفيين الذين وجه بهم زياد إلى أمير المؤمنين، وهما ممن لا يحدث حديثا فى الإسلام ولا بنيا على الخليفة، فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين» . [3] «حمرة» بضم الحاء وبراء مهملة، ابن مالك بن ذى المشعار بن مالك بن منبه الهمدانى، ووقع فى المخطوطة «حمزة» .

سبيله أن يفسد علىّ مصره، فأحتاج أن أشخصك إليه بالعراق!» فقال: «والله ما أنصفتنى يا معاوية! قاتلت معك ابن عمك يوم صفّين حتّى ظفرت وعلا كعبك، ولم تخف الدوائر، ثم سألتك ابن عمى فمنعتنى إياه» . ثم انصرف فجلس فى بيته. فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعى، والحصين بن عبد الله الكلابى وأبا شريف البدّى إلى حجر وأصحابه؛ ليقتلوا من أمروا بقتله، فأتوهم عند المساء، فلما رأى الخثعمى [1] أحدهم أعور [2] قال: يقتل نصفنا ويترك نصفنا! فكان كذلك [3] ، وعرضوا عليهم قبل القتل البراءة من علىّ ولعنه ويتركوهم، فامتنعوا من ذلك، فحفرت القبور وأحضرت الأكفان. فقام حجر بن عدىّ وأصحابه يصلّون عامّة الليل، فلما كان من الغد قدّموا للقتل، فقال لهم حجر: اتركونى حتى أتوضأ وأصلى فإنى ما توضأت إلّا صلّيت. فتركوه، فصلّى ثم انصرف، وقال: والله ما صلّيت صلاة قطّ أخفّ منها، ولولا أن تظنوا بى جزعا من الموت لاستكثرت منها. ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتمونى بها إنّى لأول فارس من المسلمين هلك فى واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها» . ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف، فارتعد، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ

_ [1] الخشعمى: كريم بن عفيف. [2] الأعور: هدبة بن فياض القضاعى من بنى سلامان بن سعد. [3] جاء رسول معاوية بتخلية ستة وبقتل ثمانية.

من صاحبك وندعك. فقال: «ومالى لا أجزع وأرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا. وإنى والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب» . فقتلوه وقتلوا خمسة [1] . فقال عبد الرحمن بن حسان- وكريم الخثعمى: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول فى هذا الرجل مثل مقالته. فاستأذنوا معاوية فيهما، فأذن بإحضارهما، فلما دخلوا عليه قال كريم: «الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسئول عما أردت بسفك دمائنا. فقال: ما تقول فى علىّ؟ قال: أقول فيه قولك. قال: أتبرأ من دينه الذى يدين الله به؟ فسكت، وقام شمر ابن عبد الله من بنى قحافه بن خثعم، فاستوهبه إيّاه، فوهبه له على ألّا يدخل الكوفة. ثم قال لعبد الرحمن: ما تقول فى علىّ يا أخا ربيعة؟ قال: دعنى لا تسألنى فهو خير لك. قال: والله لا أدعك. قال: «أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس رضى الله عنه» . قال: فما تقول فى عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وغلّق أبواب الحق. قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادى. (يعنى ليشفعوا فيه) فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة، فدفنه حيا. وكان عدة من قتل سبعة وهم: حجر بن عدى، وشريك بن

_ [1] الخمسة الذين قتلوا مع حجر بن عدى هم: شريك وصيق وقبيصة وكدام ومحرز، فإذا عد حجر بن عدى منهم كأنه عدهم ستة كما عدهم ابن جرير الطبرى، وسيأتى قريبا ذكر السابع.

شدّاد، وصيفى بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسّان الذى دفن حيا. قال: وأما مالك بن هبيرة السّكونى حين لم يشفّعه معاوية فى حجر، فإنه جمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلّص حجرا وأصحابه، فلقيه قتلتهم، فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلّص حجرا، فقال لهم: ما وراءكم؟ قالوا: قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين. فسكت وسار إلى عذراء فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم، فأرسل الخيل فى قتلتهم فلم يدركوهم. ودخلوا على معاوية فأخبروه، فقال لهم: إنما هى حرارة يجدها فى نفسه، فكأنها قد طفئت. وعاد مالك. إلى بيته ولم يأت معاوية، فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم، وقال: «ما منعنى أن أشفّعك إلّا خوف أن تعيدوا لنا حربا، فيكون فى ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر» . فأخذها وطابت نفسه. قال [1] : ولما بلغ الحسن البصرىّ قتل حجر وأصحابه قال: أصلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال: حجوهم [2] وربّ الكعبة!» . قال: ولمّا بلغ خبر حجر عائشة رضى الله عنها، أرسلت عبد الرحمن ابن الحارث إلى معاوية فيه وفى أصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبى سفيان؟ قال: «حين غاب عنّى مثلك من حلماء قومى، وحمّلنى ابن سميّة فاحتملت!» .

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 242. [2] حجوهم: غلبوهم بالحجة.

وقالت عائشة: «لولا أنّا لم نغيّر شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشدّ منه لغيّرنا قتل حجر! أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجّاجا معتمرا!» . وقال الحسن البصرى رحمه الله: «أربع خصال كنّ فى معاوية، لو لم تكن فيه إلّا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه [1] على هذه الأمّة بالسيف، حتى أخذ الأمر عن غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيرا خمّيرا يلبس الحرير ويضرب بالطّنابير، وادّعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر!» . قيل: وكان الناس يقولون: أول ذلّ دخل الكوفة موت الحسن ابن على، وقتل حجر بن عدىّ، ودعوة زياد. وقالت هند [2] بنت زيد الأنصارية ترثى حجرا وكانت تتشيع. ترفّع أيّها القمر المنير ... تبصّر هل ترى حجرا يسير يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبّرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق [3] والسّدير وأصبحت البلاد له محولا [4] ... كأن لم يحيها مزن مطير

_ [1] انتزاء: افتعال من النزو، وهو تسرع الإنسان إلى الشر ووثبه. [2] فى الأصل «زينبة» والتصويب من الكامل وغيره. [3] الخورنق: نهر بالكوفة، والسدير: نهر بناحية الحيرة، والمشهور أنها قصران عظيمان بالحيرة. [4] المحول جمع محل بمعنى القحط.

ألا يا حجر حجر بنى عدىّ ... تلقّتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أردى [1] عديّا ... وشيخا فى دمشق له زئير فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير وقد قيل فى قتل حجر غير ما تقدم، وهو أن زيادا خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة، فقال له حجر بن عدى: الصلاة. فمضى فى خطبته فقال له: الصلاة. فمضى فى خطبته، فلما خشى حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كفّ من حصى، وقال إلى الصلاة وقام الناس معه، فلما رأى زياد ذلك نزل فصلّى بالناس، وكتب إلى معاوية وكبر [2] عليه، فكتب إليه معاوية ليشدّه فى الحديد ويرسله إليه، فلمّا أراد أخذه قام قومه ليمنعوه، فقال حجر: لا ولكن سمعا وطاعة. فشدّ فى الحديد، وحمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: «أأمير المؤمنين أنا؟ والله لأقتلنّك [3] ولا أستقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه!» . فقال حجر للذين يلون أمره: دعونى حتى أصلى ركعتين. فقالوا: فصلّى ركعتين خفّف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بى غير الذى أردت لأطلتهما، وقال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عنى حديدا ولا تغسلوا عنى دما، فإنى ملاق معاوية غدا على الجادّة [4] !» . وضربت عنقه..

_ [1] أردى: أهلك. [2] «كبر» كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند الطبرى وابن الأثير «كثر» . [3] فى الكامل وتاريخ الطبرى: لا أقيلك. [4] الجادة: معظم الطريق ووسطه، والمراد طريق الحساب بين يدى الله تعالى.

سنة اثنتين وخمسين

قال [1] فلقيت عائشة معاوية فقالت: أين كان حلمك عن حجر؟ فقال: لم يحضرنى رشد! وقال ابن سيرين: بلغنا أنّ معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول: يومى منك يا حجر طويل!. وحج بالناس فى هذه السنه يزيد بن معاوية سنة اثنتين وخمسين كان فيها من الغزاة وأمر الخوارج ما قدمنا ذكره. وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص. سنة ثلاث وخمسين فى هذه السنة توفى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما، على أحد الأقوال، وقيل بعد ذلك [2] . ذكر وفاة زياد بن أبيه كانت وفاته بالكوفة يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين، واختلف فى مولده، فقيل: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة وقيل ولد يوم بدر. وقال المدائنى: ولد عام التاريخ. وكان يكنى «أبا المغيرة» حكاه أبو عمر [3] قال: وليست له صحبة ولا رواية، قال: وكان رجلا عاقلا فى دنياه، داهية، خطيبا، له قدر وجلالة عند أهل الدنيا.

_ [1] محمد بن سيرين. [2] انظر ما يأتى فى أواخر «ذكر مسير معاوية إلى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز» . [3] فى الاستيعاب ج 1 ص 567.

قال أبو جعفر الطبرى [1] رحمه الله: وكان زياد كتب إلى معاوية: «إنى قد ضبطت لك العراق بشمالى، ويمينى فارغة، فاشغلها بالحجاز» . ففعل. فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله ابن عمر بن الخطاب! فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه. فاستقبل القبلة واستقبلوها، فدعوا ودعا، وكان من دعائه أن قال: اللهم اكفنا يمين زياد! فخرجت طاعونة على إصبع يمينه، فمات منها فلما حضرته الوفاة دعا شريحا القاضى فقال: قد حدث بى ما ترى، وقد أمرت بقطعها فأشر على. فقال شريح: إنى أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم، وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون فى الأجل تأخير، فتعيش أجذم ويعيّر ولدك» فقال: لا أبيت والطاعون فى سجاف [2] واحد [3] ، وخرج شريح من عنده فسأله الناس، فأخبرهم فلاموه، وقالوا: هلا أشرت بقطها؟ فقال: «المستشار مؤتمن [4] » . وقيل أراد زياد قطعها، فلمّا رأى النار والمكاوى جزع وتركها وقيل: تركها لما أشار عليه شريح. ولمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: هلّا هيأت لك ستين ثوبا أكفنك بها، فقال: يا بنّى قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه أو سلب سريع!

_ [1] فى تاريخه ج 4 ص 214. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، والسجاف: السر، وجاء فى النسخة (ن) «فى لحاف» كما عند الطبرى ج 4 ص 215. وابن الأثير ج 3 ص 245. [3] جاء فى رواية ابن جرير الطبرى: «فعزم أن يفعل، فلما نظر إلى النار والمكاوى جزع وترك ذلك» . وانظر ما سيأتى قريبا. [4] «المستشار مؤتمن» حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعبارة ابن جرير هنا: «فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن» .

فمات ودفن بالثّويّة إلى جانب الكوفة، وهو موضع فيه مقبرة الكوفة. فلما بلغ موته ابن عمر قال: «اذهب ابن سميّة! لا الآخرة أدركت، ولا الدنيا أبقيت عليك!» . قال: وكان زياد فيه حمرة، وفى عينه اليمنى انكسار، أبيض اللحية مخروطها، عليه قميص ربما رقّعه. وفيها مات الربيع بن زياد الحارثى عامل خراسان قبل وفاة زياد، وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدى، حتى إنه قال: «لا تزال العرب تقتل بعده صبرا [1] ! ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبرا، ولكنها أقرّت فذلّت!» ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: «أيها الناس، إنى قد مللت الحياة، وإنّى داع بدعوة فأمّنوا» . ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهمّ إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك عاجلا! وأمّن الناس، ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط، وحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله، ومات من يومه، ثم مات ابنه بعده بشهرين، واستخلف خليد بن پربوع [2] الحنفى، فأقرّه زياد، ولما مات زياد كان على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، فأقرّ معاوية سمرة على البصرة ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة أشهر ثم عزله، فقال سمرة: «لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذبنى أبدا!» . وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.

_ [1] جاء فى المصباح المنير: «كل ذى روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبرا» . [2] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 245، 246، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 217 «عبد الله» .

سنة اربع وخمسين ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان

سنة اربع وخمسين ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان فى هذه السنة عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان بن الحكم. وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلّها فيجعلها صافية [1] ويقبض منه [2] فدك، وكان وهبها له، فراجعه سعيد فى ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولّى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد وهدم داره فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم دارى؟ قال: نعم كتب إلىّ أمير المؤمنين ولو كتب إليك فى هدم دارى لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل: قال: بلى والله [3] قال: كلّا. وقال سعيد لغلامه: ائتنى بكتابى معاوية، فجاء بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل، ولم تعلمنى! فقال سعيد: ما كنت لأمنّ عليك وإنما أراد معاوية ليحرّض بيننا! فقال مروان: والله أنت خير منى! وعاد ولم يهدم داره. وكتب سعيد إلى معاوية: «العجب لما صنع أمير المؤمنين بنا فى قرابتنا، إنه يضغن بعضنا على بعض، فأمير المؤمنين فى حلمه وصبره

_ [1] الصافية: ما يعود لبيت المال من الأملاك والأراضى. [2] فدك: بلدة قريبة من خيبر، مما أفاء الله على رسوله من اليهود بعد جلائهم. [3] زاد ابن جرير فى قول مروان: «لو كتب إليك لهدمتها» .

ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان ومسيره إلى جبال بخارى

على ما يكره من الأخبثين وعفوه، وإدخاله القطيعة بيننا والشّحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فو الله لو لم نكن بنى أب واحد إلّا لما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم، وباجتماع كلمتنا لكان حقّا عليك أن ترعى ذلك!» فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصّل، وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده. وقدم سعيد على معاوية فسأله عن مروان فأثنى عليه خيرا. وفى هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان ستة أشهر. ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان ومسيره إلى جبال بخارى وفى هذه السنة استعمل معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان وسبب ذلك أنه قدم عليه بعد وفاة أبيه، فسأله معاوية عن عمال أبيه، فأخبره بهم، فقال: لو استعملك أبوك لاستعملتك. فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها لى أحد بعدك «لو استعملك أبوك وعمّك استعملتك» . فولاه خراسان وكان عمره خمسا وعشرين سنة. فسار إليها، وقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أوّل من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى ونسف وبيكند، وهى من بخارى، ومن ثمّ أصاب البخارية وغنم منهم غنائم كثيرة، ولما لقى الترك وهزمهم، كان مع ملكهم زوجته، فأعجلوها عن لبس

سنة خمس وخمسين ذكر ولاية عبيد الله بن زياد على البصرة

خفيها، فلبست أحدهما وبقى الآخر، فأخذه المسلمون [فقوّم] [1] بمائتى ألف درهم. وظهر منه بأس شديد وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم [وكان على المدينة] [2] وكان على الكوفة عبد الله بن خالد، وقيل: الضحاك بن قيس وعلى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، والله أعلم. سنة خمس وخمسين ذكر ولاية عبيد الله بن زياد على البصرة فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة، وولّاها عبيد الله بن زياد. وسبب ذلك أن عبد الله خطب على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّه، فقطع يده، فأتاه بنو ضبّة وقالوا: «إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعمّ، فاكتب لنا كتابا إلى أمير المؤمنين، يخرج به أحدنا إليه، تخبره أنك قطعته على شبهة وأمر لم يصح» فكتب لهم، فلما كان رأس السنة توجّه عبد الله إلى معاوية، ووافاه الصنبّيون بالكتاب، وادّعوا أنه قطع صاحبهم ظلما، فلما رأى معاوية الكتاب قال: «أمّا القود من عمّالى فلا سبيل إليه، ولكنّى أدى صاحبكم من بيت المال» . وعزل عبد الله عن البصرة، واستعمل ابن زياد عليها، فولى ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة الكلابى.

_ [1] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .

سنة ست وخمسين ذكر البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد

وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة، وولّاها الضحاك ابن قيس، وقيل: كان قبل ذلك كما تقدم. وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وهو أمير المدينة. سنة ست وخمسين ذكر البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد فى هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية العهد، قال [1] : وكان ابتداء ذلك وأوّله أن معاوية لمّا أراد أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، ويستعمل سعيد بن العاص عليها، فبلغه ذلك، فشخص إلى معاوية ليستعفيه حتّى تظهر للناس كراهيته للولاية، فجاء إلى يزيد وقال له: «إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش، وإنّما بقى أبناؤهم، وأنت من أفضلهم، وأحسنهم رأيا، وأعلمهم بالسياسة، وإنى لا أدرى ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة» . قال: أو ترى ذلك يتم؟ قال: نعم فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فلما حضر المغيرة عند معاوية قال له معاوية: ما يقول يزيد؟ فقال: «يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء، والاختلاف بعد عثمان، وفى يزيد منك خلف، فاعقد البيعة له، فإن حدث بك حدث كان كهفا للناس، ولا تسفك الدماء ولا تكون فتنة، قال: ومن لى بهذا؟ قال: «أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين من يخالفك» . قال: «فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه فى ذلك وترى ونرى» .

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 249.

فودّعه ورجع إلى أصحابه فقال: لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد [1] الغاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ورجع المغيرة، فلمّا قدم الكوفة ذاكر من يثق إليه من شيعة معاوية فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة، ويقال أكثر، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى، فقدموا على معاوية وزينوا له بيعة يزيد، ودعوه إلى عقدها، فقال: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثم قال لموسى، بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفا. فقال: لقد هان عليهم دينهم. وقيل: أرسل أربعين رجلا، وجعل عليهم ابنه عروة بن المغيرة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصنا إليك النظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: «يا أمير المؤمنين، كبرت سنّك، وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علما وحدّ لنا حدّا ننتهى إليه» . فقال أشيروا على. فقالوا: نشير بيزيد بن أمير المؤمنين، فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذاك رأيكم؟ قالوا: نعم ورأى من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّا عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال. بأربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصا، وقال لهم: «ننظر ما قدمتم له، ويقضى الله تعالى ما أراد، والأناة خير من العجلة» . فرجعوا وقد قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.

_ [1] الغرز: ركاب كور الجمل، وهو مثل ركاب السرج للفرس.

ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة

ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة وما دار بين زياد وبين عبيد بن كعب النميرى من الرأى وما اتفقا عليه قال: ولمّا قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد، كتب إلى زياد ابن أبيه يستشيره، وزياد إذ ذاك يلى البصرة، فلما ورد عليه كتاب معاوية أحضر عبيد بن كعب النميرى وقال له: «إن لكلّ مستشير ثقة، ولكل سرّ مستودع، وإن الناس قد أبدع [1] بهم خصلتان: إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلّا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف فى نفسه وعقل يصون حسبه، وقد خبرتهما منك، وقد دعوتك إلى أمر أبهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب إلى يستشيرنى فى كذا وكذا، وإنه يتخوّف نفرة الناس ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من حبّ الصيد فالق أمير المؤمنين وأدّ إليه عنّى فعلات يزيد، وقل له رويدك [بالأمر] [2] وأحرى أن يتمّ لك، ولا تعجل فإن دركا فى تأخير خير من فوت فى عجلة» . فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: «لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغّض إليه ابنه، وألقى أنا يزيد [3] وأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك فى البيعة له، وأنك تتخوّف خلاف الناس، لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجّة على الناس ويتمّ ما يريد، فتكون

_ [1] أبدع بهم: قطع بهم وخذلهم. [2] الزيادة من الطبرى فى ج 4 ص 225 وابن الأثير ج 3 ص 250. [3] فى تاريخ الطبرى: «وألقى أنا يزيد سرا من معاوية» .

ذكر ارسال معاوية إلى مروان بن الحكم

قد نصحت أمير المؤمنين، وسلمت مما يخاف من أمر الناس» . فقال زياد: «لقد رميت الأمر بحجره! اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ، ونقول ما ترى ويقضى الله بغيب ما يعلم» . فقدم عبيد على يزيد، فذكر ذلك له، فكفّ عن كثير مما كان يصنع. وكتب زياد إلى معاوية يشير عليه بالتّؤدة وألّا يعجل. فتأخر الأمر حتّى مات زياد ثم عزم معاوية على البيعة. ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم وأمر البيعة وإنكار أهل المدينة ذلك وما وقع بسببه قال: ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد أرسل إلى عبد الله بن عمر بمائة ألف درهم، فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر رضى الله عنه: «هذا أراد؟ إن دينى إذا عندى لرخيص!» وامتنع. ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم، وهو على المدينة يومئذ، يقول: «إنى قد كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدى، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدى، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم، وأعلمنى بالذى يردّون عليك» . فقام مروان فى الناس وأخبرهم، فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أحببنا أن يتخيّر لنا فلا يألو [1] . فكتب مروان إلى معاوية

_ [1] يألو: يقصر.

بذلك، فأعاد عليه الجواب بذكر يزيد، فقام مروان فى الناس فقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده. فقام عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما فقال: «كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية، ما الخيّار أردتما لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم أردتم أن تجعلوها هرقليّة، كلما مات هرقل قام هرقل!» . فقال مروان: هذا الذى أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الآية [1] . فسمعت عائشة رضى الله عنها مقالته، فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان يوجهه، فقالت: «إن القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذب، والله ما هو فيه، ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضض من لعنة نبى الله عليه الصلاة والسلام» . وقام الحسين بن على رضى الله عنهما فأنكر ذلك، وفعل مثله عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فأوجب ذلك مسيره إلى الحجاز بعد أن أخذ بيعة أهل العراق والشام!.

_ [1] الآية 17 من سورة الأحقاف. [2] فى النهاية: «ومنه حديث عائشة قالت لمروان: إن النبى لعن أباك، وأنت فضض من لعنة الله، أى: قطعة أو طائفة منها» . وروى ابن أبى خيثمة من حديث عائشة فى هذه القصة أنها قالت: «أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت فى صلبه» . وأبوه هو الحكم بن أبى العاص ابن أمية، وقد روى الرواة فى أسباب لعنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رآه يعمل من الأعمال ما لا يجوز، وقد نفاه إلى الطائف، وانظر ما يأتى قريبا.

ذكر من وفد إلى معاوية من أهل الأمصار فى شأن البيعة. وما تكلم به بعضهم وبيعة أهل العراق والشام ليزيد

ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار فى شأن البيعة. وما تكلم به بعضهم وبيعة أهل العراق والشام ليزيد قال: وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو [1] بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس فى وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راع مسئول عن رعيته فانظر من تولّى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذ معاوية يهتز [2] حتى جعل يتنفّس فى يوم شات [3] ، ثم وصله وصرفه. وأمر معاوية الأحنف بن قيس أن يدخل على يزيد فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا. ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهرى لما اجتمع الوفود عنده: إنى متكلم فإذا سكتّ فكن أنت الذى تدعو إلى بيعة يزيد وتحثنى عليها، فلما جلس معاوية للناس تكلمّ فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، وما أمر الله تعالى به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة، وعرض ببيعته. فعارضه الضحاك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير

_ [1] كذا جاء فى الكامل وكتب الصحابة، وجاء فى المخطوطة «عمر» . [2] كذا جاء فى الأصل، والذى فى الكامل «بهر» وهو بضم الباء ما يعترى الإنسان عند السعى الشديد والعدو من التهييج وتتابع النفس. [3] فى العقد الفريد ج 4 ص 369: «فأخذ معاوية بهر حتى تنفس الصعداء وذلك فى يوم شات» .

المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبيل، وخيرا فى العافية، والأيام عوج [1] رواجع، والله كل يوم فى شأن، ويزيد بن أمير المؤمنين فى حسن هديه وقصد سيرته [2] على ما علمت، وهو من أفضلنا علما وحلما، وأبعدنا رأيا، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، ومفزعا نلجأ إليه ونسكن إلى ظله» .. وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من [3] ذلك. ثم قام يزيد بن المقنّع العذرىّ فقال: هذا أمير المؤمنين (وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه) فقال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء. وتكلم من حضر من الوفود، فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: «نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذّبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد فى ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذه الأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا، وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا» .. وقام رجل

_ [1] كذا جاء فى الكامل ج 3 ص 251 ولم تنقط الكلمة فى المخطوطة. وجاء فى العقد الفريد «والأنفس يغدى عليها ويراح» . [2] قصد سيرته: استقامة سيرته. [3] قال: أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إذا صرتم إلى عدله وسعكم، أمير المؤمنين ولا خلف منه» . فقال معاوية: اجلس أبا أمية فقد أوسعت وأحسنت.

ذكر مسير معاوية إلى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز

من أهل الشام فقال: «ما ندرى ما تقول هذه المعدّيّة [1] العراقية، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف [2] . فافترق الناس يحكون قول الأحنف [3] . قال: وكان معاوية يعطى المقارب، ويدارى المباعد ويلطف به، حتى استوثق له أكثر الناس، وبايعوه، فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز. ذكر مسير معاوية الى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز قال: وفى هذه السّنة اعتمر معاوية فى شهر رجب، وسار إلى الحجاز فى ألف فارس، فلما دنا من المدينة لقيه الحسن بن على رضى الله عنهما أول الناس، فلما نظر إليه معاوية قال: «لا مرحبا ولا أهلا! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه!» قال: مهلا فإنى لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها. ثم لقيه عبد الله بن الزّبير فقال له: «لا مرحبا ولا أهلا! خبّ ضبّ، تلعة يدخل رأسه فيضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره، نحّياه عنى» فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق فقال له معاوية: «لا مرحبا ولا أهلا! شيخ قد خرف وذهب عقله» ثم أمر بضرب وجه راحلته: ثم فعل بابن عمر نحو ذلك.

_ [1] المعدية: الجماعة المنسوبة إلى معد بن عدنان. [2] الازدلاف: الاقتراب إلى الأقران فى الحرب. [3] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 251.

فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم، ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة، فأقاموا بها. وخطب معاوية بالمدينة، فذكر يزيد فمدحه، وقال: «من أحق منه بالخلافة فى فضله وعقله؟ وموضعه؟ وما أظن قوما بمنتهين حتى يصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم، ولقد أنذرت إن أغنت النّذر، ثم أنشأ متمثلا: قد كنت حذّرتك آل المصطلق ... وقلت يا عمرو أطعنى وانطلق إنّك إن كلّفتنى ما لم أطق ... ساءك ما سرّك منّى من خلق دونك ما استسقيته فاحس وذق ثم دخل على عائشة رضى الله عنها وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، فقال: «لأقتلنهم إن لم يبايعوا» فشكاهم إليها، فوعظته عائشة وقالت: بلغنى أنك تتهدّدهم بالقتل، فقال: «يا أم المؤمنين، هم أعزّ من ذلك، ولكنى بايعت ليزيد، وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟» . قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان فى قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخى ما فعلت؟ تعنى محمدا فقال لها: كلّا يا أم المؤمنين إنى فى بيت أمن. قالت: أجل. ومكث معاوية بالمدينة ما شاء الله، ثم خرج إلى مكة، فلقيه

الناس، فقال أولئك النفر: نتلقّاه لعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه فى بطن [1] مرّ، فكان أول من لقيه الحسين رضى الله عنه، فقال له معاوية: مرحبا وأهلا بابن رسول الله وسيّد شباب المسلمين. وأمر له بدابّة وركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك [2] ، وأقبل يسايرهم ولا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل عليه وآخر خارج، ولا يمضى يوم إلا ولهم منه صلة، ولا يذكر لهم شيئا، حتّى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعضهم لبعض: «لا تخدعوا فما صنع هذا لحبّكم، وما صنعه إلا لما يريد أن يفعل، فأعدوا له جوابا» فاتفقوا على أن يكون المخاطب له عبد الله ابن الزبير. فأحضرهم معاوية وقال: «قد علمتم سيرتى فيكم، وصلتى لأرحامكم وحملى ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تولّون وتعزلون وتؤمّرون، وتجبون المال وتقسمونه، ولا يعارضكم فى شىء من ذلك» . فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرّتين. ثم أقبل على عبد الله بن الزبير ثم قال: هات فلعمرى إنك خطيبهم. قال: نعم، نخيّرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر رضى الله عنهما، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض

_ [1] مر الظهران على مرحلة من مكة. [2] فى العقد الفريد ج 4 ص 371: «وقال لعبد الرحمن بن أبى بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق. وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق، وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته. ودعا لهم بدواب فحملهم عليها» .

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا، فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبى بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: «صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر، فإنه عمد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى تيم [1] فاستخلفه، أو كما صنع عمر، جعل الأمر شورى فى ستة نفر، ليس فيهم أحد من ولده ولا من بنى أبيه» . قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا، قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله: قال «فإنى أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إنى كنت أخطب، فيقوم إلى القائم منكم فيكذّبنى على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح، وإنّى قائم لمقالة فأقسم بالله لئن ردّ علىّ أحد منكم كلمة فى مقامى هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!» . ثم دعا صاحب حرسه حضرتهم فقال له: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علىّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبرم [2] أمر دونهم ولا يقضى إلّا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على

_ [1] يعنى أن أبا بكر لم يستخلف أحدا من أولاده ولا أقاربه بنى تيم، فقد كان أبو بكر بن أبى قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ولكنه استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدى، فعمر عدوى، وأبو بكر تيمى. [2] انظر العقد الفريد ج 4 ص 372، وفى المخطوطة «لا يبتز» .

اسم الله» . فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب معاوية رواحله وانصرف إلى المدينة. فلقى الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلمّا أرضيتم وأعطيتم بايعتم! قالوا: والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا: كادنا [1] وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام، وجفا بنى هاشم، فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: «يا معاوية، إنى لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل، فأقيم به، ثم أنطلق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك» . قال يا أبا العباس تعطون وترضون وترادّون [2] !. وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: «أبايعك على أنى داخل فيما تجتمع عليه الأمة، فو الله لو اجتمعت على حبشى لدخلت معها» . ثم عاد إلى منزله، فأغلق بابه، فلم يأذن لأحد. وقد ذكرنا وفاة عبد الرحمن بن أبى بكر فى سنة ثلاث وخمسين، والمشهور أنه كان فى هذه الحادثة باق [3] ، وقد ورد خبره مع مروان ابن الحكم وما قالته عائشة رضى الله عنها فى الصحيح [4] .

_ [1] فى العقد الفريد: «كادكم بنا وكادنا بكم» . [2] راده فى الكلام: راجعه إياه. [3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 252: «قلت: ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت» . وقد ذكر ابن حبان أنه مات سنة ثمان وخمسين. [4] روى البخارى فى كتاب التفسير من صحيحه الحديث 4509: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن أبن أبى بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان إن هذا الذى أنزل الله فيه: والذى قال لوالديه أف لكما أتعداننى فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذرى. أه وانظر ما سبق قريبا.

ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وغزوه

ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وغزوه فى هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد عنها، وكان سبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: «والله لقد اصطنعك أبى حتّى بلغت باصطناعه المدى الذى لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته [بآلائه] [1] ، وقدّمت [علىّ] هذا- يعنى يزيد- وبايعت له، والله لأنا خير أبا وأمّا ونفسا!» فقال معاوية: أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ علىّ الجزاء به، وقد كان من شكرى لذلك أنّى طلبت بدمه، وأمّا فضل أبيك على أبيه فهو والله خير منّى، وأمّا فضل أمّك على أمّه فلعمرى امرأة من قريش خير من امرأة من كلب [2] ، وأمّا فضلك عليه فو الله ما أحبّ أن الغوطة [3] ملئت به رجالا مثلك!» فقال له يزيد: «يا أمير المؤمنين، ابن عمّك، وأنت أحقّ من نظر فى أمره، قد عتب عليك فأعتبه [4] » . فولّاه حرب خراسان، وولّى إسحاق ابن طلحة [5] خراجها، فمات إسحاق بالرّىّ فولّى سعيد حربها وخراجها.

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 226. [2] أم سعيد بن عثمان هى فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية القرشية، وأم يزيد ابن معاوية هى ميسون بنت مجدل بن أنيف الكلبية. [3] الغوطة: الكورة التى منها دمشق، وهى معروفة ببساتينها. [4] الإعتاب: الإرضاء. [5] كان إسحاق ابن خالة معاوية.

سنة سبع وأربعين

فلمّا قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فتواقفوا يوما إلى الليل ولم يقتتلوا، ثمّ اقتتلوا من الغد، فهزمهم سعيد، وحصرهم فى مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما من أبناء عظمائهم، فسار إلى التّرمذ ففتحها صلحا، ولم يف لأهل سمرقند، وجاء بالغلمان معه إلى المدينة. وفى هذه الغزوة قتل قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب. وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان سنة سبع وأربعين فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل الوليد بن عتبة بن أبى سفيان. وقيل: لم يعزل مروان فى هذه السنة [2] . وحج بالناس الوليد بن عتبة. سنة ثمان وأربعين فى هذه السنة توفّيت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وتوفى عميرة بن يثربىّ قاضى البصرة، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة. وحج بالناس الوليد بن عتبة.

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 227، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى. [2] وقيل: فى سنة ثمان وخمسين.

ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وطرده عنها واستعماله على مصر وطرده عنها أيضا

ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وطرده عنها واستعماله على مصر وطرده عنها أيضا فى هذه السنة عزل معاوية الضحّاك بن قيس عن الكوفة، واستعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفى، وهو ابن أم الحكم، وأم الحكم أخت معاوية، فخرج الخوارج بالكوفة فى ولايته على ما قدمناه من خبرهم. ثم طرد أهل الكوفة عبد الرحمن لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية، فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك فلعمرى لا تسير فينا سيرتك فى إخواننا من أهل الكوفة، فرجع. ثم وفد معاوية بن حديج إلى معاوية، وكان إذا قدم زيّنت له الطرق [بقباب الرّيحان] [1] تعظيما لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أمّ الحكم فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: «بخ بخ [2] ! هذا معاوية بن حديج!» فقالت: «لا مرحبا! تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه [3] . فسمعها ابن حديج، فقال: «على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلى ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فى إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل لضربناه ضربا يطأطئ

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] «بخ» اسم فعل، يقال عند إظهار الرضا والإعجاب، ويكرر للمبالغة. [3] مثل عربى يضرب لمن خبره خير من رؤيته.

سنة تسع وخمسين

منه ولو كره هذا القاعد!» يعنى معاوية، فالتفت إليها معاوية فقال: كفى. فكفّت. سنة تسع وخمسين فى هذه السنة استعمل معاوية النّعمان بن بشير الأنصارى على الكوفة، بعد ابن أم الحكم. واستعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان فبقى عليها إلى أن قتل الحسين، ثم قدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال له يزيد: «إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك، وتعطى عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم» قال: بل تعطينى ما معى وتعزلنى. ففعل، وأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف، وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف منى. ذكر عزل عبيد الله بن زياد عن البصرة وعوده إليها وفى هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها ولم يولّ غيره. وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية فى وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، وكان ابن زياد لا يكرمه، فلما دخلوا على معاوية رحبّ بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحسن الوفد الثناء على عبيد الله بن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما بالك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية:

سنة ستين ذكر وفاة معاوية بن أبى سفيان وما أوصى به عند وفاته

انهضوا، عزلته عنكم واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق من القوم رجل إلا أتى رجلا من بنى أميّة أو من أهل الشام، والأحنف لم يبرح من منزله ولم يأت أحدا، فلبثوا أيّاما، ثم جمعهم معاوية، وقال لهم: من اخترتم فاختلفت كلمتهم [1] ، والأحنف ساكت، فقال [2] : مالك لا تتكلم؟ فقال: «إن ولّيت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت غيرهم فانظر فى ذلك» . فردّه معاوية عليهم، وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه فى مباعدته. وحج بالناس فى هذه السنة عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وفيها توفى سعيد بن العاص. سنة ستين ذكر وفاة معاوية بن أبى سفيان وما أوصى به عند وفاته كانت وفاته بدمشق فى شهر رجب من هذه السّنة، قيل: فى مستهلّه، وقيل: فى النصف منه، وقيل: لأربع بقين منه، وقيل: فى يوم الخميس لثمان بقين من شهر رجب سنة تسع وخمسين [3] قال [4] : وكان معاوية قد خطب الناس قبل موته فقال: «إنى

_ [1] سمى كل فريق منهم رجلا. [2] معاوية. [3] تبع فى ذلك ما جاء فى الاستيعاب ج 3 ص 398، وعبارة الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 239: «وقال على بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة 60 يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حدثنى بذلك الحارث عنه» وقال الطبرى قبيل هذا: «اختلف فى وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان فى سنة 60 وفى رجب منها» . [4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 259.

لزرع [1] مستحصد [2] وقد طالت إمرتى عليكم حتى مللتكم ومللتمونى، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقى، لن يأتيكم بعدى إلا من أنا خير منه، كما أن من كان قبلى كان خيرا منى، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب لله لقاءه، اللهم إنى أحببت لقاءك فأحبب لقائى وبارك لى فيه» . فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه الذى مات فيه. قال [3] ولمّا مرض [4] دعا ابنه يزيد وقال: «يا بنى إنى قد كفيتك الشّدّ والتّرحال، ووطّأت لك الأمور، وذللت الأعداء، وأخضعت؛ لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك [5] ، فإن رابك [6] من عدوّك شىء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغيرها تغيرت أخلاقهم، وإنى لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وعبد الرحمن بن أبى بكر، فأمّا ابن عمر فرجل قد

_ [1] فى الكامل: «كزرع» . [2] استحصد الزرع: حان أن يحصد. [3] ابن الأثير فى الكامل، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 238. [4] قال الطبرى: «مرض مرضته التى هلك فيها» . [5] عيبتك: موضع سرك. [6] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى «نابك» .

وقذته [1] العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأمّا الحسين فإنه رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا ابن أبى بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله [2] ليست له همّة إلّا فى النساء واللهو، وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد، ويرواغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إربا إربا، واحقن دماء قومك ما استطعت» .. هكذا فى هذه الرواية [3] ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر، والصحيح أنه مات [4] قبل معاوية. وقيل إن يزيد كان غائبا فى مرض أبيه وموته، وأن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المرّىّ وأمرهما أن يؤديّا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه. وصححه ابن الأثير. قيل: ولما اشتدّت علّته وأرحف به قال لأهله؛: احشوا عينى إثمدا وادهنوا رأسى، ففعلوا وبرّقوا وجهه [5] ، ثم مهّد له مجلس

_ [1] وقذته: غلبته. [2] فى تاريخ الطبرى: «مثلهم» ، والذى جاء هنا مثل الكامل. [3] وذكر ابن جرير رواية ثانية فيها قول معاوية: «وإنى لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير» . [4] وذكر ابن حبان أن عبد الرحمن بن أبى بكر مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك كما سبق. [5] عند ابن جرير وابن الأثير: «برقوا وجهه بالدهن» .

وأذن للناس، فدخلوا وسلموا قياما ولم يجلس أحد، فلما خرجوا تمثل بقول الأول وهو الهذلى [1] : وتجلّدى للشّامتين أريهمو ... أنّى لريب الدهو لا أتضعضع وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة [2] لا تنفع ومات فى يومه. وكان يتمثّل- وقد احتضر [3]-: فهل من خالد إمّا هلكنا؟ ... وهل بالموت يا للنّاس عار؟ وروى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: سمعت الشافعىّ رضى الله عنه يقول: لمّا ثقل معاوية كان يزيد غائبا، فكتب إليه بحاله فلمّا أتاه الرسول أنشأ يقول: جاء البريد بقرطاس يخبّ به [4] ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا: لك الويل! ماذا فى صحيفتكم ... قال: الخليفة أمسى مثبتا [5] وجعا

_ [1] هو أبو ذؤيب الهذلى يرثى بنين له ماتوا فى عام واحد بقصيدة مشهورة تجدها فى أول ديوان الهذليين، وانظر المفضلية 125 فى المفضليات وجمهرة أشعار العرب ص 264- 273 والاستيعاب ج 4 ص 67 والإصابة ج 4 ص 65 وشواهد العينى ج 3 ص 393- 394 وخزانة الأدب ج 1 ص 202 وحماسة البحترى ص 99، 128 وأمالى القالى مع شرح البكرى فى سمط اللآلى ج 2 ص 288- 289. [2] التميمة: ما يعلقه بعض الناس على أولادهم لاتقاء العين والحسد بزعمهم. [3] وبلغه أن قوما يفرحون بموته. [4] القرطاس: الصحيفة. والخبب: السير السريع. [5] المثبت: الذى لا يفارق الفراش لثقل مرضه.

فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ ثهلان [1] من أركانه انقلعا أودى ابن هند [2] وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعا وظلّا يسريان معا لا يرفع الناس ما أوهى [3] وإن جهدوا ... أن يرفعوه، ولا يوهون ما رفعا أغرّ أبلج [4] يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا والبيتان [5] الأخيران للأعشى. قال: فلمّا وصل إليه وجده مغمورا فأنشأ يقول: لو عاش حىّ إذا لعاش إما ... م الناس لا عاجز ولا وكل [6] الحوّل القلّب الأريب [7] ولن ... يدفع ريب المنيّة الحيل

_ [1] ثهلان: جبل. [2] أودى: هلك. وهند: أم معاوية. [3] أوهاه: أضعفه وأسقطه. [4] الأغر: السيد الشريف فى قومه. والأبلج: الذى يكون طلق الوجه مضيئه. [5] هذا من قول الإمام الشافعى كما فى الاستيعاب ج 3 ص 399 وهما البيتان 72، 51 من عينيه الأعشى فى ديوانه ص 111، 107 وجاء أولهما بلفظ: لا يرفع الناس ما أوهى وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما وقعا وجاء ثانيهما بلفظ: أغر أبلج يستسقى الغمام به ... لو صارع الناس عن أحلامهم صرعا [6] الوكل: البليد الذى يكل أمره إلى غيره. [7] الحول: البصير بالحيل وتحويل الأمور. والقلب: البصير بتقلب الأمور. والأريب: العاقل.

قال فأفاق معاوية وقال: يا بنى إنّى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج لحاجته، فاتبعته بإداوة [1] ، فكسانى أحد ثوبيه الذى يلى جلده، فخبّأته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من أظافره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبّأته لهذا اليوم، فإذا أنا متّ فاجعل ذلك القميص دون كفنى ممّا يلى جلدى، وخذ ذلك الشعر والأظافر فاجعله فى فمى وعلى عينى ومواضع السجود منى، فإن نفع شى فذاك، وإلّا فإن الله غفور رحيم. وهذه الرواية تدل على أن يزيد أدركه قبل وفاته، وقد قيل: إنه أوصى بها غير يزيد [2] والله أعلم. قال ابن الأثير: وتمثل معاوية عند موته بشعر الأشهب بن زميلة [3] النّهشلى [4] :

_ [1] الإداوة: إناء صغير من جلد. [2] ذكر الطبرى فى إحدى روايات تاريخه ج 4 ص 242 أن معاوية مات ويزيد بحوارين. وكانوا اكتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله، وانظر ما يأتى. [3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير «زميله» بالزاى، كما نص عليه العينى فى شواهده الكبرى ج 1 ص 482 تابعا للمرزبانى فى معجم الشعراء، وفى أكثر الكتب «رميلة» بالراء، كما نص عليه صاحب خزانة الأدب ج 2 ص 509 وتراه فى تاريخ الطبرى وأمالى القالى وسمط اللالى والبيان والتبيين والحيوان، وانظر ترجمة الأشهب بن رميلة فى الأغانى ج 9 ص 269 (طبع دار الكتب المصرية) والإصابة ج 1 ص 107. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 241: شعر الأشهب بن رميلة النهشلى يمدح به القباع.

إذا متّ مات الجود وانقطع النّدى ... من الناس إلّا من قليل مصرّد [1] وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا ... من الدّين والدنيا بخلف مجدّد [2] فقالت إحدى بناته: كلّا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك. فقال متمثّلا: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها...... (البيت) وقال لأهله: اتّقوا الله فإنه لا واقى لمن لا يتّقى الله! ثمّ قضى [3] وأوصى أن يردّ نصف ماله إلى بيت المال [4] . وأنشد لما حضرته الوفاة:. إن تناقش يكن نقاشك يا ربّ ... ب عذابا، ولا طوق لى بالعذاب أو تجاوز فأنت رب صفوح ... عن مسيىء ذنوبه كالتراب قال: ولمّا مات خرج الضحّاك بن قيس حتّى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية كان

_ [1] مصرد: مقلل، ففيه مبالغة فى القلة. [2] الخلف: ضرع والفرس والناقة ونحوهما، والمجدد: الذاهب اللبن، والمعروف بهذا المعنى فى هذه المادة «الأجد» و «المتجدد» . [3] قضى: مات. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 242 وابن لأثير فى الكامل ج 3 ص 260 «كأنه أراد أن يطيب له الباقى، لأن عمر قاسم عماله» .

عود [1] العرب، وحدّ [2] العرب، وجدّ [3] العرب، قطع الله به الفتنة، وملّكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلّون بينه وبين عمله، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة! فمن كان يريد أن يشهده فعند الأولى» .. قال: وصلى عليه الضحاك لغيبة يزيد، وكان بحوّارين [4] فقدم بعد دفنه فصلّى على قبره. وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيّاما تقريبا منذ خلص له الأمر. وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وقيل: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل توفى وهو ابن خمس وثمانين سنة. وكان أوّل من اتخذ الخدام الملازمة [5] فى الإسلام. وأوّل من علّق الستور واتخذ الحرس وأرباب الشّرط. واستخدم الحجاب وركب الهماليج [6] ، وقيدت بين يديه الجنائب [7] ولبس الخزّ والوشى الخفيف، وعمل الطّراز بمصر واليمن والرّها والإسكندرية.

_ [1] العود: الجمل الكبير المدرب، ويشبه به الرجل كذلك. [2] الحد: البأس والفاصل بين شيئين. [3] الجد: الحظ والسعادة والغنى. [4] حوارين، بتشديد الواو: من قرى الشام، وهى غير «حوارين» بتخفيف الواو التى فى الجزيرة. [5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «الأزمة» وجاء فى الاستيعاب «أول من اتخذ الخصيان فى الإسلام. [6] الهماليج: جمع هملاج، وهو البرذون الحسن السير، ويسمى «الرهوان» . [7] الجنائب: جمع جنيبة وهى الدابة تقاد إلى جنب، والناقة يعطيها الرجل القوم ليمتارو عليها له.

ذكر شىء من سيرته وأخباره

وأوّل من قتل مسلما صبرا، قتل حجر بن عدىّ وأصحابه كما تقدم. وهو أول من اقتنى الضّياع، وأحدث فى أيامه ديوان الخاتم، وكان سبب ذلك أنه أمر لعمرو [1] بن الزّبير بمائة ألف درهم، وكتب له بها على زياد، فصيرّ [2] عمرو المائة مائتين، فلما [رفع] [3] حساب زياد أنكرها معاوية، وأخذ عمرا بردّها [4] ، فوفّاها عنه أخوه عبد الله. ثم أمر معاوية بختم الكتب وحزمها. وزاد فى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله ثمانى درجات، وأول من جعل درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، واتخذ المقصورة [5] فى المسجد. وأول خليفة بايع لابنه، وأول من وضع البريد، وأول من سمى الغالية التى يطيّب بها «غالية» . وكان يقول: أنا أول الملوك. ذكر شىء من سيرته وأخباره كان يضرب بحلم معاوية المثل، ولم يعرف له زلّة تنافى الحلم إلّا قتل حجر بن عدىّ وأصحابه. وقد نقل من كلامه ألفاظ، منها أنه قال: إننى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أعظم من عفوى، وجهل أكثر من حلمى، وعورة لا أواريها بسترى، أو إساءة أكثر من إحسانى..

_ [1] أمر معاوية لعمرو بهذا فى معونته وقضاء دينه. [2] فض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين. [3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) . [4] وحبسه. [5] عمل معاوية المقصورة فى الشام لما ضربه الخارجى، ثم عمل مروان المقصورة فى المدينة

وقال: العقل والحلم أفضل ما أعطى العبد، فإذا ذكّر ذكر، وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.. قال عبد الله [1] بن عمير: أغلظ رجل لمعاوية، فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إنى لا أحول بين الناس وألسنتهم. ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا. وروى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال: أخبرنا المسور ابن مخرمة أنه وفد على معاوية، قال: فلمّا دخلت عليه سلّمت، فقال: ما فعل طعنك على الأمة يا مسور؟ قلت: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، قال: والله لتكلمنى يذات نفسك. قال فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلّا أخبرته به. فقال: «لا أبرأ من الذنوب! أفمالك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟» قلت: بلى. قال: «فما جعلك أحقّ بأن ترجو المغفرة منّى؟ فو الله لما أنا [2] ألى من الإصلاح بين الناس وإقامة الحدود والجهاد فى سبيل الله والأمور العظام التى ليست [3] أحصيها ولا تحصيها أكثر ممّا تلى. وإنى لعلى دين يتقبّل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيّئات، وو الله لعلى [4] ذلك ما كنت لأخيرّ بين الله وبين ما سواه إلا اخترت الله على ما سواه. قال المسور: ففكرّت حين قال ما قال فعرفت أنه خصمنى! قال: فكان

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى رواية الطبرى «عبد الملك بن عمير» . [2] فى الاستيعاب ج 3 ص 402: «فو لله لما ألى من الإصلاح» . [3] فى الاستيعاب: «لست» . [4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ك) كما فى الاستيعاب، وسقطت من النسخة (ن) .

ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه وكتابه وقضاته وحجابه وشرطه وعماله

إذا ذكر بعد ذلك دعا له بخير. قال أبو عمر [1] : هذا الخبر من أصحّ ما يروى عن ابن شهاب. وقد نسب معاوية إلى بخل مع كثرة عطاياه، فمن ذلك ما حكى أن عبيد الله بن أبى بكرة دخل على معاوية، ومعه ولد له، فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله، فأراد أن يغمز ابنه [فلم يمكنه] [2] فلم يرفع رأسه حتى فرغ من أكله، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال معاوية ما فعل ابنك التّلقامة [3] ؟ [قال: اشتكى] [4] . ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه وكتّابه وقضاته وحجّابه وشرطه وعمّاله كان معاوية طويلا أبيض اللون إذا ضحك تقلّصت شفته العليا، وكان يخضب بالحنّاء والكتم. وأما نساؤه وولده: فمن نسائه ميسون ابنة بحدل بن أنيف الكلبية، وهى أم يزيد، وقيل، ولدت له بنتا اسمها «أمة ربّ المشارق» فماتت صغيرة. ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد الرحمن وعبد الله، وكان عبد الله أحمق، وعبد الرحمن مات صغيرا.

_ [1] أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 245. [3] التلقامة: الكبير اللقم. [4] الزيادة من الكامل، ساقطة من الأصل.

ومنهن نائلة ابنة عمارة الكلبية، تزوجها وقال لميسون: انظرى إليها، فنظرت إليها وقالت: «رأيتها جميلة، ولكنى رأيت تحت سرّتها خالا، ليوضعن رأس زوجها فى حجرها» فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهرى، ثم خلف عليها بعده النّعمان ابن بشير، فقتل ووضع رأسه فى حجرها [1] . ومنهن كتوة [2] ابنة قرظة، أخت فاختة، غزا قبرس [3] وهى معه فماتت هناك. وأما كتابه فكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومى، وكتب له عبيد الله بن أويس الغسّانى. وقضاته. كان على القضاء فضالة بن عبيد الأنصارى، فمات فاستقضى أبا إدريس الخولانى. وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميرىّ، ونقش خاتمه «لكل عمل ثواب» ، وقيل: كان نقشه «لا حول ولا قوة إلا بالله» . وحاجبه سعد مولاه، ثم صفوان مولاه. وكان على شرطته قيس بن حمزه الهمدانى ثم عزله، واستعمل زمل [4] ابن عمرو العذرىّ، وقيل: السكسكىّ.

_ [1] كان النعمان بن بشير أميرا على حمص ليزيد، فلما مات يزيد صار النعمان زبير يا كالضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك فى وقعة «مرج راهط» وانتصر المروانيون طلب أهل حمص النعمان وقتلوه واحتزوا رأسه، فقالت امرأته نائلة ابنة: عمارة ألقوا رأسه فى حجرى فأنا أحق به [2] فى لأصل: لبوة، والتصحيح من الكامل وتاريخ الطبرى. [3] قبرس: جزيرة معروفة. [4] فى لإصابة ج 1 ص 551 والقاموس: زمل بن عمرو بن أبى العنز بن خشاف العذرى، صحابى، ويقال له «زميل» مصفرا.

ذكر بيعة يزيد بن معاوية

وكان على حرسه رجل من الموالى يقال له الختار، وقيل: أبو المخارق مالك مولى حمير. وأما عمّاله فقد تقدم ذكرهم، وكان العمّال عند وفاته: على المدينة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، على مكة عمرو بن سعيد الأشدق، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النّعمان بن بشير، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عبّاد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور، وعلى مصر مسلمة ابن مخلّد الأنصارى، وكان القاضى بمصر سليمان بن عمير عشرين سنة. ذكر بيعة يزيد بن معاوية هو أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية. وهو الثانى من ملوك بنى أميّة، بويع له بعد وفاة أبيه فى شهر رجب سنة ستين. فكان أول ما بدأ به يزيد أن كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، وهو عامل المدينة، يخبره بموت معاوية [1] ، وكتابا آخر

_ [1] نص كتاب يزيد بن معاوية إلى ابن عمه الوليد بن عتبة- كما ذكره الطبرى-: «بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محمودا، ومات برأ تقيا، والسلام» .

صغيرا فيه: «أمّا بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمرو ابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا والسلام» . فلما أتاه نعىّ معاوية استدعى [1] مروان بن الحكم، وكان قبل ذلك قد صارمه وانقطع عنه [2] ، فلما جاءه وقرأ عليه الكتاب بموت معاوية استرجع [3] وترحّم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع، قال: «أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كلّ رجل بناحية، وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أمّا ابن عمر فلا يرى القتال، ولا يحبّ أن يلى على الناس إلّا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا» .

_ [1] ذكر الطبرى وابن الأثير أن الوليد لما أتاه نعى معاوية فظع به وكبر عليه، ثم ما أمره به يزيد من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، ففزع عند ذلك إلى مروان بن الحكم. [2] لما عزل مروان عن المدينة واستعمل عليها بعده الوليد بن عتبة صار مروان يجىء متكارها فلما رأى الوليد ذلك شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه. [3] قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .

ذكر ارسال الوليد بن عتبة إلى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير، وما كان بينهم فى أمر البيعة وخروجهما إلى مكة رضى الله عنهما

ذكر ارسال الوليد بن عتبة إلى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير، وما كان بينهم فى أمر البيعة وخروجهما إلى مكة رضى الله عنهما قال [1] وأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلام حدث، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما فى المسجد، فأتاهما فى ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، فقال: أجيبا الأمير فقالا: انصرف الآن نأتيه. فقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا فى هذه الساعة التى لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين رضى الله عنه: أظن طاغيتهم هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فى الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن نصنع؟ قال الحسين: أجمع فتيانى الساعة ثم أمشى إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال: فإنى أخاف عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع. فقام الحسين رضى الله عنه فجمع إليه أصحابه وأهل بيته، ثم أقبل إلى باب الوليد، وقال لأصحابه: «إنى داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتى قد علا فادخلوا علىّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم» . ثم دخل فسلّم ومروان عنده، فقال الحسين: «الصّلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما» وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب،

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 264، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 251.

ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة، فاسترجع الحسين وترحّم على معاوية، وقال: «أما البيعة فإن مثلى لا يبايع سرا، ولا تجتزى بها منى سرا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحد» فقال له الوليد- وكان يحب العافية- انصرف. فقال له مروان: «لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينه، احبسه، فإن بايع وإلّا ضربت عتقه» . فوثب الحسين عند ذلك وقال: «يا ابن الزرقاء أنت، تقتلنى [1] أو هو؟ كذبت والله ولؤمت [2] ! ثم خرج حتّى أتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتنى! لا والله لا يملك من نفسه يمثلها أبدا، فقال الوليد: «ويح [3] غيرك يا مروان!، والله ما أحب أن لى ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنى قتلت حسينا إن قال لا أبايع! والله إنى لأظن أمرأ يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة!» قال مروان: قد أصبت بقولك هذا [يقول] [4] وهو غير حامد له على رأيه. وأمّا ابن الزّبير فإنه أتى داره وجمع أصحابه واحترز، فألّح الوليد فى طلبه وهو يقول «أمهلونى» . فبعث الوليد إليه مواليه فشتموه، وقالوا له: يا ابن الكاهلية لتأتينّ الأمير أو ليقتلنّك

_ [1] فى تاريخ الطبرى: «أم» . [2] كذا جاء هنا مثل الكامل، والطبرى «وأثمت» . [3] كذا فى الأصل، وفى تاريخ الطبرى «وبخ غيرك» . [4] الزيادة من الكامل وتاريخ الطبرى.

فقال لهم: والله لقد استربت لكثرة الإرسال، فلا تعجلونى حتّى أبعث إلى الأمير من يأتينى برأيه. فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال له: «رحمك الله، كفّ عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته [1] ، وهو يأتيك غدا إن شاء الله تعالى، فمر رسلك فلينصرفوا عنا» فبعث إليهم، فانصرفوا وخرج ابن الزبير من ليلته هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث فسارا نحو مكة [2] فسرح الوليد الرجال فى طلبه فلم يدركوه، فرجعوا، وتشاغلوا به عن الحسين يومهم. ثم أرسل الوليد الرجال إلى الحسين [3] فقال لهم: أصبحوا ثم ترون ونرى. فكفّوا عنه، فسار من ليلته [4] نحو مكة، وأخذ معه بنيه وإخوته وبنى أخيه وجلّ أهل بيته إلّا محمد بن الحنفية فإنه قال للحسين رضى الله عنهما: «يا أخى أنت أحب الناس إلىّ وأعزّهم علىّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحقّ بها منك، تنح ببيعتك [5] عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنى أخاف أن تأتى مصر وجماعة من الناس فيختلفون عليك، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأول الأسنّة، فإذا

_ [1] زاد الطبرى فى روايته: «بكثرة رسلك» . [2] وتجنيا الطريق الأعظم مخافة الطلب. [3] عند المساء. [4] قال الطبرى: «وهى ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة 60، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، خرج ليلة السبت» . [5] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «بتبعتك» .

خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما، أضيعها دما وأذلّها أهلا!» قال الحسين: فأين أذهب يا أخى؟ قال: «انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال [1] وخرجت من بلد إلى أخرى، حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، ويفرق لك الرأى، فإنك أصوب ما تكون رأيا وأخرمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور أبدا أشكل منها حين تستدبرها!» قال: قد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا إن شاء الله. ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول يزيد بن مفرّغ: لا ذعرت السّوام فى شفق [2] الصّبح ... مغيرا ولا دعيت يزيدا يوم أعطى من المهابة [3] ضيما ... والمنايا يرصدننى أن أحيدا ثم خرج نحو مكة وهو يتلو فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [4] ، ولما دخل مكة قرأ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [5]

_ [1] شعف الجبال: رءوسها. [2] كذا جاء «شفق» فى الأصل مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 265 والمعروف فيه «فلق» كما جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 253 ومروج الذهب المسعودى ج 2 ص 86 والخصائص لابن جنى ج 3 ص 273 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 302 وجاء فى ترجمة يزيد بن مفرغ من وفيات الأعيان ج 3 ص 315 «غلس» . [3] كذا جاء فى الأصل وتاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «من المهانة» وفى شرح ابن أبى الحديد «من المخافة» ، وفى وفيات الأعيان «على المخافة» ، وفى مروج الذهب (مخافة الموت» . [4] الآية 21 من سورة القصص. [5] الآية 22 من سورة القصص.

ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة

قال: وأمّا ابن عمر فإنّ الوليد أرسل إليه ليبايع، فقال: إذا بايع الناس بايعت. فتركوه، وكانوا لا يخافونه. وقيل: إن ابن عمر كان بمكة هو وابن عبّاس، فعادا إلى المدينة، فلقيا الحسين وابن الزّبير، فقالا لهما: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية وبيعة يزيد، قال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عبّاس المدينة، فلما بايع الناس بايعا. قال: ودخل ابن الزّبير مكة وعليها عمرو بن سعيد فقال: أنا عائذ بالبيت. ولم يكن يصلى بصلاتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، وكان يقف هو وأصحابه ناحية. ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة وإرسال عمرو بن الزّبير بالجيش إلى مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزّبير وهزيمة جيشه، ووفاة عمرو بن الزّبير تحت السّياط وفى هذه السنة عزل يزيد بن معاوية الوليد ابن عتبة عن المدينة، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها فى رمضان، واستعمل على شرطته عمرو بن [1] الزّبير، لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا: لهواهم فى أخيه عبد الله، منهم أخوه المنذر بن الزّبير وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم [2] ، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين.

_ [1] سبق أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ... الخ. [2] وهناك من فر منه إلى مكة، كعبد الرحمن بن عثمان وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل.

فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزّبير فيمن يرسله إلى أخيه فقال: لا توجّه إليه رجلا أنكأ له منى، فجهز معه سبعمائة فيهم أنيس بن عمرو الأسلمى. فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له: «لا تغز مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزّبير فقد كبر، له ستون سنة» فقال عمرو بن الزبير: والله لنغزونّه فى جوف الكعبة على رغم أنف من رغم. وأتى أبو شريح [1] الخزاعى إلى عمرو فقال له: لا تغز مكة فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنّما أذن لى فى القتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس» فقال له عمرو: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ [2] . فسار عمرو بن الزبير وسار أنيس فى مقدمته. وقيل إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد أن يرسل عمرو بن

_ [1] اختلف فى اسم أبى شريح، والراجح خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزى العدوى الكعبى الخزاعى، وقد أسلم قبل فتح مكة، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح. [2] هذا الحديث رواه الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 257 وذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 266 وهو حديث صحيح رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما بسنديهما عن أبى شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لى أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لا مرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبى شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: «أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» . انظر شرح الكرمانى لصحيح البخارى ج 2 ص 102 وج 9 ص 41 وشرح النووى لصحيح مسلم ج 9 ص 127.

ذكر مقدم الحسين إلى مكة

الزبير إلى أخيه عبد الله، فأرسله ومعه جيش نحو ألفى رجل، فنزل أنيس بذى طوى [1] ، ونزل عمرو بالأبطح [2] ، فأرسل عمرو إلى أخيه: برّ يمين يزيد- وكان قد حلف أنه لا يقبل بيعته إلّا أن يؤتى به فى جامعة [3]- تعالى حتّى أجعل فى عنقك جامعة من فضة لا ترى، ولا يضرب الناس بعضهم ببعض، فإنك فى بلد حرام. فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه، فهزمه بذى طوى، وقتل أنيس. وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزّبير، فتفرق عن عمرو أصحابه، فدخل دار ابن علقمة، فأتاه أخوه عبيدة فأجاره، ثم أتى عبد الله فقال: قد أجرت عمرا. فقال: «أتجير من حقوق الناس هذا ما لا يصلح، وما أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحلّ لحرمات الله!» . ثم أقاد عمرا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات عمرو بن الزبير تحت السياط. ولنرجع إلى أخبار الحسين رضى الله عنه. ذكر مقدم الحسين إلى مكة وما ورد عليه من كتب أهل الكوفة، وإرساله مسلم بن عقيل إليهم وما كان فى خلال ذلك قال: لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع، فقال له: جعلت فداك أين تريد؟ قال: أمّا الآن فمكة وأمّا بعد

_ [1] ذو طوى: موضع قرب مكة يعرف الآن بالزاهر. كما فى تاج العروس. [2] الأبطح: مسيل وادى مكة، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 256 «فسار عمرو ابن الزبير حتى نزل فى داره عند الصفا» . [3] جامعة: غل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.

فإنى أستخير الله. فقال: خار الله لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنها بلد مشئومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه، الزم فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب، ولا تفارق الحرم فداك عمى وخالى، فو الله لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك!» . فأقبل حتّى نزل مكة، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزّبير يأتى إليه ويشير عليه بالرأى، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بمكة. قال: ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمرو ابن الزّبير رضى الله عنهم من البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشّيعة فى منزل سليمان بن صرد، فذكروا مسير الحسين رضى الله عنه إلى مكة، وكتبوا إليه عن نفر منهم: سليمان بن صرد [1] والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظهر [2] : «بسم الله الرحمن الرحيم، وسلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو،

_ [1] سليمان بن صرد أبو مطرف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة ج 2 ص 75 وله ذكر فى جمهرة أنساب العرب ص 226. [2] كذا جاء فى ترجمته فى الإصابة ج 1 ص 373، ومن رجزه فى معركة الحسين: أنا حبيب وأبى مظهر ... فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكبر ... ونحن أوفى منكمو وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر ... حقا وأتقى منكمو وأعذر وقد اختلفت كتابة اسم أبيه فى مواضع وروده فى المخطوطتين والكتب بين «مظهر ومظاهر» ب «مطهر» .

أمّا بعد فالحمد لله الذى قصم عدوّك الجبار العنيد الذى انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل، لعل الله يجعلنا بك على الحق، والنّعمان بن بشير فى قصر الإمارة لسنا نجتمع معه فى جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» . وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانى وعبد الله بن وائل [1] . ثم كتبوا إليه كتابا آخر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحوا من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولا ثالثا يحثّونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعىّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعزرة بن قيس [2] وعمرو بن الحجاج الزّبيدى ومحمد بن عمير التميمى بذلك. فلما اجتمعت كتبهم عنده كتب إليهم: «أمّا بعد فقد فهمت كلّ الذى اقتصصتم، وقد بعثت إليكم أخى وابن عمّى وثقتى من أهل بيتى مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلىّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلىّ أنه قد اجتمع رأى ملئكم وذوى الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله تعالى،

_ [1] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم. [2] كذا جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 262 وهو عزرة بن قيس بن غزية الأحمس البجلى، وفى المخطوطة والكامل «عروة بن قيس» .

فلعمرى ما الإمام إلا العالم [1] بالكتاب، والقائم بالقسط والدائن بدين الحق والسلام» . وقدم على الحسين رضى الله عنه من البصرة يزيد بن أبى نبيط [2] وابناه عبد الله وعبيد الله إلى مكة، فكانوا معه حتى قتل وقتلوا معه. ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيّره إلى الكوفة، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف فإن رأى الناس مجتمعين له عجّل إليه بذلك. فسار مسلم إلى المدينة، فصلى فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم وسلم، وودع أهله، وسار حتى بلغ الكوفة، فنزل فى دار المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فيبكون ويعدونه النصرة والقتال، فبلغ النّعمان بن بشير أمير الكوفة ذلك، فصعد المنبر فقال: «أمّا بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال» ثم قال: «إنى لا أقاتل من لم يقاتلنى، ولا أثب على من لا يثب علىّ ولا أنبّه نائمكم [3] ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظّنّة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذى لا إله إلا هو لأضربنّكم بسيفى ما دام [4] قائمه فى يدى، ولو لم يكن لى منكم ناصر ولا معين. أما إنى لأرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرد به الباطل»

_ [1] فى تاريخ الطبرى والكامل: «العامل» . [2] عند الطبرى وابن الأثير: «ابن نبيط» . [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى: «ولا أشاتمكم» . [4] عند الطبرى وابن الأثير: «ما ثبت» .

ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانى بن عروة

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمى حليف بنى أمية فقال: «إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذى أنت عليه رأى المستضعفين» . فقال: لأن أكون من المستضعفين فى طاعة الله أحبّ إلىّ من أن أكون من الأعزّين فى معصية الله» . ثم نزل. وكان حليما ناسكا يحب العافية. وقيل: إنه لم يقل ذلك، وإنما قال: يا أهل الكوفة إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من ابن بنت بحدل. ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانى بن عروة قال: ولما تكلم النعمان بن بشير بما تكلم به، كتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل إلى الكوفة، ومبايعة الناس له، ويقول: «إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويّا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فى عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف» ثم كتب إليه بعده عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد بن أبى وقّاص بنحو ذلك. فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية، فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يولّيه أمر الكوفة، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية أكنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فأخرج له عهد عبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأى معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب، فأخذ يزيد برأيه، وجمع له بين الكوفة والبصرة، وكتب له بعهده

وسيّره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلىّ والد قتيبة، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه. فلمّا وصل كتابه إلى عبيد الله تجهز ليسير من الغد. وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبيد الله بن معمر. يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن السنة قد ماتت، والبدعة قد أحييت، فكلهم كتم كتابه إلا المنذر بن الجارود، فإنه خشى أن يكون دسيسا من بن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول، وخطب الناس ثم قال فى آخر كلامه: «يا أهل البصرة، إن أمير المؤمنين ولّانى الكوفة، وأنا غاد إليها بالغد، وقد استخلفت عليكم أخى عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والإرجاف، فو الله لئن بلغنى عن رجل منكم خلاف لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا ولا يكون فيكم خلاف ولا شقاق [1] إنى أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطىء الحصى، فلم ينتزعنى شبه خال ولا ابن عمّ!» . ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلىّ وشريك ابن الأعور الحارثى وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعيا. وقيل: كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه، وكان أول من سقط شريك، ورجوا أن يقف عليهم فيسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحد منهم حتّى دخل الكوفه وحده، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكّون أنه

_ [1] عند الطبرى وابن الأثير: «مخالف ولا مشاق» .

الحسين بن علىّ فيقولون: مرحبا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم، فساءه ما رأى منهم. وسمع به النعمان، فأغلق عليه الباب، وهو لا يشكّ أنه الحسين، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون، فقال له النعمان: «أنشدك الله إلا تنحيت عنى، فو الله ما أنا مسلم إليك أمانتى، ومالى فى قتالك من حاجة!» فدنا منه عبيد الله وقال: «افتح لا فتحت!» فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس فقال: إنه ابن مرجانة [1] !» ففتح له النعمان فدخل، وأغلقوا الباب وتفرق الناس. وأصبح فجلس على المنبر، وقيل بل خطبهم من يومه، فقال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين ولّانى مصركم وثغركم وفيئكم وأمرنى بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشّدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد البر، ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفى وسوطى على من ترك أمرى وخالف عهدى فليبق امرؤ على نفسه» . ثم نزل. وأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، وقال: «اكتبوا إلى الناس الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشّقاق، فمن كتبهم لى فقد برئ، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما فى عرافته لا يخالفنا فيهم مخالف، ولا يبغى علينا منهم باغ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمّة، وحلال

_ [1] مرجانة: أم عبيد الله بن زياد، وسيأتى بعض ما يتعلق بها.

لنا ماله ودمه، وأيّما عريف وجد فى عرافته أحد من بغية أمير المؤمنين لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، وألغيت تلك العرافيه من العطاء وسيّر إلى موضع بعمان» . ثم نزل. قال: وسمع مسلم ابن عقيل بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانئ بن عروة المرادى فدخل بابه واستدعاه، فخرج إليه، فلما رآه كره مكانه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرنى وتضيفنى. فقال هانئ. «- لقد كّلفتنى شططا، ولولا دخولك دارى لأحببت أن تنصرف عنى، غير أنه يأخذنى من ذلك ذمام [1] ، ادخل!» فآواه، واختلفت الشيعة إليه فى دار هانىء. قال ومرض هانئ، فأتاه عبيد الله يعوده، فقال له عمارة بن عمير [2] السلولىّ: دعنا نقتل هذا الطاغية، فقد أمكن الله منه، فقال هانئ ما أحب أن يقتل فى دارى، وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانىء، وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع، فأرسل إليه ابن زياد: إنى رائح إليك العشية. فقال لمسلم ابن عقيل: «إن هذا الفاجر عائدى العشية فإذا جلس فاقتله ثم اقصد القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن بريت من وجعى سرت إلى من بالبصرة فكفيتك أمرهم» . فلمّا كان من العشىّ أتاه عبيد الله فقام مسلم بن عقيل ليدخل، فقال له شريك لا يفوتنّك إذا جلس. فقال هانىء بن عروة: إنى لا أحبّ أن يقتل فى دارى. وجاء عبيد

_ [1] الذمام: العهد. [2] فى تاريخ بن جرير: «عبيد» .

الله فجلس عند شريك وأطال، فلما رأى شريك أن مسلما لا يخرج خشى أن يفوته، فأخذ يقول: «ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها! اسقونيها [1] وإن كانت فيها نفسى!» يقول ذلك مرّتين أو ثلاثا، فقال عبيد الله: «ما شأنه؟ ترونه يخلط!» فقال هانئ: «نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتّى ساعته هذه» . فانصرف. وخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: «أمران: أحدهما كراهية هانئ أن يقتل فى منزله، والثانى حديث حدّثه علىّ [2] رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان قيد [3] الفتك فلا يفتك مؤمن» . فقال هانئ: لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا!. ومات شريك بعد ذلك بثلاث، فصلّى عليه عبيد الله، فلمّا علم أنه كان يحرّض مسلما على قتله قال: والله لا أصلّى على جنازة عراقى أبدا!. قال: وكان عبيد الله بن زياد قد أعطى مولى [4] له ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتلطّف فى الدخول على مسلم بن عقيل وأصحابه،

_ [1] كذا جاء فى لأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 271 «اسقنيها» . [2] ورواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبى هريرة والزبير ومعاوية. [3] كذا جاء ضبطه فى بعض كتب الحديث، وضبط فى مدة (ف ت ك) من نسخ النهاية لابن الأثير «قيد» بتشديد الياء مفتوحة، وجاء فى مادة (ق ى د) من النهاية: «قيد الإيمان الفتك، أى أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدا ومنه قولهم فى صفة الفرس: هو قيد الأوابد» ، وكذلك جاء فى لسان العرب. ويرى بعض العلماء أن الحديث «الإيمان قيد الفتك» أحسن من قول امرىء القيس «قيد الأوابد» انظر فيض القدير ج 3 ص 186، والفتك: أن يقتل الرجل جهارا آمنا غافلا. [4] اسمه «عقيل» .

[وقال] [1] : أعطهم هذا المال وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم. ففعل، وأتى مسلم بن عوسجة الأسدىّ [2] فقال له: «يا عبد الله، إنى امرؤ من أهل الشام، أنعم الله علىّ بحبّ أهل البيت، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغنى أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت نفرا يقولون: إنك تعرف أمر هذا البيت، وإنى أتيتك ليقبض المال وتدخلنى على صاحبك أبايعه، وإن شئت أخذت بيعتى له قبل لقائه» . فقال: «لقد سرّنى لقاؤك إيّاى لتنال الذى تحبّ، وينصر الله بك أهل [بيت نبيه] [3] وقد ساءنى معرفة الناس هذا الأمر من قبل أن يتم، مخافة هذا الطاغية وسطوته» فأخذ بيعته ولمواثيق المعظمة ليناصحنّ وليكتمنّ. واختلف إليه أيّاما، حتى أدخله على مسلم بن عقيل، فأخذ بيعته وقبض ماله، وذلك بعد موت شريك، وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد. وكان هانئ قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض، فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث وابن أسماء [4] بن خارجة، وعمر بن الحجاج الزّبيدىّ، فسألهم عن هانئ وانقطاعه، فقالوا إنه مريض. قال:

_ [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] زاد الطبرى وابن الأثير «بالمسجد» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) . [4] ابن أسماء هو حسان بن أسماء بن خارجة، كما يأتى قريبا، وفى تاريخ الطبرى والكامل: «وأسماء» .

بلغنى أنه يجلس على باب داره وقد برئ، فأتوه فمروه لا يدع ما عليه فى ذلك [من الحق] [1] . فأتوه فقالوا له: «الأمير قد سأل عنك، وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك، وقد استبطأك، والجفا لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبت معنا» . ففعل فلما دنا من القصر أحسّت نفسه بالشر، فقال لحسّان بن أسماء ابن خارجة: يابن أخى إنى لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ فقال ما أتخوف عليك شيئا، فلا تجعل على نفسك سبيلا، ولا يعلم أسماء [2] مما كان شيئا. قال: فدخل القوم على ابن زياد، فلما رأى هانىء بن عروة قال لشريح القاضى: أتتك بحائن رجلاه [3] . فلما دنا منه قال عبيد الله [4] : اريد حياته [5] ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 272. [2] كذا جاء هنا مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وانظر ما سبق قريبا. [3] «أتتك بحائن رجلاه» مثل عربى قديم، قيل: قائله عبيد بن الأبرص الأسدى إذ مر بالنعمان بن المنذر فى يوم بؤسه فقال له النعمان: ما جاء بك يا عبيد؟ قال: أتتك بحائن رجلاه. وقيل: قائله الحارث ابن جبلة، إذ هجاه الحارث بن عيف العبدى ثم وقع فى أسره. انظر الفاخر ص 250- 251 ومجمع الأمثال ج 1 ص 23 وقال صاحب لسان العرب: حان الرحل: هلك، وفى المثل «أتتك بحائن رجلاه» والأولى أن يفسر «الحائن بالذى قدر حينه، أى هلاكه، كما ذكر الميدانى فى شرح المثل «لا يملك الحائن حينه» ج 2 ص 177. [4] قال عبيد الله بن زياد هذا البيت متمثلا به، وقد تمثل به على بن أبى طالب من قبل، والبيت من قصيدة لعمرو بن معد يكرب وقد سبق بيان ذلك. [5] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 272 «حباءه» ، وفى الكامل ج 3 ص 270 «حياته» وانظر ما سبق.

فقال له هانئ وما ذاك؟ فذكر له خبر مسلم بن عقيل، وأنه فى داره، فأنكر ذلك، وطال بينهما النزاع، فاستدعى عبيد الله مولاه الذى كان يأتيهم، فجاء فوقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا فقال نعم. وعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط فى يده ساعة، ثم راجعته نفسه فقال: «اسمع منى وصدقنى، فو الله لا أكذبك، والله ما دعوته ولا علمت بشىء من أمره حتى رأيته [جالسا] [1] على بابى يسألنى النزول علىّ، فاستحييت من ردّه ودخلنى من ذلك ذمام، فأدخلته دارى وضفته، وقد كان من أمره الذى بلغك، فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن إليه، ورهينة تكون فى يدك حتّى أنطلق وأخرجه من دارى وأعود إليك» فقال: لا والله لا تفارقنى أبدا حتّى تأتينى به. قال: لا آتيك بضيفى لتقتله أبدا، فقال ابن زياد: والله لتأتينّى به أو لأضربنّ عنقك. قال إذا والله تكثر البارقة [2] حول دارك. فقال: أبالبارقة تخوفنى؟!. وقيل إن هانئا لما رأى ذلك اللعين قال: أيها الأمير إنه قد كان الذى بلغك، ولم أضيع يدك عندى، فأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت، فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران [3] قائم على رأسه، فقال وا ذلاه! هذا الحائك يؤمنك فى سلطانك! فقال: خذه، فأخذ مهران ضفيرتى هانئ، وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخديه حتى كسر أنفه، وسيّل الدّماء على ثيابه، ونثر لحم

_ [1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] البارقة: السيوف. [3] مهران الترجمان كان له تأثير فى عبيد الله بن زياد.

خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطى وجبذه فمنع منه، فقال عبيد الله: أحرورى [1] ! أحللت بنفسك وحل لنا قتلك، ثم أمر به فألقى فى بيت وأغلق، فقام إليه أسماء بن خارجة وقال: «يا غادر أرسله؛ أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه، وسيّلت دمه، وزعمت أنك تقتله» . فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع [2] ثم ترك فجلس [3] . وأما ابن الأشعث فقال: رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أو علينا. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل، فأقبل [فى [4]] مذحج حتّى أحاطوا بالقصر، ونادى: «أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة، ولم نفارق جماعة. فقال ابن زياد لشريح القاضى: «ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حى [لم يقتل وأنك قد رأيته [5]] فدخل عليه، وخرج إليهم فقال. قد نظرت إلى صاحبكم وأنه حىّ لم يقتله، فقالوا: إذ لم يقتله فالحمد لله، ثم انصرفوا.

_ [1] نص لفظ عبيد الله «أهرورى» بالهاء بدلا من الحاء، كما ذكره الجاحظ فى البيان والتبين ج 1 ص 72 وذكر فى مواضع من هذا الكتاب وابن قتيبة فى المعارف أن عبيد الله كان خطيبا على لكنة كانت فيه، لأنه نشأ فى الأساورة- وهم قوم من العجم نزلوا البصرة قديما- مع أمه مرجانة، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسوارى ودفع إليها عبيد الله. [2] اللهز: الدفع والضرب. والتعتعة: التحريك بعنف. [3] كذا جاء فى لأصل موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «فحبس» . ومما يذكر أن عبد الله بن زياد تزوج هند بنت أسماء بن خارجة كما فى الأغانى ج 18 ص 128. [4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 274.

ذكر ظهور مسلم بن عقيل

ذكر ظهور مسلم بن عقيل واجتماع الناس عليه، ومحاصرته عبيد الله بن زياد بالقصر وكيف خذله من اجتمع إليه وتفرقوا عنه وخبر مقتله ومقتل هانئ بن عروة قال [1] : ولما أتى الخبر مسلم بن عقيل خرج من دار هانئ، ونادى فى أصحابه: «يا منصور أمت» [2] وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا، وحوله فى الدور أربعة آلاف، فاجتمع إليه ناس كثير، فعقد لعبد الله بن عزير الكندىّ على ربع كندة، وقال: سر أمامى. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد، وعقد لأبى ثمامة الصائدىّ على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلىّ على ربع المدينة، وأقبل نحو القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز بالقصر وأغلق الباب، وأحاط مسلم بالقصر، وامتلأ المسجد والسوق بالناس، وما زالوا يجتمعون حتّى المساء، وضاق بعبد الله أمره، وليس معه فى القصر الإثلاثون رجلا من الشّرط، وعشرون من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون [ابن زياد] [3] من قبل الباب الذى يلى دار الروميين، والناس يسبون ابن زياد وأباه. فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثى، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع راية

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 271. [2] كان هذا شعارهم. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 276.

الأمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذّهلى، وشبث بن ربعى التميمى، وحجّار بن أبحر العجلى، وشمر بن ذى جوشن الضبابىّ [1] وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم، لقلة من معه. وخرج أولئك النفر على الناس من القصر، فمنوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم تفرقوا، حتّى إن المرأة لتأتى ابنها وأخاها، فتقول: «انصرف، الناس يكفونك» ، ويفعل الرجل مثل ذلك. فما زالوا يتفرقون حتى بقى مسلم بن عقيل فى المسجد فى ثلاثين رحلا [2] ، فلما رأى ذلك خرج نحو أبواب كندة، فلما وصل إلى الباب لم يبق معه أحد، فمضى فى أزقّة الكوفة لا بدرى أين يذهب. فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة (أم ولد كانت للأشعث، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمىّ، فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس، وهى تنتظره) فسلّم عليها، وطلب منها ماء فسقته، فجلس، فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟! قال: بلى؛ فقالت، فاذهب إلى أهلك؛ فسكت، فكررت ذلك عليه ثلاثا فلم يبرح؛ فقالت: سبحان الله! إنى لا أحلّ لك الجلوس على بابى. فقال: ليس لى فى هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك فى أجر معروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. قالت وما ذاك؟ قال:

_ [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «العامرى» . [2] هم الذين صلوا معه لمغرب.

أنا مسلم بن عقيل، كذبنى هؤلاء القوم وغرّونى. قالت: ادخل؛ فأدخلته بيتا فى دارها [غير البيت الذى تكون فيه] [1] وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول فى ذلك البيت، فسألها، فلم تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته، واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك. قال [2] : وأمّا ابن زياد، فلما سكنت [3] الأصوات قال لأصحابه: انظروا هل ترون منهم أحدا؟ فنظروا فلم يروا أحدا، فنزل إلى المسجد قبل العتمة [4] ، وأجلس أصحابه حول المنبر، وأمر فنودى: «برئت الذمة من رجل من الشّرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلّى العتمة [5] إلا فى المسجد، فامتلأ المسجد، فصلّى بالناس، ثم قام فحمد ثم قال: «أمّا بعد، فإن ابن عقيل السّفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشّقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن أتانا به فله ديته» وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين ابن تميم أن يمسك أبواب السكك، ثم يفتش الدّور. وأصبح ابن زياد فجلس، فأتى بلال إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث وأخبره بمكان ابن عقيل، فأتى عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد فسارّه بذلك، فأخبر محمد ابن الأشعث ابن زياد، فقال له: قم فأتنى به الساعة؛ وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 278. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 4 ص 272. [3] كذا جاء بالنون فى النسخة (ك) ، وجاء «سكتت» بالتاءين فى النسخة (ن) . [4] عتمة الليل: ظمته. [5] كانت الأعراب يسمون صلاة العشاء «صلاة العتمة» تسمية بالوقت.

السّلمى فى سبعين من قيس، فأتوا الدار، فخرج ابن عقيل إليهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا، وضربه بكر بن حمران الأحمرىّ فقطع شفته العليا وسقط سنّتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنّى بأخرى على حبل العاتق فكادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت، وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى القصب ويلقونها عليه، فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم فى السكة، فقال له محمد بن الأشعث. لك الأمان فلا تقتل نفسك؛ فأقبل يقاتلهم ويقول: أقسمت لا أقتل إلّا حرّا ... وإن رأيت الموت شيئا نكرا ويخلط البارد سخنا مرا ... رد شعاع النفس مستقرّا [1] كلّ امرىء يوما ملاق شرّا ... أخاف أن أكذب أو أغرّا فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وكان قد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال، وأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فأمّنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السّلمى فإنه قال: لا ناقتى فيها ولا جملى [2] . وأتى ببغلة فحمل عليها، وانتزعوا سيفه، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عيناه وقال: هذا أول الغدر. قال محمد: أرجو ألا يكون عليك بأس. قال: وما هو إلا الرجاء! أين أمانكم! ثم بكى، فقال له عمرو بن عبيد الله:

_ [1] كذا جاء فى الأصل، وجاء عند الطبرى وابن الأثير: «رد شعاع الشمس فاستقرا» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «لا ناقة له فى هذا ولا جمل» .

من يطلب الذى تطلب إذا نزل به مثل الذى نزل بك لم يبك، فقال: ما أبكى لنفسى، ولكن أبكى لأهلى المنقلبين إليكم: أبكى للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث: «إنى أراك تعجز [1] عن أمانى، فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالى، ويقول له عنى: ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذى كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟» فقال ابن الأشعث: والله لأفعلنّ. وفعل [2] وأبى الحسين الرجوع. قال: وجاء محمد بمسلم إلى القصر فأجلسه على بابه [3] ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه، فقال له: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به. قال: ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرّة فيها ماء بارد فقال اسقونى من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو الباهلى: أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم فى نار جهنّم! فقال له ابن عقيل: من أنت؟ قال: «أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح الأمة وإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأمك الثّكل،

_ [1] عند الطبرى وابن الأثير: «ستعجز» . [2] دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائى، من بنى مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرا، وكان لمحمد زوارا، فقال له محمد: الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فى الكتاب ما أمره به مسلم بن عقيل، وأعطى لرسوله إياس زاده وجهازه وراحلته ومتعة لعياله، فخرج الرسول ومضى أربع ليال حتى استقبل الحسين بموضع يسمى «زبالة» ، فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له الحسين: كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.. وانظر ما سيأتى [3] وكان على باب القصر أناس ينتظرون الإذن، منهم مسلم بن عمرو وعمارة بن عقبة ابن أبى معيط وعمرو بن حريث وكثير بن شهاب.

ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود فى نار جهنم منى!» قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصبّ له فى قدح، فأخذ يشرب فامتلأ القدح دما: فعل ذلك ثلاثا، ثم قال: لو كان من الرّزق المقسوم لشربته. وأدخل على ابن زياد، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسى: ألا تسلّم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلى فما سلامى عليه! وإن كان لا يريده فليكثرنّ تسليمى عليه. فقال ابن زياد: لعمرى لتقتلنّ. قال: فدعنى أوصى إلى بعض قومى. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبى وقّاص: «إن بينى وبينك قرابة، ولى إليك حاجة وهى سر» . فلم يمكنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك. فقام معه، فقال: «إن علىّ بالكوفة دينا استدنته [1] أنفقته: سبعمائة درهم، فاقضها عنّى، وانظر جثّتى فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين فاردده» . فقال عمر لابن زياد: أتدرى ما سارّنى؟ فقال: أكثرتم على ابن عمك؛ فقال: الأمر أكبر من هذا. قال: اكتم على ابن عمك: قال الأمر أكبر من هذا، وأخبره بما قال. فقال ابن زياد لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن. أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده: وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأمّا جشّته فإنا لا نشفّعك فيها» وقيل: إنه قال: وأمّا جثته فإذا قتلناه لا نبالى ما صنع بها. ثم قال: يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة

_ [1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 282: «استدنته منذ قدمت الكوفة» .

لتشتيت بينهم، وتفريق كلمتهم. قال: «كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال وما أنت وذاك؟ ثم كانت بينهما مقاولة قال له ابن زياد فى آخرتها: قتلنى الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام، فقال: «أما إنك أحقّ من أحدث فى الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السّيرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحقّ بها منك!» فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليّا وعقيلا ولم يكلّمه مسلم. ثم أمر به، فأصعد فوق القصر وهو يستغفر الله تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين [1] فضربت عنقه، وكان الذى قتله بكير بن حمران، ثم أتبع رأسه جسده. قال وقام محمد بن الأشعث فكلّم ابن زياد فى هانئ بن عروة، وقال قد عرفت منزلته من المصر وبيته، وقد علم قومه أنى أنا وصاحبى. سقناه إليك، فأنشدك الله لمّا وهبته، فإنى أكره عداوة قومه!» فوعد أن يفعل، ثم بدا له فأمر به حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه. وبعث عبيد الله بن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره، ويقول له: «قد بلغنى أن الحسين بن علىّ توجه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التّهمة، وخذ بالظّنّة، غير ألّا تقتل إلا من قاتلك» .

_ [1] جاء فى تاريخ الطبرى: «أشرف به على موضع الجزارين اليوم» .

قال: وكان مخرج [مسلم بن [1]] عقيل بالكوفة [2] لثمان ليال مضين من ذى الحجّة سنة ستين. وقيل: لتسع [3] مضين منه. وكان فيمن خرج معه المختار [4] بن أبى عبيد، وعبد الله [5] بن الحارث بن نوفل، وطلبهما ابن زياد وحبسهما. وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث، وشبث بن ربعىّ- وهو أحد من كتب إلى الحسين- والقعقاع بن شور، وجعل شبث يقول: انتظروا بهم إلى [6] الليل يتفرقوا. فقال له القعقاع: إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم، فافرج لهم يتفرقوا. وحج بالناس فى هذه السنة عمرو بن سعيد الأشدق، وهو عامل مكة والمدينة. وفيها مات أبو أسيد الساعدى [7] ، واسمه مالك ابن ربيعة، وهو آخر من مات من البدريّين [8] ، وقيل: مات سنة خمس وستين. ومات حكيم بن حزام [9] وله مائة وعشرون سنة، ستون

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] يوم الثلاثاء. [3] يوم الأربعاء. [4] خرج المختار براية خضراء. [5] خرج عبد الله براية حمراء وعليه ثياب حمر. [6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «انتظروا بهم الليل» . [7] ينتهى نسبه إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكان مشهورا بكنيته. [8] شهد بدرا وأحدا وما بعدهما، وكانت معه راية بنى ساعدة يوم الفتح. [9] حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى هو بن أخى خديجة بنت خويلد زوجة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حكيم من سادات قريش، وكان صديق النبى قبل المبعث، وكان يوده بعد المبعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وقد جاء الإسلام وفى يد حكيم الرفادة.

سنة أحدى وستين ذكر مسير [1] الحسين بن على رضى الله عنهما وخبر من نهاه عن المسير

فى الجاهلية وستون فى الإسلام. ومات جماعة ممن لهم صحبة فى هذه السنة. سنة أحدى وستين ذكر مسير [1] الحسين بن على رضى الله عنهما وخبر من نهاه عن المسير كان مقتله بالطّف على شاطئ الفرات من أرض كربلاء، وذلك فى يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم من هذه السنة. ولنبدأ بخبر مسيره من مكة شرّفها الله تعالى، وسبب مسيره ومن أشار عليه بالمقام بمكة وترك المسير إلى الكوفة، ثم نذكر ما كان من خبره فى مسيره إلى أن قتل رضى الله عنه، فنقول: كان مسيره من مكّة لقصد الكوفة يوم التّروية، وكان سبب مسيره إلى الكوفة ما ورد عليه من كتب أهلها كما تقدم، ثم أكّد ذلك عنده وحمله عليه وقوّى عزمه ورود كتاب مسلم بن عقيل بن أبى طالب عليه يخبره أنه بايعه بالكوفة ثمانية عشر ألفا، ويستحثّه على المسير إليها، وكان هذا من مسلم فى ابتداء أمره [3] .

_ [1] ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 146 ممن توفى فى هذه السنة صفوان بن المعطل الصحابى، وأبو مسلم الخولانى عبد بن ثوب ببلاد اليمن وهو الذى دعاه الأسود العنسى إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال: لا أسمع أشهد أن محمدا رسول الله، ويقال: إنه توفى فيها النعمان ابن بشير والأظهر أنه مات بعد ذلك ... وذكر بن العماد فى شذرات الذهب ج 1 ص 65 ممن توفى فى هذه السنة عمرة بن جندب الفزارى وعبد الله بن مغفل المزنى وبلال بن الحارث المزنى. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «مقدم» . [3] كان مسلم بن عقيل حيث ذهب فى أول أمره بالكوفة إلى دار هانىء بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا أرسل إلى الحسين مع عابس بن أبى شهيب الشاكرى كتابا كتب فيه: «أما بعد إن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعنى من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابى، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم فى آل معاوية رأى ولا هوى، والسلام» ، وانظر ما سيأتى.

قال [1] : ولما عزم الحسين رضى الله عنه على المسير إلى الكوفة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: «إنى أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنك تستنصحنى قلتها وأدّيت ما على من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى كففت عمّا أريد!» فقال له: قل فو الله ما أستغشك ولا أظنك بشىء من [2] الهوى. قال: «قد بلغنى أنك تريد العراق، وإنى مشفق عليك أنك تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممّن يقاتلك معه!» فقال له الحسين رضى الله عنه: جزاك الله خيرا يا ابن عمّ، فقد علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندى أحمد مشير، وأنصح ناصح. وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع فقال له: قد أجمعت السير فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: «فإنى أعيذك بالله من ذلك؛ خبّرنى رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله تجبى بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 275. [2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 287: «ما أظنك بسيىء الرأى ولا هوى القبيح من الفعل» .

أشدّ الناس عليك!» فقال الحسين: فإنى أستخير الله وأنظر ما يكون. فخرج ابن عباس. وأتاه عبد الله بن الزّبير فحدّثه ساعة، ثم قال: «ما أدرى ما تركنا هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم؛ خبّرنى ما تريد أن تصنع؟!» فقال الحسين: «لقد حدّثت نفسى بإتيانى الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتى بها، وأشراف الناس وأستخير الله» . فقال ابن الزبير: أما إنه لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت عنها. ثم خشى أن يتهمه، فقال أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحناك. فقال له الحسين رضى الله عنه: «إن ابى حدثنى أن لها كبشا به تستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون [1] ذلك الكبش!» قال: فأقم إن شئت وتولينى أنا الأمر فتطاع ولا تعصى، قال: ولا أريد هذا الأمر أيضا. ثم إنهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال: فإنه يقول قم فى هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين: «والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر، ويم الله، لو كنت فى جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجونى حتى يقضوا فىّ حاجتهم، والله ليعتدنّ [على [2]] كما اعتدت اليهود فى السّبت!» فقام ابن الزّبير وخرج من عنده.

_ [1] جاء عند الطبرى وابن الأثير: «أكون أنا» . [2] الزيادة من الطبرى وابن الأثير.

فلما كان من العشىّ أو من الغد أتاه ابن عبّاس فقال: «يا ابن عم، إنى أتصبر ولا أصبر، إنى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر [1] فلا تنفر إليهم [2] ، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم لينفوا عاملهم وعدوّهم، ثم قدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهى أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت على الناس فى [3] عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنى أرجو أن يأتيك عند ذلك الذى تحبّ فى عافية!» فقال له الحسين: «يا ابن عم، إنى والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!» فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك، فإنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!» ثم قال له ابن عباس: «لقد أقررت عين ابن الزّبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتنى فأقمت لفعلت ذلك!» . ثم خرج من عنده. فمرّ بابن الزّبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثم قال [4] :

_ [1] كذا يجىء على الوصف، ويجوز أن يكون «غدر» بفتح الغين وسكون الدال مصدرا مضافا إليه. [2] أى: فلا تسرع إليهم، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل: «فلا تقربنهم» [3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى البداية والنهاية ج 8 ص 160 «وكن عن الناس فى معزل» وجاء فى مروج الذهب ج 2 ص 86 «فإنها فى عزلة» . [4] أى: قال هذا الرجز القديم متمثلا به، كما تمثل به قيس بن سعد فى قوله لمعاوية أبن أبى سفيان: «فدونك أمرك يا معاوية، فإن مثلك كما قال الشاعر: يا لك من قبرة بمصر ... » أنظر العقد الفريد ج 4 ص 340.

يا لك من قبّرة بمعمر [1] ... خلا لك الجوّ فبيضى واصفرى [2] ونقّرى ما شئت أن تنقرى [3] هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز. قال وخرج حسين من مكة يوم التّروية [4] ، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وسار فمر بالتنعيم [5] فرأى عيرا قد أقبلت من اليمن، بعث بها بحير

_ [1] القبرة: طائر صغير. والمعمر: المكان الواسع من جهة الماء والكلأ ينزل فيه النازلون فيعمرونه. [2] «خلالك الجو فبيضى واصفرى» مثل يضرب فى الحاجة يتمكن منها صاحبها، كما ذكره الميدانى فى مجمع الأمثال ج 1 ص 249، وذكر بن عبد ربه فى العقد الفريد ج 3 ص 126- 127 أن هذا المثل يقال فى «الرجل يخلو بحاجته» . [3] نقر الطائر فى الموضع: سهله ليبيض فيه، وقيل: التنقير مثل الصفير.. وقد زاد ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 160، ص 165 فى التمثل بهذا الرجز مشطور رابعا: «صيادك اليوم قتيل فابشرى» والمعروف فى رواية الرجز القديم: «قد رحل الصياد عنك فابشرى» .. والمشهور أن قائل هذا الرجز هو طرفة بن العبد الشاعر، كما فى الحيوان ج 3 ص 66، ج 5 ص 227 والفاخر ص 189- 190 والصحاح (ع م ر، ق ب ر) ومجمع الأمثال وحياة الحيوان، وذلك أن طرفة كان وهو صبى صغير مسافرا مع عمه فنزلا على ماء عليه قبرات، فنصب طرفة فخالها، فنفرت، وقعد عامة يومه فلم يصد شيئا، فانتزع فخه من التراب وحمله وارتحل مع عمه والتفت وراءه فرأى القبرات يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال هذا الرجز ... وذكر ابن برى فى حواشيه على الصحاح أن هذا الرجز لكليب بن ربيعة التغلبى، وليس لطرفه كما ذكر الجوهرى، وذلك أن كليبا خرج يوما فى حماه، فإذا هو بقبرة على بيضها، فلما نظرت إليه صرصرت وخفقت بجناحيها، فقال لها: أمن روعك أنت وبيضك فى ذمتى، ثم دخلت ناقة البسوس إلى الحمى فكسرت البيض، فرماها كليب فى ضرعها، فهاجت حرب بكر وتغلب ابنى وائل بسببها أربعين سنة، انظر لسان العرب فى (ب ر) وفى (ع م ر، ن ق ر) [4] يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذى الحجة، سمى به لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء وينهضون إلى منى. [5] التنعيم: موضع قريب من مكة فى الحل، على فرسخين منها.

ابن ريسان الحميرى عامل اليمن إلى يزيد، وعليها الورس [1] والحلل، فأخذها الحسين ثم سار، فلما انتهى إلى الصّفاح [2] لقيه الفرزدق الشاعر [3] فقال له الحسين: بين لى خبر الناس خلفك فقال: «الخبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء!» فقال الحسين صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء، وربّنا كل يوم فى شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، هو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد [4] من كان الحق نيته، والتقوى سريرته. قال وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يقول: «أمّا بعد، فإنى أسألك بالله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابى هذا فإنى مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الآن طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنى فى إثر كتابى، والسلام!» . وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد وقال: «اكتب للحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البرّ والصّلة، وترفق

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وجاء فى النسخة (ك) : «الوشى» . والورس: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- والوشى: نوع من الثياب المنقوشة. [2] الصفاح: موضع بين حنين ومكة. [3] كان الفرزدق يحج بأمه ويسوق بعيرها، فلقى الحسين خارجا من مكة، فسأله الحسين: ممن أنت؟ قال: الفرزدق: امرؤ من العراق، فقال له الحسين: بين لى ... الخ. [4] عند الطبرى وابن الأثير: «فلم يعتد» .

فى كتابك، وتسأله [1] الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال له عمرو اكتب ما شئت، وأتنى به حتى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمر بن سعيد: فقال: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى فإنه أحرى أن تطمئن به نفسه، ويعلم أنه الجدّ منك ففعل. وكان مضمون الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن على، أما بعد، فإنى أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك. بلغنى أنك قد توجهت إلى العراق، وإنى أعيذك بالله من الشّقاق، فإنى أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله ابن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلىّ معهما، فإن لك عندى الأمان والصلة والبر وحسن الجوار، لك الله علىّ بذلك شهيد وكفيل، وراع ووكيل، والسلام عليك» . فأخذا الكتاب ولحقا حسينا، فأقرأه يحيى الكتاب. وكان ممّا اعتذر به أن قال: إنى رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت بأمر أنا ماض له، فقالا له: ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت أحدا بها ولا أنا محدّث أحدا بها حتّى ألقى ربّى. وكتب الحسين إلى عمرو بن سعيد: «أمّا بعد، فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن بالله يوم القيامة من لم يخفه فى الدنيا، فنسأل الله مخافة فى

_ [1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 291، وجاء فى الكامل ج 3 ص 277: «وأسأله» .

الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتى وبرى فجزيت خيرا فى الدنيا والآخرة، والسلام» . قال [1] : ولمّا بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين ابن نمير [2] التّميمى صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفّان [3] ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع. وأقبل الحسين حتى إذا بلغ الحاجز من بطن الرّمة بعث قيس بن مسهر الأسدىّ ثم الصّيداوى إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. أمّا بعد؛ فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءنى يخبرنى فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يشيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذى الحجّة يوم التّروية، فإذا قدم عليكم رسولى فانكمشوا [4] فى أمركم وجدوا، فإنى قادم عليكم فى أيامى هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله» .

_ [1] ابن الأثير فى الكامل. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «تميم» ، والذى فى جمهرة أنساب العرب ص 403 أنه الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن الحارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، وسيأتى وصفه بالسكونى. [3] خفان: موضع فوق القادسية، وهو وما بعده مواضع بين الكوفة ومكة. [4] انكمشوا: تشمروا.

وكان مسلم بن عقيل قد كتب إلى الحسين قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، أمّا بعد؛ فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع [1] أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابى والسلام. قال: وأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين إلى أهل الكوفة، فلما بلغ القادسية أخذه الحصين بن نمير [2] فبعث به إلى ابن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد [القصر] [3] فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن على. فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن هذا الحسين بن علىّ رضى الله عنهما خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه» ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلىّ، فأمر به عبيد الله فرمى من فوق القصر فتقطع فمات. قال [4] : ثم أقبل الحسين رضى الله عنه يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوىّ فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبى أنت وأمى يا ابن رسول الله، ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله فقال له الحسين: إنه كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلىّ أهل العراق يدعوننى إلى أنفسهم. فقال: «أذكرك بالله [5] يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله

_ [1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 297 «جمع» ، وانظر ما سبق. [2] انظر ما سبق قريبا، وفى المخطوطة «تميم» . [3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى. [4] ابن الأثير فى الكامل، وأصله عند الطبرى. [5] عند الطبرى وابن الأثير: «أذكرك الله» .

فى حرمة قريش [1] ، أنشدك الله فى حرمة العرب، فو الله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعد أحدا أبدا، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبنى أمية!» فأبى إلّا أن يمضى. فلما نزل بزرود [2] أتاه الخبر بقتل مسلم ابن عقيل وهانئ ابن عروة، فاسترجع [3] مرارا، فقال له عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعلّ الأسديان، وكانا قد لحقاه حين قضيا حجهما: «ننشدك الله فى نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!» فوثب بنو عقيل فقالوا لا: والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. فقال الحسين رضى الله عنه: لا خير فى العيش بعد هؤلاء، فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فانتظر الحسين حتى إذا كان السّحر قال لفتيانة وغلمانه: أكثروا من الماء. فاستقوا فأكثروا، ثم ارتحلوا حتّى انتهوا إلى زبالة [4] . وقيل: كان الحسين لا يمرّ بماء إلا اتبعه أهل ذلك الماء، حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرّضاعة عبد الله بن بقطر،

_ [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «رسول الله صلى الله عليه وسلم» . [2] قال ياقوت: «لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التى تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفه» . [3] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» . [4] زبالة: موضع معروف بطريق مكة من الكوفة.

وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه أصيب فأخذه الحصين بالقادسية، فبعث به إلى زياد فقال له: اصعد فوق القصر فالعن الكذابّ ابن الكذّاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيى، فصعد فلما أشرف على الناس قال: «أيها الناس، إنى رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدّعى!» فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه وبقى به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمى [1] فذبحه، فلمّا عيب عليه ذلك قال: إنما أردت أن أريحه. فلمّا بلغ الحسين الخبر قال لأصحابه: من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه منا ذمام؛ فتفرق الناس عنه حتى بقى فى أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة. قال: وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنت أنه يأتى بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فأراد أن يعلموا علام يقدمون. قال ثم ارتحل الحسين وسار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها، فأتاه بعض الأعراب فسأله عن مقصده فأخبره، قال: «إنّى أنشدك الله لمّا انصرفت، فو الله ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّئوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التى تذكر فإنى

_ [1] قال بعض العلماء: لم يكن الذى ذبحه عبد الملك بن عمير، ولكنه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك.

لا أرى لك أن تفعل!» فقال الحسين: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علىّ ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره!. ثم ارتحل منها وقد استهلّت إحدى وستين، وسار حتّى نزل شراف [1] فلما كان فى السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا، ثم ساروا منها صدر يومهم حتّى انتصف النهار، فكبّر رجل من أصحابه فكبر الحسين، وقال: ممّ كبّرت؟ قال: رأيت النخل، فقال عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعل الأسديان: والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط، قال: فما تريان. قالا: نراه والله [رأى] [2] هوادى [3] الخيل. فقال الحسين: وأنا والله أرى ذلك، ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقيل له: «بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت هوداى الخيل، فلما رأوهم قد عدلوا عن الطريق عدلوا عنها إلى قصدهم، فسبق الحسين إلى ذى حسم، فنزل وأمر بأبنية [4] فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس عليهم الحرّ بن يزيد التميمى، فجاءوا حتى وقفوا مقابل الحسين رضى الله عنه: وكان مسير الحر ومن معه من القادسية من قبل الحصين بن نمير [5] التميمى.

_ [1] شراف: موضع بعد العقبة وواقصة وقبل القرعاء فى الطريق من مكة إلى الكوفة. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 302. [3] هوادى الخيل: أوائلها، والهادى والهداية: العنق، لأنها تتقدم على البدن ولأنها تهدى البدن. [4] أبنية: جمع بناء، وهو ما يسكنه الناس، فيطلق على ما يضربه العرب فى الصحراء من خيمة وغيرها. [5] كذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 279: «نمير» وجاء فى المخطوطة: «تميم» وانظر ما سبق.

فلم يزل الحرّ مواقفا حسينا حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفى أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامه خرج الحسين رضى الله عنه، فى إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيّها الناس، معذرة إلى الله وإليكم، إنى لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت على رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، إن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطونى ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمى كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى أقبلت منه إليكم» فسكتوا عنه، وقال للمؤذن: أقم. فأقام الصلاة، فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلى بأصحابك؟ فقال: لا، بل صلّ أنت ونصلى بصلاتك، فصلّى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه. وانصرف الحر فدخل خيمة قد ضربت له، واجتمع عليه جماعة من أصحابه، وعاد بعض أصحابه إلى صفّهم الذى كانوا فيه، ثم أخذ كل رجل بعنان دابته وجلس فى طلبها. فلما كان وقت العصر أمر الحسين أصحابه أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا، ثم خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، وصلى الحسين بالقوم جميعا، ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتنى به

كتبكم، وقدمت علىّ به رسلكم، انصرفت عنكم» ، فقال له الحر: إنّا والله ما ندرى ما هذه الكتب والرسل التى تذكر. فأمر الحسين رضى الله عنه بإخراج كتبهم، فأخرجت فى خرجين مملوءين، فنثرهما بين أيديهم، فقال الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لقومه: قوموا فاركبوا، وركب نساؤهم. فلما أرادوا الانصراف حال القوم بينهم وبين المسير، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال له: «أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التى عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه» ، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: إذا والله لا أتبعك فقال الحر: إذا والله لا أدعك. فترادّا القول ثلاث مرات، فلما كثر الكلام بينهما قال الحر: «إنى لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة يكون بينى وبينك نصفا، حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله إن شئت، فلعل الله أن يرزقنى العافية من أن أبتلى بشىء من أمرك!» قال: فتياسرعن [1] طريق العذيب والقادسية، وبينه حينئذ وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا. ثم سار والحرّ يسايره.

_ [1] عبارة الطبرى: «قال: فخذ من ههنا فتياسر ... » .

قال [1] : ثم إن الحسين خطبهم [2] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى سلطانا جائرا، مستحلّا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمل فى عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقّا على الله أن يدخله مدخله» . ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفىء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيرى [3] ، وقد أتتنى كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونى ولا تخذلونى، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسى مع أنفسكم، وأهلى مع أهلكم، فلكم بى أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدى وخلعتم بيعتى فلعمرى ما هى لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبى وأخى وابن عمى مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغنى الله عنكم، والسلام. فقال له الحر: إنى أذكّرك الله فى نفسك، فإنى أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين رضى الله عنه: أبالموت تخوّفنى؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلونى! وما أدرى ما أقول لك؟! ولكنى أقول

_ [1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 280. [2] أى: خطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد التميمى بالبيضة. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى.

كما قال أخو الأوس لابن عمه، [لقيه] [1] وهو يريد نصرة النبى صلى الله عليه وسلم، [له] [2] فقال أين تذهب فإنك مقتول؟! فقال: سأمضى وما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا وخالف مجرما فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم ... كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما قال: فلما سمع الحرّ ذلك تنحى عنه، فكان يسير ناحية عنه، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات [3] ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطّرمّاح وهو يقول: يا ناقتا لا تذعرى من زجرى ... وشمّرى قبل طلوع الفجر بخير ركبان وخير سفر ... حتّى تجلّى بكريم النحر الماجد الحر رحيب الصّدر ... أتى به الله لخير الأمر ثمّت أبقاه بقاء للدهر فلما انتهوا إلى الحسين رضى الله عنه والتحقوا به، فقال الحر: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبلوا معك، وأنا حابسهم أو رادّهم؛ فقال الحسين رضى الله عنه: «لأمنعنهم

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى. [2] الزيادة من تاريخ الطبرى. [3] عذيب الهجاناث: موضع بطريق الكوفة.

مما أمنع منه نفسى، إنما هؤلاء أعوانى وأنصارى، وقد كنت أعطيتنى ألا تعرض لى حتى يأتيك كتاب من ابن زياد» ؛ قال: أجل ولكن هؤلاء لم يأتوا معك [1] . فقال: «هم أصحابى، وهم بمنزلة من جاء معى، فإن تممت على ما كان بينى وبينك وإلا ناجزتك» . فكفّ عنهم الحر. وسألهم الحسين عن خبر أهل الكوفة، فقال له مجمّع بن عبد الله العائذى- وهو أحد الأربعة-: «أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، فهب إلب [2] واحد عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك!» . فقال: هل لكم برسولى إليكم علم؟ فقالوا: من هو؟ قال: قيس ابن مسهر الصيداوى. قالوا: نعم؛ وأخبروه بمقتله، فترقرقت عينا حسين ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [3] اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم فى مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك. قال: ودنا الطّرماح من الحسين، فقال له: «والله إنى لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفوا لهم [4] ، وقد رأيت قبل خروجى من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناى فى صعيد واحد جمعا أكثر

_ [1] من هنا يبدأ ما صار بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) انظر ص 455. [2] الإلب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان، وقد تألبوا أى تجمعوا. [3] من الآية 23 من سورة الأحزاب. [4] كذا جاء فى المخطوطة وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 306 والكاملى ج 3 ص 281: «لكان كفى بهم» .

منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسيّروا إلى الحسين، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم إليهم شبرا إلا فعلت، وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذى [1] امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثم لتبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى [2] من طيّىء، فو الله لا يأتى عليك عشرة أيام حتّى يأتيك طيىء رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدالك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بأسيافهم، وو الله لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف!» . فقال له: جزاك الله وقومك خيرا، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندرى علام تتصرف بنا وبهم الأمور!. قال الطّرمّاح: فودّعته وقلت: «إنى قد امترت لأهلى ميرة، ومعى نفقة لهم فآتيهم فأصنع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك» . فقال لى: فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله. قال الطّرمّاح: فلما بلغت إلى أهلى وضعت عندهم ما يصلحهم،

_ [1] فى تاريخ الطبرى: «الذى يدعى أجأ» . [2] أجأ وسلمى: جبلان لقبيلة طيىء، وقد ذكر ياقوت «سبب نزول طيىء الجبلين واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب» .

وأوصيت، وأخبرتهم بما أريد، وأقبلت حتى دنوت من عذيب الهجانات [1] ، فأتانى نعى الحسين هناك [2] !. قال المؤرّخ [3] : ثم مضى الحسين إلى قصر بنى مقاتل [4] ، فنزل به. قال عقبة بن سمعان: فلمّا كان آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، فلمّا سرنا ساعة خفق [5] الحسين برأسه خفقة فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون. الحمد لله رب العالمين» يعيدها مرّتين أو ثلاثا، فأقبل عليه ابنه علىّ بن الحسين، فاسترجع وحمد الله وقال: «يا أبت، جعلت فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟» . قال: «يا بنىّ، إنى خفقت برأسى خفقة، فعنّ لى فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا!» قال: يا أبت ألسنا على الحق؟ قال: بلى والّذى إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذن لا نبالى أن نموت محقّين. فقال له: جزاك الله خير ما يجزى ولدا عن والده. فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجّل الركوب، وسار حتّى انتهى إلى نينوى، والحرّ ومن معه يسايرونه فإذا راكب على نجيب عليه السلاح يمسك قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه،

_ [1] عذيب الهجانات: موضع بطريق الكوفة. [2] زاد ابن الأثير: «فرجع إلى أهله» . [3] ابن جرير الطبرى فى تاريخة ج 4 ص 307- 308، وتبعه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 282. [4] فى معجم البلدان لياقوت: «قصر مقاتل: منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة التميمى» . [5] خفق برأسه: حرك رأسه حتى يثبت ذقنة على صدره وهو نائم قاعدا.

فلما انتهى إليهم سلم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد: «أمّا بعد، فجعجع [1] بالحسين حين يبلغك كتابى ويقدم عليك رسولى، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولى أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتينى بإنفاذك أمرى، والسلام» . فقال الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرنى فيه أن أجعجع بكم فى المكان الذى يأتينى فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقنى حتى أنفذ رأيه وأمره. قال: فأخذهم الحرّ بالنزول فى ذلك المكان على غير ماء ولا قرية، فقالوا: دعنا ننزل فى هذه القرية (يعنون نينوى) أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة) أو هذه الأخرى (يعنون شفيّة) . فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل بعث عينا علىّ. فقال زهير بن القين للحسين: «يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينّا من بعد ما نرى ما لا قبل لنا به!» فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: «سرّ بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنها حصينة وعلى شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجىء بعدهم» . فقال له الحسين: أيّة قرية هى؟ قال: العقر. فقال الحسين: اللهم إنى

_ [1] جعجع بالحسين: ضيق عليه المكان، وقد ذكر صاحب النهاية هذه العبارة من كتاب زياد.

أعوذ بك من العقر! [1] ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثانى من المحرّم سنة إحدى وستين. فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبى وقّاص من الكوفة. وكان سبب مسيره لقتال الحسين أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة، يسير بهم إلى دستبى، وكانت الدّيلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب ابن زياد له عهده على الرّىّ، وأمره بالخروج، فخرج وعسكر بالناس، فلما كان من أمر الحسين ما كان، دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه، فقال: نعم، على أن تردّ علينا عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلنى اليوم حتّى انظر. فاستشار عمر نصحاءه، فكلّهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة- وهو ابن أخته- فقال له: «أنشدك الله يا خالى ألّا تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك! فو الله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها- لو كان لك- خير من أن تلقى الله بدم الحسين!» فقال: أفعل إن شاء الله. وبات ليلته مفكرا فى أمره فسمع وهو يقول: أأترك ملك الرّىّ والرّىّ رغبتى ... أم أرجع مذموما بقتل حسين وفى قتله النار التى ليس دونها ... حجاب، وملك الرى قرّة عين

_ [1] أنظر معجم البلدان وتاج العروس فى «العقر» و «كربلاء» .

ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد ولّيتنى هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لى ذلك وتبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى ولا أجزأ عنك فى الحرب منه- وسمّى له أناسا-؛ فقال له ابن زياد: لا تعلمنى بأشراف الكوفة، فلست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا؛ قال: فإنى سائر. فأقبل فى ذلك الجيش حتى نزل بالحسين فلما نزل به بعث إليه عزرة [1] بن قيس الأحمسى، فقال له: ائته فاسأله: ما الذى جاء بك؟ وماذا تريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيى منه أن يأتيه، فعرض عمر ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أباه وكرهه. فقام إليه كثير بن عبد الله، وكان فارسا شجاعا، فقال: أنا أذهب إليه وو الله إن شئت لأفتكنّ به. فقال عمر: ما أريد أن يفتك به ولكن أن تسأله: ما الذى جاء به؟ فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدى قال للحسين: أصلحك الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه. فقام إليه، فقال له: ضع سيفك. قال لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول فإن سمعتم أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له رجل: فإنى آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبرنى ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر. فاستبّا، ثم انصرف إلى عمر فأخبره الخبر.

_ [1] قال صاحب الإصابة ج 3 ص 105 فى ترجمته: «عزرة بن قيس بن غزية الأحمصى البجيلى....» .

فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلى، فقال له: ويحك يا قرة، الق حسينا فاسأله: ما جاء به؟ وماذا يريد؟ فأتاه فأخبره رسالة ابن سعد، فقال له الحسين: كتب إلىّ أهل مصركم أن أقدم عليهم، فأمّا إذ كرهتمونى فإنى أنصرف عنهم. فانصرف قرّة إلى عمر فأخبره الخبر، فقال عمر: إنى لأرجو أن يعافينى الله من حربه وقتاله. ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد: « [1] أما بعد، فإنى حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولى، فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب وماذا يسأل، فقال: كتب إلىّ أهل هذه البلاد وأتتنى رسلهم فسألونى القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهونى وبدا لهم غير ما أتتنى به رسلهم فأنا منصرف عنهم» . فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال: الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص وكتب إلى عمر بن سعد: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت» فاعرض على الحسين أن يبايع يزيد بن معاوية أمير المؤمنين هو وجميع أصحابه، فإذا هو فعل رأينا والسلام» فلما قرأ عمر الكتاب قال: قد أحسست ألّا يقبل ابن زياد العافية. قال: وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فحل

_ [1] أثبت الطبرى البسملة فى أول هذا الكتاب.

بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقىّ الزكىّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان» . فبعث عمر عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشّريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. وناداه عبد الله بن أبى حصين الأزدى: «يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا!» . فقال الحسين: «اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا!» . قال أبو جعفر الطبرى فى تاريخه [1] : قال حميد بن مسلم «والله لقد عدته بعد ذلك فى مرضه، فو الله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتّى يبغر [2] ، ثم يقىء، ثم يعود فيشرب حتّى يبغر، فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غصّته» (يعنى نفسه) . قال: فلمّا اشتدّ على الحسين ومن معه العطش دعا أخاه العبّاس ابن علىّ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فدنوا من الماء، وقاتلوا عليه، حتّى ملئوا القرب وعادوا بها إلى الحسين. قال: ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد أن القنى الليلة بين عسكرى وعسكرك. وكان رسوله إليه عمرو بن قرظة بن كعب

_ [1] ج 4 ص 312. [2] يكثر الشرب فلا يروى بسبب داء أصابه.

الأنصارى [1] ، فخرج عمر فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بمثل ذلك، فتكلما، فأطالا حتّى ذهب من الليل جانب، ثم انصرف كل منهما إلى عسكره. قال: وتحدّث الناس فيما بينهم ظنا يظنّونه أن الحسين قال لعمر ابن سعد: اخرج معى إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال له عمر: إذن تهدم دارى. قال: إذن أبنيها لك. قال: إذن تؤخذ ضياعى. قال: إذن أعطيك خيرا منها بالحجاز. فكره ذلك عمر بن سعد.. فتحدث الناس بذلك من غير أن يكونوا سمعوه. قال: وذكر جماعة من المحدّثين أن الحسين قال: اختاروا منى خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، وإما أن أضع يدى فى يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بينى وبينه رأيه، وإما أن أن أسير إلى أىّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لى ما لهم وعلى ما عليهم. وأنكر عقبة بن سمعان هذه المقالة وقال: «صحبت الحسين، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا فى الطريق ولا بالعراق ولا فى عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ويزعمون من أن يضع يده فى يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعونى

_ [1] الخزرجى، كان أبوه صحابيا من ساكنى الكوفة.

أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، أو دعونى أذهب فى هذه الأرض العريضة حتى ننظر: إلى م يصير أمر الناس؟. وقيل: التقى الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا، فكتب عمر إلى عبيد الله بن زياد: «أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة [1] وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا الحسين قد أعطانى أن يرجع إلى المكان الذى منه أتى، أو أن نسيره إلى ثغر من الثغور شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتى يزيد أمير المؤمنين فيضع يده فى يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفى هذا لكم رضى وللأمة صلاح» . فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه، نعم، قد قبلت. فقام إليه شمر بن ذى الجوشن [2] فقال: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولىّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، والله لقد بلغنى أن الحسين وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل» .

_ [1] النائرة: نار الحرب وشرها. [2] الجوشن: الدرع أو الصدر، وذو الجوشن: اسمه شرحبيل بن قرط الأعور، وقيل: أوس، ولقب بذلك لانه دخل على كسرى فأعطاه جوشنا. فلبسه، فكان أول عربى لبسه، أو لأنه كان ناتئ الصدر.

فقال له ابن زياد: «نعم ما رأيت، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على حسين وأصحابه النزول على حكمى، فإن فعلوا فليبعث بهم إلى سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلى برأسه» . وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فإنى لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندى شافعا، انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلىّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم، فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاق قاطع ظلوم، فإن أنت، مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر وبين العسكر، فانّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام» . فأقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد، فقرأه، فقال له عمر: «ما لك؟ ويلك! لا قرّب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علىّ! والله إنى لأظنّك أنت الذى ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرا كنا نرجو أن يصلح، لا يستسلم والله حسين أبدا، والله إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!» . فقال له شمر: أخبرنى ما أنت صانع: أتمضى لأمر أميرك وتقاتل عدوّه وإلّا فخلّ بينى وبين الجند والعسكر؟ فقال: لا، ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك.

فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم. وكان شمر لمّا قبض كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد قام هو وعبد الله بن أبى المحلّ، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند علىّ بن أبى طالب فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفرا وعثمان. قال عبد الله: «أصلح الله الأمير، إنّ بنى أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت» . فقال: نعم ونعمة عين [1] فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا. فلمّا نهض عمر إلى الحسين جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا: ما لك؟ وما تريد؟ قال: أنتم يا بنى أختى آمنون، فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثمّ إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبى وابشرى. فركب الناس، ثم زحف بهم نحوهم بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته الصيحة، فدنت منه فأيقظته وقالت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت! فرفع الحسين رأسه فقال: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا. فلطمت وجهها وقالت: واويلتاه! فقال: ليس لك الويل يا أخيّة، اسكتى رحمك الله [2] !.

_ [1] أى: أفعل ذلك إنعاما لعينك وإكراما. [2] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 315: «اسكنى رحمك الرحمن» .

وقال له العبّاس: يا أخى أتاك القوم. فنهض ثم قال: يا عبّاس أركب بنفسى. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت يا أخى حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم. فأتاهم العباس فاستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وانصرف راجعا يركض إلى الحسين فأخبره الخبر، فقال له الحسين: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلنا نصلى لربنا الليلة وندعوه ونستغفره. فرجع العبّاس إليهم فقال: «يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه الليلة، حتّى ينظر فى هذا الأمر، فإن هذا الأمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا الأمر الّذى تسألوننا وتسومونناه، أو كرهناه فرددناه» . قال: وإنّما أراد الحسين أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصى أهله. فاستشار عمر بن سعد شمر بن ذى الجوشن فى ذلك، فقال شمر أنت الأمير والرأى رأيك: فأقبل عمر على الناس فقال: ماذا ترون؟ فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدى: سبحان الله! والله لو كان من الدّيلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغى لك أن تجيبهم إليها. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك فلعمرى ليصبحنّك

بالقتال غدوة. فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا. أخّرتهم العشيّة.. ثم رجع عنهم. قال: وجمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد عنهم فقال: «أثنى على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السّرّاء والضراء، اللهم إنى أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فى الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا لك من الشاكرين [1] ، أما بعد، فإنى لا أعلم أصحابا أوفى لا خيرا من أصحابى، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتى، فجزاكم الله جميعا عنى خيرا، ألا وإنى لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإنى قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منى ذمام [2] ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى، ثم تفرقوا فى البلاد، فى سوادكم ومدائنكم، حتى يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبوننى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى!» . فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: «لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا!» . بدأهم بهذا لقول العباس بن على، ثم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين: يا بنى عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم!. قالوا: «فماذا يقول الناس؟ يقولون: أنا تركنا شيخنا وسيدنا

_ [1] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 317 بدلا من هذه الجملة قوله: «ولم تجعلنا من المشركين» . [2] ذمام: حق.

وبنى عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندرى، ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك!» . وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدى، فقال: «أنحن نتخلّى عنك ولم نعذر إلى الله فى أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر فى صدورهم رمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى! والله لو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت!» . وقال له سعد بن عبد الله الحنفى: «والله لا نخلّيك، حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أنى أحيا ثم أحرق حيّا ثم أذرى- يفعل بى ذلك سبعين مرّة- ما فارقتك حتى ألقى حمامى دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هى قتلة واحدة، ثم هى الكرامة التى لا انقضاء لها أبدا!» . وقال زهير بن القين: «والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتّى أقتل هكذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!» . وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد، فقالوا «والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء! ونقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا وأبداننا! فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا!» .. وهذا القول من كلام الحسين وكلامهم مروىّ عن زين العابدين علىّ ابن الحسين رضى الله عنهما.

قال [1] : وسمعته زينب أخته فى تلك الليلة وهو فى خباء له يقول- وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى وهو يعالج سيفه ويصلحه-: يا دهر أفّ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل وإنّما الأمر إلى الجليل ... وكلّ حىّ سالك السبيل فأعاد ذلك مرّتين أو ثلاثا، فلمّا سمعته لم تملك لنفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت: «واثكلاه! ليت الموت أعدمنى الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّى وعلىّ أبى وحسن أخى! يا خليفة الماضى وثمال الباقى!» . فنظر إليها وقال: يا أخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان. قالت: بأبى وأمّى أنت استقتلت نفسى فداؤك! فردّد غصّته، وترقرقت عيناه، ثم قال: «لو ترك القطا ليلا لنام [2] !» . فقالت: «يا ويلتا! أفتغضب نفسك اغتصابا؟

_ [1] القائل: زين العابدين: قال: إنى جالس فى تلك العشية التى قتل أبى صبيحتها، وعمتى زينب عندى تمرضنى إذ اعتزل أبى بأصحابه فى خباء له، وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى: وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبى يقول: يا دهر أف لك..... الخ. [2] تمثل بعجز بيت لحذام ابنة الديان، وله قصة ذكرها الميدانى فى مجمع الأمثال والمفضل بن سلمة فى الفاخر والجاحظ فى الحيوان والعينى فى شواهده الكبرى وذلك أن الديان وقومه جاءهم أعداؤهم ليلا، فلما كانوا قريبا منهم أثاروا القطا- من الطير- فمرت بأصحاب الديان، فخرجت حذام الى قومها فقالت: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لناما أى: أن القطا لو ترك ما طار فى هذه الساعة، فقد أتاكم القوم، فقال ديسم بن طارق بصوت عال:- اذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وهناك بعض الراويات الأخرى.

فذلك أقرح لقلبى وأشدّ على نفسى!» . ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرّت مغشيا عليها، فقام إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء وقال لها: «يا أخيّه، اتقى الله، وتعزّى بعزاء الله، واعلمى أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلّ شىء هالك إلّا وجهه، الذى خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، وأبى خير منّى، وأمّى خير منى، وأخى خير منى، ولى ولهم ولكل مسلم أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم!» . فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: «يا أخيّة، إنى أقسم عليك فأبرّى قسمى، ألّا تشقّى علىّ جيبا [1] ، ولا تخمشى علىّ وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثّبور إذا أنا هلكت» . ثم خرج إلى أصحابه، فأمرهم أن يقرّبوا بيوتهم بعضها إلى بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت، فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. قال: وقاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون. فلما صلى عمر بن سعد الغداة، وذلك يوم السبت، وهو يوم عاشوراء، وقيل: يوم الجمعة، خرج فيمن معه من الناس.

_ [1] أخذ ذلك من حديث النبى صلى الله عليه وسلم.

وعبّأ الحسين أصحابه بالغداة [1] ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فى ميمنته، وحبيب بن مظهّر [2] فى ميسرته، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وأمر بحطب وقصب فألقى فى مكان مخفض من ورائهم كأنه ساقيه [3] كانوا عملوه [4] فى ساعة من الليل، وأضرم فيه نارا، لئلّا يؤتوا من ورائهم، فنفعهم ذلك. وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزّبيدى، وعلى ميسرته شمر بن ذى الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسى، وعلى الرجال شبث بن ربعىّ، وأعطى الراية ذويدا [5] مولاه، وجعل على ربع المدينة عبد الله بن زهير الأزدى، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبى سبرة الحنفى، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرّياحى.. فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلا الحرّ بن يزيد. فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه على ما نذكره. قال: ولما أقبلوا إلى الحسين أمر بفسطاط فضرب، ثم أمر

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 320 «وصلى بهم صلاة الغداة» . [2] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم انظر ما سبق، وتاريخ الطبرى والإصابة ج 1 ص 373، 527. [3] لم ينقط فى المخطوطة الحرفان الأخيران من هذه الكلمة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 286: «ساقية» وقد تكون: «ساقته» والساقة: مؤخر الجيش. [4] حفروه فى ساعة من الليل فجعلوه كالخندق. [5] كذا جاء الاسم فى المخطوطة وتاريخ الطبرى: «ذريدا» وجاء فى الكامل: «دريدا» .

ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه قبل إنشاب الحرب وما وعظ به الناس وما أجابوه وما تكلم به أصحابه وما أجيبوا به وخبر مقتله

بمسك، فميث [1] فى جفنة عظيمة، ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط واستعمل النّورة، ثمّ خرج فركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، ورفع يديه فقال: «اللهمّ أنت ثقفى فى كلّ كرب، ورجائى فى كلّ شدّة، وأنت لى فى كل أمر نزل بى ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّى إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولىّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة!» . وأقبلوا نحو الحسين، فنظروا إلى النار تضطرم فى الحطب والقصب، فقال شمر بن ذى الجوشن: يا حسين استعجلت النار فى الدنيا قبل يوم القيامة. فقال له الحسين: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا!. ثم ركب الحسين راحلته، وحمل ابنه عليّا على فرسه «لاحق» . ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه قبل إنشاب الحرب وما وعظ به الناس وما أجابوه وما تكلم به أصحابه وما أجيبوا به وخبر مقتله قال: ولما ركب الحسين راحلته نادى بأعلى صوته نداء يسمع جل الناس: أيها الناس، اسمعوا قولى، ولا تعجلونى حتّى أعظكم بما يحقّ لكم، وحتّى أعتذر لكم من مقدمى عليكم، فإن قبلتم عذرى وصدقتم قولى وأعطيتمونى النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن

_ [1] مائه: أذابه.

لكم علىّ سبيل، وإن لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النّصف من أنفسكم فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [1] ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [2] ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [3] . ثم [4] حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه [5] ، ثم قال: أما بعد، فانسبونى وانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلى وانتهاك حرمتى؟؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبى؟ أو ليس جعفر الطيّار فى الجنة بجناحين بعمّى؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى ولأخى: «هذان سيّدا شباب أهل الجنة» ؟ فإن صدقتمونى بما أقول، وهو الحق، وما تعمّدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذبتمونى فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصارى

_ [1] مستورا، بل أظهروه وجاهرونى. [2] من الآية 71 من سورة يونس. [3] الآية 196 من سورة الأعراف. [4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص- 322 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص- 287: إن أخوات الحسين لما سمعن كلامه السابق بكين وصحن: فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه عليا ليسكتاهن، وقال: لعمرى ليكثرن بكاؤهن: ثم حمد الله.... الخ. [5] روى الطبرى عن الضحاك أنه ذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره، وأقسم إنه ما سمع متكلما أبلغ فى منطق منه.

أو أبا سعيد الخدرىّ أو سهل بن سعد الساعدى أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لى ولأخى، أما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى؟!. فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما يقول. فقال له حبيب بن مظهّر: «والله إنى لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وإنى أشهد أنك صادق وأنك لا تدرى ما تقول،، قد طبع الله على قلبك!» . ثم قال الحسين: فإن كنتم فى شك من هذا القول أفتشكّون أنى ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم! أخبرونى أتطلبونى بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟!. فلم يكلّموه، فنادى: «يا شبث بن ربعىّ، ويا حجار بن أبحر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلّى أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام [1] ، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل.؟» قالوا: لم نفعل قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!»

_ [1] طمت: بتخفيف الميم وتشديدها، يقال «طما الماء» إذا ارتفع، «وطما البحر» إذا امتلأ، ويقال: «طم الماء» إذا غمر: و «طم الشىء» إذا كثر، ومنه «طم الأمر» إذا عظم وتفاقم.. والجمام: ما علا رأس المكيال فوق طفافة، ويأتى «الجمام» جمعا ل «الجم» وهو معظم الماء والكثير من الشىء، ول «الجمة» وهى مجتمع ماء البئر ومعظم الشىء.

ثم قال: أيّها الناس إذ كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم إلى مأمنى من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بنى [1] عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين «أنت أخو أخيك [2] ، أتريد أن يطلبك بنوها هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد!! عباد الله، إنّى عذت بربّى وربّكم أن ترجمون [3] إنى عذت بربّى وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب [4] ! ثم أناخ راحلته، ونزل عنها، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها. وأقبلوا يزحفون نحوه. فخرج زهير بن القين على فرس له شاكى السلاح، وقال: «يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فأنتم للنصيحة أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمّة وأنتم أمّة، إن الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرية محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون،

_ [1] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب لما بعده، وجاء فى الكامل: «ابن عمك، يعنى ابن زياد» . [2] يشير الى ما صنعه أخوه محمد بن الأشعث إذا قال لمسلم بن عقيل. «لك الأمان، إن القوم بنو عمك: وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك» ثم أقبل بمسلم إلى قصر عبيد الله بن زياد ولم يهتم عبيد الله بهذا الأمان، وقتل مسلما، كما مر. [3] من الآية 20 من سورة الدخان. [4] من الآية 27 من سورة غافر.

إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا نذكرون منهما إلّا سوءا، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدىّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه!» قال: فسبّوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما. فقال لهم: «عباد الله، إن ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإن كنتم لم تنصروه فأعيذكم بالله أن تقتلوه، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمرى إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!» . فرماه شمر بسهم وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك [1] ، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: «يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزى يوم القيامة والعذاب الأليم!» فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: «أفبالموت تخوّفنى؟ فو الله للموت أحبّ إلىّ من الخلد معكم!» ثم رفع صوته وقال: «عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافى وأشباهه،

_ [1] النأمة: النغمة والصوت، يقال «أسكت الله نأمته» اى: أماته.

فو الله لا تنال شفاعة محمد قوما هراقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!» فأتاه رجل من قبل الحسين فقال له: «إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمرى لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ فى الدعاء [1] لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع الصلح والإبلاغ!» . قال: ولمّا زحف عمر بن سعد إلى الحسين أتاه الحرّ بن يزيد فقال له: «أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟!» قال: «إى والله، قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدى!» قال: أفما لكم فى واحدة من الخصال التى عرض عليكم رضى؟ قال عمر: «أما والله لو كان الأمر لى لفعلت! ولكنّ أميرك قد أبى ذلك» . فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلا قليلا، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له «المهاجر بن أوس» . [ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء [2] ، فقال له:] [3] «يا ابن يزيد، إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك فى موقف قطّ مثل شىء أراه الآن! ولو قيل لى: من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتك! فما هذا الذى أرى منك؟» فقال له: «إنى- والله- أخيّر نفسى بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطّعت وحرّقت!» .

_ [1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا ... انظر الآية 28 وما بعدها فى سورة غافر. [2] العرواء: مس الحمى. [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 325.

ثمّ ضرب فرسه، فلحق بالحسين، فقال له: «جعلنى الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذى حبستك عن الرجوع، وسايرتك فى الطريق، وجعجعت بك فى هذا المكان، وو الله الذى لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة! فقلت فى نفسى: لا أبالى أن أطيع القوم فى بعض أمرهم ولا يرون أنى خرجت من طاعتهم، وأمّاهم فسيقبلون من الحسين بعض هذه الخصال التى يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك! وإنّى قد جئتك تائبا ممّا كان منى إلى ربّى مواسيا لك بنفسى حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك لى توبة؟» قال: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. قال: فتقدم الحرّ، ثم قال: «أيّها الأمير [1] ، ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التى عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟» فقال له عمر: «قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت!» فقال: «يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل [2] ! دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه [3] وأحطتم به من كل ناحية، فمنعتموه التوجّه فى بلاد الله العريضة، حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح فى أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 325 والكامل ج 3 ص 288 «أيها القوم» وهو أولى لمناسبة ما بعده. [2] الهبل: الثكل. [3] الكظم: مخرج النفس، ويقال «أخذ بكظمه» إذا أصابه بالكرب والغم.

نفعا ولا يدفع عنها ضرا! ومنعتموه ومن معه من ماء الفرات الجارى الذى يشربه اليهودىّ والنصرانىّ والمجوسىّ، وتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمدا فى ذرّيّته! لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه!» فرموه بالنّبل، فرجع حتّى وقف أمام الحسين. وزحف عمر بن سعد، ثم نادى: «يا ذويد [1] ، أدن رايتك» ثم رمى بسهم وقال: اشهدوا أنى أوّل من رمى بسهم ... ثم ارتمى الناس. وخرج يسار مولى زياد بن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبى، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا له: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظهّر أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبى: «يا ابن الزانية، أو بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ وهل يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟!» ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتّى برد [2] ، فإنه لمشتغل به يضربه إذ شدّ عليه سالم فلم يأبه له، حتّى غشيه فبدره الضربة، فاتّقاه الكلبى بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثم مال عليه الكلبىّ فضربه حتّى قتله. وكان الكلبىّ هذا قد رأى الناس من أهل الكوفة بالنّخيلة وهم

_ [1] أنظر ما سبق فى هذا الاسم. [2] برد، مات.

يعرضون ليسرّحوا إلى الحسين، فقال: «والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا، وإنى لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إيّاى فى جهاد المشركين!» فدخل على امرأته أمّ وهب بنت عبد [1] ، فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فصوّبت رأيه وقالت: أخرجنى معك! فخرج بها ليلا حتّى أتى الحسين فأقام معه، فلمّا قتل العبدين أقبل يرتجز ويقول: إن تنكرونى فأنا ابن كلب ... حسبى ببيتى فى عليم حسبى إنّى امرؤ ذو مرّة وعصب ... ولست بالخّوّار عند النّكب إنّى زعيم لك أمّ وهب ... بالطعن فيهم مقدما والضّرب ضرب غلام مؤمن بالرّبّ فأخذت امرأته أمّ وهب عمودا ثمّ أقبلت نحوه تقول له: «فداك أبى وأمّى! قاتل دون الطيّبين ذرّيّة محمد صلى الله عليه وسلم!» فأقبل إليها يردّها نحو النساء، وأخذت تجاذب ثوبه وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الحسين فقال: «جزيتم من أهل بيت خيرا! ارجعى رحمك الله إلى النساء فاجلسى معهنّ، فإنه ليس على النساء قتال.» فانصرفت إليهن. وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو فى الميمنة، فلمّا دنا من الحسين

_ [1] من قبيلة النمر بن قاسط.

جثوا له على الرّكب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنّبل، فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين. وجاء عبد الله بن حوزة التّميمى حتّى وقف أمام الحسين، فقال له: يا حسين [1] فقال: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار. قال: «كلّا، إنى أقدم على ربّ رحيم شفيع مطاع! من أنت؟» . قال أصحابه: هذا ابن حوزة. قال: ربّ حزه إلى النار! فاضطرب به فرسه فى جدول، فوقع فيه، وتعلّقت رجله بالرّكاب، ونفر الفرس، فمرّ به يضرب برأسه كلّ شجرة وحجر حتّى مات، وانقطعت فخذه وساقه وقدمه. ثم برز الناس بعضهم إلى بعض، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: «يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرز [2] لهم منكم أحد، فإنهم قليل، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم!» فقال عمر: «صدقت، الرأى ما رأيت» [3] . ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدىّ من أصحاب الحسين، ثم [4] مات، فترحّم الحسين عليه ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [5]

_ [1] فى تاريخ الطبرى ج ص 327: «يا حسين، يا حسين» . [2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 331: «لا يبرزن» . [3] ومنع الناس من المبارزة، كما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 290. [4] مشى الحسين إليه وبه رمق. [5] من الآية 23 من سورة الأحزاب.

وحمل شمر بن ذى الجوشن بالميسرة على من يليه من أصحاب الحسين، فثبتوا له وطاعنوه، فقتل الكلبى [1] ، بعد أن قتل رجلين آخرين وقاتل قتالا شديدا، فكان هو القتيل الثانى من أصحاب الحسين. وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا، فكانوا لا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلّا كشفوه، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس- وهو على خيل الكوفة- بعث إلى عمر بن سعد فقال: «ألا ترى ما نلقى خيلى منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرّماة!» . فقال عمر لشبث بن ربعىّ: تقّدم إليهم. فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامّه تبعثه فى الرّماة؟ لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيرى!» وكان لا يزالون يرون من شبث الكراهة لقتال الحسين. قال [2] : فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير [3] وبعث معه المجفّفة [4] وخمسمائة من المرامية، فلمّا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجّالة كلهم. وقاتل الناس أشدّ قتال حتّى انتصف النهار، وهم لا يقدرون

_ [1] هو عبد الله بن عمير، من بنى عليم، وقد سبق قريبا ذكره ورجزه، وقتله مولى زياد ومولى عبيد الله. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 291. [3] انظر ما سبق فى هذا الاسم. [4] المجففة: الطائفة التى تلبس: «التجفاف» من الآلات الواقية فى الحرب.

على أن يأتوا الحسين وأصحابه إلّا من وجه واحد، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. فأرسل عمر بن سعد رجالا يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخلّلون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوّض وينهب. فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال الحسين: «دعوهم يحرقوها، فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها!» . فكان ذلك كذلك، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد. وخرجت أم وهب امرأة الكلبىّ تمشى إلى زوجها، حتّى جلست عند رأسه، فجعلت تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئا لك الجنة! فقال شمر لغلام اسمه رستم: اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها، فشدّخه [1] ، فماتت مكانها. وحمل شمر حتّى بلغ فسطاط الحسين ونادى: «علىّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله» . فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين ودعا عليه [2] ، فردّه شبث بن ربعىّ عن ذلك، وحمل زهير بن القين فى عشرة من أصحابه على شمر ومن معه فكشفهم [عن البيوت حتى ارتفعوا عنها] [3] وقتلوا أبا عزّة الضّبابىّ من أصحاب شمر، وعطف الناس عليهم فكثروهم [4] ،

_ [1] شدخه (بتشديد الدال أو تخفيفها) : كسره. [2] قال: «يا ابن ذى الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتى على أهل حرقك أنت بالنار» . [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 334. [4] فاقوهم بكثرتهم.

فقال أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدى للحسين: «يا أبا عبد الله، نفسى لك الفداء، إنى أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله! وأحبّ أن ألقى ربّى وقد صلّيت هذه الصلاة التى قد دنا وقتها!» فدعا [1] له الحسين وقال: نعم هذا أوّل وقتها. ثم قال سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّى. ففعلوا، فقال لهم الحصين بن نمير: إنها لا تقبل. فسبّه حبيب بن مظهّر، فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب بن مظهّر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشبّ، فسقط عنه الحصين، فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالا شديدا، فقتل بديل به صريم التميم، وحمل عليه آخر من تميم، فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين على رأسه بالسيف، فوقع، فنزل إليه التميمى فاحتزّ رأسه. فقال حسين عند ذلك [2] : أحتسب نفسى وحماة أصحابى!! وحمل الحرّ بن يزيد وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا، فقتل الحرّ، وقتل أبو ثمامه الصائدى ابن عمّ له كان عدوّه. ثم صلّى الحسين صلاة الظهر بأصحابه صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتدّ قتالهم، ووصل إلى الحسين فاستقدم سعد بن عبد الله الحنفىّ أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل حتّى سقط، وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وجعل يقول:

_ [1] قال الحسين: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين» . [2] عبابرة الطبرى وابن الأثير: «لما قتل حبيب بن مظهر هد ذلك حسينا، وقال عند ذلك ... » .

أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودهم بالسيف عن حسين وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول! أقدم هديت هاديا مهديّا ... فاليوم تلقى جدّك النبيّا وحسنا والمرتضى عليّا ... وذا الجناحين [1] الفتى الكميّا وأسد الله [2] الشهيد الحيّا قال: فحمل على زهير كثير بن عبد الله الشعبى ومهاجر بن أوس فقتلاه. قال: وكان نافع بن هلال البجلى [3] قد كتب اسمه على أفواق [4] نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثنى عشر رجلا سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه، وأخذ أسيرا، فأتى به شمر عمر ابن سعد والدم يسيل على لحيته، فقال له عمر: «ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟» قال: «إنّ ربى يعلم ما أردت! والله لقد قتلت منكم اثنى عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسى،

_ [1] ذو الجناحين جعفر ابن أبى طالب، عم الحسين، استشهد بمؤته من أرض الشام مجاهدا للروم مقبلا غير مدبر، فى جسده بضع وتسعون بين طعنة ورمية، وقد رآه النبى صلى الله عليه وسلم ذا جناحين مضرجين بالدم يطير مع الملائكة فى الجنة، وفيه رمز لطيف، لأنه قاتل حتى قطعت يداه. [2] أسد الله: حمزه بن عبد المطلب، عم النبى وأبى الحسين: استشهد بأحد، ولقبه النبى صلى الله عليه وسلم «أسد الله» . [3] فى تاريخ الطبرى: «الجملى» . [4] أفواق: جمع فوق (بضم الفاء) وهو عشق رأس السهم حيث يقع الوتر.

ولو بقيت لى عضد وساعد ما أسرتمونى!» فقال له شمر: اقتله أصلحك الله. قال: أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى [1] شمر سيفه، فقال له نافع: «أما والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا! فالحمد لله الذى جعل منايانا على يد شرار خلقه!» فقتله. ثم حمل شمر على أصحاب الحسين، فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريّان فقالا: قد جازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك! فرحّب بهما، وقال: ادنوا منى فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبا منه. وجاءه الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ، وهما يبكيان، فقال: «ما يبكيكما؟ والله إنى لأرجو أن تكونا عن ساعة قريرى عين!» قالا: «والله ما على أنفسنا نبكى، ولكنّا نبكى عليك! نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك!» . فقال: جزاكما الله خيرا! [2] . وجاء حنظلة بن أسعد الشّبامىّ فوقف بين يدى الحسين، وجعل ينادى: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ،

_ [1] انتضى سيفه: استل سيفه من غمده. [2] روى الطبرى قول الحسين لهما: «جزاكما الله يا ابنى أخى بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياى بأنفسكما أحسن جزاء المتقين» .

يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [1] يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم [2] الله بعذاب «وقد خاب من افترى!» . فقال له الحسين: «رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟!» قال: «صدقت أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟!» . قال: رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى. فسلّم على الحسين واستقدم فقاتل حتّى قتل. ثم استقدم الفتيان الجابريان، فودعا حسينا، وقاتلا حتّى قتلا. وجاء عابس بن أبى شبيب الشاكرى وشوذب مولى شاكر إلى الحسين، فسلّما عليه، وتقدما فقاتلا، فقتل شوذب، وتقدم عابس نحوهم بالسيف، وبه ضربة على جبينه، وكان أشجع الناس، فجعل ينادى: «ألا رجل لرجل؟» . فعرفه ربيع بن تميم الهمدانى، فقال: «أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبى شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم!» . فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شدّ على الناس، فهزمهم بين يديه، ثم عطفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه، فادّعى قتله جماعة وأتوا ابن سعد، فقال: «لا تختصموا

_ [1] من الآيات 30، 31، 32، 33 من سورة غافر. [2] جاء فى الآية 60 من سورة طه: ... فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى

هذا لم يقتله إنسان واحد!» . ففرق بينهم [بهذا القول] [1] . وجاء أبو الشعثاء يزيد بن أبى زياد الكندى، وكان راميا، فجثا على ركبتيه بين يدى الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان يزيد هذا ممّن خرج مع عمر بن سعد، فلمّا ردّوا ما عرض عليهم الحسين عدل إليه، فقاتل حتّى قتل. وكان آخر من تبقّى مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو ابن أبى المطاع الخثعمىّ. وكان أوّل قتيل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى ابنة أبى مرّة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل على الناس وهو يقول: أنا علىّ بن الحسين بن على ... نحن وربّ البيت أولى بالنّبى تالله لا يحكم فينا ابن الدّعى فعل ذلك مرارا وهو يشدّ على الناس بسيفه، فاعترضه مرّة بن منقذ بن النعمان العبدى، وطعنه، فصرع، وقطعه الناس بأسيافهم، فقال الحسين: «قتل الله قوما قتلوك يا بنىّ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدّنيا بعدك العفاء!» وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم. فحملوه حتّى وضعوه بين] [2] يدى الفسطاط الذى كانوا يقاتلون أمامه.

_ [1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 339. [2] هنا ينتهى ما كان بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) ، مع مراجعته على ما أثبته ابن جرير الطبرى فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل. انظر ما سبق ص 421.

وشدّ عثمان بن خالد الجهنى وبشر بن سوط الهمدانى على عبد الرحمن بن عقيل بن أبى طالب [فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل بن أبى طالب] [1] فقتله، ورمى عمرو بن صبيح الصدائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفّه على جبهته فلم يستطيع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله. وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائى على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل القاسم بن الحسن ابن علىّ فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى، فضرب رأسه بالسيف فوقع القاسم إلى الأرض لوجهه، وقال: يا عمّاه! فانقضّ الحسين إليه كالصقر، ثم شدّ شدة ليث أغضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فقطع يده من المرفق، فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا، فاستقبلته بصدورها، وجالت عليه بفرسانها، فوطئته حتّى مات، وانجلت الغبرة والحسين قائم على رأس القاسم وهو يفحص برجليه. والحسين يقول: «بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة [فيك] [2] جدّك!» ثم قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، وأن يجيبك فلا ينفعك صوت والله كثر واتره وقلّ ناصره!» ثم احتمله على صدره حتّى ألقاه مع ابنه علىّ ومن قتل من أهل بيته. قال: ومكث الحسين طويلا من النهار، كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله وعظيم إثمه، فأتاه رجل من

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 341 والكامل ج 3 ص 293.

كندة يقال له «مالك بن النسير» فضربه على رأسه بالسيف، فقطع البرنس، وأدمى رأسه، وامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: «لا أكلت بها ولا شربت! وحشرك الله مع [القوم] [1] الظالمين!» وألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسيها واعتم. وجاء الكندىّ فأخذ البرنس وكان من خزّ، فقدم به على امرأته، وأقبل يغسله من الدم، فقالت له: «أسلب [2] ابن بنت رسول الله يدخل بيتى؟ أخرجه عنى!» فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشرّ حتّى مات. قال: ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير، فأجلسه فى حجره فرماه رجل من بنى أسد بسهم فذبحه، فأخذ الحسين دمه بيده فصبّه فى الأرض، ثم قال: «اللهمّ ربّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم من هؤلاء الظالمين!» ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله، وقتل إخوة الحسين وهم العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان. قال: واشتدّ عطش الحسين، فدنا من الفرات ليشرب فقال رجل من بنى أبان بن دارم: «ويلكم! حولوا بينه وبين الماء» ، وضرب فرسه، واتبعه الناس حتّى حال بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمئه! وانتزع الأبانىّ سهما فأثبته فى حنك الحسين، فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفّيه فامتلأ دما؛ فقال اللهم إنى أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، اللهم أحصبهم عددا واقتلهم بددا [3] ، ولا تبق منهم أحدا. وقيل أن الذى رماه حصين

_ [1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ولم تثبت فى النسخة (ن) . [2] السلب: ما يؤخذ سلبا. [3] أى متفرقين فى القتل واحدا بعد واحد.

ابن نمير. قال: فما مكث الذى رماه إلّا يسيرا، ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى، والماء يبرّد له فيه السّكر، وعساس [1] فيها لبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم؛ اسقونى، قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة أو العسّ فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهة، ثم قال: ويلكم، اسقونى قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة والعس فيشربه، فما لبث إلا يسيرا حتّى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير. قال: ثم إن شمر بن ذى الجوشن أقبل فى نحو عشرة من رجاله أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذى فيه أهله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال: ويلكم؛ إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا فى دنياكم أحرارا ذوى أحساب، امنعوا رحلى وأهلى من طغامكم وجهّالكم. قال شمر: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم شمر عليه بالرّجالة منهم أبو الجنوب عبد الرحمن الجعفىّ، وصالح بن وهب اليزنىّ، وسنان بن أنس النّخعىّ، وخولىّ بن يزيد الأصبحى، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين، وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم أحاطوا به، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته زينب بنت علىّ لتحبسه، فأبى الغلام، وجاء يشتد حتّى قام إلى جنب الحسين، وقد أهوى بن كعب بن عبيد الله- من بنى تميم الله بن ثعلبة- إلى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمّى؟! فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده، فأطنّها [2] إلى الجلدة [3] ، فنادى الغلام:

_ [1] عساس: جمع عس، وهو القدح الضخم. [2] أطنها: قطعها. [3] فإذا يده معلقة.

يا أمّتاه، فضمه الحسين إليه وقال: «يا ابن أخى اصبر على ما نزل بك، واحتسب فى ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين: برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ وحمزة وجعفر والحسن» ثم قال الحسين: «اللهمّ أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متّعتهم إلى حين ففّرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضى عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا!» ثم ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنهم. قال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فخرجت زينب بنت علىّ أخت الحسين فقالت. يا عمر، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فجعلت دموع عمر تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها. ومكث الحسين طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتّقى بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفهم هؤلاء، فنادى شمر ابن ذى الجوشن فى الناس، ويحكم؛ ما تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب؛ فضرب زرعة بن شريك كفّه اليسرى، وضرب على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه فى تلك الحال سنان بن أنس النّخعى فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولىّ بن يزيد الأصبحى احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فتّ الله عضدك، وأبان يدك، ونزل إليه فذبحه وأخذ رأسه فدفعه إلى خولى. وسلب الحسين ما كان عليه؛ فأخذ سراويله بحر بن كعب، فكانت

يداه فى الشتاء تضخان الماء، وفى الصيف تيبسان كأنهما عود. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وهى من خزّ، فكان يسمّى بعد «قيس قطيفة» . وأخذ نعليه الأسود الأودى، وأخذ سيفه رجل من بنى نهشل. ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها، وانتهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنازع ثوبها فيؤخذ منها. ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وكان سويد بن عمرو بن أبى المطاع قد صرع، فوقع بين القتلى مثخنا بالجراح، فسمعهم يقولون: قتل الحسين فوجد خفّة فوثب ومعه سكين فقاتلهم بها ساعة، ثم قتله عروة بن بطان الثعلبى، فكان آخر قتيل من أصحاب الحسين قال. وانتهوا إلى على بن الحسين وهو زين العابدين، فأراد شمر قتله وكان مريضا فمنع حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليردده عليهم، فما ردّ أحد شيئا، فقال الناس لسنان بن أنس: «قتلت حسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله، قتلت أعظم العرب خطرا، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم فى قتله كان قليلا» فأقبل على فرسه حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته:

ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على رضى الله عنهما ومن سلم ممن شهد القتال

أوقر ركابى فضّة وذهبا ... أنا قتلت السيّد المحجّبا [1] قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا فقال عمر بن سعد: أشهد أنك مجنون، أدخلوه؛ فلمّا دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتنظم بهذا الكلام؟ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك. وقيل: إنه قال ذلك لعبيد الله ابن زياد، فقال: فإن كان خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟ وأمر به فضربت عنقه، خسر الدنيا والآخرة. ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على رضى الله عنهما ومن سلم ممن شهد القتال قال: ولمّا قتل الحسين جاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا، وصاحبهم شمر بن ذى الجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة، وجاءت مذحج بسبعة، وجاء سائر الجيش بسبعة، فذلك سبعون رأسا. منهم إخوة الحسين ستة، وهم: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد- وليس هو ابن الحنفية- وأبو بكر، أولاد علىّ بن أبى طالب ومن أولاد الحسين: علىّ، أمه ليلى بنت أبى مرّة بن عروة الثقفى، وعبد الله، وأمّه الرّباب بنت امرئ القيس الكلبى.

_ [1] فى النسخة (ن) وتاريخ الطبرى والكامل: «المحجبا» وهو المشهور، وفى النسخة (ك) : «المحتجبا» .

ومن أولاد الحسن بن علىّ ثلاثة: وهم أبو بكر، وعبد الله، والقاسم. ومن أولاد عبد الله بن جعفر بن أبى طالب: عون، ومحمد. ومن أولاد عقيل بن أبى طالب: جعفر، وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم بالكوفة. ومن موالى الحسين: سليمان، ومنجح. وتكملة من قتل ممن اتبعه، وقد ذكرنا بعضهم بأسمائهم فى أثناء هذه القصة. وأما من سلم منهم: فالحسن بن الحسن، وعمرو بن الحسن لصغرهما، وعلىّ بن الحسين لمرضه، والضحاك بن عبد الله المشرقى، وذلك أنه جاء إلى الحسين فقال: «يا ابن رسول الله، قد علمت أنى قلت لك: إنى أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فى حلّ من الانصراف» فقال له الحسين: «صدقت، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت عليه فأنت فى حلّ» وذلك بعد أن فنى أصحاب الحسين، قال الضحاك: فأقبلت إلى فرسى وكنت قد تركته فى خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلا، فقتلت رجلين، وقطعت يد آخر، ودعا لى الحسين مرارا قال: فاستخرجت فرسى واستويت عليه، وحملت على عرض القوم فأفرجوا لى، وتبعنى منهم خمسة عشر رجلا، ففتّهم، فسلمت. ومنهم عقبة بن سمعان مولى الرّباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، أخذه عمر بن سعد فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد

ذكر ما كان بعد مقتل الحسين مما هو متعلق بهذه الحادثة

مملوك فخلّى سبيله، فنجا. ومنهم الرقع [1] بن تمامة الأسدى، وكان قد نثر نبله فقاتل فجاءه نفر من قومه فأمنوه، فخرج إليهم فلما أخبر ابن زياد به نفاه إلى الزارة [2] . ذكر ما كان بعد مقتل الحسين مما هو متعلق بهذه الحادثة قال: ولما قتل الحسين نادى عمر بن سعد فى أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه، فانتدب له عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمى، وهو الذى سلب قميص الحسين فبرص بعد ذلك، فداسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره. قال: ودفن جثّة الحسين وجثث أصحابه أهل الغاضرية من بنى أسد بعد ما قتلوا بيوم. وقتل من أصحاب ابن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلّى عليهم عمر ودفنهم. قال: وسرح عمر برأس الحسين من يومه ذلك مع خولىّ بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدى إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولى فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجّانة [3] فى الدار، ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقالت له امرأته وهى النّوار بنت مالك الحضرميّة: ما الخبر؟ قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك فى الدار، قالت. فقلت: ويلك! جاء الناس

_ [1] كذا فى النسخة «ك» ، وفى النسخة «ن» : «المرفع» ، وفى شرح القاموس: رقيع، كزبير، الأسدى. [2] الزارة: قرية بالبحرين. [3] إجانة: إناء تغسل فيه الثياب.

بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسى ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشى فخرجت وجلست أنظر، فو الله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجّانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف عليها [1] ، فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد. وقيل: بل الذى حمل الرأس شمر بن ذى الجوشن، وقيس ابن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعزرة بن قيس، فجلس ابن زياد، وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه، فجعل ينكت بقضيب بين ثنيّتى الحسين، فلما رآه زيد بن أرقم لا يرفع قضيبه، قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الله الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانه، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل [[2] فبعدا لمن رضى بالذل] قال: وأقام عمر بن سعد يومه هذا والغد، ثم أذن فى الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من الصبيان، وعلىّ بن الحسين مريض، فاجتازوا به على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن الخدود، وصاحت زينب أخته: «يا محمداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «حولها» . [2] ثبتت هذا العبارة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .

بالعراء مرمل [1] بالدماء مقطّع الأعضاء! يا محمداه! وبناتك سبايا! وذريتك مقتّلة تسفى عليها الصّبا!» فأبكت كل عدوّ وصديق. قال: ولما أدخلوا على عبيد الله لبست زينب أرذل ثيابها وتنكّرت، وحفّ بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه حتّى قال ذلك ثلاثا وهى لا تكلّمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذى فضحكم وقتّلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهّرنا تطهيرا لا كما تقول، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون عنده، فغضب ابن زياد واستشاط، ثم قال لها: قد شفى الله نفسى من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت ثم قالت: لعمرى لقد قتلت كهلى وأبرزت أهلى وقطعت فرعى واجتثثت أصلى، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال لها عبيد الله. هذه شجاعة فلعمرى لقد كان أبوك شجاعا، قالت: ما للمرأة والشجاعة؟ إن لى عن الشجاعة لشغلا. ونظر عبيد الله إلى على بن الحسين فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا على بن الحسين، قال: أو لم يقتل الله على بن الحسين، فسكت. فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟ قال: قد كان لى أخ يقال له علىّ فقتله الناس، قال: إن الله قتله، فسكت علىّ، فقال: ما لك لا تتكلم؟ قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ

_ [1] مرمل: متلطخ.

حِينَ مَوْتِها [1] . وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [2] قال: أنت والله منهم، ثم قال لرجل: ويحك انظر هذا هل أدرك؟ والله إنى لأحسبه رجلا، فكشف عنه مرىّ بن معاذ الأحمرى فقال: نعم قد أدرك، قال: اقتله، فقال على: من توكّل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت به زينب عمته، فقالت: يا ابن زياد حسبك منّا أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحدا؟ واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتنى معه، وقال علىّ: يا ابن زياد إن كان بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحة الإسلام. فنظر إليهن ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: يا عجبا للرّحم والله إنى أظنها ودّت لو أنى قتلته أنى قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك. ثم نودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس فى المسجد الأعظم فصعد ابن زياد المنبر، فقال: الحمد لله الذى أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن على وشيعته، فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدى، وكان من شيعة على، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع على، والأخرى بصفّين معه، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّى فيه إلى الليل ثم ينصرف، فقال: يا ابن مرجانة إنّ الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذى ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة تقتلون أبناء النبيين، وتكلّمون بكلام الصدّيقين. فقال ابن زياد: علىّ

_ [1] من الآية 42 من سورة الزمر. [2] من الآية 145 من سورة آل عمران.

به، فوثبت عليه الجلاوزة [1] فأخذوه، فنادى بشعار الأزد «يا مبرور» فوثبت إليه فئة من الأزد، فانتزعوه، وأتوابه أهله، فأرسل إليه من أتاه به فقتله، ثم أمر بصلبه فى السّبخة [2] فصلب. قال: وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به فى الكوفة. قال: ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى يزيد بن معاوية ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة، وأرسل معهم النساء والصبيان، وفيهم على بن الحسين، وقد جعل ابن زياد الغلّ فى يديه وعنقه، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علىّ فى الطريق، فدخل زحر بن قيس على يزيد فقال له: ما وراءك ويلك وما عندك؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علىّ فى ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسملوا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتّى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير وزر [3] ، ويلوذون منا بالآكام والحفر لو اذا [4] كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور [5] ، أو نومة قائل [6] حتى أتينا

_ [1] الجلاوزة: الشرطة. [2] السبخة: موضع بالبصرة. [3] الوزر: الملجأ. [4] لوادا: التجاء. [5] الجزر: النحر، والجزور: الفتى من الإبل. [6] القائل: النائم وقت الظهيرة.

على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرمّلة [1] ، وخدودهم معفرة [2] ، تصهرهم الشمس وتسفى عليهم الريح، زوّارهم العقبان والرخم بقىّ [3] سبسب. قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أما والله لو أنى صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين. قال: ولما وصل علىّ بن الحسين ومن معه والرأس إلى دمشق، وقف محفّر بن ثعلبة العائذى، وكان عبيد الله قد تركهم معه ومع شمر على باب يزيد بن معاوية، ثم رفع صوته وقال: هذا محفّر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه يزيد ما ولدت أمّ محفّر شرّ وألأم، ولكنه قاطع ظلوم. ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحت يزيد، فتقنّعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟ قال: نعم فأعولى عليه وحدّى على ابن بنت رسول الله وصريحة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، والرأس بين يديه، ومعه قضيب وهو ينكت فى ثغره، ثم قال: إن هذا وأنا كما قال الحصين بن الحمام: أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب [4] فى أيماننا تقطر الدّما

_ [1] مرملة: ملطخة بالدماء. [2] معفرة: من العفر، وهو التراب. [3] بقى بالكسر والتشديد من القوا: الأرض القفر الخالية، والسبسب (نعت) : المفازة المستوية. [4] قواضب: سيوف.

نفلّق هاما [1] من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما [2] فقال أبو برزة الأسلمى: «أتنكت بقضيبك فى ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك فى ثغره مأخذا لربّما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجئ هذا ومحمد شفيعه!» ثم قام فولّى. فقال يزيد: يا حسين والله لو أنى صاحبك ما قتلتك، ثم قال: «أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبى خير من أبيه، وأمى فاطمة خير من أمه، وجدّى رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، وأنا أحق بهذا الأمر منه. فأما قوله: أبوه خير من أبى فقد حاجّ أبى أباه إلى الله وعلم الناس أيّهما حكم له، وأما قوله: أمى خير من أمه فلعمرى فاطمة بنت رسول الله خير من أمى، وأما قوله جدّى رسول الله خير من جده، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندّا، ولكنه إنما أتى من قبل فقهه، ولم يقرأ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [3] . قال: ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس، فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولولن وبنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين،

_ [1] الهام: مفرده هامة، وهى الرأس. [2] أنظر المفضلية 12 من المفضليات والحماسة بشرح المرزوقى ج 1 ص 199، 391 والأغانى ج 14 ص 7 والشعر والشعراء ج 2 ص 630 والمؤتلف والمختلف ص 91 وخزانة الأدب ج 2 ص 7. [3] من الآية 26 فى سورة آل عمران.

وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخى أنا لهذا كنت أكره، فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لى هذه، يعنى فاطمة بنت على، فأخذت بثياب أختها زينب وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولو متّ، ما ذلك لك ولا له، فغضب يزيد وقال: كذبت والله إن ذلك لى، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت: كلّا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا! فغضب يزيد واستطار، ثم قال. إياى تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، قالت زينب: بدين الله ودين أبى وأخى اهتديت أنت وأبوك وجدّك، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك. فاستحيى وسكت؛ ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد فلم تبقى امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم، وسألهن عمّا أخذ منهن فأضعفه لهن، وكانت سكينة تقول: ما رأيت كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية. قال: ثم أمر بعلىّ بن الحسين فأدخل مغلولا، فقال: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلولين لفك عنا؛ قال: صدقت؛ وأمر بفك غلّه عنه، فقال على: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعد لأحبّ أن يقرّبنا؛ فأمر به فقرّب منه، وقال له يزيد: يا علىّ أبوك الذى قطع رحمى وجهل حقّى ونازعنى سلطانى فصنع الله به ما رأيت. فقال علىّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [1] فقال

_ [1] الآيتان 22، 23 من سورة الحديد.

يزيد: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [1] ثم سكت عنه، وأمر بإنزاله وإنزال نسائه فى دار على حدة، وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّا دعا عليّا إليه، فدعاه يوما فجاء ومعه عمرو بن الحسن وهو غلام صغير، فقال يزيد لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعنى خالدا ابنه، فقال: أعطنى سكّينا وأعطه سكينا حتّى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال شنشنة [2] أعرفها من أخزم، وهل تلد الحيّة [3] إلا حييّة؟ وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، ووصله، وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث إلّا يسيرا حتّى بلغه بغض الناس له، ولعنهم إياه، وسبّهم، فندم على قتل الحسين، وكان يقول: «وما علىّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معى فى دارى وحكّمته فيما يريد، وإن كان علىّ من ذلك وهن فى سلطانى، حفظا لرسول الله ورعاية لحقّه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة، فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده فى يدى، أو يلحق بثغر حتّى يتوفّاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، وقتله، فبغضنى بقتله إلى المسلمين،

_ [1] من الآية 30 فى سورة الشورى. [2] هذا مثل يضرب فى قرب الشبه، تمثل به يزيد، وأصله أن رجلا من طىء يسمى «أخزم» كان عاقا لوالده، فلما مات ترك بنين يشبهو له فى العقوق، فوثبوا يوما على جدهم أبى أخزم وضربوه وأدموه، فقال: إن بنى ضرجونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم والشنشنة: الطبيعة والعادة. [3] هذا مثل تمثل به يزيد كسابقه، جاء فى تاج العروس (ح ى ى) «ومن أمثالهم: لا تلد الحية إلا حيية» وحيية: تصغير حية وكنى الحريرى فى مقاماته عن أبى زيد وابنه ب «الحية والحيية» .

ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين رضى الله عنه إلى المدينة وعود أهله إليها

وزرع فى قلوبهم العداوة، فأبغضنى البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلى حسينا، مالى ولابن مرجانة [1] لعنه الله وغضب عليه!» . قال: ثم ندم ابن زياد أيضا على قتله الحسين، وقال لعمر بن سعد: يا عمر ائتنى بالكتاب الذى كتبته إليك فى قتل الحسين؟ قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قال: لتجئ به؛ قال: ضاع قال: لتجئ به؛ قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذارا إليهن، أما والله لقد نصحتك فى حسين نصيحة لو نصحتها أبى سعد ابن أبى وقّاص لكنت قد أدّيت حقه!» فقال عثمان بن زياد: «صدق، والله لوددت أنه ليس من بنى زياد رجل إلا وفى أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأنّ حسينا لم يقتل!» فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد على أخيه. ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين رضى الله عنه إلى المدينة وعود أهله إليها قال: لما قتل الحسين أمر عبيد الله بن زياد عبد الملك بن الحارث [2] السّلمى بالمسير إلى المدينة؛ ليبشّر عمرو بن سعيد أمير المدينة بقتل الحسين، فاعتذر عبد الملك، فزجره ابن زياد، فخرج حتّى قدم المدينة، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فاسترجع [3] القرشى، وقال: قتل والله الحسين!

_ [1] سبق ذكر مرجانة أم عبيد الله بن زياد، وقد جاء حديثها في مقتل الحسين فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 371: «كانت مرجانة امرأة صدق فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين عليه السلام: ويلك ماذا صنعت وماذا ركبت» . [2] فى تاريخ ج 4 ص 356: «أبى الحارث» . [3] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ودخل عبد الملك على عمرو بن سعيد فأخبره بقتل الحسين، فقال: ناد بقتله، ففعل، قال عبد الملك: فلم أسمع واعية [1] قطّ مثل واعية نساء بنى هاشم فى دورهن على الحسين! فلما سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ ضحك وقال: واعية بواعية عثمان [2] وأنشد بيت عمرو بن معدى كرب: عجّت نساء بنى زياد عجّة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب [3] (والأرنب: يوم كان لبنى زبيد على بنى زياد من بنى الحارث بن كعب) ثم صعد عمرو المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين.

_ [1] الواعية: الصراخ على الميت ونعيه. [2] ذكر الميدانى فى مجمع الأمثال ج 2 ص 379 أن عمرو بن سعيد تمثل بالمثل «يوم بيوم الحفض المجور» أى يوم بيوم عثمان، كما تمثل بالبيت «عجت نساء ... » ثم ذكر أصل هذا المثل، وكذلك ذكر الأصل القالى فى أماليه ج 2 ص 192. [3] كان من خبر هذا الشعر أن تبيلتى «جرم» و «نهد» كانتا مجاورتين ل- بنى «الحارث» ، فقتلت جرم رجلا من أشراف بنى الحارث يقال له «معاذ بن زيد» ، فارتحن الجرميون إلى «بنى زبيد» رهط عمرو بن معد يكرب، فخرجت بنو الحارث يطلبون بثأرهم ومعهم بنو نهد، فجعل عمرو وما أمام بنى نهد: وجعل نفسه وقومه أمام بنى الحارث، ولكن جرما انهزمت سريعا: فكان ذلك سببا فى كسر بنى زبيد فى ذلك اليوم، ثم إن عمرا غزا بنى الحارث فأصاب فيهم واثتصف منهم، فقال: لما رأونى فى الكتيفة مقبلا ... وسط الكتيبة مثل ضؤ الكوكب واستيقنوا منا بوقع صادق ... هربوا وليس أوان ساعة مهرب عجت نساء بنى زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب ويذكر بعض الرواة رواية أخرى: أن البيت لرجل من بنى أسد؛ ولفظه: عجت نساء بنى زبيد عجة ... الخ، ومن المؤلفين من خلط بين الروايتين. وقد ذكر القالى فى اماليه ج 1 ص 126 أن مثل هذا البيت قول الشاعر: رفعنا الخموش عن وجوه نسائنا ... إلى نسوة منهم فأبدين مجلدا وذكر القالى أن «الأرنب» موضع، وكذلك تبع صاحب اللسان والتاج من نقل عن القالى ولم يسلم ذلك له، ولم تذكره كتب البلدان والمعروف أن أرنب انتفجت فى ذلك اليوم فتفاءلوا بالظفر: فظفروا: فسمى «يوم الأرنب» والعرب تتيمن بالأرنب إذا انتفجت.

قال: ولمّا نودى بقتله خرجت زينب بنت عقيل ابن أبى طالب ومعها نساؤها حاسرة ناشرة شعرها، تلوى ثيابها، وهى تقول: ماذا تقولون إن قال النبىّ لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟ بعترتى وبأهلى بعد مفتقدى ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائى إذ نصحت لكم ... أن تخلفونى بسوء فى ذوى رحمى وقيل: سمع بعض أهل المدينة يوم قتل الحسين مناديا ينادى: أيّها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتّنكيل كلّ أهل السماء يدعو عليكم ... من نبى وملأك وقبيل قد لعنتم على لسان ابن داو ... د وموسى وحامل [1] الإنجيل وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى الليلة التى قتل فيها الحسين وبيده قارورة، وهو يجمع فيها دما، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى!» فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين، وقصّ رؤياه. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى أمّ سلمة ترابا من تربة الحسين، حمله إليه جبريل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «إذا صار التراب هذا دما فقد قتل الحسين» فحفظت أمّ سلمة ذلك التراب فى قارورة، فلمّا قتل الحسين صار ذلك التراب دما

_ [1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «وصاحب» .

فأعلمت الناس بقتله. وهذا القول يستقيم على قول من يقول إن أمّ سلمة توفّيت بعد الحسين [1] . قال [2] : ولما أراد يزيد أن يسيرّ آل الحسين إلى المدينة، أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم، ويسيّر معهم رجلا أمينا من أهل الشام، ومعه [3] خيل تسير بهم إلى المدينة، ودعا عليا ليودعه وقال: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّى صاحبه ما سألنى خصلة أبدا إلّا أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدى، ولكن قضى الله بذلك! كاتبنى بأيّة حاجة تكون لك» وأوصى بهم ذلك الرسول. فخرج بهم، فكان يسايرهم ليلا فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، وإذا نزل تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسائلهم عن حوائجهم ويلطف بهم حتّى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت على لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشىء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلّا حلينّا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا به إليه، واعتذرتا، فردّ الجميع، وقال: لو كان الذى صنعته للدنيا لكان فى هذا ما يرضينى، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ [1] أنظر الكامل ج 3 ص 303. [2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 300. [3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «ومعهم» .

ذكر ما ورد من الاختلاف فى مقر رأس الحسين وأين دفن

ذكر ما ورد من الاختلاف فى مقر رأس الحسين وأين دفن قد اختلف المؤرخون فى مقر رأسه، فمنهم من قال: إنه دفن بدمشق، ومنهم من زعم أنه نقل إلى مرو؛ ومنهم من يقول: إنه أعيد إلى الجسد ودفن بالطّف؛ ومنهم من قال: دفن بعسقلان، ثم نقل إلى مصر؛ ومنهم من قال: دفن بالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضى الله الله عنهما. وقد رأينا أن نذكر أقوالهم فى ذلك ومستحجهم [1] . قال: فأما من قال إنه دفن بدمشق فإنه يقول: إنه لمّا قتل الحسين رضى الله عنه، وحمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد بالكوفة كما تقدم وقصد حمله إلى دمشق، طلب من يقوره فلم يجبه إلّا طارق بن المبارك مولى بنى أمية وكان حجّاما، ففعل، وقد هجى أبو يعلى الكاتب، وهو أحد أسباط طارق هذا، فقيل فيه: شقّ رأس الحسين جدّ أبى يع ... لى وساط [2] الدّماغ بالإبهام ثم أرسل ابن زياد به إلى دمشق، فنصبه يزيد بن معاوية بها ثلاثة أيام، ووضع فى مسجد عند باب المسجد الجامع، يعرف بمسجد الرأس، (وهو تجاه باب الساعات، كان بابه هناك، ثم سدّ وفتح من مشهد زين العابدين فى سنة ثلاثين وستمائة ونحوها) ، ثم كان الرأس فى خزانة يزيد بن معاوية. واختلف أيضا القائلون إنه دفن بدمشق فى المكان الذى دفن فيه بها. فحكى ابن أبى الدنيا فى المقتل عن منصور بن جمهور أنه قال: دخلت

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «وحججهم» . [2] ساطه: خلطه وقلبه.

خزانة يزيد بن معاوية، فلما فتحت أصبت [1] جونة حمراء فقلت لغلام لى يقال له سليم: احتفظ بهذه الجونة فإنها كنز من كنوز بنى أمية، فلما فتحتها وجدت بها رأسا وورقة مكتوب فيها: «رأس الحسين بن على بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وإذا هو مخضوب بالسواد، فلفه فى ثوب ثم دفنه عند باب الفراديس، عند البرج الثالث مما يلى المشرق. وحكى الاسترباذى فى كتابه «الداعى إلى وداع الدنيا» عن أبى سعيد الزاهد أنه قال: قبر الحسين بكربلاء ورأسه بالشام فى مسجد دمشق على رأس أسطوانة، وقال غيره: على عمودين يمين القبلة، وقيل إن يزيد دفنه فى قبر أبيه معاوية، ومنهم من قال: فى مقابر المسلمين. وأما من قال: إنه بمرو فانه يقول: إن أبا مسلم الخراسانى لما استولى على دمشق، أخذ الرأس ونقله إلى مرو، ودفن بها فى دار الإمارة: وأن الرأس حشى بالمسك وكفّن وصلّى عليه مرة بعد أخرى. وأما من قال: إنه أعيد إلى الجسد ودفن معه، فمنهم من يقول: إن يزيد أعاده بعد أربعين يوما؛ ومنهم من يقول: بل استقر فى خزانة السلاح إلى أن ولى سليمان بن عبد الملك فأحضره وقد قحل [2] ؛ وبقى عظم أبيض فجعل عليه ثوبا وجعله فى سفط [3] وصلّى عليه ودفن فى مقابر المسلمين، فلما ولى عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن السلاح يطلب منه الرأس، فطالعه بما كان من أمره فأمره بنبشه وأخذه، فالله أعلم بما

_ [1] الجونة: السلة. [2] كذا جاء فى النسخة (ن) : «قحل» ومعناه: يبس، وجاء فى النسخة (ك) : «نحل» . [3] السفط: وعاء كالقفة، وحرفه بعض العامة إلى «سبت» .

صنع به، لكنهم أستدلّوا من ديانة عمر بن عبد العزيز وصلاحه وخيره أنه نقله إلى الجسد ودفن معه. وأما من قال: إنه كان بعسقلان ثم نقل إلى مصر فاستنادهم فى ذلك إلى رؤيا منام، وذلك أن رجلا رأى فى منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين فى مكان بها، عيّن له فى منامه فنبش ذلك [1] الموضع، وذلك فى أيام المستنصر بالله العبيدى صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالى، فابتنى بدر الجمالى له مشهدا بعسقلان، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن تغلب الفرنج على عسقلان، فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فحمل إلى القاهرة فى البحر. وحكى محمد بن القاضى المكين عبد العزيز بن حسين [2] فى سيرة الصالح بن رزّيك، قال: لما ولى عباس بن أبى الفتوح الوزارة بمصر فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فى مستهلّ جمادى الآخرة وصل الخبر بتملّك الفرنج عسقلان، فنقل رأس الحسين فيها- من المشهد الذى أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى، وكمله الأفضل [3]- إلى القاهرة، فكان وصوله إليها فى يوم الأحد، ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان قد سيّر أحد الأستاذين الخواص لتلقّيه إلى مدينة تنّيس [4] ، فوصل فى عشارى [5]

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «فنبش فى ذلك» . [2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عبد العزيز الحسين» . [3] الأفضل: هو ابن أمير الجيوش بدر الجمالى، وقد قتل الأفضل فى شهر رمضان من سنة خمس عشرة وخمسمائة، انظر النجوم الزاهرة ج 5. [4] جاءت هذه الكلمة فى الأصل غير منقوطة وغير واضحة، والأقرب أنها «تئيس» وهى مدينة قديمة فى جزيرة صغيرة فى الجهة الشمالية الشرقية من يحيرة المنزلة. [5] عشارى: نوع من السفن المصرية الخاصة بعظماء الدولة وصفها عبد اللطيف البغدادى فى مختصر أخبار مصر طبع أوربا ص 172.

من عشاريات الخدمة، ودخل فيه إلى خليج القاهرة، وأدخل من باب البستان المعروف بالكافورى، فى ليلة الاثنين التاسع من الشهر، وسلك به إلى القصر الغربى إلى أن وصل إلى القصر الشرقى، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن حدث من عبّاس وابنه ما حدث، من قبل الظافر وإخوته وابن أخيه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبارهم فى كتابنا هذا، فلما نهض الصالح بن رزّيك فى الطلب بثأرهم، وولىّ الوزارة، لم يقدّم شيئا على الشروع فى بناء المشهد بالقصر، فى الموضع المعروف بقبة الخراج من دهاليز باب الديلم وكمّل المشهد، فلما كان فى ليلة يسفر صباحها عن تاسع المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، خرج ابن رزّيك من داره راجلا إلى الايوان، فأخرج الرأس فحمله خاشعا مستكينا إلى أن أحله بالضريح، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول أحدهم: أدركت من عبّاس ثأرا دونه ... ما أدرك السّفّاح من مروان وحقرت ما فخر ابن ذى يزن به ... لمّا أقرّ الملك فى غمدان وجمعت أشلاء الحسين وقد غدت ... بددا فأضحت فى أعزّ مكان وعرفت للعضو الشريف محلّه ... وجليل موضعه من الرحمن أكرمت مثواه لديك وقبل فى ... آل الطّريد غدا بدار هوان وقضيت حقّ المصطفى فى حمله ... وحظيت من ذى العرش بالرّضوان ونصبته للمسلمين تزوره ... مهج إليه شديدة الهيمان أسكنته فى خير مأوى خطّه ... أبناؤه فى سالف الأزمان ولو استطعت جعلت قلبك لحده ... فى موضع التوحيد والإيمان

حرم تلوذ به الجناة فتنثنى ... محبوّة بالعفو والغفران قد كان مغتربا زمانا قبل ذا ... فالآن عدت به إلى الأوطان وأما من قال: إنه بالمدينة، فإنه يقول: إنه لما نصب بدمشق وطيف به، أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير الأنصارى أن يحمله إلى المدينة، ليشاهده الناس، وليرهب به عبد الله بن الزبير، فلما وصل إلى المدينة ودخل به على عمرو بن سعيد الأشدق، قال: وددت أن أمير المؤمنين لم يكن بعث به إلىّ، فقال له مروان بن الحكم: اسكت لا سكتّ ولكن قل كما قال: ضربت دوسى فيهم ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر ثم أمر به عمرو بن سعيد فكفّن ودفن عند قبر أمه فاطمة رضى الله عنهما. وقيل: بل أرسل إلى من بالمدينة من بنى هاشم، أن [1] دونكم رأس صاحبكم، فأخذوه، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه عند قبر أمه رضى الله عنهما، والله تعالى أعلم، وقد تكلم عمر بن أبى المعالى أسعد بن عمار [2] بن سعد بن عمار [بن على] [3] رحمه الله تعالى فى كتابه الذى ترجمه «الفاصل بين الصدق والمين فى مقر رأس الحسين» على هذه الأقوال المتقدمة ووهنها وضعّفها [واستدل على ضعفها [4]] ، ورجح أنه بالمدينة، حتّى كاد يبلغ به مبلغ القطع،

_ [1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «أودونكم» . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «عمران» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .

فقال ما معناه: أمّا قولهم إنه كان فى خزائن بنى أميّة إلى أن ظهرت الخلافة العباسية، وأن أبا مسلم نقله إلى خراسان، فهذا بعيد جدا، وذلك أن أبا مسلم لمّا فتح الشام كان بخراسان، والذى فتح دمشق عبد الله بن على بن [عبد الله بن] [1] عباس، فكيف يتصوّر أن ينقله أو يمكن من نقله إلى مولاه بخراسان؟ ولو ظفر به فى خزائن بنى أميّة لأظهره للناس ليزدادوا لبنى أمية بغضا، وأيضا فقد ولى العبد الصالح عمر بن عبد العزيز الخلافة، وبعيد أن كان يترك رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خزائن السلاح ولم يواره. وأمّا قولهم إنه كان بعسقلان فلم يوجد ذلك فى تاريخ من التواريخ أنه نقل إلى عسقلان ولا إلى مصر، ويقوّى ذلك أن الشام ومصر لم يكن بهما شيعة علوية فينقل إليهم ليروه وتنقطع آمالهم من الحسين وتضعف نفوسهم عن الوثوب مع غيره والانضمام [2] إليه. وأما قولهم إنه بالمدينة عند قبر أمه فقد قاله محمد بن سعد فى طبقاته، وابن أبى الدنيا وأبو المؤيد الخوارزمى خطيب خوارزم فى إحدى رواياتهما، وصححه أبو الفرج ابن الجوزى، والله تعالى أعلم. وقد أخذ هذا الفصل حقه، فلنذكر خلاف ذلك من الأخبار التى اتفقت فى أيام يزيد بن معاوية على حكم اليقين:

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «أو الإنضمام» .

ذكر مقتل أبى بلال مرداس بن حدير الحنظلى [1] الخارجى

ذكر مقتل أبى بلال مرداس بن حدير الحنظلى [1] الخارجى قد ذكرنا فى أيام معاوية خروجه وأن ابن زياد بعث [2] إليه أسلم بن زرعة الكلابى فى ألفين، فهزمهم بآسك. فلما كان فى هذه السنة أرسل إليه ابن زياد ثلاثة آلاف، عليهم عباد بن الأخضر التميمى (والأخضر زوج أمه، نسب إليه وإنما هو عباد بن علقمة بن عباد) فسار إليه، واتبعه حتّى لحقه بتوّج [3] ، فاقتتلوا حتّى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة، وهو يوم عظيم، دعونا حتّى نصلّى، فتوادعوا، فعجّل عباد الصلاة وقيل: بل قطعها، والخوارج يصلّون، فشدّ عليهم هو وأصحابه، فقتلوهم وهم ما بين قائم وراكع وساجد، لم يتغير منهم أحد عن حاله، فقتلوا عن آخرهم. ورجع عباد إلى البصرة برأس أبى بلال، فرصده عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة، فقالوا له: قف حتّى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير: قالوا: استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله. فوثبوا عليه وقتلوه، واجتمع الناس على الخوارج فقتلوا [4] .

_ [1] حدير: أبو مرداس، وأم مرداس: أدّيّة، وقد اشتهر ب «مرداس بن أدية» كما سبق. [2] سنة ثمان وخمسين. [3] توج: مدينة بفارس، ويقال فيها: توز. [4] فى الكامل «فقتلوا غير عبيدة» .

وفيها استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان وسجستان، وعزل عنهما أخويه: عبد الرحمن وعبّادا ابنى زياد، فكتب عبيد الله [1] بن زياد إلى أخيه عباد [2] يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما فى بيت المال على عبيدة، وفضل فضل فنادى: من أراد سلفا فلياخذ، فأسلف كلّ من أتاه، وخرج عن سجستان، فلما كان بجيرفت [3] بلغه مكان أخيه سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك، أقلّ ما مع أحدهم عشرة آلاف، وسار عباد حتى قدم على يزيد، فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس. قال: ولما سار سلم إلى خراسان كتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد معه [4] بنخبة ستة آلاف فارس، وقيل ألفين، فكان سلم ينتخب الوجوه [والفرسان [5]] ، فخرج معه عمران بن الفضيل البرجمى والمهلّب بن أبى صفرة وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى وغيرهم، وسار حتّى قدم خراسان، وعبر النهر غازيا، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان [6] ، فإذا

_ [1] كذا جاء «عبيد الله» فى النسخة (ن) مثل الكامل ح 3 ص 303 وتاريخ الطبرى 4 ص 361، وجاء فى النسخة (ك) «عبد الرحمن» . [2] وكان له صديقا. [3] جيرفت: مدينة بكرمان. [4] عبارة ابن الأثير «كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد» ، وعبارة الطبرى «قدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله» . [5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 362. [6] مرو الشاهجان هى مرو العظمى، و «الشاهجان» كلمة فارسية معناها: نفس السلطان، لأن «جان» هى نفس أو روح، والشاه هو السلطان، سميت بذلك لجلالتها عندهم.

انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة ممّا يلى خوارزم، فيتعاقدون ألّا يغزو بعضهم بعضا ويتشاورون فى أمورهم، وكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة، فيأبون عليهم، فلمّا قدم سلم غزا فشتّى فى بعض مغازيه، فسأله المهلب أن يوجهه إلى تلك المدينه، فوجهه فى ستة آلاف، وقيل: فى أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا الصلح على نيّف وعشرين ألف ألف، فصالحهم، وكان فى صلحهم أن يأخذ منهم عروضا، فكان يأخذ العروض من الرقيق والدوابّ والمتاع بنصف قيمتها، فبلغ ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظى بها المهلّب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد. وغزا سلم سمرقند، وعبر معه النهر امرأته أم محمد بنت عبد الله ابن عثمان بن أبى العاص الثقفى، وهى أول امرأة من العرب قطع بها النهر، فولدت له ابنا سماه «صغدى» واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصّغد حليّها فلم تعده إليها وذهبت به [1] . ووجّه جيشا إلى خجندة [2] فيهم أعشى همدان، فهزموا، فقال الأعشى فى ذلك: ليت [3] خيلى يوم الخجندة لم ته ... زم وغودرت فى المكرّ سليبا [4] تحضر الطير مصرعى وتروّح ... ت إلى الله فى الدّماء خضيبا

_ [1] عبارة الطبرى: «وأرسلت إلى امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليا، فبعثت إليها بتاجها، وقفلو فذهبت بالتاج» . [2] خجندة: مدينة على شاطىء سيحون. [3] سقط البيتان من النسخة (ن) . [4] كذا جاء فى الكامل ومعجم البلدان، وجاء فى المخطوطة «المكان» .

سنة اثنين وستين ذكر وفد أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية وخلعهم له عند عودهم

وفيها عزل يزيد عمرو بن سعيد، واستعمل الوليد بن عتبة ابن أبى سفيان، وسبب ذلك أن الوليد وناسا من بنى أميّة قالوا ليزيد: لو شاء عمرو لأخذ بن الزبير وسرّح [1] به إليك. فعزله، ولم يكن كذلك، بل كان ابن الزبير كاده. وحج الوليد فى هذه السنة بالناس. سنة اثنين وستين ذكر وفد أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية وخلعهم له عند عودهم وفى هذه السنة وفد جماعة من أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية بالشام، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة [2] وعبد الله بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومى، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة. وكان ابن الزبير قد كتب [3] إلى يزيد لمّا استعمل الوليد ابن عتبة على الحجاز يقول: «إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا بتّجه لرشد، ولا يرعوى لعظة الحكيم، فلو بعثت رجلا سهل الخلق

_ [1] فى الكامل ج 3 ص 306 «وسرحه» ، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 366 «وبعث به» . [2] لقب حنظلة بن أبى عامر الأنصارى الأوسى ب «غسيل الملائكة» لأنه لما استشهد فى غزوة أحد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أنه «تغسله الملائكة» .... وابنه «عبد الله» مولود على عهد النبى صلى الله عليه وسلم. [3] فى تاريخ الطبرى والكامل: «أن ابن الزبير عمل بالمكر فى أمر الوليد بن عتبة فكتب....» .

رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرّق» [1] فعزل يزيد الوليد، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وهو فتى غرّ حدث لم تحنّكه التجارب، ولا يكاد ينظر فى شىء من سلطانه ولا عمله. فوفد هذا الوفد إلى يزيد، فقدموا عليه، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فأعطى عبد الله بن حنظلة مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين فأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف، وأجاز المنذر بن الزبير بمائة ألف كتب له بها على عبيد الله بن زياد فتوجه إلى العراق فقبضها. ورجع الوفد إلى المدينة إلّا المنذر، فلمّا قدموا المدينة قاموا فى الناس فأظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: «قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطّنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحزّاب (وهم اللصوص) وإنا نشهدكم أنّا قد خلعناه» . وقام عبد الله بن حنظلة فقال: «جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنىّ هؤلاء لجاهدته، وقد أعطانى وأكرمنى، وما قبلت منه عطاءه إلّا لأتقوّى به» . فخلعه الناس، وبايعوا عبد الله بن حنظلة على خلعه، وولّوه عليهم. ثم قدم المنذر من العراق إلى المدينة، فحرّض الناس على يزيد،

_ [1] زاد الطبرى «فانظر فى ذلك، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله، والسلام» .

سنة ثلاث وستين ذكر وقعة الحرة

وقال: «إنه أجازنى بمائة ألف [1] ، ولا يمنعنى ما صنع بى أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتّى يدع الصلاة!» وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ. فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصارى وقال له: «إن عدد الناس بالمدينة قومك، فأتهم فالفتهم عمّا يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فى هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافى» . فأتى النعمان قومه، وأمرهم بلزوم الطاعة، وخوّفهم الفتنة، فعصوه ولم يرجعوا إلى قوله، فرجع. وبسبب هذه الواقعة كانت وقعة الحرّة. وفى هذه السنة كان من الحوادث فى بلاد المغرب ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار أفريقية. وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة. وفيها ولد محمد بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور. سنة ثلاث وستين ذكر وقعة الحرّة كان سبب هذه الوقعة ما قدمناه من خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، فلمّا كان فى هذه السنة أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد ابن أبى سفيان عامل يزيد، وحصروا بنى أميّة، فاجتمع بنو أميّة ومواليهم ومن يرى رأيهم فى ألف رجل، ونزلوا دار مروان ابن الحكم، وكتبوا [2] إلى يزيد يستغيثون به، فلمّا قرأ الكتاب

_ [1] فى تاريخ الطبرى: «أجازنى بمائة ألف درهم» . [2] كان الذى بعث إليه منهم مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان بن عفان، وكان مروان هو الذى يدبر أمرهم، فأما عثمان بن محمد بن أبى سفيان، فانما كان غلاما غرا ليس له رأى، كما سبق قريبا.

بعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق، فأقرأه الكتاب وأمره بالمسير فى الناس، فقال قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد، فأما الآن إذ صارت دماء قريش تهراق بالصعيد فلا أحبّ أن أتولّى ذلك. فبعث إلى عبيد الله بن زياد، فأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة عبد الله بن الزبير بمكة، فقال: «والله لا أجمعهما [1] للفاسق: قتل ابن بنت رسول الله وغزو الكعبة!» ثم أرسل إليه يعتذر. فبعث إلى مسلم بن عقبة المرّى [2] وهو شيخ كبير مريض فأخبره الخبر، فقال: أما يكون بنو أميّة [ومواليهم وأنصارهم بالمدينة] [3] ألف رجل؟ قال: بلى؛ قال: «أما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا فإنهم أذلّاء! دعهم يا أمير المؤمنين حتّى يجهدوا أنفسهم فى جهاد عدوّهم، ويتبيّن لك من يقاتل على طاعتك ومن يستسلم» ؛ قال: «ويحك! إنه لا خير فى العيش بعدهم! فاخرج بالناس» . وقيل: إن معاوية قال ليزيد: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته، فأمره بالمسير إليهم. فنادى فى الناس بالتجهيز إلى الحجاز وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار لكل رجل؛ فانتدب لذلك اثنا عشر ألفا، وساروا مع

_ [1] جاء فى النسخة (ن) : «لاجمعتهما» . [2] هو مسلم بن عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع بن غيظ بن مرة، فهو منسوب إلى «مرة» ، وقد قال عند موته «لبنى مرة زراعتى التى بحوران صدقة على مرة» ووقع فى النسخة (ن) : «المزنى» . [3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 371.

مسلم، فقال له يزيد: إن حدث بك حدث فاستخلف الحصين ابن نمير السّكونى [1] ؛ وقال له: «ادع القوم ثلاثا فإن أجابوا وإلّا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو رقة [2] أو سلاح أو طعام، فهو للجند، فإن انقضت الثلاث فاكفف عن الناس، واكفف عن علىّ بن حسين، واستوص به خيرا [3] فإنه لم يدخل مع الناس، وقد أتانى كتابه» . قال: ولمّا بلغ أهل المدينة خبر الجيش اشتدّ حصارهم لبنى أمية بدار مروان، وقالوا: «والله لا نكف عنكم حتّى نضرب أعناقكم [4] أو تعطونا عهد الله وميثاقه أنكم لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوّنا، فنكفّ عنكم ونخرجكم» ، فعاهدوهم على ذلك، وأخرجوهم من المدينة، فساروا بأثقالهم حتّى لقوا مسلم بن عقبة بوادى القرى، فدعا عمرو بن عثمان بن عفّان أوّل الناس، فقال: أخبرنى ما وراءك وأشر علىّ، قال: لا أستطيع، قد أخذ علينا العهود والمواثيق ألا ندلّ على عورة ولا نظاهر عدوّا؛ فانتهره وقال: «والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشيا بعدك!»

_ [1] هو الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن حارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، كما فى جمهرة أنساب العرب ص 403. [2] الرقة: الدراهم، وجاء فى الكامل ج 3 ص 311 «دابة» . [3] يروى أن أهل المدينة لما ثاروا على بنى أمية كلم مروان بن الحكم على بن الحسين فى أن يجعل أهله عنده، فقبل ابن الحسين؛ وخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم فى يتبع. [4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «رقابكم) ، وجاء فى الكامل ج 3 ص 312: «حتى تستنزلكم ونضرب أعناقكم» .

فخرج إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل عليه قبلى لعله يجتزىء بك عنى، فدخل عبد الملك على مسلم، فقال «نعم: [هات ما عندك؛ فقال [1]] نعم، أرى أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى أدنى نخلها نزلت، فاستظلّ الناس فى ظله وأكلوا من صقره [2] ، فإذا أصبحت من الغد مضيت، وتركت المدينة ذات اليسار، ثم درت بها حتّى تأتيهم من قبل الحرّة مشرقا [3] ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم [الشمس] [4] طلعت من أكناف أصحابك فلا تؤذيهم، ويصيبهم أذاها [5] ويرون من ائتلاق بيضكم وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم منهم، ثم قاتلهم، واستعن عليهم بالله تعالى» . فقال له مسلم: «لله أبوك.! أىّ أموىّ!» ثم دخل عليه مروان فقال له [إيه. قال] [6] أليس قد دخل عليك عبد الملك؟ قال: «بلى، وأىّ رجل عبد الملك! قلما كلمت من رجال قريش رجلا به شبيها!» فقال له مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتنى. ثم ارتحل مسلم من مكانه، وفعل ما أمره به عبد الملك، ثم دعاهم فقال: «إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل، وإنى أكره إراقة

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] يقال لعسل الرطب عند أهل المدينة «صقر» بسكون القاف؛ ويقال لهذا الرطب «صقر» بكسر القاف. [3] الحمرة- بفتح الحاء وتشديد الراء- أرض بظاهر المدينة فيها حجارة سود كبيرة. [4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) . [5] لأن أشعة الشمس تقع فى وجودهم، بخلاف جيش مسلم بن عقبة. [6] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) .

دمائكم، وإنى أؤجّلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحقّ قبلنا منه وانصرفت عنكم إلى هذا الملحد الذى بمكة، وإن أبيتم كنّا قد أعذرنا إليكم» . فلما مضت الثلاث قال مسلم: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: «لا تفعلوا، بل ادخلوا فى الطاعة، ونجعل حدّنا وشوكتنا على هذا الملحد الذى قد جمع إليه المرّاق [1] والفسّاق من كل أوب [2] » يعنى عبد الله بن الزبير، فقالوا له: «يا عدوّ الله، لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم: أنحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهل مكة وتلحدوا فيه وتستحلّوا حرمته؟ لا والله لا نفعل!» . قال: وكان أهل المدينة قد اتّخذوا خندقا، وعليه جمع منهم، عليهم عبد الرحمن بن أزهر بن عوف [وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف] [3] وكان عبد الله بن مطيع مع ربع قريش فى جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعى، أحد الصحابة على ربع المهاجرين، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصارى فى أعظم تلك الأرباع، وهم الأنصار. وصمد مسلم بن عقبة فيمن معه، فأقبل من ناحية الحرّة، حتّى

_ [1] المارق الخارج من الدين بضلالة، وجمعه: المراق. [2] أوب، جهة. [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد ذكرها كذلك بعض العلماء، منهم ابن جرير الطبرى فى تاريخه ح 4 ص 374 وابن الأثير فى الكامل ح 3 ص 312، والراجع عند الزبير بن بكار وأبى نعيم وابن عبد البر وابن حجر أنه ابن أخى عبد الرحمن بن عوف.

ضرب فسطاطه على طريق الكوفة، وكان مريضا، فأمر فوضع له كرسىّ بين الصفّين، فجلس، ثم حرّض أهل الشام على القتال، فجعلوا لا يقصدون ربعا من تلك الأرباع إلّا هزموه، ثم وجّه الخيل نحو ابن الغسيل، فكشفهم [1] ، حتّى انتهوا إلى مسلم، فنهض فى وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فقاتلوا قتالا شديدا. ثم إن الفضل بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل، فقاتل معه فى نحو عشرين فارسا قتالا حسنا، ثم قال ابن بن الغسيل: «مر من معك فارسا فليأتنى، فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا [2] ، فو الله لا أنتهى حتى أبلغ مسلما فأقتله أو أقتل دونه!» ففعل، وجمع الجند، فحمل بهم الفضل على أهل الشام، فانكشفوا، ثم حمل وحمل أصحابه حملة أخرى، فانفرجت خيل الشام عن مسلم ومعه خمسمائة راجل جثاة على الرّكب مشرعى الأسنّة نحو القوم، ومضى الفضل نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها فقطّ المغفر وفلق هامته، فخرّ ميتا، وقال: خذها وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه قتل مسلما، فقال: قتلت طاغية القوم وربّ لكعبة! فأخذ مسلم رايته، وكان المقتول غلاما روميا [3] شجاعا، وحرّض مسلم أهل الشام، وقال: شدّوا مع هذه الراية، فمشى برايته، وشدّت الرجال أمام الراية، فصرع الفضل وما بينه وبين [أطناب] [4]

_ [1] فى الكامل وتاريخ الطبرى، «فحمل عليهم ابن الفسيل فى من معه فكشفهم» . [2] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة: (ن) : «فليحمل معى» . [3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ح 3 ص 313، وجاء فى تاريخ الطبرى ح 4 ص 375: «يقال له رومى» . [4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وبين فسطاط» ، وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى وبين «أطناب» .

فسطاط مسلم إلّا نحو عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل، فحرض ابن الغسيل أصحابه، فنهضوا واقتتلوا أشدّ قتال، وأخذ ابن الغسيل يقدّم بنيه واحدا واحدا، حتّى قتلوا بن يديه، ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد ابن ثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصارى. وانهزم الناس. وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والأموال، فسمّى مسلم بعد وقعة الحرة [1] مسرفا» . وقيل إن مسلما لمّا نزل بأهل المدينة خرج إليه أهلها بجموع كثيرة وهيئة حسنة، فهابهم أهل الشام، وكرهوا قتالهم، [فلما رآهم مسلم سبّهم وذمهم وحرّضهم، وكان شديد الوجع، فقاتلوا، فبينما أهل المدينة فى قتالهم] [2] إذ سمعوا التكبير من خلفهم من جوف المدينة، وكان سببه أن بنى حارثة أدخلوا أهل الشام المدينة، فانهزم الناس، فكان من أصيب فى الخندق أكثر ممّن قتل. ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول [3] له يحكم فى دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، فمن امتنع من ذلك قتله. وأتى يومئذ بعمرو بن عثمان بن عفان، وكان ممّن لم يخرج مع

_ [1] انظر قول على بن عبد الله بن عباس: هموا منعوا ذمارى يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنوا للكيعة [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى فى ج 4 ص 381 وسقطت من النسخة (ك) . [3] الخول: العبيد ونحوهم.

بنى أميّة، فقال مسلم: يا أهل الشام تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان، هى يا عمرو إذا ظهر [1] أهل المدينة قلت أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين عثمان» ، وأمر به فنتفت لحيته، ثم خلّى سبيله. وكانت وقعة الحرّة لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين. وقتل مسلم جماعة من أهل المدينة صبرا، فكان منهم على ما ذكر ابن إسحاق والواقدى وويثمة وغيرهم: الفضل بن العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وأبو بكر بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ويعقوب ابن طلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومعقل ابن سنان الأشجعى، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، وقتل أيضا صبرا ابنا زينب بنت أم سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما [2] ابنا عبد الله [3] بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزّى بن قصىّ، ولما قتلا حملا إلى أمهما فوضعا بين يديها، فاسترجعت [4] وقالت: والله إنّ المصيبة علىّ فيهما لكبيرة، وهى علىّ فى هذا أكبر منها فى هذا، أما هذا فجلس فى بيته وكفّ

_ [1] ظهر: غلب. [2] ولدت زينب بنت أبى سلمة بأرض الحبشة، وتزوج النبى صلى الله عليه وسلم أمها- أم سلمة- وهى ترضعها، فكانت ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى سماها «زينب» ، وكانت من أفقه نساء زمانها. [3] كان عبد الله ابن أخت «أم سلمة» . [4] استرجعت: قالت إنا لله وانا إليه راجعون.

يده فدخل عليه فقتل مظلوما، فأنا أرجو له الجنة، وأمّا هذا فبسط. يده فقاتل حتى قتل، فلا أدرى علام هو فى ذلك؟ فالمصيبة به أعظم منها علىّ فى هذا! وقتل أيضا يزيد بن عبد الله بن زمعة. وانتهى القتل يومئذ فيما ذكروا إلى ثلاثمائة، كلّهم من أبناء المهاجرين والأنصار. ومنهم جماعة ممّن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغت قتلى قريش يومئذ نحو مائة، وقتلى الأنصار والحلفاء والموالى نحو مائتين. وقيل: إن يزيد بن معاوية لمّا بلغه ما كان من خبر هذه الوقعة قال: ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ثم قالوا يا يزيد لا تشل لست من عتبة إن لم أثّئر [1] ... من بنى أحمد ما كان فعل هكذا حكى [2] عن بعض المؤرخين. والذى أعتقده أن هذه الأبيات مفتعلة عنه ومنسوبة [3] إليه، فإنها لا تصدر إلّا ممن نزع ربقة [4] الإسلام من عنقة. والله أعلم.

_ [1] أثأر: أدرك الثأر. [2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «نقل» . [3] لأنه أوصى بعلى بن الحسين خيرا، ولأنه حارب قريشا فى من حارب بالمدينة، ولأن البيت الأول من هذه الأبيات من قصيدة معروفة لعبد الله بن الزبعرى بن عدى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى قالها فى وقعة أحد قبل أن يسلم، وقد عارضه حصان بن ثابت بقصيدة قال فيها: ذهبث بابن الزبعرى وقعة ... كان منا الفضل فيها لو عدل ثم أسلم ابن الزبعرى فى فتح مكة واعتذر فى شعر منه قوله: يا رسول المليك إن لسانى ... راثق ما فتقت إذ أنا بور [4] الربقة: العروة فى الحبل.

سنة اربع وستين ذكر مسير مسلم بن عقبة إلى مكة لحصار عبد الله بن الزبير، ووفاة مسلم والحصار الأول وإحراق الكعبة

وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير، وكان يسمى يومئذ «العائذ بالبيت» . سنة اربع وستين ذكر مسير مسلم بن عقبة إلى مكة لحصار عبد الله بن الزبير، ووفاة مسلم والحصار الأول وإحراق الكعبة قال ولما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص نحو مكة بمن معه لقتال ابن الزبير، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامّى. وقيل: عمرو بن محرز الأشجعى. وكان خبر وقعة الحرّة قد أتى عبد الله بن الزّبير مع المسور بن مخرمة هلال المحرم، فاستعد هو وأصحابه للحرب. وسار مسلم حتى انتهى إلى المشلّل [1] فمات هناك، ولما حضرته الوفاة أحضر الحصين بن نمير السّكونىّ وقال له يا برذعة الحمار، لو كان الأمر لى ما ولّيتك هذا الجند. ولكن أمير المؤمنين ولّاك [2] ؛ ثم مات. وسار الحصين فقدم مكة لأربع بقين من المحرّم، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير [ولحق به من انهزم من أهل المدينة] [3]

_ [1] المشلل: جبل. [2] زاد ابن جرير فى تاريخه ح 4 ص 382 قول مسلم بن عقبة: فاحفظ ما أوصيك به: هم الأخبار؛ ولا ترع سمعك قريشا أبدا؛ ولا تردن أهل الشام عن عدوهم؛ ولا تقيمن الا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير» . [3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ وسقطت من النسخة (ك) .

ذكر وفاة يزيد بن معاوية وشىء من أخباره

وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفىّ من اليمامة فى أناس من الخوارج يمنعون البيت. فخرج ابن الزّبير للقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر، فبارز المنذر [1] رجل من أهل الشام، فضرب كلّ واحد منهما صاحبه ضربة فماتا جميعا. وقاتل المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف قتالا شديدا حتّى قتلا، وصابرهم ابن الزّبير إلى الليل، ثم انصرفوا عنه [2] ، ثم أقاموا عليه فقاتلوه بقية المحرم وصفر كله، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وهم يرتجزون: خطارة [3] مثل الفنيق [4] المزبد ... نرمى بها أعواد هذا المسجد واستمروا على القتال والحصار إلى آخر هذا الشهر، فأتاهم نعى يزيد بن معاوية لهلال شهر ربيع الآخر. ذكر وفاة يزيد بن معاوية وشىء من أخباره كانت وفاته بحوّارين من قرى حمص لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وقيل: فى هذا الشهر من

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ الطبرى: «ثم إن رجلا من الشام دعا المنذر إلى المبارزة. وجاء فى الكامل: «فبارز المنذر رجلا» . [2] وهذا فى الحصار الأول. [3] وكذلك جاء فى حديث الحجاح لما حاصر ابن الزبير بمكة ونصب المنجنيق «خطارة كالجمل الفنيق» انظر لسان العرب فى خ ط ر، ف ن ق، شبه رميها بخطران الفحل من الإبل تشبيها مأخوذا من بيئتهم. [4] الفنيق: القحل المكرم من الإبل.

سنة ثلاث وستين، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثين؛ وقيل: أقلّ من ذلك إلى خمس وثلاثين. وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة [1] أشهر وأيّاما، على القول الأول فى وفاته. وحمل إلى دمشق فدفن بها فى مقبرة الباب الصغير، وصلّى عليه ابنه معاوية. وكان له من الأودلار معاوية وخالد [2] وأبو سفيان عبد الله الأكبر أمّهم أمّ هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وله أيضا عبد الله الأصغر [3] ، وأمّه أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الإسوار [4] وله أيضا عبد الله أصغر الأصاغر، وعمير [5] وأبو بكر وعتبة وحرب ومحمد لأمّهات شتى؛ قيل: وله يزيد والربيع. وكاتبه عتبة [6] بن أوس ثم زمل بن عمرو العذرىّ. وكان نقش خاتمه: «ربّنا الله» . حاجبه خالد مولاه، وقيل: صفوان. قاضيه أبو إدريس الخولانى.

_ [1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 317 وتاريخ الطبرى ج 4 ص 384: «وستة أشهر وقيل: ثمانية أشهر» والظاهر أنها ثمانية اشهر، لأن مبايعة يزيد كانت فى رجب، وجاء فى التنبيه والإشراف للمسعودى ص 264: «وكانت أيامه ثلاث سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما» . [2] كان خالد يكنى» أبا هاشم «وقيل إنه أصاب علم الكيمياء» . [3] كان من أرمى العرب. [4] الإسوار: الجيد الرمى. [5] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى: «عمرو» . [6] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى التنبيه والإشراف ص 265 «وكتب له عبيد بن أوص النسائى وزمل بن عمرو العذرى وسرجون بن منصور» .

ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية

عمّاله على الأمصار [من] [1] تقدم ذكرهم.. الأمير بمصر مسلمة بن مخلّد [2] ، ثم توفّى [3] ، فولّاها يزيد سعيد [4] بن يزيد الأزدى من أهل فلسطين.. القاضى بها من قبل مسلمة ويزيد عابس [5] بن سعيد، وجمع له بين القضاء والشرطة، وكان أمّيّا لا يكتب ولا يقرأ. ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية وكنيته «أبو عبد الرحمن» و «أبو ليلى [6] » ، وأمه أم هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وهو الثالث من ملوك بنى أميّة، بويع له بالشام فى النصف من ربيع الأول سنة أربع وستين.

_ [1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم نتبت فى النسخة (ك) . [2] مسلمة بن مخلد الخزرجى الأنصارى، ولاه معاوية مصر بعد عزل عقبة بن عامر الجهنى عنها فى سنة سبع واربعين، وهو أول من أحدث المنار بالمساجد والجوامع. [3] توفى مسلمة لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنين وستين، وكانت ولايته على مصر خمس عشرة سنة وأربعة أشهر. [4] سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدى، لما ولاه يزيد إمرة مصر دخلها فى مستهل شهر رمضان؛ فتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو الخولانى، فلما رآه قال، «يغفر الله لأمير المؤمنين! أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولى علينا أحدهم؟» ولم يزل أهل مصر على البغض له حتى توفى يزيد، فاستجابوا لدعوة بن الزبير، فاعتزل سعيد بعد ولايته بسنتين. [5] كان مسلمة بن مخلد قد خرج إلى الإسكندرية فى سنة ستين، واستخلف على مصر عابس بن سعيد، ثم قدم مسلمة من الإسكندرية فجمع لعابس مع الشرطة القضاء فى أول سنة 61 ثم توفى عابس فى سنة ثمان وستين. [6] قال المسعودى فى التنبيه والإشراف: «معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا عبد الرحمن، وإنما كنى أبا ليلى تقريعا له لعجزه عن القيام بالأمر، وكانت العرب تفعل ذلك بالعاجز من الرجال، وفيه قال الشاعر: إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا وقيل: بل هذا الشعر قديم تمثل به الشاعر فى أيامه» .

قال [1] : ولمّا كان فى آخر إمارتة أمر فنودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد، فإنى ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر رضى الله عنهما فلم أجده، فابتغيت ستة من أهل الشورى فلم أجد، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم» . ثم دخل منزله وتغيّب حتّى مات، فقيل: مات مسموما، وصلّى عليه الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، ثم طعن [2] الوليد فمات من يومه. وقيل: إنه لمّا كبّر تكبيرتين مات قبل انقضاء الصلاة، فتقدم مروان بن الحكم فصلّى عليه. وقيل: إنه أوصى أن يصلّى بالناس الضحّاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة. وقيل له عند الموت:! اعهد إلى خالد بن يزيد، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلّد وزرها من بعدى [3] ! ولم يكن لمعاوية هذا ولد. وكان نقش خاتمه: «الدنيا غرور» [4] . وكانت وفاته لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.

_ [1] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 319. [2] طعن: أصابه الطاعون. [3] جاء فى الكامل أن معاوية بن يزيد قال: «لا أتزود مرارتها واترك لبنى أمية حلاوتها» . [4] كذا جاء فى الأصل وجاء فى التنبيه والإشراف: «وكان نقش خاتمه: «بالله ثقة معاوية» .. وكتب له زمل بن عمرو العذرى وسليمان بن سعيد الخشنى وسرجون النصرانى، وقاضيه: أبو إدريس الخولالى، وحاجبه: صفوان مولاه..

ذكر أخبار من بويع بالعراق أو لم يتم أمره إلى أن بويع

وكانت مدة ولايته إلى حين وفاته أربعين يوما، وقال المدائنى: ثلاثة أشهر، وقال ابن إسحاق: عشرين يوما. ومات وله ثلاث وعشرون سنة، وقال العتبى: سبع عشرة سنة. والله تعالى أعلم. فلنذكر أخبار من بويع بالعراق وخراسان فى زمن هذه الفتن، بعد وفاة يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد إلى أن خلص الأمر بالحجاز والعراق وخراسان لعبد الله بن الزّبير. ذكر أخبار من بويع بالعراق أو لم يتم أمره إلى أن بويع لعبد الله بن الزبير وما كان بالعراق من الوقائع فى خلال ذلك كان أوّل من بويع بالعراق بعد وفاة يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه، وذلك أنه لمّا أتاه الخبر بوفاة يزيد، وبلغه ما الناس فيه بالشام من الاختلاف، أمر فنودى: «الصلاة جامعة» ، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فنعى يزيد وعرّض بثلبه [1] ، لأن يزيد كان قد كرهه قبل موته، وصرّح بلعنه بسبب قتل الحسين بن علىّ، حتى خافه عبيد الله على نفسه، ثم قال عبيد الله: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، [ومولدى فيكم] [2] ، ولقد ولّيتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى ديوان عمالكم [إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا

_ [1] الثلب: اللوم والعيب. [2] الزيادة من الكامل ج 3 ص 320.

ظنّة أخافه عليكم [1]] إلّا وهو فى سجنكم، وإنّ يزيد قد توفّى، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أوّل راض بما رضيتموه [لدينكم وجماعتكم] [2] ، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم [3] حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم» . فقام خطباؤهم، وقالوا: قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحد أقوى عليها منك، فهلمّ [4] نبايعك، فقال: لا حاجة لى فى ذلك. فكرروا عليه وهو يأبى عليهم ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا: أيظن ابن مرجانة إنّا ننقاد له فى الجماعة والفرقة. قال: ولمّا بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن قرحا التيمى [5] يدعوهم إلى البيعة له، ويعلمهم ما صنع أهل البصرة، فلمّا وصلا إلى الكوفة وكان خليفة عبيد الله عليها عمرو بن حريث، فجمع الناس، وقام الرسولان فخطبا وذكرا ذلك للناس، فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشّيبانى وهو ابن رويم، فقال

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) . [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) وسقطت من النسخة (ن) . [3] الجديلة: الحالة الأولى. [4] «هلم» كلمة بمعنى الدعاء إلى الشىء مثل «ثعالى» . [5] كذا فى الأصل وفى تاريخ الطبرى «التميمى» ..

الحمد لله الذى أراحنا من ابن سمّية، أنحن نبايعه؟ لا ولا كرامة. وحصبهما الناس بعده، فشرّفت هذه المقالة يزيد بن رويم بالكوفة ورفعته، ورجع الرسولان إلى عبيد الله، فقال أهل البصرة: أيخلعه أهل الكوفة ونولّيه نحن؟! فضعف سلطانه عندهم، فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ويرى الرأى فيردّ عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه. ثم جاء البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلى التميمى، فوقف فى السوق وبيده لواء، وقال: أيها الناس، هلمّوا إلىّ، إنى أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم، يعنى عبد الله بن الزّبير. فاجتمع إليه ناس، وجعلوا يبايعونه، فبلغ الخبر ابن زياد، فجمع الناس فخطبهم وذكّرهم بما كان من بيعته وقال: إنى بلغنى أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب المسجد، وقلتم ما قلتم، وإنى آمر بالأمر فلا ينفذ، ويردّ علىّ رأيى، ويحال بين أعوانى وبين طلبتى، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعوكم إلى الخلاف عليكم، ليفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم رقاب بعض [1] !» . فقال الأحنف والناس: نحن نأتيك بسلمة، فأتوه، فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه فلما رأى ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صهبان الجهضمى الأزدى، فأحضره وسأله الهرب به، فقال: يا حارث [إن أبى أوصانى إن احتجت إلى الهرب يوما ما أن أختاركم، فقال الحارث] [1]

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) .

قد اختبرنا أباك فلم نجد عنده ولا عندك مكافأة، وما أدرى كيف أتأتّى لك إن أخرجتك نهارا أخاف أن تقتل وأقتل، ولكنى أقيم معك إلى الليل، ثم أردفك خلفى لئلّا نعرف، فقال عبيد الله، نعم ما رأيت، فأقام عنده، فلمّا كان الليل حمله خلفه، وكان فى بيت المال تسعة عشر ألف ففرّق ابن زياد بعضها فى مواليه، وادّخر الباقى لآل زياد، قال: وسار الحارث بعبيد الله، فكان يمرّ به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحروريّة، حتّى انتهوا إلى بنى ناجية، فقال بنوا ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس. وعرف رجل منهم عبيد الله، فقال: ابن مرجانة! وأرسل سهما فوقع فى عمامته ومضى به الحارث حتّى أنزله فى داره بالجهاضم؛ فقال له ابن زياد: «يا حارث، إنك قد أحسنت، فاصنع ما أشير به عليك. قد علمت منزلة مسعود بن عمرو، وشرفه وسنّه، وطاعة قومه له. فهل لك أن تذهب بى إليه فأكون فى داره، فهى وسط الأزد؟ فإنك إن لم تفعل فرّق عليك أمر قومك، فأخذه الحارث فدخلا على مسعود فلم يشعر حتّى رآهما، فقال للحارث: أعوذ بالله من شر ما طرقتنى به، قال: ما طرقتك إلّا بخير، ولم يزل الحارث يلطف بمسعود فى أمره حتّى قال له: أتخرجه من بيتك بعد ما دخله عليك؟! فأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه، فطافوا بالأزد فقالوا: إن ابن زياد قد فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا به. فأصبحوا فى السلاح، وفقد الناس بن زياد فقالوا: ما هو إلا فى الأزد. [وقيل: إن الحارث لم يكلم

مسعودا، بل أمر عبيد الله [1]] فحمل معه مائة ألف درهم وأتى بها أمّ بسطام امرأة مسعود وهى بنت عمّ الحارث ومعه عبيد الله، فاستأذن عليها، فأذنت له. [فقال: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب، وتتعجلين به الغنى، فأخبرها الخبر] [2] وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت، وتلبسه ثوبا من ثياب مسعود، ففعلت، فلما جاء مسعود أخذ برأسها يضربها، فخرج عبيد الله والحارث عليه، وقال، لقد أجارتنى وهذا ثوبك على، وطعامك فى بطنى، وشهد الحارث، وتلطفوا به حتى رضى، فلم يزل ابن زياد فى بيته حتّى قتل مسعود، فسار إلى الشام على ما نذكره إن شاء الله. قال: ولما فقد ابن زياد بقى أهل البصرة بغير أمير. فاختلفوا فيمن يؤمّرونه عليهم، ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السّلمى، وبنعمان بن سفيان ليختارا من يرتضيان لهم، وكان رأى قيس فى بنى أمية، ورأى النعمان فى بنى هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحدا [أحق بهذا الأمر] [2] من فلان، (لرجل من بنى أميّة) . وقيل بل ذكر عبد الله بن الأسود الزهرىّ، وكان هوى قيس فيه، وإنما قال النعمان ذلك خديعة ومكرا بقيس، فقال قيس: قد قلّدتك أمرى ورضيت من رضيت، ثم جاء [3] إلى الناس، فقال قيس بن الهيثم: قد رضيت من رضى النعمان.

_ [1] الزيادة من ابن الأثير ج 3 ص 321. [2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ، ولم تثبت فى النسخة (ن) . [3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «خرجا» .

ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة

ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة قال: ولما اتفق قيس والنّعمان، ورضى قيس بمن يؤمّره النعمان، أشهد عليه النعمان بذلك، وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضا. ثم أتى عبد الله بن الأسود، وأخذ بيده واشترط عليه، حتّى ظنّ الناس أنه يبايعه، ثم تركه. وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو الملقب، «ببّه» [1] واشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم وحقّ أهل بيته وقرابته، ثم قال: «أيها الناس، ما تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم وأمّه هند بنت أبى سفيان، فإن كان الأمر فيهم فهو ابن أختهم» ، ثم أخذ بيده وقال، قد رضيت لكم هذا. فنادوا: قد رضينا، وبايعوه، وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتّى نزلها. وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين. ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام قال: ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذى كان بينهم، وأنفق ابن زياد ما لا كثيرا فيهم حتّى تمّ الحلف، وكنبوا بينهم بذلك كتابين، فلمّا تحالفوا اتفقوا على أن يردّوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فساروا ورئيسهم مسعود بن عمرو، فقال لابن زياد: سر معنا، فلم

_ [1] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 398 والكامل لابن الأثير ح 3 ص 322 وشرح ابن يعيش للمفصل ح 1 ص 32 وشواهد العينى ح 1 ص 403 ومادتى (ببب) و (جذب) فى لسان العرب وثاج العروس، و «يبه» فى الأصل: حكاية صوت صبى.

يفعل، وأرسل معه مواليه على الخيل، وقال لهم لا يحدثنّ خير ولا شر إلا أنبأتمونى به. فجعل مسعود لا يأتى سكة ولا يتجاوز قبيلة إلّا أتى بعض أولئك الموالى إلى ابن زياد بالخبر، وسارت ربيعة وعليهم مالك بن مسمع فأخذوا سكة المربد، وجاء مسعود فدخل المسجد وصعد المنبر، وعبد الله ابن الحارث فى دار الإمارة، فقيل له، إن مسعود وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم وركبت فى بنى تميم، فقال: أبعدهم الله، والله لا أفسدت نفسى فى صلاحهم، وسار مالك بن مسمع نحو دور بنى تميم حتى دخل سكة بنى العدويّة، فحرق دورهم لما فى نفسه منهم. وجاء بنو تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها، فقال، لستم بأحقّ بالمسجد منهم، فقالوا: قد دخلوا الدار، فقال: لستم بأحقّ بالدار منهم؛ فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة؟! إنما أنت امرأة تتجمر. ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد نزعت خلا خيلها، وقد قتلوا الصباغ الذى على طريقك، وقتلوا المقعد الذى كان على باب المسجد. وقد دخل مالك بن مسمع سكّة بنى العدويّة فحرق، فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففى بعض هذا ما يحل به قتالهم! فشهدوا عنده على ذلك؛ فقال الأحنف: أجاء عبّاد بن حصين؟ قالوا لا: ثم قال: أجاء عبّاد؟ قالوا لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق قالوا: نعم؛ [فدعاه] [1]

_ [1] ثبتت الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .

فانتزع معجرا [1] من رأسه فعقده فى رمح ثم دفعه إليه، فقال: سر، فسار وصاح الناس: «هاجت زبراء» (وزيراء أمة للأحنف كنوا بها عنه) [2] . فسار عبس إلى المسجد، فقاتل الأزد على أبوابه، ومسعود يخطب على [المنبر] [3] ، ثم أتوه فاستنزلوه وقتلوه، وذلك أول شوال سنة أربع وستين، وانهزم أصحابه. وكان ابن زياد قد تهيأ لما صعد مسعود المنبر ليجىء دار الإمارة، فقيل له إن مسعود قد قتل، فركب ولحق بالشام. وأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مصر فحصروه فى داره وحرقوه. ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم، فنهبوا ما وجدوا له؛ ففى ذلك يقول واقد بن خليفة التميمىّ. يا رب جبّار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه منهم عبيد الله حين تسلبه ... جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا [4] ومقنبه ... لو لم ينجّ ابن زياد هربه وقد قيل فى قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما قدمناه. وهو أنه لمّا استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو وأجاره، ثم سار ابن زياد إلى

_ [1] المعجر هنا: العمامة. [2] «زبراء» جارية سليطة كانت للأحنف، وكانت إذا غضبت قال الأحنف «هاجت زبراء» . ثم صارت مثلا لكل من هاج غضبه. [3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى. [4] المقنب جماعة الخيل والفرسان.

الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتّى قدموا به إلى الشام، ولما سار من البصرة استخلف مسعودا عليها، فقال بنو تميم وقيس: لا نرضى إلّا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفنى ولا أدع ذلك أبدا، وخرج حتّى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت نميم إلى الأحنف، فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد قال: إنّما هو لهم ولكم، قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر. وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم: إن هذا الرجل الذى قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوّ، فما يمنعكم منه؟! فجاءت عصابة منهم حتّى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه، فرماه علج يقال له مسلم من أهل فارس، كان قد دخل البصرة وأسلم ثم صار من الخوارج، فأصاب قلبه فقتله؛ فقال الناس: قتله الخوارج. فخرج الأزد إلى تلك الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، ثم قيل للأزد: إن تميما قتلوا مسعودا، فأرسلوا يسألون، فإذا ناس من تميم تقوله، فاجتمعت الأزد عند ذلك، فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود، ومعهم مالك بن مسمع فى ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم؛ وهو لا يتحرك، فأتته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا، (أى إنما أنت امرأة) ، فخرج الأحنف فى بنى تميم ومعهم من بالبصرة من قيس، فالتقوا، فقتل منهم قتلى كثيرة، فقال لهم بنو تميم: «يا معشر الأزد، الله الله فى دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بيّنة فاختاروا

أفضل رجل فينا فاقتلوه، وإن لم تكن لكم بيّنة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قاتل، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندى صاحبكم بمائة ألف درهم» . وسفر بينهم عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فطلبوا عشر ديات، فأجابهم الأحنف إلى ذلك، واصطلحوا عليه. قال: وأما عبد الله بن الحارث «ببّه» فإنه أقام يصلى بالناس حتّى قدم عليهم عمر بن عبيد الله أميرا من قبل ابن الزّبير. وقيل: كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلّى بالناس، فصلى بهم حتّى قدم عمر، فبقى عمر أميرا شهرا، ثم قدم الحارث بن عبيد الله بن أبى ربيعة المخزومى فعزله ووليها الحارث. وقيل: بل اعتزل عبد الله بن الحارث «ببّه» أهل البصرة بعد قتل مسعود، فكتب أهل البصرة بعد قتل مسعود إلى ابن الزّبير، وكتب ابن الزّبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلى بالناس، فصلى بهم أربعين يوما. هذا ما كان من أمر البصرة، فلنذكر خبر أهل الكوفة.

ذكر خبر أهل الكوفة وما كان من أمرهم [بعد ابن زياد] [1] إلى أن بويع ابن الزبير

ذكر خبر أهل الكوفة وما كان من أمرهم [بعد ابن زياد] [1] إلى أن بويع ابن الزبير كان من خبرهم أنهم لما حصبوا رسل ابن زياد على ما ذكرناه عزلوا خليفته عليهم وهو عمرو بن حريث، واجتمع الناس وقالوا: نؤمّر علينا رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد بن أبى وقّاص، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ابن علىّ رضى الله عنهما ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر؛ فقال محمد بن الأشعث: جاء أمر غير ما كنّا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد، لأنهم أخواله، فأجمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن وهب الجمحى، فخطب أهل الكوفة فقال: إن لكل قوم أشربة ولذّات فاطلبوها فى مظانّها، وعليكم بما يحل ويحمد، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عنى بهذه الجدران. فقال ابن همام [3] : اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إن الأمير له فى الخمر مأربة ... فاشرب هنيئا مريئا غير تصريد [3]

_ [1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . [2] هو عبد الله بن همام السلولى. [3] التصريد: شرب دون الرى.

ذكر خبر خراسان وما كان من أمر سلم بن زياد وبيعته وخبر عبد الله بن خازم

من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... من قعر خابية ماء العناقيد إنى لأكره تشديد الرّواة لنا ... فيها ويعجبنى قول ابن مسعود وكثير من الناس يظن أن ابن مسعود المذكور فى هذا الشعر هو عبد الله بن أم عبد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك. قال: ولمّا بايعه أهل الكوفة كتبوا بذلك إلى ابن الزّبير فأقرّه عليها، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم استعمل عبد الله بن الزّبير عبد الله بن يزيد الخطمى الأنصارىّ على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل. ذكر خبر خراسان وما كان من أمر سلم بن زياد وبيعته وخبر عبد الله بن خازم كان من خبر خراسان أنه لما بلغ سلم بن زياد وهو العامل عليها موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، فقال له ابن عرادة: يأيها الملك المغلّق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم قتلى بحرّة والذين بكابل ... وزيد أعلن شأنه المكتوم أبنى أمية إن آخر ملككم ... جسد بجوّازين ثمّ مقيم

طرقت منيّته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم [1] ومرنّة تبكى على نشواته ... بالصنج تقعد مرة وتقوم فلما ظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتّى تستقيم أمور الناس على خليفة، فبايعوه، ثم نكثوا به بعد شهرين، فلمّا خلعوه خرج عنهم واستخلف المهلّب بن أبى صفرة، فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بنى قيس بن ثعلبة بن ربيعة، فقال له: أضاقت عليك نزار حتى خلّفت على خراسان رجلا من اليمن، يعنى المهلب. فولاه مرو الرّوز، والفارياب، والطالقان، والجزجان. وولّى أوس بن ثعلبة ابن زفرر (وهو صاحب قصر أوس بالبصرة) هراة، فلما وصل سلم إلى نيسابور لقيه عبد الله بن حازم، فقال له: من وليت خراسان؟ فأخبره فقال: «أما وجدت من مضر من تستعلمه، حتى فرّقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن! اكتب لى عهدا على خراسان» ؛ فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم. وسار ابن خازم إلى مرو، وبلغ خبره المهلّب، فأقبل فاستخلف رجلا من بنى جشم بن سعد بن زيد مناه بن تميم، فلمّا وصلها ابن خازم منعه الجشمىّ، وجرت بينهما مناوشة، فأصابت الجثمىّ رمية فى جبهته، وتحاجزا، ودخلهما ابن خازم، ومات الجثمىّ بعد ذلك بيومين.

_ [1] زق واعف: يسيل من الامتلاء.

ثم سار ابن خازم إلى مرو فقاتله سليمان بن مرثد أياما، فقتل سليمان، ثم سار بن خازم إلى عمرو بن مرثد وهو بالطّالقان فاقتتلوا فقتل عمرو بن مرثد، وانهزم أصحابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع ابن خازم إلى مرو. وهرب من كان بمرو الرّوذ من بكر بن وائل إلى هراة، وانضمّ إليها من كان بكور خراسان من بكر، فكثر جمعهم، وقالوا لأوس ابن ثعلبة: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان، فأبى عليهم [1] فهمّوا [2] بمبايعة غيره، فأجابهم، فبايعوه، فسار إليهم ابن خازم فنزل على واد بينه [3] وبين هراة، فأشار البكريّون بالخروج من هراة وعمل خندق، فقال أوس: بل نلزم المدينة فإنها حصينة، وأطاول ابن خازم ليضجر ويعطينا ما نريد، فأبوا عليه، وخرجوا فخندقوا خندقا [4] . وقاتلهم ابن خازم نحو سنة. فنادى هلال الضّبىّ وهو من أصحابه فقال: «إنما تقاتل إخوتك وبنى أبيك، فإن نلت منهم الذى تريد فما فى العيش خير، فلو أعطيتهم شيئا يرضون به، وأصلحت هذا الأمر!» فقال: والله لو خرجنا إليهم عن خراسان ما رضوا [5] » ! فقال هلال: لا والله

_ [1] فقال لهم: هذا بغى، وأهل البغى مخذولين، أقيموا مكانكم هذا، فإن ترككم ابن خازم، وما أراه يفعل، فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هو فيه. [2] قال له بنو صهيب: لا والله لا نرضى أن نكون نحن ومضر فى بلد، وقد قتلوا بنى مرثد، فإذ أجبتنا إلى هذا وإلا أمرنا علينا غيرك. [3] عبارة الطبرى: «بين عسكره وبين هراة» . [4] عبارة الطبرى «وخرجوا من المدينة فخندقوا خندقا» . [5] زاد الطبرى «ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدنيا لأخرجوكم» .

لا أقاتل معك أنا ولا رجل يطيعنى حتى تعذر إليهم! قال. فأنت رسولى إليهم فأرضهم. فأتى هلال إلى أوس بن ثعلبة، فناشده الله والقرابة فى نزار، وأن يحفظ دماءها، فقال: هل لقيت بنى صهيب: قال: لا، قال: فالقهم. وبنو صهيب هم موالى بنى جحدر، وهم الذين ألزموا أوس ابن ثعلبة بالقتال، فخرج هلال من عند أوس فلقى جماعة من رؤساء أصحابه، فأخبرهم ما أتى له، فقالوا له: هل لقيت بنى صهيب؟ فقال: لقد عظم أمر بنى صهيب عندكم! فأتاهم يكلّمهم، فقالوا: والله لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فما يرضيكم شىء؟ قالوا: «واحد من اثنين [1] ؛ إما أن تخرجوا من خراسان [2] ، وإما أن تقيموا وتخرجوا لنا كل سلاح وكراع وذهب وفضة» . فرجع هلال إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ فأخبره [3] الخبر فقال: إن ربيعة لم تزل غضابا على ربّها منذ بعث نبيه من مضر!. وأقام ابن خازم يقاتلهم، فلما طال مقامه ناداهم يوما؛ يا معشر ربيعة، أرضيتم بنى من خراسان بخندقكم؟! فأحفظهم ذلك، فتنادوا للقتال، فنهاهم أوس عن الخروج بجماعتهم، فعصوه، وخرجوا، فقاتلوا ساعة، ثم انهزموا، حتّى انتهوا إلى خندقهم، وتفرّقوا يمينا وشمالا، وسقطوا فى الخندق، وقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس بن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير

_ [1] فى تاريخ الطبرى: «واحدة من اثنين» . [2] زاد الطبرى قولهم: «ولا يدعو فيها لمضر داع» . [3] وقال له: «وجدت إخوانا قطعا للرحم» .

ذكر بيعة عبد الله بن الزبير وما حدثت فى أيامه من الوقائع والحوادث المتعلقة به والكائن [1] فى أعمال ولايته

يومه ذلك إلا قتله وسار أوس بن ثعلبة إلى سجستان فمات بها أو قريبا منها، وقتل من بكر يومئذ ثمانية آلاف، وغلب ابن حازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمدا وضم إليه شماس بن دثار العطاردىّ، وجعل بكير بن وشاح الثّقفىّ على شرطته، ورجع ابن خازم إلى مرو. وفى هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الرّى، وكان عليهم الفرّخان الرازى، فوجه إليهم عامر بن مسعود وهو أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى الدّارمى فهزمه أهل الرىّ، فبعث إليهم عامر عتّاب بن ورقاء التميمىّ، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الفرّخان وانهزم المشركون. هذا ما كان من أخبار العراق وخراسان بعد وفاة يزيد، فلنذكر أخبار عبد الله بن الزبير، وما تخلل أيامه من أخبار غيره التى حدثت فى أعماله. ذكر بيعة عبد الله بن الزبير وما حدثت فى أيامه من الوقائع والحوادث المتعلقة به والكائن [1] فى أعمال ولايته هو أبو خبيب [2] ، وقيل: أبو بكر [3] عبد الله بن الزبير ابن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصى، وأمه أسماء

_ [1] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة (ن) «والمكاتبة» . [2] «أبو خبيب» كنية عبد الله بن الزبير بأكبر أولاده «خبيب» ، ومن ذلك قول الشاعر: أرى الحاجات عند أبى خبيب ... نكدن ولا أمية فى البلاد [3] كناه النبى صلى الله عليه وسلم بكنية جده أبى أمه.. أبى بكر الصديق.

بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وهى ذات النّطاقين [1] ، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين [2] بعد الهجرة. وكان ابتداء أمره فى البيعة له ما قدمناه؛ من خروجه من المدينة لما توفّى معاوية بن أبى سفيان، ووصوله إلى مكة، وأنه أقام بالبيت وقال: أنا العائذ بهذا البيت. فلما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما فى سنة إحدى وستين كما ذكرنا، قام عبد الله فى الناس فعظّم قتله، وعاب أهل العراق عامّة، وأهل الكوفة خاصّة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم، فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه، فقالوا له: إمّا أن تضع يدك فى أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضى فيك حكمه، وإما أن تحارب، فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل فى كثير، وإن كان الله لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينا، وأخرى قاتله. لعمرى لقد كان من خلافهم إيّاه، وعصيانهم، ما كان فى مثله واعظ وناه عنهم، ولكنه قدر نازل، وإذا أراد الله أمرا لم يدفع، أفبعد الحسين يطمأنّ إلى هؤلاء القوم، ويصدّق قولهم، ويقبل لهم عهد؟ لا والله لا نراهم لذلك أهلا، أم والله لقد

_ [1] ذكر المؤلف حديث الهجرة فى الجزء 16 من نهاية الأرب فقال ص 333: قطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت بها الجراب، وقطعة أخرى صيريها عصاما لفم القربة، فلذلك سميت أسماء «ذات النطاقين» . [2] الذى قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 301: «من المهاجرين» .

قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فى النهار صيامه، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به فى الدين والفضل! أم الله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس فى حلق الذكر الركض فى تطلاب الصّيد- يعرض بيزيد فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [1] . فثار إليه أصحابه، وقالوا: أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان عبد الله قبل ذلك يبايع سرا، فقال لهم: لا تعجلوا. هذا وعمرو بن سعيد عامل مكة، وهو أشدّ شىء على عبد الله بن الزّبير، وهو مع ذلك يدارى ويرفق. فلما استقرّ عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة أعطى الله عهدا ليوثقنّه فى سلسلة، فبعث إليه سلسلة من فضّة مع ابن عضادة [2] الأشعرى ومسعدة وأصحابهما ليأتوه به فيها، وبعث معهم برنس خزّ ليلبسه عليها لئلا تظهر للناس. فاجتاز أبو عضادة بالمدينة وبها مروان بن الحكم، فأخبره بما قدم له، فأرسل مروان معه ولدين له، أحدهما عبد العزيز، وقال: إذا بلّغته رسل يزيد الرسالة فتعرّضا له، وليتمثل أحدكما بهذا الشعر: فخذها فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لا مرىء متذلّل أعامر إن القوم ساموك خطة ... وذلك فى الجيران عزلا بمعزل [3] أراك إذا ما كنت للقوم ناصحا ... يقال له بالدلو أدبر وأقبل

_ [1] من الآية 59 من سورة مريم. [2] فى تاريخ الطبرى «عضاه» وفى الكامل «عطاء» . [3] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 365: «وذلك فى الجيران غزل بمغزل» .

فلمّا بلّغه الرسل الرّسالة أنشد عبد العزيز الأبيات، فقال ابن الزبير: يا بنى مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما: إنى لمن نبعة صمّ مكاسرها ... إذا تناوحت القصباء والعشر فلا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر وامتنع من رسل يزيد. فقال الوليد بن عتبة وناس من بنى أميّة ليزيد: لو شاء عمرو ابن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث إليك به، فعزل يزيد عمرا واستعمل الوليد بن عتبة على الحجاز، فأقام الوليد يريد غرّة عبد الله فلم يجده إلا متحذّرا ممتنعا. وثار نجدة بن عامر الحنفىّ باليمامة حين قتل الحسين، وكان الوليد يفيض بالناس من المعرّف، ويقف ابن الزبير وأصحابه ونجدة وأصحابه، ثم يفيض ابن الزبير وأصحابه، ونجدة بأصحابه، لا يفيض واحد منهم بإفاضة أحد. وكان نجدة يلقى عبد الله بن الزّبير ويكثر حتى ظنّ الناس أنه سيبايعه. ثم [كتب] [1] عبد الله بن الزبير إلى يزيد فى شأن الوليد فعزله يزيد كما تقدم، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان. وكان من خبر أهل المدينة فى خلافهم يزيد، ووقعة الحرّة، والحصار الأول ما قدمناه. فلما مات يزيد بن معاوية بلغ الخبر عبد الله بن الزبير والحصين ابن نمير ومن معه من عسكر الشام يحاصرونه، وقد اشتد حصارهم،

_ [1] الزيادة من ابن الأثير والطبرى.

فقال لهم عبد الله وأهل مكة: علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم؟ فلم يصدّقوهم، فلما بلغ الحصين خبر موت يزيد بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، فالتقيا وتحادثا فراث فرس الحصين، فجاء حمام الحرم يلتقط روث فرس الحصين، فكفّ الحصين فرسه عن الحمام، وقال: أخاف أن يقتل فرسى حمام الحرم. فقال له ابن الزبير: تتحرجون من هذا وأنتم تقاتلون المسلمين فى الحرم، فكان فيما قال له الحصين: «أنت أحقّ بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، ثم اخرج معى إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معى هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمّن الناس، وتهدر الدماء التى كانت بيننا وبينك، وبين أهل الحرة» ، فقال له أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة. وأخذ الحصين يكلّمه سرا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل، فقال له الحصين: قبح الله من يعدّك بعد هذا داهيّا أو أريبا، قد كنت أظنّ لك رأيا، وأنا أكلمك سرّا، وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدنى القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة. وندم ابن الزّبير على ما صنع، فأرسل إلى الحصين يقول: أما المسير إلى الشام فلا أفعله، ولكن بايعوا لى هناك، فإنى مؤمّنكم وعادل فيكم، فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك لا يمشى الأمر، فإن هنالك ناسا من بنى أمية يطلبون هذا الأمر. وسار الحصين إلى المدينة فخرج معه بنو أمية إلى الشام.

ذكر فراق الخوارج عبد الله وما كان من أمرهم

وبويع عبد الله بن الزبير بمكة لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين، واجتمع لعبد الله بن الزّبير الحجاز والكوفة والبصرة والجزيرة وأهل الشام، إلّا أهل أردن ومصر. ثم بويع مروان بن الحكم بالشام، فكان من أمره فى وقعة مرج راهط ومسيره إلى مصر واستيلائه عليها ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره. ذكر فراق الخوارج عبد الله وما كان من أمرهم وفى سنة أربع وستين فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزّبير، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام. وكان سبب قدومهم عليه أنه لما اشتد عليهم عبيد الله بن زياد بعد قتل أبى بلال، اجتمعوا وتذاكروا فأشار عليهم نافع بن الأزرق أن يلحقوا بابن الزبير، وقال: إن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن كان على غير رأينا دافعنا عن البيت، فلما قدموا عليه سرّ بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير استفسار، فقاتلوا معه أهل الشام، ثم اجتمعوا بعد وفاة يزيد وقالوا: إن الذى صنعتم بالأمس لغير رأى، تقاتلون مع رجل لا تدرون، لعله ليس على مثل رأيكم، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه، وينادى «يا ثارات عثمان» فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل فقال: إنكم أتيتمونى حين أردت القيام، ولكن ائتونى عشية النهار حتى أعلمكم؛ فانصرفوا. وبعث ابن الزبير إلى أصحابه، فاجتمعوا عنده بأيديهم العهد.

فقال ابن الأزرق: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة: بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عمل بكتاب الله حتّى قبضه الله، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة رسوله، ثم إن الناس استخلفوا عثمان. ونقصه، وقبح أفعاله، وتبرأ منه، ووالى قتلته، ثم قال: فما تقول أنت يا ابن الزبير:؟! فحمد بن الزبير الله وأثنى عليه، ثم قال: قد فهمت الذى ذكرت به النبىّ صلى الله عليه وسلم فهو فوق ما ذكرت، وفوق ما وصفت، وفهمت الذى ذكرت به أبا بكر وعمر وقد وفّقت وأصبت، وفهمت الذى ذكرت به عثمان، وإنى لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره منى، كنت معه حيث نقم [القوم] [1] عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم منه، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم. فو الله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضرنى أنى ولىّ لابن عفّان، وعدوّ أعدائه. قالوا: فبرىء الله منك، قال: بل برئ الله منكم. وتفرّق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلى، وعبد الله بن صفّار السّعدىّ، وعبد الله بن إباض، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز؛ عبد الله وعبيد الله والزّبير من بنى سليط بن يربوع، وكلهم

_ [1] الزيادة من الطبرى.

ذكر مقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج وغيره منهم

من تميم، حتّى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور من قيس بن ثعلبة، وعطية ابن الأسود اليشكرى، إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبى طالوت، ثم اجتمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفىّ وتركوا أبا طالوت. فأما نافع بن الأزرق ومن معه فإنهم قدموا البصرة فتذاكروا الجهاد وفضيلته، وخرج فى ثلاثمائة، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد، وكسر الخوارج باب السجن وخرجوا، واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما استقر أمر عبد الله بن الحارث بالبصرة تجرد الناس للخوارج وأخافوهم، فلحق نافع بالأهواز فى شوال سنة أربع وستين واشتدت شوكته، وكثرت جموعه، وأقام بالأهواز. وحيث ذكرنا الخوارج، فلنذكر ما كان من أمرهم فى أيام عبد الله ابن الزبير إلى نهايته، ثم نذكر ما سوى ذلك ذكر مقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج وغيره منهم وفى سنة خمس وستين اشتدت شوكة نافع بن الأزرق، وهو الذى تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، وكثرت جموعه، وأقبل بهم نحو الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث أمير البصرة مسلم ابن عبيس بن كربز بن ربيعة، فخرج إليه فدفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز، فاقتتلوا هناك فقتل مسلم أمير أهل البصرة ونافع بن الأزرق رئيس الخوارج، وكان مقتلهما فى جمادى الآخرة. فأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميرىّ، وأمرت

ذكر محاربة المهلب الخوارج وقتل أميرهم عبيد الله بن الماحوز

الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمى، فاقتتلوا فقتل الحجاج وعبد الله، فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الأجذام التميمى، وأمّرت الخوارج عبيد الله ابن الماحوز، واقتتلوا حتى أمسوا وقد ملّوا القتال، وكره بعضهم بعضا، فبينما هم كذلك إذ جاءت سرية للخوارج لم تشهد القتال فهزمت جيش البصرة، وقتل أميرهم ربيعة، فأخذ الراية حارثة بن بدر فقاتل ساعة بعد أن ذهب الناس عنه، ثم سار ونزل الأهواز، وبعث ابن الزبير الحارث بن أبى ربيعة على البصرة كما ذكرناه، فأقبلت الخوارج نحو البصرة حتى قربوا منها، فأتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلّب بن أبى صفرة. ذكر محاربة المهلب الخوارج وقتل أميرهم عبيد الله بن الماحوز كان المهلّب قد قدم من قبل عبد الله بن الزّبير لولاية خراسان فخرج إليه أشراف أهل البصرة وكلّموه فى حرب الخوارج، فأبى عليهم، فكلمه الحارث بن ربيعة، فاعتذر بولاية خراسان، فوضع الحارث وأهل البصرة كتابا عن ابن الزّبير إلى المهلّب يأمره بقتال الخوارج، وأتوه به، فلما قرأه قال: والله ما أسير إليهم إلا أن يجعلوا إلىّ ما غلبت عليه، ويعطونى من بيت المال ما أقوىّ به من معى، فأجابوه إلى ذلك. واختار المهلب من أهل البصرة اثنى عشر ألفا؛ منهم محمد بن واسع، وعبد الله بن رباح الأنصارى، ومعاوية بن قرّة المزنىّ، وأبو عمران الجونى وغيرهم. وخرج إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر فحاربهم ودفعهم عنه، وتبعهم حتّى بلغوا الأهواز، واقتتلوا هناك.

ودامت الحرب، وقتل المعارك بن أبى صفرة أخو المهلب، ثم هزم جيش المهلّب وثبت هو، فاجتمع عليه جماعة ممن انهزم، ثم عادوا للقتال، وأبلى بلاء حسنا فهزموه، فبلغ بعض من معه البصرة وجاءت أهلها وأسرع المهلّب حتّى سبق المنهزمين إلى تلّ عال، ثم نادى: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه فعاد إلى الخوارج وقد أمنوا، وسار بعضهم خلف الجيش الذى انهزم، فأوقع بهم المهلّب وقتل رئيسهم عبيد الله بن الماحوز، فاستخلفوا الزبير بن الماحوز، وعاد الذين تبعوا المنهزمين، فوجدوا المهلّب قد وضع لهم خيلا فرجعوا منهزمين، وأقام المهلّب موضعه حتّى قدم مصعب بن الزّبير أميرا على البصرة من قبل أخيه عبد الله. وقيل: كانت هذه الواقعة فى سنة ستّ وستّين، وذلك أن المهلّب لمّا دفع الخوارج عن البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبى كور دجلة ورزق أصحابه، وأتاه المدد من البصرة حتّى بلغ ثلاثين ألفا. قال: ثم استعمل مصعب بن الزّبير لما ولى العراق نائبه عمر ابن عبيد الله بن معمر على فارس، وولّاه حرب الأزارقة بعد أن توجّه المهلّب إلى الموصل والجزيرة وأرمينية على ما نذكره إن شاء الله. فلما بلغ الخوارج ولايته تقدموا إلى إصطخر، وأميرهم يوم ذاك الزّبير بن الماحوز، فندب إليهم عمر ابنه عبيد الله فى خيل، فاقتتلوا فقتل عبيد الله بن عمر، وقاتل عمر بن عبيد الله الخوارج فقتل من فرسانهم سبعون [1] رجلا، وانهزم الخوارج وقصدوا نحو

_ [1] ابن الأثير: «تسعون» .

أصبهان، فأقاموا حتّى قووا واستعدوا وأقبلوا حتّى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها من غير الموضع الذى هو به حتى أتوا ألأهواز. فكتب إليه مصعب يلومه فى تمكينهم من قطع جهته، فسار عمر من فارس فى أثرهم، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر. وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر عليهم، فقطعوا أرض جوخى والنهر وأنات وأتوا المدائن، وبها كردم بن مرثد الفزارى، فشنّوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الرجال والنساء والولدان، ويشقّون أجواف الحوامل، فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط، ووضعوا السيف، وأفسدوا إفسادا عظيما. وأتوا أرض الكوفة فخرج إليهم الحارث بن أبى ربيعة أميرها، فتوجهوا حتى أتوا المدائن فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فتبعهم حتّى وقعوا فى أرض أصبهان، فرجع ولم يقاتلهم. وقصدوا الرّى وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشّيبانى فقاتلهم، فأعان أهل الرّى الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب. ولمّا فرغ الخوارج من الرى شخصوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتّاب بن ورقاء، فصبر لهم وقاتلهم، فكمن له رجل من الخوارج وضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتّى برئ، وداوم الخوارج حصارهم حتى نفدت أطعمتهم وأصابهم الجهد، فقام عتّاب فى أصحابه، وحرّضهم على أن يصدقوهم القتال، فأجابوه إلى ذلك، وخرج بهم إلى الخوارج وهم آمنون،

ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم وأخبارها إلى أن قتلوا

فقاتلوهم حتّى أخرجوهم من معسكرهم، وقتلوا أميرهم الزّبير بن الماحوز. ففرغت الخوارج إلى أبى نعامة قطرىّ بن الفجاءة المازنىّ فبايعوه، وأصاب عتّاب ومن معه من عسكرهم ما شاءوا، وسارت الخوارج عن أصبهان إلى كرمان، فأقاموا بها حتّى اجتمع إلى أميرهم قطرى جموع كثيرة، وجبى الأموال وقوى، ثم أقبل إلى أصبهان، ثم أتى أرض الأهواز فأقام بها، فبعث مصعب إلى المهلّب فأمره بقتال الخوارج، وبعث إلى عامله بالموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، فقدم المهلّب البصرة، وانتخب الناس وسار نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا ثمانية أشهر أشدّ قتال رآه الناس، وذلك فى سنة ثمان وستين. هذا ما أمكن إيراده من أخبار الخوارج فى أيام ابن الزّبير فلنذكر خلاف ذلك. ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم وأخبارها إلى أن قتلوا وإنما ذكرنا خبر التوابين فى هذا الموضع فى أخبار عبد الله بن الزبير؛ لأن ظهورهم ومقتلهم كان فى أيامه، ومن بلد داخل تحت حكمه، ونحن نذكر مبدأ أمرهم، وقد ذكرهم ابن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل فى حوادث سنة أربع وستين، وسنة خمس وستين. قال: ولما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما كما ذكرنا تلاقت الشّيعة بالتّلاوم والندم على ما صدر منهم، من استدعائهم الحسين

وخذلانه حتى قتل، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم العار والإثم الذى ارتكبوه إلّا قتل من قتله أو القتل فيه. فاجتمعوا بالكوفة إلى خمس نفر من رءوس الشّيعة، وهم: سليمان بن صرد الخزاعى، وكانت له صحبة، والمسيّب ابن نجبة الفزارى وكان من أصحاب على وخيارهم، وعبد الله ابن مسعود بن نفيل الأزدى، وعبد الله بن وال التيمى، تيم بكر بن وائل، ورفاعة بن شداد البجلى، فاجتمعوا فى منزل سليمان بن صرد فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله: «أمّا بعد، فإنا ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربّنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غدا: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [1] وإن أمير المؤمنين قال: العمر الذى أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا [2] ، فوجدنا الله كاذبين فى كل موطن من مواطن ابن ابنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله، وأعذر إلينا فسألنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأبدينا ولا جدلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النّصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا، وقد قتل فينا ولده وحبيبه، وذرّيته ونسله! لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا فى طلب ذلك، فعسى ربّنا أن يرضى عنا عند ذلك،

_ [1] من الآية 37 من سورة فاطر. [2] هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ن) مع توالى الترقيم بها، ولعل هناك صفحتين سقطنا فلم يتنبه عليها المرقم، وقد أثبتنا هذا من النسخة (ك) .

وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن: أيها القوم، ولّوا عليكم رجلا منكم، فإنه لا بدّ لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفّون بها» . فقام رفاعة بن شداد فقال: «أمّا بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول، وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب إلى قولك، وقلت: ولّوا أمركم رجلا تفزعون إليه وتحفّون برايته، وقد رأينا مثل الذى رأيت، فإن تكن أنت دلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا مستنصحا وفى جماعتنا محبا، وإن رأيت ورأى ذلك أصحابنا ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود فى بأسه ودينه الموثوق بحزمه» .. وتكلم عبد الله بن وأل وعبد الله بن سعد بنحو ذلك، وأثنيا على سليمان والمسيّب، فقال المسيب: قد أصبتم فولّوا أمركم سليمان بن صرد. فتكلم سليمان بن صرد بكلام كثير؟؟؟ حضهم فيه على القيام وطلب ثأر الحسين وقتل قتلته أو القتل دون ذلك. وكتب إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم هو ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك. وكتب سليمان أيضا إلى المثنّى فأجابه: إننا معشر الشيعة حمدنا الله على ما عزمتم عليه، ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذى ضربت.

قال وكان أول ما ابتدءوا به أمرهم بعد قتل الحسين فى سنة إحدى وستين، فما زالوا فى جمع آلة الحرب ودعاء الناس، فى السر إلى أن هلك يزيد بن معاوية فى سنة أربع وستين، فجاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة- ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ثم ندعو الناس إلى أهل هذا البيت [1] . فقال لهم سليمان: «لا تعجلوا، إنى قد نظرت فيما ذكرتم، فرأيت قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب، ومتى علموا ذلك كانوا أشدّ عليكم، ونظرت فيمن تبعنى منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزرا لعدوّهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إنى أمركم» ؛ ففعلوا فاستجاب لهم ناس كثير. ثم إن أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير، فلما مضت ستة أشهر من وفاة يزيد قدم المختار بن أبى عبيد إلى الكوفة فى النصف من شهر رمضان، وقدم عبد الله بن زيد الخطمى الأنصارى أميرا على الكوفة من قبل عبد الله بن الزّبير لثمان خلون [2] من شهر رمضان، وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على الخراج. فأخذ المختار بن أبى عبيد يدعو الناس إلى قتال قتلة حسين ويقول:

_ [1] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 334 قولهم: «المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم» . [2] فى الكامل «بقين» .

جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيرا أمينا، فرجع إليه طائفة من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه، وليس له خبرة بالحرب. وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد أن سليمان يريد الخروج بالكوفة عليه، وأشير عليه بحبسه، وخوّف عاقبة أمره إن تركه، فقال عبد الله إن هم قاتلونا قاتلناهم، وإن تركونا؟؟؟ لنطلبهم، إنّ هؤلاء القوم يطلبون قتلة الحسين، ولست ممن قتله، لعن الله قاتله، ثم صعد إلى المنبر فقال بلغنى أن طائفة منكم أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عنهم فقيل إنهم يطلبون بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء القوم، لقد والله دللت على مكانهم، وأمرت بأخذهم، فأبيت، وقلت إن قاتلونى قاتلتهم، وعلام يقاتلونى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولقد والله أصبت بمقتله رحمة الله عليه، وإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ظاهرين، وليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم- يعنى عبيد الله بن زياد- فأنا لهم ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، فقد توجه إليكم وقد؟؟؟ فارقوه على ليلة من جسر منبج،؟؟؟ فقاتله والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا،؟؟؟ فليقاكم عدوكم وقد رققتم فنهلك، وتلك أمنيته، وقد قدم عليكم أعدى خلق الله لكم، من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذى قتلكم ومن قبله أتيتم، والذى قتل من تنادون بدمه،

قد جاءكم فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم واجعلوها [به ولا تجعلوها] [1] بأنفسكم إنى لكم ناصح. وكان مروان بن الحكم قد بويع بالشام على ما نذكره، وبعث عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة، وأمره إذا فرغ منها أن يسير إلى العراق. قال: فلما فرغ عبد الله بن يزيد من كلامه قال إبراهيم بن محمد ابن طلحة: «أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن، والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استيقنّا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما فى عرافته، حتّى يدينوا للحق والطاعة» . فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه، ثم قال: يا ابن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وحشمك! أنت والله أذلّ من ذلك، إنّا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا. فقال له إبراهيم والله لتقتلن، وقد داهن هذا، يعنى عبد الله بن يزيد، فقال له عبد الله بن وأل: ما اعتراضك فيما بينا وبين أميرنا؟ ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية، فأقبل على خزاجك، ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك، وكانت عليهما دائرة السوء. فشتمهم جماعة ممّن مع إبراهيم، ونزل الأمير عن المنبر، وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه؛ فجاءه عبد الله فى منزله فاعتذر إليه، فقبل عذره.

_ [1] الزيادة من الكامل ج 4 ص 335.

ثم خرج أصحاب سليمان بن صرد ينشرون السلاح ظاهرين إلى سنة خمس وستين، فعزم سليمان على الشخوص، وبعث إلى رءوس أصحابه وتواعدوا للخروج فى مستهل شهر ربيع الآخر، وخرجوا فى ليلة الوعد إلى النّخيلة، فدار سليمان فى الناس، فلم يعجبه عددهم، فأرسل إلى حكيم بن منقذ الكندى والوليد بن عضين الكنانى فناديا فى الكوفة يا لثارات الحسين! فكانا أول من دعايا لثارات الحسين. فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما فى عسكره، ثم نظر فى ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا بايعه، فقال! سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف! فقيل له إن المختار يشبط الناس عنك وقد تبعه ألفان. فقال، بقى عشرة آلاف! ما هؤلاء بمؤمنين! فأقام بالنّخيلة ثلاثا، يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل، فقام إليه المسيّب بن نجبة، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكلام، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظرن أحدا، وخذ فى أمرك. قال: نعم ما رأيت. ثم قام سليمان فى أصحابه فقال: «أيها الناس، من كان إنما خرج إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان يريد الدنيا فو الله ما يأتى فى نأخذه ولا غنيمة نغنمها، ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، ما هو إلّا سيوفنا على عواتقنا، وزاد قدر البلغة، فمن كان ينوى غير هذا فلا يصحبنا» . فتنادى أصحابه من كل جانب: إنّا لا نطلب الدنيا، وليس لها

خرجنا، إنما خرجنا لنطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت نبينا صلى الله عليه وسلم. فلمّا عزم على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: إنى قد رأيت رأيا، إن يكن صوابا فالله الموفق، وإن؟؟؟ يكن ليس بصواب فالرأى ما تراه، إنّا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلته كلّهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد ورءوس الأرباع والقبائل، فأين تذهب من ههنا وتدع الأوتار [1] . فقال أصحابه: هذا هو الرأى. فقال سليمان: أنا لا أرى ذلك، إن الذى قتله وعبّأ الجنود إليه وقال: «لا أمان له عندى دون أن يستسلم فأمضى فيه حكمى» هذا الفاسق ابن الفاسق، عبيد الله بن زياد، فسيروا على بركة الله إليه، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون منه، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم فى عافيته،؟؟؟ فينظرون إلى كل من شرك فى دم الحسين فيقتلونه ولا يغشون، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلّين، وما عند الله خير للأبرار، فاستخيروا الله وسيروا. وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد، فأتياه فى أشراف أهل الكوفة، ولم يصحبهم من له شرك فى دم الحسين خوفا منهم، فلمّا أتياه قال له عبد الله بن يزيد: إن المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يغشّه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا فى أنفسكم،

_ [1] الأوتار: جمع وتر، بمعنى ثأر.

ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتّى نتهيأ فإذا سار عدوّنا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه. وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخى إن أقاموا، وقال إبراهيم مثل ذلك، فقال سليمان قد محضتما النصيحة واجتهدتما فى المشورة فنحن بالله وله، ونسأله العزيمة على الرشد، ولا نرانا إلّا سائرين، فقال عبد الله: فأقيموا حتّى نعبّئ معكم جيشا كثيرا، فتلقوا عدوّكم بجمع كثيف، وكان قد بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام فى الجنود. فلم يقم سليمان، وسار عشيّة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، فتخلّف عنه ناس كثير، فقال ما أحبّ من تخلف منكم معكم ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا إن الله كره انبعاثهم فثبطهم وخصكم بفضل ذلك. ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فصاحوا صيحة واحدة، وبكوا بكاء شديدا، وترحموا عليه، وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون. ثم ساروا وقد ازدادوا حنقا، وأخذوا صوب الأنبار، وساروا حتّى أتوا قرقسيا على تعبئة، وبها زفر بن الحارث الكلابى قد تحصن بها عند فراره من وقعة مرج راهط، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار مروان بن الحكم. فبعث إليه سليمان، وعرّفه ما هو وأصحابه عليه من قصد بن زياد، فبعث إليهم بجزور ودقيق وعلف، وخرج إليهم وشيعهم وعرض عليهم أن يقيموا عنده بقرقيسيا، وقال: ابن زياد فى

عدد كثير، فأبوا المقام، وساروا مجدّين، وقال لهم زفر إن ابن زياد قد بعث خمسة أمراء من الرقة فيهم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذى الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبيد الله [1] الخثعمى، فأبوا إلّا المسير. فانتهوا إلى عين الوردة، فنزلوا غربيّها، وأقاموا خمسا، واستراحوا وأراحوا. وأقبل أهل الشام فى عساكرهم، حتّى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان فى أصحابه فخطبهم وحرّضهم على القتال وذكرهم الآخرة ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب ابن نجبة، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فالأمير عبد الله بن وأل، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد، رحم الله؟؟؟ أمرأ صدق ما عاهد الله عليه. وبعث المسيّب بن نجبة فى أربعمائة فارس، وقال: سر حتّى تلقى أوّل عساكرهم، فشنّ عليهم الغارة، فإن رأيت ما تحب وإلّا فارجع. فسار يومه وليلته، ثم نزل، فأتى بأعرابى، فسأله عن أدنى العسكر منه، فقال: أدناها منك عسكر شرحبيل بن ذى الكلاع، وهو على ميل، وقد اختلف هو والحصين، ادّعى كلّ واحد منهما أنه على الجماعة، وهما ينتظران أمر عبيد الله. فسار المسيّب ومن معه مسرعين، حتّى أشرفوا على القوم، وهم على غير أهبة، فحملوا فى جانب عسكرهم، فانهزم العسكر،

_ [1] فى الكامل ج 3 ص 342: «عبد الله» .

فأصاب المسيّب منهم رجالا وأكثروا فيهم الجراح، وأخذوا دواب، وترك الشاميون معسكرهم وانهزموا، فغنم أصحاب المسيّب ما أرادوا، ثم انصرفوا إلى سليمان. وبلغ الخبر ابن زياد، فسرّح الحصين فى اثنى عشر ألفا، فخرج أصحاب سليمان إليه، لأربع بقين من جمادى الأولى، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيّب، وسليمان فى القلب. وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوى. فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على مروان بن الحكم، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع مروان وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب عبد الله ابن الزّبير ثم يردّ الأمر إلى أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، وحمل بعضهم على بعض، فانهزم أهل الشام وكان الظفر لأصحاب سليمان إلى الليل. فلما كان الغد صبّح الحصين ثمانية آلاف أمده بهم عبيد الله، فقاتلهم أصحاب سليمان عامّة النهار قتالا شديدا لم يحجز بينهم إلا الصلاة حتّى حجز بينهم الليل، وقد كثر الجراح فى الفريقين. فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلى فى نحو من عشرة آلاف من قبل ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ثم كثر أهل الشام عليهم، وعطفوا من كل جانب،

فنزل سليمان ونادى: «عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلىّ» ثم كسر جفن سيفه، فنزل معه ناس كثير وفعلوا كفعله، وقاتلوا قتالا شديدا، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة وأكثروا فيهم الجراح، فبعث الحصين الرجّالة ترميهم بالنّبل، واكتنفتهم الخيل، فقتل سليمان ابن صرد، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وكانوا قد سموه «أمير التوابين» . فأخذ الراية المسيب بن نجبة، وترحّم على سليمان، فتقدم فقاتل حتّى قتل بعد أن قتل رجالا كثيرا. فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، وترحم عليهما، وقرأ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [1] وحفّ به من كان منهم معه من الأزد، فبينماهم فى القتال إذ أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة، يخبرون بمسيره فى سبعين ومائة من أهل المدائن، ويخبرون بمسير أهل البصرة مع المثنّى بن مخرمة العبدى فى ثلاثمائة، فقال عبد الله بن سعد: لو جاءونا ونحن أحياء! وقاتل حتّى قتل، قتله ابن أخى ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه يطعنه بالسيف، فخلصه أصحابه، وقتل خالد بن سعد. فجىء بالراية إلى عبد الله بن وأل، وقد اصطلى الحرب فى عصابة معه، فأخذها، وقاتل مليّا، وذلك وقت العصر، وما زال يقاتل حتّى

_ [1] من الآية 22؟؟؟ من سورة الأحزاب.

قتل هو وأصحابه؟؟؟ رجالا، ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب، فلمّا كان عند المساء تولّى قتالهم أدهم بن محرز الباهلى، فحمل فى خيله ورجله حتّى وصل إلى ابن وأل وهو يتلو (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآيات [1] ، فغاظ ذلك أدهم، فحمل عليه وضربه فأبان يده ثم تنحى عنه، وقال: إنى أظنّك وددت أنك عند أهلك، قال ابن وأل بئس ما ظننت، والله ما أحبّ أن يدك مكانها إلّا أن يكون لى من الأجر مثل ما فى يدى، ليعظم وزرك وأجرى، فغاظه ذلك فحمل عليه فطعنه فقتله وهو مقبل ما زال عن مكانه، وكان بن وأل من الفقهاء العباد. فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلى وقالوا خذ الراية، فقال ارجعوا بنا لعلّ الله يجمعنا ليوم شر لهم، فقال عبد الله بن عوف ابن الأحمر: «هلكنا والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منّا ناج أخذته الأعراب فتقربوا به إليهم فيقتل صبرا! هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، وسرنا حتّى نصبح ونسير على مهل، يحمل الرجل صاحبه وحريمه [2] ونعرف الوجه الذى نأخذه» . فقال رفاعة نعم ما رأيت وأخذ الراية، وقاتله قتالا شديدا وتقدم عبد الله بن عزيز الكنانى [3] فقاتل أهل الشام قتالا

_ [1] الآيات 169، 170، 171، 172، 173، 174 من سورة آل عمران. [2] فى الكامل ج 3 ص 344: «وجريحه» . [3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «للكندى» .

شديدا، ومعه ولده محمد وهو صغير، فسلمه لبنى كنانة من أهل الشام ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان، فأبى، ثم قاتلهم حتّى قتل. وتقدم كريب [1] بن زيد الحمير عند المساء فى مائة من أصحابه فقاتل قتالا شديدا، فعرض ابن ذى الكلاع عليه وعلى أصحابه الأمان، فقال قد كنا آمنين فى الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، وقاتلوهم حتّى قتلوا. وتقدم صخير بن هلال المزنى فى ثلاثين من مزينة، فقاتلوا حتى قتلوا. فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، وسار رفاعة بالناس ليلته، وأصبح الحصين فلم يرهم، فما بعث فى أثرهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فأقاموا عند زفر بن الحارث ثلاثا، ثم زوّدهم وساروا إلى الكوفة. وأما سعد بن حذيفة بن اليمان فإنه سار من المدائن بمن معه حتّى بلغ هبت، فأتاه الخبر، فرجع فلقى المثنّى بن مخرمة العبدى فى أهل البصرة، فأخبره، فأقاموا بصندوداء حتى أتاهم رفاعة، فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض، وأقاموا يوما وليلة، ثم تفرقوا، فسارت كل طائفة منهم إلى جهتهم. قال: ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار بن أبى عبيد محبوسا، فأرسل؟؟؟ إليه المختار: «أما بعد فإنكم خرجتم بالعصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضى فعلهم حتى قتلوا [2]

_ [1] فى الكامل «كرب بن يزيد» . [2] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى «حين قفلوا» .

أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة [1] إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا، إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله فجعل روحه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن؟؟؟ بصاحبكم الذى به تنصرون إنى أنا الأمير المأمور والأمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلّين، والسلام» .. وكان من أمر المختار ما نذكره إن شاء الله تعالى.

_ [1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل؛ وفى تاريخ الطبرى «ولارتارتوه» .

تم الجزء العشرون بتقسيم هذه النسخة المطبوعة، وفى التقسيم المخطوطى اختلاف: جاء فى آخر النسخة (ك) وهى الجزء 18 برقم 549 معارف عامة- فى دار الكتب المصرية المصورة: آخر الجزء الثامن عشر من نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. رحمه الله تعالى. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول الجزء التاسع عشر ذكر أخبار المختار بن أبى عبيد الثقفى والحمد لله رب العالمين وأما النسخة (ن) وهى الجزء 27، ولعله صحته 17 برقم 553 معارف عامة- المصورة بدار الكتب المصرية فقد جاء فى الجانب الأخير من آخر ورقة ما يأتى:. «طالعه الفقير إلى الله تعالى ناصر بن سليمان بن غازى الأيوبى غفر الله له ولجميع المسلمين يا رب العالمين» . المحقق محمد رفعت محمود فتح الله رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية

فهرس الجزء العشرين

فهرس الجزء العشرين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... الصفحة ذكر خلافة على بن أبى طالب 1 ذكر صفته 1 ذكر نبذة من فضائله 3 ذكر بيعة على 10 ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية 21 ذكر ابتداء وقعة الجمل 26 ذكر مسير على الى البصرة 39 ذكر ارسال على الى أهل الكوفة 43 ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة 54 ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم 57 ذكر مسير على رضى الله عنه 59 ذكر مقتل طلحة 85 ذكر مقتل الزبير بن العوام 89 ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها 100 ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه 108 ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم 111 ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة 121 ذكر رفع أهل الشام المطابع 144 ذكر اجتماع الحكمين 156 ذكر أخبار الخوارج 160 ذكر خبرهم بعد صفين 161 ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين 164 ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين 166 ذكر قتال الخوارج 174 ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان 180

... الصفحة ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى 182 ذكر ما اتفق فى مدة خلافته 191 ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى 198 ذكر مقتل على بن أبى طالب 205 ذكر أزواج على 221 ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب 224 ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته 233 ذكر أخبار سعيد بن زيد 235 الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه 239 ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة 241 ذكر ملك عمرو بن العاص مصر 246 ذكر سرايا معاوية إلى بلاد على بن أبى طالب 253 ذكر مسير بسر بن أرطاة 258 ذكر الغزوات والفتوحات 265 ذكر غزو السند 266 ذكر غزو القسطنطينية 268 ذكر غزو جزيرة أروار 271 ذكر أخبار الخوارج 272 ذكر خبر المستورد الخارجى 278 ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية 285 ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان 288 ذكر صلح معاوية وقيس بن سعدة بن عبادة 289 ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة 290 ذكر استعمال بسر بن أرطاة 290 ذكر قدوم زياد بن أبيه 294 ذكر وفاة عمرو بن العاص 297 ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة 300 ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان 302

... الصفحة ذكر عمال زياد بن أبيه 316 ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب 320 ذكر ولاية زياد الكوفة 325 ذكر ما قصده معاوية 326 ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى 328 ذكر مقتل حجر بن عدى 330 ذكر وفاة زياد بن أبيه 342 ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان 346 ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة 350 ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم 351 ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار 353 ذكر مسير معاوية الى الحجاز 355 ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان 360 ذكر عزل الضحاك عن الكوفة 362 ذكر عزل عبيد الله بن زياد 363 ذكر شىء من سيرته وأخباره 372 ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه 374 ذكر بيعة يزيد بن معاوية 376 ذكر ارسال الوليد بن عتبة 378 ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة 382 ذكر مقدم الحسين الى مكة 384 ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة 388 ذكر ظهور مسلم بن عقيل 397 ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه 439 ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على 461 ذكر ما كان بعد مقتل الحسين 463 ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين 472 ذكر ما ورد من الاختلاف 476 ذكر مقتل أبى بلال مرداس 482 ذكر وفاة يزيد بن معاوية 497 ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية 499

... الصفحة ذكر أخبار من بويع بالعراق 501 ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة 506 ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى 506 ذكر خبر أهل الكوفة 511 ذكر خبر خراسان 512 ذكر بيعة عبد الله بن الزبير 516 ذكر فراق الخوارج عبد الله 521 ذكر مقتل نافع بن الأزرق 523 ذكر محاربة المهلب الخوارج 524 ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم 527

الجزء الحادي والعشرون

الجزء الحادي والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة وكلت إليّ الإدارة العامة للثقافة تحقيق الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الإرب للنويرى (وهو الجزء الحادى والعشرون من تقسيم المؤلف) ، فرجعت إلى نسختيه المصورتين بدار الكتب، وهما برقم 549، ورقم 554 معارف عامة، ورمزت إلى الأولى بالحرف ك وإلى الثانية بالحرف د، وقد اعتمدت على النسخة الثانية لأنها أكثر تحقيقا، وجعلت الثانية مساعدة فى التحقيق. وكان لا بد فى تحقيق نصوص هذا الكتاب مما يأتى: 1- الإشارة فى الهوامش إلى العبارات التى اختلفت فيها النسختان مما يجعل المتن فى صورة كاملة واضحة للقارئ. 2- الرجوع إلى المصدر الأول للكتاب، وهو الكامل لابن الأثير. 3- الرجوع إلى المصادر الأولى للتاريخ الإسلامى، ومن أهمها تاريخ الطبرى، وفتوح البلدان للبلاذرى. 4- الرجوع إلى المعجمات اللغوية، وكتب البلدان، ومن أهم ما رجعنا إليه فيها: معجم ما استعجم للبكرى، مراصد الاطلاع فى أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق البغدادى، معجم البلدان لياقوت.

5- الرجوع- فى تحقيق الأعلام- إلى كتب الأعلام الموثوق بها، وقد رجعت فى ذلك إلى: المشتبه للذهبى. وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وتاج العروس، والإكمال لابن ماكولا، وغيرها. وأرجو أن يكون الكتاب بذلك قد نال حظه من العناية، فصار أقرب ما يكون إلى أصل المؤلف. على محمد البجاوى

تتمة الفن الخامس في التاريخ

بسم الله الرّحمن الرّحيم [وبه توفيقى] «1» [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] تتمة الباب الثالث في أخبار الدولة الأموية [تتمة ذكر بيعة عبد الله بن زبير] ذكر أخبار المختار ابن أبى عبيد بن مسعود الثقفى كان المختار بن أبى عبيد ممن بايع مسلم بن عقيل لما بعثه الحسين بن عليّ رضى الله عنهما إلى الكوفة وأنزله فى داره، ودعا إليه. فلما ظهر ابن عقيل كان المختار فى قرية تدعى لقفا «2» ، فأتاه الخبر بظهوره، فأقبل فى مواليه إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أجلس عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية، فبعث إلى المختار وأمنه، فجاء إليه. فلما كان من الغد ذكر عمارة بن عقبة «3» أمره لعبيد الله، فأحضره، وقال له: أنت المقبل فى الجموع لتنصر ابن عقيل! قال: لم أفعل، ولكنى أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو بذلك، فضرب ابن زياد وجه المختار بقضيب فشتر «4» عينه وقال: لولا شهادته «5» قتلتك. وحبسه إلى أن قتل الحسين.

فبعث المختار إلى عبد الله بن عمر بن الخطّاب يسأله أن يشفع [له] «1» فيه، وكان زوج أخته صفية بنت أبى عبيد، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع فيه، فأمر يزيد ابن زياد بإطلاقه، فأطلقه وأمره ألّا يقيم غير ثلاث. فخرج المختار إلى الحجاز، واجتمع بعبد الله بن الزبير وأخبره خبر العراق، وقال له: ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز، فإنّ أهله معك؛ وكان ابن الزبير يدعو لنفسه سرّا، فكتم أمره عن المختار ففارقه إلى الطائف، وغاب عنه سنة ثم سأل عنه ابن الزبير، فقيل له: إنه بالطائف، وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومبيد «2» الجبّارين، فقال ابن الزبير: قاتله الله، لقد اتبعت «3» كذابا متكهّنا، إن يهلك الله الجبّارين يكن المختار أوّلهم. فبينا هو فى حديثه إذ دخل المختار، فطاف وصلّى ركعتين، وجلس وأتاه معارفه يحدّثونه، ولم يأت ابن الزبير، فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن «4» سعد، فأتاه، وسأله عن حاله، ثم قال له: مثلك يغيب عن الّذى قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والانصار وثقيف؟ ولم «5» تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها، فبايع هذا الرجل.

فقال: إنى أتيته فى العام الماضى فكتم عنى خبره، فلما استغنى عنّى أحببت أن أريه أنّى مستغن عنه، فقال له العباس: القه [الليلة] «1» وأنا معك، فأجابه إلى ذلك، وحضر عند ابن الزّبير بعد العتمة، فقال له المختار: أبايعك على ألّا تقضى الأمور دونى، وعلى أن أكون أوّل داخل عليك، وإذا ظهرت استعنت بى على أفضل عملك. فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله. فقال: وشرّ «2» غلمانى تبايعه على ذلك، والله لا أبايعك أبدا إلّا على ذلك، فبايعه وأقام عنده، وشهد معه قتال الحصين «3» ، وكان أشدّ الناس على أهل الشام، فلمّا مات يزيد وأطاع «4» أهل العراق عبد الله ابن الزبير، أقام المختار عنده خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل يسأل من يقدم من الكوفة عن حال الناس، فأخبره هانىء بن أبى حّية الوداعى «5» باتفاق «6» أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلّا طائفة من الناس، لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم ما. فقال المختار، أنا أبو إسحاق [أنا والله لهم] «7» ، أنا أجمعهم على

الحق، وأتّقى «1» بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كلّ جبار عنيد. ثم ركب دابته «2» وسار نحو الكوفة فوصل إليها. واختلفت الشيعة إليه، وبلغه خبر سليمان بن صرد وأنه على عزم المسير، فقام فى الشيعة فحمد الله، ثم قال: إن المهدى وابن الرّضا، يعنى محمد ابن الحنفية، بعثنى إليكم أمينا ووزيرا «3» ومنتخبا وأميرا، وأمرنى بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته. فبايعه إسماعيل بن كثير وأخوه، وعبيدة بن عمرو، وكانوا أوّل من أجابه، وبعث إلى الشّيعة وقد اجتمعوا عند ابن صرد، وقال لهم نحو ذلك، وقال: إن سليمان ليس له تجربة بالحرب ولا بالأمور، إنّما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه، وأنا أعمل على مثال مثّل لى، وأمر بيّن لى، فيه عزّ وليّكم، وقتل عدّوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا قولى، وأطيعوا أمرى، ثم أبشروا. فما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة، فكانوا يختلفون إليه ويعظّمونه، وأكثر الشيعة مع ابن صرد، وهو أثقل خلق الله على المختار. فلما خرج سليمان بن صرد على ما قدمناه قال عمر بن «4» سعد، وشبث «5» بن ربعى، ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة: إن المختار أشدّ عليكم من سليمان،

إن سليمان إنّما خرج يريد قتال عدوّكم، والمختار يريد أن يثب عليكم فى مصركم، فأتوه، وأخذوه بغتة، وحملوه إلى السجن، فكان يقول فى السجن: أماورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لدن خطّار، ومهنّد بتّار، وجموع «1» الأنصار، وليسوا بميل أغمار، ولا بعزّل «2» أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدّين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيّين، لم يكبر عليّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى. وقيل فى خروج المختار إلى الكوفة غير ما تقدّم، وهو أنه قال لعبد الله بن الزّبير وهو عنده: إنى لأعلم قوما لو أنّ لهم رجلا له علم بما يأتى ويذر لاستخرج لك منهم جندا يقاتل بهم أهل الشام. قال: من هؤلاء؟ قال: شيعة عليّ [رضى الله عنه] «3» بالكوفة، قال: فكن أنت ذلك الرجل؛ فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها يبكى على الحسين ويذكر مصابه حتى ألفه الناس وأحبّوه، فنقلوه إلى وسط الكوفة، وأتاه منهم بشر كثير. [والله أعلم «4» ] .

ذكر وثوب المختار بالكوفة

ذكر وثوب المختار بالكوفة كان وثوب المختار بالكوفة فى رابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة [66 هـ] ست وستين، وكان سبب ذلك أنّه لما قتل سليمان بن صرد قدم من بقى من أصحابه إلى الكوفة، وكان المختار محبوسا كما ذكرنا، فكتب إليهم من السجن يثنى عليهم، ويمنّيهم الظّفر، ويعرّفهم أن محمد بن على بن أبى طالب المعروف بابن الحنفية أمره بطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شدّاد والمثنّى بن مخرّبة العبدى، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط «1» ، وعبد الله بن شدّاد البجلى، وعبد الله بن كامل. فلمّا قرءوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون: إنّنا بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك ونخرجك «2» من الحبس فعلنا، فقال: إنى أخرج فى أيّامى هذه. وكان المختار قد أرسل إلى عبد الله ابن عمر يقول: إنى حبست مظلوما، وطلب [منه] «3» أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة. فكتب ابن عمر إليهما فى أمره، فشفّعاه فيه، وأخرجاه من السجن، وحلفاه أنّه لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما مادام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة، ومماليكه أحرار.

فلمّا خرج نزل بداره، وقال لمن يثق به: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنى أفى لهم، أمّا حلفى بالله فإننى إذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها أكفّر عن يمينى، وخروجى عليهم خير من كفّى عنهم، وأمّا هدى البدن، وعتق المماليك، فهو أهون عليّ من بصقة، وددت أنّى تمّ لى أمرى ولا أملك بعده مملوكا أبدا. ثم اختلفت إليه الشّيعة، واتفقوا على الرّضا به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى، حتّى عزل عبد الله بن الزبير عبد الله ابن يزيد وإبراهيم بن محمد، واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة. وقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستّين. ولمّا قدم صعد المنبر، فخطب الناس وقال: أمّا بعد، فإن أمير المؤمنين بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرنى بجباية فيئكم وألّا أحمل فضلة عنكم «1» إلا برضا منكم، وأن أتبع فيكم وصيّة عمر بن الخطّاب التى أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفّان رضى الله عنهما، فاتقوا الله واستقيموا، ولا تختلفوا على، وخذوا على أيدى سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم. فقام إليه السائب بن مالك الأشعرى «2» ، فقال: أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد ألّا «3» نرضى أن تحمل عنّا فضلة وألّا تقسم إلّا فينا، وألّا يسار فينا إلا بسيرة عليّ بن أبى طالب الّتى سار بها فى بلادنا

حتى هلك، ولا حاجة لنا فى سيرة عثمان بن عفان فى فيئنا ولا فى أنفسنا، ولا فى سيرة عمر فى فيئنا، وإن كانت أهون السّيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيرا. فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبرّ، فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكلّ سيرة أحببتم، ثمّ نزل. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع فقال له: إن السائب ابن مالك من رءوس أصحاب المختار، فابعث إلى المختار، فإذا جاءك فاحبسه حتّى يستقيم أمر الناس، فإنّ أمره قد استجمع له، وكأنّه قد وثب بالمصر. فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عليّ البرسميّ «1» ، فقالا له: أجب الأمير، فعزم على الذهاب، فقرأ زائدة «2» : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... الآية. فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا عليّ قطيفة فإنى «3» وعكت، إنّى لأجد بردا شديدا، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالى، فعادا إليه فأعلماه فتركه. ووجّه المختار إلى أصحابه، فجمعهم حوله فى الدّور، وأراد أن يثب فى المحرّم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام «4» ، وشبام: حىّ

من همدان، وكان شريفا، واسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقى سعيد بن منقذ الثّورى، وسعر «1» بن أبى سعر الحنفى، والأسود ابن جراد الكندى، وقدامة بن مالك الجشمىّ «2» ، فقال لهم: إنّ المختار يريد أن يخرج بنا، ولا ندرى أرسله «3» ابن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى محمد ابن الحنفيّة نخبره بما قدم به علينا المختار، فإن رخّص لنا فى اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغى أن يكون شىء من الدنيا آثر «4» عندنا من سلامة ديننا، فاستصوبوا رأيه، وخرجوا إلى ابن الحنفيّة، فلمّا قدموا عليه سألهم عن حال الناس، فأخبروه وأعلموه «5» حال المختار، فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، فعادوا. وكان مسيرهم قد شقّ على المختار، وخاف أن يعودوا بما يخذل الشّيعة عنه، فلمّا قدموا الكوفة دخلوا عليه، فقال: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم، فقالوا: قد أمرنا بنصرك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اجمعوا الشّيعة، فجمع من كان قريبا منه، فقال لهم: إنّ نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى «6» ، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله،

وأمركم بطاعتى واتّباعى فيما دعوتكم إليه من قتال المحلّين «1» ، والطلب بدماء أهل بيت نبيّكم. فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم، وأنّ ابن الحنفيّة أمرهم بمظاهرته «2» ومؤازرته، وقال لهم: لبيلّغ الشاهد منكم الغائب، واستعدّوا وتأهّبوا، وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه. فاجتمعت له الشيعة، وكان من جملتهم [الشّعبى] «3» وأبوه شراحيل، فلمّا تهيّأ أبوه «4» للخروج قال له بعض أصحابه: إن أشراف الكوفة مجمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن أجابنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى رئيس «5» وابن رجل شريف، وله عشيرة ذات عزّ وعدد. فقال المختار: فالقوه وادعوه، فخرجوا إليه ومعهم الشّعبى، فأعلموه حالهم، وسألوه مساعدتهم، فقال: على أن توّلونى الأمر، فقالوا: أنت لذلك «6» أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدى، وهو المأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته، فلم يجبهم إبراهيم، فانصرفوا عنه. وأتوا المختار، فسكت ثلاثا، ثم سار إلى إبراهيم فى بضعة

عشر من أصحابه، والشعبىّ وأبوه فيهم، فدخلوا عليه، فألقى إليهم الوسائد، فجلسوا عليها، وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار له: هذا كتاب المهدىّ إليك، يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فقرأه، فإذا هو: «من محمد المهديّ إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك، فإنى أحمد الله إليك الّذى لا إله إلّا هو، أمّا بعد، فإنى [قد] «1» بعثت إليكم وزيرى وأمينى الذى ارتضيته لنفسى، وأمرته بقتال عدوّى، والطلب بدماء أهل بيتى، فانهض بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتنى وأجبت دعوتى كانت لك بذلك عندى فضيلة، ولك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكلّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام» . فلمّا فرغ من قراءته تأخّر عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وبايعه. وصار يختلف إلى المختار كلّ عشيّة يدبّرون أمورهم. واجتمع رأيهم على الخروج ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة من شهر ربيع الأوّل، فلمّا كان تلك اللّيلة، صلّى إبراهيم بن الأشتر بأصحابه المغرب، ثم خرج يريد المختار، وعليه وعلى أصحابه السلاح، وكان إياس بن مضارب قد جاء إلى عبد الله بن مطيع وهو على شرطته، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى هاتين اللّيلتين، وقد بعثت بابنى إلى الكناسة «2» ، فلو بعثت فى كلّ جبّانة «3» عظيمة

بالكوفة رجلا من أصحابك فى جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحابه الخروج عليك، فبعث ابن مطيع إلى كلّ جبّانة من يحفظها من أهل الطاعة، وأمّر على كل طائفة أميرا، وأوصى كلا منهم ألّا يؤتى من قبله، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجّه نحوهم، وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين. وخرج إبراهيم بن الأشتر ليلة الثلاثاء يريد المختار، وقد بلغه أنّ الجبابين قد ملئت رجالا، وأن إياس بن مضارب فى الشّرطة قد أحاط بالسّوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع، وقد لبسوا عليهم الأقبية، فقال له [أصحابه] «1» : تجنب الطريق، فقال: والله لأمرّنّ وسط السّوق بجنب القصر، ولأرعبن عدوّنا، ولأرينّهم هوانهم علينا، فسار على باب الفيل، فلقيهم إياس فى الشّرط مظهرين السّلاح، فقال: من أنتم؟ فقال «2» : أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال إياس: ما هذا الجمع الّذى معك؟ وإلى أين تريد؟ ولست بتاركك حتى آتى بك الأمير، فقال إبراهيم: خلّ سبيلنا؛ قال: لا أفعل؛ وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقا لابن الاشتر، فقال له ابن الأشتر: ادن منى يا أبا قطن، فدنا منه وهو يظنّ أن إبراهيم يستشفع به عند إياس، فلمّا دنا منه أخذ رمحا كان معه فطعن به إياسا فى ثغره «3» ، فصرعه، وأمر رجلا من أصحابه فقطع رأسه،

وتفرّق أصحاب إياس، ورجعوا إلى ابن مطيع، فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشّرط، وأقبل إبراهيم إلى المختار وقال له: إنّا اتّعدنا للخروج القابلة، وقد وقع أمر، لا بد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار يقتل إياس وقال: هذا أوّل الفتح إن شاء الله. ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النّيران وارفعها، وسر أنت يا عبد الله بن شدّاد فناد: يا منصور، أمت، وأنت يا سفيان بن ليلى، وأنت يا قدامة بن مالك: ناد يا لثارات الحسين، ثم لبس سلاحه. وكانت الحرب بين أصحابه وبين الّذين ندبهم ابن مطيع لحفظ الجبابين فى تلك الليلة، فكان الظفر لأصحاب المختار، وخرج المختار فى جماعة من أصحابه حتى نزل فى ظهر دير هند فى السبخة «1» ، وانضمّ إليه ممّن تابعه ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثنى عشر ألفا، واجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته، وصلّى بأصحابه بغلس. وقد جمع ابن مطيع أهل الطاعة إليه، فبعث شبث بن ربعىّ فى ثلاثة آلاف، وراشد بن إياس فى أربعة آلاف من الشّرط، لقتال المختار ومن معه، وأردفهم بالعساكر، واقتتلوا؛ فكان الظفر لأصحاب المختار، وكان الذى صلّى الحرب ودبر الأمر إبراهيم بن الأشتر. فلمّا رأى ابن مطيع أمر المختار وأصحابه قد قوى خرج بنفسه إليهم، فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعى على القصر، فبرز إبراهيم ابن الأشتر إلى ابن مطيع فى أصحابه وحمل عليه، فلم يلبث ابن مطيع

أن انهزم أصحابه، يركب بعضهم بعضا على أفواه السّكك، وابن الأشتر فى آثارهم، حتى بلغ المسجد، وحصر ابن مطيع ومن معه من أشراف الكوفة فى القصر ثلاثا، فقال شبث لابن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك؛ فقال: أشيروا عليّ؛ فقال شبث: الرأى أن تأخذ لنفسك ولنا أمانا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك؛ فقال ابن مطيع: إنى لأكره أن آخذ منه أمانا، والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة؛ قال: فتخرج ولا تشعر بك أحدا، فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك. فأقام حتى أمسى، وخرج وأتى دار أبى موسى، وترك «1» القصر، ففتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ فقال: أنتم آمنون؛ فخرجوا، فبايعوا المختار. ودخل [المختار] «2» القصر فبات به، وأصبح أشراف الناس فى المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر وخطب الناس، ثم نزل. ودخل أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والطلب بدماء «3» أهل البيت وجهاد المحلّين «4» والدّفع عن الضّعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلّم من سالمنا. وكان ممن بايعه المنذر بن حسان الضّبى وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبلهما سعيد بن منقذ الثورى فى جماعة

من الشّيعة، فقالوا: هذان والله رءوس الجبارين، فقتلوهما، ونهاهم سعيد عن قتلهما إلّا بأمر المختار، فلم ينتهوا. فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل يمنّى الناس ويود «1» الأشراف، ويحسن السّيرة، فبلغه أن ابن مطيع فى دار أبى موسى، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، فقد علمت مكانك، وأنّك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النّفقة. *** ووجد المختار فى بيت المال [بالكوفة] «2» تسعة آلاف ألف وخمسمائة ألف، فأعطى لكل رجل خمسمائة درهم، وأعطى لستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر «3» ، لكل منهم مائتى درهم، واستقبل الناس بخير. واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشّاكرى، وعلى حرسه كيسان. [والله أعلم بالصواب] «4» .

ذكر عمال المختار بن أبى عبيد

ذكر عمال المختار بن أبى عبيد كانت أوّل راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخى الأشتر على إرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق ابن مسعود على المدائن، وأرض جوخى «1» ، وبعث قدامة بن أبى عيسى ابن ربيعة النّصرى حليف ثقيف على بهقباذ «2» الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث سعد ابن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد، وإقامة الطّرق. وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما بعث المختار عبد الرحمن إليها، سار محمد عنها إلى تكريت «3» ، ينتظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه، فلما فرغ من ذلك أقبل يجلس للناس ويقضى بينهم، ثم قال: إن لى فيما أحاول شغلا عن القضاء، ثم أقام شريحا يقضى بين الناس، فتمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائى.

ذكر قتل المختار قتلة الحسين

ذكر قتل المختار قتلة الحسين وخروج أهل الكوفة على المختار وقتالهم إياه ووقعة السبيع «1» كان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استتب له الأمر بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وقد ذكرنا ما كان من أمره مع التّوابين «2» . ثم توفى مروان بن الحكم وولّى ابنه عبد الملك، فأقرّ ابن زياد على ولايته، وأمره بالجدّ، فأقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إليه يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل، وأنّه قد تنحّى له عنها إلى تكريت، فندب المختار يزيد بن أنس الأسدى، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار بهم نحو الموصل، وكتب المختار إلى عبد الرحمن: أن خلّ بين يزيد وبين البلاد، فسار يزيد حتى بلغ أرض الموصل، فنزل بنات تلّى «3» ، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثنّ إلى كلّ ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن المخارق الغنوىّ فى ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة «4» الخثعمى فى ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم، فنزل بيزيد بن أنس بنات تلّى «5» فخرج، وقد اشتدّ به المرض، وعبّأ أصحابه،

وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذرى، فإن هلك فأميركم سعر الحنفى. ثم نزل فوضع على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فرّوا عنه. واقتتل القوم، فانهزم أصحاب ابن زياد، وقتل ربيعة بن المخارق، قتله عبد الله بن ورقاء، فسار المنهزمون ساعة، ولقيهم عبد الله ابن جملة فردهم معه، فباتوا ليلتهم ببنات تلّى يتحارسون، فلمّا أصبحوا خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالا شديدا، وذلك فى يوم الأضحى سنة ست وستّين، فانهزم أهل الشام، ونزل ابن جملة فى جماعة، فقاتل حتى قتل، وحوى أهل الكوفة عسكرهم، وقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وأسروا ثلاثمائة، فأمر يزيد بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فقال ورقاء بن عازب لأصحابه: إنه بلغنى أنّ عبيد الله بن زياد قد أقبل إليكم فى ثمانين ألفا، وأشار عليهم بالرجوع إلى المختار، فصوّبوا رأيه، ورجعوا، فبلغ ذلك أهل الكوفة، فأرجفوا بالمختار، وقالوا: إن يزيد قتل ولم يمت، فندب إبراهيم بن الأشتر فى سبعة آلاف، وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد فأنت الأمير عليهم، فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد فناجزه. فسار إبراهيم لذلك، فاجتمع أشراف الكوفة على شبث بن ربعى وقالوا: والله، إن المختار تأمّر بغير رضا منّا، وقد أدنى موالينا «1» ، فحملهم على الدوابّ، وأعطاهم فيئنا.

فقال: دعونى حتّى ألقاه، فذهب إليه فكلمه، فلم يدع شيئا أنكره إلّا ذكره له، والمختار يقول فى كلّ خصلة: أنا أرضيهم فى هذه وآتى كل ما أحبوه، فلما ذكر له «1» الموالى ومشاركتهم فى الفىء قال: إن أنا تركت لكم مواليكم وجعلت فيئكم لكم، أتقاتلون معى بنى أمية وابن الزبير وتعطونى على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان. فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابى فأذكر ذلك لهم. فخرج إليهم ولم يعد إلى المختار، واجتمع رأيهم على قتاله، فاجتمع شبث، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعيد «2» بن قيس، وشمر بن ذى الجوشن، ودخلوا على كعب بن أبى «3» كعب الخثعمى، فكلّموه فى ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده، ودخلوا على على عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، فدعوه إلى ذلك، فقال: إن أطعتمونى لم تخرجوا، فقالوا: لم؟ قال: إنى أخاف «4» أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشدّ حنقا عليكم من عدوكم، فهم يقاتلونكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بغيركم، ولا تجعلوا بأسكم بينكم؛

فقالوا: ننشدك الله ألّا تخالفنا وتفسد علينا رأينا، وما أجمعنا عليه. فقال: إنّما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فأخرجوا؛ فوثبوا بالمختار بعد مسير ابن الأشتر، وخرج كلّ رئيس بجبّانة، فأرسل المختار إلى ابن الأشتر يأمره بسرعة العود إليه، وبعث إليهم وهو يلاطفهم ويقول: إنى صانع ما أحببتم، وهو يريد بذلك مداهنتهم حتى يقدم إبراهيم ابن الأشتر، فوصل الرسول إليه وهو بساباط» ، فرجع لوقته، وسار حتى أتى الكوفة ومعه أهل القوّة من أصحابه، واجتمع أهل اليمن بجبانة السّبيع، فلما حضرت الصلاة كره كلّ رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال ابن مخنف: هذا أوّل الاختلاف، قدموا الرضىّ منكم سيّد القرّاء رفاعة بن شداد البجلى، فلم يزل يصلّى بهم حتى كانت الوقعة. ثم نزل المختار فعبّأ أصحابه وأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعى، ومحمد بن عمير، وهم بالكناسة، وسار المختار نحو أهل اليمن بجبّانة السّبيع، فاقتتلوا أشدّ قتال، ثم كانت الغلبة للمختار وأصحابه، وانهزم أهل اليمن وأخذ من دور الوادعيين «2» خمسمائة أسير، فأتى بهم إلى المختار، فعرضهم، فقتل منهم من شهد مقتل الحسين، فكانوا مائتين وثمانية وأربعين. ونادى منادى المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلّا من شرك فى دماء آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر «3» بن الحجاج الزّبيدى

ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته وأخذ طريق الواقصة «1» ، فعدم «2» فقيل: أدركه أصحاب المختار، وقد سقط من شدّة العطش، فذبحوه. وبعث المختار غلاما له يدعى زربيا «3» فى طلب شمر ابن ذى الجوشن، فأدركه فقتله شمر، وسار حتى نزل قرية يقال لها الكلتانيّة «4» ، فأخذ منها علجا، فضربه، وقال: امض بكتابى هذا إلى مصعب بن الزبير؛ فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار، فلقى ذلك العلج علجا آخر من تلك القرية، فشكا إليه ما لقى من شمر، فبينما هو يكلّمه إذمر رجل من من أصحاب أبى عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبى الكنود «5» ، فرأى الكتاب، وعنوانه لمصعب من شمر، فسألوا العلج عنه، فأخبرهم بمكانه، فإذا هو منهم على مسيرة ثلاثة فراسخ، فساروا إليه وأدركوه، فهرب أصحابه، وأعجله القوم عن لبس سلاحه، فقام وقد اتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه، فطاعنهم بالرّمح ثم ألقاه، وأخذ السيف فقاتل به حتى قتل، والّذى قتله عبد الرحمن «6» ابن أبى الكنود، وألقى جيفته للكلاب.

قال: وأقبل المختار إلى القصر من جبّانة السّبيع ومعه سراقة ابن مرداس البارقى أسيرا، فناداه سراقة «1» : امنن على اليوم يا خير معد ... وخير من حلّ «2» بشحر والجند وخير من لبّى وحيّى وسجد فأمر به إلى السجن، ثم أحضره من الغد، فأقبل وهو يقول «3» : ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... نزونا نزوة كانت علينا خرجنا نرى الضّعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «4» لقينا منهم ضربا طلحفا «5» ... وطعنا صائبا حتى انثنينا نصرت على عدوّك كلّ يوم ... بكلّ كتيبة تنعى «6» حسينا كنصر محمّد فى يوم بدر ... ويوم الشّعب إذ وافى «7» حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا فى الحكومة واعتدينا تقبّل «8» توبة منّى فإنى ... سأشكر إذ جعلت النقد دينا فلمّا انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الّذى لا إله إلّا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: اصعد على المنبر فأعلم الناس، فصعد، فأخبرهم بذلك، ثم نزل فخلا به فقال له: إنى قد علمت

أنك لم ترشيئا، وإنما أردت ما قد عرفت «1» ، فاذهب [عنى] «2» حيث شئت، لا تفسد عليّ أصحابى. فخرج إلى البصرة، فنزل عند مصعب وقال «3» : ألا أبلغ أبا إسحاق أنى ... رأيت الخيل «4» بلقا مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتّى الممات أرى عينيّ ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالتّرّهات «5» وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانى، وادعى قتله سعر بن أبى سعر، وأبو الزّبير الشّباميّ، وشبام من همدان، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه، وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذى الحجة سنة ست وستّين. وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء، بئس ناصر آل محمد أنا إذا [فى الدنيا، أنا إذا] «6» الكذّاب كما سمّونى، وإنى أستعين بالله تعالى عليهم، فسمّوهم لى ثم تتبّعوهم حتى تقتلوهم، فإنّى لا يسوغ إلى الطّعام والشراب حتى أطهّر الأرض منهم، فدل على عبد الله بن أسيد الجهنيّ، ومالك بن النّسير «7»

البديّ، وحمل بن مالك المحاربى، فبعث المختار إليهم، فأحضرهم من القادسيّة، فلمّا رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله، أين الحسين ابن عليّ؟ أدّوا إليّ الحسين. قتلتم ابن من أمرتم بالصّلاة عليهم. فقالوا: رحمك الله، بعثنا كارهين، فامنن علينا واستبقنا، فقال: هلّا مننتم على ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه؟ فأمر بمالك ابن النّسير البديّ فقطع يديه ورجليه وتركه يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين، وأحضر زياد بن مالك الضّبعيّ، وعمران بن خالد العنزى «1» ، وعبد الرحمن بن أبى خشكارة البجلىّ، وعبد الله بن قيس الخولانى، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين، وقتلة سيّد شباب أهل الجنّة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس، بيوم نحس، وكانوا نهبوا من الورس الّذى كان مع الحسين رضى الله عنه، ثم أمر بهم فقتلوا. وقتل عبد الله وعبد الرحمن ابنى صلحت «2» ، وعبد الله بن وهيب «3» الهمدانى، وأحضر عثمان بن خالد بن أسيد «4» الدّهمانى الجهنى، وأبا أسماء بشر بن سوط «5» القابضى، وكانا قد اشتركا فى قتل عبد الرحمن بن عقيل وفى سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار. وأرسل إلى خولىّ بن يزيد الأصبحيّ وهو صاحب رأس الحسين

فاختبأ فى مخرجه، فدخل أصحاب المختار يطلبونه، فخرجت امرأته، وهى العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاءها «1» برأس الحسين، فقالت: ما تريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدرى، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا، فوجدوه وعلى رأسه قوصرّة، «2» ، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله، وحرقوه بالنار. وقتل عمر «3» بن سعد بن أبى وقّاص، وكان الّذى تولّى قتله أبو عمرة، وأحضر رأسه عند المختار، وعنده ابنه حفص ابن عمر، فقال له المختار: أتعرف هذا؟ قال: نعم، ولا خير فى العيش بعده، فأمر به فقتل، وقال: هذا بحسين، وهذا بعليّ ابن حسين، ولا سواء» ، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. وأرسل المختار إلى حكيم بن طفيل الطائى- وكان أصاب سلب العباس بن على؛ ورمى الحسين بسهم، وكان يقول: تعلّق سهمى بسرباله وما ضرّه، فأتاه أصحاب المختار فأخذوه، وذهب أهله فتشفّعوا بعدىّ بن حاتم، فكلمهم عدىّ فيه، فقالوا: ذلك إلى المختار، فمضى عدىّ إلى المختار يشفع فيه، وكان قد شفّعه فى نفر من قومه أصابهم يوم جبّانة السّبيع، فقالت الشّيعة: إنا نخاف أن يشفّعه فيه، فقتلوه رميا بالسّهام كما رمى الحسين حتى صار كالقنفذ،

ودخل عدىّ بن حاتم على المختار، فأجلسه معه، فشفع فيه، وقال: إنه مكذوب عليه، قال: إذا ندعه لك، فدخل ابن كامل فأخبر المختار بقتله. وبعث المختار إلى مرّة بن منقذ، وهو قاتل على بن الحسين، وكان شجاعا، فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه، فطاعنهم، فضرب على يده، فهرب فنجا، ولحق بمصعب بن الزبير، وشلّت يده بعد ذلك. وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الجنبى «1» ، وهو قاتل عبد الله ابن مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بالسيف، فقال ابن كامل: لا تطعنوه [برمح] «2» ، ولا تضربوه بسيف، ولكن ارموه بالنّبل والحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فأحرقوه حيا. وطلب المختار سنان بن أنس الّذى كان يدّعى قتل الحسين، فهرب إلى البصرة، فهدم داره. وطلب عبد الله بن عقبة الغنوىّ فوجده قد هرب إلى الجزيرة، فهدم داره. وطلب رجلا من خثعم اسمه عبد الله بن عروة «3» فهرب ولحق بمصعب، فهدم داره. وطلب عمرو بن صبيح الصّدائى، وكان يقول: لقد طعنت

فيهم وجرحت وما قتلت، فأحضر إلى المختار، فأمر به فطعن بالرماح حتى مات. وأرسل إلى محمد بن الأشعث وهو فى قرية له إلى جنب القادسيّة، فهرب إلى مصعب فهدم المختار داره، وبنى بلبنها وطينها دار حجر ابن عدى الكندى، وكان زياد قد هدمها. وكان الذى هيّج المختار على قتل قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصارى أتى محمد ابن الحنفية فسلّم عليه، وجرى الحديث إلى أن تذاكروا أمر المختار، فقال ابن الحنفية: إنه يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسى يحدثونه «1» ، فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك، فقتل عمر بن سعد، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه يعلمه أنه قتل من قدر عليه، وأنه فى طلب الباقين ممّن حضر قتل الحسين، [رضى الله عنه] «2» .

ذكر بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة

ذكر بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة وإخراجه منها ولحاقة بالمختار بالكوفة وفى سنة ستّ وستين دعا المثنّى بن مخرّبة «1» العبديّ بالبصرة إلى بيعة المختار، وكان قد بايع المختار بعد مقتل سليمان بن صرد، فسيّره المختار إلى البصرة يدعو بها إليه، ففعل، فأجابه رجال من قومه وغيرهم. ثم أتى مدينة الرّزق «2» فعسكر عندها، فوجّه إليهم «3» الحارث ابن أبى ربيعة المعروف بالقباع «4» ، وهو أمير البصرة، عبّاد بن حصين، وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم فى الشرط والمقاتلة، فخرجوا إلى السّبخة، ولزم الناس بيوتهم، فلم يخرج أحد، وأقبل عبّاد فيمن معه فتواقف هو والمثنّى وأنشبوا «5» القتال، فانهزم المثنّى، وأتى قومه عبد القيس، وكف عنه عبّاد، فأرسل القباع عسكرا إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه، فلما رأى زياد بن عمرو العتكى ذلك أقبل إلى القباع فقال: لتردّنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم، فأرسل القباع الأحنف بن قيس، وعمر بن عبد الرحمن المخزومى ليصلحا بين الناس، فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج المثنى وأصحابه عنهم، فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم، فسار المثنى إلى الكوفة فى نفر يسير من أصحابه.

ذكر مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير

ذكر مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير وظهور ذلك له قال: لمّا أخرج المختار ابن مطيع عامل ابن الزبير من الكوفة سار إلى البصرة وكره أن يأتى ابن الزبير مهزوما، فلما استجمع للمختار أمر الكوفة، أخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: «قد عرفت مناصحتى إياك، وجهدى على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتنى إن أنا فعلت ذلك، فلما وفيت لك [وقضيت الذى كان لك علىّ خست بى و] «1» لم تف بما عاهدتنى عليه، فإن ترد مراجعتى ومناصحتى، فعلت، والسلام» . وإنما قصد المختار بذلك أن يكفّ ابن الزبير عنه ليتم أمره، ولم تعلم الشيعة بذلك، فأراد ابن الزبير أن يعلم حقيقة ذلك، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ فولّاه الكوفة، وقال: إنّ المختار سامع مطيع، فتجهّز عمر وسار نحو الكوفة، وأتى الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم وقال له: هذه ضعف ما أنفق عمر فى طريقه إلينا، وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس، ويسير حتّى يلقاه بالطريق فيعطيه النفقة ويأمره بالعود، فإن فعل وإلّا فيريه الخيل، فأخذ زائدة المال والخيل وسار حتى لقى عمر، فأعطاه المال، وأمره بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولانى الكوفة، ولا بد من إتيانها، فدعا

زائدة الخيل، وكان قد أكمنها «1» ؛ فلما رآها عمر قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة. ثم إن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم ابن أبى العاص إلى وادى القرى، وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ويتفرّغ لأهل الشام، فكتب المختار لابن الزبير: بلغنى أن ابن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أمددتك بمدد. فكتب إليه ابن الزبير: «إن كنت على طاعتى فبايع لى الناس قبلك، وعجّل بإنفاذ الجيش ومرهم فليسيروا إلى من بوادى القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم، والسلام» . فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمدانى. فسيّره فى ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالى، وليس فيهم إلّا سبعمائة من العرب، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلىّ بذلك حتى يأتيك أمرى، وهو يريد إذا دخل الجيش المدينة أن يبعث عليهم أميرا لمحاصرة ابن الزبير بمكة، وخشى ابن الزبير أنّ المختار إنما يكيده. فبعث من مكّة [إلى المدينة] «2» عباس بن سهل بن سعد فى ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وقال له: إن رأيت القوم فى طاعتى وإلّا فكايدهم حتى تهلكهم. فأقبل عباس حتى لقى ابن ورس بالرقيم «3» وقد عبّأ أصحابه، وأتى عباس وقد تقطع أصحابه، فرأى ابن ورس على الماء فى تعبئته فدنا وسلّم عليهم، ثم قال لابن ورس سرّا: ألستم فى طاعة ابن الزبير؟ قال: بلى. قال: فسر بنا إلى عدوه

الّذى بوادى «1» القرى، فقال: إنما أمرت أن آتى المدينة وأكتب إلى صاحبى، فيأمرنى بأمره، فقال عباس: رأيك أفضل، وفطن لما يريد، وقال: أما أنا فسائر إلى وادى القرى، ونزل عباس أيضا، وبعث إلى ابن ورس بجزائر «2» وغنم، وكانوا قد ماتوا جوعا، فذبحوا واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وجمع عبّاس من شجعان أصحابه نحو ألف رجل، وأقبل إلى فسطاط ابن ورس، فلما رآهم نادى فى أصحابه، فلم يجتمع إليه مائة رجل، حتى انتهى إليهم عباس، فاقتتلوا يسيرا، فقتل ابن ورس فى سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس راية أمان، فأتوها إلا نحو ثلاثمائة مع سليمان بن حمير الهمدانى، وعبّاس «3» بن جعدة الجدلى، فظفر عباس بن سهل منهم بنحو من مائتين فقتلهم، وأفلت الباقون فرجعوا ومات أكثرهم فى الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية: «إنى أرسلت إليك جيشا ليذلّوا لك الأعداء، ويحرزوا لك البلاد، فلمّا قاربوا طيبة «4» فعل بهم كذا وكذا، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رجلا «5» فافعل» . فكتب إليه ابن الحنفية: «أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وعرفت تعظيمك لحقى، وما تؤثره من سرورى؛ وإن أحبّ الأمور كلّها إلىّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت، وإنى لو أردت القتال لوجدت الناس إلىّ سراعا، والأعوان لى كثيرة، ولكنّى أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله [لى] «6» وهو خير الحاكمين» .

ذكر امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية

ذكر امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية قال: ثم إن عبد الله بن الزبير دعا محمد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر «1» بن وائلة له صحبة، ليبايعوه فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتى تجتمع الأمّة، فأكثر الوقيعة فى ابن الحنفية وذمّه، فأغلظ له عبد الله بن هانىء الكندى، وقال «2» : لئن لم يضرك إلا تركنا بيعتك لا يضرك شىء، فلم يراجعه ابن الزبير، فلما استولى «3» المختار على الكوفة وصارت الشّيعة تدعو لابن الحنفية، ألح ابن الزبير عليه وعلى أصحابه فى البيعة حتّى حبسهم بزمزم، وتوّعدهم، بالقتل والإحراق إن لم يبايعوا، وضرب لهم فى ذلك أجلا. فكتب ابن الحنفيّة إلى المختار يعرفه الحال، ويطلب منه النجدة. فقرأ المختار كتابه على أهل الكوفة، وقال: هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم قد تركوا «4» محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق فى اللّيل والنهار، لست أبا إسحاق إن لم

أنصرهم نصرا مؤزّرا، وإن لم أسرّب الخيل فى إثر الخيل، كالسّيل يتلوه السّيل، حتى يحلّ بابن الكاهليّة الويل، يريد عبد الله بن الزّبير. فبكى الناس وقالوا: سرّحنا إليه وعجّل، فوجه أبا عبد الله الجدلىّ فى سبعين من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بنى تميم فى أربعمائة، وبعث معه أربعمائة ألف درهم لابن الحنفيّة، ووجّه أبا المعتمر فى مائة، وهانىء بن قيس فى مائة، وعمير بن طارق فى أربعين، ويونس بن عمران فى أربعين، فوصل أبو عبد الله الجدلى إلى ذات «1» عرق، فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس فى ثمانين، فبلغوا مائة وخمسين راكبا، فساروا حتّى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرّقهم، وكان قد بقى من الأجل يومان، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا: خلّ بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال: إنى لا أستحلّ القتال فى الحرم. فقال ابن الزبير: وا عجبا لهذه الخشبيّة ينعون حسينا كأنّى أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم، وإنما سمّاهم ابن الزبير الخشبيّة لأنّهم دخلوا مكّة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار «2» السيوف فى الحرم، وقال: أتحسبون أنّى أخلّى سبيلهم «3» ، دون أن نبايع ويبايعوا «4» . فقال الجدلى: وربّ الرّكن والمقام لتخلّينّ سبيلنا أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون، فكفّهم ابن الحنفية وحذّرهم الفتنة.

ثم قدم باقى الجند ومعهم المال، فدخلوا المسجد الحرام فكبّروا، وقالوا، بالثارات الحسين، فخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفيّة ومعه أربعة آلاف رجل إلى شعب على، فعزّوا وامتنعوا، فقسم فيهم المال، فلما قتل المختار ضعفوا واحتاجوا، ثم استوسقت «1» البلاد لابن الزبير بعد قتل المختار، فبعث إلى ابن الحنفيّة أن ادخل فى بيعتى، وإلّا نابذتك. وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان، فكتب إلى ابن الحنفيّة: إنه إن قدم عليه أحسن إليه، وإنه ينزل أيّ الشام أحبّ حتّى يستقيم أمر الناس. فخرج ابن الحنفية ومن معه إلى الشام، فلما وصل إلى مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، فندم على إتيانه إلى الشام ونزل أيلة «2» ، وتحدث الناس بفضل ابن الحنفيّة، وكثرة عبادته وزهده، فندم عبد الملك على إذنه له فى القدوم إلى بلده، فكتب إليه: «إنه لا يكون فى سلطانى من لا يبايعنى» . فارتحل إلى مكّة، ونزل شعب أبى طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه، فسار إلى الطائف والتحق به عبد الله بن عباس، ومات ابن عباس بالطائف، فصلى عليه ابن الحنفية، وكبّر عليه أربعا، وأقام بالطائف حتى قدم الحجّاج لحصار ابن الزبير، فعاد إلى الشّعب، فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك، فامتنع حتى يجتمع الناس، ثم بايع بعد قتل ابن الزّبير. هذا ما كان من أمره، فلنعد إلى أخبار المختار، [والله أعلم] «3» .

ذكر مسير ابراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد

ذكر مسير ابراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد وفى سنة [66 هـ] ست وستّين لثمان بقين من ذى الحجة، سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وذلك بعد فراغه من وقعة السّبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم، وشيّعه ووصاه، وخرج معه لتشييعه أصحاب الكرسى بكرسيهم، وهم يدعون الله له بالنصر، وسنذكر خبر الكرسىّ إن شاء الله تعالى. قال: ولما انتهى إبراهيم إلى أصحاب الكرسىّ وهم عكوف عليه، [وقد] «1» رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، هذه سنّة بنى إسرائيل، وسار إبراهيم مجدّا ليلقى ابن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار فى عسكر عظيم وملك الموصل كما ذكرنا، فلما انتهى إبراهيم إلى نهر الخازر «2» من أرض الموصل نزل بقرية باربيثا «3» ، وأقبل عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب «4» السّلمىّ إلى ابن الأشتر أن القنى؛

وكانت قيس كلّها مضطغنة على بنى مروان بسبب وقعة مرج «1» راهط، وجند عبد الملك يومئذ كلب، واجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير أنّه على ميسرة ابن زياد، وواعده أنه ينهزم بالناس، وأشار عليه بمناجزة القوم، وعاد عمير إلى أصحابه، وعبّأ ابن الأشتر أصحابه، وصلّى بهم صلاة الفجر بغلس، ثم صفّهم وسار بهم رويدا حتى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فتقدم ابن الأشتر وهو يحرض أصحابه على القتال، ويذكّرهم بمقتل «2» الحسين وسبى أهل بيته، فلما تدانى الصّفّان حمل الحصين بن نمير بميمنة أهل الشام على ميسرة ابن الأشتر، وعليها عليّ بن مالك الجشمى، فقتل ابن مالك، فأخذ الراية ابنه قرة بن عليّ وقاتل بها فقتل فى رجال من أهل البأس، وانهزمت ميسرة إبراهيم، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السّلوليّ، وردّ المنهزمين، وقاتلوا، وحملت ميمنة إبراهيم وعليها سفيان بن يزيد الأزدى على ميسرة ابن زياد، وهم يظنّون أن عمير بن الحباب ينهزم لهم كما زعم، فقاتلهم أشدّ قتال، وأنفت نفسه الهزيمة، فلمّا رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: اقصدوا أهل «3» السواد الأعظم، فو الله لئن هزمناه لنجعلن من ترون يمنة ويسرة، فتقدم أصحابه وقاتلوا أشد قتال، وصدقهم إبراهيم القتال، فانهزم أصحاب ابن زياد، وبعد أن قتل من الفريقين قتلى كثيرة.

وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولا تعذيرا. فلما انهزموا قال إبراهيم بن الأشتر «1» : إنى قتلت رجلا تحت راية منفردة على شط نهر خازر، فالتمسوه فإنى شممت منه رائحة المسك، شرّقت يداه وغرّبت رجلاه، فالتمسوه، فاذا هو عبيد الله بن زياد، فأخذ رأسه وحرّق جثّته. وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله إلى المختار، ورءوس القوّاد، وكانت هذه الوقعة فى سنة [67 هـ] سبع وستين. وروى الترمذى رحمه الله «2» قال: لما جاءت الرءوس إلى المختار ألقيت فى القصر فجاءت حيّة دقيقة فتخللت الرءوس حتى دخلت فم عبيد الله وخرجت من منخره ودخلت فى منخره وخرجت من فمه، فعلت ذلك مرارا «3» .

ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد

ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد كانت ولايته البصرة وعزل الحارث بن أبى ربيعة الملقّب بالقباع عنها فى أول سنة (67 هـ) سبع وستّين، قال: فقدمها مصعب، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «1» : بسم الله الرّحمن الرّحيم. طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وأشار بيده نحو الشام، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وأشار نحو الحجاز، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ، وأشار نحو الشام، وقال: يأهل البصرة، بلغنى أنّكم تلقّبون أميركم، وقد لقّبت «2» نفسى الجزّار. قال: ولما هرب أشراف الكوفة من المختار يوم وقعة السّبيع، أتى جماعة منهم إلى مصعب، فكان منهم شبت بن ربعىّ، أتاه على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها، وشقّ قباءه وهو ينادى:

واغوثاه! وأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وسألوه المسير إلى المختار ونصرتهم، وقدم محمد بن الأشعث، واستحثّه على المسير فأدناه وأكرمه، وكتب إلى المهّلب بن أبى صفرة، وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فقدم فى جموع كثيرة وأموال عظيمة، فبرز مصعب بالجيوش، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة، وأمره أن يخرج إليه من قدر عليه، ويثبط الناس عن المختار، ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سرّا، فسار ودخل الكوفة مستترا، وفعل ما أمره، وسار مصعب وقدم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ «1» التميمىّ، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلّب على ميسرته، ومالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمرو العتكىّ على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية، وبلغ الخبر المختار فقام فى أصحابه فندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، ودعا رءوس الأرباع الّذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع ابن شميط، فسار وعلى مقدّمته ابن كامل الشاكرىّ، فوصلوا إلى المذار «2» ، وأقبل مصعب فعسكر بالقرب منه، وعبّأ كلّ واحد منهما جنده، فتقدّم عباد بن الحصين إلى أحمر وأصحابه، وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فقال الآخرون: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة المختار، وأن نجعل هذا الأمر شورى فى آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

فرجع عبّاد وأخبر مصعبا، فقال: ارجع فاحمل عليهم، فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، وحمل المهلّب على ابن كامل حملة بعد أخرى، فهزمهم، وثبت ابن كامل ساعة فى رجال من همدان، ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وانهزم أصحابه، وبعث مصعب عبّادا على الخيل، وقال له: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه، وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من أهل الكوفة، وقال: دونكم ثأركم فكانوا [حيث انهزموا] «1» . أشدّ على المنهزمين من أهل البصرة، فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل. ثم أقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط، [القصب] «2» ، ولم تكن [واسط] «3» بنيت بعد، فأخذ فى كسكر، ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء فى السفن، فأخذوا فى نهر خرشاذ «4» ، ثم خرجوا إلى نهر قوسان، ثم خرجوا إلى نهر الفرات، وأتى المختار خبر الهزيمة والقتلى «5» ، فقال: ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من أن أموت مثل موتة ابن شميط. ولما بلغه أنّ مصعبا قد أقبل إليه فى البرّ والبحر سار حتى نزل السّيلحين «6» ، ونظر إلى مجتمع الأنهار، نهر الخريرة «7» ، ونهر

السّيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات «1» ، فذهب ماؤها فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين، فخرجوا من السفن إلى ذلك السّكر «2» فأصلحوه، وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء «3» ، وحال بينهم وبين الكوفة بعد أن حصّن القصر والمسجد، وأقبل مصعب وجعل على ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندىّ، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمدانى، وعلى الخيل عمر «4» بن عبد الله النّهدىّ، وعلى الرجال مالك بن عبد الله «5» النّهدى، وأقبل محمد بن الأشعث فيمن كان قد هرب من أهل الكوفة، فنزل بين مصعب والمختار، فلمّا رأى المختار ذلك بعث إلى كلّ خمس من أهل البصرة رجلا من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم فى ميمنة مصعب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومى، فحمل على من بإزائه وهم أهل العالية، فكشفهم [فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبتيه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا ثم حمل المهلب على من بإزائه فكشفهم] «6» واشتدّ القتال، فقتل ابن الأشعث وذلك عند

المساء، وقاتل المختار على فم سكّة شبث عامّة ليلته، وقاتل معه رجال من أهل البأس، وقاتلت معه همدان أشدّ قتال، ثم تفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيّها الأمير، اذهب إلى القصر، فجاء حتّى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر، وأنّا سنهزمهم؛ فقال: أما قرأت فى كتاب الله «1» : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. قال: فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السّبخة، فمرّ بالمهلّب، فقال المهلّب، يا له فتحا ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث، فقال: صدقت؛ ثم قال [مصعب] «2» للمهلب: إن عبيد الله بن عليّ بن أبى طالب قد قتل، فاسترجع المهلّب. فقال مصعب: إنّما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه، ثم نزل مصعب السّبخة فقطع عن المختار ومن معه الماء والميرة، وقاتل المختار ومن معه قتالا ضعيفا، واجترأ الناس عليهم، فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت، وصبّوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء تأتى المرأة متخفّية ومعها القليل من الطعام والشراب، ففطن مصعب لذلك، فمنع النساء، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، فكانوا يشربون ماء البئر بالعسل، ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر، واشتدّ الحصار، فقال المختار لأصحابه: ويلكم، إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل حتّى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا يائس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا ولم يفعلوا، فقال لهم:

أما أنا فو الله لا أعطى بيدى ولا أحكّمهم فى نفسى، ثم تطيّب وتحنّط وخرج من القصر فى تسعة عشر رجلا منهم السائب بن مالك الأشعريّ، فتقدّم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان أخوان من بنى حنيفة، وهما طرفة وطرّاف ابنا عبد الله بن دجاجة، فلما كان الغد من مقتله، دعا بجير بن عبد الله المسلىّ «1» من معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار، فأبوا عليه، وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم، ونزلوا على حكمه، فأخرجوا مكتّفين، فاستعطفوه، فأراد أن يطلقهم، فقام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث فقال: أتخلّى سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم. وقال محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمدانى مثله، وقال أشراف الكوفة مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا: يا ابن الزّبير، لا تقتلنا واجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فما بكم عنّا غدا غنى «2» ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم، فأبى عليهم وقتلهم برأى أهل الكوفة، وأمر مصعب بكفّ المختار فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فأمر بنزعها. وكتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أطعتنى فلك الشام وأعنّة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب «3» ما دام لآل الزّبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر أيضا يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتنى فلك العراق.

فاستشار إبراهيم أصحابه فى ذلك، فاختلفوا، فقال: لو لم أكن أصبت ابن زياد وغيره من أشراف الشام لأجبت عبد الملك، مع أنى لا أختار على [أهل] «1» مصرى وعشيرتى غيرهم، فدخل فى طاعة مصعب، وبلغ مصعبا إقباله [إليه] «2» ، فبعث المهلّب على عمله بالموصل والجزيرة وإرمينية وأذربيجان. قال: ثم دعا مصعب بن الزبير أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارى امرأته الأخرى، وسألهما عنه، فقالت أم ثابت: أقول فيه بقولك أنت فيه، فأطلقها؛ وقالت عمرة: رحمة الله عليه، كان عبدا صالحا. فكتب إلى أخيه عبد الله: إنها تزعم أنه نبى، فأمره بقتلها، فقتلت ليلا بين الحيرة والكوفة، فقال عمر بن أبى ربيعة المخزومىّ «3» : إنّ من أعجب العجائب «4» عندى ... قتل بيضاء حرّة عطبول «5» قتلت هكذا على غير جرم «6» ... إن لله درّها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات «7» جرّ الذّيول وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف على ابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعبا لمّا سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه

أحمر بن شميط، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار «1» ، لأنه بلغه أن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنّما كان الحجّاج «2» فى قتال عبد الرحمن ابن الأشعث، وأمر مصعب عبادا الحبطىّ بالمسير إلى جمع المختار، فتقدّم وتقدّم معه عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب، وبقى مصعب على نهر البصريّين، [على شط الفرات] «3» ، وخرج المختار فى عشرين ألفا، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع اللّيل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحنّ أحد منكم حتّى يسمع مناديا ينادى: يا محمّد، فاذا سمعتموه فاحملوا، فلما طلع القمر أمر مناديا فنادى: يا محمد؛ فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا، وأصبح المختار وليس عنده أحد، وقد أوغل أصحابه فى أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، فاختفوا بدور الكوفة، وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف، فوجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقا كثيرا، منهم محمد بن الأشعث. وأقبل مصعب فأحاط بالقصر، وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كلّ يوم فيقاتلهم فى سوق الكوفة، فلمّا قتل المختار بعث

ذكر خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل

من فى القصر يطلبون الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، فكان عدة القتلى ستّة آلاف رجل، وقيل: سبعة آلاف، وذلك فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، وكان عمر المختار يوم قتل سبعا وستّين سنة، وكان تارة يدعو لمحمد ابن الحنفيّة، وتارة لعبد الله بن الزبير. وحكى عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم (كمامة الزّهر وصدفة الدّرر) ، أن المختار ادّعى النبوّة وقال: إنه يأتيه الوحى من السماء، وأظهر ذلك فى آخر أمره، وكان له كرسى يستنصر به. ذكر خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل قال الطّفيل بن جعدة بن هبيرة: أضقت «1» إضاقة شديدة، فخرجت يوما فإذا جار لى زيّات وعنده كرسىّ قد ركبه الوسخ، فقلت فى نفسى: لو قلت للمختار فى هذا شيئا، فأخذته من الزيّات وغسلته، فخرج عود نضار قد شرب الدّهن وهو أبيض «2» ، فقلت للمختار: إنّى كنت أكتمك شيئا، وقد بدا لى أن أذكره لك، إن أبى جعدة «3» كان يجلس عندنا على كرسى، ويرى أن فيه أثرا من «4» علم. قال: سبحان الله، أخّرّته إلى هذا الوقت! ابعث به إلىّ، فأحضرته وقد غشّيته، فأمر لى باثنى عشر ألفا، ثم أمر فنودى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلّا وهو

كائن فى هذه الأمّة مثله، وإنه كان لبنى إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثله، فكشفوا عنه وقامت السّبائيّة «1» فكبّروا، ثم لم يلبث أن أرسل المختار الجيش لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسىّ على بغل وقد غشّى، فكان من هزيمة أهل الشام وقتل أشرافهم ما ذكرناه، فزادهم ذلك فتنة حتى تعاطوا الكفر. قال الطفيل: فندمت على ما صنعت، فتكلّم الناس فى ذلك، فغيّبه المختار. وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة- وكانت أمّ جعدة هى أم هانى بنت أبى طالب أخت علىّ رضى الله عنه لأبويه- ائتونى بكرسى علىّ، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: لا تكونوا حمقى، اذهبوا فائتونى به، فظنّوا أنّهم لا يأتونه بكرسى إلا قال: هذا هو، فأتوه بكرسىّ، فأخذه وخرجت شبام وشاكر وفودا، يعنى أصحاب المختار، وقد جعلوا عليه الحرير «2» ، وكان أوّل من سدنه موسى ابن أبى موسى الأشعرىّ، فعتب الناس عليه، فتركه فسدنه حوشب البرسمىّ حتى هلك المختار. وقال أعشى همدان فيه «3» : شهدت عليكم أنكم سبئيّة ... وإنى بكم يا شرطة الشّرك عارف فأقسم ما كرسيّكم بسكينة ... وإن كان قد لفّت عليه الّلفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف

ذكر أخبار نجدة بن عامر الحنفى

وإنّى امرؤ أحببت آل محمّد ... وتابعت وحيا ضمّنته المصاحف وبايعت «1» عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش شمطها والغطارف وقال المتوكل اللّيثى «2» : أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أنّى بكرسيّكم كافر تنزو شبام حول أعواده ... ويحمل «3» الوحى له شاكر محمرّة أعينهم حوله ... كأنّهن الحامض «4» الحازر انتهت أخبار المختار بن أبى عبيدة، فلنذكر أخبار نجدة الحنفى، [والله ولىّ التوفيق] «5» . ذكر أخبار نجدة بن عامر الحنفى حين وثب باليماية وما كان من أمره كان نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرّج الحنفى مع نافع بن الأزرق، ففارقه وسار إلى اليمامة، وكان أبو طالوت «6» وهو من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس ابن ثعلبة، وعطيّة بن الأسود اليشكرىّ- قد وثبوا بها مع أبى طالوت، فلمّا قدمها نجدة دعا أبا طالوت إلى نفسه، فأجابه بعد امتناع، ومضى أبو طالوت إلى الخضارم «7» ، فنهبها، وكانت لبنى حنيفة،

فأخذها منهم معاوية بن أبى سفيان، فجعل فيها من الرّقيق ما عدّتهم وعدّة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسّمه بين أصحابه، وذلك فى سنة (65 هـ) خمس وستّين، ثم إن عيرا خرجت من البحرين- وقيل من البصرة- تحمل مالا وغيره يراد بها عبد الله بن الزّبير، فاعترضها نجدة، فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم، فقسمها بين أصحابه، وقال: اقتسموا هذا المال- وردّوا هذه العبيد، واجعلوهم يعملون بالأرض «1» لكم، فإن ذلك أنفع، فاقتسموا المال، وقالوا: نجدة خير لنا من أبى طالوت، فخلعوا أبا طالوت، وبايعوا نجدة، ثم بايعه أبو طالوت، وذلك فى سنة [66 هـ] ست وستّين. ولمّا تمت بيعته بينهم سار فى جمع إلى بنى كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة، فلقيهم بذى المجاز «2» فهزمهم وقتل فيهم قتلا ذريعا، ثم كثرت جموعة حتى بلغت ثلاثة آلاف، فسار إلى البحرين فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، فقالت الأزد: نجدة أحبّ إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور، وولاتنا تجور؛ فعزموا على مسالمته، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين «3» غير الأزد على محاربته، فالتقوا بالقطيف «4» ، فانهزمت عبد القيس، وقتل منهم جمع كثير، وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف. وأقام بالبحرين «5» .

فلمّا قدم مصعب إلى البصرة فى سنة [69 هـ] تسع وستّين بعث إليه عبد الله بن عمير اللّيثى الأعور فى أربعة عشر ألفا، وقيل: فى عشرين ألفا، فجعل يقول: اثبت نجدة فإنّا لا نفرّ، فقدم ونجدة بالقطيف، فأتى نجدة إلى ابن عمير وهو غافل فقاتل طويلا، ثم افترقوا، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى فى عسكره من القتلى والجرحى، فحمل عليهم نجدة، فلم يثبتوا، وانهزموا، وغنم نجدة ما فى عسكرهم. وبعث نجدة بعد هزيمة ابن عمير جيشا إلى عمان، واستعمل عليهم عطيّة بن الأسود الحنفىّ، وقد غلب عليها عبّاد بن عبد الله وابناه سعيد وسليمان، فقاتلوه، فقتل عبّاد واستولى عطيّة عليها، فأقام بها أشهرا، ثم خرج عنها، واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عبّاد، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها، فركب فى البحر وأتى كرمان «1» ، وضرب بها دراهم سمّاها العطويّة، فأرسل إليه المهلّب جيشا، فهرب إلى سجستان، ثم أتى السّند، فقتلته خيل المهلّب بقندابيل «2» . وبعث نجدة إلى البوادى من يأخذ صدقة أهلها، ثم سار نجدة إلى صنعاء فى خفّ «3» من الجيش، فبايعه «4» أهلها، وبعث أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها، وحج نجدة سنة (68 هـ)

ثمان وستّين، وقيل فى سنة تسع، وهو فى ثمانمائة وستّين رجلا، وقيل فى ألفين وستمائة رجل، فصالح ابن الزبير على أن يصلّى كلّ واحد بأصحابه، ويقف بهم، ويكفّ بعضهم عن بعض، فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلّد عبد الله ابن عمر سيفا، فلما أخبر نجدة أن ابن عمر لبس السلاح رجع إلى الطائف، فلمّا قرب منها أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثّقفى، فبايعه على قومه، فرجع نجدة إلى البحرين، فقطع الميرة عن أهل الحرمين، فكتب إليه ابن عبّاس: إنّ ثمامة بن أثال لمّا أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم كفّار، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أهل مكّة أهل الله، فلا تمنعهم الميرة، فخلاها «1» لهم، وإنّك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون، فخلّاها لهم نجدة، لم تزل عمّال نجدة على النّواحى حتى اختلف عليه أصحابه، على ما نذكره. [والله أعلم] «2» .

ذكر الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك

ذكر الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك قال: ثم إن أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها منه، فخالف عليه عطيّة بن الأسود، وسبب ذلك أنّ نجدة بعث سرّية برّا وبحرا، فأعطى سرية البر أكثر من سريّة البحر، فنازعه عطيّة حتى أغضبه، فشتمه نجدة، فغضب عطيّة وفارقه، وألّب الناس عليه، فخالفوه وانحازوا عنه، وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور، من بنى قيس بن ثعلبة، فاستخفى نجدة، وقيل لأبى فديك: إن لم تقتله تفرّق الناس عنك، فألحّ فى طلبه حتّى ظفر به أصحابه، فقتلوه، فلمّا قتل نجدة سخط قتله جماعة من أصحاب أبى فديك، ففارقوه وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتى «1» عشرة ضربة بسكين، فقتل مسلم، وحمل أبو فديك إلى منزله. هذا ما كان من أمر الخوارج الّذين خرجوا على عبد الله بن الزّبير فى أيّام خلافته، فلنذكر خلاف ذلك ممّا وقع فى أيامه بالأعمال الداخلة فى ولايته.

ذكر الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير

ذكر الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير خلاف ما ذكرناه فى الأعمال المداخلة فى ولايته على حكم السنين سنة أربع وستين قد ذكرنا بعض حوادث هذه السنة فى أخبار يزيد، فلنذكر من حوادثها خلاف ذلك: فيها حج عبد الله بن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمى «1» ، وعلى قضائها سعيد بن نمران، وأبى شريح أن يقضى فى الفتنة وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التّيمى، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. سنة خمس وستين فى هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة عن المدينة، واستعمل أخاه مصعبا؛ وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال: قد ترون ما صنع الله بقوم فى ناقة قيمتها خمسمائة «2» درهم، فسمى: مقوّم الناقة، فبلغ ذلك أخاه، فعزله، واستعمل مصعبا،

ذكر بناء ابن الزبير الكعبة

ذكر بناء ابن الزبير الكعبة كان عبد الله بن الزبير لمّا احترقت الكعبة- حين غزاه أهل الشام فى أيام يزيد بن معاوية، قد تركها ليشنع بذلك على أهل الشام. وقد اختلف فى سبب حرق الكعبة، فقيل: إن ابن الزبير لما حاصره أهل الشام سمع أصواتا فى اللّيل فوق الجبل «1» ، فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه، وكانت الليلة ظلماء ذات ريح صعبة ورعد وبرق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس، فأطارتها الرّيح، فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها، وجهد الناس فى إطفائها فلم يقدروا، فأصبحت الكعبة تتهافت «2» ، وماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلّهم مع جنازتها خوفا من أن ينزل عليهم العذاب؛ وأصبح ابن الزبير ساجدا يدعو ويقول: اللهم إنّى لم أعتمد ما جرى، فلا تهلك عبادك بذنبى، وهذه ناصيتى بين يديك. فلمّا تعالى النهار أمن وتراجع الناس. حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند «3» رفعه إلى أبى بكر الهذلىّ، وقيل فى حرقها غير ذلك. فلمّا مات يزيد واستقرّ الأمر لابن الزبير، شرع فى بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت حيطانها قد مالت من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء

ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان

الأساس، وضرب عليها السّتور «1» ، وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضى الله عنها: لولا حدثان «2» [عهد] «3» قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه [الصلاة والسلام] «4» ، وأزيد فيها من الحجر، فحفر ابن الزبير [رضى الله عنهما] «5» ، فوجد أساسا أمثال الجمال «6» فحرّكوا منها صخرة فبرقت بارقة، فقال: أقرّوها على أساسها، وبناها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. وقيل: كانت عمارتها فى سنة [64 هـ] أربع وستّين. [والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب] «7» . ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان فى هذه السنة كانت الحرب والفتنة بين عبد الله بن خازم السّلمى وبين بنى تميم بخراسان؛ وسبب ذلك أن من كان من بنى تميم بخراسان أعانوا ابن خازم على من بها من ربيعة كما تقدّم، فلمّا صفت له خراسان جفا بنى تميم، وكان قد جعل ابنه محمدا على هراة، وجعل على شرطته بكير بن وسّاج «8» ، وضم إليه شمّاس بن دثار العطاردى

وكانت أمّ محمد تميميّة، فلمّا جفاهم ابن خازم «1» أتوا ابنه محمّدا بهراة، فكتب إلى أبيه وإلى بكير وشمّاس، يأمرهم بمنعهم عن هراة، فأمّا شمّاس فصار مع بنى تميم، وأما بكير فإنه منعهم، فأقاموا ببلاد هراة، فأرسل بكير إلى شمّاس: إنى أعطيك ثلاثين ألفا، وأعطى كلّ رجل من تميم ألفا، على أن ينصرفوا، فأبوا وأقاموا يترصّدون محمد بن عبد الله حتى خرج إلى الصيد، فأخذوه وشدّوه وثاقا، ثم قتلوه، وولّوا عليهم الحريش «2» بن هلال، فكانت الحرب بينه وبين ابن خازم، وطالت بينهما، فخرج الحريش، فنادى ابن خازم، وقال: لقد طالت الحرب بيننا، فعلام يقتل قومى وقومك، ابرز إلى فأيّنا قتل صاحبه صارت الأرض له، فقال ابن خازم: لقد أنصفت، فبرز إليه، فالتقيا وتصاولا طويلا، فغفل ابن خازم، فضربه الحريش على رأسه فألقى فروة رأسه على وجهه، وانقطع ركابا الحريش، ولزم ابن خازم عنق فرسه، ورجع إلى أصحابه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا أياما بعد الضّربة، ثم ملّ الفريقان، فتفرقوا، فافترقت تميم ثلاث فرق: فرقة إلى نيسابور مع بحير «3» ابن ورقاء، وفرقة إلى ناحية أخرى، وفرقة فيها الحريش «4» إلى مرو الرّوذ، فاتّبعه ابن خازم إلى قرية تسمى الملحمة «5» ، والحريش

فى اثنى عشر رجلا، وقد تفرّق عنه أصحابه وهم فى خربة، فلمّا انتهى إليه قال له الحريش: ما تريد منّى وقد خلّيتك والبلاد، قال: إنّك تعود إليها، قال: لا أعود؛ فصالحه على أن يخرج عن خراسان ولا يعود إلى قتاله، فأعطاه ابن خازم أربعين ألفا، وفتح له الحريش باب القصر، فدخله ابن خازم وضمن له وفاء دينه. وفى هذه السنة [سنة 65] وقع طاعون الجارف «1» بالبصرة، وعليها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، فهلك خلق كثير، وماتت أمّ عبيد الله فلم يجدوا لها من يحملها، حتّى استأجروا من تولّى حملها. وحج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب ابن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث ابن أبى ربيعة المخزومىّ، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفّى عبد الله بن عمرو بن العاص بمصر، وكان قد عمى. وقيل: كانت وفاته فى سنة [68 هـ] ثمان وستّين، وقيل سنة تسع، [والله أعلم] «2» .

سنة ست وستين

سنة ست وستين ذكر الفتنة بخراسان فى هذه السنة حاصر عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بنى تميم بسبب قتلهم ابنه محمّدا، وذلك أنّه لما تفرّقت بنو تميم بخراسان على ما تقدّم، أتى قصر قرنبا «1» عدة منهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولّوا أمرهم عثمان بن بشر [بن] «2» المحتفز المازنى «3» ، ومعه شعبة بن ظهير النّهشلى، وورد بن الفلق العنبرى، وزهير بن ذؤيب العدوى، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوىّ، ورقبة ابن الحر فى فرسان بنى تميم وشجعانهم، فحاصرهم ابن خازم، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر، فخرج ابن خازم يوما فى ستّة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم بشر: ارجعوا فلن تطيقوه، فحلف زهير بن ذؤيب بالطّلاق إنه لا يرجع حتى ينقض «4» صفوفهم، فاستبطن نهرا قد يبس، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم «5» أوّلهم على آخرهم، واستدار وكرّ راجعا، واتبعوه يصيحون به، ولم يجسر أحد ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه، فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع،

فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا فى رماحكم كلاليب، ثم علقوها فى سلاحه، فخرج إليهم يوما فطاعنهم، فأعلقوا فيه أربعة رماح بالكلاليب، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، وخلّوا رماحهم، فعاد يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير، فضمن «1» له مائة ألف وميسان «2» طعمة ليناصحه، فلم يجبه، فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم أن يمكّنهم من الخروج ليتفرّقوا، فأبى إلّا على حكمه، فأجابوه إلى ذلك، فقال زهير: ثكلتكم أمهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإما أن تموتوا كراما، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجن لكم، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم، فأبوا عليه، فقال سأريكم؛ ثم خرج هو ورقبة بن الحر وغلام تركىّ وابن ظهير، فحملوا على القوم حملة منكرة فأفرجوا لهم، فمضوا. فأمّا زهير فرجع إلى من بالقصر ونجا أصحابه، فقال زهير لمن بالقصر: قد رأيتم، أطيعونى، فقالوا: إنّا نضعف عن هذا ونطمع فى الحياة، فقال: والله لا أكون أعجزكم عند الموت، فنزلوا على حكم ابن خازم، فأرسل إليهم فقيّدهم، وحملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى عليه ابنه موسى، وقال له: إن عفوت عنهم قتلت نفسى، فقتلهم إلا ثلاثة، أحدهم الحجاج

ابن ناشب، شفع فيه بعض من معه فأطلقه، والآخر جيهان ابن مشجعة الضبّى، وكان قد منع القوم من قتل محمد عبد الله، ورمى نفسه عليه، فأبوا، فتركه لذلك، والآخر رجل من بنى سعد من تميم، وهو الّذى ردّ الناس عن ابن خازم يوم لحقوه، وقال: انصرفوا عن فارس مضر. قال: ولمّا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيّد أبى، واعتمد على رمحه، فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل فى قيوده؛ فقال له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان؟ قال: لو لم تصنع بى إلّا حقن دمى لشكرتك، فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه، فقال له أبوه: ويحك، تقتل مثل زهير، من لقتال عدو المسلمين، من «1» لنساء العرب؟ فقال: والله لو شركت فى دم أخى لقتلتك، فأمر بقتله، فقال زهير: [إن] «2» لى حاجة، لا تقتلنى وتخلط دمى بدماء هؤلاء اللّئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما ويخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله لو فعلوا لذعروا «3» بنيّك هذا. وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه، فأمر به ابن خازم فقتل ناحية. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير.

سنة سبع وستين

سنة سبع وستين فى هذه السنة استعمل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا على البصرة، فقتل المختار كما تقدّم، ثم عزله عن العراق، واستعمل ابنه حمزة بن عبد الله. وكان حمزة جوادا مخلّطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفّة وضعف، فكتب الأحنف إلى أبيه، وسأله أن يعزله عنهم، ويعيد مصعبا، فعزله، فاحتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك ابن مسمع، فقال: لاندعك تخرج بأعطياتنا؛ فضمن له عبيد الله ابن عبد الله العطاء، فكفّ عنه، وشخص حمزة بالمال إلى المدينة، فأودعه رجالا، فجحدوه، إلا رجلا واحدا، فوفى له، فبلغ ذلك أباه، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهى به بنى مروان فنكص. وقيل: إن مصعبا أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولا عن البصرة، ثم وفد إلى أخيه فردّه إلى البصرة، وقيل: بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار، واستعمل على الكوفة الحارث بن أبى ربيعة، وكانتا فى عمله، فعزله أخوه، واستعمل ابنه حمزة، ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة، وردّ مصعبا، وذلك فى سنة [68 هـ] ثمان وستين. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان العمّال من تقدم ذكرهم، وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.

سنة (68 هـ) ثمان وستين

سنة (68 هـ) ثمان وستين ذكر حصار الرى وفتحها وفى هذه السنة أمر مصعب بن الزبير عتّاب بن ورقاء الرّياحىّ عامله على أصفهان بالمسير إلى الرّى وقتال أهلها، لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث، كما تقدم، وامتناعهم فى مدينتهم، فسار إليهم عتّاب، وقاتلهم، وعليهم الفرّخان ففتحها عنوة، وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاعها ونواحيها. [والله أعلم] «1» . ذكر أخبار عبيد الله بن اخر ومقتله وفى هذه السنة قتل عبيد الله بن الحرّ الجعفىّ، وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا، ولما قتل عثمان حضر إلى معاوية وشهد معه صفّين وأقام عند معاوية، وكانت زوجته بالكوفة، فلمّا طالت غيبته عنها زوجها أخوها رجلا، يقال له عكرمة بن الخنبص «2» ، فبلغ ذلك عبيد الله، فأقبل من الشام فخاصمه عكرمة إلى على رضى الله عنه. فقال له علىّ رضى الله عنه: ظاهرت علينا عدوّنا وفعلت وفعلت. فقال له: أيمنعنى ذلك من عدلك؟ قال: لا، فقصّ عليه قصته فردّ عليه امرأته وكانت حبلى، فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة، ودفع المرأة إلى عبيد الله، وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل على رضى الله عنه، فرجع إلى الكوفة، فلما كان

فى وقت قتل الحسين تغيب عبيد الله عمدا، فجعل ابن زياد يتفقّد أشراف أهل الكوفة، فلم ير ابن الحرّ ثم جاء بعد «1» ذلك فقال: أين كنت يا ابن الحر؟ قال: كنت مريضا. قال: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا. قال: لو كنت معه لرئى مكانى. وغفل عنه ابن زياد، فخرج وركب فرسه، ثم طلبه فقيل له: ركب الساعة، فبعث الشرط خلفه فأدركوه فقالوا: أجب الأمير، فقال: بلغوه عنّى أنى لا آتيه طائعا أبدا، وركض فرسه، وأتى منزل أحمد بن زياد الطائى، فاجتمع إليه أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصارع الحسين رضى الله عنه، ومن قتل معه، فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن. وقال فى ذلك «2» : يقول أمير غادر حقّ «3» غادر ... ألا كنت قاتلت الشهيد «4» ابن فاطمة ونفسى على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد لائمه فياندمى ألا أكون نصرته ... ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمه وإنّى لأنّى لم أكن من حماته ... لذو حسرة ما إن تفارق «5» لازمه سقى الله أرواح الّذين تآزروا ... على نصره سقيا «6» من الغيث دائمه وقفت على أجدائهم ومجالهم ... فكاد الحشى ينقضّ والعين ساجمه

لعمرى لقد كانوا مصاليت فى الوغى ... سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه تأسّوا على نصر ابن بنت نبيّهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه فان يقتلوا فكلّ «1» نفس تقية ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه وما إن رأى الراءون أفضل منهمو ... لدى الموت سادات وزهرا «2» قماقمه أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطّة ليست لنا بملائمه لعمرى لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منّا عليكم وناقمه أهمّ مرارا أن أسير بجحفل ... إلى فئة زاغت عن الحقّ ظالمه فكفّوا وإلا زرتكم فى «3» كتائب ... أشدّ عليكم من زحوف الدّيالمه قال: وأقام ابن الحرّ بمنزله على شاطىء الفرات إلى أن مات يزيد، ووقعت الفتنة، فقال: ما أرى قرشيا ينصف، أين أبناء الحرائر؟ فأتاه كلّ خليع، ثم خرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم به للسلطان «4» إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ويكتب لصاحب المال بما أخذ منه، ثم جعل يتقصّى الكور على مثل ذلك، إلا أنه لم يعترض لمال أحد ولا دمه، فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمله ابن الحرّ فى السّواد، فأخذ امرأته «5» فحبسها، فأقبل عبيد الله فى أصحابه إلى الكوفة، فكسر باب السّجن، وأخرجها، وأخرج كلّ امرأة كانت فيه، ومضى، وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، فأحرقت داره فى همدان، ونهبت ضيعته، فسار إلى ضياع همذان

فنهبها «1» جميعا، وكان يأتى المدائن فيمرّ بعمّال جوخى «2» فيأخذ ما معهم من المال، ثم يميل على الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار. وقيل: إنه بايع المختار بعد امتناع، وسار مع إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل، ولم يشهد معه قتال ابن زياد، وتمارض، ثم فارق ابن الأشتر، وأقبل إلى الأنبار فى ثلاثمائة، فأغار عليها، وأخذ ما فى بيت مالها، فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته، ففعل ما تقدّم ذكره، وحضر مع مصعب قتال المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب: إنّا لا نأمن أن يثب عبيد الله بن الحرّ بالسّواد كما فعل بابن زياد والمختار، فحبسه، فكلّم قوما من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب، وأرسل إلى فتيان مذحج، فقال: البسوا السلاح واستروه، فإن شفّعهم مصعب وإلّا فاقصدوا السجن فإننى سأعينكم من داخل. فلما شفع أولئك النّفر شفّعهم مصعب فيه، وأطلقه، فأتى منزله، وأتاه الناس يهنئونه، فكلّمهم فى الخروج على مصعب، وقال لهم: قاتلوا عن حريمكم؛ فإنى قد قلبت ظهر المجن «3» واظهرت العداوة ولا قوة إلا بالله. وخرج عن الكوفة، وحارب وأغار، فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ

المرادى، فعرض عليه خراج بادرويا «1» وغيرها، ويدخل فى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فندب لقتاله الأبرد بن قرّة الرّياحى، فقاتله فهزمه عبيد الله وضربه على وجهه، فبعث إليه حريث بن زيد فقتله، فبعث إليه الحجاج ابن حارثة «2» الخثعمى، ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر «3» ، فقاتلهما وهزمهما، فأرسل إليه يدعوه إلى الأمان والصّلة، وأن يولّيه أىّ بلد شاء؛ فلم يقبل ذلك وأتى نرسا «4» ، ففر دهقانها بمال إلى عين التّمر «5» وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانى، فالتجأ الدهقان إليه، فتبعه عبيد الله فقاتله بسطام، ووافاه الحجاج ابن حارثة، فأسرهما عبيد الله، وأسر جماعة كثيرة ممّن معهما، وأخذ المال الذى مع الدهقان، وأطلق الأسارى وأتى تكريت، فأقام بها يجبى الخراج، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرّة الرياحى، والجون ابن كعب الهمدانى فى ألف، وأمدّهم المهلّب بيزيد بن المغفّل فى خمسمائة، فقاتلهم يومين وهو فى ثلاثمائة. فلما كان عند المساء من اليوم الثانى تحاجزوا، وخرج عبيد الله من تكريت، وسار نحو كسكر، فأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل إلى دير الأعور «6» ، فبعث إليه

مصعب حجار بن أبجر فانهزم حجّار، فشتمه مصعب، وضم إليه الجون بن كعب الهمدانى وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات فى أصحاب ابن الحر، وعقرت خيولهم، فانهزم حجّار، ثم رجع فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى أمسوا «1» ، وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد ابن الحارث بن رويم الشيبانى وهو بالمدائن [يأمره] «2» بقتاله، فقدّم ابنه حوشبا، فقاتله فهزمه عبيد الله، وأقبل إلى المدائن فتحصّنوا منه، فندب إليه الجون بن كعب الهمدانى وبشر بن عبد الله الأسدى، فنزل الجون بحولايا «3» ، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحرّ وهزم أصحابه، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن ابن بشير العجلى، فقاتله بسورا «4» قتالا شديدا، فرجع عنه بشير، وأقام ابن الحرّ بالسواد يغير ويجبى الخراج. ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير، وأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى لمن معه مالا، فقال له ابن الحرّ: وجّهنى بجند أقاتل بهم مصعبا، فقال له: سر بأصحابك، وادع من قدرت عليه، وأنا ممدّك بالرجال، فسار فى أصحابه نحو الكوفة إلى أن انتهى إلى الأنبار، فنزل بقرية بجوارها، واستأذنه أصحابه فى إتيان الكوفة، فأذن لهم، وأمرهم أن يعلموا أصحابه بمقدمه ليخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية

فأتوا الحارث بن [عبد الله بن] «1» أبى ربيعة عامل ابن الزّبير بالكوفة، فسألوه أن يرسل معهم جيشا يقاتلون به عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفريق أصحابه، فبعث معهم جيشا كثيفا، فساروا إليه، فقال له من بقى معه من أصحابه: نحن فى نفر يسير، ولا طاقة لنا بهذا الجيش، فقال: ما كنت لأدعهم، وحمل عليهم وهو يقول: يا لك يوما فات فيه نهبى ... وغاب عنّى ثقتى وصحبى فعطفوا عليه فكشفوا أصحابه، وحاولوا أن يأسروه، فلم يقدروا على ذلك، وأذن لأصحابه فى الذّهاب، فذهبوا فلم يعرض لهم أحد، وجعل يقاتل وحده وهم يرمونه ولا يدنون منه، وهو يقول: أهذه نبل أم مغازل! فلما أثخنته الجراح خاض «2» إلى معبر فدخله ولم يدخل فرسه، فركب السفينة، ومضى به الملّاح حتى توسط الفرات، فأشرفت الخيل عليهم، وكان فى السفينة نبط، فقالوا لهم: إن فى السفينة طلبة أمير المؤمنين، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابن الحر ليرمى نفسه فى الماء، فوثب إليه رجل عظيم الخلق، فقبض على يديه، وجراحاته تجرى دما، وضربه الباقون بالمجاديف، فقبض على الذى أمسكه، وألقى نفسه فى الماء، فغرقا معا. وقيل فى قتله: إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدّم عليه غيره، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدة يعاتب فيها مصعبا ويخوّفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان يقول فيها «3» :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فلست على رأى قبيح أواربه أفى الحق أن أجفى «1» ويجعل مصعب ... وزيريه «2» من قد كنت فيه أحاربه فكيف، وقد أبليتكم «3» حقّ بيعتى ... وحقّى يلوّى عندكم وأطالبه وأبليتكم مالا يضيّع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه فلما استنار الملك وانقادت العدا ... وأدرك من مال «4» العراق رغائبه جفا مصعب عنّى ولو كان غيره ... * لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابنى من مصعب أنّ مصعبا ... * أرى كلّ ذى غشّ «5» لنا هو صاحبه إذا قمت عند الباب أدخل مسلم «6» ... ويمنعنى أن أدخل الباب حاجبه

أشار بقوله: وزيريه؛ إلى مسلم بن عمرو والد قتيبة، والمهلّب ابن أبى صفرة، ويدلّ على ذلك قوله أيضا فى غيرها «1» : بأىّ بلاء أم بأيّة نعمة تقدّم قبلى مسلم والمهلّب قال: فحبسه مصعب، وله معه معاتبات من الحبس، وقال فى قصيدة يهجو فيها قيس عيلان منها «2» : ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل فأرسل زفر بن الحارث الكلابى إلى مصعب يقول: قد كفيتك قتال ابن الزّرقاء- يعنى عبد الملك. وابن الحرّ يهجو قيسا؛ ثم إنّ نفرا من بنى سليم أسروا عبيد الله بن الحرّ، فقال: إنما قلت «3» : ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت فى القنا «4» والقنابل فقتله رجل منهم يقال له عيّاش، والله أعلم. وفى هذه السنة [سنة 68 هـ] وافى عرفات أربعة ألوية: لواء ابن الزبير وأصحابه، ولواء ابن الحنفية وأصحابه، ولواء لبنى أميّة، ولواء لنجدة الحرورى، ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة. وكان العامل على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزّهرى،

سنة (69 هـ) تسع وستين

وعلى البصرة والكوفة مصعب بن الزبير، وعلى قضائهما من ذكرنا قبل، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. وفيها توفّى عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعدىّ بن حاتم الطائى. وقيل فى سنة [66 هـ] ست وستين، وله مائة وعشرون سنة. سنة (69 هـ) تسع وستين فى هذه السنة شخص مصعب بن الزبير إلى مكّة ومعه أموال عظيمة ودوابّ كثيرة، فقسم فى قومه وغيرهم، ونحر بدنا كثيرة. وقيل: كان ذلك فى سنة [70 هـ] سبعين. وحجّ بالناس عبد الله بن الزّبير؛ وفيها حكّم رجل من الخوارج بمنى، وسلّ سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم، فقتل ذلك الرجل عند الجمرة «1» . وكان عمّال الأمصار من ذكرنا. سنة (70 هـ) سبعين ذكر يوم الجفرة «2» فى هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعب بن الزبير، فقال له خالد بن عبد الله بن أسيد: إن وجّهتنى إلى البصرة وأتبعتنى خيلا رجوت أن أغلب لك عليها، فوجّهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا فى خاصّته حتى نزل على عمرو بن أصمع. وقيل: على علىّ بن أصمع الباهلى، فأرسل عمرو «3» إلى عبّاد بن الحصين وهو على شرطة

ابن معمر، وابن معمر خليفة مصعب على البصرة، ورجا ابن أصمع أنّ عبّاد بن الحصين يتابعه، وقال له: إنى قد أجرت خالدا وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهيرا لى؛ فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه؛ فقال عبّاد: قل له: والله لا أضع لبد فرسى حتى آتيك فى الخيل، فقال ابن أصمع لخالد: إنّ عبّادا يأتينا الساعة، ولا أقدر أمنعك منه؛ فعليك بمالك بن مسمع، فخرج خالد يركض فرسه حتى أتى مالكا فقال: أجرنى فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فأقبلت إليه، وأقبل عباد فى الخيل، فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال، فلما كان الغد غدوا إلى جفرة «1» نافع بن الحارث، ومع خالد رجال من تميم، منهم صعصعة بن معاوية وعبد الله بن بشر ومرّة بن محكان وغيرهم، وكان من أصحاب خالد، عبيد الله بن أبى بكرة، وحمران بن أبان، والمغيرة بن المهلّب. ومن أصحاب ابن معمر؛ قيس بن الهيثم السلمى، وأمدّه مصعب بزحر بن قيس الجعفى فى ألف، وأمدّه عبد الملك خالدا «2» بعبيد الله بن زياد بن ظبيان، فبلغه تفرّق الناس، فرجع إلى عبد الملك. والتقى القوم، واقتتلوا أربعة وعشرين يوما، ومشت بينهم السّفراء، فاصلطحوا على أن يخرج خالدا من البصرة، فأخرجه مالك، ولحق مالك بثأج «3» ، وجاء مصعب إلى البصرة، وطمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وقال لعبيد الله بن أبى بكرة: يا ابن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها

الكلاب، فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كلّ كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصن «1» الطائف، ثم ادعيتم أنّ أبا سفيان زنى بأمكم، وو الله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم. ثم دعا حمران فقال له: إنما أنت ابن يهودية علج نبطى سبيت من عين التّمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود، ولعبد الله ابن فضالة الزهرانى، ولعلى بن أصمع، ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم وهدم دورهم، وصهرهم فى الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجهز «2» أولادهم فى البعوث، وطاف بهم فى فى أقطار البصرة، وأحلفهم ألّا ينكحوا الحرائر، وهدم دار مالك ابن مسمع، وأخذ ما فيها؛ فكان فيما أخذ منها جارية ولدت له عمرو «3» بن مصعب. وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج لحرب عبد الملك. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير.

سنة (71 هـ) احدى وسبعين

سنة (71 هـ) احدى وسبعين فى هذه السنة كان مقتل مصعب بن الزّبير واستيلاء عبد الملك ابن مروان على العراق على ما نذكر ذلك إن شاء الله مبيّنا فى أخبار عبد الملك. وفيها عزل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو آخر وال كان له على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو ولى عثمان فهرب. سنة (72 هـ) اثنتين وسبعين فى هذه السنة قتل عبد الله بن خازم أمير خراسان، واستولى عبد الملك على خراسان على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخباره وفيها انتزع عبد الملك المدينة من عبد الله بن الزّبير، واستعمل عليها طارق بن عمرو؛ فلم يبق مع ابن الزّبير إلا مكّة. سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين فى هذه السنة كان مقتل عبد الله بن الزبير واستقلال عبد الملك ابن مروان بالأمر، جريا على القاعدة التى قدمناها أن نذكر الواقعة بجملتها ونحيل عليها فى أخبار المغلوب، وعند ذكرنا لمقتل عبد الله ابن الزبير نذكر نبذة من سيرته وأولاده، فلنرجع إلى أخبار الدولة الأموية.

ذكر بيعة مروان بن الحكم

ذكر بيعة مروان بن الحكم هو أبو الحكم، وقيل أبو عبد الملك، مروان بن الحكم بن أبى العاص ابن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب معاوية فى أميّة، وهو الرابع من ملوك بنى أميّة، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلّم طرد أباه إلى بطن وجّ «1» ، فنزل الطائف، وخرج معه ابنه مروان. وقيل: إن مروان ولد بالطف. واختلف فى السبب الموجب لنفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم، فقيل: كان يتحيّل ويستخفى ويسمع ما يسرّه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى كبار أصحابه فى مشركى قريش وسائر الكفار والمنافقين، وكان يفشى ذلك عنه، حتى ظهر ذلك عليه؛ وكان يحكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مشيته وبعض حركاته، وكان النبىّ عليه «2» الصلاة والسلام إذا مشى تكفّأ، فكان الحكم يحكيه، فالتفت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يوما فرآه يفعل كذلك، فقال: فكذلك فلتكن. فكان الحكم مخلّجا يرتعش من يومئذ، فعيّره عبد الرحمن بن حسان، فقال فى عبد الرحمن بن الحكم يهجوه: إنّ اللّعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجا مجنونا يمشى خميص البطن من عمل التّقى ... ويظلّ من عمل الخبيث بطينا وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حين قال

فى أخيها عبد الرحمن ما قال: أما أنت يا مروان فأشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعن أباك وأنت فى صلبه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد الله: وكنت قد تركت عمرا يلبس ليقبل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم أزل مشفقا أن يكون أوّل من يدخل، فدخل الحكم بن أبى العاص، فلهذا قال عبد الرحمن بن حسان فى شعره: إنّ اللعين أبوك. ولم يزل الحكم طريدا إلى خلافة عثمان بن عفّان فردّه إلى المدينة، وقال: إن النبىّ عليه الصلاة والسلام كان أذن فى ردّه. وكان إسلام الحكم يوم فتح مكّة، ومات فى خلافة عثمان قبل القيام عليه بأشهر. وولد مروان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحد، وقيل ولد بمكة، وقيل بالطائف، ولم ير مروان رسول الله عليه «1» الصلاة والسلام، لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل، وقدم المدينة مع أبيه فى خلافة عثمان، ثم توفى أبوه فاستكتبه عثمان ابن عفان، وضمّه إليه، فاستولى مروان عليه، وغلب على رأيه حتى كان سبب قيام الناس على عثمان وقتله. حكى أبو عمر بن عبد البر فى كتابه المترجم بالاستيعاب «2» أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أتى مروان يوما، فقال: ويلك

ذكر السبب فى بيعة مروان

وويل أمّة محمد منك ومن بنيك إذا شابت ذراعاك «1» . وكان مروان يقال له خيط باطل، وضرب يوم الدّار على قفاه فخرّ لفيه. وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم وكان ماجنا شاعرا، وكان لا يرى رأى مروان: فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... حليلة مضروب القفا كيف يصنع لحا الله قوما أمّروا خيط باطل ... على الناس يعطى من يشاء ويمنع وقيل: إنه قال ذلك حين ولّاه معاوية المدينة، [وكان كثيرا ما يهجوه] «2» . وأم مروان آمنة بنت علقمة بن صفوان، وكان مروان قصيرا رقيقا أو قص «3» ، بويع له بالجابية «4» يوم الخميس لسبع بقين من شهر رجب سنة [64 هـ] أربع وستين، وقيل فى ذى القعدة منها. ذكر السبب فى بيعة مروان كان سبب بيعته أن عبد الله بن الزّبير لما بويع له بالحجاز والعراق استعمل أخاه عبيدة بن الزّبير على المدينة، فأخرج مروان بن الحكم وابنه منها إلى الشام؛ فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبنى أمية:

أقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم «1» ، فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأى مروان أن يسير إلى عبد الله بن الزّبير فيبايعه، فلما قدم عبيد الله بن زياد من العراق قال لمروان: لقد استحييت لك من ذلك، وأنت كبير قريش وسيّدها؛ وقبّح ذلك عليه، فقال: ما فات شىء بعد، وقام إليه بنو أميّة ومواليهم فتجمع «2» إليه أهل اليمن، فسار إلى دمشق فقدمها والضحّاك بن قيس الفهرى يصلّى بالناس قد بايعوه على ذلك إلى أن يتّفق رأى الناس على إمام، وهو يدعو إلى ابن الزبير سرّا، والنعمان بن بشير الأنصارى بحمص يبايع له أيضا. وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبى غلاما لمعاوية «3» وابنه يزيد بفلسطين وهو يريد «4» بنى أمية. فكتب حسان إلى الضحاك كتابا يعظّم فيه حقّ بنى أميّة وحسن بلائهم، ويذمّ ابن الزّبير، وأنه خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس. وكتب كتابا آخر، وسلّمه إلى رسوله واسمه ناغضة، وقال له: إن قرأ [الضحاك] «5» كتابى على الناس وإلّا فاقرأ هذا الكتاب عليهم. وكتب [حسان] «6» إلى بنى أمية أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة، فدفع كتاب الضحّاك إليه وكتاب بنى أمية إليهم. فلما كان يوم الجمعة صعد الضحّاك المنبر، فقال له ناغضة:

اقرأ كتاب حسّان على الناس. فقال له: اجلس، فجلس، ثم قام الثانية والثالثة وهو يأمره بالجلوس، فأخرج ناغضة الكتاب الذى معه، وقرأه على الناس، فقام يزيد بن أبى النمس «1» الغسّانى، وسفيان ابن الأبرد الكلبى، فصدّقا حسانا، وشتما ابن الزبير، وقام عمرو ابن يزيد الحكمى فشتم حسانا، وأثنى على ابن الزّبير، واضطرب الناس، فامر الضحاك «2» بيزيد وسفيان فحبسا، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد فضربوه وخرقوا ثيابه، وقام خالد بن يزيد «3» ، فسكن الناس، ونزل الضحّاك فصلّى الجمعة بالناس، ودخل القصر فجاءت كلب فأخرجوا سفيان، وجاءت غسّان فأخرجوا يزيد، وكان أهل الشام يسمّون ذلك اليوم يوم جيرون «4» الأول. ثم خرج الضحاك بن قيس إلى المسجد، وذكر يزيد بن معاوية فسبه، فقام إليه شابّ من كلب فضربه بعصا، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا؛ فقيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بنى أمية. ودخل الضحاك دار الإمارة، ولم يخرج من الغد لصلاة الفجر، وبعث إلى بنى أميّة فاعتذر إليهم، وأنه لا يريد ما يكرهون، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان، ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية، ويسيرون «5» هم من دمشق إليها فيجتمعون بها ويبايعون لرجل من

بنى أمية، فرضوا، وكتبوا إلى حسّان، وسار الضحّاك وبنو أمية نحو الجابية، فأتاه ثور بن معن السّلمى، فقال: دعوتنا إلى ابن الزّبير فبايعنا «1» على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابى من كلب يستخلف ابن أخته «2» خالد بن يزيد. قال الضحاك: فما الرأى؟ قال: الرأى أن نظهر ما كنّا نكتم وندعو إلى ابن الزّبير، فرجع الضحاك بمن معه من الناس، فنزل مرج راهط ودمشق بيده، واجتمع بنو أميّة وحسّان وغيرهم بالجابية، فكان حسّان يصلّى بهم أربعين يوما والناس يتشاورون، وكان مالك بن هبيرة السّكونى يهوى خالد بن يزيد والحصين بن نمير يميل إلى مروان، فقال مالك للحصين: هلمّ نبايع هذا الغلام الذى نحن ولدنا أباه [وهو ابن أختنا] «3» ، وقد عرفت منزلتنا من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب. يعنى خالد بن يزيد. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبى. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدنّك على سوطك وشراك نعلك وظلّ شجرة تستظلّ بها، إنّ مروان أبو عشرة «4» وأخو عشرة «5» وعمّ عشرة «6» ، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم [خالد] ، فقال الحصين: إنى رأيت فى المنام قنديلا معلّقا من السماء وأن من يلى الخلافة يتناوله، فلم ينله إلّا مروان؛ والله لنستخلفنّه.

وقام روح بن زنباع الجذامى فقال: أيّها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه فى الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمّة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون، إنه ابن حوارىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمّه ذات النّطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين: يزيد، وابنه معاوية، وسفك الدماء، وشقّ عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمّة بمحمد وأما مروان بن الحكم فو الله ما كان فى الإسلام صدع إلا كان ممن يشعبه، وهو الذى قاتل [عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذى قاتل] «1» علىّ بن أبى طالب يوم الجمل، وإنّا نرى للنّاس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا «2» الصغير- يعنى بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فأجمع رأيهم على البيعة لمروان، ثم لخالد ابن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أنّ إمرة دمشق لعمرو، وإمرة حمص لخالد. فدعا حسّان خالدا، فقال: يابن أختى؛ إنّ الناس قد أبوك لحداثة سنّك، وإنى والله ما أريد الأمر إلّا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلا نظرا لكم. فقال خالد: بل عجّزت عنا. فقال: والله ما أنا عجزت «3» ، ولكن الرأى لك ما رأيت.

ذكر موقعة مرج راهط

ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذى القعدة سنة [64 هـ] أربع وستين، وقال مروان حين بويع له «1» : لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... يسّرت «2» غسّان لهم وكلبا والسّكسكيّين رجالا غلبا ... وطيّئا تأباه إلّا ضربا والقين تمشى فى الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيس فقل لا قربا ذكر موقعة مرج «3» راهط وقتل الضحاك بن قيس بن خالد الفهرى والنعمان ابن بشير بن سعيد بن تغلب الأنصارى الخزرجى قال: ولمّا بويع مروان بن الحكم سار من الجابية إلى مرج راهط، وبه الضحاك بن قيس ومن معه؛ وكان الضحاك قد استمدّ النعمان ابن بشير وهو على حمص؛ فأمدّه بشر حبيل بن ذى الكلاع، واستمدّ أيضا زفر بن الحارث فأمدّه بأهل قنّسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، وكان ناتل بن قيس قد وثب بفلسطين لمّا خرج منها حسّان بن مالك إلى الأردنّ، وأخرج خليفته روح بن زنباع، وبايع ناتل لابن الزبير، فاجتمعت هذه الأمداد مع الضحاك. واجتمع إلى مروان كلب، وغسّان، والسّكاسك، والسّكون؛

وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن أبى النّمس «1» الغسانى مختفيا بدمشق لم يحضر الجابية، فغلب على دمشق، وأخرج عنها عامل الضّحاك بن قيس، واستولى على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمدّه بالأموال والرجال والسلاح، فكان ذلك أول فتح- على بنى أمية. وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة؛ واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقتل الضحاك، قتله زحنة «2» بن عبد الله الكلبى، وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف الشام، وقتلت قيس مقتلة عظيمة لم تقتل مثلها فى موطن قطّ، وكان ممن قتل هانىء بن قبيصة النميرى سيّد قومه، قتله وازع بن ذؤالة الكلبى، فلما سقط جريحا قال «3» : تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى «4» ... يرى الموت خيرا من فرار وأكرما «5» ولا تتركنّى بالحشاشة إننى ... صبور إذا ما النّكس مثلك أحجما فعاد إليه وازع فقتله، وكانت هذه الوقعة فى المحرم سنة [65 هـ] خمس وستين. وقيل: كانت فى آخر سنة أربع وستين.

ولما أتى «1» مروان برأس الضحاك ساءه ذلك، وقال: الآن حين كبرت سنّى ودقّ عظمى أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض. وقيل: إنّ الضحّاك كان فى ستين ألف فارس ومروان فى ثلاثة عشر ألفا. حكى المدائنى فى كتاب المكايد له، قال: لما التقى مروان والضحاك بمرج راهط قال عبيد الله بن زياد لمروان: إن فرسان قيس مع الضحاك فلا ننال منه ما نريد إلّا بكيد، فأرسل إليه فاسأله الموادعة حتى ننظر فى أمرك، على أنك إن رأيت البيعة لابن الزبير بايعت، ففعل فأجابه الضحاك إلى الموادعة، وأصبح أصحابه قد وضعوا سلاحهم، وكفّوا عن القتال، فقال ابن زياد لمروان: دونك. فشدّ مروان ومن معه على عسكر الضحاك على غفلة منهم وانتشار، فقتلوا من قيس مقتلة عظيمة، وقتل الضحاك يومئذ فلم يضحك رجال من قيس بعد يوم المرج حتى ماتوا. وقيل المكيدة كانت من عبيد الله بن زياد، كاد بها الضحاك. وقال له: مالك والدعاء إلى ابن الزبير! وأنت رجل قرشى ومعك الخيل، وأكثر قيس؟ فادع لنفسك، فأنت أسنّ منه وأولى. ففعل الضحاك ذلك، فاختلف عليه الجند، فقاتله مروان عند ذلك فقتل. والله أعلم. قال: ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل

حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هاربا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبيّة وثقله وأولاده، فتحيّر ليلته كلها، فأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذى طلبه عمرو بن الخلىّ «1» الكلاعى فقتله. وقيل: اتبعه خالد بن عدىّ الكلاعى فيمن خفّ معه من أهل حمص فلحقه فقتله وبعث برأسه إلى مروان. وقال على بن المدينى: قتل النعمان بن بشير بحمص غيلة قتله أهلها. وقيل: قتل بقرية من قرى حمص يقال لها تيزين «2» . والنعمان من الصحابة، ولد قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثمانى سنين. قال: ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابى بقنسرين «3» هرب منها، فلحق بقرقيسيا «4» وعليها عياض الجرشى «5» ، وكان يزيد [بن معاوية] «6» ولّاه إياها، فطلب منه أن يدخل الحمّام ويحلف له بالطلاق والعتاق أنه إذا خرج من الحمّام لا يقيم بها، فأذن له، فدخلها، فغلب عليها وتحصّن بها، ولم يدخل حمّامها، واجتمعت إليه قيس. وهرب ناتل بن قيس الجذامى من فلسطين، فلحق بابن الزبير بمكّة؛ واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع، واستوثق الشام لمروان.

وقيل: إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بنى أمية وهم بتدمر، ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزّبير فيبايعه «1» ويأخذ منه الأمان لبنى أمية، فردّه عن ذلك، وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله، وواقفه «2» عمرو بن سعيد، وأشار على مروان أن يتزوّج أم خالد ابن يزيد ليسقط من أعين الناس، فتزوجها، وهى فاختة ابنة أبى هاشم ابن عتبة، ثم جمع بنى أمية فبايعوه، وبايعه أهل تدمر. وسار إلى الضحاك فى جمع عظيم، وخرج الضحاك إليه، فاقتتلا، فقتل الضحاك، وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسياء، وصحبه فى هزيمته شابان من بنى سليم؛ فجاءت خيل مروان فى طلبه، فقال الشابان له: انج بنفسك، فإنّا نحن نقتل. فمضى زفر وتركهما فقتلا، وقال زفر فى ذلك «3» : أرينى سلاحى لا أبالك إنّنى ... أرى الحرب لا تزداد إلّا تماديا أتانى عن مروان بالغيب أنه ... مقيد دمى أو قاطع من لسانيا ففى العيش «4» منجاة وفى الأرض مهرب ... إذا نحن رفّعنا لهنّ المثانيا فلا تحسبونى إن تغيّبت غافلا ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا فقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزارات النوس كماهيا «5»

لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسّان صدعا بيننا متنائيا فلم ترمنّى نبوة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا «1» عشيّة أدعو «2» بالقران فلا أرى ... من الناس إلّا من علىّ ولاليا أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا فلا صلح حتى تنحط «3» الخيل بالقنا ... ويثأر من نسوان كلب نسائيا فأجابه جوّاس بن القعطل «4» : لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفرداء «5» من الداء باقيا مقيما ثوى بين الضّلوع محلّه ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا تبكّى على قتلى سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكى البواكيا دعا بسلاح «6» ثم أحجم إذرأى ... سيوف جناب والطّوال المذايا عليها كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا أشرعوا نحو الطّعان العواليا

ذكر مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها

ذكر مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها قال: ولما قتل الضحاك واستقرّ الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها، وعليها عبد الرحمن بن حجدر «1» الفهرى يدعو لابن الزّبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه، حتى دخل مصر، فقيل ذلك لابن حجدر، فرجع فبايع الناس مروان، وجاء مروان إلى مصر، ودخل الدار البيضاء، ثم سار عنها واستعمل عليها ابنه عبد العزيز ابن مروان، واستقرّ مروان بدمشق. ذكر البيعة لعبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان ابن الحكم بولاية العهد وفى سنة [65 هـ] خمس وستين أمر مروان بالبيعة لابنيه: عبد الملك، وعبد العزيز، وكان سبب ذلك أن عمرو بن سعيد كان قد توجّه إلى فلسطين، وقاتل مصعب بن الزبير حين وجّهه أخوه عبد الله إليها «2» فهزم مصعبا، ورجع إلى مروان وهو بدمشق، وقد غلب على الشام ومصر، فبلغ مروان أنّ عمرو بن سعيد يقول: إن الأمر لى من بعد مروان، فدعا حسان بن مالك بن بحدل، فأخبره بما بلغه عن عمرو، فقال: أنا أكفيك عمرا. فلما اجتمع الناس عند مروان قام حسان فقال: إنّه بلغنى أنّ رجالا يتمنّون أمانىّ، قوموا فبايعوا لعبد الملك

وعبد العزيز من بعده، فبايعوا من عند آخرهم. وفى هذه السنة بعث مروان بن الحكم بعثين: أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا، واستعمله على كل ما يفتتحه، فإذا فرغ من الجزيرة توجّه لقصد العراق. فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان، وأتاه عهد عبد الملك بن مروان [يستعمله] «1» على ما استعمله عليه أبوه ويحثّه على المسير إلى العراق. والبعث الثانى «2» مع حبيش بن دلجة «3» القينى، فسار حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخى عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب منه جابر. ثم إن الحارث بن أبى ربيعة وجّه جيشا من البصرة وجعل عليهم الحنتف «4» بن السّجف التميمى لحرب حبيش. فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة، وأرسل عبد الله بن الزبير عبّاس «5» ابن سهل الساعدى إلى المدينة أميرا، وأسره أن يسير فى طلب حبيش حتى يوافى جيش البصرة، فأقبل عبّاس «6» فى آثارهم حتى لحقهم بالرّبذة فقاتلهم حبيش، فرماه يزيد بن سياه «7» بسهم فقتله،

ذكر وفاة مروان بن الحكم

وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، وابنه الحجّاج بن يوسف، وهما على جمل واحد، وانهزم أصحابه فتحرّز منهم خمسمائة بالمدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمى، فنزلوا فقتلهم، ورجع فلّ حبيش إلى الشام. ذكر وفاة مروان بن الحكم كانت وفاته فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين. قيل: مات بالطاعون. وقيل: بل كان سبب موته أنه لما بويع بالخلافة أراد حسّان بن بحدل أن يجعل الأمر من بعده لخالد بن يزيد بن معاوية، فبايعه على ذلك، فقيل لمروان: الرأى أن تتزوّج أمّ خالد تكفل ابنها حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة. فتزوّجها. وقد ذكرنا ذلك، فدخل خالد يوما على مروان، وعنده جماعة ينظر إليه وهو يمشى بين الصفّين فقال: إنّه «1» والله لأحمق. تعال: يابن الرطبة الاست، يريد بذلك إسقاطه من أعين أهل الشام، فقال له خالد: مؤتمن خائن. فندم مروان، ثم دخل خالد على أمّه، فقال: هكذا أردت، يقول لى مروان على رءوس الناس كذا وكذا. فقالت له: لا يعلمنّ ذلك منك، فأنا أكفيك، فو الله لا ترى بعد منه شيئا تكرهه، وسأقرّب عليك ما بعد. ثم دخل مروان عليها، فقال لها: قال لك خالد فىّ شيئا؟ قالت: إنه أشدّ تعظيما لك من أن يقول فيك شيئا. فصدّقها،

ومكثت أياما بعد ذلك، فنام مروان عندها فى بعض الأيام، فوضعت على وجهه وسادة، وجلست عليها حتى مات. وهو معدود ممّن قتله النساء. ومولده سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وكان عمره ثلاثا وستين سنة. واختلف فيه إلى نيّف «1» وثمانين سنة. وصلّى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته منذ جدّدت له البيعة عشرة أشهر تقريبا، وكان سلطانه بالشام ومصر. أولاده: عبد الملك، ومعاوية، وعمرو، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، وداود، وعبد العزيز، وعبد الرحمن، وبشر، ومحمد، وأم عمار. كاتبه: سفيان الأحول. وقيل: عبيد الله بن أوس. قاضيه: أبو إدريس الخولانى. حاجبه: أبو سهل مولاه. نقش خاتمه: الله ثقتى ورجائى. *** ومروان أوّل من قدّم الخطبة قبل صلاة العيد، وكان يقال له ولولده بنو الزّرقاء، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم، وهى الزرقاء بنت موهب جدّة مروان لأبيه، كانت من ذوات الرايات التى يستدلّ بها على بيوت البغايا؛ فلهذا كانوا يذمّون بها، ولعل هذا منها كان قبل أن يتزوّجها أبو العاص بن أمية «2» والد الحكم، فإنه كان من أشراف قريش، ولا يكون هذا من امرأة وهى عنده. والله أعلم.

ذكر بيعة عبد الملك بن مروان

ذكر بيعة عبد الملك بن مروان هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم، وهو الخامس من ملوك بنى أمية. وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبى العاص، وهو أوّل من سمّى عبد الملك فى الإسلام، ولقّب رشح الحجر «1» لبخله، ولقّب أيضا بأبى الذّبّان «2» لبخره. وقيل: إن السبب فى بخره أنه كان يتلو القرآن فى المصحف، فأفضت الخلافة إليه وهو يتلو، فردّ المصحف بعضه على بعض، وقال: هذا فراق بينى وبينك، يشير بهذا الكلام إلى المصحف فبخر لوقته، وعجزت الأطباء عن مداواته، فكان لا يمرّ ذباب على فيه إلا مات لوقته، وكان أفوه مفتوح الفم مشبّك الأسنان بالذّهب. بويع له فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين بعد وفاة أبيه، وكان ولىّ عهده كما تقدّم، وأراد عبد الملك أن يقتل أمّ خالد، فقيل له: يظهر عند الناس أنّ امرأة قتلت أباك، فتركها، وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر، فكان الناس يذمّونه بذلك. قيل: إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف، فقال لعبيد الله ابن زياد بن ظبيان البكرى: بلغنى أنك لا تشبه أباك! فقال: والله إنى لأشبه به من الماء بالماء والغراب بالغراب، ولكن إن شئت؛

أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال ولا الأعمام. قال: من ذاك؟ قال: سويد بن منجوف. فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد: والله ما يسرّنى بمقالتك له حمر النعم. فقال عبيد الله: وما يسرّنى والله باحتمالك إياى وسكوتك عنى سودها. قال: وكان أول ما بدأ به عبد الملك أن كتب إلى عبيد الله بن زياد واستعمله على ما كان مروان قد استعمله عليه، فكان من أخبار ابن زياد فى مسيره وحروبه ومقتله ما قدّمناه فى أخبار عبد الله ابن الزبير، فلا حاجة لنا إلى إعادته ههنا، فلنذكر من أخبار عبد الملك غير ما قدمنا ذكره: فى سنة ست وستين أرسل عبد الله بن عباس ابنه «1» علىّ ابن عبد الله إلى عبد الملك، وقال: لأن يربّنى بنو عمّى أحبّ إلىّ من أن يربّنى «2» رجل من بنى أسد- يعنى ببنى عمّه بنى أمية، لأنهم كلهم أولاد عبد مناف، ويعنى بالرجل من بنى أسد عبد الله بن الزّبير. فلما وصل إلى عبد الملك سأله عن اسمه وكنيته، فقال: الاسم علىّ، والكنية أبو الحسن. فقال عبد الملك: لا يجتمع هذا الاسم وهذه الكنية فى عسكرى أنت أبو محمد.

ذكر مقتل عمرو بن سعيد الأشدق وشىء من أخباره [ونسبه]

ذكر مقتل عمرو بن سعيد الأشدق وشىء من أخباره [ونسبه] «1» هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية «2» بن عبد شمس ابن عبد مناف، ويسمى عمرو اللطيم لميل كان فى فمه «3» ، فمن أجل ذلك قيل له لطيم الشيطان، ويسمّى الأشدق لتشادقه فى الكلام، وكان من فصحاء قريش وأهل الخطابة منهم. وقيل فى تسميته الأشدق: إنه لما مات سعيد والده دخل عمرو على معاوية فاستنطقه، فقال: إن أوّل مركب صعب. فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إن أبى أوصانى ولم يوص بى. قال: فبأى شىء أوصاك؟ قال: ألّا يفقد منه أصحابه غير شخصه. فقال معاوية: إن عمرا هذا لأشدق. ولنذكر سبب مقتله ثم نذكر نبذة من أخبار آبائه: كان سبب مقتله أنّ عبد الملك بن مروان سار فى سنة تسع وستين من دمشق يريد قرقيسياء، يريد زفر بن الحارث الكلابى، وصحبه عمرو بن سعيد فى سيره، فلما بلغ بطنان «4» حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث وزهير بن الأبرد الكلبيّان، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفى خليفة عبد الملك بها، فهرب

عنها ودخلها عمرو، فغلب عليها وعلى خزائنها، وهدم دار ابن أم الحكم؛ واجتمع الناس إليه، فخطبهم ومنّاهم ووعدهم، وأصبح عبد الملك وقد فقد عمرا، فسأل عنه فأخبر برجوعه، فرجع إلى دمشق، فقاتله أياما، ثم اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وأمّنه عبد الملك، فجاءه عمرو واجتمعا، ودخل عبد الملك دمشق. فلما كان بعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو يستدعيه، فأتاه الرسول وعنده عبد الله بن يزيد بن معاوية، فنهاه أن يأتيه، فقال عمرو: ولم؟ قال: لأنّ تبيع «1» ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل. فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما أنبهنى ابن الزرقاء ولا اجترأ علىّ، مع أنى رأيت البارحة عثمان فى المنام، فألبسنى قميصه. ثم قام فلبس درعا وغطّاها بالقباء «2» ، وتقلّد سيفا، وذلك بعد أن صرف رسول عبد الملك، فلما نهض عثر بالبساط، فقال له حميد ابن حريث: والله لو أطعتنى لم تأته، وقالت له امرأته الكلبية كذلك، فلم يلتفت، ومضى فى مائة من مواليه. فلما بلغ باب عبد الملك أذن له فدخل فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قاعة الدار، وليس معه إلا وصيف واحد، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان، وحسّان بن بحدل الكلبى، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعى، فلما رأى جماعتهم أحسّ

بالشر، فالتفت إلى وصيفه، وقال له: انطلق إلى أخى يحيى، وقل له يأتينى، فلم يفهم الوصيف عنه، فقال: لبيك! فقال عمرو: اغرب فى حرق الله وناره «1» ، وأذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فقاما، فلقيا عمرا، فقال عمرو لقبيصة: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتينى، فقال: لبيك! فقال: اغرب [عنى] «2» . فلما خرج حسّان وقبيصة أغلقت الأبواب، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: ههنا يا أبا أميّة! فأجلسه معه على السرير، وحدّثه طوبلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه. فقال عمرو: إنّا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معى متقلّدا سيفك؟ فأخذ السيف عنه، ثم تحدّثا، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، إنك حيث خلعتنى آليت بيمين إن أنا ملأت عينى منك وأنا مالك لك أن أجعلك فى جامعة «3» ، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبى أمية! فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين. فقال [عمرو] «4» : قد أبرّ الله قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها. فجمعه الغلام فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجنى فيها على رءوس الناس؛ فقال عبد الملك: أمكرا وأنت فى الحديد! لا، والله ما كنّا لنخرجك فى جامعة على رءوس الناس،

ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيّتيه، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين؛ كسر عظم سنى «1» ، فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال: والله لو أعلم أنك تبقى [علىّ] «2» ، إن أبقيت عليك لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قطّ فى بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه، وأذن المؤذّن، وأقيمت صلاة العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله، فقام إليه بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرّحم أن تلى قتلى، ليقتلنى من هو أبعد رحما منك؛ فألقى عبد العزيز السّيف، وجلس. وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب، ورأى الناس عبد الملك خرج وتأخّر عمرو، فذكروا ذلك لأخيه يحيى بن سعيد، فأقبل فى الناس ومعه ألف عبد لعمرو، وخلق كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أميّة! وأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد، فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربى صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلّى فرأى عمرا بالحياة «3» ، فسبّ أخاه عبد العزيز، ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرا، فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضده فرأى الدّرع، قال: ودارع أيضا! إن كنت لمعدّا، وأخذ الصمصامة «4»

وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه، وهو يقول «1» : يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حيث تقول الهامة اسقونى وانتفض عبد الملك برعدة «2» ، فحمل عن صدره، ووضع على سريره. ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان ومواليهم، فقاتلوهم، وجاء عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفى، فدفع إليه الرّأس فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان، فأخذ المال فى البدر، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا وتفرّقوا. ثم أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال. قال: وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد، وخرج، فجلس عليه، وفقد الوليد ابنه، فقال: والله، لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربى الكنانى، فقال: الوليد عندى وقد جرح، وليس عليه بأس. وأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد فأمر أن يقتل؛ فقام إليه عبد العزيز ابن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، أتراك قاتل بنى أمية فى يوم واحد، فأمر بيحيى فحبس، وأراد قتل عنبسه بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضا، وشفع فى عامر بن الأسود الكلبى، وأمر ببنى عمرو بن سعيد فحبسوا؛ ثم خرجوا مع عمّهم يحيى، فألحقهم بمصعب. ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية:

ابعثى إلىّ «1» الصّلح الذى كتبت لعمرو. فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أنّ ذلك الصّلح معه فى أكفانه ليخاصمك به عند ربّه. قال: ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير دخل أولاد عمرو عليه وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد؛ فلما نظر إليهم [عبد الملك] «2» قال: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذى كان بينى وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما فى أنفس أوّليكم «3» على أوّلينا فى الجاهلية. فلم يقدر أمية أن يتكلّم. وكان الأكبر من أولاد عمرو، فقام سعيد بن عمرو [وكان الأوسط] «4» فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعى «5» علينا أمرا فى الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا، وأما الذى كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم وما «6» صنعت. وقد وصل عمرو إلى الله، وكفى بالله حسيبا؛ ولعمرى لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها، فرقّ لهم عبد الملك وقال: إنّ أباكم خيّرنى بين أن يقتلنى أو أقتله، فاخترت قتله على قتلى، وأمّا أنتم فما أرغبنى فيكم وأوصلنى لقرابتكم، وأحسن جائزتهم ووصلهم وقرّبهم.

ذكر نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية

وقد قيل فى سبب قتله: إنه قال لعبد الملك حين سار إلى العراق لقتال مصعب: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك جعل لى الأمر بعده، وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لى بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من أمره ما تقدّم. وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلفه على دمشق، فوثب بها. وقيل: إنّ عبد الملك لم يقتل عمرو بن سعيد بيده، وإنما أمر غلامه ابن الزّعيزعة، فقتله وألقى رأسه إلى الناس ورمى يحيى بصخرة فى رأسه، وكان مقتله فى سنة [69 هـ] تسع وستين. وقيل: فى سنة سبعين. والله أعلم. ذكر نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية كان مولد سعيد بن العاص والدعمرو عام الهجرة. وقيل: سنة إحدى. وقتل جدّه العاص بن سعيد يوم بدر كافرا، قتله علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه، وكان لجدّ أبيه سعيد بن العاص ابن أميّة ثمانية بنين؛ منهم ثلاثة ماتوا على الكفر، وهم: أحيحة، وبه كان يكنى سعيد بن العاص، وقتل أحيحة يوم الفجار. والعاص، وعبيدة قتلا يوم بدر كافرين، قتل العاص علىّ، وقتل عبيدة الزّبير؛ وخمسة أدركوا الإسلام، وصحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهم: خالد، وعمرو، وسعيد؛ وأبان، والحكم بنو سعيد ابن العاص بن أمية، وغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسم «1» الحكم، فسمّاه عبد الله. وجّد هؤلاء العاص بن أمية ذو العصابة؛ قيل له ذلك،

لأنه كان من شرفه إذا اعتمّ بعمامة بمكّة لا يعتمّ «1» أحد بلونها إجلالا له، وكان يكنى بأبى أحيحة، وفى ذلك يقول الشاعر: أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا حسب وكان سعيد بن العاص والد عمرو من أشراف قريش ممن جمع له السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان رضى الله عنه، واستعمله عثمان على الكوفة، وغزا بالناس طبرستان «2» فافتتحها. ويقال: إنه افتتح أيضا جرجان فى سنة [29 هـ] تسع وعشرين أو سنة ثلاثين، وغزا أذربيجان «3» لما انتقضت فافتتحها، ثم عزله عثمان، واستعمل الوليد، فمكث مدة، ثم شكاه أهل الكوفة، فعزله، وردّ سعيدا، فردّه أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان: لا حاجة لنا فى سعيدك ولا وليدك، وكان فى سعيد تجبّر وغلظ وشدّة سلطان. ولما قتل عثمان بن عفّان كان سعيد والد عمرو ممن لزم بيته، واعتزل حرب الجمل وصفّين، فلما اجتمع الناس على معاوية ولّاه المدينة، ثم عزله وولّاها مروان بن الحكم، وكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولاية المدينة، وفيه يقول الفرزدق «4» :

ذكر عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم

ترى الغرّ «1» الجحاجح من قريش ... إذا ما المرء فى الحدثان غالا قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهمو يرون به هلالا وحكى الزبير بن بكّار قال «2» : لما عزل سعيد عن المدينة انصرف عن المسجد وحده، فتبعه رجل، فنظر إليه سعيد رضى الله عنه، وقال: ألك حاجة! قال: لا، ولكنى رأيتك وحدك، فوصلت جناحك. فقال له: وصلك الله يا ابن أخى، اطلب لى دواة وجلدا، وادع لى مولاى فلانا، فأتاه بذلك، فكتب له بعشرين ألف درهم، وقال: إذا جاءت غلّتنا دفعنا ذلك إليك، فمات فى تلك السنة، فأتى بالكتاب إلى ابنه عمرو، فأعطاه المال. وكان لسعيد بن العاص سبعة بنين، وهم: عمرو هذا: ومحمد، وعبد الله، ويحيى، وعثمان، وعنبسة، وأبان. وكانت وفاة سعيد فى سنة [59 هـ] تسع وخمسين. ولنرجع إلى أخبار عبد الملك: ذكر عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير «3» فى سنة [69 هـ] تسع وستين، فقال: لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج قائد من قوّاد

الضواحى فى جبل اللّكام «1» واتّبعه خلق كثير من الجراجمة «2» والأنباط، وأبّاق عبيد المسلمين، وغيرهم، وسار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمرو أرسل إلى هذا الخارج عليه، فبذل له فى جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك، ولم يفسد فى البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطّف حتى وصل إليه متنكّرا، وأظهر الميل إليه، ووعده أن يدلّه على عورات عبد الملك، وما هو خير له من الصلح، فوثق به؛ ثم أتاه سحيم فى جيش من موالى عبد الملك وبنى أمية وجند من ثقات جنده والخارج ومن معه على غير أهبة، فدهمهم «3» ، وأمر فنودى: من أتانا من العبيد [يعنى الذين كانوا معه] «4» فهو حرّ، وثبت فى الديوان؛ فالتحق به خلق كثير منهم، وقاتلوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى بالأمان فيمن بقى منهم فتفرّقوا، وعاد إلى عبد الملك ووفّى للعبيد. وفى سنة تسع اجتمعت الروم واستجاشوا «5» على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدّى إليه فى كل جمعة ألف دينار. وفيها كان يوم الجفرة وقد تقدم ذكره «6» فى أخبار ابن الزبير رضى الله عنه.

ذكر خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى

ذكر خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى وما كان بين قيس وتغلب من الحروب إلى أن قتل عمير ابن الحباب وما كان بعد ذلك. كان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين، وكان سبب ذلك أن عمير بن الحباب لما انقضى مرج راهط التحق بزفر بن الحارث الكلابى بقرقيسيا، ثم بايع مروان وفى نفسه ما فيها بسبب قتل قيس بالمرج «1» ، فلما سار عبيد الله بن زياد إلى الموصل كان معه، وقد ذكرنا اتفاقه مع إبراهيم بن الأشتر وانهزامه، حتى قتل عبيد الله [بن زياد] «2» ، وانهزمت جيوش الشّام، فلما كان ذلك أتى عمير ابن الحباب قرقيسيا، وصار مع زفر بن الحارث، فجعلا يطلبان كلبا واليمانيّة بمن قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما، ويدلّونهما، وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلّب عمير على نصيبين «3» ، ثم ملّ المقام بقرقيسيا، فاستأ من إلى عبد الملك، فأمّنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمرا حتى أسكرهم، وتسلّق فى سلّم من الحبال، وخرج من الحبس، وعاد إلى الجزيرة، ونزل على نهر البليخ «4» بين حرّان والرّقة، فاجتمعت إليه قيس، فكان يغير بهم «5» على كلب واليمانية، وكان من معه يسيئون «6» جوار تغلب، ويسخّرون

مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شرّا، إلّا أنه لم يبلغ الحرب. ثم إن عميرا أغار على كلب، ورجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة، وكانت بحيث نزل عمير- امرأة من تميم ناكح فى تغلب، يقال لها أم ذويل «1» ، فأخذ غلام من بنى الحريش أصحاب عمير عنزا من غنمها، فشكت ذلك إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقى، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل منهم رجل يقال له مجاشع التّغلبى، وجاء ذويل فشكت أمّه إليه، وكان من فرسان تغلب، فسار فى قومه وجعل يذكّرهم ما يصنع بهم قيس، فاجتمع منهم جماعة وأمّروا عليهم شعيث «2» ابن مليل التغلبى، فأغاروا على بنى الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيّون واستاقوا ذودا لامرأة منهم يقال لها أمّ الهيثم، فمانعهم القيسيّون، فلم يقدروا على منعهم، فكان بينهم أيام «3» مذكورة نحن نذكرها على سبيل الاختصار؛ منها: يوم ماكسين «4» : قال: ولما استحكم الشرّ بين قيس وتغلب؛ وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث بن مليل غزا عمير بنى تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالا شديدا، وهى أول وقعة كانت بينهم، فقتل من بنى تغلب خمسمائة وقتل شعيث، وكانت رجله قد قطعت، فجعل يقاتل حتى قتل، وهو يقول:

قد علمت قيس ونحن نعلم ... أنّ الفتى يقتل وهو أجذم ويوم الثّرثار الأول: والثّرثار «1» نهر أصل منبعه شرقى مدينة سنجار يفرغ فى دجلة. قال: لما قتل من تغلب بماكسين من قتل استمدّت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النّمر بن قاسط، وأتاها المجشّر «2» ابن الحارث الشيبانى. وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله ابن زياد بن ظبيان منجدا لهم، واستنجد عمير تميما وأسدا فلم ينجده منهم أحد، فالتقوا على الثّرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر «3» ، ويقال يزيد بن هوبر التغلبى، فاقتتلوا، فانهزمت قيس، وقتلت تغلب منها مقتلة عظيمة، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بنى سليم. ويوم الثّرثار الثانى: قال: ثم إنّ قيسا تجمّعت واستمدّت، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، فالتقوا بالثّرثار، واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزمت تغلب ومن معها. ويوم الفدين: قال: وأغار عمير على الفدين «4» ، وهى قرية على الخابور فقتل من بها من بنى تغلب.

ويوم السّكير: وهو على الخابور؛ يسمى سكير «1» العباس؛ قال: ثم اجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت تغلب والنّمر، وهرب عمير ابن جندل، وهو من فرسان تغلب؛ فقال عمير بن الحباب: وأفلتنا يوم السّكير ابن جندل ... على سابح عوج اللبان مثابر ونحن كررنا الخيل قبّا «2» شوازبا ... دقاق الهوادى داميات الدّوابر ويوم المعارك: والمعارك بين الحضر «3» والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقبس، واقتتلوا به، فاشتدّ قتالهم، فانهزمت تغلب، فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد هزموهم إلى الحضر، وقتلوا منهم بشرا كثيرا. وقيل: هما يومان، كانا لقيس على تغلب. والتقوا أيضا بلبىّ «4» فوق تكريت فتناصفوا، فقيس تقول: كان الفضل إلىّ «5» ، وتغلب تقول: كان لنا. ويوم الشّرعبيّة: ثم التقوا بالشرعبيّة فكان بينهم قتال شديد كان لتغلب على قيس، قتل يومئذ عمار بن المهزم «6» السلمى. والشّرعبيّة هذه من بلاد تغلب ليست الشرعبيّة التى ببلاد منبج.

ذكر يوم الحشاك

ويوم البليخ: والبليخ: نهر بين حرّان والرّقّة اجتمعت تغلب، وسارت إليه، وهناك عمير فى قيس، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت تغلب، وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثّرثار. [والله علم «1» ] . ذكر يوم الحشاك «2» ومقتل عمير بن الحباب السلمى وابن هوبر التغلبى قال: ولما رأت تغلب [إلحاح] «3» عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرها وباديها، وساروا إلى الحشّاك- وهو نهر قريب من الشرعبيّة، فأتاهم عمير فى قيس، ومعه زفر بن الحارث الكلابى، وابنه الهذيل بن زفر، وعلى تغلب ابن هوبر «4» ، فاقتتلوا عند تل الحشّاك أشدّ قتال حتى جنّ عليهم الليل، ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل، ثم تحاجزوا وأصبحت تغلب فى اليوم الثالث، فتعاقدوا ألا يفرّوا، فلما رأى عمير جدّهم وأنّ نساءهم معهم قال لقيس: يا قوم؛ أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنّوا وساروا وجّهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم. فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلى: قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس، ثم ملىء سحرك وجبنت. ويقال: إن الذى قال هذه المقالة عيينة بن أسماء بن خارجة الفزارى، وكان أتاه منجدا، فغضب عليه عمير ونزل وجعل يقاتل راجلا وهو يقول:

أنا عمير وأبو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك فاحبس وانهزم زفر بن الحارث فى اليوم الثالث، فلحق بقرقيسا، وذلك أنه بلغه أن عبد الملك عزم على الحركة إليه بقرقيسيا، فبادر إليها، وانهزمت قيس، وشدّ على عمير جميل بن قيس من بنى كعب بن زهير فقتله. ويقال: بل اجتمع على عمير غلمان من بنى تغلب فرموه «1» بالحجارة وقد أعيا حتى أثخنوه، وكرّ عليه ابن هوبر فقتله، وأصابت ابن هوبر جراحة، فلما انقضت الحرب أوصى بنى تغلب أن يولّوا أمرهم مرار «2» بن علقمة الزهيرى. وقيل: إنّ ابن هوبر جرح فى اليوم الثانى من أيامهم هذه، فأوصى أن يولّوا مرارا أمرهم، ومات من ليلته، وكان مرار رئيسهم فى اليوم الثالث، فعبأهم على راياتهم، وأمر كلّ بنى أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، وكان ما تقدّم. وكثر القتل يومئذ فى بنى سليم وغنىّ خاصة، وقتل من قيس أيضا بشر كثير، وبعث بنو تغلب رأس عمير إلى عبد الملك بن مروان؛ فأعطى الوفد، وكساهم. فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث اجتمع الناس عليه، فقال الأخطل «3» : بنى أمية قد ناضلت دونكمو ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا

ذكر الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى

وقيس عيلان حتّى أقبلوا «1» رقصا ... فبايعوا لك قسرا بعد ما قهروا ضجّوا من الحرب إذ عضّت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضّجر «2» وكان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين [كما تقدم] «3» . ذكر الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى قال: ولما قتل عمير أتى ابنه تميم زفر بن الحارث، فسأله الطلب بثأره، فامتنع فقال له ابنه الهذيل بن زفر: والله لئن ظفرت بهم تغلب إنّ ذلك لعار عليك، ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إنّ ذلك لأشدّ، فاستخلف زفر على قرقيسياء أخاه أوس بن الحارث ووجّه زفر خيلا إلى بنى فدوكس «4» ، وهم بطن من تغلب، فقتل رجالهم، واستبيحت الأموال [والنساء] «5» حتى لم يبق منهم غير امرأة واحدة استجارت، فأجارها يزيد بن حمران، ووجّه ابنه الهذيل فى جيش إلى بنى كعب بن زهير، فقتل فيهم قتلا ذريعا، وبعث أيضا مسلم بن ربيعة العقيلى إلى قوم من تغلب وقد اجتمعوا «6» بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحسّوا به ارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلما صاروا بالكحيل وهو من أرض الموصل فى جانب دجلة

ذكر خبر يوم البشر

الغربى، فلحقهم زفر بن الحارث [به] «1» فى القيسية: فاقتتلوا قتالا شديدا؛ وترجّل أصحاب زفر كلّهم، وبقى زفر على بغلة له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم، وغرق فى دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأتى «2» ، فلّهم لبّى فوجّه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلّا من عبر فنجا، وأسر منهم زفر مائتين فقتلهم صبرا، فقال فى ذلك زفر «3» : ألا يا عين بكّى بانسكاب ... وبكّى عاصما وابن الحباب فإن تك تغلب قتلت عميرا ... ورهطا من غنىّ فى الحراب فقد أفنى بنى جشم بن بكر ... ونمرهم «4» فوارس من كلاب قتلنا منهمو مائتين صبرا ... وما عدلوا عمير بن الحباب وأسر القطامىّ التغلبى فى يوم من أيامهم، وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حتى ردّ عليه ماله ووصله، فقال فيه «5» : إنى وإن كان قومى ليس بينهمو ... وبين قومك إلا ضربة الهادى مثن عليك بما أوليت من حسن ... وقد تعرّض منى مقتل بادى ذكر خبر يوم البشر «6» كان سبب هذا اليوم أن عبد الملك لما استقرّ له الأمر قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبى وعنده الجحّاف بن حكيم السلمى، فقال له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قال: نعم، هذا الذى أقول فيه «7» :

ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر وأنشد القصيدة حتى فرغ منها، وكان الجحّاف يأكل رطبا فجعل النّوى يتساقط من يده غيظا، ثم أجابه فقال: بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... وننعى عميرا بالرّماح الشّواجر ثم قال يا ابن النصرانية؛ ما كنت أظنّ أن تجترىء علىّ بمثل هذا. فأرعد من خوفه، ثم قام إلى عبد الملك فأمسك ذيله، وقال: هذا مقام العائذ بك. فقال: أنا لك، ثم قام الجحّاف فمشى وهو يجرّ ثوبه، ولا يعقل، فتلطّف لبعض كتّاب الديوان حتى اختلق له عهدا على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة، وقال لأصحابه: إنّ أمير المؤمنين ولأّنى هذه الصدقات، فمن أراد اللحاق بى فليفعل. ثم سار حتى أتى رصافة هشام، فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه، وأنه افتعل كتابا وأنه ليس له بوال، فمن كان يحبّ أن يغسل عنى العار وعن نفسه فليصحبنى، فإنى أقسمت ألّا أغسل رأسى حتى أوقع ببنى تغلب. فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا: نموت لموتك ونحيا لحياتك، فسار ليلته حتى أصبح بالرّحوب «1» ، وهو ماء لبنى جشم «2» بن بكر بن تغلب، فصادف عليه جماعة عظيمة منهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة، وظنّ الذى أسره أنه عبد، فسأله عن نفسه، فقال: عبد. فأطلقه فرمى بنفسه فى جب، مخافة أن يراه من يعرفه فيقتله،

وأسرف الجحاف فى القتل، وبقر البطون عن الأجنّة؛ وفعل أمرا عظيما، فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده «1» : لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل فطلب عبد الملك الجحّاف فهرب إلى الرّوم، فكان يتردّد فيها، ثم بعث إلى بطانة عبد الملك من قيس، فطلبوا له الأمان، فأمّنه عبد الملك، فلما جاء ألزمه ديات من قتل، وأخذ منه الكفلاء، فسعى فيها حتى جمعها وأعطاها، ثم تنسّك الجحّاف بعد، وصلح، ومضى حاجّا فتعلّق بأستار الكعبة، وجعل يقول: اللهم اغفرلى، وما أظنّك تفعل! فسمعه محمد ابن الحنفية، فقال: يا شيخ، قنوطك شرّ من ذنبك. وقيل: كان سبب عود الجحّاف أنّ ملك الروم أكرمه وقرّبه وعرض عليه النصرانية، ويعطيه ما شاء، فامتنع، وقال: ما أتيتك غبة عن الإسلام. ثم هزم الجحّاف صائفة المسلمين، فأخبروا عبد الملك أن الذى هزمهم الجحّاف، فأرسل إليه عبد الملك، فأمّنه، فسار فى بلاد الروم، وقصد البشر وبه حىّ من تغلب وقد لبس أكفانه، وقال: قد جئت إليكم أعطى القود من نفسى، فأراد شبابهم قتله، فنهاهم شيوخهم، وعفوا عنه، فحج، فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول: اللهم اغفرلى وما أظنك تفعل! فقال ابن عمر رضى الله عنهما: لو كنت الجحاف مازدت على هذا. قال: فأنا الجحّاف.

ذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق

ذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق وقتل مصعب بن الزبير واستيلاء عبد الملك على العراق [وفى جمادى الآخرة سنة [71 هـ] إحدى وسبعين كان مقتل مصعب بن الزبير بن العوام واستيلاء عبد الملك على العراق] «1» ؛ وسبب ذلك أنّ عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد كما تقدم وضع السيف على من خالفه، فصفا له الشام، فلما لم يبق له بالشام مخالف أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه فى ذلك، فأشار عليه عمّه يحيى بن الحكم أن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، فكان عبد الملك يقول: من أراد صواب الرأى فليخالف يحيى. وأشار بعضهم أن يؤخّر السّير هذا العام، وأشار محمد بن مروان أن يقيم ويبعث بعض أهله، ويمدّه بالجنود. فأبى إلّا المسير. فلما عزم على المسير ودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية. فبكت فبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثيّر عزّة، لكأنّه يشاهدنا حين يقول «2» : إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها نهته فلمّا لم تر النّهى عاقه ... بكت فبكى مما عناها قطينها «3» وسار عبد الملك نحو العراق، فلما بلغ مصعب بن الزبير مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلّب بن أبى صفرة وهو يقاتل الخوارج

يستشيره. وقيل: بل أحضره إليه، فقال لمصعب: اعلم أنّ أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدنى [عنك] «1» . فقال له مصعب: إنّ أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتّى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذ سار عبد الملك [إلىّ] «2» ألّا أسير إليه، فاكفنى هذا الثغر «3» . فعاد إليهم، وسار مصعب إلى الكوفة ومعه الأحنف فتوفّى الأحنف بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدّمته، وسار حتى نزل باجميرا «4» قريب أوانا فعسكر هناك، وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن «5» على فرسخين أو ثلاثة من عسكر مصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، فجميعهم طلب أصفهان طعمة، وأخفوا جميعهم كتبهم عن مصعب إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوما إلى مصعب، فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال له مصعب: أتدرى ما فيه؟ قال: لا. قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما «6» يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلّد الغدر والخيانة، والله

ما [عند] «1» عبد الملك من أحد من الناس بايأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذى كتب إلىّ، فأطعنى واضرب أعناقهم. فقال: إذا لا تناصحنى عشائرهم. قال: فأوقرهم حديدا، وابعث بهم إلى أبيض كسرى، واحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم. فقال: إنى لفى شغل عن ذلك. ولما قرب العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: دع الدّعاء لأخيك، وأدع الدعاء إلى نفسى، ونجعل الأمر شورى. فأبى مصعب إلّا السيف. فقدّم عبد الملك أخاه محمدا. وقدّم المصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا، فتناوش الفريقان، فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمدّ إبراهيم، فأزال محمد بن مروان عن موقفه، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتدّ القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلى والدقتيبة، وهو فى أصحاب مصعب، وأمدّ مصعب إبراهيم بعتّاب بن ورقاء؛ فساء ذلك إبراهيم، واسترجع، وقال: قد قلت له: لا يمدّنى بعتّاب وضربائه. وكان عتّاب قد كاتب عبد الملك وبايعه، فانهزم عتّاب بالناس وصبر ابن الأشتر، وقاتل حتى قتل، قتله عبيد بن ميسرة مولى بنى عذرة «2» ، وحمل رأسه إلى عبد الملك. وتقدّم أهل الشام فقاتلهم مصعب، وقال لقطن بن عبد الله الحارثى: قدّم خيلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج فى غير

شىء. فقال لحجّار «1» بن أبجر: أبا أسيد: قدّم خيلك. فقال: إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما نتأخر إليه أنتن. وقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد: قدم خيلك. فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم، ولا إبراهيم لى اليوم! ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة فاستدناه، فقال له: أخبرنى عن الحسين بن على كيف صنع بامتناعه عن النّزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فأخبره، فقال «2» : إن الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا ثم دنا محمد بن مروان من مصعب، وناداه: أنا ابن عمك محمد ابن مروان، فاقبل أمان أمير المؤمنين. قال: أمير المؤمنين بمكة، يعنى أخاه عبد الله. قال: فإنّ القوم خاذلوك، فأبى ما عرض عليه. فنادى محمد عيسى بن مصعب إليه، فقال له مصعب: انظر ما يريد، فدنا منه، فقال له: إنى لك ولأبيك ناصح، ولكما الأمان. فرجع إلى أبيه فأخبره. فقال: إنى أظنّ القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم، فافعل. قال: لا تتحدّث نساء قريش أنّى خذلتك، ورغبت بنفسى عنك. قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فأخبره بما «3» صنع أهل العراق ودعنى فإنّى مقتول. فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة،

أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدث قريش أنى فررت. وقال لابنه عيسى: تقدّم إذا أحتسبك. فتقدّم ومعه ناس، فقتل، وقتلوا، وجاء رجل من أهل الشام ليحتزّ رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله، وشدّ على الناس فانفرجوا له، وعاد، ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان، وقال: إنه يعزّ علىّ أن تقتل، فاقبل أمانى. ولك حكمك فى المال والعمل، فأبى، فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل «1» : ومدجّج كره الكماة نزاله ... لاممعن هربا ولا مستسلم «2» ودخل مصعب سرادقه فتحنّط ورمى السرادق، وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال: يا كلب، اغرب، مثلى يبارز مثلك! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فذهب «3» يعصب رأسه، وترك الناس مصعبا وخذلوه حتى بقى فى سبعة أنفس، وأثخن بالرمى، وكثرت فيه الجراحات، فعاد إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب، فلم يصنع شيئا لضعفه، وضربه ابن ظبيان فقتله. وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفى فحمل عليه، فطعنه فقال: يالثارات المختار! فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك، فألقاه بين يديه وأنشد «4» : نعاطى «5» الملوك الحقّ ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم

فلما رأى عبد الملك الرأس سجد، فقال ابن ظبيان: لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكى العرب، وأرحت الناس منهما، وفى ذلك يقول «1» : هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه فأوردتها فى النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه وقال عبد الملك: لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس. وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك، وإنما قتلته بأخى النابى بن زياد، ولم يأخذ منها شيئا. وكان النابى قد قطع الطريق فقتله مطرّف الباهلى صاحب شرطة مصعب. وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا، وقال: كانت الحرمة بيننا [وبينه] «2» قديمة، ولكن [هذا] «3» الملك عقيم. قال: ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة، فأقام بالنّخيلة» أربعين يوما، وخطب الناس بالكوفة، فوعد المحسن وتوعّد المسىء، وقال: إن الجامعة التى وضعت فى عنق عمرو بن سعيد عندى، وو الله لا أضعها فى عنق رجل فأنتزعها إلّا صعدا لا أفكّها عنه فكّا، فلا يبقينّ امرؤ إلّا على نفسه، ولا يوبقنى دمه. والسلام.

قال عبد الملك بن عمير: كنت مع عبد الملك بقصر الكوفة حين جىء برأس مصعب فوضعت بين يديه، فرآنى قد ارتعدت، فقال لى: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين! كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين رضى الله عنه بين يديه، ثم كنت فيه مع المختار بن أبى عبيد فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت مع مصعب فيه فرأيت رأس المختار بين يديه، ثم رأيت رأس مصعب فيه بين يديك. فقام عبد الملك من مقامه ذلك، وأمر بهدم ذلك الطاق الذى كنّا فيه، وقال عبد الملك ابن مروان: متى تخلف قريش مثل المصعب! ثم قال: هذا سيّد شباب قريش. فقيل له: أكان يشرب الطّلا «1» ؟ فقال: لو علم المصعب أنّ الماء يفسد مروءته ما شربه حتى يموت عطشا. قال: وبعث عبد الملك برأس مصعب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله، أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا، وأشدهم بأسا، وأسخاهم نفسا. ثم سيّره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به فى نواحى الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، فغسلته وطيبته ودفنته، وقالت: أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به المدن! هذا بغى. وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة. ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟

قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أمعه المهلّب؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج. قال: أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان. وأنشد «1» : خذينى فجرّينى جعار وأبشرى ... بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره قال: ولما قتل مصعب كان المهلّب يحارب الأزارقة بسولاف «2» ثمانية أشهر، فبلغ الأزارقة قتله قبل أن يبلغ المهلّب، فصاحوا بأصحاب المهلّب: ما قولكم فى مصعب؟ قالوا: أمير «3» هدى؛ وهو وليّنا فى الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك بن مروان! قالوا: ذلك ابن اللّعين، نحن نبرأ إلى الله منه، وهو [عندنا] «4» أحل دما منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعبا، وسيجعلون غدا عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلّب وأصحابه قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله، ما تقولون فى مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذّبوا أنفسهم. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بدّا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداء الله؛ أنتم بالأمس تتبرّءون منه فى الدنيا والآخرة، وهو اليوم إمامكم، وقد قتل أميركم «5»

ذكر خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصلح بينهما

الذى كنتم تتولّونه «1» ، فأيّهما المهتدى؟ وأيّهما المبطل؟ قالوا: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان يتولّى أمرنا ونرضى بهذا. قالوا: لا، والله، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. قال: ولم يف عبد الملك لأحد بأصبهان، واستعمل قطن بن عبد الله الحارثى على الكوفة، ثم عزله، واستعمل أخاه بشر بن مروان. واستعمل محمد بن عمير «2» على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رؤيم على الرىّ، واستعمل خالد بن عبد الله بن [خالد بن] «3» أسيد على البصرة، وعاد إلى الشام. ذكر خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصّلح بينهما قد ذكرنا أن زفر بن الحارث لما فر من مرج راهط إلى قرقيسياء، واستولى عليها، وتحصّن بها، واجتمعت قيس عليه، وكان فى بيعة عبد الله بن الزبير وفى طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولى عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبى معيط، وهو على حمص، يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه، وعلى مقدّمته عبد الله بن زميت الطائى، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان فقتل من أصحابه ثلاثمائة، فلامه أبان على عجلته، وأقبل أبان فواقع زفر فقتل ابنه وكيع ابن زفر. فلما سار عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بدأ بقرقيسياء، فحضر زفر فيها، ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادى فى

عسكر عبد الملك: لم نصبتم المجانيق علينا؟ فقالوا: لنثلم ثلمة نقاتلكم «1» عليها. فقال زفر: قولوا لهم: فإنا لانقاتلكم من وراء الحيطان، ولكنا نخرج إليكم. وقاتلهم زفر. وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجدّا فى قتال زفر، فقال رجل من أصحابه من بنى كلاب: لأقولن لخالد كلاما لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة فقال له الكلابى: ماذا ابتغاء خالد وهمّه ... إذ سلب الملك و ... أمه فاستحيا وعاد، ولم يعد لقتالهم. وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسيّة الذين معك، فلا تخلطهم معنا. ففعل. فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غدا مضرى، ورموا النّبل إلى زفر. فلما أصبح دعا ابنه الهذيل فقال: اخرج إليهم، فشدّ عليهم، ولا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، وأقسم لئن رجع دون أن يفعل ذلك ليقتلنّه. فجمع الهذيل خيله، وحمل، فصبروا قليلا ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط، وقطعوا بعضها، ثم رجعوا. فقبّل زفر رأس ابنه الهذيل. فقال: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. قال: وكان رجل من كلب يقال له الذيّال يخرج فيسبّ زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفينى هذا؟ قال: أنا آتيك به، فدخل عسكر عبد الملك ليلا، فجعل ينادى

من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل. فقال الرجل: ردّ الله عليك ضالّتك. فقال: يا عبد الله، إنى قد أعييت، فلو أذنت لى فاسترحت قليلا. قال: ادخل، فدخل، والرجل وحده فى خبائه، فرمى بنفسه، ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه، وقال: والله، لئن تكلمت لاقتلنّك، قتلت أو سلمت، فماذا ينفعك قتلى إذا قتلت أنت؛ ولئن سكت وجئت معى إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردّك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليك، فخرجا وهو ينادى: من دلّ على بغل من صفته كذا وكذا حتى أتى زفر. والرجل معه، فأعلمه أنّه قد أمّنه، فوهبه «1» زفر دنانير وحمله على رحال النساء وألبسه ثيابهنّ، وبعث معه رجالا حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك، وانصرفوا! فلما رآه أهل العسكر عرفوه، وأخبروا عبد الملك الخبر فضحك، وقال: لا يبعد الله رجال مضر، والله إنّ قتلهم لذلّ، وإن تركهم لحسرة. وكفّ الرجل فلم يعد يسبّ زفر. وقيل: إنه هرب من العسكر، ثم أمر عبد الملك أخاه محمدا أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وأن يعطيا ما أحبّا. ففعل ذلك، فأجابا على أنّ لزفر الخيار فى بيعته سنة، وأن يترك حيث شاء، وألا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينما الرسل تختلف بينهم إذ جاء رجل من كلب، فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فقال عبد الملك: لا أصالحهم،

وزحف إليهم، فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم، فقال: أعطوهم ما أرادوا. قال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن، واستقرّ الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والأموال، وألّا يبايع عبد الملك حتى يموت ابن الزّبير للبيعة التى له فى عنقه، وأن يعطى مالا يقسّمه فى أصحابه، وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبى صلّى الله عليه وسلّم أمانا له، فنزل إليه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فلما رأى عبد الملك قلّة من مع زفر قال: لو علمت بأنه فى هذه القلّة لحاصرته أبدا حتى نزل على حكمى، فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. قال: بل نفى لك يا أبا الهذيل. وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب، وقال: أنت لا عهد عليك، فسار معه، فلما قارب مصعبا هرب إليه، وقاتل مع ابن الأشتر. فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل فى الكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فأمّنه. قال: وتزوّج مسلمة بن عبد الملك الرّباب بنت زفر فكان يؤذن لإخوتها: الهذيل والكوثر فى أول الناس. وفى هذه السنة، أعنى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين، افتتح عبد الملك قيساريّة «1» فى قول الواقدى رحمه الله.

ذكر مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان

ذكر مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان ولما قتل مصعب كان عبد الله بن خازم يقاتل بحير «1» بن ورقاء لصّريمى التميمى بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سورة «2» ابن أشيم النميرى، فقال له ابن خازم: لولا أن أضرّب بين بنى سليم وبنى عامر لقتلتك، ولكن كل كتابه، فأكله. وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميرى. وقيل: مع «3» مكمل الغنوى. فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذّبّان لأنك من غنىّ، وقد علم أنى لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كل كتابه وكتب عبد الملك إلى بكير «4» بن وسّاج، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه، فخلع بكير عبد الله ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيرا وأقبل إلى مرو، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله، فقتل ابن خازم. وكان الذى قتله وكيع بن عمرو «5» القريعى، اعتوره وكيع وبحير بن ورقاء وعمّار بن عبد العزيز،

ذكر مقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه وشىء من أخباره

فطعنوه، فصرعوه؛ وقعد وكيع على صدره فقتله، وبعث «1» بشيرا بقتله إلى عبد الملك، ولم يبعث برأسه. وأقبل بكير فى أهل مرو، فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير [فضربه بعمود وحبسه «2» ] ، وسيّر الرأس إلى عبد الملك، وذلك فى سنة اثنتين وسبعين. وقيل: بل كان مقتله بعد قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزّبير، ودعاه إلى نفسه فغسله وكفّنه، وبعثه إلى أهله بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله، وحلف ألا يطيع عبد الملك أبدا. [والله أعلم «3» ] . ذكر مقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه وشىء من أخباره قال: لما قتل مصعب بن الزبير تقدم الحجاج بن يوسف الثقفى إلى عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت فى المنام أنى أخذت ابن الزبير وسلخته، فابعثنى إليه، وولّنى حربه، فبعثه فى ألفين، وقيل فى ثلاثة آلاف، فسار فى جمادى الأولى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة [فى الحل] «4»

بعد الطائف، ويبعث ابن الزبير الخيل فيقتلون فتنهزم خيل ابن الزبير، وتعود خيل الحجاج بالظّفر. ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه فى دخول الحرم وحصر «1» ابن الزبير، ويخبره بضعفه وتفرّق أصحابه، ويستمدّه، فأمدّه بطارق بن عمرو مولى عثمان، وكان عبد الملك قد بعثه فى جيش إلى وادى القرى ليمنع عمّال ابن الزّبير من الانتشار، فقدم المدينة فى ذى القعدة «2» سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير منها، وجعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه ثعلبة، وقدم طارق «3» مكة فى ذى الحجة منها فى خمسة آلاف، وتقدم الحجّاج إلى مكة، فنزل عند بئر ميمون «4» ، وحجّ بالناس فى تلك السنة. إلّا أنه لم يطف بالبيت، ولا سعى بين الصّفا والمروة؛ منعه عبد الله ابن الزبير من ذلك؛ ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه فى تلك السنة. ونصب الحجاج المنجنيق على أبى قبيس «5» ، ورمى به الكعبة، فقال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما للحجاج، اتّق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس، فإنك فى شهر حرام فى بلد حرام؛ وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدّوا فريضة الله، وقد منعهم المنجنيق عن الطّواف. فكفّ حتى انقضى الحج، ثم نادى فى الناس: انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.

قال: وأول ما رمى الكعبة بالمنجنيق رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرّعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق «1» ووضعه بيده ورمى به، فجاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يأهل الشام، لا تنكروا هذا، فإنى ابن تهامة، وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر، فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون كما تصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلافها، وكان الحجر يقع بين يدى عبد الله ابن الزّبير وهو يصلّى، فلا ينصرف عن مكانه. وغلت الأسعار عند ابن الزبير حتى ذبح فرسه، وقسّم لحمه فى أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمدّ الذرة بعشرين درهما، وكانت بيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، فكان لا ينفق منه إلّا ما يمسك الرّمق ويقول: نفوس أصحابى قويّة ما لم تفن. فلما كان قبيل مقتله تفرّق الناس عنه، وخرجوا إلى الحجّاج بالأمان، فخرج من عنده نحو عشرة آلاف. وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، أخذا لأنفسهما أمانا، فقال عبد الله لابنه الزّبير: خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك، فو الله إنى لأحبّ بقاءكم. فقال: ما كنت لأرغب بنفسى عنك، فقتل معه.

قال: ولما كان فى الليلة التى قتل فيها عبد الله فى صبيحتها جمع قريشا فقام لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بنى مخزوم: والله، إنّا قاتلنا معك حتى ما نجد مقتلا، والله لئن سرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هى إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال له رجل: اكتب إلى عبد الملك. فقال: كيف أكتب من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين. من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء على الغبراء أهون علىّ من ذلك. فقال له عروة وهو جالس معه على السرير: قد جعل الله لك أسوة فى الحسن بن على رضى الله عنهما، خلع نفسه وبايع معاوية، فركضه برجله ورماه عن السرير، وقال: قلبى إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلّا قليلا وإن أضرب بسيف فى عزّ خير من أن ألطم فى ذلّ. فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم «1» فقال: اصنعى لى طعاما. فلما صنعته وأتت به لاك منه لقمة ثم لفظها، وقال: اسقونى لبنا فسقوه، ثم اغتسل وتطيّب وتحنّط، ودخل على أمه، فقال: يا أماه، قد خذلنى الناس حتى ولدى وأهلى ولم يبق معى إلّا اليسير، والقوم يعطوننى ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ قالت له: أنت أعلم بنفسك، إن كنت [تعلم أنك] «2» على حق وأنت تدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن «3»

من نفسك يتلعّب بك غلمان بنى أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حقّ فلما وهن أصحابى ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن! فقال: يا أماه، أخاف إن قتلنى أهل الشام أن يمثّلوا بى ويصلبونى. فقالت: يا بنى، إن الشاة لا تألم السلخ بعد الذّبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله. فقبّل رأسها وقال: هذا رأيى، والذى خرجت به داعيا «1» إلى يومى هذا. ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعانى إلى الخروج إلّا الغضب لله، وأن تستحلّ حرماته؛ ولكنى أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتنى بصيرة، فانظرى فإنى مقتول فى يومى هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر! ولا عملا بفاحشة، ولم يجر فى حكم الله، ولم يغدر فى أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغنى ظلم عن عمّالى، فرضيت به؛ بل أنكرته، ولم يكن ىء آثر عندى من رضاء ربى. اللهم إنى لا أقول هذا تزكية لنفسى، ولكن أقوله تعزية لأمى حتى تسلو عنى. فقالت: إنى لأرجو أن يكون عزابى فيك جميلا، إن تقدّمتنى احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. اخرج [عنى. «2» ] حتى أنظر إلى ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرا؛ فلا تدعى الدعاء لى. قالت: لا أدعه لك أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حقّ.

ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل، وذلك النّحيب والظمأ فى هواجر مكّة والمدينة، وبرّه بأبيه وبى. اللهم قد سلّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبنى فيه ثواب الصابرين الشاكرين. فتناول يدها ليقبّلها، فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودّعا، لأنى أرى هذا آخر أيامى من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك، وادن منى حتى أودّعك، فدنا منها فعانقها، وقبّل بين عينيها، فوقعت يدها على الدّرع، فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبسته إلّا لأشدّ متنك. قالت: فإنه لا يشدّ متنى، فنزعها، ثم درج «1» كميه، وشدّ أسفل قميصه وجبّة خزّ تحت السراويل، وأدخل أسفلها تحت المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة. فخرج من عندها وحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، فقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. فقال: بئس الشيخ أنا إذا فى الإسلام أن أوقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون: يابن ذات النّطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك لومها «2» .

وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجالا «1» ، فكان لأهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بنى شيبة، ولأهل الأردن باب الصّفا، ولأهل فلسطين باب بنى جمح، ولأهل قنّسرين باب بنى سهم. وكان الحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هذه الناحية مرة وفى هذه أخرى، وكأنّه أسد فى أجمة ما تقدم عليه الرجال وهو يعدو فى إثر القوم حتى يحرجهم، ثم يصيح [يا] «2» أبا صفوان، ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال. لو «3» كان قرنى واحدا كفيته فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: أى والله وألف. فقال رجل من أهل الشام اسمه جلبوب «4» : إنما يمكنكم أخذه إذا ولّى. قيل: فخذه أنت إذا ولّى. قال: نعم، وتقدّم ليحضنه من خلفه، فعطف عليه فقط ذراعيه فصاح، فقال: اصبر جلبوب. قال: فلما رأى الحجاج أنّ الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجّل يسوق الناس ويصدم «5» بهم، فصدم صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه، فتقدّم ابن الزّبير على صاحب علمه وقاتلهم حتى انكشفوا، ورجع فصلّى ركعتين عند المقام، فحملوا

على صاحب علمه، فقتلوه عند باب بنى شيبة، وأخذوا العلم. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم، وقتل رجلا من أهل الشام وآخر، وقاتل معه عبد الله بن مطيع، وهو يقول: أنا الذى فررت يوم الحرّه ... والحرّ لا يفرّ إلّا مرّه واليوم أجزى فرّة بكرّه وقاتل حتى قتل، ويقال: أصابته جراحة فمات منها بعد أيام. قال: وقال عبد الله بن الزّبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم وعليكم المغافر، ففعلوا، فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا فى الله فلا يرعكم وقع السيوف، فإنّ ألم الدواء للجراح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرىء قرنه، ولا تسألوا عنى، فمن كان سائلا عنى فإنى فى الزّعيل الأوّل، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون «1» فرمى بآجرة، رماه بها رجل من السّكون، فأصابت وجهه فأرعش لها وسال الدّم على وجهه، فقال رضى الله عنه وأرضاه «2» : فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما وقاتلهم قتالا شديدا، فتعاونوا «3» عليه، فقتلوه، قتله رجل

من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فسجد ووفد السّكونى والمرادى إلى عبد الملك بالخبر؛ فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار. وقيل فى قتله: إنه جاءه حجر المنجنيق وهو يقاتل فصرعه فاقتحم عليه أهل الشام، وذهبوا به إلى الحجّاج فحزّ رأسه بيده. وكان مقتله- رضى الله عنه- فى يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين وقيل فى جمادى الآخرة منها، وله ثلاث وسبعون سنة. ولما قتل رضى الله عنه كبّر أهل الشام فرحا بقتله؛ فقال عبد الله ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء. انظروا إلى هؤلاء. لقد كبّر المسلمون فرحا بولادته، وهؤلاء يكبّرون فرحا بقتله. وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة ابن عمرو بن حزم إلى المدينة، ثم إلى عبد الملك وصلب جثّته [منكّسة] «1» على الثنيّة اليمنى بالحجون، فأرسلت إليه أسماء تقول: قاتلك الله! على ماذا صلبته؟ قال: استبقت أنا وهو إلى هذه الخشبة، فكانت له. فاستأذنته فى تكفينه ودفنه. فأبى. وكتب إلى عبد الملك يخبره بصلبه، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خلّيت بينه وبين أمّه. فأذن لها الحجاج فدفنته بالجحون. وكان قبل مقتله بقى أياما يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن

إن هو صلب، فلما صلب ظهر منه ريح المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلبا ميتا. وقيل، سنّورا، فغلب على ريح المسك. ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة بن الزبير ناقة لم ير مثلها وسار إلى عبد الملك فسبق رسل الحجاج، فاستأذن على عبد الملك فأذن له، فلما دخل عليه سلّم عليه بالخلافة، فرحّب به وأجلسه معه على السرير، فقال عروة: نمتّ «1» بأرحام إليك قريبة ... ولا خير فى الأرحام ما لم تقرب وتحدّث «2» حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان. فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل؛ فخرّ ساجدا. فقال عروة: إن الحجاج صلبه. فهب جثّته لأمه. قال: نعم. وكتب إلى الحجاج فعظّم «3» صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك: إنّ عروة كان مع أخيه. فلما قتل عبد الله أخذ مالا من مال الله وهرب. فكتب إليه عبد الملك يقول: إنه لم يهرب، ولكنه أتانى مبايعا، وقد أمّنته وحللته مما كان منه، وهو قادم عليك، فإياك وعروة. فعاد عروة إلى مكة فكانت غيبته عنها ثلاثين يوما. فأنزل الحجاج جثّة عبد الله عن الخشبة وبعث بها إلى أمّه فغسلته. فلما أصابه الماء تقطّع فغسلته عضوا عضوا. وصلّى عليه عروة وقيل غيره.

ذكر نبذة من سيرته [رضى الله عنه] وأخباره

وقيل: لم يصلّ عليه أحد؛ منع الحجاج من الصلاة عليه. وكانت أيام ولايته منذ مات معاوية بن يزيد إلى أن قتل سبع سنين وأيّاما. وكان له من الأولاد: عبد الله، وحمزة، وخبيب، وثابت، وعبّاد، وقيس، وعامر، وموسى. وكاتبه زيد بن عمرو. وحاجبه سالم مولاه [والله الموفق بمنه وكرمه] «1» . ذكر نبذة من سيرته [رضى الله عنه] «2» وأخباره كان كثير العبادة إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنّه حائطا لسكونه وطول سجوده. وقال بعض السلف: قسّم عبد الله الدّهر على ثلاث حالات فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح. وقيل: أول ما علم من همّته أنه كان يلعب ذات يوم مع الصّبيان وهو صبى، فمرّ رجل فصاح عليهم ففرّوا، ومشى عبد الله القهقرى، وقال للصبيان: اجعلونى أميركم، وشدّوا بنا عليه. ومرّ به عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو يلعب مع الصبيان ففرّوا ووقف هو، فقال له عمر: ما منعك أن لا تفرّ معهم «3» ؟ فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسّع لك.

وقال: هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمّى عبد الله ابن الزبير وهو صغير السيف «1» ، فكان لا يضعه من فيه «2» . فكان الزبير رضى الله عنه يقول: والله ليكوننّ لك منه يوم وأيام. وقال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما كان شىء يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلّا قوله: فتى ثقيف يقتلنى وهذا رأسه بين يدى- يعنى المختار. قال: لم يشعر ابن الزبير أنّ الحجاج قد خبّىء له. ومر [به «3» ] عبد الله بن عمر رضى الله عنهم وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله إن كنت لصوّاما قوّاما، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها. وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه فى مقابر اليهود، وأرسل إلى أمّه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها لتأتينى أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته فجاء إليها. فقال: كيف رأيتنى صنعت بعدوّ الله «4» ؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابنى دنياه، وأفسد عليك آخرتك؛ وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا أنّ فى ثقيف كذّابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه [تعنى المختار «5» ] ، وأما المبير فأنت «6» .

ذكر مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان

وقال قطن بن عبد الله: كان الزّبير يفطر من الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره. وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلّفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبّق البيت، فجعل ابن الزبير رضى الله عنه يطوف سباحة. [وماتت أسماء رضى الله عنها بعده بقليل «1» ] . انتهت أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنه، فلنذكر غير ذلك من أخبار أيام عبد الملك ونبدأ بتتمّة أخبار الحجاج وما فعل بمكة والمدينة [والله أعلم «2» ] . ذكر مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان وما فعله الحجاج من هدم الكعبة وبنائها ومسيره إلى المدينة وما فعله فيها بالصحابة رضى الله عنهم قال: ولما فرغ الحجاج من أمر عبد الله بن الزبير دخل مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك بن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وهدم الكعبة فى المحرم سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها، وكان عبد الملك [يقول «3» ] : كذب ابن الزبير فيما رواه عن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أمر الحجر، وأنه من البيت. فلما «4» قال له

غير ابن الزبير: إنّ عائشة رضى الله عنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: وددت أنى تركته وما تحمّل. والكعبة فى وقتنا هذا على بنائها الذى أعاده الحجاج بن يوسف. قال: ثم سار الحجاج إلى المدينة فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وكان عبد الملك قد عزل طارقا «1» عنها، واستعمل عليها الحجاج، فصار معه مكة والمدينة واليمن واليمامة، فلما قدم المدينة أقام بها شهرا أو شهرين، فأساء إلى أهلها، واستخف بهم، وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدى جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم، كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة معتمرا، وقال حين خرج من المدينة: الحمد لله الذى أخرجنى من أمّ نتن، أهلها أخبث أهل بلد، وأغشّه لأمير المؤمنين، وأحسدهم له على نعمة الله، والله لولا ما كانت تأتينى كتب أمير المؤمنين فيها لجعلتها مثل جوف الحمار، أعواد يعوذون بها، ورمّة قد بليت، يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبلغ جابر بن عبد الله قوله، فقال: إن وراءه ما يسوءه. قد قال فرعون ما قال، فأخذه الله بعد أن أنظره. وأقام الحجاج بالحجاز إلى أن نقله عبد الملك إلى ولاية العراق. وذلك فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقل بالأمر

ذكر أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر قد ذكرنا أنه لما قتل مصعب بن الزبير كان المهلّب بن أبى صفرة يقاتل الخوارج منذ ثمانية أشهر، وذكرنا مقالتهم لأصحابه حين بلغهم قتل مصعب، وتبعه عبد الملك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين استعمل عبد الملك خالد بن عبد الله بن أسيد «1» على البصرة، فلما قدمها استعمل المهلّب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتال الخوارج، وسيّر معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزارقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى درابجرد «2» وأرسل قطرىّ بن الفجاءة المازنى أمير الحج سبعمائة فارس مع صالح ابن مخراق «3» ، فأقبل بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير ليلا على غير تعبئة، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع، فقاتل حتى قتل. ولما انهزم عبد العزيز أخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها «4» كان من رءوس الخوارج، فقال: تنحّوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلّا قد فتنتكم، فضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر،

فقالوا: والله ما ندرى أنحمدك أم نذمّك؟ فكان يقول: ما فعلته إلّا غيرة وحميّة. وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل «1» إلى أخيه خالد بن عبد الله بخبر هزيمته، فقال للرسول: كذبت. فقال: إن كنت كاذبا فاضرب عنقى، وإن كنت صادقا فأعطنى جبّتك ومطرفك. قال: ويحك! قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير، ثم حبسه وأحسن إليه لما صحّ عنده خبر الهزيمة. وفى هذه الهزيمة وفرار عبد العزيز يقول ابن قيس الرقيّات «2» : عبد العزيز فضحت «3» جيشك كلّهم ... وتركتهم صرعى بكلّ سبيل من بين ذى عطش يجود بنفسه ... وملحّب «4» بين الرجال قتيل هلّا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهمو ... فارجع بعار فى الحياة طويل ونسيت عرسك إذ تقاد سبيّة ... تبكى العيون برنّة وعويل

قال: وكتب خالد إلى عبد الملك بالخبر، فكتب إليه يقول: قبّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب يجبى الخراج، وهو الميمون النّقيبة، المقاسى للحرب، ابنها وابن أبنائها. أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة أن يمدّك بجيش، فسر معهم، ولا تعمل فى عدوّك برأى حتى يحضره المهلّب. والسلام. وكتب عبد الملك إلى أخيه بشر، وهو أمير الكوفة، يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الرّىّ، فقاتلوا عدوّهم، وكانوا مسلحة، فبعث بشر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فى خمسة آلاف، وكتب عهده على الرّىّ، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز؛ وقدمها عبد الرحمن فى أهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز؛ فعبّأ خالد أصحابه، وجعل المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم من بنى قيس بن ثعلبة على ميسرته، ثم زحف خالد إليهم بالناس بعد عشرين ليلة، فرأوا من كثرة الناس ما هالهم، فانصرفوا على حامية «1» ، ولم يقاتلوا؛ فأرسل خالد داود بن قحذم فى آثارهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الرّىّ، وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف خالد إلى البصرة، وكتب إلى عبد الملك بذلك، فكتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير

ذكر مقتل أبى فديك الخارجى

بالحرب إلى فارس فى طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود ابن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتّاب بن ورقاء فى أربعة آلاف، فساروا حتى لحقوا داود، فاجتمعوا، ثم اتّبعوا الخوارج حتى هلكت خيول عامتهم، وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيش «1» مشاة إلى الأهواز؛ وذلك فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين. ذكر مقتل أبى فديك الخارجى قد ذكرنا فى أخبار عبد الله بن الزبير قتل نجدة بن عامر وطاعة أصحابه أبا فديك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين غلب أبو فديك على البحرين؛ فبعث خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله فى جند كثيف، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له، فاتخذها لنفسه، فكتب إلى عبد الملك بذلك، فأمر عبد الملك عمر ابن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من «2» أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فانتدب معه عشرة آلاف، وسار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة، وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخى عمر، وجعل خيله فى القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين، فالتقوا، واصطفّوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر جتى أبعدوا إلّا المغيرة

ذكر ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة

ابن المهلّب، ومجّاعة بن عبد الرحمن، وفرسان الناس؛ فإنهم مالوا إلى صفّ أهل الكوفة بالميمنة، ثم رجع أهل الميسرة وقاتلوا واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الميمنة حتى استباحوا عسكر الخوارج، وقتلوا أبا فديك، وحصروا أصحابه حتى نزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف، وأسر ثمانمائة؛ ووجدوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبى فديك، وعادوا إلى البصرة، وذلك فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين. ذكر ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين أمر عبد الملك أخاه بشرا، وكان قد أضاف إليه ولاية البصرة مع الكوفة، أن يبعث المهلّب بن أبى صفرة لحرب الأزارقة فى أهل البصرة، وأن ينتخب من أراد منهم، وأن يتركه فى الحرب ورأيه، وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنّجدة فى جيش كثيف إلى المهلّب، وأن يتتبّعوا الخوارج حيث كانوا حتى يستأصلوهم. فأرسل المهلّب خديج بن سعيد «1» بن قيبصة، وأمره أن ينتخب الناس من الديوان، وشقّ على بشر أن إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك، وبعث بشر عبد الرحمن بن مخنف على أهل الكوفة، وأغراه بالمهلّب، وأمره أن يستبدّ بالأمر، وسار المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل أهل الكوفة حتى نزلوا على ميل من المهلّب، فلم يلبث العسكر إلّا عشرا «2» حتى

ذكر اجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف

أتاهم نعى بشر بن مروان فتفرقوا، وعاد أكثر أهل الكوفة والبصرة إلى أن قدم الحجاج إلى الكوفة فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين، فأخرج الناس إلى المهلّب وابن مخنف على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الحجاج حين قدم الكوفة. ذكر اجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف قال: ولما أعاد الحجاج البعوث إلى المهلّب كتب إليه وإلى عبد الرحمن بن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج رجعوا «1» إليهم وقاتلوهم شيئا من قتال، فانزاحت الخوارج كأنهم على حامية، وساروا حتى نزلوا بكازرون «2» ، وسار المهلّب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلّب على نفسه، وأشار على ابن مخنف أن يخندق، فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا، فأتى الخوارج المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد خندق، فمالوا نحو ابن مخنف، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فى ناس من أصحابه، فقتل وقتلوا رجاله، فقال شاعرهم «3» : لمن العسكر المكلّل بالصّر ... عى فهم بين ميّت وقتيل فتراهمو تسفى الرياح عليهمو ... حاصب الرّمل بعد جرّ الذّيول هذا قول أهل البصرة فى قتل ابن مخنف.

وأما أهل الكوفة فقالوا: إنه لمّا وصل كتاب الحجاج لمناهضة «1» الخوارج ناهضهم المهلّب وابن مخنف، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فمالت الخوارج إلى المهلّب فاضطرّوه إلى عسكره، فاستنجد عبد الرحمن فأمدّه بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من شهر رمضان سنة [75 هـ] خمس وسبعين. فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج من يأتى من عسكر عبد الرحمن [من الرجال] «2» علموا أنه قد خفّ أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلّب من يشغله، وانصرفوا بحدّهم «3» إلى ابن مخنف، فنزل ونزل معه القرّاء، منهم أبو الأحوص «4» صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة، ونزل معه من قومه واحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلوا قتالا شديدا، وانكشف الناس عنه، وبقى فى عصابة من أهل الصّبر، فقاتلوا حتى ذهب نحو ثلثى الليل، ثم قتل فى تلك العصابة. فلما أصبحوا جاء المهلّب فصلّى عليه ودفنه، وكتب بذلك إلى الحجاج، فبعث إلى عسكر عبد الرحمن عتّاب ابن ورقاء، وأمره أن يسمع إلى المهلّب، فساءه ذلك، ولم يجد بدّا من طاعته، فجاء وقاتل الخوارج؛ ثم وقع بينه وبين المهلّب كلام أغلظ كلّ منهما لصاحبه، فرفع المهلّب القضيب على عتّاب،

فوثب المغيرة بن المهلب فقبض «1» القضيب من يد أبيه وسكته، وأثنى على عتّاب، وافترقا. فأرسل عتّاب إلى الحجّاج يشكو المهلّب، ويسأله أن يأمر بالعود، فوافق ذلك حاجة من الحجاج إليه، فاستقدمه، وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلّب، فجعل المهلّب عليهم ابنه حبيبا، وقاتل المهلّب الخوارج على سابور «2» نحو سنة بعد مسير عتّاب عنه، وكانت كرمان فى يد الخوارج، وفارس فى يد المهلب؛ فضاق على الخوارج مكانهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت «3» ، وهى مدينة كرمان، فقاتلهم قتالا شديدا. ثم أرسل إليه الحجاج البراء بن قبيصة يحثّه على قتال الخوارج، ويأمره بالجدّ، وأنه لا عذر له عنده. فخرج المهلّب بالعسكر، فقاتل الخوارج من الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على تلّ مشرف «4» يراهم، فأثنى على المهلّب وعلى أصحابه، وانصرف إلى الحجّاج، وعرّفه عذر المهلب، ثم قاتلهم المهلّب ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شىء إلى أن وقع بينهم الاختلاف.

ذكر الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرى بن الفجاءة

ذكر الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرىّ بن الفجاءة إيّاهم ومبايعتهم عبد ربّ الكبير والحرب بينه وبين المهلّب ومقتله وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين وقع الاختلاف بين الخوارج، فخلعوا قطرىّ بن الفجاءة، وبايعوا عبد ربّ الكبير، واختلف فى سبب ذلك، فقيل: إن عائلا «1» لقطرىّ على ناحية كرمان، يدعى المقعطر الضّبى، قتل رجلا منهم، فوثبت الخوارج إلى قطرى، وطلبوا منه أن يقيدهم من عامله، فلم يفعل، وقال: إنه تأوّل فأخطأ التأويل، وهو من ذوى السابقة فيكم، ما أرى أن تقتلوه، فاختلفوا. وقيل: كان السبب فى اختلافهم أنّ رجلا كان فى عسكرهم يعمل النصول المسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلّب، فشكا أصحابه منها، فقال: أنا أكفيكموه، فوجّه رجلا من أصحابه ومعه كتاب، فأمره أن يلقيه فى عسكر قطرىّ ولا يراه أحد، ففعل، ووقع الكتاب؛ إلى قطرىّ، فإذا فيه: أما بعد فإنّ نصالك وصلت، وقد أنفذت إليك ألف درهم، فأحضر قطرىّ الصانع فسأله. فجحد، فقتله، فأنكر عليه عبد ربّ الكبير قتله، واختلفوا. ثم وضع المهلّب رجلا نصرانيّا، وأمره أن يسجد لقطرىّ. ففعل. فقال الخوارج: إن هذا قد اتّخذك إلها. ووثب بعضهم على النّصرانى فقتله، فزاد اختلافهم، ففارق بعضهم قطريّا وخلعوه، وولّوا

عبد رب الكبير، وبقى مع قطرىّ منهم نحو ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر «1» . وكتب المهلّب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يأمره بقتالهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا. فكتب إليه المهلّب: إنى لست أرى أن أقاتلهم مادام يقتل بعضهم بعضا، فإن تمّوا على ذلك فهو الذى نريد «2» ، وفيه هلاكهم. وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا فأنا هضهم حينئذ، وهم أهون ما كانوا وأضعفهم شوكة إن شاء الله تعالى. والسلام. فسكت عنه. ثم إن قطريّا خرج بمن معه نحو طبرستان، وأقام «3» عند عبد ربّ الكبير بكرمان، فنهض إليهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا وحصرهم بجيرفت، وكرّر قتالهم وهو لا يبلغ منهم ما يريد. فلما طال عليهم الحصار خرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم، فقاتلهم المهلّب قتالا شديدا حتى عقرت الخيل وتكسّر السلاح، وقتل الفرسان، فتركهم، فساروا؛ ودخل المهلّب جيرفت، ثم سار حتى لحقهم على أربعة فراسخ منها، فقاتلهم من بكرة النهار إلى الظّهر، ثم كفّ عنهم، فجمع عبد رب الكبير أصحابه، وقال:

يا معشر المهاجرين؛ إن قطريّا ومن معه هربوا، طلب «1» البقاء، ولا سبيل إليه، فالقوا عدوّكم، وهبوا أنفسكم لله، ثم عاود القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا أنساهم ما قبله، فتبايع «2» جماعة من أصحاب المهلّب على الموت، وترجّلت الخوارج، وعقروا دوابّهم، واشتدّ القتال، وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مرّ بى يوم مثل هذا. ثم هزم الله الخوارج، وكثر القتل فيهم، فكان عدد القتلى أربعة آلاف، منهم ابن عبد ربّ الكبير، ولم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه، وبعث المهلّب إلى الحجاج مبشّرا. فلما دخل البشير إليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم، وأخبره عن بنى المهلب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشجاعهم «3» قبيصة، ولا يستحى الشجاع أن يفرّ من مدركه. وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت ذعاف «4» ، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة. قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. ستحسن قوله: وكتب إلى المهلب يشكره، ويأمره أن يولّى كرمان من يثق إليه، ويجعل فيها من يحميها، ويقدم عليه، فاستعمل عليها ابنه يزيد. وسار إلى الحجاج. فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يأهل العراق.

أنتم عبيد المهلّب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادى فى صفة أمير الجيوش «1» : فقلّدوا «2» أمركم لله درّكمو ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا «3» مسهّد النّوم تعنيه ثغوركمو ... يروم منها إلى الأعداء مطّلعا ما انفكّ يحلب هذا الدّهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا وليس يشغله مال يثمّره ... عنكم ولا ولد يبغى له الرّفعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السنّ لا قحما ولا ضرعا «4» وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء من أصحاب المهلّب وزادهم [والله أعلم «5» ] .

ذكر مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة

ذكر مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة كان مقتلهم فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما تشتّت أمرهم بسبب الاختلاف الذى ذكرناه، وسار قطرىّ نحو طبرستان ندب الحجاج سفيان بن الأبرد فى جيش كثيف، فسار، واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث فى جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلا فى طلب قطرى، فأدركوه فى شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، وسقط عن دابته فتدهده «1» إلى أسفل الشّعب، وأتاه علج من أهل البلد وهو لا يعرفه فقال [له] «2» قطرىّ: اسقنى «3» الماء. فقال العلج: أعطنى شيئا. فقال: ما معى إلا سلاحى، وإن أتيتنى بالماء فهو لك، فانطلق العلج حتى أشرف على قطرى ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، فأصاب وركه «4» فأوهنه، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه. وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه، منهم سورة بن أبجر «5» التميمى، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وعمر بن أبى الصلت، وكلّ هؤلاء ادّعى قتله، فجاءهم أبو الجهم

ابن «1» كنانة، فقال: ادفعوا رأسه إلىّ حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد، وهو على أهل الكوفة، فأرسله معه إلى سفيان بن الأبرد، فبعثه معه إلى الحجاج، فسيّره معه إلى عبد الملك، فجعل عطاءه فى ألفين؛ ثم سار سفيان إليهم، وأحاط بهم وأميرهم عبيدة بن هلال، فأمر مناديا فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن، وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابّهم، ثم خرجوا إليه، وقاتلوه، فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحجاج، وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطرىّ وعبيدة، [فكان أولهم نافع ابن الأزرق، وآخرهم قطرى وعبيدة] «2» ، واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة، ثم دخل سفيان دنباوند «3» وطبرستان، فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم. هذا ما كان من أمر الأزارقة، فلنذكر من سواهم من الخوارج أيام عبد الملك.

ذكر خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى

ذكر خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى قال: كان صالح بن مسرّح «1» التميمى رجلا ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عبادة، وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه، ويقصّ عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار المظالم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه إلى ذلك، فبينما هم فى ذلك إذ ورد عليهم «2» كتاب شبيب يقول [له] «3» : إنك كنت تريد الخروج، فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحدا، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمنى؛ فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر منى المنيّة، ولم أجاهد الظّالمين. فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعنى من الخروج إلا انتظارك، فاخرج إلينا، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفرا من أصحابه؛ منهم أخوه مصاد «4» ابن يزيد، والمحلّل «5» بن وائل اليشكرى وغيرهم «6» ، وخرج بهم

حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فو الله ما تزداد السّنة إلّا دروسا، ولا يزداد المجرمون إلّا طغيانا. فبثّ صالح رسله، وواعد أصحابه للخروج هلال صفر سنة [76 هـ] ست وسبعين، فاجتمعوا عنده ليلة الموعد، فسأله بعض أصحابه عن القتال؛ أيكون قبل الدعاء أو بعده؟ فقال: بل ندعوهم، فإنه أقطع لحجّتهم. فقال: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا بهم، ما تقول فى دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قاتلنا فغنمنا فلنا، وإن عفونا فموسّع علينا. ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره، وقال لهم: إن أكثركم رجّالة، وهذه دوابّ لمحمد بن مروان فابدءوا بها، فاحملوا عليها راجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم. فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدوابّ، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصّن أهلها منهم وأهل نصيبين وسنجار «1» ، وكان خروجه فى مائة وعشرين، وقيل: وعشرة. وبلغ ذلك محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة يومئذ، فأرسل إليهم عدىّ بن عدىّ الكندى فى ألف، فسار من حرّان، وكأنّه يساق إلى الموت، وأرسل عدىّ إلى صالح يسأله أن يخرج من هذه البلد، ويعلمه أنه يكره قتاله. وكان عدىّ ناسكا. فأعاد صالح إليه: إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك. فأرسل إليه: إنى لا أرى رأيك، ولكنى أكره قتالك وقتال غيرك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا،

فركبوا، وحبس الرسول «1» عنده ومضى. فأتى عديّا وهو يصلّى الضّحى، فلم يشعروا إلا والخيل فد طلعت عليهم، وهو على غير تعبئة، فحمل عليهم شبيب وهو على ميمنة صالح، وسويد بن سليم وهو على ميسرته؛ فانهزموا، وأتى عدىّ بدابّته فركبها، وانهزم. وجاء صالح فنزل فى معسكره، وأخذ ما فيه، ودخل أصحاب عدىّ على محمد ابن مروان فغضب على عدىّ. ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه فى ألف وخمسمائة، وبعث الحارث بن جعونة «2» فى ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة «3» ، وأغذّا السير، فأيّكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا متساندين يسألان عن صالح؛ فقيل: إنه نحو آمد «4» ، فقصداه، فوجّه صالح شبيبا فى شطر [من] «5» أصحابه إلى الحارث، وتوجّه هو نحو خلد، فالتقيا، واقتتلوا وقت العصر أشدّ قتال حتى أمسوا، وقد كثر الجراح فى الفريقين، فلما حال بينهما الليل خرج صالح وأصحابه، فساروا حتى قطعوا أرض الجزيرة والموصل، وانتهوا إلى الدّسكرة «6» . فلما بلغ خبرهم الحجاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة فى ثلاثة آلاف من أهل الكوفة، فلقيهم صالح فى تسعين رجلا، وذلك لثلاث

ذكر بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث

عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، فاقتتلوا. فانهزم سويد بن سليم بميسرة صالح، وثبت صالح، فقاتل حتى قتل، وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلا فانكشفوا عنه، فنادى: إلىّ يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كلّ واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا. ففعلوا ذلك، ودخلوا الحصن، وهم سبعون رجلا، وأحاط بهم الحارث، وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه. وكانت هذه الوقعة بقرية يقال لها المدبّج «1» . ذكر بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث قال: ولما أحرق الحارث الباب على شبيب انصرف إلى عسكره وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه؛ فنصبّحهم غدا فنقتلهم. فقال شبيب لأصحابه: ما تنتظرون؟ فو الله لئن صبّحكم هؤلاء إنّه لهلاككم. فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعونى أو من شئتم من أصحابكم، واخرجوا بنا إليهم، فإنهم آمنون، فبايعوه، وأتوا باللبود فبلّوها وجعلوها «2» على جمر الباب وخرجوا. فلم يشعر الحارث إلّا وهم بينهم بالسيوف، فصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، فكان ذلك أول جيش هزمه.

ذكر الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة

ذكر الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة قال: ثم لقى شبيب سلامة بن سيّار «1» التّيمى، تيم شيبان، بأرض الموصل، فدعاه إلى الخروج معه فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا ينطلق بهم نحو عنزة «2» ليوقع بهم، فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة، وكان فضالة قد خرج فى ثمانيه عشر رجلا حتى نزل ماء يقال له الشجرة وبه «3» عنزة نازلون، فنهضت عنزة فقتلوه ومن معه وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك فأنزلهم بانقيا «4» ، وفرض لهم، وكان خروج فضالة قبل خروج صالح، فأجابه شبيب فخرج حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيه خالته قد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فأخرجت ثديها [إليه] «5» وقالت: أنشدك ترحم «6» هذا يا سلامة. فقال: [لا] » والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأرض الشجرة «8» . لتقومنّ عنه أو لأجمعنّكما بالرمح، فقامت عنه. فقتله.

ذكر مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه

ذكر مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه قال: ثم أقبل شبيب بخيله نحو راذان فهرب منه طائفة من بنى شيبان، ومعهم ناس قليل من غيرهم، فأقبلوا حتى نزلوا ديرا خرابا «1» إلى جنب حولايا «2» ، وهم نحو ثلاثة آلاف، وشبيب فى سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم فتحصّنوا منه فجعل أخاه مصاد بن يزيد يحاصرهم، وتوجّه إلى أمّه ليأخذها وهو فى اثنى عشر رجلا؛ فمرّ فى طريقه بجماعة من بنى [تيم بن] «3» شبيان فى أموالهم مقيمين؛ لا يرون أنّ شبيبا يمرّ بهم. ولا يشعر بمكانهم، فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد، ومضى إلى أمّه؛ وأشرف رجل من الدّير على أصحاب شبيب، فقال: يا قوم؛ بيننا وبينكم القرآن، قال الله تعالى «4» : «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» . فكفّوا عنّا حتى نخرج إليكم بأمان وتعرضوا علينا أمركم، فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم. فأجابوهم فخرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، فقبلوه كلّه، فنزلوا إليهم، وجاء شبيب فأخبر بذلك، فقال: أصبتم ووفّقتم.

ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى

ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى قال: ثم ارتحل شبيب، وخرج معه طائفة، وأقامت طائفة؛ فسار فى أرض الموصل نحو أذربيجان. وكتب الحجاج إلى سفيان ابن أبى العالية الخثعمى يأمره بالقفول، وكان معه ألف فارس يريد أن يدخل بها طبرستان. فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع، فأمره الحجاج أن ينزل الدّسكرة «1» حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمدانى وتأتيه خيل المناظر، ثم يسير إلى شبيب. فأقام بالدّسكرة ونودى فى جيش الحارث: الحرب بالكوفة والمدائن، فخرجوا حتى أتوا سفيان، وأتته خيل المناظر عليهم سورة «2» ابن أبجر التميمى، وكتب إليه سورة بالتوقّف حتى يلحقه، فعجل سفيان فى طلب شبيب، فلحقه بخانقين «3» وارتفع شبيب عنهم، وأكمن له أخاه مصادا فى خمسين رجلا، ومضى فى سفح الجبل، فقالوا: هرب عدوّ الله، فاتّبعوه، فقال لهم عدىّ بن عميرة الشيبانى: لا تعجلوا حتى تبصروا الأرض لئلا يكون قد أكمن بها كمينا، فلم يلتفتوا واتّبعوه، فلما جازوا الكمين عطف عليهم شبيب، وخرج أخوه فى الكمين، فانهزم الناس بغير قتال، وثبت سفيان فى نحو

ذكر الوقعة بين شبيب وسورة

مائتين؛ فقاتلهم قتالا شديدا، ثم نجا حتى انتهى إلى بابل مهروذ «1» وكتب إلى الحجاج بالخبر، ويعرفه وصول الجند إلّا سورة بن أبجر فإنه لم يشهد معى القتال. ذكر الوقعة بين شبيب وسورة قال: ولما وصل كتاب سفيان إلى الحجّاج كتب إلى سورة ابن أبجر يلومه ويتهدّده، ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب، فسار سورة بهم نحو شبيب، وشبيب فى جوخى «2» ، وسورة فى طلبه حتى انتهى إلى المدائن، فتحصن «3» منه وأخذ منها [دوابّ] «4» وقتل من ظهر له، وخرج حتى انتهى إلى النّهروان «5» فصلّوا وترحّموا على أصحابهم الذين قتلهم على رضى الله عنه وتبرءوا من علىّ وأصحابه. وبلغ سورة خبره، فجمع أصحابه وقال: إن شبيبا لا يزيد على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير فى ثلاثمائة من شجعانكم وآتيه، فأجابوه إلى ذلك، فسار فى ثلاثمائة نحو النّهروان، وأذكى شبيب الحرس، فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبّئوا تعبئتهم للحرب؛ فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا،

ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد

فحمل عليهم فثبتوا له، وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم وشبيب يقول «1» : من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكّتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمّل بهم، وأقبل نحو المدائن، فتبعه شبيب يرجو أن يدركه، فوصل إليهم، وقد دخل الناس المدائن، فمرّ على كلواذا «2» ، فأصاب بها دوابّ كثيرة للحجاج، فأخذها ومضى إلى تكريت، وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم، فهرب من بها من الجند نحو الكوفة، وحبس الحجاج سورة ثم أطلقه. ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد قال: ولما قدم الفلّ «3» الكوفة سيّر الحجاج الجزل بن سعيد ابن شرحبيل الكندى، واسمه عثمان، نحو شبيب، وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة، وأخرج معه أربعة آلاف ليس فيهم أحد ممن هزم، فقدّم الجزل بين يديه عياض بن أبى لينة «4» الكندى، فساروا فى طلب شبيب وهو يخرج من رستاق إلى رستاق، يقصد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبئة، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على نفسه. فلما طال ذلك على شبيب دعا أصحابه وكانوا مائة وستين رجلا،

ففرّقهم أربع فرق كل فرقة أربعين، فجعل أخاه مصادا فى أربعين، وسويد بن سليم فى أربعين، والمحلّل «1» بن وائل فى أربعين، وبقى هو فى أربعين. وأتته عيونه، فأخبروه أن الجزل يريد «2» يزدجرد، فسار شبيب، وأمر كلّ رأس من أصحابه أن يأتى الجزل من جهة ذكرها له، وقال: إنى أريد أن أبيّته «3» ، فسار أخوه فانتهى إلى دير الخرّارة، فرأى للجزل مسلحة مع ابن أبى لينة، فحمل عليهم مصاد فيمن معه، فقاتلوه ساعة، ثم اندفعوا بين يديه، وقد أدركهم شبيب، فقال: اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم إن استطعتم. فاتبعوهم فانتهوا إلى عسكرهم، فمنعهم أصحابهم من دخول خندقهم، وكان للجزل مسالح أخرى فرجعت، فمنعهم من دخول الخندق، وجعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنّبل. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم «4» سار عنهم وتركهم، ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا، ثم أقبل بهم راجعا إلى الجزل، فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وأمنوا، فما شعروا إلّا بوقع حوافر الخيل، فانتهوا إليهم قبل الصبح، وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع، ثم انصرف شبيب وتركهم، ولم يظفر بهم، فنزل على ميل ونصف، ثم صلّى الغداة وسار نحو جرجرايا «5» ، وأقبل الجزل فى طلبهم على تعبئته، وسار شبيب

فى أرض الجوخى «1» وغيرها، فطال ذلك على الحجّاج، فكتب إلى الجزل ينكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم، فجدّ فى طلبهم وبعث الحجاج سعيد بن المجالد على جيش الجزل، وأمره بالجدّ فى قتال شبيب وترك المطاولة، فوصل سعيد إلى الجزل وهو بالنّهروان وقد خندق عليه، فقام فى العسكر ووبّخهم وعجزهم. ثم خرج، وأخرج معه الناس، وضمّ إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدة «2» إلى شبيب ويترك الناس «3» مكانهم، فنهاه الجزل عن ذلك، فلم ينته ولم يرجع إليه، وتقدّم ومعه الناس، وأخذ شبيب إلى قطيطيا «4» ، فدخلها وأغلق الباب، وأمر دهقانها «5» أن يصلح لهم غداء، فلم يتهيّأ الغداء حتى أتاه سعيد فى ذلك الجيش، فأعلم الدّهقان شبيبا، فقال: لا بأس، قرّب الغداء، فقرّبه فأكل وتوضّأ وصلّى ركعتين، وركب بغلا، وخرج إلى سعيد وهو على باب المدينة فحمل عليهم، وقال: لا حكم إلا للحكم، فهزمهم وثبت سعيد، ونادى أصحابه، فحمل عليه شبيب، فضربه بالسيف فقتله، فانهزم ذلك الجيش، وقفلوا حتى انتهوا إلى الجزل، وكان قد وقف فى بقيّة العسكر، فناداهم: أيها الناس، إلىّ إلىّ، وقاتل قتالا شديدا حتى حمل جريحا، وقدم المنهزمون الكوفة.

ذكر مسير شبيب إلى الكوفة

وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر، وأقام بالمدائن، فكتب إليه الحجاج يشكره ويثنى عليه، وأرسل إليه نفقة ومن يداوى جراحه. وسار شبيب نحو المدائن فعلم أنه لا سبيل إلى أهلها؛ فأقبل حتى أتى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وأرسل إلى أهل سوق بغداد فأمّنهم، وكان يوم سوقهم، واشترى أصحابه دوابّ وغيرها. ذكر مسير شبيب إلى الكوفة قال: ثم سار شبيب إلى الكوفة فنزل عند حمّام «1» عمر ابن سعد «2» ، فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السّعدى فى ألفى رجل، وقال له: ألق شبيبا فإن استطرد لك فلا تتبعه. فخرج وعسكر بالسبخة «3» ، فبلغه أنّ شبيبا قد أقبل، فسار نحوه وأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس فى السّبخة، فبينا سويد يعبىء أصحابه إذ قيل له: أتاك شبيب؛ فنزل ونزل معه جلّ أصحابه، ثم أخبر أنه قد عبر الفرات وهو يريد الكوفة من وجه آخر، فركب هو ومن معه، وساروا فى آثارهم، وبلغ من بالسبخة إقبال شبيب فهمّوا بدخول الكوفة، ثم قيل لهم: إن سويدا فى آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم، فثبتوا، وحمل شبيب على سويد ومن معه حملة منكرة، ثم أخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وذلك عند المساء، وتبعه سويد إلى الحيرة، فرآه قد ترك وذهب، فتركه سويد وأقام حتى أصبح. وأرسل إلى الحجاج يعلمه الخبر.

ذكر محاربة شبيب أهل البادية

ذكر محاربة شبيب أهل البادية قال: وكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتّبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع إلى البر فأصاب رجالا من بنى الورثة «1» ، فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم: حنظلة بن مالك، ومالك بن حنظلة، ومضى حتى أتى بنى أمية على اللّصف «2» ، وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بنى الصلت، وكان ينهى شبيبا عن رأيه، وكان شبيب يقول: لئن ملكت سبعة أعنّة لأغزونّ الفزر، فلما بلغهم خبر شبيب ركب الفزر فرسا، وخرج من البيوت وانهزم. فرجع شبيب، وقد أخاف أهل البادية، فأخذ على القطقطانة «3» ثم على قصر بنى مقاتل، ثم على الأنبار، ومضى حتى دخل دقوقاء «4» ، ثم ارتفع إلى أدانى أذربيجان، فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة «5» بن شعبة، فأتاه الخبر بإقبال شبيب نحو الكوفة، فكتب إلى الحجاج بذلك، فأقبل من البصرة مجدّا نحو الكوفة فسابق «6» شبيبا إليها.

ذكر دخول شبيب الكوفة

ذكر دخول شبيب الكوفة قال: وأقبل شبيب إلى الكوفة فسابق «1» الحجاج إليها، فطوى الحجاج المنازل، فوصل الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السّبخة صلاة المغرب، فأكلوا شيئا ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السّوق، وضرب شبيب باب القصر بعموده، فأثّر فيه أثرا عظيما، ووقف عند المصطبة، ثم قال «2» : عبد دعىّ من ثمود أصله ... لابل يقال أبو أبيهم يقدم يعنى الحجاج، فإنّ بعض الناس يقول: إن ثقيفا بقايا ثمود، ومنهم من يقول: هم من نسل يقدم الإبادى. ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتاوا عقيل بن مصعب الوادعىّ، وعدىّ بن عمرو الثقفى، وأبا ليث ابن أبى سليم؛ ومرّوا بدار حوشب وهو على الشّرط- فقالوا: إن الأمير يطلبه، فأراد الركوب، ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم، فقتلوا غلامه. ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فرأوا ذهل بن الحارث فقتلوه، ثم خرجوا من الكوفة، فاستقبلهم النّضر بن القعقاع بن شور «3» الذّهلى، وكان قد أقبل مع الحجاج من البصرة، فتخلّف عنه فقتلوه، ثم خرجوا نحو المردمة «4» ، وأمر الحجاج مناديا فنادى: يا خيل الله

ذكر محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر

اركبى؛ فأتاه الناس من كل جانب، فبعث بشر بن غالب الأسدى فى ألفى رجل، وزائدة بن قدامة الثقفى فى ألفى رجل، وأبا الضّريس مولى بنى تميم فى ألفى رجل، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وزياد ابن عمرو العتكى، وسيّر معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وكان عبد الملك قد استعمله على سجستان، وكتب إلى الحجاج أن يجهّزه، فقال له الحجاج: تلقى شبيبا فتجاهده، فيكون الظّفر لك، ويظهر «1» اسمك ثم تمضى إلى عملك. وقال الحجاج لهؤلاء الأمراء: إن كان حرب فأميركم زائدة ابن قدامة. فساروا فنزلوا أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذى هم فيه وأخذ نحو القادسيّة. ذكر محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر «2» قال: ووجّه الحجاج جريدة خيل اختارهم ألف وثمانمائة فارس مع زحر بن قيس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه أين أدركته إلا أن يكون ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك؛ فخرج زحر حتى انتهى إلى السّيلحين «3» ، وأقبل شبيب نحوه فالتقيا، فجمع شبيب خيله، ثم اعترض بهم الصفّ حتى انتهى إلى زحر، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه وظنّوا أنهم قتلوه، فلما كان السّحر قام يمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة، فمكث أياما. ثم أتى الحجاج فأجلسه معه على السرير،

ذكر محاربته الأمراء الذين ندبهم الحجاج لقتاله وقتال محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة

وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى فى الناس فلينظر إلى هذا. ذكر محاربته الأمراء الذين ندبهم الحجّاج لقتاله وقتال «1» محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة قال: لما هزم شيب أصحاب زحر قال له أصحابه نصرف بنا الآن وافرين، فقد هزمنا لهم جندا. فقال: إن هذه الهزيمة قد أرعبت قلوب الأمراء والجنود الذين فى طلبكم؛ فاقصدوهم، فو الله لئن قاتلناهم مادون الحجاج مانع «2» ، ونأخذ الكوفة إن شاء الله. فقالوا: نحن لرأيك تبع، وسأل عن الأمراء فقيل: إنهم بروذبار «3» على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة؛ فقصدهم فانتهى إليهم وقد تعبّئوا للحرب، وأمير الجماعة زائدة بن قدامة، وعلى ميمنته زياد بن عمرو العتكى، وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدى، وكلّ أمير واقف فى أصحابه. وأقبل شبيب فى ثلاث كتائب: كتيبة فيها سويد بن سليم وقف بإزاء الميمنة، وكتيبة فيها مصاد أخو شبيب وقف بإزاء الميسرة، ووقف شبيب مقابل القلب. فحمل سويد على زياد فانكشف أهل الميمنة، وثبت زياد فى نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم حمل ثانية فتطاعنوا ساعة، واقتتلوا أشدّ قتال،

ثم ارتفع سويد عنهم، فتفرّق أصحاب زياد بن عمرو من كل جانب، فحمل عليهم الثالثة فانهزموا وأخذت السيوف زياد بن عمرو من كل جانب [فلم تضره للباسه «1» ] ، فانهزم «2» وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء، ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله ابن عامر، فهزموه، ولم يقاتل كثيرا، ولحق بزياد؛ فمضيا منهزمين. وحملت الخوارج على محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلوه قتالا شديدا، وحمل مصاد على بشر بن غالب، وهو فى ميسرة أهل الكوفة، فصبر بشر، ونزل ونزل معه نحو خمسين رجلا، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وانهزم أصحابه، وحملت الخوارج على أبى الضّريس مولى بنى تميم، وهو يلى بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم حملوا عليه وعلى أعين، فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فنادى زائدة: يأهل الإسلام؛ الأرض، الأرض، لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم عامة الليل حتى كان السّحر، ثم إن شبيبا حمل عليه فى جماعة من أصحابه، فقتله وقتل أصحابه، فلما قتل دخل أبو الضّريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عنهم، وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم «3» إلى البيعة عند الفجر، فبايعوه وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبى موسى

الأشعرى، فلما طلع الفجر أمر محمد بن موسى بن طلحة مؤذّنه فأذّن، وكان لم ينهزم. فقال شبيب: ما هذا؟ قالوا: محمد بن موسى لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا. ثم نزل شبيب فأذّن هو وصلّى بأصحابه الصبح، ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه، فانهزمت طائفة منهم، وثبتت معه طائفة، فقاتل حتى قتل، وأخذت الخوارج ما فى العسكر، وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيبا بجملتهم، ثم أتى شبيب الجوسق الذى فيه أعين وأبو الضّريس فتحصّنوا منه، فأقام عليهم يومه ذلك، وسار عنهم فأتى خانيجار «1» فأقام بها، وبلغ الحجاج مسيره، فظنّ أنه يريد المدائن، فهاله ذلك، فبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وعزل عنها عبيد الله بن أبى عصيفير «2» . وقيل فى مقتل محمد بن موسى: أنه قتله مبارزة، وذلك أنه كان شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبى فديك، وكان شجاعا ذا بأس، فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك ابن مروان، فولّاه سجستان، فمرّ بالكوفة وفيها الحجاج، فقيل له: صار هذا بسجستان مع صهره لعبد الملك، فلو لجأ إليه أحد ممن يطلب «3» منعك منه. قال: فما الحيلة؟ قال: تأتى إليه، وتسلّم

ذكر محاربته عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن

عليه، وتذكر نجدته وبأسه، وأنّ شبيبا فى طريقه، وأنه قد أعياك، وترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكره وفخره. ففعل الحجاج ذلك، فأجابه محمد، وعدل إلى شبيب، فأرسل إليه شبيب إنّك مخدوع، وإن الحجاج قد اتّقى بك، وأنت جار لك حقّ، فانطلق لما أمرت به ولك الله أنى لا أضرك «1» . فأبى إلّا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد عليه الرسول، فأبى وطلب البراز فبرز إليه شبيب، وقال له: أنشدك الله فى دمك؛ فإنّ لك جوارا، فأبى. فحمل عليه شبيب فضربه بعمود حديد زنته اثنا عشر رطلا بالشامى، فهشم البيضة ورأسه، فسقط فكفّنه شبيب ودفنه، وابتاع ما غنمه من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر شبيب إلى أصحابه، وقال: هو جارى، ولى أن أهب ما غنمت. ذكر محاربته «2» عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن قال: ثم إن الحجّاج أمر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير بهم فى طلب شبيب أين كان، ففعل ذلك، وسار نحوه، فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور «3» ، وعبد الرحمن فى طلبه حتى انتهى إلى التّخوم، فوقف وقال: هذه أرض الموصل، فليقاتلوا عنها.

فكتب إليه الحجاج: أما بعد فاطلب شبيبا واسلك فى أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. فخرج عبد الرحمن فى طلبه، فكان شبيب يدعه حتى يدنو منه فيبيّته فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيتركه [ويسير] «1» فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغ شبيبا مسيرهم أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبئة فلا يصيب لهم غرّة، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخا، ونحوها، وينزل فى أرض خشنة غليظة، ويتبعه عبد الرحمن، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى أتعب ذلك الجيش، وشقّ عليهم «2» ، وأحفى دوابّهم. ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين «3» وجلولاء وتامرّا «4» ، ثم أقبل إلى البتّ، وهى من قرى الموصل ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا، وذلك فى عشر ذى الحجة سنة [76 هـ] ست وسبعين، فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه أيام عيد لنا ولكم [يعنى عيد النّحر] «5» ، فهل لك فى الموادعة حتى تمضى هذه الأيام؟ فأجابه إلى ذلك، وكان يحبّ المطاولة. وكتب عثمان بن قطن أمير المدائن إلى الحجاج يقول: أما بعد

فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وكسر خراجها، وخلّى شبيبا يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش، وأمّره عليهم، وعزل عنهم عبد الرحمن، وبعث إلى المدائن مطرّف بن المغيرة ابن شعبة، فسار عثمان حتى قدم على العسكر عشيّة الثلاثاء يوم التّروية؛ فنادى الناس- وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوّكم، فقالوا: هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطّنوا أنفسهم على الحرب، فبت الليلة ثم اخرج على تعبئة، فأبى ذلك، ثم نزل وبات ليلته يحرّض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلّهم، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فقال له أصحابه: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج يوم الخميس، ثم «1» عبّأهم، فجعل فى الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شدّاد، ونزل هو فى الرجّالة، وعبر شبيب إليهم النهر، وهو يومئذ فى مائة وأحد وثمانين رجلا، فوقف هو فى الميمنة، وجعل أخاه مصادا فى القلب، وجعل سويد بن سليم فى الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض، فحمل شبيب على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل مالك ابن عبد الله الهمدانى، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها، فقاتل خالد بن نهيك قتالا شديدا، وحمل شبيب من ورائه فقتله، وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء

وأشراف الناس والفرسان نحو القلب وفيه مصاد أخو شبيب فى نحو من ستّين رجلا، فشدّ عليهم عثمان فيمن معه فثبتوا له. وحمل شبيب بالخيل من ورائهم فما شعروا إلّا والرّماح فى أكتافهم تكبّهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم فى خيله، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم أحاطوا به، وضربه مصاد بن يزيد ضربة بالسيف استدار لها وقال «1» : «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» *. ثم قتل، وسقط عبد الرحمن عن فرسه، فأتاه ابن أبى سبرة الجعفى وهو على بغلة فأركبه معه، ونادى فى الناس: الحقوا بدير «2» أبى مريم، ثم انطلقا «3» ذاهبين، ثم أتاه واصل [بن الحارث] «4» السكونى ببرذون فركبه وسار حتى نزل دير البقار «5» ، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه، وقتل يومئذ من كندة مائة وعشرون، وبات عبد الرحمن بدير البقّار «6» ، فأتاه فارسان، فصعدا إليه فخلا به أحدهما طويلا ثم نزلا؛ فقيل: إن ذلك الرجل كان شبيبا، وكان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبى مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجّاج حتى أخذ له الأمان منه، وكانت هذه الوقائع التى ذكرناها كلّها من أخبار شبيب فى سنة ست وسبعين.

ذكر محاربة عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما

ذكر محاربة «1» عتاب بن ورقاء وزهرة بن حويّة «2» وقتلهما وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين أتى شبيب ماه بهراذان «3» فصيّف بها ثلاثة أشهر، وكان حين هزم ذلك الجيش حرّ شديد، فلما صيّف هناك أتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممّن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحرّ خرج فى نحو ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرّف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة ابن اليمان، فكتب مهروذ عظيم بابل إلى الحجّاج بذلك، فقام الحجّاج فى الناس فقال: أيها الناس، لتقاتلن عن بلادكم وعن بنيكم «4» أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأصبر على الّلأواء والقيظ منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم. فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا: نحن نقاتلهم فليندبنا الأمير إليهم، وقام زهرة بن حويّة- وهو شيخ كبير، فقال: أصلح الله الأمير، إنما تبعث إليهم الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث إليهم رجلا شجاعا مجرّبا ممن يرى الفرار [هضما] و «5» عارا، والصّبر مجدا وكرما.

فقال الحجاج: فأنت ذاك الرجل، فاخرج. فقال: أصلح الله الأمير، إنما يصلح رجل يحمل الدّرع والرمح، ويهزّ السيف، ويثبت على الفرس، وأنا لا أطيق شيئا من هذا، وقد ضعف بصرى، ولكن أخرجنى فى الناس مع الأمير فأشير عليه برأيى. فقال له الحجاج: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله فى أوّل أمرك وآخره. ثم قال: أيها الناس، سيروا بأجمعكم كافّة؛ فخرج الناس يتجهّزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أنّ شبيبا قد شارف المدائن؛ وأنه يريد الكوفة، وقد عجز أهلها عن قتاله فى مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جندهم؛ وسأله أن يبعث جندا من الشام يقاتلون الخوارج، ويأكلون البلاد. فبعث عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبى فى أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ألفين، وبعث الحجاج إلى عتّاب بن ورقاء يستدعيه، وكان يقاتل الازارفة مع المهلّب كما تقدم. واستشار الحجاج أهل الكوفة فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة؛ فقال زهرة: رميتهم بحجرهم، والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وقال له قبيصة بن والق: إنّ الناس قد تحدثوا أنّ جيشا قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم؛ فإن رأيت أن تبعث

إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم، فإنك تحارب حوّلا قلّبا ظعّانا «1» رحالا، وقد جهّزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقا بهم كلّ الثقة، فإن شبيبا بينا هو فى أرض إذا هو فى أخرى، ولا آمن أن يأتى أهل الشام وهم آمنون؛ فإن يهلكوا تهلك «2» ويهلك أهل العراق. فقال: لله أبوك، ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذّرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر «3» ، ففعلوا، وقدم عتّاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمّام أعين «4» ، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا «5» فقطع منها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير «6» الدنيا، وهى المدائن الغربية، فصار بينه وبين مطرّف دجلة، فقطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلىّ رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن وأنظر فيما يدعون «7» إليه، فبعث إليه بمعتّب «8» بن سويد والمحلّل وغيرهما، وأخذ منه رهائن على عود أصحابه، فأقاموا عنده أربعة أيام، ثم أعادهم، ولم يتفقوا، فلما لم يتبعه مطرّف تهيّأ

للمسير إلى عتّاب. وأقبل عتّاب حتى نزل بسوق حكمة «1» وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفا. وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: ألا إن للسائر المجدّ الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذى لا إله غيره لئن فعلتم فى هذا الموطن كفعلكم فى غيره من المواطن لأولينّكم كنفا «2» خشنا، ولأعركنّكم بكلكل ثقيل. وسار شبيب من المدائن وأصحابه ألف رجل، فتخلّف عنه بعضهم، فصلّى الظهر بساباط، وصلّى العصر، وسار حتى أشرف على عتّاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلّى المغرب؛ وكان عتّاب قد عبّأ أصحابه، فجعل فى الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وفى الميسرة نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعى- وهو ابن عمه على الرجّالة، وصفّهم ثلاثة «3» صفوف: صفّ فيهم أصحاب السيوف، وصفّ فيهم أصحاب الرماح، وصفّ فيهم الرّماة، ثم سار فى الناس يحرّضهم على القتال، ورجع فجلس فى القلب، ومعه زهرة بن حويّة جالس، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وأبو بكر ابن محمد بن أبى جهم العدوى. وأقبل شبيب وهو فى ستمائة، وقد تخلّف عنه من أصحابه أربعمائة؛ فجعل سويد بن سليم فى الميسرة فى مائتين، والمحلّل بن وائل فى القلب فى مائتين، ووقف هو فى الميمنة فى مائتين، وذلك بين المغرب والعشاء

الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ قالوا: لربيعة. قال: طالما نصرت الحقّ، وطالما نصرت الباطل؛ والله لأجاهدنّكم محتسبا، أنا شبيب، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم ففضّهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق، وعبيد بن الحليس، ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها، ثم حمل شبيب على عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتلهم فى رجال من تميم وهمدان؛ فما زالوا كذلك حتى قيل لهم: قتل عتّاب، فانفضّوا «1» . ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسته «2» فى القلب ومعه زهرة بن حويّة حتى غشيهم شبيب، فقال عتّاب: يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه! ألا مواس بنفسه! فانفضّوا عنه وتركوه، فلما دنا منه شبيب وثب فى عصابة قليلة صبرت معه؛ وقاتل ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمرو التغلبى، فحمل عليه فطعنه، وجاء الفضل بن عامر الشيبانى إلى زهرة فقتله، وتمكّن «3» شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف. ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من ليلتهم، وحوى ما فى العسكر. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة

ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها

فنزل بسورا «1» . وقتل عاملها، وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدّوا ظهر الحجاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة، وقام على المنبر فقال: يأهل الكوفة، لا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد بكم النّصر، اخرجوا عنّا فلا تشاهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا الحيرة مع اليهود والنصارى، ولا يقاتل معنا إلّا من لم يشهد قتال عتّاب. ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها قال: ثم سار شبيب من سورا فنزل حمّام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفى، فوجّهه فى ناس من الشّرط وغيرهم لم يشهدوا يوم عتّاب، فخرجوا فى ألف فنزلوا زرارة «2» ، فبلغ ذلك شبيبا، فعجل إلى الحارث، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله، وانهزم أصحابه، فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة فأقام ثلاثا، فنزل السّبخة، وابتنى بها مسجدا، وذلك فى اليوم الثانى من الأيام الثلاثة. فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف «3» ومعه غلمان «4» له، فقالوا: هذا الحجاج! فحمل عليه شبيب فقتله، فأخرج إليه غلامه طهمان فى مثل تلك العدّة والحالة، فقتله شبيب، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.

ثم خرج الحجاج عند ارتفاع النهار من القصر، فركب بغلا ومعه أهل الشام، فلما رأى الحجاج شبيبا وأصحابه نزل وجلس على كرسىّ، وتقدّم إليه شبيب وأصحابه فلقوهم بأطراف الأسنّة؛ فكان بينهم قتال شديد عامّة النهار، حتى انتهى الحجاج إلى مسجد شبيب، فقال: هذا أوّل الفتح. ثم قال خالد بن عتّاب للحجاج: ائذن لى فى قتالهم، فإنى موتور. فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة، فقصد عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل امرأته [غزالة] «1» ، هذا وشبيب يقاتل الحجاج، وأتى الخبر الحجاج فكبّر فعندها ركب شبيب وكان قد نزل فقاتل على الأرض، وقال الحجاج لأصحابه: احملوا عليهم، فإنه قد أتاهم ما أرعبهم؛ فشدّوا على أصحاب شبيب فهزموهم، وثبت شبيب فى حامية الناس، فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج الكوفة، وبعث حبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام، فخرج فى أثره حتى نزل إلى الأنبار. وكان الحجاج قد نادى عند انهزام شبيب: من جاءنا منكم فهو آمن؛ فتفرّق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلّى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعا، وقال: ليمنع كلّ ربع منكم جانبه فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم «2» الربع الاخر. وأتاهم شبيب وهو على تعبئته فحمل [على] «3» ربع، فقاتلهم طويلا، فما زالت قدم إنسان عن موضعها

ذكر مهلك شبيب

فتركهم، وأقبل إلى ربع آخر، فكانوا كذلك، وقاتل الربع الثالث والرابع وهم كذلك، فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا، فسقطت بينهم «1» الأيدى وكثرت القتلى، وفقئت الأعين، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلا، ومن أهل الشام نحو مائة. واستولى التّعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا، فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم، ثم قطع دجلة وأخذ فى أرض جوخى ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط، وأخذ نحو الأهواز إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح هو ومن معه. ذكر مهلك شبيب كان مهلك شبيب فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وسبب ذلك أن الحجاج أنفق فى أصحاب سفيان بن الأبرد مالا عظيما، وأمرهم بقصد شبيب، فساروا نحوه مع سفيان بن الأبرد، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته- وهو عامله على البصرة- أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة، ففعل وسيّرهم مع زياد بن عمرو العتكى، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب. وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى استراح وأراح، ثم أقبل راجعا فالتقى مع سفيان بجسر «2» دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان فوجده قد نزل فى الرجال، وجعل مهاصر بن سيف «3» على الخيل، وأقبل

شبيب فى ثلاثة كراديس «1» ، فاقتتلوا أشدّ قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذى كان فيه، ثم حمل عليه هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، وأهل الشام على حالهم فى ثبات القدم، ومازلوا يقاتلون الخوارج حتى اضطرّوهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة رجل؛ فقاتلوا حتى المساء، وأوقعوا بأهل الشام من الضّرب والطعن ما لم يروا مثله، فأمر سفيان الرّماة أن يرموهم فتقدّموا، ورموهم ساعة، فحمل شبيب وأصحابه على الرّماة، فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظّلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم. فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه، وتخلّف فى آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان وبين يديه حجر «2» ، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت تحته، ونزل حافر رجل حصانه على حرف السفينة، فسقط فى الماء، فلما سقط قال: ليقضى الله أمرا كان مفعولا. وانغمس «3» فى الماء، ثم ارتفع، وقال: ذلك تقدير العزيز العليم. وغرق. قال: وكان أهل الشام قد عزموا على الانصراف، فأتاهم صاحب

الجسر، فقال لسفيان: إنّ رجلا منهم وقع فى الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين. ثم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبّر سفيان وكبّر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى المعسكر، وإذا «1» ليس فيه أحد، وإذا هو أكثر العساكر خيرا، ثم استخرجوا شبيبا فشقّوا جوفه، وأخرجوا قلبه؛ فكان صلبا كأنه صخرة، فكان يضرب به الصّخرة فينبو «2» عنها قامة إنسان. قال: وكان شبيب ينعى لأمه فيقال لها: قتل، فلا تقبل ذلك. فلما قيل لها غرق صدّقت ذلك، وقالت: إنى رأيت حين ولدته أنه خرج منّى شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلّا الماء، وكانت أمّه جارية رومية اشتراها أبوه فأولدها شبيبا سنة [25 هـ] خمس عشرين يوم النّحر، وقالت: إنى رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلى شهاب نار، فذهب ساطعا إلى السماء، وبلغ الآفاق كلّها، فبينا هو كذلك إذ وقع فى ماء كثير فخبا، وقد ولدته فى يومكم الذى تهريقون فيه الدّماء، وقد أوّلت ذلك أنّ ولدى يكون صاحب دماء وأنّ أمره سيعلو ويعظم سريعا.

ذكر خروج مطرف بن المغيرة ابن شعبة ومقتله

ذكر خروج مطرف بن المغيرة ابن شعبة ومقتله كان خروجه وقتله فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما قدم الحجّاج العراق استعمل أولاد المغيرة على أعماله لشرفهم ومنزلتهم من قومهم، واستعمل عروة [بن المغيرة] «1» على الكوفة، ومطرّفا على المدائن، وحمزة على همذان، فكانوا على أعمالهم أحسن الناس سيرة، وأشدّهم على المريب، وكان المطرّف على المدائن لما خرج شبيب، وقد ذكرنا أن المطرّف أرسل يستدعى منه أن يسيّر إليه من أصحابه من يدارسه ويسمع منه، وأنه سيّر إليه جماعة، ولم يحصل بينهم اتّفاق، وكان ممّا تكلّموا فيه أنّ المطرّف سألهم عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّ الذى نقمنا على «2» قومنا الاستئثار بالفىء وتعطيل الحدود والتسلّط بالجبرية، فقال لهم مطرّف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا، أنا لكم متابع «3» ، فبايعونى «4» على ما أدعوكم إليه: أن نقاتل هؤلاء الظّلمة على أحداثهم، وندعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمّرون من يرضون «5» على مثل الحال التى تركهم عليها عمر بن الخطاب،

فإنّ العرب إذا علمت أنها إنما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وفارقوه، وأحضر مطرّف نصحاءه «1» وثقاته، فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك، وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم، وأنه يرى ذلك دينا لو وجد عليه أعوانا، وذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب، وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل. فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد ابن أبى زياد مولى أبيه: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت فى السحاب «2» لا لتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنّجاء النّجاء. فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، ثم دعا أصحابه الذين لم يعلموا بحاله إلى ما عزم عليه، فبايعه بعضهم، ورجع عنه بعضهم، وسار نحو حلوان وبها سويد بن عبد الرحمن السعدى من قبل الحجاج، [فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج] «3» ، فأوقع مطرّف بالأكراد فقتل منهم، وسار. فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار، وأرسل إلى أخيه حمزة يستمدّه بالمال والسلاح، فأرسل إليه ما طلب

سرّا، وسار مطرّف حتى بلغ قمّ «1» وقاشان، وبعث عماله على تلك النواحى، وأتاه الناس. وكان ممّن أتاه سويد بن سرحان الثقفى، وبكير بن هارون النّخعى «2» ، من الرىّ فى نحو مائة رجل، وكتب البراء بن قبيصة- وهو عامل الحجاج على أصفهان- إليه يعرّفه حال المطرّف ويستمدّه، فأمدّه بالرجال بعد الرجال على دوابّ البريد. وكتب الحجّاج إلى عدىّ بن زياد «3» عامل الرىّ يأمره بقصد مطرّف، وأن يجتمع هو والبراء على محاربته، فسار عدىّ من الرّىّ واجتمع هو والبراء وعدى الأمير، واجتمعوا فى نحو ستة آلاف مقاتل. وكان حمزة بن المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره، وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلى، وهو على شرطة حمزة بعهده على همذان، ويأمره أن يقبض على حمزة ابن المغيرة؛ فسار قيس بن سعد إلى حمزة فى جماعة من عشيرته فأقرأه العهد بولايته، وكتاب الحجّاج بالقبض عليه، فقال: سمعا وطاعة. فقبض قيس عليه وسجنه، وسار عدىّ والبراء نحو مطرّف فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب مطرّف وقتل هو وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمر «4» بن هبيرة الفزارى، وكان الحجاج يقول: إن مطرّفا ليس بولد المغيرة بن شعبة، إنما هو

ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين

ولد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وكان مصقلة والمغيرة يدّعيانه، فألحق بالمغيرة، وجلد مصقلة الحدّ، فلما أظهر رأى الخوارج قال الحجاج ذلك، لأنّ كثيرا من ربيعة كانوا خوارج «1» ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان. انتهت أخبار الخوارج فلنذكر الغزوات فى خلافة عبد الملك ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين فى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين افتتح عبد الملك قيساريّة فى قول الواقدى. وفى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين غزا محمد بن مروان الروم صائفة، فهزمهم، وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وهو فى أربعة آلاف، والروم فى ستين ألفا، فهزمهم وأكثر فيهم القتل. وفى سنة [74 هـ] أربع وسبعين غزا عبد الله بن أمية رتبيل «2» من سجستان، وكان رتبيل هائبا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست «3» راسله رتبيل فى طلب الصلح، وبذل ألف ألف، وبعث إليه بهدايا ورقيق، فأبى عبد الله قبول ذلك، وقال: إن ملأ لى هذا الرّواق ذهبا وإلّا فلا صلح، وكان غرّا، فخلّى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، وأخذ عليه الشّعاب والمضايق [وطلب أن يخلّى عنه

ذكر غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل

وعن المسلمين] «1» ، ولا يأخذ منه شيئا، فأبى رتبيل وقال: يأخذ «2» ثلاثمائة ألف درهم صلحا، ويكتب لنا بها كتابا، ولا يغزو بلادنا مادمت أميرا، ولا يحرق ولا يخرّب. ففعل، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة، وبلغ أندولية، وغزا أيضا فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين صائفة حتى خرجت الروم من قبل مرعش، وغزا أيضا فى سنة [76 هـ] ست وسبعين من ناحية ملطية. وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين غزا أميّة بن عبد الله ماوراء النهر فبلغ بخارى، وخالف عليه بكير بن وسّاج، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع لقتال بكر. وفيها غزا أميّة أيضا، وعبر نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، ورجعوا إلى مرو. وغزا الوليد بن عبد الملك الصائفة. ذكر غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل وفى سنة [79 هـ] تسع وسبعين غزا عبيد الله بن أبى بكرة بلاد رتبيل، وكان الحجاج قد استعمله على سجستان، وكان رتبيل يؤدّى الخراج، وربما امتنع منه، فبعث الحجاج إلى عبيد الله [ابن أبى بكرة] «3» يأمره بمناجزته، وألّا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقتل «4» رجاله.

فسار عبيد الله فى أهل البصرة والكوفة، وعلى أهل الكوفة شريح ابن هانىء؛ فمضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل، فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصونا، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون للمسلمين أرضا بعد أرض، حتى أمعنوا فى بلادهم، ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخا، فأخذ الترك عليهم الشّعاب والعقاب «1» ، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف يوصلها إلى رتبيل ليمكّن المسلمين من الخروج، فلقيه شريح فقال: إنكم لا تصالحون «2» ، على شىء إلّا حسبه السلطان من أعطياتكم، ثم قال: يأهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم، فقال له ابن أبى «3» بكرة: إنك شيخ قد خرفت. فقال شريح: يأهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلىّ، فاتّبعه ناس من المطّوّعة «4» غير كثير، وفرسان الناس، وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، وجعل شريح يرتجز ويقول «5» : أصبحت ذابثّ أقاسى الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا ثمّث أدركت النبىّ المنذرا ... وبعده صدّيقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع فى صفّينهم والنّهرا هيهات ما أطول هذا العمرا «6»

ذكر مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده

وقاتل حتى قتل فى ناس من أصحابه، ونجا من نجا منهم، وخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم [السمن] «1» قليلا قليلا حتى استمرءوا. وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم، وكان قد أصاب أهل الشام طاعون شديد فلم يغز تلك السنة أحد منهم. ذكر مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده كان مسيره فى سنة [80 هـ] ثمانين؛ وذلك أنه لما رجع عبيد الله ابن أبى بكرة ومن معه من بلاد رتبيل على الحال التى ذكرنا كتب الحجاج إلى عبد الملك بخبرهم، ويخبره أنه قد جهّز من أهل الكوفة والبصرة جيشا كثيفا ويستأذنه فى إرساله إلى بلاد رتبيل، فأذن له فى ذلك، فجهّز من أهل الكوفة عشرين ألف فارس ومن أهل البصرة مثلها، وأنفق فيهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، وأعطى كلّ رجل يوصف بشجاعة وغناء، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ولما أراد أن يبعثه على الجيش أتاه «2» إسماعيل بن الأشعث، فقال: لا تبعثه، والله ما جاز جسر الفرات فرأى لوال عليه طاعة، وإنى أخاف خلافه.

فقال الحجاج: هو أهيب لى من أن يخالف أمرى. وسيّره على الجيش، فسار حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولّانى ثغركم، وأمرنى بجهاد عدوّكم الذى استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلّف منكم أحد فتسمه «1» العقوبة. فعسكروا مع الناس، وساروا بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل، فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه، ودخل بلاده، فترك له رتبيل أرضا أرضا ورستاقا رستاقا وحصنا حصنا، وعبد الرحمن يحوى ذلك؛ وكلما حوى بلدا بعث إليه عاملا «2» ، وجعل معه أعوانا، وجعل الأرصاد على العقاب والشّعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى حاز «3» من أرضه أرضا عظيمة، وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة، ومنع الناس من التوغّل، وقال: نكتفى بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجيئها «4» ونعرفها، ويجترى المسلمون على طرقها، وفى العام المقبل نأخذ ما رواءها إن شاء الله تعالى حتى نقاتلهم فى آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم فى أقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. وكتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد. فكتب الحجاج إليه ينكر فعله، ويأمره بالمناجزة، فأدّى ذلك إلى خروج عبد الرحمن على الحجاج على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر

ذكر غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر وفى سنة [80 هـ] ثمانين قطع المهلّب نهر بلخ ونزل على كش «1» ، وكان الحجاج قد استعمله على خراسان حين ضمّها عبد الملك إلى عمله، فسار وعلى مقدمته أبو الأدهم «2» الزمانى فى ثلاثة آلاف، وهم فى خمسة آلاف، ولما نزل المهلّب على كشّ أتاه ابن عم ملك للختّل «3» فدعاه إلى غزو الختّل، فوجّه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختّل السّبل «4» ، فسار يزيد وابن عمّ الملك حتى نازلوه، ونزل كلّ واحد منهما ناحية، فبيّت الملك ابن عمّه، وأخذه فقتله، فحصر يزيد القلعة، فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم. ووجّه المهلّب ابنه حبيبا، فوافى صاحب بخارى فى أربعين ألفا، فنزل جماعة من العدوّ قرية، فسار إليهم حبيب فى أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية فسبّت المحترقة. ورجع حبيب إلى أبيه، وأقام المهلّب بكشّ سنتين، فقيل له: لو تقدّمت إلى ما وراء ذلك! فقال: ليت حظّى من هذه الغزوة سلامة هذا الجند، وعودهم سالمين، ثم صالح أهل كشّ على فدية يأخذها منهم.

ذكر دخول الديلم قزوين وقتلهم

وفى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين سيّر عبد الملك ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا «1» . ذكر دخول الديلم قزوين وقتلهم كانت قزوين ثغرا للمسلمين من ناحية الدّيلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها، يتحارسون ليلا ونهارا، فلما كان فى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين كان فى جملة «2» من رابط بها محمد ابن أبى سبرة الجعفى، وكان فارسا شجاعا، فرأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب، ولا بأس عليكم. ففتحوها، وبلغ ذلك الدّيلم، فساروا إليهم وبيّتوهم، وهجموا إلى البلد؛ فقال ابن أبى سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم، فقد أنصفونا، وقاتلوهم. فغلّقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبى سبرة بلاء عظيما، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الدّيلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يقدم الدّيلم بعدها على مفارقة أرضهم، فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه. [والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] «3» .

ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس

ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس «1» وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، فلما بلغه خروجه عن القلعة سار إليها وحاصرها. فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيما، وفيها يقول كعب بن معدان الأشقرى، «2» : وباذغيس التى من حلّ ذروتها ... عزّ الملوك فإن شاجار أو ظلما منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلّا إذا واجهت جيشا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما وهى أبيات عديدة. وقال أيضا يذكر يزيد [رحمه الله] «3» وفتحها «4» : نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزلة أعيا الملوك اغتصابها محلّقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زلّ «5» عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطّير إلّا نسرها وعقابها وما خوّفت بالذّئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلّا النجوم كلابها

ذكر فتح المصيصة

ذكر فتح المصيصة وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين أيضا غزا عبد الله بن عبد الملك الرّوم، ففتح المصّيصة «1» وبنى حصنها، وجعل فيها ثلاثمائة مقاتل من ذوى البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها. وغزا محمد بن مروان أرمينية. وفى سنة [85 هـ] خمس وثمانين غزا المفضل بن المهلب باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه، فأصاب كلّ رجل ثمانمائة «2» ، ثم غزا أخرون «3» وشومان، فغنم وقسّم ما أصاب. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية، فصاف فيها وشتا. انتهى ذكر الغزوات والفتوحات. ذكر الحوادث الكائنة فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر خلاف ما ذكرناه، وذلك على حكم السنين قد ذكرنا حوادث السنين فى أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما إلى أن قتل فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين، وذكرنا ما هو متعلّق بهذه الدولة الأموية فى أثناء أخبار عبد الملك، فلنذكر خلاف ذلك.

سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين:

سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين: ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية فى هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمدا على الجزيرة، وكانت بحيرة أرمينية مباحة لم يعرض لها أحد، بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليه من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، واستمرّ ذلك بعده. وفيها عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة، واستعمل عليها أخاه بشر بن مروان، فاجتمع له المصران: الكوفة، والبصرة، فسار بشر إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث. وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج وهو على مكّة واليمن واليمامة، وكان على قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام ابن هبيرة، وكان على خراسان بكير بن وسّاج «1» . وفيها مات عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما بمكة وكان سبب وفاته أن الحجاج أمر بعض أصحابه، فضرب ظهر قدمه بزجّ رمح مسموم، فمات منها، وعاده الحجاج فى مرضه، فقال: من فعل بك هذا؟ فقال: أنت، لأنك أمرت بحمل السلاح فى بلد لا يحلّ حمله فيه. وكانت وفاته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وكان عمره سبعا وثمانين سنة، ومات غيره من الصحابة رضى الله عنهم.

سنة (74 هـ) أربع وسبعون:

سنة (74 هـ) أربع وسبعون: فى هذه السنة عزل عبد الملك طارقا «1» عن المدينة، واستعمل عليها الحجاج، ففعل ما قدّمنا ذكره. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولانى. وفيها استعمل عبد الملك أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد «2» ، على خراسان، وعزل عنها بكير بن وسّاج، فسار أميّة إليها، فلقيه بحير «3» بن ورقاء بنيسابور، وأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها، ورفع على بكير أموالا أخذها وحذره غدره «4» ، وسار معه حتى قدم مرو، وكان أميّة كريما فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه شرطته، فأبى فولّاها بحير بن ورقاء، ثم خيّر بكيرا أن يولّيه ما شاء من خراسان، فاختار طخارستان. قال: فتجهّز لها، فأنفق مالا كثيرا؛ فقال بحير لأمية: إن أتى طخارستان خلعك، وحذّره فلم يولّه. وفيها استعمل عبد الملك حسّان بن النعمان الغسّانى على إفريقية، وسيذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار إفريقية. وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج بن يوسف. وفيها توفى بشر بن مروان بالبصرة، واستخلف قبل وفاته خالد ابن عبد الله بن خالد على البصرة، وكان خليفته على الكوفة عمرو

سنة [75 هـ] خمس وسبعين.

ابن حريث؛ فكانوا على ذلك إلى أن قدم الحجاج بن يوسف الثقفى أميرا سنة [75 هـ] خمس وسبعين. ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراق وما فعله عند مقدمه وفى هذه السنة استعمل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق دون خراسان وسجستان، وأرسل «1» إليه بعهده وهو بالمدينة، فسار فى اثنى عشر راكبا على النّجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد، فصعد المنبر وهو متلثّم بعمامة خزّ حمراء، فقال: علىّ بالناس، فحسبوه خارجيّا، فهمّوا به وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم، فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول عمير بن ضابىء البرجمى حصى «2» وقال: ألا أحصبه لكم! فقالوا: أمهل حتى ننظر. وقيل: إن الذى همّ بحصبه محمد بن عمير وقال: قاتله الله ما أعياه وأدمّه «3» ، والله إنى لأحسب خبره كرؤياه «4» . فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده وهو لا يعقل، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن وجهه ونهض فقال: انا ابن جلا «5» وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونى أما والله إنى لأحمل الشر محمله، فآخذه «6» بفعله، وأجزيه بمثله،

وإنى لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وإنى لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى ... قد شمرت عن ساقها تشميراه. هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «1» ليس براعى إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «2» قد لفّها اللّيل يعصلبى «3» ... أروع خرّاج من الدوى «4» مهاجر ليس بأعرابى قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا والقوس فيها وتر عردّ «5» ... مثل ذراع البكر أو أشدّ ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط «6» يهوى هوى سابق الغطاط «7» إنى والله يأهل العراق ما يقعقع لى بالشّنان «8» ، ولا يغمز جانبى تغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ «9» : «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ

فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» . فأنتم أولئك وأشباه أولئك. إنّ أمير المؤمنين عبد الملك نثر «1» كنانته فعجم «2» عيدانها عودا عودا، فوجدنى أمرّها عودا «3» ، وأصلبها مكسرا، فوجّهنى إليكم، ورمى بى فى نحوركم، فإنكم أهل بغى وخلاف وشقاق ونفاق، طالما أوضعتم فى الشرّ، واضطجعتم فى الضلالة، وسننتم سنن الغىّ، فاستوثقوا «4» واستقيموا، فو الله لأذيقنّكم الهوان ولأمرينّكم «5» حتى تدرّوا، ولألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلم «6» ، حتى تذلّوا، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنّكم قرع المروة حتى تلينوا. إنى والله ما أعد إلّا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق «7» إلّا فريت، فإياى وهذه الجماعات، فلا يركبنّ رجل إلّا وحده، أقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف، ولتدعنّ الإرجاف، وقيلا وقالا، وما يقول فلان، وأخبرنى فلان، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده، فيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على الحقّ أو لأضربنّكم بالسيف ضربا يدع النساء أيامى والولدان يتامى، وحتى تذروا السّمّهى «8» وتقلعوا

عن هاوها «1» ، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ماجبى فىء ولا قوتل عدوّ، ولعطّلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، ولقد بلغنى رفضكم المهلّب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين وإنى أقسم بالله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثالثة «2» إلّا ضربت عنقه، وأنهبت داره. ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرىء، فلما قال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: سلام عليكم، فإنى أحمد الله إليكم- فلم يقل أحد شيئا، فقال: اكفف، ثم قال: يا عبيد العصا، يسلّم عليكم أمير المؤمنين فلا يردّ رادّ منكم السلام. هذا أدب ابن نهيّة «3» ، أدّبكم به، والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمنّ. ثم قال، للقارىء: اقرأ. فلما بلغ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. ثم نزل ودخل منزله، ودعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلّب، وائتونى بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضى هذه المدة. قال: فلما كان فى اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج وجلس على المنبر، فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنّفاق

ومساوىء الأخلاق، إنى سمعت تكبيرا ليس بالتّكبير الذى يراد به وجه الله، ولكنه التكبير الذى يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف «1» ، يا بنى اللّكيعة «2» ، وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه «3» ويحسن حقن دمه، ويعرف «4» موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. فقام إليه عمير بن ضابىء الحنظلى «5» التميمى، فقال: أصلح الله الأمير، أنا فى هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل، وابنى هذا هو أقوى منى على الأسفار أفتقبله منّى بديلا؟ فقال: نفعل. ثم قال: ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء. قال: أسمعت كلامنا بالأمس! قال: نعم. قال: ألست الذى غزا عثمان بن عفّان؟ قال: بلى. قال: يا عدوّ الله، أفلا بعثت بديلا إلى أمير المؤمنين، وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبى، وكان شيخا كبيرا. قال: أولست القائل «6» : هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله إنى لأحسب أنّ فى قتلك صلاح المصرين، وأمر به فضربت رقبته، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى: ألا إنّ عمير بن ضابىء أتى

بعد ثالثة «1» ، وكان قد سمع النداء، فأمرنا بقتله، ألا وإن ذمّة الله بريئة ممّن بات الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلّب وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلّب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم فويل «2» العدو. وقال: ولما قتل الحجاج عميرا لقى إبراهيم بن عامر الأسدى عبد الله بن الزّبير «3» [رضى الله عنهما] «4» فى السوق، فسأله عن الخبر، فقال «5» : أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أضحى منصبا متشعبا تجهّز فأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا فى المهالك مذهبا تخير فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلّبا هما خطّتا خسف «6» نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج «7» أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هى أقربا

قال: وكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلّف عن الوجه الذى يكتب إليه. قال الشعبى: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الذى يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم نزعت عمامته ويقام للناس، ويشهر أمره، فلما ولى مصعب قال: ما هذا بشىء، وأضاف إليه حلق الرءوس واللّحى، فلما ولى بشر بن مروان زاد فيه، فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمّر فى يديه مسماران فى حائط، فربما مات، وربما خرق المسمار يده، فسلم. فلما ولى الحجاج قال: كلّ هذا لعب، أضرب عنق من يخلّ «1» بمكانه من الثغر. قال: وكان قدوم الحجاج فى شهر رمضان، فوجّه الحكم بن أيوب الثقفى على البصرة أميرا، وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، فبلغ الخبر خالدا فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء «2» وشيّعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألف.

ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج

ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج قال: ثم خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة. فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة، وتوعّد من رآه منهم بعد ثالثة «1» ، ولم يلحق بالمهلّب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكرى وكان به فتق، فقال: أصلح الله الأمير، إن بى فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرنى، وهذا عطائى مردود فى بيت المال، فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلّا لحق به. ثم سار الحجاج إلى رستقباذ «2» ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، وقال حين نزل بها: يأهل المصرين، هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يهلك الله عدوّكم، هؤلاء الخوارج المطلين عليكم. ثم خطب يوما فقال: إن الزيادة التى زادكم إياها ابن الزبير إنما هى زيادة ملحد فاسق منافق، ولسنا نجيزها- وكان مصعب قد زاد الناس فى العطاء مائة مائة- فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست زيادة ابن الزبير، إنما هى زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر.

فقال له الحجاج: ما أنت والكلام! لتحسننّ حمل رأسك أو لأسلبتّك إيّاه. فقال: ولم؟ إنى لك لناصح، وإن هذا لقول من ورائى. فنزل الحجاج ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها، فردّ عليه ابن الجارود مثل رده الأول، فقام مصقلة بن كرب العبدى، فقال: إنه ليس للرعيّة أن تردّ على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعا وطاعة فيما أحبّ «1» وكرهنا. فسبّه ابن الجارود وقام فأتاه وجوه الناس فصوّبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمى وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعى وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافّ حتى ينقصنا هذه الزيادة فهلمّ نبايعك على إخراجه من العراق، ثم نكتب إلى عبد الملك أن يولّى علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج. فبايعه الناس سرّا، وأعطوه المواثيق على الوفاء، وبلغ الحجاج ما هم فيه، فأحرز بيت المال. فلما تمّ لهم أمرهم أظهروه، وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة [76 هـ] ست وسبعين، واجتمع الناس على ابن الجارود حتى لم يبق مع الحجاج إلّا خاصّته وأهل بيته، وأرسل الحجاج أعين صاحب حمّام أعين «2» إلى ابن الجارود يستدعيه، فقال: لا كرامة لابن أبى رغال «3» ، ولكن ليخرج عنّا مذموما مدحورا، وإلا قاتلناه. قال أعين:

فإنه يقول لك: أتطيب نفسا بقتلك وقتل بيتك وعشيرتك! والذى نفسى بيده لئن لم تأت لأدعنّ قومك وأهلك خاصة حديثا للغابرين. وكان الحجاج قد حمّل أعين هذه الرسالة؛ فقال ابن الجارود: لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة، وأمر فوجىء فى عنقه، وأخرج. وأقبل ابن الجارود بالناس زحفا نحو الحجّاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه. فلما صاروا إليه نهبوا ما فى فسطاطه. وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابّه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخى سهيل بن عمرو. ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه. فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خوفا من محاربة الخليفة، فجعل الغضبان ابن القبعثرى الشيبانى يقول لابن الجارود: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك. أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره، ولتضعفنّ منّتكم «1» . فقال: قد قرب المساء. ولكنا نعاجله بالغداة، وكان مع الحجاج عثمان بن قطن، وزياد بن عمرو العتكى، وكان زياد على شرطته بالبصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أرى أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين، فقد ارفضّ أكثر الناس عنك، ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك. فقال عثمان بن قطن الحارثى: لكنى لا أرى ذلك، إنّ أمير المؤمنين

قد شركك فى أمره، وخلطك بنفسه، واستنصحك وسلّطك، فسرت إلى ابن الزبير وهو أعظم الناس خطرا فقتلته، فولّاك الله شرف ذلك وسناءه، وولّاك أمير المؤمنين العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذى أنت فيه من السلطان أبدا، ولكنى أرى أن نمشى بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما. فقال له الحجاج: الرّأى ما رأيت، وحفظ «1» هذه لعثمان، وحقدها على زياد، وجاء عامر بن مسمع إلى الحجاج فقال: إنى قد أخذت لك أمانا من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمّنهم أبدا حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم. ومرّ عباد بن الحصين الحبطى «2» بابن الجارود وابن الهذيل وابن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا فى نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل فى نجوانا أحد من الحبط، فغضب وسار إلى الحجاج فى مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالى من تخلّف بعدك. وأتاه قتيبة بن مسلم فى قومه من بنى أعصر، وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأنّ، ثم جاءه سبرة بن على الكلابى، وسعيد بن أسلم بن زرعة، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع يقول: إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبّط الناس عنى. فلما اجتمع للحجاج عدد «3» يمنع بمثلهم خرج، وعبّأ أصحابه،

وتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف، فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأى؟ قال: تركت الرأى أمس حين قال لك الغضبان: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك. وقد ذهب الرأى وبقى الصبر. فحرّض ابن الجارود الناس، وزحف بهم وعلى ميمنته الهذيل ابن عمران، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وتقدم الحجاج وعلى ميمنته قتيبة بن مسلم، ويقال عبّاد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، فحمل ابن الجارود فى أصحابه حتى جاوز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعة وعاد ابن الجارود بظفر، فأتاه سهم غرب «1» فقتله، ونادى منادى الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر ألّا يتبع المنهزمون. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فأتى سعيد [ابن عباد الجلندى الأزدى بعمان، فقيل لسعيد: إنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه] «2» بنصف بطيخة مسمومة، وقال: هذا أوّل شىء جاءنا منه، وقد أكلت نصف هذه، وبعثت إليك بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسّ بالشر، فقال: أردت أن أقتله فقتلنى. قال: وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر من وجوه أصحابه إلى المهلب، فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف. وحبس الحجاج عبيد بن كعب النميرى ومحمد بن [عمير بن] «3»

ذكر ما كلم به الحجاج أنس بن مالك

عطارد، فإنه كان قد بعث إلى كلّ منهما يقول: هلمّ إلىّ فامنعنى، فقال: إن أتيتنى منعتك. وحبس الغضبان وقال: أنت القائل: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك! فقال: ما نفعت من قيلت له ولا ضرّت من قيلت فيه! فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه. ذكر ما كلم به الحجاج أنس بن مالك رضى الله عنه وشكواه إياه وما كتب به عبد الملك من الإنكار على الحجاج وسبّه بسببه قال: كان عبد الله بن أنس بن مالك الأنصارى رضى الله عنه ممن قتل مع ابن الجارود، فلما دخل الحجاج البصرة أخذ ماله، فدخل عليه أنس بن مالك رضى الله عنه، فحين رآه الحجاج قال له: لا مرحبا ولا أهلا، إيه يا خبثة «1» ؛ شيخ ضلالة، جوّال فى الفتن، مرّة مع أبى تراب، ومرّة مع ابن الزّبير، ومرّة مع ابن الجارود؛ أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصّمغة. فقال أنس: من يعنى الأمير؟ فقال: إياك أعنى، أصمّ الله صداك. فرجع أنس، فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج وما صنع به. فكتب عبد الملك إلى الحجّاج: أما بعد يابن أمّ الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فغلوت فيها حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، يابن المستفرمة بعجم الزبيب «2» لأغمزنّك غمزة كبعض

غمزات الليوث «1» الثعالب، ولأخبطنّك خبطة تودّ لها لو أنك رجعت فى مخرجك من بطن أمك. أما تذكر حال آبائك بالطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحفرون الآبار بأيديهم فى أوديتهم ومياههم؛ أم نسيت حال آبائك فى اللؤم والدناءة فى المروءة والخلق. وقد بلغ أمير المؤمنين الذى كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظنّك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين فى أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه قدما، فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين «2» ، أصكّ «3» الرجلين، ممسوح الجاعرتين «4» ، ولولا أنّ أمير المؤمنين ظنّ أن الكاتب كثّر [فى الكتابة] «5» عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأتاك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتى بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقّه وخدمته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا تقصّرنّ فى شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدّم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فيبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوّك، والقه فى منزله متنصّلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك، إن شاء الله. والسلام.

وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بنى مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب فجعل يقرؤه ووجهه يتغيّر ويتمعّر «1» ، وجبينه يرشح عرقا، ثم قال «2» : يغفر الله لأمير المؤمنين. ثم اجتمع بأنس فرحّب به الحجاج، وأدناه، واعتذر إليه، وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أنى إليهم بالعقوبة أسرع. فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ منى الجهد، وقد زعمت أنّا الأشرار، وقد سمّانا الله الأنصار، وزعمت أنّا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدّار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتنى ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرّم الله عليك منى، ولم يكن لى عليك قوة، فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقّى ما لم تحفظ، فو الله لو أنّ النصارى على كفرهم رأوا رجلا خدم عيسى ابن مريم يوما واحدا لعرفوا من حقّه ما لم تعرف أنت من حقى، وقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عليه، وأثنينا، وإن رأينا غير ذلك صبرنا. والله المستعان. وردّ عليه الحجاج ما كان أخذ منه.

ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله وولاية مجاعة بن سعر التميمى ووفاته

ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله وولاية مجّاعة بن سعر «1» التميمى ووفاته وفى هذه السنة استعمل الحجاج على السند سعيد بن أسلم ابن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان. فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجّاعة بن سعر التميمى إلى السند، فغلب على ذلك الثّغر، وغزا وفتح أماكن من قندابيل «2» ، ومات مجّاعة بعد سنة بمكران «3» . [والله أعلم] . «4» ذكر خبر الزنج بالبصرة قال: كان الزنج قد اجتمعوا بفرات البصرة فى آخر أيام مصعب، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا. فلما ولى خالد بن عبد الله البصرة كثروا، فشكا الناس إليه ما ينالهم منهم، فجمع لهم جيشا، فلما بلغهم ذلك تفرّقوا، وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم، فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرناه اجتمع من الزنج خلق كثير بالفرات، وجعلوا عليهم رجلا منهم اسمه رباح ويلقّب شيرزنجى «5» يعنى أسد الزنج، [فأفسدوا] «6» ، فأمر الحجاج زياد بن عمرو وهو على شرطة البصرة

سنة (76 هـ) ست وسبعين:

أن يرسل إليهم جيشا، فندب ابنه حفص بن زياد فقتلوه، وهزموا أصحابه، فسيّر إليهم جيشا آخر فهزم الزنج وقتلهم، واستقامت البصرة. وفى هذه السنة حجّ عبد الملك بالناس فخطب الناس بالمدينة، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإنى لست بالخليفة المستضعف- يعنى عثمان، ولا بالخليفة المداهن- يعنى معاوية، ولا بالخليفة المأفون «1» - يعنى يزيد، ألا وإنى لا أداوى هذه الأمّة إلّا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، وإنكم تكلّفونا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه. ثم نزل. سنة (76 هـ) ست وسبعين: ذكر ضرب الدنانير والدراهم الاسلامية وفى هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم الإسلامية، وهو أوّل من أحدث ضربها فى الإسلام؛ وكان سبب ذلك أنه كتب فى صدور الكتب إلى الروم: قل هو الله أحد. وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلّم مع التاريخ. فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم هذا فاتركوه، وإلا أتاكم فى دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك على عبد الملك، واستشار خالد بن يزيد بن معاوية، فقال: حرّم دنانيرهم، واضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى.

سنة سبع وسبعين:

فضرب الدنانير والدراهم ونقش عليها: قل هو الله أحد. فكره الناس ذلك لمكان القرآن؛ لأن الجنب والحائض تمسّها «1» ، ثم ضربها الحجاج. وقد قيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله، ثم كسرت بعد ذلك فى أيام عبد الملك. والصحيح أنّ عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم فى الإسلام. *** وفيها استعمل عبد الملك أبان بن عثمان على المدينة. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير «2» المدينة، وكان على العرق الحجاج، وعلى خراسان أميّة بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. سنة سبع وسبعين: ذكر مقتل بكير بن وساج وفى هذه السنة قتل أميّة بن عبد الله أمير خراسان بكير بن وسّاج «3» ، وسبب ذلك أن أمية أمر بكيرا أن يتجهّز لغزو ما وراء النّهر، فتجهّز وأنفق نفقة كبيرة، فقال بحير بن ورقاء لأمية: إن صار بينك وبينه النّهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أميّة يقول: أقم لعلّى أغزو فتكون معى، فغضب بكير، وكان قبل ذلك قد ولّاه طخارستان، وأنفق

نفقة عظيمة، فحذّره بحير منه فمنعه منها، ثم إن أمية تجهّز للغزو إلى بخارى وتجهّز معه الناس، وفيهم بكير بن وسّاج، فلما بلغوا النّهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إنى قد استخلفت ابنى على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها، لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها، فقد ولّيتكها، فقم بأمر ابنى. فانتخب بكير فرسانا كان قد عرفهم ووثق بهم، ورجع. ومضى أميّة إلى بخارى فقال عقاب «1» الغدانى لبكير: إنّا طلبنا أميرا من قريش، فجاءنا أمير يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن، وإنى أرى أن نحرق هذه السفن، ونمضى إلى مرو، ونخلع أمية ونقيم بمرو، نأكلها إلى يوم ما، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبرى على هذا، فقال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معى. قال: إن هلك هؤلاء أنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادى مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أميّة ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدّة ونجدة وسلاح ظاهر، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين. فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فحبس ابن أميّة وخلع أمية، وبلغ أمية الخبر، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع وأمر «2» باتخاذ السفن، وعبر، وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى، وأنه كافأه بالعصيان.

وسار إلى مرو، وأرسل شمّاس بن دثار فى ثمانمائة، فسار بكير إليهم، فانهزم شمّاس، وأمر أصحابه ألّا يقتلوا منهم أحدا، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم. وقدم أميّة فتلقّاه شماس، فقدم ثابت ابن قطبة فلقيه بكير فأسره، وفرّق جمعه، ثم أطلقه ليد كانت لثابت عنده. وأقبل أميّة وقاتله بكير فكان بينهم وقعات فى أيام، فانكشف أصحاب بكير فى بعضها، فاتبعه حريث بن قطبة حتى بلغ القنطرة وناداه إلى أين يا بكير! فرجع فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر، وعضّ السيف برأسه فقطع فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه البلد. وكان أصحاب بكير يفدون «1» فى الثياب المصبّغة فيجلسون يتحدثون. وينادى مناديهم من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد. وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح؛ وأحبّ ذلك أيضا أصحاب أميّة، فاصطلحوا على أن يقضى عنه أمية أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أىّ كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوما. ودخل أمية مدينة مرو، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان من الكرامة «2» ، وأعطى أمية عقابا «3» عشرين ألفا، وكان أمية سهلا

سنة (78 هـ) ثمان وسبعين)

ليّنا سخيّا، وكان مع ذلك ثقيلا على أهل خراسان، وكان فيه زهد «1» . وعزل أمية بحيرا عن شرطته وولّاها عطاء بن أبى السائب، وطالب أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم، فجلس بكير فى المسجد وعنده الناس، فذكروا شدّة أمية فذمّوه وبحير، وضرار بن حصن «2» ، وعبد «3» العزيز بن جارية بن قدامة فى المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أميّة فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبى المجشّر السلمى أنه كان يمزح، فتركه أميّة، ثم إن بحيرا أتى أميّة وقال: والله إن بكيرا قد دعانى إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشى، وأكلت خراسان. فلم يصدّقه أمية، فاستشهد جماعة ذكر بكير أنهم أعداؤه. فقبض أمية على بكير وعلى ابنى أخيه: بدل، وشمردل، ثم أمر بعض الرؤساء بقتل بكير، فامتنعوا فأمر بحيرا بقتله فقتله، وقتل أمية ابنى أخى بكير. وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان. وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصارى. سنة (78 هـ) ثمان وسبعين) فى هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان؛ وضمهما إلى أعمال الحجاج، فاستعمل

الحجاج المهلّب بن أبى صفرة على خراسان وعبيد «1» الله بن أبى بكرة على سجستان، فبعث المهلب ابنه حبيبا إلى خراسان، فلما ودّع الحجاج أعطاه بغلة خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فوصل خراسان فى عشرين يوما، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب، فنفرت البغلة فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدّة السير، ولم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلّب فى سنة [79 هـ] تسع وسبعين. وحجّ بالناس [فى هذه السنة] «2» أبان بن عثمان «3» ، وكان العمال من ذكرنا، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. سنة (79 هـ) تسع وسبعين: فى هذه السنة استعفى شريح بن الحارث من القضاء فأعفاه الحجّاج، واستعمل على القضا، أبا بردة بن أبى موسى. وحجّ بالناس أبان بن عثمان وهو أمير المدينة. سنة (80 هـ) ثمانين: فى هذه السنة حجّ بالناس أبان بن عثمان، وفيها توفى أبو إدريس الخولانى، وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب. وقيل سنة [84 هـ] أربع وثمانين، وقيل سنة خمس. وقيل سنة ستّ. وقيل سنة تسعين. والله أعلم.

سنة (81 هـ) احدى وثمانين:

وفيها توفى محمد بن على بن أبى طالب [رضى الله عنهما] «1» ، وهو ابن الحنفيّة، ومات جماعة من الصحابة رضى الله [تعالى] «2» عنهم [أجمعين] «3» . سنة (81 هـ) احدى وثمانين: ذكر مقتل بحير بن ورقاء [بشر القاتل بالقتل لأنه كان سببا وباعثا لقتل بكير بن وساج] «4» فى هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصّريمى. وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وسّاج وكلاهما كان تميميا- قال عثمان بن رجاء ابن جابر أحد بنى «5» عوف بن سعد من الأبناء، والأبناء عدة بطون من تميم، يحرّض «6» بعض آل بكير من الأبناء على الطلب بثأره «7» : العمرى لقد أغضيت عينا على القذى ... وبتّ بطينا من رحيق مروّق «8» وخلّيت «9» ثأرا طلّ واخترت نومة ... ومن شرب «10» الصّهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا فى دم مترقرق

فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... ببكر «1» فعوف أهل شاء حبلّق «2» دع «3» الضّأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق وهبّوا فلو أمسى «4» بكير كعهده ... لغاداهمو زحفا بجأواء فيلق «5» وقال أيضا «6» : فلو كان بكر بارزا فى أداته ... وذى العرش لم يقدم عليه بحير ففى الدهر إن أبقانى الدّهر مطلب ... وفى الله طلّاب بذاك جدير فبلغ بحيرا أن رهط بكير من الأبناء يتوعّدونه، فقال «7» : توعّدنى الأبناء جهلا كأنّما ... يرون فنائى مقفرا من بنى كعب

رفعت له كفّى بعضب «1» مهنّد ... حسام كلون الملح «2» ذى رونق عضب فتعاقد سبعة «3» عشر من بنى عوف على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له شمردل «4» من البادية حتى قدم خراسان، فرأى بحيرا واقفا، فحمل عليه فطعنه فصرعه، وظنّ أنه قتله، وركض، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل. وخرج صعصعة بن حرب العوفى من البادية، ومضى إلى سجستان، فجاور قرابة لبحير مدة، وادّعى أنه من بنى حنيفة من اليمامة، وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لى بخراسان ميراثا فاكتبوا لى إلى بحير كتابا ليعيننى على حقّى. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير فأخبره أنّه من من بنى حنيفة وأنّ له مالا بسجستان وميراثا بمرو، وقدم ليبيعه «5» ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير، وأمر له بنفقة، ووعده المساعدة. وكان بحير قد حذر، فلما قال له: إنه من بنى حنيفة أمنه، وكان إذ ذاك فى الغزو مع المهلب. فقال له: أقيم معك حتى ترجع إلى مرو، فأقام شهرا يحضر معه باب المهلّب، فجاء صعصعة يوما وبحير عند باب المهلب وعليه قميص ورداء، فقعد خلفه، ودنا منه كأنه يكلّمه، فوجأه بخنجر معه فى خاصرته، فغيّبه فى جوفه. ونادى يالثارات بكير! فأخذ وأتى به المهلب، فقال له: بؤسا لك!

ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس! فقال: لقد طعنته طعنة لو قسّمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه فى يدى. فحبسه المهلّب، ومات بحير من الغد، فقال صعصعة: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد خلت خدور «1» نساء بنى عوف، وأدركت بثأرى. والله لقد أمكننى منه [ما صنعت] «2» خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرّا. فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت من هذا، وأمر بقتله، فقتل. وقيل: إنه بعثه إلى بحير قبل أن يموت فقتله، وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما أخذ بثأره، فنازعتهم مقاعس والبطون، وكلّهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجا: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير [بواء] «3» ببكير، فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة «4» : لله درّ فتى تجاوز همّه ... دون العراق «5» مفاوزا وبحورا ما زال يدئب «6» نفسه وركابه ... حتى تناول فى الحزون «7» بحيرا

ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث

ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج وما كان بينهما من الحروب كان ابتداء خلافه على الحجاج فى هذه السنة، واستمرت الوقائع التى نذكرها بينهما إلى سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، وقد رأينا أن نجمع أخباره بجملتها فى هذا الموضع، ولا نقطعها بغيرها، ونميّز كل وقعة منها بتاريخها. وكان سبب خلافه أنّ الحجاج لما بعثه فى الجنود إلى بلاد رتبيل فى سنة [80 هـ] ثمانين كما ذكرنا فى الغزوات، وملك ما ملك من من حصون رتبيل، واستولى على ما استولى عليه من بلاده، وأقام، وكتب إلى الحجاج يعرّفه أنه رأى ترك التوغّل فى بلاد رتبيل حتى يعرفوا طرقها ويجبوا خراجها. فلما ورد كتابه على الحجّاج كتب إليه: إنّ كتابك كتاب امرىء يحبّ الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض إلى «1» ما أمرتك من الوغول فى أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريّهم، ثم أردفه كتابا آخر [بنحو ذلك] «2» ، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا بها، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه كتابا ثالثا كذلك، ويقول: إن مضيت إلى ما أمرتك

وإلّا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس. فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس، إنّى لكم ناصح ولصلاحكم محبّ، ولكم فى كل ما يحيط به نفعكم «1» ناظر، وقد كان رأيى فيما بينى وبين عدوى «2» ما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج، فأتانى كتابه يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم فى أرض العدوّ، وهى البلاد التى هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس وقالوا: بل، نأبى على عدوّ الله، ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو الطّفيل عامر بن واثلة الكنانى، وله صحبة، فقال- بعد حمد الله: أما بعد فإنّ الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول [إذ قال لأخيه] «3» : احمل عبدك على الفرس، إن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجاج لا يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا «4» كثيرة، ويغشى بكم اللهوب واللّصوب «5» ، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة فى سلطانه؛

وإن ظفر عدوّكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عنتهم، ولا يبقى عليهم، اخلعوا عدوّ الله الحجاج، وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإنى أشهدكم أنّى أوّل خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدوّ الله. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعى ثانيا فتكلّم، وندب الناس إلى مبايعة عبد الرحمن، فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من العراق، ولم يذكر عبد الملك، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه وعلى النّصرة له، فصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل أبدا، وإن هزم فأراده منعه «1» . ثم جعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشّيبانى وعلى زرنج «2» عبد الله بن عامر التميمى، وعلى كرمان خرشة بن عمرو التميمى، ورجع إلى العراق، وجعل على مقدّمته عطية بن عمرو العنبرى. فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان «3» ابن أبجر بن تيم الله بن ثعلبة «4» ، قام فقال: أيها الناس، إنى خلعت

أبا ذبّان «1» كخلعى خاتمى «2» ، فخلعه الناس إلّا قليلا منهم، وبايعوا عبد الرحمن. وكانت بيعته يبايعون على كتاب الله وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعلى جهاد أهل الضّلالة، وخلعهم، وجهاد المحلّين. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بالخبر، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى بلغ البصرة. ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من سجستان فلا تخفه، وإن كان من خراسان فإنى أتخوّف. فجهّز عبد الملك الجند على البريد، فكانوا يصلون من مائة ومن خمسين وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج من البصرة إلى تستر «3» ، وقدم مقدمته إلى دجيل، فلقوا خيلا لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال، وذلك يوم الأضحى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير. فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن، فقتلوا من أصحابه وأصابوا بعض أثقالهم. وأقبل الحجاج حتى نزل الزّاوية «4» ، وجمع عنده الطعام، وفرّق فى الناس

ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث من البصرة إلى الكوفة

مائة وخمسين ألف درهم، وأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها. وكان السبب فى سرعة إجابتهم إلى بيعته أنّ عمّال الحجاج كتبوا إليه إنّ الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل فى قرية فليخرج إليها، فأخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه! يا محمداه! وجعل قرّاء البصرة يبكون. فلما قدم ابن الأشعث إثر ذلك بايعوه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك؛ وخندق الحجاج على نفسه، وخندق عبد الرحمن على البصرة، وكان دخوله البصرة فى آخر ذى الحجة. ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث من البصرة إلى الكوفة وفى المحرم سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين اقتتل عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث قتالا شديدا، وكان بينهم عدّة وقعات، فلما كان آخر يوم من المحرم اشتدّ القتال، فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه، وقاتلوا على خنادقهم، ثم تزاحفوا فتقوّض أصحاب الحجاج، فجثا على ركبتيه، وقال: لله درّ مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل، وعزم على أنه لا يفر. فحمل سفيان بن الأبرد على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وانهزم

أهل العراق، وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن، وقتل منهم خلق كثير، منهم: عقبة بن عبد الغافر الأزدى وجماعة من القرّاء. ولما بلغ ابن الأشعث الكوفة تبعه أهل القوّة وأصحاب الخيل من البصرة، واجتمع من بقى بالبصرة مع عبد الرحمن بن عباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال أشدّ قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث ومعه «1» طائفة من أهل البصرة، وهذه الوقعة تسمّى وقعة الزّاوية. وقتل الحجاج فى هذا اليوم بعد الهزيمة أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى: الأمان لفلان وفلان، سمّى رجالا، فقال العامّة: قد أمن الناس، فحضروا عنده، فأمر بهم فقتلوا. قال: وكان الحجّاج عند مسيره من الكوفة إلى البصرة استعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمى حليف بنى أميّة، فقصده مطر بن ناجية اليربوعى، فتحصّن منه ابن الحضرمىّ فى القصر، فوثب أهل الكوفة مع مطر، فأخرج ابن الحضرمى ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع إليه الناس، ففرّق فيهم لكلّ إنسان مائتى درهم. فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، فدخل الكوفة، وقد سبق إليه همدان فكانوا حوله، فأتى القصر فمنعه مطر بن ناجية ومن معه من بنى تميم، فأصعد

ذكر وقعة دير الجماجم

عبد الرحمن الناس فى السلاليم إلى القصر فأخذوه، وأتى عبد الرحمن بمطر فحبسه ثم أطلقه. ذكر وقعة دير الجماجم [وانهزام أصحاب ابن الأشعث وعود الحجاج إلى الكوفة] «1» كانت وقعة دير الجماجم «2» فى شعبان سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين، وقيل: كانت فى سنة ثلاث وثمانين. والذى يقول: إنها فى سنة ثلاث يقول: كان نزولهم بدير الجماجم لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، والهزيمة لأربع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة منها، فكانت مائة يوم وثلاثة أيام. والله أعلم. وكان سبب هذه الوقعة أنّ الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن الأشعث، ونزل دير «3» قرّة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم، واجتمع لعبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح والقراء، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم «4» ، وجاءت الحجاج أمداد الشام قبل نزوله بدير قرّة، وخندق كلّ منهما على نفسه، وكان الناس يقتتلون كل يوم، ولا يزال أحدهما يدنى خندقه من الآخر. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان- وكان محمد بأرض الموصل- فى جند كثيف إلى الحجاج، وأمرهما أن يعرضا

على أهل العراق عزل الحجاج، وأن يجرى عليهم أعطياتهم، كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن الأشعث أى بلد شاء من العراق، فإذا نزل كان واليا عليها مادام حيّا، وعبد الملك خليفة. فإن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنهم «1» ، وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق ذلك فالحجاج أمير الجماعة ووالى «2» القتال، ومحمد وعبد الله فى طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قطّ كان أشدّ عليه ولا أوجع لقلبه منه، وخشى أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو «3» أعطيت أهل العراق عزلى «4» لم يلبثوا إلّا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جراءة عليك، ألم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان ابن عفّان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه؛ وإن الحديد بالحديد يفلح. فأبى عبد الملك إلّا عرض عزله على أهل العراق، وقال: عزله أيسر من حرب أهل العراق، ويحقن الدماء. فخرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يأهل العراق، أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا.

وخرج محمد بن مروان، وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا. فقالوا: نرجع للعشيّة. ورجعوا، واجتمعوا عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمرا انتهازكم إياه اليوم فرصة، وإنكم اليوم على النّصف؛ فإن كانوا اعتدّوا عليكم بيوم الزّاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرض عليكم، وأنتم أعزّاء أقوياء. فوثبوا وقالوا: لا والله لا نقبل. وأعادوا خلع عبد الملك ثانيا؛ وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجم عبد الله بن ذؤاب السلمى وعمير بن تيحان، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من الخلع بفارس. فقال عبد الله ومحمد للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك، واعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، وكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلّم عليهما بالإمرة. قال: ولما اجتمع أهل العراق على خلع عبد الملك قال ابن الأشعث: ألا إنّ بنى مروان يعيّرون بالزّرقاء، والله ما لهم نسب أصحّ منه، إلّا أنّ بنى العاص «1» . أعلاج من أهل صفّورية «2» ، فإن يكن هذا الأمر فى قريش فعنّى تقوّبت «3» بيضة قريش، وإن يك فى العرب فأنا ابن الأشعث، ومدّ بها صوته حتى سمعه الناس.

وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبى، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبى، وعلى رجاله عبد الله «1» بن حبيب الحكمى. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية «2» الخثعمى. وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمى، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العباس «3» بن ربيعة الهاشمى، وعلى رجاله محمد بن سعد ابن أبى وقاص، وعلى مجنّبته «4» عبد الله بن رزام الحارثى، وجعل على القرّاء زحر «5» بن قيس الجعفى، وفيهم سعيد بن جبير بن هشاء الشعبى، واسمه عامر بن شراحيل، وأبو البخترى الطائى، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى. وأخذوا فى القتال [فى كل يوم] «6» ، وأهل العراق تأتيهم موادّهم من الكوفة وسوادها، وهم فى خصب. وأهل الشام فى ضيق «7» شديد، قد غلت عندهم الأسعار، وفقد اللحم، حتى كأنهم فى حصار. وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون «8» . فعبّأ الحجاج فى بعض الأيام لكتيبة القرّاء ثلاث كتائب، وبعث عليها الجرّاح بن عبد الله الحكمى؛ فقام «9» جبلة بن زحر

فى القراء، وحرضهم على القتال، وذمّ أهل الشام، وسمّاهم المحلّين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحقّ فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فلا ينكرونه فى كلام كثير قاله. وقال أبو البخترى: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم. وقال الشعبى: أيّها الناس قاتلوهم قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم: فو الله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور فى حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك. وقال جبلة: احملوا حملة صادقة ولا تردّوا وجوهكم عنهم. فحملوا عليهم فأزالوا الكتائب عن مواقفها وفرّقوها وتقدّموا حتى واقعوا صفّهم، فأزالوه عن مكانه؛ ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلا. وكان سبب قتله أنّ أصحابه لمّا حملوا على أهل الشام وفرّقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه، فافترقت فرقة من أهل الشام، فنظروا إليه، فقال بعضهم لبعض: احملوا عليه مادام أصحابه مشاغيل بالقتال، فحملوا عليه فلم يزل «1» ، وحمل عليهم فقتل؛ قتله الوليد ابن نحيت «2» الكلبى، وجىء برأسه إلى الحجاج، فبشّر أصحابه بقتله، فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلا سقط فى أيديهم، وظهر الفشل فى القراء [وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله، قد هلكتم وقتل طاغيتكم] «3» - وقدم عليهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة

الشيبانى، ففرحوا به، وقالوا: تقوم مقام جبلة، وكان قدومه من الرىّ، فجعله عبد الرحمن على ربيعة، فدخل عسكر الحجاج، فأخذ من نساء أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن، فقال الحجاج: منعوا نساءهم لو لم يردّوهنّ لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم. قال: وخرج عبد الله بن رزام الحارثى يطلب «1» المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله عبد الله، فعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان فى اليوم الرابع خرج فقالوا: جاء لا جاء الله به! فقال الحجاج للجرّاح: اخرج إليه. فخرج، فقال له عبد الله: ما جاء بك؟ ويحك يا جرّاح! وكان له صديقا. فقال: ابتليت بك. قال: فهل لك فى خير؟ قال الجرّاح: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجّاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأحتمل أنا مقالة الناس فى انهزامى حبّا لسلامتك، فإنى لا أحب قتل مثلك من قومى. قال: افعل. فحمل الجرّاح عليه فاستطرد له، وحمل عليه الجرّاح بجدّ «2» . يريد قتله، فصاح بعبد الله غلامه وقال: إنّ الرجل يريد قتلك. فعطف عبد الله على الجرّاح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح، بئسما جزيتنى! أردت بك العافية، وأردت قتلى. انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال: ودام القتال بينهم بدير الجماجم إلى آخر المدة التى ذكرناها،

فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشدّ قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج، واستعلوا عليهم، وهم آمنون أن ينهزموا، فبينما هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو على ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرّة التميمى، وهو على ميسرة ابن الأشعث، فانهزم الأبرد بالناس من غير قتال، فظنّ الناس أنّ الأبرد قد صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوّضت الصفوف، وركب الناس بعضهم بعضا، وصعد عبد الرحمن [بن محمد] «1» المنبر ينادى الناس: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا أهل الشام، فقاتل من معه، ودخل أهل الشام العسكر، فأتاه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدى، فقال له: انزل، فإنى أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إذا انصرفت أن يجتمع «2» لك جمع يهلكهم الله به. فنزل وانهزم هو ومن معه لا يلوون على شىء. ودخل الحجاج الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له: أتشهد أنك كفرت، فإن قال نعم بايعه، وإلا قتله. فأتاه رجل من خثعم كان قد اعتزل الناس جميعا، فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربّص، أتشهد أنك كافر! فقال: بئس الرجل أنا إذا؛ أعبد الله «3» ثمانين سنة ثم أشهد على نفسى بالكفر.

قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتنى، فقتله. فما بقى أحد من أهل الشام والعراق إلّا رحمه. وقتل كميل بن زياد وكان خصيصا بعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، وأتى بآخر بعده، فقال الحجاج: أرى رجلا ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر، فقال له الرجل: أتخادعنى «1» عن نفسى، أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك الحجاج وخلّى سبيله. قال: وأقام الحجاج بالكوفة شهرا، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة مع أهلها، وهو أوّل من أنزل الجند فى بيوت غيرهم، واستمرت هذه القاعدة بعده. قال: وكان الحجاج لما انهزم الناس أمر مناديا فنادى: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو أمانه «2» . وكان قد ولّاه الرّىّ، فلحق به ناس كثير منهم الشعبى، فذكره الحجاج يوما بعد الفراغ من أمر ابن الأشعث، فقيل له: إنه لحق بقتيبة بالرّىّ؛ فكتب إلى قتيبة يأمره بإرساله. قال الشعبى: فلما قدمت على الحجاج لقيت يزيد بن أبى مسلم وكان صديقا لى، فقال: اعتذر مهما «3» استطعت. وأشار بمثل ذلك إخوانى ونصحائى. فلما دخلت على الحجّاج رأيت غير ما ذكروا «4» ، فسلمت عليه بالإمرة، وقلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمرونى أن أعتذر

ذكر الوقعة بمسكن

بما يعلم الله أنه غير الحق، وايم الله لا أقول فى هذا المقام إلّا الحق: قد والله تمردنا «1» عليك وحرّضنا عليك، وجهدنا، فما كنّا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله أحبّ إلىّ قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما قلت ولا شهدت، قد أمنت يا شعبى. كيف وجدت الناس بعدنا، فقلت: أصلح الله الأمير، اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبىّ. فانصرفت. نعود إلى بقية أخبار عبد الرحمن بن الأشعث: ذكر الوقعة بمسكن «2» قال: ولما انهزم عبد الرحمن من دير الجماجم أتى البصرة، فاجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، فاجتمعوا بمسكن، وبايعوه على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وجعل القتال من وجه واحد، وقدم إليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان، وأتاه الحجاج، فاقتتلوا خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وبات الحجاج يحرّض أصحابه، فلما أصبحوا باكروا القتال، واشتدّت

الحرب، فانهزم ابن الأشعث ومن معه، وقتل عبد الرحمن بن أبى ليلى الفقيه، وأبو البخترى الطائى، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة فى أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة، وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا على أهل الشام، فكشفوهم مرارا، فدعا الحجاج الرّماة فرموهم، وأحاط بهم الناس، فقتلوهم إلا قليلا. ومضى ابن الأشعث إلى سجستان. وقد قيل فى هزيمة ابن الأشعث بمسكن أنه اجتمع هو والحجاج، وكان العسكران بين دجلة والسّيب «1» والكرخ «2» ، فاقتتلوا شهرا أو دونه، فأتى شيخ فدلّ «3» الحجاج على طريق من وراء الكرخ «4» فى أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معهم أربعة آلاف، فسار بهم، ثم قاتل الحجاج أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السّيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمنا بعد أن نهب عسكر الحجاج، فأمن أصحابه، وألقوا السلاح. فلما كان نصف الليل لم يشعروا إلّا وقد أخذهم السيف من تلك السريّة، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممّن قتل، ورجع الحجاج على الصوت يقتل من وجد، فكان عدّة من قتل أربعة آلاف، منهم عبد الله بن شداد ابن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمر بن ضبيعة الرقاشى، وبشر ابن المنذر بن الجارود، وغيرهم.

ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل

ذكر مسير عبد الرحمن الى رتبيل وما كان من أمره وأمر أصحابه قال: ولما انهزم عبد الرحمن من مسكن سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمدا وعمارة بن تميم اللخمى، وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسّوس «1» ، فقاتله ساعة، ثم انهزم عبد الرحمن ومن معه، وساروا حتى بلغوا نيسابور «2» ، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالا شديدا على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، فانهزم عمارة وترك لهم «3» العقبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبعه، فلما وصل عبد الرحمن إليها لقيه عامله وقد هيّأ له منزلا «4» ، فنزل. ثم رحل إلى سجستان فأتى زرنج «5» وفيها عامله فأغلق بابها. ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياما ليفتحها فلم يصل إلى ذلك، فسار إلى بست «6» ، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن «7» هشام السدوسى الشيبانى. فاستقبله فأنزله. فلما غفل عنه أصحابه قبض عليه عياض، وأوثقه، وأراد أن يأمن به «8» عند الحجاج. وكان رتبيل ملك الترك قد سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه

ليستقبله لما كان قد تقرّر بينهما من العهود والمواثيق كما تقدم. فلما بلغه أنّ عياضا قد قبض عليه نزل على بست، وبعث إلى عياض يتهدّده بالقتل إن هو لم يطلقه، فاستأمنه عياض، وأطلق عبد الرحمن، ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظّمه، وكان ناس كثير من أصحاب عبد الرحمن ممّن انهزم من الرءوس وقادة الجيوش الذين لم يقبلوا أمان الحجاج، ونصبوا له العداوة فى كل موطن قد بعثوا يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم ابن الأشعث. وكان عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يصلّى بهم إلى أن قدم ابن الأشعث. فلما قدم عليهم ساروا كلّهم ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم فى أهل الشام؛ فقال أصحاب عبد الرحمن له: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يزيد بن المهلب، وهو رجل شجاع، ولا يترك لكم سلطانه، ولو دخلناها لقاتلنا وتتبعنا «1» أهل الشام، فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. فقالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتّبعنا أكثر ممّن يقاتلنا. فسار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشى فى ألفين. فقال لهم عبد الرحمن: إنى كنت فى مأمن وملجأ، فجاءتنى كتبكم أن أقبل، فإنّ أمرنا واحد، فلعلنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم فرأيتم أن أمضى إلى خراسان، و [زعمتم] «2» أنكم مجتمعون لى «3» ولا تتفرّقون، وهذا عبيد الله قد صنع

ما رأيتم، فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبى الذى أتيت من عنده. فتفرّق منهم طائفة وبقى معه طائفة، وبقى عظم العسكر مع عبد الرحمن «1» بن العبّاس [فبايعوه «2» ] ، فأتوا هراة، فلقوا بها الرّقاد «3» الأزدى فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب. وقيل: لما انهزم ابن الأشعث من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان، فاجتمع معه فل ابن الأشعث. فساروا إلى «4» خراسان فى عشرين ألفا، فنزل هراة، ولقى الرّقاد [بن عبيد العتكى] «5» بها فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب وهو عامل خراسان يقول: قد كان لك فى البلاد متّسع، من «6» هو أهون منى شوكة؛ فارتحل إلى بلد ليس [لى] «7» فيه سلطان، فإنى أكره قتالك، وإن أردت مالا أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام، ولكن أردنا أن نريح، ثم نرحل عنك، وليست بنا إلى المال حاجة. ثم أقبل عبد الرحمن بن العباس على الجباية، وبلغ ذلك يزيد ابن المهلب، فقال: من أراد أن يريح ثم يرحل لم يجب الخراج،

وسار نحوه، وأعاد مراسلته يقول: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج، فلك ما جبيت وزيادة، فاخرج عنى، فإنى أكره قتالك، فأبى إلّا القتال. وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد بذلك، فقال: جلّ الأمر عن العتاب، ثم تقدّم إليه فقاتله، فلم يكن بينهما «1» كثير قتال، حتى تفرّق أصحاب عبد الرحمن عنه، وصبر وصبرت معه طائفة، ثم انهزموا. وأمر يزيد أصحابه بالكفّ عن اتباعهم، وأخذ ما كان فى عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، منهم محمد بن سعد بن أبى وقّاص، وعمر ابن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش «2» بن الأسود بن عوف الزّهرى، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز ابن حصين، وأبو العلج «3» مولى عبيد الله بن معمر، وسوّار ابن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى، وعبد الله بن فضالة الزّهرانى الأزدى، ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسّند، وأتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد بن المهلب إلى مرو. وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نجدة «4» إلّا عبد الرحمن ابن طلحة فإنه أطلقه. وكان سبب إطلاقه أن حبيب بن المهلب قال لأخيه يزيد لما أراد

أن يسير الأسرى: بأى وجه تنظر إلى اليمانية، وقد بعثت عبد الرحمن ابن طلحة؟ فقال يزيد: إنه الحجاج، فلا تتعرض «1» إليه. قال: وطّن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإنّ له عندنا يدا. قال: وما هى؟ قال: ألزم المهلّب فى مسجد الجماعة بمائة ألف، فأدّاها طلحة عنه، فأطلقه يزيد، ولم يرسل أيضا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين. فلما قدموا على الحجاج أحضر فيروز، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم. قال: فتنة عمّت الناس. قال: اكتب لى أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفى ألف، فذكر مالا كثيرا. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ فقال: عندى. قال: فأدّها. قال: وأنا آمن على دمى؟ قال: والله لتؤدّينّها ثم لأقتلنّك. قال: والله لا يجتمع دمى ومالى. فأمر به فنحى، ثم أحضر محمد ابن سعد بن أبى وقاص، فقال: يا ظلّ الشيطان، أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا «2» . وجعل يضرب رأسه بعمود «3» فى يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى، فقال: يا عبد المرأة، تقوم بالعمود على

رأس «1» ابن الحائك- يعنى ابن الأشعث وتشرب معه فى الحمام «2» . فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبفضلك وحلمك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين. فقال الحجاج: إنها شملت الفجّار، وعوفى منها الأبرار، أمّا اعترافك فعسى أن ينفعك، فرجا «3» الناس السلامة. ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم، فقال له: احسب «4» أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذى أمّلت أنت معه! قال: أمّلت أن يملك فيولّينى العراق كما ولّاك عبد الملك إياه، فأمر به فقتل. ودعا عبد الله بن عامر. فلما أتاه قال له: يا حجاج، لا رأت عينك الجنة إن أفلت «5» ابن المهلب بما صنع، قال: وما صنع؟ قال: لأنه كاس «6» فى إطلاق أسرته ... وقاد نحوك فى أغلالها مضر وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطر فأطرق الحجاج، ووقرت فى قلبه، وقال: ما أنت وذاك؟ ثم أمر به فقتل.

ثم أمر بفيروز فعذّب، فلما أحسّ بالموت قال للموكّل بعذابه: إنّ الناس لا يشكّون أنى قد قتلت، ولو دائع وأموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا؛ فأظهرنى «1» للناس ليعلموا أنى حى، فيؤدّوا المال. فأعلم الحجاج بقوله، فقال: أظهروه «2» ، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح فى الناس: من عرفنى فقد عرفنى، ومن أنكرنى فأنا فيروز بن حصين، إن لى عند أقوام مالا، فمن كان لى عنده شىء فهوله، وهو منه فى حلّ، فلا يؤد أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب، فأمر به الحجاج فقتل. وأمر بقتل عمر بن «3» قرّة الكندى، وكان شريفا، وقتل أعشى همدن، وأتى بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما، إن لى عندك يدا. قال: وما هى؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوما أمك بسوء فنهيته. قال: من يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر. فسأله الحجاج فصدقه. فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعنى الصّدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعنى البغض لك ولقومك. قال: خلّوا عن هذا لفعله. وعن هذا لصدقه.

وأما ابن الأشعث فإنه سار إلى رتبيل، فأقام عنده، فكتب إليه الحجاج: أن ابعثه إلىّ وإلّا فو الذى لا إله غيره لأوطئنّ أرضك ألف ألف مقاتل، وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم اسمه عبيد ابن سبيع «1» التميمى، وكان رسوله إلى رتبيل. فقال القاسم بن محمد ابن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إنى لا آمن غدر هذا التميمى فاقتله. فخافه عبيد على نفسه، فوشى به إلى رتبيل، وخوّفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث، وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفّنّ «2» عن أرضك سبع سنين، على أن تدفع إليه عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك. فخرج عبيد إلى عمارة سرّا فذكر ذلك له، فكتب عمارة إلى الحجاج بذلك. فأجابه إليه، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن، وذلك فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين. وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فقطع رتبيل رأسه. وقيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمى عن «3» ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك، فأطلق له خراج بلاده عشر سنين.

فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته، فحضروا عنده، فقيّدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر فمات، فاحتزّ رأسه، وسيّره إلى الحجاج، وسيّره الحجاج إلى عبد الملك مع عرار بن عمرو بن شأس، وكتب معه كتابا، فجعل عبد الملك يقرأ كتاب الحجاج، فإذا شكّ فى شىء سأل عرارا عنه فيخبره به، وكان عرار أسود اللون، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده، وهو لا يعرفه فتمثّل «1» : وإن «2» عرارا إن يكن غير واضح ... فإنى أحبّ الجون ذا المنطق العمم فضحك عرار، فقال له عبد الملك: مالك تضحك؟ فقال: أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فأنا هو. فضحك عبد الملك ثم قال: حظّ وافق حكمة. وأحسن جائزته، وسرّحه. وروى أبو عمر بن عبد البر بسند رفعه إلى العتبى عن أبيه، قال «3» : كتب الحجاج إلى عبد الملك كتابا يصف له فيه أهل العراق وما ألفاهم عليه من الاختلاف وما يكرهه «4» منهم، وعرّفه ما يحتاجون إليه من التقويم والتأديب، ويستأذنه أن يودع قلوبهم من الرهبة ما يخفّون به إلى الطاعة، ودعا رجلا من أصحابه كان يأنس به، فقال له: انطلق بهذا الكتاب، ولا يصلنّ من يدك إلّا إلى يد أمير المؤمنين، فإذا قبضه فتكلّم عليه.

ففعل الرجل ذلك، فجعل «1» عبد الملك كلّما شكّ فى شىء يستفهمه «2» ، فوجده أبلغ من الكاتب «3» ، فقال [عبد الملك] «4» : وإن عرارا إن يكن غير واضح ... البيت. فقال [له] «5» الرجل: يا أمير المؤمنين، أتدرى من يخاطبك؟ قال: لا. قال: أنا عرار، وهذا الشّعر لأبى، وذلك أنّ أمى ماتت وأنا مرضع، فتزوّج أبى امرأة فكانت تسىء «6» ولايتى، فقال أبى: فإن كنت منى أو «7» تريدين صحبتى ... فكونى له كالشّمس ربّت به الأدم وإلّا فسيرى سير راكب ناقة ... تيمّم خبتا ليس فى سيره أمم أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان لقد «8» ظلم وإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّى أحبّ الجون ذا المنطق العمم ولما جىء بالرأس إلى عبد الملك أرسله إلى أخيه عبد العزيز بمصر، فقال بعض الشعراء:

سنة (82 هـ) اثنتين وثمانين:

هيهات موضع جثّة من رأسها ... رأس بمصر وجثّة بالرّخّج «1» وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان فى سنة [84 هـ] أربع وثمانين. ولنرجع إلى تتمة حوادث السنين: وفى سنة (81 هـ) احدى وثمانين: حج بالناس سليمان [بن عبد الملك] «2» . سنة (82 هـ) اثنتين وثمانين: فى هذه السنة كانت وفاة المغيرة بن المهلّب بخراسان فى شهر رجب منها، وكان أبوه قد استخلفه على عمله. ذكر وفاة المهلب بن أبى صفرة ووصيّته لبنيه وولاية ابنه يزيد خراسان وفى هذه السنة توفى المهلّب بن أبى صفرة بمرو الروذ بالشّوصة وقيل بالشّوكة «3» ، وأوصى إلى حبيب ابنه فصلّى عليه، وقال لبنيه: إنى قد استخلفت عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال ابنه المفضّل: لو لم تقدمه لقدمناه، وأحضر ولده فأوصاهم، وأحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفتكسرونها متفرّقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم، فإنها تنسىء فى الأجل وتثرى المال، وتكثر العدد؛

وأنهاكم عن القطيعة؛ فإنها تعقب النار والذلّة والقلّة، وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم «1» ، واتّقوا الجواب وزلّة اللسان، فإن الرجل يزلّ قدمه فينتعش «2» ، ويزل لسانه فيهلك، واعرفوا لمن يغشاكم حقّه، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبّوا العرب «3» ، واصنعوا المعروف «4» ؛ فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف بالصنيعة عنده! وعليكم فى الحرب بالتؤدة «5» والمكيدة، فإنهما «6» أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ الرجل «7» بالحزم فظفر قيل: أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، فإن لم يظفر [بعد الأناة] «8» قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وآداب «9» الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام فى مجالسكم. ومات رحمه الله. فكتب ابنه يزيد إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فأقره على خراسان. *** وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة فى جمادى الاخرة، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومى.

سنة (83 هـ) ثلاث وثمانين:

وحجّ بالناس أبان بن عثمان. سنة (83 هـ) ثلاث وثمانين: ذكر خبر عمر بن أبى الصلت وخلعه الحجاج بالرىّ وما كان من أمره قال: لما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبى الصّلت، وكان قد غلب على الرىّ فى تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالرّىّ أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون به عن أنفسهم عثرة «1» الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه؛ أبا الصّلت، وكان به بارّا، فأشار بذلك عليه وألزمه به، وقال. يا بنى، إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبالى أن تقتل غدا. ففعل. فلما قارب قتيبة الرّىّ استعدّ لقتاله، فالتقوا، واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهذ «2» وأكرمه وأحسن نزله، فقال عمر لأبيه: إنك أمرتنى بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك وكان خلاف رأيى، ولم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا الأصبهذ فدعنى حتى أثب إليه «3» فأقتله. وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أنّى أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا برجل «4» أوانا وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم، وسترى. ودخل قتيبة الرى، وكتب إلى الحجاج بانهزام عمر إلى طبرستان. فكتب الحجاج إلى الأصبهذ «5» أن ابعث بهم أو برءوسهم «6» ، وإلا فقد

ذكر بناء مدينة واسط

برئت منك الذمّة، فصنع لهم الأصبهذ طعاما وأحضرهم، فقتل عمر، وبعث أباه أسيرا. وقيل: قتلهم وبعث برءوسهم. والله أعلم. ذكر بناء مدينة واسط وفيها بنى الحجاج مدينة واسط، وسبب ذلك أنّه ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمّام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس [بابنة عمّ له] «1» ، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه، فطرق «2» عليه الباب طرقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت المرأة لبعلها: لقد لقينا من هذا الشامى شرّا يفعل بنا كلّ ليلة ما ترى- يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال: ائذنى له، فأذنت له. فلما دخل قتله زوجها. فلما أذّن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صلّيت الفجر فابعثى إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك إلى «3» الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه، ففعلت، وأحضرت إلى الحجاج، فأخبرته فصدّقها، وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل، فإنه قبيل «4» الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلنّ أحد على أحد، وبعث روّادا يرتادون له منزلا، وأقبل حتى نزل بموضع «5» واسط، وإذا راهب قد أقبل على حمار، فلما كان بموضع واسط بال الحمار، فنزل الراهب فاحتفر «6» ذلك البول ورماه فى دجلة

سنة (85 هـ) خمس وثمانين:

والحجاج ينظر إليه، فاستحضره وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد فى كتبنا أنه يبنى فى هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام فى الأرض أحد يوحّد الله. فاختطّ الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد فى ذلك الموضع. وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل. سنة (84 هـ) أربع وثمانين: فى هذه السنة قتل الحجاج أيوب بن القرّيّة «1» ، وكان مع ابن الأشعث، فلما هزم التحق أيّوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج وقتله. وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل. سنة (85 هـ) خمس وثمانين: ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل وفى هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلّب عن خراسان، وكان سبب عزله أنّ الحجاج وقد إلى عبد الملك فمرّ فى طريقه براهب، فقيل له: إنّ عنده علما، فأحضره الحجاج، وسأله: هل تجدون فى كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: فمسمّى أو موصوفا؟ قال: كلّ ذلك نجده موصوفا «2» بغير اسم ومسمّى بغير صفة «3» . قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده فى زماننا ملك أفرع من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم

من «1» ؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبىّ يفتح به على الناس. قال: [أتعرفنى؟ قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعلم ما ألى؟ قال: نعم] «2» . قال: أفتعلم من يلى بعدى؟ قال: نعم، رجل يقال له يزيد، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. فوقع فى نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب. فلما عاد كتب إلى عبد الملك يذمّ يزيد وآل المهلب، ويخبره أنهم زبيرية. فكتب إليه عبد الملك: إنى أرى طاعتهم لآل الزبير نقصا لال المهلب، بل وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لى. فكتب إليه الحجاج يخوّفه غدره. فكتب إليه: إنك قد أكثرت فى يزيد وآل المهلب فسمّ رجلا يصلح لخراسان. فسمّى له قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن ولّه. فكره الحجاج أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضّل ويقبل إليه. فاستشار يزيد حضين «3» بن المنذر الرّقاشى: فقال له: أقم واعتلّ، واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرّك، فإنه حسن الرّأى فيك. فقال له يزيد: نحن أهل قد بورك لنا فى الطاعة، وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز فأبطأ.

ذكر أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ

فكتب الحجاج إلى المفضّل: إنى قد ولّيتك خراسان، فجعل المفضل يستحثّ يزيد، فقال له [يزيد] «1» : إنّ الحجاج لا يقرّك بعدى، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، وستعلم. وخرج يزيد فى شهر ربيع الآخر سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وأقرّ الحجاج أخاه المفضّل تسعة أشهر، ثم عزله، واستعمل قتيبة على ما نذكره، وسار يزيد بن المهلب فكان «2» لا يمرّ بتبلد إلّا فرش أهلها الرياحين. ذكر أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ «3» وما كان من حروبه مع العرب والترك وخبر مقتله كان موسى بن عبد الله قد استولى على ترمذ، وأخرج ترمذ شاه عنها، وسبب ذلك أن أباه عبد الله لما قتل من قتل من بنى تميم بخراسان «4» كما تقدّم ذكر ذلك فى أثناء أخبار عبد الله ابن الزّبير تفرّق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلى واقطع

نهر بلخ حتى تلتجىء «1» إلى بعض الملوك أو إلى حصن تكون «2» فيه. فرحل موسى عن مرو فى عشرين ومائتى فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضوى «3» إليه قوم من بنى سليم «4» ، فأتى زمّ «5» ، فقاتله أهلها، فظفر بهم، وأصاب مالا، وقطع النهر. فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه. [وقال: رجل فاتك] «6» فلا آمنه، ووصله، وسار فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلّا كره مقامه عنده. فأتى سمرقند، فأكرمه ملكها طرخون وأذن له فى المقام بها، فأقام بها ما شاء الله. وكان لأهل الصّغد مائدة توضع فى كل عام مرة، عليها خبز ولحم وخلّ وإبريق شراب، يجعلون ذلك لفارس الصّغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه بارزه الفارس. فأيّهما قتل صاحبه كانت المائدة له، وكان الفارس المشار إليه، فرآها رجل من أصحاب موسى، فقال: ما هذه؟ فأخبر، فأكل ما عليها. وجاء الفارس مغضبا، فقال: يا أعرابى، بارزنى، فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصّغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم

فارسى، فلولا أنى أمنتك وأصحابك لقتلتك «1» ، اخرجوا عن بلدى. فخرجوا، فأتى موسى كشّ، فضعف صاحبها عنه، فاستنصر طرخون فأتاه، فقاتله موسى وقد اجتمع معه سبعمائة فارس يوما حتى أمسوا وتحاجزوا، ثم اتفقوا أن يرتحل موسى عن كشّ؛ فسار فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه «2» أن يدخله الحصن فأبى، فأهدى له موسى ولاطفه حتى أنس به، وصارت بينهما مودّة، وتصيّد معه، وصنع صاحب ترمذ «3» طعاما، وأحضر موسى ليأكل معه، وشرط ألّا يحضر إلّا فى مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة منهم، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له ترمذشاه: اخرج. قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتى أو قبرى، وقاتلهم فقتل منهم عدّة وهرب الباقون، واستولى موسى عليها، وأخرج ترمذشاه منها، ولم يعرض له، ولا لأصحابه. فأتوا التّرك يستنصرونهم على موسى، فلم ينصروهم، وقالوا: لا نقاتل هؤلاء. وأقام موسى بترمذ، وأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوى بهم، فكان يغير على ما حوله.

وولى بكير بن وسّاج «1» خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أميّة «2» . فسار يريده؛ فخالفه بكير، فرجع على ما تقدم «3» ، ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة فى جمع كثير لقتال موسى، فجاء إلى ترمذ وحصره، فعاد أهل ترمذ إلى الترك، واستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه، فسارت التّرك فى جمع كثير «4» إلى الخزاعى فأطاف بموسى العرب «5» والترك، فكان يقاتل الخزاعى أول النهار والتّرك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة. ثم أراد أن يبيّت الخزاعى، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابى: بيّت العجم، فإنّ العرب أشد حذرا وأجرأ «6» على الليل. فوافقه. وأقام حتى ذهب ثلث الليل، وخرج فى أربعمائة، وقال لعمرو ابن خالد: اخرج بعدنا أنت ومن معك [منا] «7» قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا. ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم، وجعل أصحابه أرباعا، وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابرو سبيل. فلما جاوزوا الرصد حملوا على التّرك وكبّرو

فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف فيهم، فثاروا «1» يقتل بعضهم بعضا وولّوا. فحوى موسى ومن معه عسكرهم، وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا، وأصيب من أصحاب موسى ستة عشر رجلا، وأصبح الخزاعى وأصحابه وقد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إنّا لا «2» نظفر إلّا بمكيدة، ولهؤلاء أمداد تأتيهم، فدعنى آته لعلّى أصيب فرصة فأقتل الخزاعى، فاضربنى. فقال موسى: تتعجّل الضّرب، وتتعرّض للقتل؟ قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرّض له، وأما الضّرب فما أيسره فى حبّ «3» ما أريد. فضربه موسى خمسين سوطا، فخرج حتى أتى عسكر الخزاعى مستأمنا، وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمنى وقال: قد تعصّبت لعدوّنا، وأنت عين له، ولم آمن القتل، فهربت منه. فأمّنه الخزاعىّ، وأقام معه، فدخل يوما فلم ير عنده أحدا ولا معه سلاحا، فقال له كالناصح: أصلح الله الأمير، إنّ مثلك فى مثل هذا الحال لا ينبغى أن يكون بغير سلاح. قال: إن معى سلاحا، ورفع طرف فراشه، فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضرب به الخزاعى حتى قتله، وخرج فركب فرسه وأتى موسى. وتفرّق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمنا فأمّنه، ولم يوجّه إليه أمية أحدا.

وعزل أمية، وقدم المهلّب [أميرا] «1» ، فلم يعرض لموسى، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة خراسان مادام هذا الثّطّ «2» بمكانه، فإن قتل فأول طالع عليكم أمير خراسان من قيس. فلما مات المهلّب وولى يزيد لم يعرض «3» إليه أيضا، وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعى، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما، وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ، فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به يزيد، وكان ثابت محبوبا إلى الترك بعيد الصوت فيهم «4» ؛ فغضب له طرخون، وجمع له نيزك والسّبل وأهل بخارى والصّغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى، واجتمع لموسى أيضا فلّ عبد الرحمن ابن العباس من هراة وفلّ عبد الرحمن بن الأشعث من العراق، ومن ناحية كابل، [وقوم من بنى تميم ممن كان يقاتل ابن خازم فى الفتنة من أهل خراسان] «5» ، فاجتمع معه «6» ثمانية آلاف. فقال له ثابت وحريث: سر بنا حتى نقطع النهر ونخرج يزيد عن خراسان ونولّيك. فهمّ أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد عن

خراسان تولّى ثابت وأخوه خراسان وغلبا عليها، فامتنع من المسير، وقال لثابت وحريث: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وتكون [هذه الناحية] «1» لنا؛ فأخرجوا عماله، وجبوا الأموال، وقوى أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبدّ ثابت وحريث بتدبير الأمر، وليس لموسى إلا اسم الإمرة. فقيل لموسى: اقتل ثابتا وحريثا، واستقلّ بالأمر، فإنه ليس لك من الأمر شىء. وألحّ أصحابه عليه فى ذلك حتى همّ بقتلهما. فبينما هم فى ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبّت والترك فى سبعين ألف مقاتل غير الأتباع ومن ليس هو كامل السلاح. فخرج موسى وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تلّ فى عشرة آلاف فى أكمل عدّة، وقد اشتدّ القتال، فقال موسى لأصحابه: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشىء، فقصدهم «2» حريث بن قطبة وقاتلهم حتى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث بنشّابة فى جبهته، وتحاجزوا وبيّتهم موسى، فحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة «3» ملكهم، فوجأ رجلا منهم بقبيعة «4» سيفه، فطعن فرسه فاحتمله الفرس فألقاه فى نهر بلخ فغرق وقتل من التّرك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشرّ، ومات حريث بيومين «5»

ورجع موسى وحمل معه الرءوس، فبنى منها جوسقين، وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر «1» ثابت، فأبى، وبلغ ثابتا بعض ذلك فدسّ «2» محمد بن عبد الله الخزاعى على موسى، وقال: إياك أن تتكلم بالعربية، فإن «3» سألوك فقل: أنا من سبى «4» الباميان، ففعل ذلك، وتلطّف حتى اتصل بموسى وصار يخدمه «5» وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت. وألحّ القوم على موسى، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم على؛ وفيما تريدون هلاككم، فعلى أىّ وجه تقتلونه ولا أغدر به «6» . فقال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدّور فضربنا عنقه قبل أن يصل إليك. فقال: والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم. فخرج الغلام فأخبر ثابتا فخرج من ليلته فى عشرين فارسا ومضى، وأصبحوا فلم يجدوه ولا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له، ونزل ثابت بحشورا «7» ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأتاه موسى وقاتله فتحصن ثابت بالمدينة، وأتى طرخون معينا له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى، ونسف وكشّ «8» ، فاجتمعوا فى ثمانين ألفا، فحصروا

موسى حتى جهد هو وأصحابه، فقال يزيد بن «1» هذيل: والله لأقتلنّ ثابتا أو لأموتنّ، فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك «2» إلّا بغدرة، فاحذره. فأخذ ابنيه: قدامة، والضحاك رهنا، فكانا فى يد ظهير، وأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعى، فخرج ثابت إليه ليعزيه [ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هذيل] «3» وهو بغير سلاح، وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه [فعضّ السيف برأسه] «4» ، فوصل إلى الدماغ وهرب، فسلم. فأخذ طرخون قدامة والضحاك ابنى يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام، ومات. وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت [فقاما قياما ضعيفا] «5» ، فانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك، وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضّأه فكيف يبيّتنا، لا يحرس الليلة أحد. فخرج موسى فى ثمانمائة، وجعلهم أرباعا، وبيّتهم فكانوا لا يمرّون بشىء إلّا صرعوه «6» من الرجال والدوابّ وغيرها، فأرسل طرخون إلى موسى: أن كفّ أصحابك، فإنا نرحل إذا أصبحنا، فرجع موسى وارتحل «7» طرخون والعجم جميعا.

فلما عزل يزيد بن المهلب وولى المفضّل أراد أن يحظى عند الحجّاج بقتال موسى، فسيّر إليه عثمان بن مسعود فى جيش، وكتب إلى أخيه مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النّهر فى خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيّقوا عليه، فمكث شهرين فى ضيق، وقد خندق عثمان عليه، وحذر البيات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى متى نصبر «1» ؟ فاجعلوا يومكم معهم إمّا ظفرتم وإما قتلتم، واقصدوا الترك. فخرجوا وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم فى المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعنّ المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك ابن المهلب، وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه «2» إلا إن قاتلكم، وقصد طرخون وأصحابه فصدقوهم القتال، فانهزم طرخون، واستولى موسى على عسكره، وزحفت «3» التّرك والصّغد، فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا «4» فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملنى. فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا. فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وتب قال: وثبة موسى وربّ الكعبة، وقصده وعقرت فرسه، فسقط هو ومولاه فقتلوه، ونادى منادى عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيرا، ولا تقتلوا أحدا، فقتل ذلك

ذكر وفاة عبد العزيز بن مروان

اليوم من الأسرى خلقا كثيرا من العرب خاصة، فكان يقتل العربى ويضرب المولى ويطلقه، وكان الذى أجهز على موسى واصل ابن طيسلة «1» العنبرى، وسلّم النضر المدينة إلى مدرك فسلمها مدرك إلى عثمان، وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فلم يسرّه ذلك، لأنه من قيس. وكان مقتل موسى فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان مقام موسى بالحصن أربع عشرة سنة. وقيل خمس عشرة سنة. ذكر وفاة عبد العزيز بن مروان وولاية عبد الله بن عبد الملك مصر والبيعة للوليد وسليمان ابنى عبد الملك بولاية العهد كانت وفاته بمصر فى جمادى الأولى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان عبد الملك أراد أن يخلعه من ولاية العهد، ويبايع لابنه الوليد، فنهاه قبيصة بن ذؤيب عن ذلك، وقال: لا تفعل، ولعل الموت يأتيه، فكفّ عنه عبد الملك ونفسه تنازعه إلى خلعه؛ فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجلّ الناس عند عبد الملك، وقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيها عنزان؛ وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله ونفعل. ونام روح عنده، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدّم إلى حجّابه ألّا يحجبوا قبيصة عنه، وكان

إليه الخاتم والسكّة، والأخبار تأتيه قبل عبد الملك، فلما دخل سلّم عليه، وقال: آجرك الله فى عبد العزيز أخيك! قال: هل توفى؟ قال: نعم. فاسترجع، ثم أقبل على روح، وقال: كفانا الله «1» ما نريد. وكان هذا مخالفا لك يا قبيصة. وضمّ عبد الملك عمل عبد العزيز إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وأمر بالبيعة لابنيه: الوليد، وسليمان، فبايعهما الناس، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومى، فدعا الناس إلى البيعة، فأجابوا إلا سعيد بن المسيّب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حىّ، فضربه هشام ضربا مبرّحا، وطاف به وهو فى تبّان «2» شعر حتى بلغ رأس الثنية [التى يقتلون ويصلبون عندها] «3» ، ثم ردّه وحبسه. فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: قبّح الله هشاما، إنما كان ينبغى له أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع يضرب عنقه أو يكفّ عنه. وكتب إليه يلومه ويقول: إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا خلاف؛ وقد كان سعيد امتنع أيضا من بيعة ابن الزبير، وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستّين سوطا. فكتب ابن الزبير إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد! دعه، لا تعرض له. وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل.

سنة (86 هـ) ست وثمانين:

سنة (86 هـ) ست وثمانين: ذكر وفاة عبد الملك بن مروان كانت وفاته بدمشق فى منتصف شوال سنة [86 هـ] ستّ وثمانين، وكان يقول: أخاف الموت فى شهر رمضان، فيه ولدت، وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لى الناس، فمات فى شوّال حين أمن الموت فى نفسه، واختلف فى عمره من ثلاث وستين سنة إلى سبع وخمسين. وصلّى عليه ابنه ولىّ عهده الوليد. وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة عشر يوما، خلص له الأمر منها بعد مقتل عبد الله بن الزّبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلّا سبع ليال، ودفن بدمشق خارج باب الجابية. قيل: ولما اشتدّ مرضه نهاه بعض الأطباء أن يشرب الماء، وقال: إن شرب الماء مات، فاشتدّ عطشه، فقال: يا وليد، اسقنى ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقينى، فمنعها الوليد. فقال: لتدعنّها أو لأخلعنّك. فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته فمات. ودخل عليه الوليد وابنته فاطمة عند رأسه تبكى، فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح ممّا كان. فلما خرج قال عبد الملك «1» : ومستخبر عنا يريد بنا «2» الردّى ... ومستخبرات والدموع سواجم

ذكر وصيته بنيه عند موته

ذكر وصيته بنيه عند موته قال «1» : وأوصى بنيه عند موته، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنه أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حقّ الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذى تفرّون «2» ، ومجنّكم الذى عنه ترمون، وأكرموا الحجاج فإنّه الذى وطّألكم المنابر «3» ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم الأعداء، وكونوا بنى أم بررة. لا تدبّ بينكم العقارب، وكونوا فى الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرّب ميتة، وكونوا للمعروف منارا؛ فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوى الأحساب، فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتغمّدوا «4» ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا. ذكر أولاده وأزواجه كان له: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر- درج، وعائشة؛ أم هؤلاء ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة «5» . ويزيد ومروان «6» ومعاوية [درج، وأم كلثوم، أمهم عاتكة ابنة

ذكر شىء من أخباره وعماله

يزيد بن معاوية] «1» ، وهشام أمه «2» أم هشام بنت هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد «3» بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة، وأبو بكر، وهو بكار، أمّه عائشة بنت موسى بن طلحة ابن عبيد الله، والحكم- درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفّان، وفاطمة، أمّها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام ابن المغيرة، وعبد الله «4» ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير [وقبيصة «5» ] لأمهات أولاد؛ وكان له من النساء [سوى من ذكرناه] «6» شقراء بنت حلبس الطائى، وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبى طالب. ذكر شىء من أخباره وعماله قالوا: كان عبد الملك بن مروان عاقلا حازما أدبيا لبيبا عالما، قال أبو الزّناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيّب، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبى رحمه الله: ما ذاكرت أحدا إلّا وجدت لى الفضل عليه، إلّا عبد الملك، فإنى ما ذاكرته حديثا إلّا زادنى فيه، ولا شعرا إلّا زادنى فيه، قالوا: وكان محبا للفخر والبذخ، وكثرت الشعراء على أيامه، وكان من فحول شعرائه جرير والفرزدق والأخطل وكثيّر. وكان عبد الملك مقدما على سفك الدماء، وكذلك كانت عمّاله: فكان الحجاج بالعراق، والمهلب بن أبى صفرة بخراسان، وهشام

الأمراء بمصر وقضاتها

ابن إسماعيل المخزومى بالمدينة، وعبد الله ولده بمصر، وموسى ابن نصير اللّخمى بالمغرب، ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن، ومحمد بن مروان بالجزيرة؛ وما منهم إلّا من هو ظالم غشوم جائر. وكان نقش خاتمة: آمنت بالله مخلصا. وكتّابه: روح بن زنباع، ثم قبيصة بن ذؤيب، وغيرهما. قاضيه: أبو بشر الخولانى، وعبد الله بن قيس. حاجبه: يوسف مولاه. الأمراء بمصر وقضاتها أقرّ عبد الملك أخاه عبد العزيز على إمارة مصر إلى أن مات، فولّى ابنه عبد الله. وكان القاضى بمصر عابس إلى أن مات، فولى عبد العزيز بشير بن النّضر بن بشير المزنى، ثم مات فولّاها عبد الرحمن بن حجر الخولانى. ثم صرفه وولى يونس الحضرمى، ثم صرفه وولى عبد الرحمن بن معاوية بن خديج القضاء والشرطة، فلما ولى عبد الله بن عبد الملك أقرّ عبد الرحمن على القضاء ثم صرفه وولى عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل ابن حسنة ثم عزله، وولى عبد الواحد بن عبد الرحمن بن خديج. قال: وعبد الملك أول من غدر فى الإسلام: حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق. وهو أول من نقل الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية. وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس من قبله يراجعونهم. وهو أوّل من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال فى خطبته بعد

ذكر بيعة الوليد بن عبد الملك

قتل ابن الزبير: ولا يأمرنى أحد بتقوى الله تعالى بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه. ذكر بيعة الوليد بن عبد الملك هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء، وقد تقدم ذكر نسبها، وهو السادس من ملوك بنى أمية. بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه، وذلك فى يوم الخميس النصف من شوال سنة ست وثمانين. قال: ولما دفن أبوه عبد الملك انصرف عن قبره فدخل المسجد ورقى المنبر فخطب الناس، وقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة. قوموا فبايعوا، فكان أول من عزّى نفسه وهنّأها، وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولى وهو يقول «1» : الله أعطاك التى لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك، ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها وبايعه، وقام «2» الناس للبيعة «3» . وقد قيل: إنّ الوليد لمّا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، لا مقدّم لما أخّر الله، ولا مؤخّر لما قدّم، و [قد] «4» كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه

ذكر الغزوات والفتوحات التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك

الموت، وقد صار إلى منازل الأبرار ولىّ هذه الأمة بالذى يحقّ لله عليه فى الشدة على المذنب «1» واللين لأهل الحقّ والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه «2» ؛ من حجّ البيت، وغزو الثّغور. وشنّ الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا. أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذى فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه، ثم نزل. ولنبدأ من أخبار الوليد بالغزوات والفتوحات، ثم نذكر الحوادث على حكم السنين: ذكر الغزوات والفتوحات التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك ولنبدأ من ذلك بأخبار قتيبة بن مسلم وما فتحه من البلاد: ذكر ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وغزواته وفتوحاته فتح قتيبة بن مسلم فى مدّة ولايته خراسان من بلاد ما وراء النّهر: الصّغانيان «3» ، وأخرون، وكاسان «4» ، وأورشت، وهى من فرغانة

وأخسيكت «1» ، وهى مدينة فرغانة القديمة، وبيكند «2» ، وبخارى، والطالقان «3» والفارياب «4» والجوزجان، وشومان «5» وكش «6» ، ونسف، ورام جرد، وسمرقند، والشاش «7» وفرغانة، ومدينة كاشغر. وكان أول ما بدأ به قتيبة أنه لما قدم خراسان أميرا للحجاج، وذلك فى سنة [86 هـ] ست وثمانين قدمها والمفضّل بن المهلب يحرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس، وحثّهم على الجهاد، ثم عرضهم، وسار بهم. فلما كان بالطالقان تلقّاه دهاقين بلخ وساروا معه، وقطع النهر فتلقّاه ملك الصّغانيان بهدايا ومفتاح «8» من ذهب، ودعاه إلى بلاده، فمضى معه فسلّمها إليه، لأن ملك أخرون وشومان كان يسىء جواره، ثم سار قتيبة منها إلى أخرون وشومان وهما من

ذكر قتيبة ونيزك

طخارستان، فصالحه ملكها على فدية أدّاها إليه، فقبلها قتيبة. ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهى من فرغانة، وفتح أخسيكت وهى مدينة فرغانة القديمة. وقيل: إن قتيبة قدم خراسان فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين فعرض الجند فغزا أخرون وشومان، ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه لم يغزا فى هذه السنة، ولم يقطع النهر بسبب بلخ، فإنّ بعضها كان منتقضا عليه، فحاربهم وسبى منهم، ثم صالحوه فأمر بردّ السّبى. ذكر قتيبة ونيزك قال: لمّا صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى «1» نيزك طرخان صاحب باذغيس فى إطلاق من عنده من أسرى المسلمين، وكتب إليه يتهدّده، فخافه نيزك، فأطلقهم، وبعث بهم إليه، ثم كتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبى بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، فصالحه «2» نيزك لأهل باذغيس على ألا يدخلها قتيبة. ذكر غزوة بيكند وفتحها وغزا قتيبة بيكند فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، وهى أدنى مدائن بخارى إلى النّهر، فلما نزل بهم استنصروا الصّغد واستمدّوا من حولهم. فأتوهم فى جمع كثير، وأخذوا الطرق على قتيبة فقاتلهم «3»

ذكر غزو نومشكث وراميثنة وصلح أهلها

شهرين فى كل يوم، ثم انهزم الكفّار إلى المدينة، فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وتحصّن من دخل المدينة منهم بها، فأمر قتيبة بهدم سورها، فسألوه الصلح، فصالحهم، واستعمل عليهم عاملا «1» وارتحل عنهم. فلما سار خمس فراسخ نقضوا [الصلح «2» ] وقتلوا العامل ومن معه. فرجع قتيبة فنقب السّور فسقط، فسألوه الصلح فأبى، ودخلها عنوة، وقتل من كان بها من المقاتلة، وكان فيمن أخذ من المدينة رجل أعور، وهو الذى استجاش التّرك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدى نفسى بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس، فقالوا: هذا «3» زيادة فى الغنائم؛ وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ قال: والله لا يروّع بك مسلم «4» أبدا، وأمر به فقتل؛ وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله. ولما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو. ذكر غزو نومشكث وراميثنة وصلح أهلها وقتال التّرك والصّغد وأهل فرغانة وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا قتيبة نومشكث «5» ، فتلقّاه أهلوها، فصالحهم، ثم سار إلى راميثنة «6» ، فصالحه أهلها، وانصرف

ذكر غزو بخارى وفتحها

عنهم وزحف إليه التّرك ومعهم الصّغد وأهل فرغانة فى مائتى ألف. وملكهم كوربغانو «1» ابن أخت ملك الصّين، فاعترضوا المسلمين؛ فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فقاتلهم عبد الرحمن ومن معه، وأرسل إلى أخيه، فرجع بالمسلمين، وقد أشرف الترك على الظهور على عبد الرحمن ومن معه، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم، وقويت، وقاتلوا إلى الظّهر، فانهزم الترك ومن معهم وكان نيزك يومئذ مع قتيبة، فأبلى بلاء حسنا، ورجع قتيبة بعد الهزيمة إلى مرو ذكر غزو بخارى وفتحها كانت غزوة بخارى فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، والفتح فى سنة [90 هـ] تسعين؛ وذلك أن الحجاج بن يوسف كتب إلى قتيبة يأمره بقصد وردان خذاه «2» ، فعبر النّهر من زمّ «3» ، فلقى الصّغد وأهل كسّ ونسف فى طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم. ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السّفلى عن يمين وردان، فلقوه فى جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين، فظفر بهم، وغزا وردان «4» خذاه ملك بخارى فلم يظفر منه بشىء، فرجع إلى مرو. وكتب إلى الحجاج يخبره؛ فكتب إليه الحجاج أن صوّرها. فبعث إليه

بصورتها، فكتب إليه أن تب إلى الله جلّ ثناؤه مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا. [قيل «1» ] : وكتب إليه أن كس بكس، وانسف نسفا، ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنى من بنيّات «2» الطريق. فخرج قتيبة إلى بخارى فى سنة [90 هـ] تسعين، فاستجاش وردان خذاه الصّغد والترك ومن حوله، فأتوه «3» وقد سبق إليها قتيبة وحصرها «4» . فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحية، وخلّوا بيننا وبين قتالهم، فقال قتيبة: تقدّموا، فتقدّموا، وقاتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم الأزد، حتى دخلوا العسكر، وركبهم المشركون حتى حطموهم، وقاتلت مجنبتا المسلمين الترك حتى ردّوهم إلى مواقفهم، فوقفت الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموقف! فلم يقم «5» لهم أحد من العرب، فأتى بنى تميم، فقال لهم: يوم «6» كأيّامكم. فأخذ وكيع اللواء، وقال: يا بنى تميم، أتسلموننى اليوم؟ قالوا: لا، يا أبا المطرّف «7» ، وكان هزيم «8» بن أبى طحمة «9» على خيل تميم، ووكيع رأسهم. فقال: يا هزيم قدّم خيلك، ورفع إليه

الراية، وتقدم هزيم، وتقدّم وكيع فى الرّجّالة «1» ، وكان بينهم وبين الترك نهر، فأمر وكيع هزيما بقطعه إليهم، فعبره فى الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فعمل عليه جسرا من خشب، وقال لأصحابه: من وطّن نفسه على الموت فليعبر وإلّا فليثبت مكانه. فلم يعبر معه إلا ثمانمائة رجل «2» . فلما عبر بهم قال لهزيم: إنى مطاعنهم فاشغلهم عنّا بالخيل، وحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هزيم فى الخيل فطاعنهم «3» ، وقاتلهم المسلمون حتى حدروهم عن التلّ، ثم عبر الناس إليهم بعد انهزام التّرك، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتى برءوس كثيرة، وجرح خاقان وابنه، وفتح الله على المسلمين. قال: ولما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصّغد، فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة، فطلب رجلا يكلّمه. فأرسل إليه قتيبة حيّان «4» النبطى، فطلب الصلح على فدية يؤدّيها إليهم. فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، ورجع طرخون إلى بلاده. ورجع قتيبة ومعه نيزك.

ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل

ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل قال: ولما رجع قتيبة عن بخارى ومعه نيزك وقد خاف «1» لما رأى من الفتوح، فقال لأصحابه: أنا مع هذا ولست آمنه، فلو استأذنته ورجعت كان الرأى. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة، فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان، وأسرع السّير حتى أتى النّوبهار «2» ، وقال لأصحابه: لا شكّ أن قتيبة قد ندم على إذنه لى، وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسى، فكان كما قال: ندم قتيبة، وبعث إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، فتبعه المغيرة، فوجده قد دخل شعب خلم «3» ، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهذ بلخ وإلى باذان «4» ملك مرو الرّوذ وإلى ملك الطالقان وإلى ملك الفارياب «5» وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطرّ أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك، وكان خبعويه «6» ملك طخارستان ضعيفا؛ فأخذه نيزك، فقيّده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان خبعويه هو الملك ونيزك عنده، فاستوثق منه،

وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبعويه، وبلغ قتيبة خلعه، وقد تفرّق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن فى اثنى عشر ألفا إلى البروقان «1» ، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى الشتاء [فعسكر، و] «2» سرنحو طخارستان، فسار؛ فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد لتقدم عليه الجنود، فقدموا. فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فأتاه قتيبة، فأوقع بأهل الطالقان، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ فى نظام واحد، واستعمل أخاه عمرو «3» بن مسلم. وقيل: إن ملك الطالقان لم يحارب قتيبة، فكفّ عنه، وكان بها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين، فخرج إليه ملكها مقرّا مذعنا، فقبل منه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا من باهلة «4» ، وبلغ ملك الجوزجان خبرهم، فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها «5» سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحمّانى، ثم أتى بلخ فلقيه أهلها، فلم يقم إلّا يوما واحدا، وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب

خلم، ومضى نيزك إلى بغلان «1» ، وخلّف مقاتلته على فم الشعب ومضايقه يمنعونه، ووضع مقاتلته فى قلعة حصينة من وراء الشّعب، فأقام قتيبة أياما لا يقدر على دخوله، ولا يعرف طريقا يسلكه إلى نيزك إلّا الشّعب أو مفازة لا تقدر العساكر على قطعها، فأتاه إنسان فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التى من وراء الشّعب، فأمّنه قتيبة، وبعث معه رجالا، فانتهى بهم إلى القلعة، فطرقوهم وهم آمنون، فقتلوا منهم، وهرب من بقى ومن كان فى الشّعب، فدخل قتيبة الشّعب، فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان «2» ، فأقام بها أياما ثم سار إلى نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن فارتحل نيزك من منزله فقطع وادى فرغانة، ووجّه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز «3» ، وعبد الرحمن يتبعه، ونزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة على فرسخين من أخيه، وتحصّن نيزك بالكرز، وليس له «4» إلّا مسلك من وجه واحد، وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما فى يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدرى. وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك، واحتل لتأتينى به بغير أمان، فإن أعياك «5» وأبى فأمّنه.

فخرج إليه، وأخذ معه أطعمة وأخبصة كثيرة، وأتى نيزك، فقال له: إنك أسأت إلى نفسك «1» وغدرت. قال نيزك: فما الرأى؟ قال: أرى أن تأتيه، فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه، هلك أو سلّم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان. قال: ما أظنّه يؤمّنك لما فى نفسه عليك، لأنك قد ملأته غيظا، ولكنى أرى ألّا يعلم حتى تضع يدك فى يده، فإنى أرجو أن يستحى ويعفو. قال: إنّ نفسى تأبى هذا. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم ويعود حالك عنده، فإذا أبيت فإنى منصرف. وقدم الطعام الذى معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك. فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسى، ولا آتيه إلا بأمان، وإنّ ظنّى أنه يقتلنى، وإن أمننى؛ ولكن الأمان أعذر لى. فقال سليم: قد أمنك؛ أفتتهمنى؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم. فخرج معه ومعه خبعويه «2» وصول طرخان خليفة جبعويه، وخنس «3» طرخان صاحب شرطته وشقران «4» ابن أخى نيزك، فلما خرجوا من الشّعب حالت خيل قتيبة بين أصحاب نيزك وبين الخروج، فقال نيزك: هذا أوّل الغدر. فقال سليم: تخلّف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا على قتيبة، فحبسهم.

وكتب إلى الحجاج يستأذنه فى قتل نيزك، واستخرج قتيبة ما فى الكرز من متاع، وأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس، واستشارهم، فاختلفوا، فقال ضرار ابن حصين: إنى سمعتك تقول: أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبدا. فدعا نيزك، فضرب رقبته بيده، وأمر بقتل صول وابن أخى نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة. وقيل اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وأخذ الزّبير مولى عبّاس الباهلى خفّا لنيزك فيه جوهر، فكان أكثر من فى بلاده مالا وعقارا من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبعويه «1» ومنّ عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات. ولما قتل نيزك رجع قتيبة إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فأمنه على أن يأتيه، فطلب رهنا [يكونون فى يده] «2» ويعطى رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلى، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سمّوه فقتلوا حبيبا. وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.

ذكر غزوة شومان وكش ونسف وفتح ذلك

ذكر غزوة شومان وكشّ ونسف وفتح ذلك وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين سار قتيبة إلى شومان فحصرها، وكان سبب ذلك أنّ ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فأرسل إليه قتيبة رسولين: أحدهما من العرب اسمه عيّاش، والآخر من أهل خراسان يدعوانه «1» إلى أن يؤدّى ما كان صالح عليه، فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما، فرموهما. فانصرف الخراسانىّ وقاتلهم عيّاش فقتلوه، ووجدوا به ستّين جراحة، وبلغ قتيبة قتله، فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقا له، يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: أتخوّفنى من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصنا؟ فأتاه قتيبة وقد تحصّن ببلده فنصب «2» عليه المجانيق، ورمى الحصن فهشمه، فلما خاف الملك أن يظهر قتيبة عليه جمع ما كان بالحصن من مال وجوهر، ورمى به فى بئر فى القلعة لا يدرك قعرها، ثم فتح القلعة، وخرج، فقاتل حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، ثم سار إلى كشّ ونسف، ثم سار إلى بخارى. وقيل: إنه سار إلى الصّغد، فلما رجع عنهم قالت الصّغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذّل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك. فحبسوه وولوا غورك «3» فقتل طرخون نفسه.

ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد

ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد وفى سنة [93 هـ] ثلاث وتسعين صالح قتيبة خوارزم شاه، وسبب ذلك أن [ملك] «1» خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالا أو دابّة أو بيتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه، وأخذه منه، فلا يمتنع عليه أحد، ولا الملك «2» ، فإذا قيل للملك قال: لا أقوى عليه. فلما طال عليه ذلك كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلّمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من يضادّه ليحكم فيه «3» بما يرى، ولم يطلع أحدا من مرازبته على ذلك. فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وتجهّز للغزو، وأظهر أنه يريد الصّغد، وسار من مرو وجمع خوارزم شاه أجناده ودهاقنته «4» . فقال: إن قتيبة يريد الصغد، وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم فى ربيعنا هذا، فأقبلوا على الشرب والتنعّم فلم يشعروا حتى نزل قتيبة فى هزارسب «5» ، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكنى لا أرى

ذكر فتح سمرقند

ذلك، لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشدّ شوكة، ولكن أصرفه بشىء أخرجه «1» إليه. فأجابوه إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى مدينة الفيل من وراء النهر، وهى أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارزم شاه، فصالحه على عشرة آلاف رأس، وعين ومتاع و [على] «2» أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك. وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى [ملك] «3» خام جرد، وكان يغازى «4» خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم، وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفهم، فقتلهم، ودفع أموالهم إلى قتيبة. والله أعلم. ذكر فتح سمرقند قال: فلما قبض قتيبة صلح خوارزم قام إليه المجشّر بن مزاحم السلمى فقال له: سر «5» الآن إن أردت الصّغد يوما من الدّهر، فإنهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟ قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربنّ عنقك.

فلما كان الغد من يوم كلامه له أمر قتيبة أخاه عبد الرحمن فسار فى الفرسان والرّماة، وقدّم الأثقال إلى مرو، فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر فى الفرسان والرّماة نحو الصّغد، واكتم الأخبار، فإنى بالأثر. ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس، وقال لهم: إن الصّغد شاغرة «1» برجلها، وقد نقضوا العهد الذى بيننا، وصنعوا ما بلغكم؛ وإنى أرجو أن تكون خوارزم والصّغد كقريظة والنّضير. ثم سار فأتى الصّغد، فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى، فقاتلوا شهرا من وجه واحد وهم محصورون. وخاف أهل الصّغد طول الحصار، فكتبوا إلى ملك الشاش وأخشاد «2» وخاقان وفرغانة: إنّ العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا [به] «3» ، فانظروا لأنفسكم، ومهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا وإنهم «4» لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أبناء الملوك وأهل النّجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال، وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة؛ فيبيّتوه، وولّوا عليهم ابنا لخاقان، فساروا.

وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره مائة، وقيل ستّمائة من أهل النّجدة والشجاعة، وأعلمهم الخبر، وأمرهم بالمسير إليهم، فساروا، وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين «1» . فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوّهم، فلما رأوا صالحا حملوا عليه، واقتتلوا فشدّ الكمينان عن يمين وشمال، فقتلهم المسلمون، وأسروا منهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، واحتووا على سلاحهم وأسلابهم. وسئل بعض الأسرى عن القتلى فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيما أو بطلا، إن كان الرجل ليعدّ «2» بمائة رجل. ونصب قتيبة المجانيق على سمرقند، ورماهم فثلمه ثلمة «3» . ثم أمر قتيبة الناس بالجدّ فى القتال، وأن يبلغوا ثلمة المدينة، ففعلوا، وحملوا وقد تترّسوا حتى بلغوا الثّلمة، ووقفوا عليها، فرماهم الصّغد بالنشّاب، فلم يبرحوا، فأرسلوا إلى قتيبة أن انصرف عنّا اليوم حتى نصالحك غدا. فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثّلمة. وقيل: بل قال: جزع العبيد! انصرفوا على ظفركم. فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفى ألف ومائتى ألف مثقال فى كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس «4» ، وأن يخلوا المدينة

ذكر غزو الشاش وفرغانة

لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجدا فيصلّى فيه ويخطب ويتغدّى ويخرج. فلما تمّ الصّلح بنى المسجد ودخلها قتيبة فى أربعة آلاف انتخبهم. فدخل المسجد، فصلّى فيه، وخطب وأكل طعاما، ثم أرسل إلى الصّغد يقول: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإنى لست خارجا منها، ولست آخذ منكم إلّا ما صالحتكم عليه، غير أنّ الجند يقيمون فيها. وقيل: إنه شرط عليهم فى الصّلح مائة ألف رأس «1» وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ذلك، وأتى بالأصنام، فأخذ ما عليها. وأمر بها فأحرقت، فوجد من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصّغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج. فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد بن الوليد. ثم رجع قتيبة إلى مرو، واستعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على الحرب. وجعل على الخراج عبيد الله بن أبى عبيد الله مولى مسلم «2» . ذكر غزو الشاش وفرغانة وفى سنة [94 هـ] أربع وتسعين قطع قتيبة النّهر وفرض على أهل بخارى وكشّ ونسف عشرين ألف مقاتل، فساروا معه.

فوجّهم إلى الشاش، وتوجّه إلى فرغانة فأتى خجندة «1» فجمع له أهلها، ولقوه، واقتتلوا مرارا، كلّ ذلك يكون الظّفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاسان «2» مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجّههم إلى الشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها، وانصرف إلى مرو. وقال سحبان «3» يذكر قتالهم بخجندة «4» : وسل «5» الفوارس فى خجن ... دة تحت مرهفة العوالى هل كنت أجمعهم إذا ... هزوا وأقدم فى قتالى أم كنت أضرب هامة ال ... عاتى «6» وأصبر للعوالى هذا وأنت قريع قي ... س كلّها ضخم النّوال وفضلت قيسا فى النّدى ... وأبوك فى الحجج الخوالى ولقد تبيّن عدل حك ... مك فيهمو فى كلّ مال «7» تمّت مروءتكم ونا ... غى «8» عزّكم غلب الجبال

ذكر فتح مدينة كاشغر

ذكر فتح مدينة كاشغر «1» وفى سنة [96 هـ] ست وتسعين سار قتيبة من مرو وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، ومضى إلى فرغانة وبعث جيشا مع كثير ابن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبيا، فختم أعناقهم، وأوغل حتى بلغ قرب الصّين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلىّ رجلا شريفا يخبرنى عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسنة وبأس وعقل وصلاح «2» ، فأمر لهم بعدّة حسنة ومتاع حسن من الخزّ والوشى وغير ذلك، وخيول حسنة، وكان عليهم «3» هبيرة بن مشمرج «4» الكلابى، وقال لهم قتيبة: إذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أنّى لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبى خراجهم. فساروا [وعليهم هبيرة] «5» ، فلما قدموا دعاهم ملك الصين فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، وتطيّبوا، ولبسوا النّعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه، فجلسوا فلم يكلّمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلّا نساء. ما بقى منا أحد إلّا انتشر ما عنده.

فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشى وعمائم الخزّ والمطارف، وغدوا عليه. فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا. وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم فلبسوا «1» سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وأخذوا السيوف والرماح والقسىّ، وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين، فرأى مثل الخيل «2» ؛ فلما دنوا ركزوا رماحهم، وأقبلوا مشمّرين. فقيل لهم: ارجعوا، فركبوا خيولهم [وأخذوا رماحهم] «3» ، ودفعوا خيلهم، كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء. فلما أمسى بعث إليهم أن ابعثوا إلىّ زعيمكم، فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظم ملكى، وأنه ليس أحد يمنعكم منّى، وأنتم فى يدى بمنزلة البيضة فى كفّى. وإنى سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقونى قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيّكم الأول والثانى والثالث [ما صنعتم] «4» ؟ قال: أما زيّنا الأول فلباسنا فى أهلنا. وأما الثانى فزيّنا إذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا. قال: ما أحسن ما دبّرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإنى قد عرفت قلّة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال «5» :

وكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله فى بلادك وآخرها فى منابت الزيتون. وأما تخويفك إيّانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، ولسنا نكرهه ولا نخافه، وقد حلف صاحبنا ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، وتعطى «1» الجزية. قال: فإنّا نخرجه من يمينه، ونبعث له بتراب من أرضنا، فيطؤه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهديّة وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، وبتراب من أرضه، وأعادهم «2» وأحسن جوائزهم. فقدموا على قتيبة، فقبل ذلك، ووطىء التراب، وختم الغلمان، وردهم، فقال سوادة بن عبد الملك السّلولى «3» : لا عيب فى الوفد الذين بعثتهم ... للصّين أن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الرّدى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج أدّى رسالتك التى استرعيته «4» ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج هذه غزوات قتيبة وفتوحاته. وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كلّ سنة اشترى اثنى عشر فرسا [من جياد الخيل] «5» واثنى عشر هجينا، فتخدم إلى وقت الغزو، فإذا تأهّب للغزو ضمّرها، وكان يحمل عليها الطلائع، وكان لا يجعل الطلائع إلا فرسان الناس وأشرافهم، ويجعل معه من

ولنذكر من الغزوات والفتوحات فى أيام الوليد خلاف ما ذكرنا:

العجم من يستنصحه. وإذا بعث طليعة أمر بلوح فنقش ثم شقّه نصفين، وجعل شقّة عنده، وأعطى نصفه للطليعة، ويأمرهم أن يدفنوه فى موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرها، ثم يبعث بعد الطّليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أم لا. ولنذكر من الغزوات والفتوحات فى أيام الوليد خلاف ما ذكرنا: ذكر فتح السند وقتل ملكها وما يتّصل بذلك من أخبار العمال عليها وفى سنة [89 هـ] تسع وثمانين قتل محمد بن القاسم بن محمد ابن الحكم بن أبى عقيل الثقفى داهر «1» بن صصّة ملك السند، وملك بلاده، وكان الحجاج قد استعمله على ذلك الثّغر وسيّر معه ستة آلاف مقاتل، وجهّزه بجميع ما يحتاج إليه حتى المسالّ والإبر والخيوط، فسار [محمد] «2» إلى مكران، وأقام بها أياما. ثم أتى قنّزبور ففتحها ثم سار إلى أرمائيل «3» فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها السلاح والرجال والأداة. فأنزل الناس منازلهم وخندق ونصب عليها منجنيقا يقال له العروس كان يمدّ به خمسمائة رجل، وكان بالدّيبل بدّ «4» عظيم عليه

دقل عظيم، وعلى الدّقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت بالمدينة، والبدّ: صنم فى بناء عظيم بأعلاه منارة عظيمة مرتفعة، والدّقل فى رأس المنارة. فرمى الدّقل بحجر «1» العروس فكسره فتطيّر الكفّار بذلك وأعظموه، ثم فتحها محمد عنوة بعد قتال، وقتل فيها ثلاثة أيام، وهرب عامل داهر عنها، وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين، وبنى جامعها، وسار إلى البيرون «2» ، وكان أهلها قد بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه، فلقوا محمدا بالميرة، وأدخلوه مدينتهم، ثم سار عنها، وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهرا دون مهران فصالحه أهل سربيدس «3» ، ووظّف عليهم الخراج، وسار إلى سهبان «4» ففتحها، ثم أتى نهر مهران فنزل به، وبلغ خبره داهرا فاستعدّ لمحاربته. وبعث محمد جيشا إلى سدوسان «5» ، فطلب أهلها الأمان والصلح فأمّنهم، ووظّف عليهم الخراج، ثم عبر نهر مهران مما يلى بلاد راسل «6» الملك على جسر عقده، هذا وداهر مستخفّ به، فلقيه محمد ومن معه وهو على فيل، والفيلة حوله ومعه الذكاكرة «7» ،

فاقتتلوا قتالا شديدا، وترجّل داهر، وقاتل فقتل عند المساء، وانهزم الكفار وقاتلهم المسلمون كيف شاءوا، وقال قائلهم «1» : الخيل تشهد يوم داهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمّد أنّى فرجت الجمع غير معرّد «2» ... حتى علوت عظيمهم بمهنّد فتركته تحت العجاج مجندلا «3» ... متعفّر الخدّين غير موسّد قال: ولما قتل داهر تغلّب محمد على بلاد السند وفتح راور «4» عنوة، وكان بها امرأة لداهر، فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها. ثم سار إلى برهمنا باذ «5» العتيقة، وكان المنهزمون من الكفّار قد لجئوا إليها، ففتحها عنوة بعد قتال، وقتل بها بشرا كثيرا، وسار يريد الرّور «6» وبغرور، فلقيه أهل ساوندرى «7» ، فطلبوا الأمان فأمّنهم واشترط عليهم ضيافة «8» المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك، ثم تقدم إلى بسمد «9» فصالحه أهلها، وسار إلى الرّور، وهى من مدائن

السند على جبل، فحاصرهم شهورا فصالحوه، وسار إلى السكة «1» ففتحها، ثم قطع نهر بياس «2» إلى الملتان، فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم، وجاء إنسان فدلّه على قطع الماء الذى يدخل المدينة، فقطعه فعطشوا وألقوا بأيديهم، ونزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذّريّة وسدنة البدّ، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهبا كثيرا، فجمع فى بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوّة فى وسطه، فسمّيت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج: الثغر، وكان بدّ الملتان تهدى إليه الأموال من كل مكان ويحجّ «3» إليه من البلاد، ويحلقون عنده رءوسهم ولحاهم، ويزعمون أنّ صنمه هو أيوب النبى عليه الصلاة والسلام. وعظمت فتوحاته، فنظر الحجاج فى النفقة على ذلك الثغر، فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر إلى» الذى حمل إليه منه فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألف ألف، وأدركنا ثأرنا ورأس داهر. قال: واستمر محمد بن القاسم بالهند إلى أن مات الحجاج فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، فأتاه الخبر وهو بالملتان فرجع إلى الرّور والبغرور «5» ، فأعطى الناس، ووجّه إلى البيلمان «6»

جيشا، فأعطوا الطاعة من غير قتال، وسالمه أهل شرشت «1» ، ثم أتى محمد الكيرج، فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر. وقيل: بل قتل، فنزل أهل المدينة على حكم محمد، فقتل المقاتلة، وسبى الذريّة؛ فقال شاعرهم: نحن قتلنا داهرا ودوهرا ... والخيل تردى منسرا فمنسرا «2» قال: ولما مات الوليد بن عبد الملك وولّى سليمان عزل محمّد بن القاسم عن السند، واستعمل يزيد بن أبى كبشة السكسى على السند، فأخذ محمدا وقيّده وحمله إلى العراق، فقال متمثلا «3» : أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فبكى أهل السند. ولما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط فقال «4» : فلئن ثويت بواسط وبأرضها ... رهن الحديد مكبّلا مغلولا فلرب قينة «5» فارس قد رعتها ... ولرب قرن قد تركت قتيلا قال: فعذّبه صالح فى رجال من آل أبى عقيل حتى قتلهم، فقال حمزة بن بيض يرثى محمدا «6» :

إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد قال: وأما يزيد بن أبى كبشة فإنه مات بعد مقدمه إلى السند بثمانية عشر يوما، فاستعمل سليمان على السند حبيب بن المهلب، فقدم السند وقد رجع الملوك إلى ممالكهم، ورجع حيسبة «1» بن داهر إلى برهمنا باذ، فنزل حبيب على شاطىء مهران، وحارب قوما فظفر بهم. ثم مات سليمان، وولى عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فأسلم حيسبة والملوك، وتسمّوا بأسماء العرب، وكان عمرو بن مسلم الباهلى عامل عمر على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر بهم، ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شطّ مهران فمنعه حيسة بن داهر من العبور، وأرسل إليه: إنى قد أسلمت وولّانى الرجل الصالح بلادى، ولست أمكنك. فأعطاه رهنا، وأخذ منه رهنا على خراج بلاده، ثم ترادّ الرهون وكفر حيسبة، وحارب. وقيل: لم يحارب، وإنما الجنيد تجنّى عليه، فأتى الهند، فجمع جموعا وأعدّ السفن، واستعدّ للحرب، فسار إليه الجنيد فى السفن، فالتقوا، فأسر حيسبة فقتله الجنيد، وهرب صصّة بن داهر، وهو

يريد أن يمضى إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده فى يده فقتله. وغزا الجنيد الكيرج؛ وكانوا قد نقضوا، فظفر ودخل المدينة فغنم وسبى، ووجّه العمال إلى المرمد. «1» والمندل ودهنج «2» ، ووجّه جيشا إلى أزين «3» فأغاروا عليها، وحرقوا ربضها، وفتح الجنيد البيلمان، وحصل «4» عنده سوى ما حمله «5» أربعون ألف ألف، وحمل مثلها. وفى أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند. ثم ولى الحكم بن عوام «6» الكلبى، وقد كفر أهل الهند إلّا أهل قصّة «7» ، فبنى مدينة سماها المحفوظة، وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم فأغزاه من المحفوظة، فقدم عليه وقد ظهر أمره، فبنى مدينة وسمّاها المنصورة، واسترجع «8» ما كان غلب عليه العدوّ، ثم قتل الحكم، فكان العمال يقاتلون العدوّ، ويفتتحون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية، ثم جاءت الدولة العباسية فكان من أمر السند ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرنا أخبار السند ههنا لتكون متّسقة، فلنرجع إلى تتمّة الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك:

ذكر الغزوات إلى بلاد الروم وما فتح منها وغزوات الصوائف على حكم السنين

ذكر الغزوات الى بلاد الروم وما فتح منها وغزوات الصوائف على حكم السنين فى سنة [86 هـ] ست وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك [أرض] «1» الروم. وغزا أيضا فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، فقتل منهم عددا كثيرا بسوسنة من ناحية المصّيصة «2» وفتح حصونا. وقيل: إن الذى غزا فى هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وحصن بولس وقمقم، وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل، وسبى ذرّيّتهم ونساءهم. والله أعلم. ذكر فتح طوانة «3» وغيرها من بلد الروم وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس ابن الوليد بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرّفه أنّ الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد أجمعوا على قصد بلاده ففعلوا ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية، فتجهّزوا، وساروا نحو الجزيرة، ثم عطفوا منها إلى بلاد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم، ثم رجعوا فانهزم المسلمون، وبقى العباس فى نفر، فنادى: يأهل القرآن؛ فأقبلوا جميعا، فهزم الله الرّوم حتى دخلوا طوانة «4» ، وحصرهم المسلمون وفتحوها فى جمادى الأولى منها.

ثم غزا مسلمة [والعباس] «1» الروم فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، فافتح مسلمة حصن «2» سورية، وافتتح العباس أذرولية «3» ، ولقى من الروم جمعا فهزمهم «4» . وقيل: إن مسلمة قصد عمّورية، فلقى بها جمعا كثيرا من الروم فهزمهم وافتتح هرقلية «5» وقمولية «6» . وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون «7» ، وغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك، وذلك فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين أيضا. وغزا مسلمة الروم فى سنة [90 هـ] تسعين، ففتح الحصون الخمسة التى بسورية. وغزا العباس حتى بلغ أرزن «8» وبلغ سورية. وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد الصّائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك. وغزا مسلمة الترك فى هذه السنة من ناحية أذربيجان حتى بلغ الباب، وفتح مدائن وحصونا، ونصب عليها المجانيق. وغزا مسلمة أرض الروم فى سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، ففتح حصونا ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.

ذكر الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما قدمناه

وفيها كان فتح الأندلس على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار المغرب، وغزيت جزيرة سردانية وسنذكر ذلك [أيضا] «1» إن شاء الله. وغزا العباس الروم فى سنة [93] ثلاث وتسعين، ففتح سبسطية «2» المرزبانيين. وغزا مروان بن الوليد الروم فبلغ خنجرة «3» ، وغزا مسلمة ففتح ماسية «4» وحصن الحديد. وغزالة من ناحية ملطية. وغزا العباس بن الوليد الروم ففتح أنطاكية فى سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وغزا العباس فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، ففتح هرقلة وغيرها، وفيها قتل الوضّاحى بأرض الروم ونحو ألف رجل معه. انتهت الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك. فلنذكر خلاف ذلك من الحوادث على حكم السنين: ذكر الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما قدمناه سنة (86 هـ) ست وثمانين: فى هذه السنة حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وعبد الملك عن شرطته.

سنة (88 هـ) ثمان وثمانين:

وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل المخزومى. سنة (87 هـ) سبع وثمانين: فى هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، واستعمل عمر بن عبد العزيز، فقدمها فى الشهر، وثقله على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان، وأحسن السيرة فى الناس، واستعان بفقهاء المدينة، وحرّضهم على أن يبلّغوه ما يبلغهم من أخبار عمّاله، وأن يعينوه على الحقّ، وقال: إنى أريد ألّا أقطع أمرا دونكم. وحج عمر بالناس فى هذه السنة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر ابن عمرو بن حزم، وعلى قضاء البصرة عبد الله بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنهم. سنة (88 هـ) ثمان وثمانين: ذكر عمارة مسجد النبى صلى الله عليه وسلّم والزيادة فيه فى هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى شهر ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، وأن يشترى ما فى نواحيه حتى يكون مائتى «1» ذراع، ويقول له: قدّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك؛ فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوّموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإنّ لك فى عمر وعثمان رضى الله عنهما أسوة. فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوا إلى أخذ الثمن؛

فأعطاهم إياه، وهدم الحجر، وأرسل الوليد الفعلة من الشام، وبعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم ليعمره، فبعث إليه الروم مائة ألف مثقال من ذهب ومائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملا. فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس، فوضعوا أساسه. وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى تسهيل البناء وحفر الآبار، وأمره أن يعمل الفوّارة بالمدينة، فعملها وأجرى ماءها، وكتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطّرق وعمل الآبار. وفيها منع الوليد المجذّمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق. وحجّ بالناس عمر بن عبد العزيز، ووصل جماعة من قريش، وساق معه بدنا، وأحرم من ذى الحليفة، فلما كان بالتّنعيم أخبر أنّ مكّة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاجّ العطش. فقال عمر: تعالوا ندعو الله تعالى؛ فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا إلى البيت إلّا مع المطر، وسال الوادى، فخاف أهل مكّة من شدّته، ومطرت عرفة ومكة، وكثر الخصب. وقيل: إنما حجّ هذه السنة عمر بن الوليد [والله أعلم «1» ] .

سنة (89 هـ) تسع وثمانين:

سنة (89 هـ) تسع وثمانين: ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسرى مكة وما خطب الناس [به] «1» وقاله وفى هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسرى، فخطب أهلها فقال: أيها الناس، أيهما أعظم، أخليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا من فضل الخليفة إلّا أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام استسقاه فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا، يعنى بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بثنية طوى فى ثنية الحجون، فكان ماؤها عذبا، وكان ينقل ماءها ويضعه فى حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها. وقيل: كانت ولاية خالد فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين. وقيل سنة أربع. وحج بالناس فى هذه السنة عمر بن عبد العزيز. سنة (90 هـ) تسعين: ذكر هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقباذ «2» للبعث، لأنّ الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وأخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته، وجعل عليهم مثل الخندق، وجعلهم فى فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل

الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وعذّبهم؛ فكان يزيد يصبر صبرا حسنا، فكان ذلك مما يغيظ الحجاج، فقيل له: إنه رمى فى ساقه بنشّابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسّها شىء إلّا صاح، فأمر أن يعذّب فى ساقه، فعذب، فصاح، فسمعته أخته هند، وكانت عند الحجاج فصاحت، فطلقها الحجاج، ثم كفّ عنهم وجعل يستأدى «1» منهم المال، فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر لهم بشراب، فسقوا، واشتغلوا «2» ، فلبس يزيد ثياب طبّاخه وخرج، وقد جعل له لحية بيضاء، فرآه بعض الحرس، فقال: كأنّ هذه مشية يزيد، فلحقه فرأى لحيته بيضاء، فتركه، وعاد وخرج المفضّل ولم يفطن له، وكذلك عبد الملك، فجاءوا إلى سفن معدّة فركبوها، وساروا ليلتهم. ولما أصبح الحجاج وعلم بهم الحرس رفعوا أمرهم إليه ففزع، وظن أنهم قصدوا «3» خراسان لفتنة، فبعث إلى قتيبة يأمره بالجدّ والاحتياط. ولما دنا يزيد وإخوته من البطائح استقبلتهم خيل قد ضمّرت وأعدّت لهم، فركبوها ومعهم دليل من كلب، فأخذوا على السّماوة إلى الشام، فأتى الحجاج الخبر، فكتب إلى الوليد يعلمه. وسار يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدى، وكان كريما على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته، وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج. قال: فأتنى

بهم، فإنهم آمنون لا يوصل «1» إليهم وأنا حىّ. فجاء بهم إليه فكانوا عنده فى مكان آمن. وكتب الحجاج إلى الوليد: إنّ آل المهلب خانوا مال «2» الله وهربوا منّى، ولحقوا بسليمان. فلما علم أنهم عند أخيه سكن بعض مابه، وكتب إليه سليمان: إنّ يزيد عندى وقد أمّنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، لأن الحجاج أغرمه ثلاثة آلاف ألف، والذى بقى عليه أنا أؤدّيه. فكتب الوليد: والله لا أؤمّنه حتى تبعث به إلىّ ... فكتب سليمان: لئن بعثت به إليك لأجيئنّ معه. فكتب إليه: والله لئن جئتنى لا أؤمنه. فقال يزيد بن المهلّب: أرسلنى إليه، فو الله ما أحبّ أن أوقع بينك وبينه عداوة، واكتب معى بألطف ما قدرت عليه. فأرسله، وأرسل معه ابنه أيوب. وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيّدا. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد فى سلسلة. ففعل ذلك، فلما رأى الوليد ابن أخيه فى سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمّه، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخفر ذمّة أبى، وأنت أحقّ من منعها، ولا تقطع منّا رجاء من رجا السلامة فى جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العزّ فى الانقطاع إلينا لعزّنا بك.

فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع فيه، ويضمن إيصال المال. فقال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فأمّنه الوليد، وردّه إلى سليمان، وكتب إلى الحجاج: إنى لم أصل إلى يزيد وأهله لمكانهم من سليمان، فاكفف عنهم، وكان أبو عيينة بن المهلّب عند الحجاج عليه ألف ألف، فتركها له، وكفّ عن حبيب بن المهلب، وكان يعذّب بالبصرة، وأقام يزيد عند سليمان فى أرغد عيش، وكان لا تصل إليه هديّة إلّا بعث بنصفها إلى يزيد، ولا تعجبه جارية إلا بعث بها إليه، وكان يزيد إذا أتته هدية بعث بها إلى سليمان. وفى هذه السنة استعمل الوليد قرّة بن شريك على مصر، وعزل أخاه عبد الله عنها. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز. وفيها مات أنس بن مالك رضى الله عنه الأنصارى. وقيل: سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، وكان عمره ستّا وتسعين سنة، وقيل مائة وست سنين. سنة (91 هـ) احدى وتسعين: فى هذه السنة حجّ الوليد بن عبد الملك بالناس، فلما قدم المدينة دخل المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، ولم يبق

سنة (92 هـ) اثنتين وتسعين:

غير سعيد بن المسيّب، لم يجسر «1» أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له [رضى الله عنه] «2» : لو قمت. فقال: لا أقوم حتى يأتى الوقت الذى كنت أقوم فيه. قيل له: فلو سلّمت على أمير المؤمنين. قال: لا، والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد فى ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة. فقال: من ذلك الشيخ: أهو سعيد؟ قلت: نعم. ومن حاله كذا وكذا، ولو علم بمكانك لقام فسلّم عليك. فقال الوليد: قد علمت حاله، نحن «3» نأتيه، فأتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرّك سعيد. فقال: بخير والحمد لله؛ فكيف أمير المؤمنين؟ وكيف حاله؟ فانصرف وهو يقول: هذا بقيّة الناس. وقسم الوليد بالمدينة رقيقا «4» كثيرا وآنية من ذهب وفضة وأموالا، وصلّى بالمدينة الجمعة، وخطب الخطبة الأولى جالسا والثانية قائما. وفيها عزل الوليد عامله محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية. واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا الترك كما تقدم. سنة (92 هـ) اثنتين وتسعين: فى هذه السنة حجّ بالناس عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان من الغزوات والفتوحات ما تقدم ذكره.

سنة (93 هـ) ثلاث وتسعين:

سنة (93 هـ) ثلاث وتسعين: ذكر عزل عمر بن عبد العزيز فى هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة، وكان سبب ذلك أنّ عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف لحجّاج وظلمه، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى الوليد: إن من عندى من المرّاق «1» وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يولّيه المدينة ومكة، فأشار بخالد بن عبد الله القسرى وعثمان بن حيّان، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة، فلما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرها، وتهدّد من أنزل عراقيّا أو أجره دارا. وقيل: كان ذلك قبل هذا التاريخ. والله أعلم. وفيها كتب الوليد إلى عمر قبل عزله يأمره أن يضرب خبيب «2» ابن عبد الله بن الزّبير، ويصب على رأسه ماء باردا، فضربه خمسين سوطا. وصبّ على رأسه ماء باردا فى يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمات من يومه. وحج بالناس عبد العزيز بن الوليد.

سنة (94 هـ) أربع وتسعين:

سنة (94 هـ) أربع وتسعين: ذكر مقتل سعيد بن جبير [رضى الله عنه] «1» فى هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير، وهو أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدى مولى بنى والية: بطن من بنى أسد بن خزيمة. وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن [محمد بن] «2» الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن لقتال رتبيل، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج وعبد الملك كان سعيد ممن خلع؛ فلما هزم عبد الرحمن هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عاملها يأمره بإرساله، فتحرّج العامل من ذلك، وأرسل إلى سعيد يعرّفه أن يفارق البلد، فخرج إلى أذربيجان ثم خرج إلى مكة، فكان بها حتى قدم خالد بن عبد الله مكة، وأخرج أهل العراق إلى الحجّاج، فأخذ سعيد فيمن أخذ، وسيره إلى الحجاج مع حرسيّين، فانطلق أحدهما لحاجته فى بعض الطريق وبقى الآخر فنام واستيقظ. فقال لسعيد: إنى أبرأ إلى الله من دمك، إنى رأيت فى منامى قائلا يقول لى: ويلك! تبرأ إلى الله من دم سعيد بن جبير، فاذهب حيث شئت، فإنى لا أطلبك، فأبى سعيد ذلك، ورأى الحرسىّ ذلك ثلاث مرات وهو يكرّر القول على سعيد فى الذهاب فلا يفعل. ثم قدم الكوفة فأدخل على الحجاج، فلما رآه قال: لعن الله ابن النصرانية- يعنى خالد بن عبد الله،

أما كنت أعرف مكانه، بلى والله والبيت الذى كان فيه بمكة. ثم أقبل عليه وقال: يا سعيد، ألم أشركك فى أمانتى «1» ؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علىّ؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطىء مرّة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج، ثم عاوده فى شىء، فقال: إنما كانت بيعته «2» فى عنقى. فغضب الحجاج وانتفخ. وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين [عبد الملك] «3» ؟ قال: بلى. قال: ثم قدمت الكوفة واليا فجدّدت البيعة فأخذت بيعتك ثانيا؟ قال: بلى. قال: فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين، وتوفى بواحدة للحائك ابن الحائك، والله لأقتلنّك. قال: إنى إذا لسعيد كما سمّتنى أمى، فأمر به فضربت رقبته. فلما سقط رأسه هلل ثلاثا؛ أفصح بمرّة «4» ولم يفصح بمرّتين، والتبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه يريد القيود، فعطفوا «5» رجلى سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. وكان الحجاج إذا نام يراه فى منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدوّ الله، فيم قتلتنى، فيقول: مالى ولسعيد بن جبير! مالى ولسعيد بن جبير! يكررها.

ذكر وفاة زين العابدين على بن الحسين

وفيها كانت الزلازل بالشام فدامت أربعين يوما، فخربت البلاد، وكان معظم «1» ذلك بأنطاكية. ذكر وفاة زين العابدين على بن الحسين ابن على بن أبى طالب رضى الله عنهم ونبذة من أخباره كانت وفاته بالمدينة فى أول سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وقيل فى سنة اثنتين. وقيل سنة ثلاث. وقيل سنة تسع وتسعين. وقيل سنة مائة. حكى هذا الاختلاف أبو القاسم بن عساكر فى تاريخ دمشق، واقتصر ابن الأثير الجزرى على سنة أربع وتسعين دون غيرها. وكان رحمه الله يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو محمد، ويقال أبو الحسن، ويقال أبو الحسين زين العابدين. ومولده سنة [33 هـ] ثلاث وثلاثين، وأمه أمّ ولد اسمها غزالة [خلف عليها بعد الحسين زييد مولى الحسين، فولدت له عبد الله بن زييد. وقال إسماعيل بن موسى السّدّى: عبد الرحمن بن حبيب أخو علىّ ابن الحسين لأبيه] «2» ، وكان رحمه الله ثقة ورعا مأمونا كثير الحديث من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة. حكى أبو القاسم بن عساكر فى تاريخه عن الزهرى، قال: شهدت علىّ بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأوثقه حديدا، ووكل به حفّاظا فاستأذنتهم «3» فى التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لى فدخلت عليه، وهو فى قبّة

والقيود فى رجليه والغلّ فى يديه، فسكنت «1» وقلت: وددت أنى مكانك وأنت سليم. فقال: يا زهرىّ، أو تظنّ هذا مما ترى علىّ وفى عنقى. أما إنى لو شئت ما كان. ثم أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد. ثم قال: يا زهرىّ، جزت معهم على هذا منزلتين من المدينة. فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكّلون به يطلبونه بالمدينة، فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لى بعضهم: إنا نراه متبوعا، إنه لنازل- ونحن حوله لا ننام نرصده- إذ أصبحنا، فما وجدنا إلا حديده. قال الزهرى: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألنى عن علىّ ابن الحسين، فأخبرته، فقال لى: إنه قد جاءنى فى يوم فقده الأعوان، فدخل علىّ، فقال: أنا وأنت! فقلت: أقم عندى. فقال: لا أحبّ، فخرج، فو الله لقد امتلأ ثوبى منه خيفة. فقال الزهرى: فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس علىّ بن الحسين حيث تظنّ، إنه لمشغول بنفسه. فقال: نعم. وقيل: وقع حريق بالمدينة فى بيت فيه علىّ بن الحسين، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار! فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذى ألهاك عنها؟ قال: ألهانى عنها النار الأخرى.. وقيل: كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه، ولا يخطر بيده. وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدى من أقوم ومن أناجى.

قيل: وكان إذا توضّأ اصفرّ فيقول له أهله: ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدى من أريد أقوم؟ وعن سفيان بن عيينة قال: حجّ على بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض، ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبّى. فقيل له: ما لك لا تلبّى؟ فقال: أخشى أن أقول لبّيك، فيقول لى: لا لبّيك. فقيل له: لا بدّ من هذا. فلما لبّى غشى عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجّه. وقيل: كان رضى الله عنه يصلّى فى كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات رضى الله عنه. وكان يسمّى بالمدينة زين العابدين لعبادته. وقيل: إنه قاسم الله ماله مرّتين، وكان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين فى ظلمة الليل، ويقول: إن الصّدقة فى ظلمة الليل تطفئ غضب الرّبّ. وأعتق غلاما أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم وألف دينار. قيل: وسكبت جارية عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله عزّ وجل يقول «1» : «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» . قال: قد كظمت غيظى. قالت «2» : «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» . قال: قد عفا الله عنك. قالت «3» : وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» * . قال: اذهبى فأنت حرّة.

قيل» : وأذنب له غلام ذنبا استحقّ منه العقوبة، فأخذ السّوط. فقال الغلام: «قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله» ، وما أنا كذلك، إنى لأرجو رحمة الله، وأخاف عذابه، فألقى السّوط، وقال: أنت عتيق. وقيل: حجّ هشام بن عبد الملك فى زمن عبد الملك أو فى زمن الوليد، فلما طاف جهد أن يستلم الحجر فلم يطق لزحام الناس عليه، فنصب له منبر، وجلس ينظر إلى الناس، إذ أقبل علىّ بن الحسين رضى الله عنه من أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فطاف بالبيت، فكان كلما بلغ الحجر تنحّى الناس له حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذى قد هابه الناس هذه المهابة؟ فقال هشام: لا أعرفه- مخافة أن يرغب الناس فيه، وكان حوله وجوه أهل الشام، والفرزدق الشاعر، فقال الفرزدق: لكننى أنا أعرفه، فقال أهل الشام: من هذا يا أبا فراس؟ فزبره هشام، وقال: لا أعرفه. فقال الفرزدق: بل تعرفه، ثم أنشد مشيرا إليه «2» : [هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرسول الذى انجابت به الظّلم] «3» هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم هذا ابن خير عباد الله كلّهمو ... هذا النّقى التّقىّ الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهى الكرم يرقى «1» إلى ذروة العزّ الذى قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام «2» والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلا حين يبتسم بكفّه خيزران ريحها عبق ... من كفّ أروع فى عرنينه شمم من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له «3» الأمم ينشقّ نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظّلم «4» مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصرها والخيم والشّيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا

الله شرّفه قدما وفضّله ... جرى بذاك له فى لوحه القلم [فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم] «1» كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستو كفان ولا يعروهما عدم «2» حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم من معشر حبّهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا يستدفع السوء والبلوى بحبّهمو ... ويستردّ به الإحسان والنعم مقدّم بعد ذكر الله ذكرهمو ... فى كل أمر ومختوم به الكلم يأبى لهم أن يحلّ الذّلّ «1» ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم أىّ الخلائق ليست فى رقابهمو ... لأوّليّة هذا أو له نعم من يشكر الله يشكر أوليّة ذا ... فالدّين من بيت هذا بابه الأمم قال: فغضب هشام لذلك وتنغّص عليه يومه، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، وبلغ ذلك علىّ بن الحسين رضى الله عنه، فبعث إليه باثنى عشر ألف درهم، وقال: اعذر أبا فراس، لو كان عندنا أكثر من هذا لو صلناك بها، فردّها الفرزدق، وقال: ما قلت الذى قلت إلّا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليها شيئا، فردّها عليه، وقال: بحقّى عليك إلا قبلتها، فقد علمت أنّا أهل بيت إذا أنفذنا أمرا لا نرجع فيه،

سنة (95 هـ) خمس وتسعين:

وقد رأى الله مكانك، وعلم نيّتك، والجزاء عليه تعالى. فقبلها. وجعل الفرزدق يهجو هشاما، فكان مما هجاه به «1» : أتحبسنى «2» بين المدينة والتى ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد ... وعينين حولاوين باد عيوبها وكان على بن الحسين يقول: لقد استرقّك بالودّ من سبقك بالشكر. ولما حضرته الوفاة أوصى ألّا يؤذنوا به أحدا، وأن يكفّن فى قطن، ولا يجعلوا فى حنوطه مسكا، ودفن بالبقيع رحمه الله ورضى عنه. ومات أيضا فى هذه السنة عروة بن الزبير رضى الله عنهما، وسعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام. وحجّ بالناس مسلمة بن عبد الملك. وقيل عبد العزيز بن الوليد. وفيها استقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب. سنة (95 هـ) خمس وتسعين: ذكر وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى وشىء من أخباره هو أبو محمد الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل ابن عامر بن مسعود بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف، كانت وفاته فى شوال سنة [95 هـ] خمس وتسعين،

وقيل لخمس بقين من شهر رمضان من السنة، وله من العمر أربع وخمسون، وقيل ثلاث وخمسون. روى أن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار فى أيام الوليد بن عبد الملك، فقال عمر بن العزيز: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة؛ اللهم قد امتلأت ظلما وجورا، فأرح الناس. فلم يمض غير قليل حتى توفى الحجاج وقرّة فى شهر واحد، ثم تبعهم الوليد، وعزل عثمان بن حيّان، وخالد بن عبد الله القسرى. واستجاب الله لعمر. وما أشبه هذه القصة بقصة عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما بلغه أنّ زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية يقول: إنّى قد ضبطت العراق بشمالى ويمينى فارغة. فقال ابن عمر: اللهم أرحنا من يمين زياد، وأرح أهل العراق من شماله. فاستجاب الله له. وكان من خبر وفاة زياد ما ذكرناه. وكانت ولاية الحجاج العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله، وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبى كبشة، وعلى الخراج يزيد بن أبى مسلم، فأقرّهما الوليد بعده. وكان الحجاج من أفصح الناس. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وقد ذكرنا من كلامه عند مقدمه الكوفة ما يدلّ على فصاحته.

ومن أخباره أنّ عبد الملك كتب إليه يأمره بقتل أسلم بن عبد الله البكرى لشىء بلغه عنه، فأحضره الحجاج، فقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول «1» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... » الآية. والذى بلغه عنى فباطل «2» . فاكتب إلى أمير المؤمنين أنى أعول أربعا وعشرين امرأة، وهنّ بالباب؛ فأحضرهن، وكان فى آخرهن جارية قاربت عشر سنين. فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته، أصلح الله الأمير، ثم أنشأت «3» : أحجاج لو «4» تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا أحجاج لا «5» تقتل به إن قتلته ... ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلا أن تزدنا تضعضعا أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتّلنا معا فبكى الحجاج، وقال: والله لا أعنت الدهر عليكنّ ولازدتكنّ تضعضعا. وكتب إلى عبد الملك بخبره وخبر الجارية، فكتب إليه: إذا كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقّد «6» الجارية، ففعل.

قال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتّقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ليس فيه مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا لحلّت لى دماؤكم، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أمّ عبد- يعنى ابن مسعود- إلّا ضربت عنقه، ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير. قال الأوزاعى: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال الحسن: سمعت عليا يقول على المنبر: اللهم ائتمنتهم فخانوا، ونصحتهم فغشّونى، اللهم فسلّط عليهم غلام ثقيف يحكم فى دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية، فوصفه. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج. قال حبيب بن أبى ثابت: قال علىّ رضى الله عنه لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل: يا أمير المؤمنين؛ ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالنّ له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين، فلا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وبينها وبينه باب مغلق لكسره. حتى يرتكبها، يقتل «1» من أطاعه بمن عصاه. وقيل: أحصى من قتله الحجاج صبرا فكانوا مائة ألف وعشرين ألفا.

سنة (96 هـ) ست وتسعين:

وقيل: إن الحجاج مرّ بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر فى مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ فقال خالد: بخ بخ! هذا عمرو ابن العاص. فسمعها الحجاج فرجع، وقال: والله ما يسرّنى أن العاص والدى «1» ، ولكنى ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، وأنا الذى ضربت «2» بسيفى هذا مائة ألف كلّهم يشهد أنّ أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولّى، وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فقد أقرّ على نفسه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد. وحجّ بالناس فى هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك. سنة (96 هـ) ست وتسعين: ذكر وفاة الوليد بن عبد الملك وشىء من أخباره وسيرته وأولاده وعماله كانت وفاته بدير «3» مرّان فى النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة. ودير مرّان كان بجبل قاسيون بظاهر دمشق، وهو الآن مدرسة وتربة منسوبة إلى الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن العادل ابن أيوب. كانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر. ودفن خارج الباب الصغير بدمشق. وقيل فى مقابر الفراديس «4» . وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز. ولما دلّى فى حفرته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: عاش أبى؟ فقال له عمر بن عبد العزيز- وكان فيمن

دفنه: عوجل والله أبوك. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر. وقيل سبعا وأربعين. وقيل ثمانيا وأربعين. والله أعلم. وكان أسمر اللّون، جميل الوجه، أفطس الأنف. وقيل. كان سائل الأنف جدّا وبوجهه آثار جدرى. وكان نقش خاتمه: يا وليد، إنك ميت. وكان له من الأولاد تسعة عشر ذكرا، وعدّهم بعض المؤرخين عشرين، وهم: يزيد، وإبراهيم- وليا الخلافة، والعباس فارس بنى مروان، وعمر فحل بنى مروان، وعبد العزيز، وبشر، وصدقة، ومحمد، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، ويحيى، هؤلاء الذكور، سوى البنات. كتّابه: قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحاك ابن يزيد، ثم يزيد بن أبى كبشة، ثم عبد الله بن بلال. قضاته: عبد الله بن بلال، وسليمان بن حبيب. حجّابه: خالد، وسعيد مولياه. الأمراء بمصر: أخوه عبد الله، ثم قرّة بن شريك. قاضيها: عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة «1» ، ثم صرفه قرّة وولّى عياض بن عبد الله، ثم وليها عبد الملك بن رفاعة بعد وفاة قرّة. وكان عمّاله على الأمصار من ذكرناهم. قال: وكان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام من أفضل

خلفائهم «1» ، وله آثار حسنة ومبان عظيمة، وفتح فى أيامه بلاد الأندلس وماوراء النهر وبلاد الهند. [قال] «2» : وكان الوليد يمرّ بالبقّال فيقف عليه، ويأخذ منه حزمة بقل، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول الوليد: زد فيها. وبنى جامع دمشق فى سنة [86 هـ] ست وثمانين، وهدم كنيسة النصارى التى كانت إلى جانبه، وتعرف بماريو حنا، وزادها فيه. وقيل: كان فى الجامع وهو يبنى اثنا عشر ألف مرخم. وتوفّى الوليد ولم يتمّ بناؤه، وكان الفراغ منه فى أيام سليمان أخيه. وقيل: إن جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق، فى كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة من الذهب للقناديل، ولم تطق الناس الصلاة فيه لكثرة شعاعه، فدخنت حتى اسودّت، فلما ولى عمر بن عبد العزيز جعلها فى بيت المال، وعوّضها بالحديد. وأمر الوليد ببناء جامع البيت المقدس فى سنة [88 هـ] ثمان ثمانين. قيل: وحجّ الوليد بالناس ثلاث «3» حجج: سنة ثمان وثمانين. وسنة إحدى وتسعين، وسنة أربع وتسعين. قال: وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان، ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عمّاله، ودعا الناس إلى خلعه، فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة وخواصّ من الناس.

ذكر بيعة سليمان بن عبد الملك

فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم على المسير إليه ليخلعه، وأخرج خيمة فمات قبل أن يسير إليه. قال: وكان الوليد لحانا لا يحسن العربية، فعاتبه أبوه، وقال: إنه لا يلى العرب إلّا من يحسن كلامهم؛ فجمع النّحاة، ودخل بيتا فلم يخرج منه ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل، فقال عبد الملك: قد أعذر. والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر بيعة سليمان بن عبد الملك هو أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه ولادة أم أخيه الوليد، وهو السابع من ملوك بنى أمية. بويع له يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة، وهو يوم وفاة أخيه الوليد، وكان إذ ذاك بالرّملة، وكان الوليد قد أراد خلعه من ولاية العهد، فمات قبل أن يتمّ له ما أراد من ذلك. ولنذكر الحوادث الكائنة فى أيامه على حكم السنين: [سنة (96 هـ) ست وتسعين:] ذكر قتل «1» قتيبة بن مسلم وفى هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلى بخراسان، وكان سبب ذلك أنه أجاب الوليد إلى خلع سليمان كما ذكرنا، فلما أفضت الخلافة إلى سليمان خشى قتيبة أنّ سليمان يستعمل يزيد بن المهلب على خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنّئه بالخلافة ويذكر

بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان. وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه بفتوحه ومكانته، وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته فى صدورهم، ويذمّ آل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه. وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من أهله، وقال له: ادفع الكتاب الأول إليه، فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الثانى. فإن قرأه ودفعه إلى يزيد فادفع إليه الثالث، وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين عنه. فقدم رسول قتيبة، فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع إليه الكتاب الأوّل، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثانى، فقرأه وألقاه إليه، فأعطاه الثالث، فقرأه وتغيّر «1» لونه وختمه وأمسكه بيده. فقيل «2» : كان فيه: لو لم «3» تقرّنى على ما كنت عليه وتؤمننى لأخلعنّك، ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا «4» . ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة، ثم أحضره ليلا وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان وسيّر معه رسولا، فلما كانا «5» بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان، وكان قتيبة لما همّ بخلع سليمان استشار إخوته فقال عبد الرحمن: اقطع بعثا [فوجّه] «6»

فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فإنه لا يقيم عندك إلّا مناصح. وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فوافقه وخلع سليمان، ودعا الناس إلى خلعه فلم يجبه أحد، فغضب، وقال: لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، وسبّهم طائفة طائفة وقبيلة قبيلة، وذكر مساويهم ومعايبهم، ونزل؛ فغضب الناس واجتمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أوّل من تكلم فى ذلك الأزد، فأتوا حضين «1» بن المنذر، فقالوا: إنّ هذا قد خلع الخليفة، وفيه فساد الدّين والدنيا، وقد شتمنا فما ترى؟ فأشار عليهم أن يأتوا وكيع بن أبى سود التميمى، ويقدّموه لرياسته فى قومه، فأتوه وسألوه أن يلى أمرهم، ففعل. وكان بخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة «2» آلاف، ورئيسهم حضين ابن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف وعليهم ضرار بن حصين، ومن عبد القيس أربعة آلاف وعليهم عبد الله بن حوذان «3» ، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف وعليهم جهم بن زحر. ومن الموالى سبعة آلاف وعليهم حيّان النبطى مولى بنى شيبان، وهو من الدّيلم وقيل من خراسان، وإنما قيل له النبطى للكنته.

فأرسل حيّان إلى وكيع يقول: إن أنا كففت عنك وأعنتك تجعل لى الجانب الشرقى من نهر بلخ آخذ خراجه مادمت حيا، وما دمت أميرا! قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا. ففعلوا. وقيل لقتيبة: إن وكيعا يبايع الناس، فدسّ عليه ضرار بن سنان الضبى، فبايعه سرّا، فظهر أمره لقتيبة، فأرسل إليه يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة «1» ، وعلّق على ساقه «2» خرزا، وعنده رجلان يرقيان رجله. فقال للرسول: قد ترى ما برجلى. فرجع إليه فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول: لتأتينّى به محمولا، فأتاه فقال: لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتنى به، فإن أبى فاضرب عنقه، ووجّه معه خيلا. وقيل: أرسل إليه شعبة «3» بن ظهير التميمى. فقال له وكيع: يا ابن ظهير، لبّث قليلا تلحق الكتائب. ولبس سلاحه، ونادى فى الناس، فأتوه، وركب فرسه، وخرج، فأتاه الناس أرسالا، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصّ أصحابه وثقاته، منهم إياس ابن بيهس بن عمرو، وهو ابن عمّ قتيبة، ودعا قتيبة ببرذون له مدرّب ليركبه، فاستعصعب عليه حتى أعياه، فجلس على سريره وقال: دعوه، فإن هذا أمر يراد. وجاء حيان فى العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو

قتيبة: أحمل عليهم. فقال حيّان: لم يأت بعد. وقال حيّان لابنه: إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتى وملت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلىّ. فلما حوّل حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع فكبّروا وهاجوا، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة، وجاء الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة، فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم بن «1» زحر بن قيس لسعد: انزل فحزّ رأسه، فنزل وشقّ الفسطاط، واحتزّ رأسه؛ وقتل معه من أهله وإخوته: عبد الرحمن، وعبد الله، وصالح، وحضين، وعبد الكريم: بنو مسلم «2» . وقتل كثير ابنه، وكان عدّة من قتل مع قتيبة من أهله أحد عشر رجلا، فأرسل وكيع إلى سليمان برأسه ورءوس أهله. ولما قتل قال رجل من خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا فمات لجعلناه فى تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا. وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلى يرثى قتيبة «3» : كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم تشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربّه ... وراح إلى الجنّات عفّا «4» مطهّرا فما رزى الإسلام بعد محمّد ... بمثل أبى حفص فبكّيه «5» عبهرا وعبهر: أمّ ولد له.

وفى هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة

ووصل خبر مقتله إلى الشام فى اليوم الثانى من مقتله. قال شيوخ من غسان: كنا بثنّية العقاب «1» إذا نحن برجل معه عصا وجراب، فقلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا؟ هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس، فعجبنا من قوله. فلما رأى إنكارنا قال: أين ترونى الليلة من إفريقية «2» ؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا به يسبق الطّرف. وثنيّة العقاب فى مرج دمشق على نصف مرحلة منها. *** وفى هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيّان عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان، واستعمل عليها أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر هذا ويحلق لحيته من الغد، فلما كان اليل جاء البريد إلى أبى بكر بتأميره وعزل عثمان وحده وتقييده. وعزل سليمان أيضا يزيد بن أبى مسلم عن العراق، واستعمل يزيد بن المهلّب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره ببسط العذاب على آل أبى عقيل؛ وهم أهل الحجاج، فكان يعذّبهم، ويلى عذابهم عبد الملك بن المهلّب. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد «3» وعلى حرب العراق

سنة (97 هـ) سبع وتسعين:

وصلاتها يزيد بن المهلّب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندى من قبل يزيد، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبى سود «1» . وفيها مات شريح القاضى، وقيل سنة [97 هـ] سبع وتسعين. وله مائة وعشرون سنة، ومحمود بن لبيد الأنصارى وله صحبة. سنة (97 هـ) سبع وتسعين: ذكر ولاية يزيد بن المهلب خراسان فى هذه السنة استعمل سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب على خراسان مضافة إلى العراق، وكان سبب ذلك أنّ سليمان لما ولى يزيد بن المهلّب العراق فوّض إليه الحرب والخراج والصلاة بها، فنظر يزيد لنفسه، فرأى أنّ الحجاج قد أخرب العراق، وأنه إن أخذ الناس بالخراج وعذّبهم عليه صار عندهم مثل الحجاج، وأنه متى لم يفعل ذلك ويأت سليمان بمثل ما كان الحجاج يأتى به لم يقبل منه، فأشار على سليمان أن يولّى صالح بن عبد الرحمن مولى تميم الخراج، فولاه الخراج وسيّره قبل يزيد، فنزل واسطا. ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد وسايره، ولم يمكنه من شىء، وضيّق عليه، فضجر يزيد من ذلك، فدعا عبد الله بن الأهتم، وقال له: إنى أريدك لأمر أهمّنى، وأحبّ أن تكفينيه. قال: أفعل.

قال: أنا فيما ترى من الضّيق، وقد ضجرت منه، وخراسان شاغرة فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرّحنى إلى أمير المؤمنين. فكتب يزيد إلى سليمان وأعلمه بحال العراق، وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسيّره على البريد؛ فأتى ابن الأهتم سليمان فقال له: إن يزيد كتب إلىّ يذكر علمك بالعراق، فكيف «1» علمك بخراسان؟ قال: أنا أعلم الناس بها، ولدت بها ونشأت، ولى بها وبأهلها خبر. قال: فأشر على برجل أولّيه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيى فيه، فسمّى رجلا من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب. فقال: لا يصح، فإنه يضيق عن هذا، وليس له مكر أبيه ولا شجاعته «2» ، حتى ذكر رجالا، وكان آخر من ذكر وكيع ابن أبى سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم رئيس مقدام، وما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندى يدا من وكيع، لقد أدرك بثأرى وشفانى من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقا، والنصيحة له تلزمنى، إنّ وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قطّ إلا حدّث نفسه بغدرة، خامل فى الجماعة، نابه «3» فى الفتنة. قال: فمن لها ويحك! قال: رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لى أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرنى منه إن علم. قال: نعم، قال: يزيد بن المهلب.

قال: العراق أحبّ إليه من خراسان؟ قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه فيستخلف على العراق [رجلا] «1» ويسير هو إلى خراسان. قال: أصبت الرأى. فكتب عهد يزيد على خراسان، وسيّره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد، فأمر بالجهاز للمسير من ساعته، وقدم ابنه مخلدا إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمى، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكلابى، وجعل أخاه مروان بن المهلب على حوائجه وأموره بالبصرة، واستخلف على الكوفة حرملة بن عمير اللخمى أشهرا، ثم عزله، وولى بشير بن حيان النّهدى، وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فأمر سليمان يزيدا أن يسأل عن ذلك. فإن أقامت قيس البيّنة أنّ قتيبة لم يخلع فنقيد وكيعا به، فلما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه وكيع «2» فحبسه وعذّبه، وعذّب أصحابه قبل قدوم أبيه، فكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم قدم يزيد خراسان فآذى «3» أهل الشام وقوما من أهل خراسان، فقال نهار ابن توسعة رحمه الله «4» : وما كنّا نؤمّل من أمير ... كما كنّا نؤمّل من يزيد فأخطأ ظنّنا فيه وقدما ... زهدنا فى معاشرة الزّهيد إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مشى الأسود.

سنة (98 هـ) ثمان وتسعين:

فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد نجىء «1» ولا «2» نرى إلّا صدودا ... على أنّا نسلّم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهّم والصّدود *** وفى هذه السنة جهّز سليمان الجيوش إلى القسطنطينية، واستعمل ابنه داود على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا مسلمة أرض الوضّاحية، وفتح الحصن الذى فتحه الوضّاح. وغزا عمر بن هبيرة الروم فى البحر فشتابها. وحجّ سليمان بن عبد الملك بالناس. وفيها عزل داود بن طلحة «3» الحضرمى عن مكة، فكان عمله عليها ستة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. سنة (98 هـ) ثمان وتسعين: ذكر محاصرة القسطنطينية فى هذه السنة بعث سليمان الجيوش إلى القسطنطينية مع أخيه مسلمة بعد أن سار سليمان إلى دابق «4» ، وكان ملك الروم قد مات، فجاء أليون من أذربيجان إلى سليمان، وأخبره بوفاته، وضمن له فتح الروم، فبعث معه مسلمة، فسار هو وأليون، فلما دنا من أرض الروم أمر كلّ فارس أن يحمل معه مدّين من طعام، فلما أتاها أمر

بإلقاء ذلك، فصار مثل الجبال، وقال مسلمة لمن معه: لا تأكلوا منه شيئا وأغيروا «1» فى أرضهم وازرعوا، وعمل بيوتا من خشب فشتا فيها وصاف وزرع الناس، فلما «2» كثر عندهم الطعام أقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس، فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا فلم يقبل، فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملّكناك، فاستوثق منهم، وأتى مسلمة فقال له: إنّ الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا ما بأيديهم، فأمر مسلمة بالطعام فحرق، فقوى الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وداموا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إن أليون إنما خدع مسلمة بأن سأله أن يدخل من الطعام إلى الروم ما يعيشون به ليلة [واحدة] «3» ، ليصدّقوا أنّ أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم فى أمان من السّبى والخروج من بلادهم، فأذن له فى ذلك. وكان أليون قد أعدّ السّفن والرجال فنقلوا تلك الليلة الطعام كلّه، وأصبح أليون محاربا، ولقى الجند ما لم يلقه أحد «4» ، حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وسليمان مقيم بدابق ووقع «5» الشتاء فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات.

ذكر فتح قهستان وجرجان وطبرستان

وفى هذه السنة بايع سليمان لابنه أيوب بولاية العهد. وفيها فتحت مدينة الصقالبة. وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحى الرّوم، وأسر بشرا كثيرا. ذكر فتح قهستان «1» وجرجان وطبرستان فى هذه السنة غزا يزيد بن المهلّب جرجان وطبرستان. وكان سبب اهتمامه بها أنّ يزيد لما كان عند سليمان بالشام فى حياة الوليد، فكان كلما فتح قتيبة فتحا يقول سليمان ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة! فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التى قطعت الطريق، وأفسدت قومس ونيسابور، ويقول: هذه الفتوح ليست بشىء، الشأن فى «2» ، جرجان. وكان سعيد بن العاص قد صالح أهل جرجان، فكانوا يجبون أحيانا مائة ألف، وأحيانا مائتى ألف، وأحيانا ثلاثمائة ألف، وربما منعوا ذلك، ثم أظهروا الامتناع وكفروا فلم يعطوا خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، و [قد] «3» منعوا ذلك الطريق فلم يكن يسلك أحد طريق

خراسان إلا على فارس وكرمان. فلما ولى سليمان يزيد خراسان لم يكن له همّة غير جرجان، فسار إليها فى مائة ألف سوى الموالى والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة، إنما هى جبال ومخارم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدر عليه أحد، فابتدأ بقهستان «1» فحاصرها، وكان أهلها طائفة من الترك، فقاتلهم قتالا شديدا، واشتدت الحرب، وقطع عنهم الميرة، فبعث دهقانها، واسمه صول «2» يطلب من يزيد الأمان لنفسه وأهله وماله، ويسلّم إليه المدينة بما فيها، فأمّنه ووفى له، ودخل المدينة فقتل بها أربعة عشر ألف تركى صبرا، وأخذ ما فيها من الكنوز والسّبى وغير ذلك، ثم خرج حتى أتى جرجان فهابه أهلها، وأتوه وصالحوه، فأجابهم إلى ذلك، وصالحهم، فطمع فى طبرستان، فسار إليها فصالحه اصبهذها «3» على سبعمائة ألف «4» ، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران، أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضّة وسرقة حرير وكسوة، فأرسل من يقبض ذلك وانصرف إلى جرجان. [والله أعلم «5» ] .

ذكر فتح جرجان الفتح الثانى وانشاء مدينتها

ذكر فتح جرجان الفتح الثانى وانشاء مدينتها قال «1» : ولما سار يزيد إلى طبرستان غدر أهل جرجان، فعاد إليهم وعاهد الله إن ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين، فحصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه يقاتلونه «2» ويرجعون، فبينما هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيّد، وقيل من طيّئ، فأبصر وعلا فى الجبل فتبعه فلم يشعر حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، وجعل يخرّق قباءة ويعقد على الشجر علامات، فأتى يزيد فأخبره فضمن له يزيد دية إن دلّهم على الحصن؛ فانتخب معه ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم إنه خالدا، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبنّ على الموت، وإياك أن أراك عندى مهزوما، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال للرجل: متى تصل «3» ؟ قال: غدا العصر. قال يزيد: سأجهد على مناصحتهم «4» عند الظهر. فساروا، فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كلّ حطب كان عندهم، فصار مثل الجبال من النيران، فنظر العدوّ إلى النار، فها لهم ذلك، فخرجوا إليهم؛ وتقدّم يزيد إليهم، ودهمهم ابنه بمن معه قبيل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه، فما شعروا إلا والتكبير «5» من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون؛ فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى

ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثنى عشر ألفا إلى وادى جرجان فقتلهم، وأجرى الماء على الدم، وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ليبرّ يمينه، فطحن وخبز وأكل. وقيل: قتل منهم أربعين ألفا، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة، ورجع إلى خراسان، واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفى، وكتب إلى سليمان بالفتح وعظّمه «1» عنده، وأخبره أنه قد حصل عنده من الخمس ستمائة ألف ألف، فقال له كاتبه- المغيرة بن أبى قرّة مولى بنى تميم «2» : لا تكتب بتسمية المال، فإنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت به نفسه فأعطاكه فتكلفت الهدية؛ فلا يأتيه من قبلك شىء إلّا استقلّه، فكأنى بك قد استغرقت ما سمّيت ولم يقع منه موقعا، ويبقى المال الذى سميت مخلّدا فى دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه، ولكن اكتب سله «3» القدوم وشافهه بما أصبت فهو أسلم. فلم يقبل منه، وكتب «4» ، فكان من أمره فى ذلك ما نذكره فى أخبار عمر بن عبد العزيز.

سنة (99 هـ) تسع وتسعين:

وقيل: كان المبلغ أربعة آلاف ألف، والله تعالى أعلم. *** وفيها توفى أيّوب بن سليمان بن عبد الملك، وهو ولىّ العهد. وفيها غزا داود بن سليمان أرض الروم؛ ففتح حصن المرأة مما يلى ملطية. وفيها كانت الزلازل فى الدنيا كثيرة، ودامت ستة أشهر. وحجّ بالناس عبد العزيز بن عبد الله أمير مكة. سنة (99 هـ) تسع وتسعين: ذكر وفاة سليمان بن عبد الملك وشىء من أخباره وعماله كانت وفاته يوم الجمعة لعشر مضين من صفر من السنة بدابق «1» من أرض قنّسرين بذات الجنب، وله خمس وأربعون سنة. وكانت مدة خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز؛ وكان طويلا أبيض، جميل الوجه، فصيح اللسان، معجبا بنفسه، يتوقّى سفك الدماء. وكان أكولا نكاحا، وكان حسن السيرة، وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير؛ ذهب عنهم الحجاج، وولى سليمان، فأطلق الأسارى، وأخلى السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز. ويقال: إنه فعل فى يوم واحد أكثر مما فعل عمر بن عبد العزيز جميع عمره، وذلك أنه أعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة، وكساهم. ومن أعظم بركاته أنه جعل عمر بن عبد العزيز ولىّ عهده. وحكى

أنه لبس يوما حلّة خضراء وعمامة خضراء، ونظر فى المرآة، فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة. وقيل: كانت له جارية معها مرآة، فدعاها يوما فجاءته بها، فنظر وجهه، ونظرت الجارية إليه، فقال لها: ما تنظرين؟ قالت «1» : أنت نعم «2» المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فانى «3» وانصرفت، فاستدعاها فجاءت بالمرآة «4» فسألها عن البيتين، فقالت: والله ما جئتك اليوم؛ فعلم أنه نعى. وقيل: إنه شهد جنازة بدابق فدفنت فى حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التّربة، ويقول: ما أحسن هذه وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جنب ذلك القبر. وقيل: إنه كان له من الأولاد الذكور أربعة عشر. وكان نقش خاتمه: آمنت بالله مخلصا. وكتّابه: يزيد بن المهلب، ثم المفضل «5» بن المهلب عم عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم. قاضيه: محمد بن حزم. حاجبه: أبو عبيدة «6» مولاه. الأمير بمصر: عبد الله بن رفاعة.

ذكر بيعة عمر بن عبد العزيز

قاضيها من قبله: عبد الله بن عبد الرحمن، وهو متولّى بيت المال، ثم رد القضاء إلى عياض بن عبد الله من قبل سليمان بن عبد الملك. ذكر بيعة عمر بن عبد العزيز هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ وأمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الثامن من ملوك بنى أمية، بويع له بدابق يوم الجمعة بعد وفاة سليمان لعشر خلون من صفر سنة [99 هـ] تسع وتسعين. قال: وكان سليمان لما مرض بدابق عهد فى كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ الحلم، فدخل عليه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إنه «1» مما يحفظ الخليفة فى قبره أن يستخلف على الناس «2» الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله، وأنظر. ومكث يوما أو يومين ثم حرق «3» الكتاب، ودعا رجاء، فقال: ما ترى فى ولدى داود؟ فقال رجاء: هو غائب بالقسطنطينية، ولم يدر «4» أحىّ هو أم لا؟ قال: فما ترى فى عمر بن عبد العزيز؟ قال رجاء: أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. قال سليمان: هو على ذلك، ولئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه لتكوننّ فتنة ولا يتركونه أبدا عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده.

فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر. وكان يزيد غائبا فى الموسم. فكتب سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز؛ إنى قد ولّيتك الخلافة من بعدى، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوا، واتّقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن جابر «1» صاحب شرطته، فقال: ادع أهل بيتى، فجمعهم كعب، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابى هذا إليهم، ومرهم أن يبايعوا من ولّيت فيه، ففعل، وبايعوا رجلا رجلا، ولم يعلموا من فى الكتاب. قال رجاء: فأتانى عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلىّ من هذا الأمر شيئا؛ فأنشدك الله إلّا أعلمتنى إن كان قد وقع حتى أستعفى قبل أن يأتى حال لا أقدر على ذلك فيها. قال رجاء: فقلت: ما أنا مخبرك «2» . فذهب عنّى غضبان. ولقينى هشام بن عبد الملك فقال: إن لى حرمة ومودّة قديمة فأعلمنى بهذا الأمر؛ فإن كان إلى غيرى تكلّمت، ولله علىّ ألّا أذكرك. قال: فأبيت أن أخبره. قال «3» : ودخلت على سليمان عند موته فغمضته وسجّيته، وأغلقت الباب، وأرسلت إلى كعب بن جابر «4» ، فجمع أهل بيت سليمان فى مسجد دابق، فقلت: بايعوا! فقالوا:

قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد من أمير المؤمنين، فبايعوا الثانية. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موته رأيت أنى قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، فاسترجعوا، وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبدا. قلت: أضرب والله عنقك. قم وبايع. فقام يجرّ رجليه. قال رجاء: وأجلست عمر على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فبايعوه. قال: ولما دفن سليمان أتى عمر بمراكب الخلافة، فقال: دابّتى أرفق «1» لى، وركب دابّته؛ ثم أقبل سائرا، فقيل له: منازل «2» الخلافة؟ فقال: فيها عيال سليمان، وفى فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا. قال: وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- وفاة سليمان ولم يشعر بعمر «3» ، فدعا لنفسه، فبلغه بيعة عمر، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغنى أنك بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق. قال: نعم، وذلك أنه بلغنى أنّ سليمان ما عقد لأحد فخفت على الأموال أن تنتهب. فقال [له] «4» عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه. فبايعه عبد العزيز. قال: ولما استقرت البيعة لعمر قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك: إن أردتنى «5» فردّى ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت المال،

فإنه للمسلمين، وإنى لا أجتمع أنا وأنت وهو فى بيت واحد، فردّته جميعه. فلما توفى عمر وولّى أخوها يزيد ردّه عليها فلم تأخذه، وقالت: ما كنت لأطيعه حيّا وأعصيه ميّتا، ففرّقه يزيد على أهله. قال: وكان [من] «1» أول ما ابتدأ به عمر بن عبد العزيز أن ترك سبّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنابر، وكان يسبّ فى أيام بنى أمية إلى أن ولى عمر فترك ذلك، وأبدله بقول الله عز وجل «2» : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . فحلّ ذلك عند الناس محلّا حسنا، وأكثروا مدح عمر بسببه، فكان ممن مدحه كثيّر عزّة بقوله «3» : وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف ... بريّا ولم تتبع مقالة مجرم تكلّمت بالحقّ المبين وإنما ... تبيّن آيات الهدى بالتكلم فصدقت «4» معروف الذى قلت بالذى ... فعلت فأضحى راضيا كلّ مسلم ألا إنما يكفى الفتى بعد زيغه ... من الأود البادى «5» ثقاف المقوّم وفيها وجّه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجّه لهم خيلا عتاقا وطعاما كثيرا. وفيها أغارت الترك على أذربيجان. فقتلوا من المسلمين جماعة،

سنة مائة للهجرة:

فوجّه عمر حاتم بن النعمان الباهلى فقتل أولئك الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا. وفيها عزل عمر يزيد بن المهلّب عن أعماله، ووجّه إلى البصرة عدى بن أرطاة الفزارى، وجعل على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب العدوى، وضمّ إليه أبا الزّناد، واستعمل على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمى. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان عامل المدينة، وكان العامل على مكة عبد العزيز بن [عبد الله بن خالد، وعلى الكوفة عبد الحميد] «1» ، وعلى القضاء بها [عامر الشعبى، وكان على البصرة عدىّ من أرطاة، وعلى القضاء «2» ] الحسن بن أبى الحسن البصرى، ثم استعفى عديّا فأعفاه، واستقضى إياس بن معاوية. سنة مائة للهجرة: ذكر خروج شوذب الخارجى فى هذه السنة خرج شوذب واسمه بسطام من بنى يشكر فى جوخى وكان فى ثمانين رجلا، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عامله بالكوفة ألّا يحرّكهم حتى يسفكوا الدّماء أو يفسدوا فى الأرض، فإن فعلوا وجّه إليهم رجلا صليبا حازما فى جند. فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلى فى ألفين، وأمره أن يفعل ما كتب «3» به عمر، وكتب عمر إلى بسطام

يسأل «1» عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم [عليه] «2» محمد، فكان فى كتاب عمر: بلغنى أنك خرجت غضبا لله ولرسوله، ولست بذلك أولى منى، فهلم إلىّ أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك. فكتب إليه «3» بسطام: قد أنصفت، وقد بعثت إليك برجلين يدارسانك ويناظرانك. وأرسل إليه مولى حبشيّا لبنى شيبان اسمه عاصم، ورجلا من بنى يشكر، فقدما على عمر بخناصرة «4» ، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج؟ وما الذى نقمتم؟ قال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرّى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر؛ عن رضا من الناس ومشورة، أم ابتززتم «5» أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلىّ رجل كان قبلى، فقمت، ولم ينكر علىّ أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون «6» الرّضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فأنزلونى «7» ذلك الرجل، فإن خالفت الحقّ وزغت «8» عنه فلا طاعة لى عليكم. قالا: بيننا وبينك أمر واحد. قال: ما هو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم، فإن كنت على هدى وهم على

ضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إنّ الله عزّ وجل لم يبعث رسوله لعّانا. وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه «1» : «فمن تبعنى فإنه منّى ومن عصانى فإنّك غفور رحيم» . وقال الله عز وجل «2» : «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» . وقد سميت أعمالهم ظلما، وكفى بذلك ذمّا ونقصا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بدّ منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرنى متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرّهم، ولا يسعنى ألّا ألعن أهل بيتى وهم مصلّون صائمون؟ قال عاصم: أما هم كفّار بظلمهم؟ قال: لا، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقرّبه وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد. فقال عاصم: إن رسول الله دعا الناس إلى توحيد الله تعالى والإقرار بما أنزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علمهم «3» أنه محرّم عليهم، ولكن غلب عليهم الشّقاء. قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك وردّ أحكامهم. قال عمر: أخبرانى «4» عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، أليسا على الحق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أنّ أبا بكر حين قاتل أهل

الرّدّة سفك دماءهم، وسبى الذّرارى، وأخذ الأموال؟ قالا: نعم. قال: أفتعلمان أن عمر رضى الله عنه ردّ السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبى بكر؟ قالا: لا. قال: أفتبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبرانى عن أهل النّهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان «1» أنّ أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا، وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خبّاب وجاريته وهى حامل؟ قالا: نعم. قال: فهل برى من لم يقتل ممّن قتل؟ قالا: لا. قال: أفتبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتولّوا أبا بكر وعمر وأهل الكوفة وأهل البصرة وقد علمتم اختلاف أعمالهم، ولا يسعنى إلا البراءة من أهل بيتى، والدّين واحد؟ فاتقوا الله، فإنكم جهّال تقبلون من الناس ما ردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتردّون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمن وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرّمون دماءهم وأموالهم. قال اليشكرى: أرأيت رجلا ولى قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدّى الحقّ الذى يلزمه لله عزّ وجلّ، وتراه قد سلّم؟ قال عمر: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعلم أنه لا يقوم فيه بالحقّ. قال: إنما ولّاه

غيرى، والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدى. قال: أفترى ذلك من صنع من ولّاه حقّا؟ فبكى عمر، وقال: أنظرانى ثلاثا «1» . فخرجا من عنده ثم عادا إليه، فقال عاصم: أشهد أنك على حق. فقال عمر لليشكرى: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت، ولكنى لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجّتهم. فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له بالعطاء فتوفى بعد خمسة عشر يوما، فكان عمر يقول: أهلكنى أمر يزيد، وخصمت فيه، فأستغفر الله. فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم وأن يخلع يزيد من ولاية العهد؛ فوضعوا على عمر من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد ذلك إلّا ثلاثا حتى مرض ومات، رحمه الله تعالى. هذا ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرّضون إليه، فلما مات عمر وولّى يزيد كان ما نذكره فى أخبار يزيد. *** وفى هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن خراسان وأحضره وطالبه بالمال الذى كان كتب به إلى سليمان واعتقله بحصن حلب، واستعمل على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمى، ثم عزله؛ واستعمل عبد الرحمن بن نعيم القشيرى. وفيها كان ابتداء خروج شيعة بنى العباس على ما نذكره فى أخبار الدولة العباسية إن شاء الله تعالى. وفيها أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة «2» بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة أوغل «3» فى البلاد الرّومية بثلاث

سنة (101 هـ) احدى ومائة:

مراحل، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثّلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولى عمر، فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفا على المسلمين من العدوّ، وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بنى عامر بن صعصعة. وفيها كتب عمر إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم من ذكرنا منهم على ما سبق ذكر ذلك. وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزارى على الجزيرة. وفيها مات أبو الطّفيل عامر بن واثلة الليثى بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة، ومولده عام أحد. وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. *** سنة (101 هـ) احدى ومائة: فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز، وذلك أنه لما اشتدّ مرض عمر بن عبد العزيز عمل يزيد فى الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لإساءة [كانت] «1» صدرت منه فى حقّه أيام سليمان، فأرسل ابن المهلب إلى مواليه فأعدّوا له خيلا وإبلا، وواعدهم مكانا يأتيهم فيه، وأرسل إلى عامل حلب وإلى الحرّاس مالا، وقال: إنّ أمير المؤمنين قد ثقل فى مرضه، وليس يرجى،

ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز

وإن ولى يزيد سفك دمى، فأخرجوه، فهرب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر كتابا يقول: إنى والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك ولكنى خفت أن يلى يزيد فيقتلنى شرّ قتله. فورد الكتاب وبه رمق، فقال رضى الله عنه: اللهم إن كان يزيد يريد» بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاضنى، ثم كان من أمر ابن المهلّب ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وشىء من أخباره وسيرته رحمه الله تعالى كانت وفاته رحمه الله بخناصرة لستّ بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوما، وقيل له [فى مرضه] «2» : لو تداويت! فقال «3» : لو كان دوائى فى مسح أذنى ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربّى. ودفن «4» بدير سمعان من أرض حمص. وقيل: به توفى، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأشهرا [وقيل أربعين سنة وأشهرا] «5» . وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان أبيض نحيفا حسن الوجه، وهو أشجّ بنى أمية، رمحته

ذكر نبذة من سيرته رضى الله عنه

دابّة فشجّته، وهو غلام، فدخل على أمه فضمّته إليها ولامت أباه حيث لم يجعل معه حاضنا «1» . فقال لها عبد العزيز: اسكتى يا أمّ عاصم، فطوبى له إن كان أشجّ بنى أميّة. وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما يقول: يا ليت شعرى، من هذا الذى من ولد عمر فى وجهه علامة يملأ الدنيا عدلا؛ فكان عمر بن عبد العزيز؛ لأنّ أمّه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنهم أجمعين. ذكر نبذة من سيرته رضى الله عنه كان رحمه الله ورضى عنه قد بثّ العدل ونشره فى الدنيا واقتصر من دنياه على سدّ الخلّة «2» حتى إنّ مسلمة بن الملك عاده فى مرض موته، فرأى عليه قميصا دنسا «3» ، فقال لأخته فاطمة، وهى زوجة عمر: اغسلوا ثياب أمير المؤمنين. فقالت: نفعل. ثم عاده فرأى الثّوب بحاله، فقال: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه. فقالت: والله ما له غيره، وكانت نفقته فى كل يوم درهمين. قال: ولما ولى الخلافة أتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل ثمنها فى بيت المال، وقال: بغلتى هذه تكفينى. قال: ولما ولى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس،

من صحبنا فليصحبنا لخمس «1» ، وإلّا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلّنا على ما لا نهتدى إليه من الخير، ولا يغتابنّ أحدا، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع الشعراء والخطباء، وثبت عنده الفقهاء والزّهّاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله. ولما ولى أحضر قريشا ووجوه الناس فقال: إنّ فدك «2» كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فكان] «3» يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، وعمر كذلك، ثم أقطعها مروان. ثم إنها صارت لى، ولم يكن من مالى أعود علىّ منها، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها على ما كانت عليه فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فيئس الناس من الظّلم. وأخذ من أهله ما بأيديهم، وسمّى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمّته فاطمة بنت مروان فأتته، فقالت [له] «4» : تكلّم أنت يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة «5» ، ثم اختار له ما عنده، وترك للناس نهرا شربهم سواء، ثم ولى أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولى عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقى منه يزيد

ومروان، وعبد الملك ابنه، والوليد وسليمان ابنا عبد الملك، حتى أفضى الأمر إلىّ، وقد يبس النهر الأعظم، فلن يروى «1» أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه. فقالت: حسبك [قد أردت كلامك «2» ] ، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئا أبدا، ورجعت إليهم فأخبرتهم بكلامه. وقد قيل: إنها قالت له: إن بنى أميّة كذا وكذا- ذكرت إنكارهم لفعله بهم- فلما تكلم بهذا قالت له: إنهم يحذّرونك يوما من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة؛ فلا أمّننى «3» الله شرّه. فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب، فجاء يشبه جدّه، فسكتوا. قالت فاطمة امرأة عمر: دخلت عليه فى مصلّاه ودموعه تجرى على لحيته، فقلت: أحدث شىء؟ قال: إنى تقلّدت أمر أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع والعارى «4» والمظلوم والمقهور «5» ، والغريب والأسير، والشيخ الكبير وذى العيال الكثير والمال القليل وأشباههم فى أقطار الأرض، فعلمت أنّ ربى سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأنّ خصمى دونهم محمد صلّى الله

عليه وسلّم، فخشيت ألّا تثبت حجّتى عند الخصومة، فرحمت نفسى فبكيت. وكتب إلى عمّاله نسخة واحدة: أما بعد فإنّ الله عزّ وجل أكرم بالإسلام أهله، وشرّفهم وأعزّهم، وضرب الذّلّة والصّغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمّة أخرجت للناس، فلا تولّينّ أمر «1» المسلمين أحدا من أهل ذمتهم وخراجهم، فتنبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلّهم بعد أن أعزّهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله، وتعرّضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشّهم إياهم، فإنّ الله عز وجل يقول «2» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ» . وقال تعالى «3» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . والسلام. وكتب لما ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وهو إذ ذاك يلى العراق وخراسان: أما بعد فإنّ سليمان كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه، واستخلفنى ويزيد بن عبد الملك من بعدى إن كان، وإن الذى ولّانى الله من ذلك وقدرّ لى ليس علىّ بهيّن، ولو كانت رغبتى فى اتخاذ أزواج واعتقاد «4» أموال لكان فى الذى أعطانى الله من ذلك ما قد بلغ بى أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا

ومسألة غليظة إلّا ما عافى «1» الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عمّاله، لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله. وكتب إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد فاعمل عمل من يعلم أنّ الله لا يصلح عمل المفسدين. وكتب إلى سليمان بن أبى السرى: أن اعمل خانات، فمن مرّ بك من المسلمين فاقروه يوما وليلة، وتعهّدوا دوابّهم. ومن كانت به علة فاقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعا [به] «2» فأبلغه بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: إنّ قتيبة ظلمنا وغدر بنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين، فأذن لهم، فوجّهوا وفدا إلى عمر، فكتب إلى سليمان: إنّ أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابى فأجلس لهم القاضى فلينظر فى أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضى، فقضى أن تخرج العرب إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا

أو ظفرا عنوة. فقال أهل الصّغد: نرضى بما كان ولا نحدث شيئا «1» وتواصوا بذلك. وكتب إلى عبد الحميد: أما بعد فإنّ أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة وجور فى أحكام الله؛ وسنّة خبيثة سنّها عليهم عمّال السوء، وإن قوام الدّين العدل والإحسان، فلا يكوننّ [شىء] «2» أهمّ إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم «3» ، ولا تحمل خرابا على عامر، وخذ منه ما أطاق؛ وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج فى رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذنّ أجور الضرابين ولا هديّة النوروز والمهرجان؛ ولا ثمن الصحف ولا أجور الفيوج «4» ولا أجور البيوت؛ ولا دراهم النكاح؛ ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتّبع فى ذلك أمرى، فإنى قد ولّيتك من ذلك ما ولّانى الله، ولا تعجل دونى بقطع ولا صلب حتى تراجعنى فيه، وانظر من أراد من الذريّة أن يحج فعجّل له مائة ليحجّ بها. والسلام. قال محمد بن [على] «5» الباقر: إن لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بنى أمية عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال مجاهد: أتينا عمر نعلّمه؛ فلم نبرح حتى تعلّمنا منه «6» .

ذكر بيعة يزيد بن عبد الملك

وقيل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لى، فقال لى: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة. وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أنّ الكذب يضرّ أهله. وأخباره رضى الله عنه فى الخير والعدل كثيرة لو استقصيناها أو أوردنا ما طالعناه منها لطال ولخرج عن قاعدة هذا التأليف، وناهيك بها سيرة ضرب بها المثل فى العدل والإحسان منذ كانت إلى يومنا هذا. وكان له من الأولاد الذكور أربعة عشر وخمس بنات. كتّابه: رجاء بن حيوة الكندى؛ وابن أبى رقبة «1» . قاضيه: عبد الله بن سعد الأبلّى. حجابه: جيش، ومزاحم، مولياه. الأمير بمصر: أيوب بن شرحبيل. وأقر على القضاء عياض بن عبد الله؛ ثم صرفه بأبى مسعود عبد الله بن حذافة. وكان نقش خاتمه رضى الله عنه: «عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله» . ذكر بيعة يزيد بن عبد الملك هو أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهو التاسع من ملوك بنى أمية، بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة بعد وفاة

عمر بن عبد العزيز؛ وذلك بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك على ما تقدّم ذكر ذلك. قيل: ولما احتضر عمر رضى الله عنه قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمّة. قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بنى عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد فاتّق يا يزيد الصّرعة بعد الغفلة، حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك. والسلام. فلما ولى يزيد نزع أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم [عن المدينة، واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهرى عليها؛ فأراد معارضة ابن حزم] «1» فلم يجد عليه سبيلا حتى شكا عثمان بن حيّان إلى يزيد ابن عبد الملك من ابن حزم، وأنه ضربه حدّين، وطلب منه أن يقيده منه. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن كتابا: أما بعد فانظر فيم ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه فى أمر بيّن أو أمر مختلف فيه فلا تلتفت إليه. فأرسل ابن الضحاك إلى ابن حزم فأحضره؛ وضربه حدّين فى مقام واحد، ولم يسأله عن شىء، وعمد يزيد إلى كلّ ما فعله عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه مما لم يوافق هواه، فرده، ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثما آجلا.

ذكر مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك

ذكر مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك واسم شوذب بسطام. قد ذكرنا خروجه فى أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله ووصول رسله إلى عمر، وما كان بينهما من المناظرة، وخروج محمد بن جرير ابن عبد الله البجلى إليهم فى ألفين وموادعتهم إلى أن يعود رسولا شوذب من عند عمر؛ فلما مات عمر بن عبد العزيز أحبّ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك؛ فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة «1» شوذب، فلما رآه يستعدّ للحرب أرسل إليه يقول: ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة. فأرسل إليه محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال. فقال الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وقتل أكثر «2» أهل الكوفة، وانهزم من بقى منهم نحو الكوفة، وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة، ثم رجعوا إلى مكانهم. ثم وجّه يزيد بن عبد الملك تميم بن الحباب فى ألفين فقاتلوه، فقتل «3» ، وقتل أكثر أصحابه، ولجأ من بقى منهم إلى الكوفة، والتحق بعضهم بيزيد، فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدى فى جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه.

ذكر الغزوات والفتوحات فى خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان

وأقام شوذب بمكانه «1» حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وحذّروه أمره، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشىّ. فى عشرة آلاف، فقال شوذب لأصحابه: من كان منكم يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف سعيد رحمه الله الفضيحة، وكان فارسا شجاعا، فوبخّ «2» أصحابه، وقبّح عليهم الفرار، فحملوا فقتلوا بسطاما ومن معه من الخوارج. ذكر الغزوات والفتوحات فى خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ذكر غزوة الترك وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة كانت الحرب بين المسلمين والترك عند قصر الباهلى. وقيل: كان سبب ذلك أنّ عظيما من عظماء الدّهاقين أراد أن يتزوّج امرأة من باهلة كانت فى ذلك القصر، فأبت فاستجاش التّرك، فجمعهم خاقان ووجّههم إلى الصّغد، فساروا وعليهم كورصول حتى نزلوا بقصر الباهلى، ورجوا أن يسبوا من فيه، وكان فيه مائة أهل بيت بذراريهم، وكان على سمرقند يومذاك عثمان بن عبد الله بن مطرّف بن الشّخّير من قبل سعيد بن عبد العزيز عامل خراسان، فكتب أهل القصر إليه، وخافوا أن يبطىء عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة؛ وانتدب «3» عثمان الناس؛ فانتدب المسيب

ابن بشر الرّياحى، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، وعليهم شعبة بن ظهير، وكان على سمرقند قبل عثمان، فلما عسكروا قال لهم المسيّب: إنكم تقدمون على حلبة التّرك عليهم خاقان، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب إن فررتم النار؛ فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فرجع عنه ألف وثلاثمائة، فلما سار فرسخا [آخر] «1» ، فقال مثل ذلك؛ فاعتزله ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال مثل ذلك، فاعتزله ألف، وبقى فى سبعمائة؛ فسار حتى بقى على فرسخين من التّرك، فأتاه الخبر أن أهل القصر قد صالحوا التّرك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وأنه لما بلغهم مسير المسلمين قتلوا الرهائن وأنهم اتّعدوا القتال غدا. فبعث المسيّب رجلين إلى أهل القصر يعلمهم بقربه، ويستمهلهم يوما وليلة، فأتيا القصر فى ليلة مظلمة وقد أجرت «2» ، الترك الماء فى نواحى القصر، فليس يصل إليه أحد. فلما دنوا من القصر صاح بهم الرّبيئة فاستنصتاه، وقالا له: ادع لنا عبد الملك بن دثار، فدعاه، فأعلماه قرب المسيّب، [وأمراه بالصّبر غدا، ورجعا إلى المسيّب،] «3» فبايع أصحابه على الموت، فبايعوه، وسار حتى بقى «4» بينه وبين القصر نصف فرسخ، فلما أمسى أمر أصحابه بالصّبر، وقال: ليكن

ذكر غزو الصغد

شعاركم: يا محمد، ولا تتبعوا مولّيا، وعليكم بالدوابّ فاعقروها فإنها إذا عقرت كانت أشدّ عليهم منكم، وسار بهم ليلا فوافى عسكر الترك وقت السّحر، فخالطهم المسلمون، وعقروا الدواب، فانهزمت الترك، ونادى منادى المسيّب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرّعب أتبعتوهم أم لا. وأمر أصحابه أن يقصدوا القصر ويحملوا ما فيه من المال ومن بالقصر؛ ممن يعجز عن المشى، ففعلوا، ورجع إلى سمرقند، ورجع التّرك من الغد، فلم يروا بالقصر أحدا، ورأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين أتونا من الإنس. والله أعلم. ذكر غزو الصغد وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة أيضا عبر سعيد النهر، وغزا الصّغد، وكانوا نقضوا العهد، وأعانوا التّرك على المسلمين، فلقيه الترك وطائفة من الصّغد، فهزمهم المسلمون وساروا حتى انتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعضهم وقد أكمن «1» لهم التّرك، فلما جازهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادى، ثم جاء الأمير وبقيّة الجيش فانهزم العدوّ. وفيها غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية، وهو على الجزيرة قبل أن يلى العراق، فهزمهم، وأسر منهم خلقا كثيرا. وقيل «2» سبعمائة أسير.

ذكر الوقعة بين سعيد الحرشى أمير خراسان وبين الصغد

وغزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح دلسة «1» ، وغزا أيضا فى سنة ثلاث ومائة، ففتح مدينة يقال لها رسلة «2» . ذكر الوقعة بين سعيد الحرشى «3» أمير خراسان وبين الصّغد وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة غزا سعيد الحرشى، فقطع النّهر وسار فنزل قصر الرّيح على فرسخين من الدّبوسية «4» ، وكان الصّغد لما بلغهم عزل سعيد بن عبد العزيز عن خراسان واستعمال الحرشى خافوه على أنفسهم، فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: أقيموا واحملوا له خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما يأتى، وعمارة الأرض، والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن. قالوا: نخاف ألّا يقبل ذلك منا، ولكنا نأتى خجندة «5» فنستجير بملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصّفح عما كان منّا. فوافقهم. فخرجوا إلى خجندة، وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم، وينزلهم مدينته، فأراد أن يفعل فنهته أمه، وقالت له: فرّغ لهم رستاقا يكونون فيه؛ فأرسل إليهم: سمّوا رستاقا تكونون فيه حتى نفرغه لكم، وأجّلونى أربعين يوما.

فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلى، فقال: نعم، وليس علىّ عقد ولا جوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل دخوله لم أمنعكم. فرضوا، وفرغ لهم الشّعب. فلما انتهى الحرشى إلى قصر الرّيح أتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إنّ أهل الصّغد بخجندة، وأخبره خبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضى الأجل. فوجّه معه عبد الرحمن القشيرى أو زياد «1» بن عبد الرحمن فى جماعة، ثم ندم «2» بعد ما فصلوا، وقال: جاءنى علج لا أعلم صدق أم كذب؛ فغرّرت بجند من المسلمين. فارتحل فى أثرهم حتى نزل أشرو سنة «3» ، فصالحهم بشىء يسير، ثم سار مسرعا حتى لحق القشيرى، وساروا حتى انتهوا إلى خجندة، فنزل عليهم وأخذ فى التأهّب. وكان الذين بخجندة قد حفروا خندقا فى ربضهم وراء الباب، وغطّوه بقصب وتراب، وأرادوا إذا التقوا إن انهرموا دخلوا من الطريق «4» ، ويشكل على المسلمين فيسقطون فى الخندق. فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا وأخطئوا «5» هم الطريق فسقطوا فى الخندق، فأخرج منهم المسلمون أربعين رجلا، وحصرهم الحرشىّ، ونصب عليهم المجانيق. فأرسلوا إلى ملك فرغانة: إنك قد غدرت [بنا] «6» ، وسألوه

أن ينصرهم، فقال: قد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم فى جوارى، فطلبوا الصّلح، وسألوا الحرشىّ أن يؤمنهم ويردّهم إلى الصّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا ما فى أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلّف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلّت دماؤهم. فخرج إليهم الملوك والتجار من الصّغد، ونزل عظماء الصّغد على الجند الذين يعرفونهم، ونزل كارزنج على أيوب بن حسّان «1» ، وبلغ الحرشى أنهم قتلوا امرأة ممن كان فى أيديهم، فقال [لهم] «2» : بلغنى أنّ ثابتا الإشتيخنى قتل امرأة؛ فجحدوا. فسأل حتى استصح الخبر، فأحضر ثابتا وقتله، فلما بلغ «3» كارزنج ذلك خاف أن يقتل فأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل، وكان قد قال لابن أخيه: إذا طلبت سراويل فاعلم أنه القتل. فبعث به إليه، وخرج واعترض الناس فقتل ناسا، وانتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت، وقتل الصّغد مائة وخمسين رجلا كانوا عندهم من أسرى المسلمين، فأمر الحرشىّ بقتل الصّغد بعد عزل التجار عنهم، فقاتلهم الصّغد بالخشب، ولم يكن لهم سلاح، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا ثلاثة آلاف، وقيل سبعة آلاف، واصطفى الحرشى أموال الصّغد وذراريهم، وأخذ من ذلك ما أعجبه، وقسّم ما بقى، وفتح المسلمون حصنا يطيف به وادى الصّغد من ثلاث جهات صلحا على ألّا يتعرض لنسائهم وذراريهم، ففعلوا.

ذكر ظفر الخزر بالمسلمين

وسار الحرشى إلى كسّ «1» ، فصالحوه على عشرة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف رأس، وولىّ الحرشى نصر بن سيّار قبض صلح كسّ، واستعمل سليمان بن أبى السرى على كس، ونسف- حربها وخراجها. وكانت خزار «2» منيعة، فأرسل الحرشىّ إليها المسربل بن الخرّيت النّاجى، وكان صديقا لملكها، واسم ملكها سبغرى «3» ، فأخبر الناجى الملك بما صنع الحرشى بأهل خجندة، وخوّفه. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، فصالحهم فأمنوه وبلاده، ورجع الحرشى إلى مرو ومعه سبغرى فقتله وصلبه ومعه أمانه. ذكر ظفر الخزر بالمسلمين وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة دخل جيش المسلمين إلى بلاد الخزر من أرمينية، وعليهم ثبيت النّهرانى «4» ، فاجتمعت الخزر فى جمع كثيف، وأعانهم قفجلق وغيرهم من التّرك، فلقوا المسلمين بمكان يعرف بمرج الحجارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من المسلمين خلق كثير، واحتوت الخزر على عسكرهم، وغنموا ما فيه، وأقبل المنهزمون [إلى الشام] «5» ، فقدموا على يزيد، فوبّخهم على الهزيمة، فقال ثبيت: يا أمير المؤمنين، ما جبنت ولا نكّبت عن لقاء العدو، ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل، ولقد طاعنت حتى انقصف رمحى، وضاربت حتى انقطع سيفى، غير أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء.

ذكر فتح بلنجر وغيرها

ذكر فتح بلنجر وغيرها «1» قال: لما تمّت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر فى البلاد. فجمعوا وحشدوا، فاستعمل يزيد بن عبد الملك الجرّاح بن عبد الله الحكمىّ على أرمينية، وأمده بجيش كثيف، وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وقصد بلادهم، فسار الجرّاح وتسامعت به الخزر فعادوا حتى نزلوا بالباب والأبواب، ووصل الجرّاح إلى بردعة «2» ، فأقام بها حتى استراح هو ومن معه، وسار نحو الخزر فعبر «3» نهر الكرّ، فبلغه أنّ بعض من معه كتب إلى ملك الخزر يخبره بمسير الجرّاح إليه، فأمر الجرّاح مناديا فنادى فى الناس: إنّ الأمير مقيم ها هنا عدة أيام، فاستكثروا من الميرة. فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الجرّاح مقيم، ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه، ثم أمر الجرّاح بالرحيل ليلا، وسار مجدّا حتى انتهى إلى مدينة الباب [والأبواب «4» ] ، فلم ير الخزر، فدخل البلد، وبثّ سراياه للنّهب والغارة، فغنموا وعادوا، وسار الخزر إليه، وعليهم ابن ملكهم فالتقوا عند نهر الرّان «5» ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم المسلمون وتبعوهم يقتلون ويأسرون، فقتل منهم خلق كثير،

فلنذكر حوادث السنين فى أيامه.

وغنم المسلمون جميع ما معهم، وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف بالحصين، فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه، فأجابهم ونقلهم عنه، ثم سار إلى مدينة برغر «1» فأقام عليها ستة أيام، وجدّ فى قتال أهلها، فسألوا الأمان فأمّنهم وتسلّم حصنهم ونقلهم منه. ثم سار إلى بلنجر وهو حصن مشهور من حصونهم، فنازله، وقاتل عليه قتالا شديدا، وملك الحصن عنوة، وغنم المسلمون ما فيه، فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفا، وأخذ الجراح أولاد صاحب بلنجر وأهله، وأرسل إليه فأحضره وردّ إليه أمواله وأهله وحصنه، وجعله عينا للمسلمين؛ ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر «2» ، وبه نحو أربعين ألف بيت من الترك، فصالحوا الجرّاح على مال يؤدّونه، ثم تجمّع أهل تلك البلاد، وأخذوا الطرق على المسلمين، فكتب صاحب بلنجر إلى الجرّاح يخبره بذلك، فعاد مجدّا حتى وصل إلى رستاق سلّى «3» ، وأدركهم الشتاء، فاقام المسلمون به، وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبجموع الكفار، ويسأله المدد، فوعده بانفاذ العساكر، فمات قبل ذلك، فأقر هشام الجرّاح على عمله، ووعده المدد. هذا ما كان من الغزوات والفتوحات فى أيام يزيد بن عبد الملك، فلنذكر حوادث السنين فى أيامه.

تتمة سنة (101 هـ) احدى ومائة:

تتمة سنة (101 هـ) احدى ومائة: ذكر استيلاء يزيد بن المهلب بن أبى صفرة على البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك قد ذكرنا هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأنه إنما هرب خوفا من يزيد بن عبد الملك لمنافرة كانت بينهما. وقيل: كان السبب الذى أوجب كراهة يزيد بن عبد الملك فى يزيد بن المهلب أن ابن المهلب خرج يوما من الحمّام فى أيام سليمان وقد تضمّخ بالغالية، فاجتاز بيزيد بن عبد الملك وهو إلىّ جانب عمر ابن عبد العزيز، فقال يزيد بن عبد الملك: قبّح الله الدنيا! لوددت أنّ مثقال الغالية بألف دينار، فلا يناله إلا كلّ شريف، فقال ابن المهلّب: بل وددت أنّ الغالية فى جبهة الأسد فلا ينالها إلا لى. فقال له يزيد بن عبد الملك: والله لئن وليت يوما لأقتلنّك. فقال ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حىّ لاضربنّ وجهك بمائة ألف سيف. وقيل: كان السبب أنّ يزيد بن المهلب كان قد عذّب أصهار يزيد بن عبد الملك، وكان سليمان بن عبد الملك لما ولى الخلافة طلب آل عقيل فأخذهم وسلّمهم إلى ابن المهلب ليخلّص الأموال منهم، فبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق وبها خزائن الحجاج ابن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتى به أمّ الحجاج زوجة يزيد بن عبد الملك. وقيل: بل أخت لها- فعذّبها، فأتى يزيد بن عبد الملك إلى ابن المهلب فى منزله، فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذى قرّرتم عليها أنا أحمله،

فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن ولّيت من الأمر شيئا لأقطعنّ منك عضوا ... فقال ابن المهلّب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينّك بمائة ألف سيف. فحمل يزيد بن عبد الملك المال «1» عنها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. والله أعلم. قال: فلما ولى يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، وإلى عدى بن أرطاة، يعرّفهما هرب يزيد، ويأمرهما بالتحرز منه، وأمر عديا أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلّب ويحبسهم، فقبض عليهم وفيهم المفضّل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب نحو البصرة، وقد جمع عدىّ بن أرطاة الجموع، وخندق على البصرة، وندب الناس، وجاء يزيد فى أصحابه «2» والذين معه، فالتقاه «3» أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه، فمرّ بجموع عدىّ؛ فجعل لا يمرّ بخيل من خيل عدىّ إلا تنحّوا عن طريقه، وأقبل حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، فبعث إلى عدىّ أن ابعث إلىّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإياها حتى آخذ لنفسى من يزيد ما أحب. فلم يقبل منه، وأخذ يزيد بن المهلب يعطى من أتاه قطع الذهب والفضّة؛ فمال الناس إليه؛ وكان عدىّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين، ويقول: لا يحلّ أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذه حتى يأتى الأمر، فقال الفرزدق «4» :

أظنّ رجال الدّرهمين تقودهم «1» ... إلى الموت آجال لهم ومصارع وأكيسهم من قرّ فى قعر بيته «2» ... وأيقن أنّ الموت لا بدّ واقع وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف «3» فيما بينه وبين القصر، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة وانهزموا، فتبعهم يزيد وأصحابه حتى دنا من القصر، وخرج إليهم عدىّ بنفسه فقتل من أصحابه وانهزم هو «4» ، وقصد قتل آل المهلب الذين فى حبسه، فأغلقوا الباب ومنعوا عن أنفسهم حتى أدركهم يزيد، ونزل فى دار سالم «5» ابن زياد بن أبيه، وهى إلى جنب القصر، ونصب السلاليم، وفتح القصر، وأتى بعدى بن أرطاة فحبسه، وقال: لولا حبسك إخوتى لما حبستك، وأخرج إخوته وهرب بوجوه أهل البصرة، فلحقوا بالكوفة، وكان يزيد قد بعث حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد ابن عبد الملك فى طلب الأمان، فعاد بما طلب ومعه خالد القسرى وعمرو ابن يزيد الحكمى، فوجد المغيرة بن زياد وقد فرّ من يزيد ابن المهلب، فأخبرهم الخبر، فعادوا إلى يزيد بن عبد الملك ومعهم حميد، وأرسل يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثنى عليهم ويعدهم

الزيادة، وأرسل «1» أخاه مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد، فى سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة. وقيل: كانوا ثمانين ألفا، فساروا إلى العراق حتى بلغوا الكوفة فنزلوا بالنّخيلة «2» ، واستوثق أمر البصرة لابن المهلّب، وبعث عمّاله على الأهواز وفارس وكرمان، ثم سار يزيد من البصرة، واستعمل عليها أخاه مروان، وأتى واسطا، وأقام عليها أياما يسيرة إلى أن دخلت سنة [102 هـ] اثنتين ومائة، فسار عنها. واستخلف عليها ابنه معاوية، ونزل «3» عنده بيت المال، وقدم أخاه عبد الملك نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد واقتتلوا، فظفر عبد الملك أوّلا، ثم كانت الهزيمة عليه، فعاد بمن معه إلى أخيه، وأقبل مسلمة يسير على شاطىء الفرات إلى الأنبار، وعقد عليها جسرا فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلّب، والتحق بابن المهلّب «4» ناس كثير من الكوفة والثغور، وأحصى ديوانه مائة ألف وعشرين ألفا، فقال: لوددت أنّ لى بهم من بخراسان من قومى. ثم قام فى أصحابه وحرّضهم على القتال، وكان اجتماع ابن المهلب ومسلمة ثمانية أيام، فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من صفر سنة [102 هـ] اثنتين ومائة خرج مسلمة فى جنوده حتى قرب من ابن المهلّب، والتقوا واقتتلوا؛ فانهزم أصحاب ابن المهلب،

فترجّل وبقى فى جماعة من أصحابه وقد استقتل وهو يتقدّم؛ فكلّما مرّ بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه؛ وأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، فلما دنا منه أدنى فرسه ليركب، فعطف عليه أهل الشام، فقتل يزيد والسّميدع «1» ومحمّد بن المهلّب، وكان رجل من كلب يقال له القحل «2» بن عيّاش لما نظر إلى يزيد قال: هذا والله يزيد، والله لأقتلنّه أو ليقتلنى، فمن يحمل معى يكفينى أصحابه حتى أصل إليه، فحمل معه ناس، فاقتتلوا ساعة، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو الذى قتله، وأنّ يزيد قتله، وأتى مولى لبنى مرّة برأس يزيد إلى مسلمة، فقيل له: أنت قتلته؟ قال: لا، فبعث مسلمة بالرأس إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد ابن عقبة بن أبى معيط. وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابى، ولم ينزل لأخذ رأسه أنفة. قال: ولما قتل يزيد كان المفضّل بن المهلّب يقاتل أهل الشام وهو لا يدرى بقتل أخيه ولا بهزيمة الناس، فأتاه آت وقال له: ما تصنع وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ فتفرّق الناس عنه، ومضى المفضّل إلى واسط. وقيل: بل أتاه أخوه عبد الملك، وكره أن يخبره بقتل يزيد

فيستقتل، فقال له: إنّ الأمير قد انحدر إلى واسط، فانحدر المفضّل بمن بقى من ولد المهلب إليها، فلما علم بقتل يزيد حلف أنّه لا يكلّم عبد الملك أبدا، فما كلّمه حتى قتل بقندابيل «1» . قال: ولما أتت هزيمة ابن المهلّب إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين إنسانا «2» كانوا عنده، فضرب أعناقهم، منهم عدىّ ابن أرطاة، وابنه محمد، ومالك، وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم، ثم أقبل حتى أتى البصرة بالمال والخزائن، وجاء المفضّل بن المهلب واجتمع إلى المهلّب بالبصرة، وأعدّوا السفن وتجهّزوا للركوب. فى البحر إلى جبال كرمان، وحملوا عيالهم «3» وأموالهم فى السفن البحريّة، ولجّجوا حتى أتوا جبال كرمان، فخرجو من سفنهم، وحملوا ما معهم على الدوابّ. وكان المقدّم عليهم المفضّل، وكان بكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبى فى طلبهم وفى أثر الفلّ، فأدرك المفضّل ومن اجتمع إليه، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتل من أصحاب المفضل جماعة، وطلب بعض من معه الأمان، ومضى آل المهلب إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب، فردّه؛ وسيّر فى أثرهم هلال بن أحوز التميمى فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخولها فمنعهم أميرها وادع بن حميد، وكان يزيد بن المهلب قد استعمله عليها، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه إن قتل فى حربه يلجأ أهله إليها ويتحصّنوا بها حتى يأخذوا أمان يزيد بن عبد الملك.

وقال له: قد اخترتك لهم من بين قومى فكن عند حسن ظنّى؛ وعاهده ليناصحنّ أهل بيته إن هم لجئوا إليه. فلما أتوه «1» منعهم من الدخول، وكتب إلى هلال بن أحوز، فلما التقوا نصب هلال راية أمان، فتفرّق الناس عن آل المهلب، وتقدموا هم بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، وهم المفضل، وعبد الملك، وزياد، ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب. والمنهال بن أبى عيينة بن المهلب، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة ابن المهلّب، وحملت رءوسهم؛ وفى أذن كلّ واحد رقعة فيها اسمه، ولحق منهم برتبيل أبو عيينة بن المهلب، وعمرو «2» بن يزيد، وعثمان بن المفضل؛ وبعث هلال بالرءوس والنساء الأسرى من آل المهلّب إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بالحيرة، فبعثهم إلى يزيد ابن عبد الملك، فبعثهم «3» يزيد إلى العباس بن الوليد وهو على حلب، فنصب الرءوس، وأراد مسلمة أن يبيع الذرية، فاشتراهم منه الجرّاح بن عبد الله الحكمى بمائة ألف، وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة بن الجرّاح شيئا، وكانت الأسرى من آل المهلّب ثلاثة عشر رجلا، فلما جىء بهم إلى يزيد بن عبد الملك كان «4» عنده كثير عزّة فقال «5» :

حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ العقاب أو عفا لم يثرّب فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تأته من صالح لك يكتب أساءوا فإن تصفح فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب فقال يزيد: هيهات يا أبا صخر؛ أطّت «1» بك الرّحم، لا سبيل إلى ذلك، إن الله أقاد منهم بأعمالهم الخبيثة، ثم أمر بهم فقتلوا، وبقى غلام صغير. فقال: اقتلونى، فما أنا بصغير. فقال: انظروا، أنبت؟ فقال: أنا أعلم بنفسى، قد احتلمت ووطئت النساء، فأمر به فقتل. والذين قتلوا من آل المهلّب بين يدى يزيد بن عبد الملك المعارك وعبد الله، والمغيرة، والمفضل، ومنجاب أولاد يزيد بن المهلب ودويّة» والحجاج، وغسّان، وشبيب، والفضل أولاد المفضل بن المهلّب، والمفضل ابن قبيصة بن المهلب. قال: وأما أبو عيينة بن المهلّب فأرسلت هند بنت المهلب إلى يزيد ابن عبد الملك فى أمانه فأمّنه، وبقى عمرو «3» وعثمان حتى ولى أسد ابن عبد الله القسرى خراسان، فكتب إليهما بأمانهما فقدما خراسان. *** وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وهو عامل المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد ابن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشّعبى، وعلى خراسان عبد الرحمن بن نعيم.

سنة اثنتين ومائة:

سنة اثنتين ومائة: ذكر ولاية مسلمة بن عبد الملك العراق وخراسان وعزله وولاية عمر بن هبيرة قال: ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب ابن المهلّب جمع له أخوه يزيد ولاية الكوفة والبصرة وخراسان، فأقر محمد بن عمرو ابن الوليد على الكوفة، وبعث إلى البصرة عبد الرحمن بن سليم «1» الكلبى، وعلى شرطتها عمرو بن يزيد التميمى، فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة ويقتلهم، فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام، وكتب إلى مسلمة بالخبر فعزله، واستعمل على البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، واستعمل على خراسان سعيد بن عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم بن أبى العاص بن أمية، وهو الذى يقال له سعيد خدينة «2» ، وإنما لقّب بذلك لأنه كان رجلا ليّنا متنعّما، فدخل عليه بعض ملوك العجم وسعيد فى ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير. قال: خدينة. فلقّب خدينة، وهى الدّهقانة ربّة البيت. وكان سعيد زوج «3» ابنة مسلمة، فلذلك استعمله، فغزا سعيد الصّغد كما تقدم. قال: ولما ولى مسلمة العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، فأراد يزيد عزله فاستحيى من ذلك، فكتب إليه أن استخلف على عملك، وأقبل. فلما قدم لقيه عمر بن هبيرة الفزاى بالطريق

ذكر البيعة لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بولاية العهد

على دوابّ البريد، فسأله عن مقدمه، فقال: وجّهنى أمير المؤمنين فى حيازة أموال بنى المهلّب. ولم يكن الأمر كذلك، وإنما كان يزيد قد استعمله، فلم يلبث حتى أتاه عزل ابن هبيرة عمّاله والغلظة عليهم، وكان ابن هبيرة قبل ذلك يلى الجزيرة. ذكر البيعة لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بولاية العهد وفى هذه السنة أراد يزيد أن يأخذ البيعة لابنه الوليد، فقال [له] «1» مسلمة بن عبد الملك: إنّ ابّنك لم يبلغ الحلم؛ وأشار عليه بالبيعة لهشام، ففعل، وبايع لهشام بولاية العهد، ثم من بعده لابنه الوليد بن يزيد، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة ثم عاش يزيد حتى بلغ ابنه الوليد الحلم، فكان يزيد إذا رآه يقول: الله بينى وبين من جعل هشاما بينى وبينك. ذكر مقتل يزيد بن أبى مسلم كان يزيد بن عبد الملك قد استعمل يزيد بن أبى مسلم على إفريقية فى سنة [101 هـ] إحدى ومائة، فقتل فى هذه السنة. وكان سبب قتله أنه أراد أن يسير فى أهل إفريقية بسيرة الحجاج فى أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن [كان] «2» أصله من السّواد من أهل الذّمة، فإنه ردهم إلى قراهم، ووضع عليهم الجزية على ما كانوا «3» عليه قبل الإسلام. فلما عزم يزيد بن مسلم على ذلك

سنة (103 هـ) ثلاث ومائة:

اجتمع رأى أهل إفريقية على قتله، فقتلوه وولّوا عليهم الوالى الذى كان قبله، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار، وكتبوا إلى يزيد ابن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من طاعة، ولكن يزيد بن أبى مسلم سامنا مالا يرضاه الله والمسلمون، فقتلناه، وأعدنا عاملك. فكتب إليهم: إنه لم يرض بما صنع. وأقرّ محمد بن يزيد على عمله. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك، وهو عامل المدينة. سنة (103 هـ) ثلاث ومائة: ذكر استعمال سعيد الحرشى على خراسان وعزل سعيد خدينة «1» عنها فى هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد خدينة عن خراسان بشكوى المجشّر بن مزاحم السلمى، وعبد الله بن عمير الليثى، واستعمل سعيد بن عمرو الحرشى، من بنى الحريش بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة، وكان خدينة بباب سمرقند، فبلغه عزله فرجع وقدم الحرشى خراسان فلم يعرض لعمال خدينة. وقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال: صه؛ مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه برىء. وخطب النّاس وحثّهم على الجهاد، وقال: إنكم لا تقاتلون بكثرة [ولا بعدّة] «2» ، ولكن بنصر الله وعزّ الإسلام، فقولوا: لا حول ولا قوّة إلا بالله.

سنة (104 هـ) أربع ومائة:

وقال «1» : فلست لعامر إن لم ترونى ... أمام الخيل أطعن «2» بالعوالى وأضرب «3» هامة الجبّار منهم ... بعضب الحدّ حودث بالصّقال «4» فما أنا فى الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرّجال أبى لى والدى من كلّ ذمّ ... وخالى فى الحوادث غير خالى فهابه الصّغد، وكان من قتاله إياهم وقتلهم ما ذكرناه. ولما ظفر بهم كتب إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى ابن هبيرة فوجد عليه. وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك، وولى عبد الواحد ابن عبد الله النّضرى الطائف. سنة (104 هـ) أربع ومائة: ذكر عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة وولاية عبد الواحد وفى هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحّاك عن مكّة والمدينة. وسبب ذلك أن عبد الرحمن خطب فاطمة بنت الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فقالت: ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بنىّ هؤلاء، فألحّ عليها، وقال: لئن لم تفعلى لأجلدن أكبر بنيك فى

الخمر، يعنى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان على الديوان بالمدينة ابن هرمز رجل من [أهل] «1» الشام، وقد رفع حسابه، وهو يريد أن يسير إلى يزيد، فدخل على فاطمة يودّعها، فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من الضحاك. وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد يخبره بذلك. فقدم ابن هرمز [على يزيد] «2» ، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل من مغرّبة خبر؟ فلم يذكر شأن فاطمة، فقال الحاجب ليزيد: بالباب رسول من فاطمة بنت الحسين. فقال ابن هرمز: إنها حملتنى رسالة؛ وأخبره الخبر، فنزل عن فراشه، وقال: لا أمّ لك! عندك هذا وما تخبرنيه! فاعتذر بالنّسيان، فأذن «3» لرسولها، فأدخل، وقرأ كتابها، وجعل يضرب بخيزران فى يده، ويقول: لقد اجترأ ابن الضحّاك، هل من رجل يسمعنى صوته فى العذاب؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النّضرى. فكتب إليه بيده: قد ولّيتك المدينة، فاهبط إليها، واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع صوته، وأنا على فراشى. وسار البريد بالكتاب، ولم يدخل على ابن الضحاك، فأحسّ وأحضر البريد، وأعطاه ألف دينار ليخبره الخبر، فأخبره، فسار ابن الضحاك مجدّا فنزل على مسلمة بن عبد الملك، فاستجاربه، فحضر مسلمة عند يزيد، فطلب إليه حاجة جاء لها، فقال: كلّ

سنة (105 هـ) خمس ومائة:

حاجة هى لك إلا ابن الضحاك. فقال: هى والله ابن الضحّاك. فقال: والله لا أعفيه أبدا. ورده إلى عبد الواحد بالمدينة فعذّبه، ولبس جبّة صوف، فسأل الناس. وكان قدوم النضرى فى شوال سنة [104 هـ] أربع ومائة، فأحسن السيرة فى الناس، وكان ابن الضحاك قد آذى «1» الأنصار طرّا، فأعفاهم الله منه. وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيدا الحرشى عن خراسان وولّاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابى، وسبب ذلك أن الحرشى كان يستخفّ بابن هبيرة فعزله وعذّبه حتى أدّى الأموال. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الواحد النّضرى. سنة (105 هـ) خمس ومائة: ذكر أخبار الخوارج فى أيام يزيد بن عبد الملك وهؤلاء الخوارج الذين نذكرهم ذكرهم ابن الأثير «2» فى حوادث هذه السنة، ولم يذكر أنهم خرجوا فيها، فقال «3» : وفى أيام يزيد خرج حرورى اسمه عقفان فى ثلاثين رجلا، فأراد يزيد أن يرسل إليه جندا يقاتلونه، فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأى أن تبعث إلى كلّ رجل من أصحابه رجلا من قومه يكلّمه ويردّه. ففعل ذلك، فرجعوا وبقى

عقفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه وردّه «1» . فلما ولى هشام بن عبد الملك ولّاه أمر العصاة، فقدم ابنه من خراسان عاصيا، فشدّه وثاقا، وبعث به إلى هشام، فأطلقه لأبيه، وقال: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه، واستعمل عقفان على الصدقة فبقى إلى أن توفّى هشام. وخرج مسعود بن أبى زينب «2» العبدى بالبحرين على الأشعث ابن عبد الله بن الجارود، ففارق الأشعث البحرين، وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان بن عمرو العقيلى من قبل ابن هبيرة، فخرج إليه سفيان فاقتتلوا بالخضرمة «3» قتالا شديدا، فقتل مسعود، وقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج، فقاتلهم يومه كلّه، فلما أمسى تفرّق عنه أصحابه، وبقى فى نفر يسير، فدخل قصرا فتحصّن به، فنصبوا عليه السلاليم، وصعدوا إليه فقتلوه. وقيل: إن «4» مسعودا غلب على البحرين واليمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفيان بن عمرو. [والله أعلم] «5» . وخرج مصعب بن محمد الوالبى، وكان من رؤساء الخوارج، فطلبه عمر بن هبيرة، وطلب معه مالك بن الصّعب وجابر بن سعد، فخرجوا واجتمعوا بالخورنق، وأمّروا عليهم مصعبا، فاستمر

ذكر وفاة يزيد بن عبد الملك وشىء من أخباره

إلى أن ولى خالد القسرى العراق فى أيام هشام، فبعث إليهم جيشا، وكانوا قد صاروا بحزّة «1» من أعمال الموصل، فالتقوا واقتتلوا، فقتل الخوارج. وقيل: كان قتلهم فى أيام يزيد. والله أعلم. ذكر وفاة يزيد بن عبد الملك وشىء من أخباره كانت وفاته بحوران «2» لخمس بقين من شعبان سنة [105] خمس ومائة، وله أربعون سنة. وقيل خمس وثلاثون. وقيل: غير ذلك. وكانت خلافته أربع سنين وشهرا. وكان جميلا أبيض جسيما مدوّر الوجه شديد الكبر عاجز الرأى، وكان صاحب لهو، وهو أول من اتخذ القيان من بنى أمية، وكان يهوى جاريتين، وهما حبابة وسلّامة، وهى سلّامة القس، وقال يوما- وقد طرب: دعونى أطير. فقالت حبابة: على «3» من تدع الأمّة؟ فقال: عليك. وغنّت يوما «4» : بين التّراقى واللهاة حرارة ... ما تطمئنّ وما تسوغ فتبرد فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لنا فيك حاجة.

فقال: والله لأطيرنّ. فقالت: فعلى من تخلّف الأمّة والملك؟ فقال «1» : عليك والله. وقبّل يدها. وخرجت معه إلى ناحية الأردنّ للتنزه فرماها بحبّة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها حتى أنتنت، وهو يقبّلها ويشمّها وينظر إليها ويبكى، فكلّم فى أمرها فدفنها. وقيل: إنه نبشها بعد دفنها، وبقى سبعة أيام لا يظهر للناس، وأشار «2» عليه مسلمة بذلك لئلا يظهر منه ما يسفّهه عندهم. قال: وكان يزيد قد حجّ أيام أخيه سليمان، فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها الغالية «3» ، فقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد. فردّها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت له امرأته سعدة يوما: هل بقى من الدنيا شىء تتمنّاه؟ قال: نعم، حبابة، فأرسلت فاشترتها، وأتت بها فأجلستها من وراء الستر، وأعادت عليه القول الأول. فقال: قد أعلمتك، فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها، فحظيت سعدة عنده، وأكرمها. وهى سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان. قال: وإنما قيل لسلّامة القسّ، لأن عبد الرحمن بن عبد الله [ابن] «4»

أبى عمار أحد بنى جشم بن معاوية بن بكر كان فقيها عابدا مجتهدا فى العبادة، وكان يسمى القس لعبادته. مرّ يوما بمنزل مولاها، فسمع غناءها، فوقف يسمعه فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع! فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها. فدخل معه فغنّت «1» ، فأعجبه غناؤها. ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها وأحبها وأحبته. فقالت له يوما على خلوة: أنا والله أحبّك. قال: وأنا والله. قالت: وأحبّ أن أقبّلك. قال: وأنا والله. قالت: وأحب أن أضع بطنى على بطنك. قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك؟ قال: قوله تعالى «2» : «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» . وأنا أكره أن تئول «3» خلّتنا «4» إلى عداوة، ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته. وله فيها أشعار كثيرة منها قوله: ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طرّبت فى صوتها كيف تصنع تمدّ نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع وله فيها غير ذلك. وأما يزيد فأخباره مع سلّامة وحبابة كثيرة مشهورة أضربنا عن ذكر كثير منها.

ذكر بيعة هشام بن عبد الملك

فلنذكر خلاف ذلك من أخباره: وكان له من الأولاد الذكور ثمانية، [منهم] «1» عبد الله، والوليد. كتّابه: عمر بن هبيرة، ثم إبراهيم بن جبلة، ثم أسامة بن زيد السّليحى. قاضيه: عبد الرحمن بن الحسحاس وغيره. حجّابه: سعيد وخالد مولياه. نقش خاتمه: قنى السيئات يا عزيز. الأمير بمصر: بشر بن صفوان. وأقرّ أبا مسعود على القضاء، ثم ولّى إمارة مصر حنظلة بن صفوان أخا بشر، وسار بشر إلى إفريقية. وولى مصر أيضا فى خلافته أسامة ابن زيد، والله أعلم. ذكر بيعة هشام بن عبد الملك هو أبو الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه أم هشام فاطمة، وقيل: عائشة بنت هشام المخزومى، وهو العاشر من ملوك بنى أميّة. بويع له لخمس بقين من شعبان سنة [105 هـ] خمس ومائة بعد وفاة أخيه. أتته الخلافة وهو بالرّصافة «2» ، [فجاءه البريد بالخاتم

ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام هشام بن عبد الملك على حكم السنين

والقضيب وسلّم عليه بالخلافة] «1» ، فركب منها، حتى أتى دمشق، وكان من أول ما ابتدأ به أن عزل عمر بن هبيرة عن العراق، واستعمل خالد بن عبد الله القسرى، وذلك فى شوال من السنة. ولنبدأ بذكر الغزوات والفتوحات فى أيامه: ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام هشام بن عبد الملك على حكم السنين فى سنة [105 هـ] خمس ومائة غزا الجرّاح الحكمىّ اللّان «2» حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون وراء بلنجر، ففتح بعض ذلك وأصاب غنائم كثيرة. وغزا سعيد بن عبد الملك أرض الرّوم، فبعث سريّة فى نحو ألف مقاتل فأصيبوا جميعا. وغزا مسلم بن سعيد الكلابى أمير خراسان الترك بما وراء النهر فلم يفتح شيئا، وقفل فاتبعه الترك فلحقوه، والناس يعبرون جيحون، وعلى الساقة عبيد الله بن زهير بن حيّان على خيل «3» تميم، فحاموا حتى عبر الناس. وغزا مسلم أفشين «4» ، فصالح أهلها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة. وغزا مروان بن محمد الصائفة اليمنى، فافتتح قونية من أرض الروم، وكمخ «5» . والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفى سنة [106 هـ] ست ومائة غزا مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الترك،

(ذكر غزوة مسلم الترك) وفى سنة [106 هـ] ست ومائة غزا مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الترك، فقطع النهر، فلما بلغ بخارى أتاه كتاب خالد القسرى بولايته العراق، ويأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة «1» ، فلما وصلها بلغه أنّ خاقان قد أقبل إليه، فارتحل، فسار ثلاث مراحل فى يوم، وأقبل إليهم خاقان، فلقى طائفة من المسلمين، فقتل جماعة منهم، وأصاب دوابّ لمسلم، ورحل مسلم بالناس، فسار ثمانية أيام والترك يطيفون «2» بهم، وأحرق الناس ما ثقل عليهم من أثقالهم، فحرقوا ما قيمته ألف ألف، ونزل مسلم فى الليلة التاسعة، وأصبح فسار فورد النّهر وأقام «3» يوما ثم قطعه من الغد، واتبعهم ابن لخاقان، فعطف حميد ابن عبد الله وهو على السّاقة على طائفة من الترك نحو المائتين فقاتلهم، فأسر أهل الصّغد وقائدهم وقائد الترك فى سبعة، ومضى البقيّة. ورجع حميد فرمى بنشّابة فى ركبته فمات. وعطش الناس فى هذه الغزوة عطشا شديدا وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس. وجاء عبد الرحمن بن نعيم عهده على خراسان من قبل أسد بن عبد الله أخى خالد القسرى، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة. قال بعض من شهد هذه الغزوة، قاتلنا الترك فأحاطوا بنا حتى

وفى سنة [107 هـ] سبع ومائة غزا عنبسة بن سحيم الكلبى

أيقنّا بالمهلاك، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحرّ بن الحنيف على الترك فى أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة. ثم رجع، وأقبل نصر بن سيّار فى ثلاثين فارسا فقاتلهم حتى أزالهم عن مواقفهم، وحمل عليهم الناس؛ فانهزم الترك، وقفل عبد الرحمن بالناس ومعه مسلم. وغزا سعيد بن عبد الملك الصائفة فى هذه السنة. وغزا الجرّاح بن عبد الله اللّان «1» ، فصالح أهلها وأدّوا الجزية. (ذكر غزاة عنبسة الفرنج بالأندلس) وفى سنة [107 هـ] سبع ومائة غزا عنبسة بن سحيم الكلبى عامل الأندلس بلد الفرنج فى جمع كثير، فنازل «2» مدينة برشلونة، وحصر أهلها، فصالحوه على نصف أعمالها، وعلى جميع ما فى المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم، وأن يعطوا الجزية ويلتزموا بأحكام الذمّة. وفيها غزا أسد بن عبد الله أمير خراسان الغور؛ وهى جبال هراة، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيّروها فى كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت، ووضع فيها الرجال، ودلّاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه. وفيها غزا الحارث بن عمرو الطائى التّرك من جهة أرمينية فافتتح رستاقا من بلد التّرك وقرى كثيرة وأثّر أثرا حسنا. وفى سنة [108 هـ] ثمان ومائة قطع أسد بن عبد الله النّهر،

وفى سنة تسع ومائة غزا عبد الله بن عقبة الفهرى فى البحر،

وأتاه خاقان، فلم يكن بينهما قتال، ثم مضى أسد إلى غوريان «1» ، فقاتلهم يوما، ثم اقتتلوا من الغد فانهزم المشركون، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد، وأسروا وسبوا وغنموا. وفيها غزا مسلمة «2» بن عبد الملك الروم مما يلى الجزيرة ففتح قيسارية، وهى مدينة مشهورة. وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا من حصون الروم. وفيها سار ابن خاقان ملك الترك إلى أذربيجان، فحصر بعض مدنها، فسار إليه الحارث بن عمرو الطائى، فالتقوا واقتتلوا فانهزم الترك وتبعهم الحارث حتى عبر نهر روس «3» ، فعاد إليه ابن خاقان فعاودوا «4» الحرب أيضا، فانهزم ابن خاقان، وقتل من الترك خلق كثير. وغزا معاوية بن هشام بن عبد الملك ومعه ميمون بن مهران على أهل الشام فقطعوا البحر إلى قبرس. وغزا البرّ مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وفى سنة تسع ومائة غزا عبد الله بن عقبة الفهرى فى البحر، وغزا معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح حصنا يقال له «5» طيبة،

فى سنة [110] عشرة ومائة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وغيرها مما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام،

وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان فغنم وسبى وعاد. وغزا بشر بن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية، فغنم شيئا كثيرا، ثم رجع إلى القيروان فتوفى من سنته. واستعمل هشام عبيدة «1» بن عبد الرحمن بن أبى الأغرّ السلمى. (ذكر خبر أشرس بن عبد الله السلمى أمير خراسان وأهل سمرقند وغيرها بما وراء النهر وما يتصل بذلك من الحروب) فى سنة [110] عشرة ومائة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وغيرها مما وراء النّهر يدعوهم إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، وأرسل فى ذلك أبا الصّيداء «2» صالح بن طريف «3» مولى بنى ضبّة والرّبيع بن عمران التميمى، فقال أبو الصّيداء: إنما أخرج على شريطة أنه «4» من أسلم لا يؤخذ منه الجزية، وإنما خراج خراسان على رءوس الرجال. فقال أشرس: نعم. فشخص إلى سمرقند وعليها الحسن بن أبى العمرّطة «5» الكندى، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام، فكتب إلى أشرس: إنّ الخراج قد انكسر. فكتب أشرس إلى ابن أبى العمرّطة: إنّ فى الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغنى أنّ أهل الصّغد وأشباههم

إنما أسلموا تعوّذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه، ثم عزل أشرس ابن أبى العمرّطة عن الخراج، وصيّره إلى هانىء بن هانىء، فمنعهم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن تلفّظ بالإسلام، وكتب هانىء إلى أشرس: إنّ الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فكتب أشرس إليه وإلى العمال: خذوا الخراج ممّن كنتم تأخذونه عنه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزلوا فى سبعة آلاف على عدّة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصّيداء وربيع بن عمران، والهيثم «1» الشّيبانى، وأبو فاطمة الأزدى، وعامر بن قشير، وبشير الخجندى «2» ، وبيان العنبرى، وإسماعيل بن عقبة لينصروهم، فعزل أشرس ابن أبى العمرّطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشّر بن مزاحم السلمى؛ فكتب المجشّر إلى أبى الصّيداء فى القدوم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصّيداء وثابت قطنة فحبسهما، واجتمع أصحاب أبى الصّيداء وولّوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا، فقال لهم: كفّوا حتى نكتب إلى أشرس. فكتبوا إليه، فكتب أشرس: ضعوا عنهم الخراج. فرجع أصحاب أبى الصّيداء وضعف أمرهم، فتتبّع الرؤساء فأخذوا وحملوا إلى مرو. وألحّ هانىء فى الخراج، واستخفّوا بعظماء العجم والدّهاقين، وأخذوا الجزية ممّن أسلم، فكفرت الصّغد وبخارى، واستجاشوا

التّرك، وخرج أشرس غازيا، فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر. وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم، فعبر النهر فى عشرة آلاف، وأقبل أهل الصّغد وبخارى معهم خاقان والتّرك، فحصروا قطنا فى خندقه، وأرسل خاقان من أغار على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود، فوجهه مع عبد الله بن بسطام فى خيل «1» ، فقاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما كان بأيديهم، ورجع الترك. ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن، وبعث سرية مع مسعود أحد بنى حيّان، فلقيهم العدوّ فقاتلوهم، فقتل رجال من المسلمين، وهزم مسعود. فرجع إلى أشرس. وأقبل العدوّ، فلقيهم المسلمون، فجالوا جولة، فقتل رجال من المسلمين. ثم رجع «2» المسلمون فصبروا، فهزم الله المشركين، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند «3» ، فقطع عنهم العدوّ الماء، وأقام المسلمون يوما وليلة، وعطشوا؛ فرحلوا إلى المدينة التى قطع العدوّ بها الماء، وعلى المقدمة قطن بن قتيبة، فلقيهم العدوّ، فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال؛ فقال الحارث بن سريج «4» للناس: القتل بالسيف أكرم

ذكر وقعة كمرجة

فى الدنيا وأعظم أجرا عند الله من الموت عطشا، وتقدم هو وقطن فى فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالوا التّرك عن الماء، فشرب الناس واستقوا، ثم قاتلوا الترك قتالا شديدا، فقتل ثابت قطنة فى جماعة من المسلمين بعد أن أبلوا أعظم بلاء وأحسنه. ثم اجتمع رجال من المسلمين تبايعوا على الموت مع قطن بن قتيبة، وحملوا على العدوّ فقاتلوهم فكشفوهم، وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجز بينهم اللّيل، وتفرّق العدوّ، وأتى أشرس بخارى، فحصر أهلها فعزل وهو يحاصرها بالجنيد بن عبد الرحمن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وقعة كمرجة قال: ثم إنّ خاقان حصر كمرجة «1» ، وهى من أعظم بلدان خراسان، وبها جمع من المسلمين، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة «2» ، ونسف، وطوائف من أهل بخارى، فأغلق المسلمون الباب، وقطعوا القنطرة التى على الخندق، فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم؟ أنا الذى جئت بخاقان ليردّ علىّ مملكتى، وأنا آخذ لكم الأمان، فشتموه، وأتاهم بازغرى، فقال: إنّ خاقان يقول لكم: إنى أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفا، ومن عطاؤه ثلاثمائة ستمائة، ويحسن «3»

إليكم وتكونون معه، فأبوا ذلك، فأمر خاقان بجمع الحطب «1» الرطب، وأن يلقى فى الخندق ليعبروا عليه. فجمع فى سبعة أيام، فكانوا يلقون الحطب الرّطب، ويلقى المسلمون الحطب اليابس حتى سوّى الخندق بالأرض؛ فأشعل المسلمون فيه النيران، وهاجت ريح شديدة، فاحترق الحطب الذى جمع فى سبعة أيام فى ساعة واحدة، ثم فرّق خاقان على الترك أغناما، وأمرهم أن يأكلوها ويحشوا جلودها ترابا، ويلقوها فى الخندق، ففعلوا ذلك، فأرسل الله تعالى مطرا شديدا، فاحتمل السيل ما فى الخندق، وألقاه فى النّهر الأعظم. ورماهم المسلمون بالسهام فقتل بازغرى وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه؛ ففرح المسلمون بقتله، وكان عند المشركين مائة من أسرى المسلمين فيهم أبو الحوجاء «2» العتكىّ والحجاج ابن حميد النضرى، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم، واستماتوا واشتدّ القتال. ثم وقع الاتفاق بينهم وبين الترك على أنّ خاقان يرحل عن كمرجة، ويرحلوا هم عنها أيضا إلى سمرقند والدّبوسية «3» ، فأجاب أهل كمرجة إلى ذلك، وأخذ كلّ منهم من الطائفتين رهائن من الأخرى على الوفاء، وارتحل خاقان، ثم رحلوا بعده، وسيّر معه كور صول التّركى ليمنعهم ممن يتعرّض إليهم من الترك، فلما

وفى سنة [111 هـ] إحدى عشرة ومائة عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله عن خراسان،

انتهوا إلى الدّبوسية، وكان بها عشرة آلاف مقاتل من المسلمين، أمنوا وأطلق كلّ من الطائفتين ما بيدهم من الرهائن، وكانت مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوما، فيقال: إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما. وفى هذه السنة ارتد أهل كردر «1» ، فأرسل إليهم أشرس جندا فظفروا بهم. وغزا مسلمة التّرك من نحو باب اللّان، فلقى خاقان فى جموعه، فاقتتلوا قريبا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فانهزم خاقان ورجع مسلمة. وغزا معاوية الروم ففتح صلم «2» . وغزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهرى. (ذكر عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد بن عبد الرحمن، وقتاله الترك) وفى سنة [111 هـ] إحدى عشرة ومائة عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله عن خراسان، واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن ابن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبى حارثة المرّى، وحمله على ثمانية من البريد، فقدم خراسان فى خمسمائة، وسار

إلى ماوراء النّهر، وسار معه الخطاب بن محرز السلمى خليفة أشرس بخراسان، فقطعا النّهر، وأرسل الجنيد إلى أشرس، وهو يقاتل أهل بخارى والصّغد: أن أمدّنى بخيل. وخاف أن يقطع «1» دونه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك الحمّانى، فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له التّرك والصّغد، فدخل حائطا حصينا، وقاتلهم على الثلمة، وكان معه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسى «2» ، فخرج واصل وعاصم بن عمير السمرقندى وغيرهما، فاستداروا خلف الترك فلم يشعر خاقان إلّا والتكبير من ورائه، وحمل المسلمون على التّرك، فقاتلوهم، وقتلوا عظيما من عظماء الترك، فانهزم التّرك، وسار عامر حتى لقى الجنيد، وأقبل معه وعلى مقدمة الجنيد عمارة ابن خريم «3» ، فلما صار على فرسخين من بيكند تلقّته خيل التّرك، فقاتلوهم، فكاد الجنيد يهلك هو ومن معه، ثم أظهره الله، وسار حتى قدم العسكر، وظفر الجنيد، وقتل من الترك، ثم زحف إليه خاقان، فالتقوا دون زرمان «4» من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد، فأسر الجنيد ابن أخى خاقان، فبعث به إلى هشام، ورجع الجنيد بالظّفر إلى مرو.

وفى سنة [112 هـ] ثنتى عشرة ومائة قتل الجراح بن عبد الله الحكمى.

وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى، حتى أتى قيسارية. وغزا عبد الله بن أبى مريم البحر. وفيها سارت التّرك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو، فهزمهم. وفيها استعمل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمىّ على أرمينية، وعزل أخاه مسلمة، فدخل بلاد الخزر من ناحية تفليس «1» ، ففتح مدينتهم البيضاء، وانصرف سالما. (ذكر مقتل الجراح بن عبد الله الحكمى وولاية سعيد الحرشى وحروبه مع الخزر والتّرك، وما افتتحه من البلاد) وفى سنة [112 هـ] ثنتى عشرة ومائة قتل الجرّاح بن عبد الله الحكمى. وسبب ذلك أنه لما هزم الخزر اجتمعوا هم والتّرك من ناحية اللّان، فلقيهم الجرّاح فيمن معه من أهل الشام، فاقتتلوا أشدّ قتال رآه الناس، وتكاثر الخزر والتّرك على المسلمين، فاستشهد الجرّاح ومن معه بمرج أردبيل «2» ، فلما قتل طمع الخزر وأوغلوا فى البلاد حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين. فبلغ الخبر هشام بن عبد الملك، فاستشار سعيدا الحرشى،

فقال: أرى أن تبعثنى على أربعين دابّة من دوابّ البريد، ثم تبعث إلىّ كل يوم بأربعين [رجلا] «1» ، واكتب إلى أمراء الأجناد أن يوافونى «2» . ففعل ذلك، وسار الحرشىّ وهو لا يمرّ بمدينة إلّا استنهض «3» أهلها، فيجيبه من يريد الجهاد. ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن «4» ، فلقيه جماعة من أصحاب الجرّاح، فردّهم معه، وسار فبلغ خلاط «5» ، فحاصرها أياما وفتحها، وقسّم غنائمها فى أصحابه، ثم سار عنها وفتح الحصون والقلاع شيئا بعد شىء حتى أتى بردعة، وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغير وينهب ويسبى ويقتل، وهو يحاصر مدينة ورثان «6» ، فأرسل الحرشىّ رجلا من أصحابه إلى أهلها يعرّفهم وصوله، ويأمرهم بالصبر، فسار ولقيه بعض الخزر، فأخذوه وسألوه عن الخبر، فأخبرهم وصدقهم، فقالوا له: إن فعلت ما نأمرك به أحسنّا إليك، وأطلقناك، وإلا قتلناك. قال: فما الذى تريدون؟ قالوا «7» : تقول لأهل ورثان: إنكم ليس لكم مدد، ولا من يكشف ما بكم، وتأمرهم بتسليم البلد إلينا. فأجابهم إلى ذلك. فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه، فقال لهم:

أتعرفونى؟ قالوا: نعم، أنت فلان. قال: فإنّ الحرشى قد وصل إلى مكان كذا فى عساكر كثيرة، وهو يأمركم بحفظ البلد، والصّبر، ففى هذين اليومين يصل إليكم. فرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير، وقتلت الخزر ذلك الرجل، ورحلوا عن مدينة ورثان، ووصلها الحرشى، وقد ارتحل الخزر إلى أردبيل، فسبقهم «1» إليها، فساروا عنها، ونزل سعيد باجروان «2» ، فأتاه فارس على فرس أبيض، فقال له: أيها الأمير، هل لك فى الجهاد والغنيمة؟ قال: وكيف لى بذلك؟ قال: هذا عسكر الخزر فى عشرة آلاف، ومعهم خمسة آلاف بنت من المسلمين أسارى وسبايا، وهم على أربعة فراسخ. فسار الحرشىّ إليهم ليلا، فوافاهم آخر الليل، وهم نيام، فكبسهم مع الفجر، ووضع المسلمون فيهم السيف، فما بزغت الشمس حتى قتلوا عن آخرهم غير «3» رجل واحد. ثم أتاه ذلك الفارس الذى أتاه أولا وقال له: هذا جيش الخزر ومعهم أموال المسلمين وأولادهم، وحرم الجرّاح وأولاده، وهم بمكان كذا؛ فسار الحرشى إليهم، فما شعروا إلّا والمسلمون معهم، فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاءوا، ولم يفلت من الخزر إلا الشريد، واستنقذوا من معهم، وغنموا أموال الخزر، وحمل الأسارى إلى باجروان.

ذكر وقعة الجنيد بالشعب

وبلغ الخبر ابن ملك الخزر، فجمع أصحابه من نواحى أذربيجان، فاجتمع له عساكر كثيرة، فحرّضهم، وسار نحو الحرشىّ، وسار الحرشىّ إليه، فالتقيا بزرند «1» ، واقتتلوا أشدّ قتال، فانحاز المسلمون يسيرا ثم عادوا إلى القتال، فاشتدّت نكايتهم فى العدوّ، فهزموهم، وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر أوس «2» ، وعادوا عنهم وحووا ما فى عسكرهم من الأموال والغنائم، وأطلقوا الأسارى والسّبايا، وحملوا الجميع إلى باجروان، ثم جمع ابن ملك الخزر من لحق به من عساكره، وعاد بهم نحو الحرشى، فنزل على نهر البيلقان «3» ، فسار الحرشى نحوه؛ فوافاهم هناك، والتقوا، فكانت الهزيمة على الخزر، فكان من غرق منهم أكثر ممن قتل، وجمع الحرشى الغنائم، وعاد إلى باجروان وكتب إلى هشام بالفتح، وأرسل إليه الخمس. فكتب إليه هشام يشكره، ويثنى عليه، ويأمره بالمسير إليه، واستعمل هشام أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان، فوصل إلى البلاد، وسار إلى الترك حتى جاز البلاد [فى آثارهم] «4» . ذكر وقعة الجنيد بالشعب وفى سنة [112 هـ] ثنتى عشرة ومائة أيضا خرج الجنيد أمير خراسان غازيا يريد طخارستان؛ فوجه عمارة بن خريم

إلى طخارستان فى ثمانية عشر ألفا، ووجّه إبراهيم بن بسام الليثى فى عشرة آلاف إلى وجه آخر، وجاشت التّرك فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن الحر؛ فكتب إلى الجنيد أنّ خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم، فلم أطق أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث الغوث. فعبر الجنيد النهر، وقد فرّق عساكره، فسار بمن معه حتى نزل كشّ «1» ، وتأهّب للمسير، وبلغ ذلك الترك؛ فعوّروا الآبار التى فى طريق كش، وسار الجنيد يريد سمرقند، فأخذ طريق العقبة، وارتقى فى الجبل، ثم سار حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ، ودخل الشّعب فصبّحه خاقان فى جمع عظيم؛ فكانت بينهم وقعة عظيمة صبر الناس فيها وقاتلوا حتى كانت السيوف لا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، ثم كانت المعانقة؛ ثم تحاجزوا، فاستشهد من المسلمين جماعة. فبينما الناس كذلك إذ أقبل رهج «2» ، وطلعت الفرسان» ، فنادى منادى الجنيد: الأرض الأرض! وترجّل، وترجّل الناس، ثم أمر أن يخندق كلّ قائد على حياله، فخندقوا وتحاجزوا وقد أصيب من الأزد يومئذ مائة وتسعون رجلا، وكان قتالهم يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت قصدهم خاقان وقت الظهر، فلم ير موضعا للقتال أسهل من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد

ابن الحارث، فقصدهم، فلما قربوا حملت بكر عليهم فأفرجوا لهم، واشتد القتال بينهم. فلما رأى الجنيد شدّة الأمر استشار أصحابه، فقال له عبيد الله بن حبيب: اختر إمّا أن تهلك أنت أو سورة بن الحرّ. فقال: هلاك سورة أهون على. قال: فاكتب إليه فليأتك فى أهل سمرقند؛ فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجّهوا إليه فقاتلوه. فكتب إليه الجنيد يأمره بالقدوم، فسار فى اثنى عشر ألفا، فأصبح على رأس جبل، فتلقّاه خاقان، وقد بقى بينه وبين الجنيد نحو فرسخ فقاتلهم فاشتدّ «1» القتال، وسقط سورة بن الحرّ، فاندقّت فخذه، وقتل وتفرّق الناس، وقتلهم الترك، ولم ينج منهم غير ألفين. ويقال: ألف. ولما استقلّ خاقان بقتال سورة خرج الجنيد مبادرا يريد سمرقند، فلقيه الترك قبل وصوله إليها، فقاتلهم قتالا شديدا. وقال الجنيد: أىّ عبد قاتل فهو حر. فقاتل العبيد قتالا عجبت منه الناس، وهزم الله الترك. ومضى الجنيد إلى سمرقند، وكتب إلى هشام بن عبد الملك بالخبر. فكتب إليه هشام: قد وجّهت إليك عشرة آلاف من أهل البصرة، وعشرة آلاف من أهل الكوفة، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح، ومثلها ترسة «2» ، فافرض فلا غاية لك فى الفريضة لخمسة «3» عشر ألفا.

وقيل: إن وقعة الشعب كانت فى سنة [113 هـ] ثلاث عشرة ومائة.

قال «1» : وأقام الجنيد بسمرقند، وتوجّه خاقان إلى بخارى، وعليها قطن بن قتيبة، فسار الجنيد إليه، وخلّف بسمرقند عثمان بن عبد الله ابن الشّخّير فى أربعمائة [فارس وأربعمائة] «2» راجل. ولما انتهى الجنيد إلى كرمينية «3» أتاه خاقان وذلك فى مستهلّ رمضان من السنة، فاقتتلوا يومهم؛ ثم ارتحل الجنيد وقد قوى الساقة بالرجال، فجاءت الترك فمالوا على الساقة فاقتتلوا فاشتدّ القتال بينهم، فقتل مسلم بن أحوز عظيما من عظماء الترك، فتطيّروا من ذلك، وانصرفوا. وسار المسلمون فدخلوا بخارى، ثم قدمت الجنود من الكوفة والبصرة فسرّح الجنيد معهم حوثرة ابن زيد العنبرى فيمن انتدب معه. وقيل: إنّ وقعة الشّعب كانت فى سنة [113 هـ] ثلاث عشرة ومائة. [والله أعلم] «4» . وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، فافتتح خرشنة «5» . [والله أعلم] «6» .

ذكر غزو مسلمة وعوده

ذكر غزو مسلمة وعوده فى هذه السنة فرّق مسلمة الجيوش ببلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم وسبى وأسر وأحرق، ودان له من وراء جبال بلنجر، وأقبل ابن خاقان وقد اجتمعت عليه الخزر وغيرهم من تلك الأمم، وصار فى جموع عظيمة. فلما بلغ مسلمة الخبر أمر أصحابه فأوقدوا النيران، ثم ترك خيامهم وأثقالهم، وعاد بعسكره جريدة، وقدم الضعفة «1» وأخّر الشجعان، وطوى المراحل كلّ مرحلتين فى مرحلة حتى وصل الباب والأبواب [فى آخر رمق] «2» . وفيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط. من ناحية مرعش «3» ثم رجع. والله أعلم. (ذكر غزو مروان بن محمد بلاد الترك) ودخوله إلى بلاد ملك السّرير وغيرها من بلادهم وما افتتحه وقرره وصالح عليه الملوك وفى سنة [114] أربع عشرة استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية. وسبب ذلك أنه كان فى عسكر مسلمة بن عبد الملك حين غزا الخزر، فلما عاد مسلمة- كما تقدّم- سار مروان إلى هشام فلم يشعر به

حتى دخل عليه، فسأله عن سبب قدومه، فقال: ضقت ذرعا بما أذكره، ولم أر من يحمله غيرى. قال: وما هو؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه كان من دخول الخزر إلى بلاد الإسلام وقتل الجراح وغيره ما دخل به الوهن على المسلمين. ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجّه أخاه مسلمة إليهم، فو الله ما وطىء من بلادهم إلّا أدناها، ثم إنه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك، فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب، وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر، فاستعدّ القوم وحشدوا، فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية، فكان قصاراه السّلامة، وقد أردت أن تأذن لى فى غزوة أذهب بها عنّا العار، وأنتقم من العدو. قال: قد أذنت لك. قال: وتمدنى بمائة ألف وعشرين ألف مقاتل؟ قال: قد فعلت. قال: وتكتم هذا الأمر عن كل أحد؟ قال: قد فعلت. وقد استعملتك على إرمينية. فودّعه وسار إلى إرمينية واليا عليها وسيّر إليه هشام الجنود [من الشام والعراق والجزيرة، فاجتمع عنده من الجنود] «1» والمتطوّعة مائة ألف وعشرون ألفا، فأظهر أنه يريد غزو اللّان، وأرسل إلى ملك الخزر يطلب منه المهادنة، فأجابه إلى ذلك، وأرسل «2» إليه من يقرر الصلح، فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه، وأحضره، ثم أغلظ لهم فى القول وآذنهم بالحرب، وسيّر الرسول إلى صاحبه بذلك، ووكل به من يسير به

على طريق فيه بعد، وسار هو فى أقرب الطّرق، فما وصل الرسول إلى صاحبه إلّا ومروان قد وافاهم بالجنود، فاستشار ملك الخزر أصحابه، فقالوا: إنّ هذا قد جمع ودخل بلادك، فإن أقمت إلى أن تجمع لم يجتمع جندك إلى مدّة، فيبلغ منك ما يريد، وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك، والرأى أن تتأخّر إلى أقصى بلادك، وتدعه وما يريد. فقبل رأيهم وسار ودخل مروان البلاد، وأوغل فيها، وأخربها، وغنم وسبى، وانتهى إلى آخرها، وأقام فيها عدّة أيام أذلّهم، ودخل بلاد ملك السّرير، فأوقع بأهلها، وفتح قلاعا، ودان له الملك، وصالحه على ألف رأس: خمسمائة غلام، وخمسمائة جارية سود الشعور «1» ، ومائة ألف مدى تحمل إلى الباب، وصالح أهل تومان «2» ، على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مدى «3» ، ثم دخل أرض زديكران «4» ، فصالحه ملكها، ثم أتى أرض حمزين، فأبى حمزين أن يصالحه، فحصرهم، وافتتح حصنهم، ثم أتى سغدان «5» ، فافتتحها صلحا، ووظف على طبر سرانشاه «6» عشرة آلاف مدى كلّ سنة تحمل إلى الباب؛ ثم

وفى سنة [115 هـ] خمس عشرة ومائة غزا معاوية بن هشام أرض الروم.

نزل على قلعة صاحب الّلكز «1» وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج ملك الّلكز يريد ملك الخزر، فقتله راع بسهم وهو لا يعرفه، فصالح أهل الّلكز مروان، واستعمل عليهم عاملا وسار إلى قلعة شروان «2» وهى على البحر، فأذعن له بالطاعة، وسار إلى الدّوادانيّة، فأوقع بهم، ثم عاد. وغزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، فأصاب ربض أقرن. وفيها التقى عبد الله البطّال هو وقسطنطين فى جموع، فهزمهم البطّال وأسر قسطنطين. وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى، فبلغ قيسارية. وفى سنة [115 هـ] خمس عشرة ومائة غزا معاوية بن هشام أرض الروم. وغزا أيضا الصائفة فى سنة [116 هـ] ست عشرة. وفى سنة [117 هـ] سبع عشرة غزا معاوية «3» بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرّق سراياه فى أرض الروم. وبعث مروان بن محمد، وهو على إرمينية بعثين؛ فافتتح أحدهما

وفى سنة [118 هـ] ثمان عشرة [ومائة] غزا معاوية وسليمان ابنا هشام بن عبد الملك أرض الروم.

حصونا ثلاثة من الّلان، ونزل الآخر على تومان شاه، فنزل أهلها على الصّلح. وفى سنة [118 هـ] ثمان عشرة [ومائة] «1» غزا معاوية وسليمان ابنا هشام بن عبد الملك أرض الروم. وغزا مروان بن محمد من إرمينية، ودخل أرض ورتيس «2» ، من ثلاثة أبواب، فهرب ورتيس إلى الخزر، وترك حصنه، فحصره مروان، ونصب عليه المجانيق، واتفق قتل ورتيس، قتله بعض من اجتاز به، وأرسل رأسه إلى مروان، فنصبه لأهل حصنه، فنزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة ... (ذكر ظفر المسلمين بالترك وقتل خاقان ملك الترك) وفى سنة [119 هـ] تسع عشرة ومائة كانت الحرب بين أسد ابن عبد الله القسرى أمير خراسان وبين خاقان ملك التّرك. وسبب ذلك أنّ الحارث بن سريج كان قد خلع بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين، وولى أسد خراسان على ما نذكره إن شاء الله، فكتب الحارث إلى خاقان يعلمه بضعف أسد وقلّة أصحابه، ويستدعيه لحربه. فأقبل خاقان، وقطع النّهر إلى بلخ، فلقيه أسد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظفر المسلمون بالتّرك، وهزموهم أقبح هزيمة، وغنموا

أموالهم وخيولهم وأثقالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأراد خصىّ لخاقان حمل امرأة خاقان فأعجلوه فقتلها، ومضى خاقان إلى طخارستان ثم إلى بلاده. وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون، واستعدّ لغزو المسلمين، فلاعب خاقان يوما كور صول بالنّرد على خطر، فتنازعا، فضرب كور صول يد خاقان فكسرها وتنحّى عنه، وجمع جمعا، وبلغه أنّ خاقان قد حلف ليكسرنّ يده؛ فبيّت خاقان فقتله، وتفرّقت الترك واشتغلوا بأنفسهم، وأرسل أسد إلى هشام بن عبد الملك يخبره بالفتح وبقتل خاقان، فلم يصدق ذلك. وأرسل «1» مبشّرا آخر فوقف على باب هشام وكبّر، فأجابه هشام بالتكبير. فلما انتهى إليه أخبره بالفتح، فسجد شكرا لله تعالى. وفيها غزا أسد بن عبد الله أمير خراسان الختّل «2» ، فقتل بدر طرخان [ملك الختّل] «3» ، وغلب على القلعة العظمى، وفرّق عساكره فى أودية الختّل، فملئوا أيديهم من الغنائم والسبى. وهرب أهلها إلى الصين. وغزا الوليد بن القعقاع أرض الروم. وغزا مروان بن محمد من إرمينية فدخل بلاد الّلان، وسار فيها

وفى سنة [120 هـ] عشرين ومائة غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة.

حتى خرج منها إلى بلاد الخزر، فمرّ ببلنجر وسمندر «1» ، وانتهى إلى البيضاء التى يكون فيها خاقان، فهرب خاقان منه. وفى سنة [120 هـ] عشرين ومائة غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة. وغزا إسحاق بن مسلم العقيلى تومان شاه وافتتح قلاعه وخرّب أرضه. (ذكر غزوات نصر بن سيار ماوراء النهر) وفى سنة [121 هـ] إحدى وعشرين ومائة غزا نصر بن سيّار ماوراء النهر مرّتين: إحداهما من نحو الباب الجديد، فسار «2» من بلخ، ثم رجع إلى مرو، فخطب الناس، وأخبرهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبى الخرقاء على كشف المظالم، وأنه قد وضع الجزية عمّن أسلم، وجعلها على من كان يخفّف عنه من المشركين، فلم تمض جمعة «3» حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدّون الجزية عن رءوسهم، وثمانون «4» ألفا من المشركين كانت الجزية قد وضعت عنهم، فحوّل ما كان على المسلمين عليهم، ثم صنّف الخراج ووضعه مواضعه. ثم غزا الثانية إلى ورغسر «5» وسمرقند.

ثم غزا الثالثة إلى شاش من مرو، فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول فى خمسة عشر ألفا، وكان معهم الحارث بن سريج «1» ، وعبر كورصول فى أربعين رجلا فبيّت العسكر فى ليلة مظلمة، ومع نصر بخارى خذاه فى أهل بخارى، ومعه أهل سمرقند وكشّ ونسف، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر: ألا لا يخرجنّ أحد، واثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير- وهو على جند سمرقند- فمرّت به خيل الترك، فحمل على رجل فى آخرهم فأسره، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة، فأتى به إلى نصر، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول. قال: الحمد لله الذى أمكن منك يا عدوّ الله. قال: ما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك أربعة آلاف بعير من إبل الترك وألف برذون تقوّى به جندك، وتطلق سبيلى. فاستشار نصر الناس، فأشاروا بإطلاقه، فسأله عن عمره قال: لا أدرى. قال: كم غزوت؟ قال: ثنتين وسبعين غزاة. قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم. قال: لو أعطيتنى ما طلعت عليه الشمس ما أفلتّ من يدى بعد ما ذكرت من مشاهدك. وقال لعاصم بن عمير السغدى «2» : قم إلى سلبه فخذه. فقال: من أسرنى؟ قال: نصر- وهو يضحك- أسرك يزيد بن قرّان «3» الحنظلى، وأشار إليه. قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه، أو لا يستطيع أن يتم بوله، فكيف يأسرنى؟ أخبرنى من أسرنى؟ قال:

أسرك عاصم بن عمير. قال: لست أجد ألم «1» القتل إذا أسرنى فارس من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطىء النهر، فلما قتل أحرقت الترك أبنيته، وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم. فلما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه، فكان ذلك أشدّ عليهم من قتله. وارتفع إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس. وكتب يوسف ابن عمر الثقفى عاهل العراقين إلى نصر بن سيّار يأمره بالمسير إلى الشاش «2» لقتال الحارث بن سريج، فاستعمل نصر يحيى بن حصين على مقدمته، فسار إلى الشاش، فأتاهم الحارث، وأغار الأخرم، وهو فارس الترك، على المسلمين فقتلوه، وألقوا رأسه إلى الترك، فصاحوا وانهزموا، وسار نصر إلى الشاش فتلقّاه ملكها بالصلح والهديّة والرّهن، فاشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب «3» ، واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وكانوا قد علموا بمجيئة، فأحرقوا الحشيش، وقطعوا الميرة، فوجّه نصر إلى ولى عهد صاحب فرغانة فحاصره فى حصن، فخرج وقد غفل المسلمون فغنم دوابّهم، فوجّه إليهم نصر رجالا من تميم، ومعهم محمد بن المثنى، فكايدهم

المسلمون وأهملوا دوابهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدّهقان وأسروا منهم، فكان فيمن أسر ابن الدّهقان، فقتله نصر. وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب الصّلح إلى صاحب فرغانة، فأمر به فأدخل الخزائن ليراها، ثم رجع إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قال: سهلا كثير الماء والمرعى، فكره ذلك، وقال: ما أعلمك؟ فقال سليمان: قد غزوت غرشتان «1» وغور والختّل وطبرستان، فكيف لا أعلم؟ قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قال: عدّة حسنة، ولكن أما علمت أنّ المحصور لا يسلم من خصال؟ [قال: وما هن؟ قال:] «2» لا يأمن أقرب الناس إليه، وأوثقهم فى نفسه، أو يفنى ما جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت. فكره ما قاله له، وأمره فأحضر كتاب الصلح، فأجاب إليه، وسير أمّه معه، وكانت صاحبة أمره، فقدمت على نصر فكلّمها فكلمته، وكان فيما قالت [له] «3» : كلّ ملك لا تكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يبثّ إليه ما فى نفسه، ويشاوره ويثق بنصيحته. وطبّاخ إذا لم يشته الطعام اتّخذ له ما يشتهى، وزوجة إذا دخل عليها مغتمّا فنظر إلى وجهها زال غمّه،

ذكر غزو مروان بن محمد بن مروان

وحصن إذا فزع أتاه فأنجاه- تعنى البرذون- وسيف إذا قاتل لم يخش خيانته. وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض. ودخل تميم بن نصر فى جماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان تميم بن نصر. قالت: ما له نبل الكبير، ولا حلاوة الصغير. ثم دخل الحجاج بن قتيبة، فقالت: من هذا؟ قالوا: الحجاج بن قتيبة، فحيّته، وسألت عنه، وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء، ولا يصلح بعضكم لبعض، قتيبة الذى ذلّل لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك، فحقّه «1» أن تجلسه أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه. ذكر غزو مروان بن محمد بن مروان وفى سنة [121 هـ] إحدى وعشرين أيضا غزا مروان بن محمد من إرمينية وهو واليها، فأتى قلعة بيت السّرير فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية «2» فقتل وسبى، ودخل غرمسك «3» ، وهو حصن فيه بيت الملك وسريره، فهرب الملك منه إلى حصن خيزج «4» ، وهو الذى فيه السرير الذهب، فسار إليه مروان ونازله صيفة وشتوة «5» ، فصالحه الملك على ألف رأس فى كل سنة، ومائة ألف

وفى سنة [124 هـ] أربع وعشرين غزا سليمان بن هشام الصائفة

مدى، وسار مروان فدخل أرض أرزو بطران «1» ، فصالحه ملكها. ثم سار فى أرض تومان فصالحه وسار حتى أتى حمزين، فأخرب بلاده، وحصر حصنا له شهرا فصالحه. ثم أتى مروان أرض مسدار «2» ، فافتتحها على صلح، ثم نزل كيران «3» فصالحه طبرسران «4» وفيلان، وكلّ هذه الولايات على شاطىء البحر من أرمينية إلى طبرستان. وفيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير. وفى سنة [124 هـ] أربع وعشرين غزا سليمان بن هشام الصائفة فلقى أليون ملك الروم فغنم. هذا ما أمكن إيراده من الغزوات والفتوحات فى أيام هشام فلنذكر حوادث السنين فى أيامه. سنة (106 هـ) ست ومائة: ذكر ولاية أسد خراسان فى هذه السنة استعمل خالد بن عبد الله القسرى أخاه أسدا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد بفرغانة، فلما أتى أسد النهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبيد التميمى؛ وكان على السفن

بامل، وقال: قد نهيت عن ذلك، فأعطاه ولاطفه، فأبى. قال: فإنى أمير، فأذن له، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه فى أمانتنا. وأتى الصّغد فنزل بالمرج، وعلى سمرقند هانىء بن هانىء، فخرج فى الناس للقاء أسد، فرآه على حجر، فقال «1» الناس: ما عند هذا خير، أسد على حجر، ودخل سمرقند وعزل هانئا عنها، واستعمل عليها الحسن بن أبى العمرّطة «2» الكندى، ثم كان من عزل أسد ما نذكره إن شاء الله. وفيها استعمل هشام الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم ابن أبى العاص بن أمية على الموصل، وهو الذى عمل النّهر الذى كان بالموصل. وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرّة فيها ماء، وهى تحملها ساعة ثم تستريح قليلا لبعد الماء، فكتب بذلك إلى هشام، فأمره أن يحفر نهرا إلى البلد، فحفره، وبقى العمل فيه عدّة «3» سنين ومات الحرّ سنة (113 هـ) ثلاث عشرة ومائة. وفى سنة ست أيضا عزل هشام عبد الواحد النّضرى عن مكّة والمدينة والطائف، وولّى ذلك كله «4» إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فقدم المدينة فى جمادى الآخرة. وكانت ولاية النّضرى سنة وثمانية أشهر.

سنة (107 هـ) سبع ومائة:

[وفيها] «1» استقضى إبراهيم بن هشام على المدينة محمد بن صفوان الجمحى «2» ، ثم عزله، واستقضى الصّلت الكندىّ، وكان العامل على العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسرى البجلى، وكان عامل خالد على البصرة عقبة بن عبد الأعلى على الصلاة. وعلى الشرطة مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى القضاء ثمامة بن عبد الله بن أنس. وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن عبد الملك. سنة (107 هـ) سبع ومائة: فى هذه السنة كان من خبر دعاة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة العبّاسية. وفيها عزل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمى عن إرمينية وأذربيجان، واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فاستعمل عليها الحارث بن عمرو الطائى، فافتتح من بلاد الترك رستاقا وقرى كثيرة، وأثّر أثرا حسنا. وفيها نقل أسد من كان بالبروقان «3» إلى بلخ من الجند، وأقطع من كان بالبروقان بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له:

سنة (108 هـ) ثمان ومائة:

إنهم يتعصّبون؛ فخلّى بينهم، وتولّى بناء مدينة بلخ برمك، وهو أبو خالد بن برمك، وبينها وبين البروقان فرسخان. وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام. سنة (108 هـ) ثمان ومائة: فى هذه السنة كان من خبر شيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها وقع الحريق بدابق، فاحترق المرعى والدوابّ والرجال. وفيها خرج عبّاد الرّعينى «1» باليمن محكّما فقتله أميرها يوسف بن عمرو «2» ، وقتل أصحابه وكانوا ثلاثمائة. وحج بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام. وفيها مات محمد بن كعب القرظى، وقيل سنة سبع عشرة. وقيل: إنه ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. سنة (109 هـ) تسع ومائة: فى هذه السنة عزل أسد بن عبد الله القسرى عن خراسان، وسبب ذلك أنه ضرب نصر بن سيار ونفرا بالسياط، منهم عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحرّ والبخترى بن أبى درهم، وعامر بن مالك الحمّانى، وحلقهم وسيّرهم هو إلى أخيه، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بى. فلما قدموا على خالد لام أسدا وعنّفه، وقال: ألا بعث إلىّ بروءسهم. وخطب أسد يوما، فقال: قبّح الله هذه الوجوه وجوه

سنة (110 هـ) عشرة ومائة:

أهل الشقاق والنّفاق والشّغب والفساد، اللهم فرّق بينى وبينهم، وأخرجنى إلى مهاجرى ووطنى. فبلغ فعله هشام بن عبد الملك، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله، فرجع إلى العراق فى رمضان من السنة، واستخلف على على خراسان الحكم بن عوانة الكلبى، فأقام الحكم صيفيته فلم يغز، ثم استعمل هشام أشرس بن عبد الله السلمى على خراسان، وأمره أن يكاتب خالدا، وكان أشرس فاضلا خيّرا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله. فلما قدم خراسان فرح الناس به، واستقضى أبا المنازل الكندى، ثم عزله واستقضى محمد بن يزيد. وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس، فقال: سلونى، فإنكم لا تسألون أحدا أعلم منى، فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هى؟ فما درى ما يقول: فنزل. سنة (110 هـ) عشرة ومائة: فيها جمع خالد القسرى الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبى بردة، وعزل ثمامة عن القضاء. وحجّ بالناس إبراهيم بن إسماعيل. وفيها مات الفرزدق الشاعر، وله إحدى وتسعون سنة. ومات جرير بن الخطفى الشاعر.

سنة (111 هـ) إحدى عشرة ومائة:

سنة (111 هـ) إحدى عشرة ومائة: فى هذه السنة كان عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد ابن عبد الرحمن؛ وقد تقدم ذكر ذلك فى الغزوات. وفيها استعمل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمى على إرمينية، وعزل أخاه مسلمة كما تقدم. وحج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومى. سنة (112 هـ) ثنتى عشرة ومائة: حج بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومى. وقيل سليمان بن هشام بن عبد الملك. والله أعلم. سنة (113 هـ) ثلاث عشرة ومائة: فى هذه السنة قتل عبد الوهاب ابن بخت «1» ، وكان قد غزا مع البطّال أرض الرّوم، فانهزم الناس عن البطّال، فحمل عبد الوهاب، وهو يقول: ما رأيت فرسا أجبن منك، وسفك الله دمى إن لم أسفك دمك، ثم ألقى بيضته عن رأسه، وصاح: أنا عبد الوهاب! من الجنّة تفرّون! ثم تقدم فى نحو العدو، فجاء برجل وهو يقول: واعطشهاه! فقال: تقدم، الرّىّ أمامك، وخالط القوم فقتل وقتل فرسه. وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل إبراهيم بن هشام المخزومى، والله أعلم. سنة (114 هـ) أربع عشرة ومائة: فى هذه السنة كانت ولاية مروان بن محمّد بن مروان إرمينية وأذربيجان، وقد تقدم ذكر ذلك فى الغزوات.

سنة (115 هـ) خمس عشرة ومائة:

وفيها عزل هشام إبراهيم بن هشام المخزومى عن المدينة، واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم فى ربيع الأول، فكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثمانى سنين، وعزله أيضا عن مكّة والطائف، واستعمل على ذلك محمد بن هشام المخزومى. وحجّ بالناس خالد بن عبد الملك بن الحارث وقيل: محمد ابن هشام. وفيها توفى محمد بن على بن الحسين الباقر. وقيل سنة خمس عشرة. سنة (115 هـ) خمس عشرة ومائة: حجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام المخزومى، وكان الأمير بخراسان الجنيد. وقيل: بل كان قد مات، واستخلف عمارة بن خريم المرّى. [والله أعلم] «1» . سنة (116 هـ) ست عشرة ومائة: فى هذه السنة عزل الجنيد عن خراسان. وسبب ذلك أنه تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام؛ واستعمل عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالى على خراسان، وكان الجنيد قد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه. فقدم عاصم وقد مات الجنيد، واستخلف عمارة بن خريم وهو ابن عمه، فعذّبه عاصم، وعذّب عمال الجنيد لعداوة كانت بينه وبين الجنيد ...

ذكر خلع الحارث بن سريج بخراسان

ذكر خلع الحارث بن سريج «1» بخراسان وما كان من أمره وفى هذه السنة خلع الحارث بن سريج وأقبل إلى الفارياب «2» فأرسل إليه عاصم رسلا. منهم مقاتل بن حيّان النّبطى، والخطاب ابن محرز السلمى، فقالا لمن معهما: لا نلقى الحارث إلّا بأمان، فأبى القوم عليهما وأتوه، فأخذهم الحارث وحبسهم، ووكل بهم رجلا فأوثقوه، وخرجوا من السجن، فركبوا وعادوا إلى عاصم، فأمرهم فخطبوا وذمّوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدره، وكان الحارث قد لبس السّواد، ودعا إلى كتاب الله وسنّة نبيه والبيعة للرضا، فسار من الفارياب، وأتى بلخ، وعليها «3» نصر بن سيار والتّجيبى، فلقياه فى عشرة آلاف وهو فى أربعة آلاف، فقاتلهما، فانهزم أهل بلخ. وتبعهم الحارث، فدخل مدينة بلخ، وخرج نصر بن سيّار منها، وأمر الحارث بالكف عنهم، واستعمل عليها رجلا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الرّوذ. فلما كان بالجوزجان استشار أصحابه فى أى بلد يقصد. فقيل له: مرو بيضة خراسان وفرسانهم كثير، ولو لم يلقوك إلا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم، فإن أتوك فقاتلهم، وإن أقاموا قطعت المادّة عنهم.

قال: لا أرى ذلك؛ وسار إلى مرو، فأقبل إليها يقال فى ستين ألفا، ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم محمد بن المثنّى، وحمّاد ابن عامر الحمّانى، وداود الأعسر، وبشر بن أنيف الرياحىّ، وعطاء الدبوسى. ومن الدهاقين دهقان الجوزجان، ودهقان الفارياب «1» ، وملك الطالقان ودهقان مرو الرّوذ فى أشباههم، وخرج عاصم فى أهل مرو وغيرهم، فعسكر وقطع القناطر، وأقبل أصحاب الحارث فأصلحوها، فمال محمد بن المثنّى الفراهيدى الأزدى إلى عاصم فى ألفين، فأتى الأزد، ومال حمّاد بن عامر الحمّانى إليه، فأتى بنى تميم، وأتى الحارث وعاصم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق منهم بشر كثير، فى أنهار مرو وفى النّهر الأعظم؛ ومضت الدهاقين إلى بلادهم، وغرق خازم «2» بن عبد الله بن خازم، وكان مع الحارث. وقتل أصحاب الحارث قتلا ذريعا، وقطع الحارث وادى مرو، فضرب رواقا عند منازل الدّهاقين، وكفّ عنه عاصم «3» ؛ واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، ثم كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عزل هشام عبد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر، واستعمله على إفريقية. وقيل: كان ذلك فى سنة [117 هـ] سبع عشرة ومائة. وحجّ بالناس فى هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك. والله أعلم.

سنة (117 هـ) سبع عشرة ومائة:

سنة (117 هـ) سبع عشرة ومائة: ذكر عزل عاصم عن خراسان وولاية أسد وخبر الحارث بن سريج فى هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمّها إلى خالد بن عبد الله القسرى أمير العراقين، فاستعمل عليها خالد أخاه أسد بن عبد الله. وكان سبب ذلك أنّ عاصما كتب إلى هشام: أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى العراق «1» وتكون معونتها وموادها «2» من قريب، لتباعد أمير المؤمنين [عنها] «3» وتباطىء غياثه [عنها] «4» ، فضمّ هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله، وكتب إليه: ابعث أخاك يصلح ما أفسد؛ فإن كانت رجية كانت به. فسيّر خالد [إليها] «5» أخاه أسدا، فلما بلغ عاصم إقبال أسد، وأنه قد بعث على مقدمته محمد بن مالك الهمدانى صالح الحارث ابن سريج، وكتبا بينهما كتابا، على أن ينزل الحارث أىّ كور خراسان شاء، وأن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه كتاب الله وسنّة نبيه، فإن أبى اجتمعا عليه. فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وأبى يحيى بن حضين بن المنذر أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين فانفسح ذلك.

وكان عاصم بقرية بأعلى مرو؛ فأتاه الحارث بن سريج فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الحارث، وأسر جماعة من أصحابه، منهم: عبد الله بن عمرو المازنى رأس أهل مرو الرّوذ، فقتل عاصم الأسرى، وعظّم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع فى نقض الكتاب، وكتبوا كتابا بما كان وبهزيمة الحارث وبعثوه إلى أسد، فلقيه بالرّى وقيل ببيهق «1» . فكتب أسد إلى أخيه خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى، فأجاز خالد يحيى بعشرة آلاف دينار ومائة حلّة، وحبس أسد عاصما وحاسبه وطلب منه مائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز، وأطلق عمّال الجنيد، وقدم أسد ولم يكن لعاصم إلا مرو ونيسابور، والحارث بمرو الرّوذ، وخالد بن عبيد الله الهجرىّ بآمل موافق للحارث، فخاف أسد إن قصد الحارث بمرو الرّوذ أن يأتى الهجرى مرو من قبل آمل، وإن قصد الهجرى قصد الحارث مرو من قبل مرو الروذ، فأجمع رأيه على توجيه عبد الرحمن بن نعيم فى أهل الكوفة والشام إلى الحارث بمرو الروذ، وسار أسد بالناس إلى آمل، فلقيه خيل آمل؛ عليهم زياد القرشى مولى حيّان النبطى وغيره، فهزموا حتى رجعوا إلى المدينة، فحصرهم أسد، ونصب عليهم المجانيق؛ فطلبوا الأمان، وطلبوا كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وألّا يؤخذ أهل المدن بجنايتهم، فأجابهم أسد إلى ذلك، واستعمل عليهم يحيى ابن نعيم بن هبيرة الشيبانى؛ وسار يريد بلخ، فأخبر أنّ أهلها قد

بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم، فسار حتى قدمها، واتّخذ سفنا، وسار منها إلى ترمذ، فوجد الحارث محاصرا لها، وبها سنان الأعرابى، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق العبور إليهم، ولا أن يمدّهم، وخرج أهل ترمذ من المدينة، وقاتلوا الحارث قتالا شديدا، فاستطرد الحارث لهم، وكان قد وضع كمينا، فلما جاوزوه خرج عليهم، فانهزموا. ثم ارتحل أسد إلى بلخ، ثم خرج أهل ترمذ إلى الحارث، فهزموه ثم سار أسد إلى سمرقند فى طريق زمّ «1» ، فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيبانى وهو فى حصن من حصونها- وهو من أصحاب الحارث- فأمّنه، ووعده المواساة والكرامة والأمان لمن معه، وأقسم إنه إن ردّ ذلك ورمى بسهم ألّا يؤمّنه «2» أبدا، وإنه إن جعل له ألف ألف أمان لا يفى له. فخرج إليه وسار معه إلى سمرقند، ثم ارتفع إلى ورغسر «3» - وماء سمرقند منها- فسكر «4» الوادى، وصرفه عن سمرقند. ثم رجع إلى بلخ، فلما استقرّ بها سرّح جديعا الكرمانى إلى القلعة التى فيها ثقل الحارث وأصحابه، واسمها التبوشكان من

طخارستان العليا وفيها بنو برزى «1» التغلبيّون أصهار الحارث، فحصرهم الكرمانى حتى فتحها، وذلك فى سنة [118 هـ] ثمان عشرة، فقتل مقاتلتهم، وسبى عامّة أهلها من العرب والموالى والذّرارى، وباعهم فيمن يزيد فى سوق بلخ. قال: ونقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه، وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضى، فقال لهم الحارث: إن كنتم لا بدّ مفارقى فاطلبوا الأمان، وأنا شاهد، فإنهم يجيبونكم. وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان. فقالوا: ارتحل أنت عنا، وخلّنا. فأرسلوا يطلبون الأمان، فأخبر أسد أنّ القوم ليس لهم طعام ولا ماء، فسرّح إليهم أسد جديعا الكرمانى وستة آلاف، فحصرهم فى القلعة وقد عطش أهلها، وجاعوا، فسألوا أن ينزلوا على الحكم، ويترك لهم نساءهم وأولادهم، فأجابهم، فنزلوا على حكم أسد. فأرسل أسد إلى الكرمانى يأمره أن يحمل إليه خمسون رجلا من وجوههم، فيهم المهاجر بن ميمون، فحملوا إليه فقتلهم، وكتب إلى الكرمانى أن يجعل الذين بقوا عنده أثلاثا، فثلث يقتلهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم. ففعل ذلك بهم، وأخرج أثقالهم فباعها، واتخذ أسد مدينة بلخ دارا، ونقل إليها الدواوين، ثم غزا طخارستان. وحجّ بالناس فى سنة [117 هـ] سبع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك.

سنة (118 هـ) ثمان عشرة ومائة:

سنة (118 هـ) ثمان عشرة ومائة: فى هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها خالد بن محمد بن هشام بن إسماعيل، وحجّ بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل. وكان أمير المدينة. سنة (119 هـ) تسع عشرة ومائة: ذكر قتل المغيرة وبيان فى هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان فى ستّة نفر، وكانوا يسمون الوصفاء، وكان المغيرة ساحرا، وكان يقول: لو أردت أن أحيى عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا لفعلت. وبلغ خالد بن عبد الله القسرى خروجهم بظهر الكوفة، وهو يخطب، فقال: أطعمونى ماء، فقال يحيى بن نوفل فى ذلك من أبيات «1» : وقلت لما أصابك أطعمونى ... شرابا ثم بلت على السرير لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السنّ ليس بذى نصير فأرسل خالد فأخذهم وأمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأحرقهم بالقصب والنّفط. وكان مذهب المغيرة التجسيم؛ يقول: إن ربّه على صورة رجل على رأسه تاج، وإنّ أعضاءه على عدد حروف الهجاء، تعالى الله عن ذلك. وكان يقول: إنّ الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق تكلّم باسمه

الأعظم، فطار فوقع على تاجه، ثم كتب بإصبعه على كفّه أعمال عباده من المعاصى والطاعات، فلما رأى المعاصى ارفضّ عرقا، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما ملح مظلم، والآخر عذب نيّر، ثم اطّلع فى البحر فرأى ظلّه فذهب ليأخذه، فطار فأدركه فقلع عينى ذلك الظلّ ومحقه، فخلق من عينيه الشمس وشمسا أخرى. وخلق من البحر الملح الكفّار، وخلق من البحر العذب المؤمنين. وكان [لعنه الله «1» ] يقول بإلهية علىّ وتكفير أبى بكر وعمر وسائر الصحابة رضى الله عنهم إلّا من ثبت مع علىّ رضى الله عنه. وكان يقول: إنّ الأنبياء لم يختلفوا فى شىء من الشرائع. وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكلّ نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة. وكان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد على القبور. وأما مذهب بيان فإنه كان يقول بآلهيّة علىّ رضى الله عنه، وإنّ الحسن والحسين إلهان، ومحمد ابن الحنفية بعده، ثم بعد ابنه أبو هاشم بن محمد بنوع من التناسخ. وكان يقول: إن الله تعالى يفنى جميعه إلا وجهه، ويحتج بقوله تعالى «2» : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ . تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا. وادّعى النبوة، وزعم أنه المراد بقوله عزّ وجلّ: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ «3» .

ذكر خبر الخوارج فى هذه السنة

ذكر خبر الخوارج فى هذه السنة وفى هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقّب كثارة، وهو من الموصل من شيبان، وكان سبب مخرجه أنه خرج يريد الحجّ، فأمر غلامه أن يبتاع له خلّا بدرهم، فأتاه بخمر فأمره «1» بردّه فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك، فجاء بهلول إلى صاحب القرية وهى من السّواد، فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك. فمضى إلى الحج وقد عزم على الخروج، فلقى بمكّة من كان على مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا بها- وهم أربعون رجلا- وأمّروا عليهم البهلول، وكتموا أمرهم، وجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه أنّهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال «2» ، وأخذوا دوابّ البريد. فلما أتوا إلى القرية التى ابتاع الغلام منها الخمر قال بهلول: نبدأ بهذا العامل، فقال أصحابه: نحن نريد قتل خالد، وإن بدأنا بهذا شهر أمرنا، وحذرنا خالد وغيره، فنشدناك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذى يهدم المساجد، ويبنى البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، لعلّنا نقتله. قال: والله لا أدع ما يلزمنى لما بعده، وأرجو أن أقتل هذا وخالدا، فأتاه فقتله. فعلم الناس أنهم خوارج، وهربوا، وخرجت البرد إلى خالد فأعلموه بهم، فخرج خالد من واسط، فأتى الحيرة، وبها جند قد قدموا

من الشام مددا لعامل الهند، فأمرهم خالد بقتالهم، وقال: من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما أخذ فى الشام، وأعفيته من الدخول إلى الهند. فسارعوا إلى ذلك، فتوجّه مقدّمهم، وهو من بنى القين، ومعه ستمائة منهم، وضمّ إليه خالد مائتين من الشرط، فالتقوا على الفرات؛ فقال القينى لمن معه من الشّرط: لا تكونوا معنا «1» ليكون الظّفر له ولأصحابه. وخرج إليهم بهلول، فحمل على القينى فطعنه فأنفذه، وانهزم أهل الشام والشرط، وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم، حتى بلغوا الكوفة، ووجد بهلول مع القينى بدرة فأخذها. وكان بالكوفة ستة يرون رأى «2» بهلول، فخرجوا فقتلوا بصريفين «3» ، فخرج بهلول فقال: من قتل هؤلاء، حتى أعطيه هذه البدرة؟ فجاء نفر فقالوا: نحن قتلناهم، وهم يظنّونه من عند خالد، وصدّقهم أهل القرية، فقتلهم، وترك أهل القرية. وبلغ خالدا الخبر، فوجّه إليه قائدا من شيبان أحد بنى حوشب ابن يزيد بن رؤيم، فلقيه فيما بين الموصل والكوفة، فانهزم أهل الكوفة، فأتوا خالدا، وارتحل بهلول من يومه يريد الموصل، فكتب عامل الموصل

إلى هشام يخبره بهم، ويسأله جندا، فكتب إليه هشام: وجّه إليهم كثارة بن بشر. فكتب إليه: إنّ الخارج هو كثارة. ثم قال بهلول لأصحابه: إنّا والله ما نصنع بابن النصرانيّة شيئا- يعنى خالدا- فلم لا نطلب الرأس الذى سلّط خالدا. فسار يريد هشاما بالشام، فخاف عمّال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم، فسيّر خالد جندا من العراق، وسيّر عامل الجزيرة جندا من الجزيرة، ووجّه هشام جندا من الشام، فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول إليهم. وقيل: التقوا بكحيل «1» دون الموصل، ونزل بهلول على باب الدّير، وهو فى سبعين، فحمل عليهم فقتل منهم نفرا ستة، وقاتلهم عامّة نهاره، وكانوا عشرين ألفا، فأكثر فيهم القتل والجراح. ثم إنّ بهلولا وأصحابه عقروا دوابّهم وترجّلوا، فقاتلوا قتالا شديدا، فقتل كثير من أصحاب بهلول وطعن فصرع، فقال أصحابه: ولّ أمرنا، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيبانى، فإن هلك فعمرو اليشكرى، ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وتركهم، وخرج عمرو اليشكرى فلم يلبث أن قتل. وخرج العنزى صاحب الأشهب «2» على خالد فى ستين فوجه إليه خالد السّمط بن مسلم البجلى فى أربعة آلاف، فالتقوا بناحية

الفرات، فانهزم الخوارج، فتلقّاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. ثم خرج وزير السّختيانى على خالد بالحيرة فى نفر، فجعل لا يمرّ بقرية إلا أحرقها، ولا يلقى أحدا إلّا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال؛ فوجّه إليه خالد جندا، فقتلوا عامّة أصحابه، وأثخن بالجراح وأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، فأعجب خالد ما سمع منه، فلم يقتله وحبسه عنده. وكان يؤتى به فى الليل فيحادثه، فسعى بخالد إلى هشام. وقيل: أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال فجعله سميرا، فغضب هشام، وكتب إليه يأمره بقتله، فأخّر قتله، فكتب إليه ثانيا يذمّه ويأمره بقتله وإحراقه، فقتله وأحرقه ونفرا معه، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات وهو يقرأ «1» : «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» . وخرح الصّحارىّ بن «2» شبيب بن يزيد بناحية جبّل «3» ، وكان قد أتى خالدا يسأله «4» الفريضة، فقال له: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة؟ فمضى وندم خالد، وخاف أن يفتق عليه فتقا، فطلبه فلم يرجع إليه، وسار حتى أتى جبّل، وبها نفر من بنى تيم اللات ابن ثعلبة، فأخبرهم خبره، فقالوا: وما كنت ترجو من ابن النصرانيّة؟ كنت أولى أن تسير إليه بالسيف فتضربه به. فقال: والله ما أردت

سنة (120 هـ) عشرين ومائة:

الفريضة، وما أردت إلا التوصّل إليه لئلا ينكرنى، ثم أقتله بفلان- يعنى رجلا من الصّفريّة، كان خالد قتله صبرا. ثم دعاهم إلى الخروج معه فتبعه منهم ثلاثون رجلا، فخرج بهم، فبلغ خبره خالدا، فقال: قد كنت خفتها منه، ثم وجّه إليه جندا فلقوه بناحية المناذر «1» ، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتلوه وجميع أصحابه. وحجّ بالناس فى هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام. سنة (120 هـ) عشرين ومائة: فى هذه السنة توفى أسد بن عبد الله القسرى أمير خراسان فى شهر ربيع الأول بمدينة بلخ، واستخلف جعفر بن حنظلة البهرانى فعمل أربعة أشهر، ثم جاء عهد نصر بن سيار فى شهر رجب من السنة. ذكر عزل خالد بن عبد الله القسرى وولاية يوسف بن عمر الثّقفى وفى هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالدا عن جميع أعماله. وقد اختلف فى سبب ذلك، فقيل: إن أبا المثنى فرّوخ كان على ضياع هشام بنهر الرّمّان «2» بالعراق فثقل على خالد أمره، فقال خالد لحسّان النّبطى: اخرج إلى هشام وزد على فرّوخ. ففعل حسّان ذلك وتولّاها، فصار حسّان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يؤذيه، فيقول له حسان: لا تفسدنى، وأنا صنيعتك، فأبى إلا أذاه، فلما قدم

عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج حسّان إلى هشام، فقال له: إنّ خالدا بثق البثوق على ضياعك، فوجّه هشام من ينظر إليها. وقال حسان «1» لخادم من خدم هشام: إن تكلّمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك عندى ألف دينار. قال: فعجلها فأعطاه، وقال له: تبكّى صبيا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت، فكأنك ابن خالد الذى غلّته عشرة آلاف «2» ألف. ففعل الخادم، فسمعها هشام، فسأل حسان «3» عن غلّة خالد فقال: ثلاثة عشر ألف ألف، فوقرت فى نفس هشام. وقيل: بل كانت غلّته عشرين ألف ألف، وإنه حفر بالعراق الأنهار، ومنها نهر «4» خالد وناجوى «5» وبارمانا، والمبارك «6» والجامع، وكورة سابور، والصلح، وكان كثيرا ما يقول: إنّى مظلوم ما تحت قدمى شىء إلّا وهو لى- يعنى أن عمر جعل لبجيلة ربع [خمس] «7» السواد، وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال بن أبى بردة بعرض أملاكه على هشام ليأخذ منها ما أراد، ويضمنان له الرّضا، فإنهما بلغهما تغيّر هشام عليه، فلم يفعل ولم يجبهم إلى شىء. وقيل لهشام: إنّ خالدا قال لولده: ما أنت بدون مسلمة بن هشام، وقد كان يذكر هشاما، فيقول: ابن الحمقاء.

وكان خالد يخطب فيقول: زعمتم أنى أغلى أسعاركم فعلى من يغليها لعنة الله. وكان هشام كتب إليه لا تبيعنّ من الغلّات شيئا حتى تباع غلّات أمير المؤمنين. وكان يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك ابن أمير المؤمنين؟ فبلغ ذلك كلّه هشاما، فتنكّر له، وبلغه أنه يستقلّ ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يابن أمّ خالد، بلغنى أنك تقول: ما ولاية العراق لى بشرف. يابن «1» اللخناء، كيف لا تكون ولاية العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة! أما والله إنى لأظنّ أنّ أوّل من يأتيك صغير «2» من قريش يشدّ يديك إلى عنقك. ولم يزل يبلغه عنه ما يكره، فعزم على عزله وكتم ذلك، وكتب إلى يوسف بن عمر- وهو باليمن يأمره أن يقدم فى ثلاثين من أصحابه إلى العراق، فقد ولّاه ذلك. فسار يوسف إلى الكوفة فعرّس «3» قريبا منها، وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده، فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، فمرّ بيوسف بعض أهل العراق فسألوه ما أنتم؟ وأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع؛ فأتوا طارقا فأخبروه خبرهم، وأمروه بقتلهم، وقالوا: إنهم خوارج. وسار يوسف إلى دور ثقيف. فقيل لهم: ما أنتم؟ فكتموا

حالهم. وأمر يوسف فجمع إليه من هناك من مضر، فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر، وأمر المؤذّن فأقام الصلاة. فصلّى، وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما وإنّ القدور لتغلى. وقيل: لما أراد هشام أن يولّى يوسف العراق كتم ذلك، فقدم جندب مولى يوسف بكتاب يوسف إلى هشام، فقرأه ثم قال لسالم مولى عنبسة- وهو على الدّيوان: أجبه عن لسانك، وأتنى بالكتاب. وكتب هشام بخطّه كتابا صغيرا إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق. فكتب سالم الكتاب وأتاه «1» به، فجعل كتابه فى وسطه وختمه، ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزّقت ثيابه، ودفع إليه الكتاب، فسار وارتاب بشير بن أبى ثلجة «2» وكان خليفة سالم، وقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق. فكتب إلى عياض- وهو نائب سالم بالعراق: إنّ أهلك قد بعثوا إليك بالثّوب اليمانى: فإذا أتاك فالبسه، واحمد الله تعالى. وأعلم ذلك طارقا. فأعلم عياض طارق بن أبى زياد بالكتاب، ثم ندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض: إنّ أهلك قد بدا لهم فى إمساك الثوب. فأتى عياض بالكتاب الثانى إلى طارق، فقال طارق: الخبر فى الكتاب الأول، ولكن بشيرا ندم وخاف أن يظهر الخبر. وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فرآه داود،

وكان على حجابة خالد وديوانه، فأعلم خالدا فأذن له، فلما رآه قال: ما أقدمك بغير إذن؟ قال: أمر كنت أخطأت فيه، كنت قد كتبت إلى الأمير أعزّيه بأخيه أسد، وإنما كان يجب أن آتيه ماشيا، فرقّ خالد ودمعت عيناه، فقال: ارجع إلى عملك. فأخبره الخبر لمّا غاب داود «1» ؛ قال: فما الرّأى؟ قال: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك. قال: لا أفعل ذلك بغير إذن. قال: فترسلنى إليه حتى آتيك بإذنه. قال: ولا هذا. قال: فاضمن لأمير المؤمنين جمع ما انكسر فى هذه السنين وآتيك بعهده. قال: وكم مبلغه؟ قال: مائة ألف ألف. قال: ومن أين أجدها؟ والله ما أجد عشرة آلاف ألف درهم. قال: أتحمّل أنا وفلان وفلان. قال: إنى إذا للئيم، أن كنت أعطيتكم شيئا وأعود فيه. قال طارق: إنما نقيك ونقى أنفسنا بأموالنا، ونستأنف الدّنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجىء من يطالبنا بالأموال. وهى عند أهل الكوفة فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد، فودّعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقى فى الدنيا، ومضى إلى الكوفة، وخرج خالد إلى الحمّة «2» ، وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال: أمير المؤمنين: ساخط عليك، وقد ضربنى، ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان، فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطّه بولاية العراق، ويأمره أن يأخذ ابن النّصرانية-

يعنى خالدا وعمّاله- فيعذّبهم، فأخذه ليلا، وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصّلت، فقدم الكوفة فى جمادى الآخرة سنة [120 هـ] عشرين ومائة، فنزل النّجف، وأرسل مولاه كيسان، وقال: انطلق فأتنى بطارق، فإن قبل فاحمله على إكاف «1» ، وإن لم يقبل فأت به سحبا، فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسيح سيّد أهلها إلى طارق، فقال له: إنّ يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك. فقال له طارق: إن أراد الأمير المال أعطيته ما شاء. وأقبلوا به إلى يوسف بالحيرة، فضربه ضربا مبرّحا يقال خمسمائة سوط. ودخل الكوفة، وأرسل إلى خالد بالحمّة. فأخذه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد على سبعة آلاف ألف، فقيل ليوسف: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف، فندم، وقال: قد رهنت لسانى معه، ولا أرجع. وأخبر أصحاب خالد خالدا، فقال: قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود. ارجعوا، فرجعوا، فأخبروه أن خالدا لم يرض. فقال: قد رجعتم؟ قالوا: نعم. قال: والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها، فأخذ أكثر من ذلك. وقيل: أخذ مائة ألف ألف، وحبس خالد بن عبد الله بالحيرة ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد.

وكتب يوسف إلى هشام يستأذنه فى تعذيبه، فأذن له مرّة واحدة، فعذّبه ثم رده إلى حبسه. وقيل: بل عذّبه عذابا كثيرا، وأمر هشام بإطلاقه فى شوال سنة [121 هـ] إحدى وعشرين ومائة، فأطلقه فأتى القرية التى بإزاء الرّصافة، فأقام بها إلى صفر سنة اثنتين وعشرين. وخرج زيد بن على بن الحسين [رضى الله عنهم] «1» على ما نذكره إن شاء الله. فكتب يوسف إلى هشام: إنّ بنى هاشم كانوا قد هلكوا جوعا، فكانت همّة أحدهم قوت عياله، فلما ولى خالد العراق أعطاهم الأموال، فطمحت أنفسهم إلى الخلافة، وما خرج زيد إلّا عن رأى خالد. فقال هشام: كذب يوسف، وضرب رسوله، وقال: لسنا نتّهم خالدا فى طاعة. وسمع خالد، فسار حتى نزل دمشق، ثم كان من أمره ومقتله ما نذكره إن شاء الله فى سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة فى أيام الوليد، وكانت ولاية خالد العراق فى شوال سنة [105 هـ] خمس ومائة، وعزل فى جمادى الآخرة سنة عشرين. قال: ولما ولى يوسف العراق كان الإسلام ذليلا والحكم إلى أهل الذمّة، فقال يحيى بن نوفل فيه «2» : أتانا وأهل الشّرك أهل زكاتنا ... وحكامنا فيما نسرّ ونجهر فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتّى كل واد منوّر وحتى رأينا العدل فى الناس ظاهرا ... وما كان من قبل العقيلىّ يظهر

سنة (121 هـ) إحدى وعشرين ومائة:

وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومى. وقيل: حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: أخوه يزيد بن هشام، والله أعلم. سنة (121 هـ) إحدى وعشرين ومائة: فى هذه السنة كان ظهور زيد بن على بن الحسين بن على [رضى الله عنهم «1» ] على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من آل أبى طالب، فقتل دونها وهو فى السّفر الثالث والعشرين من كتابنا هذا. وفيها فرغ الوليد بن بكير عامل الموصل من حفر النهر الذى أدخله البلد، وكان مبلغ النفقة عليه ثمانية آلاف ألف درهم، وجعل عليه ثمانين حجرا تطحن. ووقف هشام هذه الأرحاء على عمل النهر. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومى سنة (122 هـ) اثنتين وعشرين ومائة: فى هذه السنة كان مقتل زيد بن على [رضى الله عنه «2» ] على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر قتل البطال فى هذه السنة قتل البطّال، وهو أبو الحسين عبد الله الأنطاكى، فى جماعة من المسلمين. وقيل: كان مقتله فى سنة [123 هـ] ثلاث

سنة (123 هـ) ثلاث وعشرين ومائة:

وعشرين ومائة، وكان كثير الغزاة إلى الروم والإغارة على بلادهم، وله عندهم ذكر عظيم، وله حكايات فى غزواته يطول الشّرح بسردها. حكى أنه دخل بلاد الروم فى بعض غاراته هو وأصحابه، فدخل قرية لهم ليلا وامرأة تقول لصغير يبكى: تسكت وإلّا سلمتك للبطّال، ثم رفعته بيدها، وقالت: يا بطّال خذه، فتناوله من يدها. وقد وضع الناس له سيرة. وحجّ بالناس محمد بن هشام المخزومى. سنة (123 هـ) ثلاث وعشرين ومائة: ذكر صلح نصر بن سيار مع الصغد فى هذه السنة صالح نصر بن سيّار الصّغد، وكان خاقان لما قتل تفرّقت التّرك فى غارة بعضها على بعض، فطمع أهل الصّغد فى الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فراسلهم نصر بن سيّار، ودعاهم إلى الرجوع إلى بلادهم، وأعطاهم ما أرادوا، فاشترطوا شروطا منها ألّا يعاقب من كان مسلما وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدى عليهم فى دين لأحد من الناس، ولا يؤخذ أسرى المسلمين من أيديهم إلّا بقضيّة قاض وشهادة عدول. فعاب الناس ذلك على نصر، فقال: لو عاينتم شوكتهم فى المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم ذلك. وأرسل رسولا إلى هشام فى ذلك، فأجابه إليه. وحجّ بالناس فى هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك.

سنة (124 هـ) أربع وعشرين ومائة:

سنة (124 هـ) أربع وعشرين ومائة: فى هذه السنة وما قبلها كان من خبر شيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل. سنة (125 هـ) خمس وعشرين ومائة: ذكر وفاة هشام بن عبد الملك ونبذة من أخباره كانت وفاته بالرّصافة لستّ خلون من شهر ربيع الآخر منها، وصلّى عليه ابنه مسلم وكان عمره ستا وخمسين سنة. وقيل أقلّ من ذلك إلى اثنتين وخمسين. ومدة خلافته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وكان أحول أبيض سمينا منقلب العينين ربعة يخضب بالسّواد، وكان حسن السياسة يقظا يباشر الأمور بنفسه، وكان له من الستور والكسوة ما لم يكن لمن قبله. وذكر صاحب العقد «1» : أنه لما حجّ حملت ثياب لباسه «2» على ستمائة جمل، وكان جمّاعا للأموال شديد البخل كأبيه. قال عقّال بن شبّة «3» : دخلت على هشام وعليه قباء أخضر، فجعلت أنظر إليه، فقال: مالك؟ فقلت: رأيت عليك قبل أن تلى الخلافة قباء مثل هذا. فتأمّلته هل هو هو أم غيره؟ فقال: هو والله هو. وأما ما ترون من جمع المال فهو لكم.

قيل: وكتب له بعض عمّاله: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن «1» . فكتب إليه: قد وصل وأعجب أمير المؤمنين فزد منه واستوثق من الوعاء. وكتب إليه عامل: قد بعثت بكمأة. فأجابه: قد وصلت الكمأة وهى أربعون، وقد تغيّر بعضها من حشوها، فإذا بعثت شيئا فأجد الحشو فى الظّرف [التى تجعلها فيه] «2» بالرّمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضه بعضا. وقيل [له] «3» : أتطمع فى الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: ولم لا أطمع، وأنا عفيف حليم؟ قالوا: وخلّف من العين أربعة وأربعين ألف ألف دينار، وما لا يحصى من الورق. ولما مات طلبوا له قمقما من بعض الخزّان يسخّن له الماء فيه، فمنعه عياض كاتب الوليد، فاستعاروا له قمقما من بعض الخزان يسخن له فيه. وفى أيامه بنى سعيد أخوه قبّة بيت المقدس. أولاده: كان له عشرة أولاد من الذكور والإناث، منهم: معاوية، وسليمان. نقش خاتمه: الحكم للحكم الحكيم.

ذكر بيعة الوليد بن يزيد

كتّابه: سعيد بن الوليد، والأبرش الكلبى، ومحمد بن عبد الله ابن حارثة. قاضيه: محمد بن صفوان الجمحى. حاجبه: غالب مولاه الأمراء بمصر: محمد بن عبد الملك أخوه، ثم استعفاه فولّاها [بعده أنس بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن العاص، ثم استعفى فولاها] «1» حفص بن الوليد الحضرمى، ثم صرفه وولّاها عبد الملك ابن رفاعة، ثم مات فولّاها أخاه الوليد بن رفاعة، ثم مات فولّاها عبد الرحمن بن خالد التميمى «2» ، ثم صرفه وولّاها حنظلة بن صفوان، ثم سيّره إلى إفريقية، وولى حفصا. وكان على قضائها من قبل هشام يحيى بن ميمون الحضرمىّ إلى أن وليها الوليد بن رفاعة فصرفه، وولّاها أبا نضلة الخيار ابن خالد، ثم مات فولى سعيد بن ربيعة الصّدفى، واستعفى، فولى توبة بن يمين «3» الحضرمى، ثم مات فولّاها جبر «4» بن نعيم الحضرمى. ذكر بيعة الوليد بن يزيد هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أمّ الحجاج بنت محمد بن يوسف [أخى الحجاج بن يوسف] «5» الثقفى، وهو الحادى عشر من ملوك بنى أمية.

بويع له لستّ مضين من شهر ربيع الآخر سنة [125 هـ] خمس وعشرين ومائة. قال: وكان يزيد قد جعل ولاية العهد لأخيه هشام من بعده، ثم من بعده للوليد، وكان عمر الوليد إحدى عشرة سنة، ثم عاش يزيد حتى بلغ الوليد خمس عشرة سنة، فكان [يزيد] «1» يقول: الله بينى وبين من جعل هشاما بينى وبينك «2» . فلما ولى هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون واشتهر بشرب الشراب، وكان يؤدّبه عبد الصمد بن عبد الأعلى يحمله على ذلك، واتّخذ له ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه، فولّاه الحج سنة [116 هـ] ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابا فى صناديق، وعمل قبّة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويشرب فيها الخمر، فخوّفه أصحابه، وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك، فلم يفعل. وظهر للناس منه تهاون بالدّين واستخفاف، فطمع هشام فى البيعة لابنه مسلمة «3» ، وخلع الوليد، وأراد الوليد على ذلك فأبى، فقال له: اجعله بعدك، فأبى؛ فتنكّر له هشام، وعمل سرّا فى البيعة لابنه مسلمة، فأجابه قوم، فكان ممن أجابه خالاه: محمد، وإبراهيم ابنا هشام ابن إسماعيل، وبنو القعقاع بن خليد العبسى وغيرهم من خاصّته. وأفرط الوليد فى الشراب، وطلب اللذات؛ فقال له هشام: يا وليد،

والله ما أدرى أعلى الإسلام أنت أم لا؟ ما تدع شيئا من المنكر إلّا أتيته غير متحاش؛ فكتب إليه الوليد «1» : يأيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر نشربها صرفا وممزوجة ... بالسّخن أحيانا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يكنى أبا شاكر، وقال له: يعيرنى الوليد بك، وأنا أرشّحك للخلافة. فألزمه الأدب، وأحضره الجماعة، وولّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النّسك واللّين، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة: يأيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر الواهب الجرد «2» بأرسانها ... ليس يزنديق ولا كافر يعرض بالوليد. وكان هشام ينتقص الوليد ويعيبه، فخرج الوليد ومعه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض بن مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم. وقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكاتبه فيه الوليد فلم يجبه إلى ردّه، وأمره بإخراج عبد الصمد من عنده، فأخرجه وسأله أن يأذن لابن سهيل فى الخروج إليه، فضرب هشام ابن سهيل وسيّره إليه، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه. فقال الوليد: من يثق بالناس، ومن يصنع المعروف؟ هذا الأحول

المشئوم أبى، قدّمه على أهل بيته فصيّره ولىّ عهده، ثم يصنع [بى] «1» ما ترون، لا يعلم أنّ لى فى أحد هوى إلا عبث به. وكتب إلى هشام فى ذلك يعاتبه، ويسأله أن يردّ عليه كاتبه. فلم يردّه، فكتب إليه الوليد «2» : رأيتك تبنى دائما «3» فى قطيعتى ... ولو كنت ذا حزم «4» لهدّمت ما تبنى تثير على الباقين مجنى ضغينة ... فويل لهم إن متّ من شرّ ما تجنى كأنى بهم والليت أفضل قولهم ... ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغنى كفرت يدا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنّ قال، ولم يزل الوليد مقيما بتلك البريّة حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذى جاءته فيه الخلافة قال لأبى الزّبير المنذر بن أبى عمرو: ما أتت علىّ ليلة منذ عقلت عقلى أطول من هذه الليلة، عرضت لى أمور، وحدّثت نفسى فيها بأمور من أمر هذا الرجل- يعنى هشاما- قد «5» أولع بى، فاركب بنا نتنفّس، فركبا فسارا ميلين، ووقف على كثيب، فنظر إلى رهج «6» ، فقال: هؤلاء رسل هشام، نسأل الله من خيرهم؛ إذ بدا رجلان على البريد: أحدهما مولى لأبى محمد السّفيانى، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دنوا منه، فسلّما عليه بالخلافة،

فوجم، ثم قال: أمات هشام؟ قالا: نعم والكتاب معنا من سالم ابن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأه؛ وسأل مولى أبى محمد السّفيانى عن كاتبه عياض، فقال «1» : لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام الموت، فأرسل إلى الخزّان فقال: احتفظوا بما فى أيديكم، فأفاق هشام فطلب شيئا فمنعوه، فقال: إنا لله، كنا خزّانا للوليد، ومات من ساعته. وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأنزل هشاما عن فرشه وما وجدوا له قمقما يسخّن فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا له كفنا من الخزائن، فكفّنه غالب مولاه، فقال الوليد «2» : هلك الأحول المشو ... م فقد أرسل المطر وملكنا من بعد ذا ... ك، فقد أورق الشجر فاشكر الله إنّه ... زائد كلّ من شكر وقيل: إنّ هذا الشعر لغير الوليد. قال: ولما سمع الوليد بموته كتب إلى العباس بن عبد الملك ابن مروان أن يأتى الرّصافة فيحصى ما فيها من أموال هشام وولده وعماله وحشمه إلّا مسلمة بن هشام فإنه كان يكلم أباه فى الرفق بالوليد، فقدم العباس الرّصافة ففعل ذلك وكتب به إلى الوليد، فقال الوليد «3» : ليت هشاما كان حيّا يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا

ليت «1» هشاما عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبّعا «2» كلناه بالصّاع الذى كاله «3» ... وما ظلمناه به إصبعا «4» وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحلّه الفرقان لى أجمعا وضيّق الوليد على أهل هشام وأصحابه، واستعمل العمّال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم. قال: ولما ولى الوليد أجرى على زمنى أهل الشام وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الكسوة والطّيب، وزادهم؛ وزاد الناس فى العطاء عشرات؛ ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرة عشرة، وزاد الوفود، ولم يقل فى شىء يسأله: لا. وفى هذه السنة، عقد الوليد البيعة لابنيه: الحكم، وعثمان من بعده، وكتب بذلك إلى الأمصار، وجعل الحكم مقدما والآخر من بعده. وفيها استعمل الوليد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفى على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه محمدا وإبراهيم ابنى هشام ابن إسماعيل المخزومى موثقين فى عباءتين؛ فقدم بهما المدينة فى شعبان، فأقامهما للناس، ثم حملا إلى الشام، فأحضرا عند الوليد، فأمر، بجلدهما، فقال محمد: نسألك القرابة. قال: وأىّ قرابة بيننا!

قال: فقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يضرب بسوط إلّا فى حد. قال: ففى حدّ أضربك وقود، أنت أوّل من فعل بالعرجى وهو ابن عمى؛ وابن أمير المؤمنين عثمان- وكان محمد قد أخذه وقيّده وأقامه للناس وجلده، وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجى «1» إياه، ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم ثم أوثقهما، وبعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو على العراق فعذّبهما حتى ماتا. وفيها عزل الوليد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة، وولّى القضاء يحيى بن سعيد الأنصارى. وفيها خرجت الروم إلى زبطرة «2» وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهرى، فأخربه الروم الآن فبنى بناء غير محكم، فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد ثم بناه الرشيد وشحنه بالرجال. فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعّثوه، فأمر المأمون بمرمّته وتحصينه، ثم قصده الروم بعد ذلك أيام المعتصم. وفيها أغزى الوليد أخاه الغمر بن يزيد، وأمّر على جيش البحر الأسود بن بلال المحاربى، وسيّره إلى قبرس ليخيّر أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فاختارت طائفة جوار المسلمين، فسيّرهم إلى الشام، واختار آخرون الروم فسيّرهم إليهم.

سنة (126 هـ) ست وعشرين ومائة:

وحجّ بالناس فى هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف. وغزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة. سنة (126 هـ) ست وعشرين ومائة: ذكر مقتل خالد بن عبد الله القسرى وشىء من أخباره قد ذكرنا من أخباره فى سنة [120 هـ] عشرين ومائة ما تقدم، وذكرنا أنه لما أفرج عنه سار من الحيرة إلى دمشق. قال: ولما قدمها كان العامل عليها يومئذ كلثوم بن عياض القشيرى، وكان يبغض خالدا، واتفق أنه ظهر فى دور [دمشق «1» ] حريق فى كل ليلة، يلقيه «2» رجل من أهل العراق يقال له: أبو العمرّس «3» فإذا وقع الحريق يسرقون. وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام: إنّ موالى خالد يريدون الوثوب على بيت المال، وإنهم يحرقون البلد كلّ ليلة. فكتب هشام إليه يأمره بحبس آل خالد: الصغير منهم والكبير ومواليهم، فأنفذ من أحضر أولاده وإخوته من الساحل فى الجوامع «4» ، ومعهم مواليهم، وحبس بنات خالد والنساء والصبيان، ثم ظهر على أبى العمرّس ومن كان معه.

فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام بأخذ أبى العمرّس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم، ولم يذكر فيهم أحدا من موالى خالد. فكتب هشام إلى كلثوم يسبّه ويأمره بإطلاق آل خالد، فأطلقهم وترك الموالى رجاء أن يشفع فيهم خالد إذا قدم من الصائفة. ثم قدم خالد فنزل منزله بدمشق، وجاءه الناس للسلام عليه، فقال: خرجت مغازيا سميعا مطيعا، فخلفت فى عقبى، وأخذ حرمى وأهل بيتى فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين، فما منع عصابة منكم أن تقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع؟ أخفتم أن تقتلوا جميعا؟ أخافكم الله. ثم قال: مالى ولهشام ليكفّنّ عنى أو لأدعونّ إلى عراقى الهوى، شامى الدّار، حجازى الأصل- يعنى محمد بن على بن عبد الله بن عباس. ولقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشاما. فلما بلغه قال: قد خرف أبو الهيثم، واستمرّ خالد مدة أيام وهو بدمشق ويوسف بن عمر يطلب ابنه يزيد بن خالد، فلم يظفر به، وبذل فيه لهشام خمسين ألف ألف. فلما هلك هشام وقام الوليد بعده كتب إلى خالد: ما حال الخمسين ألف ألف التى تعلم؟ واستقدمه، فقدم عليه حتى وقف بباب سرادق الوليد، فأرسل إليه الوليد يقول: أين ابنك يزيد؟ فقال: كان [قد] «1» هرب من هشام، وكنا نراه عند أمير المؤمنين، فلما لم نره

ظنناه ببلاد قومه من الشّراة. فرجع الرسول، فقال: لا، ولكنك خلّفته طلبا للفتنة. فقال: قد علم أمير المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة. فرجع الرسول فقال: يقول أمير المؤمنين: لتأتينّ به أو لأزهقنّ نفسك. فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا والله أردت، لو كان تحت قدمى ما رفعتها عنه. فأمر الوليد بضربه فضرب، فلم يتكلم، فحبسه حتى قدم يوسف ابن عمر من العراق بالأموال، فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف، فأرسل إليه الوليد: إنّ يوسف قد اشتراك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلّا دفعتك إليه. فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألنى أن أضمن عودا ما ضمنته، فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه، وحمله على بعير بغير وطاء، وعذّبه عذابا شديدا، وهو لا يكلّمه كلمة واحدة، ثم حمله إلى الكوفة فعذّبه، ووضع المضرّسة على صدره فقتله، ودفنه من الليل [بالحيرة «1» ] فى العباءة التى كان فيها، وذلك فى المحرم سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة. وقيل: بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود، وقام عليه الرّجال حتى تكسّرت قدماه، وما تكلّم ولا عبس، ثم على ساقيه وفخذيه. ثم على صدره حتى مات. وكانت أمّ خالد نصرانية رومية استلبها أبوه، فأولدها خالدا

وأسدا، ولم تسلم، وبنى لها خالد بيعة فذمّه الناس على ذلك، فقال الفرزدق «1» : ألا قطع الرحمن ظهر مطيّة ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد فكيف يؤمّ الناس من كانت امّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد بنى بيعة فيها النصارى لأمّه ... ويهدم من كفر منار المساجد وكان خالد قد أمر بهدم منار المساجد؛ لأنه بلغه أنّ شاعرا قال «2» : ليتنى فى المؤذّنين حياتى ... إنهم يبصرون من فى السطوح ويشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كلّ ذات دلّ مليح فلما بلغ خالدا هذا الشّعر أمر بهدمها. ولما بلغه أنّ الناس يذمّونه لبنائه البعية لأمّه قام يعتذر إليهم، فقال: لعن الله دينهم إن كان شرّا من دينكم. وحكى عنه أنه كان يقول: إنّ خليفة الرجل فى أهله أفضل من رسوله إليهم- يعنى أنّ هشاما أفضل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نبرأ إلى الله من ذلك. وكان خالد يصل الهاشميين فى أيام إمارته، ويبرّهم، إلا أنه كان يبالغ فى سبّ على رضى الله عنه، ويلعنه، فقيل: إنه كان يفعل ذلك نفيا للتهمة، وتقرّبا إلى بنى أمية، فأتاه مرة محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان يستميحه «3» ، فلم ير منه

ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وشىء من أخباره

ما يحب، فقال: أمّا الصّلة فللها شميين، وليس لنا منه إلا أن يلعن «1» عليّا، فبلغ خالدا كلامه، فقال: إن أحبّ نلنا عثمان بشىء؛ [يريد بشىء «2» ] من اللّعن أو السب، والله تعالى أعلم. ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وشىء من أخباره كان مقتله يوم الخميس الثامن والعشرين من جمادى الاخرة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة. وكان سبب ذلك ما قدّمناه من اشتهاره باللهو واللّعب والخلاعة، فلما ولى الخلافة ما زاد إلّا تماديا وإصرارا، واشتهر بمنادمة القيان وشرب النبيذ، فثقل ذلك على رعيّته وجنده، وكرهوه؛ فكان من أعظم ما جنى على نفسه إفساد بنى عمّيه: هشام، والوليد؛ فإنه أخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته وغرّبه إلى عمّان من أرض الشام، فحبسه بها، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد. وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلّمه عثمان بن الوليد فى ردّها، فقال: لا أردّها. فقال: إذن تكثر الصّواهل حول عسكرك، وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وفرّق بين روح بن الوليد وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبنى أمية، وكان أشد الناس عليه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النّسك ويتواضع.

وكان سعيد بن بيهس بن صهيب قد نهاه عن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما، فحبسه حتى مات، وفعل بخالد القسرى ما ذكرناه ففسدت عليه اليمانية وقضاعة، وهم أكثر جند الشام؛ وكان حريث وشبيب بن أبى مالك الغسّانى، ومنصور بن جمهور الكلبى؛ وابن عمه حبال ابن عمرو، ويعقوب بن عبد الرحمن، وحميد بن نصر اللّخمى، والأصبغ ابن ذؤالة والطّفيل «1» بن حارثة، والسرى بن زياد، أتوا خالد بن ابن عبد الله القسرى، فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم، وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يقتلوه، فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فحبسه، وطالبه بأموال العراق ثم سلّمه إلى يوسف ابن عمر كما تقدم، فقال بعض أهل اليمن شعرا على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية. وقيل: بل قاله الوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد «2» : ألم تهتج فتدكر «3» الوصالا ... وحبلا كان متّصلا فزالا بلى فالدّمع «4» منك إلى انسجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا فدع عنك ادّكارك آل سعدى ... فنحن الأكثرون حصى «5» ومالا ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلّة والنّكالا

وطئنا الأشعرى «1» بعزّ قيس ... فيالك وطأة لن تستقالا وهذا خالد فينا أسيرا «2» ... ألا منعوه إن كانوا رجالا عظيمهم وسيّدهم قديما ... جعلنا المخزيات له ظلالا فلو كانت قبائل ذات عزّ ... لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... يعالج «3» من سلاسلنا الثّقالا وكندة والسّكون فما استقاموا ... ولا برحت خيولهم الرّحالا بها سمنا «4» البريّة كلّ خسف ... وهدّمنا السهولة والجبالا ولكنّ الوقائع ضعضعتهم ... وجذّتهم «5» وردّتهم شلالا فما زالوا لنا أبدا عبيدا ... نسومهم المذلّة والسفالا فأصبحت الغداة علىّ تاج ... لملك الناس لا يبغى «6» انتقالا فعظم ذلك عليهم، وسعوا فى قتله، وازدادوا حنقا، وقال حمزة ابن بيض «7» فى الوليد: وصلت سماء الضّرّ بالضّرّ بعد ما ... زعمت سماء الذلّ «8» عنا ستقلع فليت هشاما كان حيّا يسوسنا ... وكنا كما كنّا نرجّى ونطمع

وقال أيضا «1» : يا وليد الخنا «2» تركت الطّريقا ... واضحا وارتكبت فجّا عميقا وتماديت واعتديت وأسرف ... ت وأغويت وانبعثت فسوقا أبدا هات ثم هات وهاتى ... ثم هاتى حتى تخرّ صعيقا أنت سكران لا تفيق فماتر ... تق فتقا إلّا فتقت «3» فتوقا فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة، فاستشار عمر بن زيد الحكمى، فقال له: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع؛ فإن أبيت إلا المضىّ على رأيك فأظهر أنّ أخاك العباس قد بايعك. وكان الشام وبيئا فخرجوا إلى البوادى، وكان العباس بالقسطل «4» ويزيد بالبادية أيضا، فأتى يزيد العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سرّا، وبثّ دعاته، فدعوا الناس، ثم عاود أخاه العباس أيضا فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزبره «5» ، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدّنّك وثاقا، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين. فخرج من عنده، فقال العباس: إنّى لأظنّه أشأم مولود فى بنى مروان.

وبلغ الخبر مروان بن محمد بإرمينية. فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفّهم ويحذرهم الفتنة ويخوّفهم خروج الأمر عنهم. فأعظم سعيد ذلك، وبعث الكتاب إلى العباس بن الوليد، فاستدعى العباس يزيد وتهدّده؛ فكتمه يزيد أمره فصدّقه، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد: إنى أظنّ الله قد أذن فى هلاككم يا بنى أمية، ثم تمثل «1» : إنى أعيذكم بالله من فتن ... مثل الجبال تسامى ثم تندفع إنّ البريّة قد ملّت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدّين وارتدعوا لا تلحمنّ ذئاب الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا «2» لا تبقرنّ بأيديكم بطونكمو ... فثمّ لا حسرة تغنى ولا جزع قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو بالبادية أقبل إلى دمشق، وكان بينه وبينها أربع ليال، وجاء متنكرا فى سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود- وهى على مرحلة من دمشق، ثم سار فدخل دمشق ليلا، وقد بايع له أكثر أهلها سرّا، وبايع أهل المزّة «3» ؛ وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فخرج منها للوباء، فنزل قطنا «4» ، واستخلف على دمشق ابنه، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمى؛ فأجمع يزيد على الظّهور، فقيل للعامل: إنّ يزيد «5» خارج فلم يصدّق، وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب

ليلة الجمعة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّن بالعشاء؛ فدخلوا المسجد فصلّوا، وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل، فلما صلّى الناس أخرجهم الحرس وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق فى المسجد غيرهم، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه، وأخذ بيده، فقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله وعونه. فقام، وأقبل فى اثنى عشر رجلا. فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم، ولقيهم زهاء مائتى رجل، فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأتوا باب المقصورة فضربوه، وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فدخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ وقبض محمد «1» بن عبيدة وهو على بعلبك، وأرسل إلى محمد بن عبد الملك بن الحجاج فأخذه، وكان بالمسجد سلاح كثير، فأخذوه. فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وتبايع الناس، وجاءت السكاسك، وأقبل أهل داريّا ويعقوب بن عمير بن هانىء العبسى «2» . وأقبل عيسى بن شبيب التغلبى وأهل دومة وحرستا، وأقبل

حميد بن حبيب اللخمى «1» فى أهل دير مرّان «2» والأرزة وسطرا «3» وأقبل أهل جرش «4» وأهل الحديثة «5» وديرزكى «6» . وأقبل ربعىّ بن هاشم «7» الحارثى فى الجماعة من بنى عذرة وسلامان، وأقبلت جهينة ومن والاهم. ثم وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد فى مائتى فارس ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره، فأخذوه بأمان، وأصاب عبد الرحمن خرجين فى كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين الخرجين، فقال: لا تتحدث العرب عنى أنى أوّل من خان فى هذا الأمر. ثم جهّز يزيد جيشا عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وسيّرهم إلى الوليد. وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إليه، وأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان، فضربه الوليد وحبسه، وسيّر أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فسار بعض الطريق، وأقام فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد، فبايع يزيد.

ولما أتى الخبر الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: سر حتى تنزل حمص، فإنها حصينة، ووجّه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغى للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، والله» يؤيّد أمير المؤمنين بنصره «2» . فأخذ بقول ابن عنبسة، وسار حتى أتى البخراء «3» - قصر النعمان بن بشير، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلا، فقالوا له: ليس لنا سلاح، فلو أمرت لنا بسلاح! فلم يعطهم شيئا، ونازله عبد العزيز. وكتب العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد: إنى آتيك. فأخرج الوليد سريرا وجلس عليه ينتظر العبّاس، فقاتلهم عبد العزيز، ومعه منصور بن جمهور، فبعث إليهم عبد العزيز زياد بن حصين الكلبى، يدعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، فقتله أصحاب الوليد واقتتلوا قتالا شديدا. وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذى كان قد عقده بالجابية. وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد، فأرسل منصور بن

جمهور إلى طريقه، فأخذه قهرا، وأتى به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد، فبايع، ووقف ونصبوا راية، فقالوا: هذه راية العباس [قد بايع لأمير المؤمنين يزيد، فقال العباس] «1» : إنا لله! خدعة من خدع الشيطان، هلك والله بنو مروان. فتفرّق الناس عن الوليد، وأتوا العباس وعبد العزيز، وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقى، ويؤمّنه من كل حدث، على أن ينصرف عن قتاله، فأبى ولم يجبه، فظاهر الوليد من درعين، وأتوه بفرسيه «2» : السندى، والزائد «3» ، فقاتلهم قتالا شديدا، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارجموه بالحجارة، فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، وقال «4» : دعوا لى سليمى «5» والطّلاء وقينة ... وكأسا، ألا حسبى بذلك مالا إذا ما صفا عيشى «6» برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوى «7» ما حييت عقالا وخلّوا عنانى قبل عير «8» وما جرى ... ولا تحسدونى أن أموت هزالا

قال: وأحاط عبد العزيز بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! قال يزيد ابن عنبسة السكسكى: كلّمنى. قال: يا أخا السّكاسك، ألم أزد فى أعطياتكم! ألم أرفع المؤن عنكم! ألم أعط فقراءكم؛ ألم أخدم زمناكم؟ فقال: إنا ما ننقم عليك فى أنفسنا، إنما ننقم عليك فيما حرّم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمرى لقد أكثرت، وإن فيما أحلّ الله سعة عما ذكرت. ورجع وجلس، وأخذ مصحفا، ونشره يقرأ فيه، وقال: يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط، وكان أول من علاه يزيد ابن عنبسة، فنزل إليه، وأخذ بيده، وهو يريد أن يحبسه، ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة؛ فيهم: منصور بن جمهور، وعبد السلام اللخمى، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السرىّ «1» بن زياد بن أبى كبشة على وجهه، واحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى يزيد، فأتاه الرأس وهو يتغدى، فسجد وأمر بنصب الرأس. فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مرّة: إنما تنصب رءوس الخوارج؛ وهذا رأس ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه، ونصبه على رمح، وطاف به دمشق؛ ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد، فلما نظر إليه سليمان قال:

بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا، ولقد أرادنى على نفسى الفاسق- وكان سليمان ممّن سعى فى أمره. وحكى يزيد بن عنبسة ليزيد بن الوليد أنّ الوليد قال فى آخر كلامه: والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم. وكانت مدة خلافة الوليد سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة. وقيل: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة. وقيل: إحدى وأربعين. وقيل: ست وأربعين سنة. والله أعلم. وكان الوليد من فتيان بنى أمية وظرفائهم وشجعانهم، وأجوادهم، جيّد الشّعر، له أشعار حسنة فى الغزل والعتاب ووصف الخمر وغير ذلك، إلا أنه كان كثير الانهماك فى اللهو والشّرب وسماع الغناء. ومن كلامه: المحبة للغناء تزيد الشهوة، وتهدم المروءة، وتنوب عن الخمر، وتفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنى، وإنى لأقول ذلك على أنه أحب إلىّ من كل لذة، وأشهى إلى نفسى من الماء إلى ذى الغلّة، ولكن الحقّ أحقّ أن يتّبع. ومما اشتهر عنه أنه استفتح المصحف الكريم، فخرج له قوله

تعالى «1» : «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» . فألقاه ونصبه غرضا، ورماه بالسهام، وقال «2» : تهدّدنى بجبّار عنيد ... فهأنا ذاك جبّار عنيد إذا ما جئت ربّك يوم حشر ... فقل يا ربّ مزّقنى الوليد فلم يلبث بعد ذلك إلّا يسيرا حتى قتل. هذا هو المشهور عنه. وروى أبو الفرج الأصفهانى بسنده إلى العلاء البندار، قال: كان الوليد زنديقا، وكان رجل من كلب من أهل الشام يقول مقالة الثّنوية، فدخلت على الوليد يوما وذلك الكلبىّ عنده، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه، وإذا ما يبدو لى منه حرير أخضر؛ فقال: ادن يا علاء، فدنوت، فرفع الحريرة فإذا فى السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر «3» قد جعلا فى جفنه. فجفنه يطرف كأنه يتحرّك، فقال: يا علاء، هذا مانى، لم يبعث الله نبيا قبله، ولا يبعث نبيا بعده؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، اتق الله ولا يغرنّك هذا الذى ترى من دينك. فقال الكلبى: يا أمير المؤمنين، قد قلت لك: إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث. قال العلاء: ومكثت «4» أياما، ثم جلست مع الوليد على بناء كان

[قد «1» ] بناه فى عسكره يشرف منه والكلبىّ عنده إذ نزل من عنده، وقد كان الوليد حمله على برذون هملاج «2» أشقر من أفخر ما سخّر، فخرج على برذونه، فمضى فى الصحراء حتى غاب عن العسكر، فما شعر إلا وأعراب قد جاءوا به يحملونه منفسحة عنقه، وبرذونه يقاد، حتى أسلموه. فبلغنى ذلك، فخرجت حتى أتيت أولئك الأعراب، وكانت لهم أبيات بالقرب من أرض البحر لا حجر فيها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصّة هذا الرجل؟ فقالوا: أقبل علينا على برذون، فو الله لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهيته، فعجبنا لذلك إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض، فأخذ بضبعيه، فاحتمله، ثم نكسه. وضرب برأسه الأرض، فدقّ عنقه، ثم غاب عن عيوننا فاحتملناه فجئنا به. وقد نزّه قوم الوليد عما قيل، وأنكروه ونفوه عنه، وقالوا: إنه اختلق عليه وألصق به، وليس بصحيح. حكى عن شبيب بن شيبة أنه قال: كنّا جلوسا عند المهدى، فذكروا الوليد، فقال المهدى: كان زنديقا، فقام ابن علاثة الفقيه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله عزّ وجلّ أعدل من أن يولّى خلافة النبوة وأمر الأمّة زنديقا، لقد أخبرنى من كان يشهده فى ملاعبه وشربه عنه بمروءة فى طهارته وصلاته؛ فكان إذا حضرت الصلاة

يطرح الثياب التى عليه المطيّبة المصبّغة، ثم يتوضّأ فيحسن الوضوء، ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها، ويصلى فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه، فهذا فعال من لا يؤمن بالله! فقال المهدى: بارك الله عليك يابن علاثة. وللوليد كلام حسن؛ فمن أحسن كلامه ما قاله لهشام بن عبد الملك لما مات مسلمة بن عبد الملك وقعد هشام للعزاء، فأتاه الوليد وهو نشوان يجرّ مطرف خزّ عليه، فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقى لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصّيد لمن رمى، واختلّ الثّغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضى من خلف؛ فتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى. فأعرض هشام ولم يحر جوابا، وسكت القوم فلم ينطقوا. والوليد أوّل خليفة عدّ الشّعر وأجاز عن كلّ بيت ألف درهم، فإن يزيد بن ضبّة مولى ثقيف مدحه وهنّأه «1» بالخلافة فأمر أن تعدّ الأبيات ويعطى لكل بيت ألف درهم؛ فعدّت فكانت خمسين بيتا فأعطى خمسين ألف درهم. قال: ودفن الوليد بباب الفراديس بدمشق. وقيل: إنه قتل بأرض حمص. وحكى الدّولابى أن رأس الوليد نصب فى مسجد دمشق ولم يزل

ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص

أثر دمه على الجدار إلى أن قدم المأمون دمشق فى سنة [215 هـ] خمس عشرة ومائتين، فأمر بحكّه. وكان الوليد أبيض ربعة قد وخطه الشّيب. وكان نقش خاتمه: يا وليد، احذر الموت. وكان له من الأولاد الذكور والإناث ثلاثة عشر. كاتبه: العباس بن مسلم. قاضيه: محمد بن صفوان الجمحى. حاجبه: قطرى مولاه. الأمير بمصر: حفص بن الوليد الحضرمى، ثم صرفه عن الخراج. قاضيها: حسين بن نعيم [والله أعلم «1» ] . ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص هو أبو خالد يزيد بن الوليد «2» بن عبد الملك بن مروان؛ ولقّب بالناقص؛ لأنه نقص الزيادات التى كان الوليد زادها فى أعطيات الناس، وهى عشرة عشرة، وردّ العطاء إلى أيام هشام. وقيل: أول من لقّبه بهذا اللقب مروان بن محمد. وأم يزيد شاه آفريد «3» بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار. بويع له لليلتين بقيتا من جمادى الاخرة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة.

ذكر اضطراب أمر بنى أمية

قال: ولما قتل الوليد خطب يزيد الناس فذمّ الوليد، وذكر إلحاده، وأنه قتله لفعله الخبيث، وقال: أيها الناس، إنّ لكم علىّ ألّا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرو «1» نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجة وولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتى أسدّ ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل نقلته إلى البلد الذى يليه، ولا أجمّركم فى ثغوركم فأفتنكم. ولا أغلق بابى دونكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم، ولكم أعطياتكم كل سنة وأرزاقكم فى كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم؛ فإن وفّيت بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أوف «2» فلكم أن تخلعونى، إلّا أن أتوب، وإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. [والله الموفّق بمنّه وكرمه «3» ] . ذكر اضطراب أمر بنى أمية وفى سنة ست وعشرين ومائة فى أيام يزيد هذا اضطرب أمر بنى أميّة، وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام ابن عبد الملك بعمان، وكان الوليد قد حبسه بها، فلما قتل خرج

ومن ذلك خلاف أهل حمص وفلسطين:

من الحبس، وأخذ ما كان بها من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر. ومن ذلك خلاف أهل حمص وفلسطين: ذكر خلاف أهل حمص قال: ولما قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكى عليه. وقيل لهم: إنّ العباس بن الوليد بن عبد الملك أعان عبد العزيز على قتله، فهدموا داره، وانتهبوها، وسلبوا حريمه، وطلبوه؛ فسار إلى أخيه يزيد، وكاتب أهل حمص الأجناد، ودعوهم إلى الطّلب بدم الوليد، فأجابوهم واتفقوا على ألّا يطيعوا يزيد، وأمّروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، ووافقهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك على ذلك، فراسلهم يزيد، فأخرجوا رسله، فسيّر إليهم أخاه مسرورا فى جمع كثير، فنزلوا حوّارين «1» ، ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فردّ عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، وسيّره إلى أخيه مسرور، وأمرهم بالسّمع والطاعة له؛ وكان أهل حمص يريدون السير إلى دمشق، فقال لهم مروان بن عبد الله: أرى أن تسيروا إلى هذا الجيش فتقاتلوهم، فإن ظفرتم بهم كان ما بعدهم أهون عليكم، ولست أرى المسير إلى دمشق وترك هؤلاء خلفكم. فقال السّمط بن ثابت: إنما يريد خلافكم، وهو مائل «2» .

ليزيد، فقتلوه وقتلوا ابنه، وولّوا عليهم أبا محمد السفيانى، وتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، وساروا إلى دمشق، فخرج سليمان مجدّا فى طلبهم، فلحقهم بالسّليمانية- مزرعة كانت لسليمان ابن عبد الملك خلف عذراء «1» . وأرسل يزيد عبد العزيز بن الحجاج فى ثلاثة آلاف إلى ثنيّة العقاب، وأرسل هشام بن مصاد فى ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية. وأمرهم أن يمدّ بعضهم بعضا، ولحقهم سليمان على تعب مقاتلتهم «2» ، فانهزمت ميمنته وميسرته، وثبت هو فى القلب، ثم حمل أصحابه على أهل حمص حتى ردّوهم إلى موضعهم، وحمل بعضهم على بعض مرارا. فبينما هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنيّة العقاب، فحمل على أهل حمص حتى دخل عسكرهم، وقتل فيه من عرض له، فانهزموا ونادوا: يا يزيد بن خالد بن عبد الله القسرى! الله الله فى قومك! فكفّ الناس، وأخذ أبو محمد السّفيانى أسيرا، ويزيد بن خالد بن معاوية، فأتى بهما سليمان فسيّرهما إلى يزيد فحبسهما. واجتمع أمر أهل دمشق ليزيد، وبايعه أهل حمص، فأعطاهم العطاء، وأجاز الأشراف؛ واستعمل عليهم يزيد بن الوليد ابن معاوية بن يزيد بن الحصين.

ذكر خلاف أهل فلسطين

ذكر خلاف أهل فلسطين وفى هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه، وكان الوليد قد استعمله عليهم، فأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، فدعا الناس إلى قتال يزيد، فأجابوه إلى ذلك؛ وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين، فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك، واجتمعوا «1» معهم على قتال يزيد ابن الوليد، فبعث يزيد إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك فى أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفيانى، وعدّتهم أربعة آلاف ونيّف، فبايع الناس ليزيد، واستعمل ضبعان «2» بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن. ذكر عزل يوسف بن عمر عن العراق وما كان من أمره، واستعمال منصور بن جمهور وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق، واستعمل منصور بن جمهور، وقال له لمّا ولّاه العراق: اتّق الله واعلم أنى إنما قتلت الوليد لفسقه، ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه. فسار حتى إذا بلغ عين «3» التّمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله، وبعث بالكتب

كلّها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القوّاد، فحبس الكتب؛ وحمل كتابه فأقرأه يوسف بن عمر، فتحيّر فى أمره، وقال: ما الرّأى يا سليمان؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام معك، ولا آمن عليك منصورا. وما الرأى إلّا أن تلحق بشامك. قال: فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له فى خطبتك؛ فإذا قرب منصور تستخفى عندى وتدعه والعمل. ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد بن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوى «1» يوسف بن عمر عنده، ففعل، فانتقل يوسف إليه، فلم «2» ير رجل كان مثل عتوّه خاف مثل خوفه. وقدم منصور الكوفة فحضّهم وذمّ الوليد ويوسف، وقامت الخطباء فذمّوهما معه، فأتى عمرو بن محمد إلى يوسف، فأخبره: فجعل لا يذكر له رجلا ممن ذكره بسوء إلا قال: لله علىّ أن أضربه كذا وكذا سوطا؛ فجعل عمرو يتعجّب من طمعه فى الولاية. ويهدّده الناس. وسار يوسف من الكوفة سرّا إلى الشام، فنزل البلقاء «3» . فلما بلغ خبره يزيد بن الوليد وجّه إليه خمسين فارسا، فعرض رجل من بنى نمير ليوسف، وقال: يابن عمر، أنت والله مقتول، فأطعنى وامتنع.

قال: لا، فدعنى أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك. قال: ما لى فيما عرضت خيار، فطلبه المسيّرون إليه، فلم يروه، فتهدّدوا ابنا له، فقال لهم: انطلق إلى مزرعة له، فساروا فى طلبه، فلما أحسّ بهم هرب وترك نعليه، ففتّشوا عليه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، وأخذوه، وأقبلوا به إلى يزيد، فوثب عليه بعض الحرس، فأخذ بلحيته ونتف بعضها، وكان من أعظم الناس لحية، وأصغرهم قامة. فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه، وهى إلى سرّته، وجعل يقول: يا أمير المؤمنين؛ نتفت والله لحيتى، حتى لم يبق فيها شعرة؛ فأمر به فحبس فى الخضراء فأتاه إنسان فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من وترت فيلقى عليك حجرا فيقتلك؟ قال «1» : ما فطنت لهذا، فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحوّل إلى حبس «2» غير الخضراء، وإن كان أضيق منه، فعجبوا من حمقه، فنقله وحبسه مع ابنى الوليد، فبقى فى الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم. فلما قرب مروان من دمشق ولى يزيد بن خالد [القسرى] «3»

مولى لأبيه يقال له أبو الأسد «1» قتلهم «2» ، فقتل الحكم وعثمان ويوسف على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وكان يوسف بن عمر يحمّق، وفيه أشياء متباينة متناقضة؛ كان طويل الصلاة، ملازما للمسجد، ضابطا لحشمه وأهله عن الناس، ليّن الكلام، متواضعا، حسن المملكة كثير التضرّع والدعاء، فكان يصلّى الصّبح، ولا يكلم أحدا حتى يصلى الضّحى، وهو فيما بين ذلك يقرأ القرآن ويتضرّع، وكان بصيرا بالشعر والأدب، وكان شديد العقوبة، مسرفا فى ضرب الأبشار، وكان يأخذ الثوب الجيّد فيمر ظفره عليه فإن تعلّق به طاقه ضرب صاحبه، وربما قطع يده. حكى أنه أتى يوما بثوب فقال لكاتبه: ما تقول فى هذا الثوب؟ قال: كان ينبغى أن تكون بيوته أصغر مما هى. فقال للحائك: صدق يابن اللخناء. فقال الحائك: نحن أعلم بهذا. فقال لكاتبه: صدق يابن اللخناء. فقال الكاتب: هذا يعمل فى السنة ثوبا أو ثوبين وأنا يمرّ على يدى فى السنة مائة ثوب مثل هذا. فقال للحائك: صدق يابن اللّخناء، فلم يزل يكذّب هذا مرة، وهذا مرة حتى عدّ أبيات الثوب، فوجدها تنقص بيتا من أحد جانبى الثوب، فضرب الحائك مائة سوط. وقيل: إنه أراد السفر فدعا جواريه، فقال لإحداهنّ: تخرجين معى؟ قالت: نعم. قال: يا خبيثة. كلّ هذا من حبّ النكاح،

ذكر عزل منصور بن جمهور عن العراق وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز

يا خادم، اضرب رأسها. وقال لأخرى: ما تقولين؟ فقالت: أقيم على ولدى. فقال: يا خبيثة، كلّ هذا زهادة فىّ، اضرب رأسها. وقال لثالثة: ما تقولين؟ قالت: لا أدرى ما أقول، إن قلت ما قالت إحداهما لم آمن عقوبتك. فقال: يا لخناء وتناقضين وتحتجّين، اضرب رأسها. وكان قصيرا، فكان يحضر الثوب الطويل ليفصّله ليلبسه، فإن قال له الخياط: إنه يفضل منه ضرب رأسه، وإن قال: لا يكفى إلّا بعد التصرّف فى التفصيل سرّه ذلك، فكانوا يفصّلون له ويأخذون ما بقى. وكان له فى ذلك أشياء كثيرة. فلنرجع إلى أخبار منصور بن جمهور. قال: وكان دخول منصور الكوفة لأيام خلت من شهر رجب سنة [126 هـ] ست وعشرين [ومائة «1» ] ، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من كان فى السجون من العمّال وأهل الخراج، وبايع ليزيد بالعراق، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيّام بقين منه. وامتنع نصر بن سيّار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور، فإنّ يزيد كان قد ضمّ خراسان لمنصور مع العراق. ذكر عزل منصور بن جمهور عن العراق وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق،

ذكر الاختلاف بين أهل خراسان

واستعمل عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: وقال له: سر إلى العراق؛ فإنّ أهله يميلون إلى أبيك. وخاف ألّا يسلم إليه المنصور العمل، فانقاد له أهل الشام، وسلّم إليه منصور الولاية، وانصرف إلى الشام، ففرّق عبد الله العمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم، فنازعه قوّاد أهل الشام، وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا، وهم عدوّنا! فقال لأهل العراق: إنى أريد أن أردّ عليكم فيئكم، وعلمت أنكم أحقّ به، فنازعنى هؤلاء. فاجتمع أهل الكوفة بالجبّانة، فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون، وثار غوغاء الناس فى الفريقين، فأصيب منهم رهط لم يعرفوا، واستعمل عبد الله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان ابن القبعثرى، وعلى خراج السواد والمحاسبات أيضا. ذكر الاختلاف بين أهل خراسان وفى سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة وقع الاختلاف بخراسان بين النّزاريّة واليمانية، وأظهر الكرمانى الخلاف لنصر بن سيّار. وكان سبب ذلك أن نصرا رأى الفتنة قد ثارت، فرفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا، من أوان «1» كان اتّخذها للوليد بن يزيد، فطلب الناس منه العطاء، وهو يخطب؛ فقال نصر: إيّاى والمعصية، عليكم بالطاعة والجماعة. فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر، وقال: ما لكم عندى عطاء «2»

ثم قال: كأنى بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شرّ لا يطاق، وكأنى بكم مطرّحين فى الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلّا ملّوها، وأنتم يأهل خراسان مسلحة فى نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان؛ إنكم تريشون أمرا وتريدون «1» به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم، لقد نشرتكم وطويتكم، فما عندى منكم عشرة. فاتقوا الله، فو الله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنّينّ أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده. يأهل خراسان، إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. ثم تمثل بقول النابغة «2» : فإن يغلب شقاؤكمو عليكم ... فإنّى فى صلاحكمو سعيت وقدم على نصر عهده «3» على خراسان من قبل عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز؛ فقال الكرمانى لأصحابه: الناس فى فتنة فانظروا لأموركم رجلا. والكرمانى اسمه جديع بن علىّ الأرذى، وإنما سمى الكرمانى لأنه ولد بكرمان، فقالوا له: أنت لنا. وقالت المضريّة لنصر: إن الكرمانى يفسد عليك الأمور، فأرسل إليه فاقتله أو احبسه. قال: لا، ولكن لى أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بنىّ من بناته، وبناتى من بنيه. قالوا: لا. قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، وهو بخيل،

فلا يعطى أصحابه شيئا منها، فيتفرّقون عنه. قالوا: لا، هذه قوّة له، ولم يزالوا به حتى قالوا له: إنّ الكرمانى لو لم يقدر على السلطنة والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصّر وتهوّد. وكان نصر والكرمانى متصافيين، وكان الكرمانىّ قد أحسن إلى نصر فى ولاية أسد [بن عبد الله «1» ] القسرى. فلما ولى نصر عزل الكرمانى عن الرياسة وولّاها غيره، فتباعد ما بينهما، فلما أكثروا على نصر فى أمره عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه [به «2» ] ، فأرادت الأزد أن تخلّصه من يده، فمنعهم من ذلك، وسار مع صاحب الحرس وهو يضحك. فلما دخل على نصر قال له: يا كرمانى، ألم يأتنى كتاب يوسف ابن عمر بقتلك فراجعت «3» وقلت: شيخ خراسان وفارسها، فحقنت دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم، وقسمته فى أعطيات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم أرؤّس ابنك عليّا على كره من قومك؟ قال: بلى. قال: فبدّلت ذلك إجماعا على الفتنة. قال الكرمانى: لم يقل الأمير شيئا إلّا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان منّى أيام أسد ما قد علمت، ولست أحبّ الفتنة.

قال سلم «1» بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، وأشار غيره بذلك، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم العامرى «2» : لجلساء فرعون خير منكم؛ إذ قالوا «3» : «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» * والله لا يقتل الكرمانى بقولكم، فأمر نصر بحبسه فى القهندز «4» . فحبس وذلك لثلاث بقين من شهر رمضان، فتكلمت الأزد فقال نصر: إنى حلفت أن أحبسه، ولا يناله منى سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه، فاختاروا يزيد النحوى، فكان معه؛ فجاء رجل من أهل نسف، فقال لآل الكرمانى: ما تجعلون لى إن أخرجته؟ قالوا: كل ما سألت، فأتى مجرى الماء فى القهندز فوسعه، وقال لولد الكرمانى: اكتبوا لأبيكم «5» يستعد الليلة للخروج. فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب فى الطعام، فتعشّى الكرمانى، ويزيد النحوى، وحصين بن حكيم؛ وخرجا من عنده. ودخل الكرمانى السّرب، فانطوت على بطنه حيّة فلم تضرّه؛ وخرج من السّرب، وركب فرسه البشير، والقيد فى رجله، فأتوا به عبد الملك بن حرملة فأطلق عنه القيد. وقيل: إنّ الذى خلّص الكرمانى مولى له رأى خرقا فوسّعه وأخرجه

منه، فلم يصلّ الصّبح حتى اجتمع معه زهاء ألف، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف. وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة. فلما خرج الكرمانى قدمه عبد الملك. قال: ولما خرج الكرمانى عسكر نصر بباب مرو الرّوذ، وخطب الناس، فنال من الكرمانى، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوسقوا «1» فهم أذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل «2» : ضفادع فى ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله؛ فإنه خير لا شرّ فيه. واجتمع إلى نصر بشر كثير، فسفر الناس بينه وبين الكرمانىّ، وسألوا نصرا أن يؤمّنه، ولا يحبسه؛ وجاء الكرمانىّ، فوضع يده فى يد نصر، فأمره بلزوم بيته، ثم بلغ الكرمانى عن نصر شىء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بباب مرو، فكلّموه فيه، فأمّنه. فلما عزل ابن جمهور عن العراق وولّى عبد الله بن عمر فى شوّال من السنة خطب نصر، وذكره، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمّال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيّب ابن الطيّب. فغضب الكرمانى لابن جمهور، وعاد فى جمع «3» الرجال واتخاذ السلاح؛ فكان يحضر الجمعة فى ألف وخمسمائة فيصلّى خارج

ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم

المقصورة، ثم يدخل فيسلّم على نصر، ولا يجلس، ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف؛ فأرسل إليه مع سلّم «1» بن أحوز، يقول: إنى والله ما أردت بحبسك سوءا، ولكن خفت فساد أمر الناس فأتنى. فقال: لولا أنّك فى منزلى لقتلتك، ارجع إلى ابن الأقطع، فأبلغه ما شئت من خير أو شر. فرجع إلى نصر فأخبره، فلم يزل يرسل إليه مرة بعد أخرى، فكان آخر ما قال له الكرمانى: إنى لا آمن أن يحملك قوم على «2» غير ما تريد، فتركب منا مالا بقيّة بعده، فإن شئت خرجت عنك لامن هيبة لك، ولكن أكره سفك الدماء، فتهيّأ للخروج إلى جرجان؛ ثم كان من أمر الكرمانى ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم قال: لما قتل الوليد بن يزيد كان على اليمامة عليّ بن المهاجر، استعمله عليها يوسف بن عمر، فقال له المهير بن سلمى بن هلال أحد بنى الدؤل بن حنيفة: اترك لنا بلادنا، فأبى؛ فجمع له المهير، وسار إليه، وهو بقصره فى قاع «3» هجر، فالتقوا بالقاع، فانهزم علىّ حتى دخل قصره، ثم هرب إلى المدينة، وقتل المهير ناسا من أصحابه، وتأمّر المهير على اليمامة، ثم إنه مات، واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بنى قيس بن ثعلبة بن الدؤل، فاستعمل

عبد الله بن النعمان المندلث «1» بن إدريس الحنفى على الفلج- وهى قرية من قرى بنى عامر بن صعصعة، فجمع له بنو كعب ابن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل، فأتوا «2» الفلج، فلقيهم المندلث، وقاتلهم، فقتل المندلث وأكثر أصحابه، ولم يقتل من بنى عامر كثير، وقتل يومئذ يزيد ابن الطّثريّة «3» وهى أمّه، تنسب إلى طثر بن عنز «4» بن وائل، وهو يزيد بن المنتشر «5» . فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفا من حنيفة وغيرها، وغزا الفلج. فلما تصافّ الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلى، وطارق ابن عبد الله القشيرى، والجعونيان «6» ، وتجلّلت بنو جعدة البراذع، وولّوا، فقتل أكثرهم، وقطعت يد زياد بن حيان الجعدى؛ ثم قتل «7» . ثم إن بنى عقيل وقشيرا وجعدة ونميرا تجمّعوا وعليهم أبو سهلة النّميرى، فقتلوا من لقوا من بنى حنيفة بمعدن الصحراء، وسبوا نساءهم، وكفّت بنو نمير عن النساء.

ثم إنّ عمر بن الوازع الحنفى لمّا رأى ما فعل عبد الله بن النعمان قال: لست بدون عبد الله وغيره ممن يغير، وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان، فجمع خيله وبثّها فأغارت وأغار فملأ يده من الغنائم، وأقبل بمن معه حتى أتى النّشّاش «1» ، وأقبلت بنو عامر، وقد حشدت، فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برغاء الإبل، فجمع النساء فى فسطاط، وجعل عليهنّ حرسا، ولقى القوم فقاتلهم، فانهزم هو ومن معه، وهرب ابن الوازع، فلحق باليمامة، وكفّت قيس يوم النشّاش عن السّلب، فجاءت عكل فسلبتهم «2» . وجمع عبيد الله بن مسلم الحنفى جمعا، وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان «3» ، وأغار على عكل فقتل منهم عشرين رجلا. ثم قدم المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى واليا على اليمامة من قبل أبيه يزيد بن عمر حين ولى العراق لمروان بن محمد، فوردها وهم سلّم. وسكنت البلاد؛ ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفى مستخفيا حتى قدم السرىّ بن عبد الله الهاشمى واليا على اليمامة لبنى العباس، فدلّ عليه فقتله. وفى هذه السنة أمر يزيد بن الوليد بالبيعة [بولاية «4» ] العهد لأخيه إبراهيم، ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان.

ذكر وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك

وفيها خالف مروان بن محمد يزيد بن الوليد وأظهر الخلاف، وتجهّز للمسير إلى الشام، وعرض جند الجزيرة فى نيف وعشرين ألفا، فكاتبه يزيد ليبايع له ويوليه ما كان عبد الملك ولّى أباه محمدا من الجزيرة وإرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، وأعطاه يزيد ولاية ما شرطه «1» له. ذكر وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك كانت وفاته بدمشق لعشر بقين من ذى الحجة سنة [126 هـ] ستّ وعشرين ومائة؛ فكانت مدة ولايته خمسة أشهر واثنين «2» وعشرين يوما، وقيل ستة أشهر وليلتين، وقيل ستة أشهر؛ وكان عمره ستا وأربعين سنة. واختلف فيه إلى ثلاثين سنة. وكان أسمر نحيف البدن، ربع القامة، خفيف العارضين، فصيحا شديد العجب. وقيل فى صفته: أسمر طويلا صغير الرأس جميلا. وكان نقش خاتمه: يا يزيد، قم بالحق. وقيل: كان نقش خاتمه: العظمة لله. وكان آخر ما تكلّم به: وا حسرتاه! وا أسفاه! وكان له عقب كثير. كاتبه: ثابت بن سليمان. قاضيه: عثمان بن عمر بن موسى بن معمر التميمى.

ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد

حاجبه: قطرىّ مولاه. وقيل سلام. الأمير بمصر: حفص بن الوليد، ولم يزل عليها إلى أن ولى مروان فاستعفى. قاضيها: حسين بن نعيم. ويزيد أوّل من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفّين عليهم السلاح. وقيل: إنه كان قدريّا. والله أعلم. ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد هو أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمّه أم «1» ولد اسمها نعمة، وقيل خشف؛ وهو الثالث عشر من ملوك بنى أمية، قام بالأمر بعد وفاة أخيه يزيد فى ذى الحجة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة، وكان يسلّم عليه تارة بالخلافة، وتارة بالإمارة، وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما؛ فمكث أربعة أشهر، وقيل سبعين يوما، ثم سار إليه مروان بن محمد، فخلعه على ما نذكر ذلك إن شاء الله، ثم لم يزل حيّا حتى أصيب فى سنة [132 هـ] اثنتين وثلاثين ومائة. تتمة حوادث سنة (126 هـ) ست وعشرين ومائة: فيها عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان، فقدمها فى ذى القعدة من السنة. وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وقيل عمر ابن عبد الله بن عبد الملك.

(127 هـ) سبع وعشرين ومائة:

(127 هـ) سبع وعشرين ومائة: ذكر مسير مروان بن محمد إلى الشام وخلع إبراهيم بن الوليد فى هذه السنة سار مروان بن محمد بن مروان إلى الشام لمحاربة إبراهيم بن الوليد، فانتهى إلى قنسرين، وبها بشر «1» ومسرور، ابنا الوليد [أرسلهما «2» ] أخوه إبراهيم، فتصافوا، ودعاهم مروان إلى بيعته فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة فى القيسيّة، وأسلموا بشرا وأخاه مسرورا، فحبسهما مروان، وسار معه أهل قنسرين إلى حمص، وكان أهل حمص قد امتنعوا من بيعة إبراهيم وعبد العزيز، فوجّه إليهم إبراهيم عبد العزيز فى جند أهل دمشق، فحاصرهم فى مدينتهم، وأسرع مروان السير، فلما دنا من حمص رحل عبد العزيز عنها، وخرج أهلها إلى مروان فبايعوه، وساروا معه، ووجّه إبراهيم الجنود من دمشق مع سليمان بن هشام فى مائة وعشرين ألفا ومروان فى ثمانين ألفا، فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله وإطلاق الحكم وعثمان ابنى الوليد من السجن، وضمن لهم أنّه لا يطلب أحدا من قتلة الوليد، فلم يجيبوه وجدّوا فى قتاله فاقتتلوا «3» ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم، وكان مروان ذا رأى ومكيدة، فأرسل ثلاثة آلاف فارس، وأمرهم أن يأتوا عسكر سليمان من خلفه، ففعلوا ذلك، فلم يشعر سليمان إلّا والقتل فى أصحابه من ورائهم،

فانهزموا، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم، فقتلوا منهم سبعة عشر ألفا، وقيل ثمانية عشر ألفا، وكفّ أهل الجزيرة وقنّسرين عن قتالهم، وأتوا مروان من أسراهم بمثل القتلى، فأخذ مروان عليهم البيعة لولدى الوليد، وخلّى عنهم، وهرب يزيد ابن عبد الله بن خالد القسرى فيمن هرب إلى دمشق، فاجتمعوا مع إبراهيم وعبد العزيز، واتفقوا على قتل الحكم وعثمان ولدى الوليد، فقتلا؛ وقتل معهما يوسف بن عمر، وأرادوا قتل محمد السفيانى، فدخل بيتا من بيوت السجن وأغلقه، فلم يقدروا على فتحه، [وأرادوا «1» ] إحراقه، فقيل لهم: قد دخلت خيل مروان المدينة، فهربوا، وهرب إبراهيم، واختفى، وانتهب سليمان بن هشام ما فى بيت المال، فقسّمه فى أصحابه، وخرج من المدينة، وعاش إلى سنة [132 هـ] اثنتين وثلاثين ومائة، ثم قتله ابن عوف يوم الزّاب. وقيل: إنه غرق فى ذلك اليوم. وقيل: قتله مروان بن محمد وصلبه. وكان إبراهيم عاجزا ضعيف الرّأى، وكان خفيف العارضين له ضفيرتان. وكان نقش خاتمه: توكّلت على الحىّ القيوم. كاتبه: بكير بن السراج اللخمى. قاضيه: عثمان بن عمر التميمى. حاجبه: قطرىّ مولى الوليد، ثم وردان مولاه. [والله أعلم «2» ] .

ذكر بيعة مروان بن محمد

ذكر بيعة مروان بن محمد هو أبو عبد الله مروان بن محمد بن الحكم بن أبى العاص، وأمّه لبابة جارية إبراهيم بن الأشتر، وكانت كردية، أخذها محمد من عسكر إبراهيم، فولدت له مروان وعبد العزيز، ولقب بالجعدىّ لأن خاله الجعد بن درهم، فنسب إليه. ولقب أيضا حمار الجزيرة. بويع له فى صفر فى سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، وكان سبب بيعته أنه لما دخل دمشق وهرب إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام ثار من بدمشق من موالى الوليد بن يزيد بن عبد الملك إلى دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد، وأخرجوه فصلبوه على باب الجابية، وأتى مروان بالغلامين، الحكم وعثمان مقتولين، وبيوسف بن عمر، فدفنهم، وأتى بأبى محمد السّفيانى فى قيوده، فسلم على مروان بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له مروان: مه. فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشد شعرا قاله الحكم فى السجن، وكانا قد بلغا وولد لأحدهما، وهو الحكم، فقال «1» : ألا من مبلغ مروان عنّى ... وعمّى الغمر «2» طال به «3» حنينا

ذكر رجوع الحارث بن سريج

بأنّى قد ظلمت وصار قومى ... على قتل الوليد مشايعينا «1» أيذهب كلّهم «2» بدمى ومالى ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا ومروان بأرض بنى نزار ... كليث الغاب مفترش عرينا «3» أتنكث بيعتى من أجل أمّى ... فقد بايعتمو قبلى هجينا فإن أهلك أنا وولىّ عهدى ... فمروان أمير المؤمنينا ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان «4» . وكان أوّل من بايعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ورءوس أهل حمص، والناس بعد. فلما استقرّ له الأمر رجع إلى منزله بحرّان، وطلب منه الأمان لإبراهيم «5» بن الوليد وسليمان بن هشام فأمّنهما فقدما عليه، وبايعاه. وفى هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه؛ وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم. ذكر رجوع الحارث بن سريج وفى هذه السنة كان رجوع الحارث بن سريج إلى مرو؛ وكان قدومه فى جمادى الآخرة سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، وكان ببلاد التّرك، وكان مقامه عندهم اثنتى عشرة سنة،

وقد قدّمنا من أخباره طرفا. وكان سبب عوده أنّ الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر بن سيار والكرمانى فى سنة [126 هـ] ست وعشرين فى خلافة يزيد ابن الوليد كما ذكرنا- خاف نصر قدوم الحارث عليه فى أصحابه، فأرسل مقاتل بن حيّان النّبطى وغيره ليردّوه من بلاد التّرك، وسار خالد بن زياد البدّى التّرمذى وخالد بن عمرو مولى بنى عامر إلى يزيد، فأخذوا للحارث منه أمانا فأمّنه، وأمر نصر بن سيار أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بذلك، فلما قدم تلقّاه الناس بكشميهن «1» ، ولقيه نصر وأنزله، وأجرى عليه كلّ يوم خمسين درهما، فكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل. وأرسل إلى نصر: إنى لست من الدنيا واللذات فى شىء، إنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك. وأرسل الحارث إلى الكرمانى إذا أعطانى نصر العمل بالكتاب وما سألته عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل أعنتك إن ضمنت لى القيام بالعدل والسّنة. ودعا [بنى «2» ] تميم إلى نفسه، فأجابه منهم ومن غيرهم

ذكر انتقاض أهل حمص

جمع كثير، واجتمع إليه ثلاثة آلاف، وقال لنصر: إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور وأنت تريدنى عليه. ذكر انتقاض أهل حمص وفى هذه السنة انتقض أهل حمص بعد عود مروان إلى حرّان بثلاثة أشهر، وكان الذى دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسل أهل حمص من بتدمر من كلب، فأتاهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبى وأولاده، ومعاوية السّكسكى، وكان فارس أهل الشام وغيرهما فى نحو ألف من فرسانهم، فدخلوا حمص ليلة الفطر، فجدّ مروان فى السير إليهم ومعه إبراهيم [بن الوليد] «1» المخلوع، وسليمان ابن هشام، فبلغها بعد الفطر بيومين، وقد سدّ أهلها أبوابها، فأحدق بالمدينة ووقف بإزاء باب من أبوابها، فنادى مناديه: ما دعاكم إلى النّكث؟ قالوا: إنّا على طاعتك لم ننكث. قال: فافتحوا. ففتحوا الباب، فدخله عمرو بن الوضّاح فى الوضّاحية فى نحو ثلاثة آلاف، فقاتلهم من بالبلد فكسرتهم خيل مروان، فخرج من بها من باب تدمر، فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامّة من خرج منه، وأفلت الأصبغ وابنه، وقتل مروان جماعة من أشرافهم، وصلب خمسمائة من القتلى حول المدينة، وهدم من سورها نحو غلوة. وقيل: كان ذلك سنة [128 هـ] ثمان وعشرين ومائة. [والله أعلم «2» ] .

ذكر خلاف أهل الغوطة

ذكر خلاف أهل الغوطة وفى هذه السنة خالف أهل الغوطة وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسرى وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو، فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث، وعمرو بن الوضّاح فى عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج عليهم من بالمدينة؛ فانهزموا، واستباح أصحاب مروان عسكرهم، وأحرقوا المزّة «1» وقرى من قرى اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص. ذكر خلاف أهل فلسطين وفيها خرج ثابت بن نعيم بعد هؤلاء فى أهل فلسطين، وأتى طبرية فحاصرها، وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فقاتله أهلها أياما، فكتب مروان بن محمد إلى أبى الورد يأمره بالمسير إليهم، فسار فلما قرب منهم خرج أهل طبريّة على ثابت فهزموه واستباحوا عسكره، فانصرف إلى فلسطين منهزما، فتبعه «2» أبو الورد والتقوا واقتتلوا، فانهزم ثانية وتفرّق عنه أصحابه وأسر «3» ثلاثة من أولاده. وبعث بهم إلى مروان، وتغيّب ثابت وولده رفاعة.

واستعمل مروان على فلسطين الرّماحس بن عبد العزيز «1» الكنانى، فظفر بثابت، فبعثه إلى مروان موثقا بعد شهرين، فأمر به وبأولاده الثلاثة، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وحملوا إلى دمشق، فألقوا على باب المسجد ثم صلبوا على أبواب دمشق؛ واستقام أمر الشام لمروان إلا تدمر؛ فسار مروان إليها، فنزل القسطل «2» ، وبعث إليهم فأجابوه إلى الطاعة فبايعهم، وهدم سور البلد. وفيها بايع مروان لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوّجهما ابنتى هشام ابن عبد الملك، وجمع لذلك بنى أميّة. وسار مروان إلى الرّصافة، وندب يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لقتال الضحاك الخارجى، وأمر أهل الشام باللّحاق به. ولما سار مروان استأذنه سليمان بن هشام ليقيم أيّاما ليقوّى من معه وتستريح دوابّهم، فأذن له. وتقدّم مروان إلى قرقيسياء «3» وبها ابن هبيرة ليقدّمه إلى الضحّاك، فرجع عشرة آلاف ممّن كان مروان أخذ من أهل الشام لقتال الضحاك، فأقاموا بالرّصافة، ودعوا سليمان إلى خلع مروان فأجابهم.

ذكر خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد

ذكر خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد وفى هذه السنة خلع سليمان بن هشام مروان، وذلك أنه لما استأذنه فى المقام بعده، وأقام، وقدم عليه الجنود الذين ذكرناهم حسّنوا له خلع مروان وقالوا: أنت أرضى عند الناس، وأولى من مروان بالخلافة؛ فأجابهم إلى ذلك، وسار بإخوته ومواليه، فعسكر بقنّسرين، وأتاه أهل الشام من كلّ مكان. وبلغ الخبر مروان، فرجع إليه من قرقيسياء، وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام؛ وكان أولاد هشام وجماعة من موالى سليمان بحصن الكامل، فمرّ عليهم مروان فتحصّنوا منه، فأرسل إليهم يحذّرهم أن يتعرّضوا لأحد ممّن يتبعه من جنده، فإن تعرّضوا لأحد فلا أمان لهم، فأرسلوا إليه إنهم يكفّون عنهم. ومضى مروان فجعلوا يغيرون على من يتبعه، فاشتدّ غيظه عليهم. قال: واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذّكوانيّة وغيرهم، وعسكر بقرية خساف «1» من أرض قنّسرين. وأتاه مروان والتقوا؛ واشتدّ القتال بينهم، فانهزم سليمان ومن معه، واتبعهم مروان، فاستباح عسكره، وأمر مروان بقتل من يؤتى به من الأسرى إلا عبدا مملوكا، فأحصى من قتلاهم يومئذ [ما «2» ] نيّف

على ثلاثين ألف قتيل. وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وخالد ابن هشام المخزومى خال هشام بن عبد الملك، وادعى كثير من الجند الأسرى أنهم عبيد؛ فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد. ومضى سليمان إلى حمص، وانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان هدمه من سورها؛ وسار مروان إلى حصن الكامل، فحصر من فيه، وأنزلهم على حكمه، فمثّل بهم، وأخذهم أهل الرّقّة فداووا جراحاتهم، فهلك بعضهم وكانت عدّتهم نحو ثلاثمائة «1» . ثم سار إلى سليمان، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان، فتبايع تسعمائة من فرسانهم على الموت، وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم فتحرز منهم، فلم يمكّنهم أن يبيّتوه، وزحف على احتراز وتعبئة، فكمنوا فى زيتون فى طريقه، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئته، فوضعوا السلاح فيمن معه، فنادى مروان خيوله، فرجعت إليه، فقاتلوا من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، فانهزم أصحاب سليمان وقتل منهم نحو ستة آلاف. فلما بلغ سليمان هزيمتهم خلّف أخاه سعيدا بحمص، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصر أهلها عشرة أشهر، ونصب عليهم نيّفا وثمانين منجنيقا يرمى بها الليل والنهار، وهم يخرجون إليه فى كل يوم فيقاتلونه.

ذكر خروج الضحاك محكما وما كان من أمره إلى أن قتل

فلما تتابع عليهم البلاء طلبوا الأمان على أن يمكّنوه من سعيد ابن هشام وابنيه: عثمان ومروان، ومن رجل كان يسمى السكسكى، كان يغير على عسكره، ومن رجل حبشيّ كان يشتم مروان، فأجابهم إلى ذلك، واستوثق من سعيد وابنيه، وقتل السكسكى، وسلّم الحبشى إلى بنى سليم، لأنه كان يخصّهم بالسّبّ، فقطعوا ذكره وأنفه ومثّلوا به. ولما فرغ مروان من حمص سار نحو الضحّاك الخارجى. وقيل: إن سليمان لما انهزم بخساف أقبل هاربا حتى التحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق، فخرج معه [إلى «1» ] الضحاك، فقال بعض شعرائهم «2» : ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصلّت «3» قريش خلف بكر بن وائل ذكر خروج الضحاك محكما وما كان من أمره إلى أن قتل وفى سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة خرج الضحّاك بن قيس الشيبانى محكما ودخل الكوفة. وكان سبب ذلك أنّ الوليد لما قتل خرج بالجزيرة حروريّ يقال له سعيد بن بهدل الشيبانى فى مائتين من أهل الجزيرة، فاغتنم سعيد قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفر توثا «4» ،

وخرج بسطام البيهسىّ، وهو مخالف لرأيه فى مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فلما تقاربا أرسل سعيد أحد قوّاده فى مائة وخمسين، فقتلوا بسطاما ومن معه إلا أربعة عشر رجلا. ثم مضى سعيد نحو العراق فمات فى الطريق، واستخلف الضحّاك بن قيس. فأتى أرض الموصل ثم شهرزور، فاجتمعت عليه الصّفريّة حتى صار فى أربعة آلاف، وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالجزيرة. فكتب مروان إلى النّضر بن سعيد الحرشىّ «1» - وهو أحد قوّاد ابن عمر بولاية العراق- فلم يسلّم ابن عمر إليه العمل، فشخص النّضر إلى الكوفة و [بقى] «2» عبد الله بالحيرة، وتحاربا أربعة أشهر. فلما سمع الضحّاك باختلافهم أقبل نحوهم، وقصد العراق سنة [127 هـ] سبع وعشرين، فأرسل ابن عمر إلى النّضر فى الاجتماع عليه، فتعاقدا واجتمعا بالكوفة؛ وكان كلّ منهما يصلّى بأصحابه. وأقبل الضحاك فنزل بالنّخيلة «3» فى شهر رجب سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فكشفوا ابن عمر، وقتلوا أخاه عاصما وجعفر بن العباس الكندىّ، ودخل ابن عمر خندقه، وبقى الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا؛ وذلك

فى يوم الخميس ثم اقتتلوا يوم الجمعة، فانهزم أصحاب ابن عمر. فلما كان يوم السبت تسلّلوا «1» إلى واسط، فلحق بها وجوه الناس، فرحل عند ذلك ابن عمر إليها، فلم يأمنه عبيد الله بن العبّاس الكندى على نفسه، فسار مع الضحاك وبايعه. ولما نزل ابن عمر إلى واسط نزل بدار الحجّاج بن يوسف، وعادت الحرب بينه وبين النّضر إلى ما كانت عليه، وسار الضحّاك من الكوفة إلى واسط، ونزل باب المضمار، فترك ابن عمر والنّضر الحرب بينهما، واتّفقا على قتال الضحاك، فلم يزالوا على ذلك شعبان ورمضان وشوّال، والقتال بينهم متواصل. ثم صالحه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن هشام، وبايعاه، ودفعاه إلى مروان. قال: وكاتب أهل الموصل الضحّاك فى القدوم ليمكّنوه من البلد، فسار إلى الموصل ففتح أهلها له أبوابها، فدخلها، واستولى عليها وعلى كورها، وذلك فى سنة [128 هـ] ثمان وعشرين، فبلغ مروان خبره وهو يحاصر حمص، فكتب إلى ابنه عبد الله- وهو خليفته بالجزيرة- أن يسير إلى نصيبين، ويمنع الضحاك من توسّط الجزيرة؛ فسار إليها فى سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، وسار إليه الضحاك، فحصر عبد الله بن مروان بنصيبين، وكان مع الضحّاك ما يزيد على مائة ألف. ثم سار مروان إليه، والتقوا بنواحى كفر توثا من أعمال

ذكر خبر الخيبرى (الخارجى) وقتله وقيام شيبان

ماردين، فقاتله يومه أجمع، فقتل الضحاك ولم يعلم به مروان ولا أصحابه؛ ثم بلغ مروان قتله، فاستخرجه من بين القتلى وفى وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة. وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة. وقيل: إنّ قتله كان فى سنة [129 هـ] تسع وعشرين ومائة [والله أعلم «1» ] . وحيث ذكرنا أخبار الضحاك فلنذكر أخبار من خرج بعده فى أيام مروان: ذكر خبر الخيبرى (الخارجى) «2» وقتله وقيام شيبان قال: ولما قتل الضحّاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبرىّ؛ وكان سليمان بن هشام معه، وأصبحوا واقتتلوا، فحمل الخيبرىّ على مروان فى نحو أربعمائة فارس من [أهل «3» ] الشّراة، فهزم مروان وهو فى القلب، وخرج من العسكر منهزما، ودخل الخيبرى ومن معه عسكر مروان ينادون بشعارهم ويقتلون من أدركوه، حتى انتهوا إلى خيم مروان، فدخلها الخيبرى وجلس على فرش مروان، هذا وميمنة مروان ثابتة، وعليها ابنه عبد الله؛ وميسرته [ثابتة «4» ] وعليها إسحاق بن مسلم العقيلى. فلما رأى أهل العسكر قلّة من مع الخيبرى ثار إليه «5» عبيدهم بعمد الخيم، فقتلوا الخيبرىّ وأصحابه جميعا فى خيم مروان

ذكر أخبار شيبان الحرورى وما كان من أمره إلى أن قتل

وحولها، وبلغ مروان الخبر، وقد صار بينه وبين العسكر خمسة أميال أو ستة منهزما، فانصرف إلى عسكره، وبات ليلته تلك، وانصرف الخوارج فولّوا عليهم شيبان. ذكر أخبار شيبان الحرورى وما كان من أمره إلى أن قتل هو شيبان بن عبد العزيز أبو الدّلفاء «1» اليشكرى. قال: ولما بايعوه بعد قتل الخيبرىّ أقام يقاتل مروان، وتفرّق عنه كثير من أصحابه، فبقى فى نحو أربعين ألفا، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى الموصل فيجعلوها ظهرهم. فارتحلوا وتبعهم مروان حتى انتهوا إلى الموصل فعسكروا شرقى دجلة، وعقدوا عليها جسرا، وخندق مروان بإزائهم، وأهل الموصل يقاتلون مع الخوارج، فأقام مروان ستة أشهر يقاتلهم، وقيل تسعة أشهر. وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا، بجميع من معه إلى العراق وعلى الكوفة المثنّى ابن عمران العائذى، وهو خليفة الخوارج بالعراق، فلقى ابن هبيرة بعين التّمر، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الخوارج، ثم تجمّعوا بالكوفة بالنّخيلة فهزمهم ابن هبيرة، ثم اجتمعوا بالصّراة، فأرسل إليهم شيبان عبيد بن سوّارفى خيل عظيمة، فالتقوا بالصّراة «2» ، فانهزمت الخوارج، وقتل عبيدة، ولم يبق لهم

بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة على العراق، وسار إلى واسط، وأخذ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، فأرسل سليمان إلى نباتة داود بن حاتم، فالتقوا على شاطىء دجيل؛ فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم. وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق يأمره بإرسال عامر بن ضبارة المرّى إليه، فسيّره فى سبعة آلاف أو ثمانية، فبلغ شيبان خبره، فأرسل الجون بن كلاب الخارجى فى جمع، فالتقوا فهزم عامر؛ فأمدّه مروان بالجنود، فقاتل الخوارج فهزمهم؛ وقتل الجون، وسار إلى الموصل، فلما بلغ [شيبان قتل] «1» الجون ومسير عامر نحوه كره أن يقيم بين العسكرين. فارتحل بمن معه، وقدم عامر على مروان بالموصل فسيّره فى جمع كثير فى أثر شيبان، وأمره ألّا يبدأه بقتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك عنه أمسك. فكان كذلك، حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء فارس «2» ، وبها عبد الله بن معاوية بن جعفر. وسار إلى نحو كرمان، فأدركه عامر، فالتقوا واقتتلوا، وانهزم شيبان إلى سجستان فهلك بها، وذلك فى سنة [130 هـ] ثلاثين ومائة. وقيل: بل كان قتال شيبان ومروان على الموصل نحو شهر. ثم انهزم شيبان حتى لحق بفارس، وعامر يتبعه، وسار إلى جزيرة

ابن كاوان، ثم إلى عمان فقتله جلندى بن مسعود بن جيفر ابن جلندى «1» الأزدى سنة [134 هـ] أربع وثلاثين ومائة، وسنذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة العباسية. فلنرجع إلى تتمة حوادث سنة [127 هـ] سبع وعشرين مائة وما بعدها. فيها كان من أخبار الأندلس وشيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى مواضعه. وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مروان على مكة والمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النّضر ابن سعيد الحرشى، وكان من أمره وأمر ابن عمر والضحاك ما قدّمنا ذكره. وكان بخراسان نصر بن سيّار [و] «2» الكرمانى، والحارث ابن سريج ينازعانه. وفيها مات سويد بن غفلة. وقيل سنة إحدى وثلاثين. وقيل سنة اثنتين وثلاثين، وعمره مائة وعشرون سنة. والله تعالى أعلم.

سنة (128 هـ) ثمان وعشرين ومائة:

سنة (128 هـ) ثمان وعشرين ومائة: ذكر مقتل الحارث بن سريج وغلبة الكرمانى على مرو وفى هذه السنة كان مقتل الحارث بن سريج وغلبة الكرمانى على مرو. وكان سبب ذلك أنّ ابن هبيرة لما ولى العراق كتب إلى نصر ابن سيّار بعهد خراسان، فبايع لمروان بن محمد، فقال الحارث: إنما أمّننى يزيد ولم يؤمّنى مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد، فلا آمنه. فخالف نصرا فأرسل إليه [نصر «1» ] يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة، فلم يجبه إلى ذلك، وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر: أن اجعل الأمر شورى، فأبى نصر، وأمر الحارث جهم ابن صفوان رأس الجهميّة، وهو مولى راسب، أن يقرأ سيرته وما يدعو إليه على الناس، [ففعل «2» ] ، فلما سمعوا ذلك [كثروا و «3» ] كثر جمعه. وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود، فأرسل إليه نصر إن كنت كما تزعم وإنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون ملك بنى أمية فخذ منى خمسمائة رأس «4» ومائتى بعير، واحتمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب، وسر، فلعمرى إن كنت

صاحب ما ذكرت إنى لفى يدك، وإن كنت لست ذاك فقد أهلكت عشيرتك؛ ثم عرض عليه نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل. فقال له نصر: فابدأ بالكرمانى فإن قتلته فأنا فى طاعتك، فلم يقبل. وأمر الحارث أن تقرأ سيرته فى الأسواق والمسجد وعلى باب نصر، فقرئت، فأتاه خلق كثير، وقرأها رجل على باب نصر. فضربه غلمان نصر، فنابذهم الحارث وتجهّز للحرب، ودلّه رجل من أهل مرو على نقب فى سورها، فمضى إليه الحارث فنقبه. ودخل المدينة من ناحية باب بالين. فقاتله جهم بن مسعود الناجى. فقتل جهم، وانتهبوا منزل سلّم بن أحوز، وقتل من كان بحرس باب بالين وذلك لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة يوم الاثنين. وركب الحارث فى سكة السغد «1» ، فرأى أعين مولى حيّان فقاتله، فقتل أعين، وركب سلّم حين أصبح، وأمر مناديا فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة. فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث بعد أن قاتلهم الليل كلّه. وأتى سلّم عسكر الحارث فقتل كاتبه يزيد بن داود، وقتل الرجل الذى دلّ الحارث على النقب، وأرسل نصر إلى الكرمانى فأتاه على عهد، وعنده جماعة، فوقع بين سلّم بن أحوز والمقدام بن نعيم كلام، فأغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه، وأعان كلّ واحد منهما نفر من الحاضرين؛ فخاف الكرمانى أن يكون مكرا من نصر، فقام

وتعلّقوا به، فلم يجلس، وركب فرسه، ورجع، وقال: أراد نصر الغدر بى. وأسر يومئذ جهم بن صفوان وكان مع الكرمانى فقتل، وأرسل الحارث ابنه حاتما إلى الكرمانىّ، فقال له محمد بن المثنى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان. فلما كان الغد ركب الكرمانىّ فقاتل أصحاب نصر، ووجّه أصحابه يوم الأربعاء إلى نصر، فتراموا ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. والتقوا يوم الجمعة فانهزمت الأزد حتى وصلوا إلى الكرمانىّ، فأخذ اللواء بيده، فقاتل به فانهزم أصحاب نصر. وأخذوا لهم ثمانين فرسا، وصرع تميم بن نصر، وسقط سلّم ابن أحوز فحمل إلى عسكر نصر. فلما كان الليل خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدى، وكان يحمى أصحاب نصر، واقتتلوا ثلاثة أيام، فانهزم أصحاب الكرمانىّ فى آخر يوم، وهم الأزد وربيعة، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن! فدخل الحارث السوق ففتّ فى أعضاد المضريّة، وهم أصحاب نصر، فانهزموا وترجّل تميم بن نصر فقاتل. فلما هزمت اليمانيّة مضر أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّروننى بانهزامكم. وأنا كافّ. فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانىّ. فأخذ عليه نصر العهود بذلك، وقدم على نصر عبد الحكم «1»

ابن سعيد العوذى «1» وأبو جعفر عيسى بن جرز من مكة: والعوذ «2» : بطن من الأزد، فقال أبو جعفر لنصر: أيها الأمير، حسبك من الولاية وهذه الأمور «3» ، فقد أظلّك أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النّسب يظهر السّواد، ويدعو إلى دولة تكون فيغلب «4» على الأمر، وأنتم تنظرون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون كما تقول لقلّة الوفاء وسوء ذات البين «5» . فقال: إنّ الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانى من ذلك ببعيد. قال: ولما خرج نصر من مرو وغلب عليها الكرمانى خطب الناس فأمّنهم ثم هدم الدّور ونهب الأموال، فأنكر الحارث عليه ذلك، فهمّ الكرمانىّ به، ثم تركه، واعتزل بشر بن جرموز الضبىّ فى خمسة آلاف، وقال الحارث: إنما قاتلت معك طلبا للعدل، فأما إذ تتبع «6» الكرمانى فما تقاتل إلا ليقال غلب الحارث، وهؤلاء يقاتلون عصبيّة؛ فلست مقاتلا معك، فنحن الفئة العادلة، لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأتى الحارث مسجد عياض، وأرسل إلى

الكرمانى يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرمانى، فانتقل الحارث عنه، وأقاموا أياما. ثم إنّ الحارث أتى السّور فثلم فيه ثلمة، ودخل البلد، وأتى الكرمانى، فاقتتلوا، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكرهم، والحارث على بغل، فنزل عنه وركب فرسا، وبقى فى مائة، فقتل عند شجرة زيتون أو غبيراء «1» ، وقتل أخوه سوادة وغيرهما. وقيل: كان سبب قتله أنّ الكرمانىّ خرج إلى بشر بن جرموز عند اعتزاله، ومعه الحارث، فأقام أياما بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم قرب منه ليقاتله، فندم الحارث على اتّباع الكرمانىّ وقال: لا تعجل إلى قتالهم فأنا أردّهم عليك. فخرج فى عشرة فوارس فأتى عسكر بشر، فأقام معهم. وخرج المضريّة أصحاب الحارث إليه، فلم يبق مع الكرمانىّ مضرىّ غير سلمة بن أبى عبد الله، فإنه قال: لم أر الحارث إلّا غادرا، و [غير] «2» المهلّب بن إياس، فقاتلهم الكرمانى مرارا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم مرّة لهؤلاء ومرة لهؤلاء. ثم ارتحل الحارث بعد أيام، فنقب سور مرو ودخلها، وتبعه الكرمانى، فدخلها أيضا، فقالت المضريّة للحارث: قد فررت غير مرّة، فترجّل، فقال: أنا لكم فارسا خير منى لكم راجلا. فقالوا:

لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل، فاقتتلوا هم والكرمانى، فقتل الحارث وأخواه وبشر بن جرموز، وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصفت مرو للكرمانى واليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر ابن سيّار للحارث حين قتل «1» : يا مدخل الذّلّ على قومه ... بعدا وسحقا لك من هالك شؤمك أردى مضرا كلّها ... وعضّ «2» من قومك بالحارك ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع فى عمرو ولا مالك «3» ولابنى سعد إذا ألجموا ... كلّ طمرّ لونه حالك وفى هذه السنة كان اجتماع أبى حمزة الخارجى وعبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحقّ، واتّفقا على الخروج على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مكّة والمدينة، وكان بالعراق عمال الضحاك الخارجى وعبد الله بن عمر ابن عبد العزيز، وبخراسان نصر بن سيار والفتنة قائمة.

سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة: ذكر مقتل الكرمانى

سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة: ذكر مقتل الكرمانى وهو جديع بن على الأزدى قال: ولما خلصت مرو للكرمانى وتنحّى نصر عنها أرسل نصر أصحابه لقتاله مرارا، كلّ ذلك والظفر لأصحاب الكرمانى، ثم خرجوا جميعا واقتتلوا قتالا شديدا، وذلك بعد ظهور أمر أبى مسلم الخراسانى ودعوته لبنى العباس، فكتب أبو مسلم إلى نصر والكرمانى: إن الإمام أوصانى بكما. ثم أقبل بمن معه حتى نزل خندقيهما، فهابه الفريقان. وبعث إلى الكرمانى: إنى معك. فقبل ذلك، وانضمّ أبو مسلم إليه، فاشتدّ ذلك على نصر، وأرسل إلى الكرمانى يخوّفه من أبى مسلم، ويقول له: ادخل إلى مرو، واكتب بيننا كتابا بالصّلح، وهو يريد أن يفرّق بينهما، فدخل الكرمانى منزله، وأقام أبو مسلم فى العسكر، وخرج الكرمانى حتى وقف فى الرّحبة فى مائة فارس، وأرسل إلى نصر أن اخرج لنكتب الكتاب. فلما نظر نصر إلى غرّة الكرمانى أرسل إليه ثلاثمائة فارس، فاقتتلوا قتالا شديدا فطعن الكرمانى فى خاصرته، فخرّ عن دابّته، وحماه أصحابه حتى جاءهم مالا قبل لهم به. فقتل نصر الكرمانى وصلبه، وصلب معه سمكة. فأقبل ابنه علىّ وقد جمع جمعا كثيرا، وانضمّ إلى أبى مسلم، وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة. ودخل أبو مسلم مرو على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الدولة العباسية. قال: ولما رأى نصر قوة أبى مسلم كتب إلى مروان بن محمد

ذكر خبر أبى حمزة المختار

يعلمه حال أبى مسلم وخروجه وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم ابن محمد، وكتب إليه بأبيات شعر، وهى «1» : أرى بين الرّماد وميض نار «2» ... فأوشك أن يكون له «3» ضرام فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب مبدؤها كلام «4» فقلت من التعجّب ليت شعرى ... أيقاظ أميّة أم نيام فكتب إليه مروان: إن الشاهد يرى مالا يرى الغائب، فاحسم الثّؤلول «5» قبلك. فقال نصر: أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أنّه لا نصر عنده. وكتب نصر إلى يزيد بن هبيرة بالعراق يستمدّه. فلما قرأ كتابه قال: لا تكثر، فليس له عندى رجل. ثم قبض مروان على إبراهيم الإمام وحبسه، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم. ذكر خبر أبى حمزة المختار ابن عوف الأزدى البصرى مع طالب الحقّ عبد الله بن محمد ابن يحيى الحضرمى كان المختار من الخوارج الأباضيّة، وكان يوافى مكة فى كل سنة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد، فلم يزل كذلك حتى وافى عبد الله بن محمد بن يحيى الحضرمى المعروف بطالب الحقّ فى آخر سنة [128 هـ] ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل،

أسمع كلاما حسنا، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معى، فإنى رجل مطاع فى قومى، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف «1» مروان، وقد كان أبو حمزة اجتاز مرّة بمعدن بنى سليم «2» ، والعامل عليه كثير بن عبد الله، فسمع كلام أبى حمزة فجلده أربعين سوطا، فلما ملك أبو حمزة المدينة على ما نذكره تغيّب كثير. وفى هذه السنة قدم أبو حمزة إلى الحجّ من قبل عبد الله بن محمد طالب الحقّ، فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلّا وقد طلعت عليه أعلام وعمائم سود على رءوس الرماح، وهم سبعمائة، ففزع الناس، وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآله، فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكّة والمدينة، وطلب منهم الهدنة أيام الحج، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ وعليه أشحّ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى تنفر الناس النفر الأخير، فوقفوا بعرفة على حدة، ودفع [بالناس] «3» عبد الواحد، ونزل بمنزل السلطان بمنى، ونزل أبو حمزة بقرين الثّعالب. فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد وأخلى مكّة فدخلها أبو حمزة بغير قتال، فقال بعضهم فى عبد الواحد «4» :

زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففرّ عبد الواحد ترك الحلائل والإمارة هاربا ... ومضى يخبّط كالبعير الشارد ومضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، وزاد أهلها فى العطاء عشرة عشرة، واستعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فخرجوا حتى وصلوا العقيق، وأتتهم رسل أبى حمزة يقولون: إنّنا والله ما لنا بقتالكم من حاجة، دعونا نمضى إلى عدوّنا. فأتى أهل المدينة وساروا حتى نزلوا قديدا «1» ، وكانوا مترفين «2» ليسوا بأصحاب حرب، فلم يشعروا إلّا وقد خرج عليهم أصحاب أبى حمزة من الغياض فقتلوهم. وكانت المقتلة فى قريش، فأصيب منهم عدد كثير، وقدم المنهزمون «3» المدينة، فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها، ومعها النساء فتأتيهم الأخبار عن رجالهم، فيخرجن امرأة امرأة كلّ واحدة تذهب لقتل «4» رجلها فلا يبقى عندها امرأة، [وذلك] «5» لكثرة من قتل. قيل: كان عدد القتلى سبعمائة، وكانت هذه الوقعة لسبع مضين من صفر سنة ثلاثين ومائة. [والله أعلم] «6» .

ذكر دخول أبى حمزة المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

ذكر دخول أبى حمزة المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قال: ودخل أبو حمزة المدينة فى ثالث [عشر] «1» صفر، ومضى عبد الواحد إلى الشام. ولما دخل أبو حمزة رقى المنبر فخطب، وقال: يأهل المدينة، مررت زمان الأحول- يعنى هشام بن عبد الملك- وقد أصاب ثماركم عاهة، فكتبتم إليه تسألونه أن يضع عنكم خرصكم «2» . ففعل فزاد الغنىّ غنى والفقير فقرا، فقلتم له: جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرا، ولا جزاه. واعلموا يأهل المدينة أنّا لم نخرج من ديارنا أشرا ولا بطرا، ولا عبثا ولا لدولة [ملك] «3» نريد أن نخوض فيه «4» ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لمّا رأينا مصابيح الحقّ قد عطّلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط- ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعى الله، ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض؛ فأقبلنا من قبائل شتّى، ونحن قليلون مستضعفون فى الأرض. فآوانا وأيّدنا بنصره، فأصبحنا بنعمته إخوانا. ثم لقينا رجالكم فدعوناهم إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فدعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بنى مروان، فشتّان- لعمر الله- ما بين الغىّ والرّشد. ثم أقبلوا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه،

وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنّه، وأقبل أنصار الله تعالى [كتائب] «1» بكلّ مهنّد ذى رونق، فدارت رحانا، واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يأهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين. يأهل المدينة؛ أوّلكم خير أول، وآخركم شرّ آخر، يأهل المدينة، أخبرونى عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى فى كتابه على القوىّ والضعيف، فجاء تاسع ليس له فيها سهم، فأخذها لنفسه مكابرا محاربا ربّه. يأهل المدينة، بلغنى أنكم تنتقصون أصحابى، قلتم: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا شبابا أحداثا، شباب والله «2» ، إنهم مكتهلون فى شبابهم، غضّة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الحقّ أقدامهم. قال: وأحسن السيرة مع أهل المدينة، واستمال الناس حتى سمعوه يقول: من زنى فهو كافر، من سرق فهو كافر، ومن شكّ فى كفرهما فهو كافر. وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم، وقال: يأهل المدينة؛ إنّا خارجون إلى مروان، فإن نظفر نعدل فى أحكامكم ونحملكم على سنّة نبيكم، وإن يكن ما تتمنّون فسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون.

ذكر مقتل أبى حمزة

ذكر مقتل أبى حمزة قال: ثم سار أبو حمزة نحو الشام، وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس، واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد ابن عطية السعدى- سعد هوازن- وأمره أن يجدّ السير ويقاتل الخوارج، فإن ظفر فيسير حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن «1» يحيى طالب الحقّ، فسار ابن عطية، فلقى أبا حمزة بوادى القرى، فقال أبو حمزة لأصحابه: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم. فصاحوا بهم: ما تقولون فى القرآن والعمل به؟ فقال ابن عطية: نضعه فى جوف الجوالق. قال: فما تقولون فى مال اليتيم؟ قال ابن عطية: نأكل ماله ونفجر بأمّه- فى أشياء سألوه عنها. فلما سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا فصاحوا: ويحك يابن عطية! إنّ الله قد جعل الليل سكنا، فاسكن. فأبى وقاتلهم، فانهزم الخوارج، وأتوا المدينة فقتلهم أهلها، وسار ابن عطية إلى المدينة، فأقام بها شهرا وسار إلى اليمن، واستخلف على المدينة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، وعلى مكة رجل من أهل الشام. ذكر مقتل عبد الله بن يحيى المنعوت بطالب الحقّ وقتل ابن عطية قال: وأقبل ابن عطية إلى اليمن، فبلغ عبد الله خبره وهو بصنعاء، فأقبل إليه بمن معه، والتقوا واقتتلوا، فقتل طالب الحق، وحمل

نعود إلى تتمة حوادث سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة:

رأسه إلى مروان بالشام، ومضى ابن عطية إلى صنعاء. فدخلها وأقام بها، فكتب إليه مروان يأمره أن يسرع السير ليحجّ بالناس؛ فسار فى اثنى عشر رجلا ومعه أربعون ألف دينار، وخلّف عسكره وخيله بصنعاء؛ فبينا هو يسير أتاه ابنا جمانة «1» المراديّان فى جمع كثير، فقالوا له ولأصحابه: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطيّة عهده على الحج، وقال: هذا عهد أمير المؤمنين، وأنا ابن عطية. فقالوا: هذا باطل، وأنتم لصوص، فقاتلهم ابن عطية حتى قتل فى سنة [130 هـ] ثلاثين ومائة. نعود إلى تتمة حوادث سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة: فى هذه السنة كان ظهور الدولة العباسية بخراسان على ما تذكره فى أخبار الدولة العباسية. وفيها غلب عبد الله بن معاوية على فارس على ما نذكر ذلك فى فى أخبار آل أبى طالب. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الواحد، وكان هو العامل على مكّة والمدينة والطائف وعلى العراق ابن هبيرة، وعلى خراسان نصر بن سيّار، والفتنة قائمة. سنة (130 هـ) ثلاثين ومائة: فى هذه السنة دخل أبو مسلم الخراسانى مرو، وبايع الناس لبنى العباس على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وفيها هرب نصر بن سيّار عن خراسان.

سنة (131 هـ) إحدى وثلاثين ومائة:

وفيها كان من أخبار الدولة العباسية ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها غزا الوليد بن هشام الصائفة، فنزل العمق «1» وبنى حصن مرعش. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير مكّة والمدينة والطائف. سنة (131 هـ) إحدى وثلاثين ومائة: فى هذه السنة مات نصر بن سيّار، ودخل قحطبة الرّىّ من قبل أبى مسلم الخراسانى، ثم دخل أصفهان، وفتحت شهرزور لبنى العباس، وسار قحطبة إلى العراق لقتال ابن هبيرة. وحجّ بالناس فى هذه السنة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدى، وهو ابن أخى عبد الملك بن محمد، وكان على الحجاز؛ ولما بلغه قتل عمه عبد الملك توجّه إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة؛ وبقر بطون نسائهم، وقتل الصّبيان، وحرق بالنار من قدر عليه منهم، وكان على العراق يزيد بن هبيرة. سنة (132 هـ) اثنتين وثلاثين ومائة: فى هذه السنة كانت هزيمة يزيد بن هبيرة عامل العراق. وفيها خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسرى مسوّدا بالكوفة، وأخرج عامل ابن هبيرة منها على ما نذكر ذلك [إن شاء الله تعالى] «2» .

وفيها كان انقضاء الدّولة الأموية، وابتداء الدولة العباسية، وبيعة أبى العباس السفّاح بالخلافة. وسار عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن عباس إلى مروان بن محمد بأمر السفاح، فلقيه بزاب الموصل، واقتتلوا، فانهزم مروان إلى مصر، فلحقه صالح بن على أخو عبد الله ببوصير «1» ، فقتله ليلة الأحد لثلاث بقين من ذى الحجة على ما نذكر ذلك إن شاء الله مبيّنا فى أخبار الدولة العباسية، جريا فى ذلك على القاعدة التى قدّمناها. ولما قتل مروان بن محمد كان له من العمر تسع وخمسون سنة. وقيل: أقلّ من ذلك. وكانت ولايته إلى أن بويع للسفاح خمس سنين وشهرا، وإلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر. وكان نقش خاتمه: اذكر الموت يا غافل. وكان له من الأولاد: عبد الله، وعبيد الله؛ هربا بعد قتله. فأما عبد الله فقتله الحبشة، وعبيد الله أعقب. وقيل: إنه أخذ وحبس إلى أيام الرشيد، فمات ببغداد، بعد أن أضر. كاتبه: عبد الحميد بن يحيى مولى بنى عامر. قاضيه: عثمان التيمى. حاجبه: مقلار «2» مولاه.

جامع أخبار بنى أمية

الأمراء بمصر: منهم حسّان بن عتاهية، أقام ستة عشر يوما ثم وليها حفص بن الوليد، ثم عزله مروان وولى جوهر «1» بن سهل العجلانى، ثم بعثه مددا إلى ابن هبيرة، وولّاها المغيرة بن عبيد الله، ثم توفى فولّاها عبد الملك بن مروان ابن موسى بن نصير. القاضى بها: عبد الرحمن بن سالم بعد أن صرف حسين بن نعيم، ولم يزل بها قاضيا إلى إمارة عبد الملك بن يزيد. جامع أخبار بنى أمية كانت مدة ولايتهم منذ خلص الأمر لمعاوية بن أبى سفيان وإلى أن قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، منها مدة عبد الله بن الزّبير تسع سنين واثنان وعشرون يوما. وعدة من ولى منهم أربعة عشر رجلا، وهم: معاوية بن أبى سفيان، يزيد بن معاوية، الوليد بن يزيد بن عبد الملك. معاوية ابن يزيد بن معاوية. مروان بن الحكم. عبد الملك بن مروان. هشام ابن عبد الملك. سليمان بن عبد الملك. عمر بن عبد العزيز. رحمه الله تعالى. يزيد بن عبد الملك. مروان بن محمد بن مروان. الوليد بن يزيد. يزيد ابن الوليد بن عبد الملك. إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك. يزيد ابن «2» معاوية بن عبد الملك، هذا وعليه انقرضت دولتهم بالمشرق،

ثم قامت لهم دولة بالأندلس، سنذكرها إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا الدولة العباسية، وإنما فصلنا ما بين دولتهم بالمشرق ودولتهم بالمغرب وجعلنا الدولة العباسية بينهما لتكون أخبار الدولتين سياقة، ولأن بعض أخبار الدولة العباسيّة متعلّق بأخبار الدولة الأموية، فإذا ذكرناها بعد لا ينقطع سياق الأخبار، لأن دولتهم بالأندلس لم تكن تلو دولتهم هذه، بل كانت بعد سنين من قيام الدولة العباسية. فصاروا إذا كالخوارج عليهم، والله تعالى الموفق للصواب والهادى له بمنه وكرمه. يتلوه إن شاء الله بعد فى أول الجزء الموفى عشرين من الكتاب: الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية وغيرها. وكتبه الحقير محمد ابن أبى النصر المنوفى الحنفى غفر الله له آمين. «1» والله تعالى الموفق للصواب والهادى له

تم الجزء الحادى والعشرون ويليه الجزء الثانى والعشرون وأوله: أخبار الدولة العباسية

فهرس الجزء الحادى والعشرين

فهرس الجزء الحادى والعشرين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى أولا- الموضوعات مقدمة 5 أخبار المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى 7 وثوب المختار بالكوفة 12 عمال المختار بن أبى عبيد 22 قتل المختار قتلة الحسين 23 بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة 34 مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير وظهور ذلك له 35 امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية 38 مسير إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد 41 ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد 44 خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به، ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل 52 أخبار نجدة بن عامر الحنفى حين وثب باليمامة وما كان من أمره 54

الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك 58 الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير خلاف ما ذكر فى الأعمال الداخلة فى ولايته على حكم السنين 59 سنة أربع وستين 59 سنة خمس وستين 59 بناء ابن الزبير الكعبة 60 ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان 61 سنة ست وستين 64 ذكر الفتنة بخراسان 64 سنة سبع وستين 67 سنة ثمان وستين 68 ذكر حصار الرى وفتحها 68 أخبار عبيد الله بن الحر ومقتله 68 سنة تسع وستين 77 سنة سبعين 77 يوم الجفرة 77 سنة إحدى وسبعين 80 سنة اثنتين وسبعين 80 سنة ثلاث وسبعين 80 بيعة مروان بن الحكم 81 السبب فى بيعة مروان 83 موقعة مرج راهط 88 مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها 94 ذكر البيعة لعبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان بن الحكم بولاية العهد 94

وفاة مروان بن الحكم 96 بيعة عبد الملك بن مروان 98 مقتل عمرو بن سعيد الأشدق، وشىء من أخباره ونسبه 100 نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية 106 عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم 108 خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى وما كان بين قيس وتغلب من الحروب 110 يوم ماكسين 111 يوم الثرثار الأول 112 يوم الثرثار الثانى 112 يوم الفدين 112 يوم السكير 113 يوم المعارك 113 يوم الشرعبية 113 يوم البليخ 114 يوم الحشاك ومقتل عمير بن الحباب السلمى وابن هوبر التغلبى 114 الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى 116 خبر يوم البشر 117 مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق وقتل مصعب بن الزبير واستيلاء عبد الملك على العراق 120 خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصلح بينهما 128 مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان 132 مقتل عبد الله بن الزبير وشىء من أخباره 133 نبذة من سيرته وأخباره 143

مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان وما فعله الحجاج من هدم الكعبة وبنائها ومسيره إلى المدينة وما فعله فيها بالصحابة رضى الله عنهم 145 أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقل بالأمر 147 مقتل أبى فديك الخارجى 150 ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة 151 إجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف 152 الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرى بن الفجاءة إياهم ومبايعتهم عبد رب الكبير والحرب بينه وبين المهلب ومقتله 155 مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة 159 خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى 161 بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث 164 الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة 165 مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه 166 الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى 167 الوقعة بين شبيب وسورة 168 الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد 169 مسير شبيب إلى الكوفة 172 محاربة شبيب أهل البادية 173 دخول شبيب الكوفة 174 محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر 175 محاربة الأمراء الذين ندبهم الحجاج لقتاله وقتال محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة 176 محاربته عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن 179

محاربة عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما 183 قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها 188 مهلك شبيب 190 خروج مطرف بن المغيرة ومقتله 193 الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين 196 غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل 197 مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده 199 غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر 201 دخول الديلم قزوين وقتلهم 202 فتح قلعة نيزك بباذغيس 203 فتح المصيصة 204 الحوادث الكائنة فى أيام عبد الملك بن مروان 204 ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية 205 ولاية الحجاج بن يوسف العراق، وما فعله عند مقدمه 207 وثوب أهل البصرة بالحجاج 214 ما كلم به الحجاج أنس بن مالك وشكواه إياه 219 ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله 222 ولاية مجاعة بن سعر التميمى على السند ووفاته 222 خبر الزنج بالبصرة 222 ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية 223 مقتل بكير بن وساج 224 حوادث سنة 78 هـ 227 حوادث سنة 79 هـ 228 حوادث سنة 80 هـ 228 حوادث سنة 81 هـ 229

مقتل بحير بن ورقاء 229 خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، وما كان بينهما من الحروب 233 الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث 237 وقعة دير الجماجم 239 الوقعة بمسكن 247 مسير عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وما كان من أمره وأمر أصحابه 249 بقية حوادث سنة 81 هـ 259 حوادث سنة 82 هـ 259 وفاة المهلب بن أبى صفرة ووصيته لبنيه وولاية ابنه يزيد خراسان 259 خبر عمر بن أبى الصلت وخلعه الحجاج بالرى وما كان من أمره 261 بناء واسط 262 حوادث سنة 84 هـ 263 حوادث سنة 85 هـ 263 عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل 263 أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ 265 وفاة عبد العزيز بن مروان، وولاية عبد الملك بن عبد الله مصر والبيعة للوليد وسليمان ابنى عبد الملك بولاية العهد 275 وفاة عبد الملك بن مروان 277 وصيته بنيه عند موته 278 أولاده وأزواجه 278 شىء من أخباره وعماله 279 الأمراء بمصر وقضاتها 280 بيعة الوليد بن عبد الملك 281 الغزوات والفتوح التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك 282

ولاية قتيبة بن مسلم خراسان، وغزواته وفتوحه 282 قتيبة ونيزك 284 غزوة بيكند وفتحها 284 غزو نومشكت، وراميثنة، وصلح أهلها، وقتال الترك والصغد وأهل فرغانة 285 غزو بخارى وفتحها 286 غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل 289 غزوة شومان وكش ونسف وفتح ذلك 294 ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد 295 فتح سمرقند 296 غزو الشاش وفرغانة 299 فتح مدينة كاشغر 301 غزوات قتيبة وفتوحاته 303 فتح السند وقتل ملكها، وما يتصل بذلك من أخبار العمال عليها 304 ذكر الغزوات إلى بلاد الروم وما فتح منها. وغزوات الصوائف على حكم السنين 311 فتح طوانة وغيرها من بلاد الروم 311 الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما تقدم 313 فى سنة 86 هـ 313 فى سنة 87 هـ 314 فى سنة 88 هـ 314 عمارة مسجد النبى والزيادة فيه 314 فى سنة 89 هـ 316 ولاية خالد بن عبد الله القسرى مكة، وما خطب الناس به وقاله 316 فى سنة 90 هـ 316 هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج 316 فى سنة 91 هـ 319

فى سنة 92 هـ 320 فى سنة 93 هـ 321 عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز 321 فى سنة 94 هـ 322 مقتل سعيد بن جبير 322 وفاة زين العابدين على بن الحسين 324 شىء من سيرته 324 فى سنة 95 هـ: 331 وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى وشىء من أخباره 331 فى سنة 96 هـ: 335 وفاة الوليد بن عبد الملك وشىء من أخباره 335 بيعة سليمان بن عبد الملك 338 قتل قتيبة بن مسلم 338 فى سنة 97 هـ 344 ولاية يزيد بن المهلب خراسان 344 فى سنة 98 هـ 347 محاصرة القسطنطينية 347 فتح قهستان وجرجان وطبرستان 349 فتح جرجان الفتح الثانى وإنشاء مدينتها 351 فى سنة 99 هـ 353 وفاة سليمان بن عبد الملك وشىء من أخباره 353 بيعة عمر بن عبد العزيز 355 فى سنة مائة للهجرة 359 خروج شوذب الخارجى 359 حوادث سنة 101 هـ 364 وفاة عمر بن عبد العزيز 365

نبذة من سيرته 366 بيعة يزيد بن عبد الملك 372 مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك 374 الغزوات والفتوح فى خلافة يزيد بن عبد الملك: 375 غزوة الترك 375 غزوة الصغد 377 الوقعة بين سعيد الحرشى أمير خراسان وبين الصغد 378 ظفر الخزر بالمسلمين 381 فتح بلنجر وغيرها 382 استيلاء يزيد بن المهلب على البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك 384 بقية أخبار سنة (101 هـ) إحدى ومائة 391 حوادث سنة اثنتين ومائة (102 هـ) 392 ولاية مسلمة بن عبد الملك العراق وخراسان وعزله، وولاية عمر بن هبيرة 392 البيعة لهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، بولاية العهد 392 مقتل يزيد بن أبى مسلم 392 حوادث سنة ثلاث ومائة (103 هـ) 394 ذكر استعمال سعيد الحرشى على خراسان، وعزل سعيد خدينة عنها 394 حوادث سنة أربع ومائة (104 هـ) : 395 عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة وولاية عبد الواحد 395 حوادث سنة خمس ومائة (105 هـ) 397 ذكر أخبار الخوارج فى أيام يزيد بن عبد الملك 397 وفاة يزيد بن عبد الملك وشىء من أخباره 399 بيعة هشام بن عبد الملك 402

الغزوات والفتوح فى أيام هشام بن عبد الملك على حكم السنين 403 غزوة مسلم الترك 404 غزاة عنبسة الفرنج بالأندلس 405 خبر أشرس بن عبد الله السلمى أمير خراسان 407 ذكر وقعة كمرجة 410 عزل أشرس عن خراسان، واستعمال الجنيد بن عبد الرحمن وقتاله الترك 412 مقتل الجراح بن عبد الله الحكمى وولاية سعيد الحرشى 414 وقعة الجنيد بالشعب 417 غزو مسلمة وعوده 421 غزو مروان بن محمد بلاد الترك، ودخوله إلى بلاد ملك السرير وغيرها 421 ظفر المسلمين بالترك وقتل خاقان ملك الترك 425 غزوات نصر بن سيار ما وراء النهر 427 غزو مروان بن محمد بن مروان 431 حوادث سنة ست ومائة (106 هـ) : 432 ذكر ولاية أسد خراسان 432 حوادث سنة سبع ومائة (107 هـ) : 434 حوادث سنة ثمان ومائة (108 هـ) : 435 حوادث سنة تسع ومائة (109 هـ) : 435 حوادث سنة عشرة ومائة (110 هـ) 436 حوادث سنة إحدى عشرة ومائة (111 هـ) 437 حوادث سنة اثنتى عشرة ومائة (112 هـ) 437 حوادث سنة ثلاث عشرة ومائة (113 هـ) 437

حوادث سنة أربع عشرة ومائة (114 هـ) 437 حوادث سنة خمس عشرة ومائة (115 هـ) 438 حوادث سنة ست عشرة ومائة (116 هـ) 438 خلع الحارث بن سريج بخراسان، وما كان من أمره 439 سنة سبع عشرة ومائة (117 هـ) 441 عزل عاصم عن خراسان، وولاية أسد وخبر الحارث بن سريج 441 سنة تسع عشرة ومائة (119 هـ) : 445 قتل المغيرة وبيان 445 خبر الخوارج فى هذه السنة 447 سنة عشرين ومائة: 451 عزل خالد بن عبد الله القسرى، وولاية يوسف بن عمر الثقفى 451 حوادث سنة إحدى وعشرين ومائة (121 هـ) : 458 حوادث سنة اثنتين وعشرين ومائة (122 هـ) : 458 ذكر مقتل البطال 458 حوادث سنة ثلاث وعشرين ومائة 459 صلح نصر بن سيار مع الصغد 459 حوادث سنة خمس وعشرين ومائة (125 هـ) : 460 ذكر وفاة هشام بن عبد الملك، ونبذة من أخباره 460 ذكر بيعة الوليد بن يزيد 462 حوادث سنة ست وعشرين ومائة: 469 مقتل خالد بن عبد الله القسرى، وشىء من أخباره 469 ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وشىء من أخباره 473 ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص 487 ذكر اضطراب أمر بنى أمية 488

خلاف أهل حمص وفلسطين: 489 خلاف أهل حمص 489 خلاف أهل فلسطين 491 عزل يوسف بن عمر عن العراق، واستعمال منصور بن جمهور 491 عزل منصور بن جمهور عن العراق، وولاية عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز 495 ذكر الاختلاف بين أهل خراسان 496 ذكر الحرب بين اليمامة وعاملهم 501 وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك 504 بيعة إبراهيم بن الوليد 505 تتمة حوادث سنة ست وعشرين ومائة (126 هـ) 505 سنة سبع وعشرين ومائة (127 هـ) 506 ذكر مسيرة مروان بن محمد إلى الشام، وخلع إبراهيم بن الوليد 506 ذكر بيعة مروان بن محمد 508 رجوع الحارث بن سريج 509 انتقاض أهل حمص 511 ذكر خلاف أهل الغوطة 512 ذكر خلاف أهل فلسطين 512 خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد 514 ذكر خروج الضحاك محكما، وما كان من أمره إلى أن قتل 516 ذكر خبر الخيبرى الخارجى وقتله وقيام شيبان 519 أخبار شبيب الحرورى وما كان من أمره إلى أن قتل 520 سنة ثمان وعشرين ومائة (128 هـ) : 523 مقتل الحارث بن سريج وعتبة الكرمانى على مرو 523 سنة تسع وعشرين ومائة (129 هـ) 529 مقتل الكرمانى 529

خبر أبى حمزة المختار بن عوف الأزدى البصرى مع طالب الحق عبد الله بن محمد بن يحيى الحضرمى 530 دخول أبى حمزة المدينة 533 مقتل أبى حمزة 535 مقتل عبد الله بن يحيى المنعوت بصاحب الحق، وقتل ابن عطية 535 تتمة حوادث سنة (129 هـ) 536 حوادث سنة ثلاثين ومائة (130 هـ) 536 حوادث سنة إحدى وثلاثين ومائة (131 هـ) 537 حوادث سنة اثنتين وثلاثين ومائة (132 هـ) : 537 جامع أخبار بنى أمية 539

ثانيا - مراجع التحقيق

ثانيا- مراجع التحقيق الاستيعاب لابن عبد البر مطبعة نهضة مصر الاشتقاق لابن دريد مطبعة السنة المحمدية الاصمعيات طبعة دار المعارف الأغانى لأبى الفرج الاصفهانى طبعة دار الكتب الاكمال لابن ماكولا نسختى المخطوطة المحققة تاج العروس للزيدى دار ليبيا للنشر والتوزيع تاريخ الطبرى طبعة دارالمعارف ديوان الفرزدق المكتبة الاهلية ديوان النابغة الذبيانى دارالفكر شرح ديوان الحماسة للتبريزى طبعة التجارية شرح ديوان الحماسة للمرزوقى لجنة التأليف الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة عيسى الحلبى العقد الفريد لابن عبد ربه لجنة التأليف فتوح البلدان للبلاذرى شركة طبع الكتب العربية 1901 م القاموس المحيط المطبعة المصرية قصص العرب طبعة عيسى الحلبى الكامل لابن الأثير إدارة الطباعة المنيرية لب اللباب لابن الأثير مكتبة القدسى لسان العرب لابن منظور الطبعة الأميرية مختارات ابن الشجرى طبعة نهضة مصر مراصد الاطلاع فى أسماء الأمكنة والبقاع مكتبة عيسى الحلبى

مروج الذهب للمسعودى طبعة التجارية المشتبه للذهبى طبعة مكتبة عيسى الحلبى معجم البلدان لياقوت مطبعة السعادة معجم الشعراء للمرزبانى طبعة مكتبة عيسى الحلبى معجم ما استعجم للبكرى مطبعة التأليف النجوم الزهراة طبعة دار الكتب

الجزء الثاني والعشرون

الجزء الثاني والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم هذا هو الجزء الثانى والعشرون من نهاية الأرب، قد اعتمدت فى تحقيقه على ثلاث مخطوطات محفوظة بدار الكتب بأرقام 592، 551، 549 معارف عامة، رمزت للأولى 592 بحرف ف، والثانية 551 بحرف ص، والثالثة 549 بحرف ك، وهى مخطوطات تستحق الدراسة والتنويه عنها إلا أن هذا الجزء ليس موضعا لهذه الدراسة، ذلك لأن هذا الجزء سبقه واحد وعشرون، وكلها جميعا تعتمد على هذه المخطوطات. ولكن على الرغم من هذا فأرى من واجبى- أداء للأمانة العلمة- أن أورد ملحوظة، ربما كان هذا الجزء وحده يستقل بها أو لعلها شائعة فى الأجزاء كلها، وهى على أية حال تستحق التسجيل، فقد لاحظت: أن المخطوطة رقم 549 المرموز لها بحرف ك كثيرة الأخطاء، ولا يتحرى ناسخها الدقة فى النقل عن المصدر الذى ينقل منه، ويتفرد بخصيصة غريبة هى عدم العناية والإهمال، إهمالا جعله يضطرب فيخلط بين الأحداث، وهو- بعد هذا- لا يستقل بذلك بل يفرض نفسه على المنسوخ، يحكم

ذوقه البيانى على ما ينقل فيقدم من حروف الجر ويؤخر وفق هواه، ويغير من الألفاظ فيأتينا بألفاظه لا بألفاظ المصدر، ولكن هذا قليل قلة يمكن التجاوز عنه، ولكن الذى لا نستطيع التجاوز عنه ولا الصبر عليه هو وضعه ألفاظا لما لم يستطع قراءته، والحق أن كل هذه العيوب تسقط من قيمة هذه المخطوطة، وفى نظرى إن عيبا واحدا منها كاف ليجعلنى أنفر أو بتعبير أدق وأصح يجعلنى أربأ بالعمل العلمى أن يجعل هذه المخطوطة إحدى عمد نشر كتاب نهاية الأرب، وأرى أن تكون عونا يسعف إذا كان فيها ما يسعف. أما المخطوطة رقم 592 وهى المرموز لها بحرف ف فهى بلا شك يجب أن تكون إحدى عمد النشر، ذلك لأن ناسخها معاصر أو يمكن اعتباره معاصرا للمؤلف، وهذا يجعل قيمتها التاريخية فى درجة عالية، ولكن على الرغم من هذه القيمة لعلمية لهذه المخطوطة فإنها لا تسلم من العيوب، وهى عيوب خطيرة، نتجت فى رأيى من ضعف ناسخها فى قراءة نسخة المؤلف، ويجب علينا ألا ندع الحديث عن هذه المخطوطة دون أن نشير إلى أن ناسخ ك ينقل من هذه المخطوطة ف ودليل ذلك أن كل سقط فى ف نجده فى ك والعكس غير صحيح، ذلك لأننا نجد فى ك سقطا ليس فى ف. والمخطوطة التى تستحق كل تقدير علمى هى المخطوطة رقم 551 وهى المرموز لها بحرف ص، ذلك لأن الناسخ أمين فى نقله، دقيق فى نقل الألفاظ دقة تجعله يرسم الكلمة التى لم يستطع قراءتها، وحسبك هذا لتقييم هذه المخطوطة، ولكن على الرغم من هذه القيمة العلمية فإنها لا تسلم من عيب، ذلك لأن الناسخ كثيرا ما يهمل النقط، والنقط أساس فى قراءة الكلمات العربية، ولكن الذى ييسر ويهون من خطر هذا العيب أن النويرى ينقل عن غيره بالنص رغم التزامه الإيجاز، ينقل العبارة بنص صاحبها إلا فى أندر الأحوال، ومن ثمّ كان هذا العيب لا يعوق المحقق من أداء عمله

وبعد فهذه إشارة تغنى عن التصريح والاسهاب عن هذه المخطوطات المشار إليها فى هوامش الكتاب، وهذا هو الجزء الثانى والعشرون أرجو أن أكون قد أديت واجبى نحوه، فإن جاء مطابقا لما يطلب من المحقق شكرت ربى على التوفيق وإن كان هناك تقصير فجهدى قد بذلته والكمال لله وحده، والله ولى التوفيق. مايو سنة 1961 محمد جابر الحينى

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره والديار المصرية وما معها خاصة وابتداء أمر الشيعة وظهورهم وما كان منهم إلى أن أفضى إلى أبى العباس عبد الله السفاح ومن قام بالأمر بعده إلى وقتنا هذا. [في سنة مائة من الهجرة] ذكر ابتداء ظهور دعوة بنى العباس وأمر الشيعة قال ابن الأثير الجزرى رحمه الله تعالى فى تاريخه الكامل، كان ابتداء ظهور دعوة بنى العباس فى خلافة عمر بن عبد العزيز، وذلك أن محمد بن على بن عبد الله بن العباس- وهو والد أبى العباس السفاح- بث دعاته فى الآفاق فى سنة مائة من الهجرة، وكان ينزل بأرض الشّراة من أعمال البلقاء بالشام، وكان أمر الشيعة بعد قتل الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما صار إلى أخيه محمد بن الحنفية، وقال بعض المؤرخين «1» إنه صار إلى على بن الحسين، ثم إلى محمد بن على الباقر، ثم إلى جعفر بن محمد، والذى عليه الأكثر «2» أن محمد بن الحنفية أوصى به إلى ابنه أبى هاشم، فلم يزل قائما بأمر الشيعة، فلما كان فى أيام سليمان بن عبد الملك وفد عليه فأكرمه سليمان، وقال ما ظننت قرشيا قط يشبه هذا وقضى حوائجه، ثم شخص من عنده

ذكر تفويض أمر الشيعة إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس وبثه الدعاة

يريد فلسطين، فلما كان ببلد لخم وجذام ضربت له أبنية فى الطريق ومعهم اللبن المسموم، فكلما مرّ بقوم قالوا «1» : هل لك فى الشراب، فيقول جزيتم خيرا، حتى مرّ بآخرين فعرضوا عليه، وهو يظنهم «2» أنهم من لخم وجذام، فقال هاتوا وشرب، فلما استقر فى جوفه أحسّ بالسم، فقال لأصحابه إنى ميت، فانظروا من القوم؟ فنظروا من القوم فإذا هم قوّضوا «3» أبنيتهم ورحلوا، فقال ميلوا بى إلى ابن عمى وأسرعوا، فإنى أحسب أنى لا ألحقه، وكان محمد بن على والد أبى العباس السفاح بالحميمة من أرض الشراة بالشام. ذكر تفويض أمر الشيعة إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس وبثه الدعاة قال: فلما وصل أبو هاشم إلى محمد بن على قال: يا ابن عم، إنى ميت وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك ابن الحارثيّة هو القائم به، ثم أخوه من بعده، والله لا يتم هذا الأمر حتى ترج الرايات السود من خراسان، ثم ليغلبنّ على ما بين حضرموت وأقصى أفريقية وما بين الهند وأقصى فرغانة، فعليك بهؤلاء الشيعة فهم دعاتك وأنصارك ولتكن دعوتك خراسان، واستبطن هذا الأمر الحىّ من اليمن، فإنّ كل ملك لا يقوم بهم، فأمره «4» إلى انتقاض وأمرهم فليجعلوا اثنى عشر نقيبا وبعدهم سبعين نقيبا، فإنّ الله تعالى لم يصلح بنى إسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم، فإذا مضت سنة الحمار فوجّه رسلك نحو خراسان. فمنهم من يقتل

ومنهم من ينجو، حتى يظهر الله دعوتكم، فقال محمد بن على: أبا هاشم وما سنة الحمار، قال إنه لم تمض مائة سنة من نبوّة إلا انتقض أمرها، لقوله تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ إلى قوله فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ «1» . واعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم مات أبو هاشم وكان قد «2» أعلم شيعته من أهل خراسان والعراق عند ترددهم إليه، أن الأمر صائر إلى ولده محمد بن على، وأمرهم بقصده بعده، فلما مات أبو هاشم قصدوا محمدا وبايعوه، وعادوا فدعوا الناس إليه فأجابوهم، وكان الذين سيّرهم إلى الآفاق جماعة، فوجّه ميسرة إلى العراق، ومحمد بن خنيس وأبا عكرمة السرّاج- وهو أبو محمد الصادق- وحيّان العطّار- خال إبراهيم بن سلمة «3» - إلى خراسان، وعليها يوم ذاك الجرّاح الحكمى، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب إلى محمد بن على فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها إلى محمد، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن على اثنى عشر نقيبا، منهم سليمان بن كثير الخزاعى، ولاهز بن قريظ التميمى، وقحطبة بن شبيب الطائى، وموسى ابن كعب التميمى، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بنى شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمى، وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى أبى معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعى، وطلحة بن زريق الخزاعى، وعمرو ابن أعين أبو حمزة مولى خزاعة، وشبل بن طهمان أبو على الهروى مولى لبنى حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار سبعين رجلا فكتب إليهم

في سنة اربع ومائة من الهجرة

محمد بن على كتابا، ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها، وذلك فى سنة مائة من الهجرة. [في سنة اربع ومائة من الهجرة] ذكر مولد أبى العباس السفاح قال: كان عبد الملك بن مروان قد منع محمد بن على أباه من زواج أمه، وهى ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان «1» الحارثى، ثم منعه الوليد وسليمان بعده لأنهم كانوا يرون أن ملكهم يزول على يد رجل من بنى العباس يقال له ابن الحارثية، فلما ولى عمر بن عبد العزيز شكى محمد بن على ذلك، وسأله ألا يمنعه من زواجها وكانت بنت خاله، فقال له عمر: تزوّج من شئت فتزوّجها، فولدت له أبا العباس السفاح فى شهر ربيع الآخر سنة أربع ومائة، ووصل إلى أبيه محمد بن على أبو محمد الصادق من خراسان فى عدة من أصحابه، فأخرج إليهم أبا العباس فى خرقة وله خمسة عشر يوما، وقال لهم هذا صاحبكم الذى يتم الأمر على يديه، فقبلوا أطرافه، وقال لهم: والله ليتمنّ هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم. وفى سنة خمس ومائة: قدم بكير بن ماهان من السند وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن، فلما عزل الجنيد قدم بكير إلى الكوفة، ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقى أبا عكرمة الصادق، وميسرة، ومحمد بن خنيس، وسالم الأعين، وأبا يحيى مولى بنى مسلمة، فذكروا له أمر دعوة بنى هاشم فقبل ذلك، وأنفق ما معه عليهم ودخل إلى محمد بن على، فأقامه مقامه. وفى سنة سبع ومائة. وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة ومحمد بن خنيس

وفى سنة تسع ومائة.

وعمّار العبادى وزيادا- خال الوليد الأزرق- فى عدة من شيعتهم دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله القسرى وهو أمير خراسان، فوشى بهم فأتى بأبى عكرمة ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمّار، فقطع أسد أيدى من ظفر به منهم وصلبه، وأقبل عمار إلى بكير ابن ماهان فأخرجه، فكتب إلى محمد بن على بذلك، فأجابه: الحمد لله الذى صدق دعوتكم ومقالتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل. وقيل إن أول من قدم خراسان من دعاة بنى العباس زياد «1» أبو محمد مولى همدان. وفى سنة تسع ومائة. بعثه محمد بن على وقال له: انزل اليمن «2» والطف مضر، ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب، فلما قدم دعا إلى بنى العباس وذكر سيرة بنى أمية وظلمهم، وأطعم الناس الطعام، وقدم عليه غالب وتناظرا فى تفضيل آل علىّ وآل العباس، وافترقا وأقام زياد بمرو شتوة يختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعى وغيره، فأخبر به «3» أسد فدعاه وقال له: ما هذا الذى بلغنى عنك؟ قال: الباطل، إنما قدمت فى تجارة وقد فرّقت مالى على الناس، فإذا اجتمع خرجت، فقال له أسد: اخرج عن بلادى، فانصرف وعاد إلى أمره، فرفع أمره إلى أسد وخوّف جانبه، فأحضره وقتله وقتل معه عشرة من أهل الكوفة، ولم ينج منهم إلا غلامان استصغرهما وقيل- أمر بزياد أن يوسط بالسيف، فضربوه فلم يعمل السيف فيه فكبّر الناس، فقال أسد: ما هذا؟ فقالوا نبا السيف عنه، ثم ضرب مرة أخرى فنبا عنه، ثم ضرب الثالثة فقطعه باثنتين، وعرض البراءة منه على أصحابه، فمن تبّرأ خلى سبيله، فتبّرأ اثنان فتركا، وأبى البراءة ثمانية فقتلوا، فلما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد، فقال أسألك أن تلحقنى

وفى سنة ثمانى عشرة ومائة:

بأصحابى فقتله، وذلك قبل الأضحى بأربعة أيام من سنة تسع ومائة، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرا، فنزل على أبى النجم وكان يأتيه الذين لقوا زيادا، فكان على ذلك سنة أو سنتين وكان أميا، فقدم عليه خداش واسمه عمارة، فغلب كثيرا على أمره. ويقال إن أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علىّ حرب بن عثمان مولى بنى قيس بن ثعلبة، من أهل بلخ- والله تعالى أعلم. وفى سنة ثمانى عشرة ومائة: وجّه بكير بن ماهان عمّار بن يزيد «1» الخزاعى إلى خراسان واليا على شيعة بنى العباس، فنزل مرو وغيّر اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن على فسارع إليه الناس وأطاعوه، ثم غيّر ما دعاهم إليه وأظهر دين الخرميّة، ورخّص لبعضهم فى نساء بعض، وقال لهم إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وأن تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه وكان يتأول من القرآن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» ، قال وكان خداش نصرانيا بالكوفة فأسلم ولحق بخراسان، وكان ممن اتبعه على مقالته: مالك ابن الهيثم، والحريش بن سليم الأعجمى وغيرهما، وأخبرهم أن محمد بن علىّ أمره بذلك، فبلغ خبره أسد بن عبد الله فظفر به، فأغلظ القول لأسد فقطع لسانه وسمل عينيه، وأمر يحيى بن نعيم الشيبانى فقتله وصلبه بآمل. وفيها مات على بن عبد الله بن عباس بالحمّيمه من أرض الشّراة بالشام، وهو ابن ثمان أو سبع وسبعين «3» ، وهو والد محمد الإمام، وقيل

وفى سنة عشرين ومائة:

إنه ولد فى الليلة التى قتل فيها على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه فسمّاه عليّا، وقال سميته باسم أحب الناس إلىّ، وكناه بأبى الحسن، فلما قدم على عبد الملك بن مروان أكرمه وأجلسه معه على سريره، وسأله عن اسمه وكنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع هذا الاسم والكنية لأحد فى عسكرى، وسأله: هل لك ولد؟ قال: نعم وقد سميته محمدا، قال: فأنت أبو محمد. وقيل إنه خلف اثنين وعشرين ولدا. وفى سنة عشرين ومائة: وجّهت الشيعة بخراسان إلى محمد الإمام سليمان بن كثير، ليعلمه أمرهم وما هم عليه، وكان محمد قد ترك مكاتبتهم ومراسلتهم، لطاعتهم لخداش وقبولهم منه ما رواه عنه من الكذب، فقدم سليمان على محمد فعنّفه محمد فى ذلك، ثم صرفه إلى خراسان ومعه كتاب مختوم، فلم يجدوا فيه إلا البسملة، فعلموا مخالفة خداش لأمره، ثم وجّه محمد إليهم «1» بكير بن ماهان بعد عود سليمان من عنده، وكتب إليهم يعلمهم كذب خداش فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد، فبعث معه بعصى مضبّبة بعضها بحديد وبعضها بنحاس، فجمع بكير النقباء والشيعة ودفع إلى كل واحد منهم عصى، فتابوا ورجعوا. ذكر خبر أبى مسلم الخراسانى وابتداء أمره قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل، قد اختلف الناس فى أمر أبى مسلم، فقيل كان حرا، وكان اسمه إبراهيم بن عثمان بن بشار «2» بن سدوس بن جود زده «3» من ولد بزرجمهر «4» ويكنى أبا إسحاق، ولد

بأصفهان ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى إلى عيسى بن موسى السرّاج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما اتصل بإبراهيم بن محمد بن على ابن عبد الله بن عباس الإمام قال له: غيّر اسمك فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك، على ما وجدته فى الكتب، فسمى نفسه «1» عبد الرحمن بن مسلم وكان يكنى أبا مسلم، ومضى لشأنه، وله ذؤابة وهو على حمار بإكاف «2» وله تسع عشرة سنة، وزوّجه إبراهيم الإمام ابنة عمران بن إسماعيل الطائى المعروف بأبى النجم؛ هذا نسبه على زعم من يقول إنه حر، ولما تمكّن وقوى أمره ادّعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، وكان من حديث سليط هذا أن عبد الله بن عباس كان له جارية مولدة صفراء تخدمه، فواقعها مرة ثم تركها دهرا، فاستنكحت عبدا من أهل المدينة فولدت له غلاما، فاستعبده عبد الله بن عباس وسماه سليطا، فنشأ جلدا ظريفا وخدم ابن عباس، ثم صار له من الوليد بن عبد الملك منزلة «3» ، فادعى أنه من ولد عبد الله بن عباس، وأعانه الوليد على ذلك لما كان فى نفسه من على بن عبد الله بن عباس، وأمره بمخاصمته فخاصمه، واحتال فى شهود على إقرار عبد الله أنه ولده، فشهدوا بذلك عند قاضى دمشق، واتبع القاضى رأى الوليد فى ذلك، فأثبت نسبه وخاصم عليّا فى الميراث. وأما من زعم أنه كان عبدا فإنه حكى، أن بكير بن ماهان كان كاتبا لبعض عمال السند، فقدم الكوفة فاجتمع بشيعة بنى العباس. فغمز بهم فحبس وخلّى عن الباقين، وكان فى الحبس أبو عاصم يونس. وعيسى بن معقل العجلى ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه، ثم قال لعيسى بن معقل: ما هذا منك؟ قال: هو مملوك. قال: أتبيعه؟ قال: هو

وفى سنة أربع وعشرين ومائة:

لك، قال: أحب أن تأخذ ثمنه، قال هو لك بما شئت، فأعطاه أربعمائة درهم، ثم خرجوا من السجن، فبعث به بكير إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج فسمع منه وحفظ، ثم صار يتردد إلى خراسان. وقيل إنه كان لبعض أهل هراة بوشنج شيخ، فقدم مولاه على إبراهيم الإمام وأبو مسلم معه، فأعجبه فابتاعه منه وأعتقه، ومكث عنده عدة سنين، وكان يتردد بكتب إلى خراسان على حمار له بإكاف، ثم ولاه إبراهيم أمر الشيعة بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفى سنة أربع وعشرين ومائة: مات محمد بن على بن عبد الله بن عباس فى قول بعضهم، وأوصى إلى ابنه إبراهيم بالقيام بأمر الدعوة، وقيل بل مات فى سنة خمس وعشرين ومائة فى ذى القعدة، هو ابن ثلاث وستين سنة. وفى سنة ست وعشرين ومائة: وجّه إبراهيم بن محمد «1» الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة ونعى لهم محمد بن على، ودعاهم إلى ابنه إبراهيم ودفع إليهم كتابه فقبلوه، ودفعوا له ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم. وفى سبع وعشرين ومائة: توجّه سليمان بن كثير، ولاهز بن قريظ، وقحطبة إلى مكة فلقوا إبراهيم الإمام بها، وأوصلوا إلى مولى له عشرين ألف دينار ومائتى ألف درهم ومسكا ومتاعا، وكان معهم أبو مسلم. وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد الإمام يخبره أنه فى الموت، وأنه قد استخلف أبا سلمة حفص بن ماهان وهو رضى للأمر،

قال وفى سنة ثمان وعشرين ومائة:

فكتب إبراهيم إلى أبى سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه «1» ، وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إليهم فقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم. قال «2» وفى سنة ثمان وعشرين ومائة: ذكر ولاية أبى مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراسانى أمر الشيعة وجّه إبراهيم بن محمد الإمام أبا مسلم «3» الخراسانى إلى خراسان وعمره تسع عشرة سنة، وكتب إلى أصحابه: إنى قد أمرته بأمرى، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنى قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا فالتقوا بمكة عند إبراهيم الإمام، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: هل عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علىّ؟ وكان قد عرضه على سليمان بن كثير، فقال: لا ألى على اثنين أبدا «4» ، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه قد أجمع رأيه على أبى مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة له، ثم قال: إنك رجل منّا أهل البيت، فاحفظ وصيتى: انظر هذا الحىّ من اليمن فالزمهم «5» ، واسكن بين أظهرهم فإن الله تعالى لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة فى أمرهم، وأما مضر فإنهم

وفى سنة تسع وعشرين ومائة:

العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم العربية [فافعل «1» ] ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ يعنى سليمان بن كثير ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به منّى. وفى سنة تسع وعشرين ومائة: ذكر إظهار الدعوة بخراسان كتب إبراهيم الإمام إلى أبى مسلم يستدعيه، فسار فى النصف من جمادى الآخرة مع سبعين من النقباء، فلما وصل إلى قومس أتاه كتاب إبراهيم، يقول: إنى قد بعثت إليك براية النصر «2» ، فارجع من حيث لقيك كتابى، ووجّه إلىّ قحطبة بما معك يوافينى به فى الموسم، وكتابا إلى سليمان بن كثير، فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى إبراهيم بما معه من الأموال والعروض، وقدم أبو مسلم إلى مرو ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، يأمره بإظهار الدعوة، فنصبوا «3» أبا مسلم وقالوا رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بنى العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم وبعد ممن أجابهم بإظهار الدعوة، ونزل أبو مسلم قرية من قرى مرو يقال لها فنين، على أبى الحكم عيسى بن أعين النقيب، ووجّه منها أبا داود النقيب ومعه عمرو بن أعين إلى طخار ستان فما دون بلخ، وأمرهما بإظهار الدعوة فى شهر رمضان، وكان نزوله القرية فى شعبان، وبث الدعاة إلى مرو الرّوذ والطّالقان وخوارزم، وأمرهم بإظهار الدعوة فى شهر رمضان لخمس بقين منه، وقال لهم فإن أعجلكم عدوكم دون الوقت بالأذى والمكروه فقد حلّ لكم أن تدفعوا عن أنفسكم،

وتجردوا السيوف وتجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منكم عدوه عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعده، ثم تحرك أبو مسلم فنزل فى قرية سفيذنج على كثير بن سليمان الخزاعى لليلتين خلتا من شهر رمضان، والكرمانى وشيبان يقاتلان نصر بن سيّار، فبث أبو مسلم دعاته فى الناس وأظهر أمره، فأتاه فى ليلة واحدة نحو ستين قرية، فلما كان ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان عقد اللواء، الذى بعث به الإمام إليه ويدعى الظل «1» ، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وهو يتلو أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» ، ولبسوا السواد هو وأخوه سليمان بن كثير ومواليه، ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم «3» فكانت علامتهم، فتجمعوا إليه حين أصبحوا معدين، وقدم عليه الدعاة الذين بثهم فى الدعوة بمن أجابهم، وذلك بعد ظهوره بيومين، فلما وافى عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى به وبالشيعة، ونصب له منبرا فى العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، وكان بنو أمية يبدءون بالخطبة قبل الصلاة بأذان وإقامة، وأمره أيضا أن يكبّر ست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر فى الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا ثم يقرأ ويركع بالسادسة، ويفتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكان «4» بنو أمية يكبّرون فى الأولى أربع تكبيرات وفى الثانية ثلاثا، فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة، إلى طعام قد أعدّه لهم فأكلوا مستبشرين. وكتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار وبدأ

وفى سنة ثلاثين ومائة:

بنفسه، وكتب إلى نصر ولم يقل إلى الأمير: أما بعد فإن الله تباركت أسماؤه عيّر «1» أقواما فى القرآن فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «2» ، فتعاظم نصر الكتاب وكسر له إحدى عينيه، وقال: هذا كتاب له أخوات «3» ثم كان من خبر الكرمانى ومقتله ما قدمناه فى أيام مروان، فلما قتل انضم ابنه علىّ إلى أبى مسلم فى جموع كثيرة، فاستصحبه معه وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة، وأقبل أبو مسلم إلى مرو وأتاه على بن الكرمانى وسلّم عليه بالإمارة. وفى سنة ثلاثين ومائة: ذكر دخول أبى مسلم مرو والبيعة بها دخل أبو مسلم الخراسانى مرو ونزل قصر الإمارة فى شهر ربيع الآخر وقيل فى جمادى الأولى، وكان سبب ذلك وسبب اتفاق ابن الكرمانى أن ابن الكرمانى ومن معه وسائر القبائل بخراسان كانوا قد تعاقدوا على قتال أبى مسلم، فجمع أصحابه لحربهم، فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرمانى، فقال له سليمان إن أبا مسلم: يقول لك أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه! وما كنت أحسبك تجامع نصرا فى مسجد تصليان فيه! فرجع ابن الكرمانى عن رأيه وانتقض صلح العرب، فبعث نصر بن سيار إلى أبى مسلم يلتمس منه أن يدخل مع

مضر «1» ، وبعث أصحاب الكرمانى وهم ربيعة واليمن إلى أبى مسلم بمثل ذلك، وراسلوه أياما فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين، حتى يختار أحدهما ففعلوا، فأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا أصحاب الكرمانى. فتقدم الوفدان فأجلسهم أبو مسلم، وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلا. فقال لهم: لتختاروا أحد الفريقين، فقام سليمان بن كثير فتكلم وكان خطيبا مفوّها، فاختار ابن الكرمانى وأصحابه واختارهم السبعون، فقام وفد نصر وعليهم الكآبة والذلة، وأرسل إليه ابن الكرمانى أن يدخل إلى مدينة مرو من ناحية، ليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى، فأرسل إليه أبو مسلم أنى لست آمن أن تجمع يدك ويد نصر على محاربتى، ولكن ادخل أنت وانشب الحرب، ففعل ابن الكرمانى ودخل أبو مسلم مرو، والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وتلى قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ... الآية «2» ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة، وأرسل إلى الفريقين أن ينصرف كل منهما إلى عسكره ففعلوا، وصفت مرو لأبى مسلم وأمر بأخذ البيعة من الجند، وكان الذى يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق وهو أحد النقباء، وكان عالما بحجج الهاشمية ومعايب الأموية، وكانت البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، عليك بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشى إلى بيت الله الحرام، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طمعا «3» حتى يبدأكم به ولاتكم.

ذكر هرب نصر بن سيار أمير خراسان من مرو

ذكر هرب نصر بن سيّار أمير خراسان من مرو وكان سبب هربه أن أبا مسلم لما دخل مرو أرسل لاهز بن قريظ فى جماعة إلى نصر، يدعوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم والرضا من آل محمد، فلما نظر ما جاءه من اليمانية والربيعية والعجم وأنه لا قبل له بهم أظهر قبول ما أتاه به، وأنه يأتيه ويبايعه واستمهلهم، وأمر أصحابه بالتهيؤ والخروج إلى مكان يأمنون فيه، فأشار عليه سلّم بن أحوز بالبيات ليلته تلك والخروج من القابلة؛ فلما أصبح عبأ أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر، فأعاد أبو مسلم إليه لاهز بن قريظ فى جماعة، فقال: ما أسرع ما عدتم، فقال له لاهز: لا بدّ لك من ذلك، فاستمهله نصر بقدر ما يتوضأ ويصلى، ويرسل إلى أبى مسلم يستأذنه فى المضى إليه، فأجابه لاهز؛ فلما قدم نصر للوضوء تلا لاهز: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ «1» ، فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر عود رسوله من عند أبى مسلم، وأقام حتى جنّه الليل «2» فخرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه، والحكم بن نميلة النّميرى، وامرأته المرزبانة «3» وانطلقوا هربا، فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله فوجدوه قد هرب، فلما بلغ أبا مسلم هربه سار إلى عسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم، وفيهم سلّم بن أحوز صاحب شرطة نصر، والبخترى كاتبه، وابنان له، ويونس بن عبد ربه «4» ، ومحمد بن قطن، ومجاهد بن يحيى بن

ذكر مقتل ابنى الكرمانى

حضين وغيرهم، فاستوثق منهم بالحديد وحبسهم، وسار أبو مسلم وابن الكرمانى فى طلب نصر ليلتهما، فأدركا امرأته قد حلفها، وسار نصر إلى سرخس واجتمع معه ثلاثة آلاف رجل، ورجع أبو مسلم وسأل من كان أرسلهم إلى نصر: ما الذى ارتاب به نصر حتى هرب؟ وهل تكلم أحد منكم بشىء؟ فذكروا له ما تلاه لاهز بن قريظ، فقال هذا الذى دعاه للهرب، ثم قال: يا لاهز تدغل فى الدين، وقتله، واستشار أبو مسلم أبا طلحة فى أصحاب نصر، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر، فقتلهم وكانوا أربعة وعشرين رجلا، وأما نصر فإنه سار من سرخس إلى طوس فأقام بها، ودخل ابن الكرمانى مرو مع أبى مسلم وتابعه على رأيه. ذكر مقتل ابنى الكرمانى وفى سنة ثلاثين ومائة أيضا: قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابنى الكرمانى. وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كان وجّه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها. ووجه أبا داود إلى بلخ وفيها زياد بن عبد الرحمن. فلما بلغه قصد أبى داود بلخ خرج فى أهلها وأهل الترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان. فلما دنا أبو داود منهم انصرفوا منهزمين إلى ترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ. فكتب إليه أبو مسلم بالقدوم عليه، ووجّه مكانه أبا الميلاء «1» يحيى بن نعيم على بلخ، فلما قدم كاتبه زياد بن عبد الرحمن أن يصيّر أن أيديهم واحدة فأجابه، فرجع زياد ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم «2» الباهلى وعيسى بن

زرعة السّلمى وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وماوراء النهر ودونه فنزلوا على فرسخ من بلخ، وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه، فصارت كلمتهم واحدة- مضر وربيعة واليمن ومن معهم- على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النّبطى، فأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان «1» ، وكان زياد وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشى مسلحة، لئلا يأتيهم أصحاب أبى داود من خلفهم، وكانت أعلام أبى سعيد «2» سودا، فلما أقبل أبو سعيد ورأى زياد ومن معه أعلام أبى سعيد وراياته سودا ظنوهم كمينا لأبى داود فانهزموا وتبعهم أبو داود فوقع عامة أصحاب زياد فى النهر، وقتل منهم خلق كثير ممّن تخلف، ونزل أبو داود معسكرهم وحوى ما فيه، ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ، واستقامت بلخ له فكتب إليه أبو مسلم بالقدوم عليه، ووجّه النّضر بن صبيح المرّى على بلخ، وقدم أبو داود على أبى مسلم واتفقا على أن يفرّقا بين ابنى الكرمانى، فبعث أبو مسلم عثمان بن الكرمانى عاملا على بلخ، فلما قدمها أقبلت المضرية من ترمذ وعليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلى، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب عثمان وغلب مسلم على بلخ، وكان عثمان بن الكرمانى بمرو الرّوذ لم يشهد هذه الوقعة، فلما بلغه الخبر أقبل هو والنّضر بن صبيح المرّى «3» فهرب أصحاب مسلم من ليلتهم، فلم يمعن النظر فى طلبهم، ولقيهم أصحاب عثمان فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان وقتل منهم خلق كثير، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم إلى نيسابور ومعه على بن الكرمانى، واتفق رأى أبى مسلم ورأى أبى داود على أن يقتلا ابنى

ذكر قدوم قحطبة بن شبيب من قبل إبراهيم الإمام على أبى مسلم

الكرمانى «1» ، فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان «2» عاملا على الختّل «3» فلما خرج عثمان من بلخ تبعه أبو داود وأخذه هو وأصحابه فحبسهم جميعا، ثم ضرب أعناقهم صبرا، وقتل أبو مسلم فى ذلك اليوم على بن الكرمانى، وكان أبو مسلم أمره قبل ذلك أن يسمى له خاصته، ليوليهم ويأمر لهم بجوائز وكساوى، فسماهم له فقتلهم جميعا. ذكر قدوم قحطبة بن شبيب من قبل إبراهيم الإمام على أبى مسلم وكان قدومه سنة ثلاثين ومائة فقدم ومعه لواء عقده له إبراهيم، فوجّهه أبو مسلم فى مقدمته، وضمّ إليه الجيوش وجعل إليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة له. ذكر مسير قحطبة إلى نيسابور واستيلائه عليها ومن استعمله أبو مسلم على الجهات قال: ولما استولى أبو مسلم على خراسان وقتل ابنا الكرمانى على ما تقدم بعث العمال على البلاد، فاستعمل سبّاع بن النّعمان الأزدى على سمرقند، وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ومحمد بن الأشعث على الطّبسين» ، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته، ووجّه قحطبة إلى طوس

ذكر مقتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان

ومعه عدة من القواد، منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد، وخالد بن برمك، وعثمان بن نهيك، وخازم بن خزيمة وغيرهم، فلقى قحطبة من بطوس فهزمهم، وبلغ عدة القتلى بضعة عشر ألفا، ووجّه أبو مسلم القاسم ابن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجّة، وكتب إلى قحطبة يأمره «1» بقتال تميم بن نصر بن سيّار والنّابى بن سويد ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، ووجه أبو مسلم على بن معقل فى عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وأمره أن يكون مع قحطبة، وسار قحطبة إلى السوذقان- وهو «2» معسكر تميم بن نصر والنابى بن سويد، وقد عبّأ أصحابه فدعاهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإلى الرضا من آل محمد فلم يجيبوه، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل تميم فى المعركة، وقتل من أصحابه خلق كثير، وهرب النابى ابن سويد فتحصن بالمدينة، فحصره قحطبة ونقبوا سورها ودخلوا المدينة فقتلوا النابى ومن كان معه، وبلغ الخبر نصر بن سيّار فهرب إلى قومس وتفرّق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها هو ومن معه رمضان وشوال. ذكر مقتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان قد ذكرنا هرب نصر بن سيّار ولحاقه بنباتة بن حنظلة، فلما كان فى ذى القعدة أقبل قحطبة إلى جرجان، وقد نزل نباتة ونصر بن سيار بالجورجان «3» ، وخندقوا عليهم وهم فى عدد وعدد، فهابهم أهل خراسان حتى تكلّموا بذلك وظهر عليهم، فبلغ قحطبة فقام فيهم وقوّى عزائمهم

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

وشجّعهم، وقال: «1» إنّ الإمام وعدكم النصر عليهم، وقد عهد إلىّ أنكم تلقونهم فينصركم الله عليهم، فالتقوا فى مستهل ذى الحجة سنة ثلاثين ومائة فى يوم الجمعة، وعلى ميمنة قحطبة ابنه الحسن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل نباتة وعشرة آلاف من أهل الشام، وانهزم من بقى منهم، وسار نصر ابن سيّار وكان بقومس فنزل خوار «2» الرىّ، وكاتب ابن هبيرة يستمده وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان، وقال له: أمدنى بعشرة آلاف قبل أن تمدنى بمائة ألف ثم لا تغنى شيئا، فحبس ابن هبيرة رسله، فأرسل إلى مروان بن محمد يعلمه ما فعل ابن هبيرة برسله، وأنه استمده فلم يمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمده، فجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا عليهم ابن عطيف إلى نصر بن سيّار، قال: أما قحطبة فإنه بلغه أن أهل جرجان يريدون الخروج عليه، فاستعرضهم وقتل منهم ما يزيد على ثلاثين ألفا. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة ذكر وفاة نصر بن سيار ودخول قحطبة الرىّ قال: ثم وجه قحطبة ابنه الحسن لقتال نصر فى المحرم من هذه السنة، ووجّه أبا كامل وأبا القاسم «3» محرز بن إبراهيم، وأبا العباس المروزى إلى الحسن ابنه، فلما كانوا قريبا منه انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصر بن

سيّار فأعلمه، فصار معه وأعلمه مكان الجند، فوجه إليهم جندا فهرب جند قحطبه، وخلفوا شيئا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له ابن عطيف «1» بالريّ فأخذ الكتاب والمتاع من رسول نصر، وبعثه إلى ابن هبيرة فغضب نصر، وقال: أما والله لأدعنّ ابن هبيرة فليعرفنّ أنه ليس بشيء، وكان ابن عطيف فى ثلاثة آلاف، قد بعثه ابن هبيرة مددا لنصر، فأقام بالرى ولم يأت نصرا، فسار نصر حتى نزل الرى وعليها حبيب بن بديل «2» النهشلى، فلما قدمها سار ابن عطيف منها إلى همذان، ثم عدل إلى أصفهان إلى عامر بن ضبارة، ولما قدم نصر الريّ أقام بها يومين ثم مرض، فحمل إلى ساوة فمات بها لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول منها، وعمره خمس وثمانون سنة، ودخل أصحابه همذان؛ ولما مات نصر بعث الحسن بن قحطبة خازم بن خزيمة «3» إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيرى، وكان قد ندم على اتباع أبى مسلم، فأخذ طريق أصفهان يريد عامر بن ضبارة، فوجّه قحطبة، المسيّب بن زهير الضّبى فلحقه، وقاتله فانهزم زياد وقتل عامّة من معه، ورجع المسيّب إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدّمه إلى الرىّ، وبلغ حبيب بن بديل النّهشلى ومن معه من أهل الشام مسير الحسن، فخرجوا عن الرىّ ودخلها الحسن فى

ذكر مقتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصفهان

صفر، وأقام حتى قدم أبوه، فبعثه بعد مقدمه بثلاث ليال إلى همذان، فسار عنها مالك بن أدهم ومن كان معه من أهل الشام وأهل خراسان إلى نهاوند، فأقام بها وفارقه ناس كثير، ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ منها، وأمده أبوه بأبى الجهم بن عطية مولى باهلة فى سبعمائة فحصر المدينة. ذكر مقتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصفهان كان عامر بن ضبارة قد بعثه يزيد بن هبيرة لقتال عبد الله بن معاوية، لما خرج ودعا إلى نفسه على ما نذكره فى أخبار آل أبى طالب إن شاء الله، وبعث معه ابنه داود بن يزيد فهزمه «1» ابن ضبارة، وسار فى أثره، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان كتب إلى عامر وإلى ابنه داود، أن يسيرا إلى قحطبة وكانا بكرمان، فسارا فى خمسين ألفا ونزلوا بأصفهان، وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر، فبعث قحطبة إليهم جماعة من القواد عليهم جميعا مقاتل بن حكيم العكّى، فساروا حتى نزلوا قمّ، وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بن قحطبة نهاوند، فسار ليفتن من بها من أهلها، فأرسل مقاتل إلى قحطبة يعلمه بمسيره، فأقبل قحطبة من الرىّ حتى لحق بمقاتل، ثم ساروا والتقوا بعامر بن ضبارة وداود بن يزيد، وكان عسكر قحطبة عشرين ألفا فيهم خالد بن برمك، وعسكر ابن ضبارة مائة ألف وقيل خمسون ومائة ألف، فأمر قحطبة بمصحف فوضع على رمح، ونادى يا أهل الشام إنما ندعوكم إلى ما فى هذا المصحف، فشتموه وفحشوا فى القول، فأمر قحطبة أصحابه بالحملة عليهم، فحمل عليهم العكّى وتهايج الناس، ولم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أهل الشام، وقتلوا قتلا ذريعا، فقتل ابن ضبارة وهرب داود، وأخذ أصحاب قحطبة من

ذكر دخول قحطبة نهاوند

عسكرهم ما لا يعلم قدره، من السلاح والمتاع والرقيق والخيل، ومارئى عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما فى هذا العسكر، كان كأنه مدينة، فكان فيه من البرابط والطنابير والمزامير والخمر ما لا يحصى، وحقيق لعسكر فيه مثل ذلك أن ينهزم، وكانت هذه الوقعة بنواحى أصفهان فى شهر رجب. ذكر دخول قحطبة نهاوند قال: ولما قتل ابن ضبارة كان الحسن بن قحطبة يحاصر نهاوند، فكتب إليه أبوه بالخبر، فلما قرأ كتابه كبّر هو وجنوده ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير «1» السّغدى: ما نادوا بقتله إلا وهو حق، فاخرجوا إلى الحسن قبل أن يأتى أبوه أو يمده بمدد، فقالت الرجّالة: تخرجون وأنتم فرسان وتتركونا! فقال مالك بن أدهم: لا أبرح حتى يقدم قحطبة، وأقام قحطبة بأصفهان عشرين يوما ثم سار، فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة أشهر آخرها شوّال، ونصب عليهم المجانيق، وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه، وبذل لهم الأمان فأبوا ذلك، فأرسل إلى من بها من أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه، وقبلوا أمانه وبعثوا إليه أن يشغل عنهم أهل البلد بالقتال، ليفتحوا له الباب ففعل ذلك، ففتح أهل الشام الباب الذى يليهم «2» وخرجوا، فلما رأى أهل البلد ذلك سألوهم عن سبب خروجهم، فقالوا: أخذنا لنا ولكم الأمان، فخرج رؤساء خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده، ثم أمر فنودى: من كان بيده أسير فليضرب عنقه وليأت برأسه، ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبى مسلم إلا قتل، إلا أهل الشام فإنه وفّى لهم وخلّى

ذكر فتح شهر زور

سبيلهم، وأخذ عليهم الأيمان والعهود. قال: ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه إلى مرج القلعة، فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله بن العلاء الكندى، فهرب من حلوان. ذكر فتح شهر زور قال: ثم وجّه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراسانى ومالك بن طواف «1» فى أربعة آلاف إلى شهر زور، وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد، فنزلوا على فرسخين من شهر زور فى العشرين من ذى الحجة، وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل، وأقام أبو عون فى بلاد الموصل، وقيل إن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان، وغنم أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وسيّر قحطبة العساكر إلى أبى عون، فاجتمع معه ثلاثون ألفا، ولما بلغ مروان خبر أبى عون- وكان بحرّان- سار منها بجنود الشام والجزيرة والموصل وبنى أمية، وأقبل نحو أبى عون حتى نزل الزّاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهر زور بقية ذى الحجة والمحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض بها لخمسة «2» آلاف. ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة

ذكر مسير قحطبة لقتال ابن هبيرة بالعراق وهلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة

ذكر مسير قحطبة لقتال ابن هبيرة بالعراق وهلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة قال: ولما قدم داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة على أبيه منهزما، خرج يزيد نحو قحطبة فى عدد كثير لا يحصى، ومعه حوثرة بن سهيل الباهلى، وكان مروان قد أمدّه به، فسار ابن هبيرة حتى نزل جلولاء، واحتفر الخندق الذى كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء وأقام به، وأقبل قحطبة حتى نزل عكبراء، ودخل دجلة ومضى حتى نزل ما دون الأنبار، وأرسل طائفة من أصحابه إلى الأنبار وغيرها، وأمرهم بإحدار ما فيها من السفن إلى دممّا ليعبر الفرات «1» ، فحملوا إليه كل سفينة هناك، فقطع الفرات إلى غربيّة، وذلك لثمان مضين من المحرم، وارتحل ابن هبيرة منصرفا مبادرا إلى الكوفة، فعبر دجلة من المدائن، واستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيرون على جانبى الفرات، فقال قحطبة: إن الإمام أخبرنى أن لى بهذا المكان وقعة، يكون النصر لنا، واستدلّ على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة ومحمد بن نباتة فانهزم أهل الشام، وفقد قحطبة فقال أصحابه: من كان عنده علم من قحطبة فليخبرنا به، فقال مقاتل بن مالك العكى «2» : سمعت قحطبة يقول: إن حدث بى حدث فالحسن ابنى أمير الناس، فبايع الناس حميد بن قحطبة لأخيه الحسن، وكان أبوه قد سيّره فى سريّة، فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا الأمر إليه، وكشفوا عن قحطبة فوجدوه فى جدول وحرب بن سلّم «3» فتيلين، فظنوا أن كل واحد منهما قتل

ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا

الآخر، وقيل إن معن بن زائدة ضرب قحطبة، لما عبر الفرات على حبل عاتقه فسقط فى الماء، فقال: شدوا يدى إذا أنا مت وألقونى فى الماء، لئلا يعلم الناس بقتلى، وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام، ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلّال، فسلمّوا هذا الأمر إليه، وقيل بل غرق قحطبة. ولما انهزم ابن نباثة وحوثرة لحقا بابن هبيرة فانهزم لهزيمتهم، ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك، فأمر الحسن بن قحطبة بجمع ذلك فجمع وغنموه. ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوّدا فى هذه السنة خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسرى بالكوفة وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة، وأخرج عامل ابن هبيرة، وكان خروجه ليلة عاشوراء سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان على الكوفة يوم ذاك زياد بن صالح الحارثى، فسار محمد إلى القصر ودخله، وارتحل زياد ومن معه من أهل الشام، وسمع حوثرة الخير فسار نحو الكوفة، فتفرق عن محمد عامة من معه، فأرسل أبو سلمة الخلال إليه يأمره بالخروج من القصر، خوفا عليه من حوثرة، هذا ولم يبلغ أحدا من الفريقين بهلاك قحطبة، فأبى محمد أن يخرج وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيّأ لقصده، فبينما محمد فى القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: قد جاءت خيل من أهل الشام، فوجّه إليهم عدة من مواليه، فناداهم الشاميون: نحن جئنا لندخل فى طاعة الأمير، ودخلوا وفيهم مليح بن خالد البجلى، ثم جاءه جهم بن الأصبح «1» الكنانى فى خيل أعظم من تلك، ثم جاءت خيل

ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام

أعظم منها مع رجل من آل بحدل «1» ، فلما رأى حوثرة ذلك من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط، وكتب محمد بن خالد إلى قحطبة يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة، فقرأ الكتاب على لناس وارتحل نحو الكوفة، فوصلها يوم الإثنين، وقد قيل إن الحسن بن قحطبة أقبل نحو الكوفة، بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلى فهرب منها، فسود محمد بن خالد، وخرج فى أحد عشر رجلا وبايع الناس، ودخلها الحسن من الغد ولما دخل الحسن وأصحابه الكوفة أتوا أبا سلمة الخلال وهو فى بنى سلمة، فاستخرجوه وكان مختفيا، فعسكر بالنخيلة يومين ثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجّه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وبايع أبا سلمة الناس وكان يقال وزير آل محمد، وهو أبو سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، واستعمل محمد بن خالد على الكوفة، ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن فى جماعة من القواد، وبعث المسيّب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقنّى، وبعث المهلّبى وشرحبيل إلى عين العمر، وبعث بسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فقاتله وأخرجه منها فالتحق عبد الواحد بالبصرة، وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملا عليها وعليها سلّم «2» ، وقد لحق به عبد الواحد فأرسل سفيان إليه، يأمره بالتحول من دار الإمارة فأبى، وقاتل ونادى من جاء برأس فله خمسمائة ومن جاء بأسير فله ألف درهم، فقتل معاوية وأتى برأسه إلى سلّم فأعطى قاتله عشرة آلاف، وانكسر سفيان لقتل ابنه فانهزم وذلك فى صفر. ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام وكان مقتله فى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وسبب ذلك أن مروان بن

محمد أرسل للقبض عليه بالحميمة، ووصف للرسول صفة أبى العباس السفاح، لأنه كان يجد فى الكتب: أن من هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم، وسمّى لرسوله إبراهيم بن محمد، فقدم الرسول فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول إنما أمرت بإبراهيم وهذا عبد الله، فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به إلى مروان، فلما أتاه به قال: ليس هذه الصفة التى وصفت لك، فقال رسله قد رأينا الصفة وإنما سميت إبراهيم، وهذا إبراهيم فحبسه بحرّان، وأعاد الرسل فى طلب أبى العباس فلم يظفروا به، وكان قد توجّه إلى الكوفة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقد اختلف فى قتل إبراهيم، فقيل إن مروان لما حبسه حبس سعيد ابن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملك، وأبا محمد السفيانى، فهلك إبراهيم فى السجن فى وباء وقع بحرّان، وهلك العباس بن الوليد، وعبد الله ابن عمر، فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام ومن معه، وقتلوا صاحب السجن فقتلهم أهل حرّان «1» ، وتخلّف أبو محمد بالسجن فلم يخرج فيمن خرج هو وغيره، فلما قدم مروان من الزاب خلّى عنهم. وقيل إن مروان هدم «2» على إبراهيم بيتا فقتله. وقيل بل جعل رأسه فى جراب مملوء نورة فمات، وقيل إن شراحيل «3» بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوسا مع إبراهيم، فكانا يتزاوران وصار بينهما مودة، فأتى رسول من عند شراحيل إلى إبراهيم يوما بلبن، فقال: يقول لك أخوك إنى شربت من هذا اللبن فاستطبته، فأحببت أن تشرب منه، فشرب منه فشكى من ساعته، وكان يوما يزور فيه شراحيل فأبطأ عليه، فأرسل إليه شراحيل: إنك قد أبطأت فما حبسك عنى؟ فأعاد عليه إنى لما شربت اللبن الذى بعثت

ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية

به إلىّ فاشتكيت، فأتاه شراحيل- وحلف بالله أنه ما شرب لبنا فى يومه، ولا بعث به إليك واسترجع، وقال: احتيل والله عليك، فبات إبراهيم ليلته وأصبح ميتا. وكان إبراهيم خيّرا فاضلا كريما، قدم المدينة مرّة ففرّق فى أهلها مالا جليلا، فنال بعضهم منه ألف دينار- وخمسمائة دينار- وأربعمائة دينار، وكانت هذه عطاياه وهباته. وكان مولده فى سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية إسمها سلمى. قال: ولما قبض على إبراهيم بالحميمة نعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبى العباس عبد الله بن محمد- وهو السفاح، وأوصاهم بالسمع والطاعة له، وأوصاه وجعله الخليفة من بعده وودّعهم، وسار فهلك على ما ذكرنا، وكان من أمر أبى العباس ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية ذكر بيعة أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن الحارثية الذى نصّ عليه أبو هاشم محمد بن الحنفيّة، لما فوّض أمر الشيعة إلى والده، ووعدهم أنه صاحب الأمر، وكان ذلك قبل مولد أبى العباس على ما قدّمنا، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدّان «1» الحارثى، بويع له بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وذلك أنه لما قبض على أخيه إبراهيم بن محمد الإمام عهد إليه كما ذكرناه، وأمره بالمسير إلى الكوفة؛ سار من الحميمة ومعه أهل بيته وأخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد

ابنا أخيه إبراهيم، وعمومته داود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد- بنو على بن عبد الله بن عباس، وموسى ابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن على، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، فقدموا الكوفة فى صفر من هذه السنة، وشيعتهم من أهل خراسان بظاهر الكوفة بحمام أعين، فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد «1» مولى بنى هاشم فى بنى أود «2» ، وكتم أمرهم من جميع القواد نحو أربعين ليلة، وأراد فيما ذكر أن يحوّل الأمر إلى آل طالب، لما بلغه موت إبراهيم الإمام، فكان أبو الجهم يقول له: ما فعل الإمام، فيقول لم يقدم بعد، فلما ألحّ عليه قال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسط لم تفتح بعد، وكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل هذا دأبه حتى دخل أبو حميد محمد بن إبراهيم الحميرى من حمام أعين يريد الكناسة، فلقى خادما لإبراهيم الإمام يقال له سابق الخوارزمى فعرفه، فقال له ما فعل إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله، وأنه أوصى إلى أخيه أبى العباس من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم فقال له سابق: الوعد بينى وبينك غدا فى هذا الموضع، وكره سابق أن يأتيهم به إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد إلى أبى الجهم وأخبره، وهو فى عسكر أبى سلمة، فأمره أن يتلطف للقائهم، فرجع أبو حميد إلى موضع ميعاد سابق، فلقيه وانطلق به إليهم، فلما دخل سأل من «3» الخليفة منهم؟ فقال له داود بن على: هذا إمامكم وخليفتكم، وأشار إلى أبى العباس، فسلّم عليه بالخلافة وقبّل يديه ورجليه وعزّاه بإبراهيم، وقال: مرنا بأمرك، ثم رجع وصحبه «4» إبراهيم بن سلمة- رجل كان يخدم بنى

العباس- إلى أبى الجهم، فأخبره عن منزلتهم وأن الإمام بعثه إلى أبى سلمة «1» ، يسأله مائة دينار يعطيها أجرة الجمال التى حملتهم، فلم يبعث بها إليهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتى دينار مع إبراهيم بن سلمة، واتفق رأى القواد أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بن كعب وأبو الجهم وغيرهم «2» من القواد إلى أبى العباس، وبلغ ذلك أبا سلمة فسأل عنهم، فقيل له إنهم دخلوا الكوفة لحاجة لهم، وأتى القوم إليهم فقالوا: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فقالوا: هذا- فسلموا عليه بالخلافة وعزّوه بإبراهيم، ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم، وأمر أبو الجهم بقية القواد فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبى الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامى، فركب أبو سلمة إلى الإمام، فأرسل أبو الجهم إلى أبى حميد: أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلنّ على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أدخلوه وحده ومنعوا حفدته من الدخول، فسلّم بالخلافة، فقال له رجل منهم: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه، فنهاه أبو العباس وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره فعاد، وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح، واصطفوا لخروج أبى العباس، وأتوه بالدواب» فركب برذونا أبلق، وركب معه أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلّى بالناس، ثم صعد المنبر ثانية فقام فى أعلاه، وصعد عمه داود فقام دونه، فتكلم أبو العباس فقال: الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، فكرّمه «4» وشرفه وعظّمه

واختاره لنا، وأيّده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوّام به والذابّين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقرابته، وأنشأنا من آبائه «1» ، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك كتابا على أهل الإيمان «2» يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل فى محكم كتابه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «3» وقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «4» وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «5» وقال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «6» وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «7» فأعلمهم جلّ ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم؛ وزعمت السبأيّة «8» الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منّا فشاهت وجوههم، ثم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتمّم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف

وبرّ ومواساة فى دينهم، وإخوانا على سرر متقابلين فى آخرتهم، فتح الله ذلك منّة ومنحة «1» لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدّلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استضعفوا فى الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم أهل محبّتنا، ومنزل «2» مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدرككم «3» زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم فى أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح «4» ، والثائر المنيح «5» . وكان موعكا فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقى المنبر، فقال: الحمد لله شكرا الذى أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم. أيها الناس: الآن قد قشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من

مطالعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، فى أهل بيت نبيّكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم. أيها الناس: والله ما خرجنا فى طلب هذا الأمر لنكنز «1» لجينا، ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبنى قصرا، وإنما أخرجتنا الأنفة من ابترازهم حقنا، والغضب لبنى عمنا، وما كرهنا «2» من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا، ونحن على فراشنا، وتشتد علينا سوء سيرة بنى أمية فيكم واستذلالهم «3» لكم. واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. تبا تبا لبنى حرب وبنى أمية «4» ، آثروا مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم «5» ، وجاروا فى سيرتهم فى العباد وسنّتهم «6» فى البلاد «7» ، ومرحوا فى أعنة المعاصى، وركضوا فى ميدان «8» الغى، جهلا باستدارج الله. وأمنا لمكر الله فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون. فأصبحوا أحاديث ومزّقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين، وأدالنا الله من مروان وقد غرّه بالله الغرور، وأرسل لعدو الله فى عنانه حتى عثر فى فضل

خطامه، أظنّ عدو الله أن لن يقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده. ورمى بكتائبه «1» . فوجد أمامه ووراءه. وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته، ما أمات باطله. ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقّنا وإرثنا. أيها الناس: إن أمير المؤمنين- نصره الله نصرا عزيزا- إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، لأنه كره «2» أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم «3» الله بمروان. عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا فى الأرض بعد صلاحها «4» الشاب «5» المكتهل المتمهل «6» ، المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد إفسادها «7» بمعالم الهدى ومناهج التقوى. فعجّ الناس بالدعاء له ثم قال: يا أهل الكوفة: إنا والله مازلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله (لنا) «8» شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج «9» بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، فأراكم الله بهم ما كنتم تنتظرون «10» ، وأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام،

ونقل إليكم السلطان وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة، فخذوا ما أتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإنّ الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا، ألا وإنّه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد (وأشار بيده إلى أبى العباس) . واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلّى الله عليه وسلّم، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا. ثم نزلا، وداود أمامه حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس فى المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلّى بهم العصر ثم المغرب وجهنّم الليل، وخرج أبو العباس فعسكر بحمام أعين فى عسكر أبى سلمة، ونزل معه فى حجرته «1» بينهما ستر، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسّام، واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن على، وبعث عمه عبد الله بن على إلى أبى عون «2» بن يزيد بشهر زور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط «3» ، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة «4» بن محمد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف. وأقام السفاح بالعسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان قد تنكّر لأبى سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك منه.

ذكر هزيمة مروان بالزاب

ذكر هزيمة مروان بالزاب قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد «1» الملك بن يزيد الأزدى إلى شهرزور، وأنه سار إلى ناحية الموصل، وأن مروان سار من حرّان حتى بلغ الزاب وحفر خندقا، وكان فى عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجّه أبو سلمة إلى أبى عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتّان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد فى ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد فى ألفين، وعبد الله الطائى فى ألف وخمسمائة، وعبد الحميد ربعى الطائى فى ألفين، ووداس بن نضلة فى خمسمائة- إلى أبى عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتى؟ قال عبد الله بن على: أنا، فسيّره إلى أبى عون فقدم عليه، فتحوّل أبو عون عن سرادقه له، فلما كان لليلتين خلتا من شهر جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة سأل عبد الله ابن على عن مخاضة بالزاب فدلّ عليها، فأمر عيينة بن موسى فعبر فى خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله، وأصبح مروان فعقد جسرا وعبر النهر، وسيّر ابنه عبد الله فنزل أسفل من عسكر عبد الله، فبعث عبد الله بن على المخارق بن غفار فى أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فبعث ابن مروان إليه الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو، فأسر فى جماعة وسيّروهم إلى مروان، فأمر أن يؤتى برجل من الأسرى، فأتى بالمخارق، فقال له: أنت المخارق، قال: لا بل أنا من عبيد أهل العسكر، قال: أفتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر هل تراه فى هذه الرءوس؟ فنظر إلى رأس منها فقال: هذا هو المخارق، فخلّى سبيله، ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن على أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر، وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال، قبل أن يظهر أمر المخارق،

ذكر مقتل مروان بن محمد ودخول أهل الشام وغيرهم فى الطاعة

فنادى فى الناس بلبس السلاح والخروج إلى الحرب فركبوا، وسار نحو مروان، وكان عسكره عشرين ألفا وقيل اثنا عشر ألفا، فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنّا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، فإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله، ثم التقوا واقتتلوا فجعل عبد الله بن على يقول: يا رب حتى متى نقتل فيك!! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم واشتد القتال، فأمر مروان بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم، فجعل ناس يصيبون منها، فقيل له: إن الناس قد مالوا على المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به، فأرسل إلى ابنه عبد الله أن يسير فيقتل من أخذ من المال شيئا، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، الهزيمة، فانهزموا وانهزم مروان وقطع الجسر، وكان من غرق يومئذ أكثر ممّن قتل، وكان ممن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، فاستخرجوه فى الغرقى «1» ، فقرأ عبد الله: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» ، وقيل بل قتله عبد الله بالشام، وحوى عبد الله عسكر مروان بما فيه، فوجد سلاحا كثيرا وأموالا وكتب إلى السفاح بالفتح، فلما أتاه الكتاب أمر لكل من شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم، وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة. ذكر مقتل مروان بن محمد ودخول أهل الشام وغيرهم فى الطاعة قال: ولما انهزم مروان أتى مدينة الموصل، وعليها هشام بن عمرو «3»

التغلبى وبشر بن خزيمة الأسدى فقطعا الجسر، فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان، فقالوا: كذبتم، لا يفر، وسبّه أهل الموصل، وقالوا له: يا جعدى، يا معطل «1» ، الحمد لله الذى أزال سلطانكم، وذهب بدولتكم، الحمد لله الذى أتانا بأهل بيت نبيّنا، فسار إلى حرّان فأقام بها نيّفا وعشرين يوما، وسار عبد الله حتى دخل الموصل فعزل هشاما، واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار فى أثر مروان، فلما دنا منه حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزما، وخلّف بحرّان ابن أخيه إبان بن يزيد، فقدم عبد الله حرّان فلقيه إبان مسوّدا مبايعا، فبايعه وأمّنه هو ومن كان معه بحرّان والجزيرة، ومضى مروان إلى حمص فلقيه أهلها بالطاعة، فأقام يومين أو ثلاثا وسار، فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم فاتبعوه، والتقوا فقاتلهم وهزمهم، وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلّفه بها ومضى إلى فلسطين. قال: وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن على باتباع مروان، فسار من حرّان بعد أن هدم الدار التى كان إبراهيم قد حبس بها، ووصل إلى منج وقد سوّدوا فأقام بها، وأتته بيعة أهل قنسرين، وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن على مددا من قبل السفاح فى أربعة آلاف، فسار عبد الله الى قنسرين ثم إلى حمص فبايع أهلها، وأقام بها أياما ثم سار إلى بعلبك فأقام بها يومين، ثم سار فنزل قرية مزّة، ونزل أخوه صالح بن على مرج عذراء فى ثمانية آلاف، وكان السفاح قد بعثه مددا لعبد الله، ثم تقدم عبد الله فنزل على الباب الشرقى، ونزل صالح على باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسّام بن إبراهيم على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وبدمشق يومئذ الوليد بن معاوية فحصروه بها ودخلوها عنوة فى يوم الأربعاء لخمس مضين من شهر

رمضان منها، فقاتلوا «1» فيها ثلاث ساعات، وقتل الوليد بن معاوية فيمن قتل، وأقام عبد الله بدمشق خمسة عشر يوما، ثم سار يريد فلسطين فلقيه أهل الأردن وقد سوّدوا، فأقام بفلسطين، وأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن على فى طلب مروان، فسار صالح فى ذى القعدة، ومعه ابن فتّان، وعامر بن إسماعيل الحارثى، وأبو عون- فبلغوا العريش، وأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام وهرب إلى جهة مصر، وسار صالح فنزل النيل، ثم نزل الفسطاط، ثم سار ونزل موضعا يقال له ذات الساحل «2» ، وهرب مروان إلى الصعيد، وقدّم صالح أبا عون، وعامر بن إسماعيل الحارثى وشعبة بن كثير المازنى- فساروا، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم رجالا، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم فأمنوهم، وساروا فوجدوه نازلا فى كنيسة ببوصير فقاتلوه ليلا، وكان أصحاب أبى عون قليلا، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا ورأوا قلّتنا أهلكونا، فكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله، وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه فصرعه، وصالح صالح جرح أمير المؤمنين فابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة- كان يبيع الرمّان- فاحتز رأسه، فأخذه عامر بن إسماعيل فبعث به إلى أبى عون، وبعثه أبو عون إلى صالح، فلما وصل إليه أمر أن يقص «3» ويقطع لسانه فأخذته هرّة، فقال صالح: لو لم ترنا الأيام من عجائبها إلا لسان مروان فى فم هرة لكفانا، وقيل: إن عبد الله بن على هو الذى قال هذا، قال: وسيّره صالح إلى عبد الله فبعثه إلى السفاح، وكان قتله لليلتين بقيتا من ذى الحجة، ورجع صالح إلى الشام، وخلف أبا عون

ذكر من قتل من بنى أمية بعد مقتل مروان بن محمد

بمصر. ولما وصل الرأس الى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه، فقال: الحمد لله الذى أظهرنى عليك، وأظفرنى بك، ولم يبق ثأرى قبلك وقبل رهطك أعداء الدين، ثم تمثل: لو يشربون دمى لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ تروينى قال: ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التى فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهنّ خادما له، وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذهن، وهنّ نساء مروان وبناته، فسيّرهن إلى صالح بن على، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين، حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوك ما وسعكم من جورنا، قال: إذن لا أستبقى منكنّ واحدة، ألم يقتل أبوك ابن أخى إبراهيم؟! ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن على بن الحسين وصلبه فى الكوفة؟! ألم يقتل الوليد بن يزيد- يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟! ألم يقتل ابن زياد الدعىّ مسلم بن عقيل؟! ألم يقتل يزيد بن معاوية- الحسين بن على وأهل بيته؟! ألم يخرج إليه بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا فوقفهن موقف السبى؟! ألم يحمل إليه رأس الحسين وقد فرغ دماغه؟! فما الذى يحملنى على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم، أما هذا فنعم، وإن أحببت زوّجتك ابنى الفضل، فقالت: بل تحملنا إلى حرّان، فحملهن إليها. ذكر من قتل من بنى أمية بعد مقتل مروان بن محمد قال: دخل سديف مولى للسفاح عليه وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه السفاح، فقال سديف: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا

فقال سليمان قتلتنى يا شيخ ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل، قال: ودخل شبل بن عبد الله مولى بنى هاشم على عبد الله بن على وعنده من بنى أمية نحو تسعين رجلا على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال: أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بنى العباس طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وباس لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وغراس ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواسى فلقد غاظنى وغاظ سوائى ... قربهم من نمارق وكراسى أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بذات «1» الهوان والإتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس والقتيل الذى بحرّان أضحى ... ثاويا بين غربة وتناسى فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الانطاع فأكل الطعام عليها، وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا، وأمر عبد الله بن على بنبش قبور بنى أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبى سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كالرماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا فيه جمجمة، وكان يوجد فى القبر العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا، لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط ثم صلبه ثم حرقه وذراه فى الريح، وتتبع بنى أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، فلم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، واستصفى ما لهم من أموال وغيرها، فلما فرغ منهم قال: بنى أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لى منكم بالأول الماضى

يطيّب النفس إن النار تجمعكم ... عوضتم من لظاها شر معتاض إن كان غيظى لفوت منكم فلقد ... رضيت «1» منكم بما ربى به راض «2» وقيل إن سديفا أفسد الشعر، الذى ذكرناه عنه للسفاح ومعه كانت الحادثة، وقتل سليمان بن على بن عبد الله بن العباس بالبصرة منهم جماعة. وألقاهم على الطريق فأكلتهم الكلاب، فاختفى من قدر من بنى أمية. وتشتت شملهم، وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان ابن عتبة بن أبى سفيان، قال: فكنت لا آتى مكانا إلا عرفت فيه، فضاقت علىّ الأرض فقصت سليمان بن على، وهو لا يعرفنى، فقلت له: لفظتنى البلاد إليك، ودلّنى فضلك عليك، فإما قتلتنى فاسترحت، وإما رددتنى سالما فأمنت، فقال من أنت؟ فعّرفته بنفسى فعرفنى، فقال: مرحبا بك. حاجتك؟ فقلت: إن الحرم التى أنت أولى الناس بهنّ، وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا، ومن خاف خيف عليه، فبكى كثيرا ثم قال: بل يحقن الله دمك، ويوفّر مالك. ويحفظ حرمك، ثم كتب إلى السفاح: يا أمير المؤمنين، إنّه قد وفد وافد «3» بنى أمية علينا، وإنّا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإنّا يجمعنا وإياهم عبد مناف، فالرحم تبل ولا تفل «4» ، وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لى فليفعل. وإن فعل فليجعل «5» كتابا عاما إلى البلدان، شكرا «6» لله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا، فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم أمانا، وكان هذا أول أمان بنى أمية.

ذكر الخلاف على أبى العباس السفاح وأخبار من خالف وخلع

ذكر الخلاف على أبى العباس السفاح وأخبار من خالف وخلع فى هذه السنة: خلع حبيب بن مرّة المرّى، ومعه أهل البثنيّة وحوران، وكان من قواد مروان، فحمله الخوف على نفسه على الخلاف، فخرج إليه عبد الله بن على وقاتله دفعات، ثم صالحه عبد الله لما خلع أبو الورد. ذكر خلع أبى الورد وأهل قنّسرين ودمشق وفيها خلع أبو الورد مجزأة «1» بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابى، وكان من أصحاب مروان وقواده، وكان قد بايع عبد الله بن على وأقام بقنّسرين، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم قائد من قواد عبد الله إلى بالس، فبعث بولد مسلمة ونسائهم، فشكى بعضهم ذلك إلى أبى الورد، فقتل ذلك القائد ومن معه وأظهر الخلع لعبد الله، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك فبيّضوا بأجمعهم، والسفاح يومئذ بالحيرة وعبد الله بن على يقاتل حبيب بن مرّة، فلما بلغ عبد الله ذلك صالح حبيب بن مرّة وأمنّه، وسار إلى قنّسرين للقاء أبى الورد، فمرّ بدمشق فخلّف بها أبا غانم «2» عبد الحميد بن ربعى الطائى فى أربعة آلاف، وكان بدمشق أهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله، فلما قدم حمص انتقض أهل دمشق وبيّضوا، وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدى فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه، وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ثقل عبد الله ولم يتعرضوا لأهله، وأجمعوا على الخلاف، وسار عبد الله وكان قد اجتمع مع أبى الورد جماعة أهل قنّسرين، وكاتبوا من يليهم من

ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم

أهل حمص وتدمر «1» ، فقدم منهم ألوف، وقدّموا عليهم أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ودعوا إليه، وقالوا هو السفيانى، واجتمعوا فى نحو أربعين ألفا فعسكروا بمرج الأخرم، ودنا عبد الله منهم ووجّه إليهم عبد الصمد بن على فى عشرة آلاف، وكان أبو الورد هو المدبّر لعسكر قنّسرين وصاحب القتال، فناهضهم واقتتلوا وكثر القتل بينهم فانكشف عبد الصمد، ولحق بأخيه عبد الله فأقبل عبد الله والتقوا بمرج الأخرم، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب أبى الورد، وثبت هو فى خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمّن عبد الله أهل قنّسرين وسوّدوا، وبايعوه ودخلوا فى طاعته، ثم انصرف راجعا إلى دمشق، فلما دنا منها هرب الناس بغير قتال، فأمّن عبد الله أهلها ولم يؤاخذهم وبايعوه؛ وأما أبو محمد السفيانى فتغيّب إلى أيام المنصور، ولحق بالحجاز، فكان كذلك إلى أن بلغ زياد بن عبد الله الحارثى عامل المنصور مكانه، فبعث إليه خيلا فقاتلوه فقتلوه. وقيل إن حرب أبى الورد كانت فى سلخ ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثين. ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم قال: وفى هذه السنة بيّض أهل الجزيرة وخلعوا السفاح، وساروا إلى حرّان وبها موسى بن كعب فى ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها، وليس على أهل الجزيرة رأس تجمعهم، فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلى من أرمينية فاجتمع عليه أهل الجزيرة، وحاصر موسى بن كعب نحوا من شهر، فوّجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة فساروا، واجتاز بقرقيسيا والرّقة وقد بيّض أهلها، فلما انتهى إلى حرّان رحل إسحاق بن مسلم إلى الرّها، وذلك فى سنة ثلاث وثلاثين، وخرج موسى بن كعب إليه، ووجّه إسحاق بن مسلم أخاه

ذكر قتل أبى سلمة الخلال وسليمان بن كثير

بكّار بن مسلم إلى جماعة ربيعة بدارا وماردين، ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحروريّة يقال له بريكة «1» ، فعمد «2» إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة فى المعركة، وانصرف بكّار بن مسلم إلى أخيه بالرها فخلّفه إسحاق بها، وسار إلى سميساط فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بها، وإسحاق يومئذ فى ستين ألفا وبينهم الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرها وحاصر إسحاق بسميساط سبعة أشهر، وكان إسحاق يقول: فى عنقى بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها مات أو قتل، فلما تيقّن قتله طلب الصلح والأمان، فكتبوا إلى السفاح فى ذلك فأمرهم أن يؤمنوه هو ومن معه، فكتبوا بينهم كتابا بذلك، وخرج إسحاق إلى أبى جعفر وكان عنده من آثر أصحابه «3» ، فاستقام أهل الجزيرة والشام، واستعمل أبو العباس السفاح أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف. ذكر قتل أبى سلمة الخلّال وسليمان بن كثير قد ذكرنا ما كان من أمر أبى سلمة مع أبى العباس السفاح فى مبتدأ الأمر، وما عامله به عند مقدمه وتنكّر السفاح له، فلما فارق العسكر ونزل المدينة الهاشمية كتب إلى أبى مسلم الخراسانى، يعلمه بخبره وما كان من أمره، فكتب إليه: إن كان أمير المؤمنين قد اطلع على ذلك فليقتله، فلما قدم عليه كتابه قال داود بن على: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتجّ بها أبو مسلم عليك، وأهل خراسان الذين معك أصحابه، ولكن اكتب إلى أبى مسلم أن يبعث إليه من يقتله، فكتب إليه فبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضبّى ليقتله، فقدم على السفاح وأعلمه، فأمر السفاح مناديا فنادى: إن أمير

المؤمنين قد رضى على أبى سلمة، ودعاه فكساه، ثم دخل بعد ذلك عليه فى ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامة الليل، وانصرف إلى منزله وحده فقتله مرار بن أنس، وقالوا قتله الخوارج، ثم أخرج من الغد فصلّى عليه يحيى ابن محمد أخو السفاح؛ ودفن بالمدينة الهاشمية فقال سليمان بن المهاجر البجلى فيه: إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك صار «1» وزيرا وكان يقال لأبى سلمة وزير آل محمد، ولأبى مسلم أمين آل محمد، قال: فلما قتل وجه السفاح أخاه أبا جعفر إلى أبى مسلم، فلما قدم سايره عبيد الله بن الحسن «2» الأعرج وسليمان بن كثير، فقال سليمان لأبى جعفر: يا هذا إنّا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظنّ عبيد الله أنه دسيس من أبى مسلم، فأتى إلى أبى مسلم وأخبره بمقالة سليمان، فأحضر أبو مسلم سليمان بن كثير وقال له: أتحفظ قول الإمام- من اتهمته فاقتله- قال: نعم، قال فإنى قد اتهمتك، قال: أنشدك الله!! قال لا تناشدنى فأنت منطو على غش الإمام، وأمر به فضربت عنقه، ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال له: لست خليفة ولا أمرك بشىء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال السفاح: فاكتمها. ووجّه أبو مسلم الخراسانى محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يقتل عمّال أبى سلمة ففعل ذلك، فوجّه السفاح عمه عيسى بن على على فارس وعليها محمد بن الأشعث، فأراد محمد قتل عيسى فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرنى أبو مسلم أن لا يقدم علىّ أحد يدّعى الولاية من غيره إلا قتلته، ثم ترك عيسى خوفا من عاقبة قتله، واستحلف عيسى

ذكر أخبار ابن هبيرة وما كان من أمره

الأيمان المغلظة: أن لا يعلو منبرا، ولا يتقلد سيفا إلا فى جهاد، فلم يل عيسى بعدها ولاية، ولا تقلّد سيفا إلا فى غزوة، ثمّ وجّه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن على واليا على فارس. ذكر أخبار ابن هبيرة وما كان من أمره قد ذكرنا أنه كان قد تحصّن بواسط، وأرسل أبو سلمة الحسن بن قحطبة لحصاره فحصره بواسط، وكانت بينهم وقعات أكثرها على ابن هبيرة، فلما ظهر السفّاح بعث أخاه أبا جعفر، لقتال ابن هبيرة بعد رجوعه من خراسان، وكتب إلى الحسن: إن العسكر عسكرك، والقّواد قوّادك، ولكن أحببت أن يكون أخى حاضرا فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته؛ وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك، فلمّا قدم تحوّل الحسن عن خيمته وأنزله فيها، ودام حصاره لابن هبيرة بواسط أحد عشر شهرا، اقتتلوا فيها عدة وقعات، فلما بلغهم مقتل مروان طلبوا الصلح، وكان ابن هبيرة أراد أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن «1» علىّ، فكتب إليه فأبطأ جوابه، وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيّان، ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية السفاح فلم يفعلا، وخرجت السفراء بين أبى جعفر وابن هبيرة، حتى جعل له أمانا وكتب له كتابا، مكث ابن هبيرة يشاور العلماء فيه أربعين يوما حتى رضيه، وأمر السفاح بإمضائه، وكان رأى أبى جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان السفاح لا يقطع أمرا دون أبى مسلم، فكتب السفاح إليه بخبر ابن هبيرة، فكتب أبو مسلم إليه: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة. قال: ولما تمّ الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبى جعفر فى ألف

وثلاثمائة، وأراد أن يدخل على دابته، فقام إليه الحاجب سلّام بن سليم فقال: مرحبا يا أبا خالد، انزل راشدا فنزل، وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان، فأدخل ابن هبيرة وحده فحادثه ساعة، ثم مكث يأتيه يوما ويتركه يوما، وكان يأتيه فى خمسمائة فارس وثلاثمائة، فقيل لأبى جعفر: إن ابن هبيرة ليأتى فيتضعضع له العسكر، فأنقص من سلطانه شيئا، فأمره أبو جعفر ألا يأتى إلا فى حاشيته، فكان يأتى فى ثلاثين ثم صار يأتى فى ثلاثة أو أربعة، وألحّ السفاح على أبى جعفر بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرتك ويتولى قتله، فبعث أبو جعفر من ختم بيوت الأموال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة فأحضرهم، فأقبل محمد بن نباتة، وحوثرة بن سهيل فى اثنين وعشرين رجلا، فأدخل الحاجب حوثرة وابز نباتة فنزعت سيوفهما وكتّفا، واستدعى أبو جعفر رجلين رجلين ففعل بهما كذلك، فقال بعضهم: أعطيتمونا عهد الله وغدرتم، إنا لنرجو أن يدرككم الله، وبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة فى مائة إلى ابن هبيرة، فقالوا: نريد حمل المال، فقال لحاجبه دلّهم على الخزائن ففعل، فأقاموا عند كل بيت نفرا، وأقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبنىّ له صغير فى حجره، فقام حاجبه فى وجوههم فضربه الهيثم على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل، وقتل مواليه، ونحّى ابنه من حجره «1» وقال: دونكم وهذا الصبى وخرّ ساجدا فقتل، وحملت رءوسهم إلى أبى جعفر، فأمر فنودى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك وخالد بن سلمة المخزومى، فهرب الحكم وأمّن أبو جعفر خالدا فقتله السفاح، ولم يجز أمان أبى جعفر.

ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها

ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها وفى هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى على الموصل، وسبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة عاملهم محمد بن صول، وقالوا: لا يلى علينا مولى لخثعم، وأخرجوه عنهم، فكتب بذلك إلى السفاح، فاستعمل عليهم أخاه يحيى وسيّره إليها فى اثنى عشر ألفا، فنزل قصر الإمارة ولم يظهر لهم ما يكرهونه ولا عارضهم فى أمر، ثم دعاهم فقتل منهم اثنى عشر رجلا، فنفر أهل البلد وحملو السلاح فأعطاهم الأمان، وأمر فنودى من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا، أسرفوا فيه فقيل إنه قتل عشرين ألفا ممّن له خاتم «1» ، ومن ليس له خاتم ما شاء الله، فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء يبكين رجالهن، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان، فقتلوا منهم ثلاثة أيام، وكان فى عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجى، فأخذوا النساء قهرا، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب فى اليوم الرابع، وبين يديه الحراب والسيوف مصلته، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم، فقالت له: ألست من بنى هاشم؟! ألست «2» من بنى عم رسول الله؟! أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهنّ «3» الزنج؟!! فأمسك عن جوابها وبعث معها من أبلغها مأمنها، فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وقيل: كان السبب فى قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من كرهية بنى العباس «4» ، وأن امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمىّ من السطح،

ذكر عمال السفاح

فوقع على رأس بعض الخراسانية فظنّها فعلت ذلك تعمدا، فاقتحم «1» الدار وقتل أهلها، فثار أهل البلد وقتلوه وثارت الفتنة، وممن قتل معروف بن أبى معروف، وكان من الزهاد العبّاد قد أدرك كثيرا من الصحابة رضى الله عنهم وروى عنهم. ذكر عمال السفاح فى هذه السنة كان العامل على مكة والمدينة واليمن واليمامة داود بن على عم السفّاح، وكان قبل ذلك على الكوفة وسوادها فنقله واستعمل على الكوفة وسوادها ابن أخيه عيسى بن موسى، واستقضى على الكوفة ابن أبى ليلى، وكان العامل على البصرة سفيان بن معاوية المهلّبى، وعلى قضائها الحجّاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبا جعفر عبد الله بن محمد بن على، وعلى الشام عبد الله بن على، وعلى مصر أبا عون عبد الملك بن يزيد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى خراسان والجبال أبا مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. وحج بالناس فى هذه السنة داود بن على. ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة. ذكر دخول ملك الروم ملطيّة وقاليقلا فى هذه السنة أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطيّة وكمخ «2» ، فنزل كمخ فاستنجد أهلها بأهل ملطية فسار إليهم منها ثمانمائة مقاتل، فقاتلهم الروم فانهزم المسلمون، ونازل الروم ملطية وحصروها، والجزيرة يومئذ مفتونة بما ذكرناه، وعاملها موسى بن كعب بحرّان، فأرسل قسطنطين إلى

أهل ملطية: إنى لم أحصركم إلا على علم من اختلاف المسلمين، فلكم الأمان وتعودون إلى بلاد المسلمين حتى أخرب «1» ملطية، فلم يجيبوه، فنصب المجانيق فأذعنوا وسلّموا البلد بالأمان، وانتقلوا إلى بلاد الإسلام، فخرّبها الروم ورحلوا عنها، وسار ملك الروم إلى قاليقلا فنزل مرج الخصىّ، وأرسل كوشان الأرمنى فحصرها، فنقب أخوان من الأرمن من أهل المدينة «2» سورها، فدخل كوشان ومن معه البلد فغلبوا عليها، وقاتلوا الرجال وسبوا النساء والذريّة، وساق الغنائم إلى ملك الروم. وفيها وجّه السفاح عمه سليمان واليا على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين «3» ومهرجا نقذق واستعمل عمه إسماعيل بن على على الأهواز. وفيها مات «4» داود بن على فى شهر ربيع الأول واستخلف ابنه موسى، فاستعمل السفاح على مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله «5» بن عبد المدان الحارثى، ووجّه محمد بن يزيد بن عبد المدان الحارثى «6» على اليمن. وفيها توجّه محمد بن الأشعث إلى أفريقية فقاتل أهلها حتى فتحها. وفيها خرج شريك بن شيخ المهرى ببخارى على أبى مسلم، ونقم عليه وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، نسفك الدماء ونعمل بغير الحق، وتبعه أكثر من ثلاثين ألفا، ووجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعى فقتله زياد.

ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائة.

وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل واستعمل مكانه إسماعيل بن على وفيها توجّه أبو داود خالد بن إبراهيم إلى الختّل فتحصّن ملكها منه هو وأناس، فألحّ عليه أبو داود فخرج هو ومن معه من دهاقينه، فسار حتى انتهى إلى أرض فرغانة، ودخل بلد الترك وانتهى إلى ملك الصين، وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فبعث بهم إلى أبى مسلم. وحج بالناس فى هذه السنة زياد بن عبيد الله «1» . ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائة. ذكر خلع بسّام بن إبراهيم وما كان من أمره وقتل أخوال السفاح فى هذه السنة خلع بسّام بن إبراهيم، وكان من فرسان أهل خراسان، وسار من عسكر السفاح هو وجماعة على رأيه سرّا إلى المدائن، فوجّه إليهم السفاح خازم بن خزيمة فاقتتلوا، فانهزم بسّام وقتل أكثر من معه واستبيح عسكرهم، وتبعهم خازم إلى أن بلغ ماه «2» ، ثم انصرف فمرّ بذات المطامير، وبها أخوال السفاح من بنى عبد المدان وهم خمسة وثلاثون رجلا، ومن غيرهم ثمانية عشر ومن مواليهم سبعة عشر، فلم يسلّم عليهم فلما جاوزهم شتموه، وكان فى قلبه منهم، لأنه بلغه أن المغيرة بن الفزع من أصحاب بسّام لجأ إليهم، فرجع إليهم فسألهم عن المغيرة، فقالوا: مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام فى قريتنا ليلة ثم خرج منها، فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين يأتيكم عدوه فيأمن فى قريتكم!! فهلا اجتمعتم فأخذتموه!! فأغلظوا له فى الجواب فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعا،

ذكر خبر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز

وهدم دورهم ونهب أموالهم ثم انصرف، فبلغ ذلك اليمانية فاجتمعوا، ودخل زياد بن عبيد الله الحارثى معهم على السفاح، فقالوا: إن خازما «1» اجترأ عليك واستخف بحقك، وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد وأتوك، معتزين بك طالبين معروفك، حتى إذا صاروا فى جوارك قتلهم خازم، ونهب أموالهم وهدم دورهم بلا حدث أحدثوه، فهمّ بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا على السفاح وصرفوه عن ذلك، وقالا إن له سابقة وإن كنت لا بد قاتله فابعثه لأمر، إن قتل فيه فقد بلغت الذى تريد، وإن ظفر كان ظفره لك. وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابركاوان «2» مع شيبان بن عبد العزيز اليشكرى، وأمر السفاح بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب إلى سليمان بن على وهو بالبصرة بحملهم فى السفن إلى جزيرة ابركاوان وعمان، فسار خازم. ذكر خبر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز قال: وسار خازم إلى البصرة وقد انتخب من أهله وعشيرته ومواليه ومن أهل مرو الرّوذ من يثق به، ثم سار فلما وصل إلى البصرة انضم إليه عدة من بنى تميم، فساروا فى البحر إلى جزيرة ابركاون، فوجّه خازم نضلة «3» بن نعيم النّهشلى فى خمسمائة إلى شيبان، فالتقوا وقتتلوا قتالا شديدا، فركب

ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

شيبان وأصحابه فى السفن إلى عمان وهم صفريّة، فقاتلهم الجلندى وأصحابه وهم أباضيّة، واشتد القتال بينهم فقتل شيبان ومن معه، وقد ذكرنا فى سنة تسع وعشرين ومائة فى أخبار مروان بن محمد قتل شيبان هذا، وليس هو شيبان الذى قتل بخراسان، ذاك شيبان بن سلمة، ثم سار خازم فى البحر بمن معه حتى أرسوا بساحل عمان، فخرجوا فلقيهم الجلندى وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل بينهم، ثم اقتتلوا من الغد فقتل من الخوارج نحو تسعمائة، وأحرقوا منهم نحو تسعين رجلا، ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم، وجعلوا النفط على أسنة رماحهم، وأضرموا بيوت أصحاب الجلندى وكانت من خشب فاحترقت، واشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأموالهم، فحمل عليهم أصحاب خازم فقتل الجلندى، وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف، فبعث برءوسهم إلى البصرة ثم إلى السفاح، واستقدم خازما بعد ذلك بشهر فقدم عليه. وفيها وجّه السفاح موسى بن كعب إلى السند «1» لقتال منصور بن جمهور، فسار إليه والتقوا فانهزم منصور ومن معه، فمات عطشا فى الرمال، وقيل أصابته بطنة فمات، وسمع خليفته على السند بهزيمته فرحل بعيال منصور، فدخل بهم بلاد الخزر. وفيها توفى محمد بن يزيد وهو على اليمن، فاستعمل السفاح مكانه على ابن الربيع بن عبيد الله «2» . وفيها تحوّل السفاح من الحيرة إلى الأنبار فى ذى الحجة. وفيها ضرب المنار «3» والأميال من الكوفة إلى مكة المشرفة. وحج بالناس عيسى بن موسى وهو على الكوفة. ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائة .

ذكر خروج زياد بن صالح

ذكر خروج زياد بن صالح فى هذه السنة خرج زياد بن صالح وراء النهر، فسار إليه أبو مسلم من مرو، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم- نصر بن راشد إلى ترمذ، مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها، ففعل ذلك نصر وأقام بها، فخرج عليه ناس من الطّالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق فقتلوا نصرا، فبعث أبو داود «1» عيسى بن ماهان فقتل قتلة نصر، ومضى أبو مسلم مسرعا حتى انتهى إلى آمل ومعه سبّاع بن النعمان الأزدى، وكان السفاح قد أرسله لقتال زياد بن صالح، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبى مسلم ويقتله، فأخبر أبا مسلم بذلك فحبس سبّاعا بآمل، وغزا أبو مسلم حتى نزل بخارى، فأتاه عدّة من قواد زياد قد خلعوا زيادا، وأخبروا أبا مسلم أن سبّاع بن النعمان أفسد «2» زيادا، فكتب إلى عامله بآمل أن يقتله فقتله، ولجأ زياد إلى دهقان هناك فقتله، وحمل رأسه إلى أبى مسلم، فرجع إلى مرو. وفيها غزا عبد الرحمن «3» بن حبيب جزيرة صقلية فغنم ونهب وسبى بعد أن غزا تلمسان. وحج بالناس فى هذه السنة سليمان بن على. ودخلت سنة ست وثلاثين ومائة .

ذكر وفاة أبى العباس السفاح

ذكر وفاة أبى العباس السفاح فى هذه السنة: توفى أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح، وكانت وفاته بالأنبار بالمدينة التى بناها وسماها الهاشمية، لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى الحجة- وقيل لاثنتى عشرة ليلة مضت منه- بمرض الجدرى، وله ثلاث وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون، وقيل ثمان وعشرون، وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفى أربع سنين، ومن لدن بويع بالخلافة أربع سنين وتسعة أشهر، وكان جعدا أبيض طويلا، أقنى الأنف حسن الوجه واللحية، وقيل إنه سمّ. وحكى: أنه وصل عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب بألفى ألف درهم، ولم يعط خليفة هذه الجملة. وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن. أولاده: محمد مات صغيرا ورايطة تزوجها المهدى. وزراؤه: أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، وهو أول من لقب بالوزارة، ولم يكن خلّالا وإنما كان منزله بالكوفة بقرب الخلّالين، فكان يجلس عندهم فسمى الخلّال، ثم قتله على ما قدمناه واستوزر خالد بن برمك وقد قدّمنا أنه كان على الخراج. وكانت الدفاتر فى الدواوين صحفا مدرجة، فأول من جعلها دفاتر من جلود خالد بن برمك. قضاته: ابن أبى ليلى الأنصارى ثم يحيى بن سعيد الأنصارى. حاجبه: أبو غسّان صالح بن الهيثم مولاه. الأمير بمصر: صالح بن على بن عبد الله بن عباس، ثم سار عنها واستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم عاد صالح بن على وقد جمع له مصر وفلسطين وأفريقية، فسيّر أبا عون إلى أفريقية. قاضيه بها عبد الرحمن بن سالم إلى أن صرفه أبو عون وأعاد حسين بن نعيم، ثم اعتزل وولى أبو عون- عون بن سليمان.

ذكر خلافة المنصور

قال: ولما مات السفّاح صلّى عليه عمه عيسى بن على، ودفنه بالأنبار العتيقة. وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طيالسة وثلاث مطارف خز. قيل: نظر السفاح يوما فى المرآة فقال: اللهم إنى لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب، ولكنى أقول: اللهم عمّرنى طويلا فى طاعتك، متمتعا بالعافية، فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لغلام: الأجل بينى وبينك شهران وخمسة أيام، فتطيّر من كلامه، وقال: حسبى الله ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين. فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى، ومات بعد شهرين وخمسة أيام. ذكر خلافة المنصور هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وأمّه سلامة بنت بشر بن يزيد، وهو الثانى من خلفاء بنى العباس. وكان أخوه السفاح قبل وفاته قد عقد البيعة له فى هذه السنة، وجعله ولىّ عهد المسلمين من بعده، وجعل من بعده ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن على، وجعل العهد فى ثوب وختمه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى «1» ، فلما توفى السفاح كان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة له عيسى بن موسى، وكتب إلى أبى جعفر يعلمه بوفاة السفاح والبيعة له، فلقيه الرسول بمنزل صفيّة «2» ، فقال: صفت لنا إن شاء الله، وكتب إلى أبى مسلم يستدعيه، وكان قد حجّ أيضا وقد تقدّم المنصور فأقبل إليه، فلما جلس ألقى إليه الكتاب فقرأه وبكى واسترجع، ونظر إلى أبى جعفر وقد جزع جزعا شديدا، فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال أتخوّف شرّ عمى

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

عبد الله وشيعة علىّ، فقال: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله تعالى، إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان، وهم لا يعصوننى فسرّى عنه، وبايع له أبو مسلم، وأقبلا حتى قدما الكوفة، قال: ولما بايع عيسى بن موسى الناس لأبى جعفر أرسل إلى عبد الله بن علىّ بالشام، يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور، وأمره أن يأخذ البيعة للمنصور فبايع لنفسه. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة . فى هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور من مكة إلى الكوفة، فصلّى بأهلها الجمعة وخطبهم، وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع أطرافه، وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم فسلّم الأمر إليه. ذكر خروج عبد الله بن على وقتاله وهزيمته كان عبد الله بن علىّ قدم على السفاح، فجعله على الصائفة وسيّر معه أهل الشام وخراسان، فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرب، فأتاه الخبر بوفاة السفاح وبيعة المنصور، فرجع وبايع لنفسه وأعلم الناس أن السفاح لما وجّه الجنود إلى مروان بن محمد دعا أهل بيته، وقال: من انتدب منكم لقتال مروان وسار إليه فهو ولى عهدى، فلم ينتدب غيرى وعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت، وشهد له أبو غانم الطائى وخفاف المروروزى وغيرهما من القواد فبايعوه، ومنهم حميد بن قحطبة وغيره، ثم سار عبد الله حتى أتى حرّان، وبها مقاتل العكى «1» قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة، فتحصّن منه مقاتل فحصره أربعين يوما، وكان أبو مسلم قد عاد من

الحج مع المنصور كما ذكرناه، فقال للمنصور: إن شئت جمعت ثيابى فى منطقتى وخدمتك، وإن شئت أتيت خراسان وأمددتك بالجنود، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن على، فأمره بالمسير لحرب عبد الله، فسار نحوه فى الجنود ولم يتخلف عنه أحد، فلما بلغ عبد الله إقبال أبى مسلم الخراسانى أعطى العكّى «1» أمانا، فنزل إليه فيمن معه فوجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى الأزدى بالرقة، ومعه ابناه، وكتب معه كتابا، فلما قدموا على عثمان دفع العكّى الكتاب إليه فقتله واحتبس أولاده، قال: وخشى عبد الله ألا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، واستعمل حميد بن قحطبة على حلب، وكتب معه كتابا إلى زفر بن عاصم يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه، فلما كان ببعض الطريق قرأه، فإذا فيه قتله، فأعلم خاصته بما فيه وانقلب إلى العراق على الرصافة، فتبعه ناس كثير، وأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علىّ ليمكر به، فلما أتاه قال له: سمعت أبا العباس يقول: الخليفة بعدى عمى عبد الله، فقال له: كذبت إنما وضعك أبو جعفر وضرب عنقه، ثم أقبل عبد الله حتى نزل نصيبين وخندق عليه، وقدم أبو مسلم ناحية نصيبين وأخذ طريق الشام ولم يعرض لعبد الله، وكتب إليه: لم أومر بقتالك، وإنما أمير المؤمنين ولّانى الشام، فأنا أريدها، فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام له: كيف نقيم معك؟ وهذا يأتى بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبى ذرارينا، ولكنّا نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله، فقال لهم عبد الله: والله ما يريد الشام وما توجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم، فأبوا إلا المسير إلى الشام، فارتحل عبد الله نحو الشام، فنزل أبو مسلم فى معسكر عبد الله،

ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى

وغوّر ما حوله من المياه، فقال لأصحابه: ألم أقل لكم، ورجع فنزل فى مكان عسكر أبى مسلم الذى كان به أولا، ثم التقوا واقتتلوا خمسة أشهر عدة وقعات، حتى كادت الهزيمة تكون على أصحاب أبى مسلم، وانهزم بعضهم، فكان أبو مسلم يرتجز فى ذلك فيقول: من كان ينوى أهله فلا رجع ... فرّ من الموت وفى الموت وقع فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سبع وثلاثين التقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب عبد الله وتركوا معسكرهم فحواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى المنصور، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا من العسكر، فغضب أبو مسلم. قال: ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علىّ، فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى المنصور، وأما عبد الله فإنه أتى أخاه سليمان بن علىّ بالبصرة، فأقام عنده زمانا متواريا. ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى وكان مقتله لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة، قال: وسبب ذلك أن المنصور كان قد حقد عليه أشياء كثيرة، منها أن أبا مسلم كان قد كتب إلى السفاح يستأذنه فأذن له، وكتب السفاح إلى المنصور- وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان- أن أبا مسلم استأذننى فى الحج وأذنت له، وهو يريد أن أوليه الموسم فاستأذنى أنت فى الحج، فإنك إذا كنت بمكة لا يطمع أن يتقدمك، فكتب المنصور إلى السفاح يستأذنه فى الحج فأذن له، فقال أبو مسلم: ما «1» وجد أبو «2» جعفر عاما يحج فيه غير هذا!! وحجّا معا، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب، ويصلح الآبار

والطرق، فصار الذكر له، فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم فى الطريق على المنصور، وأتاه خبر السفاح كما قدّمناه، فكتب إلى أبى جعفر يعزيه بالسفاح ولم يهنئه بالولاية، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع، فغضب المنصور لذلك وكتب إليه كتابا غليظا، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة، وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار، فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له، فأبى عيسى وقد قيل فى أمره ما قدمناه، ثم جهّزه لمحاربة عبد الله بن على ومعه الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبى أيوب وزير المنصور يقول: إنى قد ارتبت «1» من أبى مسلم، فإنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقيه إلى أبى الهيثم ويضحكان استهزاء، فقال أبو أيوب: نحن لأبى مسلم أشد تهمة (منّا) «2» لعبد الله. فلما انهزم عبد الله وبعث المنصور أبا الخصيب يجمع الأموال، فأراد أبو مسلم قتله فكلّم فيه فخلى سبيله، وقال: أنا أمين على الدماء خائن فى الأموال، وشتم المنصور فرجع أبو الخصيب وأخبر المنصور، فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إنى قد ولّيتك مصر والشام، فهى خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحبّ لقاءك أتيته من قرب، فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يولينى مصر والشام وخراسان لى!! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة وقد أجمع على الخلاف، وخرج يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبى مسلم فى المسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنّا نروى عن ملوك بنى ساسان: إن أخوف ما

يكون الوزراء إذا سكنت «1» الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطى نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسى، فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إليه: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغشيشة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وأنت فى طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر ما أنت به، وليس من الشريطة التى أوجبت منك سمع ولا طاعة، وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة، لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به ذات «2» بينك أوكد عنده وأقرب من الباب الذى فتحه عليك. وقيل إن مكاتبة أبى مسلم إلى المنصور كانت على خلاف ما قدمناه، وأن المنصور لما سار إلى المدائن أخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن على ولمن حضره من بنى هاشم: اكتبوا إلى أبى مسلم، فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه، ويسألونه أن يتمّ ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة البغى، ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور، وبعث المنصور الكتب مع أبى حميد المروروذى وقال له: كلّم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومنّه وأعلمه أنى رافعه وصانع به ما لم أصنع بأحد- إن هو صلح وراجع فله ما أحب «3» ، فإن أبى فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتنى، إن «4» وكلت أمرك

إلى أحد سواى، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسى، ولو خضت البحر لخضته، ولو «1» اقتحمت النار لاقتحمتها، حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، وأوصاه ألا يقول له هذا القول إلا بعد الإياس منه، فسار أبو حميد وقدم على أبى مسلم بحلوان، فدفع إليه الكتب وقال: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك- حسدا وبغيا، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك، وقال له: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس وما ذخره الله لك فى ذلك من الأجر عنده أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له: متى كنت تكلمنى بهذا الكلام!! فقال أبو حميد: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم فى بنى العباس، وأمرتنا بقتال من خالف، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا حتى أتيناهم فى بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن يفسد أمرنا وتفرّق كلمتنا؟ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه، وإن خالفتكم فاقتلونى، فأقبل أبو مسلم على أبى نصر مالك بن الهيثم، وقال: أما تسمع كلامه لى!! ما هذا بكلامه، فقال مالك: لا تسمع كلامه ولا يهولنّك هذا منه، فلعمرى ما هذا كلامه، ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنّك، ولقد وقع فى نفسه منك مالا يأمنك معه أبدا، فأمرهم بالقيام فنهضوا. وأرسل أبو مسلم الكتب إلى نيزك فقال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتى الرى فتقيم بها، فتصيّر ما بين خراسان والرى لك، وهم جندك لا يخالفونك، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت فى جندك، وكانت خراسان من ورائك، وأنت ورأيك.

فدعا أبا حميد وقال له: ارجع إلى صاحبك فليس من رأيى أن آتيه، قال: قد عزمت على خلافه، قال: نعم، قال: لا تفعل، قال لا أعود أبدا، فلما أيس منه أبلغه الرسالة، فوجم طويلا ثم قال: قم كررها وارتاع لقوله. وكان المنصور قد كتب لأبى داود- خليفة أبى مسلم بخراسان- حين اتهم أبا مسلم: أن لك إمرة خراسان، فكتب أبو داود إلى أبى مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجع إلا بأمره، فوافاه كتابه وهو على تلك الحال فزاده رعبا، فأرسل إلى أبى حميد فقال له: إنى كنت عازما على المضى إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه، فإنه ممن أثق به فوجّهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبى مسلم وقال: ما أنكرت شيئا، ورأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إلى المنصور فيعتذر إليه، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثل: ما للرجال مع القضاء محالة ... غلب «1» القضاء بحيلة الأقوام قال: فإذا عزمت على هذا فخار الله لك، احفظ عنى واحدة: إذا دخلت عليه فاقتله، ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى المنصور إنه منصرف إليه، وسار نحوه واستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابى، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتمى كله فلم أختمه، وقدم المدائن فى ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان. قال: ولما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس؛ ثم قدم فدخل

على المنصور فقبّل يده، فأمره أن ينصرف ويستريح ليلته ويدخل الحمام فانصرف. فلما كان من الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعة من الحراس، فأمرهم أنه إذا صفّق بيده أن يقتلوا أبا مسلم وتركهم خلف الرواق، واستدعى أبا مسلم فدخل عليه، فقال له المنصور: أخبرنى عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن على، قال: هذا أحدهما، قال: أرنيه فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه، وأقبل يعاتبه وقال له: أخبرنى عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين!؟ قال: ظننت أن أخذه لا يحلّ، فلما أتانى كتابه علمت أنه وأهل بيته معدن العلم؛ قال: أخبرنى عن تقدمك إياى بطريق مكة، قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمت للرفق؛ وذكره بذنوبه وما أنكره عليه، وكان من جملة ما ذكر له- ألست الكاتب إلىّ تبدأ بنفسك، وتخطب عمتى آمنة «1» بنت على، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت- لا أمّ لك- مرتقى صعبا، ثم قال: وما الذى دعاك إلى قتل سليمان بن كثير؟ مع أثره فى دعوتنا وهو أحد نقبائنا «2» قبل أن يدخلك فى هذا الأمر! قال: أراد الخلاف علىّ وعصانى فقتلته، فلما طال عتاب المنصور له قال: لا يقال لى هذا بعد بلالى وما كان منّى! قال: يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت فى دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، فأخذ أبو مسلم يد المنصور يقبّلها ويعتذر إليه، فقال: والله ما رأيت كاليوم، والله مازدتنى إلا غضبا، فقال أبو مسلم: دع هذا، فو الله قد أصبحت ما أخاف إلا الله، فشتمه المنصور وصفّق بيده على الأخرى، فخرج إليه الحرس فضربه عثمان

ابن نهيك فقطع حبائل سيفه، فقال: استبقنى لعدوك يا أمير المؤمنين، فقال: لا أبقانى الله إذن، وأى عدو أعدى لى منك؟! وأخذته سيوف الحرس حتى قتلوه، وهو ينادى العفو العفو، فقال المنصور يا ابن اللخناء والسيوف قد اعتورتك!! وأنشد المنصور «1» : اشرب بكأس كنت تسقى بها ... أمرّ فى فيك من العلقم زعمت أن الدين لا يقتضى ... كذبت والله أبا مجرم قال: وكان أبو مسلم قد قتل ستمائة ألف صبرا، قال: ولما قتل قال لأصحابه اجتمعوا، فاجتمعوا فنثرت عليهم بدرة، فلما أكبوا ليلتقطوها طرح عليهم رأس أبى مسلم، فلما رأوه تخاذلوا وتفرقوا، قال: ثم خطب المنصور بعد مقتل أبى مسلم فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدأ وأساء معقبا، وأخذ من الناس «2» أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيّته مالو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنّفنا فى إمهاله «3» ، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحلّ لنا عقوبته، وأباحنا دمه فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبيانى:

فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على الصمد «1» ثم نزل. قال: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة وأبى «2» الزبير المكى وثابت البنانى ومحمد بن على بن عبد الله بن عباس والسدّى وروى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ وعبد الله بن المبارك وغيرهما، وقيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيرا أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم خير من أحد، ولكنّ الحجاج كان شرا منه، وكان أبو مسلم فاتكا شجاعا ذا رأى وتدبير وحزم وعقل ومروءة. قال: ولما قتل كتب المنصور إلى أبى نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبى مسلم يأمره بحمل ثقله، وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبى مسلم، فلما رأى الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه، فقال: أفعلتموها، وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب المنصور له عهدا على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركى وهو على همذان، إن مرّ بك أبو نصر فاحبسه، فأتاه الكتاب وهو بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاما، فلو أكرمتنى بدخول منزلى، فحضر عنده فأخذه زهير وحبسه، وقدم صاحب العهد على أبى نصر فخلّى زهير سبيله لهواه فيه فخرج، ثم كتب المنصور إلى زهير بقتله، فقال جاءنى كتاب بعهده فخليت سبيله، ثم قدم أبو نصر على المنصور فقال: أشرت على أبى مسلم بالمضى إلى خراسان، قال: نعم، كانت له عندى أياد فنصحته، وإن اصطنعنى أمير المؤمنين نصحت له وشكرت، فعفا عنه، فلما كان يوم الراونديّة قام أبو نصر

ذكر خروج سنباذ بخراسان

على باب القصر، وقال: أنا البواب اليوم، لا يدخل أحد وأنا حىّ، فعلم المنصور أنه نصح له، وقيل إن زهيرا سيّر أبا نصر إلى المنصور مقيّدا، فمنّ عليه واستعمله على الموصل والله أعلم. ذكر خروج سنباذ بخراسان وفى هذه السنة خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبى مسلم، وكان مجوسيا من قرية من قرى نيسابور يقال اهروانه «1» ، وكان من صنائع أبى مسلم فخرج غضبا لقتله، وكثر أتباعه وكان عامتهم من أهل الجبال، فغلب على نيسابور وقومس والرىّ وتسمى فيروز إصبهيذ، فلما صار بالرى أخذ خزائن أبى مسلم التى كان خلّفها هناك لما حجّ، وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يتعرض للتجار، وأظهر أنه يريد قصد الكعبة ليهدمها، فوجّه إليه المنصور جمهور بن مرّار العجلى فى عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والرى على طرف المفازة، فعزم جمهور على مطاولته فلما التقوا قدّم سنباذ النساء من سبايا «2» المسلمات على الجمال فى المحامل، فلما رأين عسكر المسلمين قمن فى المحامل ونادين: وا محمداه!! ذهب الإسلام، وقعقعت الريح فى أثوابهن فنفرت الإبل، وعادت على عسكر المجوس فتفرقوا، وكانت الهزيمة عليهم وتبع المسلمون الإبل، فوضعوا السيوف فى المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاءوا، وكان عدد القتلى نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس، وكان بين مخرجه وقتله سبعون ليلة؛ وكان سبب قتله أنه قصد طبرستان ملتجئا إلى صاحبها، فأرسل إلى طريقه غلاما «3» له اسم طوس «4» ، فضرب عنق سنباذ وأخذ ما

ذكر خروج ملبد الشيبانى وقتله

معه من الأموال، وكتب إلى المنصور بقتله، فطلب المنصور الأموال التى كانت معه من صاحب طبرستان فأنكرها، فسيّر الجنود لحربه فهرب إلى بلاد الديلم. ذكر خروج ملبّد «1» الشيبانى وقتله وفى هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيبانى فحكم بناحية الجزيرة، فسار إليه روابط الجزيرة وهم نحو ألف فارس، فقاتلهم فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبى فهزمه ملبّد، فوجّه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان فى ألفين نخبة الجند فهزمهم، واستباح عسكرهم، ثم وجّه إليه نزارا قائدا من قواد خراسان، فقتله ملبّد وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بن مشكان فى جمع كثير فهزمهم، فوجّه إليه صالح بن صبيح فى جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة فهزمهم، ثم سار إليه حميد بن قحطبة- وهو يومئذ على الجزيرة- فهزمه ملبّد، وتحصّن منه حميد وأعطاه مائة ألف درهم، على أن يكفّ عنه، فلما بلغ ذلك المنصور وجّه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن، وضمّ إليه زياد بن مشكان، فأكمن له ملبّد مائة فارس، فلما التقوا خرج الكمين عليهم، فانهزم عبد العزيز وقتل عامة أصحابه، فوجّه إليه خازم بن خزيمة فى نحو ثمانية آلاف من المروروذية، والتقوا واقتتلوا مرة بعد أخرى، فانهزمت ميمنة خازم وميسرته وثبت هو فى القلب، فنادى فى أصحابه: الأرض، الأرض، فنزلوا وعقروا عامة دوابهم وضربوا بالسيوف حتى تقطعت، وتراجع أصحاب خازم ورشقوا أصحاب ملبّد بالسهام، فقتل ملبّد فى ثمانمائة رجل بالنشاب- وكانوا قد ترجلوا، وقتل منهم قبل ذلك ثلاثمائة، وهرب الباقون فاتبعهم أصحاب خازم، فقتل منهم مائة وخمسون

ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة.

رجلا، وذلك فى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وقيل إن خروجه كان فيها. وحجّ بالناس فى هذه السنة إسماعيل بن على بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل. ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة. ذكر خلع جمهور بن مرّار وقتله فى هذه السنة خلع جمهور «1» بن مرّار العجلى، وسبب ذلك أنه لما هزم سنباذ حوى ما فى عسكره، وكان فيه خزائن أبى مسلم فلم يوجهها إلى المنصور، فخاف فخلع، فوجّه المنصور لحربه محمد بن الأشعث فى جيش عظيم، فسار نحو الرىّ ففارقها جمهور نحو أصفهان فملكها، فأرسل محمد عسكرا وأقام هو بالرى، فأشار على جمهور بعض أصحابه أن يسير فى نخبة عسكره نحو محمد، فسار إليه فبلغ محمدا الخبر فاحتاط وحذر، وأتاه عسكر من خراسان فقوى بهم، والتقوا بقصر الفيروزان بين الرى وأصفهان، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب جمهور، ولحق بأذربيجان، وقتل من أصحابه خلق كثير، ثم قتله أصحابه باسباذروا «2» وحملوا رأسه إلى المنصور. وفى هذه السنة خرج قسطنطين- ملك الروم- إلى بلاد الإسلام، فدخل ملطية عنوة وقهر أهلها وهدم سورها، وعفا عمن فيها من المقاتلة والذريّة، ثم بنى صالح بن على ما هدمه الروم من سورها.

ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائة

وفيها بايع عبد الله بن على للمنصور فى المسجد الحرام. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن صالح بن على. ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائة . فى هذه السنة: كان الفداء بين المنصور وملك الروم، فاستنقذ المنصور أسرى قاليقلا وغيرهم من الروم، وعمّرها وردّ أهلها إليها، وندب إليها جندا من أهل الجزيرة وغيرهم. وفيها استولى عبد الرحمن بن معاوية على بلاد الأندلس، على ما نذكره فى أخبار الدولة الأموية بالمغرب. وفيها عزل المنصور سليمان بن على عن البصرة، فاختفى أخوه عبد الله بن على ومن معه من أصحابه، خوفا من المنصور، فأرسل المنصور إلى سليمان وعيسى ابنى علىّ فى إحضار عبد الله، وأمّنه فأحضراه إليه وقواده ومواليه فى ذى الحجة، فحبسه المنصور ومن معه من أصحابه، ثم قتل بعضهم بحضرته، وبعث بقيتهم إلى خالد بن إبراهيم- عامل خراسان- فقتلهم بها، واستعمل على البصرة سفيان بن معاوية. وحج بالناس العباس بن محمد بن على. ودخلت سنة أربعين ومائة . فى هذه السنة: هلك أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلى عامل خراسان، وكان سبب هلاكه أنّ ناسا من الجند ثاروا به- وهو بكشماهن- ووصلوا إلى المنزل الذى هو فيه، فأشرف عليهم من الحائط ووطىء حرف آجرة، وجعل ينادى أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة به عند الصباح، فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر، فاستعمل المنصور عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدى، فقدم وأخذ جماعة من القواد الذين أتهمهم بالدعاء لولد على بن أبى طالب فقتلهم، وحبس جماعة.

ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائة.

وفيها سيّر المنصور عبد الوهاب ابن أخيه إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة، فى سبعين ألف مقاتل إلى ملطية، فعمروا ما كان خربه الروم منها فى ستة أشهر، وأسكنها أربعة آلاف من الجند، وأكثر فيها السلاح والذخائر، وبنى حصن قلوذية «1» ، فعاد إلى ملطية من كان جلا منها. وفيها حج المنصور فأحرم من الحيرة، فلما قضى حجة توجّه إلى البيت المقدس، ثم سار منه إلى الرّقة فقتل بها منصور بن جعونة العامرى، وعاد إلى هاشمية الكوفة. وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصّيصة على يد جبريل بن يحيى، وكان سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل، فبنى السور وسماها المعمورة، وبنى بها مسجدا جامعا، وفرض فيه لألف رجل، وأسكنها كثيرا من أهلها. ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائة. ذكر خروج الراوندية على المنصور وقتلهم والراوندية قوم من أهل خراسان يقولون بتناسخ الأرواح «2» ، ويزعمون أن روح آدم حلت فى عثمان بن نهيك، وأن ربّهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو المنصور، وأن جبريل هو الهيثم بن معاوية، فلما ظهروا وأتوا قصر المنصور فقالوا: هذا قصر المنصور، فقالوا هذا قصر ربنا، فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم ثمانين «3» رجلا، فغضب أصحابهم،

ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى إليه

وأخذوا نعشا فحملوه وليس فيه أحد، فمرّوا على باب السجن ورموا النعش، وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم، وقصدوا المنصور وهم ستمائة رجل، فغلقت أبواب المدينة، وخرج المنصور من القصر ماشيا، ولم يكن فى القصر دابة، ثم أتى بدابة فركبها، وأمر بعد ذلك اليوم أن تربط دابة معه فى القصر، وخرج المنصور لهم فتكاثروا عليه حتى كادوا يقتلونه، وجاء معن بن زائدة الشيبانى- وكان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة، وكان المنصور شديد الطلب له، وقد بذل فيه مالا كثيرا، فتلثّم وترجّل وقاتل قتالا شديدا، وكان المنصور على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه، فأتاه معن بن زائدة وقال: يا شيخ أنا أحق بهذا اللجام منك فى هذا الوقت وأعظم غناء، فقال المنصور: صدق، فدفعه إليه، فلم يزل يقاتل حتى حصل الظفر بالراوندية، فقال له المنصور: من أنت؟ قال: طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فقال: قد آمنك الله على نفسك ومالك وأهلك، مثلك يصطنع؛ وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور، وقال: أنا البواب كما ذكرنا ذلك، ونودى فى أهل السوق فقاتلوهم، وفتح باب المدينة فدخل الناس، فحمل عليهم خازم بن خزيمة حتى ألجأهم إلى حائط، ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين، فقال الهيثم بن شعبة: إذا كرّوا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فقاتلهم، ففعل ذلك فقتلوا جميعا، وكان ذلك بالمدينة الهاشمية، وأصيب يومئذ عثمان بن نهيك بسهم، فمرض أياما ومات فصلى عليه المنصور، وجعل على الحرس أبا العباس الطّوسى ثم ولّى المنصور معن بن زائدة اليمن. ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى إليه وفى هذه السنة خلع عبد الجبار ابن عبد الرحمن- عامل خراسان- المنصور، وكان سبب ذلك أنه لمّا استعماء المنصور على خراسان عمد إلى

القواد، فقتل بعضهم وحبس بعضهم، فبلغ ذلك المنصور، وأتاه كتاب بعضهم يقول: قد نغل «1» الأديم، فقال المنصور لأبى أيوب: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع، فقال اكتب إليه: إنك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوهم، فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا يمتنع، فكتب إليه المنصور فأجابه أن الترك قد جاشت «2» ، وإن فرّقت الجند ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبى أيوب وقال: ما ترى، فقال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهم إلى من غيرها، وأنا موجه إليك الجنود، ثم وجّه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن همّ بخلع أخذوا بعنقه، فلما ورد الكتاب على عبد الجبار أجابه: إن خراسان لم تكن أسوأ حالا منها العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء، فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبى أيوب، فقال له أبو أيوب: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره، فوجّه المنصور إليه المهدى، وأمره بنزول الرى، فسار المهدى ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار، ونزل المهدى نيسابور، فلما بلغ ذلك أهل مرو الروذ ساروا إلى عبد الجبار، وقاتلوه قتالا شديدا فانهزم منهم، والتجأ إلى مقطنة «3» فتوارى فيها، فعبر إليه «4» المجشّر بن مزاحم من أهل مرو الروذ فأخذه أسيرا، فلما قدم خازم أتاه به وألبسه جبة صوف، وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلى عجز البعير، وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب واستخرج منهم الأموال، ثم أمر فقطعت يد عبد الجبار ورجلاه وضربت عنقه، وأمر بتسيير ولده إلى دهلك- جزيرة باليمن، فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند

ذكر فتح طبرستان

فسبوهم فيمن سبوا، ثم فودوا بعد ذلك. وقيل كان أمر عبد الجبار فى سنة اثنتين وأربعين فى شهر ربيع الأول. ذكر فتح طبرستان قال: ولما ظفر المهدى بعبد الجبار بغير تعب كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التى أنفقت على المهدى، فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الرىّ، ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الإصبهبذ، وكان الإصبهبذ يومئذ محاربا المصمغان «1» ملك دنباوند، فبلغه دخول الجند بلاده، ثم قال المصمغان للإصبهبذ متى قهروك صاروا إلىّ، فاجتمعوا على حرب المسلمين وطالت تلك الحروب، فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان، وهو الذى يقول فيه بشار: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم وكان عالما ببلاد طبرستان، فأخذ الجنود وقصد الرويان ففتحها وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب وألحّ خازم بالقتال ففتح طبرستان وقتل منهم وأكثر، وصار الإصبهبذ إلى قلعته وطلب الأمان، على أن يسلّم القلعة وما فيها من الذخائر، فكتب المهدى بذلك إلى المنصور، فوجّه المنصور صالحا صاحب المصلى فأحصى ما فى الحصن وانصرفوا، ودخل الإصبهبذ بلاد جيلان «2» من الديلم، وأخذت ابنته وهى أم إبراهيم بن العباس بن محمد، وقصدت الجنود المصمغان فظفروا به. وفيها عزل زياد بن عبيد الله الحارثى عن مكة والمدينة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى فى شهر رجب،

ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة.

وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العتكى من أهل خراسان. وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن على بن عبد الله بن عباس وهو يومئذ على الشام. ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة. ذكر خلع عيينة بن موسى فى هذه السنة خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسند وكان عاملا عليها، وسبب خلعه أن أباه كان يستخلف المسيّب بن زهير على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيّب على ما كان يلى من الشرط، وخاف أن المنصور يحضر عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه، فكتب إليه بيت شعر ولم بسب الكتاب إلى نفسه: فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم فخلع الطاعة، فلما بلغ المنصور الخبر سار بعسكره حتى نزل جسر البصرة، ووجه عمر بن حفص بن أبى صفرة العتكى عاملا على السند، وأمره بمحاربة عيينة فسار وغلب على السند. ذكر نكث الإصبهبذ فى هذه السنة: نقض الإصبهبذ بطبرستان العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده منهم، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سيّر مولاه أبا الخصيب، وخازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، وأقاموا يحاصرون الحصن وهو فيه، ولما طال عليهم المقام احتال أبو الخصيب فى ذلك، فقال لأصحابه: اضربونى واحلقوا رأسى ولحيتى ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ فقال له: إنهم فعلوا بى هذا لأنهم تهمونى أنّ هواى معك، وقال له: إنما أدلك على عورة عسكرهم، فقبل الإصبهبذ ذلك وجعله فى خاصته، وكان باب حصنه من حجر، وكان يوكل بفتحه وغلقه ثقات

ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة.

أصحابه نوبا بينهم، فلما وثق الإصبهبذ بأبى الخصيب وكله بالباب فتولى فتحه وغلقه، فكتب أبو الخصيب إلى روح وخازم وأعلمهم أنه قد ظفر، وأوعدهم ليلة بفتح الباب، فلما كان فى تلك الليلة فتح لهم، فدخلوا الحصن فقتلوا من فيه من المقاتله وسبوا الذريّة، وأخذوا شكلة «1» أم ابراهيم ابن المهدى، وكان مع الإصبهبذ سم فشربه فمات، وقيل إن ذلك كان فى سنة ثلاث وأربعين. وفى هذه السنة مات سليمان بن على بن عبد الله بن عباس فى جمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة، وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر «2» ، ووليها حميد بن قحطبة، وولّى المنصور أخاه العباس بن محمد على الجزيرة والثغور والعواصم، وعزل عمه إسماعيل عن الموصل واستعمل عليها مالك بن الهيثم الخزاعى. وحج بالناس إسماعيل بن على بن عبد الله بن عباس. ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة. فى هذه السنة: ثار الديلم بالمسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فندب الناس المنصور إلى قتال الديلم وجهادهم؛ وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، واستعمل السّرى بن عبد الله بن الحارث بن العباس؛ وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر واستعمل عليها يزيد بن حاتم «3» ، وحج بالناس فى هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله. ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة.

فى هذه السنة: سير المنصور الناس من أهل الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم، واستعمل عليهم محمد بن أبى العباس السفاح. وفيها عزل المنصور عن المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، واستعمل عليها رياح بن عثمان المرى، وكان سبب ذلك أن المنصور كان يتطلب محمد ابن عبد الله بن الحسن وأخاه إبراهيم بن عبد الله، فلما استعمل محمد بن خالد على المدينة أمره بطلبهما، فقدم المدينة وأنفق أموالا عظيمة فى طلبهما، فلم يظفر بهما فعزله واستعمل رياحا، وأمره بمطالبة القسرى بالأموال وطلب محمد وإبراهيم، فقدم المدينة وطالب محمد بن خالد بالمال وضربه وسجنه، وأخذ كاتبه رزاما «1» وعاقبه، وألزمه أن يذكر له ما أخذ محمد من الأموال، فلم يجبه إلى ذلك، فلما طال عليه الأمر وشدّد عليه العذاب أجابه، فقال له رياح: أحضر الرقيعة «2» وقت اجتماع الناس، فلما اجتمع الناس أحضره، فقال: أيها الناس إن الأمير أمرنى أن أرفع على محمد بن خالد، وقد كتبت كتابا وأنا أشهدكم أن كل ما فيه باطل، فأمر به رياح فضرب مائة سوط ورده إلى السجن. وفيها حج المنصور فلما عاد من حجه إلى المدينة لم يدخلها، ونزل الرّبذة، وكان قد أمر رياحا بحبس أولاد الحسن فحبسهم، فلما رجع أمر بحملهم إلى العراق، فأخرجهم من السجن إلى الربذة والأغلال فى أعناقهم وأرجلهم، وحملوا بغير وطاء، وحبسهم بقصر ابن هبيرة، وضرب محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان «3» - وكان قد حبسه معهم- خمسين ومائة سوط، فسالت إحدى عينيه بضربة أصابتها، ومحمد هذا هو الذى يسمى

ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة.

الديباج، كل ذلك لخوفه من ظهور محمد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة. ظهور محمد بن عبد الله فى هذه السنة: ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب «1» بالمدينة ودعا إلى نفسه، وحبس رياح بن عثمان عامل المدينة، وأخرج محمد بن خالد القسرى من الحبس، واستعمل العمال على المدينة ومكة والطائف واليمن، وكان خروجه لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة منها، وكان بينه وبين المنصور مكاتبات سنذكرها فى أخبار محمد بن عبد الله، ولم تغن شيئا، فندب المنصور لقتاله عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس، فالتقوا فقتل محمد فى يوم الإثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان منها، وقتل معه جماعة سنذكر ذلك مستوفى فى أخباره إن شاء الله. وفيها ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن- وهو أخو محمد- بالبصرة، وبايع الناس، وكان ظهوره فى أول شهر رمضان، وقتل يوم الإثنين لخمس بقين من ذى القعدة منها. وسنذكر ذلك مستوفى فى موضعه إن شاء الله تعالى. ذكر وثوب السودان بالمدينة وفى هذه السنة: ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثى فهرب منهم، وسبب ذلك أن المنصور لما استعمله قدم المدينة لخمس بقين من شوال، فنازع جنده التجار فى بعض ما يشترونه منهم، فشكوا ذلك

ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها

إليه فانتهر التجار وشتمهم، فتزايد طمع الجند فعدوا على صيرفى فنازعوه كيسه، فاستعان بالناس فخلصوه منه «1» ، وشكا أهل المدينة إلى ابن الربيع فلم ينكره، ثم جاء رجل من الجند إلى جزار، فاشترى منه لحما فى يوم جمعة فلم يعطه الثمن، وشهر عليه السيف فضربه الجزار بشفرة فى خاصرته فقتله، واجتمع الجزارون وتنادى السودان فقاتلوهم، ونفخوا فى بوق لهم فسمع السودان من العالية والسافلة فاجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاثة، وهم: وثيق ويعقل وزمعة، فقتلوا فى الجند حتى أمسوا، وقصدوا ابن الربيع فهرب منهم، وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به، وانتهب السودان طعاما للمنصور وزيتا وغيره، فباعوا الحمل الدقيق بدرهمين، والراوية الزيت بأربعة دراهم، ولم يصل الناس فى ذلك اليوم جمعة، فذهب محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبا بموالينا، والله ما قمنا إلا أنفة بما عمل بكم، فأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد فخطبهم ابن أبى سبرة، وحثهم على الطاعة فتراجعوا، ثم قال لهم- من الغد إنكم كان منكم ما كان بالأمس «2» - نهبتهم طعام أمير المؤمنين، فلا يبقيّن عند أحد منه شىء إلا ردّه فردّوه، ورجع ابن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما. ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها وفى هذه السنة ابتدأ المنصور فى بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك أنه كان قد ابنتى المدينة الهاشمية بنواحى الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكناها لذلك، ولجوار أهل الكوفة فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد موضعا لبنائها، وكان بعض جنده قد تخلف عنه بالمدائن لرمد أصابه،

فسأله الطبيب الذى يعالجه عن سبب حركة المنصور فأخبره، فقال الطبيب: إنّا نجد فى كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبنى مدينة، بين دجلة والصراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه، فلم يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر زمنا طويلا ويبقى الملك فى عقبه، فقدم ذلك الجندى على المنصور وأخبره الخبر، فقال: أنا والله كنت أدعى مقلاصا ثم زال عنّى، وسار حتى نزل الدير- هو جوار قصره المعروف بالخلد، ودعا صاحب الدير والبطريق وغيرهما، فاتفق رأيهم على عمارتها فى موضعها «1» ، وابتدأ بعمارتها فى سنة خمس وأربعين ومائة، وكتب إلى سائر البلاد فى إنفاذ الصناع والفعلة، وأمر أن يختار له من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخطت المدينة بالرماد، فشقها ورآها، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ونظر إليها وهى تشتعل ففهمها، وأمر بحفر أساسها على ذلك الرسم، ووكل بها أربعة من القواد، كل قائد على ربع، ووكل أبا حنيفة بعدّ «2» الآجر واللبن، وكان قبل ذلك أراده المنصور على ولاية القضاء والمظالم فلم يجب، فحلف المنصور أنه لا بد أن يعمل له، فأجابه أن ينظر فى عمارة بغداد، ويعدّ الآجر واللبن بالقصب- وهو أول من فعل ذلك، وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وجعل فى البناء القصب والخشب، ووضع بيده أول لبنة وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، فلما بلغ السور قدر قامة جاء الخبر

بظهور محمد بن عبد الله فقطع البناء وأقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم، ثم عاد إلى بغداد فأتم بناءها، وكان المنصور قد أعد جميع ما تحتاج إليه المدينة، من آلات البناء والخشب والساج وغيره، واستخلف حين شخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعدّ سلّم «1» مولاه، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور فأحرق جميع ذلك. قال: ولما انقضى أمر إبراهيم عاد المنصور إلى بغداد فى صفر سنة ست وأربعين ومائة، واستشار خالد بن برمك فى نقض المدائن وإيوان كسرى، ونقل النقاضة إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام، فقال له: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم!! وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه، فلم يوف ما تحصل من النقاضة بما غرم عليه من الكلفة، فاستشار خالد بن برمك فقال: كنت لا أرى ذلك قبل، أما إذ فعلت فأرى أن يهدم لئلا يقال عجزت عن هدم ما بناه غيرك، فأعرض عنه وترك هدمه، ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وبابا جىء به من الشام، وبابا من الكوفة كان عمله خالد القسرى، وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وجعل لها سورين، فالسور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره فى وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان اللبن الذى يبنى به ذراع فى ذراع، ووزن بعض اللبن لما نقص فكان مائة رطل وسبعة عشر رطلا، وكانت الأسواق فى المدينة فجاء رسول لملك الروم، فأمر أن يطاف به المدينة، ثم قال له: كيف رأيت؟ فقال: رأيت بناء حسنا إلا أنّ أعداءك معك، وهم السوقة، فأمر المنصور بإخراجهم إلى الكرخ. قال ابن الأثير: وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة

ودخلت سنة ست وأربعين ومائة

وثلاثين درهما، وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة، والروز كارى «1» بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ وأخذ منهم ما بقى عندهم، فبقى عند خالد بن الصلت خمسة عشر درهما فحبسه عليها وأخذها منه. وفى سنة خمس وأربعين خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة وحج بالناس السرى بن عبد الله بن الحارث بن العباس. ودخلت سنة ست وأربعين ومائة . فى هذه السنة كملت عمارة بغداد، وقد تقدم ذكر ذلك. وفيها عزل سلم بن قتيبة عن البصرة واستعمل عليها محمد بن سليمان؛ وعزل عن المدينة عبد الله بن الربيع، واستعمل عليها جعفر بن سليمان؛ وعزل عن مكة السرى بن عبد الله، ووليها عبد الصمد بن على. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام. ودخلت سنة سبع وأربعين ومائة . فى هذه السنة أغار استرخان الخوارزمى فى جمع من الترك بناحية أرمينية، فسبى من المسلمين وأهل الذمّة خلقا كثيرا، ودخلوا تفليس، وكان حرب بن عبد الله مقيما بالموصل فى ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزيرة، فسيّر المنصور لمحاربة الترك جبريل بن يحيى وحرب بن عبد الله، فقاتلهم فقتل حرب وهزم جبريل بن يحيى، وقتل خلق من أصحابه. ذكر البيعة للمهدى «2» وخلع عيسى بن موسى فى هذه السنة: كلم المنصور عيسى بن موسى فى أن يخلع نفسه من

ذكر وفاة عبد الله بن على وخبر عيسى بن موسى

ولاية العهد، وتقدّم للمهدى فامتنع من ذلك، فاطرحه المنصور وحطّ من رتبته، وقدّم المهدى عليه فى الجلوس، وأذاه بأنواع الأذى وأهانه بأنواع الإهانة، وآخر الأمر إن المنصور أمر الربيع أن يخنق عيسى بحمائل سيفه، فخنقه وهو يستغيث: الله الله فى دمى يا أمير المؤمنين، والمنصور يقول: ازهق نفسه، هذا بحضور أبيه موسى، فقام أبوه عند ذلك وبايع للمهدى، ثم جعل عيسى بن موسى بعده، فقال الناس: هذا الذى كان غدا فأصبح بعد غد هذا أحد الأقوال فى خلعه، وقيل بل شهد عليه ثلاثون نفرا من شيعة المنصور، أنه خلع نفسه وبايع للمهدى فأنكر ذلك، فلم يسمع منه، وقيل بل اشترى المنصور ولاية العهد منه بأحد عشر ألف ألف درهم، وكانت مدة ولاية عيسى الكوفة ثلاث عشرة سنة، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان. ذكر وفاة عبد الله بن على وخبر عيسى بن موسى قال: كان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه، وسلّم إليه عمه عبد الله بن على وأمره بقتله، وقال: إن الخلافة صائرة إليك بعد المهدى، فاضرب عنقه وإياك أن تضعف، فينتقض علىّ أمرى الذى دبرته، ثم مضى المنصور إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه: ما فعل فى الذى أمره، فكتب إليه عيسى: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أنه قتله، وكان عيسى حين أخذ عبد الله من المنصور دعا كاتبه يونس ابن [أبى] «1» فروة، واستشاره فى أمره، فقال: إنما أراد المنصور أن يقتله ثم يقتلك به، لأنه أمرك بقتله سرا ثم يدعيه عليك علانية، فلا تقتله ولا

ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائة.

تدفعه إليه سرا أبدا، واكتم أمره، ففعل عيسى ذلك، فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من حرّكهم على الشفاعة فى أخيهم عبد الله، ففعلوا فشفعهم فيه، وقال لعيسى: إنى دفعت إليك عمى وعمك عبد الله ليكون فى منزلك، وقد كلمنى عمومتك فيه وقد صفحت عنه فإيتنا به، فقال: يا أمير المؤمنين ألم تأمرنى بقتله!! قال: ما أمرتك إلا بحبسه، قال: بلى، قد أمرتنى، فكذّبه، ثم قال لعمومته: إن هذا قد أقر بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه لنا نقيده به، فسلمه إليهم فخرجوا به إلى الرحبة واجتمع الناس، وقام أحدهم ليقتله فقال عيسى: أفاعل أنت!! قال: إى والله، فقال: ردّونى إلى أمير المؤمنين فردّوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلنى، هذا عمك حىّ سوىّ، قال: إيتنا به فأتاه به، فقال المنصور: يدخل حتى أرى فيه رأيى ثم صرفهم، وجعله فى بيت أساسه ملح، ثم أجرى الماء على أساسه فسقط عليه البيت فمات، ودفن بمقابر المسلمين بباب الشام وهو أول من دفن فيها، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة. وحج المنصور فى هذه السنة بالناس ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائة. ذكر خروج حسّان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانى قال: وكان خروجه بنواحى الموصل بقرية بافخّارى «1» - وهى قرب الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكر الموصل فهزمهم وعليهم الصقر بن نجدة، ثم سار حسّان إلى الرقة ومنها إلى البحر، ودخل بلد السند ثم عاد إلى الموصل، فخرج إليه الصقر أيضا والحسن بن صالح بن حسّان «2» الهمدانى

ودخلت سنة تسع وأربعين ومائة

وبلال القيسى والتقوا، فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال، فقتل حسان بلالا واستبقى الحسن لأنه من همدان، ففارقه بعض أصحابه لهذا. وفى هذه السنة استعمل الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى على أفريقية، وبعث بعهده إليه بها؛ وحج المنصور بالناس فى هذه السنة. ودخلت سنة تسع وأربعين ومائة . فى هذه السنة غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث فمات محمد فى الطريق وفيها استتمّ المنصور بناء سور بغداد وخندقها، وفرغ من جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل وعاد. وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد (بن على) «1» بن عبد الله بن عباس. ودخلت سنة خمسين ومائة. ذكر خروج استاذ سيس «2» فى هذه السنة خرج استاذ سيس فى أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، فكان- مما قيل- فى ثلاثمائة ألف مقاتل فغلبوا على عامة خراسان، وسار حتى التقى هو وأهل مرو الروذ وعليهم الأجثم «3» المروروزى، فاقتتلوا فقتل الأجثم، وهزم استاذ سيس عدة من القواد، فوجّه المنصور خازم بن خزيمة لحربه وضمّ إليه القواد، فسار خازم والتقوا واقتتلوا، وكانت بينهم حروب آخرها أن استاذ سيس انهزم، وأكثر المسلمون القتل فى أصحابه، فكان عدة من قتل سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا، ونجا استاذ سيس إلى جبل فى نفريسير، فحصرهم خازم وقتل

ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

الأسرى، ووافى أبو عون وابن سلّم «1» ، فنزل استاذ سيس على حكم أبى عون، فحكم أن يوثق هو وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأمضى خازم حكمه وكسى كل رجل ثوبين، وقيل إن استاذ سيس ادعى النبوّة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل؛ وقيل إنه جد المأمون- أبو أمه مراجل. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن على وهو عامل مكة. ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائة . فى هذه السنة عزل المنصور عمر «2» بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبى صفرة عن السند، واستعمل عليها هشام بن عمرو «3» التغلبى، واستعمل عمر بن حفص على أفريقية ثم عزله عنها، واستعمل يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن أبى صفرة. ذكر بناء الرّصافة للمهدى فى هذه السنة قدم المهدى من خراسان فى شوال، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة وغيرها، فهنأوه بقدومه فأجازهم وحملهم وكساهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك. وبنى الرصافة. وكان سبب بنائها أن بعض الجند شعبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب، فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله «4» بن العباس، وهو شيخهم وله الحرمة فيهم والتقدم

عندهم، فقال له المنصور: أما ترى ما نحن فيه من وثوب الجند علينا، وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ فقال: يا أمير المؤمنين عندى رأى، إن أظهرته لك فسد وإن تركتنى أمضيته وصلحت خلافتك، وهابك الجند، قال: أفتمضى فى خلافتى شيئا لا أعلمه «1» ؟ فقال له: إن كنت عندك متهما فلا تشاورنى، وإن كنت مأمونا فدعنى أفعل رأيى، فقال له: امضه، فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلاما له فقال له: إذا كان غدا فتقدّمنى فاجلس فى دار أمير المؤمنين، فإذا دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتى، واستحلفنى بحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، وسأنهرك وأغلظ لك فلا تجب، وعاود المسألة فسأضربك فعاود، وقل لى أى الحيين أشرف: اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حرّ، ففعل الغلام ما أمره به؛ فقال له قثم: مضر أشرف لأن منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله، فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيئا، فقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة!! ثم قال لغلام له: قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها، ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا: يفعل هذا بشيخنا!! وأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فتفرّق الحيّان، ودخل قثم على المنصور، وافترقت الجند، فصارت مضر واليمن فرقة والخراسانية فرقة، فقال قثم للمنصور: قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا، كل حزب منهم يخاف أن تضربه بالآخر، وقد بقى فى التدبير بقية، وهى أن تترك ابنك فى ذلك الجانب، وتحوّل معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم

ودخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة

بهؤلاء، وإن فسد هؤلاء ضربتهم بأولئك، فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى الرصافة وتولى ذلك صاحب المصلّى. وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم الإمام، وهو عامل مكة والطائف. وفيها قتل معن بن زائدة الشيبانى أمير سجستان، بعد منصرفه من غزاة رتبيل وانصرفه إلى بست، فاختفى بعض الخوارج فى منزله، ثم دخلوا عليه وهو يحتجم فقتلوه، وشقّ أحدهم بطنه بخنجر، وقال بعض من ضربه: أنا الغلام الطاقى، والطاق رستاق بقرب زرنج، فقتلهم يزيد بن مزيد فلم ينج منهم أحد، وقام يزيد بأمر سجستان. ودخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة . فى هذه السنة غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان المنصور استعمله على خراسان سنة إحدى وخمسين ومائة. وغزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم، وقيل أخوه محمد. وحجّ بالناس فى هذه السنة المنصور ودخلت سنة ثلاثة وخمسين ومائة. ذكر القبض على أبى أيوب الموريانى الوزير وقتله فى هذه السنة قبض المنصور على أبى أيوب الموريانى وعلى أخيه وبنى أخيه، وكان قد سعى بهم كاتبه إبان بن صدقة، وقيل «1» : كان سبب قبضه أن المنصور فى دولة بنى أمية ورد الموصل، وأقام بها «2» مستترا، وتزوج امرأة من الأزد فحملت منه، ثم فارق الموصل وأعطاها تذكرة،

وقال لها: إذا سمعت بدولة بنى هاشم فأرسلى هذه التذكرة إلى صاحب الأمر فهو يعرفها، فوضعت المرأة ولدا سمته جعفرا، فنشأ وتعلّم الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب. وولى المنصور الخلافة فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبى أيوب، فجعله كاتبا [بالديوان فطلب المنصور يوما من أبى أيوب كاتبا] «1» يكتب له شيئا، فأرسل إليه جعفرا، فلما رآه المنصور مال إليه وأحبّه، فأمره بالكتابة فرآه ماهرا حاذقا، فسأله: من أين هو؟ ومن أبوه؟ فذكر له الحال وأراه التذكرة فعرفها، فصار يطلبه فى كل وقت بحجة الكتابة، فخافه أبو أيوب، ثم إن المنصور أحضره يوما وأعطاه مالا، وأمره أن يصعد إلى الموصل ويحضر والدته، وأنه إذا رجع وقارب بغداد لقيه المنصور بالعساكر وغيرها، وأمره أن يكتم حاله ويفارق الديوان مغضبا، فخرج إلى الديوان فقال له أبو أيوب: ما أبطأك؟ قال: كنت فى حاجة لأمير المؤمنين، فسأله عما كتب فقال: ما كنت لأذيع سر أمير المؤمنين، فسبّه أبو أيوب فأغلق جعفر دواته، وقال: والله لا عدت لهذا الديوان أبدا، وفارقه مغضبا فتوهم منه أبو أيوب، وتعرف أحواله ووضع عليه العيون، فقيل له: إن حاله حسنت، وأنه جدّد له مراكيب وسافر، فبعث فى أثره من اغتاله، فقتل وأحضر إليه ما كان معه، فرأى فى متاعه ما دلّه على أنه ولد أمير المؤمنين، فسقط فى يده وتوقع السوء، ولما أبطأ خبره على المنصور بعث إلى الموصل من يسأل عنه، فقالت أمه: لا علم لى به إلا أنه ببغداد، يكتب فى ديوان أمير المؤمنين، فأرسل المنصور من قصّ أثره، ولم يزل يدقّق البحث حتى علم أنّ قتله من قبل أبى أيوب، فنكبه هو وأهله. وفيها غزا الصائفة معيوف «2» بن يحيى، ووصل إلى حصن من حصون

ودخلت سنة أربع وخمسين ومائة

الروم ليلا وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه، وقصد اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين وحجّ فى هذه السنة المهدى بن المنصور بالناس ودخلت سنة أربع وخمسين ومائة . «1» فى هذه السنة سار المنصور إلى الشام وبيت المقدس، وبعث يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة إلى أفريقية فى خمسين ألفا، لحرب الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص. وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم. ودخلت سنة خمس وخمسين ومائة. فى هذه السنة سيّر المنصور المهدى لبناء الرّافقة، فسار إليها فبناها على بناء مدينة بغداد، وعمل للكوفة والبصرة سورا وخندقا، وجعل ما أنفق فيه من أموال أهلهما «2» . قال: وأراد المنصور معرفة عددهم، فأمر أن يقسّم فيهم خمسة دراهم خمسة دراهم، فلما انحصرت له عدتهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كل واحد، فقال شاعرهم: يالقوم ما لقينا ... من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا ودخلت سنة ست وخمسين ومائة. لم يكن فى هذه السنة من الحوادث ما نذكره فى هذا الموضع. وحجّ بالناس العباس بن محمد بن على.

ودخلت سنة سبع وخمسين ومائة.

ودخلت سنة سبع وخمسين ومائة. فى هذه السنة بنى المنصور قصره الذى يدعى الخلد. وفيها حوّل الأسواق إلى الكرخ وتقدم السبب فى ذلك وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس. وفيها مات عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام. ودخلت سنة ثمان وخمسين ومائة. ذكر وفاة أبى جعفر المنصور كانت وفاته يوم السبت لست خلون من ذى الحجة من هذه السنة ببئر «1» ميمون على أميال من مكة، قال المؤرخ «2» : ورأى المنصور قبل وفاته بيسير أعاجيب كثيرة، ومواعظ مؤذنة بوفاته، منها أنه هتف به هاتف فى قصره فسمعه يقول: أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت فى اليوم «3» كان ذاك لك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء فى فلك «4» إلا لنقل «5» السلطان عن ملك ... قد انقضى «6» ملكه إلى ملك حتى يصيّرانه إلى ملك ... ما عزّ سلطانه بمشترك ذاك بديع السماء والأرض وال ... مرسى الجبال المسخر الفلك

فلما سمع المنصور ذلك قال: هذا أوان أجلى، قال الطبرى «1» - وقد حكى عبد العزيز بن مسلم قال: دخلت على المنصور يوما عليه، فإذا هو باهت لا يحير جوابا، فوثبت لأنصرف لما أراه منه، فقال بعد ساعة: إنى رأيت فى المنام كأن رجلا ينشدنى: أأخىّ أخفض من مناكا ... فكأنّ يومك قد أتاكا ولقد أراك الدهر من ... تصريفه ما قد أراكا «2» فإذا أردت الناقص ال ... عبد الذليل فأنت ذاكا ملكت ما ملكته ... والأمر فيه إلى سواكا فهذا ما ترى من قلقى وغمى، فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين، ولم يلبث أن خرج إلى مكة، ومن ذلك أنّه لما نزل آخر منزل نزله من طريق مكة نظر فى صدر البيت الذى نزل فيه فإذا فيه مكتوب: أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حرّ المنية مانع فدعا المتولى لإصلاح المواضع فقال: ألم آمرك ألا يدخل أحد من الدعاة هذا البيت؟! فحلف أنه لم يدخله أحد، فقال: اقرأ ما فى صدر هذا البيت، قال: ما أرى شيئا، فالتفت إلى حاجبه وقال: اقرأ آية من كتاب الله تعالى تشوقنى إلى لقائه، فقرأ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «3» ، فقال له: ما وجدت آية غير هذه الآية، قال: والله لقد محى القرآن من قلبى غيرها.

ذكر وصية المنصور لابنه المهدى

ذكر وصية المنصور لابنه المهدى قال: ولما سار المنصور من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه «1» ، وأحضر المهدى وكان قد صحبه فوصّاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بكرة وعشية، فلما كان فى اليوم الذى ارتحل فيه قال له: إنى لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل منها واحدة- وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدى: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإنّ فيه علم آبائك- ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة- فإن أهمّك أمر فانظر إلى الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فى الثانى والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل! واقطن «2» هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين لكفاك لأرزاق الجند والنفقات ومصلحة الثغور والذريّة ومصلحة البعوث، فاحتفظ به، فإنك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل! وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وأن تحسن إليهم وتقدمهم، وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر، فإنّ عزّك فى عزّهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل! وانظر إلى مواليك وأحسن إليهم وقرّبهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل.! وأوصيك بأهل خراسان فإنهم أنصارك، وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم فى دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم فى أهله وولده، وما أظنك تفعل!

وإياك أن تبنى المدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل! وإياك أن تستعين برجل من بنى سليم، وأظنك ستفعل! وإياك أن تدخل النساء فى أمرك، واظنك ستفعل! وقيل: إنه قال له إنى ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أن أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل الله لك فيما كربك وحزبك «1» فرجا ومخرجا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بنى احفظ محمدا صلّى الله عليه وسلّم فى أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام فإنه خوب عند الله عظيم. وعار فى الدنيا لازم مقيم. والزم الحدود فإن فيها صلاحك فى العاجل. ولا تعتد فيها فتبور. فإن الله تعالى لو علم شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به فى كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب. على من سعى فى الأرض فسادا. مع ما ذخره له عنده من العذاب العظيم، فقال تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «2» الأية، فالسلطان- يا بنى- حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه القيم. فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه. وأوقع بالملحدين فيه واقمع المارقين منه واقتل الخارجين عنه بالعقاب. ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن. فاحكم بالعدل ولا تشطط. فإن ذلك اقطع للشغب. وأحسم للعدو. وأنجع فى الدواء. وعفّ عن الفىء فليس بك

حاجة إليه مع ما أخلفه «1» لك، وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة، وإياك «2» والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبل، وسكن العامّة وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبذير فإن النوائب غير مأمونة- وهى من شيم الزمان، وأعدّ الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد فتتدارك عليك الأمور وتضيع؛ خذ «3» فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا أولا وشمّر فيها، واعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون فى الليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن وأسىء بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من أقمته على بابك، وستهل إذنك للناس وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكّل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم مذ ولى الخلافة، ولا دخل عليه الغمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك، ثم ودّعه وبكيا. ثم سار المنصور إلى الكوفة وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدى وأشعره «4» وقلّده لأيام خلت من ذى القعدة، فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذى مات به- وهو القيام، ولما اشتد به جعل يقول للربيع: بادر بى حرم ربى هاربا من ذنوبى، وكان الربيع عديله، ووصّاه بما أراد، ولما وصل بئر ميمون مات بها فى التاريخ الذى قدّمناه، ولم يحضر عند موته أحد إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته ومنع من البكاء عليه؛ ثم أصبح فحضر أهل بيته على عادتهم، فأذن الربيع لعمه عيسى

فمكث ساعة، ثم أذن لابنه موسى، ثم أذن للأكابر وذوى الأسنان منهم ثم لعامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدى ولعيسى بن موسى من بعده، ثم بايع القواد وعامة الناس، وسار العباس بن محمد، ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس، فبايعوا بين الركن والمقام. وجهزوا المنصور ففرغوا منه العصر، وكفن وغطى وجهه وبدنه وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه، وصلّى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، ودفن فى مقبرة المعلاة، وحفر له مائة قبر ليغمّوه على الناس، ودفن فى غيرها، ونزل فى قبره عيسى ابن على، وعيسى بن محمد، والعباس بن محمد والربيع والريان مولياه ويقطين، وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل أربعا وستين سنة، وقيل ثمانيا وستين. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا سبعة أيام. وكان أسمر نحيفا خفيف العارضين. أولاده: محمد المهدى وجعفر الأكبر أمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميرى، وكانت تكنى أم موسى، ومات جعفر قبل المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، وجعفر الأصغر أمه أم ولد كرديّه، وصالح المسكين وأمه أم ولد روميّة، والقاسم مات قبل المنصور وله عشر سنين أمه أم ولد تعرف بأم القاسم، والعالية أمها امرأة من بنى أمية- هذا ما نقله ابن الأثير، قال غيره وعبد العزيز والعباس. وزراؤه: أبو عطية الباهلى ثم أبو أيوب الموريانى ثم الربيع مولاه، ووزر له: خالد بن برمك مدة يسيرة. قضاته: عبد الله بن محمد بن صفوان، وشريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطاة؛ وقيل إن يحيى بن سعيد وأبا عثمان التميمى قضيا فى أيامه. حجابه: الربيع مولاه قبل أن يستوزره، ثم عيسى مولاه، ثم أبو الخصيب مولاه. الأمراء بمصر: صالح بن على واستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد،

ذكر شىء من سيرة أبى جعفر المنصور

ثم نقل المنصور صالحا إلى الجزيرة، وأمرّ على مصر موسى بن كعب ثم صرفه، وولى محمد بن الأشعث الخزاعى ثم عزله، وولى حميد بن قحطبة، ثم يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة، وولّى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج فتوفى، فأمّر عليها أخاه محمد بن عبد الرحمن فتوفى فوليها موسى بن على بن رباح. القضاة بها: فى أيام المنصور غوث بن سليمان، ثم سار مع صالح بن على فولى أبو خالد يزيد بن عبد الله «1» بن عبد الرحمن بن بلال، ثم عاد غوث إليها، ثم صرفه يزيد ابن حاتم وولى أبا خزيمة إبراهيم بن يزيد الرعينى، ثم وليها أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الحضرمى من قبل المنصور، وهو أول قاض خرج لنظر هلال شهر رمضان. ذكر شىء من سيرة أبى جعفر المنصور قال سلّام الأبرش: كنت أخدم المنصور وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثوبه اربد لونه واحمرت عيناه. قال: وقال لى يوما: إذا رأيتنى لبست ثيابى أو رجعت من مجلسى فلا يدنون منى أحد، قال: ولم ير فى داره لهو ولا شىء يشبه اللهو والعبث إلا مرة واحدة، رأى بعض أولاده قد ركب راحلة- وهو صبى، وتنكب قوسا فى هيئة غلام أعرابى، بين جوالقين فيهما مقل «2» وأراك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه، وعلموا أنه ضرب من عبث الملوك، قال حماد التركى: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة، فقال: انظر «3» ما هذا؟ فذهبت فإذا خادم له قد

ذكر خلافة المهدى

جلس وحوله الجوارى، وهو يضرب لهن بالطنبور وهن يضحكن فأخبرته، فقال وأى شىء الطنبور!! فوصفته له، فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور!! فقلت رأيته بخراسان، فقام المنصور إليهن فلما رأينه تفرقن، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسّر الطنبور، وباع الخادم. قال بعض المؤرخين كان المنصور يخضب بالسواد، وقيل: كان يغير لون شيبه فى كل شهر بألف مثقال مسك. قال: وأمر بتوسعة المسجد الحرام من ناحية باب الندوة سنة تسع وثلاثين ومائة، وبنى مسجد الخيف. وفى أيامه فتحت المولتان والقندهار من أرض السند، وهدم البدّ وبنى مكانه مسجد. وفى أيامه مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت فى سنة خمس وأربعين ومائة ومات جعفر بن محمد الصادق فى سنة ثمان وأربعين ومائة. وقد قدمنا من أخبار أبى جعفر المنصور، ومن الوقائع التى اتفقت فى أيامه وما أنشأه من المدن والعمائر ما فيه الكفاية، ولا يورد فى التواريخ المختصرة أكثر من هذا فلنذكر أخبار من قام بالأمر بعده والله الموفق. ذكر خلافة المهدى هو أبو عبد الله محمد بن أبى جعفر عبد الله المنصور، وأمه أروى أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرى «1» ، وهو الثالث من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم السبت لست خلون من ذى الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة على ما قدمناه، وقيل إنه لما مات المنصور خرج الربيع وبيده قرطاس، ففتحه وقرأه فإذافيه:

ودخلت سنة تسع وخمسين ومائة.

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بنى هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ثم بكى وبكى الناس. ثم قال قد أمكنكم البكاء فانصتوا رحمكم الله ثم قرأ: أما بعد فإنى كتبت كتابى وأنا حىّ، فى آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وأقرىء عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم من بعدى ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض، ثم أخذ فى وصيتهم وإذ كارهم البيعة له، وحثهم على الوفاء بعهده. ثم تناول يد الحسن ابن زيد العلوى فقال له: قم فبايع الناس، فقام إلى موسى بن المهدى فبايعه لأبيه، ثم بايع الناس الأول فالأول. ودخلت سنة تسع وخمسين ومائة. ذكر ظهور المقنّع بخراسان وهلاكه فى هذه السنة ظهر المقنع بخراسان، وكان رجلا أعور قصيرا من أهل مرو، وكان يسمى حكيما «1» ، وكان اتخذ وجها من ذهب، وجعله على وجهه لئلا يرى فسمى المقنع، وادعى الإلهية ولم يظهر ذلك لجميع أصحابه، وكان يقول: إن الله خلق آدم فتحوّل فى صورته، ثم فى صورة نوح وهكذا إلى أبى مسلم الخراسانى، ثم تحوّل إلى هاشم، وهاشم فى دعواه هو المقنع، ويقول بالتناسخ، فبايعه خلق من ضلال الناس، وكانوا يسجدون له من أى النواحى كانوا، وكانوا يقولون فى الحرب: يا هاشم

أعنّا، واجتمع إليه خلق كثير، وتحصّنوا فى قلعة سام «1» بزده، وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونين له، وأعانه كفار الأتراك وأغاروا على أموال المسلمين، واجتمعوا بكش وغلبوا على بعض قصورها فحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر مرة بعد مرة، ثم اشتغلوا بقتال المبيضة فقاتلوهم أربعة أشهر، وهزموهم فلحق منهزموهم بالمقنع، ثم سيّر المهدى أبا عون لمحاربة المقنّع، فلم يبالغ فى قتاله فعزله واستعمل معاذ بن مسلم، فسار معاذ فى سنة إحدى وستين ومائة فى جماعة من القواد والعساكر، فالتقوا واقتتلوا فهزموا أصحاب المقنع، فقصد المنهزمون المقنع وهو بسام، فاصلح خندقها وحصّنها، وأقبل معاذ فحاربهم وكان سعيد الحرشى مع معاذ فنافره، فكتب الحرشى إلى المهدى فى معاذ وضمن له أنه إن أفرده بحرب المقنع كفاه، فأجابه إلى ذلك وانفرد الحرشى بحربه، وأمده معاذ بابنه رجاء فى جيش وبجميع ما التمسه منه، وطال الحصار على المقنع فطلب أصحابه الأمان سرا منه، فأجابهم الحرشى فخرج إليه منهم نحو من ثلاثين ألفا، وبقى المقنع فى ألفين وضايقه العسكر، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله فسقاهم السم فأتى عليهم وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته؛ وقيل بل حرق كل ما فى قلعته من حيوان وغيره، ثم قال: من أحب أن يرتفع معى فى السماء فليلق نفسه معى فى هذه النار. وألقى نفسه مع نسائه وأهله وخواصّه فاحترقوا، ودخل العسكر القلعة فوجدوها خاوية «2» خالية، وكان ذلك مما زاد فى افتتان من بقى من أصحابه؛ وقيل بل شرب هو من السم فمات وأنفذ

ودخلت سنة ستين ومائة.

الحرشى رأسه إلى المهدى، فوصل إليه وهو بحلب فى سنة ثلاث وستين ومائة. نعود إلى بقية حوادث سنة تسع وخمسين. وفيها توفى حميد بن قحطبة عامل خراسان واستعمل المهدى أبا عون عبد الملك. وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدى عند قدومه من اليمن. ودخلت سنة ستين ومائة. فى هذه السنة: خرج يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم بخراسان منكرا سيرة المهدى، واجتمع معه بشر كثير، وتوجّه إليه يزيد بن مزيد الشيبانى وهو ابن أخى معن بن زائدة، فاقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدى وبعث معه بوجوه أصحابه، فقطعت يدا يوسف ورجلاه، وقتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر؛ وقيل إنه كان حروريا وأنه تغلب على بوشنج- وعليها مصعب بن زريق «1» فهرب منه، وتغلّب أيضا على مرو الروذ والطالقان والجوزجان. ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادى قال: كان جماعة من بنى هاشم وشيعة المهدى خاضوا فى خلع عيسى من ولاية العهد، والبيعة لموسى الهادى بن المهدى فسّر المهدى بذلك، وكتب إلى عيسى فى القدوم عليه وهو بقريته الرحبة من أعمال الكوفة، فأحسّ بما يراد منه فامتنع من القدوم عليه، فألحّ المهدى عليه حتى بعث إليه يقول: إنك إن لم تجبنى إلى أن تنخلع من ولاية العهد لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحلّ من أهل المعاصى، وإن أجبتنى عوضتك منها بما هو أجدى عليك وأعجل نفعا، فلم يقدم عليه وخيف

انتقاضه، فوجّه إليه المهدى عمه العباس يستدعيه فلم يجب فلما عاد العباس وجّه المهدى أبا هريرة محمد بن فروخ «1» القائد، فى ألف من شيعة المهدى فأشخصوه إليه، فلما قدم عيسى نزل دار محمد بن سليمان، وأقام أياما يختلف إلى المهدى، وهو لا يكلّمه بشىء ولا يرى مكروها، فحضر الدار يوما قبل جلوس المهدى فجلس فى مقصورة الربيع، وقد اجتمع رؤساء شيعة المهدى على خلعه، فثاروا به وضربوا باب المقصورة بالعمد حتى هشموه، وشتموا عيسى أقبح شتم، وأظهر المهدى إنكارا لما فعلوه فلم يرجعوا، فبقوا فى ذلك أياما وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان: وكاشفه المهدى وألحّ عليه، فذكر أن عليه أيمانا فى أهله وماله، فأفتاه الفقهاء بما رأوا أنه لا يحنث فأجاب إلى خلع نفسه، فأعطاه المهدى عشرة آلاف ألف درهم وضياعا بالزاب وكسكر، وخلع نفسه لأربع بقين من المحرم وبايع للمهدى ولابنه موسى الهادى، ثم جلس المهدى من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم، ثم خرج المهدى إلى الجامع وعيسى معه فخطب الناس، وأعلمهم بخلع عيسى وبيعة الهادى، وبايعهم فسارعوا إلى بيعته، فقال بعض الشعراء: كره الموت أبو موسى وقد ... كان فى الموت نجاء وكرم خلع الملك وأضحى ملبسا ... ثوب لوم ما ترى منه القدم وحجّ المهدى فى هذه السنة بالناس، واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور؛ وفيها نزع المهدى كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة، وكان سبب نزعها أنّ حجبة الكعبة ذكروا له أنهم يخافون على الكعبة أن تتهدم، لكثرة ما عليها من الكسوة فنزعها، وكانت كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وما قبلها من عمل اليمن؛ قال: وطلى جدرانها بالمسك والعنبر، وكانت الكعبة فى جانب المسجد لم تكن متوسطة، فهدم حيطان المسجد وزاد فيه زيادات، واشترى الدور

ودخلت سنة إحدى وستين ومائة.

والمنازل حتى صارت الكعبة فى الوسط على ما هى عليه الآن، وحمل من مصر إلى المسجد الحرام أربعمائة وثمانين اسطوانة، وصيّر فيه أربعمائة طاق وثمانية وتسعين طاقا، وجعل له ثلاثة وعشرين بابا، وجعل سلاسل قناديله ذهبا، وجعل ذرعه مكسرا «1» مائة ألف وعشرين ألف ذراع، وقسم مالا عظيما كان معه من العراق، مبلغه ثلاثون ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف درهم، ففرق ذلك كله وفرّق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وألبس خارج القبر المقدس الرخام، وأخذ خمسمائة من الأنصار يكونون حرسا له بالعراق، وأقطعهم بالعراق وأجرى عليهم الأرزاق. وحمل إليه محمد بن سليمان الثلج إلى مكة، وهو أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة. ودخلت سنة إحدى وستين ومائة. فى هذه السنة: أمر المهدى ببناء القصور بطريق مكة، وأمر باتخاذ المصانع فى كل منهل، وبتجديد الأموال والبرك «2» وحفر الركايا، وولّى ذلك يقطين بن موسى، وأمر بالزيادة فى مسجد البصرة، وأمر بتقصير المنابر فى البلاد، وجعلها بمقدار منبر النبى صلّى الله عليه وسلّم. وحج بالناس فى هذه السنة موسى الهادى ولى العهد. ودخلت سنة اثنتين وستين ومائة. ذكر قتل عبد السلام الخارجى فى هذه السنة: قتل عبد السلام بن هاشم اليشكرى بقنسرين، وكان قد خرج بالجزيرة فاشتدت شوكته وكثر أتباعه، فلقيه عدة من قواد المهدى

ودخلت سنة ثلاث وستين ومائة.

فيهم عيسى بن موسى القائد، فقتله فى عدة ممّن معه وهزم جماعة من القواد- فيهم شبيب بن واج المروروذى، فندب المهدى إلى شبيب ألف فارس، وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، فوافوا شبيبا فخرج بهم فى طلب عبد السلام، فهرب عبد السلام منه فأدركه بقنسرين فقاتله بها فقتله. وفيها وضع المهدى ديوان الأزمّة «1» ، وولّى عليها عمر بن بزيع «2» مولاه. وأجرى المهدى على المجذمين وأهل السجون فى جميع الآفاق الأرزاق. ودخلت سنة ثلاث وستين ومائة. فى هذه السنة: تجهّز المهدى لغزو الروم فجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وسار على الموصل والجزيرة وعبر الفرات إلى حلب، وأرسل وهو بحلب فجمع الزنادقة بتلك البلاد فقتلهم وقطع كتبهم. وسار عنها مشيعا لابنه هارون حتى جاز الدرب وبلغ جيحان، وسار هارون بالعساكر فنازل حصن سمالو «3» فحصره ثمانية وثلاثين يوما، ونصب عليه المجانيق ففتحه بالأمان وفتح فتوحا كثيرة. وفيها ولّى المهدى ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك. وحج بالناس فى هذه السنة على بن المهدى. ودخلت سنة أربع وستين ومائة. فى هذه السنة سار المهدى ليحج فلما بلغ العقبة رأى قلة الماء وحمّ

ودخلت سنة خمس وستين ومائة.

فرجع، وسيّر أخاه صالحا ليحج بالناس، ولحق الناس عطش شديد حتى كادوا يهلكون. ودخلت سنة خمس وستين ومائة. فى هذه السنة: سير المهدى ابنه الرشيد لغزو الروم فى خمسة وتسعين ألفا وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلا ومعه الربيع، فوعك الرشيد فى بلاد الروم، ولقيه عسكر نقيطا «1» قومس القوامسة، فبارزه يزيد بن مزيد الشيبانى «2» فأثخنه يزيد، وانهزمت الروم وغلب المسلمون على معسكرهم، وساروا إلى الدمستق وهو صاحب المسالح، فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا، ومن الورق أحدا وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم، وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية، والروم يومئذ بيد أغسطه «3» - امرأة إليون- لصغر ابنها، فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفدية، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق فى الطرق، وذلك لأنه دخل مدخلا ضيقا مخوفا، فأجابته إلى ذلك، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار فى كل سنه، ورجع عنها، وكانت الفدية ثلاث سنين، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسا، ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس، وقتل من الروم فى الوقائع كلها أربعة وخمسون ألفا، وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا. وحج بالناس فى هذه السنة صالح بن المنصور. ودخلت سنة ست وستين ومائة.

فى هذه السنة: أخذ المهدى البيعة لولده هارون بولاية العهد بعد أخيه موسى الهادى، ولقب الرشيد، وفيها سخط المهدى على وزيره يعقوب بن داود وقبض عليه. قال: وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان وهو أبو يعقوب، كان يكتب لنصر بن سيار- هو وإخوته، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمع من نصر، فلما طالب أبو مسلم الخراسانى بدم يحيى بن زيد أتاه داود فأمنه أبو مسلم فى نفسه، وأخذ ماله الذى كان قد استفاده أيام نصر، فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم، ولم تكن لهم عند بنى العباس منزلة، ولم يطمعوا فى خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، وأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين وطمعوا أن تكون لهم دولة، وكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله، وخرج معه فى عدة من أصحابه، فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما، فلما ولى المهدى أطلقهما فيمن أطلق، فاتصل يعقوب بالمهدى بالسعاية بآل على، ولم يزل يرتفع حتى استوزره، وكان المهدى يقول: وصف لى يعقوب فى منامى فقيل لى استورزه فلما رأيته رأيت الخلقة التى وصفت لى فاتخذته وزيرا. فلما ولى الوزارة أرسل إلى الزيدية فجمعهم وولاهم أمور الخلافة فى الشرق والغرب، ولذلك قال بشار: بنو أمية هبّوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم باقوم فالتمسوا «1» ... خليفة الله بين الناى «2» والعود فحسده موالى المهدى وسعوا به، وقالوا: إن الشرق والغرب فى يد يعقوب وأصحابه، ولو كتب إليهم لوثبوا فى يوم واحد وأخذوا الدنيا، فملأ

ودخلت سنة سبع وستين ومائة.

ذلك قلب المهدى فقبض عليه، بعد القرب منه والاختصاص به والتمكّن من دولته. وفيها أمر المهدى بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، ولم يكن قبل ذلك. وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن يحيى. ودخلت سنة سبع وستين ومائة. فى هذه السنة: توفى موسى بن عيسى بالكوفة، وفيها أمر المهدى بالزيادة فى المسجد الحرام ومسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم، فدخلت فيهما دور كثيرة، وكان المتولى للبناء يقطين بن موسى، فبقى البناء إلى أن توفى المهدى. وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس- وهو على المدينة، ثم توفى بعد فراغه من الحج بأيام وتولى مكانه إسحاق بن عيسى بن على وفيها أفسد العرب فى بادية البصرة بين اليمامة والبحرين، وقطعوا الطريق وتركوا «1» الصلاة وانتهكوا المحارم، فأرسل المهدى إليهم جيشا فقاتلوهم، فكان الظفر للعرب وقتلوا عامة العسكر، فقويت وزاد شرهم. ودخلت سنة ثمان وستين ومائة. فى هذه السنة: خرج بأرض الموصل خارجى اسمه ياسين من بنى تميم، فخرج إليه عسكر الموصل فهزمهم، وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فوجّه إليه المهدى أبا هريرة محمد بن فروخ «2» وهرثمة بن أعين

ودخلت سنة تسع وستين ومائة.

مولى بنى ضبّة فحارباه، فصبر لهما حتى قتل عدة من أصحابه وانهزم الباقون. وفيها فى شهر رمضان نقض الروم الصلح، الذى كان بينهم وبين المسلمين قبل انقضاء مدة الهدنة بأربعة أشهر، فوجّه على بن سليمان وهو على الجزيرة وقنّسرين يزيد بن «1» البطّال فى خيل فغنموا وظفروا. وحجّ بالناس فى هذه السنة على بن المهدى. ودخلت سنة تسع وستين ومائة. ذكر وفاة أبى عبد الله المهدى كانت وفاته فى يوم الخميس لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنّه كان عزم على خلع ابنه موسى الهادى من ولاية العهد، والبيعة للرشيد وتقديمه على الهادى، فبعث إليه فى ذلك وهو بجرجان فلم يفعل، فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع، فسار المهدى إليه، فلما بلغ ماسبذان قال لأصحابه: إنى أريد النوم فلا توقظونى حتى أكون أنا لذى أنتبه، ونام ونام أصحابه فاستيقظوا ببكائه فأتوه مسرعين، وسألوه عن سبب بكائه فقال: وقف على الباب رجل فقال: كأنّى بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادى عليه معولات حلائله فمات بعد ذلك بعشرة أيام. وقد اختلف فى سبب موته، فقيل إنّه كان يتصيّد فطردت الكلاب ظبيا وتبعته، فدخل باب خربة ودخلت

ذكر شىء من سيرته وأخباره

الكلاب خلفه، وتبعها فرس المهدى فدخلها، فدقّ الباب ظهره فمات من ساعته. وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرّة لها بلبن فيه سمّ، فشرب منه فمات. وقيل: بل عمدت جاريته حسنة إلى كمثرى، فأهدته إلى طلة «1» جاريته الأخرى، وجعلت السمّ فى أبهى كمثراة فيه، فاجتاز بالمهدى فأخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صاح ومات منها، فكانت الجارية تقول فى بكائها عليه: أردت أن أنفرد بك فأوحشت نفسى منك؛ ومات فى يومه وصلّى عليه ابنه الرشيد، ومات وله من العمر ثمان وأربعون سنة وقيل ثلاث وأربعون، وكانت مدة خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتها. وكان أبيض طويلا وقيل أسمر، حسن الوجه بعينه اليمنى نكتة بياض. ذكر شىء من سيرته وأخباره كان جوادا حازما وصولا يباشر الأمور بنفسه، وكان كثير الولاية والعزل لغير سبب، وردّ على الناس الأموال التى أخذها أبوه. وكان إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا علىّ القضاة، فلو لم يكن ردّى للمظالم إلا للحياء منهم. وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدى حتى ظننّا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدى فوجدته قد وضع خدّه بالأرض، وهو يقول: اللهم احفظ محمدا فى أمّته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبى فهذه ناصيتى بين يديك؛ قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنّا فيه. قال الربيع: رأيت المهدى يصلى فى ليلة مقمرة، فقرأ قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «2» ،

قال: فأتم صلاته والتفت إلىّ وقال: يا ربيع، موسى، فقلت فى نفسى ما هو إلا موسى بن جعفر وكان محبوسا عندى فأحضرته، فقطع صلاته ثم قال: يا موسى إنى قرأت هذه الآية، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثّق لى أنك لا تخرج فوثق له، وخلّى المهدى سبيله. قال: وبنى المهدى العلمين فى المسعى. أولاده: موسى الهادى وهارون الرشيد وعلى وعبد الله ومنصور ويعقوب وإسحاق وإبراهيم والبانوقة «1» وعليّة وعباسة وسليمة. ووزراؤه: أبو عبيد الله معاوية بن عبيد الله «2» الأشعرى ثم يعقوب بن داود بن طهمان ثم نكبه على ما ذكرناه، واستوزر الفيض بن أبى صالح. قضاته: محمد ابن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد وكانا يقضيان فى مسجد الرصافة. حجابه: سلام الأبرش، وقيل إن الفضل بن الربيع حجبه. الأمراء بمصر: عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحى ثم صرفه وولى واضحا «3» مولى أبى جعفر المنصور ثم صرفه وولّى أبا صالح يحيى بن داود الحرشى «4» من أهل نيسابور ثم سالم بن سوادة التميمى «5» ثم إبراهيم بن صالح ابن على بن عبد الله عباس ثم موسى بن مصعب «6» من أهل الموصل ثم الفضل بن صالح

ذكر خلافة الهادى

الهاشمى. القضاة بها: عبد الله بن لهيعة ثم إسماعيل بن اليسع الكندى الكوفى وهو أول حنفى ولى القضاء بها ثم غوث بن سليمان ثم توفى فولى القضاء المفضل بن فضالة. وكان نقش خاتم المهدى حسبى الله. قال بعض المؤرخين: والمهدى أول من مشى بين يديه بالسيوف المصلتة والقسى والنشاب والعمد، وأول من لعب بالصوالجة فى الإسلام، وله من الآثار الحسنة فى عمارة المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والاهتمام بذلك ما قدمنا ذكره. ذكر خلافة الهادى هو أبو محمد موسى بن أبى عبد الله محمد المهدى بن أبى جعفر عبد الله المنصور «1» ، وأمه الخيزران مولدة وهى بنت عطاء مولى أبيه وهى أم الخلفاء، وهو الرابع من الخلفاء العباسيين، بويع له فى يوم وفاة أبيه- وهو يوم الخميس لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، وهو إذ ذاك مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان، فبايع الرشيد للهادى وكتب إلى الآفاق بذلك وردّ العسكر إلى بغداد، وسار نصير «2» الوصيف إلى الهادى بجرجان بالخبر، فنادى بالرحيل وركب على البريد مجدا فبلغ بغداد فى عشرين يوما، ولما قدم استوزر الربيع فهلك الربيع فى هذه السنة، واشتد طلب الهادى للزنادقة فى هذه السنة فقتل منهم جماعة، منهم على بن يقطين وقتل أيضا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدى فأقر بالزندقة، فقال: أم والله، لولا أنى جعلت على نفسى ألا أقتل هاشميا لقتلتك، ثم قال للهادى: أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنّه، ثم حبسه، فلما مات المهدى قتله

ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن [بن الحسن] بن على بن أبى طالب

الهادى. وكان أيضا قد عهد إليه بقتل ولد لداود «1» بن على بن عبد الله بن عباس وكان زنديقا، فمات فى حبس المهدى، قال ابن الأثير: ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادى، فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيها فخوّفت فماتت من الفزع. ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن [بن الحسن] «2» بن على بن أبى طالب قال: وظهر فى هذه السنة فى جماعة من الطالبيين، وانتهبوا بيت المال، ثم قصد الحسين مكة فبعث إليه الهادى محمد بن سليمان بن على، فأدركه بفخّ على فرسخ من مكة، فالتقوا واقتتلوا فقتل الحسين، وحمل رأسه إلى الهادى على ما نذكره فى أخبارهم إن شاء الله «3» . وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن منصور. ودخلت سنة سبعين ومائة. فى هذه السنة عزم الهادى على خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر، فأجابه إلى ذلك يزيد بن مزيد الشيبانى وعبد الله بن مالك وعلى بن عيسى وغيرهم، فخلعوا هارون وبايعوا لجعفر، ووضعوا الشيعة فتكلموا فى ذلك وتنقصوا الرشيد فى مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به؛ وكان يحيى بن خالد يتولى أمر الرشيد، فقيل للهادى: ليس عليك من أخيك خلاف إنما يحيى يفسده، وكان الرشيد قد اطمأن للخلع فمنعه يحيى منه، فطلب الهادى يحيى وتهدّده بالقتل ورماه بالكفر، فلم يزل يلطف به حتى سكن غضبه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين- إنّك إن حملت الناس على نكث الايمان هانت

ذكر وفاة أبى محمد الهادى

عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة، قال: صدقت وسكت عنه، فعاد الذين كانوا بايعوه من القواد والشيعة «1» فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع، فأحضر يحيى فكتب إليه: إنّ عندى نصيحة، فأحضره فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذى لا تبلغه- ونسأل الله أن يقدمنا «2» قبله- يعنى موت الهادى- أتظن «3» أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم؟ أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين أفتأ من أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم؟ فتكون قد أخرجت الأمر عن ولد أبيك، والله- لو أنّ هذا الأمر لم يعقده المهدى له كان ينبغى أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحلّه عنه وقد عقده المهدى!! ولكنّى أرى أن تقرّ الأمر على أخيك، فإذا بلغ جعفر خلع الرشيد نفسه وبايعه، فقبل قوله وأطلقه، ثم عاد أولئك القوّاد إلى الهادى وأعادوا القول، فضيّق على الرشيد فى ذلك، فقال له يحيى: استأذنه فى الصيد، فإذا خرجت فأبعد ودافع الأيام، ففعل ذلك فأذن له فمضى إلى قصر مقاتل «4» وأقام أربعين يوما، فأنكر الهادى أمره وكتب إليه بالعود، فتعلّل ثم اعتل الهادى ومات. ذكر وفاة أبى محمد الهادى كانت وفاته ليلة «5» الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول، وقيل

لأربع عشرة ليلة خلت منه، وقيل بقيت منه سنة سبعين ومائة بعيساباد، واختلف فى سبب وفاته، فقيل كانت بقرحة فى جوفه، وقيل مرض بحديثة الموصل وعاد مريضا فمات، وقيل إن أمّه أمرت جواريها بقتله فقتلنه، قال: وكان سبب ذلك أنه لما ولى الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه، وتسلك به مسلك المهدى، حتى مضى من خلافته أربعة أشهر، والمواكب تغدو إلى بابها؛ فكلّمته يوما فى أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلا، فقالت: لا بد منه فقد ضمنته لعبد الله بن مالك بن جعفر، فغضب الهادى وقال: والله لا قضيتها، فقالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، قال: لا أبالى والله وغضب «1» ، وقامت مغضبة، فقال: مكانك، والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحد من قوادى وخاصّتى لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك؟! أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك!! إياك إياك، لا تفتحى بابك لمسلم ولا ذمّى، فانصرفت وهى لا تعقل فلم تنطق عنده بعدها؛ ثم قال لأصحابه: أيما خير، أنا أم أنتم؟ وأمى أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير، قال: فأيّكم يحبّ أن يتحدث الرجال بخبر أمّه، فيقولوا فعلت أم فلان وصنعت؟ قالوا: لا نحبّ ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمى فتتحدثون بحديثها!! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها، ثم بعث إلى أمّه بأرز، وقال: قد استطبتها فكلى منها، فقيل لها: أمسكى حتى تنظرى، فجاءوا بكلب وأطعموه منها فتساقط لحمه لوقته، فأرسل إليها كيف رأيت الأرز؟ قالت طيبا، قال: ما أكلت منها ولو أكلت منها لاسترحت منك، متى أفلح خليفة له أم؟! وقيل كان سبب أمرها بقتله أنه لما جدّ فى خلع الرشيد خافت عليه، فوضعت جواريها عليه فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه، حتى مات والله أعلم.

ذكر خلافة هارون الرشيد

ولما مات كان له من العمر ست وعشرون سنة، واختلف فيه إلى ثلاث وعشرين سنة. وكانت مدة خلافته سنة «1» وشهرا وأربعة وعشرين يوما، وصلّى عليه أخوه الرشيد؛ ودفن بعيساباذ الكبرى فى بستانه، وفى ليلة وفاته مات خليفة، وهو الهادى، وولى خليفة، وهو الرشيد، وولد خليفة، وهو المأمون، وكان طويلا جسيما أبيض مشربا بحمرة أفوه مقلص الشفة العليا، وكان المهدى قد وكل به خادما يقول له: موسى اطبق، فيضم شفته، وكان شجاعا بطلا جوادا سخيا أديبا صعب المرام. وكان له من الأولاد: عيسى وإسحاق وجعفر وعبد الله وموسى وإسحاق الأصغر. وذكر ابن الأثير فى أولاده العباس وإسماعيل وسليمان ولم يذكر إسحاق الأصغر، وكان ابنه موسى ضريرا، وأم عيسى كانت عند المأمون، وأم العباس وكانت تلقب نونه «2» ، وكلهم أولاد أمهات. وكان نقش خاتمه: الله ربى. وزراؤه: الربيع بن يونس ثم عمر بن بزيع «3» . حاجبه: الفضل بن الربيع قضاته: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بالجانب الغربى، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحى بالجانب الشرقى. الأمير بمصر على بن سليمان بن عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس. قاضيها أبو الطاهر «4» عبد الملك بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن عمر بن حزم والله تعالى أعلم. ذكر خلافة هارون الرشيد هو أبو محمد هارون وقيل أبو جعفر بن أبى عبد الله محمد المهدى بن أبى جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس، وأمه

ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائة.

الخيزران أم أخيه الهادى، وهو الخامس من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة يوم وفاة أخيه الهادى. قال: ولما مات الهادى كان يحيى بن خالد بن برمك محبوسا، وقد عزم الهادى على قتله، فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد وأخرجه وأجلسه للخلافة، فأرسل الرشيد إلى يحيى وأخرجه من الحبس واستوزره؛ وقيل لما مات الهادى جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم فى فراشه، فقال له: قم يا أمير المؤمنين، فقال: كم تروعنى إعجابا منك بخلافتى! فكيف يكون حالى مع الهادى إن بلغه هذا؟! فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه. وأنشئت الكتب بوفاة الهادى وخلافة الرشيد. قال: ولما مات الهادى هجم خزيمة بن خازم على جعفر بن الهادى، وأخذه من فراشه وقال له: لتخلعنّها أو لأضربن عنقك، فأجاب إلى الخلع، وركب خزيمة من الغد وأظهر جعفرا للناس، فأشهدهم بالخلع وأحلّ الناس من بيعته، فحظى بها خزيمة عند الرشيد. وفيها أفرد الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيّزا واحدا وسميّت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس على يد فرج الخادم التركى ونزلها الناس. وحجّ بالناس الرشيد وقسم بالحرمين عطاء «1» كثيرا. ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائة. فى هذه السنة خرج الصحصح الخارجى بالجزيرة وهزم عسكرها، وسار إلى الموصل فقاتله عسكرها، فقتل منهم خلقا كثيرا ورجع إلى الجزيرة، فغلب على ديار ربيعة، وعزل الرشيد أبا هريرة «2» عن الجزيرة وأحضره إلى بغداد وقتله.

ودخلت سنة اثنين وسبعين ومائة.

وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن على بن عبد الله بن عباس. ودخلت سنة اثنين وسبعين ومائة. كان فى هذه السنة من الحوادث ببلاد الأندلس ما نذكره فى أخبار بنى أمية- ملوك الأندلس، وحجّ بالناس يعقوب بن المنصور. ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة. فى هذه السنة توفى محمد بن سليمان بن على بالبصرة، فأرسل الرشيد من قبض تركته، فحمل منها «1» ما يصلح للخلافة فكان جملة ما أخذ منها ستين ألف ألف. وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد، فحمل الرشيد جنازتها ودفنها فى مقابر قريش، ولما فرغ من جنازتها أخذ الخاتم من جعفر بن يحيى ابن خالد وأعطاه للفضل بن الربيع. وحجّ الرشيد فى هذه السنة بالناس وأحرم من بغداد. ودخلت سنة أربع وسبعين ومائة. فى هذه السنة حج الرشيد فقسم أموالا كثيرة فى الناس. وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبى يوسف فى حياة أبيه. ودخلت سنة خمس وسبعين ومائة. فى هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد. ولقبه الأمين وعمره خمس سنين. وحجّ الرشيد فى هذه السنة بالناس. ودخلت سنة ست وسبعين ومائة. ذكر ظهور يحيى بن عبد الله فى هذه السنة ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن

ذكر الفتنة بدمشق

أبى طالب بالديلم، واشتدت شوكته وكثرت جموعه وأتاه الناس من الأمصار، فأهمّ الرشيد أمره فندب الفضل بن يحيى فى خمسين ألفا، وولاه جرجان وطبرستان والرى وغيرها وحمل معه الأموال، فكتب إلى يحيى بن عبد الله ولاطفه وبسط أمله وحذّره، ونزل الفضل بالطالقان ووالى كتبه إلى يحيى، وكاتب صاحب الديلم وبذل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى، فأجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب الرشيد أمانه بخطه، ويشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلّة بنى هاشم ومشايخهم، فأجاب الرشيد إلى ذلك وبعث له بالأمان وبعث بهدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل إلى بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأمر له بمال كثير، ثم حبسه الرشيد فمات فى الحبس. ذكر الفتنة بدمشق فى هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، وكان رأس المضرية أبو الهيذام عامر بن عمارة «1» بن خريم الناعم، وكان سبب الفتنة أن غلاما للرشيد بسجستان قتل أخا لأبى الهيذام، فخرج أخوه بالشام غضبا له، وجمع جمعا عظيما ورثاه فقال: سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإنّ بها ما يدرك الطالب الوترا ولسنا كمن ينعى «2» أخاه بعبرة ... يعصّرها من ماء مقلته عصرا وإنّا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظهرا ولكنّنى «3» أشفى الفؤاد بغارة ... ألهّب فى قطرى كتائبها جمرا

ودخلت سنة سبع وسبعين ومائة.

ثم إن الرشيد احتال عليه بأخ له، كتب إليه وأرغبه فشد عليه وكتفه. وأتى به الرشيد فمنّ عليه وأطلقه. وقيل فى هياج هذه الفتنة غير هذا والله أعلم. وفيها خرج الفضل الخارجى بنواحى نصيبين، وأخذ من أهلها مالا، وسار إلى دارا وآمد وأرزن فأخذ منهم مالا، وفعل كذلك بخلاط «1» ثم عاد إلى نصيبين، وأتى الموصل فخرج إليه عسكرها فهزمهم على الزاب، ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه. ودخلت سنة سبع وسبعين ومائة. ذكر الفتنة بالموصل فى هذه السنة خالف العطاف بن سفيان الأزدى على الرشيد. وكان من فرسان أهل الموصل. واجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج. وكان عامل الرشيد على الموصل محمد بن العباس الهاشمى، وقيل عبد الملك ابن صالح، والعطاف غالب على الأمر كله وهو يجبى الخراج، وأقام على ذلك سنتين، حتى خرج الرشيد إلى الموصل فهدم سورها بسببه. وفيها عزل الرشيد حمزة بن مالك عن خراسان، واستعمل عليها الفضل بن يحيى بن خالد- مضافا إلى ما كان بيده من الأعمال وهى الرى وسجستان وغيرهما. وحج بالناس فى هذه السنة الرشيد. ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائة ذكر الفتنة بمصر فى هذه السنة وثبت الحوفية بمصر بعاملهم إسحاق بن سليمان، وقاتلوه

ذكر خروج الوليد بن طريف

فأمده الرشيد بهرثمة بن أعين- وكان عامل فلسطين، فقاتلوا الحوفية- وهم قيس وقضاعة- فأذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم للسلطان، فعزل الرشيد إسحاق واستعمل عليها هرثمة. ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح. ذكر خروج الوليد بن طريف فى هذه السنة خرج الوليد بن طريف التغلبى الخارجى بالجزيرة. ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم قويت شوكة الوليد. فرحل إلى أرمينية وحصر خلاط عشرين يوما، ففدوا أنفسهم منه بثلاثين ألفا. ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان وأرض السواد. ثم عبر إلى غربى دجلة وقصد مدينة بلد- فافتدوا منه بمائة ألف. وعاث فى أرض الجزيرة، فسيّر إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة- وهو ابن أخى معن بن زائدة الشيبانى. فقال الوليد: ستعلم يا يزيد إذا التقينا ... بشطّ «1» الزاب أى فتى يكون ثم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا فقتل الوليد. فقال بعض الشعراء: وائل بعضهم يقتّل بعضا ... لا يفل الحديد إلا الحديد قال: ولما قتل الوليد صحبتهم أخته ليلى «2» بنت طريف مستعدة عليها الدرع. فجعلت تحمل على الناس فعرفت. فقال يزيد دعوها. وخرج إليها فضرب قطاة فرسها بالرمح. ثم قال: اغربى «3» غرب الله عليك!! فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت. ورثته أخته ليلى بقصيدتها المشهورة التى تقول فيها:

ودخلت سنة تسع وسبعين ومائة

فيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع «1» على ابن طريف فتى لا يريد «2» الزاد إلا من لتقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف وفيها فوّض الرشيد أمر دولته كلها إلى خالد بن يحيى البرمكى. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن على. ودخلت سنة تسع وسبعين ومائة فى هذه السنة اعتمر الرشيد فى شهر رمضان شكرا لله تعالى على قتل الوليد بن طريف، وعاد إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج، وحجّ بالناس ومشى من مكة إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيا، ورجع على طريق البصرة، وفيها مات الإمام مالك بن أنس الأصبحى رضى الله عنه ورحمه، وكانت وفاته بالمدينة وله تسعون سنة. ودخلت سنة ثمانين ومائة. ذكر ولاية على بن عيسى خراسان- وخبر حمزة الخارجى فى هذه السنة عزل الرشيد منصور بن يزيد عن خراسان، واستعمل عليها جعفر بن يحيى ثم عزله بعد عشرين يوما، واستعمل عليها على بن عيسى ابن ماهان فولّيها عشر سنين. وفى ولايته خرج حمزة بن أترك الخارجى، فجاء إلى بوشنج فخرج إليه عمرويه بن يزيد الأزدى، وكان على هراة فى ستة آلاف، فقاتله فهزمه حمزة وقتل من أصحابه جماعة، ومات عمرويه فى الزحام، فوجّه إليه على بن عيسى ابنه الحسين فى عشرة آلاف، فلم يحارب حمزة فعزله وسيّر ابنه عيسى بن على، فقاتل حمزة مرة بعد أخرى، وكان حمزة بنيسابور فانهزم حمزة وقتل أصحابه وبقى فى أربعين رجلا، فقصد

ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائة.

قهستان فأرسل عيسى إلى القرى التى كان أهلها يعينون الخوارج، فأحرقها وقتل الخوارج حتى انتهى إلى زرنج، فقتل ثلاثين ألفا ورجع، وخلف بزرنج عبد الله بن العباس، فجبى الأموال وسار بها فلقيه حمزة وقاتله، فصبر عبد الله وانهزم حمزة، وقتل كثير من أصحابه واختفى هو ومن سلّم من أصحابه فى الكروم، ثم سار فى القرى يقتل ولا يبقى على أحد، وكان على ابن عيسى قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج، فسار إليه حمزة وانتهى إلى مكتب فيه ثلاثون غلاما فقتلهم وقتل معلمهم، وبلغ طاهر الخبر فأتى قرية فيها قعد الخوارج. وهم الذين لا يقاتلون ولا ديوان لهم، فقتلهم طاهر وأخذ أموالهم. فكتب العقد إلى حمزة بالكفّ فكفّ، ووادعهم وأمن الناس مدة. وكانت بينه وبين أصحاب على بن عيسى حروب كثيرة. وحج بالناس فى هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائة. فى هذه السنة غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصّفصاف، وغزا عبد الملك بن صالح الروم فبلغ أنقرة. وافتتح مطمورة. وفيها أحدث الرشيد فى صدور الكتب الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وحج بالناس الرشيد. ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة. فى هذه السنة بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين، وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه المأمون، وسلّمه إلى جعفر بن يحيى. وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ

ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة.

دفسوس «1» مدينة أصحاب الكهف. وحج بالناس هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى. ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة. فى هذه السنة خرج الخزر من باب الأبواب، فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف، وانتهكوا «2» أمرا عظيما لم يسمع بمثله؛ وكان سبب ذلك أن ابنة خاقان ملك الخزر، كانت حملت فى سنة اثنتين وثمانين ومائة إلى الفضل بن يحيى، فلما بلغت برذعة ماتت، فرجع من معها إلى أبيها وأخبروه أنها قتلت غيلة فجهز العساكر إلى بلاد الإسلام ففعلوا ذلك؛ وقيل فى سبب خروجهم أن سعيد بن سلّم قتل المنجم السلمى، فدخل ابنه الخزر واستجاشهم على سعيد، فخرجوا ودخلوا أرمينية من الثلمة فانهزم سعيد، وأقاموا نحو سبعين يوما فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد. فأصلحوا ما أفسد سعيد. وأخرجوا الخزر وسدّوا الثلمة. وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائى. فاستقدم الرشيد على بن عيسى ثم ردّه من قبل المأمون. وأمره بحرب أبى الخصيب. وفيها توفى موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ببغداد فى حبس الرشيد. وكان سبب حبسه أن الرشيد اعتمر فى شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة. فلما عاد إلى المدينة دخل قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه الناس، فلما انتهى إلى القبر الشريف وقف، فقال: السلام

ودخلت سنة أربع وثمانين ومائة.

عليك يا رسول الله يا ابن عم، قال ذلك افتخارا على من حوله، فدنا. موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت. فتغيّر وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن جدا. ثم أخذه معه إلى العراق فحبسه عند السّندى بن شاهك حتى مات. وكان رجلا صالحا خيّرا دينا يقوم الليل كله، وهو الملقب بالكاظم- لقّب بذلك لإحسانه لمن أساء إليه. وحجّ بالناس فى هذه السنة العباس بن الهادى. ودخلت سنة أربع وثمانين ومائة. فى هذه السنة طلب أبو الخصيب النسائى الأمان، فأمّنه على بن عيسى ابن ماهان. وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن عبد الله. ودخلت سنة خمس وثمانين ومائة. فى هذه السنة قتل أهل طبرستان واليها مهرويه الرازى، فولّى الرشيد عبد الله بن سعيد الحرشى. وفيها عاث حمزة الخارجى بباذغيس فقتل عيسى بن على من أصحابه عشرة آلاف. وفيها غدر أبو الخصيب النسائى ثانيا. وغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحصر مرو. ثم انهزم عنها وعاد إلى سرخس وقوى أمره. وحج بالناس فى هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن على. ودخلت سنة ست وثمانين ومائة. ذكر حج هارون الرشيد وأمر كتاب العهد فى هذه السنة حج الرشيد من الأنبار، فبدأ بالمدينة فأعطى فيها ثلاثة أعطية، أعطى هو عطاء ومحمد الأمين عطاء وعبد الله المأمون عطاء. وسار إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ ألف دينار وخمسين دينارا. وكان الرشيد قد ولّى

ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة.

الأمين العراق والشام وإلى آخر المغرب. وضمّ إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقّبه المؤتمن، وضمّ إليه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان فى حجر عبد الله بن صالح، وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون، فلما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده والقضاة والفقهاء والقوّاد كتب كتابا، أشهد فيه على محمد الأمين، وأشهد من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتابا للمأمون أشهد فيه عليه بالوفاء للأمين، وعلّق الكتابين فى الكعبة، وجدّد العهود عليهما فى الكعبة، فقال الناس: قد ألقى بينهم شرا وحربا، وخافوا عاقبة ذلك وكان ما خافوه. وفيها سار عيسى بن ماهان من مرو إلى نسا لحرب أبى الخصيب، فحاربه وقتله وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان. ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة. ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى بن خالد فى هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة ونكبهم النكبة المشهورة، وقد اختلف فى سبب ذلك، فقيل إن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عبّاسة بنت المهدى، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، فقال لجعفر أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها ولا تقربها، فأجابه إلى ذلك «1» ، فبقيا على ذلك ما شاء الله، فمالت العبّاسة إلى جعفر، وراودته فأبى وخاف على نفسه، فلما أعيتها الحيلة فى أمره علمت أن النساء أقرب إلى الخديعة، فبعثت إلى عتّابة- وهى أم جعفر، وكانت عتابة ترسل إلى ابنها جعفر فى كل ليلة جمعة جارية بكرا، فقالت العبّاسة لها: أرسلينى إلى ابنك كأنى جارية من

جواريك، اللواتى ترسلين إليه فأبت أم جعفر. فقالت لها العبّاسة: إن لم تفعلى قلت للرشيد كلمتنى فى كيت وكيت. وإن فعلت ذلك واشتملت منه على ولد زاد فى شرف ابنك. وما عسى أن يفعل أخى لو علم. فمالت أم جعفر إلى ذلك، ووعدت ابنها أنها ترسل اليه جارية من صفتها وحسنها. فطالبها بها مرة بعد أخرى وهى تمطله، حتى اشتاق اليها فأرسلتها إليه. فأدخلت عليه- وكان لا يثبت صورتها. لأنّه كان إذا جلس عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها. فلما دخلت عليه كان قد شرب نبيذا. فاجتمع بها وقضى وطره. فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ وأية ابنة ملك أنت!! قالت: أنا مولاتك العبّاسة. فتألم لذلك وقال لأمه: بعتنى والله رخيصا. فاشتملت العبّاسة من ليلتها على حمل. فلما ولدته وكلت به غلاما يقال له رياش وحاضنة اسمها برّة. وبعثت بهم إلى مكة. وكان يحيى بن خالد ينظر على قصر الرشيد وحرمه وخدمه. ويغلق باب القصر بالليل وينصرف بالمفاتيح معه. فضيّق على حرم الرشيد. فشكت زبيدة أم الأمين مره إلى الرشيد، فقال له: يا أبت- وكان يدعوه بذلك- ما بال أم جعفر تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين- أمّتهم أنا فى حرمك وخدمك؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها. وزاد يحيى فى الحجر والتضييق، فدخلت زبيدة على الرشيد وقالت: ما يحمل يحيى على ما يفعل من منعه خدمى ووضعى فى غير موضعه؟ فقال: إنّه عندى غير متهم فى حرمى، فقالت: لو كان كذلك لحفظ ابنه مما ارتكبه!! قال: وما ذلك؟ فأخبرته بخبر العبّاسة، فقال: وهل على هذا من دليل؟! قالت: وأى شىء أدل من الولد، قال: وأين هو؟ قالت: كان ها هنا فلما خافت ظهوره وجهت به إلى مكة، قال: ويعلم بهذا سواك!! قالت ما فى قصرك جارية إلا وقد عرفت ما أخبرتك به. فسكت عنها وأظهر أنه يريد الحج. وأخذ معه جعفرا، فكتبت العبّاسة إلى الخادم والداية أن يخرجا بالصبى إلى نحو اليمن. فلما وصل الرشيد إلى مكة

وكل من يثق به بالبحث عن ذلك، فلم يزل حتى تحقق الأمر، فأضمر السوء للبرامكة «1» . وقبل إن سبب نكبة البرامكة أن يقطين بن موسى كان من أكابر الشيعة، وممّن كان مع إبراهيم الإمام، فقال يوما للرشيد: حدّثنى مولاى إبراهيم الإمام أن الخامس من خلفاء بنى العباس يغدر به كتّابه، فإن لم يقتلهم قتلوه، فقال له الرشيد: الله- يحدثك الإمام بهذا!! قال: نعم. وقيل كان سبب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب إلى جعفر بن يحيى فحبسه «2» ، ثم استدعاه وسأله عن بعض أمره، فقال له: اتق الله فى أمرى. ولا تتعرض غدا أن يكون خصمك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فو الله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا، فرقّ له وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله. فقال: كيف أذهب ولا آمن أن أوخذ؟ فوجّه معه من أوصله إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع فرفعه إلى الرشيد، فقال: ما أنت وهذا- فلعلّه «3» عن أمرى!! ثم أحضر جعفرا وسأله عن يحيى. فقال: هو بحاله فى الحبس، فقال بحياتى!! ففطن جعفر وقال: لا وحياتك، وقصّ عليه أمره، وقال: علمت أنّه لا مكروه عنده، فقال: نعم ما فعلت. ما عدوت ما فى نفسى، فلما قام عنه قال: قتلنى الله إن لم أقتلك. وقيل إن الرشيد لما دفعه لجعفر بقى عنده ما شاء الله، وكان جعفر يرى سرور الرشيد بموت من يموت فى حبسه من هؤلاء، فشرب جعفر عنده يوما فقال: يا أمير

المؤمنين إنّ يحيى قد مات، فسرّ بذلك وقال: الحمد لله الذى كفانى أمره ولم يؤثمنى فيه. وانصرف جعفر فأخبر أباه يحيى بن خالد بما كان. فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إن تركناه تلفنا. وإن قتلناه فالنار لنا. ثم كتب يحيى إلى على بن عيسى بن ماهان والى خراسان يعرّفه ما جرى. وفزع إليه أن يكون عنده موسعا عليه، إلى أن يقضى الله فيه قضاءه. ولم يكن يحيى يعلم ما كان بين على بن عيسى وبين الفضل وجعفر من العداوة. فلما وصل الكتاب إلى علىّ ووصل إليه يحيى قال: هذا من حيل الفضل وجعفر علىّ. فأجاب يحيى بأنه فعل ما أراد، وأنفذ كتاب يحيى إلى الرشيد. فكتب إليه الرشيد يعرفه بحسن موقع ذلك عنده، وأمره بانفاذ يحيى بن عبد الله إليه سرا. فلما وصل إليه أوقع بالبرامكة «1» . هذا مما قيل فى سبب نكبة البرامكة أما كيفيّة الإيقاع بهم وقتل جعفر فقيل، إن الرشيد لما قضى حجّه أرسل السندى بن شاهك، وهو أحد قوّاده، وأمره أن يمضى إلى مدينة السلام والتوكل بالبرامكة وبدور كتّابهم وأقاربهم، وأن يجعل ذلك سرّا يحيث لا يعلم به أحد حتى يصل إلى بغداد، ففعل السندى ذلك، وكان الرشيد قد نزل بالأنبار بموضع يقال له العمر «2» ومعه جعفر، فمضى جعفر إلى موضعه فى سلخ المحرم، ودعا بأبى زكار الأعمى الطنبورى، ومدّت الستارة وجلس جواريه خلفها يضربن ويغنّين، وأبو زكّار يغنّيه: ما يريد الناس منّا ... ما ينام الناس عنّا إنّما همهم أن ... يكشفوا ما قد دفنّا

قال: واستدعى الرشيد من ساعته بياسر، غلام من غلمانه، وقيل بمسرور الخادم، فأرسله فى جماعة من الجند إلى جعفر، ليضرب عنقه وليأتيه برأسه، فمضى حتى دخل على جعفر وعنده بختيشوع الطبيب، وأبو زكّار يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتى ... عليه الموت يطرق أو يغادى وكل ذخيرة لا بدّ يوما ... وأن بقيت «1» تصير إلى نفاد فقال له جعفر: قد سررتنى بإقبالك إليّ، وسؤتنى بدخولك عليّ بغير إذن، فقال: الأمر أكبر من ذلك، إن أمير المؤمنين أمرنى بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبّل يديه ورجليه، ويقول: دعنى أدخل وأوصى، فقال: لا سبيل إلى ذلك، ولكن أوص بما شئت، فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه، ثم قال: إن لى عندك حقا ولن تجد مكافأتى إلا فى هذه الساعة، فارجع إلى أمير المؤمنين فأعلمه أنّك قد نفّذت كما أمرك به، فإن أصبح نادما كانت حياتى على يديك، وكانت لك عندى نعمة، وإن أصبح على مثل مذهبه نفّذ ما أمرك به، قال: ولا هذا، قال: فأسير معك إلى مضرب أمير المؤمنين بحيث أسمع كلامه ومراجعتك إياه، فإذا أبليت عذرا ولم يرض إلا بمصيرك إليه برأسى فعلت، قال: أما هذا فنعم، فسارا جميعا إلى مضرب الرشيد، فلما أتاه الخادم وجده فى فراشه، فلما أحس به قال: إيتنى برأسه، فعاد إلى جعفر وأخبره، فقال: الله الله، والله ما أمرك إلا وهو سكران، فدافع حتى أصبح أو راجعه ثانية، فعاد ليراجعه فقال له: يا ماص بظرأمه، إيتنى برأسه، فرجع إلى جعفر وأخبره، فقال ومرّة أخرى، فلما رجع إليه حذفه بعمود كان فى يده، وقال: نفيت عن المهدى لئن لم

تأتنى برأسه لأقتلنّك، فخرج إلى جعفر وضرب عنقه وأتاه برأسه؛ قال: من نقل أن الرسول إلى جعفر ياسر، إنه لما وضع الرأس بين يدى الرشيد أقبل عليه مليا، ثم قال: يا ياسر جئنى بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما الرشيد: اضربا عنق ياسر، فإنى لا أقدر أن أرى قاتل جعفر «1» . وقيل: إنه وجد على قصر على بن عيسى بن ماهان بخراسان فى صبيحة الليلة التى قتل فيها جعفر كتابة بقلم جليل: إنّ المساكين بنى برمك ... صبّت عليهم غير الدهر إنّ لنا فى أمرهم عبرة ... فليعتبر ساكن ذا القصر «2» قال: وكان جعفر من أهل الفصاحة البارعة والفطنة التى لا تحد، إلا أنه كان فيه بخل بالنسبة إلى أبيه وأخيه، قال: ولما قتل جعفر أمر الرشيد بتوجيه من احتاط بيحيى وولده الفضل وجميع أسبابهم، وحبس الفضل فى بعض منازل الرشيد، وحبس يحيى فى منزله، وأخذ مالهم وما وجد لهم من ضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد بالقبض «3» على وكلائهم وأسبابهم وجميع أموالهم، وأصبح فأرسل جثة جعفر إلى بغداد وأمر بنصب رأسه وأن يقطع بدنه «4» قطعتين، ينصب كل قطعة على جسر، ولم يعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده، لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله؛ وقيل كان يسعى بهم، ثم حبس الرشيد يحيى بن خالد وبنيه الفضل ومحمد، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه من جارية وغيرها، ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمّهم سخطه فضيّق عليهم.

وكان مقتل جعفر فى ليلة السبت مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، ولما تكبوا قال الرّقاشى: وقيل إن الشعر لأبى نواس: ألان استرحنا واستراحت مطينا «1» ... وأمسك من يحدى ومن كان يحتدى فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطيّ الفيافى فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم «2» تظفرى من بعده بمسوّد وقل للعطايا بعد فضل تعطّلى ... وقل للرزايا كل يوم تجدّدى ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا ... أصيب بسيف هاشمى مهنّد وروى أبو الفرج الأصفهانى أن الرّقاشى اجتاز بجعفر وهو مصلوب، فوقف يبكى أحرّ بكاء، ثم أنشأ يقول: أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر «3» استلام فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساما فلّه السيف الحسام على اللذات والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السلام «4»

ذكر شىء من أخبار جعفر وتمكنه من الرشيد وما آل أمرهم إليه

فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأمر بإحضاره فأحضر، وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان إليّ محسنا، فلما رأيته على الحال التى هو عليها حرّكنى إحسانه، فما ملكت نفسى حتى قلت الذى قلت. قال: فكم كان يجرى عليك؟ قال: ألف دينار، قال: فإنّا قد أضعفناها لك. وقال يحيى بن خالد لما نكبوا: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة. ذكر شىء من أخبار جعفر وتمكّنه من الرشيد وما آل أمرهم إليه قيل: كان جعفر قد بلغ من الرشيد ما لم يبلغه وزير من خليفة قبله، كان يجلسه معه فى حلة واحدة قد اتخذ لها جيبان، وبلغ عنده أن يحكم عليه فيما شاء من أمر ماله وولده، فمن ذلك ما حكاه إبراهيم بن المهدى أخو الرشيد قال: قال لى جعفر يا إبراهيم، إذا كان غدا فبكّر لى، فلما كان من الغد مشيت إليه باكرا، فجلسنا نتحدث، فلما ارتفع النهار أحضر حجاما فحجمنا، ثم قدّم لنا الطعام فطعمنا، ثم خلع علينا ثياب المنادمة، وقال جعفر لحاجبه «1» : لا يدخل علينا إلا عبد الملك القهرمان، فنسى الحاجب فجاء عبد الملك بن صالح الهاشمى، وكان رجل بنى هاشم فصاحة وملاحة وعلما وحلما وجلالة قدر وفخامة ذكر وصيانة وديانة، فظّن الحاجب أنّه الذى أمره بدخوله فأدخله، فلما رآه جعفر تغيّر لونه، فعلم عبد الملك أنهم قد احتشموا، فأراد أن يرفع خجله وخجلهم بمشاركته لهم، فقال: اصنعوا

بنا ما صنعتموه بأنفسكم، فجاء الخادم وطرح عليه ثياب المنادمة، وجلس يشرب فلما بلغ ثلاثا قال: ليخفّف عنّا، فإنّه شىء ما شربته قط، فتهلل وجه جعفر ثم قال له: هل من حاجة تبلغها مقدرتى وتحيط بها نعمتى فأقضيها لك، مكافأة لما صنعت؟ قال: إن أمير المؤمنين عليّ غاضب فتسأله الرضى عنّى، قال: قد رضى عنك أمير المؤمنين، قال: وعليّ أربعة آلاف دينار، قال: هى حاضرة من مال أمير المؤمنين، قال: وابنى إبراهيم أريد أن أشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين، قال: قد زوّجه أمير المؤمنين ابنته عائشة، قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه، قال: قد ولّاه أمير المؤمنين مصر؛ قال إبراهيم بن المهدى: فانصرف عبد الملك، وأنا أعجب من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين، فلما كان من الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعى بأبى يوسف القاضى ومحمد بن واسع وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر، فأشار إليّ فصرت إلى منزله، فقال لى: قلبك معلّق بأمر عبد الملك، قلت: بلى، قال: دخلت على أمير المؤمنين فمثلت بين يديه، وابتدأت القصة من أوّلها إلى آخرها كما كانت، فجعل يقول أحسن والله، ثم قال: ما صنعت؟ فأخبرته بما سأل وبما أجبته، فجعل يقول فى ذلك كله أحسنت أحسنت «1» ، وفى هذه الحكاية كفاية عما سواها. ويقال إن عليّة بنت المهدى قالت للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: ما رأيت لك يا سيدى يوم سرور تام، منذ قتلت جعفرا، فلأى شىء قتلته!! فقال لها: يا أختاه لو علمت أن قميصى يعلم السبب لحرقته. وأمّا ما آل أمرهم إليه من الضرورة والفاقة والاحتياج والذلة، فمن ذلك ما حكاه عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الحضرمى الإشبيلى فى كتابه

المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرّ «1» قال: حدث محمد بن غسان أن صاحب صلاة الكوفة وقاضيها قال: دخلت على أمى فى يوم أضحى فرأيت عندها عجوزا فى أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمى من هذه؟ قالت: خالتك عتّابة أم جعفر بن يحيى، فسلّمت عليها فسلّمت علىّ، فقلت: أضارك الدهر إلى ما أرى «2» !! قالت: نعم- يا بنى إنما كنّا فى عوار ارتجعها الدهر منّا، فقلت: حدثينى ببعض شأنك، قالت: خذه جملة، لقد مضى علىّ أضحى مثل هذا مذ ثلاث سنين وعلى رأسى أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أنّ ابنى عاق لى، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدى شاة، أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا، قال: فغمّنى ذلك وأبكانى فوهبت لها دنانير كانت عندى «3» . وهذه نهاية الاحتياج والضرورة والفاقة، فنسأل الله تعالى ألا يسلبنا نعمة أنعم بها علينا، ويجعل الموت قبل بلائه ومحنه. وكتب يحيى بن خالد إلى الرشيد «4» : لأمير المؤمنين وإمام المسلمين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه وأوثقته «5» عيوبه، وخذله شقيقه ورفضه صديقه، وزلّ به الزمان وأناخ عليه الحدثان، فصار إلى الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهر وافتقد الهجوع، فساعته شهر وليلته دهر، قد عاين الموت وشارف الفوت، جزعا «6» . يا أمير المؤمنين، حجب

الله عنّى فقدك لما أصبت به من بعدك، لا لمصيبتى «1» بالحال والمال فإنّ ذلك كان بك ولك، وكانتا عارية فى يدى منك، ولا بأس أن تسترد العوارى، فأما المحنة فى جعفر فبجرمه أخذته وبجريرته عاقبته، وما أخاف عليك زلة فى أمره، ولا مجاوزة به فوق ما يستحقه؛ فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتى وارحم ضعفى وشيبتى ووهن قوّتى، وهب لى رضى عنّى، فمن مثلى الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر ولكنى أقرّ، وقد رجوت أن يظهر عند «2» الرضى وضوح «3» عذرى، وصدق نيّتى، وظاهر طاعتى، وفلج حجّتى- ما يكفينى به أمير المؤمنين، ويرى الجلّية «4» فيه، ويبلغ المراد منه إن شاء الله، وكتب: قل للخليفة ذى الصنا ... يع والعطايا الفاشية وابن الخلائف من قري ... - ش والملوك «5» الهادية ملك الملوك وخير من ... ساس الأمور الماضية «6» إنّ البرامكة الذي ... - ن رموا لديلك بداهيه عمّتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقيه فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز نخل خاوية صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلّة باديه مستضعفون مطّردو ... ن بكل أرض قاصيه

من دون ما يلقون من ... عتب «1» يشيب الناصية أضحوا «2» وجلّ مناهم ... منك الرضا والعافية بعد الوزارة والإما ... رة والأمور العالية انظر إلى الشيخ الكبي ... ر فنفسه لك راجيه أو ما سمعت مقالتى ... يا ابن «3» الفروع الزاكيه ما زلت أرجو راحة ... فاليوم خاب رجائيه واليوم قد سلب الزما ... ن كرامتى وبهائيه ألقى الزمان جرانه «4» ... متشفيا بعنائيه «5» ورمى سواد مقاتلى ... فأصاب حين رمانيه يا من يود «6» لى الردى ... يكفيك ويحك مابيه يكفيك أنّى مستبا ... ح عشيرتى «7» ونسائيه يكفيك ما أبصرت من ... ذلّى وضيق «8» مكانيه وذهاب «9» مالى «10» كلّه ... وفدى الخليفة ماليه إن كان لا يكفيك إل ... لا أن أذوق حماميه فلقد رأيت الموت من ... قبل الممات علانيه وفجعت أعظم فجعة ... وفنيت قبل فنائيه وهويت فى قعر السجو ... ن على رفيع بنائيه

انظر بعينك هل ترى ... إلا قصورا خاليه وذخائرا موروثة ... قسّمن قبل مماتيه ومصارعا وفجائعا ... ومصائبا متواليه ونوادبا يندبننى ... تحت الدجى بكنائية «1» أأبا على البرمك ... ى فما أجيب الداعيه ونداؤهنّ وقد سمع ... ت مقلقل «2» أحشائيه أخليفة الله الرضا ... لا تشمتن أعدائيه واذكر مقاساتى الأمو ... ر وخدمتى وغنائيه ارحم جعلت لك الفدا ... كربى وشدة حاليه وارحم أخاك الفضل وال ... باقين من أولاديه أخليفة الرحمن إن ... نك لو رأيت بنانيه وبكاء فاطمة الصغي «3» ... رة والمدامع جاريه ومقالها بتوجع ... يا شقوتى وشقائيه من لى وقد غضب الإما ... م على جميع رجاليه «4» وعدمت طيب معيشتى ... وتغيّرت حالاتيه يا نعمة الملك الرضا ... عودى علينا ثانيه ويروى أن الرشيد لما قرأ الأبيات وقّع تحت الشعر يقول: أجرى القضاء عليكم ... ما جئتموه علانيه من ترك نصح إمامكم ... عند الأمور الباديه

ذكر القبض على عبد الملك بن صالح

يا آل برمك إنما ... كنتم ملوكا عاديه فكفرتم وعصيتم ... وجحدتم نعمائيه فسلبتموها هكذا ... وكذا ترد العاريه «1» هذه عقوبة من عصا ... معبوده وعصانيه وكتب تحت الشعر وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ «2» . قال: ولم يزل يحيى فى الحبس حتى مات سنة تسعين ومائة فى المحرم منها، وهو ابن سبعين سنة، وتوفى الفضل بن يحيى فى المحرم سنة ثلاث وتسعين ومائة. نعود إلى بقية حوادث سنة سبع وثمانين ومائة من الهجرة. ذكر القبض على عبد الملك بن صالح فى هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن على «3» بن عبد الله، وكان سبب ذلك أنه كان له ولد اسمه عبد الرحمن وبه كان يكنى، فسعى به إلى الرشيد هو وقمامه كاتب أبيه، وقالا: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع، ولم يزل عبد الملك فى الحبس إلى أن مات الرشيد، فأخرجه الأمين واستعمله على الشام. ذكر غزو الروم فى هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم فى شعبان، فصالحه

الروم على ثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين «1» ، على أن يرحل عنهم فأجاب إلى ذلك ورحل عنهم، وكان يملك الروم يومئذ امرأة اسمها رينى «2» ، فخلعها الروم وملّكوا عليهم نقفور، ويزعم الروم أنّه «3» من أولاد جفنة من غسّان، وكان قبل أن يملك يلى الخراج، فلما استوثق «4» الروم لنقفور كتب إلى الرشيد من نقفور- ملك الروم- إلى هارون- ملك العرب- أما بعد فإن الملكة التى كانت قبلى أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أضعافها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابى هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع من المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: من هارون- أمير المؤمنين- إلى نقفور «5» كلب الروم، قد قرأ كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة، ففتح وغنم وأحرق وخرّب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله إليه فى كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع الرشيد نقض نقفور العهد، وكان البرد قد اشتد فأمن رجعة الرشيد، فجاء الخبر بنقضه وقد بلغ الرشيد الرقة، فأشفق الناس من إعلام الرشيد، وخافوا عوده لشدة البرد، فاحتيل عليه بشاعر قيل هو أبو محمد عبد الله بن

ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائة.

يوسف «1» ، وقيل هو الحجاج بن يوسف التيمى «2» فقال أبياتا منها: نقض الذى أعطيته نقفور ... فعليه «3» دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح «4» أتاك به الإله كبير فتح يزيد على الفتوح يؤمنا ... بالنصر فيه لواؤك المنصور «5» فلما سمع الرشيد ذلك قال: أو فعل ذلك نقفور! ورجع إلى بلاد الروم فى أشد زمان، حتى بلغ بلادهم فبلغ ما أراد، وقيل كان ذلك فى سنة تسعين ومائة وفتح هرقلة- على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها زلزلت المصيصة فانهدم سورها، ونضب ماؤها ساعة من الليل. وحجّ بالناس عبد الله «6» بن العباس بن محمد بن على. ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائة. فى هذه السنة غزا إبراهيم بن جبريل «7» الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصّفصاف فخرج إليه نقفور ملك الروم، فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه، فلقى جمعا من المسلمين فجرح ثلاث جراحات وانهزم، وقتل من الروم أربعون ألفا وسبعمائة. وحج الرشيد بالناس فى هذه السنة. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائة. ذكر مسير الرشيد إلى الرى فى هذه السنة سار الرشيد إلى الرى، وسبب ذلك أن أهل خراسان

ودخلت سنة تسعين ومائة.

تظلموا من على بن عيسى بن ماهان، وشكوا سوء سيرته فيهم، وقيل للرشيد إنه قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الرى فى جمادى الأولى ومعه ابناه المأمون والقاسم المؤتمن، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما فى عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون، وليس له فيه شىء، وأقام الرشيد بالرى أربعة أشهر، حتى أتاه على بن عيسى من خراسان فأهدى إليه الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقواده من الطرف والجواهر وغير ذلك، فرأى الرشيد خلاف ما كان يظن فردّه إلى خراسان، ورجع الرشيد إلى العراق فى آخر هذه السنة. وفيها كان الفداء بين الروم والمسلمين، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودى به. وحج بالناس فى هذه السنة العباس بن موسى بن محمد بن على «1» ابن عبد الله. ودخلت سنة تسعين ومائة. ذكر فتح هرقلة فى هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وخرّبها، وكان سبب مسيره إليها ما قدمناه فى سنة سبع وثمانين من غدر نقفور، فكان فتحها فى شوال وحصرها ثلاثين يوما. قال: ودخل البلاد فى مائة ألف وخمس وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة ومن لا ديوان لهم، ووجّه داود بن عيسى ابن موسى فى سبعين ألفا، فسار فى أرض الروم يخرب وينهب، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن وديسه «2» ، وافتتح يزيد بن محلد

الصفصاف وملوقية «1» ، واستعمل حميد بن معيوف على ساحل الشام ومصر، فبلغ قبرس فهدم وأحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفا، فلما قدم بهم الرافقة «2» بيعوا بها، وبلغ فداء أسقف قبرس ألفى دينار، ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر، وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك؛ وكتب نقفور إلى الرشيد فى جارية من سبى هرقلة، كان خطبها لولده فبعثها إليه. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهانى عند ذكره ترجمة أشجع بن عمرو السّلمى، وما امتدح به الرشيد لما فتح هرقلة، وسياقه أتم من هذا السياق وأكثر تبيانا، فأحببنا أن نشرحه ها هنا ليكون خبرها على توال واتساق «3» ، فقال: أخبرنى على بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال: كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت ملكت امرأة، لأنّه لم يكن فى زمانها من أهل المملكة غيرها، وكانت تكتب إلى المهدى والهادى والرشيد- فى أول خلافته- بالتعظيم والتبجيل، وتدرّ عليه الهدايا حتى بلغ ابنها. فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد، فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب، لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته، فاحتالت على ابنها فسملت عينيه. فبطل من الملك وعاد الملك إليها، فاستكبر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله، فخرج عليها نقفور وكان كاتبها، فأعانوه وعضدوه وقام بأمر المملكة وضبط أمر الروم، فلما قوى أمره وتمكّن من ملكه كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك

العرب، أما بعد، فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك، ووضعت نفسها موضع السوقة، وإنى واضعك بغير ذلك الموضع، وعامل على تطرّق بلادك والهجوم على أمصارك، أو تؤدّى إلىّ ما كانت المرأة تؤديه إليك والسلام. فلما ورد الكتاب على الرشيد كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون- أمير المؤمنين- إلى نقفور- كلب الروم- أما بعد فقد فهمت كتابك، وجوابك عندى ما تراه عيانا لا ما تسمعه. ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم، فى جمع لم يسمع بمثله، فلما بلغ نقفور ذلك ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وشاور فى أمره، وجدّ الرشيد فجعل يوغل فى بلاد الروم، فيقتل ويسبى ويغنم ويعفى الآثار ويخرّب الحصون، حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينيّة، فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمى به فى تلك الطرق وأشعلت فيه النيران، فكان الرشيد أول من لبس ثياب النفاطين فخاضها، ثم اتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا، وخضع له أشد الخضوع وأدّى له الجزية، عن رأسه فضلا عن أصحابه، فرجع هارون- لما أطاعه ما أعطاه- إلى الرقة. فلما رجع وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة، ونقض ما كان بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى، فلم يجترئ يحيى بن خالد «1» فضلا عن غيره على إخبار الرشيد بغدر نقفور، وبذل هو وبنوه أموالا للشعراء على أن يقولوا أشعارا فى إعلام الرشيد بذلك، فكلهم أشفق إلا شاعر من أهل جدّة يكنى أبا محمد، وكان مجيدا قوىّ الشعر، فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم، ودخل إلى الرشيد فأنشده:

نقض الذى أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح «1» أتاك به الإله كبير فتح يزيد على الفتوح يؤمنّا ... بالنصر فيه لواؤك المنصور «2» فلقد تباشرت الرعيّة أن أتى ... بالنقض منه «3» وافد وبشير درجت يمينك أن تعجّل غزوة ... تشفى النفوس نكالها «4» مذكور أعطاك جزيته وطأطأ خدّه ... حذر الصوارم والردى محذور فأجرته من وقعها وكأنّها ... بأكفنا «5» شعل الظلام «6» تطير وصرفت من طول «7» العساكر قافلا ... عنه وجارك آمن مسرور نقفور إنّك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور «8» ألقاك حينك فى زواخر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور إنّ الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور ليس الإمام وإن غفلنا غافلا ... عما يسوس بحزمه ويدير ملك تجرّد للجهاد بنفسه ... فعدوّه أبدا به مقهور يا من يريد رضى الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير لا نصح ينفع من يغشّ إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور

نصح الإمام على الأنام فريضة ... ولأهله «1» كفارة وظهور قال: فلما أنشده قال الرشيد: أو قد فعل!! وعلم أن الوزراء قد احتالوا فى ذلك، قال: فسار الرشيد قاصدا إليه، وجعل قبل وصوله إلى هرقلة يفتتح الحصون والمدن ويحرقها، حتى أناخ على هرقلة وهى أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا، فتحصّن أهلها، وكان بابها على واد ولها خندق يطيف بها؛ قال: فحدثنى شيخ من مشايخ المطوّعة وملازمى الثغور، يقال له على بن عبد الله قال حدّثنى جماعة من أهل الثغر: أنّ الرشيد لما حصر أهل هرقلة وألحّ عليهم بالمجانيق والسهام والعرّادات فتح الباب ذات يوم، فاستشرف المسلمون لذلك، فإذا رجل من أهلها كأكمل الرجال، قد خرج فى أكمل السلاح فنادى: قد طال مواقفتكم إيانا فليبرز إلىّ منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق الباب، وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه، فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه، وتأسّف لفوته، فقيل له إن الامتناع منه سيغريه «2» ويطغيه، وأحرى به أن يخرج فى غد فيطلب مثل ما طلب، فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له، فإذا بالباب قد فتح وخرج الرجل طالبا للبراز، وذلك فى يوم شديد الحر، فجعل يدعو أنه يثبت لعشرين منهم، فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلّة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن خازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه، فعزم على إخراج بعضهم، فضّج المطوعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوّادك

مشهورون بالنجدة والبأس وعلوّ الصوت ومدارسة الحرب، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذاك، وإن قتله العلج كان وصمة على العسكر قبيحة وثلمة لا تسدّ، ونحن عامّة لم يرتفع لأحد منّا صوت إلا كما يصلح للعامّة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين ظفر بأعرفهم «1» ، على يد رجل من العامة «2» من أفناء الناس، وإن قتل الرجل فإنما استشهد، ولم يؤثر ذهابه فى العسكر ولم يثلمه رجل، وخرج إليه بعده مثله حتى يقضى الله ما شاء، فقال الرشيد: قد استصوبت رأيكم هذا، فاختاروا رجلا يعرف بابن الجزرى «3» ، وكان معروفا فى الثغر بالبأس والنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج؟ قال نعم وأستعين بالله تعالى، فقال «4» : أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا بفرسى أوثق، ورمحى بيدى أشد، ولكنى قد قبلت السيف والترس، فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فودّعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوّعة، فلما انقضّ فى الوادى قال لهم العلج- وهو يعدّهم واحدا واحد- إنما كان الشرط عشرين، وقد زدتم رجلا ولكن لا بأس، فنادوه ليس يخرج إليك إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزرى تأمّله الرومى، وقد أشرف أكثر الناس من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن «5» ، فقال له الرومى: أتصدقنى عما استخبرك؟ قال: نعم، قال: أنت بالله ابن الجزرى؟ قال: اللهم نعم، فكفر له ثم أخذا فى شأنهما، فتطاعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان يقومان، وليس

يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا «1» بشىء فزجّ كل واحد منهما رمحه، وانتضى سيفه فتجالدا مليّا، واشتد عليهما الحرّ وتبلّد الفرسان، وجعل ابن الجزرى يضرب الضربة التى يرى أنّه قد بلغ بها، فيتّقيها الرومى وكان ترسه من حديد، ويضربه الرومى ضربة معذر، فلما يئس كل واحد منهما من الوصول إلى صاحبه انهزم ابن الجزرى، فدخلت المسلمين «2» كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا، وإنما كانت هزيمته حيلة منه فاتبعه العلج، وتمكّن ابن الجزرى منه فرماه بوهق فوقع فى عنقه فما أخطأه، وركض فاستلبه عن فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون أعلى تكبير، وانخزل المشركون وبادروا الباب يغلقونه، واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار فى المجانيق، ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة، وأضرموا نارا ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذه الحجارة، وقد تصدّع فتهافت، فلما أحاطت بهم النيران فتحوا الباب مستأمنين، فقال الشاعر المكى الذى ينزل جدّة «3» : هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما «4» ترتمى بالنفط والنار كأنّ نيراننا فى جيب «5» قلعتهم ... مصبغات «6» على أرسان قصّار قال محمد بن يزيد: وأعظم الرشيد الجائزة للجدّى الشاعر، وصبّ الأموال على ابن الجزرى وقوّد، فلم يقبل التقويد وسأل أن يعفى، ويترك

ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائة.

مكانه من الثغر فلم يزل به طول عمره «1» . وحجّ بالناس عيسى بن موسى الهادى. ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائة. فى هذه السنة عزل الرشيد عن خراسان على بن عيسى بن ماهان، واستعمل عليها هرثمة بن أعين. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن على. ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة. فى هذه السنة تحرّكت الخرّميّة بناحية أذربيجان، فوجّه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك فى عشرة آلاف، فقتل وسبى وأسر. وحج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر. ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة. ذكر وفاة الرشيد كانت وفاته ليلة السبت- الثالث من جمادى الآخرة- من هذه السنة، وكان قد توجّه إلى خراسان فى سنة اثنتين وتسعين ومائة، فمرض فى الطريق بجرجان فسار إلى طوس، فمات بها وصلّى عليه ابنه صالح ودفن

بطوس. روى أبو الفرج الأصفهانى عن جحظة عن ميمون بن هارون قال «1» : رأى الرشيد فيما يرى النائم كأن امرأة وقفت عليه، وأخذت كف تراب ثم قالت: هذه تربتك عن قليل، فأصبح فزعا فقصّ رؤياه، فقال له أصحابه: وما فى هذا!! قد يرى النائم أكثر من هذا وأغلظ ثم لا يضره فركب وقال: إنى لأرى الأمر قريبا، فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه، فقال: هذه والله التربة التى رأيتها، وهذه المرأة بعينها، ثم مات بعد مدة ودفن فى ذلك الموضع بعينه، أشترى له ودفن فيه، وأتى نعيه بغداد فقال أشجع يرثيه: غربت بالمشرق الشم ... س فقل للعين تدمع ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع وكان عمره سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وخلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما، وكان جميلا وسيما أبيض جعدا قد وخطه الشيب. وكان له من الأولاد: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، والقاسم المؤتمن، وأبو إسحاق المعتصم، وصالح، وأبو عيسى محمد، وأبو يعقوب محمد، وأبو العباس محمد، وأبو سليمان محمد، وأبو على محمد، وأبو محمد- وهو اسمه، وأبو أحمد محمد، وكلهم لأمهات أولاد إلا الأمين [1] . وله من البنات سكينة، وأم حبيب، وأروى، وأم

_ [1] تزيد النسخة ص بعد ذلك قصة على قياس قصة المنصور التى زعمت أنه تزوج زواجا أخفاه وأثمر ولدا، كذلك هذه القصة التى توردها النسخة ص تنسب إلى الرشيد زواجا خفيا أثمر ولدا، نقلت النسخة ص قالت: هؤلاء الذين عرفوا من أولاده الذكور وذكرهم أهل التاريخ، وقد حكى الإمام أبو الليث

_ السمرقندى رحمه الله فى كتابه المترجم تنبيه الغافلين (مطبوع طبعة بولاق) قال: حدثنا أبى قال: حدثنا أبو الحسن الفرا عن عبد الله بن الفرج قال: خرجت يوما فى طلب أجير يعمل لى شيئا فى الدار، فأتيت فى طلبه فإذا أنا برجل حسن الوجه وبين يديه مر وزنبيل، فقلت له: أتعمل لى اليوم إلى آخر الليل؟ قال: نعم، قلت: بكم؟ قال: بدرهم ودانق، قلت له: قم، فقام وأتى معى إلى منزلى، فعمل معى عملا كان يعمله غيره فى ثلاثة أيام، ثم أتيته فى اليوم الثانى أطلبه فلم أره، فسألت عنه فقيل هو رجل لا يرى فى الأسبوع إلا يوما واحدا، وقالوا لى يوم السبت، فتربصت حتى أتى ذلك اليوم، فجئت وهو جالس، فقلت له: أتعمل اليوم معى؟ قال: نعم بدرهم ودانق، قلت: تعمل بدرهم، قال: لا، إلا بدرهم دانق، قلت قم فقام وعمل معى عملا كان يعمله غيره فى ثلاثة أيام، فلما كان وقت المساء وزنت له درهما واحدا، فقال لى: ألم أقل لك بدرهم ودانق؟ وكنت أردت أن اختبره، فقال: قد أفسدت علىّ أجرتى، ولا آخذ منك شيئا، قال: فوزنت له درهما ودانقا، فأبى أن يأخذه، فألححت عليه فقال: سبحان الله أقول لك ما آخذ وتلح علىّ!! ومضى وأقبلت إلى أهلى وأخبرتهم بقصته فقالت لى زوجتى: فعل الله بك وصنع، ما الذى أردت من رجل عمل لك عمل ثلاثة أيام فى يوم واحد!! قال فجئت يوما أسأل عنه فقيل لى إنه مريض، فاستدللت على بيته فأرشدت إليه، فأتيته وإذا هو مبطون فى خربة، ليس فيها شىء غير ذلك المر والزنبيل، فسلمت عليه فرد على، فقلت له: لى إليك حاجة، وأنت تعرف ما جاء فى إدخال السرور على العبد، فقلت: إنى أحب أن تأتى إلى بيتى حتى أمرضك فيه، قال: أتحب ذلك؟ قلت نعم، قال: آتيك على ثلاثة شرائط تقبلها منى ولا تخالفنى فيها، قلت: نعم، قال: أحدها أنك لا تعرض على طعاما حتى أسألك وآذن لك فيه، قلت: نعم، قال: والثانى: اذا أنامت فكفنى فى كسائى هذا وجبتى هذه، فقلت: نعم، وأما الثالث: فهو أشد منهما، وسأخبرك عنه غدا إن شاء الله، قال: فحملته إلى منزلى عند الظهر، فلما أصبحت من الغد نادانى فأتيته، فقلت ما شأنك؟ قال: ألا أخبرك عن حاجتى الثالثة، أعلم أنه قد حضرت وفاتى، ثم قال: افتح هذه الصرة التى فى كم جبتى، ففتحتها فاذا فيه خاتم عليه فص أخضر، فقال لى: يا عبد الله إذا أنامت فكفنى كما أمرتك وورانى، وخذ هذا الخاتم فأدفعه إلى هارون الرشيد، وقل له: يقول لك صاحب هذا الخاتم: ويحك لا تموتن على سكرتك هذه فإنك إن مت عليها ندمت، ثم مات، فلما دفنته سألت عن يوم خروج الرشيد فأخبرت، فكتبت قصة وتعرضت له، فدفعت إليه القصة بعد أن ضربت ضربا موجعا، قال: فلما دخل القصر وقرأ القصة استدعانى، فدخلت عليه فقال: ما شأنك؟ فأخرجت الخاتم ودفعته إليه، فلما نظر إليه قال لى: من أين لك هذا الخاتم؟ قلت يا أمير المؤمنين دفعة إلىّ رجل طيان وأخبرته بقصته، فنظرت إلى دموعه تنحدر على لحيته، وهو يقول: رجل طيان!!! وقربنى منه وأدنانى فدنوت منه، فقلت له: يا أمير المؤمنين إنه أوصانى بوصيته ألقيها إليك، قال: ألق ما معك من الوصية، قلت له: يقول لك صاحب هذا الخاتم: لا تموتن على سكرتك هذه، فإنك إن مت عليها ندمت، فقام قائما وضرب بنفسه على البساط وجعل ينتف رأسه ولحيته، ويقول: يا بنى نصحت أباك حيا وميتا، وبكى بكاء طويلا ثم جلس، وجاءوا فغسل وجهه، واستعاد القصة

الحسن» ، وأم محمد- وهى حمدونة، وفاطمة، وأم أبيها، وأم سلمة، وخديجة، وأم القاسم، ورملة، وأم جعفر، والغالية، وريطة، كلهن لأمهات أولاد، والواحدة من بناته تعد عشرة من الخلفاء كلهم لها محرم هارون أبوها، والهادى عمها، والمهدى جدها، والمنصور جد أبيها، والسفاح عم جدها، والأمين والمأمون والمعتصم إخوتها، والواثق والمتوكل ابنا أخيها. وكان نقش خاتمه: العظمة والقدرة لله، وقيل كن من الله على حذر. وزراؤه: يحيى بن خالد بن برمك ثم ابناه جعفر والفضل، ثم استوزر بعد البرامكة الفضل بن الربيع. قضاته: نوح بن دراج «2» بالجانب الغربى، وحفص بن غياث بالشرقى. حاجبه: بشر مولاه، ثم محمد بن

_ فقصصتها عليه. فبكى بكاء كثيرا ثم قال: هذا أول مولود ولد لى، وكان أبى المهدى قد ذكر لى زبيدة أن يزوجنى بها، فنظرت إلى امرأة فتعلق قلبى بها فتزوجتها سرا من أبى، فأولدتها هذا المولود وأنفذت بهما إلى البصرة. ودفعت إليها هذا الخاتم وأشياء كثيرة، وقلت لها: اكتمى نفسك، فإذا بلغك أنى قد استخلفت فأتنى، فلما أفضت الخلافة إلى سألت عنها، فقيل لى إنهما ماتا، وما علمت أنه باق، فأين دفنته؟ فقلت فى مقبرة عبد الله بن مبارك، فقال إليك حاجة- وهى إذا كان بعد المغرب فقف بالباب. حتى أخرج إليك متنكرا وأمضى معك إلى قبره ففعلت فخرج والخدم حوله فدنا منّى حتى وضع يده فى يدى، فجئت به إلى قبره فما زال يبكى ليلته حتى أصبح، وهو يقول مع بكائه: يا بنى نصحت أباك حيا وميتا، فجعلت أبكى لبكائه رحمة له، ثم قال لى: قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار، وأمرت أن تجرى عليك دائما، فإذا أنا مت أوصيت لك بها من يلى الأمر بعدى، وأن تجرى عليك وعلى وعقبك مهما كان لك عقب، فإن لك حقا بدفنك ولدى، فلما أراد أن يدخل الباب قال: انظر إلى ما أوصيك به إذا طلعت الشمس ففارقته ولم أعد إليه. (راجع تنبيه الغافلين لمؤلفه نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى ص 325، ص 326، 327- طبعة بولاق) .

خالد بن برمك، ثم الفضل بن الربيع. الأمراء بمصر: على بن سليمان الهاشمى، ثم موسى بن عيسى، ثم «1» إبراهيم بن صالح ثم مات فوليها أحمد بن خالد «2» الأعرج، ثم إسحاق بن سليمان بن على الهاشمى، ثم هرثمة بن أعين ثم ولاه المغرب، وولى عبد الملك بن صالح بن على الهاشمى، ثم عبيد الله «3» بن المهدى، ثم إسماعيل بن صالح بن على الهاشمى، ثم الليث بن الفضل، ثم «4» أحمد بن إسماعيل بن على الهاشمى، ثم عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن على الهاشمى ويعرف بابن زينب، ثم الحسين بن جميل الأزدى، ثم مالك بن دلهم، ثم الحسن ابن البحباح «5» القضاة بها: أبو طاهر عبد الملك، ثم المفضل «6» بن فضالة، ثم محمد بن مسروق الكندى «7» ، ثم إسحاق بن الفرات، ثم عبد

ذكر شىء من سيرة الرشيد وأخباره

الرحمن بن عبد الله- من ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أول من دوّن الشهود. ذكر شىء من سيرة الرشيد وأخباره قيل: كان الرشيد يصلى فى كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، لا يقطعها إلا فى مرض، وكان يتصدق من صلب ماله فى كل يوم بألف درهم، وكان إذا حجّ حجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحجّ ثلاثمائة رجل بالنفقة التامة والكسوة، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء فى الدين، وكان يحب المديح لا سيما من شاعر فصيح، ويجزل العطاء عليه، ولما مدحه مروان بن أبى حفصة بقصيدته التى منها: وسدّت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر أعطاه خمسة آلاف دينار وعشرة من الرقيق الرومى وبرذونا من خاص مراكبه. وقيل: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره من جدّ وهزل، ووزراؤه البرامكة لم ير مثلهم فى السخاء، وقاضيه أبو يوسف وشاعره مروان بن أبى حفصة، ونديمه عم أبيه العباس بن محمد، وحاجبه الفضل بن الربيع، إربة الناس، ومغنيه إبراهيم الموصلى، واحد عصره فى صناعته، وضاربه زلزل، وزامره برصوما، وزوجته أم جعفر بنت جعفر، أرغب الناس فى خير، وأسرعهم إلى كل برّ، وأمه الخيزران أم الخلفاء. قال: وبذل الرشيد الأمان للطالبيين، وأخرج الخمس لبنى هاشم، وقسم للذكر والأنثى خمسمائة، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار، وعمر طرسوس وجعل فيها جماعة من الموالى رحمه الله تعالى.

ذكر خلافة الأمين

ذكر خلافة الأمين هو أبو عبد الله وقيل أبو موسى وقيل أبو العباس- محمد بن هارون الرشيد، وأمه أمة الواحد وقيل أمة العزيز «1» بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور، ولقبت زبيدة، ولم يل الخلافة بعد على والحسن من أمه هاشمية غيره، وهو السادس من الخلفاء العباسيين؛ بويع له بالخلافة بطوس فى عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التى توفى فيها الرشيد، لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان المأمون يومئذ بمرو، فكتب حمويه- مولى المهدى وهو صاحب البريد- إلى نائبه ببغداد، وهو أبو مسلم «2» سلام، يعلمه بوفاة الرشيد، فدخل أبو مسلم على الأمين فعزاه بأبيه وهنّأه بالخلافة، وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين بذلك مع رجاء الخادم، وأرسل معه الخاتم والقضيب والبردة، فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره الخلد إلى قصر الخلافة، وصلّى بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم الخير وأمّن الأبيض والأسود، وفرّق فى الجند الذين ببغداد رزق أربعة وعشرين شهرا، ودعا إلى البيعة فبايعه جلة أهل بيته، ووكل عم أبيه وأمه سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، وأمر السّدى بمبايعة من عداهم، وقدمت العساكر التى كانت مع الرشيد، وقدمت زبيدة امرأة الرشيد أم الامين من الرقة إلى بغداد، فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار، ومعه جميع من ببغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد.

ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة.

وفيها ابتدأت الوحشة بين الأمين والمأمون، وظهر الخلاف فيما بعدها وتفاقم الأمر، وسنذكر ذلك كله وأسبابه فى آخر أيام الأمين، ليكون خبر ذلك متواليا لا ينقطع بخروج سنة ودخول أخرى، فلنذكر من أخبار الأمين خلاف ذلك وفيها عزل الأمين أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة، وأقرّه على العواصم، وأستعمل على الجزيرة خزيمة بن خازم. وحجّ بالناس فى هذه السنة داود بن عيسى بن موسى «1» بن محمد وهو أمير مكة. ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة. ذكر خلاف أهل حمص على الأمين فى هذه السنة خالف أهل حمص على الأمين، فتحوّل عاملهم إسحاق بن سليمان إلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشى، فقتل عدة من وجوههم وحبس عدة، وألقى النار فى نواحيها، فسألوه الأمان فأجابهم، ثم هاجوا بعد ذلك فقتل عدة منهم. ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة. فى هذه السنة قطع الأمين خطبة المأمون، وأمر بإسقاط ما ضرب باسمه من الدنانير والدراهم بخراسان، وأمر فدعى لابنه موسى ولقّبه الناطق بالحق، ولابنه الآخر عبد الله ولقّبه القائم بالحق. ذكر خروج السّفيانىّ وما كان من أمره فى هذه السنة خرج السفيانى- وهو على بن عبد الله بن خالد بن يزيد

ابن معاوية، وأمّه نفيسة بنت عبيد الله «1» بن العباس بن على بن أبى طالب، وكان يقول: أنا ابن شيخى صفين- يشير إلى على ومعاوية، وكان يلقب بأبى العميطر، لأنه قال لأصحابه: أى شىء كنية الحرذون؟ قالوا: لا ندرى، قال: هو أبو العميطر، فلقبوه به، ولما خرج دعا لنفسه بالخلافة فى ذى الحجة، وقوى على سليمان بن المنصور عامل دمشق، وأخرجه عنها وأعانه الخطاب بن وجه الفلس مولى بنى أمية، وكان قد تغلب على صيدا، فبعث الأمين إليه الحسن بن على بن عيسى بن ماهان، فبلغ الرقة ولم يصل إلى دمشق؛ قال: وكان عمر السفيانى لما خرج تسعين سنة، وكان الناس قد أخذوا عنه علما كثيرا، وكان حسن السيرة، فلما خرج ظلم وأساء السيرة، فتركوا ما كانوا نقلوه عنه، وكان أكثر أصحابه من كلب، وكتب إلى محمد بن بيهس الكلابى «2» يدعوه إلى طاعته، ويتهدده إن لم يفعل فلم يجبه إلى ذلك، فأقبل السفيانى لقصد القيسية فكتبوا إلى محمد بن صالح، فأقبل إليهم فى ثلاثمائة فارس ومواليه، فبعث إليه السفيانى يزيد بن هشام فى اثنى عشر ألفا، فالتقوا فانهزم يزيد ومن معه، وقتل منهم زيادة على ألفين، وأسر ثلاثة آلاف فأطلقهم ابن بيهس، وحلق رءوسهم ولحاهم، فضعف السفيانى، ثم جمع جمعا وجعل عليهم ابنه القاسم، وخرجوا إلى بيهس فالتقوا فقتل القاسم وانهزم أصحاب السفيانى، وبعث رأسه إلى الأمين، ثم جمع جمعا آخر وبعثهم مع مولاه المعتمر، فلقيهم ابن بيهس فقتل المعتمر وانهزم أصحابه، فوهن أمر السفيانى وطمعت فيه قيس، ثم مرض ابن بيهس، فاستخلف مسلمة بن يعقوب بن على «3» بن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، وأمر بنى نمير بمبايعته بالخلافة، وعاد ابن بيهس إلى

ودخلت سنة ست وتسعين ومائة.

حوران، واجتمعت نمير على مسلمة وبايعوه، فدخل على السفيانى وقبض عليه وقيده، وقبض على رؤساء بنى أميّة فبايعوه، وأدنى القيسية وجعلهم خاصته، فلما عوفى محمد بن بيهس عاد إلى دمشق فحصرها، فسلمها إليه القيسية، وهرب مسلمة والسفيانى فى زى النساء إلى المزة، وذلك فى المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وغلب ابن بيهس على دمشق، إلى أن قدم عبد الله ابن طاهر دمشق ودخل إلى مصر وعاد إلى دمشق فأخذ ابن بيهس معه إلى العراق فمات بها. وحج بالناس عامل مكة داود بن عيسى. ودخلت سنة ست وتسعين ومائة. فى هذه السنة استعمل الأمين على الشام عبد الملك بن صالح بن على: فسار إليها فتوفى بالرقة قبل وصوله إلى الشام. وفيها خلع الأمين وبويع للمأمون، ثم عاد الأمين إلى الخلافة، على ما نذكره إلى شاء الله تعالى. ودخلت سنة سبع وتسعين ومائة. فى هذه السنة حجّ بالناس العباس بن موسى بن عيسى، وجّهه طاهر بأمر المأمون. وفيها سار المؤتمن بن الرشيد ومنصور بن المهدى إلى المأمون بخراسان، فوجّه المأمون أخاه المؤتمن إلى جرجان. ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائة. ذكر أخبار الأمين والمأمون وما كان بينهما من الفتن والاختلاف وما أفضى إليه الأمر من قتل الأمين كان ابتداء الخلف بينهما فى سنة ثلاث وتسعين ومائة عند وفاة الرشيد، وكان سبب ذلك أن الرشيد كان قد أشهد عليه فى سفرته التى مات فيها: أن

جميع ما فى عسكره من مال ومتاع ورقيق وكراع وغير ذلك للمأمون، وأخذ له البيعة على جميع من فى عسكره، فعظم ذلك على الأمين، ثم بلغه شدة «1» مرض الرشيد، فأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها فى قوائم صناديق المطبخ، وألبسها جلود البقر، وقال: لا تظهرنّ أمير المؤمنين ولا غيره عليها، فإذا مات فادفع الكتب إلى أربابها، فقدم بكر إلى طوس فبلغ الرشيد قدومه، فأحضره وسأله عن موجب قدومه، قال: بعثنى الأمين لآتيه بخبرك، قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا، فأمر بتفتيش ما معه فلم يصيبوا شيئا، فأمر به فضرب فما أقرّ، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره، فإن أقرّ وإلا ضرب عنقه، ثم مات الرشيد فأخرج بكر «2» الكتب التى معه، وهى كتاب إلى المأمون يأمره بترك الجزع، وأخذ البيعة على الناس «3» لأخيهما المؤتمن، فلم يكن المأمون حاضرا وكان بمرو، وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه، وأن يتصرف هو ومن معه برأى الفضل بن الربيع، وكتاب إلى الفضل بالحفظ والاحتياط على الحرم والأموال وغير ذلك، وأقرّ كل من كان على عمل من الأعمال على عمله، من صاحب شرط «4» وحجابة وحرس، فلما قرءوا الكتب تشاور القواد فى اللحاق بالمأمون أو الأمين، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر ما أدرى ما يكون من أمره، ثم أمر الناس بالرحيل فرحلوا، محبة منهم لأهليهم ووطنهم وتركوا العهود التى كانت أخذت عليهم للمأمون، فلما بلغ المأمون ذلك جمع من كان عنده من القوّاد، وفيهم ذو الرئا ستين الفضل بن سهل، وهو أعظمهم قدرا عنده وأخصّهم به، واستشارهم فأشاروا عليه أن يلحقهم جريدة فى ألفى فارس ويردهم، فخلى به ذو

الرئاستين وقال: إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هديّة إلى أخيك ولكن الرأى أن تكتب إليهم كتابا مع رسول من عندك، تذكّرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث، ففعل ووجّه سهل بن صاعد «1» ونوفلا الخادم، فلحقا الجند والفضل بنيسابور، فأوصلا الفضل كتابه فقال: إنما أنا واحد من الجند، وشدّ عبد الرحمن بن جبلة على سهل بالرمح ليطعنه، فأمّره على جنبه وقال: قل لصاحبك لو كنت حاضرا لوضعته فيك، وسبّ المأمون فرجعا إليه بالخبر فقال ذو الرئاستين: أعداء استرحت منهم، وقال له: اصبر وأنا أضمن لك الخلافة، فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به، قال ذو الرئاستين: والله لأصدقنّك، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك منّى، برياستهم المشهورة وبما عندهم من القوّة، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تباع أملك وترى رأيك، وقام ذو الرئاستين فأتاهم فى منازلهم، وذكر لهم البيعة وما يجب عليهم من الوفاء، قال: فكأنى جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل وأخرجه «2» ، وقال بعضهم: ومن الذى يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ قال: فجئت وأخبرته فقال: قم بالأمر، فأشار عليه أن يبعث إلى الفقهاء، ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وردّ المظالم، وأن تجلس على الصوف وتكرم القوّاد، ففعل ذلك ووضع عن خراسان ربع الخراج، فحسن ذلك عند أهلها وقالوا: ابن اختنا وابن عم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ثم كتب المأمون إلى الأمين وعظّمه. ولما قدم الفضل بن الربيع العراق- وقد نكث عهد المأمون- علم أنّ المأمون، إن أفضت إليه الخلافة وهو حىّ، لم يبق عليه، فسعى فى إغراء الأمين وحثّه على خلع المأمون، والبيعة لابنه موسى بولاية العهد- ولم يكن

ذلك فى عزم الأمين، فلم يزل الفضل يصغّر أمر المأمون عنده ويزيّن له خلعه، ووافقه على ذلك على بن عيسى «1» بن ماهان والسندى وغيرهما، فرجع الأمين إلى قولهم وجمع القوّاد لذلك، فنهاه عبد الله بن خازم وأبى القواد ذلك، وربما ساعده قوم، فلما بلغ إلى خزيمة بن خازم قال له: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإنّ الغادر مخذول، والناكث مفلول، فأقبل الأمين على علىّ ابن ماهان فتبسّم وقال: لكنّ شيخ هذه الدعوة وناب «2» هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها. وألحّ الأمين فى خلع المأمون، فأوّل ما فعل أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء بالإمرة لابنه موسى بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فلما بلغ ذلك المأمون، وأن الأمين عزل المؤتمن عما كان بيده، أسقط الأمين من الطّرز وقطع البريد عنه، وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار- لمّا بلغه حسن سيرة المأمون- طلب الأمان منه فأمّنه، فحضر عنده. قال: ثم كتب الأمين إلى المأمون يستقدمه ويسأله أن يقدّم ابنه موسى على نفسه، وأرسل إليه أربعة «3» فى الرسالة- منهم العباس بن موسى بن عيسى، فلما أتوه امتنع من ذلك، فقال له العباس بن موسى: ما عليك أيها الأمير من ذلك؟ وقد فعله جدى عيسى بن موسى وخلع فما ضرّه ذلك، فصاح به ذو الرئاستين: فقال اسكت فإنّ جدّك كان أسيرا بين أيديهم، وهذا بين أخواله وشيعته، ثم قاموا «4» فخلى ذو الرئاستين بالعباس بن

ذكر محاربة على بن عيسى بن ماهان وطاهر

موسى، واستماله ووعده إمرة الموسم ومواضع، فأجاب إلى بيعة المأمون وسماه بالإمام، وكان يكتب إليهم بالأخبار من بغداد، ورجع الرسل إلى الأمين وأخبروه بامتناع المأمون، وبعث المأمون ثقة من عنده إلى الحدّ، يمنع من الدخول إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته، وضبط الطرق بثقاة أصحابه. قال: وألحّ الفضل بن الربيع فى قطع خطبة المأمون، وأغرى الأمين بحربه، فأجابه إلى ذلك وبايع لولده موسى، وجعله فى حجر على بن عيسى بن ماهان، وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى رسائله على بن صالح صاحب المصلى، وأسقط خطبة المأمون فى سنة خمس وتسعين ومائة، وبايع لولده موسى فى صفر وقيل فى ربيع الأول، وأرسل إلى الكعبة فأتى بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد ببيعة الأمين والمأمون، فمزّقهما الفضل بن الربيع. ذكر محاربة على بن عيسى بن ماهان وطاهر قال: ثم أمر الأمين على بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون، وكان سبب مسيره دون غيره أنّ ذا الرئاستين كان له عين عند الفضل بن الربيع، يرجع الفضل إلى قوله ورأيه، فكتب ذو الرئاستين إلى ذلك الرجل أن يشير بانفاذ ابن ماهان لحربهم، وكان مقصده أن ابن ماهان- لمّا ولى خراسان أيام الرشيد أساء السيرة فى أهلها فظلمهم «1» - فبغضه أهل خراسان، فأراد ذو الرئاستين أن يزداد أهل خراسان جدا فى قتال الأمين وأصحابه بسببه، فأشار ذلك الرجل بابن ماهان فأمره الأمين بالمسير؛ وقيل كان سببه أنّ عليّا قال للأمين: إنّ أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنّه «2» إن

قصدهم أطاعوه وانقادوا له، وإن كان غيره فلا، فأمره بالمسير وأقطعه كور الجبل كلها نهاوند وهمذان وقمّ وأصفهان وغير ذلك- حربها وخراجها، وأعطاه الأموال وحكّمه فى الخزائن، وجهّز معه خمسين ألف فارس، وكتب إلى أبى دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجلى «1» وهلال بن عبد الله الحضرمى بالانضمام إليه، وأمدّه بالأموال والرجال شيئا بعد شىء، وخرج فى شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، وركب الأمين يشيّعه ومعه القوّاد والجنود، وأوصاه إن قاتله المأمون يحرص على أسره. قال: وكان المأمون- لمّا بلغه ما فعله الأمين من خلعه وتمزيق كتب البيعة- أرسل طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن أسعد «2» الخزاعى أميرا، وضمّ إليه جماعة من قوّاده وأجناده، فسار مجدا نحو الرى فنزلها ووضع المسالح والمراصد. قال: وسار ابن ماهان فلقيته القوافل عند جلولاء، فسألهم فقالوا إن طاهرا مقيم بالرى، يعرض أصحابه والأمداد تأتيه من خراسان، فجعل يسير وهو لا يعبأ بطاهر ويستقله ولا يستعد له، فقيل له فى ذلك فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له، وإنّ حاله تؤول إلى أمرين: إما أن يتحصّن بالرى فيسلمه أهلها، وإما أن يرجع ويتركها إذا قربت خيلنا منه؛ قال: فلما دنا من الرى خرج طاهر منها، فى أقل من أربعة آلاف فارس وعسكر على خمسة فراسخ، فأتاه أحمد بن هشام وكان على شرطته فقال له: إن أتانا على بن عيسى؟ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين فأقررنا له بذلك، فليس لنا أن نحاربه. فقال طاهر: لم يأتنى فى ذلك

شىء، فقال: دعنى وما أريد، فقال: افعل، فصعد المنبر فخلع الأمين ودعا للمأمون بالخلافة، وساروا وأقبل ابن ماهان وقد عبّأ أصحابه، وعبّأ عشر رايات مع كل راية ألف رجل، وقدّمها راية راية وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وعبّأ طاهر أصحابه كراديس، وسار بهم يحرّضهم ويوصيهم، وهرب من أصحاب طاهر نفر إلى علىّ، فجلد بعضهم وأهان الباقين، فكان ذلك مما ألب من بقى على قتاله، وزحف الناس بعضهم لبعض، فقال أحمد بن هشام لطاهر: ألا تذكّر على بن عيسى البيعة التى أخذها علينا هو للمأمون؟ قال: أفعل- فأخذ البيعة وعلّقها على رمح، وقام بين الصفين وطلب الأمان، فأمّنه علىّ بن عيسى، فقال له: ألا تتقى الله!! أليس هذه نسخة البيعة التى أخذتها أنت خاصة علينا؟؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك! فقال علىّ: من أتانى به فله ألف درهم، فسنمه أصحاب أحمد ثم وثب أهل الرى وأغلقوا باب المدينة، فقال طاهر لأصحابه: اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم، فإنّه لا ينجيكم إلا الجد والصدق، ثم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميسرة طاهر هزيمة منكرة، وزالت ميمنته عن موضعها، فقال طاهر: اجعلوا جدّكم وبأسكم على القلب، واحملوا حملة خارجية، فحملوا على أول رايات القلب فهزموها، فرجعت الرايات بعضها على بعض وانتهت الهزيمة إلى علىّ، فجعل ينادى أصحابه: الكرّة بعد الفرّة، فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، وحمل رأسه إلى طاهر، وحملت جثّته إليه فألقى فى بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله تعالى، وتمت الهزيمة ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف، وتبعوهم فرسخين وواقفوهم فيها اثنتى عشرة مرّة، كل مرّة يكسر عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، وغنموا غنيمة عظيمة، ونادى أصحاب طاهر: من ألقى سلاحه فهو آمن،

ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة إلى طاهر وقتله واستيلاء طاهر على أعمال الجبل

فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى الرى، وكتب إلى المأمون. بسم الله الرحمن الرحيم كتابى إلى أمير المؤمنين ورأس على بن عيسى بين يدى، وخاتمه فى أصبعى، وجنده ينصرفون تحت أمرى. والسلام. وكتب إلى ذى الرئاستين فورد الكتاب مع البريد فى ثلاثة أيام، وبينهما نحو من خمسين ومائتى فرسخ، فدخل ذو الرئاستين على المأمون وهنّأه بالفتح وأمر الناس فدخلوا عليه وسلّموا بالخلافة، ثم وصل رأس علىّ بعد الكتاب بيومين، فطيف به فى خراسان. ولما وصل الكتاب كان المأمون قد جهّز هرثمة فى جيش كبير نجدة لطاهر، فأتاه الخبر بالفتح. قال: وأما الأمين فإنّه أتاه نعى على بن عيسى- وهو يصطاد السمك، فقال الذى أتاه بالخبر: دعنى «1» فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا، ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم- وهو وكيل المأمون على ملكه بالسواد- وكان للمأمون معه ألف ألف درهم- فأخذها منه وقبض ضياعه وغلاته، وندم الأمين على ما كان منه ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فى النصف من شوال سنة خمس وتسعين واتفقوا على طلب الأرزاق ففرّق فيهم مالا كثيرا. ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة إلى طاهر وقتله واستيلاء طاهر على أعمال الجبل قال: ولما اتصل بالأمين قتل على بن عيسى وهزيمة عسكره وجّه عبد

الرحمن بن جبلة الأنبارى فى عشرين ألف رجل، نحو همذان واستعمله عليها وعلى كل ما يفتحه من ارض خراسان، فسار حتى نزل همذان فحصّنها ورمّ سورها، وأتاه طاهر إليها فخرج إليه عبد الرحمن، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عبد الرحمن، ودخل همذان فأقام بها أياما حتى قوى أصحابه واندملت جراحاتهم، ثم خرج إلى طاهر واقتتلوا وصبر الفريقان، وكثر القتل فى أصحاب ابن جبلة وقتل صاحب علمه، فانهزم أصحابه وقتلهم أصحاب طاهر إلى المدينة، وأقام طاهر على بابها محاصرا لها، فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه فأمّنه، فخرج عن همذان واستولى طاهر على قزوين وعلى سائر أعمال الجبل. قال: ولما خرج عبد الرحمن بأمان طاهر أقام مسالما لطاهر، ثم ركب فى أصحابه وهجم على طاهر وأصحابه وهم «1» آمنون، فثبت له رجّالة «2» طاهر، وقاتلوه حتى أخذ؟؟؟ ت الخيّالة أهبتها، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، حتى تكسرت الرماح وتقطّعت السيوف، فانهزم أصحاب عبد الرحمن وبقى فى نفر من أصحابه فقاتل، وأصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب، فقال: لا يرى أمير المؤمنين وجهى منهزما أبدا، ولم يزل يقاتل حتى قتل، وانتهى من انهزم من أصحابه إلى عبد الله واحمد ابنى الحرشى، وكانا فى جيش عظيم بقصر اللصوص قد سيّرهما الأمين معونة لعبد الرحمن فانهزما فى جندهما من غير قتال حتى دخلوا بغداد» ، وخلت البلاد لطاهر وأقبل يحوزها بلدة بلدة وكورة كورة، حتى انتهى إلى شلاشان من كور حلوان فخندق بها، وحصّن عسكره وجمع أصحابه.

ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال

ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال قال: وفى سنة ست وتسعين ومائة بعث الأمين أحمد بن مزيد وأمر الفضل أن يمكّنه من العسكر يأخذ منهم من أراد، وأمره بالجدّ فى السير ودفع طاهر وحربه، فاختار من العسكر عشرين ألف فارس، وسار معه عبد الله ابن حميد بن قحطية فى عشرين ألفا وسار بهم إلى حلوان، فلم يزل طاهر يحتال فى وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضا، ورجعوا من غير قتال، وتقدم طاهر فنزل حلوان، فلما نزلها لم يلبث إلا يسيرا حتى اتاه هرثمة، فى جيش من قبل المأمون ومعه كتاب إلى طاهر، يأمره بتسليم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة، ويتوجّه إلى الأهواز ففعل ذلك، وأقام هرثمة بحلوان وحصّنها وسار طاهر إلى الأهواز. وفى هذه السنة خطب للمأمون بإمرة المؤمنين. ورفع منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى التّبت «1» طولا، ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل له عمالة ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذى شعبتين، ولقّبه ذا الرئاستين- رئاسة الحرب والقلم- وحمل اللواء على بن هشام وحمل القلم نعيم بن حازم. وولّى الحسن بن سهل ديوان الخراج، وذلك بعد قتل على بن ماهان وعبد الرحمن بن جبلة. قال: وأما طاهر فإنّه استولى على الأهواز، ثم سار منها إلى واسط وبها السّندى بن يحيى والهيثم بن شعبة، فهربا عنها واستولى طاهر عليها، ووجّه قائدا من قوّاده إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادى، فلما بلغه

ذكر خلع الأمين ببغداد والبيعة للمأمون وعودة الأمين

الخبر خلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلى المأمون، وغلب طاهر على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بن المهدى- وكان عاملا للأمين على البصرة- إلى طاهر ببيعته وطاعته، وأتته بيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل، وكان ذلك كله فى شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة، فأقرّهم طاهر على أعمالهم. قال: ثم سار طاهر إلى المدائن وبها جيش كبير للأمين. عليهم البرمكى وقد تحصّن بها والمدد يأتيه كل يوم والخلع والصلات. فلما سمع البرمكى بمقدم طاهر وجّه قريش بن شبل والحسن «1» ابن على المأمونى، فلما سمع أصحاب البرمكى طبول طاهر سرجوا الخيل ورجعوا، وأخذ البرمكى فى التعبئة فكان كلّما سوّى صفا اضطرب صف «2» وانتقض، فانضم أوّلهم إلى آخرهم، فقال: اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان، ثم قال لصاحب ساقته: خلّ سبيل الناس فلا خبر عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد. فنزل طاهر المدائن واستولى على تلك النواحى، ثم سار «3» إلى صرصر فعقد بها جسرا. ذكر خلع الأمين ببغداد والبيعة للمأمون وعودة الأمين قد قدّمنا إرسال الأمين عبد الملك بن صالح إلى الشام، واستعماله عليها ووفاته بالرقة، وكان معه الحسين بن على بن عيسى بن ماهان، فلما مات عبد الملك أقبل الحسين بالجند إلى بغداد، فلما قدم لقيه القوّاد وأهل بغداد وعملت له القباب ودخل منزله، فلما كان فى جوف الليل استدعاه الأمين. فقال للرسول: ما أنا بمغن ولا مسامر ولا مضاحك، ولا وليت له

ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة

عملا ولا مالا ولأى شىء يريدنى فى هذه الساعة؟! انصرف، وإذا أصبحت غدوت عليه إن شاء الله تعالى، فلما أصبح وافى الحسين باب الجسر واجتمع إليه الناس، فحرّضهم على الأمين وتنقّصه ودعاهم إلى خلعه، ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا وصاروا إلى سكة باب خراسان، وأسرعت خيول الأمين إلى الحسين «1» فقاتلوه قتالا شديدا، فانهزم أصحاب الأمين، فخلع الحسين الأمين فى يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب، وأخذ البيعة للمأمون من الغد يوم الإثنين، فلما كان يوم الثلاثاء وثب العباس ابن موسى بن عيسى بالأمين، وأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور، وأخرج أمّه أيضا معه فجعلها مع ابنها، فلما كان يوم الأربعاء طالب الناس الحسين بالأرزاق، وماجوا بعضهم فى بعض، وقام محمد بن أبى خالد «2» وأسد الحربى وغيرهما فقاتلوا الحسين وأسروه، ودخل أسد على الأمين فكسر قيوده وأعاده الى الخلافة، وحمل اليه الحسين أسيرا فلامه فاعتذر إليه، فأطلقه وأمره بجمع الجند ومحاربة أصحاب المأمون، وخلع عليه وولّاه ما وراء بابه وأمره بالمسير إلى حلوان. فوقف الحسين بباب الجسر والناس يهنئونه. فلما خفوا عنه قطع الجسر وهرب، فنادى الأمين فى الجند بطلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد فقاتلهم فعثر به فرسه فسقط عنه، فقتل وحمل رأسه إلى الأمين، وقيل إن الأمين كان استوزره وسلّم إليه خاتمه فلما قتل جدد الجند البيعة للأمين، واختفى الفضل بن الربيع. ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة وفى هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على الأمين- وهو عامله على مكة والمدينة وبايع للمأمون، وسبب ذلك أنّه لما

بلغه ما فعل طاهر، وكان الأمين قد بعث إلى داود وأخذ الكتابين من الكعبة كما تقدّم فجمع داود وجوه الناس ومن كان شهد فى الكتابين، وقال: قد علمتم ما أخذ الرشيد علينا وعليكم من العهد عند البيت «1» الحرام لابنيه، لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المغدور منهما على الغادر، وقد رأينا ورأيتم «2» أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغى والنكث على أخويه المأمون والمؤتمن، وخلعهما عاصيا لله وبايع لابنه طفل صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما، وقد رأيت خلعه والبيعة للمأمون، إذ كان مظلوما مبغيا عليه، فأجابوه إلى ذلك، فنادى فى شعاب مكة فاجتمع الناس فخطبهم بين الركن والمقام، وخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب إلى ابنه سليمان- وهو عامله على المدينة- أن يفعل مثل ما فعل، فخلع وبايع للمأمون وكانت هذه البيعة فى شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة، وسار داود من مكة على طريق البصرة، ثم إلى فارس وإلى كرمان حتى صار الى المأمون بمرو فأخبره، فسرّ المأمون وتيمّن ببركة مكة والمدينة، واستعمل داود عليهما وأعطاه خمسمائة ألف درهم، وبعث معه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى وجعله على الموسم، فسارا حتى أتيا طاهرا ببغداد فأكرمهما «3» ، ووجّه معهما يزيد بن جرير بن يزيد «4» بن خالد بن عبد الله القسرى واستعمله على اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة فقدمها، ودعا أهلها إلى خلع الأمين والبيعة للمأمون، فأجابوه وخلعوا وبايعوا للمأمون «5» ، فكتب بذلك إلى طاهر والمأمون.

ذكر تجهيز الأمين الجيوش وما كان من أمرهم

ذكر تجهيز الأمين الجيوش وما كان من أمرهم وفى سنة ست وتسعين ومائة عقد محمد الأمين- فى رجب وشعبان أربعمائة لواء لقوّاد شتى، وأمّر عليهم على بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين فساروا إليه فالتقوا بنواحى النّهروان فى شهر رمضان، فأسر على بن محمد فسيّره هرثمة إلى المأمون، ورحل هرثمة فنزل النّهروان. ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين قد قدّمنا نزول طاهر بصرصر عند استيلائه على المدائن، فأقام بها مشمرا فى محاربة الأمين، لا يأتيه جيش إلا هزمه، فبذل الأمين الأموال فسار إليه من أصحاب طاهر خمسة آلاف، فسرّبهم ووعدهم ومنّاهم وفرّق فيهم مالا عظيما، وغلّف لحاهم بالغالية فسمّوا قواد الغالية، وفرّق الأمين الجواسيس فى أصحاب طاهر، ودسّ إلى رؤساء الجند وأطمعهم ورغبهم، فشغبوا على طاهر واستأمن كثير منهم إلى الأمين، وانضموا إلى عسكره وساروا حتى أتوا صرصر، فعبّأ طاهر أصحابه كراديس، وحرّضهم ووعدهم ومناهم وتقدّم بهم، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب الأمين وغنم عسكر طاهر ما كان لهم من سلاح ودواب وغير ذلك، فبلغ ذلك الأمين فأخرج الأموال وفرّقها، وجمع أهل الأرباض وقوّد منهم جماعة وفرق فيهم الأموال، وقواهم بالسلاح وأعطى كل قائد قارورة غالية، ولم يعط الأجناد الذين معهم شيئا، فراسلهم طاهر ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم فشغبوا على الأمين فى ذى الحجة، فأشار أصحابه عليه باستمالتهم والإحسان إليهم فلم يفعل، وأمر بقتالهم فقاتلهم جماعة من الأجناد، وراسلهم طاهر وراسلوه وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة وأعطاهم الأموال، ثم تقدم إلى باب الأنبار فى ذى الحجة، ونقب أهل السجون وخرجوا منها.

ذكر حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها

ذكر حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها فى سنة سبع وتسعين ومائة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب الأمين ببغداد، وتفرّقوا عليها ونصبوا عليها المجانيق والعرّادات، وحفروا حول عساكرهم الخنادق، وسوّر هرثمة حول خندقه سورا، وكان الأمين قد أنفذ ما فى خزائنه من الأموال، فأمر ببيع ما فى الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير «1» ودراهم ليفرّقها فى أصحابه. قال: واستأمن إلى طاهر- سعيد بن مالك بن قادم، فولّاه الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان وأمدّه بالأموال والرجال، وقبض طاهر ضياع من لم يخرج إليه من بنى هاشم والقوّاد وغيرهم، وأخذ أموالهم فذلّوا وانكسروا، وضعف أجناد الأمين عن القتال وطاهر لا يفترّ عن قتالهم، فاستأمن محمد بن عيسى صاحب شرط الأمين وعلى فراهمرد، ثم كاتب طاهر جماعة القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن قبض ضياعهم، فأجابوه إلى البيعة للمأمون، فكان ممن أجابه عبد الله بن حميد بن قحطبة وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة، ويحيى بن على بن ماهان، ومحمد بن أبى العباس «2» الطائى وغيرهم، هذا والأمين مقبل على الأكل والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش، ثم منع طاهر الأقوات أن تصل إلى بغداد فغلت الأسعار، ودام الحصار والقتال على بغداد إلى سنة ثمان وتسعين ومائة، حتى ضجر الناس وملّوا القتال، فلحق خزيمة بن خازم بطاهر وفارق الأمين، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقى لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين فى ليلة الأربعاء، فلما كان الغد تقدّم طاهر إلى المدينة والكرخ، فقاتل هناك قتالا شديدا، فهزم الناس ومرّوا لا يلوون

ذكر مقتل الأمين

على شىء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه فنادى: من لزم بيته فهو آمن، وقصد مدينة المنصور وأحاط بها، وبقصر زبيدة وقصر الخلد- من باب الجسر الى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب الفرات، وشاطئ الفرات إلى مصبّها فى دجلة، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب طاهر المجانيق بإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد، وأخذ الأمين أمّه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرّق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه فى الطريق، لا يلوى بعضهم على بعض، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب. ذكر مقتل الأمين قال: لما دخل الأمين مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرها، جاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وغيرهما، فقالوا للأمين: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد تفرّق عنك الناس، وقد بقى معك من خيلك سبعة «1» آلاف فرس من خيارها، ونرى أن تختار ممن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة «2» آلاف، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا، على باب من هذه الأبواب فلا يثبت لنا أحد إن شاء الله تعالى، فنلحق بالجزيرة والشام فنفرض الفروض ونجبى الخراج، ونصير فى مملكة واسعة وملك جديد، فتسارع إليك الناس ويحدث الله أمورا، فصوّب رأيهم ووافقهم عليه، فنما الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان ابن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسّندى بن شاهك، وأقسم لئن لم تردوه عن هذا الرأى لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لى همة إلا أنفسكم، فدخلوا على الأمين فقالوا: قد بلغنا الذى عزمت عليه، ونحن نذكّرك الله فى نفسك، إن هؤلاء صعاليك وقد بلغ بهم الحصار إلى ما

ترى، وهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك وعند طاهر لجدهم فى الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن تؤخذ أسيرا، أو يأخذوا رأسك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وصرفوه عن ذلك فرجع إليهم، وأجاب الى طلب الأمان والخروج، وقالوا له: إنّه لا بأس عليك من أخيك، وأنّه يجعلك حيث أحببت فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين، فدخل عليه الذين أشاروا عليه بقصد الشام وقالوا له: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة، فقال: أنا أكره طاهرا، وهرثمة مولانا وهو بمنزلة الوالد، وأرسل إلى هرثمة فى طلب الأمان، فأجابه إليه وحلف له أنّه يقاتل دونه- إن همّ المأمون بقتله، فلما علم طاهر ذلك اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة وقال: هو فى حربى «1» والجانب الذى أنا فيه، وأنا ألجأته بالحصار إلى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون الفتح له دونى، فاجتمع القوّاد أصحاب الأمين بطاهر وقالوا: إنّه لا يخرج إليك أبدا، وإنّه يخرج إلى هرثمة ببدنه ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة، فاغتنم هذا الأمر ولا تفسده، فرضى بذلك، فأتى الهرش إلى طاهر وأراد التقرب إليه، فأخبره أنّ الذى جرى بينهم مكر، وأنّ الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه وجعل حول قصر الأمين قوما فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة أرسل إليه هرثمة، يقول: وافيت للميعاد لاحملك، ولكنّى أرى ألا تخرج هذه الليلة، فإنّى قد رأيت على الشط ما قد رابنى، وأخاف أن أغلب وتؤخذ من يدى، وتذهب نفسك ونفسى، فأقم الليلة حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك؛ فقال للرسول: ارجع إليه فقل له لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد، وقلق، وقال «2» : قد تفرّق

عنّى الناس من الموالى والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل علىّ ويأخذنى، وخرج بعد العشاء الآخرة ليلة الأحد، لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، إلى صحن الدار وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدعا بابنيه فضمّهما إليه وقبّلهما وبكى، وقال: استودعكما الله، ثم جاء راكبا إلى الشط فإذا حرّاقة هرثمة فصعد إليها، فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم قال: كنت مع هرثمة فى الحرّاقة، فلما دخلها الأمين قمت له، وجثى هرثمة على ركبتيه واعتذر له من نقرس به، ثم احتضنه هرثمة وضمّه وجعله فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة الحراقة أن تدفع، فشدّ علينا أصحاب طاهر فى الزوارق ونقبوا الحرّاقة، ورموا بالآجر والنشاب فغرقت الحرّاقة، وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا، فتعلّق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنّه شق ثيابه لما سقط فى الماء، قال أحمد بن سلام: وخرجت أنا إلى الشط فأخذنى رجل من أصحاب طاهر، فأتى بى إلى رجل آخر من أصحابه، وأعلمه أنّى من الذين خرجوا من الحرّاقة، فسألنى: من أنا؟ فقلت: أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقنى، قلت: قد صدقتك، قال ما فعل المخلوع، قلت: رأيته قد شق ثيابه فركب، وأخذنى معه أعدو وفى عنقى حيل فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقى فاشتريت نفسى منه بعشرة آلاف درهم، فتركنى فى بيت حتى يقبض المال، وفى البيت بوارى وحصر مدرجة ووسادتان، فلما ذهب من الليل ساعة وإذا الباب قد فتح، وأدخل الأمين وهو عريان وعليه سراويل وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فلما رأيته استرجعت وبكيت فى نفسى، فسألنى عن اسمى فعرّفته، فقال: ضمّنى إليك فإنى أجد وحشة شديدة، قال: فضممته وإذا قلبه يحفق، فقال: يا أحمد- ما فعل أخى. قلت: حىّ، قال: قبّح الله بريدهم!! كان يقول قد مات- شبه المعتذر من محاربته، فقلت: بل قبّح الله

وزراءك، فقال: ما تراهم يصنعون بى؟ أيقتلوننى أم يفون بأيمانهم؟ فقلت: يفون لك، وجعل بضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطّنة «1» كانت علىّ وقلت: ألق هذه عليك، فقال: دعنى فهذا من الله عز وجلّ، فى هذا الموضع خير كثير، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل، فنظر فى وجوهنا فاستثبته «2» ، فلما عرفه انصرف- وإذا هو محمد بن حميد الطاهرى، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول، فلما انتصف الليل فتح الباب ودخل قوم عجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائما وجعل يسترجع ويقول: ذهبت- والله- نفسى فى سبيل الله، أما من مغيث!! أما من من أحد من الأبناء!! وجاءوا حتى وقفوا على باب البيت الذى نحن فيه، وجعل بعضهم يقدّم بعضا ويدفعه، وأخذ الأمين بيده وسادة ويقول: ويحكم!! أنا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنا ابن هارون- أنا أخو المأمون- الله الله فى دمى! فضربه رجل منهم بسيف وقعت فى مقدّم رأسه، فضربه الأمين على وجهة بالوسادة، وأراد أن يأخذ السيف فصاح: قتلنى، قتلنى فدخل جماعة منهم فنخسه واحد بالسيف فى خاصرته، ورموا نفوسهم عليه فذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر، فلما كان السحر أخذوا جثّته فأدرجوها فى جلّ وحملوها، فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد- وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد، ولما قتل بدم جند طاهر وجند بغداد على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر رأسه إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن «3» بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ ذو الرئاستين الرأس وأدخله إلى المأمون على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث طاهر معه بالبردة والقضيب والخاتم ولما قتل

الأمين نودى فى الناس كلهم بالأمان، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة وصلّى بالناس. وحكى عن إبراهيم بن المهدى قال «1» : كنت مع الأمين لما حصره طاهر، فخرج ليلة يريد الفرجة لما هو فيه من الضيق، فصار إلى قصر بناحية الخلد، ثم أرسل إلىّ فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر فى السماء وضوء فى الماء- وكان على شاطئ دجلة- فهل لك فى الشرب؟ فقلت: شأنك، فشرب رطلا وسقانى آخر، ثم غنّيته ما كنت أعلم أنه يحبّه، ثم دعا بجارية اسمها ضعف فتطيّرت من اسمها، فقال لها غنّى فغنّت شعر الجعدى: كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر حزما منك ضرح بالدم فتطيّر من ذلك وقال: غنى غير هذا، فغنّت: أبكى فراقهم عينى فأرقّها ... إن التفرّق للأحباب بكّاء ما زال يغدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء فسبّها، وقال: أما تعرفين من الغناء غير هذا، ثم غنّته: أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك الأبيات الأربعة، فغضب ولعنها فقامت، وكان له قدح من بللّور حسن الصنعة، فعثرت به فكسرته، فقال لى: ويحك يا إبراهيم! ما ترى إلى ما جاءت به هذه الجارية!! والله ما أظن أمرى إلا قد قرب، فقلت: يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوّك، فما استتمّ الكلام حتى سمعنا صوتا قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «2» ، فقال يا إبراهيم: أما سمعت ما سمعت!! قلت ما سمعت شيئا، فقتل بعد ليلة أو ليلتين.

ذكر صفة الأمين وعمره ومدة خلافته وشىء من أخباره

ذكر صفة الأمين وعمره ومدة خلافته وشىء من أخباره كان الأمين طويلا أبيض سمينا جميلا صغير العينين أقنى عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين؛ وكان عمرة ثمانيا وعشرين سنة وشهورا؛ ومدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام وقيل سبعة أشهر وثمانية عشر يوما؛ وكان له من الأولاد موسى، وعبد الله، وإبراهيم. ونقش خاتمه: محمد واثق بالله؛ وزراؤه: الفضل بن الرّبيع إلى أن هرب بعد فساد حال الأمين، فوزر له إبراهيم بن صبيح وغيره؛ حاجبه: العباس بن الفضل بن الربيع؛ قضاته: وهب بن وهب، ومحمد بن سماعة؛ الأمراء بمصر الحسن بن البحباح «1» ثم حاتم بن هرثمة بن أعين ثم جابر بن الأشعث؛ قاضيها «2» هاشم بن أبى بكر بن عبد الرحمن من ولد أبى بكر الصديق رضى الله عنه. قال: وكان الأمين ضعيف الرأى شديد القوى، حكى «3» عنه أنّه أحضر إليه أسد فى قفص حديد، فأمر بفتح القفص فوثب الأسد، فتفرق الغلمان، وانفرد بالأمين فوثب الأسد عليه، فعمد إلى مرفقة «4» تلقّاه «5» بها لحمايته، ثم قبض على أصل أذنيه وهزّه فسقط الأسد ميتا، وزاغت أكتاف «6» الأمين فأحضر الأطباء، فأعادوها إلى مكانها، وانفقأت مرارة الأسد فى جوفه «7» ، وقيل بل حاد عن الأسد حتى تجاوزه، ثم قبض على

ذكر خلافة المأمون

ذنبه وجذبه جذبة أقعى لها الأسد، وانقطع ظهره فمات، وزاغت أنامل الأمين عن منابتها. قال: ولما استقرت للأمين استكثر من الخصيان وغالى فى ثمنهم، وصّيرهم لخلوته فى ليله ونهاره- وسمّى البيض منهم الجراديّة والحبشان والغرابية حتى رمى بهم، وقيل فيه الأشعار، وأخضر الملهين «1» من جميع البلدان وأجرى عليهم الأرزاق واحتجب عن الناس. ذكر خلافة المأمون هو أبو العباس- وقيل أبو جعفر- عبد الله بن هارون الرشيد، وأمه مراجل أم ولد، بويع له البيعة العامة ضبيحة الليلة التى قتل فيها الأمين، وهو يوم الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان هو بمرو. وهو السابع من خلفاء بنى العباس وقد تقدم من أخباره وأخبار عساكره، والبيعة له بمكة والمدينة وخراسان وغيرها من الأمصار، مالا يحتاج إلى إعادته، إلا أنّ تلك المدة لا تعد خلافة مع بقاء الأمين. قال: ولما وصل رأسة إلى المأمون- كما ذكرنا- أذن للقوّاد، وقرأ ذو الرئاستين الفضل بن سهل الكتاب عليهم فهنّأوه بالظفر، وكتب إلى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد فخلعاه فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائة، وعامل المأمون أمّ جعفر زبيدة بنت جعفر- أم الأمين- بالإكرام والبر والتلطف، ورتب لها فى كل سنة مائة «2» ألف درهم جددا، يحملها إليها ويتعاهد زيارتها. حكى» أبو الفرج الأصفهانى أن المأمون أغفل حمل المال إليها فى

ذكر وثوب الجند بطاهر

بعض السنين، فتقدمت إلى أبى العتاهية أن يعمل أبياتا تذكره بها فقال: زعموا «1» لى أنّ فى ضرب السنه ... جددا بيضا وصفرا حسنه سككا قد أحدثت لم أرها ... مثلما كنت أرى كل سنه فلما قرأ المأمون الشعر قال: إنا لله- أغفلناها وتقدم يحمل ذلك إليها؛ قال: قال مخارق: ظهر لأم جعفر من المأمون جفاء، فبعث إلى بأبيات أمرتنى أن أغنيه بها إذا رأيته نشيطا وأسنت لى الجائزة وكان كاتبها جعفر بن الفضل، قال الأبيات هى: ألا إنّ صرف «2» الدهر يدنى ويبعد ... ويؤنس بالألّاف طورا ويفقد أصابت لريب الدهر منّى يدى يدى ... فسّلمت للأقدار والله أحمد وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد الله لى يد إذا بقى المأمون لى فالرشيد لى ... ولى جعفر لم يفقدا ومحمد قال مخارق: ففعلت، فسألنى المأمون عن الخبر فعرفته فبكى، ورق لها وقام لوقته فدخل عليها، فقبل رأسها وقبلت يده، وقال لها: يا أمّه، ما جفوتك تعمدا ولكنى شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله، فقالت: يأمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشنى «3» ، وأتم عندها بقية يومه. نعود إلى سياق أخبار المأمون على حكم التوالى. ذكر وثوب الجند بطاهر قال: ووثب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين بخمسة أيام، وكان سبب ذلك أنهم طلبوا منه مالا، فلم يكن معه شىء فثاروا به، فظن أن ذلك

ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلى على المأمون

بمواطأة الجند وأهل الأرباض، وأنهم معهم عليه فخشى على نفسه وهرب إلى عقرقوف «1» ، ونهبوا بعض متاعه، وخرج معهم جماعة من القواد، ثم خرج إليه القواد الذين تخلّفوا وأعيان أهل المدينة، واعتذروا إليه وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم، فقال طاهر: ما خرجت عنكم إلا لوضع السيف فيكم، وأقسم بالله عز وجل لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيى فيكم، ثم شكرهم وأمر لهم بأرزاق أربعة أشهر ووضعت الحرب أوزارها واستوثق الأمر للمأمون. ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلى على المأمون فى هذه السنة أظهر نصر الخلاف على المأمون، وكان يسكن كيسوم ناحية شمالى حلب، وكان فى عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى، فلما قتل الأمين أظهر الغضب وتغلّب على ما جاوره من البلاد وملك سميساط، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقى وحدثته نفسه بالتغلب عليه، وكثرت جموعه وحصر حرّان فى سنة تسع وتسعين ومائة، فأتاة نفر من شيعة الطالبيين فقالوا: قد وترت بنى العباس وقتلت رجالهم وأغلقت عنهم المغرب «2» ، فلو تابعت لخليفة كان أقوى، فقال: من أى الناس؟ فقالوا: نبايع لبعض آل على بن أبى طالب، فقال: أبايع أولاد السوداوات!! فقالوا: بايع لبعض بنى أمية، فقال: أولئك قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدا، وإنما هواى فى بنى العباسى: وإنما حاربتهم محاماة للعرب لأنّهم يقدمون عليهم العجم. قال: ودام أمره إلى سنة تسع ومائتين، حاصره عبد الله بن طاهر

ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد

بحصن كيسوم مدة، ثم خرج إليه بالأمان فبعثه إلى المأمون، فوصل إليه فى صفر سنة عشر ومائتين، وهدم عبد الله حصن كيسوم. ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد وفى هذه السنة استعمل المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما كان؟؟؟ افتتحه طاهر، من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، وكتب إلى طاهر بتسليم ذلك إليه، فقدم الحسن بين يديه على بن أبى «1» سعيد فدافعه طاهر بتسليم الخراج إليه حتى وفّى الجند أرزاقهم، وسلّم إليه العمل، وقدم الحسن سنة تسع وتسعين ففرق العمال، وأمر طاهرا أن يسير إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث، وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فسار طاهر إلى نصر والتقوا بنواحى كيسوم، واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه لشبث، وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة، وكان قصارى أمره حفظ تلك النواحى من نصر. وحج بالناس فى هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى. ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة ذكر ظهور ابن طباطبا العلوى ووفاته وخبر أبى السرايا فى هذه السنة ظهر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب- وهو المعروف بابن طباطبا- بالكوفة، لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم والعمل بالكتاب والسنة، وكان القيّم بأمره فى الحرب أبو السّرايا السّرى بن منصور الشيبانى، وكان سبب خروجه أن المأمون لما صرف طاهرا ووجّه

الحسن بن سهل إلى الأعمال التى ذكرناها تحدث الناس بالعراق، أن الفضل ابن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته وأولاده وقوّاده، وأنه يستبد بالأمور دونه، فغضب لذلك بنو هاشم ووجوه الناس، واجترءا على الحسن بن سهل وهاجت الفتن فى الأمصار، فكان أوّل من ظهر ابن طباطبا بالكوفة، وكان سبب اجتماع ابن طباطبا بأبى السرايا أن أبا السرايا كان يكرى الحمير ثم قوى أمره فجمع نفرا فقتل رجلا من بنى تميم بالجزيرة وأخذ ما معه، فطلب فاختفى وعبر الفرات إلى الجانب الشرقى، فكان يقطع الطريق بتلك الناحية، ثم لحق بأسد «1» بن زيد بن مزيد الشيبانى بأرمينية ومعه ثلاثون فارسا، فقوّده فجعل يقاتل معه الخرميّة فأثر فيهم، وقتل وأخذ منهم غلامه أبا الشوك، فلما عزل أسد عن أرمينية صار أبو السرايا إلى أحمد بن مزيد، فوجّه أحمد طليعة إلى عسكر هرثمة فى فتنة الأمين، واشتهرت شجاعته فراسله هرثمة واستماله فمال إليه، وانتقل إلى عسكره وقصد العرب بالجزيرة، واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة، فصار معه نحو ألفى فارس وراجل، فصار يخاطب بالأمير، فلما قتل الأمين قصّر «2» هرثمة فى أرزاقه وأرزاق من معه، فاستأذنه فى الحج فأذن له وأعطاه عشرين الف درهم، ففرّقها فى أصحابه ومضى وقال لهم: اتبعونى متفرقين، ففعلوا واجتمع معه منهم نحو مائتى فارس، فسار بهم إلى عين التمر وحصر عاملها، وأخذ ما عنده من المال فقسمه فى أصحابة، وسار فلقى عاملا آخر ومعه مال على ثلاثة بغال فأخذها، وسار فلحقه عسكر بعثه هرثمة خلفه فقاتلهم وهزمهم، ودخل البرّية وقسم المال فى أصحابه وانتشر خبره فلحق به من تخلف عنه من أصحابه وغيرهم وكثر جمعه فسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة

العجلى فى سبعمائة فارس، فخرج إليه واقتتلوا فهزمه أبو السرايا وحصره بقصر دقوقا وأخرجه بأمان، وأخذ ما عنده من الأموال وسار إلى الأنبار، وعليها إبراهيم السّروى «1» مولى المنصور فقتله وأخذ ما فيها وسار، ثم عاد إليها عند إدراك الغلال فاحتوى عليها، ثم ضجر من طول السرى فى البلاد فقصد الرقة، فمرّ بطوق بن مالك التّغلبى وهو يقاتل القيسيّة، فأعانه وقاتل معه أربعة أشهر حتى ظفر طوق، ثم سار عنه إلى الرقة، فلما وصلها لقيه ابن طباطبا فبايعه، وقال له: انحدر أنت فى الماء وأسير أنا على البرّ حتى نوافى الكوفة فدخلاها، وأبتدأ أبو السرايا بقصر العباس بن موسى بن عيسى، وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر- وكان عظيما لا يحصى كثرة، فبايعهم أهل الكوفة واستوثق أمرهما بها، وأتاه الناس من نواحى الكوفة والأعراب فبايعوه- أعنى ابن طباطبا، وكان العامل عليها للحسن بن سهل- سليمان بن المنصور، فلامه الحسن ووجّه زهير بن المسيّب الضبى إلى الكوفة فى عشرة آلاف فارس وراجل، فخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه، واستباحوا عسكره وكانت الوقعة فى سلخ جمادى الآخرة، فلما كان الغد مستهل رجب مات محمد بن إبراهيم ابن طباطبا فجأة سمّه أبو السرايا، وكان سبب ذلك أنه لما غنم ما فى عسكر زهير منع عنه أبا السرايا، وكان الناس له سامعين مطيعين، فعلم أبو السرايا أنّه لا حكم له معه، فسّمه ونصب مكانه غلاما أمرد، يقال له محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وصار الحكم لأبى السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة ووجّه الحسن بن سهل- عبدوس بن محمد بن

أبى خالد المزوروذى فى أربعة آلاف فارس، فلقيه أبو السرايا لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رجب، فقتل عبدوسا ولم يفلت من أصحابه أحد- كانوا بين قتيل وأسير، وأنتشر الطالبيون فى البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، وسيّر جيوشه إلى البصرة وواسط ونواحيها، فولى البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفرى، وولّى مكة الحسين «1» بن الحسن بن على ابن الحسين بن على- الذى يقال له الأفطس- وجعل إليه الموسم، وولّى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وولّى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر، وولّى الأهواز زيد «2» بن موسى بن جعفر فسار إليه البصرة، وغلب عليها وأخرج عنها العباس بن محمد الجعفرى ووليها مع الأهواز، ووجّه أبو السرايا- محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن «3» بن على بن أبى طالب إلى المدائن وأمره أن يأتى بغداد من الجانب الشرقى، فأتى المدائن وأقام بها وهزم أصحاب الحسن إلى بغداد، فلما رأى الحسن بن سهل أن عسكره لا يثبت لعسكر أبى السرايا أرسل إلى هرثمة يستدعيه، وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا للحسن، فحضر إليه بعد امتناع وسار إلى الكوفة فى شعبان، وسيّر الحسن إلى المدائن وواسط على بن أبى سعيد الحرشى، فوجّه أبو السرايا إليها جيشا فدخل جيشه المدائن فى شهر رمضان، وتقدّم هو حتى نزل بنهر صرصر، وجاء هرثمة فعسكر بإزائه بينهما النهر، وسار على بن أبى سعيد فى شوال إلى المدائن، فقاتل أصحاب أبى السرايا وهزمهم واستولى عليها، فبلغ الخبر أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة،

ذكر هرب أبى السرايا وقتله

وسار هرثمة فى طلبه، فوجد جماعة من أصحابه فقتلهم، ووجّه برءوسهم إلى الحسن، ونازل هرثمة أبا السريا وكانت بينهم وقعة. قتل فيها جماعة من أصحاب أبى السرايا. وانحاز إلى الكوفة ووثب من معه من الطالبيين على دور بنى العباس ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وخرّبوا ضياعهم، وأخرجوهم من الكوفة وعملوا أعمالا قبيحة، واستخرجوا الودائع التى كانت لهم عند الناس. ذكر هرب أبى السرايا وقتله قال: ولما انحاز أبو السرايا إلى الكوفة حاصره بها هرثمة، وقاتله ولازم قتاله فخرج أبو السرايا من الكوفة فى ثمانمائة فارس، ومعه محمد بن محمد بن زيد، ودخلها هرثمة فأمّن أهلها ولم يعرض إليهم، وكان هرثمة فى سادس عشر المحرم سنة مائتين فأتى القادسيّة، وسار منها إلى السّوس بخوزستان. فلقى مالا قد حمل من الأهواز فأخذه وقسمه بين أصحابه، فأتاه الحسن بن على المأمونى، فأمره بالخروج من عمله وكره قتاله، فأبى أبو السرايا إلا قتاله فقاتله، فهزمه المأمونى وخرج وتفّرق أصحابه، وسار هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك نحو منزل أبى السرايا برأس عين، فلما انتهوا إلى جلولاء ظفر بهم حماد الكندغوش فأخذهم، وأنتهى بهم إلى الحسن بن سهل وهو بالنهروان، فقتل أبا السرايا وبعث رأسه إلى المأمون، ونصب جثته على جسر بغداد، وسيّر محمد بن محمد إلى المأمون. وأما هرثمة فأقام بالكوفة يوما واحدا وعاد منها، واستخلف بها غسّان بن أبى الفرج، وسار على بن أبى سعيد إلى البصرة فأخذها من العلويين، وكان بها زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن

ودخلت سنة مائتين

على بن الحسين بن على «1» وهو الذى يسمى زيد النار، وإنما سمى بذلك لما أحرق بالبصرة من دور العباسيين وأتباعهم، وكان إذا أتى برجل من المسودة أحرقه، وأخذ أموالا كثيرة من التجار، فلما وصل علىّ إلى البصرة استأمنه زيد فأمّنه، وبعث إلى مكة والمدينة جيشا وأمرهم بمحاربة من بها من العلويين. وكان بين خروج أبى السرايا وقتله عشرة أشهر. نعود لمساق السنين. ودخلت سنة مائتين فى هذه السنة كان ظهور إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد وكان بمكة، فلما بلغه خبر أبى السرايا وما كان منه سار إلى اليمن، وبها إسحاق بن موسى بن عيسى عاملا للمأمون، فلما بلغه قرب إبراهيم من صنعاء سار نحو مكة، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزّار لكثرة من قتل باليمن وسبى وأخذ الأموال، ثم وجّه رجلا من ولد عقيل بن أبى طالب فى جند «2» ليحج بالناس، فسار العقيلى حتى أتى بستان ابن عامر، فلبغه أن أبا إسحاق المعتصم قد حجّ فى جماعة من القواد، وفيهم حمدويه بن على بن عيسى بن ماهان- وكان الحسن بن سهل قد استعمله على اليمن، فعلم العقيلى أنّه لا يقوى «3» لهم فأقام ببستان ابن عامر، فاجتازت قافلة من الحاج ومعهم كسوة الكعبة وطيبها، فأخذوا أموال التجار والكسوة والطيب. وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين، فاستشار المعتصم أصحابه فقال الجلودى: أنا أكفيك ذلك، فانتخب مائة رجل وسار بهم إلى العقيلى، وقاتلهم فانهزم

ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة ومبايعة محمد بن جعفر وما كان من أمره وخلعه لنفسه

أصحاب العقيلى وأسر أكثرهم، وأخذوا كسوة الكعبة وأموال التجار إلا ما كان مع من هرب، وضرب الأسرى كل واحد عشرة أسواط وأطلقهم. فرجعوا إلى اليمن يستطعمون الناس، فهلك أكثرهم فى الطريق. ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة ومبايعة محمد بن جعفر وما كان من أمره وخلعه لنفسه قد ذكرنا أن أبا السرايا كان قد بعث الحسين بن الحسن الأفطس إلى مكة فى سنة تسع وتسعين ومائة لما ظهر أمره، فدخل مكة فلما كان فى المحرم من هذه السنة نزع الحسين كسوة الكعبة. وكساها كسوة أخرى كان قد أنفذها أبو السرايا من الكوفة من القز. قال: وتتبع الحسين ودائع بنى العباس وأخذ أموال الناس بحجة الودائع، فهرب الناس منه وتطرق أصحابه إلى قلع شبابيك الحرم، وأخذ ما على الأساطين من الذهب- وهو نزر حقير. وأخذ ما فى خزانة الكعبة فقسمه مع كسوتها فى أصحابه. فلما بلغه قتل أبى السرايا. ورأى تغيّر الناس عليه لسوء سيرته وسيرة أصحابة. فأتى هو وأصحابة إلى محمد بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على، وكان شيخا محبّبا فى الناس مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة. وكان يروى والعلم عن أبيه ويكتبه الناس عنه ويظهر الزهد. فلما أتوه قالوا: تعلم منزلتك من الناس فهلم نبايعك بالخلافة، فإن فعلت لم يختلف عليك رجلان، فامتنع من ذلك فلم يزل به ابنه علىّ وحسين بن الحسن الأفطس حتى غلباه على رأيه. فأجابهم فأقاموه فى شهر ربيع الأول وبايعوه بالخلافة. وجمعوا له الناس فبايعوه طوعا وكرها ونعتوه بأمير المؤمنين. فبقى شهورا وليس له من الأمر شىء. وابنه علىّ وحسين بن حسن وجماعتهما أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح

فعلا، فوثب حسين بن حسن على امرأة من بنى فهر كانت جميلة، وأرادها على نفسها فامتنعت، وأخاف زوجها وهو من بنى مخزوم حتى توارى عنه، ثم كسر باب دارها وأخذها مدة ثم هربت منه، ووثب على بن محمد بن جعفر على غلام أمرد- وهو ابن قاضى مكة اسمه إسحاق بن محمد، وكان جميلا فأخذه قهرا، فاجتمع أهل مكة ومن بها من المجاورين فصاروا فى جمع كبير، فأتوا محمد بن جعفر وقالوا: لنخلعنّك ولنقتلنّك أو لتردن علينا هذا الغلام، فأغلق بابه وكلّمهم من شباك، وطلب منهم الأمان ليركب إلى ابنه ويأخذ منه الغلام، وحلف أنّه لم يعلم به، فأمّنوه فركب إلى ابنه وأخذه منه وردّه إلى أبيه، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسى من اليمن، فنزل المشاش فاجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر وأعلموه ذلك، وحفرو خندقا وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم، فقاتلهم إسحاق ثم كره القتال فسار نحو العراق، فلقيهم الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة، ومعهم الجلودى ورجاء بن جميل فردّوه معهم، فقاتلوا الطالبيين فهزموهم، فطلب محمد بن جعفر الأمان فأمّنوه، ودخل العباسيون مكة فى جمادى الآخرة وتفّرق الطالبيون من مكة، وأما محمد بن جعفر فسار نحو الجحفة، فأدركه بعض موالى بنى العباس فأخذ جميع ما معه، وأعطاه دريهمات يتوصل بها، فسار نحو بلاد جهينة فجمع بها وقاتل هارون بن المسيّب والى المدينة عند الشجرة وغيرها، عدة وقعات فانهزم محمد وفقئت عينه بسهم، وقتل من أصحابه بشر كثير ورجع إلى موضعه، فلما انقضى الموسم طلب الأمان من الجلودى ومن رجاء بن جميل- وهو ابن عم الفضل ابن سهل فأمّناه، وضمن له رجاء عن المأمون وعن الفضل الوفاء بالأمان، فقبل ذلك وأتى مكة لعشر بقين من ذى الحجة، فخطب الناس وقال إننى

ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله

كان بلغنى أن المأمون مات، وكانت له فى عنقى بيعة، وكانت فتنة عمت الأرض، فبايعنى الناس، ثم إنه صحّ عندى أن المأمون حىّ صحيح وانا أستغفر الله من البيعة وقد خلعت نفسى من بيعتى التى بايعتمونى عليها- كما خلعت خاتمى هذا من أصبعى، فلا بيعة لى فى رقابكم. ثم سار فى سنة إحدى ومائتين إلى العراق، فسيّره الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو، فلما سار المأمون إلى العراق صحبه فمات بجرجان. ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله قال: فلما فرغ هرثمة من أمر أبى السرايا رجع ولم يأت الحسن بن سهل، وسار إلى خراسان فأتته كتب المأمون فى غير موضع، أن يأتى إلى الشام والحجاز، فقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالا منه عليه ولما يعرف من نصيحته له ولآبائه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأنه لا يدع المأمون حتى ينتقل إلى بغداد ليتوسط سلطانه، فعلم الفضل بذلك فعاجله بالتدبير عليه، وقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل «1» عليك البلاد والعباد، ودسّ أبا السرايا- وهو من جنده- ولو أراد لم يفعل ذلك، وقد كتب إليه عدة كتب ليرجع إلى الشام والحجاز فلم يفعل، وقد جاء مشاقا وإن أطلق كان هذا مفسدة لغيره، فتغير غلب المأمون وأبطأ هرثمة إلى ذى القعدة، فلما بلغ مروخشى أن يكتم قدومه عن المأمون، فأمر بالطبول فضربت لكى يسمعها المأمون فسمعها، فقال: ما هذا!!! قال: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين، ووضعت أبا السرايا ولو شئت أن تأخذهم جميعا لفعلت، فذهب هرثمة يتكلم ويعتذر،

ذكر وثوب الحربية ببغداد

فلم يقبل قوله وأمر به فديس بطنه، وضرب أنفه وسحب من يديه وحمل إلى الحبس، فمكث أياما ثم دسّوا عليه من قتله وقالوا مات. ذكر وثوب الحربيّة ببغداد وفى هذه السنة كان الشغب ببغداد بين الحربيّة والحسن بن سهل، وسبب ذلك أن الحسن بن سهل كان بالمدائن لما شخص هرثمة إلى المأمون. فلما بلغ أهل بغداد ما صنعه المأمون بهرثمة بعث الحسن بن سهل إلى على بن هشام- وهو والى بغداد من قبله- أن امطل الجند من الحربيّة أرزاقهم. وكانت الحربيّة قبل ذلك قد وثبوا وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن وعماله عن بغداد فطردوهم. وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدى «1» خليفة للمأمون ببغداد. واجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به. فدسّ الحسن إليهم وكاتب قوّادهم. حتى شغبوا من جانب عسكر المهدى «2» ، فحوّل الحربيّة إسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وجاء زهير بن المسيّب فنزل فى عسكر المهدى. وبعث الحسن بن سهل على بن هشام فى الجانب الآخر هو ومحمد بن أبى خالد. فدخلوا بغداد فى شعبان. وقاتل الحربيّه ثلاثة أيام على قنطرة الصراة، ثم وعدهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلّة، فسألوه تعجيل خمسين درهما لكل رجل منهم ينفقونها فى شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك وجعل يعطيهم، ثم هرب على بن هشام بعد جمعة من الحربية ونزل بصرصر، لأنه لم يف بالعطاء، وقام بأمر الحربيّة محمد بن أبى خالد لأن على ابن هشام كان يستخف به، فغضب من ذلك وتحول إلى الحربية وهزموا على

ودخلت سنة إحدى ومائتين.

بن هشام من صرصر، وقيل: كان السبب فى شغبهم أن الحسن بن سهل جلد عبد الله بن ماهان «1» الحد، فغضب الحربيّة وخرجوا. وحج بالناس فى هذه السنة المعتصم. ودخلت سنة إحدى ومائتين. ذكر ولاية منصور بن المهدى بغداد فى هذه السنة أراد أهل بغداد أن يبايعوا المنصور بن المهدى بالخلافة، فامتنع من ذلك فأرادوه على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك، وكان سبب ذلك أن أهل بغداد- لما أخرجوا على بن هشام من بغداد واتصل حين إخراجه بالحسن سهل سار من المدائن إلى واسط، وذلك فى أول هذه السنة، فاتبعه محمد بن أبى خالد مخالفا له، وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة بالجانب الغربى ونصر بن حمزة بن مالك بالجانب الشرقى، وكان ببغداد منصور بن المهدى والفضل بن الربيع وخزيمة بن خازم، وكان الفضل بن الربيع مختفيا كما تقدم إلى الآن، فلما رأى محمدا قد بلغ واسط طلب منه الأمان فأمّنه، وظهر الفضل وسار محمد بن أبى خالد إلى الحسن على تعبئة، وقد تحوّل الحسن عن واسط، فوجّه إليه الحسن بن سهل قواده وجنده، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب محمد بعد العصر، وثبت هو حتى جرح جراحات شديدة، وانهزموا هزيمة قبيحة وقتل منهم كثير، وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأول، ثم أتاه الحسن بن سهل واقتتلوا، حتى جنّهم الليل فرحل محمد وأصحابه ثم التقوا واقتتلوا «2» مرة ثانية إلى الليل، فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبو

ذكر البيعة بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا

زنبيل «1» إلى بغداد، وخلف عسكره لست خلون من ربيع الآخر، ومات محمد ابن أبى خالد فدفن فى داره سرا، وأتى أبو زنبيل خزيمة بن خازم فأعلمه وفاة أبيه، فأعلم حزيمة الناس وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد إليه، أنه قام بأمر الحرب مقام أبيه، ثم كان بين الحسن وبين أولاد محمد بن أبى خالد وقعات، وانتصر فيها أصحاب الحسن عليهم وهزموهم مرة بعد أخرى. قال: ولما مات محمد قال بنو هاشم والقواد نصيّر «2» منا خليفة ونخلع المأمون، ثم أتاهم خبر هزيمة «3» أولاد محمد فجدّوا فى ذلك، وأرادوا منصور بن المهدى على الخلافة فأبى، فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسى ابن المجوسى الحسن بن سهل، وقال المنصور: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم، أو يولّى من أحب فرضى به الناس، وعسكر بكلواذى. ذكر البيعة بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا فى هذه السنة جعل المأمون على بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن أبى طالب رضى الله عنه ولى عهد المسلمين، والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمر جنده بطرح السّواد ولبس الخضرة وكتب بذلك إلى سائر الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، فتكلم بنو العباس فى ذلك وقال بعضهم لا نرضاه، وتكلموا فى خلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدى، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر فتح جبال طبرستان وأسر ملك الديلم

ذكر فتح جبال طبرستان وأسر ملك الدّيلم فى هذه السنة افتتح عبد الله بن خرّداذبه- والى طبرستان- البلازر «1» والشيزر من بلاد الديلم، وافتتح طبرستان وأنزل شهريار بن شروين عنها، وأسر أبا ليلى ملك الديلم. وحج بالناس فى هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على «2» العباسى. ودخلت سنة اثنتين ومائتين. ذكر بيعة إبراهيم بن المهدى ببغداد وخلع المأمون فى هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى ولقبوه المبارك، وخلعوا المأمون وذلك فى أول المحرم، وقيل لخمس مضين من، وبايعه سائر بنى هاشم، وكان المتولى لأمر البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك، وكان سبب ذلك ما ذكرناه، من إنكار الناس ولاية الحسن بن سهل والبيعة لعلى ابن موسى، فوضع العباسيون رجلا فى يوم جمعة يقول: إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم، ووضعوا من يجيبه: إنّا لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدى ومن بعده لإسحاق بن موسى الهادى وتخلعوا المأمون «3» ، ففعلوا ذلك فلم يصّل الناس جمعة وتفرّقوا لليلتين بقيتا من ذى الحجة، ثم خلعوا المأمون وبايعوا لإبراهيم، وكان الذى سعى فى هذا الأمر السندى وصالح صاحب المصلى ونصير «4» الوصيف وغيرهم، فلما فرغوا من

ذكر أخبار إبراهيم بن المهدى وما استولى عليه من الأماكن وما كان من أمره إلى أن خلع واستتر - ذكر استيلائه على قصر ابن هبيرة والكوفة

البيعة وعد الجند رزق ستة أشهر، ودافعهم بها فشغبوا فأعطاهم لكل رجل مائتى درهم، وكتب لبعضهم على السواد بقيمة مالهم حنطة وشعيرا، فخرجوا فى قبضها فانتهبوا الجميع، وأخذوا نصيب السلطان وأهل السواد. واستولى «1» على الكوفة والسواد جميعه وعسكر بالمدائن. واستعمل على الجانب الغربى من بغداد العباس بن موسى الهادى وعلى الجانب الشرقى منها إسحاق بن موسى «2» الهادى. ذكر أخبار إبراهيم بن المهدى وما استولى عليه من الأماكن وما كان من أمره إلى أن خلع واستتر- ذكر استيلائه على قصر ابن هبيرة والكوفة قال: وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل، ومعه من القواد سعيد بن الساجور وأبو البط وغسّان بن أبى الفرج «3» ومحمد بن إبراهيم الإفريقى وغيرهم، وكاتبوا إبراهيم على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة، وكانوا قد انحرفوا عن حميد، وكتبوا إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميدا يكاتب إبراهيم، وكتب حميد فيهم بمثل ذلك، فاستقدم الحسن حميد بن عبد الحميد فامتنع، وخاف- إن هو سار إليه- سلّم القواد ماله وعسكره إلى إبراهيم، فألح الحسن عليه بالطلب فسار إليه فى شهر ربيع الآخر، فكتب القواد إلى إبراهيم لينفذ إليهم عيسى بن محمد بن أبى

خالد، فوجّه إليهم عيسى فانتهبوا ما فى عسكر حميد، فكان مما أخذوا له مائة بدرة، وأخذ ابن حميد جوارى أبيه وسار إليه وهو بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فعاد الحسن إلى الكوفة فأخذ أموالها، واستعمل عليها العباس بن موسى بن جعفر العلوى، وأمره أن يدعو لأخيه على بن موسى بعد المأمون، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له: قاتل عن أخيك وأنا معك، فوجه إبراهيم إلى الكوفة سعيد بن الساجور وأبا البط لقتال العباس بن موسى، وكان العباس قد دعا أهل الكوفة فأجابه بعضهم، وأما الغلاة «1» من الشيعة فقالوا: إن كنت تدعو لأخيك وحده فنحن معك، وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه، فقال: إنما أدعو للمأمون وبعده لأخى، فقعدوا عنه؛ فلما أتاه سعيد وأبو البط نزلوا قرية شاهى، بعث إليهم العباس ابن عمه على بن محمد بن جعفر- وهو ابن الذى كان قد بويع له بمكة- وبعث معه جماعة، فاقتتلوا ساعة فانهزم العلوى وأهل الكوفة، ونزل سعيد وأصحابه الحيرة، وكان ذلك فى ثانى جمادى الآخرة، ثم تقدموا فقاتلوا أهل الكوفة، وخرج إليهم شيعة بنى العباس ومواليهم فاقتتلوا إلى الليل، وكان شعارهم: يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد وعلى أهل الكوفة الخضرة، ثم اقتتلوا من الغد فسأل رؤساء الكوفة سعيد بن الساجور الأمان للعباس وأصحابه فأمّنهم، على أن يخرجوا من الكوفة فأجابوا إلى ذلك، وأتوا العباس فأعلموه فقبل منهم وتحول عن داره، ثم شغب أصحابه على من بقى من أصحاب سعيد وقاتلوهم، فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق، ونهب أصحاب العباس دور عيسى بن موسى، وأحرقوا وقتلوا من ظفروا به، فأرسل العباسيون إلى سعيد بالحيرة يخبرونه أن العباس بن موسى قد رجع عن الأمان، فركب سعيد وأصحابه وأتوا الكوفة عتمة فقتلوا من ظفروا به ممن انتهب، ومكثوا عامة

ذكر خلع إبراهيم بن المهدى

الليل، فخرج إليهم رؤساء الكوفة فأعلموهم أن هذا فعل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن الأمان فانصرفوا عنهم، فلما كان الغد دخلها سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان ولم يعرضوا لأحد، وولّوا الكوفة الفضل بن محمد بن «1» الصباح الكندى، ثم عزلوه لميله إلى أهل بلده، واستعملوا غسان بن أبى الفرج ثم عزلوه، واستعملوا الهول ابن أخى سعيد، فلم يزل عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد فهرب، ودام أمر إبراهيم بن المهدى إلى سنة ثلاث ومائتين ثم خلع. ذكر خلع إبراهيم بن المهدى وفى سنة ثلاث ومائتين خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى، وكان سبب ذلك أنه قبض على عيسى بن محمد بن أبى خالد، لأنه كان يكاتب حميد بن عبد الحميد والحسن بن سهل، ويظهر لإبراهيم الطاعة، وكان إبراهيم يأمره بالخروج لقتال حميد فيعتذر، أن الجند يطلبون أرزاقهم ومرة يقول حتى تدرك الغلة، إلى أن توثق عيسى من الجيش وفارقهم «2» على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدى فى يوم الجمعة سلخ شوال، فجاء هارون بن محمد أخو عيسى فأعلم إبراهيم بذلك، وجاء عيسى إلى باب الجسر فقال للناس: إنى قد سألت حميد بن عبد الحميد أن لا يدخل عملى ولا أدخل عمله، ثم أمر بحفر خندق بباب الجسر وباب الشام، وبلغ إبراهيم قوله وفعله، وكان عيسى قد سأل إبراهيم أن يصلى الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك ثم حذّر إبراهيم وأرسل إلى عيسى يستدعيه، فاعتلّ عليه فتابع رسله إليه فحضر عنده بالرصافة، فلما دخل عليه عاتبه ساعة وعيسى يعتذر وينكر

بعض ذلك، ثم أمر به إبراهيم فضرب وحبس، وأخذ عدة من قوادة وأهله فحبسهم، ونجا بعضهم ومضى بعض من نجا إلى بعض، وحرّضوا الناس على إبراهيم، وكان أشدهم العباس- خليفة عيسى- فاجتمعوا وطردوا عامل إبراهيم على الجسر والكرخ وغيره، وكتب العباس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم، حتى يسلّموا إليه بغداد، فسار حميد حتى أتى نهر صرصر، وخرج إليه العباس وقوّاد بغداد فلقوه، وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطى لكل جندى خمسين درهما، فأجابهم الى ذلك ووعدهم أن يضع «1» لهم العطاء يوم السبت فى الياسريّة، على أن يدعوا للمأمون بالخلافة يوم الجمعة ويخلعوا إبراهيم فأجابوه إلى ذلك، ولما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى ومن معه من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله ويكفيه هذا الأمر فأبى ذلك، فلما كان يوم الجمعة أحضر العباس- محمد «2» بن أبى رجاء الفقيه. فصلى بالناس الجمعة ودعا للمأمون بالخلافة، وجاء حميد إلى الياسرية فعرض جند بغداد، وأعطاهم الخمسين التى وعدهم بها فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، لما تشاءموا به من على بن هشام حين أعطاهم الخمسين وقطع العطاء عنهم، فقال حميد: لا، بل أزيدكم عشرة، فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى وسأله أن يقاتل حميدا، فأجابه إلى ذلك فخلى سبيله، وكلّم عيسى الجند ووعدهم أن يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد فأبوا ذلك، فعبر إليهم عيسى وقواد الجانب الشرقى، ووعد أولئك الجند أن يزيدهم على الستين فشتموه، وقالوا: لا نريد إبراهيم، فقاتلهم ساعة ثم ألقى نفسه فى وسطهم حتى أخذوه شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله ورجع الباقون إلى إبراهيم، فأخبروه بالخبر فاغتم لذلك.

ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدى

ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدى كان سبب ذلك أن حميد بن عبد الحميد تحول فنزل عند أرحاء عبد الله بن مالك، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقوّاده ذلك تسلّلوا فصار عامّتهم عنده، فأخرج إبراهيم جميع من بقى عنده فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بغداد، وذلك فى سلخ ذى القعدة، فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع ثم تحوّل إلى حميد، وجعل الهاشميون والقوّاد يأتون حميدا واحدا بعد واحد، فلما رأى إبراهيم ذلك سقط فى يده، وبلغه أن أصحابه يريدون أن يسلموه إليهم فداراهم حتى جنّه الليل، واختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، ولم يزل متواريا حتى ظفر به المأمون فى سنة عشر ومائتين على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكانت أيام إبراهيم سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما، واستقر بعده على بن هشام على شرقى بغداد، وحميد على غربيّها. نعود إلى بقية حوادث سنة اثنتين ومائتين خلاف أخبار إبراهيم بن المهدى. ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذى الرئاستين الفضل بن سهل وفى سنة اثنتين ومائة سار المأمون من مرو إلى العراق، واستخلف على خراسان غسّان بن عبّاد «1» ، وكان مسيره أن على بن موسى الرضا أخبره ما الناس فيه من الفتنة منذ قتل الأمين، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من أخبار الناس وأهل بيته «2» ، وأن الناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون

مسحور مجنون، وأنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة، فقال له المأمون: لم يبايعوه بالخلافة وإنما صيّروه أميرا، يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه، وأنّ الحرب قائمة بين الحسن وإبراهيم، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل ومكانى وبيعتك لى من بعدك، فقال المأمون: ومن يعلم ذلك؟ فقال: يحيى «1» بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وغيرهم من وجوه العسكر، فأمر بإدخالهم فدخلوا فسألهم عما أخبر به على بن موسى، فلم يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل أن لا يعرض إليهم، فضمن لهم ذلك وكتب لهم خطه به، فأخبروه بما أخبره به على بن موسى، وأخبروه أن أهل بغداد يسمون إبراهيم الخليفة السنّى، وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان على بن موسى، وأعلموه ما الناس فيه وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاءه لينصحه فقتله الفضل، وأنه إذا لم يتدارك أمره وإلا خرجت الخلافة من يده، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى فى طاعته ما يعلمه، وأخرج من الأمر كله وضعف أمره، وشغبت عليه جنده، وأنه لو كان ببغداد ضبط الملك، وأن الدنيا قد تفتّقت من أطرافها وأقطارها، وسألوه أن يخرج إلى بغداد فإن أهلها لو رأوه أطاعوه، فلما تحقق ذلك أمر بالرحيل فعلم الفضل بالحال، فضرب بعضهم وحبس بعضهم ونتف لحى بعضهم، فذكر على ابن موسى ذلك للمأمون، فقال: أنا أدارى، ثم أرتحل، فلما أتى سرخس وثب قوم بالفضل بن سهل فقتلوه فى الحمام، وكان قتله لليلتين خلتا من شعبان، وكان الذين قتلوه أربعة: أحدهم غالب المسعودى الأسود، وقسطنطين الرومى، وفرج الديلمى، وموفّق الصقلبى وكان عمره ستين سنة، وهربوا بعد قتله فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينورى، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر

ودخلت سنة ثلاث ومائتين

بهم فضربت رقابهم، ثم أحضر عبد العزيز بن عمران وغيره، وسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشىء من ذلك، فلم يقبل منهم وقتلهم وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيّره مكانه، ورحل المأمون إلى العراق. وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وفيها زوج المأمون ابنته أم حبيب من على بن موسى الرضا، وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم ابن موسى بن جعفر، ودعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد. ودخلت سنة ثلاث ومائتين ذكر وفاة على بن موسى الرضا ولى العهد كانت وفاته فى آخر صفر بمدينة طوس، وكان سبب ذلك أنه أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، وصلّى عليه المأمون ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وقيل إن المأمون سمّه فى عنب، واستبعد ذلك جماعة وأنكروه. قال: ولما مات كتب المأمون إلى الحسن بن سهل يعلمه بموته، وما دخل عليه من المصيبة بموته، وكتب إلى أهل بغداد وبنى العباس والموالى يعلمهم بموته، وأنهم إنما نقموا بيعته وقد مات، وسألهم الدخول فى طاعته فأغلظوا له فى الجواب، وكان مولد على بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة. وحجّ بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن على، وفيها غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغيّر عقله حتى شدّ فى الحديد وحبس، فكتب القواد إلى المأمون بذلك فجعل فى عسكره دينار بن عبد الله. ودخلت سنة أربع ومائتين ذكر قدوم المأمون بغداد فى هذه السنة قدم المأمون بغداد وانقطعت الفتن، وخرج إليه أهل

ودخلت سنة خمس ومائتين

بيته والقواد ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقة ليوافيه بالنهروان فأتاه بها، ودخل بغداد فى منتصف صفر ولباسه ولباس أصحابه الخضرة، فنزل الرصافة ثم تحوّل فنزل قصره على شاطئ دجلة، وأمر القواد أن يقيموا فى معسكرهم، وكان الناس يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد على إنسان، فمكثوا ثمانية أيام كذلك، فتكلم بنو العباس وقواد خراسان، فقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه، فكان أول حاجة سألها أن يلبس السواد، فأجابه إلى ذلك وجلس المأمون للناس وأحضر سوادا فلبسه، ودعا بخلعة سوداء فألبسها طاهرا، وخلع على قوّاده السواد، وذلك لسبع بقين من صفر منها. وفى هذه السنة أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن على بن أبى طالب «1» ، وأستعمله المأمون على الحرمين، وفى هذه السنة أعنى سنة أربع ومائتين مات الإمام محمد بن إدريس الشافعى بمصر، ومولده سنة خمسين ومائة رحمه الله ورضى عنه. ودخلت سنة خمس ومائتين ذكر ولاية طاهر بن الحسين خراسان فى هذه السنة استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق- من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وكان قبل ذلك يتولى الشرط بجانبى بغداد، فشخص طاهر من يومه وذلك لليلة بقيت من ذى القعدة، وقدم

ودخلت سنة ست ومائتين

طاهر البلد فأقام شهرا فحمل إليه عشرة آلاف ألف درهم التى تحمل لصاحب خراسان، وجعل المأمون على الشرط عبد الله بن طاهر بعد أبيه وحجّ بالناس عبيد الله العلوى. ودخلت سنة ست ومائتين ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرّقة وغيرها فى هذه السنة ولّى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر، وأمره بحرب نصر بن شبث، وقال له: يا عبد الله إنى استخير الله منذ شهر وأكثر وأرجو أن يكون قد خار لى، وقد ولّيتك هذه الأعمال ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين، فعقد له، وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين، ولما سار استخلف على الشرط إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب- وهو ابن عمه، وسار عبد الله إلى عمله، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحجّ بالناس عبيد الله العلوى. ودخلت سنة سبع ومائتين فى هذه السنة خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب ببلاد عكّ من اليمن، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان سبب خروجه أن عمّال اليمن أساءوا السيرة فى الناس، فبايعوا عبد الرحمن فوجّه المأمون إليه دينار بن عبد الله فى جيش كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار الموسم وحجّ بالناس، ثم سار إلى اليمن فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه فقبله، ودخل فى طاعة المأمون ووضع يده فى يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون «1» عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمرهم بلبس السواد.

ذكر وفاة طاهر بن الحسين أمير خراسان واستعمال ابنه طلحة

ذكر وفاة طاهر بن الحسين أمير خراسان واستعمال ابنه طلحة كانت وفاته فى جمادى الأولى من هذه السنة، قال كلثوم بن ثابت بن أبى سعيد «1» : كنت على بريد خراسان، فلما كان فى سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فلما بلغ ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤونة من بغى عليها وحشد فيها «2» ، بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين، قال: فقلت فى نفسى أنا أول مقتول لأنى لا أكتم الخبر، فانصرفت فاغتسلت غسل الموتى وتكفّنت، وكتبت إلى المأمون، فلما كان العصر دعانى طاهر، وحدث به حادث فى جفن عينيه فسقط ميتا، فخرج إلىّ ابنه طلحة فقال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم، قال: فاكتب بوفاته وبقيام طلحة بأمر الجيش «3» ، فوردت الخريطة على المأمون بخلعه، فدعا أحمد بن أبى خالد فقال: سر فإيت بطاهر- كما زعمت وضمنت، وكان هو قد أشار على المأمون بولاية طاهر خراسان وضمنه، فقال: يا أمير المؤمنين أبيت الليلة، قال: لا، فلم يزل به حتى أذن له فى المبيت، ووافت الخريطة الأخرى ليلا بموته، فدعاه فقال: قد مات طاهر فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة، قال: اكتب بتوليته فكتب بذلك؛ ولما ورد الخبر بموت طاهر قال المأمون: لليدين والفم، الحمد لله الذى قدّمه وأخرّنا. وكان طاهر أعور وفيه يقول بعضهم: يا ذا اليمينين وعين واحده ... نقصان عين ويمين زائده وكان لقبه ذا اليمينين وكنيته أبا الطيب. وقيل إن المأمون استعمل على

ودخلت سنة ثمان ومائتين

أعمال طاهر ابنه عبد الله، فسيّر إلى خراسان أخاه طلحة، وكان عبد الله بالرقة يحارب ابن شبث، فلما وجّه طلحة إلى خراسان سيّر المأمون إليه أحمد ابن أبى خالد ليقوم بأمره، فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بن خارخره «1» وابنه الفضل وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد بن أبى خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفى ألف درهم، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتبه خمسمائة ألف. وحج بالناس فى السنة أبو عيسى بن الرشيد. ودخلت سنة ثمان ومائتين فى هذه السنة سار الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان فعصى بها، فسار إليه أحمد بن أبى خالد فأخذه، وأتى به المأمون فعفا عنه، وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن الرشيد. ودخلت سنة تسع ومائتين. فى هذه السنة حصل الظفر بنصر بن شبث، وقد قدمناه فى أخباره. وحجّ بالناس صالح بن العباس بن محمد بن على ودخلت سنة عشر ومائتين فى هذه السنة ظفر المأمون إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام المعروف بابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الأفريقى ومالك بن شاهى ومن كان معهم ممن سعى فى بيعة إبراهيم بن المهدى، فأقيم ابن عائشة على باب دار المأمون ثلاثة أيام فى الشمس، ثم ضربه بالسياط وحبسه، وضرب مالك بن شاهى وأصحابهما، ثم قتل ابن عائشة وابن شاهى ورجلين

ذكر ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى

من أصحابهما صبرا، وصلب ابن عائشة- وهو أول عباسى صلب فى الإسلام، ثم أنزل وكفّن وصلّى عليه ودفن بمقابر قريش. ذكر ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر أخذ إبراهيم بن المهدى، وهو متنقّب فى زى امرأة بين امرأتين، أخذه حارس أسود ليلا وقال له ولهنّ: أين تردن فى هذا الوقت؟! فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان فى يده، فاستراب منه الحارس ورفعهن إلى صاحب المسلحة «1» ، فأمرهنّ أن يسفرن عن وجوههنّ، فامتنع إبراهيم فجذبه فبدت لحيته، فدفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به، فأمره بالاحتفاظ به إلى باكر النهار، فلما كان الغد أقعد إبراهيم فى دار المأمون. والمقنعة فى عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم والناس، ويعلموا كيف أخذ، ثم حوّله إلى أحمد بن أبى خالد فحبسه عنده، ثم شفع فيه الحسن بن سهل- وقيل ابنته بوران لما بنى بها المأمون. وقيل إن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار أبى إسحاق المعتصم، وكان المعتصم عند المأمون فحمل رديفا لفرج «2» التركى، فلما دخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين ولىّ الثأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الأغترار- بما مدّ له من أسباب الشقاء- أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذى ذنب، كما جعل كل ذى ذنب دونك فإن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك، فقال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبّر وسجد. وقيل بل كتب إبراهيم هذا الكلام إلى المأمون وهو مختف، فوقّع المأمون فى رقعته: القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله عزّ وجلّ، وهو أكبر ما نسأله «3» ، فامتدحه إبراهيم بن المهدى بقصيدته التى هى:

يا خير من رفلت «1» يمانيه به ... بعد النبى «2» لآيس أو طامع «3» وأبرّ من عبد الإله على التقى «4» ... غيبا «5» وأقوله «6» بحق صادع عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع متيقظا حذرا وما تخشى العدى ... نبهان من وسنان «7» ليل الهاجع ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع بأبى وأمّى فدية وبنيهما «8» ... من كل معضلة وريب «9» واقع منها: نفسى فداؤك إذ تضل معاذرى ... وألوذ منك بفضل حلم واسع أملا لفضلك والفواضل شيمة «10» ... دفعت بناءك للمحل اليافع فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع إلا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة «11» كقوس النازع «12» الله يعلم ما أقول فإنّها «13» ... جهد الأليّة من حنيف راكع

ما إن عصيتك والغواة تقودنى «1» ... أسبابها إلا بنيّة طائع حتى إذا علقت «2» حبائل شقوتى ... بردى إلى حفر المهالك هائع لم أدر أن لمثل جرمى غافرا ... فوقفت أنظر «3» أى حتف مصارعى «4» ردّ الحياة علىّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر «5» المتواضع ومنها: كم من يد لك لم «6» تحدثنى بها ... نفسى إذا آلت إلىّ مطامعى أسديتها عفوا إلىّ هنيئة ... وشكرت مصطنعا لأكرم صانع إنّ الذى قسم الخلافة حازها ... من صلب آدم فى الإمام «7» السابع جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع قال: فلما أنشدها قال المأمون: أقول كما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «8» . وروى أبو الفرج الأصفهانى بسنده عن محمد بن عمرو الأنبارى قال «9» : لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى أحب أن يوبّخه على رءوس الناس، فجىء بإبراهيم يحجل فى قيوده، فوقف على طرف الإيوان وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلّم الله عليك ولا حفظك ولا كلأك ولا رعاك يا إبراهيم، فقال له: على رسلك يا أمير المؤمنين، فلقد أصبحت ولىّ ثأرى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الأغترار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد أصبح ذنبى فوق

كل ذى ذنب، كما أن عفوك فوق كل ذى «1» عفو. ومن رواية أخرى أنّه قال: وقد أصبحت فوق كل ذى ذنب؛ كما أصبح كل ذى عفو دونك، فإن عاقبت «2» فبحقك وإن تعف فبفضلك، قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: إن هذين أشارا علىّ بقتلك، فالتفت فإذا العباس بن المأمون والمعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين أما حقيقة الرأى فى معظم تدبير الخلافة والسياسة فقد أشارا عليك به، وما غشّاك إذ كان منّى ما كان، ولكنّ الله عوّدك من العفو عادة جريت عليها، دافعا ما تخاف بما ترجو، فكفاك الله يا أمير المؤمنين، فتبسّم المأمون ثم أقبل على ثمامة فقال: إن من الكلام ما يفوق الدر ويغلب السحر، وإنّ كلام عمى منه، أطلقوا «3» حديده وردّوه إلىّ مكرّما، فلما ردّ إليه قال: يا عم، صر إلى المنادمة وارجع إلى الأنس، فلن ترى منى أبدا إلا ما تحب، فلما كان من الغد بعث إليه بدرج فيه هذه القصيدة التى تقدّم ذكرها، لكن اختصرها أبو الفرج فذكر بعضها، فلما قرأها المأمون بكى وقال علىّ به «4» فخلع عليه «5» ، وأمر له بخمسة آلاف دينار، ودعا بالفرّاش فقال له: إذا رأيت عمى مقبلا فاطرح له متكأ، وكان ينادمه لا ينكر منه شيئا. قال أبو الفرج: وروى بعض هذا الخبر عن محمد بن الفضل الهاشمى، فقال فيه: لما فرغ المأمون من خطابه دفعه إلى ابن أبى خالد الأحول، وقال: هذا صديقك فخذه إليك، قال: وما تغنى صداقتى عنه وأمير المؤمنين ساخط عليه، أما إنى- وإن كنت صديقا له- لا أمتنع عن قول الحق فيه، قال له: قل فإنك غير متّهم، فقال- وهو يريد التسلّق على العفو عنه: إن قتلته فقد قتلت الملوك قبلك أقل جرما منه وإن عفوت عنه عقوت عمن لم يعف قبلك عن مثله،

فسكت «1» المأمون ساعة ثم تمثل «2» قومى هم قتلوا أميم أخى ... فإذا رميت يصيبنى سهمى فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى خذه إليك يا أحمد مكرّما، فانصرف به ثم كتب إلى المأمون قصيدته المذكورة، فلما قرأها رق له وأمر بردّه إلى منزله، وردّ ما قبض من أملاكه وماله. وفى خبر عن أبى داود أن المأمون تقدّم إلى محمد بن يزداد «3» - لما أطلق إبراهيم- أن يمنعه من دارى الخاصة والعامة، ووكل به رجلا من قبله يثق به ليعرفه أخباره وما يتكلّم به، فكتب إليه الموكل أن إبراهيم- لما بلغه المنع من دارى الخاصة والعامة- تمثّل: يا سرحة الماء قد سدت مواردها «4» ... أما إليك طريق غير مسدود لحائم حام حتى لا حيام به ... محلّا عن طريق الماء مردود «5» فلما قرأها المأمون بكى وأمر باحضاره من وقته مكرّما، وأنزله فى مرتبته، فلما دخل على المأمون قبّل البساط وقال: البرّ «6» بى منك وطّا العذر عندك لى ... دون اعتذارى فلم تعذر «7» ولم تلم وقام علمك بى فاحتجّ عندك لى ... مقام شاهد عدل غير متّهم رددت مالى ولم تمنن علىّ به ... وقبل ردّك مالى قد «8» حقنت دمى

ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل

فبوت منك وقد كافأتها بيد ... هى الحياتان من موت ومن عدم تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به ... فلا عدمناك من عارف ومنتقم فقال: اجلس يا عم آمنا مطمئنا. فلن ترى أبدا منّى ما تكرهه، إلا أن تحدث حدثا أو تتغير عن طاعة، وأرجو ألا يكون ذلك إن شاء الله تعالى. وروى الفضل بن مروان قال «1» : لمّا دخل إبراهيم بن المهدى على المأمون- لما ظفر به- كلّمه بكلام، كان سعيد بن العاص كلّم به معاوية بن أبى سفيان فى سخطة سخطها عليه واستعطفه به، وكان المأمون يحفظ الكلام فقال المأمون: هيهات يا إبراهيم، هذا كلام سبقك به فحل بنى أميّة وقارحهم سعيد بن العاص وخطب به معاوية بن أبى سفيان، فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين- وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بنى حرب وقارحهم إلى العفو، فلا تكن حالى عندك فى ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه وأنا اشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإنّ أعظم الهجنة تسبق أميّة هشاما إلى مكرمة فقال له: صدقت يا عم قد عفوت عنك. ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل فى هذه السنة بنى المأمون بها فى شهر رمضان، وكان المأمون قد سار من بغداد إلى فم الصّلح إلى معسكر الحسن، فنزله وزفت إليه بوران، فلما دخل إليها المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة والدة الأمين وجدّتها- أم الفضل وام الحسن ابنى سهل، فلما دخل نثرت عليه جدّتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر المأمون بجمعه وأعطاه لبوران، وقال: سلى حاجتك فأمسكت، فقالت جدّتها: سلى سيدك فقد أمرك، سألته الرضا عن إبراهيم بن المهدى، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم

جعفر فى الحج فأذن لها، وألبستها أم جعفر البدنة «1» اللؤلؤ الأموية، وأوقد المأمون فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منا، وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوما، يعدّ له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكتب الحسن أسماء ضياعه ونثرها. وحكى عبد الملك بن عبد الله بن عبدون «2» الحضرمى الشبلى، فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، قال حكى إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلى قال «3» : قال لى المأمون يوما: هذا يوم سرور، ثم قال للغلمان: خذوا علينا الباب واحضروا بالشراب، فبقينا بقية يومنا فى أنس وشرب، فلما كان الليل قال لى: يا إسحاق إنى أريد الصّبوح، فكن بمكانك حتى أدخل إلى الحرم وأخرج إليك، فأستبطأت خروجه فقلت: اشتغل وغلب عليه النبيذ ونسينى، وكانت عندى جارية بكر كنت اشتريتها فتطلعت لها نفسى، فنهضت فقال لى العبد: قد انصرف عبدك بدابتك، فمشيت فلما صرت ببعض الطريق أحسست بالبول، فعدلت عن الطريق وقضيت حاجتى، فلما أردت أن أستجمر عدلت إلى حائط، وإذا بزنبيل كبير معلّق، قد ألبس بالديباج وفيه أربعة أحبل من الابريسم، فقلت: إنّ له لأمرا، ثم تجاسرت وجلست فيه «4» فجذب، وإذا أربع جوار يقلن بالسعة «5» : أصديق أم جديد؟ فقلت جديد، فسارت احداهن بين يدى حتى أدخلتنى إلى مجلس لم أر مثله، فجلست فى أدنى مجالسه، وإذا بوصائف بأيديهن «6» الشمع والمجامر يتبخّر فيها العود، وبينهنّ جارية كالبدر

الطالع ذات دلّ وشكل، فنهضت لدخولها فقالت مرحبا بالضيف، [وسألتنى عن دخولى «1» ] ، فقلت: عن غير ما قصد، قالت فما السبب؟ قلت انصرفت من عند بعض أصحابى فلما رأيت الزنبيل حملنى النبيذ على الدخول فيه، قالت: فما صناعتك؟ قلت: بزّاز، قالت: ومولدك؟ قلت: بغداد، قالت: من أى الناس؟ قلت: من أوسطهم، قالت: حيّاك الله، هل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شىء ضعيف، قالت: فذاكرنى، قلت: إن للداخل دهشة، ولكن ابدأينى فالشىء بالمذاكرة، قالت: هل تحفظ قصيدة فلان التى يقول فيها كذا وكذا، فأنشدتنى لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين، وأنا مستمع أنظر من أى أحوالها أعجب: من حسنها أو من حسن إنشادها أو من حسن أدبها أو ضبطها للغريب من النحو واللغة!! ثم قالت: قد ذهب عنك بعض الحصر، قلت: إن شاء الله لقد كان ذلك، قالت: فأنشدنى، فأنشدتها فجعلت تسألنى عن أشياء تمرّ فى الشعر كالمختبرة، ثم قالت: والله ما قصّرت ولا توهمت أن فيك هذا!! ولا رأيت فى أبناء التجار مثلك! فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟! قلت: نظرت فى شىء من ذلك، فأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ثم أحضرت نبيذا فشربت قدحا، وقالت: هذا أوان المذاكرة، فاندفعت وقلت: بلغنى كذا وكذا، وكان رجل من قصّته كذا وكذا، فسرّت بذلك، وقالت: ليس هذا من أمر التجار، وإنما هى من أحاديث الملوك، قلت: إنه كان لى جار ينادم بعض الملوك فكنت أدعوه فى بعض الأوقات إلى منزلى، فما تسمعين منّى فمن عنده أخذته، قالت: يمكن هذا!! ثم قالت: لو كان عندك شىء واحد لكنت كاملا! فحرك بعض الملاهى أو ترنّم، قلت: لا أحسن من هذا شيئا على أنى مولع بسماعه، فقالت: يا جارية- عودى، فضربت فأحسنت وغنّت غناء

بديعا، ثم قالت: هذا الغناء لإسحاق، فلم تزل على ذلك حتى إذا كان عند الفجر قالت: المجالس بالأمانات، ثم أخذت وأخرجت إلى باب صغير، فانتهيت إلى دارى فأرسل المأمون إلىّ فمشيت إليه، وبقيت عنده إلى وقت البارحة ودخل إلى حرمه، فخرجت إلى ذلك الموضع ودخلت الزنبيل، فقالت: ضيفنا!! قلت: منوا بالصفح، قالت: فعلنا ولا تعد، فلما كان عند الصباح فعلت فعلة البارحة، وخرجت فأتيت المأمون، فقال: أين كنت!! فاعتذرت إليه، فلما كان الليل صنع صنعه وصنعت كذلك، فلما دخلت فى الزنبيل قالت: ضيفنا!! قلت: اى ها الله!!، قالت: أجعلتها دار مقام!! قلت: الضيافة ثلاث فإن رجعت فأنت من دمى فى حلّ، فلما كان عند الوقت أفكرت فى المأمون، وعلمت أنّه لا يخلصنى منه إلا أن أخبره، وعلمت من شغفه بالنساء أنه يطالبنى بالمشى إليها، فقلت: جعلت فداك- أتأذنين فى ذكر شىء حضر؟ قالت: قل، قلت: أراك ممّن يحب الغناء ويشغف بالأدب، ولى ابن عم هو من أهل الشعر «1» والأدب والغناء، هو أعرف خلق الله بغناء إسحاق، الذى سمعتك تثنين عليه، فقالت: طفيلى ويقترح، قلت: إنما ذكرت ذلك لك وأنت المحكّمة، قالت: فإذا كان كما ذكرت فما نكره أن نعرفه، قلت: فالليلة، قالت: نعم، ثم انصرفت على عادتى فلما وصلت دارى أتانى رسول المأمون، فمشيت إليه وهو حنق علىّ، فقال: يا إسحاق آمرك بشىء فلا تقف عنده، وكان لا يدخل إلى حرمه حتى يأمرنى بانتظاره، فأتذكّر مجالسة الجارية فأنسى عقوبته، فقلت: لى قصّة أحتاج فيها إلى خلوة، فأومأ بيده إلى من كان واقفا فتنحّوا، فذكرت له القصة فلما فرغت من كلامى قال: كيف لى بمشاهدة ذلك الموضع؟ قلت: قد علمت أنك تطالبنى بهذا، وقد قلت لها لى ابن عم من صنعته ومن حديثه، ثم جلسنا على عادتنا فى الأيام الخوالى-

وهو يسألنى عن حديثها، فلما جاء الليل صرنا «1» إلى ذلك الموضع، فألفينا فيه زنبيلين فدخل فى واحد ودخلت فى الآخر، فلما صرنا فى البيت جلست فى صدره، وجلس المأمون دونى، فلما أتت قالت: حيّا الله ضيفينا بالسلام، ثم رفعت مجلسه وقالت: هذا ضيف وأنت من أهل البيت، ولكل جديد لذّة، فجلس المأمون فى صدر البيت وأقبلت عليه تحدثه، وهو يأخذ معها فى كل فن فيسكتها، فالتفتت إلىّ وقالت: وفّيت بوعدك، ثم أحضرت النبيذ وجعلنا نشرب وهى مقبلة عليه، ثم قالت: وابن عمك هذا من أولاد التجار؟! إنّ حديثكما وأدبكما لمن أدب «2» الملوك، وليس للتجار هذه المنزلة فى الأحاديث والآداب، ثم قالت لى: موعدك؟ قلت: إنه ليجيب «3» ولكن حتى يسمع شيئا، فأخذت العود وغنّت فشربنا عليه رطلا ثم ثانيا وثالثا، فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال ارتاح وطرب، وكان الصوت الثالث ما يقترحه «4» علىّ أبدا، فلما سمعه نظر إلىّ نظر الأسد إلى فريسته، وقال لى: يا إسحاق غنّ لى هذا الصوت، فلما رأتنى وقفت بين يديه علمت أنّه المأمون وأنّنى إسحاق، فنهضت «5» فقال لها: ها هنا وأومأ إلى كلّة مضروبة فدخلتها، فلما فرغت من ذلك الصوت قال: يا إسحاق: انظر من صاحب هذه الدار؟ فسألت عجوز فقالت الحسن بن سهل وهذه ابنته بوران، فرجعت فأعلمته فقال: علىّ به الساعة فأحضرته فوقف بين يديه فقال: لك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: زوجنيها، قال هى أمتك وأمرها إليك، قال: فإنى أتزوّجها على ثلاثين ألفا نحملها إليك صبيحة غد، فإذا وصل إليك المال فاحملها إلينا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ثم

ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وفتحها وفتح الإسكندرية

نهض وفتح الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال لى: يا إسحاق لا يقفنّ أحد على ما وقفت عليه فإن المجالس بالأمانات، فقلت: يا أمير المؤمنين- ومثلى يحتاج إلى وصيّة! قال: فلما أصبحنا أمر بحمل المال إليه، ونقلت إليه من يومها، قال إسحاق فما فهت بالخبر إلا بعد موت المأمون. قال ابن عبدون «1» : وذكر أنّه لما أراد أن يعرس بها أمر بإخراج الفساطيط والقباب «2» ، وأن تضرب على ضفّة دجلة فى موضع منخفض، وخرج وجوه الناس لحضور ذلك وعامّة الناس للتنزه، وكانت النفقة من عند الحسن بن سهل على كل من حضر. قال: وكان عدد الملاحين منهم خاصة أرباب الزلاليات والزواريق وماشاكلها- الذين يحملون الناس فى مراكبهم إلى موضع العرس- عشرة آلاف «3» ، ويقال إنّه لما بسطت القبّة التى دخل فيها المأمون على بوران خيّر الحسن الخاصة- ممّن حضر ذلك العرس- بين مائة دينار وحلّة أو قبضة من أرض تلك القبّة، فيقال إن القابض بكفّه من أرض القبّة كان أرجح ممن أخذ مائة دينار وحلّة، فإنه ربما كان يخرج من قبضته حجر ياقوت أو حجر زمرّد أو درّة نفيسة تساوى أضعاف ذلك القدر. ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وفتحها وفتح الإسكندرية وفى سنة عشر ومائتين سار عبد الله بن طاهر إلى مصر وافتتحها، واستأمن له عبيد الله «4» بن السّرى، وكان سبب مسيره أن عبيد الله بن السرى كان قد تغلّب على مصر وخلع الطاعة، وخرج جمع من الأندلس

فغلبوا على الإسكندرية، واشتغل عبد الله بن طاهر عنهم بحرب نصر بن شبث، فلما فرغ منه سار نحو مصر، فلما قرب منها قدّم قائدا من قوّاده إليها لينظر موضعا يعسكر فيه، وكان ابن السرى قد خندق على مصر. فاتصل الخبر به فخرج إلى القائد وقاتله قتالا شديدا. والقائد فى قلة «1» فسيّر بريدا إلى عبد الله بن طاهر يخبره، فحمل عبد الله الرجال على البغال وجنّبوا الخيل، وأسرعوا السير فلحقوا القائد وهو يقاتل. فلما رأى ابن «2» السّرى ذلك لم يثبت بين أيديهم، وانهزم وتساقط أكثر أصحابه فى الخندق. فهلك منهم بالسقوط أكثر ممّن قتل بالسيف، ودخل ابن السرى مصر وأغلق الباب، وحاصره عبد الله فأرسل إليه فى الليل ألف وصيف ووصيفة مع كل واحد منهم ألف دينار. فردّهم ابن طاهر وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ «3» . فعندها طلب ابن السرى الأمان فأمنّه، ثم بعث عبد الله بن طاهر إلى الإسكندرية يؤذن الذين تغلّبوا عليها بالحرب أو الدخول فى الطاعة. وكانوا قد أقبلوا من الأندلس فى مراكب، والناس فى تلك الفتن التى ذكرناها، فأرسوا بالإسكندرية وتغلّبوا عليها. وكان رئيسهم يدعى أبا حفص. فلما أتتهم رسالته سألوا الأمان. على أن يرحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم التى ليست من بلاد الإسلام، فأمّنهم على ذلك فرحلوا ونزلوا بجزيرة اقريطش. واستوطنوها وأعقبوا وتناسلوا. قال: وبعث ابن طاهر عبيد الله بن السرى إلى بغداد. فقدمها فى سنة إحدى عشرة ومائتين. وأنزل مدينة المنصور. وأقام ابن طاهر بمصر واليا عليها وعلى الشام وعلى الجزيرة، إلى أن نقل إلى خراسان على ما نذكره

إن شاء الله تعالى. وروى أبو الفرج الأصفهانى «1» أنّ المأمون أعطى عبد الله ابن طاهر مال مصر لسنة خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرّقه فى الناس. ورجع صفرا من ذلك فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه وأنشد أبياتا قالها فى هذا المعنى يقول منها: إليك أقبلت من أرض أقمت بها ... حولين بعدك فى شوق وفى ألم أقفو مساعيك اللاتى خصصت بها ... حذو الشراك على مثل من الأدم وكان فضلى فيها أننى «2» تبع ... لما سننت من الإنعام والنعم ولو وكلت إلى نفسى غنيت بها ... لكن بدأت فلم أعجز ولم ألم فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك بمكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شىء إذا عوّدته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لمّ شعثك وإصلاح حالك؛ وزال ما كان فى نفسه. قال «3» : وكان المال الذى فرّقه عبد الله بن طاهر- وهو على المنبر- ثلاثة آلاف ألف دينار، أجاز بها قبل نزوله عن المنبر، قال: معلّى الطائى- وقد بلغه ما صنع عبد الله بن طاهر- فقال: أصلح الله الأمير، أنا معلّى الطائى وقد بلغ منّى ما كان منك إلىّ من جفاء وغلظ، فلا يغلظنّ على قلبك، ولا يستخفنّك الذى بلغك، فأنا الذى أقول: لو يصبح «4» النيل يجرى ماؤه ذهبا ... لما أشرت إلى خزن بمثقال تغلى «5» بما فيه رقّ الحمد تملكه ... وليس شىء أعاض الحمد بالغالى فى أبيات أخر، قال: فضحك عبد الله وسرّ بما كان منه، وقال:

ذكر خلع أهل قم المأمون وما كان من أمرهم

يا فلان أقرضنى عشرة آلاف دينار- فما أمسيت أملكها- فأقرضه، فدفعها إليه. ذكر خلع أهل قمّ المأمون وما كان من أمرهم فى هذه السنة خلع أهل قمّ المأمون ومنعوا الخراج، وكان سبب ذلك أن المأمون لما سار من خراسان إلى العراق أقام بالرى عدة أيام، وأسقط عنهم شيئا من خراجهم، فطمع أهل قمّ أن يضع عنهم كذلك، فكتبوا إليه يسألونه الحطيطة، وكان خراجهم ألفى ألف درهم، فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوا فامتنعوا من أدائه، فوجّه المأمون إليهم على بن هشام وعجيف بن عنبسة فحاربوهم فظفروا بهم، وقتل يحيى بن عمران وهدم سور المدينة وجباها على سبعة آلاف ألف درهم، وكانوا يتظلمون من ألفى ألف درهم. وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد أمير مكة. ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين فى هذه السنة قتل السيد بن أنس الأزدى أمير الموصل، وسبب قتله أن زريق بن على بن صدقة الأزدى الموصلى كان قد تغلّب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان، وجرى بينه وبين الرشيد حروب كثيرة، فلما كان فى هذه السنة جمع زريق جمعا كثيرا، قيل كانوا أربعين ألفا، وبعثهم إلى الموصل لحرب السيد فخرج إليهم فى أربعة آلاف، فالتقوا واقتتلوا فحمل السيد بنفسه وكانت عادته، وحمل عليه رجل من أصحاب زريق، فقتل كل منهما صاحبه، ولما بلغ المأمون قتله غضب لذلك، وولّى محمد بن حميد الطوسى حرب زريق وبابك الخرّمى، واستعمله على الموصل. وفيها قدم عبد الله بن طاهر بغداد. فتلقاه العباس بن المأمون والمعتصم وسائر

ودخلت سنة اثنتى عشرة ومائتين

الناس. وفيها أمر المأمون مناديا برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير أو فضّله على أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وحجّ بالناس صالح بن العباس وهو أمير مكة. ودخلت سنة اثنتى عشرة ومائتين ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل قد قدّمنا أن المأمون استعمله على حرب بابك الخرّمى، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل ليصلح أمرها، ويحارب زريق بن على، فسار إلى الموصل ومعه جيشه، وجمع فيها الرجال من اليمن وربيعة وسار نحوه، فالتقوا على الزاب فدعاه محمد إلى الطاعة فامتنع، فناجزه واقتتلوا فانهزم زريق وأصحابه، ثم أرسل بطلب الأمان فأمّنه محمد، فنزل إليه وسيّره إلى المأمون، وكتب المأمون إلى محمد يأمره بأخذ مالزريق من قرى ورستاق ومال وغيره. يأخذ ذلك لنفسه، فجمع محمد أولاد زريق وإخوته وأهله وأخبرهم بما أمر به المأمون، فأطاعوه لذلك، ثم قال لهم: إن أمير المؤمنين قد أمر لى به، وقد قبلته ورددته عليكم فشكروه؛ ثم سار إلى أذربيجان واستخلف على الموصل محمد بن السيد، وقصد المخالفين المتغلبين على أذربيجان، فأخذهم وسيّرهم إلى المأمون، وسار لمحاربة بابك. وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وتفضيل على بن أبى طالب على جميع الصحابة رضى الله عنهم، وكان ذلك فى شهر ربيع الأول. وحجّ بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد. ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين فى هذه السنة ولىّ المأمون ابنه العباس الجزيرة والثّغور والعواصم،

ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين

وولّى أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر، وأمر لكل واحد منهما ولعبد الله ابن طاهر بخمسمائة ألف درهم. وفيها خلع عبد السلام وابن جليس المأمون بمصر فى القيسية واليمانية، وظهرا بها ووثبا بعامل المعتصم وهو عمير «1» بن الوليد الباذغيسى، فقتلاه فى شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر وقاتلهما فقتلهما وافتتح مصر واستقامت أمورها، واستعمل عليها عماله. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس. ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين فى هذه السنة قتل محمد الطوسى فى حرب بابك، فلما بلغ خبر قتله المأمون استعمل عبد الله بن طاهر على قتاله. ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان فى هذه السنة استعمل المأمون عبد الله بن طاهر على خراسان، فسار إليها وكان أخوه طلحة مات بخراسان فى سنة ثلاث عشرة، فولى خراسان على ابن طاهر خليفة لأخيه عبد الله، وكان عبد الله بالدّينور فجهّز العساكر إلى بابك، فأوقع الخوارج بخراسان بأهل قرية الحمراء من نيسابور، فأكثروا فيهم القتل فاتصل ذلك بالمأمون، فأمر عبد الله بالمسير إليها. وحجّ بالناس فى هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد. ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين ذكر غزاة المأمون إلى الروم فى هذه السنة سار المأمون من بغداد لغزو الروم فى المحرم، واستخلف

ودخلت سنة ست عشرة ومائتين

على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولاه مع ذلك السواد وحلوان وكوردجلة، وسار المأمون على طريق الموصل إلى منبج، ثم إلى دابق ثم إلى أنطاكية ثم إلى المصّيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم فى جمادى الأولى، ودخل ابنه العباس من ملطيّة، فأقام المأمون على حصن قرّة حتى افتتحه عنوة وهدمه لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل إنه فتحه بالأمان، وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان، ووجّه إشناس إلى حصن سندس فأتاه برئيسه، ووجّه عجيفا وجعفرا الخيّاط إلى حصن سنان «1» فسمع وأطاع، وتوجّه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد ودخلت سنة ست عشرة ومائتين ذكر فتح هرقلة فى هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم، وسبب ذلك أنه بلغه أن ملك الروم قتل ألفا وستمائة من أهل طرسوس والمصّيصة، فسار حتى دخل أرض «2» الروم فى جمادى الأولى، إلى منتصف شعبان، وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم «3» كتب إليه بدأ بنفسه، فسار إليه ولم يقرأ كتابه، وسار إلى هرقلة فخرج أهلها على صلح، ووجّه أخاه أبا إسحاق المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا ومطمورة ووجه يحيى بن أكثم من طوانة فأغار وقتل وسبى وحرق ورجع. ثم عاد المأمون إلى دمشق. وفيها ظهر بمصر عبدوس الفهرى. ووثب على عمال المعتصم فقتل بعضهم فى شعبان. فسار المأمون من دمشق إلى مصر فى منتصف ذى

ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين

الحجة، فوصل إليها فى المحرم سنة سبع عشرة فأتى بعبدوس الفهرى فضرب عنقه، وعاد إلى الشام، وفيها قدم الأفشين من برقة إلى مصر، فأقام بها ثم كان من أمره وتمكّنه ما نذكره، وفيها «1» كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلّوا، فبداوا بذلك فى منتصف شهر رمضان، فقاموا قيامه وكبروا ثلاثا، ثم فعلوا ذلك فى الصلوات المكتوبة، وفيها ماتت أم جعفر زبيدة ابنة جعفر بن المنصور أم الأمين. وحجّ بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان وقيل عبد الله بن عبيد الله. ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين وفى هذه السنة ظفر الأفشين بالفرما «2» من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، وفيها قتل المأمون على بن هشام، وكان قد استعمله على أذربيجان والجبال وقمّ وأصفهان فى سنة أربع عشرة، فبلغ المأمون أنّه ظلم وأخذ الأموال وقتل الرجال، فوجّه إليه المأمون عجيف بن عنبسة فى سنة ست عشرة، فثار به على بن هشام وأراد قتله واللحاق ببابك، فظفر به عجيف وقدم به على المأمون فقتله، وقتل أخاه حسينا «3» فى جمادى الأولى، وطيف برأس علىّ فى العراق وخراسان والشام ومصر، ثم ألقى فى البحر. وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم، فأناخ عجيف على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها فخدع أهلها عجيفا حتى أسروه «4» ، وبقى عندهم ثمانية أيام ثم

ودخلت سنة ثمانى عشرة ومائتين

أخرجوه؛ وجاء توفيل- ملك الروم- فأحاط بعجيف فسيّر المأمون إليه الجنود فارتحل ملك الروم قبل موافاتهم. وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان. وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن على. ودخلت سنة ثمانى عشرة ومائتين ذكر المحنة بالقرآن المجيد فى هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد فى امتحان القضاة والفقهاء «1» والمحدّثين بالقرآن، فمن أقرّ أنه مخلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمر فيه برأيه، وطوّل كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وكان الكتاب فى شهر ربيع الأول، وأمره بإنفاذ سبعة نفر منهم محمد بن سعد كاتب الواقدى «2» ، وأبو مسلم مستملى يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبى مسعود، وأحمد الدّورقى. فأشخصوا إليه فأمتحنهم وسألهم عن القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق فأعادهم إلى بغداد، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث. فأقروا بذلك فخلّى سبيلهم، وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء. فأحضر أبا حسّان الزيادى، وبشر بن الوليد الكندى، وعلى بن أبى مقاتل «3» ، والفضل بن غانم، والذيّال بن الهيثم «4» وسجّادة، والقواريرى، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطى، وعلى بن الجعد، وإسحاق بن أبى إسرائيل، وابن الهرش، وابن عليّة الأكبر،

ويحيى بن عبد الرحمن العمرى، وشيخا آخر من ولد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه- كان قاضى الرقة، وأبا نصر التمّار، وأبا معمر القطيعى، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرّخان، وجماعة منهم النّضر بن شميل، وابن على بن عاصم، وأبو العوّام البزّاز، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا جميعا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول فى القرآن؟ فقال: قد عرف أمير المؤمنين مقالتى غير مرّة، قال: قد تجدّد من كتاب أمير المؤمنين ما ترى، قال: أقول القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شىء، قال: والقرآن شىء؟ قال: نعم، قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس عن هذا سألتك- أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلّم فيه، وليس عندى غير ما قلت لك، فأخذ إسحاق رقعة فقرأها عليه، فقال: أشهد أنّ لا إله إلا الله أحد فرد، لم يكن قبله شىء ولا يشبهه شىء من خلقه، فى معنى من المعانى ووجه من الوجوه، قال للكاتب: اكتب ما قال. ثم قال لعلى بن أبى مقاتل: ما تقول؟ قال: قد سمعت كلامى فى هذا لأمير المؤمنين غير مرّة، وما عندى غيره، فامتحنه بالرقعة فأقرّ بما فيها، ثم قال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، قال: القرآن كلام الله، فإن أمرنا أمير المؤمنين بشىء سمعناه وأطعنا، فقال للكاتب اكتب مقالته؛ ثم قال للذيّال نحوا من مقالته لعلى بن أبى مقاتل، فقال مثل ذلك؛ ثم قال لأبى حسّان الزيادى: ما عندك؟ قال: سل عمّا شئت، فقرأ عليه الرقعة فأقرّ بما فيها، قال: ومن لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شىء، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامّة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم،

وقلّده الله أمرنا فصار يقيم حجّتنا وصلواتنا، ونؤدى إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته، فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا، قال: والقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته، قال إسحاق فإن هذه مقالة أمير المؤمنين، فقال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس، وإن أخبرتنى أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتنى به، فإنّك الثقة فيما أبلغتنى عنه، قال: ما أمرنى أن أبلغك شيئا، فقال أبو حسّان: وما عندى إلا السمع والطاعة، فأمرنى أأتمر، فقال: ما أمرنى أن آمركم، وإنما أمرنى أن أمتحنكم؛ ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله ما أزيد عليها، فامتحنه بالرقعة، فلما أتى إلى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وأمسك عن لا يشبهه شىء من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه فاعرض عليه ابن البكّاء الأصغر فقال: أصلحك الله- إنه يقول سميع من أذن، بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد: ما معنى قولك سميع بصير؟ قال: كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدرى- هو كما وصف نفسه، ثم دعاهم رجلا رجلا- كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة، وعبيد الله «1» ابن محمد بن الحسن، وابن عليّة الأكبر، وابن البكّاء، وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت وهب بن منبّه، والمظفّر بن مرجّا، ورجلا من ولد عمر بن الخطاب قاضى الرقة، وابن الأحمر، فأمّا ابن البكّاء فإنّه قال: القرآن مجعول لقوله عزّ وجل إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2» ، والقرآن محدث لقوله عزّ وجل ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ «3» ، قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قال: نعم، قال: والقرآن مخلوق «4» قال:

لا أقول مخلوق ولكنّه مجعول، فكتب مقالته ومقالات القوم ووجّهها إلى المأمون، فأجاب المأمون يذمّهم ويذكر كلا منهم ويعيبه ويقع فيه بشىء، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدى ويمتحنهما، فإن أجابا وإلا ضرب أعناقهما، وأما من سواهما فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم، فأحضرهم إسحاق وأعلمهم بما أمر المأمون فأجاب القوم كلهم إلا أربعة نفر: منهم أحمد بن حنبل، وسجّادة، والقواريرى، ومحمد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق فشدّوا فى الحديد، فلما كان الغد دعاهم فى الحديد وأعاد عليهم المحنة، فأجاب سجّادة والقواريرى، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، فشدّوا فى الحديد ووجّههما إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوه، فأجابه المأمون أنّه بلغنى عن بشر بن الوليد أنّه تناول الآية التى أنزلها الله عزّ وجل فى عمّار بن ياسر إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «1» فقد أخطأ التأويل، إنما عنى الله تعالى بهذه الآية من كان معتقدا للإيمان مظهرا للشرك، وأما من كان معتقدا للشرك مظهرا للإيمان فليس هذا له، فأشخصهم جميعهم إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأحضرهم إسحاق وسيرهم جميعا الى العسكر وهم: أبو حسان الزيادى، وبشر بن الوليد، والفضل بن غانم، وعلى ابن أبى مقاتل، والذيّال بن الهيثم، ويحيى بن عبد الرحمن العمرى، وعلى بن الجعد، وأبو العوّام، وسجّادة، والقواريرى، وابن الحسن بن على بن عاصم، وإسحاق بن أبى اسرائيل، والنضر بن شميل: وأبو نصر التمّار، وسعدويه الواسطى، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبو معمر بن الهرش، وابن الفرخان، وأحمد بن شجاع، وأبو هارون ابن البكّاء، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.

ذكر وفاة أبى العباس المأمون

ذكر وفاة أبى العباس المأمون كانت وفاته بالبذندون «1» من أرض الروم لثمان خلون من شهر رجب، وقيل لاثنتى عشرة بقيت منه، سنة ثمانى عشرة ومائتين، وكان ابتداء مرضه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة منها؛ وكان سبب مرضه ما ذكره سعيد بن «2» العلّاف القارئ، قال: دعانى المأمون يوما فوجدته جالسا على شاطئ البذندون، والمعتصم عن يمينه، وقد دلّيا أرجلهما فى الماء، فأمرنى أن أضع رجلىّ فى الماء، وقال: ذقه- هل رأيت أعذب منه! أو أصفى أو أشد بردا؟ ففعلت وقلت ما رأيت قط مثله، فقال: أى شىء أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: الرطب الآزاذ، فبينما هو يقول ذلك إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم: انظر إن كان فى هذه الألطاف رطب آزاذ فأت به؟ فمضى وعاد ومعه سلّتان فيهما منه، كأنما جنى تلك الساعة، فأظهر شكر الله تعالى وتعجبنا جميعا، وأكلنا وشربنا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلا وهو محموم، ودامت العلة بالمأمون حتى مات، ولمّا اشتدت عليه قال لأبى إسحاق: يا أبا إسحاق أدن منّى واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك فى القرآن، واعمل فى الخلافة- إذا طوّقكها الله- عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية- العوامّ العوامّ فإنّ الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفى غيرهم من المسلمين، ولا ينتهينّ إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدّمته وآثرته على غيره من هواك، وخد من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم فى شىء، وانصف بعضهم من بعض بالحق

بينهم، وعجّل الرحلة عنّى إلى دار ملكك بالعراق «1» ، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم فى كل وقت، والخرّمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة «2» وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود، فإن طالت مدّتهم فتجرّد لهم فيمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل فى ذلك عملا مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه، ثم دعاه بعد ساعة حين اشتد وجعه وأحسّ بمجىء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لتقومنّ بحق الله فى عباده، ولتوثرنّ طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمّك ولد أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، ولا تغفل ضلاتهم فى كل سنة عند محلّها، فإنّ حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله فى أموركم كلها، أستودعكم الله ونفسى وأستغفر الله بما سلف منّى إنّه كان غفّارا، فإنّه ليعلم كيف ندمى على ذنوبى فعليه توكّلت من عظيمها وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، حسبى الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على محمد نبى الهدى والرحمة. قال: ولما اشتد مرضه وحضره الموت كان عنده ابن ماسويه، فجاء من يلقنه فعرض عليه الشهادة، فقال الطبيب: دعه فإنه لا يفرّق فى هذه الحال بين ربه ومانى، ففتح المأمون عينيه وأراد أن يبطش به فعجز، وأراد الكلام فعجز عنه، ثم قال: يا من لا يموت ارحم من يموت، ومات من ساعته. ولما توفى حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بها بدار خاقان خادم الرشيد، وصلّى عليه المعتصم ووكلوا به حرسا من أبناء

ذكر صفته وشىء من أخباره وسيرته

طرسوس وغيرهم- مائة رجل، وأجرى لكل منهم تسعين درهما. وكان مولده للنصف من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، ومدة خلافته عشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرون يوما، سوى تلك المدة التى كان فيها الاختلاف بينه وبين أخيه الأمين محصور. ذكر صفته وشىء من أخباره وسيرته كان المأمون ربعة ابيض طويل اللحية دقيقها قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر تعلوه صفرة أجنى أعين ضيّق الجبهة بخده خال أسود، وهو أول من اتخذ الأتراك للخدمة وتغالى فى أثمانهم، فكان يشترى الواحد منهم بمائة ألف ومائتى ألف درهم، وكان يحب سماع أخبار الناس، حتى جعل برسم الأخبار ببغداد ألف عجوز وسبعمائة عجوز، وكان كريما وقّع فى يوم واحد بثلاثمائة ألف دينار، وكان يقول: لو علم الناس ما عندى من حلاوة العفو لما تقرّبوا إلىّ إلا بالذنوب. وقال العتبى «1» صاحب إسحاق بن إبراهيم كنت مع المأمون بدمشق، وكان المأمون قد قلّ عنده المال حتى ضاق وشكى ذلك إلى المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنّك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وكان قد حمل إليه من خراج ما يتولاه ثلاثون ألف ألف ألف درهم، فلما ورد عليه المال قال ليحيى بن أكثم: أخرج بنا ننظر إلى هذا المال، فخرجا «2» ينظرانه وكان قد هيّئ بأحسن هيئة وحلّيت أباعره، فنظر المأمون إليه واستكثره واستبشر به الناس، فقال المأمون: يا أبا محمد- ننصرف بالمال ويرجع أصحابنا خائبين!! إنّ هذا للؤم، ودعا محمد بن يزداد فقال له: وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف ألف- ورجله فى

الركاب، ثم قال: ادفع الباقى إلى المعلى يعطيه جندنا، قال: فقمت نصب عينه فلما رآنى وقّع لى بخمسين ألفا فقبضتها. وكان أمر المأمون نافذا من أفريقية المغرب إلى أقصى خراسان وما وراء النهر وولاية السند، وقدم ملك التبت ومعه صنم من ذهب على سرير من ذهب مرصع بالجوهر فأسلم الملك، وأخذ المأمون الصنم وأرسله إلى الكعبة وكتب «1» إليه ملك الهند مع هدية نفيسة أهداها إليه، من دهمى- ملك الهند وعظيم أركان المشرق، وصاحب بيت الذهب وأبواب الياقوت وفرش الدّر- الذى قصره مبنى من العود الذى يختم عليه، فيقبل الصورة قبول الشمع، والذى تؤخذ رائحة قصره من عشرة فراسخ- والذى يسجد أمام البد، الذى وزنه ألف ألف مثقال من ذهب، عليه مائة ألف حجر من الياقوت الأحمر والدرّ الأبيض- الذى يركب فى ألف مركب وألف راية مكللة بالدرّ، تحت كل راية ألف فارس معلّمين بالذهب والحرير- والذى فى مربطه ألف فيل، حزائمها أعنة الذهب- والذى يأكل فى صحاف الذهب على موائد الدرّ، والذى فى خزانته ألف تاج وألف حلّة جوهر لألف ملك من آبائه، والذى يستحيى من الله أن يراه خائنا فى رعيته، إذ خصّه بالأمانة عليهم والرياسة فيهم- إلى عبد الله ذى الشرف والرياسة على أهل مملكته، فى كلام طويل فى آخره- وقد افتتحنا إهداءك «2» بأن وجّهنا إليك كتابا، ترجمته صفوة الأذهان، وكانت الهديّة جام ياقوت أحمر، فتحه شبر فى غلظ الأصبع مملوءا درا، وزن كل درّة مثقال- والعدد مائة، وفراشا من جلد حيّة بوادى الدهراج تبلغ الفيل، ووشى جلدها دارات سود كالدراهم، فى أوساطها نقط بيض، لا يتخوف من جلس عليه مرض السلّ، وإن كان به سلّ وجلس عليه سبعة أيام برىء، وثلاث مصليات من

جلد السمندل فراوزها درّ، ومائة مثقال من العود الهندى يختم عليه فيقبل الصورة، وثلاثة آلاف منّ من الكافور المحبّب، كل حبّة أكبر من اللوزة، وجارية طولها سبعة أذرع تسحب شعرها، طول كل شفر من أشفار عينيها أصبع، تبلغ إذا أطرقت نصف خدّها، ناهدا لها ثمان عكن، فى نهاية الحسن والجمال ونقاء البشرة؛ وكان الكتاب من لحاء شجر الكادى، لونه إلى الصفرة والخط باللازورد مفتح بالذهب. فأجابه المأمون من عبد الله الإمام أمير المؤمنين- الذى وهب الله له ولآبائه الشرف بابن عمه النبى المرسل صلى الله عليه وسلّم وأعلى ذكره، والمصدّق بالكتاب المنزل- إلى ملك الهند وعظيم من تحت يده من أركان المشرق، سلام عليك- وأهدى له هديّة وهى فرس بفارسه، وجميع آلاته عقيق، ومائدة جزع فيها خطوط سود وحمر وخضر على أرض بيضاء، فتحها ثلاثة أشبار وغلظها أصبعان؟؟؟، قوائمها ذهب، وثمانية أصناف من بياض مصر وخز السّوس ووشى اليمن وملحم «1» خراسان، والديباج الخرسوانى، وفرش سوسنجرد، ووشى تستر «2» ، من كل صنف مائة قطعة، ومائة طنفسه جنوية بوسائدها، وجام زجاج فرعونى فتحه شبر، فى وسطه صورة أسد أمامه رجل قد برك على ركبتيه. وفوّق السهم نحو الأسد فى قوس؛ وكان الكتاب فى طومار ذى وجهين وكان للمأمون من الأولاد: محمد الأكبر وعبد الله ومحمد الأصغر والعباس وعلى والحسن وإسماعيل والفضل وموسى وإبراهيم ويعقوب والحسين وسليمان وجعفر وإسحاق واحمد وعيسى وهارون وعشر بنات نقش خاتمة: سل الله يعطك وزراؤه: ذو الرئاستين الفضل بن سهل ثم أخوه الحسن بن سهل ثم أحمد بن أبى خالد الأحوال ثم أحمد بن يوسف وجماعة، قيل إنه ما استوزر بعد الفضل أحدا، وإنما كانوا كتابا. حجّابه: عبد الحميد بن

ذكر خلافة المعتصم بالله

شبث ثم محمد وعلى ابنا صالح مولى المنصور ثم إسماعيل بن محمد بن صالح. قضاته: محمد بن عمر الواقدى ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومى ثم بشر بن الوليد ثم يحيى بن أكثم. الأمراء بمصر: عبّاد بن محمد البلخى ثم المطلب بن عبد الله بن مالك بن الهيثم ثم العباس بن موسى بن عيسى الهاشمى ثم عاد المطلب ثم السّرىّ ثم الحكم مولى بنى ضبّة من أهل بلخ- باجتماع من الجند عليه- ثم سليمان بن غالب ثم السرىّ بعهد من المأمون ثم مات فوليها أبو نصر محمد بن السرىّ ثم مات فوليها أخوه عبيد الله بن السرىّ- بايعه الجند- ثم عبد الله بن طاهر بن الحسين مضافة للشام وغيره، فلما سار إلى العراق استخلف عيسى بن يزيد الجلودى، ثم ابو إسحاق المعتصم مضافة إلى الشام فأقرّ الجلودى، ثم صرفه بعمير بن الوليد التميمى ثم أعاد الجلودى ثم عبدويه «1» بن جبلة ثم عيسى بن منصور، فلما قدم المأمون مصر عزل عيسى وولّى نصر بن عبد الله الصّغدى ويعرف بكيدر. القضاة بها: لهيعة بن عيسى الحضرمى ثم الفضل بن غانم ثم عاد لهيعة ثم إبراهيم بن إسحاق القارى ثم إبراهيم بن الجراح ثم عيسى بن المنكدر ثم عاد إلى بغداد؛ ووصل المأمون إلى مصر وليس بها قاض، فأمر يحيى بن أكثم أن يحكم بين الناس إلى أن سار عنها، وولّى هارون بن عبد الله من ولد عبد الرحمن بن عوف. ذكر خلافة المعتصم بالله هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد وأمه ماردة أم ولد، وهو الثامن من الخلفاء العباسيين، وهو أول من أضاف إلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء فقيل المعتصم بالله وتداوله من بعده، بويع يوم وفاة المأمون بطرسوس لثمان خلون من شهر رجب أو لاثنتى عشرة بقيت منه سنة ثمانى عشرة ومائتين، ولم يقل ابن الأثير فى تاريخه غيره.

ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين

قال: ولما بويع له شغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمى فسكتوا، وكان المأمون قد وجّه ابنه العباس إلى طوانة، وأمره ببنائها فى هذه السنة، وجعلها ميلا فى ميل وجعل سورها على مسافة ثلاثة فراسخ «1» ، وجعل لها أربعة أبواب على كل باب حصن، فأول ما بدأ به المعتصم أن أمر بإخراب ما كان قد بنى منها، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التى بها، وأحرق الباقى وانصرف إلى بغداد ومعه العباس بن المأمون، فقدمها فى مستهلّ شهر رمضان من هذه السنة. وفيها دخل كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وماسبذان وغيرها فى دين الخرميّة، وتجمعوا فعسكروا فى عمل همذان، فوجّه إليهم المعتصم العساكر، وكان منهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعفد له على الجبال فى شوّال، فسار إليهم فأوقع بهم فى أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم. وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن العباس بن محمد. ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوى فى هذه السنة ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنه بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان ابتداء أمره أنه كان ملازما لمسجد النبى صلى الله عليه وسلّم حسن السيرة، فأتاه إنسان من خراسان اسمه أبو محمد كان مجاورا، فلما رآه أحبه وأعجبته طريقته، فقال له: أنت أحق بالإمامة

ذكر محاربة الزط

من كل أحد، وحسّن له ذلك وبايعه، وصار الخراسانى يأتيه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه، فلمّا رضى بكثرة من بايعه من خراسان سارا جميعا إلى الجوزجان، واختفى هناك وجعل أبو محمد يدعو الناس إليه فعظم أصحابه، وحمله أبو محمد على إظهار أمره فأظهره بالطّالقان، وكان بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات، فانهزم هو وأصحابه وخرج هاربا، يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلما صار بنسا وبها والد «1» لبعض من معه، فمضى الرجل الذى معه يسلّم على أبيه فسلّم عليه، فسأله أبوه عن الخبر فأخبره به، فمضى الأب إلى عامل نسا وأخبره بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامل عشرة آلاف درهم، وجاء العامل إلى محمد فأخذه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فسيّره إلى المعتصم فوصل إليه فى منتصف شهر ربيع الأول فحبس عند مسرور الكبير، فلما كان ليلة الفطر اشتغل الناس بالعيد، فدلّى إليه حبل من كوّة فخرج منها، فأتوه بالطعام فى يوم الفطر فلم يجدوه، وبذل لمن أتى به مائة ألف درهم فلم يعرف له خبر بعد ذلك. ذكر محاربة الزّط فى هذه السنة وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة فى جمادى الأولى لحرب الزط، وكانوا قد غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبل، فسار عجيف حتى نزل واسط على نهر يقال له بردودا فسدّه وسدّ أنهارا أخر، كانوا يخرجون منها ويدخلون وأخذ عليهم الطرق، ثم حاربهم فقتل فى معركة واحدة ثلاثمائة وأسر خمسمائة، فضرب أعناقهم وبعث الرءوس إلى باب المعتصم، وأقام عجيف بإزائهم خمسة عشر يوما، فظفر منهم بخلق كثير، وكان رئيس الزّط

ودخلت سنة عشرين ومائتين

يقال له محمد بن عثمان، وصاحب أمره رجل يقال له سملق «1» ، ثم استوطن عجيف وأقام بإزاء الزط ستة أشهر، وقاتلهم فطلبوا الأمان وخرجوا إليه فى ذى الحجة، وكان عدّتهم بالنساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم أثنا عشر ألفا، فجعلهم عجيف فى السفن وعبّأهم على تعبئتهم فى الحرب ومعهم البوقات، فأدخلهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين، فخرج المعتصم إلى الشماسية فى سفينة حتى مرّت به سفن الزط وهم ينفخون فى البوقات، وأقاموا فى سفنهم ثلاثة أيام ثم نقلوا إلى الجانب الشرقى، فسلّموا إلى بشر بن السّميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فلم يفلت منهم أحد. وفى هذه السنة أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلدا شديدا حتى غاب عقله، وتقطع جلده وحبس مقيّدا. ودخلت سنة عشرين ومائتين فى هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاووس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك الخرّمى فسار لذلك، فكان بينهما من الحروب ما نذكره فى سنة اثنتين وعشرين، عند الظفر ببابك ونذكر أخباره هناك إن شاء الله تعالى. ذكر بناء سامرّا وهى سرّ من رأى فى هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرّا، وكان سبب ذلك أنه قال: إنى هاهنا أتخوّف الحربيّة أن يصيحوا صيحة فيقتلوا غلمانى، فأريد أن أكون فوقهم فإن رابنى منهم شىء قاتلتهم فى البر والماء حتى آتى عليهم؛ وقيل كان

ذكر القبض على الفضل بن مروان بن أحمد بن عمارة الوزير

سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك، وكانوا لا يزالون يرون الواحد منهم بعد الواحد قتيلا، وذلك أنّهم كانوا جفاة يركبون الدّواب فيركضونها فى الشوارع، فيصدمون الرجل والمرأة والصبى فيأخذهم الأبناء عن دوابّهم فيضربونهم، وربما هلك أحدهم؛ ثم إن المعتصم ركب يوم عيد فقام إليه شيخ، فقال له: يا أبا إسحاق لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا- والمعتصم يسمع كلامه، ولم ير راكبا بعدها أبدا بل صلّى العيد وسار إلى ناحية القاطول ولم يرجع إلى بغداد. قال: ولما خرج المعتصم من بغداد استخلف بها ابنه الواثق، وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحوف بمصر واستخدمهم وسماهم المغاربة، وجمع خلقا من سمرقند وأشرو سنة وفرغانة وسماهم الفراغنة، وكانوا من ثقاته فتركهم بعده بها. وكان ابتداء العمارة بسامرّا فى سنة إحدى وعشرين ومائتين، وبنيت فى أسرع مدة وهى على شاطئ دجلة، وقيل إنّه أنفق على جامعها خمسمائة ألف دينار، وانتقل إليها وجعلها مقر خلافته، وقيل إنّه سماها بهذا الاسم لأنّه لما انتقل إليها بعساكره سرّ كل منهم برؤيتها، فسمّاها سرّ من رأى، ولما خرج المعتصم من بغداد نزل القاطول. ذكر القبض على الفضل بن مروان بن أحمد بن عمارة الوزير كان الفضل من البردان وكان حسن الخط، فاتصل بيحيى الجرمقانى كاتب المعتصم قبل خلافته، فلما هلك الجرمقانى صار الفضل مكانه، وتوجّه مع المعتصم إلى الشام ومصر فحصّل أموالا كثيرة، فلما صار المعتصم خليفة صار له اسمها وللفضل معناها، واستولى على الدواوين كلها وكنز الأموال،

ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغنّى والنديم فلا ينفّذ الفضل ذلك، فثقل على المعتصم، وكان له مضحك اسمه إبراهيم، فأمر له المعتصم بمال فلم يعطه الفضل، فداعب المعتصم يوما إبراهيم فقال له إبراهيم: والله لا أفلحت، فضحك وقال: وهل بقى من الفلاح شىء لم أدركه بعد الخلافة؟ فقال: أتظن أنك أفلحت؟! لا والله- مالك من الخلافة إلا اسمها، والله ما يجاوز أمرك أذنيك- إنما الخلافة الفضل، فقال: وأى أمر لى لم ينفّذ؟ فقال: أمرت لى من شهرين بكذا وكذا فلم أعط حبّة، فحقدها المعتصم على الفضل ثم نكبه هو وأهل بيته فى صفر من هذه السنة، وصيّر مكانه محمد بن عبد الملك الزيات فصار وزيرا وكاتبا. وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن العباس بن محمد. ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين حجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى؛ وكان فيها من محاربة بغا الكبير وبابك ما نذكره إن شاء الله تعالى. ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين ذكر أخبار بابك الخرّمى وفتح البذ وأسر بابك وقتله كان ابتداء أمر بابك فى سنة إحدى ومائتين فى خلافة المأمون، وتحرك فى الجاويدانية- أصحاب جاويدان بن سهل صاحب البذ «1» ، وادعى أن روح جاويدان حلّت فيه، وتفسير جاويدان: الدائم الباقى، ومعنى خرّم: الفرج، والرجل منهم ينكح أمه وأخته وابنته- ولهذا يسمونه دين الفرج،

ويعتقدون التناسخ وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره، وكان لبابك فى أيام المأمون حروب مع جيوش المأمون، كان الظفر فيها لبابك وأصحابه، وقتل محمد الطوسى عامل المأمون على الموصل، فى سنة أربع عشرة ومائتين فى حرب كانت بينهم ولما حضرت المأمون الوفاة كان من جملة وصيّته للمعتصم غزو الخرّمية كما ذكرنا ذلك، فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم عقد للأفشين حيدر بن كاووس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك فى سنة عشرين ومائتين، وكان قبل ذلك قد وجّه المعتصم- أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبنى الحصون التى خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون، ووجّه بابك سريّة فى بعض غاراته فأغارت ورجعت، فبلغ ذلك أبا سعيد فخرج فى طلب السريّة، فاعترضها فى بعض الطريق فظفر بهم وقتل وأسر منهم، وبعث بالرءوس والأسرى إلى المعتصم، وكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك، ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث، وذلك أن محمدا كان فى قلعة له حصينة تسمى شاهى من أذربيجان، وله حصن آخر فى أذربيجان يسمى تبريز «1» ، وكان مصالحا لبابك تنزل سراياه عنده فيضيفهم حتى أنسوا به، ثم وجّه بابك قائدا من قوّاده اسمه عصمة فى سرية، فنزل بمحمد بن البعيث فأنزل له الضيافة على عادته، واستدعاه إليه فى خاصته ووجوه أصحابه فصعدوا إليه، فغذاهم وسقاهم الخمر حتى سكروا، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمى له رجلا رجلا من أصحابه، فكان يدعو الرجل باسمه فيصعد فيضرب عنقه حتى علموا بذلك، وسيّر عصمة إلى المعتصم، فسأله عن بلاد بابك فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، ثم حبسه فبقى إلى أيام الواثق؛ ثم سار الأفشين بعد ذلك إلى بلاد بابك، فنزل

برزند «1» وعسكر بها وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل، ثم سار الأفشين والتقى ببابك واقتتلوا قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة فى سنة عشرين ومائتين، قتل فيها كثير من أصحاب بابك الذين كانوا معه، وأفلت هو فى نفر يسير، واستمرت الحرب بينه وبين بابك المرة بعد المرة إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ففتح الأفشين البذّ- مدينة بابك- وأسر بابك، وخرّب المسلمون المدينة واستباحوها وذلك لعشر بقين من شهر رمضان فى هذه السنة، وكانت حروب يطول شرحها انجلت «2» عن ظفر المسلمين. قال: وكان الأفشين قد قصّر فى الحصار، فرأى رجل من أصحابه فى منامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول له: قل للأفشين- إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت فى أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة، وشاعت هذه الرؤيا فثار المتطوّعة وصمّموا على الحصار، وحاصروا وكانت حروب عظيمة انجلت «3» عن الفتح فى التاريخ المذكور، وهرب بابك ثم أحضر هو وأخوه عبد الله لعشر خلون من شوال، وكان وصولهما إلى المعتصم بسامرّا فى صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين. ولما وصل إلى سامرّا أمر المعتصم أن يركب فيلا والناس ينظرونه، وأدخل دار المعتصم فأمر بإحضار سيّاف بابك، وأمره أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط. ثم أمر به فذبح وشقّ بطنه، وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامرّا. وأمر بحملّ أخيه عبد الله إلى بغداد، وأن يفعل به كما فعل ببابك، ففعل به ذلك وصلب فى الجانب الشرقى بين الجسرين. وكان من قتله بابك فى عشرين سنة مائتى ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان؛ هذا ما كان أمره على سبيل الاختصار.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين ذكر قدوم الأفشين إلى سامرّا وما عامله به المعتصم فى هذه السنة قدم الأفشين ببابك إلى سامرّا، فكان من أمر بابك وأخيه ما ذكرناه، وأما الأفشين فإن المعتصم كان يوجّه إليه فى كل يوم من حين سار من برزند إلى أن وافى سامرّا خلعة وفرسا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم وأهل بيته، فلما وصل إليه توجّه المعتصم وألبسه وشاحين، ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم ففرقها فى عسكره «1» ، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه. قال: وكان الذى أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك- سوى الأرزاق والأنزال والمعاون «2» فى كل يوم يركب فيه- عشرة آلاف «3» ، وفى غيره خمسة آلاف. قال: وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة نفر، واستنقذ ممن فى يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة، وصار فى يد الأفشين من بنى بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات «4» ثلاث وعشرون امرأة. ذكر خروج الروم إلى زبطرة فى هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل- ملك الروم- إلى بلاد الإسلام، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها، وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيّق

ذكر فتح عمورية

عليه الأفشين كتب إلى ملك الروم، يعلمه أن المعتصم قد وجّه عساكره إليه، وجمع مقاتلته حتى وجّه خيّاطه وطبّاخه يعنى جعفر بن دينار الخياط ويعنى بالطباخ إيتاخ، ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس فى وجهك أحد يمنع، فخرج توفيل فى مائة ألف- وقيل أكثر من ذلك، فبلغ زبطرة فقتل من بها من الرجال وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون الإسلام، وسبى المسلمات ومثّل بمن صار فى يده من المسلمين، وسمل أعينهم وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج أهل الثغور من الشام والجزيرة إلا من لم يكن له دابّة ولا سلاح ذكر فتح عمّوريّة قال: لما فعل توفيل ما فعل واتصل الخبر بالمعتصم كبر لديه واستعظمه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهى فى أيدى الروم- وامعتصماه!! فأجابها- وهو على سريره- لبّيك لبّيك، ونهض من ساعته وصاح فى قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته وسمّط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة فيها زاده، ولم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة وجمع العساكر، ثم جلس فى دار العامّة وأحضر قاضيى بغداد عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب «1» بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده وثلثا لله تعالى وثلثا لمواليه، ثم سار فعسكر بغربى دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى، ووجّه عجيف بن عنبسة وعمرو «2» الفرغانى وجماعة من القواد إلى

زبطرة معونة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد أن فعل ما ذكرناه، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم «1» واطمأنوا، ثم سار المعتصم وسأل: أى بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهى عين النصرانية وأشرف عندهم من قسطنطينية، فسار المعتصم من سامرّا- وقيل كان مسيره فى سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين ومائتين وتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله قط من سلاح وآلات وعدد وغير ذلك، وبث سراياه فيها وجيوشه- يغير ويقتل ويأسر ويغنم، ثم نزل بعمورية لست خلون من شهر رمضان وحاصرها ونصب عليها المجانيق، ووالى الزحف والقتال ودام عليها خمسة وخمسين يوما وكان بطارقة الروم قد اقتسموا «2» الأبراج، وكان وندوا موكل ببعضها ومعناه بالعربية «3» ثور، فقاتل قتالا شديدا وكثرت الجراحات فى أصحابه، فمشى إلى الروم وقال: إن الحرب علىّ وعلى أصحابى، ولم يبق معى أحد إلا جرح، فإما أن تمدونى وإلا ذهبت المدينة فلم يمدوه، وكان المسلمون قد هدموا ثلمة من السور مما يلى جهة وندوا، فعزم هو وأصحابه على الخروج إلى المعتصم، يسألونه الأمان على الذريّة ويسلّمون إليه الحصن بما فيه، فلما أصبح أوقف أصحابه بجانبى الثلمة وأمرهم ألا يحاربوا، فخرج إلى المعتصم فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة وقد أمسك الروم عن القتال، ووصل المسلمون الى الثلمة ووندوا بين يدى المعتصم، والناس يتقدمون حتى دخلوا المدينة، فالتفت وندوا وضرب بيده على لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟! قال: جئت أسمع كلامك فغدرت بى، فقال له المعتصم: كل شىء تريده فهو لك. قال: ولما دخل المسلمون المدينة صارت

ذكر القبض على العباس بن المأمون وحبسه والأمر بلعنه ووفاته

طائفة من الروم إلى كنيسة كبيرة، فأحرقها المسلمون عليهم فهلكوا بأجمعهم، وجاء ناطس «1» - وهو من البطارقة- فوقف بين يدى المعتصم، فضربه المعتصم سوطا وأخذ الروم السيف، وأقبل الناس بالأسرى والسبى من كل وجه، وكثرت الغنائم حتى كان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة، ولا ينادى على الشىء أكثر من ثلاثة أصوات طلبا للسرعة، وأمر المعتصم بعمورية فهدمت وأحرقت، وفرق الأسرى على القواد وسار نحو طرسوس ذكر القبض على العباس بن المأمون وحبسه والأمر بلعنه ووفاته وفى هذه السنة حبس المعتصم- العبّاس بن المأمون وأمر بلعنه، وسبب ذلك أن عجيف بن عنبسة اجتمع به ووبّخه، كونه بايع المعتصم وكونه لم يطلب الأمر لنفسه، وحثّه على طلب الأمر لنفسه. فقبل العباس قوله وأخذ يدبّر فى قتل المعتصم، وشرع فى طلب البيعة ووافقه جماعة من القواد، فنمى الخبر إلى المعتصم فأحضر العباس وسقاه حتى سكر ولطف به واستعلم الخبر منه فذكر له الحال على غرة، فقيّده وسلمه للأفشين فحبسه، فلما نزل منبج طلب العباس الطعام فقدم إليه طعام كثير. فأكل ومنع الماء وأدرج فى مسح، فمات بمنبج وصلّى عليه بعض إخوته، وتتبع المعتصم من كان قد وافقه على ذلك من القواد، فمنهم من فعل به مثل ذلك ومنهم من دفنه حيا، وعاد المعتصم إلى سامرا وأمسك أولاد المأمون فحبسهم فى داره حتى ماتوا.

ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين ذكر مخالفة مازيار بطبرستان وأسره فى هذه السنة أظهر مازيار بن قارن بن ونداهرمز «1» الخلاف على المعتصم، وعصى وقاتل عساكره، وسبب ذلك أنّه كان منافرا لعبد الله بن طاهر لا يحمل إليه خراجه، فكاتبه المعتصم فى ذلك فقال: لا أحمله إلا إليك، وكان المعتصم يأمر بأخذه من أصحاب مازيار بهمذان، ويسلمه لوكيل عبد الله بن طاهر، فلما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله طمع فى ولاية خراسان، فراسل الأفشين مازيار فى الخلاف والخروج، على أنّه إذا خرج احتاج المعتصم إلى إرسال الأفشين لحربه، فينتقل من ذلك إلى ولاية خراسان، فخالف مازيار فكتب المعتصم لعبد الله بن طاهر بحربه، فأرسل ابن طاهر عمّه الحسن بن الحسين فى جيش كثيف لحفظ جرجان، فنزل مقابل سرخاستان، وقد بنى سرخاستان سورا على طميس وجعل له خندقا، ومقدار السور ثلاثة أميال ليمنع من الدخول إلى طبرستان، وكانت الأكاسرة تبنيه لتمنع الترك من الدخول إليها، ووجّه حيّان بن جبلة فى أربعة آلاف إلى قومس، فعسكر على حدّ جبال شروين، ووجّه المعتصم من عنده محمد بن إبراهيم بن مصعب ومعه الحسن بن قارن الطبرى، ووجه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الرى ليدخل طبرستان من ناحية الرى، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب وكان أصحاب سرخاستان يتحدثون مع أصحاب الحسن بن الحسين على غفلة من الحسن- ونظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا- وبلغ الحسن الخبر فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم خوفا عليهم فلم يقفوا- ونصبوا علمه على معسكر

سرخاستان وهو فى الحمام- فهرب فى غلالة، ودخل أصحاب الحسن السور وهو يقول: اللهم إنهم عصونى وأطاعوك فانصرهم، واستولوا على عسكر سرخاستان وأسر أخوه شهريار فقتله الحسن، وسار سرخاستان حتى أجهده العطش، فنزل عن دابته وشدها، فضربه غلام له اسمه جعفر وجماعة من أصحابه، فسألهم الماء فأمسكوه وقالوا: نتقرب به إلى السلطان، فرجعوا به نحو العسكر فلقيتهم خيل الحسن بن الحسين فأخذوه منهم، وأتوا به الحسن فقتله ووجه برأسه إلى عبد الله بن طاهر. وأما حيان بن جبلة- مولى ابن طاهر- فإنه كاتب قارن بن شهريار- وهو ابن أخى مازيار، ورغّبه فى الملك وضمنه له، وكان قارن من قواد مازيار وقد أنفذه مازيار مع أخيه عبد الله بن قارن ومعه عدة من القواد فضمن له قارن عند ذلك أن تسلم إليه الجبال ومدينة سارية وات؟؟؟ قارن طعاما ودعا عمّه عبد الله والقواد فأتوه، ووضعوا سلاحهم فأحدق بهم أصحابه وقبضوا عليهم ووجّه بهم إلى حيّان فاستوثق منهم، وركب فى أصحابه ودخل جبال قارن، وبلغ الخبر مازيار فاغتّم له، قال: ولما بلغ الخبر أهل سارية أخذ سرخاستان ودخول حيان جبال شروين وثبوا على عامل مازيار بها فهرب منهم، وأتى حيان المدينة، وبلغ قوهيار أخو مازيار الخبر، فأرسل إلى حيان يطلب منه الأمان، وأن يملك على جبال أبيه وجدّه ويسلم إليه مازيار، ثم مات حيان قبل الاتفاق فوجّه عبد الله مكانه عمه محمد بن الحسين، ثم صار الحسن بن الحسين إلى خرّماباذ، فأتته رسل قوهيار ثم جاءه بنفسه فأكرمه وأجابه إلى جميع ما طلب، وتواعدوا يوما فحضر مازيار عنده، ورجع قوهيار إلى أخيه مازيار فأعلمه أنه أخذ له الأمان واستوثق له، فركب الحسن يوم الميعاد ومعه ثلاثة غلمان أتراك- وإبراهيم بن مهران يدلّه على الطريق، حتى أتيا هرمز أباذ فأتاه المازيار مع القوهيار، فأخذه ووجّهه إلى سارية، وسار الحسن إلى هرمز أباذ فأحرق قصر المازيار وانتهب ماله، وسار

إلى خرّماباذ فأخذ إخوة المازيار وحبسهم، وسار إلى مدينة سارية فأقام بها، وأمره عبد الله بن طاهر بإرسال المازيار إلى المعتصم وأهله معه، وأن يسلمه إلى محمد بن إبراهيم ليسير به ففعل ذلك، وأمره أن يستصفى «1» أمواله ويحرزها، فأحضره وسأله عن أمواله فذكر أنها عند خزّانه فضمن القوهيار ذلك، وقال المازيار: اشهدوا على أن جميع ما أخذت من أموالى ستة وتسعون ألف «2» دينار وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت، وثمانية أحمال من ألوان الثياب، وتاج وسيف مجوهر «3» ، وخنجر» من ذهب مكلّل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا- قيمته ثمانية عشر ألف ألف درهم، وقد سلّمت ذلك إلى خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على عسكره، وكان المازيار قد أخذ هذا ليوصله إلى الحسن ابن الحسين ليظهر للناس أنه أمنه على نفسه وماله وولده، وأنه جعل له جبال أبيه فامتنع الحسن من قبوله- وكان من أعف الناس، ثم أمر الحسن قوهيار أن يتوجه لحمل مال المازيار، وأعطاه من البغال «5» ما يحملها عليها، وأراد أن ينفذ معه جيشا فقال: لا حاجة لى بهم، وسار فى غلمانه ففتح الخزائن وأخذ الأموال، فلما عبّأها وثب عليه مماليك المازيار- وكانوا ديالم «6» ، فقالوا: إنك غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله!! وكانوا ألفا ومائتين فأخذوه وقيّدوه، فلما جنّهم الليل قتلوه وانتهبوا المال؛ وانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا ووجّه قارن جيشا، وبلغ محمد بن إبراهيم الخبر فأرسل فى أثرهم فأخذوا، وبعثهم إلى مدينة سارية

ذكر عصيان منكجور قرابة الأفشين والظفر به

قال: وقد قيل إن سبب أسر المازيار أنه كان له ابن عم اسمه قوهيار، كان له جبال طبرستان وللمازيار السهل، فألزمه مازيار بابه وولّى الجبال غيره، فلما خالف مازيار دعا قوهيار ابن عمه- وقيل كان أخاه، وقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين وكتبه، وأمره بالعود إلى جبله وحفظه، وأمر الذى ولّاه بعده على الجبل واسمه درّى وأمره بالانضمام إليه بالعساكر، ووجهه إلى محاربة الحسن بن الحسين، وبقى المازيار فى مدينته فى نفريسير، فدعا قوهيار الحقد الذى فى قلبه أن كاتب الحسن وكاتبه الحسن، وضمن له ما يريد وأن يعيد إليه جبله وما كان فى يده لا ينازع فيه، فرضى بذلك ووعده بتسليم الجبل، فلما جاء الميعاد تقدّم الحسن فحارب درّى، وكان درى قد انفرد بالمواضع المخوفة، وأرسل عبد الله بن طاهر جيشا كثيفا فوافوا قوهيار، فسلّم إليهم الجبل فدخلوه، ودرّى يحارب الحسن ومازيار فى قصره، فلم يشعر إلا والخيل على باب قصره فأخذوه أسيرا، وقيل أخذ وهو يتصيد، وقصدوا به نحو درى وهو يقاتل، فلم يشعر هو وأصحابه إلا والخيل من ورائهم ومعهم مازيار، فانهزم درّى فأدركوه وقتلوه وحملوا رأسه إلى عبد الله بن طاهر، وحملوا المازيار فأوعده «1» عبد الله- إن هو أظهره على كتب الأفشين- أن يسأل فيه المعتصم ليصفح عنه، فأقرّ المازيار بذلك وأحضر الكتب إليه فسيّرها إلى المعتصم، فلما توجه مازيار إلى المعتصم سأله عن الكتب فأنكرها، فضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك، وقيل إنه اعترف للمعتصم بالكتب والله أعلم، وكان قتله فى سنة خمس وعشرين. ذكر عصيان منكجور قرابة الأفشين والظفر به قال: وكان الأفشين قد استعمل منكجور- وهو من أقاربه- على أذربيجان، فوجد فى بعض قرى بابك مالا عظيما فأخذه، ولم يطالع به

ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

المعتصم ولا الأفشين، فكتب صاحب البريد بذلك إلى المعتصم، فطولب بالمال فأنكره وكذّب صاحب البريد وهّم بقتله، فمنعه أهل أردبيل منه فقاتلهم منكجور، فأمر المعتصم الأفشين بعزله فعزله، ووجه قائدا من القوّاد إليه فخلع منكجور يده من الطاعة، وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، والتجأ إلى حصن من حصون بابك الذى كان قد خرّبها بابك فعمره وأقام به، فبقى شهرا ثم وثب عليه أصحابه فسلّموه للقائد، فقدم به إلى سامرّا فى سنة خمس وعشرين. وقيل إن القائد كان بغا الكبير وأن منكجور خرج إليه بأمان، واتهم الأفشين بمباطنته. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود «1» ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين ذكر القبض على الأفشين وحبسه ووفاته وصلبه فى هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه، وذلك لما ظهر عنه من مباطنة المازيار وغيره، فأحضره وقوبل على ذلك وحوقق على ما كان قد قصده من الخلاف، وحبس إلى أن مات فى سنة ست وعشرين ومائتين، وقيل منع عنه الطعام حتى مات، ولما مات أمر المعتصم بإخراجه وصلبه على باب العامة، ووجد بقلفته، ثم ألقى وأحرق وأخذ ماله، ووجد فى داره أصناما وكتابا من كتب المجوس، ورتب المعتصم بعده على الحرس إسحاق بن يحيى بن معاذ. وفيها استعمل إيتاخ على اليمن وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود «2» ودخلت سنة ست وعشرين ومائتين فى هذه السنة حج بالناس محمد بن داود بأمر إشناس، وكان إشناس

ودخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

حاجا وقد جعل إليه ولاية كل بلد يدخله، وخطب له على منابر مكة والمدينة وغيرها من البلاد التى اجتاز بها إلى مدينة سامرّا. ودخلت سنة سبع وعشرين ومائتين ذكر خروج المبرقع بفلسطين وفى هذه السنة خرج أبو حرب اليمانى المبرقع بفلسطين على المعتصم، وكان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول فى داره وهو غائب، فمنعه بعض نسائه فضربها الجندى بسوط فأصاب ذراعها، فلما رجع أبو حرب إلى داره اشتكت إليه ما فعل بها الجندى، فقتله أبو حرب وهرب وتبرقع، وقصد بعض جبال الأردن فأقام به؛ وكان يظهر بالنهار متبرقعا فإذا جاءه أحد أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ويذكر الخليفة ويعيبه فاستجاب إليه قوم من فلاحى تلك الناحية، وكان يزعم أنّه أموىّ فقال أصحابه هذا السفيانى، فلما كثر أتباعه من هذه الطبقة، دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس- كان مطاعا فى أهل اليمن، ورجلان من أهل دمشق، فاتصل خبره بالمعتصم فى مرضه الذى مات فيه، فسيّر لحربه رجاء بن أيوب الحضارى فى زهاء ألف رجل من الجند فرآه فى عالم كثير يبلغون مائة ألف رجل، فكره رجاء مواقعته وعسكر فى مقابلته، حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرضين فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم، وبقى فى زهاء ألف أو ألفين، وتوفى المعتصم وولى الواثق وثارت الفتنة بدمشق على ما نذكره فأمر الواثق رجاء بقتال من أثار الفتنة، والعود إلى المبرقع ففعل ذلك، وعاد والتقى العسكران، فقال رجاء لأصحابه: ما أرى فى عسكره رجلا له شجاعة غيره، وأنه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده، فإذا حمل فأفرجوا له، فما لبث أن حمل المبرقع

ذكر وفاة أبى إسحاق المعتصم وشىء من أخباره

فأفرجوا له فجاوزهم «1» ورجع إلى أصحابه، ثم حمل الثانية فلما أراد الرجوع أحاطوا به وأخذوه أسيرا. وقيل إنّ خروجه كان فى سنة ست وعشرين بنواحى الرملة، وصار فى خمسين ألفا، فوجّه المعتصم إليه رجاء الحضارى فقاتله وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل من أصحاب المبرقع نحوا من عشرين ألفا، وأسر المبرقع فيمن أسر، وحمل إلى سامرا والله تعالى أعلم ذكر وفاة أبى إسحاق المعتصم وشىء من أخباره كانت وفاته فى يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وكان بدء علّته أنّه احتجم فى أول يوم من المحرم فاعتل ومات، وكان أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون بحمرة حسن العينين وكان شديد القوة، قيل إنه كان يرفع بيده ألف رطل ويمشى بها خطوات، وكان من أشجع الناس، وقيل إنه كان أميّا لا يكتب، ومن العجب أن الرشيد أخرجه من الخلافة وعهد إلى الأمين والمأمون والمؤتمن، فساق الله الخلافة إليه، وجعل الخلافة فى ولده ولم يكن من نسل أولئك خليفة، والمعتصم هو المثمن من اثنى عشر وجها: هو الثامن من ولد العباس، الثامن من الخلفاء منهم، وولى سنة ثمانى عشرة ومائتين، وكانت خلافته ثمانى سنين، وثمانية أشهر، ومات وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وولد فى شعبان وهو الشهر الثامن من الشهور، وخلف ثمانية ذكور: منهم هارون الواثق وجعفر المتوكل ومحمد المستعين، وثمانى بنات، وغزا ثمانى غزوات، وخلف ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها من الدراهم. قال بعض المؤرخين: كان له من المماليك سبعون ألفا سوى الأحرار. وكان نقش خاتمه: الله ثقة أبى إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن؛ وزراؤه.

الفضل بن مروان بن أحمد بن «1» عمارة إلى أن نكبه كما ذكرنا، ثم محمد بن عبد الملك الزيات، وهو الذى رثاه بقوله: قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين اذهب فنعم المعين «2» كنت على ... الدنيا ونعم الظهير «3» للدين لن «4» يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون حجابه: وصيف مولاه ثم محمد بن حماد. قضاته: شعيب بن سهل ثم محمد بن سماعة ثم عبد الله بن غالب، وقيل إنّ أحمد بن أبى دؤاد الإيادى كان قاضى القضاة، وأن جعفر بن عيسى من ولد الحسن البصرى كان من قضاته، الأمراء بمصر: كيدر ثم ولده المظفر، ثم ردّت مصر إلى اشناس فاستخلف عليها موسى بن «5» ثابت الحنفى من أهل الشاش، ثم مالك بن كيدر ثم على بن يحيى الأرمنى. القضاة بها: هارون الزهرى ثم محمد بن أبى الليث الخوارزمى. قال: ومن أخبار المعتصم الدالة على كرمه ومكارم أخلاقه أنه بينما هو يسير وحده- وقد انفرد عن أصحابه- إذ مرّ بشيخ معه حمار عليه شوك. وقد زلق الحمار من المطر وسقط حمله، فسأله المعتصم عن حاله، فأخبره أنه ينتظر من يعينه على رفع الشوك على ظهر الحمار، فنزل المعتصم عن دابته وخلص الحمار من الوحل، ورفع عليه الحمل- والشيخ يقول: بأبى أنت وأمى- لا تهلك ثيابك، فيقول: لا عليك ثم غسل يديه وركب، فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شاب، ثم لحقه أصحابه فأمر للشيخ بأربعة آلاف

ذكر خلافة الواثق بالله

درهم، ووكل به من يوصله إلى بيته؛ وقال ابن أبى دؤاد: تصدق المعتصم ووهب على يدى مائة ألف ألف درهم، هذا على يد رجل واحد فما ظنّك بغيره!! قال بعض المؤرخين: إنه لما فتح عموريه امتدحه أبو تمام حبيب ابن أوس الطائى بقصيدته التى أولها: السيف أصدق إنباء من الكتب فأعطاه عن كل بيت بها ألف درهم، وقيل إنّه أقطعه مدينة الموصل رحمه الله تعالى. ذكر خلافة الواثق بالله هو أبو جعفر هارون بن المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها قراطيس، وهو التاسع من الخلفاء العباسيين، بويع له فى يوم وفاة أبيه لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائتين ذكر الفتنة بدمشق قال: لما توفى المعتصم ثارت القيسية بدمشق وعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم، فبعث الواثق إلى رجاء بن أيوب الحضارى، وكان قد توجّه لحرب المبرقع بفلسطين كما قدمناه، فرجع إليهم فنزل بدير مرّان، وكانوا معسكرين بمرج راهط فدعاهم إلى الطاعة، فلم يرجعوا وتوعدوا الحرب بدومة يوم الإثنين، فلما كان يوم الأحد تفّرقت القيسيّة، وسار رجاء إلى دومة الجندل وبعضهم فى حوائجه، فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وقتل من أصحابه ثلاثمائة، وهرب مقدّمهم وهو ابن بيهس، وصلح أمر دمشق وعاد رجاء إلى حرب المبرقع فأسره كما ذكرناه. وحج بالناس فى هذه السنة جعفر بن المعتصم.

ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين فى هذه السنة أعطى الواثق لإشناس تاجا ووشاحين. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود، وغلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما، وأصاب الناس فى الموقف حرّ شديد، ثم أصابهم مطرفيه برد، فاشتد البرد عليهم بعد ساعة من ذلك الحر الشديد، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت عدة من الحجاج. ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين فى هذه السنة حبس الواثق الكتاب وألزمهم أموالا عظيمة، فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومق سليمان بن وهب- كاتب إيتاخ- أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح «1» وكتابه مائة ألف دينار «2» ، ومن أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن أبى الوزير «3» مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار. وكان سبب ذلك أنه ذكر عنده نكبة البرامكة، وما حصّل الرشيد من أموالهم، فنكبهم بعد جمعة وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود ودخلت سنة ثلاثين ومائتين ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة وما كان من أمرهم فى هذه السنة وجّه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب، الذين أغاروا بنواحى المدينة، وكان سبب ذلك أن بنى سليم كانت تفسد جول المدينة، ثم

قويت شوكتهم واغتصبوا أموال الناس، وأوقعوا بقوم «1» من كنانة وباهلة وقتلوا بعضهم فى جمادى الآخرة من هذه السنة، فوجّه إليهم محمد بن صالح- عامل المدينة- حماد بن جرير الطبرى فى جيش فقاتلوه، واشتد القتال فقتل حمّاد وعامّة أصحابه، وأخذ بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، فزاد طمعهم ونهبوا القرى والمناهل ما بين مكة والمدينة، فوجه إليهم الواثق بغا الكبير فى جمع من الجند، فقدم المدينة فى شعبان فلقيهم ببعض مياه الحرّة- من وراء السّوارقيّة وهى قريتهم، التى يأوون إليها وبها حصون، فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم وانهزم الباقون، وأقام بغا بالسوارقيّة ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق، فأتوه متفرقين فنزل عنده من يعرف منهم بالفساد وهم زهاء ألف رجل، وخلّى سبيل الباقين وعاد بالأسرى إلى المدينة فى ذى القعدة، فحبسهم بها ثم سار إلى مكة، فلما قضى حجه سار إلى ذات عرق، وعرض على بنى هلال مثل الذى عرض على بنى سليم فقبلوه، فأخذ من مفسديهم نحو ثلاثمائة رجل إلى المدينة فحبسهم، ثم سار إلى بنى مرّة فنقب الأعراب السجن ليخرجوا، فرأت امرأة النقب فصاحت يا أهل المدينة! فجاءوا فوجدوهم قد قتلوا الموكلين وأخذوا سلاحهم، فاجتمع أهل المدينة وقاتلوهم، فقتل سودان المدينة كل من وجدوه منهم، وكان مقتلهم فى سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وفيها- أعنى سنة ثلاثين ومائتين- مات عبد الله بن طاهر بنيسابور، وهو أمير خراسان والسواد والرى وطبرستان وكرمان وما يتصل بها، وكان خراج هذه الأعمال يوم وفاته ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فاستعمل الواثق على أعماله كلها ولده طاهر بن عبد الله بن طاهر. مات أشناس التركى بعد موت ابن طاهر بسبعة أيام

ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين ذكر خبر أحمد بن نصر «1» بن مالك الخزاعى وما كان من أمره فى هذه السنة تحرّك ببغداد قوم مع أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعى، وجده مالك أحد نقباء بنى العباس، وكان سبب هذه الحركة أن أحمد بن نصر كان يغشاه أصحاب الحديث كابن معين وابن الدورقى وأبى زهير، وكان يخالف من يقول بخلق القرآن ويطلق لسانه فيه، مع غلظة الواثق، وكان يقول إذا ذكر الواثق: فعل هذا الخنزير، وقال: هذا الكافر، وفشا ذلك، وكان يغشاه رجل يعرف بأبى هارون السراج وآخر يقال له طالب وغيرهما، فدعوا الناس إليه فبايعوه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفرّق أبو هارون وطالب فى الناس مالا، فأعطيا كل رجل دينارا، واتعدوا ليلة الخميس لثلاث خلون من شعبان، ليضربوا بالطبل ويثوروا «2» على السلطان، وكان أحدهما فى الجانب الشرقى من بغداد والآخر بالغربى، فاتفق أن رجلين ممّن بايعهم من بنى الأشرس شربا نبيذا ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، فلما أخذ منهم ضربوا الطبل فلم يجبهم أحد، فسمع صاحب الشرطة الطبل فسأل عن الخبر، فدل على رجل يكون فى الحمّام مصاب العين يعرف بعيسى الأعور، فأخذه وقرّره فقرّ على بنى الأشرس وأحمد بن نصر وغيرهم، فأخذ بعض من سمّى وفيهم طالب وأبو هارون، ورأى فى منزل بنى الأشرس علمين أخضرين، ثم أخذ خادما لأحمد بن نصر فقرّره فأقرّ بمثل ما قال عيسى، فأرسل إلى أحمد فأخذه وهو فى الحمام، وفتش بيته فلم يجد فيه سلاحا ولا شيئا من الآلات، فسيّرهم إلى الواثق مقيدين على بغال بأكف بغير وطاء «3» إلى سامرّا، فجلس الواثق

مجلسا عامّا فيه أحمد بن أبى دؤاد، فلما حضر أحمد بن نصر عند الواثق لم يذكر له شيئا من فعله والخروج عليه، بل قال له: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: فما تقول فى ربك- أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين- جاءت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر- لا تضامون فى رؤيته) ، وحدثنى سفيان بحديث رفعه (أنّ قلب ابن آدم [المؤمن «1» ] بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه) ، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبى على دينك، فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟! فقال عبد الرحمن بن إسحاق: هو حلال الدم، وقال بعض أصحاب ابن أبى دؤاد: اسقنى دمه، وقال ابن أبى دؤاد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل، وكان كارها لقتله، فقال الواثق: إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد، فإنى احتسب خطاى إليه، ودعا بالصّمصامة ومشى إليه وهو فى وسط الدار على نطع، فضربه على حبل عاتقه ثم ضربه على رأسه، ثم ضرب سيما الدمشقى عنقه وطعنه الواثق بطرف الصمصامة فى بطنه، وصلب عند بابك وحمل رأسه إلى بغداد فنصب بها، وكتب فى أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر، وتتبع أصحابه فجعلوا فى الحبوس هذا ما حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل. وقد حكى الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت «2» خبر مقتله، فذكر ما تقدّم وذكر زيادات أخرى بأسانيد رفعها، قد رأينا أن نثبت منها طرفا، فقال بسند رفعه إلى محمد بن يحيى الصولى: إنّه لما حمل أحمد بن

نصر وأصحابه إلى الواثق بسرّ من رأى جلس لهم الواثق، وقال لأحمد بن نصر: دع ما أخذت له- قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: أفترى ربك فى يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية، قال: ويحك!! كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر!! أنا أكفر برب هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فذكر من كلام عبد الرحمن بن إسحاق ما تقدم، وقال جماعة من الفقهاء كما قال، فأظهر ابن أبى دؤاد أنّه كاره لقتله فقال للواثق: يا أمير المؤمنين- شيخ مختلّ لعله به عاهة أو تغير عقل، يؤخر أمره ويستتاب، فقال الواثق: ما أراه إلا مؤديا لكفره، قائما بما يعتقد منه، وذكر من قيام الواثق إليه نحو ما تقدّم، إلا أنّه قال إن الواثق ضرّب عنقه. ثم قال بسند آخر رفعه إلى جعفر بن محمد الصائغ «1» أنه قال: بصر عيناى- وإلا فعميتا- وسمع أذناى- وإلا فصمتّا- أحمد بن نصر الخزاعى حيث ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله. وقال بسند آخر إلى العباس بن سعيد «2» : نسخة الرقعة المعلقة فى أذن أحمد بن نصر- بسم الله الرحمن الرحيم هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون- وهو الواثق بالله أمير المؤمنين- إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك الزيات «3» قال: ولما جلس المتوكل دخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكى فقال: يا أمير المؤمنين- ما رئى أعجب من أمر الواثق قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن، قال: فوجد المتوكل من ذلك وساءه ما سمعه فى أخيه، إذ دخل عليه محمد بن عبد

الملك الزيات، فقال له: يا ابن عبد الملك- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال له: يا أمير المؤمنين- أحرقنى الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، ودخل عليه هرثمة فقال: يا هرثمة- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين- قطعنى الله إربا إربا إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، قال: ودخل عليه أحمد بن أبى دؤاد، فقال: يا أحمد- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين- ضربنى الله بالفالج إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنّه هرب وتبّدى، واجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل فى الحىّ فقال: يا معشر خزاعة- هذا الذى قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه إربا إربا، وأما ابن أبى دؤاد فقد سجنه الله فى جلده. وقال أحمد بن كامل القاضى «1» عن أبيه أنه وكل برأس أحمد بن نصر من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر ببغداد، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس بلسان طلق، وأنّه لما أخبر بذلك طلب فخاف على نفسه فهرب. وقال بسند آخر إلى إبراهيم بن إسماعيل بن خلف «2» : كان أحمد بن نصر خلّى، فلما قتل فى المحنة وصلب رأسه أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت فبت بقرب من الرأس مشرفا عليه، وكان عنده رجّالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «3» فاقشعر جلدى، ثم رأيته بعد ذلك فى المنام وعليه السندس والاستبرق وعلى

ذكر الفداء بين المسلمين والروم

رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله بك يا أخى؟ قال: غفر لى وأدخلنى الجنّة، إلا أنى كنت مغموما ثلاثة أيام، قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بى فلما بلغ خشبتى حوّل وجهه عنى، فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله- قتلت على الحق أو على الباطل؟ فقال: أنت على الحق ولكن قتلك رجل من أهل بيتى، فإذا بلغت إليك أستحيى منك. وقال بسند إلى أبى جعفر الأنصارى «1» : سمعت. محمد بن عبيد- وكان من خيار الناس- يقول: رأيت أحمد بن نصر فى منامى فقلت يا أبا عبد الله ما صنع بك ربك؟ قال: غضبت له فأباحنى النظر إلى وجهه تعالى. قال: وكان مقتله يوم السبت غرة رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وأنزل رأسه يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وثلاثين ومائتين، وجمع رأسه وبدنه ودفن بالجانب الشرقى فى المقبرة المعروفة بالمالكية ذكر الفداء بين المسلمين والروم فى هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فاجتمع المسلمون على نهر اللّامس على مسيرة يوم من طرسوس، واشترى الواثق من ببغداد وغيرها من الروم، وعقد الواثق لأحمد بن سلّم «2» بن قتيبة الباهلى على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وخاقان الخادم، وأمرهما أن يمتحنا أسرى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأنّ الله لا يرى فى الآخرة- فودى به وأعطى دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك فى أيدى الروم، فلما كان فى عاشوراء سنة إحدى وثلاثين اجتمع المسلمون ومن معهم من الأسرى على نهر، وأتت الروم ومن معهم من الأسرى، وكان النهر بين الطائفتين، فكان

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

المسلمون يطلقون أسيرا فيطلق الروم أسيرا ويلتقيان فى وسط النهر، ويأتى هذا لأصحابه وهذا لأصحابه حتى فرغوا، وكان عدّة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين «1» نفسا، والنساء والصبيان ثمانمائة، وأهل الذمة مائة نفس. ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ذكر وفاة أبى جعفر الواثق وشىء من أخباره كانت وفاته بسامرا فى يوم الأربعاء لست بقين من ذى الحجة منها، وكانت علته «2» الاستسقاء فعولج بالإقعاد فى تنور مسخن، فوجد لذلك خفة فأمرهم من الغد بالزيادة فى إسخانه، ففعل ذلك وجلس فيه أكثر من اليوم الأول، فحمى عليه فأخرج منه ووضع فى محفة فمات فيها، ولم يشعر به حتى ضرب وجهه المحفة؛ وقيل إن أحمد بن أبى دؤاد حضر وفاته وغمّضه، وقيل إنه لما حضرته الوفاة جعل يردد هذين البيتين: الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم تبقى ولا ملك ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم ... وليس يغنى عن الأملاك «3» ما ملكوا وأمر بالبسط فطويت وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. وقال أحمد بن محمد الواثقى: كنت فيمن يمرّض» الواثق، فلحقته غثية وأنا وجماعة من أصحابة قيام، فقلنا لو عرفنا خبره! فتقدمت إليه فلما صرت عند رأسه فتح عينيه فكدت أموت خوفا،

فرجعت إلى خلفى وتعلقت قنبعة «1» سيفى بعتبة المجلس، فاندقت وسلمت من جراحه، ووقفت فى موقفى ثم مات الواثق وسحبناه، وجاء الفراشون فأخذوا ما تحته فى المجلس ورفعوه لأنه مكتوب عليهم، واشتغل الناس بأخذ البيعة وجلست على باب المجلس لحفظ الميت، ورددت الباب فسمعت حسّا ففتحت الباب، فإذا جرذ قد دخل من بستان هناك فأكل إحدى عينى الواثق؛ فقلت: لا إله إلا الله- هذه العين التى فتحها من ساعة، فاندق سيفى هيبة لها، صارت طعمة لدابة ضعيفة، فسألنى ابن أبى دؤاد عن عينه فذكرت له القصة فعجب منها، وصلّى عليه ابن أبى دؤاد وأنزله فى قبره، وقيل صلّى علية أخوه المتوكل، ودفن بالهارونى، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة، وقيل ستا وثلاثين سنة وشهورا، وقيل سبعا وثلاثين، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام. وكان أبيض مشربا بحمرة جميلا ربع القامة حسن الجسم بعينه اليمنى وقيل اليسرى نكته بياض. وقد وقفت فى أثناء مطالعتى على حكاية غريبة اتفقت للواثق، أحببت أن أضمها إلى أخباره، وهى ما رواه أبو الفرج الأصبهانى «2» بسنده إلى محمد ابن الحارث، قال: كانت لى نوبة فى خدمة الواثق فى كل جمعة. إذا حضرت ركبت إلى الدار، فإن نشط إلى الشرب أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت، وكان رسمنا الا يحضر أحد منا إلا يوم نوبته، فإنى لفى منزلى فى يوم غير يوم نوبتى إذا برسل قد هجموا على، وقالوا لى: احضر، فقلت خيرا «3» ، قالوا: خير، فقلت: إنّ هذا يوم لم يحضرنى فيه أمير المؤمنين قط، ولعلكم غلطتم، قالوا: الله المستعان- لا تطل «4» وبادر، فقد أمرنا ألا ندعك تستقر على الأرض، فدخلنى فزع شديد وخفت أن يكون سعى بى

ساع «1» ، أو بليّة قد حدثت فى رأى الخليفة علىّ، فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار، فذهبت لأدخل على رسمى من حيث كنت أدخل فمنعت، وأخذ بيدى الخدم فعدلوا «2» بى إلى ممرات لا أعرفها، فزاد ذلك فى جزعى وغمّى، ثم لم يزل الخدم يسلموننى من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة بالصخر «3» ، ملبّسة الحيطان بالوشى المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة «4» بمثل ذلك. قال: وإذا الواثق فى صدره على سرير مرصّع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفى حجرها عود، فلما رآنى قال: جوّدت «5» والله يا محمد- إلينا إلينا، فقبّلت الأرض ثم قلت: يا أمير المؤمنين- خيرا! قال: خيرا «6» - ما ترانا طلبت والله ثالثا يؤنسنا! فلم أر أحق بذلك منك، فبحياتى بادر فكل شيئا وبادر إلينا، والله «7» - يا سيّدى- قد أكلت وشربت أيضا، قال: اجلس فجلست. وقال: هاتوا لمحمد رطلا فى قدح فأحضرت ذلك، واندفعت فريدة تغنى: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علىّ ولكن ملء عين «8» حبيبها وما هجرتك النفس يا ليل أنّها ... قلتك ولا أن قلّ منك يصيبها فجاءت والله بالسحر، وجعل الواثق يجاذبها وفى خلال ذلك نغنى «9» الصوت بعد الصوت، وأغنّى فى خلال غنائها، فمرّ لنا أحسن ما مرّ لأحد، فإنّا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة، ضربة

تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتّت عودها، ومرّت تعدو وتصيح وبقيت كالمنزوع الروح، فلم أشك فى أنّ عينه وقعت علىّ- وقد تظرت إلىّ ونظرت إليها، فأطرق ساعة «1» إلى الأرض متحيرا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق، فإنى لكذلك إذ قال لى: يا محمد- فوثبت، فقال: ويحك أرأيت أعجب «2» ممّا تهيّأ علينا!! فقلت: يا سيّدى الساعة «3» تخرج روحى، فعلى من أصابنا بعين لعنة الله، فما كان السبب والذنب «4» ؟ قال: لا والله، ولكنّى ذكرت «5» فى أنّ جعفرا يقعد غدا هذا المقعد، وتقعد معه كما هى قاعدة معى، فلم أطق الصبر وخامرنى ما أخرجنى إلى ما رأيت، فسرّى عنّى وقلت: بل يقتل الله جعفرا ويحيا أمير المؤمنين أبدا، وقبّلت الأرض وقلت: يا سيدى «6» إرحمها ومر بردّها، فقال لبعض الخدم الوقوف مرّ «7» وجىء بها، فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفى يدها عود، وعليها غير الثياب التى كانت عليها، فلما رآها جذبها إليه وعانقها، فبكت وجعل هو يبكى واندفعت أنا فى البكاء، فقالت: ما ذنبى يا مولاى «8» ؟ وبأى شىء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قال لى وهو يبكى «9» ، فقالت سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقى الساعة، وأرحتنى من الفكر فى هذا وأرحت قلبك من الهمّ «10» ، وجعلت تبكى ويبكى ثم مسحا أعينهما، ثم رجعت إلى الغناء، وأومأ إلى خدم وقوف بشىء

لا أعرفه، فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق، ورزما فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه، فألبسه إياها، وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف «1» فجعلت بين يدى، وخمسة تخوت فيها ثياب، وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن ما كنّا «2» فيه، فلم نزل كذلك إلى الليل ثم تفرّقنا، وضرب الدهر ضربة وتولى المتوكل، فو الله إنى لفى منزلى بعد «3» يوم نوبتى، إذ هجم علىّ رسل «4» الخليفة فلم يمهلونى حتى ركبت وصرت إلى الدار، فأدخلت- والله- الحجرة بعينها، وإذا المتوكل فى الموضع الذى كان فيه الواثق على السرير بعينه وإلى جانبه فريدة، فلما رآنى قال: ويحك ما ترى ما «5» أنا فيه من هذه- منذ غدوة!! أطالبها أن تغنى «6» فتأبى ذلك، فقلت لها: يا سبحان الله تخالفين سيّدك وسيّدنا وسيّد البشر!! بحياته غنّى فضربت «7» والله ثم اندفعت تغنّى: مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر والثماد «8» فلا تبعد فكل فتى سيأتى ... عليه الموت يطرق أو يغادى ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير، ومرّت تعدو وهى تصيح وا سيّداه، فقال لى: ويحك ما هذا فقلت: لا أدرى والله- يا سيّدى، قال: ما ترى؟ قلت أرى» أن تحضر هذه ومعها

ذكر خلافة المتوكل على الله

غيرها فإنّ الأمر يئول إلى ما يريد أمير المؤمنين، قال: فانصرف فى حفظ «1» الله، فلم أدر ما كانت القصّة. قال: وكان الواثق قد ذهب فى أموره مذهب المأمون، وشغل نفسه بمحنة الناس فى الدين وأفسد قلوبهم، ولما ولى الخلافة أحسن إلى العلويين واشتمل عليهم وبالغ فى إكرامهم وتعاهدهم بالأموال؛ وفرّق فى أهل الحرمين أموالا لا تحصى، حتى إنه لم يوجد فى أيامه بالحرمين سائل، حتى إنّه- لما توفى- كان أهل المدينة تخرج من نسائهم كل ليلة إلى البقيع فيبكين عليه ويندبنه، يفعلن ذلك بينهن مناوبة حزنا عليه لإحسانه لهم؛ وأطلق فى خلافته أعشار سفن البحر وكانت مالا عظيما. وكان نقش خاتمه: الله ثقة الواثق. أولاده: محمد المهتدى بالله، وعبد الله، وإبراهيم، ومحمد وعائشة. وزيره: محمد بن عبد الملك الزيات. حجابه إيتاخ ثم وصيف مولاه ثم أحمد بن عمار. قاضيه: أحمد ابن أبى دؤاد. الأمراء بمصر: على بن يحيى الأرمنى ثم عيسى بن منصور من قبل إشناس، فلما توفى إشناس ردّت مصر إلى إيتاخ فأقرّ عيسى بن منصور عليها. قاضيها: محمد بن أبى الليث. ذكر خلافة المتوكّل على الله هو أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه تركية اسمها شجاع، وهو العاشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم وفاة أخيه الواثق لست بقين من ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، قال: ولما توفى الواثق حضر الدار أحمد بن أبى دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر ابن فرج وابن الزيات وأبو الوزير أحمد بن خالد، وعزموا على البيعة لمحمد

ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

ابن الواثق وهو غلام أمرد قصير، فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة فإذا هو قصير، فقال وصيف: أما تتقون الله- تولون مثل هذا الخلافة!! فتناظروا فيمن يولّونه فذكروا عدة ثم أحضروا المتوكل، فألبسه أحمد بن أبى دؤاد الطويلة وعمّمه وقّبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، وكان عمر المتوكل يوم ذاك ستا وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر. قال: وأراد ابن الزيات أن يلقّبه، فقال أحمد ابن أبى دؤاد: قد رأيت لقبا أرجو أن يكون موافقا- وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه فكتب به إلى الآفاق. وقيل بل رأى المتوكل فى منامه قبل أن يستخلف كأنّ سكّرا ينزل من السماء- مكتوب عليه المتوكل على الله، فقصّها على أصحابه فقالوا: هى الخلافة، فبلغ ذلك الواثق فحبسه وضيّق عليه. ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات وفى هذه السنة لسبع «1» خلون من صفر قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وكان سبب ذلك أنّ الواثق كان قد استوزره وفوّض إليه الأمور كلها، وكان قد غضب على أخيه جعفر المتوكل، ووكل عليه من يأتيه بأخباره كلها، فجاء المتوكل إلى ابن الزيات فسأله أن يكلّم الواثق ليرضى عنه، فوقف بين يديه وهو لا يكلّمه، ثم أشار إليه بالقعود فجلس، فلما فرغ من الكتب التى بين يديه التفت إليه كالمتهدّد، وقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنّى، فالتفت إلى من حوله وقال: انظروا يغضب أخاه ثم يسألنى أن أسترضيه له، اذهب فإنّك- إذا

صلحت- رضى عنك، فقام من عنده حزينا «1» وأتى أحمد بن أبى دؤاد، فقام إليه واستقبله على باب البيت وقبّل يده، وقال: ما حاجتك؟ جعلت فداك، قال: جئت لتسترضى عنّى أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، وكلّم أحمد الواثق فيه فوعده- ولم يرض غنه، ثم كلّمه ثانية فرضى عنه وكساه قال: ولما خرج المتوكل من عند ابن الزيّات، كتب أن جعفرا أتانى فى زى المخنثين له شعرقفا، يسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه، فكتب إليه الواثق: ابعث إليه وأحضره، ومر بجزّ شعر قفاه، قال المتوكل: لما أتانى رسوله لبست سوادا جديدا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنّى، فاستدعى حجاما وأخذ شعرى على السواد الجديد، ثم ضرب به وجهى، فلما ولى المتوكل الخلافة أمهله إلى صفر، وأمر إيتاخ بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستدعاه وأدخله حجرة ووكل به، وأرسل من أصحابه من هجم منازله وأخذ كل ما فيها، واستصفى أمواله وأملاكه فى جميع البلاد، ثم جعله فى تنّور كان قد عمله هو وعذّب به ابن أسباط «2» وأخذ ماله، وكان التنّور من خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور، يمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيّقا بحيث إن الانسان إذا دخل فيه يمد يديه إلى رأسه ليقدر على دخوله لضيقه، فبقى أياما ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول منها، وقيل: بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل مات بغير ضرب؛ وقد تقدّم أن المتوكل حرقه بالنار والله أعلم. ولما مات ألقى على الباب بقميص فغسّل ودفن، فقيل إن الكلاب

ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

نبشته وأكلت لحمه. قال: وسمع قبل موته يخاطب نفسه ويقول: يا محمد لم تقنعك النعمة والدواب والدار النظيفة والكسوة وأنت فى عافية، حتى طلبت الوزارة- ذق ما عملت بنفسك ثم سكت، وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله عزّ وجل. وفيها حبس عمر بن الفرج الرخّجى، وكان سبب ذلك أن المتوكل أتاه لما كان أخوه الواثق ساخطا عليه، ومعه صك ليختمه عمر له ليقبض أرزاقه من بيت المال، فأخذ عمر صكّه فرمى به إلى صحن المسجد، فحقدها المتوكل ثم حبسه فى شهر رمضان، وأخذ ماله وأثاث بيته وأصحابه، ثم صولح على أحد عشر «1» ألف ألف على أن يرد إليه ضياع الأهواز. وفيها غضب المتوكل على إبراهيم «2» بن الجنيد النصرانى، وأخذ ماله ومال أخيه وكاتبه. وفيها عزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، وولّاه يحيى بن خاقان الخراسانى مولى الأزد، وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول ديوان زمام النفقات. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود. ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين ذكر خبر إيتاخ وابتداء أمره وقتله كان إيتاخ غلاما خزريا، وكان طبّاخا لسلّام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم فى سنة تسع وتسعين ومائة، وكان فيه شجاعة فرفعه المعتصم والواثق وضمّ إليه أعمالا كثيرة، منها المعونة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم، فلما صار

الأمر إلى المتوكل كان معه على أكثر من ذلك، وجعل إليه الجيش والمغاربة والأتراك والأموال والبريد والحجابة ودار الخلافة، فلما تمكّن المتوكل من الخلافة شرب ليلة، وعربد على إيتاخ فهمّ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه، وقال: أنت ربّيتنى وأنت بمنزلة الوالد وما يناسب ذلك، ثم وضع عليه من يحسّن له الحج، فاستأذن فيه المتوكل فأذن له، وصيّره أمير كل بلد يدخله وخلع عليه وسار العسكر جميعه بين يديه، فلما فارق جعلت الحجابة إلى وصيف الخادم فى ذى القعدة «1» . قال: فلمّا عاد إيتاخ من مكة كتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد يأمره بحبسه، فلما قرب إيتاخ من بغداد خرج إسحاق بن إبراهيم إلى لقائه، وكان إيتاخ أراد المسير على الأنبار إلى سامرّا، فكتب إليه إسحاق: إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم فى دار خزيمة بن خازم وتأمر لهم بالجوائز، فجاء إلى بغداد فلما لقيه إسحاق أراد النزول له، فحلف إيتاخ عليه ألا يفعل- وكان فى ثلاثمائة من غلمانه، فلما حصل بباب دار خزيمة وقف إسحاق، وقال له: يدخل الأمير أصلحه الله، فدخل إيتاخ ومنع إسحاق أصحاب إيتاخ من الدخول، ووكل بالأبواب وأقام عليها الحرس، فحين رأى إيتاخ ذلك قال: قد فعلوها!! ولو لم يفعلوا ذلك ببغداد ما قدروا عليه، وأخذوا معه ولديه منصورا ومظفرا وكاتبه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فحبسوا، وقيّد إيتاخ وجعل فى عنقه ثمانون رطلا، فمات فى جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق جماعة من الأعيان أنه لا ضرب به ولا أثر، قيل إنهم أطعموه ومنعوه الماء فمات عطشا. وحجّ بالناس محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس.

ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين.

ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين. فى هذه السنة عقد المتوكل البيعة بولاية العهد لبنيه الثلاثة، وهم محمد ولقبه المنتصر، وأبو عبد الله محمد وقيل طلحة وقيل الزبير ولقبه المعتز بالله، وإبراهيم ولقبه المؤيد بالله، وعقد لكل واحد منهم لواءين- أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل، وأعطى كل واحد منهم ما نذكره: فأما المنتصر بالله فأقطعه أفريقية والمغرب كله والعواصم [وقنسرين] «1» والثغور جميعها الشامية والجزرية وديار مضرور بيعة وهيت والموصل وعانات «2» والخابور «3» وكوربا جرمى «4» وكور دجلة وطساسيج السواد جميعها والحرمين واليمن «5» وحضرموت [واليمامة] «6» والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصرة وماسبذان «7» ومهرجا نقذق وشهرزور «8» والصامغان وأصبهان وقمّ وقاشان «9» والجبل جميعه وصدقات العرب بالبصرة. وأما المعتز بالله فأقطعه كور خراسان وما ينصاف إليها، وطبرستان، والرى، وأرمينية، وأذربيجان وكور فارس، ثم أضاف إليه فى سنة أربعين خزن الأموال فى جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر أن تختم «10» الدراهم باسمه.

ذكر ظهور رجل يدعى النبوة

وأما المؤيّد بالله فإنّه أقطعه جند حمص، وجند دمشق، وجند فلسطين «1» . ذكر ظهور رجل يدعى النبوّة وفيها ظهر رجل بسامرّا يقال له محمود بن الفرج «2» النيسابورى، وزعم أنّه نبى وأنّه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلا، وخرج من أصحابه ببغداد رجلان بباب العامة واثنان بالجانب الغربى، فأتى به وبأصحابه إلى المتوكل فضرب ضربا شديدا، وحمل إلى باب العامة فأكذب نفسه، وأمر أصحابه أن يصفعه كل واحد عشر صفعات ففعلوا، وأخذوا له كتابا فيه كلام قد جمعه وذكر أنّه قرآن، وأن جبريل نزل به عليه، ثم مات من الضرب فى ذى الحجة وحبس أصحابه، وكان فيهم شيخ يزعم أنّه نبى وأن الوحى يأتيه. وفيها أمر المتوكل أهل الذمّة بلبس الطّيالسة العسلية، وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين فى مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفتين لون الثياب، قدر كل رقعة منهما أربع أصابع، ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليّا، ومنعهم من لباس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم فى أعمال السلطان- ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا فى شعانينهم صليبا، وأن يشعلوا فى الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب بذلك إلى الآفاق. وحجّ بالناس محمد بن داود

ودخلت سنة ست وثلاثين ومائتين

ودخلت سنة ست وثلاثين ومائتين ذكر ما فعله المتوكل بمشهد الحسين بن على رضى الله عنهما فى هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن على رضى الله عنهما، وهدم ما حوله من المنازل والدور ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى فى الناس فى تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثالثة حبسناه فى المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته وحرث وزرع، وكان المتوكل شديد البغض لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه- ولأهل بيته، وكان يقصد من يتولى عليا وأهل بيته بأخذ المال والروح؛ وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان أصلع فيشد تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه ويرقص، [والمغنون «1» يغنون] قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يحكى بذلك على بن أبى طالب رضى الله عنه، والمتوكل يشرب ويضحك، فرآه المنتصر فتهدّده فسكت خوفا منه، فقال له المتوكل: ما حالك! فأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين- إنّ هذا الذى يحكيه- هذا الكلب- ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطمع هذا الكلب وأمثاله فيه، فقال المتوكل للمغنين غنّوا: غار الفتى لابن عمّه ... راس الفتى فى حرامه وكان هذا من الأسباب التى استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل. وفيها غزا على بن يحيى الأرمنّى الصائفة، فلقى صاحب الروم فى ثلاثين ألفا، وكان علىّ فى نحو ثلاثة آلاف، فهزم الرومىّ وقتل أكثر من عشرين ألفا، ثم مضى إلى عمّورية فافتتحها وغنم ما فيها، وأخرج منها أسارى من المسلمين وكانوا خلقا كثيرا، وخرّب كنائسها، وفتح أيضا حصنا

ودخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

يقال له الفرطس، فأخرج عشرين ألف رأس من السبى، وغنم غنيمة بلغت مائة ألف وعشرين ألفا- حكاه أبو الفرج الجوزى فى تاريخه «المنتظم فى أخبار الملوك والأمم «1» » وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وحجّ المنتصر فى هذه السنة بالناس. ودخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم فى هذه السنة وثب أهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه، وكان سبب ذلك أنّه لما صار إلى أرمينية خرج إليه بطريق يقال له بقراط بن أشوط «2» - ويقال له بطريق البطارقة، فطلب الأمان فأخذه يوسف وابنه معه وسيّرهما إلى باب الخليفة، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخى بقراط ابن أشوط، وتحالفوا على قتله ووافقهم على ذلك موسى بن زراره- وهو صهر بقراط، فأتى الخبر يوسف ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه فلم يقبل، فلما جاء الشتاء ونزل الثلج أتوه وهو بمدينة طرون، فحصروه بها فخرج إليهم وقاتلهم فقتلوه وقتلوا من قاتل معه، وأما من لم يقاتل معه فقالوا له: انزع ثيابك وانج بنفسك عريانا، فخرجوا حفاة عراة فهلك أكثرهم من البرد، وكان ذلك فى شهر رمضان، وكان يوسف قبل ذلك قد فرّق أصحابه فى رساتيق عمله، فتوجّه إلى كل طائفة منهم طائفة من البطارقة فقتلوهم فى يوم واحد، فلما بلغ المتوكل الخبر وجّه بغا الكبير إليهم، فسار على الموصل والجزيرة فبدأ بأرزن، وبها موسى بن زراره وإخوته عيسى وإسماعيل

ذكر غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد وولاية يحيى بن أكثم القضاء

وأحمد «1» ومحمد وهارون فحملهم إلى المتوكل، وأناخ على قتلة يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا، وسبى منهم خلقا كثيرا فباعهم، وسار إلى بلاد الباق فأسر أشوط «2» بن حمزة صاحب الباق من كور اليسفرّجان «3» ، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية فأقام بها شهرا، ثم سار إلى تفليس فحصرها، وبها إسحاق بن إسماعيل مولى بنى أميّة فخرج وقاتل أصحاب بغا، فأمر بغا بإحراق المدينة بالنفط فأحرقت- وكانت من خشب الصنوبر، وأسر إسحاق بن إسماعيل وأتى به إلى بغا فضرب عنقه وصلب جثته، واحترق بالمدينة نحو خمسين ألف إنسان وأسر من سلّم من النار، وفرّق بغا جيوشه فيما يجاور تفليس من الحصون ففتحها، وكان أمر تفليس فى سنة ثمان وثلاثين ومائتين. ذكر غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد وولاية يحيى بن أكثم القضاء وفى سنة سبع وثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد، وقبض ضياعه وأملاكه وحبس ابنه أبا الوليد وسائر أولاده، فحمّل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع أملاكهم، وكان أبوهم أحمد قد فلج فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم من بغداد إلى سامرا، ورضى عنه وولّاه قضاء القضاة ثم ولاه المظالم، فولّى يحيى بن أكثم قضاء الجانب الشرقى حيّان بن بشر والجانب الغربى سوّار بن عبد الله العنبرى، وكلاهما أعور فقال الجماز:

ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة فى الخافقين هما اقتسما العما نصفين قدرا «1» ... كما اقتسما قضاء الجانبين وتحسب منهما من هزّ رأسا ... لينظر فى مواريث ودين كأنّك قد وضعت عليه دنا ... فتحت بزاله من فرد عين هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذا افتتح القضاء بأعورين وفيها أمر المتوكل بإنزال خشبة «2» أحمد بن نصر ودفعه إلى أوليائه، فحمل إلى بغداد وضم رأسه إلى بدنه وغسل وكفن ودفن، ونهى المتوكل عن الجدال فى القرآن وغيره وكتب بذلك إلى الآفاق وحجّ بالناس فى هذه السنة على بن عيسى بن جعفر بن المنصور. ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين ذكر مسير الروم إلى ديار مصر فى هذه السنة جاء الروم فى ثلاثمائة مركب مع ثلاثة رؤساء، فأناخ أحدهم فى مائة مركب بدمياط، وكان على معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبى، وكان قد أمر جند الثغر أن يحضروا إلى مصر للعيد فحضروا، فاتفق وصول الروم وهى خالية من الجند، فخرج من له قوة منها والتحق بمصر، وطلع الروم إليها فنهبوا وأحرقوا الجامع، وأخذوا ما بها من سلاح ومتاع وغير ذلك، وسبوا من النساء المسلمات والذميّات نحو ستمائة امرأة، وأوقروا سفنهم وسارت الروم إلى شتوم «3» تنيس، وكان عليه سور له بابان من حديد. فأخذوهما ونهبوا ما فيه من السلاح ورجعوا.

ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين فى هذه السنة أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس درّاعتين عسليّتين على الدراريع والأقبية، وبالاقتصار فى مراكبهم على البغال والحمير دون الخيل والبراذين. قال ابن الجوزى «1» وفيها غزا على بن يحيى الأرمنّى الصائفة. فوصل بلاد الروم فقتل عشرة آلاف علج. وسبى سبعة عشر «2» ألف رأس. وأخذ سبعة آلاف دابة. وحرق أكثر من ألف قرية. وحج بالناس عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى- وهو والى مكة. ودخلت سنة أربعين ومائتين ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم فى هذه السنة وثب أهل حمص بعاملهم أبى المغيث موسى بن إبراهيم «3» ، وكان قد قتل رجلا من رؤسائهم فقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه، فكتب إلى المتوكل فبعث عتاب» بن عتّاب ومحمد بن عبدويه الأنبارى، وقال لعتاب: قل لهم إن أمير المؤمنين قد أبدلكم بعاملكم، فإن أطاعوا فولّ عليهم محمد بن عبدويه، فإن أبوا فأقم واعلمنى لأمدّك بالجنود، فساروا إليهم فوصلوا فى شهر ربيع الآخر فرضوا بمحمد بن عبدويه، فشرع فى أذاهم وعمل بهم الأعاجيب، فوثبوا به فى سنة إحدى

ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

وأربعين وأعانهم عليه قوم من نصارى حمص، فكتب إلى المتوكل فأمره بمناهضتهم، وأمدّه بجند من دمشق والرملة، فناجزهم وظفر بهم فضرب رجلين من رؤسائهم حتى ماتا وصلبهما على باب حمص، وبعث ثمانية من أشرافهم إلى المتوكل، وظفر بعد ذلك بعشرة رجال فضرب أعناقهم، وأمره المتوكل بإخراج النصارى وبهدم كنائسهم، وبإدخال البيعة التى بجانب الجامع فيه ففعل ذلك. وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة، وولّى جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن على قضاء القضاة. وفيها أخذ أهل الذمّة بتعليم أولادهم العبرانية «1» ومنعوا من العربية، فأسلم منهم خلق كثير، حكاه أبو الفرج بن الجوزى «2» . وفيها سمع أهل خلاط من السماء صيحة فمات خلق كثير- وكانت ثلاثة أيام، وخسف بثلاث عشرة قرية من قرى أفريقية «3» ، فلم ينج منها إلا اثنان وأربعون رجلا سود الوجوه، فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوها. وحجّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود. ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين ذكر الفداء بين المسلمين والروم قال: وفى هذه السنة عرضت تدورة ملكة الروم على أسرى المسلمين النصرانية، فمن تنصّر جعلته أسوة من قبله «4» من المتنصّرة، ومن أبى

ذكر غارة البجاة بمصر

قتلته- حتى قتلت من أسرى المسلمين أثنى عشر ألفا، ثم أرسلت تطلب المفاداة لمن بقى منهم، فأرسل المتوكل شنيفا الخادم على الفداء، وطلب قاضى القضاة جعفر بن عبد الواحد أن يحضر الفداء ويستخلف على القضاء، فأذن له المتوكل واستخلف على القضاء ابن أبى الشوارب- وهو شاب، ووقع الفداء على نهر اللّامس، فكان أسرى المسلمين من الرجال سبعمائة وخمسة وثلاثين رجلا، ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة. ذكر غارة البجاة بمصر فى هذه السنة غارت البجاة على أرض مصر، وكانت قبل ذلك لا تغير لهدنة قديمة، وكانوا يؤدون إلى عمال مصر الخمس مما فى بلادهم من معادن الذهب، فامتنعوا من ذلك فكتب صاحب البريد إلى المتوكل بخبرهم، وأنّهم قتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل فى المعادن، وزاد شرهم حتى خاف أهل الصعيد منهم على أنفسهم، فولّى المتوكل محمد بن عبد الله القمّى حربهم، واستعمله على معونة قفط والأقصر وأرمنت وإسنا وأسوان، وأمره بمحاربة البجاة، وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبى- عامل حرب مصر- بإزاحة علّته وإعطائه من الجند ما يحتاج إليه ففعل، وسار محمد إلى أرض البجاة وتبعه من المتطوعة وعمال المعادن خلق كثير، فبلغت عدتهم نحوا من عشرين ألفا من فارس وراجل، وحمل له فى بحر القلزم سبع مراكب موقورة بالدقيق والزيت والتمر والشعير والسويق، وسارت لتوافيه على ساحل البحر ببلاد البجاة، وسار هو إلى بلادهم فى البر حتى بلغ حصونهم، فخرج إليه ملكهم- واسمه على بابا- فى جموع عظيمة أضعاف المسلمين وهم على المهارى، فلم يصدقهم القتال وأراد مطاولتهم حتى تفنى أزوادهم، فيأخذهم باليد من غير حرب، فأقبلت المراكب التى فيها الأقوات ففرقها محمد- على من معه، فعندها صدقهم على بابا القتال

ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين.

وقاتلهم قتالا شديدا، وكانت إبلهم زعرة تنفر من كل شىء، فجمع القمى الأجراس وجعلها فى أعناق خيله، وحمل عليهم فنفرت إبل البجاة لأصواتها وتفرقت، وسارت على الجبال والأودية وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى الليل، ولم يقدروا على إحصاء القتلى لكثرتهم، ثم طلب ملكهم الأمان على أن يرّد عليه مملكته وبلاده، ويؤدى الخراج للمدة التى منعها وهى أربع سنين، فأمّنه محمد وسار به إلى المتوكل، فخلع عليه وعلى أصحابه وكساهم الحلل المدبّجة، وأعاده مع «1» القمى فرجع إلى بلاده وهو على دينه، وكان معه صنم من حجر يسجد له وهو كهيئة الصبى. وفى جمادى الآخرة منها ماجت النجوم فى السماء، وجعلت تتطاير شرقا وغربا ويتناثر بعضها خلف بعض كالجراد من قبل غروب الشفق إلى وقت الفجر، ولم يكن مثل «2» هذا إلا لظهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفيها مات الإمام أحمد بن محمد «3» بن حنبل أبو عبد الله الشيبانى ببغداد، يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وله سبع وسبعون سنة وأيام، وقيل فى هذا التاريخ من شهر ربيع الآخر والله أعلم. وحجّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود. ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين. فى هذه السنة خرجت الروم من شمشاط «4» بعد خروج على بن يحيى

الأرمنى من الصائفة حتى قاربوا آمد، وخرجوا من الثغور الجزرية فانتهبوا وأسروا نحوا من عشرة آلاف، فكتب المتوكل إلى على بن يحيى الأرمنى أن يسير إلى بلادهم شاتيا. قال أبو الفرج بن الجوزى رحمه الله فى المنتظم «1» وفيها فى شعبان زلزلت الدّامغان، فسقط نصفها على أهلها وعلى الوالى فقتلهم، ويذكر أن الهالكين كانوا خمسة وأربعين ألفا؛ وكانت بقومس ورساتيقها فى هذا الشهر زلازل فهدمت منها الدور، وسقطت بذش [كلها] «2» على أهلها، وسقط «3» نحو من ثلثى بسطام، وزلزلت الرى وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصفهان وقمّ وقاشان، وذلك كله فى وقت واحد، وتقطعت جبال ودنا بعضها من بعض، ورجفت أسدأباذ رجفة أصيب فيها الناس كلهم، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية، وانشقت الأرض بقدر ما تدخل الرجل فيها؛ قال: ورجمت السويداء من أرض مصر بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة «4» أعرابى فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال، فحمل منها أربعة إلى الفسطاط وواحد إلى تنّيس؛ قال: وذكروا أنّ جبلا باليمن كان عليه مزارع لأهله سار حتى أتى مزارع قوم فصار فيها «5» ، فكتب بذلك إلى المتوكل. قال ابن حبيب: وذكر على بن الوضاح أنّ طائرا دون الرخمة وفوق الغراب أبيض وقع على ذنبه «6» بحلب لسبع مضين من شهر رمضان، فصاح يا معشر الناس: اتقوا الله الله الله، حتى صاخ أربعين صوتا ثم طار، وجاء من الغد فصاح أربعين صوتا، فكتب بذلك

ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين

صاحب البريد وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه؛ ومات رجل فى بعض كور الأهواز فى شوال، فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخوزية: إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده «1» وحجّ بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم. ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين فى هذه السنة سار المتوكل إلى دمشق وعزم على المقام بها، فوصل إليها فى صفر سنة أربع وأربعين ومائتين، ونقل دواوين الملك إليها وأمر بالبناء، ثم استوبأ البلد فرجع إلى سامرّا، وكان مقامه بدمشق شهرين وأياما. وحجّ بالناس عبد الصمد. ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين فى هذه السنة وجه المتوكل بغا الكبير لغزو الروم، وكان مسيره من دمشق لما كان المتوكل بها، فسار وفتح صملة؛ وفيها أتى المتوكل بحربة كانت للنبى صلّى الله عليه وسلّم تسمى العنزة، وكانت للنجاشى فأهداها للزبير بن العوّام فأهداها الزبير للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وهى التى كانت تركز بين بديه صلّى الله عليه وسلّم فى صلاة العيدين، فكان يحملها بين يدى المتوكل صاحب الشرطة. وحج بالناس عبد الصمد بن موسى. وفيها اتفق عيد الأضحى والشعانين للنصارى وعيد الفطر «2» لليهود فى يوم واحد. ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين فى هذه السنة أمر المتوكل ببناء الماحوزة وسماها الجعفرى «3» ، وأقطع

ودخلت سنة ست وأربعين ومائتين

القوّاد وأصحابه فيها وجدّ فى بنائها، وأنفق عليها- فيما قيل- ألف ألف دينار «1» ، وجمع فيها القرّاء فقرءوا وأحضر أصحاب الملاهى، فوهب أكثر من ألفى ألف درهم، وكان يسميها هو وخاصّته المتوكلية، وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة لم ير مثله، وحفر لها نهرا يسقى ما حولها، فقتل المتوكل قبل كمال حفره فبطل الحفر وأخربت الجعفرية. وفيها زلزلت بلاد المغرب فتهدّمت الحصون والمنازل والقناطر، ففرّق المتوكل ثلاثة آلاف ألف درهم فيمن أصيب منزله، وزلزلت المدائن وأنطاكية فقتل بها خلق كثير وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيّف وتسعون برجا، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها، وتقطّع جبلها الأقرع وسقط فى البحر، وهاج البحر ذلك اليوم وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ ما علم أين ذهب؛ وسمع أهل تنيس «2» صيحة هائلة فمات منها خلق كثير؛ وزلزلت ديار الجزيرة والثغور وهرسوس وأذنة والشام، وهلك أهل اللاذقيّة وجبلة إلا اليسير. وحج بالناس محمد بن سليمان. ودخلت سنة ست وأربعين ومائتين فى هذه السنة كانت للمسلمين غزوات فى الروم برا وبحرا، فغزا الفضل بن قارن فى البحر فى عشرين مركبا «3» ، فافتتح حصن أنطاكية؛ وفيها كان الفداء على يد على بن يحيى الأرمنّى، ففودى بألفين وثلاثمائة

ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

وسبعة «1» وستين نفسا. وفيها ورد الخبر أن سكة بناحية بلخ تعرف بسكة الدهاقين مطرت دما عبيطا. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن سليمان الزينبى ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين ذكر مقتل أبى الفضل المتوكل على الله كان مقتله فى ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوّال من هذه السنة، وكان سبب مقتله أنّه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع باصفهان والجبل، وأقطعها للفتح بن خاقان فكتبت وصارت إلى الخاتم، فبلغ ذلك وصيفا، وكان المتوكل أراد أن يصلّى بالناس أول جمعة فى شهر رمضان، وشاع ذلك وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب، فلما أراد الركوب للصلاة قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين- إن الناس قد كثروا من أهل بيتك وغيرهم، فبعض «2» متظلم وبعض يطلب حاجة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهد بالصلاة فليفعل- فأمر المنتصر، فلما نهض للركوب قالا له: يا أمير المؤمنين إن رأيت «3» أن تأمر المعتز بالصلاة لتشرفه بذلك، فأمر المعتز فصلّى بالناس، فلما فرغ من الصلاة قاما إليه فقبلا يديه ورجليه، وانصرف المعتز فى موكب الخلافة حتى دخل على أبيه، فأثنوا عليه خيرا فسره ذلك، ووجد المنتصر له أمرا عظيما، فلما كان عيد الفطر قال المتوكل مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله: قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين واجتمعوا لذلك، ولا نأمن إن هو لم يركب اليوم أن يرجف الناس بعلّته،

فإن رأى أمير المؤمنين أن يسرّ الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل- فركب، وقد صف له الناس نحو أربعة أميال وترجّلوا بين يديه، فصلّى ورجع وأخذ حفنة من تراب فوضعها على رأسه، وقال: إنى رأيت كثرة هذا الجمع وأنّهم تحت يدى فأحببت أن أتواضع لله، فلما كان اليوم الثالث افتصد واشتهى لحم جزور فأكله، وسرّ فى ذلك اليوم، ودعا الندماء والمغنين فحضروا، وأخذ فى الشرب واللهو، ولهج «1» بأن يقول: أنا- والله- مفارقكم عن قليل، ولم يزل فى سروره ولهوه إلى الليل. وعزم المتوكل والفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قوّاد الأتراك، هذا والمنتصر قد واعد الأتراك على قتل أبيه المتوكل، وكان ذلك لأمور: منها أن المتوكل قد عبث بالمنتصر مرة يشتمه ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرّة يأمر بصفعه، ومرّة يتهدّده بالقتل؛ ثم قال للفتح: برئت من الله ومن قرابتى من رسول الله إن لم تلطمه، فقام إليه فلطمه مرتين: يمر بيده على قفاه «2» ، ثم قال لمن حضره: اشهدوا علىّ جميعا أنّى خلعت المستعجل يعنى المنتصر، والتفت إليه وقال: سميتك المنتصر فسمّاك الناس- لحمقك- المنتظر «3» ، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: لو أمرت بضرب عنقى لكان أسهل علىّ ممّا تفعل بى، فقال: اسقوه، ثم بالعشاء فأحضر فى جوف الليل فخرج المنتصر من عنده، وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال له: امض معى، فقال: إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال: إنّه أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وأخذ المنتصر يشغل زرافة بالحديث حتى أنتهى به إلى حجرة، وأكلوا طعاما، فما لبثا أن سمعا صيحة وصراخا فقاما، فإذا بغا قد لقى المنتصر فقال له: عظّم الله أجرك يا

وأما كيفية قتل المتوكل

أمير المؤمنين، قد مات أمير المؤمنين المتوكل، فجلس المنتصر وأمر بالباب الذى فيه المتوكل فأغلق وأغلقت الأبواب، وبعث إلى وصيف يأمره باحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل. وأما كيفية قتل المتوكل فإنّه لما خرج المنتصر وأحضرت المائدة وأكل المتوكل والندماء ورفعت المائدة دخل بغا الصغير الشرابى إلى المجلس، وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة ألا أترك أحدا- وقد شرب أربعة عشر رطلا، وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة، فأخرجهم ولم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة وأبو أحمد بن المتوكل، وكان بغا قد أغلق سائر الأبواب إلا باب الشط، ومنه دخل القوم الذين قتلوه، فلما دخلوا بصربهم أبو أحمد فقال: ما هذا يا سفّل!! وإذا سيوف مسلّلة، فرفع المتوكل رأسه فرآهم فقال: يا بغا ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة فرجعوا إلى ورائهم، فقال لهم بغا: يا سفّل أنتم مقتولون لا محالة فموتوا كراما فرجعوا، فابتدره بغلون «1» وضربه على كتفه وأذنه فقدّه، فقال: مهلا- قطع الله يديك، وأراد الوثوب به، واستقبله بيده فضربها فأبانها، وشركه «2» باغر، فقال الفتح: ويلكم!! أمير المؤمنين، ورمى بنفسه على المتوكل فبعجوه بسيوفهم، فصاح الموت وتنحّى فقتلوه، وكان معهم خمسة من ولد وصيف. قال: ولما قتلوا المتوكل والفتح خرجوا إلى المنتصر فسلّموا عليه بالخلافة، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف وقالوا: تبايع فبايع، وأرسل

المنتصر إلى وصيف أن الفتح قتل أبى فقتلته، فأحضر فى وجوه أصحابك فحضروا وبايعوه، وكان عبيد الله بن يحيى فى حجرته وبين يديه جعفر بن حامد، فلما علم بقتل المتوكل خرج فيمن معه وكسر ثلاثة أبواب، وخرج إلى الشط وركب فى زورق فأتى منزل المعتز فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون- قتل نفسه وقتلنى، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه فى غداة يوم الأربعاء، فكانوا زهاء عشرة آلاف وقيل ثلاثة عشر ألفا، فقالوا: إنما اصطنعتنا لمثل هذا اليوم، فمرنا بأمرك واذن لنا أن نميل على القوم فنقتل المنتصر ومن معه، فأبى ذلك وقال: إنّ المعتز فى أيديهم. وحكى عن على بن يحيى قال «1» : كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام «2» كتابا من كتب الملاحم، فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر من بنى العباس يقتل فى مجلسه فتوقفت عن القراءة فقال: مالك؟ قلت خير، قال: لا بدّ أن تقرأ فقرأت فوجم لذلك، وقال: يا ليت شعرى من هذا الشقى المقتول «3» ؟! فقلت: أخوك الواثق هو العاشر وما كل هذا يضح، قال: وكيف يكون العاشر؟ فذكرت الخلفاء وعددت منهم إبراهيم ابن المهدى فطابت نفسه. قال: وفسّر علىّ يوما مناما فقال: رأيت دابّة تكلّمنى والله لو كانت بين ألف دابّة ميّزتها، فجرى على خاطرى قوله تعالى وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ «4» ، ثم قلت: الدابّة عجماء لا

تتكلّم، يدل على أن الله يفتح عليك ما لم يقدر غيرك على فتحه، فلما كان بعد شهر أهديت له هدايا فرأى فيها دابّة، فقال لى: هذه والله تلك الدابّة، فقتل بعد أيام. وقال أبو الوارث قاضى نصيبين «1» : رأيت فى النوم قائلا يقول: يا نائم العين فى جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكى بتهتان أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمى وبالفتح بن خاقان «2» فأتى البريد بعد ثلاثة أيام بقتلهما. قال وكان عمره نحوا من أربعين سنة، ومدة خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام «3» ، ولما مات دفن بالقصر الجعفرى، وصلّى عليه ابنه المنتصر. وكان مربوعا أسمر خفيف العارضين نحيفا «4» ، ونقش خاتمه: على إلاهى اتكالى. أولاده: المنتصر وموسى الأحدب والمعز والمعتز والمؤيد وطلحة الموفق وإسماعيل والمعتمد وغيرهم. وزراؤه: محمد بن عبد الملك الزيات ثم محمد بن الفضل الجرجرائى ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. حجّابه: وصيف التركى ثم محمد ابن عاصم ثم يعقوب بن قوصرة ثم المرزبان ثم إبراهيم بن الحسن بن سهل وغيره. قضاته: أحمد بن أبى دؤاد ثم يحيى بن أكثم ثم جعفر بن عبد الواحد العباسى. الأمراء بمصر: هرثمة بن النضر «5» من قبل إيتاخ ثم ابنه حاتم ثم على بن يحيى الأرمنى ثم ردّت مصر إلى محمد المنتصر، فاستخلف

ذكر خلافة المنتصر بالله

إسحاق بن يحيى بن معاذ ثم عبد الواحد بن يحيى ابن عم «1» طاهر بن الحسين ثم عنبسة بن إسحاق الضّبى ثم يزيد بن عبد الله. القضاة بها: محمد بن أبى الليث ثم الحارث بن مسكين ثم القاضى بكّار بن قتيبة ذكر خلافة المنتصر بالله هو أبو جعفر محمد بن المتوكل أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد ابن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد رومية اسمها حبشية، وهو الحادى عشر من الخلفاء العباسيين بويع له على ما ذكرناه فى ليلة قتل المتوكل، قال: ولما أصبح فى يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين حضر الناس من القوّاد والكتّاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم إلى الجعفرية، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا عن المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتلته به فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان فبايع. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن سليمان الزينبى. ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ذكر خلع المعتز والمؤيّد قال: ولما استقامت الأمور للمنتصر قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين فيلى المعتز الخلافة فلا يبقى منّا باقية، والرأى أن نعمل فى خلع المعتز والمؤيد، فجدّ الأتراك فى ذلك وألحّوا على المنتصر، وقالوا نخلعهما من الخلافة ونبايع لابنك عبد الوهاب

فأجابهم، وأحضر المعتز والمؤيّد بعد أربعين يوما من خلافته، وجعلا فى دار وجاءت الرسل إليهما بالخلع، فأجاب المؤيّد وامتنع المعتز وقال: إن أردتم القتل فشأنكم، فأخبروا المنتصر بقوله ثم عادوا بغلظة وشدة وأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه بيتا فدخل إليه المؤيّد، وقال له: ويلك يا جاهل، إنّهم نالوا من أبيك- وهوهو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم؟ اخلع ولا تراجعهم وإن كان فى سابق علم الله أن تلى لتلينّ، فقال أفعل، فخرج المؤيّد وقال: قد أجاب إلى الخلع، فمضوا وأعلموا المنتصر وعادوا ومعهم كاتب، فجلس وقال للمعتز: اكتب بخطّك خلعك، فقال المؤيّد: هات قرطاسك- إمل «1» ما شئت، فأملى عليه كتابا إلى المنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه لا يحلّ له أن يأثم المتوكل بسببه، إذ لم يكن موضعا له، ويسأله الخلع ويعلمه أنه قد خلع نفسه وأحلّ الناس من بيعته- فكتب ذلك، وقال للمعتز: اكتب فأبى فأعاد عليه فكتب، وخرج الكاتب «2» عنهما ثم دعاهما المنتصر، فدخلا عليه فأجلسهما، وقال: هذا كتابكما؟ قالا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لهما- والأتراك قيام- أتريانى خلعتكما طمعا فى أن أعيش حتى يكبر ولدى وأبايع له؟ لا- والله- ما طمعت فى ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن لى فى ذلك طمع فو الله لئن يليها بنو أبى أحب إلىّ من أن يليها بنو عمى، ولكنّ هؤلاء- وأومأ إلى سائر الموالى ممن هو قائم عنده وقاعد- وقد ألحّوا فى خلعكما- فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتى عليكما فما تريانى صانعا؟ أقتله فو الله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل فقبّلا يده وضمّهما، ثم أشهدا على أنفسهما القضاة وبنى هاشم والقواد ووجوه الناس بالخلع، وكتب بذلك المنتصر إلى محمد بن طاهر وغيره.

ذكر وفاة المنتصر بالله

ذكر وفاة المنتصر بالله كانت وفاته يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وقيل يوم الأحد وهو لخمس خلون منه «1» . وكانت علّته الذبحة فى حلقه، أخذته يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، وقيل كانت علّته من ورم فى معدته ثم صعد إلى فؤاده فمات، وقيل إنّه وجد حرارة فدعا بعض أطبائه، ففصده بمبضع مسموم فمات، وانصرف الطبيب إلى منزله وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له ليفصده، ووضع مباضعه بين يديه ليتخيّر «2» أجودها، فأخذ ذلك المبضع المسموم- وقد نسيه الطبيب- ففصده به، فلما فرغ نظر إليه فعرفه، فأيقن بالهلاك ووصّى من ساعته ومات، وقيل غير ذلك. قال: ولما أفضت الخلافة إليه كان كثير من الناس يقولون: إنما مدة خلافته ستة أشهر- مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه، يقولها الخاصة والعامة. وقيل إنّ المنتصر رأى فى منامه رؤيا فانتبه وهو يبكى وينتحب، فسمعه عبد الله بن عمر البازيار فأتاه، فسأله عن سبب بكائه فقال: رأيت فيما يرى النائم المتوكل قد جاءنى وهو يقول: ويحك يا محمد: قتلتنى وظلمتنى وغبنتنى خلافتى، والله لا متّعت بها أبدا إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار، فقال له عبد الله: هذه رؤيا وهى تصدق وتكذب، بل يعمّرك الله ويسرك، ادع بالنبيذ وخذ فى اللهو ولا تعبأ بها، ففعل ذلك ولم يزل منكسرا «3» حتى مات. وروى أبو الفرج بن الجوزى بسنده عن على بن يحيى المنجم قال «4» : جلس المنتصر بالله فى مجلس كان أمر أن يفرش له، وكان

ذكر خلافة المستعين بالله

فى بعض البسط دائرة كبيرة، فيها مثال فرس وعليه راكب وعلى رأسه تاج، وحوالى الدائرة كتابة بالفارسية، فلما جلس المنتصر وجلس الندماء ووقف على رأسه وجوه الموالى والقواد نظر إلى تلك الدائرة وإلى الكتابة التى حولها، فقال لبغا: إيش هذا الكتاب «1» ؟ فقال: لا أعلم يا سيدى، فسأل من حضر من الندماء، فلم يحسن أحد أن يقرأه، فالتفت إلى وصيف وقال: احضر لى من يقرأه، فأحضر رجلا فقرأ الكتابة وقطب، فقال له المنتصر: ما هو؟ فقال له «2» : يا أمير المؤمنين ليس له معنى، فألحّ عليه وغضب، فقال: يقول- أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز قتلت أبى فلم أمتّع بالملك إلا ستة أشهر، فتغيّر وجه المنتصر وقام عن مجلسه إلى النساء، فلم يمكث «3» إلا ستة أشهر ومات. وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وقيل ستة أشهر سواء، وعمره خمس وعشرون سنة وستة أشهر، وقيل أربع وعشرون سنة، ووفاته بسامرا. ولما حضرته الوفاة أنشد: فما فرحت نفسى بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير وصلّى عليه أحمد بن المعتصم. وكان مربوعا أسمر أعين حسن الوجه ذا شهامة وشدّة. وكان له أربعة أولاد ذكور. وزيره: أحمد بن الخصيب. حجابه: وصيف ثم بغا ثم ابن المرزبان ثم أوتامش. قاضيه: جعفر العباسى. أمير مصر: يزيد بن عبد الله. قاضيها: بكّار. ذكر خلافة المستعين بالله هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم بن الرشيد، وأمه أم ولد اسمها مخارق، وهو الثانى عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الإثنين

لأربع وقيل لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكان سبب بيعته أنه لما مات المنتصر اجتمع الموالى فى الهارونى «1» من الغد، وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش وغيرهم، واستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك برأى أحمد بن الخصيب فحلفوا، وتشاوروا فأجمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم فبايعوه، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وكان ذلك فى ليلة الإثنين، فلما أصبح صار إلى دار العامة فى زى الخلفاء، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يدية الحربة قبل طلوع الشمس، واستوزر أوتامش، واستكتب أحمد بن الخصيب. وحضر أصحاب المراتب من العباسيين والطالبيين وغيرهم، فبينما هو كذلك إذ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، وإذا نحو خمسين فارسا ذكروا أنّهم أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ومعهم غيرهم من أخلاط الناس والغوغاء والسوقة، فشهروا السلاح وصاحوا: معتز «2» يا منصور، وتحرّك من على باب العامة من المبيضة والشاكرية وكثروا، فحمل عليهم المغاربة وبعض الأشروسنية فهزموهم حتى أدخلوهم درب زرافة، ثم نشبت الحرب بينهم فقتل جماعة، وانصرف الأتراك بعد ثلاث ساعات وقد بايعوا المستعين هم ومن حضر من الهاشميين وغيرهم. قال: ولما دخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة انتهبوا الخزانة التى فيها السلاح، فأتاهم بغا الصغير فى جماعة فأجلوهم عن الخزانة، وقتلوا منهم عدة وكثر القتل من الفريقين. وتحرّك أهل السجن بسامرّا فهرب منهم جماعة. ثم وضع العطاء على البيعة وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبايع له هو والناس ببغداد.

ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

وفى هذه السنة ورد على المستعين الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان فى شهر رجب، فعقد لابنه محمد بن طاهر على خراسان ولمحمد ابن عبد الله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد وأفرده به. وفيها مات بغا الكبير فعقد لابنه موسى بن بغا على أعمال أبيه كلها؛ وفيها خرج عبيد الله «1» بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجّه خلفه ينفيه إلى برقة ومنعه من الحج؛ وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد جميع مالهما، وأشهد عليهما القضاة والفقهاء، وترك للمعتز ما يتحصّل منه فى السنة عشرين ألف دينار وللمؤيد ما يتحصل منه فى السنة خمسة آلاف دينار، وجعلا فى حجرة فى الجوسق ووكل بهما، وكان الأتراك أرادوا قتلهما حين شغب الغوغاء، فمنعهم أحمد بن الخصيب وأشار بحبسهما فحبسوهما. وفيها غضب الموالى على أحمد بن الخصيب فى جمادى الآخرة، واستصفوا ماله ومال ولده ونفى إلى إقريطش. وفيها شغب أهل حمص على عاملهم كيدر فأخرجوه، فوجّه إليهم الفضل بن قارن فقتل منهم خلقا كثيرا. وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. وفيها عقد المستعين لأوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا. وعقد لبغا الشرابى على حلوان وماسبذان ومهرجا نقذق. وجعل المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخاصّة أموره، وقدّمه هو وأوتامش على جميع الناس. وحج بالناس محمد بن سليمان. ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين ذكر الفتنة ببغداد فى هذه السنة شغب الجند الشاكرية ببغداد غضبا على الأتراك، لتمكّنهم وقتلهم المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، يقتلون من شاءوا من

ذكر قتل أوتامش الوزير

الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير نظر للمسلمين. فاجتمعت العامة بالصراخ ببغداد والنداء بالنفير. وانضم الأبناء والشاكرية تظهر أنّها تطلب الأرزاق وذلك فى أول صفر. ففتحوا السجون وأخرجوا من فيها وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر، وانتهبوا دار بشر وابراهيم ابنى هارون كاتبى محمد بن عبد الله، ثم أخرج أهل اليسار من بغداد وسامرا أموالا كثيرة وفرّقوها فيمن نهض إلى الثغور، وأقبلت العامة من نواحى الجبال وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم، فلم يأمر الخليفة فى ذلك بشىء ولا بتوجيه عسكر، وكان قيام هؤلاء غضبا لقتل عمر بن عبيد الله «1» وعلى بن يحيى الأرمنى، وكانا قتلا فى غزو الروم. وفيها فى شهر ربيع الأول وثب نفر من الناس بسامرّا لا يدرى من هم، ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه فبعث فى طلبهم جماعة من الموالى. فوثب العامة بهم فهزموهم، فركب بغا وأوتامش ووصيف وعامة الأتراك فقتلوا من العامة جماعة، فرمى وصيف بحجر فأمر بإحراق ذلك المكان. وانتهبت المغاربة منازل جماعة من العامة ثم سكن ذلك فى آخر النهار. ذكر قتل أوتامش الوزير كان مقتله فى هذه السنة، وسبب ذلك أن المستعين كان أطلق يد والدته ويد أوتامش ويد شاهك فى بيوت الأموال، وأباحهم فعل ما أرادوا فكانوا يقتسمون ما يرد من الآفاق من الأموال، وأخذ أوتامش أكثر ما فى بيوت الأموال، وكان العباس بن المستعين فى حجره فكان يأخذ له ما فضل عن هؤلاء الثلاثة من الأموال يصرفه فى نفقاته، ووصيف وبغا بمعزل عن ذلك فغضبا، وأغريا الموالى بأوتامش وأحكما أمره، فاجتمعت الأتراك والفراغنة عليه وعسكروا فى شهر ربيع الآخر، وأتوا الجوسق- وهو فيه مع

ودخلت سنة خمسين ومائتين

المستعين- فأراد الهرب فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره، وأقاموا على ذلك يومين، ثم دخلوا الجوسق فأخذوه وقتلوه، وقتلوا كاتبه ابن القاسم، ونهبت دور أوتامش فأخذوا منها أموالا جمة ومتاعا وغير ذلك. واستوزر المستعين بعده أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد «1» ، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، وولّاه عيسى بن فرّخانشاه، وولى وصيفا الأهواز، وبغا الصغير فلسطين، ثم غضب بغا على أبى صالح فهرب إلى بغداد، واستوزر المستعين محمد بن الفضل الجرجرائى. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام. ودخلت سنة خمسين ومائتين فى هذه السنة ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب بالكوفة، وفتح السجون وأخرج من فيها وكثر جمعه، وكان من أخباره وقتله ما نذكره فى أخبار آل أبى طالب. وفيها كان ابتداء الدولة العلوية بطبرستان، بظهور الحسن بن زيد العلوى على ما نذكره فى أخبارهم أيضا إن شاء الله تعالى. وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب على عاملهم- الفضل بن قارن أخى مازيار بن قارن فقتلوه، فوجّه المستعين موسى بن بغا الكبير، فلقيه أهلها فيما بين حمص والرّستن وحاربوه، فهزمهم وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من أعيانها. وحج بالناس فى هذه السنة جعفر بن الفضل والى مكة.

ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين ذكر قتل باغر التركى فى هذه السنة قتل باغر التركى. قتله بغا ووصيف، وسبب ذلك أنّه أحد قتلة المتوكل على ما ذكرناه، فزيد فى أرزاقه فكان مما أقطع قرى بسواد الكوفة، فتضمنها «1» . رجل من أهل باروسما بألفى دينار، فوثب رجل من أهل تلك الناحية يقال له ابن مارمة «2» بوكيل لباغر، فتناوله فحبس ابن مارمة وقيّد، ثم تخلّص وسار إلى سامرا فلقى دليل بن يعقوب النصرانى وهو يومئذ صاحب أمر بغا الشرابى، وكان صديقا له وكان باغر أحد قواد بغا، فمنعه دليل من ظلم أحمد بن مارمه وانتصف له منه، فغضب باغر وباين دليلا، وكان باغر شجاعا يتقيه بغا وغيره، فحضر عند بغا فى ذى الحجة سنة خمسين وهو سكران، وبغا فى الحمّام فدخل عليه وقال: ما من قتل دليل بدّ، فقال له بغا: لو أردت ولدى ما منعتك منه ولكن اصبر فإنّ أمور الخلافة بيد دليل، فإذا أقمت غيره افعل ما تريد، وأمر بغا دليلا ألا يركب وأقام فى كتابته غيره، يوهم باغر أنه قد عزله فسكن باغر، ثم أصلح بغا بينهما وباغر يتهدده. قال: ولزم باغر خدمة المستعين فثقل عليه، فلما كان نوبة بغا فى منزله قال المستعين: أى شىء كان إلى إيتاخ من الخدمة، فأخبره وصيف، فقال: ينبغى أن يجعل ذلك إلى باغر، فسمع دليل ذلك فركب إلى بغا، فقال له: أنت فى بيتك وهو فى تدبير غيرك «3» - وإذا عزلت قتلت، فركب بغا إلى دار الخليفة فى يومه، وقال لوصيف: أردت أن تعزلنى، فحلف أنّه ما علم ما أراد الخليفة، واتفقا على إخراج باغر. من الدار وحلفا على ذلك، ودبّرا فى الحيلة عليه- فأرجفوا له أنّه يؤمرّ ويخلع عليه،

ذكر مسير المستعين إلى بغداد

ويكون فى موضع بغا ووصيف، فأحسّ باغر بالشر فجمع إليه الجماعة الذين كانوا وافقوه على قتل المتوكل وغيرهم، فجدّد العهد عليهم فى قتل المستعين وبغا ووصيف، وقال: نبايع على بن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لنا كما هو لهذين، فأجابوه إلى ذلك وانتهى الخبر إلى المستعين، فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما: أنتما جعلتمانى خليفة ثم تريدان قتلى، فحلفا أنهما ما علما بشىء فأعلمهما الخبر، فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك وحبسهم، وطلبوه فأقبل فى عدة فعدل به إلى حمام وحبس فيه، فبلغ الأتراك الخبر فوثبوا على اسطبل الخليفة فانتهبوه، وركبوا ما فيه وحضروا إلى باب الجوسق بالسلاح، فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل. ذكر مسير المستعين إلى بغداد قال: ولما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه، فانحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك الخادم وأحمد بن صالح ودليل إلى بغداد فى حرّاقة، وركب جماعة من قواد الأتراك إلى «1» أصحاب باغر، فسألوهم الانصراف فلم يفعلوا، فلما علموا بانحدار المستعين ومن معه ندموا، ثم قصدوا دار دليل ودور أهله وجيرانه فنهبوها، حتى صاروا إلى أخذ الخشب. قال: ومنع الناس الأتراك من الانحدار إلى بغداد، فأخذوا ملاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقلها، فامتنع أصحاب السفن؛ ووصل المستعين إلى بغداد لخمس خلون من المحرم من هذه السنة، فنزل على محمد بن عبد الله بن طاهر فى داره، ثم وافى القواد بغداد سوى جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ، وقدمها جلّة الكتّاب والعمال وبنو هاشم وجماعة من أصحاب بغا ووصيف. وبايع أولئك للمعتز وحاصروا بغداد، وكان من خلع المستعين وقتله ما نذكره فى أخبار المعتز إن شاء الله تعالى.

ذكر البيعة للمعتز بالله

ذكر البيعة للمعتز بالله هو أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها قبيحة، وهو الثالث عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له البيعة الأولى فى هذه السنة ثم بويع له البيعة العامة ببغداد لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، بعد خلع المستعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان سبب البيعة له أن المستعين لما استقر ببغداد أتاه جماعة من قواد الأتراك، ودخلوا عليه وألقوا نفوسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم فى أعناقهم وسألوه الصفح عنهم، فوبخهم وسبّهم ثم عادوا سألوه وتضرّعوا له، فقال: قد رضيت عنكم وعفوت، فقال له أحدهم- واسمه بايكباك «1» -: إن كنت قد رضيت فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأمر محمد بن عبد الله بعض أصحابه فضربه، وقال له محمد: هكذا يقال لأمير المؤمنين- قم فاركب معنا!! فضحك المستعين وقال: هؤلاء قوم عجم لا يعرفون حدود الكلام، ثم قال لهم المستعين: ارجعوا إلى سامرا فإنّ أرزاقكم دارّة عليكم، وأنظر أنا فى أمرى فرجعوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وراءهم خبرهم وزادوا وحرّفوا فأجمعوا على إخراج المعتز وكان هو والمؤيد فى حبس «2» الجوسق، وعليهم من يحفظهم، فأخرجوا المعتز من الحبس وأخذوا من شعره- وكان قد كثر، وبايعوا له بالخلافة، فأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يوف المال فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم، وكان المستعين خلّف بسامرا فى بيت المال خمسمائة ألف دينار، وفى بيت مال أم

المستعين ما قيمته ألف ألف دينار، وفى بيت مال العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار، قال: وكان فيمن أحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه النقرس، فجىء به فى محفّة فامتنع من البيعة، وقال للمعتز: خرجت إلينا طائعا فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف، فقال: ما علمنا بإكراهك، وقد بايعنا هذا الرجل فتريد أن نطلّق «1» نساءنا ونخرج من أموالنا؟! ولا ندرى ما يكون، إن تركتنى حتى يجتمع الناس وإلا فهذا السيف، فتركه المعتز، وكان ممّن بايع إبراهيم بن الديرج وعتّاب بن عتّاب، فأما عتاب فهرب إلى بغداد، وأما الديرج فأقر على الشرطة واستعمل على الدواوين وبيت المال وعلى الكتابة وغير ذلك. قال: ولما وصل خبر بيعة المعتز إلى محمد بن عبد الله أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق فى المسير إلى بغداد هو وأهل بيته وجنده، وكتب إلى نجوبة «2» بن قيس وهو على الأنبار فى الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلى فى منع السفن والميرة عن سامرا، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بتحصين بغداد، فتقدم فى ذلك فأدير عليها السور، وأمر بحفر الخنادق من الجانبين، وجعل على كل باب قائدا، فبلغت النفقة على ذلك ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار، ونصبت المجانيق والعرّادات على الأبواب وشحن الأسوار، وفرض فرضا للعيارين ببغداد وجعل عليهم عريفا، وعمل لهم تراسا من البوارى المقيّرة، وأعطاهم المخالى ليجعلوا فيها الحجارة للرمى، وفرض أيضا لقوم من خراسان قدموا حجاجا، وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلد وموضع أن يحملوا الخراج

ذكر حصار المستعين ببغداد

إلى بغداد، وكتب إلى الجند والأتراك الذين بسامرا بنقض بيعة المعتز- مراجعة الوفاء له، وذكر أياديه عندهم ونهاهم عن النكث؛ وجرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله مكاتبات ومراسلات، فالمعتز يدعوه إلى بيعته ويذكره بما كان المتوكل أخذ عليه من البيعة بعد المنتصر، ومحمد يدعو المعتز إلى الرجوع إلى طاعة المستعين، واحتج كل منهما على صاحبه. قال: وكتب كل من المعتز والمستعين إلى موسى بن بغا يدعوه إلى نفسه، وكان بأطراف الشام فانصرف إلى المعتز وصار معه، وقدم عبد الله بن بغا الصغير من سامرا إلى المستعين وكان قد تخلّف بعد أبيه، فاعتذر وقال لأبيه: إنما جئت لأموت تحت ركابك، فأقام ببغداد أياما ثم هرب إلى سامرا، واعتذر إلى المعتز وقال: إنما صرت إلى بغداد لأعلم أخبارهم وآتيك بها، فقبل عذره وردّه إلى خدمته، وورد الحسن بن الأفشين بغداد فخلع عليه المستعين، وضمّ إليه جماعة من الأشروسنية وغيرهم. ذكر حصار المستعين ببغداد قال: ثم عقد المعتز لأخيه أبى أحمد بن المتوكل وهو الموفق لسبع بقين من المحرم على حرب المستعين ومحمد بن عبد الله. وضم إليه الجيش وجعل إليه الأمور كلها، وجعل التدبير إلى كلباتكين «1» التركى، فسار فى خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، ونزل بباب الشماسية لسبع خلون من صفر، فراسله المستعين فى الكف عن القتال، وبذل له «2» الأموال وأن يكون المعتز ولى عهده، فأبى أبو أحمد ذلك فأمر المستعين عساكره ألا يبدأوا بقتال، قال: وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم بل ادفعوهم. قال: ثم تقدم الأتراك إلى باب الشماسية. فخرج إليهم الحسين «3» بن

إسماعيل فاقتتلوا، فقتل من الفريقين وجرح- وانهزم أهل بغداد. وسيّر الأتراك رءوس القتلى إلى سامرا. ووجّه المعتز عسكرا من الجانب الغربى فساروا إلى قطربل لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول «1» فأخرج إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جيشا فاقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لأصحاب المعتز. وكان بين الفريقين عدة وقائع يطول شرحها. قال: وكان محمد بن عبد الله بن طاهر قائما فى خدمة المستعين أحسن قيام. فغيّره عبيد الله «2» بن يحيى بن خاقان. وقال له: إنّ هذا الذى تنصره وتجدّ فى أمره هو أشد الناس نفاقا. وأبدى للمستعين مساوئ كثيرة. فتغيّر محمد بن عبد الله بن طاهر. فلما كان يوم الأضحى صلّى المستعين بالناس، ثم حضر محمد إليه وعنده الفقهاء والقضاة. فقال له: لقد كنت فارقتنى على أن تنفّذ أمرى فى كل ما أعزم عليه. وخطك عندى بذلك. فقال المستعين: أحضر الرقعة فأحضرها. فإذا فيها ذكر الصلح. وليس فيها ذكر الخلع فقال: نعم امض الصلح «3» . فخرج محمد بن عبد الله بن طاهر إلى ظاهر باب الشماسية. فضرب له مضرب كبير فنزل فيه ومعه جماعة من أصحابه. وجاء أبو أحمد فى سمارية فصعد إليه. وتناظرا طويلا ثم خرجا، فجاء ابن طاهر إلى المستعين فأخبره أنّه بذل له خمسين ألف دينار ويقطع عليه ثلاثين ألف دينار. وعلى أن يكون مقامه بالمدينة يتردد منها إلى مكة ويخلع نفسه من الخلافة. وأن يعطى بغا ولاية الحجاز جميعه. ويولى وصيف الجبل وما والاه. ويكون ثلث ما يجبى من المال لمحمد بن عبد الله

ذكر خلع المستعين وخلافة المعتز بالله

وجند بغداد، والثلثان للموالى والأتراك، فامتنع المستعين من الإجابة إلى الخلع. وظن أن وصيفا وبغا معه فكاشفاه، فقال: النطع والسيف. فقال له ابن طاهر: لا بد من خلعها طائعا أو مكرها، فأجاب إلى الخلع وكتب بما أراد لنفسه من الشروط، وذلك لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة، وجمع محمد الفقهاء والقضاة وأدخلهم على المستعين وأشهدهم عليه، أنّه صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أخذ منه جوهر الخلافة، وبعث ابن طاهر إلى قواده ليوافوه، ومع كل قائد عشرة نفر من أصحابه، فأتوه فمنّاهم، وقال: ما أردت بما فعلت إلا صلاحكم وحقن الدماء، وأمرهم بالخروج إلى المعتز بالشروط التى شرطها للمستعين ولنفسه وقوّاده، ليوقع المعتز عليها بخطه فتوجهوا إلى المعتز فأجاب إلى ما طلبوا، ووقع عليه بخطه وشهدوا على إقراره، وخلع عليهم ووجّه معهم من يأخذ البيعة له على المستعين، وحمل إلى المستعين أمه وعياله بعد أن فتشوا وأخذ ما معهم. ذكر خلع المستعين وخلافة المعتز بالله ودخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين قال: وخلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله بن المتوكل وهى البيعة العامة للمعتز، وخطب له ببغداد يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم، وأخذ له البيعة على كل من بها. قال: ولما كتب كتاب الشروط دخل محمد [بن عبد الله] «1» بن طاهر إلى المستعين ومعه سعيد بن حميد وقد كتب شروط الأمان، فقال: يا أمير المؤمنين- قد كتب سعيد كتاب الشروط فأكده غاية التأكيد، فقرأه عليه ليسمعه. فقال المستعين: لا حاجة لى إلى توكيدها، فما القوم بأعلم بالله منك، ولقد أكّدت على نفسك قبلهم فكان ما علمت، فما ردّ محمد شيئا.

ذكر أخبار المستعين بعد خلعه وما كان من أمره إلى أن قتل وذكر أولاده وعماله ومدة عمره وخلافته

ذكر أخبار المستعين بعد خلعه وما كان من أمره إلى أن قتل وذكر أولاده وعمّاله ومدة عمره وخلافته قال: ولما أشهد المستعين على نفسه بالخلع نقل من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل، ومعه عياله «1» وجميع أهله، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم وسيّروا إلى المعتز مع عبيد الله «2» بن عبد الله بن طاهر، ومنع من الخروج إلى مكة فاختار المقام بالبصرة، فقيل له إن البصرة وبيّة، فقال: أهى أوبأ أو ترك الخلافة؟! وقال بعض الشعراء فى خلع المستعين: خلع الخليفة «3» أحمد بن محمد ... وسيقتل التالىّ له أو يخلع ويزول ملك بنى أبيه ولا يرى «4» ... أحد بملك مهم يستمتع «5» إيها بنى العباس إنّ سبيلكم ... فى قتل أعبدكم سبيل «6» مهيع رقعتم دنياكم فتمزّقت ... بكم الحياة تمزقا لا يرقع قال: وسيّر المستعين إلى واسط، ثم كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بتسليمه إلى سيما الخادم، فكتب محمد إلى الموكلين به بذلك، ثم أرسل أحمد بن طولون فى تسليمه فأخذه أحمد، وسار به إلى «7» القاطول فسلّمه إلى سعيد بن صالح، فأدخله سعيد منزله وضربه حتى مات. وقيل بل جعل فى رجله حجرا وألقاه فى دجلة، وقيل كان قد حمل معه داية له، فلما أخذه سعيد وضربه صاح وصاحت دابته، فقتل وقتلت

معه وحمل رأسه إلى المعتز وهو يلعب الشطرنج، فقيل له: هذا راس المخلوع، فقال: ضعوه حتى أفرغ من الدست، فلما فرغ نظر إليه وأمر به فدفن، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولّاه معونة البصرة. قال: وكان مقتل المستعين فى آخر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وعمره احدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر إلا أياما وقيل أكثر، ومدة خلافته إلى أن خلع نفسه ثلاث سنين وسبعة أشهر. ونقش خاتمه: فى الاعتبار غنى عن الاختبار. وكان سمينا صغير العينين كبير اللحية أسودها بوجنته خال أسود، وكان فيه لين وانقياد لأتباعه؛ قال: وسبب تلقيبه بالمستعين أنه لما بويع له بالخلافة قال: أستعين بالله وأفعل. قال: ولم يل الخلافة من لدن المنصور إلى هذا الوقت من لم يكن أبوه خليفة غيره. وذكر ابن مسكويه فى كتاب تجارب الأمم: أن المستعين أخو المتوكل لأبيه. والصحيح أنه ولد أخيه محمد بن المعتصم، وكان له من الأولاد الذكور ستة. وقد ذكرنا وزراءه أثناء دولته. حجابه: أوتامش ثم وصيف ثم بغا. قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب «1» الأموى وقيل جعفر بن محمد بن عمار البرجمى «2» . الأمراء بمصر: يزيد بن عبد الله. قاضيها بكّار بن قتيبة.

ذكر حال وصيف وبغا

نعود إلى الحوادث فى أيام المعتز بالله فى بقية شهور سنة اثنتين وخمسين. ذكر حال وصيف وبغا قال: وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فى اسقاط اسم بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين، فوجّه وصيف أخته سعاد «1» إلى المؤيد وكان فى حجرها، فكلّم المؤيد المعتز فى الرضى عن وصيف فرضى عنه، وتكلم أبو أحمد ابن المتوكل فى بغا فرضى عنه، وعاد إلى سامرّا وأعادهما المعتز إلى منزلهما من الخدمة، وخلع عليهما وعقد لهما على أعمالهما، وجعل البريد إلى موسى بن بغا الكبير، واستوزر أحمد بن أبى اسرائيل. وفيها شغب الجند ببغداد على محمد بن عبد الله فى طلب أرزاقهم، ففرّق فيهم ألفى دينار، ثم شغبوا مرة ثانية وعسكروا بباب الشماسية وباب حرب، وكانت بينهم وبين أصحاب محمد وقعات، ثم تفرّقوا ورجعوا إلى منازلهم. ذكر خلع المؤيد وموته وفى شهر رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد بعده، وحبسه هو وأبا أحمد وقيّد المؤيد وقيل أنه ضربه أربعين مقرعة، وأخذ خطّه بخلع نفسه، ثم بلغه أن الأتراك يريدون إخراجه فأخرجه من الغد ميتا. وأوقف القضاة والفقهاء والوجوه عليه، وأنّه لا أثر به ولا جراحة. وحمل إلى أمّه ومعه كفنه وأمرت بدفنه، فقيل إنه أدرج فى لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات، وقيل إنّه أقعد فى الثلج وجعل على رأسه منه فمات من البرد. وكان ذلك فى شهر رجب.

ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة

ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة وفى مستهل شهر رجب كانت الفتنة بين الطائفتين، وسببها أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرّخانشاه فضربوه وأخذوا دابته، فاجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد «1» وأخرجوا الأتراك من الجوسق، وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة وتخلعون آخر وتقيمون وزيرا، وصار الجوسق وبيت المال فى أيدى المغاربة وأخذوا دواب الأتراك، والتقوا هم والمغاربة وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة، فضعف الأتراك وانقادوا، فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم على أن لا يحدثوا شيئا، فمكثوا مدة ثمّ اجتمع الأتراك فقتلوا محمد بن راشد ونصر بن سعيد. وفيها خرج مساور بن عبد الحميد «2» البجلى الموصلى بالموصل بالبوازيج، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عقد لعيسى بن الشيخ- وهو من ولد جسّاس بن مرّة- على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء «3» إليها فاستولى على فلسطين جميعها، فلما كان من أمر الأتراك بالعراق ما كان تغلّب على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة واستبّد بالأموال. وحجّ بالناس محمد بن عيسى «4» ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين ذكر قتل وصيف وفيها قتل وصيف وسبب ذلك أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا

ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعى

وطلبوا أرزاقهم لاربعة أشهر، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما فكلّمهم فقال لهم: خذوا التراب، ليس عندنا مال، وقال لهم بغا: نعم نسأل أمير المؤمنين، ودخلوا دار إشناس، ومضى سيما وبغا إلى المعتز وبقى وصيف فى أيديهم، فقتلوه ونصبوا رأسه على محراك تنوّر، فجعل المعتز ما كان لوصيف إلى بغا الشّرابى الصغير، وألبسه التاج والوشاحين. ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعى كانت وفاته فى الليلة الرابعة عشر من ذى القعدة، وكانت علّته قروحا أصابته فى حلقه ورأسه فذبحته، ولما اشتد مرضه كتب إلى عمّاله وأصحابه بتفويض ما إليه من الولاية إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فلما مات تنازع ابنه طاهر وأخوه عبيد الله الصلاة عليه، فصلّى عليه ابنه، ثم وجه المعتز بعد ذلك الخلع إلى عبيد الله. وفيها نفى أبو أحمد بن المتوكل إلى البصرة ثم ردّ إلى بغداد، ونفى على بن المعتصم إلى واسط ثم ردّ إلى بغداد. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن محمد بن سليمان وفيها كان ابتداء دولة يعقوب بن الليث الصفّار وملك هراة وبوشنج على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره. ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين ذكر مقتل بغا الصغير الشّرابى كان سبب قتله أنّه كان يحرّض المعتز على المسير إلى بغداد، والمعتز لا يوافقه على ذلك ويكرهه، واتفق أن بغا اشتغل بتزويج ابنته من صالح بن وصيف، فركب المعتز ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرّا إلى بايكباك

ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين

التركى ومن معه. وهم من المنحرفين عن بغا. وبايكباك قد شرب مع بغا فعربد أحدهما على الآخر، فاختفى بايكباك. فلما أتاه المعتز اجتمع معه أهل الكرخ وأهل الدور، وأقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا فبلغ ذلك بغا. فخرج فى ألف فارس من غلمانه وقوّاده. فصار إلى السنّ فلما جنّه الليل ركب فى زورق. ومعه خادمان وشىء من المال الذى صحبه. وكان قد صحبه تسع عشرة بدرة من الدناينير ومائة بدرة من الدراهم. ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولم يعلم به أحد من عسكره. فصار إلى الجسر فى الثلث الأول من الليل، وخرج إلى البستان الخاقانى فلحقه عدة من الموكلين بالجسر. فوقف وعرّفهم نفسه وقال: إما أن تذهبوا معى إلى صالح بن وصيف. وإما أن تصيروا معى حتى أحسن إليكم. فتوكّل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بخبره فأمر بقتله فقتل وحمل رأسه إلى المعتز. فنصب بسامرا وببغداد وأحرقت المغاربة جثّته. قال: وكان أراد أن يختفى عند صالح بن وصيف، فإذا اشتغل الناس بالعيد- وكان قد قرب- خرج هو وصالح ووثبا بالمعتز. فلم يمهله القدر. وحج بالناس على بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد. ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين ذكر خلع المعتز بالله وموته وشىء من أخباره وفى يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر رجب منها خلع المعتز. وكان سبب ذلك أن الأتراك شغبوا فى طلب أرزاقهم. وصاروا إلى المعتز وقالوا: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف- وكان صالح قد دبّر عليه. فلم يجد ما يعطيهم فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار. فأرسل المعتز إلى أمّه يسألها أن تعطيه مالا يعطيه لهم. فقالت: ما عندى شىء، فلما رأى الأتراك أنّهم

لا يحصل لهم من المعتز وأمه شىء اتفقت كلمتهم وكلمة المغاربة والفراغنة على خلع المعتز، فصاروا إليه وصاحوا به، ودخل صالح بن وصيف ومحمد بن بغا وبايكباك فى السلاح وجلسوا على بابه، وبعثوا إليه أن اخرج إلينا، فقال: قد شربت دواءا بالأمس وأفرط فى العمل، وإن كان أمر لا بدّ منه فليدخل بعضكم، فدخل إليه جماعة فجروا برجله إلى باب الحجرة. وضربوه بالدبابيس وخرّقوا قميصه وأقاموه فى الشمس فى الدار، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبعضهم يلطمه وهو يتقى بيده، ثم أدخلوه حجرة وأحضروا ابن أبى الشوارب وجماعة فشهدوا على خلعه، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وأخته الأمان، وكانت أمه قد اتخذت فى دارها سردابا فخرجت منه هى وأخت المعتز. قال: وسلّموا المعتز إلى من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم أدخلوه سردابا وجصّصوه عليه فمات، فأخرجوه لليلتين خلتا من شعبان وأشهدوا على موته بنى هاشم والقوّاد، وأنّه لا أثر به ودفنوه بسامرّا مع المنتصر، وصلّى عليه المهتدى بالله. وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، وقيل أربعا وعشرين سنة وثلاثة وعشرين يوما. ومدة خلافته من لدن بويع له بسامرّا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرون يوما. وكان أبيض أكحل أسود الشعر كثيفه حسن العينين- وكان يوثر اللذات. وكان نقش خاتمه: الحمد لله رب كل شىء وخالقه. ولده: عبد الله صاحب التشبيهات والشعر الرائق. وزراؤه: جعفر بن محمود «1» الإسكافى ثم عيسى بن فرّخانشاه ثم أبو جعفر أحمد بن إسرائيل الأنبارى. قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب. حاجبه: صالح بن وصيف وكان غالبا على أمره. الأمراء بمصر: يزيد بن عبد الله ثم مزاحم بن

ذكر خلافة المهتدى بالله

خاقان «1» أخو الفتح ثم ابنه أحمد ثم أرخوز «2» التركى ثم أحمد بن طولون. قاضيها: بكّار بن قتيبة «3» . ذكر خلافة المهتدى بالله هو أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى ابن المنصور، وأمه رومية اسمها قرب، وهو الرابع عشر من الخلفاء العباسيين بويع له يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ولقّب بالمهتدى ولم يقبل بيعته أحد حتى أتى بالمعتز فخلع نفسه، وأقر بالعجز عما أسند إليه وبالرغبة فى تسليمها إلى محمد بن الواثق وبايعه، فبايعه الخاصة والعامة بسامرا؛ قال: وكتب إلى سليمان بن عبد الله أن يأخذ له البيعة ببغداد، فورد كتابه فى سلخ شهر رجب، وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد فأرسل سليمان إليه فأخذه إلى داره، فثار من ببغداد «4» من الجند والعامة لما بلغهم خبر المعتز، وأتوا باب سليمان فقاتلهم أصحابه، فقيل لهم ما ورد علينا من سامرا خبر فانصرفوا ورجعوا من الغد، وهجموا دار سليمان فى اليوم الثالث ونادوا باسم أبى أحمد ودعوا إلى بيعته، وسألوا سليمان أن يريهم أبا أحمد فأظهره لهم ووعدهم الخير ثم أرسل إليهم من سامرا مال ففرّق فيهم، فرضوا وبايعوا للمهتدى وذلك لسبع خلون من شعبان. ذكر ظهور قبيحة أم المعتز بالله كانت قد خرجت من السرداب الذى صنعته فى دارها واستترت،

وكان سبب هربها أنّها كانت واطأت بعض الكتّاب على الفتك بصالح بن وصيف، فأوقع بهم صالح وعذّبهم فعلمت أنهم لا يكتمون عنه أمرها، فخرجت وأخرجت ما فى الخزائن إلى خارج الجوسق، فلما جرت «1» الحادثة على ابنها علمت أن حالها لا يخفى، وأن الذى تختفى عنده يطمع فى مالها وفى نفسها ويتقرّب إلى صالح، فأرسلت امرأة عطارة إلى صالح بن وصيف فتوسطت الحال بينهما، وظهرت فى شهر رمضان وأحضرت أموالها من بغداد وهى خمسمائة ألف دينار، وظفروا لها بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، من جملتها دار وجد فيها ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا فى سفط مقدار مكوك من الزمرد لم ير الناس مثله وفى سفط آخر مكوك من اللؤلؤ الكبار. وفى سفط آخر مقدار كيلجة من الياقوت الأحمر الذى لا يوجد مثله، فحمل الجميع إلى صالح. فسبّها وقال: عرّضت ابنها للقتل فى خمسين ألف دينار- وعندها هذا المال جميعه!! ثم سارت قبيحة إلى مكة فسمعت تدعو على صالح بصوت عال تقول: اللهم اخز صالحا كما هتك سترى، وقتل ولدى، وبدّد شملى، وأخذ مالى. وغرّبنى عن بلدى. وركب الفاحشة منّى؛ وكان المتوكل سماها قبيحة لجمالها- فهو من أسماء الأضداد. وفيها استولى مساور الخارجى على الموصل. وفيها خرج صاحب الزّنج فى فرات البصرة. وكان منه ما نذكره إن شاء الله فى أخباره. وفيها ولى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد والسواد فى شهر ربيع الأول فى أيام المعتز، وكان قد فرّ من الحسن بن زيد العلوى فاستعمله المعتز على بغداد. فقال ابن الرومى: من عذيرى من الخلايف ضلّوا ... فى سليمان عن سواء السبيل

ودخلت سنة ست وخمسين ومائتين

نقلوه على الهزيمة بغداد ... كأن قد أتى بفتح جليل من يخوض الردى إذا كان من ف ... ر أثابوه بالجزاء الجليل وحجّ بالناس: على بن الحسين بن العباس العباسى ودخلت سنة ست وخمسين ومائتين ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرّا واختفاء صالح بن وصيف وفى ثانى عشر شهر المحرم دخل موسى بن بغا إلى سامرّا، وقد عبّأ أصحابه فاختفى صالح بن وصيف وجاء موسى إلى الجوسق، والمهتدى جالس للمظالم فأعلم به، فأمسك ساعة عن الأذن ثم أذن له ولمن معه فدخلوا وتناظروا وأقاموا المهتدى من مجلسه وحملوه على دابّة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان فى الجوسق وأدخلوا المهتدى دار ياجور، وكان سبب أخذه أنّ بعضهم قال: إنما هذه المطاولة حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بجيشه، فخافوا من ذلك فأخذوه، فقال لموسى: ويحك!! اتق الله فإنّك ركبت أمرا عظيما، فقال له موسى: وتربة المتوكل ما نريد إلا خيرا- ولو أراد به خيرا لقال وتربة المعتصم أو الواثق، ثم أخذوا عليه العهود ألا يميل مع صالح، ولا يضمر إلا مثل ما يظهر، ثم جدّدوا له البيعة، وطلبوا صالح بن وصيف ليحضر ويطالبوه بدم الكتّاب الذين قتلهم- وهم أحمد بن إسرائيل وأبو نوح، ويطالبوه بأموال المعتز فوعدهم بالحضور، فلما كان الليل رأى أصحابه قد تفرّقوا عنه فهرب واختفى. ذكر قتل صالح بن وصيف كان صالح قد اختفى وقام الأتراك فى طلبه، واتهموا الخليفة أنّه يعرف مكانه وراسلوه مراسلات وعزموا على خلعه. فحلف لهم أنه لا يعلم أين

ذكر خلع المهتدى وموته

هو، وثارت الفتن بسببه، فجاء غلام إلى دار يطلب ماء فسمع قائلا يقول: أيها الأمير تنحّ فهذا غلام يطلب ماء، فسمع الغلام فجاء إلى عيّار فأخبره، فأخذ معه ثلاثة نفر وجاء إلى صالح وبيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته، فأخذه فتضرّع إليه فقال: لا يمكننى تركك، ولكنّى أمرّ بك على أبواب «1» أهلك وقوّادك وأصحابك، فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك، فأخرج حافيا وليس على رأسه شىء، والعامة تعدو خلفه وهو على برذون بإكاف، فأتوا به نحو الجوسق فقتلوه، وذلك لثمان «2» بقين من صفر منها، وأخذوا رأسه وحمل وطيف به على قناة ونادوا عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ولما قتل أنزل رأس بغا الصغير ودفع الى أهله ليدفنوه. ذكر خلع المهتدى وموته قال: وكان خلعه فى منتصف «3» شهر رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ وتوفى لاثنتى عشرة ليلة بقيت منه، وسبب ذلك أن أهل الكرخ والدور من «4» الأتراك تحركوا فى طلب أرزاقهم أول شهر رجب، فسكّنهم المهتدى فرجعوا، فبلغ أبا نصر محمد بن بغا أن المهتدى قال: إن المال عند محمد وموسى ابنى بغا، فهرب إلى أخيه وهو يقاتل مساور الخارجى، فكتب المهدى إليه أربع كتب يعطيه الأمان، فرجع هو وأخوه حبشون «5» فحبسهما ومعهما كيغلغ، وطولب أبو نصر محمد بن بغا بالمال،

فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل لثلاث خلون من شهر رجب ورمى فى بئر فأنتن، وأخرجوه إلى منزله وصلّى عليه الحسن بن المأمون. وكتب المهتدى إلى موسى بن بغا لما حبس أخاه يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والرجوع إليه، وكتب إلى بايكباك أن يتسلّم العسكر ويقوم بحرب مساور، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه عليه، وقال: لست أفرح بهذا فإنّه تدبير علينا جميعا- فما ترى؟ قال موسى: أرى أن تصير إلى سامرّا وتخبره أنّك فى طاعته، وناصره علىّ وعلى مفلح فإنّه يطمئن إليك ثم تدبّر فى قتله، فأقبل إلى سامرا ومعه يارجوخ «1» وأسارتكين وسيما الطويل وغيرهم، فدخلوا دار الخلافة لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر رجب، فحبس بايكباك وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيرهم من الأتراك وقالوا: لم حبس قائدنا؟ ولم قتل محمد بن بغا؟ وكان عند المهتدى صالح ابن على بن يعقوب بن المنصور فشاوره فيه، فقال: إنه لم يبلغ أحد من آبائك «2» ما بلغته من الشجاعة، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا عند أصحابه، وقد كان فيهم من يعبده، فما كان إلا أن طرح رأسه حتى سكنوا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا، فركب المهتدى وقد جمعوا له جميع المغاربة والأتراك والفراغنة، فصيّر فى الميمنة مسرورا «3» البلخى- وفى الميسرة يارجوخ- ووقف هو فى القلب مع أسارتكين وطبايغو وغيرهما من القواد، وأمر بقتل بايكباك فقتل وألقى رأسه إليهم عتّاب بن عتّاب فقتلوه، وعطفت ميمنة المهتدى وميسرته بمن فيها من الأتراك فصاروا مع إخوانهم الأتراك، فانهزم الباقون عن المهتدى وقتل جماعة من الفريقين، فانهزم المهتدى وبيده السيف وهو ينادى: يا معشر الناس- أنا أمير

المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم فلم يجبه أحد من العامة، فصار إلى السجن وأطلق من فيه وهو يظن أنهم يعينونه فهربوا، فصار إلى دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة فدخلها وهم فى أثره، فدخلوا عليه وأخرجوه وساروا به إلى الجوسق وهو على بغل، فحبس عند أحمد بن خاقان وقبّل المهتدى يده- فيما قيل- مرارا كثيرة، وأرادوه على الخلع فأبى واستسلم للقتل، فداسوا خصيتيه فمات واشهدوا على موته أنه سليم ليس فيه أثر؛ قال: وكانوا قد خلعوا أصابع يديه ورجليه من كعبيه، وقيل إن ابن عم بايكباك وجأه بسكين فقتله وشرب من دمه، قال: وطلبوا محمد بن بغا فوجدوه ميتا فكسروا على قبره ألف سيف. وكانت خلافة المهتدى أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل أكثر إلى أربعين سنة وقيل اقل إلى سبع وثلاثين. وكان مربوعا أسمر واسع الجبهة رقيقا أشهل طويل اللحية عظيم «1» البطن، وكان حسن الطريقة. قال: وصلّى عليه القاضى جعفر بن عبد الواحد «2» الهاشمى، ودفن بسامرا وكان مولده بالقاطول. وكان نقش خاتمه: من تعدّى الحق ضاق مذهبه. وكان له من الأولاد خمسة عشر ذكرا. وزراؤه أبو أيوب سليمان بن وهب وجعفر بن محمود الإسكافى وأبو صالح عبد الله «3» بن محمد وغيرهم، قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب ثم عبد الرحمن بن نائل البصرى «4» . حجابه: صالح بن وصيف وبايكباك «5» وموسى بن بغا. الأمير بمصر: أحمد بن طولون. قاضيها بكّار.

ذكر شىء من سيرة المهتدى

ذكر شىء من سيرة المهتدى كان رحمه الله من أحسن الخلفاء طريقة، وأكثرهم ورعا وعبادة، قال عبد الله بن إبراهيم «1» الإسكافى: جلس المهتدى يوما للمظالم فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه، فقال الرجل للمهتدى: والله ما أنت- يا أمير المؤمنين- إلا كما قال القائل: حكّمتموه فقضى «2» بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر لا يقبل الرشوة فى حكمه ... ولا يبالى عنت «3» الخاسر فقال المهتدى: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «4» الآية، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم. وقال أبو العباس هاشم بن القاسم الهاشمى: كنت عند المهتدى فى بعض عشايا رمضان، فقمت لأنصرف فأمرنى بالجلوس فجلست حتى صلّى بنا المغرب، ثم أمر بالطعام فأحضر: طبق خلاف عليه رغيفان وفى إناء ملح وفى آخر زيت وفى آخر خلّ، فدعانى إلى الأكل فأكل وأكلت مقصرا، ظنا منّى أنّه يحضر طعاما جيدا، فلما رأى أكلى كذلك قال: أما كنت صائما؟! قلت: بلى، ولست تريد الصوم غدا؟ قلت: وكيف لا وهو شهر رمضان! فقال: كل واستوف عشاك فليس هناك غير ما ترى، فعجبت من قوله وقلت: لم- يا أمير المؤمنين؟ أسبغ الله عليك النعمة ووسّع رزقه، فقال: إن الأمر على ما ذكرت والحمد لله، ولكنى فكّرت أنّه كان من بنى أمية عمر بن عبد العزيز فغرت على بنى هاشم ألا يكون فى خلفائهم مثله، فأخذت نفسى بما رأيت؛ قال إبراهيم بن

ذكر خلافة المعتمد على الله

مخلد عن بعض الهاشميين: إنهم وجدوا للمهتدى سفطا فيه جبّة صوف وكساء وبرنس، كان يلبس ذلك بالليل ويصلّى، ويقول: أما يستحى بنو العباس ألا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز، ولما قتله الأتراك تضاربوا على السفط وقدروا أن فيه ذخائره، فلما اطلعوا على ما فيه أظهروا الندم على قتله. وكان قد اطّرح الملاهى وحرّم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم «1» . قال ابن الجوزى «2» : وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج، يحبس نفسه فى الحسابات، وكان يجلس فى يوم الخميس والإثنين والكتّاب بين يديه رحمه الله تعالى. ذكر خلافة المعتمد على الله هو أبو العباس أحمد- وقيل أبو جعفر- بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها فتيان «3» ، وهو الخامس عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له فى منتصف شهر رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وذلك أنّه لما أخذ المهتدى وحبس حضر أبو العباس وكان محبوسا بالجوسق، فبايعه الأتراك وكتب إلى موسى بن بغا بذلك وكان بخانقين، فحضر إلى سامرّا وبايعه، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينية قد ذكرنا «4» أن ابن الشيخ كان قد استولى على دمشق وقطع الحمل

ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

عن بغداد، واتفق أنّ ابن المدبّر حمل من مصر إلى بغداد سبعمائة ألف دينار، فأخذها عيسى بن الشيخ، فأرسل إليه من بغداد حسين الخادم فطالبه بالمال، فذكر أنّه أخرجه على الجند، فأعطاه حسين عهده على أرمينية ليقيم الدعوة للمعتمد، وكان قد امتنع من ذلك فأخذ العهد، وأقام الدعوة، ولبس السواد ظنّا منه أن الشام يكون بيده، فأنفذ المعتمد أما جور وقلّده دمشق وأعمالها، فسار إليها فى ألف رجل، فلما قرب منها أنهض عيسى إليه ولده منصورا فى عشرين ألف مقاتل، واقتتلوا فانهزم عسكر منصور وقتل هو، فوهن عيسى وسار إلى أرمينية على طريق الساحل. وفيها ظهر على بن زيد العلوى بالكوفة، واستولى عليها وأخرج عامل الخليفة منها، وكان من أمره ما نذكره- إن شاء الله- فى أخبارهم. ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين ذكر ورود أبى أحمد الموفق من مكة وما عقد له المعتمد من الأعمال كان سبب وروده أن أمر الزنج كان قد اشتد وعظم شرهم وفسادهم فى البلاد، فأرسل المعتمد على الله إلى أخيه أبى أحمد الموفّق وأحضره من مكة، فلما حضر عقد له على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز «1» ، وكان بين الزنج وعمال المعتمد وقائع كثيرة نذكرها إن شاء الله فى أخبارهم. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق بن العباس العباسى «2»

ودخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين

ودخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول عقد المعتمد لأخيه أبى أحمد الموفق على ديار مضر «1» وقنسرين والعواصم، وخلع على مفلح فى شهر ربيع الآخر وسيّرهما لحرب الزنج بالبصرة، فقتل مفلح بسهم أصابه. وفيها مات يارجوخ التركى فى شهر رمضان وكان صاحب مصر ومقطعها ويدعى له فيها، فلما توفى استقل أحمد بن طولون بالأمر، وكان قبل ذلك نائبه بها. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق بن الحسن. ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين فى هذه السنة دخلت الزنج الأهواز، وسار موسى بن بغا لحربهم. وفيها ملك يعقوب بن الليث نيسابور على ما نذكره. وفيها قتل كنجور، وسبب قتله أنّه كان على الكوفة، فسار عنها إلى سامرّا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى فحمل إليه مال ليفرقه فى أصحابه فلم يقنع به، وسار حتى أتى عكبرا فوجّه إليه من سامرّا عدة من القوّاد فقتلوه، وحملوا رأسه إلى سامرّا وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسى ودخلت سنة ستين ومائتين ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم كان المعتمد قد استعمل على الموصل أساتكين وهو من أكابر قوّاد الأتراك فسيّر إليها ابنه اذكوتكين «2» فى جمادى الأولى سنة تسع وخمسين

ومائتين، فلما كان يوم النوروز من هذه السنة دعا وجوه أهل الموصل إلى قبّة فى الميدان، وأحضر أنواع الملاهى وتجاهر بالشرب والفسوق وفعل المنكرات، وأساء السيرة، ثم طالب أهل الموصل بالخراج عن غلات كانت قد هلكت من البرد. فاشتد ذلك على الناس، وكان لا يسمع بفرس جيد إلا أخذه من صاحبه، وأهل الموصل صابرون على ذلك كله منه. إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها من الطريق. فامتنعت واستغاثت. فقام رجل من أهل القرآن والصلاح اسمه إدريس الحميرى فخلّصها من يده. فعاد الجندى إلى ابن اساتكين فشكا من إدريس. فأحضره وضربه ضربا شديدا من غير أن يكشف عن الأمر. فاجتمع وجوه أهل الموصل بالجامع وقالوا: قد صبرنا على أخذ الأموال وشتم الأعراض وإبطال السنن وإظهار البدع فلا نصبر على أخذ الحريم. واتفقوا على أن يشكوه إلى الخليفة، فبلغه الخبر فركب فى جنده ومعه النفّاطون، فخرجوا إليه ولقوه وقاتلوه قتالا شديدا حتى أخرجوه عن الموصل، ونهبوا داره وأصابه حجر فشجّه، ومضى من يومه إلى سامرا، فاجتمع أهل الموصل إلى يحيى بن سليمان وقلّدوه أمرهم، فبقى كذلك إلى أن انقضت سنة ستين ودخلت إحدى وستين، فكتب اساتكين إلى الهيثم «1» بن عبد الله بن المعمر التغلبى ثم العدوى «2» فى أن يتقلّد الموصل، وأرسل إليه الخلع واللواء وكان بديار ربيعة، فجمع جموعا كثيرة وسار إلى الموصل، فنزل بالجانب الشرقى وبينه وبين البلد دجلة فقاتلوه، فعبر إلى الجانب الغربى وزحف إلى باب البلد، فخرج إليه يحيى بن سليمان فى أهل الموصل فقاتلوه، فقتل منهم قتلى كثيرة وكثرت الجراحات، وعاد الهيثم عنهم فاستعمل اساتكين على الموصل إسحاق ابن أيوب التغلبى؛ فخرج فى عشرين ألفا منهم حمدان بن حمدون التغلبى

ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين

وغيره، فنزل عند الدير الأعلى فقاتله أهل الموصل، ومنعوه وداموا على ذلك مدة، ومرض يحيى بن سليمان فطمع إسحاق فى البلد وجدّ فى الحرب، فانكشف الناس بين يديه فدخل البلد، ووصل إلى سوق الأربعاء وأحرق سوق الحشيش «1» ، فخرج بعض العدول واسمه زياد بن عبد الواحد وعلّق فى عنقه مصحفا، واستغاث بالمسلمين فأجابوه وعادت الحرب، فأخرجوا إسحاق وأصحابه عن المدينة، وبلغ سليمان الخبر فأمر أن يحمل فى محفّة ويجعل أمام الصفّ، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم واشتد قتالهم، فلم يزل الأمر على ذلك وإسحاق يراسلهم ويبذل لهم الإحسان وحسن السيرة، فأجابوه إلى أن يدخل البلد ويقيم بالربض الأعلى، فدخل وأقام سبعة أيام، ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شرور، فرجعوا إلى الحرب وأخرجوه عنها واستولى يحيى بن سليمان على الموصل، إلى أن استعمل المعتمد الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبى الموصلى فى سنة إحدى وستين. وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل وهو أمير مكة. ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين ذكر البيعة بولاية العهد للمفوّض جعفر بن المعتمد وللموفق الناصر لدين الله أبى أحمد أخى المعتمد قال: وفى شوال من هذه السنة جلس المعتمد على الله فى دار العامة، وولّى ابنه جعفرا العهد ولقّبه المفوّض إلى الله وضمّ إليه موسى بن بغا، فولاه أفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان

ودخلت سنة اثنتين وستين ومائتين

ومهرجانقذق «1» ، وولّى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه المشرق «2» وسواد «3» الكوفة وطريق مكة والمدينة «4» واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس واصبهان وقمّ وكرج ودينور والرىّ وزنجان «5» والسند، وعقد لكل واحد منهما «6» لواءين أبيض وأسود، وشرط إن حدث به أمر «7» وجعفر لم يبلغ أن يكون الأمر للموفّق ثم لجعفر بعده، وأخذت البيعة بذلك، فعقد جعفر لموسى على المغرب وأمر الموفّق بالمسير لحرب الزنج، فولى الموفّق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسرورا البلخى، وسيّره فى مقدمته فى ذى الحجة، وعزم على المسير بعده، ثم شغله حرب يعقوب الصفّار على ما نذكره إن شاء الله. وفيها كان ابتداء الدولة السامانية بولاية نصر بن أحمد السامانى ما وراء النهر على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة السامانية. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق العباسى ودخلت سنة اثنتين وستين ومائتين فى هذه السنة كانت الحرب بين الموفق ويعقوب بن الليث الصفّار على ما نذكره فى أخباره. وفيها وقعت الوحشة بين الموفّق وبين أحمد بن طولون أمير مصر واستحكمت، فطلب الموفّق من يتولى الديار المصرية فلم يجد أجدا، لأن ابن طولون كانت هداياه وخدمه متصلة إلى القوّاد وأرباب

ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين

المناصب بالعراق، فكتب إلى أحمد بن طولون يتهدّده بالعزل. فأجابه بجواب فيه بعض الغلظة، فسيّر الموفّق إليه موسى بن بغا فى جيش كثيف، فسار إلى الرقّة فبلغ الخبر ابن طولون فحصّن الديار المصرية، وأقام ابن بغا بالرقّة عشرة أشهر لم يمكنه المسير لقلّة الأموال معه، وطالبه الأجناد بالعطاء فلم يكن معه ما يعطيهم، فاختلفوا عليه وثاروا بوزيره عبد الله بن سليمان فاستتر، فاضطر موسى إلى العود إلى العراق فعاد، وتصدّق ابن طولون بأموال كثيرة. وحكى ابن الجوزى بسند رفعه إلى أبى عون الفرايضى قال «1» : خرجت إلى مجلس أحمد بن منصور الزيادى سنة اثنتين وستين ومائتين، فلما صرت بطاق الحرّانى رأيت رجلا قد أمر بالقبض على امرأة، وأمر بجرّها فقالت له: اتق الله، فأمر أن تجرّ فلم تزل تناشده الله وهو يأمر بجرها، إلى أن بلغت إلى باب القنطرة، فلما يئست من نفسها رفعت رأسها إلى السماء، ثم قالت: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إن كان هذا الرجل يظلمنى فخذه؛ قال أبو عون: فوقع الرجل على ظهره ميتا وأنا أراه، فحمل على جنازة وانصرفت المرأة. وحج بالناس الفضل بن إسحاق العباسى ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين فى هذه السنة استولى يعقوب بن الليث على الأهواز. وفيها سلمت قلعة الصقالبة إلى الروم. وفيها مات الشارى الخارجى فبايع أصحابه أيوب

ودخلت سنة أربع وستين ومائتين

ابن حيان الوارقى «1» ، فقتل فبايعوا محمد بن عبد الله بن يحيى الوارقى المعروف بالغلام، فقتل أيضا فبايعوا هارون بن عبد الله البجلى، وكان من أخباره ما نذكره. وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد على الله، صدمه خادم بالميدان فسقط فسال دماغه من منخريه وأذنيه فمات لوقته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، وقدم موسى بن بغا فاختفى الحسن فاستورز سليمان بن وهب. ودخلت سنة أربع وستين ومائتين فى هذه السنة أسرت الروم عبد الله «2» بن رشيد «3» بن كاووس، وكان سبب ذلك أنه دخل بلد الروم فى أربعين ألف مقاتل من أهل الثغور الشامية فغنم وقتل فلما رحل عن البذندون خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قرة وكوكب «4» وخرشنة وأحدقوا بالمسلمين، فنزل المسلمون وعرقبوا دوابّهم وقاتلوا، إلا خمسمائة منهم فإنهم حملوا حملة رجل واحد ونجوا على دوابهم، وقتل الروم من قتلوا وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته وحمل إلى ملك الروم. وفيها دخلت الزنج إلى واسط.

ذكر أخبار الوزراء

ذكر أخبار الوزراء فى هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا، وشيّعة الموفّق والقواد، فلما صار إلى سامرّا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيّده وانتهب داره، واستوزر الحسن بن مخلد فى ذى القعدة، فسار الموفق إلى سامرا ومعه عبد الله بن سليمان بن وهب، فلمّا قرب من سامرا تحوّل المعتمد إلى الجانب الغربى مغاضبا للموفّق، واختلفت الرسل بينهما فاتفقا، وخلع على الموفّق ومسرور وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا وأطلق سليمان بن وهب، وعاد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد ومحمد بن صالح بن شيرزاد، فكتب فى قبض أموالهما، وهرب القوّاد الذين كانوا بسامرا مع المعتمد خوفا من الموفّق، ووصلوا إلى الموصل وجبوا الخراج. وفيها مات أماجور وملك أحمد بن طولون الشام وطرسوس على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة الطولونية وفيها ملك المسلمون مدينة سرقوسة، وهى من أعظم بلاد صقلية وذلك فى رابع عشر شهر رمضان. وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمى «1» ودخلت سنة خمس وستين ومائتين فى هذه السنة استعمل الموفق مسرورا البلخى على أعمال الأهواز، وكانت له وقعة مع الزنج فهزمهم، وفيها كانت وفاة «2» يعقوب بن الليث الصفّار بجند يسابور فى تاسع عشر شوال، وقام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث. وفيها حبس الموفّق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وعدة من

ودخلت سنة ست وستين ومائتين

أصحابهما، وقبض أموالهم وضياعهم خلا أحمد بن سليمان، ثم صالح سليمان وابنه عبد الله «1» على تسعمائة ألف دينار، وجعلا فى موضع يصل إليهما من أراد. وفيها «2» عسكر موسى بن أوتامش وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا وعبروا جسر دجلة، فأتبعهم الموفق صاعد بن مخلد فردهم من صرصر وخلع عليهم «3» . وفيها خرج خمسة من بطارقة الروم إلى أذنه فقتلوا وأسروا أرخوز «4» ، وكان قبل ذلك يلى الثغور فعزل عنها وأقام مرابطا، وأسروا نحوا من أربعمائة وقتلوا نحوا من ألف وأربعمائة وذلك فى جمادى الأولى. وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى. ودخلت سنة ست وستين ومائتين فى هذه السنة غلب أساتكين على الرىّ واخرج عاملها، ومضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ فصالحه فعاد إلى الرىّ وفيها كانت وقائع بين المتغلبين على الأطراف لا فائدة من ذكرها وحجّ بالناس هارون الهاشمى.

ودخلت سنة سبع وستين ومائتين

ودخلت سنة سبع وستين ومائتين فى هذه السنة كان بين الموفق والزنج حروب طويلة «1» ، ضعف بسببها أمرهم، ولم يكن من أحوال الخلافة ما نذكره، لتغلّب العمال على الأطراف واشتغال بعضهم ببعض، على ما نورد ذلك كله فى مواضعه إن شاء الله تعالى. وحج بالناس هارون ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين لم تكن فى هذه السنة إلا أخبار الزنج وحروبهم والخوارج، ويرد ذلك فى موضعه. وحج بالناس هارون ودخلت سنة تسع وستين ومائتين فى هذه السنة حارب الموفّق أيضا صاحب الزنج، واستولى الموفّق على مدينتى صاحب الزنج الغربية ثم الشرقية، وهدم قصره فى حروب طويلة لا فائدة فى ذكرها. ذكر مسير المعتمد على الله إلى مصر وعوده قبل الوصول اليها فى هذه السنة سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنّه لم يكن له من الخلافة إلا اسمها، ولا ينفذ له توقيع فى قليل ولا كثير، وكان الحكم كله للموفّق والأموال تجبى إليه، فأنف وضجر المعتمد من ذلك، وكتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه من أخيه فى السر، فأشار عليه باللحاق به بمصر ووعده النصر، وسيّر عسكرا إلى الرقة ينتظرون وصول المعتمد إليهم، فاغتنم

المعتمد غيبة الموفّق عنه، وسار فى جمادى الأولى ومعه جماعة من القوّاد، فأقام بالكحيل يتصيّد ثم سار حتى صار إلى عمل إسحاق بن كنداجق- وهو عامل الموصل وعامة الجزيرة، فوثب إسحاق بمن مع المعتمد من القوّاد فقبضهم، وهم نيزك «1» وأحمد بن خاقان وخطارمش وقيّدهم وأخذ أموالهم ودوابهم، وكان صاعد بن مخلد وزير الموفق قد كتب إليه بذلك عن الموفّق، وكان سبب تمكّنه منهم ووصوله إلى قبضهم أنّه اظهر أنّه معهم فى طاعة المعتمد- إذ هو الخليفة، ولقيهم لما صاروا إلى عمله وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل أحمد بن طولون ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد ومع قواده، ولم يترك إسحاق أصحابه يرتحلون ثم قال للقوّاد وهم عند المعتمد: إنّكم قد قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره، وتصيرون جنده وتحت يده، أفترضون ذلك؟ وقد علمتم أنّه كواحد منكم، وتناظروا فى ذلك حتى ارتفع النهار ولم يرتحل المعتمد، ثم قال لهم: قوموا بنا حتى نتناظر فى غير حضرة أمير المؤمنين، فأخذ بأيديهم إلى خيمة له فلما دخلوا الخيمة قبض عليهم وقيّدهم وأخذ سائر من مع المعتمد من القوّاد، ثم مضى إلى المعتمد فعذله فى «2» مسيره عن دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفّق وهو على الحال التى هوبها من الحرب، ثم حمله ابن كنداجق ومن معه حتى أدخلهم سامرا. وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون فى دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وولّى إسحاق بن كنداجق على أعمال ابن طولون، وفوّض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وولّاه شرطة الخاصة؛ وكان سبب تغيره على ابن طولون أنّه قطع خطبة الموفّق، وأسقط اسمه عن الطرز، فتقدّم الموفّق إلى المعتمد بلعنه فلعنه مكرها، وكان المعتمد فى الباطن مع ابن طولون.

ودخلت سنة سبعين ومائتين

ودخلت سنة سبعين ومائتين فى هذه السنة قتل صاحب الزنج. وفيها كانت وفاة الحسن بن زيد العلوى صاحب طبرستان فى شهر رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولى بعده أخوه محمد بن زيد. وفيها كانت وفاة أحمد بن طولون وولاية ابنه خمارويه، ومسير ابن كنداجق إلى الشام على ما نذكر ذلك كله إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الطولونية. قال أبو الفرج بن الجوزى فى حوادث سنة سبعين ومائتين «1» : إن الروم نزلت ناحية قلمية «2» على ستة أميال من طرسوس وهم زهاء مائة ألف «3» مع بطريق البطارقة اندرياس، فبيّتهم يا زمان «4» الخادم ليلا، فقتل رئيسهم وخلقا كثيرا من أصحابه يقال إنّهم بلغوا سبعين ألفا، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة فيها صليبهم الأعظم مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل ومن السروج مثلها وسيوفا محلاة بذهب وفضة ومناطق وأربع كراسى من ذهب ومائتى طوق «5» من ذهب وآنية كثيرة. ونحوا من عشرة آلاف علم، وذلك فى يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول. ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين ذكر خلاف محمد وعلى العلويين بالمدينة فى هذه السنة دخل محمد وعلى ابنا الحسين «6» بن جعفر بن موسى بن

ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين

جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بالمدينة وقتلا جماعة من أهلها وأخذا من قوم مالا، ولم يصلّ أهل المدينة فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع جمع، لا جمعة ولا جماعة. وفيها كانت وقعة الطواحين بين المعتضد بن الموفّق وخمارويه بن أحمد بن طولون، كان الظفر فيها لعسكر خمارويه، وهرب المعتضد إلى دمشق فمنع من دخولها. ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين فى هذه السنة قدم صاعد بن مخلد وزير الموفّق من فارس إلى واسط، فأمر الموفّق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه وترجلّوا له وقبّلوا يده وهو لا يكلّمهم كبرا وتيها، ثم قبض الموفّق عليه وعلى جميع أهله وأصحابه ونهب منازلهم بعد أيام، وكان قبضه فى شهر رجب، وقبض على ابنيه أبو عيسى وصالح وأخيه عبدون ببغداد، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل، واقتصر على الكتابة دون الوزارة. وفيها صلح أمر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتراجع الناس إليها. وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى «1» ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين فى هذه السنة وقع الخلاف بين أبى الساج وإسحاق بن كنداجق، وخطب لابن طولون بالجزيرة. وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين فى هذه السنة كانت الحرب بين الموفّق وعسكر عمرو بن الليث الصفّار

ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين

على ما نذكره فى أخبار الدولة الصفّارية. وحج بالناس فى هذه السنة هارون ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين ذكر قبض الموفّق على ابنه المعتضد فى هذه السنة قبض الموفّق على ابنه أبى العباس أحمد المعتضد، وسبب ذلك أن الموفّق دخل إلى واسط ثم عاد إلى بغداد، وأمر ابنه المعتضد أن يسير إلى بعض الوجوه، فقال: لا أخرج إلا إلى الشام، لأنها الولاية التى ولّانيها أمير المؤمنين. فغضب الموفّق وقبض عليه وجعله فى حجرة ووكل به، فثار القوّاد من أصحابه ومن تبعهم وركبوا، واضطربت بغداد فركب الموفّق إلى الميدان، وقال لهم: ما شأنكم!! أترون أنّكم أشفق على ولدى منى؟ وقد احتجت إلى تقويمه فانصرفوا. ودخلت سنة ست وسبعين ومائتين فى هذه السنة جعلت شرطة بغداد إلى عمرو بن الليث، وكتب اسمه على الأعلام والأترسه وذلك فى شوال «1» ، ثم ترتّب فى الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من قبل عمرو، ثم أمر بطرح اسم عمرو عن الأعلام وغيرها فى الشهر «2» . وفيها ورد الخبر بانفراج تلّ بنهر البصرة يعرف بتلّ بنى «3» شقيق عن سبعة أقبر شبه الأحواض، من حجر فى لون المسنّ عليها

ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين

كتابه لا يدرى ما هى، وفيها سبعة أبدان صحيحة عليها أكفان جدد يفوح منها رائحة المسك، أحدهم شاب له جمّة وعلى شفتيه بلل كأنّه قد شرب ماء وكأنه قد كحل، وبه ضربة فى خاصرته. وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد. ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين فى هذه السنة دعى بطرسوس لخمارويه بن أحمد. وفيها ولى يوسف بن يعقوب المظالم، وأمر أن ينادى من كان له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله الموفّق أو أحد من الناس فليحضر وحج بالناس هارون ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين فى هذه السنة كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى ابن أخت مفلح أربعة أيام من المحرم، ثم اصطلحوا وقد قتل بينهم جماعة، ووقع بالجانب الشرقى وقعة بين النصريين وأصحاب يونس قتل فيها رجل ثم انصرفوا ذكر وفاة أبى أحمد الموفّق فى هذه السنة توفى أبو أحمد الموفّق بن المتوكل فى يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، ودفن ليلة الخميس بالرصافة، وكان قد مرض فى بلاد الجبل فانصرف وقد اشتد به وجع النّقرس، فلم يقدر على الركوب فحمل على سرير فيه قبة، وكان يجلس فيه هو وخادم له يبرد رجليه بالأشياء الباردة، ثم صار به داء الفيل، وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة، فقال لهم يوما وقد ضجر: أودّ أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسى.

وآكل وأنا فى عافية؛ وقال فى مرضه: أطبق ديوانى على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالا منّى، ووصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر، وشاع موته بعد انصراف أبى الصقر من داره، وكان قد تقدّم بحفظ ابى العباس فأغلقت عليه الأبواب. قال: ووجّه أبو الصقر إلى المدائن فحمل منها المعتمد وأولاده وجىء بهم، فلما رأى غلمان الموفّق ما نزل بمولاهم كسروا الأبواب المغلقة على أبى العباس، فظن أنهم يريدون قتله فأخذ سيفه فى يده، وقال: والله لا يصلون إلىّ وفىّ شىء من الروح، فلما وصلوا إليه رأى غلامه وصيفا فألقى السيف من يده، وعلم أنّهم لا يريدون إلا الخير، وأخرجوه وأقعدوه عند أبيه وكان قد اعترته غشية، فلما أفاق ورآه قرّبه وأدناه إليه؛ وأما أبو الصقر فإنه لما حصل الإرجاف بموت الموفّق جمع القوّاد والجند وقطع الجسرين، وحاربه قوم من الجانب الشرقى فقتل منهم قتلى، فلما ظهر أن الموفّق حىّ حضر عنده محمد بن أبى الساج وفارق أبا الصقر، وتسلل القواد والناس عن ابى الصقر، فلما راى ذلك ابو الصقر حضر هو وابنه دار الموفّق، وذكر أن أبا الصقر أراد أن يتقرب إلى المعتمد بمال الموفّق واسبابه، وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفّق، فنهبوا دار أبى الصقر وما يجاوره من الدور، وأخرجوا نساءه حفاة بغير أزر، وكسرت أبواب السجون وحرج من فيها. قال: وخلع الموفّق عند إفاقته على ابنه أبى العباس وعلى أبى الصقر، وركبا جميعا فمضى أبو العباس إلى منزله وجاء أبو الصقر إلى منزله وقد نهب، فطلب له حصيرة يجلس عليها عارية، ثم مات الموفق فى التاريخ الذى ذكرناه، وجلس ابنه أبو العباس للتعزية، وكان الموفّق عاد لأحسن السيرة يجلس للمظالم وعنده القضاة والفقهاء وغيرهم، فينصف الناس بعضهم من بعض، وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك.

ذكر البيعة للمعتضد بالله بولاية العهد

ذكر البيعة للمعتضد بالله بولاية العهد قال: ولما مات الموفّق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوّض إلى الله ابن المعتمد ولقب المعتضد بالله، وخطب له فى يوم الجمعة بعد المفوّض وذلك لسبع بقين من صفر، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولىّ ما كان أبوه يتولّاه. وفيها قبض المعتضد «1» على أبى الصقر وأصحابه وانتهبت منازلهم، وطلب بنى الفرات فاختفوا، واستوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب. وفيها كان ابتداء أمر القرامطة على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. قال ابن الجوزى «2» : وفى هذه السنة غار ماء النيل، وكان ذلك شيئا لم يعهد مثله ولا سمع «3» فى الأخبار السالفة «4» . وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد ودخلت سنة تسع وسبعين ومائتين ذكر خلع المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد وولاية أبى العباس المعتضد بالله بن الموفّق فى المحرم من هذه السنة خرج المعتمد على الله وجلس للقوّاد والقضاة ووجوه الناس، وأعلمهم أنّه خلع ابنه المفوّض إلى الله جعفرا من ولاية العهد، وجعلها للمعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفّق، وشهدوا على المفّوض أنّه قد تبرأ من العهد، وأسقط اسمه من الخطبة والسكة والطرز وغير ذلك، وخطب للمعتضد وكان يوما مشهودا.

ذكر وفاة المعتمد على الله وشىء من أخباره

وفيها نودى بمدينة السلام ألا يقعد على الطريق ولا بالمسجد الجامع قاض ولا منجم ولا زاجر، وحلف الورّاقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل. ذكر وفاة المعتمد على الله وشىء من أخباره كانت وفاته ببغداد ليلة الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وكان قد شرب على الشط بالجسر يوم الأحد شرابا كثيرا فمات ليلا، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إليه وحمل إلى سامرّا فدفن بها، وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام، وكان فى خلافته محكوما عليه، ضيّق عليه أخوه الموفّق حتى إنه احتاج فى بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها، فقال: أليس من العجائب أنّ مثلى ... يرى ما قلّ ممتنعا عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شىء فى يديه إليه تحمل الأموال طرا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه وهو أول من انتقل من الخلفاء من سامرّا، ولم يعد إليها بعده خليفة. وكان طويل القدّ واللحية واسع العينين مقبلا على اللذات، مشغولا عن الرعيّة مضطرب الأحوال. وكان نقش خاتمه: السعيد من وعظ بغيره. أولاده: عبد العزيز وجعفر ومحمد وإسحاق. وزراؤه: عبيد الله بن يحيى ابن خاقان ثم سليمان بن وهب ثم الحسن بن مخلد ثم صاعد بن مخلد أخوه ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حجّابه: موسى بن بغا ثم جعفر بن غانم بن على الجهشيارى. قضاته: الحسن بن أبى الشوارب ثم أخوه على بن محمد. الأمراء بمصر: أحمد بن طولون ثم ابنه خمارويه. قضاتها: بكّار بن قتيبة

خلافة المعتضد بالله

إلى أن توفى فى سنة سبعين ومائتين بعد وفاة أحمد بن طولون بأربعين يوما، وكانت ولايته أربعا وعشرين سنة ونصف سنة، وبقيت مصر بغير قاض، ثم وليها أبو عبدة «1» محمد بن عبدة واستخلف أبا جعفر الطحاوى واستكتبه وأعفاه. وقد قيل فى وفاة المعتمد على الله أنّه مات مسموما والله عز وجل أعلم خلافة المعتضد بالله هو أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة الملقب الناصر لدين الله بن جعفر المتوكل بن المعتصم بالله بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها ضرار وقيل اسمها خفيرة «2» ، وهو السادس عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بعد وفاة عمّه المعتمد على الله. قال: ولما ولى استعمل غلامه بدرا على الشرطة، واستوزر عبيد الله ابن سليمان بن وهب وجعل على حرسه محمد بن الشاه بن ميكال «3» ؛ ووصله فى شوال رسول عمرو بن الليث ومعه هدايا كثيرة، وسأله أن يوليه خراسان فعقد له عليها، وسيّر إليه الخلع واللواء والعهد، فنصب اللواء فى داره ثلاثة أيام. وفيها كانت وفاة نصر السامانى بما وراء النهر، فقام بعمله أخوه إسماعيل بن أحمد. وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة منّ خمارويه، فتزوج المعتضد ابنة خمارويه وهى قطر

ودخلت سنة ثمانين ومائتين

الندى، وأصدقها المعتضد ألف ألف درهم، وفيها ملك أحمد بن عيسى ابن «1» الشيخ قلعة ماردين- وكانت بيد إسحاق بن كنداجق. وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد العباسى، وهى آخر حجة حجّها وأول سنة حج بالناس سنة أربع وستين ومائتين. ودخلت سنة ثمانين ومائتين ذكر حبس عبد الله بن المهتدى وقتل محمد بن الحسن «2» فى هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدى ومحمد بن الحسن المعروف بشيلمة وحبسهما، وكان شيلمة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه، ثم لحق بالموفّق بأمان؛ وكان سبب أخذهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأنّه يدعو لرجل لا يعرف اسمه، وأنّه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشىء وقال: لو كان تحت قدمى ما رفعتها عنه، فأمر به فشدّ فى خشبة من خشب الخيم، ثم أوقد نارا عظيمة وأدير عليها حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدى إلى أن علم براءته فأطلقه ذكر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم وإغارته على الأعراب فى أول صفر سار المعتضد من بغداد يريد بنى شيبان بالمكان الذى

ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين

يحتمون «1» به من أرض الجزيرة، فلما بلغهم قصده جمعوا أموالهم، وأغار المعتضد على أعراب عند السنّ، فنهب أموالهم وقتل منهم مقتله عظيمة، وغرق منهم فى الزاب مثل ذلك، وعجز الناس عن حمل ما غنموه، فبيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وسار إلى الموصل وبلد فلقه بنو شيبان «2» يسألون العفو، وبذلوا له رهائن فأجابهم إلى ما طلبوا، وعاد إلى بغداد، وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطالبه بما أخذ من أموال ابن كنداجق، فبعثها إليه ومعها هدايا كثيرة. وفيها غارت المياه بالرى وطبرستان حتى بلغ الماء ثلاثة أرطال بدرهم، وفى شوال منها انخسف القمر وأصبح أهل دبيل وقد أظلمت الدنيا عليهم، ودامت الدنيا مظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبّت ريح سوداء ودامت إلى ثلث الليل، ثم زلزلوا فى الثلث فخربت المدينة، ولم يبق من دورها إلا قدر مائة دار، وزلزلوا بعد ذلك خمس مرّات، وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسين ألف كلهم موتى. وحج بالناس أبو بكر محمد بن هارون «3» ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين ذكر مسير المعتضد إلى ماردين وملكها فى هذه السنة توجّه المعتضد بالله- وهى الخرجة الثانية إلى الموصل- قاصدا حمدان بن حمدون، لأنّه بلغه أنّه مايل هارون الخارجى ودعا له،

ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين

فلما بلغ الأعراب مسير المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبئوا عساكرهم، فسار المعتضد إليهم فى خيل جريدة، فأوقع بهم وقتل منهم وغرّق فى الزاب، وسار إلى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان، فهرب حمدان منها وخلف ابنه بها فنازله المعتضد، وقاتل من فيها يومه ذلك فلما كان الغد ركب المعتضد، وصعد إلى باب القلعة وصاح لابن حمدان فأجابه، فقال: افتح الباب ففتحه، فجلس المعتضد فى باب القلعة وأمر بنقل ما فيها وهدمها، ثم وجّه خلف حمدان وطلبه أشد الطلب وأخذت أمواله، ثم ظفر به المعتضد بعد عوده من بغداد؛ وفى عوده قصد الحسنيّة وبها رجل كردى يقال له شدّاد، فى جيش كثيف قيل كانوا عشرة آلاف، فظفر به وهدم قلعته. وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل وقصد الديّنور وولّى ابنه عليا- وهو المكتفى- الرىّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ وهمذان والدينور، وجعل كتابته لأحمد بن الأصبغ، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف أصفهان ونهاوند والكرخ، وعاد إلى بغداد. ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة فى هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه وهو بالموصل، فبادر إسحاق وتحصّن حمدان بقلاعه وأودع أمواله وحرمه، فبعث المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير «1» ونصر القشورى وغيره فساروا إلى حمدان فواقعوه، فقتل من أصحابه جماعة وانهزم، واتبعه الجند «2» حتى ضاقت عليه الأرض، فقصد خيمة إسحاق ابن أيوب وهو مع المعتضد فاستجار به، فأحضره إلى المعتضد فأمر بالاحتفاظ به وتتابع رؤساء الأكراد فى طلب الأمان.

ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

وفيها انهزم هارون الخارجى من عسكر الموصل على ما نذكره فى أخباره. وفيها فى ربيع الأول قبض على بكتمر بن طاشتمر وقيّد وكان أميرا على الموصل، واستعمل عليها الحسن بن على الخراسانى ويعرف بكوره. وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه زوجة المعتضد ومعها أحد عمومتها، وكان المعتضد بالموصل وعاد إلى الجبل وبلغ الكرج، وفيها قتل خماوريه بن أحمد بن طولون على ما نذكره إن شاء الله تعالى ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين فى هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الخارجى، وأحضر الحسين بن حمدان وسيّره فى طلب هارون فى جماعة من الفرسان والرجال، فقال له الحسين: إن أنا جئت به فلى ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، أولها إطلاق أبى وحاجتان أذكرهما إذا جئت به، فقال: لك ذلك، فانتخب ثلاثمائة فارس وسار بهم نحوه، فظفر به وأحضره إلى المعتضد فانصرف إلى بغداد، فوصلها لثمان بقين من شهر ربيع الأول وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه، وخلع على إخوته وأمر بفك قيود حمدان والتوسعة عليه ووعد بإطلاقه، وأدخل هارون على فيل وصلبه. وفيها كان الفداء بين الروم والمسلمين، وكان جملة من فودى به ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس «1» . وفيها أمر المعتضد بالكتب إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوى الأرحام وبطل ديوان المواريث وفيها قتل رافع بن الليث وجىء برأسه إلى المعتضد، فوصل فى سنة أربع وثمانين فأمر بنصبه ببغداد «2» ، وكان الذى قتله أصحاب عمرو بن الليث.

ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول ظهر بمصر ظلمة شديدة وحمرة فى السماء، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخره، وخرج الناس من منازلهم يدعون ويتضرعون إلى الله. وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على المنابر، وذكر فى الكتاب يزيد وغيره من بنى أمية، وعملت بالكتاب نسخ قرئت فى جانبى بغداد، ومنع القصاص والعامة من القعود فى الجامعين، ونهى عن الاجتماع على قاض أو مناظرة وجدل فى أمر الدين، ونهى الذين يسقون فى الجامعين ألا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه، فقال له عبيد الله بن سليمان: إنّا نخاف إضطراب العامة وإثارة فتنة، فلم يرجع إليه، فقال عبيد الله للقاضى يوسف بن يعقوب ليحتال فى منعه، وكلّم يوسف المعتضد وحذّره اضطراب العامة فلم يلتفت، فقال: يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية، ويميل إليهم خلق كثير من الناس؟ فإذا سمع الناس ما فى هذا الكتاب مالوا إليهم، وصاروا هم أبسط ألسنة وأثبت حجة منهم اليوم، فأمسك المعتضد ولم يأمر فى الكتاب بشىء بعد ذلك. وفيها ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه بالسيف فجرحه فهرب الخادم، ودخل الشخص فى زرع البستان فتوارى فيه، وطلب فلم يعرف له خبر واستوحش المعتضد، وكثر الناس القول حتى قالوا إنّه من الجن، وظهر مرارا كثيرة فوكل المعتضد بسور داره وأحكمه، ثم أحضر المجانين والمعزّمين بسبب الشخص، فقال المعزّمون: نحن نعزّم على بعض المجانين فإذا صرع سئل الجنّى فيخبر بخبره،

ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

فعزّموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعتضد ينظر إليهم، فلما صرعت أمرهم بالانصراف. وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمى المعروف بأثرجّة ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين فى هذه السنة كان بالكوفة ريح صفراء فبقيت إلى المغرب ثم اسودّت، ثم وقع مطر شديد برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمد أباذ «1» أحجار بيض وسود مختلفة الألوان، فى أوساطها ضيق «2» . وفيها كان بالبصرة ريح صفراء ثم عادت خضراء ثم سوداء، ثم تتابعت الأمطار بما لم ير مثله، ثم برد كبار الوزن البردة مائة وخمسون درهما. وفيها غزا راغب مولى الموفّق فى البحر، فغنم مراكب كثيرة من الروم فضرب أعناق ثلاثة آلاف منهم كانوا فيها، وأحرق المراكب وفتح حصونا كثيرة وعاد سالما. وفيها توفى أحمد بن عيسى بن الشيخ، وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليها على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد فوصلها فى ذى الحجة، وحصرها إلى شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق، فطلب محمد الأمان لنفسه ولمن معه فأمنّهم المعتضد، فخرج إليه وسلّم البلد فخلع عليه المعتضد وأكرمه وهدم سور البلد، ثم بلغه أن محمدا يريد الهرب فقبض عليه وعلى أهله. وحكى أبو الفرج بن الجوزى فى المنتظم عن أبى بكر الصولى أنّه قال «3» : كان مع المعتضد رجل أعرابى فصيح يقال له شعلة بن شهاب

اليشكرى وكان يأنس به، فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ ليرغّبه فى الطاعة ويحذّره العصيان، قال: فصرت إليه فخاطبته فلم يجبنى، فتوجهت إلى عمتّه فصرت إليها، فقالت: يا أبا شهاب كيف خلّفت أمير المؤمنين؟ فقلت: خلّفته أمارا بالمعروف فعّالا للخير، فقالت، أهل لذلك ومستحقه، وكيف لا! وهو ظل الله الممدود على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت غلاما حدثا معجبا قد استحوذ عليه السفهاء، واستبدّ بآرائهم، يزخرفون له الكذب، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابى قبل لقاء أمير المؤمنين؟ قلت: أفعل، فكتبت إليه كتابا لطيفا أجزلت فيه الموعظة، وكتبت فى آخره: اقبل نصيحة أمّ قلبها وجع ... خوفا عليك واشفقا وقل سددا واستعمل الفكر فى قولى فإنّك ان ... فكّرت ألفيت فى قولى لك الرشدا ولا تثق برجال فى قلوبهم ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا مثل النعاج خمولا فى بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا وداو داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى عليك يدا أعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالا ولا أهلا ولا ولدا واردد أخا يشكر ردا يكون له ... ردا من السوء لا تشمت به أحدا قال: فأخذت الكتاب وصرت إليه فلما نظر إليه رمى به إلىّ ثم قال: يا أخا يشكر ما بآراء النساء تتم الدول، ولا بعقولهّن يستأمن «1» الملك، ارجع إلى صاحبك، ورجعت إلى المعتضد بالله فأخبرته الخبر، فأخذ الكتاب فقرأه فأعجبه شعرها وعقلها، ثم قال: إنى لأرجو أن أشفّعها فى كثير من القوم، فلما كان من فتح ما كان أرسل إلىّ المعتضد، فقال: هل عندك علم من تلك المرأة، قلت: لا، قال: فامض مع الخادم فإنّك

ستجدها فى جملة نسائها، فمضيت فلما بصرت بى من بعيد كشفت «1» عن وجهها، وجعلت تقول: ريب الزمان وصرفه ... وعثاره «2» كشف القناعا وأذلّ بعد العزّ م ... نّا الصعب والبطل الشجاعا ولكم نصحت فما أطع ... ت وكم صرخت بأن أطاعا فأبى بنا المقدور «3» إل ... لا أن نقسّم أو نباعا يا ليت شعرى هل نرى ... أبدا لفرّقتنا اجتماعا ثم بكت حتى علا صوتها وضربت بيدها على الأخرى، وقالت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، كأنى والله كنت أرى ما أرى «4» ، فقلت لها: إن أمير المؤمنين وجّه بى إليك، وما داك إلا لجميل رأيه فيك، قالت: فهل لك أن توصل لى رقعة إليه؟ قلت: أفعل «5» ، فدفعت إلىّ رقعة فيها: قل للخليفة والإمام المرتضى ... وابن الخلايف من قريش الأبطح علم الهدى ومناره وسراجه ... مفتاح كل عظيمة لم تفتح بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح وتزحزحت بك هضبة العرب التى ... لولاك بعد الله لم تتزحزح أعطاك ربّك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفو واصفح يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمىّ ومفسدىّ لمصلح قال: فصرت بها إلى المعتضد بالله، فلما قرأها ضحك وقال: لقد نصحت لو قبل منها، وأمر أن يحمل إليها خمسون ألف درهم وخمسون تختا

ودخلت سنة ست وثمانين ومائتين

من الثياب، وأمر أن يحمل إلى ابن عيسى «1» . وفيها «2» وصل رسول هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد على أن يقاطع على ما فى يده ويد نوّابه «3» من مصر والشام، ويسلّم أعمال قنّسرين إلى المعتضد، ويحمل فى كل سنة أربعمائة ألف دينار وخمسين «4» ألف دينار، فأجابه المعتضد إلى ذلك، وسار من آمد واستخلف ابنه المكتفى، فوصل إلى قنّسرين والعواصم فتسلّمها من أصحاب هارون بن خمارويه، وذلك فى سنة ست وثمانين- حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل وقال ابن الجوزى فى المنتظم «5» : إن هارون بذل هذا المال على أن يسلّم له أعمال قنّسرين والعواصم، وأن تجدّد له ولاية مصر والشام فأجيب إلى ذلك، والصواب ما حكاه ابن الأثير وحجّ بالناس: محمد بن عبد الله بن داود الهاشمى ودخلت سنة ست وثمانين ومائتين فى هذه السنة وجّه محمد بن أبى الساج- المعروف بأبى المسافر- رهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة، ومعه هدايا جليلة، وكان المعتضد قد ولّاه فى سنة خمس وثمانين أعمال أذربيجان وأرمينية وبعث إليه الخلع فقبلها بعد أن كان تغلّب على ذلك. وفيها أرسل عمرو بن الليث هديّة من نيسابور إلى المعتضد، قيمتها أربعة آلاف ألف درهم- قال ابن الجوزى «6» : كان مبلغ المال الذى وجّهه أربعة آلاف ألف درهم وعشرين من الدواب

ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

بسروج «1» ولجم محلاة، ومائة وعشرين «2» دابة بجلال مشهّرة، وكسوة وطيب وبزاة وطرف «3» . وفيها كان ابتداء أمر القرامطة بالبحرين على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. وفيها ولّى المعتضد بالله ابنه عليا المكتفى قنّسرين والعواصم والجزيرة، وكان كاتبه الحسين بن عمرو النصرانى ينظر فى الأمور. قال أبو الفرج بن الجوزى «4» فى حوادث هذه السنة بسند رفعه إلى محمد بن نعيم الضبّى قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضى بالرىّ سنة ست وثمانين ومائتين يقول: تقدّمت امرأة فادعى ولّيها على زوجها خمسمائة دينار مهرا فأنكر، فقال القاضى: شهودك، قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها فى شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومى، فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل ينظرون إلى امرأتك وهى مسفرة، لتصحّ عندهم معرفتها، فقال الزوج: فإنى أشهد القاضى أنّ لها علّى هذا المهر الذى تدعيه ولا تسفر عن وجهها «5» ، فقالت المرأة: فإنى أشهد القاضى أنّى قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه فى الدنيا والآخرة، فقال القاضى: يكتب هذا فى مكارم الأخلاق. ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول أسر عمرو بن الليث الصفّار، وملك إسماعيل بن أحمد السامانى خراسان على ما نذكر ذلك إن شاء الله

ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

تعالى فى أخبارهم وفيها قتل محمد «1» بن زيد العلوى صاحب طبرستان والديلم على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الدولة العلوية. وحج بالناس فى هذه السنة: محمد بن عبد الله بن داود. وفيها توفيت قطر الندى بنت خماروية زوجة المعتضد لسبع خلون من شهر رجب، ودفنت داخل قصر الرصافة. ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين فى هذه السنة توفى عبيد الله بن سليمان الوزير، فعظم موته على المعتضد وفوّض الوزارة إلى ابنه القاسم بن عبيد الله. وكان من أخبار المتغلبين على الأطراف على ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم. وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين فى هذه السنة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول أخرج من كان له دار أو حانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أنقاضكم «2» واخرجوا، وسبب ذلك أن المعتضد بالله كان قد عزم أن يبتنى لنفسه دارا يسكنها هنالك، فخط موضع السور وحفر بعضه، وابتدأ فى دكة على دجلة لينتقل إليها فيقيم بها، إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر، فمرض المعتضد ومات قبل ذلك. ذكر وفاة المعتضد بالله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته ليلة الإثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين

ومائتين، قال: ولما اشتد مرضه اجتمع يونس «1» الخادم وغيره من القواد إلى الوزير القاسم ليجدّد البيعة للمكتفى، وقالوا: إنّا لا نأمن الفتنة، فقال: أخاف أن أطلق المال فيبرأ أمير المؤمنين من علّته فينكر ذلك، فقالوا: إن برىء فنحن المحتجون والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنا ونحن نطلب الأمر له، فأطلق المال وجدّد البعية للمكتفى بالله، وأحضر أولاد المعتمد ووكل بهم، ثم توفى المعتضد وكانت علّته فساد الجوف والمزاج والجفاف من «2» كثرة الجماع، وكان يؤمر بأن يقلّ الغذاء ويرطب معدته ولا يتعب نفسه، فيستعمل ضد ذلك ويريهم أنّه يحتمى، فإذا خرجوا من عنده دعا بالجبن والزيتون والسمك فأكل، فسقطت لذلك قوّته واشتدت علّته، ومات رحمه الله وتولّى غسله محمد بن يوسف القاضى، وصلّى عليه الوزير- حكاه ابن الأثير «3» . وقال أبو الفرج بن الجوزى «4» : غسّله أحمد بن شيبة عند زوال الشمس، وصلّى عليه يوسف بن يعقوب القاضى «5» . ودفن ليلا فى دار محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّة منه، وجلس الوزير فى دار الخلافة للعزاء وجدّد البيعة للمكتفى، ومات المعتضد وله من العمر ست وأربعون «6» سنة وقيل إلا شهرين، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام «7» ، وقيل وثلاثة وعشرين يوما. وكان نحيفا خفيف العارضين يخضب بالسواد، ولما حضرته الوفاة أنشد:

تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ولا تأمننّ الدهر إنى أمنته ... فلم يبق لى حالا «1» ولم يرع لى حقا قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة «2» خلقا وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشرّدتهم غربا وشرّدتهم «3» شرقا فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لى رقا رمانى الردى سهما فأخمد جمرتى ... فهأنذا فى حفرتى عاجلا ألقى فياليت شعرى بعد موتى ما ألقى ... إلى نعم الرحمن «4» أم ناره ألقى قال: وكان المعتضد ذا عزم وشهامة ونهضة، بصيرا بالأمور حسن السياسة والسيرة، ولما ولى وضع عن الناس البواقى وأسقط المكوس بالحرمين، وبث العدل فى الآفاق وبذل الأموال، وغزا وجالس المحدّثين وأهل الفضل والدين. قال ثابت بن قرة الحرّانى: ولى المعتضد الخلافة وليس فى بيت المال إلا قراريط لا تبلغ الدينار، والحضرة مطلوبة والأعمال منهوبة والأعراب والأكراد عائثون والأعداء متسلطون، فأصلح الأمور وأحسن التدبير وقمع الخوارج وبالغ فى العمارة وأنصف فى المعاملة ورفق بالرعيّة، حتى استفضل من ارتفاعه فى سنى خلافته تسعة عشر ألف ألف دينار، وتقدّم إلى اجناده وأتباعه بلزوم الطريقة الحميدة، وعرّفهم أنّه متى أفسد غلام أحد منهم كان المأخوذ به مولاه، فسمع يوما صوتا من بعض الكروم مما يلى دجلة فأمر باستعلام الحال، فأخبر أنّ غلام بعض الأمراء أخذ حصر ما من الكرم فأمر بإحضار الأمير، وتقدّم بضرب عنقه، فلم يجسر أحد من الجند بعد ذلك على الفساد؛ ثم قال المعتضد بعد ذلك لوزيره عبيد الله ابن سليمان: لعلّك أنكرت ما جرى من قتلى هذا الأمير بجرم جناه غيره،

فقال: هو ذاك يا أمير المؤمنين، قال: كنت فى خلافة المعتمد فرأيت هذا الأمير قتل رجلا عمدا بغير ذنب، ولم يكن له وارث فنذرت لله تعالى إن ولّانى الله أن أقتله به، فلما وليت كنت أتطلّب له العورات حتى جرى ما جرى من غلامه، فقتلته بذلك الرجل وأقمت السياسة بقتله. قال: وكان المعتضد يسمى السفّاح الثانى لأنّه جدّد ملك بنى العباس، ووطّده بعد أن كانت الأتراك قد أخلقته، وفى ذلك يقول ابن الرومى: هنيئا بنى العبّاس إنّ إمامكم ... إمام الهدى والجود والباس أحمد كما بأبى العبّاس أسّس ملككم ... كذا بأبى العباس أيضا تجدّد وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى فى المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «1» : قال: كان المعتضد بالله فى بعض متصيّداته مجتازا «2» بعسكره وأنا معه، فصاح «3» ناظور فى قراح قثاء فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء شبئا، فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة نفر «4» ، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناظور: نعم، فقيّدهم فى الحال وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه، وسار فأنكر الناس ذلك وتحدّثوا به، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لى: يا أبا عبد الله- هل يعيب الناس علىّ شيئا؟ عرّفنى حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال: أقسمت عليك بحياتى إلا صدقتنى، قلت: يا أمير المؤمنين- وأنا آمن؟

قال: نعم، قلت: سفك «1» الدماء، قال: والله ما هرقت دما منذ وليت إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه، فقال: بحياتى ما تقول؟ فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيّب- وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، قال: دعانى إلى الإلحاد- قلت له يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلّم، وأنا الآن منتصب منصبه فألحد- حتى أكون من؟! فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: فى وجهك كلام؟ فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الذين قتلتهم فى قراح القثّاء، فقال: والله ما كان أولئك الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر القثّاء، وأردت أن أهول على الجيش بأنّ من [عاث «2» ] فى عسكرى وأفسد فى هذا القدر كانت عقوبتى له هكذا ليكفّوا عمّا فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم فى الحال، وإنما حبستهم وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنّهم أصحاب القثّاء، فقلت: فكيف تعلم العامّة هذا؟ قال: بإخراج القوم الذين أخذوا القثّاء وإطلاقهم فى هذه الساعة، ثم قال: هاتوا القوم، فجاءوا بهم وقد تغيّرت حالهم من الحبس والضرب، فقال: ما قصّتكم؟ فقصّوا عليه قصّة القثّاء، قال: أفتتوبون من مثل هذا الفعل حتى أطلقكم؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم التوبة وخلع عليهم وأمر بإطلاقهم وردّ أرزاقهم عليهم، فاشتهرت «3» الحكاية وزالت عنه التهمة. وحكى عبد الله بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر «4» :

أنّ أحد كبراء دولته ووزرائه كان قد بنى بناء عاليا مشرفا على جيرانه، فلم يعارضه أحد منهم لمكانه من الخليفة، وكان يجلس فيه فنظر يوما إلى دار من دور جيرانه، فرأى جاربة بارعة الجمال فأولع بها، وسأل عنها وإذا هى ابنة أحد التجار، فخطبها «1» من أبيها فامتنع من زواجه- وكان من أهل اليسار، وقال: لا أزوّج ابنتى إلا من تاجر مثلى، فإنّه إن ظلمها قدرت على الانتصاف «2» منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على حيلة، فأرغبه بالأموال وهو يأبى، فلما أيس منه شكى ذلك إلى أحد خواصّه، فقال: ألف مثقال تقوم لك بهذا الأمر، فقال: والله لو علمت أنى أنفق عليها مائة ألف دينار وأنالها لفعلت، قال له: لا عليك تحضر لى ألف دينار، وأمر بألف دينار فأحضرت فأخذها الرجل، ومشى بها إلى عشرة من العدول، وذكر لهم الأمر وسهّله عليهم، وقال: إنّكم تحيون نفسا قد أشرفت على الهلاك، وقال: إنّه قد بذل لها كذا وكذا من المهر وأعلى لهم، وأبوها إنما هو عاضل لها وإلا فما يمنعه، وقد خطبها مثل فلان فى جلاله قدره، وقد أعطاها صداقا لا يعطى إلا لبنت ملك، ثم هو يتأبى- هل هذا إلا عضل بيّن؟ ولكم ألف مثقال لكل منكم مائة، وتشهدون أنّه زوجها منه على صداق مبلغه كذا وكذا، ورفع قدر الصداق إلى غاية، وقال: إن أباها إذا علم أنّكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا، وليس فيه إلا الخير والعزّ، فأجابوه إلى ذلك وأخذوا الذهب، وشهدوا أن أباها زوّجها منه على صداق كبير، فلما علم أبوها بذلك زاد نفاره، فمشى الوزير إلى القاضى وقال: إنى تزوّجت ابنة فلان على هذا الصداق وهؤلاء الشهود على أبيها، وقد أنكر ذلك، فأمر القاضى بإحضار أبيها فحضر، فشهد الشهود عليه، وأحضر

الوزير مال النقد بين يدى القاضى- والرجل متماد على الإنكار، فحكم القاضى عليه وأمر بحمل المال إليه، وأن تؤخذ ابنته أحبّ أم كره، فأخذت منه ونقلت إلى الوزير، فأعمل أبوها الحيلة فى الوصول إلى المعتضد، وكان المعتضد غليظ الحجاب لا يصل إليه غير الخاصة، فقيل للرجل: إنه يحضر ساعة فى كل يوم لبنيان بنى له بقصره، فإن استطعت أن تكون فى جملة رجال الخدمة فإنّك تصل إليه، فغيّر الرجل شكله ودخل فى جملة رجال الخدمة للبناء، فلما جاء المعتضد ترامى الرجل إلى الأرض ونثر التراب على رأسه، فسأله المعتضد عن شأنه فقصّ عليه القصّة، فأحضر الوزير وأغلظ له فى القول، فحملته هيبة المعتضد على أن ذكر له الواقعة كما وقعت، ثم أحضر الشهود فقالوا كما قال، كل ذلك إجلالا له أن يقعوا فى الكذب بين يديه، وهم يظنّون أنّه لا يؤاخذهم لتمكن ذلك الوزير منه، فلما تبيّن له الأمر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يجعل ذلك الوزير فى جلد ثور طرىّ السلخ، ويضرب حتى يختلط عظمه ولحمه بدمه، فصنع به ذلك، ثم أمر أن يفرغ بين يدى نمور كانت عنده، فلعقته تلك النمور، وأمر بتسليم الجارية إلى أبيها، وأن تعطى ما أقرّ الوزير لها به من الصداق من عقار وغيره. وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى «1» : أنّ شيخا من التجار كان له على أحد القوّاد فى أيام المعتضد بالله مال، قال التاجر: فمطلنى «2» وكان يحجبنى إذا حضرت إلى بابه، ويضع غلمانه على الاستخفاف بى والاستطالة علىّ إذا رمت لقاء؟؟؟ وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان الوزير منه، فما نفعنى ذاك، فعزمت على الظلامة إلى المعتضد بالله، فبينما أنا مترو فى أمرى قال لى بعض أصدقائى:

علىّ أن آخذ لك مالك من غير حاجة إلى ظلامة- فاستبعدت هذا، فقمت معه فجئنا إلى خياط شيخ فى سوق الثلاثاء، يقرأ القرآن فى مسجد هناك ويخيط بأجرة، فقصّ عليه قصّتى وشرح له الصورة «1» ، وسأله أن يقصد القائد ويخاطبه فى الخروج إلىّ من حقّى، وكانت دار القائد قريبة من مسجد الخيّاط، فنهض معنا فلما مشينا خفت بادرة القائد وسطوته، وتصورت أنّ قول الخيّاط لا ينفع مع مثله مع محلّه وبسطته، فتأخرت قلت لصديقى: قد عرّضنا هذا الشيخ ونفوسنا لمكروه عظيم، وما هو إلا أن يراه غلمانه وقد أوقعوا به، وإن كان لم يقبل أمر الوزير فأولى ألا يقبل منه ولا يفكّر فيه، فضحك وقال: لا عليك، وجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخيّاط تلقّوه وأعظموه، وأهووا ليقبّلوا يده، فمنعهم منها، وقالوا: ما جاء بك أيها الشيخ فإنّ قائدنا راكب، فإن كان لك أمر تقدّم بذكره لنا ونحن نخبره به «2» ، وإن أردت الجلوس وانتظاره فالدار بين يديك، فلما سمعت ذلك قويت نفسى ودخلنا وجلسنا، ووافى القائد فلما رآه أكرمه إكراما شديدا، وقال له: لست أنزع ثيابى حتى تأمر بأمرك، فخاطبه فى أمرى «3» ، فقال: والله ما معى إلا خمسة آلاف درهم، فتسأله أن يأخذها ويأخذ رهونا من مراكبى الذهب والفضّة بقيمة ما بقى من ماله لأعطيه إياه بعد شهر، فبادرت أنا إلى الإجابة وأحضر الدراهم والمراكب بقيمة الباقى «4» ، وأشهدت الخيّاط وصديقى: أن الرهن عندى إلى مدة شهر، فإن جاز كنت وكيله فى بيعه وأخذ مالى من تمنه، وخرجنا فلما بلغنا مسجد الخيّاط ودخله طرحت الدراهم بين يديه، وقلت: قد ردّ الله مالى بك وعلى يديك فخذ ما تريده منه على طيب نفس منّى «5» ، فقال:

يا هذا- ما أسرع ما قابلتنى بالقبيح على الجميل، انصرف بمالك بارك الله لك فيه، قلت: قد بقيت لى حاجة، قال: ما هى «1» ؟ قلت: أحبّ أن تخبرنى عن سبب طاعة هذا القائد لك، مع إقلاله الفكر بأكابر الدولة، فقال: قد بلغت غرضك فلا تقطعنى عن شغلى بحديث لا فائدة لك فيه، فألححت عليه فقال: أنا رجل أقرأ وأؤم وأقرئ فى هذا المسجد منذ أربعين سنة، لا أعرف كسبا إلا من الخياطة، وكنت صلّيت المغرب منذ مدة وخرجت أريد منزلى، فاجتزت على تركى كان فى هذه الدار، وأومأ إلى دار بالقرب منه، وإذا امرأة جميلة الوجه قد اجتازت عليه، فعلق بها وهو سكران وطالبها بالدخول إلى داره، وهى تمتنع وتستغيث وتقول فى جملة كلامها: إنّ زوجى قد حلف بالطلاق لا أبيت عنه، وإن أخذنى هذا وغصبنى وبيّتنى عن منزلى خرب بيتى ولحقنى من العار ما لا تدحضه «2» الأيام عنى، وما أحد يغيثها ولا يمنع منها، فجئت إلى التركى ورفقت به فى أن يخلى عنها فلم يفعل، وضرب رأسى بدبّوس كان فى يده فشجّه، وأدخل المرأة، فصرت إلى منزلى وغسلت الدم عن وجهى وشددت رأسى، وخرجت لصلاة العشاء الآخرة، فلما فرغنا منها قلت لمن حضر: قوموا معى إلى هذا التركى عدو الله، لننكر عليه ونخرج المرأة من عنده، فقاموا فجئنا وصحنا على بابه، فخرج إلينا فى عدة من غلمانه فأوقع بنا، وقصدنى من بين الجماعة بالضرب الشديد الذى كاد يتلفنى، وحملت إلى منزلى وأنا لا أعقل أمرى، فنمت قليلا للوجع ثم طار النوم عن عينى، وسهرت متقلّبا على فراشى ومفكرا فى أمر المرأة، فإنّها متى أصبحت طلّقت، ثم قلت: هذا رجل شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فربما أخرج المرأة فمضت إلى بيتها وبقيت فى حبال زوجها، فتكون قد

تخلّصت من أحد المكروهين، فخرجت متحاملا الى المسجد وصعدت المنارة وأذّنت، وجلست أطّلع إلى الطريق فأرتقب خروج المرأة من الدار «1» ، فما مضت ساعة حتى امتلأ الشارع خيلا ورجلا ومشاعل، وهم يقولون من ذا الذى أذّن؟ ففزعت وسكتّ ثم قلت أخاطبهم وأصدقهم عن أمرى لعلّهم يعينوننى على خروج المرأة، فصحت من المنارة: أنا أذّنت، فقالوا: أنزل وأجب أمير المؤمنين، فنزلت ومضيت معهم فإذا هم غلمان بدر، فأدخلنى على المعتضد بالله فلما رأيته هبته وأخذتنى رعدة شديدة فقال لى: اسكن- ما حملك على الآذان فى غير وقته؟ وأن تغرّ الناس فيخرج ذو الحاجة فى غير حينه، ويمسك المريد للصوم وقت قد أبيح له الأكل والشرب، قلت: يؤمّننى أمير المؤمنين لأصدقه، قال: أنت آمن، فقصصت عليه قصة التركى، وأريته الآثار التى فى رأسى ووجهى، فقال: يا بدر- علىّ بالغلام والمرأة، فجىء بهما فسألهما المعتضد عن أمرها فذكرت له مثل ما ذكرت له، فأمر بإنفاذها إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره «2» بالتمسك بها والإحسان إليها ثم استدعانى فوقفت بين يديه وجعل يخاطب الغلام ويسمعنى، ويقول له: كم رزقك؟ وكم عطاؤك؟ فيقول كذا وكذا «3» قال: فما كان لك فى هذه النعمة وفى هذه السعة وفى هؤلاء الجوارى ما يكفيك ويكفك عن محارم الله؟ وخرق سياسة السلطان والجرأة عليه؟ وما كان عذرك فى الوثوب بمن أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر «4» ؟ فأسقط فى يد الغلام ولم يكن له جواب يورده، ثم قال: يحضر جوالق ومداق الجص وقيود وغل. فأحضر جميع ذلك فقّيده وغلّه وأدخله

الجوالق، وأمر فدقّوه بمداق الجص وهو يصيح إلى أن خفت صوته وانقطع حسّه، وأمر به فطرح إلى دجلة وتقدم إلى بدر بتحويل ما فى داره، ثم قال لى:- وقد شاهدت ذلك كله- متى رأيت يا شيخ منكرا كبيرا أو صغيرا فأنكره ولو على هذا- وأشار «1» إلى بدر، ومن تقاعس عن القبول منك فالعلامة بيينا أن تؤذن فى مثل هذا الوقت لأسمع صوتك وأستدعيك، قال الشيخ: فدعوت له وانصرفت، وشاع الخبر بين «2» الجند والغلمان، فما سألت أحدا منهم بعدها إنصافا أو كفا عن قبيح إلا أطاعتى فما رأيت خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذّن فى مثل ذلك الوقت إلى الآن. وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى أبى بكر بن حورى- وكان يصحب أبا عبد الله بن أبى عوف قال «3» كنت ألزم ابن أبى عوف سنين «4» بيننا جوار ومودة «5» ، وكان رسمى كل ليلة أن أجىء بعد العتمة، فحين يرانى يمد رجله فى حجرى فأغمزها، وأحادثه ويسألنى عن الحوادث ببغداد وكتب استقربها له، فإذا أراد أن ينام قبض رجله فقمت إلى بيتى، وقد مضى ثلث الليل أو نصفه أو أقل «6» ، فلما كان ذات يوم جاءنى رجل كان يعاملنى، فقال: قد دفعت إلى أمر إن تمّ علىّ افتقرت، قلت وما هو؟ قال: رجل كنت أعامله فاجتمع لى عليه ألف دينار، فطالبته فرهننى عقد جوهر قوّم بألف دينار إلى أن يفتكه بعد شهور أو أبيعه، وأذن لى فى ذلك، فلما كان أمس وجّه يونس «7» صاحب الشرطة

من كبس دكانى، وفتح صندوقى وأخذ العقد، فقلت: أنا أخاطب ابن أبى عوف فيلزمه بردّه، قال: وأنا مدلّ بابن أبى عوف لمكانى منه ومكانته من المعتضد، فلما كانت تلك الليلة جئته وحادثته على رسمى، وذكرت له فى جملة حديثى حديث العقد، فلما سمع نحّى رجله من حجرى وقال: مالى ولهذا!! أعادى خادما صاحب شرطة الخليفة؟! فورد علىّ أمر عظيم وخرجت من بيته ألا أعود، فلما صلّيت العتمة من الليلة المقبلة جاءنى خادم لابن أبى عوف، وقال: يقول لك لم تأخرت الليلة؟ إن كنت مشتكيا جئناك، فاستحييت وقلت أمضى الليلة، فلما رآنى مدّ رجله وأقبلت أحدّثه بحديث متكلف، فصبر على ساعة ثم قبض رجله فقمت، فقال: يا أبا بكر انظر أى شىء تحت المصلّى فخذه، فرفعت المصلّى فإذا برقعة فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة فإذا فيها: يا يونس جسرت على قصد دكّان رجل تاجر، وفتحت صندوقه وأخذت منه عقد جوهر- وأنا فى الدنيا، والله لولا أنّها أول غلطة غلطتها ما جرى فى ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى دكّان الرجل حتى تردّ العقد فى الصندوق بيدك ظاهرا، فقلت لأبى عبد الله: ما هذا؟ فقال: خط المعتضد- مثلث بين وجدك وبين يونس فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين بما تراه، وامض وأرسله إليه، فقبّلت رأسه وجئت إلى الرجل، فأخذت بيده ومضينا إلى يونس وسلّمت التوقيع إليه، فلما رآه أسودّ وجهه وارتعد، حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا- الله بينى وبينك- هذا شىء ما علمت به، فألا تظلّمتم فإن لم أنصفكم فإلى الوزير- بلغتم الأمر أمير المؤمنين من أول وهلة! [قال] «1» فقلت: بعملك جرى والعقد معك فأحضره، فقال: خذ الألف دينار التى عليه، واكتبوا على الرجل ببطلان ما ادعاه، فقلت: لا نفعل، فقال: ألف وخمسمائة، فقلت: والله لا نرضى حتى تركب بنفسك إلى الدكان فتردّ

العقد، فركب وردّ العقد إلى مكانه. وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى «1» أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «2» قال: قال لى المعتضد ليلة- وقد قدّم له العشاء- لقّمنى، وكان الذى قدّم فراريج ودراريج، فلقّمته من صدر فرّوج، قال: لا، لقّمنى من فخده فلقّمته لقما، ثم قال: هات من الدراريج فلقّمته من أفخاذها، فقال: ويلك- هوذا أتتنادر علىّ، هات من صدورها، فقلت: يا مولاى ركبت القياس، فضحك، فقلت: إلى كم أضحكك ولا تضحكنى، فقال: شل المطرح وخذ ما تحته، قال: فشلته فإذا دينار واحد، فقلت آخذ هذا؟ قال: نعم، فقلت: بالله هوذا تتنادر أنت الساعة علىّ، خليفة يجيز «3» نديمه بدينار!! فقال: ويلك- لا أجد لك فى بيت المال حقا أكثر من هذا، ولا تسمح نفسى أن أعطيك من مالى شيئا، ولكن هوذا احتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار، فقبّلت يده فقال: إذا كان غدا وجاء القاسم- يعنى ابن عبيد الله- فهوذا أسارّك حتى تقع عينى عليه سرارا طويلا، ألتفت فيه إليه كالمغضب وانظر أنت إليه فى خلال ذلك كالمخالس لى نظر المترثى، فإذا انقطع السرار فاخرج ولا تبرح من الدهاليز، فإذا خرج خاطبك بجميل وأخذك إلى دعوته وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلّة وقلّة حظّك معى وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك واطلب كل ما تقع عليه عينك، فإنّه لا يمنعك حتى تستوفى خمسة آلاف دينار، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى فاصدقه وإياك أن تكذبه، وعرّفه أن ذلك حيلة منّى عليه حتى وصل إليك هذا وحدّثه بالحديث كله على

شرحه، وليكن إخبارك إياه بذلك بعد امتناع شديد، وإحلاف لك منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه وبعد أن تخرج من داره كل ما يعطيك إياه ويصير فى بيتك. قال: فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يساررنى، وفعل وفعلت كما تقرّر، ثم خرجت فإذا القاسم فى الدهليز ينتظرنى، فقال: يا أبا محمد- ما هذا الجفاء! لا تجيئنى ولا تزورنى ولا تسألنى حاجة! فاعتذرت إليه باتصال الخدمة علىّ، فقال: لا يقنعنى إلا أن تزورنى اليوم ونتفرج، فقلت: أنا خادم الوزير- فأخذنى إلى طيّارة وجعل يسألنى عن حالى وأخبارى فأشكو إليه الخلة والإضافة والبنات وجفاء الخليفة وإمساكه يده، فيسترجع ويقول: يا هذا مالى لك ولم تضيّق عليك ما يتسع علىّ؟ أو تتجاوز نعمة خلصت لى؟ أو يتخطّاك حظ نازل [فى فنائى] «1» ؟ ولو عرّفتنى لعاونتك على إزالة هذا كله فشكرته، وبلغنا داره فصعد ولم ينظر فى شىء، وقال: هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبى محمد، ولا يقطعنى أحد عنه، وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال، وخلّانى فى دار الخلوة وجعل يجادثنى ويبسطنى، وقدّمت الفاكهة فجعل يلقمنى بيده، وجاء الطعام وكانت هذه سبيله، ووقّع لى بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت، وأحضر لى ثيابا وطيبا ومركوبا فأخذت ذلك، وكان بين يدىّ صينيّة فضّة فيها مغسل فضّة فأخذتها، وخرداذى «2» بللور وكوز وقدح بللور فأمر بحمله إلى طيّارى، وأقبلت كلما رأيت شيئا حسنا له قيمة طلبته. فحمل إلىّ فرشا «3» وقال: هذا للبنات، فلما تقوّض المجلس خلا بى وقال لى: يا أبا محمد- أنت عالم بحقوق أبى عليك ومودّتى لك، فقلت: أنا خادم الوزير، فقال: أريد أن أسالك عن شىء وتحلف لى أنك تصدقنى عنه، فقلت: السمع

والطاعة- فأحلفنى بالله وبالطلاق وبالعتاق على الصدق، ثم قال: بأى شىء سارّك الخليفة اليوم فى أمرى؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفا بحرف، فقال: فرّجت عنّى، ولكون هذا هكذا مع سلامة نيّته لى أسهل علىّ فشكرته وودّعته وانصرفت إلى منزلى «1» ، فلما كان من غد بكرت إلى المعتضد فقال: هات حديثك فسقته عليه، فقال: احفظ الدنانير ولا يقع لك أنّى أعمل مثلها معك بسرعة. وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى إسماعيل ابن إسحاق القاضى «2» قال: دخلت على المعتضد بالله وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآنى المعتضد بالله «3» ، فلما أردت القيام أشار إلىّ فمكثت ساعة، فلما خلا بى قال: أيها القاضى- والله ما حللت سراويلى على حرام قط. وحكى أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد الحسن بن محمد الطلحى قال «4» : حدّثنى أحد خدم المعتضد المختص «5» بخدمته، قال: كنّا حوالى سرير المعتضد ذات يوم نصف النهار وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون حول سريره أوقات منامه من ليل أو نهار، فانتبه منزعجا وقال: يا خدم- فأسرعنا الجواب، فقال: ويلكم أغيثونى والحقوا الشط، وأول ملاح ترونه منحدرا فى سفينة فارغة فاقبضوا عليه، وجيئونى به ووكلوا بسفينته، فأسرعنا فوجدنا ملاحا فى سميرية منحدرا- وهى فارغة- فقبضنا عليه، ووكلنا بسميريّته وأصعدناه إليه، فحين رآه الملاح تلف «6» ، فصاح

عليه صيحة عظيمة كادت روحه تخرج معها، وقال: اصدقنى يا ملعون عن قصّتك مع المرأة التى قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك، قال: فتلعثم وقال: نعم، كنت اليوم من سحر فى مشرعتى فنزلت امرأة «1» وعليها ثياب فاخرة وحلى كثير وجوهر، فطمعت فيها فاحتلت عليها حتى سددت فاها وغرّقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجسر على حمل سلبها إلى بيتى كيلا يفشو الخبر، فعملت على الهرب وانحدرت الساعة لأمضى إلى واسط، فعلقنى هؤلاء الخدم وحملونى «2» ، فقال له: أين الحلى والسلب؟ قال: فى «3» السفينة تحت البوارى، فقال المعتضد للخدم: جيئونى به، فمضوا «4» وأحضروه، فقال: خذوا الملّاح فغرّقوه ففعلوا، ثم أمر أن ينادى ببغداد على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانيّة سحرا وعليها الثياب والحلى فليحضر من يعرفها، ويعطى صفة ما كان عليها ويأخذه فقد تلفت المرأة، فحضر فى اليوم الثانى أو الثالث أهل المرأة، وأعطوا صفة ما كان عليها فسلّم ذلك إليهم، قال: فقلنا يا مولانا أوحى إليك، فقال: رأيت فى منامى كأنّ رجلا شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادى بالأخذ لأوّل «5» ملّاح ينحدر الساعة فاقبض عليه، وقرّره عن خبر امرأة قتلها اليوم وسلبها، وأقم عليه الحدّ- فكان ما شاهدتم. وكان المعتضد بالله رحمه الله شجاعا مقداما، فما حكى عن شجاعته ما حكاه أبو الفرج بسند رفعه إلى خفيف السمرقندى قال «6» : كنت مع مولاى المعتضد فى بعض متصيّداته، وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيرى، فخرج علينا أسد فقصدنا، فقال لى المعتضد:

يا خفيف «1» - أفيك خير؟ فقلت: لا يا مولاى، قال: ولا حتى تمسك فرسى وأنزل أنا إلى الأسد، فقلت: بلى، فنزل وأعطانى فرسه وشدّ أطراف ثيابه فى منطقته، واستلّ السيف ورمى بالقراب إلىّ، فأقبل يمشى إلى الأسد، فحين قرب منه وثب الأسد عليه فتلقّاه المعتضد فضربه، فإذا يده طارت فتشاغل الأسد بالضربة، فغشيه «2» بأخرى ففلق هامته فخرّ صريعا، فدنا منه- وقد تلف- فمسح السيف فى صوفه، فرجع إلىّ فأغمد السيف وركب، ثم عدنا إلى العسكر «3» ، فإلى أن مات ما سمعته تحدّث بحديث الأسد، ولا علمت أنّه لفظ منه «4» بلفظة، فلم أدر من أى شىء أعجب: من شجاعته وشدته أو من قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه أو من عفوه عنّى، فما عاتبنى على ضنّى بنفسى. وكان رحمه الله حسن الفراسة صادقا، فمن ذلك ما حكاه خفيف السمرقندى قال «5» : كنت واقفا بحضرة المعتضد إذ دخل بدر وهو يبكى، وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان الوزير عند موته، فأعلم المعتضد بالله الخبر، فقال: أو قد صحّ الخبر؟ أو هى غشية؟ قال: بل توفى وشدّ لحينه، فرأيت المعتضد بالله وقد سجد فأطال السجود، فلما رفع رأسه قال له بدر: والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة مجتهدا فى خدمتك عفيفا عن الأموال، قال: يا بدر- أظننت أنى سجدت سرورا بموته؟ إنما سجدت شكرا لله عزّ وجل إذ وفّقنى فلم أصرفه ولم أوحشه، ورفّهت على ورثته ما خلفه لهم من كسبه معى ما يجاوز قيمته ألفى ألف دينار، وقد كنت

عزمت على أخذ ذلك منهم، وأن استوزر أحد الرجلين: إما جرادة- وهو أقوى الرجلين فى نفسى لهيبته فى قلوب الجيش، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات وهو أعرف بمواقع الأموال، فقال له بدر: يا مولاى- غرست غرسا حتى إذا أثمر قلعته، أنت ربّيت القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين، وعرف ما يرضى حاشيتك، وجرادة رجل متكبّر ويخرج من الجيش جائعا وابن الفرات لا هيبة له فى النفوس، وإنما يصلح أن يكون بحضرة وزير ليحفظ المال، ومال القاسم وورثته لك أى وقت أردته أخذته، فراجعه المعتضد وبيّن له فساد هذا الرأى، فعدل عن المناظرة إلى تقبيل الأرض مرّات، فقال له المعتضد: قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزّه بأبيه، وبشّره بتقرير رأيى على استيزاره، وليسلو عن مصابه، ومره بالبكور إلى الجامع، قال خفيف: فولّى بدر وخرجت معه فدعانى المعتضد [فعدت] «1» ، فقال: أرأيت ما جرى؟ قلت: نعم، قال: والله ليقتلنّ بدرا القاسم «2» - وكان الأمر كذلك، قتله فى خلافة المكتفى بالله على ما نذكره إن شاء الله، فقال خفيف: رحم الله المعتضد كأنّه نظر إلى هذا من وراء ستر. وكان المعتضد رحمه الله جيد الشعر، فمن شعره ما قاله عند موت جارية كان يحبها وتحبه غاية المحبة، فلما «3» ماتت جزع لموتها جزعا منعه عن الطعام والشراب فقال «4» : يا حبيبا لم يكن يع ... دله عندى حبيب

أنت عن عينى بعيد ... ومن القلب قريب ليس لى بعدك فى شى ... ء من اللهو نصيب لك من قلبى على قل ... بى وإن بنت رقيب وخيالى منك مذغب ... ت خيال لا يغيب لو ترانى كيف لى بع ... دك عول ونحيب وفؤادى حشوه من ... حرق الحزن لهيب لتيقّنت بأنّى ... بك محزون كئيب ما أرى نفسى وإن طبّ ... بتها «1» عنك تطيب لى دمع ليس يعصي ... نى وصبرء ما يجيب وقال أيضا: لم أبك للدار ولكن بما ... قد كان فيها مرّة ساكنا فخاننى الدهر بفقدانه ... وكنت من قبل له آمنا ودّعت صبرى يوم «2» توديعه ... وبان «3» قلبى معه ظاعنا فقال له عبيد الله بن سليمان: يا أمير المؤمنين- مثلك تهون عليه المصائب، لأنه يجد من كل فقيد خلفا، ويقدر على ما يريد، والعوض منك لا يوجد، فلا ابتلى الله الإسلام بفقدك، وعمّره ببقائك. وقد قال الشاعر فى المعنى الذى ذكرته. يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... ونحن «4» أغلظ أكبادا من الإبل فضحك المعتضد وعاد إلى عادته. وقال عبد الله بن المعتز يعزى المعتضد عن هذه الجارية:

يا إمام الهدى بنا لا بك اله ... مّ «1» وأفنيتنا وعشت سليما أنت علّمتنا على النعم الشك ... ر وعند المصائب التسليما فاسل عمّا مضى فإنّ التى كا ... نت سرورا صارت ثوابا عظيما قد رضينا بأن تموت وتحيا ... إنّ عندى فى ذاك خطا جسيما من يمت طائعا لديك فقد أع ... طى نورا ومات موتا كريما وأخبار المعتضد بالله كثيرة، قد أشرنا إلى ما فيه كفاية. وكان له من الأولاد على- وهو المكتفى بالله، وجعفر- وهو المقتدر بالله، وهارون، ومحمد- وهو القاهر بالله، ومن البنات إحدى عشرة وقيل تسع. عشرة «2» . وكان نقش خاتمه: الاضطرار يزيل الاختيار. ووزراؤه: عبيد الله ابن سليمان بن وهب ثم ابنه القاسم بن عبيد الله. قضاته: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل «3» بن حماد بن زيد، ثم أبو العباس أحمد بن محمد «4» البرتى، ثم أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكّونى، ثم يوسف بن يعقوب «5» بن إسماعيل بن حماد بن زيد، ثم على بن أبى الشوارب، ثم أبو

عمر «1» محمد بن يوسف بن يعقوب «2» . حاجبه: صالح الأمير. الأمراء بمصر: خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم ابنه جيش بن خمارويه، ثم هارون بن خمارويه. القضاة بها: أبو عبدة إلى أن خلع جيش ابن خمارويه فاستتر فى داره، وولى بعده أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقى من قبل هارون بن خمارويه. (نهاية الجزء العشرين بتجزئة المؤلف)

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق 1- الأعلام لخير الدين الزركلى- طبعة القاهرة سنة 1954 م 2- الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى - طبعة بولاق سنة 1285 هـ- طبعة الساسى سنة 1323 هـ- طبعة دار الكتب سنة 1345 هـ 3- البداية والنهاية لابن كثير- طبعة القاهرة سنة 1932 م 4- بلدان الخلافة الشرقية للسترينج- طبعة كمبردج سنة 1930 م 5- تاريخ ابن عساكر- مخطوط دار الكتب 1041 تاريخ تيمور 6- تاريخ بغداد للخطيب البغدادى- طبعة القاهرة سنة 1931 م 7- تاريخ الطبرى؛ المسمى بتاريخ الأمم والملوك- طبعة أوربا سنة 1937 م- طبعة القاهرة سنة 1939 م 8- تنبيه الغافلين للسمرقند - طبعة بولاق سنة 1313 هـ 9- تهذيب تاريخ ابن عساكر- طبعة دمشق سنة 1351 هـ.

10- فتوح البلدان للبلاذرى- طبعة أوربا سنة 1866 م 11- الكامل لابن الأثير- طبعة أوربا سنة 1876 م- طبعة القاهرة سنة 1357 هـ 12- كمامة الزهر وصدفة الدر، وتسمى أيضا شرح البسامة بأطواق الحمامة لابن بدرون- مطبعة السعادة، القاهرة، سنة 1340 هـ- مخطوط دار الكتب 7917 أدب 13- مسالك الممالك لأبى اسحق الأصطخرى- طبعة ليدن سنة 1870 م 14- معجم البلدان لياقوت الحموى طبعة ليبزج سنة 1866 م 15- المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزى- طبعة حيدر أباد سنة 1357 هـ- مخطوط دار الكتب 1269 تاريخ. 16- النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى- طبعة دار الكتب سنة 1929 م 17- الوزراء والكتاب للجهشيارى- طبعة القاهرة سنة 1938 م 18- وفيات الأعيان لابن خلكان- طبعة القاهرة سنة 1948 م 19- الولاة والقضاة للكندى- طبعة بيروت سنة 1908 م

فهرس الجزء الثانى والعشرين

فهرس الجزء الثانى والعشرين تقديم الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره والديار المصرية وما معها خاصة، وابتداء أمر الشيعة وظهورهم، وما كان منهم إلى أن أفضى إلى أبى العباس عبد الله السفاح ومن قام بالأمر بعده إلى وقتنا هذا. ذكر ابتداء ظهور دعوة بنى العباس وأمر الشيعة 9 ذكر تفويض أمر الشيعة إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس وبثه الدعاة. 10 ذكر مولد أبى العباس السفاح 12 ذكر خبر أبى مسلم الخراسانى وابتداء أمره 15 ذكر ولاية أبى مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراسانى أمر الشيعة. 18 ذكر إظهار الدعوة بخراسان 19 ذكر دخول أبى مسلم مرو والبيعة بها 21 ذكر هرب نصر بن سيار أمير خراسان من مرو 23 ذكر مقتل ابنى الكرمانى 24 ذكر قدوم قحطبة بن شبيب من قبل إبراهيم الإمام على أبى مسلم. 26 ذكر مسير قحطبة إلى نيسابور واستيلائه عليها ومن استعمله أبو مسلم على الجهات. 26 ذكر مقتل نباته بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان 27

سنة إحدى وثلاثين ومائة 28 ذكر وفاة نصر بن سيار ودخول قحطبة الرى 28 ذكر مقتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصفهان 30 ذكر دخول قحطبة نهاوند 31 ذكر فتح شهر زور 32 سنة إثنتين وثلاثين ومائة 32 ذكر مسير قحطبة لقتال ابن هبيرة بالعراق وهلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة. 33 ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا 34 ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام 35 ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية. 37 ذكر بيعة أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 37 ذكر هزيمة مروان بالزاب 45 ذكر مقتل مروان بن محمد ودخول أهل الشام وغيرهم فى الطاعة. 46 ذكر من قتل من بنى أمية بعد مقتل مروان بن محمد 49 ذكر الخلاف على أبى العباس السفاح وأخبار من خالف وخلع. 52 ذكر خلع أبى الورد وأهل قنسرين ودمشق 52 ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم 53 ذكر قتل أبى سلمة الخلال وسليمان بن كثير 54 ذكر أخبار ابن هبيرة وما كان من أمره 56 ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها 58 ذكر عمال السفاح 59 سنة ثلاث وثلاثين ومائة 59 ذكر دخول ملك الروم ملطية وقاليقلا 59 سنة أربع وثلاثين ومائة 61 ذكر خلع بسام بن إبراهيم وما كان من أمره وقتل أخوال السفاح. 61 ذكر خبر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز 62 سنة خمس وثلاثين ومائة 63 ذكر خروج زياد بن صالح 64 سنة ست وثلاثين ومائة 64 ذكر وفاة أبى العباس السفاح 65 ذكر خلافة المنصور 66

سنة سبع وثلاثين ومائة 67 ذكر خروج عبد الله بن على وقتاله وهزيمته 67 ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى 69 ذكر خروج سنباذ بخراسان 77 ذكر خروج ملبد الشيبانى وقتله 78 سنة ثمان وثلاثين ومائة 79 ذكر خلع جمهور بن مرار وقتله 79 سنة تسع وثلاثين ومائة 80 سنة أربعين ومائة 80 سنة إحدى وأربعين ومائة 81 ذكر خروج الراوندية على المنصور وقتلهم 81 ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى إليه 82 ذكر فتح طبرستان 84 سنة إثنتين وأربعين ومائة 85 ذكر خلع عيينة بن موسى 85 ذكر نكث الإصبهبذ 85 سنة ثلاث وأربعين ومائة 86 سنة أربع وأربعين ومائة 86 سنة خمس وأربعين ومائة 88 ظهور محمد بن عبد الله 88 ذكر وثوب السودان بالمدينة 88 ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها 89 سنة ست وأربعين ومائة 92 سنة سبع وأربعين ومائة 92 ذكر البيعة للمهدى وخلع عيسى بن موسى 92 ذكر وفاة عبد الله بن على وخبر عيسى بن موسى 93 سنة ثمان وأربعين ومائة 94 ذكر خروج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانى. 94 سنة تسع وأربعين ومائة 95 سنة خمسين ومائة 95 ذكر خروج استاذسيس 95

سنة إحدى وخمسين ومائة 96 ذكر بناء الرصافة للمهدى 96 سنة إثنتين وخمسين ومائة 98 سنة ثلاث وخمسين ومائة 98 ذكر القبض على أبى أيوب الموريانى الوزير وقتله 98 سنة أربع وخمسين ومائة 100 سنة خمس وخمسين ومائة 100 سنة ست وخمسين ومائة 100 سنة سبع وخمسين ومائة 101 سنة ثمان وخمسين ومائة 101 ذكر وفاة أبى جعفر المنصور 101 ذكر وصية المنصور لابنه المهدى 103 ذكر شىء من سيرة أبى جعفر المنصور 107 ذكر خلافة المهدى 108 سنة تسع وخمسين ومائة 109 ذكر ظهور المقنع بخراسان وهلاكه 109 سنة ستين ومائة 111 ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادى 111 سنة إحدى وستين ومائة 113 سنة إثنتين وستين ومائة 113 ذكر قتل عبد السلام الخارجى 113 سنة ثلاث وستين ومائة 114 سنة أربع وستين ومائة 114 سنة خمس وستين ومائة 115 سنة ست وستين ومائة 115 سنة سبع وستين ومائة 117 سنة ثمان وستين ومائة 117 سنة تسع وستين ومائة 118 ذكر وفاة أبى عبد الله المهدى 118 ذكر شىء من سيرته وأخباره 119 ذكر خلافة الهادى 121 ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 122

سنة سبعين ومائة 122 ذكر وفاة أبى محمد الهادى 123 ذكر خلافة هارون الرشيد 125 سنة إحدى وسبعين ومائة 126 سنة إثنتين وسبعين ومائة 127 سنة ثلاث وسبعين ومائة 127 سنة أربع وسبعين ومائة 127 سنة خمس وسبعين ومائة 127 سنة ست وسبعين ومائة 127 ذكر ظهور يحيى بن عبد الله 127 ذكر الفتنة بدمشق 128 سنة سبع وسبعين ومائة 129 ذكر الفتنة بالموصل 129 سنة ثمان وسبعين ومائة 129 ذكر الفتنة بمصر 129 ذكر خروج الوليد بن طريف 130 سنة تسع وسبعين ومائة 131 سنة ثمانين ومائة 131 ذكر ولاية على بن عيسى خراسان، وخبر حمزة الخارجى. 131 سنة إحدى وثمانين ومائة 132 سنة إثنتين وثمانين ومائة 132 سنة ثلاث وثمانين ومائة 133 سنة أربع وثمانين ومائة 134 سنة خمس وثمانين ومائة 134 سنة ست وثمانين ومائة 134 ذكر حج هارون الرشيد وأمر كتاب العهد 134 سنة سبع وثمانين ومائة 135 ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى بن خالد. 135 ذكر شىء من أخبار جعفر وتمكنه من الرشيد وما آل أمرهم إليه. 142 ذكر القبض على عبد الملك بن صالح 148 ذكر غزو الروم 148 سنة ثمان وثمانين ومائة 150

سنة تسع وثمانين ومائة 150 ذكر مسير الرشيد إلى الرى 150 سنة تسعين ومائة 151 ذكر فتح هرقلة 151 سنة إحدى وتسعين ومائة 158 سنة إثنتين وتسعين ومائة 158 سنة ثلاث وتسعين ومائة 158 ذكر وفاة الرشيد 158 ذكر شىء من سيرة الرشيد وأخباره 163 ذكر خلافة الأمين 164 سنة أربع وتسعين ومائة 165 ذكر خلاف أهل حمص على الأمين 165 سنة خمس وتسعين ومائة 165 ذكر خروج السفيانى وما كان من أمره 165 سنة ست وتسعين ومائة 167 سنة سبع وتسعين ومائة 167 سنة ثمان وتسعين ومائة 167 ذكر أخبار الأمين والمأمون وما كان بينهما من الفتن والاختلاف وما أفضى إليه الأمر من قتل الأمين 167 ذكر محاربة على بن عيسى بن ماهان وطاهر 171 ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة إلى طاهر وقتله واستيلاء طاهر على أعمال الجبل 174 ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال 176 ذكر خلع الأمين ببغداد والبيعة للمأمون وعودة الأمين 177 ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة 178 ذكر تجهيز الأمين الجيوش وما كان من أمرهم 180 ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين 180 ذكر حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها 181 ذكر مقتل الأمين 182 ذكر صفة الأمين وعمره ومدة خلافته وشىء من أخباره 187 ذكر خلافة المأمون 188 ذكر وثوب الجند بطاهر 189 ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلى على المأمون 190 ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد 191

سنة تسع وتسعين ومائة 191 ذكر ظهور ابن طباطبا العلوى ووفاته وخبر أبى السرايا 191 ذكر هرب أبى السرايا وقتله 195 سنة مائتين 196 ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة ومبايعته محمد بن جعفر وما كان من أمره وخلعه لنفسه 197 ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله 199 ذكر وثوب الحربية ببغداد 200 سنة إحدى ومائتين 201 ذكر ولاية منصور بن المهدى بغداد 201 ذكر البيعة بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا 202 ذكر فتح جبال طبرستان وأسر ملك الديلم 203 سنة إثنتين ومائتين 203 ذكر بيعة إبراهيم بن المهدى ببغداد وخلع المأمون 203 ذكر أخبار ابراهيم بن المهدى وما استولى عليه من الأماكن، وما كان من أمره إلى أن خلع واستتر، ذكر استيلائه على قصر ابن هبيرة والكوفة 204 ذكر خلع إبراهيم بن المهدى 206 ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدى 208 ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذى الرئاستين الفضل بن سهل 208 سنة ثلاث ومائتين 210 ذكر وفاة على بن موسى الرضا ولى العهد 210 سنة أربع ومائتين 210 ذكر قدوم المأمون بغداد 210 سنة خمس ومائتين 211 ذكر ولاية طاهر بن الحسين خراسان 211 سنة ست ومائتين 212 ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرقة وغيرها 212 سنة سبع ومائتين 212 ذكر وفاة طاهر بن الحسين أمير خراسان واستعمال ابنه طلحة. 213 سنة ثمان ومائتين 214 سنة تسع ومائتين 214

سنة عشر ومائتين 214 ذكر ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى 215 ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل 220 ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وفتحها وفتح الإسكندرية 225 ذكر خلع أهل قم المأمون وما كان من أمرهم 228 سنة إحدى عشرة ومائتين 228 سنة اثنتى عشرة ومائتين 229 ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل 229 سنة ثلاث عشرة ومائتين 229 سنة أربع عشرة ومائتين 230 ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان 230 سنة خمس عشرة ومائتين 230 ذكر غزاة المأمون إلى الروم 230 سنة ست عشرة ومائتين 231 ذكر فتح هرقلة 231 سنة سبع عشرة ومائتين 232 سنة ثمانى عشرة ومائتين 233 ذكر المحنة بالقرآن المجيد 233 ذكر وفاة أبى العباس المأمون 237 ذكر صفته وشىء من أخباره وسيرته 239 ذكر خلافة المعتصم بالله 242 سنة تسع عشرة ومائتين 243 ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوى 243 ذكر محاربة الزط 244 سنة عشرين ومائتين 245 ذكر بناء سامرا وهى سر من رأى 245 ذكر القبض على الفضل بن مروان بن أحمد بن عمارة الوزير 246 سنة إحدى وعشرين ومائتين 247 سنة إثنتين وعشرين ومائتين 247 ذكر أخبار بابك الحرمى وفتح البذ وأسر بابك وقتله 247 سنة ثلاث وعشرين ومائتين 250 ذكر قدوم الأفشين إلى سامرا وما عامله به المعتصم 250 ذكر خروج الروم إلى زبطرة 250

ذكر فتح عمورية 251 ذكر القبض على العباس بن المأمون وحبسه والأمر بلعنه ووفاته 253 سنة أربع وعشرين ومائتين 254 ذكر مخالفة مازيار بطبرستان وأسره 254 ذكر عصيان متكجور قرابة الأفشين والظفر به 257 سنة خمس وعشرين ومائتين 258 ذكر القبض على الأفشين وحبسه ووفاته وصلبه 258 سنة ست وعشرين ومائتين 258 سنة سبع وعشرين ومائتين 259 ذكر خروج المبرقع بفلسطين 259 ذكر وفاة أبى إسحاق المعتصم وشىء من أخباره 260 ذكر خلافة الواثق بالله 262 ذكر الفتنة بدمشق 262 سنة ثمان وعشرين ومائتين 263 سنة تسع وعشرين ومائتين 263 سنة ثلاثين ومائتين 263 ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة وما كان من أمرهم 263 سنة إحدى وثلاثين ومائتين 265 ذكر خبر أحمد بن نصر بن مالك الخزاعى وما كان من أمره 265 ذكر الفداء بين المسلمين والروم 269 سنة اثنتين وثلاثين ومائتين 270 ذكر وفاة أبى جعفر الواثق وشىء من أخباره 270 ذكر خلافة المتوكل على الله 275 سنة ثلاث وثلاثين ومائتين 276 ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات 276 سنة أربع وثلاثين ومائتين 278 ذكر خبر إيتاح وابتداء أمره وقتله 278 سنة خمس وثلاثين ومائتين 280 ذكر ظهور رجل يدعى النبوة 281 سنة ست وثلاثين ومائتين 282 ذكر ما فعله المتوكل بمشهد الحسين بن على رضى الله عنهما 282

سنة سبع وثلاثين ومائتين 283 ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم 283 ذكر غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد وولاية يحيى بن أكثم القضاء 284 سنة ثمان وثلاثين ومائتين 285 ذكر مسير الروم إلى ديار مصر 285 سنة تسع وثلاثين ومائتين 286 سنة أربعين ومائتين 286 ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم 286 سنة إحدى وأربعين ومائتين 287 ذكر الفداء بين المسلمين والروم 287 ذكر غارة البجاة بمصر 288 سنة اثنتين وأربعين ومائتين 289 سنة ثلاث وأربعين ومائتين 291 سنة أربع وأربعين ومائتين 291 سنة خمس وأربعين ومائتين 291 سنة ست وأربعين ومائتين 292 سنة سبع وأربعين ومائتين 293 ذكر مقتل أبى الفضل المتوكل على الله 293 كيفية قتل المتوكل 295 ذكر خلافة المنتصر بالله 298 سنة ثمان وأربعين ومائتين 298 ذكر خلع المعتز والمؤيد 298 ذكر وفاة المنتصر بالله 300 ذكر خلافة المستعين بالله 301 سنة تسع وأربعين ومائتين 303 ذكر الفتنة ببغداد 303 ذكر قتل أوتامش الوزير 304 سنة خمسين ومائتين 305 سنة إحدى وخمسين ومائتين 306 ذكر قتل باغر التركى 306 ذكر مسير المستعين إلى بغداد 307 ذكر البيعة للمعتز بالله 308 ذكر حصار المستعين ببغداد 310

سنة اثنتين وخمسين ومائتين 312 ذكر خلع المستعين وخلافة المعتز بالله 312 ذكر أخبار المستعين بعد خلعه، وما كان من أمره إلى أن قتل، وذكر أولاده وعماله ومدة عمره وخلافته 313 ذكر حال وصيف وبغا 315 ذكر خلع المؤيد وموته 315 ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة 316 سنة ثلاث وخمسين ومائتين 316 ذكر قتل وصيف 316 ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعى سنة أربع وخمسين ومائتين 317 ذكر مقتل بغا الصغير الشرابى 317 سنة خمس وخمسين ومائتين 317 ذكر خلع المعتز بالله وموته وشىء من أخباره 318 ذكر خلافة المهتدى بالله 320 ذكر ظهور قبيحة أم المعتز بالله 320 سنة ست وخمسين ومائتين 322 ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح بن وصيف 322 ذكر قتل صالح بن وصيف 322 ذكر خلع المهتدى وموته 323 ذكر شىء من سيرة المهتدى 326 ذكر خلافة المعتمد على الله 327 ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينية 327 سنة سبع وخمسين ومائتين 328 ذكر ورود أبى أحمد الموفق من مكة وما عقد له المعتمد من الأعمال 328 سنة ثمان وخمسين ومائتين 329 سنة تسع وخمسين ومائتين 329 سنة ستين ومائتين 329 ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم 329 سنة إحدى وستين ومائتين 331 ذكر البيعة بولاية العهد للمفوض جعفر بن المعتمد وللموفق الناصر لدين الله أبى أحمد أخى المعتمد 331

سنة اثنتين وستين ومائتين 332 سنة ثلاث وستين ومائتين 333 سنة أربع وستين ومائتين 334 ذكر أخبار الوزراء 335 سنة خمس وستين ومائتين 335 سنة ست وستين ومائتين 336 سنة سبع وستين ومائتين 337 سنة ثمان وستين ومائتين 337 سنة تسع وستين ومائتين 337 ذكر مسير المعتمد على الله إلى مصر وعوده قبل الوصول إليها 337 سنة سبعين ومائتين 339 سنة إحدى وسبعين ومائتين 339 ذكر خلاف محمد وعلى العلويين بالمدينة 339 سنة إثنتين وسبعين ومائتين 340 سنة ثلاث وسبعين ومائتين 340 سنة أربع وسبعين ومائتين 340 سنة خمس وسبعين ومائتين 341 ذكر قبض الموفق على ابنه المعتضد 341 سنة ست وسبعين ومائتين 341 سنة سبع وسبعين ومائتين 342 سنة ثمان وسبعين ومائتين 342 ذكر وفاة أبى أحمد الموفق 342 ذكر البيعة للمعتضد بالله بولاية العهد 344 سنة تسع وسبعين ومائتين 344 ذكر خلع المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد، وولاية أبى العباس المعتضد بالله بن الموفق 344 ذكر وفاة المعتمد على الله وشىء من أخباره 345 ذكر خلافة المعتضد بالله 346 سنة ثمانين ومائتين 347 ذكر حبس عبد الله بن المهتدى وقتل محمد بن الحسن 347 ذكر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم وإغارته على الأعراب 347 سنة إحدى وثمانين ومائتين 348 ذكر مسير المعتضد إلى ماردين وملكها 348

سنة اثنتين وثمانين ومائتين 349 ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة 349 سنة ثلاث وثمانين ومائتين 350 سنة أربع وثمانين ومائتين 351 سنة خمس وثمانين ومائتين 352 سنة ست وثمانين ومائتين 355 سنة سبع وثمانين ومائتين 356 سنة ثمان وثمانين ومائتين 357 سنة تسع وثمانين ومائتين 357 ذكر وفاة المعتضد بالله وشىء من أخباره وسيرته 357 مراجع التحقيق 379

الجزء الثالث والعشرون

الجزء الثالث والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره] مقدمة هذا هو الجزء الحادى والعشرون من «نهاية الأرب» بتجزئة النويرى، والثالث والعشرون بالتجزئة التى يصدر بها اليوم. نختصر فى تقديمه مكتفين بما جاء قبل، مقرين بأن الطريقة هنا هى تقريبا الطريقة هناك، وأن الرجوع إلى المظان عندنا لا يختلف عن الرجوع عند غيرنا إلا فى ربط القديم بالجديد إيمانا منا بأن للتاريخ فلسفة لم يبلورها الأولون! ولقد كان العمل فى إخراج «نهاية الأرب» موكولا لأكفاء من غير شك غير أن صدور كل واحد منهم بأسلوبه الخاص أناح للجميع أن يبسطوا أديمهم ويكشفوا عن منهجهم، ومن ثم تهيأ لنا أن نتقدم بما يبيّن دورنا فى نشر هذا الجزء، وإذا كان علينا أن نقول شيئا بادئ ذى بدء قلنا إننا اعتمدنا فى نشر هذا الجزء على نسخة صوّرتها الجامعة العربية من نسخة محفوظة

تحت رقم 1369 بأمانة خزينة فى استنبول، وقد كتب فى نهايته أنه كمل «على يد مؤلفه الفقير إلى عفو ربه أحمد بن عبد الوهاب ... ووافق الفراغ منه فى يوم الثلاثاء لخمس ليال بقين من صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة» . على أن احتمال كون هذا الجزء مع ذلك بخط المؤلف هو قدر احتماله ألا يكون؛ فإن تحرّر الخط، وجودته- برغم قلة النقط. فيه- وعدم السقط، وندرة الأخطاء التى تقع عادة من الملخصين والنويرى واحد منهم ... كل ذلك كان من غير شك حافزا إلى أن نقابل هذه المصورة- وقد رمزنا لها بالحرف «ا» - بمصورتين أخريين إحداهما عن نسخة من كوبريللى بالآستانة، والأخرى عن نسخة من الفاتيكان. أما مصورة كوبريللى- ونرمز لها بالحرف «ك» وهى تحت رقم 549 بدار الكتب- فهى فى جودة الخطر الذى حررت به «ا» .. بل قد تفضلها بكثرة نقطها وإن يكن الخطأ فيها متعددا! وتمتاز بزيادات مفيدة لعل لناسخها فضل إضافتها- إن كان هذا فضلا- وتدل على حسن إدراك يرفع من قيمتها على نحو من الأنحاء، ولعل هذا هو ما حدا بنا إلى أن نجعلها فى المرتبة الثانية بعد «ا» . فإذا عرضنا لمصورة الفاتيكان 739- وهى محفوظة بدار الكتب تحت رقم 592 معارف عامة ورمزنا لها بالحرف «ف» - فكأننا نعرض للمصورة «ا» تماما.. فهى من الناحية التاريخية نسخت سنة

739 للهجرة والنويرى مات سنة 732 كما فى المنهل الصافى، وهى من الناحية الفنية لا تخرج عن الإطار الذى حدّده المؤلف لأجزائه، بل ربما وضّحت بعض الأعلام وضبطتها. نقول إن للمصورة «ف» هذه القيمة، إلا أن رداءة خطها- بالنسبة إلى نسخة المؤلف- وصغر حروفها، وعدم تحديد بدايات السنين، وضياع العناوين فى سياق الكلام.. كل أولئك يقيم شى صعوبات أمام القارىء العادى. ويحمّل ناسخها إبراهيم بن محمد ابن ناهض الحلبى بعض وزر ما كان يصرف أحدا عن الانتفاع بها كما ينبغى أن يكون الانتفاع. ومع ذلك فهى كاملة إذا قيست بغيرها من المخطوطات القديمة، وهى فى 137 صفحة مزدوجة وقفنا إزاءها وقفتنا إزاء «ا» .. فكنا نذكر رقم الصفحة الواحدة متبوعا بألف أو بباء، على حسب وقوع الكلام فيها يمينا أو شمالا؛ فذكر خلافة المتعصم بالله مثلا يقع فى صفحة 94- ا، وذكر مقتله يقع فى 94- ب، وذكر إمارة عبد الرحمن بن محمد فى صفحة 116- ا، وذكر إمارة الحكم فى 116- ب وهكذا ... والجدير بالذكر أنها، باستثناء ما ورد فى 132- ب، تخلو من العناوين الجانبية إلا ما فات من السياق؛ فكان يثبت فى الهامش على ما جاء فى 57- ب و 67- ا،، وثمة سقط. واحد فى 61- ب، لم ينوه عنه إطلاقا، ومحو بعض كلام فى 38- ب، وبقعتا حبر فى 124

يبقى بعد ذلك شىء طريف لا مندوحة عن ذكره، هو أن القارئ يجد لأحد رجال دار الكتب تعليقا ظهر الغلاف يقول: «بداية هذا الجزء توافق بداية الجزء الواحد والعشرين من تجزئة المؤلف وينتهى بنهايته، وما كتب على صفحة عنوانه تدليس» وأما ما كتب فهو «الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب» بخط يخالف خطّ المتن، ثم نرى ضربا بالحبر على كلام فى السياق يخفى شيئا أراد أحدهم ألا يصلنا. والظاهر أن هذه النسخة امتحنت مرتين، إحداهما حين نزع غلافها الأصلى وأضيف لها غلاف جديد، والأخرى حين طمس آثم جانبا أراد طمسه، واستتبع هذا إخفاء بعض سياق الخاتمة بالريشة نفسها، وهكذا يعبث بالتراث! وأخيرا، فكم كنا نحبّ ألا نختم هذه المقدمة الآن.. كنا نحب ألا نختمها حتى نستوفى الكلام على صنيع النويرى من تصنيف ورواية عمن سبقه فى حقل التاريخ كابن الأثير وابن الجوزى وابن الرفيق وابن شدّاد، بل على صنيعه إزاء بعض الحوادث دون بعض، ومروره على موقف مرّ المتعجل وتلبّثه على آخر تلبّث المتأنى.. ونستخرج خصائص تأليفه وسمات أسلوبه ونكشف عن شخصيته التى تركها على نقوله من غيره، بيد أننا رأينا أن هذا- فضلا عن أنه يحتاج إلى تفصيل كبير يحيد بهذا الجزء عن الطريق الذى رسم لإخوته. من أجل ذلك طرحنا كل شىء وفى النفس أن نعود إلى المؤلّف فى مكان آخر وبدراسة أوفى.. نبين فيها ما نريد،

ونوسع ما يضيق عنه المجال هنا، غير أننا تأمل أن تكون إشاراتنا فى الهوامش لبعض ما وقف عنده النويرى دليلا على خطره هو بين الموسوعيين الذين تفخز بهم عربيتنا على الأجيال. إن هذا الرجل أحد المصريين القلائل الذين جمعوا إلى فن الكتابة صناعات أخر، وفى ظلّ السلطان الملك الناصر باشر نظر الجيش وتولى ديوان الدقهلية والمرتاحية، ورصد تاريخا يعتبر إلى الآن من أهم المراجع كما يقول فازيليف. دكتور أحمد كمال زكى

ذكر خلافة المكتفى بالله

ذكر خلافة المكتفى بالله هو أبو محمد علىّ بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفّق بالله أبى أحمد بن المهدىّ- وهو الملقب بالناصر لدين الله- بن المتوكّل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد أبى محمد بن المهدىّ أبى عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ ابن عبد الله ابن عباس، رضى الله تعالى عنهم أجمعين «1» . وأمّه خاضع أمّ ولد وتلقّب جيجك «2» ، وقيل اسمها جنجورا، وهو الخليفة السابع عشر من الخلفاء العباسيين. بويع له يوم الإثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين-

ذكر قتل بدر غلام المعتضد بالله

وكان إذ ذاك بالرقة- فبايع له الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ابن وهب، وكتب له يعلمه بوفاة أبيه وأخذ البيعة له. فلما وصله الخبر، أخذ البيعة على من عنده من الأجناد، ووضع لهم العطاء، وسار إلى بغداد، ووجّه إلى النواحى بديار ربيعة ومضر ونواحى العرب «1» من يضبطها. ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأولى، فلما صار إلى منزله أمر بهدم المطامير التى. كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم ذكر قتل بدر غلام المعتضد بالله وكان سبب قتله أنّ القاسم- الوزير- كان قد همّ بنقل الخلافة إلى غير ولد المعتضد بعده، فقال لبدر ذلك فى حياة المعتضد بعد أن استحلفه أن يكتم عليه فقال بدر: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاى وولىّ نعمتى! فلم يمكنه مخالفته لأنه صاحب الجيش، وحقدها عليه فلما مات المعتضد كان بدر بفارس فعقد القاسم البيعة للمكتفى، وعمل على هلاك بدر خوفا على نفسه أن يذكر للمكتفى ما كان منه. وكان المكتفى مباعدا لبدر فى حياة المعتضد، فوجّه إلى القوّاد الذين مع بدر يأمرهم بمفارقته والمصير إليه، ففارقه جماعة وأقبلوا إلى المكتفى فأحسن إليهم. وسار بدر إلى الموصل وواسط فوكل المكتفى بداره، وقبض

على أصحابه وقواده فحبسهم، وأمر بمحو اسمه من الأعلام والتّراس «1» . وسير الحسن بن على إلى كورة «2» واسط فى جيش، وأرسل بدر يعرض عليه أىّ النواحى شاء، فأبى ذلك وقال: لا بدّ من المصير إلى باب مولاى! فوجد القاسم مساغا للقول «3» ، وخوّف المكتفى غائلته. وبلغ بدرا ما فعل بأصحابه فأرسل من يأتيه بولده هلال سرّا، فعلم الوزير بذلك فاحتاط عليه، ودعا قاضى الجانب الشرقىّ وأمره بالمسير إلى بدر وأن يطيّب قلبه عن المكتفى ويعطيه الأمان على نفسه وولده وماله، فقال القاضى أبو حازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين! فصرفه ودعا أبا عمر القاضى، وأمره بمثل ذلك فأجابه، وسار بكتاب الأمان. فسار بدر عن واسط إلى إلى بغداد فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتل سأله المهلة إلى أن يصلّى ركعتين، فأمهل حتى صلاهما. وضربت عنقه يوم الجمعة لستّ خلون من رمضان، وأخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجّه عياله من أخذها سرا وجعلوها فى تابوت، فلما كان وقت الحجّ حملوها إلى مكة فدفنوها بها- وكان أوصى بذلك- وأعتق كلّ مملوك له. ورجع أبو عمر إلى داره كئيبا لما كان منه، وقال الناس فيه الشعر، فمن ذلك قول بعضهم:

قل لقاضى مدينة المنصور ... كيف أحللت أخذ رأس الأمير «1» عند إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأيمان فى منشور «2» أين أيمانك التى شهد اللّ ... هـ على أنها يمين فجور إنّ كفيك لا تفارق كفّي ... هـ إلى أن ترى مليك السرير «3» يا قليل الحياء يا أكذب الأم ... ة.. يا شاهدا شهادة زور ليس هذا فعل القضاة ولا يح ... سن أمثاله ولاة الجسور أىّ أمر ركبت فى الجمعة الزّه ... راء منه فى خير هذى الشهور «4» قد مضى من قتلت فى رمضان ... صائما بعد سجدة التغفير يا بنى يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم فى غرور بدّد الله شملكم وأرانى ... ذلّكم فى حياة هذا الوزير فأعدوا الجواب للحكم العا ... دل من بعد منكر ونكير «5» أنتم كلكم فداء أبى حا ... زم المستقيم كلّ الأمور «6» وفيها «7» لحق إسحاق الفرغانى- وهو من أصحاب بدر-

بالبادية وأظهر الخلاف على الخليفة المكتفى، فحاربه أبو الأغرّ «1» فهزمه إسحاق وقتل جماعة من أصحابه. وفيها خلع المكتفى على هلال بن بدر وغيره من أصحاب أبيه فى جمادى الأولى. وفيها فى فصل الصيف هبت ريح باردة بحمص وبغداد من جهة الشمال، فبرد الوقت واشتد البرد حتى جمد الماء، واحتاج الناس إلى النار. وفيها هبت ريح عاصفة بالبصرة قلعت كثيرا من نخلها، وخسف بموضع هلك فيه. ستون ألف نفس. وزلزلت بغداد فى شهر رجب عشر مرات فتضرّع الناس فى الجامع فسكنت. وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى «2» ودخلت سنة تسعين ومائتين: فى هذه السنة اشتد أمر القرامطة، فجاء أهل الشام ومصر إلى المكتفى يشكون ما يلقون من القرمطى «3» من الأسر والسّبى والتخريب؛ فأمر الجند بالتأهب، وخرج من بغداد فى شهر رمضان، وقدم بين يديه أبا الأغرّ فى

عشرة آلاف، وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل. فنزل أبو الأغرّ بالقرب من حلب «1» ، فكبسهم القرمطى صاحب الشامة «2» فقتل منهم خلقا كثيرا. ودخل أبو الأغر حلب فى ألف رجل وذلك فى شهر رمضان، وسار القرمطى إلى باب حلب فحاربه أبو الأغرّ بمن بقى معه وأهل البلد، فرجع عنهم. وسار المكتفى حتى نزل الرّقّة، وسيّر الجيوش إليه وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب، وكان للقرامطة حروب كثيرة ووقائع نذكرها- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «3» . وفيها أراد المكتفى البناء بسامرّاء، وخرج إليها ومعه الصناع فقدّروا ما تحتاج إليه فكان ما لا جزيلا، فعظّم الوزير ذلك عليه وصرفه عنها، ورجع إلى بغداد.. وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله العباسى. ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين: فى هذه السنة سار من طرسوس غلام زرافة «4» نحو بلد الروم ففتح مدينة أنطاكية عنوة بالسيف؛ فقتل خمسة آلاف وأسر نحوهم، واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف، وأخذ لهم ستين مركبا حمّلها ما غنم من الأموال، وقدّر نصيب كلّ رجل فكان ألف دينار.

وفيها مات الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان «1» . وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين: فى هذه السنة انقرضت الدولة الطولونية، واستولى المكتفى بالله على ما بأيديهم بمصر والشام. وأرسل محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر بمواطأة قوّاد هارون بن خمارويه فتوجّه، وقاتله هارون فقتل هارون، واستولى ابن سليمان على مصر، على ما نذكر ذلك مبيّنا- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة الطولونية. قال» : وكتب ابن سليمان بالفتح إلى المكتفى بالله، فأمر باشخاص آل طولون إلى بغداد ففعل ذلك، وولى معونة مصر عيسى النّوشرى. ثم ظهر بمصر رجل يعرف بالخليجى «3» - وهو من قواد الدولة الطولونية- فخالف على الخليفة وكثر جمعه، وعجز النّوشرىّ عنه فتوجّه إلى الإسكندرية، ودخل إبراهيم الخليجى مصر. فسيّر إليه المكتفى الجنود مع فاتك «4» - ولى المكتفى- وبدر الحماص، فساروا فى شوّال فوصلوا حدود مصر

فى صفر سنة ثلاث وتسعين «1» . وتقدّم أحمد بن كيغلغ فى جماعة من القواد، فلقيهم الخليجى فهزمهم بالقرب من العريش أقبح هزيمة. فندب من بغداد جماعة من القوّاد فيهم إبراهيم بن كيغلغ، فخرجوا فى شهر ربيع الأول. وبرز المكتفى إلى باب الشّمّاسية «2» يريد المسير لحرب الخليجى لما/ بلغه من قوّته- وكان ذلك فى شعبان- فورد كتاب فاتك فى شعبان أن «القوّاد رجعوا إلى الخليجى وقاتلوه أشدّ قتال، وكانت بينهم حروب آخرها أنه انهزم ودخل فسطاط مصر واستتربها، ودخل عسكر الخليفة المدينة وظفروا به، وحبس هو ومن استتر عنده» . فكتب المكتفى إلى فاتك بحمله ومن معه إلى بغداد، فوصلوا بغداد فى شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، ودخل المكتفى بغداد وأمر بردّ خزائنه وكانت قد بلغت تكريت «3» . وصيها- أعنى سنة اثنتين وتسعين أخذ بالبصرة رجل دكر أنه أراد الخروج، وأخذ معه ولده وتسعة وثلاثون رجلا، وحملوا إلى بغداد وهم يستغيثون ويحلفون أنهم براء «4» ، فأمر المكتفى بحبسهم

وفيها أغار أندرونقس «1» الرومى على مرعش «2» ونواحيها، فنفر أهل المصيصة وطرسوس فأصيب أبو الرجال بن أبى بكار فى جماعة من المسلمين. فعزل الخليفة أبا العشائر عن الثغور واستعمل عليهم رستم بن بدر «3» ، وافتدى رستم فكان جملة من فودى به المسلمون ألف نفس ومائتى نفس. وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله. وفيها كان ابتداء إمارة بنى حمدان بالموصل، وذلك أن المكتفى بالله ولّى على الموصل وأعمالها أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبىّ العدوىّ «4» ، فقدمها فى المحرم، وخرج فى اليوم الثانى من مقدمه لقتال الأكراد على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الحمدانية. ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين: فى هذه السنة كان الظّفر بإبراهيم الخليجى المغلّب على ديار مصر، وقد ذكرنا ذلك فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين.

وفيها أغارت الروم على قورس- من أعمال حلب- فقاتلهم أهلها قتالا شديدا، ثم انهزموا وقتل كثير منهم «1» . ودخل الروم قورس، وأحرقوا جامعها، وأخذوا من بقى من أهلها. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الملك الهاشمى. ودخلت سنة أربع وتسعين ومائتين: فى هذه السنة قتل زكرويه رئيس القرامطة على ما نذكره إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «2» وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبيا، ودوابّ ومتاعا، ودخل بطريق من بطارقة الروم فى الأمان فأسلم. وغزا ابن كيغلغ أيضا فبلغ شلندوا «3» وافتتح اللّيس «4» فغنم نحوا من خمسين ألف رأس، وقتل

مقتلة عظيمة، وانصرف ومن معه سالمين. وكاتب أندرونقس البطريق المكتفى بالله فى طلب الأمان فأعطاه ما طلب- وكان على حرب الثغور من قبل ملك الروم- فخرج ومعه نحو من مائتى ألف أسير «1» من المسلمين فى السلاح، فقبضوا على بطريق كان ملك الروم أرسله ليقبض على أندرونقس- ليحاربوه- فسار إليه جمع من المسلمين لإغاثته، فبلغوا قونية «2» وانصرف الروم عنه. وسار جماعة من المسلمين إلى أندرونقس وهو فى حصنه، فخرج إليهم ومعه أهله، وسار معهم إلى يطلب وخرّب المسلمون قونية، فأرسل ملك الروم إلى الخليفة يطلب الفداء. وحج بالناس الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة خمس وتسعين ومائتين: فى هذه السنة كانت وفاة إسماعيل بن أحمد السامانى أمير خرسان وما وراء النهر وقام بعده ابنه أحمد على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «3»

ذكر وفاة المكتفى بالله

ذكر وفاة المكتفى بالله كانت وفاة المكتفى ببغداد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وطالت مرضته عدّة شهور، ولما مات دفن بدار محمد بن عبد الله بن طاهر. وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، واختلف فيه إلى إحدى وثلاثين سنة وشهور «1» ، وكانت مدة خلافته ستّ سين وستّة أشهر وعشرين يوما. وكان أسمر أعين «2» ، قصيرا، حسن اللحية والوجه. وهو الذى بنى/ جامع القصر بمدينة السلام- وكان موضعه مطامير فغطاها- وبنى تاج دار الخلافة على دجلة. وأنفق الأموال العظيمة فى حرب القرامطة، وكان نقش خاتمه «بالله يثق علىّ بن أحمد» . أولاده: المستكفى بالله، وثمانية ذكور. وزراؤه: القاسم بن عبيد الله، ثم أبو العباس بن الحسن بن أيوب بن سواد جرجرايا «3» ، وهو أوّل وزير منع أصحاب الدواوين الوصول إلى الخليفة.

ذكر خلافة المقتدر بالله

قضاته: أبو حازم، ثم يوسف بن يعقوب، ثم أبو عمر بن على بن أبى الشوارب حاجبه: خفيف السمرقندى. الأمراء بمصر: هارون بن خماروية، ثم سنان بن أحمد بن طولون بمبايعة الجند له، ثم محمد بن سليمان الكاتب دبّرها إلى أن قدم- بأمر المكتفى- عليها عيسى بن محمد النوشرى. القضاة بها: أبو زرعة وأبو عبيدة مستتر إلى أن قدم محمد بن سليمان، فظهر أبو عبيدة بعد استتاره عشر سنين، وعاد إلى القضاء والله أعلم! ذكر خلافة المقتدر بالله هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد- وقد تقدّم ذكر نسبه- وأمّه أمّ ولد اسمها شغب! وهو الثامن عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وعمره يومذاك ثلاث عشرة سنة. قال ابن الأثير «1» : كان سبب ولاية المقتدر أنّ المكتفى لما ثقل مرضه فكّر الوزير أبو العباس بن الحسن فيمن يصلح للخلافة، فاستشار محمد بن داود الجراح فى ذلك فأشار بعبد

الله بن المعتز ووصفه بالعقل والرأى والأدب، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات «1» فامتنع، وقال: هذا شىء ما جرت عادنى أشير به، وإنما أشاور فى العمال لا فى الخلفاء! فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة وليس يخفى عليك الصحيح! وألحّ عليه فقال: إن كان رأى الوزير قد استقرّ على أحد فليفعل. فعلم أنه عنى ابن المعتز لاشتهار خبره، فقال الوزير: لا أقنع إلا أن تمحضنى «2» النصيحة! وألحّ عليه فقال ابن الفرات: فليتّق الله الوزير ولا ينصب إلا من قد عرفه واطّلع على جميع أحواله، ولا ينصب بخيلا فيضيّق على الناس ويقطع أرزاقهم، ولا طامعا فيشره فى أموالهم فيصادرهم ويأخذ أملاكهم وأموالهم، ولا قليل الدّين فلا يخاف العقوبة والآثام ويرجو الثّواب فيما يفعله، ولا من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وضيعة هذا وفرس هذا، ومن قد لقى الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه وتحنّك وحسب حساب الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم! فقال الوزير: صدقت ونصحت، فيمن تشير؟ قال: أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد بالله. قال: ويحك هو صبى! قال: إلا أنه ابن المعتضد، ولم نأتى برجل يباشر الأمور

بنفسه غير محتاج إلينا؟ فمالت نفس الوزير إلى ذلك، وانضاف إليه وصيّة المكتفى له بالأمر. فلما مات المكتفى بالله أرسل الوزير صافيا الحرمىّ «1» ليحدر المقتدر من داره الغربى. فركب فى الحراقة «2» وانحدر. فلما صارت الحرّاقة مقابل دار الوزير صاح غلمان الوزير بالملّاح ليدخل إلى دار الوزير، فظنّ صافى الحرمىّ أنه يريد القبض على جعفر وينصب فى الخلافة غيره، فمنع الملّاح من ذلك. وسار إلى دار الخلافة وأخذ له صافى البيعة على جميع الخدم وحاشية الدّار، ولقب نفسه المقتدر بالله ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه ثم جهزوا- جماعة الكتاب- المكتفى ودفنوه. قال «3» : وكان فى بيت المال حين بويع خمسة عشر ألف ألف دينار، فأطلق يد الوزير فى بيت المال فأخرج حقّ البيعة! قال: ثم استصغر الوزير المقتدر، فعزم على خلعه وتقليد الخلافة أبا عبد الله بن المعتمد على الله. فراسله فى ذلك واستقرّت الحال، وانتظر الوزير قدوم بارس «4» حاجب إسماعيل صاحب

ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز

خراسان، وكان قد أذن له فى القدوم وأراد أن يستعين به على ذلك ويتقوّى به على غلمان المعتضد بالله، فتأخّر بارس. واتّفق أنه وقع بين أبى عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه- صاحب الشرطة- منازعة فى ضيعة مشتركة بينهما، فأغلظ له ابن عمرويه، فغضب ابن المعتمد غضبا شديدا وأغمى عليه، وفلج فى المجلس فحمل إلى بيته فى محفّة فمات فى اليوم الثانى. فأراد الوزير البيعة لأبى الحسن بن المتوكل فمات أيضا بعد خمسة أيام، وتمّ أمر المقتدر. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمى ودخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين: ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز وانتقاض ذلك وعودة المقتدر ووفاة عبد الله بن المعتزّ قال «1» : وفى هذه السنة اجتمع القوّاد والقضاة والكتاب مع الوزير «2» على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتز بالله. وأرسلوا إلى عبد الله بن المعتز فأجابهم إلى ذلك على أن لا يكون فيه سفك دم ولا حرب، فأخبروه أنّ كلمتهم اجتمعت عليه، وأنه ليس له منازع ولا محارب. وكان القائم فى ذلك الوزير المذكور ومحمد

ابن داود الجراح وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضى، ومن القوّاد الحسين بن حمدان وبدر الأعجمى ووصيف بن صوار تكين ثم إن الوزير رأى أمره صالحا مع المقتدر، وأنه على ما يحب، فبدا له فى ذلك فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذى تولّى قتله منهم الحسين بن حمدان وبدر الأعجمى ووصيف.. لحقوه وهو سائر إلى بستان له فقتلوه، وقتلوا معه فانكا المعتضدى، وذلك فى العشرين من شهر ربيع الأول، وخلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتز. وركض الحسين بن حمدان إلى الحلبة «1» ظنا منه أن المقتدر يلعب هناك بالكرة فيقتله، فلم يصادفه لأنه لما بلغه قتل الوزير ركض دابته «2» ودخل الدار. وغلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر! وأحضروا ابن المعتز وبايعوه بالخلافة، وتولى أخذ البيعة له محمد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس والقواد وأصحاب الدواوين سوى أبى الحسن بن الفرات وخواصّ المقتدر فإنهم لم يحضروا. ولقّب ابن المعتزّ المرتضى بالله «3» أبا العباس عبد الله بن المعتز. ووجه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر- التى كان

بها قبل الخلافة- لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال الى الليل: وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد إلى دار الخلافة فقاتله الخدم والعلمان والرّجّالة «1» /من وراء السور عامة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار. فلما جنّه الليل «2» سار عن بغداد بأهله وماله الى الموصل لا يدرى لم فعل ذلك؟ ولم يكن قد بقى مع المقتدر من القوّاد غير مؤنس الخادم ومؤنس وغريب الخال «3» وحاشية الدار. فلما همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نبلى عدوا «4» ونجتهد فى دفع ما أصابنا! فاجتمع رأيهم على أن يصعدو فى الماء إلى الدار التى فيها ابن المعتز يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديات «5» وركبوا السميريات «6» . فلما رآهم من عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان ما يريد يجرى، فلهذا هرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر. ولما رأى عبد الله بن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمد بن داود وهربا،

وغلام له ينادى: يا معشر العامة ادعوا لخليفتكم السّنىّ اليربهارى! وإنما نسبه لذلك لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهارى كان مقدّم الحنابلة والسّنّة من العامة ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول. ثم إنّ ابن المعتزّ ومن معه ساروا نحو الصحراء ظنّا منهم أنّ من بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد. فرجعوا،/ واختفى محمد بن داود فى داره، ونزل ابن المعتزّ عن دابته ومعه غلامه يمن، وانحدرا إلى دار عبد الله بن الجصّاص، فاستجارا به. واستتر أكثر من بايع ابن المعتز، ووقعت الفتنة والنّهب والقتل ببغداد، وثار العيارون والسّفلة «1» ينهبون الدّور. وكان ابن عمرويه- صاحب الشرطة- ممن بايع ابن المعتزّ، فلما هرب جمع ابن عمرويه أصحابه ونادى بشعار المقتدر يدلّس بذلك فناداه العامّة: يا مراء يا كذاب! وقاتلوه، فهرب واستتر وتفرّق أصحابه. وقلّد المقتدر فى تلك الساعة الشرطة مؤنسا الخازن، وخرج بالعسكر وقبض على.. وصيف بن صوار تكين وغيره، فقتلهم.

وقبض على القاضى أبى المثنّى أحمد بن يعقوب فقتله لأنه قيل له «بايع المقتدر» فقال: لا أبايع صبيا! فذبح، وأرسل المقتدر إلى أبى الحسن على بن الفرات- وكان مختفيا- فأحضره، واستوزره، وخلع عليه. وكان فى هذه الحادثة عجائب منها أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتزّ، فلم يتم ذلك، بل كان بالعكس. ومنها أنّ ابن حمدان على شدّة تشيّعه يسعى فى البيعة لابن المعتزّ على غلوّه فى النّصب «1» . ثم إن خادما لابن الجصاص- يعرف بسوسن «2» - أخبر صافيا الحرمى أن ابن المعتز عند مولاه ومعه جماعة، فكبست داره وأخذ ابن المعتزّ منها/ وحبس إلى الليل، ثم عصرت خصيتاه حتى مات وسلّم إلى أهله «3» . وصودر ابن الجصّاص على مال كثير، وأخذ محمد بن داود وزير المعتزّ فقتل، ونفى علىّ بن عيسى إلى واسط، وصودر القاضى أبو عمرو على مائة ألف دينار، وسيّرت العساكر من بغداد فى طلب الحسين بن حمدان، فتبعوه إلى الموصل ثم إلى بلده، فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد. وأخذ الوزير الجرائد التى كان فيها أسماء من أعان

على المقتدر فغرّقها فى دجلة، وبسط ابن الفرات العدل والإحسان وأخرج الإدارات للطالبيين والعباسيين. وأرضى القواد بالأموال، ففرّق معظم ما كان فى بيوت الأموال وفى هذه السنة كان ابتداء ظهور الدولة العبيدية المنسوبة للعلوية بأفريقية على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «1» . وفيها سيّر المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فى طلب الحسين بن حمدان، فساروا حتى بلغوا قرقيسيا فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان- وهو الأمير على الموصل- يأمره بطلب أخيه الحسين. فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تكريت فانهزم الحسين، وأرسل أخاه إبراهيم بن حمدان يطلب له الأمان فأجيب إلى ذلك، ودخل بغداد وخلع عليه وعقد له على قم وقاجان «2» فسار إليهما. / وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانى، وقلّد ديار ربيعة. وفيها خلع على المظفر مؤنس الخادم، وأمر بالمسير إلى غزو

الروم. فسار فى جمع كثيف فغزا من ناحية ملطية «1» ومعه أبو الأغرّ السّلمى، فظفر وغنم، وأسر منهم جماعة، وعاد. وفيها قلّد يوسف بن أبى الساج «2» أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار. وفيها أمر المقتدر أن لا يستعان بأحد من اليهود والنّصارى، فألزموا بيوتهم، وأخذوا بلبس العسلىّ «3» و [تعليق] «4» الرّقاع من خلف ومن قدام، وأن يكون ركبهم خشنا. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين: فى هذه السنة وجه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة «5» ، وحجّ بالناس، الفضل بن عبد الملك. وفيها مات عيسى النّوشرى- أمير مصر- واستعمل المقتدر

تكين «1» الخادم، وخلع عليه فى منتصف رمضان. وقال أبو الفرج بن الجوزى «2» فى حوادث هذه السنة «قال ثابت بن سنان رأيت فى صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفّان بأصابع تامة متعلقة فى رأس كتفيها لا تعمل بهما/ شيئا وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، ورأيناها تغزل برجليها وتمدّ الطاقة وتسوّيها- قال- ورأيت امرأة أخرى بعضدين وذراعين وكفّين إلا أنّ كلّ واحد من الكفين ينخرط ويدقّ إذا فارق النّهدين حتى ينتهى إلى رأس دقيق يمتدّ ويصير إصبعا واحدة، وكذلك رجلها على هذه الصورة، ومعها ابن لها على مثل صورتها!» ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين: فى هذه السنة جعلت أم موسى الهاشمية قهرمانة دار «3» المقتدر بالله، فكانت تؤى الرسائل عن المقتدر بالله وأمّه إلى الوزراء. ثم صار لها [أن] «4» تحكم كثيرا فى الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمى. ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين:

ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانى

ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانى فى هذه السنة قبض المقتدر بالله على وزيره ابن الفرات، ووكل بداره، وهتك حرمه، وهب أمواله ودور أصحابه ومن يتعلّق به فافتتنت بغداد لقبضه، وكانت مدة وزارته- وهى الأولى- ثلاث سنين وثمانية أشهر/، وثلاثة عشر يوما. وقلد أبو على محمد بن يحيى بن عبيد الله بن خاقان الوزارة، فرتّب أصحاب الدواوين، وتولى مناظرة ابن الفرات «1» . ثم انجلت أمور الخاقانى لأنه كان ضجورا «2» ضيّق الصدر، مهملا لقراءة كتب العمال، وجباية الأموال، وكان يتقرّب إلى الخاصة والعامة؛ فكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامة يصلون- جماعة- ينزل ويصلّى معهم، وإذا سأله أحد حاجة دقّ صدره وقال: نعم وكرامة! فسمّى «دقّ صدره» إلا أنه قصّر فى إطلاق الأموال للقوّاد والفرسان فنفروا عنه. وكان أولاده قد تحكّموا عليه وكلّ منهم يسعى لمن يرتشى منه؛ فكان يولّى فى الأيام القليلة عدّة من العمال حتى إنه ولّى ماه الكوفة «3» فى مدة عشرة أيام «4» سبعة من العمال،

فاجتمعوا فى الطريق فعرضوا توقيعاتهم، فسار الأخير وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده، فقيل فى ذلك: وزير قد تكامل فى الرقاعه ... يولّى ثم يعزل بعد ساعه «1» إذا أهل الرّشا اجتمعوا لديه ... فخير القوم أوفرهم بضاعه «2» وليس يلام فى هذا بحال ... لأنّ الشيخ أفلت من مجاعه «3» قال «4» : ثم زاد الأمر حتى تحكّم أصحابه، فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال؛ فانحلّت القواعد، وخبثت النيات/ واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم والرجوع إلى قول النساء والخدم والتصرف على مقتضى إرادتهم، فخرجت الممالك وطمع العمّال فى الأطراف، فصار مآل الأمر إلى ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال «5» : ثم أحضر المقتدر الوزير ابن الفرات من محبسه، وجعله فى حجرة- من ضمن الحجر- مكرّما، فكان يعرض عليه مطالعات العمال وغير ذلك بارّا به بعد أن أخذ أمواله. وفى هذه السنة غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية

طرسوس «1» ومعه دميانة «2» ، فحصر حصن مليح الأرمنى، ثم دخل بلده وأحرقه. قال ابن الجوزى «3» : وفى هذه السنة ورد من مصر أربعة أحمال مال، وقيل إنه وجد هناك كنز قديم. وكان معه ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا فى عرض شبر، وزعمو أنه من قوم عاد.. وكان مبلغ المال خمسمائة ألف دينار، وكان مع ذلك هدايا عجيبة- قال- وذكر الصولى أنه كان فى الهدايا تيس له ضرع يحلب اللبن ووردت رسل أحمد بن إسماعيل بهدايا فيها بدنة «4» مرصّعة بفاخر الجوهر، وتاج من ذهب مرصّع بجوهر له قيمة كبيرة، ومناطق ذهب مرصعة، وخلع سلطانية فاخرة، وربعة ذهب مرصعة فيها شمّامات مسك وعنبر كلّه مرصع، وعشر/ أفراس بسروجها ولاحداها سرج ذهب. ووردت هدايا ابن أبى السّاج وهى أربعمائة دابّة وثمانون ألف دينار وفرش أرمنى لم ير مثله، فيه بساط طوله سبعون ذراعا فى عرض ستين، لا قيمة له! وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. ودخلت سنة ثلاثمائة من الهجرة النبوية

ذكر عزل الخافانى عن الوزارة

ذكر عزل الخافانى عن الوزارة وزارة علىّ بن عيسى فى هذه السنة ظهر للمقتدر بالله تخليط الخاقانىّ وعجزه عن الوزارة، فأراد عزله وإعادة أبى الحسن بن الفرات، فمنعه مؤنس الخادم وقال له: متى أعدته ظنّ النّاس أنّك إنما قبضت عليه شرها فى ماله! وأشار عليه باستدعاء علىّ بن عيسى من مكة وتقليده الوزارة وشكره مؤنس الخادم وأثنى عليه. فأمر المقتدر باحضاره، فوصل إلى بعداد فى أوّل سنة إحدى وثلاثمائة، فجلس فى الوزارة وسلّم إليه الخاقانىّ فأحسن إليه ووسّع عليه. ولما تولّى علىّ بن عيسى لازم العمل والنظر فى الأمور وردّ المظالم، وأطلق من المكوس شيئا كثيرا، وأسقط زيادات كان الخاقانى قد زادها/ للجند؛ لأنه عمل معدّل الدّخل والخرج فرأى الخرج أكثر من الدّخل، فأسقط الزيادات. وأمر بعمارة المساجد والجوامع وتبييضها وبسطها بالحصر وإشعال الأضواء فيها. وأمر بإصلاح البيمارستانات وعمل ما تحتاج إليه، وغير ذلك من وجوه البر والقربات «1» . قال «2» : ولما عزل الخاقانى أكثر الناس التزوير على خطّ الخاقانىّ بصلات وإدرارات، فنظر علىّ بن عيسى فى ذلك فأنكر

الخطوط وأراد إسقاطها، فخاف ذمّ الناس، فأنفذها للخاقانىّ فقال: كلّها خطّى وأنا أمرت بها فلما عاد الرسول إلى علىّ بن عيسى قال: والله لقد كذب، وقد علم المزوّر من غيره ولكنه اعترف بها لتحمده الناس ويذمونى! وأمر بإحراقها «1» ، وقال الخاقانىّ لولده: يا بنى، هذه ليست خطى ولكنه أنفذها إلىّ وقد عرف الصحيح من السقيم وأراد أن نأخذ الشّوك بأيدينا ويبغضنا إلى النّاس، وقد علمت مقصوده، وعكسته عليه! قال ابن الجوزىّ «2» : وفيها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بانخساف جبل بالدّينور يعرف بالتل وخرج من تحته ماء كثير أغرق عدّة من القرى، ووصل الخبر بانخساف قطعة عظيمة من جبل لبنان وسقوطها فى البحر «3» . وفى هذه السنة خرج أهل صقيلة عن طاعة المهدىّ صاحب/ أفريقية، وخطب للمقتدر بالله بها. وكان الذى قام بهذه الدعوة أحمد بن قرهب، فسيّر إليه الخلع السّود والألوية، ثم خرج أهل الجزيرة عليه وقبضوه وبعثوه للمهدى فقتله. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة إحدى وثلا ثمائة: وفى هذه السنة خلع المقتدر بالله على ابنه أبى العباس وقلّده أعمال مصر والمغرب وعمره أربع

سنوات، واستخلف [له] «1» على مصر مؤنس الخادم. وهذا أبو العباس الذى ولى الخلافة بعد القاهر ولقّب الراضى بالله على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وخلع أيضا على ابنه على وولاه الرىّ «2» ودنباوند «3» وقزوين وزنجان «4» وأبهر «5» . وفيها خالف أبو الهيجاء بن حمدان بالمؤصل على المقتدر بالله، فسير إليه المظفّر مؤنسا، فأتاه ابن حمدان مستأمنا، وورد [مؤنس] «6» معه إلى بغداد فخلع المقتدر عليهما. وفيها استولى الحسن بن علىّ بن عمر بن الحسين بن علىّ على برسنان، وتلقّب بالناصر على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الطالبيين. وفيها جهّز المهدىّ- صاحب أفريقية- العساكر مع ابنه القائد إلى الديار المصرية، فسار إلى برقة واستولى عليها، وسار إلى مصر فملك الإسكندرية والفيوم، وصار فى يده أكثر البلاد فسيّر المقتدر لحربه مؤنسا الخادم فى جيش كثيف،/ فحارب عساكر

المهدىّ وأجلاهم عن الديار المصرية، فعادوا إلى المغرب منهزمين. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك أيضا ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة: فى هذه السنة أمر المقتدر بالقبض على أبى عبد الله الحسين بن عبد الله الجوهرىّ المعروف بابن الجصاص وأخذ ما فى بيته من صنوف الأموال؛ فأخذ منه ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وكان هو يدّعى أن ما أخذ منه عشرون ألف ألف دينار، وأكثر من ذلك «1» . وفيها أنفذ الملقّب بالمهدى- صاحب أفريقية- جيشا إلى الد يار المصرية مع قائد من قواده يقال له حباسة «2» فى البحر، فغلب على الاسكندرية ثم سار منها إلى مصر. فأرسل المقتدر لحربه مؤنسا الخادم فى عسكر فالتقوا فى جمادى الأولى واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين وجرح خلق كثير. ثم كانت بينهم وقعة ثانية، ثم وقعة ثالثة ورابعة انهزم فيها المغاربة وقتل منهم وأسر سبعة آلاف وذلك فى سلّخ جمادى الآخرة. وعاد من بقى إلى المهدى فقتل حباسة.

ذكر خروج الحسين بن حمدان

وفيها غزا بشر الخادم والى طرسوس بلاد الروم، ففتح فيها وغزا وسبى وأسر مائة وخمسين بطريقا، وكان السّبى نحوا من ألفى رأس. وفيها قلّد أبو الهيجاء [عبد الله] بن حمدان الموصل [والجزيرة] «1» /قال ابن الجوزى «2» : وفيها فى جمادى الأولى ختن المقتدر خمسة أولاد له، ونثر عليهم خمسة آلاف دينار ومائة ألف درهم ورقا- قال- ويقال إنه بلغت النفقة فى هذا الختان ستمائة ألف دينار، وختن قبل ذلك جماعة من الأيتام وفرّقت فيهم دراهم كثيرة. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمى. ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة: ذكر خروج الحسين بن حمدان عن طاعة المقتدر فى هذه السنة خرج الحسين بن حمدان بالجزيرة عن الطاعة، وسبب ذلك أن الوزير علىّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة- وهو يتولّاها- فدافعه فأمر بتسليم البلاد إلى العمال، فامتنع، فجهّز الوزير رائقا الكبير فى جيش لمحاربته، وكتب إلى مؤنس الخادم- وهو بمصر- يأمره بالمسير إلى الجزيرة لقتال ابن حمدان بعد فراغه من أصحاب المهدىّ. فسار رائق إلى الحسين بن حمدان

فالتقيا واقتتلا قتلالا شديدا، فانهزم رائق، وغنم الحسين سواده، وسار رائق إلى مؤنس فأمره بالمقام بالموصل، وجدّ مؤنس فى السّير فى طلب الحسين. فلما قارب منه راسله الحسين واعتذر وتكرّرت الرسائل بينهما، فلم يستقر حال. فرحل مؤنس نحو الحسين، فسار إلى أرمينية بثقله وأولاده، وتفرق عسكر الحسين عنه، وصاروا إلى مؤنس. ثم جهز مؤنس جيشا فى أثره مقدّمهم يلبق «1» فتبعوه إلى تلّ فافان، فإذا هى خاوية على عروشها قد قتل أهلها، وأحرقها فجدّوا فى اتّباعه، فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقى معه من أصحابه، وأسر هو وابنه عبد الوهاب وجميع أهله وأكثر من صحبه وقبض أملاكهم. وعاد مؤنس إلى بغداد على طريق الموصل والحسين معه، فأركب على جمل هو وابنه وعليهما اللّبود «2» الطّوال وقمصان من شعر أحمر. وحبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبى الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحبسوا. وكان بعض أولاد الحسين بن حمدان قد هرب فجمع جمعا ومضى نحو آمد «3» ، فأوقع بهم مستحفظها وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.

ذكر وزارة ابن الفرات الثانية

وفيها خرج مليح الأرمنى إلى مرعش، فعاث فى بلدها، وأسر جماعة ممّن حولها. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة أربع وثلاثمائة: ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل على بن عيسى/ فى هذه السنة فى ذى الحجة عزل على بن عيسى عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن على بن الفرات. وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن الفرات كان محبوسا، وكان المقتدر بالله يشاوره فى الأمور وهو فى محبسه، ويرجع إلى قوله. وكان على بن عيسى يمشّى أمر الوزارة ولم يتّبع أصحاب ابن الفرات ولا أسبابه ولا غيره وكان جميل المحضر قليل الشر، فبلغه أن ابن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة فى إعادته إلى الوزارة، فاستعفى من الوزارة، وسأل فى ذلك فأنكر المقتدر عليه ومنعه من ذلك. فلما كان فى آخر ذى القعدة جاءت أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج إليه حرم الدار والحاشية التى للدار من الكسوات والنفقات فوصلت إليه وهو نائم فقال لها حاجبه: إنه نائم ولا أجسر أن أوقظه فاجلسى فى الدار حتى يستيقظ! فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ. الوزير فى الحال فأرسل إليها حاجبه وولده يعتذر فلم تقبل منه، ودخلت إلى المقتدر وخاطبته فى عزله وحرّضته على ذلك فعزله عن الوزارة وقبض عليه فى ثامن ذى الحجة «1» .

وأعيد ابن الفرات إلى الوزارة وضمن على نفسه أن يحمل فى كلّ يوم ألف دينار إلى بيت المال وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير علىّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانى الوزير وأصحابه، واعترض العمّال وغيرهم/ وعاد عليهم بأموال عظيمة. وكان أبو علىّ بن مقلة قد استخفى منذ قبض على ابن الفرات إلى الآن، فلما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر فأشخصه ابن الفرات الوزير وقرّبه وأحسن إليه وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزىّ فى تاريخه المنتظم «1» أنّه لما قلّد الوزارة خلع عليه سبع خلع وحمل إليه من دار السّلطان ثلاثمائة ألف درهم، وعشرون خادما، وثلاثون دابّة لرحله، وخمسون دابة لغلمانه، وخمسون بغلا لنقله، وبغلان للعمارية بقبابها وثلاثون جملا، وعشر تخوت ثياب «2» وأنه ركب معه مؤنس الخادم، وغلمان المقتدر، وصار إلى داره بسوق العطش، وردّت إليه ضياعه، وأقطع الدار التى بالمخرم فسكنها. وأنه سقى النّاس فى ذلك اليوم وتلك الليلة أربعين ألف رطل ثلج، وزاد ثمن الشّمع والكاغد «3» وكانت هذه عادته! قال: «4»

ذكر أمر يوسف بن أبى الساج

وكانت مدّة اعتقاله إلى أن رجع إلى الوزارة خمس سنين وأربعة أيام. قال: وسمع بعض العوام يقول يوم خلع على ابن الفرات: والله خذلونا، أخذوا منّا مصحفا وأعطونا طنبورا! فبلغ ذلك إلى الخليفة، فكان ذلك سببا للإحسان إلى على بن عيسى وحسن النيّة فيه إلى أن خرج من الحبس [والله تعالى أعلم] ذكر أمر يوسف بن أبى الساج / كان يوسف بن أبى السّاج على أذربيجان وأرمينة قد ولى الحرب والصلاة والأحكام وغيرها منذ أول وزارة ابن الفرات الأولى، فلما عزل ابن الفرات وتولى الخاقانىّ طمع فأخر حمل بعض المال، فاجتمع له من المال ما قويت به نفسه على الامتناع، وبقى كذلك إلى هذه السنة. فلما بلغه القبض على على الوزير علىّ بن عيسى أظهر أنّ الخليفة أنفذ إليه عهد الرىّ وأن الوزير علىّ بن عيسى سعى له فى ذلك، وجمع العساكر وسار إلى الرىّ وبها محمد بن صعلوك يتولّى أمرها لصاحب خراسان نصر بن أحمد السامانى. وكان ابن صعلوك قد تغلّب على الرىّ وما يليها أيام وزارة على بن عيسى، ثم أرسل إلى ديوان الخلافة يقاطع عليها بمال يحمله، «1» فلما بلغه مسير يوسف نحوه سار إلى خراسان، فدخل يوسف الرّىّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلما اتصل فعله بالمقتدر بالله أنكره

وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرفه أنّ علىّ بن عيسى أنفذ إليه بالعهد واللواء وأنه افتتح هذه الأماكن وطرد عنها المتغلّبين عليها واعتدّ بذلك، وذكر كثرة ما أخرج عليه من الأموال، فعظم ذلك على المقتدر وأمر ابن الفرات أن يسأل علىّ بن عيسى عن الذى ذكره يوسف فأحضره وسأله فأنكر ذلك فصدّقه. وكتب ابن الفرات إلى ابن أبى الساج/ ينكر عليه تعرّضه إلى هذه البلاد وكذبه على الوزير وجهّز العساكر لمحاربته. فسارت فى سنة خمس وثلاثمائة وعليها خاقان المفلحى ومعه جماعة من القواد «1» ، فساروا ولقوا يوسف واقتتلوا، فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة وأدخلهم الرىّ مشهّرين على الجمال. فسيّر الخليفة مؤنسا الخادم فى جيش كثيف لمحاربته، فسار وانضم إليه من كان مع خاقان، فصرف خاقان عن أعمال الجبل ووليها نحرير الصغير وسار مؤنس وأتاه أحمد بن على- وهو أخو محمد بن صعلوك- مستأمنا فأكرمه، ووصلت كتب ابن أبى الساج يسأل الرّضى عنه وأن يقاطع على أعمال الرى وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال سوى ما تحتاج إليه الجند وغيرهم، فلم يجبه المقتدر إلى ذلك وقال: لو بذل ملك الأرض لما أقررته على الرّىّ يوما واحدا لإقدامه على التّزوير! فلما عرف ابن أبى السّاج ذلك سار عن الرّىّ بعد أن أخربها وجبى خراجها فى

عشرة أيام. وقلّد المقتدر الرّىّ وقزوين وأبهر وصيفا البكتمرىّ «1» ، وطلب يوسف بن أبى الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية فأشار ابن الفرات بإجابته إلى ذلك، فعارضه نصر الحاجب وابن الحوارىّ وقالا: لا يجاب إلى ذلك إلا بعد أن يطأ البساط.! ونسب الوزير ابن الفرات إلى مواطأته والميل معه. فامتنع/ المقتدر بالله من إجابته إلا أن يحضر إلى الخدمة بنفسه. فلما رأى يوسف ذلك حارب مؤنسا فانهزم مؤنس إلى زنجان، وقتل من قواده جماعة «2» وأسر جماعة منهم هلال بن بدر، فأدخلهم أردبيل مشهّرين على الجمال. وأقام مؤنس بزنجان بجمع من العساكر ويستمد الخليفة، وكاتبه يوسف فى الصّلح وراسله فيه؛ فكتب مؤنس إلى الخليفة فلم يجبه إليه. فلما كان فى المحرم سنة نسع «3» وثلاثمائة اجتمع لمؤنس خلق كثير فسار نحو يوسف، فتواقعا على باب أردبيل، فانهزم عسكر يوسف، وأسر هو وجماعة من أصحابه فعاد بهم مؤنس إلى بغداد فدخلها فى المحرم. وأدخل يوسف مشهّرا على جمل وعليه برنس بأذناب الثعالب، فأدخل على المقتدر، ثم حبس عند زيدان القهرمانة.

وفى سنة أربع وثلاثمائة نوفّى الناصر العلوىّ صاحب طبرستان. وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمد على المقتدر بكرمان- وكان يتولى الخراج- وسار منها إلى شيراز يريد التغلب على فارس، فحاربه بدر الحمامى وقتله وحمل رأسه إلى بغداد. وفيها سار مؤنس المظفّر إلى بلاد الروم للغزاة، فسار إلى ملطية وغزا منها، وكتب إلى أبى القاسم على بن أحمد بن بسطام. أن يغزو من طرسوس فى أهلها، ففعل وفتح مؤنس حصونا كثيرة من الروم وأثر آثارا جميلة وعاد إلى بغداد فأكرمه الخليفة وخلع عليه. قال أبو الفرج [عبد الرحمن بن الجوزى] «1» وفيها ورد الخبر من خراسان أنه وجد بالقندهار فى أبراج سورها أزج «2» متصل بها، فيه ألف رأس فى سلاسل، من هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأسا «3» فى أذن كلّ رأس رقعة مشدودة بخيط إبريسم «4» مكتوب فيها اسم الرجل. قال وكان من الأسماء شريح بن حيان وخباب بن الزبير والخليل بن موسى وطلق ابن معاد، وحاتم بن حسنة، وهانىء بن عروة، وفى الرقاع تاريخ من سنة [سبعين من] «5» الهجرة، ووجدوا على حالهم لم لم يتغيّر شعرهم إلا أن جلودهم قد جفّت.

ودخلت سنة خمس وثلاثمائة: قال أبو الفرج «1» : فى هذه السنة ورد على السلطان هدايا جليلة من أحمد بن هلال صاحب عمان، وفيها أنواع من الطّيب وطرائف من طرائف البحر وطائر أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغاء وظباء سود قال: ابن الأثير: «2» وفى هذه السنة من المحرم وصل رسولان من مالك الرّوم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأجاب المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء، وسير مؤنسا الخادم ليحضر الفداء، وجعله أميرا على كل بلد يدخله، يتصرف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه، وأرسل معه/ مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسارى المسلمين. قال [أبو الفرج] بن الجوزىّ فى خبر الرسل «3» إنهما أدخلا وقد عبّىء العسكر بالأسلحة التّامة وكانوا مائة ألف وستين ألفا، وكانوا من أعلى باب الشماسية إلى الدار، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخوص بالبزة الظاهرة «4» والمناطق المحلاة، وكانوا سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، وكان الحجّاب سبعمائة حاجب، وفى دجلة الطيّارات والزّبازب والسّميريّات بأفضل زينة. فسار الرسولان فمرّا على دار نصر القشورى الحاجب، فرأيا منظرا عجيبا فظنّاه الخليفة وهاباه حتى

قيل إنه الحاجب، ثم حملا إلى دار الوزير فرأيا أكثر من ذلك ولم يشكا أنه الخليفة فقيل إنه الوزير. قال: وزيّنت دار الخلافة، وطيف بهما فيها فشاهدا ما هالهما، وكانت الستور ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج، المذهبة منها اثنا عشر ألفا وخمسمائة، وكانت البسط والنّخاخ «1» اثنين وعشرين ألفا وكان فى الدار من الوحش قطعان تأنس بالناس وتأكل من أيديهم، وكان هناك مائة سبع كلّ سبع بيد سبّاع. ثم أخرجا إلى دار الشجرة، وكانت شجرة فى وسط بركة فيها ماء صاف، والشجرة/ ثمانية عشر غصنا لكلّ غصن منها شاخات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كلّ نوع مذهبة ومفضضة. وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهبة وهى تتمايل، وبها ورق مختلف الألوان، وكل من هذه الطيور تصفر. ثم أدخلا إلى الفردوس، وكان فيه من الفراش والآلات ما لا يحصى، وفى دهاليزه عشرة آلاف جوشن «2» مذهبة معلقة قال: ويطول شرح ما شاهدا من العجائب إلى أن وصلا إلى المقتدر وهو جالس على سرير أبنوس قد فرش بالدّيبقى المطرّز وعن يمنة السرير تسعة عقود معلقة وعن يسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر يضىء ضوؤها على ضوء النهار

ذكر عزل ابن الفرات عن الوزارة

قال: فلما وصل الرسولان إلى الخليفة، وقفا على نحو مائة ذراع وابن الفرات قائم بين يديه والتّرجمان قائم يخاطب الخليفة. ثم أخرجا وطيف بهما فى الدار حتى أخرجا إلى دجلة وقد أقيمت على الشطوط الفيلة والسباع والفهود! قال: ثم خلع عليهما وحمل إليهما خمسون بدرة ورقا فى كلّ بدرة خمسة آلاف درهم. قال: وفيها ورد كتاب من مرو أنّ نفرا عثروا على نقب فى سور المدينة فكشفوا عنه فوصلوا إلى أزج فأصابوا فيه ألف رأس، وفى أذن كلّ رأس رقعة قد أثبت فيها اسم صاحبها «1» /وفيها أطلق أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته وأهل بيته من الحبس، وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك. ودخلت سنة ست وثلاثمائة: ذكر عزل ابن الفرات عن الوزارة ووزارة حامد بن العباس فى هذه السنة فى جمادى الآخرة قبض على الوزير أبى الحسن ابن الفرات، وكانت مدة وزارته هذه- وهى الثانية- سنة وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان، واحتجّ عليهم بضيق الأموال وأنها خرجت فى محاربة ابن أبى السّاج وأنّ الارتفاع نقص

بأخذ يوسف أموال الرىّ؛ فشغب الجند شغبا عظيما وخرجوا إلى المصلّى فالتمس الوزير من المقتدر إطلاق مائتى ألف دينار من بيت مال الخاصّة ليضيف إليها مائتى ألف دينار يحصّلها ويصرف الجميع فى أرزاق الجند، فاشتد ذلك على المقتدر وأرسل إليه: إنك ضمنت أن ترضى جميع الأجناد وتقوم بجميع النفقات وتحمل بعد ذلك ما ضمنت حمله يوما بيوم وأراك الآن تطلب من بيت مال الخاصة! فاحتج بقلة/ الارتفاع وما أخذه! ابن أبى السّاج منه وما خرج على محاربته، فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له. وقيل كان سبب قبضه أن المقتدر قيل له إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان لمحاربة ابن أبى الساج فإذا صار عنده اتفقا عليك. ثم إن ابن الفرات قال للمقتدر أن يرسل ابن حمدان لحربه فقتل ابن حمدان فى جمادى الأولى، وقبض ابن الفرات فى جمادى الآخرة. قال: «1» وكان بعض العمال قد ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه فاستكثره، وكاتبه فى ذلك، فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بالمال، فكتب «2» إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر وضمن لهما مالا ليتحدّثا له فى الوزارة. فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه وأنّ له

أربعمائة مملوك يحملون السّلاح، ووافق ذلك نفرة المقتدر عن ابن الفرات فأمره بالحضور من واسط، فحضر وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما. ولما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيام فى دار الخلافة، فكان يتحدّث مع النّاس ويضاحكهم ويقوم لهم، فبان للخدم وحاشية الدّار قلة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه/ يا مولانا.. الوزير يحتاج إلى لبسة وجلسة وعبسة! فقال له: تعنى أنه يلبس ويقوم ويقعد ولا يقوم لأحد ولا يضحك فى وجه أحد؟ قال نعم! قال حامد: إنّ الله تعالى أعطانى وجها طلقا وخلقا حسنا وما كنت بالذى أعبس وجهى وأقبّح خلقى لأجل الوزارة «1» ! فأمر المقتدر بإطلاق علىّ بن عيسى من محبسه، وجعله يتولى الدواوين شبه النائب عن حامد «2» فكان يراجعه فى الأمور ويصدر عن رأيه. ثم إنه استبد بالأمور دون حامد، ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعلى حتى قيل فيهما: أعجب من كلّ ما تراه ... أنّ وزيرين فى بلاد هذا سواد بلا وزير ... وذا وزير بلا سواد «3»

قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى «1» : وفى هذه السنة أمرت السيدة أم المقتدر. قهرمانة لها تعرف بثمل أن تجلس بالتّربة التى بنتها بالرّصافة للمظالم وتنظر فى رقاع الناس فى كل جمعة «2» ، فجلست وأحضرت القاضى أبا الحسين الإسنانى «3» وخرجت التوقيعات على السداد- قال- وقال أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ: قعدت ثمل القهرمانة فى أيام المقتدر بالله للمظالم، وحضر مجلسها القضاة والفقهاء. / وفيها غزا يسر الأفشينى بلاد الرّوم فافتتح عدّة حصون وغنم وسلم، وغزا ثمال «4» فى بحر الروم فغنم وسبى وعاد. وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان فبنى وأجرى عليه النفقات الكثيرة، وكان يسمّى المقتدرىّ، وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى «5» . ودخلت سنة سبع وثلاثمائة: فى هذه السنة وصل القائم بن المهدى من أفريقية من قبل أبيه بجيش كثيف فكان وصوله إلى الإسكندرية فى شهر ربيع

الآخر «1» ، فخرج عنها عامل المقتدر «2» ودخل القائم، ثم رحل إلى مصر فدخل الجيزة وملك الأشمونين وأكثر الصعيد. وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى الدّخول فى طاعته فلم يجيبوه، فبعث المقتدر بالله مؤنسا الخادم فى شعبان وجدّ فى السير فوصل إلى مصر وكان بينه وبين القائم عدة وقعات. ووصل من أفريقية ثمانون مركبا نجدة للقائم، فأمر المقتدر بالله أن تسير مراكب طرسوس إليهم، فسارت خمسة وعشرون مركبا وفيها النّفط والعدد ومقدّمها أبو اليمن، فالتفت المراكب بالمراكب واقتتلوا على رشيد، فظفر أصحاب مراكب المقتدر بالله وأحرقوا كثيرا من مراكب أفريقية وأسر منهم كثير. وكان ممن أسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامى وهما مقدما المراكب/ فمات سليمان فى الحبس بمصر، وحمل يعقوب إلى بغداد ثم هرب منها وعاد إلى أفريقية. وفيها ضمن حامد بن العباس الوزير أعمال الخراج والضّياع الخاصّة والعامّة والمستحدثة والفراتة بسواد بغداد والكوفة والبصرة وواسط والأهواز وأصبهان. وسبب ذلك أنه رأى أنه قد تعطّل عن الأمر والنّهى وتفرّد به علىّ بن عيسى، فشرع فى هذا ليصير له حديث وأمر ونهى، ثم استأذن المقتدر فى الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل فأذن له فانحدر إليها، واسم

الوزارة عليه، وعلىّ يدبر الأمور! وأظهر حامد زيادة عظيمة ظاهرة فى الأموال، فسرّ المقتدر بذلك وبسط يد حامد فى الأعمال حتى خافه علىّ بن عيسى. ثم تحرّك السّعر «1» ببغداد فثارت العامّة والخاصّة، لذلك، واستغاثوا وكسروا المنابر، وكان حامد يخزن الغلال، وكذلك غيره من القواد، فأمر المقتدر بإحضار حامد فحضر من الأهواز، فعاد النّاس إلى شغبهم. فأنفذ حامد جماعة لمنعهم، فقاتلهم العامّة، وأحرقوا الجسرين وأخرجو المحبسين من السجن ونهبو دار صاحب الشّرطة، فأنفذ المقتدر جيشا مع غريب الخال فقاتل العامّة، فانهزموا بين يديه ودخلوا الجامع بباب الطّاق، «2» فأخذوا وحبسوا، ثم ضرب بعضهم وقطعت أيدى من عرف بالفساد. ثم أمر المقتدر من الغد فنودى/ فى النّاس بالأمان فسكنت الفتنة، ثم ركب حامد إلى دار المقتدر فى الطيّار «3» فرجمه العامّة، فأمر الخليفة بفتح مخازن الحنطة والشّعير التى لحامد ولأم المقتدر وغيرهما، وبيع ما فيها فرخصت الأسعار وسكنت الناس، فقال على بن عيسى للمقتدر: إنّ سبب غلاء الأسعار ضمان حامد، فإنه منع بيع الغلال فى البيادر وخزنها! فأمر المقتدر بفسخ الضّمان عن حامد وصرف عمّاله عن السواد، وأمر علىّ بن عيسى أن يتولى ذلك، فسكن الناس واطمأنوا.

ذكر قتل الحسين بن منصور الحلاج

وفيها قلّد ابراهيم بن حمدان ديار ربيعة، وحجّ بالناس فى هذه السنة أحمد بن العباس أخو أمّ موسى القهرمانة. ودخلت سنة ثمان وثلاثمائة: فى هذه السنة خلع المقتدر بالله على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان، وقلّده طريق خراسان والدينور، وخلع على إخوته أبى العلاء وأبى السرايا وفيها توفى ابراهيم بن حمدان فى المحرم، وحجّ بالناس فى هذه السنة أحمد بن العباس. ودخلت سنة تسع وثلاثمائة: ذكر قتل الحسين بن منصور الحلاج وشىء من أخباره وفى هذه السنة قتل الحسين بن منصور الحلّاج الصوفى، وأحرق بالنار «1» /وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزّهد والتصوّف، ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف. ويمدّ يده فى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم وعليها مكتوب «قل هو الله أحد» ويسميها دراهم القدرة. ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوه فى بيوتهم، ويتكلم بما فى ضمائرهم. فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، واختلفت فيه اعتقاداتهم؛ فمن قائل إنه حلّ فيه جزء إلهى ويدّعى فيه الربوبية، ومن قائل إنه ولىّ الله تعالى وإنّ الذى

يظهر منه من جملة كرامات الصلحاء، ومن قائل إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهّن وإن الجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة فى غير أوانها. وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة وأقام بها سنة فى الحجر لا يستظل تحت سقف صيفا ولا شتاء، وكان يصوم الدّهر فإذا جاء وقت العشاء أحضر له القوم كوزا من ماء وقرصا فيشرب وبعض من القرص ثلاث عضات من جوانبها فيأكلها ويترك الباقى فيأخذونه، ولا يأكل شيئا آخر إلى وقت الفطر من الليلة الثانية. وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربى فأخذ أصحابه وجاء لزيارة الحلّاج فلم بجده فى الحجر، وقيل قد صعد إلى جبل أبى قبيس، فصعد إليه فوجده على صخرة حافيا/ مكشوف الرأس، والعرق يجرى منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه وقال: هذا يتصيّر على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته! وعاد الحسين إلى بغداد. وأما سبب قتله فإنه نقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد بن العباس أنه أحيا جماعة وأنه يحيى الموتى وأن الجنّ يخدمونه فيحضرون عنده بما يشتهى. وإنّه قدّموه على جماعة من حاشية الخليفة، وإنّ نصرا الحاجب قد مال إليه هو وغيره. فالتمس حامد من المقتدر أن يسلّم إليه الحلاج وأصحابه فدفع عنه نصر الحاجب وألح الوزير فى طلبه، فأمر المقتدر بتسليمه إليه، فأخذ وأخذ معه

إنسان يعرف بالشميرى وغيره- قيل إنهم كانوا يعتقدون أنه إله- فقرّرهم حامد فاعترفوا أنهم قد صحّ عندهم أنه إله وأنه يحيى الموتى، وقابلوا الحلّاج على ذلك. فأنكره وقال: أعوذ بالله أن أدّعى الربوبية والنّبوّة وإنما أنا رجل أعبد الله عزّ وجل! فأحضر الوزير القاضى أبا عمر والقاضى أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم فقالوا: لا نفسى فى أمره بشىء إلا أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول من يدّعى عليه ما ادّعاه إلا ببيّنة أو إقرار! وكان حامد يخرج الحلّاج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه/ ما تكرهه الشريعة، وطال الأمر وحامد مجد له فى أمره، وجرى له معه قصص يطول شرحها. وفى آخرها أن الوزير رأى له كتابا حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتا لا يلحقه شىء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيما ويعمل أجود طعام يمكنه ويطعمهم فى ذلك البيت ويتولّى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج فلما قرىء هذا على الوزير قال القاضى أبو عمر للحلاج: من أين لك هذا؟ قال من كتاب الإخلاص للحسن البصرى. قال له القاضى: كذبت يا حلال الدم قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا. فلما قال له «يا حلال الدم» وسمعها الوزير قال: له: اكتب بهذا رقعة،

فدافعه أبو عمر فألزمه حامد فكتب بإباحة دمه وكتب بعده من حضر المجلس. قال: «1» ولما سمع الحلّاج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمى وإعتقادى الإسلام ومذهبى السنة ولى فيها كتب موجودة فالله الله فى دمى! وتفرق الناس، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه فى قتله وأرسل إليه الفتاوى فأذن فى قتله فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة فضربه ألف سوط فما تأوّه ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتل/ وأحرق فى النار، فلما صار رمادا ألقى فى دجلة ونصب رأسه ببغداد وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب، وأقبل بعض أصحابه يقولون: إنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على دابّة وإنه يعود بعد أربعين يوما! وبعضهم يقول: لقيته على حمار بطريق النهروان وإنه قال لهم «لا تكونوا مثل هؤلاء النّفر الذين يظنون أنى ضربت وقتلت» ! وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمد بن نصر الحاجب، فسار إليها وأوقع بمن خالفه من الأكراد فقتل وأسر، وأرسل إلى بغداد نيّفا وثمانين أسيرا فشهروا، وفيها قلّد داود بن حمدان ديار ربيعة. ودخلت سنة عشر وثلاثمائة: فى هذه السنة أطلق يوسف بن أبى السّاج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم، ودخل إلى المقتدر وخلع عليه، ثم عقد له على الرّىّ وقزوين وزنجان وأبهر. وقرّر

عليه خمسمائة ألف دينار محمولة إلى بيت المال فى كلّ سنة سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد. وفيها وصلت هدية أبى زنبور الحسين الماذرائى «1» من مصر، وفيها بغلة معها فلو «2» يتبعها ويرضع منها وغلام طويل اللسان يلحق لسانه أرنبة أنفه! وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة وكان سبب ذلك أنها/ زوّجت ابنة أخيها من أبى العباس أحمد بن محمد بن إسحاق بن المتوكل على الله وكان يرشّح للخلافة، فلما صاهرته أكثرت من النّثار والدعوات وخسرت أموالا جليلة،: فتكلم أعداؤها وسعوا بها إلى المقتدر وقالوا: إنها قد سعت لأبى العباس فى الخلافة، وحلفت له القوّاد، وكثر القول فيها، فقبض عليها وأخذ منها أموالا جليلة وجواهر نفيسة «3» ، قال ابن الجوزى: صحّ منها لبيت المال ألف ألف دينار «4» ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:

ذكر عزل حامد بن العباس

ذكر عزل حامد بن العباس وولاية ابن الفرات فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر عزل المقتدر حامد بن العباس عن الوزارة، وعلىّ بن عيسى عن الدواوين، وخلع على أبى الحسن بن الفرات وأعيد إلى الوزارة. وكان سبب ذلك أن المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد والحرم والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم؛ فإن علىّ بن عيسى كان يؤخّرها، فإذا اجتمع لهم عدّة شهور أعطاهم البعض، وحطّ من أرزاق العمال فى كل سنة شهرين وكذلك من أرزاق من له رزق فزادت عداوة النّاس له. وكان حامد بن العباس قد ضجر من المقام ببغداد وليس له من الأمر شىء غير لبس السواد، وأنف/ من اطّراح على بن عيسى لجانبه، فإنه كان يهينه فى توقيعاته بالإطلاق عليه لضمانه بعض الأعمال، فكان بكتب ليطلق جند «1» الوزير أعزّه الله، وليبادر نائب الوزير، وكان إذا شكا إليه بعض نوّاب حامد يكتب على القصة «إنما عقد الضّمان على النائب الوزيرىّ عن الحقوق الواجبة السلطانية فليتقدم إلى عمّاله بكف الظلم عن الرّعيّة» . فاستأذن حامد وسار إلى واسط لينظر فى ضمانه فأذن له، وجرى بين مفلح الأسود «2» وبين حامد كلام فقال له حامد:

لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود أسميهم مفلحا وأهبهم لغلمانى فحقدها مفلح- وكان خصيصا بالمقتدر- فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة وضمن أموالا جليلة، وكتب على يده رقعة يقول إن سلّم إليه الوزير وعلىّ بن عيسى وابن الحوارى وشفيع اللؤلؤى ونصر الحاجب وأم موسى القهرمانة والماذرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار! وكان المحسن مطلقا، وكان يواصل السّعاية بهؤلاء الجماعة، وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحوارى فى كلّ سنة من المال فاستكثره. فقبض على علىّ بن عيسى فى شهر ربيع الآخر وسلّم إلى زيدان القهرمانة فحبسته فى الحجرة التى كان ابن الفرات محبوسا فيها، وأطلق ابن الفرات وخلع عليه، وتولّى/ الوزارة وخلع على ابنه المحسن، وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات. قال «1» : وسيّر ابن الفرات إلى واسط من يقبض على حامد فهرب واختفى ببغداد، ثم إن حامدا لبس زىّ راهب وخرج من مكانه الذى كان فيه ومشى إلى نصر الحاجب ودخل عليه وسأله إيصال حاله إلى الخليفة إذا كان عند حرمه، فاستدعى نصر مفلحا الخادم فلما رآه قال: أهلا بمولانا الوزير أين مماليك السودان الذين سمّيت كلّ واحد منهم مفلحا؟

فسأله نصر أن لا يؤاخذه وقال له: حامد يسأل أن يكون محبسه فى دار الخلافة ولا يسلّم إلى ابن الفرات. فدخل مفلح وقال ضدّ ما قيل له فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات، فأرسل إليه فحبسه فى دار حسنة وأجرى له من الطّعام والكسوة والطّيب وغير ذلك ما كان له وهو وزير، ثم أحضره وأحضر الفقهاء والعمال وناظره على ما وصل إليه من المال وطالبه به، فأقرّ بجهات تقارب ألف ألف دينار، وضمنه المحسن بن أبى الحسن بن الفرات الوزير من المقتدر بخمسمائة ألف دينار فسلمه إليه فعذّبه بأنواع العذاب، وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ماله هناك، وأمرهم أن يسقوه سمّا فسقوه سمّا فى بيض مشوىّ كان طلبه، فأصابه إسهال فلما وصل إلى واسط أفرط القيام به. وكان قد/ تسلّمه محمد بن على البروجردى «1» فلما رأى حاله أحضر القاضى والشهود ليشهدوا عليه أنه ليس له فى أمره صنع! فلما حضروا عند حامد قال لهم: إن أصحاب المحسن سقونى سما فى بيض مشوىّ فإنا أموت منه وليس لمحمد فى أمرى صنع، لكنه أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها فى المساور وتباع المسورة بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم فبضع من يشتريها ويحملها إليه فيكون فيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف درهم، فاشهدوا على

ذلك! وكان صاحب الخبر حاضرا فكتب بذلك، ثم مات حامد فى شهر رمضان من هذه السنة. وصودر على بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار وعذّبه المحسن بن الفرات وصفعه فأنكر عليه أبوه لأن عليا كان محسنا إليهم فى أيام ولايته وأعطى المحسن فى أيام نكبته عشرة آلاف درهم، فلم يرع له حقّ إحسانه. قال: «1» ولما أدّى على بن عيسى مال المصادرة سيره ابن الفرات إلى مكة وكتب إلى أميرها أن يسيّره إلى صنعاء، ثم قبض ابن الفرات على أبى علىّ بن مقلة لأنه بلغه أنه سعى به أيام نكبته ونقلّد بعض الأعمال فى أيام حامد ثم أطلقه ابن الفرات وقبض أيضا على ابن الحوارى وكان خصيصا بالمقتدر وسلمه إلى ابنه المحسن فعذّبه عذابا شديدا-/ وكان المحسن وقحا ظالما سيء الأدب ذا قسوة شديدة، وكان الناس يسمونه الخبيث بن الطيب، وسير ابن الحوارى إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال فضربه الموكّل به حتى مات. وقبض أيضا على الحسين بن أحمد ومحمد بن على الماذرائيين «2» فصادرهما على ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دنيار، ثم صادر جماعة من الكتاب ونكبهم. ثم إنّ

ابن الفرات- خوّف المقتدر من مؤنس الخادم وأشار عليه أن يسيّره إلى الشام فأخرجه عن الحضرة فى يوم شديد المطر، ثم سعى بنصر الحاجب وأطمع المقتدر فى ماله وكثرته فالتجأ نصر إلى أم المقتدر فحمته من ابن الفرات وفيها غزا مؤنس المظفر بلاد الروم فغنم وفتح حصونا وغزا ثمال فى البحر فغنم من السبى ألف رأس، ومن الغنم ألف رأس، ومن الذهب والفضة شيئا كثيرا. وفيها دخل القرمطىّ «1» البصرة وقتل عاملها «2» وأقام بها سبعة عشر يوما يقتل وينهب ويأسر. ودخلت سنة اثنتى عشرة وثلاثمائة: فى هذه السنة ظهر فى دار الخليفة إنسان أعجمى عليه ثياب فاخرة وتحته مما يلى بدنه قميص صوف ومعه قدّاحة وكبريت ودواة وأقلام وسكين وكاغد، وفى كيس سويق وسكر وحبل/ طويل من القنّب، فأحضر إلى ابن الفرات الوزير فسأله عن حاله فقال: لا أخبر إلا صاحب الدار! فأمر بضربه ليقر فقال: بسم الله بدأتم بالشر! ولزم هذا القول ثم جعل يقول بالفارسية ما معناه «لا أدرى» ثم أمر به فأحرق، وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذا الحال وعظّم الأمر بين يدى المقتدر ونسبه إلى أنه أخفاه ليقتل المقتدر، وتفاوضا فقال الحاجب: لم أسعى فى

قتل أمير المؤمنين وقد رفعنى من الثرى إلى الثريا؟ إنما يسعى فى قتله من صادره وأخذ أمواله وضياعه وأطال حبسه! وفيها أخذ القرمطى الحاجّ بعد عودتهم من الحجاز- وكان لأبى الهيجاء طريق مكة- فسار إلى القرمطى فأوقع به، وأسر أبو الهيجاء وأحمد بن كشمرد ونحرير وأحمد بن بدر عمّ والدة المقتدر وغيرهم، وأخذ القرمطى جمال الحاجّ جميعها وما أراد من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وعاد إلى هجر «1» وترك الحاجّ فى مواضعهم فمات أكثرهم جوعا وعطشا، فاجتمع حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين «2» الذين نكبهم ابن الفرات وجعلن ينادين: القرمطى الصغير «3» قتل المسلمين بطريق مكة والقرمطى «4» الكبير قتل المسلمين ببغداد! وشنّعوا عليه وكسر العامّة منابر الجوامع وسوّدوا المحاريب يوم الجمعة لستّ خلون من صفر،/ فضعفت نفس ابن الفرات وحضر عند المقتدر ليأخذ أمره فيما يصنع. وحضر نصر الحاجب المشورة فانبسط لسانه على ابن الفرات وقال: الساعة تقول: اى شىء نصنع وما هو الرأى بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال؛ فى الباطن بالميل مع

ذكر القبض على ابن الفرات الوزير وولده المحسن

كل عدوّ يظهر ومكاتبته ومهاداته، وفى الظاهر بإبعادك مؤنسا ومن معه إلى الرّقّة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن هذا الرجل إذا قصد الحضرة أنت أم ولدك؟ وقد ظهر الآن مقصودك بإبعاد مؤنس وبالقبض علىّ وعلى غيرى، أن تستضعف الدولة وتقوّى أعداءها لتشفى غيظك ممّن صادرك وأخذ أموالك! ومن الذى سلّم النّاس إلى القرمطى غيرك لما يجمع بينكما من التّشيّع والرّفض؟ وقد ظهر أيضا أنّ ذلك العجمى من أصحاب القرمطى وأنت أوصلته! فحلف ابن الفرات أنه ما كاتب القرمطى ولا هاداه ولا رأى ذلك الأعجمى إلا تلك الساعة، والمقتدر معرض عنه. وأشار نصر على المقتدر بالله أن يحضر مؤنسا ومن معه ففعل ذلك، وكتب إليه بالحضور ففعل وسارع، وقام ابن الفرات فركب فرجمه العامّة، ثم وصل مؤنس المظفر إلى بغداد، ولما رأى المحسن. ابن الفرات انحلال أمورهم أخذ كل من كان محبوسا فقتله، لأنه كان قد أخذ متهم أموالا/ جليلة ولم يوصلها إلى المقتدر فخاف أن يقروا عليه بما أخذه منهم. ذكر القبض على ابن الفرات الوزير وولده المحسن قال «1» : ثم كثر الإرجاف على ابن الفرات فكتب إلى المقتدر يعرّفه بذلك، وأن الناس إنما عادوه لشفقته ونصحه وأخذ حقوقه منهم فأنقذ المقتدر إليه يسكّنه ويطيّب قلبه فركب هو وولده إلى المقتدر

فطيّب قلوبهما، وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب ووكل بهما، فدخل مفلح على المقتدر وأشار عليه بتأخير عزله فأمر بإطلاقهما فخرجا، فأما المحسن فإنه اختفى، وأما الوزير فإنه جلس عامّة نهاره يقضى الأشغال إلى الليل ثم بات مفكرا، فلما أصبح سمع بعض خدمه ينشد: وأصبح لا يدرى وإن كان حازما ... أقدّامه خير له أم وراءه فلما ارتفع النهار وهو الثامن من شهر ربيع الأول أتاه نازوك «1» ويلبق فى عدة من الجند فدخلوا عليه وهو عند حرمه فأخرجوه حافيا مكشوف الرأس فألقى عليه يلبق طيلسانا غطّى به رأسه وحمل إلى طيّار فيه مؤنس المظفر ومعه هلال/ بن بدر «2» فاعتذر إليه ابن الفرات وألان كلامه له فقال له: أنا الآن الأستاذ وكنت بالأمس الخائن الساعى فى فساد الدّولة وأخرجتنى والمطر على رأسى ورؤوس أصحابى ولم تمهلنى! وسلّم إلى شفيع اللؤلؤى فحبس عنده، وكانت مدّة وزارته هذه عشرة أشهر وثمانية عشر يوما، وأخذ أصحابه وأولاده ولم ينج منهم إلا المحسن، وصودر ابن الفرات على ألف ألف دينار.

ذكر وزارة ابى القاسم الخاقانى

ذكر وزارة ابى القاسم الخاقانى قال «1» : ولما تغيّر حال ابن الفرات سعى عبد الله بن أبى على محمد بن عبد الله «2» بن يحيى بن خاقان فى الوزارة، وكتب خطه أنه يتكفّل ابن الفرات وأصحابه بمصادرة ألفى ألف دينار. وسعى له مؤنس الخادم وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب فتولى أبو القاسم الوزارة فى تاسع شهر ربيع الأول، وكان المقتدر يكرهه فلما سمع ابن الفرات وهو محبوس بولايته قال: الخليفة هو الذى نكب لا أنا! يعنى أن الوزير عاجز لا يعرف أمر الوزارة، ولما ولى الخاقانىّ شفع إليه مؤنس الخادم فى إعادة علىّ بن عيسى من صنعاء إلى مكة، فكتب بإعادته وأذن له فى الاطّلاع على أعمال مصر والشام. ذكر مقتل ابن الفرات وولده قال كان المحسن بن الوزير أبى الحسن بن الفرات «3» مختفيا كما ذكرنا، وكان عند حماته خنزابة- «4» وهى والدة الفضل بن جعفر بن الفرات- وكانت تأخذه كلّ يوم وتتوجّه به إلى المقبرة فى زىّ النّساء وتعود به إلى المنازل التى تشق بها، فمضت به يوما إلى مقابر قريش. وأدركها اللّيل فبعدت عليها الطريق وأشارت

عليها أمرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير، فأخذته وقصدت به تلك المرأة وقالت لها: معنا صبية [بنت] «1» بكر نريد منك بيتا تكون فيه! فأمرتهم بالدّخول إلى بيتها وسلّمت إليهم قبّة فى الدار، فأدخلوا المحسن إليها، وجلس النساء الذين معه فى صفّه أمام القبة، فجاءت جارية سوداء فرأت المحسن فأخبرت مولاتها أنّ فى الدار رجلا، فجاءت المرأة صاحبة الدار فرأته وعرفته- وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره فلما رأى الناس يعذبون فى داره مات «2» فجأة- فلما رأت المرأة المحسن ركبت فى سفينة وقصدت دار الخليفة وقالت عندى نصيحة. فأحضرها نصر الحاجب فأخبرته الخبر فطالع به المقتدر، فأمر صاحب الشرطة أن يسير معها فسار معها إلى منزلها وأخذ/ المحسن وجاء به إلى المقتدر، فبعث به إلى دار الوزارة فعذّب بأنواع العذاب ليجيب إلى مال يحمله فقال: لا أجمع بين الروح والمال! فأمر المقتدر بحمله مع أبيه «3» إلى دار الخلافة فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب: إن نقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله وأطمع المقتدر فى أموالنا وضمننا منه وتسلّمنا فأهلكنا! فوضعوا القواد

والجند وقالوا: لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده فإننا لا نأمن على أنفسنا ما داما فى الحياة! فأمر المقتدر نازوك بقتلهما فبدأ بقتل المحسن فذبحه كما تذبح الشاه وحمل رأسه إلى أبيه فارتاع لذلك، ثم عرض أبوه على السّيف فقال: راجعوا فى أمرى فإنّ عندى أموالا جمّة وجواهر كثيرة، فقبل له جلّ الأمر عن ذلك. ثم ذبح فى يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الآخر منها، وكان عمره إحدى وسبعين سنة وعمر ولده ثلاثا وثلاثين سنة وحمل رأساهما «1» إلى المقتدر فأمر بتغريقهما ولما قتلا ركب هارون بن غريب الخال مسرعا إلى الوزير الخاقانى وهنأه بقتلهما فأغمى عليه حتى ظنّ هارون ومن هناك أنه مات، وصرخ عليه أهله، ثم أفاق من غشينه وأعطى هارون ألفى دينار. وشفع/ مؤنس فى إبنى ابن الفرات عبد الله وأبى نصر فأطلقا له، فخلع عليهما ووصلهما بعشرين ألف دينار من ماله. قال: «2» وكان ابن الفرات كريما ذا رياسة وكفاية فى عمله، حسن السؤال والجواب، وكان مصطنعا للناس؛ فإنّ جميع كتّابه الذين اصطنعهم صاروا وزراء. وكان يستغلّ من ضياعه فى كلّ سنة ألفى ألف دينار وينفقها، وكان إذا وزر غلا الشّمع والكاغد والسكر والكافور لكثرة استعماله لذلك! وكان يجرى على

خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوتات والفقراء، قال الصولى «1» : ومن فضائله التى لم يسبق إليها أنه كان إذا رفعت له قضية فيها سعاية بأحد خرج «2» من حضرته غلام فينادى. ابن فلان بن فلان الساعى! فامتنع النّاس من السّعاية بأحد، ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنّ أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون ويظلمون فلا يمنعهم؛ فمن ذلك أن بعضهم ظلم امرأة فى ملك لها فكتبت إليه نشكو غير مرة ولا يرد لها جوابا فلقيته يوما فقالت: أسألك بالله أن تسمع كلامى! فوقف لها فقالت: قد كتبت إليك فى ظلامتى غير مرة فلم تجبنى وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى! فلما رأى تغيّر حاله قال لمن معه: قد خرج جواب رقعة تلك المظلومة. / وفى هذه السنة دخل أبو طاهر القرمطىّ الكوفة وأقام بها ستة أيام يقيم بالجامع نهارا فإذا أمسى خرج إلى عسكره وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال وغيرها وعاد إلى هجر، ولم يحج فى هذه السنة أحد. وفيها ظهر «3» عند الكوفة رجل ادعى أنه محمد بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه- وهو رئيس الإسماعيلية وجمع جمعا عظيما من الأعراب

ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة أبى العباس الخصيبى

وأهل السّواد واستفحل «1» أمره فى شوال، فسيّر إليه جيش من بعداد، فقاتلوه وظفروا به وانهزم وقتل كثير ممّن معه. ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة: ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة أبى العباس الخصيبى فى هذه السنة فى شهر رمضان، عزل أبو القاسم الخاقانى عن الوزارة. وكان سبب ذلك أنّ أبا العباس الخصيبى علم مكان أمرأة المحسن بن الفرات فسأل أن يتولى النّظر فى أمرها فأذن له المقتدر فى ذلك، فاستخلص منها سبعمائة ألف دينار إلى المقتدر، وصار له معه حديث. فخافه الخاقانى فوضع من وقع عليه وسعى به فلم يصغ المقتدر إلى ذلك، فلما علم الخصيبى بالحال كتب إلى المقتدر يذكر معائب الخاقانى وابنه عبد الوهاب وعجزهما وضياع الأموال وطمع العمال. ثم مرض الخاقانى مرضا شديدا وطال به، فوقفت الأحوال وطلب الجند أرزاقهم وشغبوا فأرسل المقتدر إليه فى ذلك فلم يقدر على شىء فعزله، واستوزر أبا العباس وخلع عليه. وكان يكتب لأم المقتدر قبل ذلك، ولما ولى أقر علىّ بن عيسى على الإشراف على أعمال مصر والشام فكان يتردد من مكة إليهما فى الأوقات. وفيها كتب ملك الرّوم إلى أهل الثغور يأمرهم بحمل الخراج إليه فإن فعلوا وإلا قصدهم فقتل الرجال وسبى الذرية، وقال: إننى صحّ عندى ضعف ولاتكم! فلم يفعلوا ذلك، فسار إليهم

ذكر عزل أبى العباس الخصيبى ووزارة على بن عيسى

وأخرب البلاد، ودخل ملطية فى سنة أربع عشرة وثلاثمائة؛ فأخربها وسبى ونهب، وأقام بها ستة عشر يوما. ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة: ذكر عزل أبى العباس الخصيبى ووزارة علىّ بن عيسى فى هذه السنة فى ذى القعدة عزل المقتدر أبا العباس/ الخصيبى عن الوزارة، وسبب ذلك أنه أضاق «1» إضاقة شديدة. ووقفت أمور السلطان، واضطرب أمر الخصيبى، وكان حين ولى الوزارة قد اشتغل بالشرب كلّ ليلة ويصبح وهو سكران لا فضل فيه لعمل. وكان يترك الكتب الواردة عليه من العمال، فلا يقرؤها إلا بعد مدّة ويهمل الأجوبة عنها فضاعت [الأموال] «2» وفاتت المصالح، ثم وكل الأمور إلى نوّابه وأهمل الاطّلاع عليهم فباعوا مصلحته بمصلحة نفوسهم. فلما صار الأمر إلى هذه الصورة أشار مؤنس المظفر بعزله وتولية علىّ بن عيسى، فقبض عليه «3» ، فكانت وزارته سنة وشهرين، وأخذ ابنه وأصحابه فحبسوا. وأرسل المقتدر يستدعى علىّ بن عيسى، وأمر أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذانىّ بالنيابة عن على إلى أن يحضر وقدم علىّ بغداد فى أوائل سنة خمس عشرة،

واشتغل بأمور الوزارة، «1» ولازم النظر فيها. فمشت الأمور واستقامت الأحوال. وكان قد اجتمع عند الخصيبى عدّة من رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمال بما ضمنوا من الأموال بالسّواد وفارس والأهواز والمغرب «2» ، فنظر فيها وأرسل فى طلب الأموال فأتته شيئا بعد شىء فأدرّ الأرزاق وأخرج العطاء، وأسقط من الجند من لا يحمل السلاح، ومن أولاد المرتزقة من هو/ فى المهد.. فانّ آباءهم أثبتوا أسماءهم! ومن أرزاق المغنين والمساخرة «3» والصّغاغنة «4» والندماء. وتولى الأعمال بنفسه ليلا ونهارا، فاختار الكفاة «5» من العمال واستعملهم فى الولايات. وأمره المقتدر بالله بمناظرة أبى العباس الخصيبى، فأحضره، وأحضر الفقهاء والقضاة والكتّاب وغيرهم فسأله عما صحّ من الأموال والمصادرات والبواقى القديمة وغير ذلك فقال: لا أعلم! وما أجاب عن شىء، فأنكر عليه كونه دخل فى الوزارة وهو لا يعرفها، ووبّخه توبيخا كثيرا. وفيها فى شهر ربيع الأول خرجت الروم إلى ملطية وما يليها

ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر بالله وبين مؤنس

مع الدّمستق ومعه مليح الأرمنى صاحب الدروب، فحصروا ملطية ودخلوا الرّبض فقاتلهم أهله وأخرجوهم منه، فلم يظفروا من المدينة بشىء، وخرّبوا قرى كثيرة من قراها، ونبشوا الأموات ومثّلوا بهم ثم رحلوا، وقصد أهل ملطية بغداد مستغيثين فلم يغاثوا، فعادو إلى بلدهم بغير مقصود! ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة: ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر بالله وبين مؤنس فى هذه السنة هاجت الرّوم وقصدوا الثعور ودخلوا شمشاط «1» /وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك، ودقّوا الناقوس فى الجامع ثم خرج المسلمون فى أثر الروم فقاتلوهم وغنموا منهم غنيمة عظيمة، فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفّر، وخلع عليه فى شهر ربيع الآخر ولم يبق غير الوداع، فامتنع مؤنس من الدخول إلى دار الخليفة واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك. وكان قد أتاه بعض خدّام المقتدر وقال له:

إنّ الخليفة أمر خواصّ خدمه أن يحفروا جبّا فى دار الشجرة ويغطّوه ببراية «1» وتراب فإذا حضرت ألقيت فيه وخنقت! فامتنع وركب إليه جميع الأجناد وفيهم عبد الله بن حمدان وإخوته وخلت دار المقتدر بالله، وقالوا لمؤنس: نحن نقاتل بين يديك حتى تنبت لك لحية! فوجّه المقتدر رقعة بخطّه يحلف أنه ما أراد به سوءا، فصرف مؤنس الجيش وكتب الجواب أنه العبد المملوك، وأنّ الذى أبلغه ذلك قد كان وضعه من يريد إيحاشه «من مولانا» وأنه ما استدعى الجند وإنما هم حضروا وقد فرّقهم! ثم قصد دار الخليفة فى جميع القوّاد ودخل إليه وقبّل يده وحلف له المقتدر على صفاء نيته له وودّعه وسار إلى الثّغر وخرج لوداعه أبو العباس بن المقتدر والوزير علىّ بن عيسى. وفيها قتل أبو طاهر القرمطىّ يوسف بن أبى السّاج فى وقعة/ كانت بينهما. وكان يوسف قد ندب لقتال القرامطة فأسره القرمطى، ثم قتله. وفيها سار الدمستق فى جيش عظيم من بلاد الروم إلى مدينة دبيل «2» وبها نصر السبكى فى عسكر يحميها وكان مع الدمستق دبّابات ومجانيق، فحاصروا المدينة ونقبوا السّور ودخلوها فقاتلهم

ذكر عزل على بن عيسى عن الوزارة ووزارة أبى على بن مقلة

أهلها ومن فيها قتالا شديدا، فانتصر المسلمون وأخرجوا الرّوم منها وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل. ودخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة: ذكر عزل على بن عيسى عن الوزارة ووزارة أبى علىّ بن مقلة فى هذه السنة عزل علىّ بن عيسى عن وزارة الخليفة ورتّب فيها علىّ بن مقلة، وكان سبب ذلك أنّ عليا لما رأى نقص الارتفاع واختلال الأعمال بوزارة الخاقانىّ والخصيبى وزيادة النفقات استعفى من الوزارة واحتجّ بالشيخوخة وقلّة النّهضة، فأمره المقتدر بالصّبر وقال له: أنت عندى بمنزلة والدى المعتضد! فألحّ فى الاستعفاء، فشاور المقتدر مؤنسا فى ذلك فأشار بمداراته وإبقائه. ثم لقى مؤنس الوزير ولاطفه وسكّنه فأبى/ إلا العزل، وبلغ الخبر ابن مقلة فسعى وضمن الضمانات الكثيرة وواصل بالهدايا واستمال نصرا الحاجب، فساعده عند المقتدر، فأمر فى نصف شهر ربيع الأول بالقبض على علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وخلع على أبى على بن مقلة واستوزره وأعانه عليها أبو عبد الله البريدى لمودّة كانت بينهما. ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب الخال واستيحاش مؤنس فى هذه السنة وقعت الفتنة بين نازوك- صاحب الشرطة- وهارون بن غريب، وأدّت إلى خلع المقتدر. وسبب ذلك أنّ ساسة

دوابّ هارون وساسة دوّاب نازوك تغايروا «1» على غلام أمرد «2» وتضاربوا بالعصىّ، فضرب نازوك ساسة هارون وحبسهم. فسار أصحاب هارون إلى مجلس الشرطة، ووثبوا على نائب نازوك وانتزعوا أصحابهم من الحبس، فركب نازوك وشكا إلى المقتدر بالله فقال: كلاكما عزيز ولست أدخل بينكما! فعاد وجمع رجاله وجمع هارون رجاله، وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون فأغلق بابه، وبقى بعض أصحابه خارج الدار فقتّل فيهم أصحاب نازوك وجرحوا. ففتح هارون الباب، وخرج أصحابه فوضعوا السلاح فى أصحاب نازوك، فقتلوا منهم وجرحوا، واشتبكت الحرب بينهم. وأرسل المقتدر ينكر عليهما ذلك فكفّا، وسكنت الفتنة، واستوحش نازوك. ثم ركب إليه هارون وصالحه، وخرج بأصحابه ونزل بالبستان النجمى ليبعد عن نازوك، فأكثر النّاس الأراجيف وقالوا: قد صار هارون أمير الأمراء! فعظم ذلك على أصحاب مؤنس وكتبوا له بذلك وهو بالرّقّة، فأسرع العود إلى بغداد، ونزل بالشمّاسية فى أعلى بغداد. ولم يلق المقتدر فصعد إليه أبو العباس بن المقتدر والوزير ابن مقلة فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له ثم عادا واستشعر كلّ من المقتدر

ذكر خلع المقتدر بالله وبيعة القاهرة

ومؤنس من صاحبه «1» فأحضر المقتدر هارون بن غريب الخال- وهو ابن خاله- فجعله معه فى داره. فلما علم مؤنس بذلك ازداد نفورا واستيحاشا وأقبل أبو الهيجاء بن حمدان من بلاد الجبل فى عسكر كبير فنزل [عند] «2» مؤنس وترددت المراسلات من الخليفة إلى مؤنس، وانقضت السّنة وهم على ذلك. ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة: ذكر خلع المقتدر بالله وبيعة القاهرة فى هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة وبويع أخوه القاهر بالله محمد بن المعتضد، فبقى يومين ثم أعيد المقتدر بالله. قال «3» : ولما نزل مؤنس باب الشمّاسية وانضم إليه ابن حمدان ونازوك صاحب الشرطة وغيرهما جمع المقتدر عنده هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجّالة المصافية وغيرهم. فلما كان آخر النهار مستهلّ المحرم انفضّ أكثر من عند المقتدر، وخرجوا إلى مؤنس. ثم كتب إلى المقتدر رقعة يذكر أنّ الجيش عاتب منكر للسّرف فيما يطلق باسم الخدم والحرم من الأموال والضياع، ولدخولهم فى الرّأى وتدبير المملكة، ويطالبون بخروجهم من الدار وأخذ ما فى أيديهم من الأموال

والأملاك، وإخراج هارون بن غريب من الدار. فأجابه المقتدر أنه يفعل من ذلك ما يمكنه ويقتصر على ما لا بدّ له منه، واستعطفه وذكره ومن معه ببيعته التى فى أعناقهم مرة بعد أخرى وخوّفهم عاقبة النكث. وأمر هارون أن يخرج من بغداد وأقطعه الثغور الشامية والجزيرية فخرج فى تاسع المحرم، فعندها دخل مؤنس وابن حمدان ونازوك إلى بغداد، وأرجف النّاس أن مؤنسا ومن معه قد عزموا على خلع المقتدر. فلما كان فى الثانى عشر من المحرم خرج مؤنس بالجيش إلى باب الشماسية فتشاوروا ساعة ثم زحفوا «1» /بأسرهم إلى دار الخليفة، فلما قربوا منها هرب المظفّر بن ياقوت الحاجب وسائر الحجّاب والخدم والوزير ابن مقلة، ودخل مؤنس والجيش إلى دار الخليفة وأخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه وأولاده من دار الخلافة، وحملوا إلى دار مؤنس واعتقلوا بها. وبلغ الخبر هارون وهو بقطربّل «2» فدخل بغداد واستتر، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه بالخلافة ولقّبوه القاهر بالله، وأحضروا القاضى أبا عمر عند المقتدر ليشهدوا عليه بالخلع وعنده مؤنس ونازوك وابن حمدان وبنىّ بن يعيش «3» فقال مؤنس للمقتدر ليخلع نفسه من

الخلافة فأجاب وأشهد عليه القاضى بالخلع، فقام ابن حمدان وقال للمقتدر: يا سيدى يعزّ علىّ أن أراك على هذه الحال وقد كنت أخافها عليك وأحذرها وأنصح لك وأحذّرك عاقبة القبول من الخدم والنساء فتؤثر أقوالهم على قولى، وكأنى كنت أرى هذا، وبعد فنحن عبيدك وخدمك! ودمعت عيناه وعينا المقتدر وشهد الجماعة على المقتدر بالخلع وأودعوا الكتاب عند القاضى أبى عمر فكتمه ولم يظهر عليه غيره. فلما عاد المقتدر إلى الخلافة سلّمه إليه وأعلمه أنه ما أطلع عليه أحدا، فاستحسن ذلك منه، وولّاه قضاء القضاة قال «1» : ولما استقرّ/ أمر القاهر بالله أخرج مؤنس المظفر علىّ بن عيسى من الحبس وأقر أبا علىّ بن مقلة على وزارته، وأضاف نازوك مع الشرطة حجبة الخليفة وأقطع ابن حمدان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خرسان حلوان «2» والدّينور وهمذان وكنكور «3» وكرمان شاهان «4»

ذكر عود المقتدر بالله إلى الخلافة وقتل نازوك وابن حمدان

والراذانات ودقوقا «1» وخانيجار «2» ونهاوند والصيمرة «3» والسّيروان «4» وماسبذان «5» وغيرها. ونهبت دار الخليفة ومضى بننىّ بن يعيش إلى بريّة لوالدة المقتدر فأخرج من قبر فيها ستمائة ألف دينار وحملها إلى دار الخليفة. وكان خلع المقتدر للنصف من المحرم منها، ثم سكن النّهب وانقطعت الفتنة. قال «6» : ولما تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّاله المصافية «7» بقلع خيامهم من دار الخليفة وأن لا يعبر الدار إلا من له وطر، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا مقام المصافية، فعظم ذلك عليهم وتقدم إلى خلفاء الحجّاب أن لا يمكّنوا أحدا أن يدخل إلى دار الخليفة إلا من كانت له مرتبة، فاضطرب الحجرية من ذلك. ذكر عود المقتدر بالله الى الخلافة وقتل نازوك وابن حمدان / قال «8» : ولما كان فى يوم الإثنين سابع عشر المحرم بكّر

النّاس إلى دار الخلافة لأنه يوم موكب ودولة جديدة، فامتلأت الممرات والرّحاب وشاطىء دجلة من الناس، وحضر الرجالة المصافية فى السلاح يطالبون بحقّ البيعة ورزق سنة وهم حنقون لما فعل بهم نازوك، ولم يحضر مؤنس المظفّر ذلك اليوم. وارتفعت الأصوات وزعقات الرّجال، فسمعها نازوك فأشفق أن يقع بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال. فأمر أصحابه أن لا يتعرّضوا لهم ولا يقاتلوهم، فزاد شغب الرجالة وهجموا يريدون الصّحن التسعينى، فلم يمنعهم أصحاب نازوك. ودخل من كان على الشّطّ بالسّلاح، وقويت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وعنده الوزير ابن مقلة، ونازوك «1» وأبو الهيجاء ابن حمدان، فقال القاهر لنازوك: اخرج إليهم فسكّنهم وطيّب قلوبهم! فخرج إليهم نازوك وهو مخمور قد شرب طول ليلته، فلما رآه الرجالة تقدموا إليه ليشكوا إليه حالهم بسبب أرزاقهم فخافهم على نفسه وهرب منهم، فطمعوا فيه وتبعوه، فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سدّه بالأمس فقتلوه عنده، وقتلوا خادمه عجيبا وصاحوا: مقتدر يا منصور! فهرب كلّ من كان فى الدّار من الوزير والحجّاب وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة. وصلبوا نازوك وعجيبا بحيث يراهما من على شاطىء دجلة، ثم صار الرجّالة إلى دار مؤنس يصيحون ويطالبونه بالمقتدر بالله. وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة وكانوا جميعا خدم المقتدر ومماليكه وصنائعه.

وأراد ابن حمدان الخروج من الدار فتعلّق به القاهر وقال: أنا فى ذمامك فقال: والله لا أسلّمك أبدا! وأخذ بيده وقال: قم بنا نخرج جميعا، وأدعو أصحابى وعشيرتى فيقاتلون دونك! فقاما ليخرجا فوجدا الأبواب مغلقة ومعهما فائق المعروف بوجه القصعة، فأشرف القاهر من سطح فرأى كثرة الجمع، فنزل هو وابن حمدان وفائق فقال ابن حمدان للقاهر: قف حتى أعود إليك! ونزع سواده وثيابه وأخذ جبّة صوف لغلام هناك فلبسها ومشى نحو باب النوبىّ «1» فرآه مغلقا والناس حوله. فعاد إلى القاهر وتأخر عنهما وجه القصعة، وأمر من معه من الخدم بقتلهما أخذا بثأر المقتدر وما صنعا به، فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسّلاح «2» ، فعاد إليهم أبو الهيجاء وسيفه بيده فقاتلهم فقتلوه، وهرب القاهر إلى آخر البستان واختفى. وأما الرجّالة فإنهم لما انتهوا إلى دار مؤنس وسمع زعقاتهم قال: ما الذى تريدون؟ قالوا: نريد المقتدر! فأمر/ بتسليمه إليهم فامتنع المقتدر من ذلك وخاف أن تكون حيلة، فحمل وأخرج إليهم فحملوه على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة. فلما حصل فى الصّحن التسعينى اطمأنّ وجلس وسأل عن أخيه القاهر وعن ابن حمدان فقيل إنهما حيّان فامّنهما بخطّه، وأمر خادما بالسّرعة بكتاب الأمان لئلا يحدث على أبى الهيجاء حادث، فمضى بالخط إليه فلقيه خادم

ومعه رأسه فرجع به إلى المقتدر، فلما رآه استرجع وقال: ما كان يدخل إلىّ ويسلينى ويطهّر لى الغمّ غيره! ثم أخذ القاهر وأحضر إلى المقتدر فأجلسه إلى جانبه وقبّل جبينه وقال: قد علمت أنّك لا ذنب لك وأنك قهرت ولو لقّبوك بالمقهور كان أولى بك من القاهر! والقاهر يبكى ويقول: يا أمير المؤمنين نفسى نفسى اذكرنّ الرّحم التى بينى وبينك! فحلف له أنه لا يناله بسوء أبدا «1» ، فسكن. قال» : ثم أخرج رأس نازوك ورأس أبى الهيجاء وشهرا، ونودى عليهما «هذا جزاء من عصى مولاه» وأما بنىّ بن يعيش فإنه كان من أشدّ القوم على المقتدر بالله، فهرب عن بغداد وغيّر زيّه وسار حتى بلغ الموصل ومنها إلى أرمينية، وسار حتى دخل القسطنطينة وتنصّر. وهرب أبو السرايا نصر بن حمدان أخو أبى الهيجاء إلى الموصل وسكنت الفتنة. وعاد الوزير ابن مقلة إلى/ وزارته، وكتب إلى البلاد بهذه الحادثة، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم وباع ما فى الخزائن من الأمتعة والجواهر، وأذن فى بيع الأملاك من الناس فبيع ذلك بأرخص الأثمان لتتم أعطيات الجند. وقيل إن مؤنسا المظفر لم يكن مؤثرا لما جرى على المقتدر من الخلع، وإنما وافق الجماعة مغلوبا على رأيه ولعلمه أنه إن خالفهم لم ينتفع به المقتدر فوافقهم ليأمنوه وسعى مع الغلمان المصافية والحجربة ووضع قوادهم على أن عملوا ما عملوا، فلهذا أمّنه المقتدر. وأما القاهر

فإن المقتدر حبسه عند والدته فأحسنت إليه وأكرمته ووسعت عليه النّفقة واشترت له السرارى والجوارى للخدمة وبالغت فى إكرامه نعود إلى بقية حوادث سنة ست عشرة [وثلاثمائة] فيها وصل الدمستق «1» فى جيش كبير «2» من الروم إلى أرمينية فحصروا خلاط «3» فصالحه أهلها، وأخرج المنبر من الجامع وجعل مكانه صليبا ورحل إلى بدليس «4» ففعل بها مثل ذلك وخافه أهل أرزن «5» الروم وغيرهم، ففارقوا بلادهم، وانحدر أعيانهم إلى بغداد فلم يغاثوا. وفيها وصل سبعمائة رجل من الروم والأرمن إلى ملطية ومعهم الفؤوس والمعاول وأظهروا أنهم يتكسبون بالعمل، ثم ظهر أن مليحا الأرمنى صاحب الدروب/ وضعهم ليكونوا بها، فإذا حضر سلّموها إليه، فعلم بهم أهل ملطية فقتلوهم [عن آخرهم «6» وفى سنة سبع عشرة جاء أبو طاهر القرمطى إلى مكة يوم التروية «7» فنهب أموال الحجاج، وقتلوهم حتى فى المسجد الحرام وفى البيت، وقلع الحجر الأسود، وفعل ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.

ذكر هلاك الرجالة المصافية

ودخلت سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة: ذكر هلاك الرجالة المصافية فى هذه السنة هلك الرجالة المصافية فى المحرم. وسبب ذلك أنهم لما أعادوا المقتدر إلى الخلافة- كما ذكرنا- زاد إدلالهم واستطالتهم، وصاروا يقولون أشياء لا يحتملها الخلفاء، منها أنهم يقولون: من أعان ظالما سلّط عليه، ومن يصعد الحمار إلى السّطح يقدر أن يحطه وإن لم يفعل المقتدر معنا ما نستحقه قابلناه بما يستحق! إلى غير ذلك، وكثر شغبهم ومطاولتهم وأدخلوا فى الأرزاق أولادهم وأهليهم ومعارفهم وأثبتوا أسماءهم، فصار لهم فى الشهر مائة ألف وثلاثون ألف دينار. واتفق أن الفرسان شعبوا فى طلب أرزاقهم فقيل لهم إن بيت المال فارغ وقد انصرفت الأموال إلى الرّجّالة، فثار بهم الفرسان واقتتلوا «1» /فقتل من الفرسان جماعة فاحتج المقتدر على الرجالة بقتلهم وأمر محمد ابن ياقوت «2» صاحب الشرطة فطرد الرّجّالة من دار المقتدر ونودى فيهم بخروجهم عن بغداد ومن أقام حبس، وهدّمت دور عرفائهم وقبضت أملاكهم، وظفر بعد النّداء بجماعة منهم فضربهم وحلق لحاهم وشعورهم

ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان

وشهرهم. وهاج السودان تعصّبا للرّجّالة فركب محمد أيضا فى الحجربة وأوقع بهم وأحرق منازلهم، فاحترق فيها جماعة منهم ومن أولادهم ونسائهم، فخرجوا إلى واسط واجتمع منهم جمع كبير وتغلّبوا عليها وطردوا عامل الخليفة، فسار إليهم مؤنس فأوقع بهم وأكثر القتل فبهم، فلم يقم لهم بعدها قائمة. ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان فى هذه السنة عزل أبو على محمد بن مقلة عن وزارة الخليفة. وكان سبب عزله أن المقتدر كان يتهمه بالميل إلى مؤنس المظفّر وكان المقتدر مستوحشا من مؤنس ويظهر له الجميل، فاتّفق أنّ مؤنسا خرج إلى أوانا وعكبرا، فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى فقبض عليه وكان بين ابن مقلة وبين محمد بن ياقوت عداوة فأنفذ إلى داره من حرقها ليلا. قال: وأراد المقتدر أن/ يستوزر الحسين بن القاسم بن عبد الله وكان مؤنس قد عاد، فأنفذ إلى المقتدر يسأل أن يعاد ابن مقلة فلم يجبه إلى ذلك وأراد قتله، فردّه علىّ بن عيسى عن ذلك فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين، فتركه واستوزر سليمان بن الحسن فى منتصف جمادى الآخرة، وأمر المقتدر علىّ بن عيسى بالاطّلاع على الدواوين وأن لا ينفرد سليمان عنه

ذكر خروج صالح والأغر

بشىء. وصودر ابن مقلة بمائى ألف دينار، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة «1» أيام وفيها أمر المقتدر بالقبض على أولاد البريدى. وكان ابن مقلة لما ولى الوزارة قلّدهم الأعمال، فقلد أبا عبد الله الأهواز جميعها سوى السوس «2» وجنديسابور وقلّد أخاه الحسين الفراتية، وقلد أخاهما يوسف الخاصة والأسافل، وارتشى منهم على ذلك عشرين ألف دينار من أبى عبد الله. فلما قبض على ابن مقلة كتب المقتدر بخطّه إلى أحمد بن نصر القشورى الحاجب يأمره بالقبض عليهم، ثم استحضرهم إلى بغداد، وصودروا على أربعمائة ألف دينار، وكان لا يطمع منهم بهذا المبلغ وإنما طلب منهم ليجيبوا إلى بعضه فأجابوا إلى الجميع. ذكر خروج صالح والأغر فى هذه السنة فى جمادى الأولى خرج خارجى من بجيلة من أهل/ البوازيج «3» بها اسمه صالح بن محمود وعبر إلى البريّة، واجتمع إليه جماعة من بنى مالك. وسار إلى سنجار «4» فأخذ من أهلها مالا وخطب بها، فذكّر بأمر الله وحذّر وأطال فى هذا

ثم قال: نتولّى الشيخين ونبرأ من الخبيثين ولا نرى المسح على الخفّين! وسار منها إلى الشجاجية من أرض الموصل فطالب أهلها بالعشر ثم انحدر إلى الحديثة تحت الموصل وطالب المسلمين بزكاة أموالهم والنّصارى بجزية رؤوسهم فجرى بينهم حرب فقتل من أصحابه جماعة، فعبر إلى الجانب الغربى فأسر أهل الحديثة ابنا له اسمه محمد فأدخلوه الموصل. ثم صار صالح إلى السن «1» فصالحه أهلها على مال أخذه، وانحدر إلى تكريت فحاربه أهلها فقتل منهم جماعة ثم صالحوه على مال أخذه منهم، وانصرف إلى البوازيج وتنقّل فى بلاد الموصل فسار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من السنة فقاتله قتالا شديدا فقتل من رجال صالح نحو مائة رجل، وأسر صالح وابنان له فأدخلوا إلى الموصل، وحملوا إلى بغداد فأدخلوا مشهّرين. وخرج فى شعبان خارجىّ بارض الموصل اسمه الأغرّبن مطر «2» الثغلبى، وسار من رأس عين إلى كفرتوثا واجتمع عليه ألف رجل فدخلها ونهبها وقتّل فيها، وسار إلى نصيبين فنزل بالقرب منها فقاتله/ أهلها ومعهم جمع من الجند فقتل منهم مائة رجل وأسر ألف رجل فباعهم نفوسهم، وصادر أهلها على أربعمائة ألف درهم. وبلغ خبره ناصر الدولة بن حمدان- وهو أمير ديار ربيعة-

ذكر عزل سليمان عن الوزارة

فسيّر إليه جيشا فقاتلوه فظفروا به وأسروه فسيّره ناصر الدولة إلى بغداد. وفيها خلع المقتدر بالله على ابنه هارون، وركب معه الوزير والجيش وأعطاه ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران. وفيها أيضا خلع على ابنه أبى العباس الراضى وأقطعه بلاد المغرب ومصر والشام وجعل مؤنسا المظفر يخلفه فيها، وحج بالناس عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمى. ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة ذكر عزل سليمان عن الوزارة وتولية أبى القاسم الكلوذانى الوزارة فى هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان. وسبب ذلك أن الأموال ضاقت عليه، وكثرت المطالبات من الجند وغيرهم بأرزاقهم، واتصلت رقاع من يرشّح للوزارة بالسّعاية فيه والضمان بالقيام بأرزاق الجند وأرباب الوظائف، فأمر المقتدر بالقبض عليه/ وكان المقتدر يميل إلى وزارة الحسين بن القاسم، فامتنع مؤنس من الموافقة عليه، وأشار بتولية أبى القاسم الكلوذانىّ فاستوزره المقتدر بالله لثلاث بقين من شهر رجب، فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين، ولم يستمر الكلوذانىّ فى الوزارة غير شهرين وثلاثة أيام.

ذكر عزل الكلوذانى ووزارة الحسين

ذكر عزل الكلوذانى ووزارة الحسين فى هذه السنة عزل أبو القاسم الكلودانىّ عن وزارة الخليفة، ووزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب. وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد إنسان يعرف بالدانيالى وكان زرّافا ذكيا محتالا، فكان يعتّق الكاغد ويكتب فيه أشياء قد وقعت فيما مضى من الزمان وأشياء تقع فى المستقبل ويرى ذلك للناس. واتصل هذا الدانيالى بمفلح الخادم وأظهره على أشياء استماله بها. فتوصّل الحسين لهذا الرجل حتى جعل اسمه فى جملة كتاب وضعه وعتّقه، وذكر فيه علامة فى وجهه وما فيه من الآثار ويقول «إنه يزر للخليفة الثامن عشر من الخلفاء العباسيين وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعادى» وذكر فى هذا الكتاب حوادث وقعت وحوادث تقع فى المستقبل، ونسب ذلك إلى دانيال. وقرأ الكتاب على مفلح فأخذه/ منه وأوقف المقتدر عليه فقال له: أتعرف فى الكتاب من هو بهذه الصفة؟ فقال: ما أعرف إلا الحسين بن القاسم قال: صدقت، قلبى يميل إليه، فإن جاءتك رقعة منه فاعرضها علىّ واكتم حاله. فخرج مفلح إلى الدنيالى وقال: هل تعرف فى الكتّاب من هو بهذه الصفة؟ قال: لا! قال: فمن أين لك هذا الكتاب؟ قال: ورثته عن أبى، وورثه أبى عن آبائه، وهو من ملاحم دانيال عليه السلام! فأعاد ذلك إلى المقتدر بالله فقبله. فكتب الحسين

ذكر تأكيد الوحشة بين مؤنس والمقتدر

رقعة إلى مفلح وهو يطلب الوزارة، فكان ذلك من أعظم الأسباب لوزارته مع كثرة الكارهين له. ثم اتفق أنّ الكلوذانىّ عمل حسبة بما يحتاج إليه من النفقات ومالهم «1» من الأموال وعليها خطوط الدواوين فبقى يحتاج إلى سبعمائة ألف دينار لا جهة لها، فعرضها على المقتدر وقال: ليس لهذه جهة إلا ما يطلقه أمير المؤمنين من بيت مال الخاصة! فعظم ذلك على المقتدر، وكتب الحسين رقعة عندما بلغه ذلك سأل فيها الوزارة وأنه يضمن جميع النفقات ويستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار تكون فى بيت المال، فاستقال الكلوذانى، فعزل لليلتين بقبتا من شهر رمضان، واستوزر المقتدر بالله الحسين بن القاسم فى هذا التاريخ ذكر تأكيد الوحشة بين مؤنس والمقتدر / فى هذه السنة فى ذى الحجة تجددت الوحشة بينهما. وسبب ذلك أن مؤنسا بلغه أنّ الوزير قد وافق جماعة من القوّاد فى التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس. وبلغ الوزير أن مؤنسا يريد أن يكبس داره ليلا ويقبض عليه، فتنقل فى عدّة مواضع ثم انتقل إلى دار الخلافة. وطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته فأجابه إلى عزله ولم يصادره، وأمر الحسين بلزوم داره فلم يقنع مؤنس بذلك فبقى فى وزارته. فأوقع الحسين عند المقتدر أن مؤنسا

ذكر مسير مؤنس إلى الموصل

يريد أخذ ولده أبى العباس ويسيره إلى الشام ويبايع له، فردّه المقتدر إلى دار الخلافة فعلم ذلك أبو العباس، فلما أفضت إليه الخلافة فعل بالحسين ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكتب الحسين إلى هارون- وهو يريد العاقول- بعد انصرافه من حرب مرداويج وانهزامه وهو يستقدمه إلى بغداد، وكتب إلى محمد بن ياقوت- وهو بالأهواز- يأمره بالإسراع إلى بغداد، فصحّ عند مؤنس أن الوزير يدبّر عليه وزاد مؤنسا نفارا. ودخلت سنة عشرين وثلاثمائة: ذكر مسير مؤنس الى الموصل فى هذه السنة فى المحرم سار مؤنس المظفر إلى الموصل مغاضبا، للمقتدر لما صح عنده إرسال الوزير إلى هارون بن غريب الخال ومحمد بن ياقوت يستحضرهما. قال: «1» وسير مؤنس خادمه بشرى «2» برسالة إلى المقتدر، فسأله الحسين عن الرسالة فقال: لا أذكرها إلا لأمير المؤمنين. فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر رسالته للوزير فامتنع وقال: ما أمرنى صاحبى بهذا! فسبه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار وأخذ خطّه بها وحبسه ونهب داره. فلما بلغ مؤنسا ما جرى على خادمه وكان ينتظر أنّ المقتدر يطيّب قلبه ويعيده، سار ومعه جميع قوّاده ومماليكه، ومعه من الساجية ثمانمائة رجل. فتقدم الوزير بقبض إقطاع

ذكر عزل الحسين عن الوزارة

مؤنس وأملاكه وأملاك من معه، فحصّل من ذلك أموالا عظيمة فزاد ذلك فى محلّه عند المقتدر ولقّبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدنانير والدراهم وتمكّن من الوزارة وولى وعزل ثم أخذ فى التهوير فعزله المقتدر بالله. ذكر عزل الحسين عن الوزارة ووزارة ابن الفرات كان سبب عزله أنه ضاقت عليه الأموال وكثر الخرج، فاستسلف جملة من مال هذه السنة وأخرجها فى سنة تسعة عشر. فأنهى هارون/ بن غريب ذلك إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيبى. فلما تولّى معه نظر فى أعماله فرآه قد عمل حسبة للمقتدر ليس فيها عليه [وجه] «1» فأظهر ذلك للمقتدر، فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال. فاعترفوا بصدق الخصيبى وقابلوا الوزير، فقبض عليه فى شهر ربيع الآخر فكانت وزارته سبعة أشهر إلا أياما. واستوزر المقتدر بالله الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات «2» ، وسلم إليه الحسين بن القاسم فلم يؤاخذه بإساءته. ذكر استيلاء مؤنس على الموصل قال «3» : ولما سار مؤنس إلى الموصل كتب الحسين الوزير إلى سعيد وداود ابنى حمدان وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن

ذكر مقتل المقتدر بالله

ابن عبد الله بن حمدان يأمرهم بمحاربته وصدّه عن الموصل، فاجتمع بنو حمدان على محاربته إلا داود فإنه امتنع لإحسان مؤنس إليه؛ فإنه قد كان ربّاه فى حجره بعد أبيه فما زال به إخوته حتى وافقهم، ولما أجابهم قال لهم: إنكم لتحملونى على البغى وكفران النّعمة والإحسان وما آمن أن يجيئنى سهم عاثر فيقع فى نحرى فيقتلنى! فلما التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله، ولما قرب مؤنس من الموصل كان فى ثمانمائة فارس. واجتمع بنو حمدان فى ثلاثين ألفا فالتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدن/ ودخل مؤنس الموصل واستولى على أموال بنى حمدان وديارهم، فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر، وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه وكان دخول مؤنس إلى الموصل فى ثالث صفر، وأقام بها سبعة أشهر، وعزم على الانحدار إلى بغداد. ذكر مقتل المقتدر بالله قال «1» : ولما اجتمعت العساكر إلى مؤنس بالموصل قالوا له: اذهب بنا إلى الخليفة فإن أنصفنا وأجرى أرزاقنا وإلا قاتلناه فانحدر مؤنس من الموصل فى شوّال، وبلغ خبره جند بغداد فشغبوا وطلبوا أرزاقهم، ففرّق المقتدر فيهم أموالا كثيرة إلا أنها لم تسعهم وأنفذ المقتدر أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصرى فى خيل عظيمة إلى سامراء. وأنفذ أبا بكر محمد

ابن ياقوت فى ألفى فارس ومعه الغلمان الحجرية إلى المعشوق. فلما وصل مؤنس إلى تكريت جعل العسكر الذين مع ابن ياقوت يتسللون ويهربون إلى بغداد، ونزل مؤنس بباب الشمّاسية فلما رأى ذلك رجع ابن ياقوت إلى عكبرا، وسار مؤنس فتأخر ابن ياقوت وغيره وعادوا إلى بعداد. ونزل مؤنس بباب الشماسيّة، ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم واجتهد المقتدر بخاله «1» هارون بن غريب/ ليخرج فلم يفعل وقال: أخاف من عسكرى فإنّ بعضهم أصحاب مؤنس وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج فأخاف أن يسلمونى وينهزموا عنى! فلم يزل به حتى أخرجه، وأشار النّاس على المقتدر بإخراج المال منه ومن أمّه ليرضى الجند وقالوا: إنه متى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرقوا عنه، فاضطر إلى الهرب فقال: لم يبق لى ولا لوالدتى شىء! وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط ويكاتب العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان وغيرها ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع إليه العساكر ويعود إلى قتاله، فردّد ابن ياقوت عن ذلك، وزيّن له اللقاء وقوّى نفسه أنّ القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره، ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف منشورة وعليه البردة «2»

والناس حوله، فوقف على تلّ عال بعيد من المعركة فأرسل إليه قواده يسألونه التّقدّم مرة بعد أخرى، فلما ألحّوا عليه تقدّم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم. وكان قد أمر فنودى. «من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة» . فلما انهزم أصحابه لقيه علىّ بن يلبق- وهو من أصحاب مؤنس- فترجّل وقبل الأرض وقال له: أين تمضى؟ ارجع، فلعن الله من أشار عليك/ بالحضور! فأراد الرّجوع، فلحقه قوم من المغاربة والبربر، فتركه علىّ وسار، فشهروا سيوفهم فقال: ويحكم أنا الخليفة! فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إبليس، تبذل فى كلّ رأس خمسة دنانير وفى كلّ أسير عشرة دنانير. وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض، وذبحه بعضهم- وقيل إنّ علىّ بن يلبق رمز إلى بعضهم فقتله- وذلك فى يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوّال سنة عشرين وثلاثمائة. قال «1» : ولما قتل رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل أكّار فستره بحشيش، ثم حفر له فى موضعه ودفن، وعفا قبره. هذا ومؤنس فى الراشدية لم يشهد الحرب، فلما حمل رأس المقتدر إليه بكى ولطم وجهه ورأسه وقال: يا مفسدون ما هكذا أوصيتكم، والله لنقتلنّ كلّنا، وأقلّ ما فى الأمر أن تظهروا أنكم قتلتموه خطأ ولم تعرفوه!

وتقدم مؤنس إلى الشمّاسية، وأنفذ إلى دار الخلافة من يمنعها من النّهب. ومضى عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومحمد ابن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن. وكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم واستبدادهم، وانحرفت حرمة الخلافة لقتل المقتدر، وضعف أمرها حتى انتهى إلى ما نذكره إن شاء الله تعالى «1» . قال «2» : وقتل وعمره ثمان وثلاثون سنة وخمسة أيام، وكان مدّة خلافته أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وستة عشر يوما، وكان ربع «3» القامة درّىّ اللون أحور أصهب، وكان نقش خاتمة «الحمد لله الذى ليس كمثله شىء وهو السميع خالق كل شىء» ويقال إن المقتدر بذّر من الأموال تضييعا فى غير وجهها نيّفا وتسعين ألف ألف دينار «4» سوى ما أنفقه فى الوجوه، وكان يصرف إلى الحرمين وفى طريقهما فى كلّ سنة ثلاثمائة ألف وخمسة عشر ألف دينار وأربعمائة وستة وعشرين دينارا، وإلى الثغور أربعمائة الف وواحدا وتسعين ألفا وأربعمائة وستة وخمسين دينارا وكان يجرى على القضاة فى كلّ الممالك ستة وخمسين ألفا

وخمسمائة وواحدا وأربعين دينارا. وعلى الفقهاء بالحضرة ثلاثة عشر ألفا وخمسمائة وتسعة وستين دينارا، وعلى من يتولّى الحسبة والمظالم فى جميع البلاد أربعة وثلاثين ألفا وأربعمائة وتسعة وثلاثين دينارا، وعلى أصحاب البريد تسعة وسبعين ألفا وأربعمائة دينار، وغير ذلك من الجرايات على أصناف الناس وطبقاتهم. وعجز ارتفاع ممالكه عن نفقاته ألفى ألف وتسعة وثمانين ألفا وثمانمائة وأربعة وسبعين دينارا، ولم ينقض أحدا شيئا فأنفق ما كان فى بيوت الأموال قبله «1» . قال «2» : ومات فى أيامه خمسة عشر ألف أمير ومقدّم مذكور فكانت والدته تطوى عنه الرزايا والفجائع وتقول: إظهارها يؤلم قلبه! فأدّى ذلك إلى انتشار الفساد فى ممالكه» . وكان الناس قد ملّوا أيّامه لطولها، حتى إذا تصرّمت تمنّوا ساعة منها، فأعوزتهم، وشملتهم الحوادث والطوارق. وكان له من الأولاد الرّاضى والمتقى والمطيع وعبد الواحد وعباس وهارون وعلىّ وإسماعيل وعيسى وموسى وأبو العباس «4» .

ووزر له من ذكرنا وهم: العباس بن الحسن «1» ، وأبو الحسن بن الفرات ثلاث دفعات وقد ذكرنا أخباره، ومحمد بن عبد الله بن خاقان. وعلى بن عيسى دفعتين، وكان موصوفا بالعلم والدين والعقل، وساس الدنيا السياسة التى عمّرت البلاد، وكان يستغل ضياعه فى السنة سبعمائة ألف دينار يخرج منها فى وجوه البرّ ستمائة ألف دينار وينفق أربعين ألف دينار على خاصته، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله، ولما حبس كان يلبس ثيابه ويتوضأ ويقوم ليخرج إلى صلاة الجمعة فيرده الموكلون به فيقول: اللهمّ اشهد! وكانت له آثار حسنة ومآثر جميلة منها أنه أشار على المقتدر/ أن يوقف المستغلّات ببغداد على الحرس والثغور- وغلّتها فى كلّ شهر ثلاثة عشر ألف دينار- والضياع الموروثة بالسّواد وارتفاعها نيّف وثمانون ألف دينار سوى الغلة، ففعل ذلك وأفرد لهذا الوقف ديوانا سمّاه ديوان البرّ، وكان يجرى على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنة لم يزل فيها نعمة أحد ولم يقتل أحدا، ولم يسع فى ذمّه ولم يهتك حرمة أحد، ومات فى آخر ذى الحجة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة «2» وله تسع وثمانون سنة وستة أشهر ويوم واحد، رحمه الله!

ووزر له حامد بن العباس، وأبو القاسم الخاقانى، وأحمد بن عبد الله الخصيبى، وأبو على بن مقلة، وسليمان بن الحسين بن مخلد، وعبد الله الكلوذانىّ، والحسين بن القاسم بن عبيد الله، والفضل ابن جعفر بن الفرات. قضاته: يوسف بن يعقوب ثم ابنه محمد «1» بن يوسف، ثم أبو عمر، ثم عبد الله بن أبى الشوارب، ثم ابنه محمد، ثم أحمد بن إسحاق بن البهلول، ثم عمر بن محمد بن يوسف، والحسن بن عبد الله، وعمر بن الحسن بن أبى الشوارب. حجّابه: سوسن مولى المكتفى؛ ونصر القشورىّ، وياقوت مولى المعتضد، وغيرهم. الأمراء بمصر: عيسى النّوشرى، ثم تكين الخزرى «2» ، ثم وصل مؤنس/ إلى مصر فصرف تكين وولّاها ذكاء الأعور ثم مات فأعيد تكين، ثم هلال بن بدر، ثم أحمد بن كيغلغ «3» ، ثم تكين مرة ثالثة. القضاة بها: أبو عبيد الله بن على بن الحسين البزّاز «4» إلى أن ورد كتاب ابن الفرات بصرفه وردّ القضاء إلى عبد الله بن

ذكر خلافة القاهر بالله

مكرم شابّ من شهود أبى عمر، فاستخلف له أبو الذكر محمد بن يحيى التمّار، ثم ورد إبراهيم بن محمد الطبرى خليفة لعبد الله، ثم صرف عبد الله وولى إبراهيم بن حمّاد فاستخلف أبا علىّ عبد الرحمن بن إسحاق، ثم صرف هارون وولى أبو محمد عبد الله بن أحمد بن رزين، وولىّ تكين أبا هاشم إسماعيل بن عبد الواحد الرّبعى. ذكر خلافة القاهر بالله هو أبو منصور محمد بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد و [قد] «1» تقدم ذكر نسبه، وأمّه أمّ ولد اسمها قبول. وهو التاسع عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد مقتل أخيه المقتدر فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. قال. «2» ولمّا قتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس كما ذكرناه فقال:/ الرأى ننصب ولده أبا العباس فى الخلافة فإنه تربيتى، وهو صبىّ عاقل فيه دين وكرم ووفاء بما يقول، فإذا جلس فى الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه ببذل الأموال ولم ينتطح فى قتل المقتدر عنزان! فعارضه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختى «3» وقال: بعد الكدّ استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبرونه فنعود إلى تلك الحالة، لا والله لا نرضى إلا برجل كامل يدبر نفسه ويدبرنا!

وما زال حتى ردّ مؤنسا عن رأيه، وذكر له أبا منصور محمد فأجابه مؤنس إلى ذلك. وكان النوبختى فى ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه! فإنّ القاهر قتله كما نذكر إن شاء الله تعالى، فأمر مؤنس بإحضاره فبايعوه بالخلافة، ولقّبوه القاهر بالله. وكان مؤنس كارها لخلافته والبيعة له ويقول: أنا عارف بشرّه وسوء نيته ولكن لا حيلة! قال: «1» ولما بويع استحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه علىّ بن يلبق، وأخذ خطّه بذلك. ولما استقرّت الخلافة له وبايعه النّاس استوزر أبا علىّ بن مقلة وكان بفارس فاستقدمه، واستحجب علىّ بن يلبق. وشرع القاهر فى البحث عمن استتر من أولاد أخيه المقتدر وحرمه، وأحضر والدته «2» - وكانت مريضة بالاستسقاء- وسألها عن المال/ فاعترفت له بما عندها من المصوغ والثياب ولم تعترف بشىء من المال والجوهر، فضربها أشدّ ما يكون من الضرب وعلّقها برجلها وضرب المواضع المستورة من بدنها فحلفت أنها لا تملك غير ما أطلعته عليه وقالت: لو كان عندى مال لما سلّمت ولدى للقتل! ولم تعترف بشىء وصادر جميع حاشية المقتدر بالله وأصحابه، وأخرج والدته لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنها قد حلّت أوقافها ووكّلت فى بيعها، فامتنعت من ذلك وقالت: قد أوقفتها على أبواب البرّ والقربات

ذكر خبر عبد الواحد بن المقتدر ومن معه

بمكة والمدينة والثّغور وعلى الضعفاء والمساكين ولا أستحل حلّها ولا بيعها، وإنما أوكل فى بيع أملاكى! فلما علم القاهر بذلك أحضر القاضى والشهود وأشهد هم على نفسه أنه قد حل وقوفها جميعها ووكل فى بيعها، فبيع ذلك كله واشتراه الجند من أرزاقهم. وتقدم القاهر بكبس الدار التى سعى إليه أنّ أولاد المقتدر اختفوا بها، فلم يزل كذلك إلى أن وجد منهم أبا العباس الراضى وعليّا والعباس وهارون وإبراهيم والفضل فحملوا إلى دار الخلافة فصودروا على مال كثير، وسلّمهم على بن يلبق لكاتبه الحسن بن هارون، فأحسن صحبتهم وخدمهم. قال: «1» وقبض الوزير على جماعة من العمال وعزل بنى البريدىّ وصادرهم. / ودخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة: ذكر خبر عبد الواحد بن المقتدر ومن معه كان عبد الواحد بن المقتدر بالله قد هرب عند قتل أبيه ومعه هارون بن غريب ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن كما قدمنا، ثم انحدروا منها إلى واسط، فخافهم الناس. فأما هارون بن غريب «2» فإنه كتب إلى بغداد فى طلب الأمان لنفسه ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه وينزل

عن الأملاك التى استأجرها، ويؤدى من أملاكه حقوق بيت المال القديمة. فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان. وقلّد أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهرجانقذق، وسار إلى بغداد وأما عبد الواحد فإنه خرج من واسط فيمن بقى معه ومضوا إلى السوس وسوق الأهواز فجنوا المال وطردوا العمال، وأقاموا بالأهواز، فجهز مؤنس إليهم جيشا كثيفا وجعل عليه يلبق وكان الذى حرّضهم على إيفاد الجيش أبو عبد الله البريدى وبذل مساعدته معجلة خمسين ألف دينار على أن يولىّ الأهواز وعند استقراره فى الولاية يعجّل ما بقى. فسنار الجيش وفيهم أبو عبد الله، وكان محمد بن ياقوت قد استبدّ/ بالأموال والأمر، فنفرت قلوب من معه من القوّاد لذلك. فلما قرب يلبق من واسط أظهروا ما فى نفوسهم وفارقوه. ولما وصل إلى السوس فارق عبد الواحد ومحمد بن ياقوت الأهواز وسار إلى تستر، وفارقهما من معهما من القواد إلى يلبق بأمان. وبقى مفلح وسرور الخادم مع عبد الواحد فقالا لمحمد بن ياقوت: أنت معتصم بهذه المدينة وبمالك ورجالك ونحن لا مال معنا ولا رجال ومقامنا يضرّك ولا ينفعك وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر،! فأذن لهما فى ذلك فكتب إلى يلبق فأمّنهم، فعبروا إليه. وبقى محمد بن ياقوت منفردا فتحير وضعفت نفسه فتراسل هو ويلبق واستقر بينهما أن يلبق يؤمنه ويضمن له أمان مؤنس والقاهر، ففعل. وخرج محمد بن ياقوت

ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر

معه إلى بغداد ولما وصلوا وفى لهم القاهر بالله، وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لوالدته المصادرة التى كان صادرها بها. واستولى أبو عبد الله البريدىّ على البلاد، وعسف أهلها، وأخذ أموال التجار وعمل بأهل البلاد ما لا تعمله الفرنج ولم يمنعه أحد عما يريد وأعاد إخوانه إلى أعمالهم. ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر / فى هذه السنة استوحش مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وولده علىّ والوزير أبو على بن مقلة من القاهر بالله وضيقّوا عليه وعلى أسبابه. وكان سبب ذلك أن محمد بن ياقوت تقدم عند القاهر وعلت منزلته وصار يخلوبه ويشاوره، فعظم ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين ابن ياقوت؛ فألقى إلى مؤنس أن محمدا يسعى به عند القاهر وأن عيسى الطبيب يسفر بينهما فى التدبير عليه، فوجّه مؤنس علىّ بن يلبق لإحضار عيسى الطبيب فوجده بين يدى القاهر، فأخذه وأحضره عند مؤنس فسيره من ساعته إلى الموصل، واجتمعوا على الإيقاع بمحمد بن ياقوت وكان فى الخيام. فركب على ابن يلبق فى جند ليكسه، فوجده قد اختفى فنهب أصحابه، واستتر محمد بن ياقوت. ووكل على بن يلبق على دار الخليفة أحمد بن زيزك «1» وأمره بالتضييق على القاهر بالله وتفتيش كل من يدخل الدار ويخرج منها،

ذكر القبض على مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وابنه

وأن يكشف وجوه النساء، وإن وجد رقعة رفعها إلى مؤنس ففعل ذلك وزاد عليه حتى إنه جمل إلى دار القاهر لبن فأدخل يده فيه. ونقل يلبق من كان بدار القاهر محبوسا إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها، وقطع أرزاق حاشيته. فعلم القاهر أن العتاب لا يفيد وأنّ ذلك برأى مؤنس وابن مقلة، فأخذ فى الحيلة والتدبير/ على جماعتهم. وكان قد عرف فساد قلب طريف السبكرى وبشرى خادم مؤنس «1» وحسدهما ليلبق وولده على مراتبهما، فشرع فى إغرائهما بيلبق وابنه. وعلم أيضا أن مؤنسا ويلبق أكثر اعتمادهما على الساجية أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمان المنتقلين إليهما بعده، وكانا قد وعداهم بالموصل مواعد أخلفاها فأرسل القاهر إليهم وأغراهم بهما وحلف لهم على الوفاء بما أخلفاه، فتغيرت قلوب الساجية. ثم أرسل أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله وكان صاحب مشورة ابن مقلة، ووعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار. ذكر القبض على مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وابنه وسبب ذلك أنه صحّ عندهم أن القاهر يدبّر عليهم فخافوه، وحملهم الخوف على الجدّ فى خلعه، واتّفق رأيهم على البيعة لأبى أحمد بن المكتفى، فاستخلفوه وعقدوا له البيعة سرّا، وحلف له يلبق وابنه علىّ والوزير ابن مقلة والحسن بن هارون ثم كشفوا الأمر لمؤنس فقال: لست أشكّ فى شرّ القاهر وخبثه، ولقد كنت كارها

/ لخلافته وأشرت بابن المقتدر بالله فخالفتم رأيى، وفد بالغتم فى الاستهانة به وما صبر على الهوان إلا من خبث طويّته ليدبّر عليكم، فلا تعجلوا حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم تعرفوا من وطأه من القواد والساجبة والحجرية واعملوا بعد ذلك! فقال علىّ بن يلبق والحسن بن هارون: ما يحتاج إلى هذا التطويل فإن الحجبة لنا والدار فى أيدينا وما نحتاج [إلى] «1» أن نستعين فى القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر فى قفص! وعملوا على معالجته. فاتفق أن سقط يلبق من الدّابة فاعتلّ ولزم بيته، فاتفق على وابن مقلة وحسّنا لمؤنس خلع القاهر وهوّنا عليه أمره، فأذن لهما. فاتّفق رأيهما على أن يظهر أنّ أبا طاهر القرمطى دخل الكوفة وأن علىّ بن يليق سائر لقتاله ومنعه من بغداد، فإذا دخل لوداع القاهر بالله قبض عليه،. فأشاعا ذلك، وكتب ابن مقلة رقعة إلى الخليفة يعرّفه ذلك ويقول: «إننى قد جهّزت علىّ بن يلبق ليسير فى هذا اليوم وأن يحضر العصر للخدمة ليأمره مولانا بما يراه» فكتب القاهر فى جوابه يشكره ويأذن فى حضور ابن يلبق. فجاء جواب الخليفة وابن مقلة نائم فتركوه ولم يوصلوه إليه. فلما استيقظ كتب رقعة أخرى فى المعنى، فأنكر القاهر الحال. فهو فى هذا إذ وصلته رقعة طريف السبكرى يذكر أن عنده نصيحة وأنه قد حضر فى زىّ النّساء لينهيها إليه، فاجتمع به القاهر، فذكر له جميع ما عزموا عليه [وما هم فيه] «2» وما فعلوه من

التدبير. فأنفذ القاهر إلى الساجية فأحضرهم متفرقين وكمنهم فى الدهاليز والمرات والرّواقات، وحضر على بن يلبق بعد العصر وفى رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من أصحابه فى طيار له. وأمر جماعة من أصحابه بالركوب إلى الأبواب وصعد من الطيار وطلب إذن القاهر فلم يأذن له فغضب وأساء أدبه وقال: لا بدّ من لقائه شاء أو أبى! فأمر القاهر الساجية بردّه، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه، وشهروا سلاحهم وتقدموا إليه، ففرّ أصحابه عنه وألقى نفسه فى الطيّار وعبر إلى الجانب الغربى واختفى من ساعته. وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر، واستتر الحسن بن هارون، فلما سمع طريف الخبر ركب فى أصحابه بالسلاح، وحضر إلى دار الخليفة ووقف عند القاهر بالله. فعظم الأمر حينئذ على ابن يلبق وجماعتهم وأنكر يلبق ما جرى على ابنه، وسبّ الساجية وركب إلى دار الخليفة فى جميع القوّاد الذين بدار مؤنس، فلم يصل إلى القاهر وقبض عليه وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة وحبسهما وحصل الجيش/ كلّهم فى الدّار فأنفذ القاهر إليهم وطيّب قلوبهم ووعدهم الزيارة، وأنه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثم يطلقهم ويحسن إليهم فعادوا وراسل القاهر مؤنسا فى الحضور عنده ليعرض عليه ما وقع عليهم ليفعل ما يراه وقال:: إنه عندى بمنزلة الوالد، وما أحبّ أن أعمل إلا عن رأيه! فاعتذر مؤنس عن الحركة، ونهاه أصحابه عن الحضور إليه فلما كان من الغد أحضر القاهر طريفا السبكرى وناوله خاتمه

وقال له: قد فوّضت إلى ولدى عبد الصّمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمد وقلدتك خلافته ورئاسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان ذلك إلى مؤنس فامض إليه واحمله إلى الدار فإنه مادام فى منزله يجتمع إليه من يريد الشر ولا نأمن أمره! فمضى إلى دار مؤنس وعنده أصحابه فى السلاح فسأله أصحاب مؤنس عن الحال فذكر سوء صنيع يلبق وابنه فكلّهم سبّهما، وعرّفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود فسكنوا. ودخل إلى مؤنس وقد استولى عليه الكبر والضّعف وأشار عليه بالحضور عند القاهر وقال: إن تأخرت طمع ولو رآك نائما ما تجاسر أن يوقظك! / فسار إليه، فلما دخل الدّار قبض عليه وحبسه، وذلك فى مستهل شهر شعبان. وأمر القاهر بالختم على دور من قبض عليهم ونقل دوابّهم ووكل بحريمهم، وأمر بنقل ما فى دار ابن مقلة وحرقها، ونهبت دور المعتقلين بها. وظهر محمد بن ياقوت وقام بالحجبة، ثم رأى كراهة طريف والساجية له فاختقى وهرب إلى ابنه بفارس، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب وقلده كور الأهواز، واستقدم القاهر عيسى الطبيب من الموصل، وجدّ القاهر بالله فى طلب أحمد بن المكتفى، فظفر به، فبنى عليه حائطا وهو حىّ فمات. وظفر بعلى بن يلبق، واستعمل على الحجبة سلامة الطولونىّ وعلى الشرطة أحمد بن خافان.

ذكر مقتل مؤنس ويلبق وابنه على والنوبختى

ذكر مقتل مؤنس ويلبق وابنه على والنوبختى كان مقتل هؤلاء فى شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وسبب ذلك أن أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا، وتبعهم سائر الجند، ونادوا بشعار مؤنس، وقالوا لا نرضى إلا بإطلاقه. وكان القاهر قد ظفر بعلىّ بن يلبق، وأفرد كلّ واحد منهم فى بيت، فلما/ شغب الجند دخل القاهر إلى على بن يلبق فأمر به فذيح وجعل رأسه فى طست. ومضى والطست بين يديه حتى دخل على يلبق، فلما رأى رأس ابنه بكى وقبّله، فأمر به القاهر فذبح وجعل رأسه فى طست. وحملا بين يديه، ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه. فلما رآهما تشهّد واسترجع ولعن قاتلهما، فقال القاهر: جرّوا برجل الكلب الملعون! فجرّوا برجله وذبحوه، وجعلوا رأسه فى طست. وطيف بالرؤوس فى جانبى بغداد وتودى عليها «هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى فى فساد دولته» ثم أعيدت فنظّفت وجعلت فى خزانة الرؤوس على العادة «1» . ولما قتلهم القاهر بالله اشتد أمره، وقويت نفسه، وخافه من حوله ممّن وافقه وباطنه على قتلهم. وقتل أبا يعقوب النوبختى، ولقّب نفسه بعد ذلك «القاهر بالله المنتقم من أعداء الله لدين الله.» وضرب ذلك على الدنانير والدراهم.

ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم وعزله وولاية الخصيبى

ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم وعزله وولاية الخصيبى قال «1» : ولما قبض القاهر بالله على من ذكرناه وهرب ابن مقلة سأل:/ من يصلح للوزارة؟ فدلّ على أبى جعفر ابن القاسم بن عبيد الله، فاستوزره فى شعبان فبقى وزيرا إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذى القعدة من السنة، فقبض القاهر بالله عليه وعلى أولاده وأخيه عبيد الله وحرمه، وكان مريضا بقولنج، فبقى محبوسا ثمانية عشر يوما ومات، فحمل إلى منزله وأطلق أولاده. واستوزر أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبى فكانت وزارة أبى جعفر ثلاثة أشهر واثنى عشر يوما [والله تعالى أعلم] «2» . ذكر القبض على طريف السبكرى كان طريف كما ذكرناه قد أعان القاهر بالله على القبض على من ذكرنا، وثبّت قواعد دولته. فلما قوى القاهر بالله لم يقف عند أيمانه لطريف وبقى يسمعه ما يكره، ويستخّف به، ويعرض له بالأذى. فلما رأى ذلك خافه وتيقن السوء، فلما قبض القاهر على الوزير أبى جعفر أحضر طريفا وقبض عليه، فبقى محبوسا يتوقع القتل صباحا ومساء إلى أن خلع القاهر بالله.

ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره

وفى هذه السنة أمر القاهر بتحريم الخمرة والغناء «1» وسائر الأنبذة، ونفى بعض من كان يعرف بذلك إلى البصرة والكوفة وأمر ببيع الجوارى والمغنيات على أنّهنّ سواذج لا يعرفن/ الغناء، ثم وضع من يشترى له كلّ حاذقة فى صنعة الغناء، فاشترى له منهن ما أراد بأبخس الأثمان. وكان القاهر مشتمهرا بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقا إلى تحصيل غرضه، وهذه نهاية فى الخسّة والشّحّ، نعوذ بالله من ذلك! وفيها كان ابتداء الدولة الدّيلمية البويهية، وسيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى «2» . وفيها أمر علىّ بن يلبق- قبل القبض عليه- بلعن معاوية بن أبى سفيان وابنه يزيد على المنابر «3» . ودخت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة: ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره كان خلع القاهر وسمله فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى من هذه السنة، وسبب ذلك أنّ أبا علىّ بن مقلة والحسن بن

هارون كانا قد استترا من القاهر، وجدّ فى طلبهما فلم يظفر بهما فكانا يراسلان قوّاد السّاجية والحجرية ويخوّفانهم من شرّه ويذكران غدره، وأنه لا يتمسّك بأيمانه، وأنه قبض على طريف بعد نصحه له، إلى غير ذلك. وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلا- تارة فى زىّ أعمى وتارة فى زىّ مكد وتارة فى زىّ امرأة- ويغربهم بالقاهر. ثم إنه أعطى منجما كان لسيما رئيس الساجية ومقدّمهم مائتى دينار،/ وأعطاه الحسن مائة دينار فكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضى أنّ القاهر ينكبه ويقتله. وأعطى ابن مقلة. أيضا شيئا لمعبّر «1» كان لسيما، فكان يحذّره من القاهر [بالله] «2» فازداد نفورا ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد القبض عليه، فجمع الساجية وأعطاهم السّلاح، وأنفذ إلى الحجرية فاجتمعوا وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم. فاتصل ذلك بالقاهر وبوزيره الخصيبى فأرسل إليهم «ما الذى حملكم على هذا؟» فقالوا: قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما وقد عمل مطامير ليحبس قوادنا فيها!. فلما كان فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجية والحجرية عند سيما وتحالفوا على القبض على القاهر، فقال سيما: قوموا بنا الساعة حتى نمضى العزم، فإنه إن تأخر علم به واحترز وأهلكنا! وبلغ ذلك الوزير فأرسل سلّاما الحاجب

وعيسى الحاجب وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدر على إعلامه بذلك،. وزحف الحجرية والساجية إلى دار الخلافة، ووكل سيما بأبوابها من يحفظها، وبقى هو على باب العامّة وهاجموا الدّار من سائر الأبواب. فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة استيقظ وهو مخمور، وطلب بابا يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال/ فهرب إلى سطح حمام ودخل القوم فلم يجدوه، فدلّهم خادم صغير على موضعه فقصدوه. فإذا بيده سيف فألانوا له واجتهدوا به، فلم ينزل وقال: من صعد إلىّ قتلته! فأخذ بعضهم سهما وقال:: إن نزلت وإلا وضعته فى نحرك! فنزل حينئذ إليهم وساروا إلى الموضع الذى فيه طريف السبكرى فأخرجوه وحبسوا القاهر مكانه «1» واستدعوا فى تلك الليلة أحمد بن أبى الحسين الصابىّ فكحل «2» القاهر بعد أن أقيم بين يدى الراضى بالله، وسلّم عليه بالإمارة. وقيل فى سبب خلعه إنه لما تمكّن من الخلافة تنّقص الساجية والحجرية على مرّ الأيام حتى كان لا يقضى لأكابرهم حاجة، ويلزمهم النّوبة فى داره، ويؤخر أعطياتهم ويغلظ لمن يخاطبه منهم فى أمر، فأقبل بعضهم ينذر بعضا ويتشاكون. ثم كان يقول

لسلامة حاجبه: أنت بين يدىّ كنز مال يمشى فأى شىء يتبيّن فى مالك لو أعطيتنى ألف ألف دينار! فيحمل ذلك على الهزل، وكان وزيره الخصيبى خائفا لما يرى منه ثم إنّه حفر فى الدار نحو خمسين مطمورة وأحكم أبوابها، فقيل إنها لمقدّمى الساجية والحجرية، فازدادوا نفورا، ثم إنّ جماعة من القرامطة أخذوا من فارس وأرسلوا إلى بغداد فحبسوا فى تلك المطامير، فتقدم القاهر سرّا بفتح الأبواب/ عليهم والإحسان إليهم، وعزم على أن يتقوّى بهم بالقبض على مقدّمى الساجية والحجرية. فأنكروا حال القرامطة وكونهم معه فى داره وهو يحسن إليهم، وذكروا ذلك لوزيره وحاجبه فقالا له، فأخرجهم من دار الخلافة وسلّمهم إلى محمد بن ياقوت وهو على شرطة بغداد فأنزلهم فى دار وأحسن إليهم. ثم صار القاهر يذمّ الساجية والحجرية فى مجلسه ويظهر كراهتهم، فلما تبينوا ذلك من وجهه وحركاته أظهروا أنّ لبعض قوادهم عرسا، فاجتمعوا بحجبته «1» وقرروا بينهم ما أرادوا وافترقوا. وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر «2» وكان قد اختصّ به فقالوا له: قد علمت ما فعل القاهر بمولاتك وقد ركبت فى موافقته كلّ عظيم فإن وافقتنا على ما نحن عليه وتقدمت إلى الخدم بحفظه فعفا الله عما سلف منك وإلا فنحن نبدأ بك!

فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر، وأنه موافقهم، هذا وابن مقلة يسعى كما ذكرنا قال «1» : ولما قبض على القاهر هرب وزيره الخصيبى وحاجبه سلامة، فكانت خلافة القاهر بالله سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام وهو أول خليفة سمل، ولم يزل فى دار السلطان إلى أن أخرج المستكفى بالله فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وردّه إلى داره فأقام/ مدة ثم خرج إلى جامع المنصور فى يوم الجمعة، وقام فعرّف النّاس نفسه وتصدّق منهم وقال: أنا خليفتكم بالأمس وسائلكم اليوم! فأعطاه ابن أبى موسى ألف درهم» وردّه إلى داره وتوفى فى خلافة المطيع فى يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين، ودفن فى دار طاهر وله اثنتان وخمسون سنة. وكان أبيض يعلوه حمرة مربوعا أعين وافر اللحية ألثغ شديد الإقدام على سفك الدّماء، أهوج محبّا لجمع المال قبيح السياسة. وقد تقدم من أفعاله وضربه لوالدة أخيه المقتدر ومصادرتها ومصادرة أولاد أخيه وأمهات أولاده ما يستدل به على قبح أفعاله وسوء طويّته وعدم تمسكه بما يبذله من الأيمان المغلّظة والعهود المؤكّده ثم لا يقف عند ذلك. وكان نقش خاتمه «محمد رسول الله» وكان له من الأولاد أبو الفضل عبد الصمد وأبو القاسم عبد العزيز وهو ولى عهده.

ذكر خلافة الراضى بالله

وزراؤه: أبو على بن مقلة، ثم محمد بن القاسم، ثم أحمد بن عبد الله الخصيبى. حجّابه: على بن يلبق، ثم سلامة الطولونى. قاضيه: عمر بن محمد بن يوسف. الأمراء بمصر: تكين ثم محمد بن صغج الفرغانى «1» المعروف بالإخشيد، ثم أحمد بن كيغلع، وتغلّب محمد بن تكين فى أيامه ثم عاد الأمر إلى ابن كيعلغ. القضاة بها: ولّى القاهر محمد بن الحسين بن أبى الشوارب فاستخلف أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن قتيبة فشغب الرعية عليه ولم يزل إلى أن صرف ابن أبى الشوارب، ورد القضاء إلى أبى عثمان أحمد ابن إبراهيم بن حماد وإلى عبد الله بن موسى السرخسى. ذكر خلافة الراضى بالله هو أبو العباس أحمد بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وأمه أم ولد اسمها ظلوم، وهو الخليفة العشرون من الخلفاء العباسيين بويع له بعد خلع عمّه القاهر فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وذلك أنه لما قبض القاهر كما ذكرناه سألوا الخدم عن المكان الذى هو فيه وكان محبوسا هو ووالدته، فدلّوهم عليه فقصدوه وفتحوا عليه وسلموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر بالله ولقبوه الراضى

بالله، وبايعه القوّاد والناس، وأقيم القاهر بين يديه وسلّم عليه بالإمارة.. قال «1» : ولما ولى أمر بإحضار علىّ بن عيسى وزير المقتدر بالله وأخيه عبد الرحمن وصدر/ «2» عن رأيهما فيما يفعله. وأراه علىّ بن عيسى على الوزارة فامتنع، لكبره وضعفه، وأشار بابن مقلة ثم قال سيما للراضى بالله: إن الوقت لا يحتمل أخلاق علىّ وابن مقلة أليق، فكتب له أمانا فحضر واستوزره. فلما وزر أحسن إلى كلّ من أساء إليه وقال عاهدت الله عند استتارى بذلك! وأرسل إلى الخصيبى وعيسى الطبيب بالأمان فظهرا، فأحسن ابن مقلة إليهما، فاستعمل الخصيبى واستعمل [أبا] «3» الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه على سائر الأعمال بالموصل والجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزيرية والشامية، وأجناد الشام ومصر. واستعمل الراضى بالله على الشرطة بدرا الخرشنى واستعمل محمد بن ياقوت على الحجبة ورئاسة الجيش، وأدخل يده فى أمر الدواوين، وتقدم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعا بولاية وعزل وإطلاق إلا إذا خطّه عليه، وأمرهم بحضور مجلسه فصبر ابن مقلة على ذلك وألزم نفسه بالمصير إلى دار إبن ياقوت فى بعض الأوقات كالمتعطل.

ذكر مقتل هارون بن غريب

ذكر مقتل هارون بن غريب فى هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال، وسبب ذلك أن القاهر بالله كان استعمله على ماه الكوفة وماسبذان وغير ذلك كما ذكرناه. فلما استخلف الراضى بالله رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لقرابته من الراضى بالله. وكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة فى الأرزاق، ثم سار من الدينور إلى خانقين «1» ، فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجرية والساجية، وشكوا ذلك إلى الراضى بالله فأعلمهم أنه كاره له وأذن لهم فى منعه. فراسلوا له وبذلوا طريق خراسان زيادة على ما بيده، فلم يقنع وتقدّم إلى النّهروان وشرع فى جباية الأموال، وظلم النّاس وسفهم؟؟؟ وقويت شوكته. فخرج إليه محمد بن ياقوت فى سائر جيوش بغداد ونزل قريبا منه، فهرب بعض أصحاب محمد ابن ياقوت إلى هارون. فراسله ابن ياقوت يستميله، ويبذل له فقال: لا بدّ من دخول بغداد! فلما كان فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران واشتد القتال فاستظهر أصحاب هارون لكثرتهم، وانهزم أكثر من مع ابن ياقوت ونهب أكثر سوادهم وكثر فيهم القتل والجراح، فسار محمد حتى قطع قنطرة نهر هناك. فبلغ ذلك هارون، فسار نحو القنطرة منفردا عن أصحابه طمعا فى أسر محمد بن ياقوت وقتله،

ذكر مقتل ابن الشلمغانى ومذهبه

فتقنطر به فرسه فسقط عنه فى ساقية فلحقه غلام له اسمه يمن فضربه بالطبرزين حتى أثخنه/ وكسر عظامه ثم نزل إليه فذبحه، ثم رفع رأسه وكبّر فانهزم أصحابه وتفرقوا ودخل بعضهم بغداد سرّا. ونهب سواد هارون، وقتل جماعة قواده، وأسر جماعة، وسار محمد إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه وأمر بغسله وتكفينه وصلّى عليه ودفنه، ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قواد هارون فنصبت ببغداد! ذكر مقتل ابن الشلمغانى ومذهبه فى هذه السنة قتل أبو جعفر محمد بن على الشّلمغانى المعروف بابن أبى العراقيد «1» ، وشلمغان التى ينسب إليها قرية بنواحى واسط، وكان سبب ذلك أنه قد أحدث مذهبا غاليا فى التشيّع والتناسخ وحلول الإلهية فيه، إلى غير ذلك، وكان ظهوره فى مبدأ وزارة حامد بن العباس أحد وزراء المقتدر بالله، ثم اتصل الشّلمععانى بالمحسن بن الفرات فى وزارة أبيه الثالثة، ثم طلب في وزارة الخاقانى فاستتر وهرب إلى الموصل. وبقى سنين عند ناصر الدولة بن حمدان، ثم انحدر إلى بغداد واستتر، ثم ظهر عنه أنه يدّعى الربوبية لنفسه. وقيل إنه اتّبعه على ذلك الحسين ابن القاسم بن عبيد الله «2» بن سليمان بن وهب/ الذى

وزر للمقتدر بالله، وأبو جعفر، وأبو على ابنا بسطام، وإبراهيم ابن محمد بن أبى عون، وابن شبيب ويزيد وأحمد بن محمد بن عبدوس.. كانوا يعتقدون ذلك فيه وظهر ذلك عنهم، وطلبوا فى وزارة بن مقلة للمقتدر فلم يوجدوا. فلما كان فى شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر ابن الشّلمغانىّ فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعا وكتبا ممّن يدعى فيه الربوبية يخاطبونه بما لا تخاطب به البشر بعضهم بعضا. وفيها خط الحسين بن القاسم، فعرضت الخطوط عليه فأقرّ أنها خطوطهم وأنكر مذهبه، وأظهر الإسلام وتبّرأ مما يقال فيه. فأخذ ابن أبى عون وابن عبدوس فأحضرا معه عند الخليفة وأمرا بصفعه فامتنعا، فلما أكرها صفعه ابن عبدوس، ومدّ ابن أبى عون يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبّل لحيته ورأسه وقال: إلهى وسيدى ورازقى! فقال له الراضى: قد زعمت أنك لا تدّعى الإلهيه فما هذا؟ فقال: وما علىّ من قول ابن أبى عون، والله يعلم أننى ما قلت له إنى إله قط! فقال ابن عبدوس: إنه لم يدّع الإلهية وإنما ادّعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان الحسين بن روح! ثم أحضروا عدة مرات ومعهم القضاة والفقهاء وغيرهم، وفى آخر الأمر أفتى الفقهاء بإباحة دمه/ فصلب هو وابن أبى عون، وأحرقا بالنّار فى ذى القعدة. وكان الحسين بن القاسم بالرّقّة فأرسل الراضى بالله إليه فقتل فى ذى القعدة، وحمل رأسه إلى بغداد.

وكان مذهب الشلمغانى أنه إله الآلهة بحقّ الحق، وأنه الأول القديم، الظاهر الباطن، الرازق التام، المومأ إليه بكلّ معنى. وكان يقول: إن الله سبحانه وتعالى يحلّ فى كل شىء على قدر ما يحتمل، وإنه خلق الضّدّ ليدلّ على المضدود، فمن ذلك أنه حل فى آدم عليه السلام لما خلقه، وفى إبليس لما خلقه وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إياه فى معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ، وأن الضد أقرب إلى الشى من شبيهه، وأن الله عزّ وجلّ إذا حلّ فى جسد ناسوتى أظهر من المقدرة المعجزة ما يدل على أنه هو، وأنه لما غاب آدم ظهر اللاهوت فى خمسة ناسوتية كلما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر فى خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية فى إدريس وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرقت بعد آدم، واجتمعت فى نوح عليه السلام وإبليسه وتفرّقت بعدهما، واجتمعت فى صالح وإبليسه عاقر الناقة وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى إبراهيم عليه السلام وإبليسه نمرود وتفرقت لمّا غابا واجتمعت فى موسى وإبليسه/ فرعون وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى سليمان وإبليسه وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى عيسى وإبليسه فلما غابا تفرقت فى تلاميذ عيسى وأبالستهم، ثم اجتمعت فى على بن أبى طالب وإبليسه. وإنّ الله يظهر فى كل شىء وكلّ معنى، وإنه فى كل أحد بالخاطر الذى يخطر فى قلبه فيتصوّر له ما يغيب عنه حتّى كأنه يشاهده. وإن الله اسم لمعنى، وإن من احتاج الناس إليه فهو إله،

ولهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمى إلها، وأن كل أحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه ربّ لمن هو فى دون درجته. وأن الرجل منهم يقول «أنا رب لفلان وفلان رب ربى» حتى يقع الانتهاء إلى ابن الشلمعانى فيقول: أنا رب الأرباب لا ربوبية بعده! ولا ينسبون الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما إلى علىّ، لأن من اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولد ولا والد. وكانوا يسمون موسى ومحمدا صلوات الله عليهما الخائنين، لأنهم يدّعون أن هارون أرسل موسى وعليا أرسل محمدا فخاناهما. ويزعمون أن عليا أمهل محمدا عدة سنين أصحاب الكهف فإذا انقضت العدة وهى ثلاثمائة وخمسون سنة انتقلت الشريعة. ويقولون: إن الملائكة كل من ملك نفسه وعرف الحق، وإن الجنة معرفتهم وانتحال مذهبهم والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم/ ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقد ويبيحون الفروج، ويقولون: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم بعث إلى كبراء قريش وجهابذة العرب ونفوسهم أبية فأمرهم بالسجود، وإن من الحكمة الآن أن يمتحن النّاس بإباحة فروج نسائهم، وإنه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوى رحمه وحرم صديقه وابنه بعد أن يكون على مذهبه، وإنه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النورّ فيه، ومن امتنع من ذلك قلب فى الدور الذى يأتى بعد هذا العالم إمرأة؛ إذ كان مذهبهم التناسخ.

ذكر ظهور انسان ادعى النبوة

وكانوا يعتقدون إهلاك الطالبيين والعباسيين، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبير! وهذه المقالة شبيهة بالمقالة النصيرية، فإنهم يعتقدون فى ابن الفرات، ويجعلونه رأسا فى مذهبهم. ذكر ظهور انسان ادعى النبوة وفى هذه السنة ظهر بباسند «1» من أعمال الصغانيان رجل ادّعى النبوة فقصده فوج بعد فوج واتّبعه خلق كثير وحارب من خالفه، فقتل خلقا كثيرا ممن كذبه، وكثر أتباعه خصوصا من أهل الشاش. وكان صاحب حيل ومخاريق، وكان يدخل يده فى حوض ماء فيخرجها مملوءة دنانير إلى غير ذلك من المخاريق، فكثر جمعه. فأنفذ إليه، أبو على بن المظفر، جيشا فحاربوه وضيّقوا عليه- وهو فوق جبل عال- حتى قبضوا عليه، وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبى على، وقتلوا خلقا كثيرا ممن اتبعه وآمن به. وكان يدّعى أنه متى مات عاد إلى الدنيا، فبقى جماعة كبيرة بتلك الناحية مدة طويلة على ما دعاهم إليه ثم اضمحلوا وفنوا. وفيها سار الدمستق قرقاش فى خمسين ألفا من الروم فنازل ملطية وحصرها مدة طويلة حتى هلك أهلها بالجوع، وضرب خيمتين

ذكر القبض على ابنى ياقوت

على إحداهما صليب وقال: من أراد النصرانية انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله، ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه، فانحاز أكثر المسلمين إلى خيمة الصّليب طمعا فى أهلهم ومالهم. وسيّر مع الباقين بطريقا يبلغهم مأمنهم، وفتحها بالأمان فى مستهل جمادى الآخرة، وملكوا شمشاط «1» وخرّبوا الأعمال، وأكثروا القتل، وفعلوا الأفاعيل الشنيعة، وصار أكثر البلاد فى أيديهم. ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة: ذكر القبض على ابنى ياقوت / فى هذه السنة فى جمادى الأولى قبض الراضى بالله على محمد والمظفر ابنى ياقوت، وكان سبب ذلك أن الوزير أبا على بن مقلة كان قد قلق لتحكّم محمد بن ياقوت فى الدولة بأسرها، وأنه هو ليس له حكم فى شىء، فسعى به إلى الرّاضى وأدام السّعاية. فلما كان فى خامس الشهر ركب جميع القواد إلى دار الخليفة على عادتهم، وحضر الوزير وأظهر الرّاضى أنه يريد يقلد جماعة من القواد أعمالا، وحضر محمد بن ياقوت للحجبة ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطى. فخرج الخدم فاستدعوا محمد بن ياقوت إلى الخليفة فدخل مبادرا، فعدلوا به إلى حجرة هناك فحبسوه، ثم استدعوا القراريطى فدخل فعدلوا به إلى حجرة، ثم استدعوا

ذكر حال أبى عبد الله محمد البريدى وتقدمه

المظفر من بيته وكان مخمورا فحبسوه أيضا،. وأنفذ الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من يحفظها من النّهب، وكان ياقوت حينئذ مقيما بواسط، فلما بلغه القبض على ابنيه انحدر يطلب فارس ليحارب ابن بويه، وكتب إلى الراضى بالله يستعطفه ويسأل إيفاد ولديه ليساعداه على حربه. ذكر حال أبى عبد الله محمد البريدى وتقدمه فى هذه السنة قوى أمر أبى عبد الله البريدى وعظم شأنه،/ وسبب ذلك أنه كان ضامنا لأعمال الأهواز، ثم استولى عليها عسكر مرداويج الدّيلمى «1» ، وهزم ياقوت، فجاء إلى البصرة وصار يتصرف فى أسافل أعمال الأهواز مضافا إلى كتابة ياقوت. وادّعى أخواه- وكان إليهما ضمان السوس وجند يسابور أنّ دخل البلاد لسنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج وأنّ دخل البلاد لسنة ثلاث وعشرين لا يحصل منه شىء، لأنّ نوّاب مرداويج ظلموا الناس فلم يبق لهم ما يزرعونه. وكان الأمر بضدّ ذلك فى السنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مقلة فأنفذ نائبا له ليحقّق الحال فواطأ ابنى البريدى وكتب بصدقهما فحصّل لهما بذلك مالا عظيما وقويت نفوسهما وكان مبلغ ما أخذاه أربعة آلاف ألف دينار. وفيها قتل ناصر الدولة بن حمدان عمّه أبا العلاء بن حمدان،

ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة

وسبب ذلك أن أبا العلاء سعيدا ضمن الموصل وديار ربيعة سرا، وكان بها ناصر الدولة أميرا. فلما وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه للقائه فخالفه فى الطريق قصدا منه، فوصل أبو العلاء ودخل دار ابن أخيه وقعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه. ذكر مسير ابن مقلة الى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة / قال «1» : لما قتل ناصر الدّولة عمّه أبا العلاء واتّصل خبره بالراضى بالله عظم ذلك عليه وأنكره، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها فى شعبان بالعساكر. فلما قاربها رحل عنها ناصر الدولة ودخل الزوزان «2» ، وتبعه الوزير إلى جبل التّنين «3» ثم عاد عنه، وأقام بالموصل يجبى أموالها. فلما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير- وكان ينوب عنه فى الوزارة ببغداد- فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه فكتب إليه يقول: إن الأمور بالحضرة قد اختلّت وإنّ تأخّره لم يؤمن معه حدوث ما يبطل أمرهم. فانزعج الوزير لذلك، واستعمل على الموصل علىّ بن خلف بن

طباب «1» وما كرد الدّيلمى- وهو من الساجية- وانحدر إلى بغداد فى منتصف شوال. فلما فارق الموصل عاد إليها [ناصر الدولة] «2» بن حمدان فاقتتل هو وما كرد الديلمى، فانهزم ابن حمدان. ثم عاد وجمع عسكرا آخر، والتقوا على نصيبين فى ذى الحجة فانهزم ما كرد إلى الرّقّة ثم إلى بغداد، وانحدر ابن طباب أيضا، واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد وكتب إلى الخليفة يسأله الصّلح وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك. وفيها فى المحرم قلّد الراضى بالله ولديه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتى المشرق والمغرب مما/ بيده، وكتب بذلك إلى البلاد. وفيها فى ليلة الثانى عشر من ذى القعدة انقضّت الكواكب انقضاضا دائما مستمرا من أوّل الليل إلى آخره، وهى الليلة التى أوقع القرمطى فيها بالحجاج. وفيها مات محمد بن ياقوت فى الحبس، وانهم ابن مقلة أنه سمه وأطلق أخوه المظفر من الحبس بشفاعة ابن مقلة، وحلف للوزير أنه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له ولا لولده بمكروه فلم يف له. وفيها أرسل الوزير ابن مقلة رسولا إلى محمد بن رائق بواسط وكان قطع الحمل عن الخليفة فطالبه بارتفاع أموال واسط والبصرة

ذكر القبض على الوزير ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى وغيره

وما بينهما فأحسن إلى رسوله وردّه برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة يغالطه، وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضى بالله مضمونها أنه إن استدعى إلى الحضور وفوّضت إليه الأمور وتدبير الدولة، فام بجميع ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند. ولما سمع الخليفة، لم يعد إليه جوابها. ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة: ذكر القبض على الوزير ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى وغيره فى هذه السنة عزم الوزير على المسير إلى ابن رائق لما عاد رسوله/ بغير مال، وحضر إلى دار الراضى فى منتصف جمادى الأولى. فلما حضر الدّار قبض عليه المظفر بن ياقوت والحجرية وأعلموا الراضى بذلك، فوافق رأيه فيه، واستحسن فعلهم «1» . واختفى أبو الحسين بن أبى على بن مقلة الوزير، وسائر أولاده، وحرمه وأصحابه. وطلب الحجرية والساجية من الخليفة أن يشير بوزير فردّ الاختيار إليهم، فأشاروا بوزارة على بن عيسى، فأحضره الراضى بالله، فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره. وسلّم إليه ابن مقلة فصادره، ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه المال فاستعفى من الوزارة وقبض عليه وعلى أخيه علىّ فى سابع شهر رجب، واستوزر أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخى،

ذكر عزل أبى جعفر ووزارة سليمان بن الحسن

وخلع عليه وسلّم إليه على بن عيسى فصادره على مائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بسبعين «1» ألف دينار. وفيها قتل ياقوت، وعظم البريدى وإخوته، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عزل أبى جعفر ووزارة سليمان بن الحسن «2» قال «3» : ولما تولى أبو جعفر الكرخى الوزارة رأى قلة الأموال وانقطاع/ المواد فعجز عن تدبير الحال، وضاق الأمر عليه، وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البريدى حمل الأهواز وأعمالها. وكان ابن بويه قد تغلب على فارس، فتحير أبو جعفر وكثرت المطالبات عليه ونقصت هيبته، فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فاستوزر الراضى أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان فى الوزارة كأبى جعفر فى وقوف الحال وقلة المال «4» ! ذكر استيلاء ابن رائق على العراق وتغلب الملوك على الأعمال وخروجهم عن الطاعة وتغير أحوال الوزارة وإبطال الدواوين قال «5» : لما رأى الراضى بالله وقوف الحال بالحضرة ألجأته

الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمد بن رائق وهو بواسط يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد. فلما أتاه الرسول فرح بذلك وشرع يتجهز للمسير إلى بغداد، فأنفذ إليه الراضى بالله الساجية وقلّده إمارة الجيش وجعله أمير الأمراء وولّاه الخراج والمعاون فى جميع البلاد والدواوين. وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه الخلع وانحدر إليه أصحاب الدواوين/ والكتّاب والحجّاب وتأخر الحجرية. فلما استقر الذين نزلوا إلى واسط بها قبض على الساجية فى ذى الحجة ونهب أموالهم ودوابّهم، وأظهر أنه إنما فعل ذلك لتتوفّر أرزاقهم على الحجرية، فاستوحش الحجرية من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغد لنا وخيّموا بدار الخلافة. وصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم، فخلع الخليفة عليه فى أواخر ذى الحجة، وأتاه الحجرية يسلّمون عليه فأمرهم بقلع خيامهم فقلعوها وعادوا إلى منازلهم. وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، فلم يكن الوزير ينظر فى شىء من الأمور، إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران فى الأمور جميعها «1» ، وكذلك كل من تولّى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تحمل إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون، وبطلت بيوت الأموال. وتغلب أصحاب الأطراف وخلعوا الطاعة، ولم يبق بيد الخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم فى جميعها لابن رائق ليس

ذكر وزارة الفضل بن جعفر [ابن الفرات]

للخليفة حكم. وأما باقى الأطراف فكانت البصرة بيد ابن رائق، وخوزستان والأهواز فى يد البريدى، وفارس فى يد عماد الدّولة ابن بويه، وكرمان فى يد أبى محمد على بن إلياس، والرى وأصفهان والجبل فى يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكير أخى مرداويج يتنازعان عليها،/ والموصل وديار بكر ربيعة ومضر فى يد بنى حمدان، ومصر والشام فى يد إلاخشيد أبى بكر محمد بن طغج والمغرب وأفريقية فى يد أبى القاسم القائم بأمر الله بن المهدى، والأندلس فى يد عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموى، وخراسان وما وراء النهر فى يد نصر بن أحمد السامانى، وطبرستان وجرجان فى يد الدّيلم، والبحرين واليمامة فى يد أبى طاهر القرمطى «1» . ذكر وزارة الفضل بن جعفر [ابن الفرات] «2» قال «3» : ولما ولى ابن رائق كتب كتابا عن الراضى بالله إلى أبى الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات يستقدمه للوزارة. وكان يتولى الخراج بمصر والشام، فظن ابن رائق أنه إن استوزر جبى له أموال الشام ومصر، فنفذت إليه الخلع قبل وصوله فلقيته بهيت، فلبسها ودخل بغداد وتولى وزارة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعا. ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة:

ذكر مسير الراضى بالله لحرب البريدى

ذكر مسير الراضى بالله لحرب البريدى فى هذه السنة أشار ابن رائق على الراضى بالله بالانحدار/ معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل أبا عبد الله البريدى، فإن أجاب إلى ما يطلب منه وإلا قرّب قصده عليه، فأجاب الراضى بالله إلى ذلك. وانحدر أول المحرم فخالف الحجرية وقالوا: هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجية! فلم يلتفت ابن رائق إليهم، وانحدر ومعه بعضهم، ثم انحدروا بعده. فلما صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق فأسقط أكثرهم، فاضطربوا وثاروا فقاتلهم قتالا شديدا، فانهزم الحجرية وقتل منهم جماعة. ولما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشرطية ببغداد، ولقيهم وأوقع بهم، فاستتروا، فنهبت دورهم وقبضت أملاكهم، وقطعت أرزاقهم. ولما فرغ ابن رائق منهم قتل من كان قد اعتقله من الساجية سوى صافى الخازن وهارون بن موسى، ثم أخرج مضاربه ومضارب الراضى بالله نحو الأهواز، وراسل البريدىّ فى تأخير الأموال وما قد ارتكبه من الاستبداد وإفساد الجيوش إلى غير ذلك، ثم قال له بعد ذلك: إنه إن حمل الواجب عليه وسلّم الجند الذين أفسدهم أقرّ على عمله وإن أبى قوبل بما يستحق. فلما سمع الرسالة جدّد ضمان الأهواز فى كل سنة بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار يحمل كل شهر بقسطه وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من/ يؤمر بتسليمه إليه، ممن يسير بهم إلى قتال ابن بويه إذ كانوا

كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة. فعقد عليه الضمان وعاد الراضى وابن رائق إلى بغداد فدخلاها فى ثامن صفر، وكان هذا القول من البريدى خديعة ومكرا؛ فإنه ما حمل من المال درهما واحدا ولا سلّم الجيش. قال «1» : ثم سعى ابن مقاتل عند ابن رائق فى عزل وزيره الحسين بن على النّوبختى، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريدى وأن يجعله وزيرا، وبذل له ثلاثين ألف دينار، فأجاب ابن رائق إلى ذلك بعد امتناع شديد وأمر ابن مقاتل أن يكتب إلى البريدىّ أن يرسل من ينوب عنه فى وزارته فكتب إليه بإنفاذ أحمد الكوفى لينوب عنه فى وزارة محمد بن رائق فأنفذه واستولى على الأمور هو وابن مقاتل، وشرعا فى تضمين البصرة من أبى يوسف أخى أبى عبد الله البريدى. فامتنع ابن رائق فخدعاه حتى أجاب إليه، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمد بن يزداد، وقد أساء السيرة وظلم أهلها، فوعدهم يوسف ومنّاهم وذمّ ابن رائق عنده بما كان يفعله ابن يزداد، فدعوا له. ثم أنفذ أبو عبد الله البريدىّ غلامه إقبالا فى ألفى رجل وأمرهم بالمقام بحصن مهدى إلى أن يأمرهم بأمره، فلما علم ابن يزداد بهم علم أن البريدىّ يريد/ التغلّب على البصرة، وأمر البريدىّ بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة، فاطمأنوا وقاتلوا معه عسكر ابن

ذكر الوحشة بين محمد بن رائق والبريدى والحرب بينهما

رائق، ثم عطف عليهم بعد ذلك وعمل بهم أعمالا تمنّوا أيام ابن رائق وعدّوها أعيادا! ذكر الوحشة بين محمد بن رائق والبريدى والحرب بينهما فى هذه السنة ظهرت الوحشة بينهما، وكان لذلك أسباب منها أن ابن رائق لما عاد إلى بغداد أمر بظهور من اختفى من الحجرية، واستخدم منهم نحو ألفى رجل، وأمر من بقى بطلب أرزاقهم؛ فخرجوا [من بغداد] والتحقوا بأبى عبد الله البريدىّ فأكرمهم وأحسن إليهم وذمّ ابن رائق وعابه، وكتب إلى بغداد يقول: إنى خفتهم فلهذا قبلتهم! وجعلهم طريقا إلى قطع ما استقر عليه من المال، وذكر أنهم اتفقوا مع الجيش الذى عنده ومنعوه من حمل المال؛ فأنفذ إليه ابن رائق يلزمه بإيفادهم فاعتذر ولم يفعل. ومنها أنه بلغه ما ذمّه به عند أهل البصرة فساءه ذلك وبلغه مقام إقبال فى جيشه بحصن مهدى فعظم عليه، فأمر الكوفى أن يكتب/ إلى البريدى يعاتبه على هذه الأشياء ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهدىّ، فكتب إليه فى ذلك فأجاب «أن أهل البصرة يخافون القرامطة وأنّ ابن يزداد عاجز عن حمايتهم وقد تمسكوا لخوفهم بأصحابى» فسار ابن رائق إلى واسط فبلغ البريدى، فكتب إلى عسكره بحصن مهدىّ يأمرهم بدخول البصرة وقتال من منعهم «1» ،

ذكر استيلاء بجكم على الأهواز وخروج ابن البريدى منها

وأنفذ إليهم جماعة من الحجرية فقدموا وقاتلوا ابن يزاداد مرة بعد أخرى وهزموا إلى الكوفة، فكتب ابن رائق إلى البريدىّ يأمره بإعادة أصحابه من البصرة وتهدّده إن لم يفعل، فاعتذر إليه وغالطه! ذكر استيلاء بجكم على الأهواز وخروج ابن البريدى منها قال «1» : ولما وصل جواب رسالة ابن البريدىّ إلى محمد بن رائق بالمعالطة عن إعادة جنده من البصرة استدعى بدرا الخرشنى وخلع عليه وعلى بجكم وسيّرهما فى جيش وأمرهما أن يقيما بالجامدة، فبادر بجكم ولم يتوقف على بدر وسار إلى السوس، فأخرج إليه البريدىّ جيشا مع غلامه المعروف بالحمال عدته ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا بظاهر السوس. وكان مع/ بجكم مائتان وسبعون رجلا من الأتراك فانهزم أصحاب البريدى وعادوا إلى صاحبهم فضرب الحمال وسبّه ووبّخه على انهزامه ثم ردّه وأضاف إليه من لم يشهدوا الواقعة فبلغوا ستة آلاف رجل. فلما التقوا انهزموا من غير قتال، فلما رآهم البريدى ركب هو وإخوته ومن يلزمه فى سفينة «2» ومعه ما بقى عنده من المال وهو ثلاثمائة ألف دينار فغرقت السفينة بهم، فأخرجهم الغواصّون وقد كادوا يهلكون، وأخرج الغواصون باقى المال لبجكم ووصل

أولاد البريدى إلى البصرة وأقاموا بالأبلة «1» وأعدّوا المراكب للهرب إن هزم إقبال، وسيّر أبو عبد الله البريدى غلامه إقبالا إلى مطارا فالتقوا مع أصحاب ابن رائق فانهزمت الرائقية وأسر منهم جماعة فأطلقهم البريدى، وكتب إلى ابن رائق يستعطفه، وأرسل إليه جماعة من أعيان البصرة فلم يجبهم وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة ليكونوا معه، فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنها ويقتل كل من فيها فازدادوا بصيرة فى قتاله واطمأن البريدىّ وأقام بالبصرة. ثم جهز ابن رائق جيشا آخر وسيّره فى البرّ وفى الماء، فالتقى عسكره الذى فى البرّ مع عسكر البريدى فانهزم الرائقية، وأما عسكر الماء فانهم استولوا على الكلاء «2» فلما رأى أبو عبد الله/ البريدى ذلك ركب فى السفن وهرب إلى جزيرة أوال، وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة فى عسكر يحميها. فخرج أهل البصرة مع أبى الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاء فقاتلوهم وأجلوهم عنه فسار ابن رائق بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم ليلحق به فأتاه فيمن عنده من الجند، فتقدّموا وقاتلوا أهل البصرة فاشتد القتال. فرجع ابن رائق وبجكم إلى معسكرهم، وأما أبو عبد الله البريدى فإنه سار إلى عماد

ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز

الدولة بن بويه واستجار به وأطمعه فى العراق وهوّن عليه أمر الخليفة وابن رائق، فنفّذ معه أخاه معز الدولة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: «1» ولما سمع ابن رائق إقبالهم من فارس إلى الأهواز سيّر بجكم إليها، ثم قصد جماعة من أصحاب البريدىّ عسكر ابن رائق ليلا فصاحوا فى جوانبه، فانهزموا. فلما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريديون. وسار إلى الأهواز جريدة «2» وأقام بها أياما، وعاد إلى واسط وكان باقى عسكره قد سبقه إليها. ودخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة: ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز / فى هذه السنة سار معزّ الدّولة أبو الحسين بن بويه «3» إلى الأهواز وتلك النواحى فملكها، وسبب ذلك ما

ذكرناه من مسير أبى عبد الله البريدى إلى عماد الدولة بن بويه وترك البريدى ولديه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفيّاض عند عماد الدولة رهينة. وساروا فبلغ الخبر بجكم بنزولهم أرّجان «1» ، فسار لحربهم فانهزم من بين أيديهم إلى الأهواز، ثم إلى واسط. وأرسل إلى ابن رائق يعلمه الخبر ويقول له «إن العسكر يحتاج إلى المال فإن كان معك مائتا ألف درهم فأقم بواسط حتى نصل إليك وتنفق فيهم المال وإلا فالرأى أن تعود إلى بغداد» فعاد ابن رائق من واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط. قال «2» : ودخل [معز الدولة] «3» بن بويه الأهواز فأقام بها خمسة وثلاثين يوما، ثم هرب البريدى خوفا منه على نفسه، وأمر جيشه الذين بالسوس فصاروا إلى البصرة، وكاتب معز الدولة أن يفرج له عن الأهواز حتى يتمكن من ضمانه؛ فإنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة فى كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم. فرحل عنها عسكر مكرم «4» وأنفذ البريدى خليفته إلى الأهواز وأنفذ إلى معز الدولة يذكر خوفه ويطلب منه أن ينتقل إلى السوس ليبعد عنه ويأمن بالأهواز،

ذكر الحرب بين بجكم والبريدى

فامتنع/ معز الدولة من ذلك وعلم بجكم بذلك فأنفذ جماعة من أصحابه واستولوا على السوس وجنديسابور وبقيت الأهواز بيد البريدى، ولم يبق مع معزّ الدّولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأراد الرجوع إلى فارس فكتب إلى أخيه عماد الدّولة يعرّفه الحال فأنفذ إليه جيشا تقوّى بهم، وعاد استولى على الأهواز، وهرب البريدى إلى البصرة. واستقر ابن بويه بالأهواز، وبجكم بواسط طامعا فى الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، وهو لا يظهر ذلك. قال «1» : ولمّا رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأمور أطمع ابن رائق فى مصر والشام، وصاهره وعقد بينه وبين ابن طغج عهدا وصهرا وقال لابن رائق: أنا أجبى لك مال مصر والشام إن سيرتنى إليهما! فسيره إلى الشام فى شهر ربيع الآخر. ذكر الحرب بين بجكم والبريدى والصلح بعد ذلك قال: «2» ولما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق أن يتغلّب على العراق، فراسل أبا عبد الله البريدى وطلب منه/ الصلح على بجكم، فإذا انهزم تسلّم البريدىّ واسطا وضمنها بستمائة ألف دينار فى السنة. فسمع بجكم بذلك

ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه

فاستشار أصحابه فيما يفعله فأشاروا عليه أن يبتدئ بأبى عبد الله البريدىّ وأن لا يهجم إلى حضرة الخلافة ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدىّ. فجمع عسكره وسار إلى البصرة يريد البريدى، فسير أبو عبد الله البريدىّ جيشا بلغت عدّتهم عشرة آلاف رجل عليهم علامة أبو جعفر محمد الحمال، فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر البريدى فلم يتبعهم بجكم وكفّ عنهم. ثم أرسل إلى البريدى فى ثانى يوم الهزيمة يعتذر إليه مما جرى ويقول له: أنت بدأت وتعرّضت لى وقد عفوت عنك وعن أصحابك ولو تبعتهم لقتلت أكثرهم «1» ، وأنا أصالحك على أن أقلدك واسطا إن ملكت الحضرة وأصاهرك! فسجد البريدى شكرا لله تعالى وحلف لبجكم وتصالحا، وعاد إلى واسط وأخذ فى التدبير على ابن رائق ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه فى هذه السنة فى منتصف شوال قطعت يد الوزير أبى على بن مقلة «2» وكان سبب ذلك أنّ الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الراضى بالله أبا على/ بن مقلة وليس له من الأمر شىء، وإنما الأمر والنّهى لمحمد بن رائق. وكان ابن رائق قد قبض على أموال ابن مقلة وأملاكه وأملاك ابنه،

فخاطبه فى ردّها فلم يفعل، فاستمال أصحابه وسألهم مخاطبته فى ردّها فوعدوه ولم يفعلوا. فلما رأى ذلك سعى بابن رائق فكاتب بجكم يطمعه فى موضع ابن رائق، وكتب إلى وشمكير مثل ذلك، وكتب إلى الراضى بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق فأطمعه الراضى وهو كاره لما قاله، فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضى ويستحثه على الحركة والمجىء إلى بغداد. وطلب ابن مقلة من الراضى بالله أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتّفقا عليه، فأذن له فى ذلك فحضر متنكرا فى آخر ليلة من شهر رمضان. فلما حضر إلى دار الخلافة لم يصل إلى الراضى وأمر باعتقاله فاعتقل فى حجرة. فلما كان من الغد أرسل الراضى إلى ابن رائق يعرفه الحال، وعرض عليه خطّ ابن مقلة، وما زالت الراسل تتردد بينهما فى المعنى إلى منتصف شوال، فأخرج ابن مقلة من محبسه وقطعت يده، وعولج فبرأ. ثم كاتب الراضى يخطب الوزارة ويذكر/ أنّ قطع يده لم يمنعه من عمله، وكان يشدّ القلم على يده المقطوعة ويكتب، فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك فقال: إن وصل بجكم فهو يستخلصنى وأكافئ ابن رائق! وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده، فوصل خبره إلى الراضى بالله وابن رائق فأمر

ذكر استيلاء بحكم على بغداد

بقطع لسانه، ثم نقل فى محبس ضيّق ولم يكن عنده من يخدمه، فآلت به الحال إلى أن كان يستقى الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه وناله شقاء شديد إلى أن مات فى حادى عشر شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ودفن بدار الخلافة ثم إن أهله سألوا فنبش وسلّم إليهم فد فنوه، ثم نبشته زوجته ودفنته فى دارها. ومن العجب أنه ولى الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لئلاثة خلفاء وسافر ثلاث سفرات اثنتين منفيا إلى شيراز وواحدة إلى الموصل فى وزارته، ودفن بعد موته ثلاث مرات وخصّ به من خدمه ثلاثة، وكان فى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فى شهر ربيع الآخر ضرب ابن شنّبوذ «1» سبع درر لقراءات أنكرت عليه، فدعا عليه بقطع اليد وتشتيت الشّمل، فاستجاب الله له! ذكر استيلاء بحكم على بغداد وشىء من أخباره وكيف تنقّلت به الحال إلى أن بلغ هذه الرتبة «2» قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل «3» : كان بجكم هذا

من غلمان أبى العارض وزير ماكان بن كالى الدّيلمى فطلبه ما كان منه فوهبه له، ثم فارق ما كان مع من فارقه. من أصحابه، والتحق بمرداويج، وكان من جملة من قتله، وسار إلى العراق والتحق بمحمد بن رائق. وكان من أمره ما ذكرناه، فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة، وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق، وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقى. فلما وصلته كتب [الوزير] «1» ابن مقلة تذكر أنه استقرّ مع الراضى أن يقلده إمرة الأمراء زاد طمعه فى ذلك وكاشف ابن رائق وقلع نسبته إليه من أعلامه، وسار من واسط نحو بغداد فى غرة ذى القعدة. واستعدّ ابن رائق لحربه وسأل الراضى أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط، فكتب إليه فلما قرأ الكتاب ألقاه من يده وسار حتى نزل شرقى نهر ديالى. وكان أصحاب ابن رائق على غير تعبئة، فألقى أصحاب بجكم نفوسهم فى الماء فانهزم أصحاب ابن رائق، وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد، وخرج/ ابن رائق عنها إلى عكبرا. وكان دخول يجكم بغداد فى ثالث عشر ذى القعدة، ولقى الراضى من الغد وخلع عليه وجعله أمير الأمراء، وكتب كتابا عن الراضى إلى القواد الذين كانوا مع إبن رائق بالرجوع إلى بغداد، ففارقوه جميعهم وعادوا. فلما رأى ابن رائق ذلك عاد

ذكر مسير الراضى بالله وبجكم إلى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام

إلى بغداد واستتر، فكانت مدة إمارته سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يوما. ودخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة: ذكر مسير الراضى بالله وبجكم الى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام فى هذه السنة فى المحرم سار الراضى وبجكم إلى الموصل وديار ربيعة لقصد ناصر الدّولة ابن حمدان، فإنه كان قد أخّر المال المقرّر عليه من ضمان البلاد، فلما بلعا تكريت «1» أقام الراضى بها وسار بجكم، فلقيه [ناصر الدولة] «2» بن حمدان على ستّة فراسخ من الموصل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم ابن حمدان إلى نصيبين وتبعه بجكم إليها، فسار إلى آمد ثم وقع الصّلح بينهما على أن يحمل ابن حمدان خمسمائة ألف درهم معجلة فأجابه إلى ذلك. قال «3» : وفى هذه الغيبة ظهر ابن رائق ببغداد واستولى عليها ولم يتعرض لدار الخليفة/ فعاد الراضى وبجكم إليها فراسلهما ابن رائق فى طلب الصلح فأجابا إلى ذلك، فعقد له الخليفة على طريق الفرات، وديار مضر حرّان والرّها وما

جاورهما، وجند قنسرين والعواصم، فأجاب ابن رائق أيضا وسار عن بغداد إلى ولايته، ودخل الراضى وبجكم بغداد فى تاسع شهر ربيع الآخر، ثم استولى ابن رائق على الشام وملك مدينة حمص ثم سار إلى دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدى المعروف ببدير واليا عليها من قبل الإخشيد، فأخرجه ابن رائق وملكها. وسار إلى الرّملة وإلى عريش مصر يريد الدّيار المصرية، فلقيه الإخشيد وحاربه فانهزم الإخشيد. واشتغل أصحاب ابن رائق بالنّهب ونزلوا فى خيم الإخشيدية، فخرج عليهم كمين للإخشيد فأوقع بهم وهزمهم، فنجا ابن رائق فى سبعين رجلا ووصل إلى دمشق فى أقبح صورة. فسيّر إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج فى جيش كثيف، فالتقوا فى رابع ذى الحجة سنة ثمان وعشرين فانهزم الإخشيديون وقتل أبو نصر فأخذه ابن رائق وكفّنه وحمله إلى أخيه بمصر، وأنفذ معه ابنه مزاحما، وكتب إلى الإخشيد يعزّيه بأخيه ويعتذر مما جرى ويحلف أنه ما أراد قتله، وأنه قد أنقذ ابنه ليقيده به إن أحبّ ذلك،/ فلقى الإخشيد مزاحم بن محمد بن رائق بالجميل وخلع عليه وردّه إلى أبيه واصطلحا، على أن تكون الرّملة وما وراءها إلى مصر للإخشيد وباقى الشام لمحمد بن رائق، ويحمل إليه الإخشيد عن الرّملة فى كلّ سنة مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار. نعود إلى أخبار الراضى وبجكم.

ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى

ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى للخليفة الراضى بالله وفى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة سعى أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد «1» وزير بجكم فى الصلح بين بجكم والبريدىّ «2» حتّى تمّ وضمن البريدىّ أعمال واسط بستمائة ألف دينار فى كل سنة. ثم شرع ابن شيرزاد فى تقليد البريدىّ الوزاره، فأرسل إليه الراضى فى ذلك فأجاب إليه، وذلك فى شهر رجب واستناب بالحضرة عبد الله بن على النقرى. قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى: «3» كان الحج قد بطل من سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فلم يحج أحد من العراق، فلما كان فى هذه السنة كاتب أبو على عمر بن يحيى العلوى القرامطة وسألهم أن يؤمّنوا الحاج ليسيربهم ويعطيهم عن كل جمل خمسة دنانير ومن المحمّل سبعة دنانير، فأذنوا له فى الحج فحج الناس. وهى أوّل سنة مكس «4» فيها الحاجّ. وخرج فى تلك السنة القاضى أبو على بن أبى هريرة الشافعى فلما طولب بالخفارة لوى راحلته

ذكر وفاة الراضى بالله وشىء من أخباره

ورجع وقال: لم أرجع شحا على الدراهم ولكن قد سقط الحج بهذا المكس! ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة: فى هذه السنة سار ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى واسط فنزل بالجانب الشرقى، وكان البريدى بالجانب الغربىّ فاستأمن من أصحاب ابن بويه مائة إلى البريدى «1» . ثم سار الراضى وبجكم من بغداد نحو واسط يريدان حرب ابن بويه فاد إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز «2» . وفيها استولى بجكم على واسط فى ذى الحجة، وسار إليها ففارقها ابن البريدى إلى البصرة، وأسقط بجكم اسم البريدى من الوزارة، وجعل مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد. ودخت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. ذكر وفاة الراضى بالله وشىء من أخباره كانت وفاته فى منتصف شهر ربيع الأول من هذه السنة، وكانت مدة خلافته ستّ سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وعمره/ اثنتان وثلاثون سنة وأشهرا «3» ، وكانت علّته الاستسقاء، وكان أديبا شاعرا، فمن شعره:

يصفرّ وجهى إذا ما تأمّله ... طرفى ويحمرّ وجهه خجلا حتى كأنّ الذى بوجنته ... من دم جسمى إليه قدنقلا «1» وقال يرثى أباه المقتدر بالله: ولو أنّ حيّا كان قبرا لميّت ... لصيّرت أحشائى لأعظمه قبرا ولو أن عمرى كان طوع مشيئتى ... وساعدنى التقدير قاسمته العمرا بنفسى ثرى ضاجعت فى تربة البلى ... لقد ضمّ منك الغيث والليث والبدرا وكان سمحا سخيا، يحبّ محادثة الأدباء والفضلاء. وكان الراضى بالله أسمر أعين، خفيف العارضين. وختم الخلفاء فى عدّة أشياء فمنها أنه آخر خليفة له شعر يدوّن، وآخر خليفة خطب على المنبر كثيرا- وإن كان غيره خطب نادرا- وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل النّدماء، وآخر خليفة كانت [له] «2» نفقاته وجوائزه وعطاياه وخزائنه ومطابخه وجراياته وخدّامه وحجّابه وأموره على ترتيب الخلفاء المتقدمين «3» . وكان له من الأولاد أبو جعفر أحمد، وأبو الفضل عبد الله. وزراوه: أبو على بن مقلة، وابنه الحسن، ثم عبد الرحمن بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكرخى، ثم سليمان بن الحسين بن

ذكر خلافة المتقى لله

مخلد، ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم أبو عبد الله البريدى. قضائه: عمر بن محمد بن يوسف، ثم ابنه يوسف بن عمر حجابه: محمد بن ياقوت، وذكا مولاه الأمير بمصر: الإخشيد محمد بن طعج بن جفّ الفرغانى القضاة بها: محمد بن الحسن بن أبى الشوارب من قبل الراضى واستخلف أبا بكر محمد بن بدر «1» ، ثم صرفه بعبد الرحمن بن أحمد بن الزين، ثم ولّى الإخشيد الحسين بن محمد بن أبى زرعة القضاء، واستخلف له أبا بكر محمد بن أحمد بن الحدّاد الشافعى، ثم ورد العهد للحسين بن محمد بن أبى زرعة من قبل محمد بن أبى الشوارب، ثم صرفه محمد بأبى نصر يوسف بن عمر بن أبى عمر القاضى، وأقرّ الحسين بن أحمد إلى أن توفى وأبو بكر بن الحداد خليفته، ثم صرف يوسف بن عمر عن قضائها بمحمد بن أبى الشوارب واستخلف أحمد بن بدر ثانية، ثم صرف ابن أبى الشوارب بالحسين بن عيسى بن هارون فأقرّ محمد بن بدر، ثم عاد ابن أبى الشوارب فاستخلف عبيد الله بن أحمد بن رزين، ثم استخلف عبد الله بن الوليد من قبل الحسين بن على ذكر خلافة المتقى لله هو أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وأمّه أم ولد اسمها خلوب. وهو الخليفة الحادى

والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. قال «1» : ولما مات الراضى بالله بقى الأمر فى الخلافة موقوفا انتظارا لورود خبر من بجكم، فإنه كان بواسط واحتيط على دار الخلافة. فورد كتاب بجكم مع كاتبه أبى العباس عبد الله الكوفى يأمر فيه بأن يجتمع مع أبى القاسم سليمان بن الحسن وزير الرّاضى وكلّ من تقلّد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والعباسيون والقضاة ووجوه البلد ويشاورهم الكوفى فيمن ينصب للخلافة ممّن يرضى مذهبه وطريقه. فجمعهم الكوفى واستشارهم، فذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر وتفرّقوا على هذا، فلما كان الغد اتّفق النّاس عليه فأحضروه إلى دار الخلافة وبويع له فى التاريخ الذى تقدم، وعرضت عليه ألقاب فاختار منها المتقى لله. وبايعه/ الناس كافّة وسيّر الخلع واللواء إلى بجكم بواسط «2» وكان بجكم بعد موت الراضى وقبل استخلاف المتقى أرسل إلى دار الخلافة أخذ منها فرشا وآلات كان يستحسنها، وجعل سلامة الطولونى حاجبه، وأقرّ سليمان بن الحسين على وزارته وليس له من الوزارة إلا اسمها والتدبير كله للكوفى كاتب بجكم «3» .

ذكر مقتل بجكم

ذكر مقتل بجكم كان سبب قتله أن أبا عبد الله البريدى أنفذ جيشا من البصرة إلى المذار، فأنفذ بجكم جيشا إليهم عليه توزون «1» فاقتتلوا قتالا شديدا. كانت الحرب أولا على توزون فكتب إلى بجكم أن يلحق به فسار من واسط فى منتصف شهر رجب، فلقيه كتاب توزون «أنه ظفر بهم وهزمهم» فأراد الرجوع إلى واسط، فأشار عليه بعض أصحابه أن يتصيّد فقبل منه وتصيّد حتى بلغ نهر جور «2» ، فسمع أن هناك أكرادا لهم مال وثروة فشرهت نفسه فى أموالهم فقصدهم فى قلة من أصحابه وهو بغير جنّة «3» تقيه، فهرب الأكراد من بين يديه فأتاه غلام من الأكراد من خلفه وطعنه فى خاصرته فقتله وهو لا يعرفه، وذلك لأربع بقين من شهر رجب/ واختلف عسكره فمضى الدّيلم خاصة نحو البريدى- وكانوا ألفا وخمسمائة- فأحسن إليهم وأضعف أرزاقهم وأوصلها إليهم دفعة واحدة، وعاد الأتراك إلى واسط وكان تكينك محبوسا بها- حبسه بجكم- فأخرجوه فسار بهم إلى بغداد وأظهروا طاعة المتقى. وصار أبو الحسين أحمد بن ميمون يدبّر الأمور. قال «4» : واستولى المتقى لله على دار بجكم وأخذ ما فيها،

ذكر اصعاد أبى عبد الله البريدى إلى بغداد

وكان مبلغ ما أخذه من دفائنه ألف ألف ومائتى ألف دينار «1» ، وكانت مدة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام ذكر اصعاد أبى عبد الله البريدى الى بغداد قال «2» : لما قتل بجكم وسارت الدّيلم إلى [أبى عبد الله] «3» البريدى تقوّى بهم وعظمت شوكته، فأصعدوا من البصرة إلى واسط فى شعبان، فأرسل المتقى إليهم يأمرهم أن لا يصعدوا فقالوا: نحن محتاجون إلى مال! فأنفذ إليهم مائة ألف وخمسين ألف دينار، فقال الأتراك للمتقى: نحن نقاتل بنى البريدىّ فأطلق لنا مالا وانصب لنا مقدّما! فأنفق فيهم وفى جند بغداد القدماء أربعمائة ألف دينار وجعل عليهم سلامة الطولونى، وبرزوا مع المتقى لله إلى نهر ديالى «4» يوم الجمعة لثمان بقين من شعبان. وسار البريدى من واسط إلى بغداد، فلما قرب منها اختلفت الأتراك البجكمية، واستأمن بعضهم إلى البريدى، وبعضهم [استتر] «5» وسار إلى الموصل، واستتر سلامة الطولونىّ وأبو عبد الله الكوفى، ولم يحصل الخليفة

ذكر عود البريدى إلى واسط هاربا

إلا على أخراج المال «1» . وهمّ أرباب النّعم والأموال بالانتقال من بغداد خوفا من ظلم البريدى وتهوّره. ودخل أبو عبد الله البريدى إلى بغداد فى ثانى شهر رمضان ونزل بالشفيعى، ولقيه الوزير أبو الحسين والقضاة والكتّاب وأعيان الناس. وأنفذ إليه المتقى يهنّئه بالسلامة، وأنفذ له طعاما وغيره عدّة ليال، وكان يخاطب بالوزير، وكذلك أبو الحسين بن ميمون وزير الخليفة، ثم عزل أبو الحسين، وكانت مدة وزارته ثلاثة وثلاثين يوما، وقبض عليه وسيّره إلى البصرة فحبسه بها إلى أن مات فى صفر سنة ثلاثين. قال «2» : ثم أنفذ البريدىّ إلى المتقى لله يطلب منه خمسمائة ألف دينار ليفرّقها فى الجند، فامتنع فأرسل إليه يتهدّده ويذكّره بما جرى على المعتز والمستعين والمهتدى، وترددت الرسائل حتى أنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار، ولم يلق أبو عبد الله البريدىّ المتّقى مدة مقامه ببغداد «3» . ذكر عود البريدى الى واسط هاربا قال «4» : كان البريدى يأمر الجند بطلب الأموال من الخليفة، فلما أنفذ إليه الخليفة المال انصرفت أطماع الجند عن الخليفة

ذكر امارة كورتكين الديلمى

إلى البريدى، فشغب الجند عليه. وكان الديلم قد قدّموا على أنفسهم كورتكين الديلمى، وقدّم الأتراك عليهم تكينك التركى غلام بجكم. وسار الدّيلم إلى دار البريدى فأحرقوا دار أخيه أبى الحسين التى كان ينزلها، وانضاق تكينك التركى إليهم واتفقوا على قصد البريدىّ ونهب ما عنده. فساروا إلى النجمى ووافقهم العامة، فقطع البريدىّ الجسر ووقعت الحرب فى الماء ووثب العامّة بالجانب العربى على أصحاب البريدىّ، فهرب هو وإخوته وابنه وانحدروا فى الماء إلى واسط، ونهبت داره ودور قواده، وكان هربه فى سلخ شهر رمضان من السنة. ذكر امارة كورتكين الديلمى لما هرب البريدى استولى كورتكين الديلمى على الأمور ببغداد، ورحل إلى المتقى لله فقلّده إمارة الأمراء، وخلع عليه. واستدعى المتقى/ علىّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن، فأمر عبد الرحمن فدبّر الأمر من غير تسميته بوزارة، ثم قبض كورتكين على تكينك «1» التركى فى خامس شهر شوال وغرّقه وتفرّد بالأمر. ثم اجتمع العامّة يوم الجمعة سادس شوال وتظلموا من الدّيلم ونزولهم فى دورهم فلم ينكر ذلك، فمنعوا الخطيب من الصلاة واقتتلوا هم والدّيلم فقتل من الفريقين جماعة.

ذكر عود محمد بن رائق إلى بغداد وولايته إمرة الأمراء

ذكر عود محمد بن رائق الى بغداد وولايته إمرة الأمراء كان سبب عوده أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون، فساروا نحو الشام إلى ابن رائق، وكان فيهم من القوّاد توزون وجخجخ ونوشتكين وصيغون. فلما وصلوا إليه أطمعوه فى العود إلى العراق، ثم وصل إليه كتب المتقى تستدعيه، فسار من دمشق فى العشرين من شهر رمضان واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن على بن مقاتل، وسار حتّى وصل إلى الموصل فتنحّى عن طريقه ناصر الدولة. ابن حمدان، ثم تراسلا وتصالحا على مائة ألف دينار يحملها [ناصر الدولة] «1» ابن حمدان إليه. وسار ابن رائق إلى بغداد، وخرج كورتكين إلى عكبرا، ووصل/ إليه ابن رائق فوقعت الحرب بينهما عدّة أيام. فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذى الحجة سار ابن رائق ليلا من عكبرا هو وجيشه فأصبح ببغداد، فدخلها من الجانب الغربى، ونزل فى النجمى، وعبر من الغد إلى الخليفة فلقبه، وركب المتقى معه. ووصل فى هذا اليوم بعد الظهر كورتكين من الجانب الشرقى بجميع جيشه وهم يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون: أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام؟ ولما دخل كورتكين

بغداد أيس «1» ابن رائق من ولايتها وعزم على العود، وأمر بحمل أثقاله فرفعت، ثم عزم على أن يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره، فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم. ثم ركب هو فى سميرية وركب معه عدّة من أصحابه فى عشرين سميرية ووقفوا يترامون بالنشاب، ووصل أصحابه وصاحوا من خلفهم، واجتمعت العامة وصاحوا على أصحاب كورتكين فانهزم هو وأصحابه واختفى هو. ورجمتهم العامّة بالآجرّ وغيره، وقوى أمر ابن رائق، وقتل من أساء إليه من الدّيلم وكانوا نحو أربعمائة، وقتل من قوادهم بضعة عشر رجلا، وخلع عليه المتقى وجعله أمير الأمراء، ثم ظفر بكورتكين فحبسه بدار الخليفة. وفى هذه السنة فى شوال استوزر المتقى لله/ أبا إسحاق محمد ابن أحمد الإسكافى المعروف بالقراريطى بعد عود البريدى، وجعل بدرا الخرشنى «2» حاجبه، فبقى وزيرا إلى الخامس والعشرين من ذى القعدة فقبض عليه كورتكين واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخى، فبقى وزيرا إلى الثامن والعشرين من ذى الحجة منها فعزله ابن رائق، ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد الكوفى كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة.

وفيها انقطع الغيث بالعراق فاستسقى الناس فى شهر ربيع الأول فسقوا مطرا قليلا لم يجر منه ميزاب، فاشتد الغلاء والوباء وكثر الموت حتى دفن الجماعة فى القبر الواحد من غير غسل ولا صلاة عليهم، ورخص العقار والأثاث ببغداد حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم، وانقضى تشرين الأول وتشرين الثانى وكانون الأول وكانون الثانى وشباط الأول ولم يمطر الناس غير المطرة التى كانت عند الاستسقاء، ثم جاء المطر فى آذر ونيسان. قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى فى سبب هذا المطر بسند رفعه إلى أبى محمد الصّليحى «1» الكاتب أنه قال: لما نادى المتقى فى زمن خلافته فى الأسواق أن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته: إنّ امرأة صالحة رأت النبىّ صلى الله عليه وسلم فى منامها فشكت/ احتباس المطر فقال لها: «قولى للناس يخرجون فى يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون ويدعون فإنه يسقيهم فى يومهم» وإن أمير المؤمنين يأمركم كما أمركم رسول الله صلى الله وسلم عليه، وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نيّاتكم وإقلاع عن ذنوبكم- قال- فأخبرنى الجمّ الغفير «2» أنهم لما سمعوا النداء ضجّت الأسواق بالبكاء والدعاء، فشق ذلك علىّ وقلت: «منام امرأة لا ندرى ما تأويله، هل يصحّ أم لا، ينادى به فى الأسواق فى مدينة السلام، فإن لم يسقوا كيف يكون

ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى

حالنا مع الكفار؟ فليته أمر الناس بالخروج ولم يذكر هذا» وما زلت قلقا حتى أتى يوم الثلاثاء فقيل لى: إن الناس قد خرجوا إلى المصلى مع أبى الحسين أحمد بن الفضل بن عبد الملك إمام الجامع، وخرج أكثر أصحاب السلطان والفقهاء والأشراف، فلما كان قبل الظهر ارتفعت «1» سحابة ثم طبقت الآفاق ثم أسلمت غزالتها «2» بمطر جود، فرجع الناس حفاة من الوحل. ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى / فى هذه السنة وزر أبو عبد الله البريدى للخليفة المتقى لله، وسبب ذلك أن ابن رائق استوحش منه لأنه أخّر حمل المال وانحدر إلى واسط عاشر المحرم، فهرب البريدى إلى البصرة وسعى أبو عبد الله الكوفى للبريدى وإخوته حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار، وضمنوها كلّ سنة بستمائة ألف دينار. وعاد ابن رائق إلى بغداد فشغب الجند عليه ثانى شهر ربيع الآخر وفيهم توزون وغيره من القواد، وتوجّهوا إلى البريدى فى العشر الآخر من شهر ربيع الآخر بواسط، فقوى بهم فاحتاج ابن رائق إلى مداراته فكاتبه بالوزارة، وأنفذ إليه

ذكر استيلاء البريدى على بغداد وإصعاد المتقى لله إلى الموصل

الخلع واستخلف أبا عبد الله بن شيرزاد. ثم وردت الأخبار إلى بغداد فعزم البريدىّ على الإصعاد إلى بغداد، فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه، وأعاد أبا إسحاق القراريطى ولعن بنو البريدى على المنابر بجانبى بغداد. ذكر استيلاء البريدى على بغداد وإصعاد المتقى لله إلى الموصل قال «1» : وسير أبو عبد الله البريدى أخاه أبا الحسين إلى بغداد فى/ جميع الجيش من الأتراك والدّيلم، فعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخلافة، فأصلح سورها ونصب عليها العرادات «2» والمجانيق وعلى دجلة، وأنهض العامة وجنّد بعضهم؛ فثاروا فى بغداد وأحرقوا ونهبوا، وأخذوا الناس ليلا ونهارا. وخرج المتقى لله وابن رائق إلى نهر ديالى فى منتصف جمادى الآخرة، ووافاهم أبو الحسين فى الماء والبر، واقتتل النّاس فانهزم أهل بغداد، واستولى أصحاب البريدىّ على دار الخلافة ودخلوا إليها من الماء، وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة. وهرب المتّقى وابنه الأمير أبو منصور فى نحو عشرين فارسا، ولحق بهما ابن رائق فى جيشه، وساروا جميعا إلى الموصل. وقتل أصحاب البريدىّ من وجدوه فى دار الخليفة من الحاشية، ونهبوا دور الحرم، وكثر النّهب فى بغداد ليلا ونهارا.

وأخرجوا كورتكين من محبسه، فأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط، فكان آخر العهد به. ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التى يسكنها ابن رائق، وأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقى بغداد، وجعل نوشتكين على شرطة الجانب الغربىّ فسكن الناس، وأخذ أبو الحسين رهائن القواد فسيّرهم إلى أخيه أبى عبد الله بواسط. قال «1» : وعسف أهل العراق وظلمهم ظلما لم يسمع بمثله قطّ، ذكر/ ابن الأثير رحمه الله ذلك فى تاريخه الكامل وأفرده بترجمة وهى «ذكر ما فعله البريدىّ ببغداد» ، ولما انتهى كلامه قال «وإنما ذكرنا هذا الفصل ليعلم الظّلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا إذا لم يتركوه لله سبحانه وتعالى «2» » وأظنه رحمه الله تعالى قال هذا لما علمه من حال الظلمة فى عصره، وأنهم يستقبحون الظلم. ويتركونه خشية أن ينقل عنهم. وإنما تركت أن أشرح ما قاله من ظلم البريدى خوفا أن يسمعه ظلمة هذا العصر فيقتدون بأفعاله ويحملون الناس على مثاله؛ فإن فيهم من يتحلى بالظلم ولا يتحاشى من فعله ويردّ فرع كل مظلمة إلى أصله ويقول: قد فعله فلان وفلان وجرت عليه القاعدة فى كل عصر وأوان! ويبرز بالظّلم بروز الليث من غابه، وتصدر عنه الحوادث كصدور الغيث من

ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء

سحابه، ويرى أنّ ذلك فرصة يغتنمها وكعبة يستلمها، ثم لا يقنعه ذلك إلى أن يسمّى المظالم بالحقوق الواجبة، ويرى الملازمة عليها من السنن الراتبة. لا جرم أن الله تعالى يأخذه من مأمنه، ويسلبه ما حوله من نعمه ومننه، لأن ملك هذا العصر «1» - خلّد الله سلطانه وثبّت أركانه ونصر جيوشه وأعوانه-/ ينكر المظالم إذا أنهيت إليه ويزيل اسمها، ويمحو من دواوين دولته رسمها، ويكف الأكفّ العادية إذا عدت، ويقبض الأيدى الجارية إذا انبسطت فى العالم واعتدت «2» . ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء كان المتقى لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريدىّ، فأرسل أخاه سيف الدولة «3» نجدة فى جيش كثيف، فلقى المتقى لله وابن رائق بتكريت قد انهزما، فخدم سيف الدّولة المتقى خدمة عظيمة، وسار معه إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقى وتوجه نحو معلثايا «4» وترددت الرسائل بينه وبين ابن رائق. ثم تعاهدا واتفقا فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقى، فعبر إليه

ذكر عود المتقى لله إلى بغداد وهرب البريدى عنها

الأمير أبو منصور بن المتقى وابن رائق يسلمان عليه، فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقى. فلما أراد الانصراف من عنده ركب ولد المتقى وأراد ابن رائق الركوب فقال له ناصر الدولة: أقم اليوم عندى لنتحدث فيما تفعله! فاعتذر بابن المتقى، فألح عليه ابن حمدان فاستراب به/ وجذب كمّه من يده فقطعه، وأراد الركوب فشبّ به فرسه فسقط، فصاح ابن حمدان «أن اقتلوه» فقتلوه وألقوه فى دجلة. وأرسل ابن حمدان إلى المتقى يقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله ففعل ما فعل «1» ، فردّ عليه المتقى ردا جميلا وأمره بالمسير إليه فسار ناصر الدولة إليه فخلع المتقى عليه ولقّبه ناصر الدّولة وجعله أمير الأمراء، وذلك فى مستهل شعبان، وخلع على أخيه أبى الحسين ولقّبه سيف الدولة، وكان قتل ابن رائق يوم الإثنين لسبع بقين من شهر رجب «2» ، ولما قتل سار الإخشيد من مصر إلى الشام فتسلمها. ذكر عود المتقى لله الى بغداد وهرب البريدى عنها قال «3» : ولما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدىّ لسوء سيرته فهرب جخجخ وتوزون إلى المتقى فى جماعة من الأتراك، فأتوا الموصل فى خامس شهر رمضان فقوى

ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدى

بهم ابن حمدان، وسار هو والمتقى لله إلى بغداد. فلما قارباها هرب أبو الحسين البريدىّ منها إلى واسط، وكان مقامه ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. ودخل المتقى إلى بغداد ومعه بنو حمدان فى/ جيوش كثيرة، واستوزر المتقى أبا إسحاق القراريطى وقلّد توزون جانبى بغداد وذلك فى شوال. ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدى قال «1» : ثم خرج بنو حمدان نحو واسط لقتال البريدى، وسار أبو الحسين البريدى من واسط أيضا لقتالهم. فأقام ناصر الدولة بالمدائن وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه الحسين بن سعيد فى الجيش لقتاله، فالتقوا تحت المدائن بفرسخين واقتتلوا عدّة أيام آخرها رابع ذى الحجة فانهزم سيف الدّولة إلى أخيه، فأضاف إليه جماعة وردّه، فقاتل وهزم أبا الحسين البريدىّ وأسر جماعة من أصحابه وقتل جماعة. وعاد ناصر الدّولة إلى بغداد، فدخلها فى ثالث عشر ذى الحجة، وانحدر سيف الدولة من موضع المعركة إلى واسط فرأى البريدىّ قد انحدر منها إلى البصرة، فأقام سيف الدولة بها. ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ذكر ما اتفق لسيف الدولة بواسط ورجوع ناصر الدولة إلى الموصل قال «2» : ولما أقام سيف الدولة بواسط، قصد الانحدار إلى

البصرة ليأخذها من البريديين، فلم يمكنه لقلة المال عنده. فكتب إلى أخيه ناصر الدولة مرة بعد أخرى فأنفذ إليه مالا مع أبى عبد الله الكوفى ليفرّقه فى الأتراك فأسمعه توزون وجخجخ المكروه وثارا به فغيّبه سيف الدولة عنهما، وسيّره إلى بغداد. وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة «1» ويأخذها وينفرد بحاصلها، وأمر جخجخ أن يسير إلى المذار «2» ويأخذ حاصلها. وكان سيف الدولة يزهّد الأتراك فى العراق ويحسّن لهم قصد الشّام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويقع فى أخيه عندهم، فكانوا يصدقونه فى أخيه ولا يجيبونه إلى الشام ويتجنّون عليه، ثم ثاروا به فى سلخ شعبان وكبسوه ليلا، فهرب من معسكره إلى بغداد ونهب سواده وقتل جماعة من أصحابه. وأما ناصر الدولة فإنه لما وصل إليه الكوفىّ وأخبره الخبر برز للمسير إلى الموصل، فركب المتقى إليه وسأله التوقّف عن المسير، فأظهر له الإجابة إلى أن عاد ثم سار إلى الموصل، ونهبت داره، ودبّر الأمر أبو إسحاق القراريطى من غير تسمية بوزارة، وكانت إمارة ناصر الدولة ببغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام، ووصل سيف الدولة إلى بغداد!

ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة من واسط

ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة من واسط قال «1» : ولما هرب سيف الدولة عاد الأتراك إلى معسكرهم، فوقع الخلاف بين توزون وجخجخ وتنازعا الإمارة، ثم استقرت الحال أن يكون توزون أميرا وجخجخ صاحب الجيش، وتصاهرا. وطمع البريدى فى واسط فأصعد إليها، وتراسل هو وتوزون ولم يتفقا، ثم بلغ توزون أن جخجخ يريد الانتقال إلى البريدى فكبسه فى فراشه فى ليلة الثانى عشر من شهر رمضان وسمله «2» . ذكر عود سيف الدولة الى بغداد وهربه منها قال «3» : ولما هرب سيف الدولة من واسط قصد بغداد، وأرسل إلى المتقى لله يطلب منه ما لا ليقاتل توزون إن قصد بغداد، فأنفذ إليه أربعمائة ألف درهم ففرقها فى أصحابه. وكان وصوله فى ثالث عشر شهر رمضان، ولما بلغ توزون وصول [ابن حمدان] «4» سيف الدولة إلى بغداد ترك كيغلغ بواسط فى ثلاثمائة رجل وأصعد إلى بغداد/، فلما سمع سيف الدولة بإصعاده رحل من بغداد.

ذكر امارة توزون

ذكر امارة توزون قال «1» : ولما فارق سيف الدولة بغداد دخلها توزون، وكان دخوله فى الخامس والعشرين من شهر رمضان، فخلع عليه المتقى لله وجعله أمير الأمراء، وصار أبو جعفر الكرخى ينظر فى الأمور كما كان الكوفى ينظر فيها. ولما سار توزون عن واسط أصعد إليها البريدى، فهرب من بها من أصحاب توزون إلى بغداد، فلم يمكنه المبادرة إلى واسط، حتى استقرّت الأمور ببغداد، ثم انحدر إلى واسط فى ذى القعدة، فأتاه أبو جعفر بن شيرزاد هاربا من البريدىّ، ففرح «2» توزون به وقلّده جميع أموره. ذكر الوحشة بين المتقى وتوزون قال «3» : كان محمد بن ينال الترجمان أكبر قواد توزون- وهو خليفته ببغداد- فلما انحدر إلى واسط سعى بمحمد إليه وقبّح ذكره عنده «4» فبلغ ذلك محمدا، فنفر منه. وكان الوزير أبو الحسين ابن مقلة ضمن القرى المختصة بتوزون ببغداد فخسر فيها جملة، فخاف أن يطالب بها، وانضاف إلى ذلك اتصال ابن شيرزاد بتوزون/ فخافه الوزير وغيره، وظنوا أن مسيره إلى توزون

باتّفاق من البريدىّ، فاتفق الترجمان وابن مقلة، وكتبا إلى ابن حمدان لينفذ عسكرا يسير صحبة المتقى لله، وقالا للمتقى: قد رأيت ما فعل البريدىّ معك بالأمس، أخذ منك خمسمائة ألف دينار وأخرجت على الأجناد مثلها، وقد ضمنك البريدى من توزون بخمسمائة ألف دينار أخرى رغم أنها فى يدك من تركة بجكم، وابن شيرزاد واصل ليتسلمك ويخلعك ويسلمك إلى البريدىّ! فانزعج لذلك، وعزم على الإصعاد إلى ابن حمدان، وورد ابن شيرزاد جريدة «1» فى ثلاثمائة رجل، فوصل فى خامس المحرم. وفيها تزوج الأمير أبو منصور بن المتقى لله بابنة ناصر الدولة بن حمدان، وكان الصداق ألف ألف درهم، والحمل مائة ألف دينار. وفيها صرف ناصر الدولة أبا إسحاق القراريطى عن الوزارة وقبض عليه، واستوزر أبا العباس، أحمد بن عبد الله الأصفهانى فى شهر رجب، ثم استوزر المتقى لله بعد إصعاد ناصر الدولة من بغداد إلى الموصل أبا الحسين بن مقلة فى ثامن شهر رمضان. وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقى لله يطلب منديلا زعم أن المسيح مسح به وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه فى بيعة الرّها «2» ، وذكر أنه إن أرسل إليه أطلق عددا كبيرا

ذكر مسير المتقى لله إلى الموصل

من أسارى المسلمين، فأحضر المتقى لله الفقهاء والقضاة واستفتاهم فاختلفوا فيه، فقال بعضهم إنّ فى تسليمه غضاضة على الإسلام، وبعضهم رأى تسليمه وفكاك الأسرى أولى من بقائه، فقال على ابن عيسى الوزير: إن خلاص المسلمين من الأسر والضّرّ والضّنك الذى هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل! فأمر الخليفة المتقى لله بتسليمه إليهم وإطلاق الأسرى من بلاد الروم، فأطلقوا «1» ! ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ذكر مسير المتقى لله الى الموصل فى هذه السنة أصعد المتقى لله إلى الموصل، وسبب ذلك ما ذكرناه من إغراء من أغراه بتوزون وخوفه منه ووصول ابن شيرزاد إلى بغداد فى خامس المحرم جريدة، فازداد خوف المتقى لله. وأقام ابن شيرزاد ببغداد يأمر وينهى ولا يراجع المتقى فى شىء، وكان المتقى قد أنفذ فى طلب جيش من ناصر الدولة ليصحبه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمه الحسين بن سعيد، فوصلوا إلى بغداد ونزلوا بباب حرب. فاستتر ابن شيرزاد وخرج المتقى لله إليهم فى حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد، ولما سار المتقى لله من بغداد ظلم ابن شيرزاد الناس وعسفهم وصادرهم/، وأرسل إلى توزون وهو بواسط يخبره بذلك. فلما بلغه الخبر عقد ضمان واسط على البريدى وزوّجه ابنته وسار إلى بغداد، وسار

ذكر قتل أبى يوسف البريدى

ناصر الدولة للقاء المتقى إلى تكريت فوصل فى الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر وركب إليه الخليفة وأكرمه. وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وسار توزون نحو تكريت فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخين فاقتتلوا ثلاثة أيام ثم انهزم سيف الدولة لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، وغنم توزون سواده وسواد أخيه ناصر الدّولة. وعادا من تكريت إلى الموصل ثم التقوا مرة ثانية فانهزم سيف الدولة وتبعه توزون، فسار المتقى لله وبنو حمدان إلى نصيبين ودخل توزون الموصل وسار المتّقى إلى الرّقّة، ولحقه سيف الدولة. وأرسل المتقى لله إلى توزون يذكر أنه استوحش منه لاتصاله بالبريدىّ، فإن آثر رضاه يصالح ناصر الدولة وسيف الدولة ليعود إلى بغداد، وترددت الرسائل بين المتقى وتوزون حتى تم الصلح، وعقد الضمان على ناصر الدولة عمّا بيده من البلاد «1» ثلاث سنين كلّ سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقى لله عند بنى حمدان. ذكر قتل أبى يوسف البريدى فى هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدىّ أخاه أبا يوسف، وسبب ذلك أنّ أبا عبد الله كان نفذ ما عنده من المال فى محاربة بنى حمدان ومقامهم بواسط ومحاربة توزون، فلما رأى جنده

ذكر وفاة أبى عبد الله البريدى ومن قام بعده بالأمر

قلة ماله مالوا إلى أخيه أبى يوسف لكثرة أمواله، فاستقرض أبو عبد الله منه المال مرة بعد أخرى فكان يعطيه القليل من المال ويعيبه ويذكر تضييعه وهوجه وتهوّره، فبلغ ذلك أبا عبد الله. ثم صحّ عنده أنه يريد القبض عليه والاستبداد بالأمر وحده، واستوحش كل منهما من صاحبه؛ فدبّر أبو عبد الله عليه وأقام غلمانه فى طريق مسقف بين داره والشط، فدخل أبو يوسف فى ذلك الطريق فثار به الغلمان فقتلوه وهو يستغيث: يا أخى قتلونى! وهو يقول: إلى لعنة الله! ولما قتل دفنه فثار الجند وشغبوا ظنّا منهم أنه حى، فأمر به فنبش وألقاه على الطريق، فلما رأوه سكتوا فأمر بدفنه. وانتقل أبو عبد الله إلى دار أبى يوسف، فأخذ ما فيها ولم يحصل من مال أخيه على طائل فإن أكثره انكسر عند الناس! ذكر وفاة أبى عبد الله البريدى ومن قام بعده بالأمر وفى هذه السنة فى شوال مات أبو عبد الله البريدى بعد أن قتل أخاه بثمانية أشهر/ واستقر الأمر بعده لأخيه أبى الحسين؛ فأساء السيرة فى الجند، فثاروا به ليقتلوه فهرب إلى هجر واسنجار بالقرامطة، ونصب الجند أبا القاسم بن أبى عبد الله. قال «1» : لو سار أخوان لأبى طاهر مع أبى الحسين فى جيش إلى البصرة، فرأوا أبا القاسم قد حفظها صلحوا بينه وبين ابن

ذكر ما كان من أمر المتقى لله إلى أن خلع وسمل

أخيه، وعادوا ودخل أبو الحسين البصرة، فتجهز منها وسار إلى توزون ببغداد، واستقام أمر أبى القاسم بن أبى عبد الله البريدى. ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ذكر ما كان من أمر المتقى لله إلى أن خلع وسمل كان المتقى لله قد راسل توزون فى طلب العود إلى بغداد، وسبب ذلك أنه رأى من بنى حمدان تضجّرا «1» منه وإيثارا لمفارقته، فاضطر إلى مراسلة توزون. فأرسل إليه الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبى موسى الهاشمى فى الصلح، فلقيهما توزون وابن شيرزاد بنهاية الرّغبة فيه والحرص عليه واستوثقا من/ توزون وحلّفاه للمتقى وحضر اليمين خلق كثير من القضاة والعدول، والعباسيون والعلويون وغيرهم. وحلف توزون للمتقى والوزير، وكتبوا خطوطهم بذلك، وكان ذلك فى سنة اثنتين وثلاثين. وكان أيضا قد كتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يشكو إليه حاله ويستقدمه، فقدم إليه إلى الرّقّة فى منتصف المحرم من هذه السنة ووقف بين يديه موقف الغلمان، ومشى بين يديه، وحمل إلى المتقى لله هدايا جليلة وإلى الوزير أبى الحسين بن مقلة وسائر الأصحاب، واجتهد بالمتقى ليسير معه إلى مصر والشام ويكون بين يديه فلم يفعل، فأشار عليه

بالمقام مكانه ولا يرجع إلى بغداد وخوفه من توزون فأبى إلا العود إلى بغداد. وعرض على ابن مقلة المسير معه إلى مصر ليحكّمه فى جميع بلاده، فلم يجبه إلى ذلك، فخوّفه أيضا من توزون، فكان ابن مقلة يقول بعد ذلك: نصحنى الإخشيد فلم أقبل نصيحته.! ثم انحدر المتقى لله إلى بغداد لأربع بقين من المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر، فلما وصل المتقى لله إلى هيت «1» أقام بها وأنفذ من يجدّد اليمين على توزون، فحلف وسار عن بغداد لعشر بقين من صفر للقاء المتقى لله، فلقيه بالسندية ونزل توزون وقبّل الأرض بين يدى المتقى وقال: ها أنا قد وفيت بيمينى/ والطاعة لك! ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزلهم فى مضربه مع حرم المتقى ثم كحله فأذهب عينيه، فصاح وصاح من عنده من الحرم والخدم فارتجّت الأرض فأمر توزون بضرب الدبادب «2» فخفيت الأصوات، وعمى المتقى «3» وانحدر توزون من الغد إلى بغداد، وكان خلع المتقى لله وسمله فى يوم السبت لعشر بقين من صفر، فكانت مدة خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا، وعاش إلى أيام المطيع، وتوفى فى منتصف شعبان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وله ستون سنة وأمر المطيع أبا تمام الزينبى فصلّى عليه وكبر خمسا، ودفن فى

داره ثم ابتاعها عز الدولة بختيار من ورثتة بثلاثين ألف دينار فنقلوه إلى تربة بإزائها فامتحن فى الحياة وفى الممات. قال أبو الحسين عياش اجتمع فى أيام المتقى إسحاقات كثيرة، فانسحقت خلافة بنى العباس فى أيامه وانهدمت قبّة المنصور الخضراء التى كان فخرهم بها، قيل له ما كانت الإسحاقات؟ قال: كان يكنى أبا إسحاق، وكان وزيره القراريطى يكنى بأبى إسحاق، وكان قاضيه ابن إسحاق الخرقى «1» وكان محتسبه أبو إسحاق بن بطحاء، وكان صاحب شرطته أبو إسحاق بن أحمد أمير خراسان،/ وكانت داره القديمة دار إسحاق بن إبراهيم المعصبى وهى دار إسحاق ابن كنداج «2» وكان المتقى لله أبيض أشهل العينين «3» أشقر الشعر. قال بعض المؤرخين: كان فى أيامه غلاء وشدة حتى بيع كرّ الحنطة بمائتين وعشرة دنانير، وخرج عدة من الخدم من قصر الخلافة بالرصافة ينادون: الجوع الجوع! «4» وكان نقش خاتمه «المتقى لله» . ولده ولى عهده: أبو منصور، وزراؤه: قد تقدم ذكرهم فى أنباء دولته، ولم يكن لهم من الأمر شىء على ما قدمناه

ذكر خلافة المستكفى بالله

قضاته: أبو نصر يوسف بن عمر، ثم أخوه أبو محمد الحسين، ثم محمد بن عيسى بن إبراهيم، ثم أبو طاهر محمد بن أحمد بن نصر، ثم أبو الحسن أحمد بن أبى موسى. حجابه: سلامة الطولونى مولى خمارويه، ثم بدر الخرشنى «1» ثم أحمد بن خاقان. الأمير بمصر: الإخشيد محمد بن طغج. القضاة بها: عبد الله بن الوليد، ثم محمد بن بدر، ثم أبو الذكر التمّار، ثم الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق، ثم أحمد بن عبد الله الليثى، ثم عبد الله بن وليد. ذكر خلافة المستكفى بالله / هو أبو القاسم عبد الله بن المكتفى بالله أبى محمد على ابن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفق بالله بن المتوكل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد أبى محمد بن المهدى أبى عبد الله محمد ابن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم. يجتمع هو والمتقى لله فى المعتضد بالله، وأمّه أمّ ولد اسمها غصن، وهو الخليفة الثانى والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد خلع المتقى لله لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

قال «1» : ولما قبض توزون على المتقى أحضر المستكفى إلى السندية وبايعه هو وعامّة الناس، وكان سبب البيعة له ما حكاه أبو العباس التميمى الرازى وكان من خواصّ توزون قال: أنا كنت السبب فى البيعة للمستكفى، وذلك أننى دعانى إبراهيم بن الزوبيندار «2» الديلمى فمضيت إليه، فذكر لى أنه تزوج [إلى] قوم وأن امرأة منهم قالت له: «إن هذا المتقى قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم ولا يصفوا قلبه لكم، وهاهنا رجل من أولاد الخلفاء/ من ولد المكتفى» وذكرت عقله ودينه «تنصبونه للخلافة فيكون صنيعتكم وغرسكم، وبدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره، وتستربحون من الخوف والحراسة» - قال- فعلمت أنّ هذا أمر لا يتم إلا بك، فدعوتك له فقلت: أريد أسمع كلام المرأة، فجاءنى بها فرأيت امرأة عاقلة جزلة فذكرت لى نحوا من ذلك، فقلت: لا بد أن ألقى الرجل! فقالت: تعود [غدا] «3» إلى هاهنا حتى أجمع بينكما فعدت من الغد فوجدته قد أخرج من دار ابن طاهر فى زىّ امرأة فعرّفنى نفسه وضمن لى إظهار ثمانمائة ألف دينار منها مائة ألف لتوزون، وذكر وجوهها وخاطبنى خطاب رجل فهم عاقل، ورأيته يتشيع- قال- فأتيت توزون فأخبرته فوقع الكلام بقلبه وقال: أريد أبصر الرجل! فقلت: لك ذلك، ولكن اكتم أمرنا من ابن شيرزاد [فقال:

أفعل!] «1» - قال- وعدت إليهم وأخبرتهم الذى جرى، ووعدتهم حضور توزون من الغد، فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر مشيت مع توزون مستخفيّين واجتمعنا به، وخاطبه توزون وبايعه تلك الليلة وكتم الأمر. فلما وصل المتقى قلت لتوزون: أنت على ذلك العزم؟ قال: نعم! قلت: فافعله الساعة فإنه إن دخل الدار بعد عليك مرامه، فوكل به وسمله وجرى ما جرى، وبويع للمستكفى بالخلافة،/ وأحضر المتقى فبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفى وسمّت نفسها «علم» وغلبت على أمره كلّه، واستوزر المستكفى بالله أبا الفرج محمد ابن على السامرى «2» يوم الأربعاء لست بقين من صفر منها ولم يكن [له] «3» غير اسم الوزارة ومعناها لابن شيرزاد، ثم قبض عليه المستكفى فى شهر ربيع الآخر وصادره على ثلاثمائة ألف درهم فكانت وزارته اثنين وأربعين يوما. قال «4» : وخلع المستكفى بالله على توزون وتوّجه، وطلب أبا الفضل بن المقتدر بالله- وهو الذى ولى الخلافة ولقب المطيع لله- لأنه كان يعرفه يطلب الخلافة فاستتر مدّة خلافة المستكفى بالله فهدّمت داره حتى لم يبق منها شىء.

ذكر وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد

ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. فى هذه السنة فى المحرم لقّب المستكفى بالله نفسه إمام الحق، وضرب ذلك على الدنانير والدارهم، وكان يخطب له بلقبين إمام الحق والمستكفى بالله. ذكر وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد فى هذه السنة فى المحرم مات توزون ببغداد، وكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما. ولما مات كان ابن شيرزاد كاتبه ببغداد بهيت ليخلّص أموالها، فلما بلغه الخبر أراد عقد/ الإمارة لناصر الدولة بن حمدان فاضطرب الجند، وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فعاد إلى بغداد ونزل بباب حرب «1» فى مستهل صفر. وخرج إليه الأجناد جميعهم وحلفوا له ووجّه إلى المستكفى بالله ليحلف له فأجابه إلى ذلك، وحلف له بحضرة القضاة والعدول ودخل إليه وولاه إمرة الأمراء. فزاد الأجناد زيادة كثيرة فضاقت عليه الأموال، فأرسل إلى ناصر الدّولة يطالبه بحمل المال ويعده بردّ الرياسة إليه، فأرسل له خمسمائة ألف درهم ففرقها فى عسكره فلم تغن شيئا، فقسط أرزاق الجند على العمال والكتّاب والتجار وغيرهم، وظلم الناس ببغداد. واستعمل على واسط ينال كوشة وعلى تكريت الفتح اليشكرى، فأما ينال فإنه كاتب معز الدولة بن بويه واستقدمه وصار معه، وأما الفتح فإنه التحق بناصر الدولة بن حمدان وصار معه فأقره على تكريت.

ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد

ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد قال «1» : لما كاتب ينال كوشة معز الدولة بن بويه وهو بالأهواز ودخل فى طاعته سار نحوه، فاضطرب الناس فلما وصل إلى باجسرى «2» اختفى المستكفى بالله وابن شيرزاد. فلما استترا سار الأتراك إلى الموصل، فلما بعدوا ظهر المستكفى بالله وعاد إلى دار الخلافة. وقدم أبو محمد الحسن بن محمد المهلّبى صاحب معز الدولة إلى بغداد فاجتمع بابن شيرزاد بمكانه الذى استتر فيه، ثم اجتمع بالمستكفى بالله فأظهر السّرور بقدوم معزّ الدولة بن بويه وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك ليتفرقوا ليحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال. ثم وصل معز الدولة إلى بغداد لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى فنزل بباب الشمّاسية ودخل من الغد إلى المستكفى وبايعه، وحلف له المستكفى. وسأله معز الدولة أن يأذن لابن شيرزاد بالظهور وأن يأذن له أن يستكتبه فأجابه إلى ذلك، فظهر ولقى معزّ الدولة فولّاه الخراج وجباية الأموال. وخلع الخليفة على معز الدولة ولقبه بهذا اللقب، وأمر بضرب ألقابه وألقاب إخوته وكناهم على الدنانير والدارهم «3» . ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه

ذكر خلع المستكفى بالله وسمله

فى دور الناس فنال الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما علهم وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله. وأقيم للمستكفى بالله فى كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكانت ربما/ تأخرت عنه فأقرت له بعد ذلك ضياع سلّمت إليه تولاها له أبو أحمد الشيرازى كاتبه! ذكر خلع المستكفى بالله وسمله فى هذه السنة خلع المستكفى بالله لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكان سبب ذلك أن علم القهرمانة صنعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الدّيلم والأتراك، فاتهمها معزّ الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ البيعة للمستكفى بالله ويزيلوا معز الدولة، فساء ظنه لذلك. فلما كان فى التاريخ المذكور حضر معز الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خراسان ومعز الدولة جالس، ثم حضر رجلان من نقباء الدّيلم فتناولا يد الخليفة فظنّ أنهما يريدان يقبّلان يده، فجذباه عن سريره وجعلا عمامته فى حلقه. ونهض معزّ الدولة، واضطرب النّاس وأخرج الديلميان المستكفى بالله إلى دار معز الدولة ماشيا واعتقل بها، ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شىء، وقبض على أبى أحمد الشيرازى كاتب المستكفى وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها. وكانت مدة خلافة المستكفى بالله سنة واحدة وأربعة أشهر وما زال مغلوبا/ على أمره. ولما بويع للمطيع لله سلّم إليه المستكفى فسمله، وبقى محبوسا إلى أن توفى فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وله ست

ذكر خلافة المطيع لله

وأربعون سنة. وكان أبيض حسن الوجه قد وخطه الشيب، ولقّب نفسه فى آخر سنة ثلاث وثلاثين إمام الحق، ونقشه على الدنانير والدراهم وقد تقدم ذكر ذلك، وكان نقش خاتمه «المستكفى بالله» . وزراؤه: محمد بن على السامرى وهو آخر من دعى بالوزارة، ثم استكتب أحمد بن عبد الرحمن الشيرازى. قضاته فى الجانبين: أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وقلّد محمد بن أبى الحسن بن أبى الشوارب [الجانب] «1» الشرقىّ والمدينة ثم صرفه عن الشرقى بأبى الطّاهر محمد بن أحمد بن نصر، وعن المدينة بأبى السّائب عتبة بن عبد الله الهمدانى، ثم جمع لعتبة الجانبين بعد وفاة ابن أبى موسى، وجعل المدينة إلى محمد بن صالح بن شيبان الكوفى الهاشمى. حاجبه: أحمد بن خاقان. الأمير بمصر: الإخشيد بن طغج. القضاة بها: الحسين بن عيسى بن هارون، ثم الوليد من قبل المستكفى. ذكر خلافة المطيع لله هو أبو القاسم الفضل وقيل أبو العباس بن المقتدر بالله/ أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد، وأمّه أم ولد اسمها مشعلة، وهو الخليفة الثالث والعشرون من الخلفاء العباسيين بويع له يوم خلع المستكفى، وهو يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان مستترا كما قد مناه من

أول خلافة المستكفى بالله. فلما قدم معزّ الدّولة إلى بغداد قيل إن المطيع انتقل إليه واستتر عنده وأغراه بالمستكفى بالله حتى قبض عليه وسمله، وبويع للمطيع بالله ولقب بهذا اللقب، وحضر المستكفى عنده فسلم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع. وزاد أمر الخلافة إدبارا ولم يبق لهم من الأمر شىء ألبتّة، وقد كانوا يراجعون قبل ذلك والحرمة قائمة بعض شىء، فلما كان فى أيام معزّ الدولة زال ذلك جميعه بحيث إن الخليفة لم يبق له وزير، إنما كان له كاتب يدير إقطاعه وأخراجاته لا غير. وصارت الوزارة إلى معز الدولة يستوزر لنفسه من يريد، وكان الديلم يغالون فى التشيع «1» ويعتقدون أن بنى العباس قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقّيها فلم يكن باعث دينى يحثهم على الطاعة حتى قيل إنّ معز الدولة قصد إخراج الأمر عن بنى العباس والبيعة للمعتز لدين الله العلوى أو لغيره/ من العلويين. واستشار جماعة من خواصّ أصحابه فكلّهم أشار عليه بذلك إلا بعض خواصّه، فإنه قال: ليس هذا برأى فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته ولو أمرتهم بقتله لقتلوك! فأعرض عن ذلك. ومن حيث استقل معزّ الدّولة بالأمر اختصرنا الأخبار فى أيام

الخلفاء، ونذكر ذلك فى أخبار الدّولة البويهية وغيرها من الدول؛ فإن الأمر والنّهى صار لهم دون الخلفاء، ولم يبق للخليفة من الأمر شىء إلا ما أقطعه له معزّ الدّولة ما يقوم ببعض حاجته. فالذى نذكره الآن فى أيام الخلفاء بنى العباس ما يتعلق بحال الخليفة وأتباعه وأقاربه ومن خرج عليه من أهل بيته، وننبه على ابتداء دول الملوك وانقراضها ونحيل عليها فى موضعها الذى تشرح فيه، ونذكر أيضا فى أيام الخلفاء ما غلب عليه الروم والفرنج من البلاد الإسلامية وما وقع من الحوادث العامة كالزلازل العظيمة والسيول، وما يناسب ذلك على ما يراه المطالع فى مواضعه إن شاء الله تعالى. / وفى هذه السنة توفى القائم بن المهدى صاحب إفريقية والمغرب، وولى بعده ابنه المنصور. وفيها توفى الإخشيد صاحب مصر والشام وولى بعده ابنه أبو القاسم ودبر الأمر كافور الخادم بمصر «1» ، واستولى سيف الدولة بن حمدان على دمشق. وفيها اشتدّ الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير، وأخذ بعضهم ومعه صبىّ قد شواه ليأكله، وأعقبه وباء حتى عجز النّاس عن دفن موتاهم فكانت الكلاب تأكل الناس والناس تأكل الكلاب.

قال أبو الفرج بن الجوزى «1» : وفى هذه السنة كثر القمل برستاق اليمن الكبرى «2» حتى يئس الناس من غلاتهم فانحط من الطير طائر يزيد على جرم العصفور، فكان الطائر يعلو على شجرة فيصفر فتطير الطير أفواجا، فينحطّ كلّ فوج منها على ضيعة فيلقط القمل حتى فنى! ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. فى هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم على يد نصر الثملى «3» أمير الثغور لسيف الدولة، وكان عدّة الأسرى ألفين وأربعمائة أسير وثمانين أسيرا. وفى سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة استولى معزّ الدولة بن بويه على البصرة وهرب أبو القاسم بن أبى عبد الله البريدى منها إلى هجر إلى القرامطة، ثم/ استأمن بعد ذلك، ووصل إلى بغداد فى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فأحسن إليه وأقطعه. وفى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ملك الروم مرعش من سيف الدولة بن حمدان، وكان قد قاتلهم فهزموه. وفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كانت وفاة عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه بمدينة شيراز «4» .

ذكر اعادة القرامطة الحجر الأسود

ذكر اعادة القرامطة الحجر الأسود وفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة شرفها الله تعالى وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر! وكان بجكم قد بذل لهم فى رده خمسين ألف دينار فلم يجيبو إلى رده وردوه الآن بغير شىء فى ذى القعدة، وكانوا أخذوه فى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة. ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة وعلقوه بجامعها، حتى رآه الناس ثم حلوه إلى مكة «1» . وفى سنة تسع وثلاثين أيضا توفى أبو نصر محمد بن الفارابى الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف، وكانت وفاته بدمشق. وفى سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة توفى المنصور العلوىّ صاحب المغرب/، وملك بعده ابنه المعزّ لدين الله. وفيها ملك الرّوم مدينة سروج «2» وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وخرّبوا المساجد. وفى سنة ست وأربعين نقص البحر ثمانين باعا فظهر فيه جبال وجزائر لم تعرف قبل ذلك. وفيها كان بالعراق وبلاد الجبل وقمّ ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة دامت نحو أربعين يوما، تسكن

ذكر ظهور المستجير بالله

وتعود؛ فتهدمت الأبنية، وغارت المياه وهلك تحت الرّدم ما لا يحصى من العالم، وكذلك كانت أيضا بالرّىّ والطالقان «1» . ذكر ظهور المستجير بالله وفى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ظهر بأدربيجان رجل من أولاد عيسى بن المكتفى بالله وتلقّب بالمستجير بالله وبايع للوصى من آل محمد، ولبس الصّوف، وأظهر العدل، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر. وكثر أتباعه واستفحل أمره، فسار إليه جستان «2» وإبراهيم ابنا المرزبان صاحب أذربيجان والتقوا فاقتتلوا، فانهزم أصحاب المستجير وأخذوه أسيرا فعدم فقيل إنه مات! وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتى ألف خركاه «3» . ذكر ضمان الحسبة والقضاء والشرطة ببغداد / وفى سنة خمسين وثلاثمائة مات القاضى أبو السائب «4» عتبة بن عبد الله وقبضت أملاكه وتولى قضاء القناة أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبى الشوارب، وضمن أن يؤدى فى كل سنة مائتى ألف درهم ولم يسمع بمثل ذلك فيما سلف! فلم يأذن له الخليفة المطيع لله بالدخول إليه، وأمر أن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء، ثم ضمنت الحسبة والشرطة. ثم عزل ابن أبى الشوارب عن

ذكر استيلاء الروم على عين زربة وما حولها من الحصون

القضاء وأمر بإبطال أحكامه وسجلاته، وذلك فى سنة اثنتين وخمسين وتقلّد القضاء بعده أبو بشر بن أكثم بغير ضمان ذكر استيلاء الروم على عين زربة وما حولها من الحصون وفى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فى المحرم نزل الدمستق بالروم على عين زربة «1» ، وهى فى سفح جبل عظيم والجبل مشرف عليها. وكان فى جمع عظيم «2» فأنفذ بعض عسكره، فصعدوا الجبل وملكوه. فلما رأى أهلها ذلك وأنّ الدمستق قد ضيق عليهم ووصل إلى السور وشرع فى التقرب طلبوا الأمان، فأمّنهم الدمستق ففتحوا أبواب المدينة فدخلها، فرأى أصحابه الذين فى الجبل نزلوا إلى المدينة فندم على إجابتهم إلى/ الأمان ونادى فى البلد أن يخرج أهله إلى المسجد الجامع ومن تأخّر فى منزله قتل. وكان ذلك فى أول الليل، فخرج إلى الجامع من أمكنه الخروج، فلما أصبح أنفذ رجّالته إلى المدينة وأمرهم بقتل من يجدونه فى منزله، فقتلوا خلقا كثيرا. ثم أمر من بالمسجد أن يخرجوا من البلد حيث شاءوا، فخرجوا على وجوههم لا يرون أين يتوجهون فماتوا فى الطرقات. وقتل الرّوم من وجدوه بالمدينة إلى آخر النهار، وهدم سور المدينة. وأقام الدمستق فى بلاد الإسلام واحدا وعشرين يوما، وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصنا للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها

ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس

بالأمان، فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد العيد، وخلف جيشه بقيسارية وراسله أهل بغراس «1» وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم. وفيها استولى الدمستق على مدينة حلب وعاد عنها، على ما نذكره فى أخبار ابن حمدان. ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس كان استيلاؤهم عليهما فى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وذلك أن الدمستق حصر المصيصة فى سنة ثلاث وخمسين «2» وقاتل أهلها ونقب أسوارها واشتد القتال وأحرق الروم رستاقها/ ورستاق «3» أذنه وطرسوس لمساعدتهم أهلها، وقتل من المسلمين خمسة عشر ألف رجل. ثم ضاقت الميرة على الروم فرحل الدمستق إلى بلاد الروم، وأرسل إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس «أنى منصرف عنكم لا لعجز ولكن لضيق العلوفة وشدة الغلاء، وأنا عائد إليكم، فمن انتقل منكم فقد نجا ومن وجدته بعد عودى قتلته «4» .

ونزل ملك الروم أيضا على طرسوس وحصرها وجرى بينه وبين أهلها حروب كثيرة سقط فى بعضها الدمستق ابن الشمشقيق «1» إلى الأرض وكاد يؤسر فقاتل عليه الروم وخلصوه. وأسر أهل طرسوس بطريقا كبيرا من بطارقة الروم، ورحل الروم عنهم لاشتداد الغلاء والعناء. وكان نقفور «2» ملك الروم قد بنى بقيسارية «3» مدينة وأقام بها بأهله ليقرب من بلاد الإسلام، فلما كان فى سنة أربع وخمسين أرسل أهل طرسوس والمصيصة إليه يبذلون الطاعة ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه ليقيم عندهم، فعزم على إجابتهم إلى ذلك فأتاه الخبر أنهم قد ضعفوا وعجزوا وأنهم لا ناصر لهم وأن الغلاء قد اشتد عندهم وعدموا القوت وأكلوا الكلاب والميتة وكثر فيهم الوباء فيموت منهم فى اليوم ثلاثمائة نفس، فرجع نقفور عن إجابتهم وأحضر الرسول وأحرق الكتاب على/ رأسه فاحترقت لحيته وقال لهم: أنتم كالحية فى الشتاء تخدر وتذبل حتى تكاد تموت، فإن أخذها إنسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ونهشته، وأنتم إنما أطعتم لضعفكم، وإن تركتم حتى تستقيم أحوالكم تأذّيت بكم!

وأعاد الرسول وجمع جيوش الروم وسار إلى المصيصة بنفسه، فحاصرها وفتحها عنوة يوم السبت ثالث عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ووضع السيف فى أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم أمر برفع السيف عنهم، ونقل كل من بقى منهم إلى بلد الروم، وكانوا نحو سائتى ألف إنسان. ثم سار إلى طرسوس فحاصرها فأذعن أهلها بالطاعة وطلبوا الأمان فأمّنهم، وفتحوا له البلد فلقيهم بالجميل وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون حمله ففعلوا ذلك برّا وبحرا، وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا أنطاكية. وجعل الملك المسجد الجامع إسطبلا لدوابه، وأحرق المنبر، وعمّر طرسوس وحصّنها، وجلب إليها الميرة حتى رخصت الأسعار ورجع إليها كثير من أهلها ودخلوا فى طاعة الملك وتنصّر بعضهم، وأراد المقام بها ليقرب من بلاد الإسلام ثم عاد إلى القسطنطينية. وأراد الدمستق وهو ابن الشمشقيق أن يقصد ميافارقين وبها سيف الدولة بن/ حمدان فأمره الملك باتباعه إلى القسطنطينية فمضى إليه. ثم فتح نقفور أذنه. وفى سنة أربع وخمسين أيضا قتل المتنبى الشاعر واسمه أحمد بن الحسين الجعفىّ «1» بالقرب من النعمانية وقتل معه ابنه، وكان قد عاد من عند عضد الدولة بفارس فقتله الأعراب وأخذوا ما معه.

ذكر البيعة لمحمد بن المستكفى وما كان من أمره

وفى سنة ست وخمسين وثلاثمائة كانت وفاة معز الدولة بن بويه وولاية ابنه عز الدولة بختيار على ما نذكره فى أخباره. ومات وشمكير بن زيار، والحسن بن الفيرزان، وكافور الإخشيدى «1» ، ونقفور ملك الروم، وأبو على محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدولة بن حمدان. وفيها توفى أبو الفرج على بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصفهانى الأموى، وهو من ولد مروان بن الحكم وكان شيعيا وهذا من العجب، وهو صاحب كتاب الأغانى «2» . ذكر البيعة لمحمد بن المستكفى وما كان من أمره وفى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة «3» ظهر ببغداد بين الخاص والعام دعوة إلى رجل من أهل البيت اسمه محمد بن عبد الله، وقيل إنه الرجل الذى وعد به النبى صلّى الله عليه وسلم، وإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحدد ما عفى من أمور الدين، فمن كان من السّنة قال: إنه عباسى، ومن كان من الشيعة قال: إنه

ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة

علوى. فكثرت دعاته وظهرت بيعته، وكان الرجل بمصر وقد أكرمه كافور الإخشيدىّ وأحسن إليه. وكان فى جملة من بايع له سبكتكين العجمى «1» من أكابر قواد معز الدولة وكان يتشيع فظنه علويا، فكتب إليه يستدعيه من مصر. فسار حتى بلغ الأنبار، وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات وهو يتولى حمايتها فلقى ابن المستكفى وترجل له وخدمه وأخذه، وعاد به إلى بغداد وهو لا يشك فى حصول الأمر له. ثم ظهر لسبكتكين أنه عباسى فعاد عن رأيه فيه، فخاف ابن المستكفى وهرب هو وأصحابه وتفرقوا، ثم أخذ ومعه أخ له وأحضرا عند بختيار فأمنهما ثم تسلمه المطيع لله من بختيار فجدع أنفه، ثم خفى خبره «2» . وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة انقطعت الدعوة العباسية من الديار المصرية والشامية، وقامت الدعوة العلوية بها للمعز لدين الله صاحب أفريقية والمغرب، على يد جوهر القائد غلام المنصور ووالد المعز على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة العبيدية. وفيها مات ناصر الدولة بن حمدان «3» . ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة فى هذه السنة دخل ملك الروم الشام فلم يمنعه أحد ولا قاتله، فسار فى البلاد إلى طرابلس وأحرق بلدها، وملك قلعة عرقة. وكان

ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية

صاحب طرابلس قد أخرجه الروم لشدّة ظلمه، فقصد عرقة فأخذه الرّوم وجميع ماله، وقصد ملك الروم حمص وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها، فأحرقها الروم ورجع إلى بلد الساحل، فأتى عليها نهبا وتخريبا وملك ثمانية عشر شهرا وما لا يحصى من القرى، وأقام بالشام شهرين يقصد أى موضع شاء ويخرب ما شاء فلا يمنعه أحد، وعاد إلى بلاده ومعه من السّبى نحو مائة ألف رأس ولم يأخذ إلا الصّبيان والصبايا والشباب، وأما الكهول والشيوخ والعجائز فمنهم من قتله ومنهم من أطلقه، وسيّر سريّة إلى بلد الجزيرة فبلغوا كفر توثا وتعصبوا وسبوا وأحرقوا وعادوا. ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ملك الروم مدينة أنطاكية، وسبب ذلك أنهم حصروا حصنا بالقرب منها يقال له حصن لوقا، فوافقوا أهله وهم نصارى على أن يرتحلوا منه إلى أنطاكية، ويظهر أنهم/ انتقلوا منه خوفا من الروم فإذا صاروا بأنطاكية أعانوهم على فتحها. وانصرف الرّوم عنهم بعد هذا التقرير، وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية بالقرب من الجبل الذى بها. فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخى نقفور وكانوا نحو أربعين ألف رجل، فأحاطوا بالسور وصعدوا الجبل إلى الناحية التى بها أهل الحصن فأخلوا لهم السور، فملكه الروم وملكوا البلد ووضعوا السيف فى أهله، ثم أخرجوا العجائز والأطفال والمشايخ من البلد وقالوا لهم: اذهبوا حيث شئتم! وأخذوا الشباب من الرجال والنساء

ذكر ملك الروم ملازكرد

والصبيان والصبايا فحملوهم إلى بلاد الروم سبيا، وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان. قال «1» : وأنفذ الرّوم جيشا كثيفا إلى حلب وبها قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان قد تغلب عليها ونزع يده من طاعة أبى المعالى بن سيف الدولة، فملك الرّوم المدينة دون القلعة وحصروا القلعة، وترددت الوسائط والرسائل بينهم وبين قرعوية، فاستقرّ الأمر على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعوية إليهم وأن يكون الرّوم إذا أرادوا الغزو لا يمكن قرعوية أهل القرى عن الجلاء عنها ليبتاع الرّوم ما يحتاجون إليه منهم. وكان مع حلب فى الهدنة حماه وحمص وكفرطاب/ والمعرة وأفامية وشيزر «2» وما بين ذلك من الحصون والقلاع والقرى، وسلّموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب. ذكر ملك الروم ملازكرد وفيها أرسل الروم جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية، فملكها عنوة وقهرا من المسلمين، وعظمت شوكتهم، وخافهم المسلمون فى أقطار البلاد. ذكر مقتل ملك الروم نقفور وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة قتل نقفور ولم يكن من أهل بيت المملكة، وإنما كان دمستقا والد مستق عندهم الذى يلى بلاد

الروم التى هى شرقى خليج قسطنطينية. وكان نقفور هذا شديدا على المسلمين، وهو الذى فتح طرسوس والمصيصة وأذنه وعين زربة وغيرها، ولم يكن نصرانىّ الأصل وإنما هو من ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاس «1» تنصر، وكان ابنه هذا شهما شجاعا حسن التدبير لما يتولاه. فلما عظم أمره وصار دمستقا قتل الملك الذى كان قبله وملك الروم بعده، وتزوّج امرأة الملك المقتول على كره منها وكان لها ابنان من الملك/، فعزم على أن يخصيهما ليقطع نسلهما ويبقى الملك فيه وفى ذرّيته. فلما علمت أمهما ذلك احتالت فى قتله، فأرسلت إليه ابن الشمشقيق- وهو الدمستق حينئذ- ووافقته على أن يسير إليها فى زىّ النساء ومعه جماعة وقالت لزوجها: إن نسوة من أهلها قد زرنها! فلما سار إليها هو ومن معه جعلتهم فى بيعة تتصل بدار الملك. فلما كان فى ليلة الميلاد نام نقفور واستثقل فى نومه، ففتحت امرأته الباب وأدخلتهم إليه فقتلوه، وثاربهم جماعة من خاصته وأهله فقتل منهم نيّف وسبعون رجلا، وأجلس فى الملك الأكبر من ولدى الملك المقتول، وصار المدبر له ابن الشمشقيق، ويقال: إن نقفور ما بات قطّ بغير سلاح إلا فى تلك الليلة التى قتل فيها «2»

ذكر الفتنة ببغداد ومصادرة الخليفة المطيع لله

ذكر الفتنة ببغداد ومصادرة الخليفة المطيع لله وفى سنة إحدى وستين وثلاثمائة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وكان سببها أن الرّوم استطالوا على أهل بلاد الجزيرة وامتدوا فى البلاد وعظم أمرهم وقويت شوكتهم، فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا فى المساجد/ والمشاهد واستنفروا المسلمين وذكروا ما فعله الرّوم من النّهب والأسر والسّبى. فاستعظمه النّاس واجتمع أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة، وأرادوا أن يهجموا عليه فمنعوا وأغلقت الأبواب فأسمعوه القبيح، ثم تجمعوا وثاروا فى البلد، ونهبت الأموال وقتلت الرّجال، وأحرقت الدور، وفى جملة ما أحرق محلة الكرخ وكانت معدن التجار والشيعة. فأنفد عز الدولة بختيار «1» إلى المطيع لله يطلب منه مالا يخرجه على الغزاة فقال المطيع: إنّ النفقة على الغزاة وغيرها من مصالح المسلمين تلزمنى إذا كانت الدّنيا فى يدىّ والأموال تجبى إلىّ، وأما إذا كانت حالى هذه فلا يلزمنى شىء من ذلك، وإنما يلزم من البلاد فى يده وأنا ليس لى إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت! وترددت الرسائل بينهما حتى بلغا إلى التهديد، فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم فاحتاج إلى بيع ثيابه وإنقاص داره وغير ذلك. وشاع عند النّاس من أهل العراق وحجاج خرسان وغيرهم

ذكر خلع المطيع لله نفسه من الخلافة وخلافة ابنه الطائع لله

أن الخليفة قد صودر فلما قبض بختيار المال صرفه فى مصالح نفسه وبطل حديث الغزاة، ولم يسمع بمثل هذا فيما مضى. وفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة/ وقعت الفتنة بين بختيار وسبكتكين التركى الحاجب «1» ، فانتصر الحاجب عليه واستولى على بغداد، وأخرج من فيها من أهل بختيار وأصحابه، وترك الأتراك فى دور الدّيلم، وأخذوا أموالهم على ما نذكر ذلك مبيّنا فى أخبار الدولة البويهية إن شاء الله تعالى. ذكر خلع المطيع لله نفسه من الخلافة وخلافة ابنه الطائع لله وفى منتصف ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقيل فى الثالث عشر منه خلع المطيع لله نفسه من الخلافة. وكان سبب ذلك أنه أصابه مرض الفالج وثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه، وكان يستر ذلك، فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى خلع نفسه وتسليمها لولده ففعل ذلك وأشهد عليه به. فكانت مدّة خلافته تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وعشرين يوما، وكان له من الأولاد أبو بكر وهو الطائع وعبد العزيز وجعفر. وزراؤه: أبو الحسن محمد بن على بن مقلة، وأبو الفضل أحمد الشيرازى. قضاته: محمد بن الحسين بن أبى الشوارب، ومحمد بن أمّ شيبان الهاشمى «2» /، وأبو السائب «3» ، وأبو بشر

ذكر خلافة الطائع لله

عمر بن أكثم. حجابه: بختيار بن معز الدولة ويخلفه عبد الواحد ابن أبى عمر الشرابى «1» . الأمير بمصر: الإخشيد إلى أن مات، ثم ثم ابنه أنوجور، ثم أخوه، ثم كافور الإخشيدى إلى أن مات، ثم عقد الأمر لأحمد بن علىّ بن الإخشيد وهو ابن إحدى عشرة سنة، ثم خرجت مصر عن الدولة العباسية باستيلاء المعاربة عليها. القضاة بمصر: أبو الوليد، ثم عمر بن الحسن بن عبد العزيز العباسى من قبل أخيه محمد، واستخلف ابن الحدّاد، ثم وليها أبو بكر عبد الله بن محمد بن الخصيب، ثم ابنه محمد، ثم أبو طاهر محمد بن نصر. ذكر خلافة الطائع لله هو أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر، وأمه أم ولد اسمها عتب. وهو الخليفة الرابع والعشرون من الخلفاء العباسيين، وبويع له فى يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وسنّة يوم ذلك ثمان وأربعون سنة، ولم يل الخلافة أكبر منه سنّا من بنى العباسى، ولم يتقلّد الخلافة من له/ أب حىّ بعد أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه غيره «2» ! ذكر الحوادث فى أيام خلافته فى هذه السنة خطب للمعزّ صاحب مصر بمكة والمدينة. وفى سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى عضد الدولة على العراق وقبض على

بختيار، ثم عاد بختيار إلى ملكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفى سنة خمس وستين وثلاثمائة توفى المعز لدين الله صاحب مصر، وقام بعده ابنه العزيز. وفى سنة ست وستين وثلاثمائة توفى ركن الدولة بن بويه، وملك ابنه عضد الدولة وفيها كان ابتداء الدولة الغزنوية وأول من ملك منهم بغزنة سبكتكين «1» ، وسنذكر أخباره فى دولتهم إن شاء الله تعالى. وفيها فى جمادى الأولى نقلت ابنة عزّ الدولة بختيار إلى الطائع لله، وكان قد تزوّجها. وفى سنة سبع وستين وثلاثمائة استولى عضد الدولة على العراق وأخرج بختيار عنها ثم قتله، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «2» . وفى سنة تسع وستين وثلاثمائة تزوج الطائع ابنة عضد الدولة، وكان عضد الدولة قد زوجه بها، وقال: لعلها/ تلد منه ولدا ذكرا فنجعله ولى عهده فتكون الخلافة فى ولدهم! وكان الصداق مائة ألف دينار، وزفت إليه فى سنة سبعين وكان معها من الجواهر والجهاز ما لا يحصى.

ذكر القبض على الطائع وشىء من أخباره

وفى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة توفى عضد الدولة بن بويه «1» ، وولى صمصام الدولة ولده. وفى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة خرج طائر من البحر بعمان وهو أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح: قد قرب قد قرب قد قرب! ثلاثا، ثم غاص فى البحر، فعل ذلك ثلاثة أيام ثم غاب ولم ير بعد ذلك. وفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة ملك شرف الدولة العراق، وقبض على أخيه صمصام الدولة وسمله فى سنة تسع وسبعين، ومات شرف الدّولة فى السنة، وملك بعده أخوه بهاء الدولة وله إخوة. ذكر القبض على الطائع وشىء من أخباره وفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فى يوم السبت لثمان من شعبان قبض بهاء الدولة بن بويه على الخليفة الطائع لله،/ وكان سبب ذلك أن بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شغب الجند عليه، فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه شيئا. وكان أبو الحسن بن المعلم «2» قد غلب على بهاء الدولة وحكم فى مملكته فحسّن له القبض على الطائع وأطعمه فى ماله، وهوّن ذلك عليه وسهّله. فأقدم عليه بهاء الدولة وأرسل إلى الطائع لله وسأله الإذن فى الحضور إليه ليجدّد العهد

بخدمته، فأدن له بذلك. وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كبير فلما دخل قبّل الأرض. فأجلس على كرسى، فدخل بعض الدّيلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة، فجذبه وأنزله عن سريره والخليفة يقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون! ويستغيث ولا يلتفت إليه، وأخذ ما فى دار الخلافة من الذخائر، ونهب الناس بعضهم بعضا. وكان فى جملتهم الشريف الرضى فبادر بالخروج فسلم وقال أبياتا من جملتها: من بعد ما كان ربّ المال مبتسما ... إلىّ أدنوه فى النجوى ويدنينى «1» أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون «2» ومنظر كان بالسراء يضحكنى ... يا قرب ما عاد بالضّرّاء يبكينى هيهات اعتزّ بالسّلطان ثانية ... قد ضلّ ولّاج أبواب السلاطين قال «3» : ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع، فكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وبقى فى حبس القادر بالله إلى أن توفى فى يوم

ذكر خلافة القادر بالله

الثلاثاء سلخ شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وصلّى عليه القادر بالله فى دار الخلافة وكبّر خمسا، وتحدّث الناس فى ذلك فقال: هكذا يصلى على الخلفاء! ودفن بالرصافة، ويقال: إن القادر بالله شيّع جنازته إليها ورثاه الشريف الرّضىّ بقصيدته التى أولها: ما بعد يومك ما يسلو به السّالى ... ومثل يومك لم يخطر على بالى وكان مولده فى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان أبيض مربوعا حسن الجسم، وكان أنفه كبيرا جدا، وكان شديد القوة كثير الإقدام، ولم يكن له من الحكم فى ولايته ما يعرف به حاله ويستدلّ على سيرته. ذكر خلافة القادر بالله هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى أحمد بن الموفق، وأمه أم ولد اسمها دمنة وقيل تمنى «1» ، وهو الخليفة الخامس والعشرون من الخلفاء العباسيين. وبويع له فى يوم خلع الطائع لثمان/ بقين من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وكان يوم ذاك بالبطيحة «2» عند مهذّب الدولة أميرها.

وكان سبب توجهه إليها أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفى جرى بين القادر وبين أخيه منازعة فى ضيعة، وطال الأمر بينهما. ثم إن الطائع لله مرض مرضا شديدا أشفى «1» منه ثم أبلّ «2» فسعت إليه بأخيها القادر وقالت: إنه شرع فى طلب الخلافة عند مرضك! فتعيّر رأيه فيه، وأنفذ أبا الحسن ابن حاجب النّعمان وغيره للقبّض عليه وكان بالحريم الطاهرى، فأصعدوا فى الماء إليه. وكان القادر قد رأى فى منامه كأن رجلا يقرأ عليه.. «الّذين قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» «3» فهو يحكى هذا المنام لأهله ويقول: أنا خائف من طلب يطلبنى! ووصل أصحاب الطائع لله وقبضوا عليه، فأراد لبس ثيابه فمنعوه ولم يمكّنوه من مفارقتهم، فأخذه النساء منهم قهرا وخرج من داره واستتر وذلك فى سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى البطيحة فسار فنزل على مهذب الدولة، فأكرم نزله ووسّع عليه وبالغ فى خدمته، ولم يزل عنده حتى أفضى إليه الأمر فجعل علامته «حسبنا الله ونعم الوكيل» . قال «4» : ولما قبض على الطائع ذكر/ بهاء الدولة من يصلح

للخلافة فاتفقوا على القادر بالله، فأرسل بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد. وشغب الجند والدّيلم ببغداد، ومنعوا من الخطبة له، فقيل على المنبر: اللهمّ أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله! ولم يذكر اسمه، ثم أرضاهم بهاء الدولة «1» . قال «2» : ولما وصل الرسول إلى القادر بالله كان فى تلك الساعة يحكى مناما رآه فى تلك الليلة هو ما حكاه عبد الله بن عيسى كاتب مهذّب الدولة قال: كنت أحضر عند القادر بالله كلّ أسبوع مرتين، فكان يكرمنى، فدخلت عليه يوما فوجدته قد تأهب لم تجر به عادته، ولم أرمنه ما ألفت من كرامته «3» فاختلفت بى الظنون، فسألته عن سبب ذلك فإن كان لزلّة منى اعتذرت عن نفسى فقال: «بل رأيت البارحة فى منامى كأن نهركم هذا نهر الصليق قد اتّسع فصار مثل دجلة دفعات، فسرت على جانبه متعجبا منه، ورأيت عليه قنطرة عظيمة فقلت من قد حدّث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم؟ ثم صعدتها- وهى محكمة- فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصا يتأملنى من ذلك الجانب فقال: أتريد أن تعبر؟ قلت: نعم، فمد يده حتّى وصلت إلىّ فأخذنى وعبربى فهالنى، وتعاظمنى فعله، فقلت:/ من أنت؟ قال: علىّ بن

ذكر تسليم الطائع لله إلى القادر

أبى طالب وهذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه فأحسن إلى ولدى وشيعتى» ! قال «1» : فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملّاحين وغيرهم فسألنا عن ذلك فإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة، فخطابته «يا أمير المؤمنين» وقام مهذّب الدولة بخدمته أحسن قيام، وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك إلى الخلفاء وشيّعه، فسار القادر إلى بغداد، فلما وصل جبّل «2» انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس إليه واستقبلوه وساروا فى خدمته، فدخل دار الخلافة فى ثانى عشر شهر رمضان وبايعه بهاء الدولة والناس، وخطب له فى ثالث عشر الشهر المذكور. وجدّد أمر الخلافة وعظم ناموسها» وحمل إليه ما نهب من دار الخلافة، ولم يخطب له فى جميع خراسان بل كانت الخطبة فيها للطائع لله وحلف له بهاء الدولة على الطاعة والقيام بشروط البيعة، وحلف القادر له بالوفاء والخلوص، وأشهد عليه أنه قلّده ماوراء بابه. ذكر تسليم الطائع لله الى القادر وما فعله معه/ وفى شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة سلّم بهاء الدولة الطائع لله إلى الخليفة القادر بالله، فأنزله فى حجرة من خاصّ

حجره، ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته وبالغ فى الإحسان إليه، وكان الطائع يطلب الزيادة فى الخدمة كما كان أيام الخلافة فيؤمر له بذلك. حكى عنه أن القادر أرسل إليه طيبا فقال: من هذا يتطيب أبو العباس؟ يعنى القادر فقالوا: نعم! فقال: قولوا له عنى: فى الموضع الفلانى كندوج «1» فيه طيب مما كنت أستعمله، فليرسل إلىّ بعضه ويأخذ الباقى لنفسه! ففعل ذلك، وأرسل إليه القادر يوما عدسية فقال: ما هذا؟ قالوا: عدس وسلق! فقال: أوقد أكل أبو العباس من هذا؟ قالوا: نعم! قال: قولوا له عنى: لمّا أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت فما كانت العدسية تعوزك، ولم تقلدت هذا الأمر؟ فأمر حينئذ القادر أن تفرد له جارية من طباخاته تحضر له ما يلتمسه فى كل يوم، فأقام على هذا إلى أن توفى. وفى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة عقد نكاح القادر بالله على بنت بهاء الدولة «2» على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وماتت قبل النّقلة إليه. وفيها اشتدّ الغلاء بالعراق وبيعت الكارة الدقيق بمائتين وستين درهما، والكرّ الحنطة بستة آلاف/ وستمائة درهم غياثية «3» .

وفى سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة توفى العزيز بالله صاحب مصر، وولى بعده ابنه الحاكم. وفى سنة تسع وثمانين انقرضت الدّولة السامانية وملك التّرك ماوراء النهر «1» . وفيها عمل أهل باب البصرة ببغداد يوم السادس والعشرين من ذى الحجة زينة عظيمة وفرحا كثيرا، وعملوا فى ثامن عشر المحرم مثل ما تعمل الشيعة فى يوم عاشوراء. وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب ويعلّقون الثياب للزينة فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، وهو يوم الغدير. وكانوا يعملون- يوم عاشوراء- المآتم والنّوح، ويظهرون الحزن لمقتل الحسين، فعمل أهل باب البصرة مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم وقالوا: يوم دخول النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله تعالى عنه الغار! وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل عمل الشيعة يوم عاشوراء وقالوا: هذا يوم قتل مصعب بن الزبير رضى الله تعالى عنهما. وفى سنة تسعين وثلاثمائة ظهر فى سجستان معدن الذهب الأحمر «2» .

ذكر البيعة لولى العهد

ذكر البيعة لولى العهد وفى شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة أمر القادر بالله/ بالبيعة لولده أبى الفضل بولاية العهد، ولقّبه الغالب بالله. وكان سبب ذلك أن أبا عبد الله بن عثمان الواثقى من ولد الواثق بالله كان من أهل نصيبين، فقصد بغداد ثم سار إلى خراسان وعبر النّهر إلى هارون بن أيلك بغراخان «1» ، وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمى وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقىّ وأنه ولىّ عهده. فأجاب بغراخان إلى ذلك وبايع له وخطب له ببلاده، فبلغ ذلك القادر فعظم عليه وأرسل إلى بغراخان فى معناه فلم يصغ إلى رسالته. فلما توفى هارون وولى بعده أحمد بغراخان كاتبه الخليفة فى معناه، فأمر بإبعاده فحينئذ بايع القادر لولده، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك. وأما الواثقىّ فإنه خرج من عند أحمد بغراخان وقصد بغداد فعرف بها، فطلب منها فهرب إلى البصرة ثم إلى فارس وكرمان، ثم إلى بلاد الترك، فلم يتم له ما أراد، وأرسل الخليفة إلى الملوك يطلبه فضاقت عليه الأرض، فسار إلى خوارزم فأقام بها ثم فارقها، فأخذه يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه إلى أن مات.

ذكر الفتنة بمكة

وفى سنة إحدى وأربعمائة خطب قرواش «1» بن المقلد أمير بنى عقيل للحاكم العلوى صاحب مصر بالكوفة/ والموصل والأنبار والمدائن وغيرها من أعماله ثم قطعت فى السنة «2» . وفى سنة إحدى عشرة وأربعمائة مات الحاكم صاحب مصر وولى بعده ابنه الظاهر لاعزاز دين الله «3» . وفى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة توفى على بن هلال المعروف بابن البواب، وإليه انتهى الخطّ، ونقل عنه إلى وقتنا هذا، ودفن بجوار أحمد بن حنبل، وكان يقص بجامع بغداد، وقيل إنه مات فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ورثاه المرتضى «4» . ذكر الفتنة بمكة وفى سنة أربع عشرة وأربعمائة فى يوم النفر الأول وكان يوم الجمعة، قام رجل من أهل [مصر] «5» بإحدى يديه سيف

مسلول والأخرى دبوس، بعد فراغ الإمام من الصلاه فقصد الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بالدبوس وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلىّ؟ فليمنعنى مانع من هذا، فإنى أريد هدم هذا البيت! فخاف أكثر من حضر وتراجعوا عنه وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطّعه النّاس وأحرقوه، وقتل ممّن اتّهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظّاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلا غير ما أخفى منهم. وألحّ/ النّاس فى ذلك اليوم على المغاربة والمصريين بالنّهب والسّلب، فلما كان الغدماج النّاس واضطربوا وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل فقالوا: نحن مائة رجل! فضربت أعناق الأربعة. وتقشّر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه. وفى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة سقط بالعراق جميعه برد كبار وزن الواحدة رطل ورطلان، وأصغره كالبيضة، فأهلك الغلّات ولم يصح منها إلى القليل، هكذا حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل «1» . وفيها فى آخر تشرين الثانى هبّت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخلّ، وبطل دوران الدواليب التى على دجلة. وفى سنة تسع عشرة وأربعمائة انقطع الحجّ من العراق، فمضى

ذكر البيعة لولى العهد

بعض حجاج خرامان إلى كرمان وركبوا فى البحر إلى جدة وحجوا!. ذكر البيعة لولى العهد كان القادر بالله قد جعل ولاية العهد لولده أبى الفضل كما قدمناه فمات «1» فلما كان فى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة مرض القادر وأرجف بموته، فجلس جلوسا عاما وأذن للخاصة والعامة/ فدخلوا عليه. فلما اجتمعوا قام الصّاحب أبو الغنائم فقال: خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بالبقاء وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين باختيار الأمير أبى جعفر لولاية العهد! فقال القادر للناس: قد أذنّا لكم فى العهد له! وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك فنهاه عنه الحسن ابن حاجب النعمان، فلما عيّنه القادر الآن جلس على السرير الذى كان قائما عليه. وألقيت الستارة التى على القادر، فتقدم الحاضرون وخدموا ولىّ العهد وهنّئوه، وتقدّم أبو الحسن ابن حاجب النعمان فقبّل يده وهنّأه فقال له أبو جعفر: «وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال» «2» يعرض له بإفساده رأى القادر فيه فأكب على تقبيل قدميه وتعفير خدّه بين يديه، فقبل عذره. ودعى لأبى جعفر على المنابر يوم الجمعة لستّ بقين من جمادى الأولى، ومات أبو الحسن ابن حاجب النعمان فى نفس السنة.

ذكر ملك الروم مدينة الرها

ذكر ملك الروم مدينة الرها وفى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ملك الرّوم مدينة الرّها وكانت بيد نصير الدولة «1» بن مروان صاحب ديار بكر، ملكها من صاحبها عطير فى سنة ست عشرة وأربعمائة ثم مات عطير فشفع صالح بن مرداس صاحب حلب إلى نصير الدولة فى إعادتها إلى ابن عطير وإلى ابن شبل بينهما، فقبل شفاعته وسلمها إليهما. وكان فى الرّهابرجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر فتسلم ابن عطير الكبير وابن شبل الصغير، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة. فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم وباعه حصّنه من الرّها بعشرين ألف دينار وعدّة قرى من جملتها القرية التى عرفت بسن ابن عطير، وتسلموا البرج الذى له ودخلوا البلد فملكوه وهرب منه أصحاب ابن شبل. وقتل الرّوم المسلمين، وخرّبوا المساجد، فسمع نصير الدولة الخبر فسيّر جيشا كثيفا إلى الرها فحصرها وفتحها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النّصارى بالبيعة التى لهم، فحصرهم المسلمون بها وأخرجوهم وقتلوا أكثرهم ونهبوا البلد، وبقى الروم بالبرجين. فسيّر إليهم ملكهم عسكرا نحو عشرة آلاف مقاتل، فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم، ودخل الروم البلد ونهبوا ما جاورهم من بلاد المسلمين وصالحهم ابن وثّاب [النميرى] «2» على حرّان وسروج وحمل إليهم خراجا.

ذكر وفاة القادر بالله وشىء من أخباره وسيرته

ذكر وفاة القادر بالله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته رحمه الله فى اليوم الحادى والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر. وكانت مدّة خلافته إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر إلا أياما. وكان حليما كريما خيّرا يحبّ الخير وأهله ويأمر به، وينهى عن الشرّ ويبغض أهله. وكان حسن الاعتقاد، وصنّف كتابا على مذهب السنة. وكان يخرج من داره فى زىّ العامّة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف الكرخىّ وغيره. قال القاضى الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم وكان له قيمة جيّدة، فأرسل إلىّ ابن حاجب النعمان- وهو حاجب القادر بالله- يأمرنى أفكّ الحجر عنه ليشترى بعض أصحابه ذلك الملك فلم أفعل فأرسل إلى يستدعينى فقلت لغلامه: «تقدمنى حتى ألحقك» وخفته وقصدت قبر معروف الكرخى فدعوت الله أن يكفينى شرّه وهناك شيخ فقال: «على من تدعو؟» فذكرت له الخبر ووصلت إلى الحاجب فأغلظ لى فى القول ولم يقبل عذرى، فأتاه خادم برقعة ففتحها فقرأها فتغير لونه واعتذر إلى ثم قال: «كتبت إلى الخليفة رقعة؟» / قلت: «لا» وعلمت أن ذلك الشّيخ كان الخليفة! وقيل إنه كان يقسم إفطاره كلّ ليلة ثلاثة أقسام؛ فقسم يتركه بين يديه، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة، وقسم يرسله إلى جامع المدينة يفرّقه على المقيمين فيهما. فاتّفق أن الفرّاش حمل

الطعام ليلة إلى جامع المدينة ففرّقه على الجماعة، فأخذوا إلا شابّا فإنه رده، فلما صلّوا المغرب خرج الشاب وتبعه الفرّاش فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع فقال له الفراش: ويحك أما تستحى. ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فتردّه وترجع فتأخذه من الأبواب؟ فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علىّ قبل المغرب وكنت غير محتاج إليه فلما احتجت طلبت! فعاد الفراش وأخبر القادر بالله فبكى وقال له: راع مثل هذا واغتنم أجره وأقم إلى وقت الإفطار. ومناقبه كثيرة مشهورة وكان أبيض نقىّ الجسم كثّ اللحية طويلها يخضب. ودبّر الملك فى أيامه بهاء الدولة إلى أن مات، ثم ابنه سلطان الدولة أبو شجاع إلى أن مات، ثم أخوه أبو على شرف الدولة إلى أن مات، ثم أخوه أبو طاهر جلال الدولة. وكان للقادر بالله من الأولاد أبو الفضل الغالب بالله مات فى حياته، وأبو جعفر عبد الله القائم، وأبو القاسم ومات فى حياتة أيضا. وزراؤه: محمد بن أحمد الشيرازى الصاحب، وسعيد بن نصر بن على الفيروزابادى، وسعيد بن الحسن بن برتك «1» البصرى، وعلى بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان، ثم ابنه أبو الفضل محمد بن على.

ذكر خلافة القائم بأمر الله

حجابه: أبو الفتح محمد بن الحسين السعيدى، ثم أبو القاسم بكران، ثم ولده أبو منصور وغيرهم، نقش خاتمه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقيل: «حسبى الله ونعم الوكيل» . ذكر خلافة القائم بأمر الله هو أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أبى العباس أحمد بن إسحاق ابن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر، وقد تقدم ذكر نسبه. وأمه أم ولد اسمها بدر الدجى، وقيل: قطر الندى وقيل: علم، وكانت أرمنية وقيل: رومية. وهو الخليفة السادس والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له البيعة العامّة بعد وفاة أبية فى الحادى والعشرين من ذى الحجة فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة «1» . وصلّى بالناس عشاء المغرب فى صحن السلام من دار الخلافة، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى وعشرين كما ذكرناه، وأول/ من بايعه الآن الشريف أبو القاسم المرتضى، وأنشد: فإمّا مضى جبل وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسى وإما فجعنا يبدر التّمام ... فقد بقيت منه شمس الضّحى فكم حزن فى محلّ السرور ... وكم ضحك فى خلال البكى «2» فيا صارما أغمدته يد ... لنا بعدك الصارم المنتضى

ذكر الحوادث فى أيام القائم

وأرسل القائم بأمر الله قاضى القضاة أبا الحسن الماوردى إلى الملك أبى كاليجار ليأخذ عليه البيعة، ويخطب له فى بلاده، فأجاب وبايع، وخطب له فى بلاده، وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالا كثيرة. ذكر الحوادث فى أيام القائم فى منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة توفى الظّاهر صاحب مصر، وولى بعده ابنه المستنصر «1» . وفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة كان ابتداء الدولة السّلجقية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «2» . وفى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة أظهر المعزّ بن باديس الدّعوة للدولة العباسية، وخطب ببلاده للخليفة القائم بأمر الله فسيّرت إليه الخلع والتقليد «3» . وفى سنة إحدى وأربعين/ وأربعمائة فى ذى القعدة ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلا فزادت ظلمتها على ظلمة الليل، وظهر فى جوانب السماء كالنار المضطرمة، وهبّت ريح قلعت روشن «4» دار الخليفة، ثم انكشف ذلك فى بقية الليل.

وفى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فى يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر ظهر ببغداد كوكب غلب نوره على نور الشمس له ذؤابة نحو دراعين، وسار سيرا بطيئا، ثم انقض والناس يشاهدونه. وفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة زلزلت الأرض نحورستان وأرّجان وغيرها زلازل كثيرة كان معظمها بأرجان فخرّب كثير من بلادها، وانفرج جبل كبير بالقرب من أرجان فانصدع فظهر فى وسطه درجة بالآجرّ والجصّ وقد خفيت فى الجبل، فعجب الناس من ذلك! وفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة وصل طغرلبك السّلجقى إلى بغداد «1» وخطب له بها، وانقرضت الدولة البويهية. وفى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة تزوّج الخليفة القائم بأمر الله بأرسلان خاتون واسمها خديجة ابنة داود أخى السلطان طغرلبك، وقبل الخليفة النّكاح لنفسه. وفى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة فى الشعر/ الثانى من جمادى الآخرة ظهر وقت السّحر فى السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذرع فى رأى العين وعرضها ذراع، وبقيت كذلك إلى نصف شهر رجب واضمحلّت.

وفيها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يؤذّن بالكرخ والمشهد وغيرهما «الصلاة خير من النوم» وأن يتركوا «حى على خير العمل» ففعلوا ذلك. وفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة اشتدّ الغلاء ببغداد والعراق حتّى بيعت الكارة الدقيق السميذ بثلاثة عشر دينارا والكارة الشعير والذرة بثمانية دنانير، ومقدار الكارة [] «1» وأكل النّاس الميتة والكلاب وغيرها وكثر الوباء، حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانوا يجعلون الجماعة فى الحفيرة. وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل: إنه مات فى يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك فى هذه الولاية فى مده الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفا، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميّت وقد دخل عليه تركى يأخذ لحافا عليه فمات التركى وطرف اللّحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة لا تجد من يجمعها «2» !

ذكر أخبار أبى الحارث أرسلان البساسيرى

ذكر أخبار أبى الحارث أرسلان البساسيرى وابتداء حاله وما كان منه إلى أن تغلب على بغداد وقطع خطبة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر العلوى صاحب مصر كان أبو الحارث البساسيرى مملوكا تركيا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهى، وهو منسوب إلى مدينة بساسير من بلاد فارس، كان سيده الأول منها فقيل له: البساسيرى لذلك «1» . وأما ما وليه من المناصب التى ترقّى منها إلى أن صار منه ما صار، فإنه ولى فى سنة خمس وعشرين وأربعمائة حماية الجانب الغربى ببغداد، لأن العيارين كان قد اشتد أمرهم وعظم فسادهم وعجز عنهم نواب السلطان فاستعمل لكفاءته ونهضته وذلك فى سلطنة جلال الدولة أبى طاهر بهاء الدولة بن بويه، فظهرت كفاءته. وتقلّبت به الحال وصحب جلال الدولة فى حروبه وأبلى بين يديه بلاء حسنا، فعظم شأنه وارتفع محلّه وعلت رتبته وتقدّم على الجيوش، وكان بينه وبين العرب الذين خالفو جلال الدولة وخرجوا عن طاعته وكاشفوه بالعداوة حروب كان [النّصر] فى/ أكثرها له، ثم صار يخلف الملك الرحيم ببغداد. واستولى على الأنبار فى سنة

إحدى وأربعين وأربعمائة وملكها من قرواش بن المقلّد، واستولى على الدّردار، وملكها من سعيد بن أبى الشول. ولما استولى الملك الرحيم على البصرة فى سنة أربع وأربعين وأربعمائة وأخذها من أخيه أبى على بن أبى كاليجار سلّمها إلى البساسيرى فنهض فيها وضبطها وأوقع بالأكراد والأعراب فى سنة خمس وأربعين وأربعمائة- وكانوا قد أفسدوا فى البلاد- فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم أموالهم وأجلاهم عن البلاد. ثم أتى بغداد ووقع بينه وبين الخليفة القائم بأمر الله وحشة عظيمة فى سنة ستّ وأربعين وأربعمائة لأسباب يطول شرحها أدّت إلى إسقاطه مشاهرات الخليفة ومشاهرات رئيس الرؤساء «1» الوزير وحواشى الدار، ودام ذلك من شهر رمضان إلى ذى الحجة! ثم سار إلى الأنبار فمنعه أبو الغنائم ابن المحلبان من دخولها فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وفتحها عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة رجل ومائة من بنى خفاجة وأسر أبو الغنائم. وعاد إلى بغداد وهو بين يديه على جمل وعليه قميص أحمر وعلى رأسه برنس وهو مقيّد، وأنّى إلى مقابل التّاج وقبّل الأرض وعاد إلى منزله وهو يجعل الذّنب كلّه لرئيس الرؤساء/ وزير الخليفة- ويقول لست أشكو إلا منه فإنه أخرب البلاد. وكاتب السّلجوقية وأطمعهم فى البلاد، ثم توجه البساسيرى إلى واسط، فلما كان فى سنة سبع وأربعين وضع رئيس الرؤساء

الأتراك البغداديين على البساسيرى وثلبه ونسب ما يقع من النقص إليه، ففعلوا ذلك وزادوا عليه حتى حضروا إلى دار الخلافة فى شهر رمضان واستأذنوا فى قصد دور البساسيرى ونهبها فأذن لهم فى ذلك، فنهبوا دوره وأحرقوها، ووكلوا بنسائه وأهله ونوابه، ونهبوا دوابّه وجميع ما بملكه ببغداد. وأطلق رئيس الرؤساء لسانه فى البساسيرى وذمّه ونسبه إلى مكاتبة المستنصر صاحب مصر، وأرسل الخليفة إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيرى فأبعده، وكانت هذه الحالة من أعظم الأسباب فى ملك السلطان طغرلبك العراق. ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد إثر هذه الحادثة وملكها، وانقرضت الدّولة البويهية، فعند ذلك أظهر البساسيرى الخلاف وجاهر بالعصيان، وانضم إليه نور الدولة دبيس بن مزيد. والتقوا هم وقريش بن بدران «1» صاحب الموصل وكان مع قريش قتلمش «2» السّلجوقى-/ وهو ابن عم طغرلبك- واقتتلوا فكانت الهزيمة على قريش وقتلمش، وكانت هذه الواقعه عند سنجار فى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. ثم صار قريش بن بدران مع البساسيرى ونور الدولة دبيس، فساروا إلى الموصل وخطبوا بها للمستتصر بالله العلوى صاحب مصر- وكانوا قد كاتبوه بطاعتهم فأرسل إليهم الخلع عن مصر- فلما بلغ ذلك السلطان طغرلبك سار إلى الموصل وديار بكر لإخلائها من البساسيرى وغيره من المفسدين، فاستولى

ذكر استيلاء أبى الحارث البساسيرى على العراق

على الموصل وأعمالها وسلّمها إلى أخيه إبراهيم ينال «1» وعاد إلى بغداد فى سنة تسع وأربعين وأربعمائة فأقام بها إلى سنة خمسين وأربعمائة. ثم فارقها وتوجه نحو بلاد الجبل فعاد البساسيرى إلى الموصل واستولى عليها وحصر قلعتها أربعة أشهر، وملكها فهدمها وعفى أثرها، وكان السلطان قد فرق عساكره فكتب إلى أخيه إبراهيم واستدعاه، فحضر إليه إلى بلاد الجبل فسار السلطان جريدة «2» فى ألفى فارس إلى الموصل فوجد البساسيرى وقريش بن بدران قد فارقاها. فسار إلى نصيبين ليتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان فكاتبه البساسيرى وأطمعه فى السلطنة، فأظهر إبراهيم العصيان/ على السلطان طغرلبك فسار طغرلبك إلى همذان فى منتصف شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل بحرب أخيه حتى ظفر به، ثم عرض له ما شغله عن العود إلى بغداد. ذكر استيلاء أبى الحارث البساسيرى على العراق وخروج الخليفة القائم بأمر الله من بغداد والخطبة للمستنصر بالله العلوى صاحب مصر وقطع الدعوة العباسية قال «3» : ولما اشتغل السلطان طغرلبك بحرب أخيه

قصد البساسيرى بغداد، فلما وصل إلى هيت أمر الخليفة الناس بالعبور إلى الجانب الشرقى، وكان الأتراك كلّهم قد التحقوا بالسلطان إلى همذان. وكان الخليفة قد كتب إلى نور الدولة دبيس يأمره بالوصول إلى بغداد فورد إليها فى مائة فارس، فلما قوى الإرجاف بوصول البساسيرى أرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء (الوزير يقول: الرأى عندى خروجكما من البلد معى، فإننى أجتمع أنا وهزارسب بواسط على دفع عدوّكما. فأتاه الجواب أن يقيم حتى يقع/ الفكر فى ذلك، فقال: العرب لا تطيعنى على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى فإذا انحدرتم سرت فى خدمتكم! وسار وأقام بديالى ينتظرهما فلم ير لذلك أثرا، فسار إلى بلده. ثم وصل البساسيرى إلى بغداد فى يوم الأحد ثامن ذى القعدة ومعه أربعمائة غلام فى غاية الضر والفقر، فنزل بمشرعة الروايا وكان معه قريش بن بدران وهو فى مائتى فارس فنزل مشرعة باب البصرة. وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام وأقاموا بإزاء عسكر البساسيرى وعادوا، وخطب البساسيرى بجامع المنصور للمستنصر العلوى صاحب مصر فأذّن «حى على خير العمل» وعقد الجسر وعبر عسكره إلى الزاهر واجتمعوا فيه، وخطب فى الجمعة الثانية للمصرى بجامع الرصافة، وجرى بين الطائفتين حروب فى أثناء الأسبوع. وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء وزير الخليفة بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظارا لقدوم

طغرلبك، ولما يراه من ميل العوام للبساسيرى. فاتّفق فى بعض الأيام أن القاضى الهمذانى حضر إلى رئيس الرؤساء واستأذنه فى الحرب وضمن له قتل البساسيرى فأذن له من/ غير علم عميد الدولة، فخرج ومعه الخدم والهاشميون والعجم والعوام إلى الخليفة فاستخرجهم البساسيرى حتى أبعدوا، ثم حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل جماعة منهم، ومات فى الزّحمة جماعة، ونهب باب الأزج. وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب فدخل الدار وهرب كل من فى الحريم، ورجع البساسيرى إلى معسكره. واستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم فلم يرعهم إلا والزعقات قد علت ونهب الحريم، ودخلوا الباب النوبى. فركب الخليفة لابسا السّواد وعلى كتفه البردة وبيده سيف على رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النّهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه ومضى نحو عميد العراق.، فوجده قد استأمن إلى قريش فعاد وصعد إلى المنظرة. وصاح رئيس الدولة «يا علم الدين» يعنى قريشا «أمير المؤمنين يستدنيك» فدنا منه فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم «1» منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسوله صلى الله عليه

ذكر مقتل رئيس الرؤساء وعميد العراق

وسلم وذمام العربية. قال: أذم الله تعالى! قال: ولى ولمن معه؟ / قال نعم! وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة، وأعطى رئيس الرؤساء ذماما. فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه فأرسل إليه اليساسيرى: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ «1» فقال قريش: لا! وكانا قد تعاهدا على المشاركة فى الذى يحصل لهما وأن لا يستبدّ أحدهما دون الآخر بشىء، فاتفقا على أن يسلّم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيرى لأنه عدوّه ويترك الخليفة عنده! ذكر مقتل رئيس الرؤساء وعميد العراق قال «2» ولما أرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيرى قال له: مرحبا بمهلك الدول ومخرّب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة! فقال له المبساسيرى: قدرت فما عفوت وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمى وأطفالى، فكيف أعفو أنا وأنا صاحب السيف؟ وأمر به فحبس إلى آخر ذى الحجة، ثم أخرجه من محبسه مقيدا وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفى رقبته- مخنّقة/ [جلد بعير] «3» وهو يقرأ «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ

تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ» الآية.. «1» وطيف به محالّ بغداد وهو على جمل ووراءه من يصفعه. فلما اجتاز بالكرخ بصق أهل الكرخ فى وجهه لأنه كان يتعصّب عليهم! وجىء به إلى البساسيرى وقد نصبت له خشبة فأنزل من على الجمل وألبس جلد ثور قد سلخ فى ذلك اليوم، وجعلت قرونه على رأسه وعلّق بكلوبين من حديد، فلم يزل يضطرب إلى آخر النهار ومات، فقال بعض الشعراء فى هذه الواقعة: أقبلت الرّايات مبيضّة ... يقدمهنّ الأسد الباسل وولت السوداء منكوسة ... ليس لها من ذلّة سائل انظر إلى الباغى على جدعه ... والدّم من أوداجه سائل يعنى رئيس الرؤساء، قال: ودخل البساسيرى داره ونهب ما فيها وشهر حرمه وأمر بنقض داره وقال عند ذلك: فواحدة بواحدة جزاء! قال «2» : وكان رئيس الرؤساء حسن التّلاوة جيّد المعرفة بالنّحو. وقتل البساسيرىّ عميد العراق وكان فيه شجاعة وله فتوة، وهو الذى بنى رباط شيخ الشيوخ. وأما الخليفة فإن قريشا نقله إلى معسكره/ راكبا وعليه السّواد والبردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وأنزله فى خيمة، وأخذ أرسلان خاتون ابنة أخى السلطان طغرلبك فسلّمها إلى أبى عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.

ونهبت دار الخلافة وحريمها أياما، ثم سلّم قريش الخليفة إلى ابن عمّه مهارش بن المجلّى «1» وهو رجل فيه دين وله مروءة فحمله فى هودج وسار به إلى حديثة عانة «2» فنزل بها، ولما وصل إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه شيئا يلبسه فأرسل إليه جبة فيها قطن ولحافا. قال «3» وركب البساسيرى يوم عيد النّحر وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقى وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس وأجرى الجرايات على المتفقّهة ولم يتعصب لمذهب، وأقام بالعراق إلى ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. واشتغل السلطان طغرلبك فى هذا لمدّة بأمر أخيه إبراهيم حتى ظفر به وقتله، ومات أخوه داود بخراسان فاحتاج طغرلبك إلى المقام حتى قرّر القواعد بعده لإلب أرسلان ابن أخيه داود «4» ثم عاد إلى العراق

ذكر عود الخليفة القائم بأمر الله إلى بغداد وخروج البساسيرى منها وقتله

ذكر عود الخليفة القائم بأمر الله الى بغداد وخروج البساسيرى منها وقتله / قال: «1» ولما فرغ السلطان طغرلبك من أخيه إبراهيم ينال وقتله، وقتل ابنيه معه- وكان قد خرج عليه مرارا فعفا عنه، وإنما قتله فى هذه الوقعة لأنه علم أن الذى جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه- عاد إلى العراق وليس له هم إلا إعادة الخليفة القائم بأمر الله إلى داره. فأرسل إلى البساسيرىّ وقريش فى إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق ويقنع بالخطبة والسّكة، فلم يجب البساسيرىّ إلى ذلك، فرحل طفرلبك إلى العراق، فلما وصلت مقدّمته إلى قصر شيرين خرج حرم البساسيرى وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم فى دجلة وعلى الظهر. وكان دخول البساسيرىّ بغداد فى سادس ذى القعدة سنة خمسين وأربعمائة، وخروجه منها فى سادس ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ووصل طغرلبك إلى بغداد وقد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد المعروف بابن فورك «2» إلى قريش ابن بدران يشكره على فعله بالخليفة وحفظه وصيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه أرسل أبا بكر بن فورك لإحضارهما. ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له:/ «إنا أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك لينكشف بلاء الغزّ عنا والآن فقد عادوا وهم عازمون على قصدك،

فارحل بأهلك إلى البرية فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا فى البرية لم يقصدوا العراق ونتحكم عليهم بما نريد» فقال مهارش: «إن الخليفة قد استحلفنى بعهود لا أخلص منها» . وسار مهارش ومعه الخليفة فى حادى عشر ذى القعدة سنة إحدى وخمسين إلى العراق فوافيا ابن فورك فى الطريق، وأرسل إليه طغرلبك الخيام العظيمة والسرادقات والخيل بمراكب الذهب وغير ذلك من التحف فلقوه. ووصل الخليفة إلى النهروان فى الرابع والعشرين من ذى القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته وقبّل الأرض بين يديه وهنأه بالسلامة واعتذر من تأخره. فشكر له ذلك وقلّده سيفا وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه وقد تبرّك أمير المؤمنين به! قال: «1» ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضى أبى عبد الله بن الدامغانىّ وثلاثة نفر من الشّهود. وتقدّم السلطان فى المسير ووصل إلى بغداد، وجلس إلى الباب النوبى مكان الحاجب، ووصل القائم بأمر الله فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته/ حتى صار إلى حجرته. وكان وصوله يوم الإثنين لخمس بقين من ذى القعدة، وكانت السنة مجدبة، ولم ير النّاس فيها مطرا فجاء المطر فى تلك الليلة «2» .

قال «1» : ولما استقرّ الخليفة القائم بأمر الله أنفذ السلطان جيشا عليهم خمار تكين الطّغرائى فى ألفى فارس نحو الكوفة، وسار فى أثرهم فلم يشعر دبيس والبساسيرى إلا والسّريّة قد وصلت إليهم فى ثامن ذى الحجة من طريق الكوفة، فجعل أصحاب دبيس ابن مزيد يرتحلون بأهليهم فيتبعهم الأتراك فيتقدم دبيس ليردّ العرب إلى القتال فلا يرجعون! فمضى، ووقف البساسيرىّ وقاتل فسقط عن فرسه ووقع فى وجهه ضربة، ودلّ عليه بعض الجرحى فأخذه كمشتكين، وأتى عميد الملك الكندرى «2» وزير السلطان وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان فأمر بحمله إلى دار الخليفة، فطيف به على قناة فى نصف ذى الحجة، ومضى، ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة. وفى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة رتّب الخليفة أبا تراب الأثيرىّ فى الأنهار وحضور المواكب ولقّبه حاجب الحجّاب، واستوزر أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست، بعد أن شرط على نفسه أن يخدم بغير إقطاع/ ويحمل مالا. وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة عقد السلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله وحمل مائة ألف دينار، ولم يقع مثل هذا فيما تقدّم، وامتنع الخليفة من ذلك ثم أجاب إليه.

وفى هذه السنة عزل ابن دارست عن الوزارة ووليها أبو نصر ابن جهير. وفيها عمّ الرخص جميع الأصقاع، فبيع بالبصرة ألف رطل من الثمر بثمانية قراريط «1» . وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة وصل السلطان بابنة الخليفة فى شهر المحرم، وسار من بغداد فى شهر ربيع الأول إلى الرّىّ فمرض بها وتوفى لثمان خلون من شهر رمضان. وفيها ملك ألب أرسلان بعد عمّه طغرلبك «2» . وفى سنة ستّ وخمسين وأربعمائة عادت ابنة الخليفة زوجة السلطان طغرلبك وسيّر السلطان فى خدمتها الأمير إيتكين السليمانى وجعله شحنة «3» على بغداد وسأل ألب أرسلان أن يخطب له ببغداد واقترح أن يخاطب بالولد المؤيد فأجيب إلى ذلك، ولقّب ضياء الدين عضد الدولة وجلس الخليفة جلوسا عاما وشافه «4» الرسل بتقديم ألب أرسلان فى السلطنة وسيّر إله الخلع.

وفيها/ فى شهر ربيع الأول ظهر ببغداد والعراق وخوزستان وكثير من البلاد أن جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون فرأوا فى البرية خيما سودا، وسمعوا فيها لطما شديدا وسمعوا فيها قائلا يقول: قد مات سيدوك ملكّ الجن وأى بلد لم يلطم أهله عليه ويعملون له المأتم قلع أصله وأهلك أهله! فخرج كثير من النساء فى البلاد إلى المقابر يلطمن وينحن وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك. قال ابن الاثير «1» : وقد جرى فى أيامنا نحن فى الموصل وما والاها إلى العراق وغيره أنّ الناس فى سنة ستمائة أصابهم وجع كثير فى حلوقهم ومات منه كثير من الناس فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود وأنّ كلّ من لا يعمل له مأتما أصابه هذا المرض! فكثر فعل ذلك، وكانوا يقولون: يا أمّ عنقود اعذرينا ... قد مات عنقود وما درينا وكان النساء يلطمن وكذلك الأوباش! وفى سنة سبع وخمسين وأربعمائة ابتدئ بعمارة المدرسة النظامية ببغداد، وكملت عمارتها فى ذى القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة. وفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة فى العشر الأوسط من جمادى ظهر كوكب كبير له ذؤابة/ طويلة ممتدة إلى وسط السماء عرضها نحو ثلاثة أذرع فى رأى العين وهو بناحية المشرق، وبقى إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب.

وفيها فى جمادى الآخرة كان بخراسان والجبال زلزلة عظيمة بقيت تتردد أياما تصدّعت منها الجبال وأهلكت خلقا كثيرا، وانخسفت منها عدة قرى، وخرج النّاس إلى الصحراء. وفيها ولدت صبيّة بباب الأزج لها رأسان ورقبتان ووجهان وأربع أيد على بدن واحد «1» . وفى سنة تسع وخمسين وأربعمائة فى ذى القعدة قتل الصّليحى صاحب اليمن «2» وخطب بها للدولة العباسية. وفى سنة ستين وأربعمائة كانت زلزلة عظيمة بمصر وفلسطين خربت الرملة، وطلع الماء من رءوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت صخرة البيت المقدس ثم عادت بإذن الله تعالى، وانحسر البحر عن الساحل مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقا كثيرا. وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن الوزارة ثم أعيد فى سنة إحدى وستين بشفاعة نور الدولة دبيس بن مزيد فمدحه أبو الفضل فقال: قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به «3» ما كنت إلّا السيف سلّته يد ... ثم أعادته إلى قرابه

وهى قصيدة طويلة. وفيها فى شعبان احترق جامع دمشق، وكان سبب ذلك أنه وقع بين المغاربة والمشارقة حرب فأحرقوا دارا مجاورة للجامع فاتصل الحريق بالجامع، فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. وفى سنة اثنتين وستين ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبى هاشم بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله والسلطان ألب أرسلان بمكة وإسقاط خطبة صاحب مصر وترك الأذان ب «حى على خير العمل» فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا نفيسة وأجرى له فى كلّ سنة عشرة آلاف دينار. وخطب محمود بن صالح بن مرداس صاحب حلب لهما أيضا فى سنة ثلاث وستين على ما نشرحه فى أخبار الدولة السّلجقية فقال أبو عبد الله بن عطية يمدح الخليفة: كم طائع لك لم تجلب عليه ولم ... تعرف لطاعته غير التّقى سببا هذا البشير بإذعان الحجاز وذا ... داعى دمشق وذا المبعوث من حلبا وفيها خرج أرمانوس ملك الروم فى مائتى ألف إلى/ خلاط. «1» وأسر على ما نذكره- إن شاء الله- فى إيام ألب أرسلان. وفى سنة أربع وستين وأربعمائة عزل إيتكين السليمانى من شحنكية بغداد واستعمل عليها سعد الدولة كوهر آيين «2» ، وكان سبب

ذكر غرق بغداد

عزل السليمانى أنه كان قد سار إلى السلطان ألب أرسلان واستخلف ابنه شحنة بغداد فقتل أحد مماليك الدارية فأنفذ قميصة من الديوان إلى السلطان ووقع الخطاب فى عزله، فورد إلى بغداد فى ربيع الأول من هذه السنة وقصد دار الخلافة وسأل العفو عنه وأقام أياما فلم يجب إلى ذلك، وكان نظام الملك يعتنى بالسليمانى فأضأف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها من ديوان الخلافة بالتوقّف عن تسليمها. فلما رأى السلطان ونظام الملك إصرار الخليفة على الغضب على السليمانى عزلاه، وسيّرا سعد الدولة إليها «1» ، فتلقاه الناس وجلس له الخليفة. وفى سنة خمس وستين وأربعمائة قتل السلطان ألب أرسلان وملك بعده ابنه السلطان ملكشاه. وفيها أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس قدسه الله ... ذكر غرق بغداد وفى سنة ستّ وستين وأربعمائة غرق الجانب الشرقى/ وبعض الغربى من بغداد، وسبب ذلك أن دجلة زادت زيادة عظيمة وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة، وجاء الماء إلى المنازل ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقى، وهلك خلق كثير تحت الهدم «2» ، وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق. وقام

ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من سيرته

الخليفة يتضرّع ويصلّى وعليه البردة وبيده القضيب، وغرق من الجانب الغربى مقبرة أحمد بن حنبل ومشهد باب التنين وتهدّم سوره، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدىّ. ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من سيرته كانت وفاته فى ليلة الخميس ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان سبب وفاته أنه كان قد أصابه مأشر فافتصد «1» ونام، فانتفخ فصاده وخرج منه دم كثير ولم يشعر، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوّته. فأيقن بالموت وأحضر ولىّ عهده ووصّاه وأحضر نقيب العباسيين ونقيب الطالبيين وقاضى القضاة وغيرهم مع الوزير ابن جهير وأشهدهم على نفسه/ أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم ولىّ عهده. ولما توفى غسله الشريف أبو جعفر بن أبى موسى الهاشمى، وصلّى عليه المقتدى بأمر الله. ومات وله من العمر ست وسبعون سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام، ومدة خلافته أربع وأربعون سنة وثمانية أشهر إلا أياما. وقيل كان مولده فى ثامن عشر ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة فعلى هذا يكون عمره ستا وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام. وكان جميلا أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه والجسم، ورعا ديّنا زاهدا عالما قوى اليقين بالله تعالى، وله عناية بالأدب ومعرفة

حسنة بالكتابة، ولم يكن يرضى [عن] أكثر ما يكتب من الديوان ويصلح أشياء منه. وكان مؤثرا للعدل والاحسان؛ مريدا لقضاء حوائج الناس؛ لا يرى أن يمنع ما يطلب منه، حكى عن محمد بن على ابن عامر الوكيل قال: «دخلت يوما إلى المخرن فلم يبق أحد إلا وأعطانى قصة فامتلأت أكمامى فقلت فى نفسى لو كان الخليفة أخى لأعرض عن هذه كلّها فألقيتها فى البركة والقائم ينظر ولا أشعر، فلما دخلت عليه أمر الخدم بإخراج الرّقاع من البركة فأخرجت ووقف عليها، ووقّع بأغراض أصحابها ثم قال لى: يا عامى «1» ما حملك على هذا؟ فقلت: خوف الضجر منها! فقال: لا تعود إلى مثلها فإنا ما/ أعطيناهم من أموالنا شيئا. ومما يحكى من جملة كرمه أن أحد السلاطين فى أيامه سأله أن يتقدّم باعتقال وزرائه وذكر أنهم استولوا على أمواله فخرج توقيعه «ليست دارنا دار حبس وسجن بل هى دار طمأنينة وأمن» وكان له شعر رائق فمنه قوله: قالوا: الرحيل، فأنشبت أظفارها ... فى خدّها وقد اعتلقن خضابا واخضرّ تحت بنانها فكأنما ... غرست بأرض بنفسج عنّابا وفى أيامه أسلم من كفار الأتراك ألف خركاه وضحّوا بثلاثين ألف رأس من الغنم وقيل: أكثر من ذلك.

ذكر خلافة المقتدى بأمر الله

ولم يخلف ولدا لأن ابنه ذخيرة الدين توفى فى ذى القعدة سنة سبع وأربعين وعمره خمس عشرة سنة. وزراؤه وكتابه: كتب له عميد الرؤساء أبو طالب محمد بن أيوب، ثم رئيس الرؤساء أبو القاسم على بن الحسن بن مسلمة- وزر له ولقّبه بهذا اللقب وبجمال الورى- ووزر له بعده أبو الفتح منصور ابن أحمد بن دارست، ثم فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد ابن جهير. قضاته: قاضى القضاة أبو عبد الله الحسن بن على بن ماكولا البصرى إلى أن مات، فولّى أبا عبد الله محمد بن على الدامغانى شيخ أصحاب أبى حنيفة./ حجّابه: أبو منصور بن بكران ثم أبو عبد الله الحسن بن على المردوسى «1» . ذكر خلافة المقتدى بأمر الله هو أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العباس أحمد بن القائم بأمر الله، وأمّه أمّ ولد اسمها أرجوان وقيل شراب، وتدعى قرة العين. وهو الخليفة السابع والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد وفاة جدّه القائم بأمر الله فى يوم وفاته وهو يوم الخمس لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وكان القائم جدّه قد عهد له كما ذكرنا، فلما مات القائم حضر مؤيد

ذكر الحوادث فى أيام المقتدى

الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو اسحاق وأبو نصر الصباغ ونقيب النقباء طرّاد والنقيب المعمر بن محمد وقاضى القضاة أبو عبد الله الدامغانى وغيرهم من الأعيان والأتابكة فبايعوه، وكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر محمد بن أبى موسى الهاشمى بعد فراغه من غسل القائم وأنشد: إذا سيّد منا مضى قام سيّد وأرتج عليه فقال المقتدى: / قؤول بما قال الكرام فعول. ولما فرغوا من البيعة صلّى المقتدى بأمر الله بهم العصر. ذكر الحوادث فى أيام المقتدى فى ذى القعدة ملك الأقسيس دمشق وخطب بها للمقتدى بأمر الله، وكان آخر من خطب بها للمصريين «1» . وفيها ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج من الروم. وفيها قدم سعد الدولة بن كوهر آيين شحنة إلى بغداد من قبل السلطان ملكشاه ومعه العميد أبو نصر ناظرا على أعمال بغداد. وفى سنة تسع وستين وأبعمائة قدم أبو نصر ابن الأستاذ أبى القاسم القشيرىّ حاجّا، وجلس فى المدرسة النظامية يعظ النّاس، وفى رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه كلّم على مذهب

الأشعرى ونصره. وكثر أتباعه والمتعصبون له، فثار الحنابلة ومن تبعهم من سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة من المتعصبين للقشيرى كالشيخ أبى إسحاق وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان، فجرى بين الطائفتين أمور عظيمة. فنسب أصحاب/ نظام الملك ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير وكتب أبو الحسين محمد ابن على بن أبى القصر الواسطى الفقيه الشافعى إلى نظام الملك: يا نظام الملك قد حلّ ببغداد النّظام ... وابنك القاطن فيها مستلان مستضام «1» وبها أودى له قتلى غلام فغلام ... والذى منهم تبقّى سالما فيه سهام يا قوام الدّين لم ييق ببغداد قوام ... عظم الخطب فللحرب اتّصال ودوام فمتى لم يحسم الدّاء بأيديك الحسام «2» ... ويكفّ القوم فى بغداد قتل وانتقام فعلى مدرسة فيها ومن فيها السلام ... واعتصام بحريم لك من بعد حرام فلما اتّصل ذلك بنظام الملك عظم عليه فأعاد سعد الدولة كوهر آيين شحنة إلى العراق فى سنة إحدى وسبعين، وحمله رسالة إلى الخليفة

تتضمّن الشكوى من بنى جهير ويسأل عزل فخر الدولة عن الوزارة، فلما وصل إلى بغداد وأبلغ الخليفة الرسالة أمر فخر الدولة بلزوم داره واستوزر بعده أبا شجاع محمد بن الحسين! / قال: «1» ولما بلغ ابن جهير تغيّر نظام الملك عليه أرسل ابنه عميد الدولة إليه يستعطفه، فسار إليه قبل وصول كوهر آيين إلى بغداد، ولم يزل يستعطفه حتى عاد إلى ما ألفه منه وزوّجه بابنته. فعاد إلى بغداد فلم يردّ الخليفة أباه إلى الوزارة وأمرهما بملازمة منازلهما فأرسل نظام الملك إلى الخليفة فى إعادة بنى جهير إلى الوزارة فأعيد عميد الدولة إليها وأذن لأبيه فخر الدولة بفتح بابه، وذلك فى صفر سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وفى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان دمشق على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة السّلجقية. وفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة فى شوال توفى نور الدولة أبو الأغرّ دبيس بن على بن مزيد الأسدى، وولى بعده أبو كامل منصور ولقّب بهاء الدولة. وفيها أرسل الخليفة الوزير فخر الدولة إلى السلطان ملكشاه بأصبهان يخطب ابنته للخليفة فسار إليه وخطبها، فتقررت القاعدة على أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار وأن لا يبقى الخليفة سرو لا زوجة غيرها فأجيب إلى ذلك.

ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة

ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة وفى سنة خمس وسبعين كانت الفتنة بين الطائفيين، وسببها أنه ورد إلى بغداد الشريف أبو القاسم البكرى المقرىء الواعظ وكان أشعرىّ المذهب، وكان قد قصد نظام الملك فأحبّه ومال إليه وسيّره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة. وكان يعظ بالمدرسة النظامية، ويذكر الحنابلة ويعيبهم ويقول «وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا» «1» وما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا ثم قصد يوما دار قاضى القضاة أبى عبد الله الدامغانى فجرى بينه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدّت إلى الفتنة. وكثر جمعه فكبس دور بنى الفرّاء وأخذ كتبهم ومنها كتاب الصفات لأبى يعلى فكان يقرأه بين يديه وهو جالس على الكرسى للوعظ، وشنّع عليهم وجرى له معهم خصومات وفتن. ولقّب البكرىّ من الديوان بعلم السّنّة، ومات ببغداد ودفن عند قبر أبى الحسن الأشعرى رحمهما الله تعالى. ذكر مسير الشيخ أبى اسحاق برسالة الخليفة إلى السلطان ملكشاه وفى ذى الحجة سنة خمس وسبعين وأربعمائة أرسل الخليفة المقتدى الشيخ أبا إسحاق الشيرازى برسالة إلى السلطان تتضمن الشكوى من العميد أبى الفتح بن أبى الليث عميد العراق، وأمره أن ينهى إليه وإلى نظام الملك ما يجرى على أهل البلاد من النّظّار. فسار الشّيخ، فكان الشّيخ كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها إليه بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه ويأخذون

ذكر عزل عميد الدولة عن الوزارة وميسر والده إلى ديار بكر

من تراب بغلته للتبرّك. وكان فى صحبته جماعة من أعيان أصحابه فلما وصل إلى ساوة خرج إليه جميع أهلها وسأله كلّ من فقهائها أن يدخل بيته فلم يفعل. ولقيه أرباب الصناعات ومعهم ما ينثرونه على محفته، فخرج الخبازون ينثرون الخبز وهو ينهاهم فلم ينتهوا، وكذلك أصحاب الفاكهة والحلوى وغيرهم، وخرج إليه الأساكفة وقد عملوا مداسات لطافا تصلح لأرجل الأطفال ونثروها فكانت تسقط على رؤوس النّاس فكان الشيخ يتعجب ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه ويقول: ما كان حظكم من ذلك النثار؟ فقال بعضهم: ما كان حظ سيدنا منه! فقال الشيخ. أما أنا فتغطيت بالمحفة! يقول ذلك وهو يضحك. قال «1» : ولما وصل الشّيخ إلى السلطان وإلى نظام الملك أكرماه، وأجيب إلى جميع ما التمسه من الخليفة. ولما عاد أهين عميد العراق، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشى الخليفة. وفيها قدم مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من أصفهان ونزل بالمدرسة النظامية، وضرب على بابه الطبول فى أوقات الصلوات الخمس، فأعطى ما لا جزيلا حتى قطع ذلك، فأرسل الطبول إلى تكريت والله تعالى أعلم. ذكر عزل عميد الدولة عن الوزارة وميسر والده إلى ديار بكر وفى سنة ستّ وسبعين وأربعمائة فى صفر عزل عميد الدولة فخر الدولة بن جهير عن الوزارة، ووصل فى يوم عزله له رسول

من السلطان ومن نظام الملك إلى الخليفة يطلبان [معه] أن يرسل إليهما بنى جهير فأذن لهم. فساروا بجميع أهلهم ونسائهم، فصادفوا من السلطان ومن نظام الملك الإكرام والاحترام، وعقد السلطان لفخر الدولة بن جهير على ديار بكر وخلع عليه وأعطاه الكوسات «1» وسيّر معه العساكر وأمره أن يأخذها من بنى مروان، وأن يخطب لنفسه ويذكر اسمه على السّكّة، فسار إليها. قال «2» : ولما فارق بنو جهير بغداد رتّب الديوان أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، ثم عزله فى السنة وولى أبا شجاع محمد ابن الحسين وخلع عليه خلع الوزراء «3» . وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة استولى عميد الدولة على الموصل. وفيها فتح سليمان بن قتلمش السّلجقى صاحب الروم أنطاكية وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وفى شهر صفر انقضّ كوكب من الشرق إلى الغرب كان حجمه وضوؤه كالقمر، وسار مدى بعيدا على مهل فى نحو ساعة. وفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة استولى الفرنج على مدينة طليطلة وأخذوها من المسلمين على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الأندلس «4» .

وفيها فى شهر ربيع الأول هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء، وكثر الرّعد والبرق وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير، وكانت النيران تضطرم فى أطراف السماء، وكان أكثر ذلك بالعراق والموصل، فألقت النخل، وسقط معها صواعق فى كثير من البلاد ثم انجلى ذلك نصف الليل. وفيها فى شهر ربيع الأول توفى أبو المعالى عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجوينى إمام الحرمين، ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة «1» . وفى سنة تسع وسبعين وأربعمائة ملك السلطان ملكشاه مدينة حلب واللاذقية وكفر طاب وأفامية «2» . وفيها فى شهر/ ربيع الأول توفى بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن على بن مزيد الأسدى صاحب الحلة والنيل «3» وولى ابنه سيف الدولة صدقة. وفيها أسقط اسم العلوىّ صاحب مصر من الحرمين الشريفين وذكر اسم الخليفة المقتدى بأمر الله. وفيها أسقطت المكوس من العراق. وفى سنة ثمانين وأربعمائة فى المحرم زفّت ابنة السلطة ن ملكشاه إلى الخليفة، ونقل جهازها على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج

الرومى، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وسبعين بغلا مجللّة بأنواع الديباج الملكى وأجراسها وقلائدها من الذهب، وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة فيها من الجواهر والحلى ما لا تقدّر قيمته، وأمام البغال ثلاث وثلاثون فرسا من الخيول السّوابق عليها مراكب الذهب. وسار أمام الجهاز سعد الدولة والأمير برسق وغيرهما، وكانت ليلة مشهورة، فلما كان من العد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكى أنه عمل فيه أربعون ألف منّ من السكر. وخلع الخليفة على جميع أمراء السلطان ومن له ذكر فى العسكر، وأرسل الخلع إلى جميع الخواتين. وولدت فى هذه السنة من الخليفة ولدا وهو أبو الفضل جعفر. / وفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة فى شهر ربيع الآخر أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته من حريم دار الخلافة، وكان سبب ذلك أن تركيّا منهم اشترى فاكهة من طواف فتكالما فشتمه الطواف فضربه التركى فشجّه، فاجتمعت العامّة وشنّعوا واستغاثوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك فأجرخوا على أقبح صورة. وفى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أرسل السلطان ملكشاه إلى الخليفة يطلب ابنته طلبا لا بدّ منه، وسبب ذلك أنها كانت قد أرسلت إليه تشكو من اطراح الخليفة لها وإعراضه عنها فأذن لها فى المسير، فسارت فى شهر ربيع الأول ومعها ابنها من الخليفة فوصلت إلى أصفهان فأقامت إلى ذى القعدة وتوفيت.

وفى سنة أربع وثمانين وأربعمائة فى شهر ربيع الأول عزل الوزير أبو شجاع، وكان عزله فى يوم الخميس فقال: تولاها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق فلما كان من الغد يوم الجمعة خرج من داره إلى الجامع ماشيا فاجتمع عليه خلق كثير، فأمر أن لا يخرج من بيته، واستنيب فى الوزارة أبو سعد بن موصلايا كاتب الإنشاء وأرسل الخليفة إلى السلطان يستدعى منه عميد الدولة بن جهير يستوزره، فسيّر إليه فاستوزره/ فى ذى الحجة من السنة. وفيها ملك الفرنج جزيرة صقلية. وفيها فى تاسع شعبان كان بالشام وكثير من البلاد زلازل، ففارق النّاس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن والدور، وهلك تحتها خلق كثير، وخرّب من بروجها تسعون برجا. وفى سنة خمس وثمانين وأربعمائة قتل نظام الملك فى عاشر شهر رمضان. وفيها توفى السلطان ملكشاه وملك بعده ابنه محمود. وفى سنة سبع وثمانين وأربعمائة خطب للسلطان بركيارق بن ملكشاه ببغداد فى يوم الجمعة رابع المحرم «1» .

ذكر وفاة المقتدى بأمر الله وشىء من أخباره

ذكر وفاة المقتدى بأمر الله وشىء من أخباره كانت وفاته فى يوم السبت خامس عشر المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة فجأة، وكان قد أحضر إليه تقليد السلطان بركيارق ليعلّم عليه فقرأه ثم قدّم إليه الطعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته شمس النهار فقال لها: ما هذه الأشخاص التى قد دخلت على بغير إذن- قالت- فالتفتّ فلم أر شيئا فرأيته قد تغيّرت حالته واسترخت يداه ورجلاه/ وانحلّت قوّته فسقط إلى الأرض، فظننتها غشية لحقته، فحللت أزرار ثوبه فوجدته قد ظهرت عليه أمارات الموت، فتماسكت وقلت لجارية عندى: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء! وأحضرت الوزير وأعلمته الحال فشرعوا فى البيعة لولى العهد، وجهّزوا المقتدى وصلّى عليه ابنه المستظهر بالله ودفن. وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وخلافته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر ويومين، وكان عظيم الهمة شديد العزمة، ولم يكن له أعوان على ذلك تذبّ عنه بل كانت له دعوة مجابة، وكانت أيامه كثيرة الخير واسعة الرزق. وعظمت الخلافة فيها أكثر ممن كان قبله، وعمّر ببغداد عدة محال فى خلافته منها البصلية والقطيعية والحلبية والمعيدية والأجمة ودرب القبار وخرانة الهراس والخاتونتين. قال «1» : وأمر بنفى المغنيّات والمفسدات من بغداد، وأمر

ذكر خلافة المستظهر بالله

ببيع دورهن ومنع دخول الحمّام إلا بمئزر، وقلع الهرادى والأبراج التى للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، ومنع الملاحين/ من حمل النساء والرجال مجتمعين. ووزر له: من ذكرناهم. قضاته: أبو عبد الله الدامغانى إلى أن مات، ثم أبو بكر محمد بن المظفر الشامى الشافعى. حجابه: أبو عبد الله ابن دوشتى «1» ثم أبو منصور بن محمد محمد. ذكر خلافة المستظهر بالله هو أبو العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العبّاس أحمد بن القائم بأمر الله، وهو الخليفة الثامن والعشرون من الخلفاء العباسيين قال «2» : ولما مات المقتدى بأمر الله أحضر ولده المستظهر بالله وأعلم بموته فبايعه الوزير، وركب إلى السلطان بركيارق فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله. فلما كان فى اليوم الثالث من وفاة المقتدى أظهر موته، وحضر عزّ الملك بن نظام الملك وزير بركيارق، وأمر السلطان جميع أرباب المناصب بالجلوس للعزاء والبيعة للمستظهر بالله. فبويع له البيعة العامة فى السادس عشر من المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وله من العمر ستة عشر سنة وشهران.

ذكر الحوادث فى أيام المستظهر بالله

ذكر الحوادث فى أيام المستظهر بالله / فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة كان بين الملوك السلاجقة وبين بعضهم حروب كثيرة نذكرها إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «1» . وفيها شرع الخليفة فى عمل سور على الحريم، وأمر الوزير عميد الملك بالجدّ فى عمارته. وفيها فى شهر ربيع الأول خطب لولى العهد أبى الفضل منصور بن المستظهر بالله. وفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة اجتمع ستّة كواكب فى برج الحوت، وهى الشمس والقمر والمشترى والزهرة والمريخ وعطارد فحكم المنجمون بطوفان يكون فى الناس، وأحضر الخليفة ابن عسون المنجم فسأله فقال: إن فى طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة فى برج الحوت والآن فقد اجتمع منها فيه ستة وليس فيها زحل، فلو كان فيها لكان مثل طوفان نوح، ولكن أقول إنّ مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون، فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها! فأحكمت المواضع التى يخشى منها الانفجار والغرق. واتّفق أنّ الحجاج نزلوا فى المناقب «2» فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم، ونجا من تعلّق بالجبال،

وذهب المال والدواب والأزواد وغير ذلك، فخلع الخليفة على المنجم! وفى سنة تسعين وأربعمائة كان ابتداء الدولة الخوازرمية/ وفيها خطب الملك رضوان بولايته بالشام للمستعلى صاحب مصر «1» ، ثم رجع عن ذلك وأعاد الخطبة للدولة العباسية «2» . وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة كان ابتداء استيلاء الفرنج على بلاد السواحل الشامية، وملكوا مدينة أنطاكية ومعرة النعمان وبيت المقدس، وغير ذلك على ما نذكره فى أخبار العلويين ملوك مصر، فإن أكثر ذلك كان فى ولايتهم. وفى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبى المعالى الجوينى بنيسابور- وكان خطيبها- فاتهم العامة أبا البركات الثعلبى أنه هو الذى سمعى فى قتله، فوثبوا به فقتلوه وأكلوا لحمه. وفى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فى شهر رمضان عزل عميد الدولة من وزارة الخلافة وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وتوفى فى سادس عشر شوال. وفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، وقتلوا كثيرا من أهلها، ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم، ولم يسلم إلا من انهزم، وملكوا مدينة حيفا وهى بقرب

عكا، وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا منها أهلها/، وملكوا قيسارية بالسّيف وقتلوا أهلها «1» . وفيها تقدّم أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن يصلّى فيه التراويح ولم تجر بذلك عادة، وأمر الخليفة بالجهر بالبسملة وبالقنوات على مذهب الإمام الشافعى. وفى سنة خمس وتسعين وأربعمائة فى شهر رمضان استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالى بن عبد الرزاق ولقبه عضد الدوله. وفيها بنى سيف الدّولة صدقة بن مزيد الحلّة بالجامعين وسكنها [وإنما كان يسكن هو وآباؤه فى البيوت العربية] «2» وفى سنة ستّ وتسعين وأربعمائة فى منتصف شهر رجب قبض على الوزير سديد الملك وحبس بدار الخليفة، وأعيد أمين الدولة أبو سعيد ابن موصلايا إلى الوزارة، ثم استوزر فى شعبان زعيم الرؤساء أبا القاسم ابن جهير واستقدمه من الحلة، وكان عند سيف الدولة صدقة، ولما حضر خلع عليه وجلس فى الديوان ولقّب قوام الدين. وفى سنة سبع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج جبيل «3» وعكا. وفى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة توفى السلطان بركيارق بأصفهان

وخطب لابنه ملكشاه «1» بالجوامع ببغداد. وفى سنة خمسمائة فى صفر عزل الوزير أبو القاسم ابن جهير فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئا إليها فأرسل من أخذه وحمله إليه، فأمر الخليفة بنقض داره، وكان فى ذلك عبرة لمن يعتبر، فإن أباه أبا نصر كان قد بناها بأنقاض دور الناس فخربت عن قريب، ولما عزل استنيب فى الوزارة قاضى القضاة أبو الحسن الدامغانى، ثم تقررت الوزارة فى المحرم سنة إحدى وخمسمائة لأبى المعالى هبة الله بن محمد عبد المطلب وخلع عليه. وفى سنة إحدى وخمسمائة فى شهر رجب قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدى أمير العرب، وهو الذى بنى الحلة السيفية بالعراق وكان قد عظم شأنه واتّسع جاهه واستجار به كبار الناس وصغارهم. وفيها فى شهر رمضان ورد القاضى فخر الملك أبو على بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد مستنفرا على الفرنج، فأنزله الخليفة وأكرمه وأجرى عليه الجرايات العظيمة، وأحضر معه من التقدمة والهدية من الأعلاق النفسية والخيل العربية، وغير ذلك ما لم يوجد مثله عند ملك، وأقام ببغداد إلى أن رحل السلطان محمد عن بغداد فى شوال. فتقدم/ إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغتكين أن يسيّر معه العساكر التى سيّرها إلى الموصل مع أولاد مودود، وخلع عليه السلطان خلعا سنية وأعطاه شيئا كثيرا وودعه: وسار مع الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعا.

وفيها عزل الخليفة وزيره مجد الدين هبة الله بن المطلب برسالة من السلطان، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان محمد، وشرط عليه شروطا منها العدل وحسن السّيرة وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة. وفى سنة اثنتين وخمسمائة فى نيسان زادت دجلة زيادة عظيمة انقطعت منها الطرق، وغرقت الغلال الشّتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، وعدم الخير، وأكل الناس التّمر والباقلاء الأخضر، وأما أهل السّواد فإنهم لم يأكلوا فى شهر رمضان ونصف شوال إلا الحشيش والتّوت. وفيها فى شهر رجب عزل وزير الخليفة أبو المعالى هبة الله ابن المطلب، ووزر أبو القاسم على بن نصر بن جهير. وفيها فى شعبان تزوّج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه وهى أخت السلطان محمد، وتولّى قبول العقد بوكالة الخليفة نظام الملك وزير السلطان، والصداق/ مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصفهان، وخطب خطبه النّكاح القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابورى الحنفى. وفيها تولى مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد. وفى سنة ثلاث وخمسمائة فى حادى عشر ذى الحجة ملك الفرنج طرابلس وجبيل وبيروت وبانياس «1» . وفى سنة أربع وخمسمائة ملكوا صيدا فى شهر ربيع الأول، وفيها

فى شهر رمضان المبارك زفّت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة المستظهر بالله فزيّنت بغداد لذلك وفى سنة خمس وخمسمائة توفى الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله «1» وفى سنة سبع وخمسمائة توفى أبو القاسم على بن جهير وزير الخليفة، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبى شجاع محمد بن الحسين [وزير السلطان] «2» . وفى سنة ثمان وخمسمائة فى جمادى الآخرة كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة والشام وغيرها، فخرّبت كثيرا من الرّها وحران وسميساط ويالس وغيرها، وهلك كثير من الخلق تحت الرّدم. وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفى السلطان محمد بن ملكشاة وملك اينه محمود بن محمد. وفيها غرقت مدينة سنجار وكان سبب/ ذلك أن المطر دام فيها ليلا ونهارا واشتد، وجاء السّيل فى واديها وأفسد الشباك الذى يجرى فيه الماء فى سورها، فاجتمع الماء وعظم على السور حتى ألقاه، وهجم على المدينة بشدّة وقوة فلم يطق الناس ينتقلون عنه، فخرب كل ما مرّ به من البلد، وغرق جمع كثير من من الناس. ومن عجيب ما حكى أن الماء حمل مهدا فيه مولود فتعلّق المهد بشجرة زيتون، ثم نقص الماء والمهد معلّق بالشجرة، فسلم المولود. وفيها تناثرت النجوم بديار الجزيرة جميعها- الموصل وغيرها-

ذكر وفاة المستظهر بالله وشىء من أخباره وسيرته

وكثير من البلاد، وكانت الكواكب تنزل حتّى تقرب من الأرض ثم تضمحل فلا يوجد لها أثر. وفيها فى يوم عرفة كانت زلزلة بالعراق والجزيرة وكثير من البلاد، وخرّبت ببغداد دوارا كثيرة بالجانب الغربى. ذكر وفاة المستظهر بالله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته فى سادس عشر ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر. خلافته خمس وعشرون سنة وثلاثة أشهر،/ وكانت دعوته قائمة بالمغرب، قام بها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ولم تزل إلى أن ظهر محمد بن تومرت على ما نذكره فى أخبار ملوك المغرب إن شاء الله تعالى. وكان المستظهر بالله- رحمه الله- ليّن الجانب كريم الأخلاق مشكور المساعى، يحب اصطناع المعروف وفعل الخير ويسارع إلى أعمال البرّ والمثوبات، لا يردّ مكرمة تطلب منه. وكان كثير الوثوق بمن يولّيه، غير مصغ إلى سعاية ساع ولا راجع إلى قوله. وكانت أيامه أيام سرور للرعية، وكان يسره ذلك، وكان حسن الخط جيّد التوقيعات. ولما توفى صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبّر أربعا، ودفن فى حجرة له كان يألفها. أولاده: أبو منصور الفضل المسترشد، وأبو عبد الله محمد المقتفى، وأبو طالب، وأبو الحسن. وكان له من الوزراء من قدّمنا ذكرهم فى أخباره، ومضى فى أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم: تاج

ذكر خلافة المسترشد بالله

الدولة تتش بن ألب أرسلان، وبركيارق ومحمد بن ملكشاه. ومن عجب الاتفاق أنه لما توفى السلطان ألب أرسلان توفى معه القائم بأمر الله، ولما توفى السلطان ملكشاة توفى بعده المقتدى بأمر الله، ولما توفى السلطان محمد توفى بعده الخليفة المستظهر بالله. ذكر خلافة المسترشد بالله هو أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد، وهو الخليفة التاسع والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه فى سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. وكان ولىّ عهد أبيه الخليفة المستظهر وخطب له فى خلافة أبيه ثلاثا وعشرين سنة. قال «1» وبايعه أخواه أبو عبد الله محمد- وهو المقتفى لأمر الله- وأبو طالب العباسى، وعمومته بنو المقتدى بأمر الله، وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وكان المتولى لأخذ البيعة القاضى أبو الحسن الدامغانى- وكان نائبا عن الوزارة- فأقر المسترشد عليها، ثم عزله «2» واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبى منصور وزير السلطان محمود. ذكر هرب الأمير أبى الحسن أخى المسترشد بالله وعوده قال «3» ولما اشتغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه/ الأمير أبو الحسن ابن المستظهر بالله سفينة ومعه ثلاثة نفر وانحدروا إلى المدائن، وسار

منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة فأكرمه دبيس ورتّب له الإقامات الكثيرة. فلما علم المسترشد بالله خبره أهمّه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته فأجاب «إننى عبد الخليفة وواقف عند أمره وقد استذمّ بى ودخل منزلى ولا أكرهه على أمر أبدا» . وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين على بن طرّاد الزينبى «1» ، فقصد الأمير أبا الحسن وتحدّث معه فى العود وضمن له كل ما يريد، فأجاب إلى ذلك وقال: إننى لم أفارق خدمة أخى لشرّ أريده، وإنما الخوف حملنى على ذلك، فإذا امّننى قصدته! وتكفّل له دبيس إصلاح الحال والمسير معه إلى بعداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة فأجاب إلى ما طلب ثم تأخّر بعد ذلك ولم يحضر وأقام عند دبيس إلى ثانى عشر صفر سنة ثلاث عشرة. وسار عن الحلة إلى واسط وكثر جمعه وقوى الإرجاف بأمره، وملك مدينة واسط وخيف جانبه، فتقدّم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولده أبى جعفر المنصور وجعله ولىّ عهده وعمره يومئذ اثنتا عشرة سنة. فخطب له فى ثانى شهر ربيع الأول ببغداد وكتب إلى البلاد بذلك، وأرسل إلى دبيس فى معنى الأمير أبى الحسن وأنه الآن فارق جواره ومدّ يده إلى بلاد الخليفة وأمره بقصده ومعاجلته قبل فوته. فأرسل دبيس العساكر إليه ففارق واسط وقد تحيّر هو وأصحابه فضلوا الطريق، وصادفتهم عساكر دبّيس فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد من أصحابه والأتراك، وعاد الباقون.

ذكر ظهور قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

وبقى الأمير أبو الحسن فى عشرة من أصحابه وهو عطشان وبيّنه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظا فأيقن بالتلف. وكان معه بدويان فأراد الهرب منهما فلم يقدر، وأخذاه وقد اشتد به العطش فسقياه الماء وحملاه إلى دبيس فسيره إلى بغداد وسلمه إلى الخليفة بعد أن بذل له عشرة آلاف دينار. وكان بين خروجه وعوده أحد عشر شهرا، ولما دخل على المسترشد بالله قبّل قدمه وقبله المسترشد وبكيا، وأنزله فى دار حسنة كان يسكنها قبل أن يلى الخلافة، وحمل إليه الخلع والتحف وأمّنه. وفيها نقل الخليفة المسترشد بالله من دار الخلافة إلى الرصاقة، ونقل كلّ من كان مدفونا بها. ذكر ظهور قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: / قال ابن الأثير وأحال على حمرة بن أسد بن على بن محمد التميمى «1» أنه ذكر فى تاريخه: وفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ظهر قبر إبراهيم الخليل وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلّم بالقرب من المقدس، ورآهم الناس ولم تبل أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة. وفيها توفى قاضى القضاة أبو الحسن على بن محمد الدامغانى، ومولده فى شهر رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولى القضاء بباب الطّاق من بغداد إلى الموصل وعمره ست عشرة «2» سنة ولم يكن

ذلك لغيره. ولما توفى ولى القضاء بعده الأكمل أبو القاسم على بن طراد بن محمد الزينبى، وخلع عليه فى ثالث صفر. وفى سنة أربع عشرة وخمسمائة خرج الكرج «1» - وهم الخزر- إلى دار الإسلام ومعهم القفجاق وغيرهم من الأمم، وحاصروا مدينة تفليس، ودام الحصار إلى سنة خمس عشرة فملكوها عنوة. وفى سنة خمس عشرة كانت زلزلة تضعضع منها الركن اليمانى فى البيت الحرام- زاده الله شرفا- وانهدم بعضه وتشعّث بعض حرم النبى صلى الله عليه وسلم. وفيها ظهر بمكة إنسان علوىّ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكثر جمعه ونازع/ أمير مكة ابن أبى هاشم وقوى أمره، وعزم على أن يخطب لنفسه، ثم ظفر به ابن أبى هاشم ونفاه عن الحجاز إلى البحرين، وكان هذا العلوىّ من فقهاء المدرسة النظامية ببغداد. وفى سنة ستّ عشرة وخمسمائة قبض الخليفة المسترشد بالله على وزيره جلال الدولة صدقة «2» وأقيم نقيب النقباء على بن طراد فى نيابة الوزارة، فأرسل السلطان إلى الخليفة أن يستوزر نظام الدين أحمد بن نصر بن نظام الملك فاستوزره وخلع عليه «3» وفيها ظهر بديار بكر بالقرب من قلعة ذى القرنين معدن نحاس.

ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس بن صدقة

ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس بن صدقة وفى سنة سبع عشرة وخمسمائة كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة، وكان سبب ذلك أنّ دبيسا كان عنده عفيف خادم الخليفة مأسورا، فأطلقه وحمّله رسالة فيها تهديد للخليفة، وبالغ فى وعيده ولبس السواد وجزّ شعره، وحلف لينهبنّ بغداد ويخربها فاغتاظ الخليفة لهذه/ الرسالة وغضب، وتقدم إلى البرسقىّ بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز فى شهر رمضان سنة ست عشرة. وتجهز الخليفة وبرز من بغداد، واستدعى العساكر فأتاه سليمان ابن مهارش صاحب الحديثة، وأتاه قرواش بن مسلم وغيرهما. وأرسل دبيس إلى نهر الملك فنبهه وعمل أصحابه كلّ عظيم من الفساد فوصل أهل نهر الملك إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودى ببغداد «لا يتخلّف من الجند أحد ومن أحبّ الجندية فليحضر» فجاء خلق كثير ففرّق فيهم الأموال والسّلاح فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرّضى عنه، فلم يجب إلى ذلك. وأخرجت خيام الخليفة فى العشرين من ذى الحجة سنة ست عشرة فنادى أهل بغداد: النفير النفير الغراة الغراة! وكثر الضجيج من الناس وخرج عالم كثير لا يحصون كثرة وبرز الخليفة لستّ بقين من ذى الحجة سنة ست عشرة، وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء وطرحة، وعلى كتفه البردة وفى يده القضيب وفى وسطه منطقة حديد صينىّ.

وسار فى سنة سبع عشرة إلى النيل ونزل بالمباركة، وعبأ البرسقىّ/ أصحابه ووقف الخليفة وراء الجمع فى خاصّته وجعل دبيس أصحابه صفّا واحدا وجعل الرّجّالة أمام الخيالة بالسلاح وكان قد وعد أصحابه بنهب وسبى النّساء. فلمّا تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس وبين أيديهم الإماء يضربن بالدّفوف والمخانيث بالملاهى، ولم ير فى عسكر الخليفة غير قارئ ومسبّح وداع. فقامت الحرب على ساق، فلما رأى الخليفة ذلك جرّد سيفه وكبّر وتقدم للقتال، فانهزم دبيس وحملت الأسرى بين يدى الخليفة فأمر بقتلهم فضربت أعناقهم صبرا. وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس واثنى عشر ألف راجل، وعسكر البرسقى ثمانية آلاف فارس وخمسة آلاف راجل، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرة «1» وجعلت نساء دبيس وسراريه تحت الأسر. وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها فى يوم عاشوراء من السنة وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه واتبعته الخيل ففاتها. وعبر الفرات فرأته عجوز فقالت له: دبير جئت؟ فقال دبير من لم يجىء! واختفى خبره بعد ذلك وأرجف بقتله ثم ظهر أنه قصد غزيّة من عرب نجد، وطلب منهم أن يحالفوه/ فامتنعوا عن ذلك وقالوا لا نسخط الخليفة والسلطان! ثم رحل إلى طائفة من

ذكر الاختلاف الواقع بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان محمود:

الأعراب واتّفق معهم على قصد البصرة وأخذها، فساروا إليها ودخلوها ونهبوها وقتل مقدّم عسكرها فتجهز البرسقى لقتاله. فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة وسار على البرّ إلى قلعة جعبر والتحق بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وأطمعهم فى أخذها فلم يظفروا وعادوا عنها فى سنة ثمانى عشرة ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد، وأقام معه وحسّن له قصد العراق «1» . وفيها فى صفر أمر المسترشد ببناء سور بغداد وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد فشقّ ذلك على النّاس، وجمع منه مال كثير. فلما علم كراهة النّاس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم فسروا بذلك، وقيل إن الوزير أحمد ابن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار وقال «نقسط الباقى على أرباب الدولة» وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه ويتناوبون العمل. وفى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة ملك الفرنج مدينة صور من نواب العلوى المصرى «2» ذكر الاختلاف الواقع بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان محمود: / وفى سنة عشرين وخمسمائة وقع الاختلاف بينهما وسببه أن يرنقش شحنة بغداد جرى بينه وبين نواب الخليفة منافرة فهدّده الخليفة بسببها فخاف على نفسه، فسار عن بغداد إلى السلطان وشكا إليه وحذره جانب الخليفة، وأعلمه أنه قاد العساكر وباشر الحرب وقويت

نفسه و «متى لم تعالجه بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعا ومنعك عنها، فتوجه السلطان نحو العراق، فأرسل إليه الخليفة يعرّفه البلاد وما أهلها عليه من الضّعف والوهن بسبب دبيس بن صدقة وأن الغلاء قد اشتد لعدم الغلات والأقوات، وطلب أن تتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح الحال ثم يعود إلى البلاد ولا مانع له عنها وبذل له على ذلك مالا عظيما «1» . فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوى عنده ما ذكر برنقش وصمّم على العزم وجدّ فى السّير فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وجيوشه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب لغربى فى ذى القعدة مظهرا الغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان، فبكى النّاس بكاء شديدا لخروجه من داره فبلغ ذلك من السلطان كلّ مبلغ واشتدّ عليه، وأرسل/ إلى الخليفة يستعطفه ويسأله العود إلى داره فأعاد الجواب «أنه لا بد من عودة هذه الدفعة فإنّ الناس هلكى لشدة الغلاء وخراب البلاد» وأنه لا يرى فى دينه أن يزاد ما بهم! فغضب السلطان ورحل نحو بغداد، وأقام الخليفة بالجانب الغربى وأرسل عفيفا الخادم- وهو من خواصّه- فى عسكر إلى واسط ليمنع عنها نوّاب السلطان، وكان بها عماد الدين زنكى فقاتله فانهزم عسكر الخليفة وقتل منهم جماعة وأسر مثلهم، وتغافل زنكى عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.

ثم إن الخليفة جمع السّفن جميعها وسدّ أبواب دار الخلافة سوى باب النوبى، وأمر صاحب الباب بالمقام فيه لحفظ الدار ولم يبق من حواشى الخليفة بالجانب الغربى سواه. ووصل السلطان إلى بغداد فى العشرين من ذى الحجة ونزل بباب الشماسيّة ودخل بعض عسكره إلى بغداد ونزلوا فى دور الناس، فشكا الناس إليه ذلك، وأمر بإخراجهم، وبقى بها من له دار. وبقى السلطان يراسل الخليفة فى العود ويطلب الصّلح وهو يمتنع، وكان يجرى بين العسكرين مناوشة والعامّة من الجانب الشرقى يسبّون السلطان أقبح سبّ وأفحشه. ثم دخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخلافة/ ونهبوا التّاج، فضجّ النّاس ونادوا: الغزاة الغزاة! وأقبلوا من كلّ ناحية، وخرج الخليفة من السرادق والشمسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السّفن، ونصب الجسر وعبر النّاس دفعة واحدة وكان له فى الدار ألف رجل قد أخفاهم فى السرداب، فظهروا وعسكر السلطان قد اشتغل بالنّهب فأسر منهم جماعة من الأمراء، ونهب العامّة دار وزير السلطان ودور جماعة من الأمراء ودار عز الدين المستوفى ودار الحكم أوحد الزمان، وقتل خلق كثير ممّن فى الدروب. ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقى ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسّواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت بالليل وحفظت

بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر واشتد الأمر عليهم وكان القتال كلّ يرم عند أبواب البلد وعلى شاطىّ دجلة. وعزم عسكر الخليفة أن يكبسوا عسكر السلطان فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردى صاحب إربل «1» وخرج كأنه يريد القتال فالتحق بالسلطان! وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين زنكى وهو بواسط يأمره بالحضور بنفسه ومعه/ المقاتلة فى السفن وعلى الظهر، فجمع كلّ سفينة بالبصرة وشحنها بالرجال المقاتلة. وسار إلى بغداد فلما قاربها أمر من معه بلبس السلاح وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة وسارت السفن فى الماء والعسكر فى البر على شاطىء دجلة وقد انتشروا وملأوا الأرض. فرأى النّاس ما ملأ قلوبهم هيبة، وعزم السلطان على الجد فى القتال، فعندها أجاب الخليفة المسترشد بالله إلى الصلح، وترددت الرسائل بينهما فاصطلحا. وأقام السلطان ببغداد إلى عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وحمل الخليفة إليه من المال ما استقرت القاعدة عليه، وأهدى إليه سلاحا وخيلا وغير ذلك. ومرض السلطان ببغداد فأشار عليه الأطباء بمفارقتها فرحل إلى همذان فلما وصلها عوقى

ذكر حصار الخليفة المسترشد بالله الموصل

من مرضه، ودام فى الملك إلى سنة خمس وعشرين فتوفى. وملك بعده ابنه داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه على ما نذكره «1» . وفى سنة ست وعشرين وخمسمائة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين على بن الزينبى واستوزر أنوشران بن خالد بعد الامتناع منه. ذكر حصار الخليفة المسترشد بالله الموصل / وفى سنة سبع وعشرين وخمسمائة حاصر الخليفة المسترشد بالله الموصل فى العشرين من شهر رمضان المبارك، وسبب ذلك أنها كانت قد صارت فى مملكة عماد الدين زنكى وكان قد حضر إلى بغداد لمّا وقعت الحرب بين السلطان مسعود السّلجقى وبين أخيه سلجوق شاه على ما نذكره فى أخبار السّلجقية وظهر منه مباينة للخليفة المسترشد بالله، فلما كانت هذه السنة واشتغل الملوك السلجقية بقتال بعضهم بعضا قصد جماعة من الأمراء السلجقية باب المسترشد بالله وصاروا معه. واتفق أنّ الخليفة المسترشد بالله أرسل الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الواعظ الإسراينى برسالة إلى عماد الدين زنكى فيها خشونة فأداها أبو الفتوح وزاد عليها ثقة منه بقوة الخليفة وناموس الخلافة فقبض عليه زنكى وأهانه ولقيه بما يكره. فأرسل الخليفة

ذكر مسير المسترشد بالله لحرب السلطان مسعود بن محمد وأسره

إلى السلطان مسعود بن محمد يعرّفه ذلك وأنه على قصد الموصل وحصرها، وتمادت الأيام إلى شعبان فسار الخليفة فى النصف منه فى ثلاثين ألف مقاتل.، فلما قارب الموصل فارقها زنكى فى بعض عساكره إلى سنجار ونزل بقية العسكر بها مع نائبه نصير الدين جقر ذردارها «1» فنازلها الخليفة وضيّق على من بها. وكان عماد الدين يركب كلّ/ ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ويأخذ من ظفر به من عسكر الخليفة، ودام الحصار ثلاثة أشهر فتضايقت الأمور بالعسكر الخليفى ولم يبلغه عمّن بها أنهم احتاجوا إلى ميرة ولا وهنوا، فعاد إلى بغداد فى الماء فى شبارة فوصل يوم عرفة من السنة. وفى سنة سبع وعشرين أيضا اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون، وصعدوا إليه، وقاموا بحرب من يحاربهم من المسلمين والفرنج. وفى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عزل الخليفة أنوشروان بن خالد، وألزم داره، وأعيد إلى الوزارة شرف الدين على ابن طرّاد الزينبى. ذكر مسير المسترشد بالله لحرب السلطان مسعود بن محمد وأسره وفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة كانت الحرب بين الخليفة والسلطان فى شهر رمضان. وكان سبب ذلك أن السلطان مسعود

توفى أخوه الملك طغرل فى المحرم من هذه السنة بهمذان، وكان بينهما من العداوة والحروب ما نذكره فى أخبارهم إن شاء الله. وكان الخليفة يعين السلطان مسعود على أخيه/ ويساعده ويقوّيه، وكان السلطان مسعود قد انهزم من أخيه طغرل ورحل إلى بغداد، فأعانه الخليفة لجميع ما يحتاج إليه وأمره بالمسير إلى همذان ووعده أن يسير معه ويعينه على حرب أخيه. وكان البقش السّلاحىّ وغيره من الأمراء قد التحقوا بالخليفة وصاروا معه واتّفق أن إنسانا أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى بعض الأمراء وخاتمه بإقطاع لهم فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه غلبك ونهب ماله فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود؛ فأرسل الخليفة إليه فى إعادتهم فلم يفعل، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما نفرة ووحشة أوجبت تأخّره عن المسير معه فأرسل إليه يأمره بالمسير معه حتما. فيبنما هم فى ذلك إذ ورد الخبر بوفاة طغرل، فسار مسعود من يومه واحتوى على مملكة الجبل، فلما استقرّ بهمذان فارقه جماعة من أعيان الأمراء خوفا منهم على أنفسهم. منهم يرنقش البازدار، وقزل، وسنقر الخمارتكين والى همذان وعبد الرحمن ابن طغايرك «1» ومعهم دبيس، وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون أمانة

ليحضروا إلى خدمته فقيل للخليفة إنها مكيدة لأن دبيس بن صدقة معهم. فساروا نحو خوزستان/ واتفقوا مع برسق بن برسق، فأرسل الخليفة إلى الأمراء سديد الدولة بن الأنبارى بتوقيعات يطيّب قلوبهم، وأمرهم بالحضور فعزموا على قبض دبيس بن صدقة ليتقربوا به إلى الخليفة، فهرب إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فى شهر رجب فأكرمهم وقطع خطبة السلطان مسعود من بغداد. وبرز الخليفة فى العشرين من شهر رجب على عزم المسير لحرب مسعود، وأقام بالشفيعى «1» ، فهرب منه بكبه «2» صاحب البصرة إليها، فراسله وبذل له الأمان فلم يعد. فتوقف الخليفة عن المسير، فحسّن له الأمراء الرحيل، وضعّفوا أمر السلطان مسعود، فسيّر مقدّمته إلى حلوان فنهبوا البلاد وأفسدوا فلم ينكر عليهم. تم سار فى ثامن شعبان والتحق به الأمير برسق بن برسق فبلغت عدّته سبعة آلاف فارس، وتخلّف بالعراق مع إقبال الخادم ثلاثة آلاف فارس وكان السلطان فى ألف وخمسمائة فارس. وكان أكثر أصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة فاستصلح السلطان أكثرهم، فعادوا إليه، فصار فى نحو خمسة عشر ألف فارس. فأرسل الملك داود بن السلطان محمود

إلى الخليفة يشير عليه بالميل إلى الدينور ليحصّن نفسه ومن/ معه فلم يفعل المسترشد بالله. وسار حتى بلغ دايمرج، وعبأ أصحابه. وسار السلطان مسعود إليهم فوافاهم فى عشر رمضان، فانحازت ميسرة الخليفة إلى السلطان وقاتلت الميمنة قتالا ضعيفا، ودارت عساكر السلطان حول عسكر الخليفة وهو ثابت لم يحترك من مكانه، فانهزم عسكره وأخذ هو أسيرا ومعه جمع كثير من أصحابه منهم: شرف الدين على بن طرّاد الزينبى وقاضى القضاة، وصاحب المخزن ابن طلحة، وابن الأنبارى، والخطباء، والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل الخليفة فى خيمة وأخذ ما فى عسكره، وحمل الأعيان إلى قلعة سرجهان ولم يقتل فى هذه المعركة أحد ألبتة. وعاد السلطان إلى همذان، وأمر فنودى «من تبعنا من البغداديين إلى همذان قتلناه» فرجع الناس كلّهم على أقبح صورة وسير السلطان الأمير بكبه المحمودى شحنة إلى بغداد فوصلها فى رمضان. فقبض جميع أملاك الخليفة وأخذ غلّاتها، وثار جماعة من عامة بغداد فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويصيحون ويبكون، وخرج النساء حاسرات فى الأسواق يلطمن ويبكين، واقتتل أصحاب/ الشحنة والعامة فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين رجلا.

ذكر مقتل المسترشد بالله

ذكر مقتل المسترشد بالله كان مقتله فى يوم الأحد سابع عشر ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة على باب مراغة، وذلك أن السلطان سار فى شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود، وكان قد عصى عليه، فنزل على فرسخين منها والمسترشد معه وقد وكل به من يحفظه. وترددت الرسائل بينهما فى تقرير قواعد الصلح على مال يؤديه الخليفة للسلطان وأنه لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره فأجاب السلطان إلى ذلك. وركب الخليفة وحمل الغاشية ولم يبق إلا عود الخليفة إلى بغداد، فوصل الخبر أن الأمير قرآن خوان «1» قد ورد رسولا من السلطان سنجر فتأخّر مسير المسترشد لذلك وخرج النّاس إلى لقائه مع السلطان. وفارق الخليفة بعض الموكلين به وكانت خيمته منفردة عن العسكر فقصده أربعة وعشرون رجلا من الباطنية «2» فدخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عريان وقتل نفر من أصحابه، منهم: أبو عبد الله ابن سكينه وبقى الخليفة حتى دفنه أهل مراغة. وقتل من الباطنية عشرة وقيل بل قتلوا كلهم، وقد قيل إن السلطان سنجر أرسلهم لقتله «3» .

ذكر خلافة الراشد بالله

وقتل رحمه الله تعالى وله ثلاث وأربعون سنة وثلاثة أشهر. ومدّة خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر ويوم واحد وكان رحمه الله شهما شجاعا كبير الإقدام بعيد الهمّة وكان فصيحا بليغا حسن الخط. قال «1» : ولما قتل حمل إلى باب مراغة وخرج أهلها حفاة حاسرين رؤوسهم فبلغوا جنازته وكسروا المنابر. وقال: وصل الخبر إلى بغداد فى يوم الجمعة لستّ بقين من ذى القعدة فاجتمع الرجال والنساء وناحوا عليه فى الطرقات وكسروا منابر الجوامع واكثروا الشناعات وسبّوا السلطان سنجر ومسعودا أفبح سبّ من غير مراقبة ولا حشمة: ولما قتل ولى بعده ابنه الخليفة الراشد بالله. ذكر خلافة الراشد بالله هو أبو جعفر منصور بن المسترشد بالله أبى منصور الفضل بن المستظهر بالله وهو الخليفة الثلاثون من الخلفاء العباسيين بويع له عند وصول الخبر بمقتل أبيه فى يوم الإثنين السابع/ والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وكتب السلطان مسعود ابن محمذ السّلجقى إلى بكبه الشحنة ببغداد، فبايع له، وحضر النّاس

ذكر الحرب بين عسكر الخليفة الراشد بالله وعسكر السلطان مسعود

البيعة. وحضر بيعته واحد وعشرون رجلا من أولاد الخلفاء وبايع له الشيخ أبو النجيب ووعظه وبالغ فى الموعظة. ذكر الحرب بين عسكر الخليفة الراشد بالله وعسكر السلطان مسعود وفى سنة ثلاثين وخمسمائة وصل يرنقش الزكوى «1» من عند السلطان مسعود يطالب الخليفة بما كان استقر على أبيه المسترشد بالله من المال وهو أربعمائة ألف دينار فقال الخليفة: لا شىء عندى والمال جميعه كان مع المسترشد فنهب! ثم بلغ الراشد بالله أن يرنقش يربد الهجم على دار الخليفة وتفتيشها ليأخذ المال، فجمع العساكر وأعاد عمل السور. فلما علم يرنقش بذلك اتّفق هو وشحنة بغداد على أن يهجموا على دار الخليفة يوم الجمعة فبلغ ذلك الراشد فاستعد لمنعهم وركب يرنقش ومعه الأمراء البكجية «2» والعسكر، واجتمعوا فى نحو خمسة آلاف فارس ولقيهم عسكر الخليفة فاقتتلوا، وأعان العامّة عسكر الخليفة/ فأخرجوا عسكر السلطان ونهبت العامّة دار السلطنة. ثم حضر الملك داود بن محمود بعسكر أذربيجان واجتمع الأطراف ببغداد على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وفيهم عماد الدين زنكى وغيره، وولى الملك دواد يرنقش بازدار شحنكية بغداد. واتفق أن الخليفة قبض على ناصح الدّولة أبى عبد الله الحسن

ذكر مسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه

ابن جهير أستاذ الدار وكان هو السبب فى ولايته، وقبض على جمال الدولة إقبال المسترشدىّ وعلى غيرهما من أعيان الدولة، فتفرقت نيّات أصحابه عليه فشفع أتابك زنكى فى إقبال. وخرج موكب الخليفة مع وزيره جلال الدين أبى الرضى بن صدقة «1» » إلى عماد الدين زنكى يهنئه بالقدوم، فأقام الوزير عنده وسأله أن يمنعه من الخليفة فأجابه إلى ذلك. وعاد الموكب بغير وزير، وأرسل زنكى من حرس دار الوزير ثم أصلح حاله مع الخليفة وأعاده إلى وزارته. ثم جدّ الخليفة فى عمارة السور فأرسل الملك داود من قلع أبوابه وخرّب قطعة منه، فانرعج الناس ببغداد ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة، وقطعت خطبة السلطان، وخطب للملك داود، وجرت الأيمان بين الخليفة والملك داود وعماد الديكى زنكى. ووصلت الأخبار بمسير السلطان مسعود إلى بغداد لقتال ابن أخيه داود وزنكى. ثم وصلت رسل السلطان إلى الخليفة بالبذل من نفسه الطاعة والموافقة والتهديد لمن اجتمع عنده، فعرض الخليفة الرسالة عليهم وكلمهم فى قتاله، فكلّ رأى ذلك ووافقهم الخليفة! ذكر مسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه كان سبب ذلك أن السلطان مسعودا لما بلغه اجتماع العساكر والملوك والأمراء ببغداد على خلافه والخطبة للملك داود ابن أخيه جمع العساكر وسار إلى بغداد ونزل بالملكية، فسار بعض العسكر

وطاردوا عسكره وعادوا، ونزل السلطان على بغداد وحصرها نيّفا وخمسين يوما، فلم يظفر منها بشىء. ثم عاد إلى النهروان عازما على العود إلى همذان فوصل إليه طرنطاى صاحب واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إلى بغداد وعبر إلى غربى دجلة واختلفت كلمة العسكر البغدادى فعاد الملك داود إلى بلاده فى ذى القعدة وتفرق الأمراء. وكان زنكى بالجانب الغربى فعبر إلى الخليفة وسار إلى الموصل. ودخل/ السلطان بغداد واستقر بها، وذلك فى نصف ذى القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة. قال «1» وأمر السلطان فجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التى حلف بها الراشد وفيها بخط يده «إننى متى جندت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسّيف فقد خلعت نفسى من الأمر» فافتوا بخروجه من الخلافة، وقيل إن الوزير شرف الدين على بن طراد الزينبى وكاتب الإنشاء ابن الأنبارى وصاحب المخزن كمال الدين طلحة كانوا منذ أسرهم مع المسترشد، فحضروا الآن معه، واجتمعوا فى يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة ثلاثين، وكتبوا محضرا شهد فيه جماعة من العدول بما صدر من الراشد من الظّلم وأخذ الأموال بغير حقها وسفك الدماء وشرب الخمور وارتكاب المحارم، واستفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك هل تصحّ معه إمامة أم لا؟ وهل يجوز للسلطان أن يخلعه

ويستبدل به من أهل بيته من هو خير منه طريقة ودينا؟ فأفتى الفقهاء بخلعه وفسخ عهده والاستبدال به غيره، وعرضت الفتيا والمحضر على السلطان فقال: هذا أمر قلدتكم إياه وأنا برىء منه عند الله! ثم خلع وقطعت خطبته من بغداد وسائر البلاد فى ذى القعدة وبويع بعده للمقتفى. / وكانت خلافته أحد عشر شهرا وأياما، وكتب السلطان إلى أتابك زنكى فى القبض عليه وإرساله إلى بغداد فمنع من ذلك فارس الإسلام زين الدين على بن بكتكين صاحب إربل رحمه الله وقال: والله لا سلّمناه حتى تراق دماؤنا! واعتذر إلى السلطان وقال: أنا أخرجه من ولايى؟ فأرسل أنت عسكرا للقبض عليه من غير جهتنا! وأعد زين الدين جماعة من الأكراد فساروا بين يديه على طريق لا يعرفها كثير من الناس فوصل إلى مراغة أذربيجان ونزل ببريّة أبيه وتلقّاه أهلها وولّوه أمرهم فأقام بها يسيرا ثم ارتحل إلى الرّىّ فلما قرب من بلاد الباطنية جرّد عسكره لقتل من وجد منهم فقتل منهم جماعة ثم تنقّلت به الحال وكابد الغربة ووصل إلى همذان وسار منها يريد إصفهان. فلما كان فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وثب عليه نفر من الباطنية- وكانوا فى خدمته على زىّ الخراسانية- فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان [قد بلّ] «1» من أثر مرض قد برأ منه ودفن فى شهرستان على فرسخ من إصفهان، وقتل أصحابه الباطنية الذين قتلوه. ولما ورد الخبر بمقتل

ذكر خلافة المقتفى لأمر الله

الراشد بغداد جلسوا للعزاء فى دار النوبة يوما واحدا. وكان الراشد بالله أشقر اللون حسن الصورة، مهيبا شديد القوة/ والبطش ذكر خلافة المقتفى لأمر الله هو أبو عبد الله محمد وقيل الحسين بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله، وأمّه أمّ ولد تدعى ياعى. وهو الخليفة الحادى والثلاثون من الخلفاء العباسيين بويع له بعد خلع ابن أخيه الراشد بالله فى ثامن عشر ذى الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة. وذلك أنه لما خلع الراشد بالله استشار السلطان مسعود بن محمد السّلجقى جماعة من أعيان بغداد فيهم الوزير شرف الدين على بن طرّاد الزّينبى وكمال الدين صاحب المخزن وغيرهما فيمن يصلح أن يلى الخلافة فقال الوزير: أحد عمومة الراشد بالله وهو رجل صالح! قال: من هو؟ قال: لا أقدر أن أفصح باسمه لئلا يقتل: فتقدّم إليهم بعمل محضر فعمل المحضر على ما ذكرناه فلما كمل المحضر أحضر القاضى أبو طاهر الكرخى وشهدوا عنده بما تضمّنه المحضر فحكم بفسق الراشد وخلعه وحكم بعده غيره. ولم يكن قاضى القضاة ببغداد ليحكم فإنه كان بالموصل عند أتابك زنكى فلما كمل ذلك ذكره الوزير للسلطان وذكر دينه وعفّته ولين جانبه، فحضر السلطان إلى دار الخلافة ومعه الوزير وصاحب المخزن وغيرهما وأمر/ بإحضار الأمير أبى عبد الله بن المستظهر من المكان الذى كان يسكن فيه، فأحضر وأجلس فى الميمنة ودخل السلطان وتحالفا وقررا القواعد

بينهما. وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء. ولقّب المقتفى بأمر الله. وقيل فى سبب هذا اللقب أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلى الخلافة بستة أيام وهو يقول: إن هذا الأمر يصير إليك فاقتف بى فلقّب بذلك ولما بويع له سيّرت الكتب الحكيمة بخلافته إلى سائر الأمصار واستوزر شرف الدين على بن طرا الزينبى، وأرسل إلى الموصل فأحضر قاضى القضاة على بن حسين الرينبى- وهو بن عم الوزير- وأعاده إلى منصبه، وأقرّ كمال الدين صاحب المخزن على منصبه، وأجرى الأمور على أحسن نظام. قال «1» : وأرسل السلطان مسعود إلى الخليفة فى تقرير إقطاع يكون لخاصته فكان جوابه «إن فى الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة، فلينظر السلطان ما يحتاج إليه من يشرب هذا الماء فتقرّرت القاعدة على أن يجعل له ما كان للمستظهر فأجاب إلى ذلك وقال السلطان لما بلغه قوله: «لقد جعلنا فى الخلافة رجلا عظيما نسأل الله تعالى أن يكفينا أمره» قال «2» : وخطب له على سائر/ المنابر إلا فى الموصل، فإنه لم يخطب له فيها إلا فى شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تزوج الخليفة المقتفى فاطمة أخت السلطان مسعود وكان الصداق مائة ألف دينار، والوكيل فى

قبول النكاح وزير الخليفة على بن طراد، ووكيل السلطان فى العقد وزيره الكمال الدّركزينى. وفيها فى الرابع والعشرين من آيار ظهر بالشام سحاب أسود وأظلمت له الدنيا، وصار الجوّ كالليل المظلم، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، وهبّ ريح عاصف ألقت كثيرا من الشّجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق وجاء بعد ذلك مطر كثير وبرد كبار. وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وصل ملك الروم صاحب القسطنطينية إلى الشام وملك بزاغة «1» بالأمان لخمس بقين من شهر رجب ثم غدر بأهلها فقتل منهم وسبى على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الأتابكية فى أيام زنكى. وفيها انقطعت كسوة الكعبة للاختلاف الواقع بين الملوك السّلجقية فقام بكسوتها رامشت الفارسى التاجر، وكان من التجار المسافرين إلى الهند- وهو كثير المال- فكساها من الثياب الحبرة «2» وبكل ما وجد/ إليه السبيل، فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية. وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغير ذلك من البلاد فخرّب كثير منها، وهلك عالم كثير تحت الرّدم. ثم كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير

من البلاد فى سنة ثلاث وثلاثين، وكانت متوالية عدّة أيام كلّ ليلة عدّة دفعات وكان أشدها بالشام، فعدّوا فى ليلة واحدة ثمانين مرة. ففارق الناس مساكنهم، ولم تزل تتعاهد من أربع صفر إلى تاسع عشر، وكان معها صوت وهدة شديدة. وفى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة جرى بين الخليفة المقتفى وبين الوزير على بن طراد منافرة، وسببها أن الوزير كان يعارض الخليفة فى جميع ما يأمر به فنفر الخليفة من ذلك، فغضب الوزير ثم خاف فقصد دار السلطان واحتمى بها، فأرسل الخليفة إليه فى العود إلى منصبه فامتنع. فاستناب قاضى القضاة الزينبى، وأرسل الخليفة رسلا إلى السلطان مسعود فى معنى الوزير فأرخص السلطان للخليفة فى عزله فعزله، ثم عزل الزينبى من النيابة، وناب سديد الدولة بن الأنبارى. وفيها كانت زلزلة عظيمة بكنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأرّان، وكان أشدها بكنجة فخرّب منها كثير، وهلك عالم قيل كانوا مائتى ألف وثلاثين ألفا/ وتهدّمت قلعة هناك. وفيها ابتنى الخليفة بفاطمة أخت السلطان مسعود وكان يوم حملها إلى دار الخلافة يوما مشهودا. وغلّقت بغداد عدة أيام، وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة. وفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وصل رسول السلطان سنجر ملكشاه إلى المقتفى ومعه بردة النبى صلى الله عليه وسلم والقضيب، وكان أخذهما من المسترشد لما قتل.

وفيها ملك الإسماعيلية حصن مصاف بالشام وكان واليه مملوكا لبنى منقذ أصحاب شيزر، فاحتالوا عليه ومكروا به حتى صعدوا إليه فقتلوه وملكوا الحصن. وفيها توفى سديد الدولة بن الأنبارى فاستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن الأنبارى وكان قبل ذلك أستاذ الدار. وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد بناها كمال الدين أبو الفتوح حمزة بن على صاحب المخزن «1» . ولما فرغت درّس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل. وفى سنة أربعين وخمسمائة اتّصل بالخليفة عن أخيه أبى طالب ما كرهه فضيّق عليه وعلى غيره من أقاربه. وفى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فى جمادى الأولى خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفى بولاية العهد. / وفى سنة أربع وأربعين استوزر الخليفة أبا المظفر يحيى ابن هبيرة وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزّمام فظهرت منه كفاءة عظيمة، فرغب الخليفة فيه واستوزره يوم الأربعاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر «2» .

ذكر تفويض أمور الدولة والوزارة

وفيها كانت زلزلة عظيمة، فيقال إن جبلا بالقرب من حلوان ساخ فى الأرض. وفى سنة سبع وأربعين مات السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان فلما وصل الخبر إلى بغداد بموته هرب شحنتها مسعود بلال إلى تكريت فاستظهر الخليفة المقتفى على داره ودور أصحاب السلطان ببغداد وأخذ أموالهم وودائعهم. واستبدّ الخليفة بالأمر وقطع خطبة الملوك السّلجقية «1» وفوّض الأمر إلى الوزير ابن هبيرة! ذكر تفويض أمور الدولة والوزارة إلى الوزير عون الدين بن هبيرة وما أقطعه الخليفة من الإقطاعات كان الخليفة المقتفى لأمر الله لمّا استخلف حلف أن ألا يملّك تركيّا لما جرى على أخيه المسترشد ولم يمكنه المبادرة بذلك فلما تمكّن وقوى أمره ومات السلطان مسعود فوّض الأمور إلى الوزير عون الدين أبى المظفر يحيى بن هبيرة، ولقّبه بتاج الملوك ملك/ الجيوش وأقطعه إقطاعا عظيما وهو: واسط وبطائحها والبصرة والحلّة، والنيل، والنعمانية، وقرسان «2» ونهر الملك «3» ، ونهر

ذكر حصر تكريت وعود عسكر الخليفة عنها وأسر ابن الوزير

عيسى «1» ، ودجيل، والراذان «2» ، وطريق خراسان، والقرايا، والنجف، والبندنيجين «3» وبادرايا «4» ، وباكسايا «5» ، وهيت «6» والأنبار، وعين التمر «7» ، وشفاثا «8» . وأقطعه إقطاع وزير السلطان وأعانه على الإستعداد للحرب وجهزه بالجيوش فاستولى على الحلة والكوفة وواسط ثم عاد إلى بغداد وكانت غيبته خمسة وعشرين يوما. ذكر حصر تكريت وعود عسكر الخليفة عنها وأسر ابن الوزير وفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سيّر الخليفة المقتفى لأمر الله عسكرا إلى تكريت «9» وأرسل عليهم مقدّما أبا المنذر بن الوزير

ذكر حصار تكريت ووقعة بكمزا

عون الدين والأمير ترشك وهو من خواصّ الخليفة وغيرهما، فجرى بين أبى المنذر وبين ترشك منافرة اقتضت أن كتب ابن الوزير يشكو منه، فأمر الخليفة بالقبض على ترشك فعرف ذلك فأرسل إلى مسعود صاحب تكريت وصالحه وقبض على/ أبى المنذر ومن معه من المقدمين، وسلّمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وسار مسعود وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فهنباها وأفسدا. فسار الخليفة لدفعهما، فهربا من بين يديه فقصد تكريت وحصرها أياما، ثم عاد بعد أن جرى بينه وبين أهلها قتال من وراء السور وقتل من عسكر الخليفة جماعة بالنّشاب. ذكر حصار تكريت ووقعة بكمزا وفى سنة تسع وأربعين وخمسمائة أرسل الخليفة رسولا إلى صاحب تكريت بسبب من عنده من المأسورين فقبض على الرسول. فسيّر المقتفى عسكرا فخرج أهل تكريت فقاتلوا عسكر الخليفة، فسير عسكرا آخر، فمانعوه. فسار الخليفة بنفسه ونزل على البلد فهرب أهله، فدخل عسكر الخليفة فشغبوا ونهبوا بعضه، ونصب على القلعة ثلاثة عشر منجنيقا فسقط من أسوارها برج، وبقى الجيش «1» كذلك إلى الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول فأمر الخليفة بالقتال والزّحف. فاشتد القتال، وكثرت القتلى، ولم يبلغ منها غرضا، فعاد إلى بغداد ودخلها فى آخر الشهر.

ثم أمر الوزير عون الدين بالعود إليها والاستعداد والاستكثار من آلات/ الحصار، فسار إليها فى شهر ربيع الآخر وضيق عليها. فبلغه الخبر أن مسعود بلال وصل إلى شهر ابان ومعه البغوش كون خر «1» وترشك فى عسكر كبير ونهبوا البلاد فعاد الوزير إلى بغداد وكان سبب تحوّل هذا العسكر أنهم حثّوا الملك محمدا «2» على قصد العراق فلم يتهيأ له ذلك، فسير إليه هذا العسكر وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان. فخرج الخليفة إليهم فأرسل مسعود بلال إلى تكريت وأخرج منها الملك أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بها وقال: هذا سلطان نقاتل بين يديه بازاء الخليفة! والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا، ودامت الحرب بينهم والمناوشة ثمانية عشر يوما، ثم التقوا فى آخر شهر رجب واقتتلوا فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب حتى بلغت الهزيمة بغداد. ونهبت خرائنه وقتل خازنه. فحمل الخليفة بنفسه هو وولى عهده وصاح: يا آل هاشم كذب الشيطان! وقرأ» وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا» وحمل هو وبقية العسكر فانهزم مسعود ومن معه، وظفر الخليفة، وغنم العسكر جميع ما هو للتركمان من دوابّ وغنم وغير ذلك. وكانوا قد أحضروا نساءهم وأولادهم وخركاهاتهم فأخذ جميع ذلك. فبيع

كل كبش/ بدانق وأخذ كون خر الملك أرسلان وانهزم به إلى بلد النجف وقلعة الماهكى «1» ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها فى أوائل شعبان المبارك، فأتاه الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط. فنهبا وخربا فسيّر إليهم الوزير فى عسكر، فانهزم العجم، ولحقهم عسكر الخليفة ونهب شيئا كثيرا، وعاد إلى بغداد فلقّب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش، وسيّر الخليفة عسكرا إلى بلد النجف فاحتوى عليه. وفى سنة خمسين وخمسمائة سار الخليفة إلى دقوقا فحصرها وقاتل من ها، ثم رحل عنها ولم يبلغ غرضا «2» . وفيها استولى شملة التركمانى على خوزستان وصاحبها حينئذ ملكشاه محمود. فسيّر الخليفة إليه عسكرا فقاتلهم شملة وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أحسن إليهم وأطلقهم. وأرسل إلى الخليفة المقتفى لأمر الله يعتذر منه فقبل عذره. وفى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة حصر السلطان محمد بن محمود السّلجقى بغداد، وكان قد راسل الخليفة فى الخطبة له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته، فسار من همذان وواعده قطب الدين صاحب الموصل أن يرسل إليه العساكر، فقدم

فى ذى الحجة ودام الحصار والقتال إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، فبلغ/ السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكر وأرسلان طغرل دخلوا همذان واستولوا عليها، فرجع عن بغداد ولم يبلغ رضا، وتفرقت العساكر. وفى شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين أطلق ابن الوزير! ابن هبيرة من حبس تكريت فتلقته المواكب وكان يوما مشهودا «1» . وفيها فى شهر ربيع الآخر احترق أكثر بغداد، واحترقت دار الخلافة. وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كان بالشام زلازل كثيرة خربت كثيرا من البلاد والقلاع والأسوار، وهلك من العالم مالا يحصى كثرة. ومما يدل على ذلك ما حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل «أن معلما كان بمدينة حماه يعلّم الصبيان. ففارق المكتب لحاجة عرضت له فجاءت الزلزلة فخرّبت البلد وسقط المكتب على الصبيان فهلكوا عن آخرهم- قال- فقال المعلم: فلم يأت أحد يسألنى عن صبىّ كان له! فيدل على موت جميع أهاليهم «2» . وفيها قلع الخليفة المقتفى لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضة بابا

ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وشىء من أخباره

مصفحا بالفضة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات! وفى سنة أربع وخمسين وخمسمائة فى ثامن عشر ربيع الأول كثرت الزيادة فى دجلة فغرقت بغداد، وتهدّمت الدور وسور/ المدينة وكثر الخراب ولم يعرف الناس حدودهم على التحرير، بل بالتخمين. وفيها مات السلطان محمد الذى حاصر بغداد بمرض السّلّ. وفيها عاد ترشك إلى بغداد ولم يعرفه أحد ولا شعر به إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن. فرضى عنه الخليفة، وأذن له فى دخول الدار وأنعم عليه بمال! ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وشىء من أخباره كانت وفاة المقتفى لأمر الله فى شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وقيل لليلتين خلتا من شهر رجب. ومولده فى ثانى عشر شر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكان عمره ستّا وستين سنة تقريبا، ومدّة خلافته أربعا وعشرين سنة وشهورا. وكان شيخا أبيض الرأس واللحية طويلها، وكان حليما كريما عادلا حسن السيرة جميل الرأى وافر العقل، شجاعا مقداما يباشر الحروب بنفسه. وكان يحب جمع المال. وفى أول خلافته ولّى القضاء بمدينة السلام لرجل يعرف بابن المرخم، وجعله يتولى عقوبة عماله

ذكر خلافة المستنجد بالله

ووجوه دولتة وأخذ أموالهم، فقال/ بعض الشعراء فى ذلك: ضخّمى ويك والطمى ... ولى ابن المرخّم «1» واه على الحكم والقضا ... وعلى كلّ مسلم وأرى المقتفى الإما ... م عن الحقّ قد عمى فبلغ المقتفى ذلك فأخذ الشاعر بنكاله وعذبه وما زاده ذلك إلا تماديا فى حاله. وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أوّل أيام الدّيلم وإلى هذا الوقت، وأول خليفة تمكن من عسكره وأصحابه وحكم على الخلافة منذ تحكم المماليك على الخلفاء فى خلافة المستنصر بالله وإلى الآن، إلا أن يكون المعتضد بالله. وكان المقتفى يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار فى جميع البلاد حتى لا يفوته منها شىء، وكانت دعوته بالعراق والحجاز والشام وخراسان. ذكر خلافة المستنجد بالله هو أبو المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله. وأمه أم ولد ندعى طاوس وقيل نرجس، رومية. وهو الخليفة الثانى والثلاثون من الخلفاء بويع له بعد وفاة أبيه فى شهر

ربيع الأول فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة وقيل لليلتين خلتا من شهر رجب منها والله تعالى أعلم. قال «1» : وكان للمقتفى حظية وهى أم ولده أبى على. فلما اشتدّ مرضه وأيست منه، أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو على خليفة فقالوا: كيف الحيلة مع ولى العهد؟ فقررت أنها تقبض عليه إذا دخل. وكان يدخل على أبيه فى كلّ يوم فقالوا: لا بد لنا من أحد أرباب الدّولة فوقع اختيارهم على أبى المعالى بن الكيال الهراس «2» فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرا. فبذلوا له ما طلب. فلما استقرت القاعدة بينهم أحضرت عدّة من الجوارى وأعتطهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولى العهد المستنجد بالله. وكان له خصىّ صغير يرسله فى كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجوارى وبأيديهن السكاكين وبيد أبى على وأمه سيفين. فعاد إلى المستنجد وأخبره. وأرسلت هى إلى المستنجد تقول: «إن والدك قد حضرته الوفاة فاحضر لتشاهده «فاستدعى أستاذ لدار عضد الدين، وأخذ معه جماعة من الفراشين، ودخل الدار وقد لبس الدّرع والسيف فى يده، فلما دخل ثار به الجوارى/ فضرب وحدة منهن فجرحها وجرح أخرى وصاح فدخل أستاذ الدار والفراشون فهرب الجوارى وأخذ أخاه

أبا على وأمّه فسجنهما، وقتل من الجوارى وغرّق وجلس للمبايعة فبايعه أهله وأقاربه. وأول من بايعه عمّه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفى وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير ابن هبيرة، وقاضى القضاة، وأرباب الدولة والعلماء. وخطب له فى يوم الجمعة، ونثرت الدنانير والدراهم. قال ابن هبيرة الوزير عنه: إنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام منذ خمس عشرة سنة فقال لى: يبقى أبوك فى الخلافة خمس عشرة سنة فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام «ثم قال» رأيته قبل موت المقتضى بأربعة أشهر، فدخل بى فى باب كبير ثم ارنقى إلى رأس جبل وصلّى بى ركعتين وألبسنى قميصا ثم قال لى: قل (أللهم اهدنى فيمن هديت) وذكر دعاء القنوت.» قال: «1» ولما ولى المستنجد بالله أقر ابن هبيرة على وزارته، وأصحاب الولايات على ولاياتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقبض على ابن المرخّم وأخذ منه مالا كثيرا وأخذ كتبه فأحرق منها ما كان من علوم الفلاسفة. وقدم عضد الدين ابن رئيس الرؤساء- وكان أستاذ الدار- فمكّنه وتقدّم إلى الوزير بأن يقوم له، وعزل قاضى القضاة على بن أحمد الدامغانى، ورتّب مكانه أبا جعفر عبد الواحد (الثقفى) وخلع عليه.

ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكى

ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكى وفى شهر رجب سنة سبع وخمسين وخمسمائة ملك الخليفة قلعة الماهكى، وسبب ذلك أن صاحبها سنقر الهمذاتى سلّمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان فضعف مملوكه عن حفظها ومقاومة من حولها من الأكراد والتركمان فأشير عليه ببيعها من الخلية فراسل فى ذلك؛ فاستقرّ بينهما خمسة عشر ألف دينار وسلاح ومتاع وعدّة من القرى فسلّمها وتسلّم ما استقر له وأقام ببغداد، ولم تزل هذه القلعة من أيام المقتدر بالله بيد التركمان إلى الآن. ذكر اجلاء بنى أسد من العراق وفى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة أمر الخليفة باهلاك بنى أسد أهل الحلة المزيديّة لما ظهر من فسادهم ولما كان فى نفسه منهم من مساعدتهم للسلطان محمد فى حصار بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإخراجهم من البلاد، وكانوا منبسطين/ فى البلاد فى البطائح. فتوجّه إليهم وجمع العساكر الكثيرة، وأرسل إلى ابن معروف [مقدم المقتفى] «1» وهو بأرض البصرة فجاء فى خلق كثير وحصرهم وسكّ عنهم الماء وضيّق عليهم فاستسلموا، فقتل منهم أربعة آلاف ونادى فيمن بقى «من وجد فى الحلة المزيدية بعد هذا فقد حل دمه فتفرقوا فى البلاد، ولم يبق فى العراق منهم من يعرف، وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.

وفى سنة ستين وخمسمائة فى صفر قبض المستنجد بالله على الأمير ثوبة بن العقيلى وكان قد قرب منه قربا عظيما حتى كان يخلو معه، وأحبّه محبة عظيمة، فحسده الوزير ابن هبيرة، فوضع كتبا من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا ففعلوا ذلك، وأخذوا وأحضروا عند الخليفة. وأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيّد وكانت حلل ثوبة على الفرات، فحضر عنده فأمر بالقبض عليه، فقبض عليه وأدخل بغداد ليلا وحبس فكان آخر العهد به فما تمتع الوزير بعده بالحياة، ومات بعد ثلاثة أشهر وكان ثوبة من أكمل العرب مروءة وسخاء وعقلا وإجادة، واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق فى غيره. وفيها فى جمادى الأولى توفى الوزير عون الدين يحيى بن محمد ابن هبيرة ومولده سنة/ تسعين وأربعمائة ودفن بمدرسته التى هو بناها للحنابلة بباب البصرة، ولما مات قبض على أولاده وأهله! وفى سنة ثلاث وستين وخمسمائة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدى. وكان ناظرا بواسط، وظهر عن كفاءة عظيمة، فأحضره الخليفة واستوزره وكان عضد الدين أستاذ الدار قد تحكّم تحكّما عظيما، فتقدّم أمر الخليفة إلى وزيره بكفّ يده وأيدى أصحابه ففعل ذلك، ووكل بأخيه تاج الدين وطالبه بحساب نهر الملك وكان يتولاه أيام

ذكر وفاة المستنجد بالله وشىء من أخباره وسيرته

المقتفى، وكذلك فعل بغيره، فحصّل أموالا جمّة وخافه أستاذ الدار على نفسه فحمل مالا كثيرا وأعطاه الورقة التى بخط الخليفة فقال له: تعود إليه وتقول قد أوصلت الخطّ إلى الوزير! ففعل ذلك وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش وعرض عليهم الخط فاتفقوا على قتل الخليفة. فدخل عليه يزدن وقايماز فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه وأغلقا الباب عليه وهو يصيح حتى مات. وقبض على الحسين بن محمد المعروف بابن البستى وعلى أخيه الصغير، وكانا ابنى عمّ عضد الدين. وكان الصغير عامل البيمارستان فقطع يده ورجله؛ فقيل إنه كان يستخرج المال بصنوج كبار ويحمله إلى الديوان بصنجة صحيحة وقيل غير ذلك، وحمل إلى البيمارستان فمات «1» . ذكر وفاة المستنجد بالله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته فى تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة ومولده فى مستهل شهر ربيع الآخر سنة عشرة وخمسمائة. وكان عمره ستا وخمسين سنة وثمانية أيام، ومدة خلافته أحد عشر سنة وشهرا واحدا وستة أيام على القول الأول. وكان أسمر، تامّ القامة؛ طويل اللحية. وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه؛ وكان بجانبه أستاذ الدار عضد الدين [أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء] «2» وقطب

ذكر خلافة المستضىء بأمر الله

الدين قايماز المقتفوى- وهما من الأمراء ببغداد- فوصيا الطبيب على أن يصف له ما يقتله فوصف له دخول الحمام فامتنع لضعفه، فأدخله وأغلق عليه بابه فمات «1» . وقيل إنه كتب إلى الوزير ... النصرانى ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار. وكان رحمه الله من أحسن الخلفاء سيرة، عادلا فى الرعية كثير الرّفق بهم، وأطلق كثيرا من المكوس/ حتى لم يترك بالعراق شيئا منها. وكان شديدا على أهل العبث والفساد والسعاية قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل «2» «بلغنى أن المستنجد قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه، فشفع فيه بعض خواصّه، وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لى آخر مثله أحبسه لأكف شره عن الناس!» ولم يطلقه وردّ كثيرا من الأموال على أصحابها رحمه الله. ذكر خلافة المستضىء بأمر الله هو أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظقر يوسف ابن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وأمّه أم ولد أرمينية تدعى غضّة وهو الخليفة الثالث والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه فى التاسع من شهر ربيع الآخر فى سنة ست وستين وخمسمائة. قال «3» : ولما مات المستنجد بالله كان بين الوزير أبى جعفر ابن البلدى

ذكر مقتل الوزير أبى جعفر بن محمد المعروف بابن البلدى

وبين أستاذ الدار عضد الدين وقطب الدين عداوة شديدة لأن المستنجد كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها فيظنان أنه هو الذى يسعى بهما فلما أرجف بموت المستنجد ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد/ وغيرهم يالعدوة ولم يتحققوا موت الخليفة. فأرسل إليه أستاذ الدار يقول: إن أمير المؤمنين قد خفّ ما به من المرض وأقبلت العافية إليه! فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند فربما أنكر عليه ذلك، فعاد إلى داره وتفرّق النّاس عنه. وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدّا للهرب لما ركب الوزير خوفا أن يدخل الدار فيأخذهما، فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب دار الخلافة وأظهر موت الخليفة، وأحضر ولده أبا الحسن محمدا وبايعه هو وقطب الدين بالخلافة، ولقباه بالمستضىء بأمر الله، وشرطوا عليه شروطا منها: أن يكون عضد الدين وزيرا، وابنه جمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة فى يوم وفاة أبيه، وبايعه الناس من الغد فى الناج بيعة عامة، وأظهر العدل وفرق أموالا جليلة المقدار. ذكر مقتل الوزير أبى جعفر بن محمد المعروف بابن البلدى قال «1» : ولما علم الوزير بوفاة الخليفة سقط فى يده وقرع سنّه ندما على عوده، وأتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة

للمستضىء، فمضى إلى دار الخلافة فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطّع وألقى فى دجلة، وأخذا جميع ما فى داره، فرأيا خطوط المستنجد بالله يأمره بالقبض عليهما، وخطّ الوزير وقد راجعه فى ذلك وصرفه عنه. فندما على قتله. وفى سنة سبع وستين وخمسمائة أقيمت الدعوة العباسية بالديار المصرية وخطب للخليفة بها، وانقرضت الدولة العبيديّة المنسوبة إلى العلوية بخلع العاضد لدين الله، وكان ذلك على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله على ما نذكر ذلك مبيّنا- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة العبيديّة «1» . وفيها عزل الخليفة وزيره عضد الدين من الوزارة لأن قطب الدين قايماز ألزمه ذلك فلم يمكنه مخالفة، ثم قصد الخليفة إعادته فى جمادى الأولى سنة تسع وستين فثارت الفتنة بين الخليفة وقايماز. وأغلق قايماز باب النوبى وباب العامّة وبقيت دار الخلافة محاصرة. فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته فقال قايماز: لا أقنع إلا بخروج عضد الدين من بغداد! فأمر بإخراجه منها فالتجأ إلى صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل وهو شيخ الشيوخ وصار فى رباطه فأجازه، ثم عاد إلى داره فى جمادى الآخرة. وفى سنة تسع وستين وخمسمائة زادت دجلة فتجاوزت كلّ زيادة كانت ببغداد منذ بنيت إلى الآن بذراع وكسر. وخاف الناس الغرق وفارقوا البلد ونبع الماء من البلاليع، وخرّب كثير من الدور

ذكر هرب قطب الدين قايماز/ من بغداد وعود عضد الدين إلى الوزارة

وغرق البيمارستان العضدى، ودخلت المراكب من شبابكيه وكانت قد تقلعت. وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد- وهو الذى صار خليفة ولقّب الناصر لدين الله- من قبة عالية إلى أرض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح، فألقى نفسه بعده وسلما جميعا فقيل لنجاح: لم ألقيت بنفسك؟ فقال: ما كنت أريد البقاء بعد مولاى! فرعى له الأمير أبو العباس ذلك فلما صار خليفة جعله شرابيا وحكّمه فى الدولة ولقبه الملك الرحيم عز الدين وخدمه جميع أمراء العراق. وفيها فى شهر رمضان وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله فهدم الدّور وقتل جماعة من الناس والمواشى، فوزنت بردة منه فكانت سبعة أرطال، وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان، قال ابن الأثير هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزى فى تاريخه والعهدة عليه فيه «1» . ذكر هرب قطب الدين قايماز/ من بغداد وعود عضد الدين إلى الوزارة كان سبب ذلك وابتداؤه أن علاء الدين تنامش- وهو من أكابر الأمراء ببغداد- وقطب الدين قايماز زوج أخته سيّرا عسكرا إلى العراق فى شوال سنة سبعين وخمسمائة فنهبوا النّاس وبالغوا فى

أذاهم، فجاء جماعة منهم إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا لضعف الخلافة وتحكم قايماز وتنامش على الدولة، فقصدوا جامع القصر واستغاثوا ومنعوا الخطيب من الخطبة فأنكر الخليفة ما جرى، فلم يلتفت قايماز وتنامش إلى قوله. فلما كان فى خامس ذى القعدة قصد قايماز دار ظهير الدين بن العطار صاحب المخزن- وللخليفة به عناية تامة وبينهما صحبة- فلم يراع قايماز الخليفة فيه، واستدعاه فهرب، فأحرق قطب الدين قايماز داره وحالف الأمراء على المساعدة والمعاضدة له، وجمعهم وقصد دار الخلافة لعلمه أن ابن العطار فيها. فلما علم الخليفة ذلك صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادما فصاح وقال للعامة: مال قطب الدين لكم ودمه لى! فقصد الخلق كلّهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع، وغلبت العامة، فهرب من داره من باب فتحه من ظهرها لكثرة من على بابها من الخلق. وخرج من بغداد، ونهبت داره وسلبت نعمته فى/ ساعة واحدة وتبعه تنامش وجماعة من الأمراء، فنهبت دورهم وأحرق بعضها، وأخذت أموالهم. وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه من التحق من الأمراء، فسيّر الخليفة إليه شيخ الشيوخ صدر الدين فخدعه حتى سار عن الحلة نحو الموصل على البرّ فلحقه هو ومن معه عطش عظيم فهلك أكثرهم ومات قيماز قبل وصوله إلى الموصل. ودفن بظاهر

باب العمادى وكانت وفاته فى ذى الحجة. ووصل تنامش إلى الموصل فأقام مدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد فسار إليها وبقى بغير إقطاع! قال «1» : ولما هرب قايماز أعيد عضد الدين إلى الوزارة وقال بعض الشعراء فى قطب الدين قايمار وتنامش بن قماج: إن كنت معتبرا بملك زائل ... وحوادث عنقية الإدلاج «2» فدع العجائب والتواريخ الألى ... وانظر إلى قيماز وابن قماج عطف الزّمان عليهما فسقاها ... من صرفه كأسا بعير مزاج «3» فتبدّلوا بعد القصور وظلّها ... ونعيمها بمهامه وفجاج فليحذر الباقون من أمثالها ... نكبات دهر خائن مزعاج قال «4» : وكان قطب الدين كريما طلق الوجه، محبا للعدل والإحسان، كثير البذل للمال، وإنما كان يحمله على ما يقع منه تنامش بغير إرادته. وفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ولّى الخليفة المستضىء حجبة الباب أبا نصر على بن الناقد «5» وكان الناس تلقبه

ذكر مقتل الوزير عضد الدولة وولاية ظهير الدين بن العطار

فى صغره قنبرا، فصار الناس يصيحون به بهذا اللقب إذا ركب. فأمر أن يركب معه جماعة من الأتراك يمنعون الناس من ذلك، فامتنعوا فلما كان قبل العيد بثلاثة أيام خلع عليه ليركب فى الموكب، فاشترى جماعة من أهل بغداد شيئا كثيرا من القنابر وعزموا على إرسالها فى الموكب، فأنهى ذلك إلى الخليفة فعزله وولى ابن المعوج. وفيها قبض الخليفة على عماد الدين صندل المقتفوى أستاذ الدار ورتّب مكانه أبا الفضل هبة الله بن على بن هبة الله بن الصاحب «1» . ذكر مقتل الوزير عضد الدولة «2» وولاية ظهير الدين بن العطار كان مقتله رحمه الله فى رابع ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وهو أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء أبى القاسم [بن المسلمة] وسبب مقتله أنه عزم على الحج وعبر دجلة للمسير ومعه أرباب المناصب وهو فى موكب عظيم، وتقدم إلى أصحابه أن لا يمنعوا عنه أحدا، فلقيه إنسان/ كهل وقال: أنا مظلوم! وتقدّم إليه يسمع كلامه فضربه بسكين فى خاصرته، فصاح الوزير: قتلنى! ووقع إلى الأرض وسقطت عمامته، فغطّى رأسه بكمه وضرب الباطنىّ بسيف، وعاد إلى الوزير فضربه بسكين وأقبل صاحب الباب ابن المعوج لينصر الوزير. فضربه الباطنىّ بسكين،

ذكر فتنة ببغداد وهدم بيعة اليهود

وقيل بل ضربه رفيق له، وكان له رفيق ثالث فصاح وبيده سكين فقتل ولم يصنع شيئا. وأحرق الثلاثة، وحمل الوزير إلى دار له هناك، وحمل الحاجب إلى بيته فمات هو والوزير. وكان الوزير قد رأى فى منامه أنه يعانق عثمان بن عفان، قال ابن الأثير «1» : وحكى عنه ولده أنه اغتسل قبل خروجه وقال: هذا غسل الإسلام وأنا مقتول بلا شك! وكان له معروف كثير وكانت داره مجمعا للعلماء وسمع الحديث، وختمت أعماله بالشهادة وهو على قصد الحج رحمه الله. ولما قتل حكم فى الدولة ظهير الدين أبو بكر ابن منصور المعروف بابن العطار، وكان حسن السيرة وتمكن تمكّنا عظيما. ذكر فتنة ببغداد وهدم بيعة اليهود وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كانت الفتنة ببغداد، وسببها أن قوما من مسلمى المدائن حضروا إلى بغداد وشكوا من يهود المدائن وقالوا: لنا مسجد نؤذّن فيه ونصلّى وهو مجاور لبيعة اليهود، فقال لنا اليهود قد آذيتمونا بكثرة الأذان وأنهم اختصموا هم والمؤذن، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود. فلما شكوا أمر ابن العطّار بحبسهم فحبسوا، ثم خرجوا فقصدوا جامع القصر واستغاثوا قبل صلاة الجمعة فخفّف الخطيب الخطبة والصلاة، فعادوا يستغيثون فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فغضب عامة بغداد لذلك واستغاثوا، وخلعوا طوابيق الجامع ورجموا الجند بها،

ذكر وفاة المستضىء بأمر الله

ثم قصدوا دكاكين المخلطين لأن أكثرهم يهود فنبهوها. فأراد حاجب الباب منعهم فرجموه فهرب منهم، وضربوا الكنيسة التى عند دار البساسيرى، وأحرقوا الورق الذى فيها الذى يزعم اليهود أنه التوراة. واختفى اليهود فأمر الخليفة بنقض الكنيسة التى بالمدائن وتبنى مسجدا ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها أقوام من المفسدين فظنّها العامة تخويفا لهم لأجل ما فعلوه باليهود، فجعلوا عليها جرذانا ميتة، فأخرج جماعة من الحبس من اللصوص فصلبوا عليها وسكنت الفتنة! ذكر وفاة المستضىء بأمر الله / كانت وفاته لليلتين خلنا من ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ومولده فى سنة ست وثلاثين، وكان عمره أربعين سنة تقريبا، ومدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر إلا أياما. وكان رحمه الله عادلا حسن السيرة فى الرعية، كثير البذل للأموال، حليما، قليل المعاقبة على الذنوب، محبا للعفو والصّفح عن المذنهين، وأولاده أبو العباس أحد وأبو منصور هاشم. ذكر خلافة الناصر لدين الله هو أبو العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله وأمّه أمّ ولد تركية اسمها زمرّد وهو الخليفة الرابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالبيعة العامّة فى يوم الأحد ثانى ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقام له بالبيعة ظهير الدين بن العطار وبايع له،

ذكر القبض على ابن العطار وموته

فلما تمّت البيعة صار الحاكم فى الدولة أستاذ الدار مجد الدين الصاحب، وسيّر الرسل إلى الآفاق يأخذ البيعة له. ذكر القبض على ابن العطار وموته وفى سابع ذى القعدة قبض على ظهير الدين بن العطار الوزير ووكل به فى داره، ثم نقل إلى التاج وقيّد وأخذت أمواله وطلبت ودائعه وأخرج ميتا فى ليلة الأربعاء ثانى عشر الشهر على رأس حمّال. فغمز به بعض الناس فثار به العامّة وألقوه عن رأس الحمال وكشفوا عن سوأته، وشدّوا فى ذكره حبلا وسحبوه فى البلد وكانوا يضعون بيده مغرفة ويقولون: وقع لنا مولانا! إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة، ثم خلص منهم ودفن. قال «1» وفعلوا به هذه الأفعال القبيحة مع حسن سيرته فيهم وكفّه عن أموالهم وأعراضهم. وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة كثرت المنكرات ببغداد فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور وأخذ المفسدات، فبينما امرأة منهن فى موضع علمت يمجىء الحاجب فاضطجعت وأظهرت أنها مريضة وارتفع أنينها، فرأوها على ذلك فانصرفوا عنها، فهمت بالقيام فلم تستطع وعجزت وجعلت تصيح: الكرب الكرب! إلى أن ماتت. وفى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة قبض الخليفة على أستاذ الدار مجد الدين أبى الفضل بن الصاحب وقتله، وكان قد تحكّم فى

ذكر انهزام عسكر الخليفة من طغرل

الدولة ليس للخليفة معه حكم. وكان الذى سعى به عند الخليفة وقبّح آثاره رجل من صنائعه وأصحابه يقال له عبيد الله بن يونس فقبض/ عليه الخليفة وقتله، وأخذ أمواله وكانت عظيمة. وكان رحمه الله حسن السيرة، واستوزر الخليفة بعده أبا المظفر عبيد الله بن يونس فى شوال، ولقبه جلال الدين، ومشى أكابر الدولة فى ركابه حتى قاضى القضاة، وكان ابن يونس هذا من شهوده، فكان يمشى ويقول: لعن الله طول العمر! ذكر انهزام عسكر الخليفة من طغرل كان طغرل «1» السّلجقى قد قوى أمره فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكثر جمعه، وأرسل إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم إلىّ الديوان بعمارة دار السلطنة لأنزل فيها إذا قدمت! فرد الخليفة رسوله بعير جواب، وأمر بنقض دار السلطنة فهدّمت إلى الأرض وعفى أثرها «2» ووصل رسول قزل- وهو صاحب أران وأذربيجان وهمذان وإصفهان والرى وما بينهما- ببذل الطاعة والخدمة ويستنجد الخليفة على طغرل، فأكرم الخليفة رسوله ووعده بتجهيز العساكر إليه، وجهّزها فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وقدم عليها الوزير جلال الدين [عبيد الله] بن يونس وسيرهم لمساعدة قزل وكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر فى ثالث صفر إلى أن

قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم. وأقبل طغرل فى عساكره، والتقوا فى ثامن شهر ربيع الأول بمرج عند همذان، فلم تثبت عساكر الخليفة وانهزمت «1» ، وبقى الوزير قائما ومعه مصحف وسيف، فأسر وأخذ ما معه من خزانة وسلاح وغيره، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين. وفى سنة خمس وثمانين وخمسمائة خطب لولى العهد أبى نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد فى إقامة الخطبة له. وفيها فى شوال ملك الخليفة تكريت، وسبب ذلك أن صاحبها الأمير عيسى قتله إخوته وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكرا فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابها إلى بغداد فأعطوا إقطاعا. وفى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة فى شهر ربيع الأول ملك الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان قد سيّر إليها جيشا فى سنة خمس وثمانين وخمسمائة فحاصروها وقاتلوا عليها شديدا، وقتل من الفريقين خلق كثير، ودام الحصار فضاقت الأقوات على أهلها، فسلموها على إقطاع عيّنوه، ووصل صاحبها وأهلها بغداد وأعطوا إقطاعا ثم تفرّقوا فى البلاد، واشتدت بهم الحاجة حتى تعرّض بعضهم للسؤال وبعضهم خدم/ الناس

ذكر ملك الخليفة خوزستان

وفى سنة تسع وثمانين وخمسمائة أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفا لا يقدر على مثلها. وفيها فى شهر ربيع الأول كملت عمارة الرباط الذى أمر الخليفة بإنشائه بالحريم الطاهرى غربى بغداد على دجلة. وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل عليها ذردارا فأساء السيرة مع جندها فغدر به بعضهم فقتله وأرسل إلى الخليفة، وأرسل إليها وملكها. وفيها انقضّ كوكبان عظيمان بعد طلوع الفجر واصطدما وسمع صوت هدّة عظيمة وغلب ضوؤهما ضوء القمر والنهار. وفى سنة تسعين وخمسمائة قتل السلطان طغرل السلجقى فى حرب كانت بينه وبين خوارزم شاه علاء الدين، وملك خوارزم شاه البلاد. ذكر ملك الخليفة خوزستان وفى سنة تسعين أيضا خلع الخليفة الناصر لدين الله على نائب الوزارة مؤيد الدين أبى عبد الله محمد بن على المعروف بابن/ القصاب خلع الوزارة، وسار فى شهر رمضان من السنة إلى بلاد خوزستان بالعساكر. وقد كان قد خدم بها أولا وعرفها، فلما ولى نيابة الوزارة ببغداد أشار على الخليفة الناصر لدين الله أن يرسله بعسكر ليملكها. واتّفق وفاة صاحبها ابن شملة التركمانى واختلاف

ذكر ملك الوزير همذان وغيرها من بلاد العجم

أولاده، فأرسل بعضهم إلى مؤيد الدين يستنجده، فقوى طمعه فيها، فسار إليها ودخلها فى سنة إحدى وتسعين، وملكها فى المحرّم منها، وملك غيرها من البلاد والقلاع: منها قلعة الناظر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج، وغيرها من القلاع والحصون، وأنفذ بنى شملة التركمانى أصحاب خوزستان إلى بغداد فوصلوا فى ربيع الأول. ذكر ملك الوزير همذان وغيرها من بلاد العجم قال «1» : ثم ملك الوزير مؤيد الدين المذكور همذان فى شوال سنة إحدى وتسعين وخمسمائة من عسكر خوارزم شاه وولده، فتوجه الخوارزميون إلى الرّىّ فتبعهم الوزير ففارقوها من غير قتال وتوجهوا إلى دامغان وبسطام «2» وجرجان. فعاد عسكر الخليفة إلى الرى فأقاموا بها، ثم رحل الوزير إلى همذان فأقام بها نحو ثلاثة أشهر وأتته رسل/ خوارزم شاه بطلب إعادة البلاد وتقرير قواعد الصلح فلم يجب الوزير إلى ذلك. فسار خوارزم شاه محمد بن تكش إلى همذان فوجد الوزير قد توفى فى شعبان، فوقع بينه وبين عسكر الخليفة الناصر لدين الله مصافّ فى نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين، فقتل من العسكرين خلق كثير، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئا كثيرا، وملك خوارزم شاه همذان ونبش الوزير وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم وأظهر أنه قتله فى المعركة، ثم رجع خوارزم شاه إلى خراسان لموجب عرض له.

ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهان

ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهان وفى سنة إحدى وتسعين جهّز الخليفة جيشا وسيّره إلى إصفهان، ومقدم الجيش سيف الدين طغرل فقطع بلد [اللحف] «1» من العراق، وكان بإصفهان عسكر الخوارزم شاه مع ولده، وأهل إصفهان يكرهونهم. فكاتب صدر الدين الخجندى رئيس الشافعية الديوان العزيز ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل إلى الديوان العزيز بالعسّكر. فلما وصلت العساكر ظاهر إصفهان فارقها العسكر الخوارزمى إلى خراسان وتبعهم عسكرا لخليفة، فأخذوا من قدروا عليه من ساقة العسكر، ودخل عسكر الخليفة إلى/ إصفهان وملكوها. قال «2» : واجتمع مماليك ابن البهلوان وقدّموا على أنفسهم كوكجه وهو من أعيان البهلوانية، واستولوا على الرّىّ وما حولها من البلاد، وساروا إلى إصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فسمعوا بوصول عسكر الخليفة إليها. فأرسل إلى طغرل مملوك الخليفة يعرض نفسه على خدمة الديوان وأظهر العبودية وأنه إنما قصد إصفهان فى طلب العسكر الخوارزمى، وأنه ساق فى طلبهم فلم يدركهم. قال «3» : ثم سار عسكر الخليفة من إصفان إلى همذان، وساق كوكجه خلف العسكر الخوارزمى إلى بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد

إصفهان وملكها. فأرسل إلى بغداد يسأل أن تكون له الرى وجواره «1» وساوة «2» وقم وقاجان وما ينضم إليها، وتكون إصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة. فأجيب إلى ذلك، وكتب منشوره بما طلب، وأرسلت إليه الخلع، فعظم شأنه وقوى أمره وكثرت عساكره. وفى سنة إحدى وستمائة يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قطعت خطبة ولىّ العهد أبى نصر بن الخليفة الناصر لدين الله، وذلك أنه أظهر خطّه بدار الوزير نصير الدين الرازى إلى أبيه يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة، وشهد عدلان أنه/ خطه وأن الخليفة أقاله، وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعلماء والعدول والفقهاء. وفى سنة أربع وستمائة عزل وزير الخليفة نصير الدين ناصر ابن مهدى العلوى، وكان من أهل الدين. قدم إلى بغداد لما ملك الوزير ابن القصّاب الرّىّ، فلقى نصير الدين من الخليفة قبولا فجعله نائب الوزارة، ثم استوزره وجعل ابنه صاحب المخزن. فلما كان فى الثانى والعشرين من جمادى الآخرة، عزل وأغلق بابه. وسبب عزله أنه ساعات سيرته مع أكابر مماليك الخليفة حتى هرب

من يده أمير الحج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع إلى الشام فى سنة ثلاث وستمائة وكتب إلى الخليفة أن هذا الوزير لا يبقى فى خدمة الخليفة أحدا من مماليكه، ولا شك أنه يريد أن يدّعى الخلافة، وأكثر النّاس القول فى ذلك وقالوا فيه الشعر، فمنه قول بعضهم: ألا مبلغ عنّى الخليفة أحمدا ... توقّ وقيت السّوء ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... فعالك يا خير البريّة ضائغ فإن كان حقّا من سلالة أحمد ... فهذا وزير فى الخلافة طامع وان كان فيما يدّعى غير صادق ... فأضيع ما كانت لديه الصّنائع فعزله، وقيل فى سبب عزله غير ذلك. ولما عزل عاد أمير الحج/ من مصر وعاد قشتمر، وأقيم فى نيابة الوزارة فخر الدين أبو المنذر «1» محمد بن أمسنا الواسطى إلا أنه لم يكن متحكما. وفيها أطلق الخليفة جميع حقّ البيع، وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات، وكان مبلغا كبيرا. وسبب ذلك أن ابنة عز الدين نجاح الشرابى توفيت فاشترى بقرة لتذبح ويتصدق بلحمها، فرفعوا فى حسابها مؤونة البقرة- وكانت كثيرة- فوقف الخليفة على ذلك، فأمر بإطلاق المؤونة جميعا. وفيها فى شهر رمضان أمر الخليفة ببناء دور بمحال بغداد يفطر فيها الفقراء وسمّيت دور الخلافة.

ذكر وفاة الناصر لدين الله وشىء من أخباره وسيرته

وفى سنة ستّ وستمائة فى شهر ربيع الأول عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة، وألزم بيته، ثم نقل إلى المخزن، وولى بعده لنيابة الوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن القمى كاتب الإنشاء ولقب مؤيد الدين، ونقل إلى دار الوزارة. وفى مسنة اثنتى عشرة وستمائة فى العشرين من ذى القعدة توفى الملك المعظم أبو الحسن على ولد الخليفة الناصر لدين الله- وهو الولد الصغير- فحصل للخليفة عليه ألم عظيم لم يسمع بمثله، وأمر الخليفة أن لا يعزّوه به وكانت له جنازة عظيمة لم يسمع بمثلها، ولم ييق ببغداد منزل إلا وفيه نعى. ذكر وفاة الناصر لدين الله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته فى آخر ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكانت علّته عشرين يوما إصابة دوسنطاريا. وكانت مدة خلافته ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما، قال ابن الأثير «1» : وكان قبيح السيرة فى رعيته ظالما، فخرّب فى أيامه العراق وتفرّق أهله فى البلاد، فأخذ أموالهم وأملاكهم. وكان كثير التلوّن يفعل الشىء وضدّه، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ثم قطعها، ثم عمل دارا لضيافة الحج وأبطلها، وأطلق بعض المكوس التى جددها ببغداد ثم أعادها، وجعل جلّ همه

ذكر خلافة الظاهر بأمر الله

فى رمى البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوّة، وبطل الفتوة من البلاد أجمع إلا من لبس منه، ومنع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع من الرّمى بالبندق إلا من ادّعى له وانتسب إليه. فأجابه النّاس إلى ذلك إلا رجلا واحدا يقال له ابن السفت فإنه فارق العراق والنحق بالشام فأرسل إليه يرغبه بالمال الجريل/ ليرمى عنه وينتسب إليه فأبى. فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك فقال: يكفينى افتخارا أنّ كل رام فى الدنيا رمى الخليفة إلا أنا! والعجم ينسبون إلى الناصر أنه هو الذى راسل التتار وجرّأهم على البلاد، وهذه المصيبة العظمى إن كانت! ذكر خلافة الظاهر بأمر الله هو أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله، وهو الخليفة الخامس والثلاثون من الخلفاء العباسيين. بويع له البيعة العامّة بعد وفاة والده الناصر لدين الله فى شوال سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان قد خلع من ولاية العهد وقطعت خطبته كما تقدّم، وإنما فعل ذلك أبوه لميله إلى ولده الصغير، فلما مات اضطر إلى أعادته لولاية العهد. قال «1» ولما ولى الخلافة أظهر العدل والإحسان وأمر بإبطال المظالم وكفّ الأيدى عن الناس، وأعاد على الناس ما كان أبوه قد اغتصبه من أموالهم وأملاكهم، وأبطل المكوس والحوادث. فمن ذلك أن المخزن كان له صنجة للذهب تزيد على صنجة البلد نصّف

قيراط فى الدينار، فيقبضون بها المال ويصرفون بصنجة البلد، فسمع بذلك فخرج/ خطه للوزير أوله: «ويل للمطففين إلى قوله ليوم عظيم «1» قد بلغنا الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصحيحة المتعامل بها. فكتب إليه بعض النواب يقول «إن هذا مبلغ كبير وقد حسبناه فكان فى السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار» فأعاد عليه الجواب بالإنكار ويقول: لو كان ثلاثمائة ألف دينار وخمسين ألفا يطلق،! وأطلق زيادة صنجة الديوان وهى فى كل دينار حبة، وتقدم إلى القاضى أنّ كل من عرض كتابا قديما بملك صحيح يعيده إليه من غير إذنه. وأقام رجلا صالحا لولاية الحشرى وبيت المال وكان حنبليا فقال: إن مذهبى أن أورث ذى الأرحام فان أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا! فقال أعط كلّ ذى حقّ حقّه واتّق الله ولا تتّق سواه! وأبطل مطالعات حراس الدروب ببغداد بأخبار الناس وقال «لا يكتب إلينا إلا فما يتعلق بمصالح دولتنا» . ومنه أنه لما ولى الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان وجّه فى خلافة الناصر لتحصيل الأموال، فأحضر ما يزيد على مائة ألف دينار وطالع بذلك، فأعاد الخليفة الظاهر الجواب بإعادة المال إلى أربابه، فأعيد إليهم. وأطلق من كان فى السجون وأمر أن يحمل إلى القاضى/ عشرة آلاف دينار يوفى بها دين من هو فى سجن الحاكم على شىء يعجز عنه. وتصدّق فى ليلة عيد الفطر

وفرّق فى العلماء وأهل الدين مائة ألف دينار، ولم تطل مدّته فى الخلافة. وكانت وفاته فى رابع عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فكانت مدة خلافته منذ أفضى إليه الأمر تسعة أشهر وأربعة عشر يوما. قال «1» : وأخرج قبل وفاته توقيعا بخطه إلى الوزير ليقرأ على أرباب الدولة فقال الرسول: إنّ أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفذ مثال لا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوال! فقرأ المرسوم فإذا فبه بعد البسملة «اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا ولكن نبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشنعة وإظهار الباطل الجلىّ فى صورة الحسن الخفىّ حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاحتياج استيفاء واستدراكا لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون/ إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقّه فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون. والآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقا. ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصرّ، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم

ذكر خلافة المستنصر بالله

مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم فى طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله فى أرضه وأمنائه على خلقه وإلّا هلكتم، والسلام» قال «1» : ووجد فى داره رقاع مختومة لم يفتحها فقيل له: ما عليك لو فتحتها! فقال: لا حاجة لنا فيها كلها سعايات! ذكر خلافة المستنصر بالله هو أبو جعفر المنصور ولقّب فى خلافته بالمستنصر بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، وهو الخليفة السادس والثلاثون من الخلفاء العباسيين. بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله فى رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فسلك من العدل والخير والإحسان مسلك والده، ونادى بإفاضة/ العدل وأن يطالع الناس بحوائجهم. ولما كان أول جمعة أتت فى خلافته أراد أن يصلى الجمعة فى القصورة التى يصلى فيها الخلفاء فقيل له إن المطبق الذى يسلك إليها فيه خراب لا يسلك فركب فرسا وسار إلى الجامع ظاهرا للناس بخادم وركاب دار وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء بسكاكين حرير، ولم يترك أحدا يمشى فى خدمته. وكذلك فعل فى الجمعة الثانية حتى صلح المطبق! وفى سنة خمس وثلاثين وستمائة كانت وقعة بين التتار وعساكر الخليفة، وكان مقدم العسكر الحليفتى «2» جمال الدين بكلك

ذكر خلافة المستعصم بالله

الناصرى. وقتل من الطائفتين خلق كثير، فانهزم عسكر الخليفة وهو أول مصاف كان بين التتار وعسكر الخلفاء، ودامت أيام المنتصر إلى سنة أربعين وستمائة. وكانت وفاته بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة منها، وكان سبب وفاته أنه فصد بمبضع مسموم فتوفى. وكانت مدّة خلافته سبع عشرة سنة إلا ثلاثة وثلاثين يوما، وكان الناس فى زمن خلافته فى شغل شاغل عن ضبط أيامه بالتاريخ، لما دهمهم من حادثة التتار «1» . فلذلك اختصرنا أيامه وسترد أخبار التتار وخروجهم وما استولوا عليه من الممالك وما فعلوه بأهل البلاد مبيّنا عند ذكرنا للدولة الخوارزمية والجنكزخانية- إن شاء الله تعالى. ذكر خلافة المستعصم بالله هو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبى جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله أبى محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن ذخيرة

ذكر مقتل المستعصم بالله وانقراض الدولة العباسية واستيلاء هولاكو على بغداد

الدّين أبى العباس أحمد بن القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله بن القادر بالله أبى العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفق بالله أبى أحمد طلحة- وهو الملقّب بالناصر- ولم يل الخلافة- بن المتوكل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن الرشيد أبى محمد هرون بن المهدى أبى عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس- رضى الله عنه- بن عبد المطلب، وهو الخليفة السابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه المستنصر بالله فى يوم الجمعة لعشر خلون/ من جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة. وكان متديّنا متمسكا بمذهب السّنّة والجماعة، وحسّن له أصحابه جمع الأموال والاقتصار على بعض من ببغداد من الجند، وقطع الباقى، ومسالمة التتار وحمل القطيعة إليهم ليكفّوا عنهم، وقالوا له: هؤلاء ملكوا معظم بلاد الإسلام ولم يقف أحد من الملوك أمامهم» ! فأذعن إلى ذلك. وفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة قصد التتار بغداد، حتى انتهوا إلى ظاهرها ونهبوا ما مرّوا عليه من البلاد، فخرجت إليهم العساكر الخليفتية فأجّجوا النيران بالليل ورحلوا، ودامت أيام المستعصم بالله إلى أن ملك التتار بغداد. ذكر مقتل المستعصم بالله وانقراض الدولة العباسية واستيلاء هولاكو على بغداد كان مقتله فى العشرين من المحرم سنة ستّ وخمسين وستمائة عندما استولى هولاكو على بغداد على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار

التتار. ولما ملك هولاكو بغداد أحضر الخليفة المستعصم بالله وأمر أن يجعل فى عدل ويداس بأرجل الخيل حتى يموت، ففعل به ذلك «1» /ومن عادة التتار أن لا يسفكوا دماء الملوك والأكابر، وسبى كلّ من حواه قصر الخلافة من الحريم، واستولى على ذخائر الخلفاء، ونهبت بغداد، وبذلوا السيف فيها سبعة أيام متوالية ثم رفع فى اليوم الثامن «2» . وكانت خلافة المستعصم بالله خمسة عشر سنة، وسبعة أشهر، وعشرة أيام. وكان الذى بعث هولاكو على قصد بغداد أنّ الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمى كان شيعيا والشيعة يسكنون بالكرخ وهى محلة مشهورة بالجانب الغربى من بغداد، فأحدث أهلها حدثا فأمر الخليفة ينهبهم فنهبهم العوام، فوجد «3» الوزير لذلك وكاتب هولاكو، وأخذ فى التدبير على الخليفة وقطع أرزاق الجند، وأضعفهم حتّى تمكّن التتار من أخذ البلاد. قال «4» : ولما فتح هولاكو بغداد وأحضر الوزير المذكور فقال: كيف كانت حالك مع الخليفة؟ فذكر ما كان عليه من التقدّم ونفاذ الكلمة وكثرة الأتباع وأنه كان يركب فى جمع عظيم، فقال: إذا كان هذا فعلك فى حقّ من قدّمك وأحسن إليك كيف يكون منك

جامع أخبار خلفاء الدولة العباسية بالعراق ومن ولى منهم ومدة خلافتهم

معنا؟ وأمر بقتله. وقيل استبقاه وأنّ امرأة رأته فى يوم وهو على برذون ليس معه أحد فنظرت إليه وقالت: يابن العلقمى هكذا كنت فى أيام أمير المؤمنين «1» ؟ جامع أخبار خلفاء الدولة العباسية بالعراق ومن ولى منهم ومدة خلافتهم ولى منهم بالعراق سبعة وثلاثون خليفة وهم: أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس وهو السفاح، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله أخوه، ثم المهدى أبو عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور، ثم ابنه الهادى أبو محمد موسى، ثم أخوه الرشيد أبو محمد هارون، ثم ابنه الأمين أبو عبد الله محمد، ثم أخوه المأمون أبو العباس عبد الله، ثم أخوه المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد وهو أول من أضاف إلى لقبه اسم الله عزّ وجل، ثم ابنه الواثق بالله أبو جعفر هارون، ثم أخوه المتوكل على الله أبو الفضل جعفر، ثم ابنه المنتصر بالله أبو جعفر محمد، ثم المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله، ثم المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل، ثم المهتدى بالله أبو عبد الله محمد بن الواثق، ثم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله، ثم المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل، ثم المكتفى بالله أبو محمد على بن المعتضد، ثم المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن

/ المعتضد وخلع مرتين فالأولى بويع لابن المعتز والثانية بويع للقاهر، ثم القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد، ثم الراضى بالله أبو العباس أحمد بن المقتدر، ثم المتقى لله أبو إسحاق إبراهيم ابن المقتدر، ثم المستكفى بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفى، ثم المطيع لله أبو القاسم الفضل بن المقتدر، ثم الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن المطيع، ثم القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحاق ابن المقتدر، ثم القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر، ثم المقتدى بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العباس أحمد بن القائم، ثم المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدى، ثم المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر، ثم الراشد بالله أبو العباس جعفر المنصور بن المسترشد، ثم المقتفى لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر، ثم المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفى ثم ابنه المستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن، ثم ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد، ثم ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، ثم ابنه المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، ثم ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله. وكانت مدّة خلافتهم منذ بويع أبو العباس السفاح وإلى أن قتل المستعصم بالله/ خمسمائة سنة وثلاثا وعشرين سنة وعشرة أشهر وستة أيام وانقرضت الدّولة العباسية وانقطعت دعوتهم من سائر أقطار الدنيا ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما إلى أن عادت بالدّيار المصرية المحروسة فى الدولة الظاهرية

ذكر خلافة المستنصر بالله

ذكر عود الدولة العباسية وقيامها بالديار المصرية المحروسة ذكر خلافة المستنصر بالله هو أبو العباس أحمد بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، بويع له بالخلافة بالدّيار المصرية فى التاسع من شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة. وذلك أنه وصل إلى الديار المصرية فى هذا اليوم، فركب السّلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس للقائه فى موكب مشهود، وأنزله بقلعة الجبل وأمر بإثبات نسبه. وحضر الأمراء والوزير وقاضى القضاة ونوّاب الحكم والفقهاء والصلحاء وأكابر المشايخ وأعيان الصوفية واجتمعوا بقاعة/ العمد بقلعة الجبل وأمر السّلطان بإحضار العربان الذين حضروا مع الخليفة فحضروا وحضر خادم من البغاددة فسئلوا عنه هل هو أحمد بن الظاهر فقالوا إنه هو! فتشهد جماعة من القضاة الأكابر بالاستفاضة وهم: جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر والفقيه علم الدين ابن رشيق صدر الدين مرهوب الجزرى ونجيب الدين الحرانى، وسديد الدين التزمنتى «1» نائب الحكم بالقاهرة. أنه هو فأسجل قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأغر وحلف على نفسه بثبوت

نسبه وهو قائم على قدميه، ولقّب المستنصر بالله على اسم أخيه. وبايعه السلطان على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وأخذ الأموال بحقّها وصرفها فى مستحقّها، ثم بايعه النّاس على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم. ولما تمّت بيعته قلّد السلطان البلاد الإسلامية وما يضاف إليها وما يفتحه الله تعالى على يديه من البلاد، وكتب السلطان إلى سائر الأعمال بأخذ البيعة له، وأن يخطب باسمه على المنابر، وتنقش السّكّة باسمه واسم السلطان. وخطب الخليفة بالناس فى يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب بجامع القلعة، ونثرت عليه الدنانير والدراهم، وخلع على السلطان/ وطوقه يوم الإثنين «1» . واستخدم السلطان للخليفة من يحتاج إليه من أرباب الوظائف فجعل الأمير سابق الدين بوزبا «2» أتابك العسكر، وكتب له بألف فارس وجعل الطواشى بهاء الدين صندل شرابيا وكتب له بخمسمائة فارس والأمير ناصر الدين محمد بن صريم «3» خزندارا وكتب له بمائتى فارس، والأمير نجم الدين أستاذ الدار وكتب له

ذكر مسير الخليفة المستنصر بالله إلى بلاد الشرق وقتله

بخمسمائة فارس، والأمير سيف الدين بلبان الشمسى داوادارا وكتب له بخمسمائة فارس. وأمر جماعة من العربان بالطبلخانات واشترى للخليفة مائة مملوك جعلهم جمدارية وسلحدارية وأعطى كلّا منهم ثلاثة أرؤس خيل وجملا لعدته. واستخدم له صاحب ديوان وكتّاب إنشاء وأئمة ومؤذنين، وحكماء وجرائحية «1» ، وغلمانا. وكمّل له البيونات وجهّزه وجهّز معه ملوك الشرق الذين كانوا قد وصلوا إلى السلطان وهم: الملك الصالح عماد الدين «2» إسماعيل بن الملك الرحيم صاحب الموصل، وكتب له بالموصل وولاياتها ورساتقها ونصيبين وولاياتها، ودارا وأعمالها، والقلاع العمادية وبلادها، وغير ذلك مما جاوره. وكتب للملك المجاهد سيف الدين إسحق أخيه بلاد الجزيرة، وكتب للملك المظفر علاء الدين على سنجار وأعمالها التى كانت بيده. وأرسل إليهم الطبلخانات والسناجق، وتقدم إليهم بسفرهم/ صحبته إلى الشام ليجهزهم إلى مستقرهم صحبة الخليفة. ذكر مسير الخليفة المستنصر بالله إلى بلاد الشرق وقتله قال «3» : وتوجه الخليفة والسلطان والملوك إلى الشام فى سادس شوال من السنة، وكان مبلغ النفقة على الخليفة والملوك

ألف ألف دينار وستين ألف دينار عينا، ووصلوا إلى دمشق. ونزل الخليفة بجبل الصالحية فى برية الملك الناصر «1» ، وجرد السلطان عسكرا صحبه الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى وشمس الدين سنقر الرومى وودع السلطان الخليفة والملوك وسفرهم وأوصى الرشيدىّ والرومىّ ومن معهما أن يقيموا بجهة حلب وبر الفرات ومتى طلبهم الخليفة ساروا إليه. وسار الخليفة من دمشق وعبر الفرات- ولم يتأنّ فى أمره- فوصل عانة والحديثة. فخرج عليه مقدم من مقدمى التتار اسمه أورداى ومعه بمانا «2» ، فالتقوا واقتتلوا فاستشهد الخليفة، وقتل أكثر من كان معه. وأما عن الملك الصالح «3» فإنه دخل الموصل وملكها واستقرّ بها، فسار إليه أورداى المذكور وحاصره، وملك البلد، وصلبه هو وابنه على باب الموصل، وانهزم أخواه الملك المجاهد والمظفر علىّ إلى الديار المصرية، فأقاما بها إلى أن ماتا فى الدولة المنصورية السيفية، رحمهما الله. وانقضت الخلافة، وانقرضت الدّولة العباسية ثانية من سائر

ذكر خلافة الحاكم بأمر الله

الأرض، وتعطّلت المنابر من ذكر دعوتهم إلى أن عادت بالديار المصرية أيضا ببيعة الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد. ذكر خلافة الحاكم بأمر الله هو أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبى بكر بن الحسن بن على الفتى بن الحسن بن الخليفة الراشد بالله بن جعفر المنصور بن المسترشد بالله وقد تقدم نسبه مستوفى. بويع له بالخلافة بالديار المصرية فى يوم الخميس الثانى من المحرم سنة إحدى وستين وستمائة. وذلك أنه وصل إلى الديار المصرية فى سنة ستين وستمائة، فلما كان فى هذا اليوم جلس السلطان الملك الظاهر مجلسا عاما، وحضر الخليفة راكبا إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل. وجلس إلى جانب السلطان. وبايعه بعد ثبوت نسبه كما بايع المستنصر، ثم قلّد السلطان أمور البلاد والجيوش./ وبايعه النّاس على اختلاف طبقاتهم، وكان ذلك بحضور الرسل ومن وفد من التتار «1» . وخطب يوم الجمعة بجامع القلعة، ثم خطب مرة ثانية فى ثامن عشر شعبان بحضور رسل بركة، ودعا للسلطان وللملك بركة «2» وصلّى بالناس. وحجب عن الناس ببرج فى القلعة إلى سنة تسعين وستمائة، فأخرجه السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين

ذكر خلافة المستكفى بالله

المنصورى من البرج وأسكنه بالمناظر الصالحية المعروفة بالكبش ووسّع عليه فى رزقه ورزق أولاده. وحجّ فى هذه السنة ورجع، فكان بالمناظر إلى أن مات. وكانت وفاته فى الثامن عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة فى دولة السلطان الملك الناصر الثانية وصلّى عليه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلّى الصوفى- شيخ الصوفية بمشهد السيدة نفيسة- ودفن بجوار المشهد. وكانت مدة خلافته أربعين سنة وأربعة أشهر، وستة عشر يوما. وهو أول خليفة دفن بمصر من الخلفاء العباسيين، رحمه الله. ذكر خلافة المستكفى بالله هو أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله/ وهو الثالث من خلفاء بنى العباس بمصر، والخليفة الأربعون من خلفائهم. بويع له يوم وفاة والده الحاكم بأمر الله فى الثامن عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة وخطب له على المنابر وحضر مع السلطان الملك الناصر مصافّ مرج الصّفر «1» الذى انهرم فيه التّتار فى ثانى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة.

واستمر فى صحبة السلطان، يركب معه إلى الصيد وإلى الميدان، ويلعب الكرة. وسكن بمناظر الكبش وغيرها من المساكن الحسنة المترفة على نهر النيل، ورتّب له من النفقات والكساوى وغير ذلك ما يحتاج إليه هو ومن عنده. وكذلك رتّب لابن أخيه إبراهيم، ولم يحجر السلطان عليهما، بل يركب كلّ منهما متى شاء ويزور من شاء «1» .

الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية ببلاد الأندلس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية ببلاد الأندلس «1» كان ابتداء هذه الدولة فى سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائة، فى خلافة أبى جعفر المنصور الثانى من الخلفاء العباسيين، وأول من ملك بلاد الأندلس من بنى أمية أبو المظفر عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان. وقيل كنيته أبو المطرّف، وقيل أبو سليمان، وقيل أبو زيد، وأمه بربرية من سبى أفريقية واسمها راح ولقّب عبد الرحمن بالدّاخل عند دخوله. وكان استيلاء عبد الرحمن على الأندلس فى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وقيل تسع وثلاثين. وكان سبب دخوله إليها واستيلائه عليها أنه لما قتل مروان بن محمد، وانقرضت الدولة الأموية، وقتل من قتل من بنى أمية، وتشتتوا فى البلاد....

/ كان عبد الرحمن هذا بذات الزّيتون «1» ففرّ منها إلى فلسطين، فأقام بها هو ومولاه بدر يتجسّس له الأخبار، فحكى عنه أنه قال: «لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبى فطرس «2» أتانى الخبر وكنت منتبذا عن الناس. فرجعت إلى منزلى آيسا ونظرت فيما يصلحنى وأهلى، وخرجت خائفا حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض. فبينا أنا ذات يوم فيها وولدى سليمان يلعب بين يدى- وهو يومئذ ابن أربع سنين- فخرج عنى ثم دخل علىّ باكيا فزعا، فتعلق بى وجعلت أدفعه، وخرجت لأنظر فإذا بالخوف قد نزل بالقرية والرايات السّود منحطّة عليها وأخ لى حدث يقول لى: النجاة النجاة! فأخذت دنانير معى ونجوت بنفسى وأخى وأعلمت أخواتى بمقصدى وأمرتهنّ أن يلحقننى مولاى بدرا [- قال-] وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لى أثرا. فأتيت رجلا من معارفى وأمرته فاشترى لى دوابّ وما يصلحنى فدلّ علىّ عبد له العامل، فأقبل فى خيله يطلبنى فخرجنا على أرجلنا والخيل تبصرنا، فدخلنا الفرات فسبحنا فنجوت أنا والخيل ينادون بالأمان وأنا لا أرجع وأما أخى فإنه عجز عن السباحة فى نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان، فقتلوه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت ثكله/ ومضيت وتواريت فى غيضة حتى انقطع الطّلب عنى. وخرجت فقصدت

المغرب فبلغت أفريقية، ثم ألحقتنى أختى أمّ الإصبع مولاى بدرا بنفقة وجوهر. قال المؤرخ «1» : ولما بلغ أفريقية كان بها عبد الرحمن بن حبيب الفهرى عاملا لمروان بن محمد، فظنّ عبد الرحمن بن معاوية أن ابن حبيب يرعاهم ويحوطهم ويحسن مجاورتهم. فلما علم ابن حبيب أن مروان قد قتل وأن أهله وولده قد تفرقوا وأن رجاله قد استأمنوا إلى أعمال أبى العباس السّفاح طلب لنفسه السلامة، وكتب بالسّمع والطّاعة، وأراد قتل عبد الرحمن بن معاوية ومن معه والتقرّب بهم إلى عمال السفاح. وأرسل فى طلبه فهرب منه وأتى مكناسة وهى قبيلة من البربر وعندهم شدة، ثم هرب منهم وأتى نفراوة «2» وهم أخواله. وقيل أتى قوما من الزناتيين فأحسنوا قبوله فيهم وأخذوا فى التدبير والمكاتبة إلى الأمويين من أهل الأندلس يعلمونهم بقدومه ويدعونهم إلى عبد الرحمن. ووجه بدرا مولاه إليهم، وكان أمير الأندلس يومذاك يوسف ابن عبد الرحمن الفهرى فسار بدر إليهم وأعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه فأجابوه، ووجّهوا إليه مركبا فيه تمّام بن علقمة ووهب بن الأصفر وشاكر بن أبى الأسمط، فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم، وأخذوه ورجعوا به إلى الأندلس/ فأرسى بالمركب

بالجزيرة فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائة. فأتاه جماعة من رؤسائهم من أهل إشبيلية «1» ، ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه إبراهيم بن شجرة عاملها «2» . ثم سار إلى إشبيلية فبايعه أبو صالح يحيى بن يحيى، ونهض إلى قرطبة فبلغ خبره يوسف بن عبد الرحمن وكان غائبا عن قرطبة بنواحى طليطلة «3» ، فأتاه الخبر وهو راجع إلى قرطبة فتراسل هو ويوسف فى الصلح فخادعه، فلم يشك أصحاب يوسف فى انتظام الصّلح وذلك فى يومين أحدهما يوم عرفة، فأقبل يوسف فى إعداد الطعام ليأكله الناس فى يوم الأضحى وعبد الرحمن يرتّب خيله ورجله وعبر النهر فى أصحابه. وأنشب القتال ليلة الأضحى، وصبر الفريقان حتى ارتفع النهار، وركب عبد الرحمن على بغلة وأسرع القتل فى أصحاب يوسف فانهزم وظفر عبد الرحمن بن معاوية. ولما انهزم يوسف

أتى ماردة «1» وأتى عبد الرحمن قرطبة، وأخرج حشم يوسف وأهله من القصر على تؤدة ورفق، ودخله بعد ذلك. ثم سار فى طلب يوسف، فلما أحس به يوسف سار إلى قرطبة فدخلها وملك قصرها، وأخذ جميع أهله وماله، ولحق بمدينة إلبيرة «2» . ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة فلم يجده فسار إلى إلبيرة، وتراسلا فى الصلح فاصطلحا على أن ينزل/ يوسف هو ومن معه بأمان وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة ويرهنه يوسف ابنه أبا الأسود محمدا وسار يوسف مع عبد الرحمن إلى قرطبة فلما دخل قرطبة تمثل: فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة تتنصّف قال «3» واستقر عبد الرحمن بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه «4» .

ذكر مقتل عبد الرحمن بن يوسف الفهرى

ذكر مقتل عبد الرحمن بن يوسف الفهرى قال «1» : وفى سنة إحدى وأربعين ومائة نكث يوسف بن عبد الرحمن الفهرى، وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه فى أملاكه، فإذا أظهر حجّته الشرعية لا يعمل بها، ففطن لما يراد منه. فقصد ما ردة واجتمع عليه عشرون ألفا فسار نحو عبد الرحمن، وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه إلى حصن المدور «2» ثم رأى يوسف أن يسير إلى عبد الملك ابن عمر بن مروان- وكان واليا على إشبيلية وإلى ابنه عمر بن عبد الملك وكان على المدوّر- فسار نحوهما فخرجا إليه واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب يوسف، وبقى متردّدا فى البلاد فقتله بعض أصحابه فى شهر/ رجب سنة اثنتين وأربعين ومائة بنواحى طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن بن معاوية فنصبه بقرطبة وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذى كان عنده رهينة ونصب رأسه مع رأس أبيه وبقى ابنه الأسود عند عبد الرحمن. وفى سنة ثلاث وأربعين ومائة ثار رزق بن النعمان الغسّانى وكان على الجزيرة الخضراء «3» . فاجتمع إليه خلق كثير، فسار

إلى شذونة «1» فملكها ودخل مدينة إشبيلية. وعاجله عبد الرحمن فحصره بها وضيّق على من فيها، فتقربوا إليه بتسليمه له. وأمّنهم ورجع عنهم. وفى سنة أربع وأربعين ومائة ثار هشام بن عذرة الفهرى وهو من بنى عمّ يوسف بن عبد الرحمن الفهرى بطليطلة فحاصره الأمير عبد الرحمن وشدّد عليه الحصار فمال إلى الصلح وأعطاه ابنه أفلح رهينة فأخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة. ثم عاد هشام وخلع عبد الرحمن، فعاد إليه وحاصره ونصب المجانيق عليها [أى على طليطلة] فلم يؤثر فيها لحصانتها فقتل ابنه أفلح ورمى برأسه إلى أبيه فى المنجنيق ورحل إلى قرطبة. ولم يظفر بهشام فى هذه السنة واستمر إلى سنة سبع وأربعين ومائة فبعث عبد الرحمن مولاه بدرا وتمام بن علقمة فحصرا طليطلة وضيّقا على هشام ثم أسراه هو وحيوة بن الوليد اليحصبى وعثمان بن حمزة/ بن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فأتى بهم إلى عبد الرحمن بن معاوية فى جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم. وركبوا الحمير وهم فى السلاسل. فصلبهم بقرطبة!

ذكر خروج العلاء وقتله

ذكر خروج العلاء وقتله وفى سنة ستّ وأربعين ومائة سار العلاء بن مغيث اليحصبى من أفريقية إلى مدينة باجة «1» من الأندلس، ولبس السواد وقام بالدّعوة العباسية. وخطب لأبى جعفر المنصور، واجتمع إليه خلق كثير. فخرج إليه الأمير عبد الرحمن فالتقيا بنواحى إشبلية وتحاربا زمانا، فانهزم العلاء وأصحابه، وقتل فى المعركة سبعة آلاف فارس وقتل العلاء، فأمر عبد الرحمن بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس أصحابه إلى القيروان وإلقائها فى السّوق سرّا ففعل ذلك. ثم حمل منها إلى مكة ومعه لواء أسود فوصلت والمنصور بمكة ومعه كتاب كان المنصور قد كتبه إلى العلاء «2» . وفى سنة سبع وأربعين ومائة قدم رسول عبد الرحمن الذى أرسله إلى الشام فى إحضار ولده الأكبر سليمان، وحضر معه سليمان. ذكر خروج سعيد اليحصبى المعروف بالمطرى وقتله / قال «3» : وكان خروجه فى سنة ثمان وأربعين ومائة بمدينة لبلة «4» من الأندلس وسبب ذلك أنه سكر يوما، فتذكّر

من قتل من قومه اليمانية مع العلاء، فعقد لواء فلما صحا رآه معقودا، فسأل عنه فأخبروه فأراد حلّه ثم قال: ما كنت لأعقد لواء ثم أحلّه بغير شىء وشرع فى الخلاف، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلّب عليها وكثر جمعه، فبادره عبد الرحمن فى جموعه. فامتنع المطرى فى قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فحصره بها وضيق عليه، ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه. وكان قد وافقه على الخلاف علقمة اللخمى وكان بمدينة شذونة وقد انضاف إليه جماعة من رؤساء القبائل وهم يريدون إمداد المطرىّ فى جمع كثير. فلما سمع عبد الرحمن بذلك سيّر إليهم بدرا مولاه فى جيش فحال بينهم وبين المطرىّ، وطال الحصار وقلّت رجاله بالقتل، وفارقه بعضهم. فخرج يوما من القلعة فقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فقدّم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فدام الحصار عليها. فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن على أن يسلموا إليه خليفة فأجابهم إلى ذلك، وتسلّم الحصن وخرّبه وقتل خليفة وخلقا كثيرا ممّن معه ثم انتقل إلى غياث الأزدى وكان ممّن وافق المطرىّ على الخلاف/ فحصره ومن معه وضيّق عليهم فطلبوا الأمان فأمّنهم إلا نفرا فقبض عليهم، وعاد إلى قرطبة فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدى بكورة جيّان «1» واجتمع إليه

ذكر أخبار شقنا بن عبد الواحد وخروجه بالأندلس

جموع فأغار على قرطبة فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فتفرق جمعه، فطلب الأمان فأمنه ووفى له. وفى سنة تسع وأربعين ومائة أغزى عبد الرحمن مولاه بدرا إلى بلاد العدو فأخذ الجزية منهم. وفيها عزل عبد الرحمن أبا الصباح حىّ بن يحيى عن إشبيلية فدعاه إلى الخلاف، فخدعه عبد الرحمن حتى حضر عنده فقتله. وفيها خرج غياث بن المسيّر الأزدى، فخرج إليه عامل عبد الرحمن وقاتله فانهزم غياث ومن معه، وقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة. وفيها أمر عبد الرحمن ببناء سور مدينة قرطبة. ذكر أخبار شقنا «1» بن عبد الواحد وخروجه بالأندلس كان خروجه بشرق الأندلس فى سنة إحدى وخمسين ومائة وكان من بربر مكناسة يعلّم الصبيان وكانت أمّه تدعى فاطمة فادّعى أنه من ولد فاطمة رضى الله تعالى عنها وأنه من ولد الحسين، وتسمّى بعبد الله بن/ محمد وسكن شنتبرية «2» واجتمع

عليه خلق كثير من البربر وعظم أمره فسار إليه عبد الرحمن فلم يقف له وزاغ فى الجبال، فكان إذا أمن انبسط وإذا خاف صعد الجبال حيث يصعب طلبه. فاستعمل عبد الرحمن على طليطلة حبيب بن عبد الملك، واستعمل حبيب على شنتبرية سليمان بن عفان ابن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه، وأمر بطلب شقنا فنزل شقنا إلى سليمان فقتله. واشتدّ ذكر شقنا وطار اسمه، وغلب على ناحية قورية «1» ، وأفسد فى الأرض، فعاد عبد الرحمن وغزاه فى سنة اثنتين وخمسين ومائة بنفسه، فلم يثبت له شقنا، فأعياه أمره فعاد عنه، وسير إليه فى سنة ثلاث وخمسين بدرا مولاه، فهرب شقنا وأخلى حصنه شيطران، ثم غزاه عبد الرحمن بنفسه فى سنة أربع وخمسين فلم يثبت له، فعاد عنه وبعث لحربه أبا عثمان عبد الله بن عثمان فخدعه شقنا وأفسد عليه جنده. فهرب عبد الله وغنم شقنا عسكره، وقتل جماعة من بنى أمية كانوا فى العسكر وذلك فى سنة خمس وخمسين ومائة. وسار شقنا إلى حصن الهواريين وبه عامل لعبد الرحمن فمكر به شقنا حتى خرج إليه، فقتله وأخذ خيله وسلاحه وما كان معه. ولم يزل/ شقنا كذلك وعبد الرحمن يغزوه تارة بنفسه وتارة بجيوشه إلى سنة ستين ومائة فاغتاله أبو معن وأبو خريم وهما من أصحابه، فقتلاه وأخذا رأسه ولحقا بعبد الرحمن واستراح الناس من شره!

ذكر عصيان أهل اشبيلية على الأمير عبد الرحمن

ذكر عصيان أهل اشبيلية على الأمير عبد الرحمن قال «1» : وفى سنة خمس وخمسين ومائة خرج أهل إشبيلية عن الطاعة مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس، وكان عبد الرحمن قد خرج من قرطبة لحرب شقنا واستخلف عليها ابنه سليمان فأتاه كتابة بخروجهم عن طاعته وعصيانهم عليه واتّفاق من بها من اليمانية على ذلك. فرجع عبد الرحمن إليها ولم يدخل قرطبة، وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم، فقدّم ابنه عمّه عبد الملك ابن عمر، فلما قارب عبد الملك إشبيلية قدّم ابنه أمية ليعلمه حالهم، فرآهم متيقظين فرجع إلى أبيه فلامه أبوه على رجوعه وإظهار الوهن، فضرب عنقه وجميع بنيه وخاصّته وقال: طردنا من المشرق إلى أقصى هذا الصّقع ونحسد على لقمة تبقى الرّمق، اكسروا جفون سيوفكم فالموت أولى أو الظفر! ففعلوا، وحمل أمامهم فهزم اليمانية/ وأهل إشبيلبة فلم يقم بعدها لليمانية قائمة. وجرح عبد الملك وبلغ الخبر عبد الرحمن فأتاه وجرحه يجرى دما وسيفه يقطر وقد لصقت يده بقائمة سيفه، فقبّل بين عينيه وجزاه خيرا وقال له: يابن عم قد أنكحت ابنى ولىّ عهدى هشاما ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا وكذا، وأولادك كذا وكذا، وأقصعتك وإياهم كذا وكذا، ووليتك الوزارة! وعبد الملك هذا هو الذى ألزم عبد الرحمن بقطع خطبة

ذكر عبور الصقلبى إلى الأندلس وما كان من أمره إلى أن نتل

المنصور وقال له: تقطعها وإلا قتلت نفسى! وكان قد خطب له عشرة أشهر وقطعها. قال «1» : وفى سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية وقتل خلقا كثيرا ممّن كان مع عبد الغفار، وبسبب هذه الوقعة وغشّ العرب مال عبد الرحمن إلى اقتناء العبيد. وفى سنة ستّ وخمسين سخط الأمير عبد الرحمن على مولاه بدر لفرط إدلاله عليه، وأخذ ماله وسلب نعمته ونفاه إلى الثغور ولم يرع له حقوق الخدمة. وفى سنة ثمان وخمسين ومائة زا الأمير عبد الرحمن مدينة قورية وقصد البربر الذين كانوا أسلموا عامله إلى شقنا فقتل منهم خلقا كثيرا من أعيانهم! ذكر عبور الصقلبى الى الأندلس وما كان من أمره إلى أن نتل وفى سنة إحدى وستين ومائة وقيل سنة ستين عبر عبد الرحمن ابن حبيب الفهرى المعروف بالصقلبى- ولم يكن صقلبيا وإنما سمّى بذلك لطوله ورقته وشقرته- من أفريقية إلى الأندلس ليحارب عبد الرحمن ويدعوه إلى طاعة المهدى بن أبى جعفر المنصور. وكان

عبوره فى ساحل تدمير «1» ، وكاتب سليمان بن يقظان بالدّخول معه، وكان سليمان ببرشلونة فلم يجبه، فاغتاظ الصقلبى وقصد بلده فيمن معه من البربر. فقصده سليمان والتقوا واقتتلوا، فهزمه سليمان، فعاد الصقلبى إلى تدمير، وجاء عبد الرحمن نحوه وأحرق السفن ليمنعه من الهرب، فقصد الصقلبى جبلا منيعا بناحية بلنسية «2» . فبذل عبد الرحمن ألف دينار لمن يأتيه برأسه فاغتاله رجل من البربر وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألف دينار، وكان قتله فى سنة اثنتين وستين ومائة. وفى سنة اثنتين وستين ومائة أرسل عبد الرحمن شهيد بن عيسى إلى دحيّة الغسانى وكان عاصيا فى بعض حصون إلبيرة، فقتله وسير بدرا مولاه «3» /إلى إبراهيم بن شجرة وكان قد عصى عليه فقتله. وسير تمّام بن علقمة إلى العباس البربرى- وهو فى جمع البربر وأظهر العصيان- فقتله وفرق جموعه. وفيها سيّر جيشا مع حبيب بن عبد الملك القرشى إلى القائد السّلمى، وكان حسن المنزلة عند عبد الرحمن. فشرب ليلة وقصد باب

القنطرة ليفتحه على سكر، فمنعه الحرس فعاد. فلما صحا من سكره خاف فهرب إلى طليطلة واجتمع إليه كثير ممّن يريد الخلاف والثّمرّ فعاجله عبد الرحمن بإنفاذ الجيوش، فحصره فى مكان كان قد تحصّن به، فطلب السّلمى البراز فبرز إليه عبد أسود فاختلفا ضربتين فوقعا صريعين ومانا جميعا. وفى سنة ثلاث وستين ومائة أظهر الأمير عبد الرحمن النّجهّز إلى الخروج لقصد الشام لطلب الثأر من بنى العباس فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصارى بسرقسطة «1» واشتدّ أمرهما فرجع عن ذلك وترك ما كان أظهره منه. وفى سنة خمس وستين ومائة غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة ونكث، فسيّر إليه عبد الرحمن غالب بن تمام بن علقمة فى جند كثيف فاقتتلوا، فأسر جماعة من أصحاب الحسين فيهم ابنه عيسى، فسيّرهم إلى عبد الرحمن/ فقتلهم، وأقام غالب بن تمام بن علقمة يحاصر الحسين. ثم سار عبد الرحمن فى سنة ستّ وستين إلى سرقسطة فحصرها وضايقها ونصب عليها ستّة وثلاثين منجنيقا، فملكها عنوة وقتل الحسين أقبح قتلة، ونفى أهل سرقسطة منها ليمين كانت تقدّمت منه، ثم ردّهم إليها.

ذكر مخالفة أبى الأسود محمد بن يوسف الفهرى

وفى سنة ستّ وستين ومائة قتل عبد الرحمن ابن أخته المغيرة ابن الوليد بن هشام وهذيل بن الصّميل وسمرة بن جبلة لاجتماعهم على خلعه مع العلاء. ذكر مخالفة أبى الأسود محمد بن يوسف الفهرى وفى سنة ثمان وستين ومائة ثار أبو الأسود محمد بن يوسف ابن عبد الرحمن الفهرى ببلاد الأندلس. وكان من خبره أنه كان فى السجن بقرطبة منذ هرب أبوه على ما تقدّم، فأظهر أنه عمى وصار لا يطرف عينه لشىء، وبقى دهرا طويلا حتى صح عند عبد الرحمن ذلك. وكان فى أقصى السجن سرداب يفضى إلى النّهر الأعظم يخرج منه السجونون يقضون حوائجهم من غسل وغيره، وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه فإذا رجع من النهر بقول، من يدل الأعمى إلى موضعه! وكان مولى له/ بحادثه على شاطىء النهر فلا ينكر عليه. فواعده أن يأتيه بخيل يحمله عليها فخرج يوما ومولاه ينتظره فعبر النهر سباحة وركب الخيل ولحق بطليطلة فاجتمع إليه خلق كثير فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن. فالتقيا على الوادى الأحمر بقسطلونة «1» واشتدّ القتال فانهزم ابن الفهرى، وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردّى فى النهر. وأتبعه عبد الرحمن فقتل

ذكر وفاة عبد الرحمن وصفته وشىء من أخباره وسيرته

من لحق حتى جاوز قلعة رباح، ثم جمع أبو الأسود الرجال وعاد إلى قتال عبد الرحمن سنة تسع وستين ومائة فهلك بقرية من أعمال طليطلة. وقام بعده أخوه قاسم وجمع جمعا فغزاه عبد الرحمن فجاء إليه بغير أمان فقتله وفى سنة سبعين ومائة أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة- وكان موضعه كنيسة- وأخرج عليه مائة ألف دينار، ولم يتم بناؤه فى حياته فأتمه ابنه بعده ذكر وفاة عبد الرحمن وصفته وشىء من أخباره وسيرته / كانت وفاته بقرطبة فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة، وقيل توفى فى غرة جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهو الصحيح وصلّى عليه ابنه عبد الله، وكان قد عهد إلى ابنه هشام بمدينة ماردة واليا عليها، وابنه سليمان بطليطلة واليا عليها، فلم يحضرا موت أبيهما. وكان مولد عبد الرحمن بدير حنا من عمل دمشق، وقيل بالعلياء من ناحية تدمر فى سنة ثلاث عشرة ومائة فكان عمره تسعا وخمسين سنة، ومدة ولايته بالأندلس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان أصهب «1» خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم أعور، وكان فصيحا لسنا شاعرا حليما عالما حازما، سريع النهضة فى طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة،

ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل أموره إلى غيره، ولا ينفرد فى إبرامها برأيه. وكان يشبّه بأبى جعفر المنصور فى حزمه وشدّته وضبطه لملكه «1» ، وبنى الرصافة بقرطبة تشبها بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام، وقال «2» .: وكان عبد الرحمن من ذوى الآداب، وله شعر حسن، فمن شعره ما قاله بالأندلس يتشوق معاهده بالشام: أيّها الراكب الميمّم أرضى ... أقر من بعضى السّلام لبعضى إنّ جسمى كما علمت بأرض ... وفؤادى كما عملت بأرض قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفونى غمضى قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى ومن شعره ما قاله لما عمّر الرصافة بقرطبة، وقد رأى فيها نخلة منفردة، فقال: تبدّت لنا بين الرّصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل فقلت شبيهى فى التّغرّب مثلها ... وطول اكتئابى عن بنىّ وعن أهلى نشأت بأرض أنت فيه غريبة ... فمثلك فى الإقصاء والمنتأى مثلى سقتك غوادى المزن من صوبها الذى ... يسحّ وبستمرى السّماكين بالوبل «3»

ذكر امارة هشام

وله غير ذلك من الشعر. وسار أحسن سيرة وكان نقش خاتمه «بالله يثق عبد الرحمن ويعتصم» . وكان له من الأولاد الذكور أحد عشر ولدا وهم أيوب الشامى ولد بالشام، وسليمان وهشام ولى عهده وهو الوالى بعده ولد بالأندلس، وعبد الله ولد ببلنسية وعرف بالبلنسى ومسلمة المعروف بكليب وأمية، ويحيى، والمنذر، وسعيد الخير، ومحمد، والمغيرة، ومعاوية، وتسع بنات. حاجبه: تمام بن علقمة وغيره. كتّابه: أبو عثمان، وعبد الله بن خالد، وغيرهما قضاته: يحيى بن يزيد التجيبى ومعاوية بن يوسف/ الحضرمى، وعمر بن شراحيل، وعبد الرحمن ابن طريف اليحصى. ذكر امارة هشام هو أبو الوليد هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان وأمه أم ولد واسمها حوراء «1» وهو الثانى من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له فى غرّة جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة عند وفاة أبيه. وقيل فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة والله أعلم. وكان بماردة متوليا عليها- كما ذكرنا- وكان أبوه قد عهد إليه قبل وفاته، وقدّمه على سليمان وهو أكبر منه لأنه كان يتوسّم فيه الشّهامة، فلذلك عهد إليه فبايع له أخوه عبد الله وكتب إليه بنعى أبيه ويعزيه به ويعرفه أنه بايع الناس له فلما وصل إليه

ذكر خروج سليمان وعبد الله ابنى عبد الرحمن على أخيهما هشام

الكتاب سار من ساعته إلى قرطبة فدخلها فى ستة أيام، واستولى على الملك، وخرج عبد الله إلى داره مظهرا الطاعة وفى نفسه خلاف ذلك! ذكر خروج سليمان وعبد الله ابنى عبد الرحمن على أخيهما هشام / وفى سنة ثلاث وسبعين ومائة خرجا على أخيهما، وكان عبد الله عند أخيه هشام وهو يؤثره ويبرّه ويقدمه، فلم يرضه ذلك ولا قنع إلا بمشاركته فى الأمر، ثم خاف فهرب إلى أخيه سليمان وهو بطليطلة. فأرسل هشام فى أثره جماعة ليردّوه، فلم يدركوه، فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحصر أخويه بها. وكان سليمان قد حشد وجمع جمعا كبيرا فلما حصرها هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلاد، وسار هو إلى قرطبة ليملكها، فعلم هشام به فلم يفارق الحصار. وسار سليمان فوصل إلى شقندة «1» فدخلها، وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين له، ودافعوه عن المدينة. وبعث هشام فى أثر سليمان عبد الملك فى قطعة من الجيش، فلما قاربه هرب سليمان وقصد مدينة ماردة، فحاربه واليها، فانهزم سليمان. وبقى هشام على طليطلة شهرين وأياما محاصرا لها، ثم عاد منها وقد قطع أشجارها، وسار إلى قرطبة، وأتاه أخوه عبد الله بغير أمان فأكرمه وأحسن إليه. ثم سيّر هشام ابنه معاوية فى جيش كثيف فى سنة أربع وسبعين

ذكر خروج جماعة أخر على الأمير هشام

إلى تدمير وبها سليمان فحاربه، وخرّب أعمال تدمير، فهرب سليمان منها، فلجأ إلى البربر بناحية بلنسية، فاعتصم بتلك الناحية الوعرة/ المسلك. وعاد معاوية إلى قرطبة، ثم استقرّت الحال بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس، وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن ميراث أبيه عبد الرحمن وسار إلى بلد البربر فأقام به. ذكر خروج جماعة أخر على الأمير هشام وفى سنة اثنتين وسبعين خرج عليه أيضا سعيد بن الحسين ابن يحيى الأنصارى بشاغنت- من أقاليم طرطوشة «1» فى شرق الأندلس- وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه، ودعا إلى اليمانية وتعصّب لهم، فاجتمع له خلق كثير، فملك مدينة طرطوشة فاخرج عاملها يوسف القيسىّ. فعارضه موسى بن فرتون وقام بدعوة هشام، ووافقته مضر، فاقتتلا فانهزم سعيد وقتل، وسار موسى إلى سرقسطة فملكها فخرج عليه مولى الحسين بن يحيى واسمه جحدر فى جمع كثير فقاتله فقتل موسى. وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وخرج معه جمع كثير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقة «2» /وتغلب على تلك الناحية وقوى أمره، وكان هشام إذ ذاك فى حرب

أخوية سليمان وعبد الله، فلما خلا وجهه من أمر أخويه انتدب لمطروح جيشا كثيفا وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان. فسار إليه وهو بسرقسطة فحصروه بها فلم يظفروا به، فرجع عنه أبو عثمان ونزل بحصن طرسونة «1» بالقرب من سرقسطة ورتّب سراياه يغيرون على أهل سرقسطة ويمنعون عنهم الميرة. ثم خرج مطروح إلى الصيد فى بعض الأيام، فلما كان آخر النهار أرسل البازى على طائر فاقتنصه فنزل مطروح ليذبحه بيده ومعه صاحبان له قد انفرد بهما عن أصحابه فقتلاه وأتيا برأسه إلى أبى عثمان، فسار إلى سرقسطة فكاتبه أهلها فقبل منهم وأرسل الرأس إلى هشام. قال «2» : وأخذ أبو عثمان الجيش وسار بهم إلى بلاد الفرنج فأوقع بهم وظفر وقتل منهم خلقا كثيرا، وبعث هشام يوسف ابن بخت فى جيش إلى جليقية فلقى ملكهم، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الجلالقة وقتل منهم خلق كثير. وفيها أيضا سجن هشام ابنه عبد الملك لشىء بلغه عنه، فبقى فى السجن مدة حياة أبيه وبعض ولاية أخيه إلى أن توفّى سنة ثمان وتسعين ومائة/ وفى سنة ست وسبعين ومائة غزا عبد الملك بن عبد الواحد بلاد الفرنج فغنم وظفر.

ذكر غزو الفرنج

وفيها استعمل هشام ابنه الحكم على طليطلة وسيّره إليها بضبطها، وأقام بها، وولد له بها ابنه عبد الرحمن. ذكر غزو الفرنج وفى سنة سبع وسبعين ومائة أغزى هشام عبد الملك بن عبد الواحد ابن مغيث فى جيش، فدخلوا بلاد الفرنج فبلغوا أربونة وجرندة «1» فبدأ بجرندة وبها حامية الفرنج فقتل رجالها وهدم أسوارها وأشرف على فتحها. ورحل عنها إلى أربونة ففعل مثل ذلك وأوغل فى بلادهم ووطىء برطانية واستباح حريمها وقتل مقاتلتها وجاس البلاد شهورا يخرّب الحصون ويحرق ويغنم. وجفل العدو بين يديه، وأوغل فى بلادهم ورجع ومعه الغنائم وما لا يحصى كثرة، وهى أشهر مغازى المسلمين بالأندلس. وفى سنة ثمان وسبعين ومائة بعث هشام جيشا مع عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج فغزا ألبة والقلاع «2» فغنم وسلم. وسيّر جيشا آخر مع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد الجلالقة فخرّب دار ملكهم وكنائسه وغنم، فلما قفل المسلمون ضلّ الدليل بهم فنالهم مشقة شديدة ومات منهم خلق كثير، ونفقت دوابّهم وتلفت آلاتهم، وعاد من سلم منهم.

ذكر فتنة تاكرتا

ثم بعثه فى سنة تسع وسبعين فى جيش كثيف فساروا حتى انتهروا إلى أسترقة «1» وكان ملك الجلالقة قد جمع وحشد واستمد جيرانه من الملوك، وصار فى جمع عظيم. فلما قدم عبد الملك رجع ملك الجلالقة هيبة له، وتبعهم عبد الملك يقفو أثرهم ويخرب. وهتك حريم ملك الجلالقة! وبلغه أنه احتمى بواد فسار إليه وواقعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة فهزمه، وقتل من قمامصتهم ورؤسائهم كثيرا، ورجع سالما. وكان هشام قد سيّر جيشا آخر من ناحية أخرى، فدخلوا البلاد أيضا على ميعاد من عبد الملك، فأخربوا ونهبوا وغنموا فلما أرادوا الخروج من بلاد العدو عارضهم عسكر الفرنج، فنال منهم، وقتل من المسلمين، ثم تخلصوا وعادوا «2» . ذكر فتنة تاكرتا وفى سنة ثمان وسبعين ومائة هاجمته فتنة تاكرتا «3» بالأندلس، وخلع البربر الطاعة وأظهروا الفساد، وأغاروا على البلاد وقطعوا الطريق، فسيّر هشام إليهم جيشا كثيفا عليهم عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبى سفيان، فقصدوها وتابعو

ذكر وفاة هشام بن عبد الرحمن وشىء من أخباره وسيرته

قتال من فيها،/ إلى أن أبادوهم قتلا وسبيا، وفرّ من بقى منهم فدخل فى سائر القبائل، وبقيت كورة تاكرتا خالية سبع سنين! ذكر وفاة هشام بن عبد الرحمن وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته فى ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة بقصر قرطبة وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، ومدة ولايته (على القول الأول) سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما. وكان أبيض مشربا بحمرة أشهل، بعينيه حول وكان عاقلا حازما دا رأى وشجاعة وعدل، محبا لأهل الخير والصلاح، راغبا فى الجهاد. وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ومن محاسن أعماله أنه أخرج متصدقا يأخذ الصدقة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وهو الذى تمّم بناء جامع قرطبة وبنى عدّة مساجد، وبلغ من عز الإسلام فى ولايته وذل الكفر أنّ رجلا مات وأوصى بفكّ أسير من المسلمين من تركته، فطلب ذلك فلم يوجد فى دار الكفار أسير من المسلمين يشترى ويفكّ لضعف العدو! وله مناقب كثيرة بالغ أهل الأندلس فيها حتى قالوا/ كان يشبّه بعمر بن عبد العزيز، وكان نقش خاتمه «بالله يثق هشام ويعتصم» . وكان له من الأولاد الذكور عبد الملك الأكبر، والحكم الوالى بعده، ومعاوية، والوليد، وعبد العزيز، وخمس بنات.

ذكر امارة الحكم بن هشام الملقب بالمرتضى

وزراؤه: أبو عثمان صاحب الأرض، ويوسف بن بخت «1» وشهيد بن عيسى وغيرهم. حجابه: عبد الواحد بن مغيث إلى أن توفى، ثم ولده عبد الملك وهو رجل الأندلس جمع الحجابة والوزارة والكتابة والتقدّم على الجيوش مع حسن الأدب والعفاف والدين والتواضع والكرم والمروءة. كتابه: فطيس بن سلمة، وخطّاب بن يزيد. قاضيه: المصعب بن عمران الهمذانى. أصحاب شرطته: الحسن ابن بسام، ثم على بن خريم المزنى، ثم سعيد بن عياض اليحصبى. ذكر امارة الحكم بن هشام الملقب بالمرتضى هو أبو العاص الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه أم ولد اسمها زخرف، وهو الثالث من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة، وتولّى أخذ البيعة له عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، ولما ولى الحكم كان أول ما بدأ به الغزو فى سبيل الله تعالى. ذكر غزو الفرنج فى هذه السنة أعنى- سنة ثمانين ومائة- بعث الحكم جيشا مع عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فدخل البلاد وبثّ السرايا. وسيّر سرية، فجازوا خليجا من البحر كان الماء قد جزر عنه وكان الكفار قد جعلوا أموالهم وأهلهم

وراء ذلك الخليج ظنا منهم أن أحدا لا يقدر أن يعبر إليهم. فجاءهم ما لم يكن فى حسبانهم، فغنم المسلمون جميع أموالهم، وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروا القتل، وسبوا الحريم والذّريّة، وعادوا سالمين. وما أشبه هذه الواقعة بفتح طرابلس الشام! فإنه لما فتحها السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحى- قدّس الله روحه- فى سنة ثمان وثمانين وستمائة جزر البحر ساعة الفتح وانطرد عنها حتى دخل المسلمون بخيلهم إلى جزيرة النحله وهى بعيدة عن الميناء، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى موضعه. قال «1» : وعاد المسلمون إلى عبد الكريم وقد ملأوا أيديهم من الغنائم. وسير طائفة أخرى فخربوا كثيرا من بلاد فرنسية «2» وغنموا الأموال وأسروا الرجال فأخبرهم بعض الأسرى أن جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على طريقهم وبلغ ذلك عبد الكريم فجمع عساكره وسار على بغيته وجدّ السير، فلم يشعر الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم فانهزموا، وغنم المسلمون ما معهم وعادوا بالظفر والغنيمة والسلامة.

ذكر خلاف بهلول بن مرزوق وغيره

ذكر خلاف بهلول بن مرزوق وغيره وفى سنة إحدى وثمانين ومائة خالف بهلول بن مرزوق المعروف بأبى الحجاج فى ناحية الثغر، ودخلل مدينة سرقسطة فملكها. وقدم على بهلول بها عبد الله بن عبد الرحمن عمّ الحكم- وهو المعروف بالبلنسى- وكان متوجّها إلى الفرنج، ثم سار إلى مدينة طلبيرة «1» فنزل بها مع عمروس «2» بن يوسف. فسار إليهم بهلول وحاصرهم فتفرق العرب عنهم، ودخل بهلول مدينة طلبيرة وسار عبد الله إلى مدينة بلنسية فأقام بها وذلك فى سنة أربع وثمانين. وخالف عبيدة بن حمير بطليطلة، فأمر الحكم القائد عمروس ابن يوسف وهو بمدينة طلبيرة أن يحارب أهل طليطلة ففعل، وضيق عليهم، وكاتب رجالا من أهلها يعرفون ببنى مخشى واسمالهم، فوثبوا على عبيدة،/ فقتلوه وحملوا رأسه إلى عمروس فأنزلهم عنده- وكان بينهم وبين البربر الذين بمدينة طلبيرة دخول- فتسوّر البربر عليهم، فقتلوهم، فسير عمروس رؤوسهم مع رأس عبيدة إلى الحكم وأخبره الخبر

ذكر مسير سليمان بن عبد الرحمن لقتال ابن أخيه الحكم وقتل سليمان

ذكر مسير سليمان بن عبد الرحمن لقتال ابن أخيه الحكم وقتل سليمان وفى سنة اثنتين وثمانين ومائة جاز سليمان بن عبد الرحمن إلى بلاد الأندلس من الشرق لحرب ابن أخيه الحكم، فسار إليه الحكم فى جيوش كثيرة من أهل الشقاق ومن يريد الفتنة، والتقيا واقتتلا، واشتدت الحرب فانهزم سليمان وأتبعه عسكر الحكم. وعادت الحرب بينهما ثانية فى ذى الحجة، فانهزم سليمان واعتصم بالأوعار والجبال، فعاد الحكم، ثم عاد سليمان فجمع بربرا وأقبل إلى جانب إستجة «1» . فسار إليه الحكم فالتقوا واقتتلوا فى سنة ثلاث وثمانين، واشتد القتال فانهزم سليمان وقصد جهة ماردة «2» فتبعه طائفة من عسكر الحكم فأسروه، وأحضروه إلى الحكم فقتله، وبعث برأسه إلى قرطبة، وكتب إلى أولاد سليمان وهم بسرقسطة كتاب أمان واستدعاهم فحضروا عنده بقرطبة. ذكر استيلاء الفرنج على برشلونة وفى سنة خمس وثمانين ومائة ملك الفرنج- لعنهم الله تعالى- مدينة برشلونة «3» بالأندلس، وأخذوها من المسلمين، ونقلوا

ذكر الاتفاق بين الحكم وبين عمه عبد الله البلنسى

حماة ثغورهم إليها، وتأخر المسلمون إلى ورائهم وكان سبب ذلك اشتغال الحكم بمحاربة عمه [سليمان بن عبد الرحمن] «1» . ذكر الاتفاق بين الحكم وبين عمه عبد الله البلنسى وفى سنة ستّ وثمانين ومائة حصل الاتفاق بين الأمير الحكم بن هشام وبين عمّه عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية، وذلك أن عبد الله لما سمع بقتل أخيه سليمان عظم عليه وفتّ فى عضده، وخاف على نفسه، ولزم بلنسية ولم يتحرك لإثارة فتنة. وأرسل إلى الحكم يطلب المسالمة والدخول فى الطاعة، وقيل بل الحكم راسله فى ذلك وبذل له الأرزاق الواسعة له ولأولاده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الصلح بينهما على يد يحيى بن يحيى صاحب الإمام مالك بن أنس. وزوّج الحكم أخواته من أولاد عمه عبد الله، وأكرم عمّه وأجرى له ولأولاده الأرزاق الواسعة والصلات السنية. وقيل كانت المراسلة/ فى هذه السنة، واستقر الصلح فى سنة سبع وثمانين. ذكر استيلاء الفرنج على مدينة تطيله وفى سنة سبع وثمانين ومائة ملك الفرنج- لعنهم الله- مدينة تطيلة «2» . وسبب ذلك أن الحكم بن هشام استعمل على ثغور الأندلس قائدا كبيرا من قواده وهو عمروس بن يوسف. فاستعمل عمروس ابنه يوسف على تطيلة. وكان قد انهزم من الحكم

ذكر ايقاع الحكم بأهل قرطبة

أهل بيت من بيوت الأندلس أولو قوّة وبأس، وخرجوا عن طاعته. والتحقوا بالمشركين فقوى أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا إلى تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين، وأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه وتقدموا بصخرة قيس. واستقر عمروس بمدينة سرقسطة ليحفظها من الكفار، وجمع العساكر وسيرها مع ابن عمّ له، فلقى المشركين فقاتلهم وفضّ جمعهم، وقتل أكثرهم، وسار إلى صخرة قيس بالجيش فحصرها وافتتحها وخلّص يوسف منها. ذكر ايقاع الحكم بأهل قرطبة كان ذلك فى سنة سبع وثمانين ومائة، وسببه أن الحكم فى صدر ولايته كان/ قد تظاهر بشرب الخمر والانهماك على الملذات. وكانت قرطبة دار علم وبها فضلاء أهل علم وورع، منهم يحيى بن يحيى الليثى راوى موطأ مالك بن أنس وغيره. فثار أهل قرطبة وأنكروا فعل الحكم ورموه بالحجارة وأرادوا قتله، فامتنع منهم ثم سكن الحال واجتمع بعد ذلك بأيام وجوه أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم القرشى المروانى- عم هشام بن حمزة- وأخذوا له البيعة على أهل البلد وعرّفوه أن الناس قد ارتضوه كافّة. فاستظهرهم ليلة ليرى رأيه، ويستخير الله تعالى فانصرفوا، وحضر هو عند الحكم وأعلمه الحال وأنه على بيعته له لم يتغير، فطلب الحكم تصحيح ذلك عنده وسيّر مع محمد ابن القاسم بعض ثقاته فأجلسه محمد فى قبة فى داره وأخفى أمره. وحضر عنده القوم يستعلمون منه هل يتقلد أمرهم أم لا

ذكر ايفاع الحكم بأهل طليطلة وهى وقعة الحفرة

فأراهم المخافة على نفسه وعظّم عليهم الخطب وسألهم تعداد أسمائهم ومن معهم، فذكروا له جميع من معهم من أعيان البلد وصاحب الحكم يكتب أسماءهم، فقال لهم محمد بن القاسم: يكون هذا الأمر يوم الجمعة إن شاء الله تعالى فى المسجد الجامع! فانصرفوا ومشى إلى الحكم مع صاحبه فأعلماه جلية الحال. وكان ذلك يوم الخميس. فما جاء الليل حتى حبس الجماعة عن آخرهم، ثم أمر بهم بعد أيام فصلبوا عند قصره/ وكانوا اثنين وسبعين رجلا، وكان يوما شنيعا ثم كانت وقعة الرّبض بعد ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ايفاع الحكم بأهل طليطلة وهى وقعة الحفرة قال «1» : وفى سنة إحدى وتسعين ومائة أوقع الحكم بأهل طليطلة، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها. وكان سبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا فى الأمراء وخلعوهم مرّة بعد أخرى، وقويت نفوسهم؛ لحصانة بلدهم وكثرة أموالهم، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية. فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الفكرة. فاستعان بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد، وكان قد ظهر فى هذا الوقت بالثّغر الأعلى، وأظهر طاعة الحكم ودعا إليه فاطمأن إليه لهذا السبب. واستقدمه فقدم عليه، فبالغ الحكم فى إكرامه وأطلعه على عزمه فى أهل طليطلة فوافقه عليه.

وكتب إلى أهلها يقول «إننى قد اخترت لكم فلانا وهو منكم لتطمئنّ قلوبكم إليه وأعفيتكم ممّن تكرهون من عمّالنا وموالينا، ولتعرفوا جميل رأينا فيكم» ومضى عمروس ودخل طليطلة فأنس أهلها به واطمأنوا إليه وأحسن/ عشرتهم. وكان أول ما احتال به عليهم أن أظهر موافقتهم على بغض بنى أمية وخلع طاعتهم، فمالوا إليه ووثقوا به ورضوا بفعله ثم قال لهم: إن سبب الشرّ بينكم وبين أصحاب الأمراء اختلاطهم بكم، وقد رأيت أن أبنى بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقا بكم! فأجابوه إلى ذلك، فبنى فى وسط البلد ما أراد. فلما مضى لذلك مدة كتب الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرّا يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة، وطلب النجدة والعساكر، ففعل ذلك، فحشد الحكم الجيوش واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن، وجهّز معه القواد والوزراء، فسار الجيش حتى اجتاز مدينة طليطلة فلم يتعرض عبد الرحمن لدخوله إليها. وأتاه وهو عندها خبر العامل على الثغر الأعلى يقول «إن عساكر الكفرة قد تفرّقت وكفى الله شرّها» فوقف العسكر وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة: قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبى، وأنه يلزمنى الخروج إليه وقضاء حقّه، فإن نشطتم إلى ذلك وإلا سرت إليه وحدى! فقالوا: بل نكون معك. فخرج ومعه وجوه أهل طليطلة فأكرمهم عبد الرحمن وأحسن إليهم، وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادما له ومعه كتاب لطيف

ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة

إلى عمروس فلقيه الخادم وصافحه وسلّم الكتاب إليه من غير أن/ يحادثه. فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة، فأشار إلى عيون أهلها أن يسألوا عبد الرحمن الدّخول إليه ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم وقوتهم ومنعتهم فظنوا أنه ينصحهم، ففعلوا ذلك. وأدخلوا عبد الرحمن البلد، فنزل مع عمروس فى داره، وأتاه أهل طليطلة أرسالا يسلمون عليه، وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتّخذ لهم وليمة عظيمة. وشرع فى الاستعداد لذلك وواعدهم يوما ذكره لهم، وقرر أنهم يدخلون من باب ويخرجون من آخر ليقلّ الزحام ففعلوا ذلك! وأتى الناس أفواجا عند الميعاد، فكان إذا دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة فى القصر فتضرب رقابهم. فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا فقال: أين الناس؟ فقيل له: إنهم يدخلون من هذا الباب ويخرجون من الآخر! فقال: لم ألق منهم أحدا! وعلم الحال فعاد وصاح بالناس وأعلمهم هلاك أصحابه، فكان سبب نجاة من بقى منهم، ودانوا وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ثم كان منهم بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة / وفى سنة إحدى وتسعين عصى أصبغ بن عبد الله على الحكم ووافقه أهل ماردة وأخرجوا عامله عنها، فاتّصل الخبر بالحكم، فسار إليها وحصرها. فبينما هو فى ذلك أتاه الخبر عن أهل قرطبة

ذكر غزو الفرنج

أنهم أعلنوا العصيان له، فرجع إلى قرطبة مبادرا، فوصلها فى ثلاثة أيام وكشف عن الذين أثاروا الفتنة فصلبهم منكّسين، وضرب أعناق جماعة. فارتدع الباقون بذلك واشتدت كراهتهم للحكم، ولم يزل أهل ماردة تارة يطيعون وتارة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين، فضعف أمر أصبغ بن عبد الله لأن الحكم تابع إرسال الجيوش واستمال جماعة من أهل ماردة وثقات أصحابه فمالوا إلى الحكم وفارقوا أصبغ حتى أخوه، فضعفت نفسه فطلب الأمان فأمّنه الحكم، ففارق ماردة، وحضر إلى الحكم وأقام بقرطبة. ذكر غزو الفرنج وفى هذه السنة تجهز لذريق «1» ملك الفرنج وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة «2» ليحصرها، فبلغ ذلك الحكم فجمع العساكر وسيّرها مع ولده عبد الرحمن، فاجتمعوا فى جيش عظيم وتبعهم كثير من المتطوعة، فساروا حتى لقوا الفرنج فى أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد الإسلام شيئا، فاقتتلوا وبذل كلّ من الطائفتين جهده واستنفد وسعه فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، وهزم الكفار وكثر القتل فيهم والإسار، وانتهيت أموالهم، ورجع المسلمون بالظفر.

ذكر عصيان حزم على الحكم

ذكر عصيان حزم على الحكم وفى هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة ووافقه غيره، وقصدوا لشبونة «1» . فلما بلغ الحكم الخبر، سار إليه الحكم فى جمع كبير، فنازله وقطع الأشجار وضيّق عليهم حتى أذعنوا إلى طلب الأمان، فأمّنه وأخذ رهائنه على المصالحة والطاعة، وعاد عنه الحكم إلى قرطبة. ذكر عودة أهل ماردة الى العصيان وغزو الحكم بلاد الفرنج قال «2» : ثم عاد أهل ماردة إلى العصيان والخلاف على الحكم فى سنة أربع وتسعين، فسار الحكم بنفسه إليهم وقابلهم. ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد وتقاتلهم إلى سنة ستّ وتسعين ومائة، فطمع الفرنج فى ثغور المسلمين وقصدوها بالغارات والقتل والنّهب والسّبى. وقد شغل الحكم بأهل ماردة عنهم حتى أتاه الخبر بشدّة الأمر على أهل/ الثغور وما نال العدوّ منهم، وسمع أن امرأة مسلمة أخذت أسيرة فقالت: واغوثاه يا حكم فعظم عليه الأمر وجمع العساكر واستعد وحشد، وسار إلى بلاد الفرنج فى سنة ست وتسعين ومائة فأثخن «3» فى بلادهم،

ذكر وقعة الربض بقرطبة

وافتتح عدّة حصون وخرّب وقتل الرجال وسبى الحريم ونهب الأموال، وقصد الناحية التى بها تلك المرأة فأسر لهم من الأسرى ما يفادون به أسراهم، وبالغ فى الوصية فى تخليص تلك المرأة فخلصت من الأسر وقتل بقية الأسرى. فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور: أغاثكم الحكم؟ قالوا: نعم! وأثنوا عليه خيرا، وعاد إلى قرطبة مظفرا منصورا. وفى سنة سبع وتسعين ومائة اشتد الغلاء بالأندلس وعمّ البلاد، ومات كثير من الخلق، وكان أكثر الناس يطوون للعدم «1» . ذكر وقعة الربض بقرطبة وفى سنة ثمان وتسعين ومائة كانت وقعة الربض بقرطبة، وسببها أن الحكم كان كثير التشاغل بالشّرب واللهو والصيد وغير ذلك مما يجانسه، وقد قدّمنا ما كان قد فعله بأهل قرطبة لما أرادوا خلعه ومن صلب منهم. فزادت كراهة أهلها فيه، وصاروا يتعرّضون لجنده بالأذى والسّبّ، وبالغوا حتى إنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان/ الصلاة يا مخمور الصلاة! وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف. فشرع فى تحصين قرطبة وعمارة أسوارها، وحفر خنادقها، وارتبط الخيل على بابه،

واستكثر من المماليك، ورتب جمعا لا يفارقون باب قصره بالسلاح. فزاد ذلك فى حقد أهل قرطبة، وتحققوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم، ثم وضع عليهم عشر الأطعمة فى كلّ سنة من غير حرص فكرهوا ذلك. ثم عمد إلى عشرة من رؤسائهم فقتلهم وصلبهم، فهاج لذلك أهل الرّبض، وانضاف إلى ذلك أن مملوكا له سلّم إلى صيقل سيفا ليصقله له فمطله الصيقل، فأخذ ذلك المملوك السيف ولم يزل يضرب به ذلك الصيقل إلى أن مات وذلك فى شهر رمضان من هذه السنة، فكان أول من شهر السلاح أهل الرّبض القبلى، واجتمع أهل الأرباض جميعهم بالسلاح، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر. وفرق الحكم الخيل والسلاح، وجعل أصحابه كتائب. ووقع القتال بين الطائفتين، فغلبهم أهل الربض وأحاطوا بالقصر، فنزل الحكم من أعلى القصر ولبس سلاحه وحرّض الناس على القتال، فقاتلوا قتالا شديدا. ثم أمر ابن عمّه عبيد الله فثلم من السور ثلمة وخرج منها بقطعة من الجيش وأتى أهل الرّبض من وراء ظهورهم فلم يشعروا به، وأضرم النار فى الرّبض. فانهزم أهله/ وقتلوا قتلا ذريعا وأسر من وجد فى المنازل والدور فانتقى الحكم ثلاثمائة من وجوه الأسرى فصلبهم منكسين، ودام النّهب القتل والحريق فى أرباض قرطبة ثلاثة أيام. ثم استشار الحكم فيهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فأشار عليه بالصّفح عنهم والعفو، وأشار غيره

بالقتل، فقبل قول عبد الكريم. وأمر فنودى بالأمان على أنه من بقى من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتل وصلب، فخرج من بقى منهم بعد ذلك مستخفيا، وتحمّلوا على الصّعب والذلول وخرجوا من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم وما خفّ من أموالهم. وقعد لهم الجند والسفلة بالمرصاد، ينهبون أموالهم، ومن امتنع عليهم قتلوه!. فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكفّ الأذى عن حرم الناس، وجمعهن إلى مكان واحد، وأمر بهدم الرّبض القبلى. وكان بزيع مولى أمية بن الأمير عبد الرحمن بن معاوية محبوسا فى حبس الدم وفى رجله قيد ثقيل، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا عنه فأخذوا عليه العهد أن يعود فأطلقوه، فخرج فقاتل قتالا شديدا لم يكن فى الجيش من قاتل مثله، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن، فانتهى خبره إلى الحكم فأطلقه وأحسن إليه. وقيل إن هذه الوقعة كانت فى سنة اثنتين ومائتين والله أعلم./ قال بعض المؤرخين: اجتمع فى الرّبض أربعة آلاف فقيه وطالب! وكان ممّن خرج عليه يحيى بن يحيى الليثى، فهرب ونزل على حىّ من البربر، ثم أمّنه الحكم بعد ذلك وحظى عنده. ومنهم الفقيه طالوت بن عبد الجبار، ففرّ واستتر عند رجل يهودىّ عاما كاملا. وكان بينه وبين أبى البسام صداقة، فقصد فأخبر الحكم به، وأحضره إليه فعنّفه الحكم على خروجه عليه،

ذكر غزو الفرنج

ثم أمّنه وصرفه إلى منزله وسأله أين استتر فأخبره باليهودى وبأبى البسام، فاغتاظ على أبى البسام وعزله عن وزارته وكتب عهدا أن لا يخدمه أبدا. ومنهم عبد الملك بن حبيب، وغيرهم «1» . ذكر غزو الفرنج وفى سنة مائتين جهّز الحكم جيشا مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فسار حتى توسّط بلادهم، فخربها ونهبها وهدم عدة من حصونهم، واستنفد خزائن ملوكهم. فلما رأى ملكهم ذلك كاتب جميع ملوك تلك النواحى، واستنصر بهم فاجتمعت إليه أهل النصرانية من كلّ مكان. وأقبل فى جموع عظيمة ونزل بإزاء عسكر المسلمين وبينهم نهر، فاقتتلوا عدّة أيام والمسلمون يريدون عبور النهر إليهم وهم يمنعونهم من ذلك. فلما رأى المسلمون ذلك تأخروا عن النهر/ فعبر المشركون واقتتلوا أعظم قتال، فانهزم الكفار إلى النهر وأخذهم السّيف والأسر، فأسر جماعة من ملوكهم وكنودهم وقمامصتهم. وعاد الفرنج لزموا جانب النهر يمنعون المسلمين من عبوره فأقاموا ثلاثة عشر يوما يقتتلون فى كلّ يوم، فجاءت الأمطار وزاد النهر فتعذر جوازه، فقفل عبد الكريم عنهم فى سابع ذى الحجة من السنة. ذكر غزو البربر بناحية مورور وفيها خرج خارجى من البربر من ناحية مورور «2» ومعه جماعة،

ذكر وفاة الحكم

فوصل كتاب العامل بها إلى الحكم بخبره، فأخفى الحكم أمره واستدعى من ساعته قائدا من قواده فأخبره بذلك سرا وقال له: سر من ساعتك إلى هذا الخارج وائتنى برأسه والا فرأسك عوضه وأنا قاعد فى مكانى هذا إلى أن تعود! فسار القائد إلى الخارج، فلما قاربه سأل عنه فأخبر أنه فى احتياط كثير واحتراز شديد، فعجز عنه ثم تذكر قول الحكم فأعمل الحيلة حتى دخل عليه وقتله وأتى برأسه إلى الحكم، فرآه بمكانه ذلك لم يتغير، وكانت غيبته أربعة أيام، فأحسن إلى القائد وأكرمه ووصله وأعلى محلّه. ذكر وفاة الحكم / كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر لأربع بقين من ذى الحجة سنة ست ومائتين، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وقيل ثلاثا وخمسين سنة وقيل أقل من ذلك إلى تسع وأربعين سنة، ومدة إمارته ستا وعشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما. وكان طويلا أسمر نحيفا، وله شعر جيّد، وهو أول من جنّد الجنود المرتزقة بالأندلس وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الحشم والحواشى، وارتبط الخيول على بابه، واتّخذ المماليك وجعلهم فى المرتزقة فبلغت عدتهم خمسة آلاف. وكانوا يسمون الخرس لعجمة ألسنتهم، وكانوا نوابا على باب قصره «1» . وكان يطّلع على الأمور بنفسه ما قرب منها وما بعد، وكان له نفر من ثقاة أصحابه يطالعونه بأحوال الناس، فيردع الظالم،

ذكر امارة عبد الرحمن بن الحكم

وينصف المظلوم. وكان شجاعا مقداما مهيمنا وكان يقرّب الفقهاء وأهل العلم. وكان له من الأولاد أبو مطرف عبد الرحمن وثمانية عشر ولدا ذكرا. كاتبه: الوزير أبو البسام. ذكر امارة عبد الرحمن بن الحكم هو أبو المطرف وقيل أبو المظفر عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن الداخل، وأمه أم ولد يقال لها حلاوة، وهو الرابع من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له بعد وفاة أبيه فى يوم/ الخميس لأربع بقين من ذى الحجة سنة ستّ ومائتين وذلك فى خلافة المأمون بن الرشيد العباسى. قال «1» : ولما ولى خرج عليه عمّ أبيه عبد الله البلنسى- من بلنسية- وطمع فى الملك، فوصل إلى تدمير يريد قرطبة، فتجهز له عبد الرحمن، فلما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت نفسه فرجع إلى بلنسية. ذكر ايقاع عبد الرحمن بأهل إلبيرة وجندها كان ذلك فى سنة سبع ومائتين وسبب ذلك أن الحكم كان قد بلغه عن عامل اسمه ربيع أنه ظلم أبناء أهل الذمة فقبض عليه وصلبه، فلما توفى الحكم وولى ولده عبد الرحمن وسمع النّاس بصلب ربيع أقبلوا إلى قرطبة من النواحى يطلبون الأموال التى كان ظلمهم ربيع فيها ظنّا منهم أنها ستردّ إليهم. وكان جند إلبيرة

أشدّهم وأكثرهم طلبا وأشدهم إلحاحا وتألبا، فأرسل عبد الرحمن من يسكنهم، فلم يقبلوا ودفعوا من أتاهم، فخرج إليهم جمع من الجند من أصحاب عبد الرحمن فقاتلوهم فانهزم جند إلبيرة ومن معهم وقتلوا قتلا ذريعا، ونجا من بقى منهم، وأدركهم الطلب فقتل كثيرا منهم. وفيها ثارت بمدينة تدمير فتنة بين المضريّة واليمانية فاقتتلوا بلورقة «1» فكان بينهم وقعة تعرف بيوم المصابرة قتل بينهم/ ثلاثة آلاف رجل، ودامت الحرب بين الفريقين سبع سنين، ووكل عبد الرحمن بكفّهم ومنعهم يحيى بن عبد الله ابن خالد وسيّره فى جمع من الجيش، فكانوا إذا أحسوا بقرب يحيى افترقوا وتركوا القتال وإذا عاد عنهم رجعوا إلى الفتنة حتى أعياه أمرهم. وفيها كان بالأندلس مجاعة شيديدة ذهب فيها خلق كثير وبلغ المد فى بعض المدن ثلاثين دنيارا. وفى سنة ثمان ومائتين جهز عبد الرحمن جيشا إلى بلاد المشركين، واستعمل عليهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فساروا إلى بلاد ألية والقلاع فنهبوا بلاد ألبة وخربوها وأحرقوها، وفتحوا حصونا وصالحهم أهل حصون أخر على مال وإطلاق أسرى المسلمين، وذلك فى جمادى الآخرة.

وفيها توفى عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالبلنسى. وفى سنة عشر ومائتين سيّر عبد الرحمن سريّة كبيرة إلى بلاد الفرنج واستعمل عليهم عبيد الله بن عبد الله البلنسى، فسار ودخل بلادهم وتردّد فيها بالغارات والسّبى والقتل والأسر ولقى جيوش الأعداء فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وكان فتحا عظيما. وفيها افتتح عسكر سيّره عبد الرحمن أيضا حصن القلعة من أرض العدو فى شهر رمضان المبارك. وفيها أمر ببناء المسجد الجامع بجيان. وفيها أخذ عبد الرحمن مقدم اليمانية بتدمير/ وهو رجاء بن الشماخ لتسكن الفتنة بين اليمانية والمضرية فلم تسكن ودامت، فأمر العامل بتدمير أن ينتقل منها ويجعل مرسية «1» قاعدة تلك البلاد. وفى سنة اثنتى عشرة ومائتين سيّر عبد الرحمن جيشا إلى برشلونة من بلاد العدو فأقام الجيش شهرين يحرقون وينهبون. وفيها كانت ميول عظيمة وأمطار متتابعة، فخربت أكثر أسوار مدن الأندلس وخربت قنطرة سرقسطة، ثم جددت عمارتها وفى سنة ثلاث عشرة ومائتين قتل أهل ماردة عاملهم فثارت

الفتنة عندهم فسيّر إليهم عبد الرحمن جيشا فحصرهم وأفسد زرعهم وأشجارهم فعادوا للطاعة وأعطوا رهائنهم، وعاد الجيش عنهم بعد أن خربوا سور المدينة، ثم أرسل إليهم من ينقل أحجار السور إلى النهر لئلا يطمع أهلها فى عمارته، فلما رأوا ذلك عادوا إلى العصيان وأسروا العامل عليهم وبنوا السور وأتقنوه. فسار عبد الرحمن بجيوشه إليهم فى سنة أربع عشرة ومائتين ومعه رهائن أهلها فراسله أهلها وافتدوا رهائنهم بالعامل الذى أسروه وغيره وحصرهم وأفسد بلدهم ثم رحل عنهم. ثم سيّر إلهم جيشا فى سنة سبع عشرة فحصروها وضيقوا على أهلها، ودام الحصار ثم رحلوا عنهم. وسيّر إليهم جيشا فى سنة ثمانى عشرة ومائتين ففتحها وفارقها أهل الشر والفساد. وكان من أهلها/ رجل اسمه محمود بن عبد الجبار الماردى فى جماعة من الجند، فمضى بمن سلم من أصحابه إلى منت سالوط فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فى سنة عشرين ومائتين فهرب بمن معه إلى جليقية فأرسل سرية فى طلبهم، فقاتلهم محمود وهزمهم وغنم ما معهم، وقتل عدة منهم ثم مضى لوجهه فلقيه جمع من أصحاب عبد الرحمن مصادفة فقاتلوهم، ثم كفّ بعضهم عن بعض وساروا فلقيته سرية أخرى فانهزمت السرية وغنم محمود ما معهم ووصل إلى بلاد المشركين فاستولى على قلعة لهم فأقام بها خمسة أعوام وثلاثة أشهر فحصره أذفونس ملك الفرنج فملك الحصن وقتل محمودا ومن معه وذلك فى سنة خمس وعشرين فى شهر رجب.

ذكر محاصرة طليطلة وفتحها

وفى سنة أربع عشرة ومائتين سار عبد الرحمن إلى مدينة باجة «1» وكانت عاصية عليه فملكها عنوة. وفيها خالف هاشم الضراب بمدينة طليطلة، وكان هاشم ممن خرج من طليطلة لما أوقع الحكم بأهلها، وسار إلى قرطبة، فلما كان الآن سار إلى طليطلة فاجتمع إليه أهل الشر والفساد فسار إلى وادى جونيه «2» وأغار على البربر وغيرهم فطار اسمه واشتدّت شوكته وكثر جمعه فأوقع بأهل شنت بريّه. وكان بينه وبين البربر وقعات كثيرة، فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فقاتلوه فلم تستظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، وغلب/ هاشم على عدّة مواضع وجاوز بركة العجوز وأبعدت غارة خيله. فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فى سنة ستّ عشرة ومائتين فلقيهم هاشم بالقرب من حصن سمسطا المجاور لرورية «3» فدامت الحرب بينهم عدّة أيّام ثم انهزم هاشم وقتل هو وكثير ممّن معه ذكر محاصرة طليطلة وفتحها وفى سنة تسع عشرة ومائتين جهز عبد الرحمن جيشا مع ابنه أمية إلى مدينة طليطلة فحصرها- وكانوا قد خالفوا

وخرجوا عن الطاعة- فاشتد فى حصارهم وقطع أشجارهم وأهلك زرعهم، فلم يذعنوا إلى الطاعة فرحل عنهم وترك بقلعة رباح جيشا عليهم ميسرة المعروف بفتى أبى أيوب. فلما أبعد أمية خرج جمع كثير من أهل مدينة طليطلة لعلّهم يجدون فرصة وغفلة فينالون منه ومن أصحابه غرضا، وكان قد بلغه الخبر فكمن فى عدة مواضع. فلما وصلوا إلى قلعة رباح خرج الكمين عليهم من جوانبهم ووضعوا السّيف فيهم فأكثروا القتل وعاد من سلم منهزما إلى طليطلة، وجمعت رؤوس القتلى وحملت إلى ميسرة فلما رأى كثرتها عظم عليه وارتاع لذلك، ووجد فى نفسه غمّا شديدا، فمات بعد أيام يسيرة! ثم سيّر عبد الرحمن جيشا فى سنة/ عشرين ومائتين فقاتلوا ولم يظفروا منها بشىء. فلما كان فى سنة إحدى وعشرين ومائتين خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح وبها عسكر لعبد الرحمن فاجتمعوا كلّهم على حصار طليطة وضيّقوا على أهلها واشتدّوا فى حصارهم إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فسير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كلّ مبلغ واشتدّ عليهم طول الحصار وضعفوا عن القتال والدفع، ففتحها عنوة يوم السبت لثمان خلون من شهر رجب منها، وأمر بتجديد القصر على باب الجسر الذى كان هدم أيام الحكم، وأقام بها آخر شعبان سنة ثلاث وعشرين حتى استقرّت قواعد أهلها. وفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين سيّر عبد الرحمن جيشا

إلى ألبة والقلاع فنازلوا حصن الفرات، وقتلوا أهله، وغنموا ما فيه وسبوا النساء والذّرّية وعادوا. وفى سنة أربع وعشرين سيّر جيشا عليهم عبيد الله بن عبد الله البلنسى إلى بلاد العدو، فوصلوا ألبة والقلاع فالتقوا هم والمشركون، وكانت بينهم حروب شديدة وقتال عظيم انهزم أهل الشرك، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وجمعت الرؤوس حتى كان الفارس لا يرى من يقاتله! ثم سار عبد الرحمن فى سنة خمس وعشرين فى جيش كثيف إلى بلاد المشركين فدخل بلاد جليقية وافتتح عدة حصون منها، وغنم وسبى وقتل/ وخرّب ثم عاد إلى قرطبة ولم تطل مدّة هذه الغزاة. وفى سنة أربع وعشرين ومائتين سيّر الأمير عبد الرحمن جيشا إلى أرض العدو، فلما كانوا بين أوشنة وشرطانية «1» تجمعت الرّوم عليهم وأحاطوا بهم وقاتلوهم الليل كلّه، فلما أصبحوا أنزل الله نصره على المسلمين وهزم عدوّهم. وأبلى موسى بن موسى فى هذه الغزاة بلاء حسنا، وكان على مقدمة العسكر وهو العامل على تطيلة، وجرى بينه وبين جرير بن موفّق- وهو من أكابر الدولة- أيضا شر فخرج موسى عن طاعته.

ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحارث بن بزيع وما كان من أمره

ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحارث بن بزيع وما كان من أمره قال «1» : ولما بلغ عبد الرحمن خروج موسى عن الطاعة سيّر إليه جيشا، واستعمل عليهم الحارث بن بزيع فسار إليه والتقوا عند برجة «2» واقتتلوا فقتل أكثر أصحاب موسى، وقتل ابن عم له، وعاد الحارث إلى سرقسطة. فسيّر موسى ابنه إلى برحة فعاد الحارث إليها فحصرها وملكها وقتل ابن موسى وتقدم إلى مدينة تطيلة فحصرها فصالحه موسى على أن يخرج عنها فانتقل موسى إلى أرنيط «3» وبقى الحارث بتطيلة أياما ثم سار إلى موسى ليحاصره. فأرسل موسى إلى غرسية وهو من ملوك الأندلس «4» /واتّفقا على الحرب واجتمعا وجعلا للحارث كمائن فى طريقه وأعدا له الخيل والرجل بموضع يقال له ثلمة على نهر هناك، فلما جاوز الحارث النهر خرج إليه الكمناء وأحدقوا به وكانت وقعة عظيمة وأصابه ضربة فى جبهته قلعت عينيه ثم أسر، وذلك فى سنة ثمان وعشرين. فلما بلغ خبره عبد الرحمن عظم عليه وجهّز جيشا عظيما وجعل

ذكر خروج المشركين إلى بلاد الاسلام بالأندلس

عليه ابنه محمدا وسيره لقتال موسى فى شهر رمضان سنة تسع وعشرين، فوصل إلى تطيلة وحصرها وضيق على أهلها، وأهلك زرعها فصالحه موسى. وتقدم محمد إلى ينبلونة فأوقع عندها يجمع كثير من المشركين وقتل غرسية فيمن قتل، ثم عاد موسى إلى الخلاف على عبد الرحمن فجهز جيشا كثيرا وسيّرهم إلى موسى فطلب المسالمة فأجيب إليها، وأعطى ابنه إسماعيل رهينة وولّاه عبد الرحمن مدينة تطيلة فسار موسى إليها وأخرج منها من يخافه واستقرّ بها. ذكر خروج المشركين الى بلاد الاسلام بالأندلس قال «1» : فى سنة ثلاثين ومائتين خرج المجوس فى أقاصى بلاد الأندلس إلى بلاد المسلمين، وكان أول ظهورهم فى ذى الحجة سنة/ تسع وعشرين ومائتين وعند أشبونة فأقاموا بها ثلاثة عشر يوما كان بينهم وبين المسلمين فيها وقائع، ثم ساروا إلى قادس «2» ثم إلى شذونة وكان بينهم وبين المسلمين وقعة عظيمة، ثم قصدوا إشبيلية فى ثامن المحرم فنزلوا على اثنى عشر فرسخا منها، فخرج إليهم المسلمون فهزمهم العدوّ فى ثانى عشر المحرّم وقتل كثير منهم، ثم نزلوا على ميلين منها فخرج أهلها إليهم وقاتلوهم فانهزموا فى رابع عشر المحرم وكثر القتل والأسر

فيهم. ولم يرفع المجوس السّيف عن أحد ولا عن دابّة، ودخلوا حاضر إشبيلية وأقاموا بها يوما وليلة وعادوا إلى مراكبهم، فوافاهم عسكر عبد الرحمن فبادر إليهم المجوس فثبت المسلمون وقاتلوهم فقتل من المشركين سبعون رجلا وانهزموا ودخلوا مراكبهم، واحجم المسلمون عنهم، فسيّر عبد الرحمن جيشا آخر فقاتلهم المجوس قتالا شديدا ورجعوا عنهم فتبعهم العسكر فى ثانى شهر ربيع الأول وقاتلوهم، وأتاهم المدد من كل ناحية فنهضوا لقتال المجوس من كل جانب فانهزم المجوس وقتل نحو خمسمائة رجل وأخذوا منهم أربعة مراكب فأخذوا ما فيها وأحرقوها. ثم خرج المجوس إلى لبلة «1» فأصابوا سبيا ونزلوا جزيرة بالقرب من قوويس فقسموا ما كان معهم مما غنموه، فدخل المسلمون إليهم فى النهر فقتلوا رجلين ثم رحل/ المجوس فطرقوا شذونة فغنموا أطعمة وسبيا وأقاموا يومين، فوصلت مراكب عبد الرّحمن إلى إشبيلية. فلما أحس بها المجوس لحقوا بلبلة فأغاروا وسبوا ثم لحقوا بأشبونة ثم مضوا إلى باجة، ثم قفلوا إلى مدينة أشبونة، ثم ساروا فانقطع خبرهم عن البلاد فسكن الناس. وفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين سار جيش للمسلمين بقرطبة إلى بلاد المشركين وقصدوا جلّيقية فغنموا وقتلوا وأسروا وسبوا

وواصلوا إلى مدينة ليون «1» فحصروها ونصبوا عليها المجانيق، فخاف أهلها وخرجوا هاربين وتركوها بما فيها، فغنم المسلمون منها ما أرادوا وأحرقوا الباقى، ولم يقدروا على هدم سورها لأن عرضه سبعة عشر ذراعا، فمضوا وقد ثلموا فيه ثلمة كبيرة» . وفى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين غدر موسى بن موسى، فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا مع ابنه محمد. وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة، فهلك خلق كثير من الناس والدوابّ، ويبست الأشجار فاستسقى الناس فسقوا وزال القحط. وفى سنة خمس وثلاثين ومائتين سيّر عبد الرحمن ابنه المنذر فى جيش كثيف إلى غزو الروم فبلغوا ألبة والقلاع. وفيها كان سيل عظيم بالأندلس فخرب/ جسر إستجة والأرجاء وغرّق نهر إشبيلية ستّ عشرة قرية، وخرّب نهر باجة ثمانى عشرة قرية، وعرض حتى صار عرضه ثلاثين ميلا وكان هذا حدثا عظيما وقع فى جميع البلاد فى شهر واحد وفى سنة سبع وثلاثين ومائتين سارت جيوش المسلمين إلى بلاد العدوّ وكانت بينهم وقعة عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين وهى وقعة البيضاء.

ذكر وفاة عبد الرحمن وشىء من أخباره

ذكر وفاة عبد الرحمن وشىء من أخباره كانت وفاته فى ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل فى شهر ربيع الآخر منها. وكان مولده فى شعبان سنة ستّ وسبعين ومائة. فكان عمره اثنتين وستين سنة ومدة ولايته إحدى وثلاثين سنة وشهرين وستة أيام. وكان أسمر طويلا أغرّ أقنى عظيم الجبهة يخضب بالحناء. وكان له من صلبه من الأولاد الذكور والإناث سبعة وثمانون ولدا منهم خمسة وأربعون ذكرا. وكان عالما أديبا شاعرا، يعرف علوم الفلاسفة. وفى أيامه دخل زرياب «1» المغنّى إلى الأندلس فحضر/ يوما عند عبد الرحمن وغنّى وعبيد الله [بن] قزمان الشاعر حاضر فقال زرياب: قالت ظلوم سميّة الظّلم ... مالى رأيتك ناحل الجسم يا من رأى قلبى فأقصده ... أنت العليم بموضع السّهم فقال عبد الرحمن: البيت الثانى منقطع عن الأول غير متصل به! فقال ابن قزمان بديهة بعد البيت الأول: فأجبتها والدّمع منحدر ... مثل الجمان زها على النّظم فكساه عبد الرحمن وحباه. وهو أول من رتّب اختلاف الفقهاء إلى قصره، وأمرهم بالكلام بين يديه. وكان عبد الرحمن بعيد الهمة، اخترع قصورا ومستنزهات

ذكر امارة محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين

كثيرة، وزاد فى الجامع بقرطبة رواقين. وكانت أيامه أيام عافيه وسكون، وكثرت الأموال عنده وأقام أبّهة المملكة ورتّب رسومها. وكان يشبّه بالوليد بن عبد الملك فى أبّهته. وهو أول من اجتلب الماء العذب إلى قرطبة وأدخله قصوره وجعل لفصل الماء مصنعا كبيرا يرده النّاس إذا خرج من قصوره رحمه الله تعالى. ذكر امارة محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين / هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان، وأمه أم ولد اسمها تهتز. وهو الخامس من أمراء بنى أمية بالأندلس، قام بالأمر بعد أبيه فى يوم الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل فى شهر ربيع الآخر منها، وكانت ولايته فى خلافة المتوكل إلى بعض أيام المعتمد قال «1» : ولما ولى جرى فى العدل على سبرة أبيه، وتمّم زيادة بناء أبيه فى جامع قرطبة ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج وفى سنة أربعين ومائتين كان بين المسلمين والفرنج حرب شديدة، وسببها أن أهل طليطلة كانوا على ما ذكرناه من الخلاف على الملوك فلما ولى محمد هذا سار بجيوشه إليها، فراسل أهلها ملك جليقية يستمدونه، فأمدّهم بالعساكر الكثيرة، فبلغ محمد ذلك

ذكر خروج المجوس إلى بلاد الإسلام بالأندلس

وقد قارب طليطلة فعبّأ أصحابه وكمن الكمناء بناحية وادى سليط، وتقدم إليهم فى قلّة من العسكر فطمع فيه أهل طليطلة والفرنج، وأسرعوا إليه فلما نشبت الحرب خرجت الكمناء من كلّ جهة فقتل من المشركين ومن أهل طليطلة ما لا يحصى، وجمع من الرؤوس ثمانية آلاف/ رأس، وذكر أهل طليطلة أن عدّة القتلى عشرون ألفا «1» قال «2» : وفى سنة إحدى وأربعين ومائتين استكثر محمد الرجال بقلعة رباح ليضيّق على أهل طليطلة، وسيّر الجيوش إلى غزو الفرنج مع موسى بن موسى، فدخلوا بلادهم ووصلوا إلى ألبة والقلاع، فافتتحوا بعض حصونها وعادوا وفى سنة ثلاث وأربعين خرج أهل طليطلة واقتتلوا هم ومسعود ابن عبد الله العرّيف فانهزم أهل طليطلة وقتل أكثرهم وحمل إلى قرطبة سبعمائة رأس ذكر خروج المجوس إلى بلاد الإسلام بالأندلس وفى سنة خمس وأربعين ومائتين خرج المجوس فى المراكب إلى بلاد الأندلس، فوصلوا إلى إشبيلية وحلّوا بالحاضر وأحرقوا الجامع، ثم جازوا إلى العدوة، ثم عادوا إلى الأندلس فانهزم أهل تدمير، ودخلوا حصن أريوله «3» ثم تقدموا إلى خليط أفرنجه

فأغاروا وأصابوا من النّهب والسّبى كثيرا، ثم انصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وأحرقوا مركبين من مراكب المجوس، وأخذوا مركبين وغنموا ما فيهما، فجدّ المجوس عند ذلك فى القتال واستشهد جماعة من المسلمين،/ ومضت مراكب المجوس حتى وصلوا إلى مدينة بنبلونة فأصابوا صاحبها غرسية الفرنجى ففدى نفسه بتسعين ألف دينار. وفى سنة ستّ وأربعين ومائتين سار محمد فى جيوش عظيمة إلى بلد بنبلونة فوطىء بلادها ودوّخها وخرّب ونهب وقتل، وافتتح حصونا وأصاب فى بعضها فرتون بن غرسية فحبسه بقرطبة عشرين سنة ثم أطلقه إلى بلده، وأقام محمد بأرض بنبلونة اثنين وثلاثين يوما. وفى سنة سبع وأربعين سار جيش المسلمين إلى بلد برشلونة وهى للفرنج فأوقعوا بأهلها، فأرسل صاحبها إلى ملك الفرنج يستمدّه فأرسل إليه جيشا كثيفا، وأرسل المسلمون يستمدون فأتاهم المدد فنازلوا برشلونة وقاتلوا قتالا شديدا، فملكوا أرباضها وبرجين من أبراج المدينة، وقتل من المشركين مالا يحصى كثرة وعاد المسلمون بالظفر والغنيمة. وفى سنة تسع وأربعين ومائتين جهّز محمد جيشا مع ابنه إلى

مدينة ألبة والقلاع من بلد الفرنج فغنموا وافتتحوا حصونا منيعة. وفى سنة إحدى وخمسين ومائتين سيّر محمد جيشا إلى بلاد المشركين فى جمادى الآخرة وقصدوا الملاحة، وكانت أموال لذريق بناحية ألبة والقلاع. فلما عمّ المسلمون بلدهم بالخراب والنّهب/ جمع لذريق عسكره وسار إليهم فالتقوا بموضع يقال له فج المركون «1» ، به تعرف هذه الغزاه، واقتتلوا فكانت الهزيمة على المشركين ثم اجتمعوا بهضبة بالقرب من موضع المعركة فتبعهم المسلمون وحملوا عليهم واشتد القتال فانهزم الفرنج لا يلوون على شىء، وتبعهم المسلمون يقتلون منهم ويأسرون، وكانت هذه الوقعة فى ثانى عشر شهر رجب، وكان عدد ما أخذ من رؤوس القتلى ألفين وأربعمائة رأس وتسعين رأسا، وكان فتحا عظيما. وفى سنة تسع وخمسين ومائتين سار محمد إلى طليطلة وحصرها- وكان أهلها قد خالفوا عليه- فطلبوا الأمان فأمّنهم وأخذ رهائنهم. وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان وفيه سبعمائة من البربر وأهل طليطلة فى عشرة آلاف، فلما التحمت الحرب بينهم انهزم مطرّف بن عبد الرحمن بن حبيب وهو أحد مقدّمى أهل طليطلة

فتبعة أهلها فى الهزيمة، وإنما انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة فأراد أن يوهنه بذلك فقتلوا أعظم قتل. وفيها عاد عمروس بن عمر بن عمروس الأندلسى إلى طاعة الأمير محمد، وكان مخالفا عليه عدّة سنين، فولّاه محمد مدينة أشقة «1» . وفى سنة ستّ وستين ومائتين أمر محمد بإنشاء مراكب/ بنهر قرطبة وحملها إلى البحر وسيّرها إلى البحر المحيط ليسير منه إلى بلاد جليقية فلما دخلته تقطعت، فلم يجتمع منها مركبان، ولم يرجع منها إلا اليسير!. وفى سنة سبع وستين ومائتين خالف عمر بن حفصون على الأمير محمد بن عبد الرحمن فخرج إليه جيش تلك الناحية وعاملها، فقاتلوه فهزمهم. وقوى أمره وشاع ذكره، وأتاه من يريد الشّرّ والفساد، فسيّر إليه محمد عاملا آخر فى جيش فصالحه عمر، وطلب العامل كلّ من كان له مساعدة لعمر، فأهلكه، ومنهم من أبعده، واستقامت تلك الناحية. وفى سنة ثمان وستين سيّر محمد جيشا إلى المخالفين مع ابنه المنذر فقصد مدينة شرقسطة فأهلك زرعها وخرّب بلدها. وافتتح حصن روطة، وأخذ منه عبد الواحد الرّوطى- وهو من أشجع أهل زمانه- وتقدّم إلى دير تروجة وهتكها بالغارة، وقصد مدينة

ذكر وفاة الأمير محمد بن عبد الرحمن

لاردة وقرطاجنة وأخذ رهائنهم، ثم قصد مدينة ألبة والقلاع فافتتح بهما حصونا، وعاد بالظّفر والنّصر والسلامة. ذكر وفاة الأمير محمد بن عبد الرحمن كانت وفاته فى سلخ صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين وقيل فى يوم الأحد غرّة شهر ربيع الأول منها، وأنه خرج يوم الأحد/ إلى الرصافة متنزّها ومعه هشام بن عبد العزيز فقال له: يا سيدى ما أطيب الدنيا لولا الموت! فقال له: يابن اللخناء وهل ملّكنا هذا الذى نحن فيه إلا الموت؟ ولو بقى من كان قبلنا فمن أين كان يصل إلينا؟ ورجع من نزهته فحمّ ومات فى بقية يومه، نقله ابن الرقيق فى تاريخ أفريقية وكان مولد محمد فى ذى القعدة سنة سبع ومائتين وعمره خمسا وستين سنة وثلاثة أشهر وأياما. وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا. وكان أبيض مشربا بحمرة، ربع القامة أوقص «1» ، يخضب بالحناء والكتم «2» وولد له مائة ولد ذكور، مات عن ثلاثة وثلاثين منهم. وكان ذكيا فطنا بالأمور المستبهمة، محبا للعلوم، مؤثرا لأهل الحديث، عارفا حسن السيرة. قال ابن مخلد «3» الفقيه:

ذكر امارة المنذر بن محمد

ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا ولا أبلغ من الأمير محمد بن عبد الرحمن، رحمه الله تعالى. وكانت وفاة محمد فى خلافة المعتمد على الله العباسى. ذكر امارة المنذر بن محمد هو أبو الحكم المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها ايل «1» ، وهو السادس من أمراء بنى أمية بالأندلس. قام بالأمر فى يوم وفاة أبيه فى غرّة شهر ربيع/ الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وقيل بويع له بعد وفاة أبيه بثلاث ليال وخالف عليه ابن حفصون- وقد ذكرنا خلافه على أبيه- وتحصن عمر بن حفصون بطليطلة، فسار المنذر إليها وأحدق بها، فأعمل ابن حفصون الحيلة وسلك طريق المكر والخديعة، وسأل الأمان، وأظهر الرغبة فى سكن قرطبة بأهله وولده. فأمنه المنذر وكتب له بما أراد، وفصّل لأولاده الثياب. ثم سأل مائة بغل يحمل عليها أثقاله وعياله إلى قرطبة، فأمر له المنذر بها وسلّمت إليه وعليها عشرة من العرفاء. وارتحل العسكر، فأخذ ابن حفصون البغال وقتل العرفاء، وعاد إلى سيرته الأولى. فعقد المنذر على نفسه أنه لا أعطاه صلحا ولا عهدا إلا أن يلفى بيده وينزل على حكمه، وأمر بالسكنى،

ذكر امارة عبد الله بن محمد

وأن تردّ أسواق قرطبة إلى طليطلة. ودام الحصار، فمات المنذر وهو يحاصره. وكانت وفاته فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وقيل فى نصف صفر. وعمره نحوا من ستّ وأربعين سنة وولايته سنة واحدة وأحد عشر شهرا، وأيام. وكان أسمر طويلا، جعدا كثّ اللحية، بوجههه أثر جدرى، وخلف ستة أولاد ذكورا. وقيل لم يعقب فولى بعده أخوه! «1» ذكر امارة عبد الله بن محمد هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها عشار، وهو السابع من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له بعد وفاة أخيه المنذر فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وقيل فى منتصف صفر منها، وذلك فى خلافة المعتمد على الله العباسى. ولما بويع له كان بالمعسكر على طليطلة فرحل نحو قرطبة، ودخل القصر بها لثلاث بقين من صفر المؤرّخ. قال إبراهيم بن الرقيق: ولما تولّى ألّب ابن حفصون عليه، وحشد كور الأندلس حتى لم ييق منها إلا قرطبة، وأقبل فيمن أطاعه من أهل الكور.

وخرج إليه الأمير عبد الله فى أربعة عشر ألفا من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حشمه ومواليه. فبرز إليه ابن حفصون فى سفح الجبل وثار له، فلم تكن إلا صدمة صادقة حتى أزالوهم عن مراكزهم. ودخل ابن حفصون الحصن كأنه يخرج من بقى فيه، فثلم فيه ثلمة أخرج منها أهله وما كان له. فلما انتهى ذلك إلى عسكره ولّوا مدبرين لا يلوى أحد منهم على أحد «1» فقتلوا قتلا ذريعا/ ودخل منهم جماعة فى عسكره فأمر بالتقاطهم وجلس لهم فى مظلة فقتل بين يديه ألف صبرا. وكانت فى أيامه فتن عظيمة، وكثر قيام الثوّار عليه حتى لم يبق فى يده إلا مدينة قرطبة وحدها. وخالف عليه أهل إشبيلية وشذونه، ولم تبق مدينة إلا خالفت عليه. وعزموا على الدعاء على منابر الأندلس للمعتضد بالله العباسى، فكتبوا إلى إبراهيم ابن أحمد الأغلب يسألونه أن يبعث إليهم رجلا من قبله، فتثاقل عنهم إبراهيم وشغله أيضا اضطراب أهل أفريقية عليه، فأمسكوا عن ذلك! وقلّت رجال عبد الله بن محمد، وذهب من كان يصول به- هو وآباؤه- من مواليهم وأصحابهم، وقلّت الأموال فى يده لخروج أهل المدن وامتناعهم من أداء الخراح إليه. وكان خراج الأندلس

ذكر امارة عبد الرحمن بن محمد

الذى يؤدّى إلى آبائه ثلاثمائة ألف دينار فى كلّ سنة، فكانوا يعطون رجالهم وخدمهم مائة ألف دينار، وينفقون فى أمورهم ونوّابهم وجميع ما يعرض لهم مائة ألف، ويدّخرون مائة ألف «1» . فلما امتنع أهل مدن الأندلس من أداء الخراج إليهم رجعوا إلى تلك الذخائر ينفقونها، واتصلت عليهم الحروب خمس عشرة سنة فنفدت ذخائرهم واحتاجو للقروض! وكانت أيامه على هذه الحال إلى أن توفى، وكانت وفاته/ فى يوم الثلاثاء غرة شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة، وعمره سبعون سنة إلا شهورا، ومدة ولايته خمس وعشرون سنة ونصف شهر وكان مستبدا بآرائه، مخالفا لنصحائه، ليّن الجانب جدا. بلغ من لينه أنّ ابنه مطرّفا قتل أخاه محمد بن عبد الله والد الناصر فلم ينكر عليه ذلك، بل قال له: قد سوّغتك قتل أخيك فالله الله فى ابن أمية (يعنى وزيره) فإنك إن قتلته قتلتك به! ثم حذّر ابن أمية من مطرّف، وكان مطرّف قد عزم على خلعه فلم يمكنه ذلك لمكان ابن أمية، فعمل عليه حتى قتله. ولما مات عبد الله ولى بعده ابن ابنه عبد الرحمن. ذكر امارة عبد الرحمن بن محمد هو أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها مزنة، وهو الثامن من أمراء بنى أمية بالأندلس.

بويع له بعد وفاة جدّه، فى مستهل شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة. وقال ابن الرقيق إنه أخ لعبد الله بن محمد، وليس بصحيح! وينقض ذلك عليه أنه قال فيه: ولى وهو ابن أربع وعشرين سنة ووفاة محمد بن عبد الرحمن قبل مولد عبد الرحمن هذا بأربع سنين، وأظنه أشكل عليه أمره، والتبس عليه محمد بن/ عبد الله بجدّه محمد بن عبد الرحمن، والله تعالى أعلم.. قال «1» : ولما ولى عبد الرحمن هذا تلقّب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وهو أوّل من لقّب بأمير المؤمنين ببلاد الأندلس. وكان من قبله يسمّون ببنى الخلائف، ويسلّم عليهم ويخطب لهم بالإمرة فقط. وإنما تسمّى هذا بأمير المؤمنين لما بلغه ضعف الخلافة بالعراق فى أيام المقتدر بالله، وظهور الشيعة بالقيروان، ودعاؤهم للمهدى. فكان فى ذلك الوقت ثلاثة خلائف تلقّب كل منهم بأمير المؤمنين؛ فالمقتدر بالعراق، والمهدى بالقيروان، وهذا الناصر بالأندلس. قال: وولى والأندلس نار تضطرم، وجمرة تتقّد شقاقا ونفاقا، فأخمد نيرانها وسكّن زلازلها، وغزا غزوات كثيرة، وكان يشبّه بعبد الرحمن الداخل. ولم يجد من المال ما يستعين به على مصالح جيشه، فاتفق أن صاحب الدّوجر «2» أغار على قرطبة فى نحو ثلاثمائة فارس فهزمه عبد الرحمن وأسره. فسلّم إليه الحصن بجميع ما فيه فتقوّى به، ثم التقى مع ابن حفصون فى وادى التفاح

بجيّان- وكان ابن حفصون فى عشرين ألف فارس- فهزمه عبد الرحمن وأفنى أكثر من معه قتلا وأسرا. وبعث إلى المغرب الأوسط، فملك سبتة وفاس وسجلماسة وعمّرها وغزا الروم بعد ذلك اثنتى عشرة غزوة/ حتى دوّخ بلادها، ووضع عليهم [جزية] «1» يؤدونها. وكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف صانع يصنعون له فى مدينته التى بناها وسمّاها الزهراء، وهى على ثلاثة أميال من قرطبة، أسندها إلى سفح الجبل وساق المياه إليها. وقسمها أثلاثا، فالثلث الذى يلى الجبل لقصوره ومنازله، والثلث فيه دور خدمه وكانوا اثنى عشر ألفا بمناطق الذهب والسيوف المحلاة يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، والثلث بساتين تحت مناظره وقصوره. وجلب إليها أنواع الفواكه، قال «2» : ومن غريب ما بناه فيها مجلس مشرف على البساتين مرفوع على العمد مبنى بالرخام المجزّع، مصفّح بالذهب، مرصّع باليواقيت والجواهر. وصنع أمام المجلس بحرا ملأه بالزئبق فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، فحضر إليه القاضى بقرطبة الفقيه منذر بن سعيد البلّوطى «3» فقرأ «ولولا أن يكون النّاس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج

ذكر امارة الحكم المستنصر بالله

عليها يظهرون» إلى قوله تعالى «والآخرة عند ربّك للمتّقين» «1» فقال له وعظت فأحسنت! وأمر بنزع الصفائح. قال «2» : وكمل بناء الزهراء فى اثنتى عشرة سنة، بألف بنّاء فى كل يوم، مع كل بنّاء اثنا عشر رقاصا، وسكنها خمسا وعشرين سنة. وطالت أيام الناصر، وتمكن، واتسعت مملكته./ وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء لليلتين، وقيل لثلاث خلت من شهر رمضان المعظم سنة خمسين وثلاثمائة بالزهراء. وحمل إلى مدينة قرطبة، فدفن بها مع أسلافه من بنى أمية. ومولده فى يوم الخميس لتسع بقين من شهر رمضان سنة سبع وسبعين ومائتين، وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة، ومدة ولايته خمسين سنة وستة أشهر وأياما. وكان شهما صارما، لم يزل منذ ولى يستذل المتغلبين حتى خلصت له جميع الأندلس فى خمس وعشرين سنة من ولايته. وكان له من الأولاد الحكم ولىّ عهده، وعبد الجبار، وسليمان، وعبد الملك، وعبيد الله، والمغيرة، ولما مات ولى بعده ابنه (الحكم) ذكر امارة الحكم المستنصر بالله هو أبو العاص الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن

الداخل، وأمه أم ولد اسمها مرجان، وهو التاسع من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له فى شهر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة فى جميع مدن الأندلس وثغورها، فأحسن إلى الرعية، وعدل فيهم وضبط الثغر، وغزا الروم فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ففتح مدنا جليلة، وسبى وغنم/ وانصرف غانما. ثم أصابه الفالج فتغيّب عن الناس، فلما كان فى يوم السبت لعشر خلون من المحرم سنة ستّ وستين وثلاثمائة أظهر موته، وقيل توفى فجأة ليلة الأحد لأربع خلون من صفر منها. ومولده فى يوم الجمعة مستهل شهر رجب سنة اثنتين وثلاثمائة، فمات وله من العمر ثلاث وسبعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام، ومدة ولايته خمس عشرة سنة وأربعة أشهر وأيام. وكان حسن السيرة، جامعا للعلوم مكرما لأهلها، وجمع من الكتب على اختلاف أنواعها ما لم يجمعه غيره من الملوك قبله، واشتراها من سائر الأقطار، وغالى فى أثمانها، فحملت إليه من كل جهة. وكان قد رام قطع الخمر، من الأندلس، وأمر بإراقتها وشدّد فى استئصال شجرة العنب من جميع أعماله. فقيل له إنها تعمل من التين وغيره، فتوقف فى ذلك. وهو الذى رحل إليه أبو على القالى البغدادى صاحب الأمالى «1» ، وأبو بكر

الزبيدى مختصر كتاب العين «1» . وكان منذر بن سعيد البلوطى قاضية وقاضى أبيه، فلما توفى ولى القضاء ابن بشير الفقيه، فاشترط على المستنصر نفوذ الحكم فيه فمن دونة. فكان من أخباره أن امرأة منقطعة كان لها أريضة تجاور بعض قصور الأمير، فاحتاج إليها ليبنى فيها شيئا مما أراد بناءه، فساومها الوكيل فى البيع/ فامتنعت، فأخذها الوكيل قهرا وبنى فيها منظرة بديعة وأنفق عليها جملة وافرة. فوقفت المرأة لابن بشير القاضى وقصّت عليه قصتها، فركب حماره وجعل عليه خرجا كبيرا لا يطيق حمله إلا جماعة من الرجال. وقصد الزهراء والمستنصر فى تلك المنظرة، فدخل عليه فقال: ما جاء بالقاضى فى هذا الوقت؟ فقال: أريد ملء هذا الخرج من تراب هذا الموضع! فتعجّب منه الحكم وأمر فملىء الخرج ثم خلا القاضى به فقال: أدل عليك إدلال العلماء على الملوك الحلماء أن لا ينقل هذا الخرج على الحمار إلا أنا وأنت! فضحك الحكم وقال: فكيف نطيق ذلك أيها القاضى؟ فبكى ابن بشير وقال: فكيف نطيق أن نطوق هذا المكان أجمعه من سبع أرضين فى حلقى وحلقك يوم القيامة وأنا شريكك فى الإثم إن رضيت هذا الحكم؟ وقصّ عليه القصة،

ذكر امارة هشام المؤيد بالله

فبكى الحكم وقال: وعظت فأبلغت أيها القاضى! ثم خرج عن المكان وسلّمه إلى المرأة بكل ما بنى فيه وغرس. قال: وكتب إليه العزيز بن المعز صاحب مصر كتابا يشتمه فيه ويسبه، فكتب إليه «أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك، والسلام» وكتب إليه قصيدة يفتخر فيها منها: ألسنا بنى مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منا تهلّلت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر وكان للحكم من الأولاد هشام، وسليمان، وعبد الله. وحاجبه جعفر الصقلى، المعروف بالفتى! ذكر امارة هشام المؤيد بالله هو أبو الوليد هشام المؤيد بالله بن الحكم المستنصر بالله، وهو العاشر من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له بولاية العهد فى حياة أبيه فى غرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة. وجدّدت له البيعة فى يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة ستّ وستين وثلاثمائة. وقيل فى يوم الإثنين لخمس خلون من صفر منها، وهو ابن اثنتى عشرة سنة باتفاق الوزراء. وعلموا أن عمّه المغيرة بن عبد الرحمن ينازعه فى الأمر ويتطاول إلى بعض ما عقد له ويرى أنه أحقّ بذلك منه لصغر سنّه، فهجم عليه فى

ذكر أخبار المنصور محمد بن أبى عامر

منزله فذبح. وكان الذى تولّى قتله محمد بن أبى عامر الوزير، فصعّب الأمور لهشام. ولما ولى احتيج إلى مدبر للمملكة، فوقع الاختيار على جعفر ابن عثمان المصحفى، فقلّده هشام حجابته وتدبير أمره، وأشرك معه فى الحجابة غالب بن عبد الرحمن. وقلّد المنصور بن أبى عامر الوزارة- وكان على الشرط والسكة- فانحط المصحفى وارتفع ابن/ أبى عامر، ثم عزل المصحفى عن الحجابة فى يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين وحوقق وطولب بمائة ألف دينار، وتوفى فى المطبق بعد خمسة أعوام، فكانت مدة ولايته ستة أشهر وثلاثة أيام. ذكر أخبار المنصور محمد بن أبى عامر قال «1» : ولما عزل المصحفى اتفق الرأى على تقديم محمد بن أبى عامر المعافرى «2» ، فولى الحجابة فى يوم الإثنين المؤرّخ، وبقى غالب شريكه إلى أن قتل وتفرّد المنصور بالأمر. قال بعض المؤرخين: كان محمد بن أبى عامر من الجزيرة الخضراء «3» ، وله بها قدر وأثرة وورد وهو شاب إلى قرطبة واشتغل بالعلم والأدب، وسمع الحديث وتميّز. وكانت له همة يحدّث بها نفسه بإدراك معالى الأمور، وكان يحدّث من يختص به

بما يقع له من ذلك. وله أخبار كثيرة أورد منها أبو عبد الله الحميدى- فى كتابه المترجم بالأمانى الصادقة- كثيرا قال: ثم علت حاله، وتعلّق بوكالة صبح أمّ هشام المؤيد، والنظر فى أموالها؛ فزاد أمره فى التّرقّى إلى أن مات وولى ابنها هشام، فخافت اضطراب الأمر عليه، فضمن لها سكون الحال وزوال الخوف/ واستقرار الملك لابنها. فساعدته المقادير، وأمدّته المرأة بالأموال فاستمال العساكر إليه، فصار صاحب التدبير والمتغلّب على الأمر. وحجب هشاما وتلقّب بالمنصور «1» وأقام الهيبة، فدانت له أقطار الأندلس كلها، ولم يضطرب عليه شىء منها لعظم هيبته وحسن سياسته. وكان يدخل إلى القصر ويخرج فيقول: أمر أمير المؤمنين بكذا ونهى عن كذا! فلا يعترض عليه فى مقال ولا ينازع فى أفعال. وكان إذا غزا بلد الروم وكل بهشام من يمنعه من التصرف والظهور والإذن فى دخول أحد من الناس إلى أن يعود من سفره، فإذا كان بعد سنين أركبه وجعل عليه برنسا وألبس جواريه البرانس حتى لا يعرف منهن، ويوكل بالطرقات من يطرد الناس عنها حتى ينتهى إلى الزّهراء وغيرها من المتنزهات، ثم يعيده على مثل ذلك. وليس له من الملك إلا الدعاء على المنابر، وإثبات اسمه

على السكة والطرر، والمنصور على أتمّ ما يكون من الحزم وسدّ الثغور وإقامة العدل وشمول الناس بالإحسان والفضل. فلم ير فى الضبط وحسن السياسة وأمن السبيل وتوفية حقوق الرياسة بجزيرة الأندلس كأيامه! ودامت له هذه الحال بضعا وعشرين سنة إلى أن توفى، وكانت وفاته فى أقصى الثغور/ بمدينة سالم «1» فى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة فى طريق الغزو. قال «2» : وكان رحمه الله تعالى له مجلس فى الأسبوع يجتمع فيه أهل العلم للكلام بحضرته مدة بقائه بقرطبة، قال وختن أولاده فختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائه صبى ومن أولاد الضعفاء ما لم تحص عدتهم، وأنفق فيه خمسمائة ألف دينار. وكان ذا همة عالية فى الجهاد، مواصلا لغزو الروم «3» ، وربما خرج لصلاة العيد فيقع له فيه الجهاد، فلا يرجع إلى قصده ويركب من فوره بعد انصرافه من الصلاة، فلا يصل إلى أوائل الدروب إلا وقد لحقه كل من أراد من العساكر. وغزا ستا وخمسين غزاة ذكرت فى المآثر العامرية بأوقاتها، وفتح فتوحا كثيرة، ووصل إلى معاقل جمّة امتنعت على من كان قبله. وملأ الأندلس بالغنائم والسبى.

ذكر المظفر أبو مروان عبد الملك

قال «1» : وكان إذا انصرف من قتال العدو إلى سرادقه يأمر بنفض غبار ثيابه التى شهد فيها الحرب، ويجمع ويحتفظ به. فلما حضرته الوفاة أمر أن ينشر على كفنه ما جمع من ذلك إذا وضع فى قبره. قال: وبنى مدينة الزاهرة بقرب قرطبة، وانتقل إليها بأهله وولده وحواشيه. وكان قد يخوّف من بنى أمية أن يثوروا به، فأخذ فى تقتيلهم صغارا وكبارا، عملا فى الباطن لنفسه وفى الظاهر إشفاقا على المؤيد منهم، حتى أفنى من يصلح منهم/ للولاية، وفرّق الباقين فى البلاد. فكان ممن هرب الوليد بن هشام الخارج على الحاكم بمصر، الملقب بأبى زكوة. وأخبار المنصور طويلة مشهورة لو استقصيناها لطال الكتاب، وفيما نبّهنا عليه من أخباره وذكرناه من آثاره كفاية. وأخبرنى بعض أهل الأندلس أن على قبره مكتوبا: آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه تالله لا يأتى الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمى الثغور سواه ولما مات رحمه الله- قام بالأمر بعده ولده. ذكر المظفر أبو مروان عبد الملك قال «2» : وكان الناس قد تجمعوا وقصدوا الزهراء وقالوا: لا بدّ من ظهور المؤيد وولايته الأمر بنفسه! فلما بلغه ذلك آثر

الراحة والدعة، وأحضر عبد الملك وخلع عليه وقلّده ما كان بيد أبيه من الولاية، ونعته بالحاجب المظفر سيف الدولة. وأمر فاتن «1» الصغير الخادم أن يخرج إلى المجتمعين فيصرفهم ويخبرهم برضائه بحجبة المظفر، فأخبرهم، فأبوا! وخرج المظفر فقابلته الفئة المجتمعة فهزمهم، وأقام فى الحجبة إلى أن توفى لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة/ تسع وتسعين وثلاثمائة بموضع يقال له القبران «2» فى غزوته، فحمل فى تابوت ودفن بالزاهرة وعمره ستّ وثلاثون سنة. ومدة ولايته ستة أعوام وأربعة أشهر وأيام وغزا الروم ثمانى غزوات وبأيامه تضرب المثل بالأندلس عدلا وأمنا. ولما مات ولى الحجبة عبد الرحمن بن المنصور محمد بن أبى عامر وهو أخو المظفر ونعت بالحاجب المأمون ناصر الدولة، ويلقب بشنشول فافتتح أموره بالخلاعة والمجانة، وكان يخرج من منية إلى منية ومن متنزه إلى متنزه بالملاهى والمضحكين، ويجاهر بشرب الخمر والتهتّك. ثم طلب من المؤيد أن يدعو له ويوليه العهد بعده، وهدّده بالفتك به إن لم يفعل، وكثر الإرجاف بذلك. ثم ركب شنشول من الزاهرة ومعه سائر أهل الخدمة بسلاحهم، والوزير وقاضى الجماعة، والفقهاء والعدول، وأصحاب الشّرط، ووجوه الناس على طبقاتهم. وسار إلى باب القصر بقرطبة، وحضر

المؤيد هشام، وأخرج كتابا قرىء بحضرته وهو بخط الوزير أبى عمر «1» ، وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين/ إلى الناس عامة، وعاهد الله- عزّ وجلّ- عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامّة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمره، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشى إن هجم محتوم ونزل مقدور به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوى إليه وملجأ تنعطف عليه.. أن يكون بلقاء ربه- تبارك وتعالى- مفرطا فيها ساهيا عن أداء الحقّ إليها ونقض عند ذلك من طبقات الناس من أحياء قريش غيرها ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته، بعد اطّراح الهوى والتحرّى للحق والتزلّف إلى الله- جلّ جلاله- مما يرضيه. بعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا هو أجدر أن يقلده عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده، بفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مركبه وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه، ومعرفته وإشرافه، وحزمه وتقاته.. من المأمون الغيب الناصح الجيب، أبى المطرّف عبد الرحمن ابن محمد المنصور أبى عامر بن أبى عامر، وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين- أيده الله- قد ابتلاه واختبره، ونظر فى شأنه واعتبره، فرآه مسارعا/ فى الخيرات سابقا فى الحلبات مستوليا على الغايات جامعا

للمأثرات! ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه.. فلا غرو أن يبلغ من سبل البرّ مداه، ويحوى من سبيل الخير ما حواه. مع أن أمير المؤمنين- أكرمه الله- بما طالع من مكنون العلم، ودعاه من مخزون الأمر، أمّل أن يكون قد ولىّ عهده القحطانى الذى حدّث عنه عبد الله ابن عمرو بن العاص وأبو هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. فلما استوى منه الاختيار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مهربا، ولا إلى غيره معدلا.. خرج إليه من تدبير الأمور فى حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مستخيرا مجتهدا. وأمضى أمير المؤمنين عهده هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه مثنوية «1» ولا خيارا، وأعطى على الوافاء به فى سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ودمه وذمّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم، وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمّة نفسه.. أن لا يبدّل، ولا يغيّر ولا يحوّل، ولا يزول، وأشهد الله تعالى وملائكته على ذلك، وكفى بالله شهيدا.. وأشهد من وقع اسمه فى هذا وهو جائز الأمر، ماضى القول والفعل/ بمحضر من ولى عهده المأمون أبى المطرف عبد الرحمن بن المنصور- وفّقه الله- وقبوله ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة» . ثم كتب الوزراء والقضاة والفقهاء شهاداتهم بذلك، فلما تمّ

ذكر امارة محمد المهدى

له ما أراد من ولاية العهد ودعى له على المنابر، أخذ فى التخليط وارتكاب المحرّمات. ثم عزم على الغزاة، وتقدّم اليه هشام أن يتعمّم هو وسائر الجند ففعل، وخرجوا فى العمائم «1» - وكانوا بها فى أقبح زىّ لمخالفة العادة- وذلك فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى. وسار للغزاة وهى المعروفة بغزوة الطين، وقيل إنه انتهى إلى طليطلة، فأتاه الخبر بقيام محمد بن هشام بن عبد الجبار وخلعه للمؤيد، وأنه أخرب الزاهرة، فخلف الناس لنفسه، ثم تفرقوا عنه، والتحقوا بمحمد بن هشام وكان من أمره وأمر المؤيد ما نذكره فى أيام محمد بن هشام بن عبد الجبار! ذكر امارة محمد المهدى هو أبو الوليد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وهو الحادى عشر من ملوك بنى أمية بالأندلس استولى/ على الأمر فى جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ونحن نذكر سبب ذلك وكيف كان خروجه وكيف استولى على الأمر، لأنّ فى ذلك من الغرائب والحوادث ما يتعين إيراده بسببه ويفيد تجرّبه، ويعتبر به من يتأمله، ويعلم أنّ المقادير تجرى على غير قياس، وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه. وكان ابتداء هذا الأمر أنّ هشام بن عبد الجبار والد محمد المهدى

هذا قد ترشّح لطلب هذا الأمر لنفسه، وعزم على خلع هشام المؤيد، فبلغ ذلك المظفر عبد الملك فقتل هشام بن عبد الجبار قبل أن يستحكم أمره فى سنة تسع وتسعين. وكان محمد بن هشام جسورا مقداما شجاعا، ولم يتهيأ له أمر لهيبة عبد الملك واجتماع جنده، فلم يزل محمد يترصّد الأمر حتى مات عبد الملك وولى عبد الرحمن. وتطاول لولاية العهد ونالها، وخرج للغزاة- على ما قدّمنا- فخلا البلد من الجند. وقوّى عزم محمد رجلان وهما حسن بن حىّ الفقيه ومطرف بن ثعلبة. وكان محمد يعاشر فى مدة استتاره قوما من الصعاليك لهم إقدام على كل عظيمة، فدسّ بعضهم إلى بعض وأعطاهم من خمسة مثاقيل إلى عشرة وأكثر من ذلك، فاجتمع له منهم نحو أربعمائة رجل./ وطاوعه على ذلك جماعة من المروانيين لخروج الأمر عنهم وصرفه إلى أبى عامر. وكان عبد الرحمن قد رتّب أمور البلد قبل مسيره، وجعل النظر فى الأموال وتدبير البلد إلى أحمد بن حزم وعبد الله بن سلمة المعروف ابن الشرس، وجعل على المدينة عبد الله بن عمرو المعروف بابن عسفلاجة وهو أحد بنى أبى عامر. وظن شنشول أن الأمور لا تتغير وأن دولتهم قد استحكم أمرها، هذا ومحمد فى تقرير حاله، فشنع الناس أنّ قائما يقوم على بنى الأغلب، فبلغ ابن عسفلاجة الخبر فأظهر البحث وبالغ فى الكشف فلم يتبيّن له شىء وهجم دورا كثيرة فلم يقف على أمر واضح. فلما كان فى يوم الثلاثاء النصف من جمادى الآخرة مات ابن عبد الجبار بقرطبة، وتقدم إلى ثلاثين رجلا من كفاة أصحابه

أن يشتملوا على سيوفهم ويدخلوا من باب القنطرة متفرقين حتى يقفوا على السترة التى تشرف على الرصيف والوادى، كما يفعل من يريد التفرّج بذلك المكان. وأمرهم أن لا يحدثوا حدثا حتى يأمرهم وأنذر سفهاءه وواعدهم ساعة قبل زوال الشمس، ففعل أولئك النّفر ما أمرهم به، وكان من سواهم على انتظار الوقت الذى حدّده لهم. وركب محمد بغلته وعبر القنطرة وحده حتى انتهى إلى باب الشكال ومعه نفر من أصحابه كانوا قياما على باب القنطرة/ فاقتحموا باب الشكال فأنكرهم حرس الباب وأرادوا منعهم، فبادر محمد ودخل. وسلّ أولئك النّفر سيوفهم وقصدوه، فقصدهم صاحب المدينة ابن عسفلاجة، فيقال إنه كان يشرب مع حارسين له، فأتاه محمد وهو على أهبة فقتله واحتزّوا رأسه. وتتابع أصحاب محمد من جهاتهم إليه. واتصل الخبر بأهل الزاهرة عند العصر وقد عظم جمع محمد من أصحابه ومن اجتمع إليه من العوام وأهل البادية، فنقب القصر من ناحية باب السباع ومن ناحية باب الجنان، ولم يقدر حرس القصر على مقاومته.. ووصل إلى القصر من جهة باب السدة وأهل الزاهرة غير مصدقين بالأمر، وظنوا أنه أمر يدفعه صاحب المدينة إلى أن قوى عندهم الخبر بدخول محمد القصر، فكان حسبهم اعتصامهم بالزاهرة فى ليلتهم. فلما صار محمد داخل القصر أرسل إليه المؤيد هشام يقول له: تؤمننى على نفسى وأنخلع لك من الأمر! فقال «سبحان الله

أترانى إنما قمت فى هذا الأمر لأقتل أهل بيتى، وإنما قمت غضبا له ولنفسى وبنى عمى، فإن خلع نفسه طائعا قبلت ذلك، وليس له عندى إلا ما يحبّ. وأرسل محمد إلى الفقهاء ووجوه الناس فأحضرهم، وكتب كتاب الخلع والبيعة لمحمد، وبات تلك الليلة فى القصر وأهل بالس وهى الزهراء لم يتحرك/ منهم أحد، وكانوا جمعا كبيرا منهم أبو عمرو بن حزم وعبد الله بن سلمة وابن أبى عبيدة وابن جهور، وجماعة من الفقهاء والوزراء والصقالبة- وهم الخصيان- ونفر من الجند والخزان والكتاب. وأصبح محمد فجعل حجابتة إلى ابن عمه محمد بن المعيرة، وجعل على المدينة ابن عمّه أمّيّة بن إسحاق. وأمرهما بإثبات كل من جاءهما فى الديوان، فلم يبق أحد حتى أثبت نفسه حتى الزهاد والعباد وأئمة المساجد وغيرهم وقبضوا العطاء، وكذلك التجار الأغنياء. واتّبعه سائر أهل البوادى والأطراف، وأرسل حاجبه محمد بن المغيرة فى خلق من العامة لمحاربة أهل بالس فردّوه أقبح ردّ وهزموه إلى داخل قرطبة. ثم كثر العامة فهزموهم إلى بالس، ودخلها الحاجب ونهبت، فسأل الوزراء والصقالبة الأمان فأمّنهم محمد، فساروا إليه فوبخهم ثم عفا عنهم ورد ابن الشرس مع الحاجب لنقل ما ببالس من الأموال والأمتعه والأثاث وقد نهب منه ما لا يحصى، ونهبت ليلة الأربعاء دور كثيرة للعامرية، ونهب ما جاوز بالس من دور الوزراء، وانتهب ما فى الزاهرة حتى قلعت الأبواب والأخشاب، والحاجب مع ذلك ينقل.

ذكر أخبار شنشول ومقتله

ثم أمر محمد بعد أربعة أيام بكفّ أيدى العامة عن النّهب فمنعوا،/ وتفرّد بنقل ما يريد، فيقال إن الذى وصل إليه من الزاهرة فى ثلاثة أيام ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، ومن الدراهم الأندلسية ألفا ألف ومائة ألف، ووجد بعد ذلك خوابىّ فيها نحو من مائتى ألف دينار، وأطلقت النار فى الزاهرة لعشر بقين من جمادى الآخرة. وخطب لمحمد بالخلافة وقطعت خطبة هشام وشنشول، وقرئ بعد صلاة الجمعه كتاب بلعن شنشول وذكر مساوئة، وقرئ كتاب آخر من محمد بإسقاط رسوم جارية وقبالات محدثة. وصلّى محمد بالناس الجمعة لأربع من جمادى الآخرة ودعا لنفسه وتلقّب بالمهدىّ، وقرئ بعد نزوله كتاب على المنبر بالنفير لقتال شنشول. ووصل أهل الأقاليم من أقصى الأندلس، مظهرين عدّة الحرب، وولّى محمد جنده قوادا من طبيب وحائك وجزار وسرّاج، وخرج بهم ونزل يفحص السّرادق، وأمر أهل النواحى بالنزول حول سرادقه. ذكر أخبار شنشول ومقتله قال «1» : وأما شنشول فإنه لما بلغه الخبر- وكان قد انتهى إلى طليطلة- عاد إلى قلعة رباح «2» وقد تخاذل عنه الناس؛ فعزم

على/ استجلاب الناس لنفسه فامتنعوا وقالوا: قد خلفنا مرة ولا يخلف أخرى! فعلم أنهم خاذلوه، فدعا محمد بن يعلى الزناتى وكان عزم على خذلانه فقال له: ما ترى فيما نحن فيه؟ فقال له: أصدقك عن نفسى وعن الجند ليس والله يقاتل معك أحد منهم! قال ما الدليل على ذلك؟ قال: تأمر بتقديم مطبخك إلى طريق طليطلة وتظهر الرحيل إليها فتعلم من يتبعك ومن يتخلّف عنك! قال: صدقت. وكان ابن عومس القومس «1» مع شنشول يريد قرطبة معاقدا له يستنصر به على من بناوئه من القمامسة. فلما رأى اضطراب حال شنشول أشار عليه أن يرحل معه إلى بلده، ويكونوا يدا واحدة، ويلجأوا إلى مكان، فأبى ذلك وقال: لابدّ من الإشراف على قرطبة فإنى أرجو أننى إذا اطلعت عليها اختلفت كلمة محمد، ولى أنصار يميلون إلى سلطانى ويحبون ظهورى! فقال له القومس: خذ باليقين ودع الظن، أمرك والله مختل وجندك عليك لا لك! فقال: لا بدّ من المسير إلى قرطبة! فقال: أنا معك على كراهية لرأيك وعلم بخطاياك. وسار شنشول من قلعة رباح والأخبار تتواتر بتظاهر أهل قرطبة مع ابن عبد الجيار، فلما بلغ منزل هانىء فارقه عامّة البربر ليلا، وذلك فى سلخ جمادى الآخرة، ثم فارقه الناس بعد ذلك وبقى فى نفر يسير من خدمه، وابن عومس فى نفر من النصارى،

فقال له: سر بنا من هنا قبل أن يدهمنا ما يمنعنا من ذلك! فأبى شنشول وقال: قد بعثت القاضى فى طلب الأمان لى. ثم تجبر فى أمره وسار إلى دير يعرف بدير شوش «1» ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رجب. وبلغ خبره محمد، فأرسل إليه حاجبه فى مائتى فارس، فأرسل الحاجب ابن ذرى مولى الحكم فسبقه إلى الدير فصبحه فى يوم الجمعة، فقال شنشول لما عاينه ومن معه: ما لكم علىّ سبيل، أنا فى طاعة المهدى! فاستنزلوه من الدير ومعه ابن عومس ومن تبعهما، وأخذ نساء شنشول- وهن سبعون جارية- فبعث بهن إلى قرطبة، ولحق الحاجب بابن ذرى قبل العصر من يوم الجمعة. فلما أقبل عليهم نزل شنشول فقبّل الأرض بين يدى الحاجب مرارا، فقيل له: قبّل حافر فرسه! ففعل وقبّل رجله ويده، ثم حمل على غير فرسه وابن عومس ساكت لم ينطق، وأشار الحاجب بانتزاع قلنسوة شنشول عن رأسه فانتزعت. ورجع يريد قرطبة، فسار إلى أن غربت الشمس، فنزل وأمر أن يكتف شنشول فعطفت يده عطفا شديدا فقال: نفّسوا عنى وأطلقوا يدى لأستريح ساعة! فنفسوا عن يده، فأخرج من خفّه سكينا كالبرق فعوجل قبل/ أن يصنع شيئا، ثم أضجعه الحاجب وذبحه. وقتل ابن عومس وأخذ رأسيهم، وحمل جثة

شنشول، وسار بها إلى القصر بقرطبة. فأمر محمد بشقّ بطنه ونزع ما فيه وحشى بعقاقير تحفظه، ثم نصب رأسه على قناة ووقف به على باب السدة ثم ركّب على جسده، وكسى قميصا وسراويل، وأخرج فسمّر على خشبة على باب السدة. وأمر الرّسّان صاحب شرطه شنشول أن ينادى: هذا شنشول المأمون! ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك فى يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب. وكانت مدة ولاية شنشول أربعة أشهر وأياما، وكان قبيح الفعال كثير التخليط متجاهرا بالفسق، شهد عليه بأشياء لا تصدر عن مسلم، منها أنه سمع المؤذن يقول «حىّ على الصلاة» فقال: لو قال حىّ على الكبير لكان خيرا له! وكثير من هذا القول وما يناسبه، وانقرضت الدولة العامرية بمقتل شنشول. قال إبراهيم بن الرقيق «1» : ومن أعجب ما رأيناه أنه كان من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة إلى نصف نهار الأربعاء الذى يليه، فتحت مدينة قرطبة وهدمت مدينة الزاهرة، وخلع خليفة وهو هشام بن الحكم، وولى خليفة وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزالت دولة/ بنى عامر، وحدثت دولة بنى أمية، وقتل وزير وهو ابن عسفلاجة، وأقيمت جيوش من العامة، ونكب خلق من الوزراء، وولى الوزارة آخرون، وكان ذلك على أيدى عشرة رجال حجّامين وجزارين وحاكة وزبالين، وهم جند ابن عبد الجبار!

قال «1» : وفى يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب وصل كتاب واضح من مدينة سالم إلى محمد بسمعه وطاعته وإظهار الاستبشار بمقتل شنشول، فسرّ به محمد وشكر ذلك لواضح، وحمل إليه مالا كثيرا وكساء وفرشا وطرائف، وولّاه سائر الثغر. قال: ولما استوثق الأمر لمحمد أسقط من جنده نحوا من سبعة آلاف وعادوا إلى بنيهم فانتفع بهم الناس، ثم نفى جماعة من من الصقالبة العامرية، ثم أخرج بعد ذلك صقالبة القصر وسدّ أبوابه. وأظهر محمد من الخلاعة واللهو والشّرب ما كان يفعله شنشول، واستعمل مائة عود ومائة بوق. وفى شعبان توفى رجل يهودىّ فأخذه محمد وأوقف عليه رجالا من أصحابه، وكان يشبه بهشام فشهدوا عند العامة أنهم وقفوا على هشام ميّتا لا جرح به ولا أثر وأنه مات حتف أنفه. وحضر الفقهاء والعدول وخلق من العامة إلى القصر وصلّوا عليه يوم الإثنين لأربع بقين/ من شعبان وأخفاه عند وزيره الحسن بن حىّ. وفى شهر رمضان سجن محمد سليمان بن عبد الرحمن- وكان قد جعله ولىّ عهده- وسجن جماعة من قريش، وأظهر بغض البربر فكان يسبّهم فى مجلسه.

ذكر قيام هشام بن سليمان

ذكر قيام هشام بن سليمان على محمد وما كان من أمره إلى أن قتل قال «1» : ولما شرع محمد بن عبد الجبار فى اطّراح البربر ودبّر فى قتل عشرة منهم، سعى هشام بن سليمان بن عبد الرحمن فى خلع محمد ووافقه جماعة من الجند واحتفل أمره، وخرج إلى فحص السرادق وانضم إليه الذين أسقطهم محمد من جنده، فراسله محمد وقبّح عليه فعله فقال: سجن والدى على غير شىء ولا أدرى ما صنع به! فأطلقه محمد فلم يرجع هشام عن رأيه، وتحرّك بالجند وأحرق سوق السّرّاجين. ثم خذله جنده وأخذوه أسيرا هو وأخوه أبو بكر وأبوه سليمان، فسلموهم إلى محمد؛ فقتل هشاما وأبا بكر صبرا، وذلك لأربع بقين من شوال. ونهبت دور البربر، ونودى فى البلد «من أتى برأس بربرىّ فله كذا وكذا» فشرع أهل قرطبة فى قتل من قدروا عليه منهم، وسبيت نساؤهم، وهرب من سلم من البربر إلى أزملاط «2» ثم جلوا إلى/ الثّغر. وكان من فرّ بعد قتل هشام سليمان بن الحكم ابن سليمان بن الناصر، فنصبه البربر خليفة. ذكر قيام سليمان بن الحكم المستعين بالله قال «3» : لما نصبه البربر خليفة نعت نفسه المستعين بالله، واستوزر أحمد بن سعيد، ونهض بمن معه إلى وادى الحجارة

فدخلوه عنوة، وعرضوا أنفسهم على واضح العامرىّ غلام المنصور ابن أبى عامر صاحب مدينة سالم، فلم يقبلهم، وبعث إليه محمد ابن هشام المهدى قيصر الفتى فى جيش ليعينه على سليمان، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم واضح وقتل قيصر. ولحق واضح بمدينة سالم فتحصن بها، ومنع الميرة عن البربر، فأقاموا خمسة عشر يوما يأكلون الحشيش. فلما اشتد ذلك عليهم أرسلوا إلى ابن مادويه الرومى «1» واستنجد به، وسأله سليمان أن يدخل بينهم وبين ابن عبد الجبار وواضح فى الصلح وقال: يخرج معنا إلى واضح ويرغب إليه فى الإصلاح بيننا وبينه وبين صاحبه، فإن أبى ذلك سرنا إلى قرطبة وناجزنا ابن عبد الجبار! فسارت الرسل إليه فوجدوا رسل ابن عبد الجبار وواضح عنده يسألونه الصلح معهما على أن يعطياه ما اشترط من مدائن الثّغر،/ وأتوه بخيل وبغال ومال وكساء وجوهر وطيب وتحف كثيرة. فأجاب البربر إلى ما أرادوه من الصلح أو الاتفاق معهم على أن يعطوه ما بذل واضح والمهدىّ من مدائن الثغور إذا ظفروا. فقبلوا ذلك منه، وردّ رسل واضح وابن عبد الجبار، ثم أرسل إلى البربر ألف عجلة تحمل الدقيق والشعير وأنواع المأكل وألف ثور وخمسة آلاف شاة وجميع ما يصلحهم من الملبس وغير ذلك. فقويت البربر بذلك، وسار إليهم فى جموعه وساروا إلى مدينة سالم، وأرسلوا واضحا فى الصلح فأبى، فساروا إلى قرطبة فى المحرم

سنة أربعمائة. واتبعهم واضح بمن معه وقابلهم، فانهزم وقتل خلق كثير من أصحابه، ووصل المنهزمون من أصحابه إلى قرطبة، وملك البربر جميع ما كان فى عسكر واضح. هذا وابن عبد الجبار فى لهوه واستهتاره، ثم خرج إلى فحص السرادق وخندق عليه، وأتاه واضح فى أربعمائة فارس من أهل مدينة سالم، ووصل غلامه يلبق فى مائتى فارس. وأقبل سليمان بالبربر فنادى ابن عبد الجبار أن يخرج كل من بلغ به الحلم «1» من سائر الناس، فلم يتخلف أحد فلا ترى إلا شيخا ضعيفا أو حدثا غرّا وبقّالا ونسّاجا. فلما كان فى يوم السبت منتصف شهر ربيع الأول التقى البربر وأهل قرطبة فحمل عليهم من البربر نحو/ ثلاثين فارسا فلم يقفوا لهم وانهزموا، وسقط بعضهم على بعض. ومضى واضح من فوره إلى الثّغر لم يعرج على شىء.. ووضع البربر السيف فى أهل قرطبة فقتلوا خلقا كثيرا «2» ، وغرق فى وادى قرطبة ما لا يحصى. وسار ابن عبد الجبار إلى القصر وأظهر هشاما المؤيد وأقعده حيث يراه الناس فى مكان يشرف على باب الشكال والقنطرة، وأرسل القاضى ابن ذكوان إلى البربر يقول: إنما أنا قائم دون هشام ونائب عنه كما يحجبه الحاجب والأمر له، وهو أمير المؤمنين! فلما أبلغهم

القاضى الرسالة قالوا: بالأمس يموت هشام وتصلّى عليه أنت وأميرك، واليوم يعيش وترجع الخلافة إليه! فاعتذر القاضى من ذلك. ثم خرج أهل قرطبة بأجمعهم إلى سليمان فأكرمهم، وأحسن لقاءهم. ودخل سليمان القصر، وهرب ابن عبد الجبار فكانت مدة ولايته تسعة أشهر. واستنجز ابن مادوية البربر أن يعطوه الحصون التى شرطوها له فقالوا: ليست الآن بأيدينا فإذا عهد سلطاننا أنجزنا لك ما وافقناك عليه! ورحل يوم الإثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول. قال: ثم فرّق سليمان العمال فى الولايات، وأنزل البربر بالزهراء، وأعاد المؤيد إلى السجن، وأنزل شنشول عن خشبته وأمر بغسله والصلاة عليه/ ودفنه، فدفن فى دار أبيه. وأما المهدى محمد بن هشام فإنه هرب إلى طليطلة بعد اختفائه بقرطبة، فوصل فى أول جمادى الأولى فقبله أهلها أحسن قبول، وخالفوا هشام بن سليمان. فتأهب لقصد طليطلة. ورحل يوم الإثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة. فلما قرب منها أرسل الفقهاء إلى أهلها ليعذر إليهم فرجعوا بخلافهم، فسار إليهم. وكان رجل يعرف بالقرشى الحرّانى قد جمع جموعا عظيمة ودعا لنفسه، فسرح إليه سليمان علىّ بن وداعة فى جيش كثيف فهزم جموع القرشى وأسره وأحضره إلى سليمان، فاعتقله ثم قتله. قال: وتجاوز سليمان طليطلة رجاء أن برجعوا إلى الطاعة، ورحل إلى الثغر ونزل على مدينة سالم. ثم التحق بمحمد بن عبد الجبار

فى جماعة من العبيد، وانضم إليه ابن مسلمة صاحب الشرطة. وخرج واضح من مدينة سالم إلى طرطوشة وكتب إلى سليمان يرغب فى المعافاة من الخدمة ويكون فى ميورقة «1» مرابطا وينقطع عن الناس، وإنما يفعل ذلك تطمينا لسليمان حتى يحكم أمره. فأرسل سليمان إليه بالنظر فى سائر الثغر وجهاد العدوّ، فأخذ واضح فى الاتفاق مع الفرنج وشرط لهم ما أرادوه، واجتمعوا كلهم مع المهدى بطليطلة. / وبلغ سليمان ذلك فاستنفر الناس فاستعفاه أهل قرطبة، وذكروا عجزهم عن القتال فأعفاهم بشفاعة البربر. وخرج لقتال القوم، فالتقوا عند عقبة الثغر فى العشر الأخير من شوّال، فجعل البربر سليمان فى ساقتهم وجعلوا معه خيلا من المغاربة وقالوا له: لا تبرح موضعك ولو وطئتك الخيل! ثم تقدموا فحملت! لفرنج عليهم حملة منكرة فأخرجوا لهم ليتمكنوا منهم، فرأى سليمان خيل الفرنج وقد خرقت صفوف البربر فلم يشك أن البربر قد اصطلمو «2» ، فانهزم فيمن معه. ثم عطف البربر على الفرنج فقتلوا ملكهم أرمغند، وستين من وجوههم. ورأى البربر هزيمة سليمان فانحازوا إلى الزّهراء، ثر خرجوا منها ليلا. ومضى سليمان إلى مدينة شاطبة «3» ، فكانت مدة ولاية سليمان سبعة أشهر.

ذكر دولة المهدى محمد الثانية

ذكر دولة المهدى محمد الثانية قال «1» : ولما انهزم سليمان دخل محمد بن هشام بن عبد الجبار قرطبة ومعه الفرنج فأفسدوا غاية الفساد، ونهبوا الأموال، واستطالوا على الناس ثم سألهم المهدىّ وواضح المسير معهما لقتال البربر فخرجوا كلّهم، والتقوا بالبربر بوادى لدة «2» لستّ خلون/ من ذى القعدة، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم واضح وابن عبد الجبار والفرنج أقبح هزيمة، وقتل فى المعركه يلبق غلام واضح ومؤمن الصقلبى، وتخلّف ابن زرزور مولى الحكم وغيرهم. وقتل من الفرنج أكثر من ثلاثة آلاف وغرق فى البحر كثير، واحتوى البربر على ما فى معسكرهم، ووصل المنهزمون إلى قرطبة فى اليوم الثانى من الوقعة فزاد حنق الفرنج وعاثوا بقرطبة وقتلوا كلّ من يشبّه بالبربر بها. فسألهم محمد وواضح، ورغبا إليهم فى الرجوع معهم لقتال البربر، فأبوا عليهما وقالوا: قد قتل ملكنا وخيارنا ووجوهنا! وفارقوا مدينة قرطبة وعادوا إلى بلادهم، وكان رحيلهم عنها لشدّة خوفهم من البربر، حتى كان الرجل من أهلها يلقى الآخر فيعزيه كما يعزّى من فقد أهله وماله! ثم فرض محمد بن عبد الجبار على أهل قرطبة مالا فأدّوه، وتهيأ للخروج وخرج بواضح وأهل قرطبة والعبيد لقصد البربر. فلما ساروا ثلاثين ميلا كرّوا راجعين إلى قرطبة، وأقام من ورائه سورا

وتحصن به. هذا والبربر يغيرون فى نواحى قرطبة، وأخذوا الجبل المعروف/ بابن حفصون- وهو كثير الماء والمرعى والثمار والزرع- فزاد ذلك فى قوّتهم. وابن عبد الجبار وجنده فى انهماك على الّلهو وارتكاب المحارم وإظهار الفسق، وإفساد ما قدروا عليه، والنزول على الناس فى دورهم، وقتل من دافعهم، فكره واضح ذلك منه- وكان قد حقد عليه ما أتاه إلى بنى أبى عامر- فأخذ فى التدبير عليه. وبلغ ذلك محمد فجمع ما فى القصر من النفائس وسلمها إلى ابن رافع رأسه- رجل من أهل طليطلة- وأمره بالخروج إليها، وتحيّل فى الخروج فى أثره. فلما كان فى يوم الأحد الحادى عشر من ذى الحجة سنة أربعمائة- وقيل لثمان خلون منه- ركب واضح والعبيد وأهل الثغر وصاحوا: لا طاعة إلا طاعة المؤيد! ثم قصدوا القصر وأخرجوا المؤيد، وأجلسوه على منبر الخلافة وألبسوه لباسها. وكان محمد بن عبد الجبار فى الحمام، فدخل عليه ابن وداعة وأخبره الخبر، فخرج وجاء إلى هشام وأراد أن يجلس إلى جانبه، فأخذ عنبر الخادم بيده ورمى به من على المنبر وأجلسه بين يدى المؤيد. فسبّه المؤيد ووبّخه وعدّد عليه ما أتاه وما فعله معه، فأخذ عنبر بيده وأقامه وأصعده إلى السطح وأراد ضرب عنقة فتعلق به، فتعاورته سيوف العبيد والخدم والصقالبة/ فقتلوه، وأخذوا رأسه ورموا بجثته، فسقطت فى الموضع الذى كانت فيه جثة ابن عسفلاجة لما قتله. فكانت مدة ولايته هذه نحو شهر،

ذكر دولة المؤبد هشام الثانية

ومدة مملكته الأولى والثانية عشرة أشهر، وعمره خمسا وثلاثين سنة! ذكر دولة المؤبد هشام الثانية قال «1» : وبايع الأجناد هشاما المؤيد فى يوم الأحد الحادى عشر من ذى الحجة سنة أربعمائة وأحضر بين يديه رأس محمد المهدى، فأمر بإرساله إلى البربر وهم يومئذ بوادى شوش فى خدمة المستعين بالله سليمان بن الحكم، طمعا أنّ البربر يفعلون به كما فعل هو بالمهدى، ويعودون إلى طاعته فيتم أمره وتستقيم دولته. فلما وصل إليهم مع جماعة من أهل قرطبة كادوا يقتلونهم، فمنعهم المستعين بالله بعد أن أفرط فى توبيخهم، فعادوا إلى قرطبة. وتولى واضح العامرىّ حجابة المؤيد، وأمره بحفر الخندق على قرطبة فحفره، وحصنها، قال «2» : وكان لمحمد بن عبد الجبار ولد بقرطبة عمره نحو ستّ عشرة سنة فاحتال له شيعة أبيه حتى أو صلوه إلى مدينة طليطلة، فقبله أهلها، وأمّروه عليهم. فأغار على بعض ما كان لواضح، فلقيه محارب التجيبى فقهره وأسره وأرسل به إلى واضح، فقتله. قال «3» : ثم/ قصد المستعين قرطبة فى جموعه من البربر،

فلم يتمكن منها، فقصد الزهراء فاستولى عليها فى يوم السبت لستّ بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعمائة، وقتل من بها من الجند، وأخذ فى قتال أهل قرطبة، وواضح يتولّى حربه. ثم رحل البربر من الزهراء لخمس بقين من شعبان، وجعلوا يغيرون على البلاد ويخرّبون، فانضم أهل البوادى إلى قرطبة خوفا منهم، فصاروا أكثر من أهلها، وغلت الأسعار فمات أكثرهم جوعا. وقطع البربر الميرة عن قرطبة، فاشتد بها الغلاء فبيع مدّ القمح- وهو قفيزان ونصف بالقروى- بثلاثمائة دينار دراهم وهى مائة مثقال عينا. وجاءت رسل ابن مادويه يستنجزون تسليم الحصون إليه على أن لا يغزوهم ولا يتعرض لشىء من ثغورهم، فرضوا بهدنة وسلّموا إليه مدنا كثيرة وأكثر من مائتى حصن مما افتتحه الحكم بن عبد الرحمن ومحمد بن أبى عامر. وسمع ابن شالوس «1» بما تسلّم ابن مادويه من الحصون، فكاتب على حصون أخرى وتوعّد وتهدّد، فأجيب إلى ما سأل وسلّمت إليه. وأخرب البربر مدنا جليلة، وقتلوا أكثر أهلها، ولم تسلم منهم إلا طليطلة ومدينة سالم، وبلغت خيلهم أندراوه «2» وما وراءها حتى إنّ الراكب يسير شهورا لا يرى أحدا فى قرية ولا طريق. قال «3» : واستخف جند قرطبة بواضح حتى صاروا/ يصرحون بسبّه، فعزم على مراسلة البربر فى الصلح لما رأى من اضطراب الجند عليه

وطمعهم فيه، وأظهر أن ذلك عن رأى هشام لما فيه من الصلاح للعامة والخاصة. فبعث واضح إلى البربر رجلا يعرف بابن بكر فاجتمع بسليمان وعاد بجوابه فقتله الجند فى المجلس- ولم يقدر هشام ولا واضح على منعهم- واحتزّوا رأسه، وطافوا به البلد. فعزم واضح على الهرب إلى البربر، وكان ابن أبى وداعة يعاديه فزحف إلى داره فى عدة من الجند فأخرحوه حاسرا وعاتبوه على ما أتلف من الأموال وما عزم عليه من مصالحة البربر. وضربه ابن أبى وداعة يسيفه وحمل عليه القوم فقتلوه، واحتزوا رأسه وطافوا به، وألقوا جثته فى الرصيف بالموضع الذى ألقى فيه ابن عسقلاجة وابن عبد الجبار، ونهبت دور أصحابه. وولّى هشام ابن أبى وداعة المدينة، فاشتدّ على أهل الريب وهاب الجند وغيرهم، وكان مقتل واضح فى يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعمائة. ثم قدم البربر وسليمان، ونازلوا قرطبة وظاهرها وقد امتلأت أيديهم بالغنائم، وقلّت الأقوات على أهل قرطبة، وعظم عليهم الخطب، واشتد الأمر، وكان بين أهلها والبربر مراسلات وأمور يطول شرحها. كان آخر ذلك أن سليمان ملك قرطبة فى يوم/ الأحد لثلاث خلون من شوّال سنة ثلاث وأربعمائة، وكانت مدة ولاية المؤيد الثانية سنتين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما وفقد المؤيد لخمس خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة.

ذكر دولة المستعين بالله الثانية

ذكر دولة المستعين بالله الثانية قال «1» : ولما فتح سليمان بن الحكم المستعين قرطبة دخل القصر لخمس خلون من شوّال وتلقّب بالظافر بحول الله، وأحضر هشاما ووبخه وقال: قد كنت تبرأت لى من الخلافة فأعطيت صفقة يمينك فما حملك على نقض عهدك؟ فاعتذر أنه مغلوب عليه، وتبرأ له، وسلّم الأمر إليه. وضرب سرادق سليمان بشقنده، ونزل البربر حوله، وهرب كثير من موالى بنى أمية فاحتوى البربر عليها واقتسموا البلد بينهم. وطالب سليمان الناس بالأموال فغرمهم فوق طاقتهم، واشتد أمر البربر على الناس فاستباحوا الأموال والحريم وسليمان لا يمكنه دفعهم وليس فى يده مع قرطبة غير إشبيليه ولبلة والشنبة وباجة. وكان فى عسكره رجلان «2» من ولد الحسن بن على بن أبى طالب وهما القاسم وعلى ابنا حمّود بن ميمون فقوّدهما على المغاربة، ثم ولّى عليا الأصغر منهما سبتة «3» وطنجة «4» ،/وولى القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق «5» ، وسعة البحر هناك ثمانية عشرة ميلا.

وكانت العبيد لما خرجوا من قرطبة عند دخول البربر إليها ملكوا مدنا عظيمة وتحصّنوا فيها، فراسلهم على بن حمّود وذكر أنّ هشام بن الحكم لما كان محاصرا بقرطبة كتب إليه يوليه عهده فاستجاب له العبيد وبايعوه. فزحف من سبتة إلى مالقة «1» وفيها عامر بن فتوح الفائقى مولى فائق- مولى المستنصر- فأطاعه وأدخله مالقة. فملكها علىّ بن حمود وأخرج عنها عامر بن فتوح ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فأخرج له المستعين ولده- ولى عهده محمد بن سليمان- فى عساكر البربر، ومعه أحمد بن سعيد الوزير. فانهزموا، ورجع محمد بن عبد الله الزناتى إلى قرطبة، وأخرج المستعين بالله وضمن له أن يقاتل بين يديه. فلما قربوا من عسكر على بن حمود قادوه بلجام بلغلته وسلموه لعلى، فلما حصل فى يده دخل القصر فى يوم الأحد لسبع بقين من المحرم سنة سبع وأربعمائة، وضرب عنق سليمان بيده وقتل أباه الحكم- وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة- فكانت مدة ولاية سليمان ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما. وكان مولده سنة أربع/ وخمسين وثلاثمائة، وكان أديبا شاعرا، فمن شعره: عجبا يهاب اللّيث حدّ سنانى ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان وهى أبيات عارض بها العباس بن الأحنف فى أبياته التى أنشدها على لسان الرشيد التى أولها: ملك الثلاث الآنسات عنانى ... وحللن من قلبى بكلّ مكان

ذكر امارة الناصر على بن حمود

وقد ذكرنا ذلك فى باب الغزل والنسيب، قال «1» : ولما قتل سليمان بن الحكم هذا انقطعت دعوة بنى أمية من سائر اقطار الأندلس وقامت دعوة الفاطميين بها. وولى منهم ثلاثة ملوك وهم على بن، حمود، والقاسم بن حمود أخوه، ويحيى بن على، ثم عادت بعد ذلك الدعوة الأمويه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر امارة الناصر على بن حمود ابن ميمون بن أحمد بن على بن عبد الله بن عمر بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب، ملك قرطبة لسبع بقين من المحرم سنة سبع وأربعمائة على ما ذكرناه، وخوطب بأمير المؤمنين، وتلّقب بالناصر «2» . ولما دخل/ قرطبة أحضر الفقهاء والوزراء وسأل سليمان بحضرتهم عن المؤيد فقال «مات» فألزمه أن يريه قبره فأخرجه دفينا لا أثر فيه فأمر بتكفينه ودفنه فى الروضة. ثم استفتى الفقهاء فى قتل سليمان، فقتله هو وأباه الحكم وأخاه عبد الله وولده سليمان فى وقت واحد، وتمّ لعلى ما أراد واستقامت أموره. وفى سنة ثمان وأربعمائة خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه، وقدّموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر [أخا المهدى] وسمّوه المرتضى وزحفوا به إلى قرطبة، ثم ندموا على إقامته لما رأوه من صرامته، وخافوا عواقب تمكّنه فانهزموا عنه

ذكر ولاية المأمون القاسم بن حمود بن ميمون الفاطمى

ودسّوا عليه من قتلة غيلة. وبقى علىّ بن حمود بقرطبة إلى آخر سنة ثمان وأربعمائة فقتله صقالبته فى الحمام، فكانت مدة ولايته سنة واحدة وعشرة أشهر، وكان له من الوالد يحيى وإدريس. ذكر ولاية المأمون القاسم بن حمود بن ميمون الفاطمىّ ولى بعد مقتل أخيه الناصر فى أواخر سنة ثمان وأربعمائة، وكان أسنّ من الناصر بعشرة أعوام، ونعت نسفه بالمأمون/ وكان يحبّ الموادعة، فأمن الناس معه. وكان يذكر عنه أنه يتشيّع ولم يظهر ذلك، ولا غيّر للناس عادة ولا مذهبا، وكذلك سائر من ولى منهم بالأندلس. فبقى القاسم إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة وأربعمائة، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن على بن حمّود بمالقة «1» ، فهرب القاسم عن قرطبة بغير قتال، وصار إلى إشبيلية. وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر، فدخل قرطبة دون مانع، وتسمّى بالخلافة وتلقّب، فبقى كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره واستمال البربر، وزحف بهم إلى قرطبة فدخلها فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وهرب يحيى بن على إلى مالقة، فبقى القاسم بقرطبة شهورا.. ثم اضطرب أمره، وغلب ابن أخيه يحيى على الجزيرة الخضراء وكانت معقل القاسم وبها كانت امرأته وذخائره. وغلب ابن أخيه إدريس بن على [شقيق يحيى] صاحب سبتة على طنجة، وكانت عدة القاسم يلجأ إليها إن رأى

ما يخاف. وقام عليه جماعة أهل قرطبة فى المدينة، وأغلقوا أبوابه دونه، فحاصرها نيّفا وخمسين يوما، ثم زحف أهل قرطبة فانهزموا عن القاسم. ولحقت كلّ طائفة ببلد فغلبت عليه، وذلك فى شعبان سنة أربع عشرة وأبعمائة وأعاد أهل قرطبة الدولة الأموية/ على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال «1» : وأما القاسم فقصد إشبيلية وبها ابناه محمد والحسن فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم طردوا ابنيه ومن كان معهما، وضبطوا بلدهم وقدّموا على أنفسهم ثلاثة رجال؛ منهم القاضى أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عبّاد اللخمى، ومحمد بن مرثم الإهابى، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدى، ومكثوا كذلك أياما مشتركين فى سياسة البلد وتدبيره، ثم انفرد القاضى أبو القاسم بن عباد على ما نذكره إن شاء الله. ولحق القاسم بشريسش «2» ، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، وحصروا القاسم حتى صار فى قبضة ابن أخيه. وانفرد بولاية البربر، وبقى القاسم أسيرا عنده وعند أخيه إدريس إلى أن مات إدريس، فقتل القاسم خنقا فى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وحمل إلى ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة فدفنه هناك.

ذكر ولاية المعتلى يحيى بن على

وكانت ولاية القاسم تّسمّى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسّره ابن أخيه ستّة أعوام، ثم كان مقبوضا عليه ستّ عشرة سنة عند ابنى أخيه إلى أن مات- قيل ومات وهو ابن ثمانين سنة- وله من الولد محمد والحسن وأمهما أميرة بنت الحسن بن فنون بن إبراهيم العلوى. ذكر ولاية المعتلى يحيى بن على وكنيته أبو إسحاق، وقيل أبو محمد تسمّى بالخلافة بقرطبة فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ثم هرب منها إلى مالقة فى سنة أربع عشرة. ثم سعى قوم من المفسدين فى إعادة دعوتة بقرطبة فى سنة ستّ عشرة ولم يدخلها، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف، ثم قطعت خطبته من قرطبة فى سنة سبع عشرة. وبقى يتردد إليها بالعساكر إلى أن اتفق جماعة البربر على طاعته، وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن، وعظم أمره فصار بقرمونة ليحاصر مدينة إشبيليه. فخرج يوما وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة، «1» فلقيها وقد كمن له كمناء، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك فى يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعائة، وكان له من الولد الحسن وإدريس.

ذكر عود الدولة الأموية بمدينة قرطبة ومن ولى منهم

ذكر عود الدولة الأموية بمدينة قرطبة ومن ولى منهم (أ) ذكر امارة المستظهر بالله هو أبو المطرّف عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار- أخو المهدى- بويع له بالخلافة بقرطبة لثلاث عشرة من شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربمائة. وذلك أن أهل قرطبة لما هزموا البربر وأخرجوا القاسم- كما قدمنا- اتفق رأيهم على ردّ الأمر إلى بنى أمية. فاختاروا منهم ثلاثة، وهم عبد الرحمن هذا، وسليمان بن المرتضى، ومحمد بن عبد الرحمن. فاتفق رأيهم على إمارة عبد الرحمن فبايعوه، وتلقب بالمستظهر، وكان مولده فى ذى القعدة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. وقام عليه محمد بن عبد الرحمن مع طائفة من أرذال العوام فقتل عبد الرحمن لثلاث بقين من ذى القعدة منها، وقيل لثلاث خلون منه. وكان فى غاية الأدب، وله شعر. وزيره الفقيه أبو محمد على بن أحمد بن حزم «1» . (ب) ذكر امارة المستكفى بالله هو أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر بن هشام المستظهر، وأمه أم ولد اسمها

(ج) ذكر ولاية المعتمد على الله

حوراء «1» ولى بعد قتل المستظهر لثلاث خلون أو بقين من ذى القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وله ثمان وأربعون سنة. وكان أبوه ممن قتله الوزير محمد بن أبى عامر فى أوّل دولة المؤيد هشام لسعيه فى القيام وطلبه الأمر، فولى محمد هذا عشرة أشهر وأياما، وخلغ. وقيل بل خلع فى يوم الثلاثاء لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وخرج من قرطبة يريد الثّغر فمات بقرية من قرى شنت مرية فى أول شهر ربيع الآخر منها، فكانت مدة مملكته بقرطبة على هذا القول سنة وأربعة أشهر. وكان الحاكم فى أيامه صاحب المظالم محمد بن عبد الرؤوف. وكان محمد بن عبد الرحمن فى نهاية التخلف، صاحب أكل وشرب ونكاح، ولم يزل متغلّبا عليه طول ولايته لا ينفذ له أمر، ولا عقب له. وقيل فى وفاته إنه لما هرب من قرطبة سار حتى انتهى إلى قرية يقال لها سمّونت من أعمال مدينة سالم، فجلس ليأكل وكان معه عبد الرحمن بن محمد بن السليم- من ولد سعيد بن المنذر- فكره التمادى معه، فسمّه فى دجاجة فمات لوقته، فقبره هناك. ولما خلع أعيدت خطبة يحيى ابن علىّ الفاطمىّ، ثم قطعت وأعيدت الخطبة للدولة الأموية. (ج) ذكر ولاية المعتمد على الله هو أبو بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو أخو المرتضى «2» ، بويع له فى شهر ربيع الأول

سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، وقيل فى يوم الجمعة سلخ شهر ربيع الآخر منها. وذلك أنه لما قطعت خطبة يحيى بن على «1» فى سنة سبع عشرة وأربعمائة اجتمع رأى أهل قرطبة على ردّ الأمر إلى بنى أميه، وكان عميدهم فى ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور. فراسل أهل الثغور فى ذلك فاتفقوا عليه بعد مدة، فبايعوا لأبى بكر وهو بالثغر فى حصن البونت «2» عند أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم. فبقى يتردّد فى الثغور سنتين وعشرة أشهر- وقيل سبعة أشهر وثارت هناك فتن كثيرة يطول شرحها، واضطراب شديد من الرؤساء بها، إلى أن اتفق رأيهم على أن يسير إلى قرطبة الملك. فسار إليها، ودخلها فى يوم منى ثامن ذى الحجة سنة عشرين وأربعمائة. ولم يقم إلا يسيرا حتى قامت عليه فرقة من الجند، فخلع! قال بعض المؤرخين: كان سبب خلعه أنّ وزيره ومدبّر أمره أبا العاص الحكم بن سعيد كان فاسد/ الطريقة، ولم يكن له سابقة رئاسة. فكرهه الناس فدسّوا عليه فى بعض الطرق من قال نصيحة تقربه منه- وكان أطروشا- فأصغى إليه ليقولها فى أذنه، فجرّه عن دابته فقتل. وخلع المعتمد، وخرج إلى الثغر لينتزعه من يد المنذر بن يحيى،

فمات بلاردة «1» - وهى فى مملكة سليمان بن هود- فى يوم الجمعة لأربع بقين من صفر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. قال: وولى قرطبة بعده قريب من ستّة، ثم دعى للمؤيد هشام- وذكر أنه حىّ- فى يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة إلى أن أشيع موت هشام هذا. فتغلب على قرطبة أبو الحزم بن جهور- على ما سنورده- وانقطعت دعوة بنى أمية من سائر البلاد إلى هلم. وكانت مدة ملك بنى أمية ببلاد الأندلس- من سنة ثمان وثلاثين ومائة وإلى هذا التاريخ- مائتى ستة وتسعين، وعدة من ملك منهم خمسة عشر ملكا وهم «2» : عبد الرحمن بن معاوية الداخل، هشام بن عبد الرحمن، الحكم بن هشام المرتضى، عبد الرحمن بن الحكم، محمد ابن عبد الرحمن الأمين، المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله،/ الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن، هشام المؤيد بالله (دفعتين) ، محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدى (دفعتين) سليمان بن الحكم المستعين بالله (دفعتين) . ثم انقطعت دعوتهم بقيام العلويين سبع سنين، وعادت بقرطبة بإمارة المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، ثم المستكفى بالله

ذكر أخبار الأندلس ومن ملكها بعد انقطاع الدعوة الأموية

محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله، ثم المعتمد على الله أبو بكر هشام ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم.. ذكر أخبار الأندلس ومن ملكها بعد انقطاع الدعوة الأموية قال «1» : ولما انقطعت دعوة بنى أمية بعد خلع هشام تعلّب كلّ رئيس على بلد، واستولى عليها، ونحن نذكر ذلك على سبيل الاختصار. فأما قرطبة فاستولى عليها الوزير أبو الحزم جهور ابن محمد بن جهور بن عبد الله بن محمد بن العمر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبى عبيدة. قال:/ وكان من وزراء الدولة العامرية قديم الرئاسة موصوفا بالدهاء والعقل، لم يدخل فى شىء من الفتن قبل ذلك. فلما خلا له الجوّ وأمكنته الفرصة وثب عليها، فتولّى الأمر واستقلّ به، ولم ينتقل عن رتبة الوزارة إلى الإمارة ظاهرا، بل دبّر تدبيرا حسنا لم يسبق إليه. وجعل نفسه ممسكا للوضع إلى أن يجىء مستحقّ يتفق عليه الناس فيسلمه إليه، ورتّب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور- على ما كانت عليه أيام الدولة- ولم يتحول عن داره إليها. وجعل ما يرفع من الأموال السلطانية بأيدى رجال رتّبهم لذلك وهو المشرف عليهم، وصيّر أهل الأسواق جندا وجعل أرزاقهم رؤوس أموال تكون بأيديهم

ذكر ولاية أبى الوليد محمد بن جهور

يأخذون ربحها خاصة ورؤوس الأموال باقية، يؤخذون ويراعون فى الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها. وفرق السلاح عليهم وأمرهم أن يجعلوه فى الدكاكين والبيوت، حتى إذا دهم أمر ليلا أو نهار كان سلاح كلّ واحد معه، وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى. وكانت قرطبة فى أيامه حرما يأمن فيه كلّ خائف، ولم تزل أيامه على أحسن نظام وأكمل اتّاق إلى أن توفى فى صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وتولى بعده ابنه محمد. ذكر ولاية أبى الوليد محمد بن جهور ولى بعده أبيه فجرى على سنّته فى تدبير الأمور ورعاية قلوب الرعية إلى أن مات، وغلب عليها الأمير الملقّب بالمأمون صاحب طليطلة إلى أن مات، ثم استولى ابن عباد على قرطبة على ما نذكره. ذكر أخبار مدينة طليطلة ومن ملكها بعد بنى أمية وكيف كان استيلاء الفرنج عليها أول من تغلّب عليها بعد بنى أمية مع بقائهم بقرطبة رجل يقال له ابن يعيش، وذلك أن أهلها لما خلعوا طاعة بنى أمية قدّموه على أنفسهم وولّوه أمرهم، فلم تطل مدته. وصارت رئاسته إلى إسماعيل ابن عبد الرحمن بن عامر بن مطرّف بن ذى النون الهوارى «1» ، فتغلب على طليطلة. ولم تزل بيده إلى أن توفى فى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، فقام بعده ابنه.

ذكر ولاية المأمون يحيى بن اسماعيل

ذكر ولاية المأمون يحيى بن اسماعيل ولى طليطلة بعد أبيه، ولما ولى أراد أن يستعين بالفرنج على ما/ حوله من المدائن والحصون لينتزعها ممن هى بيده. فكتب إلى ملك من ملوك الفرنج- كان قريبا منه وبينهما مودة ومراسلة- يقال له شنشكند «1» وقال له «اخرج إلىّ فى مائة من فرسانك وإننى فى مكان كذا لأجتمع بك فى أمر لك فيه راحة» فخرج إليه شنشكند فى ستة آلاف فارس، وخرج ابن ذى النون فى مائتى فارس من عسكر طليطلة. وكمّن الفرنجىّ أصحابه خلف جبل بالقرب من الموضع وقال لهم: إذا رأيتمونا قد اجتمعنا فاخرجوا إلينا بأجمكم! فلما فعلوا ذلك ورآهم المأمون سقط فى يده، وحيل بينه وبين عقله فقال له شنشكند: يا يحيى وحقّ الإنجيل ما كنت أظنّك إلّا عاقلا وإذا بك أحمق خلق الله، خرجت إلىّ فى هذا العدد القليل وسلّمت إلىّ مهجتك بغير عهد كان بينى وبينك قبل خروجك ولا دين بجمعنا وقد أمكننى الله منك، وحقّ الإنجيل لا نجوت منى حتى تعطينى الحصن الفلانى والحصن الفلانى- وسمّى حصونا من حصون المسلمين بين طليطلة وبينه- وتجعل لى عليك مالا فى كل سنة!. فأجابه يحيى إلى ما طلب، وسلّمّ إليه الحصون، ورجع إلى طليطلة شر رجوع. وتواتر الخذلان عليه إلى أن مات فى سنة ستين

ذكر أخبار دولة بنى عباد

وأربعمائه، وصارت ولايته إلى ابنه القادر يحيى، فدام يطليطلة/ إلى أن ملكلها الفرنج. قال: ولما ملك امتدت يده إلى أموال الرعية، واستعمل السفلة وأهل الثغور، ولم تزل النصارى تطوى حصونه حصنا بعد حصن حتى استولوا على طليطلة فى سنة ثمان وسبعين بعد أن حاصرهم ألفونش «1» سبع سنين وملكها، واتخذها دار ملك، وغيّر جامعها كنيسة وردّ المسلمين إلى مسجد غيره وعوّضهم مالا وقال: هذه كنيسة كانت لنا فردّها الله علينا! وانتقل القادر بالله إلى بلنسية فقبله القاضى الأحنف بن حجاب. ذكر أخبار دولة بنى عباد وابتداء أمرهم ومن ملك منهم إلى أن انقضت مدّتهم وانقرضت دولتهم أول من قام منهم القاضى محمد بن إسماعيل بن قريش ين عبّاد ابن عمرو بن عطاف بن نعيم- ونعيم وابنه عطاف هما دخلا إلى الأندلس من المشرق- وهم من لخم من بنى المنذر بن المنذر، وفيهم بقول الشاعر: من بنى المنذر وهو انتساب ... زاد فى فخره بنو عبّاد فيه لما تلد سواها المعالى ... والمعالى قليلة الأولاد / وكان محمد بن إسماعيل هذا قد تقدّم بإشبيلية إلى أن ولى القضاء، فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم؛ فرمقته العيون، ومالت

إليه القلوب. فلما كان فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ولى يحيى ابن علىّ الفاطمى قرطبة، وكان من أمره وأمر عمّه القاسم ما ذكرناه. ثم إنّ أهل قرطبة أخرجوا القاسم بن حمّود فقصد مدينة إشبيلية ثم فارقها، وقصدها بعد ذلك يحيى بن علىّ المعتلى ونزل بقرمونة لحصار مدينة إشبيلية وكانت الرئاسة بها بين ثلاثة- كما ذكرنا ذلك- فاجتمع وجوه المدينة وفيهم حبيب ابن عامر القرشى ومحمد بن مرثم الإهابى ومحمد الزبيدى وغيرهم. وأتوا إلى أبى القاسم محمد بن إسماعيل وقالوا: ما ترى ما نحن فيه وما حلّ بنا من هذا الكافر وما أفسد من أموال الناس، فقم بنا نخرج إليه ونملكك ونجعل الأمر لك وننتصر لهشام! ففعل، وخرجوا لقتال يحيى بن على المعتلى، فركب إليهم وهو سكران فقتل كما قدّمنا. وملك محمد بن إسماعيل إشبيلية، وقالوا له: نخرج إلى قرمونة من قبل أن يسبقك إليها إسحاق ابن عبد الله البرزالى! فهمّ محمد بذلك فسبقه إسحاق وملكها، فكتب محمد إلى يحيى بن ذى النون الهوارى صاحب طليطلة يقول له: اخرج بعسكرك أو ابعث إلى بعسكر مع/ قائد من عندك حتى أخرج إسحاق بن عبد الله من قرمونة، وأنا أعينك على أخذ قرطبة وأجعلها لك ملكا! فلما وصل كتابه إلى المأمون خرج إليه بنفسه فى عسكر كبير، فاجتمعا ونزلا على قرمونة، وحاصراها وأخرجها عنها إسحاق. وأخذها محمد بن إسماعيل وأدخل ولده إليها، وسارا إلى قرطبة وحاصراها.

فلما رأى [أهلها] «1» ما حلّ بهم كاتبوا محمد بن إسماعيل وقالوا أنت أولى من المأمون بالبلد وأحبّ إلينا منه! فاستوثق منهم ودخلها ليلا ويحيى لا علم له بذلك.، فلما أصبح وعلم الحال رجع بعسكره إلى طليطلة وكتب إلى ابن عكاشة- وهو رجل شجاع كان بيده بعض حصون الأندلس، يقطع حوله السبيل ويقتل التجار ويأخذ الأموال، وهو يظهر ليحيى طاعة مشوبة بمعصية- فأمره أن يجمع أصحابه وعضّده بعسكر كبير ووجههم إلى قرطبة، فتوجهوا إليها وقد فارقها محمد بن إسماعيل إلى إشبيلية وترك ولده بها. فدخلها ابن عكاشة ليلا، ودخل القصر، وقتل كلّ من وجد من الحرس، وذبح ولد محمد بن إسماعيل بيده. فلما بلغ ذلك محمد جمع العساكر وخرج إلى قرطبة، فحصر ابن عكاشة وضيق عليه، فخرج هاربا. واستوثق من الرعية وعاد إلى إشبيلية، فوصل إليها يحيى بن ذى النون/ وتغلّب عليها. فدسّ عليه محمد بن إسماعيل طبيبه، فسمّه، فمات! فعندها خلص الأمر لمحمد بن إسماعيل، وذلك فى سنة أربع وعشرين.. هكذا نقل عز الدين عبد العزيز ابن شدّاد بن تميم بن المعز بن باديس فى كتابه المترجم بالجمع والبيان، وذكر أيضا فى هذا الكتاب أنّ يحيى توفى فى سنة ستين وأربعمائة، وهذا فيه تناف والله تعالى أعلم.

ذكر أخبار خلف الحصرى

ذكر أخبار خلف الحصرى المشبّه بالمؤيد هشام وقيام دعوتة بمملكة محمد ابن إسماعيل، وما قيل فى ذلك فأما قيام دعوته فإن محمد بن إسماعيل لما استولى على الأمر فى سنة أربع وعشرين وأربعمائة وتعاظم أمره، حسده أمثاله وكثر الكلام فيه وقالوا «قتل يحيى بن على الحسنى من أهل البيت وقتل يحيى بن ذى النون ظلما» واتّسع القول فيه فبقى يفكر فيما يفعله. فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل من أهل قرطبة فقال له: إنى رأيت- هشاما فى قلعة رباح! فقال له محمد: انظر ما تقول! فقال! إنى والله رأيته وهو هشام بلا شك! وكان عند محمد بن إسماعيل عبد من عبيد هشام يسمى تومرت،- وهو الذى كان يقوم على رأس هشام- فقال له محمد:/ إذا رأيت مولاك تعرفه؟ فقال: نعم ولى فيه علامات فأرسل محمد رجلين من الذين ذكروا أنهم رأوا هشاما وقال: توجّها إلى قلعة رباح وائتيانى بهشام! وأسرعا، فتوجّها فوجداه فى مسجد فى قلعة رباح، فدخلا عليه وأعلماه أنهما رسولا القاضى محمد بن إسماعيل إليه. فسار معهما إلى إشبيلية. فلما دخل على القاضى قام إليه وسلم عليه وأنزله ووكل بخدمته تومرت مولاه. فلما رآه تومرت قبل يديه ورجليه وقال للقاضى: هو والله مولاى هشام ابن الحكم. فعند ذلك قام إليه القاضى محمد بن إسماعيل وقبّل رأسه ويديه، وأمر بنيه فدخلوا عليه وفعلوا كفعله، وسلّموا عليه بالخلافة. وأخرجه

محمد بن إسماعيل فى يوم الجمعة إلى الجامع بمدينة إشبيلية، ومشى هو وبنوه بين يديه رجّالة حتى أتى المسجد، فخطب الناس وصلى بهم الجمعة. وبايعه محمد بن إسماعيل وبنوه وجميع أهل البلد ورجع إلى موضعه، وتولّى محمد بن إسماعيل الخدمة بين يديه وجرى فى ذلك على طريقة ابن أبى عامر، غير أنه يخرج إلى الجمعة والأعياد ويصلى طول مدته، ومحمد فى رتبة الوزارة آمرا وناهيا عنه، واستقام لمحمد أكثر مدن الأندلس، فهذا كان سبب قيام دعوته. وأما ما نقل من أخباره فقد ذكرنا فى أخبار بنى أمية أن/ المستعين بالله سليمان بن الحكم لما فتح قرطبة المرة الثانية فى شوّال سنة ثلاث وأربعمائة أحضره ووبّخه، وأن المؤيد فقد لخمس خلون من شوال. وذكرنا أيضا أنّ الناصر علىّ بن حمّود الفاطمىّ لما ملك قرطبة أحضر المستعين وسأله بحضرة الفقهاء والوزراء عن المؤيد هشام فقال «مات فألزمه أن يريه قبره فأخرجه دفينا لا أثر فيه فأمر الناصر بتكفينه ودفنه فى الروضة. وقيل بل هرب بنفسه إلى المشرق مستخفيا حتى وصل إلى مكة- شرّفها الله- وكان معه كيس فيه جوهر وياقوت ونفقة، فشعر به حرّابة مكة، فأخذوه منه، فمال إلى جهة من الحرم وأقام يومين لم يطعم طعاما. فمضى إلى المروة فأتاه رجل فقال له تحسن عمل الطين؟ قال: نعم! فمضى به إلى تراب ليعجنه ووافقه على درهم وقرصة، فقال له: عجّل القرصة فإنى جائع! فأتاه بها فأكلها، ثم عمد إلى التراب فكان مرة يعجن ومرة يجلس، فلما طال عليه ذلك تركه ومضى هاربا على وجهه.

وخرج مع القافلة إلى الشام على أسوإ حال، فوصل إلى بيت المقدس، فمشى فى السوق فرأى رجلا يعمل الحصر الحلفاء فنظر إليه فقال له الحصرى: كأنّك تحسن هذه الصناعة! قال: لا! قال: فتقيم عندى/ تناولنى الحلفاء وأجعل لك أجرة على ذلك. قال: أفعل فأقام عنده يناوله ويعاونه على ما يأمره به من أمور صناعته، فتعلم هشام صناعة الحصر، فصار يعملها ويتقوّت منها. وأقام ببيت المقدس أعواما كثيرة لم يعلم به أحد، ثم رجع إلى الأندلس فى سنة أربع وعشرين وأربعمائة.. هكذا روى جماعة من مشايخ الأندلس! وقال الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم فى كتابه المسمى «نقط العروس فى هذه الحكاية: أخلوقة لم يقع فى الدهر مثلها، وإنما ظهر رجل يقال له خلف الحصرى بعد نيف وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد وادّعى أنه هشام، وبويع له على جميع منابر الأندلس فى أوقات شتى، وسفك الدماء وتصادمت الجيوش فى أمره. وقال أبو محمد بن حزم: وفضيحة لم يقع فى الدهر مثلها، أربعة رجال فى مسافة ثلاثة أيام فى مثلها يسمّى كلّ واحد منهم يأمير المؤمنين، ويخطب لهم فى زمن واحد أحدهم خلف الحصرىّ المذكور بإشبيلة على أنه هشام بن الحكم المؤيد، والثانى محمد ابن القاسم بن حمّود بالجزيرة الخضراء، والثالث محمد بن إدريس بن على

ذكر ولاية أبى عمرو عباد بن محمد

ابن حمّود بمدينة مالقه، والرابع إدريس بن يحيى بن على بشنترين «1» . /وأقام المدّعى أنه هشام بن الحكم نيّفا وعشرين سنة والقاضى محمد ابن إسماعيل فى رتبة الوزير بين يديه، والأمر إليه. وقد استقام لمحمد أكثر بلاد الأندلس، ودفع به كلام الحسّاد وأهل العناد، إلى أن توفى هشام المذكور. فاستبد القاضى بالأمر بعده وملك أكثر مدن الأندلس وحصونها. ولم ينتقل عن مدينة إشبيلية بل جعلها دار ملكه، واستقامت له الأمور، وأطاعته المدن والثغور، واجتهد فى جهاد الفرنج. وكان له فى ذلك القدم المشهور، ومات محمد فى عشر الخمسين وأربعمائة، وولى بعده ابنه عباد. ذكر ولاية أبى عمرو عباد بن محمد ولى بعد أبيه وتلقّب المعتضد بالله، وكان فيه كرم وبأس. فطابت أيامه، وحسنت أفعاله، واستقامت له الأحوال، ورفعت له من بلاد الأندلس الأموال. قال «2» : واتفق له واقعة غريبة فى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وهى أنه شرب ليلة مع رجاله وندمائه فلما عملت فيه الخمر صرفهم وخرج فى الليل ومعه رجل واحد من عبيده. وسار نحو قرمونة وهى [تبعد] «3» عن مدينة إشبيلية ثمانية عشر ميلا، وكان صاحب قرمونة إسحاق بن سليمان البرزالى وقد/ جرت بينه وبينه حروب.

فسار عبّاد حتى أتى قرمونة، وكان إسحاق تلك الليلة فى جماعة من أهل بيته يشربون، فدخل عليه بعض خدّامه فقال: إن صاحب الحرس ذكر أنّ المعتضد عبّادا قائم على باب المدينة ليس معه إلا رجل واحد وهو يستأذن عليك! فعجب القوم من ذلك غاية العجب، وخرج إسحاق ومن عنده إلى باب المدينة فسلّم على عبّاد وأدخله إلى القصر، وأمر بتجديد الطعام والشراب. فلما شرع فى الأكل تذكر ما فعل فسقط فى يده ولم يطق أن يسفه، وندم على ما صنع لما يعلم بينه وبين برزال من الحرب وسفك الدماء، فأظهر التجلّد والانشراح ثم قال لإسحاق: أريد أن أنام! فرفعه على الفراش، فأراهم عبّاد أنه نائم، فقال بعض القوم لبعض: هذا كبش سمين حصل لكم، والله لو أنفقتم عليه ملك الأندلس ما قدرتم على حصوله فى أيديكم، وهو شيطان الأندلس وإذا قتل خلصت لكم البلاد! فقام معاذ بن أبى قرّة وكان من كبرائهم فقال: والله لا فعلنا هذا ولا رضينا به، رجل قصدنا ونزل بنا، ولو علم أنّا نرضى فيه بقبيح لما أتانا مستأمنا إلينا، كيف تتحدث القبائل عنّا أننا قتلنا ضيفنا وخفرنا ذمّتنا، فعلى من يرضى هذا لعنة الله! وهو يسمع فنزل عن السرير فقام القوم بأجمعهم/ فقبّلوا رأسه وجددوا السلام عليه فقال لحاجبه: أين نحن؟ قال: فى منزلك وبين أهلك وإخوانك! قال: ائتونى بدواة وقرطاس. فأتوه بهما، فكتب أسماء القوم، وكتب لكلّ واحد بخلعة ودنانير وأفراس وعبيد وجوار، وأمر أن يرسل كلّ واحد منهم رسولا ليقبض

ذلك. ثم ركب وخرج القوم يشيّعونه إلى قرب إشبيلية، فصرفهم ودخل. وأرسلوا من قبض لهم ما كتب به، ثم أغفلهم ستّة أشهر وكتب إليهم بستدعيهم لوليمة، فجاءه سبعون رجلا منهم فأنزلهم عند رجاله، وأنزل معاذا عنده. وأمر بهم فأدخلوا حماما، وبنى عليهم بابه، فماتوا جميعا، فعزّ ذلك على معاذ بن أبى قرة فقال له عبّاد: لا ترع فإنهم قد حضرت آجالهم وقد أرادوا قتلى، ولولاك ما كنت ناجيا منهم، وإنما جعل الله صيانه دمى بك، فإن أردت الرجوع إلى بلدك رددتك على أجمل الوجوه وأحسنها وأسرّها! فقال له معاذ: بأىّ وجه أرجع أنا دونهم؟ فأمر له المعتضد بألف دينارة وعشرة أفراس وثلاثين جارية وعشرة أعبد، وأنزله فى قصر من أعظم قصوره، وأقطعه فى كلّ عام اثنى عشر ألف دينار، وكان ينفذ إليه فى كل يوم التّحف والطرف. ولم يكن يحضر مجلسه أحد قبله/ إلى أن مات عبّاد فأوصى ولده بمعاذ وقال: يا بنى احفظنى فيه! فجرى فيه على عاده أبيه، ودام بإشليية حتى انقرضت دولة بنى عبّاد. قال بعض أهل إشبيلية: رأيت معاذ بن أبى قرة يوم دخل يوسف بن تاشفين إشبيلية أوّل النهار وعليه ثوب ديباج مخرطم بالذهب وأمامه نحو من ثلاثين عبدا، ورأيته آخر النهار عليه مليس «1» مشتمل به فسبحان من لا يزول ملكه، نسأل الله تعالى أن لا يسلبنا ثوب نعمة أنعمها علينا بمنّه وكرمه.

وفى أيام عبّاد توفى الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن سعدان بن سفيان بن يزيد الفارسى مولى يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أمية. أصل آبائه من قرية منت ليسم من عمل الولبة «1» من كور غرب الأندلس، وسكن هو وآباؤه قرطبة ونالوا بها جاها عريضا ومالا وممدودا. وولّى ابن أبى عامر جدّه سعيدا الوزارة، وولى أبو محمد هذا الوزارة فى أيام المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الأموى. وكان مولده يوم الأربعاء سلخ شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ووفاته فى سلخ شعبان سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكانت مدة حياته اثنتين وسبعين سنة وأحد عشر شهرا. وله كثير من لصنّفات،/ ذكر أنه اجتمع مع الإمام أبى الوليد سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب الباجى صاحب التواليف- وقيل بل الفقيه إبراهيم الخفاجى- فجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: تعذرنى فإن أكثر مطالعتى كانت على سرج الحرّاس! فقال له ابن حزم: وتعذرنى أيضا فإن أكثر مطالعتى كانت على منابر الذهب والفضة! «2» وفى سنة ستين وأربعمائة توفى المعتضد بالله عبّاد بن محمد، وحكى أنه استحضر مغنيا يغنيه ليجعل أوّل ما يبدأ به فألا فكان أول شعر قاله: نطوى الليالى علما أن ستطوينا ... فشعشعينا بماء المزن واسقينا

ذكر ولاية المعتمد على الله

فمات بعد خمسة أيام رحمه الله، ولما مات ولى بعده ابنه محمد. ذكر ولاية المعتمد على الله محمد بن عباد ابن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عبّاد، وكنيته أبو القاسم. ولى بعد وفاة أبيه فى سنة ستين وأربعمائة، وقيل فى سنة إحدى وستين، وكان مولده بباجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، فكان عمره حين ولى ثلاثين سنة. وكان فيه أدب وشعر وكرم/ وتواضع وشجاعة، قال أبو بكر محمد بن عيسى المعروف بابن اللبانة كاتبه يصف الدولة العبادية «كانت الدولة العبادية تشبه العباسية، بها وسعة ملك ووثاق عهد وانتظام عقد، وعدل أئمة واعتدال أمة، كان أربابها يتنافسون فى المكارم ويتغايرون على الشرف المتقادم.. من حلبة السّبق لا برق يخاطفها ... إلى مداها ولا ريح يجاريها تردّهم نسبة نحو السماء فهم ... من مائها، وعلاهم من دراريها يشير إلى المنذر بن ماء السماء، ثم قال «جمعوا كرم الأخلاق إلى شرف الأعراق، وحملوا حلى الأداب على الأحساب، وعضّدوا البأس بالكرم وأيّدوا بالسيف والقلم.. نفر إلى ماء السماء نماهم ... نسب على أوج النجوم مخيّم بالبيض والبيضات والخلق اكتسوا ... فتوسّحوا وتتوّجوا وتعمّموا

وكان بهذا البيت سرير الفلك الدائر وغريبه البحر الزاخر المعتمد على الله المؤيد بنصر الله أبو القاسم محمد» وذكر نسبه، ثم قال: من بنى المنذر وهو انتساب ... البيتين، وقد ذكرناهما آنفا، وقال تلوهما: وكذلك يطّرد النّسب اطراد/ الشآبيب، ويتّسق إتّساق الأنابيب، فهو كما قيل: شرف ينقّل كابرا عن كابر ... كالرّمح أنبوب على أنبوب إلى مركز الدائرة من لخم وواسطة المنتخبين من يعرب وقحطان! ثم ذكر مولده وولايته على ما قدمنا وذكر خلعه فى سنة أربع وثمانين على ما نذكره إن شاء الله. وكان سبب خلعه وانقراض دولته أن الفرنج- لعنهم الله- لما استولوا على طليطلة وملكها الأذفونش- وهو ألفنش- فى سنة ثمان وسبعن وأربعمائة على ما قدمناه. وكان المعتمد. يؤدّى إليه ضريبة فى كلّ سنة، فلما سيّرها إليه بعد استيلائه على طليطلة لم يقبلها وأعادها، وأرسل إليه يتوعده ويقول له: أنا آخذ مدينة قرطبة كما أخذت طليطلة إلا أن ترفع يدك عن جميع الحصون وتسلّمها إلينا ويكون لك السّهل من البلاد! وكان الرسول سلبيب اليهودىّ ومعه خمسمائة فارس، وطلب منه اثنى عشر ألف دينار، فأمر المعتمد بإنزال الخيالة على أهل العسكر متفرقين وأمر كلّ من عنده فارس منهم أن يقتله. ولما جنّ الليل أحضر اليهودىّ وكشف رأسه، وأمر بضربه بالنعال المسمرة، حتى خرجت عيناه من رأسه. وهرب من الخيالة ثلاثة، فوصلوا

إلى الأذفوشن وأعلموه بقتل أصحابه وكان متوجها إلى قرطبة يريد حصارها- فلما جاءه الخبر رجع إلى طليطلة ليستعد ويهيّىء آلات الحصار. فلما سمع المعتمد برحيله إلى طليطلة سار هو إلى إشبيلية فبلّغ مشايخ قرطبة ما جرى، فاجتمعوا بالفقهاء وقالوا: هذه مدائن الأندلس قد غلب عليها الفرنج ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرّت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت! ثم ساروا إلى القاضى عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصّغار والذلة وإعطائهم الجزية إلى الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم، وابن عبّاد هو الذى حمل الفرنج على المسلمين حتى جرى ما جرى وطلب منه ما طلب، وقد دبّرنا رأيا نعرضه عليك! قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب أفريقية ونعلمهم أنهم إن وصلوا إلينا قاسمناهم فى أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين فى سبيل الله تعالى! قال: أخاف أن يخربوا الأندلس كما فعلوا بأفريقية ويتركوا الفرنج ويبدأوا بكم والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالا. قالوا: فكاتب يوسف بن ناشفين ورغّب إليه أن يدخل إلينا بنفسه أو يرسل إلينا قائدا من قوّاده. قال: أمّا الآن فقد أشرتم برأى فيه السّداد! وقدم المعتمد إلى قرطبة فى أثر ذلك، فدخل عليه القاضى وأعلمه بما دار بينه وبين أهل قرطبة وما اتفقوا عليه، فقال المعتمد: نعم ما أشاروا به وأنت رسولى/ إليه! فامتنع القاضى واستعفاء

ذكر وقعة الزلاقة

وإنما أراد أن يقوّى عزمه على إرساله فقال: لا أجد لها غيرك. فسار القاضى، وصحبه أبو بكر بن القصيرة الكاتب إلى أمير المسلمين، فوجداه بسبتة، فأبلغاه الرسالة. وأعلماه بحال المسلمين وما هم عليه من الخوف والجزع من الأذفونش، وأنهم يستنصرون بالله ثم به؛ وأن المعتمد يستنجده عليه. فأمر يوسف فى الحال بإدخال العساكر إلى الجزيرة الخضراء، وأقام بسبتة وأنفذ إلى مراكش فى طلب من بقى، ودخل فى آخر العساكر.. هذا ما نقله أهل التاريخ، أن القاضى وابن القصيرة كانا رسولين إليه، وقيل إن المعتمد بن عبّاد سار بنفسه بغير واسطة وتلطّف فى الدخول عليه إلى أن انتهى إلى آخر بواب فقال له: قل لأمير المسلمين إن ابن عبّاد بالباب! فلما أعلمه بذلك ارتاع وظن أنه قدم بعساكره، وسأله عن حقيقة الحال فقال: هو ببابك وحده فأذن له، فدخل عليه، فأكرمه ووعده النصر. وعاد ابن عباد، ولحقه أمير المسلمين. ذكر وقعة الزلاقة وانهزام الفرنج لعنهم الله/ قال «1» : وجمع المعتمد العساكر وأقبل أمير المسلمين بعساكره، واجتمعوا كلهم بإشبيلية، وخرج من أهل قرطبة- من المتطوعين- أربعة آلاف فارس وراجل. وجاء المسلمون من بلاد الأندلس، من كل بلد وحصن. واتصلت الأخبار بالأذفونش،

فخرج من طليطلة فى أربعين ألف فارس غير من أنضاف إليها، وكتب إلى يوسف كتابا كتبه عنه رجل من أدباء المسلمين يغلظ فيه القول ويصف ما عنده من القوة والعدد والعدد، ووسّع وأطال وبالغ. ووصل الكتاب إلى يوسف بن تاشفين فأمر الكاتب أبا بكر ابن القصيرة أن يجاوبه. وكان كاتبا مجيدا- فكتب وأطال وبالغ، فلما قرأه على يوسف استطاله وكتب على ظهر كتابه» الذى يكون ستراه» ولا كتب إلى المشرفيّة والقنا ... ولا رسل إلا بالخميس العرمرم وردّه إليه، فلما قرأ الجواب ارتاع وقال: هذا رجل له عزم! قال «1» : ولما استعد الأذفونش للّقاء رأى فى منامه كأنه راكب فيلا وبين يديه طبل صغير ينقر فيه، فقصّ ذلك على القسيسين فلم يعرفوا تأويله، فاستحضر رجلا مسلما عالما ديّنا فاستعفاه من القول فأمّنه وعزم عليه، فقال: تأويل هذه الرؤيا فى آيتين من كتاب الله عزّ وجلّ! وقرأ سورة الفيل، وقوله تعالى «فإذا نقر فى/ النّاقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير» «2» وذلك يقتضى هلاك الجيش الذى تجمعه. فلما اجتمع الجيشس وعبّأه أعجبته كثرته، فاستحضر المعبر وقال له: هذا الجيش الذى ترى ألقى به محمدا صاحب كتابكم! فانصرف المعبّر عنه وقال: هذا الملك هالك لا محالة وكلّ من معه

فإنه قد أعجب بجمعه ... وذكر قول النبىّ صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات» الحديث ... قال «1» : وسار المعتمد بن عبّاد وأمير المسلمين بالعساكر حتى أتوا موضعا يقال له الزلّاقة من بلد بطليموس «2» وأتى الأذفونش فنزل موضعا بينه وبينهم- ثمانية عشر ميلا، فقيل ليوسف بن تاشفين إنّ ابن عبّاد ربما لم ينصح ولا يبذل نفسه دونك، فأرسل تقول له «كن فى المقدمة ونكون نحن فى أثرك» . فتقدّم ابن عباد. وضرب الأذفونش خيامه فى سفح جبل والمعتمد بن عبّاد فى سفح جبل آخر بحيث يتراءان، ونزل يوسف بن تاشفين فى جبل من وراء الجبل الذى فيه المعتمد. وظنّ الأذفونش أن عسكر المسلمين ليس إلّا ذاك الذى يظهر له مع المعتمد والأذفونش فى زهاء خمسين ألف فارس، فما شكّ أنه الغالب واستعمل الخدعة. وأرسل ابن عبّاد فى ميقات اللقاء يوم الخميس، وقال: نحن قد وصلنا على حال تعب وأمامكم الجمعة وأمامنا الأحد فيكون اللقاء يوم/ الإثنين بعد أهبة! فاستقر الأمر بينهما على ذلك. ثم ركب الأذفونش صبيحة الجمعة ليلا، وصبّح بجيشه جيش المعتمد، فوقع القتال بينهم، فصبر المسلمون وقتل منهم خلق كثير، وأشرفوا على الانهزام. وقد كان المعتمد أرسل إلى ابن

تاشفين فقال للأدلّة: احملونى إلى مضارب الأذفونش! فما شعر الفرنج إلا وقد نهبت خيامهم وخزائن الأذفونش وعدده، والقتل يعمل فيهم من رواء ظهورهم. فلم يتمالك الفرنج أن انهزموا وأخذهم السيف من كلّ مكان، فقتلوا عن آخرهم، فما سلم إلا آحاد! وهرب الأذفونش فى نفر يسير ودخل طليطلة فى سبعة فوارس، ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة نفر أكثرهم رجّالة. وكانت هذه الوقعة فى يوم الجمعة فى العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأصاب المعتمد جراحا فى وجهه، ووصف فى ذلك اليوم بالشجاعة. وغنم المسلمون من أموال الفرنج وأسلحتهم ما لا يحصى كثرة، وجعل المسلمون رؤوس القتلى كوما كبيرا وصعدوا عليه وأذّنوا إلى أن جافت فأحرقوها!. وعاد المعتمد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء وعدّى إلى سبته وسار إلى مراكش. وعاد فى السنة الثانية إلى جزيرة الأندلس وحاصر/ ليطة «1» هو وابن عباد وصاحب غرناطة «2» ، فلم يتهيأ لهم فتحه، فرجع وأخذ غرناطة من صاحبها عبد الله بن بلكمين، وهى أول ما ملكك من بلاد الأندلس على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر انقراض الدولة العبادية

ذكر انقراض الدولة العبادية وشىء من أخبار المعتمد وشعره فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة أتى يوسف بن تاشفين إلى سبتة ودخل العساكر إلى الأندلس مع سيرين [بن] «1» أبى بكر، فقصدوا مدينة إشبيلية، فحصروا المعتمد وضيقوا عليه. فقاتل قتالا شديدا، وظهر من شجاعته وشدّة بأسه وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره فسمع الفرنج بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا وأكثروا وساروا لمساعدة المعتمد وإغاثته على المرابطين. فلما سمع بمسيرهم «2» فارق إشبيلية وتوجّه إلى لقاء الفرنج، وقابلهم وهزمهم، ورجع إلى إشبيلية. ودوام الحصار والقتال إلى العشرين من شهر رجب من السنة، فعظم الخطب واشتد الأمر على أهل البلد. ودخله المرابطون من واديه ونهبوا الأموال، ولم يبقوا على/ شىء حتى سلبوا الناس ثيابهم، وخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم. وأسر المعتمد ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع أموالهم. وقيل إن المعتمد سلّم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واشتحلفهم على نفسه وأهله وماله وعبيده وجميع ما يتعلق به. فلما سلّم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وسيّر المعتمد

إلى مدينة أغمات «1» ، فحبسوا بها، وفعل بهم أمير المسلمين أفعالا قبيحة لم يفعلها أحد قبله. وذلك أنه سجنهم ولم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كان بنات المعتمد يغرلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، فأبان أمير المسلمين فى ذلك عن لؤم طباع وضيق نفس. قال «2» : وبقى المعتمد فى حبسه بأغمات إلى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فتوفى فيها، وقبره بأغمات. فكان من بنى عبّاد ثلاثة؛ القاضى محمد ابن إسماعيل، وابنه عباد، ومحمد بن عبّاد هذا، ومدة ملكهم ستون سنة، وكان له من الأولاد الذكور والإناث [] «3» وكان رحمه الله من محاسن الزمان كرما وعلما ورئاسة وأخباره مشهورة وآثاره مدوّنة. وقد ذكره ابن خاقان فى «قلائد العقيان» ، وذكر شيئا من نظمه ونثره. وكان شاعره أبا بكر/ محمد بن عيسى الدانى المعروف بابن اللبّانة «4» يأتيه فى سجنه فيمدحه لإحسانه القديم إليه وبرّه الذى بقيت آثاره مع طول الزمن عليه، قال ابن اللبّانة: فأمضيت عزيمتى بعد انقضاء

الدولة فى زيارته، فوصلت إليه بأغمات، فقلت فى ذلك أبياتا عند دخولى عليه. لم أقل فى النّقاف كان نقافا ... كنت قلبا له وكان شغافا يمكث الزّهر فى الكمام ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا وإذا ما الهلال غاب بغيم ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا إنما أنت درّة للمعالى ... ركّب الدّهر فوقها أصدافا حجب البيت منك شخصا كريما ... مثل ما يحجب الدّنان السلافا أنت للفضل كعبة ولو انّى ... كنت أسطيع لالتزمت الطّوافا قال: وجرت بينى وبينه مخاطبات ألذّ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدلّ على السماح، من فجر على صباح- قال- فلما قاربت الصدر وأزمعت السفر، صرف حبله واستنفذ ما قبله، وبعث إلىّ شرف الدولة ابنه- وكان من أحسن الناس سمتا وأكثرهم صمتا، تخجله اللفظة وتجرحه اللحظة، حريصا على طلب الأدب مسارعا فى اقتناء الكتب، مثابرا على نسخ الدواوين ففتّح من خطّه فيها زهر البساتين- بعشرين مثقالا مرابطية «1» وثوبين/ غير مخيطين، وكتب مع ذلك أبياتا منها: إليك النّزر من كفّ الأسير ... وإن تقنع نكن عين الشّكور تقبّل ما ندوت به جباء ... وإن غدرته حالات الفقير

قال ابن اللبّانة فأجبته: حاش لله أن أحيج كريما ... يتشكّى فقرا وكم سدّ فقرا وكفانى كلامك الرطب نيلا ... كيف ألقى درّا وأطلب تبرا لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا مما قاله المعتمد من شعره فى مدة أسره- فمن ذلك- قوله: سلّت علىّ يد الخطوب سيوفها ... فجررن من جسدى الخصيف الأمتنا ضربت بها أيدى الضروب وإنما ... ضربت رقاب الآمنين بها المنى يا آملى العادات من نفحاتنا ... كفّوا فإن الدهر كفّ أكفّنا وقال فى قصيدة يصف القيد فى رجليه: تعطّف من ساقى تعطّف أرقم ... يساورها عضّما بأنياب ضيغم وإنّى من كان الرجال بسيبه ... من سيفه فى جنّة وجهنم وقال فى يوم عيد: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فصرت كالعبد فى أغمات مأسورا قد كان دهرك إن يأمره ممتثلا ... فردّك الدّهر منهيا ومأمورا / من بات بعدك فى ملك يسرّ به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا وتعرّض له أهل الكدية وهو فى الحبس فقال: سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحقّ منهم فاعجب لولا الحياء وعزّة لخمية ... طىّ الحشا لحكاهم فى المطلب ورثا ولديه وقد ذبحا بين يديه فقال: يقولون صبرا.. لا سبيل إلى الصّبر ... سأبكى وأبكى ما تطاول من عمرى

أفتح.. لقد فتّحت لى باب رحمة ... كما بيزيد الله قد زاد فى أجرى هوى بكما المقدار عنّى ولم أمت ... فأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر ولو عدتما لاخترتما العود فى الثّرى ... إذا أنتما أبصرتمانى فى الأسر أبا خالد أورثتنى البثّ خالدا ... أبا النّصر مذ ودّعت ودّعنى نصرى قال: وكان الشيخ عبد الجبار بن أبى بكر بن محمد بن حمد يس توجه من المغرب إلى الأندلس فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فقصد المعتمد، وأقام عنده إلى أن خلع، فكتب إليه المعتمد بعد أن عاد إلى المهدية: غريب بأقصى المغربين أسير ... يبكّى عليه منبر وسرير أذلّ بنى ماء السماء زمانهم ... وذلّ بنى ماء السماء كثير فما ماؤها إلا بكاء عليهم ... يفيض على الآفاق منه بحور فأجابه محمد بن حمد يس: جرى لك جدّ بالكرام عثور ... وجار زمان كنت منه تجير لقد أصبحت بيض الظّبا فى غمودها ... إناثا بترك الضّرب وهى ذكور

ولما رحلتم بالنّدى فى أكفّكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير رفعت لسانى بالقيامة قد دنت ... ألا فانظروا كيف الجبال تسير؟ قال ولما توفى المعتمد وقف ابن اللبانة على قبره فى يوم عيد- والناس عند قبور أهاليهم- وأنشد بصوت عال: ملك الملوك أسامع فأنادى ... أم قد عداك عن الجواب عواد لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت فى الأعياد قبّلت فى هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد وأخذ فى إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلّهم عليه يبكون لبكائه وإنشاده. وحكى بعض المعتنين بأخبارهم أن فخر الدولة ابن المعتمد على الله مرّ يوما فى بعض شوارع مدينة إشبيلية، فطمحت عينه إلى روشن قرأى وجها حسنا فتعلّق قلبه به، ولم يمكنه الوصول، فخامره الهوى ومرض من ذلك. فاتصل خبره بأبيه، فسأل عن المرأة فقيل إنها ابنة رجل خباز، فأمر الوزير أن ينفذ إلى أبيها ويخطبها منه. فأرسل إليه الوزير فعلم ما يراد به، فامتنع من الوصول إليه وقال: هو أحقّ بالوصول إلىّ فى هذه الحالة! فأعلم المقتدر بذلك فقال: تصل إليه وتخطبها. فلما وصل إليه وخطبها قال الخباز للوزير: أله صنعة؟ فقال الوزير: ابن المعتمد يطلب منه صنعة وهو سلطان الأندلس؟ فقال له: أمها طالق إن زوجتها إلا من له صناعة يستر حاله وحالها بها إن احتاج إليها. فأعلم الوزير المعتمد فقال: هذا رجل عاقل! فأمر بإحضار الصاغة إلى القصر وعلّم فخر الدولة الصياغة وحذق فيها فلما جرى

[ذكر ممالك الأندلس الأخرى]

عليهم ما جرى دخل حوانيت الصاغة، وصاغ بالأجره فرآه ابن اللبّانة وهو ينفخ فى بعض الحوانيت فقال: أذكى القلوب أسى، أبكى العيون دما ... خطب وجودك فيه يشبه العدما صرّفت فى آلة الصيّاغ أنملة ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما يا صائغا كانت الدنيا تصاغ له ... حليا وكان عليه الحلى منتظما النّفخ فى الصور هول ما حكاه سوى ... هول رأيتك فيه تنفخ الفحما قال: ولما انقرضت الدولة العبادية صار ملك بلاد المسلمين إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب مراكش والمغرب، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى أخباره. [ذكر ممالك الأندلس الأخرى] «1» وأما سرقسطة والثغر الأعلى/ فكان ذلك بيد منذر بن يحيى إلى أن توفى وولى بعده ابنه يحيى، ثم ولى بعده سليمان بن أحمد بن محمد ابن هود الجذامى، وكان يلقّب بالمستعين، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة مع الفرنج فى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم توفى وولى بعده ابنه أحمد المقتدر بالله، وولى بعده

يوسف المؤتمن، ثم ولى بعده أحمد المستعين على لقب جدّه، ثم ولى ابنه عماد الدولة. ثم ابنه أحمد المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمسمائة، وصارت للملثمين. وأما طرطوشة فوليها الفتى العامرى. وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن محمد بن المنصور بن أبى عامر، ثم انضاف إليه إلمرية، وما كان إليها. وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذى النون فى ذى الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة.. وأما السّهلة «1» فملكها عبّود بن رزين، وأصله بربرى، ومولده بالأندلس. فلما هلك ولى بعده ابنه عبد الملك، ثم ابنه عزّ الدولة، ثم الملثمون. وأما دانية «2» والجزائر فكانتا بيد الموفق أبى الجيش مجاهد العامرى، وسار إليه من/ قرطبة الفقيه أبو محمد عبد الله المعيطى ومعه خلق كثير. فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عن رأيه، وبايعه فى جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة. وأقام المعيطى معه بدانية نحو ثلاثة أشهر، ثم سار هو ومجاهد فى البحر إلى الجزائر وهى

ميورقة ومنورقة ويابسة «1» . ثم بعث المعيطى بعد ذلك مجاهدا إلى سردانية فى مائة وعشرين فارسا ومعه ألف فرس، ففتحها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وأربعين وأربعمائة وقتل بها خلقا كثيرا من النصارى، وسبى. فسار إليه الفرنج والروم فى آخر السنة فأخرجوه منها، فرجع إلى الأندلس فوجد المعيطى قد مات. وبقى مجاهد إلى أن مات، وولى بعده اينه علىّ بن مجاهد ثم مات، فولى بعده ابنه أبو عامر. ثم صارت دانية وسائر بلاده إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود، فى شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبى عبد الرحمن المدعو بالرئيس إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبى بكر بن عمّار الفهرى، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجّه إليه عسكرا مقدّمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق العشيرى فحصره. وضيقوا/ عليه فهرب منها، ودخلها العشيرى وملكها فعصى فيها على المعتمد ابن عبّاد إلى أن دخل فى طاعة الملثمين، وبقى بها إلى أن مات فى سنة سبع وخمسمائة. وأما إلمرية فملكها خيران العامرىّ إلى أن توفى، وملكها زهير العامرى واتسع ملكه إلى شاطبة إلى ما يجاور عمل طليطلة. ودام إلى أن قتل وصارت مملكته إلى المنصور أبى الحسن بن أبى عامر-

صاحب بلنسية، فولّى عليها محمدا ابنه، فأقام بها مدة فى حياة أبيه وبعد وفاته إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص معن بن محمد ابن صمادح التجيبى. ودانت له لورقة وبيّاسه «1» وجيّان وغيرها، إلى أن توفى فى سنه ثلاث وأربعين وأربعمائة، وولى بعده ابنه أبو يحيى محمد ابن معن- وهو ابن أربع عشرة سنة- فكفّله عمه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفى فى سنة ستّ وأربعين وأربعمائة. فبقى أبو يحيى مستضألا لصغره، وأخذ ما بعد من بلاده عنه، ولم يبق له غير إلمرية وما جاورها. فلما كبر أخذ نفسه بالاشتغال بالعلوم ومكارم الأخلاق، فامتد صيته واشتهر ذكره وعظم سلطانه والتحق بأكابر الملوك. ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين فمرض فى أثناء ذلك، وكان القتال/ تحت قصره فسمع يوما صياحا وجلبه فقال: يغصّ علينا كلّ شىء حتى الموت! وتوفى فى مرضه ذلك لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك الملثمون إلمرية. ودخل أولاده وأهله فى البحر إلى بجاية «2» ، والتحقوا ببنى حمّاد. وأما مالقة فملكها بنو على بن حمّود، فلم تزل فى مملكة العلويين يخطب لهم فيها بالخلافة إلى أن أخذها منهم باديس بن حبّوس صاحب غرناطة.

وأما أغرناطة فملكها حيوس بن ماكسنى الصنهاجى، ثم مات فى سنة تسع وعشرين وأربعمائة وولى بعده ابنه باديس إلى أن توفى وولى بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكّين «1» . وبقى إلى أن ملكها منه الملثمون فى شهر رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وانقرضت جميع هذه الدول، وصارت الأندلس جميعها للملثمين على ما نذكره إن شاء الله- عزّ وجل- فى أخبارهم أيام أمير المسلمين. يوسف بن تاشفين. ولما كانت جزيرة الأندلس بيد هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم، كانوا يسمّون بملوك الطوائف وبسبب انفراد كلّ ملك منهم بجهة استولى الفرنج على طليطلة كما ذكرنا.

ثبت بأسماء المراجع العربية المذكورة فى الحواشى

ثبت بأسماء المراجع العربية المذكورة فى الحواشى 1- مسكوبه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم ط. القاهرة سنة 1920 2- الطبرى: تاريخ الأمم والملوك ط. الاستقامة سنة 1939 3- عريب القرطبى: صلة الطبرى ط. الاستقامة سنة 1939 4- على بن موسى: المغرب فى حلى المغرب ط. دار المعارف بمصر 5- الصابى: تحفة الأمراء فى تاريخ الوزراء ط. بيروت سنة 1904 6- ابن طباطا: الفخرى فى الآداب السلطانية ط. دار المعارف (الثانية) 7- البهقى: تاريخ البهقى ط. الانجلو سنة 1956 8- ابن الجوزى: المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. ط. حيدر اباد الدكن (الأولى) 9- العماد الحنبلى: شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ط. القدسى سنة 1350 10- ابن كثير: البداية والنهاية ط. السعادة بمصر. 11- أبو المحاسن بن تغرى بردى: النجوم الزاهرة ط. دار الكتب (الأولى)

12- المقريزى: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك ط. دار الكتب المصرية 13- ابن حسول: تفضيل الأتراك على سائر الأجناد ط. استنبول سنة 1940 14- ابن الأثير: الكامل ط. المنيرية سنة 1348 15- ابن سليمان الراوندى: راحة الصدور وآية السرور ط. دار القلم بالقاهرة 16- المقرى: نفح الطيب ج 1 ط. التجارية 1949 17- ياقوت: معجم البلدان ط. دار صار بيروت سنة 1952 18- الحميرى: صفة جزيرة الأندلس منتخبة من كتاب الروض المعطار فى خبر الأقطار ط. لجنه التأليف والترجمة والنشر سنة 1937

فهرس الجزء الثالث والعشرين

فهرس الجزء الثالث والعشرين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري مقدمة 5 ذكر خلافة المكتفى بالله 11 ذكر قتل بدر غلام المعتضد بالله 12 ذكر وفاة المكتفى بالله 22 ذكر خلافة المقتدر بالله 22 ذكر خلافة المتقدر بالله 23 ذكر خلع المتقدر وولاية ابن المعتز، وانتقاض ذلك وعودة المتقدر ووفاة عبد الله ابن المعتز 26 ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانى 34 ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة على بن عيسى 37 ذكر خروج الحسين بن حمدان عن طاعة المقتدر 41 ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل على بن عيسى 42 ذكر أمر يوسف بن أبى الساج 45 ذكر عزل ابن الفرات عن الوزارة ووزارة حامد بن العباس 51 ذكر قتل الحسين بن منصور الحلاج وشىء من أخباره 57 ذكر عزل حامد بن العباس وولاية ابن الفرات 62 ذكر القبض على ابن الفرات الوزير وولده المحسن 68 ذكر وزارة أبى القاسم الخاقانى 70 ذكر مقتل ابن الفرات وولده 70 ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة ووزارة أبى العباس الخصيبى 74 ذكر عزل أبى العباس الخصيبى ووزارة على بن عيسى 75 ذكر ابتداء الوحشة بين المتقدر بالله وبين مؤنس 77 ذكر عزل على بن عيسى عن الوزارة ووزارة أبى على بن مقلة 79 ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب الحال واستيحاش مؤنس 79

ذكر خلع المقتدر بالله وبيعة القاهر 81 ذكر عود المقتدر بالله إلى الخلافة وقتل نازوك وابن حمدان 84 ذكر هلاك الرجالة المصافية 89 ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان 90 ذكر خروج صالح والأغر 91 ذكر عزل سليمان عن الوزارة وتولية أبى القاسم الكلوذانى الوزارة 93 ذكر عزل الكلوذانى ووزارة الحسين 94 ذكر تأكيد الوحشة بين مؤنس والمقتدر 95 ذكر مسير مؤنس إلى الموصل 96 ذكر عزل الحسين عن الوزارة ووزارة ابن الفرات 97 ذكر استيلاء مؤنس على الموصل 97 ذكر مقتل المقتدر بالله 98 ذكر خلافة القاهر بالله 105 ذكر خبر عبد الواحد بن المقتدر ومن معه 107 ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر 109 ذكر القبض على مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وابنه 110 ذكر مقتل مؤنس ويلبق وابنه على والنوبختى 114 ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم وعزله وولاية الحضيبى 115 ذكر القبض على طريف السبكرى 115 ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره 116 ذكر خلافة الراضى بالله 121 ذكر مقتل هارون بن غريب 123 ذكر مقتل الشلمغانى ومذهبه 124 ذكر ظهور إنسان ادعى النبوة 128 ذكر القبض على ابنى ياقوت 129 ذكر حال أبى عبد الله محمد البريدى وتقدمه 130 ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل 131 ذكر القبض على الوزير ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى وغيره 132 ذكر عزل أبى جعفر ووزارة سليمان بن الحسن 134 ذكر وزارة الفضل بن جعفر (بن الفرات) 136 ذكر مسير الراضى بالله لحرب البريدى 137 ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز 142 ذكر الحرب بين بجكم والبريدى والصلح بعد ذلك 144

ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه 145 ذكر استيلاء بجكم على بغداد وشىء من أخباره 147 ذكر مسير الراضى بالله وبجكم إلى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام 149 ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى للخليفة الراضى بالله 151 ذكر وفاة الراضى بالله وشىء من أخباره 152 ذكر خلافة المتقى لله 154 ذكر مقتل بجكم 156 ذكر إصعاد أبى عبد الله البريدى إلى بغداد 157 ذكر عود البريدى إلى واسط هاربا 158 ذكر إمارة كور تكين الديلمى 159 ذكر عود محمد بن رائق إلى بغداد وولايته إمرة الأمراء 160 ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى 163 ذكر استيلاء البريدى على بغداد وإصعاد المتقى لله إلى الموصل 164 ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء 166 ذكر عود المتقى لله إلى بغداد وهرب البريدى عنها 167 ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدى 168 ذكر ما اتفق لسيف الدولة بواسط ورجوع ناصر الدولة إلى الموصل 168 ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة من واسط 170 ذكر عود سيف الدولة إلى بغداد وهربه منها 170 ذكر إمارة توزون 171 ذكر الوحشة بين المتقى وتوزون 171 ذكر مسير المتقى لله إلى الموصل 173 ذكر قتل أبى يوسف البريدى 174 ذكر وفاة أبى عبد الله البريدى ومن قام بعده بالأمر 175 ذكر ما كان من أمر المتقى لله إلى أن خلع وسمل 176 ذكر خلافة المستكفى بالله 179 ذكر وفاة توزون وإمارة ابن شيرزاد 182 ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد 183 ذكر خلع المستكفى بالله وسمله 184 ذكر خلافة المطيع لله 185 ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود 189 ذكر ظهور المستجير بالله 190 ذكر ضمان الحسبة والقضاء والشرطة ببغداد 190

ذكر استيلاء الروم على عين زربة وما حولها من الحصون 191 ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس 192 ذكر البيعة لمحمد بن المستكفى وما كان من أمره 195 ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة 196 ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية 197 ذكر ملك الروم ملازكرد 198 ذكر مقتل ملك الروم نقفور 198 ذكر الفتنة ببغداد ومصادرة الخليفة المطيع لله 200 ذكر خلع المطيع لله نفسه من الخلافة وخلافة ابنه الطائع لله 201 ذكر خلافة الطائع لله 202 ذكر الحوادث فى أيام خلافته 202 ذكر القبض على الطائع وشىء من أخباره 204 ذكر خلافة القادر بالله 206 ذكر تسليم الطائع لله إلى القادر وما فعله معه 209 ذكر البيعة لولى العهد 212 ذكر الفتنة بمكة 213 ذكر البيعة لولى العهد 215 ذكر ملك الروم مدينة الرها 216 ذكر وفاة القادر بالله وشى عن أخباره وسيرته 217 ذكر خلافة القائم بأمر الله 219 ذكر الحوادث فى أيام القائم 220 ذكر أخبار أبى الحارث أرسلان البساسيرى 222 ذكر استيلاء أبى الحارث البساسيرى على العراق وخروج الخليفة القائم بأمر الله من بغداد والخطبة للمستنصر بالله العلوى صاحب مصر وقطع الدعوة العباسية 226 ذكر مقتل رئيس الرؤساء وعميد العراق 229 ذكر عود الخليفة القائم بأمر الله إلى بغداد وخروج البساسيرى منها وقتله 232 ذكر غرق بغداد 239 ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من سيرته 240 ذكر خلافة المقتدى بأمر الله 242 ذكر الحوادث فى أيام المقتدى 243 ذكر الفتنه ببغداد بين الشافعية والحنابلة 246 ذكر مسير الشيخ أبى إسحاق برسالة الخليفة إلى السلطان ملكشاه 246

ذكر عزل عميد الدولة عن الوزارة ومسير والده إلى ديار بكر 247 ذكر وفاة المقتدى بأمر الله وشىء من أخباره 252 ذكر خلافة المستظهر بالله 253 ذكر الحوادث فى أيام المستظهر بالله 254 ذكر وفاة المستظهر بالله وشىء من أخباره وسيرته 260 ذكر خلافة المسترشد بالله 261 ذكر ظهور قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 262 ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس بن صدقة 265 ذكر الاختلاف الواقع بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان محمود 267 ذكر حصار الخليفة المسترشد بالله الموصل 271 ذكر مسير المسترشد بالله لحرب السلطان مسعود بن محمد وأسره 272 ذكر مقتل المسترشد بالله 276 ذكر خلافة الراشد بالله 277 ذكر الحرب بين عسكر الخليفة الراشد بالله وعسكر السلطان مسعود 278 ذكر مسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه 279 ذكر خلافة المقتفى لأمر الله 282 ذكر تفويض أمور الدولة والوزارة إلى الوزير عون الدين بن هبيرة وما أقطعه الخليفة من الأقطاعات 287 ذكر حصر تكريت وعود عسكر الخليفة عنها وأسر ابن الوزير 288 ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزا 289 ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وشىء من أخباره 293 ذكر خلافة المستنجد بالله 294 ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكى 297 ذكر إجلاء بنى أسد من العراق 297 ذكر وفاة المستنجد بالله وشىء من أخباره وسيرته 299 ذكر خلافة المستضىء بأمر الله 300 ذكر مقتل الوزير أبى جعفر بن محمد المعروف بابن البلدى 301 ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغداد وعود عضد الدين إلى الوزارة 303 ذكر مقتل الوزير عضد الدولة وولاية ظهير الدين بن العطار 306 ذكر فتنة ببغداد وهدم بيعة اليهود 307 ذكر وفاة المستضىء بأمر الله 308 ذكر خلافة الناصر لدين الله 308 ذكر القيض على بن العطار وموته 309

ذكر انهزام عسكر الخليفة من طغرل 310 ذكر ملك الخليفة خوزستان 312 ذكر ملك الوزير همذان وغيرها من بلاد العجم 313 ذكر ملك عسكر الخليفة إصفهان 314 ذكر وفاة الناصر لدين الله وشىء من أخباره وسيرته 317 ذكر خلافة الظاهر بأمر الله 318 ذكر خلافة المستنصر بالله 321 ذكر خلافة المستعصم بالله 322 ذكر مقتل المستعصم بالله وانقراض الدولة العباسية واستيلاء هولاكو على بغداد 323 جامع أخبار خلفاء الدولة العباسية ومن ولى منهم ومدة خلافتهم 325 ذكر خلافة المستنصر بالله 327 ذكر مسير الخليفة المستنصر بالله إلى بلاد الشرق وقتله 329 ذكر خلافة الحاكم بأمر الله 331 ذكر خلافة المستكفى بالله 332 الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية ببلاد الأندلس 334 ذكر مقتل عبد الرحمن بن يوسف الفهرى 339 ذكر خروج العلاء وقتله 341 ذكر خروج سعيد اليحصبى المعروف بالمطرى وقتله 341 ذكر أخبار شقنا بن عبد الواحد وخروجه بالأندلس 343 ذكر عصيان أهل إشبيلية على الأمير عبد الرحمن 345 ذكر عبور الصقلبى إلى الأندلس وما كان من أمره إلى أن قتل 346 ذكر مخالفة أبى الأسود محمد بن يوسف الفهرى 349 ذكر وفاة عبد الرحمن وصفته وشى من أخباره وسيرته 350 ذكر إمارة هشام 352 ذكر خروج سليمان وعبد الله ابنى عبد الرحمن على أخيهما هشام 353 ذكر خروج جماعة أخر على الأمير هشام 354 ذكر غزو الفرنج 356 ذكر فتنة تاكرنا 357 ذكر وفاة هشام بن عبد الرحمن وشىء من أخباره وسيرته 358 ذكر إمارة الحكم من هشام الملقب بالمرتضى 357 ذكر غزو الفرنج 359 ذكر خلاف بهلول بن مرزوق وغيره 361

ذكر مسير سليمان بن عبد الرحمن لقئال ابن أخيه الحكم وقتل سليمان 362 ذكر استيلاء الفرنج على برشلونه 362 ذكر الاتفاق بين الحكم وبين عمه عبد الله البلنس 363 ذكر استيلاء الفرنج على مدينة تطيلة 363 ذكر إيقاع الحكم بأهل قرطبة 364 ذكر إيقاع الحكم بأهل طليطلة وهى وقعة الحفرة 365 ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة 367 ذكر غزو الفرنج 368 ذكر عصيان حزم على الحكم 369 ذكر عودة أهل ماردة إلى العصيان وغزو الحكم بلاد الفرنج 369 ذكر وقعة الربض بقرطبة 370 ذكر غزو الفرنج 373 ذكر غزو البربر بناحية مورور 373 ذكر وفاة الحكم 374 ذكر إمارة عبد الرحمن بن الحكم 375 ذكر إيقاع عبد الرحمن بأهل إلبيرة وجندها 375 ذكر محاصرة طليطلة وفتحها 379 ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحارث بن بزيع وما كان من أمره 382 ذكر خروج المشركين إلى بلاد الإسلام بالأندلس 383 ذكر وفاة عبد الرحمن وشىء من أخباره 386 ذكر إمارة محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين 387 ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج 387 ذكر خروج المحبوس إلى بلاد الإسلام بالأندلس 388 ذكر وفاة الأمير محمد بن عبد الرحمن 392 ذكر إمارة المنذر بن محمد 393 ذكر إمارة عبد الله بن محمد 394 ذكر إمارة عبد الرحمن بن محمد 396 ذكر إمارة الحكم المستنصر بالله 399 ذكر إمارة هشام المؤيد بالله 402 ذكر أخبار المنصور محمد بن أبى عامر 403 ذكر المظفر أبى مروان عبد الملك 406 ذكر إمارة محمد المهدى 410

ذكر أخبار شنشول ومقتله 414 ذكر قيام هشام بن سليمان على محمد وما كان من أمره إلى أن قتل 419 ذكر قيام سليمان بن الحكم المستعين بالله 419 ذكر دولة المهدى محمد الثانية 424 ذكر دولة المؤيد هشام الثانية 426 ذكر دولة المستعين بالله الثانية 429 ذكر إمارة الناصر على بن حمود 431 ذكر ولاية المأمون القاسم بن حمود بن ميمون الفاطمى 432 ذكر ولاية المعتلى يحيى بن على 434 ذكر عود الدولة الأموية بمدينة قرطبة ومن ولى منهم 435 (ا) ذكر إمارة المستظهر بالله 435 (ب) ذكر إمارة المستكفى بالله 435 (ج) ذكر ولاية المعتمد على الله 436 ذكر أخبار الأندلس ومن ملكها بعد انقطاع الدعوة الأموية 439 ذكر ولاية أبى الوليد محمد بن جهور 440 ذكر أخبار مدينة طليطلة 440 ذكر ولاية المأمون يحيى بن إسماعيل 441 ذكر أخبار دولة بنى عباد ذكر أخبار خلف الحصرى المشبه بالمؤيد هشام وقيام دعوته بمملكة محمد بن إسماعيل، وما قيل فى ذلك 445 ذكر ولاية أبى عمرو عباد بن محمد 448 ذكر ولاية المعتمد على الله محمد بن عباد 452 ذكر وقعة الزلاقة وانهزام الفرنج لعنهم الله 455 ذكر إنقراض الدولة العبادية وشىء من أخبار المعتمد وشعره 459 ذكر ممالك الأندلس الأخرى 465 ثبت بأسماء المراجع العربية المذكورة فى المراجع 471

الجزء الرابع والعشرون

الجزء الرابع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة يضم هذا الجزء من نهاية الأرب للنويرى تاريخ المغرب العربى، وجزيرتى صقلية وكريت (أقريطش) . أما الجزيرتان فعالج تاريخهما العربى كله. وأما المغرب العربى فأراد به ما نطلق عليه الآن ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وأرخ له منذ الفتح العربى الإسلامى إلى عصر المؤلف. فتناول عصر الولاة الخاضعين للخلافة الإسلامية فى المشرق ثم دولة الأغالبة التى كانت أول دولة نالت استقلالا ذاتيا ثم دول بنى زيرى والمرابطين والموحدين. وأهمل تاريخ الفاطميين في هذا الجزء، لأنه جمع تاريخهم فى المغرب مع تاريخهم فى مصر والمشرق، ووضعه فى القسم الخاص بتاريخ مصر. كذلك قلت معلوماته عن بنى مرين، فاقتصر على سرد أسمائهم. ويتجلى فى هذا الجزء من نهاية الأرب أنّ النويرى لم يكن يؤلف تاريخا للدول التى تعرض لها، وإنما كان ينسخ تاريخا لهم. فبالرغم من أنه ذكر ابن الرقيق وابن حزم مثلا من المؤرخين، كان اعتماده الأعظم على ابن الأثير فى كتابه الكامل فى التاريخ، وابن شداد فى كتابه الجمع والبيان فى أخبار

اتخذت من هذه النسخة أصلا أول للتحقيق، تحت رمز (ع) ، واتخذت من نسخة دار الكتب أصلا ثانيا تحت الرمز (ك) . واتخذت من نسختين أخريين مساعدا على التحقيق. أما النسخة الأولى فمصورة، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 551 معارف، وأعطيتها الرمز (ص) . وأما النسخة الثانية فالقسم الذى طبعه المستشرق جاسبار ريميرو من الكتاب ونشره فى مجلة revista del centro de estudios historicos de granada y su reino تحت عنوانhistoria de los musulmanes de espana y africa ,par ennuguairi, texto arab etraduccion espanola par m. gaspar remiro وقد كان للإمكانيات الضئيلة والزمن المتقدم أثرهما القاسى فى هذه الطبعة، التى لست أنا الذى يصلح للحكم عليها أو المقارنة بينها وبين الطبعة الراهنة. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف (ر) . كذلك اعتمدت فى التحقيق على الترجمة التى قام بها البارون دى سلان de slane للقسم الأول الخاص بعصر الولاة من الكتاب وأعطيتها الرمز (س) . وأستطيع أن أعد الكامل لابن الأثير نسخة أخرى، اعتمدت عليها فى تحقيق الكتاب لما ذكرت قبلا. وقد قارنت بين الكتابين كلمة فكلمة، وأبنت ما بينهما من اتفاق عند اختلاف غيرهما من المؤرخين عنهما. وأثبت ما بينهما من خلاف شأن النسخ المتعددة من الكتاب الواحد.

ثم رجعت إلى كتب التاريخ العامة والخاص منها بتاريخ المغرب، لأستطيع أن أخلص إلى نسخة تكاد تكون نسخة المؤلف إن لم تكن هى إياها، مضيفا إليها بعض التعليقات التى تشير فى إيجاز إلى اختلاف النّويرى وانفاقه مع غيره من المؤرخين أو بعضهم. حسين نصار

تتمة الفن الخامس في التاريخ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وبه توفيقى [تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] الباب السادس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار أفريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمال، ومن استقل منهم بالملك وسميت أيامهم بالدولة الفلانية قد ذكرنا «1» فتوح إفريقية فى خلافة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فى ولاية عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فى سنة ست وعشرين من الهجرة النبوية. وأوردنا ذلك هناك على سبيل الاختصار والإجمال «2» . ونحن الآن نذكره فى هذا الباب مبينا. ولم نقدم ذكر أخبار المغرب «3» وملوكه على أخبار ملوك

المشرق، إلا أنا لما ذكرنا أخبار الدولة الأموية بالأندلس ومن ملك الأندلس بعد بنى أمية، احتجنا إلى ذكر إفريقية «1» وبلاد المغرب، لتكون الأخبار يتلو بعضها بعضا. ولم نقدم أيضا ذكر الأندلس على إفريقية، مع كون إفريقية فتحت قبل الأندلس إلا للضرورة التى دعت إلى ذكر أخبار الدولة الأموية بالأندلس تلو الدولة العباسية. ولا ضرر فى التقديم والتأخير، لأنا لم نجعل التاريخ على حكم مساق السنين بل على الدول. وأول دولة قامت على الدولة العباسية الدولة الأموية بالأندلس. ولنذكر الآن فتوح إفريقية، ومن وليها.

ذكر فتوح افريقية

ذكر فتوح افريقية كان فتوحها فى سنة سبع وعشرين «1» ، وذلك أن عثمان ابن عفان- رضى الله عنه- لما ولى الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وهو أخو عثمان لأمه. فكان عبد الله يبعث المسلمين فى جرائد الخيل «2» فيصيبون من إفريقية. ويكتب بذلك إلى عثمان. فلما أراد عثمان أن يغزى إفريقية استشار الصحابة، فكلّهم أشار عليه بإنفاذ الجيش إليها إلا أبا الأعور سعيد بن أبى يزيد «3» فإنه كره ذلك. فقال له عثمان: «ما كرهت يا أبا الأعور من بعثة الجيش؟» قال: «سمعت عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يقول: لا أغزيها أحدا من المسلمين ما حملت عينى الماء «4» ولا أرى لك خلاف عمر» وقام. ثم دعا عثمان زيد بن ثابت ومحمد ابن مسلمة واستشارهما. فأشارا بإنفاذ الجيش. فندب الناس إلى الغزو. فكان هذا الجيش يسمى جيش

العبادلة «1» . خرج فيه من بنى هاشم: عبد الله بن عباس وكان واليا على المسلمين وعبيد الله بن عباس «2» ؛ ومن بنى تيم: عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما، وعبد الرحمن بن صبيحة «3» فى عدّة من قومه، ومن بنى عدى: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب «4» وعبيد الله بن عمر، وعاصم بن عمر فى عدة منهم؛ ومن بنى أسد ابن عبد العزّى: عبد الله بن الزّبير فى عدة من قومه؛ ومن بنى سهم: عبد الله بن عمرو بن العاص والمطّلب بن السّائب بى أبى وداعة «5» ، فى عدة منهم. وخرج فى الجيش مروان بن الحكم، وأخوه الحارث، وجماعة من بنى أميّة، والمسور بن مخرمة ابن نوفل، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعدة من بنى زهرة؛ ومن بنى عامر بن لؤى بن غالب: السائب بن عامر

ابن هشام «1» ، وبسر بن أرطاة؛ وعدة من بنى هذيل، منهم أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلى- وتوفى بإفريقية وواراه فى قبره عبد الله بن الزبير- وعبد الله بن أنيس «2» وأبو ذر الغفارى، والمقداد بن عمرو البهرانى «3» ، وبلال بن الحارث المزنى، وعاصم، ومعاوية بن حديج، وفضالة بن عبيد، ورويفع بن ثابت «4» ، وجرهد بن خويلد «5» وأبو زمعة البلوى، والمسيّب بن حزن، وجبلة بن عمرو الساعدى، وزياد بن الحارث الصّدائى، وسفيان بن وهب، وقيس بن يسار بن مسلمة «6» وزهير بن قيس، وعبد الرحمن بن صخر «7» ، وعمرو بن عوف وعقبة بن نافع الفهرى. وخرج من جهينة ستمائة رجل، ومن أسلم حمزة بن عمرو الأسلمى «8» ، وسلمة بن الأكوع فى

ثلاثمائة رجل، ومن مزينة ثمانمائة رجل، ومن بنى سليم أربعمائة رجل «1» ، ومن بنى الدّيل وضمرة وغفار خمسمائة رجل، ومن غطفان وأشجع وفزارة سبعمائة «2» رجل، ومن كعب ابن عمرو أربعمائة رجل «3» ، وكانوا آخر من قدم على عثمان، والناس معرّسون بالجرف، والجرف على ثلاثة أميال من المدينة «4» وأعان عثمان الجيش بألف بعير من ماله، فحمل عليها ضعفاء الناس، وحمل على خيل، وفرق السلاح، وأمر للناس بأعطياتهم. وذلك فى المحرم سنة سبع وعشرين. وخطب عثمان الناس ورغّبهم فى الجهاد. وقال لهم: «قد استعملت عليكم الحارث بن الحكم «5» إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد، فيكون الأمر إليه. واستودعتكم الله» . وساروا حتى أتوا مصر. فجمع عبد الله بن سعد جيشا عرمرما، وضمه إليه. فبلغ عسكر المسلمين «6» عشرين ألفا. واستخلف على مصر عقبة بن نافع، وتوجّه.

وحكى الزّهرى عن ربيعة بن عباد الدّيلى قال: لما وصلنا قدّم عبد الله الطّلائع والمقدمات أمامه. وكنت أنا أكثر ما أكون فى الطلائع. فو الله إنا لبطرابلس قد أصبنا من بها من الروم قد تحصنوا منا فحاصرناهم، ثم كره عبد الله أن يشتغل بذلك عما قصد إليه، فأمر الناس بالرحيل «1» . فنحن على ذلك إذا مراكب قد أرست إلى الساحل «2» فشددنا عليها، فترامى من بها إلى الماء. فأقاموا ساعة ثم استأسروا فكتفناهم، وكانوا مائة «3» . حتى لحق بنا عبد الله فضرب أعناقهم، وأخذنا ما فى السفن. فكانت هذه أول غنيمة أصبناها. ومضى حتى نزل بمدينة قابس فحاصرناها. فأشار عليه، الصحابة أن لا يشتغل بها عن إفريقية، فسار وبثّ السرايا فى كل وجه. وكان يؤتى بالبقر والشاء والعلف. قال: وكان ملكهم يدعى جرجير «4» ، وسلطانه من طرابلس إلى طنجة وولايته من قبل هرقل «5» . فلما بلغه الخبر بورود الجيوش الإسلامية، جمع وتأهب للّقاء، فبلغ عسكره عشرين ومائة ألف «6»

قال: ثم ذهبنا قاصدين عسكره على تعبئة، فأقمنا أياما تجري بيننا وبينهم الرسل: ندعوه إلى الإسلام، وهو يستطيل ويتجبر وقال: «لا أقبل هذا أبدا» . فقلنا له «فخراج تخرجه كل عام» . فقال: «لو سألتمونى درهما واحدا لم أفعل» . «1» . فتأهبنا للقتال بعد الإعذار منا «2» . فعبأ عبد الله بن سعد ميمنته وميسرته والقلب. وفعل ملك الروم مثل ذلك. وتلاقى الجمعان فى فحص «3» متسع يسمى بعقوبة «4» ، بينه وبين دار ملك الروم مسيرة يوم وليلة، وهى المدينة المسماة سبيطلة «5» ، وكذلك مدينة قرطاجنّة، وهى مدينة عظيمة، شامخة البناء، أسوارها من الرخام الأبيض، وفيها العمد والرخام الملون ما لا يحصى. قال: ودامت الحرب بين الفريقين وطالت، وانقطع خبر المسلمين عن عثمان. فأنفذ عبد الله بن الزبير «6» وصحبته اثنا عشر فارسا من قومه. فسار يجد السير حتى قدم على المسلمين فوصل ليلا. فسروا به ووقع فى العسكر ضجة «7» ، خافت الروم منها، وظنوا أنهم يحملون عليهم، فباتوا بشر ليلة. وأرسل ملكهم جاسوسا يستعلم الخبر. فأعلمه أن نجدة وصلت إلى المسلمين. وكان المسلمون

يقاتلون الروم فى كل يوم إلى الظهر، ثم ترجع كل طائفة إلى معسكرها وتضع الحرب أوزارها. فلما أصبح عبد الله بن الزبير، صلى الصبح وزحف مع المسلمين وقاتل. فلقى الروم فى يومهم أشد نكال. ولم ير ابن الزبير عبد الله بن سعد فى الحرب فسأل عنه. فقالوا: «هو فى خبائه وله أيام ما خرج منه» . ولم يكن ابن الزبير اجتمع به، فمضى إليه، وسلم عليه، وبلغه وصية عثمان وسأله عن سبب تأخره. فقال: «إن ملك الروم أمر مناديا فنادى باللغة الرومية والعربية «1» : معاشر الروم والمسلمين: من قتل عبد الله بن سعد زوّجته ابنتى، ووهبت له مائة ألف دينار» وكانت ابنته بارعة الجمال، تركب معه فى الحرب، وعليها أفخر ثياب، وتحمل على رأسها مظلة من ريش الطاووس «وغير خاف عنك من معى، وأكثرهم حديثو عهد «2» بالإسلام، ولا آمن أن يرغّبهم ما بذل لهم جرجير فيقتلونى، فهذا سبب تأخرى» . فقال له ابن الزبير: «أزل هذا من نفسك، وأمر من ينادى فى عسكرك ويسمع الروم: معاشر المسلمين والروم: من قتل الملك فله ابنته ومائة ألف دينار «3» ، وواحدة بواحدة» . ففعل ذلك. فلما سمع ملك الروم النداء، انتقل ما كان عبد الله يجده من الخوف إليه. وبقى القتال على ما كان عليه. فعنّ لعبد الله بن الزبير رأى. فأتى عبد الله بن سعد ليلا وقال له: «إنى فكّرت فيما نحن فيه فرأيت أمرا يطول والقوم فى بلادهم والزيادة

فيهم والنقصان فينا. وقد اتصل بى أنه نفّذ إلى جميع نواحيه بالحشد والجمع. وقد رأيت أصحابه إذا سمعوا الأذان أغمدوا سيوفهم ورجعوا إلى مضاربهم، وكذلك المسلمون، جريا على العادة. والرأى عندى أن تترك غدا إن شاء الله أبطال المسلمين فى خيامهم بخيلهم وعددهم، وتقاتل ببقايا الناس على العادة، وتطوّل فى القتال حتى تتعب القوم. فإذا انصرفوا ورجع كلّ «1» إلى مضربه وأزال لأمة «2» حربه، يركب المسلمون ويحملون عليهم والقوم على غرة. فعسى الله سبحانه أن يظفرنا بهم وينصرنا عليهم، وما النصر إلا من عند الله» . فلما سمع عبد الله بن سعد ذلك، أحضر عبد الله بن عباس وإخوته والصحابة ورؤوس القبائل، وعرض عليهم ما أشار به ابن الزبير فاستصوبوا رأيه واستخاروا الله. وكتموا أمرهم وباتوا على تعبئة. ولجئوا إلى الله تعالى وسمحوا بنفوسهم «3» فى إعزاز دين الله وإظهار كلمته. وأصبح أبطال الإسلام فى خيامهم «4» ، وخيولهم قائمة معهم فى الخيام. وخرج لفيف الناس إلى القتال، ومعهم عبد الله بن سعد وابن الزبير، فقاتلوا أشد قتال «5» وكان يوما حارا فلقى الفريقان فيه التعب العظيم. وركب ملك الروم ومعه الصليب، وكان متوجا عندهم، عظيم القدر فيهم. وحرض أصحابه على القتال. فاشتد

الأمر فى القتال حتى أذّن الظهر «1» فهم الروم بالانصراف جريا على على العادة. فداوم ابن الزبير القتال ساعة أخرى. فاشتد الحر وعظم الخطب حتى لم يبق لأحد من الفريقين طاقة بحمل السلاح فضلا عن القتال به. فعند ذلك رجعوا «2» إلى خيامهم، ووضعوا أسلحتهم، وسيّبوا خيولهم وألقوا أنفسهم على فرشهم. فاستنهض عبد الله أبطال المسلمين. فلبسوا دروعهم وركبوا خيولهم فى خيامهم. وتقدم عبد الله بن الزبير فى زى رسول، وقد لبس ثوبا فوق درعه. وقال: «إذا رأيتمونى قد قربت من خيام الروم فاحملوا حملة رجل واحد» . فلما قرب من الخيام كبر المسلمون وهلّلوا، وحملوا فأعجلوا الروم عن لبس دروعهم أو ركوب خيولهم. فانهزمت الروم، وقتل ملكهم، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة وهرب من سلم منهم إلى المدينة، وغنم المسلمون ما فى معسكرهم. وأسرت ابنة الملك وأتى بها إلى عبد الله بن سعد. فسألها «3» عن أبيها. قالت: «قتل» . قال: «أتعرفين قاتله؟» قالت: «نعم، إذا رأيته عرفته» . وكان كثير من المسلمين ادعوا قتله. فعرض عليها من ادعى قتله «4» . فقالت: «ما من هؤلاء من قتله» . فأحضر ابن الزبير. فلما أقبل، قالت: «هذا قاتل أبى» . فقال له ابن سعد: «ما منعك أن تعلمنا بذلك لنفى لك بما شرطناه؟» فقال: «أصلحك الله! ما قتلته لما شرطت، والذى قتلته له يعلم ويجازى

عليه أفضل من جزائك، ولا حاجة لى فى غير ذلك» . فنفّله ابن سعد ابنة الملك، فيقال إن ابن الزبير اتخذها أم ولد «1» . ثم نزل المسلمون على المدينة، وحاصروها حصارا شديدا حتى فتحها الله عليهم. فأصابوا فيها خلقا كثيرا، وأكثر أموالهم الذهب والفضة. فجمع عبد الله بن سعد الغنائم وقسمها بعد أن خمسها. فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار «2» . وبثّ السرايا والغارات من مدينة سبيطلة فبلغت خيوله إلى قصور قفصة. فسبوا وغنموا. وجازوا إلى مرمجنّة «3» . فأذلت تلك الوقعة من بقى من الروم. وأصابهم رعب شديد فلجئوا إلى الحصون والقلاع. واجتمع أكثرهم بفحص الأجم «4» حول الحصن، وهو من أعظم حصون إفريقية. وراسلوا عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهبا «5» على أن يكفّ عنهم ويخرج من بلادهم. فقبل ذلك منهم بعد امتناع. وقيل: إنه صالحهم

على ألفى ألف وخمسمائة ألف «1» . وقبض المال. وكان فى شرط. صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهولهم، وما أصابوه بعد التّرداد «2» ردوه عليهم. ودعا عبد الله بن سعد عبد الله بن الزبير وقال: «ما أحد أحقّ بالبشارة منك، فامض وبشّر عثمان والمسلمين بما أفاء الله تعالى عليهم» . فتوجه عبد الله يجدّ المسير. فبعض الناس يقول: دخل المدينة من سبيطلة فى عشرين ليلة، وبعضهم يقول: وافى المدينة يوم أربعة وعشرين «3» ، ولا يستغرب ذلك من مثله. فلما وصل المدينة أمره عثمان أن يصعد المنبر فيعلم الناس بما فتح الله عليهم. فبلغ الزبير. فجاء إلى المسجد ونال من عثمان بكلمات، وقال: «بلغ من عبد الله بن الزبير أن يرقى موضعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأه بقدمه! وددت والله أنّى متّ قبل هذا» ! وقيل: إنّ عبد الله لم يرق المنبر، وإنما وقف بإزائه وخطب، وعثمان على المنبر جالسا. قال: وكان فعل عبد الله بن الزبير فى القتال بإفريقية كفعل خالد ابن الوليد بالشام، وعمرو بن العاص بمصر، رضى الله عنهم أجمعين. قال: ثم انصرف عبد الله بن سعد إلى مصر إثر سفر ابن الزبير.

ذكر ولاية معاوية بن حديج الكندى وفتح افريقية ثانيا

قال: وكان مقام الجيش بإفريقية خمسة عشر شهرا «1» ، ولم يفقد من المسلمين إلا ناس قلائل «2» . ثم كان بعد ذلك من مقتل عثمان وخلاف علىّ ومعاوية ما قدمنا ذكره «3» ، إلى أن استقر أمر معاوية فاستعمل معاوية بن حديج. ذكر ولاية معاوية بن حديج الكندى وفتح افريقية ثانيا «4» كانت ولايته فى سنة خمس وأربعين من الهجرة. وسبب ذلك أن هرقل صاحب القسطنطينية كان يؤدّى إليه من كل ملك من ملوك البر والبحر إتاوة معلومة فى كل سنة. فلما بلغه ما صالح عليه أهل إفريقية عبد الله «5» بن سعد بن أبى سرح، بعث بطريقا إلى إفريقية يقال له «أوليمة» وأمره أن يأخذ من أهلها ثلاثمائة قنطار ذهبا كما أخذ منهم ابن أبى سرح. فنزل البطريق قرطاجنّة وأخبرهم بأمر الملك. فأبوا عليه ونابذوه وقالوا: «الذى كان بأيدينا من الأموال فدينا به أنفسنا، والملك فهو سيدنا يأخذ منا كما كنا نعطيه فى

كل سنة» . وكان القائم بأمر إفريقية بعد جرجير رجل يقال له «جناحة» «1» ، فطرد أوليمة البطريق. ثم اجتمع أهل إفريقية وولوا على أنفسهم رجلا يقال له «الأطريون» وقيل فيه: «الأطيلون» . فسار جناحة إلى الشام إلى معاوية بن أبى سفيان. فذكر له حال إفريقية وسأله أن يبعث معه جيشا من العرب. فوجه معه معاوية بن حديج فى جيش كثيف. فلما انتهى إلى الإسكندرية هلك جناحة. ومضى ابن حديج حتى انتهى إلى إفريقية، وهى حرب، وقد صارت نارا. وكان فى عسكره عبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم، وكريب بن إبراهيم بن الصباح «2» ، وخالد بن ثابت الفهمى «3» . وقيل: كان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن الزبير، وأشراف من جند الشام ومصر. فقدم ولا يشك أهل إفريقية أن جناحة معه. فنزل معاوية غربى قمونية «4» فى سفح جبل على عدة فراسخ «5» منها. فأصابه فيه نوء شديد فقال: «إن

جبلنا هذا لممطور» فسمّى الجبل ممطورا «1» إلى اليوم. ثم قال: «اذهبوا بنا إلى ذلك القرن» فسمى أيضا القرن «2» . وبعث ملك الروم بطريقا يقال له نجفور «3» فى ثلاثين ألف مقاتل. فنزل على ساحل البحر بسنطبريّة «4» . فبعث ابن حديج إليه خيلا. فقاتلوه فانهزم وأقلع فى البحر. وقاتل معاوية أهل جلّولاء «5» على باب المدينة. فكان يقاتلهم صدر النهار، فإذا مال الفىء «6» انصرف إلى معسكره بالقرن. فقاتلهم ذات يوم. فلما انصرف نسى عبد الملك بن مروان قوسا «7» له معلقة بشجرة. فانصرف ليأخذها، وإذا جانب المدينة قد انهدم. فصاح فى أثر الناس فرجعوا. وكانت بينهم حرب شديدة وقتال عظيم حتى دخلوا المدينة عنوة، واحتووا على جميع ما فيها، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية. وقيل: بل كان معاوية بن حديج مقيما بالقرن وبعث عبد الملك «8» بن مروان إلى جلولاء، فى ألف فارس «9» . فحاصرها أياما فلم يظفربها. وانصرف الناس منكسرين

ذكر ولاية عقبة بن نافع الفهرى وفتح افريقية الفتح الثالث وبناء القيروان

فلم يسر إلا يسيرا حتى رأى فى ساقة الناس غبارا كثيرا، فظنوا أن العدو قد اتبعهم. فرجعوا فإذا مدينة جلولاء قد وقع حائطها من جهة واحدة. فانصرف المسلمون إليها فقتلوا من فيها وغنموا وسبوا. وانصرف عبد الملك إلى معاوية وهو معسكر بالقرن ينتظره. فلما أتاه بالغنائم اختلفوا فيها. فقال عبد الملك: «هى لأصحابى خاصة» . وقال ابن حديج: «بل لجماعة المسلمين» . وكتب إلى معاوية بن أبى سفيان. فعاد جوابه: « [العسكر] «1» ردء السّرية، فأقسم بين الناس جميعهم» فوقع سهم الفارس ثلاثمائة دينار «2» . قال البلاذرى «3» . أول من غزا صقلية معاوية بن حديج، بعث إليها عبد الله بن قيس، وسنذكر ذلك فى أخبارها إن شاء الله تعالى «4» . قال: ثم انصرف معاوية بن حديج إلى مصر. فأقره معاوية بن أبى سفيان عليها، وعزله عن إفريقية، وأفردها عن مصر، واستعمل عليها من قبله. ذكر ولاية عقبة بن نافع الفهرى وفتح افريقية الفتح الثالث وبناء القيروان قال: ثم أرسل معاوية بن أبى سفيان عقبة بن نافع إلى إفريقية فى سنة خمسين، وكان مقيما ببرقة وزويلة من أيام عمرو بن العاص

ذكر بناء مدينة القيروان

فجمع من أسلم من البربر وضمه إلى الجيش الوارد عليه. وكان جملة الجيش الوارد من معاوية عشرة آلاف فارس من المسلمين. فسار عقبة إلى إفريقية فافتتحها «1» ، ووضع السيف حتى أفنى من بها من النصارى. ثم قال: «إن إفريقية إذا دخلها إمام تحرّموا بالإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أسلم منهم وارتد إلى الكفر «2» . وأرى لكم- يا معشر المسلمين- أن تتخذوا بها مدينة نجعل بها عسكرا وتكون عزّ الإسلام إلى آخر الدهر» . فأجابه الناس إلى ذلك. ذكر بناء مدينة القيروان قال المؤرخون: لما أراد عقبة بن نافع بناء مدينة القيروان وأجابه المسلمون إلى ذلك، أتى بهم إلى موضعها، وهو إذ ذاك شعارى «3» لا تسلك وقال: «شأنكم» . فقالوا له: «إنك أمرتنا بالبناء فى شعارى وغياض لا تسلك ولا ترام، ونحن نخاف من السباع والحيات وغير ذلك من خشاش الأرض» «4» . وكان عقبة مستجاب الدعوة، فدعا الله عز وجل. وجعل أصحابه يؤمّنون على دعائه. وكان فى عسكره «5» ثمانية عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم، فجمعهم ونادى: «أيتها الحيات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنّا إنا نازلون. ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه» . فنظر الناس فى ذلك اليوم إلى السباع تحمل أشبالها، والذئاب تحمل أجراءها، والحيات تحمل أولادها. فأسلم كثير من البربر. ونادى عقبة فى الناس «كفّوا عنهم حتى يرتحلوا عنا» . فلما خرج ما فيها من ذلك، جمع عقبة وجوه أصحابه ودار بهم حول المكان وأقبل يدعو الله ويقول: «اللهم املأها علما وفقها، واعمرها بالمطيعين والعابدين، وامنعها من جبابرة الأرض» . ثم نزل عقبة الوادى. وأمر الناس أن يختطوا ويقلعوا الشجر. قال: فأقام أهل إفريقية بعد ذلك أربعين سنة لا يرون بها حية ولا عقربا. قال: واختط دار الإمارة والمسجد الأعظم، ولم يحدث فيه بناء، وكان يصلى فيه وهو كذلك. فاختلف الناس فى القبلة وقالوا: «إن أهل الغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد، فاجهد نفسك فى أمرها» . فأقاموا مدة ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس. فلما رأى عقبة الاختلاف اهتم لذلك وسأل الله تعالى، فأتاه آت فى منامه فقال له: «يا ولىّ رب العالمين، إذا أصبحت فخذ اللواء واجعله على عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيرا لا يسمعه غيرك. فالموضع الذى ينقطع عنك التكبير فهو قبلتك ومحرابه مسجدك «1» . وقد رضى الله عز وجل أمر هذه المدينة وهذا المسجد. وسوف يعزّ بها دينه ويذل بها من كفره إلى آخر الدهر» . فاستيقظ من منامه وقد جزع جزعا شديدا. فتوضأ وأخذ فى

ذكر ولاية مسلمة بن مخلد

الصلاة فى المسجد وهو لم يبن بعد، ومعه أشراف الناس. فلما طلع الفجر وركع عقبة سمع التكبير بين يديه. فقال لمن حوله: «ألا تسمعون؟» قالوا: «لا نسمع شيئا» . فقال: «إن الأمر من عند الله عز وجل» . وأخذ اللواء ووضعه على عاتقه. وأقبل يتتبع التكبير بين يديه حتى انتهى إلى محراب المسجد. فانقطع التكبير فركز لواءه «1» وقال: «هذا محرابكم» . ثم أخذ الناس فى بنيان الدور «2» والمساكن والمساجد فعمرت. وكان دورها ثلاثة آلاف باع «3» وستمائة باع «4» . فكملت فى سنة خمس وخمسين. وسكنها الناس وعظم قدرها. وكان فى موضع القيروان حصن لطيف للروم يسمى قمونية. قال: ودبر عقبة أمر إفريقية أحسن تدبير إلى أن عزل معاوية ابن أبى سفيان معاوية بن حديج عن مصر وولى مسلمة بن مخلّد الأنصارى مصر وإفريقية «5» . ذكر ولاية مسلمة بن مخلد قال: ولما وصل مسلمة إلى مصر، استعمل على إفريقية مولى له يقال له دينارا ويكنى أبا المهاجر، وذلك فى سنة خمس وخمسين،

ذكر ولاية عقبة بن نافع ثانية

وعزل عقبة. فلما وصل كره أن ينزل بالموضع الذى اختطه عقبة، فنزل عنه بمسافة ميلين. واختط مدينة وأراد أن يكون له ذكرها ويفسد ما عمله عقبة. فسماها البربر تيكيروان «1» . فأخذ فى عمارتها. وأمر الناس أن يخربوا القيروان ويعمروا مدينته «2» . وتوجه عقبة مغضبا إلى معاوية بن أبى سفيان. فقال له: «إنى فتحت البلاد، ودانت لى، وبنيت المساجد، واتخذت المنازل، وأسكنت الناس. ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلى» فاعتذر إليه معاوية وقال: «قد رددتك إلى عملك واليا» . وتراخى الأمر حتى توفى معاوية وولى يزيد ابنه. فلما علم حال عقبة غضب وقال: «أدركها قبل أن تهلك وتفسد» . ورده واليا على إفريقية. ذكر ولاية عقبة بن نافع ثانية قال: وكانت ولايته فى سنة اثنتين وستين، «3» فسار من الشام. فلما مر على مصر، ركب إليه مسلمة بن مخلد وسلم عليه،

واعتذر من فعل أبى المهاجر «1» ، وأقسم بالله لقد خالفه فيما صنع. فقبل عقبة عذره. ومضى مسرعا حتى قدم إفريقية. فأوثق أبا المهاجر فى الحديد، وأمر بخراب مدينته، ورد الناس إلى القيروان ثم عزم على الغزو وترك بالقيروان جندا وعليهم زهير بن قيس «2» ودعا أولاده فقال لهم: «إنى بعت نفسى من الله تعالى بيعا مربحا أن أجاهد من كفر حتى ألحق بالله. ولست أدرى أترونى بعدها أو أراكم، لأن أملى الموت فى سبيل الله» . ثم قال: «عليكم سلام الله، اللهم تقبل منى نفسى فى رضاك» . ومضى فى عسكر عظيم حتى أشرف على مدينة باغاية، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأخذ لهم خيلا لم ير المسلمون فى مغازيهم أصلب منها «3» . ودخل الروم حصنهم. فكره عقبة أن يقيم عليه. فمضى إلى لميش «4» ، وهى من أعظم مدن الروم. فلجأ إليها من كان حولها منهم. وخرجوا إليه وقاتلوه قتالا شديدا حتى ظن الناس أنه الفناء. فهزمهم وتبعهم إلى باب حصنهم وأصاب غنائم كثيرة. وكره المقام عليها فرحل «5» إلى بلاد الزاب. فسأل عن أعظم

مدائنهم قدرا فقالوا: مدينة يقال لها أربة «1» فيها الملك، وهى مجمع ملوك الزاب، وحولها ثلاثمائة قرية وسئون قرية كلها عامرة. فلما بلغهم أمره لجئوا إلى حصنهم، وهرب بعضهم إلى الجبال والوعر. فنزل عليها وقت المساء. فلما أصبح أمر بالقتال فكانت بينهم حروب حتى يئس المسلمون من الحياة. فأعطاه الله الظفر. فانهزم القوم وقتل أكثر فرسان الروم. وذهب عزهم من الزاب وذلوا آخر الدهر. ورحل حتى نزل تاهرت. فلما بلغ الروم خبره، استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم. فقام عقبة وخطب الناس وحرضهم على القتال والتقوا واقتتلوا فلم يكن للروم والبربر طاقة بقتالهم. فقتلهم قتلا ذريعا وفرق جموع الروم عن المدينة. ثم رحل حتى نزل طنجة. فلقيه رجل من الروم يقال له إيليان «2» وكان شريفا فى قومه. فأهدى إليه هدية حسنة ولاطفه ونزل على حكمه. فسأله عن بحر الأندلس. فقال: «إنه محفوظ لا يرام» . فقال: «دلنى على رجال البربر والروم» . فقال: «قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر. وفرسانهم فى عدد لا يعلمه إلا الله تعالى

وهم أنجاد البربر وفرسانهم» . فقال عقبة: «فأين موضعهم؟» قال: «فى السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين، يأكلون الميتة؛ ويشربون الدم من أنعامهم. وهم أمثال البهائم، يكفرون بالله ولا يعرفونه» . فقال عقبة لأصحابه: «ارحلوا «1» على بركة الله» . فرحل من طنجة إلى السّوس الأدنى، وهو فى جنوب مدينة طنجة التى تسمى تارودانت. فانتهى إلى أوائلهم فقتلهم قتلا ذريعا. وهرب من بقى منهم، وتفرقت خيله فى طلبهم. ومضى حتى دخل السّوس الأقصى فاجتمع البربر فى عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى. فقاتلهم قتالا لم يسمع بمثله. فقتل خلقا كثيرا منهم. وأصاب نساء لم ير الناس مثلهن. فقيل: إن الجارية كانت تساوى بالمشرق ألف مثقال وأكثر وأقل. وسار حتى بلغ البحر المحيط لا يدافعه أحد ولا يقوم له. فدخل فيه حتى بلغ الماء لبان فرسه «2» . ورفع يده إلى السماء وقال: «يا رب، لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد إلى ملك ذى القرنين «3» مدافعا عن دينك، ومقاتلا من كفر بك وعبد غيرك» «4» . ثم قال لأصحابه: «انصرفوا على بركة الله وعونه» . فخلا الناس عن طريق عساكره هاربين. وخاف المشركون منه أشد مخافة. وانصرف إلى إفريقية. فلما انتهى إلى ماء اسمه اليوم ماء فرس ولم

يكن به ماء، فأصابهم «1» عطش أشفى منه عقبة ومن معه على الموت. فصلى ركعتين ودعا الله عز وجل. فجعل فرسه يبحث الأرض بيديه حتى كشف عن صفاة» . فانفجر منها الماء. وجعل الفرس يمص ذلك الماء فنادى عقبة فى الناس أن احتفروا فحفروا سبعين حسا «3» فشربوا وأسقوا «4» . فسمى ماء فرس. وسار حتى انتهى إلى مدينة طبنة، وبينها وبين القيروان ثمانية أيام. فأمر أصحابه أن يتقدموا فوجا بعد فوج إلى إفريقية ثقة منه بما دوخ من البلاد، وأنه لم يبق أحد يخشاه. وسار يريد تهوذة لينظر إليها وإلى بادس، ويعرف ما يسدهما من الفرسان، فيترك «5» فيهما بقدر الحاجة. فلما نظر الروم إلى قلة ما معه، طمعوا فيه وأغلقوا أبواب حصونهم دونه، وشتموه، ورموه بالنبل والحجارة، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل. فلما توسط البلاد بعث الروم إلى كسيلة ابن بهرم الأوربى «6» وكان فى عسكر عقبة.

ذكر خروج كسيلة وقتل عقبة بن نافع واستيلائه على القيروان

ذكر خروج كسيلة وقتل عقبة بن نافع واستيلائه على القيروان كان كسيلة هذا من أكابر البربر. وكان قد أسلم فى ولاية أبى المهاجر وحسن إسلامه. وقدم عقبة فعرّفه أبو المهاجر بحال كسيلة وعظمه فى البربر وانقيادهم إليه. فلم يعبأ به «1» عقبة واستخف به وأهانه. فكان من إهانته له أنه أتى بغنم فأمر بذبحها، وأمر كسيلة أن يسلخ منها شاة. فقال: «أصلح الله الأمير! هؤلاء فتيانى وغلمانى يكفوننى المؤونة» . فسبه عقبة وأمره بالقيام. فقام مغضبا وذبح الشاة. وجعل يمسح لحيته بما على يديه من دمها. فجعلت العرب يمرون به ويقولون له: «يا بربرى، ما هذا الذى تصنع؟» . فيقول: «هذا جيد للشعر» . حتى مربه شيخ من العرب فقال: «كلا، إن البربرى يتواعدكم» . فقال أبو المهاجر لعقبة: «ما صنعت؟ أتيت إلى رجل جبار فى قومه وبدار عزه، وهو قريب عهد بالشّرك، فأفسدت قلبه. أرى أن توثقه كتافا، فإنى أخاف عليك من فتكه «2» » . فتهاون به عقبة. فلما رأى كسيلة الروم قد راسلوه ورأى فرصة، وثب وقام فى بنى عمه وأهله ومن اجتمع إليه من الروم. فقال أبو المهاجر لعقبة: «عاجله قبل أن يجتمع أمره «3» » . وأبو المهاجر مع ذلك كله صحبة

عقبة وهو فى الحديد. فزحف عقبة إلى كسيلة فتنحى عنه. فقال البربر له: «لم تنحيت من بين يديه ونحن فى خمسة آلاف «1» ؟» فقال: «إنكم كل يوم فى زيادة وهو فى نقصان، ومدد الرجل قد افترق عنه. فإذا طلب إفريقية زحفت إليه» . وأما أبو المهاجر فإنه تمثل بقول أبى محجن الثقفى «2» : كفى حزنا أن تمزع الخيل بالقنا «3» ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا إذا قمت غنانى الحديد وأغلقت «4» ... مصارع من دونى تصم المناديا فبلغ ذلك عقبة بن نافع. فأطلقه «5» وقال له: «الحق بالمسلمين فقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة» . فقال أبو المهاجر: «وأنا أغتنم ما اغتنمت» . فصلى عقبة ركعتين وكسر جفن سيفه. وفعل أبو المهاجر كفعله. وكسر المسلمون أغماد سيوفهم. وأمر عقبة أن ينزلوا عن خيلهم، ففعلوا وقاتلوا قتالا شديدا. وكثر عليهم العدو فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم أحد «6» .

ذكر ولاية زهير بن قيس البلوى وقتل كسيلة البربرى

فعزم زهير بن قيس على قتال البربر فخالفه بعض أصحابه «1» ففارق القيروان، وسار إلى برقة وأقام بها. وتبعه أكثر الناس. وأما كسيلة فاجتمع إليه جمع كبير «2» فقصد القيروان وبها أصحاب الأثقال والذرارى من المسلمين. فطلبوا الأمان من كسيلة فأمّنهم. ودخل القيروان واستولى على إفريقية. وأقام بها إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان. فذكر عنده أمر القيروان ومن بها من المسلمين. فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إليها، ليستنقذها من يد كسيلة. فاستعمل عليها زهير بن قيس «3» . ذكر ولاية زهير بن قيس البلوى وقتل كسيلة البربرى قال: ولما أشير على عبد الملك بن مروان بإرسال الجيش إلى إفريقية، قال: «لا يصلح للطلب بثأر عقبة بن نافع من المشركين إلا من هو مثله فى دين الله عز وجل» . فاتفق رأيهم على زهير بن قيس، وقالوا: «هو صاحب عقبة وأعرف الناس بسيرته وأولاهم بطلب ثأره» . وكان زهير ببرقة مرابطا منذ قفل من إفريقية. فكتب إليه عبد الملك بالخروج على أعنّة الخيل إلى إفريقية. فكتب إليه زهير يستمده بالرجال والأموال. فوجه إليه بالأموال ووجوه أهل الشام.

فلما وصل ذلك إليه أقبل إلى إفريقية فى عسكر عظيم، وذلك فى سنة تسع وستين «1» . فبلغ خبره كسيلة فجمع البربر «2» وتحول عن القيروان إلى ممش «3» . وجاء زهير فأقام بظاهر القيروان «4» ثلاثة أيام حتى استراح وأراح. ثم رحل إلى كسيلة. والتقيا واشتد القتال وكثر القتل فى الفريقين. فأجلت الحرب عن قتل كسيلة وجماعة من أصحابه. وانهزم من بقى منهم. فتبعهم الجيش فقتلوا من أدركوه. وعاد زهير إلى القيروان. فرأى ملك إفريقية ملكا عظيما، فقال: «إنما أحببت الجهاد، وأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك» . وكان عابدا زاهدا. فترك بالقيروان عسكرا ورحل فى جمع كبير «5» يريد المشرق. وكان قد بلغ الروم بالقسطنطينية مسيره من برقة إلى إفريقية وخلوها، فخرجوا إليها فى مراكب كثيرة من جزيرة صقلية «6» . فأغاروا على برقة وقتلوا ونهبوا. ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية فقاتلهم بمن معه أشدّ قتال. وترجل هو ومن معه وقاتلوا فعظم الخطب. وتكاثر الروم عليهم فقتل زهير وأصحابه، ولم ينج منهم أحد «7» . وعاد الروم بما غنموه إلى القسطنطينية.

ذكر ولاية حسان بن النعمان الغسانى افريقية

ولما بلغ عبد الملك قتل زهير عظم ذلك عليه «1» ، وكانت المصيبة به كالمصيبة بعقبة. وشغل عبد الملك عن القيروان «2» ما كان بينه وبين عبد الله بن الزبير. فلما قتل ابن الزبير جهز عبد الملك حسان ابن النعمان إليها. ذكر ولاية حسان بن النعمان الغسانى افريقية قال: كان عبد الملك قد أمر حسان بن النعمان بالمقام بمصر في عسكر عدته أربعون ألفا «3» . وتركه بها عدة لما يحدث. فكتب إليه بالنهوض إلى إفريقية ويقول: «إنى قد أطلقت يدك فى أموال مصر، فاعط من معك ومن ورد عليك من الناس، واخرج إلى جهاد إفريقية على بركة الله» . قال ابن الأثير فى تاريخه الكامل: إنه استعمله فى سنة أربع وسبعين بعد مقتل عبد الله بن الزبير. وقال ابن الرّقيق إنه ندبه إلى إفريقية فى سنة تسع وستين «4» . قال: فدخل إفريقية بجيش عظيم ما دخلها مثله قط. فدخل القيروان وتجهز منها إلى قرطاجنّة.

ذكر فتح قرطاجنة وتخريبها

ذكر فتح قرطاجنة وتخريبها قال: ولما دخل حسان إلى القيروان سأل عن أعظم ملك بقى بإفريقية. فقيل له: صاحب قرطاجنة، وهى بلدة عظيمة، ولم تفتح بعد، ولا قدر عليها عقبة. فسار إليها. وقاتل من بها من الروم والبربر أشد قتال. فانهزموا وركبوا فى البحر. وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس. ودخل حسان قرطاجنة بالسيف فقتل وسبى ونهب. وأرسل الجيوش إلى ما حولها. ثم أمر بهدمها فهدم المسلمون منها ما أمكنهم. ثم بلغه أن الروم والبربر قد اجتمعوا فى صطفورة «1» وبنزرت. فسار إليهم وقاتلهم، فهزمهم وأكثر القتل فيهم. واستولى المسلمون على بلادهم. ولم يترك موضعا منها حتى وطئه. فخافه أهل إفريقية خوفا شديدا. ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا بها. وتحصن البربر بمدينة بونة. وعاد حسان إلى القيروان فأقام بها حتى أراح واستراح. ذكر حروب حسان والكاهنة وتخريب افريقية وقتل الكاهنة قال: ثم قال حسّان للناس: «دلونى على أعظم من بقى من ملوك إفريقية» . فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة، وقالوا: «إنها بجبل أوراس، وهى بربرية اجتمع البربر عليها بعد قتل

قتل كسيلة» . وكانت تخبر بأشياء فتقع كما أخبرت عنها. وعظّموا محلّها عند حسان وقالوا: «إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك» . فسار إليها. فلما قاربها هدمت حصن باغاية، ظنّا منها أنه يريد الحصون. فلم يعرج «1» حسان على ذلك وسار إليها. فالتقوا على نهرتينى «2» واقتتلوا أشد قتال. فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسرت جماعة من أصحابه» . فأكرمتهم الكاهنة وأطلقتهم إلا خالد بن يزيد القيسى «4» ، وكان شريفا شجاعا فاتخذته ولدا. وسار حسان منهزما وفارق إفريقية. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمره. فأمره بالمقام إلى أن يأتيه أمره. فأقام بعمل برقة خمس سنين «5» فسمّى ذلك المكان قصور حسان. وملكت الكاهنة إفريقية كلها وأساءت السيرة فى أهلها. ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالأموال والجيوش. وأمره بالمسير إلى إفريقية وقتال الكاهنة. فسار إليها. فقالت الكاهنة لقومها: «إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعى، ولا أرى إلا خراب إفريقية حتى ييأسوا منها» . وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها، وهدموا الحصون، وقطعوا الأشجار

ونهبوا الأموال. قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: «وكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلّا واحدا وقرى متصلة، فأخربت ذلك» . فلما قرب حسان من البلاد، لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون به من الكاهنة. فسره ذلك. وسار إلى قابس. فلقيه أهلها بالأموال والطاعة، وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء. فجعل فيها غلاما «1» . وسار على قفصة «2» . فأطاعه من بها. واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة. وبلغ مقدمه الكاهنة، فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد وقالت لهم: «إننى مقتولة، فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أمانا» . فساروا إليه. فوكل بولديها من يحفظهما. وقدم خالد بن يزيد على أعنة الخيل. وسار حسان نحو الكاهنة فالتقوا واقتتلوا، واشتد القتال وكثر القتل حتى ظن الناس أنه الفناء. ثم نصر الله المسلمين. وانهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا. وانهزمت الكاهنة ثم أدركت فقتلت. ثم استأمن البربر إلى حسان فأمنهم. وقرر عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفا يجاهدون العدو. وقدم عليهم ابنى الكاهنة ثم فشا الإسلام فى البربر. وعاد حسان إلى القيروان وبطل النزاع واستقامت إفريقية له. فلما مات عبد الملك وولى الوليد- وكان على مصر وإفريقية

عبد العزيز بن مروان «1» - فعزل حسان واستقدمه. وبعث إليه بأربعين رجلا من أشراف أصحابه، وأمرهم أن يحتفظوا بجميع ما معه. فعلم حسان ما يراد منه، فعمد إلى الجوهر واللؤلؤ والذهب «2» ، فجعله فى قرب الماء وطرحها فى المعسكر، وأظهر ما وراء ذلك. فلما قدم على عبد العزيز بن مروان بمصر أهدى إليه مائتى جارية ووصيف من خيار ما كان معه «3» ويقال: إن حسان كان معه من السبى خمسة وثلاثون ألف رأس. فانتخب منها عبد العزيز ما أراد وأخذ منه خيلا كثيرة. ورحل حسان بما بقى معه حتى قدم على الوليد بن عبد الملك فشكا إليه ما صنع به عبد العزيز. فغضب الوليد وأنكره. فقال حسان لمن معه: «ائتونى بالقرب» . فأتى بها فأفرغها بين يدى الوليد. فرأى ما أذهله من أصناف الجوهر واللؤلؤ والذهب. فقال حسان: «يا أمير المؤمنين إنما خرجت مجاهدا فى سبيل الله، ولم أخن الله تعالى ولا الخليفة» . فقال له الوليد: «أردك إلى عملك وأحسن إليك» . فحلف حسان أنه لا ولى لبنى أمية ولاية أبدا. فغضب الوليد على عمه عبد العزيز لما عامل به حسانا. وكان حسان يسمى الشيخ الأمين لثقته وأمانته ثم ولى بعده موسى بن نصير.

ذكر ولاية موسى بن نصير افريقية وما كان من حروبه وآثاره

ذكر ولاية موسى بن نصير افريقية وما كان من حروبه وآثاره كانت ولايته فى سنة تسع وثمانين «1» ، وذلك أن حسان بن النعمان لما امتنع من إجابة الوليد إلى رجوعه إليها، كتب الوليد إلى عمه عبد العزيز «2» أن يوجه موسى بن نصير إلى إفريقية وأن تكون ولايته من قبل الوليد. وأفرد إفريقية عن مصر. فسار موسى حتى قدم إفريقية وعزل عنها صالحا «3» خليفة حسان بها. فبلغه أن بأطراف إفريقية قوما خارجين عن الطاعة. فوجه إليهم ابنه عبد الله «4» فقاتلهم وظفر بهم. وأتاه بمائة ألف رأس من سبيهم. ثم وجه ولده مروان «5» إلى جهة أخرى، فأتاه بمائة ألف رأس. ثم توجه هو بنفسه إلى جهة أخرى فأتى بمائة ألف رأس. قال الليث بن سعد: «فبلغ الخمس يومئذ ستين ألف رأس ولم يسمع بمثل هذا فى الإسلام» .

ذكر فتح جزيرة الأندلس وشىء من أخبارها

ثم خرج غازيا إلى طنجة يريد من بقى من البربر. فهربوا منه فاتبعهم يقتل فيهم حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد. فاستأمن البربر إليه وأطاعوه. فقبل طاعتهم وولى عليهم واليا. ثم استعمل على طنجة وبلادها مولاه طارق بن زياد. وتركه بها فى تسعة عشر ألف فارس من البربر وطائفة يسيرة من العرب «1» لتعلّم البربر القرآن وفرائض الإسلام. ورجع إلى إفريقية فمر بقلعه مجّانة. فتحصن أهلها منه فترك عليها من يحاصرها مع بسر بن فلان «2» ففتحها، فسميّت قلعة بسر. ولم يبق بإفريقية من ينازعه من البربر ولا من الروم. ذكر فتح جزيرة الأندلس وشىء من أخبارها كان فتح الأندلس فى سنة اثنتين وتسعين على يد طارق ابن زياد مولى موسى بن نصير. وقد ذكر ابن الأثير فى تاريخه الكامل «3» أخبار الأندلس وابتداء أمرها. فاخترنا إيراد ذلك لأنها من أعظم الفتوحات الإسلامية.

قال ابن الأثير: قالوا: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلش- بشين معجمة «1» - ثم عرّب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى تسميها إشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له إشبانش «2» ، وقيل: باسم ملك كان لها «3» فى الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطش «4» . وهذا هو اسمها عند بطليموس. وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح «5» ، وهو أول من عمرها. وقيل: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهرا طويلا، وكانوا مجوسا. ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط. فهلك أكثرهم، وفر منها من أطاق الفرار. فخلت مائة سنة. ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة. فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية لقحط «6» توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها. فحملهم فى السفن مع أمير من عنده. فأرسوا بجزيرة قادس. فرأوا الأندلس وقد أخصبت بلادها وجرت أنهارها. فسكنوها وعمروها. ونصبوا لهم ملوكا ضبطوا أمرهم «7» . وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية، بنوها وسكنوها. وأقاموا

مدة تزيد على مائة وخمسين «1» سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكا. ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطش «2» فغزاهم ومزقهم وقتل منهم وحاصرهم «3» بطالقة، وقد تحصنوا بها، فابتنى «4» عليها إشبانية- وهى إشبيلية- واتخذها دار مملكته. وكثرت جموعه وعتا وتجبر. وغزا بيت المقدس وغنم ما فيه، وقتل منه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها. وغنم منه مائدة سليمان بن داوود عليهما السلام، وهى التى غنمها طارق لما فتح طليطلة، وغنم قليلة الذهب والحجر الذى لقى بماردة. وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر «5» ، وهو يحرث الأرض فقال له: «يا إشبان، سوف تحظى وتعلو وتملك. فإذا ملكت إيليا «6» فارفق بذرية الأنبياء» . فقال له: «أتسخربى وكيف ينال مثلى الملك؟» . فقال له: «قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى» فنظر إليها، فإذا هى قد أورقت. فارتاع وذهب عنه الخضر وقد وثق بقوله. فداخل الناس وارتقى

حتى ملك ملكا عظيما. وكان ملكه عشرين سنة ودام ملك الإشبانية إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكا. ثم دخل عليها من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات «1» ، وملكهم طلوبش بن بيطة «2» ، وذلك حين بعث الله المسيح عليه السّلام. فغلبوا عليها، واستولوا على ملكها، وقتلوا ملكها. وملك منهم سبعة وعشرون ملكا. وكانت مدينة ماردة دار ملكهم. ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم. فغلبوا على الأندلس واقتطعوها «3» من صاحب رومة. وكان ظهورهم من ناحية أنطالية «4» شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مجدونية من تلك الناحية فى أيام قليوديوس «5» قيصر، ثالث القياصرة. فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم «6» . ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر. وأعادوا الغارة. فسير إليهم جيشا فلم يثبتوا له. وانقطع خبرهم إلى دولة ثالث ملك بعد قسطنطين، فقدموا على أنفسهم أميرا اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان. فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه وظهر منه سوء سيرة، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه. فاستعان بصاحب

رومة. فبعث إليه «1» جيشا فهزم أخاه ودان بدين النصارى. وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة. ثم ولى بعده أقريط، وبعده أمريق «2» وبعده وغديش «3» ، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان. فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة. فسير إليه «4» ملك الروم جيشا فهزموه وقتلوه. ثم ملك بعده الريق. ثم تداولها عدة ملوك ذكرهم ابن الأثير «5» : منهم من عبد الأوثان ومنهم من دان بدين النصرانية، إلى أن انتهى الملك إلى غيطشة «6» ، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة. ثم توفى وخلف ولدين. فلم يرض بهما أهل الأندلس ورضوا برجل يقال له رذريق «7» ، وكان شجاعا وليس من بيت الملك. وكانت عادة ملوك الأندلس أنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون فى خدمة الملك لا يخدمه غيرهم، يتأدبون بذلك. فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضا

وتولى تجهيزهم. فلما ولى رذريق، أرسل إليه يليان «1» - وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما- ابنته فاستحسنها رذريق فافتضها. فكتبت إلى أبيها بذلك. فأغضبه فكتب إلى موسى بن نصير عامل إفريقية بالسمع والطاعة. واستدعاه فسار إليه. فأدخله يليان مدائنه. وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرضى به. ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك فى آخر سنة تسعين. فكتب موسى إلى الوليد بذلك، واستأذنه فى غزوها. فأذن له إذا لم يكن الوصول إلها فى بحر متسع. فبعث موسى مولى من مواليه، يقال له طريف «2» ، فى أربعمائة رجل ومعهم مائة فارس «3» . فساروا فى أربع سفن. فخرجوا فى جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف. ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنائم كثيرة ورجع سالما، فى شهر رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأي الناس ذلك، تسرعوا إلى الغزو. ثم إن موسى دعا مولاه طارق بن زياد، وكان على مقدمات جيوشه، فبعثه فى سبعة آلاف من المسلمين «4» أكثرهم البربر والموالى وأقلهم العرب. فساروا فى البحر. وقصدوا جبلا

منيفا «1» فى البحر، وهو متصل بالبر. فنزله فسمّى الجبل جبل طارق. ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم، وجرت الألسن على الاسم الأول. وكان حلول طارق به فى شهر رجب سنة اثنتين وتسعين «2» . قال: ولما ركب طارق البحر غلبته عينه، فرأى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون والأنصار وقد تقلدوا السيوف وتنكّبوا القسى. فقال النبى صلى الله عليه وسلم له: «يا طارق تقدم لشأنك» . وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. ونظر طارق فرأى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه. فاستيقظ من نومه، وبشر أصحابه، وقويت نفسه، وأيقن بالظفر. فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء، وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزا. فقالت له: «إنّى كان لى زوج، وكان عالما بالحوادث، وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم ويغلب عليه، ووصف من صفته أنه ضخم الهامة وأن فى كتفه الأيسر شامة عليها شعر» . فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت فاستبشر. قال: ولما فتح الجزيرة الخضراء وفارق الحصن الذى فى

الجبل، بلغ رذريق خبره. فأعظم ذلك، وكان غائبا فى غزاة فرجع منها، وقد دخل طارق بلاده. فجمع له جمعا يقال بلغ مائة ألف «1» . فكتب طارق إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح. فأمده بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثنى عشر ألفا، ومعهم يليان يدلّهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. وأتاهم رذريق فى جنده. فالتقوا على نهربكّة «2» من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين. واتصلت الحرب بينهم ثمانية أيام «3» . وكان على ميمنة رذريق وميسرته ولدا الملك الذى كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك. فاتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق وقالوا: «إنّ المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقى الملك لنا» . فانهزموا. وهزم الله رذريق ومن معه وغرق فى النهر «4» . وسار طارق إلى مدينة إستجة «5» فى اتباعهم. فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير. فقاتلوه قتالا شديدا ثم

انهزم أهل الأندلس. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إستجة أربعة أميال فسميت عين طارق. قال: ولما سمع القوط بهاتين الهزيمتين، قذف الله فى قلوبهم الرعب، وهربوا إلى طليطلة، وأخلوا مدائن من الأندلس «1» فقال له يليان: «قد فرغت من الأندلس، ففرّق جيوشك، وسر أنت إلى طليطلة» . ففرق جيوشه من مدينه إستجة: فبعث جيشا إلى قرطبة، وجيشا إلى أغرناطة «2» ، وجيشا إلى مالقة، وجيشا إلى تدمير «3» . وسار هو ومعظم الجيش إلى طليطلة. فلما بلغها وجدها خالية وقد لحق من بها بمدينة خلف الجبل يقال لها ماية. قال: وفتح سائر الجيوش الذين بعثهم ما قصدوه من البلاد. قال: ولما رأى طارق طليطلة خالية، ضم إليها اليهود وترك معهم رجالا من أصحابه. وسار هو إلى وادى الحجارة. وقطع الجبل من فج فيه فسمّى بفج طارق. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة «4» ، وفيها مائدة سليمان بن داوود عليهما السلام «5» ، وهى من زبرجدة

خضراء «1» ، حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلا. ثم مضى إلى مدينة ماية «2» فغنم منها. ورجع إلى طليطلة فى سنة ثلاث وتسعين. وقيل: إنه اقتحم أرض جلّيقية فاخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة، وانصرف إلى طليطلة. ووافته جيوشه التى وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدائن التى سيرهم إليها. ودخل موسى بن نصير الأندلس فى شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين فى جمع كثير «3» ، وقد بلغه ما صنع طارق فحسده «4» . فلما نزل الجزيرة الخضراء قيل له: «تسلك طريق طارق؟» فأبى. فقال له الأدلاء: «نحن ندلّك على طرق «5» أشرف من طريقه ومدائن لم تفتح بعد» » . ووعده يليان بفتح عظيم، فسر بذلك. فساروا به إلى مدينة ابن السليم «7» فافتتحها عنوة. ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهى أحصن «8» مدن الأندلس. فتقدم إليها يليان وخاصته على حال المنهزمين فأدخلوهم مدينتهم. وأرسل موسى إليهم الخيل

ففتحوها لهم ليلا. فدخلها المسلمون وملكوها. ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهى من أعظم مدائن الأندلس بنيانا وأغربها آثارا «1» فحصرها «2» أشهرا وفتحها، وهرب من بها. فأنزلها موسى اليهود. وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه «3» قتالا شديدا. فكمن لهم موسى ليلا فى مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار. فلما أصبحوا زحف إليهم. فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم. فخرج عليهم الكمين، وأحدقوا بهم، وحالوا بينهم وبين البلد، وقتلوهم قتلا ذريعا. ونجا من سلم منهم فدخل المدينة، وكانت حصينة. فحصرهم بها أشهرا. وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها. فخرج أهلها على المسلمين فقتلوهم عند البرج فسمّى برج الشهداء. ثم افتتحها آخر شهر رمضان سنة أربع وتسعين صلحا «4» ، على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين «5» . ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها، فقتلوا من بها من المسلمين. فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وقتل من بها من أهلها.

وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكهما وعاد إلى إشبيلية. قال: وسار موسى من مدينة ماردة فى شوال يريد طليطلة. فخرج طارق إليه فلقيه. فلما أبصره نزل إليه، فضربه موسى بالسوط على رأسه، ووبخه على ما كان من خلافه. ثم سار به إلى مدينة طليطلة وطلب منه ما غنم والمائدة. فأتاه بها وقد انتزع رجلا من أرجلها. فسأله عنها فقال: «لا علم لى بها. كذلك وجدتها» . فعمل عوضها من ذهب «1» . وسار موسى إلى مدينة سرقسطة ومدائنها فافتتحها. وأوغل فى بلاد الفرنج. فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما قائما، فيه مكتوب: «يا بنى إسماعيل، إلى هاهنا منتهاكم، فارجعوا. وإن سألتم إلى ماذا ترجعون، أخبركم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض، وقد فعلتم» . فرجع ووافاه رسول الوليد فى أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه. فساءه ذلك ومطل الرسول، وهو يقصد بلاد العدو فى غير «2» ناحية الصنم، يقتل ويسبى ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس، حتى بلغ صخرة بلاى على البحر الأخضر «3» ، وهو فى قوة وظهور. فقدم عليه رسول آخر «4» من الوليد يستحثه، وأخذ بعنان بغلته وأخرجه. وكان موافاه الرسول له بمدينة لك

بجليقية «1» . وخرج على الفج المعروف بفج موسى. ووافاه طارق من الثغر الأعلى فأقضله «2» معه، ومضيا جميعا. واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى. فلما عبر موسى البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك. واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله «3» . وسار إلى الشام. وحمل الأموال التى غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة، ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم «4» . ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى. فورد الشام، وقد مات الوليد واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفا عن موسى «5» بن نصير. فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وأغرمه غرما حتى احتاج أن يسأل العرب فى معونته «6» . وقيل: إنه قدم إلى الشام والوليد حىّ. وكان قد كتب إليه، وادعى أنه هو الذى فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة. فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة، ومعه طارق. فقال طارق: «أنا غنمتها» . فكذبه موسى. فقال طارق للوليد: «سله عن رجلها المعدومة» . فسأله عنها، فلم يكن عنده منها علم. فأظهرها

ذكر غزو جزيرة سردانية

طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب. فعلم الوليد صدق طارق. وإنما فعل هذا لأن موسى كان قد ضربه وحبسه حتى أرسل الوليد «أخرجه» «1» وقيل: لم يحبسه. قالوا: ولما دخلت الروم بلاد الأندلس «2» ، كان فى مملكتهم بيت إذا ولى ملك منهم أقفل عليه قفلا. فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم. فلما ملك رذريق فتح الأقفال فرأى فى البيت صور العرب، عليهم العمائم الحمر على خيول شهب، وفيه كتاب: «إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد» . ففتحت «3» الأندلس فى تلك السنة. ذكر غزو جزيرة سردانية قال: ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره إلى هذه الجزيرة، وهى فى بحر الروم كثيرة الفواكه. فدخلوها فى سنة اثنتين وتسعين «4» . فعمد النصارى إلى ما يملكونه من آنية الذهب والفضة فألقوا الجميع فى الماء «5» . وجعلوا أموالهم فى سقف البيعة الكبرى التى تحت السقف الأول. وغنم المسلمون منها ما لا يحد ولا يوصف، وأكثروا الغلول «6» . واتفق أن رجلا من المسلمين اغتسل فى الماء

ذكر ولاية محمد بن يزيد مولى قريش ومقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير

فعلق فى رجله شىء. فأخرجه، فإذا هو صحفة من فضة. فأخرج المسلمون جميع ما فيه. ودخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام. فرماه بسهم فأخطأه ووقع فى السقف. فانكسر لوج ونزل منه شىء من الدنانير. فأخذوا الجميع. وزادوا فى الغلول، فكان بعضهم يذبح الهرّ، ويرمى ما فى جوفه، ويملأه دنانير، ويخيط عليها، ويلقيه فى الطريق. فإذا خرج أخذه. وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهبا. فلما ركبوا فى البحر سمعوا قائلا يقول: «اللهم غرّقهم» . فغرقوا عن آخرهم «1» . ذكر ولاية محمد بن يزيد مولى قريش ومقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير قال: ثم استعمل سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد مولى قريش. وقال له عند ولايته: «يا محمد، اتق الله وحده لا شريك له، وقم فيما وليتك بالحق والعدل. اللهم اشهد» . فخرج محمد وهو يقول: «ما لى عذر إن لم أعدل» . وكانت ولايته فى سنة تسع وتسعين «2» . فولى سنتين وشهورا. وكتب إليه سليمان يأمره أن يأخذ آل موسى ابن نصير وكل من انتسب إليه حتى يقوموا بما بقى عليه وهو ثلاثمائة ألف دينار ولا يرفع عنهم العذاب. فقبض على عبد الله والى القيروان

فحبسه فى السجن. ثم وصل البريد من قبل سليمان يأمر بضرب عنقه. وأما عبد العزيز فإنه لما استخلفه أبوه موسى على الأندلس سد ثغورها، وضبط بلادها، وافتتح مدائن كانت بقيت بعد أبيه، وكان خيرا فاضلا. فتزوج امرأة الملك لذريق. فحظيت عنده، وغلبت على رأيه. فحملته على أن يأخذ أصحابه بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كما كان يفعل بزوجها. فقال: «إن ذلك ليس من ديننا» . فلم تزل به حتى أمر بفتح باب قصير لمجلسه الذى كان يجلس فيه. فكان أحدهم إذا دخل عليه من الباب طأطأ رأسه فيصير كالراكع. فرضيت بذلك وقالت: «الآن لحقت بالملوك. وبقى أن أعمل لك تاجا مما عندى من الذهب واللؤلؤ» . فأبى. فلم تزل به حتى فعل. فانكشف للمسلمين، فقالوا: «تنصر» . وفطنوا للباب. فثاروا عليه، فقتلوه فى آخر سنة تسع وتسعين «1» فى آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. ثم مكثوا بعد ذلك سنة لا يجمعهم إمام. وحكى الواقدى قال: لما بلغ عبد العزيز بن موسى ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته، خلع الطاعة وخالف. فأرسل إليه سليمان رسولا، فلم يرجع. فكتب سليمان إلى حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع ووجوه العرب سرّا بقتله. فلما خرج عبد العزيز إلى صلاة الصبح، قرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ الحاقة «2» . فقال له حبيب: «حقّت عليك

ذكر ولاية اسماعيل بن عبد الله ابن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم

يا ابن الفاعلة» . وعلاه بالسيف فقتله «1» فحمل رأس عبد الله ورأس عبد العزيز ابنى موسى حتى وضعا بين يدى أبيهما، وعذّب حتى مات. وأضيفت ولاية الأندلس إلى إفريقية. فاستعمل عليها محمد الحر بن عبد الرحمن القيسى. ولم يزل محمد بإفريقية إلى أن مات سليمان وولى عمر بن عبد العزيز، فعزله واستعمل إسماعيل بن عبد الله. ذكر ولاية اسماعيل بن عبد الله ابن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم قال: ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل إسماعيل على إفريقية، وكان خيروال. فدعا إسماعيل من بقى من البربر إلى دين الإسلام. فأسلموا وغلب الإسلام على المغرب جميعه. ودامت ولايته إلى سنة إحدى ومائة،، إلى أن توفى عمر بن عبد العزيز وولى يزيد بن عبد الملك، فاستعمل على إفريقية يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج فقدمها فى سنة اثنتين ومائة «2» وقتل. وقد ذكرنا سبب مقتله فى أخبار يزيد بن عبد الملك «3» . ثم ولى بعده بشر بن صفوان الكلبى، فقدمها فى سنة ثلاث ومائة. فلما قدم استعمل على الأندلس عنبسة الكلبى وعزل الحر بن عبد الرحمن

[عبيدة بن عبد الرحمان السلمى]

القيسى «1» . ثم غزا بشر جزيرة صقلية بنفسه فأصاب سبيا» كثيرا. ثم رجع من غزوته فتوفى بالقيروان فى سنة تسع ومائة فى خلافة هشام بن عبد الملك. [عبيدة بن عبد الرحمان السلمى] فلما اتصلت وفاته بهشام استعمل على إفريقية: عبيدة بن عبد الرحمن السّلمى وهو ابن أخى أبى الأعور السّلمى، صاحب خيل معاوية «3» . فأخذ عمال بشر بن صفوان فحبسهم وأغرمهم وتحامل عليهم وعذب بعضهم. وكان فيهم أبو الخطّار بن ضرار «4» الكلبى، وكان قائدا جليلا، فقال: أفأتم بنى- مروان- قيسا دماءنا ... وفى الله إن لم يعدلوا حكم عدل «5» كأنكم لم تشهدوا لى وقعة ... ولم تعلموا من كان قبل له الفضل «6»

[عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول]

وقيناكم حرّ القنا بصدورنا ... وليس لكم خيل سوانا ولا رجل «1» فلما بلغتم نيل ما قد أردتم ... وطاب لكم فينا المشارب والأكل «2» تغافلتم عنا كأن لم نكن لكم ... صديقا وأنتم ما علمتم لنا وصل وبعث بها إلى هشام. فلما قرئت عليه غضب وأمر بعزل عبيدة. فقفل «3» عنها، واستخلف على إفريقية عقبة بن قدامة التّجيبى، وترك بها عبد الله بن المغيرة بن بردة القرشى قاضيا، وذلك فى شوال سنة أربع عشرة ومائة «4» . [عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول] ثم استعمل هشام عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول، وكان رئيسا كاتبا بليغا، حافظا لأيام العرب وأشعارها ووقائعها. وهو الذى بنى الجامع ودار الصناعة بمدينة تونس. وكانت ولايته فى شهر ربيع الأول سنة ست عشرة ومائة «5» .

فاستعمل على طنجة وما والاها عمر بن عبد الله المرادى «1» . فأساء السيرة وتعدى فى الصدقات والقسم «2» . وأراد أن يخمس البربر وزعم أنهم فىء للمسلمين، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله. وإنما كانت الولاة يخمسون من لم يجب منهم إلى الإسلام. فانتقضت البربر بطنجة على عبيد الله وتداعت عليه بأسرها، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين ومائة. وهى أول فتنة كانت بإفريقية فى الإسلام. وخرج ميسرة المدغرى «3» وقتل عمر المرادى. وظهر بالمغرب فى ذلك الوقت قوم جرت منهم دعوة الخوارج، وصار منهم عدد كبير «4» وشوكة قوية. قال: فبعث عبيد الله الجيوش من أشراف «5» العرب لقتال المدغرى «6» ، وجعل عليهم خالد بن أبى حبيب الفهرى. وأردفه بحبيب بن أبى عبيدة. فسار خالد حتى أتى ميسرة دون طنجة. فالتقوا واقتتلوا قتالا لم يسمع بمثله. ثم انصرف ميسرة إلى طنجة. فأنكرت عليه البربر سوء سيرته «7» ، وتغيروا عما كانوا

بايعوه عليه، وكان قد بويع بالخلافة فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزّناتى «1» . ثم التقى خالد بن أبى حبيب بالبربر، وكان بينهم قتال شديد. فبينما هم كذلك إذا غشيهم خالد بن حميد الزناتى بعسكر عظيم. فانهزم أصحاب خالد بن أبى حبيب. وكره هو أن ينهزم فألقى «2» بنفسه هو وأصحابه فقتل هو ومن كان معه، ولم يسلم منهم أحد. وقتل فى هذه الوقعه حماة العرب وفرسانها فسميت وقعة الأشراف. وانتقضت البلاد ومرج الناس واختلفت الأمور على عبيد الله. فاجتمع الناس وعزلوه عن أنفسهم وبلغ ذلك هشام «3» ابن عبد الملك فقال «4» : «أقتل أولئك الرجال الذين كانوا يقدمون علينا من العرب؟» . قيل: «نعم» فقال: «والله، لأغضبن لهم غضبة عربية، ولأبعثن إليهم جيشا أوله عندهم وآخره عندى. ثم لا تركت حصن بربرى إلا جعلت إلى جانبه خيمة قيسى أو يمنى» «5» . وكتب إلى عبيد الله بن الحبحاب يستقدمه. فخرج فى جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائة. قال: وكان عبيد الله لما قدم إفريقية استعمل على الأندلس عقبة ابن الحجاج وعزل عنبسة «6» . فلما بلغ أهل الأندلس ثورة البربر وثبوا

على عقبة فعزلوه. وولوا عليهم عبد الملك بن قطن الفهرى. قال: ثم استعمل هشام بن عبد الملك على إفريقية كلثوم بن عياض القشيرى، فقدم فى شهر رمضان «1» سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد عقد له على اثنى عشر ألف فارس من أهل الشام. وكتب إلى والى كل بلد أن يخرج معه، فسار معه عمال مصر وبرقة وطرابلس. فلما قدم إفريقية نكّب عن القيروان وسار إلى سبتة. واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة الغفارى، وهو إذ ذاك قاضى إفريقية وكان حبيب بن أبى عبيدة «2» مواقف البربر. فسار كلثوم ومن معه حتى وافى البربر، وهم على وادى طنجة «3» ، وهم فى ثلاثين ألفا. وتوجه إليهم خالد بن حميد الزناتى فصاروا فى جميع كبير «4» . فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل كلثوم بن عياض، وحبيب ابن أبى عبيدة، وسليمان بن أبى المهاجر، ووجوه العرب. وانهزمت العرب، وكانت هزيمة أهل الشام إلى الأندلس، وعبروا فى المراكب، وهزيمة أهل مصر وأهل إفريقية إلى إفريقية. قال: ولما بلغ أهل إفريقية قتل كلثوم، كان بها هرج. فثار عكاشة بن أيوب الفزارى مخالفا على الناس بمدينة قابس، وكان صفريا، وهو الذى قدم على طليعة أهل الشام مع عبيد الله بن الحبحاب

[حنظلة بن صفوان الكلبى]

فسار إليه عبد الرحمن بن عقبة فقاتله. فانهزم عكاشة، وقتل كثير من أصحابه، وتفرق من بقى منهم. [حنظلة بن صفوان الكلبى] ولما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك، بعث إلى إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبى، وكان عامله على مصر «1» ولاه عليها فى سنة تسع عشرة ومائة، فأقام بها إلى أن بعثه إلى إفريقية. فقدمها فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة. فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الصّفرى الخارجى فى جمع عظيم من البربر، لم ير أهل إفريقية مثله ولا أكثر منه، وكان لما انهزم جمع قبائل البربر. وزحف إلى حنظلة أيضا عبد الواحد بن يزيد الهوارى فى عدد عظيم وكانا قد افترقا من الزاب: فأخذ عكاشة على طريق مجانة فنزل القرن، وأخذ عبد الواحد على طريق الجبال فنزل «2» طبيناس، وعلى مقدمته أبو قرة المغيلى «3» . فرأى حنظلة أن يعجل قتال عكاشة قبل أن يجتمعا عليه، فزحف إليه بجماعة أهل القيروان. والتقوا بالقرن وكان بينهم قتال شديد فنى فيه خلق كثير «4» . وهزم الله عكاشة ومن معه. وقتل من البربر ما لا يحصى كثرة. وانصرف حنظلة إلى القيروان خوفا أن يخالفه عبد الواحد إليها.

وقيل: إن عبد الواحد لما وصل إلى باجة، أخرج إليه حنظلة رجلا من لخم فى أربعين ألف فارس. فقاتلوه بباجة شهرا فى الخنادق والوعر. ثم انهزم اللخمى إلى القيروان، وفقد ممن معه عشرين ألفا. ونزل عبد الواحد بالأصنام من جراوة ثلاثة أميال «1» عن القيروان، وكان فى ثلاثمائة ألف «2» . فأخرج حنظلة جميع ما فى الخزائن من السلاح، ونادى فى الناس. فكان يعطى لكل منهم درعا وخمسين دينارا. فلم يزل يفعل ذلك حتى كثر عليه الناس، فرد العطاء إلى أربعين ثم إلى ثلاثين. ولم يقدم إلا شابا قويّا. فعبأ الناس طول ليلته والشمع «3» حوله وبين يديه. فعبأ فى تلك الليلة خمسة آلاف دارع «4» وخمسة آلاف نابل. وأصبح وقدّم للقتال. وكسرت العرب جفون سيوفها. والتقوا واقتتلوا. ولزم الرجال الأرض وجثوا على الرّكب فانكسرت ميسرة العرب وميسرة البربر ثم كرت ميسرة العرب على ميمنة البربر. فكانت الهزيمة على البربر. وقتل عبد الواحد وأتى حنظلة برأسه فخر ساجدا لله. وقيل: إنه ما علم فى الأرض مقتلة أعظم منها قتل فيها من البربر مائة ألف وثمانون ألفا. وكانوا صفرية يستحلون الدماء وسبى النساء. ثم أتى بعكاشة أسيرا فقتله حنظلة. وكتب بذلك إلى هشام. فكان الليث بن سعد «5» يقول: «ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام «6» » .

ذكر أخبار عبد الرحمن بن حبيب وتغلبه على افريقية ورجوع حنظلة إلى المشرق

ذكر أخبار عبد الرحمن بن حبيب وتغلبه على افريقية ورجوع حنظلة الى المشرق كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى قد هرب إلى الأندلس عند هزيمة كلثوم. فلم يزل يحاول أن يغلب «1» على الأندلس، وهو لا يمكنه ذلك، إلى أن وجّه حنظلة بن صفوان أبا الخطار بن ضرار الكلبى إلى الأندلس وأطاعه الناس ودانت له البلاد. فخاف عبد الرحمن على نفسه. فخرج مستترا وركب فى البحر إلى تونس. فنزل بها فى جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائة «2» . ودعا الناس إلى نفسه فأجابوه. وسار حتى نزل سمنجة «3» . فأراد أصحاب حنظلة الخروج لقتاله فمنعهم حنظلة كراهة لهراقة دماء المسلمين، وكان رجلا ورعا زاهدا لا يرى بذل السيف إلا فى الكفرة والصّفرية الذين يستبيحون دماء المسلمين. فوجه حنظلة إلى عبد الرحمن جماعة من وجوه أهل إفريقية يدعوه إلى مراجعة الطاعة والرجوع عما هو عليه. فلما قدموا عليه أوثقهم فى الحديد. وقال: «إن رمانى أحد من أوليائهم بحجر قتلتهم» فبلغ ذلك من الناس كل مبلغ «4» . فلما رأى حنظلة ذلك دعا القاضى وجماعة من أهل الدين والفضل. وفتح بيت المال بحضرتهم

وأخذ منه ألف دينار وترك الباقى. وقال: «ما آخذ منه إلا بقدر ما يكفينى ويبلّغنى» ثم شخص عن إفريقية فى جمادى الآخرة «1» سنة سبع وعشرين ومائة «2» . وأقبل عبد الرحمن بن حبيب ودخل القيروان ونادى مناديه ألا يخرج أحد إلى حنظلة ولا يشيعه. وكان حنظلة مجاب الدعوة فقال: «اللهم لا تهنّ عبد الرحمن بن حبيب هذا الملك ولا أهله، واسفك دماءهم بأيديهم، وابعث عليهم شرار خلقك» . ودعا على أهل إفريقية «3» . فوقع الوباء والطاعون بها سبع سنين لا يكاد يرتفع إلا إلا وقتا فى الشتاء ووقتا فى الصيف. قال: ولما ولى عبد الرحمن، ثار عليه جماعة من العرب والبربر ثم ثار عليه عروة بن الوليد الصّدفى «4» واستولى على تونس. ثم ثار عليه عرب الساحل. وقام ابن عطّاف الأزدى «5» حتى نزل بطبيناس. وثارت البربر من الجبال. وثار ثابت الصنهاجى بباجة فأخذها. وخرج بناحية طرابلس رجلان يقال لأحدهما عبد الجبار والآخر الحارث، وهما من البربر على دين الخوارج. فقاتل كل من خرج عليه، طائفة بعد أخرى بنفسه وبجيوشه، حتى دوّخ المغرب كله،

وأذلّ من به من القبائل. ولم ينهزم له عسكر ولا ردّت له راية. وخافه جميع أهل المغرب. وكتب إلى مروان بن محمد، وأهدى له هدية، وتقوّل على حنظلة، ونسب إليه ما لم يقع منه. فكتب إليه مروان بولاية إفريقية والمغرب كله والأندلس. ثم قتل مروان وانقرضت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية. فكتب عبد الرحمن إلى أبى العباس السفاح بطاعته، وأقام الدعوة العباسية. فلما صار الأمر إلى أبى جعفر المنصور كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الطاعة. فأجابه وكتب بطاعته، وأرسل إليه بهدية نزرة كان فيها بزاة وكلاب. وكتب إليه: «إن إفريقية اليوم إسلامية كلها، وقد انقطع السبى منها. فلا تسألنى ما ليس قبلى» . فغضب أبو جعفر المنصور وكتب إليه يتوعده. فلما وصل كتابه إليه غضب غضبا شديدا. ثم نادى: «الصلاة جامعة» . فاجتمع الناس فى المسجد الجامع. ثم خرج عبد الرحمن فى مطرف خزّ، وفى رجليه نعلان. فصعد المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ فى سب أبى جعفر. ثم قال: «إنى ظننت هذا الخائر «1» يدعو إلى الحق ويقوم به، حتى تبين لى منه خلاف ما بايعته عليه من إقامة الحق والعدل. وأنا الآن قد خلعته كما خلعت نعلىّ هاتين» . وقذفهما وهو على المنبر. ثم دعا بخلعة أبى جعفر التى كان أرسلها إليه، وفيها سواده- وكان قد لبسها قبل ذلك ودعا

ذكر مقتل عبد الرحمن بن حبيب وولاية أخيه الياس بن حبيب وقتله وولاية حبيب بن عبد الرحمن وقتله

فيها لأبى جعفر، وهو أول سواد لبس بإفريقية- فأمر بتخريقها وحرقها. وأمر كاتبه خالد بن ربيعة أن يكتب كتابا بخلعه، ويقرأ على المنابر فى سائر بلاد المغرب، ففعل ذلك. ذكر مقتل عبد الرحمن بن حبيب وولاية أخيه الياس بن حبيب وقتله وولاية حبيب بن عبد الرحمن وقتله كان سبب قتل عبد الرحمن أنه لما قتل مروان بن محمد الحمار هرب جماعة من بنى أمية ومعهم حريمهم نحو إفريقية، فتزوج عبد الرحمن وإخوته منهم. وكان ممن قدم عليه ابنان للوليد بن يزيد ابن عبد الملك، يقال لأحدهما العاص «1» والآخر [عبد] «2» المؤمن. وكانت ابنة عمهما تحت إلياس بن حبيب. فأنزلهما عبد الرحمن بدار شيبة «3» بن حسان. وتسلك عليهما ليسمع كلامهما وكانا على نبيذ، وغلامهما يسقيهما. فقال العاص: «ما أغفل عبد الرحمن! أيظن أنه يتهنى معنا بولاية ونحن أولاد الخلفاء؟» . فنزل وانصرف ولم يعلما به «4» ثم أمر بقتلهما. فقالت ابنة عمهما لزوجها إلياس: «إنه قتل أختانك تهاونا بك، وجعل العهد من بعده لابنه حبيب وأنت صاحب حربه وسيفه الذى يصول به» ! ولم تزل

تغريه به. وكان عبد الرحمن إذا ثار عليه ثائر أو خرج عليه خارجى يرسل «1» أخاه إلياس لقتاله. فإذا ظفر، نسب الظفر لابنه حبيب وجعل العهد فيه. فاجتمع رأى إلياس بن حبيب وعبد الوارث أخيه على قتل عبد الرحمن أخيهما. ووالاهما على ذلك جماعة من أهل القيروان والعرب «2» وغيرهم، على أن يكون الأمر لإلياس، والدعاء لأبى جعفر المنصور. فأتاه إلياس ليلا فاستأذن عليه بعد العشاء الآخرة. فقال: «ما جاء به وقد ودعنى؟» وكان إلياس قد عزم على الخروج إلى تونس. وأذن له، فدخل «3» عليه وهو فى غلالة وردية وابن له صغير فى حجره. فقعد طويلا وعبد الوارث يغمز. فلما قام يودعه، أكب عليه يعانقه، فوضع السكين بين كتفيه حتى صارت إلى صدره. فصاح عبد الرحمن وقال: «فعلتها يا ابن اللخناء؟» . ثم ضربه إلياس بالسيف. فاتقاه «4» بمرفقه، فأبان يده. وضربه حتى أثخنه. ودهش إلياس وخرج هاربا. فقال له أصحابه: «ما فعلت؟» . قال: «قتلته» . فقالوا: «ارجع وحزّ رأسه، وإلا قتلنا عن آخرنا» . ففعل. وثارت الصيحة. وأخذ إلياس «5» أبواب دار الإمارة. وسمع حبيب بن عبد الرحمن الصيحة فهرب من القيروان. وأصبح بقرب تونس فدخلها، واجتمع مع عمه عمران بن حبيب.

ولحق بهما موالى عبد الرحمن من كل ناحية. فخرج إليهما إلياس إلى سمنجة. فوافياه بمن معهما، وهموا بالقتال «1» . ثم اصطلحوا على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون حبيب على قفصة وقصيطلة ونفزاوة، ولإلياس سائر إفريقية والمغرب. ومضى إلياس مع عمران إلى تونس، وانصرف حبيب إلى القيروان. فوثب إلياس على أخيه عمران، وعلى عمر بن نافع بن أبى عبيدة الفهرى، وعلى الأسود بن موسى بن عبد الرحمن بن عقبة وعلى ابن قطن، فشدهم وثاقا، ووجههم فى سفينة إلى الأندلس إلى يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة «2» . وانصرف إلى القيروان فبلغه عن حبيب أخبار كرهها. فأغرى إلياس به، وأرسل إليه من زين له الخروج إلى الأندلس، ففعل. وجهزه إلياس فى سفينة. فتعذّرت عليهم الريح. فكتب إلى إلياس أن الريح قد ردته، وأن المسير لا يمكنه. فاتهمه إلياس وخاف ناحيته. وكتب إلى عامله «3» سليمان بن زياد الرّعينى يحذره أمره. فاجتمع إلى حبيب موالى أبيه، فأسروا سليمان بن زياد وشدوه وثاقا وكان معسكرا يحارس حبيبا. وأخرجوا حبيبا إلى البر وأظهروا أمره. فتوجه إلى الأربس «4» فأخذها. وبلغ خبره إلياس فتوجه إليه. واجتمع لكل واحد منهما جماعة.

فلما التقيا، قال حبيب لعمه إلياس: «لم نقتل موالينا وصنائعنا بيننا وهم لنا حصن؟ ولكن ابرز أنت وأنا، فأينا قتل صاحبه استراح منه: إن قتلتنى ألحقتنى بأبى، وإن قتلتك أدركت ثأرى منك» . فارتاب إلياس ساعة. فنادى الناس: «قد أنصفك فلاتجبن، فإن ذلك سبّة «1» عليك وعلى ولدك من بعدك» . فخرج كل منهما إلى صاحبه والتقيا ساعة. فضرب إلياس حبيبا فأعمل السيف فى ثيابه ودرعه ووصل إلى جسمه «2» . فعطف حبيب عليه وضربه بالسيف ضربة سقط بها عن فرسه إلى الأرض. فألقى حبيب نفسه عليه فحز رأسه ثم أمر برفعه على رمح. وهرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة «3» ودخل حبيب القيروان وبين يديه رأس إلياس، ورأس محمد بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع عم أبيه، ورأس محمد بن المغيرة بن عبد الرحمن القرشى. وجاءه محمد بن عمرو بن مصعب الفزارى وهو زوج عمة أبيه مهنئا له، فضرب عنقه. وكان ذلك كله فى شهر رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة. قال: ولما وصل عبد الوارث بن حبيب ومن معه إلى ورفجومة نزلوا على عاصم بن جميل الورفجومى. فكتب إليه حبيب يأمره أن يوجه بهم إليه، فلم يفعل، فنهد «4» إليه حبيب. ولقيه عاصم واقتتلوا فانهزم حبيب. وكان قد استخلف على القيروان أبا كريب جميل بن

كريب القاضى. فقوى أمر ورفجومة، وكاتبهم بعض وجوه القيروان خوفا منهم على أنفسهم. فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكرّم بالبربر «1» وبمن لجأ «2» إليهم وصاروا بناحية قابس. فلما قربوا من القيروان، خرج إليهم أبو كريب القاضى بأهل القيروان. حتى إذا دنوا من بعضهم، خرج من عسكر عاصم جماعة من أهل القيروان، فخذلوا الناس ودعوهم إلى عاصم. فافترق أكثر الناس عن أبى كريب ورجعوا إلى القيروان. وثبت أبو كريب فى نحو ألف رجل من وجوه الناس، وأهل البصائر والخشية والدين. وقاتلوا فقتل أبو كريب. وقاتل من معه حتى قتلوا. ودخلت ورفجومة القيروان. فاستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم. ونزل عاصم بعسكره بالموضع الذى يسمى مصلى روح. واستخلف على القيروان عبد الملك بن أبى جعدة «3» النّفزى. وسار إلى حبيب وهو بقابس. فقاتله فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس وهم أخوال أبيه. فسار عاصم فى طلبه إلى أوراس، والتقوا واقتتلوا، فهزم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه. وأقبل حبيب إلى القيروان. فخرج إليه عبد الملك بن أبى جعدة والتقوا. فقتل حبيب فى المحرم سنة أربعين ومائة. فكانت ولاية عبد الرحمن بن

ذكر تغلب ورفجومة على افريقية وما كان منهم ومن ولى بعدهم إلى أن ولى محمد بن الأشعث

حبيب عشر سنين وأشهرا «1» ، وولاية إلياس ستة أشهر، وولاية حبيب بن عبد الرحمن سنة واحدة وستة أشهر. «2» . ذكر تغلب ورفجومة على افريقية وما كان منهم ومن ولى بعدهم الى أن ولى محمد بن الأشعث قال: ولما حكمت «3» ورفجومة على القيروان، قتلوا من بها من قريش وساموهم سوء العذاب، وربطوا دوابهم فى المسجد الجامع. وندم الذين أعانوهم أشد ندامة. قال: ثم دخل رجل من الإباضية القيروان فرأى ناسا من الورفجوميين قد أخذوا امرأة وأرادوها على نفسها «4» ، والناس ينظرون. فترك حاجته التى أتى فيها، وخرج إلى أبى الخطاب عبد الأعلى «5» بن السّمح المعافرى، فأعلمه بالذى رأى. فخرج وهو يقول: «لبيك اللهم لبيك» . فاجتمع إليه أصحابه من كل

ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعى

مكان. وتوجهوا نحو طرابلس فأخرجوا منها عمر بن عثمان القرشى، واستولى عليها أبو الخطاب «1» . ثم سار إلى القيروان فخرج إليه عبد الملك بن أبى جعدة بجماعة ورفجومة. والتقوا فقتل عبد الملك وأصحابه، وذلك فى صفر سنة إحدى وأربعين. فكان تغلّب ورفجومة على القيروان سنة وشهرين. وتبع أبو الخطاب من انهزم منهم فقتلهم. ثم انصرف إلى القيروان فولى عليها عبد الرحمن بن رستم القاضى، ومضى إلى طرابلس. فصارت طرابلس ومايليها وإفريقية كلها فى يده، إلى أن وجه أبو جعفر المنصور محمد ابن الأشعث فى سنة أربع وأربعين. ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعى قال: لما غلبت الصّفرية على إفريقية بعد أن قتلت ورفجومة من قتلت من عربها، خرج جماعة إلى أبى جعفر المنصور، منهم عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم، ونافع بن عبد الرحمن السّلمى، وأبو البهلول بن عبيدة، وأبو العرباض. فأتوا المنصور يستنصرون به على البربر، ووصفوا عظيم مالقوه منهم «2» . فولى المنصور أبو جعفر محمد بن الأشعث مصر «3» . فوجه أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلى

إلى إفريقية. فهزمه أبو الخطاب فى سنة اثنتين وأربعين. فكتب أبو جعفر المنصور إلى محمد بن الأشعث يأمره بالمسير بنفسه، ووجه إليه الجيوش. فخرج فى أربعين ألفا «1» : ثلاثين ألف فارس من أهل خراسان، وعشرة آلاف من أهل الشام. ووجه معه الأغلب بن سالم التّميمى والمحارب بن هلال الفارسى، والمخارق بن غفار الطائى، وأمرهم بالسمع والطاعة له. فإن حدث به حدث كان أميرهم الأغلب، فإن حدث به حدث فالمخارق، فإن حدث به حدث فالمحارب بن هلال. فمات المحارب قبل وصولهم إلى إفريقية. وبلغ أبا الخطاب خروج محمد بن الأشعث إليه، فجمع أصحابه من كل ناحية. ومضى فى عدد عظيم فوصل إلى سرت. واستقدم عبد الرحمن بن رستم من القيروان، فقدم بمن معه. فضاق ابن الأشعث ذرعا بلقاء أبى الخطاب لما بلغه من كثرة جموعه. فاتفق تنازع زناته وهوارة فيما بينهم. فقتلت هوارة رجلا من زناته. فاتهمت زناتة أبا الخطاب فى ميله مع هوارة، ففارقه جماعة منهم. فبلغ ذلك ابن الأشعث فسربه. وضبط أفواه السكك حتى انقطع خبره عن أبى الخطاب. فرجع إلى طرابلس. ووصل ابن الأشعث إلى سرت. فخرج إليه أبو الخطاب حتى صار بورداسة. فلما قرب منه ذكر ابن الأشعث لأصحابه أن خبرا

أتاه من المنصور بالرجوع إلى المشرق «1» . وأظهر لهم المسرة بالرجوع. فشاع ذلك فى الناس. وسار منصرفا ميلا ثم نزل. فانتهى ذلك إلى أبى الخطاب وسمع به من معه، فتفرق كثير منهم. ثم أصبح ابن الأشعث فسار أميالا متثاقلا فى سيره. وفعل ذلك فى اليوم الثالث. ثم اختار أهل الجلد والقوة من جيشه «2» ، وسار بهم ليله كله. فصبح أبا الخطاب وقد اختل عسكره. فلما التقوا ترجّل جماعة من أصحاب ابن الأشعث وقاتلوا. فانهزم البربر وقتل أبو الخطاب وعامة من معه، وذلك فى شهر ربيع الأول «3» من سنة أربع وأربعين ومائة. فكانت عدة من قتل من البربر أربعين ألفا «4» . ولما انتهى الخبر إلى عبد الرحمن بن رستم هرب إلى تيهرت واختطها وبلغ أهل القيروان خبر أبى الخطاب، فأوثقوا عامل ابن رستم وولوا عليهم عمرو بن عثمان القرشى إلى أن قدم محمد بن الأشعث. ووصل ابن الأشعث إلى طرابلس فاستعمل عليها المخارق بن غفار الطائى. ووجه إسماعيل بن عكرمة الخزاعى إلى زويلة وما والاها، ففتح تلك النواحى وقتل من بها من الخوارج. وتوجه محمد إلى القيروان، وأمر ببناء سورها، وذلك فى يوم السبت غرة جمادى الأولى. فبنى فى ذى القعدة، وكان تمامه فى

ذكر ولاية الأغلب بن سالم ابن عقال بن خفاجة التميمى

شهر رجب سنة ست وأربعين. وضبط إفريقية وأعمالها. وأمعن فى قتل كل من خالفه من البربر فخافوه خوفا شديدا وأذعنوا له بالطاعة. ثم فسد عليه جنده بعد ذلك، وتحدثوا أن المنصور كتب إليه يأمره أن يقدم عليه وأنه أبى ذلك. فاجتمع رأيهم على إخراجه وتولية عيسى بن موسى الخراسانى. فلما رأى ذلك علم أنه لا طاقة له بهم. فخرج فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى من غير أمر أبى جعفر ولا رضا العامة إلا أن قواد المضرية «1» تراضوا به. ذكر ولاية الأغلب بن سالم ابن عقال بن خفاجة التميمى قال: ولما بلغ المنصور ما كان من المضرية وصرفهم محمد بن الأشعث، بعث إلى الأغلب عهده بولاية إفريقية، وكان بطبنة. فقدم إلى القيروان وأخرج عيسى بن موسى فى جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين. وأخرج جماعة من قواد المضرية واستقامت له الحال. ثم خرج عليه أبو قرّة فى جمع كثير من البربر. فسار إليه الأغلب فى جميع قواده، فهرب منه. وقدم الأغلب الزاب، وعزم على الرحيل إلى تلمسان ثم إلى طنجة. فاشتد ذلك على الجند، وجعلوا يتسللون

عنه ويخرجون ليلا إلى القيروان، حتى بقى فى نفر يسير من وجوههم. وكان الحسن بن حرب الكندى بتونس. فلما خرج الأغلب يريد أبا قرة، كاتب جماعة من القواد. فلحق به بعضهم الذين فارقوا الأغلب من الزاب. فأقبل إلى القيروان، ووازره على ذلك بسطام بن الهذيل القائد والفضل بن محمد وغيرهما، فدخل القيروان من غير ممانعة. وحبس سالم بن سوادة التّميمى، وهو الذى استخلفه الأغلب على القيروان عند رحيله منها. وبلغ الخبر الأغلب فأقبل فى عدة يسيرة ممن صبر على طاعته. وكتب إلى الحسن بن حرب يعرّفه «1» فضل الطاعة وعقبى المعصية. فأعاد جوابه وكتب فى آخره: ألا قولا لأغلب غير سر ... مغلغلة من الحسن بن حرب بأنّ البغى مرتعه وخيم ... عليك وقربه لك شرّ قرب وإن لم تدعنى لتنال سلمى ... وإلا فادن من طعنى وضربى «2» فأقبل الأغلب نحوه يجد السير «3» . فأشار عليه أصحابه الذين معه بالمصير إلى قابس، وأن يلطف بالناس حتى يرجعوا عن الحسن إليه. ففعل ذلك. وقدم رسول المنصور إلى الأغلب، وإلى الحسن بن حرب يدعوه إلى الطاعة فلم يفعل. فزحف إليه الأغلب

واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزم الحسن وقتل من أصحابه خلق كثير. فرجع إلى تونس. وأقبل الأغلب إلى القيروان. وحشد الحسن بن حرب وسار فى عدة عظيمة إلى القيروان. فجمع الأغلب أهل بيته وخاصته وأعلمهم أنه يلاقى الحسن وحده إن لم يعنه «1» أحد. فلما قرب، خرج إليه الأغلب فشد هو وأصحابه على الميمنة فكشفهم. ثم انصرف وهو يقول: لم يبق إلا القلب أو أموت ... إن تحم لى الحرب فقد حميت وإن تولّيت فلا بقيت ثم حمل على القلب فلم يثن حدّه حتى قتل بسهم أصابه، وذلك فى شعبان سنة خمسين ومائة. قال: ولما سقط الأغلب صاح الناس: «قتل الأمير» . وارتفعت الأصوات بذلك. قال: وكان سالم بن سوادة فى الميمنة هو وأبو العنبس «2» . فقال سالم لأبى العنبس: «لا أنظر إلى الدنيا بعد اليوم» . ودفع فى عسكر الحسن بن حرب، فقتل من أصحاب الحسن مقتلة عظيمة. ووجد الحسن بن حرب مقتولا.

ذكر ولاية عمر بن حفص هزار مرد

ذكر ولاية عمر «1» بن حفص هزار مرد وتفسيره بالفارسية ألف رجل، ويكنى أبا جعفر. وكان شجاعا بطلا. وهو من ولد قبيصة بن أبى صفرة أخى المهلّب. استعمله المنصور على إفريقية لما بلغه قتل الأغلب. فقدمها فى صفر سنة إحدى وخمسين ومائة فى خمسمائة فارس. فاجتمع إليه وجوه الناس، فوصلهم وأحسن إليهم. فاستقامت له الأمور ثلاث سنين وأشهرا من ولايته. ثم سار إلى الزاب فنزل طبنة. واستخلف على القيروان حبيب ابن حبيب بن يزيد بن المهلب، وكان كتاب المنصور قدم عليه بالشخوص إلى الزاب لبناء طبنة. فخلت إفريقية من الجند فثار بها البربر. فخرج إليهم حبيب وقاتلهم فقتل. واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب «2» مولى كندة، وهو الذى يسمى أبا قادم. وكان عامل عمر على طرابلس الجنيد بن سيار الأزدى «3» ، فبعث إليهم الجنيد خيلا عليهم خازم بن سليمان. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم خازم وأصحابه ولحقوا بالجنيد بطرابلس. فكتب الجنيد إلى عمر يستمده. فبعث إليه خالد بن يزيد المهلبى فى أربعمائة فارس. فاجتمع هو والجنيد والتقيا مع البربر. فانهزم خالد والجنيد إلى قابس.

فبعث عمر بن حفص سليمان بن عباد المهلبى فى جماعة من الجند. فلقى أبا قادم «1» بقابس، فقاتله. فانهزم سليمان إلى القيروان. فسار إليها وحصرها، وعمر مقيم بطبنة، وقد صارت إفريقية وأعمالها نارا تتقد. وأتى البربر من كل مكان، ومضوا إلى طبنة فأحاطوا بها وهم فى اثنى عشر عسكرا: أبو قرّة الصّفرى فى أربعين ألف فارس، وعبد الرحمن بن رستم الإباضى فى خمسة عشر ألف فارس «2» ، وأبو حاتم فى عدد كثير، وكان إباضيا، وعاصم السّدراتى الإباضى فى ستة آلاف، والمسور «3» الزّناتى الإباضى فى عشرة آلاف فارس، وعبد الملك بن سكرديد الصّنهاجى الصّفرى فى ألفى فارس، وجماعة غير هؤلاء، وليس مع عمر إلا خمسة آلاف وخمسمائة «4» . فلما رأى ما حل به جمع قواده فاستشارهم فى مناجزتهم. فأشاروا عليه ألا يخرج من المدينة. فأعمل الحيلة فى صرف الصّفرية، ووجه إليهم رجلا من أهل مكناسة يقال له إسماعيل بن يعقوب. ودفع إليه أربعين ألف درهم وكسا كثيرة، وأمره بدفع ذلك إلى أبى قرة على أن ينصرف عنهم. فقدم عليه وعرض المال والكسا. فقال له: «أبعد أربعين سنة يسلّم على بالإمامة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا؟

لا حاجة لى به» . فانصرف إلى ابنه وقيل إلى أخيه «1» . ودفع إليه أربعة آلاف درهم وأثوابا على أن يعمل فى صرف أبيه ورد الصفرية إلى بلدهم فعمل ذلك من ليلته. فلم يشعر أبو قرة حتى ارتحل العسكر منصرفين إلى بلدهم. فلم يجد بدا من اتباعهم. فلما انصرف» . الصفرية وجه عمر معمر بن عيسى السّعدى فى ألف وخمسمائة إلى ابن رستم، وهو بتهوذا فى خمسة عشر ألف فارس. فالتقوا فانهزم ابن رستم ووصل إلى تيهرت. ثم أقبل عمر بن حفص يريد القيروان. واستخلف على طبنة المهنا بن المخارق بن غفار الطائى. فلما بلغ أبا قرة مسيره، أقبل بجموعه وحصر المهنا بطبنة. فخرج إليه وقاتله. فانهزم أبو قرة واستباحوا عسكره. وكان أبو حاتم لما حاصر القيروان أقام عليها ثمانية أشهر، وليس فى بيت مالها درهم واحد ولا فى أهرائها «3» شىء من الطعام. وكان الجند فى تلك المدة يقاتلون البربر طرفى النهار حتى جهدهم الجوع، وأكلوا دوابهم وكلابهم. فجعل الناس يخرجون فيلحقون بالبربر. فبلغ ذلك عمر فأقبل يريد القيروان فى نحو سبعمائة من الجند حتى نزل مدينة الأربس فبلغ البربر إقباله، فرجعوا إليه بأجمعهم ورحلوا عن القيروان. فلما بلغه إقبالهم توجه إلى ناحية

تونس، وأغذّ السير. ومضى البربر حتى صاروا بناحية سمنجة. وسار عمر من تونس وخرج جميل بن صخر من القيروان، فالتقوا فى بئر السلامة. ثم أقبل حتى دخل القيروان. فبث خيوله حول القيروان وجعل يدخل إليها ما يصلحه من الطعام والحطب وغير ذلك. واستعد للحصار، وخندق خندقا على باب أبى الربيع فعسكر فيه الجند. ثم قدم أبو حاتم فى جنوده وقد بلغوا مائة ألف وثلاثين ألفا. فقاتله عمر بمن معه أشد قتال. فانكشف حتى صار إلى الفسطاط. ثم اقتتلوا بالفسطاط واشتد قتالهم وكاثروه حتى انحاز «1» إلى الخندق بباب أبى الربيع. وكان عمر يخرج إليهم فى كل يوم ويقاتلهم فمازالوا على ذلك «2» حتى فنيت أقواتهم وأكلوا دوابهم والسنانير «3» . فاضطرب على عمر أمره وضجر أصحابه وساءت آراؤهم. فقال لمن معه من الجند: «قد كان أصابكم من الجهد أمر عظيم حتى قدمت عليكم ففرج الله عنكم بعض ما كنتم فيه. وقد ترون ما أنتم الآن فيه. فإن شئتم خرجت أنا على ذراريهم وبلادهم. وجعلت عليكم أى الرجلين شئتم: جميلا أو المخارق. وأخرج فى ناس من الجند فأغير على نواحيهم وآتيكم بالميرة» . فقالوا: «قد رضينا» . وكان قد اجتمع حول القيروان من الإباضية مع أبى حاتم ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا: الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا. فلما هم بالخروج، اختلفوا عليه وقالوا: «تحب أن تخرج ونبقى

نحن فى الحصار، لا تخرج وأقم معنا» . قال: «نعم، أقيم معكم وأخرج جميلا والمخارق ومن أحببتم» . قالوا: «نعم» . فلما جاءوا إلى باب المدينة قالوا: «تقيم أنت فى الراحة ونخرج نحن! لا والله لا نفعل» . فغضب عمر وقال: «والله لأوردنّكم حياض الموت» . وجاءه وهو محصور كتاب خليدة بنت المعارك امرأته تخبره فيه: إن أمير المؤمنين قد استبطأك فبعث يزيد بن حاتم إلى إفريقية، وهو قادم فى ستين ألفا، ولا خير فى الحياة بعد هذا. قال خراش «1» ابن عجلان: فأرسل إلى فجئته، وقد ثار عرق بين عينيه وكان علامة غضبه. فأقرأنى الكتاب فدمعت عيناى. فقال: «مالك؟» . فقلت: «وما عليك أن يقدم رجل من أهلك فتخرج من هذا الحصار؟» . فقال: «إنما هى رقدة حتى نبعث إلى الحساب فاحفظ وصيتى» . قال خراش: فأوصى بما أحب. وخرج كالبعير الهائج. فلم يزل يطعن ويضرب حتى قتل، وذلك فى يوم السبت للنصف من ذى الحجة سنة أربع وخمسين ومائة «2» . فلما قتل بايع الناس جميل «3» بن صخر، وهو أخو عمر لأمه. فلما طال عليه الحصار دعاه ذلك إلى موادعة أبى حاتم. فصالحه على أن جميلا وأصحابه لا يخلعون طاعة سلطانهم ولا ينزعون سوادهم، وعلى أن كل دم أصابه الجند من البربر فهو هدر، وعلى أن لا يكرهوا أحدا

من الجند على بيع سلاحهم ودوابهم. فأجابهم إلى ذلك أبو حاتم. ففتح جميل أبواب المدينة وخرج أكثر الجند إلى طبنة. وأحرق أبو حاتم أبواب المدينة وأثّر فى سورها. وبلغه قدوم يزيد بن حاتم فتوجه إلى طرابلس، واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السّمح «1» المعافرى. ثم بعث إليه أبو حاتم يأمره بأخذ سلاح الجند، وألا يجتمع منهم اثنان فى مكان واحد، وأن يوجه إليه بهم واحدا بعد واحد. فاجتمعوا واستوثق بعضهم من بعض بالأيمان المؤكدة أن لا يرضوا بهذا. وقويت قلوبهم بيزيد بن حاتم. فلقوا عمر بن عثمان الفهرى واتفقوا معه وولوه أمرهم. فقبله وقام على أصحاب أبى حاتم فقتلهم. واتصل ذلك بأبى حاتم فزحف من طرابلس. فلقى عمر بن عثمان ومن معه. فاقتتلوا فقتل من البربر خلق كثير. ومضى عمر بن عثمان وأصحابه نحو تونس. ومضى جميل بن صخر والجنيد ابن سيار هاربين نحو المشرق. وخرج أبو حاتم فى طلب عمر بن عثمان. ووجه قائدا من قواده يقال له جرير بن مسعود المديونى على مقدمته. فأدركه بجيجل من ناحية كتامة. فقاتلوه فقتل جرير بن مسعود وأصحابه. وانصرف عمر والمخارق فدخلا تونس، ومضى أبو حاتم إلى طرابلس حين بلغه قدوم يزيد بن حاتم. ولحق جميل بن صخر بيزيد وهو بسرت. فأقام إلى أن لقى أبا حاتم.

ذكر ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبى صفرة

فيقال: إنه كان بين الجند والبربر من لدن قتالهم عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة. ذكر ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبى صفرة قال: ولما اتصل بأبى جعفر المنصور حال عمر بن حفص وحصره ثم بلغه أنه قتل، غمّه ذلك وساءه. فوجه يزيد بن حاتم فى ثلاثين ألفا من أهل خراسان، وستين ألفا من أهل البصرة والكوفة والشام «1» . فأقبل حتى صار إلى سرت. فاجتمع بجميل ابن صخر وبمن معه من الجند القادمين عليه من القيروان، وسار نحو طرابلس. فسار أبو حاتم إلى جبال نفوسة. وجعل يزيد على مقدمته سالم بن سوادة التّميمى. فالتقى سالم هو وأبو حاتم، واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزم سالم وأصحابه، ورجعوا إلى عسكر يزيد. وهال أبو حاتم أمر يزيد فطلب أوعر المنازل وأمنعها، فعسكر فيها، وخندق على عسكره. فأتاه يزيد من ناحية الخندق، والتقوا واقتتلوا. فقتل أبو حاتم وأهل البصائر من أصحابه، وانهزم الباقون. وطلبهم يزيد فقتلهم قتلا ذريعا. وبعث خيله فى طلبهم بكل ناحية. فكان عدة من قتل منهم ثلاثين ألفا. ويقال: إنه لم يقتل من الجند

إلا ثلاثة. وذلك فى يوم الاثنين لثلاث بقين «1» من شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائة. وأقام يزيد بمكانه ذلك نحوا من شهر. وبث خيله فى طلب الخوارج فقتلهم فى كل سهل وجبل. ثم رحل حتى نزل قابس فدخلها لعشر بقين من جمادى الآخرة «2» . واستقامت له الأمور بعد أن قتل البربر بكل ناحية. وبنى يزيد المسجد الأعظم بالقيروان، وجدده فى سنة سبع وخمسين «3» . ورتب أسواق القيروان، وجعل كل صناعة فى مكانها، حتى لو قيل: إنه الذى مصّرها، لم يبعد من الحق. ولم تزل البلاد مستقيمة والأمور ساكنة مدة حياته إلى أن توفى فى شهر رمضان سنة سبعين ومائة «4» فى خلافة الرشيد. وكان كريما شجاعا نافذ الرأى، بعيد الصيت، غاية فى الجود. وهو القائل: لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... إلا لماما قليلا ثم ينطلق «5» يمر مرا عليها وهى تلفظه ... إنى امرؤ لم يحالف خرقتى الورق «6»

وله أخبار بإفريقية تدل على كرمه وبعد همته. فمن مشهورها أن بعض وكلائه أتاه يوما فقال: «أعز الله الأمير! أعطيت فى الفول الذى زرعناه بفحص القيروان كذا وكذا!» . وذكر ما لا جليلا. فسكت وأمر قهرمانه وطباخه أن يخرجا إلى ذلك الموضع. وأمر فراشيه أن يضربوا قبة، فضربوا مضارب كثيرة. وخرج مع أصحابه فتنزه فيه وأطعم. فلما أراد الانصراف دعا بالوكيل وأمر بأدبه وقال له: «يا ابن اللّخناء، أردت أن أعيّر بالبصرة فيقال: يزيد بن حاتم باقلانى! أمثلى يبيع الفول، لا أمّ لك؟» . ثم أمر بإباحته. فخرج الناس إليه من بين آكل وشارب ومتنزه حتى أتوا على جميعه. ومن أخباره المشهورة أنه خرج متنزها إلى منية الخيل، فنظر فى طريقه إلى غنم كثيرة. فقال: «لمن هذه؟» قالوا: «لابنك إسحاق» . فدعا به فقال له: «ألك هذه الغنم؟» . قال: «نعم» . قال: «لم أردتها؟» . قال: «آكل من خرافها وأشرب من ألبانها وأنتفع بأصوافها» . قال: «فإذا كنت أنت تفعل هذا، فما بينك وبين الغنامين والجزارين فرق» . وأمر أن تذبح وتباح للناس. فانتهبوها وذبحوها وأكلوا لحومها. وجعلوا جلودها على كدية، فهى تعرف بكدية الجلود «1» . وله مكارم يطول شرحها رحمه الله تعالى.

ذكر ولاية داود بن يزيد بن حاتم

ذكر ولاية داود بن يزيد بن حاتم قال: ولما مرض يزيد استخلف ابنه داود، فاستقل بالأمر بعده «1» فانتقض عليه البربر بجبال باجة، وخرج صالح بن نصير النّفرى «2» فى الإباضية. فلقيه المهلّب بن يزيد بباجة. فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة. فوجه إليهم داود سليمان بن الصّمّة بن يزيد بن حبيب ابن المهلب فى عشرة آلاف فارس. فهزم البربر وتبعهم وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف، وسلم الجند. قال: وانضم إلى صالح ابن نصير جماعة من مشيخة البربر. فزحف إليهم سليمان بن الصمة فقتل من أهل البصائر منهم وانصرف إلى القيروان. وأقام داود على إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم أميرا. فكانت ولاية داوود تسعة أشهر ونصف شهر. وسار إلى المشرق «3» فأكرمه الرشيد وولاه مصر، ثم ولى السند فمات بها. ذكر ولاية روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبى صفرة قال: ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم استعمل روح بن حاتم على المغرب، وكان أكبر من يزيد سنا. فوصل إلى القيروان فى شهر

ذكر ولاية نصر بن حبيب المهلبى

رجب سنة إحدى وسبعين ومائة «1» فى خمسمائة فارس من الجند. ثم لحق به ابنه قبيصة فى ألف وخمسمائة فارس. ولم تزل البلاد معه هادئة والسبل آمنة. وملىء البربر منه رعبا. ورغب فى موادعة عبد الوهاب «2» بن رستم الإباضى صاحب تيهرت، وهو الذى تنسب إليه الوهبية. فلم تزل الأحوال مستقيمة مدة ولايته إلى أن توفى لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة. ذكر ولاية نصر بن حبيب المهلبى «3» قال المؤرخ: كان روح بن حاتم قد أسنّ وكبر، وإذا جلس للناس غلبه النوم «4» من الضعف. فكتب أبو العنبر القائد وصاحب البريد إلى الرشيد بضعفه وكبره، وأنهما لا يأمنان موته، وهو ثغر لا يقوم بغير سلطان، وذكرا نصر بن حبيب، وحسن سيرته، ومحبة الناس له. وقالا: «إن رأى أمير المؤمنين ولايته فى السر إن حدث بروح حادث حتى يرى أمير المؤمنين رأيه» . فكتب الرشيد عهده سرا.

ذكر ولاية الفضل بن روح

فلما مات روح فرش لابنه قبيصة فى الجامع فجلس واجتمع الناس للبيعة له. فركب أبو العنبر وصاحب البريد إلى نصر ومعهما عهده. فأوصلاه العهد وسلّما عليه بالإمرة «1» ، وأركباه إلى المسجد فيمن معهما. فأقاما قبيصة وأجلسا نصرا. وقرئ كتاب الرشيد على الناس فسمعوا وأطاعوا. فبسط العدل وأحسن إلى الناس. وأقام واليا على المغرب سنتين وثلاثة أشهر. وكان الفضل بن روح لما مات أبوه عاملا على الزاب، فلما ظهر كتاب الرشيد بولاية نصر سار إلى الرشيد، ولزم بابه حتى ولاه المغرب. ذكر ولاية الفضل بن روح قال: ولما ولاه الرشيد كتب إلى إفريقية بعزل نصر، وأن يقوم بإفريقية المهلب بن يزيد إلى أن يقدم. ثم قدم فى المحرم سنة سبع وسبعين ومائة. وولى على تونس ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح، وكان غرا فاستخف بالجند، وسار فيهم بغير سيرة من تقدمه، ووثق أن عمه لا يعزله. فاجتمعوا وكتبوا إلى الفضل كتابا يخبرونه بسوء صنيع المغيرة فيهم وقبيح «2» سيرته. فتثاقل الفضل عن جوابهم. فانضاف هذا إلى أمور كانوا قد كرهوها من الفضل منها استبداده برأيه دونهم. فاجتمعوا وولوا أمرهم عبد الله

ابن الجارود وهو المعروف بعبدويه «1» وبايعوه بعد أن استوثق منهم «2» . ثم انصرفوا إلى دار المغيرة فحصروه. فبعث إليهم يسألهم ما الذى يريدون. فقالوا: «ترحل عنا وتلحق بصاحبك أنت ومن معك» . وكتب عبدويه إلى الأمير الفضل: «من عبد الله بن الجارود. أما بعد، فإنا لم نخرج المغيرة إخراج خلاف عن طاعة، ولكن لأحداث أحدثها فيها فساد الدولة. فولّ علينا من نرضاه وإلا نظرنا لأنفسنا، ولا طاعة لك علينا والسلام» . فكتب إليه: «من الفضل بن روح إلى عبد الله بن الجارود. أما بعد، فإن الله عز وجل يجرى قضاياه فيما أحب الناس أو كرهوا، وليس اختيارى واليا اخترته لكم أو اخترتموه بحائل دون شىء أراد الله عز وجل بلوغه فيكم. وقد وليت عليكم عاملا، فإن دفعتموه فهو آية النّكث منكم. والسلام» . وبعث عبد الله بن يزيد «3» المهلّبى عاملا على تونس. وضم إليه النّضر بن «4» حفص، وأبا العنبر، والجنيد بن سيار. فلما وصل ظاهر تونس، أشار أصحاب عبدويه عليه بقبضه

ذكر أخبار عبد الله بن الجارود

هو ومن معه وحبسهم. فخرج أصحاب عبدويه إلى عبد الله ابن يزيد، فحملوا عليه وقتلوه وأسروا من معه. فقال عبدويه: «ما لهذا بعثتكم، فأما إذ وقع فما رأيكم «1» ؟» فأجمعوا على الخلاف. وأخذوا فى المكائد. وتولى أمر عبدويه محمد بن الفارسى، وهو الذى أثار هذه الفتنة. وشرع فى مكاتبة القواد وإفسادهم، ووعد كل واحد منهم أنه يوليه الأمر. ففسد الحال على الفضل. وكانت أمور يطول شرحها، وحرب آخرها أن ابن الجارود سار فيمن معه إلى القيروان، وقاتل الفضل وهزمه، واستولى على البلد وأخرجه منها. ثم قبض عليه وأراد أن يحبسه. فقال أصحابه: «لا نزال فى حرب مادام الفضل حيا» . فدافع عنه محمد بن الفارسى وأشار أن لا يقتلوه. فقاموا إليه وقتلوه. فعند ذلك أمر عبدويه المهلب بن يزيد ونصر بن حبيب وخالدا وعبد الله بن يزيد بالخروج من إفريقية، فخرجوا كلهم. ذكر أخبار عبد الله بن الجارود قال: ولما قتل الفضل واستولى عبد الله على القيروان، سمع شمدون القائد ما صنع بالفضل، فقام غضبا له. واجتمع فى الأربس هو وفلاح بن عبد الرحمن الكلاعى القائد، والمغيرة، وغيرهم. وأقبل عليهم أبو عبد الله مالك بن المنذر

الكلبى من ميلة، وكان واليا عليها فى عدد كثير، فقدموه على أنفسهم. واجتمع إليهم الناس. والتقوا بابن الجارود واقتتلوا. فقتل مالك بن المنذر، وانهزم أصحابه حتى صاروا إلى الأربس. فكتب شمدون إلى العلاء بن سعيد- وهو بالزاب- أن يقدم عليه. فأقبل إلى الأربس واجتمع بالمغيرة وشمدون وفلاح وغيرهم. وأقبل العلاء يريد القيروان فصادف ابن الجارود وقد خرج منها يريد يحيى بن موسى «1» خليفة هرثمة بن أعين، وذلك أن الرشيد لما اتصل به وثوب ابن الجارود على الفضل وإفساده إفريقية، وجّه يقطين بن موسى لمحله من دعوتهم، ومكانه من دولتهم، وكبر سنه، وحاله عند أهل خراسان. وأمره بالتلطف بابن الجارود وإخراجه من البلد. ووجه معه المهلب بن رافع. ثم وجه منصور بن زياد، وهرثمة بن أعين أميرا على المغرب. فأقام ببرقة. وقدم يقطين القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير. ودفع إليه كتاب الرشيد، فقال ليقطين: «قد قرأت كتاب أمير المؤمنين، وأنا على السمع والطاعة. وفى كتاب أمير المؤمنين أنه ولى هرثمة بن أعين، وهو ببرقة يصل بعدكم. ومع العلاء البربر، فإن تركت الثغر وثب البربر فأخذوه وقتلوا العلاء ولا يدخله وال لأمير المؤمنين أبدا، فأكون أشأم الخلق على هذا

الثغر. ولكن أخرج إلى العلاء، فإن ظفر بى فشأنكم بالثغر، وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة. ثم أخرج إلى أمير المؤمنين» فاجتمع يقطين مع محمد بن يزيد الفارسى- وهو صاحب ابن الجارود- ووعده التقدم وقيادة ألف فارس وصلة وقطيعة فى أى المواضع شاء، على أن يفسد حال عبد الله بن الجارود. ففعل ذلك وسعى فى إفساد الخواطر على ابن الجارود، ورغّب الناس فى الطاعة. فمالوا إليه وانضموا له. وخرج على ابن الجارود، فخرج عبد الله لقتاله. فلما تواقفا للقتال، ناداه ابن الجارود أن اخرج إلى حتى لا يسمع كلامى وكلامك غيرنا. فخرج إليه فحدثه وشاغله بالكلام، وكان قد وضع على قتله رجلا من أصحابه يقال له أبو طالب «1» فخرج إليه- وهو مشغول بحديث عبد الله- فما شعر حتى حمل عليه وضربه فدقّ صلبه، فانهزم أصحابه. وقدم يحيى بن موسى خليفة هرثمة إلى طرابلس. فصلى عيد الأضحى بالناس وخطبهم. وقدم عليه جماعة من القواد واستفحل أمره. وأقبل العلاء بن سعيد يريد القيروان. فعلم ابن الجارود أنه لا طاقة له بالعلاء. فكتب إلى يحيى أن اقدم إلى القيروان فإنى مسلم إليك سلطانها. وأجاب إلى الطاعة. فخرج يحيى بن موسى بمن معه من طرابلس فى المحرم سنة تسع وسبعين ومائة «2» . فلما بلغ قابس تلقاه بها عامة الجند الذين بالقيروان. وخرج ابن

ذكر ولاية هرثمة بن أعين

الجارود من القيروان فى مستهل صفر، واستخلف عليها عبد الملك بن عباس «1» . وكانت أيام ابن الجارود سبعة أشهر. وأقبل العلاء بن سعيد ويحيى بن موسى متسابقين إلى القيروان، فسبقه العلاء إليها. فقتل منها «2» جماعة من أصحاب ابن الجارود. فبعث إليه يحيى: «إن كنت على الطاعة ففرّق جموعك» . فأمر من معه بالانصراف إلى مواضعهم. وسار فى نحو ثلاثمائة من خاصته إلى طرابلس. وكان ابن الجارود قد وصل إليها قبل وصوله وخرج مع يقطين بن موسى نحو المشرق حتى وصل إلى هارون الرشيد. قال: وكتب العلاء إلى منصور وهرثمة أنه الذى أخرج ابن الجارود من إفريقية. فكتب إليه هرثمة بالقدوم، وأجازه بجائزة سنية. وبلغ خبره هارون، فكتب إليه بمائة ألف درهم صلة سوى الكسا، فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفى بمصر. ذكر ولاية هرثمة بن أعين قال: وقدم هرثمة القيروان فى مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين ومائة «3» فأمن الناس وسكنهم وأحسن إليهم. وهو الذى بنى القصر الكبير بالمنستير «4» فى سنة ثمانين

ذكر ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكى

ومائة. وبنى أيضا سور مدينة طرابلس مما يلى البحر. وواتر الكتب إلى الرشيد أن يعفيه من إفريقية لما رأى الاختلاف بها وسوء طاعة أهلها. فكتب إليه بالقدوم إلى المشرق. فرجع فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة «1» . ذكر ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم «2» العكى قال: ولما كتب هرثمة إلى هارون يسأله الإعفاء وجه محمد بن مقاتل أميرا للمغرب «3» ، وكان رضيع هارون «4» . فقدم القيروان فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. ولم يكن بالمحمود السيرة، فاضطربت عليه أحواله واختلف جنده، وكان سبب الاضطراب عليه أنه اقتطع من أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفى الرعية. فقام فلاح القائد، ومشى فى أهل الشام وخراسان حتى اجتمع رأيهم على تقديم مرة بن مخلد الأزدى «5» . وخرج عليه بتونس تمام بن تميم التّميمى- وكان عامله عليها- فبايعه جماعة من القواد وأهل الشام وأهل خراسان. فخرج فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة إلى القيروان. وخرج إليه ابن العكى فيمن معه، فقاتله قتالا

شديدا فى منية الخيل، فانهزم ابن العكى ودخل القيروان، وتحصن فى دار كان قد بناها، وجلا عن دار الإمارة. وأقبل تمام ودخل القيروان فى يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رمضان. فأمّنه تمام على دمه وماله، على أنه يخرج عنه. فخرج تلك الليلة وسار حتى وصل إلى طرابلس ثم مضى إلى سرت. وعاد إلى طرابلس بمكاتبة بعض أهل خراسان فنهض إبراهيم بن الأغلب من الزاب على تمام غضبا للعكى. فلما بلغ تماما إقباله جلا عن القيروان، ودخلها إبراهيم بن الأغلب. فخطب الناس وأعلمهم أن أميرهم محمد بن مقاتل. وكتب إليه بالرجوع، فرجع. ثم أخذ تمام فى مراسلة الناس وإفسادهم على العكى فمالوا إليه. فكثر جمعه وطاب نفسا بقتال العكى. وكتب إليه. «أما بعد. فإن إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فبردك من كرامتك عليه ولا للطاعة التى يظهرها، ولكنه كره «1» أن يبلغك أنه أخذ البلاد فترجع إليه. فإن منعك كان مخالفا، وإن دفعها إليك كان كارها. فبعث إليك لترجع ثم يسلمك إلى القتل. وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا أمس» . وفى آخره: وما كان إبراهيم من فضل طاعة ... يرد عليك الثّغر إلا لتقتلا «2»

فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده ... لما كنت منه يابن عك لتقبلا «1» فلما وصل كتابه، قرأه العكى ودفعه إلى إبراهيم بن الأغلب. فقرأه وضحك وقال: «قاتله الله! ضعف عقله زيّن له ما كتب به» فكتب إليه ابن العكى: «من محمد بن مقاتل إلى الناكث تمام. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، ودلنى ما فيه على قلة رأيك. وفهمت قولك فى إبراهيم. فإن كنت كتبت نصيحة، فليس من خان الله ورسوله وكان من المفسدين بمقبول منه ما يتنصّح به. وإن كانت خديعة فأقبح الخدائع ما فطن له. وأما ما ذكرت من من إسلام إبراهيم إذا التقينا، فلعمر أبيك ما يلقاك أحد غيره. وأما قولك: إنا جربنا من وقعتك أمس ما سنعرفه غدا، فإن الحرب «2» سجال: فلنا يا تمام عليك العقبى إن شاء الله» وفى أسفله: وإنى لأرجو إن لقيت ابن أغلب ... غداة المنايا أن تفل وتقتلا «3» تلاقى فتى يستصحب الموت فى الوغى ... ويحمى بصدر الرمح مجدا مؤئلا «4»

فأقبل تمام من تونس فى جمع عظيم. وأمر ابن العكى من كان معه من أهل الطاعة بالخروج إليه وتقدمة إبراهيم بن الأغلب. والتقوا واقتتلوا فانهزم تمام إلى تونس، وقتل جماعة من أصحابه. وانصرف العكى إلى القيروان ثم أمر إبراهيم بالمسير «1» إلى تمام بتونس، وذلك فى شهر المحرم سنة أربع وثمانين ومائة. فلما بلغ تماما إقباله كتب إليه يسأله الأمان، فأمنه. وأقبل به إلى القيروان يوم الجمعة لثمان خلون من الشهر. فلما صار الأمر إلى إبراهيم بن الأغلب بعث تمام بن تميم وغيره من وجوه «2» الجند الذين شأنهم الوثوب على الأمراء إلى بغداد، فحبسوا فى المطبق. قال: ودام محمد بن مقاتل فى القيروان إلى أن عزله الرشيد واستعمل إبراهيم بن الأغلب، على ما نذكره فى أخبار دولة بنى الأغلب إن شاء الله تعالى.

ذكر ابتداء دولة بنى الأغلب

ذكر ابتداء دولة بنى الأغلب هذه الدولة أول دولة قامت بإفريقية وجرى عليها اسم الدولة. وكان من قبلهم عمالا إذا مات أحد منهم أو صدر منه ما يوجب العزل، عزله من يكون أمر المسلمين إليه من الخلفاء فى الدولة الأموية والعباسية. فلما قامت هذه الدولة كانت كالمستقلة بالأمر «1» . وإنما كانت ملوكها تراعى أوامر الدولة العباسية، وتعرف لها حق الفضل والأمر، وتظهر طاعة مشوبة بمعصية. ولو أرادوا عزل واحد منهم والاستبدال به من غير البيت لخالفوهم «2» . وصار ملوك هذه الدولة يوصون بالملك بعدهم لمن يرونه من أولادهم وإخوتهم، فلا يخالفه قوادهم ولا يراعون أهلية من يوصى إليه بل يقدمونه على أى صفة كان مستحقا أو غير مستحق. وسنذكر من أخبارهم ما يدل على ذلك. وكان عدة من ملك منهم أحد عشر ملكا. ومدة أيامهم مائة سنة واثنتى عشرة وأياما. وأول من ملك منهم إبراهيم بن الأغلب. ذكر ولاية ابراهيم بن الأغلب بن سالم ابن عقال بن خفاجة التميمى قال: لما كان من أمر إبراهيم بن الأغلب ما ذكرناه، من نصرته لابن العكى وإخراجه تمام بن تميم وإعادة العكى، كتب

يحيى بن زياد صاحب البريد بالخبر إلى هارون الرشيد. فقرأ الكتاب على أصحابه، وقال لهرثمة بن أعين: «أنت قريب العهد» . فقال: «يا أمير المؤمنين، قد سألتنى فى مقدمى منها عن طاعة أهلها، وأخبرتك أنه ليس بها أحد أفضل طاعة ولا أبعد صيتا ولا أرضى عند الناس من إبراهيم. ثم صدق قولى قيامه بطاعتك» . فأمر الرشيد بكتابة عهده على إفريقية «1» . فلما وصل إليه العهد، أرسل إلى ابن العكى: «أقم ما شئت حتى تتجهز» . فأقام أياما ثم رحل إلى طرابلس. فوافاه حماد السعودى بكتابين قدم بهما إلى إفريقية على العادة. فافترى ابن العكى كتابا ثالثا بعزل إبراهيم وولايته وبعث به إلى القيروان. فلما قرئ على الناس قالوا لإبراهيم: «أقم بمكانك «2» واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن ابن العكى اختلق هذا زورا، ولم يكافئك على نصرتك له وحقنك دمه» . فقال: «والله لقد ظننت ظنكم وإنما اجترأ ابن العكى على الثغر لموضعه من جعفر بن يحيى» . ثم عسكر إبراهيم يريد الخروج إلى الزاب وأتى كتاب محمد بن مقاتل إلى سهل ابن حاجب يستخلفه إلى أن يقدم. فكتب صاحب البريد إلى الرشيد. فغضب وكتب إلى ابن العكى: «أما بعد، فلم يكن آخر أمرك يشبه إلا أوله. فلأىّ مناقبك أوثرك على إبراهيم بولاية الثغر: ألفرارك وإقدامه أم لجزعك وصبره أم لخلافك

وطاعته؟ فإذا نظرت فى كتابى، فاقدم غير محمود الفعال» . وكتب إلى إبراهيم بتجديد ولايته. فوصل الرسول إلى القيروان وإبراهيم بالزاب فمضى إليه. وكانت ولايته الثانية التى استقر «1» بها ملكه وملك بنيه من بعده، لاثنتى عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين ومائة. وقفل ابن العكى إلى المشرق. قال: ولما ولى إبراهيم قمع أهل الشر بإفريقية، وضبط البلاد، وأحسن إلى من بها. وبعث بأهل الشر الذين جرت عادتهم بمخالفة الأمراء والوثوب عليهم إلى بغداد كما ذكرنا «2» . وابتنى إبراهيم قصرا وجعله متنزها. ثم جعل ينقل إليه السلاح والأموال سرا. وهو مع ذلك يراعى أمور أجناده ويصلح طاعتهم ويصبر على جفائهم. وأخذ فى شراء العبيد وأظهر أنه يحب أن يتخذ «3» من كل صناعة من يغنيه عن استعمال الرعية فى كل شىء. ثم اشترى عبيدا لحمل سلاحه وأظهر للجند أنه أراد بذلك إكرامهم عن حمله. ولما تهيأ له من ذلك ما أراده انتقل من دار الإمارة وصار إلى قصره بعبيده وحشمه وأهل بيته؛ وكان انتقاله ليلا. وأسكن معه من يثق به من الجند. وكان يتولى الصلاة بنفسه فى المسجد الجامع بالقيروان والمسجد الذى بناه بالقصر. وفى أيامه خرج حمديس «4» بن عبد الرحمن الكندى فخلع

السواد. وجمع جموعا كثيرة وأتى بعرب أهل البلد وبربرها، وكثرت جموعه بمدينة تونس. فبعث إليه إبراهيم عمران بن مجالد «1» ومعه وجوه القواد. فالتقوا بسبخة تونس واقتتلو قتالا شديدا، وكثر بينهم القتل. وجعل أصحاب حمديس يقولون: «بغداد بغداد، فلا والله لا اتخذت لكم طاعة بعد اليوم أبدا» . ثم قتل حمديس وانهزم أصحابه. ودخل عمران تونس وتتبع من كان مع حمديس وقتلهم حتى أفناهم. وكان خروجه فى سنة ست وثمانين ومائة. وفى أيامه جمع إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن «2» بن على بن أبى طالب جموعا كثيرة، وأطاعه من حوله من القبائل. فكره إبراهيم قتاله وعمل فى إفساد «3» أصحابه عليه. وكتب إلى بهلول بن عبد الواحد المدغرى «4» ، وكان رئيسا مطاعا فى قومه، وهو القائم بأمر إدريس وصاحب سره، ولم يزل به حتى فارقه وعاد إلى الطاعة. فلما فعل ذلك كتب إدريس إلى إبراهيم كتابا يستعطفه ويسأله الكف عنه ويذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجر بينهما حرب. وخرج عن طاعة إبراهيم أيضا عمران بن مجالد. وكان

سبب خروجه أن إبراهيم لما بنى قصره المعروف القديم ركب يوما وهو يفكر فى الانتقال إليه ومعه عمران بن مجالد. فجعل عمران يحادثه من حيث ركبا إلى أن بلغا مصلى روح، فلم يفقه إبراهيم من حديثه شيئا. فقال لعمران: «ألم تعلم أنى لم أسمع من حديثك شيئا. أعده على» . فغضب عمران وقال: «أحدثك من حيث خرجت وأنت لاه عنى» . وتغير من ذلك اليوم وألب على إبراهيم. فلما انتقل إبراهيم إلى قصره وأقام مدة، ثار عمران فى جيشه. واستولى على القيروان وقوى أمره وكثرت أتباعه. ودامت الحرب بينه وبين إبراهيم سنة كاملة، كانت خيل إبراهيم تضرب إلى القيروان فتقتل من قدرت عليه، وخيل عمران تفعل مثل ذلك. ثم وصل إلى إبراهيم رسول أمير المؤمنين بأرزاق الجند فوجه ابنه عبد الله إلى طرابلس، فقبض أرزاق الجند ووصل بها إلى أبيه. فلما صار المال إليه، تطلعت أنفس الجند إلى أرزاقهم وهموا بإسلام عمران. وتبين ذلك له. فركب إبراهيم فى خيله ورجله وعبيده، وعبأ عساكره تعبئة الحرب، وتوجه إلى القيروان. حتى إذا قرب منها أمر مناديه فنادى: «من كان له اسم فى ديوان أمير المؤمنين فليقدم لقبض عطائه» . ثم انصرف إلى قصره ولم يحدث شيئا. فلما أمسى عمران أيقن أن الجند تسلمه. فركب وسار إلى الزاب ليلا ومعه عمرو بن معاوية وعامر بن المعتمر. فخلع» إبراهيم أبواب القيروان

ذكر ولاية أبى العباس عبد الله ابن ابراهيم بن الأغلب

وثلم فى سورها. وقوي عند ذلك أمره. وزاد فى بناء القصر القديم. وأقطع فيه الدور لأهل بيته وأنصاره ومواليه. وبقى عمران بالزاب إلى أن توفى إبراهيم وصار الأمر إلى ابنه أبى العباس. فكتب إليه يسأله الأمان فأمنه. وقدم إليه وأسكنه القصر. ثم سعى به فقتله. واستمرت أيام إبراهيم إلى سنة ست وتسعين ومائة، فتوفى لثمان بقين من شوال منها «1» ، وهو ابن ست وخمسين سنة. وكانت مدة ولايته اثنتى عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام. وكان فقيها، عالما، خطيبا، شاعرا، ذا رأى وبأس «2» ، وحزم، وعلم بالحروب ومكائدها، جرئ الجنان، طويل اللسان، حسن السيرة. قال ابن الرقيق: لم يل إفريقية قبله أحد من من الأمراء أعدل منه سيرة ولا أحسن سياسة، ولا أرفق برعية، ولا أضبط للأمر «3» . وكان كثير الطلب للعلم، والاختلاف إلى الليث بن سعد. وله أخبار حسنة وآثار جميلة، رحمه الله تعالى. ذكر ولاية أبى العباس عبد الله ابن ابراهيم بن الأغلب قال: لما مات إبراهيم بن الأغلب، صار الأمر بعده إلى ابنه أبى العباس عبد الله، وكان إذ ذاك بطرابلس، فقام له

أخوه زيادة الله بالأمر، وأخذ له البيعة على نفسه وأهل بيته وجميع رجاله. وقدم عبد الله من طرابلس فى صفر سنة سبع وتسعين ومائة. فتلقاه زيادة الله وسلم إليه الأمر. قال: فحمل عبد الله فى ولايته على أخيه زيادة الله حملا شديدا وتنقصه، وأمر بإطلاق من كان فى حبسه. وزيادة الله مع ذلك يظهر له التعظيم والتبجيل. وأراد عبد الله أن يحدث جورا عظيما على الرعية فأهلكه الله عز وجل قبل ذلك. وكان قد أمر صاحب خراجه أن لا يأخذ من الناس العشر، ولكن يجعل على كل زوج تحرث ثمانية دنانير أصاب أم لم يصب «1» . فاشتد ذلك على الرعية وسألوه فلم يجب سؤالهم. وقدم حفص بن حميد الجزرى «2» ، ومعه قوم صالحون من أهل الجزيرة وغيرها. فاستأذنوا على أبى العباس فأذن لهم. فدخلوا عليه- وكان من أجمل الناس- فكلمه حفص ابن حميد فكان فيما قال له: «أيها الأمير، اتق الله فى شبابك، وارحم جمالك وأشفق على بدنك من النار. ترى على كل زوج يحرث به ثمانية دنانير. فأزل ذلك عن رعيتك، وخذ فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن الدنيا زائلة عنك كما زالت عن غيرك» . فلم يجبه إلى شىء مما أراد. وتمادى على سوء فعله وأظهر الاستخفاف بهم. فخرج حفص بن حميد ومن

ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله ابن ابراهيم بن الأغلب

معه فتوجهوا نحو القيروان. فلما صاروا بوادى القصارين قال لهم حفص: «قد يئسنا من المخلوقين فلا نيأس من الخالق» . فسألوا الله وتضرعوا إليه، فدعوا الله على أبى العباس أن يمنعه مما أراده بالمسلمين ويكف جوره عنهم. ثم دخلوا «1» مدينه القيروان، فخرجت لأبى العباس قرحة تحت أذنه فقتلته فى اليوم السابع «2» من دعائهم واسود لونه. وكانت وفاته ليلة الجمعة لست خلون من ذى الحجة «3» سنة إحدى ومائتين. فكانت مدة ولايته خمس سنين وشهرا واحدا وأربعة عشر يوما. ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله ابن ابراهيم بن الأغلب قال: ولما توفى أخوه أبو العباس صار الأمر إليه بعده. وهو أول من سمّى زيادة الله. وكذلك هبة الله بن إبراهيم بن المهدى، هو أول من سمى هبة الله. قال: ولما ولى زيادة الله أغلظ على الجند، وأمعن فى سفك دمائهم، واستخف بهم، وحمله على ذلك سوء ظنه بهم لتوثّبهم على الأمراء قبله وخلافهم على أبيه مع عمران بن مجالد. وكان أبوه أغضى عن كثير من زلاتهم وصفح عن إساآتهم فسلك زيادة الله

فيهم غير سبيل أبيه. وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا شرب وسكر. فخرجوا عليه. وكان الذى هاجهم على الخروج عليه أنه ولى عمر «1» بن معاوية القيسى، وكان من شجعان الجند ورؤسائهم وأهل الشرف منهم، على القصرين وما يليهما. فتغلب على تلك الناحية وأظهر الخلاف عليه. وكان له ولدان يقال لأحدهما حباب والآخر سكنان «2» . فوجه إليه زيادة الله موسى مولى إبراهيم المعروف بأبى هارون، وكان قد ولاه القيروان. فخرج إليه وحاصره أياما. فلما ضاق به الأمر ألقى بيده ونزل معه. وسار إلى زيادة الله هو وولداه. فلما قدموا عليه حبسهم عند غلبون ابن عمه. ثم نقلهم إلى حبسه من يومه وقتلهم. فلما بلغ منصور بن نصر الطّنبذى «3» وهو من ولد دريد «4» ابن الصّمّة ذلك ساءه، وكان على طرابلس. فقال: «يا بنى تميم، لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد» . فكتب صاحب الخبر بكلامه إلى زيادة الله. فعزله واستقدمه، فقدم. وكان غلبون معتنيا به فأصلح أمره عند الأمير زيادة الله، فخلى عنه. فأقام أياما يتردد إلى زيادة الله حتى ذهب ما بقلبه عليه. ثم استأذنه فى الوصول إلى منزله فأذن له. فخرج إلى تونس، وكان له بإقليم المحمدية قصر يقال له طنبذة، وبه لقب الطنبذى،

فنزل به. وجعل يراسل الجند ويذكر لهم ما يلقون من زيادة الله وما فعل بعمر بن معاوية وابنيه، ويخوفهم أن يفعل بهم وبأولادهم كفعله بعمر. فبلغ ذلك زيادة الله فعرض الجند على عادته. ثم دعا محمد ابن حمزة فأخرجه فى خمسمائة «1» فارس بالسلاح كما عرضوا بين يديه. وقال له: «امض إلى تونس فلا يشعر منصور إلا وقد أخذته ومن معه، واقدم به موثقا» . فخرج ابن حمزة حتى أتى تونس فلقى منصورا غائبا بقصره، فنزل فى دار الصناعة «2» . ووجه إى منصور شجرة بن عيسى القاضى وأربعين شيخا من أهل تونس، يرغبه فى الطاعة ويدعوه «3» إلى إتيانه. فمضوا إليه وأبلغوه رسالة محمد بن حمزة فقال: «ما خلعت يدا من طاعة، ولا أحدثت حدثا، وأنا صائر إليه معكم. ولكن أقيموا علىّ يومى هذا حتى أعدّ لهولاء القوم ما يصلحهم» . فأقاموا. فوجه إلى ابن حمزة ببقر وغنم وعلف وأحمال نبيذ. وكتب إليه: «إنى قادم بالغداة مع القاضى» . فركن إلى قوله، وأخذ هو ومن معه فى الأكل والشرب. فلما أمسى منصور قبض على القاضى ومن معه، وحبسهم فى قصره. وجمع خيله ورجله ومضى إلى تونس. فما شعر به محمد بن حمزة حتى ضرب طبوله على باب دار الصناعة. فقام

ابن حمزة وأصحابه لأخذ سلاحهم وقد عمل الشراب فيهم. فأوقع بهم منصور وأصحابه فقتلهم. ولم يسلم منهم إلا من ألقى نفسه فى البحر فسبح. وأصبح منصور، فاجتمع إليه الجند. وكان عامل زيادة الله على تونس إسماعيل بن سفيان ابن سالم «1» من أهل بيت زيادة الله، فقتله منصور وقتل ابنه. فلما اتصل بزيادة الله قتل ابن عمه وولده ورجاله، جمع صناديد الجند، ووجّههم مع غلبون. وركب بنفسه مشيّعا له. فلما ودع الجند قال لهم زيادة الله: «انظروا كيف تكونون وكيف تناصحون. فبالله أقسم إن انصرف إلىّ أحد «2» منكم منهزما لا جعلت عقوبته إلا السيف» . فكان ذلك مما ساءت به نفوس القوم حتى هموا بالوثوب على غلبون. فمنعهم من ذلك جعفر بن معبد وقال: «لا تحملكم إساءة زيادة الله فيكم أن تغدروا بمن أحسن إليكم وفك رقابكم» . وكان غلبون يعتنى بأمر القواد عند زيادة الله. فانصرفوا عن رأيهم فيه ومضوا حتى صاروا بسبخة تونس. فكاتب القواد الذين مع غلبون منصورا وأصحابه وأعلموهم أنهم منهزمون عنه. فلما التقوا حمل منصور وأصحابه عليهم فانهزموا بأجمعهم. ثم اجتمعوا بعد الهزيمة إلى غلبون واعتذروا وحلفوا أنهم ناصحون واجتهدوا. وقالوا: «نحن لا نأمن على أنفسنا. وإن أصبت لنا ما نأمن به قدمنا إن شاء الله» . وتفرقوا

عنه. وسار كل «1» منهم إلى جهة فتغلب عليها. واضطربت إفريقية فصارت نارا تتّقد. وصار الجند كلهم إلى منصور الطنبذى، وأعطوه أزمة أمورهم، وولوه على أنفسهم. وقدم غلبون على زيادة الله فأعلمه الخبر. فكتب الأمانات وبعث بها إلى الجند والقواد. فلم يقبلوها وخلعوا الطاعة. ثم جمعوا جمعا ووجه عليهم منصور عامر بن نافع. فعقد زيادة الله لمحمد بن عبد الله بن الأغلب، ووجه معه جيشا كثيفا وأوعب فيه من رجاله ومواليه. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم محمد ابن عبد الله وقتل جماعة من وجوه أصحابه، منهم محمد بن غلبون، وعبد الله بن الأغلب، ومحمد بن حمزة الرازى، وغيرهم، وقتلت الرّجالة عن آخرهم. وتتبع الجند أصحاب زيادة الله فقتلوهم. فعند ذلك زحف زيادة الله بنفسه ونزل بين القيروان «2» والقصر وخندق هناك. وكانت بينهم وقعات كثيرة تارة لهؤلاء وتارة لأولئك. ثم انهزم منصور ومن معه حتى لحقوا بتونس. وكان أهل القيروان أعانوا منصورا على قتال زيادة الله، فقال له أصحابه «ابدأ بها واقتل من فيها» . فقال: «إنى عاهدت الله تعالى إن

ظفرت أن أعفو وأصفح «1» » . فعفا عنهم إلا أنه هدم سور القيروان ونزع أبوابها. قال: ثم اجتمع لمنصور أصحابه وقوى أمره. ولم يبق فى يد زيادة الله من إفريقية كلها إلا الساحل وقابس «2» . فكتب الجند إلى زيادة الله: «أن ارحل حيث شئت وخلّ عن إفريقية، ولك الأمان فى نفسك ومالك وما ضمه قصرك» . فاستشار أصحابه فى ذلك. فقال له سفيان بن سوادة: «أيها الأمير، أمكّنى من ديوان رجالك حتى أنتقى مائتى فارس ممن أثق به» . فدفع إليه الديوان فاختار منه «3» مائتى فارس «4» ، وأعطاهم وأفضل عليهم «5» ثم خرج حتى أتى نفزاوة وعليها من الجند عبد الصمد بن جناح الباهلى. فدعا سفيان بربر ذلك الموضع فأجابوه. فاجتمع إليه خلق كثير من زناتة وغيرهم وسائر القبائل. ففتح البلاد بلدا بلدا حتى بلغ قسطيلية. ثم قدم على زيادة الله فى سنة ثمانى عشرة ومائتين. فكان سعيد «6» يقول: «والله، ما رأيت أعظم بركة من تلك المائتى فارس» .

ووقع الشتات والحسد بين الجند. ووقع الخلاف بين منصور وعامر بن نافع. فحاصره عامر بقصره بطنبذة. فجرت بينهما السفراء على أن يؤمن منصورا على نفسه وماله وحشمه «1» ، ويركب سفينة «2» فيتوجه فيها إلى المشرق، فأجابه عامر إلى ذلك. فقال له بعض أصحابه: «تفعل ذلك بنفسك ويسومك الضيم؟ انهض إلى الأربس فإنهم سامعون مطيعون» . فوافق على ذلك وخرج من القصر ليلا وسار إلى الأربس. فلما أصبح عامر لم يره بقصره، فسار فى إثره إلى الأربس وحاصره. وآخر الأمر أنه عاد سأل «3» الأمان على أن يتوجه إلى المشرق ويركب فى سفينة من تونس. وخرج إلى عامر فوجه معه خيلا. وأمر صاحب الخيل أن يأخذ به على طريق قرنة «4» وأن يصيّره فى سجنها. ففعل ذلك وحبسه بها عند حمديس بن عامر «5» . ثم كتب عامر إلى ابنه أن يضرب عنقه ففعل. وضرب عامر عنق أخى منصور. وصار أمر الجند إلى عامر بن نافع فظن أن الأمور تستقيم له. فكتب إليه زيادة الله كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان. فكتب إليه عامر يعدد عليه مساوئ أفعاله، ويقول فى آخره: «ما بينى وبينك موادّة حتى تضع الحرب أوزارها ويحكم الله

بيننا وهو خير الحاكمين» . ثم اختلف الجند على عامر، وانتقض عليه أمره، ووجد عليه قواد المضرية، لما صنع بمنصور وأخيه، فنافروه وحاربوه. وخالفه عبد السلام بن المفرّج «1» ، وكان قد استولى على باجة وبايع له جماعة من الجند. وزحف إلى عامر فاقتتلوا، فانهزم عامر، ومضى إلى قرنة، وتفرق شمل الجند وأمر زيادة الله يعلو. ثم اعتل عامر فلما أيقن بالموت استدعى بنيه وقال لهم: «يا بنى، ما رأيت فى الخلاف خيرا. فإذا أنا مت ودفنتمونى فلا تعرّجوا على شى حتى تلحقوا بزيادة الله، فهو من أهل بيت عفو. وأرجو أن يسركم «2» ويقبلكم أحسن قبول» . فلما مات، فعلوا ذلك وأتوا زيادة الله. وجعل الجند يتسالون «3» إلى زيادة الله ويستأمنون، وهو يؤمنهم ويحسن إليهم. وأما عبد السلام فقاتلته عساكر زيادة الله وحصروه وضايقوه فوجد ميتا فقيل مات عطشا. فبعثوا برأسه إلى زيادة الله. واستقامت إفريقية وصفت بعد أن دامت الفتنة ثلاث عشرة سنة. قال: ثم أمر زيادة الله ببناء المسجد الجامع بالقيروان

وهدم ما كان بناه يزيد بن حاتم، وذلك فى جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين ومائتين. وذكر أن زيادة الله قال يوما لخاصته «إنى لأرجو رحمة الله، وما أرانى إلا أفوز بها إذا قدمت عليه يوم القيامة وقد عملت أربعة أشياء: بنيت المسجد الجامع بالقيروان وأنفقت عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنيت قنطرة باب أبى الربيع، وقصر المرابطين بسوسة، ووليت القضاء أحمد بن أبى محرز» . وفى أيام زيادة الله فتحت صقلية، وذلك أنه وجه إليها أسد ابن الفرات القاضى فى عشرة آلاف. فزحف إليه ملكها فى مائة وخمسين ألفا. فهزمه وفتحها. واستعمل عليها زيادة الله محمد ابن عبد الله بن الأغلب. وكانت وفاة زيادة الله فى يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت من شهر رجب سنة ثلاثة وعشرين ومائتين، وهو ابن إحدى وخمسين سنة. وكانت ولايته على إفريقية إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام. وكان من أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم بيانا، وكان يعرب كلامه ولا يلحن من غير تشادق ولا تقعير. وكان يقول الشعر الحسن الجيد. حكى «1» أن رسولا أتاه من أبى عبد الله المأمون بغير

يحب. فكتب جواب الكتاب وهو سكران، وفى آخره أبياتا، وهى: أنا النار فى أحجارها مستكنّة ... فإن كنت ممن يقدح الزّند فاقدح أنا الليث يحمى غيله بزئيره ... فإن كنت كلبا حان يومك فانبح أنا البحر فى أمواجه وعبابه ... فإن كنت ممن يسبح البحر فاسبح فلما صحا بعث فى طلب الرسول ففاته. فكتب كتابا آخر فيه تلطف. فوصل الكتاب الأول والثانى. فأعرض المأمون عن الأول وأجاب عن الثانى بكل ما أحب. وله حكايات حسنة تدل على عفوه وصفحه وحلمه. فمن ذلك أنه بلغ أمّه جلاجل أن أخت عامر بن نافع قالت: «والله لأجعلنّ جلاجل تطبخ لى الفول بيصارا» . فلما ظفر ابنها زيادة الله بالقيروان، أمرت جلاجل بفول فطبخ بيصارا وبعث منه إليها «1» مع بعض خدمها، فوضع بين يديها، وقالت الجارية التى أحضرته إليها: «سيدتى تسلم عليك وتقول لك: قد طبخت هذا لك لأبر قسمك» . فأوحشها ذلك وقالت: «قولى لها: قد قدرت فافعلى ما شئت» . فبلغ ذلك زيادة الله فقال لأمه: «قد ساءنى ما فعلت يا أم، إن الاستطالة

ذكر ولاية أبى عقال الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب

مع القدرة لؤم ودناءة، وقد كان أولى بك أن تفعلى غير هذا» . قالت: «نعم، سأفعل ما يرضيك ويحسن الأحدوثة عنا» . وبعثت إليها بكسوة وصلة وألطاف. ورفقت بها حتى قبلت ذلك وطابت نفسها. ذكر ولاية أبى عقال «1» الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب قال: ولما توفى زيادة الله ولى أخوه أبو عقال، وهو الملقب بخزر «2» . وكان فى مبدإ ولاية أخيه زيادة الله قد خافه على نفسه لأن الأغلب كان شقيق عبد الله. فخشى أن يطالبه زيادة الله بفعل أخيه فاستأذنه على الحج، فأذن له. فخرج وأخرج معه ابنى أخيه عبد الله، وهما محمد وإبراهيم. فحج وأقام بمصر. ثم كتب إلى زيادة الله «3» يستعطفه ويستميله. فقدم إليه «4» ، فأكرمه وأحسن إليه. وجعل أمور دولته بيده. فلما مات زيادة الله وصار الأمر إليه، لم يكن فى أيامه حروب فأمن الجند وأحسن إليهم. وغير أحداثا كثيرة كانت للعمال، وأجرى على العمال الأرزاق الواسعة والعطايا الجزيلة. وقبض أيديهم عن أموال الناس، وكفّهم عن أشياء كانوا يتطاولون إليها. وقطع النبيذ من القيروان.

ذكر ولاية أبى العباس محمد بن الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب

وتوفى فى يوم الخميس لسبع «1» بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين ومائتين. فكانت ولايته سنتين وتسعة أشهر وتسعة أيام «2» . وكان شبيها بجده الأغلب فى الخلق والخلق. ذكر ولاية أبى العباس محمد بن الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب قال: ولى بعد أبيه، وكان من أجهل الناس، لكنه أعطى فى إمارته ظفرا على من ناوأه. وقلّد أخاه كثيرا من أعماله. وكان قد غلب عليه وتولى أموره ووزارته ابنا على بن حميد، وهما أبو عبد الله وأبو حميد. فساء ذلك أبا جعفر أخاه، وعظم عليه وعلى أصحابه، وحسدوهما على مكانهما من الأمير محمد وكان المقدم عند أبى جعفر أحمد بن الأغلب نصر بن حمزة الجروى. فأخذ أبو جعفر فى التدبير على أخيه الأمير محمد. وصانع رجالا «3» من مواليه، ومحمد فى غفلة عن ذلك قد اشتغل باللهو واللعب وانهمك على الملاذّ. فلما اجتمع لأحمد من أصحابه ما علم أنه يقوم بهم ركب فى وقت الظهيرة- وقد خلا باب محمد من الرجال- فهجم على أبى عبد الله بن على بن حميد فقتله، وعلا الصياح. فبلغ الخبر محمدا فقصد قبة عمه زيادة

الله. ووقع القتال بين رجال الأمير محمد ورجال أخيه أحمد. فجعل أصحاب أحمد يقولون لأصحاب محمد: «ما لكم تقاتلون؟ لا طاعة إلا طاعة محمد. إنما قمنا على أولاد على بن حميد الذين قهروكم واستأثروا بمال مولاكم دونكم. وأما نحن ففى الطاعة ما خلعنا منها يدا» . فلما سمعوا ذلك فشلوا عن القتال. ولما رأى محمد مادهمه- وهو على غير استعداد- جلس فى مجلس العامة. وأذن لأخيه أحمد والذين معه من الرجال بالدخول، فدخلوا عليه. فعاتب أخاه أحمد فقال له: «إن أولاد على بن حميد كادوا الدولة وأرادوا زوال ملكك، فقمت غضبا لك وحذرا على أيامك» . فلم يجد محمد بدا من مداراته والإغضاء عما فعل. فتحالفا أن لا يغدر أحد منهما بصاحبه «1» . واصطلحا على أن يدفع محمد لأخيه أحمد أبا حميد بن على، وكان قد لجأ «2» إليه فى وقت قتل أخيه. فدفعه إليه على أن أحمد لا يقتله ولا يصله بمكروه. فانصرف إلى منزله. وعظم قدر أحمد، واشتد سلطانه، وجعل الدواوين إلى نفسه. وصار الأمر كله له، ولم يبق لمحمد من الإمارة إلا مجرد الاسم وعزل أحمد حجاب محمد، وجعل على بابه حجابا من قبله. ووكل خمسمائة من عبيده ومواليه ببابه. وعذب أبا حميد، وأخذ أمواله. ووجه به مع أبى نصر مولى إبراهيم بن الأغلب، وأمره أن يسير به إلى طرابلس ويبعثه إلى مصر. وأسرّ إليه أنه إذا

صار بقلشانة يقتله. ففعل ذلك وخنقه حتى مات. وحمله على نعش إلى قلشانة. وأحضر من شهد أنه لا أثر فيه ولا جرح وقال: «إنه سقط عن الدابة فمات» . قال: ولما صارت الأمور إلى أحمد قدم نصر بن أحمد الجروى واستوزره. وكان داود بن حمزة الرادرى يظن أنه يكون المقدم عليه لأنّه كان المدبر لهذا الأمر. ففسدت نيته وأخذ فى العمل على أحمد ومكاتبة محمد، وكان محمد قد ترك اللهو وأخذ فى الحيلة والتدبير على أخيه أحمد. وكان محمد قد ولى سالم ابن غلبون الزاب. فلما كان من أمر أحمد ما كان، خالف سالم على أحمد، ولم يطعه. وجعل محمد يبعث إلى وجوه قرابته وجنده وعبيده ويسألهم نصرته ويعدهم ويمنّيهم. فكان ممن سعى فى نصرة محمد وأتقن له الأمور وأحسن التدبير أحمد بن سفيان بن سوادة. وكان يقال لأحمد: «إن أخاك يعمل عليك» . فلا يصدق، وعنده أنه قد أتقن التدبير. وكان من حال محمد أنه إذا جاءه رسول من أخيه أحمد يستدعى كأسا كبيرا ويمسكه بيده، ويحضر الرسول فيتوهم أنه يشرب. فإذا انصرف رد الكأس فلا يشربه. فلما كان فى اليوم الذى عزم محمد فيه على الوثوب على أخيه، بعث إلى أحمد بن سفيان. فجعل يسلك من واعده من العبيد والموالى وغيرهم حتى أدخلهم من أبواب المدينة فى الأكسية. وجعلهم يحملون على رؤوسهم جرار الماء حتى اجتمع منهم قبل الزّوال ثلاثمائة رجل. فصيّرهم أحمد بن سفيان فى داره وأعطاهم السلاح

وكان أحمد إذا قيل له: «إنك تراد ويعمل عليك» . غضب على من يقول ذلك. واشتغل بالشراب كما كان أخوه فى أول أمره. وكان جماعة ممن نصر محمدا واعدوه أن ينزلوا بقصر الماء، والأمارة بينهم أن يسمعوا الطبل ويروا الشمع فى أعلى القبة. وكان أحمد قد دخل الحمام فى ذلك اليوم وأطال اللّبث فيه. وأتاه عثمان بن الربيع بعد الظهر؛ فأخبره أن أخاه يريده تلك الليلة، وأنه أعد رجالا بقصر الماء. فلم يصدق ذلك، ووجه خيلا إلى قصر الماء فلم يجدوا به أحدا. وكان الموعد المغرب، فازداد أحمد تكذيبا للأخبار وقلة الاكتراث بما يراد به. فلما قربت صلاة المغرب، وجه محمد خادما له إلى جماعة رجال أخيه الذين كان قد جعلهم ببابه، فقال: «يقول لكم الأمير: إنى أحببت برّكم وإكرامكم، فاجتمعوا حتى أبعث إليكم طعاما وشرابا. فاجتمعوا، وبعث إليهم بطعام وشراب، فأكلوا وشربوا حتى إذا ظنّ أن الشراب قد عمل فيهم، أرسل الخادم إليهم وقال: يقول لكم الأمير: إنى قد أحببت أن أحلّى لكم سيوفكم، فمن كان عنده سيف فليأت به» . فجعلوا يتسابقون بسيوفهم طمعا فى ذلك. فلما كان رقت المغرب وغلّقت أبواب القصر، أتاهم عامر بن عمرون «1» القرشى فيمن معه. فوضعوا فيهم السيوف فقتلوهم «2» عن آخرهم. ثم أمر بالطبل فضرب، والشموع فأوقدت، فأقبل أصحابه

من كل ناحية إلى نصرته. وخرج أحمد بن سفيان بن سوادة فجعل يقتل من علم أنه من ناحية أحمد. وأقام القتال بين أحمد بن سفيان وأصحاب أحمد بن الأغلب بقية ليلتهم كلها. وبعث أحمد ابن سفيان إلى القيروان يستنصر بأهلها. فأقبلوا إليه فى جموع عظيمة وهم ينادون بطاعة محمد. فانهزم أصحاب أحمد بن الأغلب ووضعت السيوف فيهم، وهرب أحمد إلى داره. وكان فى حبسه خفاجة بن سفيان بن سوادة، فأخرجه وقال له: «الله الله فى دمى وحرمى، فإنها حرمك» . فقال له خفاجة: «حبستنى ظلما منذ سبعة أشهر» . فقال: «ليس هذا وقت العتاب فأغثنى» فقال له خفاجة: «أعطنى فرسا وسلاحا» ففعل فركب خفاجة. وصاح به الناس: «يا خفاجة، يا ابن شيخنا ومن نكرمه ونحفظه، إنما أخرجك هذا الملعون من حبسه الساعة بعد سبعة أشهر، فما هذه النصيحة له؟» فانصرف إلى أحمد فقال له: «أما إنه لا طاقة لك بالقوم، فاستأمن إلى أخيك من قبل أن تهلك» قال: «وكيف لى بذلك؟ فكن أنت رسولى إليه» . فسار إليه واستأمن له. فأمنه محمد وأتاه. فأمر محمد بالخلع على أهل القيروان ومن نصره. فخلع عليهم جميع ما كان فى خزائنه «1» ، ورجع إلى ثياب حرمه. وأمر أهل القيروان بالانصراف. ولما صار أحمد إلى أخيه

ذكر ولاية أبى ابراهيم أحمد بن محمد ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب

محمد عدّد عليه ما فعل ثم أخرجه إلى مصر، وسار إلى العراق. قال: وبنى محمد بن الأغلب القصر الذى بسوسة فى سنة ثلاثين. وفى أيامه توفى سحنون «1» بن سعيد فى سنة أربعين ومائتين، ودفن بباب نافع. وكان يتولى المظالم بمدينة القيروان. قال: واعتل محمد بن الأغلب فأقام بعلته أربعة أشهر. ثم توفى فى يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرم «2» سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وله ست وثلاثون سنة وولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام. ذكر ولاية أبى ابراهيم أحمد بن محمد ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب قال: ولما مات محمد، ولى بعده ابنه أحمد. وكانت أيامه كلها ساكنة، لم يحدث فيها إلا ما كان بناحية طرابلس. وذلك أن قبائل البربر تجمعت، فكان بينهم وبين عاملها عبد الله ابن محمد بن الأغلب حروب كثيرة. فكتب إلى أبى إبراهيم بذلك فأرسل إليهم العساكر، فكانت بينهم وبين البربر حروب شديدة. ثم انهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا. ولأبى إبراهيم

آثار عظيمة فى المبانى بإفريقية. فمن ذلك بنيان المأجل الكبير بباب تونس. وهو بمعنى الصهريج عندنا. وزاد فى جامع القيروان البهو والمجنّبات والبقية. وبنى المأجل الذى بباب أبى الربيع والمأجل الكبير الذى بالقصر القديم، وبنى المسجد الجامع بمدينة تونس. وبنى سور مدينة سوسة. وكان آخر ما عمل المأجل الذى بالقصر القديم. فلما فرغ اعتل أبو إبراهيم فكان يسأل: هل دخله الماء، إلى أن دخله، فعرفوه فسر به وأمرهم أن يأتوه بكأس مملوءة منه، فشربها وقال: «الحمد لله، الذى لم أمت حتى كمل أمره» . ثم مات إثر ذلك. ولم يزل أهل القيروان ومن دخلها يترحمون عليه. وفى أيامه فتحت قصريانة، وهى من أعظم مدن الروم بصقلية. وكانت وفاة أبى إبراهيم يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت «1» من ذى القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين وله تسع وعشرون سنة «2» . ومدة ولايته سبع سنين وعشرة أشهر وخمسة عشر يوما «3» . وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة، جميل الأثر، كريم الأخلاق والأفعال، من أجود الملوك وأسمحهم وأرفقهم برعيته، مع دين وإنصاف للمظلوم، هذا مع حداثة سنه. وكان يركب ليالى شعبان وشهر رمضان، وبين يديه الشمع. فيخرج من

ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن محمد ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب

القصر القديم حتى يدخل من باب أبى الربيع، ومعه دواب محملة دراهم. فيأمر بإعطاء من لقيه حتى ينتهى إلى المسجد الجامع بالقيروان. ويقصد دور العلماء والصالحين فيأمر بقرع أبوابهم. فإذا خرجوا إليه أمر بإعطائهم من ذلك المال. ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن محمد «1» ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب ولى بعد أخيه. ولم تطل أيامه حتى توفى. وكانت وفاته ليلة السبت لعشر «2» بقين من ذى القعدة سنة خمسين ومائتين فكانت ولايته سنة واحدة وسبعة أيام «3» . وكان عالما، عاقلا جميلا، حسن السيرة، جميل الأفعال، ذا رأى ونجدة وجود وشجاعة، رحمه الله تعالى. ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أحمد بن محمد ابن الأغلب المكنى بأبى الغرانيق ولى بعد عمه زيادة الله. وكان مشغوفا بالصيد، فلقب أبا الغرانيق، وذلك أنه بنى

قصرا فى السهلين لصيد الغرانيق «1» ، أنفق فيه ثلاثين ألف دينار «2» . ولقّب فى آخر أيامه بالميت، وذلك أنه اعتل وطالت علته، فكان يشنّع عليه بالموت فى كثير من الأيام. وكان فى أيامه حروب منها اضطراب ثغر الزاب عليه. فأخرج إليه أبا خفاجة محمد بن إسماعيل فى عسكر عظيم. ففتح فتوحات عظيمة فى طريقه. وخافه جميع البربر ولم يقم أحد له إلى أن وصل تهودة وبسكرة. وأعطاه أهل تلك النواحى أزمة أمورهم. ثم نهض إلى طبنة، وأتى حى بن مالك البلوى فى خيل بلزمة، فصار فى عسكره. ثم نهض إلى مدينة أبّة بجميع عساكره فنزلها. فخافه البربر وسمعوا له وأطاعوا «3» وبذلوا له الرهائن والخراج والعشور والصدقات فلم يقبل منهم. ومضى يريد بنى كملان من هوارة، وكبيرهم فى ذلك الوقت مهلب بن صولات فتحرزوا منه، وأرسلوا إليه يطلبون الأمان، ويبذلون له كل ما طلب، فلم يقبل وقاتلهم. فلما نشبت الحرب بينهم، جرّ الهزيمة عليه حى بن مالك من أهل بلزمة «4» . فقتل أبو خفاجة فى جماعة من القواد وكثير من الناس. ووصلت الهزيمة إلى طبنة.

ذكر ولاية أبى اسحاق ابراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب

وفى أيامه فتحت مالطة، وهى جزيرة فى البحر على يد أحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب. وتوفى أبو عبد الله محمد فى يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن أربع وعشرين سنة. وكانت مدة ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما «1» . وكان غاية فى الجود، مسرفا فى العطاء، حسن السيرة فى الرعية رفيقا بهم، غير أن اللهو والطرب والاشتغال بالصيد واللذات والشراب غلب عليه، حتى إنه مرة سكر وهو بمدينة سوسة وقد ركب فى البحر حتى صار إلى جزيرة قوصرة. فلما ذهب عنه السكر انصرف وهو خائف. وما زال على الانهماك طول عمره. ولم تكن له همة فى جمع المال، فلما مات لم يجد إخوته فى بيت المال شيئا. ذكر ولاية أبى اسحاق ابراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب قال ابن الرقيق: كان أبو الغرانيق قد عقد لابنه أبى العقال ولاية العهد، وبايع له، واستحلف إبراهيم بن أحمد أخاه خمسين يمينا بجامع مدينة القيروان أن لا ينازعه فى ملكه، وذلك بحضرة مشيخة بنى الأغلب وقضاة القيروان وفقهائها. فلما مات أبو الغرانيق، أتى أهل القيروان إلى إبراهيم وهو إذ ذاك وال عليهم فقالوا له: «قم فادخل القصر فإنك الأمير» . وكان إبراهيم قد أحسن السيرة فيهم.

فقال: «قد علمتم أن أخى عقد «1» البيعة لابنه، واستحلفنى خمسين يمينا أن لا أنازع ولده ولا أدخل قصره» . فقالوا: «نحن الدافعون له عن الأمر، والكارهون ولايته، والمانعون له. وليست له فى أعناقنا بيعة» . فركب من القيروان ومعه أكثر أهلها. فحاربوا أهل القصر حتى دخله إبراهيم. وبايعه شيوخ القيروان ووجوهها وجماعة من بنى الأغلب. فلما ولى أمر بإنفاذ الكتب إلى العمال والجباة بحسن السيرة والرفق بالرعية. وولىّ حجابته محمد بن قرهب. وفى صفر سنة ثلاث وستين ومائتين ابتدأ إبراهيم فى بناء رقّادة وانتقل إليها فى السنة. قال: ودورها أربعة عشر ألف ذراع «2» . وليس بإفريقية أرق هواء ولا أعدل نسيما ولا أطيب تربة من موضعها. قال ابن الرقيق: وقد سمعت من منتقرى «3» المعانى من يزعم أنه يعرض له فيها الضحك من غير عجب، والسرور من غير سبب. وفى أيامه فتحت سرقوسة من صقلية فى شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، على يد أحمد بن الأغلب، وقتل فيها أكثر من أربعة آلاف علج. وأصاب من الغنائم ما لم يوجد فى مدينة من مدائن الشّرك. ولم ينج من رجالها أحد. وكان مقام المسلمين عليها إلى أن فتحت تسعة أشهر. وأقاموا بعد فتحها شهرين ثم هدموها وانصرفوا وفى سنة أربع وستين، وثب الموالى على إبراهيم وعقدوا الخلاف

فى القصر القديم، ومنعوا من يجوز إلى رقادة من القيروان «1» . وسبب ذلك أن إبراهيم أمر بقتل رجل منهم يقال له مطروح بن بادر «2» فخالفوا عليه لذلك. فأقبل إليهم أهل القيروان فى عدد لا يحصى. فارتدع الموالى وسألوا الأمان فأمّنوا. فلما جاءوا وقت «3» إعطاء الأرزاق، جلس إبراهيم بقصر أبى الفتح، وحضر جميع العبيد «4» لقبض أرزاقهم. فكلما تقدم رجل نزع سيفه حتى أخذوا كلهم فقتل أكثرهم بضرب السياط وصلبوا. وحبس بعضهم بسجن القيروان حتى ماتوا فيه. ونفى بعضهم إلى صقلية. وأمر بشراء العبيد فاشترى منهم عدد كثير. وحملهم وكساهم وأخرجهم فى الحروب، فظهر منهم شجاعة وجلد وقوة. وفى سنة خمس وستين ومائتين، تجهز العباس بن أحمد بن طولون من مصر عند خروجه على أبيه يريد برقة. واجتمع إليه الناس على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الطولونية. فأخرج إليه إبراهيم حاجبه محمد بن قرهب «5» فلقيه بوادى ورداسة. فاقتتلوا فانهزم ابن قرهب. وقدم ابن طولون إلى لبدة فأخذها. ثم نهض منها يريد طرابلس فحصرها أياما. فعزم إبراهيم على الخروج بنفسه، فلما

صار إلى قابس لقيه ابن قرهب بالفتح وهزيمة العباس. وأخذ من أمواله كثيرا. وفى أيامه فى سنة ثمان وستين ومائتين «1» اشتد القحط وغلت الأسعار حتى بلغ قفيز القمح ثمانية دنانير. والقفيز مقدار إردب وربع بالمصرى. فهلك الناس حتى أكل بعضهم بعضا. وفى أيامه عصت «2» وزداجة ومنعوا صدقاتهم. فقاتلهم العامل عليهم وهو الحسن بن سفيان فهزموه حتى وصل إلى باجة. فأرسل إبراهيم حاجبه محمد بن قرهب بالجيوش إليهم. فسار ونزل بجبل من جبال وزداجة يقال له المنار «3» . فكانت خيله تخرج إليهم صباحا ومساء. فلم يزل حتى أخذ رهائنهم وأطاعوا واستقاموا. وكانت هوارة قد عاثت فى البلاد وقطعت السبل «4» فمضى الحاجب إليهم وعرض عليهم الأمان والرجوع إلى الطاعة. فأبوا فقاتلهم وهزمهم. ونهب العسكر ما فى منازلهم وأحرقها بالنار. وعاد الحاجب ثم استأمنت هوارة بعد ذلك. ثم تجمعت لواتة بأجمعها وحاصروا مدينة قرنة أياما وانتهبوا ما كان فيها. ومضوا إلى باجة وقصر الإفريقى. فأخرج إليهم إبراهيم محمد بن قرهب. فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب ابن قرهب وكبابه فرسه فأدركوه، وهرب من كان معه. وذلك فى ذى

الحجة سنة ثمان وستين ومائتين «1» . فاشتد ذلك على إبراهيم، وأمر بحشد الجند والأنصار والموالى. وأخرجهم مع ابنه أبى العباس عبد الله فى سنة تسع وستين. فانتهى الخبر إلى لواتة فهربوا «2» بين يديه فلحقهم بباجة وقتلهم قتلا ذريعا. وافترق من سلم منهم فى كل ناحية. وفى سنة ثمان وسبعين ومائتين بلغ إبراهيم أن جماعة من الخدام والصقالبة يريدون قتله وقتل أمه، فقتلهم عن آخرهم. وقتل بناته بعد ذلك. وفى هذه السنة «3» قتل رجال بلزمة بمدينة رقادة. وكان قبل ذلك قد زحف إليهم وبادرهم «4» بنفسه فلم يتمكن منهم. فأظهر العفو عنهم ورجع. ثم وفد عليه وفدهم ووفد أهل الزاب. فأنزلهم فى رقادة فى دار عظيمة كالفندق، وأجرى عليهم نزلا واسعا، وخلع عليهم وأكرمهم، حتى اجتمع نحو ألف رجل. فأحاط بهم فامتنعوا وقاتلوا، فقتلهم عن آخرهم. وكان قتلهم سبب انقطاع دولة بنى الأغلب، لأن أهل بلزمة كانوا قد أذلوا كتامة واتخذوهم خولا وعبيدا، وفرضوا عليهم العشور والصدقات وأن يحملوا ذلك على أعناقهم. فكان الذى صنع إبراهيم بأهل بلزمة مما أنقذ كتامة من تلك الذلة وأوجدهم السبيل إلى القيام مع الشيعى. وفى هذه السنة أمر إبراهيم بشراء العبيد السودان، فبلغت عدتهم

مائة ألف. فكساهم وألزمهم بابه. وجعل عليهم ميمونا وراشدا. وقتل حاجبه ابن الصمصامة وإخوته وقرابته «1» . وولى حجابته الحسن بن ناقد، وأضاف إليه عدة ولايات، منها إمارة صقلية. وفى سنة ثمان وسبعين «2» أيضا اضطربت إفريقية على إبراهيم. فخالفه أهل تونس والجزيرة وصطفورة وباجة وقمودة والأربس، وذلك فى شهر رجب ولم يجتمع أهل هذه الكور بمكان واحد بل أقام كل رئيس بمكانه «3» . ولم يبق بيد إبراهيم من إفريقية وكورها إلا الساحل الشرقى. فأمر إبراهيم بحفر الخندق على رقادة. وجمع ثقاته على نفسه. وقرب السودان من قصره. وأحضر شيخا من بنى عامر ابن نافع فشاوره فى أمره. فقال له: «إن عاجلوك قبل أن تختلف كلمتهم خفت أن ينالوا منك. وإن صبروا أمكنك منهم ما تريد» . فلما خرج من عنده، قال إبراهيم لابنه أبى العباس: «احبسه عندك لئلا يتكلم بهذا الرأى فيصل إليهم» . فحبسه حتى ظفر بهم. وكان سبب ظفره أنه بعث عسكره إلى الجزيرة فقتل منهم خلقا كثيرا. وأخذ رئيسها المعروف بابن أبى أحمد أسيرا. وجىء به إلى إبراهيم فقتله وصلبه. ووجه صالحا الخادم إلى قمودة فهزمهم. وبعث إلى تونس عسكرا عظيما عليهم ميمون الخادم والحسن بن ناقد حاجبه. فانهزم أهل تونس وقتلوا قتلا ذريعا بعد قتال شديد.

ذكر انتقال ابراهيم إلى تونس

ودخل العسكر إلى مدينة تونس فانتهبوا الأموال واستباحوا الحرم وسبوهم. وبعثوا إلى إبراهيم بألف ومائتى أسير، وهم أكابر القوم ورؤساؤهم. وذلك فى شهر رمضان من السنة «1» . ووصل الخبر إلى إبراهيم فى وقته على جناح طائر. فبعث إلى قائده ألا يقطع رأس قتيل. ووجه العجل فحملت القتلى وشق بها سماط القيروان. ذكر انتقال ابراهيم الى تونس وفى سنة إحدى وثمانين ومائتين، أمر إبراهيم أن تبنى له بتونس قصوره ومساكنه، فبنيت. ثم انتقل إليها يوم الأربعاء لستّ بقين من جمادى الأولى «2» . وانتقل أهل بيته وجميع قواده ومواليه. وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، تحرك إبراهيم يريد محاربة ابن طولون بمصر. وحشد وخرج من تونس لعشر خلون من المحرم. فأقام برقادة إلى سبع بقين من صفر. ثم خرج بعساكره، فاعترضه أهل نفوسة بجمع عظيم فى النصف من شهر ربيع الأول. فكان بينهم قتال عظيم، فقتل «3» ميمون الخادم وجماعة ممن معه. ثم انهزم أهل نفوسة، وتبعهم إبراهيم فقتلهم قتلا ذريعا. وتطارح منهم خلق كثير فى البحر فقتلوا حتى احمر لون الماء من دمائهم. فقال إبراهيم «لو كان هذا القتل لله لكان إسرافا» . فقال له بعض رجاله: «ليدع الأمير بعض من أحب من مشايخهم ويسأله عن اعتقاده.

فإذا سأله علم أن ذلك لله» . فأحضر بعضهم، فقال: «ما تقولون فى على بن أبى طالب؟» فقال: «نقول: إنه كان كافرا «1» ، فى النار من لم يكفره» . فقال إبراهيم: «فجميعكم على هذا الرأى؟» قالوا: «نعم.» قال: «الآن طابت نفسى على قتلكم» . وجلس على كرسى وبيده حربة. فكان يقدّم إليه الرجل منهم فيقد أضلاعه من تحت منكبيه ثم يطعنه فيصيب قلبه حتى قتل منهم خمسمائة رجل بيده فى وقت واحد. ثم تمادى إبراهيم بعد فراغه من أهل نفوسة إلى طرابلس. وكان محمد بن زيادة الله عامله عليها، وكان إبراهيم كثير الحسد له من صغره على علمه وأدبه. فقتله إبراهيم وصلبه. ثم سار من طرابلس حتى بلغ عين تاورغا «2» . فرجع كثير ممن معه «3» إلى إفريقية، ولم يبق معه إلا أقل من النصف. فلما رأى ذلك انصرف إلى رقادة ثم إلى تونس. وفى سنة أربع وثمانين «4» ، جهز إبراهيم ابنه أبا العباس إلى صقلية لقتال أهلها. فسار إليها فى جمادى الآخرة. فقاتله أهلها قتالا شديدا ثم انهزموا. ودخل المدينة بالسيف فقتل خلقا عظيما. ثم عفا عن الناس وأمنهم. ثم ركب حتى جاز المجاز، وأوقع بالروم فقتل المقاتلة وسبى الذرية. ورجع إلى صقلية وقد أثخن فى الروم.

ذكر اعتزال ابراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته

ذكر اعتزال ابراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته وكان سبب ذلك أن رسول الخليفة المعتضد بالله العباسى قدم عليه فى سنة تسع وثمانين «1» ومائتين من بغداد إلى تونس. فخرج إبراهيم إليه وضربت له فازة «2» سوداء فى سبخة تونس. فخلا بالرسول وكان بينهما محاورة ولم يأته بكتاب. وكان المعتضد قد أرسله على غضب وسخط لشكوى أهل تونس منه، وصياحهم على المعتضد، ووصفهم له ما صنع بهم إبراهيم، وقالوا: «أهدى إليك نساءنا وبناتنا» . فغضب المعتضد، وأمره باللحاق به وأن يعتزل عن إفريقية. وولى عليها ابنه أبا العباس. فكره إبراهيم المسير إلى المعتضد. وأظهر التوبة، ورفض الملك، ولبس الخشن من الثياب. وأمر بإخراج من فى سجونه. وقطع القبالات «3» . وبعث إلى ابنه أبى العباس وهو بصقلية ليصير إليه الملك، ويخرج له من الأمر. فقدم عليه فى شهر ربيع الأول فسلم إليه الأمر وخرج من تونس. وأظهر أنه يريد الحج. ووصل إلى سوسة، ووجه رسله إلى بغداد بذلك. ثم بعث من يذكر رجوعه عن الحج وخروجه إلى الجهاد «4» خشية من بنى طولون لئلا تسفك بينهما الدماء. واستقر الناس، ودعاهم إلى الجهاد، ووسع على من أتاه. وخرج من سوسة لئلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخرة.

فنزل نوبة ففرق الخيل والسلاح على أصحابه وأمر بالعطاء. فأعطى الفارس عشرين دينارا والراجل عشرة. وخرج من نوبة إلى طرابنش «1» فى البحر. فأقام بها سبعة عشر يوما يعطى الأرزاق لمن معه. ثم رحل فدخل مدينة بلرم «2» لليلتين بقيتا من شهر رجب. وأمر برد المظالم. وأقام بصقلية أربعة عشر يوما يعطى أهلها ومن بها من البحريين الأرزاق. وارتحل لتسع خلون من شعبان. فنزل على طبرمين «3» وحاصرها. وكان بينه وبين أهلها قتال شديد حتى أثخنت الجراح فى الفريقين. وهمّ المسلمون بالانحياز فقرأ قارىء: «هذان خصمان اختصموا فى ربهم» . الآية «4» فحمل حماة العسكر وأهل البصائر بنيات صادقة. فانهزم الكفرة هاربين. فقتلهم المسلمون أبرح قتل، وقفوا آثارهم فى بطون الأودية ورؤوس الجبال. ودخل إبراهيم ومن معه طبرمين فقتل وسبى. وبعث زيادة الله ابن ابنه» أبى العباس إلى قلعة ميقش «6» .

وبعث أبا الأغلب ولده بعسكر إلى دمنيش «1» . فوجد أهلها قد هربوا على وجوههم، فأخذ جميع ما كان بها «2» . وبعث ابنه أبا حجر «3» إلى رمطة «4» . فطلب القوم الأمان. وأجابوا إلى الجزية. وبعث سعدون الجلوى بطائفة إلى لياج «5» فدعوا القوم جميعا. فأجابوا إلى أداء الجزية. فلم يجبهم ولم يرضه إلا نزولهم عن الحصون، فنزلوا. وهدم جميع القلاع ورمى حجارتها إلى البحر. ثم تمادى بالعساكر إلى مسّينى «6» فأقام بها يومين. وأمر الناس بالتعدية إلى قلّورية «7» لأربع بقين من شهر رمضان وتمادى فى رحيله إلى أن قرب من مدينة كسنتة «8» . فجاءته الرسل يطلبون الأمان فلم يجبهم. وسار إلى أن وصل كسنتة وقدم العساكر وبقى فى الساقة لضعف أصابه. فنزلت العساكر بالوادى. وأمر الناس بالزحف لخمس بقين من شوال. وفرق أولاده وخاصته على

أبوابها، فقاتلوا «1» من كل ناحية، ونصبوا المجانيق. واشتدت علة إبراهيم، وكانت علته البطن. وعرض له الفواق فأيس أصحابه منه. فقلدوا الأمر إلى زيادة الله بن ابنه أبى العباس سرا. وكانت وفاة الأمير إبراهيم فى ليلة السبت لاثنتى عشرة «2» ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فركب القواد إلى أبى مضر زيادة الله، وهو أكبر أولاد أبى العباس بن إبراهيم، فقالوا له: «تولّ هذا الأمر حتى تصل إلى أبيك» . فقال لعمه أبى الأغلب «3» : «أنت أحق بحق أخيك» . فلم يتقدم على زيادة الله، وكان يحب السلامة. ثم طلب أهل كسنتة الأمان، وهم لا يعلمون بوفاة الأمير، فأمّنوا. وأقام المسلمون حتى قدم عليهم من كان توجه إلى الجهات. فلما قدموا ارتحلوا بأجمعهم وعادوا إلى مدينة بلرم. ونقلوا إبراهيم معهم فدفنوه بها «4» . وبنى على قبره قصر. وعادوا إلى إفريقية بأجمعهم. وكان مولد إبراهيم يوم الأضحى سنة خمس وثلاثين ومائتين. فكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وأحد عشر شهرا وأياما «5» . ومدة

ولايته إلى حين وفاته ثمانى وعشرين سنة وستة أشهر واثنى عشر يوما «1» . وكان لإبراهيم محاسن ومساوى ذكرها ابن الرقيق، ونحن نذكر لمعة من محاسن أفعاله ومساوئها، تدل على ما كان عليه. ونترك الإطالة جريا على القاعدة «2» فى الاختصار. قال: كان على حالة محمودة من الحزم والضبط للأمور. وأقام سبع «3» سنين من ولايته، وهو على ما كان عليه أسلافه من حسن السيرة وجميل الأفعال، إلى أن خرج لمحاربة العباس بن طولون. فلما كفى مؤنته تغيرت حاله وحرص على جمع الأموال. ثم اشتد أمره فأخذ فى قتل أصحابه وكفاته وحجابه. ثم قتل ابنه وبناته وأتى بأمور لم يأت غيره بمثلها. فمن محاسن أعماله أنه كان أنصف الملوك للرعية، لا يرد عنه متظلم يأتيه «4» . وكان يجلس بعد صلاة الجمعة، وينادى مناديه: «من له مظلمة» . فربما لم يأته أحد لكفّ بعض الناس عن بعض. وكان يقصد ذوى الأقدار والأموال فيقمعهم ويقول: «لا ينبغى أن يظلم إلا الملك، لأن هؤلاء إذا أحسوا من أنفسهم قوة بما عندهم من الأموال لم يؤمن شرّهم وبطرهم. فإذا كف الملك عنهم وأمنوا دعاهم ذلك إلى منازعته وإعمال الحيلة عليه. وأما الرعية فهم مادة الملك،

فإن أباح ظلمهم لم يصل إليه نفعهم، ولحقه الضرر، وصار النفع لغيره» . ووقف له رجلان من أهل القيروان، وهو بالمقصورة فى جامع رقادة. فأدناهما إليه وسألهما عن حالهما فقالا له: «كنا شريكين للسيدة. «يعنيان أمه» فى جمال وغيرها. فاحتبست لنا ستمائة دينار» . فأرسل إليها خادما فقالت: «نعم هو كما ذكرا إلا أن بينى وبينهما حسابا. وإنما احتبست هذا المال حتى أحاسبهما. فإن بقى عليهما شىء وإلا دفعت مالهما إليهما» . فقال للخادم: «ارجع إليها وقل لها: والله لئن لم توجهى بالمال وإلا أوقفتك الساعة معهما بين يدى عيسى بن مسكين» . فوجهت بالمال إليه. فدفعه إليهما وقال: «أما أنا فقد أنصفتكما فيما ادعيتما، فاذهبا واقطعا حسابها وإلا فأنتما أعلم» . وكان إذا تبين له الظلم قبل أحد من أهل بيته وولده بالغ فى عقوبته والإنصاف منه. فكان ولده ورجاله يوم الخميس يأمرون «1» عبيدهم ورجالهم أن يطوفوا فى الأزقة والفنادق، ويسألوا: هل أتى شاك أو متظلّم من عبد أو وكيل؟ فإذا وجدوا أحدا أتوا به إلى دار ولد الأمير أو قرابته فينصفه. ومن مساوىء أفعاله أنه أسرف فى سفك دماء أصحابه وحجابه حتى يقال إنه افتقد منديلا كان يمسح به فمه من شرب النبيذ- وكان قد سقط من يد بعض جواريه فأصابه خادم- فقتله وقتل بسببه ثلاثمائة خادم. وهذا غاية فى الجور ونهاية فى الظلم.

وقتل ابنه المكنى بأبى الأغلب «1» لظنّ ظنّه به، فضرب عنقه بين يديه صبرا. وقتل ثمانية إخوة كانوا له رجالا، ضربت أعناقهم بين يديه صبرا. وكان أحدهم ثقيل البدن فسأله واسترحمه. فقال: «لا يجوز أن تخرج عن حكم الجماعة» . وقتله. ثم قتل بناته. وأتى بأمور لم يأت بها أحد قبله ولم يتقدمه إلى مثلها ملك ولا أمير. فكانت أمه إذا ولد له ابنة من أحد جواريه أخفتها عنه وربتها حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جارية. فقالت له ذات يوم، وقد رأت منه طيب نفس: «يا سيدى، قد ربيت لك وصائف ملاحا، وأحب أن تراهن» . فقال: «نعم، قرّبيهن منى» . فأدخلتهن إليه فاستحسنهن. فقالت: «هذه ابنتك من جاريتك فلانة، وهذه من فلانة» . حتى عدّتهن عليه. فلما خرج قال لخادم له أسود كان سيافا يقال له ميمون: «امض فجئنى برؤوسهن» . فتوقف استعظاما منه لذلك. فسبّه وقال: «امض وإلا قدمتك قبلهن» . فمضى إليهن. فجعلن يصحن ويبكين ويسترحمن، فلم يغن ذلك عنهن شيئا. وأخذ رؤوسهن وجاء بهن معلقة بشعورهن، فطرحها بين يديه. ومن قبيح «2» أفعاله ما كان عليه من أمر الأحداث، وكان له نيّف وستون حدثا. وقد رتب لكل واحد منهم مرقدا ولحافا. فإذا جاء وقت النوم، طاف عليهم الموكل بهم فسقى كل واحد منهم ثلاثة أرطال، وينام كل واحد منهم فى مكانه. فبلغه أن بعضهم يمشى فى الليل إلى بعض. فجلس بباب القصر على كرسى وأمر بإحضارهم.

فبعضهم أقر وبعضهم جحد، حتى مر به صبى كان يحبه فقال: «والله يا مولاى ما كان من هذا شىء» . فضربه بعمود من حديد فطار دماغه. وأمر بتنور فأحمى. فكان يطرح فيه كل يوم خمسة أو ستة حتى أفناهم. وأدخل عددا منهم الحمام وأغلق عليهم البيت السخن، فماتوا من ساعتهم. وقتل بناته وجواريه بأنواع من العذاب: منهن من بنى عليها البناء حتى ماتت جوعا وعطشا، ومنهن من أمر بخنقها، ومنهن من ذبحها، حتى لم يبق فى قصره أحد. فدخل على أمه فى بعض الأيام فقامت إليه ورحبت به. فقال لها: «إنى أحب طعامك» . فسرت بذلك وأحضرت الطعام. فأكل وشرب وانبسط. فلما رأت سروره قالت له: «إن عندى وصيفتين ربيتهما لك وادخرتهما لمسرتك. وقد طال عهدك بالأنس بعد قتل الجوارى وهما يحسنان القراءة بالألحان. فهل لك أن أحضرهما للقراءة بين يديك؟» . قال: «افعلى» . فأمرت بإحضارهما فأحضرتا. وأمرتهما بالقراءة فقرأتا أحسن قراءة. ثم قالت له أمه: «هل لك أن ينشداك الشعر؟» قال: «نعم» . فغنتا بالعود والطنبور أبدع غناء حتى عمل فيه الشراب وأراد الانصراف. فقالت له: «هل لك أن تمشيا خلفك حتى تصل إلى مكانك ويقفا على رأسك ويؤنساك، فقد طال عهدك بالأنس» . قال: «نعم.» فمضى وهما خلفه. فلم يكن إلا أقل من ساعة حتى أقبل خادم وعلى رأسه طبق وعليه منديل. فظنت أنه وجه إليها بهدية. فوضع الخادم الطبق بين يديها ورفع المنديل، وإذا برأسيهما.

ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن ابراهيم ابن أحمد بن محمد بن الأغلب

فصرخت أمه وغشى عليها. وأفاقت بعد ساعة طويلة، وهى تدعو عليه وتلعنه. وأخباره فى أمثال «1» هذا طويلة. وفى أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعى الداعى، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله عز وجل. ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن ابراهيم «2» ابن أحمد بن محمد بن الأغلب ولى الأمر كما قدمناه فى حياة أبيه ثم استقل بالأمر بعد وفاته. وكان على خوف شديد من أبيه لسوء أخلاقه وجرأته على قتل من قرب منه أو بعد. فكان يظهر له من الطاعة والتذلل أمرا عظيما. فكان إبراهيم يكرمه ويفضله على سائر أولاده. وكانت ولايته بعد أبيه فى يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فجلس للناس للمظالم «3» . وليس الصوف، وأظهر العدل والإحسان والإنصاف. ولم يسكن قصر أبيه. ولكنه اشترى دارا مبنية بالطوب فسكنها إلى أن اشترى داره التى عرف بها. وخاف من قيام ابنه زيادة الله عليه فحبسه هو وخلقا من رجاله.

وولى أبا العباس محمد بن الأسود الصدينى «1» قضاء القيروان والأحكام والنظر فى العمال وجباة الأموال. فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان قويا فى قضائه، شديدا على رجال السلطان، رفيقا بالضعفاء والمظلومين. ولم يكن واسع العلم، فكان يشاور العلماء، فلا يقطع حكما إلا برأى ابن عبدون «2» القاضى. وكان يظهر القول بخلق القرآن فكرهه العامة. ولم تطل أيام أبى العباس حتى وثب به ثلاثة من خدمه كان زيادة الله قد وضعهم عليه، فقتلوه وهو نائم. وأتوا بحداد إلى زيادة الله ليقطعوا قيده ويسلموا عليه بالإمارة. فخاف أن يكونوا دسيسا عليه من أبيه، فأبى ذلك. فمضوا إلى أبيه فقطعوا رأسه وأتوا به فى الليل. فلما رأى ذلك أمر بقطع قيوده وخرج. وكان مقتل أبى العباس فى ليلة الأربعاء آخر شعبان «3» سنة تسعين ومائتين. فكانت إمارته من حين خروج أبيه وإلى أن قتل سنة واحدة واثنين وخمسين يوما، ومنذ استقل بالأمر بعد أبيه تسعة أشهر وثلاثة عشر يوما «4» . وكان رحمه الله شجاعا بطلا عالما «5» بالحرب، حسن النظر فى الجدل «6» . وأستاذه فى ذلك عبد الله بن الأشج «7» .

ذكر ولاية أبى مضر زيادة الله بن أبى العباس

ذكر ولاية أبى مضر زيادة الله بن أبى العباس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب قال: ولما أفضى إليه الأمر بعد مقتل» أبيه، كان أول ما بدأ به أنه أمر بقتل الخصيان الذين قتلوا أباه وصلبهم، وأظهر الكراهة لفعلهم. وأرسل من إخوته وبنى عمه تسعة وعشرين رجلا إلى جزيرة فى البحر يقال لها جزيرة الكراث «2» فقتلوا فى شهر رمضان من هذه السنة. وبعث زيادة الله خمسين فارسا مع فتوح الرومى إلى أخيه الأحول بكتاب على لسان أبيه أبى العباس يأمره فيه بالقدوم عليه ولا يتخلف- وكان أبو العباس قد أخرجه لقتال أبى عبد الله الشيعى- فرجع. فلما وصل أمر زيادة الله بقتله فقتل. فكان ذلك أعظم فتح عند الشيعى. قال: وأمر زيادة الله بالعطاء. وولى الوزارة والبريد عبد الله بن الصائغ. وولى الخراج أبا مسلم «3» . وعزل القاضى الصدينى لرأيه بخلق القرآن. وكتب كتابا إلى القيروان: «إنى قد عزلت عنكم الجافى الجلف، المبتدع المتعسف، ووليت القضاء حماس بن مروان لرأفته ورحمته وطهارته وعلمه بالكتاب والسنة» .

ذكر انهزام زيادة الله إلى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب

وفى أيامه قوى أمر أبى عبد الله الشيعى، وكان قد ظهر فى أيام جده إبراهيم بن أحمد، فاستفحل الآن أمره. وكثرت أتباعه، واشتدت وطأته. ففارق زيادة الله تونس إلى رقادة ونزلها خوفا من الشيعى أن يخالفه إليها. ولما نزلها زيادة الله عمر سورها، فلم يغن ذلك عنه شيئا لأن الشيعى لما قوى أمره بكتامة، انضمت إليه القبائل واجتمعت له الرجال، وهزم جيوش زيادة الله مرة بعد أخرى وقتل جموعه. واستولى على البلاد: فبدأ بميلة ثم بمدينة سطيف ثم غلب على البلاد والمدن بلدا بلدا ومدينة مدينة، إلى أن غلب على مدينة الأربس، وهزم إبراهيم بن أبى الأغلب «1» . وكان زيادة الله قد جهزه لقتاله فى جيوش عظيمة، وهو آخر جيش جهزه زيادة الله. فهزمه الشيعى، وذلك فى جمادى الآخرة سنة ست وتسعين «2» ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله مبينا فى أخبار الدولة العبيدية المنسوبة للعلوية. ذكر انهزام زيادة الله الى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب قال: ولما بلغت هزيمة إبراهيم بن الأغلب زيادة الله- وكان هذا الجمع آخر جمع جمعه- فتّ ذلك فى عضده. وكان برقادة فأظهر أنه أتاه الفتح وأرسل إلى السجون فأتى برجال منها. فضرب أعناقهم وأمر أن يطاف برؤوسهم فى القيروان والقصر القديم.

وأخذ في حمل «1» أثقاله وأمواله. وأرسل إلى خاصة رجاله وأهل بيته يعرّفهم الحال وأنذرهم بالخروج معه. فأشار عليه وزيره ابن الصائغ بالمقام. وقال له: «العساكر تجتمع إليك، فأخرج العطاء يأتيك الناس. والشيعى لا يجسر أن يقدم عليك» . وشجعه وقواه وذكّره بحروب جده زيادة الله، فلم يرجع إلى قوله. فلما ألح عليه ابن الصائع، قال له زيادة الله: «هذا يصدق ما قيل عنك: إنك كاتبت الشيعى وأردت أن تمكنه منى» . فتبرأ من ذلك وأمسك عنه. وأخذ زيادة الله فى شد الأموال والجواهر والسلاح وما خف من الأمتعة النفيسة، وفعل رجاله كذلك واتعدوا إلى الليل. ثم انتخب زيادة الله من عبيده الصقالبة ألف خادم وجعل على وسط كل خادم ألف دينار. وحمل من يعز عليه من جواريه وأمهات أولاده. ولما عزم على الرحيل، قامت إليه جارية من قيانه، وأخذت العود واندفعت تغنى: لم أنس يوم الرحيل موقفها ... وجفنها فى دموعها غرق «2» وقولها، والركاب سائرة ... تتركنى سيدي وتنطلق «3»

فدمعت عيناه وأمر بحط حمل مال عن بغل وحملها عليه «1» . وكانت الهزيمة بلغته بعد صلاة العصر، فما أذّن مؤذن العشاء الآخرة إلا وقد رحل من رقادة «2» . واتبعه الناس قوما بعد قوم يهتدون بالمشاعل. وأخذ طريق مصر. وخرج عبد الله بن الصائغ بعده بثقله وحشمه وأمواله. فقصد جهة لمطة، وقد كان أعد هناك مركبا لنفسه، ليركب فيه إلى صقلية ويفارق زيادة الله خوفا على نفسه من رجاله أن يحملوه على قتله، لأنه كان معاديا لأكثرهم ورموه بمكاتبة الشيعى؛ ولم يكن كذلك. قال: ولما علم الناس بهروب زيادة الله، أسرعوا إلى رقادة، وانتهبوا ما فيها، واحتووا على قصور زيادة الله، حتى صاروا إلى البحث عن المطامير وانتزاع حديد الأبواب وحمل الأسرّة ونقل الماعون. وأقاموا على ذلك ستة أيام، حتى تراءت خيل الشيعى. وتخلف عن زيادة الله كثير من رجاله وعبيده وأصحاب الدواوين، فافترقوا فى البلدان. وأما إبراهيم بن أبى الأغلب، فإنه وافى القيروان فى جماعة من انضم إليه. فلما علموا بهروب زيادة الله، تفرقوا عنه وقصد كل قوم إلى ناحيتهم. وقصد إبراهيم دار الامارة فنزل بها. ونادى مناديه بالأمان، وسكّن الناس. وأرسل إلى الفقهاء ووجوه أهل القيروان، فاجتمع على بابه خلق كثير وسلموا عليه بالإمارة. فذكر لهم أحوال

زيادة الله، وما كان عليه من سوء الحال، وأن ذلك أخل بدولته وأجلب عدوه وسلبه ملكه. وذكر الشيعى وكتامة وشنّع عليهم أقبح الأشانيع. وطلب من الناس الإعانة. وقال: «إنما قصدت المجاهدة عن حريمكم ودمائكم وأموالكم، فأعينونى على ذلك بالسمع والطاعة، وأمدونى بأموالكم ورجالكم، وادفعوا عن حريمكم ومهجكم» . فقالوا: «أما السمع والطاعة فهما لك ولكل من ولينا. وأما إعانتك بأموالنا فهى لا تبلغ ما تريده. والقتال فما لنا به قوة ولا معرفة. وأنت فقد ناصبت هؤلاء ومعك صناديد الحرب ووجوه الرجال ووراءك بيوت الأموال، فلم تظفر بهم. وتروم الآن ذلك منا نحن وبأموالنا «1» » . فراجعهم فى ذلك وراجعوه، حتى قال لهم: «فانظروا ما كان فى أيديكم من أموال الأحباس والودائع فأعطونى ذلك سلفا، فأنادى بالعطاء فيجتمع إلى الناس» . قالوا: «وما يغنى عنك ذلك، ولو مددت يدك إليها لأنكر الناس عليك» . فلما يئس منهم صرفهم والناس مجتمعون حول دار الإمارة لا يعلمون ما كان الكلام. فلما خرجوا أخبروهم بما كانوا فيه. فصاحوا به: «اخرج عنا، فما لنا بك من حاجة، ولا نسمع ولا نطيع لك» . وجلب الغوغاء وصاحوا به وشتموه. فلما سمع ذلك، وثب من كان «2» معه فى سلاحهم واقتحموا الباب. فهرب من كان على الباب. ومضوا يركضون دوابهم، والناس يركضون وراءهم ويرجمونهم

ذكر ما كان من أخبار زيادة الله وقتله عبد الله ابن الصائغ ومسيره إلى بلاد الشرق ووفاته

بالحجارة. وانضم إلى ابن الأغلب من كان قد بقى بعد زيادة الله من رجاله ممن خاف على نفسه، ولحقوا زيادة الله. ثم دخل الشيعى رقادة وانقرضت دولة بنى الأغلب. ذكر ما كان من أخبار زيادة الله وقتله عبد الله ابن الصائغ ومسيره الى بلاد الشرق ووفاته قال: ولما خرج زيادة الله من رقادة، ولحق به إبراهيم بن أبى الأغلب فيمن انضم إليه، فاجتمع «1» معه خلق كثير. فسار بهم إلى طرابلس فدخلها ونزل دار الإمارة. وافتقد ابن الصائغ فلم يره، فتحقق ما كان يرمى به من مكاتبة الشيعى. وأكثر أصحابه القول فيه. وكان قد ركب فى مركب له يريد صقلية، فصرفته الريح إلى طرابلس. فدخل على زيادة الله فعاتبه على تخلّفه. فاعتذر أنه كانت معه أثقال لم يطق حملها «2» فى البر. فلما علم أصحاب زيادة الله أنه قرب ابن الصائغ ساءهم ذلك وغمهم. فأتوه وقالوا: «إنه كذبك وإنما كان يريد صقلية» . واجتمعوا كلهم وقالوا: «هذا الذى أخرجك من ملكك، وعمل فى ذهاب دولتك، وكاتب الشيعى عليك» . فنقم عليه وأمر بتسليمه إلى راشد- وهو أحد المتعصبين عليه- فضرب عنقه بيده. وتلاعب الصبيان برأسه حتى وقع فى قناة حمام. وحكى عن الشيعى أنه قال: «والله ما كاتبنى قط» .

قال: وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر «1» يوما وخرج منها يريد مصر. وكان قد نقم على إبراهيم بن أبى الأغلب لما أراده من العقد لنفسه بمدينة القيروان، فاطرحه وأعرض عنه وعن أبى المصعب بن زرارة. وسعى بهما عنده أنهما يقعان فيه وينالان منه، وقيل له: «هذا قولهما فيك وهما معك وفى قبضتك، فكيف إذا وصلا إلى مصر؟» فعزم على قتلهما. فهربا إلى الإسكندرية واستجارا بعاملها. فأجارهما ووجه بهما إلى مصر. فدخلا قبل زيادة الله، واجتمعا بعيسى النوشرى عاملها، ووقعا عنده فى زيادة الله، وذكروا سوء فعله وأنه يطمع نفسه بمصر. فهم النوشرى أن يصد زيادة الله عن مصر إلى أن يكتب إلى بغداد. فأتى زيادة الله الخبر من عيون كانت له بمصر، فأرسل ابن القديم بكتاب إلى النوشري، يبجّله فيه ويسأله أن ينظر له دارا «2» ينزل فيها، ويخبره أنه يقيم إلى أن يصل إليه الرسول. ثم سار زيادة الله فى أثر ابن القديم وجاء إلى مصر «3» . فأنزله النوشرى فى دار ابن الجصاص، وأنزل رجاله فى دور كثيرة. وأقام بمصر ثمانية أيام ثم خرج يريد بغداد. فتخلف عنه بمصر جماعة ممن كان معه «4» . فسار حتى وصل إلى الرملة ففقد وجوه رجاله، فوجدهم هربوا عنه. وهرب له غلام بمائة ألف دينار، وصار إلى النوشرى والتحق بغلمانه. فكتب زيادة الله إلى بغداد بذلك. فورد

الجواب إليه، وإلى النوشرى يؤمر فيه أن يبعث إليه بكل من تخلف عنه. ففعل النوشرى ورد غلمانه وأصحابه إليه. وسار زيادة الله حتى وصل إلى الرقة. وكتب إلى ابن الفرات الوزير أن يستأذن له المقتدر بالله فى الدخول إلى الحضرة. فأتاه كتاب يؤمر فيه بالإقامة فى الرقة حتى يأتيه رأى المقتدر. فأقام بها سنة فتفرق عنه رجاله وتشتت أمره. وباع عليه قاضى الرقة بعض خصيانه، وذلك أنه كان معه خصيان لهم وضاءة وجمال. فلما أقام بالرقة أدمن شرب الخمر وسماع الملاهى. فاحتسب عليه محتسب عند القاضى، وأقام بينة شهدت عليه أنه يفجر بأولئك الصقالبة. فباعهم عليه. وتلطف زيادة الله فى الدخول على المقتدر بالله فلم يؤذن له. وصرفه إلى النوشرى وابن بسطام بمصر. وكتب المقتدر إليهما بتقويته بالرجال وأن يعطى من خراج مصر ما يقيم أود عسكره حتى يعود إلى المغرب ويطلب بثأره ويسترجع دولته. فلما وصل إلى مصر شقها متقلدا بسيفين. فأخرجه النوشرى إلى ظاهرها «1» وقال له: «تكون متبرّزا حتى تأتيك الرجال والأموال» . وجعل يمطله ويسوّف به ويتحفه بالهدايا والخمور. فأقام على اتباع شهواته والانهماك على لذاته حتى أنفق ما كان معه وباع السلاح والعدة. ثم اعتل فيقال إن بعض عبيده سمه فى طعام فسقط. شعر لحيته

ورأسه. فانصرف إلى البيت المقدس فمات هناك «1» . وتفرق آل الأغلب وانقرضت دولتهم بخروج زيادة الله من الملك. وكانت مدة ولاية زيادة الله منذ أفضى إليه الأمر بعد أبيه وإلى أن هرب إلى رقادة خمس سنين وعشرة أشهر «2» . وانقرضت دولتهم كأن لم تكن. فسبحان من لا يزول ملكه ولا ينقضى دوامه. وبانقراض دولة بنى الأغلب زال ملك بنى مدرار بسجلماسة، وكان له مائة سنة وستون سنة، وزال ملك بنى رستم من تيهرت، وله مائة سنة وثلاثون سنة.

ذكر أخبار من ملك المغرب بعد بنى الأغلب إلى أن قامت دولة بنى زيرى بن مناد

ذكر أخبار من ملك المغرب بعد بنى الأغلب الى أن قامت دولة بنى زيرى بن مناد نحن نذكر ذلك فى هذا الموضع على سبيل التنبيه عليه لا الاستيعاب له. وسنذكره إن شاء الله تعالى مبيّنا مستوفى فى أخبار الدولة العبيدية مع ملوك مصر. فنقول هاهنا: لما قام أبو عبد الله الشيعى على دولة بنى الأغلب، وهزم جيوشهم، واستولى على بلاد المغرب وانتزعها من زيادة الله بن أبى العباس، وظهر أبو محمد عبيد الله المنعوت بالمهدى- وهو الذى كان الشيعى يدعو له- فانخلع «1» له الشيعى من الأمر كله، وسلمه إليه فى سنة ست وتسعين ومائتين. فلما استقامت الأمور للمهدى، وتوطّد ملكه، واشتدت شوكته، قتل أبا عبد الله الشيعى وأخاه، واستقل بالأمر. وبنى مدينة المهدية وانتقل إليها. ودامت أيامه إلى أن توفى فى النصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ثم قام بالأمر بعده ولده «2» أبو القاسم محمد المنعوت بالقائم بأمر الله. فملك إلى أن توفى فى يوم الأحد الثالث عشر من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو الطاهر إسماعيل المنعوت بالمنصور بنصر الله. وبنى المنصورية. ودامت أيامه إلى أن توفى فى يوم الجمعة آخر

شوال «1» سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو تميم معد المنعوت بالمعز لدين الله. ودامت ولايته ببلاد المغرب إلى أن جهز القائد جوهرا إلى الديار المصرية فملكها بعد انقراض الدولة الإخشيدية. وأنشأ القاهرة المعزية، ثم كتب إلى مولاه المعز لدين الله بذلك. فتوجه المعز إلى الديار المصرية، وكان رحيله من المنصورية ووصوله إلى سردانية «2» فى يوم الاثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وسلم إفريقية وبلاد المغرب كلها ليوسف بن زيرى بن مناد فى يوم الأربعاء لسبع «3» بقين من ذى الحجة من السنة. وأمر سائر الناس بالسمع والطاعة له. ثم رحل المعز لدين الله من سردانية لخمس خلون من صفر «4» سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. ثم سار منها إلى طرابلس وأقام بها أياما. ورحل منها يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر منها. ووصل ثغر الإسكندرية لست خلون من شعبان منها «5» . فكانت مدة مقامهم ببلاد المغرب خمسا وستين سنة وشهورا «6» . وصار أمر المغرب بعده ليوسف بن زيرى ثم لبنيه من بعده، على ما نذكره إن شاء الله عز وجل. وكانوا فى مبدإ الأمر كالنواب لملوك الدولة العبيدية بمصر. ثم استقلوا بعد ذلك بالأمر على ما يأتى من أخبارهم.

ذكر ابتداء دولة بنى زيرى بن مناد ونسبهم ومبدأ أمرهم ومن ملك منهم إلى انقضاء دولتهم

ذكر ابتداء دولة بنى زيرى بن مناد ونسبهم ومبدأ أمرهم ومن ملك منهم الى انقضاء دولتهم أول من ملك منهم أبو الفتوح بلكّين يوسف بن زيري. ولنبدأ بذكر نسبه وأخبار آبائه ومبدإ أمرهم. فأما نسبه «1» فهو أبو الفتوح يوسف بن زيرى بن مناد بن منقوش «2» بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفاك بن وزعفى «3» ابن سرى بن وتلكى بن سليمان بن الحارث بن عدى الأصغر- وهو المثنى بن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد [بن الغوث] «4» الأصغر- بن سعد- وهو عبد الله بن عوف بن عدى بن مالك بن زيد ابن شداد «5» بن زرعة- وهو حمير [الأصغر] «6» بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث «7» بن قطن بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن عمرو بن حمير- وهو العرنجج- ابن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر- وهو هود. هكذا قال عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن الأمير تميم

ابن المعز بن باديس فى تاريخه المترجم «بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان» . وهم المقول فيهم: ذو والملك والتّيجان والغرر التى ... حقيق بها التيجان أن تتباهى «1» لها معجز التّأسيس فى سدّ مأرب ... وإن كان قد أوهاه فيض نداها لها ركن بيت الله غير مدافع ... وميقات حجّ الله غير مضاهى «2» لها اللغة العليا التى نزلت بها ... فواتح ياسين ومبدأ طه لها يوم بدر والنّضير وخيبر ... وأىّ مناد فى حنين دعاها قال: وأول من دخل منهم بلاد المغرب المثنى بن المسور. وكان سبب دخوله أنه لما رأى الحبشة قد غلبت على اليمن وأخرجت حمير عن ملكها، سار إلى الشّحر فوجد به كاهنا من حمير. فلما رأي المثنى، سلم عليه وسأله عن خبره وما الذى أتى به. فأعلمه أن الحبشة غلبتهم على ملكهم. فقال له الكاهن: «اذهب إلى المغرب واتخذه قرارا. فو الله، ليكونن لولدك فيه شأن، وليملكنّ منهم جماعة، ويتوارثونه، ويطول ملكهم» . فهاج ذلك المثنى على دخول المغرب فدخله. وأعلم المثنى بنيه بذلك وأعلم بنوه بنيهم. فمازالوا يتوقعون الملك إلى أن ولد مناد بن منقوش ونشأ، فجاء شديد القوة كثير المال والبنين. فأخذ فى الإفضال على من يمر به. فاشتهر ذكره وشاع خبره فى الناس. وكان له مسجد يطرقه كل من يأتى إليه. فإذا خرج إلى الصلاة، سلم على من ينزل المسجد من

الأضياف وحمله إلى داره، ويضيفه ويكرمه. ويقيم عنده ما شاء الله أن يقيم «1» . فإذا أراد الانصراف، زوده وكساه ووصله وصرفه. فإنه على ذلك، إذ أتاه آت فقال له: «إن فى المسجد رجلا وصل فى هذه الساعة، وهو يذكر أنه جاء من الحج» . وكان وقت صلاة الظهر. فخرج مناد إلى المسجد، فصلى وسلم على الرجل، وسأله عن حاله ومن يكون ومن أين أقبل فقال: «إنه من أهل المغرب، وإنه انصرف من الحج «2» فخرج عليه لصوص، وأخذوا ما كان معه فانقطع عن أصحابه، ووصل إلى إفريقية فسمع بمناد وما يفعل «3» مع أبناء السبيل، فقصده ليعينه على الوصول إلى أهله» . فقال له مناد: «قد وصلت فأبشر بالخير إن شاء الله» . ومضى به مناد إلى منزله، فأكل ونام. وأمر مناد بشاة فذبحت وعمل طعام ثان. وأيقظ الرجل وأتى بالطعام فأكل منه. ونظر إلى كتف الشاة فأخذه وقلبه ونظر فيه وإلى مناد، وأقبل يتعجب. فقال له مناد: «لأى شىء تنظر فى الكتف وتنظر إلى؟» . قال: «لا لشىء» . فعزم مناد عليه أن يخبره ممّ تعجّبه. فقال: «ألك امرأة حامل؟» . قال: «بلى» . قال: «فلك منها أولاد؟» قال: «لا ولكن من غيرها» . قال: «فاعرضهم على» . فعرضهم مناد عليه، فقال: «ألك غير هؤلاء؟» . قال: «ليس لى ذكر إلا من رأيت» . قال: «احتفظ بالمرأة الحامل. فو الله، لتلدنّ ولدا يملك المغرب جميعه،

ذكر أخبار زيرى بن مناد

ويملك بنوه من بعده. فقال له مناد: «والله، مازلنا نتوكّف «1» زمان هذا القائم منا، رواية عندنا عن أسلافنا. وكنا لا نعلم من أى فخذ من أفخاذنا يكون. والآن فقد أنبأتنى بنبأ ما كنا ننتظر من «2» هذا القائم» . قال: وأكرم مناد الرجل وصرفه. ذكر أخبار زيرى بن مناد قال: ووضعت زوجة مناد حملها، فجاء ذكرا فسماه أبوه زيرى. فخرج من أجمل مولود رآه الناس، وكذلك كان أولاده يضرب بجمالهم المثل فى المغرب فيقال: «لو أنك من بنى مناد» . فلما صار له من العمر عشر سنين، كان من رآه يظنه أنه ابن عشرين سنة لبهائه. وكانت «3» الصبيان يدورون حوله، ويدعونه بالسلطان، ويركبون العيدان يتشبهون بالعساكر. ويأمرهم بالقتال بين يديه، يغرى بعضهم ببعض. ويأتى بهم إلى أمه فتصنع لهم الطعام. فيقف على رؤوسهم ويطعمهم ولا يأكل. فلما تكامل شبابه وقوى أمره، جمع إليه جماعة من بنى عمه ومن كان له نجدة «4» . فكان يشن بهم الغارات على القبائل من زناتة فيقتل ويسبى ويقسم على أصحابه فلا يؤثر نفسه بشىء. فحسده كثير

ذكر بناء مدينة آشير

من قبائل صنهاجة لأن كل قبيل كان يطمع أن يكون القائم منهم «1» . فلما تحققوا أنه القائم اجتمعت القبائل من صنهاجة على زيرى وحاربوه. وطالت الحرب بينهم فظفر بهم وقتل وسبى ورجع بالغنائم إلى الجبل. فلما سمعت بذلك زناتة، اجتمعوا وتحالفوا وكاتبوا من كان خالفه من صنهاجة وحالفوهم على حرب زيرى. فاتصل ذلك به فخرج إليهم وضرب على زناتة بأرض مغيلة فى الليل وهم مطمئنون، فقتلهم وسباهم، وقطع منهم رؤوسا كثيرة. وخرج إلى جبل تيطرى وقد امتلأت أيدي أصحابه من الغنائم، وأخذ من خيلهم ثلاثمائة فرس فحمل أصحابه عليها. وشاع خبره فى سائر أقطار المغرب وتسامع الناس به، فعظموا أمره واستهالوه. واجتمع إليه كل من فيه منعة. فكثر أصحابه وضاق بهم المتسع. فقالوا له: «لو رأيت مكانا أوسع من مكاننا هذا» . فأتى إلى موضع آشير، وهو إذ ذاك خال ليس فيه ساكن وفيه عيون، فاستحسنه. ذكر بناء مدينة آشير قال: ولما نظر زيرى إلى موضعها قال لأصحابه: «هذا موضعكم الذى يصلح أن تسكنوه» وعزم على بنائها، وذلك فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة «2»

أيام القائم بأمر الله بن المهدى. قال: وأمر زيرى بإحضار البنائين والنجارين من حمزة والمسيلة وطبنة. وبعث إلى القائم بأمر الله فى طلب صناع. فبعث إليه برجل لم يكن بإفريقية أعلم منه. وأعانه بعدة كثيرة من الحديد وغيره. وشرع زيرى فى البناء إلى أن كملت المدينة. وكانت زناتة قد استطالت على أهل تلك الناحية من أيام بنى الأغلب ثم تزايد ضررهم فى أيام المهدي والقائم. فلما سمع القائم ببناء زيرى هذه المدينة، حمد الله لى ذلك وقال: «مجاورة العرب خير لنا من مجاورة البربر» . وأعانه وساعده. ثم خرج زيرى إلى طبنة والمسيلة وحمزة، فنقل منها وجوه الناس إلى مدينة آشير. فعمرت وجاءت حصنا منيعا لا يقاتل إلا من شرقيها- يحميها عشرة من الرجال، ولو لم يكن عليها سور لاستغنت بعلوها عن السور. وفى وسطها عينان تجريان بماء عذب غزير. وامتلأت البلد بالعلماء والفقهاء والتجار. وتسامع الناس بها. ولم يكن الناس إذ ذاك يتعاملون بالذهب والفضة وإنما بالبعير والبقرة والشاة، فضرب زيرى السكة. وبسط. العطاء فى الجند، وجعل لهم الأرزاق. فكثرت الدنانير والدراهم فى أيدي الناس.

واطمأنت نفوس أهل البادية للحرث «1» والزراعة. وصانهم زيري مما كان ينالهم من زناتة. وتمكنت العداوة بين صنهاجة وزناتة. ثم خرج زيري إلى المغرب، وولى أخاه ما كسن بن مناد على آشير. فلما وصل إلى جراوة، خرج إليه صاحبها موسى بن أبى العافية، وكان واليا عليها لعبد الرحمن بن محمد الأموي صاحب قرطبة، بهدية سنية وجوار وغير ذلك. وقال له: «يا مولاي، إنما استعملت نفسى لبنى أمية لأرهب بهم على زناتة، وإذ قد أتانى الله بك وجمع بينى وبينك فأنا عبدك، ومنقطع إليك، وغوثك «2» . أنت منى قريب، وسيف قريب من أمنع من سيف بعيد» . فقربه زيرى وأدناه وقال له: «اكتب إلى بما يعن لك. فأنا أمدك بالعساكر متى أردت» . فشكا إليه من غمارة وقال: «إنهم قوم على غير مذهب يبيحون المحارم. وقام فيهم رجل يدّعى النبوة، وسنّ سننا من المنكرات» . فرحل زيري إلى غمارة وصحبه موسى، فأوقع بهم. وأخذ الذي يدعى النبوة فوصل به إلى آشير. وجمع عليه الفقهاء فقالوا له: «إن كنت نبيا فما علامة نبوتك؟» . فقال: «اسمى فى القرآن» . قالوا: «وما اسمك؟» . قال: «اسمى

ذكر الحرب بين زيرى وزناتة

حم، واسم أبى من الله، وفى القرآن حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* «1» . فأباحوا قتله فقتل. قال: واتصلت المودة بين زيري والقائم بأمر الله. وسبب ذلك أبا يزيد «2» لما حاصر المهدية ومنع الميرة عنها، كتب القائم إلى زيرى يعلمه ما الناس فيه من الجهد والغلاء. فبعث إليه زيرى بألف حمل حنطة. وأخرج معها مائتى فارس من صنهاجة وخمسمائة من عبيده. فلما وصل ذلك إلى المهدية، بعث القائم له هدية لم يسمع بمثلها كسا جليلة وخيل مسوّمة بسروج محلاة. ذكر الحرب بين زيرى وزناتة قال: ثم إن كمات بن مدينى الزناتى سيد زناتة جيّش واحتفل ونزل على آشير، فخرج إليه زيري. وكانت بينهم حروب يطول شرحها. وكان لزيري ولد صغير اسمه كباب استخلفه على البلد، ومنعه من الخروج لصغر سنه. فلما سمع الصياح وضرب الطبول، ليس لأمة الحرب وركب- وهو إذ ذاك لم يراهق الحلم- وخرج من باب المدينة. وكان كمات قد أبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا،

وقتل جماعة من أصحاب زيري. فوقعت عين كباب عليه فقصده، وعلا عليه من فوق ربوة، فضربه على عاتقه. وكانت على كمات درع، فقدّت الضربة الدرع والعاتق، وسقطت ذراع كمات إلى الأرض. فخر صريعا والناس ينظرون إليه ولا يعلمون من هو قاتله. فلما صرع انهزم أصحابه. ورجع كباب إلى المدينة ودخل من الباب الذي خرج منه، فسمى باب كباب. قال: ولما قتل كمات وقع التكبير والصياح. فجاء بعض الجند إلى زيري- وكان قد نظر كباب وعرفه عند ضربه لكمات- وقال له: «إن ابنك كباب قاتله» . وأتى بجماعة من أصحابه أسارى، فأمر زيري بضرب أعناقهم وصلب جماعة من كبارهم. قال: ثم ظهر فى جبل أوراس قائم يقال له سعيد بن يوسف، وأظهر النفاق على المنصور بن القائم، فأخرج إليه زيرى ولده بلكّين فى جيش كثيف «1» . فلقيه فى موضع بفحص أبى غزالة، من غربى باغاية فاقتتلوا. وكان سعيد قد احتفل فى جمع من هوارة وغيرهم «2» . فهزمهم بلكين وقتل سعيدا وجماعة من أصحابه. وأنفذ برؤوسهم إلى المنصور. فقوى الحسد لزيرى من جميع القبائل، وجمعوا عليه الجموع، وكان منصورا على جميع من عانده.

ذكر مقتل زيرى

ذكر مقتل زيرى كان مقتله فى شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فى أيام المعز لدين الله المنصور بن القائم بن المهدى. وسبب ذلك أن جعفر بن على صاحب المسيلة كان أميرا على الزاب كله، وأبوه هو الذى بنى المسيلة. وكبر جعفر وشمخ فكان ملكا جليلا. وكان فى طاعة المعز بن المنصور، وبينه وبين زيرى ضغائن فى النفوس وعداوة فى الصدور. ثم اتفق أن المعز لدين الله أمر ببناء دار ابن رباح، وهى المعروفة فى القيروان بدار الإمارة. فشاع عند الناس أنها بنيت لجعفر بن على، وأنه يعطى ولاية إفريقية، وأن المغرب «1» كله يعطى لزيرى. فعظم ذلك على جعفر بن على وأراد أن لا يكون لأحد معه فى المغرب ولاية. فأنفذ المعز لدين الله إليه يستدعيه، فلم يأت ولم يمتنع. فأرسل إليه ثانية فرجا الصقلبى. فلما بقى بين فرج وجعفر مقدار مرحلة، وكان فى المسيلة فخرج «2» منها وأظهر المسير إلى المعز. ثم مال بعسكره ومعه السلاح والأموال ومضى إلى زتاتة. وخلع الطاعة، وأظهر أن الذى حمله على ذلك عداوة زيرى بن مناد لأنه كان

يؤذيه فى أعماله «1» . ووصل فرج الصقلبى إلى المسيلة، فأخبروه بخبر جعفر. قال: ولما وصل جعفر إلى زناتة، قبلوه أحسن قبول، وقدموه على أنفسهم. فبلغ الخبر زيرى، فبادر بالخروج إلى جعفر. وزحف إليه فى عسكر عظيم من صنهاجة وغيرها، وذلك فى شهر رمضان من السنة. وزحف جعفر فى زناتة والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. فكبا بزيرى فرسه فسقط. إلى الأرض. وكانت جولة عظيمة، وقطعت قدامه خمسمائة يمين ثم قتل. وبعث جعفر بن على أخاه يحيى إلى الحكم صاحب الأندلس يبشره بقتل زيرى. ثم أحس جعفر أن زناتة يريدون الغدر به وأنهم ندموا على قتل زيرى، فاحتال لنفسه ودخل الأندلس. قال: وكان زيرى حسن السيرة فى الرعية والتجار. وكان له آشير التى بناها، وأعطاه المنصور تاهرت وأعمالها وباغاية وأعمالها. وكان شديدا على البربر. وأقام على ذلك ستا وعشرين سنة. ورزق من الأولاد ما يزيد على المائة،

ذكر أخبار أبى الفتوح يوسف بلكين ابن زيرى بن مناد

كلهم أنجاد فرسان كرماء كان يكتفى بهم «1» فى بعض حروبه «2» . ذكر أخبار أبى الفتوح يوسف بلكين ابن زيرى بن مناد ولى الرئاسة على صنهاجة بعد مقتل أبيه. فكان أول ما بدأ به أنه- لما جاءه الخبر بقتل أبيه وهو بآشير- جمع وحشد. ونهض لطلب دم أبيه، فاجتمع له خلق كثير. فقال: «لا يخرج معى أحد ممن حضر مقتل والدى» فلم يخرج معه منهم غير ثلاثة رجال. ومضى مسرعا حتى لحق بزناتة. فجرت بينه وبينهم حروب صبرت فيها صنهاجة صبرا جميلا. ثم انهزمت زناتة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى جميع نسائهم، ونهب أموالهم. وهرب من بقى منهم. ونزل فى موضع المعركة «3» ثلاثة أيام. فشكا صنهاجة ريح القتلى. فنادى أن لا يطبخ فى العسكر قدر إلا على ثلاثة رؤوس من رؤوس القتلى. وجعل الجثث أكواما. وصعد المؤذنون فأذّنوا عليها. ثم رجع إلى آشير. فلما اتصل بالمعز لدين الله ما فعل يوسف بزناتة،

أعجبه ذلك وسر بقتلهم. فزاده على ما كان لأبيه المسيلة وأعمالها التى كانت لجعفر بن على. ثم كتب المعز إلى يوسف فى المحرم سنة إحدى وستين وثلاثمائة فى القدوم عليه وأن لا يتشاغل بقتال أحد. وأمره أن لا يعترض «1» زناتة ولا غيرها فى هذا الوقت، وأن يستعمل اللين والرفق بزناتة، ويرد عليهم ما سبى من نسائهم وأولادهم. فامتثل يوسف ما أمره المعز به. ورد على زناتة سباياهم. وتجهز للمسير إليه. واستعمل على تاهرت وآشير والمسيلة وبسكرة وطبنة وباغاية ومجانة عمالا من عبيده. وسار حتى قدم على المعز. فلما دخل عليه، أكرمه وأثنى عليه وحمد أفعاله، وذكر فراسته فيه واختياره له. وخلع عليه خلعته التى كانت عليه. ونزع سيفه فقلده إياه بيده. وأمر أن يحمل بين يديه عند خروجه من عنده أربعون تختا من فاخر الكسا ومعها رزم مما يخلع على أصحابه. وقادوا بين يديه أربعين فرسا بالسروج المحلاة المثقلة. فشق ذلك على الكتاميين وحسدوه وتكلموا عليه عند المعز وعابوه، فلم يضره ذلك. ولما عزم المعز على الرحيل إلى مصر. أتاه بلكين بألفى جمل لحمل أمواله من إبل زناتة.

ذكر ولاية أبى الفتوح يوسف بلكين بلاد المغرب

ذكر ولاية أبى الفتوح يوسف بلكين بلاد المغرب وهو أول ملوك بنى زيرى. وذلك أن المعز لدين الله أبا تميم معد بن المنصور بنصر الله بن القائم بأمر الله بن المهدى لما توجه من المنصورية إلى ديار مصر فى سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد أن فتحها القائد جوهر له توجه بجميع من كان فى قصره وأهل بيته. ورحل معه يوسف إلى سردانية، فسلم إليه إفريقية وأعمالها وسائر أعمال المغرب، وذلك فى يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى الحجة سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وأمر سائر الناس بالسمع والطاعة له. وفوض إليه جميع الأعمال إلا جزيرة صقلية فإنها كانت بيد أبى القاسم على بن حسن بن على ابن أبى الحسين، وكذلك طرابلس فإن المعز جعل عليها عند وصوله إليها عبد الله بن يخلف الكتامى فلم تزل بيده إلى أن توفى المعز. ثم سلمها ابنه نزار إلى يوسف هى وسرت وما والاهما فى سنة سبع وستين وثلاثمائة، بسؤال يوسف لذلك. قال: ولما ولى المعز يوسف، ولى أيضا أبا مضر زيادة الله بن عبيد الله بن القديم نظر الدواوين بسائر كور إفريقية. وقال ليوسف عند وداعه: «إنى تركت زيادة الله بن القديم عونا لك على جميع الأموال بإفريقية، كبّره» . وأوصاه وصايا كثيرة كان آخرها أن قال له:

«يا يوسف، إن نسيت مما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: لا ترفع الجباية عن أهل البلاد «1» ، ولا ترفع السيف عن البربر، ولا تولّ أحدا من إخوتك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، واستوص بأبى مضر خيرا «2» » . ثم ودعه يوسف ورجع. فكان دخوله إلى المنصورية فى يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. فنزل بقصر السلطان وخرج إليه أهل القيروان وتلقوه، وأظهروا الفرح بمقدمه والبشر والسرور. فأخرج العمال «3» وجباة الأموال إلى سائر البلدان، وعقد الولايات للعمال. فاستقامت الأمور بحسن تدبيره. ولما رتب ذلك كله رحل إلى المغرب فى شعبان من السنة. فوصل إلى باغاية فولى عليها عاملا، وأمره أن يلطف بأهلها. ففعل. فدخلوا فى الطاعة. ثم خالفوا فقاتلهم العامل، فتحصنوا بمدينتهم. فهم يوسف أن يرجع إليهم، فوافاه رسول خلوف «4» بن محمد عامله على تيهرت يذكر أن أهلها خالفوا. فسار إليهم وقاتلهم. ودخل البلد بالسيف فى شهر رمضان، فقتل وسبى ونهب وأحرق البلد.

ذكر ولاية عبد الله بن محمد الكاتب

وأراد الرجوع إلى باغاية، فأتاه الخبر أن زناتة قد نزلوا على تلمسان. فرحل إليهم فهربوا بين يديه. فحصر تلمسان مدة فنزلوا على حكمه. فعفا عنهم من القتل، ونقلهم إلى آشير، فبنوا بقربها مدينة سموها بلنسان «1» . ذكر ولاية عبد الله بن محمد الكاتب كان سبب ولايته أن يوسف كان قد ولى جعفر بن يموت «2» مدينة القيروان وصبرة، وجعل معه خيلا كثيرة، عند مسيره إلى بلاد المغرب فى شهر ربيع الأول. فمات فى جمادى الآخرة. فكتب ابن القديم إلى أبى الفتوح بموته، ويسأله أن يرسل إليه بدلا منه يعاونه على أمور البلد. فاستعمل عبد الله على ذلك. فأبى عليه وامتنع واستعفى مرة بعد أخرى. فجمع يوسف حبوس «3» بن زيرى، وكرامة بن إبراهيم، وكبّاب بن زيرى، وخلوف بن أبى محمد. وأحضر عبد الله وقال لأولئك: «ما جزاء من من عاند أمرى، وخالف رأيى ومرادى، ولم يعبأ بما كلفته؟» . قالوا: «القتل، ونحن نتولى قتله» .

فقال: «كاتبى هذا أمرته بالرجوع إلى إفريقية إذ لا ينوب عنى أحد غيره فامتنع» . فقالوا له: «إن لم ترجع وإلا قتلناك» . فرجع كارها. وعبد الله هذا من بنى الأغلب، كان أبوه محمد قد هرب «1» إلى نفزاوة فولد بها عبد الله. فرباه خاله صالح وتعلم الخط والترسّل. فاستكتبه زيرى وهو صبى شاب. ثم استكتبه بعده أبو الفتوح، فحظى عنده. وكان فصيحا بليغا، عالما بلغة العرب ولسان البربر. قال: فلما وصل عبد الله إلى القيروان، تلقاه ابن القديم. وترجّل كل منهما لصاحبه، وتعانقا، واتفقا وصارت كلمتهما واحدة. ثم وقع بينهما بعد ذلك، وكانت فتنة عظيمة بالقيروان يطول شرحها، انتصر فيها عبد الله وقبض على ابن القديم، وأرسله إلى الأمير أبى الفتوح، فحبسه حتى مات. وكانت ولاية ابن القديم سنتين وشهرا ونصفا. ثم توفى فى الاعتقال يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة. واستقل عبد الله بن محمد الكاتب وحده لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وثلاثمائة.

ذكر اخبار خلف بن خير

ذكر اخبار خلف بن خير «1» قال: وفى سنة أربع وستين وثلاثمائة صعد خلف بن خير من بنى هراش إلى قلعة منيعة من ناحية بلده. واجتمع إليه خلق عظيم «2» من سائر قبائل البربر. وخرج إليه كل من كان قد خالف مع ابن القديم. فكتب عبد الله إلى أبى الفتوح كتابا يذكر فيه أن إفريقية قد استوت كلها له، وأنه لا خوف بها إلا من الذين اجتمعوا مع ابن خير فى القلعة. فرحل يوسف إلى القلعة ونازلها، فى عساكر عظيمة. فظفر بها فى اليوم الرابع من منازلتها، وهرب خلف، وقتل فى القلعة ما لا يحصى. وبعث منها سبعة آلاف رأس طوفها عبد الله فى القيروان ثم بعثت إلى مصر «3» . ونفى «4» أكثر ممن قتل. وغنم جميع ما فيها. وسار خلف بن خير إلى بلد كتامة. فبعث إليهم يوسف يقول: «برئت الذمة ممن دفع عنه وآواه، ومن فعل جازيته» . فأخذه القوم الذين انتهى إليهم ومعه ابنه وأخوه وخمسة من بنى عمه، وأتوا بهم إلى يوسف. فأحسن صلة من جاء بهم. وبعثهم إلى عبد الله الكاتب وأمره أن يشهرهم ويطوف بهم على الجمال. ففعل ذلك بهم ثم صلبهم وضرب أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى مصر.

قال: ولما فتح أبو الفتوح هذه القلعة، اختار من عبيدهم أربعة آلاف من الشجعان فشح بقتلهم لشجاعتهم وقربهم، وأراد أن يجعلهم فى جملة عبيده. فاتفق أن أحدهم سأل عن أبى الفتوح وقال: «عندى نصيحة» . فأشاروا إليه إلى ابن عم لأبى الفتوح ولا يشك الذى أشار إليه أنه هو. فأتاه وقال له: «إنى أريد أن أخبرك بنصيحة» . فلما دنا منه، ضربه بسكين كانت معه فشق بطنه وأخرج أمعاءه فسقط من ساعته ميتا. وكان ذلك الغلام لرجل ممن قتله أبو الفتوح فى تلك القلعة. فعندها أمر بقتل أولئك فقتلوا فى ساعة واحدة. ثم بعث عشرة من أهل القيروان إلى باغاية يحذرهم المخالفة ويطلب منهم النزول على حكمه، وإلا فعل بهم ما فعل بأهل القلعة فأجابوه إلى الطاعة ونزلوا على حكمه. فحكم أن يسلموا إليه المدينة «1» ويمضوا حيث شاؤوا. ففعلوا ذلك ووفى لهم. وأخرب المدينة القديمة التى عليها السور، وترك «2» الربض ثم أتى إفريقية. وأتاه الخبر بوفاة المعز لدين الله وولاية ابنه نزار بن معد فكتب إليه يوسف فى سنة سبع وستين، يسأله «3» فى طرابلس وسرت وأجدابية، فأجابه ودفع ذلك إليه. وفى سنة تسع وستين، رحل أبو الفتوح إلى فاس «4» ،

وسجلماسة وأرض الهبط. فملك ذلك كله وطرد منه عمال بنى أمية. ثم بعث إلى سبتة فى طلب من لجأ إليها من زناتة. فلقى فيما قرب منها جبالا شامخة وشعارى غامضة فأمر بقطعها وإطلاق النيران فيها حتى وجد العسكر فيها مسلكا. وأمر عساكره بالوقوف. ومضى هو بنفسه وخواص أصحابه حتى أشرف على سبتة من جبل عال مطل عليها. فخاف أهل سبتة منه وغلقوا أبوابهم. فنظر إليها ورأى منعتها، فعلم أنه لا يستطيعها إلا بالمراكب، فرجع عنها «1» . ومضى يريد البصرة، بصرة المغرب. فلما علمت به زناتة رحلوا بأجمعهم إلى الرمال والصحارى هاربين منه. ودخل البصرة وكانت قد عمرت عمارة عظيمة مع بنى الأغلب. فأمر بنهبها وهدمها، فهدّمت وحرقت «2» . ورحل بعساكره إلى بلد برغواطة، وكان ملكهم عيسى بن أبى الأنصار «3» شعوذيا ساحرا، فسحر من عقولهم حتى جعلوه نبيا وأطاعوه فى كل ما أمرهم به، وشرع لهم شريعة، وأتاهم بغير دين الإسلام. فاتبعوه فضلّ وأضلّهم. فغزاهم أبو الفتوح، وكانت بينهم حرب شديدة لم ير مثلها، كان الظفر للمسلمين. وقتل

ذكر وفاة أبى الفتوح يوسف

عيسى الكافر وتفرقت عساكره، فقتلوا قتلا ذريعا. وسبى من نسائهم وذراريهم ما لا يحصى كثرة، وأرسل بسبيهم إلى إفريقية. ورجع أبو الفتوح وملك فاس وسجلماسة وبلد الهبط. «1» والبصرة وجميع بلدان المغرب. وأقام فى تلك النواحى من سنة تسع «2» وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وسبعين. ذكر وفاة أبى الفتوح يوسف كانت وفاته رحمه الله فى يوم الأحد لسبع «3» بقين من ذى القعدة «4» سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، عند قفوله من برغواطة وقد فصل من سجلماسة، بموضع يقال له واركنين «5» ، ويقال فيه واركلان، بعلة القولنح، وقيل بحبة خرجت فى يده فمات منها. حكى الشيخ أبو محمد بن حزم فى كتابه المترجم «بنقط العروس» «6» «أن بلكّين بن زيرى كان له فى موضع ألف امرأة

ذكر ولاية أبى الفتح المنصور ابن يوسف بلكين بن زيرى

لا يحل له نكاح واحدة منهن، كلهن من نسل إخوته وأخواته، ومن الرجال مثل هذا العدد. قال: وكان له قبل أن يستخلفه المعز لدين الله على المغرب قصور تشتمل على أربعمائة جارية، فيقال: إن البشارات تواترت عليه فى يوم واحد بولادة سبعة عشر ولدا «1» . وكانت مدة إمارته منذ تسلم المغرب من المعز لدين الله ثنتى عشرة سنة، ومنذ قام بالأمر بعد أبيه ثلاث عشرة سنة وشهورا. ولما مات قام بالأمر بعده ابنه المنصور أبو الفتح. ذكر ولاية أبى الفتح المنصور ابن يوسف بلكين بن زيرى قال: ولما توفى يوسف، أسند وصيته إلى أبى زعبل بن مسلم «2» ، وكان من جملة عبيده وخاصة قواده. فكتب إلى المنصور يعرفه بوفاة أبيه، وكان المنصور إذ ذاك بآشير. فاستقل بالأمر بعد أبيه. وأتاه عبد الله بن محمد الكاتب ومشايخ القيروان والقضاة وأصحاب الخراج؛ فعزوه بأبيه وهنئوه بالولاية، فأكرمهم وعظمهم وأحسن جوائزهم وأعطاهم عشرة آلاف دينار. فدعوا له وشكروه. فقال لهم: «إن أبى وجدى أخذا الناس بالسيف قهرا، وأنا لا آخذ الناس إلا بالإحسان. ولست ممن يولّى ولا

يعزل بكتاب. ولا أحمد فى هذا الملك إلا الله ويدى. وهذا الملك ما زال فى يد آبائى وأجدادى ورثناه عن حمير» «1» . وكلام كثير فى هذا المعنى. ثم قال لهم: «انصرفوا فى حفظ الله فإن قلوب أهليكم مشغولة بكم» فانصرفوا. وقدم المنصور إلى رقادة فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. فتلقاه عبد الله الكاتب ووجوه الناس. فأظهر لهم الخير ووعدهم بكل جميل. وأتاه العمال من كل بلد بالهدايا والأموال. وأهدى إليه عبد الله ما لا يحيط به الوصف. فجهز المنصور هدية إلى نزار بلغت قيمتها ألف ألف دينار. وأقام برقادة إلى يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذى الحجة «2» من السنة. ورجع إلى المغرب ومعه عبد الله الكاتب. واستخلف عبد الله ابنه يوسف على القيروان، فسار أحسن سيرة. وفى هذه السنة، أعطى المنصور أخاه يطّوفت العساكر والعدد ووجهه إلى فاس «3» وسجلماسة يطلب ردهما، وكانت زناتة قد ملكت تلك البلاد بعد موت أبى الفتوح. فمضى حتى وصل إلى قرب فاس وبها زيرى بن عطية الزناتى المعروف بالقرطاس، ومعه

عساكر زناتة. فعاجله «1» زيرى والتقوا واقتتلوا. فانهزم يطّوفت وجميع من معه. وتبعه زيرى فقتل من عسكره خلقا عظيما وأسر وهرب من سلم إلى تيهرت. فلما بلغ المنصور هزيمة يطّوفت، أرسل أخاه عبد الله بعسكر يلقاه به ثم وصل يطوفت إلى آشير. فلم يتعرض المنصور بعدها لشئ من بلد زناتة. وفى سنة ست وسبعين، أخذ يوسف بن عبد الله بن محمد الكاتب فى بناء قصر المنصور. فبلغ الإنفاق عليه ثمانمائة ألف دينار «2» ثم عمل عليه وعلى قصر بجواره كان بناه قديما شفيع الصقلبى صاحب المظلة سورا محدقا عليهما. وغرست حوله الأشجار من كل جهة. وفى سنة سبع وسبعين، وصل المنصور من آشير إلى إفريقية فى يوم الاثنين منتصف المحرم، ونزل فى قصره الذى بنى له. ونزل عبد الله الكاتب وجميع القواد حوله. ووصل كتاب السلطان نزار إلى المنصور يعلمه أنه جعل الدعوة لعبد الله بن محمد الكاتب، ويأمره بذلك. ففعل المنصور ذلك وأمر أن يفرش له قصر السلطان فى الموضع المعروف بقصر الحجر، وذلك فى يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة منها. وجلس فيه المنصور وأقرباؤه ووجوه بنى عمه. ثم دخل عبد الله فأخذ عليهم الدعوة، وصار عبد الله داعيا. فذكر أنه لما تم هذا له مسح بيده على رأسه وقال: «الآن قد خلصت من القتل وأمنت على شعرى وبشرى» . وما علم أن ذلك سبب هلاكه.

ذكر مقتل عبد الله بن محمد وولده يوسف

ذكر مقتل عبد الله بن محمد وولده يوسف قال: كان عبد الله قد بلغ مبلغا عظيما لم يبلغه أحد من قرابة المنصور وأهل دولته، وانحصرت أمور المنصور كلها تحت قبضته. وأعطى الرياسة حقها ووثق بما قدم من نصحه. فرفع فيه حسن ابن خاله «1» إلى المنصور أمورا من القدح فى دولته، وأنه كاتب ابن كلّس وزير نزار، واختلفت بينهم السفراء، وعقد الغدر بالمنصور. فوجد المنصور لذلك. وكان عبد الله لا يدارى أحدا من أولاد زيرى ووجوه بنى مناد وغيرهم من أكابر الدولة. فلما أحسوا من المنصور بعض الأمر وشوا بعبد الله وطعنوا عليه. فاستراب المنصور به وأراد إبقاءه مع التحرز منه، فقال له: «اعتزل عمل إفريقية واقتصر على الخاتم والكتابة، وكل من تولى فهو متصرف تحت أمرك ونهيك» . فكان جوابه أن قال: «القتلة ولا العزلة» . فلما كان يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة سبع «2» وسبعين وثلاثمائة، ركب المنصور فركب عبد الله وهو يقول: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع فلما نزل المنصور، نزل عبد الله فقبل يده. ثم وقف ودار

بينهما كلام كثير لم يقف أحد على صحته. فطعنه المنصور برمحه. فجعل أكمامه على وجهه وقال: «على ملة الله وملة رسوله» . ولم يسمع منه غير ذلك. وطعنه عبد الله أخو المنصور برمحه بين كتفيه فأخرجه من بين ثدييه. فسقط إلى الأرض. ثم أتى بابنه يوسف. فصاح واستغاث وقال: «العفو» . فضربه المنصور برمحه، وضربه ماكسن ابن زيرى، وضربه سائر من حضر. فماتا جميعا. ولما قتلا جاء القاضى وشيوخ القيروان واجتمعوا بالمنصور. فقال لهم «ما قتلت عبد الله على مال ولا شىء اغتنمه وإنما خفته على نفسى فقتلته» . فدعوا له بطول البقاء ثم انصرفوا. ودفن عبد الله وابنه بغير غسل ولا كفن وإنمارد عليهما التراب فى اسطبل كان للمنصور تحت الحنايا بالقرب من قصره. قال: وولى المنصور بعده إفريقية يوسف بن أبى محمد، وكان على قفصة. فأتى يوم الخميس لخمس خلون «1» من شعبان. فأعطاه المنصور الطبول والبنود، وخلع عليه ثيابه وأنزله فى دار القائد جوهر. فولى إلى سنة اثنتين وثمانين» : ثم عزله يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول، وولى أبا عبد الله محمد بن أبى العرب الكاتب.

ذكر أخبار أبى الفهم حسن بن نصرويه الخرسانى

ذكر أخبار أبى الفهم حسن بن نصرويه الخرسانى كان أبو الفهم رجلا خراسانيّا قدم فى سنة ست وسبعين وثلاثمائة من مصر من قبل نزار داعيا. فأنزله يوسف بن عبد الله وأجرى عليه جرايات جليلة. وأعطاه أموالا سنية وبره وأكرمه. فطلب أبو الفهم الخروح إلى بلد كتامة يدعوهم وينتهى إلى ما أمره به نزار ووجهه إليه، فكاتب يوسف أباه. فكتب إليه عبد الله أن أعطه ما أراد واتركه يذهب حيث يشاء. فأعطاه يوسف ما طلب، وحمله على أفراس بسروج محلاة، وحمل بين يديه تخوت ثياب وبدر دراهم. وتوجه إلى بلد كتامة فوصل إليهم ودعاهم. ثم تزايدت أموره حتى صار يجمع العساكر ويركب الخيل. وعمل بنودا وضرب سكة واجتمع إليه خلق كثير من كتامة، وكان هذا من الأسباب التى حقدها المنصور على عبد الله وابنه. ثم ورد من مصر رسولان من نزار إلى المنصور فى سنة سبع وسبعين أحدهما رجل كتامى يعرف بأبى العزم، ورجل من عبيدهم يقال له محمد بن ميمون الوزان، ومعهما سجلات إلى المنصور. فقيل: إنهما أمراه عن نزار ألا يعرض لأبى الفهم ولا لكتامة. فشتمهما المنصور وأسمعهما مكروها وقال: «أبو الفهم وكتامة فعلوا وفعلوا» . وأغلظ لهما فى القول ولمن أرسلهما. فأقاما عنده شعبان وشهر رمضان. ومنعهما من الخروج إلى كتامة وأبى الفهم. وقال: «امضيا معى إليه حتى تريا ما يكون منه» . ثم تهيأ المنصور للخروج إلى كتامة وأبى الفهم، وقد تفاقم أمره، وظهرت

سكته، وصار حوله جيوش عظيمة. فسار المنصور حتى وصل إلى بلاد كتامة. وتثاقل فى سيره «1» حتى دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. فلما قرب من ميلة عزم على قتل أهلها، فخرج إليه النساء والأطفال. فلما رآهم بكى وكف عنهم القتل. ونهبت العساكر كلّ ما فيها. وأمر بهدم سورها فهدم. ونقل أهلها إلى باغاية، فاجتمعوا ومضوا إليها وقد سلم لبعضهم ما خف من عين وورق وغير ذلك. فلقيهم ماكسن بن زيرى بعسكره فأخذ كل ما كان معهم. ثم رحل المنصور إلى داخل بلد كتامة، فجعل لا يمر للكتاميين بمنزل ولا قصر ولا دار إلا أمر بهدم ذلك وتحريقه بالنار، ومعه أبو العزم وابن ميمون ينظران إلى فعله، ويقول لهما: «هؤلاء الذين زعمتما أنهم يمضون بى بحبل فى عنقى إلى مولاكما» . وكانا قد خاطباه بذلك لما اجتمعا به. وسار حتى بلغ مدينة سطيف وبها جمعهم. فحاربهم وظفر بهم وهزمهم. وهرب أبو الفهم إلى جبل وعر. فأرسل إليه المنصور من أخذه وجاء به إليه. فأدخله إلى حرمه فضربنه ضربا شديدا حتى أشرف على الموت. ثم أمر المنصور بإخراجه وقد بقيت فيه حشاشة من الروح «2» فنحره وشق بطنه. وأخرجت كبده فشويت وأكلت. وشرّح عبيد المنصور لحمه وأكلوه حتى لم يبق إلا عظامه. وذلك فى يوم الثلاثاء لثلاث خلون من صفر سنة ثمان وسبعين. وقتل جماعة من وجوه كتامة، وأنزل بهم الذل والهوان. وولى بلدهم أبا زعبل

ذكر وفاة المنصور أبى الفتح بن يوسف

ابن مسلم وأولاده. وبقيت ميلة خرابا ثم عمرت بعد ذلك. ودخل المنصور إلى آشير. ورد أبا العزم وابن الوزان إلى مصر ليخبرا من أرسلهما. فأخبراه بما كان منه. وقالا: «أتينا من عند شياطين يأكلون بنى آدم، ليسوا من البشر فى شىء» . وفى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، ثار ثائر آخر ببلد كتامة، يقال له أبو الفرج. وقيل: إنه كان يهوديا. وقال لكتامة: إنه من أولاد الأمراء الذين كانوا بالمهدية، وإن أباه كان من ولد القائم. فانضموا إليه وكثرت جموعه، واتخذ البنود والطبول. وزحف إلى عسكر أبى زعبل وقاتله فلم يقم بحربه. فكتب إلى المنصور فقدم بعساكره. والتقوا واقتتلوا، فهزمهم المنصور وقتل من كتامة مقتلة عظيمة. وهرب أبو الفرج واختفى فى غار فى جبل. فعمل عليه غلامان كانا له. فأخذاه وأتيابه إلى أبى زعبل. فأتى به إلى المنصور فقتله شر قتلة. وشحن بلد كتامة بالعمال والعساكر ورجع إلى آشير. ذكر وفاة المنصور أبى الفتح بن يوسف كانت وفاته فى يوم الخميس لثلاث «1» خلون من شهر ربيع الأول سنه ست وثمانين «2» وثلاثمائة. فكانت مدة ملكه ثنتى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام «3» . وكان ملكا كريما جوادا صارما.

ذكر ولاية أبى مناد باديس بن أبى الفتح المنصور بن يوسف

وكانت أيامه أحسن أيام وأطيبها. وما زال مظفّرا منصورا لا تردّ له راية. ذكر ولاية أبى مناد «1» باديس بن أبى الفتح «2» المنصور بن يوسف قال: ولما مات المنصور قام بالأمر بعده بإفريقية ولده أبو مناد، وكان مولده فى ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. فلما صار الأمر إليه رحل إلى سردانية يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ونزل فى قصرها. وأتاه الناس من كل ناحية بإفريقية للتهنئة والتعزية. وأقام بسردانية أياما ثم رجع إلى قصره. وتوفى بعد ولايته الأمير نزار وولى بعده ابنه الحاكم بأمر الله. ذكر ولاية حماد بن يوسف مدينة آشير قال: وفى صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، عقد أبو مناد ولاية آشير لعمه حماد بن يوسف بن زيرى، وأعطاه خيلا كثيرة وكسا. ثم اتسعت أعماله وعظم شأنه وكثرت عساكره، واجتمعت أمواله. وفى يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع

ذكر خروج محمد بن أبى العرب إلى زنانة

وثمانين وثلاثمائة، وصل من مصر الشريف الداعى على بن عبد الله العلوى المعروف بالتّيهرتى «1» . وكان أبو مناد بعث فى حشد عساكره وأجناده، فلم يبق بإفريقية وأعمالها فارس ولا راجل إلا وصل إلى المنصورية. فنزل أبو مناد بهم إليه فى هذا اليوم، فكانوا صفوفا من باب قصر السلطان بالمنصورية إلى باب قلشانة. فرأى الداعى من العساكر والعدد ما لم ير مثله. وأتى بسجلين قرئا على منبر المنصورية والقيروان: أحدهما بولاية أبى مناد باديس، وتلقيبه نصير الدولة؛ والثانى بوفاة نزار، وولاية ابنه الحاكم، والجواب عن وفاة المنصور والعزاء عن نزار وعن المنصور. وكان معه سجل ثالث بأخذ البيعة على باديس وجماعة بنى مناد للحاكم. فأنزل الشريف بدار الأمير يوسف بجوار قصر السلطان. ثم جلس باديس بعد ذلك وأحضر الشريف. ودعا بنى مناد وسائر قبائل صنهاجة وأخذ عليهم البيعة. ثم كان الشريف يجلس فى الدار التى نزل فيها، ويأخذ البيعة على كل من أتاه من الصنهاجيين وغيرهم. ثم وصله أبو مناد بمال جليل وتخوت ثياب وبراذين بسروج محلاة، وصرفه إلى مصر. ثم جهز هدية بعده. ذكر خروج محمد بن أبى العرب الى زنانة قال: وفى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وصل كتاب يطّوفت بن يوسف بن زيرى إلى ابن أخيه أبى مناد يعرفه أن زيرى بن عطية الزناتى

قد نزل عليه بتيهرت، وسأله أن يمده بالعساكر. فأمر باديس محمد ابن أبى العرب بالخروج فنهض بالعساكر الثقيلة حتى بلغ آشير فأقام بها أياما يسيرة. ثم رحل ورحل معه حماد بن يوسف عاملها بعساكر عظيمة حتى وصلا إلى تيهرت. فاجتمعا بيطوفت فى غرة «1» جمادى الأولى من السنة. وكان زيرى بن عطية بموضع يقال له أمسان «2» على مرحلتين من تيهرت فزحفوا إليه واقتتلوا قتالا شديدا. وكان معظم جيش حماد التّلكّاتيين «3» ، وقد أساء عشرتهم، وكلف بأمورهم غلامه خلفا الجيزى «4» فسامهم الخسف. فلما حمى الوطيس واشتد البأس ولوا منهزمين، واتبعهم الناس. فكانت الهزيمة على الجميع. ورام محمد رد الناس فلم يقدر على ذلك. ووصلوا إلى آشير، وقد أسلموا عساكرهم وما فيها من بيوت الأموال وخزائن السلاح والمضارب وغير ذلك فاحتوى زيرى على جميع ذلك وأمر ألا يتّبعوا. ووقف على باب تيهرت، فخرج إليه أهلها. فوعدهم الجميل وأطلق خلقا كثيرا ممن أسر فى المعركة أو لجأ إلى تيهرت، فمضوا حتى وصلوا إلى آشير. وكانت هذه الهزيمة يوم السبت لأربع خلون من جمادى الأولى منها. قال: وبلغ خبر الهزيمة الأمير باديس، فبرز بنفسه من رقادة للقاء زيرى بن عطية، وذلك لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فلما

وصل إلى قرب طبنة بعث فى طلب فلفل بن سعيد بن خزرون. فخاف وأرسل يعتذر. وسأل أن يكتب له سجل بولاية طبنة إلى أن يقدم باديس. فكتب له سجلا بولايتها وبعث به إليه. وتمادى أبو مناد فى مسيره. فلما علم فلفل أنه أبعد عنه أتى إلى طبنة فأكل ما حولها ونهب وأفسد. ومضى إلى تيجس «1» وما والاها فنهبها. وتمادى إلى باغاية فحصرها أياما ثم رحل عنها، وباديس فى هذا مستمر السير «2» إلى آشير. فلما بلغ المسيلة «3» ، رحل زيرى بن عطية عن آشير إلى تيهرت. فرحل إليها باديس. فلما بلغها توغل زيرى هاربا منه إلى داخل المغرب. فعند ذلك ولى أبو مناد على تيهرت وآشير عمه يطوفت. فاستخلف يطوفت على تيهرت ابنه أيوبا وتركه فى أربعة آلاف فارس. ثم رجع باديس إلى آشير وعمه يطوفت معه. فبلغه ما فعل فلفل ابن سعيد. فأرسل إليه أبا زعبل وجعفر بن حبيب ومحمد بن حسن فى عسكر. ثم رحل بعدهم من آشير، وبقى يطوفت ومعه أولاد زيرى وقد سألوا باديس أن يتركهم أعوانا ليطوفت. فأبى ذلك وقال: «لا بد من رحيلكم معى» . فقالوا: «لنا أمور نقضيها ونلحق بك» . فتركهم على هذا ورحل ومعه أبو البهار بن زيرى حتى وصل إلى المسيلة، فعيّد

بها عيد الفطر. فبينا هو فى صلاة العيد، إذ وصل إلى أبى البهار رسول أخبره أن إخوته ماكسن وزاوى ومغنين وعرما «1» نافقوا بآشير، وقبضوا على يطوفت، وأنه أفلت منهم بحيلة بعد أن عزموا على قتله. فخاف أبو البهار أن يصل يطوفت إلى باديس فيتهمه بمباطنة إخوته، فهرب لوقته. وطلب فلم يدرك. فلقى يطوفت فى طريقه فعرّفه ما كان من إخوته، فحلف أنه لم يعاقدهم على ذلك، وأنه إنما هرب خوفا على نفسه. وفارقه والتحق بإخوته. وسار يطوفت حتى لحق بابن أخيه الأمير باديس وهو بالمسيلة. فرحل إلى إفريقية، فاتصل به أن فلفل بن سعيد قتل أبا زعبل، وهزم أصحابه، وأسر حميد بن أبى زعبل فمثّل به ثم قتله، وأن فلفلا تمادى إلى القيروان. فرحل باديس إلى باغاية فوصل إليها لإحدى عشرة بقيت من شوال. فأقام بها بقية الشهر. ورحل فى غرة ذى القعدة حتى وصل إلى مرمجنة. فلما صار إلى بنى سعيد، زحف إليه فلفل فى يوم الخميس لست خلون من ذى القعدة. فلم يلقه باديس ولم يلتفت إليه. فلما كان يوم الاثنين، زحف فلفل إليه. فالتقيا بوادى اغلان «2» ، فكانت بينهم من الحروب العظيمة ما لم يسمع بمثلها. وقد كان اجتمع لفلفل من قبائل البربر ما لا يحصى كثرة، وكذلك من زناتة، وكلهم أصحاب خسائف. فثبتت صنهاجة بين يدى باديس. وظهر منه فى ذلك اليوم ما قرت به أعينهم. ثم أجلت الحرب عن هزيمة زناتة والبربر هزيمة

فاحشة. وهرب فلفل واتبعته صنهاجة والعبيد حتى حال بينهم الليل. ورحل باديس من الغد فنزل فى مناخ فلفل. وقتل من زناتة فى ذلك اليوم تسعة آلاف رجل سوى من قتل من البربر. ثم رحل باديس فوصل إلى المنصورية فى يوم الأربعاء لعشر بقين من ذى القعدة. ثم وصل الخبر أن فلفل بن سعيد وأولاد زيرى بن مناد عمومة والدباديس تصالحوا وتعاقدوا على قتال باديس. فلما تحقق ذلك خرج إلى رقادة سنة تسعين وثلاثمائة. ورحل حتى انتهى إلى قصر الإفريقى. فبلغه أن أولاد زيرى رجعوا إلى المغرب خوفا منه، وأنه ما بقى مع فلفل منهم سوى ما كسن وولده محسن فرجع باديس الى المنصورية. وفى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة «1» ، دخل باديس إلى المغرب فى طلب فلفل بن سعيد. فهرب منه إلى الرمال وافترق جمعه. فرجع باديس إلى إفريقية ومعه أبو البهار بن زيرى عم أبيه، وكان قبل ذلك قد أتاه معتذرا بأنه لم يدخل فى شىء مما دخل فيه إخوته. فقبل عذره وطيب قلبه. وأما فلفل بن سعيد فإنه سار إلى طرابلس، فقبله أهلها أهلها أحسن قبول، فاستوطن بها. وفى سنة اثنتين وتسعين «2» ، وصل رسول ابن يوسف «3» إلى ابن أخيه باديس، يذكر أنه زحف إليه عمه ماكسن وأولاده

ومن معهم. فكانت بينهم وقعة شديدة فقتل فيها ماكسن وأولاده محسن وباديس وحباسة. ثم توفى زيرى بن عطية الزناتى بعد ذلك بتسعة أيام. وفى سنة خمسة وتسعين، اشتد الغلاء بإفريقية وأعقبه وباء عظيم. وكان يدفن فى اليوم الألف والأكثر والأقل «1» . وفى سنة أربعمائة مات فلفل بن سعيد الزناتى من علة أصابته. وولى أخوه ورّو، فأطاعته زنانة. ثم سار باديس فى عساكر عظيمة لقتال زناتة. فلقيه فى بعض الطريق عبد الله وسواشى «2» أولاد ينال التركى وأصحابهما. فعرفوه أنهم لما علموا بخروجه أغلقوا أبواب طرابلس ومنعوا الزناتيين منها. فسر بذلك ووصلهم وأحسن إليهم. وسار إلى طرابلس فتلقاه أهلها فدخلها. ثم جاءته رسل ورو ابن سعيد ومن معه من الزناتيين، يرغبون فى الأمان، ويسألون أن يجعلوا عمالا كسائر رجال الدولة. ووصل جماعة منهم «3» ، فأحسن إليهم، وأعطاهم نفزاوة على أنهم يرحلون عن أعمال طرابلس. وأعطى النّعيم «4» قصطيلية. ورجع إلى المنصورية. ثم تغير ورو ومن معه وخلعوا الطاعة فى سنة إحدى وأربعمائة، ورحلوا عن نفزاوة. ولم يتغير النعيم. فأضاف باديس نفزاوة إلى النعيم. وفى سنة خمس وأربعمائة، وصلت رسل الحاكم بأمر الله إلى

ذكر خلاف حماد بن يوسف وأخيه ابراهيم على ابن أخيهما الأمير باديس

المنصورية، وهما عبد العزيز بن أبى كدية وأبو القاسم بن حسين، ومعهما خلع سنية، وسيف مكلّل، وسجل من الحاكم إلى المنصور بن باديس بولاية ما يتولاه أبوه فى حياته وبعد وفاته، ولقّبه عزيز الدولة. فقرئ السجل على الناس بالمنصورية والقيروان. وسرّ باديس به. وتقرب وجوه الدولة إلى المنصور بالهدايا الجليلة والأموال. ذكر خلاف حماد بن يوسف وأخيه ابراهيم على ابن أخيهما الأمير باديس قال: كان سبب ذلك أنه- لما وصل سجل الحاكم إلى المنصور ابن باديس ولقّب- أراد أبوه أن يقدمه ويرفع قدره، ويضيف إليه أعمالا يستخدم له فيها أتباعه وصنائعه. وكانت قد اتصلت به عن حماد أمور أنكرها وأراد اختبار حقيقة ما هو عليه. فكتب إليه كتابا لطيفا يأمره فيه أن يسلم العمل الذى بيد أبى زعبل «1» ، وهو مدينة تيجس وقصر الإفريقى وقسطنطينة إلى خليفة ولده المنصور. ودعا باديس هاشم بن جعفر فخلع عليه وأعطاه الطبول والبنود. وأمره بالخروج إلى هذا العمل. فخرج بخزائن وعدد. وبعث باديس إلى عمه إبراهيم بن يوسف يشاوره «2» : من يمضى بالكتاب إلى حماد؟ فقال إبراهيم: «لا يجد سيدنا من عبيده أنصح

له ولا أنهض بخدمته منى» . وضمن ذلك «1» وأكد على نفسه العهود والمواثيق تبرعا منه. وذكر أنه لا يقيم فى مضيه وعوده بإحكام هذا الأمر إلا أقل من عشرين يوما. فأشار على باديس ثقاته أن يعتقل «2» إبراهيم حتى يرى ما يكون من طاعة أخيه. فأبت نفسه ذلك، وقال له: «امض إلى أخيك يا عم. فإن كنت صادقا فيما عقدته على نفسك ووفيت بعهدك، وإلا فاجعل يدك فى يده وافعلا ما تقدران عليه وتستطيعانه» . فخرج إبراهيم بمال جملته أربعمائة ألف دينار عينا وبجميع خزائنه وذخائره ورجاله وعبيده. وكان خروجه على تلك الحال من أدل الأشياء على نفاقه. وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة خمس وأربعمائة. وصحبه هاشم بن جعفر، وقد أضمر إبراهيم الغدر إذا صار إلى الموضع الذى يدخل منه إلى عمل أخيه. فلما قرب منها ترك هاشما واعتذر إليه بأشغال له بباجة، وعدل إلى طريقها، ووعده أن يلحق به «3» . ومضى إبراهيم حتى وصل إلى مدينة تامديت فكاتب أخاه حمادا بالذى فى نفسه. فوصل إليه فى ثلاثين ألف فارس. فاجتمعت كلمتهما على خلع الطاعة وأظهرا النفاق. فانتهى ذلك إلى باديس فرحل لخمس خلون من ذى الحجة «4»

منها. ونزل رقادة «1» ووضع العطاء. ثم رحل بعد عيد الأضحى وكتب إلى هاشم بن جعفر أن يصعد إلى قلعة شقبنا رية» فيتحصن بها ففعل. فحاصره حماد وإبراهيم بها. ووقع بينهم قتال شديد فانهزم هاشم ومن معه إلى باجة. واحتوى حماد وإبراهيم على جميع ما كان معه من الأموال والخزائن والأثقال والخدم، ونجا هو بأولاده ووجوه أصحابه. ورحل باديس حتى نزل بمكان يسمى قبر الشهيد. فوصل إليه جماعة كثيرة من عسكر حماد. ثم ورد عليه كتاب من حماد على يد أبى مغنين الوتلكاتى يذكر فيه أنه على الطاعة، وأنه كان قد هيأ هدية فى جملتها ألفا برذون وغير ذلك لينفذها إلى المنصور، إلى أن وافاه إبراهيم واعتذر أعذارا كثيرة، فخالفها ما يظهر من أفعاله. وذلك أنه أحرق الزرع، وسبى الذرارى، وسفك الدماء. وتواترت أصحابه واصلين إلى باديس متنصلين من فعله. ورحل باديس حتى صار بينه وبين حماد مرحلة واحدة، وقد بلغ عسكر حماد ثلاثين ألف فارس، غير من لحق بباديس وغير الراجل. قال: وورد الخبر وهو بتامديت بوفاة ابنه المنصور بجدرى أصابه فكتم أصحابه عنه ذلك. فبعث إليه إبراهيم يقول: «إن ولدك الذى طلبت له ما طلبت قد مات» . فما تضعضع لذلك، وتلقاه بالصبر والشكر، وجلس للعزاء، وذلك لخمس خلون من صفر.

ثم سار ونزل بمدينة دكمة «1» . وجاءه جماعة من أقارب حماد وخواصه ورجال دولته، وكتاب من قبل خلف الجيزى «2» ، وهو الوالى على مدينة آشير، وكان عند حماد أقرب من الولد لا يوازيه فى رتبته أحد، يذكر أنه منع حمادا من الدخول إلى مدينة آشير وأغلقها دونه. فكان ذلك أول الفتح وأعظم الظفر. قال: فلما رأى حماد مخالفة خلف عليه مضى إلى تاهرت. ورحل باديس يوم الجمعة «3» الثانى من شهر ربيع الأول. فنزل مدينة المحمدية «4» وهى المسيلة. فأقام بها ستة أيام ثم زحف إلى القلعة. ورجع من غير قتال. ثم أنفذ باديس أخاه كرامت إلى المدينة التى أحدثها حماد. فخرج إليها فى عسكر كثير، فهدم قصورها ومساكنها جزاء لما فعله حماد وأخوه فى البلاد. ولم يتعرض لأخذ مال ولا سفك دم. واتصل ذلك بإبراهيم، فأقبل يهدم كل قصر كان لأخيه خارجا عن القلعة، مخافة أن يسبقه كرامت إليه. وهرب من القلعة جماعة إلى باديس وتركوا نساءهم وأولادهم وأموالهم «5» . فأقبل إبراهيم يذبح الأولاد على صدور أمهاتهم، ويشق بطونهم. وفعل أفعالا شنيعة. قال: ورحل باديس إلى آشير ثم منها إلى وادى شلف. ونزل حماد فى الجبهة الأخرى من الوادى. ورتب كل منهما عساكره وعبأها

وتهيأ للحرب. والتقوا فى يوم الأحد غرة جمادى الأولى. وكان حماد قد أسند ظهره إلى جبل بنى واطيل، وهو جبل منيع صعب المرتفى، وبينه وبين عسكر باديس الوادى، وهو واد عميق لا يطمع فى تعديته لشدة توعره وعمق قعره وصعوبة انحداره وكثرة مائه. فلما رأى باديس ذلك حمل بفرسه واقتحم الوادى. فتبعته العساكر وعدت الرجالة سباحة. فما كان إلا كرجع الطّرف حتى صاروا فى الجهة الأخرى مع عساكر حماد «1» . ثم اصطفوا واقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل. فانكشف حماد وتفرق أصحابه عنه بعد قتال شديد. فولّى منهزما لا يلوى على شىء، وقتل حرمه بيده. فوقف باديس عليهن وهن قتيلات. وخلص حماد فيمن ثبت معه من عبيده إلى قلعه مغيلة فى خمسمائة فرس. ولولا اشتغال الناس بالنهب لما فاتهم. وأصبح باديس فبعث فى طلب حماد فسبقهم إلى القلعة. وأراد التحصن «2» بها إن أدركته العساكر. ثم سار عنها إلى قلعته فوصل إليها لسبع مضين من جمادى الأولى، واستعد للحصار. وسار باديس إلى المحمدية فوصل إليها لليلتين بقيتا من الشهر. فأتاه رسول عمه إبراهيم بالاعتذار ويذكّر باديس بما سلف لحماد من الخدمة فى دولته، وأنه هو الذى سد ثغور المغرب، وقام محاميا عن هذه الدولة كقيام الحجاج بن يوسف بدولة بنى أمية، واعترف بالخطأ. فرد عليه باديس رسله بجواب. واختلفت الرسائل إليه منهما طلبا للمدافعة. فأمر باديس بالبناء. وبذل لرجاله «3» الأموال

ذكر وفاة باديس

وأعطى الألفى دينار والخمسمائة. فاشتد ذلك على حماد، ورأى من رجاله ما أنكره، وضعفت نفسه. وغلت الأسعار عنده فجعل يكذب على من عنده، ويكتب كسبا يذكر فيها أن باديس قد عزم على الرحيل إلى إفريقية، وأن كتبه تصل إليه فى الصلح إلى غير ذلك مما يختلقه «1» . وداوم باديس الحصار حتى مات. ذكر وفاة باديس كانت وفاته فى ليلة الأربعاء آخر ذى القعدة سنة ست وأربعمائة وذلك أنه وصل إليه وهو فى الحصار سليمان بن خلف «2» بعساكر عظيمة، جمهورهم تلكاتة «3» وصنهاجة، فضمن لبادير فتح للقلعة وسائر بلاد المغرب. فلما كان يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذى القعدة، أمر باديس بالعرض، فعرضهم إلى الليل. ثم مات فى نصف الليل. فخرج الخادم إلى حبيب بن أبى سعيد وباديس بن حمامة «4» وأيوب بن يطّوفت ابن عمه، وكان حبيب من أكبر رجاله، وبينه وبين باديس بن حمامة منافسه وعداوة. فلما أعلمه الخادم، خرج حبيب مسرعا إلى فازة باديس، وخرج باديس مسرعا إلى فازة حبيب. فاجتمعا فى الطريق، فقال كل منهما لصاحبه: «بيننا عداوة

ولا تبرح، والأولى بنا فى هذا الوقت الموافقة والاجتماع فى تدبير هذا المهم. فإذا انقضى رجعنا إلى «1» ما كنا عليه» . فحضرا ومعهما أيوب بن يطوفت وقالا: «إن صاحب هذا الأمر بعيد منا والعدو قريب مشرف علينا. ومتى لم نقدم رأسا نرجع فى أمورنا إليه لم نأمن العدو على أنفسنا. ونحن نعلم أن ميل تلكاتة وصنهاجة المغرب إلى كرامت بن المنصور أخى باديس» . فاجتمع رأيهم على تولية كرامت ظاهرا. فإذا وصلوا موضع الأمن قدم المعز بن باديس، وينقطع الخلاف، وتصان بيوت الأموال «2» والعدد. فأحضروا كرامت وبايعوه وكتموا الأمر. وأصبحت العساكر للسلام على ما جرت به العادة. ولم يعلم بوفاته سوى من ذكرناه «3» . فأرادوا صرف الناس بأن يقولوا: إن الأمير قد أخذ دواء. فبينا «4» هم فى ذلك أتى الخبر أن أهل مدينة المحمدية قد شاع عندهم موت باديس، وأنهم أغلقوا أبواب المحمدية، وطلعوا على سورها. وكأنما نودى فى الناس بوفاته. فاضطرب لموته بنو مناد وجميع القواد. وخافوا من الفرقة وشتات الكلمة فأظهروا ولاية كرامت وأمر بالكتب إلى سائل الأعمال باسمه، ولم يذكر المعز بن باديس. فلما رأى عبيد باديس ومن كان على مثل رأيهم من الحشم والأجناد أنكروا ذلك إنكارا شديدا. فخلا حبيب بن أبى سعيد بأكابرهم وقال: «إنما رضيناه وقدمناه على أن يحوط الرجال، ويحرس

ذكر ولاية أبى تميم المعز بن أبى مناد باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى

الخزائن والأموال، حتى يسلم جميع ذلك إلى مستحقه وهو المعز» . ومشى بعضهم إلى بعض وتحالفوا على ذلك سرا. ثم اتفق رأى الجميع على تقديم «1» كرامت فى الخروج إلى آشير ليحشد قبائل تلكاتة وصنهاجة. فإذا اجتمعوا رجع بهم إلى المحمدية فيقطن بها، وترحل العساكر بتابوت باديس حتى يسلمون إلى ولده المعز. ودفعوا إلى كرامت مائة ألف دينار وخزانة سلاح وأمتعة. وتوجه إلى مدينة آشير يوم الأحد لأربع خلون من ذى الحجة سنة ست وأربعمائة. وكان من خبره ما نذكره إن شاء الله فى أيام المعز. وكانت مدة ولاية باديس عشرين سنة وتسعة أشهر إلا أربعة أيام. وعمره اثنان وثلاثون سنة وثمانية أشهر وأيام. ذكر ولاية أبى تميم المعز بن أبى مناد باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى كانت ولايته بالمحمدية «2» يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجة سنة ست وأربعمائة على ما قدمناه، وله من العمر يوم ذاك ثمان سنين وسبعة أشهر «3» . وأما ولايته بالمهدية «4» فكانت يوم الاثنين لسبع «5» بقين من ذى الحجة هذا. وذلك أن الخبر لما وصل

بموت باديس، كانت السيدة أم ملّال «1» بالمهدية، فخرج إليها منصور بن رشيق عامل القيروان، بجماعة القضاة والفقهاء والمشايخ وشيوخ صنهاجة إلى المهدية فعزّوها. وأخرجت المعز وبين يديه الطبول والبنود. فنزل إليه الناس وهنئوه وعزّوه. وعاد إلى قصره. ودخل الناس على السيدة فهنئوها. فأمرت منصور بن رشيق بالانصراف بمن كان معه فرجعوا إلى القيروان. قال: وأما العسكر الذى بالمحمدية فإنهم ارتحلوا عن مناخها يوم عيد الأضحى بعد أن أضرموا النار فيما كان هناك من الأبنية. وسارت العساكر على تعبئة الزحف مقدمة وساقة وقلبا، يقدمها التابوت. وأمامه البنود والطبول والجنائب والقباب. وكان وصولهم إلى المنصورية يوم الاثنين لأربع خلون من المحرم سنة سبع وأربعمائة. ووصلوا إلى المحمدية لثمان خلون «2» منه. فركب المعز وقام حبيب بن أبى سعيد عن يساره. ونزل الناس فوجا فوجا وحبيب يعرفه بهم قائدا قائدا وعرافة عرافة، وهو يسأل الناس عن أحوالهم ألطف سؤال. فرأى الناس من عقله وإقباله وفطنته ما ملأ قلوبهم وأقر عيونهم. وأقاموا يركبون إليه فى كل غدوة وغشية ثلاثة أيام. ثم خرج المعز من المهدية وسار إلى القيروان. ودخل المنصورية يوم الجمعة النصف من «3» المحرم سنة سبع وأربعمائة فسر به الناس وابتهجوا.

ذكر قتل الروافض

ذكر قتل الروافض قال: وفى يوم السبت سادس عشر المحرم منها، ركب المعز فى القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له فمر بجماعة فسأل عنهم فقيل: «هؤلاء رفضة والذين قبلهم سنة «1» » . فقال: «وأى شىء الرّفضة والسنة؟» قالوا: «السنة يترضّون عن أبى بكر وعمر والرفضة يسبونهما» . فقال: «رضى الله عن أبى بكر وعمر» «2» . فانصرفت العامة من فورها إلى الناحية المعروفة بدرب المقلى «3» من مدينة القيروان- وهو موضع يشتمل على جماعة منهم- فقتلوا منهم جماعة، ووقع القتل فيهم. وصادفت شهوة من العسكريين وأتباعهم طمعا فى النهب. وانبسطت أيدى العامة فيهم. فأقبل عامل القيروان يظهر أنه يسكّن الناس، وهو يحرضهم ويشير إليهم بزيادة الفتنة، لأنه كان قد أصلح البلد فبلغه أنه معزول، فأراد إفساده. فقتل من الرافضة خلق كثير فى ديارهم وحوانيتهم، وأحرقوهم بالنار. وانتهبت ديارهم وأموالهم. وزاد الأمر واتصل القتل فيهم فى جميع بلاد إفريقية. وقيل: إن القتل وقع فيهم فى جميع المغرب فى يوم واحد فى المدائن «4» والقرى، فلم يترك رجل ولا امرأة ولا طفل إلا قتل وأحرق بالنار. ونجا من بقى منهم بالمهدية إلى الجامع الذى بالحصن، فقتلوا فيه عن آخرهم.

ولما كان فى يوم الثلاثاء لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى، خرج من بقى من المشارقة- وهم الرافضة «1» - إلى قصر المنصور بظاهر المنصورية، وهم زهاء ألف وخمسمائة، وتحصنوا به. فحاصرهم السنة فاشتد عليهم الحصار والجوع. فأقبلوا يخرجون والناس يقتلون منهم «2» ويحرقون إلى أن قتلوا عن آخرهم «3» ، وطهر الله تعالى المغرب منهم. وعمل الشعراء فى هذه الواقعة القصائد. فممن عمل فيها أبو الحسن الكاتب المعروف بابن زيجى من قصيدة: شفى الغيظ فى طىّ الضمير المكتّم ... دماء كلاب حلّلت فى المحرّم «4» فلا أرقأ الله الدموع التى جرت ... أسى وجوى فيما أريق من الدم هى المنّة العظمى التى جلّ قدرها ... وسارت بها الرّكبان فى كل موسم فيا سمرا أمسى علالة منجد ... ويا خبرا أضحى فكاهة متهم «5»

وبانعمة بالقيروان تباشرت ... بها عصب بين الحطيم وزمزم «1» وأهدت إلى قبر النبىّ وصحبه ... سلاما كعرف المسك عن كل مسلم غزونا أعادى الدين لا رمح ينثنى ... نبوا ولاحد الحسام المصمّم بكل فتى شهم الفؤاد كأنما ... تسربل يوم الروع جلدة شيهم إذا أمّ لم يشدد عرا متخوّف ... وإن همّ لم يحلل حبا متندّم من القيروانيين فى المنصب الذى ... نمى، وإلى خير الصحابة ينتمى وأوسع الشعراء فى ذلك. وقالوا فيه قصائد «2» كثيرة تركناها اختصارا. وأما كرامت بن المنصور فإنه أقام بمدينة آشير ومعه من تلكاتة وغيرهم من قبائل صنهاجة، فما شعر إلا وقد وافاه حماد فى ألف وخمسمائة. فبرز إليه كرامت فى سبعة آلاف. فلما نشبت الحرب بينهم عمد التلكاتيون إلى بيت ماله فانتهبوه، ورجعوا على أدراجهم «3» . فكانت الهزيمة على كرامت فدخل مدينة آشير

ذكر مسير المعز لحرب حماد

وحماد فى أثره. فأرسل إلى كرامت ليجتمع به فتوثّق منه وأتاه. فزوّده «1» حماد بثلاثة آلاف دينار وبعث معه من أصحابه من يشيعه. فوصل إلى الحضرة فى يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من المحرم سنة سبع وأربعمائة. وطلب تلكانة وصنهاجة بما صار إليهم من أموال كرامت ومواشيه، فتفرقوا عنه وامتنعوا عليه. وفى يوم السبت لعشر بقين من صفر منها، ولى محمد بن حسن أمور المعز وجيوشه، وكان قبل ذلك على طرابلس، وأضيف إليه قابس ونفزاوة وقصطيلية وقفصة. فبعث عماله عليها. وعقد لأيوب بن يطوفت على سائر أعمال المغرب. وفى يوم الأحد لعشر بقين من ذى الحجة سنة سبع وأربعمائة، ختن المعز وختن معه من أبناء الضعفاء عدة كثيرة. وأعطوا الكساوى والنفقة. وفى آخر ذى الحجة هذا، وصلت الرسل من مصر بسجل الحاكم إلى المعز واللقب والتشريف، وخوطب بشرف الدولة. ذكر مسير المعز لحرب حماد قال: وفى يوم الخميس لسبع «2» بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة، برز المعز إلى مدينة رقادة فى عساكره وفرق الأموال.

ثم رحل منها لأربع خلون من شهر ربيع الأول. ووصل «1» إليه عدة من القبائل من عسكر حماد ومن كتامة «2» . فجاءه الخبر أن إبراهيم وقف على باب مدينة باغاية فدعا بأيوب بن يطوفت فخرج إليه. فعاتبه على ما كان منه وذكر أنهم إخوة، وأن الذى كان إنما وقع بقضاء الله وقدره. وقال: «نحن على طاعة سيدنا المعز. وقد أردنا أن يتم الصلح على يدك. وحماد يقرأ عليك السلام ويقول لك: ابعث من تثق به أن يحلّفنى «3» ويأخذ على من العهود ما يسكن إليه قلبك، ويكتب به» . فانخدع أيوب ودعا بحمامة أخيه وحبوس بن القاسم بن حمامة وأنفذهما معه. ثم تبعهما تورين «4» غلام أيوب، وهو أعز عنده من إخوته. فلما وصل بهم إبراهيم إلى أخيه حماد، أنزلهم «5» فى فازة السلام. ومضى إلى أخيه فأخبره. فبعث إليهما زكنون «6» ابن أبى حلا فجرد ما عليهما من الثياب، وألقى عليهما ثيابا رثة، وقيدهما بقيدين ثقيلين وأنفذهما إلى القلعة. ودعا حماد بتورين «7» فقال له: «هذان ابنا عمى وأنت فما جاء بك معهما؟ أردت أن تتحدث فتقول: قال لى حماد، وقلت لحماد!» وأمر به فضربت عنقه.

ذكر الصلح بين المعز وحماد عم أبيه

فلما اتصل الخبر بالمعز، سار بالعساكر حتى انتهى إلى حماد. والتقوا واقتتلوا، فكانت الهزيمة على حماد وعساكره. وقتل حماة أصحابة، وأسر إبراهيم، وفر حماد. وعقد المعز لعمه كرامت بن المنصور على أعمال المغرب، ففرق عماله. ذكر الصلح بين المعز وحماد عم أبيه قال: ولما تمت الهزيمة على حماد، راسل «1» المعز فى طلب الصلح واعترف بالخطأ وسأل العفو عنه. فأنفذ المعز من يقف على صحة أمره وصدق طاعته، فعاد بسمعه وطاعته. ورغب فى ترك العمل، وأن يعقد له أخوه إبراهيم ما يسكن إليه من العهود والمواثيق التى يطمئن إليها، فيبعث حينئذ بولده «2» القائد أو يصل بنفسه. فحصل الاتفاق، وأرسل ابنه القائد إلى المعز. فوصل بعد عود المعز إلى المنصورية، وذلك فى النصف من شعبان من السنة. فأكرمه المعز وأحسن إليه. وكتب له منشورا بولاية المسيلة وطبنة ومرسى الدجاج وزواوة ومقرّة ودكمة وبلزمة وسوق حمزة، وأعطى البنود والطبول. وانصرف إلى أبيه لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثمان وأربعمائة. فلما وصل إلى أبيه أظهر الطاعة. وبقى القائد يتردد إلى المعز.

ذكر مقتل القائد محمد بن حسن

ذكر مقتل القائد محمد بن حسن كان مقتله لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة «1» . وذلك أنه كان قد استقل بالأمور وجبى الأموال منذ فوّضت إليه أمور الدولة. فلم يدخر درهما واحدا فى سبع سنين مع ما ورد من الهدايا الجليلة والتقادم النفيسة. وانتهت حاله إلى أن أخذ مالا من الذخيرة فلم يرد عوضه. وضاقت الدولة واتسعت أحواله وكثرت أبنيته التى لا تصلح إلا للملوك. وهادى الأكابر بمصر حتى وصل إليه سجل من الحضرة. فضاق منه المعز، فدس إليه بعض خواصه، وأشار عليه أن يقتصر على الخدمة، وله ما حصّله من الأموال والأبنية. فأبى إلا تماديا واستمرارا. فقتله المعز فى التاريخ الذى ذكرناه، وكتب بالحوطة على أمواله ونعمه ورجاله. وقلد القاسم بن محمد بن أبى العرب سيفه. وأخرج بين يديه الطبول والبنود. وصرف إليه النظر فى سائر إفريقية. قال: ولما قتل محمد بن حسن ثار أخوه عبد الله بن حسن عامل طرابلس وغضب لذلك. وبعث إلى زناتة فعاقدهم «2» وأدخلهم طرابلس. فقتلوا كل من كان بها «3» من صنهاجة والعسكريين وأخذوا المدينة. فلما انتهى ذلك إلى المعز. وأمر بالقبض على جميع بنى محمد وحبسهم ثم ظفر محمد بن وليمة

بعبد الله، فأنفذه إلى المعز فاعتقله. ثم أمر بقتل الجميع «1» ، وذلك لما استغاثت نساء الصنهاجيين وأولادهم الذين قتلوا آباءهم بطرابلس. وكان بإفريقية فى تلك السنة «2» مجاعة شديدة لم يكن مثلها قط. وفى ليلة الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة عشرة وأربعمائة ولد للمعز مولود سماه نزار. وفى صفر سنة تسع «3» عشرة وأربعمائة، ورد الخبر إلى المعز بوفاة حماد بن يوسف بلكّين، وهو عم أبيه. فكتب إلى ولده القائد بالتعزية بأبيه. وفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، خرج عسكر المعز إلى الزاب. ففتح مدينة نورس «4» وقتل من البربر خلقا كثيرا. وفتح من بلاد زنانة قلعة تسمى كردوم «5» . وفى سنة ثلاثين وأربعمائة، دخل قائده جزيرة جربة، ففتحها وقتل رجالها، وأسر مقدمهم ابن كلدة وصلبه، لقطعهم الطريق وسوء اعتقادهم.

ذكر خروج العرب إلى المغرب والسبب الموجب لذلك.

وفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خرج المعز بجيوشه إلى قلعة حماد. وحاصرها مدة سنتين وضيق عليهم لرجوعهم إلى ما كانوا عليه من النفاق. وفى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة «1» ، أظهر المعز الدعاء للدولة العباسية. ووردت عليه الرسل. ووصله السجل من القائم بأمر الله، وأوله: «من عبد الله ووليه أبى جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد نور الإسلام، وشرف الأيام «2» ، وعمدة الأنام، ناصر دين الله، وقاهر أعداء الله، ومؤيد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى تميم المعز بن باديس بن المنصور ولى أمير المؤمنين» بألفاظ طويلة، وخلع طائلة، وسيفه وفرسه وخاتمه وألوية كثيرة. فوصل ذلك فى يوم الجمعة والخطيب على المنبر فى الخطبة الثانية عند الاستغفار. فدخلت الألوية إلى الجامع، فقيل للخطيب: «اذكر الساعة ما أمكن» . فقال: «هذا لواء الحمد يجمعكم، وهذا معز الدين يسمعكم، وأستغفر الله «3» لى ولكم» . ذكر خروج العرب الى المغرب والسبب الموجب لذلك. كان سبب ذلك أن المستنصر- لما ولى خلافة مصر بعد الظاهر بن الحاكم- خطب المعز فى أيامه للقائم بأمر الله العباسى. فكتب

إليه وهو يرغبه ويرهبه، ويقول له: «هلّا اقتقيت آثار من سلف من آبائك فى الطاعة والولاء» ويتوعده «1» بإرسال الجيوش. فكتب المعز إليه: «إن آبائى وأجدادى كانوا ملوك المغرب «2» قبل أن تملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم. ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم» . وكان المستنصر قد ولى وزارته فى اثنتين وأربعين وأربعمائة لأبى محمد الحسن بن اليازورى، ولقبه بالوزير الأجل المكين، سيد الوزراء «3» ، وتاج الأمراء، قاضى القضاة، وداعى الدعاة، علم المجد، خالصة أمير المؤمنين» . ولم يكن من أهل الوزارة ولا من الكتاب، بل كان من أهل التّناية «4» والفلاحة بالشام. فأجراه ملوك الأطراف فى مكاتباتهم «5» على عادة الوزراء إلا المعز فإنه امتنع من مخاطبته بما كان يخاطب به الوزراء قبله، وذلك أنه كان يكاتب الوزراء بعبده فكاتبه بصنيعته. فعظم ذلك عليه «6» . فأعمل الوزير الفكرة ودس إلى زغبة ورياح دسائس ووصلهم بصلات سنية. وبعث إليهما أحد رجال الدولة حتى أصلح بين الفئتين بعد فتن توالت وحروب استمرت ودماء أريقت. ثم أحضر أمراءهم وأباحهم على لسان المستنصر أعمال القيروان. ووعدهم

ذكر وفاة لقائد بن حماد وولاية ابنه وقتله وولاية بلكين بن محمد

بالمدد والعدد. وأمرهم بالعيث والإخراب. فدخلت العرب إلى بلاد المغرب فى سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وأنفذ اليازورى كتابا يقول فيه «1» : «أما بعد، فقد أرسلنا إليكم فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضى الله أمرا كان مفعولا» . ودخلت العرب فوجدوا بلادا خالية طيبة كثيرة المرعى، كانت عمارتها زناتة فأبادهم المعز. فأقاموا بها واستوطنوها وعاثوا فى أطراف البلاد. وبلغ ذلك المعز فاستحقر أمرهم لتمام المقدور. ذكر وفاة لقائد بن حماد وولاية ابنه وقتله وولاية بلكين بن محمد وفى شهر رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة توفى القائد بن حماد ابن يوسف بلكين بن زيرى وكان فى مرضه ولّى محسنا، وأوصاه «2» بالإحسان إلى بنى حماد عمومته. فلما ولى خالف ما أمره به أبوه «3» وأراد عزل جميعهم. فلما سمع عمه يوسف بن حماد ما أراده من الغدر بإخوته بنى حماد خالف عليه. وجمع العساكر فاجتمع له خلق كثير. وكان يوسف قد بنى قلعة فى جبل منيع وسماها الطيارة. فلما اتصل بمحسن خلافه خرج إليه والتقى بعسكر عمه مدينى. فانهزمت تلكاتة عنه، فظفر به، فقتل من

[بقية أخبار المعز بن باديس]

عمومته أربعة، وهم مدينى وإخوته مناد ونغلان «1» وتميم. وكتب إلى عمه يوسف يأمره بالقدوم إليه. فقال: «كيف أطمئن إليك وقد قتلت أربعة من عمومتك؟» . وكان ابن عمه بلكين بن محمد متولى افريون «2» فكتب إليه محسن يأمره بالقدوم، فقدم عليه. فلما قرب منه أمر محسن قوما من العرب أن يأتوه برأسه. فلما خرجوا، قال لهم أميرهم خليفة بن مكن: «هذا بلكين لم يزل محسنا إلينا. فكيف نفعل به هذا؟» فأتوه وأعلموه بما أمروا به، فخاف عند ذلك. فقال له خليفة: «لا خوف عليك إن كنت تريد قتل محسن فأنا أقتله لك» . فتدرع بلكين وركب وأقبل يريد لقاءه. فبلغ محسنا قصده إليه، فهرب إلى القلعة. فأدركوه فى الطريق فقتله بلكين، ودخل القلعة، وولى الأمر. وذلك فى شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة. [بقية أخبار المعز بن باديس] نعود إلى أخبار المعز بن باديس، قال: ولما تكاسلت صنهاجة عن قتال زناتة، اشترى المعز العبيد، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك. وكانت العرب زغبة قد ملكوا مدينة طرابلس فى سنة ست وأربعين. ووصل مؤنس بن يحيى المرداسى إلى المعز بالقيروان.

فأكرمه المعز وأحسن إليه. فنهاه مؤنس أن يجعل للعرب سبيلا إلى دخول إفريقية وقال: «إنهم قوم لا طاقة لك بهم» . فقال له المعز: «هم دون ذلك» . فلما رأى مؤنس استهزاء المعز بالعرب، خرج عنه ولحق بأرض طرابلس. وتتابعت بنورياح والأثبج وبنوعدى، فدخلوا إفريقية، وقطعوا السبيل، وعاثوا فى البلاد. وعزموا على الوصول إلى القيروان. فقال لهم مؤنس: «ليس هذا عندى برأى. وهذا يحتاج إلى تدبير» . فقالوا: «وكيف تحب «1» أن نصنع؟» قال: «ائتونى ببساط.» فأتوه به. فبسطه وقال لهم: «من يدخل إلى وسط هذا البساط من غير أن يمشى عليه؟» قالوا: «كيف يقدر أحد على ذلك «2» » قال «أنا» . قالوا: «فأرنا كيف تقدر على ذلك» . فطوى البساط، وأتى إلى طرفه ففتح منه مقدار ذراع ووقف عليه. ثم فتح شيئا آخر ودخل إليه. وقال: «هكذا فاصنعوا ببلاد المغرب املكوها شيئا فشيئا حتى لا يبقى عليكم إلا القيروان فأتوها، فإنكم تملكونها» . فقال له رافع بن حماد: «صدقت يا مؤنس. والله إنك لشيخ العرب وأميرها. فقد قدمناك على أنفسنا فلسنا نقطع أمرا دونك» . وقدم أمراء العرب إلى المعز، وهم مطرف بن كسلان، وفرح ابن أبى حسان، وزياد بن الدونية «3» ، وفارس بن كثير، وفارس

ذكر الحرب بين المعز والعرب وانتصار العرب عليه

ابن معروف، وهم أمراء بنى رياح وساداتهم، فأنزلهم المعز، وأكرمهم وأحسن إليهم. فخرجوا من عنده ولم يجازوه بما فعل معهم بل شنوا الغارات على البلاد، وقطعوا على الرفاق، وأفسدوا الزرع «1» ، وقطعوا الأشجار، وحاصروا المدن. فضاق الناس وساءت أحوالهم وانقطعت أسفارهم. وحل بإفريقية من البلاء ما لم ينزل بها مثله قط. ذكر الحرب بين المعز والعرب وانتصار العرب عليه قال: ولما كان من أمرهم ما ذكرناه، احتفل المعز وجمع العساكر. وخرج فى ثلاثين ألف فارس ومثلهم «2» رجالة «3» . وسار حتى انتهى إلى جندران «4» ، وهو جبل على مسيرة ثلاثة أيام من القيروان. وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس «5» . فلما شاهدوا عساكر صنهاجة هالهم ذلك. فقال مؤنس بن يحيى المرداسى: «يا وجوه العرب، ما هو يوم فرار» . فقالوا: «أين

نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكازغندات «1» والمغافر؟» فقال أمير منهم: «فى أعينهم» . فسمى من ذلك اليوم «أبا العينين» «2» . والتقوا والتحم القتال وحميت الحرب، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة. وتركوا المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم ويقتل أكثرهم، وبعد ذلك يرجعون على العرب. فانهزمت صنهاجة، وثبت المعز والعبيد. ووقع القتل فيهم، فقتل منهم خلق كثير. وحاولت صنهاجة الرّدة على العرب فلم يمكنهم، واستمرت الهزيمة. وقتل من صنهاجة أمة عظيمة. وانهزم المعز ودخل القيروان مهزوما على كثرة من كان معه وقلة العرب. واحتوت العرب على الخيل والعدد والمخيّم والأثقال والأموال. وفيها يقول الشاعر «3» : وإنّ ابن باديس لأفضل ما لك ... ولكن لعمرى ما لديه رجال «4» ثلاثون ألفا منهم غلبتهم ... ثلاثة آلاف إنّ ذا لمحال «5» قال: ولما كان يوم عيد النحر من السنة، جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس. وهجم على العرب وهم فى صلاة العيد.

فقطعت العرب الصلاة وركبوا خيولهم. فانهزمت صنهاجة وقتل منهم خلق كثير. ثم جمع المعز وخرج فى صنهاجة وزنانة فى جمع عظيم. فلما أشرف على بيوت العرب، ركبت خيولها وهم زغبة وعدى، وكانوا سبعة آلاف. والتقوا واقتتلوا فانهزمت صنهاجة، وولى كل رجل منهم إلى منزله. ثم انهزمت زناتة وكان أميرها المنصور «1» ابن خزرون. وثبت المعز فيمن كان حوله من عبيده ثباتا ما سمع بمثله، ثم رجع إلى المنصورية. وأحصى من قتل من صنهاجة فى ذلك اليوم فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة «2» . ثم أقبلت العرب حتى نزلوا بمصلى القيروان. ووقعت الحرب فقتل من أهل رقادة والمنصورية خلق كثير. فلما رأى المعز ذلك ذهب إلى رفع الحرب بينهم، وعلم عكس الدولة، وظن أنهم راجعون. فأباح لهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء. فلما دخلوا، استطال عليهم العامة وأهانوهم. فوقع «3» بينهم حرب كانت الغلبة فيها للعرب. قال وكانت الكسرة الأولى على المعز فى سنة ثلاث وأربعين والثانية فى سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

ذكر انتقال المعز إلى المهدية ومحاصرة العرب القيروان واستيلائهم عليها

ذكر انتقال المعز الى المهدية ومحاصرة العرب القيروان واستيلائهم عليها قال: وفى سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان، وأخذ مؤنس باجة. فأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية. وشرع العرب فى هدم الحصون والقصور، وقلع الثمار، وتعمية العيون، وخراب الأنهار، فخرج المعز من القيروان إلى المهدية فى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، لليلتين مضتامن شعبان «1» وكان بها ابنه الأمير تميم. فتلقى أباه ومشى فى ركابه من ميانش «2» إلى القصر. وفى أول شهر رمضان منها نهبت العرب القيروان. وفى سنة خمسين وأربعمائة، خرج بلكّين بن محمد، ومعه من العرب الأثبج وعدى لحرب زنانة. فكسرهم وقتل منهم عددا كثيرا. وفى سنة إحدى وخمسين، قتل منصور أفروم البرغواطى، قتله حمّو بن مليل «3» البرغواطى غدرا، وملك سفاقس مكانه. وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، غدر الناصر بن علنّاس بلكين بن محمد وولى مكانه، وذلك فى غرة «4» شهر رجب.

ذكر وفاة المعز بن باديس

ذكر وفاة المعز بن باديس كانت وفاته فى سنة ثلاث وخمسين «1» وأربعمائة بضعف «2» الكبد. وكانت مدة إقامته فى الملك سبعا «3» وأربعين سنة. وكان رقيق القلب، كثير الرحمة، خاشعا لله، متحرزا من سفك الدماء إلا فى الحدود، حليما يتجاوز عن كبائر الجرائم، لينا لخدامه وعبيده وجلسائه وندمائه حتى كأنه واحد منهم أو أخ لهم محبا لرعيته «4» مشفقا عليهم، مكرما لأهل الفضل والعلم كثير العطاء لهم، شجاعا كريما، رحمه الله. وكان له من الأولاد الذين مات عنهم تسعة، وهم نزار، وتميم، وعبد الله، وعلى، وعمرو «5» ، وحماد، وبلكين، وحمامة، والمنصور. ولما مات المعز ملك بعده ابنه.

ذكر ولاية تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى

ذكر ولاية تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وكان أبوه قد ولاه المهدية فى صفر سنة خمس وأربعين. وأقام بها إلى أن خرج المعز إليها. فدبر الأمر بين يديه إلى أن توفى المعز فاستقل بعده بالملك. ودخل القضاة ووجوه الناس إليه فعزوه بأبيه وهنئوه بالولاية. ووصل كتاب الناصر بن علناس بذلك. ذكر خروج حمو عن طاعة الأمير تميم وحربه وانهزامه وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة» ، خرج حمو بن مليل صاحب مدينة سفاقس عن الطاعة. فجمع أصحابه. واستعان بالعرب، فوافقته طائفة من الأثبج وعدى. فزحف بهم إلى المنزل المعروف ببئر قشيل «2» فملكه. ثم توجه منه نحو المهدية. فخرج إليه تميم فى عساكره ومعه طائفة من العرب: زغبة ورياح ووصل إلى حمو والتقوا واقتتلوا. فكانت الهزيمة على حمو وأصحابه وأخذهم السيف. فقتل أكثر أصحابه ونجا هو بنفسه. وكانت هذه الواقعة بسلقطة «3» .

ذكر الحرب بين بنى حماد والعرب وانتصار العرب عليهم

وفيها بعد الوقعة قصد تميم مدينة سوسة وكان أهلها قد خالفوا على أبيه، فملكها وعفا عنهم وحقن دماءهم «1» . ذكر الحرب بين بنى حماد والعرب وانتصار العرب عليهم وفى سنة سبع وخمسين وأربعمائة، كانت الحرب بين الناصر ابن علناس بن محمد بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة وزناتة، ومن العرب عدى والأثبج؛ وبين العرب وهم رياح وزغبة وسليم، ومع هؤلاء المعز بن زيرى الزناتى. وكان سبب هذه الواقعة «2» أن حماد بن يوسف بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور الخلف الكبير «3» والحرب التى ذكرناها. ومات باديس وهو يحاصر قلعة حماد كما ذكرنا «4» . ثم دخل حماد فى طاعة المعز. وكان القائد بن حماد بعد أبيه يضمر الغدر وخلع طاعة المعز والعجز يمنعه، إلى أن رأى قوة العرب وما نال المعز منهم. فعندها خلع الطاعة واستبد بالبلاد. وجاء بعده ولده محسن، وبعده ابن عمه بلكين، وبعده ابن عمه الناصر بن علناس، وكل منهم متحصن «5» بالقلعة، وهى

المعروفة بقلعة حماد وقد جعلوها دار ملكهم. فلما رحل المعز من القيروان، وصار إلى المهدية، وتمكنت العرب وأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، انتقل كثير من أهل القرى والبلاد إلى بلاد بنى حماد لحصانتها «1» . فعمرت بلادهم وكثرت أموالهم، وفى نفوسهم ما فيها من الضغائن والحقود من باديس وبنيه، يرثه صغير عن كبير. وولى تميم بن المعز بعد أبيه، واستبد كل منهم ببلد وقلعة، وتميم يصبر ويدارى «2» . فاتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه فى مجلسه ويذمه وأنه عزم على المسير ليحاصره بالمهدية، وأنه حالف بعض صنهاجة وزناتة وبنى هلال ليعينوه على حصار المهدية. فلما صح ذلك عنده أرسل إلى بنى رياح فأحضرهم إليه. وقال لهم: «أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع أكثرها فى البحر لا يقاتل من البر إلا من أربعة أبرجة يحميها أربعون رجلا. وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم وإلى بلادكم» . فقال له أمراء العرب: «إن الذى قاله السلطان حق ونحب منك المعونة بالعدة» . فقال: «على العدة والرّفادة» «3» . وأمر لهم بعشرة آلاف دينار، لكل أمير منهم ألف دينار، وألف درع، وألف رمح، وألف سيف هندى. فخرجت الأمراء من عنده، وجمعوا رجالهم، وتحالفوا على لقاء الناصر. وأنفذوا شيخين سرا إلى بنى هلال الذين صاروا مع الناصر

فقالا لهم: «كيف وقعتم فى هذا الأمر وأردتم تلاف «1» ملككم؟ هذا الناصر قد سمعتم غدر جده حماد لباديس، وغدر بنيه بعضهم بعضا، وقد اتفق مع زناتة، فإذا وطىء بلدنا بصنهاجة وزناتة قاصدا تميم بن المعز- وتميم فى حصن منيع بالمهدية لا يقدر عليه- فعندها يملك بلاد إفريقية ويخرجنا وإياكم عنها» . فقال لهم مشايخ بنى هلال: «والله، لقد صدقتم. فإذا التقينا فقاتلونا «2» فإنا ننهزم «3» ونرجع عليهم. فإذا ملكنا رقابهم كان لنا من الغنيمة الثلث ولكم الثلثان» . فقال الشيخان: «رضينا» . وأرسل المعز بن زيرى الزناتى إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك، فوعدوه أن ينهزموا. فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعا. وسار إليهم الناصر بصنهاجة وزناتة وبنى هلال. فالتقوا بموضع يسمى سبية. فلما ترائى الجمعان حملت «4» بنو رياح على بنى هلال. فانهزم بنو هلال كما وقع الاتفاق، وأظهروا الغدر من وراء العسكر. فانهزم عند ذلك الناصر ابن علناس، وسلم فى عشرة أفراس. فكان جملة من قتل فى هذه الوقعة من صنهاجة وزناتة أربعة وعشرون ألفا. وصارت الغنائم كلها للعرب، وبهذه الوقعة ثم لهم ملك البلاد. فإن أكثرهم عند دخولهم كانوا رجالة، والفرسان

ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه

منهم فى أضيق حال. فتقاسموا هذه الغنائم على ما قرروه بينهم إلا الطبول والبوقات والفازات بأبغالها «1» ، فإنهم حملوها إلى تميم. فردها ولم يقبلها، فعزّ ذلك على العرب وقالوا: «نحن خدمك بين يديك» فقال: «ما فعلت هذا انتقاصا بكم وإنما المانع منه أننى لا أرضى أخذ سلب ابن عمى» . وظهر عليه من الحزن بقوة العرب ما لم يوصف. ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه قال: ولما كانت هذه الواقعة بين بنى حماد والعرب، وبلغ الناصر ما نال ابن عمه تميم من الألم والحزن، وكان وزيره أبو بكر بن أبى الفتوح محبا فى دولة تميم، فقال «2» للناصر: «يا مولاى، ألم أشر عليك ألا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب. فلو اتفقتما لأخرجتما العرب» . فصدقه الناصر ورجع إلى قوله، وقال له: «أصلح ذات بيننا» . فأرسل الوزير رسولا من عنده إلى تميم يعتذر ويرغب فى الإصلاح. فقبل تميم قوله. وأراد أن يرسل رسولا إلى الناصر، فاستشار أصحابه. فاتفقوا على إرسال محمد بن البعبع، وقالوا: «هذا رجل غريب، قد شمله إحسانك وبرك، وقد اقتنى من إنعامك الأموال والأملاك، وهو لا يعرف صنهاجة. فما يصلح لهذا الأمر سواه» . فأحضر تميم محمد بن

البعبع وأمر له بعبيد وخيل وكسا ودنانير. وأوصاه وأرسله وأجاز الرسول الواصل. وخرجا معا إلى أن وصلا إلى بجاية، وهى حينئذ منزل ينزله رعية البربر. فنظرها ابن البعبع وتأملها، وقال فى نفسه: «هذا المكان يصلح مدينة ومرسى وصناعة للسفن» . وتمادى إلى أن وصل إلى القلعة ودخل على الناصر، وقد علم ابن البعبع أن الوزير محب فى دولة تميم. فلما انبسط ودفع المكاتبة، قال للناصر: «يا مولاى، معى وصية إليك فأحب أن يخلى المجلس» . فقال الناصر: «ليس هنا إلا الوزير، وأنا لا أخفى عنه أمرا» . فقال: «بهذا أمرنى «1» سيدنا تميم» . فقال الناصر لوزيره: «انصرف» . فلما خرج، قال محمد للناصر: «يا مولاى، إن الوزير مخامر عليك مع تميم، وهو لا يخفى عنه من أمورك شيئا، وتميم مشغول مع عبيده النصارى. قد «2» استبد بهم واطرح صنهاجة وتلكاتة وجميع القبائل. فو الله، لو وصلت بعسكر إلى المهدية ما بتّ إلا فيها لبغض الأجناد والرعية فى تميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وقد عبرت الآن ببجاية فرأيت فيها مرافق من صناعة وميناء وجميع ما يصلح لبناء مدينة. فاجعلها لك مدينة، يكون فيها دار ملكك وتقرب من جميع بلاد إفريقية. وأنا أنتقل إليك بأهلى وولدى، وأترك مالى بالمهدية من الرياع، وأخدمك حق الخدمة» . فأجابه الناصر إلى ذلك واستراب من وزيره.

وخرج الناصر من ساعته ومعه ابن البعبع إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة. فوصلا إليها. ورسم ابن البعبع المدينة والصناعة والميناء وموضع القصر واللؤلؤة. وأمر الناصر من ساعته «1» بالبناء والعمل. وشكره وأثنى عليه، وعاهده على وزارته. ورجعا جميعا إلى القلعة. وأحضر الوزير وقال: «هذا محب لدولتنا ناصح فى خدمتنا. وقد أشار علينا ببناء بجاية. وعزم على الانتقال إلينا «2» بالأهل والولد. فاكتب له جواب كتبه إلى تميم» . وأمر له بألف دينار، وأربع وصائف، وأربع بغال من مراكبه. وسار ابن البعبع فوصل إلى المهدية بكتب ناقصة وصلة تامة. فاستراب به تميم. وسأله عن بناء بجاية وسببه، فقال: «يا مولاى، مالى بهذا علم. أنا رجل غريب» . فتحقق تميم أنه الذى أشار عليه ببنائها. وخرج ابن البعبع إلى داره خائفا وجلا. وكان لما فارق الناصر سأله أن ينفّذ معه رجلا من ثقاته ينفذ معه ما يعاين من الأخبار. فنفّذ معه رجلا. فلما خرج إلى داره كتب إلى الناصر: «إننى لما وصلت إلى تميم لم يسألنى عن شىء قبل سؤاله عن أمر بجاية، إنه قد وقع على قلبه منها أمر عظيم. وقد اتهمنى فانظر من تثق به من العرب ممن يصل «3» إلى أولاد عكابش، فإننى خارج إليهم مسرعا، وقد عاهدتهم «4» على ذلك «5» . فتنفذ من بنى هلال

من تثق به. وقد أوثقت شيوخ زويلة وغيرها على طاعتك. فالله الله أسرع إلى بمن ذكرت» . قال: فمضى الرسول بالكتاب فقرأه الناصر وأوقف الوزير أبا بكر عليه. فاستحسن الوزير ذلك منه وقال: «لقد خدم هذا الرجل ونصح» . فقال الناصر: «خذ الكتاب إليك، وجاوب الرجل عنه، وانظر فى إنفاذ العرب إليه قولا وفعلا، ولا تؤخر ذلك عنه» . فمضى الوزير إلى داره وكتب نسخة كتاب ابن البعبع، وحكاها حتى كأنها هى، خشية أن يسأله الناصر عن الكتاب بعد ذلك. وأنفذ كتابه الذى بخطه إلى تميم وكتب كتابا منه يصف الحال من أوله إلى آخره. فلما وقف تميم على ذلك، عجب منه وبقى يتوقع له ما يأخذه به. وجعل عليه من يحرسه فى ليله «1» ونهاره من حيث لا يشعر. فأتاه بعض الحرس وأخبره أن ابن البعبع صنع طعاما وأحضر عنده الشريف الفهرى- وكان هذا الشريف من خواص تميم- فلما أصبح استدعاه تميم. فحضر وقال: «يا مولاى، ما كنت إلا واصلا إليك» . وحدثه أن محمد بن البعبع دعانى وقال لى: «أنا فى ذمامك وحسبك، أحب أن تعرفنى من أين أخرج من المهدية «2» ، فأنت أعرف الناس بذلك» . فقلت له: «ولم تفعل ذلك، وأنت فى هذه المنزلة الكبيرة مع مولانا تميم؟» فقال: «إنه اتهمنى أننى أشرت على الناصر ببناء بجاية، وقد خفت» . فقلت له: «يا أبا عبد الله،

إن كنت سالما من قول قلته أو أمر أبرمته فلا تبال، فسيدنا تميم رجل رؤوف لا يؤاخذ بقول ولا بظن» . فقال لى: «دعنى فلا قدرة لى على المقام» . فقلت له: «أنا أنظر فى هذا الأمر بالغداة إن شاء الله وأعرفك بمن تثق به من العرب» . فأخذ يدى على ذلك. قال: فأخرج تميم كتاب ابن البعبع الذى بخطه إلى الناصر وأوقف الشريف عليه. ثم قال له: «أحضره إلى» . فمضى الشريف إليه وقال له: «سيدنا تميم أمر بحضورك معى ولا يكون إلا خيرا» فلبس ثيابه وخرجا. فلقيهما ماضى بن عكابش فقال له: «يا أبا عبد الله، الهلاليون قد وصلوا إلينا البارحة، وهذه كتب قد وصلت إليك منهم» «1» . فتناولها الشريف من يده فقال له ابن البعبع: «استر على ستر الله عليك» . وسأله. فدخلا القصر وابن البعبع يسأله فيها. فقال: «خذها فو الله ما ينفعك أخذها» . فتناولها. وخرج تميم إليهما فجزع ابن البعبع حتى سقطت الكتب من يده وإذا عنوان أحدها: «من الناصر بن علناس إلى شيخنا وخليلنا» فقال له تميم: «من أين هذه الكتب؟» فسكت. فقرأها تميم فوجد فيها الحجة عليه. فقال ابن البعبع: «العفو يا مولانا» . فقال «لا عفا الله عنك؟» وأمر بضرب عنقه وتغريق جثته «2» .

ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس

ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس وفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، سير تميم عسكرا كثيفا «1» إلى مدينة تونس. فأقام محاصرا لها مضيّقا عليها سنة وشهرين. وكان بها أحمد بن خراسان وقد أظهر الخلاف. وسبب ذلك أن المعز بن باديس أبا تميم- لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية- استخلف على القيروان وعلى تونس «2» قائد بن ميمون الصنهاجى. فأقام بها ثلاث سنين ثم غلبته هوارة عليها، فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية. فلما ولى تميم بعد أبيه رده إليها، فأقام بها مدة ست سنين. ثم أظهر الخلاف على تميم وأطاع الناصر بن علناس. فجرد إليه تميم عسكرا من أجناده وعبيده. فعلم أنه لا طاقة له بهم، فترك القيروان وسار إلى الناصر. ودخل عسكر تميم القيروان وخربوا قصر القائد الذى بناه بباب سلم. وسار العسكر إلى تونس وبها ابن خراسان فحصروه، فأطاع وصالح الأمير تميما. وأما قائد بن ميمون فإنه مكث عند الناصر سنتين «3» . ثم مضى إلى حمّو بن مليل فاشترى له مدينة القيروان من العرب وولاه عليها. فابتدأ ببناء سورها وحصّنها.

ذكر استيلاء مالك بن علوى الصخرى على القيروان وأخذها منه، وعودها إلى تميم

وفى سنة سبعين وأربعمائة «1» ، تم الصلح بين تميم والناصر ابن علناس. وزوجه تميم ابنته السيدة بلارة» وجهزها إليه من المهدية فى البر. ذكر استيلاء مالك بن علوى الصخرى على القيروان وأخذها منه، وعودها الى تميم وفى سنة ست وسبعين وأربعمائة، جمع مالك بن علوى العرب، وسار إلى المهدية وحصرها. فدفعه تميم عنها ولم يظفر منها بشىء. فسار إلى القيروان فحصرها وملكها. فجرد تميم العساكر إليه فحصروه بها. فلما رأى مالك أنه لا طاقة له بعساكر تميم تركها. واستولت عساكر تميم عليها وعادت إلى ملكه كما كانت. ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها قال: وفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة «3» ، اجتمع الروم فى أربعمائة «4» قطعة وأعانهم الفرنج. وأتوا كلهم إلى جزيرة قوصرة

ذكر خبر شاه ملك التركى ودخوله إلى افريقية وغدره بيحيى بن تميم

وأخربوا ونهبوا وأحرقوا. وملكوا مدينة زويلة وهى بقرب المهدية. وكانت عساكر تميم غائبة فى قتال الخارجين عليه، فصالح تميم الروم على ثمانين ألف دينار «1» ، بشرط. أن يردوا «2» جميع ما حووه من السبى، ففعلوا ذلك ورجعوا جميعا. وفيها مات الناصر بن علناس. وولى ابنه المنصور فقفا آثار أبيه فى الحزم والعزم والرئاسة. وأتته كتب تميم وغيره بالتهنئة والتعزية. ذكر خبر شاه ملك «3» التركى ودخوله الى افريقية وغدره بيحيى بن تميم كان شاه ملك هذا من أولاد بعض أمراء الأتراك ببلاد المشرق «4» فناله فى بلده أمر أخرجه عنها. فخرج وسار «5» إلى مصر فى مائة فارس. فأكرمه الأفضل أمير الجيوش ووصله وأعطاه إقطاعا ومالا. ثم بلغه عنه أشياء أوجبت حبسه هو وأصحابه. وجرى بمصر أمر فخرج شاه ملك «6» هو وأصحابه هاربين، واحتالوا فى خيل «7» وعدة. وتوجهوا إلى المغرب فوصلوا إلى طرابلس المغرب وأهل البلد

كارهون لواليها. فأدخلوهم البلد وأخرجوا الوالى. فصار شاه ملك أمير البلد. فبلغ تميم الخبر فأرسل العساكر فحصروها وفتحوها وأخذوا شاه ملك ومن معه إلى المهدية. فسر بهم تميم وقال: «قد ولد لى مائة ولد أنتفع بهم» . وكانوا لا يخطىء لهم سهم. فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميما عليهم. فعلم شاه ملك ذلك، وكان صاحب دهاء وخبث. فلما كان فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، خرج يحيى بن تميم إلى الصيد ومعه شاه ملك ومن معه. وكان أبوه قد تقدم إليه ألا يقربه فلم يقبل منه. فلما أبعدوا فى طلب الصيد «1» ، غدر به شاه ملك، وقبض عليه، وسار به وبمن أخذ من أصحابه إلى حمو بن مليل صاحب مدينة سفاقس. فركب حمو وخرج للقاء يحيى بن تميم. وترجل وقبل يده ومشى فى ركابه وعظّمه واعترف له بالعبودية. وأقام عنده أياما ولم يذكره أبوه بكلمة واحدة. وكان قد جعله ولى عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابنا آخر اسمه مثنى. قال: ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد فيملكوه عليهم، فكتب إلى تميم يسأله «2» إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل إليه ابنه يحيى. ففعل ذلك بعد امتناع كثير. وقدم يحيى فحجبه أبوه عنه مدة. ثم رضى عنه وأعاده وجهزه إلى سفاقس بجيش فحصرها برا وبحرا مدة شهرين. فخرج الأتراك عنها إلى قابس.

ذكر خلاف مثنى بن تميم على أبيه

ذكر خلاف مثنى بن تميم على أبيه قال: كان سبب ذلك أن تميم بن المعز لما رضى عن ابنه يحيى وأعاده إلى ولاية عهده، عظم ذلك على المثنى وداخله الحسد فلم يملك نفسه. فنقل إلى أبيه «1» عنه ما غير قلبه عليه. فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وولده وعبيده. فركب فى البحر إلى سفاقس «2» ، فلم يمكنه عاملها من الدخول إليها. فقصد مدينة قابس، فلقيه الثائر بها مكن «3» بن كامل الدهمانى فأنزله وأكرمه. فحسن له مثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية وأطمعه فيها، وضمن له الإنفاق على الجند من ماله. فجمع ما أمكنه جمعه. وسارا إلى سفاقس ومعهما شاه ملك التركى وأصحابه فنزلو «4» على سفاقس وقاتلوا من بها فبلغ تميما الخبر فجرد إليها جندا من الرماة. فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طمع لهم فيها تركوها. وقصدوا المهدية فنزلوا عليها وقاتلوا. فتولى قتالهم بها يحيى بن تميم وظهر من شدته وصبره وحزمه وحسن تدبيره ما استدل به على نجاح أمره وحسن عاقبته. ولم يبلغ أولئك منها غرضا فعادوا وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره.

ذكر ملك تميم مدينة قابس

ذكر ملك تميم مدينة قابس وفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ملك تميم مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمرو «1» بن المعز. وكان أهلها ولّوه عليها بعد موت قاضى ابن إبراهيم بن بلمويه «2» . فلم يحسن عمرو السياسة ولا نهض بشرط الولاية. وكان قاضى بن إبراهيم عاصيا على تميم، وتميم يعرض عنه. فسلك عمرو طريقته فى العصيان، فأخرج تميم العساكر إلى أخيه ليأخذ قابس «3» منه. فقال له أصحابه: «يا مولانا، لما كان فيها قاضى توانيت عنه وتركته، فلما صار أمرها إلى أخيك جردت إليه العساكر!» فقال: «لما كان فيها عبد من عبيدنا كان زواله سهلا علينا. وأما الآن فابن المعز بالمهدية وابن المعز بقابس. هذا لا يمكن السكوت عليه» . وفى فتحها يقول ابن خطيب سوسة «4» قصيدته المشهورة التى أولها: ضحك الزمان وكان يلفى عابسا ... لما فتحت بحد سيفك قابسا «5»

أنكحتها بكرا وما أمهرتها ... إلا قنا وصوارما وفوارسا «1» الله يعلم ما جنيت ثمارها ... إلا وكان أبوك قبل الفارسا «2» من كان بالسّمر العوالى خاطبا ... جليت له بيض الحصون عرائسا «3» فأبشر تميم بن المعز بفتكة ... تركتك فى أكناف قابس قابسا «4» ولّوا فكم تركوا هناك مصانعا ... ومقاصرا ومخالدا ومجالسا فكأنها قلب وهنّ وساوس ... جاء اليقين فذاد عنه وساوسا وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، فتح تميم جزيرة جربة وجزيرة قرقنة «5» ومدينة تونس. وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس. وفى سنة ثلاث وتسعين، فتح تميم مدينة سفاقس. وخرج

ذكر وفاة تميم بن المعز

منها حمو بن مليل هاربا فقصد مكن بن كامل الدّهمانى، فأحسن إليه وأقام عنده حتى مات. وكان حمو قد تغلب عليها واشتد أمره بوزير كان عنده من كتاب المعز حسن الرأى والتدبير والسياسة، فاستقامت به دولته وعظم شأنه. فأرسل إليه تميم وبالغ فى استمالته ووعده بكل جميل فلم يقبل. فاشتد أمره على تميم فسير جيشا إلى حصار سفاقس. وأمر مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير، فإنه لا يتعرض إليه ويبالغ فى صيانته، ففعل ذلك. فلما رأى حمو ذلك اتهمه وقتله. فانحل نظام دولته وتسلم عسكر تميم البلد. وفى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، مات المنصور بن الناصر بن علناس، وولى بعده ولده باديس. ثم مات بعد يسير فولى أخوه العزيز بالله. ذكر وفاة تميم بن المعز كانت وفاته فى شهر رجب سنة إحدى وخمسمائة «1» ، وله من العمر تسع وسبعون سنة «2» ، ومدة ولايته سبع وأربعون سنة وعشرة أشهر وعشرون يوما «3» .

وكان شهما شجاعا كريما حليما كثير العفو عن الجرائم العظيمة ذكيا حسن الشعر. فمن شعره ما قاله وقد وقع «1» حرب بين طائفتين من العرب، وهما عدى ورياح فقتل رجل من رياح ثم اصطلحوا وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر بتميم وبلاده، فقال أبياتا يحرض فيها على الطلب بدم المقتول، وهى: متى كانت دماؤكم تطل ... أما فيكم بثأر مستقل أغانم ثم سالم إن فشلتم ... فما كانت أوائلكم تذل ونمتم عن طلاب الثأر حتى ... كأن العز فيكم مضمحل وما كسرتم فيه العوالى ... ولا بيض تفلّ ولا تسل فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميرا من بنى عدى. فقامت الحرب بينهم واشتد القتال، وكثرت القتلى بينهم حتى أخرجوا بنى عدى من إفريقية، وبلغ تميم فيهم ما يريد. وكان يوقع بالشعر الحروب بين العرب فبلغ «2» بلسانه ما لم يبلغه» بسنانه. ومن أخباره فى رعيته وشفقته عليهم ما حكى أنه اشترى «4» جارية بثمن كثير. فبلغه أن مولاها الذى باعها ذهب عقله وأسف

ذكر ولاية يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور يوسف بن زيرى

على فراقها. فأحضره تميم إلى بين يديه وأرسل الجارية إلى داره ومعها من الكسوة والأوانى والفضة «1» والطيب شيئا كثيرا. ثم أمر مولاها بالانصراف وهو لا يعلم بذلك. فلما وصل إلى داره ورآها بمنزله سقط إلى الأرض وغشى عليه لكثرة ما ناله من السرور. ثم أفاق وأصبح من الغد فحمل الثمن وجميع ما كان معها إلى دار تميم. فغضب وانتهره وأمره بإعادة ذلك إلى داره. وهذه نهاية فى الجود، وغاية فى الكرم والشفقة والإحسان. وكان له فى البلاد أصحاب أخبار يطالعونه بأخبار الناس لئلا يظلموا. قال: وخلّف من البنين مائة «2» ، ومن البنات ستين. ولما مات رحمه الله ولى بعده ابنه يحيى. ذكر ولاية يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور يوسف بن زيرى كانت ولايته عند وفاة أبيه تميم فى يوم السبت النصف من شهر رجب سنة إحدى وخمسمائة، ومولده بالمهدية فى يوم الجمعة لأربع بقين من ذى الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. ولما ولى عم

أهل دولته من الخواص والجند بالخلع السنية، ووهب الأجناد والعبيد أموالا كثيرة. وفى هذه السنة «1» ، جرد عسكرا إلى قلعة اقليبية «2» ، وهى من أحصن قلاع إفريقية. وقدّم عليهم الشريف «على الفهرى» . فنزل عليها وحاصرها حصارا شديدا ففتحها. وكان تميم قد رامها فلم يقدر على فتحها. وفى سنة اثنتين وخمسمائة «3» ، وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء. فكتبوا إلى يحيى يقولون إنهم يعملون الكيمياء. فأحضرهم عنده وأمرهم أن يعملوا شيئا من صناعتهم. وأحضر لهم ما طلبوه من صناعتهم، وأحضر لهم ما طلبوه من آلة وغيرها. وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن «4» . فلما رأى الكيميائية المكان خاليا ثاروا بيحيى. فضربه أحدهم على رأسه، فوقعت السكين فى عمامته فلم تصنع شيئا. ورفسه يحيى فألقاه على ظهره. ودخل يحيى بابا وأغلق على نفسه. وضرب الثانى الشريف فقتله. وأخذ إبراهيم القائد السيف فقاتل الكيميائية. ورفع الصوت فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا أولئك. وكان زيهم زى أهل الأندلس، فقتل جماعة فى البلد على مثل زيهم. وقيل ليحيى: «إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن

ذكر وفاة يحيى بن تميم وشىء من أخباره

الخليفة» . واتفق أن الأمير أبا الفتوح إبراهيم أخا يحيى وصل فى تلك الساعة إلى القصر، فى أصحابه وقد لبسوا السلاح. فمنع من الدخول. فثبت عند يحيى أن ذلك بوضع منهما. فأحضر المقدم بن خليفة وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصا، لأنه كان قد قتل أباهم. وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته إلى قصر زياد بين المهدية وسفاقس، ووكل بهما. فبقى هناك حتى مات يحيى وولى ابنه على. فسيّره إلى ديار مصر فى البحر. وفى سنة أربع وخمسمائة، أنفذ ابنه أبا الفتوح واليا على مدينة سفاقس. فقام أهلها عليه فنهبوا قصره وهمّوا بقتله. فلم يزل يحيى يعمل الحيلة حتى فرق كلمتهم وبدد شملهم وملك رقابهم وملأ السجون منهم. ثم عفّ عن دمائهم وعفا عن ذنوبهم. وفى أيام يحيى وصل إلى المهدية من طرابلس المهدى محمد بن تومرت، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى «2» . ذكر وفاة يحيى بن تميم وشىء من أخباره كانت وفاته فجأة يوم عيد الأضحى سنة تسع وخمسمائة. وكان منجمه قد قال له فى تسيير مولده «1» : «إن عليه قطعا فى هذا اليوم» . ومنعه من الركوب فلم يركب وخرج أولاده وأهل بيته وأرباب دولته إلى المصلى. فلما انقضت الصلاة حضروا للسلام عليه وتهنئته.

وقرأ القراء «1» وأنشد الشعراء وانصرفوا إلى الطعام. فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام «2» . فلم يمش غير ثلاث خطوات ووقع ميتا رحمه الله. وكان عادلا فى رعيته، ضابطا لأمور دولته، مدبرا لجميع أحواله، رحيما بالضعفاء والفقراء كثير الصدقة، يقرب أهل العلم والفضل. وكان عالما بالأخبار وأيام الناس والطب. وكان حسن الوجه، أشهل العينين، مائلا «3» فى قدّه إلى الطول. ومات وله من العمر اثنتان وخمسون سنة إلا سبعة عشر يوما «4» . ومدة ولايته ثمانى سنين وخمسة أشهر إلا خمسة أيام «5» . وخلّف من الأولاد الذكور ثلاثين ولدا. وقال عبد الجبار محمد بن حمديس الصقلى يرثيه ويهنىء ابنه عليا بالملك «6» : ما أغمد الغضب حتى جرّد الذّكر ... ولا اختفى قمر حتى بدا قمر

ذكر ولاية على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى

بموت يحيى أميت الناس كلهم ... حتى إذا ما علىّ جاءهم نشروا «1» إن يبعثوا بسرور من تملّكه ... فمن منيّة يحيى بالأسى قبروا «2» أوفى علىّ فسنّ الملك ضاحكة ... وعينه من أبيه دمعها همر «3» شقّت جيوب المعالى بالأسى فبكت ... فى كل أفق عليه الأنجم الزّهر «4» وقلّ لابن تميم حزن مأتمها ... فكل حزن عظيم فيه محتقر قام الدليل ويحيى لا حياة له ... أن المنية لا تبقى ولا تذر ذكر ولاية على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى كانت ولايته بعد وفاة أبيه. وكان إذ ذاك بمدينة سفاقس، فاجتمع رجال الدولة منهم عبد العزيز بن عمار والقائد زكو «5» وغيرهما.

ووقع الاتفاق على أن يكتب كتاب على لسان يحيى لولده يؤمر فيه بالوصول إليه مسرعا. فكتب وسيّر إليه فوصل إليه ليلا. فخرج لوقته ومعه طائفة من أمراء العرب «1» . وجد السير فوصل إلى المهدية الظهر من يوم الخميس الثانى «2» من يوم العيد، وهو الحادى عشر من ذى الحجة سنة تسع وخمسمائة. ودخل القصر. وبدأ بتجهيز أبيه ومواراته فى قبره ثم جلس للعزاء والهناء. ولما استقامت له الأمور، جهز أسطولا إلى جربة، وكان أهلها يقطعون على الناس فى البحر. وجعل قائد الأسطول القائد إبراهيم قائد جيشه، وأصحبه جماعة من رجال الدولة. فمضوا إليها وحاصروها وضيقوا على أهلها، حتى أذعنوا للطاعة ونزلوا على الحكم والتزموا الكف عن الفساد. فأمن من يسافر فى البحر. وفى سنة عشر وخمسمائة، جهز جيشا إلى مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان. فحاصرها وضيق على من بها. فصالح ابن خراسان السلطان على ما أراد. وفتح أيضا فى هذه السنة جبل وسلات واستولى عليه. وهو جبل منيع لم يزل أهله طول الدهر يقطعون الطريق ويقتلون الناس. فملكه وقتل من فيه. وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة، حاصر الأمير على مدينة قابس فى البحر. وسبب ذلك أن رافع بن مكن الدهمانى أنشأ مركبا

ذكر حصار رافع المهدية وانهزامه

بساحلها، وقصد إجراءه فى البحر فى آخر أيام يحيى فلم ينكر ذلك وأعانه بالخشب والحديد. وتوفى يحيى قبل إكماله. فلما ولى على أنف من ذلك. فعمر ست حربيات وأربع شوان. فاستعان رافع برجار صاحب صقلية، فأنفذ رجار لإعانته أصطولا «1» جملته أربعة وعشرون شينيا، لتأخذ المركب معها وتشيعه إلى صقلية لئلا تقطع عليه مراكب على. فلما اجتاز أصطول رجار بالمهدية، أخرج على الحربيات والشوانى تتبعه إلى قابس، فتوافوا «2» بها. فرجع أسطول رجار إلى صقلية وبقى أصطول على يحاصر قابس. فضيق على من بها وأثر فى مأجلها وأفسد ثم رجع إلى المهدية. وتمادى رافع فى إظهار المخالفة والتمسك بصاحب صقلية. ذكر حصار رافع المهدية وانهزامه قال: ثم أقبل رافع بن مكن الدهمانى على جميع قبائل العرب وحالفهم. وسار بهم لحصار المهدية ونازلها. فأمر على العسكر بالخروج وقتاله. فخرجوا عشية النهار فحملوا على رافع ومن معه حتى أزالوهم عن مواقفهم. ووصل الجند إلى أخبية العرب. فصاح الحريم: «هكذا نسبى، هكذا نستباح» . فعادت العرب ونشبت الحرب واشتد القتال إلى المغرب. ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع خلق كثير، ولم يقتل من أصحاب «3» على إلا رجل واحد. ثم

خرج إليهم الجند مرة ثانية واقتتلوا. فكان الظهور «1» لأصحاب على. وهرب رافع بالليل إلى القيروان فدخلها بعد قتال. فأرسل على ابن يحيى إليه عسكرا فحاصروه بالقيروان. ووقع بينهم قتال شديد قتل فيه أحمد بن إبراهيم صاحب الجيش بسهم أصابه. وكان الغلب مع ذلك لأصحاب على. ورجع رافع إلى قابس. وتوسط ميمون بن زياد «2» لرافع فى الصلح مع على. فأجاب إلى ذلك بعد امتناع «3» . وتم الصلح بينهما وانتظم وزالت الوحشة. ثم وصل رسول رجار صاحب صقلية بمكاتبة يلتمس فيها تأكيد العهود وتجديد العقود. فأجاب إلى ذلك. ثم وقعت الوحشة بينهما. فأمر «4» على بتجديد الأصطول فعمر عشرة مراكب حربية، وثلاثين غرابا، وشحنها بالرجال والعدد والنفط. وجميع ما تحتاج إليه. وكان دأبه الحزم والصرامة والشهادة والعزم إلى أن توفى. وكانت وفاته فى يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الاخر سنة خمس عشرة وخمسمائة. وكان مولده بالمهدية صبيحة يوم الأحد للنصف من صفر سنة تسع وسبعين وأربعمائة. وكانت مدة ولايته خمس سنين وأربعة أشهر وثلاثة «5» عشر يوما. وخلف من الأولاد

ذكر ولاية الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى

أربعة، وهم الحسن وباديس وأحمد «1» وعزيز. ولما مات ولى بعده بعهده ولده الحسن. ذكر ولاية الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى كانت ولايته بعهد من أبيه. فاستقل بعد وفاة أبيه، وله من العمر إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وشهورا. فدبر دولته صندل الخصى وحفظ الملك. فلم تطل أيام صندل حتى مات. ووقع الاختلاف بين أكابر الدولة والقواد، وكل منهم يطلب التقدم على الجميع، ويبدى أنه صاحب الحل والعقد. فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى القائد أبى عزيز موفق، وهو من قواد أبيه، فصلحت الأمور. ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة وفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة «2» ، استولت الفرنج على جربة «3» من بلاد إفريقية. وكان أهلها لا يدخلون تحت طاعة سلطان. فخرج إليها جيش من صقلية وأداروا المراكب بجهاتها. فقاتل أهلها قتالا شديدا فقتل منهم خلق كثير وانهزموا. وملكها الفرنج، وغنموا الأموال، وسبوا النساء والأطفال. وهلك أكثر رجالها، وعاد من

ذكر ملك الفرنج مدينة طرابلس

بقى منهم فأخذوا لأنفسهم أمانا من صاحب صقلية وافتكوا أسراهم «1» وسبيهم. ذكر ملك الفرنج مدينة طرابلس وفى أيامه ملك الفرنج مدينة طرابلس الغرب، وذلك فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وسبب ذلك أن رجار صاحب صقلية جهز أصطولا كثيرا «2» وسيره إليها. فأحاطوا بها برا وبحرا فى ثالث المحرم من السنة. فقاتلهم أهلها ودامت الحرب بينهم ثلاثة أيام. فلما كان فى اليوم الثالث سمع الفرنج صيحة عظيمة فى البلد وخلت الأسوار من المقاتلة. وكان سبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا. وأخرجت بنو مطروح طائفة. وقدموا على أنفسهم رجلا من الملثمين «3» كان قد قدم يريد الحج ومعه جماعة، فولوه أمرهم. فلما نازلهم الفرنج، أغارت تلك الطائفة على بنى مطروح. فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار «4» . فانتهز الفرنج الفرصة، ونصبوا السلالم، وصعدوا على السور، وملكوا المدينة. فسفكوا دماء أهلها، وسبوا نساءهم ونهبوا أموالهم «5» . وهرب من قدر على الهرب والتجئوا

ذكر استيلاء الفرنج على مدينة المهدية وسفاقس وسوسة

إلى البربر والعرب. ثم نودى بالأمان «1» للناس كافة. فرجع كل من فر منها. وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها. وعند رجوعهم أخذوا رهائن أهلها والملثم وبنى مطروح ثم أعادوا رهائنهم واستقام أمر المدينة وعمرت سريعا. ذكر استيلاء الفرنج على مدينة المهدية وسفاقس وسوسة كان استيلاء «2» الفرنج على ذلك فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وذلك أن الغلاء تتابع «3» فى جميع بلاد المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة، وكان أشده فى سنة اثنتين وأربعين، فإن الناس فارقوا البلاد، ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية، وأكل الناس بعضهم بعضا، وكثر الفناء «4» . فاغتنم رجار ملك صقلية هذه الفرصة، وعمر أصطولا نحو مائة وخمسين «5» شينيا، وشحنها بالرجال والعدد. وساروا إلى جزيرة قوصرة- وهى بين المهدية وصقلية- فصادفوا بها مركبا وصل من المهدية. فأخذ أهله وأحضروا بين يدى جرجى مقدم الأصطول، فسألهم عن حال إفريقية. ووجد فى المركب قفص حمام. فأمر الرجل الذى كان

الحمام صحبته أن يكتب بخطه: «إننا لما وصلنا إلى قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية. فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى القسطنطينية» . وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير والناس، وأراد جرجى بذلك أن يصل بغتة. ثم سار الأصطول من قوصرة فوصل إلى المهدية فى ثانى صفر «1» فأرسل مقدم الأسطول إلى الحسن يقول: «إنا لم نأت إلا طلبا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها «2» . (وكان قد أخرج منها وبينه وبين الفرنج مودة ومصالحة) . وأما أنت فبيننا وبينك عهود ومواثيق إلى مدة، ونريد منك عهودا ومواثيق إلى مدة. ونريد منك عسكرا يكون معنا» . فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم. فقالوا: «نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين «3» » . فقال: «نخشى أن ينزلوا إلى البر، ويحصرونا برا وبحرا، وتنقطع الميرة عنا وليس عندنا ما يقوم بنا شهرا واحدا. وأنا أرى سلامة المسلمين من القتل والأسر خيرا من الملك. وقد طلب منى عسكرا إلى قابس، فإن فعلت فما يحل إعانة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول: انتقض ما بيننا من الصلح. وليس لنا بقتاله طاقة. والرأى عندى أن نخرج بالأهل والولد، ونترك البلد. فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا» . وأمر فى الحال بالرحيل وأخذ معه ما خف حمله

وخرج، وتبعه الناس على وجوهم بأهلهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم. ومن الناس من اختفى عند النصارى وفى الكنائس هذا والأسطول فى البحر يمنعه الريح من الوصول إلى المدينة. فما مضى ثلثا «1» النهار حتى لم يبق بالبلد ممن عزم على الخروج أحد. ودخل الفرنج البلد بغير مانع ولا مدافع. ودخل جرجى القصر فوجده على حاله لم يأخذ منه الحسن شيئا إلا ما خف من ذخائر الملوك. ووجد فيه عدة من حظاياه. ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة، ومن كل شىء غريب فختم عليه. وجمع سرارى الحسن فى قصر. ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ثم نودى بالأمان. فخرج من كان مستخفيا. وأصبح جرجى من الغد، فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا البلد. فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة. وأرسل أمانا إلى من خرج من المهدية، ودواب يحملون عليها الأطفال فرجعوا. قال: ولما استقر جرجى بالمهدية «2» سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس، وأسطولا إلى مدينة سوسة. فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية- وكان على بن الحسن واليا عليها- فخرج إلى أبيه، وخرج الناس لخروجه «3» . فدخلها الفرنج بغير قتال فى ثانى عشر صفر منها. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من

ذكر انقراض دولة بنى زيرى من افريقية وما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية

العرب فامتنعوا بهم. فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد. فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم المسلمون حتى أبعدوا عن البلد. ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى البلد، وقوم إلى البرية. وقتل منهم «1» جماعة. ودخل الفرنج البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة. وأسر من بقى من الرجال وسبى الحريم. وذلك فى الثالث عشر «2» من صفر منها. ثم نودى بالأمان فعاد أهلها إليها. ووصلت كتب من رجار صاحب صقلية بالأمان إلى جميع أهل إفريقية، والمواعيد الحسنة. وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس، ومن المغرب إلى دون القيروان. ذكر انقراض دولة بنى زيرى من افريقية وما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية كان انقراض دولتهم من إفريقية بخروج الحسن بن على بن يحيى بن تميم من المهدية، وكان خروجه منها على ما قدمناه فى ثانى صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ومدة ملكه سبعا وعشرين سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وعدة من ولى «3» منهم تسعة ملوك، وهم زيرى بن مناد، ثم ابنه يوسف بلكّين، ثم ابنه المنصور بن يوسف، ثم ابنه باديس

ذكر ما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية

ابن المنصور، ثم ابنه المعز بن باديس، ثم ابنه تميم بن المعز، ثم ابنه يحيى بن تميم، ثم ابنه على بن يحيى، ثم ابنه الحسن ابن على هذا، وعليه انقرضت الدولة. ومدة قيامهم منذ عمّر زيرى بن مناد مدينة آشير فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وإلى هذا الوقت مائتى سنة وتسع عشرة سنة، ومنذ تسلم يوسف بلكين بلاد المغرب من المعز لدين الله أبى تميم معد- عند رحيله إلى الديار المصرية على ما قدمناه- مائة سنة، وإحدى وثمانين سنة وشهرا واحدا وتسعة أيام «1» . ولم يبق منهم ببلاد المغرب غير بنى حماد، وسنذكر انقراض دولتهم فى أخبار عبد المؤمن إن شاء الله تعالى «2» . ذكر ما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية قال: لما خرج من المهدية سار بأهله وأولاده، وكانوا اثنى عشر ذكرا «3» غير الإناث. وقصد محرز بن زياد وهو بالمعلّقة «4» فوصل إليه فلقيه لقاء جميلا وتوجع لما حل به. وأقام عنده شهورا والحسن كاره للمقام. وأراد المسير إلى ديار مصر إلى الحافظ العبيدى، واشترى مركبا ليسافر فيه. فاتصل ذلك بجرجى الفرنجى

المتغلب على ملكه، فجهز شوانى لأخذه «1» . فرجع الحسن عن ذلك. وقصد المسير إلى عبد المؤمن ببلاد المغرب يستنصر به على الفرنج. فأرسل ثلاثة من أولاده، وهم يحيى وعلى وتميم، إلى يحيى بن العزيز بالله، وهو من بنى حماد، وهما ابنا عم يرجعون كلهم فى النسب إلى زيرى بن مناد، وكان يحيى هذا قد ولى بعد أبيه. واستأذنه فى الوصول إليه، وتجديد العهد به، والمسير من عنده إلى عبد المومن. فأذن له يحيى فى ذلك فسار الحسن إليه. فلما وصل إلى بلاده لم يجتمع به وسيره إلى جزيرة بنى مزغنان «2» هو وأولاده ووكل بهم من يمنعهم من التصرف. فبقوا هناك إلى أن ملك عبد المؤمن مدينة بجاية فى سنة سبع وأربعين وخمسمائة. ثم صار من أصحاب عبد المؤمن وشهد معه فتح المهدية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار عبد المومن «3» .

ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم

ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم كان ابتداء أمرهم- على ما حكاه عز الدين أبو محمد عبد العزيز ابن شداد بن الأمير تميم بن المعز بن باديس فى تاريخه المترجم «بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان» بسند يرفعه إلى القاضى أبى الحسن على بن فنون قاضى مراكش: أن رجلا من قبيلة جدّالة من كبرائهم اسمه الجوهر أتى «1» من الصحراء إلى بلاد المغرب طالبا للحج، وذلك فى عشر الخمسين وأربعمائة «2» . وكان مؤثرا للدين، محبا فى الخير، مكرما للصالحين. فمر بفقيه يقرأ عليه مذهب الإمام مالك بن أنس وحوله جماعة. قال: والغالب أنه أبو عمران قاضى القيروان «3» . فآوى إليه وأصغى إلى ما يذكر فى مجلسه من علم الشريعة. فأحب سماعه وأناب إليه قلبه. ثم استمر فى وجهته إلى الحج وقد أثر ذلك فى نفسه. فلما حج وانصرف قصد المسجد الذى كان فيه الفقيه، وسمع الكلام فيما تقتضيه ملة الإسلام من الفرائض والسنن والأحكام. فقال الجوهر: «يا فقيه، ما عندنا فى الصحراء من هذا الذى

تذكرونه شى إلا الشهادتين» فى العامة، والصلاة فى بعض الخاصة» . فقال الفقيه: «فاحمل معك «2» من يعلمهم عقائد ملتهم وكمال دينهم» . فقال له الجوهر: «فابعث معى أحد الفقهاء، وعلىّ حفظه وبره وإكرامه» . وكان للفقيه ابن أخ اسمه عمر، فقال له: «اذهب مع هذا السيد إلى الصحراء فعلّم القبائل بها ما يجب عليهم من دين الإسلام، ولك الثواب الجزيل من الله عز وجل، والذكر الجميل من الناس» فأجابه إلى ذلك. فلما أصبح عمر من الغد جاء إلى عمه فقال له: «أعفنى من الدخول إلى الصحراء فإن أهلها جاهلية «3» ، قد ألفوا سيرا نشئوا عليها فمتى نقلوا عنها قتلوا من أمرهم بخلافها» . وكان من طلبة الفقية رجل يقال له عبد الله بن ياسين الكزولى فرأى الفقيه وقد عزّ عليه مخالفة ابن أخيه، فقال: «يا فقيه، أرسلنى معه والله المعين» . فأرسله معه «4» . وتوجها إلى الصحراء. وكان عبد الله بن ياسين فقيها عالما ورعا دينا شهما قوى النفس حازما ذا رأى وصبر وتدبير حسن. فدخل «5» الجوهر وعبد الله بن ياسين إلى الصحراء. فانتهوا إلى قبيلة لمتونة، وهى على ربوة عالية. فلما رأوها نزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين تعظيما لدين الاسلام. فأقبلت أعيان لمتونة وأكابرهم للقاء الجوهر والسلام عليه. فرأوه يقود الجمل فسألوه عنه فقال: «هو حامل سنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاء «1» يعلم أهل الصحراء ما يلزمهم فى دين الإسلام» . فرحبوا به وأنزلوه أكرم نزل. ثم اجتمعت طائفة كبيرة من تلك القبيلة فى محفل وفيهم أبو بكر ابن عمر. فقالوا: «تذكر لنا ما أشرت إليه أنه يلزمنا؟» فقص عليهم عبد الله عقائد الإسلام وقواعده وبيّن لهم حتى فهم ذلك أكثرهم. ثم اقتضاهم الجواب، فقالوا: «أما ما ذكرته من الصلاة والزكاة فذلك قريب. وأما قولك: من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يجلد، فأمر لا نلتزمه «2» ولا ندخل تحته. اذهب إلى غيرنا» . فرحلا عنهم والجوهر الجدالى يجر زمام جمل عبد الله بن ياسين فنظر إليه شيخ كبير منهم فقال: «أرأيتم هذا الجمل؟ لا بد أن يكون له فى هذه الصحراء شأن يذكر «3» فى العالم» . قال: وكان بالصحراء قبائل العرب، وهى لمتونة وجدالة ولمطة وانبيصر «4» وايتوارى «5» ومسوفة «6» وأفخاذ عدة، وكل قبيلة قد حازت أرضا تسرح فيها مواشيهم، ويحمونها بسيوفهم. وهذه القبائل ينسبون إلى حمير، ويذكرون أن أسلافهم خرجوا من اليمن فى الجيش الذى أنفذه أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى

الشام. وانتقلوا إلى مصر ثم توجهوا إلى المغرب مع موسى بن نصير «1» . وتوجهوا مع طارق إلى طنجة ثم اختاروا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها وأقاموا بها. قال: وسار الجوهر حتى انتهى بعبد الله إلى قبيلة جدالة. فخاطبهم عبد الله هم والقبائل المتصلة بهم. فمنهم من سمع وأطاع ومنهم من أعرض وعصى. ثم إن المخالفين لهم تحزبوا وانحازوا. فقال عبد الله للذين قبلوا منه الإسلام: «قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق وأنكروا دين الإسلام. فاستعدوا لقتالهم، واجعلوا لكم حزبا، وأقيموا لكم راية، وقدموا لكم أميرا» . فقال له الجوهر: «أنت الأمير» . فقال «2» عبد الله: «لا يمكننى هذا: إنما أنا حامل أمانة الشرع، أقص عليكم نصوصه وأبين لكم طريقه، وأعرّفكم سلوكه. ولكن أنت الأمير» . فقال الجوهر: «لو فعلت هذا لتسلطت قبيلتى على الناس ولعاثوا فى الصحراء، ويكون وزر ذلك علىّ. لا رأى لى فى هذا» . فقال عبد الله: «فهذا أبو بكر بن عمر «3» رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل جليل القدر، مشكور الحال، محمود السيرة، مطاع فى قومه، نسير إليه ونعرض تقدمة الإمرة عليه، فلحب الرياسة يستجيب إلى ذلك بنفسه، ولمكان الجاه ستجتمع إليه طائفة من قبيلته نقوى بها على عدونا. والله المستعان» .

ذكر ولاية أبى بكر بن عمر اللمتونى

ذكر ولاية أبى بكر بن عمر اللمتونى قال: فأتوا أبا بكر بن عمر فأجاب، وعقدوا له راية وبايعوه بيعة الإسلام، وتبعه زمرة من قومه. وسماه عبد الله بن ياسين أمير المسلمين. ورجعوا إلى جدالة وجمعوا إليهم من أمكن من الطوائف الذين حسن إسلامهم، ومن الأقوام الذين تألفت قلوبهم. وحرضهم عبد الله على الجهاد فى سبيل الله، وسماهم المرابطين. وتألبت عليهم أحزاب من الصحراء معاندين من أهل الشر والفساد، وجيشوا لمحاربتهم. فلم يناجزهم الحرب ولا بادرهم «1» بلقاء بل تلطف عبد الله وأبو بكر فى أمرهم، واستمالوهم، واستعانوا على أولئك الأشرار المفسدين بالمصلحين من قبائلهم يسبونهم «2» قوما بعد قوم بضروب من التوصل حتى حصلوا منهم تحت زرب عظيم وثيق ما ينيف على ألفى رجل من المفسدين وتركوهم فيه أياما بغير طعام وهم يحفظون الزرب من سائر جهاته، وقد خندقوا حوله. ثم أخرجوهم قوما بعد قوم وقتلوهم عن آخرهم. فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء وهابهم كل من فيها «3» ، وقويت شوكة المرابطين. هذا وعبد الله بن ياسين يعلم الشريعة ويقرئ الكتاب والسنة، حتى صار حوله فقهاء. وكل من انقاد

ذكر مقتل الجوهر الجدالى

إلى الحق على طريق الورع «1» والتقى والخشية لله والمراقبة، فرتّب له أوقاتا للمواعظ. والتذكير وإيراد الوعد والوعيد. فاستقام منهم خلق كثير، وخلصت عقائدهم وزكت نفوسهم، وصفت قلوبهم. ذكر مقتل الجوهر الجدالى قال: كان الجوهر أصح القوم عقيدة، وأخلصهم لله دينا، وأكثرهم صوما وتهجدا. فلما استبد أبو بكر بالأمر دونه، وعبد الله ينفّذ الأمور بالسنة، فصارت الدولة لهما. وبقى الجوهر لا حكم له فداخله الحسد، وأزلّه الشيطان، فشرع فى إفساد الأمر سرا. فعلم بذلك منه وعقد له مجلس. فثبت عليه ما ذكر عنه، فحكم عليه بالقتل لأنه نكث البيعة، وشق العصا، وهمّ بمحاربة أهل الحق. فقال الجوهر: «وأنا أيضا أحب لقاء الله عز وجل حتى أرى ما عنده» . فاغتسل وصلى ركعتين، وتقدم طائعا. فضربت عنقه رحمه الله تعالى. قال: وكثرت طائفة المرابطين، وتتبعوا المعاندين لهم من قبائل الصحراء بالقتل والنهب والسبى إلا من أسلم منهم وسالم. وبلغت الأخبار الفقيه بما جرى فى الصحراء على يد ابن ياسين من سفك الدماء ونهب الأموال وسبى الحريم. فعظم ذلك عليه واشمأز منه وندم على إرساله، وكتب له فى ذلك. فأجابه عبد الله بن

ذكر خروج الملثمين إلى السوس أولا وثانيا ومقتل عبد الله بن ياسين

ياسين: «أما إنكارك على ما فعلت وندامتك على إرسالى، فإنك أرسلتنى إلى أمة كانت جاهلية، يخرج أحدهم ابنه وابنته «1» لرعى السوام فيعزبان «2» فى المرعى. فتأتى المرأة حاملا من أخيها ولا ينكرون ذلك. وليس دأبهم إلا إغارة بعضهم على بعض وقتل بعضهم لبعض. ولادية لهم «3» فى الدماء، ولا حرمة عندهم للحريم، ولا توقى بينهم فى الأموال، فأخبرتهم بالمفروض عليهم والمسنون لهم والمحدود فيهم. فمن قبل واليته، ومن تولى أرديته، وما «4» تجاوزت حكم الله ولا تعديته. والسلام» . ذكر خروج الملثمين الى السوس أولا وثانيا ومقتل عبد الله بن ياسين قال: وفى سنة خمسين وأربعمائة، قحطت بلاد الملثمين وماتت مواشيهم ولقوا شدة عظيمة. فأمر عبد الله ضعفاءهم بالخروج إلى السوس الأقصى وأخذ الزكاة. فخرجوا وقالوا: «نحن مرابطون خرجنا إليكم من الصحراء نطلب حق الله من أموالكم» . فجمعوا لهم شيئا له بال. فرجعوا به إلى الصحراء. ثم ضاقت الصحراء بالمرابطين لشظفها وكثرتهم. فطلبوا إظهار كلمة الحق، فخرجوا إلى السوس الأقصى. فتسامع بهم أهل بلاد

ذكر استيلائه على مدينة سجلماسة

السوس، فاجتمعوا وجيشوا، وخرجوا لقتالهم. وصدقوهم القتال، فكسروهم. وقتل ابن ياسين، وانهزم جيش المرابطين. فجمع أبو بكر جيشا وخرج إلى بلاد السوس ثانية فى ألفى راكب. فاجتمع عليه من قبائل بلاد السوس وزناتة اثنى عشر ألف فارس. فأرسل إليهم رسلا وقال لهم: «افتحوا لنا الطريق، فما قصدنا إلا غزو المشركين» . فأبوا ذلك واستعدوا للقتال. فنزل أبو بكر وصلى الظهر على درقته ثم قال: «اللهم إن كنا على الحق فانصرنا عليهم، وإن كنا على الباطل فأرحنا بالموت مما نحن فيه» . ثم ركب ولقيهم فانهزموا. وقتل فيهم قتلا ذريعا، واستباح أسلابهم وأموالهم وعددهم. فقويت نفسه ونفوس أصحابه. ذكر استيلائه «1» على مدينة سجلماسة قال: ثم سار أبو بكر فى أطراف البلاد إلى مدينة سجلماسة. فنزل عليها وطلب أصحابه من أهلها الزكاة. فقالوا لهم: «إنكم لما أتيتمونا فى عدد قليل وسعكم فضلنا. والآن فضعفاؤنا فيهم كثرة، وقد آثرناكم سنين. وما هذه حالة من يطلب الزكاة بالسلاح والخيل. وإنما أنتم قوم محتالون ولو أعطيناكم أموالنا بأسرها ما عمتكم» . وخرج إليهم صاحبها فى عسكر كبير «2» فحاربوه. وطالت الحرب بينهم.

ثم ساروا إلى قول «1» ، وهو جبل قريب من الصحراء. فاجتمع إليهم من كزولة خلق كثير. ورجعوا إلى سجلماسة، واستولوا عليها بعد حروب. وقتل مسعود بن ورو «2» . واستخلف أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين اللمتونى من بنى عمه الأقربين ورجع إلى الصحراء. وكان فتحها فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة «3» . قال: ولما ولى يوسف بن تاشفين أحسن إلى الرعية واقتصر منهم على الزكاة. قال: وأقام أبو بكر بالصحراء مدة ثم عاد إلى سجلماسة فأقام بها سنة، والخطبة والدعاء والأمر والنهى «4» له. ثم استخلف على سجلماسة ابن أخيه أبا بكر «5» بن إبراهيم بن عمر. وجهز يوسف بن تاشفين وجيشا من المرابطين إلى السوس ففتح له وعلى يديه. وتوفى أبو بكر فى سنة اثنتين وستين وأربعمائة بالصحراء «6» .

ذكر ولاية يوسف بن تاشفين

ذكر ولاية يوسف بن تاشفين قال: ولما توفى أمير المسلمين أبو بكر بن عمر، اجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين، وولوه أمرهم، وسموه أمير المسلمين. وكانت الدولة حينئذ فى بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا فى أيام الفتن. وهى دولة رديئة مختلة سيئة السيرة مذمومة الطريقة. وكان يوسف ومن معه على نهج السنة واتباع أئمة الشريعة فاستغات به أهل بلاد المغرب، فافتتحها شرقا وغربا بأيسر سعى. وأحبته الرعية وصلحت أحوالهم. ذكر بناء مدينة مراكش قال: ثم قصد أمير المسلمين موضع مدينة مراكش «1» ، وهو قاع صفصف لا عمارة فيه، وهو سقع «2» متوسط فى مملكة بلاد المغرب كالقيروان فى بلاد إفريقية، تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة وأمنعهم معقلا. فاختط المدينة هناك ليتقوى «3» على تدويخ أهل تلك البلاد. واتخذها دار ملكه، ومقر سكنه. فلم يعانده أحد من أهل تلك النواحى لهيبته فى نفوسهم وعظم ذكره بالمغرب. وملك المدائن المتصلة بالبحر مثل سبتة وسلا وطنجة وغيرها. وكثرت أمواله وجنوده «4» .

ذكر ما قيل فى سبب لثام المرابطين

وخرج إليه جماعة لمتونة وكثير من القبائل. وضيق لثامه هو وجماعته. ذكر ما قيل فى سبب لثام المرابطين قيل: إنهم كانوا فى الصحراء يتلثمون لشدة الحر والبرد كما يفعل العرب فى البرية، والغالب على ألوانهم السمرة. فلما ملكوا البلاد ضيقوا ذلك اللثام. وقيل: إن طائفة منهم من لمتونة فى الصحراء خرجوا للإغارة على عدوهم. فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الصبيان والمشايخ والنساء. فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب رجالهن، ويتعممن بالعمائم، ويسترن وجوههن باللثام، وأن يضيقنه حتى لا يعرفن. ففعلن ذلك ولبسن السلاح. وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدرن هن بالبيوت. فلما أشرف العدو رأى جمعا عظيما هاله وقال: «هؤلاء حول حريمهم يقاتلون عليه قتال نخوة «1» وقد ترجلوا للموت. والرأى أن نسوق النعم ونمضى. فإن تبعونا قاتلناهم خارج البيوت» . فبينما هم فى جمع النعم من مراعيها إذ أقبل رجال الحى، فصار العدو بينهم، فقتلوا شر قتلة ولم يسلم منهم إلا القليل. وقتل النساء منهم «2» أكثر مما قتل الرجال. فاستنّوا اللثام من ذلك الوقت. فلا يزيلونه ليلا ولا

نهارا حتى إن الرجل لا يأكل ولا يشرب مع أهله إلا من تحت اللثاء والمقتول منهم فى المعركة لا يعرفه أصحابه بوجهه بل بلثامه. قال ابن شداد: ومما رأيت أنه كان لى صديق منهم بدمشق فأتيت يوما إلى زيارته. فدخلت إليه وقد غسل عمامته، وسراويله مشدودة «1» على رأسه، وقد تلثم بخلخاله. هذا بعد أن انقضت دولتهم، وتفرقت جملتهم، وتغربوا «2» فى البلاد. قال: ولقد حكى لى من أثق به أنه رأى شيخا من الملثمين بالمغرب بعد انقضاء الدولة، منزويا فى ضفة نهر، يغسل خلقانه «3» وهو عريان، وعورته بارزة، ويده اليمنى يغسل بها والأخرى يستر بها وجهه. فقال له: «استر عورتك بيدك» . فقال: «أنا ملثم «4» بها» . وقال بعض الشعراء فى اللثام: قوم لهم درك العلى فى حمير ... وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا إحراز كلّ فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا

نرجع إلى أخبار يوسف بن تاشفين

وقال آخر «1» : إذا التثموا بالرّيط خلت وجوههم ... أزاهر تبدو من فتوق الكمائم أو التأموا بالسابرية أبرزوا ... عيون الأفاعى من جلود الأراقم «2» نرجع الى أخبار يوسف بن تاشفين قال: واستقامت له الأمور. وتزوج زينب بنت إبراهيم «3» زوجة أبى بكر بن عمر، وكانت حظية عنده، وأميرة «4» عليه. وكذلك جميع الملثمين ينقادون لأمور نسائهم، ولا يسمون الرجل إلا بأمه فيقولون: ابن فلانة، ولا يقولون: ابن فلان. وكانت زينب لها عزم وحزم. حكى عنها أن زرهون- ويعرف بابن خلوف- وكان له أدب «5» ، فبلغ زينب أنه مدح حواء امرأة سير بن أبى بكر وفضّلها على سائر النساء بالجمال والكمال. فأمرت بعزله عن القضاء. فوصل إلى أغمات واستأذن عليها. فدخل البواب وأعلمها به، فقالت: «قل له: امض إلى التى مدحتها تردك إلى القضاء» . فبقى بالباب أياما حتى نفدت نفقته.

فأتى إلى خادمها فقال له: «إن مولاتك صرفتنى ونقمت على مدحى لامرأة سير. ولو علمت أن ذلك يغضبها ما قلته. وقد نفدت نفقتى، وأردت بيع هذا المهر، وعزّ على أن يصير فى يد من لا يستحقه، وأنا أحب أن تعطينى مثقالين أتزود بهما إلى أهلى. وخذ المهر فأنت أحق به» . فسر الخادم وأعطاه مثقالين وأخذ المهر. ودخل على مولاته زينب وهو فرحان. فقالت له: «ما شأنك؟» فأخبرها الخبر. فرقت للقاضى وندمت على ما فعلت به. وقالت: «اذهب فأتنى به الساعة» . فأحضره إليها. فقالت له: «تمدح زوجة سير وتفضلها على سائر النساء، وخرجت فى وصفك لها عن الحد، وزعمت أن ليس فى الأرض أجمل منها، وما هذه منزلة القضاء «1» ولا يليق بك أن تنزل «2» نفسك فى هذه المنزلة» . فقال ارتجالا: أنت بالشمس لا حقه ... وهى بالأرض لاصقه فمتى ما مدحتها ... فهى من سير طالقه فقالت له: «يا قاضى، طلقتها منه؟» قال: «نعم، ثلاثة وثلاثة وثلاثة» . فضحكت حتى افتضحت وقالت له: «والله، لا شم «3» لها قفا أبدا» . وكتبت إلى يوسف برده إلى القضاء، فرده.

ذكر استيلائه على مدينة أغرناطة من جزيرة الأندلس

ذكر استيلائه على مدينة أغرناطة من جزيرة الأندلس كان سبب ذلك ما قدمناه فى أخبار الدولة العبادية أن المعتمد بن عباد لما وقع بينه وبين الأدفونش «1» ملك الفرنج صاحب طليطلة، وقتل ابن عباد رسله، وجمع الأدفونش عساكره؛ استنجد ابن عباد بأمير المسلمين «2» يوسف بن تاشفين. فدخل بعساكره إلى جزيرة الأندلس، واجتمع بالمعتمد بن عباد، وتوجها جميعا لقتال الفرنج. وكانت وقعة الزلاقة التى انهزم فيها الأدفونش وقتل عامة عسكره على ما قدمناه مبيّنا فى أخبار المعتمد بن عباد. وذلك فى العشر الأول «3» من شهر رمضان سنه تسع وسبعين وأربعمائة «4» . ورجع أمير المسلمين إلى مراكش فأقام بها إلى العام الآتى «5» . ثم دخل إلى الأندلس. وخرج إليه محمد بن عباد من إشبيلية فى عسكره. وأتى عبد الله بن بلكين صاحب أغرناطة فى عسكره.

وساروا حتى نزلوا على ليطة «1» ، وهو حصن منيع كان فيه النصارى فحاربوه أياما فلم يطيقوا فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة. ورجع المعتمد إلى إشبيلية. وكان طريق يوسف بن تاشفين على مدينة أغرناطة. فدخل عبد الله بن بلكين إليها ليخرج إلى يوسف الوظائف. فغدر به يوسف ودخل أغرناطة وأخرجه منها واستولى عليها «2» . ودخل قصر عبد الله فوجد فيه من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك من ملوك الأندلس. ومما وجد فيه سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قوّمت كل جوهرة بمائة مثقال «3» ؛ ومن أنواع الجواهر واليواقيت والزمرد ما لا تحصى قيمته؛ من العين ألف ألف «4» دينار؛ ومن فاخر الثياب وأوانى الذهب والفضة ما لا تعرف له قيمة. وأخرج منها تميم بن بلكين أخا عبد الله، وسار بهما إلى مراكش. وذلك فى سنة ثمانين وأربعمائة «5» . ورجع أمير المسلمين إلى مراكش فأطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس وورغة وقلعة مهدى.

ذكر ملك أمير المسلمين جزيرة الأندلس

ذكر ملك أمير المسلمين جزيرة الأندلس وفى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ملك من جزيرة الأندلس ما كان بقى بيد المسلمين بها، وهى قرطبة وإشبيلية والمرية وبطليوس. وذلك أنه سار فى هذه السنة من مراكش إلى سبتة. وأدخل العساكر مع سير بن أبى بكر إلى الأندلس وحشد خلقا كثيرا، وأمره بمحاصرة إشبيلية. فحاصرها وفتحها فى يوم الأحد لتسع بقين من شهر رجب من هذه السنة. وأسر المعتمد بن عباد ونقله إلى أغمات فحبسه بها حتى مات، على ما قدمناه مبينا فى أخبار ابن عباد «1» . قال: ثم خرج سير من إشبيلية إلى مدينة المرية فنزل عليها. وكان واليها محمد بن معن بن «2» صمادح فقال لولده: «مادام المعتمد بن عباد بإشبيلية فلسنا نساءل عنه» . فأتاه الخبر بفتح إشبيلية وأسر ابن عباد فمات غما. فخرج ولده بإخوته وأهله فى مركب حربى شحنه بأمواله. وأقلع إلى الجزائر والتحق ببنى حماد، فأحسنوا إليه وأسكنوه مدينة تدلّس. قال: وكان أبو محمد عمر بن محمد بن عبد الله بن مسلمة «3» المعروف بابن الأفطس صاحب بطليوس ممن أعان المعتمد، فلما سمع بإشبيلية رجع إلى بلده «4» . فسار إليه سير بن أبى بكر فحاربه

وغلبه. وأتى به وبولده» الفضل أسيرين، فأمر سير بضرب أعناقهما. فقال: «قدّموا ولدى قبلى للقتل ليكون فى صحيفتى» . فقتل قبله ثم قتل هو بعده. قال: ولم يترك سير من ممالك الأندلس وملوكهم سوى بنى هود. فإنه لم يقصد بلادهم وهى شرقى الأندلس. وصاحبها يومئذ المستعين بالله [بن] «2» هود، وهو من الشجعان الذين يضرب بهم المثل. وكان قد حصّل عنده من آلات الحصار والأقوات ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة، وكانت قلعة حصينة. وكان يهادن أمير المسلمين قبل ملكه الأندلس ويكثر مراسلته. فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه على ابن يوسف عند موته بترك التعرض إلى بلاد [بنى] هود. وقال «اتركهم بينك وبين العدو فإنهم شجعان» . قال: وتتابعت الفتوح على أمير المسلمين حتى احتوى على جميع بلاد الأندلس التى كانت للمسلمين وما والاها من البلاد فى البر الكبير، من جميع بلاد السوس والجبال والصحراء. وفتح فى بلاد الفرنج فتوحا كثيرا.

ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا عجيبا

ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا عجيبا قال، كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولى سيد قبيلة كزولة، ملك جبلها، وهو جبل شامخ منيف، وهى قبيلة كبيرة وكان بينه وبين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع. فلما كان فى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، أرسل يوسف إليه يطلب الاجتماع به. فركب حتى قاربه «1» ثم رجع وخافه على نفسه. فكتب إليه أمير المسلمين يحلف «2» أنه ما أراد به سوءا ولا قصد إلا خيرا. فلم يرجع لذلك. فدعا يوسف حجاما وأعطاه مائة دينار وضمن له مثلها إن سار إلى محمد بن إبراهيم وتحيّل فى قتله. فسار الحجام ومعه مشاريط. مسمومة فصعد الجبل. وجعل ينادى بالقرب من مساكن محمد. فسمعه فقال: «هذا الحجام من بلدنا؟» فقيل: «إنه غريب» . فقال: «أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت منه» . فأحضره عنده. واستدعى حجاما غيره وأمره أن يحجمه بمشاريطه التى معه. فامتنع الحجام الغريب. فأمسك وحجم بها، فمات. فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظا وحنقا، ولج فى السعى فى أذى يوصله إلى الكزولى. فاستمال قوما من أصحابه فمالوا إليه. فأرسل إليهم جرارا من عسل مسموم. فحضروا عند محمد وقالوا: «قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل، وأردنا إتحافك به» . وأحضروها بين يديه.

ذكر ولاية أمير المسلمين من قبل الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله

فلما قدمت له أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك القوم الذين أحضروا العسل أن يأكلوا منه فامتنعوا واستعفوا من الأكل. فقال: «من لم يأكل منه قتل بالسيف» . فأكلوا فماتوا عن آخرهم. فكتب إلى أمير المسلمين: «إنك قد أردت قتلى بكل سبب فلم يظفّرك الله، وكشف لى عن سريرتك «1» . وقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطنى إلا هذا الجبل. وهو فى بلادك كالشامة البيضاء فى الثور الأسود. فلم تقنع «2» بما أعطاك الله عز وجل» . فكفّ أمير المسلمين عنه. ذكر ولاية أمير المسلمين من قبل الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله قال: كان الفقهاء بالأندلس قالوا لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين: «إنه لا تجب طاعتك على المسلمين حتى يكون لك عهد من الخليفة» . فأرسل قوما من أهله إلى بغداد بهدية نفيسة، وكتاب يذكر فيه ما فعل بالفرنج، وما قصده من نصرة الدين والجهاد فى سبيل الله. فجاءه رسول من أمير المؤمنين أبى العباس أحمد المستظهر بالله «3»

ذكر ولاية على بن يوسف بن تاشفين

بهدية وكتاب وتقليد وخلع. ودام ملك أمير المسلمين إلى سنة خمسمائة فتوفى فيها «1» . فكانت مدة ولايته ثمانى وثلاثين سنة تقريبا. وكان ديّنا حازما سئوسا ذا دهاء، إلا أنه أبان عن لؤم لما اعتقل المعتمد بن عباد بأغمات، فإنه لم يجر «2» عليه ما يقوم به حتى كانت بناته يغزلن بالأجرة للناس وينفقن عليهن وعليه. ولما مات يوسف ولى بعده ابنه. ذكر ولاية على بن يوسف بن تاشفين كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى سنة خمسمائة. وكان أبوه قد عقد له الأمر بعده فى سنة تسع وتسعين وأربعمائة «3» فاستقل بالأمر بعده وتلقب بأمير المسلمين. وكان يقتدى فى القضايا والأحكام بفقهاء بلاده، ويقربهم ويكرمهم. وإذا أتته نصيحة قبلها أو موعظة خشع لها. وسار فى رعيته أحسن سيرة، فأحبه الناس واشتملوا عليه ومالوا اليه. ذكر محاربة الفرنج خذلهم الله تعالى وانهزامهم وفى سنة خمس وخمسمائة «4» ، خرج ملك الفرنج صاحب

ذكر الفتنة بقرطبة

طليطلة إلى بلاد الإسلام وجمع وحشد. وكان قد قوى «1» طمعه فى البلاد لما مات يوسف بن تاشفين. فخرج أمير المسلمين على لحربه، ولقيه واقتتلوا قتالا شديدا. وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتلوا قتلا «2» ذريعا، وأسر منهم أسرى كثيرة، وسبى، وغنم من أموالهم ما يخرج عن الإحصاء. فخافه الفرنج بعد لك. وامتنعوا من قصد بلاده «3» وذل الأدفونش. ذكر الفتنة بقرطبة وفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقيل: أربع عشرة، كانت فتنة عظيمة بين عسكر أمير المسلمين على بن يوسف وبين أهل قرطبة وسببها أنه كان قد استعمل عليها أبا بكر يحيى بن داود «4» . فلما كان يوم عيد الأضحى، خرج الناس متفرجين. فمد عبد من عبيد أبى بكريده إلى امرأة ومسكها. فاستغاثت بالمسلمين فأعانوها «5» . فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة. ودامت جميع النهار إلى الليل وتفرقوا. واجتمع الفقهاء والأعيان إلى أبى بكر وقالوا له: «المصلحة أن تقتل واحدا من العسد الذين أثاروا الفتنة» . فأنكر ذلك وغضب منه.

وأصبح من الغد وأظهر السلاح والعدد وأراد قتال أهل البلد فركب الفقهاء والأعيان والشباب، وقاتلوه فهزموه. وتحصن منهم بالقصر، فحصروه ونصبوا السلاليم وصعدوا إليه. فهرب من البلد بعد مشقة وتعب. فنهبوا القصر وأحرقوا جميع دور المرابطين «1» ونهبوا أموالهم. وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة. واتصل الخبر بأمير المسلمين فأكبر «2» ذلك واستعظمه. وجمع العساكر من صنهاجة وزنانة والبربر وغيرهم. وجاء إلى قرطبة فى سنة خمس عشرة وخمسمائة وحصرها. فقاتلهم أهلها قتال من يذب عن نفسه وماله وحريمه. فلما رأى شدة قتالهم دخل السفراء بينهم وسعوا فى الصلح. فأجاب إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة للمرابطين ما نهبوه من أموالهم. فاستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم. وفى أيام على بن يوسف، ظهر المهدى محمد بن تومرت وعبد المؤمن بن على، فضعف أمر الملثمين. وكان بينهم من الحروب ما نذكره فى أخبار «3» الموحدين. وكانت وفاة على بمراكش فى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة «4» . فكانت مدة ولايته خمسا وثلاثين سنة. وولى بعده ابنه.

ذكر ولاية تاشفين بن على بن يوسف بن تاشفين

ذكر ولاية تاشفين بن على بن يوسف بن تاشفين كان أبوه قد ولاه العهد وأخرجه لحرب «1» عبد المؤمن. فما زال يحاربه والغلبة والظفر لعبد المؤمن إلى أن توفى والده على بن يوسف. فاستقل بالأمر بعده ولازم حرب عساكر عبد المؤمن إلى أن مات فى ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة «2» [اسحاق بن على] وولى بعده أخوه إسحاق بن على فضعف أمر دولتهم، واستولى عبد المؤمن على البلاد وملكها بلدا بلدا، إلى أن حاصر عبد المؤمن مراكش وملكها فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فقتله عبد المؤمن صبرا. وانقرضت دولة الملثمين. وكانت مدة ولايتهم من حين خرجوا من البرية فى سنة خمسين وأربعمائة إلى أن قتل إسحاق إحدى وتسعين سنة. وعدة من ملك منهم خمسة ملوك، وهم أبو بكر بن عمر، ثم يوسف بن تاشفين، ثم ابنه على بن يوسف، ثم ابنه تاشفين بن على، ثم إسحاق بن على «3» . وعليه انقرضت الدولة. وسنورد فى أخبار الموحدين طرفا من أخبارهم وحروبهم، إن شاء الله تعالى.

ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم

ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم أول من ظهر من ملوك هذه الدولة، وأسس قواعدها، وقام بأعبائها وأنشأها، المهدى محمد بن تومرت. وكان ابتداء أمره وظهوره فى سنة أربع عشرة وخمسمائة «1» . وسنذكر ابتداء حاله وكيف تنقلت «2» به الحال وما كان منه، إن شاء الله تعالى ذكر أخبار المهدى محمد بن تومرت هو أبو عبد الله محمد بن تومرت الحسنى «3» ، وقبيلته من المصامدة تعرف بهرغة فى جبل السوس، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير. وكان ابتداء أمر المهدى أنه رحل فى شبيبته إلى بلاد المشرق فى طلب العلم. وكان فقيها فاضلا محدّثا، عارفا بأصولى الدين والفقه، محققا لعلم العربية، وكان ورعا ناسكا. ووصل فى سفره إلى العراق. واجتمع بالغزالى والكيا الهراسى، وقيل: لم يجتمع بالغزالى. واجتمع بأبى بكر الطرطوشى «4» بالإسكندرية. وحج ورجع إلى المغرب. قال: ولما ركب البحر من الإسكندرية مغرّبا غيّر المنكرات

فى المركب. وألزم من فيه بإقامة الصلاة وقراءة القرآن حتى انتهوا إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وذلك فى سنة خمس وخمسمائة. فنزل بمسجد وليس معه سوى ركوة «1» وعصا. فتسامع به أهل البلد فقصدوه يقرئون عليه أنواع العلوم. فكان إذا مر به المنكر أزاله وغيره. فلما كثر ذلك منه، أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء. فأعجبه سمته وكلامه فاحترمه وسأله الدعاء. ثم رحل من المهدية وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين «2» مدة. وسار إلى بجاية وفعل مثل ذلك. فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة «3» ، فلقيه بها عبد المؤمن. فرأى منه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم «4» والقيام بالأمر. فسأله عن اسمه وقبيلته. فأخبره أنه من قيس عيلان ثم من بنى سليم فقال محمد بن تومرت: «هذا الذى بشربه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إن الله لينصر هذا الدين فى آخر الزمان برجل من قيس. فقيل: من أى قيس؟ فقال: من بنى سليم» . واستبشر بعبد المؤمن وسرّ بلقائه. وكان مولد عبد المؤمن بمدينة

تاجرة «1» من أعمال تلمسان، وهو من بنى عائد قبيلة من كومة «2» نزلوا بذلك الإقليم فى ثمانين ومائة. قال: ولم يزل المهدى يلازم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى أن وصل إلى مراكش، وهى دار مملكة على بن يوسف ابن تاشفين. فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه فى طريقه. فزاد أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكثر أتباعه وحسنت ظنون الناس فيه. فبينما هو فى بعض الأيام فى طريقة، إذ رأى أخت أمير المسلمين فى موكبها ومعها عدة من الجوارى الحسان، وهن مسفرات. وكانت هذه من عادتهم «3» . فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن وأمرهن بستر وجوههن. وضرب هو وأصحابه دوابهن. فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها. فرفع أمره إلى أمير المسلمين على بن يوسف. فأحضره الفقهاء لمناظرته، فأخذ يعظه ويذكّره ويخوفه، فبكى أمير المسلمين «4» . وأمر أن يناظروه فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته. وكان عند أمير المسلمين رجل من وزرائه «5» اسمه مالك بن وهيب «6» فقال له:

«يا أمير المسلمين إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إنما هو يريد إثارة فتنة والغلبة على بعض النواحى، فاقتله وقلّدنى دمه» . فلم يفعل ذلك فقال: «إذا لم تقتله فاحبسه وخلّده فى السجن وإلا أثار شرا لا يمكن تلافيه» . فأراد حبسه فمنعه من ذلك رجل من أكابر الملثمين يسمى بنيان بن عمران «1» . فأمر بإخراجه من مراكش. فسار إلى أغمات ولحق بالجبل. وسار منه حتى التحق بالسوس الذى فيه قبيلته هرغة وغيرهم من المصامدة، وذلك فى سنة أربع عشرة وخمسمائة. فأتوه واجتمعوا حوله. وتسامع به أهل تلك النواحى فوفدوا إليه، وحضر أعيانهم بين يديه. فجعل يعظهم، ويذكرهم شعائر الإسلام وما غيّر منها وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا تجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل بل الواجب قتالهم ومنعهم مما هم عليه. فأقام على ذلك نحو سنة. وتابعته قبيلة هرغة. وسمى أتباعه الموحدين. وأعلمهم أن النبى صلى الله عليه وسلم بشر بالمهدى الذى يملأ الأرض عدلا، وأن مكانه الذى يخرج منه المغرب الأقصى. فقام إليه عشرة رجال منهم عبد المؤمن فقالوا: «لا يوجد هذا إلا فيك، وأنت المهدى» . وبايعوه على ذلك. فانتهى خبره إلى أمير المسلمين فجهز جيشا من أصحابه لقتاله. فلما قربوا من الجبل الذى هو فيه قال لأصحابه: «إن هؤلاء يريدوننى وأخاف عليكم منهم. والرأى أن أخرج إلى غير هذه البلاد لتسلموا

أنتم» . فقال له ابن توفيان «1» من مشايخ هرغة: «هل تخاف شيئا من السماء؟» فقال: «بل من السماء تنصرون» . فقال ابن توفيان: «فليأتنا كل من فى الأرض» . ووافقته جميع قبيلته. فقال المهدى عند ذلك: «أبشروا بالنصر والظفر «2» بهذه الشرذمة. وبعد قليل تستأصلون دولتهم وترثون أرضهم» . فنزلوا من الجبل ولقوا «3» جيش أمير المسلمين، فهزموهم وأخذوا أسلابهم. وقوى ظنهم بصدق المهدى حيث ظفروا كما أخبرهم. فأقبلت إليه أفواج القبائل من الجبال التى حوله شرقا وغربا فأقبل عليهم واطمأن إليهم، وأتته رسل أهل تينملّ «4» بطاعتهم وطلبوه إليهم. فتوجه إلى جبل تينمل وأقام به واستوطنه. وبايعته قبيلة هنتاتة، وهى من أقوى القبائل. وألف كتابا فى التوحيد، وكتابا فى العقيدة. ونهج لمن معه طريق الأدب مع بعضهم بعضا، والاقتصار على لباس الثياب القليلة الثمن. وهو فى خلال ذلك يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم. وبنى له مسجدا بتينمل خارج المدينة، فكان يصلى فيه الصلوات الخمس هو وجميع من معه، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة.

فلما رأى كثرة أهل البلد وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه. فأمرهم أن يحضروا عنده بغير سلاح. ففعلوا ذلك عدة أيام. ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فقتلوهم فى ذلك المسجد. ثم دخل المدينة فقتل فيها «1» وأكثر، وسبى الحريم، ونهب الأموال. فكانت عدة القتلى خمسة عشر ألفا. وقسم المساكن والأرض بين أصحابه. وبنى على المدينة سورا وقلعة على رأس جبل تينمل، وهو جبل عال فيه أشجار وزرع «2» وأنهار جارية، والطريق إليه صعب. وقيل: إنه لما خاف أهل تينمل، نظر إلى أولادهم فرآهم شقرا زرقا، والذى يغلب على الآباء السمرة، فقال لهم: «مالى أراكم سمر الألوان وأولادكم شقرا زرقا؟» فقالوا: «إن لأمير المسلمين «3» عدة من المماليك الفرنج والروم، وإنهم يصعدون إلى هذا الجبل فى كل عام مرة، يأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة من جهة السلطان، فيسكنون البيوت، ويخرجون أصحابها منها» فقبّح الصبر على هذا وأزرى عليهم وعظّم الأمر عندهم. فقالوا له: «فكيف الحيلة فى الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟» فقال: «إذا حضروا عندكم فى الوقت المعتاد وتفرقوا فى مساكنكم، فليقم كل رجل إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم فإنه لا يرام» . ففعلوا ذلك عند

ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى

مجىء مماليك أمير المسلمين إليهم ثم خافوا على نفوسهم فامتنعوا فى الجبل وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم منه. فقويت عند ذلك نفس المهدى ثم أرسل أمير المسلمين جيشا كثيفا. فحصرهم فى الجبل وضيق عليهم ومنع عنهم الميرة. فقلّت الأقوات عند أصحابه، فكان يطبخ لهم الحساء فى كل يوم، وجعل قوت الرجل منهم أن يغمس يده فى ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها فهو قوته فى ذلك اليوم. فاجتمع أهل تينمل وأرادوا إصلاح حالهم مع أمير المسلمين فبلغه ذلك فأعمل «1» من الحيلة عليهم ما نذكره. ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى «2» قال: كان مع المهدى إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريسى، وهو يظهر الوله «3» وعدم المعرفة بشىء من العلم والقرآن، وبصاقه يجرى على صدره، وهو كالمعتوه، والمهدى يقربه ويكرمه ويقول: «إن لله سرا فى هذا الرجل سوف يظهر» . هذا والونشريسى يشتغل بالقرآن والعلم فى السر بحيث لا يعلم به أحد. فلما كان فى سنة تسع عشرة وخمسمائة، خاف «4»

المهدى من أهل الجبل. فخرج يوما لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانا طيب الرائحة، فأظهر أنه لا يعرفه وقال: «من هذا؟» قال: «أنا أبو عبد الله الونشريسى» . فقال له المهدى: «إن أمرك لعجيب» . ثم صلى. فلما فرغ من صلاته نادى فى الجبل. فاجتمع الناس وحضروا إليه. فقال لهم: «إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريسى، فانظروه وحققوا أمره» . فلما أضاء النهار عرفوه. فقال له المهدى: «ما قصتك؟» قال: «إننى أتانى الليلة ملك من السماء، فغسل قلبى، وعلمنى القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث» . فبكى المهدى بحضرة الناس ثم قال: «نمتحنك؟» فقال: «افعل» . وابتدأ بقراءة القرآن فقرأه قراءة حسنة من أى موضع سئل. وكذلك الموطأ وغيره وكتب الفقه والعلوم والأصول. فعجب الناس من ذلك واستعظموه. ثم قال: «إن الله قد أعطانى نورا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة، قد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر الفلانية يشهدون بصدقى» . فسار المهدى والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر. ووقف عند رأسها وصلى وقال: «يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله قد زعم كيت وكيت» . فسمع من أسفل البئر: «صدق، صدق» وكان قد رتب بها رجالا يفعلون ذلك. فلما تكلموا قال المهدى: «إن هذه البئر بئر مطهّرة مقدّسة قد نزل إليها

الملائكة، والمصلحة أن تطمّ «1» لئلا يقع فيها نجاسة» . فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها. ثم نادى فى الجبل بالحضور للتمييز ومعناه العرض. فكان الونشريسى يعمد إلى الرجل الذى تخاف ناحيته فيقول: «هذا من أهل النار» . فيلقى من الجبل، وإلى الشاب الغر ومن لا يخشاه فيقول: «هذا من أهل الجنة» . فيترك عن يمينه. فكانت عدة القتلى سبعين ألفا. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه. هذا هو المشهور عنه فى التمييز. وقيل إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد فى الجبل أحضر شيوخ القبائل وقال لهم: «إنكم لا يصلح لكم دين ولا تقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإخراج المفسدين من بينكم، فابحثوا عن كل من عندكم من أهل الشر والفساد فانهوهم، فإن انتهوا وإلا فأثبتوا أسماءهم وارفعوها إلىّ لأنظر فى أمرهم. ففعلوا ذلك وكتبوا له «2» أسماء المفسدين من كل قبيلة. ثم أمرهم بذلك مرة ثانية «3» وثالثة. ثم جمع أوراقهم وأخذ منها ما تكرر من الأسماء «4» وأثبته عنده. ودفع ذلك إلى الونشريسى المعروف بالبشير. وأمره أن يعرض

القبائل، وأن يجعل أولئك من جهة الشمال، ومن عداهم فى جهة اليمين، ففعل ذلك. وأمر المهدى أن يكتف من على شمال الونشريسى فكتّفوا. ثم قال: «إن هؤلاء أشقياؤكم قد وجب قتلهم» . وأمر كل قبيلة بقتل أشقيائها. فقتلوا عن آخرهم. قال: ولما فرغ من التمييز رأى من بقى من أصحابه على نيات خالصة وقلوب متفقة على طاعته. فجهز جيشا وسيّرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع كبير «1» من المرابطين. فقاتلوهم فانهزم أصحاب ابن تومرت «2» ، وكان أميرهم الونشريسى. وقتل كثير منهم. وجرح عمر أنتات «3» وهو الهنتاتى، وكان من أكبر أصحاب المهدى وسكن حسّه ونبضه. فقالوا: «مات» . فقال الونشريسى: «لم يمت ولا يموت حتى يملك البلاد» . فبعد ساعة فتح عينيه وعادت قوته إليه. فافتتنوا به ورجعوا إلى ابن تومرت فوعظهم وشكر صبرهم. ثم لم يزل بعد ذلك يرسل السرايا فى أطراف البلاد فإذا رأوا عسكرا تعلقوا بالجبل فأمنوا على أنفسهم. وعلا أمر المهدى فرتب أصحابه على طبقات.

ذكر ترتيب أصحاب المهدى

ذكر ترتيب أصحاب المهدى قال: ورتب المهدى أصحابه مراتب. فالأولى آية عشرة، يعنى أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص عمر انتات «1» وهو الهنتاتى وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى مبايعته «2» . والثانية آية خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل «3» . والثالثة آية سبعين، وهم دون الذين قبلهم فى الرتبة والسابقة. [وسمى] «4» عامة أصحابه والداخلين «5» فى طاعته موحدين. ذكر حصار مراكش ووقعة البحيرة ومقتل أبى عبد الله الونشريسى قال: وفى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، جهز المهدى جيشا كثيفا يبلغون أربعين ألفا أكثرهم رجالة «6» . وجعل عليهم الونشريسى

وسير معه عبد المؤمن. فساروا إلى مراكش وحصروها وضيقوا على من بها، وبها أمير المسلمين على بن يوسف. فبقى الحصار عليها عشرين «1» يوما. فأرسل أمير المسلمين «2» إلى متولى سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش. فجمع جمعا كثيرا وسار. فلما قارب عسكر المهدى، خرج أهل مراكش من غير الجهة التى أقبل «3» منها. والتقوا واقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل فى أصحاب المهدى. وقتل أميرهم الونشريسى. فولوا عبد المؤمن أمرهم، وقدموه عليهم. ودام القتال بينهم «4» عامة النهار. وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف الظهر والعصر والحرب قائمة. فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوتهم أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير يسمونه عندهم البحيرة. وصاروا «5» يقاتلون من وجه واحد إلى أن حجز بينهم الليل. قال: ولما قتل الونشريسى، دفنه عبد المؤمن لوقته سرا. فطلبه المصامدة فلم يروه فى القتلى فقالوا: «رفعته الملائكة» . قال: ولما جنّهم الليل، سار عبد المؤمن ومن سلم من القتل «6» إلى الجبل. وسميت هذه الوقعة بالبحيرة، وعام البحيرة.

ذكر وفاة المهدى محمد بن تومرت

ذكر وفاة المهدى محمد بن تومرت كانت وفاته فى سنة أربع وعشرين وخمسمائة «1» ، وذلك أنه مرض بعد إرسال الجيش لحصار مراكش واشتد مرضه. وأتاه خبر الهزيمة وقتل الونشريسى، فسأل عن عبد المؤمن. فقيل: «هو سالم» . فقال: «ما مات أحد، والأمر قائم، وهو الذى يفتح كل البلاد» . ووصى أصحابه بتقديمه، واتباعه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له. ولقبه أمير المؤمنين ثم مات. وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: مات وله خمس وخمسون سنة. ومدة ولايته عشر سنين «2» . ذكر ولاية عبد المؤمن بن على «3» كانت ولايته بعد وفاة المهدى محمد بن تومرت فى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بوصية من المهدى كما ذكرناه «4» . وكان فى الغزو فعاد إلى تينمل وتسلم «5» الأمر، وتلقّب بأمير المؤمنين على ما لقّبه به المهدى قبل وفاته. وأقام يتألف القلوب ويحسن إلى الناس إلى «6» سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

ذكر خروجه للغزو وما فتحه من البلاد ومن أطاعه من القبائل

ذكر خروجه للغزو «1» وما فتحه من البلاد ومن «2» أطاعه من القبائل قال: وفى هذه السنة ابتدأ عبد المؤمن بالغزو. وسار فى جيش كثيف، وجعل يمشى فى الجبل إلى أن وصل إلى تادلة «3» . فمانعه أهلها وقاتلوه فهزمهم وفتحها. وتم منها إلى البلاد التى تليها. ومشى فى الجبال يفتح «4» ما امتنع عليه. وأطاعه صنهاجة الجبل. قال: فعند ذلك جعل أمير المسلمين على بن يوسف ولده تاشفين بن على ولى عهده، وأحضره من الأندلس، وكان أميرا عليها، وندبه لقتال عبد المؤمن، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين «5» . فسار تاشفين لحربه «6» ، فكان يمشى فى الصحراء وعبد المؤمن فى الجبال. وفى سنة اثنتين وثلاثين، كان عبد المؤمن بجيشه فى النواظر- وهو جبل عال مشرف- وتاشفين فى الوطأة، ويخرج من الطائفتين قوم يتطاردون ويترامون، ولم يكن بينهم لقاء. وسمى هذا عام النواظر، ويؤرخونه به.

وفى سنة ثلاث وثلاثين، توجه عبد المؤمن مع الجبل «1» فى الشّعراء «2» حتى انتهى إلى جبل كرانطة «3» . فأقام به فى أرض صلبة بين شجر، وتاشفين قبالته فى الوطأة فى أرض لينة «4» لا نبات بها. وكان الفصل شتاء، فتوالت الأمطار أياما كثيرة. فصار الموضع الذى فيه تاشفين وعسكره كالسباخ لا يستطيع الماشى أن ينقل فيها قدما. وقلّت الأقوات عندهم فهلكوا جوعا وبردا حتى وقدوا رماحهم وقرابيس سروجهم، وعبد المؤمن ومن معه فى تلك الأرض الصلبة والميرة تصل إليهم. وفى ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشا إلى وجدة «5» من أعمال تلمسان. وقدم عليهم أبا عبد الله محمد بن رفوا «6» من آية خمسين. فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى متولى تلمسان. فخرج إليهم بجيش من الملثمين فالتقوا بموضع يعرف بمرج الحمر «7» . واقتتلوا فهزمهم الموحدون. وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنم الموحدون ما معهم ورجعوا بأسلابهم إلى عبد المؤمن.

فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى جبال غمارة فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة. وأقام عندهم مدة. وما برح يمشى فى الجبال وتاشفين يحاذيه فى الصحارى إلى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فتوفى على بن تاشفين بمراكش، وملك بعده ابنه تاشفين. فقوى طمع عبد المؤمن فى البلاد إلا أنه لم ينزل «1» الصحراء. وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، توجه عبد المؤمن إلى تلمسان. فنازلها وضرب خيامه فى جبل عال بأعلاها يسمى بين الصخرتين. ونزل تاشفين خارج مدينة تلمسان على باب القرمادين. وكان بين أقوام من العسكرين مراماة ومطاردة مع الأيام. ودام ذلك أشهرا. ولم يكن بينهم مناجزة. ورحل عبد المؤمن فى سنة تسع وثلاثين «2» إلى جبل تاجرة. ووجه جيشا مع عمر بن يحيى الهنتاتى إلى مدينة وهران. فهاجمها بغتة وصار هو وجيشه فيها. فسار إليه تاشفين فخرج الهنتاتى منها. ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد. وذلك فى شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. فلما كان فى ليلة سبع وعشرين من الشهر. وهى ليلة معظمة سيما بالمغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون- وهو موضع معظم عندهم- فسار «3» إليه تاشفين فى

نفر قليل من خاصة أصحابه «1» . وصعد إلى ذلك المعبد سرا بالليل، ولم يعلم به إلا النفر الذين معه. وقصد التبرك بحضور ختم القرآن مع الصالحين. فانتهى خبره إلى الهنتاتى، فسار لوقته بجميع عساكره إلى ذلك المعبد، وأحاطوا به وملكوا الربوة. فخاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه، فركب فرسه وحمل به إلى جهة البحر من جرف عال فسقط على حجارة فهلك. ورفعت جثته على خشبة، وقتل من كان معه. وقيل: إن تاشفين قصد حصنا هناك على رابية وله فيه «2» بستان كبير فيه من كل الفواكه. واتفق أن الهنتاتى سير سرية إلى ذلك الحصن لضعف من فيه، ولم يعلم أن تاشفين هناك. فألقوا النار فى باب الحصن فاحترق. فركب تاشفين فرسه وأراد الهرب. فوثب به الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور فسقط فى النار. فأخذ تاشفين فعرف. فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن فمات لوقته. وتفرق عسكره واحتمى بعضهم بمدينة وهران. قال: وأرسل المرحدون بالخبر إلى عبد المؤمن. فجاء من تاجرة فى يومه «3» ، ودخل وهران بالسيف وقتل من فيها.

ذكر استيلاء عبد المؤمن على تلمسان وفاس ومكناسة وسلا وسبتة

ذكر استيلاء عبد المؤمن على تلمسان وفاس ومكناسة وسلا وسبتة قال: ثم سار عبد المؤمن إلى تلمسان، وهى مدينتان بينهما شوط. فرس: تاجررت «1» وبها أصحاب السلطان، والأخرى أجادير. وتاجررت ينطق بها بجيم محيرة «2» بين الكاف والجيم، وكذلك أجادير. وتاجررت محدثة البناء، وأجادير قديمة. فامتنعت أجادير وتأهب أهلها للقتال. وأما تاجررت فكان بها يحيى بن الصحراوية «3» واليا عليها فخرج منها بعسكره فارا إلى مدينة فاس. ودخلها عبد المؤمن، فلقيه أهلها بالخضوع والاستكانة. فلم يقبل ذلك منهم وقتل أكثرهم. ثم رحل عنها فى سنة أربعين وخمسمائة إلى مدينة فاس. ورتب على أجادير جيشا يحصرها «4» ، وجعل عليهم يوسف بن وانودين ابن تامصلت الهنتاتى «5» . فداوم الحصار وضيق على من بها، ونصب عليها المجانيق وأبراج الخشب والدبابات. ودام الحصار نحو سنة «6» وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان. فلما اشتد الحصار على أهلها،

اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين بغير علم الفقيه، وأدخلوهم البلد. فلم يشعر أهله إلا والسيف قد أخذهم. فقتل أكثر أهل البلد، ونهبت الأموال، وسبيت الذرارى والحرم. وبيع من لم يقتل بأبخس الأثمان. وأخذ من الأموال والجواهر ما لا يحصى. وكان عدة من قتل مائة ألف. وقيل: إن عبد المؤمن هو الذى حصر تلمسان وفتحها، وسار منها إلى فاس «1» . قال: ولما وصل عبد المؤمن إلى مدينة فاس، نزل على جبل الفرض المطل عليها. وعمل حول مخيّمه سورا وخندقا. وحصرها تسعة «2» أشهر، وبها يحيى بن الصحراوية بعسكره الذين فروا من تاجررت. فعمد عبد المؤمن إلى نهر يدخل البلد فسكره «3» حتى صار بحيرة تسير السفن فيها. ثم هدم السّكر فجاء الماء دفعة واحدة، فخرب سور البلد. فأراد الدخول فقاتله أهلها خارج السور. وكان القائد عبد الله بن خيار الجيانى عاملا عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة أعيان «4» البلد، وكاتبوا عبد المؤمن سرا فى طلب الأمان لأهل فاس. فأجابهم عبد المؤمن إلى ذلك. ففتحوا له بابا من أبواب المدينة، فدخلها عسكره. وهرب يحيى بن الصحراوية بمن معه إلى مدينة طنجة. وكان فتحها فى أواخر سنة أربعين وخمسمائة «5» .

ذكر ملك عبد المؤمن مراكش وقتله اسحاق بن على وانقراض دولة الملثمين

ورتب عبد المؤمن أمرها وأخذ جميع ما فيها من سلاح. وسير سرية إلى مكناسة فحصروها مدة ثم سلمها أهلها بالأمان، فوفوا لهم. ثم سار عبد المؤمن إلى مدينة سلا ففتحها. وحضر إليه جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا فى طاعته وسألوا أمانه فأمنهم، وذلك فى أول سنة إحدى وأربعين «1» . ذكر ملك عبد المؤمن مراكش وقتله اسحاق بن على وانقراض دولة الملثمين قال: ولما فرغ عبد المؤمن من مدينة فاس وتلك النواحى، سار إلى مدينة مراكش، وهى كرسى مملكة الملثمين، وبها إسحان بن على ابن يوسف بن تاشفين، وهو صبى. فنازلها فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وضرب خيامه فى غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره وجامعا. وجعل لنفسه بناء عاليا يشرف منه على المدينة ويري أحوال أهلها وأحوال المقاتلين. فأقام عليها أحد عشر «2» شهرا والقتال مستمر، ومن بها من المرابطين يخرجون ويقاتلون ظاهر البلد. فاشتد الجوع على أهله وتعذرت الأقوات عندهم. ثم زحف إليهم يوما، وجعل لعسكره كمينا، وقال لعسكره:

«قاتلوهم ثم انهزموا لهم» . وقال للكمين: «لا تخرجوا حتى تسمعوا الطبل» . وجلس هو على المنظرة يشاهد القتال. وتقدم أصحابه للقتال فقاتلوا وصبروا ثم انهزموا. وتبعهم أهل مراكش حتى جاوزوا الكمين ووصلوا إلى مدينة عبد المؤمن وهدموا أكثر سورها. وصاحت المصامدة ليضرب الطبل. فقال عبد المؤمن: «اصبروا حتى يخرج كل طامع من البلد» . فلما خرج أكثر أهله أمر بضرب الطبل فضرب وخرج الكمين عليهم وعطفت المصامدة. فقتلوا الملثمين كيف شاءوا وتمت الهزيمة. فمات فى زحمة الأبواب خلق كثير. وكان شيوخ الملثمين يدبرون «1» دولة إسحاق لصغر سنه. فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبى بكر استأمن إلى عبد المؤمن، وأطلعه على عورة البلد وضعف من فيه، وقوى طمعه فيهم. فنصب عبد المؤمن عليه المجانيق والأبراج. وفنيت الأقوات فأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف «2» إنسان. فجاف «3» البلد من جثثهم. وكان بمراكش جيش من الفرنج «4» كان المرابطون «5» قد استنجدوا بهم وأتوهم نجدة. فلما طال الأمر عليهم راسلوا عبد المؤمن يطلبون الأمان فأمنهم. ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له باب أغمات. فدخلت عساكر عبد المؤمن بالسيف، وملكوا المدينة عنوة،

وقتلوا من وجدوه. ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا إسحاق وجميع من معه من المرابطين. وقدموهم للقتل وإسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه رغبة فى البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكى. فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفا، فبصق فى وجهه وقال: «تبكى على أمك أم أبيك. اصبر صبر الرجال «1» فهذا رجل لا يخاف الله تعالى ولا يدينه بدين» . فقام الموحدون إليه فضربوه بالخشب حتى مات، وكان من الشجعان. وضربت عنق إسحاق. وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة أو ثلاث وأربعين «2» . قال: وأقام عبد المؤمن بمدينة مراكش واستوطنها واستقر ملكه بها. وقتل من أهلها فأكثر، واختفى كثير منهم. فلما كان بعد أسبوع أمر فنودى بالأمان، فخرج من اختفى من أهلها. فأراد المصامدة قتلهم، فمنعهم وقال: «هؤلاء صناع وأهل الأسواق ومن ينتفع به» . فتركوا وبنى بالقصر جامعا «3» كبيرا وزخرفه وأتقن عمله. وأمر بهدم الجامع الذى بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.

ذكر ظفره بدكالة

ذكر ظفره بدكالة وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، سار بعض المرابطين من الملثمين «1» إلى دكّالة. فاجتمع إليه «2» قبائلها وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم. فلما كثر ذلك منهم، سار إليهم عبد المؤمن فى سنة أربع وأربعين «3» . فلما سمعت دكالة بمسيره، اجتمعت كلها وانحسروا «4» إلى ساحل البحر، وكانوا فى مائتى ألف راجل وعشرين ألف فارس، وهم من الشجاعة بالمكان المعروف. وكانت جيوش عبد المؤمن تخرج عن الحصر. وكان الموضع الذى فيه دكالة كثير الحجر والحزون، فكمنوا فيه كمينا ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه. فكان من الاتفاق الحسن أنه قصدهم من غير الجهة التى فيها الكمناء. فانحل عليهم النظام وفارقوا ذلك الموضع وأخذهم السيف فدخلوا البحر. فقتل أكثرهم، وغنمت أموالهم وأغنامهم، وسبيت نساؤهم. فبيعت الجارية بدراهم يسيرة. وعاد عبد المؤمن إلى مراكش بالظفر والنصر. وثبت ملكه وخافه جميع من بالمغرب، وأذعنوا له بالطاعة.

ذكر ملكه جزيرة الأندلس

ذكر ملكه «1» جزيرة الأندلس قال: كان ملكه لها فى سنة إحدى وأربعين «2» ، وذلك أنه لما كان يحاصر مراكش، ورد عليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين «3» ، ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل الأندلس لعبد المؤمن ودخولهم فى زمرة أصحابه الموحدين، والتزامهم لطاعته، وإقامتهم لأمره فى بلادهم. وجميع أسماء القوم الذين بايعوه مثبتة فى المكتوب. فقبل عبد المؤمن طاعتهم، وشكر هجرتهم، وطيب قلوبهم. فطلبوا منه النصرة على الفرنج، فإن الفرنج كانوا قد ملكوا من بلاد المسلمين «4» مدينة شنترين وباجة وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها، وذلك فى سنة أربعين وخمسمائة. وكان سبب ذلك ما وقع من الاختلاف بين المسلمين، فطمع العدو فيهم وأخذ هذه المدن وقوى بها. ثم ملكوا فى سنة اثنتين وأربعين مدينة المرية، ومدينة بياسة، وجميع ولاية جيان. فجهز عبد المؤمن جيشا كثيفا وجعل مقدمه أبا عمر بن صالح من آية الخمسين. وجهز أسطولا فى البحر وجعل قائده يحيى بن

ذكر حصار الفرنج مدينة قرطبة ورجوعهم عنها

عيسى بن ميمون «1» . فغدوا إلى جزيرة الأندلس. ودخل الأسطول إلى مدينة إشبيلية فى النهر، وحاصروها برا وبحرا، وبها جيش من الملثمين «2» . فملكتها عساكر عبد المؤمن عنوة وقتلوا فيها جماعة. ثم أمن الناس. واستولت عساكره على البلاد الإسلامية التى بها، ودان له أهلها. وفى سنة ثلاث وأربعين ملك الفرنج مدنا من الأندلس، وهى طرطوشة وجميع قلاعها وحصون لاردة، وذلك لاختلاف المسلمين. ذكر حصار الفرنج مدينة قرطبة ورجوعهم عنها قال: وفى سنة خمس وأربعين وخمسمائة، حصر السليطين- وهو الأدفونش ملك طليطلة وأعمالها، وهو من ملوك الجلالقة- مدينة قرطبة- أعادها الله- فى أربعين ألف فارس من الفرنج. فبلغ الخبر عبد المؤمن وهو بمراكش. فجهز اثنى عشر ألف فارس ومقدمهم أبو زكريا يحيى بن يومور «3» . فساروا حتى قربوا من قرطبة. فلم يقدروا على لقاء الفرنج فى الوطأة، فساروا فى الجبال الوعرة. وجعلوا يقطعون الأشجار حتى يجدوا مسلكا. فمشوا عشرين «4»

ذكر ملكه مدينة بجاية وملك بنى حماد وانقراض دولتهم

يوما فى الوعر مسافة أربعة أيام فى السهل. فأفضوا إلى جبل شامخ مطل على قرطبة. فلما رآه السليطين وتحقق أمرهم، رحل لوقته بجميع من معه وسار حتى غاب عن فجاج قرطبة. وكان بقرطبة القائد أبو الغمر السائب، من ولد القائد ابن غلبون من أبطال الأندلس فخرج لوقته من قرطبة وصعد إلى الجبل. واجتمع بيحيى وقال له: «انزل بمن معك إلى قرطبة وعجّل» . ففعلوا ذلك وباتوا بها. فما أصبح اليوم الثانى إلا وعسكر السليطين قد غشى «1» الجبل الذى كان فيه يحيى. فقال لهم «2» أبو الغمر: «هذا الذى كنت خفته عليكم» . فلما علم أنهم قد فاتوه، ورأى أنه لا مطمع له فى قرطبة، رحل إلى بلاده بعد أن حاصرها ثلاثة أشهر قبل وصولهم. ذكر ملكه مدينة بجاية وملك بنى حماد وانقراض دولتهم وفى سنة ست وأربعين وخمسمائة، سار عبد المؤمن من مدينة مراكش إلى سبتة. وهيأ الأساطيل والناس يعتقدون أنه يدخل الأندلس. ونفّذ أعيان أصحابه إلى جميع القبائل: أن يجمعوا العساكر ويرتبوها. وقطع السابلة عن بلاد شرق المغرب برا وبحرا. ثم خرج من سبتة فى صفر سنة سبع وأربعين «3» . وتوجه إلى

المشرق مسرعا وطوى المراحل، والعساكر المرتبة تلقاه. فلم يشعر أهل بجاية إلا وهو فى أعمالها، وكانت ليحيى بن العزيز بالله آخر ملوك بنى حماد. وكان مولعا بالصيد واللهو واللعب لا ينظر فى شىء من أمور مملكته بل فوضها لميمون بن حمدون. فجمع ميمون العساكر وخرج عن بجاية. فأقام أياما وأحجم عن اللقاء ورجع ولم يقاتل عساكر عبد المؤمن. واعتصم يحيى بن العزيز بقلعة قسنطينة. وهرب أخوه الحارث فى مركب إلى جزيرة صقلية. ولحقه أخوه عبد الله «1» وجماعة من بنى عمه إلى صقلية «2» . ودخل عبد المؤمن بجاية وملك جميع بلاد يحيى بن العزيز بغير قتال. ثم نزل إليه يحيى بالأمان فأمنه وأنفذه إلى المغرب، وكان فيها «3» مدة حياته رخى البال. وانقرضت دولة بنى حماد. وكانت مدة ملكهم منذ ولى حماد مدينة آشير من قبل أبى مناد باديس بن المنصور بن يوسف فى صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة مائة سنة وستين سنة. وعدة من ملك منهم تسعة ملوك، وهم حماد بن يوسف بلكين بن زيرى، ثم القائد ابن حماد ثم محسن بن القائد بن حماد، ثم ابن عمه بلكين بن محمد، ثم الناصر بن علناس بن محمد بن حماد، ثم ابنه المنصور «4» ، ثم

ذكر ظفره بصنهاجة وملكه قلعة حماد

ابنه باديس بن المنصور «1» ولم تطل أيامه حتى مات، وولى بعده العزيز بالله بن المنصور بن الناصر، ثم يحيى بن العزيز هذا. وعليه انقرضت دولتهم. وكان يحيى قد اعتقل الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس- كما ذكرناه «2» . وسر بماناله من أخذ الفرنج بلاده. فلم تطل المدة حتى فاجأه القدر واستلب ملكه. واجتمع الحسن ويحيى فى مجلس عبد المؤمن على بساط واحد. واستصحب عبد المؤمن الحسن معه، وألحقه بخاصته، وأعلى مرتبته. ولم يفارقه فى سفر ولا حضر إلى أن فتح المهدية، فأقر الحسن بها وأمر واليها أن يقتدى برأيه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ظفره بصنهاجة وملكه قلعة حماد قال: ولما ملك عبد المؤمن بجاية، تجمعت صنهاجة فى أمم كثيرة. وتقدم عليهم رجل اسمه أبو قبيصة «3» . واجتمع معهم من كتامة ولواتة وغيرها ما لا يحصى كثرة، وقصدوا حرب عبد المؤمن. فأرسل إليهم جيشا كثيفا، ومقدمهم أبو سعد يخلف «4» ، وهو من آية خمسين. فالتقوا فى عرض الجبل شرقى بجاية. فانهزم

ذكر الحرب بين عبد المؤمن والعرب وظفر عساكر عبد المؤمن بهم

أبو قبيصة، وقتل أكثر من معه، ونهبت أموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم. ثم سار أبو سعيد إلى قلعة حماد، وهى من أحصن القلاع وأعلاها. فلما رأى أهلها عساكر الموحدين هربوا منها فى رؤوس الجبال. وملكت القلعة وحمل جميع ما فيها من الأموال والذخائر وغير ذلك إلى عبد المؤمن. ذكر الحرب بين عبد المؤمن والعرب وظفر عساكر عبد المؤمن بهم قال: وفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فى صفر، كانت الحرب بين عساكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف «1» . وذلك أن عبد المؤمن لما فتح بلاد بنى حماد اجتمعت العرب، وهم بنو هلال والأثبج وعدى ورياح وزغيف «2» وغيرهم ممن يقول بقولهم من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب. وقالوا: «إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من بلاد المغرب. وليس الرأى إلا اللقاء معه، وأخذه بالجد، وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن» . وتحالفوا على التعاون والتعاضد، وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال. واتصل الخبر بصاحب صقلية الفرنجى، فأرسل إلى أمراء العرب وهم محرز بن زياد، وجبارة «3» بن كامل، وحسن بن

ثعلب، وعيسى بن حسن، وغيرهم، يحثهم على ذلك، ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلاف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على أن يرسلوا إليه رهائن. فشكروه وقالوا: «لا حاجة بنا إلى نجدته، ولا نستعين على المسلمين بغيرهم» . وساروا فى عدد لا يحصى. وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب. فلما بلغه خبرهم جهز إليهم جيشا من الموحدين زهاء ثلاثين ألف فارس، ومقدمهم أبو سعيد يخلف، وعبد العزيز وعيسى أولاد أبى مغار «1» . وكان العرب أضعافهم، فاستخرجهم الموحدون. وتبعهم العرب إلى أن وصلوا أرض سطيف بين جبال. فصدمهم الموحدون بغتة والعرب على غير أهبة. والتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال وأعظمه. فانجلت المعركة عن هزيمة العرب. وذلك فى يوم الخميس غرة «2» صفر. وتركوا أموالهم وأهاليهم وأولادهم ونعمهم. فأخذ الموحدون جميع ذلك وعادوا به إلى عبد المؤمن. فقسم الأموال فى عسكره وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط. ووكل بهم الخصيان يخدمونهم وأمر بصيانتهم. ونقلهم معه إلى مراكش فأنزلهم فى المساكن الفسيحة وأجرى عليهم النفقات الواسعة. وأمر عبد المؤمن محمدا بمكاتبة العرب ويعلمهم أن نساءهم وأولادهم تحت الاحتياط والحفظ والصيانة. وأمرهم أن يحضروا

ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد بعد أبيه

ليسلمهم إليهم. فلما وصل كتابه إليهم سارعوا إلى المسير إلى مراكش. فأعطاهم عبد المؤمن نساءهم وأولادهم، وأحسن إليهم، ووصلهم بالأموال الجزيلة فاسترقّ «1» قلوبهم بذلك وأقاموا عنده، واستعان بهم على ولاية ابنه محمد العهد بعده. ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد بعد أبيه قال: وفى سنة إحدى وخمسين «2» وخمسمائة، أمر عبد المؤمن بالبيعة بولاية العهد لابنه محمد. وكان الشرط بين عبد المؤمن وعمر الهنتاتى أن يلى الأمر بعده. فلما تمكن «3» عبد المؤمن من الملك وكثرت «4» أولاده أحب أن يكون الملك فيهم. فأحضر أمراء العرب من هلال وزغبة وعدى وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم. ثم وضع عليهم من يقول لهم: «اطلبوا من عبد المؤمن أن يجعل لكم ولى عهد من ولده بعده» . ففعلوا ذلك. فلم يجبهم إكراما لعمر الهنتاتى لعلو منزلته فى الموحدين. فلما علم الهنتاتى ذلك خاف على نفسه. فحضر عند عبد المؤمن وخلع نفسه. فحينئذ بايع عبد المؤمن لابنه بولاية العهد. وكتب إلى جميع بلاده بذلك.

ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد وأعماله

وخطب له فى جميع البلاد. وأخرج من الأموال شيئا كثيرا «1» فى ذلك اليوم. ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد وأعماله وفى سنة إحدى وخمسين أيضا «2» ، استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد والأعمال، فجعل ابنه أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها، وأبا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها، وأبا الحسن عليا على مدينة فاس وأعمالها، وأبا سعيد «3» على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة. ولقد سلك عبد المؤمن فى استعمالهم من حسن السياسة وجميل التدبير طريقا عجيبا يستدل به على جودة رأيه، وتوصّله إلى مقاصده بأحسن صورة وأجمل طريقة. وذلك أنه كان قد استعمل على الأعمال شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدى، فكان يتعذر عليه أن يعزلهم. فأخذ أولادهم وتركهم عنده، وأشغلهم بالعلوم. فلما مهروا فيها، قال لآبائهم: «إنى أريد أن تكونوا عندى أستعين بكم على ما أنا بصدده وتكون أولادكم فى أعمالكم» . فأجابوا إلى ذلك وفرحوا به، فاستعمل أولادهم. ثم وضع عليهم من يعتمد عليه منهم فقال لهم: «إنى أرى أمرا عظيما قد فعلتموه فارقتم فيه الحزم والأدب» . فقالوا: «وما هو؟» قال: «أولادكم

ذكر ملكه مدينة المرية من الفرنج وأغر ناطة من الملثمين

فى الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس إليهم «1» شىء منها مع ما هم فيه من العلم وحسن السياسة. وإنى أخاف أن ينظر فى هذا فتسقط منزلتكم عنده» فعلموا صدقه. وحضروا إلى عند عبد المؤمن وسألوه أن يستعمل أولاده. فقال: «لا أفعل» . فعزموا عليه حتى فعل بسؤالهم. ذكر ملكه مدينة المرية من الفرنج وأغر ناطة من الملثمين قال: وفى سنة اثنتين «2» وخمسين وخمسمائة، كاتب ميمون ابن بدر صاحب أغرناطة أبا سعيد بن عبد المؤمن صاحب مالقة والجزيرة الخضراء وسبتة أن يسلم إليه أغرناطة، فتسلمها منه. وسار إلى مالقة «3» بأهله وولده، فسيره أبو سعيد إلى مراكش. فأقبل عليه عبد المؤمن وأكرمه. وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة مايرقة «4» مع حمو بن غانية اللمتونى. قال: ولما ملك أبو سعيد أغرناطة جمع الجيوش وسلم إلى مدينة المرية- وهى بيد الفرنج، كانوا قد أخذوها فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة- فنازلها وحصرها «5» برا وبحرا. ونزل عسكره

ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وجميع بلاد افريقية

على الجبل المشرف عليها. وبنى سورا على الجبل إلى البحر، وعمل عليه خندقا، فصارت المدينة والحصن الذى فيه الفرنج محصورين بهذا السور والجبل. لا يمكن أن يصل إليها من ينجدها. وجمع السليطين ملك الفرنج بالأندلس الجيوش وجاء إليها، فلم يتمكن منها ورجع ومات قبل وصوله إلى طليطلة. وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر، فقلّت الأقوات على الفرنج فطلبوا الأمان. فأمنهم أبو سعيد وتسلّم الحصن. ورحلوا فى البحر عائدين إلى بلادهم. وكانت مدة ملكهم المرية عشر سنين. ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وجميع بلاد افريقية كان الفرنج قد تغلبوا على مدينة المهدية وملكوها فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، كما قدمناه فى أخبار الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس «1» ، وفعلوا بمدينة زويلة الأفعال الشنيعة من القتل والنهب والتخريب. فسار أهلها إلى عبد المؤمن وهو بمراكش يستنجدونه ويستجيرون به فأكرمهم. وأخبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس فى ملوك الإسلام من يقصد غيره. فأطرق ثم رفع رأسه وقال: «أبشروا لأنصرنكم ولو بعد حين» . وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفى دينار. ثم أمر بعمل الروايا «2» والقرب والحياض وما يحتاج إليه

العساكر. وكتب إلى جميع نوابه ببلاد المغرب وكان قد ملك إلى قريب تونس، فأمرهم بتحصيل الغلات، وأن تترك فى سنبلها وتخزن فى مواضعها، وأن يحفروا الآبار فى الطرق. ففعلوا ذلك فصارت كأنها تلال. فلما كان فى صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة «1» ، وسار من مراكش يريد إفريقية ومعه من العساكر مائة ألف مقاتل ومن السوقة والأتباع أمثالهم. وبالغ فى حفظ العساكر حتى كانوا يسيرون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة واحدة. وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد. وقدم بين يديه الحسن بن على بن يحيى بن تميم الذى كان صاحب المهدية وإفريقية. فسار حتى وصل إلى مدينة تونس فى الرابع والعشرين من جمادى الآخرة. وأقبل الأسطول فى البحر فى سبعين شينيا وطريدة وشلندى. فنازلها وأرسل إلى أهلها يدعوهم إلى الطاعة. فامتنعوا وقاتلوا أشد قتال. فلما جاء الليل خرج إليهم سبعة عشر رجلا «2» من أعيان أهلها، وسألوا عبد المؤمن الأمان لأهل بلدهم. فأجابهم إلى الأمان لهم فى أنفسهم وأهلهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة «3» وأما من عداهم من أهل البلد فأمنهم فى أنفسهم وأهليهم «4» ،

ويقاسمهم أموالهم وأملاكهم نصفين، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله. فاستقر ذلك وتسلم «1» البلد. وأرسل أمناء ليقاسموا الناس على أموالهم. وأقام عليها ثلاثة أيام. وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى، فمن أسلم سلم، ومن أبى قتل. وسار عبد المؤمن إلى المهدية والأسطول يحاذيه فى البحر. فوصل إليها فى ثانى عشر «2» شهر رجب من السنة. وبها أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا مدينة زويلة وبينها وبين المهدية غلوة سهم «3» . فدخلها عبد المؤمن، وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة فى ساعة واحدة. ومن لم يكن له من العسكر موضع نزل بظاهرها. وانضاف إليهم «4» من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء. وأقبلوا على قتال من بالمهدية، وهى لا يؤثر فيها شى لحصانتها وقوة سورها وضيق موضع القتال عليها لأن البحر دائر بأكثرها، وهى كأنها كف فى البحر وزندها متصل بالبر. فكانت شجعان الفرنج تخرج إلى أطراف العسكر فينالون منه ويسرعون العود. فأمر عبد المؤمن ببناء سور من غربى المدينة يمنعهم من الخروج. وأحاط الأسطول بها فى البحر. وهال عبد المؤمن ما رأى من حصانة البلد، وعلم أنها لا تفتح بقتال، وليس لها غير المطاولة. وقال للحسن: «كيف نزلت عن هذا الحصن؟» فقال: «لقلة من يوثق به وعدم القوت

وحكم القدر» . فقال: «صدقت» . وأمر بجمع الغلات فلم يمض غير قليل حتى صار فى العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير. وتمادى الحصار. وفى مدته أطاع عبد المؤمن أهل سفاقس وطرابلس وجيال نفوسة وقصور إفريقية وما والاها. وفتح مدينة قابس وأتاه يحيى ابن تميم صاحب قفصة ومعه جماعة من أعيانها. ولما قدموا عليه دخل حاجبه عبد السلام الكومى «1» يستأذنه عليهم. فقال له عبد المؤمن: «أتى عليك «2» ليس هؤلاء أهل قفصة» . فقال: «لم يشتبه على وإنهم أهلها» . فقال عبد المؤمن: «كيف يكون ذلك والمهدى يقول: إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها؟ ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم وننتظر ما يكون، ليقضى الله أمرا كان مفعولا» «3» وقضى شغلهم وأرسل معهم طائفة من الموحدين، وفيهم زكرى بن يومون «4» ، وولاه عليها. وورد فى جملة أهل قفصة شاعر «5» منهم، فمدحه بقصيدة أولها: ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على فلما أنشده هذا البيت قال: «حسبك» ووصله بألف دينار «6» .

قال: ولما كان فى يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان سنة أربع وخمسين، جاء أسطول صاحب صقلية فى مائة وخمسين شينيا غير الطرائد، فقاتلهم أسطول عبد المؤمن فانهزموا. وتبعهم المسلمون وأخذوا منهم سبعة شوان. فحينئذ أيس من بالمهدية من النجدة. وصبروا على الحصار إلى آخر ذى الحجة من السنة حتى فنيت أقواتهم وأكلوا خيلهم. فنزل عشرة من فرسانهم إلى عبد المؤمن وسألوه الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم، ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم. فعرض عليهم الإسلام، فأبوا. ولم يزالوا يستعطفونه حتى أجابهم وأمنهم. وأعطاهم سفنا فنزلوا فيها. وساروا إلى جزيرة صقلية. وكان الفصل شتاء، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية إلا القليل. وكان صاحب صقلية قد قال: «إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم» . فأهلك الله الفرنج غرقا وكان مدة استيلاء الفرنج على المهدية اثنتى عشرة سنة. ودخل عبد المؤمن مدينة المهدية بكرة عشوراء سنة خمس «1» وخمسين وخمسمائة. وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس. وأقام بالمهدية عشرين يوما. ورتب أحوالها، ونقل إليها الذخائر من الأقوات والسلاح والعدد والرجال. واستعمل عليها أبا عبد الله محمد ابن فرج. وجعل معه الحسن بن على بن يحيى الذى كان صاحبها.

ذكر ايقاع عبد المؤمن بالعرب

وأمره أن يقتدى برأيه فى أفعاله. وأقطع الحسن بها إقطاعا وأعطاه دورا بالمهدية. ورتّب لأولاده وعبيده أرزاقا. ثم رحل عبد المؤمن من المهدية فى غرة «1» صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ذكر ايقاع عبد المؤمن بالعرب كان سبب ذلك أنه- لما أراد العود إلى بلاد المغرب بعد فراغه من أمر المهدية- جمع أمراء العرب من بنى رياح الذين كانوا بإفريقية، وقال لهم: «إنه قد وجب علينا نصرة الإسلام، وإن المشركين قد استفحل أمرهم بجزيرة الأندلس. واستولوا على كثير منها مما كان بيد المسلمين، وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام، وبكم دفع عنها العدو الأول «2» . ونريد منكم عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون فى سبيل الله» . فأجابوه بالسمع والطاعة فحلّفهم على ذلك. وساروا معه حتى انتهوا إلى مضيق جبل زغوان «3» . وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالك، وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيهم. فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سرا: «إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس وقالوا: ما غرض عبد المومن إلا

إخراجنا من بلادنا، وإنهم لا يفون بأيمانهم» . فقال: «يأخذ الله تعالى الغادر» . فلما كانت الليلة الثانية، هربوا إلى عشائرهم ودخلوا البر، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق. ولم يحدث فى أمرهم شيئا. وسار مغربا يحث السير حتى قرب من القسنطينة، ونزل فى موضع مخصب يقال له وادى النساء «1» . فأقام به وضبط الطرق فلا يسير أحد البتة «2» ودام هناك عشرين يوما. وانقطع خبره عن جميع الناس لا يعرفون للعسكر خبرا مع كثرته وعظمه، ويقولون: «ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس» . فعادت العرب الذين أجفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه. فلما علم برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله فى ثلاثين ألفا من أعيان الموحدين وشجعانهم. فجدوا السير وقطعوا المفاوز. فما شعرت العرب إلا والجيش قد أقبل، وجاء من ورائهم من جهة الصحراء من يمنعهم من الدخول إليها، وكانوا قد نزلوا جنوبا من القيروان عند جبل القرن، وهم زهاء ثمانين ألف بيت، ومشاهير مقدميهم محرز بن زياد وجبارة بن كامل ومسعود بن زمام وغيرهم. فلما أطلت عليهم العساكر اضطربوا وماجوا واختلفت كلمتهم. ففر «3» مسعود وجبارة ومن معهما من

عشائرهما. وثبت محرز بن زياد ومعه جمهور العرب. فناجزهم الموحدون القتال. وذلك فى العشر الأوسط من شهر ربيع الاخر سنة ست وخمسين «1» . واشتد القتال وكثرت القتلى. فانجلت الحرب عن قتل محرز وانهزم العرب. ولما انهزموا أسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال «2» . فحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بتلك المنزلة. فأمر بحفظ النساء العربيات الصّرائح. وحملن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد المغرب. ثم أقبلت إليه وفود رياح، فأجمل لهم الصنيع ورد إليهم الحريم. فلم يبق منهم إلا من صار له كالعبد الطائع، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان. ثم جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول. قال: وجمعت عظام من قتل من العرب عند جبل القرن فبقيت دهرا طويلا كالتل يلوح للناظرين من مكان بعيد. وبقيت بلاد إفريقية بيد نواب عبد المومن آمنة ساكنة، لم يبق من العرب خارج عن الطاعة إلا مسعود بن زمام وطائفة فى أطراف البلاد. وفى سنة ست وخمسين، توجه عبد المؤمن إلى جبل طارق، وهو على ساحل الخليج مما يلى الأندلس، فعبر المجاز إليه. وبنى عليه مدينة حصينة «3» . وأقام بها أشهرا «4» ثم انصرف إلى مراكش.

ذكر وفاة عبد المؤمن بن على وشىء من أخباره

ذكر وفاة عبد المؤمن بن على وشىء من أخباره كانت وفاته فى العشر الآخر «1» من جمادى الآخر «2» سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بمدينة سلام. وكانت مدة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا. وخلف ستة عشر «3» ولدا ذكورا. وكان عاقلا، حازما، سديد الرأى، حسن السياسة للأمور، كثير البذل للأموال، إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على صغار الذنوب. وكان يعظّم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس فى سائر بلاده بالصلاة. ومن رئى فى وقت الصلاة غير مصلّ قتل. وجمع الناس على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله فى الفروع، وعلى مذهب أبى الحسن الأشعرى فى الأصول. وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين، وإليهم المرجع والكلام معهم. قال ابن شداد: وقفت على كتاب كتبه عنه بعض كتابه، يقول فيه بعد البسملة: «من الخليفة المعصوم الرّضى الهاشمى «4» الزّكى، الدى وردت البشارة به من النبى صلّى الله عليه وسلم، العربى «5» القامع لكل مجسّم غوى، الناصر لدين الله العلى «6» ، أمير المؤمنين الولى، عبد المؤمن بن على» .

وحكى أيضا قال: أخبر رجل من أهل المهدية اجتمعت به بمدينة صقلية سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، قال: لما فتح عبد المؤمن مدينة بجاية وجميع ملك بنى حماد، وافق ذلك وصولى بعد أيام من المهدية إلى بجاية بأحمال متاع مع قفل «1» ، فبتنا «2» على مرحلة من بجاية. فلما أصبح الصباح فقدت شدّة من المتاع، فحمدت الله «3» وسألته الخلف. ودخلنا البلد وبعت المتاع أحسن بيع وأفدت «4» فيه فائدة كبيرة» . فقلت لصاحب الحانوت الذى بعت على يديه: «فقدت من هذا المتاع شدة، وأخلف الله على فى الباقى» . فقال لى: «وما أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد المؤمن؟» قلت: «لا» . قال: «والله، إن علم «6» ذلك من غيرك لحقك الضرر بسترك على المفسدين. فاتق الله فى نفسك» . فرحت «7» إلى القصر واستأذنت عليه وأعلمته. ثم خرجت فسألنى خادم عن منزلى فوصفته له. ورجعت إلى صاحب الحانوت «8» فأخبرته. فقال: «خرجت «9» من العهدة» . فلما كان صبيحة اليوم الثالث من وصولى إليه، جاءنى غلام

أسود فقال: «أجب أمير المؤمنين» . فخرجت معه. فلما وصلنا باب القصر وجدت جماعة كبيرة «1» والمصامدة دائرة عليهم بالرماح. فقال لى الأسود «تعلم «2» من هؤلاء؟» قلت: «لا» . قال: «هم أهل المكان الذى أخذ متاعك فيه» . فدخلت وأنا خائف، فأجلست بين يديه. واستدعى مشايخهم وقال لى: «كم «3» صح لك فى الشدة التى فقدت أختها» . فقلت: «كذا وكذا» . فأمر من وزن لى المبلغ ثم قال لى: «قم. أنت أخذت حقك وبقى حقى وحق الله عز وجل» . وأمر بإخراج المشايخ وقتل الجميع. وقال: «هذه طريق شوك أزيلها عن المسلمين» . فأقبلوا يبكون ويتضرعون ويقولون: «يؤاخذ سيدنا الصلحاء بالمفسدين؟» فقال: «نخرج كل طائفة منكم من فيها من المفسدين» . فصار الرجل يخرج ولده وأخاه وابن عمه «4» إلى أن اجتمع منهم نحو خمسمائة فأمر أهلهم أن يتولوا قتلهم، ففعلوا ذلك. وخرجت أنا إلى صقلية خوفا على نفسى من أولياء المقتولين. قال: وكان عبد المؤمن لا يداهن فى دولته، ويأخذ الحق من ولده إذا وجب عليه. قال: ولا مشرك فى بلاده ولا كنيسة فى بقعة منها، لأنه كان إذا ملك بلدا إسلاميا لم يترك فيه ذميا إلا عرض عليه الإسلام. فمن

ذكر ولاية أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على

أسلم سلم، ومن طلب المضى إلى بلاد النصارى أذن له فى ذلك، ومن أبى قتل. فجميع أهل مملكته مسلمون لا يخالطهم سواهم. ولا لهو ولا هزل تحت أمره بل تلاوة كتاب الله العزيز، ومدارسة الأحاديث الصحيحة النبوية، والاشتغال بالعلوم الشرعية، وإقام الصلوات. فهذا كان دأب أصحابه. وكان لعبد المؤمن من الأولاد الذكور ستة عشر «1» ، وهم محمد وهو ولى عهده، وعلى، وعمر، ويوسف، وعثمان، وسليمان، ويحيى، وإسماعيل، والحسن، والحسين، وعبد الله، وعبد الرحمن، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب «2» . ذكر ولاية أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على كانت ولايته بعد وفاة أبيه. وذلك أن عبد المؤمن لما حضرته الوفاة جمع أشياخ الموحدين وقال لهم: «قد جربت ابنى محمدا فلم أجد فيه نجابة تصلح للأمر، ولا يستحق الولاية ولا يصلح لها إلا ابنى يوسف، وهو أولى بها، فقدّموه لها» . ووصاهم به فبايعوه وعقدوا له الولاية. وخوطب بأمير المؤمنين. ثم مات عبد المؤمن فكتموا مونه وحمل فى محفة من سلا بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش. وكان ابنه أبو حفص حاجبا

ذكر عصيان غمارة مع مفتاح بن عمرو وقتالهم وقتل مفتاح

لأبيه فبقى مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج إلى الناس فيقول «1» أمر أمير المؤمنين بكذا وكذا، ويوسف يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له فى جميع البلاد. فأظهر موت أبيه بعد انقضاء أشهر «2» من وفاته. واستقامت الأمور لأبى يعقوب وانقاد الناس لأمره «3» . ذكر عصيان غمارة مع مفتاح بن عمرو «4» وقتالهم وقتل مفتاح قال. ولما تحقق الناس موت عبد المؤمن، ثارت قبائل غمارة فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة مع مفتاح بن عمرو؛ وكان مقدما كبيرا فيهم، فاتبعوه بأجمعهم، وامتنعوا فى جبالهم، وهى معاقل مانعة، وهم أمم جمة. فتجهز إليهم أبو يعقوب ومعه أخواه عمر «5» وعثمان فى جيش كثيف من الموحدين والعرب. وتقدموا إليهم والتقوا واقتتلوا فى سنة إحدى وستين. فانهزمت غمارة،

وقتل مفتاح وجماعة من أعيانهم ومقدميهم وخلق كثير منهم. وملكوا بلادهم عنوة. وكانت قبائل كثيرة يريدون الفتنة، وهم ينظرون ما يكون من غمارة، فلما قتلوا انقادت تلك القبائل إلى الطاعة، ولم يبق متحرك لفتنة، وسكنت الدهماء فى جميع المغرب «1» . وفى سنة خمس وستين وخمسمائة، وجه أبو يعقوب أخاه عمر ابن عبد المؤمن إلى الأندلس بالعساكر لقتال محمد بن «2» سعد ابن مردنيش. وكان قد ملك شرق الأندلس، واتفق مع الفرنج، وامتنع على عبد المؤمن ثم على ابنه، وتمادى فى عصيانه، واستفحل أمره. فدخل العسكر «3» إلى بلاده، وجاس خلال دياره، وأخذوا مدينتين من بلاده. وأقاموا مدة يتنقلون فى بلاده ويجبون أموالها. ثم توفى محمد بن سعد فى سنة سبع «4» وستين، وأوصى أولاده أن يقصدوا الأمير أبا يعقوب، ويسلموا البلاد إليه، ويدخلوا فى طاعته. فلما مات قصدوه. فسربهم وأكرمهم وتسلم البلاد منهم، وهى مرسية، وبلنسية، وجيان، وغير ذلك، وتزوج أختهم. وأقاموا عنده مكرمين. وكان اجتماعهم به بمدينة إشبيلية، وقد دخل الأندلس فى مائة ألف فارس فى سنة ست وستين «5» وخمسمائة.

ذكر غزوة الفرنج

ذكر غزوة الفرنج قال: وفى سنة ثمان وستين «1» ، جمع أبو يعقوب عساكره. وسار من إشبيلة وقصد بلاد الفرنج. ونزل على مدينة وبذى «2» ، وهى بالقرب من طليطلة شرقا منها، وحصرها. فاجتمعت الفرنج مع الأدفونش «3» ملك طليطلة فى جمع كبير، فلم يقدموا «4» على لقاء المسلمين. واتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين وعدمت الأقوات عندهم. فعادوا إلى إشبيلية. وأقام أبو يعقوب بها إلى سنة إحدى وسبعين وهو يجهز العساكر فى كل وقت، ويرسلها إلى بلاد الفرنج «5» . وكان فى هذه المدة عدة «6» وقائع وغزوات، ظهر فيها «7» من شجاعة العرب ما لا يوصف، حتى كان الفارس من العرب يسير بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرز إليه أحد. ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.

ذكر ملك أبى يعقوب مدينة قفصة

ذكر ملك أبى يعقوب مدينة قفصة قد ذكرنا أن صاحب قفصة قدم على عبد المؤمن وهو يحاصر المهدية، وأطاعه، وما قاله عبد المؤمن لحاجبه عند قدوم أهل قفصة من إخبار المهدى عن قفصة. فلما كان فى سنة ثمان وستين وخمسمائة، دخلت طائفة من الترك من ديار مصر فى أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مع قراقوش مملوك تقى الدين. واجتمع إليه مسعود بن زمام وجماعة من العرب، ونزلوا على طرابلس وملكوها، واستولى على كثير من بلاد إفريقية. فعند ذلك طمع صاحب قفصة «1» ونزع يده من الطاعة، واستبد بالأمر. ووافقه أهل بلده فقتلوا من عندهم من الموحدين وذلك فى شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. فكتب والى بجاية إلى أبى يعقوب بالخبر واضطراب أمور البلاد. فسد الثغور التى يخشى عليها بعد مسيره. وسار إلى إفريقية فى سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها. فلما اشتد الأمر على صاحبها خرج منها مستخفيا لم يعلم به أحد من أهل البلد. وجاء إلى خيمة أبى يعقوب فاستأذن عليه. فأذن له وقد عجب من إقدامه على الدخول عليه بغير أمان. فدخل عليه واستعطفه وقال: «قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عنى

ذكر وفاة أبى يعقوب يوسف

وعن أهل بلدى، وأن يفعل ما هو أهله» . فعفا عنه وعن أهل بلده. وتسلم المدينة فى أول سنة ست وسبعين وخمسمائة وسيره إلى المغرب فكان مكرما عزيزا، وأقطعه ولاية كبيرة «1» . ورتب لقفصة واليا من الموحدين. ووصل مسعود بن زمام «2» أمير العرب إلى يوسف. فعفا عنه وسيره إلى مراكش. وتوجه يوسف إلى المهدية وشاهدها. ووافاه رسول من صاحب صقلية يلتمس الصلح، فهادنه عشر سنين، ورجع إلى المغرب. ذكر وفاة أبى يعقوب يوسف كانت وفاته فى شهر ربيع الأول «3» سنة ثمانين وخمسمائة. وكان قد سار إلى بلاد الأندلس فى جمع عظيم. فلما عبر الخليج قصد غزو الفرنج، فحصر مدينة شنترين شهرا. فأصابه بها مرض، فمات وحمل فى تابوت إلى مدينة إشبيلية. وكانت مدة ولايته اثنتين وعشرين سنة وشهورا «4» . ومات وله عدة من الأولاد، رأيت فى بعض التواريخ أنهم كانوا

خمسة عشر، وهم عمر، ويعقوب وهو ولى عهده، وأبو بكر، وعبد الله، وأحمد، ويحيى، وموسى، وإبراهيم، وإدريس، وعبد العزيز، وطلحة، وإسحاق، ومحمد، وعبد الواحد، وعثمان، وعبد الحق، وعبد الرحمن. فهذه «1» سبعة عشر عدها وجمع على خمسة عشر، والله أعلم «2» . وذكر هذا المؤرخ أن وفاته كانت فى يوم السبت لسبع خلون من شهر رجب من السنة «3» ، من طعنة «4» طعنها على مدينة شنترين من أيدى الروم، لما عبر المسلمون وتركوه فى شرذمة يسيرة. ومات فى الليلة الثالثة. والله تعالى أعلم. وقال أيضا: ودفن بتينمل عند أبيه وابن تومرت. قال: وكان يحمل إليه من مال إفريقية فى كل سنة وقرمائة وخمسين بغلا، خارجا عما يرتفع إليه من سائر البلاد. وكان حسن السيرة، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خاصته، وكان فقيها عالما حافظا متقنا، رحمه الله تعالى.

ذكر ولاية أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

ذكر ولاية أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى شهر ربيع الأول سنة ثمانين وخمسمائة. وكان أبوه قد مات ولم يوص لأحد بالملك، فاجتمع رأى أشياخ الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تقديم أبى يوسف يعقوب. فبايعوه وعقدوا له الولاية وقدموه للأمر، ودعوه بأمير المؤمنين «1» . فقام بالملك أحسن قيام، ورفع راية الجهاد، وأحسن السيرة. فاستقامت له الدولة بأسرها مع سعة أقطارها. ورتب ثغور الأندلس، وشحنها بالرجال، ورتّب المقاتلة فى سائر بلادها، وأصلح أحوالها، وعاد إلى مدينة مراكش. ذكر أخبار الملثمين وما ملكوه من افريقية واستعادة ذلك منهم قال: ولما بلغ على بن إسحاق بن محمد بن على بن غانية اللمتونى صاحب جزيرة «2» ميورقة، وكان من أعيان الملثمين، وفاة أبى يعقوب، سار إلى بجاية فى عشرين شينيا. وملكها فى شعبان سنة ثمانين «3» وخمسمائة، وأخرج من كان بها من الموحدين. وكان

الأمير بها سليمان «1» بن عبد الله بن عبد المؤمن. وخطب اللمتونى بها للخليفة الناصر لدين الله العباسى. فاتصل الخبر بأبى يوسف فجهز العساكر واستعادها فى صفر سنة إحدى وثمانين. وكان بها يحيى وعبد الله أخوا على بن إسحاق قد تركهما بها وتوجه لحصار القسنطينة، فخرجا منها هاربين والتحقا بأخيهما. فأقلع إلى جهة إفريقية واجتمع بمن بها من العرب وانضاف إليه الترك الذين كانوا قد دخلوها من مصر. ودخل من مصر مملوك آخر اسمه بوزابه، فانضم إليه، وكثر جمعه، وقويت شوكته. واتبعوه جميعا لأنه من بيت الملك ولقبوه بأمير المسلمين. فقصد بلاد إفريقية فملكها شرقا وغربا إلا مدينتى تونس والمهدية، فإن الموحدين حفظوهما على خوف وضيق وشدة. وانضاف «2» إلى الملثم كل مفسد يريد الفتنة والفساد والنهب. فأرسل الوالى على تونس وهو عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتى إلى أبى يوسف يعلمه بالحال. فلما ورد عليه الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين. وقصد قلة العساكر لقلة القوت فى البلاد. وسار فى صفر سنة ثلاث وثمانين «3» ، فوصل إلى مدينة تونس. وأرسل ستة آلاف مع ابن أخيه أبى حفص «4» ، فساروا

إلى على بن إسحاق الملثم وهو بقفصة فوافوه. وكان مع الموحدين جماعة من الترك الذين كانوا مع قراقوش، فلما التقوا خامر الترك عليهم، وانضموا إلى أصحابهم الذين مع الملثم. فانهزم الموحدون وقتل جماعة من مقدميهم. وذلك فى شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين. قال: فأقام أبو يوسف بمدينة تونس إلى نصف شهر رجب منها. ثم خرج فى خمسة عشر ألف فارس من الموحدين وسار يريد حرب الملثم. فالتقوا بالقرب من مدينة قابس واقتتلوا. فانهزم الملثم ومن معه. وأكثر الموحدون القتل فيهم حتى كادوا يفنونهم. ورجع من يومه إلى قابس ففتحها. وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وأمواله فحملهم إلى مراكش «1» . وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر «2» ، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها. فأرسل إليه الترك الذين كانوا بها فى السر يسألونه الأمان لأنفسهم ولأهل قفصة. فأجابهم إلى ذلك. وخرج الأتراك منها سالمين فسيرهم إلى الثغور لما رآه من شجاعتهم ونكايتهم. وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين «3» . وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية. وظهر ما قاله المهدى. ولما فرغ من أمر قفصة واستقامت له إفريقية، عاد إلى مراكش. فكان وصوله إليها فى سنة أربع وثمانين.

ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين

وأما ابن غانية اللمتونى فإنه ثبت بعد انكشاف أصحابه وقاتل قتالا شديدا فأصابته جراحات كثيرة. ومر على وجهه فمات فى خيمة لعجوز أعرابية. وكان معه إخوته عبد الله ويحيى وأبو بكر وسير. فقدموا عليهم يحيى لشجاعته وشهامته ولحقوا بالمغرب. ولم يزل بإفريقية يثور تارة ويسكن أخرى. ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها الى المسلمين وفى سنة ست «1» وثمانين وخمسمائة، ملك الفرنج بغرب الأندلس مدينة شلب، وهى من أكبر مدن المسلمين. فوصل الخبر إلى أبى يوسف فتجهز بالعساكر الكثيرة. وعبر المجاز إلى الأندلس، وسير طائفة كثيرة فى البحر. ونازل شلب وحصرها، وقاتل من بها قتالا شديدا حتى ذلوا وطلبوا الأمان «2» . فأمنهم وتسلم البلد. ورجع من به إلى بلادهم. وسير جيشا من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج. ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة وقتلوا طائفة من الفرنج فخافهم ملك طليطلة، وأرسل فى طلب الهدنة فصالحه خمس سنين. وعاد أبو يوسف بعد ذلك إلى مدينة مراكش.

ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة

ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة كانت هذه الغزاة المباركة فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وكان سببها أن الفنش «1» ملك الفرنج صاحب طليطلة كتب إلى أبى يوسف كتابا، نسخته «2» : «باسمك اللهم، فاطر السموات والأرض. أما بعد، أيها الأمير، فإنه لا يخفى على ذى عقل لازب، ولا ذى لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية «3» كما أنا أمير الملة النصرانية. وإنك لا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات. وأنا أسومهم سوم الخسف، وأسبى الذرارى، وأخلى الديار، وأمثّل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك فى التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك منهم القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم. والآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، وقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم «4» . ونحن الآن نقاتل عددا منكم

بواحد منا. ولا تقدرون دفاعا ولا تستطيعون امتناعا. ثم حكى لى عنك أنك أخذت فى الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاما بعد عام، تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ولا أدرى: الجبن أبطأبك أم التكذيب بما أنزل عليك؟ وحكى لى عنك أنك لا تجد سبيلا إلى جواز «1» البحر لعلة «2» ما يسوغ لك التقحّم بها فها أنا أقول لك ما فيه الراحة وأعتذر عنك. ولك أن توفينى بالعهود والمواثيق والأيمان: أن توجّه بجملة من عبيدك «3» فى الشوانى والمراكب وأجوز إليك بجملتى. وأبارزك فى أعز الأماكن عندك. فإن كانت لك، فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك. وإن كانت لى كانت يدى العليا عليك واستحققت إمارة المسلمين والتقدم على الفئتين. والله يسهل الإرادة ويقرب السعادة بمنه، ولا رب غيره ولا خير إلا خيره» . قال: فلما وصل كتابه وقرأه كتب فى أعلاه «4» : «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ «5» » . وأعاده إليه. وجمع عساكره وعبر المجاز إلى الأندلس. وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أنه لما صالح الفرنج فى سنة ست وثمانين على ما «6» ذكرناه، بقيت طائفة من الفرنج لم

ترض بالصلح. فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام فقتلوا وسبوا وأسروا وغنموا وعاثوا. فانتهى ذلك إلى أبى يوسف. فجمع العساكر وعبر إلى الأندلس فى جيش يضيق به الفضاء. وجمعت الفرنج قاصيها ودانيها، وأقبلوا إليه مجدّين واثقين بالظفر لكثرتهم. والتقوا فى تاسع «1» شعبان من السنة شمالى قرطبة عند قلعة رباح بمكان يعرف بمرج الجديد «2» . واقتتلوا قتالا عظيما. وكانت الحرب فى أولها على المسلمين ثم صارت الدائرة على الفرنج. فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم. وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا «3» . وأسر ثلاثة عشر ألفا «4» . وحاز المسلمون من الخيل ستة وأربعين ألفا «5» ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب نادى فى عسكره: «من غنم شيئا فهو له سوى السلاح» . فأحصى ما حمل إليه، فكان يزيد على سبعين ألف لباس. وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفا. ولما انهزم الفرنج، اتبعهم أبو يوسف

فرآهم قد خلّفوا «1» قلعة رباح وساروا عنها. فملكها «2» وجعل فيها واليا وجندا. وسار إلى مدينة إشبيلية. وأما الفنش فإنه حلق رأسه، ونكس صلبانه، وركب حمارا، وأقسم ألا يركب فرسا ولا بغلا حتى ينصر النصرانية. فجمع جموعا كثيرة. فبلغ الخبر إلى أبى يوسف، فأرسل إلى مراكش وغيرها من بلاد الغرب «3» يستنفر الناس من غير إكراه. فاجتمع إليه جمع عظيم. فالتقوا فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة. وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك. وتوجه أبو يوسف إلى مدينة طليطلة. فحصرها وقاتل من بها قتالا شديدا، وقطع أشجارها. وشنّ الغارة على ما حولها من البلاد. وفتح عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وهدم أسوارها، وخرب دورها. فضعفت النصرانية حينئذ وعظم أمر الإسلام بالأندلس. وعاد إلى إشبيلية فأقام بها. فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، سار إلى الفرنج وفعل مثل فعله الأول والثانى. فذل العدو واجتمعت ماوك الفرنج وراسلوه فى الصلح، فأجابهم إليه بعد امتناع. وكان عزم على أن لا يجيبهم إلى

ذكر ما فعله الملثم بافريقية

الصلح وأن يداوم الغزو حتى يفنيهم. فأتاه خبر على «1» بن إسحاق الملثم بخروجه على إفريقية. فصالحهم «2» سنين. وعاد إلى مراكش فى آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. ذكر ما فعله الملثم بافريقية قال: ولما عبر أبو يوسف يعقوب إلى الأندلس، وداوم الغزو، وانقطعت أخباره عن إفريقية، قوى «3» طمع على بن إسحاق «4» فيها. وكان بالبرية مع العرب «5» . فعاود قصد إفريقية. وبث جنده فى البلاد وأكثر الفساد. وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب. فوصل الخبر إلى أبى يوسف فصالح الفرنج، وعاد إلى مراكش عازما على قصده وإخراجه. ولما عاد استعمل على مدينة تونس أبا سعيد عثمان بن عمر الهنتاتى وولى أخاه أبا على يونس بن عمر على المهدية. وجعل قائد الجيش «6» بالمهدية محمد بن عبد الكريم، وهو رجل مشهور بالشجاعة. فعظمت

نكايته فى العرب، ولم يبق إلا من يخافه. وخرج إلى طائفة من عوف، فانهزموا منه وتركوا أموالهم وعيالهم. فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية. وأخذ من الغنيمة والأسلاب ما شاء، وسلم البعض لأبى على، والبعض للجند. فجاءت تلك الأعراب إلى أبى سعيد بن عمر فوحّدوا «1» وصاروا من حزب الموحدين. واستجاروا بأبى سعيد فى رد عيالهم وأموالهم. فأحضر محمد بن عبد الكريم وأمره بإعادة ما أخذ لهم. فقال: «أخذه الجند ولا أقدر على رده» . فأغلظ له فى القول وأراد أن يبطش به. فاستمهله إلى أن يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده، وما عدم غرمه من ماله؛ فأمهله. وانصرف إلى المهدية وهو لا يأمن على نفسه. فلما وصل إليها جمع أصحابه، وأعلمهم بما كان من أبى سعيد، وحالفهم على المخالفة عليه، فحلفوا له على ذلك. فقبض على أبى على يونس «2» وتغلب على المهدية وملكها ونزع يده من الطاعة. فأرسل إليه أبو سعيد فى إطلاق أخيه يونس. فأطلقه على اثنى عشر ألف دينار، فأخذها وفرقها فى جنده. فجمع أبو سعيد الجند وأراد قصده. فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى على بن إسحاق الملثم واعتضد به. فامتنع أبو سعيد من قصده. وفى خلال ذلك مات أبو يوسف.

ذكر وفاة أبى يوسف يعقوب

ذكر وفاة أبى يوسف يعقوب كانت وفاته فى سابع عشر شهر ربيع الآخر «1» سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة سلا. وكان قد سار إليها من مراكش، وبنى مدينة مجاورة «2» لها وسماها المهدية «3» ، وجاءت من أحسن البلاد وأنزهها. فسار ليشاهدها فتوفى بها. وقيل: بل توفى بمراكش بعد انصرافه من سلا، فى جمادى الأولى سنة خمس وتسعين. وقيل: بل كانت وفاته فى صفر منها. وكانت ولايته خمس عشرة سنة «4» . وكان رحمه الله دينا، حسن السيرة، كثير الجهاد، إلا أنه كان يتمذهب بمذهب الظاهرية ولا يكتمه. فعظموا فى أيامه وانتشروا فى البلاد، ومال إليهم «5» . وحكى بعض المؤرخين أنه كان فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة أظهر الزهد والتقشف وخشونة المأكل والملبس «6» . وانتشرت فى أيامه الصالحون وأهل الحديث. وانقطع علم الفروع. وأمر بإحراق

ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على الملقب الناصر لدين الله

كتب المذهب بعد أن يجرد منها الحديث والقرآن. فحرق منها جملة فى سائر البلاد كالمدونة وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، ومختصره، والتهذيب للبرادعى، والواضحة. وأمر بجمع الحديث من المصنفات كالبخارى، ومسلم، والترمذى، والموطأ، وسنن أبى داود، والبزار، وابن أبى شيبة، والدار قطنى، والبيهقى، فجمع ذلك كله. فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه. قال: وانتشر هذا المجموع فى بلاد المغرب، وحفظه العوام والخواص. وكان يجعل لمن حفظه الجوائز السنية. وكان قصده أن يمحو مذهب مالك من بلاد المغرب، ويحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة. وكان له من الأولاد محمد وهو ولى عهده، وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح، وعثمان، ويونس، وسعد، ومساعد. فهؤلاء أربعة عشر ولدا. ولما مات ولى بعده ابنه محمد. ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على الملقب الناصر لدين الله كان أبوه قد ولاه العهد فى حياته. واستقل بالملك بعده، واستقام أمر دولته، وأطاعه الناس، وذلك فى جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ولما ولى اتصل به فساد إفريقية. فأنفذ عمه أبا العلاء فى سبعين شينيا مشحونة بالعدد والمقاتلة. وجهز جيشا فى

البر مع أبى الحسن على بن أبى حفص «1» عمر بن عبد المؤمن فوصل إلى قسنطينة الهواء. ووصل الأسطول إلى بجاية. فلما اتصل خبرهم بعلى بن إسحاق «2» ومن معه من العرب هربوا وتركوا إفريقية ودخلوا إلى الصحراء. وتمادى بعض الأسطول إلى المهدية، فقبح مقدمهم على محمد بن عبد الكريم فعله. فشكا إليه ما ناله من أبى سعيد، وقال: «أنا فى طاعة سيدنا أمير المؤمنين محمد، وما أسلم المهدية إلا له أو لمن يأمرنى بتسليمها إليه. وأما أبو سعيد فلا أسلمها إليه أبدا» . فأرسل محمد من تسلمها منه. وعاد إلى الطاعة. قال: وجهز محمد جماعة من العرب إلى الأندلس واحتاط. واحترز. فأتاه جماعة رسل من ملوك الفرنج يطلبون دوام الهدنة ويشاهدون أحوال الدولة. فأنزلهم على العادة، وحضروا مجلسه فطلبوا دوام الهدنة التى كانت بينهم وبين أبيه، واستقراض مائة ألف دينار. فقال لهم: «المال والحمد لله لدينا والرجال، ونحن نجيب إلى ذلك بشرط أن ترهنوا عندنا معاقل على المال تكون بأيدينا إلى حين الوفاء. وإن كان هذا منكم امتحانا فالسيوف التى تعرفون ما ردّت فى أغمادها والرماح ما حصلت على أوتادها» . فانصرفوا وقد ملأ قلوبهم رعبا. وأبقوا الهدنة على ما كانت وأعرضوا عن ذكر السلف. قال: وخرج أقارب يحيى بن إسحاق الميورقى من ميورقة لما علموا

بموت يعقوب فى أسطول كبير إلى جزيرة منرقة، وهى فى طاعة محمد. ففتحوها واحتووا على أموالها، وتركوا فيها جندا يحفظونها. فاتصل ذلك بالأمير محمد. فجهز أسطولا فى غير أوان ركوب البحر فى كانون، وقدم عليهم أبا زيد. فوصل إلى منرقة ففتحها عنوة بالسيف وقتل بعض من فيها «1» . وتوجه إلى جزيرة ميورقة «2» ففتحها وقتل بعض من بها من الجند. وأسر ثلاثة من أقارب يحيى ابن إسحاق وقتل منهم واحد فى المعركة. وذلك كله فى سنة خمس «3» وتسعين وخمسمائة. انتهى تاريخ ابن شداد وابن الأثير «4» فى أخبار المغرب إلى هذه الغاية. وقال غيرهما ممن أرخ للمغاربة: وفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قام بالسوس رجل جزولى يعرف بأبى قصبة، ودعا لنفسه، واجتمع عليه خلق كثير ثم هزمه الموحدون وأسلمه أصحابه، وقتل. وفى سنة إحدى وستمائة، تجهز محمد بن يعقوب فى جيوش عظيمة لقصد إفريقية، وكان يحيى بن غانية اللمتونى قد استولى عليها ما خلا قسنطينة وبجاية. فنزل إفريقية وملكها، ولم يمتنع عليه منها إلا المهدية. فأقام عليها أربعة أشهر، وكان فيها الحسن بن على بن عبد الله بن محمد بن غانية «5» واليا لابن عمه يحيى. فلما طال عليه

الحصار سلمها وخرج يقصد ابن عمه. ثم بداله فراسل الأمير محمدا فقبله أحسن قبول ووصله بالصّلات السنية. ثم ترك بإفريقية من يقوم بحمايتها، واستعمل عليها أبا محمد عبد الواحد. ورجع إلى مراكش فى سنة أربع «1» وستمائة. وأقام بها إلى أول سنة سبع «2» وستمائة. فقصد بلاد الروم بالغزو، ونزل على قلعة تسمى شلب ترّة «3» ففتحها. فجمع له الأذفنش «4» جموعا عظيمة من الأندلس والشام «5» والقسطنطينية. فالتقيا بموضع يعرف بالعقاب. فدهم الأدفنش المسلمين وهم على غير أهبة. فانهزموا وقتل من الموحدين خلق كثير. وثبت الأمير محمد ثباتا لم ير من ملك قبله. ولولا ذلك لا ستؤصلت تلك الجموع. ثم رجع إلى مراكش. وكانت الهزيمة فى يوم الاثنين منتصف صفر «6» سنة تسع وستمائة. وانفصل الأدفنش، وقصد بياسة فوجدها خالية. فقصد أبّذة فوجد فيها من المسلمين عددا كثيرا من المنهزمين وأهل بياسة. فأقام عليها ثلاثة عشر يوما، ودخلها عنوة وسبى وغنم. فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة.

ذكر وفاة أبى عبد الله محمد وشىء من أخباره

ذكر وفاة أبى عبد الله محمد وشىء من أخباره كانت وفاته بمدينة مراكش لعشر خلون، وقيل: لخمس خلون من شعبان سنة عشر «1» وستمائة. فكانت ولايته خمس عشرة سنة وشهورا. وكان شديد الصمت، بعيد الغور، كثير الإطراق، حليما، شجاعا، عفيفا عن الدماء، قليل الخوض فيما لا يعنيه، إلا أنه كان نحيلا «2» ألثغ. وكان له من الأولاد يوسف، وهو ولى عهده، ويحيى، وإسحاق توفى يحيى فى حياته. ولما مات ولى بعده ابنه يوسف. ذكر ولاية يوسف بن محمد بن يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن بن على كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى شعبان سنة عشر وستمائة، وعمره يوم ذاك ست عشرة سنة. وقام ببيعته من القرابة أبو موسى عيسى ابن عبد المؤمن عم جده، الذى دخل عليه الميورقيون بجاية، وهو آخر من بقى من ولد عبد المؤمن لصلبه، وأبو زكريا يحيى بن عمر بن عبد المؤمن. بويع له البيعة الخاصة فى يومى الخميس والجمعة،

بايعه أشياخ الموحدين والقرابة. وفى يوم السبت أذن للناس عامة وأبو عبد الله بن عياش الكاتب قائم على رأسه يقول للناس: «تبايعون أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين «1» ، على ما بايع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السمع والطاعة فى المنشط والمكره واليسر والعسر، والنصح له ولولاته ولعامة المسلمين، هذا ماله عليكم. ولكم عليه أن يحمى ثغوركم «2» ، وأن لا يدخر عنكم شيئا مما نعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم. وأن لا يحتجب دونكم. أعانكم الله على الوفاء، وأعانه على ما قلده من أموركم» قال المؤرخ: ولما مضى من ولاية يوسف هذا أربعة أشهر، قبض على رجل كان قد ثار عليهم اسمه عبد الرحمن، ادعى أنه من أولاد العاضد من خلفاء المصرين «3» . وكان خروجه فى زمن أبيه محمد بن يعقوب، والتفّت عليه ببلاد صنهاجة جماعة كبيرة «4» . وكان كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة. وقصد سجلماسة فى حياة محمد بن يعقوب فى جيش عظيم. فخرج إليه متوليها سليمان بن عمر بن عبد المؤمن. فهزمه عبد الرحمن هذا، وأعاده إلى سجلماسة أسوأ عود. ولم يزل يتنقل فى قبائل البربر ولا تثبت عليه جماعة لأنه غريب البلد، حتى قبض عليه بظاهر فاس. فضربت عنقه وصلب، ووجّه برأسه إلى مراكش.

ذكر وفاة يوسف بن محمد

وثار فى أيام يوسف رجل ببلاد جزولة يدعى أنه فاطمى، فقتل وجىء برأسه «1» . وثار آخر من صنهاجة، فقتل فى سنة ثمانى عشرة وستمائة، بعد أن أثر آثارا قبيحة، وهزم بعوثا كثيرة، وأفسد خلقا من الناس. واستمر يوسف هذا إلى سنة عشرين وستمائة. ذكر وفاة يوسف بن محمد كانت وفاته فى شوال أو ذى القعدة «2» سنة عشرين وستمائة. فكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر تقريبا «3» . ولم أقف من أخباره على غير ما وضعت، فأورده. ذكر ولاية أبى محمد عبد العزيز بن يوسف ابن عبد المؤمن «4» كانت ولايته فى ذى القعدة سنة عشرين وستمائة بعد وفاة يوسف ابن محمد. وكان يوسف بن محمد ولاه مدينة إشبيلية حين عزل عنها أخاه أبا العلاء إدريس وولاه إفريقية. فلما توفى يوسف اضطرب

الأمر. فاجتمع معظم الناس «1» على تقديم أبى محمد عبد العزيز. فبايعوا له وولوه أمرهم. قالوا: وكان عبد العزيز هذا فى أيام إمارته قبل أن يصير الأمر إليه مجتهدا فى دينه، شديد البصيرة فى أمره، قوى العزيمة، شديد الشكيمة، لا تأخذه فى الله لومة لائم، أرطب الناس لسانا بذكر الله وأتلاهم لكتابه، مع دماثة خلق ولين جانب وخفض جناح لأصحابه، مع سخاء نفس وطلاقة وجه. هذا ما وقفت عليه من أخبار ملوك دولة الموحدين مما دوّن لهم، على ما فيه من الاختصار. ثم انقطعت أخبار ملوك المغرب «2» عن الديار المصرية. فلم يصل إلينا من خبرهم إلا ما نتلقاه من أفواه الناس. ولم يتحقق «3» من أخبارهم ما نورده «4» فتكون العمدة «5» عليه، لكنا علمنا من ولى الأمر من ملوك هذه الدولة بعد أبى محمد عبد العزيز هذا «6» واحدا بعد واحد إلى أن انقرضت الدولة وقامت دولة زناتة، من غير أن نتحقق تاريخ ولاية أحد منهم ولا وفاته. فرأينا أن نذكر ذلك مجردا عاريا من الأخبار والوقائع. ونقلت ذلك عن ثقة أخبرنى أنه نقله عن ثقات. وها أنا أورده كما أخبرنى. قال: ولى الأمر بعد أبى محمد عبد العزيز المستنصر بالله

أبو يعقوب يوسف بن الناصر لدين الله أبى عبد الله محمد بن المنصور بالله أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن «1» . ثم ولى الأمر بعده أبو محمد عبد الواحد بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن. ثم ولى الأمر بعده العادل أبو محمد عبد الله بن المنصور بالله أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. ثم ولى بعده «2» أبو زكريا يحيى بن الناصر لدين الله أبى عبد الله محمد، وهو أخو المستنصر «3» بالله المقدم ذكره. ثم ولى بعده أبو العلاء إدريس المأمون بن المنصور أبى يوسف يعقوب. ثم ولى بعده ابنه الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس. ثم ولى بعده «4» أخوه السعيد أبو الحسن على «5» بن المأمون إدريس، وهو المعروف بالبرّاك، وإنما سمى بالبراك لثبوته فى الحرب. ثم ولى بعده «6» المرتضى أبو حفص عمر بن أبى إبراهيم إسحاق.

ثم ولى بعده «1» الواثق بالله أبو العلاء إدريس المعروف بأبى دبوس ابن أبى عبد الله محمد بن عمر بن عبد المؤمن، وإنما سمى بأبى دبوس لثقل دبوسه. ثم ولى بعده «2» ولده أبو مالك عبد الواحد بن أبى العلاء إدريس. وعليه انقرضت دولتهم وقامت الدولة المرينية، وهم زنانة، وهى الدولة القائمة فى عصرنا «3» هذا. ولما انتزع من الملك انتقل إلى بلاد الفرنج فكان بها إلى أن ثار على بنى أبى حفص «4» بساحل «5» طرابلس الغرب وأعانته «6» الأعراب على ذلك. ثم قتل بعد أربعة أشهر أو نحوها من نهوضه ولم يتم له ما قصده. ثم قام بعده أخوه أبو سعيد عثمان بن إدريس، وملك مدينة قابس وبلاد نفزاوة «7» ، وأقام بها مدة. ثم أخرج منها فتوجه مع العرب إلى البرية. ثم ثار معهم بإفريقية حتى انتهى إلى جبل الريحان، وهو على مرحلة من تونس. ثم خذله العرب فتوجه إلى بلاد الفرنج «8» . قال: وكان انقراض دولة الموحدين فى سنة ست «9» وستين وستمائة تقريبا.

جامع أخبار دولة الموحدين

جامع أخبار دولة الموحدين كانت مدة قيام هذه الدولة من حين ظهر «1» المهدى محمد بن تومرت فى سنة أربع عشرة وخمسمائة وإلى «2» حين انقراضها فى سنة ست وستين وستمائة، مائة سنة وثلاثا وخمسين سنة تقريبا. وعدة من ملك منهم سبعة عشر «3» ملكا، وهم: المهدي محمد بن تومرت الحسنى. عبد المؤمن بن على. أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أبو يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف «4» بن عبد المؤمن. أبو عبد الله محمد بن أبى يوسف. ولده يوسف بن محمد. أبو محمد عبد العزيز بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أبو محمد عبد الواحد بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أبو محمد عبد الله بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن.

أبو زكريا يحيى بن أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أبو العلاء إدريس بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن. ولده عبد الواحد بن إدريس. أخوه أبو الحسن على بن إدريس وهو البراك. أبو حفص عمر بن أبى إبراهيم إسحاق. أبو العلاء إدريس بن أبى عبد الله محمد بن عمر بن عبد المؤمن. ولده أبو مالك عبد الواحد بن أبى العلاء إدريس.

ذكر تسمية ملوك بنى مرين

ذكر تسمية ملوك بنى مرين أول من قام من ملوكهم «1» أبو بكر بن عبد الحق. استولى على بعض بلاد الموحدين بنى عبد المؤمن ثم مات قبل أن يخلص له الأمر ببلاد المغرب. فملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق المعروف بابن تابطويت «2» وهى أمه نسبت إلى قبيلة بطّويت «3» ، وهى قبيلة كبيرة من قبائل زناتة. وفى أيامه انقرضت دولة بنى عبد المؤمن، وعظم شأنه، واتسع ملكه، وطالت مدته ثم مات. فملك بعده ولده يوسف المعروف بأبى الزردات «4» واهتز له المغرب، وعظم شأنه، وهابه ملوك المغرب ومع ذلك لم يأت بطائل. وحاصر تلمسان فمكث على حصارها نحو أربع عشرة سنة، وابتنى عليها مدينة سكنها بجيوشه. ومات قبل أن يملكها، وذلك أن بعض خدامه وثب عليه فضربه. فلما تحقق الموت عهد بالملك إلى ولده أبى سالم إبراهيم فملك بعده. وخالف عليه ابن أخيه أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف أبى الزردات وعمه أبو يحيى أبو بكر بن يعقوب بن عبد الحق. واجتمع عليهما بنو مرين وهم على تلمسان. فخافهما إبراهيم وهرب من ليلته، فاتّبع وقتل. واستقر الملك لعامر وعم أبيه أبى يحيى يوما واحدا. ثم قام عبد الله ابن أبى مدين المكناسى وزير يوسف بن يعقوب- وهو المستولى على

الدولة- وعلم أن أبا يحيى إن استمر تغلب على الملك وتحكم عليه «1» ، ورأى أنه إذا انفرد عامر بالملك مع صغر سنه كان هو المتحكم فى المملكة فأغرى عامرا بأبى يحيى، فأمر به فقتل فى اليوم الثانى. واستقل عامر بالملك مدة سنة واحدة وشهر ثم مات بطنجة. فقام لطلب الملك بعده عمه على بن يوسف المعروف بابن رزيجة «2» ورزيجة أمه أم ولد. فلم يتم له أمر. فقام عبد الله بن أبى مدين الوزير وبايع لأبى الربيع سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب، وهو ابن سبع عشرة سنة أو نحوها. واستقر فى الملك ثلاث سنين حتى مات بناحية تازا. ثم ملك بعده عم أبيه عثمان بن يعقوب. وقتل ابن أبى مدين فى أيام سليمان بن عبد الله بأمره بمدينة فاس. وولى الوزارة بعده لأبى الربيع سليمان أخوه محمد بن أبى مدين. وعثمان هذا هو الملك القائم فى وقتنا هذا، فى سنة تسع عشرة وسبعمائة. وإنما اقتصرنا من أخبارهم على هذه النبذة لأنهم منعوا فى ابتداء دولتهم أن يؤرّخ لهم أو تدون أخبارهم، وقتلوا محمد بن عبد الله ابن أبى بكر القضاعى المعروف بابن الأبار، وكان قد أرخ أخبارهم وأخبار غيرهم، وأعدموا ما وجدوه عنده وعند غيره من أوراق التاريخ المنسوبة لهم ولغيرهم. فهذا هو الذى منع من انتشار أخبارهم. فلنذكر أخبار جزيرة «3» صقلية واقريطش.

ذكر أخبار جزيرة صقلية

ذكر أخبار جزيرة «1» صقلية ومن غزاها من المسلمين وما افتتح منها، وكيف استولت الفرنج- خذلهم الله تعالى- عليها قد ذكرنا صفة جزيرة صقلية، وما بها من الأنهار والعيون والفواكه والأشجار والنبات والكلأ، وما بها من المدن المشهورة. وأنينا على ذلك مبينا، وهو فى السّفر الأول من كتابنا هذا فى أخبار الجزائر «2» . فلنذكر الآن فى هذا الموضع خلاف ما قدمناه من أخبارها. فنقول: أول من غزا جزيرة صقلية فى الاسلام عبد الله بن قيس الفزارى «3» من قبل معاوية بن حديج، وكان قد بعثه من إفريقية، وذلك فى خلافة معاوية بن أبى سفيان «4» . ففتح وسبى وغنم فكان مما غنم أصناما من ذهب وفضة مكللة بالجواهر. فحملها إلى معاوية بن أبى سفيان. فأنفذها معاوية إلى الهند لزيادة ثمنها. فأنكر المسلمون ذلك عليه. ثم غزاها بعد ذلك محمد بن أبى إدريس «5» الأنصارى، فى أيام يزيد بن عبد الملك «6» ، فقدم بغنائم وسبايا. ثم غزاها بشر بن صفوان الكلبى، فى أيام هشام بن عبد الملك فقدم بغنائم وسبايا.

ثم غزاها حبيب بن أبى عبيدة، فى سنة اثنتين وعشرين ومائة ومعه ولده عبد الرحمن بن حبيب. فوجهه على الخيل «1» فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن حتى انتهى إلى سرقوسة «2» ، وهى دار الملك فقاتلوه، فهزمهم وضرب باب المدينة بسيفه فأثّر فيه. فهابه النصارى ورضوا بالجزية. فأخذها منهم ثم توجه «3» إلى أبيه. فرجعا إلى إفريقية. ثم غزاها عبد الرحمن بن حبيب، فى سنة ثلاثين ومائة فظفر ثم اشتغل ولاة إفريقية بالفتن التى قدمنا ذكرها فى أخبارهم فأمن «4» أهل جزيرة صقلية، وعمرها الروم من كل الجهات، وبنوا بها المعامل والحصون، ولم يتركوا جبلا إلا جعلوا عليه حصنا. وفى سنة إحدى «5» عشرة ومائتين، ولى ملك القسطنطينية على صقلية قسنطين «6» البطريق الملقب بسودة «7» فعمر اسطولا وسيره إلى بر إفريقية. وولى عليهم فيمى الرومى، وكان مقدما من بطارقته، فاختطف من بعض سواحلها مجازا «8» ، وبقى

مدة. فوصل كتاب صاحب القسطنطينية إلى قسنطين، يأمره بعزل فيمى وأن يعذبه لشىء بلغه عنه. فاتصل ذلك بفيمى، فمضى إلى مدينة سرقوسة. وملكها ونزع يده من الطاعة. فخرج إليه قسنطين، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قسنطين وقتل. وخوطب فيمى بالملك. وكان ممن انقطع إليه علج من الأرمنيين «1» ، يقال له بلاطة. فقدمه وولاه على ناحية من الجزيرة. فخالف على فيمى وخرج إليه وقاتله. فانهزم فيمى وقتل من أصحابه ألف رجل. ودخل بلاطة مدينة سرقوسة. وركب فيمى ومن معه فى البحر. وتوجه إلى إفريقية إلى زيادة الله ابن إبراهيم بن الأغلب يستنصر به. فجمع زيادة الله وجوه أهل القيروان وفقهاءها واستشارهم فى إنفاذ «2» الأسطول إلى جزيرة صقلية. فقال بعضهم: «نغزوها ولا نسكنها ولا نتخذها وطنا» . فقال سحنون بن قادم «3» رحمه الله: «كم بينها وبين بلاد الروم؟» فقالوا: «يروح الإنسان مرتين وثلاثة فى النهار ويرجع» . قال: «ومن ناحية إفريقية» . قالوا: «يوم وليلة» . قال: «لو كنت طائرا ما طرت عليها» . وأشار من بقى بغزوها، ورغبوا فى ذلك، وسارعوا إليه «4» . فخرج أمر زيادة الله إلى فيمى بالتوجه إلى مرسى سوسة، والإقامة هناك إلى أن يأتيه الأسطول. وجمع الأسطول

والمقاتلة. واستعمل عليهم القاضى أسد بن الفرات. وأقلع الأسطول من مدينة سوسة يوم السبت للنصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة ومائتين، وهو نحو مائة مركب «1» سوى مراكب فيمى، وذلك فى خلافة المأمون. فوصل مازر «2» يوم الثلاثاء. فأمر بالخيل فأخرجت من المراكب، وكانت سبعمائة فرس وعشرة آلاف راجل. وأقام ثلاثة أيام. فلم يخرج إليه إلا سرية واحدة. فأخذها، فإذا هى من أصحاب فيمى، فتركها. ثم رحل من مازر على تعبئة «3» قاصدا بلاطة وهو بمرج «4» ينسب إليه. فعبأ القاضى أسد أصحابه للقتال. وأفرد فيمى ومن معه ولم يستعن بهم. والتقوا واقتتلوا، فانهزم بلاطة ومن معه. وقتل منهم خلق كثير. وغنم المسلمون ما معهم. ولحق بلاطة بقصريانة «5» ثم غلبه الخوف فخرج منها إلى أرض قلّورية «6» فقتل بها. ثم سار القاضى أسد إلى الكنيسة التى على البحر وتعرف بأفيمية «7» واستعمل على مازر أبازكى «8» الكنانى.

ذكر ولاية محمد بن أبى الحوارى

ثم سار إلى كنيسة المسلقين «1» . فلقيه طائفة من بطارقة سرقوسة فسألوه الأمان خديعة ومكرا. واجتمع أهل الجزيرة إلى قلعة الكرّاث وجمعوا فيها جميع أموال أهل الجزيرة. وذل أهل سرقوسة وألقوا بأيديهم. فلما شاهد ذلك فيمى داخلته حمية الكفر. فأرسل إليهم أن يثبتوا وأن يجدوا فى الحرب ويستعدوا. وأقام القاضى أسد فى موضعه أياما. وتبين له «2» أنهم مكروا به حتى أصلحوا حصنهم وأدخلوا إليه جميع ما كان فى الرّبض «3» وفى الكنائس من الذهب والفضة والميرة. فتقدم وناصبهم القتال. وبث السرايا فى كل ناحية فغنموا وسبوا سبيا «4» كثيرا. وأتوه بالسبى والغنائم وأتته الأساطيل من إفريقية والأندلس. وشدد القاضى الحصار على مدينة سرقوسة. فسألوه الأمان فأراد أن يفعل. فأبى عليه المسلمون وعاودوا الحرب. فمرض القاضى أسد فى خلال ذلك، ومات فى شعبان سنة ثلاث عشرة ومائتين. ذكر ولاية محمد بن أبى الحوارى «5» قال: ولما توفى القاضى أسد بن الفرات، ولى المسلمون على أنفسهم محمد بن أبى الحوّارى، فضيق على أهل سرقوسة. فوصل

من القسطنطينية أسطول كبير «1» وعساكر فى البر. فعزم المسلمون على العود إلى إفريقية، فرحلوا عن سرقوسة وأصلحوا مراكبهم «2» وركبوها. فوقفت مراكب الروم على المرسى الكبير «3» ومنعوهم من الخروج. فأحرق المسلمون مراكب نفوسهم. ورحلوا إلى حصن مناو «4» ومعهم فيمى. فملكوا الحصن وسكنوه. وملكوا حصن جرجنت «5» وسكنه طائفة من المسلمين. ثم خرج فيمى إلى قصريانة، فخرج إليه أهلها وبذلوا له الطاعة وخدعوه. وقالوا له: «نكون نحن وأنت والمسلمون على كلمة واحدة ونخلع طاعة الملك» . وسألوه أن يرجع عنهم ذلك اليوم لينظروا فيما يصالحون عليه. فرجع عنهم يومه ذلك. ثم جاءهم فى الغد فى نفر يسير. فخرجوا يقبلون الأرض بين يديه، وكانوا قد دفنوا سلاحا فى تلك البقعة. فلما قرب منهم، أخرجوا السلاح وثاروا به فقتلوه. ثم وصل تودط البطرك «6» من القسطنطينية فى عساكر عظيمة

من الأرمن «1» وغيرهم، وتوجه إلى قصريانة. وخرج بمجموعه «2» للقاء المسلمين. فالتقوا فانهزم تودط. وقتل من عسكره خلق كثير، وأسر من بطارقته تسعون «3» بطريقا. ثم توفى محمد بن أبى الحوارى فى أول سنة أربع عشرة ومائتين. فولى المسلمون عليهم زهير بن برغوث «4» . وكان بينه وبين تودط حروب كثيرة. وحاصر المسلمين فى حصنهم وضاقت عليهم الميرة وقلّت الأقوات حتى أكلوا دوابهم. ولم يزالوا كذلك حتى قدم أصبغ بن وكيل الهوارى فى مراكب كثيرة من الأندلس قد خرجوا غزاة، وقدم سليمان بن عافية الطرطوشى «5» بمراكب. فأرسل المسلمون إليهم وسألوهم النصرة، وأرسلوا إليهم دواب. فخرجوا وقصدوا تودط، وهو مقيم على مناو. فانصرف إلى قصريانة وارتفع الحصار عن المسلمين، وذلك فى جمادى الآخرة سنة خمس «6» عشرة ومائتين.

ذكر فتح مدينة بلرم

ذكر فتح مدينة بلرم كان ابتداء حصارها فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة ومائتين. ودام إلى شهر رجب سنة عشرين ومائتين «1» ،، وفتحت بالأمان، وذلك فى ولاية محمد بن عبد الله بن الأغلب. وفى سنة خمس وعشرين ومائتين، استأمنت قلاع كثيرة من قلاع جزيرة صقلية منها جرصة «2» وقلعة البلوط «3» ، وابلاطنوا «4» وقلعة قرلّون «5» ، ومرتاو «6» ، وغير ذلك. ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن الأغلب وولاية العباس بن الفضل بن يعقوب وفى سنة ست «7» وثلاثين ومائتين، توفى محمد بن عبد الله ابن الأغلب لعشر خلون من شهر رجب. فكانت ولايته تسع عشرة سنة. وكان فى مدة ولايته لا يخرج من مدينة بلرم بل كان يخرج

ذكر فتح قصريانة وهى دار مملكة الروم بجزيرة صقلية

السرايا مع ولاته. فلما مات اجتمع الناس على ولاية العباس بن الفضل فولوه. وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن الأغلب أمير القيروان فولاه الجزيرة. فكان يخرج بنفسه تارة وبسراياه أخرى. وهو يخرب فى بلاد العدو وينكى، وينال منهم ومن بلادهم، ويصالحونه على الأموال والرقيق. ذكر فتح قصريانة وهى دار مملكة الروم بجزيرة صقلية قال المؤرخ: كانت سرقوسة دار ملك الجزيرة إلى أن فتح المسلمون بلرم. فانتقل الروم إلى قصريانة لحصانتها وجعلوها دار ملكهم. فلما كان فى سنة أربع وأربعين «1» ومائتين، خرج العباس بن الفضل فوصل إلى قصريانة وسرقوسة. وأخرج أخاه عليا فى المراكب الحربية فى البحر. فلقيه الإقريطشى فى أربعين شلنديا. فقاتلهم أشد قتال، فهزمهم وأخذ منهم عشر شلنديات برجالها، ورجع. ثم سير العباس سرية إلى قصريانة فغنموا وقدموا بعلج. فأمر العباس بقتله، فقال له العلج: «استبقنى ولك عندى نصيحة» . فخلا به وسأله: «ما النصيحة؟» فقال: «أدخلك قصريانة

فعند ذلك خرج العباس فى كانون فى أنجاد «1» رجاله، والعلج معه، وهو فى ألف فارس وسبعمائة راجل «2» ، فجعل على كل عشرة مقدما. ثم سار بهم ليلا حتى نزل على مرحلة من جبل الغدير. وقدم عمه رباحا «3» فى خيار أصحابه. وأقام هو بموضعه وهو مستتر» . ومضى عمه رباح بمن معه يدبون دبيبا حتى صاروا إلى جبل المدينة، والعلج معهم. فأراهم الموضع الذى ينبغى أن توضع عليه السلاليم. فتلطفوا فى الصعود إلى الجبل، وذلك الوقت قريب الصبح وقد نام الحرس. فلما وصلوا إلى السور، دخلوا من خوخة كانت فى السور يدخل منها الماء. ووضعوا السيف. وفتحوا الأبواب. وأقبل العباس يجد السير. وقصد باب المدينة، ودخلها صلاة الصبح من يوم «5» الخميس لأربع عشرة ليلة بقيت «6» من شوال. وقتل من وجد بها من المقاتلة، وكان بها بنات البطارقة وأبناء ملوك الروم. فوجد المسلمون بها ما لا يحصى من الأموال. وبنى العباس فيها مسجدا فى يومه، ونصب فيه «7» منبرا، وخطب عليه الخطيب يوم الجمعة. وما زال العباس يداوم الغزو بنفسه إلى أن توفى فى يوم الجمعة

لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة سبع «1» وأربعين ومائتين. فكانت ولايته إحدى عشرة سنة. قال: ولما مات العباس، ولّى الناس على أنفسهم أحمد بن يعقوب «2» . ثم ولوا عبد الله بن العباس، وكتبوا إلى أمير القيروان. فولى خمسة أشهر. ثم وصل إليهم خفاجة بن سفيان فى سنة ثمان وأربعين ومائتين. ودام الغزو إلى أن اغتاله رجل من جنده عند منصرفه من غزاة فقتله. وذلك فى يوم الثلاثاء مستهل شهر رجب «3» سنة خمس وخمسين ومائتين. ويقال: إن الذى قتله خلفون بن أبى زياد الهوارى. قال: ولما قتل خفاجة، ولى الناس على أنفسهم ابنه محمد بن خفاجة. ثم أتته الولاية من قبل أمير القيروان. ثم قتله خدامه الخصيان لثلاث خلون من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومائتين وهربوا. فأخذوا وقتلوا. فولى الناس عليهم محمد بن أبى الحسين «4» ، وكتبوا إلى

إفريقية. فبعث أمير إفريقية بولايتها إلى رباح بن يعقوب «1» . وولّى الأرض الكبيرة «2» عبد الله بن يعقوب. فمات رباح فى المحرم سنة ثمان وخمسين ومائتين. ومات بعده أخوه فى صفر من السنة. فولى الناس عليهم أبا العباس بن عبد الله بن يعقوب «3» فأقام أشهرا «4» ثم مات. فولوا أخاه «5» . ثم ولى الحسين بن رباح «6» من قبل أمير إفريقية. ثم عزله واستعمل عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب فى شوال سنة تسع وخمسين ومائتين. ثم عزله وولى أبا مالك أحمد بن عمر بن عبد الله بن [إبراهيم] «7» ابن الأغلب المعروف بحبشى. فبقى متوليا عليها ستا وعشرين سنة. ثم وليها أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد فى سنة سبع «8» وثمانين ومائتين. فأقام إلى أن انخلع له أبوه إبراهيم بن أحمد

من الملك، فرده إلى إفريقية. وسار إبراهيم إلى صقلية وغزا بنفسه، كما ذكرناه فى أخباره آنفا «1» . ومات فى الغزو. ثم وليها محمد بن السرقوسى مولى إبراهيم بن أحمد «2» . ثم ولى على بن أبى الفوارس «3» فى سنة تسعين ومائتين. «4» فأقام بها إلى سنة خمس وتسعين ومائتين «5» . فعزله زيادة الله. واستعمل أحمد بن أبى الحسين بن رباح «6» . ثم بلغ أهل صقلية تغلب أبى عبد الله الشيعى على بلاد إفريقية. فوثب أهل صقلية على أحمد، وانتهبوا ماله وحبسوه. وولوا عليهم على بن أبى الفوارس لعشر من شهر رجب سنة ست وتسعين ومائتين. وأرسلوا ابن أبى الحسين إلى أبى عبد الله الشيعى. وكتبوا إليه كتابا يسألونه إبقاء علىّ عليهم، فأجابهم إلى ذلك. وكتب إليه أن يغزو برا وبحرا. وكان أحمد بن أبى الحسين آخر ولاة بنى الأغلب بصقلية. وكان لكل واحد من الولاة الذين ذكرناهم غزوات وسرايا وجهاد فى العدو. قال: ولما ولى المهدى بعد بنى الأغلب، كتب إليه ابن أبى الفوارس

ذكر ولاية حسن بن أحمد بن أبى خنزير

يستأذنه فى القدوم إلى إفريقية، فأذن له فخرج إليه. فلما وصل حبسه برقادة. ذكر ولاية حسن بن أحمد «1» بن أبى خنزير كانت ولايته من قبل المهدى. فوصل إلى صقلية فى عاشر ذى الحجة سنة سبع وتسعين ومائتين. فثار به أهل المدينة فى سنة ثمان وتسعين «2» وقبضوا عليه. وكان سبب ذلك أن عماله جاروا على الناس. واتفق أنه صنع طعاما ودعا إليه وجوه الناس. فلما صاروا عنده زعم بعضهم أنه رأى عبيده يتعاطون السيوف المسلولة. فخافوا وفتحوا طاقات المجلس وصاحوا: «السلاح، السلاح» . فثار إليهم الناس، واجتمعوا حول الدار، وأطلقوا النار فى الأبواب. فأخرج إليهم من كان عنده من وجوه الناس، وأنكر أن يكون أراد بهم سوءا فلم يقبلوا منه وتألبوا عليه. فوثب من داره إلى دار رجل من جيرانه فسقط فانكسر ساقه. فأخذوه وحبسوه. وكتبوا بذلك إلى المهدى. فعزله واغتفر فعلهم. وضبط المدينة خليل صاحب الخمس «3» . ثم استعمل المهدى على بن عمر البلوى. فوصل إلى المدينة لثلاث بقين من ذى الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين. فلم يرض أهل صقلية سيرته، وكان شيخا هينا لينا رفيقا بالرعية. فألب

ذكر ولاية أبى سعيد موسى بن أحمد

عليه أحمد بن قرهب «1» ودعا الناس إلى طاعة المقتدر بالله. فأجابه إلى ذلك جماعة وولوه على أنفسهم «2» . ووردت عليه رسل المقتدر بالله العباسى فى سنة ثلاثمائة بكتاب بالولاية «3» والخلع والبنود وطوق ذهب وسوار. ثم عصى عليه أهل صقلية وكاتبوا المهدى. واجتمعوا إلى أبى الغفار فزحف بهم إلى ابن قرهب، وقالوا له: «اخرج عنا واذهب حيث شئت» . فأبى ذلك وقاتلهم ثم تحصن منهم ثم قتل بعد ذلك فى آخر سنة ثلاثمائة «4» . فكانت ولايته أحد عشر شهرا. ذكر ولاية أبى سعيد موسى بن أحمد قال: ولما قتل ابن قرهب، أرسل المهدى موسى بن أحمد واليا. وأرسل معه جماعة ليساعدوه على أهل صقلية إن أرادوا به سوءا. فلما قدم، ورد عليه رؤساء جرجنت، فأكرمهم وكساهم. ثم أخذ بعد ذلك أبا الغفار فقيده وحبسه. فهرب أخوه أحمد إلى جرجنت، فألب على موسى بن أحمد. فوافقه الناس عليه. وكانت بينه وبينهم حرب شديدة. ثم طلبوا الأمان فأمنهم. وكتب

ذكر ما فتح من بلاد قلورية

بذلك إلى المهدى، فولى مكانه سالم بن أبى راشد الكنانى فى سنة خمس وثلاثمائة «1» ذكر ما فتح من بلاد قلورية قال المؤرخ: وفى سنة ست «2» عشرة وثلاثمائة وصل صابر الصقلبى من إفريقية فى ثلاثين حربيا. فخرج معه سالم إلى أرض قلّورية ففتحا مدينة طارنت عنوة. ووصلا إلى مدينة أذرنت، وحاصراها وخربا منازلها. وأصاب الناس وخم فرجعوا إلى المدينة. ثم عاودوا الغزو إلى أن أذعن أهل قلورية لإعطاء الجزية وأدوها مدة بقاء المهدى. وفى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، أخرج القائم بن المهدى يعقوب بن إسحاق فى أسطول إلى ناحية إفرنجة، ففتح مدينة جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها وأحرقوا مراكب كثيرة. وفى هذه السنة، كان الطوفان بصقلية فهدم الدور. وفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، خالف أهل جرجنت على سالم. وأخرجوا عامله ابن أبى حمران فأخرج إليهم سالم عسكرا فهزموه. ورجعوا إلى سالم فقاتلهم سالم وهزمهم. ثم خرج على

سالم أهل المدينة وحاربوه مع إسحاق البستانى ومحمد بن حمّو وكانت بينهم حرب. فهزمهم وحصرهم بالمدينة. واتصل الخبر بالقائم «1» ، فأنفذ خليل بن إسحاق فى عسكر وجماعة من القواد لقتال أهل صقلية. فورد كتاب أهل البلد على القائم بطاعتهم وأنهم كرهوا أفعال سالم. فاستعمل عليهم خليل ابن إسحاق. فوصل إلى المدينة فى آخر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. فأطاعه أهل صقلية فأكرمهم. وعزل عنهم عمال سالم. فأقام خليل بها أربع سنين ثم رجع إلى إفريقية. فوليها محمد بن الأشعث وعطّاف فى سنة ثلاثين وثلاثمائة. فمات محمد بن الأشعث فى سنة أربع وثلاثين. واستقل عطّاف بالأمر إلى سنة ست وثلاثين. فكتب إلى المنصور يخبره بتحامل أهل البلد وأن أمرهم يؤول إلى فساد. فاستعمل المنصور بن القائم بن المهدى على صقلية الحسن ابن على بن أبى الحسين الكلبى «2» ، وكان مكينا عند المنصور لمحبته ونصحه وتقدم خدمة سلفه لآبائه. فوصل إلى صقلية وأقام بها سنتين وأشهرا «3» . ورجع إلى إفريقية فى ولاية المعز لدين الله ابن المنصور. فسأله تشريف ولده أبى الحسين «4» بالولاية، فولاه فى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.

ذكر فتح قلعة طبرمين

ذكر فتح قلعة طبرمين «1» قال المؤرخ: وفى أيام أبى الحسين فتح المسلمون طبرمين، وكانت يومئذ أشد قلاع الروم شوكة. وكان فتحها لخمس بقين من ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، بعد أن حوصرت سبعة أشهر ونصفا، ونزلوا على حكم الملك دون القتل. فأمر المعز بتسميتها المعزّية. ووجه الأمير أحمد إلى المعز بسبيها وهو ألف وخمسمائة وسبعون رأسا. ذكر فتح رمطة «2» وما كان بسبب ذلك من حروب قال: لما فتح المسلمون طبرمين، وسكنوها وعمرت بهم وتحصنت، خرج أهل رمطة عن الطاعة، واستنصروا بالدّمستق «3» ملك القسطنطينية. فورد كتاب المعز إلى أحمد يأمره بإخراج الحسن بن عمار إلى حصار رمطة وقتال من بها وإزالتهم منها. فنزل ابن عمار عليها فى يوم الخميس آخر شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ونصب عليها المجانيق والعرادات. ودام القتال فى كل يوم. وبنى له قصرا وسكنه. وأخذ الناس فى بنيان البيوت.

ذكر وقعة الحفرة على رمطة

فلما بلغ ذلك الدمستق، أمر بالحشود، وجهز العساكر صحبة منويل، وأمرهم بالتعدية إلى صقلية. فابتدئوا بالتعدية يوم الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. وأقاموا يعدون تسعة أيام فى عدد عظيم. وحفروا خندقا حول مدينة مسّينى وشيدوا أسوارها. وكاتب الحسن بن عمار بذلك، فخرج الأمير أحمد بالجيوش. ورحل الكفرة من مسينى قاصدين الحسن بن عمار بقلعة رمطة. ذكر وقعة الحفرة على رمطة قال: وفى النصف من شوال سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، زحف منويل بجميع عسكره من المجوس والأرمن والروس، فى جمع لم يدخل الجزيرة مثله قط. فلما علم الحسن بن عمار بتقدمهم استعد للقاء، وجعل عسكرا فى مضيق ميقش «1» وعسكرا فى مضيق دمنّش. فبلغ ذلك منويل فوجه عسكرين بإزائهما، ووجه عسكرا ثالثا إلى طريق المدينة يمنع من يصل إليهم «2» بنجدة. ورتب الحسن المقاتلة على القلعة وبرز بالعساكر للقاء الكفرة. وقد عزموا على الموت. وزحف الكفرة فى ستة مواكب. وأحاطوا بالمسلمين من كل ناحية. ونزل أهل رمطة إلى من يليهم. والتقوا وقاتلت كل طائفة

من يليها. فقاتلوا «1» حتى دخل المسلمون خيام أنفسهم «2» وأيقن العدو بالظفر. فاختار المسلمون الموت، ورأوا أنه أسلم لهم وأوفر لحظوظهم، فحميت الحرب. ونادى الحسن بن عمار بأعلى صوته: «اللهم، إن بنى آدم أسلمونى فلا تسلمنى» . وحمل بمن معه حملة رجل واحد. فصاح منويل بالكفرة يقول: «أين افتخاركم بين يدى الملك؟ أين ما ضمنتم له فى هذه الشرذمة القليلة؟» . فحمى الوطيس عند ذلك. وحمل منويل وقتل رجلا من المسلمين. فطعن عدة طعنات فلم تعمل فيه شيئا لحصانة ما عليه من اللباس. فحمل عليه رجل من المسلمين فطعن فرسه فعقره، وقتل. وجاءت سحابة ذات برق ورعد وظلمة، وأيد الله المسلمين «3» بنصره. فانهزم الكفرة وركبهم المسلمون بالقتل. فمالوا إلى موضع ظنوه سهلا، فوقعوا فى الوعر، وأفضى بهم إلى حرف خندق عظيم كالحفرة من بعد قعره. فسقطوا فيها وقتل بعضهم فيها بعضا. وامتلأت الحفرة منهم على طولها وعرضها وعمقها حتى مرت الخيل عليهم «4» مسرعة. وحصل من بقى منهم فى مواضع وعرة وخنادق هائلة. وكانت الحرب من أول النهار إلى بعد صلاة الظهر، وتمادت هزيمة من بقى إلى الليل. وبات المسلمون يقتلونهم فى كل ناحية وأسر جماعة من أكابرهم، وغنم المسلمون من الأموال والخيل

والسلاح ما لا يحد. وبلغ القتلى «1» فوق العشرة آلاف. وكان فيما غنموه سيف فيه منقوش: «هذا سيف هندى وزنه مائة وسبعون مثقالا، طالما ضرب به بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . فبعث به الحسن إلى المعز لدين الله، مع مائتى علج من وجوههم، ودروع وجواشن وسلاح كثير. ونجا من الكفرة نفر يسير فركبوا المراكب. وجاء الخبر إلى الأمير أحمد بالهزيمة قبل وصوله إلى ابن عمار. وفى أثر هذه الوقعة توفى الحسن بن على بن أبى الحسين والد الأمير أحمد. قال: وبلغ «2» الدمستق خبر هذه الوقعة وكسرة أصحابه، وهو بالمصيصة وقد ضيّق على أهلها، فرجع مسرعا إلى القسطنطينية. ودام الحصار على رمطة أشهرا. فنزل منها ألف نفس من شدة ما نالهم من الجوع. فوجه بهم الحسن بن عمار إلى المدينة وبقيت المقاتلة ثم فتحت رمطة. وكان بين المسلمين بعد ذلك وبين الكفار وقائع كثيرة، منها وقعة الأسطول بالمجاز، قتل فيها من الكفار فى الماء حتى احمر المجاز. ثم وقع الصلح بعد ذلك بين المعز والدمستق فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وأتته هداياه. ووصل كتاب المعز إلى الأمير

ذكر اخلاء طبرمين ورمطة

أحمد يعرفه بالصلح، ويأمره ببناء أسوار المدينة وتحصينها ويعلمه أن البناء اليوم خير من غد، وأن يبنى فى كل إقليم من أقاليم الجزيرة مدينة حصينة وجامعا ومنبرا، وأن يأخذ أهل كل إقليم بسكنى «1» مدينتهم ولا يتركوا متفرقين فى القرى. فسارع الأمير أحمد إلى ذلك، وشرع فى بناء سور المدينة. وبعث إلى جميع الجزيرة مشايخ ليقفوا على العمارة. ذكر اخلاء طبرمين ورمطة وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وصلت هدية ملك القسطنطينية فأمر المعز لدين الله بإخلاء طبرمين ورمطة، فاغتم المسلمون لذلك. فأمر الأمير أحمد أخاه أبا القاسم وعمه جعفرا، فنزلا بينهما وهدمتا وأحرقتا بالنار. وفيها أمر المعز لدين الله الأمير أحمد بمفارقة صقلية والقدوم إلى إفريقية. ففارقها بجميع أهله وماله وأولاده وإخوته. فركبوا فى ثلاثين مركبا. ولم يبق منهم بصقلية أحد. فكانت ولايته خاصة ست عشرة سنة. واستخلف على صقلية يعيش مولى أبيه «2» .

ذكر ولاية أبى القاسم نيابة عن أخيه أحمد واستقلاله

ذكر ولاية أبى القاسم نيابة عن أخيه أحمد واستقلاله قال: وفى نصف شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وصل الأمير أبو القاسم إلى صقلية نيابة عن أخيه الأمير أحمد. ثم توفى الأمير أحمد فى بقية السنة، فوصل سجل المعز إلى ألى القاسم بالاستقلال «1» . وكانت «2» له غزوات كثيرة مع العدو. فالأولى فى سنة خمس وستين وثلاثمائة. وفيها أمر بعمارة قلعة رمطة، فعمرت وولى بعض عبيده عليها. ودوام الغزو إلى أن استشهد فى غزاته الخامسة، فى المحرم سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. وولى بعده الأمير جابر بن أبى القاسم «3» . وأتاه سجل العزيز بالله بن المعز لدين الله من مصر. فولى سنة. ثم عزله العزيز واستعمل جعفر بن محمد بن الحسين «4» فوصل إلى صقلية فى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. فبقى بها إلى أن توفى فى سنة خمس «5» وسبعين.

ذكر ولاية أبى الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة

وولى بعده أخوه عبد الله بن محمد إلى أن توفى فى شهر رمضان سنة تسع «1» وسبعين وثلاثمائة. وولى بعده ابنه يوسف. ذكر ولاية أبى الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة كانت ولايته عند وفاة والده بعهد منه، ثم أتاه سجل العزيز بالله من مصر بالولاية فضبط الجزيرة وأحسن إلى الرعايا. واستمر إلى أن أصابه الفالج، فى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فبطل شقه الأيسر وضعف الأيمن. فاستناب ولده جعفر، وكان بيده سجل من الحاكم بولايته بعد أبيه. ثم بعث إليه الحاكم بعد ذلك تشريفا، وعقد له لواء، ولقبه بتاج «2» الدولة سيف الملة. فضبط الأحوال إلى سلخ شهر رجب سنة خمس وأربعمائة. فأظهر عليه أخوه الأمير على بن أبى الفتح الخلاف، وخرج إلى موضع بقرب المدينة. فاجتمع إليه البربر والعبيد الذين عاقدهم على القيام معه. فأخرج إليه جعفر عسكرا فالتقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان. فجرى بينهم قتال شديد قتل فيه كثير من البربر والعبيد الذين مع على. وهرب من بقى منهم. وأسر على وجىء به إلى أخيه الأمير جعفر فقتله. فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام. فعزّ ذلك على أبيه. ثم أمر جعفر بنفى

ذكر وثوب أهل صقلية بالأمير جعفر واخراجه

من بالجزيرة من البربر بعيالاتهم، فنفوا حتى لم يبق منهم أحد. وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم. وجعل جميع جنده من أهل صقلية. فقل العسكر عنده. وأدى ذلك إلى وثوب أهل صقلية به وإخراجه. ذكر وثوب أهل صقلية بالأمير جعفر واخراجه قال المؤرخ: كان سبب ذلك أنه ولى عليهم كاتبه حسن بن محمد الباغائى «1» ، فصادر الناس وعاملهم بسوء. وأشار على جعفر أن يأخذ من صقلية الأعشار فى طعامهم وثمارهم على عادة البلاد. ولم يجر لهم بذلك عادة وإنما كانت العادة أن يؤخذ على الزوج البقر شىء معلوم ولو أصاب ما أصاب. ثم أظهر جعفر الاستخفاف بأهل صقلية، وشيوخ بلادها، واستطال عليهم. فزحف إليه أهل البلد صغيرهم وكبيرهم. فحاصروه فى قصره وهدموا بعض أرباضه. وباتوا ليلة الاثنين لست خلون من المحرم سنة عشر وأربعمائة، وقد أشرفوا على أخذه. فخرج إليهم أبوه يوسف فى محفة، وكانوا له مكرمين. فلطف بالناس ووعدهم أنه لا يخرج عن رأيهم. فذكروا له ما أحدث ولده. فقال: «أنا أكفيكم أمره، وأعتقله وأولى عليكم من ترضونه» . فوقع اختيارهم على ولده أحمد الأكحل.

ذكر ولاية الأمير تأييد الدولة أحمد الأكحل

ذكر ولاية الأمير تأييد الدولة «1» أحمد الأكحل كانت ولايته فى يوم الاثنين السادس من المحرم سنة عشر وأربعمائة. وتسلم أهل صقلية حسن الباغائى الكاتب، فقتلوه، وطافوا برأسه، وأحرقوه بالنار. وخاف يوسف على ابنه جعفر، فحمله فى مركب حربى «2» إلى مصر، وسار يوسف أيضا، ومعهما من الأموال ستمائة ألف وسبعون ألف دينار. وكان ليوسف ثلاثة عشر ألف حجر «3» سوى البغال وغيرها، فمات بمصر وليس له إلا دابة واحدة. قال: ولما ولى الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد. فسكن الناس وصلحت أحوالهم. ثم وصل كتاب الحاكم ولقب الأكحل تأييد الدولة. وجمع الأكحل المقاتلة، وبث سراياه فى بلاد الكفرة، وكانوا يحرقون ويغنمون ويخربون البلاد. فأطاعه جميع القلاع. وكان للأكحل ابن اسمه جعفر، كان يستخلفه إذا سافر للغزاة فخالف سيرة أبيه فى العدل الإحسان. ثم جمع أهل صقلية وقال: «إنى أحب إخراج أهل إفريقية عنكم، فإنهم قد شاركوكم فى بلادكم وأموالكم» . فقالوا: «كيف يكون ذلك، وقد صاهرناهم

واختلطنا بهم وصرنا شيئا واحدا؟» فصرفهم. ثم أرسل إلى الإفريقيين وقال لهم مثل ذلك فى حق أهل صقلية، فأجابوه إلى ما أراد. فجمعهم حوله فكان يحمى أملاكهم، ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية. فسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وأعلموه بما حل بهم. وقالوا: «نحب أن نكون فى طاعتك وإلا سلمنا الجزيرة إلى الروم» . وذلك فى سنة سبع وعشرين «1» وأربعمائة. فوجه المعز ولده عبد الله «2» إلى صقلية بعسكر عدته ثلاثة آلاف فارس ومثلهم رجالة «3» . فسار إلى الجزيرة ووقعت بينه وبين الأكحل حروب، وحصره فى قصره بالخالصة. ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل. فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز غدرا، وأتوا برأسه إلى عبد الله. ثم رجع بعض الصقليين عن بعض، وندموا على إدخال عبد الله إلى الجزيرة، واجتمعوا على حربه، وقاتلوه فانهزم عسكر عبد الله وقتل منهم نحو ثلاثمائة «4» رجل. ورجعوا فى المراكب إلى إفريقية. وولى أهل صقلية على أنفسهم الصمصام أخا الأكحل. واضطربت أحوال أهل الجزيرة، وانفردت كل طائفة بجهتها. فرجع أمر أهل المدينة إلى المشايخ الذين بها، وأخرجوا الصمصام. وانفرد القائد

عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش والشاقة» ومرسى على «2» وما حولها من البوادى. وانفرد القائد على بن نعمة المعروف بابن الجواش «3» بقلعة قصر يانة ومدينة جرجنت وقصر نوبو «4» ومايلى ذلك. واختبطت الجزيرة. ثم ثار رجل يعرف بابن الثّمنة فاستولى على مدينة سرقوسة وما يليها. وخرج منها بعسكر إلى مدينة قطانية «5» فدخلها، وقتل ابن المكلاتى «6» وملكها. وكان ابن المكلاتى مصاهرا للقائد على بن نعمة المعروف بابن الجواش بأخته ميمونة. فلما انقضت عدّتها، خطبها ابن الثمنة لأخيها، فزوجه بها، وكانت امرأة عاقلة. فجرى بينها وبينه فى بعض الأيام خصام أدى إلى أن أغلظ لها فى القول، فأجابته بمثله. وكان سكران، فغضب وأمر بفصدها فى عضديها وتركها لتموت. فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء، وعالجها إلى أن عادت قوتها. ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر، فأظهرت قبول عذره. ثم طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها، فأذن لها وسير معها التحف والهدايا. فلما وصلت إليه ذكرت له ما فعل بها، فحلف

ذكر استيلاء الفرنج - خذلهم الله تعالى - على جزيرة صقلية

أنه لا يعيدها إليه. فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه، فجمع عساكره، وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة وسار لحرب ابن الجواش بقصريانة. فخرج إليه وقاتله. فانهزم ابن الثمنة، وتبعه وقتل من أصحابه فأكثر. فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت أراد لانتصار بالكفار. ذكر استيلاء الفرنج- خذلهم الله تعالى- على جزيرة صقلية كان سبب ذلك أنه لما وقعت الحرب بين ابن الثمنة وابن الجواش وانهزم ابن الثمنة، سار إلى مدينة ملطية «1» ، وكانت بيد الفرنج ملكوها فى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. وكان ملكها حينئذ رجار «2» الفرنجى. فوصل إليه وقال: «أنا أملّكك الجزيرة» . فسار معه فى شهر رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة. فلم يلقوا من يدافعهم، واستولوا على مامروا عليه فى طريقهم. وقصد بهم «3» قصريانة فقاتلهم ابن الجواش. فهزمه الفرنج «4» فرجع إلى الحصن. فرحلوا عنه واستولوا على مواضع كثيرة. ففارق الجزيرة كثير من العلماء والصالحين. وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وذكروا له

ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها. فعمر أسطولا كبيرا وشحنه بالرجال والعدد. وكان الزمان شتاء، فساروا إلى قوصرة «1» . فهاج عليهم البحر، فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل. وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز بن باديس وقوى العرب عليه حتى أخذوا البلاد منه. فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد. واشتغل المعز بما دهمه من العرب. ثم مات فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولى ابنه تميم. فبعث أسطولا وعسكرا إلى الجزيرة، وقدّم عليه ولديه أيوب وعليا. فوصلوا إلى صقلية. فنزل أيوب والعسكر المدينة، ونزل على جرجنت. ثم انتقل أيوب إلى جرجنت فأحبه أهلها. فحسده ابن الجواش فكتب إلى أهلها ليخرجوه، فلم يفعلوا. فسار إليه فى عسكره وقاتله. فقتل ابن الجواش بسهم غرب «2» أصابه. وملك أيوب ابن تميم. ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة «3» وبين عسكر أيوب فتنة، أدت إلى القتال. ثم دار الشر «4» بينهم وتراقى، فرجع أيوب وأخوه فى الأسطول إلى إفريقية، وذلك فى سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصحبهم جماعة من أعيان صقلية. فلم يبق للفرنج مانع ولا ممانع، فاستولوا على الجزيرة. ولم يثبت

بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت. فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين حتى أكلوا الميتة وعدموا ما يأكلونه. فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج فى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وبقيت قصريانة بعد ذلك ثلاث سنين. فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم. فتسلمها الفرنج خذلهم الله تعالى فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وملك رجار جميع الجزيرة، وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين. ولم يترك لأحد من أهلها حماما ولا دكانا ولا طاحونا ولا فرنا. ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين وأربعمائة «1» ، وملك بعده ولده روجار «2» . فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والسلاحية والجاندارية «3» وغير ذلك. وخالف عادة الفرنج. وجعل له ديوانا للمظالم يرفّع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين، ومنع عنهم الفرنج فأحبوه. وعمر أسطولا كبيرا وملك الجزائر التى بين المهدية وصقلية مثل مالطة وقوصرة وغيرهما. وتطاولوا بعد ذلك إلى سواحل إفريقية وملكوا المهدية وغيرها. ثم استرجعت منهم على ما ذكرناه فى أخبار عبد المؤمن بن على «4» .

ذكر أخبار جزيرة أقريطش

ذكر أخبار جزيرة أقريطش هذه الجزيرة دون جزيرة صقلية، وهى كثيرة الخصب «1» مستطيلة الشكل. وأول من غزاها فى الإسلام ابن أبى أمية الأزدى، فى أيام معاوية ابن أبى سفيان. فلما كان فى أيام الوليد فتح بعضها. ثم غزاها حميد بن معيون «2» الهمدانى فى أيام الرشيد ففتح بعضها. ثم غزاها أبو حفص عمر بن شعيب «3» الأندلسى المعروف بالاقريطشى فى أيام المأمون. ففتح منها «4» حصنا واحدا. ولم يزل يفتح شيئا بعد شىء حتى لم يبق بها من الروم أحد، وأخرب حصونهم وتداولها بنوه بعده. ولما جرى لأهل قرطبة مع الحكم بن هشام الأموى وقعة الربض التى ذكرناها فى سنة ثمان وسبعين ومائة «5» ، أخرج جماعة منهم. فوصلوا إلى الإسكندرية وأقاموا بها، فعمرت بهم وصار فيها منهم خلق كثير. فغلبوا على الإسكندرية وملكوها إلى أن جاء عبد الله بن

طاهر إلى الإسكندرية وأخرجهم منها كما ذكرنا ذلك فى أخبار الدولة العباسية فى أيام المأمون بن الرشيد. فصالحهم على مال ونقلهم إلى جزيرة أقريطش. فعمروها وملكوا عليهم رجلا منهم «1» . وعمروا فيها أربعين قطعة. وغزوا جميع ما حولها من جزائر القسطنطينية ففتحوا أكثر الجزائر وغنموا وسبوا. ولم يكن لملك القسطنطينية بهم قبل، فأفكر فيما يفعله معهم من المكر والخديعة. فأقبل الملك أرمانوس «2» إلى عبد العزيز بن شعيب ابن عمر «3» صاحب جزيرة أقريطش. وتقرب إليه بالهدايا والتحف، وأظهر له المودة والمحبة. فلما استحكمت الوصلة بينهم وتأكدت، أنفذ أرمانوس رجلا من المسلمين ومعه هدية جليلة. فلما حضر بين صاحب أقريطش وقدم الهدية، قال له: «الملك يسلم عليك ويقول لك: نحن جيران وأصدقاء «4» ، وهؤلاء المساكين سكان الجزائر «5» قوم ضعفاء فقراء، وقد خلا أكثرهم من خوفك، وقلوبهم تحن إلى أوطانهم. ولى ولك بهم راحة وفائدة. فإن خفّ عليك أن تحسب ما يحصل لك من غزوهم فى كل عام وأنا أضاعفه لك أضعافا، وتؤمنهم وترفع عنهم الغزو وتفسح لهم فى السفر إلى

جزيرتك، ويتوجه التجار إليك، ويحصل لك من الحقوق أضعاف ما يحصل لك من الغزو» . فأجابه إلى سؤاله. وتحالفا وتصالحا واتفقا على مال يؤدّى فى كل عام. فوفى له أرمانوس بجميع ذلك. وألزم التجار بالسفر إلى اقريطش والقسطنطينية وجميع الجزائر. فكثرت أموال صاحبها وأخذ فى جمع الأموال واختصر العطاء للجند. ثم وقع بالقسطنطينية قحط وغلاء. فأنفذ الملك إلى صاحب اقريطش رسولا يقول: «قد وقع بالبلاد ما اتصل بك من الجدب. ولنا خيل عراب «1» برسم النتاج تعزّ علينا، فإن رأيت أن أنفذها «2» إلى الجزيرة، وما نتجت من الذكور تكون للملك، وما نتجت من الإناث فهو لك» . فأجابه «3» إلى ذلك. فأرسل إلى الجزيرة خمسمائة فرس فى المراكب ومعها رعاتها. فلما استقرت الخيل بالجزيرة، عبأ» العساكر على تلطف واستخفاء، وقدم عليها نخفور «5» الدمستق وأنجاد رجاله، وذلك فى غرة المحرم سنة خمس وثلاثمائة. فدخل الأسطول إلى الجهة التى فيها الأفراس. ونزل كل فارس بسرجه ولجامه وشدوا له على فرس وفاجئوا أهل الجزيرة على غرة وغفلة. فملكوها وقتلوا صاحبها ومن معه من الجند، وعفوا عن قتل الرعية. ووجدوا الأموال التى كانوا

ذكر تنصر أهل اقريطش

بذلوها مضاعفة فأخذوها. وسبوا نساء الأجناد وذراريهم. وشحنوها بالعدد والأجناد. ذكر تنصر أهل اقريطش قال المؤرخ: ولما قرب عيد الميلاد، أمروا أكابر الجزيرة بالمسير إلى الملك للهناء بالعيد. فتوقف الأمائل ونفّذوا مائة رجل من أوساط القوم. فلما وصلوا إلى الملك وسلموا عليه، أمر بإكرامهم، وخلع عليهم، وأمر لكل رجل منهم بعشر أوان من الذهب. فرجعوا فرحين، وندم من تأخر عن المسير. فلما أقبل عيد الفصح، تهيأ أكابر أهل الجزيرة للمسير، واجتمع منهم جماعة كبيرة. فلما وصلوا إلى القسطنطينية، أمر الملك أن يجعلوا فى موضع، وجعل عليهم حرسا. ومنعوا من الطعام والشراب إلى أن أيقنوا بالهلاك. فشكوا ذلك إلى الموكلين بهم وقالوا: «القتل خير لنا من هذا. وما الذى يريده الملك منا؟» قالوا «1» : «إنه يريد دخولكم فى دين النصرانية، فإن لم تجيبوا متم «2» على هذه الحالة وسبيت «3» ذراريكم» . فلما اشتد عليهم البلاء تنصروا فخلع عليهم، وتوجهوا إلى أهاليهم.

ذكر ما استولى عليه الفرنج - خذلهم الله تعالى - من البلاد الاسلامية بجزيرة الأندلس بعد أخذ طليطلة

فلما وصلوا الجزيرة منعوا الدخول «1» إلى بيوتهم. وقيل لهم: «أنتم نصارى وهؤلاء مسلمون. فإن دخلوا فى دين الملك اجتمعتم، وإن أبوا ملكناهم» . فتنصر الباقون فى يوم واحد. ثم مات الاباء وبقى الأولاد على أشد ما يكون فى دين النصرانية والبغض فى المسلمين. نسأل الله تعالى أن لا يمكربنا ولا بأهالينا ولا بذرا رينا «2» ولا بعقبنا، ولا بمتحننا فى ديننا، وأن يجعل عواقب أمورنا خيرا من مبادئها، بمنّه وكرمه. ولنصل هذا الفصل بذكر ما استولى عليه الفرنج من جزيرة الأندلس. ذكر ما استولى عليه الفرنج- خذلهم الله تعالى- من البلاد الاسلامية بجزيرة الأندلس بعد أخذ طليطلة هذه المدن التى نذكرها مما «3» استولى الفرنج خذلهم الله تعالى عليه من أعمال جزيرة الأندلس. كان الاستيلاء عليها فى التواريخ التى نذكرها، وهى فى المدة التى انقطعت فيها الأخبار وتعطلت التواريخ. فلم تصل إلينا مفصلة، ولا علمنا كيف أخذت ولا ممن انتزعت من ملوك المسلمين، فنذكر ذلك على وجهه. وإنما اطلعنا من حالها على تواريخ الاستيلاء عليها خاصة. فرأينا ذكر ذلك أولى من إهماله.

والمدن التى أخذت هى مدينة قرطبة استولى الفرنج عليها فى يوم السبت الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة «1» . ومدينة بلنسية، نازلها الروم وملكوها صلحا فى يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة ست وثلاثين «2» وستمائة. وجيّان: استولوا عليها فى سنة ثلاث «3» وأربعين وستمائة. وطرطرشة: أخذت فى سنة ثلاث «4» وأربعين وستمائة. ولاردة: أخذت فى سنة خمس «5» وأربعين وستمائة. ومدينة إشبيلية: أخذت فى مستهل شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة «6» . ولم يتأخر للمسلمين بجزيرة الأندلس إلى وقتنا هذا غير الجزيرة الخضراء وما يليها. وهى «7» جزء يسير جدا بالنسبة إلى ما أخذ

أعاد الله ما أخذ، وحمى ما بقى. وقد بلغنا أن الجزيرة الخضراء حاصرها الفرنج خذلهم الله تعالى فى سنة خمس عشرة وسبعمائة ونحوها. ولم يصل إلينا ما تجدد من ذلك. فإن وصل إلينا من خبرها شىء أوردناه فى حوادث السنين فى أخبار ملوك الديار المصرية. إن شاء الله تعالى. فهذا ما أمكن إيراده من أخبار بلاد المغرب. فلنذكر خلاف ذلك.

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها وذلك بعد مقتل الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما كان أول من رام ذلك منهم فى الدولة الأموية: زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم وكان ظهوره فى سنة إحدى وعشرين ومائة، وقتل فى سنة اثنتين وعشرين فى أيام هشام بن عبد الملك بن مروان «1» . وقد اختلف فى سبب قيامه وطلبه الخلافة ما هو. فقيل «2» : إن زيدا هذا وداود بن على بن عبد الله بن عباس ومحمد بن عمر بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم قدموا على خالد بن عبد الله القسرى، وهو أمير العراق. فأجازهم وأكرمهم ورجعوا إلى المدينة. فلما ولى

يوسف بن عمر الثّقفى العراق كتب [إلى] «1» هشام بذلك. وذكر له أن خالدا ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم رد الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه ففعل. فسألهم هشام عن ذلك، فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، وحلفوا فصدقهم. وأمرهم بالمسير إلى العراق، ليقابلوا خالد بن عبد الله. فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدقهم فعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم. وقيل: بل ادعى خالد القسرى أنه أودع زيدا وداود بن على ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف الثقفى بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من المدينة، وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد. فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: «إن خالدا زعم أنه أودعك مالا» . قال: «كيف يودعنى وهو يشتم آبائى على منبره؟» فأرسل إلى خالد فأحضره فى عباءة «2» . فقال: «هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئا» . فنظر خالد إليه وإلى داود، وقال ليوسف: «أتريد أن تجمع مع إثمك فى إثما فى هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر؟» فقال لخالد «3» :

«ما دعاك إلى ما صنعت؟» فقال: «شدّد على العذاب فادّعيت ذلك، وأملت أن يأتى الله بفرج قبل قدومك» . فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة. وقيل «1» : إن يزيد بن خالد القسرى هو الذى ادعى المال وديعة عند زيد. فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف، استقالوه خوفا من شر يوسف وظلمه. فقال: «أنا أكتب إليه بالكف عنكم» . وألزمهم بذلك، فساروا على كره. فجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد: «ليس لى عندهم قليل ولا كثير» . قال يوسف: «أفبى تهزأ أم بأمير المؤمنين؟» فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه. ثم أمر بالقرشيين فضربوا وترك زيدا. ثم استحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة. وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: «والله، ما آمن إن بعثتنى إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين «2» أبدا» . قال: «لا بد من المسير إليه» . وقيل «3» : كان السبب فى ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن «4» بن على فى وقوف «5» على ابن أبى طالب رضى الله عنه؛ زيد يخاصم عن بنى حسين، وجعفر

يخاصم عن بنى حسن. فكانا يتبالغان كل غاية «1» ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا. فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن حسن بن الحسن. فتنازعا يوما بين يدى خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة. فأغلظ عبد الله لزيد وقال: «يابن السندية» فضحك زيد وقال: «قد كان إسماعيل لأمة، ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم تصبر غيرها» . يعنى فاطمة ابنة الحسين أم عبد الله فإنها تزوجت بعد أبيه الحسن. ثم ندم زيد واستحيى من فاطمة وهى عمته، فلم يدخل عليها زمانا. فأرسلت إليه: «يا ابن أخى إنى لأعلم أن أمك «2» عندك كأم عبد الله عنده» وقالت لعبد الله: «بئس ما قلت لأم زيد، أم والله لنعم دخيلة القوم كانت» . قال: فذكر أن خالدا قال لهما: «اغدوا علينا غدا. فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما» . فباتت المدينة تغلى كالمراجل يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا. فلما كان من الغد، جلس فى المسجد واجتمع الناس، فمن بين شامت ومهموم. فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما. فذهب عبد الله يتكلم. فقال زيد: «لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا» ثم أقبل على خالد فقال له: «أجمعت ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمر ما كان يجمعهم عليه

أبو بكر أو عمر؟ «1» فقال خالد: «أما لهذا السفيه أحد؟» فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: «يا ابن أبى تراب، وابن حسين السفيه، أما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة؟» فقال زيد «اسكت أيها القحطانى، فإنا لا نجيب مثلك» . قال: «ولم ترغب عنى؟ فو الله إنى لخير منك، وأبى خير من أبيك، وأمى خير من أمك» . فتضاحك زيد وقال: «يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفتذهب الأحساب؟ فو الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم» . فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: «كذبت والله أيها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأما وأبا ومحتدا» . وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفا من حصباء فضرب بها الأرض ثم قال: «إنه والله ما لنا على هذا من صبر» . وقام. وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص «2» . فكلما رفع قصة يكتب هشام فى أسفلها «ارجع إلى منزلك «3» » . فيقول زيد: «والله، لا أرجع إلى خالد أبدا» . ثم أذن له يوما بعد طول حبس، ورقى علّية طويلة. وأمر خادما «4» أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول. فصعد زيد، وكان بادنا، فوقف فى بعض الدرجة فسمعه يقول: «والله،

لا يحب الدنيا أحد إلا ذل» ثم صعد إلى هشام فحلف له على شىء. فقال: «لا أصدقك» فقال: «يا أمير المؤمنين إن الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا عن أن لا يرضى بذلك منه» فقال هشام: «لقد بلغنى يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها. ولست هناك وأنت ابن أمة» . قال زيد: «إن لك جوابا» قال: «فتكلم» قال: «إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة من نبى ابتعثه. وقد كان إسماعيل عليه السّلام ابن أمة وأخوه من صريحة. فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر. وما على أحد من ذلك إذا كان جده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كانت أمه» . قال له هشام: «اخرج» قال: «أخرج ثم لا أكون «1» إلا بحيث تكره» فقال له سالم «2» : «يا أبا الحسين، لا يظهرن هذا منك» . فخرج من عنده وسار إلى الكوفة. فقال له محمد بن عمر بن أبى طالب: «أذكّرك الله يا زيد، لما لحقت بأهلك، ولا تأت أهل الكوفة فإنهم لا يفون لك» . فلم يقبل وقال: «خرج بنا أسرى على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى تيس ثقيف يلعب بنا» . وقال «3» : بكرت تخوّفنى الحتوف كأننى ... أصبحت من غرض الحياة بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل إن المنية لو تمثّل مثّلت ... مثلى إذا نزلوا بضيق المنزل فاقنى حياءك لا أبا لك واعلمى ... أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل ثم قال زيد: «أستودعك الله، وإنى أعطى الله عهدا أن [لا] دخلت يدى فى طاعة هؤلاء ما عشت» . وفارقه وأقبل إلى الكوفة. فأقام بها مستخفيا يتنقل فى المنازل. وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعة «1» . فيايعه جماعة منهم سلمة ابن كهيل، ونصر بن خزيمة العبسى، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصارى، وناس من وجوه أهل الكوفة. وكانت بيعته: «إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفىء بين أهله بالسواء، ورد المظالم، وإقفال المجمر «2» ونصرة أهل البيت. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا: «نعم» . وضع يده على أيديهم ويقول: «عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لتفينّ ببيعنى، ولتقاتلن عدوى، ولتنصحن لى فى السر والعلانية» فإذا قال: «نعم» . مسح يده على يده.

ثم قال: «اللهم اشهد» . فبايعه خمسة عشر ألفا، وقيل: أربعون ألفا. وأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من يريد أن يفى له ويخرج معه يستعد ويتهيأ. فشاع أمره فى الناس. هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس. وأما على قول من زعم أنه أتى الكوفة إلى يوسف بن عمر لمقابلة خالد بن عبد الله القسرى أو ابنه يزيد بن خالد، فإنه يقول: إنه أقام بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن على بن عبد الله بن عباس. وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد، وتأمره بالخروج، ويقولون: «إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور، وأن هذا الزمان هو الذى يهلك فيه بنو أمية» . فأقام بالكوفة. وجعل يوسف بن عمر الثقفى يسأل عنه، فيقال: «هو هاهنا» . ويبعث إليه ليسير فيقول: «نعم» ويعتل بالوجع. فمكث ما شاء الله. ثم أرسل إليه يوسف ليسير، فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها. ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله فى ملك بينهما بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها. فلما رأى جد يوسف فى أمره سار حتى أتى القادسية وقيل الثّعلبية. فتبعه أهل الكوفة وقالوا: «نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد، نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قبائلنا تكفيهم بإذن الله تعالى» . وحلفوا بالأيمان المغلظة، فجعل يقول: «إنى أخاف أن تخذلونى وتسلمونى كفعلكم بأبى وجدى» فيحلفون له. فقال له داود بن على:

«يا ابن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك: جدك على بن أبى طالب حتى قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه، ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم» فقالوا لزيد: «إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم» فقال زيد لداود: «إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ومكره، وإن الحسين قاتله يزيد والأمر مقبل عليهم» . فقال داود: «إنى خائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم» . ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة. فلما رجع زيد، أتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحقه فأحسن. ثم قال له: «نشدتك الله: كم بايعك؟» قال: «أربعون ألفا» قال: «فكم بايع جدك؟» قال: «ثمانون ألفا» . قال: «فكم حصل معه؟» قال: «ثلاثمائة» قال: «نشدتك الله: أنت خير أم جدك؟» قال: «جدى» . قال: «فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟» قال: «ذلك القرن» . قال: «أفتطمع أن يفى لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟» قال: «قد بايعونى ووجبت البيعة فى عنقى وعنقهم» . قال: «أفتأذن لى أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسى» . فأذن له فخرج إلى اليمامة. وكتب عبد الله بن الحسن «1» بن الحسن إلى زيد: «أما

بعد، فإن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هرج فى الرخاء «1» ، جزع فى اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم وألبست قلبى غشاء عن ذكرهم يأسا منهم واطراحا لهم. وما لهم مثل إلا ما قال «2» على بن أبى طالب رضى الله عنه: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم «3» خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم» فلم يصغ زيد إلى شىء من ذلك وأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج. وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمى. وتزوج أيضا ابنة عبد الله بن أبى العنبس الأزدى. وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع، فأتت زيدا تسلم عليه، وكانت جميلة حسنة قد دخلت فى السن ولم يظهر عليها. فخطبها زيد إلى نفسها «4» . فاعتذرت بالسن وقالت له: «لى بنت «5» هى أجمل منى وأبيض وأحسن دلا وشكلا» فضحك زيد ثم تزوجها وكان ينتقل بالكوفة تارة عندها، وتارة عند زوجته الأخرى، وتارة فى بنى عبس، وتارة فى بنى نهد، وتارة فى بنى تغلب «6» وغيرهم إلى أن ظهر.

ذكر ظهور زيد بن على بن الحسن ومقتله

ذكر ظهور زيد بن على بن الحسن ومقتله كان ظهور زيد ومقتله فى سنة اثنتين وعشرين ومائة. وذلك أنه لما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج، أخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز. فانطلق سليمان بن سراقة البارقى إلى يوسف بن عمر فأخبره. فبعث يوسف فى طلب زيد فلم يوجد. وخاف زيد أن يؤخذ فتعجل الخروج قبل الأجل الذى جعله بينه وبين أهل الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن الصّلت، وعلى شرطته عمرو بن عبد الرحمن «1» من القارة، ومعه عبيد الله بن العباس الكندى فى ناس من أهل الشام، ويوسف بن عمر بالحيرة. فلما رأى أصحاب زيد بن على أن يوسف بن عمر قد بلغه حاله وأنه يبحث عن أمره، اجتمع إليه جماعة من رؤوسهم فقالوا «رحمك الله، ما قولك فى أبى بكر وعمر؟» قال زيد: «رحمهما الله وغفر لهما. ما سمعت أحدا من أهل بيتى يقول فيهما إلا خيرا وإن أشد ما أقول فيما ذكرتم: أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس أجمعين، فدفعونا عنه. ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا. وقد ولوا فعدلوا فى الناس، وعملوا بالكتاب والسنة» قالوا: «فلم يظلمك هؤلاء إذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟» فقال: «إن هؤلاء ليسوا كأولئك. هؤلاء ظالمون لى ولأنفسهم ولكم. وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة

نبيه صلّى الله عليه وسلم، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل» ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: «سبق الإمام» ، يعنون محمد الباقر، وكان قد مات. وقالوا: «جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه» فسماهم زيد الرافضة. وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حيث فارقوه. وكانت طائفة أتت جعفر بن محمد الصادق قبل خروج زيد فأخبروه ببيعة زيد. فقال: «بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا» فعادوا وكتموا ذلك. وكان زيد قد واعد أصحابه أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة. فبلغ يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم يأمره أن يجمع أهل الكوفة فى المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فجمعهم فيه. وطلبوا زيدا فى دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة «1» الأنصارى، فخرج منها ليلا. ورفعوا النيران ونادوا: «يا منصور «2» » حتى طلع الفجر. فلما أصبحوا بعث زيد القاسم الحضرمى وآخر من أصحابه يناديان بشعارهم. فلما كانوا بصحراء عبد القيس لقيهم جعفر بن العباس «3» الكندى. فحملوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الذى كان

مع القاسم، وارتثّ «1» القاسم وأتى به الحكم فضرب عنقه. فكانا أول من قتل من أصحاب زيد. فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس. وبعث إلى يوسف بالحيرة فأخبره الخبر. فأرسل جعفر بن العباس «2» ليأتيه بالخبر. فسار فى خمسين فارسا حتى بلغ جبانة سالم، فسأل ثم رجع إلى يوسف فأخبره. فسار يوسف إلى تل قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه أشراف الناس. فبعث الريان بن سليمة الإراشى «3» فى ألفين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالة معهم النشّاب. وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتى رجل وثمانية عشر رجلا. فقال زيد: «سبحان الله! أين الناس؟» فقيل: «إنهم فى المسجد الأعظم محصورون» . فقال: «والله، ما هذا بعذر لمن بايعنا» وسمع نصر بن خزيمة العبسى النداء فأقبل إليه. فلقى عمرو بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم فى خيله من جهينة فى الطريق فحمل عليه نصر، فقتل عمرو وانهزم من كان معه. وأقبل زيد على جبانة سالم حتى انتهى إلى جبانة الصائديين «4»

وبها خمسمائة من أهل الشام. فحمل عليهم زيد فيمن معه فهزمهم. وانتهى زيد إلى دار أنس بن عمرو الأزدى، وكان فيمن بايعه، وهو فى الدار. فنودى فلم يجبهم. وناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد: «ما أخلّفكم! قد فعلتموها! الله حسيبكم!» ثم انتهى زيد إلى الكناسة فحمل على من بهامن أهل الشام فهزمهم. ثم سار زيد ويوسف ينظر إليه فى مائتى رجل، فلو قصده زيد لقتله، والريان يتبع آثار زيد بالكوفة فى أهل الشام. فأخذ زيد على مصلى خالد حتى دخل الكوفة. وسار بعض أصحابه نحو جبانة مخنف بن سليم فلقوا أهل الشام فقاتلوهم. فأسر أهل الشام منهم رجلا، فأمر به يوسف بن عمر فقتل. فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: «يا نصر بن خزيمة، أتخاف أن يكونوا فعلوها حسينية؟» قال: «أما أنا فو الله لأقاتلن معك حتى أموت، وإن الناس بالمسجد فامض بنا إليهم» . فلقيهم عبيد الله بن العباس الكندى عند دار عمر بن سعد» فاقتتلوا فانهزم عبيد الله وأصحابه. وجاء زيد حتى انتهى إلى باب المسجد. فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: «يا أهل المسجد، اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنكم لستم فى دين ولا دنيا» . فرماهم أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد. وانصرف الريان عند المساء إلى الحيرة. وانصرف زيد فيمن معه. وخرج إليه ناس من أهل الكوفة. فنزل دار الرزق. فأتاه

الريان بن سليمة فقاتله عن دار الرزق. وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شئ ظنا. فلما كان الغد أرسل يوسف بن عمر العباس بن سعد «1» المزنى فى أهل الشام، فانتهى إلى زيد فى دار الرزق. فلقيه زيد وعلى مجنبتيه نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة، فقتتلوا قتالا شديدا. وحمل نائل بن فروة العبسى من أهل الشام على نصر بن خزيمة. فضربه بالسيف فقطع فخذه، وضربه نصر فقتله. ولم يلبث نصر أن مات. واشتد قتالهم فانهزم أصحاب العباس، وقتل منهم نحو من سبعين رجلا. فلما كان العشى عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم. فالتقوا هم وأصحاب زيد، فحمل عليهم فى أصحابه، فكشفهم. وتبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة ثم حمل عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بنى سليم. وجعلت خيلهم لا تثبت لخيله. فبعث العباس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له: «ابعث إلى الناشبة» . فبعثهم إليه، فجعلوا يرمون أصحاب زيد. فقاتل معاوية بن إسحاق الأنصارى بين يدى زيد قتالا شديدا فقتل. وثبت زيد ومن معه إلى الليل. فرمى زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فثبت فى دماغه. ورجع أصحابه. ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل. ونزل زيد فى دار من دور أرحب. وأحضر أصحابه طبيبا، فانتزع

النصل فضج زيد. فلما نزع مات زيد رحمه الله. فقال أصحابه: «أين ندفنه؟» فقال بعضهم: «نطرحه فى الماء» . وقال بعضهم: «بل نقطع رأسه ونلقيه فى القتلى» . فقال ابنه يحيى: «والله، لا يأكل لحم أبى الكلاب» . وقال بعضهم: «ندفنه فى الحفرة التى يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء «1» » . ففعلوا. فلما دفنوه أجروا الماء عليه. وقيل: دفن بنهر يعقوب: سكر «2» أصحابه الماء. ودفنوه وأجروا الماء. وكان معهم مولى لزيد سندى «3» ، وقيل: رآهم قصار، فدل عليه. وتفرق الناس عنه. وسار ابنه يحيى نحو كربلاء. فنزل نينوى «4» على سابق مولى بشر بن عبد الملك بن بشر. ثم إن يوسف بن عمر تتبع الجرحى فى الدور. فدله السندى مولى زيد يوم الجمعة على زيد. فاستخرج من قبره فقطع رأسه وسير إلى يوسف بن عمر، وهو بالحيرة، سيره إليه الحكم بن الصلت. فأمر يوسف أن يصلب، فصلب زيد بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق وزياد النهدى. وأمر بحراستهم. وبعث الرأس إلى هشام بن عبد الملك، فصلب على باب مدينة دمشق. ثم أرسل إلى المدينة. وبقى البدن مصلوب إلى أن مات هشام وولى الوليد، فأمر بإنزاله وإحراقه. وقيل: كان خراش «5» بن حوشب بن يزيد الشيبانى على

شرطة يوسف بن عمر «1» ، وهو الذى نبش زيدا «2» وصلبه. فقال السيد الحميرى: بت ليلى مسهّدا ... ساهر العين مقصدا «3» ولقد قلت قولة ... وأطلت التّبلّدا: لعن الله حوشبا ... وخراشا ومزيدا ويزيدا فإنه ... كان أعتى وأعتدا «4» ألف ألف وألف أل ... ف من اللعن سرمدا إنهم حاربوا الإل ... هـ وآذوا محمدا شركوا فى دم الحسين وزيد تعبّدا «5» ... ثم عالوه فوق جذ ع صريعا مجردّا ... يا خراش بن حوشب أنت أشقى الورى غدا وأما يحيى بن زيد بن على فإنه قيل فيه غير ما قدمناه. وهو أنه لما قتل زيد قال له رجل من بنى أسد من أهل خراسان: «إن بخراسان لكم شيعة، والرأى أن تخرج إليها» . قال: «وكيف لى بذلك؟» قال: «تتواري حتى يسكن الطلب ثم تخرج» . فواراه عنده.

ذكر مسير يحيى بن زيد بن على إلى خراسان ومقتله

ثم خاف فأتى به عبد الملك بن بشر بن مروان فقال له: «قرابة زيد بك قريبة وحقّه عليك واجب» . فقال: «أجل، ولقد كان العفو عنه أقرب للتقوى» . فقال: «قد قتل وهذا ابنه غلام حدث لا ذنب له، وإن علم يوسف به قتله أفتجيره؟» قال: «نعم» . فأتاه به، فأقام عنده. فلما سكن الطلب سار فى نفر من الزيدية إلى خراسان. ذكر مسير يحيى بن زيد بن على الى خراسان ومقتله قال: ولما سكنت الفتنة، سار يحيى إلى خراسان. فأتى بلخ فأقام بها عند الحريش بن عمرو بن داود «1» . حتى هلك هشام ابن عبد الملك وولى الوليد بن يزيد. فكتب يوسف بن عمر الثقفى إلى نصر بن سيار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش، وقال له: «خذه أشد الأخذ» . فأخذ «2» نصر الحريش فطالبه بيحيى. فقال: «لا علم لى به» . فأمر به فجلد ستمائة سوط.. فقال الحريش: «والله، لو أنه تحت قدمى ما رفعتهما عنه» . فلما رأى ذلك قريش «3» ابن الحريش قال: «لا تقتل أبى وأنا أدلك على يحيى» . فدله عليه.

فأخذه وحبسه. وكتب نصر إلى الوليد يخبره به. فكتب إليه الوليد يأمره أن يؤمنه ويخلى سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه نصر، وأمره أن يلحق بالوليد، وأمر له بألفى درهم. فسار إلى سرخس وأقام بها. فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس ابن عباد يأمره أن يسيره عنها. فسار حتى انتهى إلى بيهق. وخاف أن يغتاله يوسف بن عمر فعاد إلى نيسابور «1» ، وبها عمرو بن زرارة «2» ، وكان مع يحيى سبعون رجلا. فرأى يحيى تجارا فأخذ هو وأصحابه دوابهم، وقالوا: «علينا أثمانها» . فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر يخبره. فكتب إليه نصر يأمره بمحاربته. فقاتله عمرو وهو فى عشرة آلاف ويحيى فى سبعين رجلا. فهزمهم يحيى وقتل عمرا، وأصاب دواب كثيرة. وسار حتى مر بهراة فلم يعرض لمن بها، وسار عنها. وسرّح نصر ابن سيار سلم بن أحوز «3» فى طلب يحيى. فلحقه بالجوزجان فقاتله قتالا شديدا. فرمى يحيى بسهم فأصاب جبهته: رماه رجل من عنزة يقال له عيسى. وقتل أصحاب يحيى من عند آخرهم. وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه. فلما بلغ الوليد بن يزيد قتل يحيى، كتب إلى يوسف بن عمر: «خذ عجل «4» أهل العراق فأنزله من جذعه- يعنى زيدا- وأحرقه

ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب

بالنار ثم انسفه فى اليم نسفا» . فأمر به يوسف فأحرق ثم رضّه وحمله فى سفينة. ثم ذراه فى الفرات «1» . وأما يحيى فإنه لما قتل صلب بالجوزجان. فلم يزل مصلوبا حتى ظهر أبو مسلم الخراسانى واستولى على خراسان، فأنزله وصلّى عليه ودفنه. وأمر بالنياحة عليه فى خراسان. وأخذ أبو مسلم ديوان بنى أمية، وعرف منه أسماء من حضر قتل يحيى. فمن كان حيا قتله، ومن كان ميتا خلفه فى أهله بسوء. وكانت أم يحيى بن زيد ريطة بنت عبد الله بن محمد بن الحنفية. وكان مقتل يحيى فى سنة خمس وعشرين ومائة. هذا ما كان من خبر زيد وابنه يحيى، ثم ظهر عبد الله بن معاوية فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب «2» كان ظهوره بالكوفة فى سنة سبع وعشرين ومائة، فى أيام مروان بن محمد الحمار بن مروان، ودعا إلى نفسه. وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة «3»

فأكرمه وأجازه «1» ، وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم. فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع لهما الناس، وزاد فى العطاء، وكتب ببيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة. ثم بلغه امتناع مروان بن محمد بن البيعة ومسيره من الشام إليهما، فحبس عبد الله بن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجريه عليه، وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد، ليبايع له ويقاتل به مروان. فماج الناس وورد مروان الشام وظفر بإبراهيم. فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسرى إلى الكوفة مسرعا، وافتعل كتابا على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة، وجمع اليمانية وأعلمهم ذلك فأجابوه. وامتنع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عنه «2» وقاتله. فلما رأى إسماعيل الأمر كذلك، خاف أن يظهر أمره ويفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: «إنى أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم» . فكفوا وظهر أمر إبراهيم وهربه. ووقعت العصبية بين الناس. وكان سببها أن عبد الله بن عمر كان قد أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة. ولم يعط. جعفر بن نافع بن لقعقاع بن شور الذهلى وعثمان بن الخيبرى «3» من تيم اللات

ابن ثعلبة شيئا، وهما من ربيعة، فكانا مغضبين وغضب لهما ثمامة بن حوشب بن رويم الشيبانى. وخرجوا من عند عبد الله بن عمر وهو بالحيرة إلى الكوفة، فنادوا: «يا آل ربيعة» فاجتمعت ربيعة وتنمروا «1» . وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصما. فأتاهم وهم بدير هند. فألقى نفسه بينهم وقال: «هذه يدى لكم فاحكموا» . فاستحيوا ورجعوا وعظّموا عاصما وشكروه. فلما كان المساء، أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثرى بمائة ألف، فقسمها فى قومه بنى همام بن مرّة بن ذهل الشّيبانى «2» ، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف، فقسمها فى قومه. وأرسل إلى جعفر بن نافع بمال، وإلى عثمان بن الخيبرى بمال. فلما رأى الشيعة ضعف عبد الله بن عمر، طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية. واجتمعوا فى المسجد، ودعوا إلى عبد الله «3» ابن معاوية، وأخرجوه من داره، ثم أدخلوه القصر. ومنعوا عاصم ابن عمر عن القصر فلحق بأخيه بالحيرة. وجاء ابن معاوية الكوفيون وبايعوه، فيهم عمر بن الغضبان ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسرى أخو خالد. وأقام أياما يبايعه الناس وأتته البيعة من المدائن وفم النيل. واجتمع إليه الناس، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة.

فقيل لابن عمر: «قد أقبل ابن معاوية فى الخلق» . فأطرق رأسه عليا. وأتاه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام. فأمر بإحضاره، فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث «1» ، والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية. وفرغ من طعامه وأخرج المال وفرقه فى قواده. ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه، كان اسمه إما ميمونا وإما رباحا أو فتحا أو اسما يتبّرك به. فأعطاه اللواء وقال: «امض به إلى موضع كذا فاركزه، وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك» . ففعل. وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية. فأمر عبد الله بن عمر مناديا ينادى: «من جاء برأس فله خمسمائة» . فأتى برؤوس كثيرة وهو يعطى ما ضمن. وبرز رجل من أهل الشام، فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلى. فسأله الشامى فعرفه. وقال: «قد ظننت أنه لا يخرج إلىّ إلا رجل من بكر بن وائل. والله، ما أريد قتالك ولكنى أحببت أن ألقى إليك حديثا أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر، وكاتبته مضر. وما أرى لكم يا ربيعة كتابا ولا رسولا وأنا رجل من قيس، فإن أردتم الكتاب أبلغته. ونحن غدا بإزائكم، فإنهم اليوم لا يقاتلونكم» . فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبر عمر بن الغضبان. فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما، فلم يفعل.

وأصبح الناس [من] «1» الغد غادين على القتال. فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر، انكشفوا. ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة. فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم. فدخلوا القصر. وبقى من بالميسرة من ربيعة ومضر، ومن بإزائهم من أصحاب ابن عمر. فقالوا لعمر بن الغضبان: «ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم، فانصرفوا» . وقال ابن الغضبان: «لا أبرح حتى أقتل» . فأخذ أصحابه بعنان دابته فأدخلوه الكوفة. فلما أمسوا قال لهم ابن معاوية: «يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا فى أعناقكم. فإن قاتلتم قاتلنا معكم وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم، فخذوا لنا ولهم «2» أمانا» . فقال له عمر بن الغضبان: «إما أن نقاتل معك وإما أن نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا فطيبوا نفسا» . فأقاموا فى القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياما ثم إن ربيعة أخذت أمانا لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية [ليذهبوا] «3» حيث شاءوا. وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة «4» . فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمذان وأصفهان والرى. وخرج إليه عبيد أهل الكوفة.

ذكر غلبته على فارس وأخذها منه وقتله

ذكر غلبته على فارس وأخذها منه وقتله كانت غلبة عبد الله بن معاوية على فارس فى سنة تسع وعشرين «1» ومائة. وذلك أنه لما غلب على ما ذكرناه أقام بأصبهان. وكان محارب «2» بن موسى مولى بنى يشكر عظيم القدر بفارس. فجاء إلى دار الإمارة باصطخر، فطرد عامل ابن عمر عنها. وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليها. وانضم إلى محارب قواد «3» من أهل الشام. فسار إلى سليم «4» بن المسبب، وهو عامل ابن عمر بشيراز، فقتله فى سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان إلى عبد الله بن معاوية، فحوله إلى اصطخر. فاستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال. وأقبل معه إلى اصطخر، فأقام بها. وأتاه الناس: بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام بن عبد الملك. وأتاه شيبان بن عبد العزيز الحرورى الخارجى، وكان قد خرج فى جموع كثيرة، كما ذكرنا فى أخباره فلم يتفق بينهما أمر «5» . وأتاه أبو جعفر المنصور وعبد الله وعيسى

ابن على «1» . فلما قدم ابن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابى إلى عبد الله بن معاوية. وبلغ سليمان بن حبيب أن ابن هبيرة استعمل نباتة على الأهواز، فسرح داود بن حاتم بكربج دينار «2» ليمنع نباتة من الأهواز. فقاتلة فقتل داود. وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور «3» وفيها الأكراد وقد غلبوا عليها. فقاتلهم سليمان فطردهم عن نيسابور وكتب إلى ابن معاوية بالبيعة. ثم إن محارب بن موسى اليشكرى نافر ابن معاوية وفارقه. وجمع جمعا وأتى نيسابور. فقاتله يزيد بن معاوية، فانهزم محارب. وأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه. ثم نافره فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابناله. ولم يزل عبد الله بن معاوية باصطخر حتى أتاه داود بن ضبارة مع داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة. وسير ابن هبيرة أيضا معن ابن زائدة من وجه آخر. فقاتلهم معن عند مرو الشاذان، ومعن يقول: ليس أمير القوم بالخبّ الخدع ... فر من الموت وفى الموت وقع وانهزم ابن معاوية فكف معن عنهم. وقتل فى المعركة رجل من آل

أبى لهب، وكان يقال: يقتل «1» رجل من بنى هاشم بمرو الشاذان. وأسروا أسرى كثيرة، وقتل ابن ضبارة منهم عدة كثيرة. وهرب منصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهيل «2» بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر. وبعث «3» ببقية الأسرى» إلى ابن هبيرة فأطلقهم. ومضى ابن معاوية إلى خراسان «5» . فسار معن بن زائدة يطلب منصور بن جمهور فلم يدركه، فرجع. وكان مع ابن معاوية من الخوارج وغيرهم خلق كثير، فأسر منهم أربعون ألفا «6» ، وكان ممن أسر عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس فسبّه «7» ابن ضبارة وقال: «ما جاء بك إلى ابن معاوية وقد عرفت خلافة أمير المؤمنين» فقال: «كان علىّ دين فأتيته «8» » فشفع «9» فيه حرب بن قطن الهلالى «10» وقال: «هو ابن أختنا» فوهبه له. فعاب عبد الله بن على عبد الله بن معاوية ورمى أصحابه باللواط. فسيّره ابن ضبارة إلى ابن هبيرة ليخبره أخبار ابن معاوية.

وسار فى طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحصره بها. فخرج عبد الله منها هاربا ومعه أخواه الحسن ويزيد ابنا معاوية وجماعة من أصحابه. وسلك «1» المفازة على كرمان. وقصد خراسان طمعا فى أبى مسلم لأنه يدعو إلى الرّضا من آل محمد، وقد استولى على خراسان. فوصل إلى نواحى هراة وعليها أبو نصر مالك بن الهيثم الخزاعى. فأرسل إلى ابن معاوية يسأله عن قدومه، فقال: «بلغنى أنكم تدعون إلى الرضا من آل محمد» فأرسل إليه مالك: «انتسب نعرفك» . فانتسب له فقال: «أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأما معاوية فلا نعرفه فى أسمائهم» . فقال: «إن جدى كان عند معاوية بن أبى سفيان لما ولد له أبى، فطلب إليه أن يسمى ابنه باسمه، ففعل، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم» . فأرسل إليه مالك: «لقد اشتريتم الاسم الخبيث بالثمن اليسير، ولا نرى لك حقا فيما تدعو إليه» «2» ثم أرسل إلى أبى مسلم يعرفه خبره. فأمره بالقبض عليه وعلى من معه، فقبض عليهم وحبسوا. ثم ورد عليه كتاب أبى مسلم يأمره بإطلاق الحسن ويزيد ابنى معاوية وقتل عبد الله بن معاوية. فأمر من وضع فراشا على وجهه. فمات وأخرج فصلى عليه ودفن. وكان عبد الله بن معاوية شاعرا مجيدا. فمن قوله: ولا تركبّن الصّنيع الذى ... تلوم أخاك على مثله «3»

ولا يعجبنّك قول امرئ ... يخالف ما قال فى فعله فهؤلاء الذين ظهروا من الطالبيين فى الدولة الأموية وقتلوا. ثم ظهر فى الدولة العباسية من نذكرهم إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق 1- الدكتور حسين مؤنس: فجر الأندلس، 1959 م. 2- الدكتور حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب، 1947 م. 3- اليعقوبى: تاريخه، دارا صادر وبيروت 1960 4- ابن خلدون: تاريخه، دار الكتاب اللينانى. 5- الذهبى: دول الإسلام، حيدر أباد 1364 هـ. 6- ابن عذارى المراكشى: البيان المغرب فى أخبار المغرب 1950. 7- أبو الفدا: المختصر فى أخبار البشر، المطبعة الحسينية بمصر 1325 هـ. 8- الطاهر أحمد الزاوي: تاريخ الفتح العربى فى ليبيا، دار المعارف بمصر. 9- أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، دار الكتاب بالدار البيضاء. 10- ابن العماد الحنبلى: شذرات الذهب فى أخبار من ذهب مكتبة القدسى. 11- الكندى: ولاة مصر، دار صادر وبيروت 1959.

12- المسعودى: مروج الذهب ومعادن الجوهر، مطبعة السعادة 1958. 13- ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة فى أخبار مصر والقاهرة، طبع دار الكتب المصرية. 14- عبد الواحد المراكشى: المعجب فى تلخيص أخبار المغرب، طبع أوربا. 15- عبد الله بن أبى عبد الله: رياض النفوس، 1951 م المالكى 16- ابن القوطية: تاريخ فتح الأندلس، طبع لبنان. 17- الطبري: تاريخه، المطبعة الحسينية المصرية 18- ابن كثير: البداية والنهاية: طبع مصر. 19- ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب، طبع أوربا. 20- البلاذرى: فتوح البلدان، طبع أوربا. 21- المقرى: نفح الطيب، طبع أوربا. 22- محمد بن عبد الحليم المعروف بابن أبى زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس فى أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، 1305 هـ. 23- ابن الأثير: الكامل فى التاريخ، طبع دمشق. 24- أمارى: المكتبة الصقلية، طبع أوربا.

25- أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، تحقيق السيد صقر. 26- ابن أبى دينار: المؤنس فى تاريخ إفريقية والأندلس. 27- البكرى: المسالك والممالك (وصف إفريقية) 28- الإدريسى: نزهة المشتاق، طبع أوربا.

فهرس موضوعات الجزء الرابع والعشرون

فهرس موضوعات الجزء الرابع والعشرون مقدمة المحقق 1 الباب السادس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار إفريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمال ومن استقل منهم بالملك وسميت أيامهم بالدولة الفلانية ذكر فتوح إفريقية 7 ذكر ولاية معاوية بن حديج الكندى وفتح إفريقية ثانيا 18 ذكر ولاية عقبة بن نافع الفهرى وفتح إفريقية الفتح الثالث وبناء القيروان 21 ذكر بناء مدينة القيروان 22 ذكر ولاية مسلمة بن مخلد 24 ذكر ولاية عقبة بن نافع ثانية 25 ذكر خروج كسيلة وقتل عقبة بن نافع واستيلائه على القيروان 30 ذكر ولاية زهير بن قيس البلوى وقتل كسيلة البربرى 32 ذكر ولاية حسان بن النعمان الغسائى إفريقية 34 ذكر فتح قرطاجنة وتخريبها 35 ذكر حروب حسان والكاهنة وتخريب إفريقية وقتل الكاهنة 35 ذكر ولاية موسى بن نصير إفريقية وما كان من حروبه وآثاره 39 ذكر فتح جزيرة الأندلس وشىء من أخبارها 40

ذكر غزو جزيرة سردانية 53 ذكر ولاية محمد بن يزيد مولى قريش ومقتل عبد العزيز بن موسى ابن نصير 54 ذكر ولاية اسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم 56 عبيدة بن عبد الرحمن السلمى 57 عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول 58 حنظلة بن صفوان الكلبى 62 ذكر أخبار عبد الرحمن بن حبيب وتغلبه على إفريقية ورجوع حنظلة إلى المشرق 64 ذكر مقتل عبد الرحمن بن حبيب وولاية أخيه إلياس بن حبيب وقتله وولاية حبيب بن عبد الرحمن وقتله 67 ذكر تغلب ورفجومة على إفريقية وما كان منهم ومن ولى بعدهم إلى أن ولى محمد بن الأشعث 72 ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعى 73 ذكر ولاية الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى 76 ذكر ولاية عمر بن حفص هزار مرد 79 ذكر ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة 85 ذكر ولاية داود بن يزيد بن حاتم 88 ذكر ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة 88 ذكر ولاية نصر بن حبيب المهلبى 89 ذكر ولاية الفضل بن روح 90 ذكر أخبار عبد الله بن الجارود 92 ذكر ولاية هرثمة بن أعين 95 ذكر ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكى 96 ذكر ابتداء دولة بنى الأغلب 100 ذكر ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى 100 ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب 105

ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب 107 ذكر ولاية أبى عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 117 ذكر ولاية أبى العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 118 ذكر ولاية أبى إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 123 ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 125 ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب المكنى بأبى الغرانيق 125 ذكر ولاية أبى إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب 127 ذكر انتقال إبراهيم إلى تونس 133 ذكر اعتزال إبراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته 135 ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب 143 ذكر ولاية أبى مضر زيادة الله بن أبى العباس 145 ذكر انهزام زيادة الله إلى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب 149 ذكر ما كان من أخبار زيادة الله وقتله عبد الله بن الصائغ ومسيره إلى بلاد المشرق ووفاته 150 ذكر أخبار من ملك المغرب بعد بنى الأغلب إلى أن قامت دولة بنى زيرى بن مناد 154 ذكر ابتداء دولة بنى زيرى بن مناد ونسبهم ومبدأ أمرهم ومن ملك منهم إلى انقضاء دولتهم 156 ذكر أخبار زيرى بن مناد 159 ذكر بناء مدينة أشير 160 ذكر الحرب بين زيرى وزناته 163 ذكر مقتل زيرى 165 ذكر أخبار أبى الفتوح يوسف بلكين بن زيرى بن مناد 167 ذكر ولاية أبى الفتوح يوسف بلكين بلاد المغرب 169 ذكر ولاية عبد الله بن محمد الكاتب 171

ذكر أخبار خلف بن خير 173 ذكر وفاة أبى الفتوح يوسف 176 ذكر ولاية أبى الفتح المنصور بن يوسف بلكين بن زيرى 177 ذكر مقتل عبد الله بن محمد وولده يوسف 180 ذكر أخبار أبى الفهم حسن بن نصرويه الخراسانى 182 ذكر وفاة المنصور أبى الفتح بن يوسف 184 ذكر ولاية أبى مناد باديس بن أبى الفتح المنصور بن يوسف 185 ذكر خروج محمد بن أبى العرب إلى زناته 186 ذكر خلاف حماد بن يوسف وأخيه إبراهيم على ابن أخيهما الأمير باديس 192 ذكر وفاة باديس 197 ذكر ولاية أبى تميم المعز بن أبى مناد باديس بن المنصور بن يوسف ابن زيرى 199 ذكر قتل الروافض 201 ذكر مسير المعز لحرب حماد 204 ذكر الصلح بين المعز وحماد عم أبيه 206 ذكر مقتل القائد محمد بن حسن 207 ذكر خروج العرب إلى المغرب والسبب الموجب لذلك 209 ذكر وفاة القائد بن حماد وولاية ابنه وقتله وولاية بلكين بن محمد 211 بقية أخبار المعز بن باديس 212 ذكر الحرب بين المعز والعرب وانتصار العرب عليه 214 ذكر انتقال المعز إلى المهدية ومحاصرة العرب القيروان واستيلائهم عليها 217 ذكر وفاة المعز بن باديس 218 ذكر ولاية تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن زيرى 219 ذكر خروج حمو عن طاعة الأمير تميم وحربه وانهزامه 219

ذكر الحرب بين بنى حماد والعرب وانتصار العرب عليهم 220 ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه 223 ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس 228 ذكر استيلاء مالك بن علوى الصخرى على القيروان وأخذها منه، وعودها إلى تميم 229 ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها 229 ذكر خبر شاه ملك التركى ودخوله إلى إفريقية وغدره بيحيى بن تميم 230 ذكر خلافة مثنى بن تميم على أبيه 232 ذكر ملك تميم مدينة قابس 233 ذكر وفاة تميم بن المعز 235 ذكر ولاية يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور يوسف بن زيرى 237 ذكر وفاة يحيى بن تميم وشىء من أخباره 239 ذكر ولاية على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن يوسف ابن زيرى 241 ذكر حصار رافع المهدية وانهزامه 243 ذكر ولاية الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى 245 ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة 245 ذكر ملك الفرنج مدينة طرابلس 246 ذكر استيلاء الفرنج على مدينة المهدية وسفاقس وسوسة 247 ذكر انقراض دولة بنى زيرى من إفريقية وما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية 250 ذكر ما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية 251 ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم 253 ذكر ولاية أبى بكر بن عمر اللمتونى 257 ذكر مقتل الجوهر الجدالى 258

ذكر خروج الملثمين إلى السوس أولا وثانيا ومقتل عبد الله بن ياسين 259 ذكر استيلائه على مدينة سجلماسة 260 ذكر ولاية يوسف بن تاشفين 262 ذكر بناء مدينة مراكش 262 ذكر ما قيل فى سبب لثام المرابطين 263 نرجع إلى أخبار يوسف بن تاشفين 265 ذكر استيلائه على مدينة اغرناطة من جزيرة الأندلس 267 ذكر ملك أمير المسلمين جزيرة الأندلس 269 ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا عجيبا 271 ذكر ولاية أمير المسلمين من قبل الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله 272 ذكر ولاية على بن يوسف بن تاشفين 273 ذكر محاربة الفرنج خذلهم الله تعالى وانهزامهم 273 ذكر الفتنة بقرطبة 274 ذكر ولاية تاشفين بن على بن يوسف بن تاشفين 276 اسحق بن على 276 ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم 277 ذكر أخبار المهدى محمد بن تومرت 277 ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى 283 ذكر ترتيب أصحاب المهدى 287 ذكر حصار مراكش ووقعة البحيرة ومقتل أبى عبد الله الونشريسى 287 ذكر وفاة المهدى محمد بن تومرت 289 ذكر ولاية عبد المؤمن بن على 289 ذكر خروجه للغزو وما فتحه من البلاد ومن أطاعه من القبائل 290 ذكر استيلاء عبد المؤمن على تلمسان وفاس ومكناسة وسلاوسبته 294 ذكر ملك عبد المؤمن مراكش وقتله اسحق بن على وانقراض دولة الملثمين 296

ذكر ظفره بدكالة 299 ذكر ملكه جزيرة الأندلس 300 ذكر حصار الفرنج مدينة قرطبة ورجوعهم عنها 301 ذكر ملكه مدينة بجاية وملك بنى حماد وانقراض دولتهم 302 ذكر ظفره بصنهاجة وملكه قلعة حماد 304 ذكر الحرب بين عبد المؤمن والعرب وظفر عساكر عبد المؤمن بهم 305 ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد بعد أبيه 307 ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد وأعماله 308 ذكر ملكه مدينة المرية من الفرنج وأغرناطة من الملثمين 309 ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وجميع بلاد إفريقية 310 ذكر ايقاع عبد المؤمن بالعرب 315 ذكر وفاة عبد المؤمن بن على وشىء من أخباره 318 ذكر ولاية أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن على 321 ذكر عصيان عمارة مع مفتاح بن عمرو وقتالهم وقتل مفتاح 322 ذكر غزوة الفرنج 324 ذكر ملك أبى يعقوب مدينة قفصة 325 ذكر وفاة أبى يعقوب يوسف 326 ذكر ولاية أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن 328 ذكر أخبار الملثمين وما ملكوه من إفريقية واستعادة ذلك منهم 328 ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين 331 ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة 332 ذكر ما فعله الملثم بافريقية 336 ذكر وفاة أبى يوسف يعقوب 338 ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن على الملقب الناصر لدين الله 339 ذكر وفاة أبى عبد الله محمد وشىء من أخباره 343

ذكر ولاية يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن على 343 ذكر وفاة يوسف بن محمد 345 ذكر ولاية أبى محمد عبد العزيز بن يوسف بن عبد المؤمن 345 جامع أخبار دولة الموحدين 349 ذكر تسمية ملوك بنى مرين 351 ذكر أخبار جزيرة صقلية 353 أول من غزا جزيرة صقلبة فى الإسلام 353 ذكر ولاية محمد بن أبى الحوارى 357 ذكر فتح مدينة بلرم 360 ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن الأغلب، وولاية العباس بن الفضل بن يعقوب 360 ذكر فتح قصريانة وهى دار مملكة الروم بجزيرة صقلية 361 ذكر ولاية حسن بن أحمد بن أبى خنزير 366 ذكر ولاية أبى سعيد موسى بن أحمد 367 ذكر ما فتح من بلاد قلورية 368 ذكر فتح قلعة طبرمين 370 ذكر فتح رمطة وما كان بسبب ذلك من حروب 370 ذكر وقعة الحفرة على رمطة 371 ذكر اخلاء طبرمين ورمطة 374 ذكر ولاية أبى القاسم نيابة عن أخيه أحمد واستقلاله 375 ذكر ولاية أبى الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة 376 ذكر وثوب أهل صقلية بالأمير جعفر واخراجه 377 ذكر ولاية الأمير تأييد الدولة أحمد الأكحل 378 ذكر استيلاء الفرنج- خذلهم الله- على جزيرة صقلية 381 ذكر أخبار جزيرة اقريطش 384 ذكر تنصر أهل اقريطش 387 ذكر ما استولى عليه الفرنج- خذلهم الله من- البلاد الإسلامية بجزيرة الأندلس بعد أخذ طليطلة 388

الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها، وذلك بعد مقتل الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهما ذكر ظهور زيد بن على بن الحسن ومقتله 401 ذكر مسير يحيى بن زيد بن على إلى خراسان ومقتله 408 ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب 410 ذكر غلبته على فارس وأخذها منه وقتله 415 مراجع التحقيق 421

الجزء الخامس والعشرون

الجزء الخامس والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم هذا هو الجزء الخامس والعشرون من نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويرى، يروعنا منه منهج المؤرخ النزيه، عفة في اللفظ وحيدة في الحكم ودقة في النقل، تلاحظ عفة اللفظ بخاصة وأنت تقارن لفظه وهو يتحدث عن القرمطة بلفظ غيره من المؤرخين الذين سبقوه دون استثناء، هذا بالإضافة إلى أسلوب في العرض فريد في زمنه، وإلى تضمّنه لنقول تبيّن عقائد وآراء عبثت بها الأساطير، نقلها عن الشريف محمد بن على العلوى المعروف بأخى محسن، وهو مؤرخ ضاعت- أو بتعبير أدق- لم يصلنا من كتبه إلا شىء يسير. وهذا الجزء أيضا ثمرة لثلاث مخطوطات محفوظة بدار الكتب المصرية برقمى 549، 551 معارف عامة ورقم 699 تاريخ (الخزانة التيمورية) ، ولقد رمزت للأولى بحرف ك وللثانية بحرف اوللثالثة بحرف ت. أما المخطوطة ت فلولا ما فيها من سقط في مواضع مختلفة لكانت فائدتها محققة، أما المخطوطتان ك، افقد سبق لى أن تحدثت عنهما وأنا أقدم الجزء الثانى والعشرين، ويزيدنى هذا الجزء اقتناعا بأن المخطوطة ايتميز ناسخها بالدقة والأمانة في النقل، هذه الدقة

فى النقل ورسم الحروف ثمرة عناية ناسخ يعمل للسلطان، ترى ذلك واضحا- على غلاف النصف الأول من هذا الجزء- بالقول قد وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم والخاقان المعظم مالك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان السلطان محمود، وقفا شرعيا لمن طالع وتبصّر واعتبر وتذكر أجزل الله تعالى لواءه وأوفره، حرره الفقير أحمد شيخ زادة المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين غفر لهما. ومما هو جدير بالذكر، أنّه رغم هذا الوقف فقد تداولتها أيد بيعا وشراء، كما يتبين ذلك مما على غلافها، ومهما يكن من أمر هذا التداول فإنه لم يؤثر على المخطوطة تأثيرا يفسدها، وكل ما طرأ هو رغبة في تجليد ترتّب عليها تأثير المادة الملصقة على الصفحة الأولى، فذهبت أنصاف سطورها، وهو شىء يمكن تداركه بيسر. وأخيرا أرجو أن أكون قد أديت واجبى، والله ولى التوفيق. القاهرة في مايو سنة 1962 م د. محمد جابر الحينى

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] الباب السابع فى أخبار من نهض في طلب الخلافة من الطالبيين فى مدة الدولتين الأموية والعباسية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب وأخوه ابراهيم ونحن نذكر سبب ظهورهما وما كان من أمرهما وما اتفق لأولاد الحسن رضى الله عنه بسبب ذلك، ثم نذكر ظهور محمد وما اتفق له. إلى أن قتل، وظهور إبراهيم بعده، وما كان من خبره وحروبه ومقتله، وما يتصل بذلك فنقول: كان سبب ظهورهما أنّ محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن «1» ابن على هذا، كان يدّعى أنّ أبا جعفر المنصور كان ممّن بايعه، لمّا تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة، عند اضطراب «2» . أمر مروان بن محمد الحمار، فلما قامت الدولة العباسية وبويع السفاح، واتفق حج المنصور في سنة ست وثلاثين ومائة سأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله الحارثى: ما يهمك من أمرهما؟ أنا آتيك بهما،

وكان معه بمكة، فردّه المنصور إلى المدينة، فلما استخلف المنصور لم يكن همّه إلا أمر محمد، والمسألة عنه وما يريد، فدعا بنى هاشم رجلا رجلا يسأل كل واحد سرا عنه، فكلهم يقول قد علم أنّك عرفته بطلب هذا الأمر، فهو يخافك على نفسه، وهو لا يريد لك خلافا، وما أشبه هذا الكلام، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» فإنّه أخبره خبره، وقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنّه لا ينام عنك، فأيقظ بكلامه «2» من لم ينم عنه، وزاده ذلك حرصا على طلبه، وشدة في طلبه، وكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد ذلك: اللهم اطلب حسن بن زيد «3» بدمائنا. ثم ألحّ المنصور على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد سنة حج، فقال عبد الله لسليمان بن على بن عبد الله بن عبّاس: يا أخى بيننا من الصهر «4» والرحم ما تعلم، فما ترى؟ فقال سليمان: والله لكأنّى أنظر إلى أخى عبد الله بن على حين حال الستر «5» بيننا وبينه، وهو يشير إلينا، إن هذا الذى فعلتم بى، فلو كان المنصور عافيا عن أحد عفا عن عمّه، يشير إلى خبر المنصور لما حبس عمه عبد الله بن على،

فقبل عبد الله بن حسن رأى «1» سليمان، وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه. ثم شرع المنصور في إعمال الفكرة، والتوصل إلى أن يطلع على حقيقة خبر محمد بن عبد الله، وجعل عليه العيون والمراصد، وتوصل بكل طريق «2» ، حتى إنه اشترى رقيقا من رقيق الأعراب، وأعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الزود «3» ، وفرّقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضال فيسألون عنه؛ وبعث المنصور عينا وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله «4» بن حسن، [و] سأله عن ابنه محمد فكتم خبره، فتردّد إليه الرجل وألحّ في المسالة فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال له: أمرر بعلى بن حسن، الرجل الصالح الذى يدعى الأغرّ، وهو بذى الإبر، فهو يرشدك إليه، فأتاه فأرشده، وكان للمنصور كاتب على سرّه يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن حسن يخبره بخبر ذلك العين، فلما قدم الكتاب ارتاع له، وبعث إلى محمد ابنه وإلى على بن حسن يحذرهما الرجل، وأرسل بذلك أبا هبّار، فخرج أبو هبّار فنزل بعلى بن حسن وأخبره، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في

موضعه الذى هو به، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه، وذلك العين معهم أعلاهم صوتا وأشدّهم انبساطا، فلما رأى أبا هبّار خافه، فقال أبو هبار لمحمد: إنّ لى حاجة، فقام معه فأخبره الخبر، قال: فما الرأى؟ قال: أرى إحدى ثلاث، قال: وما هى؟ قال: تدعنى أقتل هذا الرجل، قال: ما أنا بمقارف دما إلا مكرها، قال: أثقله حديدا، وتنقله معك حيث تنقّلت، قال: وهل بنا فراغ مع الخوف والإعجال «1» ؟ قال: تشدّه وتودعه عند بعض أهلك من جهينة قال: هذه إذن، فرجعا فلم يريا الرجل، فقال محمد: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فيها ماء وتوارى، فطلبوه فلم يجدوه فكأنّ الأرض التأمت عليه، وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق، فمرّ به أعرابى معه حمولة إلى المدينة، فقال له: فرّغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها، ولك كذا وكذا ففعل، وحمله حتى أقدمه المدينة، ثم قدم على المنصور فأخبره الخبر كله، ونسى اسم أبى هبّار وكنيته، فقال: وبر «2» ، فكتب أبو جعفر في طلب وبر المرّى، فحمل إليه فسأله عن قصة محمد، فحلف أنه لا يعرف من ذلك شيئا، فأمر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات المنصور. ثم أحضر المنصور عقبة بن سلم الأزدى، فقال له: إنى أريدك لأمر أنا به معنى، لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه، وإن كفيتنيه

رفعتك؟ فقال: أرجو أن أصدق ظنّ أمير المؤمنين فيّ، قال: فاخف شخصك واستر أمرك، وأتنى يوم كذا وكذا في وقت كذا، فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إنّ بنى عمّنا قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم، فاخرج بكتبى وبمال وألطاف، حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية، ثم تعلم حالهم فإن كانوا نزعوا «1» عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متخشعا متقشفا، فإن جبهك- وهو فاعل- فاصبر وعاوده «2» ، حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته، فإذا ظهر لك ما قبله فعجّل إلىّ؛ فشخص عقبة حتى قدم على عبد الله بن حسن، فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به، فسأله عقبه الجواب فقال: أمّا الكتاب فإنّى لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابى إليهم، فأقرهم السلام وأعلمهم أنّ ابنىّ خارجان لوقت كذا وكذا، فرجع عقبة إلى المنصور وأعلمه الخبر، فأنشأ المنصور الحجّ، وقال لعقبة: إذا لقينى بنو حسن فيهم عبد الله بن حسن، فأنا مكرمه ورافع مجلسه وداع بالغذاء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره عنك، فاستدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك، حتى يملأ عينه منك ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل؛ وخرج

المنصور إلى الحج، فلما لقيه بنو حسن أجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ثم رفع، فأقبل المنصور على عبد الله بن حسن فقال له: قد علمت ما أعطيتنى من العهود والمواثيق ألا تبغينى سوءا. ولا تكيد لى سلطانا، قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين، فلحظ. المنصور عقبة بن سلم، فاستدار حتى وقف بين يدى عبد الله، فأعرض عنه، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملا عينه منه، فوثب حتى قعد بين يدى المنصور، وقال: أقلنى يا أمير المؤمنين أقالك الله، قال: لا أقالنى الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه. وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في بنى راسب، يدعو إلى نفسه، وقيل نزل على عبد الله بن شيبان- أحد بنى مرّة بن عبيد، ثم خرج منها، فبلغ المنصور مقدمه البصرة، فسار إليها مجدا «1» . فلقيه عمرو بن عبيد «2» ، فقال له: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا، قال: لا، قال: فأقتصر على قولك وأنصرف؟ قال: نعم، وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور، فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابنى عبد الله، فخرجا حتى أتيا عدن، ثم صارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة. وكان المنصور حجّ سنة أربعين ومائة، فقسم أموالا عظيمة في آل أبى طالب، فلم يظهر محمد وإبراهيم، فسأل أباهما عبد الله عنهما فقال: لا علم لى بهما، فتغالظا فأمصّه المنصور، فقال امصص كذا وكذا

من أمك!! فقال عبد الله: يا أبا جعفر بأى أمهاتى نمصّنى!! أبفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أم بفاطمة بنت الحسين بن على؟! أم بأم إسحاق بنت طلحة؟! أم بخديجة بنت خويلد؟! قال لا بواحدة منهن، ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زهير، وهى امرأة من طيىء «1» ، فقال المسيّب بن زهير «2» : يا أمير المؤمنين دعنى أضرب عنق ابن الفاعلة، فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لى يا أمير المؤمنين، فأنا أستخرج لك ابنيه، فخلّصه. وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيّبا حين حجّ المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة، وحجّا أيضا، فاجتمعوا كلهم بمكة وأرادوا اغتيال المنصور، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد: أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله عيلة أبدأ حتى أدعوه، فنقض «3» ما كانوا أجمعوا عليه، وكان قد دخل معهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان- اسمه خالد بن حسّان يدعى أبا العساكر- على ألف رجل، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب القائد فلم يظفر به، وظفر بأصحابه فقتلهم، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله فسيّره إلى خراسان، ومعه ابنه عبد الله بن محمد، ثم إن المنصور حث زياد بن عبيد الله على طلب محمد وإبراهيم، فضمن له ذلك ووعده به، فقدم محمد بن عبد الله المدينة قدمة، فبلغ ذلك زيادا فتلطّف له وأعطاه الأمان، على أن يظهر وجهه للناس، فوعده محمد ذلك، فركب

زياد مغلسا ووعد محمدا سوق الظهر، وركب محمد فتصايح الناس: يا أهل المدينة، المهدىّ المهدىّ، فوقف هو وزياد فقال زياد: يا أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن حسن، ثم قال: إلحق بأى بلاد الله شئت، فتوارى محمد؛ وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة، وأمره: أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطّلب، وأن يقبض زيادا وأصحابه ويسير بهم إليه، فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره، وأخذ زيادا وأصحابه وسار بهم نحو المنصور، وخلّف زياد ببيت مال المدينة ثمانين ألف دينار، فسجنهم المنصور ثم منّ عليهم بعد ذلك. واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده بالنفقة في طلبه، فقدم المدينة في شهر رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، فأخذ المال، ورفع فى محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطاه المنصور وأتهمه، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمدا، فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا السّعلاء «1» - رجلا من قيس عيلان- فى أمر محمد وأخيه، فقال: أرى أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بذحل «2» ، ويخرجونهما إليك، فقال: قاتلك الله، ما

أجود ما رأيت!! والله ما خفى علىّ هذا، ولكنّى أعاهد الله ألّا أنتقم من بنى عمى وأهل بيتى بعدوّى وعدوّهم، ولكنّى أبعث عليهم صعيليكا من العرب يفعل بهم ما قلت، فاستشار يزيد بن أسيد «1» السّلمى، وقال له: دلّنى على فتى مقلّ من قيس أغنيه وأشرّفه، وأمكنه من سيد اليمن- يعنى ابن القسرى- «2» ، قال: نعم، رياح بن عثمان بن حيّان المرىّ، فسيّره المنصور أميرا على المدينة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة؛ وقيل إنّ رياحا ضمن للمنصور أن يخرج محمدا وإبراهيم ابنى عبد الله، إن استعمله على المدينة، فاستعمله عليها، فسار حتى دخلها، فلما دخل دار مروان، وهى التى كان ينزلها الأمراء قال لحاجب كان له، يقال له أبو البخترى، هذه دار مروان؟ قال: نعم، قال أما إنّها محلال «3» مظعان، ونحن أول من يظعن منها، فلما تفرّق الناس عنه قال لحاجبه أبى البخترى: خذ بيدى فدخل على هذا الشيخ- يعنى عبد الله بن الحسن- فدخلا عليه، فقال له رياح: أيها الشيخ، إن أمير المؤمنين- والله- ما استعملنى لرحم قريبة، ولا ليد سلفت إليه منّى، والله لا لعبت بى كما لعبت بزياد وابن القسرى، والله لأزهقنّ نفسك أو لتأتينّى بابنيك محمد وإبراهيم، فرفع عبد الله رأسه إليه وقال نعم، أما والله إنّك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة، قال، أبو البخترى:

فانصرف- والله- رياح آخذا بيدى أجد برديده، وإنّ رجليه لتخطّان الأرض ممّا كلمه، قال: «1» فقلت له: إن هذا ما اطلع على الغيب، قال: إيها ويلك، فو الله ما قال إلا ما سمع، فذبح كما نذبح الشاة، ثم إنه دعا القسرى وسأله عن الأموال، فضربه وسجنه، وجدّ رياح في طلب محمد، فأخبر أنّه في شعب من شعاب رضوى، جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، فأمر عامله بطلب محمد. فطلبه بالخيل والرجل، ففزع منه محمد فهرب راجلا فأفلت، وله ابن صغير ولد في خوفه ذلك، وهو مع جارية له. فسقط من الجبل فتقطع، فقال محمد: منخرق السربال «2» يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد قال «3» : وبينا رياح يسير بالحرّة إذ لقى محمدا، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقى، فقال رياح: قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه «4» .

ذكر حبس أولاد الحسن

ذكر حبس أولاد الحسن قد ذكرنا أن المنصور حبس عبد الله بن حسن، وقيل إن رياحا هو الذى حبسهم، حكى عن على بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على أنه قال: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان ههنا من بنى حسن «1» فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة، وخرجوا من باب مروان، ثم قال: من كان ههنا من بنى حسن فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة، ودخل الحدادون من باب «2» مروان، فدعا بالقيود فقيدهم وحبسهم، وكانوا: عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن على، وحسن وإبراهيم ابنى حسن، وحسن بن جعفر بن حسن ابن حسن «3» ، وسليمان وعبد الله ابنى داود بن حسن بن حسن، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بنى إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس ابن حسن بن حسن «4» ، فلما حبسهم لم يكن فيهم على بن حسن بن حسن بن على العابد، فلما كان الغد بعد الصبح وإذا برجل قد أقبل متلففا، فقال له رياح: مرحبا بك ما حاجتك؟ قال: جئتك لتحبسنى مع قومى، فإذا هو على بن حسن بن حسن، فحبسه معهم. وكان محمد قد أرسل ابنه عليا إلى مصر يدعو إليه، فبلغ خبره

عامل مصر، وقيل له إنّه على الوثوب بك، والقيام عليك بمن شايعه، فقبضه وأرسله إلى المنصور، فاعترف له وسمّى أصحاب أبيه، وكان فيمن سمّى عبد الرحمن بن أبى الموال «1» وأبو جبير «2» ، فضربهما المنصور وحبسهما وحبس عليا، فبقى محبوسا إلى أن مات؛ وكتب المنصور إلى رياح أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان المعروف بالديباج، وكان أخا عبد الله بن حسن بن حسن لأمه- أمهما جميعا فاطمة بنت الحسين بن على رضى الله عنهما؛ فأخذه معهم، وقيل إن المنصور حبس عبد الله بن حسن بن حسن بن على وحده وترك باقى أولاد حسن، فترك حسن بن حسن بن حسن خضابه حتى نصّل حزنا على أخيه عبد الله، فكان المنصور يقول: ما فعلت الحادّة؟ ومرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم بن حسن وهو يعلف إبلا فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس!! يا غلام- أطلق عقلها ففعل، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها بعير، فلما طال حبس عبد الله بن حسن قال عبد العزيز بن سعيد للمنصور: أتطمع في خروج محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلّون؟! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد، فكان ذلك سبب حبس الباقين في سنة أربع وأربعين «3» .

ذكر حملهم إلى العراق

ذكر حملهم الى العراق قال المؤرخ «1» : ولما حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة «2» ومالك بن أنس إلى بنى الحسن وهم في الحبس، يسألهم «3» أن يدفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابنى عبد الله، فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلى فأبلغاهم الرسالة، فقال حسن بن حسن أخو عبد الله: هذا عمل ابنى المشئومة!! أما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملأ منّا ولا لنا فيه حيلة «4» فقال له أخوه إبراهيم: علام تؤذى أخاك في ابنيه؟! وتؤذى ابن أخيك في أمه؟! ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة، فقال: والله، لا أرد عليكما حرفا، إن أحبّ أن يأذن لى فألقاه فليفعل، فانطلق الرسولان إلى المنصور فأبلغاه قوله، فقال: أراد أن يسحرنى لا والله لا ترى عينه عينى حنى «5» يأتينى بابنيه، وكان عبد الله بن حسن لا يحدّث أحدا قط إلا فتله «6» عن رأيه. ثم سار المنصور لوجهه، فلما حجّ ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى

الربذة، فخرج إليه رياح إلى الربذة فردّه إلى المدينة، وأمره بإشخاص بنى حسن إليه، ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بنى حسن لأمهم، فرجع رياح وأخذهم وسار بهم إلى الربذة، وجعلت القيود فى أرجلهم وأعناقهم، وجعلهم في محامل بغير وطاء، ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من خلف ستر يراهم ولا يرونه، وهو يبكى ودموعة تجرى على لحيته وهو يدعو الله، ثم قال: والله، لا تحفظ. لله حرمة بعد هؤلاء، ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك وقال لهما إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين، فلا يمنعكما أن تموتا كريمين، فلما وصلوا إلى الربذة أدخل محمد بن عبد الله العثمانى على المنصور، وعليه قميص وإزار رقيق، فلما وقف بين يديه قال: أيها باديوث، قال محمد: سبحان الله!! والله لقد عرفتنى بغير ذلك صغيرا وكبيرا، قال: فممّن حملت ابنتك رقيّة؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد أعطيتنى الأيمان ألّا تغشنى، ولا تمالىء علىّ عدوا، وأنت ترى ابنتك حاملا وزوجها غائب!! فأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا، وأيم الله إنى لأهمّ برجمها، قال محمد: أما أيمانى فهى علىّ؛ إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية فإنّ الله قد أكرمها بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاها، ولكنى ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين

غفلة منّا، فاغتاظ «1» المنصور من كلامه، وأمر بشق ثيابه «2» وإزاره «3» فبدت عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغ والمنصور يفترى عليه لا يكنّى «4» ، فأصاب سوط منها وجهه، فقال: ويحك!! اكفف عن وجهى، فإنّ له حرمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس، فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت، ثم أخرج وكأنه زنجى من الضرب، وكان من أحسن الناس، وكان يكنى الديباج لحسنه، فلما أخرج وثب إليه مولى له فقال: ألا أطرح ردائى عليك، قال: بلى جزيت خيرا، والله لشق إزارى أشدّ علىّ من الضرب. وكان سبب أخذه أنّ رياحا قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، أمّا أهل خراسان فشيعتك، وأمّا أهل العراق فشيعة آل أبى طالب، وأما أهل الشام فو الله ما علىّ عندهم إلا كافر، ولكن محمد بن عبد الله العثمانى لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد، فوقعت في نفس المنصور فأمر به فأخذ معهم، وكان حسن الرأى فيه قبل ذلك. ثم إنّ أبا عون كتب إلى المنصور أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا «5»

عنّى، وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله العثمانى، فأمر المنصور به فقتل، وأرسل رأسه إلى خراسان، وأرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله، وأنّ أمّه فاطمة بنت الحسين بن على، فلما قتل قال أخوه عبد الله بن الحسن: إنّا لله!! إن كنّا لنأمن به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا. قال: ثم سار بهم المنصور من الربذة فمرّ بهم وهو على بغلة شقراء، فناداه عبد الله بن حسن: يا أبا جعفر؛ ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر، فأخسأه «1» أبو جعفر وتغل عليه ومضى، فلما قدموا إلى الكوفة قال عبد الله لمن معه: ألا ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية!! قال:، فلقيه الحسن وعلىّ ابنا «2» حى مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا ابن رسول الله، فمرنا بالذى تريد، قال: قد قضيتما ما عليكما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئا فانصرفا، فانصرفا، ثم إن المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقىّ الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن حسن، وكان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصغر؟ قال: نعم، قال: لأقتلنّك قتلة لم أقتلها أحدا، ثم أمر به فبنى عليه أسطوانة وهو حىّ، فمات فيها، وهو أول من مات منهم، ثم عبد الله بن حسن، ثم مات على بن حسن؛ وقيل إن المنصور أمر بهم فقتلوا، وقيل بل أمر بهم فسقوا السمّ، وقيل وضع المنصور على عبد الله من قال له: إنّ ابنه محمدا قد خرج وقتل، فانصدع قلبه فمات والله أعلم، ولم ينج

ذكر ظهور محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب

منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن «1» ، وبقيّتهم ماتوا في حبس المنصور. ذكر ظهور محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب كان ظهوره بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل بل كان في رابع عشر رمضان منها. وكان سبب خروجه أن المنصور لما حمل أهله إلى العراق، وسار من الربذة، ردّ رياحا إلى المدينة أميرا عليها، فألحّ في طلب محمد، وأرهقه الطلب يوما فتدلى في بئر في المدينة، يناول أصحابه الماء، وانغمس في الماء إلى حلقه، وكان بدنه لا يخفى لعظمه، وبلغ رياحا خبره أنه بالمذاد، فركب نحوه في جنده، فتنحّى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنيّة، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان، فلما اشتد الطلب على محمد خرج قبل وقته، وكان قد واعد أخاه إبراهيم أنّه يخرج لوقت عيّنه بالمدينة، ويخرج إبراهيم بالبصرة، وقيل بل خرج لميعاده مع أخيه، وإنما أخوه تأخر لجدرى لحقه. وكان عبيد الله بن عمرو بن أبى ذؤيب «2» وعبد الحميد بن جعفر يقولون لمحمد بن عبد الله: ما تنتظر بالخروج؟ فو الله ما على هذه

الأمة انتقام منك، اخرج ولو لوحدك «1» ، فحرّكه ذلك للخروج أيضا، وأتى رياحا الخبر: أنّ محمدا خارج الليلة، فأحضر محمد ابن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضى المدينة والعباس بن عبد الله ابن الحارث بن العباس وغيرهما عنده، فصمت طويلا ثم قال لهم: يا أهل المدينة؛ أمير المؤمنين يطلب محمدا في شرق الأرض وغربها، وهو بين أظهركم، أقسم بالله: لئن خرج لأقتلنكم أجمعين، وقال لمحمد بن عمران: أنت قاضى أمير المؤمنين فادع عشيرتك، فجمع بنى زهرة فجاءوا في جمع كبير، فأجلسهم بالباب، وأرسل فأخذ نفرا من العلويين وغيرهم، فيهم: جعفر بن محمد بن على بن الحسين «2» ، وحسين بن على بن حسين بن على، وحسن بن على بن حسين بن على» ، ورجال من قريش فيهم: إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد، فبيناهم عنده إذ ظهر محمد فسمعوا التكبير، فقال ابن مسلم بن عقبة المرّى: أطعنى في هؤلاء واضرب أعناقهم، فقال له الحسين بن على بن الحسين بن على: والله، ما ذاك إليك، إنّا لعلى السمع والطاعة، وأقبل محمد من المذاد فى مائة وخمسين رجلا في بنى سلمة تفاؤلا بالسلامة، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه، وممّن كان فيه محمد بن خالد بن عبد

الله القسرى وابن أخيه النّذير بن يزيد ورزام «1» فأخرجهم، وجعل على الرجّالة خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير «2» ، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه: لا تقتلوا لا تقتلوا، فامتنع منهم رياح فدخلوا من باب المقصورة، وأخذوا رياحا أسيرا وأخاه عباسا وابن مسلم ابن عقبة المرّى، فحبسهم في دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية- عدوّ الله أبى جعفر؛ ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التى بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيرا للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال، أنا ربكم الأعلى، وإنّ أحقّ الناس بالقيام في هذا الأمر «3» أبناء المهاجرين والأنصار المواسين، اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك، وأمّنوا من أخفت، وأخافوا من أمّنت؛ اللهم فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا؛ أيها الناس: إنّى والله ما خرجت بين أظهركم، وأنتم عندى أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّى اخترتكم لنفسى، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا أخذ لى فيه البيعة. وكان المنصور يكتب إلى محمد بن عبد الله على ألسن قواده،

يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول هذا، ويقول: لو التقينا مال القوّاد كلهم إلىّ، واستولى محمد على المدينة. واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومى، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدّراوردى، وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة؛ وقيل كان على شرطته عبد الحميد بن جعفر فعزله، وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز: إن «1» كنت لأظنّك ستنصرنا وتقوم معنا، فاعتذر إليه وقال أفعل، ثم انسلّ منه وأتى مكة، ولم يتخلّف عن محمد أحد من وجوه الناس، إلا نفر منهم الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن حزام «2» ، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد، وأبو سلمة بن عبيد الله بن الله بن «3» عمر، وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير «4» . وكان أهل المدينة «5» قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع

محمد، وقالوا: إنّ في أعناقنا بيعة لأبى جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين؛ وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وكان شيخا كبيرا، فدعاه إلى بيعته فقال: يا ابن أخى أنت والله مقتول فكيف أبايعك!! فارتدع الناس عنه قليلا، وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد، فأتت حمّادة ابنة معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله، وقالت له يا عم: إن إخوتى قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنّك إن قلت هذه المقالة ثبّطت الناس عنهم، فيقتل ابن خالى وإخوتى، فأبى إسماعيل إلا النهى عنه، فيقال إن حمّادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله «1» ابن إسماعيل، وقال: أتأمر بقتل أبى وتصلّى عليه!! فنحّاه الحرس وصلّى عليه محمد. ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسرى في حبس رياح فأطلقه، قال محمد بن خالد: لما سمعت دعوة محمد الى دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد، مات أهله جوعا وعطشا، فانهض معى فإنما هى عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف، فأبى علىّ، فبينما أنا عنده إذ قال: ما وجدنا من حرّ المتاع «2» شيئا أجود من شىء وجدناه عند ابن أبى

فروة ختن أبى الخصيب «1» ، وكان انتهبه، قال، فقلت له: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع، فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه، فأخذنى محمد فحبسنى حتى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إياه «2» . وكان رجل من آل أويس بن أبى سرح العامرى- عامر بن لؤى- اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لمّا ظهر محمد، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة «3» أيام، فقدم ليلا فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى علموا به فأدخلوه، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال: لا بدّلى منه، فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره، وأنّه قد طلب مشافهته فأذن له، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال: قتلته والله؛ إن كنت صادقا، قال: أخبرنى من «4» معه؟ فسمّى له من معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فأدخله أبو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار- غلام عيسى ابن موسى يلى أمواله بالمدينة، فأخبره بأمر محمد وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسى فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك، وأمر له بتسعة آلاف درهم، لكل ليلة ألف درهم، وأشفق من محمد، فقال له الحارثى المنجّم: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه؟! فو الله لو ملك

الأرض ما لبث إلا تسعين يوما، فأرسل المنصور إلى عمّه عبد الله بن على وهو محبوس: إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشر به علينا، وكان ذا رأى عندهم، فقال: إن المحبوس محبوس الرأى، فأرسل إليه المنصور: لو جاءنى حتى يضرب بابى ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك، فأعاد إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتى الكوفة، فاجثم «1» على أكبادهم فإنّهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه، أو أتاها من وجه من الوجوه، فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر إليك وكان بالرىّ، واكتب إلى أهل الشام فمرهم: أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد، فأحسن جوائزهم ووجّههم مع سلم، ففعل. وقيل أرسل المنصور إلى عبد الله إخوته يستشيرونه فى أمر محمد، وقال لهم: لا يعلم عبد الله أنّى أرسلتكم إليه، فلمّا دخلوا عليه قال: لأمر ما جئتم، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتمونى جميعا؟! قالوا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشىء، فما الخبر؟ قالوا: خرج محمد بن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعا- يعنى المنصور؟ قالوا: لا ندرى والله، قال: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، وليعط الأجناد، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم.

قال «1» : ولمّا ورد الخبر على المنصور بخروج محمد، كان قد خطّ مدينة بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع ابن عبيد الله بن عبد المدان «2» ، فقال له المنصور: إنّ محمدا قد خرج بالمدينة، فقال عبد الله: هلك والله وأهلك، خرج في غير عدد ولا رجال. حدّثنى سعيد بن عمر بن جعدة المخزومى قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفا فقال لى مروان «3» : من هذا الذى يقاتلنى؟ قلت: عبد الله بن على بن عبد الله بن العباس، قال: وددت والله أن على بن أبى طالب يقاتلنى مكانه، إن عليا وولده لاحظ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بنى هاشم وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ريح الشام ونصر الشام، يا ابن جعدة: تدرى ما حملنى على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله «4» بعدى، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله، قال ابن جعدة: لا، قال: وجدت الذى يلى هذا الأمر عبد الله وعبيد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك فعقدت له، فاستخلفه المنصور على صحة ذلك فحلف له فسرّى عنه.

قال: ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبى أيوب وعبد الملك: هل من رجل تعرفانه بالرأى نجمع رأيه إلى رأينا؟ قالا بالكوفة: بديل بن يحيى، وكان السفاح يشاوره، فأرسل إليه، وقال له: إنّ محمدا قد ظهر بالمدينة! قال: فاشحن الأهواز بالجنود، قال: إنّه إنما ظهر بالمدينة، قال: قد فهمت، وإنما الأهواز الباب الذى تؤتون منه، فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك، قال: فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه، وشاور المنصور أيضا جعفر بن حنظلة البهرانى عند ظهور محمد قال: وجّه الجند إلى البصرة، قال: انصرف عنّى حتى أرسل إليك، فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه، فقال له ذلك فقال: إياها خفت، بادره بالجنود، قال: وكيف خفت البصرة؟ قال: لأن محمدا ظهر بالمدينة وليسوا أهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبى طالب، فلم يبق إلا البصرة. ثم إن المنصور كتب إلى محمد بن عبد الله كتابا ابتدأه بأن قال: بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) «1» ، ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤمّنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج

وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسى من أهل بيتك، وأن أؤمّن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شىء من أمرك، ثم لا أتبع أحدا منهم بشىء كان منه أبدا، فإن أردت أن تتوثّق لنفسك فوجّه من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به والسلام. فكتب إليه محمد: بسم الله الرحمن الرحيم (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) «1» ، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علىّ، فإن الحق حقنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر لنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا «2» ، فإن أبانا عليا كان الوصى، وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء، ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بنى هاشم بمثل الذى نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل- وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت عمرو «3» فى الجاهلية،

وبنو بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاطمة في الإسلام- دونكم إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيّين محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ومن السّلف أوّلهم إسلاما على بن أبى طالب، ومن الازواج أفضلهم خديجة الطاهرة، وأوّل من صلى إلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ومن المولودين فى الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرّتين، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدنى مرّتين، من قبل حسن وحسين، وإنى أوسط بنى هاشم نسبا، وأصرحهم أما وأبا «1» ، لم تعرّق فيّ العجمة، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد، فما زال يختار لى الآباء والأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لى في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، فلك ذمّة الله علىّ، إن دخلت في طاعتى، وأجبت دعوتى، أن أؤمّنك على نفسك ومالك، وعلى كل حدث «2» أحدثته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمنى من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتنى من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلى، فأى الأمانات تعطينى؟ أمان ابن هبيرة!! أم أمان عمّك عبد الله بن على!! أم أمان أبى مسلم!! فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب الموريانى: دعنى

أجبه عنه، قال: لا، إذا تقارعنا على الأحساب دعنى وإياه، ثم كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغنى كلامك، وقرأت كتابك فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة «1» والأولياء، لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختار الله لهن على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأولى من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما قضى فيهم «2» واصطفائه لهم؛ وأمّا ما ذكرت من فاطمة أم أبى طالب وولادتها، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام، لا بنتا ولا ابنا، ولو أن رجلا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله، ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، لكنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله عز وجل (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) «3» ، ولقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) «4» ، فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبى، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، فلم يجعل بينه وبينهما إلّا ولا ذمة ولا ميراثا؛ وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار، وليس

فى الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغى لمؤمن- يؤمن بالله- أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) «1» ؛ وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبىّ ولدك مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة؛ وزعمت أنك أوسط بنى هاشم نسبا وأصرحهم أما وأبا، وأنه لم تلدك العجم، ولم تعرّق «2» فيك أمّهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا!! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك- نفسا وأبا وأوّلا وآخرا «3» - إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خيار بنى أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمّهات الأولاد، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من على بن حسين، وهو لأم ولد ولهو خير من جدّك حسن بن حسن «4» ، وما كان فيكم بعده مثل محمد بن على، وجدّته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أم ولد، وهو خير منك؛ وأما قولك إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول في كتابه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ... ) «5» ،

ولكنكم بنو ابنته وإنها لقرابة قريبة، ولكنّها لا تجوّز الميراث ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة فكيف يورّث بها، ولقد طلبها أبوك بكل وجه، فأخرج فاطمة رضى الله عنها نهارا، ومرّضها سرا ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا الشيخين، ولقد جاءت السنة التى لا اختلاف فيها بين المسلمين: أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورّثون؛ وأمّا ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه «1» ، وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعا له «2» ، ولم يروا له حقا فيها؛ وأما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضى بهما، وأعطاهما عهد الله وميثاقه «3» ، فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حله «4» ، فإن كان لكم فيها شىء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه، حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛

ثم خرجتم على بنى أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوكم بلا وطاء فى المحامل، كالسبى المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم وطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنّينا سلفكم وفضّلناه فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له، على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّما منهم مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلى أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا عليهم «1» وذكرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة، فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا يأبينا، حتى نعشهم «2» الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بنى عبد المطلب بعد النبى صلى الله عليه وسلم غيره، فكانت وراثته من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم، فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبى صلى الله عليه وسلم له، والخلافة في

ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام- فى دنيا ولا آخرة- إلا والعباس وارثه ومورّثه. أمّا ما ذكرت من بدر فإنّ الاسلام جاء، والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التى أصابته، ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا، وللحسا جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين، فأذهب عنكم العار والسّبة، وكفاكم النفقة والمؤونة، ثم فدا عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم، والسلام عليكم ورحمة الله. وكان محمد قد استعمل الحسن «1» بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى ابن عبد الله على الشام، فأما الحسن والقاسم فسارا إلى مكة، فخرج إليها السرىّ بن عبد الله، عامل المنصور على مكة، فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه، ودخل الحسن «2» مكة وأقام بها يسيرا، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه، ويخبره بمسير عيسى ابن موسى إليه ليحاربه، فسار إليه من مكة هو والقاسم، فبلغه بنواحى قديد قتل محمد، فهرب هو وأصحابه وتفرّقوا، فلحق الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم، واختفى القاسم بالمدينة

حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر امرأة عيسى الأمان له ولإخوته معاوية وغيره، وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسرى، فانسل منه رزام بتيماء، وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسرى، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك فحبس محمد القسرى، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء ردّ غليه وغلظة، فكتب إلى محمد: أخبرك أنى لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولا الذى قال: والله لقد مللنا البلاء، وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا أو أمسينا من غد ليرفعنّ أمرنا؛ فكتبت إليك، وقد غيّبت وجهى، وخفت على نفسى. ثم رجع إلى المدينة، وقيل أتى البصرة، وأرسل صاحبا له يشترى له طعاما فاشتراه، وجاء به على حمّال أسود، فأدخله الدار التى سكنها وخرج، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار، وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه فحملوا إلى محمد بن سليمان بن على بن عبد الله بن العباس، فلما رأى موسى قال: لا قرّب الله قرابتكم، ولا حيّا وجوهكم، تركت البلاد كلها إلا بلدا أنا فيه!! فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين، وإن أطعته قطعت أرحامكم، ثم أرسلهم إلى المنصور، فأمر بضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط فلم يتأوّها، فقال المنصور: عذرت أهل الباطل في صبرهم، فما بال هؤلاء!! فقال موسى: أهل الحق أولى بالصبر، ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا.

ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد

ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد قال «1» : ثم إن المنصور أحضر ابن اخيه عيسى بن موسى بن محمد ابن على بن عبد الله بن عباس، وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد ابن عبد الله بن حسن، فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين، قال: فأين قول ابن هرمة: نزور امرأ لا يمخض القوم سرّه ... ولا ينتجى الأدنين فيما يحلول إذا ما أتى شيئا مضى كالذى أتى ... وإن قال إنى فاعل فهو فاعل فقال المنصور: أمض أيها الرجل- فو الله ما يراد غيرى وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا، فسار وسيّر معه الجنود، وكان عيسى ولى عهد المنصور إذ ذاك؛ فقال المنصور حين سار عيسى: لا أبالى أيهما قتل صاحبه؛ وبعث معه محمد بن أبى العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدى، وحميد بن قحبطة، وهزار مرد وغيرهم، وقال له المنصور حين ودّعه: يا عيسى، إنّى أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى ما بين جنبيه «2» ، فإن ظفرت بالرجل فاغمد سيفك، وابذل الأمان، وإن تغيّب فضمنهم إياه فإنّهم يعرفون مذاهبه، ومن لقيك من آل أبى طالب، فاكتب إلىّ باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله، وكان جعفر الصادق تغيّب عنه، فقبض ماله، فلما قدم المنصور

المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديّكم، فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق الحرير، منهم عبد العزيز ابن المطلب المخزومى، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحى، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب، يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر «1» بن محمد ابن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل فأتوا عيسى. قال: ولما بلغ محمدا قرب عيسى من المدينة، استشار أصحابه فى الخروج من المدينة والمقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وبعضهم بالمقام بها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتنى في درع حصينة فأوّلتها المدينة، فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس- رئيس سليم- يا أمير المؤمنين: نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقه لمّا أعلمه الله به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقة، وأن الذين نخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم؛ فقال له أحد بنى شجاع: خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد أنت به، وتريد أن تدع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك!! قال: إنه والله- يا ابن شجاع- ما شىء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شىء أحبّ إلينا من مناجزتهم، فقال محمد: إنما اتبعنا

فى الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يردّنى أحد عنه فلست بتاركه، فأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق «1» ، الذى حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق: ألا يخرج منهم أحد، ثم خطبهم فقال: إنّ عدوّ الله وعدوّكم قد نزل الأعوص، وإنّ أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنّا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوّكم في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده، وأنّه قد بدا لى أن آذن لكم، فمن أحبّ منكم أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن؛ فخرج عالم كثير، وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقى محمد في شرذمة يسيرة «2» ، فأمر أبا القلمّس بردّ من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم فتركهم. قال: وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى بن موسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإنى أخاف إن كشفوكم كشفة «3» أن يدخلوا عسكركم، فتأخّروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهو على أربعة أميال من المدينة، وقال: ولا يهرول الراجل أكثر من

ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل، وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر- على ستة أميال من المدينة- فأقاموا بها، وقال: أخاف أن ينهزم محمد فيأتى مكة، فيردّه هؤلاء، فكانوا بها حتى قتل محمد، وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور أمّنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا، إن لك برسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة قريبة، وإنى أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيّه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإنى والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله: فتكون شر قتيل، أو تقتله «1» فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال؛ وقال محمد للرسول: علام تقتلونى؟ وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل، قال: إن القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك، على ما قاتل عليه خير آبائك طلحة والزبير، على نكث بيعتهم وكيد ملكه. قال، ونزل عيسى بالجرف لاثنتى عشرة خلت من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وذلك يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الإثنين فوقف على سلع، فنظر إلى المدينة ومن فيها، ونادى يا أهل المدينة: إن الله تعالى حرّم دماء بعضنا على بعض، فهلمّوا إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن «2» ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن،

خلوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا وإمّا له. فشتموه فانصرف من يومه وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة، وأخلى ناحية مسجد أبى الجرّاح وهو على بطحان، أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد، فبرز أبو القلمّس وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد، فاقتتلوا طويلا فقتله أبو القلمّس، وبرز إليه آخر فقتله، وقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرا من ألف فاروق، وقاتل محمد يومئذ قتالا عظيما، فقتل بيده سبعين رجلا، وأمر عيسى حميد بن قحبطة فتقدم في مائة «1» كلهم راجل سواه، فزحفوا حتى بلغوا جدارا دون الخندق، عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق، ونصب عليه أبوابا وعبر هو وأصحابه عليها، فجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه أشد قتال من بكرة النهار إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقايب وغيرها في الخندق، وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبى أنت وأمّى، والله مالك بما ترى طاقة أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإنّ معه جلّ أصحابك!! فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت منى في سعة فاذهب حيث شئت، فمشى معه قليلا ثم رجع عنه، وتفرّق عنه جل أصحابه، حتى بقى في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، فقال بعض أصحابه: نحن اليوم بعدة

أهل بدر؛ وصلّى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده: إلا ذهب إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: لا والله لا تبتلون بى مرّتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت، فقال ابن خضير: وأين المذهب عنك!؟ ثم مضى فأحرق الديوان، الذى فيه أسماء من بايعهم، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان، وقتل ابن مسلم بن عقبة المرسى، ومضى إلى محمد بن خالد القسرى وهو محبوس ليقتله فعلم به، فردم الأبواب دونه فلم يقدر على قتله، وكان محمد بن عبد الله قد حبس محمد بن خالد بعد ما أطلقه، ورجع عيسى بن خضير إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل، وتقدّم حميد بن قحطبة، وتقدّم محمد بن عبد الله فلما صار ببطن مسيل سلع عرقب فرسه، وعرقب بنو شجاع الجهنيون «1» دوابّهم، ولم يبق أحد منهم إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتمونى ولست بارحا حتى أقتل، فمن أحبّ أن ينصرف فقد أذنت له، واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى بن موسى مرّتين أو ثلاثا، فقال يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر «2» : ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال!! وصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع، وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس «3»

بخمار أسود فرفع على منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد بن عبد الله: دخلت المدينة فهربوا، فقال يزيد: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤنى إلا منه!! - يعنى سلعا، وفتح بنو أبى عمرو الغفاريّون طريقا في بنى غفار لأصحاب عيسى، فدخلوا منه أيضا وجاءوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: أبرز إلىّ فأنا محمد بن عبد الله، فقال حميد: قد عرفتك، وأنت الشريف ابن الشريف، الكريم ابن الكريم، والله، لا أبرز إليك وبين يدىّ من هؤلاء الأغمار واحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك، وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان، وابن خضير يحمل على الناس راجلا، لا يصفى إلى أمانه وهو يأخذهم بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على إليته فحلها، فرجع إلى أصحابه فشدّها بثوب، ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص «1» السيف، وسقط فابندروه فقتلوه وأخذوا رأسه، وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه، فلما قتل تقدّم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهدّ الناس هدا، وكان أشبه الناس بقتال حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، ولم يزل محمد يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وجعل يذبّ عن نفسه، ويقول: ويحكم ابن نبيّكم مجرّح مظلوم، فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فأخذ رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء؛ وقيل إن عيسى بن موسى اتّهم حميد بن قحطبة وكان على الخيل، فقال

له: ما أراك تبالغ!! فقال له: اتتهمنى!! فو الله لأضربنّ محمدا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه، قال: فمرّ به وهو مقتول فضربه ليبرّ يمينه، وقيل بل رمى بسهم وهو يقاتل، فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار، سيف على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقيل بل أعطاه رجلا من التجار، كان معه وله عليه «1» أربعمائة دينار، وقال خذه فإنّك لا تلقى أحدا من آل أبى طالب إلا أخذه وأعطاك حقّك، فلم يزل عنده حتى ولى جعفر بن سليمان المدينة، فأخبر به فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار، ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدى، ثم صار إلى الهادى فجرّبه فى كلب فانقطع السيف؛ وقيل بل بقى إلى أيام الرشيد، وكان يتقلّده وكان به ثمانى عشرة فقارة. قال: ولما أتى عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه؟ فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم ما لهذا قاتلناه، ولكنّه خالف أمير المؤمنين، وشقّ عصا المسلمين، وإن كان لصوّاما قوّاما فسكتوا. وأرسل عيسى بن موسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبى الكرام بن عبد الله بن على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وأرسل معه رؤوس بنى شجاع، فأمر المنصور برأس محمد فطيف به في الكوفة وسيّره إلى الآفاق. قال: ولمّا رأى المنصور رؤوس بنى شجاع قال: هكذا فليكن الناس! طلبت محمدا فاشتمل عليه

هؤلاء، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا. وكان مقتل محمد وأصحابه يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان خمس وأربعين ومائة. قال «1» : وكان المنصور قد بلعه أن عيسى بن موسى قد هزم، فقال: كلا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أتى «2» لذلك بعد. ثم بلغه أنّ محمدا هرب، فقال: كلّا، إنّا أهل بيت لا نفرّ، فجاءته بعد ذلك الرؤوس. قال: ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب عنده، فلما رأى الرأس عظم عليه وتجلّد خوفا من المنصور، فالتفت المنصور إليه وقال: أهو هو؟ قال: نعم، ولوددت أن الله تعالى قاده إلى طاعتك، ولم تكن فعلت به كذا، قال: وأنا وإلّا فأم موسى طالق، ولكنه أراد قتلنا فكانت نفسنا أكرم علينا من نفسه. قال: وأرسل عيسى بن موسى ألوية فنصبت في مواضع بالمدينة، ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن؛ وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفّين، ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قوم من الليل فواروه سرا، وبقى الآخرون ثلاثا، ثم أمر بهم عيسى فألقوا في مقابر اليهود، ثم ألقوا بعد ذلك في خندق ذباب، فأرسلت زينب بنت عبد الله،

أخت محمد- وابنته «1» فاطمة إلى عيسى: إنّكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه، فلو أذنتم لنا في دفنه!! فأذن لهما فدفن بالبقيع. قال: وقطع المنصور الميرة عن المدينة في البحر، ثم أذن فيها المهدى. قال: ورد الخبر بقتل محمد بن عبد الله على أخيه إبراهيم بالبصرة يوم العيد، وكان إبراهيم قد استولى على البصرة، فخرج فصلى بالناس، ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه. قال: وكان محمد بن عبد الله بن حسن أسمر شديد السمرة سمينا شجاعا كثير الصوم والصلاة شديد القوّة رحمه الله تعالى. قال: وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال: فتنة يقتل فيها محمد، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق، وحوافر فرسه في ماء. قال: وقال محمد بن عبد الله لعبد الله بن عامر السّلمى: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمى عند أحجار الزيت، قال: فو الله لقد أطلّتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابة فظفروا، وقتلوا محمدا ورأيت دمه عند أحجار الزيت، وكان محمد بلقّب المهدى رحمه الله.

ذكر تسمية المشهورين ممن كان مع محمد بن عبد الله بن حسن

ذكر تسمية المشهورين ممن كان مع محمد بن عبد الله بن حسن كان معه من بنى هاشم أخوه موسى بن عبد الله بن حسن، وحسين «1» وعلى ابنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب؛ ولمّا بلغ المنصور أن ابنى زيد أعانا محمدا عليه قال: عجبا لهما!! قد خرجا علىّ وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه وأحرقناه كما أحرقه؛ وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن على بن الحسين، وعلى وزيد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وكان أبوهما مع المنصور، والحسن «2» ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، والمرجّى على بن جعفر بن إسحاق بن على بن عبد الله بن جعفر، وكان أبوه مع المنصور «3» ؛ وكان معه من غيرهم: محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العاص، ومحمد بن عجلان، وعبد الله «4» بن عمر بن حفص بن عاصم أخذ أسيرا، فأتى به المنصور فقال له: أنت الخارج علىّ؟ قال: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد، وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن

أبى سبرة، وعبد الواحد بن أبى عون- مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدّراوردى، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب، مولى بنى سباع، وإبراهيم وإسحاق وربيعة «1» وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء، وعيسى بن خضير وعثمان بن خضير، وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير هرب بعد مقتل محمد، فأتى البصرة فأخذ منها وأتى به المنصور، فقال له: هيه يا عثمان، أنت الخارج علىّ مع محمد!! قال: بايعته أنا وأنت بمكة، فوفيت ببيعتى وغدرت ببيعتك، قال: يا ابن اللخناء، قال: ذاك من قامت عنه الاماء يعنى المنصور، فأمر به فقتل، وكان مع مجمد عبد العزيز بن عبد الله «2» بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخذ أسيرا فأطلقه المنصور؛ وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطبع؛ وعلى بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب؛ وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير؛ وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدى بن الخيار، وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.

ذكر ظهور ابراهيم بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب أخى محمد

ذكر ظهور ابراهيم بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب أخى محمد كان ظهوره بالبصرة في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلب، فحكت جارية له أنّهم لم تقرّهم أرض خمس سنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة بالحجاز، ومرة باليمن، ومرة بالشام، ثم إنّه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه، فحكى إبراهيم عن نفسه قال: اضطرّنى الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور، ثم خرجت وقد كفّ الطلب، وكان قوم من أهل العسكر يتشيّعون، فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم عليهم ليثبوا بالمنصور فقدم عسكر أبى جعفر وهو ببغداد وقد خطّها، وكانت له مرآة ينظر فيها، فيرى عدوّه من صديقه، فنظر فيها فقال: يا مسيّب قد رأيت إبراهيم في عسكرى، وما في الأرض أعدى لى منه، فانظر أىّ رجل يكون؟ ثم إنّ المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، فخرج إبراهيم ينظر إليها مع الناس، فوقعت عليه عين المنصور، فجلس إبراهيم وذهب في الناس، فأتى فاميا فلجأ إليه فأصعده غرفة له، وجدّ المنصور فى طلبه ووضع الرصد بكل مكان، فثبت «1» إبراهيم مكانه، فقال له صاحبه سفيان بن حيّان العمىّ «2» : قد نزل بنا ما ترى، ولا بد

من المخاطرة، قال: فأنت وذاك، فأقبل سفيان إلى الربيع، فسأله الإذن على المنصور فأدخله إليه، فلمّا رآه شتمه فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أنى أتيتك تائبا ولك عندى كلّ ما تحبّ، وأنا آتيك بإبراهيم بن عبد الله، إنّى قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيرا، فاكتب لى جوازا ولغلام معى، واحملنى على البريد ووجّه معى جندا، فكتب له جوازا ودفع إليه جندا، وقال له: هذه ألف دينار «1» فاستعن بها، قال: لا حاجة لى فيها، فأخذ منها ثلاثمائة دينار، وأقبل والجند معه فدخل البيت على إبراهيم، وعلى إبراهيم جبة صوف وقباء كأقبية الغلمان، فصاح به فوثب فجعل يأمره وينهاه، وسار على البريد، وقيل لم يركب البريد، وسار حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع جوازه إليه، فلما جازها قال له الموكّل بالقنطرة: ما هذا غلام وإنّه لإبراهيم بن عبد الله، اذهب راشدا فأطلقهما، فركبوا سفينة حتى قدموا البصرة، فجعل يأتى بالجند الدار لها بابان، فيقعد البعض منهم على أحد البابين، ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرّق الجند عن نفسه وبقى وحده، وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أمير البصرة، فأرسل إلى الجند فجمعهم، وطلب العمىّ فأعجزه وكان إبراهيم قد قدم الأهواز قبل ذلك فاختفى عند الحسن بن حبيب «2» ،

وكان محمد بن حصين يطلبه، فقال يوما: إنّ أمير المؤمنين كتب إلى يخبرنى أن المنجّمين أخبروه: أنّ إبراهيم نازل بالأهواز، وهو في جزيرة بين نهرين، وقد طلبته في الجزيرة وليس هناك، وقد عزمت أن أطلبه غدا بالمدينة، لعلّ أمير المؤمنين يعنى بقوله- بين نهرين- بين دجيل والمسرقان، فرجع الحسن بن حبيب إلى إبراهيم فأخبره، وأخرجه إلى ظاهر البلد، ولم يطلبه محمد ذلك اليوم، فلما كان آخر النهار خرج الحسن إلى إبراهيم، فأدخله البلد وهما على حمارين وقت العشاء الآخرة، فلحقه أوائل خيل ابن الحصين، فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول، فسأل ابن الحصين الحسن بن حبيب عن مجيئه، فقال: جئت من عند بعض أهلى، فمضى وتركه، ورجع الحسن إلى إبراهيم فأركبه وأدخله إلى منزله، فقال له إبراهيم: والله لقد بلت دما، فأتيت الموضع فرأيته وقد بال دما، ثم إن إبراهيم قدم البصرة، قيل قدمها في سنة خمس وأربعين ومائة، بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة، وقيل قدمها فى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وكان الذى أقدمه وتولى أمره- فى قول بعضهم- يحيى بن زياد بن حيان «1» النبطى، وأنزله في داره في بنى ليث، وقيل نزل في دار أبى فروة، ودعا الناس إلى بيعة أخيه، وكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة العبشمى، وعفو الله بن سفيان،

وعبد الواحد بن زياد، وعمرو «1» بن سلمة الهجيمى، وعبد الله «2» ابن يحيى بن حصين الرّقاشى، وندبوا الناس، فأجابهم المغيرة بن الفزع «3» وأشباه له، وأجابه أيضا عيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ، وعبّاد بن العوّام، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومعاوية بن هشيم ابن «4» بشير، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف، وشهر أمره فقالوا له: لو كنت تحوّلت إلى وسط البصرة، أتاك الناس وهم مستريحون، فتحوّل فنزل دار أبى مروان- مولى بنى سليم- فى مقبرة بنى يشكر. وكان سفيان بن معاوية- أمير البصرة- قد مالأ على أمره، ولما ظهر أخوة محمد كتب إليه يأمره بالظهور، فوجم لذلك واغتمّ، فجعل بعض أصحابه يسهّل عليه دلك، وقال له: قد اجتمع لك عالم من الناس، فطابت نفسه، وكان المنصور بظاهر الكوفة في قلة من العساكر، وقد أرسل ثلاثة من القوّاد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة مددا له، ليكونوا عونا له على إبراهيم، إن ظهر، فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه، فجمع القوّاد عنده، وظهر إبراهيم أول شهر

رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغنم دوابّ أولئك الجند، وصلّى بالناس الصبح بالجامع، وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصنا، فحضره فطلب سفيان منه الأمان، فأمّنه إبراهيم ودخل إلى الدار، ففرشوا له حصيرا فهبّت الريح فقلبته قبل أن يجلس، فتطيّر الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطيّر وجلس عليه مقلوبا، وحبس القوّاد وحبس أيضا سفيان بن معاوية في القصر وقيّده بقيد خفيف، ليعلم المنصور أنه محبوس، وبلغ جعفرا ومحمدا، ابنى سليمان بن على ظهور إبراهيم، فأتيا في ستمائة رجل، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء ابن القاسم الجزرى في خمسين رجلا فهزمهما، ونادى منادى إبراهيم: لا يتبع منهزم ولا يذفف «1» على جريح، ومضى إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن على بن عبد الله بن العباس؛ وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى بالأمان وألّا يعرض لهم أحد، فصفت له البصرة ووجد في بيت ما لها ألفى ألف درهم، فقوى بذلك وفرض لأصحابه لكل رجل خمسين درهما. فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز، فبلغها في مائتى رجل، وكان فيها محمد بن الحصين عاملا للمنصور، فخرج إليه في أربعة آلاف فالتقوا، فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز؛ وقيل إنّما سيّر إبراهيم المغيرة إلى الأهواز بعد مسيره من البصرة إلى باخمرى، وسيّر إبراهيم إلى فارس عمرو بن سدّاد، فقدمها وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا على بن عبد الله بن العباس، فبلغهما دنو

ذكر مسير ابراهيم ومقتله

عمرو- وهما باصطخر- فقصدا دار بجرد فتحصّنا بها، فصارت فارس في يد عمرو، وأرسل إبراهيم، هارون بن سعد «1» العجلىّ في سبعة عشر ألفا إلى واسط، وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل المنصور- فملكها العجلىّ، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلىّ «2» فى خمسة، آلاف وقيل في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب، حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور، فلما قتل إبراهيم هرب هارون بن «3» سعد عنها، واختفى حتى مات. قال: ولم يزل إبراهيم بالبصرة، يفرّق العمّال والجيوش حتى أتاه نعى أخيه محمد قبل الفطر بثلاثة أيام، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار، فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد، فازدادوا في قتال المنصور بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة نميلة، وخلف ابنه حسنا معه. ذكر مسير ابراهيم ومقتله قال: ثم عزم إبراهيم على المسير، فأشار عليه أصحابه البصريون أن يقيم ويرسل الجنود، فيكون، إذا انهزم لك جند أمددنهم بغيرهم، فخيف مكانك واتقاك عدوك، وجبيت الأموال وثبتت وطأتك، فقال من عنده من أهل الكوفة: إنّ بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك،

وإن لم يروك قعدت «1» بهم أسباب شى؛ فسار عن البصرة إلى الكوفة، وكان المنصور- لما بلغه ظهور إبراهيم- فى قلة من العسكر فقال: والله ما أدرى كيف أصنع!! ما في عسكرى إلا ألفا رجل، فرّقت جندى!! فمع المهدى بالرىّ ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الأشعث بأفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله: لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكرى ثلاثون ألفا، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعا، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها، وعاد وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الرىّ، فقال له المنصور: اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله- إنّهما جملا بنى هاشم المقتولان، فثق بما أقول، وضمّ إليه غيره من القوّاد. وكتب إلى المهدى يأمره بانفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز، فسيّره فى أربعة آلاف فارس فوصلها، وقاتل المغيرة، فرجع المغيرة إلى البصرة، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا، وتوالت على المنصور الفتوق: من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمداين والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل، ينتظرون به صيحة، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد: وجعلت نفسى للرماح دريّة ... إن الرئيس بمثل ذاك فعول «2»

ثم إن المنصور رمى كل ناحية بحجرها، وبقى على مصلّاه خمسين يوما، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملوّنة، قد «1» اتسخ جيبها، ما غيّرها ولا هجر المصلى، إلا أنه، إذا ظهر للناس لبس السواد، فإذا فارقهم رجع إلى هيئته، وأهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أمة «2» الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فلم ينظر إليهما، فقيل له: إنّهما قد ساءت ظنونهما، فقال: ليست هذه أيام نساء، ولا سبيل إليهما حتى أنظر: أرأس «3» إبراهيم لى أم رأسى له؟ قال الحجّاح بن قتيبة: لما تتابعت الفتوق على المنصور، دخلت مسلما عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس، وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بازاء عسكره، تنتظر صيحة واحدة فيثبون به؛ فرأيته أحوذيا «4» مشمرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنّه لكما قال الأوّل: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكا هماما

ثم وجّه المنصور إلى إبراهيم، عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف، وقال له- لمّا ودّعه-: إنّ هؤلاء الخبثاء- يعنى المنجّمين- يزعمون أنّك إذا لاقيت إبراهيم، تجول أصحابك جولة حين تلقاه، ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك. قال: ولمّا سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلة في عسكره سرا، فسمع أصوات الطنابير، ثم فعل ذلك ليلة أخرى فسمعها أيضا، فقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا، وسمع وهو ينشد في طريقه أبيات القطامىّ: أمور لو تدبّرها حليم ... إذا لنهى وهيّب ما استطاعا ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتباعا ولكنّ الأديم إذا تفرّى ... بلى وتعيّبا غلب الصّناعا فعلموا أنّه نادم على مسيره، وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف، وقيل كان معه في طريقه عشرة آلاف، وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذى فيه عيسى بن موسى ويقصد الكوفة، فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه، ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان، فلم يفعل، وقيل له ليبيّت عيسى بن موسى، فقال: أكره البيات إلا بعد الإنذار، وقال له بعض أهل الكوفة: إئذن لى بالمسير إلى الكوفة، أدعو الناس سرا ثم أجهر، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة، لم يردّ وجهه شىء دون حلوان، فاستشار إبراهيم بشير الرحّال، فقال: لو وثقنا بالذى تقول لكان رأيا، ولكنّا لا نأمن أن

تجيئك منهم طائفة، فيرسل إليهم المنصور الخيل، فيأخذ البرىء والصغير والمرأة، فيكون ذلك تعرّضا للمآثم، فقال الكوفى: كأنّكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقون قتل الضعيف والصغير والمرأة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سراياه، فيقاتل ويكون نحو هذا، فقال بشير: أولئك كفار وهؤلاء مسلمون، فاتّبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرا، وهى من الكوفة على ستة عشر فرسخا، مقابل عيسى بن موسى، فأرسل إليه سلم بن قتيبة يقول: إنك قد أصحرت «1» ، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من وجه واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه، فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم؟! لا والله لا نفعل؛ قال: فنأتى أبا جعفر، قالوا: ولم وهو في أيدينا، متى أردناه؟! فقال إبراهيم للرسول: أتسمع، فارجع راشدا. ثم إنّهم تصافوا، فصفّ إبراهيم أصحابه صفا واحدا، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، فإنّ الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فقال الباقون: لا نصفّ إلا صفّ أهل الإسلام، يعنى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) «2» ، ثم التقوا

واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فلا يلوون عليه، وأقبل حميد منهزما فقال له عيسى: الله الله والطاعة، فقال لا طاعة فى الهزيمة، ومرّ الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير، فقيل له: لو تنحّيت عن مكانك حتى يثوب إليك الناس، فتكرّ بهم؟ فقال: لا أزول عن مكانى هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدى، والله لا ينظر أهل بيتى إلى وجهى أبدا وقد انهزمت عن عدوّهم، وجعل يقول لمن يمرّ به: اقرأوا أهل بيتى السلام، وقولوا لهم لم أجد فداء أفديكم به أعزّ من نفسى، وقد بذلتها دونكم، فبينما هم كذلك لا يلوى أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان بن على من ظهور أصحاب إبراهيم، ولا يشعر باقى أصحابه الذين يتّبعون المنهزمين، حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم، فعطفوا نحوه ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، فلولا جعفر ومحمد لتمّت الهزيمة، وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم، فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة فعادوا بأجمعهم، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة، وقيل أربعمائة، فقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهم عائر «1» فوقع في حلقه فنحره، فتنحّى عن موقفه وقال: أنزلونى، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول: وكان

أمر الله قدرأ مقدورأ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه: شدّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدّوا عليهم فقاتلوهم أشد القتال، حتى أفرجوهم عن إبراهيم وخلصوا إليه وحزّوا رأسه، فأتوا «1» به عيسى بن موسى، فأراه ابن أبى الكرام الجعفرىّ، فقال: نعم هو رأسه «2» ، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى المنصور، وكان مقتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وقيل كان سبب انهزام أصحاب إبراهيم، أنّهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادى إبراهيم: ألا تتبعوا مدبرا فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنّوهم منهزمين، فعطفوا في آثارهم وكانت الهزيمة. قال: وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولا، فعزم على اتيان الرىّ، فأتاه نوبخت المنجّم فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم فلم يقبل منه، فبينما هو كذلك إذ أتاه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر فأقطع المنصور نوبخت ألفى جريب بنهر جوبر «3» ، وحمل رأس

إبراهيم إلى المنصور، فوضع بين يديه فلما رآه بكى، حتى جرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قال: أما والله إن كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بى وابتليت بك، ثم جلس مجلسا عاما وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم، ويسىء القول فيه ويذكر فيه القبيح، التماسا لرضا المنصور، والمنصور ممسك متغيّر لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهرانى، فوقف فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرط فيه من حقك، فاستقرّ لون المنصور وأقبل عليه، وقال: مرحبا أبا خالد ههنا، فعلم الناس «1» أن ذلك يرضيه، فقالوا مثل قوله. قيل ولما وضع الرأس بين يدى المنصور بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد، فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد وأمر به فجروا برجله فألقوه خارج الباب. قال: وممّا رثى به محمد بن عبد الله وأخوه إبراهيم قول عبد الله ابن مصعب بن ثابت: يا صاحبىّ دعا الملامة واعلما ... أن لست في هذا بألوم منكما وقفا بقبر ابن النبىّ فسلّما ... لا بأس أن تقفا به فتسلّما قبر تضمّن خير أهل زمانه ... حسبا وطيب سجية وتكرّما رجل نفى بالعدل جور بلاده ... وعفا عظيمات الأمور وأنعما

لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ... عنه ولم يفتح بفاحشة فما لو أعظم الحدثان شيئا قبله ... بعد النبىّ به لكنت المعظما أو كان أمتع بالسلامة قبله ... أحدا لكان قصاره أن يسلما ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ... فتصرّمت أيامه وتصرّما بطلا يخوض بنفسه غمراتها ... لا طائشا رعشا ولا مستسلما حتى مضت فيه السيوف وربما ... كانت حتوفهم السيوف وربّما أضحى بنو حسن أبيح حريمهم ... فينا وأصبح نهبهم متقسّما ونساؤهم في دورهنّ نوائح ... سجع الحمام إذا الحمام ترنّما يتوسّلون بقتلهم ويرونه ... شرفا لهم عند الامام ومغنما والله لو شهد النبىّ محمد ... صلّى الإله على النبىّ وسلّما إشراع أمّته الأسنّة لابنه ... حتى تقطر من ظباتهم دما حقا لأيقن أنّهم قد ضيّعوا ... تلك القرابة واستحلّوا المحرما هذا ما كان من أخبار محمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم رحمهما الله تعالى، ثم لم يتحرك بعدهم أحد من الطالبيين إلى أن ظهر الحسين بن على بن الحسن.

ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المقتول بفخ

ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المقتول بفخ «1» كان ظهوره بالمدينة في ذى القعدة سنة تسع وستين ومائة في خلافة الهادى موسى، وسبب ذلك أن الهادى استعمل على المدينة عمر ابن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب الشاعر الهذلى، وعمر بن سلام مولى آل عمر، على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعا، وجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فجاء الحسين بن على إلى العمرى، وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم! لأنّ أهل العراق لا يرون به بأسا، فلم تطوف بهم؟ فأمر بهم فردّوا وحبسهم؛ ثم إن الحسين ابن على هذا ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمرى من الحبس، وكان قد ضمن بعض آل أبى طالب بعضا، وكانوا يعرضون، فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين، فأحضر العمرى الحسين بن على ويحيى بن عبد الله وسألهما عنه وأغلظ لهما، فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به، أو يدقّ عليه باب داره حتى يعلم أنه جاءه به، فلمّا خرجا قال له الحسين:

سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنا؟ حلفت له بشىء لا تقدر عليه، فقال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف، فقال له الحسين: إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا من الميعاد، وكانوا قد تواعدوا على أن يظهروا بمنى أو «1» بمكة في الموسم، فقال يحيى: قد كان ذلك فانطلقا، وعملا في ذلك من ليلتهم، وخرجوا آخر الليل، وجاء يحيى حتى ضرب على العمرى باب داره فلم يجده، وجاعوا فاقتحموا المسجد بعد الصبح، فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس فبايعوه: على كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، للمرتضى من آل محمد، وجاء خالد البربرى «2» فى مائتين من الجند، وجاء العمرى ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشّروى ومعهم ناس كثير، فدنا خالد منهم فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن حسن، فضربه يحيى على أنفه فقطعه، ودار له إدريس من خلفه فضربه فصرعه ثم قتلاه، وانهزم أصحابه ودخل العمرى في المسودّة، فحمل عليهم أصحاب الحسين فهزموهم من المسجد، وانتهبوا بيت المال وكان فيه بضعة عشر ألف دينار، وقيل سبعون ألفا، وتفرّق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم، فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بنى العباس فقاتلوهم، وفشت الجراحات في الفريقين، واقتتلوا إلى الظهر ثم افترقوا، ثم إن مباركا التركى أتى شيعة بنى العباس من الغد- وكان قدم حاجا- فقاتل معهم فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار، ثم تفرّقوا ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد،

وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال، فلمّا غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فقاتلوا شيئا من قتال إلى المغرب ثم تفرّقوا، وقيل إن مباركا أرسل إلى الحسين يقول له: والله لئن أسقط من السماء فيتخطفنى الطير أيسر علىّ من أن تشوكك شوكة، أو تقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بدّ من الإعذار، فبيّتنى فإنى منهزم عنك، فوجّه إليه حسين أو خرج إليه في نفر، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبّروا، فانهزم هو وأصحابه، وأقام الحسين وأصحابه أياما يتجهّزون، فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرجوا لست بقين من ذى القعدة، فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه الطعام الذى كانوا يأكلون وآثارهم، فدعوا عليهم. ولما فارق الحسين المدينة قال: يا أهل المدينة، لا خلف الله عليكم بخير، فقالوا: بل أنت، لا خلف الله عليك بخير، ولا ردّك إلينا، وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فغسله أهل المدينة. قال: ولما أتى الحسين مكة فنودى: أيما عبد أتانا فهو حرّ، فأتاه العبيد، فانتهى الخبر إلى الهادى؛ وكان قد حجّ تلك السنة رجال من أهل بيته، منهم سليمان بن المنصور، ومحمد بن سليمان بن على، والعباس ابن محمد بن على، وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى، فكتب الهادى إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب، وكان قد سار من البصرة بجماعة وسلاح لخوف الطريق، فاجتمعوا بذى طوى، وكانوا قد أحرموا بعمرة، فلما قدموا مكة طافوا وسعوا وحلّوا من العمرة، وعسكروا بذى طوى وانضمّ إليهم من حجّ من شيعتهم ومواليهم وقوّادهم، والتقوا واقتتلوا يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين،

وقتل منهم وجرح، وانصرف «1» محمد بن سلمان ومن معه إلى مكة، ولا يعلمون حال الحسين «2» ، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول: البشرى، البشرى؛ هذا رأس الحسين فأخرجه وبجبهته ضربة طولا، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا الأمان، فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن محمد، فأخذه موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فقتلاه، فغضب محمد بن سليمان غضبا شديدا، وأخذ رؤوس القتلى فكانت مائة رأس ونيّفا، وفيها رأس سليمان بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن على، وأخذت «3» أخت الحسين فتركت عند زينب بنت سليمان، واختلط المنهزمون بالحاج، وأتى الهادى بستة أسرى، فقتل بعضهم واستبقى بعضهم، وغضب على موسى ابن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد، وقبض أمواله فلم تزل بيده حتى مات، وغضب على مبارك التركى، وأخذ ماله وجعله سائس الدوابّ، فبقى كذلك حتى مات الهادى، وأفلت من المنهزمين إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على «4» ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح، مولى صالح بن المنصور، وكان شيعيا فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر، فضرب الهادى عنق واضح وصلبه، وقيل إن

الرشيد هو الذى قتله، وأن الرشيد دسّ إلى إدريس الشمّاخ اليمامىّ، مولى المهدى، فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم وعظمه وآثره على نفسه، فمال إليه إدريس وأنزله عنده، ثم إن إدريس شكا إليه مرضا في أسنانه، فوصف له دواء وجعل فيه سما، وأمره أن يستن «1» به عند طلوع الفجر فأخذه منه، وهرب الشمّاخ ثم استعمل إدريس الدواء فمات منه، فولى الرشيد الشمّاخ بريد مصر. قال: ولما مات إدريس ابن عبد الله خلف مكانه ابنه إدريس بن إدريس، وأعقب بها وملكوها، ونازعوا بنى أميّة في إمارة الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك في أخبار الأندلس فلا فائدة في إعادته. قال: وحملت الرؤوس إلى الهادى، فلمّا وضع رأس الحسين بين يديه قال: كأنّكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت!! إنّ أقلّ ما أجزيكم أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئا. قال: وكان الحسين شجاعا كريما، قدم على المهدى فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرّقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه، إلا وبرا «2» ليس تحته قميص، وهذا غاية في الجود ونهاية في الكرم والإيثار، رحمه الله تعالى وغفر له.

ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب

ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بن الحسن «1» ابن الحسن بن على بن أبى طالب كان ظهوره في خلافة الرشيد بن المهدى في سنة ست وسبعين ومائة ببلاد الديلم، واشتدت شوكته وكثرت جموعه، وأتاه الناس من الأمصار، فاغتمّ الرشيد لذلك، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكى في خمسين ألفا، وولاه جرجان «2» وطبرستان والرى وغيرها وحمل معه الأموال، فكاتب يحيى بن عبد الله ولطف به وحذره، وأشار عليه وبسط أمله، ونزل الفضل بالطالقان «3» ، بمكان يقال له أشب، ووالى كتبه إلى يحيى، وكاتب صاحب الديلم وبذل له ألف ألف درهم، على أن يسهّل له خروج يحيى بن عبد الله، فأجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه، يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بنى هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن على، فأجابه الرشيد إلى ذلك، وسرّ به وعظمت منزلة الفضل عنده، وسيّر الأمان مع هدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحبّ وأمر له بمال كثير، ثم حبسه الرشيد بعد ذلك فمات في

حبسه؛ وكان الرشيد قد عرض كتاب أمان يحيى على محمد بن الحسن الفقيه وعلى أبى البخترى القاضى، فقال محمد: الأمان صحيح، فحاجّه الرشيد، فقال محمد: وما يصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولّى كان آمنا، وقال أبو البخترى: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد، وقد ذكرنا خبر يحيى في حبسه فيما تقدّم من كتابنا هذا، عند ذكرنا لأخبار القبض على البرامكة في أيام الرشيد، وأن الرشيد كان قد حبسه عند جعفر، فأطلقه جعفر بغير أمر الرشيد، وقيل بل أخبره بوفاته، ثم نقله إلى خراسان وأودعه عند أميرها على ابن عيسى بن ماهان، وأوصاه به أن يكون عنده موسعا عليه واستكتمه أمره، فكتب علىّ بذلك إلى الرشيد، فكان ذلك سبب زوال نعمة البرامكة، وقد تقدّم ذكر هذه القصّة هناك مبسوطة، ولا فائدة في تكرار ذلك واعادته، فلنذكر خلافه من أخبار من ظهر من الطالبيين.

ذكر ظهور محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم ابن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المعروف بابن طباطبا

ذكر ظهور محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم ابن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنه وهو المعروف بابن طباطبا كان ظهوره بالكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين ومائة، فى خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون، وخرج يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل بكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان القيمّ بأمره في الحرب أبو السرايا السرى بن منصور، وهو من ولد هانىء بن قبيصة ابن هانىء بن مسعود الشيبانى، فلما اشتد أمر محمد أراد أن يستقل بالأمر دون أبى السرايا، فسقاه أبو السرايا سما فمات، فى مسهّل شهر رجب من السنة المذكورة، وقد ذكرنا خبره مبيّنا في أخبار المأمون ابن الرشيد. ولما مات محمد بن إبراهيم نصب أبو السرايا مكانه غلاما أمرد يقال له: محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على «2» وصار الحكم لأبى السرايا، واستعمل العمّال على البصرة والأهواز وفارس ومكة واليمن، وانتشر الطالبيون في البلاد وقوى أمرهم، إلى أن قتل أبو السرايا وذلك في المحرم سنة مائتين، فاستعيدت البلاد من الطالبيين على ما قدّمناه في أخبار أبى السرايا في خلافة المأمون.

ذكر ظهور ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ابن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وما كان من أمره

ذكر ظهور ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ابن على بن الحسين «1» بن على بن أبى طالب وما كان من أمره كان ظهوره بمكة في سنة مائتين في خلافة المأمون، وكان أبو السرايا قد ولاه اليمن، فأتاه الخبر بمقتل أبى السرايا وهو بمكة، فسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى بن عيسى عاملا للمأمون، فلمّا بلغه قرب إبراهيم من صنعاء سار نحو مكة، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار لكثرة من قتل باليمن، وسبى وأخذ الأموال، ولم يتمّ أمره ولا أمر غيره ممّن كان أبو السرايا استعملهم، وقد «2» ذكرنا خبر الحسين بن الحسن الأفطس ومحمد بن جعفر وما كان من أمرهما بمكة في أخبار المأمون، ولا فائدة في اعادته «3» ، وقد ذكرنا أيضا خبر محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وخروجه بالطالقان، وما كان من أمره في أخبار المعتصم بالله بن الرشيد في سنة تسع عشرة ومائتين.

ذكر ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين ابن زيد بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب وهو المكنى بأبى الحسين

ذكر ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين «1» ابن زيد بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب وهو المكنى بأبى الحسين وكان ظهوره بالكوفة في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وسبب ظهوره أنه نالته ضائقة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقى عمر بن فرج وهو يتولى أمر الطالبيين، فكلمه في صلته فأغلظ له عمر، وحبسه فلم يزل محبوسا حتى كفله أهله، فأطلق وسار إلى بغداد، فأقام بها سنة ثم رجع إلى سامرّا، فلقى وصيفا فكلمه في رزق يجريه له، فأغلظ له وصيف وقال: لأى «2» شىء يجرى على مثلك؟ فانصرف إلى الكوفة وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان الهاشمى، عامل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع أبو الحسين جمعا كثيرا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة، وأتى الفلّوجة فكتب صاحب البريد بخبره إلى محمد بن عبد الله، فكتب محمد بن عبد الله إلى أيوب «3» وعبد الله بن محمود السرخسى، عامله على معاون السواد، يأمرهما بالاجتماع على حرب يحيى. قال: ومضى يحيى بن عمر إلى بيت مال الكوفة فأخذ ما كان فيه، وهو ألفا دينار وسبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج من فيها،

وأخرج العمّال عن الكوفة، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسى فيمن معه، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه بها، فانهزم عبد الله، وأخذ أصحاب يحيى ما كان معهم من الدوابّ والمال، وخرج يحيى إلى سواد الكوفة، وتبعه جماعة من الزيدية وغيرهم إلى ظهر واسط، وأقام بالبستان فكثر جمعه، فوجّه محمد بن عبد الله إلى محاربته الحسين «1» بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في جمع من أهل النجدة والقوّة، فسار إليه ونزل في مقابلته ولم يقدم عليه، وسار يحيى والحسين فى أثره حتى نزل الكوفة، ولقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس قبل دخولها، فقاتلة فانهزم عبد الرحمن إلى ناحية شاهى فوافاه الحسين بها، واجتمعت الزيدية إلى يحيى بن عمر، ودعا بالكوفة إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناس إليه، وتولاه العامّة من أهل بغداد، ولا يعلم أنّهم تولوا أحدا من أهل بيته سواه، وبايعه جماعة من أهل الكوفة ممّن له تدبير وبصيرة في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم، وأقام الحسين بشاهى فأراح واستراح، واتصلت به الأمداد، ويحيى بالكوفة يعدّ الرجال ويصلح السلاح، فأشار عليه جماعة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب بمعاجله الحسين بن إسماعيل، وألحّوا عليه فزحف إليه في ليلة الإثنين لثلاث عشره ليلة خلت من شهر رجب من السنة، ومعهم الهيضم العجلى وغيره، ورجاله من أهل الكوفة ليس لهم علم بالحرب

ولا شجاعة، وأسروا ليلتهم وصبّحوا حسينا وهو مستريح، فثاروا بهم فى الغلس، فركب أصحاب الحسين وحملوا عليهم فانهزموا، ووضعوا فيهم السيف وأسروا منهم، فكان أوّل من أسر الهيضم العجلى، وانكشف العسكر عن يحيى وعليه جوشن، وقد تقطر «1» به فرسه، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير «2» ، فلم يعرفه وظنه من أهل خراسان لما رأى عليه الجوشن، فأمر رجلا فنزل إليه وأخذ رأسه، فعرفه رجل وسيّر الرأس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وادعى قتله غير واحد، فبعث محمد الرأس إلى المستعين، فنصب بسامرّا ثم حط وسيّر إلى بغداد لينصب بها، فلم يقدر محمد بن طاهر على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس، فلم ينصبه وخاف أن يأخذوه، فجعله في صندوق في بيت السلاح، ووجّه الحسين بن إسماعيل رؤوس من قتل ومن أسر إلى بغداد فحبسوا بها، وكتب محمد بن عبد الله فيهم فأمر بتخليتهم ودفن الرؤوس. قال: ولما ورد الخير بقتل يحيى على محمد بن عبد الله جلس ليهنأ بذلك، فدخل عليه داود بن الهيثم الجعفرى فقال: أيها الأمير، إنّك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا لعزى به، فما ردّ محمد عليه شيئا، وأكثر الشعراء المراثى في يحيى، لما كان عليه من حسن السيرة والديانة، فمن ذلك قول بعضهم: بكت الخيل شجوها بعد يحيى ... وبكاه المهند المصقول

ذكر ظهور الحسين بن محمد

وبكته العراق شرقا وغربا ... وبكاه الكتاب والتنزيل والمصلّى والبيت والركن والحج ... ر جميعا له عليه عويل كيف لم تسقط السماء علينا ... يوم قالوا أبو الحسين قتيل وبنات النبىّ يندبن شجوا ... موجعات دموعهن همول قطّعت وجهه سيوف الأعادى ... بأبى وجهه الوسيم الجميل إنّ يحيى أبقى بقلبى غليلا ... سوف يودى بالجسم ذاك الغليل قتله مذكر لقتل على ... وحسين ويوم أو ذى الرسول صلوات الإله «1» وقفا عليهم ... ما بكى موجّع وحن ثكول ذكر ظهور الحسين بن محمد وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين في زمن الخلف الذى وقع بين المستعين والمعتز، ظهر بالكوفة رجل من الطالبيين، اسمه الحسين ابن محمد «2» بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب، واستخلف بها محمد بن جعفر العلوى، فوجّه إليه المستعين مزاحم بن خاقان، وكان العلوىّ بسواد الكوفة في جماعة من بنى أسد ومن الزيدية، وأجلى عنها عامل الخليفة، وهو أحمد بن نصر «3» بن حمزة بن مالك الخزاعى إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع

ذكر خبر اسماعيل بن يوسف بن ابراهيم ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على

وهشام بن أبى دلف العجلى فسارا إلى الكوفة، فحمل أهل الكوفة العلوية على قتالهما ووعدوهم النصرة، فقاتلهم مزاحم وكان قد سيّر قائدا مع جماعة، فأتى الكوفة من الجهة الأخرى، فأطبقوا عليهم فلم يفلت منهم أحد، ودخل الكوفة فرماه أهلها بالحجارة فأحرقها بالنار، وأحرق منها سبعة أسواق حتى خرجت النار إلى السبيع، ثم هجم على الدار التى فيها العلوى، فهرب وأقام مزاحم بالكوفة. ذكر خبر اسماعيل بن يوسف بن ابراهيم ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على كان ظهوره بمكة في سنة إحدى وخمسين ومائتين، ولما ظهر هرب عاملها، وانتهب إسماعيل داره ومنازل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة وغير ذلك، وأخذ كسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتى ألف دينار، وخرج منها بعد أن نهبها وأحرق بعضها في شهر ربيع الأوّل، بعد أن أقام بها خمسين يوما، وصار إلى المدينة فتوارى عاملها، ثم رجع إلى مكة في شهر رجب، فحصرهم حتى غلت الأسعار، ولقى أهل مكة منه كل بلاء، ثم سار إلى جدّة بعد مقامه سبعة وخمسين يوما، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، ثم وافى عرفة وبها محمد بن عيسى «1» الملقب كعب البقر، وعيسى بن

ذكر ظهور على بن زيد العلوى بالكوفة وخروجه عنها

محمد المخزومى كان المعتز قد وجّههما إليها، فقاتلهما إسماعيل، وقتل من الحاج نحو ألف ومائة انسان، وسلب الناس فهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدّة فجبى «1» أموالها. ذكر ظهور على بن زيد العلوى بالكوفة وخروجه عنها كان ظهوره في سنة ست وخمسين ومائتين واستولى على الكوفة، وأزال عنها نائب الخليفة المعتمد على الله واستقرّ بها، فسيّر إليه المعتمد الشاه بن ميكال في جيش كثيف، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت جيوش المعتمد، وقتل جماعة منهم، فسيّر لمحاربته كنجور «2» التركى، وأمره «3» أن يدعوه إلى الطاعة ويبذل له الأمان، ففعل ذلك فطلب علىّ أمورا لم؟؟؟ نجبه كنجور «4» إليها، فخرج علىّ عن الكوفة إلى القادسية فعسكر بها، ودخل كنجور الكوفة في ثالث شوال من السنة، ومضى على بن زيد إلى خفّان، ثم دخل البرّ إلى بلاد بنى أسد وكان قد صاهرهم، فأقام هناك ثم فارقهم وصار إلى جهة «5» ، فبلغ كنجور خبره فسار إليه من الكوفة في سلخ ذى الحجة، فواقعة فانهزم علىّ وقتل نفر من أصحابه، ولم يزل علىّ بن زيد إلى سنة ستين فقتله صاحب الزنج. فلنذكر أخبار دولتهم بطبرستان.

ذكر أخبار الدولة العلويه بطبرستان الداعى إلى الحق الحسن بن زيد

ذكر أخبار الدولة العلويه بطبرستان الداعى الى الحق الحسن بن زيد كان ظهور هذه الدولة في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وأول من ظهر منهم الداعى إلى الحق: الحسن بن زيد بن محمد ابن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنهما، وكان سبب ظهوره أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر لما ظفر بيحيى بن عمر أقطعه المستعين بالله من صوافى السلطان بطبرستان، قطائع منها قطيعة بقرب ثغر الديلم، وهى كلار وسالوس؛ وكان بجوارها أرض يحتطب منها أهل تلك الناحية، وترعى فيها مواشيهم ليس لأحد عليها ملك، إنما هى موتان، وهى ذات عيون وأشجار وكلأ، فوجّه محمد بن عبد الله نائبه لحيازة ما أقطع، وهو جابر بن هارون النصرانى، وكان عامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله بن طاهر، خليفة عن محمد بن طاهر، وكان الغالب على أمر سليمان، محمد بن أوس البلخى، وقد فرّق محمد بن أوس هذا أولاده فى مدن طبرستان، وهم أحداث سفهاء فتأذى بهم الرعيّة، وشكوا سوء سيرتهم وسيرة أبيهم وسيرة سليمان، ثم دخل محمد بن أوس بلاد الديلم، وهم مسالمون لأهل طبرستان، فسبى منهم وقتل، وساء ذلك أهل طبرستان، ولما قدم جابر بن هارون لحيازة ما أقطع لمحمد

ابن عبد الله عدا على تلك الأرض المباحة، فحازها إلى كلاروسالوس، وكان في تلك الناحية أخوان لهما بأس ونجدة، مذكوران ببذل الطعام وشدة الطعان، يقال لأحدهما محمد والآخر جعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات، وكانا مطاعين «1» فى تلك الناحية، فاستنهضا من أطاعهما لمنع جابر من حيازة ذلك الموات، فخافهما جابر وهرب منهما ولحق بسليمان بن عبد الله، وخاف محمد وجعفر ومن معهما من عامل طبرستان، فراسلوا من جاورهم من الديلم يذكرونهم العهد الذى بينهم ويعتذرون ممّا فعله محمد بن أوس بهم من السبى والقتل، واتفقوا على المعاونة على حرب سليمان بن عبد الله وغيره، ثم أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيين- اسمه محمد بن إبراهيم- كان بطبرستان، يدعونه إلى البيعة له فامتنع من ذلك، وقال: ولكنّى أدلّكم على رجل منّا، هو أقوم بهذا الأمر منى، فدلّهم على الحسن بن زيد وهو إذ ذاك بالرىّ، فوجّهوا إليه برسالة محمد بن إبراهيم يدعونه إلى طبرستان، فشخص إليها وقد اجتمعت كلمة الديلم وأهل كلاروسالوس على بيعته، فبايعوه وطردوا عمّال ابن أوس عنهم، فلحقوا بسليمان. وانضم إلى الحسن بن زيد أيضا أهل جبال طبرستان، فتقدم الحسن ومن معه نحو مدينة آمل طبرستان. وهى أقرب المدن إليهم. وأقبل ابن أوس من سارية لدفعهم عنها. والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. فتوجه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمل فدخلها، فلما سمع ابن أوس

الخبر- وهو مشغول بحرب أصحاب الحسن- لم تكن له همّة إلا النجاة بنفسه، فهرب ولحق بسليمان إلى سارية، واستولى الحسن على آمل، وكثر جمعه وأتاه كل طالب نهب وفتنة. فأقام بآمل أياما ثم سار نحو سارية لحرب سليمان بن عبد الله، فالتقوا خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فسار بعض قوّاد الحسن نحو سارية فدخلها، فلما سمع سليمان الخبر انهزم هو ومن معه، وترك أهله وعياله وأثقاله بها، واستولى الحسن وأصحابه على جميع ذلك، وسيّر إليه أولاده وأهله في مركب إلى جرجان، وقيل إنّ سليمان إنّما انهزم اختيارا، لأن الطاهريّة كلها كانت تتشبع، فلما أقبل الحسن نحو طبرستان تأثم «1» سليمان من قتاله لشدة تشيعه، وقال: نبّئت خيل ابن زيد أقبلت حينا ... تريدنا لتحسّينا الأمرّينا يا قوم إن كانت الأنباء صادقة ... فالويل لى ولجمع الطاهريّينا أما أنا فإذا اصطفت كتائبهم ... أكون من بينهم رأس الموّلينا والعذر عند رسول الله منبسط ... إذا احتسبت دماء الفاطمّييينا فلما التقوا انهزم سليمان، قال «2» : ولما اجتمعت طبرستان للحسن بن زيد وجّه إلى الرىّ جندا مع رجل من أهله، يقال له الحسن بن زيد أيضا، فملكها وطرد عامل الطاهرية عنها، واستخلف بها رجلا من العلويين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها. قال: وورد خبر الحسن على المستعين بالله، ومدبّر أمره يومئذ

ثم ظهر بالرى في سنة خمسين ومائتين أيضا

وصيف، وكاتبه أحمد بن صالح، فوجّه إسماعيل بن فراشة في جند إلى همذان، وأمره بالمقام بها ليمنع خيل الحسن بن زيد عنها، وما عدا همذان فأمره إلى محمد بن طاهر. قال: ولما استقرّ محمد بن جعفر الطالبى بالرىّ، ظهر منه أمور كرهها أهل الرىّ، ووجّه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر قائدا يقال له ابن ميكال، فى جمع من الجند إلى الرىّ، فالتقى هو ومحمد ابن جعفر الطالبى خارج الرىّ، فأسر محمد وانهزم جيشه، ودخل ابن ميكال إلى الرىّ وأقام بها، فوجّه إليه الحسن بن زيد عسكرا، مع قائد من قوّاده يقال له واجن، فالتقوا واقتتلوا فانهزم ابن ميكال واعتصم بالرىّ، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الرىّ في يد أصحاب الحسن بن زيد. ثم ظهر بالرى في سنة خمسين ومائتين أيضا أحمد بن عيسى بن على بن حسين (الصغير) بن على بن حسين ابن «1» على بن أبى طالب رضى الله عنه، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على «2» [بن أبى طالب] ، فصلى أحمد بن عيسى بأهل الرىّ صلاة العيد، ودعا إلى الرضا من آل محمد، فحاربه محمد بن على بن طاهر، فانهزم ابن طاهر وصار إلى قزوين.

وفي سنة احدى وخمسين ومائتين

ثم مسك أحمد في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وسيّر إلى نيسابور، وكان الذى ظفر به عبد الله بن عزيز. وفي سنة احدى وخمسين ومائتين رجع سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى طبرستان بجمع كثير، ففارقها الحسن بن زيد ولحق بالديلم، ودخلها سليمان وقصد سارية، وأتاه أهل آمل وغيرهم، منيبين مظهرين الندم يسألون الصفح، فلقيهم بما أرادوا، ونهى أصحابه عن القتل والنهب، ثم فارقها سليمان وعاد الحسن بن زيد إليها، فسار مفلح إليه من قبل موسى بن بغا في سنة خمس وخمسين ومائتين، وحاربه فانهزم الحسن ولحق بالديلم، ودخل مفلح آمل وأحرق منازل الحسن، وسار إلى الديلم في طلبه، ثم كتب إليه موسى بن بغا بالقدوم عليه إلى الرىّ، فسار إليه ثم سار إلى سامرّا. ذكر ملك الحسن بن زيد جرجان وفي سنة سبع وخمسين ومائتين قصد الحسن جرجان واستولى عليها، وكان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان- لما بلغه عزم الحسن على قصد جرجان- جهّز العساكر، وأخرج عليها الأموال الكثيرة، وسيّرها لحفظ جرجان، فلم يقوموا بحرب الحسن، وظفر بهم وملك البلد وقتل كثيرا من العساكر، وغنم هو وأصحابه ما معهم، فضعف حينئذ محمد بن طاهر، وانتقض عليه كثير من الأعمال التى يجبى خراجها إليه، ولم يبق في يده إلا بعض خراسان، وأكثرها بيد المتغلبين كيعقوب بن الليث الصفّار وغيره.

وفي سنة تسع وخمسين ومائتين

وفيها فارق عبد العزيز بن أبى دلف الرىّ من غير سبب يعلم وأخلاها، فأرسل الحسن بن زيد القاسم بن على بن القاسم العلوى، فغلب عليها فأساء السيرة في أهلها، وخلع أبواب المدينة- وكانت من حديد- وسيّرها إلى الحسن، وبقى كذلك نحو سنتين «1» . وفي سنة تسع وخمسين ومائتين غلب الحسن بن زيد على قومس، ودخلها أصحابه، وفي سنة ستين ومائتين دخل يعقوب بن الليث الصفار طبرستان، وانهزم الحسن إلى أرض الديلم على ما نذكره في أخبار الدولة الصفارية. ذكر وفاة الحسن بن زيد وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب سنه سبعين ومائتين، فكانت مدة ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام- وقيل- واثنى عشر يوما، وكان مهيبا عظيم الخلق. حكى صاحب كنوز المطالب في بنى أبى طالب «2» عن الصولى: أن الحسن عطس يوما عطسة، وكان رجل يؤذن في المنارة ففزع فسقط منها إلى الأرض فمات. قال: وكان أقوى البغال لا تحمله أكثر من فرسخين، وكان في آخر عمره يشق بطنه ويخرج منه الشحم ثم يخاط. وكان جوادا ممدوحا، امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفيه يقول محمد بن إبراهيم الجرجانى وقد افتصد:

إنّما غيّب الطبيب شبا «1» ال ... مبضع عندى في مهجة الإسلام سرّت الأرض حين صبّ عليها ... دم خير الورى وأعلى الأنام وكان متواضعا لله عزّ وجلّ. حكى عنه أنه مدحه شاعر فقال الله فرد وابن زيد فرد، فردّ فقال: بفيك الكثكث يا كذّاب!! لم لا قلت: الله فرد وابن زيد عبد، ثم نزل عن مكانه وخرّ ساجد الله تعالى، وألصق خدّه بالتراب وحرم ذلك الشاعر. وكان عالما بالشعر «2» والعربية. فمدحه شاعر فقال: لا تقل بشرى ولكن «3» بشريان ... غرّة الداعى ويوم المهرجان فقال: كان الواجب أن تفتح الأبيات بغير لا، لأن الشاعر المجيد يتخيّر لأول القصيدة، ما يعجب السامع ويتبرّك به، ولو ابتدأت بالمصراع الثانى لكان أحسن، فقال الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجلّ من لا إله إلا الله وأوّلها لا، فقال له الحسن: أصبت، وأجازه. وأهدى إليه أبو العمر الطبرى سهمين في بعض الأعياد عليهما مكتوب: أهديت للداعى إلى الحق ... سهمى فتوح الغرب والشرق زجّاهما «4» النصر وريشاهما ... ريشا جناحى طائر المسبق أيّد هذا للفال بالصدق ... هما بشيرا دعوة الحق «5»

ذكر أخبار محمد بن زيد

فسرّه الفأل، وأعطاه عشرة آلاف درهم. وحكى عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب، التى أوّلها: وأنا الأخضر من يعرفنى ... أخضر الجلدة من بيت العرب فلما وصل إلى قوله: برسول الله وابنى عمّه ... وبعبّاس بن عبد المطّلب غيّر البيت فقال: لا بعبّاس بن عبد المطّلب، فغضب الحسن وقال: يا ابن اللخناء، أتهجو بنى عمّنا بين أيدينا، وتغيّر ما مدحوا به؟!، إن فعلتها مرة ثانية لأجعلنّها آخر غنائك. وكان الحسن شاعرا فمن شعره: لم نمنع الدنيا لفضل بها ... ولا لأنّا لم نكن أهلها لكن لنعطى الفوز في جنّة ... ما إن رأى ذو بصر مثلها هاجرها خير الورى جدّنا ... فكيف نرجو بعده وصلها وله أشعار مستحسنة تركناها اختصارا، وكان كاتبه سعيد بن محمد الطبرى. قال: ولما مات قام بالأمر بعده أخوه محمد بن زيد. ذكر أخبار محمد بن زيد لما مات الحسن كان أخوه هذا بجرجان، وكان في مرضه قد أمر صهره محمد بن إبراهيم العلوى- أن يكتب إلى أخيه محمد بن زيد ليسارع بالحضور، فينتصب في المملكة، فتباطأ، فلما توفى الحسن انتصب محمد ابن إبراهيم مكانه، وتلقّب بالقائم بالحق، فبلغ الخبر محمد بن

زيد فسار من جرجان، فلمّا قرب هرب محمد بن إبراهيم إلى سالوس، فأنفد في أثره سريّة فأدرك وقتل، ولبس محمد بن زيد القلنسوة وتلقّب بالداعى. واستقامت له طبرستان وذلك في بقية رجب سنة سبعين ومائتين، ووصل إلى الرى في جموع كثيرة، فلما كان في سنة إثنتين وسبعين ومائتين فى جمادى الأولى، سار اذكوتكين- صاحب الرى- من قزوين إلى الرى، ومعه أربعة آلاف فارس، وكان مع محمد بن زيد من الديلم والطبرية والخراسانية عالم كثير، فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر محمد وتفرّقوا، وقتل منهم ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم اذكوتكين من أموالهم وأثقالهم ودوابّهم ما لم ير مثله. قال «1» : وجلس اذكوتكين بالمصلّى، ليضرب أعناق الأسرى بين يديه، فمن عجيب ما اتفق أنّ ديلميا قدّم ليضرب عنقه، فوثب على السيّاف واستلب السيف من يده، وعلاه به فقتله ومرّ هاربا فلم يلحق، واذكوتكين ينظر إليه ويضحك؛ ودخل «2» اذكوتكين الرىّ وأقام بها، وأخذ من أهلها مائة ألف دينار، وفرّق عمّاله على أعمال الرى.

وفي سنة خمس وسبعين ومائتين

وفي سنة خمس وسبعين ومائتين استولى رافع بن هرثمة- أمير خراسان- على جرجان، وأزال عنها محمد بن زيد، فسار محمد إلى استراباد فحصره بها رافع نحو سنتين، فغلت الأسعار بحيث إنّه عدم المأكل، وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة «1» ، ففارقها محمد ليلا في نفر يسير، فبعث رافع إليه عسكرا فتحاربا، وسار محمد عن سارية وطبرستان في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين. ثم سار إلى الديلم فدخل رافع خلفه، فوصل إلى حدود قزوين، وعاد إلى الرىّ وأقام إلى سنة تسع «2» وسبعين، حتى توفى المعتمد على الله، ودام محمد إلى أن قتل، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر مقتل محمد بن زيد وشىء من أخباره

ذكر مقتل محمد بن زيد وشىء من أخباره كان مقتله سنة ثمان وثمانين ومائتين «1» ، وكان سبب قتله أنه اتّصل به أنّ إسماعيل بن أحمد السامانى- صاحب ما وراء النهر- أسر عمرو بن الليث الصفار- أمير خراسان- فخرج من طبرستان ظنا منه أن إسماعيل السامانى لا يتجاوز عمله ولا يقصد خراسان، وأنّه «2» لا دافع له عن ملك خراسان، فلما انتهى إلى جرجان أرسل إليه إسماعيل- وقد استولى على خراسان- يقول له: ألّا يتجاوز عمله، ولا يقصد خراسان «3» وترك جرجان له، فأبى محمد ذلك، فندب إسماعيل محمد بن هارون؛ فكان محمد هذا يخلف رافع بن هرثمة أيام ولايته خراسان، فجمع محمد جمعا كثيرا من فارس وراجل، وسار نحو محمد بن زيد فالتقوا على باب جرجان، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم محمد بن هارون أولا، ثم رجع وقد تفرّقت عساكر محمد بن زيد في الطلب، فلما رأوه قد رجع ولّوا هاربين، وقتل منهم خلق كثير، وأصاب محمد بن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد وغنم ابن هارون معسكره وما فيه، ثم مات محمد بن زيد بعد أيام من الجراحات التى أصابته، فدفن على باب جرجان. وقيل: كانت الوقعة التى جرح فيها يوم الجمعة لخمس ليال

خلون من شوال سنة سبع وثمانين، ومات بعد ذلك بيوم، وكانت مدة قيامه- بعد وفاة أخيه- نحوا من ثمانية عشر سنة. وكان أديبا شاعرا فاضلا حسن السيرة، قال أبو عمرو الاستراباذى: كنت أورد على محمد بن زيد أخبار العباسيين، فقلت له: إنّهم قد لقّبوا أنفسهم، فإذا ذكرتهم عندك أسميهم أو ألقبهم؟ فقال: الأمر موسع عليك، سمّهم ولقّبهم بأحسن ألقابهم واسمائهم وأحبّها إليهم. قال: وحمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد السامانى- لمّا أسر- فأكرمه، وكتب إليه المكتفى كتابا في حمله إليه فدافع عنه، وهو القائل: ولقد تقول عصابة ملعونة ... غوغاء ما خلقت لغير جهنّم من لم يسبّ بنى النبى محمد ... ويرى قتالهم فليس بمسلم عجبا لأمّة جدّنا يجفوننا ... وتجيرنا منهم رجال الديلم ولم يزل عند آل سامان مكرّما إلى أن مات في سنة أربع عشرة وثلاثمائة. ولمّا مات محمد بن زيد وأسر ابنه زيد «1» بن محمد، قام بالأمر ابن ابنه المهدى أبو محمد الحسن بن زيد بن محمد بن زيد، وخطب له ببلاد الديلم، وكانت له خطوب وحروب لم نر من دوّن فيها شيئا فنورده، ولا وقفنا على تاريخ وفاته.

ذكر أخبار الناصر للحق

قالوا: ثم كانت بين الحسنيين والحسينيين حروب على الإمارة بطبرستان والديلم، إلى أن استقرت الإمارة في بنى الحسين، وأول من قام منهم: الحسن بن على الأطروش. ذكر أخبار الناصر للحق هو الحسن بن على بن الحسن بن على بن عمر بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنه ويعرف بالأطروش، كان استيلاؤه على طبرستان في سنة إحدى وثلاثمائة، وذلك أنه لما قتل محمد ابن زيد استعمل إسماعيل بن أحمد السامانى محمد بن هارون على طبرستان، وأمره بقتل من وجد من العلويّة فهربوا في البلاد، وكان الحسن بن علىّ هذا شيخا من شيوخ الزيدية، شديد الصحبة لمحمد ابن زيد، وكان قد دخل خراسان سرا ليدعو الناس إليه، فجرت عليه مكاره وحبس، ثم هرب من السجن وعاد إلى محمد بن زيد،

وشهد معه الحرب الذى قتل فيها؛ وكان سبب صممه أنّه ضرب في حرب مع محمد بن زيد بسيف على رأسه فطرش. فلما وقع عليه الطلب وعلى أمثاله هرب، ودخل إلى بلاد الديلم، وأقام عند ملكهم جستان بن وهسوزان بن المرزبان «1» فأكرمه، وأنزله فأخذ في دعاء الديلم إلى الإسلام، فأسلم جمهورهم، وجعل يتنقّل على قراهم ويدعو، ثم دخل إلى بلاد الجيل، ودعاهم فأسلم «2» أكثرهم، ووقعت دعوته على حدّ النهر باسباذروذ «3» ، فاجتمع أهل دعونه عليه، وعاد من بلاد الجيل فيمن جمع، فلما دخل بلاد الديلم وجد جستان على خلاف ما فارقه عليه، لأنّه فارقه على أنّه معلم، يدعو الناس لا طالب مملكة، فمنعه جستان من الأعشار والصدقات، فوقع بينهما حرب كانت الهزيمة فيها على جستان، ثم ألجأه الأمر إلى مسالمة الناصر والدخول في طاعته. وأقام الناصر في هرسم «4» قاعدة مملكة الديلم، واتفق أنّ محمد

ابن هارون السرخسى- نائب إسماعيل بن أحمد على طبرستان- تخوّف منه، فهرب واستأمن إلى الحسن، وتسلّم طبرستان وجرجان محمد ابن «1» على المعروف بصعلوك السامانى وكان في عسكر كثيف، واتصل السرخسى بالناصر في عسكر قوى فاستظهر به، واجتمعا على لقاء صعلوك، فاحتال عليهما صعلوك، حتى افترقا بحيلة غريبة، فلما افترقا مضى السرخسى إلى نواحى الرىّ، ورجع الناصر إلى بلاد الديلم، ولم يتمّ له أمر، ثم أنفذ كرّة ثانية جيشا مع كالى والحسن بن الفيرزان، فهزمهما صعلوك وقتلا في الوقعة، ثم خرج الناصر بنفسه إلى سالوس، وسار إليه صعلوك ومعه اصفهبد شهريار «2» من الخراسانية، فالتقوا وكان مع الناصر كما ذكر المكثّر عشرة آلاف رجل من الديلم والجيل، وأكثرهم رجّالة ليس معهم من الخيل والأسلحة إلا القليل، وعدّة الخراسانية نيّف وثلاثون ألف رجل على غاية القوّة والمنعة، فهزمهم الناصر وقتل منهم مقتلة عظيمة، وألجأهم إلى بحر طبرستان، فكان من غرق أمثال من قتل، قال الصابى في الكتاب التاجى: يقال إنّ المفقودين كانوا نيّفا على عشرين ألفا، وقال حمزة بن الحسن الأصفهانى: كانوا سبعة آلاف «3» رجل، وكانت الوقعة في سنة ثلاثمائة، ودخل الناصر مدينة آمل في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة.

ولما دخل طبرستان وملكها فوّض أمر الجيش إلى الحسن بن القاسم العلوى، فاستبدّ بالأمر واصطنع الرجال ووسّع عليهم في العطاء، وقبض على الناصر وحبسه، فاستكبر الديلم هذا الفعل، وحضروا إلى القاسم العلوى وطالبوه بإخراجه إليهم، ووثب إليه ليلى بن النعمان وأخوه- وهما من أكبر القوّاد- وقالا له: إن أفرجت عنه الساعة وإلا قتلناك، فأخرجه لهم وهرب إلى بلاد الجيل، فأطاعوه فتلقّب بالداعى، فتكلّم الناس عند الناصر في أن يردّه ويولّيه جيشه وعهده، وكان الناصر قد ولّى ليلى بن النعمان الجيش، فأجاب وعاد الحسن بن القاسم فوفّى له الناصر بذلك، وزوّجه بإبنة ولده على بن الناصر «1» ، واستمرت الحال على ذلك إلى أن توفى الناصر، وكانت وفاته في شعبان سنة أربع وثلاثمائة، وله من العمر تسع وسبعون سنة، وكانت مدة مملكته المستقيمة الدائمة إلى حين وفاته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما. وكان الحسن الناصر شاعرا ظريفا كثير المجون حسن النادرة وهو الذى حرّر مذهب الزيدية وألّف فيه، وكان يقول: بزر القز ليس بمال، والديلم ليسوا بعسكر، أما البزر فلأنّه إذا أقبل الربيع صار بعوضا، وأما الديلم فلسرعة تنقّلهم من عسكر إلى عسكر. وكان يقول لأصحابه: من قتل منكم مقبلا فهو مؤمن، ومن قتل منكم مدبرا فهو كافر، فإذا أتى بجريح جرح مقبلا نثر عليه الكافور المسحوق، فيجد

الحسن بن القاسم الداعى العلوى

راحة ويسكن ألمه، وإذا أتى بجريح جرح مدبرا نثر عليه ملحا فيشتد أمره، فيقول: قد بان لكم أن المؤمن ينتفع بالدواء لإيمانه، والكافر لا ينتفع به لكفره. وكان له من الأولاد أبو الحسن على، وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد. ولما مات الحسن الناصر قام بالأمر بعده. الحسن بن القاسم «1» الداعى العلوى وهو ولى العهد، ولبس القلنسوة، وكان أوّل ما بدأ به أن بعث أبا القاسم جعفر وأبا الحسين أحمد- ولدى الناصر- إلى جرجان لانتزاعها من أيدى الخراسانية، فلقيهما دونهما دونها إلياس بن محمد ابن اليسع الصفدى- والى جيش خراسان- بموضع يقال له سيما له «2» فلما اصطّف الجيشان برزبين الصفّين ودعا إلى المبارزة، فبرز إليه من جيش ولدى الناصر بويه بن فناخسره- جد عضد الدولة- فقتله وانفض جيش الخراسانية، فبعث إليهما بعد ذلك الأمير نصر بن أحمد السامانى جيشا عليه سيمجور الدواتى، فلقياه بحلالين «3» من سواد جرجان فهزماه،

فوقف غير بعيد وتجمّعت الخراسانية كعادتهم في ذلك، فكرّ راجعا إليهم فهزمهم أقبح هزيمة، وقتل الديلم أفظع قتل، وانهزموا وسلكوا مضايق ليأمنوا جولان الخيل، فوصلوا جرجان فتجمّع الديلم بها، وأخلوها قاصدين طبرستان وقد اتفق رأيهم على خلع الداعى، فخلعوه في الطريق وبايعوا أبا القاسم جعفر بن الناصر، وألبسوه القلنسوة، وقيل إن المبايع أبو الحسين أحمد، وبالجملة فالأمير على الجيش أبو الحسين؛ ولما وصلا في جيوشهما إلى آمل لقيهما الداعى دونها، وخرج هاربا إلى بلاد الجيل، وملكا طبرستان مديدة، ثم كرّ راجعا- وقد احتشد- فلقياه فهزمهما، فمضيا إلى بلاد الجيل واحتشدا، وعادا فحاربهما الداعى حربا شديدا ثم انهزم واستوليا على عسكره، وهرب وحيدا متنكرا يريد بلاد الجيل، واخترق بلاده الديلم فأسره بعضهم ثم منّ عليه وأطلقه، فانتهى إلى بلاد الجيل وأقام عندهم. واتفقت وفاة أبي الحسين فجأة، وتلاه أخوه أبو القاسم بعده، فبقى أمر الديلم بطبرستان بغير مدبّر، فعقدوا الإمرة عليهم لليلى» ابن النعمان، فقام بأمرهم وهو يدعو للداعى إلى أن قتل بنيسابور «2» ، قتله حمّويه بن على صاحب جيش نصر بن أحمد السامانى، فعقدوا بعده لعلى بن خورشيد فعاجلته المنيّة، فعزموا على الحسن بن كالى، فأشار عليهم بأخيه ماكان بن كالى، وهو أشجع أهل الديلم بالانفاق، فلما ولى عليهم اجتمع هو وأخوه على نصب أبى علىّ محمد بن أبى الحسين

ابن الناصر، فنصبوه فجرى على يده قتل الحسن بن كالى بسارية، وكان ما كان بآمل، ثم سقط بعد ذلك أبو على في الميدان فهلك، ولمّا اتصل بما كان ما جرى على أخيه كاتب الداعى يستدعيه، فوافى في عسكر قوى واجتمع معه وملك طبرستان، ثم سار ومعه ما كان إلى جرجان فملكها، وأقام الداعى بجرجان، وكانت في نفسه حفائظ على الديلم لنصرتهم عليه أولاد الناصر، فعمل دعوة لهم جعل يستدعيهم واحدا واحدا فيقتله، ففطنوا لذلك وهربوا إلى خراسان، ودخلوا في طاعة نصر بن أحمد السامانى، وسوّدوا أعلامهم وقدّموا على أنفسهم أسفار بن شيرويه الجيلى «1» ، وبعث معهم نصر بن أحمد جيشا كثيفا، وساروا فدخلوا جرجان، وسار الداعى منها إلى طبرستان ثم إلى الرىّ، واجتمع فيها بما كان وأمره أن يمضى إلى طبرستان لدفع أسفار عنها، فعلم أنّه لا طاقة له بذلك، فقال له: الرأى أن تمضى أنت فإنك الإمام، ولو قد رأتك الديلم لانفضّوا إليك، فاضطر الداعى إلى ذلك، وسار ووقعت الحرب بينه وبين الخراسانية، فانهزم جيشه وكان مرداويج بن زيار الجيلى يراصده، فأمكنته فرصة منه فرماه فأشواه، وولّى منهزما ودخل آمل واستتر بها، فتتبّع الديلم أثر دمه، وأظهره لهم أهل البلد، فبادروا إلى الدار التى دلوهم عليها وهجموها، فلما رآهم بادر إلى الصلاة فقتلوه، وكان مقتله يوم الثلاثاء لست بقين من شهر رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة في أيام

ملك أسفار جرجان

المقتدر بالله، فكانت مدة مملكته ثنتى عشرة سنة وشهرا وأياما، على ما فيها من الإختلاف عليه وقيام من ذكرنا. ملك أسفار جرجان ولما قتل الداعى ملك أسفار جرجان، وأبو موسى هارون بن بهرام طبرستان، والدعوة فيها لنصر بن أحمد السامانى، فأجمع رأيهما على نصب أبى جعفر محمد بن أحمد الناصر بآمل، فنصباه وألبساه القلنسوة، والدعوة لنصر لم تقطع، وبلغ نصرا الخبر فأنكر على أسفار غاية الإنكار، وأمره بالقبص عليه والبعث به إليه، ففعل أسفار ذلك وبلغ ما كان الخبر وهو بالرى، فسار إلى طبرستان فهرب هارون منها إلى الديلم، وأظهر ما كان ما هو عليه من التشيّع، ونصب إسماعيل بن جعفر بن الناصر، فتوفى بعد مدّة ووقعت فترة لم يل فيها أحد من العلويين، ثم تخلّص بعد ذلك أبو الفضل جعفر بن محمد ابن الحسين «1» بن على بن الحسن بن على بن عمر بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب من حبس نصر بن أحمد، وهو ممّن قبض عليه أسفار بن شيرويه مع أبى جعفر محمد بن الناصر، وسار إلى بلد الجيل وابتدأ في الدعاء لنفسه بها في سنة عشرين وثلاثمائة ونعت نفسه بالثائر في الله، وكان ذا حزم وتدبير، وساعدته الأقدار فخرج من بلد الجيل، قاصدا طبرستان في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

وبها الأستاذ أبو الفضل بن العميد، وزير ركن الدولة بن بوية، وأبو الحسن على بن كامه، من قبل ركن الدولة، فاستظهر عليهما وملك البلاد، وانصرفا إلى الرىّ فأعاد ركن الدولة بن بويه أبا الحسن على بن كامة في جيش، وكتب إلى الحسن «1» بن الفيروزان- صاحب جرجان- يأمره بمعاونته ففعل، وسار إلى طبرستان في بقية سنة سبع وثلاثين، فرحل الثائر عنها وقصد الجيل، ثم خرج كرّة ثانية، واتفق مع وشمكير ولم يتم لهما أمر، ثم خرج ثالثة إلى طبرستان لاجئا إلى ركن الدولة بن بويه فنصره، وأقام مدة بها، ثم عاد إلى بلاد الجيل وملك هرسم، ولم يخرج منها إلا في سنة خمسين وثلاثمائة، فإنّه صار إلى نواحى أذربيجان زائرا للمرزبان «2» بن مسافر، وعاد فأقام بهرسم من بلاد الجيل إلى أن توفى بها، وكانت وفاته في سنة خمسين وثلاثمائة. وملك بعده جماعة من العلويين بلاد الجيل، ولم يكن لأحد منهم دولة قائمة في بلد مشهور، فيعتنى بأمرهم وتدوّن أخبارهم، وإنما كانوا بتلك الناحية شبه الأعيان والأكابر، لا كالملوك والخلفاء، ثم ظهر بعد ذلك أبو عبد الله محمد الحسنى

ذكر ظهور أبى عبد الله محمد بن الحسين الحسنى المعروف بابن الداعى

ذكر ظهور أبى عبد الله محمد بن الحسين الحسنى المعروف بابن الداعى قال ابن الأثير «1» : كان ظهوره في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وذلك أنه هرب من بغداد وسار نحو الديلم، فاجتمع عليه عشرة آلاف رجل، فهرب ابن الناصر العلوى من بين يديه، وتلقّب ابن الداعى بالمهدى لدين الله، وعظم شأنه وهزم قائدا من قواد وشمكير. ثم أظهر النسك والعبادة ولبس الصوف، وحارب ابن وشمكير فهزمه في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وعزم على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابا يدعوهم إلى الجهاد، هذا ما أورده ابن الأثير «2» فى خبره، ولم يذكر خبر وفاته، إلا أنّه لم يتم له أمر، ولا ظهر لغيره من أهل هذا البيت بعد ذلك بهذه الناحية ذكر، ولا كانت لهم مملكة فى جهة من الجهات، إلا ما نورده من أخبار العبيديين، الذين ملكوا المغرب والديار المصرية وغيرها، وانتسبوا إلى على بن أبى طالب ونفاهم أكثر الناس- بل عامّتهم- عن هذا النسب الشريف، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى من أخبارهم.

الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار صاحب الزنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل

الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار صاحب الزنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل وإنما أفردنا هؤلاء بباب، لأنّهم ممن شاع ذكرهم وعظم محلّهم وطار اسمهم، واستولوا على كثير من البلاد وهزموا الجيوش، وأهمّ الخلافة أمرهم، وطالت مدتهم ولم يكونوا في أيام خليفة واحد، فنذكرهم في حوادث دولته، وإنما هم في أيام جماعة من الخلفاء، فلو ذكرناهم في حوادث أيامهم لانقطعت أخبارهم، وعسر على المطالع معرفتها، فلذلك أفردناهم لتكون أخبارهم سياقة، لا تنقطع بغيرها من الأخبار.

ذكر أخبار صاحب الزنج وابتداء أمره وسبب خروجه

ذكر أخبار صاحب الزنج وابتداء أمره وسبب خروجه كان خروجه في شوّال سنة خمس وخمسين ومائتين- فى خلافة المهتدى بالله- بفرات البصرة، وزعم أنّه على بن محمد بن أحمد بن على بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، وجمع الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، وعبر دجلة فنزل الدينارى. قال أبو جعفر «1» الطبرى: وكان اسمه على بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمّه ابنة «2» على بن رحيب بن محمد بن حكيم من أهل الكوفة، وهو أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك، مع زيد بن على بن الحسين، فلما قتل زيد هرب والتحق بالرى، فجاء إلى قرية ورزنين فأقام بها، وجدّه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان وقدم العراق، واشترى جارية فأوكدها محمدا أباه. قال: وكان صاحب الزنج هذا في ابتداء أمره متصلا بجماعة من حاشية المنتصر، منهم غانم الشطرنجى وسعيد الصعير، وكان معاشه منهم ومن أصحاب السلطان، وكان يمدحهم ويستميحهم بشعره، ثم إنّه شخص من سامرّا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى

بها أنّه على بن عبد الله «1» بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله ابن عباس بن على بن أبى طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، فاتبعة جماعة كثيره من أهلها ومن غيرها، فجرى بين الطائفتين عصبيّة قتل فيها جماعة. قال: وكان أهل البحرين قد أخلّوه محل نبى، وجبا الخراج ونفذ فيهم حكمه، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه، ثم تنكّر له منهم جماعة، فانتقل عنهم إلى الأحسّاء، ونزل على قوم يقال لهم بنو الشمّاس من بنى سعد بن تميم فأقام فيهم، وفي صحبته جماعة من البحرين، منهم يحيى بن محمد الأزرق البحرانى، وسليمان بن جامع- وهو قائد جيشه وكان ينتقل في البادية فذكر عنه أنه قال: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتى، ظاهرة للناس، منها إنى لقّنت سورا من القرآن فجرى بها لسانى، فى ساعة واحدة وحفظتها في دفعة واحدة، منها سبحان «2» والكهف وص، ومنها أنى فكرت في الموضع الذى أقصده حيث نبت بى البلاد فأظلتنى غمامة، وخوطبت منها فقيل لى: اقصد البصرة، وقيل عنه إنه قال لأهل الباديه إنّه يحيى بن عمر أبو الحسين، المقتول بالكوفه، فخدع أهلها فأتاه منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى الرّدم «3» من البحرين، فكانت بينهم وقعة عظيمة، وكانت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، قتلوا قتلا ذريعا فتفرّقت الأعراب عنه، فسار ونزل البصرة

فى بنى ضبيعة، فاتبعه منهم جماعة منهم على بن أبان المهلبى، وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، وعاملها يوم ذاك محمد ابن رجاء الحضارىّ. فوافق قدومه فتنة أهل البصرة، بالبلالية والسعديّة، فطمع في إحدى الطائفتين أن تميل إليه، فأرسل إليهم يدعوهم فلم يجبه «1» من أهل البلد أحد، وطلبه ابن رجاء فهرب، فأخذ جماعة ممن كانوا يميلون إليه وحبسهم، وكان ممّن حبس ابنه وابنته وزوجته وجارية له حاملا منه، وسار يريد بغداد ومعه من أصحابه محمد بن سلم، ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، وبريش «2» القريعى، فلما صار بالبطيحة نذر به وبأصحابة، فدخل بغداد فأقام بها حولا، فانتسب إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، فزعم بها أنه ظهر له آيات عرف بها ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم، فاستمال جماعة من أهل بغداد منهم جعفر بن محمد الصّوحانى، ومحمد بن القاسم، ومشرق ورفيق غلاما يحيى بن عبد الرحمن، فسمّى مشرفا حمزة وكناة أبا أحمد، وسمّى رفيقا جعفرا وكنّاه أبا الفضل، واتفق عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فوثب رؤساء البلالية والسعدية فأخرجوا من كان في الحبس، فخلص أهله فيهم، فلما بلغه خلاص أهله رجع إلى البصرة، وكان رجوعه في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه على بن

أبان ويحيى بن محمد وسليمان ومشرق ورفيق، فوافوا البصرة فنزل بقصر القرشى على نهر يعرف بعمود ابن المنجّم، وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ. قال «1» : وذكر ريحان، أحد غلمان الشورجيين وهو أوّل من صحبه منهم، قال: كنت موكّلا بغلمان مولاى أنقل لهم الدقيق فأخذنى أصحابه فصاروا بى إليه، وأمرونى أن أسلّم عليه بالإمرة ففعلت، فسألنى عن الموضع الذى جئت منه فأخبرته، وسألنى عن أخبار البصرة فقلت لا علم لى، وسألنى عن غلمان الشورجيين وعن أحوالهم وما يجرى لهم فأعلمته، فدعانى إلى ما هو عليه فأجبته، فقال: إحتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم، ووعدنى أن يقوّدنى على من آتيه به، واستحلفنى ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، وخلّى سبيلى وعدت إليه من الغد، وقد أتاه جماعة من غلمان الدبّاسين، فكتب في حريرة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... الآية) «2» ورفعها علما، وما زال يدعو غلمان أهل البصرة وهم يقبلون إليه، للخلاص من الرق والتعب، حتى اجتمع عنده خلق كثير، فخطبهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم، وحلف لهم الأيمان ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى به إليهم، فأتاه مواليهم وبذلوا له عن كل عبد خمسة دنانير، ليسلّم إليه عبده، فبطح أصحابهم وأمر كل عبد أن يضرب مولاه أو وكيل

مولاه خمسمائة شطب «1» ، ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة. ثم ركب في سفن هناك فعبر دجيلا إلى نهر ميمون، فأقام هناك والسودان تجتمع إليه إلى يوم الفطر، فخطبهم وصلّى بهم وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال، وأنّ الله تعالى أنقذهم من ذلك، وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال، فلما كان بعد يومين رأى أصحابه الحميرىّ، فقاتلوه حتى أخرجوه من دجلة، فاستأمن إلى صاحب الزنج رجل يكنى بأبى صالح ويعرف بالقصير، فى ثلاثمائة من الزنج، فلما كثروا جعل القوّاد منهم، وقال لهم: من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه، وكان ابن أبى عون قد نقل من واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، وسار قائد الزنج إلى المحمديّة، فلما نزلها وافاه أصحاب ابن أبى عون، فصاح الزنج: السلاح!! وقاموا وكان منهم فتح الحجّام، فقام وأخذ طبقا كان بين يديه، فلقيه رجل من الشورجيين يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذى بيده، فرمى سلاحه وولّى هاربا، وانهزم أصحابه وكانوا أربعة آلاف، وقتل منهم جماعة ومات بعضهم عطشا، وأسر منهم فضرب أعناقهم، ثم سار إلى القادسيّة فنهبها أصحابه بأمره، وما زال يتردّد إلى أنهار البصرة، فوجد بعض السودان دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه، فصار معهم ما يقاتلون به. فأتاه وهو بالسّيب جماعة من أهل البصرة يقاتلونه، فوجّه يحيى

ابن محمد في خمسمائة رجل فلقوا البصريين، فانهزم «1» البصريون منهم وأخذوا سلاحهم، ثم قاتل طائفة أخرى عند قرية تعرف بقرية اليهود «2» فهزمهم أيضا، وأثبت أصحابه في الصحراء، ثم أسرى إلى الجعفريّة فوضع في أهلها السيف، فقتل أكثرهم وأتى منهم بأسرى فأطلقهم، ولقى جيشا كبيرا للبصريين مع رميس وعقيل، فهزمهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وكان معهم سفن فهبّت ريح فألقتها إلى الشط، فنزل الزنج وقتلوا من وجدوا فيها وغنموا ما فيها، وكان مع رميس سفن فركبها ونجا، فأنفذ صاحب الزنج فأخذها ونهب ما فيها، ثم نهب القرية المعروفة بالمهلبيّة وأحرقها، وعاث في الأرض وأفسد، ثم لقيه قائد من قواد الأتراك، يقال له أبو هلال في أربعة آلاف مقاتل، فاقتتلوا على نهر الريّان، فحمل السودان عليهم حملة صادقة، فقتلوا صاحب علمه فانهزم أبو هلال وأصحابه، وتبعهم السودان فقتلوا من أصحاب أبى هلال أكثر من ألف وخمسمائة رجل، وأخذوا منهم أسرى فأمر صاحب الزنج بقتلهم، ثم أتاه من أخبره أنّ الزينبى قد أعدّ له الجند والمتطوّعة والبلاليّة والسعديّة، وهم خلق كثير، وأنّهم قد أعدّوا الحبال لتكتيف من يأخذونه من السودان، وأنّ المقدّم عليهم أبو منصور أحد «3» موالى الهاشميين، فأرسل على بن أبان في مائة أسود ليأتيه بخبرهم، فلقى طائفة منهم فهزمهم، وصار من معهم من العبيد إلى على بن أبان، وأرسل طائفة أخرى من أصحابه، إلى موضع فيه ألف

وتسعمائة سفينة ومعها من يحفظها، فلما رأوا الزنج هربوا عنها، فأخذ الزنج السفن وأتوا صاحبهم بها، فلما أتوه جلس على نشز من الأرض، وكان في السفن قوم حجّاج أرادوا أن يسلكوا طريق البصرة، فناظرهم فصدقوه في قوله، وقالوا له: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك فأطلقهم، وأرسل طليعة تأتيه بخبر ذلك العسكر فأتاه بخبرهم: أنّهم قد أتوه بخلق كثير، فأمر محمد بن سلم «1» وعلى بن أبان أن يعقدوا لهم بالنخيل، وقعد هو على جبل مشرف، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال، فأمر الزنج فكبّروا وحملوا عليهم، فحملت الخيول فتراجع الزنج حتى أتوا لجبل، ثم حملوا فثبتوا لهم، وقتل من الزنج فتح الحجّام، وصدق الزنج الحملة فأخذوهم بين أيديهم، وجرح محمد بن سلم، وحملوا عليهم فقتلوا منهم، وانهزم الناس وذهبوا كل مذهب، وتبعهم السودان إلى نهر بيان فوقعوا في الوحل، فقتلهم السودان وغرق كثير منهم، وأتى الخبر إلى الزنوج بأنّ لهم كمينا، فساروا إليه فإذا الكمين في ألف من المغاربة، فقاتلوهم قتالا شديدا، ثم حمل السوان عليهم فقتلوهم أجمعين وأخذوا سلاحهم، ثم وجّه أصحابه فرأوا مائتى سفينة، فيها دقيق فأخذوه ومتاع فنهبوه، ونهب المعلّى بن أيوب «2» ، ثم سار فرأى مسلحة الزينبى فقاتلوه، فقاتلهم فقتلهم أجمعين، وكانوا مائتين، ثم سار فنهب قرية منذران «3» ، ورأى فيها جمعا من الزنج

ففرقهم على قوّاده، ثم سار فلقيه ستمائة فارس مع سليمان؛ ابن أخى الزينبىّ، ولم يقاتله فأرسل من ينهب، فأتوه بغنم وبقر فذبحوا وأكلوا، وفرّق أصحابه في انتهاب ما هناك. ثم سار صاحب الزنج يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحى، أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنّهم رأوا في الرياحى بارقة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى السودان: السلاح السلاح!! فأمر على بن أبان بالعبور إليهم، فعبر في ثلاثمائة رجل، وقال له: إن احتجت إلى مدد فاستمدنى، فلما مضى على بن أبان صاح الزنج، السلاح السلاح!! لحركة رأوها في جهة أخرى، فوجّه محمد بن سلم بجمع فحاربهم من وقت الظهيرة إلى وقت العصر، ثم حمل الزنوج حملة صادقة فهزموهم، وقتلوا من أهل البصرة والأعراب زهاء خمسمائة، ورجعوا إلى صاحبهم، ثم أقبل على بن أبان في أصحابه- وقد هزموا من بإزائهم وقتلوا منهم، ومعه رأس ابن أبى الليث «1» البلالى القواريرى من أعيان البلالية، ثم سار من الغد عن ذلك المكان، ونهى أصحابه عن دخول البصرة، فتسرّع بعضهم فلقيهم أهل البصرة في جمع عظيم، وانتهى الخبر إليه فوجّه محمد بن سلم وعلى بن أبان ومشرقا وخلقا كثيرا، وجاء هو يسايرهم فلقوا البصريين، فأرسل إلى أصحابه ليتأخروا عن المكان الذى هم فيه، فتراجعوا فأكبّ عليهم أهل البصرة فانهزموا، وذلك عند العصر «2» ، ووقع الزنوج في نهر كبير، وقتل

منهم جماعة وغرق جماعة وتفرّق الباقون، وتخلّف صاحبهم عنهم وبقى في نفر يسير فنجا، تم لحقهم وهم متحيّرون لفقده، وسأل عن أصحابه فإذا ليس معه منهم إلا خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذى يجتمعون إليه، فنفخ فيه فلم يأته أحد، وكان أهل البصرة قد انتهبوا السفن التى كانت للزنوج وبها متاعهم، فلما أصبح رأى أصحابه في ألف رجل، فأرسل محمد بن سلم إلى أهل البصرة يعظهم ويعلّمهم: ما الذى دعاه إلى الخروج؟ فقتلوه، فلما كان يوم الاثنين لأربع «1» عشرة خلت من ذى القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين جمع أهل البصرة وحشدوا، لما رأوا من ظهورهم عليه، وانتدب لذلك رجل يعرف بحمّاد «2» الساجىّ وكان من غزاة البحر، وله علم في ركوب السفن، فجمع المطوّعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خفّ معه من البلاليّة والسعديّة وغيرهم، وشحن ثلاثة مراكب مقاتلة، ومضى جمهور الناس رجّالة، منهم من معه سلاح ومنهم نظّارة، فدخلت المراكب في المدّ والرجّالة على شاطىء النهر، فلما علم صاحب الزنج بذلك وجّه طائفة من أصحابه مع زريق «3» الأصفهانى كمينا في شرفىّ النهر، وطائفة مع شبل وحسين الحمّامى فى غربيّه كمينا، وأمر على بن أبان أن يلقى أهل البصرة وأن يتستر هو ومن معه- بتراسهم، ولا يقاتل حتى يظهر أصحابه، وتقدّم إلى

الكمينين- إذا جازوهم «1» أهل البصرة- أن يخرجوا ويصيحوا بالناس، وبقى هو في نفر يسير من أصحابه، وقد هاله ما رأى من كثرة الجمع، فثار أصحابه إليهم وظهر الكمينان من جانبى النهر وراء السفن والرجّالة، فضربوا من ولّى من الرجّالة والنظّارة، فغرقت طائفة وقتلت طائفة وهرب الباقون إلى الشط، فأدركهم السيف فمن ثبت قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق، فهلك أكثر ذلك الجمع فلم ينج إلا الشريد، وكثر المفقودون من أهل البصرة، وعلا العويل من نسائهم، وهذا اليوم يسمى يوم الشذا «2» - وهو يوم أعظمه الناس، وكان فيمن قتل جماعة من بنى هاشم وغيرهم في خلق كثير لا يحصى، وجمعت الرؤوس لصاحب الزنج، فأتاه جماعة من أولياء المقتولين فأعطاهم ما عرفوا، وجمع الرؤوس التى لم تطلب في جريبيّة «3» وأطلقها، فوافت البصرة فجاء الناس وأخذوا كلّ ما عرفوه منها، وقوى صاحب الزنج بعد هذا اليوم، وتمكّن الرعب في قلوب أهل البصرة وأمسكوا عن حربه، وكتب الناس إلى الخليفة بخبر ما كان، فوجّه إليهم جعلان التركى مددا، وأمر بالأحوص «4» الباهلى بالمصير إلى الأبلّة والبا، وأمدّه بقائد من الأتراك يقال له جريح، وانصرف

صاحب الزنج بأصحابه في آخر النهار إلى سبخة- وهى سبخة أبى قرّة- وبثّ أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب. ووصل جعلان إلى البصرة في سنة ست وخمسين ومائتين، ونزل بمكان بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، وخندق عليه وعلى أصحابه وأقام ستة أشهر في خندقه، وجعل يوجّه الزينبىّ وبنى هاشم ومن خفّ لحرب الزنج، ثم سار جعلان للقائه فلم يكن بينهم إلا الرمى بالحجارة والسهام، ولا يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق المكان عن مجال الخيل، وكان أكثر أصحاب جعلان خيّالة، فلما طال مقامه في خندقه أرسل صاحب الزنج أصحابه إلى مسالك الخندق، فبيّتوا جعلان وقتلوا من أصحابه جماعة، وخاف الباقون خوفا شديدا، وكان الزينبىّ قد جمع البلاليّة والسعديّة ووجّه بهم من مكانين، وقاتلوا صاحب الزنج فظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فترك جعلان خندقه وسار إلى البصرة، وظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج، وأمر سعيد الحاجب بمحاربتهم، وتحوّل صاحب الزنج بعد ذلك من السبخة- التى كان فيها- ونزل بنهر أبى الخصيب، وأخذ أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر، وأخذ منها أموالا عظيمة لا تحصى، وقتل من فيها وأنهبها أصحابه ثلاثة أيام، وأخذ لنفسه بعد ذلك من النهب.

ذكر دخول الزنج الأبله

ذكر دخول الزنج الأبله وفي سنة ست وخمسين ومائتين دخل الزنج الأبلّة، فقتلوا فيها خلقا كثيرا وأحرقوها، وكان سبب ذلك أنّ جعلان لما تنحّى عن خندقه إلى البصرة ألحّ صاحب الزنج بالغارات على الأبلّة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل، ولم يزل يحارب إلى يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رجب فافتتحها، وقتل بها الأحوص وعبد «1» الله بن حميد الطوسى وأضرمها نارا، وكانت مبنيّة بالساج فأسرعت النار فيها، وقتل من أهلها خلق كثير، وفرّق الأموال العظيمة، وكان ما أحرقت النار أكثر من الذى نهب. قال: ولما اتصل خبر أهل الأبلّة بأهل عبّادان راسلوا صاحب الزنج في طلب الأمان، على أن يسلّموا إليه البلد، فأمّنهم وسلّموه إليه وأخذ ما فيه من الأموال والسلاح، ففرّقه في أصحابه. ذكر أخذ الزنج الأهواز قال: ولما فرغ صاحب الزنج من الأبلّة وعبّادان طمع في الأهواز، واستنهض أصحابه وسار إليها، فهرب من بها من الجند ومن أهلها ولم يبق إلا القليل، فدخلها وأخربها، وكان بها إبراهيم بن المدبّر يتولى الخراج فأخذوه أسيرا، بعد أن قاتل وجرح ونهب جميع ماله، وذلك

ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب وغلبة الزنج

لإثنتى عشرة ليلة مضت من رمضان من السنة، فخافه أهل البصرة وانتقل كثير من أهلها إلى البلدان. وأما إبراهيم بن المدبّر فإنّ صاحب الزنج وكل به وحبسه في بيت يحيى بن محمد البحراني، فكان به إلى سنة سبع وخمسين ومائتين، فأرغب الموكّلين به بمال فأطلقوه، فخرج هو وابن أخ له ورجل هاشمى ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب وغلبة الزنج وفي شهر رجب سنة سبع وخمسين ومائتين أوقع سعيد الحاجب بجماعة من الزنج، فهزمهم واستنقذ من معهم، وذلك في خلافة المعتمد على الله بن المتوكل، فكانت المرأة من نساء تلك الناحية تأخذ الزنجى فتأتى به عسكر سعيد فلا يمتنع عليها، ثم عبر سعيد إلى غرب دجلة فأوقع بصاحب الزنج عدّة وقعات، ثم عاد إلى معسكره بهطمة «1» فأقام من ثانى رجب إلى آخر شعبان. ثم أوقع صاحب الزنج بسعيد، وذلك أنّه سيّر إلى سعيد جيشا، فأوقعوا به ليلا وأصابوا مقتلة من أصحاب سعيد، فقتلوا خلقا كثيرا وأحرقوا عسكره، فأمر بالمسير إلى باب الخليفة، وترك بغراج بالبصرة، فسار سعيد من البصرة وأقام بها بغراج يحمى أهلها، فردّ السلطان أمرها إلى منصور بن جعفر الخيّاط بعد سعيد، فجمع منصور الشذا وسار نحو صاحب الزنج، فكمّن له صاحب الزنج كمينا، فلما أقبل خرجوا عليه فقتلوا في أصحابه مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير، فلم يقابله منصور بعد ذلك.

ذكر انهزام الزنج بالأهواز

ذكر انهزام الزنج بالأهواز قال: وفي سنة سبع وخمسين ومائتين أرسل صاحب الزنج جيشا مع على بن أبان ليقطع قنطرة أربك «1» ، فلقيهم إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس، فأوقع بهم وهزمهم وقتل منهم وجرح على بن أبان، ثم سار إبراهيم قاصدا نهر جبىّ «2» ، وأمر كاتبه شاهين بن بسطام بالمسير على طريق آخر، ليوافيه بنهر جبىّ بعد الوقعة، وكان على بن أبان قد سار من الوقعة فنزل الخيزرانيّة، فأتاه رجل فأخبره باقبال شاهين إليه، فسار نحوه فالتقيا وقت العصر بموضع بين جبىّ ونهر موسى، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة فهزموهم، وقتلوا شاهين وابن عم له وخلقا كثيرا، فلما فرغ الزنج منهم أتاهم الخبر بقرب إبراهيم بن سيما منهم، فسار علىّ نحوه فوافاه وقت العشاء الآخرة، فأوقع بإبراهيم وقعة شديدة قتل فيها جمعا كثيرا؛ قال على بن أبان: وكان أصحابى قد تفرّقوا بعد الوقعة مع شاهين، ولم يشهد معى حرب إبراهيم غير خمسين رجلا، ثم انصرف على بن أبان إلى جبىّ.

ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها

ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها قال: وفي شوال سنة سبع وخمسين ومائتين جمع صاحب الزنج أصحابه لدخول البصرة، وتخريبها لضعف أهلها وتفرّقهم، وكان منصور الخيّاط قد أمسك عن حربه بعد تلك الوقعة التى ذكرناها، واقتصر على تخفير القيروانات والسفن، فامتنع أهل البصرة فعظم ذلك على صاحب الزنج، فتقدّم إلى على بن أبان بالمقام بالخيزرانيّة ليشغل منصورا عن تسيير القيروانات، وكان علىّ بنواحى جبىّ والخيزرانيّة، ثم أمر محمد بن يزيد الدارمى- وهو أحد من صحبه بالبحرين- أن يخرج إلى الأعراب فيجمعهم، فخرج إليهم فأتاه منهم خلق كثير فأناخوا بالقندل «1» ، ووجّه إليهم سليمان بن موسى الشّعرانى، وأمرهم بطرق البصرة والايقاع بها ليتمرّن الأعراب على ذلك، ثم انهض علىّ بن أبان وضمّ إليه طائفة من الأعراب، وأمره باتيان البصرة من ناحية بنى سعد، وأمر يحيى بن محمد البحرانى باتيانها من ناحية نهر عدى وضمّ إليه سائر الأعراب، فكان أوّل من واقع أهل البصرة على بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه، وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحو الجسر، فدخل على بن أبان البصرة وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت، ثم عاد يحيى إلى البصرة يوم الأحد فتلقّاه بغراج في جمع، فردّوه يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الإثنين

فدخل وقد تفرق الجند، وانحاز بغراج ومن معه. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبى فاستأمنه لأهل البصرة فأمّنهم، فنادى منادى إبراهيم: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملأوا الرحاب، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوا فغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلك الجمع كله ولم يسلم منهم إلا النادر، ثم انصرف يومه ذلك، ودخل علىّ بن أبان إلى الجامع فأحرقه، وأحرقت البصرة من عدة مواضع، واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل، وعظم الخطب وعمّها القتل والنهب والاحراق، وقتلوا كل من رأوه بها، فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيرا قتلوه لوقته، فبقوا كذلك عدة أيام، ثم أمر يحيى أن ينادى بالأمان ليظهروا فلم يظهر أحد، ثم انتهى الخبر إلى صاحب الزنج فصرف على بن أبان عنها، وأقرّ يحيى عليها لموافقته هواه في كثرة القتل، وصرف عليا لابقائه على أهلها، فهرب الناس على وجوههم، وصرف صاحب الزنج جيشه عن البصرة. قال: ولما أخرب البصرة انتمى إلى زيد لمصير جماعة من العلويين إليه، وترك الانتساب إلى عيسى بن زيد، وانتسب إلى يحيى بن زيد، قال القاسم بن الحسن النوفلى: كذب، ابن يحيى «1» لم يعقب غير بنت ماتت وهى ترضع.

ذكر مسير المولد لحرب صاحب الزنج وانتصار صاحب الزنج

ذكر مسير المولد لحرب صاحب الزنج وانتصار صاحب الزنج وفي ذى القعدة من السنة أمر المعتمد على الله المولّد بالمسير إلى البصرة لحرب الزنج، فسار فنزل الأبلّة فسيّر صاحب الزنج يحيى ابن محمد لحربه، فسار إليه فقاتله عشرة أيام، ثم وطّن المولّد نفسه على المقام، فكتب صاحب الزنج إلى يحيى يأمره بتبييت المولّد، وسيّر إليه أبا الليث الأصفهانى فبيّته، ونهض المولّد فقاتله تلك الليلة ومن الغد إلى العصر، ثم انهزم عنه ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه، واتبعه يحيى إلى الجامدة فأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى وسفك ما قدر عليه من الدماء، ثم رجع إلى نهر معقل. ذكر الحرب بين منصور الخياط والزنج وقتل منصور قال: وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين قتل منصور بن جعفر الخياط، وسبب ذلك أن صاحب الزنج لما فرغ من أمر البصرة أمر على بن أبان بالمسير إلى جبىّ، لحرب منصور بن جعفر وهو يومئذ يلى الأهواز، فأقام بازائه شهرا وكان منصور في قلّة من الرجال، ثم وجّه صاحب الزنج جلّة أصحابه مع أبى الليث الأصفهانى، وأمره بطاعة على بن أبان فلما صار إليه خالفه واستبدّ، وجاء منصور كما كان يجىء للحرب، فتقدّم إليه أبو الليث عن غير إذن علىّ، فظفر به منصور وقتل من الزنج خلقا كثيرا، وأفلت أبو الليث ورجع إلى

ذكر مسير أبى أحمد الموفق لقتال الزنج وقتل مفلح

صاحب الزنج، ثم إنّ على بن أبان وجّه طلائع يأتونه بخبر منصور، وأسرى إلى وال كان لمنصور على بعض الأعمال، فقتله وقتل أكثر أصحابه وغنم ما كان معهم ورجع، وبلغ الخبر منصور بن جعفر فأسرى إلى الخيزرانيّة، وخرج إليه على بن أبان فتحاربوا إلى الظهر فانهزم منصور وتفرّق عنه أصحابه، وأدركته طائفة من الزنج فحمل عليهم، وقاتلهم حتى تكسّر رمحة وفنى نشّابه، ثم حمل حصانه ليعبر النهر فوقع في النهر، وسبب وقوعه أن بعض الزنج رآه حين أراد أن يعبر النهر، فألقى نفسه في النهر قبل منصور وتلقّى الفرس حين وثب، فنكص الفرس وسقط منصور في النهر فقتله الأسود وأخذ سلبه، وقتل معه أخوه خلف بن جعفر وغيره من أصحابه. ذكر مسير أبى أحمد الموفق لقتال الزنج وقتل مفلح وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين عقد المعتمد على الله لأخيه أبى أحمد الموفّق على ديار مضر وقنّسرين والعواصم، وخلع عليه وعلى مفلح في شهر ربيع الآخر وسيّرهما لحرب الزنج بالبصرة، وركب المعتمد معه وشيّعه وسار نحو البصرة، ونازل صاحب الزنج، وكان سبب ارساله ما فعله الزنج بالبصرة، فأكبر الناس ذلك وتجهّزوا إليه وساروا في عدة وعدة كاملة، وصحبه من سوقة بغداد خلق كثير، وكان على بن أبان بجبىّ، وسار يحيى بن محمد البحرانى إلى نهر العباس ومعه أكثر الزنوج، وبقى صاحبهم في قلّة من الناس، وأصحابه يغادون البصرة ويراوحونها لثقل ما نالوه منها، فلما نزل عسكر الموفّق

ذكر مقتل يحيى بن محمد البحرانى

نهر معقل أجفل من فيه من الزنوج إلى صاحبهم مرعوبين، وأخبروه بعظم الجيش وأنّهم لم يرد عليهم مثله، فأحضر رئيسين من أصحابه فسألهما عن قائد الجيش فلم يعرفاه، فجزع لذلك ثم سيّر إلى على ابن أبان يأمره بالمصير إليه فيمن معه، فلما كان يوم الأربعاء لإثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى أتاه بعض قوّاده، فأخبره بمجىء العساكر وتقدّمهم، وأنّهم ليس في وجوههم من الزنوج من يردّهم، فكذبه وسبّه وأمر فنودى في الزنوج بالخروج إلى الحرب فخرجوا، فرأوا مفلحا قد أتاهم في عسكر فقاتلوه، فبينما مفلح يقاتلهم إذ أتاه سهم غرب، لا يعرف من رمى به، فأصابه فرجع وانهزم أصحابه، وقتل الزنج فيهم قتلا ذريعا، وحملوا الرؤوس إلى صاحب الزنج، واقتسم الزنج لحوم القتلى، وأتى بالأسرى فسألهم عن قائد الجيش فأخبروه أنّه أبو أحمد، ومات مفلح من ذلك السهم ولم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه على بن أبان، ثم رحل الموفّق إلى الأبلّة ليجمع ما فرّقته الهزيمة ثم صار إلى نهر أبى الأسد «1» . ذكر مقتل يحيى بن محمد البحرانى وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين أيضا أسر يحيى بن محمد البحرانى قائد صاحب الزنج، وكان سبب ذلك أنّه لما سافر نحو نهر العبّاس لقيه عسكر اصفجون «2» ، عامل الأهواز بعد منصور، فقاتلهم وكان

أكثر منهم عددا، فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب وجرحوهم، فعبر يحيى النهر إليهم فانحازوا عنه، وغنم سفنا كانت مع العسكر فيها الميرة، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج، على غير الوجه الذى فيه على بن أبان لتحاسد كان بينه وبين يحيى، ووجّه يحيى طلائعه إلى دجلة فلقيهم جيش أبى أحمد الموفّق، سائرين إلى نهر أبى الأسد، فرجعوا إلى علىّ فأخبروه بمجىء الجيش، فرجع من الطريق الذى كان سلكه وسلك طريق نهر العبّاس، وعلى فم النهر مراكب تحميه من عسكر الخليفة، فلما رآهم يحيى راعه ذلك، وخاف أصحابه فنزلوا السفن وعبروا النهر، وبقى يحيى ومعه بضعة عشر رجلا، فقاتلهم هو وذلك النفر اليسير فرموهم بالسهام، فجرح ثلاث جراحات فلما جرج تفرّق أصحابه عنه، فرجع حتى دخل بعض السفن وهو مثخن بالجراح، وأخذ أصحاب السلطان الغنائم وأخذوا السفن، وعبروا إلى سفن كانت للزنج فأحرقوها، وتفرّق الزنج عن يحيى في بقيّة نهارهم، فلما رأى تفرّقهم ركب سميريّة وأخذ معه طبيبا لأجل الجراح، وسار فيها فرأى الملّاحون سميريّات السلطان فخافوا فألقوا يحيى ومن معه. فمشى وهو مثقل وقام الطبيب الذى معه فأتى أصحاب السلطان، فأخبرهم خبره فأخذوه وحملوه إلى أبى أحمد، فحمله أبو أحمد إلى سامرّا فقطعت يداه ورجلاه ثم قتل، فجزع صاحب الزنج عليه جزعا شديدا وقال لهم لما قتل يحيى: اشتدّ جزعى عليه فخوطبت أنّ قتله كان خيرا لك، إنّه كان شرها.

ذكر عود أبى أحمد الموفق إلى سامرا واستخلافه محمد المولد على حرب الزنج

ذكر عود أبى أحمد الموفق الى سامرا واستخلافه محمد المولد على حرب الزنج وفي هذه السنة أيضا انحاز أبو أحمد الموفق إلى واسط، ثم منها إلى سامرّا، وكان سبب ذلك أنه لما صار إلى نهر أبى الأسد كثرت الأمراض في أصحابه وكثر فيهم الموت، فرجع إلى باذاورد فأقام هناك، وأمر باعطاء الجند أرزاقهم واصلاح الآلات والسميريّات وشحنها بالقوّاد، وعاد إلى عسكر صاحب الزنج، وأمر جماعة من قوّاده بقصد مواضع سمّاها من نهر أبى الخصيب وغيره «1» ، وبقى معه جماعة، فمال أكثر، الخلق حتى التقى الناس ونشبت الحرب إلى نهر أبى الخصيب «2» ، وبقى أبو أحمد في قلّة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه خوفا أن يطمع الزنج فيه، ولما رأى الزنج قلّة من معه طمعوا فيه وكثروا عليه، واشتدت الحرب عنده وكثر القتل والجراح، وأحرق أصحاب أبى أحمد منازل الزنوج، واستنقذوا من النساء جمعا كثيرا، ثم ألقى الزنج جدّهم نحوه، فلما رأى أبو أحمد ذلك علم أنّ الحزم في المحاجزة، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على مهل وتؤدة، واقتطع الزنج طائفة من أصحابه فقاتلوهم، فقتلوا من الزنج خلقا كثيرا ثم قتلوا بأجمعهم، وحملت رؤوسهم إلى قائد الزنج، وهى مائة رأس وعشرة أروس، فزاد ذلك في عتوّ صاحب الزنج، فعبىّ أبو أحمد أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في أطراف

ذكر دخول الزنج الأهواز ومسير موسى بن بغا لحربهم

عسكره في يوم ريح عاصف، فاحترق كثير منه فرحل «1» إلى واسط، فلما نزل إلى واسط تفرّق عنه عامّة أصحابه، فسار منها إلى سامرّا، واستخلف على واسط لحرب الزنج محمد المولّد، ثم عاد الموفّق بعد ذلك لحرب الزنج، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر دخول الزنج الأهواز ومسير موسى بن بغا لحربهم قال: وفي سنة تسع وخمسين ومائتين في شهر رجب دخل الزنج الأهواز، وذلك أنّ صاحبهم أنفذ على بن أبان وضمّ إليه الجيش، الذى كان مع يحيى البحرانى وسليمان بن موسى الشعرانى، وسيّره إلى الأهواز، وكان المتولى عليها بعد منصور بن جعفر رجلا يقال له اصغجون، فبلغه خبر الزنج فخرج إليهم، والتقى العسكران بدست «2» ميسان، فانهزم اصغجون وغرق وقتل وأسر خلق كثير من أصحابه، وكان ممّن أسر الحسن بن هرثمة والحسن بن جعفر، وحملت الرؤوس والأعلام والأسرى إلى صاحب الزنج، فأمر بحبس الأسرى، ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون فيها ويعبثون، إلى أن قدم موسى بن بغا. قال «3» : ولما كان في ذى القعدة أمر المعتمد على الله موسى بن بغا

بالمسير إلى حرب صاحب الزنج، فسير إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة اسحاق بن كنداجيق، وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما، وأمرهم بمحاربة صاحب الزنج، فسار عبد الرحمن إلى محاربة على ابن أبان فتواقعا، فانهزم عبد الرحمن ثم استعدّ وعاد إلى على، فأوقع به وقعة عظيمة قتل فيها من الزنج قتلا ذريعا، وأسر خلقا كثيرا، وانهزم على بن أبان، ثم أراد ردّ الزنج فلم يرجعوا من الخوف الذى دخلهم من عبد الرحمن، فلما رأى ذلك أذن لهم بالانصراف، فانصرفوا إلى مدينة صاحبهم، ووافى عبد الرحمن حصن مهدي ليعسكر به، فسيّر إليه صاحب الزنج علىّ بن أبان فواقعة فلم يقدر عليه، ومضى يريد الموضع المعروف بادركه «1» ، وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد، فواقعه على بن أبان فهزمه علىّ، ثم واقعه ثانية فهزمه إبراهيم، فمضى علىّ بالليل حتى انتهى إلى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر في جمع من الموالى، فلم يصل إليه لامتناعه بالآجام والقصب والحلافى، فأضرمه عليه نارا فخرجوا هاربين، فأسر منهم أسرى وانصرف أصحاب عبد الرحمن بالأسرى والظفر، ثم سار عبد الرحمن نحو علىّ بن أبان بمكان نزل فيه، فكتب إلى صاحب الزنج يستمده فأمدّه بثلاث عشرة شذاة، ووافاه عبد الرحمن فتواقعا يومهما، فلما كان الليل انتخب علىّ من أصحابه جماعة ممّن يثق بهم، وسار وترك عسكره وأتى عبد الرحمن من ورائه فبيّته، فنال

منه شيئا يسيرا وانحاز عبد الرحمن، فأخذ علىّ منهم أربع شذوات وأنى عبد الرحمن دولاب فأقام به، وسار طاشتمر إلى علىّ فوافاه وقاتله، فانهزم علىّ إلى نهر السّدره، وكتب طاشتمر يستمد عبد الرحمن ويخبره بانهزام علىّ، فأتاه عبد الرحمن وواقع عليا بنهر السّدرة وقعه عظيمة، فانهزم علىّ إلى صاحب الزنج، وعسكر عبد الرحمن ببيان «1» فكان هو وإبراهيم بن سيما يتناوبان المسير إلى عسكر الزنج فيوقعان به، واسحاق بن كنداجيق بالبصرة، وقد قطع الميرة عن الزنج، فكان صاحبهم يجمعهم يوم محاربة عبد الرحمن وإبراهيم، فإذا انقضت الحرب سيّر طائفة منهم إلى البصرة لقتال اسحاق، فأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا، إلى أن انصرف موسى بن بغا عن حرب الزنج، ووليها مسرور البلخى على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولى أبو الساج الأهواز وسيّر عبد الرحمن إلى فارس، وأمر أبو الساج بمحاربة الزنج فندب صهره «2» لمحاربتهم، فلقيه علىّ بن أبان بناحية دولاب، فقتل عبد الرحمن وانحاز أبو الساج إلى ناحية عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها وسبوا وأحرقوا، ثم انصرف أبو الساج عما كان وليه من الأهواز وحرب الزنج، ووليها إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا.

ذكر انتداب أبى أحمد الموفق لحرب الزنج وما شغله عن ذلك واستعماله مسرورا البلخى على حربهم وما كان في خلال ذلك من أخبارهم

ذكر انتداب أبى أحمد الموفق لحرب الزنج وما شغله عن ذلك واستعماله مسرورا البلخى على حربهم وما كان في خلال ذلك من أخبارهم وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولّى المعتمد على الله أخاه أبا أحمد العهد بعد ابنه جعفر، ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه من الأعمال ما قدّمنا ذكره في أخباره الدولة العباسية، وولّى موسى بن بغا إفريقية على ما قدمناه، وأمر المعتمد على الله أخاه الموفّق بحرب الزنج، فولّى الموفّق الأهواز والبصرة وكور دجلة- وذلك من جملة ما هو مضاف إلى ولايته- مسرورا البلخى، وسيّره على مقدمته في ذى الحجة من السنة وعزم على المسير بعده، فحدث من أمر يعقوب بن الليث الصفّار ما منعه عن المسير على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الصفارية، ثم رجع مسرور البلخى لقتال يعقوب، فخلت البلاد من العساكر السلطانية، فبثّ صاحب الزنج سراياه في تلك البلاد تنهب وتحرق وتخرّب، وذلك في سنة اثنتين وستين ومائتين، وأتته الأخبار بخلوّ البطيحة من جند السلطان، فأمر سليمان بن جامع وجماعة من أصحابة بالمسير إلى الحوانيت، وأمر سليمان بن موسى بالمصير إلى القادسية، وقدم أبّا «1» التركى في ثلاثين شذاة يريد عسكر الزنج فنهب وأحرق، فكتب صاحب الزنج إلى سليمان بن موسى يأمره بمنعه من العبور، فأخذ سليمان عليه الطريق، فقاتلهم

شهرا حتى تخلّص، وانحاز إلى سليمان بن جامع من مذكورى البلاليّة وأنجادهم جمع كثير في خمسين ومائة سميرية، وكان مسرور البلخى قد وجّه قبل مسيره عن واسط جماعة من أصحابة في شذاة إلى سليمان، فأشار الباهليون على سليمان أن يتحصّن في عقر ما وراء «1» طهيثا والأدغال التى فيها، وكرهوا خروجه عنهم لموافقته في فعله وخافوا السلطان، فسار فنزل إليه بقربة مروان بالجانب الشرقى من نهر طهيثا، وجمع إليه رؤساء الباهليين، وكتب إلى صاحب الزنج يعلمه بما صنع، فكتب إليه يصوّب رأيه ويأمره بانفاذ ما عند من ميرة ونعم، فأنفذ ذلك إليه. وورد الخبر على سليمان أنّ أغرتميش وخشيشا قد أقبلا في الخيل والرجال «2» والسميريات والشذاة يريدون حربه، فجزع جزعا شديدا، فلما أشرفوا عليه ورآهم أخذ جمعا من أصحابه، وسار راجلا واستدبر أغرتميش، وجدّ أغرتميش في المسير إلى عسكر سليمان، وكان سليمان قد أمر الذي استخلفه في جيشه ألّا يظهر منهم أحد لأصحاب أغرتميش، وأن يخفوا أنفسهم ما قدروا إلى أن يسمعوا أصوات طبولهم، فإذا سمعوها خرجوا عليه، وأقبل أغرتميش إليهم فجزع أصحاب سليمان جزعا شديدا فتفرّقوا، ونهضت شرذمة منهم فواقعوهم وشغلوهم عن دخول العسكر، وجاء سليمان من خلفهم وضرب طبوله، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أصحاب أغرتميش وظهر من كان

من السودان بطهيثا، ووضعوا السيوف فيهم فقتل خشيش وانهزم أغرتميش، وتبعه الزنوج إلى عسكره فنالوا حاجتهم منه، وأخذوا شذاوات فيها مال وغيره، فعاد أغرتميش إليهم فانتزعها من أيديهم، وعاد سليمان وقد ظفر وغنم، وكتب إلى صاحب الرنج بالخبر وسيّر إليه رأس خشيش، فسيّره إلى علىّ بن أبان وهو بنواحى الأهواز، وسيّر سليمان سريّة فظفروا باحدى عشرة شذاة وقتلوا أصحابها. ثم كانت للزنج وقعة عظيمة انهزموا فيها في سنة اثنتين وستين أيضا وكانت هذه الوقعة مع أحمد بن ليثويه، وكان سببها أن مسرورا البلخى وجّه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز، فنزل السوس وكان يعقوب الصفّار- المستولى على خراسان- قد قلّد محمد بن عبيد الله ابن هزار «1» مرد الكردى كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وأوهمه أنّه يتولى له كور الأهواز، وكان محمد يكاتبه قديما، وعزم على مداراة الصفّار وقائد الزنج، حتى يستقيم له الأمر فيها، فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما سأل، على أن يكون على بن أبان المتولّى للبلاد، ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد ذلك، فوجّه إليه على بن أبان جيشا وأمدّهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحو السوس فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنها، وقاتلهم فقتل خلقا كثيرا وأسر جماعة، وسار أحمد حتى جندى «2» سابور، وسار على بن أبان من الأهواز منجدا محمد بن

عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فلقيه محمد «1» فى جيش كثير من الأكراد والصعاليك، ودخل محمد تستر، فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله، فخرج عن جندى سابور إلى السوس، وكان محمد قد وعد علىّ بن أبان أن يخطب لصاحبه قائد الزنج يوم الجمعة على منبر تستر، فلما كان يوم الجمعة خطب للمعتمد على الله وللصفّار، فلما علم على بن أبان ذلك انصرف إلى الأهواز، وهدم قنطرة كانت هناك لئلا تلحقه الخيل، وانتهى أصحاب علىّ إلى عسكر مكرم فنهبوها، وكانت داخلة في سلم صاحب الزنج فغدروا بها، وساروا إلى الأهواز، فلما علم أحمد ذلك أقبل إلى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فانهزم محمد ودخل أحمد تستر، وأنت الأخبار على بن أبان أنّ أحمد على قصده، فسار إلى لقائه ومحاربته فالتقيا واقتتل العسكران، فاستأمن جماعة من الأعراب، الذين كانوا مع علىّ بن أبان- إلى أحمد بن ليثويه، فانهزم باقى أصحاب علىّ وثبت معه جماعة يسيرة، فاشتد القتال وترجّل على بن أبان وباشر القتال راجلا، فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر به، فلما عرفوه انصرف هاربا، وأتاه بعض أصحابه بسميريّة فركب فيها ونجا مجروحا، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وعاد إلى الأهواز ولم يقم بها، ومضى إلى عسكر صاحبه يداوى جراحه، واستخلف على عسكره بالأهواز، فلما برئت جراحه عاد إلى الأهواز، ووجّه أخاه الخليل بن أبان في سنة ثلاث وستين ومائتين في جيش كثيف إلى

ذكر دخول الزنج واسط وما تقدم ذلك من الحروب والوقائع

أحمد بن ليثويه، وكان أحمد بعسكر مكرم فكمّن لهم أحمد وخرج إلى قتالهم، فالتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال، وخرج الكمين على الزنج فانهزموا وتفرّقوا وقتلوا، ووصل المنهزمون إلى على بن أبان، فوجّه علىّ مسلحة [إلى المسرقان] «1» ، فوجّه إليهم أحمد بن ليثويه ثلاثين فارسا من أعيان أصحابه فقتلهم الزنج جميعهم. ذكر دخول الزنج واسط وما تقدم ذلك من الحروب والوقائع كان دخول الزنج واسط في سنة أربع وستين ومائتين، وذلك أن سليمان بن جامع لما سار إلى البطائح في سنة اثنتين وستين- وكان بينه وبين أغرتميش ما ذكرناه- كتب إلى صاحبه يستأذنه في المسير إليه ليحدث به عهدا، فأذن له في ذلك، فأشار عليه الجبّائى «2» أن يتطرق إلى عسكر تكين البخارىّ، وهو ببردود «3» ، فقبل قوله وسار إلى تكين، فلما كان على فرسخ منه قال له الجبّائى: الرأى أن تقيم أنت هاهنا، وأمضى أنا في السميريّات فأجرّ القوم إليك فيأتونك وقد تعبوا، فتنال منهم حاجتك، ففعل سليمان ذلك وجعل بعض أصحابه كمينا، ومضى الجبّائى إلى تكين فقاتله ساعة، ثم تطارد لهم فتبعوه،

فأرسل إلى سليمان يعلمه ذلك، وقال لأصحابه- وهو بين يدى أصحاب تكين شبه المنهزم ليسمع أصحاب تكين قوله- غرّرتمونى وأهلكتمونى!! وكنت نهيتكم عن الدخول هاهنا فأبيتم ولا أرانا ننجو منه!! فطمع أصحاب تكين وجدّوا في طلبه، وجعلوا ينادون «بلبل في قفص» ، فما زالوا كذلك حتى جاوزوا موضع الكمين وقاربوا عسكر سليمان، وقد كمّن أيضا خلف جدر هناك، فخرج سليمان إليهم فقاتلهم، وخرج الكمين من خلفهم، وعطف الجبّائى على من في النهر، فاشتد القتال، فانهزم أصحاب تكين من الوجوه كلها، وركبهم الزنج فقتلوهم وسلبوهم أكثر من ثلاثة فراسخ، وعادوا عنهم، فلما كان الليل عاد الزنج إليهم وهم في معسكرهم فكبسوهم، فقاتلهم تكين وأصحابه فانكشف سليمان، ثم عبىّ أصحابة وأمر طائفة أن تأتيه من جهة ذكرها بهم، وطائفة من الماء، وأتى هو في الباقين، وقصدوا تكين من جهاته كلها، فعلم يقف من أصحابه أحد، وانهزموا وتركوا عسكرهم فغنم الزنج ما فيه، وعادوا بالغنيمة. واستخلف سليمان الجبّائى على عسكره، وسار إلى صاحبه وذلك فى سنة ثلاث وستين، فلما سار سليمان إلى صاحب الزنج خرج الجبّائى بالعسكر إلى مازروان «1» لطلب الميرة، فاعترضه جعلان فقاتله، فانهزم الجبّائى وأخذت سفنه، وأتته الأخبار أنّ منجور ومحمد ابن على «2» بن حبيب اليشكرى قد بلعا الحجّاجيّة، فكتب إلى

صاحبه بذلك، فسيّر إليه سليمان فوصل إلى طهيثا مجدا، وأظهر أنّه يريد قصد جعلان، وقدم الجبّائى وأمره أن يأتى جعلان ويقف بحيث يراه ولا يقاتله، ثم سار سليمان نحو محمد بن على بن حبيب مجدا فأوقع به وقعة عظيمة، وغنم غنائم كثيرة، وقتل أخا لمحمد بن على ورجع، وذلك في شهر رجب سنة ثلاث وستين أيضا. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان، وبها قائد يقال له جيش «1» ابن خمارتكين فأوقع به، فهزمه ونهب القرية وأحرقها وعاد، ثم سار فى شعبان أيضا إلى مواضع فنهبها وعاد، ثم سار في رمضان وأظهر أنّه يريد جعلان بمازروان «2» ، فبلغت الأخبار جعلان «3» فضبط عسكره، فتركه سليمان وعدل إلى أبّا فأوقع به وهو غارّ، وغنم منه ست شذاوات، ثم أرسل الجبّائى في جماعة لينهب، فصادفهم جعلان فأخذ سفنهم وغنم منهم، فأتاد سليمان في البرّ فهزمه واستنقذ سفنهم، وغنم شيئا آخر وعاد، ثم سار سليمان إلى الرصافة في «4» ذى القعدة فأوقع بمطر بن جامع وهو بها، وغنم غنائم كثيرة وأحرق الرصافة «5» واستباحها، وحمل أعلاما وانحدر إلى مدينة صاحب الزنج، وأقام ليعيّد هناك بمنزله، فسار مطر إلى الحجّاجيّة فأوقع بأهلها وأسر جماعة، وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط، وصار مطر إلى قريب طهيثا ورجع، فكتب الجبّائى إلى سليمان بذلك، فسار نحوه فوافاه لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين.

ذكر وقائع كانت بين الزنج وبين أحمد بن ليثويه وتكين البخارى وأغرتميش فى سنة خمس وسنة ست وستين ومائتين

ثم صرف جعلان ووافاه أحمد بن ليثويه فأقام بالشديديّة، ومضى سليمان إلى تكين في خمس شذاوات، وذلك في سنة أربع وستين، فواقعه تكين بالشديديّة، وكان أحمد بن ليثويه حينئذ قد سار إلى الكوفة، فظهر تكين على سليمان وأخذ الشذاوات بما فيها، وكان فيها صناديد سليمان وقوّاده فقتلهم، ثم إنّ أحمد عاد إلى الشديديّة وضبط تلك الأعمال، حتى وافاه محمد المولّد وقد ولّاه الموفّق مدينة واسط، فكتب سليمان إلى صاحبه يستمده، فأمدّه بالخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس «1» ، فلما أتاه المدد قصد إلى محاربة محمد المولّد، فأوقع به وهرب المولّد، ودخل سليمان مدينة واسط فقتل فيها خلقا كثيرا ونهب وأحرق، وكان بها كنجور «2» البخارى، فقاتله يومه إلى العصر ثم قتل، وانصرف سليمان عن واسط إلى جنبلاء ليعيث ويخرّب، فأقام هناك تسعين ليلة. ذكر وقائع كانت بين الزنج وبين أحمد بن ليثويه وتكين البخارى وأغرتميش فى سنة خمس وسنة ست وستين ومائتين وفي سنة خمس وستين كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناحية جنبلاء، وسبب ذلك أن سليمان كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يسمّى الزهيرى «3» ويسأله

أن يأذن في عمله، ويقول إنّه متى أنفذه تهيّأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة، فأنفذ إليه زكرويه «1» لذلك، وأمره بمساعدته والنفقة على عمل النهر، فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطيّة نحوا من شهر، وشرعوا في عمل النهر، وكان أصحاب سليمان في أثناء ذلك يتطرّقون إلى ما حولهم، فواقعه أحمد بن ليثويه، وهو عامل الموفّق بجنبلاء، فقتل من الزنوج نيّفا وأربعين قائدا، ومن عامّتهم ما لا يحصى كثرة وأحرق سفنهم، فمضى سليمان مهزوما إلى طهيثا. وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميريّة إلى جبّل «2» ، فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا. وفيها دخل الزنج النّعمانيّة فأحرقوها وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السودان بغداد. وفيها استعمل الموفّق مسرورا البلخى على كور الأهواز، فولّى مسرور ذلك تكين البخارىّ، فسار تكين إليها، وكان على بن أبان والزنج قد أحاطوا بتستر، فخاف أهلها وعزموا على تسليمها إليهم، فوافاهم تكين وهم على تلك الحال، فواقع على بن أبان حال وصوله، فانهزم على والزنج وقتل كثير منهم وتفرقوا، ونزل تكين تستر. قال: وهذه الوقعة تعرف بوقعة كودك «3» وهى مشهورة.

قال: ثم إن عليا قدم عليه جماعة من قوّاد الزنج، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس، فهرب منهم غلام رومى إلى تكين وأخبره بمقامهم بالقنطرة، وتشاغلهم بالنبيذ وتفرّقهم في جمع الطعام، فسار تكين إليهم ليلا فأوقع بهم، وقتل من قوّادهم جماعة وانهزم الباقون، وسار تكين إلى على بن أبان فلم يقف له علىّ وانهزم، وأسر غلام له يعرف يجعفرويه ورجع علىّ إلى الأهواز ورجع تكين إلى تستر، وكتب علىّ إلى تكين يسأله الكفّ عن قتل غلامة فحبسه، ثم تراسل علىّ وتكين ونهاديا، فبلغ الخبر مسرورا بميل تكين إلى الزنج، فسار حتى وافى تكين وقبض عليه وحبسه حتى مات، وتفرّق أصحاب تكين: ففرقة صارت إلى الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردى، فبلغ ذلك مسرورا فأمّنهم، فجاءه الباقون منهم. قال: وبعض ما ذكرناه كان في ست وستين ومائتين. وفي سنة ست وستين ولى أغرتميش ما كان يتولاه تكين البخارى من أعمال الأهواز، فدخل تستر ومعه أبّا ومطر بن جامع، فقتل مطر جعفرويه- غلام علىّ بن أبان- وجماعة معه كانوا مأسورين، وساروا إلى عسكر مكرم، وأتاهم الزنج هناك مع على بن أبان فاقتتلوا، فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوا، ورجع علىّ إلى الأهواز وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج، وسار أغرتميش ومن معه نحو الخليل، ليعبروا إليه من قنطرة أربك، فكتب إلى أخيه علىّ فوافاه في النهر، وخاف أصحابه الذين خلفّهم بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السّدرة، وتحارب علىّ وأغرتميش يومه، ثم انصرف علىّ إلى الأهواز فلم يجد أصحابه، فرجّه من يردّهم من نهر السدرة،

ذكر دخول الزنج رامهرمز

فعسر عليهم ذلك فتبعهم وأقام معهم ورجع أغرتميش، فنزل «1» عسكر مكرم واستعد لقتالهم، وبلغ ذلك أغرتميش «2» ومن معه من عسكر الخليفة، فساروا إليه فكمّن لهم علىّ، وقدّم الخليل إلى قتالهم فاقتتلوا، فكان أوّل النهار لأصحاب الخليفة، ثم خرج عليهم الكمين فانهزمو وأسر مطر بن جامع وعدّة من القوّاد، فقتله علىّ بغلامه جعفرويه وعاد إلى الأهواز، وأرسل رؤوس القتلى إلى صاحب الزنج، وكان علىّ وأغرتميش بعد ذلك في حروبهم على السواء، وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علىّ بن أبان، فلما رأى ذلك أغرنميش وادعه، وجعل علىّ يغير على النواحى، فأغار على قرية بيروذ ونهبها، ووجّه الغنائم إلى صاحبه. ذكر دخول الزنج رامهرمز وفي سنه ست وستين ومائتين دخل علىّ والزنج رامهرمز، وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علىّ بن أبان، لما في نفس علىّ منه لما ذكرناه، فكتب إلى انكلاى ابن صاحب الزنج، وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علىّ عنه ويكون إلى نفسه، فزاد ذلك غيظ علىّ منه، وكتب إلى صاحب الزنج بالايقاع بمحمد، ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج، فأذن له فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج، فمطله ودافعه فسار إليه علىّ وهو برامهرمز، فهرب محمد عنها ودخلها علىّ والزنج فاستباحها، ولحق محمد بأقصى معاقله، وانصرف علىّ غانما، وخاف

محمد فكتب إليه يطلب المسالمة، فأجابه إلى ذلك على مال يؤديه إليه، فحمل إليه مائتى ألف درهم فأنفذها إلى صاحب الزنج، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله. وفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيها، وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علىّ بن أبان بعد الصلح يسأله المعونة على طائفة من الأكراد، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم، فكتب علىّ إلى صاحبه يستأذنه، فكتب إليه أن: وجّه إليه جيشا وأقم أنت، ولا تنفذ حتى تستوثق منه بالرهن، ولا تأمن غدره والطلب بثأره، فكتب علىّ إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن، فبذل له اليمين ومطله بالرهائن، فلحرص علىّ على الغنائم أنفذ إليه جيشا، فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم ونشبت الحرب، فتخلى أصحاب محمد عن الزنج فانهزموا، وقتلت الأكراد منهم خلقا كثيرا، وكان محمد قد أعدّ لهم من يتعرض لهم إذا انهزموا، فأوقعوا بهم وسلبوهم وأخذوا دوابّهم، ورجعوا بأسوأ حال، فكتب علىّ إلى صاحب الزنج يعرّفه فقال: ضيّعت أمرى في ترك الرهائن، وكتب إلى محمد يتهدّده فخاف محمد، وكتب يخضع ويذل وردّ بعض الدواب، وقال: إنّنى كبست من كانت عندهم، وخلّصت هذه منهم، فأظهر صاحب الزنج الغضب عليه، فأرسل محمد إلى بهبوذ ومحمد بن يحيى الكرمانىّ، وكان أقرب الناس إلى علىّ، فضمن لهما ما لا إن أصلحا له عليا وصاحبه ففعلا ذلك، وأجابهما صاحب الزنج بالرضا عن محمد، على أن يخطب له على منابر بلاده، فأعلما محمدا ذلك فأجابهما إلى جميع ما طلبا، وجعل

ذكر مسير أبى العباس بن الموفق وهو المعتضد بالله إلى حرب الزنج وانتزاعه عامة ما كان بيد سليمان ابن جامع والزنج من أعمال دجلة

براوغ في الدعاء له على المنابر، ثم إنّ عليا استعدّ لمتّوث وسار إليها فلم يظفر بها، فرجع وعمل السلاليم والآلات التى يصعد بها إلى السور، واستعدّ لقصدها فعرف ذلك مسرور البلخى، وهو يومئذ بكور الأهواز، فلما سار علىّ إليها سار إليه مسرور، فوافاه قبل المغرب وهو نازل عليها، فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا ما كانوا أعدّوه وقتل منهم خلق كثير، وانصرف علىّ مهزوما، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتته الأخبار باقبال الموفّق، ولم يكن لعلىّ بعدها وقعة، حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على الموفّق؛ على ما نذكره إن شاء الله، فكتب إليه صاحبه يأمره بالعود إليه ويستحثه حثا شديدا. ذكر مسير أبى العباس بن الموفق وهو المعتضد بالله الى حرب الزنج وانتزاعه عامة ما كان بيد سليمان ابن جامع والزنج من أعمال دجلة كان مسيره لذلك في سنة ست وستين ومائتين، وسبب ذلك أن الزنج لما دخلوا واسط وفعلوا بها ما فعلوا- واتصل ذلك بالموفّق- أمر ابنه أبا العباس بتعجيل المسير بين يديه، إليهم، فسار في شهر ربيع الآخر وشيّعه أبوه، وسيّر معه عشرة آلاف من الرجّالة والخيّالة فى العدّة الكاملة، وأخذ معه الشذاوات والسميريّات والمعابر للرجّالة، فسار حتى وافى دير العاقول، وكان على مقدمته في الشذاوات نصير المعروف بأبى حمزة، فكتب نصير إليه يخبره أنّ سليمان بن جامع قد وافى خيله ورجله وشذاوات وسميريّات- والجبّائى على مقدمته، حتى

نزل الجزيرة فحصر بردودا «1» ، وأنّ سليمان بن موسى الشعرانىّ قد وافى الصلح، ووجّه طلائعه ليعرف أخبارهم، فعادوا وأعلموه موافاة الزنج وجيشهم، وأن أوّلهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط. قال: وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا: إن العباس فتى حدث غرّ بالحرب، والرأى لنا أن نرميه بحدّنا كلّه، ونجتهد فى أول مرّة نلقاه فلعلّ ذلك يروعه فينصرف عنّا، فجمعوا وحشدوا، فلما علم أبو العباس قربهم عدل عن سنن الطريق واعترض في مسيره، ولقى أصحابه أوائل الزنج فتطاردوا لهم حتى طمعوا فيهم وتبعوهم، وجعلوا يقولون: اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم قد اشتغل بالصيد، فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه، وصاح بنصير إلى أين يتأخر عن هذه الأكلب، فرجع نصير، وركب أبو العباس سميريّة وحفّ به أصحابه من جميع الجهات، فانهزمت الزنج وكثر القتل فيهم، وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله، وهى على ستة فراسخ من الموضع الذى لقوهم به وأخذوا منهم خمس شذاوات وعدّة سميريّات، وأسر جماعة واستأمن جماعة، فكان هذا أول الفتح. فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير، وسار سليمان الشعرانىّ إلى سوق الخميس، وانحدر أبو العباس فأقام بالعمر، وهو على فرسخ من واسط، وأصلح شذاواته وأخذ يراوح القوم القتال ويعاديهم، ثم إن سليمان استعدّ وحشد وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه، وقالوا إنّه

حدث غرّ يغرّر بنفسه وكمّنوا كمينا، فبلغ الخبر أبا العبّاس فحذر، وأقبلوا وقد كمّنوا الكمناء ليغتر باتّباعهم فيخرج الكمين عليه، فمنع أبو العبّاس أصحابه من اتّباعهم، فلما علموا أنّ كيدهم لم يتمّ خرج سليمان في الشذاوات والسميريّات، فأمر أبو العبّاس نصيرا أن يبرز إليهم، وركب هو في شذاة من شذاواته سماها الغزال، ومعه جماعة من خاصّته، وأمر الخيّالة بالمسير بازائه على شاطىء النهر إلى أن ينقطع، فيعبروا دوابّهم، ونشبت الحرب بين الفريقين فوقعت الهزيمة على الزنج، وغنم أبو العبّاس منهم أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبّائى بعد أن أشفيا على الهلاك، وبلغوا طهيثا وأسلموا ما كان معهم، ورجع أبو العباس إلى معسكره، وأقام الزنج عشرين يوما لا يظهر منهم أحد، وجعلوا على طريق الخيل آبارا وجعلوا فيها سفافيد حديد، وجعلوا على رؤوسها البوارى والتراب ليسقط فيها المجتازون، فسقط فيها رجل ففطنوا لها فتركوا ذلك الطريق. واستمد سليمان صاحب الزنج فأمدّه بأربعين سميريّة بآلاتها ومقاتليها، فعادوا للتعرض للحرب فلم يثبتوا لأبى العبّاس، ثم سيّر إليهم عدة سميريّات فأخذها الزنج، فبلغه الخبر وهو يتغدّى فركب في سميريّة ولم ينتظر أصحابه وتبعه منهم من خفّ فأدرك الزنج، فانهزموا وألقوا أنفسهم في الماء، فاستنقذ سميريّاته ومن كان فيها، وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميريّة ورمى أبو العبّاس يومئذ عن قوس حتى دميت ابهامه، فلما رجع أمر لمن معه بالخلع، وأمر باصلاح السميريّات المأخوذة من الزنج. ثم إنّ أبا العبّاس رأى أن يتوغّل مازروان حتى يصير إلى الحجّاجيّة ونهر الأمير، ويعرف ما هناك، فقدّم نصيرا في أوّل السميريّات

وركب أبو العبّاس في سميريّة ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يظن أنّ نصيرا أمامه، فلم يقف له على خبر، وكان قد سار على غير طريق أبى العباس، وخرج من مع أبى العبّاس من الملّاحين إلى غنم رأوها ليأخذوها، فبقى هو ومحمد بن شعيب فأتاهما جمع من الزنج من جانبى النهر، فقاتلهم أبو العباس بالنشّاب، ووافاه زيرك في باقى الشذاوات، فسلم أبو العبّاس وعاد إلى عسكره، ورجع نصير، وجمع سليمان بن جامع أصحابه وتحصّن بطهيثا، وتحصّن الشعرانىّ وأصحابه بسوق الخميس، وجعلوا يحملون الغلات إليها، واجتمع بالصينيّة جمع كثير، فوجّه أبو العباس جماعة من قوّاده على الخيل إلى ناحية الصينيّة، وأمرهم بالمسير في البرّ وإذا عرض لهم نهر عبروه، وركب هو في الشذاوات والسميريّات، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوا ولجأوا إلى الماء والسفن، فلم يلبثوا أن وافتهم الشذاوات مع أبى العبّاس، فلم يجدوا ملجأ فاستسلموا، فقتل منهم فريق وأسر فريق، وألقى فريق أنفسهم في الماء، وأخذ أصحاب أبى العبّاس سفنهم وهى مملوءة أرزا، وأخذ الصينيّة وأزاح الزنج عنها، فانحازوا إلى طهيثا وسوق الخميس، ورجع أبو العباس إلى عسكره وقد فتح الصينيّة. وبلغه أن جيشا عظيما للزنج مع ثابت بن أبى دلف ولؤلؤ، فسار إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر، فقتل منهم خلقا كثيرا منهم لؤلؤ، وأسر ثابتا فمنّ عليه وجعله مع بعض قوّاده، واستنقذ خلقا كثيرا من النساء، فأمر بردّهنّ إلى أهلهنّ، وأخذ كلّ ما كان الزنج جمعوه، وأمر أصحابه أن يتجهزوا للمسير إلى سوق الخميس،

وأمر نصيرا بتعبئة أصحابه للمسير، فقال له: إن نهر سوق الخميس ضيّق، فأقم أنت ونسير نحن، فأبى عليه، فقال له محمد بن شعيب: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر الشذاوات ولا الرجال فإنّ النهر ضيّق، فسار نصير بين يديه إلى فم برمساور «1» ، فوقف أبو العبّاس وتقدّمه نصير في خمس عشرة شذاة، فى نهر يؤدى إلى مدينة الشعرانىّ، التى سمّاها المنيعة في سوق الخميس، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كثيرة في البرّ على أبى العبّاس، فمنعوه من الوصول إلى المدينة، وقاتلوه قتالا شديدا من أوّل النهار إلى الظهر، وخفى عليه خبر نصير، وجعل الزنج يقولون: قد قتلنا نصيرا، فاغتمّ أبو العبّاس لذلك وأمر محمدا يتعرّف خبره، فسار فرآه عند سكر «2» الزنج، وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم، وهو يقاتلهم قتالا شديدا، فعاد إلى أبى العبّاس فأخبره فسرّ بذلك، وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العبّاس، ووقف أبو العبّاس فقاتلهم فرجعوا عنه، وكمّن بعض شذاواته وأمر أن تظهر واحدة منها، فطمعوا فيها وأدركوها فعلقوا بسكّانها، فخرجت عليهم السفن الكمائن وفيها أبو العبّاس، فانهزم الزنج وغنم أبو العبّاس منهم ست سميريّات، وانهزموا لا يلوون على شىء من الخوف، ورجع أبو العبّاس إلى عسكره سالما، وخلع على الملّاحين وأحسن إليهم.

ذكر مسير الموفق لقتال الزنج وفتح المنيعة

ذكر مسير الموفق لقتال الزنج وفتح المنيعة قال: وفي سنة سبع وستين ومائتين أيضا سار الموفّق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج، وجمع وحشد الفرسان والرجّالة واستكثر من العدّة، وسدّ الجهات التى يخاف منها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه وكان صاحب الزنج قد أرسل إلى علىّ بن أبان المهلبىّ، يأمره أن يجتمع مع سليمان بن جامع على حرب أبى العبّاس بن الموفّق، فخاف الموفّق وهنا يتطرق إلى ابنه أبى العبّاس، فسار عن بغداد في صفر سنة سبع وستين فوصل إلى واسط في شهر ربيع الأوّل، فلقيه ابنه فأخبره بحال جنده وقوّاده فخلع عليه وعليهم، ورجع أبو العبّاس إلى معسكره بالعمر، ثم نزل الموفّق على نهر بسنداد «1» بازاء قرية عبد الله، وأمر ابنه فنزل شرقىّ دجلة بازاء فوّهة بردودا، وولّاه مقدّمته وأعطى الجيش أرزاقهم، وأمر ابنه أن يسير بما معه من الآلات الحربية إلى فوّهة برمساور، فرحل في نخبة أصحابه «2» ، ورحل الموفّق بعده فنزل قوّهة برمساور، فأقام يومين ثم وصل إلى المدينة التى سماها صاحب الزنج- المنيعة- من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين، وسلك بالسفن في برمساور وسارت الخيل شرقيّه حتى «3» حاذوا براطق، الذى يوصل إلى المنيعة، وأمر

أن تعبر الخيل لتصير من الجانبين، وأمر ابنه أبا العبّاس بالتقدّم بالشذاوات بعامة الجيش، ففعل فلقيه الزنج فحاربوه حربا شديدة، ووافاهم أبو أحمد الموفّق والخيل من جانبى النهر، فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرّقوا، وعلا أصحاب أبى العبّاس السور ووضعوا السيوف فى من لقيهم، ودخلوا المنيعة فقتلوا بها خلقا كثيرا، وأسروا عالما عظيما، وغنموا ما كان فيها، وهرب الشعرانى ومن معه وتبعه أصحاب الموفّق إلى البطائح، فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام، ورجع الموفّق إلى معسكره من يومه، وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأه، سوى من ظفر به من الزنجيّات، وأمر بحفظ النساء وحملهنّ إلى واسط ليدفعن إلى أهلهنّ، ثمّ بكّر إلى المدينة وأمر الناس بأخذ ما فيها فأخذ جميعه، وأمر بهدم سورها وطمّ خندقها واحراق ما بقى فيها من السفن، وأخذوا من الطعام والشعير والأرز شيئا كثيرا، فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند. قال: ولما انهزم سليمان لحق بالمذار، وكتب إلى صاحب الزنج بذلك، فورد الكتاب عليه- وهو يتحدّث- فانحلّ بطنه فقام إلى الخلاء دفعات، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل الذى نزل بالشّعرانىّ ويأمره بالتيقّظ. قال: وأقام الموفّق ببر مساور يومين يتعرّف أخبار الشّعرانىّ وسليمان بن جامع، فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالحوانيت، فسار حتى وافى الصينيّة، وأمر ابنه أبا العبّاس بالتقدّم بالشذاوات والسميريّات إلى الحوانيت، فسار أبو العبّاس إليها فلم ير سليمان بها، ورأى هناك جمعا من الزنج مع قائدين لهم، خلّفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلّات كثيرة لهم فيها، فحاربهم أبو

ذكر استيلاء أبى أحمد الموفق على طهيثا

العبّاس إلى أن حجز بينهم الليل، واستأمن إلى أبى العبّاس رجل، فسأله عن سليمان بن جامع فأخبره أنّه مقيم بطهيثا بمدينته التى سماها المنصورة، فعاد أبو العبّاس إلى أبيه بالخبر، فأمره بالمسير إليه فسار حتى نزل بردوا، فأقام بها لاصلاح ما يحتاج إليه، واستكثر من الآلات التى يسدّ بها الأنهار ويصلح بها الطرق للخيل، وخلّف ببردودا بغراج التركى. ذكر استيلاء أبى أحمد الموفق على طهيثا قال: ولما فرغ الموفّق من الذى يحتاج إليه سار عن بردودا إلى طهيثا لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان امسيره على الظهر في خيله، وحدّرت السفن والآلات فنزل بقرية الجوزيّة وعقد جسرا، ثم غدا فعبر خيله عليه ثم عبر بعد ذلك، فسار حتى نزل معسكرا على ميلين من طهيثا فأقام بها يومين، ومطرت لسماء مطرا شديدا فشغل عن القتال، ثم ركب لينظر موضعا للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهيثا- وهى التى سمّاها المنصورة- فتلقّاه خلق كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب وترجّل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذى كانوا فيه، وأسر من غلمان الموفّق جماعة، ورمى أبو العبّاس ابن الموفّق أحمد بن مهدى «1» الجبّائى بسهم خالط دماغه فسقط، وحمل

إلى صاحب الزنج فلم يلبث أن مات بحضرته، فصلّى عليه وعظمت لديه المصيبة بموته، وكان أعظم أصحابه غناء، وانصرف الموفّق إلى معسكره وقت المغرب، وأمر أصحابه بالتحارس ليلتهم والتأهّب للحرب، فلما أصبحوا- وذلك في يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر- عبىّ الموفّق أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضا فرسانا ورجّالة، وأمر بالشذاوات والسميريّات أن يسار بها إلى النهر، الذى يشقّ مدينة سليمان، وهو النهر المعروف ينهر المنذر، ورتّب أصحابه في المواضع التى يخاف منها، ثم نزل فصلّى أربع ركعات وابتهل إلى الله عزّ وجلّ في النصر ثم لبس سلاحه، وأمر ابنه أبا العبّاس أن يتقدّم إلى السور، فتقدّم إليه فرأى خندقا فأحجم الناس عنه، فحرّضهم قوّادهم وترجّلوا معهم فاقتحموه وعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم، فلمّا رأى الزنج تسرّعهم إليهم ولّوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبى العبّاس فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصّنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق سورا، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق فيكشفهم أصحاب أبى العبّاس، ودخلت الشذاوات والسميريّات المدينة من النهر. فجعلت تغرق كل ما مرّت لهم به من سميريّة وشذاة، وقتلوا من بجانبى النهر وأسروا، حتى أجلوهم عن المدينة وعمّا اتصل بها، وكان مقدار العمارة بها فرسخا، وحوى الموفّق ذلك كلّه، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه، وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبو أحمد من نساء أهل واسط والكوفة والقرى وصبيانهم

ذكر مسير الموفق إلى الأهواز واجلاء الزنج عنها

أكثر من عشرة «1» آلاف، فأمر بحملهم إلى واسط ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال، وأمر بصرف ذلك إلى الأجناد، وأسرّ عدّة من نساء سليمان وأولاده، وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفّق، ولجأ جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه بطلبهم، وأقام سبعة عشر يوما، وهدم سور المدينة وطمّ خنادقها، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا، فكان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وضمّه إلى قوّاده وغلمانه، لما كان دبّره من استمالتهم، وأرسل في طلب سليمان ابن جامع حتى بلغوا دجلة العوراء فلم يظفروا به، وأمر زيرك بالمقام بطهيثا ليتراجع أهل تلك الناحية إليها. ذكر مسير الموفق الى الأهواز واجلاء الزنج عنها قال: ولما فرغ أبو أحمد الموفّق من المنصورة رحل نحو الأهواز لاصلاحها واجلاء الزنج عنها، فأمر ابنه أبا العبّاس أن يتقدّمه، وأمر باصلاح الطرق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسط ابنه هارون، ولحقة زيرك فأخبره بعود أهل طهيثا إليها وأمّن الناس، فأمره الموفّق بالانحدار في الشذا والسميريّات مع نصير، ليتتبّع المنهزمين ويوقع بهم وبمن ظفروا به من الزنج، حتى ينتهى إلى مدينة صاحب الزنج بنهر أبى الخصيب، فسارا وارتحل الموفّق في مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس، وأمر مسرورا بالقدوم عليه، وهو عامله هناك فأتاه، وكان صاحب الزنج- لما بلغه ما عمل

الموفّق بسليمان بن جامع- خاف أن يأتيه، وهو على حال تفرّق أصحابه عنه، فكتب إلى علىّ بن أبان بالقدوم عليه، وكان بالأهواز في ثلاثين ألفا، فترك جميع ما كان عنده من طعام ودوابّ وأغنام وغير ذلك، واستلخف عليه محمد بن يحيى الكرنبائىّ، فلم يقم ولا تبع عليا، وكتب صاحب الزنج أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، وهو بالفندم «1» والباسيان وما اتصل بهما، يأمره بالقدوم عليه، فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه، فحوى ذلك جميعه الموفّق وقوى به على حرب صاحب الزنج. قال: ولما سار على بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه زهاء ألف رجل، فأرسلوا إلى الموفّق يطلبون الأمان فأمّنهم، فقدموا عليه فأجرى عليهم الأرزاق، ثم رحل عن السوس إلى جنديسابور وتستر وجبا الأموال، ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكردى- وكان خائفا منه- فأمّنه وعفا عنه وطلب منه الأموال والعساكر، فحضر عنده فأحسن إليه، ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز، ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون أن يوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك، فلقيه هناك في منتصف شهر رجب، وكان زيرك ونصير- لما خلّفهما الموفّق ليتتبّعا الزنج- انحدرا حتى وافيا الأبلّة، فاستأمن إليهما رجل أخبرهما: أن صاحب الزنج قد أرسل إليهما عددا كثيرا في الشذا والسميريّات إلى دجلة، ليمنع عنها من يريدها، وأنهم يريدون عسكر نصير- وكان عسكره بنهر المرأة،

فرجع نصير من الأبلّة إلى عسكره لما بلغه ذلك، وسار زيرك من طريق آخر، لأنّه قدّر أن الزنج تأتى عسكر نصير من ذلك الوجه، فكان كذلك فلقيهم في طريقه فظفر بهم وانهزموا منه، وكانوا قد جعلوا كمينا فدلّ زيرك عليه، فتوغّل حتى أتاه، فقتل من الكمناء جماعة وأسر جماعة، وكان ممّن ظفر به مقدّم الزنج، وهو أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصرى، وهو من أكابر قوادهم، وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية، فجزع لذلك جميع الزنج، فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفى رجل، فكتب بذلك إلى الموفّق، فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك، فوافاه هنالك؛ وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بالمسير إلى محاربة صاحب الزنج بنهر أبى الخصيب، فسار إليه فحاربه من بكرة النهار إلى الظهر، واستأمن إليه قائد من قوّاد الزنج ومعه جماعة، فكسر ذلك صاحب الزنج، وعاد أبو العبّاس بالظفر، وكتب الموفّق إلى صاحب الزنج يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وخراب البلدان واستباحه الفروج والأموال وادعاء النبوّة والرسالة، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه فقرأه ولم يكتب جوابه.

ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة

ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة قال: ولما أنفذ الموفّق الكتاب إلى صاحب الزنج ولم يرد جوابه، عرض عسكره وأصلح آلاته ورتّب قوّاده، ثم سار هو وابنه أبو العبّاس فى العشرين من شهر رجب سنة سبع وستين إلى مدينة صاحب الزنج، فلما أشرف عليها وتأمّلها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق ووعور الطريق إليها وما أعدّ من المجانيق والعرّادات والقسى وسائر الآلات على سورها مما لم ير مثله ممّن تقدّم من منازعى السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتله ما استعظمه، فلما عاين الزنج أصحاب الموفّق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجّت الأرض، فأمر الموفّق ابنه بالتقدّم إلى سور المدينة ورمى من عليه بالسهام، فتقدّم حتى ألصق شذاواته بقصر صاحب الزنج، فكثر الزنج وأصحابهم على أبى العبّاس، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامّهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر، وثبت أبو العبّاس، فرأى صاحب الزنج من ثباته وثبات أصحابه ما لا رأى مثله من أحد ممّن حاربهم، ثم أمرهم الموفّق بالرجوع ففعلوا، واستأمن إلى الموفّق مقاتلة من سمارتين فأمّنهم، وخلع على من فيها من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم، وأمر بادنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أنجع المكائد، فلما رأوهم الباقون رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه وابتدروا إليه، فصار إلى الموفّق في ذلك اليوم عدد كثير من أصحاب السميريّات فعمّهم بالخلع والصلات، فلما رأى صاحب

الزنج ذلك أمر بردّ أصحاب السميريّات إلى نهر أبى الخصيب، ووكل بفوّهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبوذ- وهو من أشرّ قوّاده، أن يخرج في الشذاوات، فخرج فبرز إليه أبو العبّاس في شذاواته وقاتله، واشتدت الحرب فانهزم بهبوذ إلى فناء قصر صاحب الزنج، وأصابته طعنتان وجرح بالسهام، فولج نهر أبى الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل ممّن كان معه قائد ذو بأس- يقال له عميرة، وظفر أبو العبّاس بشذاة فقتل أهلها، ورجع هو ومن معه سالمين، واستأمن إلى أبى العباس أهل شذاة فأمّنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، ورجع الموفّق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمّنهم وخلع عليهم ووصلهم وأثبت أسماءهم مع أبى العبّاس، وأقام في عسكره يومين ثم نقل عسكره لست ليال بقين من شهر رجب إلى نهر جطّى فنزله، وقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل. ثم ركب في منتصف شعبان في الخيل والرّجل وأعدّ الشذاوات والسميريّات، وكان معه من الجند والمطّوعة زهاء خمسين ألفا، وكان مع صاحب الزنج أكثر من ثلاثمائة ألف انسان، كلهم ممّن يقاتل بسيف أو رمح أو مقلاع أو منجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم وهم النظّارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم، ونودى بالأمان للناس كافّة إلا صاحب الزنج، وكتب الأمان فى رقاع ورميت في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب صاحب الزنج فاستأمن من ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.

ثم رحل من نهر جطّى من الغد فعسكر قرب مدينة صاحب الزنج، ورتّب قوّاده وأجناده وعيّن لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفّق إلى البلاد في عمل السميريّات والشذاوات والزواريق والاكثار منها، ليضبط بها الأنهار لتنقطع الميرة عن صاحب الزنج وأسّس في منزلته مدينة سمّاها الموفّقيّة، وكتب إلى عمّاله في النواحى بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بانفاذ من يصلح للاثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرا، فوردت عليه المير متتابعة، وجهّز التجار صنوف التجارات إلى الموفّقيّة، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفّق بها المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال وأدرّت الأرزاق. قال «1» : وعبرت طائفة من الزنج فنهبوا أطراف عسكر نصير وأوقعوا به، فأمر الموفّق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم بالأمان، فخلع عليهم وأمّنهم ووصلهم، وأقام أبو أحمد يكايد صاحب الزنج، يبذل الأمان لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وكانت قافلة قد أتت من الأهواز فأسرى إليها

بهبوذ في سميريات، فأخذها فعظم ذلك على الموفّق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذاوات على مخارج الأنهار، وقلّد ابنه أبا العبّاس الشذاوات وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذى هم به. قال: وفي شهر رمضان من السنة عبرت طائفة من الزنج يريدون الايقاع بنصير، فردّهم الله خائبين، وظفروا بصندل الزنجى، وكان يكشف رؤوس المسلمات ويقلّبهن تقليب الإماء، فلما أتى به أمر الموفّق أن يرمى بالسهام ثم قتله، واستأمن إلى الموفّق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه إلى آخر شهر رمضان خمسين آلفا؛ وفي شوّال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من الشجعان والقوّاد، وأمر على بن أبان المهلبىّ بالعبور لكبس عسكر الموفّق، وكان فيهم أكثر من مائتى قائد، فعبروا ليلا واختفوا في آخر النخل، وأمرهم: أنّه إذا ظهر أصحابهم وقاتلوا الموفّق من بين يديه ظهروا وحملوا على عسكره، وهم غارون مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم انسان من الملّاحين فأخبر الموفّق، فسيّر ابنه أبا العبّاس لقتالهم وضبط الطرق التى يسلكونها، فقاتلوا قتالا شديدا، وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأمر أبو العبّاس أن تحمل الأسرى والرؤوس في السميريات، ويعبر بهم على مدينة صاحب الزنج، ففعلوا ذلك، وبلغ الموفّق أنّ صاحب الزنج قال لأصحابه: إن الأسرى والرؤوس من المستأمنة، فأمر بالقاء الرؤوس إليهم في منجنيق، فلما رأوها عرفوها فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب صاحبهم. وفيها أمر صاحب الزنج باتخاذ شذاوات فعملت له، فكانت

خمسين شذاة فقسمها بين ثلاثة من قوّاده، وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفّق، وكانت شذاوات الموفّق يومئذ قليلة، لأنّه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتى كانت عنده منها فرّقها على أفواه الأنهار، ليقطع الميرة عن صاحب الزنج، فخافهم أصحاب الموفّق فورد عليهم الشذاوات التى كان الموفّق أمر بعملها، فسيّر ابنه أبا العباس يوردها خوفا عليها من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذاواتهم، فقصد غلام لأبى العبّاس منعهم وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبى الخصيب، وانقطع عن أصحابه فعطفوا عليه فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوا وسلمت الشذاوات التى مع أبى العبّاس، وأصلحها ورتّب فيها من يقاتل، ثم أقبلت شذاوات صاحب الزنج على عادتها، فخرج إليهم أبو العبّاس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم وظفر منهم بعدّة شذاوات، فقتل منهم من ظفر به فيها، فمنع صاحب الزنج أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبو العبّاس الميرة عن الزنج فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحاب صاحب الزنج الأمان فأمّنوا؛ وكان منهم محمد ابن الحارث العمّى «1» ، وكان إليه ضبط السور مما يلى عسكر الموفق، فخرج ليلا فأمّنه الموفّق ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدّة دواب بآلاتها وحليتها، وأراد اخراج زوجته فلم يقدر، وأخذها صاحب الزنج فباعها؛ ومنهم أحمد البرذعى «2» ،

ذكر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده اليها

وكان من أشجع رجال صاحب الزنج، فخلع عليه وعلى غيره ممّن أتاه ووصلهم بصلات كثيرة. قال: ولما انقطعت الميرة والمواد عن صاحب الزنج أمر شبلا وأبا الندا وهما رؤساء قوّاده- وكان يثق بهم- بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة وقطع الميرة عن الموفّق، فسيّر الموفّق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر فرأى كثرتهم فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا، فوضع فيهم السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما غرق، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة، وأقبل بالأسرى والرؤوس إلى مدينة الموفّق. ذكر عبور الموفق الى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده اليها قال: وفي ذى الحجّة سنة سبع وستين أيضا عبر الموفّق مدينة صاحب الزنج لست بقين من الشهر، وكان سبب ذلك أنّ جماعة من قوّاد صاحب الزنج، لما رأوا ما حلّ بهم من البلاء، من قتل من يظهر منهم، وشدّة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه ويخرجون إلىّ الموفّق، فلما رأى ذلك صاحب الزنج جعل على الطريق التى يمكنهم الهرب منها من يحفظها، فأرسل جماعة من القوّاد إلى الموفّق يطلبون الأمان، وأن يوجّه لمحاربة صاحبهم جيشا ليجدوا طريقا إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العبّاس بالمصير إلى النهر

الغربى- وبه علىّ بن أبان- ففعل، واشتدت الحرب فاستظهر أبو العباس على الزنج، فأمّدهم صاحبهم بسليمان بن جامع في جمع، واتصلت الحرب من أوّل النهار إلى العصر، وكان الظفر لأبى العبّاس وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان منه، واجتاز أبو العبّاس بمدينة صاحب الزنج عند نهر الأتراك، فرأى قلّة الزنج هناك، فطمع فيهم فقصدهم وقد انصرف أكثر أصحابه إلى الموفقيّة، فدخل البلد بمن بقى معه، وندب صاحب الزنج أصحابه لحربهم، فلما رأى أبو العباس اجتماعهم وقلّة أصحابه رجع، وأرسل إلى أبيه الموفّق يستمدّه فأتاه من خف من الغلمان وظهروا على الزنج وهزموهم، وكان سليمان ابن جامع لما رأى ظهور أبى العبّاس سار في النهر مصعدا في جمع كثير فأتى أصحاب أبى العبّاس «1» من خلفهم وهم يحاربون من بإزائهم، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبى العبّاس «2» ، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفّق، وأخذ الزنج عدة أعلام وحامى أبو العبّاس عن أصحابة فسلم أكثرهم ثم انصرف وطمع الزنج بهذه الوقعة وشدّت قلوبهم، فأجمع الموفّق على العبور إلى مدينتهم بجميع جيوشه، وأمر الناس بالتأهّب وجمع المعابر والسفن وفرّقها عليهم، ودخل يوم الأربعاء لست بقين من الشهر، وفرّق أصحابه على المدينة ليضطر صاحبها إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفّق إلى ركن من أركان المدينة وهو أحصن ما فيها، وقد أنزله صاحب الزنج ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وعلىّ بن أبان، وعليه من المجانيق

وآلات القتال ما لا يحدّ، فلما التقى الجمعان أمر الموفّق غلمانه بالدنوّ منه، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهو نهر عريض كثير الماء فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفّق وحرّضهم على العبور، فعبروا سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والمقاليع والحجارة والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهبوا إلى السور، ولم يكن معهم من الفعلة من كان أعدّ لهدم السور، فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهّل الله تعالى ذلك وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك إلى السور، ونصبوا علما من أعلام الموفّق، فانهزم الزنج عنه وسلّموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير، ولما علا أصحاب الموفّق السور أحرقوا ما كان عليه من مجانيق وآلات وغير ذلك، وكان أبو العبّاس قصد ناحية أخرى، فمضى على بن أبان لقتاله فهزمه أبو العبّاس وقتل جمعا كثيرا من أصحابه، ولحق أصحاب أبى العبّاس بالسور فثلموا فيه ثلمة، ودخلوه فلقيهم سليمان ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواضعهم، ثم إن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، وعملوا على الخندق جسر فعبر الناس عليه من ناحية الموفّق، فانهزم الزنج عن سور ثان «1» كانوا قد اعتصموا به، وجعل أصحاب الموفّق يقتلونهم حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدى أصحاب الموفّق فأحرقوها، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان صاحبهم، فرجع في جمع من أصحابه فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجّالة الموفّق، فضرب

وجه فرسه بترسه وذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفّق الناس بالرجوع فرجعوا، ومعهم من رؤوس أصحابه شىء كثير، وقد استأمن إلى أبى العباس أوّل النهار نفر من قوّاد صاحب الزنج، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن. وأظلم الليل وهّبت ريح عاصف وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا من أصحابه، وقتلوا منهم نفرا، وكان بهبوذ بازاء مسرور البلخى فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفّق، وكان بعض أصحاب صاحب الزنج قد انهزم على وجهه نحو نهر الأمير وعبّادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، فأرسلوا يطلبون الأمان فأمّنهم الموفّق، وخلع عليهم وأجرى عليهم الأرزاق، وكان ممّن رغب في الأمان من قوّاده ريحان بن صالح المغربى- وكان من رؤساء أصحابه، فأرسل يطلب الأمان وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفّق فصار إليه فخلع عليه وأحسن إليه ووصله، ثم ضمّه إلى أبى العبّاس، ثم استأمن بعده جماعة من أصحابه، وكان خروج ريحان إليه لليلة بقيت من ذى الحجّة من هذه السنة. وفي سنة ثمان وستين ومائتين في المحرّم خرج إلى الموفّق من قوّاد صاحب الزنج جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجّان، وكان من ثقات أصحابه فارتاع لذلك، وخلع عليه الموفّق وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى ازاء قصر صاحبه، وأخبرهم أنّهم في غرور وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قوّاد الزنج وغيرهم، فأحسن إليهم الموفّق وتتابع الناس في

طلب الأمان، ثم أقام الموفّق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر من السنة. فلما انتصف الشهر قصد الموفّق مدينة الزنج، وفرّق قوّاده على جهاتها، وجعل مع كل طائفة منهم من النقّابين جماعة لهدم السور، وتقدّم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور ولا يدخلوا المدينة، وتقدّم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من سائر جهاتها، ووصلوا إلى السور وثلموه في مواضع كثيرة، ودخل أصحاب الموفّق المدينة من تلك الثلم، وجاء أصحاب صاحب الزنج فقاتلوهم فهزمهم أصحاب الموفّق، وتبعوهم حتى أوغلوا فى طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذى وصلوا إليه في المرّة الأولى وأحرقوا وأسروا، وتراجع الزنج عليهم وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها أصحاب الموفّق، فتحيّروا ودافعوا عن أنفسهم وتراجعوا نحو دجلة، بعد أن قتل منهم جماعة وأخذ الزنج أسلابهم، ورجع الموفّق إلى مدينته وأمر بجمع أصحابه، ولامهم على مخالفته في دخولهم وافساد رأيه وتدبيره، وأمر باحصاء من فقد من أصحابه، وأقر ما كان لهم من الرزق على أولادهم وأهليهم، فحسن موقع ذلك عندهم، وزاد في صحة نيّاتهم وصدق عزائمهم.

ذكر ايقاع أبى العباس بن الموفق بالأعراب وانقطاع الميرة عن الزنج ومقتل بهبوذ بن عبد الوهاب

ذكر ايقاع أبى العباس بن الموفق بالأعراب وانقطاع الميرة عن الزنج ومقتل بهبوذ بن عبد الوهاب وفي سنة ثمان وستين ومائتين أوقع أبو العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد بالله بقوم من الأعراب، كانوا يحملون الميرة إلى الزنج فقتل منهم جماعة وأسر الباقين وغنم ما كان معهم، وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة، وسيّر الموفّق رشيقا مولى أبى العبّاس، فأوقع بقوم من بنى تميم كانوا يجلبون الميرة إلى صاحب الزنج، فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرووس إلى الموفقيّة، فأمر بهم الموفّق فوقفوا بازاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والأعراب «1» ، فقطعت يده ورجله وألقى في عسكر الزنج، وأمر بضرب أعناق الأسرى فانقطعت الميرة بذلك عن صاحب الزنج «2» ، فأضرّ بهم الحصار وأضعف أبدانهم، فكان يسأل الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول: عهدى به منذ زمان طويل، فلما وصلوا إلى هذه الحال رأى الموفّق أن يتابع عليهم الحرب، ليزيدهم ضرا وجهدا، فكثر المستأمنون في هذا الوقت، وخرج كثير من أصحاب الخبيث فتفرّقوا في القرى والأنهار البعيدة فى طلب القوت، فبلغ ذلك الموفّق فأمر جماعة من قوّاد غلمانه بقصد تلك المواضع، ويدعون من بها إليه فمن أبى قتلوه، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأتاه كثير منهم، فلما كثر المستأمنون عند الموفّق عرضهم، فمن كان ذا قوّة وجلد أحسن إليه وخلطه بغلمانه، ومن كان منهم

ضعيفا أو شيخا أو جريحا قد أزمنته الجراحة كساه وأعطاه دراهم، وأمر به أن يحمل إلى عسكر صاحب الزنج، فيذكر ما رأى من الإحسان، فتهيّأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث، وجعل الموفّق وابنه أبو العبّاس يلازمان قتال صاحب الزنج- تارة هذا وتارة هذا- وجرح أبو العبّاس ثم برىء، وكان من جملة من قتل من أعيان قوّاد صاحب الزنج بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان كثير الخروج في السميريّات، وكان ينصب عليها أعلاما تشبه أعلام الموفّق، فإذا رأى من يستضعفه أخذه، فأخذ من ذلك ما لا جزيلا، فواقعه في بعض خرجاته أبو العباس، فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم خرج مرّة أخرى فرأى سميريّة، فيها بعض أصحاب أبى العباس فقصدها طامعا في أخذها، فحاربه أهلها فطعنه غلام من غلمان أبى العبّاس في بطنه، فسقط في الماء فأخذه أصحابه فحملوه إلى عسكر صاحبه، فمات قبل وصوله وكان قتله من أعظم الفتوح، وعظمت الفجيعة على صاحب الزنج وأصحابه، فاشتد جزعهم عليه، وأحسن الموفّق إلى ذلك الغلام فوصله وكساه وطوّقه وزاد في رزقه، وفعل بكل من كان معه في تلك السميريّة نحو ذلك، ثم ظفر بالذوائبى «1» وكان ممايلا لصاحب الزنج. وفي سنة تسع وستين ومائتين رمى الموفّق بسهم في صدره، وكان سبب ذلك أنّ بهبوذ لما هلك طمع صاحب الزنج في أخذ أمواله، وكان قد صحّ عنده أن ملكه قد حوى مائتى ألف دينار وجواهر وفضّة، فطلب

ذلك وأخذ أهله وأصحابه فضربهم، وهدم أبنيته طمعا في المال فلم يجد شيئا، فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفّق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبوذ، فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدّم، ورأى الموفّق ما كان يتعذّر عليه من العبور إلى الزنج، فى الأوقات التى تهب فيها الرياح لتحرّك الأمواج، فعزم على أن يوسّع لنفسه ولأصحابه موضعا في الجانب الغربى، فأمر بقطع النخل واصلاح المكان، وأن تعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، فعلم صاحب الزنج أنّ الموفّق إذا جاوره قرّب على من يريد اللحاق به المسافة، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف وانتقاض تدبيره عليه فاهتمّ بمنع الموفّق من ذلك وبذل الجهد فيه وقاتل أشد القتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز صاحب الزنج الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاع المدد عنه فسيّر إليه جميع أصحابه فقاتلوه فهزموه، وقتلوا كثيرا من أصحابه ولم يجد الشذاوات التى لأصحاب الموفّق سبيلا إلى القرب منهم، خوفا من الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم وأكثروا القتل والأسر، ومن سلّم منهم ألقى نفسه في الشذاوات وعبروا إلى الموفقيّة فعظم ذلك على الناس، ونظر الموفّق فرأى أنّ نزوله بالجانب الغربى لا يأمن معه حيلة الزنج وصاحبهم وانتهاز فرصة لكثرة الأدغال وصعوبة المسالك، وأنّ الزنج أعرف بتلك المضايق وأجرأ عليها من أصحابه، فترك ذلك وجعل قصده إلى هدم سور صاحب الزنج وتوسعة الطرق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمنكى، وباشر الحرب بنفسه واشتد القتال، وكثر القتل

والجراح من الجانبين ودام ذلك أياما عدّة، وكان أصحاب الموفّق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا على نهر منكى، وكان الزنج يعبرون عليها وقت القتال، فيأتون أصحاب الموفّق من وراء ظهورهم فينالون منهم، فأعمل الحيلة في إزالتهما، فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم عن حراستهما، وأمرهم أن يعدّوا الفؤوس والمناشير وما يحتاجون إليه من الآلات، فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار فأتاهم الزنج لمنعهم، فاقتتلوا فانهزم الزنج، وكان مقدّمهم أبا النداء فأصابه سهم، فى صدره فقتله، وقطع أصحاب الموفّق القنطرتين ورجعوا، وألحّ الموفّق على صاحب الزنج بالحرب، وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيها، وانتهوا إلى دار ابن سمعان وسليمان بن جامع فهدموهما، ونهبوا ما فيهما، وانتهوا إلى سويقة لصاحب الزنج سمّاها الميمونة، فهدمت وأخربت وهدموا دار الجبّائى وانتهبوا ما كان فيها من الخزائن، وتقدّموا إلى الجامع ليهدموه فاشتد محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفّق، لأنّه كان قد خلص مع صاحب الزنج نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم إذا قتل أو جرح اجتذبه الذى إلى جنبه ووقف مكانه، فلما رأى الموفّق ذلك أمر أبا العبّاس بقصد الجامع من أحد أركانه بشجعان أصحابه، وأضاف إليهم الفعول للهدم ونصب السلاليم ففعل ذلك، وقاتل عليه أشد قتال فوصلوا إليه فهدموه، وأخذ منبره فأتى به الموفّق، ثم عاد الموفّق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين صاحب الزنج وبعض خزانته، فظهر للموفّق أمارات الفتح، فإنّهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفّق فأصابه في صدره

ذكر احراق قصر صاحب الزنج وما يتصل بذلك من الحروب والوقائع

رماه به رومى كان مع صاحب الزنج اسمه قرطاس وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى، فستر الموفّق ذلك وعاد إلى مدينته فبات، ثم عاود الحرب على ما به من ألم الجراح، ليشدّ بذلك قلوب أصحابه فزاد في علّته، وعظم أمرها حتى خيف عليه، واضطرب العسكر والرعيّة وخافوا وأشار عليه بعض أصحابه وثقاته بالعود إلى بغداد، ويخلف من يقوم مقامه فأبى ذلك، وخاف أن يستقيم من حال صاحب الزنج ما فسد، واحتجب عن الناس مدّة ثم برىء من علّته، وظهر لهم ونهض لحرب صاحب الزنج وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة. ذكر احراق قصر صاحب الزنج وما يتصل بذلك من الحروب والوقائع قال «1» : ولما صحّ الموفّق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من حرب صاحب الزنج، وكان قد أعاد بعض الثلم في السور، فأمر الموفّق بهدم ذلك وهدم ما يتصل به وركب في بعض العشايا، وكان القتال متصلا ذلك اليوم مما يلى نهر منكى، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا أنفسهم بتلك الجهة، وظنّوا أنّهم لا يؤتون إلا منها، فأتى الموفّق ومعه الفعلة وقرب من نهر منكى وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين في الشذاوات بالمصير إلى أسفل نهر أبى الخصيب، وهو خال من المقاتلة والرجال، فتقدّم أصحاب الموفّق وأخرجوا الفعلة فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة،

وانتهوا إلى قصور من قصور صاحب الزنج فأحرقوها وانتهبوا ما فيها واستنقذوا عددا كثيرا من النساء اللاتى كنّ فيها، وغنموا منها، وانصرف الموفّق عند غروب الشمس بالظفر والسلامة، وبكّر إلى حربهم وهدم السور، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار انكلاى، وهى متصلة بدار صاحب الزنج، فلما أعيت صاحب الزنج الحيل أشار عليه على ابن أبان باجراء الماء على السباخ، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة تمنعهم من دخول المدينة ففعل ذلك، فرأى الموفّق أن يجعل قصده طمّ الخنادق والأنهار والمواضع المعوّرة ففعل ذلك، وحامى الزنج عنه ودامت الحرب، ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وذلك لتقارب ما بين الفريقين، فلما رأى شدّة الأمر من هذه الناحية قصد احراق دار صاحب الزنج والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوقه عن ذلك كثرة ما أعدّ لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذاوات إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام والحجارة والمجانيق والمقاليع، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم فتعذّر احراقها لذلك، فأمر الموفّق أن يسقف الشذا بالأخشاب، ويعمل عليها الخيش وتطلى بالأدوية التى تمنع النار من احراقها ففعل ذلك، ورتّب فيها أنجاد أصحابه وجمعا من النفّاطين. واستأمن إلى الموفّق محمد بن سمعان كاتب صاحب الزنج، وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب استئمانه أنّ صاحب الزنج أطلعه على أنّه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان، فأمّنه الموفّق وأحسن إليه؛ وقيل كان سبب خروجه أنّه كان كارها لصحبة صاحب الزنج، مطّلعا على كفره

وسوء باطنه، ولم يمكنه التخلّص منه إلى الآن، ففارقه في عاشر شعبان. فلمّا كان الغد بكّر الموفّق لمحاربة الزنج، وأمر أبا العبّاس بقصد دار محمد الكرنبائى- وهى بازاء دار صاحب الزنج- واحراقها وما يليها من منازل قوّاد الزنج، يشغلهم بذلك عن حماية دار صاحبهم وأمر المرّتين في الشذاوات المطليّة بقصد دار صاحب الزنج واحراقها ففعلوا ذلك، وألصقوا شذاواتهم بسور قصره، وحاربوهم أشد حرب فنضحهم الزنج بالنيران فلم تعمل شيئا، وأحرق من القصر الرواشين والأبنية الخارجة وعملت النار فيها، وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الزنج يرسلونه عليهم، وأمر الموفّق الذين في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها ورتّب غيرهم، وانتظر إقبال المدّ وعلوّه فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره، وأحرقوا بيوتا منه كانت تشرع على دجلة، واضطرمت النار فيها وقويت واتصلت، فأعجلت صاحب الزنج ومن كان معه عن التوقّف على ما كان فيها من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربا وتركه، وعلا غلمان الموفّق قصره مع أصحابهم فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضّة والحلىّ وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتى كان صاحب الزنج يأنس بهنّ من اللواتى كان استرقّهنّ، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاى فأحرقوها جميعا، وفرح الناس بذلك وتحاربوا، هم وأصحاب صاحب الزنج على باب قصره، فكثر القتل في أصحابه والجراح والأسر، وفعل أبو العبّاس في دار الكرنبائى من النهب والهدم والإحراق مثل ذلك، وقطع أبو العبّاس يومئذ سلسلة عظيمة كان صاحب الزنج

ذكر غرق نصير صاحب الشذا

قطع بها نهر أبى الخصيب، لتمتنع الشذا من دخوله، فحازها أبو العباس وأخذها معه، وعاد الموفّق بالناس مع المغرب مظفّرا، وأصيب صاحب الزنج في نفسه وماله، وجرح ابنه انكلاى في بطنه جرحا أشفى منه على الهلاك. ذكر غرق نصير صاحب الشذا قال: وفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبو حمزة نصير وهو صاحب الشذاوات، وكان سبب غرقه أن الموفّق بكّر إلى القتال وأمر نصيرا بقصد قنطرة لصاحب الزنج، كان عملها في نهر أبى الخصيب دون الجسرين، اللذين كان اتخذهما على النهر، وفرّق أصحابه من الجهات، فعجّل نصير فدخل في أوّل المدّ في عدة من شذاواته، فحملها الماء فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدّة من شذاوات الموفّق مع غلمانه، ولم يأمرهم بالدخول فضلّت شذاوات نصير ولم يبق للملّاحين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبى النهر، وألقى الملّاحون أنفسهم في الماء خوفا من الزنج، ودخل الزنج الشذاوات فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وصابرهم نصير حتى خاف الأسر، فقذف بنفسه في الماء فغرق، وأقام الموفّق يومه ذلك يحاربهم وينهبهم ويحرق منازلهم، ولم يزل يومه مستعليا عليهم، وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالا لأصحاب الموفّق، وثبت مكانه حتى خرج عليه كمين للموفّق فانهزم أصحابه، وجرح سليمان جراحة في ساقه، فسقط لوجهه في مكان كان به حريق وفيه بعض الجمر فاحترق بعض جسده، وحمله أصحابه بعد أن كاد يؤسر، وانصرف

ذكر احراق قنطرة صاحب الزنج

الموفّق سالما ظافرا، وأصاب الموفّق مرض المفاصل فبقى به شعبان وشهر رمضان وأياما من شوّال، وأمسك عن حرب الزنج ثم برىء وتماثل، فأمر باعداد آلة الحرب. ذكر احراق قنطرة صاحب الزنج قال «1» : ولما اشتغل الموفّق بعلّته أعاد صاحب الزنج القنطرة التى غرق عندها نصير، وزاد فيها وأحكمها ونصب دونها أدقال «2» ساج، وألبسها الحديد وسكر أمامها سكرا من حجارة، ليضيق المدخل على الشذا وتحتدّ جرية الماء في النهر، فندب الموفّق أصحابه، وندب طائفة من شرقىّ نهر أبى الخصيب وطائفة من غربيّه، وأرسل النجّارين والفعلة لقطع القنطرة وما جعل أمامها، وأمر بسفن مملوءة قصبا أن يصبّ عليها النفط، وتدخل النهر ويلقى فيها النار لتحرق الجسر، وفرّق جنده على أصحاب صاحب الزنج، ليمنعوهم من معاونة من عند القنطرة، فسار الناس إلى ما أمرهم به، وذلك في عاشر شوّال، وتقدّمت الطائفتان إلى الجسر فلقيهما انكلاى ابن صاحب الزنج وعلى بن أبان وسليمان بن جامع، واشتبكت الحرب ودامت وحامى أولئك عن القنطرة، لعلمهم بما عليهم في قطعها من الضرر، ودامت الحرب على القنطرة إلى العصر، ثم إنّ غلمان الموفّق أزالوا الزنج عن القنطرة، وقطعها النجّارون ونقضوها وما كان عمل

ذكر انتقال صاحب الزنج إلى الجانب الشرقى واحراق سوقه

من الأدقال الساج، وكان قطعها قد تعذّر عليهم فأدخلوا تلك السفن التى فيها القصب والنفط وأضرموها نارا، فوافت القنطرة فأحرقنها فوصل النجّارون بذلك إلى ما أرادوا، وأمكن أصحاب الشذا دخولهم النهر فدخلوا، وقتلوا الزنج حتى أجلوهم عن مواقفهم إلى الجسر الأوّل الذى يتلو هذه القنطرة، وقتل من الزنج كثير واستأمن كثير، ووصل أصحاب الموفّق إلى الجسر وقت المغرب، فكره الموفّق أن يدركهم الليل فأمرهم بالرجوع، وأثاب المحسن على قدر احسانه ليزدادوا جدا فى حرب عدوّه، وأخرب من العد برجين حجارة كانوا عملوهما، ليمنعوا الشذا من الخروج منه إذا دخلته، فلما أخربهما سهل له ما أراد من دخول النهر والخروج منه. ذكر انتقال صاحب الزنج الى الجانب الشرقى واحراق سوقه قال: لما أحرقت دور صاحب الزنج وقصوره ومنازل أصحابه، كما قدّمنا ذكر ذلك- ونهبت أموالهم انتقلوا إلى الجانب الشرقى من نهر أبى الخصيب، وجمع عياله حوله ونقل أسواقه، فضعف أمره بذلك ضعفا شديدا، ظهر للناس وامتنعوا من جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادّة، وبلغ الرطل من خبز البرّ عشرة دراهم، فأكّلوا الشعير وأصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به، والقوى يأكل الضعيف، ثم أكلوا أولادهم، ورأى الموفّق أن يخرب الجانب الشرقى كما أخرب الغربىّ، فأمر أصحابه بقصد دار الهمدانىّ ومعهم الفعلة، وكان هذا الموضع محصّنا بجمع كثير،

وعليه عرّادات ومنجنيقات وقسى، فاشتبكت الحرب وكثرت القتلى فانتصر أصحاب الموفّق عليهم وقتلوهم وهزموهم، وانتهوا إلى الدار فتعذر عليهم الصعود إليها لعلوّ سورها، فلم تبلغه السلاليم الطوال فرمى بعض غلمان الموفّق كلاليب معهم، فعلّقوها في أعلام صاحب الزنج وجذبوها فتساقطت الأعلام منكوسة، فلم تشك المقاتلة عن الدار في أنّ أصحاب الموفّق قد ملكوها، فانهزموا لا يلوى أحد منهم على صاحبه فأخذها أصحاب الموفّق وصعد النفّاطون فأحرقوها وما كان عليها من المجانيق والعرّادات، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من الدور، واستنقذوا من كان فيها من النساء، وكنّ كثيرا، فحملن إلى الموفقيّة وأمر الموفّق بالإحسان إليهن، واستأمن يومئذ من أصحاب صاحب الزنج وخاصّته الذين يلون خدمته جماعة كثيرة، فأمّنهم الموفّق وأحسن إليهم، ودلّ جماعة من المستأمنة الموفّق على سوق عظيمة كانت لصاحب الزنج، متّصلة بالجسر الأوّل تسمّى المباركة، وأعلموه أنّه إن أحرقها لم يبق لهم سوق غيرها، وخرج عنهم تجّارهم الذين بهم قواهم، فعزم الموفّق على احراقها وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها ففعلوا، وأقبلت الزنج إليهم فتحاربوا أشد حرب، واتصل أصحاب الموفّق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق، واتصلت النار، وكان الناس يقتتلون والنار محيطة بهم، وسقطت على المقاتلة واحترق بعضهم، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس، ثم تحاجزوا ورجع أصحاب الموفّق إلى عسكرهم، وانتقل تجّار السوق إلى أعلى المدينة، وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم.

قال: ثم فعل صاحب الزنج بالجانب الشرقى من حفر الخنادق وتعوير «1» الطرق مثل ما كان فعل بالجانب الغربىّ بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقا عظيما حصّن به منازل أصحابه التى على النهر الغربىّ، فرأى الموفّق أن يخرب باقى السور إلى النهر الغربىّ، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة، وكان بالجانب الغربىّ جمع من الزنج قد تحصّنوا بسور منيع، وهم أشجع أصحابه، فكانوا يحامون عنه وكانوا يخرجون على أصحاب الموفّق عند محاربتهم، فأمر الموفّق أن يقصد هذا الموضع ويخرب سوره ويخرج من فيه، وأمر ابنه أبا العبّاس والقوّاد بالتأهّب لذلك، وتقدّم إليهم وأمر أن تقرب الشذاوات من السور، ونشبت الحرب ودامت إلى بعد الظهر، وهدم في السور مواضع وأحرق ما كان عليه من العرّادات، وتحاجز الفريقان وهما على السواء سوى هذا السور واحراق عرّادات كانت عليه، ونال الفريقين من الجراح أمر عظيم، وعاد الموفّق فوصل الناس على قدر بلائهم، هكذا كان عمله في محاربته، وأقام الموفّق بعد هذه الوقعة أياما، ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه، وأنّه لا يقدر على ما يريد إلا بعد إزالته، فأعدّ الآلات ورتّب أصحابه وقصده، وقاتل من فيه وأدخلت الشذاوات النهر، واشتدت الحرب ودامت، وأمدّ صاحب الزنج بالمهلبىّ وسليمان بن جامع في جيشهما، فحملوا على أصحاب الموفّق حتى ألحقوهم بسفنهم وقتلوا منهم جماعة، فرجع الموفّق ولم يبلغ منهم ما أراد، وتبيّن له أنّه إذا

ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربية

قاتلهم من وجوه عدّة خفّت وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففرّق أصحابه على جهات أصحاب الزنج، وصار هو في جهة النهر الغربى وقاتل من فيه وصدقهم أصحابه القتال فهزموهم، فولّوا وتركوا حصنهم في أيدى أصحاب الموفّق، فهدموه وأسروا وقتلوا وخلّصوا من هذا الحصن خلقا كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفّق إلى عسكره بما أراد. ذكر استيلاء الموفّق على مدينة صاحب الزنج الغربية قال «1» : لما هدم الموفّق سور دار صاحب الزنج أمر باصلاح المسالك، ليتسع على المقاتلة الطريق إلى الحرب، ثم رأى قلع الجسر الأوّل الذى على نهر أبى الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا، وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصبا ويجعل فيه النفط، ويوضع فى وسطها دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المدّ، فوافت الجسر وعلم بها الزنج فأتوها وطمّوها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم فخرقها فغرقت، وكان قد احترق من الجسر شىء يسير فأطفأه الزنج، فاهتم الموفّق بالجسر فندب أصحابه وأعدّ النفّاطين والفعلة والفؤوس، وأمرهم بقصده من غربىّ النهر وشرقيّة، وركب الموفّق في أصحابه وقصد فوّهة نهر أبى الخصيب، وذلك في منتصف شوّال سنة تسع وستين فسبق الطائفة التى في غرب النهر، فهزم الموكّلين على الجسر وهم سليمان بن جامع

وانكلاى ابن صاحب الزنج وأحرقوه، وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى ففعلوا بالجانب الشرقى «1» مثل ذلك، فأحرق الجسر وتجاوزه إلى جانب حظيرة كان يعمل فيها سميريّات صاحب الزنج وآلاته، فاحترق ذلك كله إلا شيئا يسيرا من الشذاوات والسميريّات كانت فى النهر، وقصدوا سجنا للزنج فقاتلهم الزنج ساعة من النهار، ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليه فأطلقوا من فيه، وأحرقوا ما مرّوا به إلى دار مصلح- وهو من قدماء أصحابه- فدخلوها فنهبوها وما فيها وسبوا نساءه وولده واستنقذوا خلقا كثيرا، وعاد الموفّق وأصحابه بالظفر والسلامة، وانحاز صاحب الزنج واصحابه من هذا الجانب إلى الجانب «2» الشرقى من نهر أبى الخصيب، واستولى الموفّق على الجانب الغربى غير طريق يسيرة على الجسر الثانى، فأصلحوا الطرق فزاد ذلك في رعب الزنج، فأجمع كثير من القوّاد- الذين كان صاحب الزنج يرى أنّهم لا يفارقونه- على طلب الأمان فطلبوه، فبذل لهم فخرجوا أرسالا فأحسن الموفّق إليهم وألحقهم بأمثالهم، وأحب الموفّق أن يتمرّن أصحابه على سلوك النهر ليحرق الجسر الثانى فكان يأمرهم بادخال الشذا فيه واحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه في بعض الأيام قائد للزنج ومعه قاض كان لهم ففتّ ذلك فى أعضادهم، ووكّل صاحب الزنج بالجسر الثانى من يحفظه وشحنه بالرجال، فأمر الموفّق بعض أصحابه فأحرق ما عند الجسر من سفن فزاد ذلك في احتياط صاحب الزنج وحراسته للجسر، لئلا يحرق

ويستولى الموفّق على الجانب الغربىّ، وكان قد تأخّر من أصحابه جمع فى منازلهم المقاربة للجسر الثانى، وكان أصحاب الموفّق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفيّة، فلما عرفوا ذلك عزموا على احراق الجسر الثانى، فأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس والقوّاد أن يتجهّزوا لذلك، وأن يأتوا من عدّة جهات ليوافوا الجسر، وأعدّ معهم الفؤوس والنفط والآلات ودخل هو في الشذا ومعه أنجاد أصحابه، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا واشتد القتال، وكان في الجانب الغربى بازاء أبى العباس ومن معه انكلاى ابن صاحب الزنج وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقى بازاء راشد مولى الموفّق ومن معه صاحب الزنج والمهلبى في باقى الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات ثم انهزم الزنج لا يلوون على شىء، وأخذت السوق منهم، ووصل أصحاب الشذا النهر ودانوا من الجسر، وقاتلوا من يحميه بالسهام وأضرموه نارا، وانهزم انكلاى وسليمان وقد أثخنا بالجراح، فوافيا الجسر والنار فيه فحالت بينهما وبين العبور، فألقيا أنفسهما ومن معهما في النهر فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاى وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وقطع الجسر وأحرق وتفرّق جيش الموفّق في جانبى المدينة، وأحرق من الدور والقصور والأسواق شيئا كثيرا واستنقذ من النساء والصبيان ما لا يحصى ودخلوا الدار التى كان صاحب الزنج سكنها بعد إحراق قصره فنهبوا ما كان فيها وأحرقوها، وهرب هو واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويّات، كنّ محبسات في موضع قريب من داره فأحسن الموفّق إليهن، وفتح سجنا كان له وأخرج خلقا كثيرا ففكّ عنهم الحديد، وأخرج ذلك اليوم كلّ ما كان بنهر أتى الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن كبار

وصغار وحرّاقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة، وأباحها أصحابه بما فيها من السلب، وكانت قيمته عظيمة، وأرسل انكلاى ابنه يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفّق إليها، فعلم أبوه بذلك فردّه عمّا عزم عليه، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال، ووجّه سليمان بن موسى الشعرانى- وهو أحد رؤساء صاحب الزنج- يطلب الأمان، فلم يجبه الموفّق إلى ذلك لما تقدّم منه من سفك الدماء والفساد، ثم اتصل به أنّ جماعة من أصحاب صاحب الزنج قد استوحشوا لذلك فأجابه وأرسل الشذا إلى موضع ذكره فخرج هو وأخوه وأهله وجماعة من قوّاده، فأرسل صاحبهم من يمنعهم من ذلك فقاتلهم ووصل إلى الموفّق فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه، وأمر باظهاره لأصحابه ليزدادوا ثقة، فلم يرجع من مكانه حتى استأمن جماعة من القوّاد، منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفّق وأرسل إليه شذاوات فركب فيها وعياله وولده وجماعة من قوّاده، فلقيهم قوم من الزنج فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه ووصله بصلة سنيّه، وهو من قدماء أصحاب الخبيث، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم فى الأمان قال: ولما رأى الموفّق مناصحه شبل أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلا في جمع من الزنج لم يخالطهم غيرهم إلى عسكر الزنج، فأوقع بهم وأسر منهم وقتل وعاد فأحسن إليه الموفّق وإلى أصحابه، وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل ولا يزالون يتحارسون، وأقام الموفّق ينفذ السرايا إليهم ويكيدهم ويحول بينهم وبين القوت، وأصحابه يتدرّبون في سلوك تلك المضايق التى في أرضه ويوسّعونها.

ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الشرقية

ذكر استيلاء الموفّق على مدينة صاحب الزنج الشرقية قال: ولما علم الموفّق أن أصحابه قد تمرّنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها صمّم على العبور إلى محاربة صاحب الزنج من الجانب الشرقى من نهر أبى الخصيب، فجلس مجلسا عاما وأحضر قوّاد المستأمنة وفرسانهم فوقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم عرّفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم ومعصية الله عزّ وجلّ، وأنّ ذلك قد أحلّ لهم دماءهم، وأنّه غفر لهم زلّتهم وأمّنهم ووصلهم، وأن ذلك يوجب عليهم حقّه وطاعته، وأنّهم لن يرضوا ربّهم وسلطانهم بأكثر من الجدّ في محاربة الخبيث، وأنّهم يخبرون مسالك ذلك العسكر ومضايق مدينته وأولى أن يجتهدوا في الولوج عليه والتوغّل في حصونه حتى يمكنهم الله منه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصّر منهم فقد أسقط منزلته، فارتفعت أصواتهم بالدعاء والاعتراف بإحسانه، وبما هم عليه من المناصحة والطاعة وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقرّبهم منه، وسألوه أن يفردهم بناحية ليظهر من نكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وطاعتهم، فأجابهم إلى ذلك وأثنى عليهم، وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى عسكره، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريّات وأنواع السفن، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملّاح ممّن يجرى عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التى تحمل فيها الميرة ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما لكل قائد من السميريات والحربيّات والزواريق، فلما تكاملت السفن تقدّم إلى ابنه أبى العباس

وقوّاده بقصد المدينة الشرقية من جهاتها، فسيّر ابنه إلى ناحية دار المهلبىّ أسفل العسكر، وكان قد شحنها بالرجال والمقاتلة، وأمر جميع أصحابه بقصد دار صاحب الزنج وإحراقها، فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبىّ، وسارهو في الشذا وهى مائة وخمسون قطعة فيها أنجاد غلمانه، وانتخب من الفرسان والرجّالة عشرة آلاف وأمرهم أن يسيروا على جانبى النهر إذا سار، وأن يقفوا معه إذا وقف، وبكّر يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذى القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وكانوا قد تقدّموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم، وتقدّمت كلّ طائفة إلى الجهة التى أمرهم بها، فلقيهم الزنج واشتدت الحرب وكثر القتل والجراح في الفريقين، ثم نصر الله عزّ وجلّ أصحاب الموفّق بانهزام الزنج، وقتل منهم خلق كثير وأسر من أنجادهم وشجعانهم خلق كثير فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسرى في المعركة، وقصد بجمعه الدار التى يسكنها صاحب الزنج، وكان قد لجأ إليها وجمع أبطال أصحابه للمدافعه عنها فلم يغنوا شيئا فانهزموا عنها وأسلموها. ودخلها أصحاب الموفّق، وفيها بقايا ما كان سلم من مال صاحب الزنج وولده وأثاثه فنهب ذلك أجمع وأخذوا حرمه وأولاده وكانوا عشرين «1» ما بين صبى وصبيّة، وهرب صاحب الزنج نحو دار المهلبى لا يلوى على أهل ولا مال، وأحرقت داره وأتى الموفّق بأهل صاحب الزنج وولده فسيّرهم إلى بغداد، وكان أصحاب أبى العبّاس قد قصدوا دار المهلبىّ، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين فغلبوهم عليها واشتغلوا بنهبها وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم

ذكر مقتل صاحب الزنج

وجعل من ظفر منهم بشىء حمله إلى سفينته، فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا منهم مقتله عظيمة «1» ، وكان جماعة من غلمان الموفّق قد قصدوا دار صاحب الزنج، فتشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا، فأطمع ذلك الزنج فيهم فكشفوهم واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفّق فردّوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم، ودامت الحرب إلى العصر فأمر الموفّق غلمانه بصدق الحملة عليهم ففعلوا، فانهزم صاحب الزنج ومن معه وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا، فرأى الموفّق أن يصرف أصحابه فردّهم، وقد استنقذوا جمعا من النساء المأسورات فحملن إلى الموفقيّة، وكان أبو العبّاس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا فأحرق بيادر كانت ذخيرة لصاحب الزنج وكان ذلك مما أضعفه وأضعف أصحابه. قال: ثم وصل إلى الموفّق كتاب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون يستأذنه في القدوم عليه، فأمره بذلك وأخّر القتال إلى أن يحضر. ذكر مقتل صاحب الزنج قال: ولما ورد كتاب لؤلؤ على الموفّق يستأذنه في الحضور إليه أذن له، وأحبّ أن يؤخر القتال إلى أن يحضر فيشهده، وكان لؤلؤ قد خالف على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يده حمص وقنّسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وصار إلى بالس فنهبها، وكاتب الموفّق فى المصير إليه واشترط شروطا فأجابه الموفّق إليها، وكان بالرقة

فسار إلى الموفّق فوصل إليه في ثالث شهر المحرّم سنة سبعين ومائتين فى جيش عظيم، فأكرمه الموفّق وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم وأحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم. ثم تقدّم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الزنج، وكان صاحب الزنج، لمّا غلب على نهر أبى الخصيب وقطعت القناطر والجسور التى عليه، أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط النهر بابا ضيّقا لتحتد جرية الماء فيه فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذّر خروجها منه في المدّ، فرأى الموفّق أنّ حربة لا يتهيّأ إلا بقلع هذا السكر، وحاول ذلك فاشتدت محاماة الزنج عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم، فيه، فشرع الموفّق في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليتمرّنوا على قتالهم ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، وأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ففعل، فرأى الموفّق من شجاعتهم وإقدامهم ما سرّه، فأمر لؤلؤا بصرفهم إشفاقا عليهم ووصلهم وأحسن إليهم، وألحّ الموفّق على هذا السكر، فكان يحارب والفعلة يعملون في قلعه، واستأمن إليه جماعة، وكان قد بقى لصاحب الزنج وأصحابه أرضين بناحية النهر الغربى، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبو العباس وفرّق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمناء، ثم أوقع بهم فانهزموا فما قصدوا جهة إلا خرج عليهم من يقاتلهم فيها، فقتلوا لم يسلم منهم إلا الشريد، وأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع

القنطرتين، ولم يزل الموفّق يقاتلهم على سكرهم حتى تهيّأ له فيه ما أحب وحرقه. فلما فرغ منه عزم على لقاء صاحب الزنج، فأمر باصلاح السفن والآلات للماء والطين، وتقدّم إلى ابنه أبى العبّاس أن يأتى الزنج من ناحية دار المهلبىّ، وفرّق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمر الناس ألّا يزحفوا حتى يحرّك علما أسود كان نصبه على دار الكرنبائى، وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين «1» لثلاث بقين من المحرّم، فعجّل بعض الناس وزحف نحوهم، فلقيه الزنج فقتلوا منهم وردّوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفّق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوا بما تهيّأ لهم، فلقيهم الجيش بنيّات صادقة وبصائر نافذة، واشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب صاحب الزنج وتبعهم أصحاب الموفّق، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفّق المدينة بأسرها، فغنم أصحابه ما فيها واستنقذوا من كان بقى من الأسارى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال على بن أبان المهلبىّ وبأخويه الخليل ومحمد وأولادهما، فسيّروا إلى الموفقيّة، ومضى صاحب الزنج في أصحابه ومعه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وقوّاد من الزنج وغيرهم

هرابا، عامدين إلى موضع كان قد أعدّه ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفيانى، وكان أصحاب الموفّق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدّم أصحاب الموفّق في الشذا نحو نهر السفيانى، وانتهى الموفّق ومن معه إلى عسكر صاحب الزنج وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه حتى عبروا النهر فاقتحم «1» لؤلؤ النهر بفرسه واتبعه أصحابه حتى انتهى إلى النهر «2» المعروف بالقريرى «3» فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه فهزموهم حتى عبروا نهر المساوان «4» ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه باتباعهم إلى هذا المكان إلى آخر النهار، فأمر الموفّق بالانصراف فعاد مشكورا محمود الفعل، فحمله الموفّق معه وجدّد له البرّ والكرامة ورفع منزلته، ورجع الموفّق فلم ير أحدا من أصحابه بمدينة الزنج، وكانوا قد انصرفوا إلى الموفقيّة بما حووا في سفنهم، فرجع الموفّق إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح، وغضب الموفّق على أصحابه لمخالفتهم أمره وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم ووبّخهم على ذلك وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنّوه من انصرافه، وأنّهم لم يعلموا بمسيره ولو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا على ألّا ينصرف منهم أحد إذا توجّهوا نحو صاحب الزنج حتى يظفروا، فإن أعياهم أقاموا حتى يحكم الله بينهم وبينه، وسألوا الموفّق أن يردّ السفن التى يعبرون فيها إلى

صاحب الزنج، لينقطع الناس عن الرجوع فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهّب. وأقام الموفّق بعد ذلك إلى يوم الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس بالمسير إلى حرب الزنج بكرة السبت، وطاف عليهم بنفسه يعرّف كل قائد مركزه والمكان الذى يقصده. وغدا الموفّق يوم السبت لليلتين «1» خلتا من صفر سنة سبعين وعبر الناس، وأمر بردّ السفن فردّت، وسار يقدمهم إلى المكان الذى قدّر أن يلقاهم فيه، وكان صاحب الزنج وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأمّلوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفّق المتسرّعين من غلمانه من الفرسان والرجّالة قد سبقوا الجيش، فأوقعوا بصاحب الزنج وأصحابه وهزموهم بها، وتفرّقوا لا يلوى بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفّق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، فانقطع صاحب الزنج في جماعة من حماة أصحابه منهم المهلبىّ، وفارقه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعا كثيفا من الجيش، وكان أبو العبّاس قد تقدّم فلقى المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع فأتوا به الموفّق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمدانى- وكان أحد أمراء جيوشه- فأمر الموفّق بالاستيثاق منهما، ثم إنّ الزنج الذين انفردوا مع صاحبهم حملوا على الناس

حملة أزالوهم عن مواقفهم ففتروا، فجدّ الموفّق في طلبهم وأمعن، فتبعه أصحابه وانتهى إلى آخر نهر أبى الخصيب، فلقيه البشير بقتل صاحب الزنج، وأتاه بشير آخر ومعه كفّ ذكر أنّها كفّه، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس صاحب الزنج، فعرض الموفّق الرأس على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخرّ لله ساجدا وسجد معه الناس، وأمر برفع الرأس على قناة فعرفه الناس. قال: ولما أحيط بصاحب الزنج كان معه المهلبى وحده، فولّى عنه هاربا وقصد نهر فألقى نفسه فيه، وكان انكلاى قد سار نحو الدينارىّ ورجع الموفّق والرأس بين يديه وسليمان بن جامع، فأتى مدينته وأتاه من الزنج عالم عظيم يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاى والمهلبىّ ومكانهما ومن معهما من مقدّمى الزنج، فبث أصحابه في طلبهم وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا ألّا ملجأ أعطوا بأيديهم فظفر بهم وبمن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبىّ وانكلاى، وكان ممّن هرب قرطاس الرومىّ الذى رمى الموفّق بالسهم فى صدره، فانتهى إلى رامهرمز فعرفه رجل فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيّره إلى الموفّق فقتله ابنه أبو العبّاس، ثم استأمن درمويه الزنجى إلى أبى أحمد الموفّق، وكان درمويه هذا من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان صاحب الزنج قد وجّهه قبل هلاكه بمدّة إلى موضع كثير الأدغال والشجر والآجام متصل بالبطيحة، وكان هو ومن معه يقطعون الطريق هناك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذّر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويغيرون على قرى البطيحة

ويقطعون الطريق، فظفروا بجماعة من عسكر الموفّق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتلوا الرجال وأخذوا النساء، فسألهنّ درمويه عن الخبر فأخبرنه بقتل صاحب الزنج وأسر أصحابه وقوّاده، وأن كثيرا منهم قد صار إلى الموفّق بالأمان فأحسن إليهم، فسقط في يده ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل إلى أبى أحمد الموفّق يطلب الأمان فأجابه إلى ذلك وأمّنه، فخرج هو ومن معه حتى وافى عسكر الموفّق فأحسن إليهم وأمّنهم، فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردّها إلى أربابها ردا ظاهرا فعلم بذلك حسن نيّته فزاد الموفّق في الإحسان إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحى التى دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسارع الناس إلى ذلك. وأقام الموفّق بالمدينة الموفقيّة ليأمن الناس بمقامه، وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة رجلا من قواده قد حمد مذهبه وعلم حسن سيرته يقال له العبّاس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد، وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس صاحب الزنج ليراه الناس، فبلغها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة. قال: وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيّامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيّام. انقضت أخبار صاحب الزنج فلنذكر أخبار القرامطة

ذكر أخبار القرامطة وابتداء أمرهم وما كان من أخبارهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهم

ذكر أخبار القرامطة وابتداء أمرهم وما كان من أخبارهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهم والقرامطة منسوبون إلى قرمط، وقد اختلف فيه: فمن الناس من يقول إنّه حمدان بن الأشعث، وأنّه إنما سمّى قرمطا لأنّه كان رجلا قصيرا قصير الرجلين متقارب الخطو فسمّى بذلك، وقيل قرمط: ثور كان لحمدان بن الأشعث هذا، وأنّه كان يحمل غلّات السواد على أثوار له بسواد الكوفة، والله تعالى أعلم. قال ابن الأثير في تاريخه «1» الكامل في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين: وفيها تحرّك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم: أن رجلا يقال له حمدان يظهر الدين والزهد والتقشّف، ويأكل من كسبه، وأقام على ذلك مدة، فكان إذا جالسه رجل ذاكره الدين وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم «2» ، حتى فشا ذلك بموضعه، ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب له جمع كثير وكان يقعد إلى بقّال هناك، فجاء رجل إلى البقّال يطلب منه من يحفظ له ما صرم من نخله، فدلّه عليه وقال لعلّه يجيب، فكلّموه في ذلك

فاتفق معهم على أجرة معلومة، فكان يحفظ لهم ويصلى أكثر نهاره، ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر، يفطر عليه ويجمع نواه ويعطيه للبقّال، فلما حمل التجار تمرهم جلسوا عند البقّال وحاسبوه وأعطوه أجرته، وحاسب هو البقّال على ما أخذ من التمر وحطّ ثمن النوى فضربوه، وقالوا ألم يكفك أن تأكل تمرنا حتى تبيع نواه؟! فأوقفهم البقّال على الخبر فاعتذروا واستحلوا منه، وازداد بذلك عند أهل القرية، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا واحدا، ويزعم أنّه للإمام، واتخذ منهم إثنى عشر نقيبا أمرهم أن يدعو الناس إلى مذهبه وقال: أنتم «1» كحوارى عيسى بن مريم، فاشتعل أهل تلك الناحية عن أعمالهم، وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فرأى تقصير الأكّارة في عمارتها، فسأل عن ذلك فقيل له خبر الرجل فحبسه، وحلف ليقتلنّه لما اطّلع على مذهبه، وأغلق عليه الباب ليقتله في غد، وجعل المفتاح تحت رأسه، فسمع بعض جواريه خبره فرقّت له، فسرقت المفتاح وأخرجته وأعادت المفتاح إلى موضعه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده، فشاع ذلك في الناس فافتتنوا به وقالوا رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى، ولقى جماعة من أصحابه فسألوه عن قصّته فقال: لا يمكن أن ينالنى أحد بسوء، فعظم في أعينهم ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام، فلم يوقف له على خبر، هذا ما حكاه عز الدين بن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل.

وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن على بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد ابن على بن الحسين «1» بن على بن أبى طالب- وهو المعروف بأخى محسن- فى كتاب «2» ألّفه ذكر فيه عبيد الله الملقب بالمهدى، الذى استولى على بلاد المغرب واستولى بنوه من بعده على الديار المصرية والشام وغير ذلك، وذكر الشريف أصل عبيد الله هذا ونفاه عن النسب إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، واستدلّ على ذلك بأدلّه يطول شرحها أجاد في تبيانها، وقال في أثناء ما حكاه أنّه لما صار الأمر إلى أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان بعد أبيه- وأحمد هذا هو جد عبيد الله الملقّب بالمهدى- بعث- وهو بسلمية- الحسين الأهوازى داعية إلى العراق، فلقى حمدان بن الأشعث قرمطا بسواد الكوفة ومعه ثور ينقل عليه، فقال له الحسين الأهوازى: كيف الطريق إلى قس بهرام؟ فعرّفه حمدان أنّه قاصد إليه، وسأله الأهوازى عن قرية تعرف ببانبورا من قرى السواد، فذكر أنّها قريبة من قريته وكان حمدان هذا من قرية تعرف بالدّور على نهر هد من رستاق مهروسا «3» من طسّوج فرات بادقلى، قال: فتماشيا ساعة، فقال له حمدان: إنّى أراك جئت من سفر بعيد، وأنت معى فاركب ثورى هذا، فقال له الحسين: لم أومر بذلك، فقال له حمدان: كأنّك تعمل بأمر أمر لك؟ قال نعم، قال: ومن يأمرك وينهاك؟ قال:

مالكى ومالكك ومن له الدنيا والآخرة، قال: فبهت حمدان قرمط مفكّرا، وأقبل ينظر إليه ثم قال له: يا هذا ما يملك ما ذكرته إلا الله تعالى! قال: صدقت، والله يهب ملكه لمن يشاء، قال له حمدان: فما تريد في القرية التى سألتنى عنها؟ قال: دفع إلىّ جراب فيه علم سرّ من أسرار الله تعالى، وأمرت، أن أشفى هذه القرية وأغنى أهلها وأستنقذهم وأملّكهم أملاك أصحابهم. وابتدأ يدعوه فقال له حمدان: يا هذا نشدتك الله إلا دفعت إلىّ من هذا العلم الذى معك وأنقذتنى ينقذك الله!! قال له: لا يجوز ذلك أو آخذ عليك عهدا وميثاقا أخذه الله تعالى على النبيّين والمرسلين وألقى عليك ما ينفعك، قال: فما زال حمدان يضرع إليه حتى جلسا فى بعض الطريق وأخذ عليه العهد، ثم قال له: ما اسمك؟ قال: قرمط، ثم قال له قرمط: قم معى إلى منزلى حتى تجلس فيه، فإنّ لى إخوانا أصير بهم إليك لتأخذ عليهم العهد للمهدى، فصار معه إلى منزله، فأخذ على الناس العهد هناك، وأقام في منزل حمدان وأعجبه أمره وعظّمه وكرّمه، وكان على غاية ما يكون من الخشوع، صائما نهاره قائما ليله، وكان المغبوط «1» من أخذه إلى منزله ليلة، وكان «2» ربما خاط لهم الثياب وتكسّب بذلك، وكانوا يتبرّكون به وبخياطته. قال: وأدرك التمر فاحتاج أبو عبد الله محمد بن عمر بن شهاب العدوى إلى عمل «3» تمره، وكان من وجوه أهل الكوفة ومن أهل العلم والفضل والتوحيد، فوصف له هذا الرجل فنصبه لحفظ تمره والقيام

فى حظيرته، فأحسن حفظها واحتاط في أداء الأمانة، وظهر منه من التشديد في ذلك ما خرج به عن أحوال الناس في تساهلهم في كثير من الأمور، وذلك في سنة أربع وستين ومائتين، فاستحكمت ثقة الناس به، وثقته بحمدان قرمط وسكونه إليه، فأظهر له أمره وكشف له الغطاء. قال: وكلّ ما كان هذا الداعية يفعله من الثقة والأمانة واظهار الخشوع والنسك إنما كان حيلة ومكرا وخديعة «1» وغشا، قال: فلما حضرت هذا الطاغية الوفاة جعل مقامه حمدان بن الأشعث قرمطا، فأخذ على أكثر أهل السواد وكان ذكيا خبيثا، قال: وكان ممّن أجابه من أصحابه الذين صار لهم ذكر زكرويه بن مهرويه السلمانى وجلندى الرازى، وعكرمة البابلى، وإسحاق السّورانى، وعطيف النّيلى وغيرهم، وبث دعاته في السواد يأخذون على الناس، وكان أكبر دعاته عبدان متزوجا أخت قرمط أو قرمط متزوجا أخته، وكان عبدان رجلا ذكيا خفيفا «2» فطنا خبيثا، خارجا عن طبقة نظرائه من أهل السواد ذا فهم وخبث، فكان يعمل عند نفسه على حدّ قد نصب له، ولا يرى أنّه يجاوزه إلى غيره من خلع الإسلام، ولا يظهر غير التشيّع والعلم ويدعو إلى الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكان أحد من تبع عبدان

زكرويه بن مهرويه، وكان زكرويه شابا فيه ذكاء وفطنة، وكان من قرية بسواد الكوفة يقال لها المنسانيّة «1» تلاصق قرية الصوّان، وهاتان القريتان على نهرهد، نصبه عبدان على إقليم نهرهد وطسّوج السالحين وإقليم نهر يوسف داعية، ومن قبله جماعة دعاة متفرقون في عمله، يدور كل واحد منهم في عمله في كل شهر مرّة، وكلّ ذلك بسواد الكوفة، ودخل في دعوته من العرب من بنى ضبيعة بن عجل- وهم من ربيعة- رجلان، أحدهما يعرف برباح والآخر يعرف بعلى بن يعقوب القمر، فأنفذهما دعاة إلى العرب في أعمال الكوفة وسورا وبربسما وبابل، ودخل في دعوته من العرب أيضا رفاعة من «2» بنى يشكر، ثمّ من بكر بن وائل رجل يعرف بسند «3» وآخر يعرف بهارون، فجعلهما دعاة نخيلة «4» وما والاها في العرب خاصة إلى حدود واسط، فمال إليه هذان البطنان ودخلا في دعوته فلم يكد يختلف رفاعى ولا ضبعى، ولم يبق من البطون المتصلة بسواد الكوفة بطن إلا

ذكر ما فرضه قرمط على من دخل في دعوته واستجاب له وكيف نقلهم في استئصال أموالهم من اليسير إلى الكثير حتى استقام له أمرهم

دخل في الدعوة منه ناس كثير أو قليل، من بنى عايش وذهل وغيره وبنى عنز وتيم الله وثعل وغيرهم، وفيهم نفر يسير من بنى شيبان، فقوى قرمط بهم وزاد طمعه فأخذ في جمع أموالهم. ذكر ما فرضه قرمط على من دخل في دعوته واستجاب له وكيف نقلهم في استئصال أموالهم من اليسير إلى الكثير حتى استقام له أمرهم كان أول ما ابتدأ به أن فرض عليهم وامتحنهم بتأدية درهم واحد، وسمى ذلك الفطرة من كل رأس من الرجال والنساء والصبيان فسارعوا إلى ذلك، فتركهم مديدة ثم فرض عليهم الهجرة، وهو دينار على كل رأس أدرك الحنث، وتلا عليهم قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) «1» ، وقال: هذا تأويل هذا، فدافعوا ذلك مبادرين به إليه، وتعاونوا عليه فمن كان فقيرا أسعفوه، فتركهم مديدة ثم فرض عليهم البلغة: وهى سبعة دنانير، وزعم أنّ ذلك هو البرهان بقوله تعالى (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) * «2» ، وزعم أنّ ذلك بلاغ من يريد الإيمان والدخول في السابقين السابقين- «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ، وصنع لهم طعاما طيبا حلوا لذيذا وجعله على قدر البنادق، يطعم كلّ من أدّى إليه سبعة دنانير واحدة منها، وزعم أنّه طعام أهل الجنّة نزل إلى الإمام، واتخذ ذلك كالخواتيم ينقل إلى

الداعى منها مائة بلغة ويطالبه بسبعمائة دينار، فلما توطأ له هذا الأمر فرض عليهم أخماس ما يملكون وما يتكسبون، وتلا عليهم قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... ) الآية «1» فقوّموا جميع ما يملكونه من ثوب وغيره وأدّوا خمسه إليه، حتى كانت المرأة تخرج خمس ما تغزل، والرجل خمس ما يكسب، فلما تمّ ذلك له واستقرّ فرض عليهم الألفة، وهو أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد وأن يكونوا في ذلك أسوة واحدة، لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه، وتلا عليهم قوله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) «2» ، وتلا عليهم قوله تعالى (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «3» ، وعرّفهم أنّه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم، لأنّ الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم، وقال لهم: هذه محنتكم التى امتحنتم بها ليعلم كيف تعملون، وطالبهم بشراء السلاح واعداده، وذلك كلّه في سنة ست وسبعين ومائتين. وأقام الدعاة في كل قرية رجلا مختارا من ثقانها، يجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره، فكان يكسو عاريهم وينفق عليهم ما يكفيهم، ولا يبقى فقيرا بينهم ولا محتاجا ضعيفا، وأخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته والتكسب

ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه، ويستميلونه إلى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة إلى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الاسلام من عنقه

بجهده، ليكون له الفضل في رتبته، وكانت المرأة تجمع إليه كسبها من مغزلها، والصبى أجر نطارته الطير، فلم يملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه، فلما استقام له ذلك كلّه وصبوا إليه وعملوا به، أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلة معروفة ويختلطن بالرجال، وقال: إنّ ذلك من صحة الودّ والألفة بينهم فربما بذل الرجل لأخيه امرأته متى أحبّ فلما تمكّن من أمورهم ووثق بطاعتهم وتبيّن مقدار عقولهم أخذ في تدريجهم إلى الضلالة، وأتاهم بحجج من مذهب الثنويّة فسلكوا معه في ذلك، حتى خلعهم من الشريعة ونقض عليهم ما كان يأمرهم به في مبدأ أمرهم من الخشوع والورع والتقى، وأباح لهم الأموال والفروج والغنى عن الصوم والصلاة والفرائض، وأنّ ذلك كلّه موضوع عنهم وأن أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم، وأنّ معرفة صاحب الحق الذى يدعو إليه يغنى عن كل شىء، ولا يخاف معه إثم ولا عذاب. ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه، ويستميلونه الى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة الى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الاسلام من عنقه [ذكر صفة الدعوة الأولى] قال الشريف أبو الحسين محمد بن على: أول الدعوة بعد عمل الداعى بالرزق وقوة إجابة المدعو من سائر الأمم أن يسلك به في السؤال عن المشكلات، مسلك الملحدين والشكاك، ويكثر السؤال عن تأويل الآيات ومعانى الأمور الشرعيات، وشىء من الطبائع ووجوه القول في الأمور التى تكثر فيها الشّبه، ولا يصل إليها إلا العالم المبرّز ومن

جرى مجراه، فإن اتّفق له مجيب عارف ممارس جدل سلّم إليه الدّاعى وعظّمه وكرّمه وحشمه وصوّب قوله، وداخله بما يحب من علم شريعته التى يومى إليها، وكل ذلك ليقطع كلامه لئلا يتبيّن ما هو عليه من الحيلة والمكر، وما يدخل به على الناس من أمر الدعوة، وإن اتّفق مغرور مغفّل غليظ الحواسّ ألقى إليه ما يشغل به قلبه، مثل قوله: إنّ الدين لمكتوم وإنّ الأكثر له لمنكرون وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خصّ الله به الأئمة من العلم لم تختلف، ويوهم من سمع كلامه أنّ عنده علوما خفيّة لم تصل إليهم، فتطلع نفس المستمع إلى معرفة بيان ما قال، وربما وصل أمره مع من يجالسه- واحدا كان أو جماعة- بشىء من معانى القرآن، وذكر شرائع الدين وتأويل الآيات وتنزيلها وكلام لا يشك المسلم العارف في حقيقته، ويوهم المستمعين منه أنّه قد ظفر بعلم، لو صادف له مستمعا لكان ناجيا منتفعا، وقرّر عندهم أنّ الآفة التى نزلت بالأمة وحيّرت في الديانة وشتّتت الكلمة وأورثت الأهواء المضلّة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقائقها، ويحفظون عليهم معانيها وبواطنها، وأنّهم لما عدلوا عنهم ونظروا من تلقاء عقولهم، واتباعهم لمّا حسن في رأيهم وسمعوه من أسلافهم وغلاتهم «1» - اتباع الملوك في طلب الدنيا- وحاملى الغنى ومسمعى الإثم وأجناد الظلمة وأعوان الفسقة الطالبين العاجلة، والمجتهدين في الرياسة على الضعفاء، ومن يكايد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمته وغيّر كتابه وبدّل سنّته، وقتل عترته

وخالف دعوته وأفسد شريعته وسلك بالناس غير طريقته، وعاند الخلفاء من بعده، وخلط بين حقّه وباطل غيره فتحيّر وحيّر من قبل منه، وصار الناس إلى أنواع الضلالات به وبأتباعه، وقالوا لهم حينئذ- كالنصحاء الحكماء-: إنّ دين محمد لم يأت بالتحلى ولا بالتمرّى، ولا بأمانىّ الرجال ولا شهوات الخلق، ولا بما خفّ على الألسنة وعرفته دهماء العامّة، وإنما الدين صعب مستصعب، أمر مستثقل وعلم خفى غامض، سيّره الله في حجبه وعظّم شأنه عن ابتذال الأشرار له، فهو سرّ الله عزّ وجلّ المكتوم وأمره المستور، الذى لا يطيق حمله ولا ينهض بأعبائه وثقله إلا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، فى أمثال هذا الكلام، ويموّه على من لا يعلم بأنّهم لو أظهروا ما عندهم من العلم لأنكره من يسمعه، وتعجّب منه وكفّر أهله، وهذه مقدّمة يجعلونها في نفوس المخدوعين، ليواطئوهم على ألّا ينكروا ما يسمعونه منهم ولا يدفعوه، فيجعلوا ذلك تأنيسا وتأسيسا لينخلع من الشرائع وترتيب أصولها والحرص على طلبها، وربما قالوا لهم شيئا يموّهون به أن له تفسيرا، وإنما هو تقليد فى الديانة. فمن مسائلهم: ما معنى رمى الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم قضت الحائض الصيام ولم تقض الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق لشىء طاهر منه البشر، ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر، وما بال الله تعالى خلق الدنيا في ستة «1» أيام؟ أعجز

عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين «1» الحافظين؟ وما لنا لا نراهما؟ أيخاف ربنا أن نكابره ونجاحده فأذكى «2» العيون وأقام علينا الشهود؟ وقيّد ذلك بالقرطاس والكتابة؟! وما تبديل الأرض «3» غير الأرض؟ وما عذاب جهنّم؟ وكيف يصحّ تبديل جلد «4» مذنب بجلد لم يذنب يعذب؟! وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية «5» ؟ وما إبليس؟ وما ذكرته الشياطين؟ وما وصفوا به، ومقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج؟ وهاروت وماروت؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنّة؟ وما شجرة الزقّوم النابتة في الجحيم؟ وما دابّة الأرض؟ ورؤوس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنّس؟ وما الكنّس؟ وما معنى الم، والمص؟ وما معنى كهيعص؟ وما معنى حم عسق؟ وأمثال هذا من الكلام، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا؟ والمثانى من القرآن سبع آيات؟ ولم فجّرت العيون اثنتى عشرة عينا؟ ولم جعلت الشهور اثنى عشر شهرا؟ وأمثال هذا من الكلام والأمور، ممّا يوهمون أنّ فيه معانى غامضة وعلوما جليلة. وقالوا للمغرورين: ما يعمل معكم الكتاب والسنّة ومعانى الفرائض

اللازمة؟ وأين أرواحكم؟ وكيف صورها؟ وأين مستقرّها؟ وما أوّل أمرها؟ والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما فرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفرق ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان هو العالم الصغير؟ ولم جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟ ولم جعل في أربع أصابع من يدية ثلاثة شقوق وفي الإبهام شقّان؟ ولم جعل في وجهه سبعة ثقب وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم جعل في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع؟ ولم جعل رأسه في صورة ميم ويداه حاء وبطنه ميما ورجلاه دالا حتى صار لذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعلت أعداد عظامكم كذا وأعداد أسنانكم كذا؟ ولم صارت الرؤساء من أعضائكم بكذا وكذا، وسألوا عن التشريح والقول في العروق وفي الأعضاء ووجوه منافع الأعضاء، ويقولون لهم: ألا تفكّرون في حالكم وتعتبرون؟ وتعلمون أنّ الذى خلقكم حكيم غير مجازف، وأنّه فعل جميع ذلك بحكمة، وله في ذلك أغراض باطنة خفيّة، حتى جمع ما جمعه وفرّق ما فرّقه، وكيف الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عزّ وجلّ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) «1» وقوله: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) «2» ويقول: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) «3» ويقول

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) «1» فأى شىء رآه الكفّار في أنفسهم وفي الآفاق فعرفوا أنّه الحق؟ وأى حق عرفه من جحد الديانة؟ أولا يدلّكم هذا على أنّ الله عزّ وجلّ أراد أن يدلّكم على بواطن الأمور الخفيّة وأمور في باطنه، و [لو] «2» عرفتموه لزالت عنكم كل حيرة وشبهة، ووقعت لكم المعارف السنيّة، أولا ترون أنّكم جهلتم أنفسكم؟ التى من جهلها كان حريا بأن لا يعلم غيرها، أوليس الله تعالى يقول (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) «3» ، وأمثال هذه الأمور مما يسألون عنه ويعرضون به من تأويل القرآن وتفسير ألفاظ كثيرة من ألفاظ السنن والأحكام، والجواب معان يفسّر بها وضع الشرائع السمعيات فيما رفع منها وما «4» نصب، وكثير من أبواب التعديل والتجويز «5» مما يأتى في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى، فإن أوجب ذلك للمسئول عنه شكا وحيرة واضطرابا وتعلّقت نفسه بالجواب عنه، وتشوّق إلى معرقته فسألهم عنه عاملوه بمثل ما يفعل به صاحب الفأل والزرّاق والقصّاص على العوامّ عند امتلاء صدورهم بما يفخرون به أولا عندهم من أحوال قد عرفوها من أحوالهم، فهم إلى معرفتها أكثر الحاجة وعلقوا بمعرفتها أنفسهم، وعند بلوغ القصاص إلى ما يبلغون إليه يقطعون الحديث، لتعلّق قلوب المستمعين بما يكون

بعده، وهذه صفة الدعاة وحالهم، يقدمون على الكلام والمسائل ثم يقطعون فتتعلق أنفس المغرورين، بما قد تأخّر من القول الذى قدّموا له مقدّمة، فإذا خاطبهم على علم معرفته تأويل البيان قالوا له: لا تعجل، فإنّ دين الله أجلّ وأكبر من أن يبذل لغير أهله، ويجعل عرضا للّعب وما جانسه، ويقولون: قد جرت سنّة الله جلّ وعزّ في عباده عند شرع من نصبه من النبيّين أخذ الميثاق، كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) «1» وقال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) «2» وقال جلّ ذكره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «3» وقال (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) «4» وقال تعالى (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... ) «5» فى أمثال هذا خبّر الله عز وجلّ فيه أنّه لم يملك حقّه إلا لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك بالتوكيد من أيمانك وعقودك، ألّا تفشى لنا سرا ولا تظاهر علينا أحدا ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكلّمنا إلا نصحا ولا توال علينا عدوا، فى أمثال لهذا، وإنّما غرضهم في ذلك كلّه أمور: منها أن يستدلّوا بها بظاهر

ذكر صفة الدعوة الثانية

ما يعطيهم المخدوع من انقياده وطاعته، على باطن أمره من شكّه واضطرابه، وكيف موقع ذلك منه، ومنها التوثّق بالأمن من كشف أحوالهم وانتشار أمورهم، إلا بعد توطئه ما يريدونه حالا فحالا، ومنها أن يرسموه بالذل والطاعة لهم والرضى منه بأن يكون منقادا، تابعا لهم ومكبرا، وإلا فإنّ نكث الأيمان وقلة الاكتراث بها والفكر فيها والاعتداد بها، هو دينهم عند البلوغ إلى غايتهم التى يجرون إليها، وإنّما يجعلون ذلك مانعا لأهل هذه الطبقات، ما داموا مستشعرين للعمل بالديانات، فإن سمح المدعو باعطاء عهده وتصاغر لهم بقوة اضطراب قلبه وشكّه قالوا له حينئذ: أعطنا جعلا من مالك، وغرما نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إياها، وكان ذلك مما يستظهرون به عليه بالاستدلال به أيضا على قوّة شكّه وتعلّق نفسه، وظهريا لهم على الاستعانة على أمرهم وتمكينهم لدعوتهم، ثم رسموا فى مبلغ ذلك رسما بحسب ما يراه الداعى في أمره صلاحا، وإن امتنع عليهم المخدوع في رتبة العهد واعطائه الداعى، أو في رتبة العزم وعطيّته أمسكوا عنه وزادوه أبدا في شكّه وحيرته. فهذا حال الدعوة الأولى ووصفها وما تدرّج به الدعاة المخدوعين ذكر صفة الدعوة الثانية قال الشريف رحمه الله: فإذا قبل المخدوع الرتبة الأولى وحصل عليها اعتقد تهمة الأمّة، فيما نقلته عمّن، كان قبلها من علماء المسلمين، وقوى شكّه في ذلك ثم تقرّر في نفسه أن الله تعالى لم يرض في إقامة حقه وما شرعه لعباده إلا فأخذ ذلك عن أئمة نصبهم لهم

ذكر صفة الدعوة الثالثة

وأقامهم لحفظ شرائعه على مراده، وسلكوا به في تقرير هذه الأمور عنده والدلالة على صواب قولهم، وجعلوا على قولهم وبرهانهم طريقا يسلكون به مسلك أصحاب الإمامة، فى تعاطى اتيانها من جهة السمع والعقل حتى يتأثر، ذلك عند من يأخذون عليه، ويقرّره في نفسه فيكون ذلك منزلة ثانية، ودعوة مرتّبة بعد الدعوة الأولى التى قدّمنا ذكرها. ثم ينقلوه إلى الدعوة الثالثة. ذكر صفة الدعوة الثالثة قال: وأما الدعوة الثالثة فهى أن يقرّر الداعى عند المخدوع أنّ الذى ينبغى أن يعتقده في عدد الأئمة أنّهم سبعة، عظموا في أنفسهم وأعدادهم، ورتّبوا سبعة كما رتبت جلائل الأمور، وأصول الترتيب كالنجوم السيّارة والسماوات والأرضين، ثم يعدّد له ما في ذلك جار على هذا العدد، ممّا سنذكره في المقامة الرابعة ونبيّنه ونذكر مذهبهم فيه إن شاء الله تعالى. قال: ثم يقرّر عند المخدوعين أمر الأئمة وعددهم، فيقول: أوّل هؤلاء الأئمة على بن أبى طالب ثم الحسن ثم الحسين ابناه، ثم على بن الحسين زين العابدين، ثم محمد «1» بن على الجليل الرضى، ثم أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ثم السابع وهو عندهم القائم وصاحب الزمان الآخر. وقد كان منهم من يجعل القائم محمد بن

إسماعيل بن جعفر، ولا يبتدئ باسماعيل بن جعفر قبله، ومنهم من يجعل إسماعيل ثم القائم محمد بن اسماعيل، فمن فعل هذا خرج من أعداد السبعة، فإذا قرّر الداعى عند المخدوع: أن الأئمة سبعة، أسقط ستة لم يجعل لهم إمامة وهم موسى بن جعفر، وعلى بن موسى، ومحمد بن على، وعلى بن أحمد والحسن بن على «1» ، ومحمد المنتظر، فإذا قبل منه المغرور ما يلقى إليه من هذا القول استقر عقله، وأخذ في صرفه عن طريق الإمامة، ويقع فى أبى الحسن «2» موسى بن جعفر ويثلبه بما ليس فيه، ثم يقول له: إن الإماميّة الذين يقولون باثنى عشر إماما ليس لهم حقيقة بما يعتقدونه يريد بهذا أن يسهّل عليه طريق المخالفة لأهل الإمامة، كما سهّل عليه التهمة لما عليه سائر الأمة من الاعتقاد- كما تقدم في الدعوة الأولى، يصدون عن طريق الإمامة في أبى الحسن، ويقال إنّ موسى بن جعفر يكنى أبا إبراهيم، يقولون: إنّا وجدنا صاحبنا محمد بن إسماعيل بن جعفر عنده علوم المستورات وبواطن المعلومات، وفقدنا ذلك عند كل أحد سواه، وربما أتوا بروايات في الطعن على أبى الحسن موسى بن جعفر ورموه بالعظائم، ويقولون: ليس له إمامة، وقد أجمعت الشيعة- التى اجماعها أولى بالاتباع والحجّة- أنّه لا يستحق الإمامة بعد مضى الحسين بن على إلا في ولد الإمام، وقد اتفقنا وهم على صحّتها وترتيبها إلى جعفر بن محمد، ثم اختلفنا في أى أولاده أحقّ بها، فوجدنا عن صاحبنا علم التأويل وتفسير ظاهر الأمور، وسرّ الله جلّ وعزّ في وجه تدبيره المكتوم، واتّفاق دلالته في كلّ أمر يسأل عنه، فى جميع

ذكر صفة الدعوة الرابعة

المعدومات وتفسير المشكلات وبواطن الظاهر كلّه والتأويلات وتأويل التأويلات، فنحن الوارثون لذلك من بين طبقات الشيعة المعبّرين عنه أخذناه من جهته رويناه ممّن لا نجد من خالفنا، يمكنه أن يساوينا فيه ولا يتحقّق به ويدّعيه، فصحّ بذلك أن صاحبنا أولى بالإمامة من جميع ولد جعفر بن محمد، وربما قالوا: وجدنا فلانا من ولد جعفر ابن محمد من شأنه كذا، وفلانا من قصّته كذا، فى فروق لهم كاذبة بأقاويل لا تليق بهم، ثم يقولون: فلم يبق من سلم من الطعون المعروفة إلا صاحبنا، فوجب أن يكون هو صاحب الأمر دون كل أحد، وليس غرض هؤلاء- أصحاب هذه الدعوة الخبيثة- أن يؤخروا موسى بن جعفر، ولا يقدّموا إسماعيل بن جعفر ولا ابنه محمد، وإنّما جعلوا هذا كأداة الصانع التى لا يتم الصنعة إلا بها، فإذا انقاد لهم المغرور وسمع قولهم تيّقنوا أنهم قد تمكنوا من عقله، وسلكوا به أى مسلك أرادوه. لهذه الدعوة الثالثة. ذكر صفة الدعوة الرابعة قال الشريف: اعلم أنّ الدعوة الرابعة أن تقرّر عند المدعو بأن عدد الأنبياء الناسخين للشرائع المبدلين لها أصحاب الأدوار وتقليب الأحوال الناطقين على الأمور سبعة بعدد الأئمة سواء، كل واحد منهم له صاحب يأخذ عنه دعوته، ويحفظها على أمّته، ويكون معه ظهريا فى حياته وخليفة له من بعد وفاته، إلى أن يؤديها إلى آخر، يكون سبيله معه سبيله هو مع نبيّه «1» الذى هو تابعه، ثم كذلك لكل

مستخلف خليفة، إلى أن يمضى منهم على تلك الشريعة سبعة، ويسمّون هؤلاء السبعة الصامتين، لثباتهم على شريعة اقتفوا فيها أثر واحد هو أوّلهم، ويسمّون صاحب الأوّل سوسه، وربما عبّروا عنه بغير ذلك، ثم يزعمون أنّه لا بد عند انقضاء هؤلاء السبعة واستنفاد دورهم بشرعهم من استفتاح دورثان، ينسخ به شرع من قبله، ويكون خلفاؤه بعده يجرى أمرهم كأمر من كان قبلهم، ثم يأتى بعدهم ناسخ، ثم اتباع سبعة صمت أبدا إلى أن يأتى السابع، فينسخ لجميع ما قبله، ويكون صاحب الزمان الأخير الناطق. ثم يرتّبون هؤلاء بالتسمية لهم والأوصاف، فيقولون: أوّل هؤلاء النطقاء آدم، وصاحبه وسوسه شيث، ويقال بابه في موضع سوسه ويسمّون بعده تمام سبعة صمتوا على شريعة آدم، ثم نوح فإنّه ناطق ناسخ وسام سوسه، ثم تمام السبعة، ثم الثالث إبراهيم وسوسه إسماعيل، ثم تمام السبعة، ثم الرابع موسى وسوسه هارون، ثم مات هارون في حياته فصار سوسه يوشع بن نون، ثم تمام السبعة بعده، ثم الخامس المسيح عيسى بن مريم أخذها عن يحيى، وهو أحد السبعة قبله، وهو أقامه ونصبه، ولهم في هذا ما سيأتى ذكره، وسوس المسيح شمعون الصفا، ثم تمام السبعة بعده، ثم السادس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسوسه على بن أبى طالب رضى الله عنه ثمّ ستة ثم السابع قائم الزمان محمد بن إسماعيل بن جعفر، وهو المنتهى إليه علوم من قبله، والقائم بعلم بواطن الأمور وكشفها، وإليه تفسيرها، وإلى أمره أجرى ترتيب سائر من قبله، فى أمور سيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى.

ذكر صفة الدعوة الخامسة

فهذه درجة أخرى قرّرها الداعى عند المدعو نبوّة نبىّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وسهّل بها النقل عن شريعة، وأخرج بها المدعو إليها عما هو معلوم عند كل سامع لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنّ من دينه وما علم من مذهبه ونحلته أنّه خاتم الرسل وأنّه لا نبىّ بعده، وأنّ دولته مبقاة وشريعته مفترضة أبدا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالعلم بذلك من ديانته وما عرف من مذهبه، وأنّ أمّته بلّغت عنه ذلك وفهمته، وأنّ من مفهوم شريعته أنّه لم يكن يجوز لأحد نبوّة غيره، فى وقته ولا فيما بعده، فكانت هذه الدعوة أوّل ما أخرج الداعى بها المدعوّ عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في جملة الكفّار المرتدّين عن شريعته، وهو مع هذا لا يعد؟؟؟ ما خرج منه ولا دخل فيه. ذكر صفة الدعوة الخامسة قال: اعلم أنّه من يحصل على ما قدّمنا ذكره يحصل عليه، وقد؟؟؟ مهد له بطريق تعظيم الأعداد، ووكد بذكر الطبائع في أبنية العالم، وأمور كثيرة سيأتى ذكرها في المقالة الثامنة، كلها مبيّنة، على مذاهب مدخولة وأمور فاسدة مرذولة، مذاهب كثير من الملحدين المتفلسفة، مع اطّراح ما نقلت الأمّة، والاستخفاف بحال الشريعة، والاعتقاد لتعظيم الشيعة، والانتظار لفسخ ما ورث عن النبوّة، وتوقّع أمور باطنة بخلاف ما ألف من علم الظاهر، وقلّة احتفال بدلالة ظاهر القرآن وغيره من الكلام، على الأمور بحقائق اللغة العربية واقتفاء أثر العرب في أوضاع كلامهم، مع نمقيت العرب ومع تحبيب

دناءة العجم، ويوهم أن العرب للعجم أعداء وظالمون وأنّهم لملكهم مغتصبون، هذا يقال للمدعوّ إذا كان أعجميا، فإن كان أعرابيا خوطب في حال دعوته: بأنّ العجم غلبوا على دعوته وفازوا بمملكته، وأنّ له الاسم ولهم الدنيا، وأنّه أحقّ بذلك منهم وأولى، فى أمور من هذا يطول وصفها بحسب ما يتخرّج للداعى فيها. ثم يمكن عنده طرفا من الهندسة في الأشكال، ويعرف أنّ طبائع الأعداد في النظام، لأمر يستخرج منه علوم الأئمة، والطريق إلى علم الإله والنبوّة، ويقرّر عنده أنّ مع كل إمام حججا متفرقين في الأرض وأنّ عددهم في كل زمان اثنا عشر رجلا، كما أن عدد الأئمة سبعة، وأن دلالة ذلك ظاهرة وحجّته قاهرة، بأن تعلم بأنّ الله جلّ وعزّ لا يخلق الأمور مجازفة على غير معان توجبها الحكمة، وإلا فلم خلق النجوم، التى فيها قوام العالم سبعة؟ وجعل السماوات والأرضين سبعة؟ وأمثال هذا وبالغوا، وكذلك الإثنا عشر حجّة، عدد البروج المعظّمة، وعدد الشهور المعروفة، وعدد النقباء من بنى اسرائيل، ونقباء النبى صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وفي كفّ الإنسان أربعة أصابع في كل إصبع ثلاثة شقوق تكون اثنى عشر شقا، وفي كل يد ابهام فيها شقّان بها قوام جميع كفّه، وسداد أصابعه ومفاصله، فالبدن كالأرض، والأصابع كالجزائر الأربع، والشقوق كالحجج فيها، والإبهام كالذى يقوم الأرض بعد ما فيها، والشقّان فيها الإمام وسوسه لا يفترقان، ولذلك صار في ظهر الإنسان اثنتا عشر خرزة كالحجج، وفي عنقه سبعة عالية كالأنبياء والأئمة، وكذلك حال السبعة الأنقاب في وجه الإنسان العالية على بدنه، فى أمثال لهذا كثيرة، يحصلون بها

ذكر صفة الدعوة السادسة

المدعوّ على الأنس بتمهيد طريق للخروج عن أحوال الأنبياء وشرائعهم والعدول عن ذلك إلى أمور الفلاسفة في ترتيب شبههم أبدا، ما رأوا أنّ هناك بقيّة من دين. ذكر صفة الدعوة السادسة قال الشريف رحمه الله: اعلم أنّهم إذا مكّنوا ما وصفنا وأحكموه ووثقوا لمساكنة المدعوّ أخذوا في تفسير معانى الشرائع بغير ما يدين به أهلها وسهّلوا عليه العدول عنها، فرتّبوا له معانى الصلاة والزكاة والحجّ والإحرام والطهارة وسائر الفرائض، على أمور سيأتى وصفها في المقالة الثامنة، على أنّ ذلك يكون تفسيره على إحكام وتمهيد بغير مجازفة ولا استعجال، فيحصل أولا على معنى: أنّ ذلك وضع دلالة على أمور نذكرها وننبّه عليها، فإذا قوى الانسلاخ من جملة الأمّة في نفسه، وسهل عليه طريق العدول عمّا هى عليه، لم يحتشم حينئذ أن يجعل ذلك موضوعا على جهة الرموز، إلى فلسفة من الأنبياء والأئمة، وسياسة للعامّة للجياشة إلى منافعهم في ذلك، وفي شغل بعضهم عن البغى على بعض أو عن الفساد في الأرض، مع إظهار تعظيم الناصبين لذلك، وأنّهم أهل الحكمة فيما رتّبوه منه، وإذا تمكّن أيضا في نفسه ما بدأنا بذكره- نقلوه إلى التمييز بين الأنبياء وبين أفلاطون «1» وأرسطوطاليس «2» وغيرهما، وحسّنوا عنده أشياء من حكمهم، وعادوا على ناصب هذه الشرائع بالاستخفاف والمذمّة والاستحقار

ذكر صفة الدعوة السابعة

والطعن واللائمة، فيأتى ذلك على قلوب قد فرغت له، وسهل عليها فلم تنكره، ورأته مما بدأت به في تأنيسها. ذكر صفة الدعوة السابعة قال رحمه الله: اعلم أنّه متى أنس المدعو، بما ذكرناه كلّه أو بكثير منه، وقوى في نفس الداعى أنّه يصلح لما بعد هذا، إن كان الداعى بالغا، وبأغراض الدعوة عالما، وإلى التبليغ بمن يدعوه إلى هذه الأمور قاصدا- أتى بما نذكر؛ وأمّا إن كان الداعى مخدوعا ومتّخذا كالآلة ليتوصل به إلى التكسّب، ويمهدّ به الطريق ويرتّب، وهو غير بالغ إلى أعلى الرتبة في دعوة دون ذلك، فإنّه غافل لا يدرى كيف قصّته، ولا يظنّ أنّ الأمر الذي يراد به إلا ما عرفه وبلغه، أو ما يجانسه ويقاربه، فإذا أراد الداعى أن يسلك بالمدعو فوق ما وصفنا قال له: قد صحّ لك أنّ صاحب الدلالة الناصب للشريعة لا يستثنى بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبّر عنه، ليكونا اثنين أحدهما هو الأصل والآخر عنه كان. واعلم أنّ ذلك لم يحصل في العالم السفلى إلا وقد يحصل مثله في العالم العلوى، فمذ بدء العالم اثنان هما أصل الترتيب وقوام النظام، أحدهما هو الأعلى والمفيد، والآخر هو الآخذ عنه المستفيد، وربما أنسوه في ذلك بأن يقولوا له: هذا هو الذى أراده الله بقوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، وكن هو الأكبر

ذكر صفة الدعوة الثامنة

فى الرتبة، وأما الثانى فهو القدر الذى قال (الله) فيه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) «1» ، وربما قالوا: هذا معنى ما تسمعه مما جاءت به الملّة، من أنّ أوّل ما خلق الله اللوح والقلم، وقال للقلم اكتب ما هو كائن، واللوح والقلم هما ما ذكرنا، وربما قالوا: هذا معنى قول الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) «2» ، فسلك به فى هذا الطريق العدول عن التوحيد، وأنّ الصانع اثنان، وإن كان عندهم صنع الأجسام على جهة المثل والنظام، لا على معنى الاختراع والإحداث، وسيأتى ذلك وبيانه، وإنّما قدّم هذا تمهيدا له. ذكر صفة الدعوة الثامنة قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: اعلم أنّهم إذا رتّبوا ما ذكرنا قرّروا عند المدعوّ أنّ أحد المدبرين أسبق من الآخر في الوجود وأعلى منه في الرتبة، وأنّ الآخر مخلوق منه وكائن به، ولولاه لم يكن وأنّه كوّنه من نفسه، وأنّ السابق أنشأ الأعيان، والثانى صوّرها وركّبها، ثم ذكروا له منزلة السابق، وأنّ السابق كان عمّن كان منه، كما كان الثانى عن السابق، إلّا أنّ الذى كان عنه السابق لا اسم له ولا صفة ولا ينبغى لأحد أن يعبّر عنه ولا أن يعبده، فإذا بلغ هذه الرتبة سارعوا: إلا أنّ في الأسباب التى كان لها عندهم السابق عمّن كان منه ممّن لا اسم له ولا صفة، ما هو؟ وهل هو باختيار أم بغير اختيار؟ وكذلك الحال التى كان لها الثانى عن، السابق [اختلافا] ، فذهب

بعضهم إلى أنّ ذلك كان لفكرة عرضت لمن كان عنه السابق، فجاء منها السابق، ثم عرضت فكرة للسابق فجاء منها الثانى، على نحو ما يقوله بعض المجوس في توليد، اتفق واهرمن «1» الذى هو الشيطان- عن القديم، وأنّ ذلك بفكرة وقعت رديّة ولدته؛ وربما قال بعضهم إنّ تلك الفكرة، لأنّ الذى لا صفة له فكّر: أقدر أخلق مثلى أم لا؟ وكان من ذلك أن تصوّر التالى، ثم فكّر التالى في ذلك فلم يأت بمثله، فى أنحاء من هذه الأمور التى سيأتى وصفها، ممّا يخرج به قائلوه عن كل ديانة دان بها أحد من أهل الشرائع، التى ينعقد معها نبوّة وشريعة ولا يكون إلا مع دهريّة أو ثنويّة «2» . ثم رتّب هولاء أنّ التالى يدأب في أعمال منه، حتى يلحق بمنزلة السابق «3» ، وأنّ «4» الناطق في الأرض يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة التالى «5» ، فيقوم مقامه فيكون بمنزلته سواء، وأنّ السّوس يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعى يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السّوس وحاله سواء، وأن هكذا تجرى أمور العالمين في أدواره وأكواره، في أمثال لهذا. ثم قرّر عنده أنّ القول في معنى النبىّ الصادق الناطق ليس يجرى

ذكر صفة الدعوة التاسعة

على ما يقوله أهل الشرائع، من أنّه جاء بمعجزات ودلالات خارجة عن أحوال العادات، وأنّ معنى ذلك إنّما هو يأتى بأمور تنتظم بها السياسة ووجوه الحكمة، وترتّب بها الفلسفة، ومعان تنبىء «1» عن حقائق ابتداء السماوات والأرض، وبدأتها على حقائق الأمور إمّا برموز وإمّا بإفصاح، وتنظيم ذلك شريعة يقتفى عليها الناس، ورتّب له أمر القرآن، وما معنى كلام الله، بخلاف ما يدين به أهل الكتب، ورتّب له أمر القيامة وتقضّى أمر الدنيا وحصول الجزاء من الثواب والعقاب، على أمور ليست ممّا يعتقده الموحّدون في شىء، بل ذلك على معان أخر، من تقلّب الأمور وحدوث الأدوار عند انقضاء الكواكب وعوالم جماعتها، والقول في الكون والفساد على ترتيب الطبائع، على أمور كلها سيأتى شرحها إن شاء الله تعالى. ذكر صفة الدعوة التاسعة قال: اعلم أنّه إذا حصل المدعوّ على ما ذكرنا أحيل حينئذ على طلب الأمور وتحقيقها وحدودها والاستدلال عليها من طرق المتفلسفة وادراكها من كتبهم، وجعلوا ما قدّموه سابقا له على طرائقهم، واستنباط ما خفى عنهم وبنوه على علم الأربع طبائع، التى هى استقصّات وأصول الجواهر عندهم، وعلى ترتيب القول في الفلك والنجوم والنفس والعقل وأمثال ذلك فيما هو معروف، فيحصل الآن البالغون إلى هذه الرتب على أحد هذه الوجوه، التى يعتقدها بعض

أهل الإلحاد ممّن يدين بقدم أعيان الجواهر، ويصير ما قدم من ذكر الحدث والأصول رموز إلى معانى المبادى، وتقلّب الجواهر وحدوث الأمور التى يكون لها على أحوال وأحكام، وعلى نحو تنزيل كثير منهم لحال العقل من حال النفس وحال الفلك من حال العقل، وحال الطبائع والأعراض من حال النفس والعقل، وحال المنقلب بالكون والفساد وما يكون من حال الهيولى بتقلّب الأعراض المختلفة «1» وترتيب العناصر، والقول في العلّة: هل تفارق المعلول أم لا؟ وإقرار بعضهم بصانع لم تزل معه العناصر والمبادىء أوّلا، وما هى تلك الأمور وكيف حدودها، وما يصحّ من صفاتها والأسباب التى تعلم بها، فربّما صار البالغ في النظر في هذا إلى اعتقاد مذهب مانى وابن ديصان، وربما صار إلى مذهب المجوس، وربما دان بما يحكى عن أرسطاطاليس، وربما صار إلى أمور تحكى عن أفلاطون «2» ، وربما اختار من تلك معانى مركبة من هذه الأمور، كما يجرى كثير من هؤلاء المتحيّرين. قال: وجميع ما وصفنا من التدريج بالمقدّمات إنما يحصل الانسلاخ من شرائع أهل الكتب والنبوّة فقط، وجميعها يصلح أن تجعل تمهيدا ورموزا إلى جميع هذه المذاهب التى ذكرناها، وتجتذب بألفاظها إليها بالتأويل بحسب ما يريد المعتقد، لما شاء منها ممّا سنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى. قال: وأمّا سلخه من جميع ما تقدم «3» عليه من أمر الإمامة والنبوّة

فإنّه أوّلا يجعل عنده منازل، جميعهم منقوصة غير منزلة محمد بن إسماعيل صاحب الدور الآخر، ويرتّب له أنّ جميعهم لا يأتى بوحى من الله عزّ وجلّ، ولا معجزة كما يقول الظاهرية، وإنما يختص بالصفا فيلقى في فهمه ما يريد الله، فيكون ذلك كلاما، ثم يجسّده النبى ويظهره للخلق، وينظّم الشرائع بحسب المصالح في سياسات الناس ثم يؤمر بالعمل بذلك مدّة، ثم يترك إلى أن يؤمر بذلك، يستدعى بها الناس، لا لأنّها تجب على أهل المعرفة بأعراضها وأسبابها ثم يقال له بعد ذلك إنّما هى آصار وأثقال حملها الكفار، وكذلك سائر المحرّمات، ثم يلقّن أنّ إبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء أنبياء سياسات وشرائع، فأما أنبياء الحكمة فإنّ هؤلاء أخذوا عنهم كافلاطون وأمثاله من الفلاسفة، فبنوا شرائعهم ليوصلوا بها العامّة إلى علومهم؛ ثم يقال له: انظر أيهما أحكم، فلان النبى أو فلان؟ ثم يلقّن أن في بعض أحكامهم اختلالا وفسادا، ثم يلقن البراءة منهم وسوء سيرتهم، وأنّهم قتلوا النفوس، وأمثال هذا. ويلقّن في محمد بن إسماعيل بن جعفر أنّه سيظهر، ثم يقال له بعد ذلك: إنما يظهر في العالم الروحانى إذا صرنا إليه، أما الآن فإنما يظهر أمره على ألسن أوليائه، ثم يلقّن أنّ الله أبغض العرب لما قتلت الحسين بن على فنقل خلافة الأئمة عنهم كما نقل النبوّة عن بنى إسرائيل لما قتلوا الأنبياء، ولا يقوم بخلافة الأئمة إلا أولاد كسرى، فيكون ذلك غاية ما يقدّموه في هذا الباب كلّه متى استوى لهم، فإن لم يتمّ له ذلك مع الدعوة تركه في أى منزلة نزلها، مستعيذا «1» بهذه الوجوه.

قال: ثم اعلم- رحمك الله- أنّ هذا الترتيب والتخريج والتنزيل إنّما كانت الدعاة [عليه] عند اجتماعها على مبتدأ الدعوة، والانعقاد على طلب الغوائل للمسلمين، فيها اتفقوا على جملة منها وأصولها، وفتحوا بالفكر طريقها، ومهّدوه على معنى ما ذكرناه، وتفرّقوا في البلدان، وتمهيدهم بحسب أفكارهم واجتهادهم في الحيلة على المستمع، وتميّزوا في ذلك وتمكّنوا منه في طول الأيّام، سيّما مذ قويت أحوال الجنّابى على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخباره. قال: فقد بيّنا خبر هذه الدعوة وكيف جرى أمرها، وكيف يسلك بالمخدوع كل مسلك، حتى يصير إلى التعطيل والإباحة، فهذا أصل هذه الدعوة الملعونة وما أسّست عليه قديما، ثم تغيّرت وتفرّعت منذ انتشرت ببلاد المغرب ومصر والشام، وجعلوا منها طرقا وأبوابا، فمنها علم القوت «1» وعلم الكفاف وبلاغات مفصّلة، وبطل الترتيب الأول الذى وصفنا: من أنّ الدعوة كانت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فصار موضعه من يكون من ولد عبيد الله بن ميمون القدّاح، الذين ملكوا المغرب ومصر والشام، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبارهم، ولنصل هذا الفصل بذكر العهد الذى يحلفون به.

ذكر العهد الذى يؤخذ على المخدوعين في مبدأ الدعوة الخبيثة

ذكر العهد الذى يؤخذ على المخدوعين في مبدأ الدعوة الخبيثة قال الشريف: يقول الداعى لمن يأخذ عليه العهد: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته، وذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه وملائكته ورسله، وما أخذه على النبيّين من عهد وعقد وميثاق أنّك تستر جميع ما تسمعه وسمعته، وعلمته، وتعلمه، وعرفته وتعرفه من أمرى وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام، الذى عرفت إقرارى له: ونصحى لمن عقد ذمته، وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته المطيعين له على هذا الدين ومخالصته له، من الذكور والإناث والصغار والكبار، فلا يظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا بشىء يدل عليه، إلا ما أطلقت لك أنّك تتكلم به، أو أطلقه صاحب الأمر المقيم بهذا البلد، فتعمل في ذلك بأمرنا ولا تتعدّاه ولا تزيد عليه، وليكن ما تعمل عليه قبل العهد بقولك وفعلك: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتشهد أنّ الجنّة حق وأنّ النار حق، وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق وأنّ الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتى الزكاة يحقّها، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده، على ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتوالى أولياء الله وتعادى أعداء الله وتقول بفرائض الله وسننه وسنن نبيّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين، ظاهرا وباطنا وعلانية وسرا وجهرا، فإنّ ذلك يؤكد

هذا العهد ولا يهدمه، ويثبته ولا يزيله، ويقرّبه ولا يباعده، ويشدّه ولا يضعفه، ويوجب ذلك ولا يبطله، ويوضحه ولا يعميه، كذلك هو في الظاهر والباطن، وسائر ما جاء به النبيون من رتبهم صلوات الله عليهم أجمعين، على الشرائط المبينة في هذا العهد. وجعلت على نفسك الوفاء بذلك- قل نعم، فيقول المغرور: نعم، ثم يقول له: والصيانه له بذلك وأداء الأمانة له على ألا تظهر شيئا أخذ عليك في هذا العهد- في حياتنا ولا بعد وفاتنا، ولا على غضب ولا على حال رضى، ولا على حال رغبة ولا رهبة، ولا على حال شدّة ولا على حال رخاء ولا على طمع، ولا على حال حرمان، تلقى الله على الستر لذلك والصيانة له- على الشرائط المبيّنة في هذا العهد. وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أن تمنعنى وجميع من أسمّيه معى لك وأثبته عندك، ممّا تمنع منه نفسك، وتنصح لنا ولوليّك- ولىّ الله- نصحا ظاهرا وباطنا، فلا تخن الله ووليّه، ولا تخنّا ولا أحدا من إخواننا وأوليائنا، ومن تعلم أنه منّا بسبب، في أهل ولا مال ولا رأى ولا عهد ولا عقد تتأوّل عليه بما تبطله. فإن فعلت شيئا من ذلك- وأنت تعلم أنّك قد خالفته، وأنت على ذكر منه- فأنت برى من الله خالق السموات والأرض، الذى سوى خلقك وألّف تركيبك وأحسن إليك في دينك ودنياك وآخرتك، وتبرأ من رسله الأولين والآخرين وملائكته المقرّبين الكروبين والروحانيّين،

والكلمات التامّات والسبع المثانى والقرآن العظيم، وتبرأ من التوراة والإنجيل والزبور والذكر الحكيم، ومن كل دين ارتضاه الله في مقدم الدار الآخرة، ومن كل عبد رضى الله عنه، وأنت خارج من حزب الله وحزب أوليائه، وخذلك الله خذلانا بيّنا، فعجّل لك بذلك النقمة والعقوبة والمصير إلى نار جهنّم، التى ليس فيها رحمة وأنت برىء من حول الله وقوّته، ملتجأ إلى حول نفسك وقوّتها، وعليك لعنة الله التى لعن بها إبليس، فحرم عليه بها الجنّة وخلّده النار. إن خالفت شيئا من ذلك لقيت الله يوم تلقاه وهو عليك غضبان، ولله عليك أن تحجّ إلى بيته الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا، ماشيا حافيا، لا يقبل الله منك إلا الوفاء بذلك؛ وإن خالفت ذلك فكلّ ما تملكه في الوقت الذى تخالف فيه فهو صدقة على الفقراء والمساكين، الذين لا رحم بينك وبينهم، لا يأجرك الله عليه، ولا يدخل عليك بذلك منفعة، وكل مملوك لك- من ذكر أو أثنى- في ملكك وتستعبده إلى وقت وفاتك، إن خالفت شيئا من ذلك، فهم أحرار لوجه الله عزّ وجلّ، وكل امرأة لك وتتزوّجها إلى وقت وفاتك- إن خالفت شيئا من ذلك- فهنّ طوالق ثلاثا بتّة، طلاق الحرج والسّنة لا مثنويّة لك فيها ولا اختبار ولا رجعة ولا مشيئة، وكلّ ما كان لك من أهل ومال وغيرهما فهو عليك حرام، وكل ظهار فهو لازم لك. وأنا المستخلف لك لإمامك وحجّتك، وأنت الحالف لهما وإن نويت أو عقدت أو أضمرت خلاف ما أحملك عليه وأحلّفك به، فهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها محدّدة عليك لازمة لك، لا يقبل الله

منك إلا الوفاء بها، والقيام على ما عاهدت بينى وبينك، قل نعم، فيقول المخدوع: نعم. فهذه اليمين التى يؤنس بها المخدوع من ذكر الصلاة والصيام والزكاة والحج وشرائع الإسلام، فما ينكر شيئا مما يسمع، وكل ذلك تأنيس ما «1» يتوصل به إلى هذه الأمور، التى تقدّم ذكرها على التدريج. قال الشريف رحمه الله تعالى: ووجدت في كتاب من كتبهم يعرف بكتاب السياسة ما يشرح به ذكر ما تقدم من أمر الدعوة، فيه وصايا الدعاة، وهذا مختصر منه يقول فيه: من وجدته شيعيا فاجعل التشيع عنده دينك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم الأمّة لعلى وولده، وقتلهم الحسين وسبيهم البنات، والتبرّى من تيم وعدى ومن بنى أميّة وبنى العبّاس، وما شاكل ذلك من الأعاجيب التى تسلك عقولهم، فمن كان بهذه الصورة أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس، حتى يتمكّن ممّا يحتاج إليه؛ ومن وجدته صائبا فداخله بالأسابيع يقرب عليك جدا، ومن وجدته مجوسيا فقد اتفقت معه في الأصل من الدرجة الرابعة، من تعظيم النار والنور والشمس، واتل عليه أمر السابق فإنّه لهرمس الذى يعرفونه بالنور «2» المكنون من ظنّه الجيّد والظلمة المكنونة من وهمه الردىء، فإنّهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا وأولاهم بنا، لولا يسير صحّفوه بجهلهم

به؛ وإن ظفرت بيهودى فادخل عليه من جهة المسيح، يعنى مسيح اليهود الدجّال وأنّه المهدى، وأنّ عند معرفته تكون الراحة من الأعمال وترك التكليفات، كما أمر بالراحة في يوم السبت، وتقرّب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهّال، وزعمهم أن عيسى «1» لم يولد ولا أب له، وقرّر في نفوسهم أنّ يوسف النجّار أبوه، وأنّ مريم أمّه، وأنّ يوسف كان ينال منها ما ينال الرجال من نسائهم وما يشاكل ذلك، فإنّهم لا يلبثون أن يتبعوك؛ وادخل على النصارى بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وبصحة عقدهم الصليب عندهم وعرّفهم تأويله، وأفسد عليهم مما قام لهم من جحد الفار قليط، وقرّر عندهم أنه جاء وأنك إليه تدعوهم، ومن وقع إليك من المنانية فإنّه يحرّك الذى منه تغترف، فداخلهم بالممازجة من الباب السادس، وأظهر من الدرجة السادسة من حدود البلاغ، وامتزاج الظلمة بالنور إلى آخر ما في الباب من ذلك، فإنّك تملكهم به وتحيلهم، فإن أنست من بعضهم رشدا كشفت له الغطاء. ومن وقع إليك من الفلاسفة فقد علمت أن على الفلاسفة العهدة، وإنّا قد اجتمعنا وهم على نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم، لولا ما يخالفنا بعضهم فيه من أنّ للعالم مدبّرا لا يعرفونه، فإنّه وقع الإتفاق على أنّه لا مدبّر للعالم فقد زالت الشبهة فيما بيننا وبينهم، وإن لك ثنوى فبخ بخ قد ظفرت، فالمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالى ووراثة أحدهما، على ما هو مرسوم في أوّل درجة البلاغ وثالثه، وإن وقع لك سنىّ فعظّم عنده

أبا بكر وعمر واذكر فيهما فضائل، واثلب عليا «1» وولده واذكر لهم مساوىء، ولوّح «2» له أنّ أبا بكر وعمر قد كان لهما في هذا الأمر- الذى تلقيه إليه- نسب، فإذا دخلت عليه بهذا المدخل درجته إلى ما تريد وملكته، واتخذ غليظ العهود ووكيد الأيمان وشديد المواثيق جنّة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبيك بالأشياء التى تبهر عقولهم، حتى ترقّيهم إلى المراتب حالا فحالا، ودرّجهم درجة درجة، فواحد لا تزيده على التشيّع والأيمان لمحمد بن إسماعيل شيئا، وأنّه حى لا تجاوز به هذا الحد، وأظهر لهم العفاف عن الدرهم والدينار وخفّف عليهم وطأتك، ومره بالصلاة السبعين، وحذّره الكذب والزنا واللواط وشرب الخمر، وعليك في أمره بالرفق والتؤدة والمداراة يكن لك عونا على دهرك وعلى من يعاديك أو يتغيّر عليك من أصحابك وينافسك، فلا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدبّر بشريعته، والقول بإمامة علىّ وبنيه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأقم له دلائل الأسابيع فقط، ودقّه بالصلاة دقا، فإنّك إن أومأت إلى كرائمه يوما- فضلا عن ماله- لم يمنعك، فإن أدركته الوفاة وصّى إليك بما خلف وورّثك إياه، ولم ير أنّ في العالم أوثق منك، وأخّر ترقّيه من ذلك إلى نسخ شريعة محمد، وأنّ السابع هو الخاتم للرسل، وأنّا ينطق كما ينطق كما نطقوا ويأتى بأمر جديد، وأنّ محمدا صاحب الدور السادس، وأنّ عليا لم يكن إماما، وحسّن القول فإنّ هذا باب

كبير وعلم عظيم، مرجّى الارتقاء إلى ما هو أكبر منه، ويعينك على زوال ما جاء من قبله من وجود النبوّات، على المنهاج الذى هو عليه، وقليل من ترقّيه من هذا الباب إلى معرفة أم القرآن ومؤلفه وسننه. وإياك أن تغتر بكثير ممّن يبلغ «1» معك إلى هذه المنزلة فترقّيه إلى غيرها، إلا من بعد طول المؤانسة والمداوسة واستحكام الثقة، إنّ ذلك يكون عونا لك عند بلاغه على تعطيل الكتب، التى يزعمون أنّها منزلة من عند الله، فيكون هذا نعم المقدّمة؛ وآخر ترقّيه من هذا إلى ما هو أعلى منه، فإنّ القائم قد مات، وأنّه يقوم روحانيا، وأنّ الخلق يرجعون إليه بصور روحانيّة، وأنّه يفصل بين العباد بأمر الله عزّ وجلّ، يشتفى من الكافرين للمؤمنين بالصور الروحانيّة، فإن ذلك يكون عونا لك عند بلاغه على إبطال المعاد، الذى يزعمونه والنشور من القبور؛ وآخر ترقّيه من هذا إلى إبطال الملائكة في السماء والجنّ في الأرض، فإنّه قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة من كتب شيوخنا المتقدّمين، فإنّ ذلك مما يعينك في وقت بلاغه، على تسهيل التعطيل لله، والإرسال بالملائكة إلى الأنبياء، والرجوع به إلى الحق، والقول بقدم العالم؛ وآخر ترقّيه إلى أوائل درج التوحيد، وتدخل عليه بما تضمّنه كتاب الدرس الشافى للنفس من أنّ لا إله لا «2» صفة ولا موصوف، فإنّ ذلك ممّا يعينك على القول بالإلهية، تستحقّها عند البلاغ إلى ذلك، ومن رقّيته إلى هذه المنزلة فعرّفه حسب ما عرّفناك حقيقة من أمر الإمام، وأنّ

إسماعيل ومحمدا ابنه من أبوابه، وفي ذلك عون لك على إبطال إمامة ولد على بن أبى طالب، عند البلوغ والرجوع إلى القول بالحق لأهله ثم لا تزال شيئا فشيئا في أبواب البلاغ السبعة، حتى تبلغ الغاية القصوى على تدريج، وكل باب يأتى يشهد للمتقدّم قبله، والمتقدّم يشهد للمتأخر. واستعمل في أمرك الكتمان كما يوصى بنى القوم خاصّته، فقال: استعينوا على أموركم بالكتمان، ولا تظهر أحدا على شىء ممّا تظهر عليه من هو فوقه بوجه ولا سبب، وعليك بإظهار التقشّف للعامّة والوقار عندهم، وتجنّب ما هو منكر عندهم، ولا تنبسط كل الانبساط لإخوانك البالغين كما فعل من كان قبلك فإنه أتى بالتشديد ثم حلّ الأمور، فإذا تدبّرت بهذا التدبير وسلكت طريقته فقد سلكت طريق الأنبياء وأخذت حدودهم، وعليك بعد ذلك بالاجتهاد في معالجة خفّة اليد، والأخذ بالأعين والحذق بالشعبذة، فلن يخلو من الحاجة إلى ذلك عند قوم ينسبونك بعمله إلى إقامة المعجزات، كما نسبوا قوما تقدّموا؛ وعليك بمعرفة أحاديث الأوّلين وقصصهم وطرائقهم ومذاهبهم، لتكون بيّنة أمرك في الأقاويل على قدر ما يصلح لأهل زمانك، ترشد وتوفّق ويقدّم على الأيام أمرك، ويعلو ذكرك، ويكون الداخل في أمرك بعد وفاتك أكثر من الداخل معك في حياتك، فينفع لك ولمخلفيك من بعدك بك، وعلى يديك ويدى أمثالك من أهل النجابة والعقل دعوة الحق، وتملك لك ولعقبك وذرّيتك ملكا لا ينبغى لغيرك مثله. فهذه وصيّتى لك مشتملة على جمل من النواميس الطارقة للأنبياء على قدر عقولهم.

قال الشريف رحمه الله تعالى: ووجدت في هذا الكتاب المعروف بكتاب السياسة أيضا فصلا فيه (ولشيخنا الجليل المقدس) ، وهذا مختصر منه يوصى دعاته في أهل الأديان- وذلك لأمّة محمد خاصة:- فابذل الآن سيفك فيهم إذا تمكّنت منهم وصار لك حزب، وظهرت بهذه الحيل التى قد وقفتك عليها، واستملت الناس بها فإنّهم أعداؤنا، وصف أموالهم واستفرد «1» بناتهم وأولادهم، ولا تخفر «2» لهم ذمّة ولا تحفظ لهم قربة، ولا ترحم علويا، فلو تمكّن علوى كتمكّن غيره من الأنبياء للقينا منه جهدا، وعبّر بما يدّعيه من حقوق جدّه على هؤلاء الحمير ما هو أكثر مما عبره جده، وإياك والاغضاء عمّن تجده من ولد علىّ، يعنى اقتله إذا تمكّنت منه، وإيّاك والرخصة لأحد من أسنانك في الثقة بواحد منهم، تهتدى وتوفّق لازلت بالعلم سعيدا، وإلى الخير هاديا ومهديا، وعلى جميع الأحوال الحمد لإلهنا على ما منحنا، وصلواته على عباده المصطفين، يعنى إلهه الذى أباحه اللذات وأعماه عن الهدى، وفتح له طرق الضلالة، وعباده الذين اصطفى دعاته الذين بهم يضلّون الناس. هذا ما حكاه الشريف أبو الحسين من دعواتهم التسع، وعهدهم الذى يأخذونه ووصاياهم. وحكى عز الدين بن الأثير الجزرى رحمه الله تعالى في تاريخه الكامل- عند ذكره لأخبار القرامطة قال «3» : وكان فيما يحكى عن مذهبهم أنّهم جاءوا بكتاب فيه- يقول

الفرج بن عثمان- وهو من قرية يقال لها نصرانة، وهو داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدى، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو جبريل، وذكر أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال: إنّك الداعية، وإنّك الحجّة، وإنّك الناقة، وإنّك الدابّة، وإنّك يحيى بن زكريا، وإنّك روح القدس، وعرّفه أن الصلاة «1» أربع ركعات- ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل «2» غروبها، وأنّ الأذان في كل صلاة أن يقول: الله أكبر، أربع مرات أشهد أنّ لا إله إلا الله مرتين، أشهد أنّ آدم رسول الله، أشهد أنّ نوحا رسول الله «3» ، أشهد أنّ إبراهيم رسول الله، أشهد أنّ موسى رسول الله، أشهد أنّ عيسى رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفيّة رسول الله، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو من المنزّل على أحمد بن محمد بن الحنفيّة، والقبلة إلى بيت المقدس، والجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شىء، والسورة التى يقرأها: الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه «4» ، قل إنّ الأهلّة مواقيت للناس ظاهرها، ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها، أوليائى الذين عرفوا عبادى، سبيلى: اتّقونى يا أولى الألباب، وأنا الذى لا أسأل عما أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذى أبلو عبادى وأمتحن خلقى، فمن صبر على بلائى

ذكر ابتداء دعوة القرامطة

ومحنتى واختبارى أدخلته «1» فى جنّتى وأخلدته في نعيمى، ومن زال عن أمرى وكذّب رسلى أخلدته مهانا في عذابى، وأتممت أجلى وأظهرت أمرى على ألسنة رسلى، وأنا الذى لم يعل علىّ جبّار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس الذى أصرّ على أمره ودام على جهالته، وقال: لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربّى ورب العزّة، وتعالى عما يقول الظالمون يقولها مرّتين، فإذا سجد قال: الله أعلى مرّتين، الله أعظم مرّتين. ومن شرائعه أن يصوم يومين في السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأنّ النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأنّ من حاربه واجب قتله، ومن لم يحاربه ممّن خالفه أخذ منه الجزية، ولا يؤكل كلّ ذى ناب ولا ذى مخلب. وقد أخذ هذا الفصل حقّه من الإطالة والاسهاب، فلنذكر مبدأ هذه الدعوة. ذكر ابتداء دعوة القرامطة قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: كان مبدأ هذه الدعوة الخبيثة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وزعموا أنّه الإمام المهدى الذى يظهر في آخر الزمان ويقيم الحق وأنّ البيعة له، وأنّ الداعى إنما يأخذها على الناس له، وأنّ ما يجمع من الأموال مخزون له إلى أن يظهر، ولم تزل هذه الدعوة إلى محمد بن إسماعيل إلى أن هرب

سعيد المسمى بعبيد الله من سلمية إلى المغرب، وتلقّب بالمهدى فصار هو الإمام، وانتسب إلى أنّه من ولد إسماعيل بن جعفر، فنقلوا الدعوة إليه، وكان القول في المبدأ: أن محمد بن إسماعيل حىّ لم يمت، وأنّه يظهر في آخر الزمان وأنه مهدىّ الأمّة. قال: ولم يكن غرض هذا المحتال أن يرفع محمد بن إسماعيل، ولا يأخذ له بيعة، إنّما جعله بابا يستغل به عقل من يدخل فيه «1» ويتبيّن له أنّه قد تمكّن من خديعته وبلغ المراد منه، شيعيا كان أو سنيّا. قال: ولما أظهر اللعين ما أظهر من هذه الأقوال كلها، بعد تعلقه بذكر الأئمة والرسل والحجّة والإمام، وأنّه المعوّل والقصد والمراد، وبه اتّسقت هذه الأمور ولولا هو لهلك الحق وعدم الهدى والعلم، وظهر في كثير منهم الفجور، وبسط بعضهم أيديهم بسفك الدماء، وقتل جماعة ممّن أظهر خلافا لهم، فخافهم الناس جدا واستوحشوا من ظهور السلاح بينهم، فأظهر موافقتهم كثير من مجاوريهم، مقاربة لهم وجزعا منهم. ثم إنّ الدعاة اجتمعوا واتّفقوا على أن يجعلوا لهم موضعا، يكون وطنا ودار هجرة يهاجرون إليها ويجتمعون بها، فاختاروا من سواد الكوفة في طسّوج الفرات- من ضياع السلطان المعروفة بالقاسميّات، قرية تعرف بمهيماباذ، فنقلوا إليها صخرا عظيما، وبنوا حولها سورا منيعا عرضه ثمانية أذرع، وجعلوا من ورائه خندقا عظيما، وفرغوا من

ذكر انتفاض الدعوة عن حالتها الأولى ومقتل عبدان وما كان من أمر زكرويه بعده

ذلك في أسرع وقت «1» ، وبنوا فيها البنيان العظيم، وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان، وسمّيت دار الهجرة وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين «2» . فلم يبق بعد هذا أحد إلا خافهم، ولا بقى أحد يخافونه لقوّتهم وتمكّنهم في البلاد، وكان الذى أعانهم على ذلك تشاغل السلطان ببقيّة الخوارج وصاحب الزنج بالبصرة، وقصر يد السلطان وخراب العراق وركوب الأعراب واللصوص وتلف «3» الرجال وفساد البلدان وقلّة رغبة من يلى الأعمال من ذوى الاصلاح والأمانة من العمّال وأصحاب الحروب، فتمكّن هؤلاء الدعاة ومن تبعهم بهذا السبب، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم، فغلبوا على ذلك سنين ذكر انتفاض الدعوة عن حالتها الأولى ومقتل عبدان وما كان من أمر زكرويه بعده قال الشريف: وكان قرمط يكاتب من بسلمية من الطواغيت «4» فلما توفّى من كان في وقته وجلس ابنه من بعده كتب إلى حمدان قرمط كتابا، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه أنكر ما فيه، وتبيّن فيه ومنه ألفاظا قد تغيّرت، وشيئا ليس هو على النظام الأوّل، فاستراب به

وفطن أنّ حادثة حدثت، فأمر قرمط ابن مليح- وكان داعيا من دعاته- أن يخرج فيتعرف الخبر، فامتنع عليه واعتذر، فأنفذ من أحضر عبدان الداعية من عمله، فلما حضر أنفذه ليتعرف ما حدث من هذا الأمر، ويكشف عن سبب تغيّره، فسار عبدان لذلك، فلما وصل عرّف بموت الطاغية الذى كانوا يكاتبونه، فاجتمع بابنه وسأله عن الحجّة ومن الإمام بعده، الذى يدعو إليه، فقال الابن: ومن الإمام؟ قال عبدان: محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان الذى كان أبوك يدعو إليه، وكان حجّته، فأنكر ذلك عليه وقال: محمد بن إسماعيل لا أصل له، ولم يكن الإمام غير أبى وهو من ولد ميمون بن ديصان، وأنا أقوم مقامه، فعرف عبدان القصة واستقصى الخبر وعلم أنّ محمد بن إسماعيل ليس له في هذا الأمر حقيقة، وإنما هو شىء يحتالون به على الناس، وأنّه ليس من ولد عقيل بن أبى طالب، فرجع عبدان إلى قرمط فعرّفه الخبر، فأمره قرمط أن يجمع الدعاة ويعرّفهم صورة الأمر وما تبين منه، ويقطع الدعوة، ففعل عبدان ذلك وقطعت الدعوة من ديارهم، ولم يمكنهم قطعها من غير ديارهم، لأنها كانت قد امتدّت في سائر الأقطار وامتدّ شرها، وفطعت الدعاة مكاتبة أصحابهم الذين بسلمية. وكان رجل من أولاد القدّاح قد نفذ إلى الطالقان يبث الدعاة، ونزل بقرمط وهو بسواد الكوفة عند عبوره إلى الطالقان، وكانت الدعاة يكاتبونه، فلما انقطعت المكاتبة عن جميع أولاد القدّاح قطعت عن هذا الذى بالطالقان، فطال انتظاره، فشخص عن الطالقان ليقصد قرمط، وكان قرمط قد سار إلى كلواذى، فلما وصل

إلى كلواذى سأل عن قرمط، فعرف أنّه انتقل فلا يدرى أين مضى وما عرف لقرمط بعد ذلك خبر، ولا علمت وفاته ولا ما اتفق له، فقصد ابن القدّاح سواد الكوفة، فنزل على عبدان، فعتب عليه وعلى جميع الدعاة في انقطاع كتبهم عنه، فعرّفه عبدان أنهم قطعوا الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأن أباه كان قد غرّهم «1» وادّعى نسبه من عقيل بن أبى طالب كذبا ودعا إلى المهدى، فكنّا نعمل على ذلك، فلما تبينا أنّه لا أصل لذلك، وعرفا أن أباك من ولد ميمون بن ديصان وأنّه صاحب الأمر، تبنا إلى الله تعالى مما تحمّلناه، وحسبنا ما كفرنا أبوك فتريد أن تردّنا كفارا؟! انصرف عنا إلى موضعك. قال: وكان عبدان قد تاب من هذه الدعوة حقيقة، فلما أيس منه صار إلى زكرويه بن مهرويه، فعرّفه خبر عبدان وما ردّ عليه، فلقيه زكرويه بكل ما يحب، وقدر أنّه ينصبه داعيا مقام أبيه، فيستقيم له أخذ الأموال وجمع الرجال، وواطأه على ذلك، وقال له: إن هذا الأمر لا يتم مع عبدان، لأنه داعى البلد كلّه، والدعاة من قبله والناس من تحت يده، وأنه لا يجيبه إلا أهل دعوته خاصة. وشرعا في إعمال الحيلة على قتل عبدان، واتّفقا على ذلك، ثم وجّه زكرويه إلى رجل من بنى تميم بن كليب وأخ له كانا من أهل دعوته، وأحضر جماعة من قراباته وثقاته فأظهرهم على ابن اللعين، وعرّفهم أنّه ابن الحجّة، وأن الحجّة توفى وأن ابنه هذا يقوم مقامه، فأجلّوه وأعظموه

وقالوا له: مرنا بأمرك، فأمرهم بقتل عبدان، وعرّفهم أنه نافق وعصى وخرج عن الملّة، فساروا إليه من ليلتهم وبيّتوه فقتلوه، وكان زكرويه هذا من تحت يد عبدان، وعبدان هو الذى أقامه داعية فلما شاع في الناس أنّ زكرويه قتل عبدان طلبه الدعاة والقرامطة ليقتلوه فاستتر، وخالفه القوم بأسرهم إلا أهل دعوته، وخاف على نفسه، ولم يتم له أمره الذى دبّره، فقال لابن اللعين: قد ترى ما حدث، ولا آمن عليك وعلى نفسى، فارجع إلى بلدك ودعنى، فإنى أرجو أن يتغيّر الأمر، فأتمكّن من الناس وأدعوهم إليك، فإذا تمكّنت من ذلك أرسلت إليك لتصير «1» إلىّ، فانصرف إلى الطالقان واستتر زكرويه وتنقّل في القرى، وذلك في سنة ست وثمانين ومائتين، والقرامطة تطلبه وأصحاب عبدان يرصدونه، وكان قد اتّخذ مطمورة تحت الأرض على بابها صخرة، فإذا دخل قوم إلى القرية في طلبة قامت امرأة في الدار التى هو فيها إلى تنّور ينقل، فوضعته بقرب الصخرة ثم أشعلت النار، وأرت أنها تريد أن تخبز، فيخفى أمره على من يطلبه، فمكث كذلك سنة ست وسنة سبع وثمانين ومائتين فلما رأى انحراف أهل السواد عنه «2» إلا أهل دعوته وطال أمره، أنفذ ابنه الحسن في سنة ثمان وثمانين ومائتين إلى الشام، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا لأخبار أبى سعيد الجنّابى.

ذكر أخبار أبى سعيد الجنابى وظهوره بالبحرين

ذكر أخبار أبى سعيد الجنابى وظهوره بالبحرين هو أبو سعيد بن بهرام من أهل جنّابه، وأصله من الفرس وكان يعمل الفراء، وسبب دخوله في هذه الدعوة وظهوره، أنّه سافر إلى سواد الكوفة، فذكر «1» أنه تزوّج بقرية من سواد الكوفة، إلى قوم يقال لهم بنو القصّار، وكانوا أصولا في هذه الدعوة الخبيثة فأخذها عنهم، وقيل بل أخذ الدعوة عن نفسه، وقد قيل إنه تلقاها عن حمدان قرمط، وسار داعية من قبله فنزل القطيف، وهى حينئذ مدينة عظيمة، فجلس بها يبيع الدقيق ولزم الوفاء والصدق، ودعا الناس، فكان أوّل من أجابه الحسين وعلى وحمدان بنو سنبر «2» ، وقوم ضعفاء ما بين قصّاب وحمّال وأمثال هؤلاء. قال الشريف أبو الحسين: فلما دعا بتلك الناحية وقويت يده واستجاب له الناس وجد بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا الصمامى كان عبدان الداعى أنفذه قبل أبى سعيد إلى القطيف وما والاه، فلما تبيّن أمره أبو سعيد الجنّابى عظم عليه أن يكون داع غيره، فقبض عليه وحبسه في بيت حتى مات هزلا. قال: وقد ذكر أنّ هذا الداعى أخذ على بنى سنبر قبل أبى سعيد، وكان في أنفسهم حقد عليه لقتله أبا زكريا. وحكى ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل ابتداء أمر القرامطة بناحية البحرين «3» :

أن رجلا يعرف بيحيى بن المهدى قصد القطيف، ونزل على رجل يعرف بعلى بن المعلّى بن حمدان، وكان متغاليا في التشيّع، فأظهر له يحيى أنّه رسول المهدى، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذكر أنه خرج إلى شيعته يدعوهم لأمره، وأنّ خروجه قد قرب، فجمع على بن المعلّى الشيعة من أهل القطيف، وأوقفهم على الكتاب الذى أحضره يحيى بن المهدى من المهدى إليهم، فأجابوه: إنّهم خارجون معه إذا ظهر أمره، وأجابه سائر قرى البحرين بمثل ذلك، فكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنّابى، ثم غاب يحيى بن المهدى مدة، ورجع بكتاب يزعم أنّه من المهدى إلى شيعته، فيه: قد عرّفنى رسولى يحيى بن المهدى مسارعتكم إلى أمرى، فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثى دينار، ففعلوا ذلك ثم غاب وعاد بكتاب، فيه ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم، فدفعوا إليه الخمس. قال: وحكى أن يحيى بن المهدى جاء إلى منزل أبى سعيد الجنّابى فأكل طعاما، وخرج أبو سعيد من البيت وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى، وأن لا نمنعه إذا أرادها، فانتهى الخبر إلى الوالى فضرب يحيى وحلق رأسه ولحيته، وهرب أبو سعيد إلى جنّابه، وصار يحيى إلى بنى كلاب وعقيل والحريش، فاجتمعوا معه ومع أبى سعيد فعظم أمر أبى سعيد، واشتدت وطأته وظهر أمره؛ قال: وكان ظهوره بالبحرين في سنة ست وثمانين ومائتين.

ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى على هجر وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه

ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى على هجر وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه قال الشريف أبو الحسين: كان من الاتّفاق لأبى سعيد أن البلد الذى قصده بلد واسع كثير الناس، ولهم عادة بالحروب، ورجال شداد جهّال غفل القلوب، بعيدون من علم شريعة الإسلام ومعرفة نبوّة أو حلال أو حرام، فظفر بدعوته في تلك الناحية، ولم يناوئه مناوىء، فقاتل بمن أطاعه من عصاه حتى اشتدت شوكته جدا، وكان لا يظفر بقرية إلا قتل أهلها ونهبها، فهابه الناس وأجابه كثير منهم طلبا للسلم، ورحل من البلد خلق كثير إلى نواحى مختلفة وبلدان شتى، خوفا من شرّه، ولم يمتنع عليه إلا هجر، وهى مدينة البحرين ومنزل سلطانها والتجّار والوجوه، فنازلها شهورا يقاتل أهلها، فلما طال عليه أمرها وكل بها جلّ أصحابه من أهل النجدة، ثم ارتفع فنزل الأحساء وبينها وبين هجر ميلان، فابتنى بها دارا وجعلها منزلا، وتقدّم في زراعة الأرض وعمارتها، وكان يركب في الأيام إلى هجر هو ومن يحاصرها، ويعقب من أصحابه في كلّ أيام قوما، ثم دعا العرب فأجابه أوّل الناس، بنو الأضبط من كلاب، لأن عشيرتهم كانوا أصابوا فيهم دما، فساروا إليه بحرمهم وأموالهم فنزلوا الأحساء، وأطمعوه في بنى كلاب وسائر من يقرب منه من العرب، وطلبوا منه أن يضمّ إليهم رجالا ففعل ذلك، فلقوا بهم عشيرتهم فاقتتلوا فهزمتهم القرامطة فأكثروا فيهم القتل، وأقبلوا بالحريم والأموال والأمتعة نحو الأحساء، فاضطر المغلوبين إلى أن دخلوا في طاعته

وصاروا تحت أمره، ثم وجّه أبو سعيد بجيش آخر إلى بنى عقيل فظفر بهم، فقصدوه ودخلوا في طاعته، فملك تلك الفلاة، وتجنّب قتاله كلّ أحد إلا بنى ضبّة، فإنها ناصبته الحرب، فلما اجتمع «1» إليه من اجتمع من العرب وغيرهم خوّفهم ومنّاهم ملك الأرض كلها، فاستجاب بعضهم إلى دعوته فردّ إليهم ما أخذ منهم من أهل وولد، وأجاب آخرون رغبة في دعوته، ولم يردّ على أحد إبلا ولا عبدا ولا أمة وأنزل الجميع معه الأحساء، وأبى قوم دعوته فردّ عليهم حرمهم ومن لم يبلغ من أولادهم أربع سنين وشيئا من الإبل يحملون عليه، وحبش ما سوى ذلك كله، وجمع الصبيان في دور وأقام عليهم قوّاما، وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه، ووسم جميعهم على الخدود لئلا يختلطوا بغيرهم، وعرّف عليهم عرفاء، وعلّم من صلح لركوب الخيل والطعان فتشأوا لا يعرفون غيره، وصارت دعوته طبعا لهم، وقبض كل مال في البلد والثمار والحنطة والشعير، وأنفذ الرعاة في الإبل والغنم، وقوما للنزول معها لحفظها والتنقّل معها على نوب معروفة، وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن يصل أحد إلى غير ما يطعمه، وهو لا يغفل مع ذلك عن هجر، فلما أضجروه وطال أمرهم وقد كان بلغ منهم الحصار كل غاية، وأكلوا السنانير والكلاب وكان حصارهم يزيد على عشرين شهرا، ثم جمع أصحابه وحشد لهم وعمل الدبّابات، ومشى بها الرجال إلى السور، فاقتتلوا أشد قتال لم يقتتلوا مثله قبل ذلك، ودام القتال عامّة النهار، وكلّ منتصف من الآخر، وكثرت

بينهم القتلى، ثم رجع إلى الأحساء، ثم باكرهم فناوشوه فانصرف، فلما قرب من الأحساء أمر الرجّالة ومن جرح أن ينصرف، وعاود فى خيل فدار حول هجر، وفكّر فيما يكيدهم به، وإذا لهجر عين عظيمة كثيرة الماء، يخرج من نشز من الأرض غير بعيد منها، ثم يجتمع ماؤها في نهر ويستقيم حتى يمرّ بجانب هجر ملاصقا، ثم ينزل إلى التخيل فيسقيها، فكانوا لا يفقدون الماء في حصارهم، فلما تبيّن له أمر العين انصرف إلى الأحساء، ثم غدا فأوقف على باب المدينة عسكرا، ثم رجع إلى الأحساء وجمع الناس كلّهم وسار في آخر الليل فورد العين بكرة بالمعاول والرمل وأوقار الثياب الخلقان ووبر وصوف وأمر قوما بجمع الحجارة وآخرين ينفذون بها إلى العين، وأعدّ الرمل والحصى والتراب، فلما «1» اجتمع أمر أن يطرح الوبر والصوف وأوقار الثياب في العين، وأن يطرح فوقها الرمل والحصى والتراب «2» والحجارة ففعل ذلك، فقذفته العين ولم يغن ما فعلوه شيئا، فانصرف إلى الأحساء هو ومن معه، وغدا في خيل فضرب في البرّ، وسأل عن منتهى العين فقيل له إنّها تتصل بساحل البحر، وأنّها تنخفض كلّما نزلت، فردّ جميع من «3» كان معه وانحدر على النهر نحوا من ميلين ثم أمر بحفر «4» نهر هناك، ثم أقبل هو وجمعه يأتون في كل يوم، والعمّال يعملون حتى حفره إلى السباخ، ومضى الماء كله عنهم فصبّ في البحر، فلما تمّ له ذلك نزل على هجر وقد انقطع الماء عمّن بها،

ذكر الحرب بين القرامطة أصحاب أبى سعيد وأهل عمان

فأيقنوا بالهلاك فهرب بعضهم نحو البحر، فركبوه إلى جزيرة ادالى وسيراف وغيرهما، ودخل قوم منهم في دعوته، وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء، وبقيت طائفة لم يقدروا على الهرب ولم يدخلوا في دعوته، فقتلهم وأخذ ما في المدينة ثم أخربها، وصارت الأحساء مدينة البحرين. ذكر الحرب بين القرامطة أصحاب أبى سعيد وأهل عمان قال: ولما استولى على هجر وخرتها أنفذ سريّة من أصحابه ستمائة فارس إلى عمان، فوردت على غفلة فقتلوا ونهبوا وأسروا في عمل عمان وأنفذ أهل عمان سريّة إليهم في ستمائة رجل من أهل النجدة فأدركوهم فجعلت القرامطة ما غنموه وراء ظهورهم، وأقبلوا نحو أهل عمان فاقتتلوا، حتى تكسّرت الرماح وتقطّعت السيوف وتعانقوا، وتكادموا وتراضخوا بالحجارة، فلم تغرب الشمس حتى تفانوا، فبقى من أهل عمان خمسة نفر لا حراك بهم، ومن القرامطة ستة نفر مجرّحين إلا أنهم أحسن حالا من العمانيّة، فركب القرامطة ست رواحل وعادوا إلى أبى سعيد، فأخبروه الخبر واعتذروا إليه، فلم يقبل عذرهم وأمر بهم فقتلوا، وقال: هؤلاء خاسوا بعهدى ولم يواسوا أصحابهم الذين قتلوا، فأنزلت بهم ما كانوا له أهلا، وتطيّر بهلاك السريّة وأمسك عن أهل عمان. «1»

ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة

ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة قال: ولما كان من أمر أبى سعيد الجنّابى ما كان، اتصلت أخباره بالمعتضد بالله، وكتب إليه أحمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وهو إذ ذاك يتولى البصرة- يعلمه خبر أبى سعيد، وأنّه اتّصل به أنّه يريد الهجوم على البصرة، فأمره المعتضد بالله أن يعمل على البصرة سورا فعمله، فكان مبلغ ما صرف عليه أربعة عشر ألف دينار، ثم كتب الواثقى إلى المعتضد يسأله المدد، فسيّر إليه ثلاثمائة رجل في سماريّات، وأنفذ المعتضد بالله العبّاس بن عمرو الغنوى في ألفى رجل، وأقطعه اليمامة والبحرين وأمره بمحاربة القرامطة- وكان يتولّى بلاد فارس- فسار إلى البصرة فوردها وذلك في سنة سبع «1» وثمانين ومائتين، وخرج منها نحو هجر وبينهما بضع عشرة ليلة في فلاة مقفرة، وتبعه من مطوّعة البصرة نحو من ثلاثمائة رجل من بنى ضبة وغيرهم، وعرف أبو سعيد خبرهم فسار نحوهم وقدّم أمامه مقدّمة، فلما عاينهم العبّاس بن عمرو خلف سواده وسار إليهم فيمن خفّ من أهل العسكر وأدرك أبو سعيد مقدّمته في باقى أصحابه، فتناوشوا القتال فكانت بينهم حملات، ثم حجز الليل بينهم فانصرفوا على السواء فلما جاء الليل انصرفت مطوّعة البصرة ومن معهم من بنى ضبّة، فكسر ذلك الجيش وفتّ في أعضادهم، وأصبح العباس بن عمرو فعبّى أصحابه للقتال والتقوا، فجعل بدرا غلام أحمد بن عيسى بن

الشيخ في نحو مائة من أصحابه على ميمنة أبى سعيد، فأوغل فيهم فلم يرجع منهم أحد، وحمل أبو سعيد على العبّاس وأصحابه فانهزموا، وأسر العبّاس بن عمرو ومعه «1» نحو من سبعمائة رجل من أصحابه، واحتوى القرامطة على عسكره، وقتل أبو سعيد من غديومة جميع الأسرى ثم أحرقهم، وترك العبّاس بن عمرو «2» ومضى المنهزمون فتاه كثير منهم في البرّ وتلف كثير منهم عطشا، وورد قوم منهم البصرة فارتاع الناس لهم، حتى أخذوا في الانتقال عن البصرة فمنعهم الواثقى. قال: ولما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد الجنّابى العبّاس ابن عمرو، وقال له: أتحب أن أطلقك؟ قال: نعم قال: على أن تبلغ عنى صاحبك ما أقول، قال: أفعل، قال: تقول الذى أنزل بجيشك ما أنزل بغيك، هذا بلد كان خارجا عن يدك غلبت عليه وأقمت به وكان فيّ من الفضل ما آخذ غيره، فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به، ولا أخفت لك سبيلا، ولا نلت أحدا من رعيّتك بسوء، فتوجيهك إلىّ الجيوش لأى سبب؟! اعلم إنّى لا أبرح عن هذا البلد ولا يوصل إليه وفيّ، وفي هذه العصابة التى معى روح، فاكفنى نفسك ولا تتعرّض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر، وأطلقه وأرسل معه من يردّه إلى مأمنه، فأوردوه بعض السواحل فصادف مركبا فركب فيه إلى الأبلة، ووصل إلى بغداد في شهر رمضان من السنة. قال: وقد كان الناس يعظّمون

أمر العباس ويكثرون ذكره ويسمّونه قائد الشهداء، فلما وصل إلى المعتضد بالله عاتبه على تركه الاستظهار والتحرّز وأنّبه، فاعتذر بهرب بنى ضبّة ومن كان معهم من المطوّعه وهرب أصحابه عنه، وأنّه لو أراد الهرب لأمكنه، فلم يبرح حتى رضى عنه وزال همّه، ثم سأله عن خبره فعرّفه جميعه، ووصف له أحوال القرامطة وما قاله أبو سعيد بعد أن استأذنه في ذلك فأذن له، فقال: صدق ما أخذ شيئا كان في أيدينا، وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه، فقال: كذب عدوّ الله الكافر، المسلمون رعيّتى حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بى عمر لأشخصنّ بنفسى إلى البصرة وجميع غلمانى، ولأوجهنّ إليه جيشا كثيفا فإن هزمه وجّهت جيشا، فإن هزمه خرجت في جميع قوّادى وجيشى إليه، حتى يحكم الله بينى وبينه، وشغله بعد ذلك أمر وصيف غلام ابن أبى السّاج وأحفزه، فخرج في طلبه وهو عليل، وذلك في شوّال من هذه السنة، فأخذه وعاد إلى بغداد فدامت علّته واستمرّ وجعه ومات. قال القاسم بن عبيد الله: ما زال أمير المؤمنين المعتضد بالله يذكر أمر أبى سعيد في مرضه ويتلهّف، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: حسرة في نفسى كنت أحب أن أبلغها قبل موتى، والله لقد كنت وضعت في نفسى أن أركب، ثم أخرج إلى باب البصرة متوجّها نحو البحرين، ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفى إلا ضربت عنقه، وإنى أخاف أن يكون من هناك حوادث عظيمة. قال: وأقبل أبو سعيد بعد اطلاق العبّاس على جمع الخيل وإعدا

السلاح واتخاذ الإبل وإصلاح الرجال ونسج الدروع والمغافر ونظم الجواشن وضرب السيوف والأسنّة واتخاذ الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب عن قربه وسدّ الوجوه التى يتعرّف منها أمر بلده وأحواله بالرجال واصلاح أراضى المزارع وأصول النخل وعمارته، واصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وإقامة العرفاء على الرجال، والاحتياط على ذلك كلّه، حتى بلغ من تفقّده واحتياطه أنّ الشاة كانت تذبح فيسلّم اللحم إلى العرفاء، ليفرّقوه على من يرسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجزّ الصوف والشعر من الغنم ويفرّقه على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبيّا وأكسبة وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال، ويسلّم الجلد إلى الدبّاغ، فإذا خرج من الدبّاغ سلّم إلى خرّازى القرب والروايا والمزاد، وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفافا عمل منه، ثم يجمع ذلك كلّه إلى خزائن، فكان ذلك دأبه لا يغفل عنه، ويوجّه في كلّ مديدة بخيل إلى ناحية البصرة، فتأخذ من وجدت فتصير بهم إليه فيستعبدهم، فزادت بلاده وعظمت هيبته فى صدور الناس. قال الشريف أبو الحسين: وقد كان واقع بنى ضبّة عند طرده لهم عن قرب بلده، فأصاب منهم وأصابوا منه، ولم يتب عدوا عنه بعيدا، فلما شخص مع العبّاس بن عمرو منهم من شخص- فى وقت مسيره لقتاله- ازداد بذلك حنقا عليهم، فواقعهم وقائع مشهورة بالشدّة والعظم، ثم ظفر بهم فأخذ منهم خلقا، وبنى لهم حبسا عظيما وجمعهم فيه وسدّه عليهم، ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا وضجّوا

ذكر مقتل أبى سعيد الجنابى

فلم يغثهم، فمكثوا على ذلك شهرا ثم فتح عليهم، فوجد الأكثر منهم موتى، ووجد نفرا يسيرا قد بقوا على حال الموتى، وقد تغذوا بلحوم الموتى، فخصاهم وخلّاهم فمات أكثرهم. ذكر مقتل أبى سعيد الجنابى كان مقتله في سنة إحدى وثلاثمائة بعد أن استولى على سائر بلاد البحرين، وكان سبب مقتله أنّه لما هزم جيش العباس بن عمرو كما تقدم، واستولى على عسكره، أخذ من عسكره خادما له صقلبيا، فاستخدمه وجعله على طعامه وشرابه، فمكث كذلك مدة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصليا لله عزّ وجلّ صلاة واحدة، ولا يصوم في شهر رمضان ولا في غيره يوما واحدا، فأضمر الخادم لذلك قتله، فدخل معه الحمّام «1» يوما- وكان الحمّام في داره، فأخذ الخادم معه خنجرا ماضيا- ولم يكن معه في الحمّام «2» غيره، فلما تمكّن منه أضجعه فذبحه، ثم خرج فقال: السيد يستدعى «3» فلانا لبعض بنى سنبر فأحضر فقال: ادخل فدخل، فبادره فقبض عليه وذبحه، ولم يزل يستدعى من رؤساء القرامطة واحدا واحدا حتى قتل جماعة من الرؤساء والوجوه، إلى أن استدعى بعضهم فنظر عند دخوله إلى باب البيت الأوّل دما جاريا، فاستراب بذلك وخرج مبادرا فلم يدركه الخادم وأعلم الناس، وعمد الخادم إلى الباب فأغلقه وكان وثيقا، فاجتمع

الناس ونقبوا نقوبا إلى أن وصلوا إليه، فأخذه ابنه سعيد فأمر بشدّه بالحبال، ثم قرض لحمه بالمقاريض حتى مات رحمه الله تعالى. وخلّف أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيدا، وأبا طاهر سليمان، وأبا منصور أحمد، وأبا العباس «1» إبراهيم، والعبّاس محمد، وأبا يعقوب يوسف. وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته وبنى «2» زرقان، وكان أحدهم زوج ابنته، وبنى سنبر، وكان متزوجا إليهم، وهم أخوال أولاده وبهم قامت دولته وقوى أمره، فأوصى إليهم إن حدث به موت أن يكون القيّم بأمرهم ابنه سعيدا إلى أن يكبر أبو طاهر، وكان سعيد أكبر من أبى طاهر سنا، فإذا كبر أبو طاهر كان المدبّر لهم، فلما قتل جرى الأمر على ما وصّاهم به، وكان قد أخبرهم أنّ الفتوح يكون لأبى طاهر، فجلس سعيد يدبّر الأمر بعد مقتل أبيه إلى سنة خمس وثلاثمائة، ثم سلم الأمر لأخيه أبى طاهر، فدبّره وعمل أشياء موّه بها على عقول أصحابه فقبلوها وعظموا أمره، وكان من أخباره ما نذكره إن شاء الله تعالى، وكانت مدة تغلّب أبى سعيد على البحرين وما والاها نحوا من ستة عشر سنة «3» .

ذكر أخبار أبى القاسم الصناديقى ببلاد اليمن

ذكر أخبار أبى القاسم الصناديقى ببلاد اليمن وفي سنة ست وثمانين ومائتين استولى أبو القاسم النجّار المعروف بالصناديقى على اليمن، وكان ابن أبى الفوارس داعى عبدان قد أنفذه داعيا إلى اليمن، وكان هذا الصناديقى من موضع يعرف بالنّرس، وكان يعمل فيه الثياب النرسيّة، وقيل إنه كان يعمل في الكتّان، فلما صار إلى اليمن أجابه رجل من الجند يعرف بابن الفضل، فقوى أمره على اقامة الدعوة الخبيثة؛ فدخل فيها خلق كثير، فخلعهم من الإسلام، وأظهر العظائم، وقتل الأطفال وسبى النساء، وتسمّى برب العزّة وكان يكاتب بذلك، وأظهر شتم النبىّ صلى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء، واتّخذ دارا سمّاها دار الصفوة، وكان يأمر الناس بجمع نسائهم من أزواجهم وبناتهم واخوانهم، ويأمرهم بالاختلاط. بهنّ ليلا ووطئهنّ، ويحتفظ بمن تحبل منهنّ في تلك الليلة وبمن تلد من بعد ذلك، ويتخذهم لنفسه خولا ويسمّيهم أولاد الصفوة، وعظمت فتنته باليمن، وأجلى أكثر أهله عنه وأجلى السلطان، وقاتل القاسم بن أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الحسنى الهادى وقلعه عن عمله بصعدة، وألجأه إلى أن هرّب عياله إلى الرسّ حذرا منه لقوّته عليه، ثم إنّ الله عزّ وجلّ رزقه الظفر به فهزمه، وكان ذلك بلطف من ألطاف الله تبارك وتعالى، وهو أن ألقى على عسكره وقد بايته بردا وثلجا، قتل به أكثر أصحابة في ليلة واحدة، وقلّ ما يعرف مثل هذا من البرد والثلج في ذلك البلد، ولما طغى وبعى قتله الله بالأكلة وأنزل بالبلدان التى غلب عليها بثرا قاتلا، كان يخرج على كتف

ذكر ظهور القرامطة بالشام وما كان من أمرهم وحروبهم

الرجل «1» منهم بثرة فيموت في سرعة، فسمّى ذلك البثر حبّة القرمطىّ، وأخرب الله تعالى أكثر تلك البلاد التى ملكها، وأفنى أهلها بموت ذريع، واعتصم ابنه بعده بالجبال والقلاع، ولم يزل بها مقيما يكاتب أهل ملّته، ويعنون كتبه، من ابن رب العزّة، ثم أهلكه الله عز «2» وجل وبقيت منهم بقيّة، فاستأمنوا إلى القاسم بن أحمد الهادى، ولم يبق للنجّار بقيّة ولا لمن كان على مذهبه. ولنرجع إلى أخبار زكرويه بن مهرويه وخبر من أرسله إلى الشام. ذكر ظهور القرامطة بالشام وما كان من أمرهم وحروبهم قد قدّمنا من أخبار زكرويه بن مهرويه واختفائه وحرص أصحاب عبدان على قتله، وأنّه لما طال عليه الأمر أرسل ابنه الحسن إلى الشام وذلك في سنة ثمان وثمانين ومائتين. قال الشريف أبو الحسين محمد بن على الحسينى «3» رحمه الله: ولما أرسل زكرويه بن مهرويه ابنه إلى الشام أرسل معه رجلا من القرامطة من أهل نهر ملحانا، يقال له الحسن بن أحمد ويكنى بأبى الحسين، وأمره أن يقصد بنى كلب وينتسب لهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويدعوهم إلى الإمام من ولده، فاستجاب له فخذ من بنى

العليص بن ضمضم بن عدى بن جناب بن كلب «1» بن وبرة ومواليهم وانضاف إليه طائفة من بنى الأصبع من «2» كلب، ويسمى هؤلاء بالفاطميين وبايعوه، وكان الخبيث لما رجع إلى الطالقان يكتب إلى زكرويه يستأذنه في القدوم عليه، فيجيب بالتوقّف، فخرج نحو العراق، فلما وصل إلى السواد وجد زكرويه مختفيا، فلم يزل حتى توصل إلى المكان الذى هو فيه، فلم يظهر له لوما على قدومه وبعث إليه بخبر من استجاب له بالشام، فقال: أنا أخرج حتى أظهر فيهم هناك، فوجّه إليه: نعم ما رأيت، فضمّ إليه ابن أخته «3» عيسى بن مهرويه، ويسمّى بالمدثّر لقبا وبعبد الله اسما، وغلاما من بنى مهرويه فتلقّب بالمطوّق وكان سيّاقا، وأنفذهم إلى الشام، وكتب إلى ابنه الحسن يعرّفه أنّه ابن الحجّة، ويأمره له بالسمع والطاعة، فسار حتى نزل في بنى كلب، فلقيه الحسن بن زكرويه وسرّ به، وجمع له الجمع وقال: هذا صاحب الإمام فامتثلوا أمره، وسرّوا به وقالوا له: مرنا بأمرك وبما أحببت، فقال لهم: استعدوا للحرب فقد أظلّكم النصر، ففعلوا ذلك، واتصلت أخبارهم بشبل الديلمى مولى المعتضد، وذلك في سنة تسع وثمانى ومائتين. فقصدهم فقتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه، وكانت الوقعة بالرصافة من غربى الفرات، ودخلوا الرصافة وأحرقوا مسجدها ونهبوها، وأصعدوا نحو الشام، واعترضوا الناس بالقتل والتحريق ونهب القرى، إلى أن وردوا أطراف

دمشق، وكان هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ردّ أمر دمشق إلى طغج بن جف الفرغانى، فلقيتهم عساكره فانهزمت ولم تثبت، وقتل كثير منهم وأخذوا منهم ما قدروا عليه. قال: ولما هزم طغج نزل على دمشق وقاتل أهل البلد، وكان يحضر الحرب على ناقة ويقول لأصحابه: لا تسيروا من مصافّكم حتى تنبعث بين أيديكم، فإذا سارت فاحملوا فإنه لا تردّ لكم دابّة إذ كانت مأمورة، فسمّى بذلك صاحب الناقة، وحصر طغج بدمشق سبعة أشهر، فكتب طغج إلى مصر بخبر من قتل من أصحابه، وأنه محصور وقد فنى أكثر الناس وخرب البلد، فأنفذوا إليه بدار الكبير غلام ابن طولون- وهو المعروف بالحمّامى- فسار حتى قرب من دمشق وخرج «1» إليه طغج واجتمعوا على محاربة القرامطة، والتقوا واقتتلوا بقرب دمشق «2» ، فأصاب رئيس القرامطة- ابن القدّاح- سهم فقتله، ويقال أصابه الزراقون بمزراق فيه نفط فاحترق، وحمى أصحابه فقاتلوا عسكر بدر الحمّامى وطغج حتى انحازوا عنهم وانصرفت القرامطة وكان صاحب الناقة هذا المقتول قد ضرب دنانير ودراهم، وكتب على السكّة على أحد الوجهين: قل جاء الحق وزهق الباطل، وعلى الوجه الآخر: لا إله إلا الله، قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى. قال: فلما انصرفت القرامطة عن دمشق بعد قتل الطاغية بايعوا:

الحسن بن زكرويه بن مهرويه

الحسن «1» بن زكرويه بن مهرويه فسمّى نفسه أحمد وتكنى بأبى العباس وهو صاحب الشامة. قال ابن الأثير: ولما بايعه القرامطة دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادى وغيرهم، فاشتدت شوكته وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته «2» . قال الشريف أبو الحسين وسياقه أتمّ: ولما بايعوه ثار حتى افتتح عدّة مدن من الشام، وظهر على جند حمص، وقتل خلقا كثيرا من جند المصريين «3» ، وتسمّى بأمير المؤمنين على المنابر وفي كتبه، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين وبعض سنة تسعين ومائتين، ثم سار بمن معه إلى نحو الرقّة، فخرج إليهم مولى الخليفة المكتفى بالله وكان عليها، فواقعهم فهزموه، وقتلوه واستباحوا عسكره ورجعوا يريدون دمشق، وجعلوا ينهبون جميع ما يمرّون به من القرى، ويقتلون ويسبون ويخربون، فلما قربوا من دمشق أخرج إليهم طغج جيشا كثيفا أمّر عليه غلامه بشيرا، فهزم القرامطة الجيش وقتل بشير في خلق من أصحابه، فلما اتصل بالمكتفى قتل غلامه الذى كان على الرقّة وخبر قتل بشير ندب أبا الأعزّ السّلمى، وضمّ إليه عشرة آلاف من الجند والموالى والأعراب، وخلع عليه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائتين وأنفذه، فسار حتى نزل حلب ثم خرج فنزل وادى بطنان، فتفرّق الناس ودخل قوم منهم الماء يتبرّدون فيه وذلك في القيظ، ووافاهم القرامطة يقدمهم المطوّق،

فكان كل إنسان يحذر على نفسه وينجو بها، وركب أبو الأعزّ فرسه وصاح بالناس، فسار إليه جماعة لقى بها أوائل القوم، فلم يلبث إلا اليسير حتى انهزم، وركبت القرامطة أكتاف الناس يقتلون وينهبون حتى حجز الليل بينهم، وقد أتوا على عامّة العسكر وسلم منهم قليل. ولحق أبو الأعزّ في جميعيّة معه بحلب، ثم تلاحق به قوم حتى حصل فى نحو ألف رجل، ووافت القرامطة فنازلوا أهل حلب فحاربهم أبو الأعزّ، فلم يقدروا منه على شىء فانصرفوا، وجمع الحسين بن زكرويه أصحابه، وكان قد اتّصل به خلق كثير من اللصوص ومن بنى كلب، فسار حتى نزل أطراف حمص فخطب له على منابرها. ثم نهض إليها فأعطاه أهلها الطاعة، وفتحوا له البلد فدخلها، ثم سار إلى حماة ومعرّة النّعمان وغيرهما فقتل الرجال والنساء والأطفال، ثم رجع إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها، ثم صار إلى سلمية فحاربه أهلها وامتنعو منه، فأعطاهم الأمان ففتحوا له «1» ، فبدأ بمن كان فيها من بنى هاشم. وكان بها جماعة كثيرة، فقتلهم أجمعين، ثم كرّ على أهلها فأفناهم أجمعين وخرّ بها، وخرج عنها وما بها عين تطرف، وكان مع ذلك لا يمرّ بقرية فيدع فيها أحدا، حتى أخرب البلاد وسبى الذرارى وقتل الأنفس من المسلمين وغيرهم، ولم يقم له أحد. قال الشريف: ووردت كتب التجّار وسائر الناس من دمشق وغيرها بصورة الأمر وغلظه، وأن طغج قد فنيت رجاله وبقى في عدّة يسيرة، وأنّ القرامطة تقصد دمشق في أوقات فلا يقاتلهم إلا العامّة

ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم

وقد أشرف الناس على الهلكة وكثر الضجيج بمدينة السلام، واجتمعت العامّة إلى يوسف بن يعقوب القاضى وسألوه إنهاء أخبار الناس إلى الخليفة، فوعدهم بذلك، ووردت كتب المصريين على المكتفى بالله يعرّفونه ما قتل من عسكرهم الذى خرج إلى الشام، وأن القرامطة أفنتهم وأنّهم قد أخربوا الشام، فأمر المكتفى الجيش بالاستعداد وإخراج المضارب إلى باب الشماسيّة، وخرج إلى مضربه في القوّاد والجند، ورحل لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة تسعين ومائتين، وسلك طريق الموصل ومضى نحو الرقّة بالجيوش حتى نزلها وانبثت جيوشه من حلب وحمص، وقلّد محمد بن سليمان حرب الحسين بن زكرويه، واختار له جيشا كثيفا، وكان محمد بن سليمان صاحب ديوان العطاء وعارض الجيش، فسار نحو القرامطة بجيشه. ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: ولما دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين كتب القاسم بن عبيد الله وهو وزير المكتفى بالله إلى محمد بن سليمان الكاتب يأمره بمناهضة القرامطة، فسار إليهم والتقى الجمعان يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم من هذه السنة، بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم، وقتل عامّة رجالهم، وورد كتاب محمد بن سليمان الكاتب إلى القاسم بن عبيد الله الوزير، يخبره بكيفيّة المصاف والقتال ومن

كان في الميمنة والميسرة والقلب والجناحين من قوّاد عسكره، وأن القرامطة اجتمعوا ستّة كراديس، وأن ميسرتهم كان فيها ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا خلفها أربعمائة فارس، وفي القلب ألف فارس وأربعمائة فارس، وفي ميمنتهم ألف فارس وأربعمائة فارس، وكمنوا خلفها مائتى فارس، وذكر كيف كانت حملاتهم وقتالهم، وكيف كانت هزيمتهم، فى كلام مطوّل تركناه اختصارا لطوله، إلا أنّ ملخّصه أنّ القرامطة قتلوا قتلا ذريعا، وذكر أن الكردوس الذى كان في ميسرة القرامطة قصده الحسين بن حمدان، وكان في جناح ميمنة عسكر الخليفة، واقتتلوا أشدّ قتال حتى تكسّرت الرماح وتقطّعت السيوف فصرع من القرامطة ستمائة في أول دفعة، وأخذ أصحاب الحسين منهم خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضّة، وأن القرامطة ولّوا مدبرين فاتبعهم الحسين بن حمدان، فرجعوا عليه فلم يزل يحمل حملة بعد حملة- وهم في خلال ذلك يصرعون منهم الجماعة بعد الجماعة- حتى أفناهم الله تعالى، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتى رجل. قال: وحمل الكردوس الذى كان في ميمنتهم على القاسم بن سهل ويمن الخادم، فاستقبلوهم بالرماح فكسروها في صدورهم وعانق بعضهم بعضا، فقتلوا من الكفرة جماعة كبيرة. قال: وأخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس «1» ومائة طوق فضّة، وأخذ أصحاب خليفة بن المبارك منهم مثل ذلك، وذكر في كتابه أنه حمل هو عليهم في القلب، فما زال أصحابه يقتلون القرامطة- فرسانهم ورجّالتهم- أكثر من خمسة

أميال، وذكر في كتابه أن الحسن بن زكرويه لم يشهد هذا المصاف وأنّه يشخص إليه إلى سلمية. قال الشريف رحمه الله: وكان الحسن ابن زكرويه- لما أحسّ بقرب الجيوش- عرض أصحابه، وأخرج الأقوياء منهم عن الضعفة والسواد، وأنفذ الجيش وتخلّف هو في السواد والضعفة، فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك ورحل لوقته وسار خوفا من الطلب، وتلاحق به من أفلت من أصحابه، فخاطبهم بأنّهم أتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم وأنّهم لم يصدقوا الله، وحرّضهم على المعاودة إلى الحرب فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك، واعتلّوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم، فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبنى خلق من أهل بغداد بالبيعة لى، ودعاتى بها ينتظرون أمرى، وقد خلت من السلطان الآن، وأنا شاخص نحوها لأظهر بها، ومستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبى، وكتبى ترد عليه بما يعمل به فاسمعوا له وأطيعوا أمره فضمنوا له ذلك، وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمّى بالمدثّر وصاحبه المطوّق وغلام له رومىّ، وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق وساروا يريدون سواد الكوفة، وسلك البرّ وتجنّب المدن والقرى، حتى إذا صار قريبا من الدالية نفد زاده، فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بالقرب منها خلف رابية، ووجّه بعض من كان معه لابتياع ما يصلحه، فلما دخلها أنكر زيّه بعض أهلها وساء له عن أمره فورى وتلجلج، فاستراب به وقبض عليه وأتى به واليها، وكان يعرف بأبى خبزة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات، قال: والدالية قرية من عمل الفرات، قال: فسأله أبو خبزة عن خبره ورهب عليه، فعرّفه أن القرمطى، الذى

خرج أمير المؤمنين المكتفى بالله في طلبه، خلف رابية أشار إليها، فسار أبو خبزة إلى ذلك الموضع ومعه جماعة بالسلاح حتى أشرف عليهم، فأخذهم وشدّهم وثاقا وتوجه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد، فسار بهم إلى المكتفى وهو يومئذ بالرقّة، فأمر أن يشهّروا بها ففعل بهم ذلك، وألبس الحسن بن زكرويه درّاعة ديباج وبرنس من حرير وهو على بختىّ، والمدثّر والمطوّق على جملين عليهما درّاعتا ديباج وبرانس حرير، وهم بين يديه، وذلك في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين. قال: وقدم محمد بن سليمان الكاتب الرقّة والجيوش معه، بعد أن تتبّعوا ما بقى من القرامطة فأسروا وقتلوا، فخلف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقّة، وشخص في خاصّته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد، وحمل القرمطى وأصحابه معه ومن أسر في الوقعة، وذلك في أول يوم من صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، فلما صار إلى بغداد عمل له دميانه غلام يا زمان كرسيّا سمكه ذراعان ونصف، وركّبه على فيل وأركبه عليه ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، عليهم دراريع الديباج والبرانس والمطوّق في وسط الأسرى على جمل، وهو غلام حدث قد جعل في فيه خشبة مخروطة قد شدّت إلى قفاه كاللجام، وذلك أنّهم في وقت دخولهم الرقّة أكثر الناس الدعاء عليهم، فكان هو يشتم الناس الذين يدعون عليهم ويبصق عليهم، وكان دخولهم كذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من هذه السنة.

قال: فلما وصل المكتفى إلى داره حبسهم ووكل بهم، ووصل محمد بن سليمان بعد ذلك على طريق الفرات في الجيش، وقد تلقّط، بقايا القرامطة من كل وجه، فنزل بباب الأنبار في ليلة الخميس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل من السنة، فأمر المكتفى القوّاد وأصحاب الشرط بتلقّيه والدخول معه، فدخل محمد بن سليمان في زى حسن ومعه بين يديه نيّف وسبعون أسيرا، وخلع الخليفة على محمد بن سليمان وطوّقه بطوق من ذهب، وسوّره بسوار من ذهب، وخلع على جميع القوّاد وطوّقوا وسوّروا، وحبس الأسرى وكان المكتفى بالله وقت دخوله أمر أن تبنى له دكّة في المصلّى العتيق من الجانب الشرقى، مربّعة ذرعها عشرون ذراعا في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج، فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القوّاد وجميع الغلمان وصاحب جيشه محمد ابن سليمان وصاحب شرطته أن يحضروا هذه الدكّة، فحضروها وصعد الوجوه ووقف الباقون على دوابّهم، وخرج التجّار والعامّة للنظر وحملوا الأسرى كلّهم مع خلق كثير منهم كانوا بالكوفة وحملوا إلى بغداد وغيرهم ممّن حمل ممّن كان على مذهبهم، فأحضر جميعهم على الجمال وقتلوا جميعا وعدّتهم ثلاثمائة وستون وقيل ثلاثمائة ونيّف وعشرون، وقدم الحسن بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه، وهما زميلان، على بغل في عماريّة، قد أرسل عليهما أغشية، فأصعدا إلى الدكّة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنسانا من الأسرى من وجوه القرامطة، ممّن عرف بالنكاية والعداوة للإسلام والكلب على سفك الدماء واستباحة النساء وقتل الأطفال، وكان كل واحد منهم

يبطح على وجهه فتقطع يده اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ثم تضرب عنقه ويرمى به إلى أسفل، فلما فرغ منهم قدّم المدثر ففعل به مثل ذلك ثم كوى ليعذب ثم ضربت عنقه، ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتى سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وحملت الرؤوس فصلبت على الجسر، وصلب بدن الحسن فمكث مصلوبا نحوا من سنة، ثم سقط عليه حائط ودفنت أجساد الأسرى عند الدكة، وهدمت بعد أيام. قال الشريف: ومن كتب اللعين الحسن بن زكرويه إلى بعض عمّاله: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله المهدى المنصور الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الداعى إلى كتاب الله، الذابّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المنتصرين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيّين صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين وسلّم- كتاب إلى جعفر «1» بن حميد الكردى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد «2» جدّى رسول؛ أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من

أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد فى الأرض فأعظمنا ذلك «1» ، ورأينا أن ننفذ إلى هناك من جيوشنا من ينتقم الله به، من أعدائنا الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنفذنا جماعة من المؤمنين «2» إلى مدينة حمص ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك، لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم، فينبغى أن يكون «3» قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذى لم يزل يعوّدنا في كل من مرق «4» من الطاعة وانحرف عن الإيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها، ولا تخف عنّا شيئا من أمرها. سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على جدى رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا. وكان عمّاله يكاتبونه بمثل هذا الصدر. قال ابن الأثير «5» : وكان قد نجا من أعيان القرامطة رجل من بنى العليص يسمى إسماعيل ابن النعمان في جماعة معه، فكاتبه المكتفى بالله وبذل له الأمان، فحضر في نيّف «6» وستين نفسا، فأحسن الخليفة إليهم وسيّرهم إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، فأقاموا معه مدّة وعزموا على

ذكر خبر ارسال زكرويه بن مهرويه محمد بن عبد الله إلى الشام وما كان من أمره إلى أن قتل

إنشاء فتنة بالرحبة، وكان قد انضم إليهم جماعة كثيرة، فشعر بهم القاسم فقتلهم فارتدع من كان قد بقى من موالى بنى العليص، وذلّوا ولزموا السماوة حتى جاءهم كتاب من زكرويه بن مهرويه، يذكر لهم أن ممّا أوحى إليه أن صاحب الشامة وأخاه يقتلان، وأن إمامه، الذى هو حى، يظهر بعدهما ويظفر ذكر خبر ارسال زكرويه بن مهرويه محمد بن عبد الله الى الشام وما كان من أمره الى أن قتل كان الحسن بن زكرويه قد خلف القاسم بن أحمد المكنى بأبى الحسين خليفة على من بسلمية من أصحابه كما قدّمنا، فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه فأخبره بخبر القوم، الذين استخلفه عليهم ابنه الحسن أنهم اضطربوا عليه، وأنه خافهم وتركهم وانصرف، فلامه زكرويه على قدومه لوما كثيرا، وقال له: ألا كاتبتنى قبل انصرافك إلىّ، ووجده على ما به تحت خوف شديد من طلب السلطان من وجه وطلب أصحاب عبدان الذى كان قد تسبّب في قتله من وجه آخر ثم إنّ زكرويه أعرض عن القاسم وأنفذ رجلا من أصحابه، كان يعلم الصبيان بالزابوقة «1» يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد «2» المكنى أبا غانم في سنة ثلاث وتسعين ومائتين فتسمى نصرا، وأمره أن يتوجّه إلى أحياء كلب ويدعوهم، فدار أحياء كلب ودعاهم فلم يقبله

إلا رجل من بنى زياد يعرف بمقدام بن الكيّال، ثم استجاب له طوائف من الأصبعيين الذين يعرفون بالفواطم، وقوم من بنى العليص وصعاليك من بنى كلب، فسار بهم نحو الشام، وعامل المكتفى بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ، وهم بنواحى مصر على حرب إبراهيم الخليجى، وكان قد خالف كما قدّمنا ذكر ذلك، فاغتم محمد بن عبد الله بن سعيد غيبته فصار إلى مدينتى بصرى وأذرعات فحارب أهلها ثم أمّنهم فلما استسلموا قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم، وسار نحو دمشق فخرج إليه صالح بن الفضل خليفة ابن كيغلغ فيمن معه، فأثخنوا فيهم وظفروا عليهم ثم غرّوهم ببذل الأمان، فقتلوا صالحا وعسكره وقصدوا دخول دمشق فدفعهم عنها أهلها فانصرفوا إلى طبريّة، ولحق بهم جماعة من الجند ممّن سلم بدمشق، فواقعهم يوسف بن إبراهيم، عامل ابن كيغلغ على الأردن، فهزموه، وبذلوا له الأمان ثم غدروا به فقتلوه ونهبوا طبريّه وقتلوا وسبوا النساء، فأنفذ المكتفى الحسين بن حمدان في طليهم مع وجوه من القوّاد، فدخل دمشق وهم بطبريّة، فلما علموا بذلك عطفوا نحو السماوة، وأتبعهم الحسين بن حمدان في البريّة، فأقبلوا ينتقلون من ماء إلى ماء يغورون ما يرتحلون عنه من الماء، فلم يزالوا على ذلك حتى وردوا الماءين المعروفين بالدمعانة والحالّة، فانقطع عنهم لعدم الماء فمال نحو رحبة مالك بن طوق، وأسرى عدو الله حتى وافى هيت وهم غازون وذلك لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، طلوع الشمس، فنهب ربض هيت والسفن التى فى الفرات وقتل نحو مائتى إنسان، وأقام هناك يومين والقوم

متحصّنون، ثم رحل بما أخذه وبمائتى كرّ حنطة إلى نحو الماءين وبقيّة أصحابه هناك، فلما اتصل الخبر بالمكتفى أرسل إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداجيق ومعه جماعة من القوّاد في جيش كثيف، ثم أتبعه بمؤنس الخادم «1» ، فنهض محمد بن إسحاق نحوهم فوجدهم قد غوّروا المياه، فأنفذ إليه من بغداد بالروايا والقرب والمزاد، وكتب إلى الحسين بن حمدان بالنفوذ إليهم من الرحبة، فلما أحسّوا بذلك إئتمروا بصاحبهم نصر، فوثب عليه رجل من أصحابه يقال له الذيب بن القائم فقتله، وشخص إلى بغداد متقرّبا بذلك ومستأمنا، فأسنيت له الجائزة وكف عن طلب قومه بقتل محمد هذا، فمكث أياما ببغداد وهرب، ثم إن طلائع محمد بن كنداجيق ظفرت برأس محمد المقتول هذا، فحمل إلى بغداد. قال: ثم إن قوما من بنى كلاب أنكروا ما فعله الذيب من قتل محمد، ورضيه آخرون فتحزّبوا أحزابا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى بينهم ثم افترقوا، فصارت الفرقة التى رضيت قتله إلى ناحية عين التمر، وتخلف من كره قتله على الماء الذى كانوا ينزلون عليه، واتصل الخبر بزكرويه بن مهرويه فردّ القاسم إليهم.

ذكر ارسال زكرويه بن مهرويه القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة وما كان من أمره

ذكر ارسال زكرويه بن مهرويه القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة وما كان من أمره قال: ولما اتّصل الخبر بزكرويه كان القاسم بن أحمد عنده، فردّه إليهم لمعرفتهم به، فلما ورد عليهم جمعهم ووعظهم، وقال: أنا رسول وليّكم وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الذيب بن القائم، وأنّكم قد ارتددتم عن الدين، فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبّتهم، وذكروا ما جرى بينهم وبين أهلهم من الخلف والقتل والبعد بهذا السبب، فقال لهم: قد جئتكم الآن بما لم يأتكم به أحد تقدّمنى، وليّكم يقول لكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوادها أكثر، وموعدكم اليوم الذى ذكره الله، يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة، فإنه لا دافع لكم عنها، ومنجز وعدى الذى جاءتكم به رسلى، فسرّوا بذلك سرورا كثيرا وارتحلوا نحو الكوفة، فلما وردوا إلى القطقطانة، وهى قرية خراب في البرّ، بينها وبين الكوفة ستة وثلاثون ميلا، وذلك يوم الأربعاء قبل يوم عرفه بيوم من سنة ثلاث وتسعين ومائتين، خلّفوا بها الخدم والأموال ثم أمرهم أن يلحقوا به عين الرحبة على ستة أميال من القادسية، ثم شاور الوجوه من أصحابه فى أى وقت يأتى الكوفة؟ فقال قائل ليلا فلا يتحرك أحد إلا قتلناه، ويخرج إلينا واليها في قلة فنأخذه ونقتله، وقال آخر: نمهل إلى أن ندخلها عشاء في يوم العيد، والجند سكارى والبلد خال، فنقصد باب إسحاق وهو غافل فنأخذه ونقف على بابه، فلا يأتينا أحد إلا

قتلناه، فإنهم لا يأتونا إلا نفر بعد نفر، وكانت شحنة الكوفة يومئذ سبعة آلاف رجل، إلا أن المقيم بالكوفة يومئذ أربعة آلاف من الدميانية والمصريين وغيرهم، والناس فيها أحياء «1» والبلد على غاية الاجتماع والحسن وكثرة الناس، وقال آخرون: نسير ليلتنا ثم نكمن في النجف في شعابه فنريح الخيل والإبل وننام، ونركب عمود الصبح فنشنّها غارة على أهل المصلّى، وقد نزل الجند للصلاة وركب غلمانهم الدوابّ، ونضع السيف وجل أهل البلد هناك، فقال اللعين: هذا هو الرأى، فركبوا وساروا حتى حصلوا في بعض المواضع فناموا، فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس يوم العيد، لطفا من الله تعالى بالناس؛ قال: وقد كان أحد ما شغلهم أنهم اجتازوا بقوم من اليهود يدفنون ميتا لهم بالنّخيلة، فشغلهم قتلهم فلم يصلوا إلى الكوفة إلا وقد صلى إسحاق بن عمران بالناس «2» العيد، وانصرف والناس متبدّدون في ظاهر الكوفة ومنهم من قد انصرف، ولاسحاق بن عمران «3» طلائع تتفقد، وكان ذلك لأمور قد أرجف الناس بها فى البلد، من فتن تحدث من غير جهة القرامطة، وقيل كانت عدّتهم ثمانمائة فارس وأربعمائة راجل: وهم يقاتلون على طمع وشبهة، فأقبلوا يقدمهم هذا المكنى بأبى الحسين. قال: وكان أحد الألطاف أنّ إسحاق بن عمران قد أحدث مصلى بالقرب من طرف البلد فصلى فيه، وكان الرجوع منه إلى البلد سهلا، فقصدت القرامطة المصلى العتيق، على ما كانوا يقدرون من اجتماع الناس فيه، فلم بصادفوا فيه أحدا،

فأقبلت خيل منهم من تلك الجهة، فدخلوا الكوفة من يمينها، فوضعوا السيف حتى وصلوا إلى حبسها ففتحوه، وقتلوا كثيرا من الناس وأخرجوا خلقا، فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح، وتكاثر الناس على من دخل الكوفة من القرامطة، فقذفوهم بالحجارة فقتل منهم جماعة، وأقبل جل القوم نحو الخندق فقتلوا ناسا، وناوشهم طوائف من الجند تخلفوا بالصحراء وبعض ما كان أنفذ إسحاق بن عمران طليعة، فقتلوا بعضهم وأفلت بعضهم إلى البلد، وكان إسحاق بن عمران قد انصرف في أحسن زى وأجمله، فلما صار قرب داره تفرّق الجيش عنه إلا خواصا، كان قد عمل لهم سماطا في داره، فلما سار في بعض الطريق لحقه فارس من بنى أسد على فرس له بلقاء، قد طعنت في عنقها ودمها سائل على كتفها إلى الحافر، فشق الجند وزاحم غلمانه وجاوز إسحاق بن عمران، ثم قلب رأس فرسه إليه فوقف له، فقال: جاءتنا أيها الأمير خيل من الأعراب، فقتلت وسلبت وخرجت إلى الصحراء، فلما رددناهم طعنت فرسى، فقلب إسحاق بن عمران فرسه راجعا، وأمر بإخراج الجند نحو الخندق، وبين يدى إسحاق بن عمران نحو من ستين راجلا، ومعه غلمانه ونفر يسير من الجند، حتى إذا صار عند قصر عيسى بن موسى ومعه أبو عيسى صالح بن على بن يحيى الهاشمى يسايره فالتفت إليه، وقال: خذ هؤلاء الرجّالة وامض إلى قنطرة بنى عبد الوهاب- وهى إحدى قناطر الخندق- فاكشفها، فأخذهم ومضى، وتقدّم إلى عبد الله الحسين بن عمر العلوى أن يدور في البلد ويسكّن الناس، فدار وعليه السواد فسكن الناس، وخرج كثير

من الناس بالسلاح، وتفرّق من دخل الكوفة من القرامطة لمّا رماهم أهلها، وقتل بعض القصابين رجلا منهم بساطور، وكان فيمن تفرّق منهم رجل من كلب يعرف بالمقلقل، وهو أحد رجالهم وشجعانهم في جمع معه، فأفضى به الطريق إلى دار عيسى بن على، فلقيهم أحد الفرسان من الجند يعرف بالوردانى، قد ركب لمّا سمع الصيحة، فلم يشك أنّهم من الجند لما رأى من كثرة الجواشن عليهم والدروع، فقال لهم: سيروا يا أصحابنا، فأمسكوا عنه حتى توسّطهم ثم عطفوا عليه بالسيوف فقتلوه، وأخذوا دابّته وساروا نحو الخندق للقاء أصحابهم، فلما صاروا بالصحراء من الكوفة نظر إليهم أبو عيسى، فلم يشك أنّهم من أصحاب السلطان، ثم نظر إليهم وقد لقوا جماعة من العامّة، فأقبلوا يسلبونهم، فتبيّن أمرهم فحمل عليهم فعدلوا عن سلب أولئك، وحمل فارسهم المقلقل- وكان رجلا عظيما جسيما- وفي يده سيف عريض، فالتقى هو وأبو عيسى فطعنه أبو عيسى تحت ثندوته «1» فصرعه، فحذفه المقلقل بالسيف فأصاب جحفلة «2» فرسه فعقره، وأمر أبو عيسى بعض الرجّالة فاحتزّ رأسه ووجّه به إلى إسحاق بن عمران، وقد رفع رأسه، فكان ذلك أحد ما كسرهم؛ قال: واجتمعت الخيل والرجّالة فقاتلهم إسحاق بمن معه- وليسوا بالكثيرين- قتالا شديدا، فى يوم صائف شديد الحرّ طويل إلى الزوال، وخرج الناس من العامّة فانصرف القرامطة مكدودين

ذكر ظهور زكرويه بن مهرويه وقتاله عساكر الخليفة وأخذه الحاج وما كان من أمره إلى أن قتل

فنزلوا العدير على ميلين من الكوفة وارتحلوا عشيا نحو سوادهم، واجتازوا بالقادسية، وقد وصل إليهم رسول إسحاق بن عمران، فحذّرهم أمرهم يعنى حذّر أهل القادسيّة، وعرف يومئذ صبر إسحاق ابن عمران على حملاتهم وتشجيعه لأصحابه. قال: وأخرج إسحاق بن عمران مضاربه بظاهر الكوفة، وخرج إليه أصحابه فعسكر، وبات الناس بالكوفة على غاية الجزع والتحارس ونصب الحجارة على الأسطحة؛ قال: ولما وصلت القرامطة إلى عين الرحبة وكانوا قد خلّفوا سوادهم هناك،؟؟؟ فرحلو ثم وساروا بهم فنزلوا عينا بسرّة العذيب تعرف بعين عبد الله، ثم رحلوا فنزلوا قرية تعرف بالصوّان على نهر هد من سواد الكوفة، ثم مضى أبو الحسين إلى قرية تعرف بالدرنه «1» على نهر زياد من سواد الكوفة، فخرج إليه بها زكرويه وكان من أمره ما نذكره. ذكر ظهور زكرويه بن مهرويه وقتاله عساكر الخليفة وأخذه الحاج وما كان من أمره الى أن قتل كان ظهور زكرويه بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وذلك أنّه لما وصل القاسم بن أحمد إلى الدرنة خرج زكرويه إليه

منها، وكان بها مستترا كما ذكرنا فيما تقدّم، فقال القاسم للعسكر: هذا صاحبكم وسيّدكم ووليّكم الذى تنتظرونه، فترجّلوا بأجمعهم وألصقوا خدودهم بالأرض، وضرب لزكرويه مضرب عظيم وطافوا به وسرّوا سرورا عظيما، واجتمع إليه أهل دعوته من أهل السواد فعظم جيشه جدا، وكان إسحاق بن عمران قد كتب إلى العباس بن الحسن «1» وزير المكتفى- يخبره خبر القرامطة ومهاجمتهم على الكوفة وما كان من خبرهم، وأثنى على من عنده من الجند وذكر حسن بلائهم، فلما وصل إليه الكتاب قلق له، وشاور بعض أصحابه في لقاء الخليفة المكتفى بالله بذلك، فأشار عليه بتعجيله بذلك، فقال الوزير: كيف ألقاه بهذا مع ما يحتاج إليه من الأموال ولعهدى به، وقد ناظرنى منذ يومين في دينار واحد، ذكر أنّه فضل بقيّة نفقة رفعت إليه، فقال له صاحبه: أيها الوزير إن أسعفك وإلا ففى أموال خدمك وأسبابك فضل فوظفها علينا، وتنفق فيها، فقال: فرّجت، والله- عنى، ثم لبس ثيابه وأبى إلى المكتفى بالله فدخل عليه في غير وقت الدخول فعرّفه الخبر، فقال له المكتفى: كأنّك يا عباس قد قلت: كيف أخبر أمير المؤمنين بمثل هذا وقد ناظرنى في دينار فضل نفقة! فقال: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين، قال: إنّما جرى ذلك لمثل هذا، فلا تبخل بمال في مثل هذا، وأباحه الأموال والإنفاق في

الرجال ليلا ونهارا، فأنفذ الوزير جنىّ «1» الصفوانى ومباركا القمّى ونحرير العمرى ورائقا وطائفة من الغلمان الحجرية وجماعة من القوّاد فى جيش عظم، فوصل أوائلهم في اليوم السادس من يوم النحر، فركب إليهم إسحاق بن عمران وذكر لهم قوّة من لقى من القرامطة، وأنّه قد مارسهم، وحذّرهم أن يغتروا بهم، وقال لهم: سيروا إلى القادسيّة فإنّ بينكم وبينها مرحلة، وإذا صرتم بها فأريحوا واستريحوا وتجمّعوا، ثم سيروا إليهم وطاولوهم ونازلوهم فإنّ الظفر برجى بذلك فيهم عندى، ولا ترموا بأنفسكم عليهم فإنّهم صبر غير أنكال، فقال له بشر الأفشينى: إن رأيناهم كفيناك القول يا أبا يعقوب، إنما نخشى أن يهربوا، فدعا لهم بالنصر ورحلوا نحو القادسيّة، فباتوا بها ليلة ورحلوا في آخرها إلى الصوّان، وبين الموضعين نحو العشرة أميال، ورحلوا بالأثقال والفهود والبزاة وهم على غير تعبئة مستخفّين بهم، فأسرعوا السير ووصلوا وقد تعب ظهرهم وقلّ نشاطهم وقد عمد القرامطة فضربوا بيوتهم إلى جانب جرف عظيم لنهر هناك وأثقالهم مما يلى البيوت، والرجّالة في أيديهم السيوف، وقتالهم من وجه واحد صفا واحدا قدّام البيوت بقدر نصف غلوة، والفرسان جلوس خلف الرجّالة، فلما تراءى الفريقان ركب الفرسان وافترقوا فصاروا جناحين للرّجالة، وحملوا على الناس فصدقوهم الحملة فانكفأوا راجعين، وتلاقى الرجّالة من الفريقين، فأتت رجّالة العسكر على رجّالة القرامطة وألجأوهم إلى البيوت، وأقبلت الفرسان فنظروا إلى

الرجّالة ينهبون بيوتهم، فترحّلوا وحمّلوا خيلهم الأمتعة، وكانت القرامطة في مجنبات الناس لما رأوا من صدق القتال، فلما رأوا الناس قد حمّلوا الدواب والجمازات وتشاغلوا حملوا على الجمازات والبغال بالرماح، فأقبلت لا يردّها شىء عن الناس تخبطهم، فانهزم الناس ووضع السيف فيهم، وقتل الأكثر وتبع الأقل نحو القادسيّة وفيهم مبارك القمّى، فأقاموا ثلاثا يجمعون السلب والأسرى، وجمع زكرويه الآلة والمتاع والأثاث والجمازات، فقيل إنّه أخذ ثلاثمائة جمل وخمسمائة بغل ممّا كان للسلطان سوى ما أخذ للقواد، وقيل إنّه قتل ألفا وخمسمائة رجل، فقوى أصحابه جدا، ودخل الكوفة فلول الجيش عراة. ورحل زكرويه يريد الحاج وبعث دعاته إلى السواد، فلم يلحق به فيما قيل إلا النساء والصبيان، قال: ولما وقف الخليفة على صورة الأمر عظم عليه وعلى الناس وخافوا على الحجّاج، فأنفذ المكتفى بالله محمد بن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب زكرويه، وضمّ إليه خلقا عظيما وجماعة من القوّاد ونحو ألفى رجل من بنى شيبان واليمن وغيرهم، وكان زكرويه قد نزل على عين «1» الزبيديّة، ثم نزل على أربعة أميال من واقصة، فوافت القافلة لست أو سبع خلت من المحرم من سنة أربع وتسعين ومائتين، فأنذرهم أهل المنزل بالفرامطة فلم يتزلوا وطووا، فنجّاهم الله عزّ وجلّ، وكان

معهم من أصحاب السلطان الحسن بن موسى وسيما الابراهيمى، فلما وافى زكرويه واقصة تعرّف الخبر فعرف أنّهم قد حذّروهم، فقتل جماعة من أهل المنزل ونهب وأحرق الحشيش وتحصّن الباقون منه، ورحل فلقيته الخراسانية من الحجّاج على الأرض البسيطة التى تخرج منها حجارة النار، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم، وليس معهم أحد من أصحاب السلطان، فرشقوا القرامطة بالنشّاب وقد أحاطوا بهم فانحازوا عنهم، ثم تقدّم إلى الحاج جماعة منهم فسألوهم: هل فيكم سلطان، فإنّا لا نريدكم؟ فقالوا لهم: لا، إنما نحن قوم حجّاج، فقال لهم زكرويه: امضوا، فرحلوا وأمهلهم حتى ساروا ثم قصدهم، يبعج الجمال بالرماح حتى كسر بعضها بعضا واختلطت، ووضع السيف فقتل خلقا عظيما واستولى على الأموال. وقدم محمد بن إسحاق بن كنداج الكوفة ثم رحل إلى القادسية فلما وقف على خبر مسيرهم نحو واقصة أنفذ علّان بن كشمرد في خيل جريدة، حتى لقى فلّ الخراسانيّة فأشاروا عليه أن يلحق الحاج فإنّ القافلة الثانية تنزل العقبة الليلة أو من غد، فحثّ حتى تسبق إليها فتجتمع أنت ومن فيها على قتال الكفرة، الله الله في الناس أدركهم، فرحل راجعا نحو القادسية وقال: لا أغرّر برجال السلطان للقتل، فلقى بعد ذلك من المكتفى شرا؛ وورد زكرويه العقبة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من المحرم وفي القافلة مبارك القمّى وأحمد ابن نصر الديلمى وأحمد بن على الهمذانى، وقد كانت كتب المكتفى اتصلت إلى أمراء القافلة الثانية والثالثة مع رسله، يأمرهم أن يتجنّبوا الطريق ويرجعوا إلى المدينة، ويأخذوا على طريق البصرة أو غيرها

فلم يفعلوا ذلك، ولما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا فكانت الغلبة لأصحاب السلطان حتى لم يشكّوا في ذلك، ثم خرج اللعين زكرويه إلى آخر القافلة وقد رأى خللا هناك، فعمل في الجمال كما عمل في جمال الخراسانية، وقتل سائر الناس إلا يسيرا استعبدهم أو شريدا، ثم أنفذ خيلا فلحقت من أفلت من أوائل القوم حتى ردّوهم إليه، فقتلهم وأخذ النساء وجميع ما في القافلة، وقتل مباركا القمّى ومظفّرا ابنة وأسر أبا العشائر، فقطع يديه ورجليه وضرب عنقه، وأطلق من النساء ما لا حاجة له فيها، ووقع بعض الجرحى بين القتلى حتى تخلّصوا ليلا، ومات كثير من الناس جوعا وعطشا، وورد من قدّم من الناس يخبرون أن نساء القرامطة كنّ يطفن بين القتلى فيقلن: عزيز علينا، من يرد ماء نسقيه، فإن كلّمهنّ جريح مطروح أجهزن عليه، قال: ويقال إنّ جميع القتلى كانوا نحوا من عشرين ألفا، وأخذ من الأموال ما لا يحصى كثرة. قال: ولما اتصل خبر القافلتين بمدينة السلام جاء الناس من ذلك ما شغلهم، وتقدّم السلطان باخراج المال وإزاحة العلل، وأخرج العباس بن الحسن ومحمد بن داود الجرّاح الكاتب المتولى دواوين الخراج والضياع بالمسير إلى الكوفة لانقاذ الجيش منها، وحمل معه أموالا عظيمة، وقال: كلّما قرب نفاد ما معك كاتبنى لأمدّك بالأموال، وخرج إليها يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم، وقدّم خزانة سلاح جعلها بالكوفة فما زالت بقاياها هناك إلى أن أخذها الهجرىّ. قال: ثم رحل زكرويه يريد القافلة الثالثة فلم يدع ماء في طريقه إلا طرح فيه جيف الموتى، ونزل زبالة فقتل من

بها من التجار، ونهب الحصن وبث الطلائع خوفه من لحوق عسكر السلطان به، فلما أبطأت القافلة عليه فنزل الشّقوق ثم نزل في رمل يقال له الهبير والطليح، وأقام ينتظر القافلة وفيها من الفوّاد نفيس المولدى، وعلى ساقتها صالح الأسود ومعه الشّمسة، وكان المعتضد جعل فيها جوهرا نفيسا ومعه الخزانة، وكان في القافلة من الوجوه إبراهيم «1» بن أبى الأشعث، ومعه كاتبه المنذر بن إبراهيم وميمون ابن إبراهيم الكاتب وكان إليه ديوان الخراج، والفرات بن أحمد ابن محمد بن الفرات، والحسن بن إسماعيل قرابة العبّاس بن الحسن، وعلى بن العبّاس النّهيكى وغيرهم من الرؤساء، وخلق من مياسير التجّار وفيها من المتاجر والرقيق ما يخرج عن الوصف، وفيها جماعة من الأشراف منهم أبو عبد الله أحمد بن موسى بن جعفر وجماعة من أهله، فأصاب بعضهم جراحات وأسر بقيّتهم، فعرفهم بعض المولّدين من وجوه عسكره فأخبره يهم، فخلّى لأبى عبد الله أحمد بن موسى وأهله الطريق، ومكّنهم من جمال تحمّلوا عليها، وكان أحمد بن موسى أحد من دخل بغداد وخبّر السلطان بأمرهم وجلالة حالهم؛ وأقاموا بفيد وقد اتّصل بهم أنّهم ينتظرون مددا من السلطان ففعل ابن كشمرد ما فعل من رجوعه إلى القادسيّة ولم ينجدهم، فلمّا طال مقامهم نفذ ما في المنزل وغلا السعر جدا، وجلوا عن الأجفر والخزيميّة ثم الثعلبية ثم الهبير، فلم يستتم نزولهم حتى ناهضهم زكرويه فقاتلهم يومهم كلّه، ثم باتوا على السواء، ثم باكرهم فقاتلهم

فبينما هم كذلك إذ أقبلت قافلة العمرة، وكان المعتمرون يتخلّفون للعمرة بعد خروج الحاج إذا دخل المحرّم، وينفردون قافلة واحدة وانقطع ذلك من تلك السنة، فاجتمع الناس وقاتلوهم يومهم، ونفذ الماء وعطشوا ولا ماء لهم هناك، وباتوا وزكرويه مستظهر عليهم، ثم عاودوهم القتال حتى ملك القافلة، فقتل الناس وأخذ ما فيها من حريم ومال وغير ذلك، وأفلت ناس قليل قتل أكثرهم العطش، ثم سار مصعدا نحو فيد فتحصّن منه أهلها، فطاولهم فصبروا عليه ونزل منهم ثمانية عشر رجلا بالحبال من رأس الحصن، فقاتلوا رجّالتهم قتالا شديدا وقد أسندوا ظهورهم بسور الحصن، ورمى أهل الحصن بالحجارة؛ قال: سمعت داود بن عتاب الفيدى- وكان نبيلا صدوقا- قال: نزلنا إليهم نحو أربعين رجلا متزرين بالسراويلات، وقد كان لحقهم- لا أدرى- عطش قال أو جوع، قال: فطردناهم فمالوا «1» إلى حصن يقرب منّا، قد كان بيننا وبين أهله عداوة قديمة، فأخذوا منهم الأمان ونزلوا ليفتحوا لهم، فقال بعضنا لبعض: إن ظفروا به أخذوا منه ما يحتاجون إليه، وعادوا إليكم، قال: فطرحنا أنفسنا عليهم وأحسّ بذلك أهل الحصن فقويت قلوبهم، وخرجوا فكشفناهم، وتبعهم جماعة منّا فسلبوا منهم جمالا، وكان ذلك سبب صلاحنا مع أصحاب الحصن. قال الشريف: ولم يبق دار بالكوفة وبغداد والعراق إلا وفيها مصيبة وعبرة سايلة وضجيج وعويل، حتى قيل إنّ المكتفى اعتزل

النساء هما وغما، قال: وخفى أمر زكرويه، لا يعلم أين توجه، وقد كان أخذ ناحية مطلع الشمس، فتقدّم المكتفى يتتبّع أحواله وإشحان البلدان- التى يخاف مصيره إليها- بالرجال، وأنفذ وصيف ابن صوارتكين ولجيم بن الهيصم والقاسم بن سيما في جيش عظيم بالميرة والزاد والمال والجمال، لاستقبال الناس وإزاحة عللهم، وتقدّم يطلب زكرويه حيث كان، إلى أن وردت كتب أهل فيد بخبره، فكوتب عند ذلك إسحاق «1» بن كنداج بأن يلزم القادسيّة ونواحى الكوفة بجيشه، وكوتب لجيم بالمسير إلى خفّان ومعارضة زكرويه حيث كان، وأن ينفذ الطلائع والأعراب ويرغّبوا في تتبّع حاله حتى يعرف، فجاءت الأخبار بما غلب على ظنّهم، أنّه لم يخط ناحية البصرة وأنّه يقصد الاجتماع مع أبى سعيد الجنابى وهو المقدّم ذكره، فاجتمع القوّاد وتشاوروا واستقبلوا طريقا يقال له الطريق الشامى، ويقال له طريق الطف وهو بين الكوفة والبصرة، وعملوا على المقام هناك ليكونوا بين الكوفة وواسط والبصرة، فساروا مستدبرى القبلة مستقبلى البصرة يرتحلون من ماء إلى آخر، حتى نزلوا يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومائتين ركيا فيه ماء بقرية خراب يقال لها صماخ، كان يسكنها على قديم الدهر قوم من ربيعة يقال لهم بنو عنزة، وبين هذا الموضع وبين البصرة ثلاثة أيام، فلقيهم قوم من الأعراب فخبّروهم أن القرامطة بالثنىّ، وهو موضع من ذى قار الذى كانت فيه وقعة العرب مع العجم في أيام

كسرى، وهو واد كثير الماء العذب وبينه وبين صماخ عشرة أميال، فبات الجيش بصماخ وتراءت الطلائع في عشى يومئذ، ورحل زكرويه من غد وهو طامع بالظفر، فالتقوا بقرية خراب يقال لها إرم، بينها وبين الثنىّ ثلاثة أميال، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول، فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان جميعا، ثم انهزم كرويه فقتل الجيش أكثر من معه، وأسر خلق كثير منهم وأفلت صعاليك من العرب على الخيل مجرّدين، ووصل إلى زكرويه- وهو في القبّة- فى أوائل السواد، فظنّوا أنّه في الخيل التى انهزمت، فقذف رجل بنار فوقعت في قبّته فخرج من ظهرها فألقى نفسه من مؤخّرها ولحقه بعض الرحّالة- وهو لا يعرفه- فضربه على رأسه ضربة أثخنته فسقط إلى الأرض فأدركه صاحب للجيم كان يعرفه فأخذه وصار به إليه، فأخذه لجيم وأركب الذى جاءه به نجيبا فارها، وقال له: طر- إن أمكنك- حتى تأتى بغداد، وعرّف العبّاس بن الحسن الوزير أنّك رسولى إليه، واشرح له ما شاهدت وسلّم إليه الخاتم، فسار حتى دخل بغداد وأعلمه بالخبر. قال: ومضى لجيم إلى وصيف والقاسم بن سيما فعرّفهما خبر زكروية واجتمعوا جميعا وكتبوا كتاب الفتح، ونهب الجيش عسكر القرامطة وأخذت زوج زكرويه واسمها مؤمنة وأخذ خليفته وجماعة من خاصّته وأقربائه وكاتبه، وانصرف العسكر نحو الكوفة فمات زكرويه بخفّان من جراحات أصابته، فصبّر وكفّن وحمل على جمل إلى بغداد، وأدخلت جثّته وزوجته وحرم أصحابه وأولادهم والأسرى ورؤوس من قتل بين يديه وخلفه ونساؤه في الجوالقات.

ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه

قال ابن الأثير «1» : وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم أصحاب الحسين بن حمدان فقتلوا عن آخرهم، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحدّاد والآخر بالمنتقم وهو أخو امرأة زكرويه، كانا قد توجّها إليهم يدعوانهم إلى الخروج إلى صاحبهم، فسيّروهما إلى بغداد، وتتبّع الخليفة القرامطة بالعراق فقتل بعضهم وحبس بعضهم، وبادت هذه الطائفة منهم بالعراق مدّة. ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه قال الشريف أبو الحسين: ولمّا قتل زكرويه سكن أمر القرامطة وانقطعت حركاتهم وذكر دعوتهم، فلما دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين خرج رجل من السواد من الزطّ يعرف بأبى حاتم، فقصد أصحاب البورانى خاصة، وكان هذا البورانى داعيا وأصحابه يعرفون بالبورانيّة، فلما ظهر أبو حاتم حرّم عليهم الثوم والكرّاث والفجل، وحرّم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان، وأمرهم بأشياء لا يقبلها إلا الأحمق السخيف من ترك الشرائع، وهذه الطائفة من القرامطة تعرف بالبقليّة. وأقام أبو حاتم هذا نحو سنة ثم زال، ثم اختلفوا بعده وكانوا أهل قرى بسواد الكوفة، فقالت طائفة منهم زكرويه بن مهرويه

ذكر أخبار أبى طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى

حى، وإنّما شبّه على الناس به، وقالت فرقة منهم الحجة لله محمد ابن إسماعيل. ثم خرج رجل من بنى عجل قرمطى يقال له: محمد بن قطبة فاجتمع له نحو من مائة رجل، فمضى بهم إلى نحو الجامدة من واسط، فنهب وأفسد فخرج إليهم أمير الناحية فقتلهم وأسرهم. ذكر أخبار أبى طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى قد قدّمنا أخبار أبيه أبى سعيد وحروبه وما استولى عليه، وذكرنا خبر مقتله وولاية ابنه سعيد، وأنّه سلّم الأمر إلى أخيه أبى طاهر سليمان، هذا في سنة خمس وثلاثمائة، وقد قيل بل عجز سعيد عن الأمر فغلبه عليه أخوه أبو طاهر سليمان. قال: وكان شهما شجاعا، وكان الخليفة المقتدر بالله قد كتب إلى أبى سعيد كتابا ليّنا في معنى من عنده من أسرى المسلمين، وناظره وأقام الدليل على فساد مذهبه، فلما وصلت الرسل إلى البصرة بلغهم موته، فكتبوا بذلك إلى الخليفة فأمرهم بالمسير إلى ابنه، فأتوا أبا طاهر بالكتاب فأكرم الرسل وأطلق الأسرى وأجاب عن الكتاب، ثم تحرّك أبو طاهر بعد ذلك في سنة عشر وثلاثمائة، وعمل على أخذ البصرة فعمل سلاليم عراضا، يصعد على كل مرقاة اثنان بزارفين- إذا احتيج إلى نصبها وتخلع إذا أريد حملها، ورحل بهذه السلالم المزرقنة يريد البصر،

فلما قرب منها أمهل إلى أن جنّ الليل، وأمر باخراج الأسنّة وقد كانت وضعت في رمل كيلا تصدأ فركّبت على الرماح، وفرّق الجنن «1» على أصحابه، وحشيت الغرائر بالرمل وحمّلت على الجمال وحمّلت أشياء من حديد قد أعدّت لما يحتاج إليه، ثم سار بأصحابه إلى السور قبل الفجر، فوضعوا السلالم وصعد عليها قوم من جلداء أصحابه، وتقدّم إليهم بقتل من يتكلم من الموكّلين بالأبواب، ودفع للآخرين ما أعدّه لكسر الأقفال، وقد كان التوانى وقع في أرزاق الموكّلين على الأبواب، فتفرّقوا للمعاش إلا بقيّة من المشايخ القدماء فإنّ أرزاقهم كانت جارية عليهم، فصادفوا بعضهم هناك تلك الليلة فتسوّروا ونزلوا ووضعوا السيف عليهم، وجاء الآخرون فكسروا الأقفال ودخل القرامطة، فأوّل ما عملوا أن طرحوا الرمل المحمول معهم في الأبواب نحو ذراع، ليمنعوا غلقها إلا بتعب، وساروا ونذر بهم قوم فبادروا سبكا «2» المفلحى وهو يومئذ الأمير فأعلموه، فركب وقد طلع الفجر ومعه بعض غلمانه فتلقوه وقتلوه، وفزع الناس وركبت الخيل فقتل من تسرّع منهم، وكانت العامّة قد منعها السلطان أن تحمل سلاحا، فاجتمعوا بغير سلاح ومعهم الآجر، وحضر سبك واجتمعت الجند ووقعت الحرب، فأصابت القرامطة جراحات والقتل في العامّة كثير، واستمرّ ذلك إلى آخر النهار واختلاط الظلام، ثم خرج القرامطة وقد قتلوا من الناس مقتلة عظيمة إلى خارج

البلد فباتوا خارج الدرب، وخرج الناس بعيالاتهم فركبوا السفن، وباكر أبو طاهر البلد فنزل دار عبد السلام الهاشمى، وتفرّق أصحابه في البلد يقتلون من وجدوا وينهبون ما يجدون في المنازل، ويحمل ذلك إلى موضع قد أمر بجمعه فيه. وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل «1» : أن دخولهم البصرة كان في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وأنّه وصل إليها في ألف وسبعمائة رجل، وأقام بها سبعة عشر يوما يحمل منها ما يقدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان، وعاد إلى بلده. قال الشريف: وتراجع الناس فاشتغلوا بدفن من قتل، ولم يردّ كثير منهم حريمه خوفا من عود القرامطة، قال: ولما اتصل خبر هذه الحادثة بالسلطان أنفذ ابن نفيس «2» في عدة وعدة فسكن الناس، وولى البلد فشحن السور بالرجّالة، وتحرّز الناس وأعدوا السلاح؛ قال: وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلّد أعمال الكوفة وقصر ابن هبيرة والسواد وطريق مكة، فجرى بينه وبين البورانى وقائع عظيمة حتى ردّهم عن عمله بشجاعته وإقدامه، فعمرت البلاد وأمن الناس وصلحت الطرق واستقام عزّ السلطان، فوقف القرمطى من ذلك على ما هاله، وكانت جواسيس أبى طاهر لا تنقطع عن العراق في صور مختلفة، واتّصل به أنّ أبا الهيجاء يهوّن أمره ويتمنّى أن ينتدب لحربه، فخاف ذلك ولم يأمنه.

ذكر أخذ أبى طاهر الحاج وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في اطلاقه

ذكر أخذ أبى طاهر الحاج وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في اطلاقه ؟؟؟ كانت هذه الحادثة في سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة، وذلك أن أبا طاهر بن أبى سعيد الجنابى القرمطى أنفذ رجلا من جواسيسه إلى مكة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد خرجت قوافل الحاج مع أبى الهيجاء بن حمدان في تلك السنة، فكان الجاسوس يقوم على المحجّة فيقول: يا معشر الناس ادعوا على القرمطى عدوّ الله وعدوّ الاسلام، ويسأل عن أمير الحاج وفي كم هو وكم أرزاقهم، ويسأل عمّن خرج من التجّار وما معهم من الأموال، فكان ذلك دأبه حتى قضى الحج، ثم خرج في أوّل النفر فأسرع إلى سواد باهلة، ثم إلى اليمامة وصار إلى الأحساء في أيام يسيرة، فأخبر سليمان القرمطى بصورة الأمر، فوجّه سليمان من يثلّ «1» الآبار بينه وبين لبنه «2» وبعض آبار لبنه ويسوّى حياضها، وورد بعض الأعراب إلى أبى الهيجاء- وهو بعيد ينتظر رجوع الحاج وذلك في آخر ذى الحجة من السنة- فأخبره أنّ آبار لبنه قد ثلت فاستراب بذلك، وجاء بعض الأعراب بجلّة «3» فيها قطعة من تمر هجّر فتيقّن أمر القرامطة، فشغل ذلك قلبه، وجاءه ما لم يقدره ولا ظنه فاضطرب من ذلك اضطرابا شديدا، وورد حاتم الخراسانى بقافلة

الحاج من مكة ثانى ذلك اليوم، ومعه قافلة عظيمة، فزاد ذلك في شغل قلب أبى الهيجاء لخوفه عليه، ولم يظهر ذلك لحاتم ولا لغيره ثم ارتحل فلم يعترض عليه، فلما صار حاتم بالثعلبيّة أنهى إليه شىء من أخبار القرامطة وأنّهم بلبنه، وكان القرمطى رحل من بلده في ستمائة فارس وألف راجل، وسار حاتم فاجتاز بالهبير ليلا فلم ينزله، وسار حتى نزل الشقوق، وأغذّ السير وسلّمه الله ومن معه، ونزلت بفيد قافلة أخرى من غد رحيل حاتم من الخراسانيّة، ثم ساروا عنها حتى إذا كانوا بالهبير ظهر لهم أبو طاهر سليمان القرمطى، فقتل بعضهم وأفلت البعض حتى وردوا الكوفة، فاشتد خوف الناس بالكوفة على الحاج واضطربوا، إلا أن نفوسهم قويّة بمقام أبى الهيجاء بفيد، وكان أبو الهيجاء قد أنفذ رجلا طائيا يعرف له أخبار القرامطة، يقال له مسبع بن العيدروس من بنى سنبس- وكان خبيرا بالبرّ، وتقدّم إليه أن يسرع إليه بالخبر ويعدل عن الطريق، ومعه جماعة قد أزاح عللهم في الرزق والمحمل، فساروا حتى قربوا من لبنه فنزل إليهم فارسان، فركبوا خيولهم وتلقّوهما فتطاردوا، وقصّرا في الركض وهبطا واديا خلفهما وخرجا منه، ولحقتهم الخيل فساروا على أرض جدب، فدفع عليهم نحو من سبعين فارسا، فلم ينته حتى طعنت فيهم وضربت، فرجع القوم على خيل مطرودة وخيول القرامطة مستريحة، فبالغوا في دفعهم بكل جهد فلم تك إلا ساعة حتى قتلوا جميعا، وأسروا مسبعا دليل القوم فحملوه إلى لبنه، فسأله القرمطى وقال: إن صدقتنى أطلقتك، فلما أخبره أمر بحفظه، قال: ولم بمض لأبى الهيجاء يومان بعد إرسال الطليعة حتى وردت قوافل الحاج

وأصحاب السلطان معها، وفيها من الوجوه أحمد بن بدر، عم السيدة أم المقتدر بالله، وشفيع الخادم، وفلفل الأسود صاحب خزانة السلطان، وإسحاق بن عبد الملك الهاشمى صاحب الموسم وغيرهم، فأعلمهم أبو الهيجا الخبر فأجالوا الرأى، فقال لهم: قد أنفذت رجالا أثق بهم طليعة، وأخذت عليهم ألا يرجعوا حتى يشربوا من لبنه والصواب التوقّف عن الرحيل لننظر ما يأتون به، فعملوا على ذلك وأقاموا بفيد ستة أيام، ونزلت القافلة الوسطى فيد وكثر الناس وغلت الأسعار، ولم يقدروا على حشيش للعل؟؟؟ ولا خبز، فضجّ الناس وأجمعوا على الرحيل فرحلوا عن فيد يوم الأحد، وخلّف أبو الهيجاء ابن أخيه على بن الحسين بن حمدان بفيد، في خيل ينتظرون الحاج الذى مع قافلة الشّمسة؛ قال: وكان الحاج قبل ذلك يسيرون قافلة بعد قافلة لكثرتهم، ومن أراد أن يسير بعد الحاج سمار، ومن أراد أن يتخلّف ليعتمر في الحرم تخلّف، وكان الأمر يحملهم على ذلك فيسيرون قافله بعد قافلة؛ قال: ثم وردت قافلة الشمسة فيد، فجاءهم بعض التجار بخبر ما اتصل بأبى الهيجاء، وكان في القافلة أبو عيسى صالح ابن على الهاشمى، وجماعة من العبّاسيين، وأبو محمد بن الحسن «1» ابن الحسين العلوى وعمر بن يحيى العلوى وغيرهما من الطالبيين وتجار الكوفة، فتجلّت حقيقة الأخبار من أمر القرامطة، فاجتمعوا في مضرب أبو عيسى وتشاوروا، فاجتمع رأيهم على المقام بفيد إلى أن ترتحل القافلة، ثم ينظروا لأنفسهم في عرب يخرجون معهم إلى الكوفة، فأقام

الناس بفيد يومهم ثم رحلوا بكرة، فلما جاوزوا المنزل افتقد على ابن الحسين بن حمدان من تخلّف من القافلة، فسأل عنهم فأخبر بتخلّفهم فرجع إلى فيد ومعه بعض أصحابه فاجتمع بهم، وسألهم عن تخلّفهم فقالوا بأجمعهم لا تحبّ سلوك هذه الطرق، ودافعوا عن الأخبار بسبب تخلّفهم، وقالوا له: أنت وعمّك بريّان منّا، قال: اكتبوا إلى خطوطكم بذلك، ففعلوا، وانصرف فسار بالناس فلما وصل إلى عمّه أبى الهيجاء عرّفه ذلك، فلامه عليه وقال: وددت أنّ جميع من ترى كان معهم، قال: ولمّا سارت القافلة مع على بن الحسين بن حمدان أحضر هؤلاء الذين تخلّفوا بفيد ابن نزار وابن توبة تاجرين من أهلها، فعرّفوهم حاجتهم إلى من يسلك بهم إلى الكوفة على غير طريق الحاج، فجمعوا لهم جماعة من سنبس وتوصلوا بهم إلى بنى زبيد من الطائيين، ثم أخذوا ينزلون على العرب يقاتلون من قاتلهم، ويصلون من استرفدهم ويبرّون ويخلعون، فسلّمهم الله حتى وردوا الكوفة، وذلك بعد شدائد عظيمة وقتال في مواضع، ولم يسلم من الحاج غيرهم والقافلة الأولى التى كانت مع حاتم. قال: ولمّا وصل على بن الحسين بن حمدان إلى عمّه أبى الهيجاء اجتمعت القوافل، وكثر الناس، وتجلّى لهم خبر القرامطة وصحّ، فسار أبو الهيجاء بالناس إلى الخزيميّة ثم إلى الثعلبيّة، ثم ساروا يريدون البطان «1» ، واجتمع الناس من أصحاب السلطان والرؤساء

فتشاوروا، فلم يدع الأمير أبو الهيجاء الاستعاثة بالقوم يقول: ارجعوا ودعونى ألقى القرامطة في أصحابى، فإن أصبت فمعكم من تسيرون معه، وإلا فامضوا إلى وادى القرى أو المدينة أو غير ذلك، وإن ظفرت وجّهت إليكم فعدتم وقد زال المحذور، ولم يزل يردّد عليهم هذا القول من الأجفر إلى الثعلبيّة، فمنهم من أجاب ومنهم من أبى ذلك وقال: لانفترق، وكان أحمد بن بدر عم السيّدة ممن أبى ذلك وصمّم على الملازمة، فعمل ابن حمدان بما أرادوه دون رأية، وبات الناس على أميال بقيت من البطان والأحمال على ظهور الجمال، وذلك ليلة الأحد لأيام خلت من صفر، فلما أضاء لهم الفجر ارتحلوا، وقدّم أبو الهيجاء ستمائة راجل من الأولياء، كان السلطان أبعدهم لكثرة شغبهم ببغداد فكانوا بين يدى القوافل، وقارب بين القطر ودخل بعض الناس في بعض، وتقدّم نزار بن محمد الضبىّ فكان في أوّل القاملة في أصحابه خلف الرجّالة، وسار أبو الهيجاء في التغالبة والعجم في ميمنة القافلة، وألزم الساقة وميسرة القافلة جماعة من الأولياء مع بعض الأمراء، واحتاط بكل ما أمكن، وسار فلما أضحى النهار أقبلت عليهم خيل القرامطة، والقافلة في نهاية العظم جدا، فكان أوّل من لقيهم رجّالة أبى الهيجاء، فحملت القرامطة عليهم فخالطوهم فقتلوا جميعا إلا نحوا من عشرين رجلا، وحمل نزار في جيشه فضارب بعض خيل القرامطة بالسيوف ساعة، فلحقته ضربة فهوى إلى الأرض واعتنق فرسه، ومضى نحو المشرق وتبعه بقيّة أصحابه، فاستقاموا حتى وصلوا إلى زبالة وساروا إلى الكوفة، فلما سمع الأمير أبو الهيجاء الصوت وعرف الخبر وكان في آخر القافلة أسرع في خيله نحو أوّل

القافلة، فوجد الأمر قد فاته بقتل من كان أمامها، وقويت القرامطة على حربه ووجد الحاج قد أخذوا يمنة ويسرة، فحمل على القرامطة فاستقبلوه فقتل جماعة من أهل بيته صبروا معه، وانهزم وضرب على رأسه ضربة لم تضره إلا أنّه قد نزف منها، وأخذ أسيرا ونزل أبو طاهر القرمطى على غلوتين من القافلة، ورجّالته «1» نحو من ستمائة على المطى فأنفذهم وفرسانا من فرسانه فأحاطوا بالقافلة «2» ، ومنعوا الناس من الهرب، وكان قد هرب خلق منهم في وقت القتال، فتلف كثير منهم في الطريق عطشا وأخذ بعضهم الأعراب فسلبوهم، وسلم قوم منهم إلى زبالة وساروا إلى الكوفة، وأتى بأبى الهيجاء إلى سليمان فلما نظر إليه تضاحك، وقال: قد جئناك عبد الله ولم نكلّفك قصدنا، فتلطّف له أبو الهيجاء بفضل عقله ودهائه وسعة حيلته وقوّة نفسه، وألان له القول حتى أنس به، فاستأمنه على نفسه فأمّنه فخلّص بذلك ناسا كثيرا، وعمل في سلامة كثير من الحاج عملا كثيرا، ثم أمر القرمطى بتمييز الحاج وإخراجهم من القوافل، وعزل الجمّالين والصنّاع ناحية فظنّوا أنّه إنما أخرجهم للقتل فارتاعوا لذلك، وكانوا قد عطشوا عطشا شديدا، فلما جهنّم الليل ضجر الموكّلون منهم، فأخذوا ما معهم وخلوّهم، فورد من ورد منهم الكوفة بشرّ حال متورّمى الأقدام في صور الموتى، ورحل أبو طاهر من الغد بعد أن أخذ من أبى الهيجاء وحده نحوا من عشرين ألف دينار من الأموال التى لا تحصى كثرة، وقدم كثير من الناس بخبر

ذكر دخول أبى طاهر القرمطى الكوفة ورجوعه

أبى الهيجاء، وأنّه راكب مع القرامطة يدور معهم ويسأل في خلاص أسرى كانوا معه، منهم أحمد بن بدر عم السيدة وفلفل الأسود وأحمد بن كشمرد ونحرير الخادم صاحب الشمسة وبدر الطائى وأخوه وغيرهم. قال: وزادت غلبة أبي طاهر لأصحابه فتنة، وعظّموا أمره وسلب عقولهم حتى قالوا فيه أقوالا مختلفة بحسب جهلهم؛ قال: ولمّا مضى لأبى الهيجاء شهور وهو عندهم أخذ يحتال في الخلاص، فمرّة يعرض به ومرّة يفصح به حتى أنس القرمطى بذلك وأجابه إليه، فسأله في ابن كشمرد وقال: هو ضعيف لكبره وعلّته، وهذا الخادم الأسود ممّن لا يضر السلطان فقده ولا ينفعه اطلاقه، وكلّمه في أحمد بن بدر فامتنع عليه، فضمن له عشرين ألف دينار وبزاة وفهودا وعبدانا وثيابا، فاستحلفه وضمنه، وتخلّص منه ناس كثير من الحاج، وأطلقه، وصار إلى بغداد فتباشر الناس بذلك وابتهجوا به. ذكر دخول أبى طاهر القرمطى الكوفة ورجوعه كان أبو طاهر قد كتب إلى الخليفة المقتدر بالله- بعد اطلاق أبى الهيجاء بن حمدان- يطلب منه البصرة والأهواز، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من هجر في سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة يريد الحاج عند توجههم إلى الحجاز، وكان جعفر بن ورقاء الشيبانى يتقلّد أعمال الكوفة وطريق مكة، فسار مع الحاج خوفا عليهم من أبى طاهر، ومعه ألف رجل من بنى شيبان، وسار مع الحجاج من أصحاب

السلطان ثمل صاحب البحر وغيره في ستة آلاف رجل، فلقى أبو طاهر الجيش فانهزموا منه، وردّت القافلة الأولى هم وعسكر الخليفة بعد أن انحدروا من العقبة، وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة وبها يومئذ جنىّ الصفوانى، كان الخليفة قد أنفذه في جيش عظيم إلى الكوفة، وبها أيضا ثمل في جيش عظيم، وأقبل أبو طاهر حتى نزل بظاهر الكوفة في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، وأقبل جنىّ إلى خندق الكوفة في عشية هذا اليوم، وأهل البلد والعامّة منتشرون على الخندق، وجعفر بن ورقاء في بنى شيبان نازل على القنطرة التى على الخندق مما يلى دور بنى العبّاس، ونمل على القنطرة التى تليها، وجنىّ مما يلى ذلك من ناحية يمنة الكوفة، فناوشه الناس، وخرج أبو محمد الحسن بن يحيى بن عمر العلوى فطارد بعض فرسانه، وانكفأ أبو طاهر راجعا، وبات الناس على تلك الحال وقد قوى الطمع فيه، فلما كان الليل ورد كتاب السلطان يخاطب أبا محمد بن ورقاء في تدبير الجيش، فعمل على لقاء جنىّ الخادم ليعرّفه ذلك، فأشير عليه ألا يفعل فأبى ذلك، تم ركب يعرّف جنيّا ما كتب به إليه، فأنف جنىّ أن يكون تابعا وأسرّ ذلك في نفسه، وباكرهم القرمطى بالقتال بعد أن أضحى النهار، فدخلت الرجّالة وراء الفرسان بجيش خرس عن الكلام صمت وحركات خفيّة، والبارقة فيهم ظاهرة في ضوء الشمس، وهم يزفون عسكرهم زفا، حتى إذا وصلوا إلى عسكر السلطان مالوا على جيش ابن ورقاء وهو في ميسرة الناس، فما تمهّل بنو شيبان حتى انهزموا راجعين، فعبروا القنطرة التى على الخندق إلى جانب الكوفة وتبعوهم، فصاروا من وراء جنىّ وثمل فوضعوا السيف

ذكر دخول أبى طاهر القرمطى إلى العراق وقتل يوسف بن أبى الساج

في الناس، وجنى جالس قبل ذلك على كرسى حديد يبيّن أنّه لا يقاتل وكأنّه يريد قتاله بعد الناس فأسروه، وقاتله ثمل وقاومه وهو منهزم على محاملة ومدافعة، إلى أن تخلصّ وسلم جعفر بن ورقاء وكثير من أصحابه، وقتل كثير من العامّة وغيرهم في الطرقات، ووصل أبو طاهر إلى البلد فرفع السيف ونهب منازل الناس، وأقام بالكوفة ستة أيام بظاهرها يدخل البلد نهارا ويقيم بجامعها إلى الليل، ثم يخرج فيبيت بعسكره، وحمل منها ما قدر على حمله، ودخل المنهزمون بغداد ولم يحجّوا في هذه السنة، وخاف أهل بغداد وانتقل الناس إلى الجانب الشرقى. قال: ورحل أبو طاهر عن الكوفة في يوم الاثنين لعشر بقين من ذى القعدة، وقتل يوم دخوله أبو موسى العبّاسى صاحب صلاة الكوفة ورحل مؤنس المظفر من بغداد بجيش السلطان عند اتّصال الأخبار ببغداد، فسار منها حتى دخل الكوفة، فكان وصوله إليها بعد رحيل القرامطة عنها، فأقام بها ثلاثة أيام ثم رحل عنها، ثم عاد القرمطى في سنة خمس عشرة. ذكر دخول أبى طاهر القرمطى الى العراق وقتل يوسف بن أبى الساج قال: وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة سار أبو طاهر من هجر إلى الكوفة، وكان المقتدر بالله قد استعمل يوسف بن أبى الساج على حرب القرامطة، فاستصعب ابن أبى الساج المسير إلى بلد القرامطة، وثقل مسيره في أرض قفر لكثرة من معه من العساكر، فاحتال على

أبى طاهر وكتب إليه واطمعه في بغداد، وأظهر له المواطأة والتزم بمعاضدته فغرّه بذلك، حتى رحل بعيال وحشم واتباع وصبية، وجيشه على أقوى عدّة تمكّنه، وأقبل يريد الكوفة وعمّيت أخباره عن أهلها، إنّما هى أراجيف، ورحل يوسف بن أبى الساج بجيشه من واسط يريد الكوفة، فسبقه أبو طاهر إليها ودخلها في يوم الخميس لسبع خلون من شوّال من هذه السنة، وأخذ ما يحتاج إليه ونزل عسكره خارج الكوفة ما بين الحيرة إلى ناحية الخورنق، وأقبلت جيوش ابن أبى الساجّ تسيل من كل وجه على غير تعبئة، وأقبل هو في جيشه ورجاله حتى نزل في غربىّ الفرات، وعقد عليه جسرا محاذيا لأبى طاهر، وعبر إليه مستهينا بأمره مستحقرا له لا يرى أنّه يقوم به، وذلك في يوم الجمعة، فأرسل إلى أبى طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة المقتدر بالله أو الحرب في يوم الأحد، فقال: لا طاعة إلا لله والحرب غدا، فلما كان في يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة التقوا واقتتلوا قتالا شديدا عامّة النهار، وكثير من عسكر ابن أبى الساج لم يستتم نزوله، وهو جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره، وقد تفرّق عنه عسكره تفرّقا منتشرا في فراسخ كثيرة، وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور ما؟؟؟ يمنى كثير من الناس هلاكهم. قال الشريف أبو الحسين: ولمّا لقيه بظهر الكوفة ما بين الحيرة والخورنق والنهرين من الفرات اتّفق له تلول وأنهار وموضع يضيق عن جيشه ولا يتمكّن معه الإشراف عليه، فقدّم بين يديه رجّالة بالرماح والتراس

مع قائد يعرف بابن الزرئيخى «1» ، فأقبل القرمطى نحوه في أربعة آلاف فقاومته الرجّالة طويلا، ثم دخلتها الخيل وتعطفت عليها واضطرب الناس، فوضع فيهم السيف؛ قال الشريف: وأخبرنى بعض الجند قال: كنت والله قبل الهزيمة أريد أن أضرب دابّتى بالسوط فلا يمكننى ذلك لضيق الموضع، ووصل كثير من عسكر القرمطى إلى ابن أبى الساج في مصافه على أتمّ عدّة، فلما التقوا اقتتلوا كأعظم قتال شوهد، وكثرت القتلى والجراح في القرامطة جدا، وقتل رجّالة ابن أبى الساج، وخلص إليه فانهزم الناس وقتلوا قتلا ذريعا، حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أرجح، فلما كان عند غروب الشمس انهزم أصحاب ابن أبى الساج بعد صبر عظيم، وأسر هو وجماعة كثيرة من أصحابه، وذلك في وقت المغرب من يوم السبت، فوكل به أبو طاهر طبيبا يعالج جراحه، واحتوى القرامطة على عسكر ابن أبى الساج، ولم تكن فيهم قوّة على جمع ما فيه لضعفهم وقتل من قتل منهم، فمكث أهل السواد من الأكرة وغيرهم ينهبون القتلى نحو أربعين يوما، ووصل المنهزمون إلى بغداد بأسوأ حال، فخاف الخاص والعام ببغداد من القرامطة، وكان أبو طاهر القرمطى يظن أن مؤنسا المظفّر لا يتأخّر عن حربه، وكان على وجل منه، فلمّا لم يخرج إليه اشتد طمعه وظن أنّه لا يلقاه أحد ولا يقاومه، وأنّ ما كان قد خدع به من أنّ ببغداد من يظاهره على أمره، وينتظر وصوله إليه من الرؤساء- حق، فخرج يريد بغداد،

فلما قرب من نواحى الأنبار وقصر ابن هبيرة ونزل بسواده وكل بهم جندا ليست بالكثير، وركب في جيشه فوافى الأنبار واحتال إلى أن عبر الفرات وصار من الجانب الغربى، وتوجّه بين الفرات ودجلة يريد مدينة السلام، وعرف الناس ذلك فكثر اضطرابهم وجزعهم، فبرز مؤنس المظفّر الخادم من بغداد للمسير إلى الكوفة، فبلغه أنّ القرامطة قد ساروا إلى عين التمر، فأرسل من بغداد خمسمائة سمارية فيها المقاتلة لتمنع من عبور الفرات، وسيّر جماعة من الجيش لحفظ الأنبار، وقصد القرامطة الأنبار فقطع أهلها الجسور، فنزلوا غرب الفرات وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة، فأتوه بسفن فعبر فيها ثلاثمائة من القرامطة، فقاتلوا عسكر الخليفة وقتلوا منهم جماعة واستولوا على الأنبار؛ قال: ولما ورد الخبر بذلك إلى بغداد خرج نصر الحاجب في عسكر جرّار، ولحق بمؤنس المظفّر فاجتمعا في نيّف وأربعين ألفا سوى الغلمان ومن يريد النهب، وكان في العسكر أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته وأصحابهم، فلما أشرف القرامطة على عسكر الخليفة هرب منه خلق كثير إلى بغداد من غير قتال؛ قال ابن الأثير «1» : كان عسكر القرامطة ألف فارس وسبعمائة فارس وثماثمائة راجل؛ قال: وقيل كانوا ألفين وسبعمائة فارس. قال الشريف: وسار مؤنس المظفّر حتى نازل القرامطة على قنطرة

نهر زبارا «1» ، على نحو ثلاثة فراسخ من بغداد، وشحن الموضع بالجيش، وأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القنطرة خوفا من عبور القرمطى، وإن اتفق أدنى جولة مع امتلاء صدور الجيش من القرامطة فلا يملك البلد لشدة اضطرابه وكثرة أهله، ففعل مؤنس ذلك وقطعها وقاتل عليها نفر من القرامطة قتالا شديدا، لا يمنعهم كثرة النشاب ولا غيره، وشحن مؤنس الفرات ما بين بغداد إلى الأنبار بسماريّات، فيها رماة ناشبة تمنع أحدا من القرامطة من شرب الماء إلا بجهد، فضلا عن تمكن من العبور، وكان أحد من نصب لذلك إسحاق بن إبراهيم بن ورقاء، وكان شيخا ذا دين وبصيرة ونيّة في الخير، فأقام على حصاره لأبى طاهر وكان لا يقدر على مذهب لا إلى وجهه ولا إلى جوانبه، ومتى دنا من الماء أخذته السهام؛ قال الشريف: فحدثنى من حضر يومئذ وقد ورد كتاب المقتدر بالله، يأمر مؤنسا بمعاجلته القتال ويذكر ما لزم من الأموال إلى وقت وصوله، فكتب مؤنس كتابا ظاهرا- جواب كتاب الخليفة- يمليه على كاتبه والناس يسمعون، يقول: إن في مقامنا، أطال الله بقاء مولانا نفقة المال، وفي لقائنا نفقة الرجال، ونحن اخترنا نفقة المال على نفقة الرجال، قال: ثم انفذ المظفر مؤنس رسولا إلى القرمطى يقول: ويلك! تظن أننى كمن لقيك، أبرز لك رجالى والله ما يسرّنى أن أظفر بك بقتل رجل مسلم من أصحابى، ولكنّنى أطاولك وأمنعك مأكولا ومشروبا حتى آخذك أخذا بيدى إن شاء الله؛ قال:

وأنفذ المظفّر حاجيه يلبق في ستة آلاف مقاتل إلى القرامطة، الذين بقصر ابن هبيرة مع سواده، ليوقعوا بهم ويخلّصوا يوسف بن أبى الساج، فعلم أبو طاهر بذلك فاضطرب واجتهد في عبور الفرات فعجز. ثم اتّفق له طوف حطب فعبر عليه في نفر يسير، وصار إلى سواده الذى خلفه، وجاء يلبق فواقعه أبو طاهر في نفر يسير، فكرّ يلبق راجعا منهزما وسلم السواد وذلك بعد قتال شديد. ونظر أبو طاهر إلى ابن أبى الساج- وقد خرج من الخيمة، ينظر ويرجو الخلاص، وقد ناداه أصحابه: أبشر بالفرج، فلما تمّت الهزيمة أحضره أبو طاهر وقتله وقتل من معه من الأسرى «1» ، وقصد القرامطة مدينة هيت وكان المقتدر قد سيّر إليها سعيد بن حمدان وهارون بن غريب، فسبقوا القرامطة إليها وقاتلوهم عند السور، فقتل من القرامطة جماعة فعادوا عنها، فرجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الدالية من طريق الفرات، فقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرّحبة فدخلها في ثامن عشر المحرم سنة ست عشرة وثلاثمائة، بعد أن حاربه أهلها فظفر بهم ووضع السيف فيهم، فراسله أهل قرقيسيا يطلبون الأمان فأمّنهم على ألا يظهر أحد منهم بالنهار، فأجابوا إلى ذلك، وخافه الأعراب وهربوا من بين يديه، فقرّر عليهم أتاوة عن كل رأس دينار يحملونه إلى هجر، ثم صعد من الرحبة إلى الرقّة فدخل أصحابه إلى نصيبين، وقتلوا بها ثلاثين رجلا وقتل من القرامطة جماعة، وقاتلوا ثلاثة أيام ثم انصرفوا في آخر

ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بسواد العراق في أثناء وقائع أبى طاهر الجنابى

ربيع الأوّل، وساروا إلى سنجار ونهبوا فطلب أهل سنجار الأمان فأمنهم، ثم عاد إلى الرحبة، ووصل مؤنس إلى الرقة بعد انصراف القرامطة عنها، فاحتال مؤنس في ارسال زواريق فيها فاكهة قد جعل فيها سموما قاتلة، فكانت القرامطة يلقونها فيأخذونها، فمات كثير منهم وضعفت أبدان بعضهم، وجهدوا وكثر فيهم الذّرب فكرّوا راجعين وهم قليلو الظهر مرضى، فلما بلغوا هيت قاتلهم أهلها من وراء السور، فقتلوا منهم رئيسا كبيرا وانصرفوا عنهم مفلولين «1» . ثم رحل أبو طاهر فدخل قصر ابن هبيرة فنهب وقتل، ثم دخل الكوفة على حال ضعف وعلل وجراحات، وأصحابه على ظهور حمر أهل السواد، وكان دخوله إليها يوم الجمعة لثلاث ليال خلت من شهر رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة، فأقام بها إلى مستهلّ ذى الحجة من السنة، ولم يقتل في البلد ولا نهب، وساس أهل الكوفة أمرهم مع القرامطة، ورحل أبو طاهر عن الكوفة في ذى الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة. ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بسواد العراق في أثناء وقائع أبى طاهر الجنابى قال ابن الأثير «2» والشريف أبو الحسين- وقد لخّصت من روايتيهما ما أورده، ودخل خبر بعضهم في خبر بعض- ولمّا كان من أمر أبى طاهر في سنة ست عشرة وثلاثمائة ما قدّمناه، اجتمع بالسواد

ممن يعتقد مذهت القرامطة وكان يكتمه خوفا فظهروا واجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف، وولّوا عليهم رجلا يسمّى حريث بن مسعود، فخرج إليه الأمير بواسط فنام عسكره في بعض المواضع، فكبسه القرامطة فقتلوا منهم خلقا، واستولوا على سائر ما حواه العسكر من السلاح وغيره فقوى أمرهم؛ واجتمعت طائفة أخرى بعين التمر في جمع كثير، فولوا عليهم رجلا يسمّى عيسى ابن موسى «1» ، وكانوا يدعون إلى المهدى، فسار عيسى بن موسى إلى الكوفة ونزل بظاهرها، وجيى الخراج وصرف العمال عن السواد وكان والى الكوفة قد هرب منها قبل دخولهم، ووجّهوا إلى جميع السواد من يطالبهم بالرحيل إليهم، فخرج إليهم من بين راغب وراهب، ففرّقوا العمّال في الطساسيج، وولّوا المعاون لقوم من وجوه عشائرهم، وولوا ابن أبى البوادى الكوفي خراج الكوفة، ونصبوا بعض بنى ربيعة واليا لحربها، وأقاموا في البلد أياما وراحوا إلى الجمعة بأجمعهم، وأقاموا أبا الغيث بن عبدة خطيبا، وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه، فركب إليهم أبو على عمر بن يحيى العلوى وعيسى ابن موسى نازل على شط الفرات في بعض الأيّام، فأظهروا الاستطالة على أبى على بن يحيى وانقصوا رتبته، وأقيم وحجب أوقاتا طويلة، فخرج أبو على إلى السلطان وذكر له صورة أمر القوم، وقرّر في نفسه أخذهم، فأنفذ السلطان معه صافي النصرى «2» في جيش وضمن

أبو على معاونته، وكان هؤلاء قد خرجوا من الكوفة وخلّفوا واليهم عليها وصاحب خراجهم، وقصدوا موضعا يعرف بالجامع وما يليه فنهبوا واستباحوا، ووثب أهل الكوفة بعد خروجهم على من خلّفوه عندهم، فقتلوا منهم جماعة وأخرجوا من بقى، واتصل الخبر بالقرامطة فانكفأوا راجعين يريدون الكوفة ليقاتلوا أهلها، فاجتمع الناس وحملوا السلاح وحفظوا البلد وطافوا به ليلا ونهارا مدة أيّام، وجاءت «1» القرامطة فنزلوا على الكوفة ولم يكن لهم فيها مطمع فساروا إلى سورا، وقدم أبو على العلوى وصافى النصرى من بغداد، فواقعوهم على نهر بقرب اجهاباذ يعرف بنهر المجوس، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى هزمهم الله تعالى، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم قوم وهرب الباقون، وتفرقوا وأسر عيسى بن موسى وخلق كثير معه وأعمى كان من دعاتهم كان يقول الشعر يعرف بأبى الحسن الخصيبى، ودار أبو على في السواد فتلقّط منهم قوما، فسكن البلد وتفرّق ذلك الجمع ولم يبق لهم بقيّة قائمة، وحملت الأسرى والرؤوس إلى بغداد فقتل الأسرى بباب الكناسة وصلبوا هناك، وحبس عيسى بن موسى ثم تخلّص بغفلة السلطان وحدوث ما حدث من اضطراب الجيش وكثرة الفتن في آخر أيام المقتدر، وأقام ببغداد يدعو ويتوصل إلى ناس استغرّهم، ويعمل كتبا يجمع فيها ما يأخذه من كتب يشتريها من الورّاقين، يمخرق فيها بذكر أمور ينسخها ويوهم أنّ له بذلك علما، ورتّب كتبا ينسبها إلى عبدان الداعى، ليوهم أنّ عبدان كان

ذكر مسير أبى طاهر إلى مكة شرفها الله ونهبها وأخذ الحجر الاسود واعادته وما كان من أخباره في خلال ذلك

أحد العلماء بكل فلسفة وغيرها، وأنّه يعلم ما يكون قبل كونه، ومخرق بجهده على جهّال فصاروا له أتباعا، وأفسد فسادا عظيما، قال الشريف: وادعى خلافته من مخرق بعده إلى الآن. وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل «1» : أن الخليفة المقتدر بالله أرسل إلى حريث بن مسعود، هارون بن غريب وإلى عيسى بن موسى صافى النصرى، فأوقعوا بهم وانهزمت القرامطة وقتل أكثرهم وأسروا وأخذت أعلامهم وكانت بيضاء وعليها مكتوب (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) «2» فدخلت بغداد منكوسة، واضمحلّ أمر القرامطة بالسواد. نعود إلى أخبار أبى طاهر ذكر مسير أبى طاهر الى مكة شرفها الله ونهبها وأخذ الحجر الاسود واعادته وما كان من أخباره في خلال ذلك وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة حجّ بالناس منصور الديلمى، وسلموا في مسيرهم حتى أتوا مكة، فوافاهم أبو طاهر القرمطى بمكة يوم التروية، وهو يوم الاثنين لثمان خلون من ذى الحجة، فنهب هو وأصحابه أموال الحجّاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام والبيت، وقلعوا الحجر الأسود وأنفذوه إلى هجر، وأخذوا كسوة الكعبة وباب

البيت، وطلع رجل منهم ليقلع الميزاب «1» فسقط فمات، وخرج أمير مكة ابن مجلب في جماعة من الأشراف إلى أبى طاهر، وسألوه في أموالهم فلم يشفّعهم فقاتلوه فقتلهم جميعا وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الناس في المسجد الحرام حيث قتلوا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة على أحد منهم، ونهب دور أهل مكة، قال الشريف أبو الحسين: ولما نهب القرامطة مكة ورجع أبو طاهر إلى بلده لحقه كدّ شديد عند خروجه من مكة، وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة إلى أن عدل به دليل من الطريق المعروف إلى غيره، فوصل إلى بلده بعد ذلك في المحرم سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة، فأقام به ثم سار إلى الكوفة فدخلها في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، فاشتروا منها أمتعة وأسروا خلقا من السواد، وعاثوا ورجعوا بعد خمسين يوما إلى بلدهم، فأقاموا به. وأنفذ أبو طاهر سريّة إلى جنّابه وسينيز ومهروبان في البحر، فيها وجوه أصحابه في نحو أربعين مركبا، فوافت ساحل سينيز فصعدوا من المراكب، فحملوا على أهلها حملة واحدة فانكشف الناس عنهم، فوضعوا فيهم السيف فمالقوا أحدا إلا قتلوه من رجل وامرأة، فما نجا إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء، فترك الناس الديار وخرجوا يريدون الهرب، فنادى أبو بكر الطرازى في الناس: لا هرب أحد، فإنّا نقاتل من ورد إلينا، وضرب بالبوق ووجّه من

حبس الناس عن سلوك الطرقات وردّهم إلى البلد، وجمع الناس بالمسجد الجامع ورغبّهم في الجهاد وأسعفهم بماله، ورغبت المتطوّعة في الاجتماع فقويت قلوب الناس، وأنفذ أبو بكر سريّة من وقته من خاصّة غلمانه في نحو ثلاثمائة رجل في البحر، ووجّه سريّة أخرى في البر، وأنفذ إلى مهروبان يخبر أنّه على لقاء العدوّ، وسألهم الإنجاد في المراكب لمعاونة أهل جنّابه على قتال القرامطة، فساروا والتقى الفريقان في البرّ والبحر من أهل جنابه وسينيز، ووافت قوارب مهروبان فأشعلوا النيران في القوارب، فأحرقوا بعضها وتخلص منهم نحو عشرين قاربا، وانتشبت الحرب فقتل الله منهم خلقا كثيرا، وأسر جماعة ولحق بعضهم بالجبال، وورد على أبى بكر الطرازى من أخبره بذلك، فجمع الناس وغدا نحو الجبال، وأرسل فارسا إلى من بسينيز من أصحابه أن يلحقوا به، وأنفذ إلى جنّابه ألّا يتخلّف عنه من فيه حراك، لتكون الوقعة بهم من كل وجه، فوافوا المنهزمين من القرامطة في بعض كهوف الجبال، وذلك في يوم الأربعاء فلمّا رأوا الناس قد أقبلوا نحوهم كسروا جفون سيوفهم، وحملوا عليهم فثبتوا لهم، ولم تزل الحرب قائمة بينهم يوم الأربعاء والخميس إلى نصف النهار، ثم نادى أبو بكر الطرازى: من جاء برأس فله خمسون درهما، فتنادى الناس بالشهادة وجدّوا ونشطوا، وقتلوا خلقا كثيرا وأخذوا جميع من بقى أسرى، وحملوا مشهرّين والناس يكثرون حمد الله عز وجلّ والثناء عليه، ولم يفلت منهم أحد. وكتب الناس محضرا أنفذوه إلى بغداد، وحملت الأسرى والرؤوس معه، قال الشريف: ونسخة المحضر:

بسم الله الرحمن الرحيم- حضر من وقّع بخطّه وشهادته آخر هذا الكتاب المحضر، وقد حضر عندهم ثلاثة من القرامطة- لعنهم الله- ذكر أحدهم أنّه يقال له- سيّار بن عمر بن سيّار، والآخر ذكر أنّه يقال له- على بن محمد بن عمر «1» ، والآخر ذكر أنّه يعرف بأحمد ابن غالب بن جعفر الأحساوى، فذكروا أنّهم متى نفذ رسولهم إلى صاحبهم سليمان بن الحسن القرمطى ردّ الحجر والشّمسة وكسوة البيت وأطلق الأسارى الذين في قبضته، وهادن السلطان وارتدع عن السعى بالفساد والقطع على الحاج، ولم يحفزهم ولم يعترض عليهم، ويقول هؤلاء النفر من جملة الأسرى الذين في يد محمد بن على الطرازى- وهم الذين ظفّر الله بهم- فمتى ما وفى سليمان بن الحسن القرمطى بما بذلوه عنه أفرج السلطان عنهم وردّهم إليه، وذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وأسفل ذلك خطوط أهل البلد بالشهادة. وأحضر سيّار بن عمر بن سيّار وعلى بن محمد بن عمر المعروف بأبى الهذيل بن المهلّب وأحمد العيّار، وهم من جملة الأسرى في الوقعتين بسينيز وجنابه، فعرض عليهم رؤوس أصحابهم ممّن قتل من القرامطة، ليعرفوا باسمائهم وأنسابهم فذكروا نحو المائة رأس، ومن الأسرى نحوهم، وحملوا إلى بغداد فحبسوا وأجرى عليهم، ويقال إنّه قد كان فيهم من إخوة سليمان بن الحسن من كتم أمره. وحدّثنى ابن حمدان أنّهم كانوا بعد خلاصهم ومصيرهم إلى

أبى طاهر يتحدثون: أن كثيرا من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم ما يتقرّبون به إلى قلوبهم، وذكروا أنهم كانوا يكثرون الخشوع وذكر النبى صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه وإقامة الصلاة؛ قال: ويضحكون من فعلهم هذا وخديعتهم الناس، قال: ويضحك أبو طاهر وإخوته مما يتحدثون به، قال: وكان سبب تخلص هؤلاء الأسرى أن أبا بكر بن ياقوت كتب في المهادنة، وجرى بينهم خطوب في المراسلة إلى أن وافقهم أن يردّوا الحجر الأسود ويخلوا الأسرى ولا يعرضوا للحاج، فجرى الأمر على ذلك. قال الشريف: وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة دخل القرمطى الكوفة، واستقبل لؤلؤا الأمير خارجا بالحاج في ذى القعدة، فرجع بهم لؤلؤ إلى الكوفة وتفرّقوا فيها، بعد أن واقعته الخراسانية فلم يقدر على مقاومتهم وامتنعوا منه، إلا أن الناس تسرّبوا وافترقوا، فظفر بمن ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد، وأشار بعض أهل الكوفة على بعض أصحابه في هذه السنة- عند نزولهم بالكوفة- أن يسار في الحاج بغير ما يجرى فيهم، فقال الرجل: الذى من أصحاب القرمطى: والله ما ندرى ما عند سيّدنا أبى طاهر، من نمزيق هؤلاء الذين من شرق الأرض وغربها، واتخاذهم ومن وراءهم أعداء، وما يفوز بأكثر أموالهم إلا الأعراب والشرّاد من الناس، قال الكوفي: فلو أنّه حين يظفر بهم دعاهم أن يؤدى كل رجل دينارا وأطلقهم وأمّنهم لم يكره أحد منهم ذلك وخفّ عليهم وسهل، وحجّ الناس من كل بلد لأنّهم ظماء إلى ذلك جدا، ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل بلده وخاصّته، فجبى في كل سنة

ما لا يصبر إلى سلطان مثله من الخراج، واستولى على الأرض وانقاد له الناس، وإن منع من ذلك السلطان اكتسب المذمّة، وصار عند الناس هو المانع من الحج، فاستصوب رأيه وفرّج عنه، لأن أصحاب أبى طاهر كان قد ظهر منهم اضطراب عليه وقلّت طاعتهم له، قال: حتى لقد سمعت بعضهم وقد لحقه فارس من العرفاء يركض ويدور في الكوفة ويقول: ارجع إلى العسكر فإنّ السيّد يأمرك بذلك، فذكر أمّه بقبيح من الشّتيمة بعد أن كانوا يعبدونه، قال: ولما سمع رئيس القرامطة كلام الكوفي وما أشار به من أمر الحاج وما جرى من الكلام في ذلك دخل إلى أبى طاهر فعرّفه ما جرى، فبادر من وقته ونادى في الناس بالأمان، وأحضر الخراسانيّة وقرّر معهم أنهم يحجّون ويؤدون إليه المال في كل سنة، ويكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم فلم يأمنوا له، فسلّم سياسة أمرهم إلى أبى على عمر بن يحيى العلوى، واستقرّ للقرامطة ضريبة ورسم على سفر الحاج. قال الشريف: ولمّا كان في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة كبس أبو طاهر الكوفة عشية، وفيها شفيع اللؤلؤى أمير، فهرب من مجلسه والناس عنده، ورمى بنفسه من سطحه واستتر عند امرأة ضعيفة، وظهر الجند من الطرقات فقاوموا من لحقهم من جيشه، وامتنع أكثرهم منه وخرجوا سالمين إلا نفرا منهم أصيبوا، ووجّه أبو طاهر إلى شفيع اللؤلؤى فأمّنه وأحضره، فحضر إليه وقدّم إليه طعاما يأكله، وطلبت مائدة يأكل عليها، فقيل ما يحضر إلا مائدة نهبت من داره، فقال أبو طاهر: قبيح أن يراها فافرشوها بالرقاق لكى لا يعرفها، ففعلوا

ذلك وقدّمت إليه، وكان يحمل إلى أبى طاهر صحفة صحفة مما يقدّم إليه، فينظر إليها أولا وينفذها إليه وكان ذلك لدناءته ومهانته، وتفرّق أصحابه عنه وقلّت طاعتهم له فاحتاج إلى المداراة، فوجّه إلى شفيع من يخاطبه في أن يمضى إلى السلطان، ويعرّفه أنّهم صعاليك لا بدّ لهم من أموال، وأنّه إن أعطاهم ما لا لم يفسدوا عليه شيئا وخدموه فما يلتمسه، وإن أبى ذلك لم يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وسيّره أبو طاهر ووصله، وخرج شفيع إلى السلطان فقدم إلى القرمطى أبو بكر بن مقاتل من قبل السلطان يناظره، ففتّ في عضده وملأ صدره من السلطان وأتباعه، فزاده ذلك انكسارا وذلة وسار عن الكوفة. وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة فسدت رجال القرامطة وقتل بعضهم بعضا، وسبب ذلك أنّه كان منهم رجل يقال له ابن سنبر، وهو من خواص أبى سعيد الجنّابى المطلعين على سرّه، وكان له عدوّ من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك، فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصفهان، وقال له: إذا ملّكتك أمر القرامطة نقتل عدوّى، فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه، فأطلعه على أسرار أبى سعيد وعلامات كان يذكرها في صاحبهم الذى يدعو إليه، فحضر إليه أولاد أبى سعيد فذكر لهم العلامات، فقال أبو طاهر: هذا هو الذى ندعو إليه، فأطاعوه ودانوا له حتى كان يأمر الرجل منهم بقتل أخيه فيقتله، وكان إذا كره رجل منهم يقول إنه مريض- يعنى قد شك في دينه ويأمر بقتله، وبلغ أبو طاهر أنّ الأصفهانى يريد قتله لينفرد بالأمر، فقال لإخوته:

ذكر وفاة أبى طاهر بن أبى سعيد الجنابى وأخيه وقيام أخويهما بعده

قد أخطأنا في هذا الرجل وسأكشف حاله، فقال له: إنّ لنا مريضا فانظر إليه ليبرأ، وأضجعوا والدتهم وغطّوها بإزار، فلما رآها قال: إنّ هذا المريض لا ببرأ فاقتلوه، فقالوا: كذبت، هذه والدتنا ثم قتلوه، وذلك بعد أن أفتى أكثر أكابرهم بالقتل «1» . ذكر وفاة أبى طاهر بن أبى سعيد الجنابى وأخيه وقيام أخويهما بعده قال «2» : وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة هلك أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد وأخوه أبو منصور بجدرى أصابهما، وملك التدبير بعده أخواه أبو القاسم سعيد وهو أكبرهم، وأبو العبّاس، وكانا يتّفقان معه على تدبير الأمر، وكان لهم أخ آخر لا يختلط بهم لاشتغاله بالشرب واللهو، قال: وشركهما في تدبير الأمر ابن سنبر ذكر اعادة القرامطة الحجر الأسود الى الكعبة شرفها الله تعالى قال: وفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أراد القرامطة أن يستميلوا أهل الإسلام، فحملوا الحجر الأسود وأتوا به الكوفة، فنصبوه في المسجد الجامع على الأسطوانة السابعة في القبلة ممّا يلى صحن المسجد حتى يراه الناس ثم حملوه إلى مكة شرفها الله تعالى، وقالوا: أخذناه بأمر ورددناه بأمر.

ذكر ملك القرامطة دمشق وسيرهم إلى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها

قال ابن الأثير «1» وكان بجكم الرايقى قد بذل لهم فيه خمسين ألف دينار، فلم يردّوه وردّوه الآن بغير شىء، وذلك في ذى القعدة من السنة، فكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا أياما، وحكى ابن الأثير «2» في سبب ردّه: أنّ عبيد الله المنعوت بالمهدى القائم ببلاد المغرب والمستولى عليها كتب إلى القرمطى ينكر فعله ويلومه ويلعنه، ويقول أخفقت علينا سعينا وأشهرت دولتنا بالكفر والإلحاد بما فعلت، ومتى لم ترد على أهل مكة ما أخذته وتعيد الحجر الأسود إلى مكانه وتعيد كسوة الكعبة فأنا برىء منك في الدنيا والآخرة. فلما وصل هذا الكتاب أعيد الحجز إلى مكة شرّفها الله تعالى. ذكر ملك القرامطة دمشق وسيرهم الى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: وفي سنة ستين وثلاثمائة سار الحسن بن أحمد بن أبى سعيد الجنّابى، وهو الذى انتهى إليه أمر القرامطة، من بلده إلى الكوفة، وعزم على قصد الشام وسبب ذلك أنّه كان قد تقرّر للقرامطة في الدولة الاخشيديّة من مال دمشق في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملك المعز لدين الله العبيدى الديار المصرية، واستولى جعفر بن فلاح على الشام، علموا أن ذلك يفوّتهم، فسار الحسن بن أحمد إلى الكوفة، وراسل بختيار الديلمى

أحد ملوك الدولة البويهية، في طلب السلاح والمساعدة، فأنفذ إليه خزانة سلاح من بغداد وسبب له على أبى تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان بأربعمائة ألف درهم، فرحل الحسن من الكوفة حتى أتى الرحبة وعليها أبو تغلب بن حمدان، فحمل إليه المال المسبّب له به عليه وحمل إليه العلوفة، وأرسل إليه يقول: هذا شىء كنت أردت أن أسير أنا فيه بنفسى، وأنت تقوم مقامى فيه، وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد علىّ خبرك، فإن احتجت إلى مسيرى سرت إليك، ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض عليه، فقد أذنّا له في المسير والعسكران واحد، فخرج إلى عسكر القرمطى جماعة من عسكر أبى تغلب، وكان فيه كثير من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين، صاروا إليه لما انهزموا من المغاربة عند ملكهم الديار المصريّة بعد الدولة الإخشيدية؛ قال: وسبب مظاهرة ابن حمدان للقرمطى أنّه كان قد وقع بينه وبين جعفر بن فلاح مراسلات، أغلظ جعفر فيها على أبى تغلب وتهدّده بالمسير إليه، فلما أرسل ابن جعفر إلى الحسن ابن أحمد هذه الرسالة ومكّن الجند من المسير معه سرّه ذلك وزاد قوّة، وسار عن الرّحبة وقرب من أرض دمشق ووصل إلى ضياع المرج فظفرت خيله برجل مغربى يقال له على بن مولاه، فقتلوه وقتلوا معه جماعة من المغاربة فوقعت الذلّه على المغاربه، وكان ظالم بن موهوب العقيلى على مقدّمة القرامطة في جمع من بنى عقيل وبنى كلاب، فلقى المغاربة في صحراء المزّة وأقبل شبل بن معروف العقيلى معينا لظالم، ولم يزل القتال بينهم إلى أن أقبل الحسن بن أحمد القرمطى فقوى العقيليون،

وتشمّرت المغاربة ولم يزل القتال إلى العصر، ثم حمل ظالم ومن معه فانهزمت المغاربة وأخذهم السيف وتفرّقوا، وقتل جعفر بن فلاح ولم يعرف، واشتغلت العرب بنهب العسكر، وكانت هذه الوقعة في يوم الخميس لست خلون من ذى القعدة سنة ستين وثلاثمائة، فلما كان بعد الوقعة عثر بجعفر بن فلاح من عرفه وهو مقتول مطروح على الطريق، فاشتهر خبره في الناس، ثم نزل الحسن بن أحمد بعد الوقعة على ظاهر المزّة فجبى مالا من البلد وسار يريد الرملة، وكان جوهر القائد قد أنفذ من مصر رجلا من المغاربة يقال له سعادة بن حيّان ذكر أنّه في أحد عشر ألفا، فلما بلغ ابن حيّان أن ابن فلاح قد قتل وجاءه بعد ذلك قوم من المنهزمين فأخبروه بخبر الواقعة، تحيّر وتقطّعت به الأسباب، فلم تكن له جهة غير الدخول إلى يافا، ولم يكن له بها عدّة ولا دار، فلما دخل إليها جاءه الحسن بن أحمد فنزل عليها، واجتمعت إليه عرب الشام فنازلها وناصبها بالقتال، حتى اشتدّ الحصار وقلّ ما بها جدا، وكان يدخل إليها شىء سرا فجعل عليها حرسا، فمن وجد معه شىء من الطعام يريد الدخول به إلى يافا ضربت عنقه، فلما طال بهم الأمر أكلوا دوابّهم وجميع ما عندهم من الحيوان، ثم هلك أكثرهم من الجوع، وكان الحسن بن أحمد قد سار عن يافا نحو مصر، وخلّف على حصارها أبا المنجّى وظالما العقيلى ونزل على مصر يوم الجمعة مسّتهلّ شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، فقاتل المغاربة على الخندق الّذى لمدينتهم، وقتل كثيرا منهم خارج الخندق وحاصرهم شهورا، ثم رحل عنها إلى الأحساء ولم يعلم الناس ما كان السبب في ذلك، فلما تيقنت المغاربة أنّه قد رحل

إلى بلده أنفذ جوهر القائد ابن أخته نحو يافا، وبلغ من عليها يحاصرها أن الحسن بن أحمد رحل عن مصر، وأنّ إبراهيم ابن أخت جوهر خارج يريد يافا، فسار القوم عنها وتوجّهوا نحو دمشق، فنزلوا بعسكرهم على ظاهرها، فجرى بين ظالم وأبى المنجّى كلام وخلاف ذكر أنّه بسبب أخذ الخراج، وكان كل واحد منهما يريد أخذه للنفقة في رجاله، وكان أبو المنجى كبيرا عند القرمطى يستخلفه على تدبير أحواله. قال: ولما رحل القوم عن يافا إلى دمشق جاءها إبراهيم ابن أخت جوهر القائد، فأخرج من كان بها وسار بهم إلى مصر، ورجع الحسن ابن أحمد فنزل الرمله، ولقيه أبو المنجّى وظالم فذكر أبو المنجّى للحسن ابن أحمد ما جرى من ظالم وما تكلّم به، فقبض عليه ولم يزل محبوسا حتى ضمنه شبل بن معروف فخلّى سبيله، فهرب إلى شط الفرات إلى حصن كان له في منزل بنى زياد، ثم إنّ الحسن بن أحمد طرح مراكب في البحر وجعل فيها رجالا مقاتلة، وجمع كل من قدر عليه من العرب وغيرهم وتأهّب للمسير إلى مصر، وكان جوهر يكتب إلى المعز لدين الله إلى القيروان بما جرى على عسكره، من القتل والحصار والقتل، أن الحسن بن أحمد يقاتلهم على خندق عسكرهم، وقد أشرف على أخذ مصر فقلق من ذلك قلقا شديدا، وجمع من يقدر عليه وسار إلى مصر، وهو يظن أنها تؤخذ قبل أن يصل إليها، فدخلها في يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وكان شديد الخوف من الحسن بن أحمد، فلما نزل مصر عزم على أن يكتب إلى الحسن بن أحمد كتابا يعرّفه فيه أن المذهب واحد،

وأنهم منهم استمدوا، وأنّهم ساداتهم في هذا الأمر، وبهم وصلوا إلى هذه المرتبة وترهّب عليه، وكان غرض المعز لدين الله العبيدى في ذلك أن يعلم من جواب القرمطى ما في نفسه، وهل خافه لما وافى مصر أم لا؟ قال: والحسن بن أحمد يعرف أنّ المذهب واحد، لأنّه يعلم الظاهر من مذهبهم والباطن، لأن الجميع اتّفقوا على تعطيل الخالق وإباحة الأنفس والأموال وبطلان النبوّة، فهم متفقون على المذهب، وإذا تمكّن بعضهم من بعض يرى قتله ولا يبقى عليه. قال الشريف: وكان عنوان الكتاب: من عبد الله ووليّه وخيرته وصفيّه معدّ أبى تميم بن إسماعيل المعزّ الدين الله أمير المؤمنين، وسلالة خير النبيّين ونجل علىّ أفضل الوصيّين إلى الحسن بن أحمد، ونسخة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم- رسوم النطقاء ومذاهب الأئمة والأنبياء ومسالك الرسل والأوصياء، السالف والآنف منّا صلوات الله علينا وعلى آبائنا، أولى الأيدى والابصار في متقدّم الدهور والأكوار وسالف الأزمان والأعصار عند قيامهم بأحكام الله، وانتصابهم لأمر الله، بالابتداء بالإعذار والانتهاء بالإنذار، قبل إنفاذ الأقدار في أهل الشقاق والإصرار، لتكون الحجّة على من خالف وعصى، والعقوبة على من بان وغوى، حسبما قال الله جلّ وعزّ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1» (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) «2» وقوله سبحانه

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) «1» (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) «2» ، أما بعد أيها الناس: فإنا نحمد الله بجميع محامده ونمجّده بأحسن مماجدة، حمدا دائما أبدا ومجدا عاليا سرمدا، على سبوغ نعمائه وحسن بلائه، ونبتغى إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة، على طاعته والتسديد في نصرته، ونستكفيه ممايلة الهوى والزيغ عن قصد الهدى، ونستزيد منه إتمام الصلوات وإفاضة البركات وطيب التحيات، على أوليائه الماضين وخلفائه التالين، منّا ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين، الذين قضوا بالحقّ وكانوا به يعدلون. أيها الناس (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) «3» ليتذكّر من تذكر وينذر من أبصر واعتبر. أيها الناس: إن الله جلّ وعزّ إذا أراد أمرا قضاه، وإذا قضاه أمضاه، وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا، وأبرز أرواحنا بالقدرة مالكين، وبالقوّه قادرين، حين لاسماء مبنيّة، ولا أرض مدحيّة، ولا شمس تضىء، ولا قمر يسرى، ولا كوكب يجرى، ولا ليل يجنّ، ولا أفق يكنّ، ولا لسان ينطق ولا جناح يخفق، ولا ليل، ولا نهار، ولا فلك دوّار، ولا كوكب سيّار، فنحن أوّل الفكرة، وآخر العمل بقدر ومقدور، وأمر في القدم مبرور، فعند ما تكامل الأمر وصحّ العزم

أنشأ الله جلّ وعز المنشآت فأبدأ الأمّهات من هيولانا، فطبعنا أنوارا وظلمة وحركة، وسكونا، فكان من حكمه السابق في عمله ما ترون من فلك دوّار، وكوكب سيّار، وليل ونهار، وما في الآفاق من آثار معجزات، وأقدار باهرات، وما في الأقطار «1» من الآثار، وما في النفوس من الأجناس والصور والأنواع، من كثيف ولطيف، وموجود ومعدوم وظاهر وباطن، ومحسوس وملموس، ودان وشاسع، وهابط وطالع كل ذلك لنا ومن أجلنا، دلالة علينا وإشارة إلينا، يهدى الله ما كان له لب سجيح، ورأى صحيح، قد سبقت له منّا الحسنى، فدان بالمعنى، ثم إنه جلّ وعلا أبرز من مكنون العلم ومخزون الحكم آدم وحوّاء أبوين ذكرا وأنثى، سببا لإنشاء البشرية «2» ، ودلالة لاظهار القدرة القويّة الكونيّة «3» ، وزوّج بينهما فتوالدا الأولاد، وتكاثرت الأعداد، ونحن ننقل في الأصلاب الزكيّة والأرحام الطاهرة المرضية، كلّما ضمّنا من صلب ورحم أظهر منّا قدرة وعلما وهلم جرا إلى آخر الجد الأول والأب الأفضل سيد المرسلين وإمام النبيين أحمد ومحمد صلوات الله عليه وعلى آله في كل ناد ومشهد، فحسن آلاؤه وبان غناؤه، وأباد المشركين وقصم الظالمين، وأظهر الحق واستعمل الصدق، وبان بالأحديّة ودان بالصمديّة، فعندها سقطت الأصنام وانعقد الإسلام، وظهر الإيمان وبطل السخر والقربان، وارتفع الكفر والطغيان، وخمدت بيوت

النيران وهربت عبدة الأوثان، وأتى بالقرآن شاهدا بالحق والبرهان فيه خير ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، مبينا عن كتب تقدّمت في صحف قد نزلت، تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة ونورا وسراجا منيرا، وكل ذلك دلالات لنا ومقدّمات بين أيدينا، وأسباب لإظهار أمرنا، هدايات وآيات وشهادات، وسعادات قدسيات إلاهيات أوّليات كائنات، منشآت مبديات معيدات وما من ناطق نطق ولا نبىّ بعث ولا وصّى ظهر إلا قد أشار إلينا، ولوّح بنا ودلّ علينا في كتابه وخطابه، ومنار أعلامة ومرموز كلامه، ما هو موجود غير معدوم وظاهر وباطن، يعلمه من سمع الندا أو شاهد ورأى، من الملأ الأعلى، فمن أغفل منكم أو نسى أو ضلّ أو غوى فلينظر في الكتب الأولى «1» والصحف المنزّلة، وليتأمل آى القرآن وما فيه من البيان، وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، فقد أمر الله عز وجلّ (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) * «2» . قال: وهذا الكتاب طويل جدا لا طائل فيه، قطعناه ههنا وسنذكر جملة من هذا الكتاب في أخبار المعز لدين الله غير ما في هذا الموضع، على ما نقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه «3» . قال «4» : والجواب من الحسن بن أحمد القرمطى الأعصم: وصل إلينا كتابك الذى كثر تفصيله وقلّ تحصيله، ونحن سائرون على أثره والسلام.

وسار الحسن بن أحمد بعد ذلك إلى مصر، فنزل بعسكره عين شمس، وناشب المغاربة القتال، وانبثت سراياه في أرض مصر وبعث عمّالا إلى الصعيد تجبى الأموال، وضيّق على المغاربة ودوامهم القتال على خندق مدينتهم، يعنى الشريف بمدينتهم القاهرة المعزيّة، قال: فذكر أنّه هزمهم حتى عبر الخندق فامتنعوا منه بالسور، وعظم ذلك على المعز لدين الله وتحيّر في أمره، ولم يجسر أن يخرج بعسكره خارج الخندق، قال: وكان ابن الجرّاح الطائى في جمع عظيم مع الحسن بن أحمد القرمطى، وكان قوة لعسكره ومنعة ومقدّمة، فنظر القوم فإذا ليس لهم بالحسن بن أحمد طاقة، ففكّروا في أمره فلم يجدوا لهم حيلة غير فلّ عسكره، وعلموا أنّه لا يقدر على فلّه إلا بابن الجراح، وأنّ ذلك لا يتمّ إلا ببذل ما يطلبه من المال، فراسلوا ابن الجرّاح وبذلوا له مائة ألف دينار، على أن يفلّ لهم عسكر القرمطى فأجابهم إلى ذلك، ثم إنهم فكروا في أمر المال فاستعظموه، فعملوا دنانير من النحاس وطلوها بالذهب وجعلوها في أكياس، وجعلوا على رأس كل كيس منها دنانير يسيرة من الذهب تغطى ما تحتها وشدّوها وحملت لابن الجراح بعد أن استوثقوا منه، وعاهدوه ألا يغدر بهم إذا وصل إليه المال، فلما وصل إليه المال عمل على فلّ عسكره، وتقدم إلى كبراء أصحابه بأن يتبعوه إذا تواقف العسكران، وقامت الحرب فلما اشتدّ القتال ولىّ ابن الجرّاح منهزما، واتّبعه أصحابه في جمع كثير، فلما نظر إليه القرمطى قد انهزم بعد الاستظهار تحيّر ولزمه أن يقاتل هو ومن معه فاجتهد في القتال حتى تخلص، ولم تكن له بهم طاقة وكانوا قد بادروه من كل جانب، فخشى على نفسه وانهزم

واتّبعوه [قومه] ودخل [المغاربة] معسكره، فظفروا باتباع وباعة «1» نحو من ألف وخمسمائة رجل، فأخذوهم أسرى وانتهبوا العسكر وضربوا أعناقهم، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، ثم جرّدوا خلف الحسن بن أحمد، أبا محمود إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل من المغاربة، فسار خلفه وتباطأ في السير خوفا من أن يعطف عليه، وسار الحسن فنزل أذرعات وأنفذ أبا المنجّى في طائفة كثيرة من الجند إلى دمشق، وكان ابنه قبل ذلك واليا عليها، ثم سار القرمطى في البريّة إلى بلده وفي نيّته العود، وكانت المغاربة، لمّا سمعوا بقصّة ظالم، وقبض القرمطىّ عليه لما جرى بينه وبين أبى المنجّى ما ذكرناه، وهربه إلى حصنه، راسلوه ليأتى القرمطىّ من خلفه، فسار يريد بعلبك فلقيه الخبر بهزيمة القرمطى ونزول أبى المنجّى على دمشق، فسار ظالم نحو دمشق ونزل أبو محمود أذرعات، وذكر أنّه كان بينه وبين ظالم مراسلة واتّفقا على أبى المنجّى، وبلغ أبو المنجّى مسير ظالم إليه وكان في شرذمة يسيرة، وأبو المنجّى بدمشق في نحو ألفى رجل، وكان قد ورد إليه الخبر في أن ظالما يصبح من غد في عقبة دمّر، وكان الجند قبل ذلك قد طلبوا منه الرزق، فقال: ما معى مال، فلما ورد إليه خبر ظالم أعطى الجند على السّرج دينارين لكل رجل، ثم إنّ ظالما أصبح من غد ذلك اليوم في عقبة دمّر، فخرج أبو المنجّى وابنه بمن معهما إلى الميدان للقتال، فذكر أنّ ظالما أنفذ إلى أبى المنجّى رسولا يقول له: إنما جئت مستأمنا إليكم، وقد كان

ذكر عود القرامطة إلى الشام ووفاة الحسن بن أحمد

الجند حقدوا على أبى المنجّى من جهة الرزق، فلما صار ظالم في عقبة دمّر مشرفا على دمشق ذهب قوم من الجند نحو العقبة، فاستأمنوا إلى ظالم وتبعهم قوم بعد قوم، فقوى طمع ظالم بهم فانحدر من العقبة، ثم سار بمن معه حتى قرب من أبى المنجّى فأحاط به فلم يقدر على الهرب فأخذ هو وابنه من بعد أن وقعت فيه ضربة، وانقلب عسكره إلى ظالم، وملك ظالم البلد، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. فلما تمكّن ظالم ونزل البلد أوثق أبا المنجّى وابنه ثم حبسهما، وقبض على جماعة من أصحابه فأخذ أموالهم، ثم قدم أبو محمود بعد ذلك دمشق في يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان، فلقيه ظالم وتقرّب إليه بأبى المنجّى وابنه، فعمل لكل واحد منهما قفصا من خشب وحملهما إلى مصر فحبسا، وكان بعد ذلك بين ظالم وأبى محمود وأخبار دمشق ما ليس ذكره في هذا الموضع من غرضنا، فلنرجع إلى أخبار القرامطة. ذكر عود القرامطة الى الشام ووفاة الحسن بن أحمد قال: وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة كاتب هفتكين التركى وهو بالشام القرامطة، وقد جرى بينه وبين المغاربة حروب ووقائع واستنصر بهم، فكاتبوه بأنّهم سائرون إلى الشام، فوافوا دمشق في هذه السنة، وكان الذى وافى منهم إسحاق وكسرى وجعفر، فنزلوا ظاهر دمشق نحو الشماسيّة، ووافى معهم كثير من العجم ممّن كان من أصحاب هفتكين، فلقى هفتكين القرامطة وحمل إليهم

الأموال وأكرمهم وفرح بهم وأمن، فأقاموا على دمشق أياما ثم رحلوا متوجّهين إلى الرملة، وكان بها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فتحصّن منهم بيافا، ونزلت القرامطة الرملة ونصبوا القتال على يافا، حتى كلّ الفريقان من القتال وصار بعضهم يحدّث بعضا، وأقامت القرامطة بالرملة يجبون المال، فندب العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله- وكان قد ولى الأمر بعد وفاة أبيه- جوهر القائد إلى الخروج إلى الشام في سنة خمس وستين، وحمل إليه خزائن السلاح والأموال، فسار يريد الشام في عساكر لم تخرج المغاربة من مصر بمثلها، وتواترت الأخبار إلى هفتكين بمسيره، وهو على عكا وكان قد ملك صيدا، فنزل عكّا وسار فنزل طبريّة، وفارق القرامطة الرملة ونزلها جوهر، وسار إسحاق وكسرى القرمطيّان إلى الأحساء، وبقى جعفر لم يسر معهم وانضمّ إلى هفتكين بطبريّة، وسار جوهر في طلبهما فسارا إلى دمشق وتبعهم جوهر حتى نزل بالشماسيّة بظاهر دمشق، والمناوشة تقع بينهم تارة والموادعة أخرى، فلم يزل الأمر كذلك إلى جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة، فوردت الأخبار وقويت بقرب الحسن بن أحمد القرمطى من دمشق، وجاء من بشّر ابن عمّه جعفر بذلك، فسار إليه وصحّ ذلك عند جوهر، فنزل دمشق وسار نحو طبريّة وجدّ في السير، وكان قد هلك من عسكره خلق كثير، فخاف أن يدركه الحسن بن أحمد القرمطى فأسرع المسير من طبريّة، وخرج الحسن ابن أحمد من البريّة يريد طبريّة فوجده قد سار عنها، فأنفذ خلفه سريّة فلحقته فرجع عليها أصحاب جوهر، فقتلوا جماعة من العرب وسار جوهر حتى نزل ظاهر الرملة، وأتاه الخبر عن الحسن فدخل جوهر

ذكر استيلاء القرامطة على الكوفة وخروجهم عنها

زيتون الرمل وتحصّن به، وسار هفتكين من دمشق في أثر الحسن ابن أحمد فلحقه، وتوفى الحسن بن أحمد بالرملة، وتولى أمر القرامطة بعده ابن عمّه جعفر، واجتمع هو وهفتكين على قتال جوهر، فقاتلوه بقيّة سنة ست وستين وثلاثمائة، ثم رجع جعفر إلى بلده، وكان بين هفتكين وجوهر من الحصار ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار ملوك مصر. ذكر استيلاء القرامطة على الكوفة وخروجهم عنها قال ابن الأثير «1» رحمه الله تعالى: وفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ورد إسحاق وجعفر الهجريّان- وهما من القرامطة الذين تلقبوا بالسادة- فملكا الكوفة، قال: وكان للقرامطة من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير من الاقطاعات، وكان نائبهم ببغداد وهو أبو بكر بن شاهويه يحكم حكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة بن بويه، فلما جاء القرامطة إلى الكوفة كتب صمصام الدولة إلى إسحاق وجعفر بالملاطفة ويسألهما عن سبب حركتهما، فذكرا أن السبب في ذلك ما وقع منه من القبض على صاحبهما، وبثا أصحابهما في جباية الأموال، ووصل الحسن بن المنذر- وهو من أكابر القرامطة- إلى الجامعين، فأرسل صمصام الدولة العساكر والعرب فقاتلوه وأسروه وجماعة من القوّاد وانهزم من معه، ثم جهّز القرامطة جيشا آخر في عدد كثير فهزمته عساكر صمصام الدولة،

ذكر ظفر الأصغر بالقرامطة

وقتل مقدّم القرامطة، وكانت هذه الوقعة بالجامعين، فلما بلغ المنهزمون الكوفة رحل القرامطة عنها، وتبعتهم العساكر إلى القادسية وأخذ أمر القرامطة في الانتقاض، ولم يكن لهم بعد ذلك بالعراق والشام وقعة بلغنا خبرها. ذكر ظفر الأصغر بالقرامطة قال «1» ابن الأثير: وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة جمع إنسان بعرف بالأصفر من بنى المنتفق جمعا كثيرا، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة، قتل فيها مقدّم القرامطة وانهزم أصحابه وقتل منهم وأسر خلق كثير، وسار الأصفر إلى الأحساء فتحصّن القرامطة منه، فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأثقالهم ومواشيهم، وسار بذلك إلى البصرة وانتقض أمر القرامطة وضعفوا، وكان مدة ظهور مذهبهم إلى هذا التاريخ مائة سنة، ومنذ ظهر أمرهم واستولوا على البلاد وتجهّزت العساكر لقتالهم خمسا وتسعين سنة، وكانت فتنتهم قد عمّت أكثر البلاد والعباد؛ ولم أقف لهم بعد واقعة الأصفر على واقعة أخرى فأذكرها. وقد ذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية، فلنذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل.

ذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل مساور ومن بعده

ذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل مساور ومن بعده كان خروج مساور بن عبد الحميد بن مساور البجلى بالبوازيج من بلاد الموصل في شهر رجب من شهور سنة اثنتين وخمسين ومائتين في خلافة المعتز بالله، وكان سبب «1» خروجه أنّ شرطة الموصل كان بتولّاها رجل اسمه حسين بن بكير لبنى عمران أمراء الموصل، فأخذ ابنا لمساور هذا اسمه حوثرة فحبسه بالحديثة، وكان حوثرة جميلا فكان متولّى الشرطة يخرجه من الحبس ليلا ويحضره عنده، ويردّه إلى الحبس نهارا، فكتب حوثرة إلى أبيه- وهو بالبوازيج- يقول: أنا بالنهار محبوس وبالليل عروس، فغضب لذلك وقلق وخرج وتابعه جماعة، وقصد الحديثة فاختفى حسين بن بكير، فأخرج ابنه من الحبس وكثر جمعه من الأعراب والأكراد، فسار إلى الموصل ونزل بالجانب الشرقى، وكان الوالى عليها عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن اهبان الخزاعى، واهبان يقال إنه مكلّم الذئب وله صحبة، فوافقة من الجانب الغربى وعبر دجلة رجلان من أهل الموصل إلى مساور، فقاتلا مساورا فقتلا وعاد مساور وكره القتال، وكان حوثرة ابنه معه فكان يقول: أنا الغلام البجلى الشارى ... أخرجى جوركم من دارى

ذكر قتل مساور بندارا الطبرى متولى طريق خراسان

ذكر قتل مساور بندارا الطبرى متولى طريق خراسان قال «1» : ولمّا فارق مساور الموصل «2» بلغ بندارا الطبرىّ وهو بالدسكرة أنّه يريد كرخ جدان، وكان بندار الطبرى يلى طريق خراسان هو ومظفّر بن سيسل، فقال بندار ذلك لمظفّر فقال مظفّر: قد أمسينا وغدا عيد، فإذا قضينا العيد سرنا إليه، فسار بندار ليلا طمعا في أن يكون الظفر له، حتى أشرف على عسكر مساور، فأشار عليه بعض أصحابه أن يبيّتهم فأبى، وقال: حتى أراهم ويرونى، فأحسّ به الخوارج فركبوا واقتتلوا، وكان مع بندار ثلاثمائة فارس ومع مساور سبعمائة، فاشتدّ القتال بينهم وحمل الخوارج حملة، اقتطعوا من أصحاب بندار أكثر من مائة فصبروا لهم وقاتلوهم حتى قتلوا جميعا، فانهزم بندار وأصحابه وجعل أصحاب مساور يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فقتلوهم، وأمعن بندار في الهرب فطلبوه حتى أدركوه فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحابه نحو خمسين رجلا، وقيل مائة، وأتى الخبر إلى المظفر فرحل نحو بغداد، وسار مساور نحو حلوان فقاتله أهلها، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا من أصحابه جماعة وقتل مساور عدّة من أصحاب خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا أهلها على مساور، ثم انصرف عن حلوان، فقال مساور في ذلك: فجعت العراق ببندارها ... وحزت البلاد بأقطارها

وحلوان صبّحتها غارة ... فقتّلت أغرار غرّارها وعقبة بالموصل اجحرته ... وطوّقه الذل بى كارها قال: وكان قتل بندار في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ثم لقى مساور عسكرا للخليفة، ومقدّمهم خطرمش بناحية جلولاء في ذى الحجة من السنة، فهزمهم مساور واستولى على أكثر بلاد الموصل فقوى أمره وكثرت اتباعه «1» . فجمع له الحسن «2» بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبى- وكان خليفة أبيه على الموصل- عسكرا كثيرا منهم حمدان بن حمدون جدّ الأمراء الحمدانيّة وغيره، وسار إليه وعبر إليه نهر الزاب، فتأخر مساور عن موضعه ونزل بموضع يقال له وادى الذئاب، وهو واد عميق، فسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر الموصل وكثر القتل فيهم، وسقط كثير منهم في الوادى فهلك فيه أكثر من القتلى، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين ومائتين، ونجا الحسن فوصل إلى حرّة من أعمال إربل، وهرب محمد بن على بن السيّد، فظنّ الخوارج أنّه الحسن فتبعوه فقتلوه، وكان فارسا شجاعا، واشتدّ أمر مساور وعظم شأنه وخافه الناس.

ذكر استيلاء مساور على الموصل وخروجه منها

ذكر استيلاء مساور على الموصل وخروجه منها قال «1» : ولما انهزم عسكر الموصل من مساور قوى أمره وكثرت أتباعه، فسار من موضعه وقصد الموصل فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى، فاستتر أمير البلد عبد الله بن سليمان لضعفه عن مقاتلته ولم يدافعه أهل الموصل، فوجه مساور جمعا إلى دار عبد الله أمير البلد فأحرقها، ودخل الموصل بغير حرب فلم يتعرّض لأحد، وحضرت الجمعة فدخل المسجد الجامع، وحضر الناس فصعد مساور المنبر، وجعل على درج المنبر من أصحابه من يحرسه بالسيوف وكذلك في الصلاة، ولما خطب قال في خطبته: (اللهم أصلحنا وأصلح ولاتنا) ولما دخل في الصلاة جعل إبهاميه في أذنيه وكبّر ست تكبيرات ثم قرأ بعد ذلك. ثم فارق البلد ولم يقدر على المقام به لكثرة أهله، وسار إلى الحديثة وكان قد اتّخذها دار هجرته، وكان دخوله الموصل في سنة خمس وخمسين ومائتين، ثم كان بينه وبين عسكر للخليفة في هذه السنة وقعة فانهزم عسكر الخليفة.

ذكر اختلاف الخوارج على مساور وانتصاره على من خالفه وقتاله عساكر الخليفة

ذكر اختلاف الخوارج على مساور وانتصاره على من خالفه وقتاله عساكر الخليفة وفي سنة ست «1» وخمسين ومائتين خالف إنسان من الخوارج اسمه عبيدة من بنى زهير، على مساور، وسبب ذلك أنّه خالفه في توبة المخطىء، فقال مساور: تقبل توبته، وقال عبيدة: لا تقبل، فجمع عبيدة جمعا كثيرا وسار إلى مساور، وتقدّم إليه مساور من الحديثة، فالتقوا بنواحى جهينة في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، واقتتلوا أشد قتال فترجّل عبيدة ومعه جماعة من أصحابة وعرقبوا دوابّهم فقتل عبيده وانهزم جمعه، فقتل أكثرهم واستولى مساور على كثير من العراق، ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم فاضطرهم ذلك إلى أن سار إليه موسى بن بغا وبايكباك وغيرهما في عسكر عظيم، وذلك في سنة ست وخمسين، فوصلوا إلى السنّ وأقاموا به، ثم عادوا بسبب خلع المهتدى، فلما ولى المعتمد على الله الخلافة سيّر مفلحا في عسكر كبير لقتال مساور، فسار فلما قارب الحديثة فارقها مساور، وقصد جبلين يقال لأحدهما زينى والآخر عامر وهما بالقرب من الحديثة، فتبعه مفلح فعطف عليه مساور وهو في أربعة آلاف فارس، وكان مساور قد انصرف من حرب عبيدة وقد جرح كثير من أصحابه، فلحقوا مفلحا بجبل زينى فلم يصل إلى ما يريد، فصعد مساور رأس الجبل فاحتمى به، ونزل مفلح في أصل الجبل، وجرى بينهما وقعات كثيرة، ثم أصبحوا يوما

فطلبوا مساورا فلم يجدوه، وكان قد نزل من غير الوجه الذى نزل به مفلح، لمّا أيس من الظفر لضعف أصحابه من الجراح، فلمّا لم يره مفلح سار إلى الموصل وسار منها إلى ديار ربيعة، سنجار ونصيبين والخابور، فنظر في أمرها ثم سار فأتى الموصل، فأحسن السيرة في أهلها ورجع عنها وقد تأهّب للقاء مساور، فلمّا قارب الحديثة فارقها مساور وتبعه مفلح، فكان مساور يرتحل عن المنزل فينزله مفلح، فلمّا طال الأمر على مفلح وتوغّل في الجبال والشعاب والمضايق عاد عنه فتبعه مساور يقفو أثره ويأخذ من ينقطع عن ساقة العسكر، فرجع إليه طائفة من العسكر فقاتلوه، ثم عادوا ولحقوا مفلحا، ووصل مفلح الحديثة فأقام بها أياما، وانحدر في أول رمضان إلى سامرّا، فاستولى حينئذ مساور على البلاد، وقوى أمره واشتدت شوكته. وفي سنة «1» سبع وخمسين ومائتين خرج على مساور خارجىّ آخر اسمه طوق من بنى زهير، فاجتمع إليه أربعة آلاف فصار بهم إلى أذرمة «2» ، فحاربه أهلها فدخلها بالسيف، وأخذ جارية بكرا فافتضّها في المسجد، فجمع الحسن بن أيوب بن أحمد العدوى جمعا كثيرا فحاربه وقتله، وأنفذ رأسه إلى سامرا «3» ، واستمر مساور بتلك النواحى إلى أن مات في سنة ثلاث وستين.

ذكر وفاة مساور وخبر من قام بعده إلى أن قام هارون البجلى

ذكر وفاة مساور وخبر من قام بعده الى أن قام هارون البجلى وفي سنة «1» ثلاث وستين ومائتين توفّى مساور الشارى، وكان قد رحل من البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار إليه من قبل الخليفة، فكتب أصحابه إلى محمد بن خرّزاد وهو بشهرزور ليولّوه أمرهم، فامتنع وكان كثير العبادة فبايعوا أيوب بن حيّان الوارقى البجلى، فأرسل إليهم محمد بن خرّزاد يذكر أنّه نظر في أمره فلم يسعه اهمال الأمر، لأنّ مساورا عهد إليه به، فقالوا له: قد بايعنا هذا الرجل ولا نغدر به، فسار إليهم فيمن بايعه فقاتلهم، فقتل أيوب بن حيّان فبايعوا بعده محمد بن عبد الله بن يحيى الوارقى المعروف بالغلام فقتل أيضا فبايع أصحابه هارون بن عبد الله البجلى، فكثر اتباعه وعاد عنه ابن خرّزاد، واستولى هارون على بلد الموصل وجبى خراجه.

ذكر محاربة محمد بن خرزاد هارون بن عبد الله وما كان من خبر خرزاد ومقتله واستقلال هارون بالأمر بمفرده

ذكر محاربة محمد بن خرزاد هارون بن عبد الله وما كان من خبر خرزاد ومقتله واستقلال هارون بالأمر بمفرده وفي سنة «1» سبع وستين ومائتين كانت الحرب بين محمد بن خرّزاد وهارون بن عبد الله، وذلك أن محمدا جمع أصحابه وسار لحرب هارون، فنزل واسط وهى قرية من قرى الموصل، وكان يركب البقر لئلا يفرّ من القتال، ويلبس الصوف الغليظ ويرقع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك ويجلس على الأرض ليس بينه وبينها حائل، فلما نزل واسط خرج إليه وجوه أهل الموصل، وكان هارون بمعلثايا يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه، ورحل ابن خرّزاد نحوه، فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ واقتتلوا قتالا شديدا، كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتى رجل، منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزما فعبر دجلة إلى العرب قاصدا بنى تغلب فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع محمد بن خرّزاد من حيث أقبل وعاد هارون إلى الحديثة فاجتمع إليه خلق كثير، فكاتب أصحاب ابن خرّزاد واستمالهم، فأتاه منهم خلق كثير، ولم يبق مع ابن خرّزاد إلا عشيرته من النسردليّة، وهم أهل شهرزور، وإنما فارقه أصحابه لأنّه كان خشن العيش، وهو ببلد شهرزور كثير الأعداء من الأكراد

ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجى

وغيرهم، وكان هارون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه، فمال إليه أصحاب ابن خرّزاد وقصدوه لهذا السبب، وأوقع ابن خرّزاد بالأكراد الجلاليّة بنواحى شهرزور وغيرهم، فقتل وتفرّد هارون بالأمر وقوى، وكثر أتباعه وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة، وبثّوا نوّابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلّات وفي سنة اثنتين «1» وسبعين ومائتين دخل هارون الموصل، وصلّى الجمعة بالناس وكان معه حمدان بن حمدون. ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجى وفي سنة «2» ثمان وسبعين ومائتين خرج محمد بن عبادة ويعرف بأبى جورة «3» - وهو من بنى زهير على هارون، وكان محمد هذا في أوّل أمره من الفقراء الصعاليك، وكان هو وابناؤه يلتقطون الكمأة ويبيعونها إلى غير ذلك من الأعمال، ثم إنه جمع جماعة وحكم، فاجتمع إليه أهل تلك النواحى والأعراب وقوى أمره، وأخذ عشر الغلات وقبض الزكاة، وسار إلى معلثايا فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار، وجبى تلك الأعمال وبنى عند سنجار حصنا، وحمل إليه الميرة والأمتعة، وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلا

من وجوه بنى زهير وغيرهم، ووصل الخبر إلى هارون فاجتمع رأيه ورأى وجوه أصحابه على قصد الحصن أولا، فإذا قرغوا منه ساروا إلى محمد بن عبادة، فجمع أصحابه به فبلغوا ألف فارس ومائتى فارس ومائة راجل، فأحدق بالحصن وحصره، ومحمد بن عبادة في قبراثا «1» لم يعلم بذلك، وجدّ هارون في قتال أهل الحصن، ونصب عليهم السلاليم وملكه، فلما رأى من معه من بنى تغلب تغلّبه على الحصن أعطوا من فيه من بنى زهير الأمان، بغير أمر هارون فشقّ ذلك عليه، إلا أنّه قتل أبا هلال بن محمد ونفرا معه قبل الأمان، ثم ساروا إلى محمد فوافوه وهو في أربعة آلاف رجل، فاقتتلوا فانهزم هارون ومن معه، ووقف بعض أصحابه ونادى رجالا بأسمائهم فاجتمعوا نحو أربعين رجلا، وحملوا على ميمنة محمد فانهزمت، وعادت الحرب فانهزم محمد وأصحابه، ووضعوا فيهم السيف فقتل منهم ألفان وأربعمائة رجل وحجز بينهم الليل وجمع هارون مالهم فقسّمه بين أصحابه، وانهزم محمد إلى آمد فأخذه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ بعد حرب وأسره، وحمله إلى المعتضد بالله فسلخ جلده كالشاة.

ذكر انهزام هارون من عسكر الموصل

ذكر انهزام هارون من عسكر الموصل كان المعتضد بالله قد سار إلى ماردين في سنة إحدى وسبعين، وخلّف بالموصل نصر القشورى يجبى الأموال ويعين العمّال على جبايتها فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر، فوقع عليهم طائفة من الخوارج فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل ففرّق بينهم، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر، وهو من أعيان أصحاب هارون، فعظم عليه ذلك وأمر أصحابه أن يفسدوا في البلاد، فكتب نصر القشورى إلى هارون يتهدّده بقرب الخليفة، وأنّه إن همّ به أهلكه وأصحابه، فلا يغتر بمن سار إلى حربه فعاد عنه بمكره وخديعته، فأجابه هارون بجواب غليظ، من جملته وإنّا وإياك كما قيل: فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا ... إلينا سوادا نلقه بسواد فبعث نصر جواب هارون إلى المعتضد بالله فجدّ في قصده، وولّى الحسن بن علىّ كورة الموصل وأمره بقصد الخوارج، وأمر كافّة مقدّمى الولايات والأعمال بطاعته، فجمعهم وسار إلى أعمال الموصل وخندق على نفسه، وأقام إلى أن رفع الناس غلّاتهم، ثم سار إلى الخوارج وعبر نهر الزاب إليهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانكشف الخوارج عنه، ليفرّقوا جمعيته «1» ثم يعطفوا عليه، فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم ففعلوا، ورجع هارون وأصحابه وحملوا سبع عشرة حملة، فانكشفت ميمنة الحسن وثبت هو، فحمل عليه

ذكر مقتل هارون

الخوارج حملة رجل واحد وهو ثابت، وضرب على رأسه عدّة ضربات فلم تؤثر فيه، فلما رأى أصحابه ثباته رجعوا إليه وقاتلوا وصبروا، فانهزم هارون ومن معه وقتل خلق كثير، وكانت هذه الوقعة في سنة اثنتين وثمانين «1» ومائتين، فتحيّر هارون في أمره فقصد البريّة، ونزل عند بنى تغلب ثم عاد إلى معلثايا، ورجع إلى البريّة ثم رجع إلى دجلة، وتكرّر ما بين ذلك، فلما رأى أصحابه قوّة دولة الخليفة المعتضد بالله راسلوا الخليفة في طلب الأمان، فأمّنهم فأتاه ثلاثمائة وستون رجلا، وبقى مع هارون بعضهم، وهو يجول في البلاد إلى أن قتل. ذكر مقتل هارون وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين سار المعتضد بالله إلى الموصل، ووصل إلى تكريت وأقام بها، وأحضر الحسين بن حمدان وبعثه في طلب هارون في جماعة من الفرسان والرجّالة، فانتخب الحسين ثلاثمائة رجل فسار بهم، ومعه وصيف فقال له الحسين: مره يا أمير المؤمنين بطاعتى، فأمره بذلك، فسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة، فقال الحسين لوصيف ولمن معه ليقفوا هناك، وقال: ليس لهارون طريق- إن هرب- غيرها، فلا تبرحوا من هذا الموضع حتى يمرّ بكم فتمنعوه من العبور وأكون أنا من خلفه، ومضى الحسين في طلب هارون فلقيه، واقتتلوا وقتل من الفريقين عدّة قتلى، ثم انهزم

هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامك ولسنا نأمن أن يأخذ حسين هارون، فيكون الفتح له دوننا، والصواب أن تمضى في آثارهم فأطاعهم ومضى، ولما فارق المخاضة جاء هارون فعبرها، وجاء الحسين في أثره إلى الموضع فلم ير وصيفا وأصحابه في الموضع الذى تركهم فيه، فعبر في أثر هارون وانتهى إلى حىّ من أحياء العرب، فسأل عنه فكتموه أمره فهدّدهم فأعلموه أنّه اجتاز بهم، فتبعه حتى أدركه بعد أيام وهارون في نحو مائة رجل، فناشده فأبى الحسين إلا قتاله، وحاربه وألقى نفسه عليه وأسره، وجاء به إلى المعتضد بالله إلى بغداد فوصلها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، وأدخل هارون على فيل، وأرادوا أن يلبسوه ديباجا مشهّرا فامتنع «1» ، وقال: هذا لا يحلّ فألبسوه كارها، ولما صلب نادى بأعلى صوته لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، وكان هارون صفريا، وكانت مدة خروج هذه الطائفة، منذ خرج مساور إلى أن أسر هارون ثلاثين سنة، منها أيام مساور عشر سنين، ومدة خروج هارون عشرون سنة، والله تعالى أعلم.

الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس فى اخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنه والغور وبلاد السند والهند والدولة السامانية والدو

الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس فى اخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنه والغور وبلاد السند والهند والدولة السامانية والدولة الصفارية والغزنوية والغورية والدولة الديلمية الختلية. ذكر أخبار الدولة السامانية وقيامها بما وراء النهر ونسب ملوكها وابتداء أمرهم كان أوّل من نبغ منهم وظهر اسمه وولى من قبل الخلافة نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان بن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش، وكان بهرام خشنش من الرىّ فجعله كسرى هرمز مرزبان أذربيجان، وكانت ولاية نصر بن أحمد ما وراء النهر في سنة إحدى وستين. ومائتين من قبل الخليفة المعتمد على الله العبّاسى؛ وكان المأمون، لمّا ولى خراسان في خلافة أبيه الرشيد، اصطنع أولاد أسد بن سامان، وهم نوح وأحمد ويحيى وإلياس، فقدّمهم ورفعهم واستعملهم، فلمّا أفضت الخلافة إلى المأمون ورجع

إلى العراق استخلف غسّان «1» بن عبّاد، فاستعمل غسان نوح بن أسد على سمرقند، وأحمد بن أسد على فرغانة، ويحيى على الشاش وأشروسنة، وإلياس على هراة وذلك في سنة أربع ومائتين، ثم أقرّهم طاهر بن الحسين على هذه الأعمال لما ولى خراسان، ثم توفى نوح بن أسد فأقرّ طاهر أخويه يحيى وأحمد على عمله، وكان أحمد بن أسد عفيفا عن المطاعم الدنيّة حسن السيرة، لا يقبل الرشا، ففيه يقول الشاعر: ثوى ثلاثين حولا في ولايته ... فجاع يوم ثوى في قبره حشمه وقيل إنّ هذا الشعر إنما قيل في ابنه نصر. وأمّا إلياس فإنه أقام بهراة إلى أن مات، فا؟؟؟ فر عبد الله بن طاهر ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله بهراة. وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين وهم: نصر وأبو يوسف يعقوب وأبو زكريا يحيى وأبو الأشعث أسد وإسماعيل وإسحاق وأبو غانم حميد، فلما توفى أحمد بن أسد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند، فبقى عاملا عليها إلى آخر الأيام الطاهريّة وبعدها إلى أن مضى لسبيله، وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرا، فولاه بخارى في سنة إحدى وستين ومائتين، فهذا ابتداء أمرهم على سبيل الاختصار. وهذه الولاية هى أوّل ولاية كانت لملوك هذه الدولة ولأهل هذا البيت من قبل الخليفة، ففى هذه السنة كان ابتداء دولتهم، وأوّل من استقلّ منهم بالولاية نصر هذا في هذا التاريخ، وكان قبل ذلك

يلى الأعمال من قبل عمّال خراسان، قال: ثم وقع [خلاف] بين نصر وأخيه إسماعيل مرة بعد أخرى حتى أفضى ذلك إلى الحرب بينهما، فتحاربا في سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إسماعيل بأخيه نصر فلما جىء به إليه ترجّل إسماعيل له، وقبّل يده وردّه إلى موضعه بسمرقند، وتصرّف في النيابة عنه ببخارى وصلح ما بينهما، وكان إسماعيل خيّرا يحب أهل العلم والدين ويكرمهم، وببركتهم دام الملك في عقبة من بعده. حكى عن أبى إبراهيم إسماعيل بن أحمد هذا قال «1» : كنت بسمرقند فجلست للمظالم وجلس أخى إسحاق إلى جانبى، فدخل أبو عبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعى فقمت له اجلالا لعلمه ودينه، فلما خرج عاتبنى أخى وقال: أنت أمير خراسان يدخل عليك رجل من رعيّتك فتقوم له فتذهب السياسة بهذا!! قال إسماعيل فبتّ في تلك الليلة فرأيت النبى صلى الله عليه وسلّم، وكأنّى واقف أنا وأخى إسحاق، فأقبل النبى صلى الله عليه وسلّم وأخذ بعضدى وقال لى: يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر، ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملكك وملك بنيك باستخفافك بمحمد ابن نصر.

ذكر وفاة نصر وقيام أخيه اسماعيل

ذكر وفاة نصر وقيام أخيه اسماعيل وفي سنة تسع وسبعين ومائتين توفى نصر بن أحمد، وكانت مدة استقلاله بالأمر ثمانى عشرة سنة تقريبا، وكان دينا «1» عاقلا حسن الشعر، ولما مات قام مقامه في أعماله بما وراء النهر أخوه إسماعيل ابن أحمد. وفي سنة ثمانين ومائتين غزا إسماعيل بلاد الترك، وافتتح مدينة ملكهم وأسر أباه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل منهم خلقا وأصاب من الدواب ما لا يعلم عدده، وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم. ذكر ملك اسماعيل خراسان وفي سنة سبع وثمانين ومائتين ملك خراسان من عمرو بن الليث الصفّار، وسبب ذلك «2» أن عمرا كان قد أرسل إلى الخليفة المعتضد بالله يطلب منه أن يوليه ما وراء النهر، فوجّه إليه الخلع واللواء بذلك، وكان هو إذ ذاك بنيسابور، فوجّه لمحاربة إسماعيل محمد بن بشير- وكان صاحبه وخليفته- وعشرة من قوّاده، فتوجّهوا إلى آمل فعبر إليهم إسماعيل نهر جيحون، والتقوا فهزمهم وقتل محمد بن بشير في نحو سنة آلاف رجل، وبلغ المنهزمون إلى عمرو بنيسابور، وعاد إسماعيل إلى بخارى، فتجّهز عمرو لقصده وسار من نيسابور

نحو بلخ، فراسله إسماعيل يستعطفه ويقول: إن ولايتك قد اتّسعت ولك دنيا عريضة، وأنّه ليس بيدى إلا ما وراء النهر، وأنا في ثغر فاقنع بما في يدك واتركنى، فأبى عمرو إلا قتاله، فذكر أصحاب عمرو له شدّة العبور إلى نهر بلخ، فقال: لو شئت أن أسكره ببدر الأموال لفعلت، وسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربى، ونزل عمرو بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحى لكثرة جيوشه، فبقى عمرو كالمحاصر فطلب المحاجزة فأبى إسماعيل، والتقوا واقتتلوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى ولى عمرو هاربا، ومرّ بأجمة في طريقه فقيل له إنّها أقرب الطرق فقصدها في نفر يسير وقال لعامة من معه: اسلكوا الطريق الواضح، ودخل الأجمة فوحل به فرسه ومضى من معه، فجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا، فسيّره إسماعيل إلى سمرقند، فلما وصل الخبر إلى المعتضد ذمّ عمرا ومدح إسماعيل، قال: ثم خيرّه إسماعيل بين المقام عنده أو انفاذه إلى المعتضد فاختار التوجّه إلى الخليفة فسيّره إليه، كانت هذه الوقعة في شهر ربيع الأول من السنة. وأرسل الخليفة المعتضد بالله إلى إسماعيل الخلع، وولاه ما كان بيد عمرو وخلع على نائبه بالحضرة وهو المعروف بالمرزبانى، فاستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده.

ذكر ملكه طبرستان

ذكر ملكه طبرستان وفي سنة سبع وثمانين أيضا ملك إسماعيل طبرستان من محمد بن زيد العلوى، وسبب ذلك أنّه سار لقصد خراسان، ظنا منه أن إسماعيل لا يتجاوز ما وراء النهر، فبعث إليه ينهاه عن التعرض إليها وترك له جرجان فامتنع من ذلك، فندب إسماعيل لقتاله محمد بن هارون فالتقوا واقتتلوا على باب جرجان، فانجلت الحرب عن انهزام العلوى بعد أن جرح عدّة جراحات وأسر ابنه زيد بن محمد، وحمل إلى إسماعيل فأكرمه وأحسن نزله، وسار محمد بن هارون إلى طبرستان وملكها، وتولّاها من قبل إسماعيل. ثم استولى محمد بن هارون على الرىّ في شهر رجب سنة تسع وثمانين بعد أن خلع طاعة إسماعيل، وكان أهل الرى قد كاتبوه في تسليمها إليه، فسار إليهم فحاربه واليها وهو اكرتمش «1» التركى، فقتله محمد وقتل ابنيه وأخاه كيغلغ وهو من قواد الخليفة. ذكر القبض على محمد بن هارون ووفاته وفي «2» سنة تسعين ومائتين أنفذ المكتفى بالله عهدا إلى إسماعيل بولاية الرىّ، فسار إليها ففارقها ابن هارون إلى قزوين ثم عاد إلى طبرستان، واستعمل، إسماعيل على جرجان بارس التركى الكبير»

ذكر وفاة اسماعيل وولاية ابنه أحمد

وألزمه احضار محمد بن هارون، فكاتبه بارس وضمن له اصلاح أمره. فقصد بخارى فلما بلغها قيد وحمل على جمل، وحبس فمات بعد شهرين محبوسا؛ وكان ابتداء أمر محمد بن هارون أنّه كان خياطا، ثم جمع جمعا من أهل الفساد وقطع الطريق في مفازه سرخس مدّة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة وبقى معه إلى أن انهزم من عمرو الصفار فاستأمن إلى إسماعيل السامانى فسيّره إسماعيل لقتال العلوى كما قدّمناه ثم خرج عليه كما ذكرنا. وفي سنة إحدى ونسعين ومائتين «1» خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون كثرة، وكان عسكرهم سبعمائة قبّة تركية، ولا تكون القبّة التركية إلا لرؤسائهم، فوجّه إليهم إسماعيل جيشا عظيما وتبعهم خلق من المطوّعة فوصلوا إلى الترك وهم غادون، فكبسهم المسلمون في الصبح فقتلوا منهم خلقا كثيرا وانهزم الباقون أقبح هزيمة. ذكر وفاة اسماعيل وولاية ابنه أحمد كانت وفاته في منتصف صفر سنة خمس وتسعين ومائتين. ولقّب بعد موته بالماضى، وكان رحمه الله تعالى عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيّته حليما. حكى عنه أنّه كان لولده أحمد مؤدب يؤدّبه، فمرّ به الأمير إسماعيل فسمع المؤدب يسبّه، ويقول: لا بارك الله فيك ولا فيمن ولدك. فدخل عليه وقال: يا هذا نحن لم نذنب ذنبا فتسبّنا. فهل

أبو نصر أحمد بن اسماعيل

ترى أن تعفينا من سبّك، وتخص المذنب بذمّك وشتمك؟ فارتاع المؤدب وخرج إسماعيل عنه، وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه. وجرى بين يديه ذكر الأنساب والأحساب فقال لبعض جلسائه: كن عصاميا ولا تكن عظاميا. ومن مكارمه وآدابه أنّه لما ولى بعد أخيه نصر واستقل بالأمر استمرّ يكاتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم به أوّلا، فقيل له في ذلك فقال: بجب علينا إذا زادنا الله رفة ألا ننقص إخواننا، بل نزيدهم رفعة وعلاء وجاها ليزدادوا لنا خلوصا وشكرا؛ وكانت مدة ولايته منذ أفضى الأمر إليه بعد وفاة أخيه ست عشرة سنة. ولما مات ولى بعده ابنه: أبو نصر أحمد بن اسماعيل قال «1» : ولما استوثق له الأمر ببخارى قصد بالخروج إلى الرى فأشار عليه إبراهيم بن زيدويه بقصد سمرقند، والقبض على عمّه إسحاق بن أحمد لئلا يخرج عليه، فاستدعى عمّه إلى بخارى فحضر إليه واعتقله بها، ولم يزل إلى سنة ثمان وتسعين فأطلقه وأعاده إلى سمرقند وفرغانة، قال: ولما قبض على عمّه عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد خوفا منه، وكان لخوفه منه أسباب منها: أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان- لما أخذها من محمد بن زيد- ثم عزله عنها،

ذكر استيلاء أحمد بن اسماعيل على سجستان

واستعمل عليها بارس الكبير، فاجتمع عند بارس أموال عظيمة من خراج الرى وطبرستان وجرجان، فحملها إلى إسماعيل فلما سارت عنه بلغه وفاة إسماعيل فردّها وأخذها، فلمّا قاربه أحمد خافه فكتب إلى المكتفى بالله يستأذنه في المصير إليه، فأذن له فسار إلى بغداد في أربعة آلاف فارس، فوصل إليها بعد وفاة المكتفى وولاية المقتدر، فأعجب المقتدر فسيّره إلى بنى حمدان بعسكره وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدّم عليهم، فدسّوا عليه غلاما له فسمّه فمات بالموصل، واستولى غلامه على أمواله وتزوّج بامرأته. ذكر استيلاء أحمد بن اسماعيل على سجستان وفي «1» شهر رجب سنة ثمان وتسعين ومائتين استولى على سجستان، وذلك أنّه لما استتب ملكه واستقرت قواعده سار في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرى، وكان مسكنه ببخارى ثم سار إلى هراة، فسيّر منها جيشا في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سجستان وعدّة من قوّاده، واستعمل عليهم الحسين بن على المروروزى، وكان بسجستان المعدّل بن على بن الليث الصفار، وهو صاحبها، فسيّر المعدّل أخاه أبا على محمد إلى بست ليجبى أموالها، فسار الأمير أحمد إليه ببست وحاربه، وأخذه أسيرا وعاد به إلى هراة، وتوجّه الحسين إلى سجستان وحصر المعدّل، فلما بلغه أن أخاه أسر، صالح الحسين واستأمن له، واستولى الحسين على سجستان،

ثم خالف أهل سجستان على الأمير أحمد

واستعمل عليها الأمير أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق- وهو ابن عمه- وعاد الحسين ومعه المعدّل إلى بخارى، قال: ولما استولى على سجستان سار سبكرى من فارس إليها على طريق المفازة، فسيّر إليه أحمد جيشا فأخذوه أسيرا واستولى على عسكره، وكتب الأمير أحمد بذلك إلى المقتدر بالله فشكره، وأمره أن يحمل السبكرى ومحمد ابن على بن الليث إلى بغداد، فسيّرهما فأدخلا مشهورين على فيلين. وأعاد المقتدر رسل أحمد بالتحف والهدايا. ثم «1» خالف أهل سجستان على الأمير أحمد في سنة ثلاثمائة، وسبب ذلك أن محمد بن هرمز المعروف بالمولى الصّندلىّ كان خارجىّ المذهب، وأقام ببخارى وهو من أهل سجستان وكان شيخا كبيرا، فجاء يوما إلى الحسين بن على العارض يطلب رزقه، فقال له: إن الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطا. يعبد الله فيه حتى يوافيه أجله، فغاظه ذلك وانصرف إلى سجستان. فاستمال جماعة من الخوارج، وكان رئيسهم محمد بن العبّاس المعروف بابن الحفّار، ودعا لعمرو بن يعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث الصفّار، فقبضوا على منصور بن إسحاق وحبسوه وخطبوا لعمرو وسلّموا إليه سجستان، فلما بلغ الخبر الأمير أحمد سيّر الجيوش مع الحسين بن على فحصرها تسعة أشهر، فصعد يوما محمد بن هرمز الصّندلى إلى السور. وقال: ما حاجتكم إلى أذى شيخ كبير

ذكر مقتل الأمير أحمد وولاية ابنه نصر

لا يصلح إلا للزوم رباط؟ ثم مات الصندلىّ فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفار وابن الحفّار إلى الحسين، وأطلقوا منصور بن إسحاق، وكان الحسين يكرم ابن الحفّار ويقرّبه، فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين، فبلغ الحسين ذلك فقبض عليه وأخذه معه إلى بخارى، واستعمل الأمير أحمد على سجستان سيمجور الدّواتى، فتوجّه إلى سجستان واستصحب معه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار، فتوفى ابن الحفّار. ذكر «1» مقتل الأمير أحمد وولاية ابنه نصر وفي سنة إحدى وثلاثمائة خرج الأمير أحمد إلى الصيد، وكان له أسد يربط على باب مبيته في كل ليلة، فلما كان في ليلة قتله أغفل الغلمان إحضار الأسد، فدخل إليه نفر من غلمانه فذبحوه على سريره وذلك في ليلة الخميس لسبع بقين من جمادى الآخرة، فحمل إلى بخارى فدفن بها وقتل بعض أولئك الغلمان، ولقّب بعد موته بالشهيد وكانت مدة ولايته ست سنين وأربعة أشهر وأياما. وولى بعده ابنه: أبو الحسن نصر بن أحمد وهو الرابع من الملوك السامانية. قال «2» : ولما قتل والده كان عمره ثمانى سنين، فبايعه أصحاب والده وكان القائم ببيعته أحمد بن

ذكر خروج اسحاق بن أحمد وابنه الياس

محمد بن الليث متولّى بخارى، فحمله على عاتقه فقال: أتريدون أن تقتلونى كما فعلتم بأبى، قالوا: لا وإنما نريد أن نضعك في موضع أبيك أميرا، فسكن روعه، وبايعوا له ولقّب بالسعيد، فاستصغره الناس وظنّوا أن أمره لا ينتظم مع وجود عم أبيه- الأمير إسحاق، وقوّته وكونه شيخ السامانيّة وصاحب سمرقند، وميل الناس بما وراء النهر إليه وإلى أولاده، فكان الأمر بخلاف ما ظنّه الناس، وطالت مدّته ونافت على ثلاثين سنة. قال: وتولى تدبير دولته أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهانى، فأمضى الأمور وضبط المملكة، واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه بالحضرة، وإنّما طمع أصحاب الأطراف في البلاد، وكان ممن خرج عن طاعته أهل سجستان، فانصرف عنها سيمجور الدواتى فولّاها المقتدر بالله بدرا الكبير. ذكر خروج اسحاق بن أحمد وابنه الياس قال «1» : ولما توفى الأمير أحمد وولى ابنه نصر خالف عليه عم أبيه الأمير إسحاق بن أحمد- وكان يلى سمرقند- وخالف ابنه إلياس، وقوى أمرهما، فسارا نحو بخارى فسار إليهم حمّويه بن على في عسكر كثيف، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم إسحاق إلى سمرقند، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة، ثم عاد وجمع مرّة ثانية والتقوا فانهزم إسحاق ثانيا، وتبعه حمّويه إلى سمرقند فملكها قهرا،

ذكر مخالفة منصور بن اسحاق

واختفى إسحاق فشدّد عليه الطلب وضيّق عليه، فاستأمن إلى حمّويه فأمّنه وحمله إلى بخارى، فأقام بها إلى أن مات. وأمّا ابنه إلياس فسار إلى فرغانة فكان بها إلى أن خرج في سنة ست عشرة. ذكر مخالفة منصور بن اسحاق وفي سنة اثنتين وثلاثمائة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد، على الأمير نصر بن أحمد، ووافقة على ذلك الحسين بن على المروروذى ومحمد بن حيد» ، وكان سبب ذلك أن الحسين لمّا فتح سجستان في الدفعة الأولى في أيام الأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولّاها، فولّاها منصور بن إسحاق، ثم افتتحها ثانيا وظن أنّه يتولّاها، فوليها سيمجور على ما قدّمناه، فاستوحش لذلك ونفر خاطره، وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد، على أن تكون إمارة خراسان لمنصور ويكون الحسين خليفته، فلمّا قتل الأمير أحمد كان منصور بنيسابور والحسين بهراة، فأظهر الحسين العصيان وسار إلى منصور بنيسابور، يحثه على ما اتّفقا عليه فوافقه منصور، وأظهر الخلاف وخطب لمنصور بنيسابور، فتوجّه إليهما حمّويه بن على من بخارى في عسكر كثيف، فاتّفق وفاة منصور، فقيل سمّه الحسين، فلمّا قاربه حمّويه سار الحسين عن نيسابور إلى هراة وأقام بها، وكان محمد

ابن «1» حيد يلى بخارى مدة طويلة، ويسير منها إلى نيسابور في شغل يقوم به، فوردها تم عاد منها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالانكار فخاف على نفسه، فعدل عن الطريق إلى الحسين بهراة فقوى به، وسار إلى نيسابور واستولى عليها، واستخلف بهراة أخاه منصور ابن على، فسيّر إليه من بخارى أحمد بن سهل لقتاله، فابتدأ أحمد بهراة فحصرها وأخذها، واستأمن إليه منصور بن على، ثم سار أحمد ابن سهل منها إلى نيسابور، وكان وصوله إليها في شهر ربيع الأوّل سنة ست وثلاثمائة، فنازل الحسين إلى أن انهزم أصحابه، فأسره ابن سهل وأقام بنيسابور، وكان ابن حيد بمرو فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نيسابور، وأسره للحسين بن على سار إليه. فقبض عليه ابن سهل وأخذ ماله وسواده وسيّره والحسين إلى بخارى فحبس الحسين بن على ببخارى إلى أن خلّصه أبو عبد الله الجيهانى. وسيّر ابن حيد إلى خوارزم فمات بها، ثم عاد الحسين بن على بعد خلاصه إلى خدمة الأمير نصر «2» بن أحمد. قال «3» : ولما ظفر أحمد بن سهل بالحسين أقام بنيسابور واستولى عليها، وخالف «4» على الأمير نصر وقطع خطبته، وسار من نيسابور إلى جرجان وبها قراتكين، فحاربه واستولى عليها وأخرجه عنها، ثم عاد إلى خراسان

ذكر خروج الياس بن اسحاق بن أسد ثانيا

واستولى على مرو وبنى عليها سورا وتحصّن بها، فأرسل الأمير نصر الجيوش مع حمّويه بن على من بخارى، فوافى مرو الروذ وأقام بنواحيها فلم يخرج إليه أحمد بن سهل، فلمّا رأى حمّويه أنّه لا يخرج إليه وأنّه تحصّن بمرو شرع في اعمال الحيلة، وأمر جماعة من أصحابه بمكاتبة أحمد سرا واظهار الميل إليه، ودعوه إلى الخروج إليهم ليسلّموا حمّويه إليه، فأجابهم إلى ذلك وخرج إليه فالتقوا على مرحلة من مرو الروذ، في شهر رجب سنة سبع وثلاثمائة، فانهزم أصحاب أحمد وحارب هو حتى عجزت دابّته فنزل عنها، واستأسر «1» فأخذ أسيرا وأنفذه حمّويه إلى بخارى فمات بها في ذى الحجة من السنة في الحبس. ذكر خروج الياس بن اسحاق بن أسد ثانيا قد ذكرنا أنّه لما انهزم مع أبيه بفرغانة، فلما كان في سنة ثلاث «2» عشرة وثلاثمائة استعان بمحمد بن الحسين بن مت، وجمع طائفة من الترك فاجتمع معه ثلاثون ألف عنان، فقصد سمرقند، فسيّر إليه الأمير السعيد أبا عمرو محمد «3» بن أسد في ألفين وخمسمائة رجل، فكمنوا خارج سمرقند في يوم ورود إلياس «4» إليها، فاشتغل هو ومن معه بالنزول فخرج عليهم الكمين من بين الشجر، ووضعوا فيهم السيف فانهزم إلياس وأصحابه، فوصل إلياس إلى فرغانة ووصل

ذكر استيلاء السعيد على الرى

ابن مت إلى طراز، فقبض عليه دهقان الناحية وقتله وأنفذ رأسه إلى بخارى، ثم عاد إلياس [ف] خرج «1» مرّة ثالثة، وأعانه أبو الفضل بن أبى يوسف صاحب الشاش، فسيّر إليه السعيد، محمد بن اليسع فحاربهم، فانهزم إلياس إلى كاشغر وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها، وصار إلياس إلى دهقان كاشغر طغانتكين واستقرّ بها. ثم ولى محمد بن المظفّر فرغانة فرجع إلياس بن إسحاق إليها، فحاربه فهزمه مرة أخرى فعاد إلى كاشغر، فكاتبه محمد بن المظفّر واستماله ولطف به فحضر إلى بخارى، فأكرمه السعيد وصاهره فأقام عنده. ذكر استيلاء السعيد على الرى وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة كتب المقتدر بالله إلى الأمير السعيد بولاية الرى، وأمره أن يقصدها ويأخذها من غلام يوسف بن أبى الساج فسار إليها واستولى عليها وأخرج فاتك «2» عنها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرين، وولّى عليها سيمجور الدوانى وعاد إلى بخارى، ثم استعمل عليها محمد بن صعلوك فوصل إليها وأقام بها إلى أوائل شعبان من السنة، فمرض فكاتب الحسن الداعى وما كان في القدوم عليه ليسلّم الرى لهما، فقدما وتسلّما الرى، وسار عنها وبلغ الدامغان.

ذكر مخالفة جعفر بن أبى جعفر بن أبى داود وعوده

ذكر مخالفة جعفر بن أبى جعفر بن أبى داود وعوده كان جعفر «1» مقيما بالختّل واليا عليها للسامانيّة، فبدت منه أمور نسب فيها للتقصير، فكوتب أبو على أحمد بن محمد بن المظفّر بقصده، فسار إليه وحاربه وقبض عليه وحمله إلى بخارى، فحبس بها إلى أن خالف أبو زكريا على الأمير السعيد فأخرجه وصحبه، ثم استأذنه في العود إلى ولاية الختّل فأذن له، فسار إليها وتمسّك بطاعة الأمير السعيد، وذلك في سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة. ذكر خروج أبى زكريا وأخويه ببخارى وفي سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة خرج أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم- أولاد أحمد بن إسماعيل السامانى، على أخيهم السعيد نصر بن أحمد، وكان سبب ذلك أن أخاهم كان قد حبسهم في القهندز ببخارى، ووكل بهم من يحفظهم فتخلّصوا منه، وسبب خلاصهم أن رجلا يعرف بأبى بكر الخبّاز الأصفهانى كان يقول- إذا جرى ذكر السعيد نصر-: إن له منى يوما طويل البلاء والعناء، فكان الناس يضحكون منه، فخرج السعيد إلى نيسابور واستخلف على بخارى أبا العباس الكوسج، وكانت وظيفة إخوته تحمل إليهم من عند هذا الخبّاز وهم في السجن، فسعى لهم مع

جماعة من أهل العسكر فأجابوه إلى ذلك، فأعلمهم بما فعل، فلما سار السعيد عن بخارى تواعد هؤلاء للاجتماع بباب القهندز في يوم جمعة، وكان الرسم ألّا يفتح باب القهندز في يوم الجمعة إلا بعد العصر، فلما كان يوم الخميس دخل أبو بكر الخبّاز إلى القهندز وبات فيه، وجاء من الغد إلى الباب وأظهر الزهد للبوّاب، وسأله أن يفتح له لئلا تفوته صلاة الجمعة وأعطاه خمسة دنانير، فلما فتح الباب صاح الخبّاز بمن واعدهم، فوثبوا بالبوّاب وقبضوا عليه وخرج إخوة السعيد وجميع من في الحبس من الديلم والعلويين والعيّارين. واجتمعوا إليهم من كان قد وافقهم من العسكر، ورئيسهم شيروين الجيلى وغيره من القوّاد، فعظمت شوكتهم ونهبوا خزائن السعيد ودوره واختص يحيى بن أحمد بأبى بكر الخبّاز وقرّبه وقدّمه وجعله من قوّاده، وبلغ السعيد هذا الخبر فسار من نيسابور إلى بخارى. فوكل يحيى بالنهر أبا بكر الخبّاز ليمنع السعيد من عبوره، فظفر السعيد به وأخذه أسيرا، وعبر النهر إلى بخارى وبالغ في تعذيب الخبّاز، ثم أحرقه في التنّور الذى كان يخبز فيه، وسار يحيى من بخارى إلى سمرقند ثم خرج منها، وبقى يكرر [الدخول] إلى البلاد والسعيد في طلبه، واستمرت هذه الفتنة ثائرة إلى سنة عشرين وثلاثمائة، فأنفذ السعيد الأمان إلى أخيه يحيى فجاء إليه هو وأخوه منصور، وزالت الفتنة وسكن الشر، وأما إبراهيم فإنه هرب إلى بغداد ثم إلى الموصل.

ذكر ولاية محمد بن المظفر خراسان

ذكر ولاية محمد بن المظفر خراسان وفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة استعمل الأمير نصر بن أحمد، أبا بكر محمد بن المظفّر بن محتاج على جيوش خراسان، ورد إليه تدبير الأمور بنواحيها جميعا، وكان سبب تقدّم محمد عنده أنّه كان يوما بين يدى السعيد- وهو يحادثه في بعض مهماته- فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدّة دفعات، ولم يتحرّك ولا ظهر عليه أثر ذلك، فلما فرغ من حديثه وعاد إلى منزلة نزع خفّه وقتل العقرب، فاتصل الخبر بالأمير السعيد فأعجب به، وقال له: ما عجبت إلا من فراغ بالك لتدبير ما قلته لك! فهلّا قمت وأزلتها!! فقال: ما كنت لأقطع حديث الأمير بسبب عقرب، وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب، فكيف أصبر- عند البعد منك- على حدّ سيوف أعداء دولتك، إذا دفعتهم عن مملكتك؟ فعظم محلّه عنده وأعطاه مائتى ألف درهم، ثم استعمله على خراسان فأقام واليا عليها إلى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، فاستقدمه واستعمل ابنه أبا على أحمد بن محمد، وكان سبب ذلك أن أبا بكر مرض مرضا شديدا فعزله واستعمل ابنه في شهر رمضان، فأقام بها ثلاثة أشهر وهو يتجهّز ويستعد، وسار في المحرم سنة ثمان وعشرين إلى جرجان فاستولى عليها وأخذها من ماكان ابن كالى، لأن ما كان كان قد خلع طاعة السعيد بعد أن حاصرها أبو علىّ بقية السنة، واستخلف إبراهيم بن سيمجور الدواتى، ثم استولى أبو على على الرى في سنة تسع وعشرين، ثم استولى على بلد

ذكر وفاة الأمير السعيد نصر بن أحمد وشىء من سيرته

الجبل «1» زنكان وأبهر وقزوين وقمّ وكرج وهمذان ونهاوند والدّينور إلى حدود حلوان، وذلك في سنة ثلاثين، ورتّب فيها العمال وجبى أموالها، ورحل إلى جرجان في سنة إحدى وثلاثين في جمادى الآخرة، فأتاه الخبر بوفاة السعيد فسار إلى خراسان. ذكر وفاة الأمير السعيد نصر بن أحمد وشىء من سيرته كانت وفاته في شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وكانت علّته السل فأقام به ثلاثة عشر شهرا، ولم يكن قد بقى من مشايخ دولتهم أحد، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوما، وعمره ثمانيا وثلاثين سنة. وكان عالما ذا حلم وكرم وعقل، ومن مكارمه ولين جانبه أن بعض الخدم سرق جوهرا نفيسا، وباعه على بعض التجّار بثلاثة عشر ألف درهم، فحضر التاجر عند السعيد وأعلمه أنّه اشترى جوهرا نفيسا لا يصلح إلا للسلطان، وأحضر الجوهر فحين رآه السعيد عرفه، فسأل عن ثمنه ومن أين اشتراه، فذكر الخادم والثمن فأربحه ألفى درهم، ثم سأله التاجر في دم الخادم فقال: لا بدّ من أدبه، وأما دمه فهو لك، فأحضره وأدّبه ثم أنفذه إلى التاجر، وقال: كنّا وهبنا لك دمه، وقد أنفذناه إليك. وحكى عنه أنّه لما خرج عليه أخوه أبو زكريا

نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد وهو الخامس من الملوك السامانية

ونهبت خزائنه وأمواله، فلما عاد السعيد إلى ملكه قيل له عن جماعة انتهبوا أمواله فلم يتعرض إليهم؛ وأخبر أن بعض السوقة اشترى منها سكّينا نفيسا بمائتى درهم، فأرسل إليه وأعطاه الثمن فأبى أن يبيع السكّين إلا بألف درهم، فقال السعيد: ألا تعجبون من هذا الرجل! أرى عنده مالى فلم أعاتبه وأعطيه حقّه فيشتط في الطلب! ثم أمر بارضائه. ولما طال مرضه أقبل على الصلاة والعبادة، وبنى له بيتا وسمّاه بيت العبادة، فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشى إليه حافيا ويصلّى ويدعو ويتضرّع، ولما مات دفن عند قبر «1» والده رحمهما الله. وولى بعده الأمير: نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد وهو الخامس من الملوك السامانية قال «2» : بويع له بعد وفاة أبيه في شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ولقب الأمير الحميد، وفوّض أمر تدبير دولته وملكه إلى أبى الفضل محمد «3» بن أحمد الحاكم، وصدر عن رأيه، ولما هرب منه أبو الفضل بن أحمد بن حمّويه- وهو من أكابر أصحاب أبيه- فأمّنه وأعاده وأحسن إليه، وولاه سمرقند.

ذكر مخالفة أبى على بن محتاج على الأمير الحميد

وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة خالف عبد الله بن اشكام على الأمير نوح، وامتنع بخوارزم، فسار نوح من بخارى إلى مرو بسببه وسيّر إليه جيشا وجعل عليهم إبراهيم بن بارس، فمات إبراهيم في الطريق، وكاتب ابن اشكام ملك الترك واحتمى به وكان لملك الترك ولد عند نوح في اعتقاله ببخارى، فراسل نوح أباه في اطلاقه ليقبض على ابن اشكام، فأجاب ملك الترك إلى ذلك، فلما علم ابن اشكام بذلك عاد إلى الطاعة، وفارق خوارزم فعفا عنه نوح وأكرمه. ذكر مخالفة أبى على بن محتاج على الأمير الحميد وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خالف أبو على بن محتاج على الأمير الحميد نوح، وسبب ذلك أنّه كان قد جهّزه للمسير إلى الرى فأنفذ إليه عارضا يستعرض العسكر، فأسقط العارض جماعة منهم وأساء على أبى علىّ، فنفرت قلوب الجند وساروا وهم كذلك، وانضاف إلى ذلك أن نوحا أنفذ معه من يتولى أعمال الديوان، وجعل إليه الحل والعقد والإطلاق، بعد أن كان جميع ذلك أيام السعيد لأبى علىّ، فازدا قلبه نفورا لذلك، ثم عزله عن خراسان واستعمل عليها إبراهيم بن سيمجور، ثم إنّ المتولى أساء إلى الجند في أرزاقهم فنفروا وشكا بعضهم إلى بعض، وهم إذ ذاك بهمذان، فاتّفق رأيهم على مكاتبة الأمير إبراهيم بن أحمد، عمّ الأمير نوح، وكان كما قدّمناه في خدمة الأمير ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فأظهروا أبا علىّ على

ذلك فنهاهم عنه، فتواعدوه بالقبض عليه إن خالفهم، فأجابهم إلى ما طلبوه وكاتبوا إبراهيم، فحضر إليهم في شهر رمضان في تسعين فارسا وساروا في شوّال نى خدمته إلى الرى، فلما وصلوا إليها اطلع أبو علىّ أن أخاه الفضل كتب إلى الأمير نوح بخبره، فقبض عليه وعلى المتولّى الذى أساء إلى الجند، وسار إلى نيسابور واستخلف نوّابه على الجبل والرى، واتصل الخبر بالأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو، وكان الجند قد ضجروا من محمد ابن أحمد الحاكم، مدبّر دولة نوح، لسوء سيرته فيهم، فقالوا لنوح: إنّ الحاكم قد أفسد عليك الأمور بخراسان، وأحوج أبا علىّ ابن محتاج إلى العصيان، وطلبوا تسليمه إليهم وإلا ساروا إلى عمّه إبراهيم، فسلمّه إليهم فقتلوه في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ولما وصل أبو علىّ إلى نيسابور كان بها إبراهيم بن سيمجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القوّاد، واستمالهم فمالوا إليه وصاروا معه، ودخل نيسابور في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ثم ظهر له من منصور بن قراتكين ما كرهه فقبض عليه، ثم سار أبو علىّ وإبراهيم من نيسابور في شهر ربيع الأوّل من السنة إلى مرو، وبها الأمير نوح، فهرب الفضل أخو أبى علىّ من محبسه إلى قهستان، ولمّا قارب أبو علىّ مرو انحاز إليه كثير من عسكر نوح، فسار نوح إلى بخارى واستولى أبو علىّ على مرو في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين، وأتاه أكثر أجناد نوح فسار نحو بخارى، وعبر النهر

ففارقها نوح وسار إلى سمرقند. ودخلها أبو علىّ في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين «1» وخطب فيها لإبراهيم وبايع له، ثم إنّ أبا علىّ اطلع على أنّ إبراهيم أضمر له شرا، فسار إلى تركستان وبقى إبراهيم ببخارى، وفي خلال ذلك أطلق أبو علىّ، منصور بن قراتكين، فسار إلى الأمير نوح، ثم إنّ إبراهيم وافق جماعة في السرّ على أن يخلع نفسه من الأمر، ويردّه إلى ابن أخيه الأمير نوح، ويكون هو صاحب جيشه، ويتّفق معه على قصد أبى علىّ، ودعا إلى ذلك فأجابوه وخرجوا إلى أبى علىّ، وقد تفرّق عنه أصحابه، فركب إليهم وردّهم أقبح ردّ، ثم فارق إبراهيم ومن معه بخارى وخرجوا إلى سمرقند إلى خدمة الأمير نوح، وأظهروا الندم على ما كان منهم فقرّبهم وقبلهم وعذرهم، وعاد إلى بخارى في شهر رمضان، ثم قتل الأمير نوح في تلك الأيام طغان الحاجب، وسمل عمّه إبراهيم وأخويه أبا جعفر محمدا وأحمد، وعادت الجيوش والعساكر اجتمعت عليه. أما الفضل بن محمد أخو أبى علىّ فإنّه لما هرب من أخيه لحق بقوهستان وجمع جمعا كثيرا وسار نحو نيسابور، وبها محمد بن عبد الرزّاق من قبل أبى علىّ، فخرج إلى الفضل وتحاربا فانهزم الفضل ومعه فارس واحد، فلحق ببخارى فأكرمه الأمير نوح وأحسن إليه وأقام في خدمته.

ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان

ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان قال «1» : ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى كان أبو علىّ بالصغانيان، وبمرو أبو أحمد محمد بن على القزوينى، فرأى الأمير نوح أن يجعل منصور بن قراتكين على جيوش خراسان، فولاه وسيّره إلى مرو، وبها أبو أحمد وقد غوّر المناهل ما بين آمل ومرو، ووافق أبا علىّ ثم تخلى عنه، فسار منصور جريدة في ألفى فارس، فلم يشعر به إلا وقد نزل بكشماهن، على خمسة فراسخ من مرو، فاستقبله أبو أحمد القزوينى بالطاعة، فأكرمه وسيّره إلى بخارى بماله وأصحابه، فأكرمه الأمير نوح وأحسن إليه، ثم ذكر له ذنوبه وقتله. ثم كانت بعد ذلك حروب بين عسكر الأمير نوح وأبى علىّ، استمرت إلى جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فراسل بعد ذلك في الصلح؛ وسيّر أبو علىّ ابنه عبد الله رهينة فوصل إلى بخارى، فأمر الأمير نوح باستقباله وأكرمه وأحسن إليه، وخلع عليه قلنسوة وجعله في ندمائه، فزال الخلف، واستمرّ أبو علىّ بالصغانيان إلى سنة أربعين. ذكر عود أبى على الى خراسان وفي سنة أربعين أعيد إلى قيادة الجيوش بخراسان، وذلك بعد وفاة منصور بن قراتكين، فأرسل إليه الأمير نوح الخلع واللواء، وأمره بالمسير إلى نيسابور وأقطعه الرى، فسار عن الصغانيان

ذكر وفاة الأمير الحميد نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك

واستخلف مكانه ابنه أبا منصور، ثم خالف على الأمير نوح في سنة اثنتين وأربعين فعزله، فكتب إلى ركن الدولة بن بويه في المصير إليه، فأذن له في ذلك فسار إليه فأكرمه ركن الدولة، فسأله أن يكتب له عهدا من جهة الخليفة بولاية خراسان، فأرسل ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة في ذلك، فسيّر له عهدا بما طلب وسيّر له نجدة، فسار أبو علىّ إلى خراسان واستولى على نيسابور، وخطب بها- وفيما استولى عليه من خراسان- للمطيع، ولم يخطب له بها قبل ذلك. ذكر وفاة الأمير الحميد نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك كانت وفاته في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر، وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة كريم الأخلاق، ولما مات ملك بعده ولده. ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل ابن أحمد وهو السادس من الملوك السامانية كانت ولاية عبد الملك بما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه الأمير نوح بن نصر، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين. قال «1» : ولما استقرّ حاله في الملك وثبت أمره ابتدأ بارسال بكر ابن مالك من بخارى إلى خراسان، وولاه قيادة جيوشها، وأمره باخراج أبى علىّ بن محتاج منها وندب معه العساكر، فسار إلى

ذكر ولاية منصور بن نوح بن نصر بن أحمد وهو السابع من الملوك السامانية

نيسابور فلمّا قاربها تفرّق عن أبى علىّ أصحابه وعساكره، وبقى معه من أصحابه نحو من مائتى رجل، سوى من كان عنده نجدة من الديلم، فاضطرّ إلى الهرب فسار نحو ركن الدولة، فأنزله معه في الرى واستولى ابن مالك على خراسان، وأقام بنيسابور، وكان بين عساكره وبين بنى بويه حروب، ثم حصل بينهما الصلح والاتفاق، ودامت أيام عبد الملك إلى سنة خمسين وثلاثمائة، فركب في يوم الخميس حادى عشر شوّال منها فسقط الفرس من تحته، فوقع إلى الأرض فمات، وكانت مدة ملكه سبع سنين وستة أشهر تقريبا، ولما مات، ولى بعده أخوه. ذكر ولاية منصور بن نوح بن نصر بن أحمد وهو السابع من الملوك السامانية كانت ولايته بعد وفاة أخيه عبد الملك لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال سنة خمسين وثلاثمائة، وخالف عليه في سنة إحدى وخمسين الفتكين، وهو من أكابر القوّاد، وكان قد طلبه الأمير منصور فامتنع من الحضور، فأرسل إليه جيشا فهزمهم الفتكين، وأسر وجوه القوّاد وأظهر العصيان والمخالفة.

ذكر الصلح بين الأمير منصور وبين بنى بويه

ذكر الصلح بين الأمير منصور وبين بنى بويه وفي سنة إحدى وستين «1» وثلاثمائة تمّ الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولة بنى بويه، على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوج الأمير منصور «2» بابنة عضد الدولة، وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم ير مثله، وكتب بينهم كتاب صلح شهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق، وكان الذى سعى في الصلح وقرّره محمد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جيوش خراسان من جهة الأمير منصور. ذكر وفاة الامير منصور كانت وفاته ببخارى في منتصف شوّال سنة ست وستين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه ست عشرة «3» سنة وأربعة أيام. ولما مات ولى بعده ابنه.

ذكر ولاية المنصور أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو الثامن من الملوك السامانية

ذكر ولاية المنصور أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو الثامن من الملوك السامانية ملك ما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه في منتصف شوّال سنة ست وستين وثلاثمائة ولقب بالمنصور، واستوزر أبا الحسن العتبى فقام في حفظ الدولة المقام المرضى، وعزل محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان لأنّه كان قد استوطنها، وبقى لا يطيع إلا فيما يختار فعزله في سنة سبعين، واستعمل عوضه حسام الدولة أبا العبّاس تاش، ثم قتل الوزير في سنة اثنتين وسبعين، وسبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع عليه جماعة من المماليك فقتلوه، فكتب الأمير المنصور نوح إلى حسام الدولة تاش يستدعيه إلى بخارى لتدبير الدولة، فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة الوزير. وفي سنة اثنتين وسبعين سار محمد بن سيمجور نحو خراسان عند خلوّها من حسام الدولة، وكاتب فايقا وطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان، فوافقه واجتمعا بنيسابور، واتصل الخبر بحسام الدولة فسار عن بخارى إلى مرو في جمع كبير، وتردّدت الرسائل بينهم فاصطلحوا: على أن تكون نيسابور وقيادة الجيوش لأبى العبّاس حسام الدولة تاش، وتكون بلخ لفايق، وهراة لأبى على ابن أبى الحسن بن سيمجور، وتفرّقوا على ذلك وقصد كل منهم عمله.

ولمّا عاد أبو العبّاس إلى نيسابور وترك بخارى استوزر الأمير نوح، عبد الله بن عزير وكان ضدا لأبى الحسين العتبى، فلما ولى الوزارة ابتدأ بعزل حسام الدولة عن خراسان، وأعاد ابن سيمجور إليها. فكتب القوّاد بخراسان يسألونه أن يقرّ حسام الدولة عليها فلم يجبهم فكتب حسام الدولة إلى فخر الدولة بن بويه يستمدّه، فأمدّه بالأموال والعساكر، وكانت بينهم حروب انتصر فيها حسام الدولة، واستولى على خراسان وأقام بنيسابور، وانهزم ابن سيمجور ثم تراجع أصحاب ابن سيمجور إليه، وجاءته الأمداد من بخارى وعاد لقتال حسام الدولة، والتقوا واقتتلوا نهارا كاملا انتصر فيه ابن سيمجور، وانهزم حسام الدولة وأصحابه وأقام بجرجان، ولم يصل إلى خراسان إلى أن مات في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وأقام ابن سيمجور بخراسان إلى أن توفى فجأة وهو يجامع بعض خطاياه. وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة سار بغراخان إيلك ملك الترك بعساكره إلى بخارى، فسيّر إليه الأمير نوح جيشا كثيفا فهزمهم بغراخان، فعادوا إلى بخارى وهو في آثارهم، فخرج نوح بنفسه وسائر عساكره ولقيه، فاقتتلوا قتالا شديدا كانت الهزيمة على بغراخان، فعاد إلى بلاساغون وهى كرسى ملكه.

ذكر ملك الترك بخارى وشىء من أخبارهم وخروج الأمير نوح منها وعوده اليها

ذكر ملك الترك بخارى وشىء من أخبارهم وخروج الأمير نوح منها وعوده اليها وفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ملك شهاب الدولة هارون بن سليمان إيلك المعروف ببغراخان التركى مدينة بخارى، وكان له كاشغر وبلاساغون وختن وطراز وغير ذلك إلى حدود الصين، وله عساكر جمّة وهم مسلمون، وكان سبب إسلامهم أن جدّهم الأول شبق قراخاقان رأى في منامه كأنّ رجلا نزل من السماء، فقال له بالتركية ما معناه: اسم تسلم في الدنيا والآخرة، فأسلم في منامه، وأصبح فأظهر إسلامه، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن شبق، ثم انتهى ملك هذه الطائفة من الترك إلى بغراخان، وكنّا قصدنا أن نفرد هذه الدولة الخانيّة بترجمة، ونذكر من ملك منهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك، فلم نظفر يمؤرخ ذكر أخبارهم سياقة ولا متفرّقة، إذا جمعت انتظمت على سياقة، فلذلك دمجنا أخبارهم في أثناء الدول بحسب وقائعهم مع الملوك، وما أظن أخبارهم اتّسقت لمؤرخ لأن أخبار الملوك والدول إنما يعتنى بجمعها كتّاب الإنشاء والفضلاء من الناس، وهؤلاء كانوا أتراكا لا كتّاب لهم ولا اعتناء بشىء من ذلك، فلذلك انقطعت أخبارهم. ولنرجع إلى سبب ملك بغراخان بخارى. كان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور عامل خراسان- لمّا مات- ولى ابنه أبو على بعده وكاتب الأمير الرضى نوحا أن يقرّه على ما كان بيد أبيه، فأجيب

إلى ذلك، وحملت إليه الخلع وهو لا يشك أنّها له، فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها وبها فايق، فأوصل إليه العهد بولاية خراسان والخلع إليه، فعلم أبو على أنهم مكروا به، وأن هذا دليل سوء يريدونه به، فلبس فايق الخلع وسار عن هراة نحو أبى علىّ، فبلغه الخبر فسار جريدة في نخبة أصحابه، وطوى المنازل حتى سبق خبره، وأوقع بفايق بين هراة وبوشنج، فانهزم فايق وأصحابه إلى مرو الروذ، وكتب أبو على إلى الأمير نوح يجدّد طلب ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفايق، وعاد أبو على إلى نيسابور ظافرا وجبى أموال خراسان، فكتب إليه نوح يستتر له عن بعضها ليصرفه في أرزاق الجند، فاعتذر إليه ولم يفعل وخاف عاقبة المنع فكتب إلى بغراخان يدعوه إلى قصد بخارى، واستقرّ الأمر بينهما على أن يكون لبغراخان ما وراء النهر جميعه، ولأبى علىّ خراسان، فطمع بغراخان في البلاد وتجدّدت حركته إليها. وأما فايق فإنّه أقام بمرو الروذ حتى اجتمع إليه أصحابه، وسار نحو بخارى من غير إذن، فارتاب الأمير نوح به وسيّر الجيوش وأمرهم يمنعه، فقاتلوه وهزموه فعاد وقصد ترمذ، وكاتب بغراخان أيضا يطمعه في البلاد، فسار نحو بخارى واستولى على بلاد السامانيّة شيئا بعد شىء، فسيّر إليه نوح جيشا واستعمل عليهم قائدا كبيرا من قوّاده اسمه انج، فهزمهم بغراخان وأسرانج وجماعة من القوّاد، فلما ظفر بهم قوى طمعه في البلاد، وضعف نوح وأصحابه وكاتب أبا علىّ بن سيمجور يستنصره، ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر فلم يجبه إلى ذلك ولا لبّى دعوته، وطمع في الاستيلاء على خراسان، وسار

ذكر عود نوح إلى بخارى ووفاة بغراخان وقيام ايليك الخان

بغراخان نحو بخارى «1» فلقيه فايق واختص به وصار في جملة أصحابه، ونازلوا بخارى فاختفى الأمير نوح وملكها بغراخان ونزلها، وخرج نوح منها مستخفيا فعبر النهر إلى آمل الشط، وأقام بها ولحق به أصحابه، وتابع نوح كتبه ورسله إلى أبى علىّ يستنجده ويخضع له، فلم يصغ إلى ذلك؛ وأما فايق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها فأمره بذلك، فسار نحوها واستولى عليها. ذكر عود نوح الى بخارى ووفاة بغراخان وقيام ايليك الخان قال «2» : ولما نزل بغراخان ببخارى استوخمها فمرض واشتدّ مرضه، فانتقل نحو بلاد الترك، ولمّا فارق بخارى ثار أهلها بساقة عسكره، فقتلوا منهم وغنموا أموالهم، ووافقهم الأتراك الغزيّة على الفتك والنهب لعسكر بغراخان، وبادر الأمير نوح بالعود إلى بخارى فيمن معه من أصحابه، فدخلها وعاد إلى دار ملكه وتباشر أهلها به، ومات بغراخان وعاد أصحابه إلى بلادهم، وكان بغراخان ديّنا خيرا عادلا حسن السيرة محبا للعلماء وأهل الدين مكرما لهم، وكان يحب أن يكتب عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى بعده أمر الترك ايليك الخان شمس الدولة أبو نصر أحمد بن على.

ذكر ما كان من أخبار أبى على بن سيمجور وفايق واستعمال محمود بن سبكتكين على خراسان

ذكر ما كان من أخبار أبى على بن سيمجور وفايق واستعمال محمود بن سبكتكين على خراسان قال: ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى «1» أسقط في يد أبى علىّ ابن سيمجور، وندم على ما فرط منه من ترك إعانته عند الحاجة إليه؛ وأما فايق فإنه لمّا استقرّ الأمير نوح ببخارى حدّث نفسه بالمسير إليه والحكم في دولته، فسار عن بلخ إلى بخارى فسيّر الأمير نوح الجيوش لردّه، فالتقوا واقتتلوا فانهزم فايق وأصحابه، ولحق بأبى علىّ بن سيمجور ففرح به وقوى جنانه، واتّفقا على مكاشفة الأمير نوح وإظهار العصيان، فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين وهو يومئذ بغزنة، يعرّفه الحال ويأمره بالمصير إليه لينجده وولاه خراسان وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولا بالغزو غير ملتفت إلى ما هم فيه، فلما أتاه الكتاب سار نحو جريدة، واجتمع به وقرّرا ما يفعلانه واتّفقا عليه، وعاد سبكتكين فجمع عسكره وحشد وسار عن غزنة، ومعه ولده محمود نحو خراسان، وسار نوح من بخارى واجتمعا وقصدا أبا علىّ وفايقا، وقد جمعا عساكرهما أيضا واستنصرا بفخر الدولة بن بويه، فسيّر إليهما عسكرا كثيرا، والتقوا بنواحى هراة واقتتلوا، فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبى علىّ إلى عسكر نوح ومعه أصحابه، فانهزم أصحاب أبى علىّ وركبهم أصحاب سبكتكين يقتلون ويأسرون ويغنمون، وعاد أبو على وفايق إلى خراسان

وأقام الأمير نوح وسبكتكين بظاهر هراة، حتى أراحوا واستراحوا وساروا نحو نيسابور، فسار أبو على وفايق نحو جرجان، واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقّبه سيف الدولة ولقّب أباه ناصر الدولة، وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وذلك في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وفي سنة خمس وثمانين في شهر ربيع الأول سار أبو علىّ وفايق عن جرجان إلى نيسابور، فكتب محمود إلى أبيه بذلك وبرز إلى ظاهر نيسابور، وأقام ينتظر المدد فأعجلاه فصبر لهما، فقاتلاه وهو في قلّة من الرجال فانهزم عنهما نحو أبيه، وغنما منه شيئا كثيرا ورجع أبو علىّ إلى نيسابور، وكتب إلى الأمير نوح يستميله ويستقيل من عثرته، وكاتب سبكتكين بمثل ذلك وأحال فيما جرى على فايق، فلم يجيباه إلى ما أراد، وجمع سبكتكين العساكر وسار نحو أبى علىّ فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة واقتتلوا عامّة يومهم، وأتاهم محمود ابن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم، فانهزموا وقتل منهم خلق كثير، ونجا أبو على وفايق إلى آمل الشط، فراسلا الأمير نوح يستعطفانه، فأجاب أبا علىّ إلى ما طلب وقبل عذره، إن فارق فايقا ونزل بالجرجانية، ففعل ذلك فحذّره فايق وخوّفه مكرهم ومكيدتهم فلم يرجع إلى قوله، وفارقه وسار إلى الجرجانيّة ونزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار اسب «1» ، فأرسل إليه أبو عبد الله خوارزم

ذكر وفاة الامير نوح بن منصور

شاه من أقام له ضيافة، ووعده أنّه يقصده ليجتمع به فسكن إلى ذلك فلما كان الليل أرسل إليه خوارزم شاه جمعا من عسكره، فأحاطوا به وأخذوه أسيرا في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فاعتقله في بعض دوره، وطلب أصحابه فأسر أعيانهم وتفرّق الباقون. وأما فايق فإنه سار إلى ايليك الخان فأكرمه وعظّمه ووعده أن يعيده إلى قاعدته، وكتب إلى نوح يشفع فيه ويطلب منه أن يوليه سمرقند، فأجابه إلى ذلك وأقام بها؛ وأما ما كان من أبى علىّ بن سيمجور فإنه لمّا أسره خوارزم شاه بلغ خبره إلى مأمون بن محمد والى الجرجانية، فقلق لذلك وعبر إلى كاث وهى مدينة خوارزم شاه فحصرها وفتحها عنوة، وأحضر أبا علىّ وفكّ قيده وعاد به إلى الجرجانية، واستخلف مأمون بعض أصحابه على بلد خوارزم شاه، وصارت من جملة ما بيده، وقتل خوارزم شاه بين يدي أبى علىّ بن سيمجور، وكتب مأمون إلى الأمير نوح وهو يشفع في أبى علىّ ويسأل الصفح عنه، فأجابه إلى ذلك وأمر أبو على بالمسير إلى بخارى، فسار إليها فيمن بقى معه من أهله وأصحابه، فلمّا بلغها لقيه الأمراء والعساكر ودخل على الأمير نوح فأمر بالقبض عليه وعلى من معه، واعتقله فمات في حبسه في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ذكر وفاة الامير نوح بن منصور كانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فكان مدة ملكه عشرين سنة وثمانية أشهر، فاختلّ بموته ملك آل ساسان وضعف أمرهم ضعفا ظاهرا، وطمع فيهم أصحاب الأطراف، وزال ملكهم

ذكر ولاية أبى الحارث منصور بن نوح بن منصور بن نوح ابن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو التاسع من الملوك السامانية

بعد ذلك بمدّة يسيرة على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فكأنّه المعنى بقول القائل: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما ذكر ولاية أبى الحارث منصور بن نوح بن منصور بن نوح ابن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو التاسع من الملوك السامانية ملك ما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه في شهر رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وبايعه الأمراء والقوّاد وسائر الناس، وفرّق فيهم بقايا الأموال فاتّفقوا على طاعته، وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون، ولما بلغ خبر وفاة أبيه إلى ايليك الخان سار إلى سمرقند وانضم إليه فايق [و] «1» الخاصة فسيّره جريدة إلى بخارى، فلما سمع الأمير منصور بمسيره تحيّر في أمره وأعجله عن أن يتجهّز، فسار عن بخارى وقطع النهر، ودخل فايق بخارى وأظهر أنّه قصد القيام بخدمة الأمير منصور، رعاية لحق أسلافه عليه إذ هو مولاهم، وأرسل إليه مشايخ بخارى في العودة إلى بلده وملكه، وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق، فعاد إليها ودخلها وولى فايق أمره، وحكمه في دولته، وولى بكتوزون أمر الجيش بخراسان، وكان محمود ابن سبكتكين حينئذ مشغولا بمحاربة أخيه إسماعيل، فسار بكتوزون إلى خراسان ووليها واستقرت قواعده بها.

ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح وسمله

ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح وسمله وفي سنة تسع وثمانين وثلاثمائة اجتمع بكتوزون وفايق وتشاكير؟؟؟ ما هما فيه من قلة إنصاف الأمير لهما، فقبضا عليه وأمر بكتوزون من سمل عينيه، فكانت مدة ولايته سنة واحدة وسبعة أشهر. ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن منصور قال: ولما قبضا على الأمير منصور وسملاه أقاما أخاه عبد الملك في الملك مقامه وهو صبى صغير، فأرسل محمود بن سبكتكين إلى فايق وبكتوزون بلومهما ويقبّح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الملك والاستقلال به، وسار لقتالهم فسارا نحوه ومعهما عبد الملك، والتقوا واقتتلوا أشدّ قتال فانهزم السامانيّة، ولحق عبد الملك وفايق ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور فاتبعته جيوش محمود حتى لحق بجرجان، وسار محمود إلى هراة فعاد بكتوزون إلى نيسابور وملكها، فقصده محمود فهرب إلى بخارى بعد أن نهب مرو، واستقرّ ملك محمود بن سبكتكين بخراسان وخرجت عن ملك آل سامان. ذكر انقراض الدولة السامانية كان انقراضها في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة على يد محمود بن سبكتكين بخراسان وإيليك الخان بما وراء النهر. فأما محمود فإنه ملك خراسان كما ذكرناه، وأما ايليك الخان وهو شمس الدولة

أبو نصر أحمد بن على فإن عبد الملك- لما انهزم من محمود- بقى بيده ما وراء النهر، فقصد بخارى واجتمع بها هو وفايق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفقت وفاة فايق في شعبان من السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم ووهت قوّتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصيا من موالى الأمير نوح ابن نصر. قال: ولمّا اتصل الخبر بايليك الخان سار في جميع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودّة والموالاة والحميّة له، فظنّوا صدقه فلم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقوّاد، فلمّا حضروا عنده قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى في يوم الثلاثاء عاشر ذى القعدة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلّة من معه فاختفى، ونزل ايليك الخان في دار الإمارة وبثّ العيون على عبد الملك، وشدّد في طلبه فظفر به فأودعه بايكند «1» فمات بها، وهو آخر الملوك السامانيّة، وانقرضت دولتهم على يده وحبس معه أخاه أبا الحارث منصور بن نوح، الذى كان في الملك قبله، وأخويه أبا إبراهيم إسماعيل وأبا يعقوب، وأعمامه أبا زكريا وأبا سليمان وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة، وكانت دولتهم قد انتشرت من حدود حلوان إلى بلاد الترك بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلا، وعدّة من ملك منهم عشرة ملوك وهم: نصر بن أحمد بن أسد بن سامان، ثم أخوه إسماعيل بن أحمد،

ذكر ظهور اسماعيل بن نوح وما اتفق له بخراسان

ثم ابنه أحمد بن إسماعيل، ثم ابنه نصر بن أحمد، ثم ابنه نوح بن نصر، ثم ابنه عبد الملك بن نوح، ثم أخوه منصور بن نوح، ثم ابنه نوح بن منصور، ثم ابنه منصور بن نوح، ثم أخوه عبد الملك بن نوح. ومدّة ملكهم منذ ولى نصر بن أحمد بن أسد وإلى أن قبض على عبد الملك مائة سنة وتسع وعشرون سنة تقريبا، ولم يقم لهم بعد ذلك دولة، وإنما ظهر إسماعيل بن نوح ولم يستقم له أمر ولا قامت له دولة، فلذلك لم نجعله في جملة ملوكهم، لأنّه كان كالخارجى، ونحن الآن نذكر ظهوره وما كان من أمره. ذكر ظهور اسماعيل بن نوح وما اتفق له بخراسان وفي سنة تسعين وثلاثمائة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان السبب في ظهوره أنّه كان له جارية تأتيه لخدمته ثم تنصرف، فجاءته في بعض الأيام على عادتها فلبس ما كان عليها، وخرج فظنّه الموكّلون به الجارية، ولما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، إلى أن سكن الطلب عنه، فسار من بخارى إلى خوارزم وتلقب المستنصر «1» ، واجتمع إليه بقايا القوّاد السامانية والجند فكثرت جموعه، فبعث قائدا من قوّاده إلى بخارى، فقاتل من بها من أصحاب إبليك الخان وهزمهم وتبعهم إلى حدود سمرقند، فاجتمع المنهزمون وعسكر سمرقند وقاتلوه فهزمهم أيضا عسكر المستنصر، وغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم وعادوا إلى بخارى،

فاستبشر أهلها بعود السامانية، فجمع إيليك الخان الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانيّة وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم فساروا هم والمستنصر نحو أبيورد، فملكوها وجبوا أموالها، وساروا نحو نيسابور وبها منصور بن سبكتكين نائبا عن أخيه محمود، فاقتتلوا فانهزم ابن سبكتكين وملك المستنصر نيسابور وكثر جمعه، فاتصل الخبر بيمين الدولة محمود فجدّ في السير إليها فسار المستنصر عنها إلى اسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار إلى شمس المعالى قابوس بن وشمكير ملتجئا إليه، فأكرمه وحمل إليه كثيرا وأشار عليه بقصد الرى، إذ كانت ليس لها من يذبّ عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده أن بنجده بعسكر مع أولاده، فسار نحو الرى ونازلها فضعف من بها عن مقاوته، إلا أنهم حفظوا البلد، وبذلوا الأموال لأصحابه ليردّوه عنها، فردّوه وحسّنوا له العود إلى خراسان فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس، ووصل المستنصر إلى نيسابور في شوّال سنة إحدى وتسعين فجبى أموالها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشا فانهزم وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان فردّه شمس المعالى عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها، فسار إليه نصر بن سبكتكين من نيسابور، والتقوا واقتتلوا فانهزم السامانى، وأسر جماعة من أعيان عسكره وحملوا إلى غزنة، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، ثم سار السامانى تائها حتى وافى الأتراك الغزيّة، ولهم ميل إلى آل سامان فاجتمعوا معه، وسار إيليك الخان وذلك في شوّال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم بنواحى سمرقند فهزموه، واستولوا على أمواله

وسواده وأسروا جماعة من قوّاده وعادوا، وأجمع أصحاب المستنصر على إطلاق الأسرى تقرّبا إلى إيليك الخان، فشعر بذلك فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم فعبر النهر إلى آمل الشط فلم يقبله مكان، فعاد وعبر النهر إلى بخارى واقتتل هو وواليها الذى هو من قبل إيليك الخان، فانهزم المستنصر إلى دبوسيّه وجمع بها جمعا، ثم عاودهم وهزمهم فاجتمع عليه جماعة من فتيان سمرقند وصاروا في جملة أصحابه، فجمع إيليك الخان الأتراك وسار إليه والتقوا بنواحى سمرقند، فانهزم إيليك الخان وذلك في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، ثم عاد إيليك الخان إلى بلاد الترك فجمع وحشد وعاد إلى المستنصر، فوافق عوده تراجع الغزيّة الذين كانوا مع السامانى إلى أوطانهم، فاقتتلوا بنواحى اشروسنة فانهزم السامانى وأكثر أصحاب إيليك الخان القتل في أصحابه، وعبر النهر إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يريد مرو فسيّر إليه يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، فأتى بسطام فأزعجه قابوس عنها فضاقت به المذاهب، فعبر ما وراء النهر وقد ضجر أصحابه منه وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب إيليك الخان وأعلموهم بمكانه، فلم يشعر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة وانهزم ونزل بحلّة للعرب، وكانوا في طاعة يمين الدولة محمود بن سبكتكين، فأمهلوه حتى أظلم الليل ووثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمة أمره وآخر ما اتّفق لآل سامان، ولم يقم منهم بعده أحد، والله أعلم.

ذكر أخبار الدولة الصفارية وابتداء أمرها

ذكر أخبار الدولة الصفارية وابتداء أمرها أوّل من قام منهم يعقوب بن الليث الصفّار، وكان يعقوب هذا وأخوه عمرو يعملان الصّفر بسجستان ويظهران الزهد والتقشف، وكان في أيّامهما رجل من أهل سجستان اسمه صالح بن النضر الكنانى قد تغلّب على سجستان في سنة سبع وثلاثين ومائتين في خلافة المتوكّل على الله، فصحبه يعقوب وقاتل معه وجعله صالح مقام الخليفة عنه، فاستنقذ طاهر بن عبد الله بن طاهر- أمير خراسان- سجستان من يده، ثم هلك صالح بعد ذلك فقام مقامه بأمر المتطوّعة رجل اسمه درهم بن الحسن «1» ، فغلب على سجستان وكان غير ضابط لعسكره وكان يعقوب هو قائد العسكر، فلمّا رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملّكوه أمرهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم، فلمّا تبيّن ذلك لدرهم لم ينازعه في الأمر، وسلّمه إليه واعتزل عنه فاستبدّ يعقوب بالأمر؛ وقيل بل احتال صاحب خراسان على درهم حتى قبض عليه، وحمله إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق وخدم الخليفة ببغداد، واستقلّ يعقوب بعده بالأمر وعظم شأنه وتولّى أمر المتطوّعة، وقام بمحاربة الشراة فظفر بهم وأكثر القتل فيهم حتى كاد يفنيهم، وخرّب قراهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوا أحدا قبله، فاشتدت شوكته فغلب على سجستان

ذكر ملك يعقوب هراة وبوشنج

وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتبه وصدر عن أمره وأظهر أنّه أمره بقتال الشراة، وملك يعقوب سجستان وضبط الطريق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر اتباعه. ذكر ملك يعقوب هراة وبوشنج قال «1» : ولما كثرا أتباعه خرج عن حدّ طلب الشراة، فصار يتناول أصحاب أمير خراسان، وسار من سجستان إلى هراة من أعمال خراسان في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وأمير خراسان يومذاك محمد بن طاهر بن عبد الله، وعامله على هراة محمد بن أوس الأنبارى فخرج منها لمحاربته، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج وصارت المدينتان في يده، فعظم أمره وهابه أمير خراسان وغيره من أصحاب الأطراف، وذلك في خلافة المعتز بالله. ذكر استيلائه على كرمان وفي سنة خمس وخمسين ومائتين استولى يعقوب بن الليث على كرمان، وسبب ذلك أن علىّ بن الحسين بن سبل كان على فارس، فتباطأ بحمل الخراج منها وكتب إلى المعتز بالله يطلب منه كرمان، ويذكر عجز الطاهريّة عنها، فكتب إليه بولايتها وكتب إلى يعقوب أيضا بولايتها، وقصد بذلك إغراء كل واحد منهما بالآخر فتسقط.

عنه مؤونة الهالك منهما وينفرد بالآخر، وكان كل منهما يظهر الطاعة للخليفة وهو في باطن أمره على معصيته، والمعتز يعلم بذلك منهما، فأرسل علىّ بن الحسين، طوق بن المغلّس إلى كرمان، وسار يعقوب إليها فسبقه طوق واستولى عليها، وأقبل يعقوب حتى بقى بينه وبين عسكر كرمان مرحلة، فأقام بها شهرين لا يتقدّم إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلمّا طال ذلك عليه أظهر الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظنّ أنّه قد بدا له في حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكرّ راجعا وطوى المرحلتين في مرحلة «1» واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشى، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا، وكان علىّ بن الحسين قد سيّر مع طوق قيودا في صناديق، ليقيّد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أطوقة وأساور يعطيها لأصحاب البلاء من أصحابه، فلمّا غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى» يعقوب الأطوقة والأساور لأصحابه، وقيّد بالقيود والأغلال أصحاب علىّ، ولما أخرج يد طوق ليجعل الغلّ فيها رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتنى حرارة ففصدتها، فأمر

ذكر ملكه فارس

يعقوب بنزع خف نفسه فتساقط منه كسر يابسة، فقال: يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلى منذ شهرين، وخبزى فيه منه آكل، وأنت جالس في الشرب، ثم دخل كرمان وملكها مع سجستان. ذكر ملكه فارس قال: ولما بلغ على بن الحسين صاحب فارس ما فعله يعقوب بطوق أيقن بمجيئه إليه وكان بشيراز، فجمع جيشه وصار إلى مضيق خارج شيراز، من أحد جانبيه جبل لا يسلك، ومن الآخر نهر لا يخاض على رأس المضيق، وهو مضيق لا يسلكه إلا واحد بعد واحد وقال: إن يعقوب لا يقدر على الجواز إلينا، وأقبل يعقوب حتى دنا من ذلك المضيق ونزل على ميل منه، وسار وحده ومعه رجل آخر فنظر إلى المضيق والعسكر فسبّه أصحاب علىّ وهو ساكت، ثم رجع إلى أصحابه، فلما كان الغد سار حتى صار إلى طريق المضيق مما يلى كرمان، وأمر أصحابه بالنزول وحطّ الأثقال ففعلوا وركبوا دوابّهم وأخذ يعقوب كلبا كان قد ألفه فألقاه في الماء، فجعل يسبح إلى جانب أصحاب علىّ، وكان علىّ وأصحابه قد ركبوا لينظروا إلى فعله ويضحكون منه، فألقى يعقوب نفسه وأصحابه في الماء على خيولهم وبأيديهم الرماح، وجعلوا يسيرون خلف الكلب، فلما رأى علىّ يعقوب وقد قطع عامّة النهر تحيّر في أمره، وانتقض عليه ما كان قد دبّره، وخرج أصحاب يعقوب فلما صار أوائلهم في البرّ هرب

أصحاب علىّ إلى مدينة شيراز، فسقط «1» علىّ بن الحسين عن فرسه فأخذ أسيرا، وأتى به إلى يعقوب فقيّده واحتوى على ما كان في عسكره، ثم رحل من موضعه ودخل شيراز ليلا فلم يتحرّك أحد، فلمّا أصبح انتهب أصحابه دار علىّ ودور أصحابة، وأخذ ما في بيوت الأموال وجبى الخراج، ورجع إلى سجستان. وقيل إنه كان بينه وبين علىّ حرب بعد عبور النهر، وذلك أن عليا كان قد جمع عنده جمعا كثيرا من الموالى والأكراد وغيرهم، بلغت عدّتهم خمسة عشر ألفا من فارس وراجل، وعبأ أصحابه وأقبل يعقوب وعبر النهر فلما صاروا في أرض واحدة حمل يعقوب وعسكره حملة رجل واحد، وتابع الحملات حملة بعد أخرى فانهزم أصحاب علىّ، وتبعهم وهو يصيح بهم فلا يرجعون، وقتل الرجّالة قتلا ذريعا، وأقبل المنهزمون إلى باب شيراز وقت العصر، فازدحموا إلى الأبواب وتفرّقوا في نواحى فارس، وبلغ بعضهم إلى الأهواز فأمر يعقوب بالكف عنهم، وكانت القتلى منهم خمسة آلاف؛ قيل وأصاب على بن الحسين ثلاث جراحات ثم أخذ أسيرا. ودخل يعقوب مدينة شيراز وطاف بها، ونادى بالأمان فاطمأن الناس، وعذّب على بن الحسين بأنواع العذاب، وأخذ من أمواله ألف بدرة وقيل أربعمائة، وأخذ من السلاح والأقمشة وغير ذلك مالا يحدّ، وكتب إلى الخليفة المعتز بالله بطاعته، وأهدى له هدية جليلة: منها عشرة بزاة بيض وباز أبلق صينى ومائة منّ من المسك وغير ذلك

ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها

من الطرائف، وعاد إلى سجستان ومعه علىّ وطوق، فلما فارق بلاد فارس أرسل الخليفة عماله إليها. ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها وفي سنة سبع وخمسين ومائتين سار يعقوب إلى بلاد فارس، فأرسل إليه المعتمد على الله ينكر ذلك، وكتب إليه الموفق أخو المعتمد بولاية بلخ وطخارستان وسجستان والسّند فقبل ذلك، وعاد وسار إلى بلخ وطخارستان، فلما وصل نزل بظاهرها وخرّب نوشاد؛ وهى أبنية كان قد بناها داود بن العبّاس خارج بلخ، ثم سار إلى كابل واستولى عليها وقبض على رتبيل «1» ، وأرسل رسولا إلى الخليفة بهديّة جليلة المقدار، وفيها أصنام أخذها من كابل وتلك البلاد، وسار إلى بست فأقام بها سنة، وسبب إقامته أنّه أراد الرحيل فرأى قوّاده قد حمل بعض أثقاله، فغضب وقال: ترحلون قبلى!! ثم أقام سنة، وسار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن طاهر بن الحسين، فأنفذ إليه محمد بن طاهر بن عبد الله يسأله في إطلاقه فلم يجب سؤله. ذكر ملكه نيسابور وفي شوال سنة تسع وخمسين ومائتين دخل يعقوب نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السّجزى كان ينازع يعقوب سجستان فلما قوى أمر يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر، وطلبه يعقوب

منه فلم يفعل، فسار نحوه إلى نيسابور فلما قرب منها وأراد دخولها وجّه إليه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقّيه، فلم يأذن له فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه، ودخل نيسابور وأرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد بن طاهر في عمله، وأن أهل خراسان سألوه المصير إليهم، ويذكر غلبة العلويين على طبرستان وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه ذلك وأمره بالاقتصار على ما أسند إليه، وألا يسلك معه مسلك المخالفين. وقيل بل كان سبب ذلك أنّه كتب إلى محمد يعلمه أنّه على قصد طبرستان، ليمضى ما أمره به الخليفة في الحسن بن زيد العلوى المتغلّب عليها، وأنّه لا يتعرض إلى شىء من عمله ولا إلى شىء من أسبابه، وكان بعض خاصّة محمد وأهله لمّا رأوا إدبار أمره مالوا إلى يعقوب، وكاتبوه واستدعوه وهوّنوا على محمد أمر يعقوب، وأعلموه أنّه لا خوف عليه منه وثبّطوه عن التحرّز منه، فركن محمد إلى قولهم حتى قرب يعقوب من نيسابور، فوجّه إليه قائدا من قوّاده بطيّب قلبه، وأمره بمنعه عن الانتزاح من نيسابور إن أراد ذلك، ثم وصل يعقوب إلى نيسابور في رابع شوّال، وأرسل أخاه عمرو بن الليث إلى محمد بن طاهر فأحضره عنده، فقبض عليه وقيّده وعنّفه على إهماله أمر عمله وعجزه عن حفظه، ثم قبض على جميع أهله، وكانوا نحوا من مائة وستين رجلا، وحملهم إلى سجستان واستولى على خراسان، ورتّب نوّابه في الأعمال، وكانت ولاية محمد بن طاهر خراسان إحدى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام.

ذكر دخوله طبرستان

ذكر دخوله طبرستان وفي سنة ستين ومائتين سار يعقوب إلى طبرستان وملكها، وسبب ذلك أنّه لمّا دخل نيسابور هرب منه عبد الله السّجزى إلى الحسن بن زيد بسارية، فأرسل يعقوب إلى الحسن يسأله أن يبعثه إليه ويرجع عنه، فإنّه إنما جاء لذلك لا لحربه فلم يسلّمه الحسن، فحاربه يعقوب فانهزم الحسن ودخل بلاد الديلم ودخل يعقوب سارية وآمل، وجبى من أهلها خراج سنة، ثم سار في طلب الحسن بن زيد فصار إلى بعض جبال طبرستان، فتتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص إلا بمشقّة شديدة، وهلك عامّة ما معه من الظهر، ثم أراد الدخول خلف الحسن فوقف على الطريق الذى يريد يسلكه، وأمر أصحابه بالتوقّف عن المسير، ثم تقدّم وحده فتأمّل الطريق ورجع إليهم، فأمرهم بالانصراف وقال: إن لم يكن طريق غير هذا فلا طريق إليه، وكان نساء تلك الناحية قلن للرجال: دعوه يدخل فإنه إن دخل كفيناكم أمره وعلينا أسره لكم، فلمّا خرج من طبرستان عرض رجاله ففقد منهم أربعين ألفا، وذهب أكثر ما معه من الخيل والإبل والأثقال. وكتب إلى الخليفة بما فعله من هزيمة الحسن، وسار إلى الرى في طلب عبد الله السجزى، فإنه كان قد سار إليها بعد هزيمة الحسن فلما قاربها يعقوب كتب إلى واليها الصلابى «1» ، يخيّره بين تسليم

ذكر عود يعقوب إلى بلاد فارس والحرب بينه وبين محمد بن واصل

عبد الله إليه ويرحل عنه وبين المحاربة، فسلّمه إليه فانصرف يعقوب عنه وقتل عبد الله السجزى. ذكر عود يعقوب الى بلاد فارس والحرب بينه وبين محمد بن واصل كان سبب ذلك أن محمد بن واصل كان قد تغلّب على فارس وقتل الحارث بن سيما، فأضاف المعتمد على الله فارس والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة إلى موسى بن بغا مع ما كان إليه، فوجّه موسى، عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إيّاها مع فارس وأضاف إليه طاشتمر، فقاتله محمد بن واصل برام هرمز، فانهزم عبد الرحمن وأخذ أسيرا وقتل طاشتمر، وغنم ما كان في عسكرهما، فأرسل الخليفة إلى محمد بن واصل في إطلاق عبد الرحمن، فلم يفعل وقتله وأظهر أنّه مات، وسار ابن واصل من هذه الوقعة- وقد أظهر أنّه يريد واسط- لحرب موسى بن بغا، فلما رأى موسى شدّة الأمر استعفى من ولاية فارس؛ فلما بلغ ذلك يعقوب- وكان بسجستان، تجدّد طمعه في ملك بلاد فارس، وأخذ ما غنمه ابن واصل من الخزائن والسلاح من عبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر، فسار يعقوب حتى نزل البيضا من أرض فارس، فبلغ ابن واصل خبره وهو بالأهواز، فعاد منها لا يلوى على شىء، وأرسل خاله أبا بلال مرداسا إلى يعقوب فوصل إليه وضمن له طاعة محمد بن واصل، فأرسل يعقوب إلى محمد كتبا ورسلا في المعنى فحبسهم ابن واصل، وسار يطلب يعقوب

ذكر الحرب بين الموفق ويعقوب

والرسل معه، وهو يريد بذلك أن يخفى خبر مسيره، وأن يصل بغتة فينال منه غرضه ويوقع به، فسار في يوم شديد الحرّ في أرض صعبة المسلك، وهو يظن أن خبره قد خفى عن يعقوب، فلما كان وقت الظهر تعبت دوابّهم، فمات من أصحاب ابن واصل أكثر الرجّالة جوعا وعطشا وتعبا، وبلغ خبرهم يعقوب فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر، وقال لأبى بلال: إنّ ابن واصل قد غدر بنا وحسبنا الله ونعم الوكيل، وسار يعقوب إليه فلما قاربه ضعفت نفوس أصحاب ابن واصل عن مقاومته، فلما صار بينهما رميه سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال، وتبعهم أصحاب يعقوب وأخذوا منهم جميع ما غنموه من عسكر عبد الرحمن، واستولى يعقوب على بلاد فارس ورتّب بها أصحابه وأصلح أحوالها، ومضى ابن واصل منهزما وأخذ أمواله من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهم، وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل، وحدّث نفسه أنّه يستولى على الأهواز وغيرها. ذكر الحرب بين الموفق ويعقوب وفي سنة اثنتين وستين ومائتين في المحرم سار يعقوب من فارس إلى الأهواز، فلما بلغ المعتمد على الله إقباله أرسل إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وأطلق من كان في حبسه من أصحاب يعقوب، وكان قد حبسهم لما أخذ يعقوب، محمد بن طاهر، وجاءت رسالة يعقوب إلى الخليفة فجلس أبو أحمد الموفّق وأحضر التجّار، وأخبرهم بتولية يعقوب طبرستان وخراسان وجرجان والرى وفارس والشرطة

ببغداد، وذلك بمحضر من درهم حاجب يعقوب؛ وكان قد أرسله يطلب هذه الولاية، فأعاده الموفّق إلى يعقوب ومعه عمر بن سيما بما أضاف إليه من الولايات، فعادت رسل يعقوب تقول: إنه لا يرضيه ذلك دون أن يصير إلى باب المعتمد، وارتحل يعقوب وسار إليه أبو الساج وصار معه، فأكرمه. وأحسن إليه ووصله، وسار يعقوب إلى واسط فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين، وارتحل المعتمد على الله من بغداد إلى الزعفرانيّة وقدّم أخاه الموفّق أمامه، وسار يعقوب من واسط إلى دير العاقول بالعساكر لمحاربته، فجعل الموفّق على ميمنته موسى بن بغا وعلى ميسرته مسرورا البلخى وقام هو في القلب، والتقوا واقتتلوا فحملت ميسرة يعقوب على ميمنة الموفّق فهزمتها، وقتل جماعة من القوّاد ثم تراجع المنهزمون، وكشف الموفّق رأسه وقال. أنا الغلام الهاشمى، وحمل وحمل معه سائر العسكر فثبت عسكر يعقوب، وتحاربوا حربا شديدا فقتل من أصحاب يعقوب جماعة، منهم حسن الدرهمىّ وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم، ولم تزل الحرب قائمة إلى وقت العصر فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت هو في خاصّة أصحابه ثم مضوا وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفّق وغنموا ما في عسكره، وكان فيه الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف، ومن الأموال ما لا يحصى كثرة، ومن جرب المسك عدّة كثيرة، وخلص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، فخلع عليه الموفّق وولاة الشرطة ببغداد، وسار يعقوب من موضع الهزيمة إلى خوزستان ونزل جنديسابور، فراسله.

ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها

العلوى فقال لكاتبه اكتب إليه: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» ..) إلى آخرها وسيّر الكتاب إليه، وكانت هذه الوقعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب، وكتب المعتمد إلى محمد بن واصل بولاية فارس فعاد إليها «2» . ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها وفي سنة ثلاث وستين ومائتين أقبل يعقوب من فارس، فلمّا بلغ النّوبندجان انصرف أحمد بن الليث عن تستر، فبلغ يعقوب جنديسابور ونزلها، فارتحل عن تلك الناحية من كان بها من عسكر الخليفة، ووجّه يعقوب إلى الأهواز رجلا من أصحابه يقال له الخضر ابن العنبر، فلمّا قاربها خرج عنها على بن أبان ومن معه من الزنج ونزل نهر السّدرة، ودخل الخضر الأهواز وجعل أصحابه وأصحاب على بن أبان يغير بعضهم على بعض وينال بعضهم من بعض، إلى أن استعدّ على بن أبان وسار إلى الأهواز، فأوقع بالخضر ومن معه من أصحاب يعقوب وقعة عظيمة، قتل فيها من أصحاب الخضر خلقا كثيرا وهرب الخضر ومن معه، وأقام علىّ بالأهواز يستخرج ما كان فيها، ورجع إلى نهر السّدرة وسيّر طائفة إلى دورق فأوقعوا بمن كان هناك من أصحاب يعقوب، فأنفذ يعقوب إلى الخضر مددا، وأمره بالكف عن قتال الزنج والاقتصار على المقام بالأهواز، فلم يجب على

ذكر وفاة يعقوب بن الليث وولاية أخيه عمرو

ابن أبان إلى ذلك دون نقل طعام كان هناك، فأجابه يعقوب إلى ما طلب ونقل الطعام، وترك العلف بالأهواز وكف بعضهم عن بعض. ذكر وفاة يعقوب بن الليث وولاية أخيه عمرو كانت وفاته في تاسع عشر شوّال سنة خمس وستين ومائتين بجنديسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء، فامتنع واختار الموت على ذلك، وكان المعتمد على الله قد أنفذ إليه رسولا وكتابا يستميله ويسترضيه، وقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض فجلس له، وجعل عنده سيفا ورغيفا من الخبز الخشكار وبصلا، وأحضر الرسول وسمع رسالته وقال له: قل للخليفة إنّنى عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت منّى، وإن عوفيت فليس بينى وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأرى أو تكسرنى وتعقرنى «1» فأعود إلى هذا الخبز والبصل وأعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن مات. وكان الحسن بن زيد العلوى- صاحب طبرستان- يسمّى يعقوب السندان لثباته، وكان يعقوب قد افتتح الرّخج وقتل ملكها البتبر «2» وكان هذا الملك يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلا، وابتنى بيتا على جبل عال سمّاه مكة، وكان يدّعى الإلهيّة فقتله

ذكر ولاية عمرو بن الليث

يعقوب، وافتتح الخلجية «1» وزابل وغير ذلك، وكان عاقلا حازما وكان يقول: كل من عاشرته أربعين يوما فلا تعرف أخلاقه لا تعرفها في أربعين سنة. ذكر ولاية عمرو بن الليث كانت ولايته بعد وفاة أخيه يعقوب في تاسع شوّال سنة خمس وستين ومائتين، ولمّا ولى كتب إلى الخليفة بطاعته، فولا الموفّق خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد وأشهد عليه بذلك وسيّر إليه العهد والخلع، فاستخلف عمرو بن الليث، عبيد الله بن عبد الله بن طاهر على الشرطة ببغداد وسامرّا في صفر سنة ست وستين، وخلع عليه الموفّق أيضا، ولم يزل عمرو في هذه الولايات إلى أن عزله المعتمد في شهور سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأدخل عليه حاج خراسان وأعلمهم أنّه عزل عمرو بن الليث عمّا كان قلّده، ولعنه بحضرتهم وأعلمهم أنّه قد قلّد خراسان لمحمد ابن طاهر، وأمر يلعن عمرو على المنابر فلعن. وسار صاعد «2» بن مخلّد إلى فارس لحرب الصفّاريّة، واستخلف محمد بن طاهر على خراسان رافع بن هرثمة، ثم كانت الحرب بين عمرو بن الليث وعسكر الخليفة وعليهم أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف،

ودامت الحرب بينهم من أوّل النهار إلى الظهر، فانهزم عمرو وأصحابه وكانوا خمسة عشر ألفا، وجرح الدرهمىّ مقدّم جيش عمرو، وقتل مائة رجل من جماتهم «1» وأسر ثلاثة آلاف أسير وغنموا معسكر عمرو، وكان الذى غنموه من الدوابّ والبقر والحمر ثلاثين ألف رأس، وما سوى ذلك فلا يدخل تحت الاحصاء، وذلك في عاشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وسبعين ومائتين. وفي سنة أربع وسبعين سار الموفّق إلى فارس لحرب عمرو بن الليث في شهر ربيع الأوّل، فبلغ عمرو الخبر فسيّر عبّاس بن إسحاق في جمع كثير من العسكر إلى سيراف، وأنفذ ابنه محمد بن عمرو إلى أرّجان، وسيّر أبا طلحة شركب صاحب جيشه على مقدّمته، فاستأمن أبو طلحة إلى الموفّق، وسمع عمرو ذلك فتوقف عن قصد الموفّق، ثم عزم أبو طلحة على العود إلى عمرو فبلغ الموفّق خبره. فقبض عليه بقرب شيراز وجعل ماله لابنه المعتضد، وسار يطلب عمرا فعاد عمرو إلى كرمان ثم إلى سجستان على المفازة فتوفى ابنه بالمفازة، وعاد الموفق.

ذكر أسر عمرو بن الليث وقتله وانقراض الدولة الصفارية

ذكر أسر عمرو بن الليث وقتله وانقراض الدولة الصفارية وفي سنة سبع وثمانين ومائتين في شهر ربيع الأوّل منها كانت الحرب بين عمرو بن الليث وإسماعيل بن أحمد السامانى، صاحب ما وراء النهر، فأجلت الحرب عن هزيمة أصحاب عمرو وأسره كما قدّمناه مبيّنا في أخبار الدولة السامانية، وخيّره إسماعيل في المقام عنده أو إرساله إلى الخليفة المعتضد بالله، فاختار أن يتوجّه إلى المعتضد فسيّره إليه، فوصل إلى بغداد في سنة ثمان وثمانين، فلما وصل أدخل بغداد على جمل، ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع وثمانين ومائتين ذكر أخباره وشىء من سيرته كان عمرو أعور شديد الشره «1» عظيم السياسة، قد منع قوّاده وأصحابه أن يضرب أحد منهم غلامه إلا بأمره، وكان يشترى المماليك الصغار ويربّيهم ويهبهم إلى القوّاد، ويجرى عليهم الجرايات السنيّة ليطالعوه بأخبار القوّاد، فلا ينكتم عنه شىء من أمرهم ولا يعلمون من ينقل إليه الأخبار، وكان كثير المصادرات لعمّاله وخواصه. حكى عنه أنّ محمد بن بشير أكبر حجّابه- وكان يخلفه في جلائل الأمور والحروب المعضلة- فدخل عليه يوما، فأخذ يعدّد عليه ذنوبه فحلف محمد بن بشير بالله وبالطلاق أنّه لا يملك غير خمسين

ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستانى

بدرة، وهو يحملها إلى الخزانة ولا يجعل له ذنبا لم يعلمه، فقال له عمرو: ما أعقلك من رجل؟ احملها فحملها، ولا شىء أقبح من هذا الفعل، ومع ذلك فقد حكى القاضى «1» عياض بن موسى في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن الإمام أبى القاسم القشيرى أنّ عمرا رؤى في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى، فقيل: بماذا؟ قال: صعدت ذروة جبل يوما فأشرفت على جنودي، فأعجبتنى كثرتهم فتمنّيت أنّى حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعنته ونصرته، فشكر الله لى ذلك وغفر لى. وانقرضت هذه الدولة بأسر عمرو، وكانت مدتها خمسا وثلاثين ستة، أيام يعقوب ثلاث عشرة سنة وأيام عمرو اثنتين وعشرين سنة. ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستانى وهذه النسبة إلى خجستان وهى من جبال هراة من أعمال باذغيس وكان أحمد بن عبد الله هذا من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور ضمّ أحمد هذا إلى أخيه على بن الليث وكان بنو شركب ثلاثة إخوة: إبراهيم وأبو حفص يعمر وأبو طلحة منصور بنو مسلم، وإبراهيم أسنّهم، وكان قد أبلى بين يدى يعقوب

عند مواقعته للحسن بن زيد العلوى بجرجان بلاء حسنا، فقدّمه يعقوب فدخل عليه يوما بنيسابور وكان اليوم شديد البرد، فخلع عليه يعقوب وبرسمّور كان على كتفه، فحسده أحمد الخجستانى وجاء إليه وقال: إن يعقوب يريد الغدر بك، لأنه لا يخلع على أحد من خاص ملبوسه إلا غدر به فقال إبراهيم: فكيف الخلاص؟ فقال: الحيلة أن نهرب جميعا إلى أخيك يعمر، وكان يحاصر بلخ ومعه خمسة آلاف رجل، فاتّفقا على ذلك وتواعدا للخروج في تلك الليلة، فسبقه إبراهيم إلى الموعد وانتظره ساعة فلم يره، فسار نحو سرخس وذهب الخجستانى إلى يعقوب فأعلمه، فأرسل في أثر إبراهيم فأدركوه بسرخس فقتلوه، ومال يعقوب إلى أحمد، فلما أراد يعقوب العود إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السرىّ وولّى أخاه عمرو بن الليث هراة، فاستخلف عمرو وعليها طاهر بن حفص الباذغيسى، وسار يعقوب إلى سجستان في سنة إحدى وستين ومائتين، وأحبّ الخجستانى التخلّف لما كان يحدّث به نفسه، فقال لعلى بن الليث: إن أخويك قد اقتسما خراسان، وليس لك بها ما يقوم بشغلك، وأحبّ أن تردّنى إليها لأقوم بأمورك، فاستأذن أخاه يعقوب فى ذلك فأذن له، فلمّا حضر أحمد لوداع يعقوب أحسن إليه وخلع عليه، فلما ولّى عنه قال: أشهد أن قفاه قفا غادر مستعص، وهذا آخر عهدنا بطاعته، فلما فارقهم جمع نحو مائة رجل فورد بهم بست نيسابور، فحارب عاملها وأخرجه عنها وجباها ثم خرج إلى قومس. فغلب على بسطام وقتل بها مقتلة عظيمة وذلك في سنة إحدى وستين وسار إلى نيسابور وبها عزيز بن السرى فهرب منها، وأخذ أحمد

أثقاله واستولى على نيسابور، ودعا للطاهريّة وذلك في أول سنة اثنتين وستين. وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه فقدم عليه، فجعله قائد جيشه، وكتب إلى يعمر ابن شركب- وهو يحاصر بلخ- يستقدمه ليتّفقا على تلك البلاد، فلم يثق إليه لما تقدّم له مع أخيه إبراهيم، وسار يعمر إلى هراة فحاربه طاهر بن حفص فقتله واستولى على أعماله فسار إليه أحمد وكان بينهما مناوشات، وكان أبو طلحة منصور ابن شركب غلاما من أحسن الغلمان، وكان عبد الله بن لال «1» يميل إليه وهو أحد قوّاد يعمر، فراسل ابن لال، الخجستانىّ أن يعمل ضيافة ليعمر وأصحابه ويدعوهم إليه وأن يكبسهم أحمد وأنّه يساعده، واشترط عليه أنّه إذا ظفر يسلّم إليه أبا طلحة، فأجابه أحمد إلى ذلك وتواعدا على يوم، وعمل ابن لال ضيافة وحضرها يعمر، فكبسهم أحمد وقبض على يعمر وسيّره إلى نيسابور فقتله، واجتمع لأبى طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن لال، وساروا إلى نيسابور وبها الحسين بن طاهر أخو محمد، وقد وردها من أصفهان طمعا أن أحمد يخطب لهم، كما كان يظهر من نفسه فلم يفعل، فخطب ابن طاهر بها لأبى طلحة وأقام معه، فسار الخجستانى من هراة في اثنى عشر ألف عنان، فأقام على ثلاث مراحل من نيسابور، ووجّه أخاه العبّاس إليها فخرج إليه أبو طلحة وقاتلة، فقتل العبّاس وانهزم أصحابه فعاد أحمد إلى هراة.

ثم كاتبه أهل نيسابور في الحضور إليهم، فسار إليهم وقدم البلد ليلا، ففتحوا له الباب ودخلها، وسار عنها أبو طلحة إلى الحسن ابن زيد، فأمدّه بالجنود فعاد إلى نيسابور فلم يظفر بشىء، فتوجّه إلى بلخ وذلك في سنة خمس وستين، ثم سار الخجستانى لمحاربة الحسن بن زيد لمساعدته لأبى طلحة، فاستعان الحسن بأهل جرجان فأعانوه، فهزمهم الخجستانى وجبى منهم أربعة آلاف ألف درهم وذلك فى شهر رمضان من السنة. وتوفى يعقوب بن الليث في هذه السنة وولى مكانه أخوه عمرو، فوافى الخجستانى نيسابور واقتتلا فهزمه الخجستانى، فرجع إلى هراة وأقام أحمد بنيسابور، ثم سار إلى هراة فى سنة سبع وستين فحصر عمرا ولم يظفر بشىء، ثم كان له حروب مع أبى العبّاس النوفلى وغيره، فظفر بالنوفلى وكان قد جاء لحربه من قبل محمد بن طاهر في خمسة آلاف رجل وقتله، ثم سار إلى أبيورد وجبى خراج مرو، ولم يزل كذلك إلى سنة ثمان وستين ومائتين. فقتله غلامه زامجور «1» غيلة وكان قد سكر ونام ثم قتل الغلام. واجتمع أصحاب أحمد الخجستانى وانضمّوا إلى رافع بن هرثمة. وكان أحمد هذا كريما جوادا شجاعا حسن العشرة كثير البرّ لإخوانه الذين صحبوه قبل إمارته، ولم يتغيّر عليهم ما كان يعاملهم به من التواضع والأدب.

ذكر أخبار رافع بن هرثمة

ذكر أخبار رافع بن هرثمة كان رافع بن هرثمة من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور وأزال الطاهريّة عنها التحق رافع به، فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع، وكان طويل اللحية كريه المنظر قليل الطلاقة، فدخل يوما على يعقوب فلما خرج من عنده قال: إنّا لا نميل إلى هذا الرجل فليلحق بما شاء من البلاد، فقيل له ذلك ففارقه وعاد إلى منزله بتامين، فأقام إلى أن استقدمه أحمد الخجستانى كما ذكرنا وجعله صاحب جيشه، فلما قتل اجتمع الجيش عليه، وسار من هراة إلى نيسابور وكان أبو طلحة قد وردها من جرجان، فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنها، فاشتدّ الغلاء ففارقها أبو طلحة إلى مرو، وخطب رافع لمحمد بن طاهر، ثم قلّد الموفّق محمد بن طاهر أعمال خراسان وكان ببغداد، فاستخلف رافع بن هرثمة على أعمال خراسان، وسار رافع إلى خوارزم في سنة اثنتين وسبعين ومائتين فجبى أموالها، ورجع إلى نيسابور. وفي سنة خمس وسبعين استولى رافع على جرجان، وأزال عنها محمد بن زيد وسار محمد إلى أستراباد فحصره بها رافع نحو سنتين، فغلت الأسعار وعدمت الأقوات وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة، ففارقها محمد ليلا في نفر يسير فتبعه رافع إلى أرض الديلم حتى اتصل

بحدود قزوين، وعاد إلى الرى وأقام بها إلى أن توفى المعتمد «1» على الله في سنة تسع وسبعين ومائتين. وإنما ذكرنا أخبار أحمد ورافع في هذا الموضع لتعلقهما بالدولة الصفارية «2» .

شجرة بأسماء العلويين ممن جاء ذكرهم بهذا الجزء

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق 1- المقريزى: اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، طبع القاهرة، 1967 م. 2- السيوطى: الاتقان في علوم القرآن، طبع القاهرة، 1302 هـ. 3- محسن الأمين: أعيان الشيعة، طبع دمشق، 1940- 1946 م 4- الشرتونى: أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، طبع بيروت، 1889 م 5- ابن كثير: البداية والنهاية، طبع القاهرة، 1932 م 6- ليسترينج: بلدان الخلافة الشرقية، طبع كمبردج، 1930 م. 7- الزبيدى: تاج العروس، طبع القاهرة،: 1306 هـ 8- الأصفهانى: تاريخ ملوك الأرض، طبع كلكتا، 1866 م. 9- ابن مسكويه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم، طبع ليدن، 1869 م.

10- الذهبى: تذكرة الحفاظ، طبع حيدر آباد، د. ت. 11- القاضى عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، طبع المكتبة التجارية، د. ت. 12- القرطبى؛ عريب بن سعد: صلة تاريخ الطبرى، طبع ليدن، 1897 م. 13- ابن سعد: الطبقات الكبرى، طبع أوروبا، 1905- 1921. 14- البلاذرى: فتوح البلدان، طبع ليدن، 1866 م. 15- الفيروز ابادى: القاموس المحيط، طبع القاهرة، 1344 هـ 16- ابن الأثير: الكامل، طبع أوروبا، 1876 م 17- الدوادارى: كنز الدرر وجامع الغرر، طبع القاهرة، 1961 م. 18- ابن منظور: لسان العرب، طبع القاهرة، 1301 هـ. 19- البغدادى: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، طبع القاهرة، 1954 م

20- المسعودى: مروج الذهب ومعادن الجوهر، طبع باريس 1861 م؛ طبع القاهرة 1283 هـ. 21- الاصطخرى: المسالك والممالك، طبع القاهرة، 1961 م 22- ياقوت الحموى: معجم البلدان، طبع ليبزج، 1866 م 23- أبو الفرج الأصبهانى: مقاتل الطالبين، طبع القاهرة، 1949 م. 24- الشهرستانى: الملل والنحل، طبع لندن، 1842 م. 25- ابن الجوزى: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، مخطوط دار الكتب رقم 1296 تاريخ. 26- ابن خلكان: وفيات الأعيان، طبع القاهرة، 1948.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات مقدمة المحقق 5 الباب السابع «1» فى أخبار من نهض في طلب الخلافة من الطالبيين في مدة الدولتين الأموية والعباسية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب وأخوه إبراهيم 7 ذكر حبس أولاد الحسن 17 ذكر حملهم إلى العراق 19 ذكر ظهور محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 23 ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد 40 ذكر تسمية المشهورين ممن كان مع محمد بن عبد الله بن حسن 50 ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب أخى محمد 52 ذكر مسير إبراهيم ومقتله 57 ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب رضى الله عنه، وهو المقتول بفخ 66

ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 71 ذكر ظهور محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المعروف بابن طباطبا 73 محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على 73 ذكر ظهور إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب وما كان من أمره 74 ذكر ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب وهو المكنى بأبى الحسين 75 ذكر ظهور الحسين بن محمد 78 ذكر خبر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على 79 ذكر ظهور على بن زيد العلوى بالكوفة وخروجه عنها 80 ذكر أخبار الدولة العلوية بطبرستان، الداعى إلى الحق الحسن بن زيد 81 ذكر ملك الحسن بن زيد جرجان 85 ذكر وفاة الحسن بن زيد وشىء من أخباره وسيرته 86 ذكر أخبار محمد بن زيد 88 ذكر مقتل محمد بن زيد وشىء من أخباره 91 ذكر أخبار الناصر للحق 93 الحسن بن القاسم الداعى العلوى 97 ملك أسفار جرجان 100 ذكر ظهور أبى عبد الله محمد بن الحسين الحسنى المعروف بابن الداعى 120

الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار صاحب الزنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل. ذكر أخبار صاحب الزنج وابتداء أمره وسبب خروجه 104 ذكر دخول الزنج الأبله 115 ذكر أخذ الزنج الأهواز 115 ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب وغلبة الزنج 116 ذكر انهزام الزنج بالأهواز 117 ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها 118 ذكر مسير المولد لحرب صاحب الزنج وانتصار صاحب الزنج 120 ذكر الحرب بين منصور الخياط والزنج وقتل منصور 120 ذكر مسير أبى أحمد الموفق لقتال الزنج وقتل مفلح 121 ذكر مقتل يحيى بن محمد البحرانى 122 ذكر عود أبى أحمد الموفق إلى سمر واستخلافه محمد المولد على حرب الزنج 124 ذكر دخول الزنج الأهواز، ومسير موسى بن بغا لحربهم 125 ذكر انتداب أبى أحمد الموفق لحرب الزنج وما شغله عن ذلك واستعماله مسرورا البلخى على حربهم وما كان في خلال ذلك من أخبارهم 128 ذكر دخول الزنج واسط وما تقدم ذلك من الحروب والوقائع 132 ذكر وقائع كانت بين الزنج وبين أحمد بن ليثويه وتكين البخارى واغرتميش في سنة خمس وسنة ست وستين ومائتين 135 ذكر دخول الزنج رامهرمز 138

ذكر مسير أبى العباس بن الموفق وهو المعتضد بالله إلى حرب الزنج وانتزاعه عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة 140 ذكر مسير الموفق لقتال الزنج وفتح المنيعة 145 ذكر استيلاء أبى أحمد الموفق على طهيثا 147 ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها 149 ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة 152 ذكر عبو الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده إليها 157 ذكر إيقاع أبى العباس بن الموفق بالأعراب وانقطاع الميرة عن الزنج، ومقتل بهبوذ بن عبد الوهاب 162 ذكر إحراق قصر صاحب الزنج، وما يتصل بذلك من الحروب والوقائع 166 ذكر غرق نصير صاحب الشذا 169 ذكر احراق قنطرة صاحب الزنج 170 ذكر انتقال صاحب الزنج إلى الجانب الشرقى وإحراق سوقه 171 ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربية 174 ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الشرقية 178 ذكر مقتل صاحب الزنج 180 ذكر أخبار القرامطة وابتداء أمرهم، وما كان من أخبارهم، وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهم 187 ذكر ما فرضه قرمط على من دخل في دعوته، واستجاب له وكيف نقلهم في استئصال أموالهم من اليسير إلى الكثير حتى استقام له أمرهم 193 ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه ويستميلونه إلى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة إلى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الإسلام من عنقه 195

ذكر صفة الدعوة الثانية 202 ذكر صفة الدعوة الثالثة 203 ذكر صفة الدعوة الرابعة 205 ذكر صفة الدعوة الخامسة 207 ذكر صفة الدعوة السادسة 209 ذكر صفة الدعوة الثامنة 211 ذكر صفة الدعوة التاسعة 213 ذكر العهد الذى يؤخذ على المخدوعين في مبدأ الدعوة الخبيثة 217 ذكر ابتداء دعوة القرامطة 227 ذكر انتقاض الدعوة عن حالتها الأولى، ومقتل عبدان، وما كان من أمر زكرويه بعده 229 ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى وظهوره بالبحرين 233 ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى على هجر، وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه 235 ذكر الحرب بين القرامطة أصحاب أبى سعيد وأهل عمان 238 ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة 239 ذكر مقتل أبى سعيد الجنابى 243 ذكر أخبار أبى القاسم الصناديقى ببلاد اليمن 245 ذكر ظهور القرامطة بالشام، وما كان من أمرهم وحروبهم 246 الحسن بن زكرويه بن مهرويه 249 ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة، والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم 251

ذكر خبر إرسال زكرويه بن مهرويه، محمد بن عبد الله إلى الشام. وما كان من أمره إلى أن قتل 258 ذكر إرسال زكرويه بن مهرويه، القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة، وما كان من امره 261 ذكر ظهور زكرويه بن مهرويه وقتاله عساكر الخليفة وأخذه الحاج، وما كان من أمره إلى أن قتل 265 ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه 275 ذكر أخبار أبى طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى 276 ذكر أخذ أبى طاهر الحاج، وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في إطلاقه 279 ذكر دخول إلى طاهر القرمطى الكوفة ورجوعه 285 ذكر دخول أبى طاهر القرمطى إلى العراق وقتل يوسف بن أبى الساج 287 ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بسواد العراق في أثناء وقائع أبى طاهر الجنابى 293 ذكر مسير أبى طاهر إلى مكة شرفها الله ونهبها وأخذ الحجر الأسود وإعادته، وما كان من أخباره في خلال ذلك 296 ذكر وفاة أبى طاهر بن أبى سعيد الجنابى وأخيه وقيام أخويهما بعده 303 ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود إلى الكعبة شرفها الله تعالى 303 ذكر ملك القرامطة دمشق ومسيرهم إلى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها 304 ذكر عود القرامطة إلى الشام، ووفاة الحسن بن أحمد 314 ذكر استيلاء القرامطة على الكوفة وخروجهم عنها 316 ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة 317 ذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل، مساور ومن بعده 318

ذكر مقتل مساور بندارا الطبرى متولى طريق خراسان 319 ذكر استيلاء مساور على الموصل وخروجه منها 321 ذكر اختلاف الخوارج على مساور، وانتصاره على من خالفه وقتاله عساكر الخليفة 322 ذكر وفاة مساور وخبر من قام بعده إلى أن قام هارون البجلى 324 ذكر محاربة محمد بن خرّزاد هارون بن عبد الله، وما كان من خبر ابن خرزاد ومقتله واستقلال هارون بالأمر بمفرده 325 ذكر خروج محمد بن عباده على هارون وكلاهما خارجى 326 ذكر انهزام هارون من عسكر الموصل 328 ذكر مقتل هارون 329 الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية، وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنه والغور وبلاد السند والهند والدولة السامانية والدولة الصفارية والغزنوية والغورية والدولة الديلمية الختلية. ذكر أخبار الدولة السامانية، وقيامها بما وراء النهر ونسب ملوكها وابتداء أمرهم 331 ذكر وفاة نصر وقيام أخيه إسماعيل 334 ذكر ملك إسماعيل خراسان 334 ذكر ملكه طبرستان 336 ذكر القبض على محمد بن هارون ووفاته 336 ذكر وفاة إسماعيل وولاية ابنه أحمد 337 أبو النصر أحمد بن إسماعيل 338

ذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان 339 مخالفة أهل سجستان على الأمير أحمد 340 ذكر مقتل الأمير أحمد وولاية ابنه نصر 341 أبو الحسن نصر بن أحمد 341 ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابنه إلياس 342 ذكر مخالفة منصور بن إسحاق 343 ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أسد ثانيا 345 ذكر استيلاء السعيد على الرى 346 ذكر مخالفة جعفر بن أبى جعفر بن أبى داود وعوده 347 ذكر خروج أبى زكريا وأخويه ببخارى 347 ذكر ولاية محمد بن المظفر خراسان 349 ذكر وفاة الأمير السعيد نصر بن أحمد وشىء ممن سيرته 350 نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو الخامس من الملوك السامانية 350 ذكر مخالفة أبى على بن محتاج على الأمير الحميد 352 ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان 355 ذكر عود أبى على إلى خراسان 355 ذكر وفاة الأمير الحميد نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك 356 ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو السادس من الملوك السامانية 356 ذكر ولاية منصور بن نوح بن نصر بن أحمد، وهو السابع من الملوك السامانية 357 ذكر الصلح بين الأمير منصور وبين بنى بويه 358 ذكر وفاة الأمير منصور 358

ذكر ولاية المنصور أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد ابن إسماعيل بن أحمد، وهو الثامن من الملوك السامانية 359 ذكر ملك الترك بخارى وشىء من أخبارهم وخروج الأمير نوح منها وعوده إليها 361 ذكر عود نوح إلى بخارى، ووفاة بغراخان وقيام ايليك الخان 363 ذكر ما كان من أخبار أبى على بن سيمجور وفايق واستعمال محمود بن سبكتكين على خراسان 364 ذكر وفاة الأمير نوح بن منصور 366 ذكر ولاية أبى الحارث منصور بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر ابن أحمد بن إسماعيل بن أحمد، وهو التاسع من الملوك السامانية 367 ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح وسمله 368 ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن منصور 368 ذكر انقراض الدولة السامانية 368 ذكر ظهور إسماعيل بن نوح وما اتفق له بخراسان 370 ذكر أخبار الدولة الصفارية وابتداء أمرها 373 ذكر ملك يعقوب هراة وبوشنج 374 ذكر استيلائه على كرمان 374 ذكر ملكه فارس 376 ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها 378 ذكر ملكه نيسابور 387 ذكر دخوله طبرستان 380 ذكر عود يعقوب إلى بلاد فارس والحرب بينه وبين محمد بن واصل 381 ذكر الحرب بين الموفق ويعقوب 382

ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها 384 ذكر وفاة يعقوب بن الليث وولاية أخيه عمرو 385 ذكر ولاية عمرو بن الليث 386 ذكر أسر عمرو بن الليث وقتله وانقراض الدولة الصفارية 388 ذكر أخباره وشىء من سيرته 388 ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستانى 389 ذكر أخبار رافع بن هرثمة 393 شجرة العلويين الذين جاءت أسماؤهم بهذا الجزء 395 مراجع التحقيق 399 مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب رقم الايداع بدار الكتب ISBN -977 -01 -0348 -9 1984/3100

الجزء السادس والعشرون

الجزء السادس والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم اعتمدنا في تحقيق هذا الجزء على مخطوطتين، الأولى: هى مخطوطة كوبريلى رقم 549 معارف عامة وجعلناها هى الأصل، وقد رمزنا لها بالحرف ك، والثانية: النسخة المعروفة بالتيمورية، وهى ضمن مجموعة بها من 23- 25، وتحمل رقم 699- تاريخ تيمور، وقد رمزنا لها بالحرف ت. وقد قابلنا الكتاب مقابلة كاملة على الكامل لابن الأثير. أما المراجع التى اعتمدنا عليها بصفة عامة فهى: 1- الكامل لابن الأثير الجزرى ج 6، ج 7 تحقيق وتعليق عبد الوهاب النجار- نشر دار الطباعة المنيرية بدمشق سنة 1353 هـ. (والأجزاء 9، 10، 11، 12 ط القاهرة سنة 1303 هـ) . 2- تاريخ أبى الفدا (المختصر في تاريخ البشر) ط الحسينية سنة 1325 هـ- لأبى الفدا (عماد الدين بن إسماعيل) . 3- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان (الجزء الثامن في قسمين) : سبط ابن الجوزى. (يوسف بن قزاوغلى التركى) ط 1 حيدرآباد- الهند سنة 1952 م.

4- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغرى بردي ج 5 ط دار الكتب سنة 1935 م، ج 6 ط دار الكتب سنة 1936 م. 5- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلى. الأجزاء 2، 3، 4: نشر مكتبة القدسى سنة 1350 هـ. 6- كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك: لتقى الدين أحمد بن على المقريزى، تصحيح الدكتور محمد مصطفى زيادة. ج 1 قسم 1 ط دار الكتب سنة 1934 م. 7- شرح اليمينى المسمى بالفتح الوهبى على تاريخ أبى النصر العتبى. ط المطبعة الوهبية سنة 1286 هـ. 8- تحقيق ما للهند من مقولة: لأبى الريحان البيرونى. ط دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد. سنة 1958 م. 9- نهاية الأرب للنويرى ج 1، ج 8. ط دار الكتب. 10- الفخرى في الاداب السلطانية والدول الإسلامية: محمد ابن على بن طباطبا. ط القاهرة. 11- تاريخ البيهقى: لأبى الفضل البيهقى: ترجمة الدكتور يحيى الخشاب، وصادق نشأت. ط القاهرة سنة 1956 م. 12- تاريخ الإسلام السياسى ... «العصر العباسى الثاني» : [الدكتور حسن إبراهيم حسن، ح 3. ط القاهرة (الرابعة) سنة 1958 م. 13- وفيات الأعيان لابن خلكان.

14- صبح الأعشى: للقلقشندي: ج 5، ج 6 ط دار الكتب. 15- يتيمة الدهر: للثعالبى. 16- مطالع البدور في منازل السرور: للغرولى (علاء الدين على ابن عبد الله البهائى) ط 1- مطبعة إدارة الوطن- القاهرة سنة 1299 هـ. 17- الأعلام: خير الدين الزركلى. الأجزاء من 1- 10 الطبعة الثانية، القاهرة سنة 1954- سنة 1959 م. 18- معجم البلدان: ياقوت الحموى: القاهرة سنة 1906 م. 19- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: المقدسى ط ليدن سنة 1909 م. 20- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: صفى الدين ابن عبد الحق البغدادى: تحقيق: على البجاوى. ط الحلبى سنة 1954 م.

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية] ذكر أخبار الدولة الديلمية الجيلية «1» هذه الدولة كانت ببلاد طبرستان، والرى، وجرجان، وقزوين: وزنجان «2» وأبهر، وقم، وأصفهان، والكرج «3» ، وغير ذلك من البلاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وملوك هذه الدولة مسلمون: وكان الذى دعاهم إلى الإسلام الحسن بن على الأطروش العلوى، وهو من أصحاب محمد بن زيد، فلما قتل محمد بن زيد سار الحسن إلى الديلم، وأقام بينهم ثلاث عشرة سنة، ودعاهم إلى الإسلام، واقتصر منهم على العشر، وبنى في بلادهم المساجد، فأجابه منهم طائفة، وخرج بهم إلى طبرستان، وملكها، وكان منهم ليلى بن النعمان، وكان أحد قواده، وتولى جرجان، وقتل حمويه «4» في سنة ثمان

أول من تقدم من الديلم، وكثرت أتباعه، وعلا إسمه؛ واتسعت مملكته. أسفار بن شيرويه الديلمى

وثلاثمائة، ومنهم سرجاب «1» ، وهو مقدم جيش الحسن، مات في سنة عشرة وثلاثمائة، ومنهم ماكان بن كالى، وكان من قواده أيضا، واستخلفه على استراباذ «2» ، فاجتمع عليه الديلم، وقدموه عليهم، فاستولى على جرجان، وأخذها من بغرا نائب السعيد السامانى، ولم يكن لهؤلاء الذين ذكرناهم كبير مملكة، وإنما كانوا يستولون على بلد من البلاد، ويقيمون بها مدة، ثم يخرجون عنها ويستولون على غيرها. أول من تقدم من الدّيلم، وكثرت أتباعه، وعلا إسمه؛ واتسعت مملكته. أسفار بن شيرويه الديلمى ونحن نذكر حاله من ابتداء أمره، وما آل إليه، ومن ملك بعده من الديلم والجيل «3» إلى حين انقراض دولتهم إن شاء الله تعالى، فتقول: كان أسفار هذا من أصحاب ماكان بن كالى الديلمى، وكان سيىء الخلق والعشرة، فكرهه «ماكان» ، وأخرجه من عسكره، فالتحق ببكر بن محمد بن اليسع بنيسابور، وأقام في خدمته إلى أن قتل ابن الأطروش الحسن بن كالى أخا ماكان بجرجان، واستقل ابن الأطروش بالأمر، وجعل مقدم جيشه على بن خرشيد، فكتب إلى

«أسفار» يستقدمه، فاستأذن بكرا بن محمد، وسار إلى جرجان، واتفق مع على بن خرشيد، وضبطا تلك الأعمال لابن الأطروش، فسار إليهم ماكان بن كالى، وقاتلهم، فهزموه، وأخرجوه عن طبرستان، وملكوها، وأقاموا بها، ثم اتفقت وفاة ابن الأطروش، وعلى بن خرشيد، فاستقل أسفار بالأمر، وانفرد به، فجاءه ماكان ابن كالى، وهزمه، وأخرجه عن البلاد، فرجع إلى بكر بن محمد ابن اليسع بجرجان، فأقام بها إلى أن توفى بكر، فتولاها أسفار من قبل السعيد نصر بن أحمد السامانى في سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وأرسل أسفار إلى مرداويج بن زيار الجيلى «1» يستدعيه إليه، فجاءه وجعله أسفار أمير جيشه، وأحسن إليه، وقصدا طبرستان واستولوا عليها. وكان ماكان بن كالى مع الحسن بن القاسم الداعى العلوى بالرىّ، وقد استولى عليها، وأخرج عنها نواب السعيد، واستولى على قزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، فسار نحو طبرستان، والتقى هو وأسفار عند سارية «2» ، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم معظم أصحاب الحسن؛ قصدا للهزيمة لكراهتهم له، فإنه كان يمنعهم من المظالم، وشرب الخمر، وارتكاب المحارم، فكرهوه، وكان أيضا قد قتل جماعة منهم، فخذلوه في هذه الحادثة، فقتل الداعى، واستولى أسفار على بلاد طبرستان، والرى، وجرجان، وقزوين،

وزنجان، وأبهر، وقم، والكرج، ودعا بها لصاحب خراسان نصر بن أحمد، واستعمل هارون سندان، وهو أحد رؤساء الجيل «1» وخال مرداويج على آمل «2» ، وكان هارون يحتاج أن يخطب فيها لأبى جعفر العلوى، وخاف أسفار ناحية أبى جعفر أن يجدد له فتنة وحربا، فاستدعى هارون إليه، وأمره أن يتزوج من أعيان آمل، ويحضر عرسه أبو جعفر، وغيره من رؤساء العلويين، وأن يفعل ذلك في يوم ذكره له، ففعل، ثم سار أسفار من سارية مجدّا لموافاة العرس، فوصل آمل في يوم الموعد، وقد اجتمع العلويون عند هارون فهجم على الدار على حين غفلة، وقبض على أبى جعفر، وغيره من أعيان العلويين، وحملهم إلى بخارى، فاعتقلوا بها. ولما فرغ أسفار من ذلك سار إلى الرى وبها «3» ماكان بن كالى، فأخذها منه، وسار ماكان إلى طبرستان، فأقام هناك. وأحب أسفار أن يستولى على «قلعة ألموت» ، وهى قلعة على جبل عال شاهق في حدود الديلم، وكانت لسياه جشم «4» ، ومعناه: الأسود العين لأنه كان على إحدى عينيه نقطه سوداء، فراسله أسفار، ومنّاه، فقدم عليه، فسأله أن يجعل عياله في قلعة ألموت، وولاه قزوين، فأجابه إلى ذلك، ونقلهم إليها،

ثم كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه، فلما حصل له بها مائة رجل استدعاه من قزوين، وقبض عليه وقتله، وعظمت جيوش أسفار، وطار اسمه، فتجبر وعصى على الأمير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر، فسير الخليفة المقتدر هارون بن غريب إلى أسفار في عسكر، فالتقوا، واقتتلوا نحو قزوين، فانهزم هارون، وقتل من أصحابه خلق كثير بباب قزوين، وكان أهل قزوين قد ساعدوا هارون، فحقد عليهم أسفار، ثم سار الأمير نصر بن أحمد من بخاري، وقصد حرب أسفار لخروجه عن طاعته وبلغ «1» نيسابور، فجمع أسفار عسكره، فأشار عليه وزيره مطرف «2» ابن محمد بمراسلته، والدخول في طاعته، وبذل المال له، إن أجاب، وإلا فالحرب بعد ذلك، وكان في عسكره جماعة من الأتراك أصحاب صاحب خراسان، فخوفه الوزير منهم، فرجع إلى رأيه، وراسله، فقبل صاحب خراسان ذلك منه، وشرط عليه شروطا منها: حمل الأموال، والطاعة، وغير ذلك، فشرع أسفار بعد تمام الصلح في بسط الأموال على الريّ وأعمالها، وجعل على كل رجل دينارا إلا أهل «3» البلد، والمحاربين، فحصّل من ذلك ما لا عظيما أرضى منه صاحب خراسان بالبعض ورجع عنه، وعظم أمر أسفار، وزاد تجبره، وقصد

ذكر مقتل أسفار بن شيرويه

قزوين لما في نفسه من أهلها، فأوقع بهم، وأخذ أموالهم، وقتل كثيرا منهم، وسلط الديلم عليهم، وسمع المؤذن يؤذن، فأمر بالقائه من المنارة إلى الأرض، فاستغاث الناس من شره وظلمه. وخرج أهل قزوين إلى الصحراء: والرجال، والنساء، والولدان يتضرعون إلى الله تعالى، ويدعون عليه، ويسألون الله تعالى كشف ما بهم، فبلغه ذلك، فضحك وسبهم استهزاء بهم، فقابله الله تعالى في الغد من نهار الدعاء عليه بما سنذكره. ذكر مقتل أسفار بن شيرويه كان سبب قتله أن مرداويج كان أكبر قواده، وكان قد أرسله إلى سلار صاحب سميران «1» الطّرم يدعوه إلى طاعته، فلما وصل إليه مرداويج تشاكيا ما الناس فيه من الجهد والبلاء، فتعاقدا، وتحالفا على قصده، والتساعد على حربه، وكان أسفار قد وصل إلى قزوين، وهو ينتظر وصول مرداويج بكتابه، فكتب مرداويج إلى جماعة من القواد يثق بهم يعرفهم ما اتفق هو وسلار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وكان الجند قد سئموا أسفار، وسوء سيرته، وظلمه، وجوره، وكان الوزير مطرف بن محمد، ممن أجاب مرداويج، ووافقه، فسار مرداويج نحو أسفار، فبلغه الخبر، وأحس بالشر وثار الجند به، فهرب في جماعة من خاصته، وذلك عقب حادثة أهل قزوين، ودعائهم عليه.

فورد الرىّ، وأراد أن يأخذ من مال من كان بها، فمنعه نائبه المقيم بها، ولم يعطه غير خمسة آلاف دينار، فتركه، وانصرف إلى خراسان وأقام بناحية بيهق. وأمّا مرداويج، فإنه وصل إلى قزوين، وسار منها إلى الرى، وكتب إلى «ماكان بن كالى» ، وهو بطبرستان يستدعيه ليتساعدا على أسفار، فسار «ماكان» إلى «أسفار» ، فسار أسفار إلى بست، وركب المفازة نحو الرى ليقصد قلعة «ألموت» التى بها أهله وأمواله، فانقطع عنه بعض أصحابه، والتحق بمرداويج وأعلمه بخبره، فخرج مرداويج من ساعته في أثره وقدم بعض قواده بين يديه، فلحقه القائد، وقد نزل ليستريح، فسلم عليه بالإمرة، فقال له أسفار: لعلكم اتصل بكم خبرى، وبعثت في طلبى قال: نعم، فضحك، ثم سأل القائد عن قواده الذين خذلوه، فأخبر أن مرداويج قتلهم، فتهلل وجهه، وقال كانت حياة هؤلاء غصة في حلقى، وقد طابت الآن نفسى، فامض لما أمرت به، وظن أنّه أمر بقتله، فقال ما أمرت فيك بسوء، وحمله إلى مرداويج، فقتله، وانصرف إلى الرىّ. وقيل في قتله: إنه لما قصد ألموت نزل في دار «1» هناك، واتفق أن مرداويج خرج إلى الصيد فرأى خيلا يسيرة، فسيّر من يكشف خبرها، فوجد رجل أسفار، فقبض عليه، وذبحه بيده، وقيل: بل دخل أسفار إلى رحآ، وقد نال منه الجوع، فطلب من الطحّان ما يأكله، فقدم إليه خبزا ولبنا، فبينما هو يأكل وغلام له ليس معه

ذكر ملك مرداويج وهو الثانى من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.

غيره، إذ أقبل مرداويج إلى تلك الناحية في طلبه، فأشرف على الرحآ فرأى أثر الخيل، فوصل إلى الرحآ، وأخذه وقتله. «1» ذكر ملك مرداويج وهو الثانى من ملوك الدولة الديلمية الجيلية. كان ابتداء ملكه عند هرب أسفار، ولما قتله عاد إلى قزوين، وأحسن إلى أهلها، ووعدهم الجميل، وتمكن ملكه، وتنقل في البلاد، وملكها مدينة بعد أخرى، وولاية بعد ولاية، فملك قزوين، والرى، وهمذان، كنكور، والدينور، وبروجرد، وقم، وقاجان، وأصفهان، وجرباذ «2» قان، وغيرها، ثم أساء السيرة في أهل أصفهان خاصة، وأخذ الأموال، وهتك المحارم، وطغى وتجبر، وعمل سريرا من ذهب يجلس عليه، وسررا من فضة يجلس عليها أكابر القواد، وإذا جلس على السرير يقف. عسكره صفوفا بالبعد منه، ولا يخاطبه أحد غير الحجاب الذين رتبهم لذلك، وخافه الناس خوفا عظيما. ذكر ملك «3» طبرستان وجرجان قد ذكرنا أن مرداويج كان قد كاتب ما كان «4» ، وطلب منه المعاضدة على أسفار وموافقة ما كان له، فلما ملك مرداويج،

وقوى أمره طمع في طبرستان، وجرجان، وكانتا مع ما كان، فجمع عساكره، وسار نحو طبرستان، فاستظهر على ما كان، واستولى على البلد، ورتب فيها أبا القاسم بن باحين، وهو اسفهسلار «1» عسكره، وكان حازما شجاعا جيد الرأى، ثم سار مرداويج نحو جرجان، وكان بها من قبل ما كان شيرزيل «2» ابن سلار. وياغلى بن ترلى، فهربا من مرداويج، فملكها، ورتب فيها سرجاب «3» نائبا عن أبى القاسم، فاجتمع لأبى القاسم جرجان، وطبرستان، وعاد مرداويج إلى أصفهان، وسار ما كان إلى الديلم، واستنجد بأبى الفضل الثائر بها، فأكرمه، وسار معه إلى طبرستان، فلقيهما نائب مرداويج، وتحاربوا، فانهزم ما كان والثائر، فعاد الثائر إلى الديلم، وقصد «ما كان» بنيسابور، ودخل في طاعة السعيد السامانى صاحب خراسان، واستنجد به، فأمّده بأبى على محمد بن المظفر، واستمد نائب جرجان مرداويج، فأمده بأكثر جيشه، فالتقوا، فانهزم أبو على وما كان، وعاد إلى نيسابور، وعاد ما كان إلى الدامغان ليملكها، فمنعه نائب مرداويج بجرجان من ذلك، فعاد إلى خراسان. وهذه الوقائع كلها ساقها ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل في حوادث سنة ست عشرة وثلاثمائة، وما أظنها في هذه السنة خاصة، بل فيها وفيما بعدها، لكنه- والله أعلم- قصد أن يكون الخبر سياقة حتى لا ينقطع، وهذا كان دأبه في كثير من الوقائع، وهو حسن.

ذكر الحرب بين مرداويج وبين هارون بن غريب

ذكر الحرب بين مرداويج وبين هارون بن غريب قال: ولما استتب لمرداويج الأمر أتاه الديلم من كل ناحية لبذله، وإحسانه إلى جنده، فعظمت جيوشه، وكثرت عساكره، وكثر الخرج عليه، فلم يكفه ما بيده، ففرق نوابه في النواحى المجاورة له، وبعث إلى همذان ابن أخت له في جيش كثيف، وكان بها أبو عبد الله محمد بن خلف في عسكر للخليفة، فتحاربوا وأعان أهل همذان عسكر الخليفة، فظفروا بالديلم، وقتل ابن أخت مرداويج، فسار إلى همذان، فلما سمع أصحاب الخليفة بمسير مرداويج انهزموا، وفارقوا همذان، ونازلها مرداويج، فتحصن أهلها منه، فقاتلهم، وظفر بهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأحرق. وسبى، ثم رفع السيف وأمر «1» بنفيهم، فأنفذ المقتدر هارون بن غريب في عساكر كثيرة لمحاربته، فالتقوا بنواحى همذان، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم هارون، واستولى مرداويج على بلاد الجيل جميعها، وما وراء همذان، وسير قائدا من قواده يعرف بابن عجلان القزوينى إلى الدينور، ففتحها بالسيف، وقتل كثيرا من أهلها، وبلغت عساكره، إلى نواحى حلوان فغنمت وقتلت، ونهبت، وسبت، وعادت إليه.

ذكر ملكه أصفهان

ذكر ملكه أصفهان قال: ثم أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصفهان، فملكوها، واستولوا عليها، وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف فسار مرداويج إليها، ونزلها، وهو في أربعين ألفا، وقيل خمسين ألفا، وأرسل جمعا آخر إلى الأهواز، فاستولوا عليها وعلى خوزستان، وجبوا أموال تلك البلاد، والنواحى، فقسمها في أصحابه، وادخر منها ذخائر كثيرة، ثم أرسل إلى المقتدر رسولا يقرر على نفسه مالا على هذه البلاد، ونزل للمقتدر عن همذان، فأجابه إلى ذلك، وقرر عليه مائتى ألف دينار في كل سنة. ذكر وصول وشمكير الى أخيه مرداويج قال: ولما استقرّ ملك مرداويج أرسل في طلب «1» أخيه وشمكير، وهو ببلاد جيلان يستدعيه. قال الجعد «2» : أرسلنى إليه فجئته فإذا هو في جماعة يزرعون الأرز، فلما رأونى قصدونى وهم عرايا حفاة عليهم سراويلات ملوّنة الخرق مرقعة، فسلمت على وشمكير، فأبلغته رسالة أخيه، وأعلمته ما هو فيه، وما حازه من الملك، فضرط بفيه في لحية أخيه، وقال: إنه لبس السودا، وخدم المسودة يعنى الخلفاء، فما زلت أمنيّه وأطمعه حتى خرج معى. فلما بلغنا قزوين اجتهدت

ذكر مقتل مرداويج

به حتى لبس السواد، ورأيت من جهله أشياء أستحيي أن أذكرها. ثم أعطته السعادة ما كان في الغيب، فجاء من أعرق الملوك بتدبير الممالك، وسياسة الرعايا، وكان وصوله إلى أخيه في سنة عشرين وثلاثمائة. ذكر مقتل مرداويج كان مقتله في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه كان كثير الإساءة إلى الأتراك، وكان يقول: إن روح سليمان بن داود حلت فيه، وإن الأتراك هم المردة والشياطين، فإن أقهرهم «1» ، وإلا أفسدوا، فثقلت وطأته عليهم، فلما كان في ليلة الميلاد من هذه السنة، أمر بأن يجمع الحطب من الجبال والنواحى، وأن يجعل على جانبى الوادي المعروف بزندره «2» ، ويعمل مثله على الجبل المعروف «بكر ثم كوه» ، المشرف على أصفهان من أسفله إلى أعلاه بحيث إذا اشتعلت النيران يصير الجبل كله نارا، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التى هناك، وجمع النفط، ومن يلعب به، وجمع له أكثر من ألفى غراب وحدأة ليجعل في أرجلها النفط، وترسل لتطير في الهواء، وأمر بعمل سماط. عظيم كان فيه مائة فرس، ومائتا رأس من البقر مشوية صحاحا، وثلاثة آلاف رأس من الغنم شواء، غير

المطبوخ ومن الأوز والدجاج عشرة آلاف طائر، وما يناسب ذلك من الحلوى، وركب آخر النهار بغلمانه فطاف بالسماط، ونظر إليه، وإلى تلك الأحطاب، فاستحقر الجميع لسعة البرية، ولعن وغضب وعاد فدخل خركاه «1» ، وقام، فلم يجسر أحد أن يكلّمه، واجتمع الأمراء والقواد وغيرهم، وكادت الفتنة تقوم لخوفهم منه، فأتاه وزيره العميد، وتلطف به، وعرّفه ما الناس فيه، فخرج، وجلس على السّماط، وأكل ثلاث لقم، ونهب الناس الباقى، ولم يجلس للشراب، وعاد إلى مكانه، وأقام ثلاثة أيام لا يظهر، فلما كان في اليوم الرابع أمر بإسراج الخيل ليعود إلى منزله، فاجتمع خلق كثير [وشغبت] «2» الدواب مع الغلمان، وصهلت، ولعبت، فصار الغلمان يصيحون بها لتسكن، فاجتمع من ذلك أصوات هائلة مختلفة منكرة. وكان مرداويج نائما، فاستيقظ، فسمع ذلك، وسأل عنه، فعرف صورة الحال، فازداد غضبا، وقال ما كفى من إخراق الحرمة ما فعلوه من نهب السماط، وما أرجفوا به حتى انتهى أمر هؤلاء الطلاب إلى هذا، وسأل عن أصحاب الخيل، فقيل: إنها للأتراك، وقد نزلوا للخدمة، فأمر أن تحط. السروج عن الدواب، وتوضع على ظهور أصحابها، ويأخذون بإرسال الدواب إلى الاصطبلات، ومن امتنع من ذلك ضربه الديلم، ففعلوا ذلك، فكانت صورة قبيحة أنفت منها نفوسهم. ثم ركب مع خاصته، وهو يتوعد الأتراك حتى صار إلى داره بعد العشاء بعد أن ضرب جماعة من أكابر الأتراك،

فاجتمعوا، وقالوا ما وجه صبرنا على هذا الشيطان، وتحالفوا على الفتك به، واتفق دخوله الحمام، وكان كورتكين يحرسه في حمامه وخلواته، فأمره في ذلك اليوم أن لا يتبعه، فتأخر مغضبا، وكان هو الذى يجمع الحرس، فلم يأمر الحرس باتباعه. وكان له خادم أسود يتولى خدمته بالحمام، فاستمالوه، فمال إليهم، وهجم الأتراك على الحمام، فقام أستاذ داره «1» ، وهو خادم، ليمنعهم، فضربه بعضهم بالسيف، فقطع يده، فصاح، فعلم مرداويج، فغلق باب الحمام، وتربسه بسرير كان يجلس عليه إذا غسل رأسه، فصعدوا السطح، وكسروا الجامات «2» ، ورموه بالنشاب، ثم كسروا باب الحمام، ودخلوا عليه، وقتلوه، وكان الذى جمع الناس على قتله توزون، وهو الذى صار أمير العساكر بالعراق، وياروق «3» ، ومحمد ابن ينال الترجمان، وبجكم «4» وهو الذى تولى إمرة العراق. قال: ولما قتلوه أعلموا أصحابهم، فنهبوا قصره، وهربوا. هذا ولم يعلم بهم الديلم، فلما علموا ركبوا في آثارهم، فلم يلحقوا منهم إلا نفرا يسيرا، فقتلوهم، وعادوا، واجتمع رؤساء الديلم والجيل، وتشاوروا على من يقوم مقامه، فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير.

ذكر ملك وشمكير بن زيار وهو الثالث من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.

ذكر ملك وشمكير بن زيار وهو الثالث من ملوك الدولة الديلمية الجيلية. قال: ولما قتل مرداويج كان وشمكير بالرى، فحملوا تابوت مرداويج، وساروا نحو الرى، فخرج وشمكير، ومن عنده من أصحابه، وتلقوا التابوت مشاة حفاة على أربعة فراسخ، وكان يوما مشهودا. واجتمع على وشمكير عساكر أخيه. قال: وكان ركن الدولة بن بويه في جيش مرداويج رهينة عن أخيه عماد الدولة، فإنه كان قد بذل من نفسه الطاعة لمرداويج، ورهن عنده أخاه، فلما قتل مرداويج بذل للموكلين به مالا، فأطلقوه، فهرب إلى أخيه عماد الدولة بفارس. «1» ذكر ما فعله الأتراك بعد قتل مرداويج قال: ولما قتلوه تفرقوا على فرقتين، ففرقة سارت إلى عما الدولة بن بويه بفارس، وفرقة سارت نحو الجبل مع بجكم، وهى أكثرها، فجبوا الأموال، وخراج الدينور وغيرها، وصاروا إلى النهروان، فكاتبوا الخليفة الراضى بالله في المسير إلى بغداد، فأذن لهم «2» ، فدخلوا، فظن الحجريّة أن ذلك حيلة عليهم، فطلبوا رد الأتراك إلى بلد الجبل، فأمرهم ابن مقلة بذلك، وأطلق لهم مالا، فلم يرضوا به، وغضبوا فكاتبهم ابن رائق، وهو بواسط،

ذكر وفاة وشمكير

وله البصرة، فاستدعاهم فمضوا إليه، وقدم عليهم بجكم وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم أصحاب مرداويج، فكاتبهم، فقدم منهم عدة، فأحسن إليهم، وأمره أن يكتب إلى الناس في كتبه بجكم الرائقى، وكان من أمر بجكم ما قدمناه في أخبار الدولة العباسية. وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة أرسل وشمكير جيشا كثيفا من الرى إلى أصفهان، وبها ركن الدولة بن بويه، فأزالوه عنها، وخطبوا لوشمكير «1» ، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت، واستولى عليها، ودامت أيام وشمكير إلى سنة سبع وخمسين. ذكر وفاة وشمكير كانت وفاته في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وذلك أنه ركب للصيد، فعارضه خنزير قد رمى بحربة، وهى ثابتة فيه، فحمل الخنزير عليه، وهو غافل، فضرب الفرس الذى تحته فشبّ به، فألقاه إلى الأرض، فخرج الدم من أنفه وأذنيه، فمات. وكانت مدة ملكه أربعا وثلاثين سنة تقريبا، ولما مات قام بالأمر بعده ابنه بهشيتون «2» .

ذكر ملك ظهير الدولة بهشيتون بن وشمكير وهو الرابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.

ذكر ملك ظهير الدولة بهشيتون بن وشمكير وهو الرابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية. ملك ما كان في مملكة أبيه بعد وفاته، وذلك في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، قال: ولما ملك صالح ركن الدولة بن بويه، فأمدّه بالخيل، والمال، والرجال، وكان وشمكير قد قصد «1» ركن الدولة، وأتته العساكر من قبل الأمير منصور بن نوح السامانى، وكتب إلى ركن الدولة يهدده «2» ويسبه في كتابه، ويقول: والله إن ظفرت بك لأفعلن، ولأصنعن، فلم يجسر الكاتب [أن] «3» يقرأه على ركن الدولة، فقرأه هو، وقال للكاتب اكتب إليه: أما تهددك، فو الله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضد ما كتبت، ولأحسنن إليك، ولأكرمنك، فلما مات استقر الصلح بين ظهير الدولة، وركن الدولة، ودامت أيام بهشيتون إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فتوفى بجرجان، وكانت مدة ملكه تسع سنين وشهورا، ولما مات ملك بعده أخوه. ذكر ملك شمس المعالى قابوس بن وشمكير وهو الخامس من ملوك الدولة الديلمية الجيلية. كان ملكه بعد وفاة أخيه بهشيتون في سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان عند وفاته عند خاله بجبل شهريار، وخلف بهشيتون ابنا صغيرا بطبرستان مع

ذكر خلع قابوس بن وشمكير وقتله وولاية ابنه ملك المعالى منوجهر وهو السادس من ملوك الدولة الديلمية الجيلية

جده لأمه، فطمع جده أن يأخذ الملك، فبادر إلى جرجان، فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس، فقبض عليهم، وبلغ قابوس الخبر، فسار إلى جرجان، فلما قاربها خرج الجيش إليه، واجتمعوا عليه، وأطاعوه، وملكوه، فهرب من كان مع ابن بهشيتون، وتركوه، فأخذه عمه قابوس وكفله، وجعله أسوة أولاده، واستولى على جرجان، وطبرستان، ودام ملكه إلى أن خلع، وقتل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خلع قابوس بن وشمكير وقتله وولاية ابنه ملك المعالى منوجهر [وهو السادس من ملوك الدولة الديلمية الجيلية] وفي سنة ثلاث وأربعمائة خلع شمس المعالى قابوس بن وشمكير، فكانت مدة ملكه سبعا وثلاثين سنة، وكان سبب خلعه أنه- مع ما كان فيه من الفضائل الجمّة، وحسن السياسة- كان شديد المؤاخذة، قليل العفو، يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه، واستطالوا أيّامه، وأجمعوا على خلعه، والقبض عليه، وكان حينئذ غائبا عن جرجان ببعض قلاعه، فلم يشعر إلا وقد أحاط. العسكريه، وانتهبوا أمواله ودوابّه، وقصدوا استنزاله، فمانع عن نفسه، فرجعوا إلى جرجان، واستواوا عليها وعصوا بها، وبعثوا إلى ابنه منوجهر وهو بطبرستان يعرّفونه الحال، ويستدعونه ليولّوه أمرهم، فسار عجلا خوفا من خروج الأمر عنه، فالتقوا «1» ، واتفقوا

على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم على كره منه، وكان شمس المعالى قد توجّه إلى بسطام «1» ، فقصدوه، فلما وصل منوجهر إلى أبيه اجتمع به، وخلا معه، وعرفه ما هو فيه، وعرض عليه أن يقاتل معه من خرج عليه، ولو كان فيه ذهاب نفسه، فرأى قابوس خلاف ذلك، وسهل عليه الأمر حيث صار إلى ابنه، وسلم له خاتم الملك، وانتقل إلى قلعته: [جناشك «2» ] ليتفرغ للعبادة، وسار منوجهر إلى جرجان، وضبط الملك، وأخذ في مداراة الذين خرجوا على أبيه، فدخلوا عليه في بعض الأيام وحسّنوا له قتل والده، وخوفوه «3» ، وصمموا على إعدامه، وهو لا يجيبهم بكلمة، ثم فارقوه وجاءوا إلى أبيه، وقد دخل الطهارة، وهو متخفف، فأخذوا ما كان عليه من الكسوة، وكان فصل الشتاء، فصار يستغيث ويقول: أعطونى، ولو جلّ دابة حتى مات من شدة البرد، وجلس ولده منوجهر للعزاء. وكان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل، وشعر حسن. وكان عالما بالنجوم. قال: ولما ملك منوجهر لقبه الخليفة القادر بالله ملك «4» المعالى، ثم راسل «5» يمين الدولة محمود بن سبكتكين، ودخل في طاعته،

ذكر ملك أنوشروان داره بن ملك المعالى منوجهر ابن قابوس شمس المعالى وهو السابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية

وخطب له على سائر منابر بلاده، وتزوج ابنته، فقوى عضده به، وشرع منوجهر في التدبير على قتلة أبيه، فأبادهم بالقتل والتّشريد. واستمرّ في الملك إلى سنة عشرين وأربعمائة، فتوفى فيها، فكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة. ولما مات ملك بعده ابنه. ذكر ملك أنوشروان داره بن ملك المعالى منوجهر «1» ابن قابوس شمس المعالى وهو السابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية ملك بعد وفاة أبيه منوجهر في سنة عشرين وأربعمائة، وقام بتدبير دولته أبو كاليجار القوهى، وتقدم على جيشه، وتزوج بأمه، ثم قبض عليه أنوشروان بعد ذلك بمساعدة أمه، فلما قبض عليه طمع فيه السلطان طغرلبك السلجقى، فسار إلى جرجان في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومعه مرداويج بن بسو، ونازلها، فلم يمانعه أهلها، وفتح له أبوابها، وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحا، وسلّمها إلى مرداويج، وقرّر عليه «2» في كل سنة خمسين ألف دينار عن جميع الأعمال، ثم اصطلح أنوشروان ومرداويج، وتزوج بأم أنوشروان، وضمن له أنوشروان في كل سنة ثلاثين ألف دينار، وبقى أنوشروان يتصرف بأمر مرداويج لا يخالفه في شىء، وأقيمت الخطبة لطغرلبك.

ذكر أخبار الدولة الغزنويه

وانقرضت الدولة الديلمية الجيلية، وكانت مدة هذه الدولة منذ ملك أسفار بن شيرويه. في سنة ست عشرة وثلاثمائة، وإلى أن استولى طغرلبك على جرجان في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، مائة سنة وثمان عشرة سنة تقريبا «1» ، وعدة من ملك منهم سبعة ملوك، وهم: أسفار بن شيرويه، ثم مرداويج بن زيار، ثم وشمكير بن زيار، ثم ظهير الدوله هشيتون بن وشمكير، ثم شمس المعالى قابوس ابن وشمكير، ثم ملك المعالى منوجهر قابوس «2» ، ثم ابنه أنوشروان دارا. وعليه انقرضت دولتهم. والله أعلم بالصواب. ذكر أخبار الدولة الغزنويه كان ابتداء هذه الدولة بغزنة في سنة ست وستين وثلاثمائة، ثم استولت على خراسان، والغور «3» ، والهند، وغير ذلك، وأول من قام منهم سبكتكين «4» ، ونحن نذكر أخباره، وابتداء أمره إلى أن ملك بعده من أولاده، وأولادهم، إلى حين انقراض دولتهم.

ذكر أخبار ناصر الدولة سبكتكين وابتداء أمره وما كان منه إلى أن ملك

ذكر أخبار ناصر الدولة سبكتكين وابتداء أمره وما كان منه الى أن ملك كان سبكتكين من غلمان أبى إسحاق بن [البتكين] «1» صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان مقدما عنده، وعليه مدار أمره، وقدم إلى بخارى أيام الأمير منصور بن نوح مع أبى إسحاق، فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل والعفة وجودة الرأي، وعاد معه إلى غزنة، ثم لم يلبث أبو إسحاق أن توفى، ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح المتقدم، فأجمع أصحابه رأيهم على سبكتكين، فقدموه عليهم، وولّوه أمرهم، وحلفوا له وأطاعوه، فأحسن السيرة فيهم، وساس أمورهم، وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال، وكان يدخر من إقطاعه ما يعمل منه طعاما لهم في كل أسبوع مرتين. فعظم شأنه، وارتفع قدره، وحسن ذكره، وتعلقت الأطماع بالاستعانة به. ذكر ولايته «2» قصدار وبست كان سبب ذلك أن طغان خان صاحب بست خرج عليه أمير يعرف ببابى تور «3» ، فملك مدينة بست منه، وأجلاه عنها بعد حرب شديدة، فاستغاث بسبكتكين، والتزم بمال يحمله إليه في

ذكر غزوه الهند، وما كان بينه وبينهم

كل سنة، وطاعة يبذلها، فسار معه، ونزل على بست، وقاتل الخارج على طغان قتالا شديدا، وهزمه، وتسلم طغان البلد، فلما استقر فيه طالبه سبكتكين بما استقر عليه، فأخذ يماطله، فأغلظ. له في القول لكثرة مطله، فحمل طغان الجهل على أن ضرب سبكتكين وحجز العسكر بينهما، وقامت الحرب بينهما على ساق، فانهزم طغان، واستولى سبكتكين على بست، وسار طغان إلى قصدار- وكان «1» يتولاها أيضا- فعصى بها، واستعصم، وظن أن ذلك يمنعه من سبكتكين، فسار إليه جريدة، فلم يشعر إلا والخيل معه، فأخذه من داره ثم منّ عليه، وأطلقه، ورده إلى ولايته، وقرر عليه مالا يحمله في كل سنة. ذكر غزوه الهند، وما كان بينه وبينهم قال: ولما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند، فافتتح قلاعا حصينة على شواهق الجبال، وعاد سالما ظافرا، فلما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه منه حشد، وجمع، واستكثر من الفيلة، وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين، فسار سبكتكين من غزنه بعساكره، وتبعه خلق كثير من المتطوعه، والتقوا واقتتلوا أياما كثيرة، وكانوا بالقرب من عقبة عورك، فلما طال الأمر على ملك

الهند طلب الصلح، وقرر على نفسه مالا يؤديه لسبكتكين وخمسين قيلا وبلادا يسلمها، فعجل المال والفيلة، وأعطى جماعة من أهله رهائن على البلاد، وسيّر معه سبكتكين من يتسلّمها. فلما أبعد ملك الهند قبض على من معه من أصحاب سبكتكين، وجعلهم عنده عوضا عن رهائنه، فلما اتصل ذلك بسبكتكين جمع العساكر وسار نحوه، وأخرب كل ما مرّ عليه من بلاد الهند، وقصد لمغان «1» ، وهى أحصن بلادهم، فافتتحها عنوة، وهدم بيوت الأصنام، وأقام فيها شعائر الإسلام، وسار عنها يفتح البلاد، ويقتل أهلها، فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة، فجمع جيبال ملك الهند العساكر «2» ، وسار في مائة ألف مقاتل، ولقيه سبكتكين، وأمر أصحابه أن يتناوبو القتال مع الهنود، ففعلوا ذلك حتى ضجر الهند من دوام القتال. وحملوا حملة واحدة، واشتد القتال، فانجلت «3» الحرب عن هزيمة الهنود، وأخذهم بالسيف، وأسر منهم خلق كثير، وغنم من أموالهم، وأثقالهم، ودوابهم ما لا يحصى كثرة، فذلّ الهنود بعد هذه الوقعة. وأطاع سبكتكين الأفغانية والخلج «4» ودخلوا تحت أمره وطاعته. فعظمت هيبته، واتسعت مملكته.

ذكر ملك محمود بن سبكتين خراسان

ذكر ملك محمود بن سبكتين خراسان قال: وفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة كانت ولاية محمود بن سبكتكين خراسان من قبل الأمير نوح بن منصور السامانى عوضا عن أبى على بن سيمجور، ولقّبه الأمير نوح سيف الدولة، ولقّب سبكتكين ناصر الدولة، وأقام محمود بنيسابور، ثم كانت بينه وبين بن على ابن سيمجور وقعة في سنة خمس وثمانين، فانهزم محمود، ثم جمع عساكره وعساكر أبيه، فأخرجا بن سيمجور عنها في بقية السنة، واستقر ملك محمود بخراسان على ما قدمناه في أخبار الدولة السامانية. ذكر وفاة ناصر الدولة سبكتكين وولاية ولده اسماعيل كانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائه، وكان إذ ذاك ببلخ، وقد جعلها مقر ملكه، وابتنى بها دورا ومساكن، فمرض وطال مرضه، فارتاح إلى هواء غزنة، فسار عن بلخ، فمات في طريقه، ونقل إلى غزنة، فدفن بها. وكانت مدة ملكه نحوا من عشرين سنة، وكان عادلا خيّرا، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، فاضلا عارفا، له نظم ونثر وخطب في بعض الجمع، وكان يقول بعد الدعاء للخليفة: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» «1» . ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك، وكان أصغر

ذكر سلطنة يمين الدولة محمود بن سبكتكين

من أخيه محمود، فبايعه الجند بعد وفاة أبيه، وحلفوا له، فأطلق لهم الأموال، ثم استصغروه، فاشتطّوا في الطلب حتى فنيت الخزائن التى خلفها سبكتكين. ثم استولى محمود على الملك فكانت مدة ملك «1» [اسماعيل] «2» سبعة أشهر. ذكر سلطنة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وهو الثالث من ملوكهم. وهو أول من تلقب بالسلطان، ولم يتلقب بها أحد قبله. قال: ولما بلغه خبر وفاة والده كان بنيسابور، فجلس للعزاء، ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزّيه، ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه بالملك لبعده عنه، ويذكر له ما يتعيّن من تقديم الكبير، وطلب منه الوفاق، وإنفاذ ما يخصه من ميراث أبيه، فلم يفعل. وتردّدت الرسائل بينهما، فلم تستقر قاعدة، فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازما على قصد غزنة، واجتمع بعمه بغراجق، فساعده على إسماعيل، وسار إلى بست، وبها أخوه نصر، فتبعه، وأعانه، وسار إلى غزنة، وبلغ الخبر إسماعيل وهو ببلخ، فسار عنها مجدّا فسبق أخاه محمودا إلى غزنه، وكان الأمراء الذين مع إسماعيل قد كاتبوا أخاه محمودا يستدعونه، ووعدوه الانحياز إليه، فجد [فى] «3» السير، والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنه، واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم إسماعيل، واعتصم بقلعة غزنه، فحصره

ذكر استيلاء يمين الدولة محمود على خراسان وانتزاعها من السامانية

أخوه محمود، واستنزله منها بأمان، فلما نزل إليه أكرمه، وأحسن إليه، وشاركه في ملكه، وعاد إلى بلخ، واستقامت له الممالك، وعظم شأنه، وأطاعته العساكر. ذكر استيلاء يمين الدولة محمود على خراسان وانتزاعها من السامانية كان سبب ذلك أن فايقا وبكنوزون مدبرى دولة الأمير منصور ابن نوح قبضا عليه، وسملاه كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار السامانية، فسار السلطان محمود نحوهما، والتقوا بمرو في جمادى الأولى «1» سنة تسبع وثمانين وثلاثمائة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم السامانية، فلحق عبد الملك، وفايق ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، ثم قصد نواحى جرجان، فأرسل محمود خلفه أرسلان الجاذب، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد، فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة، فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها وملكها، فقصده محمود، فهرب منه إلى بخارى بعد أن نهب مرو على طريقه، واستقر ملك محمود بخراسان، وزال ملك السامانية منها، وخطب بها للقادر بالله، وكان يخطب بها إلى هذا التاريخ للطائع بعد خلعه، وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصرا، وجعله بنيسابور، وسار هو إلى بلخ، وهى مستقر ملك أبيه، واتخذها دار ملك،

ذكر غزوة الهند

واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل قريغون «1» أصحاب الجوزجان. وكالشار الساه «2» صاحب غرشستان «3» ، والشار: لقب لمن ملك غرشستان ككسرى الفرس، وقيصر الروم. وفي سنة تسعين وثلاثمائة قتل بغراجق عم يمين الدولة؛ قتله طاهر بن خلف بن أحمد صاحب سجستان في حرب بينهما، فسار يمين الدولة نحو خلف بن أحمد أبو طاهر، فتحصن منه بحصن أصهنه «4» ، فحاصره، وضيق عليه، فبذل «5» الأموال، فأجابه إلى ما طلب، وأخذ رهائنه على ما تقرر من المال. والله أعلم بالصواب. ذكر غزوة الهند وفي المحرم سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة أحب يمين الدولة أن يغزو الهند ويجعل ذلك كفارة لقتاله مع المسلمين، فسار «6» ونزل على مدينة برشور «7» ، والتقى هو وجيبال ملك الهند، واقتتلوا إلى نصف

ذكر ملكه سجستان

النهار، فانهزم الهند، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر ملكهم جيال وجماعة كثيرة من أهله وعشيرته، وغنم المسلمون أموالهم وجواهرهم، وأخذ من عنق جيبال قلادة من الجوهر قومت بمائتى ألف دينار، وأخذ أمثالها من أعناق مقدميه «1» الأسرى، وغنم المسلمون خمسمائة ألف من الرقيق، وفتح كثيرا من بلاد الهند، ثم أحب أن يطلق جيبالا ليراه الهنود في شعار الذل، فأطلقه على مال قرره عليه، فأدى جيبال المال، ومن عادة الهنود أنه من حصل منهم في أيدى المسلمين أسيرا لم يعقد له بعدها رئاسة، فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه، وألقى نفسه في النار، فاحترق. ثم سار محمود نحو ويهند «2» ، فحاصرها، وأخذها عنوة، ثم بلغه أن طائفة من الهند اجتمعوا في شعاب تلك الجبال، فجهز إليهم من عساكره من قتلهم، فلم يسلم منهم إلا الشريد، وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا سالما ظافرا. ذكر ملكه سجستان وفي سنة تسعين وثلاثمائة «3» ملك يمين الدولة سجستان، وانتزعها من خلف ابن أحمد؛ وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد مصالحته على المال كما قدمناه عهد خلف لولده طاهر، وسلم إليه مملكته، وانقطع للاشتغال بالعلم، وإنما فعل ذلك ليظهر ليمين الدولة

تخلّية عن الملك لينقطع طمعه عن بلاده، فعفّه ولده، واستقلّ بالملك، فأخذ أبوه يلاطفه، وادعى المرض، فزاره ابنه طاهر، فقبض عليه، وسجنه إلى أن مات في سجنه، فتغير العسكر لذلك، وكاتبوا يمين الدولة في تسليم سجستان إليه، فجهّز من تسلمها، وقصد خلفا، وهو في حصن الطاق «1» ، وهذا الحصن له سبعة أسوار محكمة يحيط بها خندق عريض لا يعبر إليها إلا من جسر منه، فرفع الجسر فأمر يمين الدولة بطم الخندق بالأخشاب والتراب، فطموا منه ما يعبرون عليه إلى السور، وتقدم الفيل الكبير إلى باب السور واقتلعه بنابيه، وملك سورا بعد سور، فطلب خلف الأمان، فأمنه وحضر إليه، فأكرمه، وملك الحصن، وخير خلفا في المقام حيث شاء، فاختار أرض الجوزجان، فسيره إليها مكرما، فأقام نحو أربع سنين، ثم بلغ يمين الدولة أنه كاتب [إيلك خان] «2» ملك ما وراء النهر يحثه على قصد يمين الدولة، فنقله إلى جردين، فكان بها إلى أن مات في شهر رجب سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فسلم محمود جميع ما خلفه إلى ولده أبى حفص، وكان خلف هذا من العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن العظيم من أكبر كتب التفاسير. قال: ولما ملك يمين الدولة سجستان استخلف عليها أميرا كبيرا من أمرائه يسمى قنجى الحاجب، ثم أقطعها لأخيه نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور. والله أعلم.

ذكر غزوة بهاطية، وملكها

ذكر غزوة بهاطية، وملكها وفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة غزا يمين الدولة بهاطيه من أعمال الهند، وهى وراء [المولتان] «1» ، وصاحبها بجراء «2» . وهى مدينة حصينة عالية السور يحيطها خندق عميق، فامتنع صاحبها، ثم ظهر، فقاتل ثلاثة أيام، وانهزم في اليوم الرابع، وقصد المدينة، فسبقه المسلمون إلى بابها، وملكوها، فهرب بخاصته إلى رءوس الجبال، فجهز إليه يمين الدولة من يقاتله، فلما رأى الغلبة قتل نفسه بخنجر، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أحوالها، وعاد عنها بعد أن ترك بها من يثق به، ومن يعلّم من أسلم شرائع الإسلام، ولقى في عوده شدة كثيرة «3» من كثرة الأمطار، وزيادة الأنهار، وغرق من عسكره خلق كثير. ذكر غزوة المولتان وفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة بلغ يمين الدولة أن أبا الفتوح والى المولتان خبث اعتقاده، ونسب إلى الإلحاد، وأنه دعا أهل ولايته إلى ذلك، فأجابوه، فرأى أن يغزوه، فسار نحوه، فرأى الأنهار

ذكر غزوة كواكير

التى في طريقه كثيرة الزيادة لا سيما (سيحون) فأرسل إلى آننديال «1» عظيم الهند يطلب إذنه في العبور ببلاده إلى المولتان، فلم يجب إلى ذلك، فابتدأ محمود به، وجاس خلال بلاده، وأكثر فيها النهب والقتل والإحراق، ففر آننديال بين يديه، وتبعه إلى أن وصل إلى قشمير، فلما سمع أبو الفتوح بمقدم يمين الدولة علم العجز عنه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها، وملكها عنوة، وألزم أهلها عشرين ألف «2» درهم عقوبة لعصيانهم. ذكر غزوة كواكير «3» قال: ثم سار إلى قلعة كواكير، وكان صاحبها يعرف ببيدا، وكان بها ستمائة صنم فاقتحمها، وحرق الأصنام، فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة «بكالنجار «4» » ، فسار خلفه إليها، وهى حصن عظيم بسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة فيل، وعشرون ألف دابة: وفيه من الأقوات ما يكفى الجميع مدة، فلما صار منه على سبعة فراسخ رأى من الغياض «5» ما يمنعه عن سلوك الطريق، فأمر بقطعها،

ذكر عبور عسكر ايلك خان إلى خراسان

فقطعت، ورأى في الطريق واديا عظيم العمق بعيد القعر، فأمر أن يطم «1» بالجلود المملوءة بالتراب فطموه، ووصلوا القلعة، فحاصرها ثلاثة وأربعين يوما، فراسله صاحبها في الصلح، فامتنع عليه، ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد [إيلك خان] «2» ، فصالحه على خمسمائة فيل وثلاثة آلاف منّ من الفضة، ولبس خلعة يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة، فلم يعفه، وشدها، وقطع خنصره، وأنفذها ليمين الدولة، توثقة فيما يعتقدونه على عادة الهنود، وعاد يمين الدولة إلى خراسان. ذكر عبور عسكر ايلك خان الى خراسان كان يمين الدولة لما ملك خراسان من السامانية، ومالك إيلك خان ما وراء النهر منهم تراسلا، وتوافقا، وتزوج يمين الدولة ابنة [إيلك خان] وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم [إيلك خان] ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم [إيلك خان] غيبته عن البلاد، فسيّر سباشى تكين صاحب جيشه إلى خراسان، وذلك في سنة ست وتسعين وثلاثمائة في معظم جنده، وجهز أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء، وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميرا من أمرائه يقال له أرسلان: الجاذب،

وأمره إذا ظهر «1» عليه مخالف ينحاز إلى غزنة، فلما عبر سباشى تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشى هراه، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها، فوصلت الأخبار يمين الدولة وهو بالهند، فعاد لا يلوى على شىء، فلما قارب غزنة فرق الأموال في عساكره، وقواهم، واستنفر الأتراك الخلجيه، فجاءه منهم خلق كثير، فسار بهم إلى نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو [إيلك خان] ، فعبر إلى تزمذو ونزل نحو «مرو» ليعبر النهر، فقاتله [التركمان] «2» ، فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم سار نحو [أبيورد] «3» ، فتبعه عسكر يمين الدولة، فوصل إلى جرجان، فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضة- يمين الدولة، فمنعه من قصده وأسرا «4» أخو سباشى تكين، وجماعة من قواده، ونجا هو في بعض أصحابه، فعبر النهر، وانهزم من كان ببلخ مع جعفر تكين «5» ، وتسلم يمين الدولة خراسان.

ذكر انهزام ايلك خان من يمين الدولة

ذكر انهزام ايلك خان من يمين الدولة قال: ولما أخرج يمين «1» الدولة عساكر [إيلك خان] من خراسان راسل [إيلك خان] «2» قدر خان ابن بغراخان ملك الختن «3» لقرابة بينهما، واستعان به، فاستنفر الترك من أقاصى بلادها، وسار نحو خراسان، واجتمع هو [وإيلك خان] فعبروا النهر، واتصل خبرهم بيمين الدولة، وهو بطخارستان، فسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية والخلج والهند والأفغانية والغزنوية «4» ، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين منها «5» بمكان فسيح، وقدم [إيلك خان] ، وقدرخان فى عساكرهما، ونزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل، فلما كان الغد برز بعضهم لبعض، فاقتتلوا، فاعتزل يمين الدولة على نشر مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته، وعفرّ وجهه على الصعيد تواضعا لله تعالى، وسأل النصر والظفر، ثم حمل [بفيلته] «6» على قلب عسكر [إيلك خان] ، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة، وتبعهم

ذكر غزوه الهند وعوده

أصحاب يمين الدولة يقتلون «1» ، ويأسرون، ويغنمون، إلى أن عبروا النهر. وأكثر الشعراء القول في تهنئة يمين الدولة بهذا الفتح، وذلك فى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. ذكر غزوه الهند وعوده قال: ولما فرغ يمين الدولة من حرب الترك بلغه أن بعض أولاد ملوك الهند واسمه نواسد «2» شاه، وكان قد أسلم على يد يمين الدولة، واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم ارتد عن الإسلام، وعاد إلى الكفر، فسار إليه مجدا، فحين بلغ الهندى قربه فرّ من بين يديه، واستعاد يمين الدولة البلاد، واستخلف عليها بعض أصحابه، وعاد إلى غزنة في السنة المذكورة. ذكر غزوة بهيم نغز «3» وما غنمه من الأموال وغيرها وفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة استعد يمين الدولة لغزو الهند وسار في شهر ربيع الآخر من السنة، فانتهى إلى شاطى، [نهرويهند] «4» ، فلاقاه هناك ابرهمن نال بن آننديال «5» فى جيوش الهند، فاقتتلوا مليا من النهار، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم كان الظفر للمسلمين،

فانهزم الهند على أعقابهم، وأخذهم السيف، وتبع يمين الدولة الملك حتى بلغ بهيم نغر، وهى على جبل عال كان الهند قد جعلوها خزانة لصنمهم الأعظم، فينقلون إليها أنواع الذخائر قرنا بعد قرن، وهم يرون ذلك تقربا لآلهتهم وعبادة، فقاتلهم عليها، وحصرها، ووالى الحصار، فلما رأى الهنود كثرة جموعه، وشدة قتاله جبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، فملكه المسلمون، فصعد يمين الدولة إليه في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ من الجواهر ما لا يحدّ، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأوانى الذهب والفضة سبعمائة ألف وأربعمائة منّ. وكان في الحصن بيت مملوء من الفضة طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا، فأخذ جميع «1» ما فيه إلى غير ذلك من الأمتعة، وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فشاهدوا ما لم يسمعوا بمثله. وفي سنة أربعمائه. غزا «2» يمين الدولة الهند وأحرقها، واستباحها، ونكس أصنامها، فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه إليه وخمسين فيلا، وأن يكون له في خدمة يمين الدولة ألفا فارس لا يزالون، فقبض ذلك منه، وصالحه، وعاد إلى غزنه.

ذكر غزوة بلاد الغور واستيلائه عليها

ذكر غزوة بلاد الغور واستيلائه عليها وبلاد الغور تجاور غزنه، وهى جبال منيعة، ومضايق، وكان أهلها قد كثر فسادهم، وتعديهم يقطعون الطريق ويخيفون السبيل، فأنف يمين الدولة من ذلك، فسار إليهم في سنة إحدى وأربعمائة، وقاتلهم أشد قتال، ثم سار إلى عظيم الغورية المعروف بابن سورى وهو بمدينة آهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم إلى أن انتصف النهار، فأمر يمين الدولة أن ينهزم المسلمون، فانهزموا وتبعهم ابن سورى حتى أبعدوا عن المدينة، ثم عطف المسلمون على الغوريه، ووضعوا فيهم السيف، وملك المدينة، وأسر بن سورى، فشرب سمّا كان معه، فمات، وأظهر يمين الدولة شعائر الإسلام في بلاد الغور، وجعل عندهم من يعلمهم شعائر الإسلام وشرائعهم. ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع مفازة رمل، ولحق عساكره عطش عظيم حتى كادوا يهلكون بسببه، فأرسل الله تعالى عليهم مطرا سقاهم، وسهل عليهم سلوك الرمل، فوصلوا إلى الكفار ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال كان الظفر فيه للمسلمين، وانهزم الكفار، وأخذ غنائمهم وعاد سالما.

ذكر ملكه قصدار

ذكر ملكه قصدار وفي سنة اثنتين وأربعمائة ملك يمين الدولة قصدار. وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة «1» فى كل سنة يؤديها إلى يمين الدولة، ثم قطعها اغترارا بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق إليه، واحتمى [بإيلك خان] ، وكان يمين الدولة إذا قصد المسير إليه رجع عن ذلك إبقاء لمودة [إيلك خان] ، فلما فسد ما بينهما سار إليها في جمادى الأول من السنة، فسبق خبره، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلا، فطلب الأمان، فأجابه إليه، وأخذ منه ما كان قد اجتمع عنده من المال، وأقره على ولايته وعاد. وفي سنة ثلاث وأربعمائة كانت وفاة [إيلك خان] ، وولاية أخيه طغان خان، وكان قد تجهز للعود إلى خراسان لقتال يمين الدولة. فلما مات طغان خان راسل يمين الدولة، وتصالحا، واتفقا أن كلا منهما يستقل «2» بغزو من يليه من الكفار، فكان يمين الدولة يقاتل الهند، وطغان خان يقاتل الكفار. ذكر فتح ناردين [وفي] «3» سنة أربع وأربعمائة سار يمين الدولة إلى الهند، فسار شهرين حتى قارب مقصده، فسمع عظيم الهند به فجمع، وبرز إلى جبل صعب

ذكر غزوة تانيشر

المرتقى، فاحتمى به، وطاول «1» المسلمين، وكتب إلى الهنود، فاجتمع إليه كل من حمل السلاح، فلما تكاملت عدته نزل من الجبل والتقوا، واقتتلوا، واشتد القتال، فهزمهم المسلمون، وأكثروا فيهم القتل، وغنموا ما معهم من مال وفيلة وسلاح. ولما عاد إلى غزنة أرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشورا وعهدا بولاية خراسان وما بيده من الممالك، فكتب له ولقب نظام الدين «2» . ذكر غزوة تانيشر «3» قال: وذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة من جنس فيلة الصليمان الموصوفة في الحرب، وأن صاحبها غال في الكفر، فعزم على غزوه، فسار في سنة خمس وأربعمائة، فلقى في طريقه أودية بعيدة القعر وعرة المسالك، وقفارا فسيحة الأطراف قليلة المياه، فقاسى شدة، ومشقة عظيمة، فلما قارب المقصد لقى نهرا شديد الجرية صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه يمنع من عبوره ومعه عساكره وفيلته التى كان يدلّ بها، فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، ففعلوا ذلك، وشغل الهنود بالقتال عن حفظ النهر، فما كان إلا وقد عبر سائر العسكر،

ذكر قتل خوارزم شاه وملك يمين الدولة خوارزم

وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار. فانهزم الهنود، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والفيلة، وعاد إلى غزنة. ذكر قتل خوارزم شاه وملك يمين الدولة خوارزم وفي سنة سبع وأربعمائة قتل خوارزم شاه أبو العباس [مأمون] «1» بن مأمون. وسبب ذلك أنه كان قد ملك خوارزم الجرجانية «2» ، وحضر عند يمين الدولة، وتزوج أخته، ثم بعث إليه يمين الدولة أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، واستشار أمراءه، فغضبوا من ذلك، وامتنعوا منه، وتهددوه بالقتل إن فعل، فعاد الرسول إلى يمين الدولة، وأخبره بما شاهده، ثم خافه الأمراء فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا أحد أولاده مكانه، وتعاهدوا على قتال يمين الدولة إن قصدهم، واتصل الخبر به، فجمع العساكر، وسار نحوهم والتقوا، واشتدت الحرب، فثبت الخوارزمية إلى نصف النهار ثم انهزموا، فأخذهم السيف، ولم يبق منهم إلا القليل. وجمع من أسر منهم وسيرهم إلى أطراف بلاده بالهند، وملك يمين الدولة خوارزم، واستناب بها حاجبه التونتاش «3» .

ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهما من الهند

ذكر غزوة قشمير وقنوج «1» وغيرهما من الهند وفي سنة سبع وأربعمائة أيضا بعد فراغ يمين الدولة من خوارزم سار إلى غزنة، ثم منها إلى الهند عازما على غزو قشمير، واجتمع له من المتطوعة من بلاد ما وراء النهر وغيره نحو عشرين ألف مقاتل، وسار من غزنة إليها سيرا دائما في ثلاثة أشهر، وعبر نهر سيحون، [وجيلم] «2» ، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، ووطىء أرض الهند، وأتته رسل ملوكها بالطاعة، وبذل الأتاوة، فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها «3» وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ [ماء جون] «4» في العشرين من شهر رجب، وفتح ما حولها من الحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودب، «5» وهو أحد ملوك الهند فنظر «هودب» من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله، فعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فنزل في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، فأقبل عليه يمين الدولة وأكرمه وسار عنه إلى قلعة كلجند «6» ، وهو من أعيان الهند، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة،

فسير كلجند عساكره وفيلته إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقا مختصرا إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالا شديدا، فانهزموا وأخذهم السيف من ورائهم، ولقوا نهرا عميقا، فاقتحموه، فغرق أكثرهم، فكان القتلى والغرقى قريبا من خمسين ألفا. وعمد كلجند إلى زوجته، فقتلها ثم قتل نفسه. وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه. ثم سار نحو بيت متعبد لهم وهو «مهرّة» «1» بالهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم فيه كثير من الأصنام من جملتها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة بالجوهر زنتها ستمائة ألف وسبعون ألف وثلاثمائة مثقال، وبه من الأصنام المصوغة من الفضة نحو مائتى صنم، فأخذ يمين الدولة جميع ذلك، وأحرق الباقى، وسار نحو قنوّج وصاحبها جيبال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها وعبر النهر المعروف بنهر الكنك، وهو نهر شريف معظم عندهم- وتقدّم خبره في باب الأنهار- فأخذها يمين الدولة وسائر قلاعها وأعمالها وهى على النهر المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت «2» صنم يذكرون أنها عملت من مائتى ألف إلى ثلاثمائة ألف سنة كذبا منهم. ولما افتتحها أباحها عسكره. ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلهم فثبتوا، واستسلموا للقتل، فقتلوا، ولم ينج منهم إلا القليل. ثم سار نحو قلعة آسى «3» وصاحبها جندياك، فلما قاربها

ذكر أخبار الملوك الخانية بما وراء النهر والأتراك

هرب صاحبها، فأخذها يمين الدولة بما فيها، ثم سار إلى قلعة شروه «1» وصاحبها جندارى، فلما قاربه نقل ماله وفيلته إلى جبال هناك منيعة، فنازل يمين الدولة حصنه وافتتحه، وغنم ما فيه وسار في طلب جندارى جريدة، فلحقه في آخر شعبان فقاتله، وقتل رجاله، وأسر كثيرا منهم، وغنم ما معه من مال وفيلة، ونجا جذارى في نفر يسير من أصحابه. ثم عاد يمين الدولة إلى غزنة، فبنى بها الجامع الذى لم يسمع بمثله، وأنفق ما غنم في هذه الغزوة على بنائه. والله أعلم بالصواب. ذكر أخبار الملوك الخانية بما وراء النهر والأتراك وفي سنة ثمان وأربعمائة خرج الترك من الصين، وسبب ذلك أن طغان خان مرض مرضا شديدا، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد، وساروا من الصين في عدد يزيد على ثلاثمائة ألف خركاه من أجناس الترك منهم الخطا الذين ملكوا ما وراء النهر، فساروا إلى أن قربوا من بلا ساغون «2» ، وبقى بينهم وبينها ثمانية أيام واستولوا على أطراف البلاد، فسأل طغان خان الله تعالى أن يعافيه لينتقم منهم. ويحمى البلاد، ثم يفعل به ما يشاء. فعافاه الله تعالى، فجمع العساكر واستنفر جميع بلاد الإسلام، فاجتمع له من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألف مقاتل، فلما بلغ الترك ذلك رجعوا، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر، فأدركهم وهم آمنون، فكبسهم، وقتل منهم زيادة على مائتى ألف رجل

ذكر أخبار قدرخان وأولاده

وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب، والخركاهات، والأوانى الذهبية والفضية، ومعمول الصين ما لا عهد بمثله، وعاد إلى بلا ساغون، فعاوده المرض، فمات رحمه الله تعالى. وكان عادلا خيرّا دينا يحب العلم وأهلة، ويميل لأهل الدين، ويصلهم ويقربهم. ولما مات ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فحالف عليه قدرخان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، وكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان، فعقد يمين الدولة على نهر جيحون جسرا من السفن، وضبطه بالسلاسل وعبر عليه، ولم تكن تعرف الجسور قبل ذلك هناك، فلما عبر النهر اتفق قدرخان وأرسلان خان وتعاقدا على قصد بلاد يمين الدولة واقتسامها، فعاد يمين الدولة إلى بلاده، وسار قدرخان وأرسلان خان «1» إلى بلخ والتقوا بيمين الدولة واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه ليمين الدولة عليهما، فعادا وعبرا جيحون، وكان من غرق منهم أكثر ممن نجا. ذكر أخبار قدرخان وأولاده كان قدرخان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان عادلا حسن السيرة كثير الجهاد، فمن فتوحه «ختن» ، وهى بلاد بين الصين وتركستان، كثيرة العلماء والفضلاء واستمر إلى سنة

ثلاث وعشرين وأربعمائة، فتوفى. وكان يديم الصلاة في الجماعة. ولما توفى ملك أولاده بعده، واقتسموا البلاد، فملك أبو شجاع أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، كاشغر، وختن «1» ، وبلاساغون. وخطب له على منابرها. قيل: ولم يشرب الخمر قط. وكان ديّنا مكرما للعلماء، وأهل الدين يقصدونه من كل جهة، ويصلهم ويحسن إليهم. وملك بغراخان بن قدرخان طراز وأسبيجاب «2» فقصد أخاه أرسلان خان وحاربه، وأسره وحبسه إلى أن مات. وملك بلاده، ثم عهد بغراخان بن قدر خان بالملك لولده الأكبر واسمه حسين جغرتكين. وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك فسمّت بغراخان، فمات هو وعدّة من أهله. وخنقت أخاه أرسلان خان بن قدرخان، وذلك في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملّكت ابنها واسمه إبراهيم، وسيرّته في جيش إلى مدينة برسخان «3» ، وصاحبها ينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله،

ذكر ملك طفغاج خان وولده

وانهزم عسكره إلى أمه. [واختلف] «1» أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان. ذكر ملك طفغاج خان وولده هو أبو المظفر إبراهيم بن نصر بن [إيلك] ، ويلقب عماد الدولة، كان بيده سمرقند وفرغانه، وكان أبوه زاهدا متعبدا، وهو الذى ملك سمرقند، وورثها طفغاج هذا منه، وكان طفغاج متديّنا لا يأخذ مالا حتى يستغنىّ العلماء، وورد عليه أبو شجاع العلوى الواعظ. وكان من الزهّاد، فوعظه، وقال: إنّك لا تصلح للملك، فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد، وقالوا: قد أخطأ الواعظ، والقيام بأمورنا متعيّن عليك، ففتح بابه، واستمر في الملك إلى سنة ستّين وأربعمائة، ففلج، ثم مات. وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك نصر، فقصده أخوه طغان خان بن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: إن طغان خان قد خرب ضياعنا «2» وأفسدها، ولو كان غيره ساعدناك عليه. ونحن لا ندخل بينكما، فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام، فكبس أخاه، وهو غير متحفّظ فهزمه. وكان هذا وأبوهما باق، ثم قصده هارون بن بغراخان بن قدرخان، وطغرل قراخان. وكان طفغاج خان قد استولى

على ممالكهما «1» ، فقصدا سمرقند فلم يظفرا بشىء، فصالحا شمس الملك، وعادا فصارت الأعمال المتاخمه لنهر جيحون لشمس الملك، وأعمال الخافقة في أيديهما، والحد بينهما خجندة «2» . ثم مات شمس الملك، فملك بعده أخوه خضرخان، ثم مات، فملك بعده ابنه أحمدخان، وهو الذى قبض عليه السلطان ملكشاه السلجقى، ثم أعاده إلى ولايته، وأحمد هذا هو ابن أخى تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه، وكان أحمدخان قبيح الصورة والفعل كثير المصادرات، فنفّر الرعية منه، وكاتبوا السلطان ملكشاه السلجقى، واستغاثوا به «3» ، وسألوه أن يقدم عليهم ليملك بلادهم، فعبر ما وراء النهر في سنة اثنين وثمانين وأربعمائة، وملك بخارى. وما جورها، ثم سار إلى سمرقند، فملكها، وهرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة، فغمز عليه، وحمل إلى السلطان، وفي عنقه حبل، فأكرمه السلطان. وأرسله إلى أصفهان، واستولى ملكشاه على سمرقند وبخارى، واستعمل عليها من قبله على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة السلجقية. ثم ملك محمودخان. وكان جدّه من ملوكهم. وكان أصم، فقصده طغان خان صاحب طراز، فقتله. واستولى على الملك. واستناب بسمرقند أبا المعالى محمد بن محمد ابن زيد العلوى البغدادى، فأقام ثلاث سنين وعصى على طغان خان.

فحاصره، وقتله، وقتل معه خلقا كثيرا، ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر السلجقى، فظفر به وقتله، وصار له أعمال ما وراء النهر، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين بن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمرخان، وملك سمرقند ثم هرب من جنده، وقصد خوارزم، فظفر به السلطان سنجر، وولى محمدخان سمرقند، وولى محمد تكين بن طغان تكين بخارى. هؤلاء ملوك سمرقند وما والاها. وأما كاشغر وهى مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان، ثم صارت بعده لمحمود [بغرا] «1» خان صاحب طراز [والشاش] خمسة عشر شهرا، ثم مات، فولى بعده طغراخان بن يوسف واستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ستة عشر سنة. ثم توفى، وملك ابنه طغرل تكين فأقام شهرين، ثم أتى هارون بغراخان أخو يوسف طغرل خان بن طفغاج [بغراخان] » ، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر وختن، وما يتصل بها إلى بلاساغون، وأقام في الملك عشرين «3» سنة، وتوفى في سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولى بعده «4» ابنه أحمد أرسلان خان، وراسل الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه

ذكر غزوة الهند والأفغانية

ما طلب ولقبه نور الدولة، ثم صار ملك ما وراء النهر لملوك الخطا، وانقرضت الدولة الخانية، وإنما ذكرناها في هذا الموضع لاتحادها وقربها من الدولة الغزنوية، ولتكون أخبارهم متوالية. نرجع إلى أخبار يمين الدولة محمود بن سبكتكين. ذكر غزوة الهند والأفغانية وفي سنة تسع وأربعمائة جمع يمين الدولة من الجموع ما لم يجمع قبله مثله، وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنّوج، وهرب صاحبها منها ويلقب [براى قنوج،] وراى «1» لقب للملك ككسرى، وقيصر، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا عظيم ملوك الهند وقسم مملكته كجوراهة «2» رسلا إلى راى قنوج واسمه راجيبال يوبخه على هربه، وتسليم بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، فآل ذلك إلى الحرب بينهما، فقتل راجيبال وأكثر جنوده، فازداد بيدا بذلك عظمة وعتوا، وقصده بعض ملوك الهند الذين ملك يمين الدولة بلادهم، وخدموه، وصاروا في جملة جنده، فوعدهم بإعادة ممالكهم إليهم، فاتصل ذلك بيمين الدّولة، فتجهّز للغزو، وقصد بيدا، وسار من غزنة، وابتدأ بالأفغانية، وهم كفّار يسكنون الجبال ويفسدون، ويقطعون الطريق، فخرّب بلادهم، وأكثر فيهم القتل والأسر، ثم استقل في السّير،

وبلغ في الهند ما لم يبلغه غيره، وعبر نهر الكنك، فلما جاوزه وجد قافلة تزيد على ألف جمل، فغنمها وسار، فأتاه خبر ملك من ملوك الهند، يقال له تروجنيال «1» ، أنه قد سار من بين يديه يريد بيدا ليحتمى به، فلحقه في رابع عشر شوال «2» ، فاقتتلوا عامّة نهارهم، فانهزم تروجنيال ومن معه، وكثر فيهم القتل والأسر، وغنم المسلمون أموالهم وأهليهم، وأخذوا منهم جواهرا كثيرة، وما يزيد على مائتى فيل، وخرج ملكهم، وأرسل يطلب الأمان، فلم يؤمنه، ولم يقع، منه بغير الإسلام، فسار ثم قتله بعض الهنود، ولما بلغ ذلك ملوك الهند تابعوا رسلهم إلى يمين الدّولة يبذلون الطاعة والإتاوة، وسار بعد الوقعة إلى بارى «3» وهى من أحصن البلاد، فرآها قد خلت من سكانها، فأمر بهدمها، وعشرة قلاع معها، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وسار يطلب «بيدا» ، فلحقه، وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء بين يديه، فصار وحلا، وترك عن يمينه وشماله طريقا يبسا يقاتل فيه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل وأربعين «4» فيلا، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمدّ أصحابه حتى كثر الجمعان، واشتدت الحرب، ودام القتال حتى حجز بينهما الليل، فلما كان الغد بكر يمين الدّولة

ذكر فتح قلعة من بلاد الهند

للقتال، فرآهم قد فارقوا موضعهم، وانهزموا، وركب كل فرقة منهم طريقا، ووجدوا خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنم المسلمون جميع ذلك، واقتفى آثار من انهزم، فأكثر فيهم انقتل والأسر، ونجا بيدا وعاد يمين الدولة إلى غزنة. ذكر فتح قلعة من بلاد الهند وفي سنة أربع عشرة وأربعمائة أو غل يمين الدّولة في بلاد الهند، فغنم وقتل حتى وصل إلى قلعة في رأس جبل منيع ليس يصعد إليه إلا من طريق واحد، وفيها خمسمائة فيل، وغلات كثيرة، ومياه، فحصرها يمين الدولة، وداوم الحصار، وضيّق عليهم، وقتل منهم كثيرا، فطلبوا الأمان، فأمّنهم، وأقرّ ملكها فيها على خراج يؤخذ منه، وأهدى له هدايا كثيرة، وقيل إن هذا الملك هو كابلى «1» ، وهو صاحب ألف فيل، وكان فيما أهداه فيلة حوامل ومراضع، وطائر على هيئة القمرى جلبابه أدكن، وعيناه ومنقاره حمر، وجناحاه مخططان بسواد، ومن خاصيّته أنه إذا حضر على رأس الخوان، وكان في الطعام سمّ دمعت عيناه، وجرى منهما ماء، ويتحجر فإذا أخذ ذلك الحجر، وحكّ وطلى به الجراحات الواسعة ألحمها، وإن كان في البدن نصل تعسّر إخراجه، قوبل به، فيجذبه حتى يمكن إخراجه، فقبل هديّته، وأقرّه على جهته، وعاد إلى غزنة مؤيّدا منصورا

ذكر فتح سومنات

ذكر فتح سومنات «1» وفي سنة ست عشرة وأربعمائة فتح يمين الدولة عدة حصون ومدن من بلاد الهند، وأخذ الصنم المعروف بسومنات، وهو أعظم أصنام الهند، وكانوا يحجّون إليه كلّ ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينوف على ألف «2» إنسان، وزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت «3» إليه فينشئها فيما ينشأ، وأن المدّ والجزر إنما هو عادة للبحر ويحملون إليه كلّ علق نفيس، ويعطون سدنته الأموال الجليلة، وفيه من نفيس الجواهر ما لا تحصى قيمته، وبينه وبين نهر الكنك الذى تعظّمه الهنود نحو مائتى فرسخ يتحملون من ماء هذا النهر إلى سومنات ماء يغسل به في كل يوم، وعنده من البراهمة ألف رجل لعبادته، وتقديم الورّاد إليه، وثلاثمائة رجل تحلق رءوس زواره ولحاهم، وخمسمائة رجل، وخمسمائة امرأة يغنّون، ويرقصون على باب الصنم، ولكلّ منهم في كل يوم شىء معلوم، وكان لسومنات من الضّياع الموقوفة عليه ما يزيد على عشرة آلاف ضيعة. قال: وكان يمين الدولة كلّما فتح فتحا من بلاد الهند، وكسر أصناما، تقول الهنود: «إنا هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنّه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء» ، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه، وإهلاكه لعل الهنود إذا فقدوه، ورأوا دعاواهم باطلة

دخلوا في دين الإسلام؛ فاستخار الله تعالى، وسار من غزنة في عاشر شعبان من هذه السنة في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك طريق الملتان فوصلها في منتصف شهر رمضان، وفي طريقه إلى الهند قفار لا تسلك، لا ماء فيها ولا ميرة، فحمل ما يحتاج إليه هو وعسكره، وزاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل، تحمل الماء والميره، وقصد «1» أنهلوارة، فلما قطع المفازة رأى في طريقها حصونا مشحونة بالرجال فيسّر الله فتحها عليه، وامتار منها، وسار إلى أنهلوارة، فوصلها في مستهل ذى القعدة، فهرب عنها صاحبها المدعو نهيم، وقصد حصنا له يحتمى به، فاستولى يمين الدولة على المدينة وسار إلى سومنات، فلقى في طريقه عدة حصون بها كثير من الأوثان تشبه الحجّاب والنقباء لسومنات، فقاتل من بها، وفتحها وخربّها وكسر أصنامها، وسار «2» منها إلى مفازة قفر قليلة المياه، فلقى فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لا يدينون لملك، فهزمهم، وغنم مالهم، وامتار من عندهم، وسار حتى بلغ دبو الواره «3» ، وهى على مرحلتين من سومنات، وقد ثبت

أهلها ظنا منهم أن سومنات «1» يمنعهم، ويدفع عنهم، فاستولى عليها، وقتل رجالها، وغنم أموالها، وسار عنها، فوصل إلى سومنات فى يوم الخميس منتصف ذى القعدة، فرأى حصنا حصينا على ساحل البحر تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار ينظرون المسلمين، فلما كان الغد، وهو يوم الجمعة زحف، وقاتل حتى قارب السور، فصعده المسلمون. هذا والهنود تتقدم إلى سومنات، وتعفّر وجوهها في الأرض وتسأله النصر، واستمر القتال إلى الليل، ثم بكر المسلمون إليهم، وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود، وأزاحوهم عن المدينة، فالتجئوا إلى بيت صنمهم، فقاتلوا على بابه أشد قتال، فكان الفريق منهم بعد الفريق يفرون إلى الصنم، فيستغيثون به، ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون، فيقاتلون إلى أن يقتلوا حتى كاد الفناء يستوعبهم وبقى منهم شرذمة دخلوا البحر في مركبين لهم، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضهم، وغرق بعضهم. وأما البيت الذى فيه سومنات، فإنه مبنى على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وسومنات حجر طوله خمسة أذرع، ثلاثة مدوّرة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس هو بصورة مصوّرة، فكسره يمين الدولة، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة لباب الجامع، وكان بيت الصنم مظلما، وإنما كان الضوء فيه من قناديل الجوهر، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنها مائتا منّ كلما مضت طائفة من

البراهمة من عبادتهم حركوا الجرس، فتأتى طائفة أخرى، وعنده خزانة فيها عدة كثيرة من الأصنام الذهب والفضة وعليها الستور «1» المزصعة بالجوهر. كل منها منسوب إلى عظيم من عظماء الهند، وقيمة ما في البيوت يزيد على عشرين «2» ألف دينار، فأخذ الجميع وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل، ثم ورد الخبر على يمين الدولة أن نهم صاحب أنهلوارة قصد قلعة تسمى كندهة، فى البحر بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخا، فسار يمين الدولة من سومنات، فلما حاذى القلعة رأى صيادين، فسألهم عن خوض البحر هناك «3» ، فقالوا إنه ممكن، ولكن إذا تحرك الهواء غرق من فيه، فاستعان بالله تعالى، وخاض هو ومن معه، فسلموا، فرأوا نهيم قد فارق القلعة، وأخلاها، فعاد عنها، وقصد المنصورة، وكان صاحبها قد ارتدّ عن الإسلام، ففارقها واحتمى [بغياض] «4» منيعة، فأحاط يمين الدّولة بتلك الغياض؛ فقتل أكثر من بها من الهند وغرق بعضهم ولم ينج منهم إلا القليل، ثم سار إلى بهاطية فأطاعه أهلها، فرحل إلى غزنة، فوصلها في عاشر صفر سنة سبع عشره وأربعمائة، فكانت غيبته فى هذه الغزوة ستة شهور.

ذكر ملكة الرى وبلد الجبل

ذكر ملكة الرى وبلد الجبل وفي سنة عشرين وأربعمائة سار يمين الدولة نحو الرىّ، فانصرف منوجهر بن قابوس صاحب جرجان وطبرستان بين يديه، وحمل إليه أربعمائة ألف دينار، وكان مجد الدّولة بن فخر الدولة ابن بويه قد كاتب يمين الدولة يشكو إليه من جنده، وكان متشاغلا بالنساء، ومطالعة الكتب «1» ، ونسخها. وكانت أمّه تدبّر المملكة، فلما ماتت طمع فيه الجند. قال: فلما وصلت كتبه إليه سير إليه جيشا، وجعل المقدّم عليهم حاجبه، وأمره بالقبض على مجد الدولة، فسار الحاجب بالعسكر، فلما وصل تلقاهم مجد الدولة، فقبض عليه الحاجب، وعلى ولده أبى دلف، فانتهى الخبر إلى يمين الدولة، فسار إلى الرىّ، ودخلها في شهر ربيع الآخر، وأخذ من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى قيمته، وأحضر مجد الدولة وسيّره إلى خراسان. ثم ملك قزوين، وقلاعها، ومدينة ساوة، وآوه «2» ، وياقت «3» ، وقبض على صاحبها، وسيره إلى خراسان.

ولما ملك يمين الدولة الرىّ، كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفا وثلاثين ولدا، وأنه لما سئل عن ذلك قال: «هذه عادة سلفى» ، وصلب من أصحابه الباطنية خلقا كثيرا، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال، وأخذ ما سواها من الكتب، فكانت مائة حمل، وتحصّن منوجهر بن قابوس [بن] «1» وشمكير بجبال حصينة، فلم يشعر إلا وقد أطل يمين الدولة عليه، فهرب إلى غياض ملتفّة حصينة، وبذل له خمسمائة ألف دينار، فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب. وقبض المال وسار عنه إلى نيسابور. ثم توفّى منوجهر عقيب ذلك، وولى بعده ابنه أنوشروان، فأقره محمود على ولايته، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار أخرى، وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمينية. وخطب له بأصفهان، وعاد إلى خراسان، واستخلف بالرىّ ابنه مسعود، فقصد أصفهان، وملكها من علاء الدولة «2» ، وعاد عنها واستخلف بها بعض أصحابه، فثار أهلها، فقتلوه، فعاد إليهم مسعود، فقتل منهم نحو خمسة آلاف قتيل. وسار إلى الرىّ فأقام بها. والله أعلم بالصواب

ذكر ملك مسعود بن يمين الدولة محمود همذان

ذكر ملك مسعود «1» بن يمين الدولة محمود همذان وفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة سيّر مسعود جيشا إلى همذان، فملكها من نواب علاء الدولة بن بويه، وسار هو إلى أصفهان، ففارقها علاء الدولة، فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر «2» وغير ذلك، ثم عاد إلى بلاده. ذكر غزوة للمسلمين بالهند وفي هذه السنة غزا أحمد بن ينال تكين النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند مدينة برسى «3» ، وهى من أعظم مدن الهند، وكان معه نحو مائة ألف فارس وراجل، فشنّ الغارة على البلاد، ونهب وسبى، فلما وصل إلى المدينة، دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون يوما كاملا، ولم يفرغوا من سوق العطارين والجوهريين [فحسب] «4» ، وباقى أهل البلد لم يعلموا بذلك لأن طول البلد منزلة، وعرضه منزلة من منازل الهند، فلما جاء المساء لم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله، وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل لهذه المدينة عسكر المسلمين قبله ولا بعده.

ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وشىء من سيرته

ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وشىء من سيرته كانت وفاته رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة، فكان عمره إحدى وستين سنة وثلاثة أشهر تقريبا، ومدة سلطنته ثلاثا وثلاثين سنة وشهرين، وكان مرضه سوء مزاج وإسهال، وبقى كذلك نحو سنتين، وكان قوى النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته، وكان يجلس للناس طرفى النهار؛ ولم يزل كذلك حتى توفّى قاعدا، وكان عاقلا ديّنا خيّرا عنده علم ومعرفة، وصنّف له كثير من الكتب في فنون العلوم، وقصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم ويقبل عليهم ويصلهم، وكان عالى الهمة، قد ذكرنا من فتوحه وغزواته ما يستدل به على ذلك، ولم يكن فيه ما يعاب إلا طمعه في الأموال، فكان يتحيّل على أخذها بكل طريق، وهو الذى جدّد المشهد بطوس الذى فيه قبر على بن موسى الرضا، والرشيد، وكان أبوه قد أخربه. قال: وكان يمين الدولة ربعة القامة، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر.

ذكر سلطنة محمد بن محمود

ذكر سلطنة محمد بن محمود وهو الرابع من ملوك الدولة الغزنويه. ملك بعد وفاة أبيه في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة بوصية من أبيه. قال: وهو أصغر من أخيه مسعود، وكان عند وفاة أبيه ببلخ، فخطب له من أقاصى الهند إلى نيسابور، ولقّب جلال الدولة، فأرسل إليه أعيان الدولة يستدعونه، ويحثونه على الوصول إليهم، ويخوفونه من أخيه مسعود، فسارا إلى غزنة، فوصلها بعد وفاة أبيه بأربعين يوما، واجتمعت العساكر على طاعته، ففرق فيهم الأموال. ذكر خلع جلال الدولة محمد وملك أخيه مسعود بن محمود كان سبب ذلك أن يمين الدولة لما توفى كان ابنه مسعود بأصفهان، فكتب إلى أخيه محمد يقول له: إننى راض بما أوصى لى به أبى، وبما فتحته من بلاد طبرستان والجبل وأصفهان وغيرهما، وطلب منه الموافقة وأن يقدمه في الخطبة على نفسه، فأجابه بجواب غير مرضى، فسار مسعود إلى الرى وأحسن إلى أهلها «1» ، ثم سار إلى نيسابور وفعل مثل ذلك. وأما محمد فإنه استخلف عساكره، وجعل عمه يوسف على مقدمة جيشه، وسار إلى مسعود. وكان بعض عسكر محمد يميل إلى مسعود لشجاعته، وبعضهم يخشى سطوته، فلما همّ محمد

بالركوب «1» من داره وقعت قلنسوته من رأسه، فتطيّر الناس من ذلك، وسار إلى أن وصل إلى [تكيناباد] «2» فى مستهل شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين، وأقام بها إلى أن عيّد. فلما كان ليلة الثلاثاء ثالث شوال ثار به جنده، فأخذوه وحبسوه ونادوا بشعار مسعود، وكان الذى سعى في ذلك ورتّبه خشاوند «3» الحاجب باتفاق ومساعدة من عمه يوسف» وأرسلوا إلى مسعود فحضر، والتقته العساكر إلى هراه «4» . وسلّموا إليه «5» الأمر، فكان أول ما بدأ به أن قبض على الحاجب وقتله، ثم قبض بعد ذلك على عمه يوسف، ثم على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة. وكان اجتماع الملك له، واتفاق الكلمة عليه في ذى القعدة من السنة، ووصل إلى غزنة في ثانى «6» جمادى الآخرة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة، وأتته بها رسل الملك من سائر الأقطار، واجتمع له ملك خراسان وغزنة وبلاد الهند والسند، وسجستان وكرمان، ومكران، والرى، وأصفهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعظم سلطانه، وخيف جانبه.

ذكر مسيره إلى الهند وما فتحه بها

ذكر مسيره الى الهند وما فتحه بها وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائه بلغ السلطان مسعود أنّ أحمد نيالتكين النائب بالهند خرج عن طاعته واستولى على البلاد، فسار إلى الهند، وعاد النائب إلى الطاعة، وفتح في سفرته هذه قلعة سرستى «1» وهى من أحصن القلاع، وكان تعذّر «2» فتحها على أبيه، ففتحها في سنة خمس وعشرين. ثم سار إلى قلعة مقسى، فوصل إليها في عاشر صفر، وحصرها ووالى الحصار، فخرجت عجوز ساحرة، فتكلمت باللسان الهندى طويلا، وأخذت مكنسة فبلتها بالماء، ورشت به إلى جهة العسكر، فمرض مسعود واشتد به المرض، فرحل عن البلد فصح وعاد إلى غزنة. ذكر مخالفة نيالتكين النائب بالهند ومقتله وفي سنة ست وعشرين وأربعمائة خالف أحمد نيالتكين النائب بالهند على السلطان مسعود، ونزع يده من الطاعة، وأظهر العصيان، فسيّر إليه مسعود جيشا كثيفا فقاتلهم، وانهزم منهم، وقصد بعض ملوك الهند «ببهاطيه» ، ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا، وطلب منه سفنا ليعبر بهم «3» السند، فأحضر إليه السفن، وأمرهم أن يلقوه في جزيرة في وسط النهر، فألقوه بها وهو يظن أنها متّصلة بالبر، فأقام بها تسعة أيام إلى أن نفدت أزوادهم، وأكلوا دوابّهم، وعجزوا عن خوض الماء لعمقه، فعبر الهندى إليهم في السفن وقتل

ذكر القبض على السلطان وقتله وشىء من سيرته

وأسر، فعندها قتل أحمد نفسه، واستوعب أصحابه القتل والأسر. وفي سنة ثلاثين وأربعمائة. التقى الملك مسعود والسلجقية ببلاد خراسان، ووقع بينهم حروب كان الظفر فيها لمسعود، وفتح قلعة خراسان، وأخرج طغرلبك من بلاد خراسان إلى البرية، وكان آخر الحرب بينهم في سنة إحدى وثلاثين. ذكر القبض على السلطان وقتله وشىء من سيرته وفي سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة في شهر ربيع الأول جهّز السلطان ولده مودودا إلى خراسان في جيش كثيف، لردّ السلجوقية عنها، وسار مسعود بعد ذلك بسبعة أيام إلى بلاد الهند ليشتى بها على عادة والده، واستصحب معه أخاه محمدا وكان قد سمله، فلما عبر سيحون، وعبر بعض الخزائن جمع أنوشتكين البلخى الخصى الغلمان الداريّة، ونهبوا ما تخلف من الخزائن، وأقاموا أخاه محمدا، وقاتلوا مسعودا، فانهزم وتحصّن في بعض الحصون، فحصره أخوه محمد، فقالت له أمه: إن هذا المكان لا يعصمك، ولأن تخرج إليهم بعهد خير لك [من] «1» أن يأخذوك قهرا، فخرج إليهم، فقال له أخوه: وابنه؟؟؟ «2» لا قاتلتك بفعلك، ولكن اختر لنفسك جهة تكون فيها بحريمك وأولادك، فاختار قلعة كيدى، فأنفذه إليها، وأرسل مسعود إلى أخيه محمد يطلب منه مالا ينفقه، فأعطاه خمسمائة درهم،

ذكر سلطنة جلال الدولة محمد بن محمود السلطنة الثانية وقتله

فبكى وقال: بالأمس وحكمى على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن، واليوم لا أملك ألف درهم، فأعطاه الرسول ألف دينار فقبلها، ثم اتفق أحمد بن السلطان محمد، وابن عمه يوسف، وابن على خشاوند على قتل مسعود (فدخلوا عليه، وقتلوه فأنكر محمد ذلك، وساءه، فكانت مدة سلطنة مسعود «1» عشر سنين وخمسة شهور تقريبا، وكان شجاعا كريما ذا فضائل كثيرة، يحب العلماء ويحسن إليهم، ويتقرب إلى خواطرهم، وصنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم «2» ، وكان كثير الصدقة، تصدّق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم، وأكثر الإدرارات والصّلات، وعمّر كثيرا من المساجد في ممالكه، وكان عفيفا عن أموال الناس، وكان يحب الشعر ويجيز الشعراء، أعطى شاعرا ألف دينار، وأجاز آخر عن كل بيت ألف درهم ذكر سلطنة جلال الدولة محمد بن محمود السلطنة الثانية وقتله ملك ثانيا عند انهزام أخيه مسعود في ثالث «3» عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وكان أخوه قد سمله، ولما طلب للولاية امتنع من قبولها، فتهدده القواد بالقتل فأجاب، وفوّض الأمر إلى ولده أحمد، وكان فيه هوج، فقتل عمه مسعودا، وقيل: إن

مسعودا لما حبس دخل عليه عبد الرحمن وعبد الرحيم أولاد محمد، فأخذ عبد الرحمن القلنسوة من على رأس عمّه مسعود، فأخذها عبد الرحيم من يده، وأنكر عليه، وقبلها ووضعها على رأس عمه مسعود، وكان ذلك سبب سلامته. قال: وكتب السلطان محمد إلى مودود بن أخيه مسعود يقول له: إن والدك قتل قصاصا، قتله أولاد أحمد نيالتكين بغير رضاى، فأجابه مودود من خراسان يقول: أطال الله بقاء الأمير، ورزق ولده المعتوه عقلا يعيش به، فقد ركب أمرا عظيما، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدى الذى لقبه أمير المؤمنين سيّد الملوك والسلاطين، وستعلمون فى «1» أى حتف تورّطتم وأىّ شر تأبّطتم، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، ثم كتب شعرا: نفلّق هاما من كرام أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما «2» قال: وطمع «3» الجند في محمد، ونقصت هيبة الملك، فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا ونهبوها، فخربت البلاد، فكان المملوك يباع فى بعض المدن بدينار، والخمر تباع كل منّ بدينار. قال: وسار مودود بن مسعود من خراسان إلى غزنة، وعاد عمه محمد والتقيا، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد، فقتلهما مودود فى شعبان سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فكانت مدة سلطنة محمد الأولى سبعة أشهر، والثانية أربعة أشهر وأياما.

ذكر سلطنة محدود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين

ذكر سلطنة محدود بن مسعود «1» بن محمود بن سبكتكين وهو السادس من ملوك الدولة الغزنوية. كان ملكه بعد انهزام عمه جلال الدولة محمد. قال: ولما التقوا وانهزم محمد وعسكره، ثم قبض عليه وعلى أولاده وأنوشتكين البلخى الخصى وابن على خشاوند، فقتلهم مودود، ولم يترك منهم إلا عبد الرحيم ابن عمه بن محمد لإنكاره على أخيه، أخذ القلنسوة من رأس مسعود، وبنى مودود في موضع الوقعة قرية ورباطا وسمّاها «فتح أباد» ، وقتل من كان له تسبب في القبض على أبيه، ودخل غزنة في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين [وثلاثين] «2» وأربعمائة، واستوزر أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد وزير أبيه، وأظهر العدل، وأحسن السيرة، وسلك سيرة جده محمود بن سبكتكين. ذكر مخالفة محمود بن مسعود على أخيه مودود، ووفاة محمود كان مسعود قد جهّز ابنه محمودا إلى بلاد الهند في سنة ست وعشرين وأربعمائة، فبلغه خبر وفاة أبيه، وما آل الأمر إليه من سلطنة أخيه، وكان قد فتح لهاوور «3» ، وملتان، فأخذ الأموال، وأظهر

ذكر وفاة محمود وملك ولده، ثم أخيه على بن مسعود، ثم عبد الرشيد

الخلاف على أخيه مودود، فاضطرب لذلك، وجهز جيشا لمنعه، فعرض محمود العساكر، وأنفق فيهم الأموال ليأخذ البلاد من أخيه مودود وعّيد عيد الأضحى، وأقام بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتا «1» بلهاوور، فما عرف ما كان سبب وفاته، فعند ذلك ثبت قدم مودود فى الملك، وراسلته الملوك وخافته، وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ملك مودود عدة من حصون الهند، فراسله ملوكها وأذعنوا له بالطاعة. ذكر وفاة محمود وملك ولده، ثم أخيه على بن مسعود، ثم عبد الرشيد وفي العشرين من شهر رجب الفرد، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة كانت وفاة «2» مودود وعمره تسع وعشرون سنة، ومدة ملكه تسع سنين وأحد عشر شهرا، وكانت وفاته بغزنة، وعلّته القولنج، وملك بعده ولده، فبقى في الملك خمسة أيام، ثم عدل الناس عنه إلى عمّه على بن مسعود، وكان مودود لما ملك قبض على عمّه عبد الرشيد ابن محمود، واعتقله بقلعة مندين «3» بطريق بست، فلما توفى مودود كان وزيره قد قارب القلعة بعساكر جردها مودود معه لقتال السلجقية، فنزل عبد الرشيد من القلعة إلى العسكر، ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه، وسار بهم إلى غزنة، فهرب علىّ بن مسعود، وملك

ذكر مقتل عبد الرشيد

عبد الرشيد، ولقب «1» شمس الله سيف الدولة، وقيل «2» جمال الدولة. ذكر مقتل عبد الرشيد كان مقتله في سنة أربع وأربعين وأربعمائة «3» ؛ وسبب ذلك: أن طغرل الحاجب كان مودود قد نوه بذكره، وقدّمه وزوّجه أخته، فلما توفى مودود، وملك عبد الرشيد استمر به على ما كان عليه، وجعله حاجب حجّابه، فأشار طغرل على عبد الرشيد بقصد الغز، وإخراجهم من خراسان، فتوقف استبعادا لذلك، فلم يزل به حتى جهز معه ألف فارس، فسار نحو سجستان، وبها أبو الفضل نائبا عن بيغو «4» ، فحاصر قلعة طاق «5» أربعين يوما، فلم يتهيأ له أن يملكها، فسار نحو مدينة سجستان، فاتصل خبره ببيغو، فخرج فى عساكره إليه، فلما رآه بيغو استقلّ من معه، فسيّر إليه طائفة من أصحابه، فلم يعرّج طغرل عليهم، بل اقتحم هو ومن معه نهرا هناك، وحمل على بيغو، وقاتله فهزمه، ثم عطف طغرل على تلك الطائفة التى كانت خرجت لقتاله، فهزمهم، وغنم ما معهم، وانهزم بيغو إلى هراة، ودخل طغرل الحاجب سجستان، وملكها، وكتب

إلى عبد الرشيد يعلمه بذلك «1» ويستمده ليسير إلى خراسان، فأمده بعدّة كثيرة من العساكر، فاشتد أمره بهم، وحدث نفسه بالاستيلاء على غزنة، فأحسن إلى من معه، واستمالهم فمالوا إليه، فاستوثق منهم ورجع بهم إلى غزنة، فلما صار على خمسة فراسخ منها كتب إلى عبد الرشيد يعلمه أن العسكر خالفه، وطلبوا الزيادة فى العطاء، وأنهم عادوا بقلوب متغيّره، فلما وقف على ذلك جمع أصحابه، واستشارهم، فحذّروه من طغرل، وقالوا: إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد، وليس إلا الصّعود إلى القلعة، والتحصّن بها، فتحصن بقلعة غزنة، وعبر طغرل غزنة، واستولى عليها وجلس بدار الإمارة، وأرسل إلى من بالقلعة يتهددهم إن لم يسلموا إليه عبد الرشيد، فسلّموه له، فقتله، واستولى على القلعة، وتزوّج ابنة السلطان مسعود كرها، وكان في أعمال الهند أمين يسمى خزخير «2» بعساكر كثيرة، فأرسل إليه طغرل، واستدعاه للموافقة والمساعدة على إخراج الغز من الأعمال، ووعده وبذل له الرغائب، فلم يرض خزخير فعله، وأنكر عليه وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى زوجة طغرل ابنة السلطان مسعود، وإلى وجوه القوّاد يقبحّ «3» عليهم موافقتهم، وصبرهم على قتل ملكهم، فعبروا على طغرل، وقتلوه.

ذكر ملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين

ذكر ملك فرخ «1» زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وهو العاشر من ملوك الدوله الغزنويه. ملك بعد مقتل طغرل الحاجب المستولى على ملك عبد الرشيد، وكان سبب ملكه أنه لما قتل طغرل وصل خرخير «2» بعد مقتله بخمسه أيام إلى غزنه، وأظهر الحزن على عبد الرشيد، واستشار الأمراء فيمن يلى الأمر، فأشاروا بولايه فرّخ زاد، وكان معتقلات في بعض القلاع فأحضروه، وأجلس بدار الإمارة ودبر خرخير الأمر بين يديه، وقتل من أعان على قتل عبد الرشيد. قال: ولما بلغ داود السلجقى أخا طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جميع عساكره، وسار إلى غزنه، فخرج إليه خرخير، وقاتله فانهزم داود، وغنم ما كان معه، وفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة ثار مماليك فرخ زاد به، وقصدوا قتله وهو في الحمام، فمانع عن نفسه بسيف كان معه، فأدركه أصحابه وخلصوه وقتلوا أولئك الغلمان، واستمر ملكه إلى سنه إحدى وخمسين، وكان بعد هذه الوقعة يكثر من ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها، فلما كان فى هذه السنه أصابه قولنج، فمات.

ذكر ملك ابراهيم بن مسعود بن محمود

ذكر ملك ابراهيم بن مسعود بن محمود وهو الحادى عشر من ملوكهم، ملك بعد وفاة أخيه فرّخ «1» زاد في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فأحسن السيرة، واستعد لجهاد الهند، واستقر الصلح بينه وبين [جعرى بك] «2» داود السلجقى صاحب خراسان على أن يكون لكل واحد منهما [ما] «3» بيده، وترك منازعة الآخر في ملكه. ذكر غزو ابراهيم بلاد الهند وما فتحه منها وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة غزا بلاد الهند، ففتح قلعة أجود، وهى على مائة وعشرين فرسخا من لهاوور، وهى حصينة تحوى عشرة آلاف مقاتل، فحصرها وداوم الزحف، فملكها في الحادى والعشرين من صفر، وفتح غيرها من الحصون في هذه السنة. فمن ذلك قلعة رومال، وموضع يقال له: «دره نوره» ، وكان به أقوام من الخراسانية جعل أجدادهم فيه فراسياب التركى، ولم يعترضهم أحد من الملوك، فدعاهم إلى الإسلام فامتنعوا عليه، وقاتلوه، فظفر بهم وأكثر فيهم القتل، وتفرق من سلم منهم في البلاد، وسبى من النساء والصبيان مائة ألف، وفي هذه القلعة حوض قطره نصف فرسخ لا يدرك

ذكر وفاة ابراهيم وشىء من سيرته

قعره، يشرب منه أهل القلعة ودوابهم، ولا يظهر فيه نقص وفتح «درة «1» » وهى بين جبلين والسبيل إليها متعذر، فوصلها في جمادى الأولى، وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتحها وعاد إلى غزنة. ذكر وفاة ابراهيم وشىء من سيرته كانت وفاته في سنة إحدى وثمانين أربعمائة، وكانت مدة ملكه تزيد على ثلاثين سنة، وكان عادلا كريما مجاهدا، وكان ذا رأى سديد، فمن رأيه أن السلطان ملكشاه السلجقى قصد غزنة بعساكره وجنوده، فلما علم إبراهيم عجزه عنه كتب إلى جماعة من أمرائه يشكرهم، ويعدهم الجميل على تحسينهم لصاحبهم، قصد بلاده ليتم له ما اتفقوا عليه من قبضه، وأمر القاصد أن يتعرض إلى ملكشاه، فتعرض له، فأنكره ملكشاه، وقبض عليه وقرره بالضرب، فأعطاه الكتب بعد امتناع، فعاد من طريقه، وكتم ذلك عن أمرائه خوفا من الخلاف عليه. وكان يكتب بخطّه في كل سنة مصحفا، ويبعثه إلى مكة مع الصدقات والصّلات، ولما مات ملك بعده ابنه.

ذكر ملك علاء الدولة أبى سعد جلال الدين مسعود بن ابراهيم

ذكر ملك علاء الدولة أبى سعد «1» جلال الدين مسعود بن ابراهيم وهو الثانى عشر من ملوك الدولة الغزنوية. ملك غزنة وما معها بعد وفاة [إبراهيم] «2» أبيه في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو زوج ابنة السلطان ملكشاه السلجقى، واستمر ملكه إلى سنة ثمان وخمسمائة فتوفى في شوال منها بغزنة، ولم أظفر بشىء من أخباره فأورده، ولما مات ملك بعده ولده. ذكر ملك أرسلان شاه بن علاء الدولة مسعود وهو الثالث عشر من ملوك الدولة الغزنوية، وأمه سلجقيه وهى أخت السلطان ألب أرسلان ملك بعد «3» وفاة أبيه في شوال سنة ثمان وخمسمائة ولما ملك قبض على إخوته وسجنهم، فهرب أخ له اسمه بهرام شاه إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملك شاه، فأرسل إلى أرسلان شاه في معناه، فلم يجبه، فأعد السير وقصد غزنة، ومعه بهرام شاه والتقى هو [وسنجربن] «4» ملكشاه على فرسخ من غزنة بصحراء [شهراباذ] «5» ، وكان أرسلان شاه في ثلاثين ألفا، ومعه مائة وستون فيلا، فكادت الهزيمة تكون على سنجر ثم كانت

ذكر ملك بهرام شاه بن مسعود بن ابراهيم

وخمسمائة ومعه بهرام شاه، وتسلّم قلعة البلد، وكان أرسلان شاه قد اعنقل أخاه طاهرا بالقلعة الكبيرة التى بينها وبين غزنة تسعة فراسخ، وهى عظيمة لا يطمع فيها ولا طريق عليها، واعتقل بها أيضا زوجة بهرام شاه، فلما انهزم أرسلان شاه استمال أخوه طاهرا المتحفظ. بها حتى سلم القلعة للملك سنجر، وكان قد تقرر بين السلطان سنجر وبهرام شاه أن يجلس بهرام شاه على سرير جده محمود بن سبكتكين وجده، وأن الخطبة بغزنة للخليفة، ثم للسلطان محمد بن ملكشاه، والملك سنجر، وبعدهم لبهرام شاه، فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكبا، وبهرام شاه راجلا بين يديه حتى جاء إلى السرير، فصعد بهرام شاه إليه، وجلس ورجع سنجر، وكان يخطب له بالملك، ولبهرام شاه بالسلطان على عادة آبائه، وحصل لسنجر من الأموال ما لا يحد، وكان على حيطان دور ملوك غزنة ألواح الفضة، وسوافى المياه إلى البساتين من الفضة، فقلع أصحاب سنجر كثيرا من ذلك، فمنعهم سنجر، وصلب جماعة منهم، وأقام بغزنة أربعين يوما، وهو أول سلجقى خطب له بغزنة، وعاد إلى خراسان. ذكر ملك بهرام شاه بن مسعود «1» بن ابراهيم وهو الرابع عشر من ملوك الدولة الغزنوية. ملك غزنة عند انهزام أخيه أرسلان شاه لعشر بقين من شوال سنة عشر وخمسمائة، وأما

ذكر وفاة بهرام شاه

أرسلان شاه فإنه لما انهزم قصد هند وخان «1» ، واجتمع معه أصحابه، فلما عاد الملك سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة، ففارقها بهرام شاه إلى باميان «2» ، وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال، فأمده بجيش، وأقام أرسلان شاه بغزنة شهرا، وسار في طلب بهرام شاه فبلغه وصول عسكر سنجر، فانهزم بغير قتال، للخوف الذى وقع فى قلوب أصحابه، ولحق بجبال أوغان «3» ، فسار بهرام شاه في طلبه بعسكر سنجر، وضايقوا البلاد التى هو فيها وأخربوها، وتهددوا أهلها، فسلموه إليهم، فخنقه أخوه بهرام شاه، ودفنه بغزنة بتربة أبيه، وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتى عشرة وخمسمائة، وعمره سبعا وعشرين سنة، واستقر بهرام شاه في الملك، وكان بينه وبين الملوك الغورية من الوقائع ما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة بهرام شاه كانت وفاته في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فكانت ولايته ستا وثلاثين سنة، وكان عادلا حسن السيرة جميل الطريقة يحب العلماء ويكرمهم، ويبذل لهم الأموال الكثيرة، ولما مات ملك بعده ولده.

ذكر ملك نظام الدين خسروشاه ابن بهرام شاه بن مسعود

ذكر ملك نظام الدين خسروشاه «1» ابن بهرام شاه بن مسعود وهو الخامس عشر من ملوك الدولة الغزنوية، ملك غزنة بعد وفاة والده في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان عادلا حسن السيرة في رعيته محبا للخير وأهله يقرب العلماء، ويحسن إليهم ويرجع إلى أقوالهم ويقتدى بآرائهم، ولم يزل كذلك إلى أن توفى فى شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكانت مدة ملكه سبع سنين وقيل إنه عاش إلى سنة تسع وتسعين «2» . وأن الدولة انقرضت باعتقاله، ولما مات ملك بعده ولده. ذكر ملك ملكشاه بن خسرو «3» شاه بن مسعود ابن ابراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وهو السادس عشر من ملوك الدولة الغزنوية، وعليه انقرضت دولتهم. ملك غزنة بعد وفاة والده في شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ولما ملك نزل علاء الدين الحسين ملك الغور إلى غزنة، وكان له مع ملكشاه ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الغورية. وفي سنة خمس وخمسين «4» وخمسمائة قصد الأتراك الغزية

بلاد غزنة ونهبوا وخربوا، وقصدوا مدينة غزنه، ففارقها ملكشاه إلى لهاوور وملكها الغزية، وكان القيّم بأمرهم زنكى بن على بن خليفه الشيبانى، ثم جمع ملكشاه العساكر، وعاد إلى غزنة، ودخلها في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وتمكن في دار ملكه إلى أن ظهر أمر الملوك الغورية «1» ، فانقرضت الدولة الغزنويه على يد الملوك الغوريه. وذكر ابن الأثير الجزري في تاريخه الكامل أن دولتهم انقرضت فى أيام خسروشاه بن بهرام شاه والد ملكشاه، وأن خسروشاه لما ملك الغورية غزنة سار إلى لهاوور، فحاصره شهاب الدين الغورى بها في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وشدّد الحصار عليه، وبذل له الأمان على أن لا يطأ بساطه، وأن شهاب الدين يجعل لخسروشاه مهما اختار من الإقطاع، ويزوجه ابنته، فاستحلفه على ذلك ومكنه من لهاوور، واجتمع به، فأكرمه وعظمه، وبقى كذلك مدة شهرين، فورد رسول غياث الدين الغورى إلى أخيه شهاب الدين وهو يستدعى خسروشاه وولده إليه، فأعلمه بذلك، فامتنع، فمناه شهاب الدين، وطيب خاطره، ثم جهزه هو وابنه إلى غياث الدين، فسارا على كره، فلما وصلا إليه رفعهما إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد بهما. وانقرضت الدولة الغزنوية. وكان ابتداؤها في سنة ست وستين وثلاثمائة، وانقرضت في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فتكون مدتها مائتى سنة وثلاثة عشر

ذكر أخبار الدولة الغورية

سنة تقريبا، وعدة ملوك هذه الدولة ستة عشر ملكا، وهم ناصر الدولة سبكتكين، ثم ولده يمين الدولة محمود بن سبكتكين، ثم ولده محمد ولى مرّتين، ثم أخوه مسعود بن محمود، ثم مودود بن مسعود بعد عمه محمد في السلطنة الثانية، ثم ولى ولد لمودود خمسة أيام. ثم على بن مسعود، ولم تطل مدته أيضا، ثم عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، ثم فرخ زاد، ثم أخوه إبراهيم بن مسعود، ثم ابنه علاء الدولة أبو سعد جلال الدين بن مسعود، ثم ابنه أرسلان شاه، ثم أخوه بهرام شاه، ثم ابنه خسروشاه، ثم ابنه ملكشاه، وعليه انقرضت دولتهم، وكانت هذه الدولة من أحسن الدول وأكثرها جهادا وفتوحا، وقد ذكرنا من أخبار ملوكها ما يستدلّ به على بعد هممهم، وتمكن سلطانهم. ذكر أخبار الدولة الغورية كان ابتداء هذه الدولة ببلاد الغور «1» فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ثم أزالت ملوك الدولة الغزنوية آل «2» سبكتكين عن غرنة، وملكوا بعض بلاد الهند، وأول من نبغ منهم وظهر اسمه الحسين بن الحسين «3» بن الحسن. وكان قد ملك قبله بلاد الغور محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه صاحب غزنة، فعظم

شأنه بمصاهرته وعلت همته، فجمع جموعا كثيرة، وسار إلى غزنة ليملكها، وأظهر الخدمة والزيارة لبهرام شاه وهو يريد المكر فعلم به بهرام شاه، فقبض عليه وسجنه ثم قتله، فعظم قتله على الغورية ولم يمكنهم الأخذ بثأره لتمكن الدولة الغزنويه، ثم ملك بعد محمد أخوه سام بن الحسين، فمات بالجدرى، وملك بعده أخوه سورى ابن الحسين بلاد الغور، وقوى أمره، وتمكن في مملكته، فجمع العساكر، وسار إلى غزنة طالبا لثأر أخيه محمد، فلما وصل إليها وملكها في جمادى «1» الآخرة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، فارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند، وجمع جموعا كثيرة، وعاد إلى غزنة، وكان عسكر غزنة الذين أقاموا مع سورى قلوبهم مع بهرام شاه، فلما التقوا انضم عسكر غزنة إلى بهرام، وسلّموا إليه سورى وذلك فى المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فصلبه بهرام شاه، وكان سورى هذا من الملوك الأجواد الكرام، حتى إنه كان يرمى الدراهم بالمقاليع ليتوصّل بذلك إلى راحة الفقراء، ثم ملك بعده أخوه الحسين ابن الحسين هذا بلاد الغور ومدينتها فيروزكوه «2» ، فسار في سنة خمس وأربعين إلى مدينة هراة وحصرها، وكان أهلها قد كاتبوه، وطلبوه ليسلموها له هربا من ظلم الأتراك، فلما حاصرها امتنع أهلها عليه ثلاثة أيام، ثم سلموها له، فدخلها، وأظهر طاعة السلطان سنجر ابن ملكشاه السلجقى.

ذكر الحرب بينه وبين السلطان سنجر

ذكر الحرب بينه وبين السلطان سنجر وفي سنة سبع وأربعين وخمسمائة كانت الحرب بين علاء الدين الحسين صاحب الغور وبين السلطان سنجر السلجقى؛ وسبب ذلك أن علاء الدين هذا قوى أمره، وكثرت أتباعه، وتلفت وتعرّض إلى أعمال غزنة، وسار إلى بلخ، فملكها، فسار إليه السلطان سنجر فثبت له، واقتتلوا، فانهزمت الغوريّه، وأسر علاء الدين، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأحضر بين يدى السلطان، فقال له: يا حسين لو ظفرت بى ما كنت تصنع؟ فأخرج له قيدا من الفضة، فقال له: كنت أقيّدك بهذا، وأحملك إلى مدينة فيروزكوه. فخلع السلطان عليه، ورده إلى فيروزكوه. ذكر ملكه «1» غزنة، وخروجه عنها، وقتل أخيه قال: ولما أطلقه السلطان سنجر أقام بفيروزكوه مدة حتى اجتمع له أصحابه، وأصلح ما تشعّث من حال عسكره وقصد غزنة، وملكها يوم ذاك بهرام شاه، فلم يثبت له وفارقها إلى مدينة كرمان. وهى مدينة بين غزنة والهند، وليست كرمان المشهورة بل غيرها، وملك علاء الدين غزنة، وأحسن السيرة في أهلها، واستعمل عليهم أخاه سيف الدين، وأجلسه على تخت المملكة، وخطب لنفسه ولأخيه سيف الدين بعده، ثم عاد علاء الدين إلى بلد الغور، وأمر أخاه أن

يخلع على أعيان البلد خلعا نفيسة، ويصلهم بصلات سنية «1» ، ففعل ذلك وأحسن إليهم، فلما جاء الشتاء ووقع الثلج، وعلم أهل غزنة أن الطريق قد انقطع بينهم، وبين الغور كاتبوا بهرام شاه واستدعوه، فسار نحوهم في عسكره، فلما قارب البلد ثار أهلها على سيف الدين، فأخذوه بغير قتال، وانهزم من كان معه، فمنهم من نجا ومنهم من أخذ، ثم سوّدوا وجه سيف الدين، وأركبوه بقرة، وطافوا به البلد، ثم صلبوه، وهجوه بالأشعار، وغنى بها حتى النساء، ثم توفّى بهرام شاه، وملك بعده ابنه خسروشاه، فتجهز علاء الدين إلى غزنة في سنة خمسين وخمسمائة «2» ، فسار خسروشاه إلى لهاوور وملك علاء الدين البلد، ونهبها ثلاثة أيام، وأخذ الذين أسروا أخاه، وهم من العلويين، فألقاهم من شواهق الجبال، وأخرب المحلّة التى صلب فيها أخوه، وأخذ النساء الذين تغنّين بهجو أخيه، فأدخلهن حماما، ومنعهن الخروج حتّى متن فيه، وأقام بغزنة حتى أصلحها، ثم عاد إلى فيروزكوه، ونقل معه من أهل غزنة خلقا كثيرا، وحملهم المخالى مملوءة ترابا، فبنى قلعة فيروزكوه وتلقب بالسلطان المعظم وحمل [الجتر] «3» على عادة السجلقية.

ذكر خروج غياث الدين وشهاب الدين ابنى أخى علاء الدين الحسين على عمهما وموافقته

ذكر خروج غياث الدين وشهاب الدين ابنى أخى علاء الدين الحسين على عمهما وموافقته «1» قال: لما قوى أمر عمهما علاء الدين استعمل العمال والأمراء على البلاد، فكان ممن استعمل غياث الدين أبو الفتح محمد، وأخوه شهاب الدين أبو المظفّر محمد ابنا سام، على بلد من بلاد الغور، فأحسنا السيرة في أعمالها، واستمالا قلوب الناس، فانتشر ذكرهما، فسعى بهما إلى عمّهما من حسدهما، وأوهمه أنهما يريدان الوثوب به، وقتله، والاستيلاء على ملكه، فأرسل يستدعيهما فامتنعا، وكانا قد علما الخبر، فجهز إليهما عسكرا مع قائد من قوّاده، فلما النقوا انهزم عسكر عمّهما، وأسر القائد فأبقيا عليه، وأحسنا إليه، وأظهر العصيان على عمهما، وقطعا خطبة، فتوجه إليهما وسارا إليه، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر علاء الدين، وأخذ أسيرا، فأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، ونادوا في عسكره بالأمان، فبكى عند ذلك، وقال: هذان صبيان قد فعلا ما لو قدرت عليه منهما لم أفعله، وأحضر القاضى، وزوج غياث الدين بنتا له، وجعله ولى عهده بعده، وبقى كذلك إلى أن مات، وكان وفاته في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وخمسمائة.

ذكر ملك سيف الدين محمد بن علاء الدين الحسين بن الحسين وهو الثانى من الملوك الغورية

ذكر ملك سيف الدين محمد بن علاء الدين الحسين بن الحسين «1» وهو الثانى من الملوك الغورية «2» . ملك بعد وفاة أبيه، وأطاعه الناس، وراسل الملوك وهاداهم، واستمرّ إلى أن قتل في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وذلك أنّه جمع عساكره وحشد فأكثر وسار من جبال الغور يريد الغز، وهو ببلخ فاجتمعوا له وتقدّموا إليه، واتفق أنّه خرج جريدة في جماعة من خاصته، فسمع به الغز فركبوا وأوقعوا به فقتل. وكان ملكا عادلا حسن السيرة، فمن ذلك أنّه لما ملك هراه أراد عسكره نهبها، فنزل على درب المدينة، وأحضر الأموال والثياب، وفرقها في عسكره، وقال: هذا خير لكم من نهب أموال الناس، فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى «3» على الظلم. رحمه الله تعالى. ذكر ملك غياث الدين أبى الفتح محمد بن بسام ابن الحسين بن الحسن وهو الثالث من الملوك الغورية. كان استقلاله بالملك بعد وفاة ابن عمه سيف الدين في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وخطب له في الغور، وغزنة، ثم ملك الغز غزنة منه، وبقيت بأيديهم خمسة عشر سنة يصبون على أهلها العذاب، ويتابعون الظلم، هذا

ذكر ملك غياث الدين غزنة

وغياث الدين يحسن السيرة في رعيته، والناس يشكون إليه حالهم، وهو يدبر ملكه إلى أن قوى أمره، وكثرت أتباعه، واشتد بأسه. ذكر ملك غياث الدين غزنة قال: ولما قوى أمر غياث الدين، وتمكن في ملكه، وزاد طغيان الغز، وأذاهم للناس، جهز جيشا كثيفا مع أخيه شهاب الدين إلى غزنة، وفيه أصناف الغورية، والخراسانية، والخلج، فساروا إليها، فلقيهم الغزو اقتتلوا، فانهزمت الغورية أولا، ثم كانت الدائرة على الغز، فقتل أكثرهم، ودخل شهاب الدين غزنة، وتسلمها وأحسن السيرة في أهلها، وأفاض العدل، وسار منها إلى كرمان، وسوران «1» ، فملكها، ثم تعدى بعد ذلك إلى السند، وقصد العبور، إلى بلد، وملك لهاوور، وملكها يومئذ خسروشاه بن بهرام شاه، فسار فيمن معه إلى ماء السند، فمنعه من العبور فرجع عنه، وقصد خرشابور، فملكها، وما يليها من جبال الهند، وأعمال [الأفغان] «2» ورجع.. ذكر ملك شهاب الدين لهاوور وانقراض الدولة الغزنوية وفي سنة تسع وخمسين «3» وخمسمائة سار شهاب الدين إلى لهاوور في جمع عظيم، وحشد كبير، فحصرها، وتهدد أهلها إن

ذكر مسير شهاب الدين إلى الهند

منعوه، وبذل لخسروشاه الأمان على أن يطأ بساطه، ويخطب لأخيه فامتنع، فلما طال الحصار خذله أهل البلد، فطلب الأمان، فأمنه شهاب الدين، وحلف له، ودخل الغورية البلد، وبقى كذلك شهرين، ثم جهز خسروشاه هو وولده إلى أخيه غياث الدين كما ذكرناه في أخبار الدولة الغزنوية. قال: ولما كثرت جموع غياث الدين، واتسعت مملكته كتب لأخيه شهاب الدين يأمره بإقامة الخطبة له، وأن يذكر بالسلطنة، ويلقبه بألقاب السلاطين، وكان لقبه أولا شمس الدين، ثم تلقب غياث الدين، ولقب الآن غياث الدنيا والدين معين الإسلام قسيم «1» أمير المؤمنين، ولقب أخاه عز الدين. قال: ولما استقر أمر «لهاوور» ، سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، واتفقا على المسير إلى خراسان، فقصد مدينة هراة، فملكها واستناب بها، وملك عدة من بلاد خراسان، ورجع غياث الدين إلى مدينة فيروزكوه وشهاب الدين إلى غزنة. ذكر مسير شهاب الدين الى الهند قال وسار شهاب الدين إلى الهند، وحاصر بلدا من بلادها، وملكها، وكان قد حصرها طويلا فلم يظفر منها بطائل، فراسل زوجة الملك الهندى في أن يتزوجها، وكانت غالبة على أمر الملك، فأعادت عليه الجواب أنها لا تصلح لذلك، وأن لها ابنة جميلة تزوجه

ذكر ظفر الهنود بالمسلمين

بها، فأجابها إلى ذلك، فسقت زوجها سما، فمات، وسلمت إليه البلد، فأخذ الصبيّة فأسلمت، وتزوجها، وحملها إلى غزنة، ووكل بها من علمها القرآن، وتشاعل عنها، فتوفيت والدتها، ثم توفيت بعد عشرة سنين، ولم يرها، فبنى لها مشهدا، ودفنها فيه، فأهل غزنة يزورون قبرها، ثم عاد إلى بلاد الهند، وملك كثيرا منها. ذكر ظفر الهنود بالمسلمين قال: ولما اشتدّت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند تجمع ملوكهم من كل جهة، وتحالفوا على التعاضد، والتناصر على حربه، وجاءوا من كل فج عميق، وركبوا الصعب والذلول، وكان الحاكم على جميع الملوك امرأة من ملوكهم، فلما سمع شهاب الدين باتفاقهم وتعاضدهم، تقدم إليهم في عسكر عظيم، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم المسلمون، وقتل منهم خلق كثير، وأصحاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده، وضربة على رأسه سقط منها إلى الأرض، وحجز الليل بين الفريقين، ثم حمل شهاب الدين إلى مدينة أخيه على رؤوس الرجال، فعمد إلى أمراء الغورية الذين انهزموا أن ملأ لهم مخالى خيلهم شعيرا، وحلف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم، فأكلوه.

ذكر ظفر المسلمين بالهنود

ذكر ظفر المسلمين بالهنود قال: واتصل الخبر بغياث الدين أخى شهاب الدين، فأمد المسلمين بالعساكر، فرجع شهاب الدين إلى الهنود، وجمع الهنود جموعا عظيمة، وجددوا أسلحتهم، ووفروا جموعهم، وساروا بملكتهم فى عدد كثير، فراسلها شهاب الدين، وخدعها أن يتزوّجها، فلم تجبه إلى ذلك، وقالت: إما الحرب، وإما أن تسلّم بلاد الهند، وتقتصر على ملك غزنة، فأجابها إلى العود إلى غزنة، وأن يرسل إلى أخيه في ذلك، وإنما فعل ذلك مكرا، وكان بين العسكرين نهر، وقد حفظ الهنود مخائضه، وأقاموا ينتظرون جواب غياث الدين، فجاء رجل من الهنود إلى شهاب الدين، وأعلمه بمخاضته، فاستوثق منه، وجهّز جيشا فعبروا المخاضة والهنود على غرّة، فلبسوهم، وكان مقدّم الجيش الحسين بن حرميل الغورى، وهو الذى صار بعد ذلك صاحب هراة، فوضع السيف في الهنود، فاشتغلوا به، وأغفلوا المخائض، فعبر شهاب الدين وبقيّة العسكر، ونادوا بشعار الإسلام، وأكثروا في الهنود القتل، فما سلم منهم إلا القليل، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد ذلك من بلاد الهند، ودانت له ملوكها، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة «دهلى» ، وهى كرسى الممالك التى فتحها من بلاد الهند» وأرسل عسكرا مع محمد بن بختيار، فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبلهم، حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق، ولعل ذلك كان فى سنة ثلاث وثمانين. وفي سنة ست وثمانين وخمسمائة كانت الحرب

ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارسى الهندى

بين غياث الدين، وسلطان شاه أخى خوارزم شاه. وذلك أن سلطان شاه تعرض إلى بعض بلاد غياث الدين، وجمع عساكره، والتقوا، فانهزم سلطان شاه، واستعاد غياث الدين بلاده «1» ، وعاد إلى غزنة. ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارسى «2» الهندى وفي سنة تسع «3» وخمسين وخمسمائة كانت الحرب بين شهاب الدين، وبين ملك [بنارسى] ؛ وسبب ذلك أن قطب الدين أيبك لما أقطعه شهاب الدين مدينة دهلى أو غل في بلاد الهند، وقتل وسبى وعاد، فبلغ ذلك ملك [بنارسى] ، وهو أكبر ملوك الهند، وولايته من حدود الصين إلى بلاد ملا وطولا، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضا، فجمع جيوشه، وسار يطلب بلاد الإسلام، ومعه سبعمائة فيل، وقيل إن عسكره بلغ ألف ألف رجل، وسار شهاب الدين نحوه، فالتقى العسكران على جون «4» ، وهو نهر كبير يقارب دجلة، فاقتتلوا، فانتصر المسلمون على الهنود، وكثر القتل فيهم والأسر، وقتل ملكهم، وغنم المسلمون منهم تسعين فيلا من جملتها فيل أبيض، وباقى الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، ودخل شهاب

ذكر ملك الغورية مدينة بلخ

الدين بلاد [بنارسى] وحمل من خزائنها على ألف وأربعمائة جمل، وعاد إلى غزنه. وفي سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. سار شهاب الدين إلى الهند، وملك قلعة «1» بهنكر، وهى قلعة عظيمة منيعة ملكها بالأمان، ثم سار منها إلى قلعة كواكير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، فأقام عليها شهرا، وصالحه أهلها على مال، فصالحهم على وسق فيل ذهبا، فقبض المال، ورحل عنها. ذكر ملك الغورية مدينة بلخ وفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة ملك شهاب «2» الدين سام ابن محمد بن مسعود مدينة بلخ، وسام هو ابن أخت غياث الدين، وله باميان، وكان صاحب بلخ [زاير] «3» يحمل الخراج إلى ملك الخطا بما وراء النهر، فتوفى في هذه السنة، فسار شهاب الدين سام إلى بلخ، وملكها، وخطب فيها لخاله غياث الدين، وفيها انهزم الخطا من الغورية. ذكر ملك شهاب الدين وأخيه غياث الدين ما كان لخوارزم شاه بخراسان وفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة ملكا ذلك. وسبب ذلك أن محمد بن حرميل نائب الغورية بالطالقان كان قد استولى على مرو الروذ «4» ، فكاتبه جقر التركى نائب خوارزم شاه بمرو أن يكون في

فى جملة عسكر غياث الدين، ويفارق خدمة الخوارزمية، فلما وصل الخبر إلى غياث الدين علم أنّه ما قصد الانتماء إليه إلا لضعف صاحبه، فطمع في البلاد، وجهز شهاب الدين من غزنة، وسار لذلك، فوصله كتاب جقر يستحثه على السير إليه، يسلم إليه مرو، فسار إليها، فقاتله أهلها مع العسكر الخوارزمى، ثم سألوا الأمان» فكف عنهم، وتسلم البلد، ووعده جقر الجميل، ثم حضر غياث الدين إلى مرو، وسلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه، وكان قد هرب من عمه إليه كما نذكره في أخبار الخوارزمية، ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس، فأخذها صلحا، وسلمها للأمير زنكى بن مسعود، وهو من أولاد عمه، وأقطعه معها «نسا» ، و «أبيورد» ، ثم سار إلى طوس فامتنغ عليه أميرها، وأغلق الأبواب دونه ثلاثة أيام، فغلت الأسعار، وبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار، فضجّ أهل البلد، فطلب الأمان، فأمّنه، فخرج إليه فأكرمه، وخلع عليه، وسيره إلى هراة، وملك البلد، ثم أرسل إلى على شاه «1» أخى خوارزم شاه، وهو ينوب عن أخيه بنيسابور يأمره بمفارقة البلد، ويحذره من المقام بها، فامتنع عليه، وحصّن البلد، وخرب ما بظاهره من العمارة، فسار شهاب الدين إليها، فقدمها في أول شهر رجب من السنة، وقدم العسكر للحصار، فملك البلد عنوة، ونهبه عسكره ساعة من نهار، فبلغ الخبر غياث الدين، فنادى من نهب أو آذى فدمه حلال، فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره، وتحصن الخوارزميّون بالجامع، فأخرجهم

أهل البلد، فنهب الغورية ما لهم، وأحضر على شاه بن خوارزم شاه إلى غياث الدين راجلا، فأنكر ذلك على محضره، وعظم الأمر فيه، وحضرت داية «1» كانت لعلى شاه، وقالت لغياث الدين: هكذا تفعل بأولاد الملوك، فقال: لا، بل هكذا، وأخذه بيده، وأقعده معه على السرير، وطيّب نفسه، وسيّر جماعة من الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار، وولى غياث الدين ابن عمه ضياء الدين محمد بن على حرب خراسان، وضم إليه وجوه الغورية، ورحل إلى هراة، وسلم على شاه لأخيه شهاب الدين، وأحسن إلى أهل نيسابور، وفرق فيهم مالا كثيرا. قال: ثم سّار شهاب الدين إلى ناحية قهستان، فأخرب قرية للإسماعيلة، وقتل من بها من الرجال، ونهب الأموال، وسبى الذرارى، ثم سار إلى كتابان «2» ، وهى من مدن الإسماعيلة، فحصرها، فطلب أهلها الأمان ليخرجوا منها، فأمنهم وأخرجهم، وملك المدينة، وسلمها إلى بعض الغورية، فأقام بها شعائر الإسلام، فكتب صاحب قهستان إلى غياث الدين يقول له: إن بيننا عهدا، فما الذى أوجب محاصرة بلادى؟ فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالرحيل عنها، وقال له: ما لك ولرعيتى، فامتنع من الرحيل، فقال له الرسول: فإذا أفعل ما أمرنى به غياث الدين، وجبذ الرسول سيفه، وقطع أطناب سرادق شهاب الدين، فارتحل كارها، وتوجه إلى الهند، ولم يقم بغزنة غضبا على أخيه.

ذكر ملك شهاب الدين أنهلوارة من الهند

ذكر ملك شهاب الدين أنهلوارة «1» من الهند قال: ولما سار شهاب الدين من بلاد الإسماعيلية إلى الهند، أرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى أنهلوارة، فوصلها في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، فقاتل عسكر الهند بها، فهزمهم، وملكها عنوة، وهرب ملكها، وجمع وحشد فعلم شهاب الدين أنّه لا يستمر له ملكها إلا بمقامه بها لأنها من أعظم البلاد، فصالح على مال في العاجل والآجل، وسلمها لصاحبها ولما توجّه شهاب الدين إلى الهند عاد خوارزم شاه إلى البلاد، واسترجعها من أيدى غياث الدين، وهرب هندوخان منه؛ وذلك في بقية سنة سبع «2» وتسعين وخمسمائة وسنة ثمان وتسعين. ذكر وفاة غياث الدين وشىء من سيرته كانت وفاته في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فأخفيت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، وقد عزم على قصد خوارزم «3» ، فأتاه الخبر بوفاة أخيه، فعاد إلى هراة، وجلس للعزاء في شهر رجب، وخلف غياث الدين من الولد ابنه محمودا،

ذكر استقلال شهاب الدين بالملك وما فعله مع ورثة أخيه

وكان غياث الدين مظفّرا منصورا في حروبه لم تنهزم له راية، وكان قليل المباشرة للحروب» وإنما كان له ذكر ومكائد، وكان جوادا، كريما، حسن الاعتقاد، كثير الصدقات، والأوقاف، بنى المساجد، والمدارس بخراسان للشافعية، وبنى الخانكاهات، وأسقط المكوس، وكان عفيفا عن أموال الناس، ومن مات في بلاده ولا وارث له تصدّق بما يخلّفه، ومن مات من التجار وله أهل بغير بلاده، سلّم ما له لرفقته من التجار، فإن تعذر ذلك سلمه للقاضى إلى أن يصل مستحقّه، وكان إذا وصل إلى بلد عمّ أهله بإحسانه، سيما الفقهاء وأهل الفضل، فإنه يخلع عليهم، ويصلهم، ويفرض لهم الأعطيات في كل سنة من خزائنه، وكان يراعى من يقصده من العلويين، ويجزل صلاتهم وكان حسن الخط، ذا فضل وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه، ويوقفها في المدارس التى أنشأها، ولم يظهر منه تعصب لمذهب على مذهب، وكان يميل إلى الشافعية- لأنه متمذهب بمذهب الشافعى- من غير أن يطمعهم في غيرهم، ولا يعطيهم ما ليس لهم. رحمه الله تعالى. ذكر استقلال شهاب الدين بالملك وما فعله مع ورثة أخيه استقل شهاب الدين الغورى بالملك بعد وفاة أخيه غياث الدين في شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وولّى ابن أخيه محمودا مدينة بست، ولقبه بلقب أبيه، وجعله عن الملك بمعزل،

ذكر حصره خوارزم، وانهزامه من الخطا

ولم يحسن الخلافة عليه «1» بعد أبيه، ولا على غيره من أهله، فمن جملة ما فعله أن غياث الدين كان له زوجة مغنية «2» ، فلما مات أخذها شهاب الدين، وضربها ضربا مبرّحا، وضرب ولدها ربيب غياث الدين، وزوج أختها، وأخذ أموالهم، وسيّرهم إلى بلاد الهند على أقبح صورة، وكانت قد بنت مدرسة، ودفنت فيها أباها وأخاها، فهدمها شهاب الدين، ونبش قبور الأموات، ورمى عظامهم، وفعل ما يناسب هذه الأفعال الشنيعة، وتوجه إلى الهند. ذكر حصره خوارزم، وانهزامه من الخطا وفي شهر رمضان سنة ستمائة عاد شهاب الدين من بلاد الهند، وقصد خراسان. وسبب ذلك أنّه بلغه أن خوارزم شاه حصر مدينة هراة، فعاد من الهند حنقا عليه، وقصد خوارزم «3» ، فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: إما أن ترجع، وإلا حاصرت هراة، ومنها إلى غزنة، وكان خوارزم شاه بمرو، فأجابه شهاب الدين: لعلك تنهزم على عادتك أول مرّة، وخوارزم تجمعنا. فسار خوارزم شاه من مرو إلى خوارزم، فسبق شهاب الدين إليها، وحرّق العلوفات التى في الطريق، وقطع الطرق بإجراء المياه، فتعذّر على شهاب الدين سلوكها، فأقام أربعين يوما حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، فخرج

إليه خوارزم شاه، والتقى العسكران بصوقرا «1» ، ومعناه: الماء الأسود، واقتتلوا، فأسر جماعة من الخوارزمية، وأمر شهاب الدين بقتلهم، وكان خوارزم شاه أرسل إلى ملك الخطا يستنجد، فسار من بلاده بما وراء النهر لقصد شهاب الدين، فعاد عن خوارزم، ولقى أوائل عسكر الخطا في صحراء أيدى حوى «2» فى أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل منهم وأسر، ثم دهمه الخطا في اليوم الثانى، فانهزم عسكره منهم، وبقى شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة من فيلته كانت قدعيت، وأخذ الخطا فيلين، ودخل شهاب الدين إلى أيدى حوى «3» فحصره الخطا بها، ثم صالحوه على فيل ثالث يعطيه لهم، ففعل، وخلص، وشاع الخبر في جميع بلاده أنّه عدم، ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد قتل أكثر عسكره، ونهبت خزائنه، فأخرج إليه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان خياما، وجمع «4» ما يحتاج إليه، وسار إلى غزنة، واستصحب معه الحسن بن حرميل لأنه بلغه أنّه قصد الانضمام إلى خوارزم شاه، فجعله شهاب الدين أمير حاجب، قال: ولما وصا الخبر بقتله إلى غزنة، جمع تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو أول مملوك اشتراه أصحابه، وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها، فمنعه مستحفظها، فعاد إلى داره، فلما وصل شهاب الدين إلى غزنة أمر بقتل الدز، فشفع

ذكر قتل شهاب الدين بنى كركر

فيه مماليك شهاب الدين، فأطلقه، وسار مملوك له اسمه أيبك كان قد سلم «1» من المعركة، فلحق ببلاد الهند، ودخل المولتان، وقتل نائب السلطنة بها، وملك البلد، وأخذ الأموال السلطانية، وأساء السيرة في الرعية، وأشاع قتل شهاب الدين، فلما اتصل خبره بشهاب الدين سار إلى الهند، وأرسل إليه عسكرا، فأخذوه، وقتل شرّ قتلة، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وستمائة، وأمر شهاب الدين أن ينادى في جميع بلاده بغزو الخطا. ذكر قتل شهاب الدين بنى كركر «2» كان سبب ذلك أنه لما شاع قتل شهاب الدين خرجوا في البلاد، وأفسدوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا «3» السبيل، فراسلهم قطب الدين أيبك، فامتنعوا عليه، فسار شهاب الدين من غزنة، ووصل إليهم في يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة، فاقتتلوا قتالا شديدا من أول النهار إلى العصر، فبينما هو كذلك، إذ أقبل أيبك نائبه بالهند، فانهزم الكركرية، ومن انضم إليهم، وقتلوا بكل مكان، وقصد من بقى منهم أجمة هناك، وأضرموا نارا، وكان أحدهم يقول لصاحبه: لا تنزل للمسلمين يقتلوك، ثم يلقى نفسه في النار، فيلقى صاحبه نفسه بعده، فعمّهم البلاء، وغنم المسلمون أموالهم وأهلهم، وهرب ابن كركر بعد قتل

ذكر مقتل شهاب الدين وشىء من سيرته

إخوته وأهله، وكان معهم صاحب قلعة الجودىّ، ثم سار شهاب الدين نحو لهاوور، فأقام بها إلى سادس عشر شهر رجب من السنة، وعاد إلى غزنة. ذكر مقتل شهاب الدين وشىء من سيرته كان مقتله في أول ليلة من شعبان سنة اثنتين وستمائة، وذلك أنه لما عاد من لهاوور نزل بمنزلة يقال لها: دميل. بعد صلاة العشاء، وكان بعض الكركريه لزموا عسكره، وقد عزموا على قتله لما فعله بهم من القتل والأسر، فلما كان في هذه اللّيلة تفرّق عنه أصحابه، وبقى وحده في خركاه، فثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحرس بباب السرادق، فثار أصحابه ليبصروا ما به، فخلت مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكركريّة غفلتهم عن التحفّظ، فدخلوا على شهاب الدين، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة، فمات، ودخل أصحابه عليه، فوجدوه قتيلا على مصلاه، وهو ساجد، فقتلوا أولئك النفر الكركريّة، وقيل إن الذى قتله الإسماعيلية لخوفهم من خروجه إلى خراسان. وكان رحمه الله شجاعا مقداما، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلا في رعيّته، حسن السيرة فيهما، حاكما بينهم بإحكام الشرع الشريف. حكى عنه. أنه لقى صبيا من العلويين عمره خمس سنين، فدعا له الصبى، وقال: لى خمسة أيام ما أكلت شيئا، فعاد من الركوب لوقته والصبىّ معه، فنزل في داره، وأطعمه من أطيب الطعام بحضرته، وأعطاه مالا،

ذكر ما اتفق بعد وفاة شهاب الدين

وسلّمه إلى أبيه، وفرق في العلويين مالا عظما، وكان شافعى المذهب رحمه الله تعالى. ذكر ما اتفق بعد وفاة شهاب الدين قال: ولما قتل شهاب الدين اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك ابن خواجا «1» ، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، وجعلوا شهاب الدين في محفة، وساروا به، فرتّب الوزير الأمور، وسكّن الناس، وجعل الشمسيّة على المحفّة، وحفّها بالحشم، وكان شهاب الدين قد جمع أموالا عظيمة من بلاد الهند في سفرته، فكانت الخزانة التى معه ألفى حمل ومائتى حمل، وأعاد الوزير من كان معه من العسكر الهندى إلى خدمة قطب الدين، فإن شهاب الدين كان قد جمع العساكر لقصد الخطا، وفرق فيهم أموالا كثيرة، وسار الوزير ومعه العسكر الغزنوى، وكان الوزير والأتراك يميلون إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، والأمراء الغوريّة تميل إلى بهاء الدين سام صاحب باميان، فأرسلت كل طائفة إلى من تميل إليه يعرفونه قتل شهاب الدين، ثم سار الوزير والعسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان المدينة التى بين لهاوور وغزنة، وكان بها تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، فلما عاين المحفّة ترجّل، وقبّل الأرض على عادته، وتقدّم وكشف عن شهاب الدين، فلما رآه قتيلا خرّق ثيابه، وصاح، وبكى، وأبكى الناس، وكان من أكبر المماليك الشهابية، فطمع في ملك غزنة، فسأل

ذكر مسير بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة ووفاته

الوزير عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وما بقى، فأنكر عليه، وأساء جوابه، وقال: إن الغوريه قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملّكوه غزنة، وقد كتب إلىّ غّياث الدين «1» ، وهو مولاى وابن مولاى، يأمرنى ألّا أترك أحدا يقرب من غزنة، وقد جعلنى نائبه فيها، وفي سائر الولاية المجاورة لها لاشتغاله بخراسان، وقد أمرنى أيضا أن أتسلم الخزانة منك، فلم يقدر الوزير على الامتناع لميل الأتراك إلى الدز، فتسلمها، وسار بالمحفة إلى غزنة، فدفن شهاب الدين بمدرسته، وكان وصولهم إليها لثمان بقين من شعبان سنة اثنتين وستمائة. ذكر مسير بهاء الدين سام صاحب باميان الى غزنة» ووفاته وبهاء الدين سام هذا هو ابن أخت غياث الدين، وشهاب الدين، وكانا قد ملكاه باميان، فأحسن السيرة، وأحبّه الأمراء الغوريه، وكاتبوه للحضور إلى غزنة، فأعاد عليهم الجواب يأمرهم بحفظ البلد، وأنه واصل إليهم، وسار عن باميان مرحلتين، فوجد في رأسه صداعا اشتدّ عليه، فنزل وقد أيقن بالموت، وأحضر ولديه: علاء الدين وجلال الدين، وعهد بالملك إلى علاء الدين، وأوصاهما بالأمراء الغورية، ومات.

ذكر ملك علاء الدين بن سام مدينة غزنة، وأخذها منه

ذكر ملك علاء الدين بن سام مدينة غزنة، وأخذها منه قال: ولما توفى بهاء الدين سام، وعهد إلى ابنه علاء الدين، سار إلى غزنه، ومعه أخوه جلال الدين، فتلقّاهما الأمراء الغورية، وخرج الأتراك «1» معهم على كره، ونزلا دار السلطنة في مستهل شهر رمضان سنة اثنتين وستمائة، فأراد الأتراك منعهم، فنهاهم الوزير عن ذلك لقلّتهم، واشتغال غياث الدين بابن حرميل صاحب هراة، فاستقر علاء الدين، وجلال الدين بدار السلطنة بالقلعة، فراسلهما الأتراك أن يخرجا من الدار، وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالا كثيرة واستحلفاهم «2» ، فحلفوا، [واستبوا] «3» غياث الدين محمود، فأنفذا خلعا إلى تاج الدين الدز، ووعداه الجميل والحكم في دولتهما، فوصله الرسول، وقد سار عن كرمان لقصد غزنة، فردّه أقبح رد، وقال: قل لهما يخرجان من غزنة، ويكتفيان بباميان، فإنى لا أقدم أحدا على ولد سيدى غياث الدين، ولم يقصد الدز بذلك حفظ البيت وإنما أراد التمهيد لنفسه، فعاد الرسول، وأبلغهما مقالته، ووصل الدز إلى غزنة، فخرج إليه الغوريه، والتقوا في خامس شهر رمضان، فانحاز إليه الأتراك، وخدموه، فهزموا الغوريه، ودخل العسكر المدينة، ونهبوا دور الأمراء الغورية «4» ، والباميانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها إلى باميان في نحو عشرين فارسا ليجمع العساكر،

ذكر ملك تاج الدين الدز غزنة

وأوصى أخاه علاء الدين بحفظ الحصن، فشدد عليه الدز الحصار، وضيق عليه، فأجاب إلى مفارقة الحصن، وحلف الدز أنه لا يؤذيه، وسار علاء الدين من غزنة، فلما رآه الأتراك نهبوا ما كان معه، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عريانا بسراويل، فبلغ الدز الخبر، فأنكر عليهم، وأرسل إليه بثياب ودواب ومال، واعتذر إليه «1» ، فأخذ ما لبسه، ورد الباقى، ولما وصل إلى باميان لبس ثياب سواد، وركب حمارا، فأخرجوا له المراكب الملوكية والملابس، فلم يلبس ولم يركب، وقال: أريد أن يرانى الناس على هذه الحال، وما صنع بى أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبت أهلها لا يلومنى أحد، ودخل دار الإمارة، وشرع في جمع العساكر. ذكر ملك تاج الدين الدز غزنة قال: ولما توجّه علاء الدين من غزنة، أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين إلا أنه لم يأمر بالخطبة له ولا لغيره، إنما: يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين فحسب، فلما كان في سادس عشر رمضان أحضر القضاة والفقهاء والقراء والمقدمين، وأحضر رسول الخليفة، وهو مجد الدين أبو على بن أبى الربيع مدرس النظامية، وكان قد حضر برسالة من دار الخلافة إلى شهاب الدين، فوجده قد قتل، وركب الدز والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في دار السلطنة في غير المجلس الذى كان

ذكر حال غياث الدين محمود بن غياث الدين بعد مقتل عمه شهاب الدين

يجلس فيه مولاه شهاب الدين، [فتغير] «1» الناس عليه، وتنكروا له، فإنهم أنما كانوا يطيعونه لإظهاره طاعة غياث الدين محمود، فلما استقل بالأمر خالفوه، ففرق فيهم الأموال والإقطاعات، واستعان على ذلك بالخزانة التى أخذها عند مقتل شهاب الدين، وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد الملوك الغورية، وغيرهم من الأكابر، فأنفوا من خدمته، واستأذنوه على اللحاق بغياث الدين، فأذن لهم، فلحق بعضهم به، وبعضهم بأصحاب باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره على ما فعل ويطالبه «2» بالخطبة له، ونقش السكة باسمه، فلم يفعل، وغالط في الجواب، وطلب منه أن يخاطب بالملك، وأن يعتقه من الرق، وأن يزوج بن غياث الدين، بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك: قال، ولما ملك الدز غزنة أحضر مؤيد الملك الوزير، وألزمه الوزارة، فوزر على كره منه. ذكر حال غياث الدين محمود بن غياث الدين بعد مقتل عمه شهاب الدين قال: لما قتل شهاب الدين كان غياث الدين هذا «ببست» فى إقطاعه، فبلغه الخبر، وكان شهاب الدين قد ولى الملك علاء الدين محمد بن أبى على بلاد الغور، وغيرها مما يجاورها، فلما بلغه قتل شهاب الدين، سار إلى مدينة: «فيروزكوه» ؛ خوفا أن يسبقه

غياث الدين إليها «1» ، فملكها، وكان حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية إلا أن الناس كرهوا منه أنّه كان كرّاميا، وكانوا يميلون إلى غياث الدين، فأنف الأمراء من خدمة علاء الدين مع وجود ابن سلطانهم، وكان علاء الدين هذا قد أحضر الناس، وحلفهم أنهم يساعدونه على قتال خوارزم شاه، وبهاء الدين صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقارا له، فحلفوا له ولولده من بعده، هذا وغياث الدين بمدينة بست لم يتحرك انتظارا لما يكون من صاحب باميان لأنّهما كانا قد تعاهدا في أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين، وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان، بعد موت شهاب الدين، فلما بلغه ما اتفق من وفاة بهاء الدين وإخراج أولاده من غزنة جلس على التخت، وخطب لنفسه، وتلقب بألقاب والده، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبى على، وهو بفيروزكوه يستدعيه، ويستعطفه ليصدر «2» عن رأيه، ويسلم مملكته إليه، وكتب إلى الحسن بن جرميل وإلى هراة مثل ذلك، فأما علاء الدين فأغلظ له «3» فى القول ونهدّد الأمراء الذين مع غياث الدين، فسار غياث الدين إلى «فيروزكوه» ، فأرسل علاء الدين عسكرا مع ابنه، وفرق فيهم أموالا جمة ليمنعوا غياث الدين، فلقوه بالقرب من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسماعيل الخلجى المغفر «4» عن رأسه، وقال: «الحمد

لله إذ «1» الأتراك الذين لم يعرفوا أباهم لم يضيعوا حق التربية» ، وردّوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان وربّاكم، كفرتم إحسانه، وجئتم لقتال ولده أهذا فعل الأحرار، فقال محمد المرغنى، وهو مقدم العسكر: لا والله وترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، وقبل الأرض بين يديه، وبكى بصوت عال، وفعل سائر الغورية مثل فعله، فانهزم خواصّ علاء الدين مع ولده، فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هاربا نحو الغور، وهو يقول: أجاور بمكة، فأنفذ غياث الدين خلفه من العسكر من أدركه، فأخذ وحبس، وملك غياث الدين فيروزكوه، وفرح به أهل البلد، وقبض على جماعة من الكرّاميّة أصحاب علاء الدين، فقتل بعضهم، وسكن دار أبيه، وأعاد رسومه، وسلك سبيل العدل والإحسان، ثم لم تكن له همة إلا في أمر الحسن بن حرميل، وملاطفته، فتكررت المكاتبات منه إليه، وابن حرميل يغالظه «2» فى الجواب، ويطاوله، وكان ابن حرميل «3» قد كتب إلى خوارزم شاه بالانحياز إليه، وبذل الطاعة، وأنه يسلم إليه هراة، فكان من أمره ما نذكره في أخبار الدولة الخوارزمية من انضمام بن حرميل إلى خوارزم شاه، وملكه ما كان للغورية بخراسان، والله أعلم بالصواب.

ذكر عود علاء الدين وجلال الدين ابنى بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة

ذكر عود علاء الدين وجلال الدين ابنى بهاء الدين سام صاحب باميان الى غزنة قال: ولما فارق علاء الدين غزنة على الصّفة التى ذكرناها، والتحق بباميان، شرع في الاستعداد وجمع العساكر لقصد غزنة، وأما الدزّ، فإنه استولى على غزنة، وأحسن إلى الناس، وبسط العدل والإنصاف، ولم يخطب لنفسه ولا لغيره، وكان يعد الناس، ويقول: إن رسولى عند مولاى غياث الدين، فإذا عاد خطبت له، فتمسك «1» الناس بقوله، وإنما كان يفعل ذلك مكرا وخديعة بهم وبغياث الدين لأنه كان يضعف عن مقاومة صاحب باميان، وكانوا كذلك «2» إلى خامس ذى القعدة سنة اثنتين وستمائة، فبينما الناس على ذلك إذ ورد عليهم الخبر أن صاحب باميان قد جمع الجيوش، وأقبل بها، وعزم على نهب غزنة، فجهز الدز جيشا كثيفا من عسكره، وسيرهم إلى طريق صاحب باميان ليمنعوه من الوصول إلى غزنة، فلم يكن لهم قبل به، فلما التقوا قتل من الأتراك جماعة، وانهزم من سلم، وتبعهم علاء الدين يقتل ويأسر، فخرج الدز من غزنة هاربا إلى كرمان، فنزل علاء الدين غزنة، واتبع الدز إلى كرمان، فملكها، وأمّن أهلها، وعزم على العود إلى غزنة، ونهبها، فراسله رسول الخليفة، وشفع في أهلها، فشفّعه فيهم بعد مراجعات، ثم وصل علاء الدين، وجلال الدين إلى غزنة، ومعهما ما بقى من الخزانة التى كان الدز

ذكر عود تاج الدين الدز إلى غزنة

قد أخذها من الوزير مؤيد الملك، فكانت تسعمائة حمل، وفيها من الثياب المنسوجة بالذهب اثنا عشر ألف ثوب، وقصد علاء الدين أن يستوزر مؤيّد الملك، فسمع جلال الدين بذلك فأحضره، وخلع عليه، واستوزره، فغضب علاء الدين من ذلك، وقبض على مؤيد الملك، وقيده وحبسه، فتغيرت نيّات الناس، واختلف علاء الدين، وجلال الدين، واقتسما ما كان في الخزانة وجرى بينهما مشاحّة «1» فى القسمة لا تجرى بين التجار، فعلم الناس أنه لا يتم لهما أمر، ولا يستقيم لهما دولة، وعاد جلال الدين ببعض العسكر إلى باميان، واستقر علاء الدين بغزنة، فأساء وزيره عماد الملك السيرة في الأجناد والرعية ونهب أموال الأتراك حتى باع أمهات الأولاد. ذكر عود تاج الدين الدز الى غزنة قال: ولما انفرد علاء الدين بغزنة، وأقام بها جمع الدز جمعا كثيرا من الأتراك، وعاد إلى كرمان، وبها عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له المؤيد، وكان المؤيد قد اشتغل باللهو واللعب، فلم يشعر إلا وعسكر الدز قد هجم على البلد «2» ، وقتل من فيه من العسكر عن آخرهم في المعركة صبرا، وقتل المؤيد، فوصل الخبر إلى غزنة فى العشرين من ذى الحجة من السنة، فصلب علاء الدين الذى جاء بالخبر، فتغيمت السماء وأمطرت حتى خرب بعض غزنة، ووقع برد كبار مثل بيض الدجاج، فضج الناس إلى علاء الدين، فأنزله آخر

ذكر ما اتفق لغياث الدين محمود مع تاج الدين الدز وأيبك

النهار، فانكشفت الظلمة، وكتب علاء الدين إلى أخيه جلال الدين يعلمه بالخبر، ويستنجده، ووصل الدز آخر ذى القعدة إلى غزنة، وحاصر القلعة، وكان بينه وبين علاء الدين قتال شديد، وجاء جلال الدين بأربعة آلاف من عسكر باميان، فلقيه الدز بقرية [بلق «1» ] واقتتلوا، فانهزم عسكر جلال الدين، وأخذ هو أسيرا، وأسر من البامانية ألف أسير، وعاد الدز إلى غزنة، فبعث إلى علاء الدين في تسليم القلعة أو قتل الأسرى، فامتنع من التسليم فقتل منهم أربعمائة بإزاء القلعة، فراسله عند ذلك في طلب الأمان، فأمنه، فلما خرج قبض عليه ووكل به وبأخيه [من يحفظهما] «2» وقبض على وزيره عماد الملك، وكتب إلى غياث الدين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام، وبعض الأسرى وذلك في صفر [سنه 603] «3» ذكر ما اتفق لغياث الدين محمود مع تاج الدين الدز وأيبك «4» قال: ولما عاد الدز إلى غزنة كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له، فأجابه جواب مدافع، وكان جوابه أشد مما تقدم، فأعاد عليه الجواب يقول: إما أن تخطب لنا، وإما أن تعرفنا ما في نفسك، فلما وصل إليه الرسول خطب لنفسه بغزنة بعد الترحم على شهاب الدين، فساء الناس ذلك منه، وتنكروا له، ولم يروه أهلا

أن يخدموه، ولما خطب لنفسه أرسل إلى غياث الدين يقول: بماذا تشتط «1» على هذه الخزانة، نحن جمعناها بأسيافنا، وهذا الملك قد أخذته، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة، وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتنى بأمور لم تف لى بشىء منها، فإن أنت عتقتنى خطبت لك، وحضرت إلى عندك، فأجابه غياث الدين إلى العتق بعد الامتناع، وأشهد عليه بعتقه، وبعتق قطب الدين أيبك النائب ببلاد الهند. وأرسل إلى كل منهما ألف قباء، وألف قلنسوة، ومناطق الذهب، وسيوفا كثيرة، وجترين، ومائة رأس من الخيل، فقبل الدز الخلع، ورد الجتر، وقال: نحن عبيدك، والجتر له أصحاب، وسار رسول أيبك، وكان «بفرشابور «2» » ، وقد حفظ المملكة، وضبط البلاد، فلما قرب الرسول منه تلقاه، وترجل وقبل حافر الفرس، ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجازيه بعبودية الأبد. قال: وأرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا، وأنه يسير إليه العساكر إلى غزنة، فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثا، ثلث له، وثلث لغياث الدين، وثلث للعسكر، فأجابه غياث الدين إلى ذلك، ولم يبق إلا الصلح، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران، فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح، فجزع لذلك جزعا عظيما، ظهر أثره عليه، وأرسل إلى غياث الدين

يقول له «1» : ما حملك على هذا فأجابه: حملنى عليه عصيانك وخلافك، فسار الدز إلى [تكيناباد] «2» فأخذها، وإلى بست وتلك الأعمال، وقطع خطبة غياث الدين عنها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين، وقطع خطبة خوارزم شاه، وأرسل إلى ابن حرميل صاحب هراة بمثل ذلك، وتهددهما بقصد بلادهما. ثم إن الدز أخرج جلال الدين صاحب باميان [من أسره] «3» ، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أيدكز «4» ، لإعادته إلى ملك باميان، وكان قد ملكها عباس عم جلال الدين، وعلاء الدين لما أسرهما الدز، فاسترجعها من عمه. قال: وبلغ قطب الدين أيبك ما فعله الدز، فكتب إليه يفتح ذلك عليه، وينكر فعله، ويقول: إن لم تخطب له بغزنة، وتعود إلى طاعته، وإلا قصدت بلادك، ثم بعث أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف، وأشار عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلبه الآن، وأنه عند الفراغ من أمر غزنة يسهل أمر خوارزم شاه وغيره، قال: وخالف أيدكز على الدز، فأقام بكابل، وكتب إلى أيبك يعرفه مخالفته له، وانتصاره لغياث الدين فصوب رأيه، وأشار عليه بقصد غزنة في غيبة الدز، فإن حصلت له القلعة يقيم بها إلى أن يأتيه، وإن تعذرت عليه ينحاز إلى غياث الدين، أو يعود إلى كابل، فوصل أيدكز إلى غزنة في أول شهر رجب

سنة ثلاث وستمائة، فمنعوه القلعة، فأمر أصحابه بنهب البلد فنهبوا عدة مواضع، فتوسط القاضى بينهم أن يسلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية «1» ، وأخذ له من التجار شيئا آخر، وخطب أيدكز بغزنة لغياث الدين محمود، وقطع خطبة الدز، ففرح الناس لذلك، واتصل الخبر بالدز، ووصل إليه رسول أيبك، فخطب لغياث الدين في تكيناباد «2» ، وأسقط اسمه من الخطبة، ورحل إلى غزنة، فلما قاربها فارقها أيدكز إلى بلد الغور، وأقام في نمران، «3» وكتب إلى غياث الدين [محمود] » ، يخبره بحاله، وأنفذ إليه المال الذى أخذه من الخزانة والتجار بغزنة، فأرسل إليه خلعا سنية، وأعتقه، وخاطبه بملك الأمراء، ورد عليه مال الخزانة «5» ، وقال له: أما مال الخزانة، فقد أعدناه إليك، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلناها إلى أربابها لئلا تقبح دولتنا بالظلم، وقد عوضتك عنها ضعفيها، وأرسل أموال الناس إلى القاضى بغزنة، وأمره بردها على أربابها، ففعل ذلك، وكثر الدعاء له، وصار الدز بين الطاعة والخلاف لغياث الدين.

ذكر مقتل غياث الدين محمود، وانقراض الدولة الغورية

ذكر مقتل غياث الدين محمود، وانقراض الدولة الغورية كان مقتلة في سنة خمس وستمائة. وسبب ذلك أن خوارزم شاه سلم هراة إلى خاله أمين «1» ملك، وأمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام «2» ، ويقبض عليه، وعلى على شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه، فسار أمين ملك إلى فيروزكوه، واتصل الخبر بغياث الدين، فبذل الطاعة، وطلب الأمان، فأمنه، فلما نزل إليه من فيروزكوه قبض عليه، وعلى على شاه أخى خوارزم شاه، فسألهما أن يحملهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيه، فأرسل أمين «3» ملك إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر، فأمره بقتلهما، فقتلا في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه. وانقرضت الدولة الغورية بقتل غياث الدين هذا، وكانت من أحسن الدول، وأكثرها جهادا، وكان غياث الدين هذا عادلا كريما حليما، من أحسن الملوك سيرة، وأكرمهم أخلاقا، وهو آخر ملوك الدولة الغورية، وكان ابتداء هذه الدولة من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وانقراضها في سنة خمس وستمائة، فتكون مدتها ثلاثا وستين سنة تقريبا، وربما ظهرت قبل هذا التاريخ، وإنما انتشرت واشتهرت وتمكنت في سنة ثلاث وأربعين. فلذلك جعلنا ابتداءها فيها. وعدة من ملك منهم عشرة ملوك، وهم محمد بن الحسين وهو بن الحسن ملك ببلاد الغور قبل سنة ثلاث وأربعين، ولم أظفر بابتداء ملكه،

ذكر أخبار تاج الدين الدز، وما كان من أمره بعد مقتل غياث الدين

فاذكره في سنته، ثم ملك بعده أخوه سام بن الحسين، ثم ملك بعده أخوه سورى بن الحسين، ثم ملك بعده أخوه الحسين، وهو أول من علا ذكره، وطار اسمه، وتمكّنت دولته، ثم ملك بعده ابنه سيف الدين محمد بن الحسين، ثم ملك بعده غياث الدين أبو الفتح محمد ابن سام بن الحسين، ثم ملك بعده شهاب الدين محمد بن سام، ثم اضطرب أمر الدولة الغورية بعده، فملك علاء الدين، وجلال الدين ابنا بهاء الدين سام صاحب باميان، ولم تطل مدّتهما. وإنما ذكرناهما في عدد الملوك الغورية؛ لأنهما استوليا على غزنة، وخطب لهما بها، وملك غياث الدين محمد، وكانت دولته في غاية الاضطراب كما ذكرنا. ذكر أخبار تاج الدين الدز، وما كان من أمره بعد مقتل غياث الدين استقبل تاج الدين الدز بملك غزنة بعد مقتل غياث الدين محمود، وأحسن السيرة في الرعية، ودام ملكه بها إلى أن ملكها السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن رتكش «1» فى سنة ثنتى عشرة وستمائة «2» على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الخوارزمية، ولما ملكها خوارزم شاه هرب تاج الدين الدز من غزنة، وسار إلى مدينة «لهاوور» ، واستولى عليها من صاحبها ناصر الدين قباجة

وهو من المماليك الشهابية بعد حرب كانت «1» بينهما انتصر فيها الدز، ثم سار من مدينة لهاوور إلى الهند ليملك ما بيد المسلمين منها، فلقيه شمس الدين الترمش مملوك قطب الدين أيبك، وكان قد ملك بعد وفاة مولاه، فاقتتلا قتالا شديدا، أجلت الحرب عن قتل تاج الدين الدز، وكان محمود السيرة في ولايته، كثير العدل والإحسان إلى رعيته، لا سيما التجار الغرباء، ومن محاسن أعماله ومكارم أخلاقه وحلمه أنه كان له أولاد، ولهم مؤدّب يعلمهم القرآن، فضرب أحدهم، فمات، فأحضره الدز، وقال له: يا مسكين ما حملك على ما فعلت، فقال: والله ما أردت إلا تأديبه، فمات. فقال له: صدقت، وأعطاه نفقة، وقال له: تغيّب، فإن أمّه لا تقدر على الصبر، وربما أهلكتك، ولا أقدر أمنعك، وهذا نهاية الحلم، ولم يشتهر الأحنف بن قيس بالحلم بأكثر من هذا، وكان القاتل ابن أخيه، وهذا أجنبى رحمه الله تعالى.

الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك العراق، وما والاه وملوك الموصل والديار الجزيرية، والبكرية والبلاد الشامية، والحلبية، والدولة الحمدانية، والديلمية البويهية، والسلجوقية، والأتابكية.

الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك العراق، وما والاه وملوك الموصل والديار الجزيرية، والبكرية «1» والبلاد الشامية، والحلبية، والدولة الحمدانية، والديلمية البويهية، والسلجوقية، والأتابكية. ذكر أخبار الدولة الحمدانية وهذه الدوله كانت بالموصل. وديار ربيعة، وديار بكر، والثغور، وحلب، وجذ ملوكها الذين ينسبون إليه هو مكابد المحل حمدان بن الحارث بن لقمان بن راشد بن رافع بن مسعود التغلبى «2» العدوى، وإنما سمى الأمير حمدان مكابد المحل لأن الموصل أجدبت في بعض السنين حتى عدم القوت بها، فمات الناس أجمع سنتين إلى أن أغيثوا، ففيه يقول الشاعر: مازلت في قيظ المعيشة جاهدا ... حتّى دعيت مكابد المحل

ذكر ابتداء امارة أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بالموصل

وكان لحمدان أبناء كثيرون. منهم الأمير أبو الهيجاء عبد الله، والمملكة في أولاده. ذكر ابتداء امارة أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بالموصل كان ابتداء إمارته في سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وذلك أن الخليفة المكتفى «1» بالله استعمله على الموصل وأعمالها في هذه السنة، فسار إليها وقدمها في «2» أول المحرم، فأقام بها يوما واحدا، وخرج من الغد بمن قدم معه وبمن فيها، فأتاه الصريخ من نينرى أن الأكراد [الهذانية] «3» ، ومقدمهم محمد بن بلال قد أغار على البلد، فسار من وقته، وعبر الجسر إلى الجانب الشرقى، فلحق الأكراد بالعروبة على [الخازر] «4» ، فقاتلوه فقتل رجل من وجوه أصحابه اسمه سيما الحمدانى، فعاد عنهم، وكتب إلى الخليفة يستمده، فأتته العساكر بعد شهور، فسار في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين إليهم، وكانوا قد اجتمعوا في خمسة آلاف بيت، فلما عاين الأكراد الجيش قصدوا جبل السّلق، وامتنعوا به وهو جبل عال مشرف على الزاب، وجاء مقدمهم إلى أن قرب من أبى الهيجاء، وراسله في الحضور عنده،

وأن يرهن أولاده عنده، ويتركون القتال، فأجابه أبو الهيجاء إلى ذلك، ورجع محمد بن بلال ليأتى بالرهائن، فحثّ أصحابه على المسير نحو أذربيجان، فبلغ بن حمدان خبره، فأراه النجدة التى وصلت إليه من قبل الخليفة على المسير معه، فتثبطوا عنه، فسار عبد الله بأصحابه يقفوا أثر الأكراد، فلحقهم وقد تعلقوا بالجبل المعروف بالقنديل، فقتل منهم جماعة، وانصرف عنهم، ولحق الأكراد بأذربيجان، ورجع عبد الله إلى الموصل، ثم خرج إلى الأكراد، وحاصرهم بجبل السّلق أشد حصار، فنجا محمد بن بلال بأهله وأولاده ومن لحق بهم، واستولى عبد الله على بيوتهم وسوادهم وأموالهم وأهليهم، فطلبوا الأمان فأمنهم، وأبقى عليهم وردهم إلى بلدهم، ورد عليهم أموالهم، وقتل منهم قاتل صاحبه سيما، وأمنت البلاد معه، وأحسن السيرة في أهلها «1» ، ثم حضر إليه محمد بن بلال بأمان، وأقام بالموصل «2» ، وتتابع الأكراد الحميدية وأهل جبل داسن «3» إليه بالأمان، فأمنت البلاد، واستقامت، ولم تزل كذلك إلى سنة إحدى وثلاثمائة.

ذكر مخالفة عبد الله بن حمدان، ورجوعه إلى الطاعة

ذكر مخالفة عبد الله بن حمدان، ورجوعه الى الطاعة وفي سنة إحدى وثلاثمائة خالف الأمير أبو الهيجاء عبد الله على الخليفة المقتدر بالله، فثار به أهله، ونهبوا داره، فكتب إلى بنى تغلب «1» ، فأتوه فدخل «2» الموصل، وأوقع بأهلها وقتل منهم فأرسل إليه الخليفة مؤنسا المظفر في جيش، فقصده أبو الهيجاء واستأمن له، وأظهر الطاعة، وقال: إنه ما فارقها، وسار معه إلى بغداد، فخلع المقتدر عليه، وولى مكانه نحرير الصغير ولاه «3» مؤنس المظفر. ذكر القبض على بنى حمدان، واطلاقهم وفي سنة ثلاث وثلاثمائة قبض الخليفة المقتدر بالله على أبى الهيجاء ابن حمدان، وجميع إخوته وحبسهم، وكان سبب ذلك أنّ أخاه الحسين بن حمدان خرج عن الطاعة، وكان بالجزيرة، فسيّر إليه الخليفة جيشا، وكان بينهم حروب كان آخرها أن الحسين أسر وأحضر إلى بغداد، فقبض المقتدر على جميع إخوته وأهله، وحبسهم واستمروا في الحبس بدار الخليفة إلى سنة خمس وثلاثمائة فأطلقوا. وفي سنة ثمان وثلاثمائة خلع المقتدر بالله على أبى الهيجاء بن حمدان، وقلّده طريق خراسان، والدّينور، وخلع على أخويه أبى العلاء وأبى السرايا.

وفي سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة. أسر القرامطة أبا الهيجاء بن حمدان، ثم أطلقوه، وقد تقدم ذكر ذلك في أخبار القرامطة. وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة ضمن أبو الهيجاء أعمال الخراج والضياع بالموصل [وقردى وبازبدى] «1» ، وما مع ذلك مضافا إلى ما بيده من ولاية طريق خراسان، وغيرها، وكان هو مقيما ببغداد وابنه ناصر الدولة يخلفه بالموصل، وأقام على ذلك إلى أن قتل في يوم الإثنين سابع عشر المحرّم سنة سبع عشرة وثلاثمائة عند خلع المقتدر بالله وبيعة القاهر على ما شرحناه مبينا في خلافة المقتدر بالله. وكان القاهر بالله لما بويع بالخلافة في النصف من المحرم اختص بأبى الهيجاء حمدان، فلما ثار الجند بعد يومين من بيعته كان أبو الهيجاء عنده، فبادر بالقيام ليخرج، فتعلق القاهر بأذياله، واستجار به، فحملته الحمية العربية على الثبات، ودخل الأجناد على القاهر وهو وأبو الهيجا [يتخللان] «2» القاعات حتى حصرا «3» بقاعة، فدخل عليهم الجند من بابها، فجرد أبو الهيجاء سيفه، وأوقف القاهر وراءه، وصار يحمل على الأجناد، فيردهم إلى الدهاليز، ثم يعود ويعودون، فصعد بعض الجند إلى أعلى القاعة، ورموه بالنشاب إلى أن مات. هذا أحد ما قيل في صفة قتله. وكان شجاعا فاتكا كريما محبوبا إلى الخفاء والأمراء، وخلف من الأولاد: أبا محمد الحسن، وأبا الحسين على،

ذكر أخبار الحسين بن حمدان بن حمدون، وهو أخو أبى الهيجاء

وأبا العطاف خير، وأبا زهير. والمملكة من هؤلاء في الحسن وعلى وعقبهما، واستبد ابنه الحسن بالأمر على ما نذكره بعد ذكرنا لأخبار عمه الحسين بن حمدان. ذكر أخبار الحسين بن حمدان بن حمدون، وهو أخو أبى الهيجاء كان الحسين هذا من أمراء بنى حمدان المشهورين ولى قمّ وأعمالها، والموصل، والجزيرة، وغير ذلك من الأعمال الجليلة، وكان شجاعا سفاكا، ذا همّة عالية، اجتمع عنده نيّف وعشرون طوقا من خلع الخلفاء كلّ طوق منها لقتله خارجيّا، ولم يزل عند الخلفاء يعدّ للمهمات إلى أن خالف على المقتدر بالله في سنة ثلاث وثلاثمائه. وكان إذ ذاك بالجزيرة، وجمع نحوا من عشرة آلاف، فبعث المقتدر لحربه [رائقا] «1» الحجرى في جيش كثيف، فانهزم الحسين، وقصد ابن أبى الساج بأذربيجان، ومرّ على أرزن فخرج إليه واليها ليردّه، فهزمه الحسين. وكان مؤنس المظفّر بالقرب من أرزن، فبعث إليه من أدركه، وقبض عليه، وأدخل إلى بغداد، وهو مشهور على جمل في زى شنيع وابنه كذلك، وقبض عند ذلك على سائر إخوته، وهم أبو الهيجاء، وأبو العلاء سعيد، وأبو السرايا، وأبو الوليد، وحمدون، واعتقلوا في دار الخلافة، ولم يترك منهم إلا داود، وأقام

ذكر أخبار ناصر الدولة

الحسين في الحبس إلى أن عزم الخليفة على إخراجه في سنة خمس وثلاثمائة وتوليته مقدمة الجيش لمحاربة يوسف بن أبى الساج، فلم يفعل، وامتنع، وقال: الساعة لما احتجتم «1» لى، فغضب الخليفة لذلك، وأمر قاهرا الخادم أن يقتله، فقتله في الحبس، ورمى رأسه إليه ورميت جثّته في دجلة، وأطلق عند ذلك سائر بنى حمدان، وما منهم، إلا من له ذكر وتقدم، وإنما خصصنا عبد الله والحسين بالذكر دون غيرهما من إخوتهما لاشتهارهما في الدولة العبّاسية، وتقدمهما، ولأنهما وليا جلائل الأعمال، وتقدما على الجيوش في الحروب. وقد تقدم من أخبارهما في الدولة العباسية ما يستدل به على تقدمهما وشجاعتهما، وذكرنا أيضا في أخبار الخوارج بالموصل كيف كان ظفر الحسين بهارون الخارجى الذى كانت فتنته قدعمت، فلنذكر الطبقة الثانية منهم، وهم أولاد عبد الله بن حمدون. ذكر أخبار ناصر الدولة هو أبو محمد الحسن «2» بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان ابن حمدون. لما قتل والده كان يخلفه بالموصل وأعمالها، فتقدم في خدمة الدولة العباسية، وتنقل في الولايات إلى أن تولى الموصل في أيام الراضى بالله، وتغلب عليها في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

لما ضعفت الدولة العباسية، فندب ابن مقلة الوزير إليه عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان، وولاه الموصل، وأمره بالقبض على ناصر الدولة، فلما قرب من الموصل، خرج ناصر الدولة لتلقيه، فخالفه سعيد، ودخل البلد [ونزل] «1» داره، وقبض على خزائنه، فبلغه الخبر فرجع عجلا، ودخل الدار، وقبض على عمه، وأمر بعض الغلمان بعصر مذاكيره، فعصرت حتى مات، وذلك في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فاتصل الخبر بابن مقلة، فتجهز في العساكر الخليفية، وسار من بغداد إلى الموصل لخمس خلون من شعبان، وكان ناصر الدولة لدهائه ومكره لا يصافف من يقصده، فلما بلغه خبر مسير بن مقلة، رفع أمواله وخزائنه وحرمه إلى قلعة الموصل، وجعل فيها من خواص غلمانه من يدفع عنها، ثم خرج من الموصل فى عسكره، وأخرج معه كل تاجر في البلد، ولم يترك بالموصل علوفة ولا قوتا إلا رفعه إلى القلعة، فوصل الوزير بن مقلة إلى الموصل، وهى بهذه الصفة، فأقام بحال سيئة، وبعث بالعساكر مع على بن خلف بن طيّاب «2» فى طلب ناصر الدولة، فسار خلفه ودخل ناصر الدولة إلى أرمينية، فعاد ابن طياب ولم يتبعه، وطال المقام على ابن مقلة، ونفدت الأقوات، فقلد الموصل لعلى بن خلف، وقلد جزيرة ابن عمر لما كرد الدّيلمى، وقلد عبد الله بن أبى العلاء المقتول والده نصيبين وعاد إلى بغداد، وانتهى الخبر إلى ناصر الدولة، فخرج من أرمينية، وقد أطاعه سائر ملوكها وجبى خراجها، وقصد الجزيرة

وبها ما كرد، فكاتب ما كرد من كان مع ناصر الدولة من الأمراء، ووعدهم عن الوزير ابن مقلة، فاستأمنوا إليه، وفارقوا ناصر الدولة، فانفصل عن الجزيرة كالمنهزم وراسل على بن أبى جعفر «1» الديلمى وهو مع على بن خلف بالموصل، ووعده الجميل والإحسان إليه، فأفسد من مع ابن طياب، ووصل ناصر الدولة إلى الموصل ودخلها، فاستأمنوا إليه، وخرج بن طياب هاربا في ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ثم جهز ناصر الدولة الجيوش مع على بن أبى جعفر إلى الجزيرة لقتال ما كرد، وإخراجه منها، فلما قرب «2» منها، فارقها ما كرد وسار إلى نصيبين «3» ، واستنجد بأبى ثابت العلاء بن المعمر «4» ، فجمع له، العرب وأنجده، فكتب علىّ لناصر الدولة بالخبر بأخيه سيف الدولة على بن عبد الله، وأمر على بطاعته، ثم سار ناصر الدولة بنفسه تابعا لأخيه وقاتل ما كرد وأبا ثابت، فقتل أبو ثابت، وهرب ما كرد إلى الرقة، وانهزمت بنو حبيب بعد مقتل أبى ثابت إلى بلاد الروم وتنصروا إلى الآن، واستقامت مملكة الموصل، وديار ربيعة، ومضر لناصر الدولة، وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة خرج الخليفة الراضى بالله، ومعه بجكم «5» طالبا الموصل، فأخرج ناصر الدولة جيشه مع ابن عمه الحارث بن سعيد، فلما التقى الجيشان، وقع في جيش ناصر الدولة أنه استأمن، فانهزموا إلى

ذكر ولاية ناصر الدولة امرة الأمراء بالعراق

ناصر الدولة، فدخل الموصل في ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم، وصلى الجمعة، ثم خرج من الموصل، ودخلها بجكم يوم السبت، وسار ناصر الدولة إلى الخالدية ثم رحل منها يريد برقعيد «1» ، وبقى بها جماعة من أهله، ووافى بجكم الخالدية، فأوقع بهم وخرج أبو وائل وتمادى الأمر على ذلك، ثم وقع الصلح على مال بذله الحسن، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر منها، واستمر إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة «2» ، والله أعلم بالصواب. ذكر ولاية ناصر الدولة امرة الأمراء بالعراق كان «3» سبب ذلك أن أبا الحسن بن البريدي لما ملك بغداد، وهرب المتقى لله إلى الموصل، ومعه أمير الأمراء أبو بكر بن رائق، واستنجد بناصر الدولة، فقتل ناصر الدولة ابن رائق في شهر رجب سنة ثلاثين «4» وثلاثمائة كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار الدولة العباسية، فرد المتقى لله تدبير الدولة إلى ناصر الدولة وساروا جميعا إلى بغداد ومع ناصر الدولة أخوه سيف الدولة، فانهزم البريديون من بين يديه، وتولى ناصر الدولة إمرة الأمراء، ونعته المتقى بهذا النعت، ونعت أخاه: سيف الدولة، وخلع عليهما. وذلك في شوال

سنة ثلاثين وثلاثمائة، وزوج المتقى لله ولده أبا منصور بابنة ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة السكة عيادا «1» لم يضرب قبله مثله إلا السندى، وزاد على نقش السكة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم «2» وهو أول من فعل ذلك، وأقام ببغداد ثلاثة عشر شهرا، ثم اجتمعت الأتراك، وقدّموا عليهم توزون، وهو بواسط، وسيف الدولة فى عسكره معهم، وبلغ ناصر الدولة قيام الأتراك، فسار إلى الموصل صحبة المتقى، وأمر أخاه سيف الدولة بمناصبة الأتراك، فكبسه توزون ليلا، فانهزم إلى الموصل، ثم راسل توزون المتقى في الصلح فأجاب، ورجع فكان من أمره والقبض عليه وسمله ما قدمناه. وأقام ناصر الدولة بالموصل لا يتعرض لبغداد إلى أن ملكها معز الدولة بن بويه الديلمىّ، فتحرك إليها في جمادي الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وحاصر «3» معز الدولة بن بويه حتى كاد يأخذه، ثم رجع عنها في صورة منهزم وامتنع من حمل المال، فتجهز معز الدولة إلى الموصل لقتاله، فرفع أمواله إلى القلعة، ولم يترك في البلد قوتا ولا علوفة البتّة وبقى في خيل جريده «4» . فلما قرب معز الدولة إلى الموصل فارقها ناصر الدولة، وسار فكان تارة بنصيبين «5» وتارة بآمد، وتارة ببلد «6» ، ونزل معز

الدولة قصر ناصر الدولة، وأقام بالموصل، فنفدت الأزواد فبعث بغالا تقلّه مع سراياه إلى القرى لتحصل الأقوات والعلوفات، ففرّق عند ذلك ناصر الدولة بنيه، وهم ثمانية كل منهم تزيد مماليكه وغلمانه على خمسمائة رجل، فكانوا لا يجدون سرية إلا هزموها، ولا قافلة إلا نهبوها، فإذا خرج معز الدولة في طلبهم تكشفوا بين يديه، ويخلفه ناصر الدولة إلى الموصل، فيأخذ ما يجد بها من الأموال، ويرفعه إلى القلعة، وإن وجد أحدا من قواده سجنه بها، فكان هذا دأبه إلى أن استقر الصلح بينه، وبين معز الدولة في سنة خمس وثلاثين. وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة في شهر رجب ملك معز الدولة ابن بويه الموصل، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين «1» ، فتبعه معز الدولة، ففارقها، وبعث أولاده إلى الموصل لقتال من فيها، فرجع إليهم معز الدولة، فانكشفوا بين يديه، فسار إلى بلد، واجتمع ناصر الدولة بأولاده، وسار إلى الموصل، فأسروا من أصحاب معزّ الدولة الذين تركهم بها نيفا وسبعين قائدا: فقيّدهم ناصر الدولة، وحملهم إلى القلعة، ومعهم ستمائة من الجند، ووجد مائة وثلاثين بدرة لمعزّ الدولة، فأخذها، وخرج من الموصل ومضى إلى حلب، وأقام عند أخيه سيف الدولة، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن تم الصلح بين معزّ الدولة بن بويه وسيف الدولة، وأبى تغلب بن ناصر الدولة على إطلاق الأسرى وردّ ثمانين بدرة، فأجاب إلى ذلك ناصر الدولة، ورجع معز الدولة

ذكر القبض على ناصر الدولة ووفاته

إلى بغداد، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يزل بها مالكا [لها] «1» من غير منازع إلى أن قبض عليه ولده. ذكر القبض على ناصر الدولة ووفاته وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة في ليلة الثلاثاء لست بقين من جمادي الأولى، قبض عدة الدولة أبو تغلب فضل الله على والده ناصر الدولة، وهو نائم بعد أن شاخ وكبر، فحمله على فراشه إلى قلعة الموصل، واعتقله بها، فكان بها إلى أن مات، وكانت وفاته في يوم الجمعة وقت العصر لاثنتى عشرة «2» ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فكانت مدة تغلّبه نحوا من ثلاث وثلاثين سنة، سوى ولاية الموصل قبل ذلك. وكان له من الأولاد عشرة وهم: عدة الدولة الغضنفر أبو تغلب فضل الله «3» ، وكان قد ولّاه الجزيرة، وأبو المظفر حمدان ولاه نصيبين، وأبو الفوارس محمّد ولاه الموصل، وأبو القاسم هبة الله ولاه بلد، وأبو طاهر إبراهيم ولاه سنجار، وأبو المرجّى جابر. وأبو البركات لطف الله، وأبو المطاع ذو القرنين، وأبو عبد الله الحسين. كتّابة: دنجا «4» بن إسحاق، كان كاتب المطيع لله،

ذكر أخبار سيف الدولة

أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازى، وأبو الحسن الباهلى، وبهلون بن هاشم، وأبو القاسم بن مكرم. ذكر أخبار سيف الدولة هو أبو الحسن «1» على بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون. كان في ابتداء أمره في خدمة أخيه ناصر الدولة إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فانفرد سيف الدولة بديار بكر، والسبب فى ذلك أن على بن أبى «2» جعفر الديلمى لما استأمن إلى ناصر الدولة كما ذكرناه، وخرج على علىّ بن خلف بن طياب سأله أن يولّيه الجزيرة عند إخراج ما كرد منها، فاعتذر عنها، وكان أحمد بن نصر القنسوري بديار بكر في عدّة قليلة، فجهز ناصر الدولة مع على ابن أبى جعفر جيشا، وأمره أن يسير إلى ديار بكر، فانصرف أحمد ابن نصر عنها، ودخلها علىّ بن أبى جعفر، وسكن أرزن، وأقام الدعوة لناصر الدولة، وهو في خلال ذلك يحصّن البلد، ويستكثر من الرجال والأجناد، فنمى الخبر إلى ناصر الدولة، فلم يأمن شرّه، وأمره بالقدوم عليه، فأبى ذلك، وأظهر العصيان، فندب ناصر الدولة عند ذلك أخاه سيف الدولة لحربه، وقال له: إن فتحت ديار بكر، وقبضت على علىّ الديلمى، ملّكتك بلادها وقلاعها من غير أن تحمل عنها شيئا لخليفة، ولا لغيره، فسار سيف الدولة في ألف

فارس، فتحصّن منه في قلعة «أرزن» وهى المعروفة بحصن العيون، فنزل سيف الدولة تحتها على النهر المعروف [بسربط] «1» ، وحصر «2» عليا بها، فبعث الديلمىّ حاجبه بدر الجستانى إلى ابن يرنيق «3» ملك أرمينية، وإلى سائر بطارقتها يستنجد بهم على سيف الدولة، فاتّصل خبر الحاجب بسيف الدولة، فرصده عند عوده، فقبض عليه، فسأله الديلمى الأمان على أن يمضى إلى بغداد، أو يبقى في خدمته، فأجابه إلى ذلك، وحلف له، ونزل إليه وسلّم القلعة، فوفىّ له سيف الدولة، وأقام علىّ في خدمته إلى أن استأمن إلى ابن رائق، وملك سيف الدولة بعد ذلك جميع بلاد أرمينية وما جاور بلاد بكر، ثم ملك حلب «4» وانتزعها من يد الأخشيدية، ثم قلّد بعد ذلك الثغور «5» الجزيرية، وهى طرسوس، وعين زربة «6» ، والمصيصة، وما جاورهم من الثغور، من غير أداء مال عن شىء مما بيده من الأعمال؛ لأنه كفى المسلمين أمر الروم نحوا من أربعين وقعة له وعليه. وكان بعيد الهمة شجاعا يلقى الأمور بنفسه. وكان شاعره أبو الطيب المتنبى يمدحه في كل غزاة،

ويذكر وقائعه» فكان الدمستق يقول: «بلينا بشاعر كذّاب، وأمير خفيف الركاب» وكان لسيف الدولة خمسمائة غلام أقران لهم بأس شديد، إذا حمل بهم في جيش حزقه «1» . وكان سنه عند ولايته خمس عشرة سنة، فظهرت شجاعته. وكان أديبا فاضلا وله شعر ذكره الثعالبى في يتيمة الدهر، ومن جملة غزواته أنه خرج غازيا في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، فانتهى إلى حصن «دادم «2» » وسار إلى حصن زياد «3» ، فشارف فتحه، وأقام عليه تسعة أيام، فوافاه الدمستق في مائتى ألف، فانكفأ راجعا يريد [شمشاط] «4» ، وخيول الروم تسايرة، فلما كان يوم النحر وصل إلى موضع بين حصنى [زياد، ودادم] «5» وسلام، فوقف، وأقبلت عساكر الروم، فناجرهم القتال، فهزم الله الروم، وأسر سيف الدولة منهم سبعين بطريقا، ولم يزل القتل والأسر فيهم إلى الليل، وأخذ سرير الدمستق وكرسيه. ولسيف الدولة مع الروم وقائع كثيرة مشهورة ذكرها كثير من المؤرخين تركناها لاشتهارها. وفي سنة ثلاثين وثلاثمائة. ملك سيف الدولة مدينة حلب، وانتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابىّ صاحب الإخشيد، واتفق خروج العدوّ إلى تلك النواحى، فسار إليهم، وأوقع بهم وقعة عظيمة، فاعتصموا

منه بجبل منيع، فصعد إليهم، فكان منهم من ألقى نفسه من الجبل فمات، وغنم منهم غنيمة عظيمة. ولما بلغ الإخشيد ذلك أنفذ عسكره مع كافور، فهزمهم سيف الدولة، ودخل حمص وأعمالها، فملكها وسار إلى دمشق، ودخلها، فكاتبه الإخشيد، وبذل له الموادعة بعد أن بذل له أن يحمل إليه من المال نظير ما كان يحمل لابن رائق، فلم يجب إلى ذلك، وقال: جوابك إذا دخلت مصر إن شاء الله. ثم جرت بينهما أمور، واتّفقا على أن يكون لسيف الدولة حمص، وحلب، وما بينهما، وأفرج عن دمشق، وتزوج بابنة أخى الإخشيد. ثم مات الأخشيد عند رجوعه على ما نذكره في أخباره، وذلك في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فمضى سيف الدولة إلى دمشق، واستأمن إليه جماعة منهم: «يانس المونسى» ، وأقام بها. ثم سار لحرب كافور الإخشيدى، فنزل اللّجون «1» والإخشيديه بقربه، والتقوا، فانهزم جيش سيف الدولة، ورجع هو إلى دمشق، فأخذ والدته وخاصّته وأمواله، وسار إلى حلب، ثم وقع الصّلح بينهم في سنة ست وثلاثين على ما وقع بينه وبين الأخشيد أولا. وفي فتح سيف الدولة دمشق يقول الخالديان «2» : يا سيف دولة آل النبى ... حويت العلا دولة وابتداء

ليهنك أنّك دانى الندا ... ومجدك فوق النجوم اعتلاء وأنّك لما ملكت الملوك ... تكبّرت أن تلبس الكبرياء ولما حويت العراق انكفيت ... إلى عرصات الشام انكفاء وجزت دمشق فطهرتها ... وأبدلتها بالظلام الضياء وما مصر عنك بممنوعة ... إذا ما استعنت عليها القضاء وفي سنة ست وثلاثين ظفر سيف الدولة القرمطى الملقب بالهادى، واستنقذ أبا وائل. وفي سنة إحدى وأربعين بنى سيف الدولة مرعش، فسار إليه الدمستق، فأوقع به سيف الدولة. وفي سنة اثنتين وأربعين فتح حصن العريمة، وأخرب مدينة ملطية، وكان الدمستق قد أخرب الحدث في سنة سبع وثلاثين، فسار إليه سيف الدولة، ونزل به فى يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخره سنة ثلاث وأربعين، فحط الأساس، وحفر أوله بيده، وحفر الناس وأقام إلى أن بناه ووضع بيده آخر شرافة «1» منه لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رجب من السنة. وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. ورد على سيف الدولة من سائر الثغور طرسوس «2» ، وأذنة، والمصيصة رسل نوابه، ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة، فهادنهم، ولم يزل سيف الدولة في ملكه يوما له ويوما عليه إلى أن كبرت سنه. وضعف في آخر عمره واضطرب أمر دولته.

ذكر اختلال دولته واستيلاء الدمستق على حلب، وما أخذه من أموال سيف الدولة

ذكر اختلال دولته واستيلاء الدمستق على حلب «1» ، وما أخذه من أموال سيف الدولة قال: ولما كبر سيف الدولة وضعفت قدرته لمرض لحقه في آخر عمره فلج منه نصفه، وتفرقت عنه البوادى وتقاعد عنه المسلمون، وفسد ما بينه وبين ابن الزيات أمير الثغور من قبله «2» ، واشتغل عنه أخوه ناصر الدولة بحرب معز الدولة، فلم ينجده، فقويت الروم، واستولى الدمستق على الثغور، ثم قصد حلب في حشد عظيم من الروم والأرمن، فلم يشعر به سيف الدولة إلا وقد أطلّ على البلد، فقاتله سيف الدولة، وحمل بنفسه وغلمانه وابن أخيه هبة الله بن ناصر الدولة حتى كاد أن يؤخذ، فانهزم، وملك الروم داره بظاهر حلب وكان ذرعها ستة آلاف ذراع، وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال، فكان من جملة ما أخذ مائة بدرة ذهبا، ومائتا بدرة من الورق، وثلاثمائة حمل من البزّ الفاخر، وخمسون حملا من الديباج، ومن أوانى الذهب والفضة ما لا يحصى كثرة، ومن الخيل ثمانمائة فرس، ومن البغال خمسمائة، ومن السلاح، والمناطق، والتجافيف، والسيوف مائة حمل، ومن الجمال ألفا جمل «3» ، ونقل سقوف الدار معه. وكان نزوله على حلب في يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وفتح البلد في يوم

ذكر وفاة سيف الدولة

الثلاثاء، وأقام فيه إلى يوم الثلاثاء الكائن بعده، وتحصن «1» أهل حلب في القلعة بما أمكنهم من الأموال، واستولى الدمستق على البلد بما فيها، ثم فارقها، ورجع سيف الدولة إليها، وقد ذهب أكثر أمواله، فبعثت له أخته هدية من ميّافارقين كان من جملهتا مائة ألف دينار. ذكر وفاة سيف الدولة كانت وفاته رحمه الله في الضحى من نهار الجمعة لخمس بقين من صفر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة «2» ، وكان مولده في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة، فكان عمره اثنين وخمسين سنة وشهرين وثمانية أيام. وكانت مدة ملكه نحوا من ثلاثين سنة. وكان شجاعا كريما معجبا بارائه محبا في الفخار والبذخ مظفرا في حروبه جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس منه وعليه، وكان له من الأولاد خمسة. وهم: أبو الهيجاء عبد الله، توفى فى حياة أبيه في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. وأبو البركات وهو أكبرهم، توفى في حياة أبيه في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وأبو المعالى شريف، وهو الذى ملك بعد أبيه. وأبو المكارم مات في حياته. وست الناس ابنته. كتابه: أبو الحسن «3» على بن الحسين المغربى والد الوزير.

ذكر أخبار عدة الدولة الغضنفر

وأبو محمد بن الفياض. وأبو إسحاق محمد أحمد القراريطى «1» . وأبو الفرج محمد بن على السرّمرّائىّ، وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن فهد الموصلى وغيرهم. حجابه: نجا غلامه، وقرعوية، وبقى. فهذه الطبقة الثانية من آل حمدان. فلنذكر الطبقة الثالثة منهم. ذكر أخبار عدة الدولة الغضنفر وهو أبو تغلب الغضنفر ابن ناصر الدولة أبى محمد الحسن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون. ملك الموصل، وما كان بيد أبيه عند قبضه على والده ناصر الدولة في ليلة الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وأطاعه سائر إخوته إلا أبو المظفر حمدان، وهو الذى يليه فى العمر. وكان ناصر الدولة قد قلده المرحبة، ولما مات عمه سيف الدولة سار إلى الرقة ونصيبين، فملكها، وسوّغه والده ارتفاع «2» جميع تلك البلاد. فكتب أبو المظفر إلى أخيه أبى تغلب يأمره بإطلاق والدهما ناصر الدولة، وتوعّده إن لم يفعل، فغضب لذلك، وفسد الحال بينهما، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، فجهز أبو تغلب جيشا لقتال أخيه، وجعل عليه أخاه أبا البركات، فكان له معه حروب ووقائع، آخرها أن أبا المظفر حمدان ظفر بأخيه أبى البركات، وضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فأخذه أسيرا واستباح سواده، وانقسم عسكره بين مستأمن إلى حمدان، وأسير، وقتيل، ثم انكفأ حمدان

إلى قرقيسياء «1» ليعالج أخاه من ضربته، فمات أبو البركات بعد أيام فأنفذه حمدان في تابوت إلى الموصل، واستحكمت عند ذلك العداوة بين بنى حمدان، وبين أخيهم أبى تغلب. واختلف باقى الإخوة، وكانوا متفرقين في أعمالهم فاحتال أبو تغلب على أخيه محمد، وكان واليا على نصيبين حتى قبض عليه، وذلك في شعبان سنة ستين وثلاثمائة واعتقله في قلعة أردمشت «2» ، فلم يزل بها حتى هرب أبو تغلب، وملكها عضد الدولة بن بوبه، فاطلقة وأكرمه، ورد عليه ضياعه ومنها قلعة: الشعبانى «3» ، وقلعة أهرون «4» ، وغيرهما من القلاع. وفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة سلم أخو حمدان لأمه لأبى تغلب الغضنفر قلعة ماردين «5» ، فأخذ منها جميع أمواله وحر؟؟؟ هـ، وكان المحاصر له بجيش أبى تغلب أبو اليقظان عمار بن أبى السرايا نصر بن حمدان. وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة في آخر يوم من شهر رمضان أوقع أبو القاسم هبه الله بن ناصر الدولة بالدمستق ملك الروم الوقعة المشهورة، وكان الدمستق في نحو خمسين ألفا فأسر أبو القاسم، وقتل أكثرا الجيش وكانت الوقعة على بلد. قال: ثم أخذ أبو تغلب في استفساد إخوته واحدا بعد واحد حتى صاروا بأجمعهم إليه إلا أبو طاهر «6» إبراهيم، فإنه استأمن إلى بختيار، ومضى إلى بغداد. وسار أبو تغلب

بجماعة إخوته إلى قرقيسياء، فنزل بها، وبعث أخاه، أبا القاسم هبة الله إلى الرحبة في جيش ليوقع بأخيه حمدان، فخرج حمدان هاربا، واتبعه ابنه أبو السرايا وسلك طريق البرية، وكاد هبة الله أن يأخذه. وقيل: إنه قدر عليه وتركه، وسار حمدان إلى بغداد، فدخلها في ذى الحجة سنة ستين وثلاثمائة، واجتمع بأخيه إبراهيم: وأقاما عند بختيار مدة، ثم كوتب إبراهيم من الموصل (بالعودة إلى طاعة أخيه فهرب، فأغضب ذلك عز الدولة بختيار وسار إلى الموصل) «1» فى شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين، فدخلها، ورحل أبو تغلب إلى سنجار. ثم تقرر الصلح بينهما على أن يفرج أبو تغلب لأخيه حمدان عن ضياعه التى كان قبض عليها، فأجاب إلى ذلك، وأفرج له عنها، واستقر ملك الغضنفر بالموصل إلى أن ملك عضد الدولة بن بويه بغداد، وأخرج ابن عمه عز الدولة بختيار إلى الشام وشرط عليه ألا يتعرض إلى بلاد عدة الدولة الغضنفر، فأجاب إلى ذلك، وسار وصحبته «2» حمدان بن ناصر الدولة فلما وصل مبكرا أفسد حمدان نيته، وحرضه على طلب بلاد أخيه أبى تغلب، فعزم على ذلك، وسار فنزل تكريت، فوصل إليه على بن عمر الكاتب بهدية من أبى تغلب، وصحبه في الطريق، فلما خلا به أفسد بينه وبين حمدان وعرفه أن مصالحة أبى تغلب بإفساد حمدان هى الرأى الصريح، وذكر أنه سلم «3»

ذكر فساد حال عدة الدولة، وزوال ملك بنى ناصر الدولة وما كان من أمر عدة الدولة إلى أن قتل

حمدان إلى أبى تغلب عاضده على إخراج عضد الدولة من العراق وأعاد مملكته إليه، ولم يزل يغريه إلى أن بعث لأبى تغلب، وأخذ عليه العهود بذلك، وقبض عند ذلك على حمدان، وسلمه لأبى تغلب، وأخته جميلة، فحبساه، ثم قتلاه صبرا، وهرب ولده أبو السرايا إلى عضد الدولة ببغداد. ذكر فساد حال عدة الدولة، وزوال ملك بنى ناصر الدولة وما كان من أمر عدة الدولة الى أن قتل قال: ولما قتل أخاه جمع الجموع لنصرة عز الدولة بختيار وجمع بختيار أيضا، وسارا إلى بغداد وخرج عضد الدولة، فنزل الحصن «1» غربى سامرا، ونزلا تجاهه، وباكروا القتال في يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة من السنة، وبعث الجيوش في طلب أبي تغلب عدة الدولة، ومحمد ابن عمه معز الدولة، فتنقل أبو تغلب في البلاد من مدينة إلى أخرى، والجيوش تطلبه إلى أن سار إلى حصن زياد، وكاتب ملك الروم قلاروس المنعوت «2» بورد يستنجده، وكان ورد قد خرج عليه ملك آخر، وانقضت عنه جموع الروم، فبعث إلى أبى تغلب يسأله اللحاق به ليلقى الخارج عليه، فإن نصر عليه عاد معه لنصرته، فبعث إليه أبو تغلب قطعة من جيشه، ثم عاد

فنزل بآمد وأقام بها قريبا من شهرين، فاستولى عضد الدولة على ميافارقين والجزيرة، وسائر بلاد عدة الدولة، ففارق آمد عند ذلك، وسار إلى دمشق، وملك عضد الدولة آمد والرحبة، وسائر بلاد بنى حمدان إلا ما كان في يد سعد الدولة بن سيف الدولة، فإنه لم يتعرض إليه كحلب، وديار مضر، وربيعة، وما والاها من الحصون والبلاد لخدمة خدمه بها سعد الدولة، ثم ملك عضد الدولة بعد ذلك قلاع أبى تغلب التى فيها أمواله وذخائره وهى من «1» جانب دجلة الشرفى على طريق الجزيرة. قال: ولما وصل أبو تغلب إلى دمشق وجد قسّام العيّار متغلبا عليها، فنزل بظاهرها، وكتب إلى العزيز خليفة مصر يسأله أن يولّيه الشام، فخاف العزيز عاقبته، وكاتبه بأن يفعل ذلك، وياخذها من قسّام، وكاتب قسّام ألّا بسلّم إليه البلد، فطال الأمر على أبى تغلب، وضجر من تردد الرسائل، واجتمع معه بنو عقيل، فسار وقصد الرملة، وذلك في المحرم سنة تسع وستين «2» وثلاثمائة، فهرب [دغفل] «3» بن الجراح منه، ثم حشد، وجمع، وقصد الرملة، والتقى مع أبى تغلب على باب الرملة في يوم الإثنين لليلة خلت من صفر سنة تسع وستين، فانهزم بنو عقيل، وسائر من مع عدة الدولة، ولم يبق معه إلا غلمانه، وهم نحو سبعمائة فارس،

ذكر أخبار سعد الدولة

فانهزم بهم، وأدركته الخيل، فثنى وجهه لقتالهم، فقتل فرسه، وأسره سبع الطائى وهو ابن عم لدغفل بن الجراح، وسلمه إلى دغفل، فقتله في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من صفر سنة تسع وستين وثلاثمائة؛ وكان «1» مولده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه إلى حين انفصاله عن آمد نحوا من ثنتى عشرة سنة. وكان له من الأولاد. أبو الهيجاء أحمد، وأبو الفتح نصر الله. كتابه: أبو موسى النصرانى. وقرة بن ديما «2» . وأبو الحسن على بن عمر بن ميمون. وعلى بن عمر بن عمر «3» . فلنذكر أخبار أولاد سيف الدولة: ذكر أخبار سعد الدولة هو أبو المعالى شريف بن سيف الدولة أبى الحسن على بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون. ملك حلب وديار بكر، وغير ذلك مما كان بيد والده سيف الدولة بعد وفاته في يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ولما توفى والده سيف الدولة بحلب كان سعد الدولة بديار بكر، فاجتمعت غلمان أبيه: قرعون. وبقى. وبشاره «4» ، وغيرهم على تقديمه ونصرته، وضبط قرعويه حلبا نيابة عنه،

وبعث بتابوت مولاه إلى ديار بكر مع بقى وبشارة «1» الخادم في جمادى الأولى من السنة وكان بين بقى وبشارة منافرة، فأذاع بقى عن بشارة أنه قد كاتب حمدان بن ناصر الدولة، وكان قد غلب على الرقة ونصيبين عند وفاة عمه، وعزم على أخذ حلب وكتب بقى إلى «2» قرعويه بذلك، فقبض على أسباب بشارة بحلب، ولما بلغ بشارة الخبر داخل بقى وآنسه، وأظهر له المودة فأنسر به، وأخبره بما أضمره، وأنه يقصد الاستيلاء على ديار بكر، ويقبض على أبى المعالى ابن مولاه، ويملك هو التدبير، وضمن لبشارة أنه يسلم إليه ميافارقين، فأظهر بشارة القبول، والإقبال عليه، وسار بمسيره، فلما قربوا من ميافارقين، كتب بشارة إلى أبى المعالى يحذره من الخروج للقاء التابوت، ويعرفه ما عزم عليه بقى، فأظهر أبو المعالى علة، وامتنع من الركوب، وأخرج أهل البلد لتلقى التابوت، فلم يدخل بقى المدينة، ووكل بأبوابها خلقا من الرجال الذين أعلمهم بالخبر، وقبض على قوم من الكتاب، وطالبهم بمال ينفقه في رجاله، فدخل بشارة المدينة، وطلع على السور، وأغلق الأبواب، وخاطب أصحاب بقى عن أبى المعالى بكل جميل، فمالوا إليه، وفارقوا صاحبهم فبطل ما دبره بقى، وسار إلى منازكرد «3» ، وكتب إلى أبى المعالى يطلب منه الأمان.

ذكر مقتل أبى فراس الحارث، واستيلاء أبى المعالى على حمص

فأمنه، ولما حصل عنده قبض عليه، وسلمه لبشارة، فقتله، وسار أبو المعالى إلى حلب في شهر رجب من السنة. ذكر مقتل أبى فراس الحارث، واستيلاء أبى المعالى على حمص قال المؤرخ: كان سيف الدولة قد أقطع أبا فراس الحارث ابن سعيد بن حمدان، وهو خال أبى المعالى شريف حمص بعد خلاصه من أسر الروم، فأكثر الظلم والتعدى على أهلها. فلما توفى الأمير سيف الدولة اضطربت أموره، ثم فسد ما بينه وبين ابن أخته أبى المعالى، فسار أبو المعالى، ففارق حمص، وانحاز إلى ضيعة له في طريق البرية تعرف «بصدد» ، وجمع سعد الدولة أعراب بنى كلاب وظالما العقيلى، وبعثهم على «1» مقدمته مع قرعويه، فكبس أبا فراس «بصدد» ، فناوشهم القتال، ثم قتله بعض غلمان قرعويه، وعاد سعد الدولة إلى حمص، فولاها لذكا غلام قرعويه. ذكر استيلاء قرعويه على حلب، واخراج أبى المعالى عنها قال: ثم فسد ما بين سعد الدولة وبين قرعويه، ووافقه أكثر الغلمان، وأهل البلد، فأخرج أبا المعالى منها، وقطع دعوته، وتغلّب على البلد، فسار سعد الدولة إلى أرزن، وميّا فارقين،

فمر في مسيرة بحران، فأغلق أهلها الأبواب في وجهه، ومنعوه من الدخول، إليها إلا أنهم لم يقطعوا دعوته، فمضى إلى ميافارقين، وكانت والدته بها، فبلغها أن غلمانه قد عزموا على القبض عليها، وحملها إلى القلعة، فأغلقت أبواب المدينة في وجه ابنها ثلاثة أيام إلى أن توثقت منه، وممن معه، ومن أجناده، ثم فتحت الأبواب وأطلقت أرزاق غلمانه، فصلحت أحوالهم، ثم جمع سعد الدولة واحتشد، وسار إلى حلب، فنزل عليها في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وحاصرها، وفي مدة غيبتة نزل أبو البركات ابن ناصر الدولة بجيش على ميّافارقين، فأغلقت والدة أبى المعالى الأبواب دونه، وضبطت البلد، وراسلته تتعرف منه سبب مقصده، فعرفها أنه يقصد العدو، وأنه يريد منها ما يتقوى به على قصده، فبذلت له مائتى ألف درهم، فلم يقنع بها، وطلب منها ضياعا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين، فأعملت التدبير إلى أن أفسدت عليه جماعة ممّن معه، ثم ركبت، وكبسته في عسكره وقتلت جماعة من غلمانه، فانهزم أبو البركات، وراسلها، فردّث عليه بعض ما نهبت منه، وأطلقت له مائة ألف درهم، وأطلقت حاجبه، وكانت قد أسرته، فرحل عنها. ولم يزل أبو المعالى على حصار حلب حتى فتح الروم أنطاكية في يوم النحر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، واستقرّوا بها، وأنفذوا جيشا لأخذ حلب، فارتحل أبو المعالى عنها، ونزلت الروم عليها، وملكوا المدينة، فصالحهم قرعويه على أن يؤدّى لهم جالية «1» ، ويكون في ذمّتهم إلى أن يموت،

ذكر الصلح بين سعد الدولة وقرعويه، والقبض على قرعويه، وقيام بكجور، وعود ملك «حلب» إلى سعد الدولة

فإن مات ولى مكانه غلامه بكجور، وكتب فيهم «1» كتابا، ونزل أبو المعالى معرة النعمان، ووالدته نائبة عنه بميّافارقين، فورد عليها الخبر أن ملك الروم تحرك لقصد دبار بكر، فخافت أنها لا تنهض بضبط ميّافارقين، فتبرأت من الأمر، ودبر البلد أهله، ثم راسلوا أبا تغلب بن ناصر الدولة في وال. فبعث إليهم أبا الفوارس هزار مرد أحد مماليك سيف الدولة الكبار. ذكر الصلح بين سعد الدولة وقرعويه، والقبض على قرعويه، وقيام بكجور، وعود ملك «حلب» الى سعد الدولة وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة تمّ الصلح بين أبى المعالى وقرعويه، ودعا له بحلب، وكان أبو المعالى ينزل بحماه، وكانت حمص قد أخربها الروم عند دخولهم إليها في ذى الحجة سنة ثمان وخمسين، فنزل دقطاش «2» غلام سيف الدولة بها وعمرها لأبى المعالى. فنزلها بعد ذلك، وكان قرعويه قد قدم غلامه بكجور على قرعويه. واعتقله، وملك حلب، وأقام بها نحوا من خمس سنين، فلم يرض أهلها سيرته، وكاتبوا أبا المعالى، فسار إليها، ونزل معرة النعمان، ففتحها، ثم نزل على حلب في سنة ست وستين وثلاثمائة، وأقام عليها نحوا من أربعة أشهر، وافتتحها بحيلة، وتحصن بكجور بالقلعة، ثم صالح على أن يوليه سعد الدولة حمص، وسلم القلعة

ذكر تولية سعد الدولة من قبل الخليفة وتلقيبه

بما فيها، فتسلمها سعد الدولة، ووفى لبكجور، وعظمت مملكة أبى المعالى عند ذلك، وقويت حرمته، وتمكنت دولته. ذكر تولية سعد الدولة من قبل الخليفة وتلقيبه «1» كان سبب ذلك أن عضد الدولة البويهى لما ملك العراق بعد ابن عمه عز الدولة بختيار كاتبه أبو المعالى يبذل له الطاعة والدعوة، فتنجز له من الخليفة الطائع لله الخلع واللّقب بسعد الدولة، والولاية على ما بيده من الأعمال، وأرسل ذلك مع رسول، وخادم الخلافة. وكان جلوس الخليفة لذلك في شهر رجب سنة سبع وستين وثلاثمائة. ذكر خلاف «2» بكجور على الأمير سعد الدولة وما كان من أمره قال: وأقام بكجور بحمص، وعمّرها أحسن عمارة، وأمّن أهلها وطرقاتها إلى أن وقع بينه وبين سعد الدولة في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. فسار بكجور إلى حلب وحاصرها، فبلغ ذلك ملك الروم، فسار لنصرة أبى المعالى ونزل «3» أنطاكية، وكان معه. مفرج [ابن دغفل بن الجراح، وكان بين مفرج وبكجور مودة، فكتب إليه مفرج] «4» يخبره بقصد الروم، فرحل عن حلب، وسار إلى حمص وأخذ ما أمكنه من أمواله، وكان العزيز صاحب مصر استدعى بكجورا

ليوليه الشام ودمشق لما اشتهر من شهامته، فتولى دمشق بعد خطب عظيم جرى له، واضطراب حال، ودخلت الروم حمص الدخلة الثانية بإذن سعد الدولة لأنه خاف أن يملكها بكجور بالمغاربة، وكان دخولهم إليها في يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. وتسلم بكجور دمشق في يوم الأحد مستهل شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. ثم وقع بين بكجور، وبين يعقوب بن كلّس الوزير، فقبض بكجور على وكلاء الوزير بدمشق، فاستحكمت العداوة بينهما، وأفسد الوزير نفس نزار صاحب مصر على بكجور، فبعث منيرا الخادم في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة لقصد بكجور، وإخراجه من دمشق من غير إظهار ذلك بل أظهر أنه قصد بإرساله طرد مفرج بن دغفل من دمشق، وجرى من الأمور ما أوجب خروج بكجور بأمواله وحرمه من دمشق. وكان خروجه في يوم الثلاثاء منتصف شهر رجب سنة ثمان وسبعين. وسار بكجور إلى الرقة، وكان قد بعث غلامه وصيفا في سنة ست وسبعين وثلاثمائة إليها، فتسلمها من ديلمى، وكان بها من أصحاب عضد الدولة بعد وفاته، فلما دخلها بكجور راسل الطائع لله، فلم يجد عنده ما يؤثره، فأقام على الدعوة لنزار صاحب مصر، وبعث إليه نزار يقول: إنى ما أردت إخراجك من دمشق، وإنما أردت طرد ابن الجراح منها، وأبقى عليه ضياعه، وأمواله بها، وقوى أمر بكجور بالرقة، واشتد طمعه فى أخذ حلب من سعد الدولة وكاتب نزارا بذلك، وطلب إنجاده، فكتب نزار إلى والى طرابلس بالمسير إلى بكجور متى استدعاه،

وجمع بكجور العرب وكتب إلى نزار «1» والى طرابلس أن يوافيه بحلب، وكان سعد الدولة قد كاتب بسيل «2» ملك الروم يعلمه بذلك، ويطلب منه أن يأمر نائبه بأنطاكية، وسائر الثغور بإنجاده متى طلبهم، فكتب بسيل لهم بذلك، ثم أرسل سعد الدولة بكجور، وبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص، فقال لرسوله: «قل له الجواب ما تراه دون ما تسمعه» . ثم سار بكجور لحرب سعد الدولة، وتقدمت مقدماتها فتطاردا «3» ، فكان سعد الدولة يخلع على من أبلى من أصحابة، وينعم عليهم ويحملهم، وبكجور يكتب أسماء من أبلى من أصحابه لينظر فى أمرهم، فتغيرت لذلك قلوبهم. ثم كاتب سعد الدولة أعراب بكجور، وأطمعهم فعصوا «4» على بكجور ونهبوا سواده. ثم سار كل من العسكرين في يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة إلى الآخر، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لسعد الدولة وأصحابه على بكجور، فانهزم إلى حلب، واستولى القتل والأسر على غلمانه، واستخفى بكجور في بيت رحى بظاهر حلب، وتقلبت به الأحوال إلى أن استجار ببعض العرب، فحمله إلى سعد الدولة، فضرب عنقه، ثم سار سعد الدولة بعد أن أعاد الروم إلى بلادهم، وقصد الرقة، فنازلها وتحصن منه سلامة الرشيفى «5» غلام بكجور بحصن الرافقة، ومعه حرم بكجور

وأمواله، وابن المغربى كاتبه، فكاتبه سعد الدولة في تسليم الحصن، فبعث سلامة إليه يقول: أنا عبدك، ولكن لبكجور عندى صنائع تمنعنى من تسليم الحصن إلا أن أستوثق لحرمه وأولاده، فإن أمنتهم على أن يكون لك السلاح من أموالهم دون غيره سلمت لك الحصن، فأجابه سعد الدولة إلى ذلك، وحلف له وتسلم الحصن. ولما نزل أولاد بكجور، وحملوا أموالهم قال ابن أبى حصين قاضى حضرة سعد الدولة: إن بكجورا مملوكك لم تعتقه، وأولاده كذلك ولا مال لهم، ولا إثم عليك في أخذ أموالهم، فقبض عليهم عند ذلك، وأخذ الأموال، وهرب ابن المغربى إلى الكوفة، وكتب أولاد بكجور بذلك إلى العزيز نزار صاحب مصر، فكتب العزيز إلى سعد الدولة كتابا يهدده فيه ويقول: إن لم تطلق آل بكجور وأموالهم بعثت الجيوش لحربك. وأنفذ الكتاب مع فائق الصقلبى، فوصل إليه، وقد عاد من الرقة، وهو نازل بظاهر حلب. فلما وقف سعد الدولة على الكتاب غضب، وأحضر الرسول، وصفعه، وألزمه أن يأكل الكتاب فتناوله، ومضغه حتى فرغ منه، وقال له: عد إلى صاحبك، وقل له لا حاجة لك في إرسال الجيوش، فأنا سائر إليك، والخبر يأتيك من الرملة، وعزم سعد الدولة على قصد العزيز صاحب مصر، فعاجلته منيته.

ذكر وفاة سعد الدولة

ذكر وفاة سعد الدولة كانت وفاته ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه لما أعاد رسول العزيز بالرسالة التى ذكرناها قدّم بعض جيوشه إلى حمص. وأقام هو بظاهر حلب أياما ليرتب أحواله، فعرض له قولنج أشفى منه، فأشار أطباؤه عليه بدخول حلب وملازمة الحمام، ففعل ذلك وانتفع «1» وصح، فلما كان في اليوم الثالث من صحته زين له «2» البلد ليركب، فجاءته جارية في ليلة ذلك اليوم من جملة حظاياه، وكن أربعمائة حظية، وكان سعد الدولة يهواها، فلما رآها ما تمالك عند رؤيتها أن واقعها، فلما فرغ سقط عنها، وقد جف نصفه الأيمن، وفلج فدخل عليه النفيس الطبيب، والتمس أن يجس نبضه، فناوله اليد اليسرى فقال: يا مولاى اليمين، فقال: يا نفيس ما تركت لى اليمين شيئا، أراد بذلك نقض اليمين التى حلفها لآل بكجور. وتوفى في هذه المرضة. ومن العجب أن والده سيف الدولة فلج نصفه الأيسر قبل وفاته. وفلج نصف سعد الدولة الأيمن، فاجتمع منهما مفلوج، وكانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة وتسعة أشهر. وكان له من الأولاد. أبو الفضائل وهو الأكبر. وأبو الهيجاء. كتابه: أبو الحسن المغربى «3» والمصيصى وغيرهما. حاجبه: لؤلؤ الكبير الجراحى وغيره. والله أعلم.

ذكر أخبار أبى الفضائل بن سعد الدولة أبى المعالى شريف بن سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله بن حمدان بن حمدون

ذكر أخبار أبى الفضائل بن «1» سعد الدولة أبى المعالى شريف بن سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله بن حمدان بن حمدون ولى بعد وفاة أبيه في يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وذلك أن والده سعد الدّولة لما أدركته الوفاة عهد إليه، وأوصى لؤلؤا «2» الجراحى، وجعله مدبر جيشه، وأوصاهما بالسيدة ستّ النساء، وبولده أبى الهيجاء عبد الله الأصغر. ذكر ما كان بين لؤلؤ الجراحى وبين العزيز نزار صاحب مصر وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وصلت جيوش العزيز نزار صاحب مصر لمحاصرة حلب، وسبب ذلك أن ابن المغربى لما انهزم من سعد الدولة إلى الكوفة عند القبض على آل بكجور كاتب العزيز يستأذنه فى الانضمام إليه، والانحياز إلى جهته، فأذن له، فسار إليه، ودخل القاهرة في يوم الخميس النصف من جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وبلغ عند العزيز مرتبة عظيمة حتى صار يستشيره فى عظائم الأمور، ويأتمنه على الأسرار، فلما بلغه وفاة سعد الدولة حسّن للعزيز أن يبعث جيشا إلى حلب، وكان العزيز قد بعث [بمنجوتكين] «3» التركى في جيش إلى دمشق في تاسع شهر رمضان

سنة إحدى وثمانين، وأمره بحرب منير الذى كان قد تسلّم دمشق من بكجور، ولأنه كان قد عصى على العزيز، فأمره أنه إذا أخذ دمشق يمضى إلى حلب، واستكتب العزيز بن المغربى، فسار إلى دمشق، وهزم منيرا، واستولى على البلد للعزيز، وأقام بها إلى أن انسلخت سنة إحدى وثمانين، وسار إلى حلب، وكان لؤلؤ قد كتب إلى بسيل ملك الروم، وعقد بينه وبين أبى الفضائل بن سعد الدولة كما كان بينه وبين أبيه، فأمر بسيل «البرجى» «1» » صاحب أنطاكيه أن يكون ظهرا لأبى الفضائل على كل من يقصده، وينجده متى طلبه. ولما نزل منجوتكين على حلب قاتلها مدة شهرين فلم يظفر منها «2» بشىء، فاستظهر عليه أبو الفضائل ولؤلؤ غاية الاستظهار، فعاد عنها في شهر رمضان وولى حمص «3» لمعضاد الحمدانى. ثم سار إلى حلب في سنة ثلاث وثمانين، ثم عاد عنها وسار إليها في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وقد جمع واستعد، فنازلها وضايقها مدة شهرين، فبعث لؤلؤ إلى البرجى صاحب أنطاكية في الحضور إليه، فجمع الروم. وكان قد خرج إليه من بلاد الروم رئيس عظيم عندهم يقال له: أصابع الذهب، فجمع أيضا من أمكنه، وسارا بمن معهما حتى نزلا على نهر المقلوب «4» ، فأقاما هناك، ورجع منجوتكين عن حلب، ونزل بإزائهما، وكان عسكره أكثر من جمعهما، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على الروم،

ذكر الصلح بين أبى الفضائل والعزيز نزار صاحب مصر

وذلك في شعبان سنة أربع وثمانين، وعاد منجوتكين إلى محاصرة حلب، فحاصرها من شعبان إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين، فاشتد الحصار على أهلها، وكانت الأخبار ترد على بسيل ملك الروم وهو ببلاد البلغر «1» وله بها سنين كثيرة، وقد استحوذ على أكثرها، فخاف على حلب فترك قتال البلغر، ورجع إلى «2» القسطنطينية، وخرج في نحو أربعين ألفا من خواص أصحابه يركبون البغال الرهاوين ويجنبون «3» الخيل، وسار لا يلوى على متأخر ولا يقف «4» لمنقطع فوصل إلى [إعزاز] «5» في سبعة عشر ألفا، وعزم على أن يكبس منجوتكين، فنمى الخبر إليه، فانهزم لوقته، وسار إلى دمشق. ذكر الصلح بين أبى الفضائل والعزيز نزار صاحب مصر قال: ولما رجع منجوتكين إلى دمشق توسط بدر الحمدانى في الصلح بين العزيز وأبى الفضائل، فتم، وانعقد في بقية سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وورد كتاب الصلح على أبى الفضائل مع مختار الحمدانى، وأقام الأمر على ذلك إلى أن توفى لؤلؤ «6» الحمدانى،

وانقطع خبر أبى الفضائل ولم يسمع له ذكر إلا أن لؤلؤا الجراحى كان يدبر أمر حلب إلى سنة أربع وأربعمائة، وكتب له سجل في شوال من السنة من قبل الحاكم صاحب مصر بملك حلب، ولقبه مرتضى «1» الدولة. وانقرضت الدولة الحمدانية بعد أبى الفضائل، وكانت مدة هذه الدولة منذ ولى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ابن حمدون ولاية الموصل في سنة اثنتين وتسعين ومائتين إلى أن استقل لؤلؤ الجراحى بالملك بعد أبى الفضائل في سنة أربع وأربعمائة مائة «2» سنة واثنتا عشرة سنة تقريبا. وعدة من ملك منهم ستة ملوك، وهم: أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان. ثم ابنه ناصر الدولة أبو محمد الحسن، ثم أخوه سيف الدولة أبو الحسن على. وعدّة الدولة الغضنفر أبو تغلب بن ناصر الدولة، وسعد الدولة أبو المعالى شريف بن سيف الدولة. ثم أبو الفضائل بن سعد الدولة، وعليه انقرضت دولتهم من سائر البلاد، وكان ملك هذه «3» الدولة بعد وفاة أبى الهيجاء عبد الله في فخذين: الفخذ الأول منها: فى ناصر الدولة أبى محمد الحسن وبنيه، وقاعدة ملكهم الموصل، وآمد وديار ربيعة، وسنجار، وغير ذلك مما والاه وجاوره، وانقرضت دولتهم من الموصل، وما معها بخروج أبى تغلب الغضنفر بن ناصر

الدولة من آمد كما ذكرنا، وافترق بعده أبناء ناصر الدولة، فبعضهم دخل في طاعة الأمير عضد الدولة، وبعضهم دخل في طاعة العزيز نزار صاحب مصر، وبعضهم التحق بابن عمهم أبى المعالى شريف بن سيف الدولة، فممن سار إلى الديار المصرية: أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة، وأخوه أبو المطاع ذو القرنين، وولد للحسين بمصر ولده الحسن وهو المنعوت ناصر الدولة. تمكن ناصر الدولة الحسن هذا من دولة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين» الله صاحب ملك مصر تمكنا عظيما، وقاد الجيوش، وعظم شأنه، ونفذت أوامره حتى لم يبق للمستنصر معه بالديار المصرية إلا مجرد اسم الخلافة. ثم لم يرض ناصر الدولة بذلك، ولا اقتصر عليه، ولاقنع به إلى أن حصر المستنصر في قصره، وجرى له معه وقائع، نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار المستنصر بالله، ونذكر هناك أيضا مقتل ناصر الدولة هذا. وكان مقتله في شهر رجب من شهور خمس وستين وأربعمائة بداره بمصر، وهى الدار المعروفة بمنازل العز التى هى الآن مدرسة لطائفة الفقهاء الشافعية، ولم يذكر بعد ناصر الدولة هذا أحد من آل حمدان بولاية فنذكره. فهذا الفخذ الأول. والفخذ الثانى منها: فى سيف الدولة أبى الحسن على وبنيه، وقد نقدم ذكرهم رحمهم الله تعالى. انتهت أخبار الدولة الحمدانية بعون الله تعالى. فلنذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية.

ذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية وابتداء امر بويه، ونسبه، وكيف تنقلت به وببنيه الحال إلى ان استولوا على الأقاليم والممالك. وسياقة أخبارهم إلى أن انقضت دولتهم

ذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية وابتداء امر بويه، ونسبه، وكيف تنقلت به وببنيه الحال الى ان استولوا على الأقاليم والممالك. وسياقة أخبارهم الى أن انقضت دولتهم ذكر ابتداء حال بويه، ونسبه، وما كان من أمره هو أبو شجاع بويه بن فنّاخسرو بن تمام بن كوهى بن شيرزيل الأصغر بن شيركنده «1» بن شبيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سنان «2» بن شيش «3» فيروز بن شيروزيل بن شيسناد «4» ابن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور بن سابور ذى الأكتاف فهم من الفرس، وإنما نسبوا إلى الديلم لطول مقامهم ببلادهم، ولذلك لم نذكرهم عند ذكرنا لأخبار الدولة الديلمية الجيلية. وأما ابتداء حال بويه فقد نقل جماعة من المؤرخين أنه كان صيّادا يعيش من صيد السمك، ثم تنقلت به الحال إلى أن خدم جنديا «5» ، وخرج مع الناصر للحق الحسن بن على العلوى، وكان يلحظه بعين التقدّم لشجاعتة، وكان له خمسة أولاد المشهور منهم ثلاثة، وهم: عماد الدولة أبو الحسن على، وركن الدولة أبو على الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسين أحمد، فهولاء الذين ملكوا البلاد على

ما نذكره إن شاء الله تعالى، وكان له ابنان غير هؤلاء، وهما: محمد، وإبراهيم قتل أحدهما مع الناصر للحق، والآخر مع الحسن بن القاسم الداعى. وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل: أن زوجة بويه ماتت، وخلفت له ثلاثة بنين، فاشتد حزنه عليها، فحكى شهريار «1» رستم الديلمى قال: كنت صديقا لأبى شجاع بويه، فدخلت إليه يوما، فعذلته على كثرة حزنه، وقلت له: أنت رجل تحتمل الحزن، وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن، وسليته جهدى «2» ، وأخذته ففرحته «3» ، وأدخلته، ومعه أولاده إلى منزلى، فأكلوا طعاما، وشغلته عن حزنه، فبينما هم كذلك إذ اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه: إنه منجم، ومعزم، ومعبر للمنامات، ويكتب الرّقى والطلّسمات، وغير ذلك، فأحضره أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامى كأنى أبول، فخرج من ذكرى نار عظيمة استطالت، وعلت حتى كادت تبلغ السماء، ثم انفرجت، فصارت ثلاث شعب، وتولّد من تلك الشعب عدة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، فرأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران، فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسّره إلا بخلعة وفرس وركب، فقال أبو شجاع: والله ما أملك إلا الثياب التى على جسدى، فإن

أخذتها بقيت عريانا، قال المنجم: فعشرة دنانير قال: والله لا أملك دينارا، فكيف عشرة، فأعطاه شيئا، فقال المنجم: إعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار، ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب، فقال أبو شجاع: أما تستحى؟ تسخر بنا؟ أنا رجل فقير، وهؤلاء أولادى فقراء مساكين [كيف] «1» يصيرون ملوكا؟ فقال له المنجم: أخبرنى عن وقت «2» ميلادهم، فأخبره، فجعل يحسب ثم قبض على يد أبى الحسن على فقبلها، وقال هذا والله الذى يملك البلاد، ثم هذا من بعده. ثم قبض على يد أخيه أبى على الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده: اصفعوا هذا الحكيم، فقد أفرط في السخرية بنا فصفعوه، وهو يستغيث، ونحن نضحك منه، ثم أمسكوه، فقال: اذكروا لى هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكنا منه وأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم. ثم اتفق خروج جماعة من الديلم لملك البلاد. منهم: ماكان بن كالى، وليلى بن النعمان، وأسفار بن شيرويه. ومرداويج بن زياد، وخرج مع كل واحد منهم خلق كثير من الديلم، وخرج أولاد أبى شجاع في جملة من خرج مع ما كان بن كالى. فلما استولى مرداويج على ما كان بيد ما كان من طبرستان وجرجان، وضعف ما كان، وعجز، قال له عماد الدولة، وركن الدولة: نحن في جماعة، وقد صرنا ثقلا عليك وعيالا، وأنت مضيّق عليك، والأصلح لك أن نفارقك؛ لنخف عليك مئونتنا، فإذا

ذكر أخبار عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه وابتداء الدولة البويهية

صلح أمرك عدنا إليك، فأذن لهما. فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة من قواد ما كان، وتبعوهما، فلما صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابنى بويه، وأكرمهما، وقلد كلّ قائد من قواد «ما كان» الواصلين إليه ناحية من نواحى الجبل، فقلد على بن بويه الكرج «1» . ذكر أخبار عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه وابتداء الدولة البويهية كان عماد الدولة قد خرج مع أبيه في جيش الناصر للحق، ثم تنقلت به أمور في خدمة الملوك، ودخل إلى خراسان كرّتين، وصار من أصحاب ما كان، ثم فارقه إلى مرداويج بن زيار، ومعه أخواه، فولاه مرداويج الكرج، وقلد جماعة القواد المستأمنة الأعمال، وكتب لهم العهود، وساروا إلى الرى، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحسين «2» بن محمد الملقب بالعميد، وهو والد أبى الفضل الذى وزر لركن الدولة بن بويه، فلما وصل عماد الدولة إلى الرىّ عرض بغلة للبيع، فبلغت ألفى وثمانمائة درهم فعرضت على العميد، فاستجادها، وقصد أن يبتاعها، فحلف عماد الدولة أنه لا يأخذ لها ثمنا، وتابع بعد «3» ذلك مواصلة العميد وبره، فبلغ عنده مبلغا عظيما، وتمكن منه.

ذكر خروج عماد الدولة بن بويه عن طاعة مرداويج، ومخالفته له، وملكه أصفهان

قال: وكان مرداويج قد تعقب رأيه في تولية عماد الدولة الكرج، وفي تولية القواد المستأمنة إليه لقرب عهدهم بصحبة ما كان، فكتب إلى أخيه، وإلى العميد: بأن يمنعا عماد الدولة من النفوذ إلى الكرج إلا أن يكون قد فات، وكان الرسم جاريا أن يقرأ العميد الكتب، ثم يوقف وشمكير عليها بعد ذلك، فلما قرأها بعث إلى عماد الدولة يأمره أن يبادر بالخروج إلى عمله، فسارع إلى ذلك، ثم عرض العميد الكتب على وشمكير، فعزل من الولاة من لم يمض إلى عمله، وأبقى عماد الدولة. قال: وتسلم عماد الدولة الكرج، وأخذ في الإفضال على الرجال، وعلى عامل البلد، فكانت كتب العامل تمضى إلى الرىّ يشكره، ثم فتح قلاعا كانت باقية في أيدى الخرّمية «1» ، وأخذ منها أموالا جمة، وغنائم كثيرة، وصرف أكثرها في جمع الرجال عليه واستجلابهم. ذكر خروج عماد الدولة بن بويه عن طاعة مرداويج، ومخالفته له، وملكه أصفهان كان سبب ذلك أن عماد الدولة لما تحقق قدم مرداويج على ولايته احتاط لنفسه، وأخذ في جمع الرجال، والإنعام عليهم، وهو في ذلك يظهر طاعة مرداويج، واتفق أن مرداويج سبب «2» لبعض قواده على الكرج بمال، فأنعم عماد الدولة على أولئك القواد، واستمالهم،

فمالوا إليه، وباطنوه، فلما وثق منهم أعلن بخلع مرداويج، وبايعه القواد، فخرج بهم عماد الدولة من الكرج بعد أن استصفى أمواله، وقصد أصفهان، وعرض أصحابه، فكانوا ثلاثمائة رجل، لكنهم منتجبون «1» مستظهرون في العدة، وسار إليها، وبها أبو الفتح المظفر بن ياقوت واليا للحرب، وأبو على «2» رستم واليا للخراج، وهما من قبل الخليفة، وكاتبهما عماد الدولة أن يدخل معهما في خدمة السلطان، فامتنعا من ذلك، واتفق في غضون ذلك، وفاة رستم، فنزل عماد الدولة بجوزنجان «3» ، وهى قرية على ثلاث فراسخ من أصفهان، وبرز إليه أبو الفتح بن ياقوت في ألوف من الرجال من جملتهم ستمائة ديلمى، فاستأمن إلى عماد الدولة منهم أربعمائة رجل، وانفصل المائتان الأخر لاحقين بما كان، وهو يومئذ بكرمان، وانهرم ابن ياقوت بعد حرب شديدة، ودخل عماد الدولة أصفهان في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنه إحدى وعشرين وثلاثمائة، وكانت أصفهان أول شىء استولى عليه عماد الدولة بن بوية. والله أعلم.

ذكر استيلائه على أرجان وغيرها، وملك مرداويج أصفهان

ذكر استيلائه على أرجان وغيرها، وملك مرداويج أصفهان قال: ولما بلغ مرداويج خبر الوقعة خاف جانب عماد الدولة، وأهمّه أمره، فشرع في إعمال الحيلة، فراسله يعاتبه، ويستميله ويطلب منه أن يظهر طاعته ليمده بالعساكر الكثيرة؛ ليفتح بها البلاد، ولا يكلفه سوى الخطبة له في البلاد التى يستولى عليها، ولما سير الرسل جهز أخاه وشمكير في عسكر ضخم ليكبس عماد الدولة، وهو مطمئن، فنمى الخبر إلى عماد الدولة، فارتحل عن أصبهان بعد أن أقام بها نحوا من شهر، وتوجه إلى أرّجان وبها أبو بكر محمد بن ياقوت، فانهزم أبو بكر عنها إلى رامهرمز من غير حرب، ودخلها عماد الدولة، واستخرج منها أموالا [وانفقها] «1» فى جيشه، ثم وردت على بن بويه كتب من أبى طالب زيد بن على النوبندجانى يستدعيه إلى شيراز مدينة بلاد فارس، ويهون عليه أمر أميرها ياقوت، وكان ياقوت فى جيش كثير العدد من قبل الخليفة، فسار عماد الدولة إلى قرية تعرف بالخوان «2» دان، فسار إليه ياقوت، ووردت مقدمته في «3» ألفى رجل، فوافاهم عماد الدولة بالنوبندجان. وذلك في شهر ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة، فلم يثبتوا له، وانهزموا إلى

ذكر استيلائه على شيراز

مكان يقال له: الكركان، «1» ووافاهم ياقوت بهذا الموضع، وأقام عماد الدولة أربعين يوما في ضيافة زيد بن على النوبندجانى. وكان مبلغ ما خسر عليه في هذه المدة مائتى ألف دينار، ثم سار بعد ذلك إلى اصطخر، وسار ياقوت وراءه يتبعه، حتى انتهى إلى قنطرة على طريق كرمان، فسبقه ياقوت إليها، ومنعه من عبورها واضطره إلى الحرب. ذكر استيلائه على شيراز قال: ولما سبقه ياقوت إلى القنطرة اضطر إلى محاربته، وابتدأت الحرب بينهما في يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، واستمرت إلى يوم الخميس، فأحضر عماد الدولة أصحابه، ووعدهم الجميل، وأنه يترجل معهم عند الحرب، وكان من سعادته أن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت، فضرب ياقوت أعناقهم، فأيقن من بقى مع عماد الدولة بن بويه أنه لا أمان لهم عند ياقوت، فقاتلوا قتال من استقتل، ثم قدم ياقوت أمام أصحابه رجالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط؛ ليحرقوا أتراس الديلم، فلما رموا النار انقلبت الريح، فصارت فى وجوههم، واشتدت فعادت النار عليهم، وتعلقت في ثيابهم ووجوههم، فاختلطوا وركبهم أصحاب بن بويه، فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان، فكانت الهزيمة على ياقوت وأصحابه.

ولما انهزم أصحاب ياقوت صعد على نشز مرتفع، ونادى في أصحابه الرّجعة الرّجعة، فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم اثبتوا فإن الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرقون، فنأخذهم، فثبتوا معه، فلما رأى بن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقصد ياقوت، فانهزم ياقوت «1» منه، واتبعه أصحاب بن بويه يقتلون، ويأسرون، ويغنمون، ثم رجعوا إلى السواد «2» ، فغنموه، ووجدوا فيه برانس لبود عليها أذيال الثعلب، ووجدوا قيودا وأغلالا فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت: إن هذه كانت أعدت لكم لتجعل عليكم، ويطاف بكم البلاد، فأشار أصحاب بن بويه عليه: أن يفعل ذلك بأصحاب ياقوت، فامتنع عماد الدولة، وقال: إنه بغى ولؤم، وقد لقى ياقوت بغيه، ثم أحسن إلى الأسارى، وأطلقهم وقال: هذه نعمة والشكر عليها يقتضى المزيد، وخيّر الأسارى بين المقام عنده، واللحاق بياقوت، فاختاروا المقام عنده، فخلع عليهم، وأحسن إليهم، وسار من موضع الوقعة، حتى أتى شيراز، ونادى في الناس بالأمان، وبث العدل، وأقام [رشحنة] «3» تمنع من الظلم، واستولى على تلك البلاد.

ذكر واقعة غريبة اتفقت لعماد الدولة كانت سبب ثبات ملكه وقيام دولته

ذكر واقعة غريبة اتفقت لعماد الدولة كانت سبب ثبات ملكه وقيام دولته قال: ولما دخل عماد الدولة شيراز طلب الجند أرزاقهم، فلم يكن عنده ما يعطيهم، وكاد أمره ينحل «1» ، فجلس في غرفة في دار الإمارة بشيراز، وهو يفكر في أمره فرأى حية خرجت من موضع في سقف تلك العرفة، ودخلت في بخش «2» هناك، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا ذلك الموضع، فرأوا وراءه بابا، فدخلوا منه إلى غرفة أخرى، فإذا فيها عشرة صناديق مملوءة مالا ومصاغا، فكان فيها ما قيمته خمسمائة ألف دينار، فأنفقها، وثبت ملكه بعد أن كان قد «3» أشرف على الزوال. وحكى. أنه أراد أن يفصل ثيابا، فدلوه على خياط كان لياقوت، فأحضره، فحضر خائفا، وكان أصم، فقال له عماد الدولة لا تخف، فإنما أحضرتك لتفصل لنا ثيابا، فلم يفهم الخياط ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التى عنده لياقوت ما فتحها، ولا علم ما فيها، فعجب عماد الدولة من هذا الاتفاق، وأمره بإحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيها أموال وثياب، قيمة ما فيها ثلاثمائة ألف دينار، ثم ظهر له من ودائع ياقوت، وذخائر عمرو، ويعقوب ابنى الليث جملة كبيرة، فامتلأت خزائنه، وثبت ملكه.

ذكر تولية عماد الدولة من قبل الخليفة

ذكر تولية عماد الدولة من قبل الخليفة قال: ولما تمكّن عماد الدولة من شيراز، وثبت ملكه ببلاد فارس، كتب إلى الخليفة الراضى بالله، وإلى وزيره أبى على بن مقلة يعرفهما أنه على الطاعة، ويطلب أن يقاطع على ما بيده من البلاد، وبذل ألف ألف درهم، فأجيب إلى ذلك، وتقدّمت إليه الخلع، و؟؟؟ رطوا على الرسول ألّا يسلم إليه الخلع إلا بعد قبض المال. فلما وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له ما اشترط عليه، فأخذها منه قهرا، ولبسها، ونشر اللواء، ودخل البلد، وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. قال: ولما سمع مرداويج ما حصل لعماد الدولة ابن بويه قام لذلك وقعد، فسار إلى أصفهان للتدبير عليه «1» ، وعزم على الخروج إليه بنفسه، فبلغ عماد الدولة ذلك، فبادر بمكاتبته، وسأله إقراره على بلاد فارس على أن يقيم له الدعوة، ويضرب باسمه السّكّة، وينفذ إليه أخاه ركن الدولة بن بويه رهينة، فقبل ذلك منه، واعتقل ركن الدولة، فلما صار في اعتقاله لم يكن بأسرع أن اتفق «2» قتل مرداويج على ما قدمنا ذلك في أخبار مرداويج، فهرب ركن الدولة بمواطأة من سجانه، وخرج إلى الصحراء ليفك قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن، ومعها بعض أصحابه وغلمانه، فلما رأوه ألقوا التبن، فكسروا قيوده، وحملوه إلى أخيه عماد الدولة بفارس

ذكر وفاة عماد الدولة بن بويه وملك بن أخيه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه

وفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة تسمى عماد الدولة [شاهنشاه] ، «1» ولبس تاجا من الذهب مرصعا بالجوهر، وجلس على السرير. ذكر وفاة عماد الدولة بن بويه وملك بن أخيه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه كانت وفاته في جمادى الآخرة، وقيل توفى لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين «2» وثلاثمائة، وكانت علته قرحة فى كلاه طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، ولما أحس بالموت أنفذ إلى أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه عضد الدولة فناخسروا ولده ليجعله ولىّ عهده، ووارث ملكه بفارس؛ لأنّ عماد الدولة لم يكن له ولد ذكر، فأنفذه «3» ركن الدولة، فوصل قبل وفاته بسنة، فخرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عساكره، وأجلسه على سرير، ووقف عماد الدولة بين يديه، وأمر الناس بطاعته، والانقياد إليه، وقبض على من كان يخاف منه من القواد. ثم توفى عماد الدولة بعد ذلك بسنة، فكانت مدة مملكته لبلاد فارس سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما، وكان عمره ما بين ثمانية وخمسين سنة إلى تسع وخمسين، وقيل سبعة وخمسين ودفن بدار المملكة بشيراز، وكان شجاعا عاقلا كريما مجربا حسن السياسة عظيم القدر، ووزر

ذكر أخبار ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه

له في ابتداء أمره أبو سعيد إسرائيل بن موسى النصرانى إلى أن قتل، ثم وزر له أبو العباس أحمد بن محمد إلى أن مات عماد الدولة. وحجابه: خطلخ إلى أن قتل، ثم سباسى حتى توفى، ثم بارس إلى أن توفى عماد الدولة، ولما مات عماد الدولة استقر عضد الدولة فى الملك بعده ببلاد فارس، ثم كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الطبقة الثانية من بنى بويه، وكان عماد الدولة هو الأسن الأكبر من بنى بويه «1» . والمشار إليه بينهم، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء. وكان معز الدولة هو المستولى على العراق، وهو كالنائب عنهما. ذكر أخبار ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه كان ركن الدولة في خدمة أخيه عماد الدولة يندبه في مهمانه وأشغاله، وجهزه وهو في حرب ياقوت في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة إلى كازرون «2» ، وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج منها أموالا جليلة، فأنفذ ياقوت عسكرا إليه لمنعه من ذلك، فقاتلهم وهزمهم، وهو في نفر يسير، وعاد إلى أخيه بالغنائم والأموال، ثم جهزه عماد الدولة رهينة عند مرداويج في سنة ثلاث وعشرين كما ذكرناه، فلما خلص بعد مقتل مرداويج، والتحق بأخيه عماد الدولة جهزه بالعساكر إلى أصفهان، فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدة من

ذكر ملك ركن الدولة بن بويه طبرستان وجرجان

بلاد الجبال نواب وشمكير، فأقبل وشمكير، وجهز العساكر نحوه، فبقيا يتنازعان ملك تلك البلاد، وهى أصفهان، وهمدان، وقم، وقاجان، وكرج، والرىّ، وكنكور، وقزوين، وغيرها، ثم استولى ركن الدولة على أصفهان، وملكها في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وملك الرى في سنة ثلاثين. ذكر ملك ركن الدولة بن بويه طبرستان وجرجان وفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول اجتمع ركن الدولة، والحسن بن فيرزان، وقصدا بلاد وشمكير، فالتقيا به، فانهزم وشمكير، وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان، فملكها، واستأمن إليه من قواد وشمكير مائة وثلاثة عشر قائدا، فأقام الحسن بن الفيرزان بجرجان، ومضى وشمكير إلى خراسان يستنجد بالسامانية، واتفقت وفاة الأمير عماد الدولة، فسار ركن الدولة لتقرير أمر ولده عضد «1» الدولة بفارس، فسار منصور ابن قراتكين صاحب جيش الأمير نوح بن نصر السامانى إلى الرى، ودخلها، وأخرج نائب ركن الدولة منها، وورد سجل من الخليفة المطيع لله بتقليد ركن الدولة إمرة الأمراء موضع عماد الدولة، فقبله، وانصرف إلى الرىّ، ففارقها منصور بن قراتكين قبل وصول ركن الدولة إليها، وسار إلى أصفهان، ثم رحل منها، فنزل طرف مفازة بها على النهر المعروف بور بروديم، ثم رحل عنه، والتقى مع ركن

ذكر ما قرره ركن الدولة بين بنيه وما أفرده لكل منهم من الممالك

الدولة على الروذبار «1» ، والنهر يحجز بينهما؛ لكنه نهر يخاض، فأقامت الحرب بينهما سبعة أيام، ثم عبر منصور النهر بجيوشه، والتقوا من وقت العصر إلى صدر من الليل، ثم «2» سار منصور في بقية من الليل إلى الرى، وقدم ركن الدولة مقدمته نحو قاجان، فلما وصل إليها بلغه وفاة منصور بالرى، فسار إليها، ودخلها بغير قتال وتجهز منها «3» لحرب وشمكير لأنه الذى أغرى بينه، وبين صاحب خراسان. فالتقيا على باب الرى بجبل طبرك، وتواصلوا أربعة أشهر حتى سقط الثلج، فرجع وشمكير، ثم اتفقت وفاته، وقيام ولده «بهسيتون» فى الملك بعده، فدخل في طاعة ركن الدولة، فزال الخوف، وحصل الأمن واستقر الأمر على ذلك إلى سنة خمس وستين وثلاثمائة. ذكر ما قرره ركن الدولة بين بنيه وما أفرده لكل منهم «4» من الممالك وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة سار ركن الدولة من الرى إلى أصفهان، واستدعى ولده عضد الدولة من بلاد فارس، وجمع سائر أولاده، وحواشيهم، فقسم ركن الدولة ممالكه على أولاده، فجعل لابنه عضد الدولة بلاد فارس، وجعله الملك على جماعة البيت بعد

ذكر وفاة ركن الدولة بن بويه وشىء من أخباره وسيرته

أن أوصاه على إخوته، وعلى بن عمه عز الدولة بختيار بن معز الدولة، فإن معز الدولة كان قد توفى، وملك ابنه بختيار بعده على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسلم ركن الدولة إلى عضد الدولة أخاه الأصغر خسرو فيروز، وجعل لمؤيد الدولة، وهو شقيق عضد الدولة بلاد الرى، وأصفهان، وقم، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وما والاها، وأفرد لفخر الدولة همذان، والدينور، والإيغارين «1» وما اتصل بهم، واستحلف الأخوين على طاعة عضد الدولة، واستحلف عضد الدولة على الوفاء لهما، وكتب الكتاب بينهم ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميد، ومات ركن الدولة عقيب ذلك. ذكر وفاة ركن الدولة بن بويه وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته بالرى في ليلة السبت لاثنتى عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة، وقد زاد على سبعين سنة، وقيل أقل من ذلك. وكانت مدة إمارته أربعا وأربعين سنة. وكان رحمه الله حليما كريما، كثير البذل للمال، حسن السياسة لرعيته وجنده، رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم بعيد الهمة متحرجا من المظالم مانعا لأصحابه من الظلم عفيفا عن الدماء، وكان يجرى الأرزاق على أهل البيوتات. ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة فى أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لرد المظالم، ويتعهد العلويين

ذكر أخبار معز الدولة بن بويه

بالأموال الكثيرة، ويتصدق على ذوى الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام، وحكى عنه: أنه سار في بعض أسفاره، ونزل في خركاة قد نصبت له قبل أصحابه، وقدم إليه الطعام، فقال لبعض أصحابه لأى شىء قيل في المثل: خير الأشياء في القرية الإمارة، فقال: لقعودك في الخركاة، ولهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاة، ولا طعام، فضحك، وأعطاه الخركاة، والطعام. ومن محاسن أفعاله ما فعله من نصرة بختيار بن أخيه معز الدولة على ابنه عضد الدولة على ما نذكره في أخبار عز الدولة بختيار. وكان له من الأولاد: عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو، وفخر الدولة أبو الحسن على. ومؤيد الدولة أبو منصور بويه، وأبو العباس خسرو فيروز. وزراؤه: أول من وزر له: الأستاذ أبو الفضل أحمد بن العميد إلى أن توفى في سنة تسع وخمسين، فاستوزر بعده ولده ذا الكفايتين أبا الفتح محمد، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة إلى أن توفى ركن الدولة. ذكر أخبار معز الدولة بن بويه هو أبو «1» الحسين «2» أحمد بن بويه، ومعز الدولة أصغر إخوقه سنّا، وأكثرهم سعادة، وأوسعهم ملكا. وكان في ابتداء أمره مع أخيه عماد الدولة، وحضر معه المصاف الذى كان بينه، وبين ياقوت فى سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة، وهو صبى لم تنبت لحيته،

ذكر مسيره إلى كرمان، وزوال يده في الحرب، وما اتفق له

وعمره تسع عشرة سنة، وكان في ذلك اليوم من أحسن الناس أثرا فى الحرب. ذكر مسيره الى كرمان، وزوال يده في الحرب، وما اتفق له وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة سار معز الدولة إلى كرمان، وسبب ذلك أن أخويه: عماد الدولة، وركن الدولة لما تمكنا من بلاد فارس، وبلاد الجبل، وبقى هو، وهو الأصغر بغير ولاية يستبد بها رأيا أن يسيّراه إلى كرمان، فسار إليها في عسكر ضخم، فلما بلغ السيرجان «1» استولى عليها، وجبى أموالها، وأنفقها في عسكره، وكانت عساكر نصر بن أحمد السامانى صاحب خراسان تحاصر محمد بن إلياس بن اليسع بقلعة هناك، فلما بلغهم إقبال معز الدولة، ساروا عن كرمان إلى خراسان، فتخلص محمد بن إلياس من القلعة، وسار إلى مدينة قم، وهى على أطراف المفازة بين كرمان، وسجستان، فسار إليه معز الدولة، فرحل عن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار ابن بويه إلى جيرفت وهى قصبة كرمان، واستخلف ثمّ بعض أصحابه، فلما قارب جيرفت أتاه رسول على الديحى «2» المعروف بعلى كلويه، وهو رئيس القفص البلوص «3» ، وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الناحية إلا أنهم يجاملون كل سلطان يرد البلاد،

ويطيعونه، ويحملون إليه مالا معلوما ولا يطئون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع من قبوله إلا بعد دخول جيرفت، فتأخر على كلوية نحو عشرة فراسخ، ونزل بمكان صعب المسلك، ودخل ابن بويه جيرفت، وصالح على كلويه، وأخذ رهائنه، وخطب له، فلما استقر الصلح بينهما أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بقصد على والغدر به، وهون عليه أمره، وأطمعه في أمواله، وقال له: إنه قد ترك الاحتراس، وسكن إلى الصلح، فأجابه إلى ذلك، وركب نحوه جريدة، وكان على متحرزا قد وضع العيون على ابن بويه، فعند ما تحرك للمسير بلغه ذلك، فجمع أصحابه، وكمنهم بمضيق على الطريق، فلما اجتاز ابن بويه بهم ثاروا ليلا من جوانبه، فقتلوا من أصحابه، وأسروا، ولم يفلت إلا اليسير، وجرح معز الدولة عدة جراحات، وأصابته ضربة في يده اليسرى، فقطعتها من نصف الذراع، وأصابت يده اليمنى ضربة أخرى، فسقط بعض أصابعه، وسقط إلى الأرض، وقد أثخن بالجراح، وبلغ الخبر إلى جيرفت، فهرب من بها من أصحابها، ولما أصبح على كلويه تبع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين «1» وقد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت «2» ، وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رسله إلى عماد الدولة بالاعتذار، ويعرفه غدر أخيه، ويبذل من نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقر بينهما الصلح، وأطلق كل

ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز

من عنده من الأسرى، وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمد بن إلياس بما جرى على ابن بويه، فسار من سجستان إلى جنّابه، فتوجه إليه معز الدولة، وواقعه، ودامت الحرب بينهما عدة أيام، فانهزم ابن إلياس، وعاد ابن بويه بالظفر، وسار إلى على كلويه لينتقم منه، فلما قاربه أسرى على أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلا في ليلة شديدة المطر، فأسروا منهم، وقتلوا، ونهبوا وعادوا، فلما أصبح ابن بويه، سار نحوهم، فقتل منهم عددا كثيرا، وانهزم علىّ، وكتب معز الدولة إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه، ومع ابن إلياس، فأمره أخوه بالوقوف مكانه، ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائدا من قواده يأمره بالعود إليه إلى فارس، ويلزمه بذلك، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدى منهزما من ابن رائق وبجكم، وأطمع عماد «1» الدولة في العراق، فسير معه معز الدولة كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار الدولة العباسية في أيام الراضى بالله. ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز كان مسير معز الدولة بن بويه إلى الأهواز في سنة ست وعشرين وثلاثمائة للسبب الذى قدمناه، فسار إليه، ومعه أبو عبد الله البريدى، وكان بها بجكم الرائقى، فسار لحربهم، وقاتلهم بأرجان، فانهزم منهم إلى الأهواز، وأقام بها ثلاثة عشر يوما، ثم انهزم إلى تستر،

ذكر استيلائه على بغداد وتلقيبه وتلقيب اخوته من ديوان الخلافة

وسار إلى واسط، واستولى معز الدولة والبريدى على الأهواز، وأقلعا بها خمسة وثلاثين يوما، ثم هرب البريدى خوفا على نفسه من معز الدولة، فكاتبه يعيب عليه ذلك، ويعتبه، فاعتذر البريدى إليه أنه خاف على نفسه، وطلب من معز الدولة أن يفرج عن الأهواز؛ ليتمكن من ضمانه، فإنه كان قد ضمن الأهواز، والبصرة من عماد الدولة في كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم «1» خوفا من أخيه لئلا يقول له: كسرت المال، ثم أنفذ إليه البريدى ثانيا يذكر خوفه منه، ويطلب منه أن ينتقل إلى السوس «2» ليبعد عنه، ويأمن هو بالأهواز، فحذره أصحابه، وخوفوه غدر البريدىّ، فامتنع من إجابته إلى ذلك، وكتب إلى أخيه عماد الدولة، فأنفذ إليه جيشا، فقوى بهم، واستولى على الأهواز، وهرب البريدى إلى البصرة، وأقام معز الدولة بالأهواز، وقصد البصرة وواسط، وعاد عنهما «3» ، ولم يزل كذلك إلى أن استولى على بغداد. ذكر استيلائه على بغداد وتلقيبه وتلقيب اخوته من ديوان الخلافة كان استيلاء معز الدولة على بغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فى خلافة المستكفى بالله، وسبب ذلك أن ابن [شيرزاد] «4»

لما استولى على إمرة الأمراء ببغداد بعد وفاة توزون، على ما قدّمناه في أخبار الدولة العباسية في أيام المستكفى بالله، استعمل ينال «1» كوشه على واسط، فكاتب معز الدولة، وهو بالأهواز، ودخل في طاعته، واستقدمه، فسار إليه، وقصد بغداد، فلما فارقها استتر المستكفى بالله وابن شيرزاد «2» ، وخرج الأتراك من بغداد إلى الموصل، فلما أبعدوا ظهر المستكفى بالله، وقدمّ معز الدولة أبا محمد الحسن «3» ابن محمد المهلبى إلى بغداد، فاجتمع بالخليفة، فأظهر السرور بمقدم ابن بويه، وأعلمه أنه إنما استتر ليتفرق الأتراك، ويحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال، ووصل معز الدولة إلى بغداد في حادى عشر جمادى الأولى من السنة، ونزل بباب الشمّاسيّه، ودخل من الغد إلى الخليفة، وبايعه، وحلف له، ولقبه الخليفة بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن عليّا عماد الدولة، ولقب أبا على الحسن ركن الدولة، وأمر بضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم، وخلع الخليفة على معز الدولة، وطوّقه، وسوّره، وفوض إليه ما وراء بابه، وعقد له لواء، وأمر بالخطبة له على المنابر، وسأل معز الدولة الخليفة أن يأذن لابن شيرزاد في الظهور، وأن يأذن له أن يستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظهر ابن شيرزاد، ولقى معز الدولة، فولاه أمر الخراج، وجباية الأموال، ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور

ذكر الحرب بين معز الدولة، وناصر الدولة بن حمدان

الناس، فلحق الناس لذلك شدة عظيمة، وصار رسما عليهم، وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله، وأخذ معز الدولة في مضايقه الخليفة، والحجر عليه، حتى في نفقته، ورتب له في كل يوم خمسة آلاف درهم، فكانت ربما تأخرت عنه، فأفرد له ضياعا، وسلمت إليه فولاها من قبله، ولم يبق له حكم في غيرها، ثم خلعه معزّ الدولة على ما ذكرناه لثمان بقين من جمادى الآخرة. وبايع المطيع لله ذكر الحرب بين معز الدولة، وناصر الدولة بن حمدان وفي شهر رجب سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة سيّر معز الدولة عسكرا مقدمهم ينال كوشه وموسى قيادة على مقدمته نحو الموصل، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشه بموسى، ومضى هو ومن معه إلى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل يريد العراق، فوصل إلى سامرّا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معزّ الدولة بعكبرا، فسار معز الدولة هو والمطيع لله «1» إلى عكبرا في شهر رمضان، فلما سار عن بغداد التحق ابن شيرزاد بناصر الدولة، وعاد إلى بغداد مع عساكر لناصر الدولة يحارب معزّ الدولة، فلما كان في عاشر رمضان، سار ناصر الدولة من سامرّا إلى بغداد، وأقام بها، فسار معز الدولة إلى تكريت، وكانت لناصر الدّولة، فنهبها، وعاد هو والخليفة إلى بغداد، ونزلا بالجانب الغربى، وناصر الدّولة بالشرقى. ثم وقعت الحرب بينهم ببغداد، وانتشرت أعراب ناصر

الدولة بالجانب الغربى فمنعوا أصحاب معزّ الدولة من الميرة والعلف، فقلت الأسعار على الديلم، وضاق الأمر على معزّ الدولة، حتى عزم على الرجوع إلى الأهواز، وقال: نعمل معهم حيلة، فإن أفادت، وألا عدنا، فرتب ما معه من المعابر بناحية التمارين، وأمر وزيره أبا جعفر [الصيمرى] «1» ، واسفهدوست بالعبور، ثم أخذ معه بقية العسكر، وأظهر أنه يريد قطربّل «2» ، وسار ليلا، ومعه المشاعل على شاطىء دجلة، فسار أكثر عسكر ناصر الدولة بإزائه ليمنعوه من العبور، فتمكن الصيمرى ومن معه العبور، فعبروا فلما علم معز الدولة بعبور أصحابه عاد إلى مكانه: فعلموا بحيلته، فلقيهم ينال كوشه في جماعة من أصحاب ناصر الدولة، فهزموه واضطرب العسكر الحمدانى، وانهزموا، وتبعهم ناصر الدولة، وملك الديلم الجانب الشرقيّ، وعاد الخليفة إلى داره. وذلك في المحرم سنة خمس وثلاثين، ونهب الديلم أموال الناس ببغداد، وكان مقدار ما نهبوه من أموال المعروفين دون غيرهم عشرة آلاف ألف دينار، وأمرهم معز الدولة برفع السيف، والكف عن النهب، وأمر الناس، فلم ينتهوا «3» ، فأمر وزيره الصيمرى، فركب ببغداد، وقتل وصلب جماعة، وطاف بنفسه، فامتنعوا، واستقر معز الدولة ببغداد، وأقام ابن حمدان بعكبرا، فأرسل في الصلح بغير مشورة الأتراك التوزوتية، فهمّوا بقتله، فى شهر المحرم سنة خمس وثلاثين.

ذكر اقطاع البلاد وتخريبها

ذكر اقطاع البلاد وتخريبها وفي سنة أربع وثلاثين أيضا شغب الجند على الأمير معز الدولة، وأسمعوه المكروه؛ بسبب أرزاقهم، فوعدهم إلى مدة، فاضطر إلى أخذ الأموال من غير وجهها، ثم أقطع القرى جميعها التى كانت للسلطان، وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وكانت البلاد قبل ذلك قد خربت من الاختلاف والغلاء، فأخذ القواد القرى العامرة، فازدادت عمارة لحمايتهم لها، وأما الأتباع فازداد ما أخذوا «1» خرابا، واختلت البلاد بسبب ذلك، وتعذر على معز الدولة جمع ذخيرة «2» للنوائب، وأقطع معز الدولة غلمانه على الأتراك، وزادهم على الديلم، فوقع بينهم بسبب ذلك [الوحشة والمنافرة] «3» ، والله أعلم بالصواب. ذكر استيلائه على البصرة كان معز الدولة قد ضم البصرة وأعمالها لأبى القاسم بن البريدى فى سنة أربع وثلاثين، ووقع الاختلاف بينهما في سنة خمس وثلاثين، فأرسل إليه معز الدولة جيشا، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب ابن البريدى، ثم سار معز الدولة هو، والخليفة المطيع لله إلى البصرة في سنة ستّ وثلاثين لاستعادتها من ابن البريدى،

ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده منها بعد الصلح

وسلكوا البرية إليها، فلما وصل الدرهمية «1» استأمن إليه عساكر ابن البريدى، وهرب أبو القاسم «2» فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر إلى هجر، والتجأ إلى القرامطة، وملك معز الدولة البصرة، وسار منها إلى الأهواز، وأقام الخليفة، والصيمرى بالبصرة، والتقى معز الدولة بأخيه عماد الدولة بأرّجان في شعبان، فنزل معز الدولة، وقبل الأرض بين يديه، وكان يقف قائما، فيأمره بالجلوس، فلا يفعل، ثم عاد إلى بغداد. ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده منها بعد الصلح وفي سنة سبع وثلاثين، سار معز الدولة إلى الموصل، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، وملك معز الدولة الموصل في شهر رمضان، وظلم أهلها، وعسفهم، وأخذ أموال الرعايا، فكثر الدعاء عليه، وقصد الاستيلاء على جميع بلاد ناصر الدولة، فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان، والرى، واستمده، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فترددت الرسائل بينهما، واستقرت الحال على أن يؤدى ناصر الدولة عن الموصل، وديار الجزيرة كلها، والشام، فى كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويخطب في جميع بلاده لبنى بويه، وعاد معز الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذى الحجة من السنة.

ذكر وفاة الوزير الصيمرى، ووزارة المهلبى

ذكر وفاة الوزير الصيمرى، ووزارة المهلبى فى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة توفى أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمرى وزير معز الدولة بأعمال الجامدة «1» ، واستوزر معز الدولة بعده أبا محمد الحسن بن محمد المهلبى في جمادى الأولى، وكان يخلف الصيمرى بحضرة معز الدولة، فعرف أموال الدولة والداووين، وظهرت أمانته، وكفاءته، فاستوزره، ومكّنه من الوزاة، فأحسن السيرة، وأزال كثيرا من المظالم، ثم ضربه معز الدولة بالمقارع في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، مائة وخمسين مقرعة ووكل به في داره «2» ، ولم يعزله من وزارته بل ضربه لأمور نقمها عليه. وفي سنة خمس وأربعين في شهر رجب عصى على معز الدولة روزبهان بن ونداخزشيد «3» ، وسار إلى الأهواز، وأطاعه أكثر الدّيلم [فسار إليه] «4» معز الدولة، ولقيه بالأتراك فقط، وعدتهم ألف فارس. وذلك في يوم الإثنين سلخ شهر رمضان من السنة، فهزمه معز الدولة، وأسره. وفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. استولى معز الدولة على الموصل؛ وسبب ذلك أنه كان قد ضمنها له ناصر «5» الدولة بن حمدان في كل سنة بألفى ألف درهم. فلما كان في هذه السنة أخر حمل

ذكر ما كتب على مساجد بغداد

المال، فسار معز الدولة إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، ودخلها معز الدولة. ثم سار منها إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة، وتوجه إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فراسله سيف الدولة في الصلح، فامتنع من تضمين ناصر الدولة لخلفه معه مرة بعد أخرى، فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفى ألف وتسعمائة ألف درهم، فضمنه، وذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين، وانحدر إلى بغداد، وفي سنة [خمسين] «1» وثلاثمائة أمر معز الدولة ببناء داره ببغداد، فشرع في عمارتها، فكان مبلغ الخرج عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسبب ذلك إلى مصادرة جماعة من أصحابه. ذكر ما كتب على مساجد بغداد وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة في شهر ربيع الآخر منها كتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما صورته: «لعن الله معاوية بن أبى سفيان، ولعن من غصب فاطمة رضى الله عنها فدكا «2» ، ومن منع أن يدفن الحسين «3» عند قبر جده عليه السلام، ومن نفى أباذرّ الغفارى، ومن أخرج العباس من الشورى» . فلما كان الليل محاه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير

ذكر وفاة الوزير المهلبى

المهلبى أن يكتب مكان ما محى: «لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يذكر [أحدا في اللعن] «1» إلا معاوية، ففعل ذلك» . ذكر وفاة الوزير المهلبى وفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة سار الوزير المهلبى في جمادى الآخرة في جيش إلى عمان ليفتحها، فلما بلغ البحر اعتل، واشتدت علته، فأعيد إلى بغداد، فمات في الطريق في شعبان وحمل تابوته إلى بغداد، فدفن بها، وقبض معز الدولة أمواله، وذخائره، وأخذ أهله، وأصحابه، وحواشيه، حتى ملاحه، ومن خدمه يوما واحدا، فاستعظم الناس ذلك، واستقبحوه، فكانت مدة وزارته ثلاث عشر سنة، وثلاثة أشهر، وكان كريما فاضلا ذا عقل ومروءة، فمات بموتة الكرم. ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين «2» الشيرازى. وأبو الفرج محمد بن العباس بن فساعن «3» من غير تسمية لأحد منهما بوزارة. وفيها. فى يوم عاشوراء أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النّياحة، ويلبسوا ثيابا عملوها من المسوح «4» ، وأن تخرج النساء منشرات

ذكر وفاة معز الدولة بن بويه

الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوايح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن على بن أبى طالب، ففعل الناس ذلك. ولم يكن للسنّية قدرة على المنع، لكثرة الشيعة؛ ولأن السلطان منهم. وفيها. فى ثامن [عشر] «1» ذى الحجة أمر معز الدولة أيضا بإظهار الزينة في البلد وإشعال النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلا. فعل ذلك فرحا بعيد الغدير «2» ، وكان يوما مشهودا. ذكر وفاة معز الدولة بن بويه كانت وفاته في ليلة الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة «3» بعلّة الذّرب، وكان بواسط وقد جهّز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين الخارج عليه فابتدأ به الإسهال وقوى عليه، فسار نحو بغداد، وخلف أصحابه، ووعدهم أن يعود إليهم. فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه، وصار لا يثبت في معدته شىء، فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه بختيار، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر ماله، واعتق مماليكه ورد شيئا كثيرا على أصحابه وتوفى. ودفن بداره ثم نقل إلى مشهد بنى له في مقابر قريش، فكانت

إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا ويومين. ومولده على ما حكاه إبو اسحاق الصابى في سنة ثلاث وثلاثمائة، فيكون عمره على هذا ثلاثا وخمسين سنة تقريبا. وكان ملكا شجاعا مقداما، قوى القلب، صليب العود، أبى النفس، إلا أنه كان في أخلاقه شراسة، وكانت إحدى يديه مقطوعة. وقد ذكرنا سبب قطعها مما تقدم، وقيل في قطعها غير ذلك. ومعز الدولة هذا هو الذى أحدث السّعاة، ورتب لهم الجرايات الكثيرة لأنه أراد أن يصل خبره ألى أخيه ركن الدولة سريعا، فنشأ في أيامه فضل، ومرعوش، وفاقا جميع السعاة، وكان الواحد منهما يسير في اليوم الواحد نيفا وأربعين فرسخا، وكان أحدهما ساعى السّنّية» والآخر ساعى الشيعة. أولاده: عز الدولة أبو منصور بختيار مشيد الدولة أبو حرب حبشى. عمدة الدولة أبو اسحق إبراهيم أبو طاهر محمد. وزراؤه. أول من وزر له أبو الحسن أحمد بن محمد الرازى، وكان يخاطب بالأستاذيه إلى أن توفى بالأهواز في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. فاستوزر أبا جعفر محمد بن أحمد بن يعلى الصيمرى. وكان شجاعا حسن الآثار إلى أن توفى في ليلة الإثنين لست خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين، فاستوزر أبا محمد الحسن بن محمد المهلبى من ولد قبيصة «1» بن المهلب، وخوطب بالأستاذية مدة، ثم خوطب بالوزارة إلى أن توفى سنة اثنتين وخمسين. فلم يستوزر بعده أحدا.

ذكر أخبار عز الدولة بختيار

حجابه: مكلى التركى إلى أن قتل في وقعة ناصر الدولة، فاستحجب ينال كوشه «1» التركى، ثم قبض عليه، واستحجب الحاجب الكبير سبكتكيز التركى، فطالت يده، وتجاوز حدّ الحجّاب إلى حد الأولاد، وقاد جميع جيوشه، ونعت بالاسفهسلارية، وكانت إقطاعاته في كل سنة عشرة آلاف ألف درهم، فأقام إلى أن توفى معز الدولة، فهذه الطبقة الأولى من بنى بويه قد ذكرناها. فلنذكر الطبقة الثانية منهم: ذكر أخبار عز الدولة بختيار هو أبو منصور بختيار بن معز الدولة بن بويه. كان والده معز الدولة قد عقد له الأمر من بعده في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وبايع له الأجناد، ولقبه المطيع في يوم الإثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين. ثم جلس في السلطنه بعد وفاة أبيه في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلاثمائة. والله أعلم بالصواب. ذكر ما كان من الحوادث في أيام عز الدولة بختيار كان أبوه قد أوصاه بطاعة عمّه ركن الدولة. واستشارته في جميع ما يفعله، وأوصاه أيضا بطاعة عضد الدولة بن عمه لأنه أكبر منه سنا، وأقوم بالسياسة، ووصاه بتقرير كاتبيه أبى الفضل العباس

ابن الحسن، وأبى الفرج محمد بن العباس، وبالحاجب سبكتكين، فخالف جميع وصاياه، واشتغل باللعب واللهو، وعشرة النساء، والمساخر، والمغنّين، وشرع في إيحاش كاتبيه، والحاجب، فاستوحشوا، وانقطع الحاجب عنه، ولم يحضر داره، ونفى أكابر الدّيلم عن مملكته شرها في إقطاعاتهم وأموالهم، وأبعد المتصلين بهم، فاتفق أصاغرهم، وطلبوا الزيادات، فاضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالبوا بختيار بإعادة من أسقطه منهم، فاضطر إلى إجابتهم لتغير «1» الحاجب سبكتكين عليه، وفعل الأتراك مثل فعلهم، واتصل خبر وفاة معز الدولة بكاتبه أبى الفرج محمد بن العباس، وهو يتولّى أمر عمان، فسلمها لنواب عضد الدولة، وسار نحو بغداد، وإنما فعل ذلك لأن بختيار لما ملك بعد وفاة أبيه انفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور، فخالف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه، فسلم عمان إلى نواب عضد الدولة لئلا يؤمر بالقيام «2» بها لحفظها وصلاحها، ولما وصل إلى بغداد لم يتمكن مما أراد، وانفرد أبو الفضل بالتدبير دونه.

ذكر خروج مشيد الدولة حبشى بن معز الدولة على أخيه عز الدولة

ذكر خروج مشيد الدولة حبشى بن معز الدولة على أخيه عز الدولة وفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة عصى حبشى على أخيه، وكان بالبصرة، فسير إليه وزيره أبا الفضل العباس، وأمره بأخذه كيف أمكن، فسار الوزير، وأظهر أنه يريد الانحدار إلى الأهواز، فلما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها، وكتب إلى حبشى يعده أن يسلم إليه البصرة سلما، ويصالحه عليها، وقال: «إننى قد لزمنى مال على الوزارة، ولا بد من مساعدتى» . فأنفذ إليه حبشى مائتى ألف درهم، وتيقن حصول البصرة له، وأرسل الوزير إلى عسكر الأهواز يأمرهم بقصد «الأبلة» فى يوم ذكره لهم، فلم يتمكن حبشى من إصلاح شأنه، فظفروا به، وأخذوه أسيرا، وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمه ركن الدولة، فخلصه منها، فصار إلى عضد الدولة، فأقطعه إقطاعا وافرا «1» ، وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة. وأخذ الوزير أمواله بالبصرة، وكانت شيئا كثيرا، ومن جملة ما أخذ عشرة آلاف مجلّد سوى الأجزاء، وما ليس له جلد.

ذكر عزل أبى الفضل الوزير ووزارة ابن بقية

ذكر عزل أبى الفضل الوزير ووزارة ابن بقية وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة عزل الوزير أبو الفضل العباس من وزارته في ذى الحجة، واستوزر محمد بن بقية، فعجب الناس من ذلك لأنه كان وضيعا في نفسه وهو من أهل أوانا «1» ، وكان أبوه من الفلاحين لكنه كان قريبا من بختيار، وكان يتولى مطبخه، ويقدم إليه الطعام، ومنديل الخوان على كتفه إلى أن استوزره، وحبس الوزير أبو الفضل، فمات عن قريب، واستقامت أمور ابن بقية، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبى الفضل وأصحابه، فلما فنى ذلك ظلم الرعية، فخربت، وزاد الاختلاف بين الأتراك، وبختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال بين بختيار، وسبكتكين، فاصطلحا، وركب سبكتكين إلى بختيار، ومعه الأتراك، ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد. وسبب ذلك أن ديلميّا اجتاز بدار سبكتكين، وهو سكران، فرمى الروشن «2» بزوبين في يده، فأثبته، فصاح سبكتكين بغلمانه، فأخذوه، وظن أنه وضع على قتله، فقرره، فلم يعترف، فأنفذه إلى بختيار، فأمر بقتله، فلما قتل قوى ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه، وأنه إنما «3» قتله لئلا يذكر ذلك إذا قرره «4» .

ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه

ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز حتى عمت العراق جميعه، واشتدت، وسبب ذلك أن عز الدولة قلت الأموال عنده، وكثر إدلال «1» جنده عليه، واطراحهم لجانبه، وشغبوا عليه مرة بعد مرة، فتعذر عليه الفرار، ولم يجد وزيره جهة يحتال منها، فتوجّه إلى الموصل في هذه السنة؛ ليستولى عليها من أبى تغلب بن حمدان، فلم يفتح عليه بطائل، ولم يحصل له من المال ما يسد به الخلّة، فرجع، وقصد الأهواز ليتعرض إلى واليها بختكين «2» أزاذرويه، ويعمل له حجة يأخذ منه مالا ومن غيره، فسار بختيار، وتخلف عنه سبكتكين ببغداد، فلما وصل إلى الأهواز خدم واليها بختيارا، وبذل من نفسه الطاعة، وحمل إليه أموالا جليلة، وبختيار مع هذا يفكر في طريق يأخذه بها، فاتفقت فتنة الأتراك والديلم، وكان سببها أن بعض الديلم نزل دارا بالأهواز، ونزل بعض الأتراك بالقرب منه، وكان هناك لبن موضوع، فأراد غلام الديلمى، أن يبنى به «3» معلفا للدواب، فمنعه غلام التركى، فتضاربا، وخرج كل من الدّيلمى والتركى لنصرة غلامه، فضعف التركى عنه «4» ، فركب، واستنصر بالأتراك، فركبوا،

ذكر حيلة لبختيار عادت عليه

وركب الديلم، وأخذوا السلاح، فقتل بعض قواد الأتراك، فطلب الأتراك بثأر صاحبهم، وقتلوا من الديلم قائدا، وخرجوا ظاهر البلد، واجتهد بختيار في تسكين الفتنة، فعجز عن ذلك، فجمع الديلم، واستشارهم فيما يفعله، وكان أذنا، فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك، فأحضر أزاذرويه، وكاتبه سهل بن بشر، وسباشى الخوارزمى، وبكتيجور، وكان حموا لسبكتكين، فقيدهم، وأطلق أيدى الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم، وقتل بينهم قتلى، فهرب الأتراك، وأخذ بختيار أقطاع سبكتكين، وأمر فنودى في البصرة بإباحة دم الأتراك. والله أعلم بالصواب. ذكر حيلة لبختيار عادت عليه كان بختيار قد واطأ والدته، وإخوته» أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيارا قد مات، ويجلسون للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه. فلما قبض على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور بذلك، فعندها أوقفوا الصراخ في داره، وأشاعوا موته ظنّا منهم أن سبكتكين يحضر إلى عندهم ساعة يصل إليه الخبر، فلما سمع الصراخ أرسل يتعرف الخبر، فأعلموه، فأرسل «2» يسأل عن الذى أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر، فلم يجد نقلا يثق القلب به، فارتاب لذلك، ثم وصلت رسل الأتراك بما جرى

عليهم، فعلم أن ذلك مكيدة، ودعاه الأتراك إلى أن يأتمر عليهم فتوقف، وأرسل إلى أبى إسحاق إبراهيم بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد فسد بينه، وبين أخيه، فلا يرجى صلاحه، وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه، وإن أساءوا إليه، ودعاه أن يعقد له الأمر، فعرض قوله على والدته، فمنعته منه، فركب سبكتكين في الأتراك، وحصر ديار «1» بختيار يومين، ثم أحرقها ودخلها، وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر محمد «2» ، ووالدتهما، ومن كان معهما، فسألوه أن يمكنهم من الانحدار إلى واسط، ففعل، وانحدروا في الماء، ومعهم المطيع لله، فأعاده سبكتكين، وذلك في تاسع ذى القعدة سنة ثلاث وستين، واستولى سبكتكين على جميع ما كان لبختيار ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم، وتتبعوا أموالهم، وثارت العامّة من السّنّة لنصرة سبكتكين، فأحسن إليهم، وجعل لهم العرفاء، والقواد، فثاروا بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرق الكرخ، وظهرت السنة، ثم خلع سبكتكين المطيع، وبايع لابنه الطائع، على ما ذكرناه في أخبار الدولة العباسية.

ذكر ما اتفق لبختيار بعد قبضه على الأتراك، ووفاة سبكتكين وقيام الفتكين

ذكر ما اتفق لبختيار بعد قبضه على الأتراك، ووفاة سبكتكين وقيام الفتكين قال «1» : ولما قبض بختيار على الأتراك كما ذكرناه، ورأى ما فعله سبكتكين، وأن بعض الأتراك بواد الأهواز قد عصوا عليه، أتاه مشايخ الأتراك من البصرة فعاتبوه على ما فعل بأصحابهم، وقال له الديلم: إنا لا نستغنى عن الأتراك في الحرب يدفعون عنا بالنشّاب، فاضطرب رأيه، ثم أطلق آزاذرويه، وجعله صاحب الجيش مكان سبكتكين، وظن أن الأتراك يأنسون به، وأطلق المعتقلين منهم، وسار إلى واسط، وكتب إلى عمه ركن الدولة، وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه، ويكشفا ما نزل به، وكتب إلى أبى تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه، وأنه يسقط عنه المال الذى عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعا، وأسقط عنه بالقى المال، وطلب منه أن يسير إليه بعسكر. فأما عمه ركن الدولة، فإنه جهر عسكرا مع وزيره أبى الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عضد الدولة بإنجاد ابن عمه، فوعد بالمسير إليه، وانتظر ببختيار الدوائر ليستولى على العراق. وأما عمران بن شاهين، فإنه أخذ الخلع، وقبل إسقاط المال، وأبى أن ينجده. وأما ابن حمدان، فإنه أجاب، وسارع بإرسال أخيه أبى عبد الله الحسين إلى تكريت فى عسكر، وانتظر انحدار الأتراك من بغداد، فإن ظفروا ببختيار

دخل بغداد مالكها لها، فلما انحدروا عن بغداد سار أبو تغلب بن حمدان إليها، ودخلها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط. المال الذى عليه، ووصل إلى بغداد، والناس في بلاء عظيم من العيّارين، فحمى البلد، وكفّ أهل الفساد، وأما الأتراك، فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط ومعهم الخليفة الطائع «1» والمطيع، فتوفى المطيع «2» بدير العاقول لما قدمناه «3» ، ومرض سبكتكين، فمات، فحملا إلى بغداد، وقدّم الأتراك عليهم الفتكين، وهو من أكابر قوادهم وموالى معز الدولة، وظن بختيار أن نظام الأتراك قد انحل بموت سبكتكين، فلم يزدد إلا قوّة واشتدادا، وسار الأتراك إليه، وهو بواسط، فقاتلوه، واتصلت الحرب بينهم خمسين يوما، والظفر فيها للأتراك، وحصروه حتى اشتد عليه الحصار وأحدقوا به، فتابع إنفاذ الرسل إلى عضد الدولة ابن عمه، وكتب إليه: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وألا فأدركنى ولما أمزق فلما رأى عضد الدولة ذلك، وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه، سار نحو العراق نجدة لبختيار في الظاهر، وطلبا للاستيلاء فى الباطن.

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق والقبض على بختيار

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق والقبض على بختيار قال: وسار عضد الدولة في عساكر فارس، واجتمع بابن العميد وزير أبيه بالأهواز، وهو بعساكر الرى، وساروا إلى واسط، فلما بلغ الفتكين خبر وصولهم رجع إلى بغداد، واجتمع بختيار بعضد الدولة، وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقى، وأمر بختيارا أن يسير في الجانب الغربى، ولما رجع الفتكين إلى بغداد فارفها ابن حمدان إلى الموصل، ووصل الفتكين بغداد، وصار محصورا من جميع جهاته، وذلك أن بختيارا كتب إلى ضبة بن محمود «1» لأسدى بالإغارة على أطراف بغداد، وقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بنى شيبان، وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة عنها، وينفذ سراياه، فغلت الأسعار ببغداد، وخرج الفتكين في الأتراك للقاء عضد الدولة، فلقيه بين ديالى «2» والمدائن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الأتراك، وقتل منهم خلق كثير، وذلك في رابع عشر جمادى الأولى، وسار الأتراك إلى تكريت، وسار عضد الدولة إلى بغداد، وترك بدار المملكة، وأراد التغلب على العراق، واستضعف بختيارا، وإنما خاف من أبيه ركن الدولة، فوضع جند باختيار على أن يثوروا به، ويشغبوا عليه، ويطالبوه بالأموال،

والإحسان إليهم لأجل صبرهم معه، ففعلوا ذلك، وبالغوا، وكان بختيار لا يملك شيئا، والبلاد خراب، فلا تصل يده إلى أخذ شىء «1» منها، وأشار عضد الدولة على بختيار أن لا يلتفت «2» إليهم، وأن يغلظ لهم في الجواب، ولا يعدهم بما لا يقدر عليه، وأن يعرفهم أنه لا يريد الإمارة عليهم والرئاسة، ووعده أنه إذا فعل ذلك توسط بينهم على ما يريده، فظن بختيار أنه ناصح له، ففعل ذلك، واستعفى من الإمارة، وأغلق باب داره، وصرف كتابه وحجّابه، وراسله عضد الدولة ظاهرا بمحضر من مقدمى الجند يشير عليه بتطييب قلوبهم، وكان قد أوصاه سرّا أنه لا يقبل منه، فعمل بختيار بما أوصاه به، وقال: لست أميرهم، وقد برئت منهم وترددت الرسائل بينهم ثلاثة أيام، هذا، وعضد الدولة يغريهم به، والشغب يزيد كل يوم، فأرسل بختيار إلى عضد الدولة يطلب منه إنجاز ما وعد به، ففرق الجند على عدة جميلة، واستدعى بختيارا وإخوته، فقبض عليهم، ووكل بهم، وذلك لأربع بقين من جمادى الآخرة، وجمع الناس، وأعلمهم استعفاء بختيار من الإمارة لعجزه عنها، ووعدهم الإحسان إليهم، والنظر في أمورهم، فسكنوا إلى قوله. والله أعلم.

ذكر عودة بختيار إلى ملكه

ذكر عودة بختيار الى ملكه قال: ولما قبض عضد الدولة على بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متولّيا لها، فامتنع على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه وعمّيه من عضد الدولة، ومن أبى الفتح بن العميد، ويذكر الحيلة التى تمّت عليه، فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه إلى الأرض، وتمرّع عليها، وامتنع من الأكل والشرب عدّة أيام، ومرض، وكان محمد بن بقيّة قد خدم عضد الدولة بعد بختيار، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها، فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة، وخالف عليه، وأظهر الامتعاض لقبض بختيار، وكاتب عمران بن شاهين، وطلب مساعدته، فأجابه إلى ذلك، وكان عضد الدولة قد ضمن لسهل بن بشر وزير الفتكين بلد الأهواز، وأخرجه من حبس «1» بختيار، فكاتبه «2» عمه ابن بقية، واستماله فأجابه، وكاتب ركن الدولة من عصى على ابنه عضد الدولة، بالثبات والصبر، وأنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة، وإعادة بختيار، فاضطربت النواحى على عضد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء، وانقطعت عنه موارد فارس، ولم يبق بيده إلا قصبة بغداد، وطمع فيه العامة، فرأى إنفاذ أبى الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له، وما فرق من الأموال، وضعف بختيار عن حفظ البلاد، وأنه إن أعيد خرجت المملكة وتدبير الخلافة عنهم، وكان في ذلك

بوارهم، وسأله ترك نصرة بختيار، وقال لأبى الفتح: فإن أجاب إلى ما تريد، وإلّا فقل له: إنى أضمن منك أعمال العراق، وأحمل إليك في كل سنة ثلاثين ألف «1» درهم، وأبعث بختيارا وأخوته إليك، لنجعلهم بالخيار بين الإقامة عندك، أو بعض بلاد فارس، وإن أحببت أنت أن تحضر إلى العراق لتلى تدبير الخلافة وتنفذ «2» بختيار إلى الرى، وأعود أنا إلى فارس، فالأمر إليك، وقال لابن العميد: فإن أجاب إلى ذلك، وإلا فقل له: أيها السيد الوالد أنت مقبول الحكم والقول، ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم، وإظهار العداوة، وسيقاتلوننى بغاية ما يقدرون عليه، فتنتشر الكلمة، ويختلف أهل هذا البيت أبدا، فإن قبلت ما ذكرته، فأنا العبد الطائع، وإن أبيت وحكمت بانصرافى، فإننى سأقتل بختيارا وإخوته، وأقبض على كلّ من اتهمه بالميل إليهم، وأخرج عن العراق، وأترك البلاد سايبة ليدبّرها من اتفقت له، فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة، وأشار أن يسير غيره بها، ويسير هو بعده، ويكون كالمشير على ركن الدولة بأجابته إلى ما طلب، فأرسل عضد الدولة رسولا غيره، وسير بعده ابن العميد على الجمّازات «3» ، فلما حضر الرسول عند ركن الدولة، وذكر بعض الرسالة، ووثب إليه ليقتله، فهرب من بين يديه، ثم ردّه بعد أن سكن

غضبه، وقال: قل لفلان- يعنى عضد الدولة- وسماه بغير اسمه، وشتمه: خرجت إلى نصرة ابن أخى، أو الطمع في ملكه؟ أما عرفت أنى نصرت الحسن بن «1» الفيرزان، وهو غريب منى، مرارا كثيرة أخاطر فيها بملكى ونفسى، فإذا ظفرت أعدت له بلاده، ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد، كلّ ذلك طلبا لحسن الذكر، ومحافظة على الفتوة، تريد أن تمنّ على بدرهمين أنفقتهما «2» على، وعلى أولاد أخى، ثم تطمع في ممالكهم، وتهددنى بقتلهم؟ فعاد الرسول، ووصل ابن العميد، فحجبه ركن الدولة، وتهدّده بالهلاك، وأنفذ إليه يقول: والله لا تركتك وذلك الفاعل- يعنى عضد الدولة-[تجتهدان] «3» جهدكما، ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمّازة، وعليها الرجال، ثم أثبتوا إن شئتم، فو الله لا أقاتلكما «4» إلا بأقرب الناس إليكما، وكان ركن الدولة يقول: أننى أرى أخى معزّ الدولة في المنام كل ليلة يعضّ على أنامله، ويقول: يا أخى هكذا، أضمنت لى أن تخلفنى في ولدى، ثم أن الناس سعوا لابن العميد، وتوسّطوا له عند ركن الدولة، وقالوا إنما [تحمّل] «5» ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقا إلى الخلاص من عضد الدولة، والوصول إليك لتأمر بما تراه، فأذن له في الحضور عنده، واجتمع به وضمن إعاده بختيار عضد

الدولة إلى فارس، وتقرير بختيار، فردّه إلى عضد الدولة فعرّفه جليّة الحال، فأجاب عضد الدولة إلى العود إلى فارس، وأعاد بختيار، وخلع عليه، وشرط عليه أن يكون نائبا عنه بالعراق، ويخطب له، وجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش، وردّ عليهم جميع ما كان لهم، وسار إلى فارس في شوال من السنة، وأمر أبا الفتح بن العميد وزير أبيه أن يلحقه بعد ثلاثه أيام، فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار، وتشاغلا باللذات، واتفقا في الباطن أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له، فاتّصل ذلك بعضد الدولة، وكان سبب هلاك ابن العميد، واستقر بختيار ببغداد، ولم يف لعضد الدولة، ولما ثبت ملك بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له، وحضر عنده، وأكد الوحشة بينه وبين عضد الدولة، واستمال ابن بقية الأجناد إليه، وجبى كثيرا من الأموال إلى خزائنه، وقوى أمره. هذا ما كان من أمر بختيار. وأما ما كان من أمر الفتكين فإنه سار إلى التتار، واستولى على دمشق، وأخذها من ريان خادم المعزّ لدين الله العلوى صاحب مصر، وخطب بها للطائع لله في شعبان، وأقطع البلاد، وكثر جمعه، وتوفّرت أمواله، وكاتب المعزّ بالانقياد إليه، فطلبه إلى الحضور عنده ليخلع عليه، فلم يجبه، فتجهّز المعزّ وقصده، فمات، وولى بعده العزيز، فطمع الفتكين، واستولى على بعض بلاد الساحل، فجهز إليه العزيز العساكر مع جوهر، فحصر دمشق، فاستنجد الفتكين بالحسن بن أحمد القرمطى، فأتاه، ففارق جوهر البلد بعد أن أقام عليها سبعة أشهر، فتبعه الفتكين والقرامطة، فأدركوه

ذكر مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وشىء من أخباره

بظاهر الرملة، فاقتتلوا، ثم حصل اتفاقهم على تخلية «1» سبيل جوهر، فسار إلى مصر، فخرج العزيز بجموعه، وقاتل الفتكين وأسره، وأحسن إليه، ونقله معه إلى مصر، وأنزله عند قصره، وحكمه في دولته، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس، فوضع عليه من سقاه سما، فمات. والله أعلم. ذكر مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وشىء من أخباره كان مقتله في ثامن عشر شوال سنه سبع وستين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه كان بينه، وبين ابن عمّه عضد الدولة بن ركن الدولة ما قدمناه، وقام عمه ركن الدولة في نصرته حتى أعاده، فلما مات ركن الدولة في سنة ست وستين سار عضد الدولة إلى العراق وكان بينه وبين بختيار واقعة، واصطلحا بعد ذلك، ثم سار عضد الدولة في هذه السنة، واستولى على بغداد كما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، وخرج بختيار من بغداد بما زوده به عضد الدولة، وقصد الشام، ومعه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان، فلما صارا بعكبرا حسّن له حمدان قصد الموصل، وأطمعه فيها، وقال: هى خير من الشام وأسهل، فسارا نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنه لا يقصد ولايه أبى تغلب بن حمدان لمودة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبى تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان، ويسلمه إليه، وإذا فعل ذلك سار معه

بنفسه وعساكره إلى العراق، وقاتل عضد الدولة، وأعاده إلى ملك بغداد، فقبض بختيار عند ذلك على حمدان، وسلمه لرسل أخيه، وسار بختيار إلى الحديثة «1» ، واجتمع بأبى تغلب، وسارا جميعا نحو العراق، وكان مع أبى تغلب نحوا من عشرين ألف مقاتل، وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر [الجصّ] «2» بنواحى تكريت، فهزمهما عضد الدولة، وأسر بختيار، وجىء به إلى عضد الدولة، فلم يأذن له بالدخول عليه، وأمر بقتله، واستقر ملك عضد الدولة. وكان عمر بختيار ستا وثلاثين سنة، ومدّة ملكه أحد عشر سنة وستة شهور. أولاده: إعزاز الدولة المرزبان أبو عبد الله الحسين، أبو العباس سلار، أبو القاسم، أبو نصر شاهفرون، أبو محمد سهلان. وزراؤه: أول من وزر له: أبو الفضل العباس بن الحسين إلى أن قبض عليه في سنة تسع وخمسين، فاستوزر أبا الفرج محمد ابن العباس، ثم قبض عليه في شهر رجب سنة ستين، واستوزر أبا طاهر محمد بن بقية، وأقام إلى أن قبض عليه بعد انهزامه من عضد الدولة في الكرّة الثانية، وسمله، ثم صلبه عضد الدولة بعد أن رماه تحت أرجل الفيلة.

ذكر أخبار عضد الدولة

حجابه: إبراهيم بن إسماعيل قتل في الوقعة، وأما المرزبان ابن عز الدولة، وعماه: عمدة الدولة إبراهيم، وأبو طاهر محمد، فإنهم وصلوا إلى دمشق والتجئوا إلى غلامهم الفتكين، وشهدوا معه حرب القائد جوهر بعسقلان، ثم حضروا الواقعة الكا؟؟؟ ئنة بين الفتكين والعزيز، فقتل محمد، وأسر المرزبان عمه إبراهيم، والفتكين، ومنّ عليهم العزيز، واستخدمهم إلى أن توفى المرزبان بمصر في سنة ست وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم، وتوفى إبراهيم في أيامه أيضا لليلتين خلتا من من شهر ربيع الأول سنة أربعمائة بعد أن نعت بعزيز الدولة الحاكمية. ذكر أخبار عضد الدولة هو أبو شجاع فناخسرو عضد الدولة تاج الملة شاهنشاه بن ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه. اجتمع له من الممالك ما تفرق لأبيه وعميه، وقد قدمنا أن عمه عماد الدولة بن بويه جعله ولى عهده، وذلك لأربع عشرة بقيت من جماد الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة «1» ، فأول ما ظهر من أفعاله بعد وفاة عمه ببلاد فارس أنه استولى على حصن ابن «2» عمارة المتوسط لمدينة هرو، وهى مدينة على ساحل البحر الهندى من أعمال فارس قد بنيت على مصّب الماء تجمع المراكب المنكسره، والبضائع الغارقة، فيستعين أهلها بذلك، وأهل هذا الحصن ينسبون إلى معد

يكرب، ثم إلى الجلندى بن كركر يتوارثونه لم ينتزع منهم، ولم تفتح عنوة، ولا صلحا قبلها. ذكر بن جوقل في كتابه: أن صاحب هذا الحصن هو الملك المذكور وفي القرآن في قوله تعالى: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» «1» . ولم يباشر عضد الدولة الحصار بنفسه، وإنما بعث عليا بن الحسين السيفى في جيش إلى الحصن، فحاصره برهة من الدهر حتى استعزل صاحبه، وهو أبو طالب بن رضوان بن جعفر بالأمان، وتسلم الحصن بما فيه، وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعث إلى عمان عسكرا مع عسكر لعمه معز الدولة، ففتحها، ثم بعد ذلك «كرمان» فى شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأقطعها ولده أبا الفوارس، وأطاعه صاحب سجستان، ونقش السكة باسمه، وأقام له الخطبة. ثم ملك قلعة بردسير «2» وهى مثوى آل اليسع، ولما عاد من كرمان فتح جبال القفص، وهذه البلاد لها جبل وسهل. فأهل السهل يعرفون: بالمنوجان وهو اسم البلاد، وأهل الجبل يعرفون: بالقفص، والبلوص، وهم قبائل وشعوب، وبلادهم هذه في طرف كرمان مما يلى فارس، ثم جرت لجيشه معهم بعد ذلك وقائع كان الظفر فيها لأصحاب عضد الدولة، وفي أثناء حروب جيشه لهم حصل استيلاء «3» عضد الدولة على هرموز،

وبلاد التيز، ومكران «1» فى سنة ستين وثلاثمائة، ثم سألوا الأمان على إقامة الصلوات، وايتاء الزكاة، والاجتهاد في الطاعة، واجتناب إخافة السبيل فأمسهم. قال المؤرخ: ثم سار عسكره، ومقدمة كوركير إلى أمة من ورائهم يقال لهم الخرّميّة «2» ، والحاسكية فهزمهم، وقتل منهم خلقا، وأسر مقدميهم، وجماعة من رؤسائهم، وأنفذهم إلى شيراز، وتوطأت هذه البلاد مدة، ثم كان بينهم، وبين العسكر العضدى وقعة لإحدى عشرة ليلة يقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ودامت إلى غروب الشمس، فانجلى ذلك اليوم عن قتل أكثر مقاتليهم «3» ، والإحاطة بحريمهم، وذراريهم، ولم يبق منهم إلا اليسير، ثم كان بين عضد الدولة، وبين عز الدولة بختيار ابن معز الدولة ما قدمناه في أخبار بختيار [فى سنة «4» أربع وستين وثلاثمائة، فلا مائدة في إعادته، فلما مات والده ركن الدولة في] سنة ست وستين وثلاثمائة قصد العراق في تلك السنة، فخرج عز الدولة لقتاله، والتقوا، واقتتلوا في ذى القعدة من السنة، فالتحق بعض أصحاب بختيار بعضد الدولة، فانهزم بختيار، واحتوى عضد الدولة على ماله، ومال وزيره ابن بقية، وسير عضد الدولة جيشا إلى البصرة، فملكها.

ذكر القبض على أبى الفتح بن العميد

ذكر القبض على أبى الفتح بن العميد وفي سنة ست وستين وثلاثمائة قبض عضد الدولة على أبى الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل إحدى عينيه، وقطع أنفه، وكان سبب ذلك أنه لما فارق عضد الدولة بغداد كما ذكرناه في أيام بختيار، أمر ابن العميد أن يلحقه بعد ثلاث، فخالفة، ووافق عز الدولة، ووعده أن يلحق به إذا مات ركن الدولة، ثم صار يكاتبه بأشياء يكرهها عضد الدولة، وكان لابن العميد نائب يعرض كتبه على عز الدولة، وذلك النائب يكاتب عضد الدولة بما يكتبه ابن العميد بختيار ساعة بساعة، فلما ملك عضد الدولة بعد موت أبيه كتب إلى أخيه مؤيد الدولة بالرى يأمره بالقبض على ابن العميد، وعلى أهله، وأصحابه، ففعل ذلك، وكان أبو الفتح ليلة قبضه قد أمسى مسرورا، فأحضر ندماءه، والمغنين، وأظهر من آلات الذهب والفضة والزجاج، وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله، وشربوا وعمل شعرا، وغنى له به، وهو: دعوت المنى ودعوت العلى ... فلما أجابا دعوت القدح وقلت لأيام شرخ الشباب: ... إلىّ فهذا أوان الفرح إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح وشرب ليلته على هذا الشعر إلى أن سكر، وقام، وقال لغلمانه: اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غدا، وقال لندمائه بكروا غدا لنصطبح، ولا تتأخروا، فانصرف الندماء، ودخل هو إلى بيت

ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق

منامه، فلما كان وقت السحر استدعاه مؤيد الدولة، فقبض عليه، وأرسل إلى داره، فأخذ جميع ما فيها، ومن جملته ذلك المجلس بما فيه. ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق كان استيلاؤه على بغداد في سنة سبع وستين، وذلك أنه سار إلى العراق، وأرسل إلى عزّ الدولة ابن عمه يدعوه إلى طاعته، وأن يتوجّه من العراق إلى أى جهة أحب، فأجاب إلى ذلك، وسار عن بغداد، وكان من خبره، ومقتله ما قدمناه، ولما قدم عضد الدولة إلى بغداد نزل بباب الشمّاسية في يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع الآخر من السنة، وتلقاه الخليفة الطائع لله في البحر قبل ذلك بيومين، ثم دخل إلى دار الخلافة في يوم الأحد لتسع خلون من جمادى الأولى «1» منها، وقبل الأرض بين يدى الخليفة الطائع لله، فخلع عليه، وتوّجه، وطوّقة، وسوّره، وقلّده ما وراء داره «2» ، وعقد له لواءين: أحدهما: على المشرق، والآخر: على المغرب، وأرخى إحدى ذؤابتيه منظومة بالجوهر، وزاد في لقبه تاج الملّة:، وكان وزن السوادين، والطوق: ألفين وخمسمائة مثقال. قال أبو اسحاق الصبانى، وكان في غرة التاج وجوانبه من الجوهر، وأحجار الياقوت الأحمر ما يتجاوز إحصاؤها التثمين، أو يحدها التقويم، وطرح بين يديه

من نشار الذهب والورق شىء كثير على الأنطاع حتى صار كالبيدر، وقرىء عهده بين الخليفة، ولم يجر بذلك عادة، وأخذ الخليفة الذؤابة للرخاة، فعقدها بيده، وذلك بمسألة تقدمت من عضد الدولة، وقلّده الخليفة سيفا ثانيا وركب من مراكب الخليفة بركب الذهب، وبين يديه آخر مثله، والجيش بين يديه، وخلفه مشاة إلى أن خرج من باب الخاصة، فسار الجيش أمامه، واستقر ملكه ببغداد، خطب له بها، ولم يخطب لملك قبله ببغداد، وضرب على بابه ثلاث نوب، ولم تجر بذلك عادة. قال: ولما دخل إلى بغداد أرسل إلى بختيار يطلب منه وزيره محمد بن بقية، فسمله «1» بختيار، وأنفده إليه، فأمر عضد الدولة بالقائه بين قوائم الفيلة، فوطئته حتى مات، وصلب على رأس الجسر في شوال، فرثاه أبو الحسن الأنبارى بقوله: علوّ في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات وقد ذكرنا الأبيات في باب المراثى، وبقى ابن بقية مصلوبا إلى أيام صمصام الدولة، فأنزل عن جذعه، ودفن، ولما استقر ملك عضد الدولة ببغداد، أتاه الخبر أن عزّ الدولة بختيارا قد نقض العهد، واجتمع هو وابن حمدان، واتفقا على حربه، فخرج إليهما، فكان من أمرهما ما قدمناه في أخبار بختيار، وأخبار الدولة الحمدانية.

ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بنى حمدان

ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بنى حمدان قال: ولما انهزم أبو تغلب في الحرب التى قدمناها مع عز الدولة، سار إلى الموصل، فسار عضد الدولة نحوه، فملكها في ثانى عشر ذى القعدة سنة سبع وستين، وملك ما يتصل بها، فظن أبو تغلب أنه يفعل كما فعل غيره يقيم يسيرا ثم يضطرّ إلى المصالحة، ويعود، فكان عضد الدولة أحزم من ذلك، وذلك أنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، وأقام بالموصل، وبثّ سراياه في طلب أبى تغلب، فأرسل أبو تغلب يسأل أن يضمن البلاد منه، فلم يحبه إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحبّ إلى من العراق، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسير عضد الدولة سريّة استعمل عليها حاجبه طغان إلى «جزيرة ابن عمر» ، وسرية في طلب أبى تغلب، وعليها أبو طاهر محمد على طريق «سنجار «1» » ، فسار أبو تغلب مجدا إلى ميّافارقين «2» ، ثم منها إلى بدليس «3» ، واستولى عضد الدولة على ميّافارقين، وديار مضر «4» ، وغيرها من بلاد الجزيرة، وذلك في سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ثم عاد إلى بغداد في سلخ ذى القعدة من السنة، واستخلف على أعمال أبى أبى تغلب بن حمدان أبا الوفا طاهر محمد، وفي سنة تسع وستين

ذكر عمارة عضد الدولة بغداد، وما فعله من وجوه البر

فى شهر رجب جهز عضد الدولة جيشا إلى بنى شيبان، وكانوا قد أكثروا الغارات، والفساد في البلاد، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهر زور «1» مصاهرات، وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك، فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلتها لتنقطع أطماع بنى شيبان عن التحصن بها، فاستولى أصحابه عليها، وملكوها فهرب بنو شيبان، وسار العسكر في طلبهم، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل فيها من بنى شيبان خلق كثير، ونهبت أموالهم، ونساؤهم، وأسر منهم ثمانمائة أسير حملوا إلى بغداد. ذكر عمارة عضد الدولة بغداد، وما فعله من وجوه البر وفي سنة تسع وستين وثلاثمائة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت لتوالى الفتن فيها، وعمّر مساجدها، وأسواقها، وأدرّ الأموال على الأئمة، والمؤذّنين، والفقهاء، والغرباء، والضعفاء، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدّد مادثر من الأنهار، وأعاد حفرها، وتسويتها وأطلق مكوس الحجّاج، وأصلح الطرق من العراق إلى مكة، وأطلق الصلات لأهل البيوتات، والشرف، والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد على، والحسين، وأجرى الجرايات على الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين، والنحاة، والشعراء والأطباء، والحسّاب، والمهندسين،

ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة، وأخذ بلاده

وأذن لوزيره نصر بن هارون، وكان نصرانيا بعمارة البيع، والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم. ذكر قصد عضد الدولة «1» أخاه فخر الدولة، وأخذ بلاده قال: وفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجبل، فاحتوى عليها، وسبب ذلك أن عز الدولة بختيارا كان يكاتب فخر الدولة بعد موت ركن الدولة يدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة، فأجابه إلى ذلك، واتفقا عليه، وعلم عضد الدولة بذلك، فكتمه إلى الآن، فلما خلا وجهه من أعدائه كاتبه يعاتبه على ما كان منه، ويستميله، فأجاب جواب المناظر المناوىء، وكان رسول عضد الدولة إليه خواشاده؛ وهو من أكابر أصحابه، فاستمال أصحاب فخر الدولة، وضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، فلما عاد إلى عضد الدولة برز من بغداد، وقدم جيوشه يتلو بعضها بعضا، فخرج إليه أصحاب فخر الدولة، وانضموا إلى عسكره، وخرج فخر الدولة من همذان هاربا إلى جرجان، والتجأ إلى شمس المعالى قابوس بن وشمكير، فأمنه، وأوآه، وحمل إليه فوق ما في نفسه، وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره، وملك عضد الدولة ما كان بيد أخيه فخر الدولة: همذان، والرى، وما بينهما من البلاد، وسلم ذلك لأخيه مؤيد الدولة وجعله نائبه في تلك النواحى، ثم عرج عضد الدولة على ولاية حسنويه «2» ،

ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية

فقصد نهاوند «1» ، والدينور ففتحهما «2» وعدة قلاع، وأخذ ما فيها من ذخائر حسنوية، وكانت جليلة المقدار، وأصاب عضد الدولة في هذه السفرة صرع، كان قد حدث به وهو بالموصل، فكتمه، وصار كثير النسيان لا يذكر الشىء إلا بعد جهد كبير، وبقى الصرع يعاوده إلى أن قتله على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية وفي هذه السنة سير عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكّارية بأعمال الموصل، فأوقع بهم، وحصر قلاعهم، وطال مقام الجند في حصرها، وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج ليرحل العسكر عنهم، فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة، فطلبوا الأمان، فأجيبوا إليه، وسلّموا القلاع ونزلوا إلى الموصل مع العسكر، فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج، ثم أن مقدم الجيش غدر بالهكّارية، وقتلهم على جانبى الطريق من معلثايا «3» إلى الموصل نحو خمسة فراسخ. والله أعلم بالصواب. ذكر وفاة عضد الدولة وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته ببغداد في ثامن شوال سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة، وذلك أنه اشتد به ما كان يعتاده من الصرع، وضعفت قوته عن دفعه،

فخنقه، فمات، ودفن بمشهد على بن أبى طالب رضى الله عنه، وجلس ابنه صمصام الدّولة للعزاء، وأتاه الخليفة الطائع لله، فعزّاه به، وكان عمر الدولة سبعا وأربعين سنة، مدة سلطنته بالعراق خمس سنين وستة شهور، وأما مدة ملكه ببلاد فارس منذ وفاة عمّه عماد الدولة وإلى أن توفى هو: ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وواحد وعشرون يوما «1» . قال: ولما حضرته الوفاة لم ينطلق لسانه بغير قول الله تعالى: «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» «2» ، وكان عاقلا حسن السياسة، شديد الهيبة، بعيد الهمة ثاقب الرأى محبا للفضائل وأهلها، باذلا في مواضع العطاء، مانعا في أماكن الحزم، ناظرا في عواقب الأمور، وكان له شعر حسن فمنه قوله- وقد أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته لبختيار، ويطلب الأمان- فقال عضد الدولة: أأفاق حين وطئت ضيق خناقة ... يبغى الأمان وكان يبغى صارما فلأركبنّ عزيمة عضدّية ... تاجية تدع الأنوف رواغما وقال أبياتا، فمنها بيت لم يفلح بعده، وهى: ليس شرب الكاس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناعمات «3» فى تضاعيف الوتر

مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدّولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب «1» القدر. ومن أخباره أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم بصرف جوامكهم إلى نقيبهم في شهر، وقد بقى منه ثلاثة أيام، قال أبو نصر: فأنسبت ذلك أربعة أيام، سألنى عضد الدولة عن ذلك، فاعتذرت بالنسيان، فأغلظ لى، فقلت: أمس استهل الشهر، والساعة يحمل المال، وما هذا مما يوجب شغل القلب، فقال: المصيبة بما لا نعلم من الغلط أكبر منها في التفريط، أما تعلم أنا إذا أطلقنا لهم ما لهم قبل محّله كان الفضل لنا عليهم، وإذا أخّرنا عنهم ذلك حتى استهلّ الشهر الآخر حضروا عند عارضهم «2» ، وطالبوه، فيعدهم، ثم يحضرون في اليوم الثانى، فيعدهم، ثم يحضرون في اليوم الثالث، ويبسطون ألسنتهم، فتضيع المنّة، وتحصل الجرأة، وتكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح، وكان لا يعوّل في الأمور إلا على الكفاءة، ولا نجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة ما ليس «3» من جنس الشافع، ولا فيما يتعلق به.

حكى أن مقدّم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أنباء العدول ليتقدّم عند القاضى بسماع البيّنة بتزكيته، وتعديله، فقال له: «ليس هذا من أشغالك، إنما الذى يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل رتبة جندى، وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها، فهى إلى القاضى وليس لنا، ولا لك الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما تجوز معه قبول شهادته، فعلوا ذلك بغير شفاعة» ، وكان رحمه الله يخرج كل سنة أموالا كثيرة للصدقة، والبر في سائر البلاد، ويأمره بتسليم ذلك إلى القضاة، ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقه، وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم، ويحاسبهم به إذا عملوا، وكان محبا للعلوم وأهلها، مقرّبا لهم، محسنا إليهم وكان يجلس معهم، ويعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب منها: الإيضاح في النحو، ومنها الحجّة في القراآت، ومنها الملكى في الطلب، والتاجى في التاريخ إلى غير ذلك، وعمل المصالح العامة في سائر البلاد كالبمارستان «1» والقناطر، فمن جملة ما عمره: المدينة التى سماها «كرد فناخسرو» ، وهى على دون الفرسخ من شيراز، وساق إليها الماء من عين كانت على أربع فراسخ منها، وبدأ بالعمارة في يوم الأحد لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، قال الصابى: بلغت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم، ومن غريب عمائره: السكر «2» الذى

أنشأه على النهر المعروف بالكر «1» اصطخر، وحرمه «2» على عشرة فراسخ من قصبة شيراز، وهو شاذروان «3» عظيم، ينحط الماء من رءوس الجبال ويجتمع عليه، وينحط إلى أغوار كانت قفار او مهامه، فلما تم له ذلك بنى في تلك الأراضى ثلاثمائة قرية، ونقل إليها الفلاحين، وسماها رستاق فناخسرو، وصار في مقدار خراج بلاد فارس. قال الصابى: وانتهت النفقة عليه ألفى ألف دينار، واجتمع لعضد الدولة من الممالك سجستان، وكرمان، وجرجان، وطبرستان، والرى وأصفهان، وهمذان، وسائر بلاد أذربيجان، وبلاد فارس، وعمان، والعراق «4» ، والموصل، وديار مصر، وديار بكر، والجزيرة، وكان مع ما فعله من الخير والبر أحدث في آخر أيامه رسوما جائرة في المساحة، والضرائب، وكان يتوصّل إلى أخذ المال بكل طريق، وكان يرفع «5» إليه من الأعمال في كل سنة بعد ما رتّبه من الصّلات، والإدرارات، وجهات البر إثنان وثلاثون ألف ألف دينار. أولاده: شرف [الدولة] «6» أبو الفوارس شيرزيل، صمصام الدولة أبو كاليجار المرزيان، بها، الدولة أبو نصر خسرو فيروز، وقيل فيروزشاه، تاج الدولة أبو الحسين أحمد، وهو أديب آل بويه،

ذكر أخبار مؤيد الدولة أبى منصور بويه ابن ركن الدولة بن بويه

أبو طاهر فيروزشاه، أبو دلف سهلان توفى في حياته. وزراؤه: الأستاذ الجليل أبو القاسم المطهر بن «1» عبد الله إلى أن قتل نفسه في سنة تسع وستين، وهو يحاصر البطيحة، وبهاء الحسن بن عمران بن شاهين، فاستوزر الأستاذ أبا منصور نصر بن هارون النصرانى الشيرازى المشهور بعلو الطبقة في الحساب. حجابه: أبو على اليتمى، أبو حرب طغان، أبو الفتح المظفر ابن محمود، أبو القاسم سعد بن محمد الشاسى وغيرهم. فلنذكر بقية من في طبقة عضد الدولة. ذكر أخبار مؤيد الدولة أبى منصور بويه ابن ركن الدولة بن بويه كان مؤيد الدولة شقيقا لعضد الدولة. وأمهما جارية تركية، وكان نائبا عن أبيه بأصفهان عند خروج عضد الدولة منها إلى بلاد فارس، فلما توفى والده مضى إلى الرى، وتسلمها، وتسلم سائر البلاد المقررة له بوصية أبيه، وهى قزوين، وزنجان، وقم، وقاجان، وأبهر، وما والاها مضافا إلى الرى، وأصفهان، وكان لا يبرم أمرا إلا برأى أخيه عضد الدولة، ولما وقع بين عضد الدولة وبين أخيه فخر الدولة ما ذكرناه، وأخذ بلاده من يده سلمها لمؤيد الدولة نيابة عنه، وندبه إلى المسير إلى طبرستان، وجرجان لانتزاعهما من يد قابوس بن وشمكير، فسار إليهما. وانتزعهما منه، ثم اتفقت

ذكر أخبار فخر الدولة وفلك الأمة أبى الحسن على بن ركن الدولة بن بويه

وفاة عضد الدولة، وأقام مؤيد الدولة بعده في البلاد إلى أن توفى بجرجان في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، فكانت مدة ملكه بعد وفاة أبيه سبع سنين، وستة أشهر، وأياما. ولده: أبو النصر. وزرآؤه: ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميد إلى أن قبض عليه بأمر أخيه عضد الدولة كما ذكرناه، وقطع يده، وأنفه، ثم قتله بعد مصادرته، واستوزر بعده الصاحب الجليل أبا القاسم إسماعيل بن عباد، وكان يلبس القباء استخفافا بالوزارة، وانتسابا إلى الجندية، وإنما عرف ابن عباد بالصاحب «1» لصحبته لابن العميد. ذكر أخبار فخر الدولة وفلك الأمة «2» أبى الحسن على بن ركن الدولة بن بويه وفخر الدولة هذا هو أوسط أولاد ركن الدولة يلى عضد الدولة فى السن، وأمه ابنة الحسن بن الفيرزان أحد ملوك الديلم، فجمع المملكة من الطرفين، وكان والده ركن الدولة قد جعل له همذان، والدينور، [والأيغارين] «3» ، ونهاوند، وما والى ذلك من بلاد الجبل. ولما وقع بينه وبين أخيه عضد الدولة ما ذكرناه من ميله مع ابن عمه عز الدولة بختيار على أخيه عضد الدولة، أرسل عضد الدولة جيشا مع أبى الفتح المظفر الحاجب، وتلاه بجيش آخر. ثم عززهما بجيش

ثالث، ثم سار هو بنفسه، فالتحق به بعض أصحاب فخر الدولة، وكاتبه عبيد «1» الله بن محمد حمدويه، فعلم فخر الدولة أنه لا قبل له بما دهمه، ففارق بلاده، وسار في خواص غلمانه إلى «هوسم» «2» من بلاد الجبل، والتحق بعلى بن الحسين العلوى، ثم انتقل من «هوسم» إلى جرجان، والتجأ إلى قابوس بن وشمكير، وكان عنده مكرما إلى أن توفى عضد الدولة، ثم توفى مؤيد الدولة بجرجان، فضبطها الصاحب بن عباد بالعساكر. وجمع القواد واستشارهم، وقرر الأمر لفخر الدولة، ثم خاف افتراق الأجناد، فأجلس أبا العباس خسرو فيروز على سرير المملكة، وكاتب فخر الدولة سرا يستدعيه، فسار عن نيسابور إلى جرجان، فدخل الصاحب على خسرو فيروز، وقال له: هذ أخوك، وأكبر منك قد وصل، وميل الأجناد إليه أكثر من ميلهم لك، وحسّ له الخروج للقائه، فخرج إليه، وتلقّاه، وتسلّم فخر الدولة الملك، وبالغ في إكرام الصاحب، وعرف له حقّ جميله، وحسن تدبيره، ونعته بكافى الكفاة، مضافا إلى الصاحب الجليل، واحتوى فخر الدولة على ممالكه التى كانت بيده، وما كان بيد أخيه مؤيد الدولة، وممكلة قابوس بن وشمكير، ودخل أخوه خسرو فيروز في طاعته، ثم سأل فخر الدولة الخليفة الطائع لله أن يضيف إلى نعته نعتا آخر، فنعنه بفلك الأمّة، واستمر في المالك إلى أن توفى في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فكانت مدة ملكه

الأول منذ وفاة والده إلى أن انهزم من أخيه عضد الدولة ثلاث سنين وشهورا، ومملكته الثانية من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين إلى شعبان سنة سبع وثمانين أربعة عشر سنة تقريبا، وكان شاعرا بارعا، فمن شعره «1» ما ذكره الثعالبى: أدر الكأس علينا ... أيها الساقى لنشرب «2» من شمول مثل شمس ... فى فم الندمان تغرب شربت منها فحالت «3» ... قمرا يلثم كوكب ورد خديها «4» جنىّ ... لكن الناطور «5» عقرب فإذا ما لذعت فال ... بريق درياق مجرّب وكان له من الأولاد: مجد الدولة أبو طالب رستم. شمس الدولة أبو طاهر صاحب همذان. عين الدولة أبو شجاع بويه. أبو منصور صاحب أصفهان. وزراؤه: أبو عمر سيد بن المرزبان إلى أن نكبه، واستوزر عبيد الله بن محمد بن حمدويه إلى أن استأمن إلى عضد الدولة، ثم استوزر الصاحب الجليل كافى الكفاة أبا القاسم بن عياد إلى أن

ذكر أخبار مجد الدولة، وكنف الأمة أبى طالب رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه

توفى في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، ولم ير أحد سعد بعد وفاته كما كان في حياته غيره، وذلك أنه لما توفى غلّقت له مدينة الرى، واجتمع الناس على باب قصره، وحضر فخر الدولة، وسائر القواد مشاة مغيّرى الزىّ، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة، وقبّلوا كلهم الأرض، ومشى فخر الدولة فيها، وجلس العزاء أياما، واستوزر بعده أبا على حموله «1» . هذه الطبقة الثانية من بنى بويه، فلنذكر الطبقة الثالثة: ذكر أخبار مجد الدولة، وكنف الأمة أبى طالب رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه لما توفى والده فخر الدولة اجتمع الأجناد على تولية ولده المذكور، ونعته القادر بالله بهذين النعتين، وكان عمره عند وفاة أبيه أربع سنين، فدبّرت والدته ابنة المرزبان المعروف بالسلار الأمر، ثم بلغ مبلغ الرجال، فلم يكن له من اللذات غير التمتع بالنساء، والنظر في الدفاتر، والاشتعال بالعلوم، ثم توفيت أمه، فورد محمود بن سبكتكين، فقبض عليه، ثم استولى بعد ذلك ابنه أبو كالنجار على الرى إلى أن أتته الغزّ في سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فاستولوا على الرىّ وتحصن هو بقلعة طبرك «2» ، ثم استنزل منها، وأما شمس الدولة أبو طاهر بن فخر الدولة، فإنه كان على أيام أخيه بهمذان،

ذكر أخبار صمصام الدولة

ثم استولى على الجبل، وتوفى في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وقام بعده ابنه سماء الدولة. ولنرجع لأخبار عضد الدولة ونجعل التراجم لمن ملك العراق وخدم الخلفاء، ونورد في أخباره وقائع من سواه: ذكر أخبار «1» صمصام الدولة وهو أبو كالنجار المرزبان بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه. لما توفى عضد الدولة اجتمع القوّاد والأمراء على ولده أبى كالنجار المرزبان، فبايعوه، وولوه الإمارة، وركب الخليفة الطائع لله، وعزاه، ولقبه، وقال له: «نضر الله وجه الماضى، وجعلك الخلف الباقى، وصيّر التعزية بعده لك لا بك، والخلف عليك لا منك» . قال: ولما رجع «2» خلع على أخويه أبى الحسين أحمد، وأبى طاهر فيروزشاه وأقطعهما فارس، وأمرهما بالجد في المسير ليسبقا أخاهما شرف الدولة «3» أبا الفوارس شيرذيل إلى شيراز، وكان عند وفاة أبيه بكرمان، فلما وصلا إلى أرّجان أناهما الخبر بوصول شرف الدولة إلى شيراز، فعاد إلى الأهواز، وملك شرف الدولة بلاد فارس، وقبض على نصر بن هارون النصرانى وزير أبيه، وقتله لأنه كان يسىء صحبته أيام أبيه، وخطب شرف الدولة لنفسه، وتلقب بتاج الدولة، وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة، وأظهر مشافقته، وفرّق الأموال، وجمع الرجال، وملك البصرة،

ذكر ملك شرف الدولة أبى الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة العراق، والقبض على صمصام الدولة

وأقطعها أخاه أبا الحسين، فلما اتّصل ذلك بصمصام الدولة سيّر جيشا، واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن على بن ونقش حاجب عضد الدولة، فجهز تاج الدولة عسكرا، واستعمل عليهم أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدى، فالتقيا بظاهر «قرقوب» «1» ، واقتتلوا، فانهزم عسكر صمصام الدولة، وأسر ابن ونقش مقدم الجيش، فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز، ورامهرمز وطمع في الملك، وكانت هذه الواقعة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين، وفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ملك شرف الدولة الأهواز من أخيه أبى الحسين، وملك البصرة من أخيه أبى طاهر، وقبض عليه، فراسله أخوه صمصام الدولة، فاستقر الأمر على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، وفي خلال مسير الرسل وعودهم ملك شرف الدولة واسط، وغيرها، وكاتبه القواد، فرجع عن الصلح، وعزم على قصد بغداد. والله أعلم. ذكر ملك شرف الدولة أبى الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة العراق، والقبض على صمصام الدولة وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة سار شرف الدولة من الأهواز إلى واسط، وملكها، فاستشار صمصام الدولة أصحابه في قصد أخيه شرف الدولة، فنهوه عن ذلك، وحذروه منه، فلم يرجع إليهم، وسار في طيار إليه، فلما وصل إليه لقيه شرف الدولة، وأكرمه، وطيب قلبه، ثم

قبض عليه بعد قيامه من عنده، وأرسل إلى بغداد من احتاط على دار المملكة، وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان، ونزل بالشقيقى، ومعه صمصام الدولة، ثم سيره إلى بلاد فارس، واعتقله بقلعة هناك، فكانت إمارة صمصام الدولة بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهرا. وكان صمصام الدولة كريم النفس ندىّ الكف إلا أنه كثرت في أيامه الخوارج، وعم الغلاء، فاستنفذ ذلك أمواله، ولم يتعدّ أمره العراق. وزراؤه: أول من وزر له. أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان ثمانية عشر شهرا، فاعتقله، ثم اشترك في الوزارة بين أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبى الحسن بن برمويه، وكان قد أخصاه بعد أولاده إلياس بن كرمان، فأقاما شهرين، ويومين بعد أن انفرد عبد العزيز بالوزارة ثلاثة أشهر، واتفقت فتنة، فانهزم عبد العزيز إلى الأهواز، وقتل ابن برمويه، وفيها يقول بشير بن هارون: وزارة قد أثخنت كل عين ... مقسومة الرتبة في ساقطين هذا بلا ذقن ولا عارض ... وذا بلا رأى ولا خصيتين ومن أعاجيب أحاديثنا ... ما ذكره قد شاع في الخافقين أنا نرى الخصى بلا لحية ... والناقص المجبوب ذا لحيتين ثم «1» استوزر بعدهما الأستاذ أبا الريان أحمد بن محمد سبعة أشهر، وتسعة أيام، وقبض عليه، وقتله، ثم استوزر أبا عبد الله بن الهيثم، وأبا الفتح محمد بن فارس شركة، فأقاما بقية أيامه

ذكر سمل صمصام الدولة

إلى أن ملك شرف الدولة، فقبض على أبى الفتح، وصادره، وأعاد بن الهيثم إلى ديوان النفقات. والله أعلم بالصواب. ذكر سمل صمصام الدولة وفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة سمل صمصام الدولة، وكان سبب ذلك أن نحريرا الخادم، كان يشير على أخيه شرف الدولة بقتله، وهو يعرض عن ذلك، فاتفق أنّ شرف الدولة اعتّل، فقال له نحرير: إن الدّولة مع صمصام الدولة على خطر، وإذا لم تقتله، فاسمله، فأرسل في ذلك محمدا الشيرازى الفرّاش، فمات شرف الدولة قبل وصوله إلى صمصام الدولة، فلما وصل الفرّاش إلى القلعة لم يقدم على سمله فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك، فأشار بسمله، فسمله، فكان صمصام الدولة يقول: ما أعمانى إلا العلاء، فإنه أمضى في حكم سلطان قد مات، ثم كان لصمصام الدّولة دولة بعد دولة. سنذكرها إن شاء الله تعالى، ولم يمنعه العمى مما قدر له. ذكر وفاة شرف الدولة وشىء من أخباره كانت وفاته ببغداد في مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وقيل في ثانيه، وكانت علته الاستسقاء وحمل إلى مشهد على ابن أبى طالب رضى الله عنه، فدفن به، فكانت إمارته ست سنين، وسبعة أشهر ملك فيها بغداد سنتين، وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة، وخمسة أشهر، ونفذ أمره بين خراسان، والموصل،

ذكر ملك بهاء الدولة وضياء الملة

ودياربكر، والعراق، وخوزستان، وفارس، وكرمان، وسراة عمان من غير إراقة دم، ولا إنفاق مال، وكان يحب الخير، وينفر من الشر، وأزال عن الناس التأويلات، والمصادرات، وكان كريما سخيّا يحب الشعر ويثيب عليه، قال أبو اسحاق الصانى: وكانت جماله في سفره ثلاثة عشر ألف رأس، وكان له من المماليك الأتراك ألفان، ومائتا مملوك، وكان له من الخدم ستمائة، ولما اشتدّت علّته أرسل ولده أبا على إلى بلاد فارس، وأصحبه الخزائن، والعدد، وجماعة كثيرة من الأترك. قال: ولما أيس أصحاب شرف الدّولة منه اجتمع عليه أعيانهم، وسألوه أن يسند الملك إلى من يراه، فقال: أنا فى شغل عما تدعوننى إليه، ثم مات. ولده: الأمير أبو على. وزرآؤه: أبو القاسم العلاء بن الحسن، ثم اعتقله مدة وأطلقه واستنابه «1» ببلاد فارس. واستوزر أبا محمد علىّ بن العباس، واستوزر بعده أبا منصور محمد بن الحسن بن صالحان إلى أن توفى رحمه الله. ذكر ملك بهاء الدولة وضياء الملة «2» هو أبو نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه ملك بعد وفاة أخيه شرف الدّولة في ثانى جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وكان سبب ملكه أنه لما مرض شرف الدّولة أشير

ذكر قيام صمصام الدولة ببلاد فارس

عليه أن يستنيبه إلى أن يشفى من مرضه، فاستنابه، فقبل النيابة بعد امتناع منه، فلما مات شرف الدولة جلس بهاء الدولة للعزاء، وركب الطائع إليه، وعزاه، وخلع عليه خلع السلطنة، وأقر أبا منصور الحسن بن صالحان على وزارته. ذكر قيام صمصام الدولة ببلاد فارس قد ذكرنا ما كان من أمره، والقبض عليه، وسمله، فلما مات شرف الدولة إضطرب أمر الديلم، ووقع بينهم وبين الأتراك، فأنزلوا صمصام الدولة من قلعة شيراز، وحمله غلامه سعادة على كتفه، وبايعه الديلم، وانقادوا لأمره، فعند ذلك بايع الأتراك أبا على بن شرف الدولة، ولقبوه شمس الدولة، وقمر الملة «1» . ذكر مسير أبى على بن شرف الدولة الى بلاد فارس، وما كان بينه وبين عمه صمصام الدولة، وعودة الى بهاء الدولة، وقتله قد ذكرنا أن شرف الدولة لما اشتدت علته جهز ابنه أبا على إلى فارس، ومعه والدته، وجواريه، وسيّر معه الأموال، والجواهر، والسلاح، فلما بلغ البصرة أناة الخبر بوفاة أبيه، فسيّر ما معه في البحر إلى أرّجان، وسار مجدّا حتى وصل إليها، واجتمع معه من بها من الأتراك، وسار مجدّا نحو شيراز، وكاتبهم متولّيها، وهو

أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم، وكان صمصمام الدولة، ومن معه قد ساروا إلى سيراف «1» ، ووقعت الفتنة بها بين الأتراك، والديلم، فخرج الأمير أبو على إلى معسكر الأتراك ونزل معهم، فاجتمع الديلم، وقصدوا داره ليأخذوه، ويسلموه إلى صمصام الدولة، فرأوه قد انتقل إلى الأتراك، فكشفوا القناع، وجرى بينهم قتال، ثم سار أبو على والأتراك إلى فسا «2» ، فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من الأموال، وقتلوا من بها من الديلم، وسار أبو على إلى أرّجان، وعاد الأتراك إلى شيراز، فقاتلوا من بها من الديلم الذين مع صمصمام الدولة، ونهبوا البلد، وعادوا إلى أبى على بأرّجان وأقاموا معه «3» مديده، ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبى على، وطيب قلبه، وأرسل إلى الأتراك الذين معه سرا واستمالهم إلى نفسه وأطمعهم، فحسنوا لأبى على المسير إلى بهاء الدولة، فسار إليه، فلقيه بواسط في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة، فأكرمه، ثم قبض عليه بعد ذلك وقتله، وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.

ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز، والصلح بينه وبين صمصام الدولة

ذكر مسير بهاء الدولة الى الأهواز، والصلح بينه وبين صمصام الدولة قال: وسار بهاء الدّولة إلى خوزستان، فأتاه نعى أخيه أبى طاهر، وكان مع صمصام الدولة، فجلس للعزاء، ورحل إلى أرّجان، واستولى عليها، وأخذ ما فيها من الأموال التى جمعها صمصام الدولة بقلعتها، وكانت ألف ألف دينار قاشانية، وثمانية آلاف ألف درهم عدليه، ومن الجواهر، والثياب ما لا يحصى قيمته، ففرّق ذلك على الجند، ولم يبق منه إلا القليل، ثم سارت مقدمته، وعليها العلاء بن الفضل إلى النوبندجان «1» ، وبها عسكر صمصام الدولة، فهزمهم وبث أصحابه فى نواحى فارس، فسيّر صمصام الدولة عسكرا، وعليهم فولاذ ابن ما «2» بدار، فواقعهم، فانهزم أصحاب بهاء الدولة، وعادوا إليه، ثم ترددت الرسائل بين صمصام الدولة، وبهاء الدولة في الصلح، فاستقر على أن يكون لصمصام الدولة فارس، وأرّجان، ولأخيه بهاء الدولة خوزستان، والعراق، وأن يكون لكل واحد منهما إقطاع في ملك الآخر، وحلفا على ذلك، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز، ثم إلى بغداد، وفي سنة ثمانين وثلاثمائة أيضا قبض بهاء الدولة على وزيره أبى منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشر،

وكان المدبّر لدولة بهاء الدولة أبا الحسن «1» بن المعلم، وأبيه الحكم، وفي سنة إحدى وثمانين قبض بهاء الدولة على الخليفة الطائع لله، وبايع القادر بالله كما ذكرناه في أخبار الدولة العبّاسية، وفيها قبض على وزيره أبى نصر سابور، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف وقبض على أبى نصر خواشاذه، وأبى عبد الله بن طاهر، وفي سنة اثنتين وثمانين قبض بهاء الدّولة على أبى الحسن بن المعلم، وكان قد استولى على الأمور كلها، وخدمه الناس كلّهم حتى الوزراء، فأساء السيرة، فشغب الجند، وشكوا منه، وطلبوا تسليمه إليهم، فراجعهم بهاء الدولة، ووعدهم أنه يكف يده، فلم يقبلوا ذلك، فقبض عليه، وعلى جميع أصحابه، فلم يرجع الجند، فسلّمه إليهم، فسقوه السمّ مرتين، فلم يؤذه، فخنقوه، ودفنوه، وقبض على وزيره أبى القاسم لأنه اتهم بمباطنة الجند في أمر ابن المعلم، واستوزر أبا نصر سابور، وأبا منصور بن صالح جميعا، وفي سنة ثلاث وثمانين شعب الجند على بهاء الدولة، ونهبوا دار الوزير سابور، واختفى منهم، واستعفى ابن صالحان من الأنفراد بالوزارة، فأعفى، واستوزر أبا القاسم على بن أحمد، ثم هرب إلى البطيحة، وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم.

ذكر ظهور أولاد بختيار، واعتقالهم، وقتل بعضهم

ذكر ظهور أولاد بختيار، واعتقالهم، وقتل بعضهم وفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ظهر أولاد عز الدولة بختيار بن معز الدولة من محبسهم، واستولوا على القلعة التى كانوا معتقلين بها، وكان سبب اعتقالهم أن شرف الدولة كان أحسن إليهم بعد وفاة والده عضد الدولة، وأطلقهم، وأنزلهم بشيراذ، وأقطعهم، فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا مستحفظها، ومن معه من الديلم، فأفرجوا عنهم، فأنفدوا إلى أهل تلك النواحى، فاجتمعوا تحت القلعة، فبلغ ذلك صمصام الدولة، فسيّر إلى القلعة جيشا، فتفرق ذلك الجمع، وحصر جيشه القلعة، وراسل «1» مقدم الجيش وجوه الدّيلم سرّا، واستمالهم، ففتحوا القلعة، فملكها أصحاب صمصام الدولة، وأخذوا أولاد بختيار، وكانوا ستة، فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين، وحبس أربعة. ذكر مقتل صمصام الدولة كان مقتله في ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الدّيلم استوحشوا منه لأنه أمر بعرضهم، وإسقاط من ليس بصحيح النسب، فأسقط منهم ألف رجل، واتفق [أن] «2» أبا القاسم، وأبا نصر ابنى عز الدولة بختيار بن معز الدولة خدعا الموكّلين

بالقلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفا من الأكراد، واتّصل بهما الذين أسقطوا من الخدمة من رجال الديلم، وقصدوا أرّجّان، فاجتمعت عليها العساكر، فتجهز صمصام الدولة ولم يكن عنده من يدبره، فأسار عليه أصحابه بالصّعود إلى القلعة التى على باب شيراز، والامتناع بها، فرّاد الصّعود إليها، فمنعه مستحفظها، فأشار بعض أصحابه عليه بقصد الأكراد، والتقوا بهم، فخرج بخزائنه، وأمواله، فنهبه أصحابه، وأرادوا قتله، فهرب وسار إلى «الدودمان» على مرحلتين من شيراز، فقبض عليه رئيسها طاهر، وبلغ أبو نصر الخبر، فبادر إلى شيراز، ودخلها وأخذ صمصام الدولة ابن طاهر، فقتله، وقال: هذه سنة سنها أبوك يعنى ما كان من قتل عضد الدوله بختيار، وكان عمر صمصام الدولة يوم قتل خمسا وثلاثين سنة. وسبعة أشهر، ومدة إمارته بفارس تسع سنين، وثمانية أشهر. وكان كريما حليما، وسلمت والدته لبعض قواد الديلم، فقتلها، وبنى عليها دكّة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها، ودفنها فى تربة بنى بوية. وزراؤه في مملكته الثانية: العلاء بن الحسن، ثم قبض عليه، واستوزر أبا القاسم المعمر بن الحسين الزنجى نحوا من سنة، ثم قبض عليه، واعتقله، وأعاد العلاء، ثم بعثه إلى الأهواز، فمات، فاستوزر أبا الطيّب الفرحان بن شيراز، وأنفذه إلى الأهواز، فأقام إلى أن قتل صمصام الدولة.

ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوذستان وكرمان

ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوذستان وكرمان قال: ولما قتل صمصام الدولة؛ استولى ابنا بختيار على بلاد فارس وكاتبا [أبا على بن أستاذ «1» هرمز] وهو بالأهواز يأمرانه بأخذ البيعة لهما، واليمين، فخافهما أبو على، ثم راسله بهاء الدّولة يستميله، ويعد الدّيلم الخير والإحسان، فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة، واستوثقوا منه، وكتبوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال رجاء أن يخرجوا إلى طاعته، فخرجوا بالسلاح، وقاتلوه قتالا شديدا، فضاق بذلك درعا، فقيل له: إن عادة الدّيلم أن يشتد قتالهم عند الصلح لئلا يظن بهم العجز، ثم كفوا عن القتال، وأرسلوا من يحلفه «2» لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو على ابن اسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز، فاستولوا عليها، وعلى أرّجان، وغيرها من بلاد خوزستان، وسار أبو على إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فحاربه ابنا بختيار، فلما اشتدت الحرب مال بعض أصحابهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة فهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الدّيلم، وأما أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه الكردىّ، ثم قصد البطيحه، ولما ملك أبو على بشيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح

ذكر وفاة عميد الجيوش، وولاية فخر الملك العراق

فسار إليها، وأمر بنهب قرية الدودمان، وإحراقها، وقتل من كان بها من أهلها، وأخرج أخاه صمصام الدولة، وجدّد أكفانه ودفنه، ثم سيّر عسكرا مع أبى الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان، ففتحها، وأقام نائبا عن بهاء الدولة، وذلك في سنة تسع وثمانين. ذكر وفاة عميد الجيوش، وولاية فخر الملك العراق وفي سنة إحدى وأربعمائة توفى عميد الجيوش أبو على أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته بها ثمانى سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما، وكان من حجاب عضد الدولة وجعله في خدمة ابن صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة، فجعله نائبه ببغداد، ولما مات استعمل بهاء الدولة مكانه فخر الملك أبا غالب، فوصل إلى بغداد في ذى الحجة من ذى السنة. ذكر وفاة بهاء الدولة كانت وفاته بأرّجان في عاشر جمادى «1» الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وحمل إلى مشهد على بن طالب رضى الله عنه، ودفن عند قبر أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصف شهر، ومدة ملكه أربعا وعشرين سنة، وأياما. أولاده: سلطان الدولة أبو شجاع فنّاخسروا. مشرق الدولة

ذكر ملك سلطان الدولة

أبو على «1» . جلال الدولة أبو طاهر. قوام الدولة أبو الفوارس. وزراؤه: أبو منصور بن صالحان أحد وزراء أخيه شرف الدولة، وزر له عشرة أشهر وأياما، ثم أبو نصر سابور بن أردشير أحد عشر شهر، ثم قبض عليه في سنة ثمانين، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبا القاسم على بن أحمد الأبرهونى، ثم قبضه، وأعاد سابور، ثم أشرك بينه وبين ابن صالحان، ثم استوزر أبا العباس عيسى ستة عشر يوما. واستوزر الموفق عبد الملك أبا على الحسن بن محمد بن إسماعيل سنتين وشهرين، وقلد بعده عميد الجيوش الصاحب، واستوزر بعده فخر الملك «2» وزير الوزراء الكامل ذا الجلالين» أبا الغالب محمد بن خلف، وهو أعظم من وزر للديلم على الإطلاق، بعد أبى الفضل بن العميد، وابن عباد. ذكر ملك سلطان الدولة هو أبو شجاع فاخسرو بن بهاء الدولة «4» بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه. كانت ولايته بعد وفاة أبيه، فى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، ولما ولى سار من أرّجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كرمان، وكان القادر بالله قد ولاه العهد

ذكر قتل فخر الملك، ووزارة ابن سهلان

بسؤال أبيه، فلما مات والده قام مقامه، ودخل بغداد، وأعطى كلّ غلام من أشرافها سبعين دينارا ودست ثياب، فأكثروا عليه بالمطالبات، فضجر، وفارق بغداد، وتوجّه إلى الأهواز. ذكر قتل فخر الملك، ووزارة ابن سهلان وفي سنة ست وأربعمائة قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك «1» أبى غالب، وقتله في سلخ شهر ربيع الأول، فكانت نيابته بالعراق خمس سنين وأربعة أشهر واثنى عشر يوما، وكان حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عينا، سوى ما نهب، وقيمة العروض، وكان القبض عليه بالأهواز. حكى ابن علمكان «2» ، وكان من أكابر القواد قال: قتل إنسان ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك تتظلم وتتشكّى، وهو لا يلتفت إليها، فلقيته يوما فقالت له: تلك الرقاع التى كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى، فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكان، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض على فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن ابن سهلان، ولقب عميد أصحاب الجيوش، وفي ثمان وأربعمائة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط،

ذكر ولاية ابن سهلان العراق

فخرج عليهم عامّتها وأتراكها فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط، وعامّتها جماعة كثيرة، وعظم أمر العيّارين ببغداد فأفسدوا، ونهبوا. ذكر ولاية ابن سهلان العراق وفي سنة تسع وأربعمائة استعمل سلطان الدولة أبا محمد الحسن ابن سهلان على العراق في المحرم، فسار، وأوقع في طريقه بالعرب، ولما وصل واسط وجد الفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها، وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها في أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيّارون [ونفى] «1» جماعة من العبّاسيين وغيرهم، ونفى أبا عبد الله محمد بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم تكن له عادة بالنزول هناك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله، فمن ذلك أن رجلا من المستورين أغلق بابه عليه خوفا منهم، وانقطع بداره، فلما كان في أول يوم من شهور رمضان خرج لبعض شأنه وقد أطمأن لتعظيم الشهر، وكفّ الناس فيه عن الفساد، فرآهم على حال عظيم من الفساد وشرب الخمور، فأراد الرجوع إلى داره، فمنعوه وأكرهوه على الدخول معهم إلى دار من دورهم، وألزموه بشرب الخمر، فامتنع، فصبوها في فيه قهرا، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال لها:

ذكر ملك مشرف الدولة أبى على بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه العراق

هذا أول يوم من شهر رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنى فعلت، فقالت: لا، ولا كرامة، ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزنا في هذا الشهر، وأنا أريد أن أصون أمانتى ولسانى عن الكذب فيه، فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد، ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد قلوب الأتراك والعامة، فانحدروا إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوه إليه فسكنهم، ووعدهم أن يتوجه إلى بغداد ويصلح الحال، وكتب إلى ابن سهلان يستقدمه، فخافه، فهرب إلى بنى حقاجة، ثم إلى الموصل، ثم إلى الأنبار ثم سار إلى البطيحة. ذكر ملك مشرف «1» الدولة أبى على بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه العراق كان استيلاء مشرف «2» الدولة على العراق في سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان سبب ذلك أن الجند شغبوا على سلطان الدولة، ومنعوه من الحركة، وأرادوا ترتيب مشرف «3» الدولة أخيه في الملك، فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه، فلم يمكنه من «4» ذلك، وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال له الجند: إما أن تجعل عندنا ولدك، أو أخاك مشرف الدولة. فراسل

أخاه مشرف الدولة بذلك، فامتنع، ثم أجابه بعد معاودة، ثم اتفقا، واجتمعا ببغداد، واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سلطان الدولة بغداد، وقصد الأهواز، واستخلف أخاه مشرف الدولة بها، فلما انحدر سلطان الدولة ووصل تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة، فانفذ سلطان الدولة ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فجمع مشرف «1» الدولة عسكرا كثيرا، منهم أتراك واسط، وأبو الأعز دبيس بن على بن مزيد، ولقى ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان، وتحصّن بواسط، فحصره مشرف «2» الدولة وضيّق عليه، حتى بيع كرّ «3» الحنطة بألف دينار قاشانية، وأكل الناس حتى الكلاب، فاستخلف ابن سهلان مشرف الدولة، وسلم إليه البلد، وخرج إليه، فخوطب حينئذ مشرف الدولة. وذلك في ذى الحجة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وحضر إليه الديلم الذين كانوا بواسط، وصاروا معه، فحلف لهم وأقطعهم، فلما اتصل الخبر بسلطان الدولة سار عن الأهواز إلى أرجان، وقطعت خطبته من العراق، وخطب لمشرف الدولة ببغداد، فى أول المحرم سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، وقبض على الوزير ابن سهلان، وكحله؛ فلما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس، فقلت عليهم الميرة؛ فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الذين بالأهواز، وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة، ونادوا بشعار مشرف الدولة.

ذكر الصلح بين سلطان الدولة وأخيه مشرف الدولة

قال: ولما خطب لمشرف الدولة طلبوا منه «1» أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال له: إن فعلت خاطرت بنفسى، ولكن أبذلها في خدمتك، ثم انحدر بالعسكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبى غالب، فقتلوه، فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد بن دبيس، ولما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن، وقويت نفسه، وأنفذ ابنه إلى الأهواز، فملكها. ذكر الصلح بين سلطان الدولة وأخيه مشرف «2» الدولة وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة حصل الإنفاق والصلح بينهما، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة، وفارس وكرمان لسلطان الدولة، وحلف كل منهما لصاحبه. ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير ابن المغربى «3» وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربى وبين الأتراك؛ فاستأذن الأثير

ذكر وفاة سلطان الدولة

والوزير مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأسنان فيه على أنفسهما، فقال: وأنا والله أسير معكما؛ فساروا جميعا، ومعهم جماعة من مقدّمى الديلم إلى السندية «1» ، وبها قرواش «2» ، ثم ساروا إلى أوانا، فعظم ذلك على الأتراك، فراسلوه، واعتذروا، فكتب إليهم الوزير يقول: إننى تأملت ما لكم من الجامكيات. فإذا هى ستمائة ألف دينار، وعلمت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف تحملت الباقى، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم الوزير، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك، وسألوا مشرف الدولة، والأثير في الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك. ذكر وفاة سلطان الدولة كانت وفاته بشيراز في شوال سنة خمسة عشرة وأربعمائة، وكان عمره اثنين وثلاثة سنة وخمسة أشهر، وخمسة أيام، ومملكة بالحضرة، وإمارته ببلاد فارس، وخوزستان، وكرمان ثنتى عشرة سنة، وأربعة أشهر وثلاثة أيام. وزراؤه: فخر الملك أبو غالب بن خلف إلى أن قتله بالأهواز، واستوزر أبا محمد الحسن بن الفضل بن سهلان، واستوزر ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور، ثم استوزر أبا الفتح

ذكر وفاة مشرف الدولة

عبد الحكيم بن إبراهيم بن الخصيب [وقبض «1» عليه] واستوزر أبا محمد الحسن بن محمد بن بابشاد من أهل رامهرمز. ولما مات، ولى بعده ابنه أبو كاليجار المرزبان، على ما نذكره، بعد عمه. ذكر وفاة مشرف الدولة كانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وملكه خمس سنين، وخمسة وعشرون يوما، وكان ملكا عادلا، كثير الخير، قليل الشر، حسن السيرة. وزراؤه: ذو السعادتين أبو غالب الحسن بن منصور، ثم عزله، واستوزر مؤيد الملك زعيم الكفاة مجد المعالى أبا على الحسن في سنة خمس عشرة وأربعمائة، ثم استوزر أبا قاسم بن المغربى. ذكر سلطنة جلال الدولة هو أبو طاهر فيروز خسرو بن بهاء الدولة خسرو فيروز بن عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه. ملك بعد وفاة أخيه «2» مشرف الدولة، فى شهر ربيع الأول سنة سته عشر وأربعمائة، [وكان عند «3» وفاته بالبصرة] ،

وكان أبوه قد رتبه بها في حياته، فلما مات مشرف الدولة خطب له ببغداد، وطلب فلم يصعد إليها، وإنما بلغ واسط، وأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، فقطعت خطبته، وخطب لابن «1» أخيه أبى كاليجار ابن سلطان الدولة في شوال، وهو حينئذ صاحب خوزستان، فلما اتّصل ذلك بجلال الدولة أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليرده عنها، وقاتلوه ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى الملك أبى كالنجار ليحضر إلى بغداد، فوعدهم بذلك، ولم يمكنه. لأن الحرب كانت بينه وبين عمه أبى الفوارس صاحب كرمان، وانقطعت خطبة جلال الدولة إلى سنة ثمان عشرة وأربعمائة، ثم عاد إلى السلطنة، وكان سبب ذلك أن الأتراك كانوا قد طمعوا في الناس ببغداد، وصادروهم، وأخذوا أموالهم، وعظم الخطب، وزاد الشر، وأحرقت المنازل، والدروب، والأسواق، وطمع العيّارون، والعامة، فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره، ووقعت الحرب بين العامّة والجند، فظفر الجند بهم، ونهبوا الكرخ وغيره، وذلك في سنة سبع عشرة، فلما رأى القوادّ وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون لهم من الأعراب والأكراد، وقصدوا دار الخلافة، وراسلوا الخليفة القادر بالله، واعتذروا من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أوّلا، وردّهم له ثانيا، وبالخطبة لأبى كالنجار، وقالوا: إن أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد، وقد أخطأنا، ونسأل

ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة

العفو، ولا يدّلنا ممّن- يجمع كلمتنا، وسألوا أن يرسل الخليفه إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد، ويملكه ويجمع الكلمة، وأن يحلفه رسول الخليفة، فأجابهم الخليفه إلى ما سألوا، وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد، واليمين للخليفة، ولهم، فحلف لهم، وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه، فلقوه في الطريق، ووصل بغداد فى ثالث شهر رمضان سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، ونزل بالنجمى، فركب الخليفة في الطيّار، وانحدر لتلقيه، فلما رآه جلال الدولة، قبل الأرض بين يديه، ثم دخل جلال الدولة إلى دار المملكة، وأمر بضرب النّوب الخمس على بابه في أوقات الصلوات، فراسله الخليفة في قطعها، فقطعها غضبا، ثم أذن له الخليفة في إعادتها ففعل: ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة وفي سنة تسع عشرة وأربعمائة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة، وطالبوا الوزير أبا على بن ماكولا بمالهم من المعلوم، ونهبوا داره ودور كتاب جلال الدولة، وحواشيه، حتى المغنّين، والمخنثين، ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة، ليضربها دنانير ودراهم، ويغرقها فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره، ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثمرة البستان، فسألهم أن يمكنوه من الانحدار، فتأخروا له ولأهله، فجعل بين الدار وبين السفن سرادقا «1»

لتجتاز حرمه فيه، لئلا يراهم العامة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظن جلال الدولة أنهم يريدون الحريم، فصاح بهم، وقال: بلغ من أمركم إلى الحريم؟ وتقدم إليهم وبيده طبر، «1» فصاح صغار الغلمان، والعامة: جلال الدولة يا منصور؛ ونزل أحدهم عن فرسه، وأركبه إياه، وقبلوا الأرض بين يديه، فرجعوا إلى منازلهم، ولم تمض عشرة أيام حتى عادوا، وشعبوا؛ فباع جلال الدولة فرشه، وثيابه، وخيامه، وفرق أثمان ذلك فبهم، فسكنوا، وضعف حال جلال الدولة، وقلت الأموال عنده، وطمع القواد فيه، حتى انتهى حاله في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في شهر رجب أن أخرج دوابه من الاصطبل، وهى خمس عشرة دابة وسيّبها في الميدان، بغير سايس، ولا حافظ، ولا علف، فقيل: إنه فعل ذلك لأمرين: أحدهما: عدم العلف عنده، والثانى: أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه يطلبونها منه، فضجر من ذلك، فأخرجها، وقال: هذه دوابى، خمسة لمركوبى، والباقى لأصحابى، وفرق حواشيه، وفراشيه، وأتباعه، وأغلق باب داره لانقطاع جاريه فثارت فتنة لذلك بين العامة والجند، وعظم الأمر، وظهر العيّارون ببغداد.

ذكر وثوب الجندبه واخراجه من بغداد وعوده اليها

ذكر وثوب الجندبه واخراجه من بغداد وعوده اليها وفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في شهر ربيع الأول، تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك، فأغلق بابه، فجاء الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكتّاب، وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبو الوزير أبا إسحاق السهيلى، فهرب، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا، فى شهر ربيع الآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبى كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن ماقيه «1» من الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم، فلما رأوا إمتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة جلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد، فعاد بعد ثلاثة وأربعين يوما. واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، ثم عزله، واستوزر بعده عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم، فوزر أياما ثم استتر. وسبب ذلك أن جلال الدوله تقدم إليه بالقبض على أبى المعمّر إبراهيم بن الحسين البسامى طمعا في ماله عليه، وجعله في داره فقبض فثار الأتراك، وقصدوا دار الوزير، وضربوه، وأخرجوه من داره حافيا، ومزقوا ثيابه وعمامته، وأخذوا خواتيمه فدميت إصبعه، وكان جلال الدوله في الحمام، فخرج فزعا لينتظر ما الخبر، فوجد الوزير فقبل الأرض، وذكر ما فعل به، فقال له جلال الدولة أنا ابن بهاء الدولة، وقد فعل في أكثر من

هذا، ثم أخذ من البسامى ألف دينار، وأطلقه، واختفى الوزير. وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة في شهر رمضان شغب الجند على جلال الدولة، وقبضوا عليه، وأخرجوه من داره، ثم سألوه ليعود إليها فعاد، وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير أن يعلموا، فاستوحشوا من ذلك، واجتمعوا وهجموا عليه في داره، وأخرجوه إلى مسجد هناك، فوكلوا به فيه، وأسمعوه ما يكره، ونهبوا بعض ما في داره، فجاء بعض القواد في جماعة من الجند، وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة حرمه» وما فضل في داره بعد النهب، إلا الجانب الغربى، ونزل بدار المرتضى، وعبر الوزير معه، ثم راسله الجند، وقالوا نريد أن تنحدر عنا إلى واسط، وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سرا إلى الغلمان الأصاغر، واستمالهم، وإلى كل واحد من الأكابر واستماله، وقال: إنما وثوقى بك وسكوتى إليك، فمالوا إليه ودخلوا عليه، وقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه العود إلى داره، فعاد وحلف لهم على الإخلاص، والإحسان إليهم، وحلفوا له على المناصحة. وفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة عاد الجند إلى الشغب وثاروا به وأرادوا إخراجه من بغداد، فاستمهلهم ثلاثة أبام، فلم يملهوه، ورموه بالآجر، فأصابه بعضه، فاجتمع الغلمان، وردّهم عنه، فخرج من باب لطيف، وركب في سماريّة متنكّرا، وصعد راجلا منها إلى دار المرتضى بالكرخ، ثم سار إلى رافع بن الحسين بتكريت، وكسّر الأتراك باب داره، ودخلوها، ونهبوها، وخلعوا كثيرا من صاجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليهم، وسكنهم، وأعاده إلى بغداد. والله أعلم.

ذكر الفتنة بين جلال الدولة، وبارسطغان، وقتل بارسطغان

ذكر الفتنة بين جلال الدولة، وبارسطغان، وقتل بارسطغان وفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة كانت الفتنة بينهما، وكان بارسطغان من أكابر الأمراء، ويلقب حاجب الحجاب، وكان سبب الفتنة: أن جلال الدّولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال؛ فخاف على نفسه، فالتجأ إلى دار الخلافة، وذلك في شهر رجب سنة سبع وعشرين، فمنع الخليفة منه، وأرسل بارسطغان إلى الملك أبى كاليجار يحثه على طلب ملك العراق، فأرسل أبو كاليجار جيشا فوصلوا إلى واسط وأخرجوا منها الملك العزيز بن جلال الدولة، فأصعد إلى أبيه، فعند ذلك كشف بارسطغان القناع، وانضمّ إليه أصاغر المماليك، ونادوا بشعار أبى كاليجار، وأخرجوا جلال الدّولة من بغداد، فسار إلى أوانا «1» ومعه البساسيرى، وأرسل بارسطغان إلى الخليفة في الخطبة لأبى كاليجار، فامتنع واحتج بعهود جلال الدولة، فأكره الخطباء على الخطبة لأبى كاليجار، ففعلوا، وسار الأجناد الواسطيّون إلى باب بارسطغان، وكانوا معه، ثم عاد جلال الدّولة إلى الجانب الغربى ببغداد، ومعه قراوش بن المقلّد العقيلى ودنيس بن على «2» بن مزيد الأسدى، وخطب له بالجانب الغربى، ولأبى كاليجار بالجانب الشرقى، ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار، وسار قرواش إلى الموصل، ووصل الخبر إلى بارسطغان بعود

ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبى كاليجار

أبى كاليجار إلى فارس، ففارقه الدّيلم الذين كانوا نجدة له، فضعف أمره، فرفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة، وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغداد، وأرسل البساسيرى والمرشد وبنى خفاجة في إثر بارسطغان، ومعهم جلال الدولة ودبيس، فلحقوه بالخيزرانية، فقاتلوه، فسقط عن فرسه، فأسر وجىء به إلى جلال الدولة، فقتله، وكان عمره نحوا من سبعين سنة، فضعف أمر الأتراك، وطمع فيهم الأعراب، واستولوا على إقطاعهم. ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبى كاليجار وفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وقع الصّلح بين جلال الدّولة، وأبى كاليجار، والاتفاق، وزال الخلف بعد أن كان بين عساكرهما حرب قبل ذلك، فاتفقا الآن، وكان الرسل في الصلح أقضى القضاة أبا الحسن الماوردى، وأبا عبد الله المردوستى، وغيرهما، وتزوّج أبو منصور بن على أبى كاليجار بابنة جلال الدولة، وكان الصداق خمسين ألف دينار قاشانيه. والله أعلم. ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله أن يخاطب بملك الملوك، فامتنع، ثم أجاب إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فأفتى قاضى القضاة أبو الطيب «1» الطبرى،

ذكر وفاة جلال الدولة

والقاضى أبو عبد الله الصيمرى «1» ، والقاضى ابن البيضاوى، بجواز ذلك، ومنع منه أقضى القضاة أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى الشافعى، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات، فخطب لجلال الدولة بملك الملوك، وكان الماوردى من أخص الناس بجلال الدولة، وهو يتردّد إلى دار الملك في كل يوم، فلما أفتى بالمنع انقطع، ولزم بيتة من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، استدعاه جلال الدّولة، فحضر خائفا، فأدخل عليه وحده، فقال له: قد علم الناس أنك من أكثر الفقهاء مالا وجاها وقربا منا، وقد خالفتهم فيما وافق هواى «2» ، ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك واتّباع الحق، وقد بان لى موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وجعلت جزاء ذلك إكرامك، بأن أدخلتك إلىّ وحدك، وجعلت إذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودى إلى ما تحبّ، فشكره ودعا له، وأذن لكلّ من حضر للخدمة بالانصراف «3» ، والله أعلم. ذكر وفاة جلال الدولة كانت وفاته ببغداد سادس شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان مرضه ورما في كبده، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وكانت مدة عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة ملكه ببغداد

ذكر أخبار السلطان شاهنشاه

منذ خطب له ثانيا، سبع عشرة سنة وشهرين، ومنذ وصل إليها ست عشرة سنة وأحد عشرة شهرا، وكانت أيامه كثيرة الوهن والاضطراب، وضعفت المملكة في أيامه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وكان كثير الصدقة، وزيارة الصّالحين والمشاهد، وكان يمشى حافيا قبل وصوله إلى كلّ مشهد نحوا من فرسخ. أولاده: الملك العزيز أمير الأمراء أبو منصور، توفى بديار بكر في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وزراؤه: أبو سعد عبد الواحد بن على بن ماكولا، ثم نكبه، واستوزر أخاه أبا على الحسن، ثم عزله، واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، وهو أخوهما، ثم استوزر عميد الملك أبو سعيد عبد الرحيم، واستوزر غير هؤلاء، والله أعلم. ذكر أخبار السلطان شاهنشاه هو أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة أبى شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة أبى نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، ملك بعد وفاة والده سلطان الدولة، كرمان، وفارس، وخوزستان، ثم ملك الحضرة ببغداد، بعد وفاة عمّه جلال الدولة. على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر ابتداء ملكه

ذكر ابتداء ملكه لما توفى والده سلطان الدولة في شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة بشيراز، كان هو بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمّد بن مكرم ليملك البلاد، وكان هواه معه، وهوى الأتراك مع عمه أبى الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، فكاتبوه أيضا يطلبونه إليهم، فتأخر أبو كاليجار، وسبقه عمه أبو الفوارس إليها، فملكها، وكان أبو المكارم ابن أبى محمد بن مكرم قد أشار عليه ابنه، لما رأى الاختلاف، أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله، ففارقه، وقصد البصرة، فلما ملك أبو الفوارس طالبه الجند بحق البيعة، فأحالهم على ابن مكرم، وألزمه بإيصال [المال «1» ] إليهم، فتضجر من ذلك، فقبض أبو الفوارس عليه وقتئذ، فلما سمع ابنه بقتله صار مع الملك أبى كاليجار وأطاعه، وتجهز الملك أبو كاليجار، وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم مربيه، وساروا بالعساكر إلى فارس، فبعث أبو الفوارس عسكرا مع وزيره أبى منصور الحسن بن على البشنوى لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير فتهاون به؛ لكثرة عساكره، فأتوه وهو نائم، وقد تفرق عسكره في البلد، لابتياع ما يحتاجون إليه، وكان جاهلا بالحرب، فلما شاهد أعلام أبى كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر، وقد داخلهم الرعب، فحمل عليهم أبو كاليجار، فانهزموا وغنم أموالهم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى أبى الفوارس سار إلى كرمان، ودخل أبو كاليجار شيراز، وملك فارس.

ذكر عودة أبى الفوارس إلى فارس واخراجه

ذكر عودة أبى الفوارس الى فارس واخراجه قال: ولما ملك أبو كاليجار البلاد، ودخل شيراز، وجرى على الدّيلم الشيرازيّة من عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنّوا أنهم كانوا قتلوا مع عمه، ثم إن عسكر أبى كاليجار شغبوا عليه، وطالبوه بالمال فأظهر ديلم شيراز ما في نفوسهم من الحقد، فعجز عن المقام معهم، فسار عن شيراز إلى النونبدجان، ولقى شدّة في طريقه، ثم فارقها لشدّة حرّها، ووخامة هوائها إلى شعب بوّان، فأقام به، وهو أحد متنزهات الدنيا الأربع، ولما سار عن شيراز أرسل الدّيلم الشيرازيّون إلى أبى الفوارس يحثّونه على الوصول إليهم، فسار إليهم وتسلّم. شيراز، وقصد أبا كاليجار بشعب بوّان، ثم استقر بينهما الصلح، على أن يكون لأبى الفوارس كرمان وفارس، ولأبى كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرّجان، ثم إن وزيره أبى الفوارس صادر الناس، وأفسد قلوبهم، واجتاز به مال لأبى كاليجار ولمن معه من الديلم، فأخذه، فحينئذ حثّ العادل ابن ماقيه «1» صندلا الخادم على العود إلى شيراز، فعادت الحال إلى أشدّ ما كانت عليه، ثم خرج كل واحد، من أبى الفوارس وأبى كاليجار، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى دارابجرد «2» ، وملك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد، فاجتمع له نحو عشرة

ذكر ملك أبى كاليجار العراق

آلاف مقاتل، والتقوا واقتتلوا نحو البيضاء، واصطخر، فانهزم أبو الفوارس ومن معه، وسار إلى كرمان، واستقر ملك أبى كاليجار بفارس، فى سنة سبع عشرة وأربعمائة، وفي أثناء ذلك خطب لأبى كاليجار ببغداد، بعد وفاة مشرف الدولة، كما قدمناه فى أخبار جلال الدولة، وفي سنة ثمانى عشرة وأربعمائة استقر الصلح بين أبى كاليجار، وعمه أبى الفوارس صاحب كرمان، على أن تكون كرمان لأبى الفوارس وبلاد فارس لأبى كاليجار، ويحمل لعمّه في كلّ سنة عشرين ألف دينار، وفوّض أبو كاليجار أمور دولته إلى العادل ابن ماقية، فأجابه بعد امتناع، وشرط عليه ألا يعارض فيما يفعله، وفي سنة تسع عشرة وأربعمائة توفى أبو الفوارس صاحب كرمان، فاستولى أبو كاليجار على كرمان. ذكر ملك أبى كاليجار العراق وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ملك العراق، وذلك بعد وفاة عمه جلال الدولة، وذلك أن جلال الدولة «1» لما مات كان ولده الأكبر الملك العزيز بواسط، فكاتبه الأجناد بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حقّ البيعة، فتردّدت الرسائل بينهم في مقدار المال، فلم يكن عنده ما يعطيه لهم، وبلغ خبر موته الملك أبا كاليجار، فكاتب القوّاد والأجناد ورغّبهم في المال، وبكثرته وتعجيله، فمالوا إليه، وعدلوا عن الملك العزيز، وأرسل الأموال،

وفرقّها على الجند وأولادهم ببغداد، وأرسل إلى الخليفة عشرة آلاف دينار، ومعها هدايا كثيرة، فخطب له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، ولقّبه الخليفة محيى الدين، وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه؛ ليلا مخافة الأتراك، فلما وصل إلى النعمانيه لقيه دبيس بن مزيد، ودخل إلى بغداد في شهر رمضان، ومعه وزيره ذو السعادتين أبو الفرج بن محمد بن جعفر بن محمد بن فسابخس «1» وزينت بغداد لقدومه، وخلع على أصحاب الجيوش، وهم البساسيرى والنشاودى «2» والهمام أبو البقاء، وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير، فشغب بعضهم، وقتلوا واحدا من ولاة العرض بمرأى من الملك أبى كاليجار، واستمر ملكه إلى سنة أربعين وأربعمائة فتوفى بمدينة [خناب] «3» من كرمان، فى رابع جمادى الأولى منها، وقد عزم على المسير إلى كرمان، وكان عمره أربعين سنة وشهورا، ومدة ملكه، منذ ملك فارس بعد وفاة أبيه، أربعا وعشرين سنة وسبعة أشهر، بما في ذلك من مدة الحرب بينه وبين عمه أبى الفوارس، ومنذ ملك العراق بعد عمه جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيّفا وعشرين يوما، ولما توفى نهب الأتراك الذين بالعسكر الخزائن والسلاح والدوابّ، وانتقل ولده أبو منصور فلا ستون إلى مخيّم الوزير أبى منصور، وأراد الأتراك نهبها، فمنعهم الديلم،

ذكر ملك الملك الرحيم أبى نصر

وعاد العسكر إلى شيراز، فملكها الأمير أبو منصور، وكان رحمه الله منصفا للتجار في معاملاتهم، يربحون عليه الأرباح الكثيرة، مع بخله العظيم، وخلف بقلعة اصطخر تسعة وعشرين ألف بدرة ورقا، وأربعمائة بدرة عينا، سوى الجواهر والثياب. أولاده: الملك الرحيم أبو نصر أبو منصور فلا ستون. أبو طالب كامروا- أبو المظفر بهرام- أبو على «1» كيخسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر. وزيره: العادل أبو منصور بهرام. ذكر ملك الملك الرحيم أبى نصر هو أبو نصر خسرو فيروز بن أبى كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة فناخسروا بن بهاء الدولة أبى نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة ابن ركن الدولة، وهو آخر ملوك الدولة البويهية، وعليه انقرضت دولتهم، وكان ملكه ببغداد بعد وفاة أبيه كاليجار، وذلك أنه لما ورد الخبر بوفاته إلى بغداد، وبها ولده أبو نصر هذا أحضر الجند واستحلفهم، وراسل الخليفة القائم بأمر الله، فى الخطبة لنفسه وتلقيبه بالملك الرحيم، تردّدت الرسائل في ذلك إلى أن أجابه الخليفة إلى الخطبة، ولم يجبه إلى اللّقب، وقال: لا يجوز أن يلقّب أحد بأخص صفات الله عز وجل، واستقر ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو على كيخسرو واستولى أبو منصور على شيراز، فسير

جامع أخبار ملوك بنى بويه عدة من ملك منهم ستة عشر ملكا

إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعيد في عسكر، فملكوا شيراز، وقبضوا على أبى منصور ووالدته، وذلك في شوال سنة أربعين وأربعمائة، وخطب للملك الرّحيم بشيراز، ثم خالفه أهلها بعد ذلك، وصاروا مع أخيه أبى منصور، وكان بينهم حروب ووقائع يطول شرحها، ولم يزل الملك الرحيم في الملك إلى أن قطعت خطبته، عند وصول السّلطان طغرلبك السّلجقى إلى بغداد، فخطب له بها بعد الخليفة، ثم بعده للملك الرحيم، بشفاعة الخليفه إلى السلطان طغرلبك- ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم «1» ، وقطعت خطبته، لخمس بقين من شوال، وقيل في سلخ شهر رمضان سنة سبع وأربعين، وسيره السلطان إلى الرىّ، واعتقله في قلعتها، فمات في سنة خمسين وأربعمائة وانقطعت الدولة البويهية من بغداد بزوال ملكه. وكان ملكه سبع سنين وشهورا، وبلغ من العمر أربعا وعشرين سنة وشهورا. وزراؤه: الوزير أبو السعادات، وأبو الفرج بن فسانجس، وابنه الوزير أبو الغنائم، والوزير أبو الحسن على بن عبد الرحيم. جامع أخبار ملوك بنى بويه عدة من ملك منهم ستة عشر ملكا وهم عماد الدولة أبو الحسن على بن بويه. ركن الدولة أبو على الحسن معز الدولة أبو الحسن أحمد عز الدولة بختيار بن معز الدولة. عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو شاهنشاه. وفيه يقول المتنى: أبو شجاع بفارس عضد الدولة ... فناخسرو شاهنشاه.

مؤيّد الدولة أبو منصور بويه ركن الدولة. فخر الدولة وفلك الأمة أبو الحسن على بن ركن الدولة مجد الدولة، وكنف الأمة أبو طالب رستم بن فخر الدولة، وهؤلاء الثلاثة لم يملكوا العراق- صمصام الدولة أبو كاليجار المرزبان بن عضد الدولة- شرف الدولة أبو الفوارس شيرذيل «1» بن عضد الدولة بهاء الدولة وضياء الدولة أبو نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة [سلطان الدولة أبو شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة] «2» مشرف الدولة بن بهاء الدولة- جلال الدولة أبو طاهر فيروز خسرو بن بهاء الدولة- الملك شاهنشاه أبو كاليجار «3» المرزبان بن سلطان الدولة. الملك الرحيم أبو نصر، وملك منهم أيضا شمس الدولة أبو طاهر بن فخر الدولة، ملك همذان ثم استولى على الجبل، وأبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان. ومدة ملكهم منذ استولى عماد الدولة على أصفهان لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وإلى أن انقطعت خطبة الملك الرحيم لخمس بقين من شوال سنة سبع وأربعين وأربعمائة، مائة سنة وخمس وعشرون سنة «4» وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما. ومنذ ملك معزّ الدولة بغداد، ولقبه الخليفة المستكفى بالله العباسى، ولقب إخوته بالألقاب التى ذكرناها، ونقش أسماءهم على السكّة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة

ذكر أخبار الدولة السلجقية وابتداء أمر ملوكها وكيف تنفلت بهم الحال، إلى أن استولوا على البلاد، وما حازوه من الأقاليم والممالك، وغير ذلك من أخبارهم

أربع وثلاثين وثلاثمائة وإلى هذا التاريخ، مائة سنة وثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان لهم في غالب الأوقات من الأقاليم: سجستان، وطبرستان، وجرجان، دعوة وخطابة، وسكة، وكرمان، والرى، وأصفهان، وهمذان، وبلاد فارس، وخوزستان، والعراق، والموصل، وديار بكر، وما يليها، وجميع عمان، وانقرضت دولتهم كأن لم تكن، فسبحان الدائم الذى لا يزول ملكه، ولا يفنى دوامه، سبحانه وتعالى. وحيث ذكرنا الدولة البويهية، وأخبار ملوكها. فلنذكر أخبار الدولة السلجقية. ذكر أخبار الدولة السلجقية وابتداء أمر «1» ملوكها وكيف تنفلت بهم الحال، الى أن استولوا على البلاد، وما حازوه من الأقاليم والممالك، وغير ذلك من أخبارهم كان ابتداء ظهور «2» هذه الدولة في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وملوكها هم الذين ينسب إليهم القبة والطير. يقال: إنهم اتخذوا ذلك تبركا بالطائر الذى يقال إنه إذا وقع ظله على أحد من البشر سعد سعادة عظيمة، وقيل: إن ظله وقع على أبيهم سلجق، فكان من أمره ما نذكره، وقد اختلف في انتسابهم إلى أى قبيلة، فمن الناس من ذهب إلى أنهم من التركمان، ومنهم من يقول إنهم من الترك، وفي أخبارهم

وأول من نبغ من ملوك هذه الدولة طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجق بن يقاق

ما يدل على أنهم من الأتراك. وأول من نبغ من ملوك هذه الدولة [طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجق بن يقاق] وعلا قدره، وطار اسمه، واستولى على البلاد، وقاتل الملوك، وحاز الممالك ونعت بالسلطنة: طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجق بن يقاق. وطغرلبك: بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وضم الراء، وسكون اللام، وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف. ولنبدأ بذكر آبائه، وابتداء أمرهم على سبيل التلخيص والاختصار، لتكون أخبارهم سياقة، يتلو بعضها بعضا. فأما يقاق «1» ، وقيل فيه دقاق، ومعنى يقاق: الفوس الجديدة، فكان رجلا تركيا شهما، صاحب رأى وتدبير، وهو أول من دخل في دين الإسلام، وكان مقدم طائفته من الأتراك، ومرجعهم إليه، لا يخالون له قولا، وكان ملك الترك في زمانه «2» بيغوا يتدبر برأيه، ويقتدى بمشورته، ويستصحبه في حروبه، فيقال: إن بيغو جمع عساكره، وأرادوا المسير إلى بلاد الإسلام، فنهاه يقاق عن ذلك، وطال الخطاب بينهما، فأغلظ له ملك الأتراك في الكلام، فلطمه يقاق فشجّ رأسه فثاربه خدم بيغو، وأرادوا قتله، فمانع عن نفسه، واجتمع من أصحابه من مانع عنه، ثم صلح الأمر بينهما، فكان يقاق عند بيغو إلى أن مات. وخلف ولده سلجق.

ذكر أخبار سلجق بن يقاق

ذكر أخبار سلجق بن يقاق «وسلجق» بتفخيم الجيم؛ لتكون بين السين والجيم، ورأيت جماعة من المؤرخين أثبتوا في اسمه واوا، فقالوا: «سلجوق» . قال ابن الأثير: وإثبات الواو في اسمه غلط، والصواب سلجق. قال: ولما توفى والده يقاق، ظهر على سلجق مخايل النجابة، وأمارات التقدم، فقرّبه ملك الترك، وفوّض إليه تدبير العساكر، ولقّبه سباشى «1» ، ومعناه: [قائد] «2» الجيش، فكانت امرأة الملك تحذّره منه، وتخوّفه عاقبة أمره، لما رأت من انقياد أصحابه إليه، وطاعة الناس له، وأغرته بقتله، فبلغ سلجق الخبر، فسار بجماعتة ومن يطيعه، والتحق بملك الخانية: شهاب الدولة هارون بن [إيلك خان] «3» ، ملك ما وراء النهر، فأمدّه شهاب الدولة بجيش كثيف، ليغزو بلاد كفار الترك، فاستشهد في بعض حروب الكفار، وقيل: بل توفى بجند ودفن بها، قال ابن الأثير في تاريخه الكامل: إنه لما فارق بيغو أقام بنواحى جند، وأدام غزو كفار الترك، وكان ملك الترك يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار، فطرد سلجق عمّاله عنها، ثم استنجد به بعض ملوك السامانية على هارون بن [إيلك خان] الخان؛ لأنه كان

قد استولى على بعض بلاده، فأرسل إليه سلجق ابنه أرسلان، فى جمع من أصحابه، فقوى بهم السامانى على هارون، واستعاد ما كان أخذه من بلاده، وعاد أرسلان إلى أبيه. قال: ولما توفّى سلجق كان له من العمر مائة وسبع سنين، وخلف من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى، فغزا ميكائيل بعض بلاد كفار الترك، وباشر القتال بنفسه، فاستشهد في سبيل الله، وقيل بل مات في حبس السلطان محمود بن سبكتكين؛ لأنه طلبه أن يكون فى جملة أصحابه، فامتنع من ذلك، فقبض عليه، واعتقله، فمات فى اعتقاله، والله تعالى أعلم. وخلف ميكائيل من الأولاد طغرلبك محمد، وجغرى بك داوود، وبيغو، فأطاعهم عشائرهم، وانقادوا لأمرهم، فنزلوا بالقرب من بخارى، على عشرين فرسخا منها، فخافهم أميرها، فأساء جوارهم، وقصد الإيقاع بهم، فانتموا إلى بغراخان ملك تركستان، واجتمعوا به، وأقاموا عنده، واستقرّ الأمر بين طغرلبك وأخيه جغرى بك داوود، أنهما لا يجتمعان عند بغراخان، وإنما يحضر أحدهما، ويقيم الآخر في أهله؛ خوفا منه أن يقبض عليهما معا، فاجتهد بغراخان في اجتماعهما، فلم يتهيأ له، فقبض على طغرلبك، فسار داود في عشائره ومن معه، وقصد بغراخان وقاتله وهزمه، وخلّص أخاه وانصرفوا إلى «جند» ، وهى بقرب بخارى. وأما أرسلان بن سلجق أخو ميكائيل فإن إيلك خان لما ملك مملكة السامانية، بما وراء النهر، ومنها بخارى، أعظم محلّ أرسلان، وكان

على تكين في جيش أرسلان خان أخو إيلك خان، فهرب ولحق ببخارى، واستولى عليها، واتفق مع أرسلان بن سلجق، وقوى أمرهما، فقصدهما «1» إيلك خان أخو أرسلان خان، وقاتلهما، فهزماه، وبقيا ببخارى، وكان على تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين، فيما يجاوره من البلاد، ويقطع الطريق على رسله إلى ملوك الترك، فلما عبر محمود نهر جيحون هرب على تكين من بخارى، ودخل أرسلان بن سلجق وجماعته إلى المفازة «2» ، فكاتبه محمود واستماله ورغّبه، فأتاه، فقبض عليه لوقته، وسجنه ونهب خركاهاته، واستشار فيما يفعل بقومه وعشيرته، فأشار أرسلان الجاذب «3» بقطع أباهيمهم حتى لا يرموا النشاب، أو يغرقوا في نهر جيحون، فقال له: ما أنت إلا قاسى القلب، ثم أمر بهم، فعبروا نهر جيحون، وفرقهم في نواحى خراسان، ووضع عليهم الحرج، فجار العمال عليهم، وامتدت الأيدى إلى أموالهم وأولادهم، فانفصل منهم ألفا رجل، وساروا إلى كرمان، ومنها إلى أصفهان، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن «4» كاكويه حرب، فساروا من أصفهان إلى أذربيجان. هؤلاء جماعه أرسلان، وأما أولاد أخوته «5» : فإن تكين صاحب

بخارى أعمل الحيلة في الظفر بهم؛ فراسل يوسف بن موسى بن سلجق وهو ابن عم طغرلبك، واستماله، وطلب منه الحضور عنده، فأتاه، ففوّض إليه على تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته، وأقطعه إقطاعا كبيرا، ولقبه بالأمير اينانج بيغو «1» وقصد بذلك أن يعينه على أولاد عمه وأن يأخذ بعضهم ببعض، فعلم يوسف مراده، فلم يطعه في ذلك، فلما رأى أن مكيدته لم تؤثّر، ولا يبلغ بها غرضا، أمر بقتله، فقتله ألب قرا، أحد أمراء على تكين، فعظم ذلك على طغرلبك، وداوود وعشائره، فلبسوا ثياب الحداد، وجمعا من الأتراك ما قدرا على جمعه؛ لطلب ثأر ابن عمّهم، وجمع على تكين جيوشه، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم عسكر على تكين. «2» ، وذلك في سنة عشرين وأربعمائة، ثم قصدا ألب قرا قاتل يوسف بن عمّهما، فقتلاه في سنة إحدى وعشرين، وأوقعا بطائفة من عسكر على تكين، فقتلا منهم نحو ألف رجل، فجمع على تكين عساكره، ومن حمل السلاح من أصحابه، وتبعهم خلق كثير من أهل البلاد، وقصدوا السلجقية من كل جانب، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة، وسبوا كثيرا من نسائهم، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان، فلما عبروا جيحون، كتب إليهم خوارزم شاه هارون بن التونتاش «3» ، يستدعيهم إليه؛ ليكونوا يدا واحدة، فساروا إليه، واجتمعوا بظاهر خوارزم، فى سنة ست وعشرين وأربعمائة، واطمأنوا

ذكر ما اتفق بين طغرلبك وداود وبين السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين

إليه فغدر بهم، وأكثر فيهم القتل والنهب، فساروا إلى مفاذة نسا، «1» وقصدوا مرو في هذه السنة، وذراريهم «2» ، ونساؤهم في الأسر. ذكر ما اتفق بين طغرلبك وداود وبين السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين قال: ولما اتفق لهم مع خوارزم شاه هارون ما ذكرناه، راسلوا الملك مسعود- وهو بطبرستان- يطلبون منه الأمان، وأن يكونوا في خدمته، ويدفعوا الطائفة التى تفسد في بلاده، ويكونوا من أعظم أعوانه، فقبض على الرسل، وجهز عسكرا جرارا مع حاجبه بكتغدى، وغيره من الأمراء، فالتقوا عند نسا في شعبان سنة ست وعشرين وأربعمائة، فانهزم السلجقية، وغنم العسكر المسعودى أموالهم وأثقالهم، فجرى بين العسكر منازعة على الغنائم أدت إلى القتال بينهم، فقال داود لأصحابه: إن العسكر الآن قد اطمأن، واستقر والرأى أن نقصدهم، لعلنا نبلغ منهم غرضا، فعاد ووافق وصولهم إليهم، وهم فيما وقع بينهم من الاختلاف، وقتال بعضهم بعضا، فأوقعوا لهم، وقتلوا منهم، وأسروا، فاستردّوا ما أخذوه، وعاد المنهزمون من المعسكر المسعودى إلى نيسابور، فندم مسعود على ردّه السلجقية، عند بذلهم الطاعة، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت في قلوب عساكره، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم، فقال طغرلبك لإمام

صلواته: أكتب إليه: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... - إلى- قَدِيرٌ» «1» ، ولا تزد على ذلك، ففعل، فلما ورد الجواب على مسعود، كتب إليهم يعدهم المواعيد الجميلة وسيّر إليهم الخلع، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط، وهى مدينة على نهر جيحون، وأقطع دهشان لداود، ونسا لطغرلبك، وفراوه «2» لبيغو، ولقب كلّ واحد منهم «3» بالدّهقان، فاستخفّوا بالرسول والخلع، ثم قالوا له: لو علمنا أن السلطان يبقى علينا إذا قدر لأطعناه، وكلنا نعلم أنه متى قدر علينا أهلكنا، فنحن لا نطيعه، ثم أرسلوا إليه يخادعونه بإظهار الطاعة له، وسألوه إطلاق عمهم أرسلان بن سلجق، فأجابهم إلى ذلك، وأحضره عنده ببلخ، وأفرج عنه وأمره بمراسلة بنى أخيه يأمرهم بالكفّ عن الشر، والدخول في الطاعة، ففعل أرسلان، وأرسل إليهم مع الرسول أشفا، فلما جاء الرسول إليهم، وأدى الرسالة، وسلّم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا، وعادوا إلى ما كانوا عليه من الشر، فأعاد الملك مسعود عمهم أرسلان إلى الحبس، وسار إلى غزنة وقصد السلجقية بلخ، ونيسابور، وطوس، وجوزجان، وأقام داود بمدينة مرو، وانهزمت العساكر المسعودية من السلجقية مرة بعد أخرى، واستولى الرعب عليهم، هذا والملك مسعود يغزو الهند، والكتب تصل إليه بأخبار السلجقية وهو لا يجيب عنها، ولا يلوى على ما فيها لاشتغاله بما هو أهم عنده من ذلك، وهو غزو الهند، وفتح قلاعهم، على ما قدمناه في أخبار الدولة الغزنويه.

ذكر ابتداء الدولة السلجوقية واقامة الخطبة لطغرلبك وداود

ذكر ابتداء الدولة السلجوقية واقامة الخطبة لطغرلبك وداود كان سبب ذلك أن وزراء السلطان مسعود، وأهل دولته، لما كرروا عليه القول وواصلوا «1» الرسل إليه، يعرفونه ما آل إليه أمر السلجقية، ويحذرونه عاقبة توانيه فيهم، جهز جيشا كثيفا مع حاجبه سباشى، ومرداويج بن بسو «2» ، فأقام سباشى بهراه ونيسابور، ثم أغار على مرو وبها داود، فانهزم داود بين يديه، وتبعه العسكر المسعودى، فعطف داود عليه، وحمل على صاحب جوزجان «3» ، فقتله، فانهزم عسكر مسعود، وعاد دواد إلى مرو، فأحسن إلى أهلها، وخطب لنفسه فيها في أول جمعة من شهر رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وهى أول خطبة أقيمت لهم، ولقب في الخطبة بملك الملوك، وقويت نفوس السلجقية وزاد طمعهم في البلاد، ثم التقى العسكر المسعودى بعد ذلك، والسلجقية، وباشر سباشى الحرب بنفسه، واقتتلوا على باب سرخس. فى شعبان سنة ثمان وعشرين، فانهزم سباشى أقبح هزيمة، وتبعه داود إلى طوس يأخذ أصحاب سباشى باليد، وكفوا عن القتل، وغنموا أموالهم، فكانت هذه الواقعة هى التى أوجبت ملك السلجقية خراسان، ودخلوا قصبات البلاد، فدخل طغرلبك نيسابور، وسكن الشادياخ «4» ، وخطب له فيها في شعبان، ولقّب بالسلطان المظفر وبثوا النواب في النواحى،

وسار داود إلى هراة، وتوجه سباشى إلى غزنة، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان، وجمع من العساكر ما يضيق بها الفضا، وفرق فيهم الأموال، وسار من غزنة، ومعه من الفيلة عدد كثير، فوصل إلى بلخ، فقصده داود، ونزل قريبا منها، ودخلها يوما جريدة، على حين غفلة من العسكر، فأخذ الفيل الكبير الذى على باب الملك «1» مسعود، وعدة جنائب، فعظم قدره في نفوس الناس وازدادت، هيبته في قلوب العسكر، ثم سار مسعود من بلخ في مستهل شهر رمضان سنة تسع وعشرين، ومعه ألف فارس سوى الأتباع، وسار إلى جوزجان، فأخذ واليها الذى كان للسلجقية، فصلبه، وسار منها، فوصل إلى مرو الشاهجان، وسار داود إلى سرخس، واجتمع بأخويه طغرلبك وبيغو، فراسلهم مسعود في الصلح، فتوجه إليه بيغو بالجواب، فأكرمه مسعود وخلع عليه، وكان مضمون رسالته: «إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلناه من هذه الأفعال، التى كل فعل منها موبق مهلك» ، وآيسوه من الصلح، فسار مسعود من مرو إلى هراة، وقصد داود مرو، فامتنع أهلها من تسليمها. فحاصرهم سبعة أشهر، وملكها، فسقط في يد مسعود، وسار من هراة إلى نيسابور ثم إلى سرخس، وكلما اتبع السلجقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره، ولم يزل كذلك حتى أدركه الشتاء، فأقام بنيسابور ينتظر الربيع، فلما جاء الربيع اشتغل مسعود بلهوه وشربه، حتى انقضى فصل الربيع، فلما جاء الصيف عاتبه أصحابه على إهماله أمر السلجقية، وعدم مناجزتهم الحرب، فسار من نيسابور في طلبهم، فدخلت السلجقيه البرية،

ذكر ملك داود وطغرلبك وبيغو نيسابور وبلخ وهراة

وتبعهم مرحلتين، وقد ضجر عسكره من التعب والكلال، فنزل الملك مسعود منزلا قليل الماء، فاقتتل عسكره على الماء، ونهب بعضهم بعضا، فعلم داود بماهم فيه، فرجع عليهم، فولّوا منهزمين لا يرجع بعضهم على بعض، وثبت مسعود، ثم انهزم في نحو مائة فارس، حتى أتى غرشستان «1» وغنم السلجقية من المعسكر المسعودى ما لا يدخل تحت الإحصاء، فقسم داود ذلك على أصحابه، وآثرهم على نفسه، ونزل في سرادق مسعود، وجلس على كرسيه، ثم أطلق الأسرى، ووضع خراج سنة كاملة. ذكر ملك داود وطغرلبك وبيغو نيسابور وبلخ وهراة قال: وسار طغرلبك إلى نيسابور، فملكها في أواخر سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، فقيل إنه أكل لوزينجا، فقال: هذا ططماج «2» طيب، إلا أنه لا ثوم فيه، ورأى أصحابه الكافور، فأكلوا منه، وقالوا: هذا ملح مرّ، واستولى السلجقية حينئذ على جميع البلاد، فسار بيغو إلى هراة، فدخلها، وسار داود إلى بلخ، وبها [ألتونتاش] «3» الحاجب واليا عليها لمسعود، فراسله داود في تسليم البلد إليه، وعرفه عجز صاحبه عن نصرته، فحبس ألتونتاش رسله، فنازله داود، وحصر المدينة، فأرسل ألتونتاش إلى مسعود وهو بغزنه يعرفه الحال،

ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان

وما هو فيه من ضيق الحصار، فجهز مسعود العساكر الكثيرة، فجاءت طائفة منهم إلى الرّخّج، وبها جمع من السلجقية، فقاتلوهم، فانهزمت السلجقية، وقتل منهم ثمانمائة رجل وأسر كثير، وخلا ذلك الصقع منهم، وسارت طائفة إلى هراة وبها بيغو، فقاتلوه، ودفعوا عنها، ثم جهز مسعود ولده مودودا وسيّره في عسكر كبير مددا لهذا العسكر، فسار عن غزنه في سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فلما قاربوا بلخ سيّر داود طائفة من عسكره، فأوقعوا بطلائع مودود، فانهزمت الطلائع، وتبعهم عسكر داود، فلما أحس بهم عسكر مودود رجعوا إلى ورائهم، فلما اتصل هذا الخبر بألتونتاش صاحب بلخ أطاع داود وسلم إليه البلد، ووطىء بساطه، ثم اتفق قتل السلطان مسعود في سنة اثنتين وثلاثين، وملك بعده أخوه محمد، ثم قتل مودود بن مسعود، فتمكن السلجقية. ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، وسبب ذلك أن أنوشروان بن «1» منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبى كاليجار بن ويهان القوهى صاحب جيشه، وزوج أمه، فعلم طغرلبك عند ذلك أنه لا مانع له، ولا دافع من البلاد، فسار إليها، وقصد جرجان، ومعه مرداويج بن بسّو، فلما نازلها فتح له مستحفظها أبوابها، فدخلها، وقرر على أصحابها مائة ألف دينار

ذكر مسير ابراهيم ينال إلى الرى وهمذان

صلحا، وسلم البلد لمرداويج، وقرر عليه في كل سنة خمسين ألف دينار، عن جميع الأعمال، وعاد إلى نيسابور، وقصد مرداويج بن بسو أنو شروان «بسارية» ، فاصطلحا على أن ضمن له أنو شروان ثلاثين ألف دينار، وأقيمت الخطبة لطغرلبك في سائر البلاد، وتزوج مرداويج بوالدة أنو شران، وتمكن، وبقى أنو شروان يتصرف بأمر مرداويج، لا يخالفه في شىء ألبته، وملك خوارزم في سنة أربع وثلاثين من شاه ملك ابن على، وكان في طاعة مودود صاحب غزنة. ذكر مسير ابراهيم ينال «1» الى الرى وهمذان وإبراهيم ينال هو أخو طغرلبك لأمه. قال: ولما ملك إخوته خراسان سار هو إلى الرى، فملكها في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ثم سار عنها إلى البلاد المجاورة لها، ثم انتقل [بروجرد] ، «2» فملكها، ثم قصد همذان، وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها إلى سابور خواست، ونزل إبراهيم عليها، وأراد دخولها، فقال له أهلها: إن كنت تريد منا الطاعة، وما يطلبه السلطان من الرعية، فنحن باذلوه، وداخلون تحته، فاطلب أولا هذا المخالف عليك الذى كان عندنا، يعنون كرشاسف، فإنا لا نأمن عوده إلينا؛ فإذا ظفرت به كنّالك، فكف عنهم، وسار إلى كرشاسف بعد أن أخذ من أهل البلد مالا، فلما قارب «3» سابور، خواست

ذكر خروج طغرلبك إلى الرى وملكه بلد الجبل

تحصّن منه كرشاسف بالقلعة، وملك إبراهيم البلد قهرا ونهبه، ثم عاد إلى الرى، وذلك في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ذكر خروج طغرلبك الى الرى وملكه بلد الجبل قال: ولما فرغ طغرلبك من خوارزم، وجرجان، وطبرستان خرج من خراسان إلى الرى، وغيرهما من بلاد الجبل، وسار أخوه إبراهيم ينال إلى سجستان، وأخذ طغرلبك قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرّما، وأمر طغرلبك بعمارة الرىّ، وكانت قد خربت، فوجد في دار الإمارة مراكب ذهب مجوهرة، وبرنيتين من الصينى [مملوءتين] «1» ، وأمولا كثيرة، وسار إلى قزوين، وحصرها، فوقع الصلح على ثمانين ألف دينار، ودخل صاحبها في طاعته، وأطاعه ملك الديلم، وحمل إليه مالا وعروضا، وأطاعه غيره من الملوك، وأرسل سرية إلى أصفهان، وبها أبو منصور [فرامرز «2» ] الدولة، فأغارت وعادت سالمة، وخرج طغرلبك من الرى، وقصد أصفهان، فصالحه صاحبها، وصانعه بمال، وسار إلى همذان، فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، وسار معه إلى أبهر وزنجان، وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور، فأرسل إلى من بها ليسلموها، فامتنعوا، فقال له طغرلبك: ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك، فاصعد إليهم، وأقم

ذكر ملك ينال قلعة كنكور وغيرها

معهم، ولا تفارق موضعك حتى آذن لك» ، واستناب بهمذان ناصر العلوى. وفي سنة خمس وثلاثين وصل إلى طغرلبك رسول الخليفة القائم بأمر الله، وهو أقضى القضاه أبو الحسن على الماوردى، فتلقاه طغرلبك على أربعة فراسخ، إجلالا لرسالة الخليفة، وذكر طاعته للخليفة، ووقوفه عند أوامره. وفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة استوزر السلطان طغرلبك أبا القاسم على بن عبد الله الجوينى، وهو أول وزير وزر له. وفي سنة سبع وثلاثين أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلاد الجبل، فسار من همذان، «1» وقصد كرمان، وبها كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها خوفا، ودخلها إبراهيم، وملكها، وسار إلى الدينور، فملكها، وملك [قرميسين] «2» فى شهر رجب بعد حصار وقتال، وملك الصيمرة في شهر شعبان ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لهما، ثم سار إلى حلوان، فنهبها، وأحرقها. ذكر ملك ينال قلعة كنكور وغيرها وفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة سار إبراهيم إلى قلعة كنكور، وبها عكبر بن فارس، صاحب كرشاسف، فامتنع عكبربها إلى أن فقدت ذخائره وفنيت الأقوات، فعند ذلك أعمل الحيلة، وعمد

إلى بيوت الطعام التى بالقلعة فملأها ترابا وحجارة، وسدّ أبوابها، ونشر من داخل الأبواب شيئا من الطعام، وعلى رأس التراب والحجارة مثل ذلك، وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه، على أن يؤمنه على من بها من الرجال، وما بها من الأموال، فامتنع إبراهيم من ترك المال، فأخذ عكبر رسول إبراهيم، وطوّفه على بيوت الطعام، فرآها مملوءة وظنها «1» طعاما، وقال له: قل لصاحبك إننى لم أرسل إليه خوفا من المطاولة، ولا إشفاقا من نفاد الميرة، ولكنى أحببت الدخول في طاعته، فإن بذل لى الأمان على ما طلبته لى، وللأمير كرشاسف وأمواله، ولمن بالقلعة، سلمتها إليه، وكفيته مؤنة المقام، فلما عاد الرسول إلى إبراهيم، وأخبره بما رأى وسمع، أجابه إلى ما طلب، ونزل عكبر، فلما تسلّم إبراهيم القلعة تبينت له مكيدته، وعاد إلى همذان، وسيّر جيشا عليهم [نسيب] «2» له اسمه أحمد، وسلم إليه سرجاب «3» ابن أبى السؤل؛ ليفتح به قلاعه، وكان الأكراد الملاذية قد قبضوا عليه، وسلّموه لإبراهيم ينال، قبل ذلك، فسار به أحمد إلى قلعة كلكان، فامتنعت عليه، فسار إلى قلعة «4» دردبلوه، فحصرها، وامتدت طائفة ممن معه إلى تلك الأعمال، فنهبوها، ووصلوا إلى الدسكرة «5» ، وباجسرى، والهارونية، وقصر سابور، وجميع

ذكر غزو ابراهيم ينال الروم

تلك الأعمال، ونهبوها، فوصل الخبر إلى بغداد، فارتاع أهلها، ثم سار إبراهيم ينال إلى السيروان، فحصر القلعة، وضيّق على من بها، وأرسل سرّية نهبت البلاد، وانتهت إلى عشرة فراسخ من تكريت، ثم تسلم السيروان من مستحفظها بعد أن أمنه، واستخلف عليها رجلا من أصحابه، وانصرف إلى حلوان، وعاد إلى همذان. ذكر غزو ابراهيم ينال الروم وفي سنة أربعين وأربعمائة غزا إبراهيم الروم، فظفر وغنم وأسر وسبى، وكان سبب: ذلك أن خلقا كثيرا من الغز مما وراء النهر، قدموا عليه، فقال لهم: إن بلادى تضيق عن مقامكم، والقيام بما تحتاجون إليه، والرأى أن تمضوا إلى غزو الروم، وتجاهدوا فى سبيل الله تعالى، وتغنموا وأنا سائر في أثركم، فساروا بين يديه وتبعهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون «1» ، وتلك النواحى كلها، ولقيهم عسكر عظيم

ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه ابراهيم ينال والاتفاق بينهما

للروم [والأنجاز] «1» ، يبلغون خمسين ألفا، فاقتتلوا وكانت بينهم عدة وقائع، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، ثم كان الظفر للمسلمين. فأكثروا القتل في الروم، وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم. وممن أسر قاريط «2» ملك الأنجاز، فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار، وهدايا بمائة ألف دينار، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يزل يجوس خلال تلك الديار وينهبها، إلى أن بقى بينه وبين القسطنطنية خمسة عشر يوما، واستولى المسلمون على تلك النواحى، وغنموا ما فيها، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وأخذوا من الدواب، والبغال، «3» والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء، قيل: إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة، وإنه كان في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع. والله أعلم. ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه ابراهيم ينال والاتفاق بينهما وفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة استوحش إبراهيم من أخيه السلطان طغرلبك؛ وكان سبب ذلك أن: طغرلبك طلب من أخيه إبراهيم أن يسلم إليه مدينة همدان، والقلاع التى بيده في بلد الجبل، فامتنع من ذلك، واتهم وزيره أبا يعلى «4» فى السعى بينهما،

فقبض عليه وضربه، وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، وجمع جمعا، والتقى مع السلطان طغرلبك، وكان بينهما قتال، فانهزم إبراهيم، وسار طغرلبك في أثره، وملك جميع قلاعه وبلاده، وتحصّن إبراهيم بقلعة [سرماج] «1» ، فحصره طغرلبك بها، فملكها في أربعة أيام، وكانت من أحصن القلاع، واستذل ينال منها، وأرسل إلى [نصر] «2» الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده، فأطاعه، وخطب له في سائر ديار بكر، وراسل ملك الروم السلطان طغرلبك، وأرسل إليه هديّة عظيمة، وطلب منه المعاهدة، فأجابه إلى ذلك، وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسعى في فداء ملك الأنجار، فأرسل نصر الدولة إلى السلطان شيخ الإسلام أبا عبد الله ابن بهران «3» فى معناه، فأطلعه بغير فداء، فعظم ذلك عنده، وعند ملك الروم، وأرسل إليه هدايا عظيمة، فقيل: إنه أرسل إليه ألف ثوب من الديباج، وخمسمائة ثوب من أصناف الحرير، وخمسمائة رأس من الكراع، إلى غير ذلك، وأنفذ إليه مائتى ألف دينار، ومائة لبنة من الفضة، وثلاثمائة مهرى، وثلاثمائة حمار مصرية، وألف عنز بيض الشعور، سود العيون والقرون، وأنفذ إلى البزمرون عشرة أمناء

ذكر ملك طغرلبك أصفهان

مسكا، وعمر مسجد القسطنطينية، الذي بناه مسلمة بن عبد الملك، وعمر منارته، وجعل فيها القناديل، وعلّق في محرابه «1» قوسا، ونشابه، وأقيمت فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، فدان له الناس حينئذ، وعظم شأنه، وتمكن ملكه، فكانت الدولة السّلجقية في زيادة، والبويهية في نقص، قال: وأما إبراهيم ينال فإنه لما نزل إلى أخيه طغرلبك أكرمه، وأحسن إليه، ورد عليه كثيرا مما أخذ منه، وخيره بين أن يقطعه بلادا يسير إليها، وبين أن يقيم معه، فاختار الإقامة معه. ذكر ملك طغرلبك أصفهان كان قد حاصرها في سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فلم يظفر منها بطائل، ثم اصطلح هو وصاحبها أبو منصور فرامرز «2» بن علاء الدولة، على مال يحمله إلى السلطان طغرلبك، ويخطب له بأصفهان، وأعمالها، ثم حصل بعد ذلك من صاحبها تلون، فكان يطيعه تارة ويعصيه تارة، ويطيع الملك الرحيم بن بويه، فجاء «3» السلطان إليها في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وحاصرها سنة، وتسلمها في سنة ثلاث وأربعين، واستطابها، وجعلها دار مقامه، ونقل ما كان له بالرى من الذخائر والأموال والسلاح إليها، وخرب

ذكر استيلاء ألب أرسلان على مدينة فسا

قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قدرته، وأما من حصنه عساكره وسيفه، فلا حاجة به إليها. ذكر استيلاء ألب أرسلان على مدينة فسا وفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة سار ألب أرسلان بن داود جغرى بك من مدينة مرو بخراسان إلى بلاد فارس، وأخذ «1» فى مسيره على المفازة من غير علم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا، فانصرف النائب بها من بين يديه، ودخلها ألب أرسلان، وقتل من الديلم نحو ألف رجل، وعددا كثيرا من العامة، ونهبوا ما مقداره ألف ألف دينار، وأسر ثلاثة آلاف إنسان، وعاد إلى خراسان، ولم يلبث مع عمه طغرلبك. والله أعلم بالصواب. ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان، وغزو الروم وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة سار السلطان طغرلبك إلى أذربيجان، فقصد تبريز، وصاحبها الأمير أبو منصور وهشوذان ابن محمد الراوى «2» ، فأطاعه، وخطب له، وحمل إليه ما أرضاه، وأعطاه ولده رهينة، وكذلك فعل معه سائر ملوك تلك النواحى، بذلوا له الطاعة والخطبة، وانقاد العساكر إليه، فأبقى بلادهم عليهم، وأخذ رهائنهم، وسار إلى أرمينية، وقصد «ملازكرد» من الروم،

ذكر دخول السلطان طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها، وانقراض الدولة البويهية

فحصرها، ونهب ما جاورها من البلاد، وخرّبها، وأثر في بلاد الروم أثارا عظيمة، ونال منهم من النهب والأسر والقتل شيئا كثيرا، ثم عاد إلى أذربيجان عند دخول الشتاء، وعاد إلى الرى، والله أعلم. ذكر دخول السلطان طغرلبك الى بغداد والخطبة له بها، وانقراض الدولة البويهية كان دخوله إليها يوم الإثنين لخمس بقين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان سبب ذلك أن المظفّر أبا الحارث ألب أرسلان التركى، المعروف بالبساسيرى، عظم أمره بالعراق، وطار اسمه في الآفاق، واستولى على البلاد، وعظمت هيبته في قلوب العباد، وخافه أمراء العرب، وخطب له على منابر العراق، ولم يبق لبنى بويه معه إلا مجرّد الاسم، ووقع بينه وبين الخليفة القائم بأمر الله، من الوحشة ما قدمناه، فى أخبار الدولة العباسية، حتى بلغ الخليفة أنه يريد القبض عليه، فعند ذلك كاتب الخليفة السلطان طغرلبك، وهو بنواحى الرىّ يستنصر به، ويحثه على المسير إلى بغداد، وكان طغرلبك قد عاد إلى الرىّ، بعد عوده من غزو الروم، فرتب أمور الرى، وعاد إلى همذان في المحرّم من السنة، وأظهر أنه يريد الحجّ، وإصلاح طريق مكة، والمسير إلى الشام ومصر، وإزالة ملك المستنصر العبيدى عنها، وسار إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خراسان، فأجفل الناس إلى غربىّ بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهرها، وسمع الملك الرّحيم بقرب

السلطان طغرلبك من بغداد، فأصعد من واسط إليها، وفارقه البساسيرى بمراسلة الخليفة في معناه، كما ذكرناه، ووصل الملك الرحيم إلى بغداد، وأرسل طغرلبك إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، وإلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان، فأنكروا ذلك ونفروا منه، وراسلوا الخليفة، وقالوا: إنا فعلنا بالبساسيرى ما فعلناه، وهو كبيرنا ومقدمنا اتباعا لأمر أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين برد هذا الخصم، ونراه قد قرب منا، ولم يمنع من المجىء، وسألوا التقدم إليه في العود، فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه، ويختار انقراض الدولة البويهية، ثم وصل الملك الرحيم إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يظهر العبودية، وسأل تقرير قاعدته مع طغرلبك، وكذلك سأل من معه من الأمراء، فأجيبوا بأن المصلحة أن تدخل الأجناد خيامهم، من ظاهر بغداد، وينصبوها «1» بالحريم، ويرسلوا رسولا إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابوا إلى ذلك، وراسلوه، فأجابهم إلى ما سألوه، ووعدهم الإحسان إليهم، وتقدم الخليفة إلى الخطباء بجوامع بغداد بالخطبة للسلطان طغرلبك، فخطب له لثمان بقين من شهر رمضان من السنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد، فأذن له، وخرج وزير الخليفة، وروساء بغداد وأعيانها، وأمر الملك الرحيم للقائه، واستحلفه «2» الوزير للخليفة، وللملك الرحيم، ودخل بغداد في يوم الإثنين لخمس بقين من شهر رمضان، ونزل بباب

الشماسية ومعه ثمانية عشر فيلا، ودخل عسكره بغداد للامتياز، وشراء ما يريدونه من أهلها، وأحسنوا معاملتهم، فلما كان الغد، وهو يوم الثلاثاء، جاء بعض العسكر إلى باب الأزج، وأخذوا واحدا من أهله، فطلبوا منه تبنا، وهو لا يفهم عنهم ما يريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامة لهم، ورجموهم، وسمع الناس الصياح، فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك، فارتج البلد من أقطاره وأقبلوا من كل جهة، وقتل من الغز من وجد فى محال بغداد إلا أهل الكرخ، فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز بأذية بل حموهم: وخرج عامّة بغداد، ومعهم جماعة من العسكر، يقصدون العسكر السلطانى، ولم يركب الملك الرحيم، ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخليفة، وأقاموا بها نفيا للتهمة عن أنفسهم، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم، وأما عسكر السلطان طغرلبك، فإنهم لما رأوا فعل العامّة وظهورهم من البلد قاتلوهم، ففل من الفريقين خلق كثير، وانهزمت العامة، ونهب الغز بعض الدروب، ونقل الناس أموالهم إلى باب النوبى، وأرسل طغرلبك من الغز إلى الخليفة يعتب، وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأصحابه، ويقول: «إن حضروا برئت ساحتهم، وإن تأخروا عن الحضور تيقّنت أن الذى جرى كان بوضعهم» ، فتقدم الخليفة إلى الملك الرحيم وأصحابه يقصد السلطان، فركبوا إليه، وأرسل الخليفه معهم رسولا يبرئهم عند السلطان، فلما وصلوا إلى جهة السلطان، أمر بالقبض على الملك الرحيم ومن معه، فقبضوا كلهم في آخر شهر رمضان، وحبسو، ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان، وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر

ما جرى، من قبض الملك الرحيم وأصحابه (ونهب) «1» بغداد، ويقول: «إنهم خرجوا إليك بأمرى، وأمانى، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد» ، فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الملك الرحيم، وأمرهم بالسعى في أرزاق يحصّلونها لأنفسهم، فتوجّه كثير منهم إلى البساسيرى، ولزموه، فكثر جمعه، وكان من أمره ما قدمناه وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين وانتشر الغز في سواد بغداد، فنهبوا من الجانب الغربى من تكريت إلى النيل «2» ، ومن الجانب الشرقى إلى النهروانات «3» ، وأسافل الأعمال، فأسرفوا في النهب حتى بلغ ثمن الثور ببغداد خمسة قراريط. إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخرب السواد، وأجلى أهله عنه، وضمن السلطان طغرلبك البصرة، والأهواز من هزار سب بن [تنكر] «4» بن عياض بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار، وأقطعه أرّجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز، دون الأعمال التى ضمنها، وأقطع الأمير أبا على بن أبى كاليجار الملك قرميسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذّنوا في مساجدهم سحرا للصبح: «الصلاة خير من النوم» ، وأمر بعمارة دار الملك، فعمرت وزيد فيها، وانتقل إليها في شوال.

ذكر مسير السلطان إلى الموصل

ذكر مسير السلطان الى الموصل وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة سار السلطان طغرلبك إلى الموصل؛ وسبب ذلك، أنه لما أقام ببغداد عم الناس ضرر عسكره، وضاقت عليهم أرزاقهم ومنازلهم، فأرسل إليه الخليفة القائم بأمر الله يذكر له ما الناس فيه من الجور والظلم، ويعظه، ويقول: إن أزلت ذلك وإلا فتعين الخليفة على الإنبراح من بغداد، فقال السلطان لوزيره الكندرى «1» : «بكّر إلى الخليفة واعتذر له بكثرة العساكر والعجز عن تمهيدهم، وضبطهم، فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكأنه عند الكعبة وهو يسلم على النبى صلى الله عليه وسلّم، والنبى معرض عنه، وقال: يحكّمك الله في بلاده وعباده، فلا تراقبه فيهم، ولا تستحيى من جلالة الله عز وجل، فى سوء معاملتهم، وتغتر بإمهاله عند الجور عليهم، فاستقيظ فزعا، وأحضر عميد الملك الوزير، وذكر له ما رآه، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه مقابل ما رسم به بالسمع والطاعة، وأخرج الجند من دور العامّة، وأمر أن يظهر من كان مختفيا، وأزال التوكيل عمّن كان وكل به، وعزم على الرحيل، وأتاه خبر البساسيرى، والوقعة التى كانت بينه وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل، على ما قدمناه

فى أخبار القائم بأمر الله، فتجهز، وسار عن بغداد، فى عاشر ذى الحجة «1» من السنة، ومعه خزائن السلاح والمجانيق، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهرا وأياما، لم يلق الخليفة فيها، وسار إلى [البوازيج] «2» وأقام بها حتى أتاه ياقوتى بالعساكر، فى سنة سبع وأربعين، فسار بهم إلى الموصل، وسير هزار سب بألف فارس اختارهم من العسكر، فدخل البرية، وأوقع بالعرب، وعاد إلى السّلطان، فعندها أرسل نور الدولة دبيس بن مزيد، وقريش بن بدران صاحب الموصل، يسألان هزار سب أن يتوسط لهما عند السلطان طغرلبك، فسعى في ذلك، فأجابه إليه في حقهما دون البساسيرى، فتوجّه البساسيرى عند ذلك إلى الرّحبة، وتبعه الأتراك البغداديون، ومقبل بن المقلد، وجماعة من عقيل، ثم سار السلطان إلى ديار بكر، التى هى لابن مروان، ووصل إلى جزيرة ابن عمر، فأرسل إليه بن مروان يذكر ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين، وما يعانيه من مجاهدة الكفار، وبذل ما يصلح، ثم وصل إبراهيم ينال إلى السلطان، فلما وصل أرسل هزار سب إلى نور الدولة بن مزيد، وقريش، يعرّفهما وصوله، ويحذرهما منه، فسار من جبل سنجار إلى الرحبة، فلم يلتفت البساسيرى إليهما، فانحدر نور الدولة إلى بلد العراق، وأقام قريش عند البساسيرى

ذكر عودة السلطان إلى بغداد

بالرحبة، وشكى قتلمش بن عم السلطان ما لقى من أهل سنجار في العام الماضى، عند انهزامه من البساسيرى، وأنهم قتلوا رجاله، فسيّر العساكر إليهما، فصعد أهل سنجار على السّور، وسبّوا السلطان، وأخرجوا جماجم القتلى وقلانسهم، وجعلوها على القصب، ففتحها السلطان عنوة، وقتل أميرها علىّ بن «1» مرحا، وخلقا كثيرا من رجالها، وسبى نساءهم، وسأل إبراهيم ينال في الباقين، فتركهم السلطان، وسلّمها هى والموصل إلى أخيه إبراهيم ينال. والله أعلم بالصواب. ذكر عودة السلطان الى بغداد قال: وكان عود السلطان إلى بغداد، فى سنة تسع وأربعين، فخرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، وأبلغه سلام الخليفة، واستيحاشه، فقبّل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاما من ذهب فيه جواهر، وألبسه فرجية جاءت معه من عند الخليفة، فلبسها، ووضع العمامة على مخدّته، فقبل السلطان الأرض، ولم يمكن أصحابه من النزول فى دور الناس، وطلب الاجتماع مع الخليفة فأذن له في ذلك، وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذى القعدة من السنة جلوسا عاما، وحضر وجوه عسكر السلطان، وأعيان بغداد، وحضر السلطان والخليفة جالس على سرير عال من الأرض، نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبى صلى الله عليه وسلّم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل

ذكر مفارقة ابراهيم ينال الموصل وما كان من أمره إلى أن قتل

السلطان الأرض ويد الخليفة، وأجلس على كرسى، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولّاك جميع ما ولّاه الله من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده، فاتّق الله فيما ولّاك، واعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية، فقبّل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه، وعاد فقبل يد الخليفة، ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطى العهد، وخرج، فأرسل إلى الخليفة هدية كبيرة، منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكا أتراكا، من أجود ما يكون بخيولهم وسلاحهم، وغير ذلك من الثياب، وغيرها. ذكر مفارقة ابراهيم ينال الموصل وما كان من أمره الى أن قتل وفي سنة خمسين وأربعمائة فارق إبراهيم ينال الموصل، وتوجه نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان رحيله إلى [العصيان] «1» وأرسل إليه يستدعيه، وبعث الفرجية التى خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة أيضا إليه كتابا، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندرى «2» لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع، ولما فارق إبراهيم الموصل استولى عليها البساسيرى، كما قدمناه،

فسير السلطان إليها جريدة في ألفى فارس، وكان قد فرق عساكره بسبب النوروز، ففارقها البساسيرى ومن معه، فسار السلطان إلى نصيبين، ليتبع آثارهم، ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصل إليها، لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وقد قيل: إن المستنضر كاتبه، وكاتب البساسيرى، وأطمعه في السلطنة والبلاد، ففعل ذلك، وسار السلطان في أثره، وهو في قلّة من العسكر، وكان إبراهيم قد اجتمع له كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلّفهم المسير إلى العراق، فلم يقو السلطان «1» له، وأتى إلى إبراهيم محمد، وأحمد ابنا أخيه [أرتاش] «2» في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفا، فانزاح بين يديه إلى الرى، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتى [وقاورد] «3» بك أولاد أخيه، وكان داود قد مات على ما نذكره، وملك بعده ابنه أرسلان خراسان، واستدعاهم، فقدموا إلى عمّهم طغرلبك بالعساكر الكثيرة، فلقى إبراهيم بالقرب من الرى، فانهزم إبراهيم، ومن معه، وأخذ أسيرا هو، ومحمد، وأحمد ابنا أخيه، فأمر السلطان به، فخنق بوترقوسه في تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدى أخيه، وفي أثناء هذه السنة عند اشتغال السلطان طغرلبك بحرب أخيه إبراهيم، استولى

ذكر وفاة جغرى بك داود صاحب خراسان، وملك ابنه ألب أرسلان

البساسيرى على بغداد، وأخرج الخليفة منها، وكان ما قدمناه في أخبار القائم بالله، وكان إبراهيم ينال قد خرج على أخيه مرارا، وهو يقدر عليه، ويعفو عنه، وإنما قتله في هذه الواقعة لأنه علم أن الذى جرى على الخليفة كان بسببه، ولما فرغ طغرلبك من أمر أخيه، عاد إلى العراق، وأعاد الخليفة إلى بغداد، وكان ما قدمناه من مقتل البساسيرى. ذكر وفاة جغرى «1» بك داود صاحب خراسان، وملك ابنه ألب أرسلان كانت وفاته في شهر رجب سنة إحدى وخمسين، وقيل في صفر سنة اثنين وخمسين وأربعمائة، وعمره نحو سبعين سنة، كان له خراسان، وكان حسن السيرة معترفا بنعمة الله عليه، شاكرا عليها؛ فمن ذلك أنه أرسل إلى طغرلبك مع عبد الصمد قاضى سرخس، يقول: قد بلغنى إخرابك للبلاد التى فتحتها وملكتها، وجلاء أهلها عنها، وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى، فى بلاده وعباده، وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة، وإيحاش الرعية، وقد علمت أننا لقينا أعداءنا، ونحن في «2» ثلاثين رجلا، وهم في ثلاثمائة، فغلبناهم، ثم كنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، ثم كنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفا، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك،

ذكر زواج السلطان طغرلبك بابنة الخليفة

وهو في أعداد كثيرة فقهرناه، وأخذنا مملكتة بخوارزم، وهرب بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به، وأسرناه، وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان، وسجستان، وصرنا ملوكا متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضى نعم الله علينا أن نقابلها بهذه المقابلة، فقال طغرلبك: قل له في الجواب: يأخى أنت ملكت خراسان، وهى بلاد عامرة، فخربتها، ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها، وأنا وردت بلادا أخربها من تقدمنى، واجتاحها من كان قبلى، فما أتمكن من عمارتها، والأعداء محيطة بها، والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر، فلا يمكن دفع مضرتهم عنها. ولداود مناقب كثيرة، وكان له من الأولاد: ألب أرسلان، وياقوتى، وسليمان، وقاورد بك. ولما مات ملك بعده ابنه ألب أرسلان، وتزوج طغرلبك بزوجة أخيه داود، وهى والدة سليمان، ووصّى له بالملك بعده، وفي سنة اثنين وخمسين توفيت زوجة السلطان طغرلبك، فوجد عليها وجدا شديدا، ونقل تابوتها إلى الرى. ذكر زواج السلطان طغرلبك بابنة الخليفة وفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة عقد السلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله، وكانت الخطبة تقدّمت في سنة ثلاث وخمسين، مع أبى سعيد «1» قاضى الرى، فانزعج الخليفة من ذلك،

[وأرسل] «1» فى الجواب أبا محمد التميمى، وأمره أن يستعفى، فإن أعفى والآكمّ الأمر، على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار، ويسلم «واسط» وأعمالها، فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الكندرى الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء، فقال: لا يحسن أن يردّ السلطان، وقد سأل وتضرّع، ولا يجوز أيضا مقابلته بطلب الأموال والبلاد، فهو يفعل أضعاف ما طلب منه، فقال له: التميمى: الأمر لك، ومهما فعلته فهو الصواب. فبنى الأمر على الإجابة، وطالع به السلطان، [فسرّ به] «2» وجمع الناس، وعرفهم أن همّته قد سمت إلى الإتصال بهذه الجهة النبوية، وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك، وتقدّم إلى الوزير عميد الملك أن يسير، ومعه أرسلان خاتون ابنة أخيه داود، وهى زوجة الخليفة القائم بأمر الله، وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم «3» الجمل، وما شاكلها من الجواهر، وغيرها، ووجه معه فرامرز «4» بن كاكويه، وغيره من وجوه الأمراء، وأعيان الرى، فلما وصلوا امتنع الخليفة من الإجابة، وقال: إن أعفينا، وإلا خرجنا من بغداد، فقال عميد الملك: «كان الواجب الامتناع من غير اقتراح وعد «5» الإجابة إلى ما طلب، فالامتناع سعى على دمى» ، وأخرج خيامه إلى النهروان فاستوقفه قاضى القضاة، والشيخ أبو منصور بن يوسف فانهيا إلى

الخليفة عاقبة انصرافه، فكتب الخليفة إلى عميد الملك يقول: نحن نرد الأمر إلى رأيك، ونعوّل على أمانتك ودينك، فحضر يوما عند الخليفة، ومعه جماعة من الأمراء، والحجّاب، والقضاة والشهود، فتكلم، وقال للخليفة: أسأل مولانا أمير المؤمنين، التطوّل بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه ركن الدين فيما رغب ليعرفه الجماعة، فغالطه، وقال: قد سطر في المعنى ما فيه كفاية، فانصرف عميد الملك، ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وأخذ المال معه إلى همذان، فكتب السلطان إلى قاضى القضاة، وإلى الشيخ أبى منصور بن يوسف يعتب، ويقول: هذا جزائى من الخليفة الذى قتلت أخى في خدمته، وأنفقت مالى فى نصرته، وأهلكت خواصّى في محبته، وأطال العتاب، فعاد الجواب بالاعتذار، وطلب السلطان طغرلبك ابنة أخيه زوجة الخليفة؛ لتعاد إليه، وجرى ما كاد يقضى إلى الفساد الكلى، فلما رأى الخليفة شدّة الأمر أذن في ذلك، وكتب الوكالة باسم عميد الملك الوزير، وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز، وهذا ما لم يجر مثله، فإن بنى بويه مع تحكّمهم على الخلفاء ما طمعوا بمثل هذا، وحمل السلطان أموالا كثيرة، وجواهر نفيسة للخليفة، ولولى العهد، وللجهة المطلوبة، ولوالدتها، وغيرهم.

ذكر وصول السلطان إلى بغداد ودخوله بابنة الخليفة

ذكر وصول السلطان الى بغداد ودخوله بابنة الخليفة وفي سنة خمس وخمسين وأربعمائة في المحرم توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد، وأراد الخليفة أن يستقبله، فاستعفى من ذلك، ووصل عميد الملك إلى الخدمة، وطالب بالجهة، فقيل له: خطك موجود بالشرط، وأن المقصود بهذه الوصلة التشريف لا الإجتماع «1» ، وإنه إن كانت مشاهدة، فتكون في دار الخلافة، فقال للخليفة: السلطان يفعل هذا، ولكن يفرد له من الدور والمسكن ما يكفيه، ومن خواصّه، وحجابه، ومماليكه، فإنه لا يمكنه مفارقتهم، فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر، وجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل السلطان إليها، وقبل الأرض، وخدمها، ولم يكشف الخمار عن وجهها، ولا قامت هى له، وحمل لها أشياء كثيرة من الجواهر، وغيرها، وبقى يحضر فى كل يوم، ويخدم، وينصرف، وعمل السّماط عدّة أيام، وخلع على عميد الملك، وجميع الأمراء. ذكر وفاة السلطان طغرلبك وشىء من سيرته كانت وفاته بالرىّ في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان سنه خمس وخمسين وأربعمائة، وكان قد سار من بغداد في شهر ربيع الأول إلى بلد الجبل، ومعه أرسلان خاتون ابنة أخيه داود،

وهى زوجة الخليفة لأنها شكت إليه اطّراح الخليفة لها «1» ، واتفق مرضه، فمات، ونقل إلى مرو، ودفن عند قبر أخيه داود، وكان عمره سبعين سنة تقريبا، ومدة ملكه منذ خطب له بنيسابور في شعبان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وإلى أن توفى سبعة وعشرين سنة، وأياما، ومنذ ملك بغداد سبع سنين، وأحد عشر شهرا، واثنا عشر يوما، وكان عاقلا حليما من أشد الناس احتمالا، وأكثرهم كتمانا لسره، وكان يحافظ على الصلوات، ويصوم الإثنين، والخميس، وكان ملبسه البياض إلا أنه كان فيه ظلم وقساوة، وكان أصحابه يغصبون الناس أموالهم، وأيديهم مطلقة في ذلك، فلا يمنعهم، وكان عقيما لم يولد له، وزراؤه: أول من وزر له أبو القاسم على بن عبد الله الجوينى في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، ثم وزر بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين بن على بن ميكائيل، ثم وزر له بعده نظام الملك، ثم وزر له بعده عميد الملك أبو نصر الكندرى، وهو أشهر وزرائه، وإنما اشتهر دون غيره من وزرائه؛ لأن السلطان طغرلبك عظمت دولته فى وزارته، وملك العراق «2» ، وخطب له بالسلطنة. وقد تقدم من أخبار هذا الوزير ما يدل على تمكنه، والله أعلم.

ذكر أخبار السلطان عضد الدولة

ذكر أخبار السلطان عضد الدولة هو ألب أرسلان أبو شجاع محمد بن جغرى بك داود بن ميكائيل ابن سلجق، وهو الثانى من ملوك الدولة السلجقية، ومعنى اسمه رجل أسد، واللام والباء في ألب مفخمتان. ملك خراسان بعد وفاة أبيه دواد في شهر رجب سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وقيل فى صفر سنة اثنتين وخمسين، وملك العراق وغيره بعد وفاة عمه السلطان طغرلبك في سنة خمس وخمسين، وكان طغرلبك قد نصّ على توليه سليمان ابن أخيه داود أخى ألب أرسلان لأن أمه كانت عنده، فتبع هواها فيه، فلما مات السلطان طغرلبك نفذ الوزير عميد الملك وصيته فيه، وأجلس سليمان في السلطنة، فاختلف الأمراء عليه، ومضى بعضهم إلى قزوين، وخطب لعضد الدولة، فلما رأى عميد الملك فساد الحال، وميل الناس إلى عضد الدّولة، أمر بالخطبة له بالرىّ، ثم من بعده لسليمان، وما اتصل بألب أرسلان الخبر بوفاة عمه جمع العساكر، وسار نحو الرى، فلما قرب منها خرج إليه الوزير عميد الملك، وأظهر طاعته، واستقرت السلطنة له بمفرده.

ذكر القبض على عميد الملك الوزير وقتله

ذكر القبض على عميد الملك الوزير وقتله قال: ولما استقر ملك عضد الدولة، قبض على الوزير عميد الملك الكندرى، وسبب ذلك أنه لما رأى ميل الناس إليه، وانقيادهم لأمره خافه، فأمر بالقبض عليه، وأنفذه إلى مرو الروذ، واعتقله بها سنة، ثم أمر بقتله، وكان هذا الوزير كثير البغض للشافعى وأصحابه، وكان خصيّا «1» خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب له امرأة، فتزوّجها، وعصى عليه، فلما ظفر به خصاه، وأقره على خدمته، وقيل: بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوّجها، فخصى نفسه ليبرأ مما قيل فيه. قال المؤرخ: ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصى، ودمه مسفوح بمرو، وجسده مدفون بكندر «2» ، ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان، ولما عرض على القتل، قال لقاتله: قل لنظام الملك بئسما عودت الأتراك قتا الوزراء، وأصحاب الديوان، قال: ولما قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أمر بعودة ابنة الخليفة إلى بغداد، وأعلمها أنه ما قبض عليه إلا لكونه «3» نقلها من بغداد إلى الرى بغير رضا الخليفة، وأمر الأمير أيتكين السليمانى بالمسير في خدمتها [والمقام] «4» شحنة ببغداد، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة «5»

ذكر ملك عضد الدولة ختلان، وهراه، وصغانيان

المعروف بابن الموفق، وأمره بالسير في الصحبة، ومخاطبة الخليفة فى الخطبة له، فمات بالجدرى قبل وصوله، فأرسل العميد أبا الفتح بن المظفر بن الحسين، فمات أيضا في الطريق، فأرسل رئيس العراقيين «1» ، فوصل إلى بغداد في نصف شهر ربيع الآخر، واقترح السلطان أن يخاطب: بالولد المؤيد، فأجيب إلى ذلك، ولقب ضياء الدين عضد الدولة، وجلس الخليفة جلوسا عاما في سابع جمادى الأولى، وشافه الرسل بسلطنة ألب أرسلان، وسلمت الخلع، عليهم، وأرسل من الديوان لأخذ البيعة النقيب طرادا الزينبى؛ فوصلوا إليه، وهو بنقجوان «2» من أذربيجان، فلبس الخلع، وبايع الخليفة. ذكر ملك عضد الدولة ختلان، وهراه، وصغانيان كان أمير ختلان بعد وفاة السلطان طغرلبك عصى بالقلعة، ومنع الخراج، فقصده السلطان، فوجد الحصن منيعا، فحاصره، ثم قتل صاحب الحصن بسهم جاءه، وهو على شرفة من شرفات السور، فهلك، وملك ألب أرسلان الحصن، وكان فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة، فعصى أيضا عليه، وطمع في الملك لنفسه، فسار إليه، وحصره، وضيق عليه، وأدام القتال ليلا ونهارا، فسلم

ذكر الحرب بين السلطان وبين شهاب الدولة قتلمش وموته

المدينة، وخرج إلى ابن أخيه، فأكرمه، وسار إلى صغانيان «1» ، وأميرها موسى، وكان قد عصى عليه، فلما وصل لم ينتصف النهار حتى ملك القلعة قهرا، وأمر بقتل موسى، فبذل في نفسه أموالا كثيرة، ثم عاد السلطان إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور. ذكر الحرب بين السلطان وبين شهاب الدولة قتلمش وموته كان شهاب الدولة قتلمش بن سلجق قد عصى على طغرلبك، فلما مات جمع عساكره، وقصد الرى، واستولى عليها، فسار السلطان من نيسابور في أول المحرم سنّة ست وخمسين، فوصل إلى دامغان، وأرسل قتلمش يتنكر عليه، وينهاه، فأجاب بجواب غير مرض، ونهب قرى الرىّ، وأجرى الماء على وادى الملح، وهى سبخة، فتعذر على السلطان سلوكها، فجاء، وخاض في الماء بعسكره، ولقيه، واقتتلوا، فلم تثبت عسكر قتلمش، ومضى هو إلى قلعة كردكوه، وكانت من حصونه، واستولى القتل والأسر على عسكره، ثم عفا السلطان عنهم بشفاعة نظام الملك، فلما سكن الغبار، ونزل العسكر، وجد قلتمش ميتا لم يدر كيف كان موته، فقيل إنه مات من الخوف، فبكى السلطان لموته، وجلس لعزائه، وعظم عليه فقده، وقتلمش هذا هو جد الملوك السلجقية ملوك الروم، وكان قتلمش يعلم علم النجوم، يعلمه أولاده من بعده، فزادوا فيه، فنالهم به غضاضة في دينهم.

ذكر فتح مدينة آنى، وغيرها من بلاد النصرانية

ذكر فتح مدينة آنى، وغيرها من بلاد النصرانية قال: وسار ألب أرسلان من الرى إلى أذربيجان في أول شهر ربيع الأول، وقد عزم على جهاد الروم، وغزوهم، فأتاه أمير من الروم كان يكثر غزوهم اسمه طغركين «1» ، ومعه من عشيرته خلق كثير قد ألفوا الجهاد، وخبروا تلك البلاد، وحثه على قصد بلاد الروم، وضمن له سلوك الطريق المستقيم، فسار معه فوصل إلى نفجوان، وأمر بعمل السّفن لعبور النهر، وجمع العساكر، وسار إلى بلاد الكرج، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه، والوزير نظام الملك، فساروا إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم، فحاصروها، فملكها المسلمون، وقتل أميرها، وساروا منها إلى قلعة سمارس «2» . وهى قلعة فيها الأنهار الجارية، والبساتين، فملكوها، وفتحوا قلعة أخرى بالقرب منها، وشحنوها بالرجال والذخائر والأموال، والسلاح وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان، ثم سار إلى مدينة مريم ونسين، وفيها كثير من الرهبان والقسوس، وملوك النصارى، وعامتهم يتقربون لأهل هذه البلد، وهى مدينة حصينة، وسورها من الحجر المبنى بالرصاص والحديد، وعندها نهر كبير؛ فأعدّ نظام الملك السفن لقتال من بها، وداوم القتال ليلا ونهارا إلى أن يسّر الله فتحها، وأحرقوا البيع، وقتلوا كثيرا من أهلها، وأسلم كثير، فنجوا

من القتل، ثم استدعى السلطان ابنه، والوزير، فسارا إليه، ففرح بما يسّره الله من الفتح على يد ملكشاه ابنه، وفتح عدة من الحصون فى طريقه، وأسر من النصارى ما لا يحصى كثرة، وساروا إلى سيبد سهر، فجرى بين أهلها، وبين المسلمين حروب شديدة، ثم يسّر الله فتحها، وملكها السلطان، وسار منها إلى مدينة أعال لال، وهى حصينة عالية الأسوار شاهقة، وهى من جانبيها الشرقى والغربى على جبل عال، وعليه عدّة من الحصون، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض، وكان ملكها من الكرج، فجرى عليها حروب عظيمة، ويسّر الله فتحها، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة، فأحرقه السلطان بالنار، وغنم المسلمون من المدينة ما لا يحصى، وخرجوا إلى خيامهم، فلما جن الليل عصفت الريح، فاحترقت المدينة من نار البرج، وذلك في شهر رجب سنة ست وخمسين وأربعمائة، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب المدينة، وأخذ ما فيها، وسار منها إلى ناحية قرش «1» ، ومدينة آنى وبالقرب منها بسل وورده. وجوده، فخرج أهلها مذعنين معلنين بالإسلام، وخربوا البيع، وبنوا المساجد، وسار منها إلى مدينة آنى، فرآها حصينة لا ترام. ثلاثة أرباعها على نهر أرس «2» ، والربع الآخر على نهر عميق شديد الجرية لو طرحت الحجارة فيه لحملها، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصمّ، وهى مدينة

عامرة آهلة، فحصرها، وضيّق على من بها إلا أن المسلمين أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها، فأتى من لطف الله تعالى ما لم يكن في حساب، وانهدم من السّور قطعة كبيرة لم يعلم سبب هدمها، فدخل المسلمون في المدينة، وقتلوا من أهلها ما لا يحصى كثرة، وأسروا نحوا مما قتلوا، وسارت البشائر بهذا الفتح في البلاد، وقرئ كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان، والدعاء له، فرتّب السلطان بالمدينة أميرا في عسكر جرار، وعاد عنها، وقد راسله ملك الكرج في الهدنة، وصالحه على أداء الجزية في كل سنة، وعاد السلطان إلى أصفهان، وكرمان، ثم إلى مرو، وزوج ابنة ملكشاه بابنة خاقان ملك ما وراء النهر، وزفت إليه في هذه السنة، وزوّج ابنه أرسلان شاه بابنة صاحب غزنه، فاتحد البيت السلجقى والمحمودى، واتفقت الكلمة. وفي سنة سبع وخمسين وأربعمائة ابتدئ بعمارة المدرسة النظامية ببغداد، وكملت عمارتها في سنة تسع وخمسين، وتقرر التدريس بها للشيخ أبى اسحاق الشيرازى، فلما اجتمع الناس لحضور الدروس طلب، فلم يوجد، وكان سبب تأخره أنه لقيه صبّى، فقال: «كيف تدرس في مكان مغصوب؟» ، فلم يحضر، فلما أيس الناس من حضوره درس بها أبو نصر الصبّاغ صاحب كتاب الشامل، ثم تلطف نظام الملك بالشيخ أبى إسحاق، حتى درّس بها بعد عشرين يوما.

ذكر تقرير ملكشاه في ولاية العهد بالسلطنة من بعد أبيه وتقرير البلاد باسم أولاد السلطان وأخوته

ذكر تقرير ملكشاه في ولاية العهد بالسلطنة من بعد أبيه وتقرير البلاد باسم أولاد السلطان وأخوته وفي سنة ثمان وخمسين وأربع مائة سار السلطان ألب أرسلان من مرو إلى [أرزكان] «1» ، ونزل بظاهرها، ومعه جماعة من أمراء دولته، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان من بعده، وركبه، ومشى بين يديه يحمل الغاشية «2» ، وخلع السلطان على جميع الأمراء، وأمر بالخطبة له في جميع بلاده، وأقطع البلاد: ومازندران للأمير أينانج بيغو، وبلخ لأخيه سليمان بن داود جفرى بك، وخوارزم لأخيه أرسلان [أرغو] «3» ومرو لابنه أرسلان شاه، وصغانيان وطخارسان لأخيه إلياس، وولاية بغشور «4» ، ونواحيها لمسعود بن أرتاش، وهو من أقارب السلطان.

ذكر عصيان ملك كرمان، وعوده إلى الطاعة، وطاعة حصون فارس

ذكر عصيان ملك كرمان، وعوده الى الطاعة، وطاعة حصون فارس وفي سنة تسع وخمسين وأربعمائة. عصى قرار أرسلان ملك كرمان على السلطان، ونزع الطاعة، وسبب ذلك أن وزيره حسّن له هذا الفعل، فظن أنه يقدر على الاستبداد بالأمر، فسار السلطان ألب أرسلان إليه، والتقت مقدمته بمقدمته، فانهزم أصحاب قرا أرسلان بعد قتال، وسار لا يلوى على شىء، فوصل إلى قلعة، وامتنع بها، وراسل السلطان في طلب الأمان، وبذل الطاعة، فأمّنه، وحضر إليه، فأكرمه، وأعاده إلى مملكته، فقال قرا أرسلان للسلطان: إن لى بنات، وقد جعلت أمرهنّ إليك، وتجهيزهن، فأعطى السلطان إلى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب، ثم سار السلطان منها إلى فارس، فوصل «اصطخر» ، وفتح قلعتها، واستنزل واليها، فحمل إليه الوالى هدايا عظيمة جليلة المقدار من جملتها قدح فيروزج مكتوب عليه اسم جمشيد الملك، وأطاعه جميع حصون فارس، وبقيت قلعة هناك يقال لها: بهبزاذ «1» ، فسار نظام الملك إليها، وحصرها، ففتحها في اليوم السادس «2» عشر من منازلتها «3» ، ووصل السلطان إليها بعد الفتح، فعظم محل نظام الملك عنده، وعلت منزلته، وزاد في تحكمه، والله أعلم بالصواب.

ذكر اقامة الخطبة بحلب

ذكر اقامة الخطبة بحلب وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة خطب تاج الملوك محمود بن نصر بن «1» مرداس بحلب للخليفة القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان، وسبب ذلك أنه لما رأى انتشار الدولة السلجقية، وقوتها، وإقبالها، جمع أهل حلب، وقال: هذه دولة جديدة، ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلون دماءكم لأجل مذهبكم، والرأى أن نقيم الخطبة قبل أن يأتى وقت لا ينفعنا فيه ذلك، فأجاب مشايخ البلد، ولبس المؤذنون السواد، وخطب لهما، فأخذت العامة حصر الجامع، وقالوا: هذه حصر على بن أبى طالب، فليأت أبو بكر بحصر يصلى عليها بالناس، وأرسل الخليفة: إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبى، والله أعلم. ذكر استيلاء السلطان على حلب وفي سنة ثلاث وستين أيضا سار السلطان إلى حلب، وجعل طريقه على ديار بكر، فخرج إليه صاحبها نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار، وحمل إليه إقامة بلغ السلطان أنه بسطها على البلاد فأمر بردّها، ووصل إلى آمد، فرآها ثغرا منيعا، فتبرك به، وجعل يمر بيده على السور، ويمسح بها صدره، وصار إلى الرّها، فحصرها، فلم يظفر منها بطائل، فسار إلى حلب، فسأل صاحبها محمود نقيب

ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط وأسره

النقباء رسول الخليفة أن يخرج إليه، ويعلمه أنه لبس بخلع الخليفة واستعفاه من الحضور، فقال: لا بد من حضوره، وأن يبطل الأذان بحى على خير العمل، فامتنع محمود، واشتد الحصار على البلد، وغلت الأسعار، وزحف السلطان يوما، فوقع حجر منجنيق [على] «1» فرسه، فلما عظم الأمر على محمود صاحب حلب خرج ليلا هو وأمه، ودخلا على السلطان، وقالت له: هذا ولدى تفعل به ما تحب، فتلقاهما بالجميل، رأحسن إلى محمود، وخلع عليه، وأعاده. ذكر خروج ملك الروم الى خلاط وأسره ولما عاد السلطان من حلب وصل إلى مدينة «خوىّ» من أذربيجان، فبلغه خروج أرمانوس ملك الروم في مئتين ألوف من الروم، والفرنج والعرب المتغره «2» ، والكرج، والروس، وغيرهم من طوائف تلك البلاد، وأنه وصل إلى بلاد «خلاط» ، فلم يتمكن السلطان من جمع العساكر لبعدها، وقرب العدو، فسيّر أثقاله مع نظام الملك إلى همذان، وسار هو، فيمن معه من العسكر، وهم خمسة عشر ألف فارس «3» ، وجد في السير، وجعل له مقدمة، فالتقت بمقدمة العدو، وهم عشرة آلاف فارس من الروس، فقاتلوهم، فانهزم الروس، وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان، فجدع أنفه، وأرسل إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فأجاب: لا هدنة إلا «بالرى» ،

فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة ركب السلطان، وقال لأصحابه: من أراد الانصراف، فالينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وبكى، وأبكى، ورمى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت، فهذا كفنى، وذلك لخمس بقين من ذى القعدة سنة ثلاث وستين، وزحف إلى الروم، وزحفوا له، فلما قاربهم ترجّل، وعقر وجهه في التراب، وبكى، وأكثر من الدعاء، ثم ركب وحمل، فأعطى الله النصر للمسلمين، فقتلوا من العدو ما لا يحصى كثرة، وأسر ملك الروم، أسره بعض غلمان كوهراتين، ولم يعرفه، وأراد قتله، فقال له خدم معه: هذا الملك لا تقتله، وكان هذا الغلام قد عرض على عضد الدولة، فلم يجز عرضه استحقارا له، فشكره كوهراتين، فقال نظام الملك: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرا، فكان كذلك، فلما أسره الغلام أحضره إلى مولاه كوهراتين، فأحضره إلى السلطان، فضربه السلطان ثلاث ضربات بالمقرعة، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة، فأبيت، فقال: دعنى من التوبيخ، وافعل ما تريد، فقال السلطان: ما عزمت أن نغفل بى إن أسرتنى؟ فقال: كنت أفعل كل قبيح، قال: فما تظن أنى أفعل معك؟ فقال: إما أن تقتلنى، وإما أن تشهرنى في البلاد، والأخرى بعيدة، وهى العفو، وقبول الأموال، واصطناعى باتباعك، وقال: ما عزمت على غير هذا، ففدى نفسه بألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وقطيعة في كل سنة ثلاثمائة ألف وستين ألف

دينار، وإطلاق كل أسير في بلاد الروم من «1» المسلمين، وأن ينفذ إليه عساكر الروم متى طلبها، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله السلطان في خيمة، وأطلق له جماعة من أسر من البطارقة، وخلع عليه من الغد، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، وقام ملك الروم إلى جهة الخليفة، وكشف رأسه، وأومأ إلى الأرض بالخدمة، ثم جهز السلطان معه عسكرا يوصله إلى مأمنه، وشيّعه فرسخا، وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة، وملك البلاد، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوفنه «2» ، بلغه الخبر، فلبس الصوف، وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر بينه وبين السلطان، فأجاب ميخائيل بإيثار ما استقر، وجمع أرمانوس ما عنده من المال، فكان مائة ألف دينار «3» ، وطبق عليه جواهر بتسعين ألف دينار، فحمل ذلك إلى السلطان، وحلف أنه لا يقدر على غيره، ومضى أرمانوس بمن معه إلى بلاد الأرمن، فملكها، وقتل ملكها، وأرسل رأسه إلى بغداد، ودعا للسلطان بها.

ذكر ملك أتسز بيت المقدس والرملة ودمشق

ذكر ملك أتسز بيت المقدس «1» والرملة ودمشق وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة قصد [أتسز بن أوق] «2» الخوارزمى، وهو من أمراء السلطان ملكشاه، فجمع الأتراك، وسار إلى فلسطين، ففتح الرملة، وسار منها إلى بيت المقدس «3» ، وحصره، وفيه عساكر المصريين، ففتحه، وملك ما يجاورهما «4» من البلاد ما عدا عسقلان، وقصد دمشق، فحصرها، وتابع النهب لأعمالها حتى خرّبها، وقطع الميرة عنها، ولم يقدر عليها، ثم فتحها في سنة ثمان وستين وأربعمائة في سلطنة ملكشاه في خلافة المقتدى، وذلك أنه جعل يغير عليها في كل سنة، ويقصد أعمالها عند إدراك المغل «5» ، فيقوى هو وعسكره، ويضعف أهل دمشق وجندها، ثم حصر دمشق في شهر رمضان سنة سبع وستين، وأميرها يوم ذاك المعلّى بن حيدره من قبل المستنصر صاحب مصر، فعجز عن فتحها، فانصرف عنها في شوال، واتفق أن أميرها المعلى أساء المسيرة مع الجند والرعية، فثار به العسكر، فهرب إلى «بانياس» ، ثم منها إلى «صور» ، ثم سار إلى مصر، فحبس بها حتى مات، ولما هرب من دمشق اجتمعت

ذكر تزويج ولى العهد بابنة السلطان

المصامدة، وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودى المعروف: بزوين «1» الدولة، واتفق وقوع غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضا، ووقع الخلف بين المصامدة، وبين أحداث البلد، فعاد أتز «2» إلى دمشق، ونازلها في شعبان سنة ثمان وستين، وحصرها حتى عدمت الأقوات، فتسلمها عند ذلك بالأمان، ودخلها بعسكره في ذى القعدة، وخطب بها للمقتدى لخمس بقين من الشهر، وعوض عنها انتصار بقلعة بانياس، ومديتة «يافا» من الساحل. ذكر تزويج ولى العهد بابنة السلطان وفي سنة أربع وستين وأربع مائة، أرسل الخليفة القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير إلى السلطان بالخلع له، ولولده ملكشاه، وأمره أن يخطب سفرى خاتون ابنة السلطان لولى العهد المقتدى بأمر الله، ففعل ذلك، فأجيب إليه، وعقد النكاح بظاهر نيسابور، وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح، ونظام الملك الوكيل من قبل السلطان وكان النثار من الجوهر. ذكر ملك السلطان قلعة فضلون وفي هذه الستة سير السلطان الوزير نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمتع حصونها، وفيه صاحبه فضلون، وهو لا يعطى الطاعة، فنازله، وحاصره، فامتنع، وقاتل، فلم تطل

ذكر مقتل السلطان عضد الدولة ألب أرسلان، وشىء من سيرته

المدة حتى نادى أهل الحصن بطلب الأمان بغير سبب ظاهر ولا قتال، وظهر أن «1» سبب ذلك أن جميع آبار الحصن غارت مياهها في ليلة واحدة، فأمنهم نظام الملك، وتسلّم الحصن، وهرب فضلون إلى القلعة، ثم قبض عليه «2» وجيء به إلى السلطان، فأحسن إليه، وأمته، وأطلقه. ذكر مقتل السلطان عضد الدولة ألب أرسلان، وشىء من سيرته وفي سنة خمس وستين وأربعمائة قصد السلطان ما وراء النهر، فعقد جسرا على جيحون، وعبر عليه في نيف وعشرين يوما، وكان عسكره يزيد على مائتى ألف فارس، وكان ببعض القلاع رجل خوارزمى اسمه يوسف قد عصى، وتحصّن بالقلعة، فبعث إليه السلطان جماعة، فحاصروه، وأخذوه، وأتوا به إلى السلطان، فأمر أن تضرب له أربعة أوتاد، وتشدّ أطرافه إليها، فقال يوسف: يا مخنّث، مثلى يقتل هذه القتلة؟ فغضب لذلك، وأخذ القوس والنشاب، ورماه ثلاث مرّات، وهو يخطىء، وكان لا يخطىء في رميه، فوثب يوسف، وضربه بسكين في خاصرته، وأدركه الجند، فقتلوه، وسدّ جرح السلطان، وعاد إلى جيحون وقال: ما من وجه قصدته، وعدوّ أردته إلا استعنت «3» بالله عليه، فلما كان بالأمس صعدت

على تل؛ فارتجت الأرض تحتى من عظم الجيش، فقلت في نفسى: أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد على، فعجزّنى الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله، وأستقيله من هذا الخطأ، وأحضر الوزير نظام الملك، والجند، وأوصاهم بولده ملكشاه، واستحلفهم له. وتوفى في عاشر شهر ربيع الأول، وحمل إلى «مرو» ، فدفن بها عند أبيه، وكان مولده في سنة أربع وعشرين، فكان عمره أربعين سنة وشهورا، وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة تسع سنين، وستة أشهر، وأياما. وكان كريما عادلا عاقلا لا يسمع السعايات، وكان رحيم القلب، رفيقا بالفقراء، كثير الصدقة، تصدّق في شهر رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق من الفقراء في جميع مملكته عليهم الإدرارات، والصلات، ولم يسمع عنه بمصادرة بل قنع بالخراج والغنائم، قيل: إن بعض السعاة كتب إليه سعاية في نظام الملك الوزير، وذكر ما له من الرسوم والأموال، وترك الرقعة على مصلاه، فقرأها، ثم سلمها إلى نظام الملك، وقال له: إن كانوا صدقوا في الذى ذكروا، فحسن أخلاقك، وإن كانوا كذبوا فاغفر لهم زلتهم، وأشغلهم بمهمّ يشتغلون به عن السعاية بالناس، وناهيك بهذه مكرمة. «1» وكان له من الأولاد: ملكشاه، وتكش، وإيار، وتتش،

ذكر أخبار السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن جغرى بك داود بن ميكائيل بن سلجق

وأرسلان «1» أرغو، وتوزى «2» برش، وساده، وعائشه، وبنت أخرى. وزيره: نظام الملك. ولما وصل الخبر إلى بغداد بموته حبس الوزير فخر الدولة بن [جهير] «3» للعزاء في صحن دار السلام، وملك بعده ابنه. ذكر أخبار السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن جغرى بك داود بن ميكائيل بن سلجق وهو الثالث من ملوك الدولة السلجقية. ملك بعد وفاة أبيه في عاشر ربيع الأول سنة خمس وستين وأربعمائة، وكان والده قد حلّف له العساكر كما قدمناه، وكان ملكشاه قد صحب والده في هذه السّفرة، ولم يصحبه في سفرة غيرها، فأوصاه والده أن يعطى عمه قاورد «4» بك بن داود أعمال فارس، وكرمان، وشيثا عيّنه من المال، وأن يزوج زوجته، وكان قاورد بك بكرمان، وأوصى بأن يعطى ابنه إياز ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وقال: من لم يرض بما أوصيت له

ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وبين عمه قاورد بك

به، فقاتلوه، واستعينوا على حربه بما جعلت له، وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر، وقد تولّى تدبير دولته الوزير نظام الملك وزير أبيه، فعبر النهر في ثلاثة أيام، وزاد الأجناد سبعمائة ألف دينار، وعاد إلى خراسان، وقصد نيسابور، ومنها إلى الرى، وكتب إلى ملوك الأطراف بإقامة الخطبة له، فخطب له. والله أعلم. ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وبين عمه قاورد بك قال: ولما بلغ قاورد بك وفاة أخيه، وكان بكرمان قصد الرى ليستولى على المملكة، فسبقه إليها ملكشاه ونظام الملك، وسارا منها، فالتقوا بالقرب من همذان في رابع شعبان، واقتتلوا، فانهزم قاورد بك وعسكره، ثم أسر، وجيىء به إلى السلطان، فأمر بخنقه، وأقرّ كرمان بيد أولاده، وسيّر لهم الخلع، فملك سلطان شاه بن قاورد بك كرمان «1» ، وفوض السلطان جميع أمور دولته إلى نظام الملك الوزير، ولقبه ألقابا من جملتها: أتابك، ومعناه: الأمير الوالد، وأقطعه إقطاعا وافرا زيادة على ما كان له، من جملته طوس، وأحسن السيرة، وظهر من عدله ما لا مزيد عليه، وفي سنة ست وستين وأربعمائة. فى ثالث صفر. ورد كوهراتين «2» إلى بغداد من قبل السلطان ملكشاه، فجلس الخليفة القائم بأمر الله له مجلسا عاما، وسلم إليه عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة واللواء، وعقده الخليفة بيده، وفيها

ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان

استعاد السلطان ترمذ من خاقان تكين «1» وكان قد غلب عليها لما مات ألب أرسلان، فلما استقامت الأمور لملكشاه حصرها، واستعادها، وأخذ منها «2» أخ الخاقان، فأكرمه، وأطلقه، وقصد سمرقند، ففارقها صاحبها، فأرسل يطلب المصالحة، واعتذر من تعرضه إلى ترمذ، فوقع الصلح بينهما، وعاد السلطان، وأقطعه بلخ، وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش. ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان وفي شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة سار ملكشاه إلى الرى، وعرض العسكر، وأسقط منهم سبعة آلاف رجل، فقال له الوزير نظام الملك: هؤلاء الجند لم يكن منهم كاتب، ولا تاجر، ولا خياط وليس لهم صنعة غير الجندية، ولا نأمن أن يقدموا منهم رجلا، ويقولوا هذا السلطان، فيكون لنا منهم شغل، ويخرج عن أيدينا أضعاف ما لهم من الجارى إلى أن تظفر بهم، فلم يقبل السلطان نصحه، وقطعهم، فمضوا إلى أخيه تكش، فقوى بهم، وأظهر العصيان على أخيه، واستولى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرها، وسار إلى نيسابور طمعا في ملك خراسان، فسبقه السلطان إليها، فعاد تكش، وتحصن بترمذ، وأسر جماعة من أصحاب السلطان، فقصده السلطان، فأطلقهم، واستقر الصلح بينهما، ونزل تكش

ذكر قتل أبى المحاسن بن أبى الرضا

عن ترمذ، ثم عاد إلى العصيان في سنة سبع وسبعين، وأخذه السلطان وسمله. وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة مات للسلطان ملكشاه ولد اسمه داود، فجزع عليه جزعا شديدا، ومنع من دفنه حتى تغيرت رائحته، وأراد أن يقتل نفسه، فمنعه خواصه. ذكر قتل أبى المحاسن بن أبى الرضا «1» وفي سنة ست وسبعين «2» وأربعمائة في شوال قتل سيد الرؤساء أبو المحاسن بن كمال الملك أبى الرضا، وكان قد قرب من السلطان ملكشاه قربا عظيما، وكان أبوه يكتب الطغراء، فقال أبو المحاسن للسلطان: سلم إلىّ نظام الملك وأصحابه، وأنا أحمل إليك منهم ألف ألف دينار، فإنهم يأكلون الأموال، ويقتطعونها «3» ، وعظم عنده ذخائرهم، وأموالهم «4» ، فبلغ ذلك نظام الملك، فعمل سماطا عظيما. وأقام عليه مماليكه، وهم ألوف من الأتراك، وأقام خيلهم، وجعل سلاحهم على جمالهم، فلما حضر السلطان، قال له: إنى قد خدمتك، وخدمت أباك وجدك، ولى حق خدمة، وقد بلغك أخذى لعشر أموالك، وقد صدق الناقل، هذا أنا آخذه وأصرفه إلى هؤلاء الغلمان الذين جمعتهم لك، وإلى الصدقات، والصلات، والوقوف التى عظم ذكرها،

ذكر ملك السلطان حلب وغيرها

وشكرها، وأجرها لك، وأموالى وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية، فأمر السلطان بالقبض على أبى المحاسن، وأن تسمل عيناه، وأنفذه إلى قلعة نساوة، «1» وسمع أبوه كمال الملك الخبر، فاستجار بدار نظام الملك، فسلم، وبذل مائتى ألف دينار، وعزل عن الطغراء، ورتب مكانه مؤيد [الملك «2» ] بن نظام الملك المقدم ذكره «3» . ذكر ملك السلطان حلب وغيرها كان سبب ذلك أن سليمان بن قتلمش السلجقى صاحب الروم فتح أنطاكية، وكان بينه وبين شرف «4» الدولة مسلم صاحب حلب وقعة قتل فيها شرف الدولة، ثم قتل سليمان، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار ملوك الروم السلجقية، فلما وقع ذلك كتب ابن الحبيبى «5» مقدم حلب إلى السلطان ملكشاه يعلمه ذلك، ويستدعيه ليتسلمها خوفا من تتش صاحب دمشق، فسار من أصفهان في جمادى الآخرة سنة ست «6» وسبعين وأربعمائة، وجعل طريقه على الموصل،

فوصل إليها في شهر رجب، وسار منها إلى حرّان «1» ، فسلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان محمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرّها، وهى بيد الروم، فحصرها، وملكها وسار إلى قلعة جعبر، فحاصرها يوما وليلة، وملكها، وأخذ صاحبها جعبر، وهو شيخ أعمى، وولديه، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطريق، ويلجئون إليها، ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، وسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار عليه بكبس عسكر السلطان، فامتنع، وقال لا أكسر جاه أخى الذى أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علىّ، وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة والقلعة بعد أن امتنع مالك «2» بن سالم بها، ثم سلمها «3» على أن يعوضه غيرها، فعوضه قلعة جعبر، فبقيت في يده، ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكى على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأرسل الأمير نصر بن على بن منقذ «4» الكنانى صاحب شيزر إلى السلطان، وبذل الطاعة، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأقاميه، فأجابه السلطان إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر، ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آق سنقر، وهو جد نور الدين الشهيد، وقبل تسلمها في سنة ثمانين.

ذكر دخول ملكشاه بغداد

ذكر دخول ملكشاه بغداد كان دخوله إلى بغداد في ذى الحجه سنة سبع «1» وسبعين وأربعمائة بعد رجوعه من حلب، وهو أوّل دخوله إليها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الخليفة، ولعب بالأكرة، ومضى إلى الصيد هو ونظام الملك في البّرية، فاصطاد شيئا كثيرا من الوحوش والغزلان، وغير ذلك، وأمر ببناء منارة بقرون الغزلان، وحوافر الحمر الوحشية التى صادها. قال ابن خلكان في وفيات الأعيان «2» : «والمنارة باقية إلى الآن، وتعرف بمنارة القرون» ، وعاد إلى بغداد، ودخل الخليفة المقتدى، فخلع عليه الخلع السلطانية، وفوض إليه أمر «3» البلاد، والعباد، وأمره بالعدل، وطلب السلطان بأن يقبّل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه، فقبله، ووضعه على عينيه، وأمره الخليفة بالعود، فعاد، ولما خرج من عنده لم يزل الوزير نظام الملك قائما يقدم أميرا أميرا إلى الخليفة. وكلما قدم أمير يقول: هذا العبد فلان، وإقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، فخلع الخليفة على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وسمع الناس عليه الحديث بالمدرسة، وأقام ببغداد إلى صفر سنة ثمانين وسار إلى أصفهان.

ذكر ملك ملكشاه ما وراء النهر

وفي «1» سنة ثمانين وأربعمائة جعل السلطان ولى عهده ولده أبا شجاع، ولقبه ملك الملوك عضد الدولة تاج «2» الملة عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة أن يخطب له ببغداد، ويلقبه بهذه الألقاب، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء. ذكر ملك ملكشاه ما وراء النهر وفي سنة اثنين وثمانين وأربعمائة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر، وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد بن خضرخان أخو شمس الملك الذى كان قبله، وهو ابن أخى تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه، وكان ظالما قبيح الصورة كثير المصادرات للرعية، فنفروا منه، واستغاثوا بالسلطان، فسار من أصفهان، وكان قد حضر إليه رسول صاحب الروم بالجزية المقرّرة عليه، فأخذه نظام الملك معه إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، وإنما فعل ذلك ليؤرخ عنهم أن ملك الروم حمل الجزية من بلاده إلى كاشغر، وليرى عظم ملك السلطان، وكثرة جيوشه، وسعة ممالكه، فسار السلطان من أصفهان إلى خراسان، وجمع من العساكر ما لا يحصرها ديوان، وقطع النهر، ووصل بخارى، وملكها، وملك ما على طريقه إليها، وما جاورها، وقصد سمرقند، ونازلها، وحصرها، وملكها، واختفى أحمدخان صاحبها في بيت بعض العوامّ، فأخذ، وحمل إلى السلطان، وفي عنقه حبل، فأكرمه السلطان، وبعثه إلى أصفهان، ورتب

ذكر عصيان سمرقند وفتحها

بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم، وسار السلطان، وقصد كاشغر، فبلغ [بيوزكند] «1» وأرسل رسلا إلى ملك كاشغر، فأمره بأقامة الخطبة له، وضرب السكّة باسمه، وتوعّده إن خالف، فأجاب إلى ذلك، وفعله، وحضر إلى السلطان، فأكرمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده، وعاد السلطان إلى خراسان. ذكر عصيان سمرقند وفتحها قال: ولما أبعد السلطان عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبى طاهر نائب السلطان عندهم، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم، وكاتب مقدم الجكلية، واسمه عز «2» الدولة يعقوب تكين، وهو أخو ملك كاشغر يستدعيه، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه من الرعيّة من ادّعى عليه بدماء قوم كان قتلهم، فقتله يعقوب، واتصلت الأخبار بالسلطان، فعاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولى على سمرقند ومضى إلى قرغانة، ولحق بولايته، فملك السلطان سمرقند «3» ورتب بها الأمير أتسز «4» ، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند

ذكر وصول السلطان إلى بغداد

وأرسل العساكر إلى ملك كاشغر يطلبه منه، وأنه إذا لم يرسله قصد بلاده، واتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، فاضطر إلى أن هرب إلى أخيه بكاشغر، واستجار به، وكان بينهما عداوة مستحكمة، فكاتبه السلطان في إرساله، وإنه إن لم يفعل كان هو العدو، فقبض عليه، وسيّره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وأمرهم أنهم إذا صاروا بالقرب من السلطان سملوه، فإن رضى السلطان بذلك، وإلا سلّموه إليه، فلما قصدوا سمله وأحموا الميل، جاءهم الخبر أن طغرل بن ينال كبس ملك كاشغر وأسره، فأخروا يعقوب، وأطلقوه، ثم انفق هو والسلطان، وجعله السلطان يقابل طغرل، وعاد السلطان إلى خراسان. ذكر وصول السلطان الى بغداد وفي شهر رمضان سنة أربع وثمانين وأربعمائة وصل السلطان إلى بغداد، وهى المرة الثانية، ونزل بدار المملكة، ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وقسيم الدولة «آق سنقر» صاحب حلب وغيرهما من عمال الأطراف، وأمر السلطان بعمارة الجامع المعروف بجامع السلطان، وابتدىء بعمارته في المحرم سنة خمس وثمانين.

ذكر ملك السلطان اليمن

ذكر ملك السلطان اليمن قال: ولما وصل السلطان إلى بغداد كان ممن حضر معه «1» جبق أمير التركمان، وكان صاحب قرميسين، وغيرها، فأمره السلطان أن يسير بجماعة من أمراء التركمان إلى الحجاز، واليمن، ويكون أمرهم «2» إلى سعد الدولة كوهراتين ليفتحوا البلاد، فاستعمل سعد الدولة أميرا اسمه ترشك، فساروا واستولوا على اليمن، وملكوا عدن، وأساءوا السيرة في أهلها، فظهر على ترشك الجدرى، فتوفى فى سابع يوم وصوله إليها، فعاد أصحابه إلى بغداد. ذكر مقتل الوزير نظام الملك وفي ليلة السبت العاشر من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة قتل الوزير خواجا بزرك قوام الدين نظام الملك أبو على الحسن بن على بن إسحاق بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان ملكشاه قد عادا من أصفهان إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وقام من خيمته إلى خيمة حرمه، أتاه صبى ديلمى من الباطنية في صورة مستميح، أو مستغيث، فوثب عليه، وضربه بسكين، فمات، وهرب الصبى، فعثر في أطناب الخيمة، فأدركوه وقتلوه، ولما قتل ركب السلطان إلى خيمته، وسكن عسكره وأصحابه،

وقيل في سبب موته «1» أنه كان «2» قد ولى عثمان بن ابنه «3» جمال الملك رئاسة مرو، فأرسل السلطان إليها شحنة من أكبر مماليكه، وأعظم أمرائه يقال له: قودن، فجرى بينه، وبين عثمان منازعة، فحملت عثمان حدة الشبيبة على قبضه، والإخراق به، ثم أطلقه، فجاء إلى السلطان مستغيثا، وأخبره بما صنع به عثمان، فغضب السلطان، وأرسل إلى جده الوزير نظام الملك يقول: «إن كنت شريكى في الملك، ويدك مع يدى في السلطنة فلذلك حكم، وإن كنت نائبى، فيجب أن نلتزم حد البيعة، «4» والنيابة. هؤلاء أولادك قد استولى كل منهم على كورة عظيمة، وولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة إلى أن فعلوا كيت وكيت ... » ، وأطال القول، وأرسل إليه بهذه الرسالة تاج الملك، ومجد الملك الباسلانى وغيرهما، من أرباب دولته، وأرسل معهم الأمير «باليرد «5» » ، وكان من ثقاته، وقال له: تعرفنى ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئا، فحضروا عند الوزير، وأدوا الرسالة، فقال: قولوا للسلطان إن كنت ما عمت أنى شريكك في الملك فاعلم، فإنك «6» ما نلت هذا الأمر إلا بيدى، ورأيى، أما يذكر حين قتل أبوه، فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه

ذكر ابتداء حال نظام الملك وشىء من سيرته وأخباره

من أهله وغيرهم، وهو في ذلك الوقت يتمسك بى ويلازمنى، ولا يخالفنى، فلما رددت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وجمعت له الأمصار القريبة والبعيدة سمع فيّ السعايات. قولوا له: «إن ثبات هذه القلنسوة [معذوق «1» ] بهذه الدواة، وأن انفاقهما رباط كل رعية، وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك» . فى كلام كثير قاله، فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما قاله عن السلطان، ومضى كل منهم إلى خيمته وجاء باليرد «2» إلى السلطان، فأخبره بما قاله الوزير على غرة، وجاء الجماعة بكرة النهار إلى السلطان، فأخبروه عنه بالعبودية، فقال لهم: إنه قال: كيت وكيت، فأشاروا عند ذلك بكتمانه رعاية لحق نظام الملك، ولعظم شأنه، فإن مماليكه كانوا قد أنافوا على عشرين ألفا غير الجند والأتباع، فوقع التدبير عليه حتى قتل، وظن السلطان أن الدنيا قد صغت له بعد ذلك، فما عاش بعده إلا خمسة وثلاثين يوما. ذكر ابتداء حال نظام الملك وشىء من سيرته وأخباره كان نظام الملك من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال وملك، وتوفّيت والدة نظام الملك، وهو يرضع، فكان أبوه يطوف به على المراضع يرضعنه حسبة حتى شبّ، وقرأ، وتعلم العربية، وتفقه، وصار من الفضلاء، وسمع الحديث الكثير، وكان يطوق

ذكر وفاة السلطان ملكشاه وشىء من سيرته

بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصوفين، ثم لزم أبا على بن شادان متولّى الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته، وأمانته، وصار معروفا عندهم بذلك، فلما حضرت أبا على الوفاة أوصى ألب أرسلان به، فولاه شغله، ثم صار وزيرا له إلى أن ولى السلطنة، وتنقّل في الوزارة، فكانت وزارته ثلاثين سنة. هذا أحد ما قيل في ابتداء أمره. وأما سيرته: فإنه كان عالما أديبا جوادا كثير الحلم والصفح عن المذنبين، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء، والفقراء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأسقط. المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من على المنابر، فإن الوزير عميد الملك الكندرى كان قد حسّن للسلطان لعن الرافضة، وأضاف إليهم الأشعرية، وكان نظام الملك رحمه الله تعالى إذا سمع المؤذن أمسك عما هو فيه، ويجيبه، فإذا فرغ من الأذان لا يبدأ بشىء قبل الصلاة، وله من حسن الآثار ما هو موجود باق إلى وقتتا هذا رحمه الله تعالى. ذكر وفاة السلطان ملكشاه وشىء من سيرته كانت وفاته ببغداد في يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وذلك أنه لما قتل الوزير نظام الملك كما قدمناه، سار السلطان إلى بغداد، فدخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة، وخرج في أوائل شوال إلى ناحية دجيل للصيد، فاصطاد

وحشا «1» وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، فعاد إلى بغداد، فتوفى ولم تشهد جنازته، ولا صلى عليه في الصورة الظاهرة، ولا هلب عليه ذنب فرس كعادة أمثاله من الملوك، ولا لطم عليه وجه، وحمل إلى أصفهان، ودفن بها في مدرسة له موقوفة على طائفة الشافعية، والحنفية. قال: وكان مغرما بالعمارة، فحفر الكثير من الأنهار. وعمر الأسوار على كثير من البلاد، وصنع في طريق مكة مصانع، وكان كثير الصيد، وكانت السبل في أيامه آمنة ساكنة تسير القوافل مما وراء النهر إلى أقصى الشام، وليس معهما خفير، وحكى محمد ابن عبد الملك الهمذانى: أن السلطان «2» لما توجه لحرب أخيه تكش اجتاز بمشمد على بن موسى الرضا بطوس، فدخل ومعه نظام الملك الوزير فصليا، وأطال الدعاء، ثم قال لنظام الملك: بأى شىء دعوت قال: أن ينصرك الله، ويظفرك بأخيك، فقال: أما أنا ولم أدع بهذا، وإنما قلت اللهم انصر نفعنا للمسلمين والرعية، وحكى عنه حكايات تدل على محاسنه، وجودته، وخيره. وكان قد قرر ملك البلاد لمماليكه، فجعل غلامه برسق يحارب الروم، فضايقهم حتى قرر عليهم ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار جالية، ثم توجه إلى القسطنطينية وحاصرها، وقرر عليهم ألف ألف دينار،

ذكر أخبار السلطان بركياروق

وبنى قونية «1» ، وقصرا، وسير أخاه تاج الدولة تتش إلى دمشق، وقسيم الدولة آق سنقر بحلب، وغيرهم في كل جهة. وكانت مدة ملكه عشرين سنة، وسبعة أشهر، وستة أيام، وكان له من الأولاد أبو المظفر بركياروق، ومحمد طبر، وأبو الحارث سنجرشاه، ومحمود، وهو أصغرهم. وزيره: نظام الملك، وقد تقدم ذكره. ذكر أخبار السلطان بركياروق هو أبو «2» المظفر بركياروق بن السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغرى بك بن ميكائيل بن سلجق، وهو الرابع من ملوك الدولة السلجقية. وبركياروق بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء والكاف، وفتح الباء المثناة من تحت، وبعد الألف راء مضمومة، وبعد الواو الساكنة قاف. قال المؤرخ: لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى الأمراء، وفرقت الأموال، واستخلفت لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهورا، وأرسلت إلى الخليفة

المقتدى بأمر الله في الخطبة له، فأجابها إلى ذلك على أن يكون الأمير أتسز مدبر الجيش، وتاج الملك يتولى تدبير الأموال والدواوين، وخطب له، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة له في يوم الجمعة الثانى والعشرين من شوال، وكان بركياروق إذ ذاك بأصفهان، فكتبت تركان خاتون بالقبض عليه، فقبض عليه، فلما ظهر موت السلطان ملكشاه، ثارت المماليك النظامية، وأخرجوه من الحبس وملكوه، فسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصفهان، فلما قاربتها تحول بركياروق إلى الرى، ولقيهم أرعش «1» النظامى في عساكره، وإنما حمل النظامية على نصرة بركياروق كراهتهم لتاج الملك، فإنه الذى دبر في قتل مولاهم. قال: وأرسلت تركان خاتون العساكر لقتال بركياروق، فلما التقى العسكران انحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكرها إلى خدمة بركياروق منهم: الأمير باليرد، «2» وكمشتكين الجاندار «3» ، وغيرهما، فقوى بهم، وكانت الحرب بينهم في آخر ذى الحجة من السنة، فانهزم عسكر تركان خاتون، وعاد إلى أصفهان، وسار بركياروق في أثرهم، وحصرهم بها.

ذكر قتل تاج الملك

ذكر قتل تاج الملك كان تاج الملك في عسكر تركان خاتون، فانهزم إلى نواحى بروجرد فأخذ، وجىء به إلى عسكر بركياروق، وهو يحاصر أصفهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع في إصلاح أكابر المماليك النظامية، وفرق فيهم مائتى ألف، فزال ما في نفوسهم منه، فوثب عثمان الذى كان نائب نظام الملك، ووضع الغلمان الأصاغر النظامية، واستغاثوا ألا تقنعوا إلا بقتل قاتل مولاهم، ففعلوا ذلك، «1» وهجموا عليه، وقطعوه عضوا عضوا، وذلك في المحرم سنة ست وثمانين وأربعمائة، فاستوزر بركياروق عز الملك بن نظام الملك، واستولى بركياروق على الرى. وهمذان، وما بينهما، وقدم بغداد فى أواخر سنة ست وثمانين، وخطب له بها في يوم الجمعة رابع المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وحملت إليه الخلع، فلبسها، وعلم الخليفة على عهده، ومات «2» فجأة، وتولى ابنه المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والعهد إلى السلطان بركياروق، فأقام ببغداد إلى شهر ربيع الأول من السنة، وسار إلى الموصل، ثم إلى نصيبين، وكان بينه، وبين عمه تتش من الحرب ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر انهزام بركياروق من عمه تتش ودخوله إلى أصفهان ووفاة أخيه محمود

ذكر انهزام بركياروق من عمه تتش ودخوله الى أصفهان ووفاة أخيه محمود قال: ولما اتصل بتتش وفاة أخيه ملكشاه سار من الشام، وملك حلب، وحران، والرها، والجزيرة جميعها، وديار بكر، وخلاط، وآذربيجان، وهمذان على ما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى، فلما قارب البلاد سار السلطان بركياروق لدفعه عنها، ووصل إلى أربل، وقرب من جيش عمه، ولم يكن معه غير ألف فارس، وكان عمه في خمسين ألفا، فجهز عمه من أمرائه من كبس عسكره، فهرب بركياروق، ونهب سواد عسكره، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، وبركياروق، وهم من الأمراء الأكابر، وخطب لعمه عند هذه الحادثة ببغداد على ما نذكره، وسار هو إلى أصفهان، وكانت تركان خاتون والدة أخيه محمود قد ماتت، فخرج إليه أخوه الملك محمود، وتلقاه، وأدخله البلد. وكان ذلك خديعة ليقبض عليه، فلما دخل بركياروق قبض عليه محمود، وقصد سمله، فاتفق أن محمودا حم وجدر، فقال لهم أمين الدولة بن التلميذ «1» الطبيب: «إن الملك قد جدر، وما أراه يسلم، والمصلحة إبقاء بركياروق، فإن مات صاحبكم ملكوه، ولا تعاجلوه بالإتلاف» ، فتركوه، فمات محمود في سلخ شوال سنة سبع وثمانين وأربعمائة «2» فكان هذا من الفرج بعد الشدة كما قيل:

ذكر مقتل أرسلان أرغو

«مصائب قوم عند قوم فوائد» قال: ولما مات محمود حبس بركياروق للعزاء به، واستوزر مؤيد الملك بن نظام الملك في ذى الحجة، فكاتب الوزير الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركياروق، فعظم شأنه، وكثرت عساكره، والتقى هو وعمه تتش في سنة ثمان وثمانين، واقتتلوا بالقرب من الرىّ، فانهزم عسكر «تتش» ، وقتل على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، واستقامت السلطنة لبركياروق، وفي سنة ثمان وثمانين، عزل بركياروق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك، واستوزر أخاه فخر الملك. ذكر مقتل أرسلان أرغو وفي المحرم سنة تسعين وأربعمائة قتل أرسلان أرغو «1» بن ألب أرسلان أخو ملكشاه بمرو، وكان ملك خراسان، وسبب قتله أنه كان شديدا على غلمانه كثير الإهانة لهم والعقوبة، فطلب غلاما منهم، فدخل عليه، وليس عنده أحد، فانكر عليه تأخّره عن الخدمة، فاعتذر، فلم يقبل عذره، وضربه، فأخرج الغلام سكينا، فقتله بها، وأخذ الغلام، فقيل له: لم فعلت هذا، فقال لأريح الناس منه. والله أعلم.

ذكر ملك بركياروق خراسان، وتسليمها لأخيه سنجر

ذكر ملك بركياروق خراسان، وتسليمها لأخيه سنجر قال: كان السلطان بركياروق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغو، وجعل الأمير قماج أتابكا لسنجر، ورتب في وزارته أبا الفتح علىّ بن الحسين الطوسى فلما وصلوا إلى الدامغان، بلغهم خبر قتله، فأقاموا هناك حتى لحقهم السلطان، وساروا إلى نيسابور، فوصلوها في خامس جمادى الأولى من السنة، وملكها السلطان وسائر البلاد الخراسانية بغير قتال، وسار إلى بلخ، وكان عسكر أرسلان أرغو قد ملكوا ابنا صغيرا عمره سبع سنين، فلما بلغهم قدوم السلطان أبعدوا إلى جبال [طخارستان،] «1» وطلبوا الأمان، فأمنهم السلطان، وحضروا إليه في خمسة عشر ألف فارس، فأخذ ابن عمه، وأحسن إليه، وتسلمته والدة بركياروق تربية، وتفرّق جيشه في خدمة الأمراء، وسار السلطان إلى ترمذ، «2» فسلمت إليه، وأقام ببلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند، ودانت له البلاد. ذكر خروج أمير أميران وفي سنة تسعين وأربعمائة خالف أمير اسمه محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وهو ابن عم ملكشاه، على السلطان بخراسان،

ذكر ظهور السلطان محمد طبر بن ملكشاه والملك سنجر وخروجهما على أخيهما السلطان بركياروق والخطبة لمحمد

وتوجه إلى بلخ، واستمد صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من البلاد الخراسانية، فقويت شوكته، فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه صاحب خراسان أخو السلطان جريدة، وكبسه، وأسره، وكحله. ذكر ظهور السلطان محمد طبر بن ملكشاه والملك سنجر وخروجهما على أخيهما السلطان بركياروق والخطبة لمحمد وإنما ذكرنا أخبار السلطان محمد، وأخيه سنجر في دولة السلطان بركياروق لأنه في هذا التاريخ [كان «1» ] هو الملك المشار إليه، وهما كالخوارج عليه، وإن كان محمد في هذه المدة ملك البلاد، وخطب له ببغداد، وغيرها، إلا أنه لم يستقل بغير منازع؛ فلهذا أوردناه الآن فى دولة بركياروق، وسنذكر سلطنته بعد وفاة السلطان بركياروق، ثم نذكر بعده سلطنة السلطان سنجر إن شاء الله تعالى. كان السلطان محمد طبر، وسنجر أخوين لأب وأم، وأمهما أم ولد، ولما مات والدهما السلطان ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، ووالدته تركان خاتون إلى أصفهان، فلما حصر بركياروق أصفهان خرج إليه محمد، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه بركياروق كنجه «2» ، وأعمالها، وجعل معه الأمير، فيلغ

تكين «1» أتابكا له، فلما قوى محمد قتله، واستولى على جميع أعمال «أرّان» إلى «كنجه» من جملتها، وظهرت شهامته، واتفق أن السلطان عزل مؤيد الملك بن نظام الملك من وزارته، فسار إلى الأمير أتسز «2» ، وحسن له العصيان على السلطان، فلما قتل أتسز سار مؤيد الملك إلى السلطان محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعى في طلب السلطنة، ففعل ذلك، وقطع خطبة السلطان بركياروق من بلاده، وخطب لنفسه بالسلطنة، واستوزر مؤيد الملك، وذلك في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، واتفق أن السلطان قتل وزيره «مجد الملك الباسلانى «3» » فى هذه السنة، وكان قد تمكن منه، فنفرت خواطر الأمراء من السلطان، ففارقه مع جماعة منهم، والتحقوا بمحمد، فقوى بهم، وسار نحو الرى، فسبقه إليها السلطان بركياروق، وجمع العساكر، وسار إلى أصفهان فأغلق أهلها الأبواب دونه، فسار إلى خوزستان، وورد السلطان محمد إلى الرى، واستولى عليها في ثانى ذى القعدة من السنة. ووجد بها زبيدة خاتون، والدة أخيه بركياروق، فسجنها مؤيد الملك بالقلعة ثم خنقها.

ذكر اقامة الخطبة لمحمد ببغداد

ذكر اقامة الخطبة لمحمد ببغداد قال: ولما قوى أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهراتين «1» من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركياروق، فاجتمع هو وكريوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب الجزيرة، وسرجاب «2» ابن بدر صاحب كنكور، وغيرها، وساروا إلى السلطان محمد ولقوه «بقم» ، فخلع عليه سعد الدولة، ورده إلى بغداد، وسار بقيتهم في خدمته إلى أصفهان، فلما وصل سعد الدولة إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة إلى محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له فى يوم الجمعة سابع عشر في ذى الحجة سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، ولقب غياث الدنيا والدين. ذكر اعادة الخطبة ببغداد للسلطان بركياروق قال: لما سار بركياروق إلى خوزستان عند ما منع من دخول أصفهان كما ذكرناه جمع العساكر، وكان أمير جيشه حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامى، فتجهز، وسار إلى واسط، ثم منها إلى بغداد، فدخلها في سابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وخطب له بها في يوم الجمعة نصف صفر قبل وصوله إليها بيومين، وكان سعد الدولة كوهرائين «بالشفيعى» ، ومعه إيلغازى بن

ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد والخطبة لمحمد ببغداد

أرتق، وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك «1» ، وإلى السلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا [كريوقا] «2» صاحب الموصل، وجكرمش، فأما جكرمش «3» ، فاستأذن سعد الدولة في العود إلى بلده، فأذن له، فعاد إلى جزيرة ابن عمر، وبقى سعد الدولة في جماعة من الأمراء، فكتب أعيانهم إلى السلطان بركياروق أن يخرج إليهم، وأنهم لا يقاتلونه، فخرج إليهم، فلما عاينوه ترجلوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وعادوا في خدمته إلى بغداد، واستوزر السلطان الأعز أبا المحاسن بن عبد الجليل بن على الدهشانى، «4» وقبض على عميد الدولة «5» بن جهير وزير الخليفة، وطالبه بالأموال، فاستقر الأمر بينهما على مائة ألف وستين ألف دينار يحملها، وخلع الخليفة على بركياروق، والله أعلم بالصواب. ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد والخطبة لمحمد ببغداد وفي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة سار السلطان بركياروق من بغداد، وجعل طريقه على شهرزور، وأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم

ذكر حال السلطان بعد الهزيمة وانهزامه أيضا من أخيه سنجر

كثير من التركمان «1» ، وغيرهم، وسار نحو أخيه محمد، فوقعت الحرب بينهم في رابع شهر رجب [بإسبيدروز] ، «2» ومعناه: النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان، وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، فحمل كوهراتين من ميمنة بركياروق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركياروق في خيامهم، ونهبوا ما فيها، وعاد سعد الدولة، فكبابه فرسه، فقتله خراسانى، وأخذ رأسه، وكان سعد الدولة خادما من خدام الملك أبى كاليجار بن سلطان الدولة من بويه، ثم انتقل بعده إلى السلطان طغرلبك، وتنقل في خدمة الملوك السلجقية، فلما قتل تفرقت عساكر بركياروق، وبقى في خمسين فارسا، وأسر وزيره الأعز، فأكرمه مؤيد الملك، وأحسن إليه، وأعاده إلى بغداد، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد، ففعل، وأجيب إلى ذلك، وخطب له في يوم الجمعة رابع عشر رجب من السنة. ذكر حال السلطان بعد الهزيمة وانهزامه أيضا من أخيه سنجر قال: وانهزم السلطان بركياروق في خمسين فارسا، فقصد الرى، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى «أسفرايين «3» » ، ثم

إلى نيسابور، واستدعى الأمير ذاد حبشى بن التوتيان «1» ، وكان بيده حينئذ أكثر خراسان، وطبرستان، وجرجان، فاعتذر أن الملك سنجر قصد بلاده في هذا الوقت بعساكر بلخ، وسأل السلطان أن يحضر إليه ليعينه على حرب الملك سنجر، فسار إليه في ألفى فارس، فعلم بقدومه الأمراء والأكابر من أصحاب سنجر دون الأصاغر، وكان مع الأمير ذاد عشرون ألف مقاتل منهم رجالة «2» الباطنية خمسة آلاف ووقع المصاف بين بركياروق، وسنجر خارج البوسنجان، فانهزم أصحاب سنجر أولا، واشتغل أصحاب بركياروق بالنهب، وكانت الدائرة عليهم، فانهزموا، وأسر أكثر أعيان بركياروق وقتل أمير ذاد «3» ، وسار بركياروق إلى جرجان «4» ، ثم إلى دامغان، وسار في البرية، فرأى في بعض المواضع، ومعه سبعة عشر فارسا، وجمّازة واحدة، ثم كثر جمعه، فصار في ثلاثين ألف فارس، وسار إلى أصفهان، فسبقه السلطان محمد إليها.

ذكر الحرب بين السلطانين بروكياروق ومحمد ثانيا، وقتل مؤيد الملك

ذكر الحرب بين السلطانين بروكياروق ومحمد ثانيا، وقتل مؤيد الملك «1» وفي سنة أربع وتسعين وأربعمائة في ثالث جمادى الآخرة كان المصاف الثانى بينهما، وكان مع كل واحد منهما خمسة عشر ألف فارس، فاستأمن كثير من أصحاب محمد إلى بركياروق، ودام القتال بين الفريقين إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد، ومن معه، وأسر وزيره مؤيد الملك، فأمر السلطان بقتله، وأخذ ما كان له من الأموال والجواهر لبغداد، والله أعلم بالصواب. ذكر حال محمد بعد الهزيمة واجتماعه بأخيه سنجر ولما انهزم السلطان محمد سار طالبا خراسان إلى أخيه سنجر، فأقام بجرجان، وأرسل إلى أخيه يطلب منه مالا وكسوة وغير ذلك، فسير إليه ما طلب، وترددت الرسائل بينهما، وتحالفا، واتفقا، ولم يكن قد بقى مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس، فلما استقرت بينهما القواعد سار سنجر في عساكره إلى أخيه، فاجتمعا بجرجان، وسارا منها إلى دامغان، وسارا إلى الرى، وانضم إليهما النظامية، فكثر جمعهم، وعظمت شوكتهم، والله أعلم.

ذكر ما فعله بركياروق، ودخوله إلى بغداد

ذكر ما فعله بركياروق، ودخوله الى بغداد قال: ولما انهزم السلطان محمد أقام بركياروق بالرى، واجتمعت عليه العساكر، فسار معه نحو من مائة ألف فارس، فضاقت عليهم الميرة، فتفرقت العساكر عنه، فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه، وتوجه الأمير إياز إلى همذان، وتفرقت العساكر إلى أن بقى في قلّة من العسكر، فبلغه اجتماع أخويه، وأنهما حشدا، وكثرت جموعهما، فتوجه إلى بغداد، وضاقت عليه النفقات، فراسل الخليفة عدة مراسلات، فتقرر أن يحمل إليه خمسين ألف دينار، فحملهما الخليفة إليه، فلم تغن شيئا، فأفضى الحال إلى أن مديده إلى أموال الناس، وانتهبها، فركب من ذلك خطة شنيعة، وخالفه الأمير صدقة بن منصور بن دبيس صاحب الحلة، وقطع خطبته من بلاده، وخطب للسلطان محمد، وسبب ذلك أن الوزير أبا المحاسن وزير بركياروق سير يطالبه بألف ألف دينار وكسور، وقال: إنها قد تخيرت عليك، فاما أن ترسلها وأما أن تتجهز الجيوش إليك، فقطع الخطبة، وعصى عليه، والله أعلم بالصواب. ذكر وصول السلطان محمد، وسنجر الى بغداد، ورحيل بركياروق عنها وفي السابع والعشرين من ذى الحجة سنة أربع وتسعين وأربعمائة وصل السلطان محمد وسنجر الملك إلى بغداد، ولما وصلا حلوان سار إيلغازى بن أرنق في عسكره إلى السلطان محمد، وخدمه، وكان

عسكر السلطان محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع، فلما وصلت الأخبار بذلك كان السلطان بركياروق على شدة من المرض، فخاف أصحابه، واضطربوا، وعبروا به في محفة إلى الجانب، وتيقن أصحابه موته، ثم تراجعت إليه روحه، ووصل السلطان محمد، والملك سنجر إلى بغداد، فخرج توقيع الخليفة المستظهر بأمر الله يتضمن سوء سيرة بركياروق، والأستبشار بقدومهما، وخطب للسلطان محمد بالديوان العزيز، ونزل الملك سنجر دار كوهراتين، ثم كانت الحرب بين السلطانين في صفر سنة خمس وتسعين، وهو المصاف الثالث، ووقع بينهما الصلح على أن يكون بركياروق السلطان، ومحمد الملك، وتضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد [جنزة] «1» وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بالعساكر يفتح بها ما تمنع عليه، وحلف كل واحد منهما للآخر، وانصرف الفريقان من المصاف في رابع شهر ربيع الأول، وتفرقت العساكر ثم انتقض ذلك، والتقوا في جمادى الأولى من السنة، وكانت بينهما واقعة، وهو المصاف الرابع انهزم فيه السلطان محمد، وأصحابه بعد قتال، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبرا، وسار محمد في نفر يسير إلى أصفهان، وحمل عليه بيده ليتبعه أصحابه، وأخذ السلطان بركياروق خزانته، ووصل محمد إلى أصفهان، فأصلح سورها، وحفر خندقها، واعتد للحصار، وجاء

ذكر الصلح بين السلطان بركياروق وأخيه محمد

بركياروق، وحاصره بها حصارا شديدا حتى ضاقت الميرة، واستمر الحصار إلى عاشر ذى الحجة، واقترض محمد أموال الأعيان، ثم فارق البلد في مائة وخمسين فارسا، ومعه الأمير ينال، فاستخلف على البلد جماعة من الأمراء الأكابر، وبعث السلطان في طلبه، فلم يدرك، وسار محمد، ووصل إلى «ساوة» ، واجتمع عليه عسكره الذى كان بكنجه، وأعمالها، ورحل إلى همذان، وبلغ جمعه ستة آلاف فارس، وأقاموا إلى آخر المحرم سنة ست وتسعين وأربعمائة، وأتاهم الخبر بقصد بركياروق لهم، فاجتمع على محمد جماعة أخرى، والتقوا على باب «خوى» ، وهو المصاف الخامس، وكان الظفر فيه لمحمد، وانهزم بركياروق وأصحابه، وسار محمد إلى «خلاط» ، ثم إلى تبريز، وأذربيجان. ذكر الصلح بين السلطان بركياروق وأخيه محمد وفي سنة سبع وتسعين وأربع مائة تم الصلح بين السلطان بركياروق، وبين أخيه محمد، وحلف كل منهما لصاحبه، واستقرت القواعد، ووضعت الحرب أوزارها، وتقرر بينهما أن السلطان بركياروق لا يعترض على أخيه محمد، ولا يذكر معه على منبر من مثابر البلاد التى استقرت له، ولا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزير، «1» ولا يعارض أحد منهما العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بأسبيدروز، وباب

ذكر أخبار الباطنية وابتداء أمرهم وما استولوا عليه من القلاع وسبب قتلهم

الأبواب، وديار بكر، والجزيرة «1» ، والموصل، والشام، وبلاد سيف الدولة صدقة، وانتظم الأمر على ذلك، ولما انتظم أمر بركياروق عاجلته المنية فلم تطل مدته بغير منازع، وشغله حرب عمه وإخوته عن حروب أعدائه، ولم يفعل شيئا غير قتله للباطنية على ما نذكره في هذا الموضع، وإنما أخرناه عن موضعه حتى لا ينقطع خبره مع أخيه محمد. ذكر أخبار الباطنية وابتداء أمرهم وما استولوا عليه من القلاع وسبب قتلهم والباطنية هم الإسماعيلية، وهم طائفة من القرامطة الذين قدمنا ذكرهم. قال ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل: أول ما عرف من أحوال هؤلاء في هذه الدعوة الأخيرة التى اشتهرت بالباطنية والإسماعيلية أنه اجتمع منهم في أيام السلطان ملكشاه ثمانية عشر رجلا، وصلوا صلاة العيد في ساوة، فظفر بهم «الشحنة» ، فسجنهم، ثم سئل فيهم، فأطلقهم، فهذا أول اجتماعهم، ثم دعوا مؤذنا من أهل «ساوة» كان مقيما بأصفهان، فلم يجب دعوتهم، فخافوه أن ينمّ عليهم، فقتلوه، وهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فاتصل خبر مقتله بالوزير نظام الملك، فأمر من يتّهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثّل به، وجرّوا برجله في الأسواق، وهو أول قتيل منهم، ثم إن الباطنية قتلوا الوزير نظام الملك، وهى أول «2» قتلة مشهورة كانت

ذكر ما استولوا عليه من القلاع ببلاد العجم

لهم، وناهيك بها قتلة، وقالوا: قتل منا نجارا، فقلتلناه به، وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند «قاين» «1» كان قائده على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فاجتازت لهم قافلة عظيمة من كرمان بقصد «قاين» ، فخرجوا عليها هم، وقائد البلد وأصحابه، فقتل أهل القفل «2» عن آخرهم لم ينج منهم غير رجل تركمانى، فوصل إلى قاين، وأخبره بالقصّة «3» ، فسار أهلها مع القاضى الكرمانى إلى جهادهم، فلم يقدروا عليهم، ثم مات السلطان ملكشاه، فعظم أمرهم، واشتدت شوكتهم، واشتغل السلطان بركياروق بحرب إخوته وأهله، فاجتمعوا، وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم، ويقتلونه، ففعلوا ذلك بخلق كثير، وزاد الأمر حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله، وقعدوا للعزاء به، فحذر الناس، وصار لا ينفرد أحد، وأخذوا في بعض الأيام مؤذنا أخذه جار له باطنى، فقام أهله للنياحة، فأصعده الباطنية إلى سطح داره، وأروه أهله كيف يلطمون عليه، ويبكون، وهو لا يقدر يتكلم خوفا منهم، وذلك بأصفهان. ذكر ما استولوا عليه من القلاع ببلاد العجم قال: واستولوا على عدّة حصون منها قلعة أصفهان، وهى التى بناها السلطان ملكشاه، وسبب بنائها أنه ركب للصيد، ومعه

مقدّم من مقدمى الروم كان قد لجأ إليه، وأسلم، وصار معه، فهرب من ملكشاه كلب من كلاب الصيد، فأتبعه، فوجده في موضع القلعة، فقال الرومى: لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصنا يشفع به، فأمر ملكشاه ببنائه، فلما انقضت أيام ملكشاه، وصارت أصفهان بيد تركان خاتون والدة السلطان محمود استولى الباطنية عليه، فكانوا يقولون: إن قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر لا تكون خاتمتها إلا بهذا الشر. ومنها «ألموت» وهى من نواحى قزوين. قيل: إن ملكا من ملوك الديلم كان كثير الصيد، فأرسل عقابا، وتبعه، فرآه قد سقط على موضع القلعة، فوجده حصينا، فأمر ببنائه، وسماها «1» قلعة الألموت، ومعناها بالديلم: تعليم العقاب، ويقال لهذا الوضع وما جاوره: طالقان وفيها قلاع حصينة أشهرها: الألموت «2» . ومنها قلعة [طبس] «3» ، وقهستان، ومن جملتها جور «4» ، وجوسف «5» ، وزوزن، وقاين، وتون «6» وتلك الأطراف المجاورة لها، ومنها قلعة وسنملوه «7» وهى بقرب أبهر. ملكوها في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وقتل من كان بها عن آخرهم، ومنها قلعة خالنجان «8» وهى على خمسة

ذكر قتل الباطنية وسببه

فراسخ من أصفهان، ومنها كردكوه «1» ، وهى مشهورة، ومنها قلعة الباطن بخوزستان، وقلعة الطنبور، وبينها وبين أرجان فرسخان، وقلعة لأوجان «2» ، وهى بين فارس وخوزستان، فهذا ما ملكوه من القلاع في هذه المدة القريبة. ذكر قتل الباطنية وسببه كان قتلهم في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وسبب ذلك أنه لما اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم شرعوا في قتل الأمراء، والفتك بهم، وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة السلطان محمد مخالف للسلطان مثل شحنة أصفهان وغيره، فلما ظفر السلطان بركياروق بأخيه محمد انبسط جماعة منهم في العسكر، واستغووا جماعة منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وزاد أمرهم حتى كادوا يظهرون بالكثرة والقوة، فصاروا يتهددون من لم يوافقهم بالفتك، وانتهى الحال إلى أن الأمراء ما بقى منهم من يجسر أن يمشى حاسرا. إلا بدرع تحت ثيابه، حتى الوزير الأعز كان يلبس ذردية تحت ثيابه، فأشير على السلطان بالفتك بهم قبل أن يعجز عنهم، وأعلموه ميل الناس إلى مذهبهم، ودخولهم فيه حتى إن عسكر السلطان محمد كانوا يشنّعون ذلك عليه، ويكبرون في المصاف على أصحابه، ويقولون لهم: يا باطنية، فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان في قتلهم، وركب هو والعسكر، وطلبوهم، وأخذوا جماعة

ذكر وفاة السلطان بركياروق ووصيته لولده ملكشاه بالملك

ممن كان وافقهم، فلم يفلت منهم إلا من لم يعرف، ومن جملة من اتهم: مقدّمهم الأمير محمد بن علاء الدولة صاحب مدينة يزد، فهرب، وسار يومه وليلته، فلما كان في اليوم الثانى وجد في العسكر، وقد ضل عن الطريق، فقتل، ونهب خيامه، وممن قتل ولد كيقباد مستحفظ، تكريت، وقتل منهم جاولى سقاوه «1» فى هذه ثلاثمائة رجل. ذكر وفاة السلطان بركياروق ووصيته لولده ملكشاه بالملك كانت وفاته في ثانى عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة بأصفهان بمرض السل، والبواسير، وسار منها في محفّة يطلب بغداد، فلما وصل إلى [بروجرد «2» ] ضعف عن الحركة، فأقام بها أربعين يوما، فاشتد مرضه، فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه، وعمره أربع سنين وثمانية أشهر، وجعل الأمير إياز أتابكة، وخلع على الأمراء، واستحلفهم له، وأمرهم بالطاعة لهما، فحلفوا على الوفاء، وأمرهم بالسير إلى بغداد، فساروا، فلما كانوا على اثنى عشر فرسخا من بروجرد. وصل إليهم خبر وفاته. وحمل إلى أصفهان ودفن بها، وكان له من العمر خمسة وعشرون سنة، ومدّة ملكه اثنتا عشرة سنة، وأربعة أشهر. وقاسى من الحرب والاختلاف ما قدمناه. وكان حليما كريما صبورا عاقلا كثير المداراة حسن العفو لا يبالغ في العقوبة، عفوه أكثر من عقوبته.

ذكر الخطبة لملكشاه بن السلطان بركياروق ببغداد

ذكر الخطبة لملكشاه بن السلطان بركياروق ببغداد قد ذكرنا وصيّة والده له بالملك، واستخلافه الأمراء، وتقرير قواعده، وإنفاذه إلى بغداد. قال: ولما جاءه الخبر بوفاة أبيه، سار به أتابكه الأمير إياز، وإيلغازى شحنة بغداد، ودخلا به إلى بغداد، وخطب له [بجوامعها] «1» فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ولقب بألقاب جدّه جلال الدولة، ونشرت الدنانير على الخطباء، ثم قدم عمه السلطان محمد على ما نذكره. ذكر أخبار السلطان محمد هو غياث الدين أبو شجاع محمد طبر يمين أمير المؤمنين ابن السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغرى بك بن ميكائيل بن سلجق، وهو الخامس من ملوك الدولة السلجقية. قد قدمنا من أخبار هذا السلطان، ووقائعه مع أخيه السلطان بركياروق وحروبه، والخطبة له ببغداد مرة بعد أخرى ما يستغنى عن إعادته، ونحن الآن نذكر أخباره في سلطنته بعد وفاة أخيه. قال: لما مات السلطان بركياروق، وخطب لولده ملكشاه ببغداد كما ذكرناه، كان السلطان محمد إذ ذاك يحاصر جكرمش، وسكمان القطبى «2» ،

وغيرهما من الأمراء وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلة قد جمع خلقا كثيرا من العساكر بلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وأرسل ولديه بدران، ودبيس إلى السلطان محمد يستحثه على الحضور إلى بغداد، فاستصحبهما معه، فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذى معه من الدور، ونصبوا الخيام بالزهراء «1» خارج بغداد، وجمع الأمراء، واستشارهم فيما يفعله، فبذلوا الطاعة واليمين على قتال السلطان، ودفعه عن السلطنة، والاتفاق على طاعة ملكشاه بن بركياروق، وكان أشدهم «ينال، وصبارو «2» ، فلما تفرفوا، قال له وزيره الصفىّ أبو المحاسن: «اعلم أن حياتى مقرونة بثبات نعمتك ودولتك، وأنا أكثر التزاما بك من هؤلاء، وليس الرأى ما أشاروا به، فإن كل واحد منهم يقصد أن يسلك طريقا، ويقيم سوقا لنفسه، وأكثرهم يناوئك فى المنزلة، وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال، والصواب مصالحة السلطان محمد، والدخول في طاعته، وهو يقرك على ما بيدك من الإقطاع، ويزيدك عليه ما أردت» ، فتردّد رأى الأمير إياز في الصلح إلا أنه يظهر المباينة، وجمع السفن التى ببغداد، وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره، أو إلى البلد، ووصل السلطان محمد إلى بغداد في يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ونزل بالجامع الغربى، وخطب له بالجامع، وأما جامع المنصور، فإن الخطيب قال: «اللهم أصلح سلطان العالم» . لم يزد على

ذلك، وركب إياز في عسكره، وهم عازمون على الحرب، وسار حتى أشرف على عسكر السلطان محمد، وعاد إلى مخيّمه، فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه، فأجاب بعضهم، وتوقف البعض، وقالوا: قد حلفنا مرة، ولا فائدة في إعادة اليمين لأنا إن وفينا بالأولى، وفينا بالثانية، فأمر إياز حينئذ وزيره الصفى أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد، والمشى في الصلح، وتسليم السلطنة إليه، فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد، واجتمع بوزيره سعد الملك أبى المحاسن سعد بن محمد، وعرّفه ما جاء فيه، فأحضره إلى السلطان، فأدى الرسالة، واعتذر عن صاحبه، فأجابه السلطان جوابا لطيفا، وطيب نفسه، وأجاب إلى اليمين، فلما كان الغد حضر قاضى القضاة، والنقيبان، والصفى وزير إياز عند السلطان، فقال له وزيره سعد الملك: إن إياز يخاف لما تقدم منه، وهو يطلب العهد لنفسه، وللأمراء الذين معه. فقال السلطان: أما ملكشاه فلا فرق بينه وبين أخى، وأما إياز والأمراء الذين معه، فأحلف لهم إلا ينال الحسامى وصبارو، وحلف لهم، فلما كان الغد حضر الأمير إياز إلى السلطان، فلقيه الوزير، وكافة الناس، ووصل سيف الدولة صدقه في ذلك الوقت، ودخلا جميعا إلى السلطان، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وقيل: بل ركب السلطان، ولقيهما، وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان، وسار إلى أصفهان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر قتل الأمير أياز

ذكر قتل الأمير أياز كان سبب ذلك أنه لما سلّم السلطنة لمحمد، وصار في جملة أصحابه، عمل وليمة عظيمة في ثامن جماد الآخرة في داره، ودعا لسلطان إليها، فجاء وقدم له إياز شيئا كثيرا، من جملته حمل بلخش «1» ، كان إياز قد أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك، وحضر الوليمة سيف الدولة صدقة بن مزيد، فاتفق أن إياز تقدم إلى غلمانه بلبس السلاح، ليعرضهم على السلطان، فدخل إليهم رجل من أبهر كانوا يضحكون منه، فألبسوه ذرعا تحت قميصه، وتناولوه بأيديهم، وهو يسألهم أن يكفوا عنه، فلم يفعلوا، فلشدّة ما ناله هرب منهم، ودخل بين خواص السلطان، فرآه السلطان مذعورا، فاستراب منه، وقال لغلام له أن يمسكه من غير أن يعلم به أحد ففعل، فرأى الدرع تحت ثيابه، فأعلم السلطان بذلك، فاستشعر السوء وقال: إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا الدروع، فما ظنك بغيرهم من الجتد، ونهض وعاد إلى داره، فلما كان في ثالث عشر. استدعى الأمير صدقة وإياز، وجكرمش، وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم: أنا بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، قصد ديار بكر ليملكها، ويسير منها إلى الجزيرة، وينبغى أن تجتمع أراؤكم على من يسير إليه ليمنعه، ويقاتله، فقال الجماعة: ليس هذا الأمير إلا للأمير إياز. فقال إياز: ينبغى أن أجتمع أنا وسيف

ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد والقبض عليه

الدولة صدقة على هذا الأمر، فقبل ذلك السلطان، فاستدعى إياز وصدقة والوزير سعد الملك، فقاموا ليدخلوا عليه، وكان قد أعدّ جماعة من خواصّه لقتل إياز إذا دخل عليه، فلما دخل ضرب أحدهم رأسه فأبانه، فغطى صدقة وجهه بكمّه، وأما الوزير فغشى عليه، وتفرق أصحاب إياز، وكان زوال نعمته العظيمة ودولته في مزحة مزحها غلمانه، ولما كان الغد كفّنه قوم من المتطوعة ودفنوه. وكان من جملة مماليك السلطان ملكشاه، وكان غزير المروءة، شجاعا حسن الرأي في الحرب. ولما قتل اختفى وزيره الصفى، ثم أخذ وحمل إلى الوزير سعد الملك، ثم قتل في شهر رمضان، وسار السلطان إلى أصفهان، فوصل إليها في شهر رمضان وأمن أهلها. ذكر خروج منكبرس «1» على السلطان محمد والقبض عليه وفي المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة أظهر منكبرس ابن الملك بوزى برس «2» بن ألب أرسلان، وهو ابن عم السلطان محمد العصيان، والخلاف على السلطان، وسبب ذلك أنّه كان بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت عنه الموادّ، فسار إلى نهاوند، واجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، فتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بنى برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته، وكان السلطان محمد قد قبض على أخيهم زنكن بن برسق، فكاتب زنكى إخوته، وحذرهم

ذكر ملك السلطان محمد قلعة [شاه دز] من الباطنية وقتل ابن عطاش

من طاعته، وأمرهم بالتدبير في القبض عليه، فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم وساروا إليه، واجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وهى بلد «خوزستان» ، وتفرق أصحابه وأتوا به إلى أصفهان، فاعتقله السلطان مع بنى «1» عمه تكش، وأخرج زنكى بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم وهى الأسر «2» ، ونيسابور، وغيرهما ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوض ذلك الدور وغيرها وفيها «3» ظهر بنهاوند أيضا رجل من أهل السواد، ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير، واتبعوه، وباعوا أملاكهم، ودفعوا أثمانها إليه، وهو يخرج جميع ذلك، وسمى أربعة من أصحابه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، ثم قتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا في مدة شهرين اثنان: أحدهما يدعى النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لأحد منهما أمر، والله أعلم. ذكر ملك السلطان محمد قلعة [شاه دز] «4» من الباطنية وقتل ابن عطاش «5» وفي سنة خمسمائة ملك السلطان القلعة التى كانت الباطنية ملكوها بالقرب من أصفهان، واسمها «شاه دز» ، وقتل صاحبها أحمد

ابن عبد الملك بن عطاش وولده. وكانت هذه القلعة قد بناها السلطان لملكشاه، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك، وكان قد اتصل بدز «1» دار القلعة، فلما مات استولى عليها، وكان الباطنية بأصفهان فد ألبسوه تاجا، وجمعوا له أموالا عظيمة، فاشتد بأسه، وكثر جمعه، واستفحل «2» أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق، وأخذ الأموال، وقتل من قدروا عليه، فقتلوا خلقا كثيرا، وجعلوا لهم على القرى السلطانية، وأموال «3» الناس، ضرائب يأخذونها؛ ليكفوا عنها الأذى، فتعذر انتفاع السلطان بقراه، والناس بأملاكهم، ومشى لهم الأمر بما كان بين السلطان وأخيه من الاختلاف، فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له «4» منازع، لم يكن عنده أمر أهمّ من الباطنية، فخرج بنفسه، وحاصرهم، فى سادس شعبان، وأحاط بجبل القلعة، فلما اشتد الحصار عليهم طلبوا أن ينزل بعضهم من القلعة، ويرسل السلطان معهم من يحميهم، إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان «5» ، وكانت لهم، وينزل بعضهم، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس، وأن يقيم البقية منهم في ضرس «6» من القلعة، إلى

ذكر القبض على الوزير وقتله، ووزارة أحمد بن نظام الملك

أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، وينزلون حينئذ، ويرسل السلطان معهم من يوصلهم، إلى ابن الصباح بقلعة ألموت، فأجيبوا إلى ذلك، وتوجه معهم من أوصلهم إلى قلعتى الناظر، وطبس، وعاد منهم من أخبر ابن غطاس بوصولهم، فلم يسّلم السن الذى بيده، ورأى السلطان منه العذر، فجدد الحصار، فجاء إلى السلطان من دله على عورة ذلك السن، فملكه، وقتل من فيه من الباطنية، واختلط بعضهم بمن دخل، فسلموا، وأسر ابن عطاش، فتركه السلطان أسبوعا، ثم أمر به، فشهر في جميع البلاد، وسلخ جلده، فمات، وحشى تبنا، وقتل ولده، وحملت رأساهما إلى بغداد، وألقت زوجته نفسها من القلعة، فهلكت. كانت مدة البلوى بابن عطاش ثنتا عشرة سنة. ذكر القبض على الوزير وقتله، ووزارة أحمد بن نظام الملك وفي سنة خمسمائة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبى المحاسن، وأخذ ماله، وصلبه على باب أصفهان، وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه، فأما الوزير، فنسب إلى خيانة السلطان، وأما الأربعة، فنسبوا إلى اعتقاد مذهب الباطنية، ثم استشار السلطان فيمن يجعله وزيرا، فذكر له جماعة، فقال: أن آبائى «1» رأوا على نظام الملك البركة، وله عليهم الحق الكبير، وأولاده أعذياء بنعمتنا،

ذكر قتل الأمير صدقة بن مزيد

ولا معدل عنهم، فاستوزر أبا نصر أحمد، ولقب ألقاب أبيه قوام الدين نظام الملك صدر الإسلام، وحكّمه، ومكّنه، وقوى أمره. ذكر قتل الأمير صدقة بن مزيد «1» كان مقتله في سنة إحدى وخمسمائة، وكان سب ذلك أنه قد عظم أمره، واشتهر ذكره، واستجار به الأكابر من الخلفاء، فمن دونهم، وأجار على الخلفاء والملوك، وكان ممن أكد أسباب «2» دولة السلطان محمد، وأقام في حقه، وعضده، وجاهر السلطان بركياروق بسببه «3» ، فلما استوثق الأمر للسلطان محمد، زاده على ما بيده من الإقطاع زيادة عظيمة، منها مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة، ثم أفسد ما بينهما العميد أبو «4» جعفر محمد بن الحسن البلخى، وقال للسلطان: إن صدقة عظم أمره، وكثر إدلاله، وهو يحمى كلّ من يفر من السلطان، والتحق به، ونسبه إلى مذهب الباطنية، ولم يكن كذلك، وإنما تشيع، واتفق أن السلطان محمد سخط على أبى دلف سرخاب «5» بن كيخسرو صاحب ساوه، فهرب منه، وقصد صدقة، واستجار به فأجاره، فأرسل السلطان

يطلبه من صدقة، وأمره بتسليمه إلى نوابه، فلم يفعل، وأجاب: إننى لأمكن منه بل أحامى عنه، أقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا النبى صلى الله عليه وسلّم: ونسلمه حتى نصرّع حوله* ونذهل عن أبنائنا والحلائل وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه السلطان إلى العراق، ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة به، استشار أصحابه فيما يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس أن ينفذه إلى السلطان، ومعه الأموال والخيل والتحف ليستعطفه، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيش صدقة بحربه، وجمع الجند، وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله ووافقه «1» ، وجمع العساكر، فاجتمع له عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، وأرسل الخليفة المستظهر بالله إلى الأمير صدقة، يحذره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، فأجاب: إننى على الطاعة، لكن لا آمن على نفسى فى الاجتماع به، ثم أرسل السلطان إلى صدقة يطيب قلبه، ويبسط ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، فأجاب: إن أصحاب السلطان قد أفسدوا قلبه علىّ، وغيرّوا حالى عنده، وزال ما كان عليه في حقى من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع، وليرين خيولنا ببغداد «2» ، وامتنع صدقة من الاجتماع

بالسلطان، وكان السلطان وصل إلى بغداد جريدة في خيل، لا تبلغ ألفى فارس، فأرسل إلى جيوشه، فأتته من كل جهة، وتكررت الرسائل من الخليفة إلى صدقة، وهو يجيب: إننى ما خالفت الطاعة، ولا قطعت الخطبة، وجهز ابنه دبيسا، ليسير إلى السلطان، فبينما هو في ذلك إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان، قد وقعت الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة، وأن عسكر السلطان انهزم، وأسر جماعة من أعيانهم، فأخر صدقة ابنه، ثم ترددت الرسائل من الخليفة إلى صدقة، يقول: إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم، فأجاب أولا بالخضوع والطاعة، ثم قال: لو قدرت على الرحيل من بين يدى السلطان لفعلت، ولكن ورائى من يثقل ظهرى: ثلاثمائة امرأة لا يحملهن مكان، ولو علمت أننى إذا جئت للسلطان مستسلما قبلنى، واستخدمنى، لفعلت، ولكننى أخاف ألا يقبل عذرى، ولا يعفو، وأما ما نهب فإن الخلق كثير، وعندى من لا أعرفه، وقد نهبوا ودخلوا البر، ولا طاقة لى بهم، لكن إن كان السلطان لا يعارضنى فيما في يدى، ولا فيمن أجرته ويقر سرخاب «1» على إقطاعه بساوة، ويتقدم بإعادة ما نهب من بلدى. ويحلفه «2» وزير الخليفة بما أثق به من الأيمان، على المحافظة فيما بينى وبينه، فحينئذ أخدم بالمال، وأدوس «3» بساطه بعد ذلك، فعادت الرسائل بذلك «4» مع أبى منصور بن

معروف، وأصر صدقة على قوله، فعند ذلك سار السلطان في ثامن شهر رجب إلى الزعفرانية، وسار صدقة في عسكره إلى قرية مطر، وأمر جنده بلبس السلاح، واستأمن نائبه «1» سلطان بن دبيس وهو ابن» عم صدقة إلى السلطان، فأكرمه، وعبر السلطان «3» إلى دجلة، ولم يعبر هو، فصاروا هم وصدقة في أرض واحدة، بينهما نهر، والتقوا في تاسع عشر شهر رجب، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان، فلما التقوا صارت في وجوه أصحاب صدقة، ورمى الأتراك بالنشاب، فكان يخرج في كل رشقة سبعة عشر ألف فردة، لا تقع إلا في فارس أو فرس، فكان أصحاب صدقة إذا حملوا منعهم النهر، والنشاب يصل إليهم، وحمل صدقة على الأتراك، وجعل يقول: أنا صدقة، أنا ملك العرب «4» فأصابه سهم في ظهره، وأدركه غلام اسمه برغش، فتعلق في صدقة وهو لا يعرفه، فسقطا جميعا إلى الأرض، فعرفه صدقة، وقال: يا برغش أرفق، فضربه بالسيف، فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقى «5» ، فحمله إلى السلطان، فلما رآه عانقه، وأمر لبرغش بصلة، وبقى صدقة طريحا، إلى أن سار السلطان، فدفنه إنسان من المدائن، وكان عمر صدقة تسعا وخمسين سنة، وكانت إمرته إحدى وعشرين سنة،

وحمل رأسه إلى بغداد، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، وأسر ابنه دبيس، وسرخاب بن كيخسرو الديلمى، فأحضر بين يدى السلطان، فطلب الأمان، فقال السلطان: أنا عاهدت الله أنى لا أقتل أسيرا، فإن ثبت عليك أنك باطنى قتلتك. قال: ونهب من أموال صدقة ما لا يحد ولا يوصف. وكان له من الكتب المنسوبة الخطوط ألوف مجلدات، وكان يقرأ ولا يكتب، وكان جوادا حليما، صدوقا، كثير البشر والخير والإحسان، يلقى لمن يقصده بالبشاشه والفضل، ويبسط آمال قاصديه، ويزورهم، وكان عاقلا، عفيفا، دينا، حاز الأوصاف الجميلة، رحمه الله تعالى. قال: ولما قتل صدقة عاد السلطان إلى بغداد، ولم يصل الحلة، وأرسل أمانا لزوجة صدقة، فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيسا، وأنفذ معه جماعة من الأمراء لتلقيها، فلما جاءت اعتذر السلطان إليها من قتل صدقة، وقال: وددت أنه حمل إلى حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس منه، لكن الأقدار غلبتنى عليه، واستحلف ابنها دبيسا أنه لا يسعى بفساد. وفي سنة إحدى وخمسمائة في شعبان أطلق السلطان الضرائب والمكوس، ودار البيع، [والإجتيازات] «1» ، وغير ذلك، مما يناسبه بالعراق، وفيها خرج السلطان إلى أصفهان، وكان مقامه ببغداد، فى هذه الدفعة خمسة أشهر وسبعة عشر يوما.

وفي سنة اثنتين وخمسمائة استولى مورود، وعسكر السلطان على الموصل، وكان جاولى سقاوة قد تغلب عليها، فأخذت منه، بعد حرب وحصار، ثم عاد جاولى إلى خدمة السلطان. وفي سنة ثلاث وخمسمائة سيّر السلطان وزيره نظام الملك أحمد ابن نظام الملك إلى قلعة ألموت، لقتال الحسن بن الصباح، ومن معه من الإسماعلية، فحصرهم، وهجم الشتاء عليهم، فعادوا، وفيها فى شهر ربيع الآخر توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب عليه الباطنية، وضربوه بالسكاكين، فجرح في رقبته، فمرض مدة وبرأ، وأخذ الباطنى، فسقى الخمر حتى سكر، وسئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فقتلوا، وفيها عزل الوزير نظام الملك، واستوزر بعده الخطير محمد بن الحسين. وفي سنة خمس وخمسمائة بعث السلطان الجيوش لقتال الفرنج، وكانوا قد استولوا على البلاد، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتلوا من بها منهم، وحصروا مدينة الرّها، ثم رحلوا عنها. وفي سنة تسع وخمسمائة أقطع السلطان محمد الموصل، وما كان بيد آق سنقر البرسقى للأمير جيوش «1» بك، وسير معه ولده الملك مسعود بن محمد.

ذكر وفاة السلطان محمد وشىء من أخباره وسيرته

ذكر وفاة السلطان محمد وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته في الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان ابتداء مرضه في شعبان، فانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه ودام، وأرجف بموته، فلما كان يوم عيد النحر، حضر الناس إلى دار السلطان، فأذن لهم في الدخول، وجلس السلطان وقد تكلف ذلك، حتى أكل الناس وانصرفوا، فلما انتصف الشهر أيس من نفسه، فأحضر ولده السلطان محمودا وقبله وبكيا، وأمره أن يخرج، ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وكان عمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده «1» : إنه يوم غير مبارك، يعنى من طريق النجوم، فقال السلطان: صدقت يا بنى «2» ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة، فخرج وجلس على تخت السلطنة «3» وبالتاج والسوارين، وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من الشهر أحضر الأمراء، وأعلموا بوفاة السلطان، وخطب لمحمود بالسلطنة. وكان مولد السلطان محمد في ثامن عشر شعبان سنة أربع وسبعين ودعى «4» له بالسلطنة ببغداد، فى الدفعة الأولى، فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت،

وأعيدت عدة دفعات كما قدمناه في أخبار بركياروق. وكانت مدة اجتماع الناس عليه بغير منازع، منذ تسلم السلطنة من الأمير إياز أتابك ملكشاه بن بركياروق، ثنتا عشرة سنة وسبعة أشهر. وأما سيرته فكان ملكا عادلا شجاعا «1» ، حسن السيرة؛ فمن جملة ذلك أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطلهم بما بقى، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضى إلى السلطان، ليحضر معهم إلى مجلس الحكم، فلما رآهم، قال لحاجبه: انظر حاجة هؤلاء فسألهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا إلى مجلس الحكم، فقال: من هو؟ فقالوا: السلطان؛ وذكروا قصتهم. فأعلمه الحاجب ذلك، فأمر بإحضار العامل إليهم، وغرّمه غرما ثقيلا، ونكل به، ثم كان يقول بعد ذلك: ندمت ندامة عظيمة، حيث لم أحضر معهم إلى مجلس الحكم، فيقتدى بى غيرى، ولا يمتنع أحد عن الحضور إليه، وأداء الحق. ومن عدله أنه كان له خازن يعرف بأبى أحمد القزوينى، فقتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة عليه، فعرضت، فإذا درج فيه جوهر نفيس، فقال: إن هذا الجوهر عرض علىّ منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلى خادم له، وأمر بتسليمه إليهم، فسأل عنهم وكانوا غرباء- وقد تيقنوا ذهاب مالهم، وأيسوا منه، فلم يطلبوه، [فأحضرهم] «2» وسلمه إليهم،

ذكر أخبار السلطان سنجر

وأطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعلم منه فعل قبيح، ولا عرف عنه، وعلم الأمراء سيرته، فلم يتجاسروا على الظلم، وكفوا عنه. وكان له من الأولاد: محمود، وطغرل، ومسعود، وسليمان شاه، وسلجق. تولوا كلهم السلطنة إلا سلجق. وزراؤه: مؤيد الملك بن نظام الملك. ثم سعد الملك أبو المحاسن، إلى أن قتله، ثم أحمد بن نظام الملك، ثم خطير الملك، وكان في نهاية الجهل، فعزله بعد مدة، وصادره، وولى غيرهم، وممن استوزره: ربيب الدولة أبو منصور بن أبى شجاع. ولما توفى السلطان محمد انتقلت السلطنة من العراق إلى خراسان، وذلك أن سنجر شاه لم يبق في البيت أكبر منه، فكان هو السلطان المشار إليه، ولنذكر الآن أخباره؛ لأنه كان ملكا في حياة أخيه، وعظم شأنه، واستولى على عدة ممالك، فإذا انفضت دولته، عدنا إلى ذكر أولاد محمد، [و] «1» غيرهم إن شاء الله تعالى. ذكر أخبار السلطان سنجر هو معز الدين «2» عماد آل سلجوق أبو الحارث سنجرشاه برهان أمير المؤمنين ابن السلطان جلال الدولة ملكشاه، وقد تقدم ذكر نسبه، وكان والده سماه أحمد، وإنما قيل له: سنجر؛ لأنه

ولد بسنجار، فقيل له: سنجر باسم المدينة التى ولد بها، ونعت أيضا بالسلطان الأعظم، قال المؤرخ: ولما مات السلطان محمد كان سنجرشاه مستقر الأمر بخراسان، وقد ذكرنا ذلك في أيام أخيه السلطان بركياروق، وكان قد سلمها له لما فتحها، فى خامس جمادى الأولى سنة تسعين وأربعمائة «1» ، وقد قدمنا من أخباره في أيام أخيه السلطان بركياروق، وحروبه معه، ما يستغنى الآن عن إعادته، فلما مات بركياروق استغل سنجرشاه بملك خراسان، وبقى العراق وما معه بيد أخيه السلطان محمد، على ما قدمتا، قال: واتفق وقعتان لسنجرشاه عظيمتان، فى أيام أخويه بركياروق ومحمد نحن الآن نذكرهما. فأما الأولى: فهى واقعته مع [قدرخان] «2» صاحب سمرقند وما وراء النهر، وكانت في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وذلك أن قدرخان قصد خراسان، وطمع في ملكها لصغر سن سنجر، وجمع من العساكر ما طبق الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل، وقيل: مائتى ألف عنان، مسلمون وكفار، وكان من أمراء سنجر أمير اسمه: كندغدى «3» ، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه بحال سنجر وضعفه، واختلاف الملوك السلجقية، وأشار عليه

بالسرعة، فبادر قدرخان، وقصد البلاد، فسار سنجر نحوه ليقاتله، وكان معه كندغدى، وهو لا يتهمه في مناصحته، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، وبقى بينه وبين قدرخان مسافة خمسة أيام، فهرب كندغدى، والتحق بقدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود القديمة والمواثيق، فلم يصغ إلى ذلك، فأذكى «1» سنجر عليه العيون، وبث الجواسيس، فكان لا يخفى عنه شىء من أخباره، فأتاه من أخبره أنه قد نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج يتصيّد في ثلاثمائة فارس، فندب السلطان سنجر الأمير برغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وقاتله، فانهزم أصحاب قدرخان، وأسرهو وكندغدى، وأحضرهما إلى السلطان سنجر، فأما قدرخان: فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا أولم تخدمنا فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به، فقتل، وأما كندغدى فإنه نزل في قناة ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما كان به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار في ثلاثمائة فارس إلى غزنة، وقيل: بل جمع سنجر عساكره، والتقى هو وقدرخان، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب قدرخان، وأسر هو وحمل إلى سنجر، فقتله، وحصر «ترمذ» ، وبها كندغدى «2» ، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، وتسلم «ترمذ» ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فأكرمه صاحبها علاء الدولة، وقدمه وأحسن إليه، قال: ولما قتل قدرخان أحضر السلطان

سنجرشاه محمدا أرسلان بن سليمان بن داود بغراخان من مرو، وملكه سمرقند، وهو من أولاد الملوك الخانية، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وكان قد دفع عن ملك آبائه، فقصد مرو، فأقام بها إلى الآن، فولاه سنجر أعمال قدرخان، وسير معه العسكر، فملك جميع البلاد، وعظم شأنه، وارتفع محله، ودام في ملك ما وراء النهر، وهو على الطاعة للسلطان سنجر، إلى سنة سبع وخمسمائة، فظهر منه ظلم للرعية، واستخف بأوامر السلطان سنجر، فتجهز بعساكره، وقصده، فخاف محمد، وأرسل إلى السلطان يستعطفه، واعترف بالخطأ، فأجابه السلطان إلى الصلح، على أن يحضر ويطأ بساطه، فأرسل يذكر خوفه لسوء صنيعه، وأنه يحضر إلى الخدمة، ويخدم السلطان وبينهما نهر جيجون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول عليه، فأجاب السلطان إلى ذلك، وكان سنجر على شاطىء جيحون من الجانب الغربى، ومحمد من الجانب الشرقى، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل منهما إلى خيامه، وسكتت الفتنة، فهذه الوقعة الأولى. وأما الثانية: فإنه لما مات علاء الدولة صاحب «1» غزنة، فى شوال سنة ثمان وخمسمائة، وملك ابنه أرسلان شاه، وأمه سلجقية، وهى أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام شاه إلى خراسان، والتحق بالسلطان سنجر، فأرسل إلى أخيه في معناه، فلم يفعل، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز

سنجرشاه إلى المسير إلى غزنة، ومعه بهرام شاه، فلما بلغ بست اتصل به نصر بن خلف، صاحب سجستان، وسمع أرسلان شاه الخبر، فسير جيشا كثيفا، فهزمه سنجر، وعاد من سلم إلى غزنة بأسوأ حال، فخضع حينئذ أرسلان شاه، وأرسل إلى الأمير أتسز، «1» وكان على مقدمة سنجر، يضمن له الأموال الكثيرة، ليعود عنه، ويحسّن إلى سنجز «2» العود، فلم يفعل، فأرسل أرسلان شاه امرأة عمه نصر، وهى أخت السلطان سنجر من والده بركياروق، وكان علاء الدولة قتل زوجها، ومنعها من الخروج عن غزنة، وسألها سؤال سنجر في الصفح، وأرسل معها الأموال والهدايا والتحف، وكان معها مائتا ألف دينار، وطلب من السلطان أن يسلم إليه أخاه بهرام شاه، فوصلت إليه، وكانت موغرة الصدر من أرسلان شاه، فهونت أمره عند السلطان سنجر، وأطمعته في البلاد، وهونت عليه الأمر، وذكرت له ما فعل بإخوته، وأنه قتل بعضهم، من غير أن يخرجوا عن الطاعة، فسار الملك سنجر، وأرسل خادما من خواصه برسالة إلى أرسلان شاه، فقبض عليه واعتقله، واستمر سنجر على سيره لقصد غزنة، فلما سمع بقربه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع المصاف على فرسخ منها بصحراء شهراباذ، وكان أرسلان شاه فى ثلاثين ألف فارس، وخلق كثير من الرجالة، ومعه مائة وستون «3» فيلا عليهم المقاتلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، كان الظفر لسنجرشاه

ذكر القبض على الوزير محمد

ومن معه، ودخل غزنة، وملك قلعتها، ورتب بهرام شاه في الملك، وقرر أن يكون الدعاء بغزنة للخليفة، ثم للسلطان محمد، ثم للملك سنجر، وبعدهم لبهرام شاه، وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد، وكان من دور ملوكها عدة دور، على حيطانها ألواح الفضة وسواقى البساتين من الفضة، فقلع أكثر ذلك ونهب، فمنع سنجر أصحابه، وصلب جماعة، حتى كف الناس، وكان من جملة ما حمل لسنجر خمسة تيجان قيمة، أحدها يزيد على ألفى ألف دينار وألف وثلاثمائة قطعة مصاغة مرصعة، وسبعة عشر سريرا من الذهب والفضة، وأقام سنجر بغزنة أربعين يوما، حتى استقر بهرام شاه، وعاد إلى خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجقى قبله. ذكر القبض على الوزير محمد قال: ولما عاد السلطان سنجر من غزنة قبض على وزيره أبى جعفر محمد بن فخر الملك أبى المظفر، بن الوزير نظام الملك، وكان سبب ذلك أنه أوحش الأمراء، واستخف بهم، فغضبوا من ذلك، وشكوا إلى السلطان وهو بغزنة، فاستمهلهم إلى أن يخرج من غزنة، ووافق ذلك تغير السلطان عليه، لأشياء نقمها منه، منها أنه أشار على السلطان بقصد غزنة، فلما قصدها، ووصل إلى بست، أرسل صاحبها أرسلان شاه إلى الوزير محمد، وضمن له خمسمائة ألف دينار إن هو أثنى عزم السلطان سنجر عن قصدها، ورده، فلما أتته الرسالة أشار على السلطان بمصالحة أرسلان شاه، والرجوع إلى خراسان، فلم يوافقه على ذلك، وفعل بمثل ذلك بما وراء النهر، ومنها أنه نقل

ذكر الحرب بين السلطان سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد

إليه أنه أخذ من غزنة أموالا عظيمة المقدار، وغير ذلك، فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وأخذ ماله وقتله، وكان له من الجواهر والأموال شىء كثير، ووجد له من العين ألف ألف دينار، ولما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرازق بن أخى نظام الملك، ويعرف هذا الوزير بابن الفقيه، فلم يبلغ منزلة أبى جعفر في علو الهمة، ونفاذ الكلمة، ثم ندم السلطان سنجر على قتل أبى جعفر، رحمه الله تعالى. ذكر الحرب بين السلطان سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد كانت الحرب بينهما في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وسبب ذلك أنه لما بلغ السلطان سنجرشاه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ابنه السلطان محمود، وهو زوج ابنة السلطان سنجر، حزن لوفاة أخيه حزنا عظيما، وجزع، وتألم ألما شديدا، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء يذكر أخيه السلطان محمد على المنابر بمحاسن أعماله، من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك، وكان يلقب بناصر الدين، فتلقب بعد وفاة أخيه بمعز الدين، وهو لقب أخيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق، وما هو بيد محمود بن أخيه، وندم عند ذلك على قتل وزيره أبى جعفر؛ لأنه كان يبلغ به من الأغراض ما لا يبلغه بكثرة العساكر، لميل الناس إليه ومحله عندهم. قال: ثم أرسل السلطان إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وفخر الدين طغايرك، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران،

وحمل إليه مائتى ألف دينار في كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فقال: لا بد من القتال، وسار نحو الرىّ والأمير أتسز في مقدمته، فلما بلغ السلطان محمود مسير عمه إليه، ووصول الأمير أتسز إلى جرجان، تقدم إلى الأمير على بن عمر، وهو أمير حاجب أبيه بالمسير، وضم إليه جمعا كثيرا من الأمراء والعساكر، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، وساروا إلى أن قاربوا مقدمة السلطان سنجر، وعليها الأمير أتسز، راسله الأمير على بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد، بتعظيم السلطان سنجر، والرجوع إلى رأيه وأمره، والقبول منه، وأنه ظن أن السلطان سنجر يحفظ السلطنة على ولده محمد، وأنه أخذ علينا العهود بذلك، وليس لنا أن نخالفه، وأما حيث جئتم إلى بلادنا، فلا نحتمل ذلك ولا نعصى عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، وأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا ولا تقومون بنا، فلما سمع الأمير أتسز ذلك عاد عن جرجان، ولحقه بعض عسكر محمود، وأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه، وعاد الأمير على إلى السلطان محمود، وقد بلغ الرى، وأقام بها، فشكره على ما كان منه، وأشير على محمود بالمقام بالرى، وقيل له إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولا يتهم، فلم يقبل ذلك، وضجر من مقامه، وسار ووصل إليه الأمير منكبرش «1» من العراق، فى عشرة آلاف فارس،

والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البلخية «1» ، وغيرهم، وسار إلى همذان، فبلغه وصول عمه سنجر إلى الرى، فسار نحوه، وقصد قتاله فالتقيا بالقرب من ساده «2» ، وكان السلطان سنجر في عشرين ألفا، ومعه ثمانية عشر فيلا، ومحمود فى ثلاثين ألفا، وهم أكابر الأمراء، ومعه تسعمائة حمل من السلاح، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية، لما رأوا من عسكر محمود من الكثرة والقوة، فانهزمت ميمنة سنجر، واختلط أصحابه، وصاروا منهزمين لا يلوون على شىء، ونهب من أثقالهم شىء كثير، وقتل من أهل السواد خلق كثير، ووقف السلطان سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإذائه السلطان محمود، ومعه أتابكه «عز «3» على» ، فلما تعاظم الأمر على سنجر ألجأته الضرورة أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقى معه أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر وإما القتل، وأما الهزيمة فلا، فلما تقدمت الفيلة نفرت منها خيل أصحاب محمود، وتراجعت على أعقابها بأصحابها، فأشفق السلطان سنجر على محمود، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبى بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه، وأسر أتابكه «عز على» ، وكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه السلطان محمود، فعاتبه على تأخيره عن ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، قال: وتم الظفر للسلطان سنجر وأرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه،

ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الرى

ونزل في خيام السلطان محمود، وتراجع أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، وأرسل الأمير دبيس بن صدقة في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى من السنة، وقطعت خطبة محمود، وأما محمود فإنه سار من موضع الكسرة إلى أصفهان، وسار السلطان سنجر إلى همذان، فرأى قلة عسكره واجتماع العساكر على ابن أخيه محمود، فراسله في الصلح، وكانت والدة السلطان سنجر تشير عليه بذلك، وتقول له: إنك قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت البلاد، فتركت الجميع لأصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم، فأجاب إلى قولها، وراسل محمودا في الصلح، وتحالفا، وسار السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجر، فبالغ في إكرامه، وحمل إليه محمود هدية عظيمة فقبلها ظاهرا، وردها باطنا، ولم يقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التى بيده: خراسان، وغيرها، وغزنة، وما وراء النهر، بالخطبة للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ منه، سوى الرى، وقصد بأخذها أن يكون له في هذه البلاد، لئلا يحدث محمود نفسه بالخروج عن طاعته. ذكر قدوم السلطان سنجر الى الرى وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة خرج السلطان سنجر من خرسان إلى الرى في جيش كثير، وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة، والملك طغرل، كانا قد التحقا به، على ما نذكره في

ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمدخان وملك محمود بن محمد

أخبار السلطان محمود، فلم يزل دبيس يطمع السلطان سنجر في العراق، ويسهل عليه الأمر، ويلقى إليه أن الخليفة المسترشد بالله، والسلطان محمود، قد اتفقا على الامتناع منه، حتى أجاب إلى المسير إلى العراق، فلما وصل الرىّ كان السلطان محمود بهمذان، فأرسل السلطان سنجر يستدعيه، لينظر هل هو على الطاعة، أو تغير على ما زعم دبيس بن صدقة؟، فبادر إلى المسير إليه، فلما وصل العسكر بتلقّيه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذى الحجة من السنة، وعاد السلطان سنجر إلى خراسان. ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمدخان وملك محمود بن محمد وفي شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند، وسبب ذلك أنه لما ملكها رتب فيها محمدخان ابن أرسلان بن سليمان بن داود بغراخان، كما ذكرناه، فأصابه فالج، فاستناب ابنا له يعرف بنصرخان، وكان شجاعا، وكان بسمرقند «1» إنسان علوى فقيه مدرس، إليه الحل والعقد، والحكم فى البلد، فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصرخان، فقتلاه ليلا، وكان أبوه محمدخان غائبا، فعظم ذلك عليه، وكان له أخ آخر ببلاد تركستان، فاستدعاه، فلما قرب من سمرقند خرج العلوى، والرئيس «2» لاستقباله فقتل العلوى في الحال، وقبض على الرئيس،

وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر يستدعيه، ظنا منه أن ابنه لا يتم أمره مع الرئيس والعلوى، فتجهز سنجر، وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابنه بهما ندم على طلب السلطان، فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بهما، وأنه على الطاعة، ويسأله العود إلى خراسان، فغضب من ذلك، وبينما هو في الصيد إذ رأى اثنى عشر رجلا في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمداخان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند، فملكها عنوة، ونهب بعضها، ومنع من الباقى، وتحصن منه محمدخان ببعض الحصون، فاستنزله بأمان بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته، وهى زوجة السلطان سنجر، فبقى عندها إلى أن توفى، وأقام سنجر بسمرقند حتى أخذ الأموال، والأسلحة، والخزائن، وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فمات حسن تكين بعد مسير السلطان، فملك بعده عليها محمود بن محمدخان. وفي «1» سنة خمس وعشرين مات السلطان محمود بن محمد، أخى السلطان سنجر، فسار السلطان سنجر إلى العراق، والتقى هو وابن أخيه السلطان مسعود بن محمد، فانهزمت جيوش مسعود، وحضر هو إليه، فأرسله إلى كنجة، بعد أن كان مسعود استقر في السلطنة، وأقام السلطان سنجر في السلطنة السلطان طغرل «2» أخيه محمد، وكان من أمره وأمر أخيه مسعود، ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبارهم.

ذكر مسير السلطان إلى غزنة وعوده

ذكر مسير السلطان الى غزنة وعوده وفي ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، سار السلطان سنجر من خراسان إلى غزنة، وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته، ومد يده إلى ظلم الرعية، واغتصاب أموالهم، وكان سنجر هو الذى ملكه غزنة، كما ذكرناه، فلما قارب السلطان غزنة أرسل إليه بهرام شاه رسلا يبذل الطاعة، والتضرع، وسأل العفو عن ذنبه والصفح، فأرسل إليه سنجر المقرب جوهر الخادم، وهو أكبر أمير عنده، ومن جملة أقطاعه الرى «1» فى جواب رسالته يجيبه إلى العفو، إن حضر عنده، وعاد إلى طاعته، فلما وصل المقرب إلى بهرام شاه أجاب بالسمع والطاعة، وركب مع المقرب، وسار لتلقى السلطان، فلما قاربا بالسلطان [و] » نظر بهرام شاه إلى عسكره، والخبر على رأسه، نكص على عقبيه عائدا، فأمسك المقرب بعنان فرسه، وقبح عليه ذلك، وخوفه عاقبته، فلم يرجع، وولى هاربا، ولم يعرج على غزنة، فسار السلطان، ودخل غزنة، وملكها واحتوى على ما فيها، وجبى أموالها، وكتب إلى بهرام شاه يلومه على ما فعله، وحلف أنه ما أراد به سوءا، ولا مطمع له في بلده، ولا هو ممن يكدر صنيعه، ويعقب حسنته معه بسيئة، وإنما قصده لإصلاحه، فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر، ويتنصل ويقول:

ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه

إن الخوف منعه من الحضور، ولا لوم على من خاف من السلطان، فأجابه سنجر إلى إعادة بلده، وفارق غزنة، وعاد إلى خراسان، ورجع بهرام شاه إلى غزنة. ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، سار السلطان سنجر إلى خوارزم شاه أتسز بن محمد؛ وذلك أنه بلغه أنه يحدث نفسه بالامتناع عليه، وترك خدمته، وجمع خوارزم شاه عسكره، والتقوا فانهزم أصحاب خوارزم شاه، ولم يثبتوا، وقتل ولد خوارزم شاه، وملك السلطان «خوارزم» ، وأقطعها غياث الدين سليمان شاه، ولد أخيه محمد، وعاد إلى مرو، في جمادى الآخرة منها، وهذه الحرب هى التى أوجبت الفتن العظيمة، التى نذكرها إن شاء الله تعالى. ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا، وملكهم ما وراء النهر وفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كانت الحرب بين السلطان سنجر وبين الخطا؛ وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما قتل ابنه في حرب السلطان، كما ذكرناه، حمله الألم إلى أن راسل ملك الخطا يستدعيه، لقصد سنجر وملك بلاده، ويهون عليه أمره، فصار في ثلاثمائة ألف عنان، وسار سنجر إليه بجميع عساكره، والتقوا بما وراء النهر، واقتتلوا قتالا شديدا، وانجلت الحرب عن هزيمة سنجر، وقتل من أصحابه مائة ألف قتيل، فيهم اثنا عشر ألفا كلهم أصحاب

ذكر انهزام السلطان سنجر من الغز، وأسره، وذكر أحوال الغز

عمامة، وأربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر، وهى تركان خاتون، ثم فديت بخمسمائة ألف دينار، «1» وانهزم سنجر إلى ترمذ، ولم ينهزم قبلها، ولما تمت هذه الهزيمة أرسل إلى ابن أخيه السلطان مسعود، وأذن له أن يتصرف في الرى، وما معها، على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيما بها بعساكره، بحيث إنه إذا احتاج إليه استدعاه، ففعل ذلك، وملك الخطا ما وراء النهر، وتغلب خوارزم شاه على البلاد، فى هذا التاريخ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، وفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة حاصر السلطان سنجر خوارزم شاه بخوارزم؛ فراسله، وبذل الطاعة والأموال، فقبل السلطان ذلك منه، وعاد عنه. ذكر انهزام السلطان سنجر من الغز، وأسره، وذكر أحوال الغز ولنبدأ بذكر حال هؤلاء الغز، ومبدأ أمرهم، وما كان منهم إلى أن أسروا السلطان، فنقول: إنهم طائفة من الترك مسلمون، كانوا بما وراء النهر، فلما ملك الخطا أخرجوهم من بلاد ما وراء النهر، فقصدوا خراسان، وكانوا خلقا كثيرا، فأقاموا بنواحى بلخ، يرعون في مراعيها، وكان لهم أمراء، وهم: دينار، وبختيار، وطوطى، وأرسلان، وجغر، ومحمود، فأراد الأمير قماج، وهو مقطع بلخ إبعادهم، فصانعوه لشىء بذلوه له، فعاد منه، وأقاموا على

عادة حسنة، لا يؤذون أحدا، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة فعاودهم قماج، وأمرهم بالانتقال عن بلده، فامتنعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واجتمع معهم «1» غيرهم من طوائف الترك، فسار قماج إليهم، فى عشرة آلاف فارس، فجاء إليه أمراء الغز، وبذلوا له عن كل بيت مائتى درهم، فلم يجبهم، وشدد عليهم في الانشراح عن بلده، فعادوا عنه، واجتمعوا، وقاتلوه، فانهزم، ونهبوا عسكره، وأكثروا القتل في العساكر والرعايا، واسترقوا النساء والذرارى، وعملوا كلّ عظيمة، وقتلوا الفقهاء «2» ، وخربوا المدارس، وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر، فأعلمه الحال، فراسلهم وتهددهم، وأمرهم بمفارقة البلاد، فاعتذروا وبذلوا مالا كثيرا؛ ليكف السلطان عنهم، ويتركهم في مراعيهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وجمع عساكره من أطراف البلاد، فاجتمع له ما يزيد على مائة ألف فارس، وقصدهم، ووقع بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر السلطان سنجر، وانهزم هو في أصحابه، وتبعهم الغز يقتلون منهم، ويأسرون، حتى صارت القتلى كالتلال، وقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر وجماعة من الأمراء، فضرب الغز «3» أعتاق الأمراء، وأما السلطان سنجر فإنّ أمراء الغز اجتمعوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وقالوا: نحن عبيدك، لا نخرج عن طاعتك، ومضى على ذلك ثلاثة أشهر، ودخلوا معه إلى مرو، وهى كرسى مملكة خراسان، فطلبها منه بختيار إقطاعا، فقال له السلطان سنجر: هذه دار الملك، ولا يجوز

ذكر هرب السلطان سنجرشاه من أسر الغز

أن تكون إقطاعا لأحد، فضحكوا منه، وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى ذلك من فعلهم نزل عن سرير الملك، ودخل خانقاه مرو، واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وولوا على نيسابور واليا فظلم الناس، وعسفهم وضربهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر، وقال أريد ملء هؤلاء ذهبا، فثار به العامة، فقتلوه، وقتلوا من معه، فدخل الغز نيسابور، ونهبوها وجعلوها قاعا صفصفا، وقتلوا من بها، ولم يرفعوا السيف عن كبير، ولا صغير، ولم يسلم من بلاد خراسان غير هراة ودهستان، لحصانتهما. ذكر هرب السلطان سنجرشاه «1» من أسر الغز قال: كان هربه من الأسر في شهر رمضان، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ولما هرب سار إلى قلعة ترمذ، هو وجماعة كانوا معه من الأمراء، فاستظهر بها على الغز، وكان خوارزم شاه أتسز بن محمد، والخاقان محمود بن محمد، يقصدان الغز ويقاتلانهم، وكانت الحرب بينهم سجالا، وغلب كل منهم على ناحية من خراسان ثم سار السلطان من ترمذ إلى جيحون، يريد العبور إلى خراسان، واتفق أن على بك مقدم القادغلية «2» توفى، وكان أشد على السلطان من كل أحد، فأقبلت القادغلية، وغيرهم، من أقاصى البلاد وأدانيها إلى السلطان، وعاد إلى دار ملكه بمرو «3» .

ذكر وفاة السلطان سنجرشاه، وشىء من أخباره وسيرته

ذكر وفاة السلطان سنجرشاه، وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، أصابه قولنج بعد ذرب، فمات منه، ودفن بقبة بناها لنفسه، وسماها دار الآخرة، وكان مولده بسنجار في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين وأربعمائة، فكان عمره أربعا وسبعين سنة وثمانية أشهر، ومدة ملكه- منذ سلم له أخوه السلطان بركياروق خراسان، فى خامس جمادى الأولى سنة تسعين وأربعمائة، وإلى هذا التاريخ- إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وأياما، ومنذ استقل بالسلطنة، بعد وفاة أخيه محمد نحوا من أربعين سنة، ولم يزل أمره عاليا إلى أن أسره الغز، كما ذكرناه، وكان من أكابر الملوك، وعظمت مملكته، ملك من «1» نهاوند، وغزنة، وسمرقند، إلى خراسان، وطبرستان، وكرمان، وسجستان، وأصفهان، وهمذان، والرى، وأذربيجان، وأرمينية، ودانية، والعراق، وبغداد، والموصل، وديار بكر، وربيعة، ومضر، والجزيرة، والشام، والحرمين، وخطب له على منابرها، وضربت السكة باسمه، فى هذه الأقاليم وبلادها، ووطئت ملوكها بساطه، وكان من أعظم الملوك همة، وأكثرها عطاء، ذكر عنه أنه اصطبح خمسة أيام متواليات، ذهب فى الجود بها كل مذهب، فبلغ ما أعطاه من العين سبعمائة ألف أحمر، غير ما وهب من الخيول، والخلع، وغيرها، وفرق في يوم واحد ألف

ثوب أطلس، واجتمع في خزانته ما لم يسمع أنه اجتمع في غيره من الأكاسرة، قال الشيخ جمال الدين أبو الحسن على بن أبى المنصور ابن ظافر بن حسين الأزدى، صاحب كتاب الدول المنقطعة: صح عند جميع الناس أن الجوهر الذى اجتمع عنده كان وزنه ألفا وثلاثين رجلا، قال: وكان لسنجر مماليك اختصهم بالمحبة؛ فكان يشترى أحدهم بما قام في نفسه، ويهواه ويسعده حتى إذا بقل عذاره، سلاه وجفاه، وطرده، أو قتله؛ فمنهم سنقر الخاص، كان لصيرفي اشتراه السلطان بألف ومائتى دينار ركنية، وتشريف، فبلغ مبلغا عظيما؛ حكى عنه عبد العزيز صاحب خزائنه [عن] «1» غرامه بسنقر هذا، قال: استدعانى السلطان، وقال لى: أنت تعلم أن سنقر الخاص؟؟؟ دقنى، التى أنظر بها، وقلبى الذى أفهم به، وهذه خزائنى تحت؟؟؟ بدك، وحمول غزنة، وخوارزم قد وصلت، وأريد أن تصير له سرادقا كسرادقى، وخيلا مثل خيلى، وتشترى له ألف مملوك يمشون في ركابه، وتحل إقطاع من تراه، وتضيفه إليه، وتعمل له خزانه كخزانتى، وأريده يكون صاحب عشرة آلاف فارس، وحثّنى على ذلك، فشرعت فى ترتيبه «2» ، وكلته في مقدار عشرين يوما، فأنفقت عليه سبعمائة ألف دينار ركنية، سوى ما نقلته من الخزائن ومن الجواهر والثياب، وغير ذلك، وأخبرت السلطان به فسره، وشكرنى عليه، وفوض إلى أمر خزانته، مضافا إلى الخزانة، ولم يمض سنيات حتى

احضرّ عذاره فسلاه السلطان، وتمادى هو في بسطه، [وأساءت] «1» على أكابر الأمراء، فتهدده، فلم يلتفت، فأمر الأمراء بقتله إذا دخل عليه، فقتلوه بالسيوف. وممن بلغ عنده مبلغا لم يبلغه أحد قبله، الأمير المغترب اختيار الدين جوهر التاجى الخادم، كان خادما لوالدة السلطان سنجر، فلما توفيت في شوال سنة عشر وخمسمائة انتقل إليه، فشغف به، وغلب حبه عليه، وارتفع إلى حد لم يرتفع إليه غيره، وبلغت عدة عسكره ثلاثين ألف فارس، وكان أمره لا يرد، وإذا ركب مشى الأمراء في ركابه، وإذا جلس وقفوا، حتى يأذن لهم، وأعطاه الرى، ثم مله بعد ذلك، وكرهه، ودس عليه بعض الباطنية، فقتله غيلة. قال: ولما مات السلطان سنجر انقطع استبداد السلجقية بمملكة خراسان، واستولى عليها خوارزم شاه أتسز بن محمد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره. وزراؤه: العميد أبو الفتح بن أبى الليث إلى أن قتل في يوم عاشوراء سنة خمسمائة، واستوزر بعده ولده صدر الدين محمد إلى أن قتل ببلخ، فى الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة. قتله قايماز مملوك السلطان، الذى كان يهواه، فقتله به، واستوزر أبا جعفر محمد بن فخر الملك أبى المظفر بن الوزير نظام الملك، ثم قتله كما قدمناه، واستوزر بعده الوزير شهاب الإسلام عبد الدوام ابن إسحاق، أخى نظام الملك، إلى أن توفى بسرخس، فى يوم

الخميس سابع المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة، واستوزر بعده الوزير بغاى بك الكاشغرى، فأحسن التدبير، وكان أعور، فصرفه فى نصف صفر سنة ثمان عشرة، واستوزر بعده معين الدين مختص القاشانى، فقتله الباطنية، فى تاسع عشر صفر سنة إحدى وعشرين، فاستوزر نصير الدين أبا القاسم محمود بن أبى توبة المروزى، وكان من أفضل الوزراء، وأجملهم سيرة، وأحسنهم طريقة، [وأغزرهم «1» ] أدبا وعلما، وكثر في أيامه أهل العلم والأدب، وصرف في سنة ست وعشرين، واستوزر الوزير القوام أبا القاسم «2» الدزكزينى، واستمر فى وزارته إلى أن توفى، فى ذى الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قال: ولما حضرت السلطان سنجر الوفاة استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بغراخان، وهو ابن أخت السلطان، ولم يكن من السلجقية، وإنما هو من أولاد الملوك الخانية، فأقام بها خائفا من الغز، وبقيت خراسان على هذا الاختلاف، إلى سنة أربع وخمسين، وخمسمائة، ثم راسله الغز، وسألوه أن يملكوه عليهم، فالتحق بهم، ثم خلع في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين، وسمل، وإنما أوردنا اسمه هاهنا، على سبيل الاستطراد؛ ولأن سنجر عهد إليه بالملك بعده.

انتهت أخبار الدولة السلجقية بخراسان وما يليها، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. كمل الجزء الرابع والعشرون من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى رحمه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات - تقديم 5 - ذكر أخبار الدولة الديلمية الجيلية 9 - أسفار بن شيروية 10 - ذكر مقتل أسفار بن شيروية 14 - ذكر ملك مرداويج 16 - ذكر ملك طبرستان وجرجان 16 - ذكر الحرب بين مرداويج وبين هارون بن غريب 18 - ذكر ملكه أصفهان 19 - ذكر وصول وشمكير إلى أخيه مرداويج 19 - ذكر مقتل مرداويج 20 - ذكر ملك وشمكير بن زيار 23 - ذكر ما فعله الأتراك بعد قتل مرداويج 23 - ذكر وفاة وشمكير 24 - ذكر ملك ظهير الدولة بهشيتون بن وشمكير 25 - ذكر ملك شمس المعالى قابوس بن وشمكير 25 - ذكر خلع قابوس بن وشمكير وقتله وولاية ابنه ملك المعالى منوجهر 26 - ذكر ملك أنو شروان داره بن ملك المعالى منوجهر بن قابوس شمس المعالى 28 - ذكر أخبار الدولة الغزنوية 29 - ذكر أخبار ناصر الدولة سبكتكين وابتداء أمره وما كان منه إلى أن ملك 30 - ذكر ولايته قصدار وبست 30 - ذكر غزوه الهند وما كان بينه وبينهم 31

- ذكر ملك محمود بن سبكتكين خراسان 33 - ذكر وفاة ناصر الدولة سبكتكين وولاية ولده إسماعيل 33 - ذكر سلطنة يمين الدولة محمود بن سبكتكين 34 - ذكر استيلاء يمين الدولة محمود على خراسان وانتزاعها من السامانية 35 - ذكر غزوه الهند 36 - ذكر ملكه سجستان 37 - ذكر غزوه بهاطية وملكها 39 - ذكر غزوه المولتان 39 - ذكر غزوه كواكير 40 - ذكر عبور عسكر إيلك خان إلى خراسان 41 - ذكر انهزام إيلك خان يمين الدولة 43 - ذكر غزوه الهند وعوده 44 - ذكر غزوه بهيم نغر وما غنمه من الأموال وغيرها 44 - ذكر غزوه بلاد الغور واستيلائه عليها 46 - ذكر ملكه قصدار 47 - ذكر فتح ناردين 47 - ذكر غزوه تانيشر 48 - ذكر قتل خوارزم شاه وملك يمين الدولة خوارزم 49 - ذكر غزوه قشمير وقنوج وغيرها من الهند 50 - ذكر أخبار الملوك الخانية بما وراء النهر والأتراك 52 - ذكر أخبار قدرخان وأولاده 53 - ذكر ملك طفغاج خان وولده 55 - ذكر غزوه الهند والأفغانية 58 - ذكر فتح قلعة من بلاد الهند 60 - ذكر فتح سومنات 61

- ذكر ملكه الرى وبلد الجبل 65 - ذكر ملك مسعود بن يمين الدولة محمود همذان 67 - ذكر غزوة للمسلمين بالهند 67 - ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وشىء من سيرته 68 - ذكر سلطنة محمد بن محمود 69 - ذكر خلع جلال الدولة محمد وملك أخيه مسعود بن محمود 69 - ذكر مسيره إلى الهند وما فتحه بها 71 - ذكر مخالفة نيالتكين النائب بالهند ومقتله 71 - ذكر القبض على السلطان وقتله وشىء من سيرته 72 - ذكر سلطنة جلال الدولة محمد بن محمود السلطنة الثانية وقتله 73 - ذكر سلطنة مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين 75 - ذكر مخالفة محمود بن مسعود على أخيه مودود ووفاة محمود 75 - ذكر وفاة مودود وملك ولده، ثم أخيه على بن مسعود، ثم عبد الرشيد 76 - ذكر مقتل عبد الرشيد 77 - ذكر ملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين 79 - ذكر ملك إبراهيم بن مسعود بن محمود 80 - ذكر غزو إبراهيم بلاد الهند وما فتحه منها 80 - ذكر وفاة إبراهيم وشىء من سيرته 81 - ذكر ملك علاء الدولة أبى سعد جلال الدين مسعود ابن إبراهيم 82 - ذكر ملك أرسلان شاه بن علاء الدولة مسعود 82 - ذكر ملك بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم 83

- ذكر وفاة بهرام شاه 84 - ذكر ملك نظام الدين خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود 85 - ذكر ملك ملكشاه بن خسروشاه بن مسعود بن إبراهيم ابن مسعود بن محمود بن سبكتكين 85 - ذكر أخبار الدولة الغورية 87 - ذكر الحرب بينه وبين السلطان سنجر 89 - ذكر ملكه غزنه وخروجه عنها وقتل أخيه 89 - ذكر خروج غياث الدين وشهاب الدين ابنى أخى علاء الدين الحسين على عمهما وموافقته 91 - ذكر ملك سيف الدين محمد بن علاء الدين الحسين بن الحسين 92 - ذكر ملك غياث الدين أبى الفتح محمد بن بسام بن الحسين ابن الحسن 92 - ذكر ملك غياث الدين غزنة 93 - ذكر ملك شهاب الدين لهاوور وانقراض الدولة الغزنوية 93 - ذكر مسير شهاب الدين إلى الهند 94 - ذكر ظفر الهنود بالمسلمين 95 - ذكر ظفر المسلمين بالهنود 96 - ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارسى الهندى 97 - ذكر ملك الغورية مدينة بلخ 98 - ذكر ملك شهاب الدين وأخيه غياث الدين ما كان لخوارزم شاه 98 - ذكر ملك شهاب الدين أنهلوارة من الهند 101 - ذكر وفاة غياث الدين وشىء من سيرته 101 - ذكر استقلال شهاب الدين بالملك وما فعله مع ورثة أخيه 102 - ذكر حصره خوارزم وانهزامه من الخطا 103 - ذكر قتل شهاب الدين بنى كركر 105

- ذكر مقتل شهاب الدين وشىء من سيرته 106 - ذكر ما اتفق بعد وفاة شهاب الدين 107 - ذكر مسير بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة ووفاته 108 - ذكر ملك علاء الدين بن سام مدينة غزنة وأخذها منه 109 - ذكر ملك تاج الدين الدز غزنة 110 - ذكر حال غياث الدين محمود بن غياث الدين بعد مقتل عمه شهاب الدين 111 - ذكر عود علاء الدين وجلال الدين ابنى بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة 114 - ذكر عود تاج الدين الدز إلى غزنة 115 - ذكر ما اتفق لغياث الدين محمود مع تاج الدين الدز وأيبك 116 - ذكر مقتل غياث الدين محمود، وانقراض الدولة الغورية 120 - ذكر أخبار تاج الدين الدز، وما كان من أمره بعد مقتل غياث الدين 121

الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك العراق وما والاه، وملوك الموصل، والديار الجزيرية، والبكرية، والبلاد الشامية، والحلبية، والدولة الحمدانية، والديلمية البويهية، والسلجوقية، والأتابكية - ذكر أخبار الدولة الحمدانية 123 - ذكر ابتداء إمارة أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بالموصل 124 - ذكر مخالفة عبد الله بن حمدان، ورجوعه إلى الطاعة 126 - ذكر القبض على بنى حمدان وإطلاقهم 126 - ذكر أخبار الحسين بن حمدان بن حمدون وهو أخو أبى الهيجاء 128 - ذكر أخبار ناصر الدولة 129 - ذكر ولاية ناصر الدولة إمرة الأمراء بالعراق 132 - ذكر القبض على ناصر الدولة ووفاته 135 - ذكر أخبار سيف الدولة 136 - ذكر اختلال دولته واستيلاء الدمستق على حلب وما أخذه من أموال سيف الدولة 141 - ذكر وفاة سيف الدولة 142 - ذكر أخبار عده الدولة الغضنفر 143 - ذكر فساد حال عدة الدولة، وزوال ملك بنى ناصر الدولة، وما كان من أمر عدة الدولة إلى أن قتل 146 - ذكر أخبار سعد الدولة 148

- ذكر مقتل أبى فراس الحارث واستيلاء أبى المعالى على حمص 150 - ذكر استيلاء قرعوية على حلب وإخراج أبى المعالى عنها 150 - ذكر الصلح بين سعد الدولة وقرعوية، والقبض على قرعويه، وقيام بكجور، وعود ملك حلب إلى سعد الدولة 152 - ذكر تولية سعد الدولة من قبل الخليفة وتلقيبه 153 - ذكر خلاف بكجور على الأمير سعد الدولة وما كان من أمره 153 - ذكر وفاة سعد الدولة 157 - ذكر أخبار أبى الفضائل بن سعد الدولة أبى المعالى شريف ابن سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله بن حمدان ابن حمدون 158 - ذكر ما كان بين لؤلؤ الجراحى وبين العزيز نزار صاحب مصر 158 - ذكر الصلح بين أبى الفضائل والعزيز نزار صاحب مصر 160 - ذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية 163 - ذكر ابتداء حال بويه ونسبه وما كان من أمره 163 - ذكر أخبار عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه وابتداء الدولة البويهية 166 - ذكر خروج عماد الدولة بن بويه عن طاعة مرداويج ومخالفته له وملكه أصفهان 167 - ذكر استيلائه على أرجان وغيرها، وملك مرداويج أصفهان 169 - ذكر استيلائه على شيراز 170 - ذكر واقعة غريبة اتفقت لعماد الدولة كانت سبب ثبات ملكه وقيام دولته 172

- ذكر تولية عماد الدولة من قبل الخليفة 173 - ذكر وفاة عماد الدولة بن بويه وملك أخيه عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه 174 - ذكر أخبار ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه 175 - ذكر ملك ركن الدولة بن بويه طبرستان وجرجان 176 - ذكر ما قرره ركن الدولة بين بنيه وما أفرده لكل منهم من الممالك 177 - ذكر وفاة ركن الدولة بن بويه وشىء من أخباره وسيرته 178 - ذكر أخبار معز الدولة بن بوبه 179 - ذكر مسيره إلى كرمان، وزوال يده في الحرب، وما اتفق له 180 - ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز 182 - ذكر استيلاء على بغداد وتلقيبه وتلقيب إخوته من ديوان الخلافة 183 - ذكر الحرب بين معز الدولة وناصر الدولة بن حمدان 185 - ذكر إقطاع البلاد وتخريبها 187 - ذكر استيلائه على البصرة 187 - ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده منها بعد الصلح 188 - ذكر وفاة الوزير الصيمرى ووزارة المهلبى 189 - ذكر ما كتب على مساجد بغداد 190 - ذكر وفاة الوزير المهلبى 191 - ذكر وفاة معز الدولة بن بويه 192 - ذكر أخبار عز الدولة بختيار 194 - ذكر ما كان من الحوادث في أيام عز الدولة بختيار 194 - ذكر خروج مشيد الدولة حبشى بن معز الدولة على أخيه عز الدولة 196

- ذكر عزل أبى الفضل الوزير ووزارة ابن بقية 197 - ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه 198 - ذكر حيلة لبختيار عادت عليه 199 - ذكر ما اتفق لبختيار بعد قبضه على الأتراك ووفاة سبكتكين وقيام الفتكين 201 - ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق والقبض على بختيار 203 - ذكر عودة بختيار إلى ملكه 205 - ذكر مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة، وشىء من أخباره 209 - ذكر أخبار عضد الدولة 211 - ذكر القبض على أبى الفتح بن العميد 214 - ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق 215 - ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بنى حمدان 217 - ذكر عمارة عضد الدولة بغداد، وما فعله من وجوه البر 218 - ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة وأخذه بلاده 219 - ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية 220 - ذكر وفاة عضد الدولة وشىء من أخباره وسيرته 220 - ذكر أخبار مؤيد الدولة أبى منصور بويه بن ركن الدولة ابن بويه 225 - ذكر أخبار فخر الدولة وفلك الأمة أبى الحسن على بن ركن الدولة بن بويه 226 - ذكر أخبار مجد الدولة وكنف الأمة أبى طالب رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه 229 - ذكر أخبار صمصام الدولة 230

- ذكر ملك شرف الدولة أبى الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة العراق، والقبض على صمصام الدولة 231 - ذكر وفاة شرف الدولة وشىء من أخباره 233 - ذكر ملك بهاء الدولة وضياء الملة 234 - ذكر قيام صمصام الدولة ببلاد فارس 235 - ذكر مسير أبى على بن شرف الدولة إلى بلاد فارس، وما كان بينه وبين عمه صمصام الدولة، وعوده إلى بهاء الدولة، وقتله 235 - ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز، والصلح بينه وبين صمصام الدولة 237 - ذكر ظهور أولاد بختيار واعتقالهم وقتل بعضهم 239 - ذكر مقتل صمصام الدولة 239 - ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوذستان وكرمان 241 - ذكر وفاة عميد الجيوش، وولاية فخر الملك العراق 242 - ذكر وفاة بهاء الدولة 242 - ذكر ملك سلطان الدولة 243 - ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان 244 - ذكر ولاية ابن سهلان العراق 245 - ذكر ملك مشرف الدولة أبى على بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه العراق 246 - ذكر الصلح بين سلطان الدولة وأخيه مشرف الدولة 248 - ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير ابن المغربى 248 - ذكر وفاة سلطان الدولة 249 - ذكر وفاة مشرف الدولة 250

- ذكر سلطنة جلال الدولة 250 - ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة 252 - ذكر وثوب الجند به وإخراجه من بغداد وعوده إليها 254 - ذكر الفتنة بين جلال الدولة، وبارسطغان، وقتل بارسطغان 256 - ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبى كاليجار 257 - ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك 257 - ذكر وفاة جلال الدولة 258 - ذكر أخبار السلطان شاهنشاه 259 - ذكر ابتداء ملكه 260 - ذكر عودة أبى الفوارس إلى فارس وإخراجه 261 - ذكر ملك أبى كاليجار العراق 262 - ذكر ملك الملك الرحيم أبى نصر 264 - جامع أخبار ملوك بنى بويه عدة من ملك منهم ستة عشر ملكا 265 - ذكر أخبار الدولة السلجقية وابتداء أمر ملوكها، وكيف تنقلت بهم الحال، إلى أن استولوا على البلاد وما حازوه من الأقاليم والممالك، وغير ذلك من أخبارهم 267 - ذكر أخبار سلجق بن يقاق 269 - ذكر ما اتفق بين ظغرلبك وداود وبين السلطان مسعود ابن محمود بن سبكتكين 273 - ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وإقامة الخطبة لطغرلبك وداود 275 - ذكر ملك داود وطغرلبك وبيغو نيسابور وبلخ وهراة 277 - ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان 278 - ذكر مسير إبراهيم ينال إلى الرى وهمذان 279 - ذكر خروج طغرلبك إلى الرى وملكه بلد الجبل 280 - ذكر ملك ينال قلعة كنكور وغيرها 281

- ذكر غزو إبراهيم ينال الروم 283 - ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال والاتفاق بينهما 284 - ذكر ملك طغرلبك أصفهان 286 - ذكر استيلاء ألب أرسلان على مدينة فسا 287 - ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان وغزو الروم 287 - ذكر دخول السلطان طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها وانقراض الدولة البويهية 288 - ذكر مسير السلطان إلى الموصل 292 - ذكر عودة السلطان إلى بغداد 294 - ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل، وما كان من أمره إلى أن قتل 295 - ذكر وفاة جغرى بك داود صاحب خراسان وملك ابنه ألب أرسلان 297 - ذكر زواج السلطان طغرلبك بابنة الخليفة 298 - ذكر وصول السلطان إلى بغداد ودخوله بابنة الخليفة 301 - ذكر وفاة السلطان طغرلبك وشىء من سيرته 301 - ذكر أخبار السلطان عضد الدولة 303 - ذكر القبض على عميد الملك الوزير وقتله 304 - ذكر ملك عضد الدولة ختلان وهراة وصغانيان 305 - ذكر الحرب بين السلطان وبين شهاب الدولة قتلمش وموته 306 - ذكر فتح مدينة آنى وغيرها من بلاد النصرانية 307 - ذكر تقرير ملكشاه في ولاية العهد بالسلطنة من بعد أبيه وتقرير البلاد باسم أولاد السلطان وأخوته 310

- ذكر عصيان ملك كرمان وعوده إلى الطاعة وطاعة حصون فارس 311 - ذكر إقامة الخطبة بحلب 312 - ذكر استيلاء السلطان على حلب 312 - ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط وأسره 313 - ذكر ملك أتسز بيت المقدس والرملة ودمشق 316 - ذكر تزويج ولى العهد بابنة السلطان 317 - ذكر ملك السلطان قلعة فضلون 317 - ذكر مقتل السلطان عضد الدولة ألب أرسلان، وشىء من سيرته 318 - ذكر أخبار السلطان جلال الدولة ملكشاه 320 - ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وبين عمه قاورد بك 321 - ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان 322 - ذكر قتل أبى المحاسن بن أبى الرضا 323 - ذكر ملك السلطان حلب وغيرها 324 - ذكر دخول ملكشاه بغداد 326 - ذكر ملك ملكشاه ما وراء النهر 327 - ذكر عصيان سمرقند وفتحها 328 - ذكر وصول السلطان إلى بغداد 329 - ذكر ملك السلطان اليمن 330 - ذكر مقتل الوزير نظام الملك 330 - ذكر ابتداء حال نظام الملك وشىء من سيرته وأخباره 332 - ذكر وفاة السلطان ملكشاه وشىء من سيرته 333 - ذكر أخبار السلطان بركياروق 335 - ذكر قتل تاج الملك 337

- ذكر انهزام بركياروق من عمه تتش ودخوله إلى أصفهان ووفاة أخيه محمود 338 - ذكر مقتل أرسلان أرغو 339 - ذكر ملك بركياروق خراسان وتسليمها لأخيه سنجر 340 - ذكر خروج أمير أميران 340 - ذكر ظهور السلطان محمد طبر ملكشاه والملك سنجر، وخروجهما على أخيهما السلطان بركياروق والخطبة لمحمد 341 - ذكر إقامة الخطبة لمحمد ببغداد 343 - ذكر إعادة الخطبة ببغداد للسلطان بركياروق 343 - ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد والخطبة لمحمد ببغداد 344 - ذكر حال السلطان بعد الهزيمة وانهزامه أيضا من أخيه سنجر 345 - ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد ثانيا، وقتل مؤيد الملك 347 - ذكر حال محمد بعد الهريمة واجتماعه بأخيه سنجر 347 - ذكر ما فعله بركياروق ودخوله إلى بغداد 348 - ذكر وصول السلطان محمد وسنجر إلى بغداد ورحيل بركياروق عنها 348 - ذكر الصلح بين السلطان بركياروق وأخيه محمد 350 - ذكر أخبار الباطنية وابتداء أمرهم وما استولوا عليه من القلاع وسبب قتلهم 351 - ذكر ما استولوا عليه من القلاع ببلاد العجم 352 - ذكر قتل الباطنية وسببه 354 - ذكر وفاة السلطان بركياروق ووصيته لولده ملكشاه بالملك 355 - ذكر الخطبة لملكشاه ابن السلطان بركياروق ببغداد 356

- ذكر أخبار السلطان محمد 356 - ذكر قتل الأمير إياز 359 - ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد والقبض عليه 360 - ذكر ملك السلطان محمد قلعةشاه دز من الباطنية، وقتل ابن عطاش 361 - ذكر القبض على الوزير وقتله، ووزارة أحمد بن نظام الملك 363 - ذكر قتل الأمير صدقة بن مزيد 364 - ذكر وفاة السلطان محمد وشىء من أخباره وسيرته 370 - ذكر أخبار السلطان سنجر 372 - ذكر القبض على الوزير محمد 377 - ذكر الحرب بين السلطان سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد 378 - ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الرى 381 - ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمدخان، وملك محمود بن محمد 382 - ذكر مسير السلطان إلى غزنة وعوده 384 - ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه 385 - ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا، وملكهم ما وراء النهر 385 - ذكر انهزام السلطان سنجر من الغز، وأسره، وذكر أحوال الغز 386 - ذكر هرب السلطان سنجرشاه من أسر الغز 388 - ذكر وفاة السلطان سنجرشاه، وشىء من أخباره وسيرته 389

الجزء السابع والعشرون

الجزء السابع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة إذا كانت الأجزاء السابقة واللاحقة فى موسوعة «نهاية الأرب» للنويرى قد عالجت فى الجانب التاريخى دولا وأحداثا سبق النويرى إلى التأريخ لها عديد من الكتاب والمؤرخين المسلمين، فإن هذا الجزء السابع والعشرين من نهاية الأرب يمتاز بعلاج نواح فى تاريخ الشرق الأوسط. تفتقر إليها المكتبة العربية. ففى هذا الجزء يعالج النويرى تاريخ السلاجقة فى العراق والشام وبلاد الروم (آسيا الصغرى) . وتاريخ الدولة الخوارزمية حتى سقوطها عند مقتل السلطان جلال الدين سنة ثمان وعشرين وستمائة؛ وأخيرا تاريخ المغول وحركتهم التوسعية ودويلاتهم التى انقسمت إليها دولة جتكزخان، وما كان من توسعهم فى الشرق الأوسط على حساب القوى الإسلامية العديدة،، ويدخل ضمن ذلك علاقتهم بسلطنة المماليك حتى عهد السلطان الناصر محمد ابن قلاوون. ومن هذا العرض الموجز نخرج بفكرة عن أن النويرى خصص معظم هذا الجزء السابع والعشرين لعلاج تاريخ السلاجقة والخوارزمية والمغول، وقدم لنا فى علاجه لهذه الجوانب كثيرا من المعلومات الطريفة الجديدة المفصلة التى يندر أن نجد لها شبيها فى الموسوعات

العربية السابقة بل إن المؤرخين اللاحقين بالنويرى- مثل المقريزى وابن تغرى بردى والعينى لم يعطوا تلك الجوانب- وخاصة ما يتعلق بالمغول ودولهم وأخبارهم الداخلية- القدر الكافى من الأهمية؛ مما جعل كتابات النويرى فى هذا الجزء بالذات تبدو فى نظرنا ذات أهمية خاصة. وربما كان فى هذه الحقيقة بعض السر فى الصعوبات الكبيرة التى اعترضتنا عند تحقيق هذا الجزء بالذات. فما أسهل أن يقوم محقق بتحقيق كتاب أو جزء من كتاب يعالج أحداثا ودولا- مثل دولة المماليك- سبق أن نشرت فيها كتب بالعربية. مما يمكنه من مقارنة الأسماء وتصحيح الأعلام فى سهولة؛ وما أصعب أن يقوم محقق بتحقيق فصول جديدة على المكتبة العربية مما يجعله يقف وقفة طويلة أمام كل اسم وكل علم. وهو فى وقفته هذه لا بد وأن يفترض الكثير من إهمال الناسخين وخطأ الرواة وعبث الزمان على مر العصور والأجيال. هذا إلى أنه إذا كان النويرى نفسه قد اعتمد فى الفصول الأخرى التى حواها القسم التاريخى من كتابه على كتابات غيره من المؤرخين السابقين أو المعاصرين- مثل ابن الأثير- فإنه فما يتعلق بتاريخ الخوارزميين والمغول لم يجد فيما يبدو كتابات عربية وافية ينقل عنها- سوى المنشى النسوى- مما جعله يركن إلى الروايات الشفوية. وقد أدى ذلك إلى وجود كثير من الأخطاء أو التحريفات فيما كتبه النويرى عن المغول بصفة خاصة. الأمر الذى جعلنا نعتمد على المصادر الفارسية والمراجع الأوربية فى تحقيق هذا الجزء. وهنا لا يسعنى

سوى أن أشكر زميلى وصديقى الدكتور فؤاد عبد المعطى الصياد لما قدمه لى من معونة صادقة فى استشارة المصادر الفارسية على وجه الخصوص. وقد اعتمدنا فى تحقيق هذا الجزء على عدة نسخ، منها نسخة مكتبة كوبريللى باستنبول وتوجد منها صورة كاملة بدار الكتب المصرية (رقم 549) ، واتخذنا حرف «ك» رمزا لهذه النسخة. ومنها نسخة أيا صوفيا، وتوجد أيضا منها صورة كاملة بدار الكتب المصرية (رقم 551) ، ورمزنا لهذه النسخة بحرف «ص» . ومنها نسخة بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية (رقم 1214) . وهى التى رمزنا إليها بحرف «ع» . وأخيرا تأتى نسخة المكتبة التيمورية بدار الكتب المصرية (رقم 699) وهى مرموز لها بحرف «ت» . ورأت اللجنة المشرفة على تحقيق هذا الكتاب أن تتخذ النسخة الأولى «ك» أصلا معتمدا للتحقيق، وذلك توحيدا لخطة العمل فى جميع أجزائه من ناحية، ولأنها أكمل النسخ من ناحية أخرى غير أننا عند مقابلة هذه النسخة ببقية النسخ أثناء قيامنا بتحقيق هذا الجزء، وجدنا نقصا كبيرا فيها، وصفحات عديدة ساقطة منها وخاصة فى باب المغول- الأمر الذى تطلب منا مقابلة النسخ الأربع بعضها ببعض مقابلة دقيقة، بحيث نقدم للباحث صورة صادقة كاملة للمتن كما أورده المؤلف. ولا يفوتنى فى هذا الموضع أن أقدم شكرى للدكتور حستين محمد ربيع- تلميذى سابقا وزميلى حاليا-

لمعاونته الصادقة لى فى عملية مقابلة نسخ الكتاب لاستكمال النقص فى النسخة الأصلية. والله نسأل أن يوفقنا دائما فى المحافظة على تراث الآباء والأجداد ليظل حيا قويا، نستمد منه، ونتخذ منه أساسا سليما فى بناء مجدنا الحديث. 23- 8- 1966 المحقق سعيد عبد الفتاح عاشور.

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار ملوك العراق و ... ] [تتمة ذكر أخبار الدولة السلجقية] [تتمة ذكر أخبار الدولة السلجقية بالعراق] بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه توفيقى ذكر أخبار السلطان مغيث الدين هو أبو القاسم محمود بن محمد طبر بن ملكشاه. جلس على تخت السلطنة فى النصف من ذى الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة، كما قدمنا ذكر ذلك فى أخبار أبيه السلطان محمد، ثم خطب له بالسلطنة ببغداد بعد وفاة أبيه على عادة الملوك السلجقية، فى يوم الجمعة ثالث عشر المحرم سنة ثنتى عشرة وخمسماية، فى خلافة المستظهر بالله، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور. ولما ولى (السلطان مغيث الدين) عزل بهروز عن شحنكية «1» ، بغداد، وولى اقسنقر البرسقى،- وكان بالرحية- فى إقطاعه، فسار إلى السلطان محمد قبل وفاته يسأله الزيادة فى إقطاعه، فبلغه وفاته قبل وصوله إلى بغداد، وأرسل مجاهد الدين بهروز يمنعه من دخول بغداد، فسار إلى السلطان محمود فلقيه توقيع السلطان بولاية

شحنكية بغداد وهو بحلوان «1» ، فلما ولى هرب بهروز إلى تكريت «2» وكانت له. ثم ولى السلطان شحنكية بغداد للأمير منكبرس «3» ، وهو من أكابر الأمراء، فسير إليها ربيبه الأمير حسين بن أرديل، أحد أمراء الأتراك لينوب عنه. فلما فارق باب همذان اتصل به جماعة من الأمراء البلخية، فلما بلغ البرسقى ذلك خاطب الخليفة المستظهر بالله أن يأمره بالتوقف عن العبور إلى بغداد إلى أن يكاتب السلطان، فأرسل إليه الخليفة فى ذلك، فأجابه: إن رسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من الدخول إلى بغداد. فجمع البرسقى أصحابه وسار إليه والتقوا واقتتلوا، فقتل أخ للأمير حسين وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، وذلك فى شهر ربيع الأول من السنة. قال: وكان الأمير دبيس بن صدقة عند السلطان محمد منذ قتل والده، فلما توفى السلطان خاطب السلطان محمود فى العودة إلى بلدة الحلة «4» ، فأذن له فعاد إليها، فاجتمع له خلق كثير من العرب والأكراد وغيرهم.

ذكر مسير الملك مسعود ابن السلطان محمد وجيوش بك وما كان بينهما وبين البرسقى والأمير دبيس بن صدقة

ذكر مسير الملك مسعود ابن السلطان محمد وجيوش بك وما كان بينهما وبين البرسقى والأمير دبيس بن صدقة قال: وفى جمادى الأولى سنة ثنتى عشرة وخمسماية برز اقسنقر البرسقى، ونزل بأسفل الرقة فى عسكره، ومن انضاف إليه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإخراج الأمير دبيس بن صدقة عنها، وجمع جموعا كثيرة من العرب والأكراد وفرق الأموال الكثيرة والسلاح. وكان الملك مسعود بن السلطان محمد بالموصل عند أتابكه «1» الأمير جيوش بك كما ذكرناه فى أخبار السلطان محمد، فأشار عليهما جماعة بقصد العراق، وقالوا لا مانع دونه، فسارا فى جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو على بن عمار صاحب طرابلس، وقسيم الدولة اقسنقر جد نور الدين الشهيد «2» ومعهم صاحب سنجار، وصاحب أربل، وكرباوى بن خراسان التركمانى صاحب البوازيج «3» . فلما علم البرسقى بقربهم خافهم، وتجهّز لقتالهم عند ما قربوا من بغداد، فسار إليهم ليقاتلهم، فأرسل إليه الأمير كرباوى

فى الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، فاصطلحوا وتعاهدوا. ووصل الملك مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، فأتاهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس المقدم ذكره فى جيش كبير، فسار البرسقى عن بغداد ليحاربه ويمنعه من دخولها، فلما علم منكبرس بذلك قصد النعمانية واجتمع هو والأمير دبيس ابن صدقة واتفقا على المعاضدة والتناصر وقوى كل منهما بصاحبه. فلما اجتمعا سار الملك مسعود والبرسقى وجيوش بك ومن معهم إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فأتتهم الأخبار بكثرة جمعهما، فعاد البرسقى والملك مسعود وعبرا نهر صرصر «1» ، وحفظا المخائض عليه، ونهب الطائفتان السواد نهبا فاحشا، واستباحوا النساء، فأرسل الخليفة المسترشد بالله- وكان قد بويع له بعد وفاة أبيه- إلى الملك مسعود وإلى البرسقى ينكر ذلك، ويأمرهم بحقن الدماء، وترك الفساد، والموادعة والمصالحة. فأنكر البرسقى أن يكون ذلك قد وقع، وأجاب إلى العود إلى بغداد، وعاد، ووقع الصلح والاتفاق بينهما. وكان سبب الاتفاق أن جيوش بك كتب إلى السلطان محمود يطلب الزيادة للملك مسعود ولنفسه، فوصل كتاب الرسول يذكر أنه لقى من السلطان إحسانا كثيرا، وأنه أقطعهم أذربيجان. فوقع الكتاب إلى منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان محمود له وللملك مسعود. وكان منكبرس متزوجا بأم الملك مسعود واسمها سرجهان، فعند ذلك تفرق عن البرسقى

ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود

من كان معه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان والتحق بخدمة الملك مسعود، واستقر منكبرس فى شحنكية بغداد، وعاد الملك مسعود وجيوش بك إلى الموصل وعاد دبيس إلى الحلة واستقر منكبرس ببغداد، وأخذ فى الظلم والعسف والمصادرات، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم الخلافة خوفا منه، وكثر فساد أصحابه، حتى أن بعض أهل بغداد تزوج بامرأة فلما زفت إليه أتاه بعض أصحاب منكبرس وكسر بابه وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بالمرأة. فكثر الدعاء على منكبرس وأصحابه واستغاث الناس وأغلقوا الأسواق. فبلغ السلطان ذلك فاستدعاه إليه وحثه على اللحاق به، وهو يغالط ويدافع. فلما بلغ أهل بغداد ذلك طمعوا فيه وهموا به، ففارق بغداد، وسار إلى السلطان. وظهر من كان قد استتر من الناس. ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود كان الملك طغرل لما توفى والده بقلعة من سرجهان «1» . وكان والده قد أقطعه ساوه وآوه «2» وزنجان فى سنة أربع وخمسماية: وعمره إذ ذاك سنة، فإن مولده كان فى سنة ثلاث وخمسماية.

وجعل السلطان أتابكه الأمير شيركير، ففتح عدة من قلاع الاسماعيلية فى سنة خمس وخمسمائة، منها قلعة كلام وقلعة بيرة «1» . وغيرهما. فازداد ملك طغرل بما فتحه أتابكه شيركير، فأرسل السلطان. محمود الأمير كندغدى «2» ليكون أتابكا لأخيه الملك طغرل ومدبرا لأمره، وأمره بحمله إليه. فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه ونزع يده من طاعته، فوافقه على ذلك، فسمع السلطان الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثين ألف دينار، ووعد أخاه باقطاع كثير زيادة على ما بيده إن هو قصده واجتمع به،. فلم يجب إلى الاجتماع به. وقال كندغدى: «نحن فى طاعة السلطان، وأى جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بهم من أمرنا بقصده» . فبينما هم فى ذلك إذ ركب السلطان محمود من باب همذان فى عشرة آلاف فارس جريدة. وذلك فى جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه طغرل والأمير كندغدى. فرأى أحد خواص السلطان تركيا من أصحاب الملك طغرل. فأعلم السلطان به، فقبض عليه. وكان معه رفيق سلم، وسار عشرين فرسخا فى ليلة، ووصل إلى الأمير كندغدى وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه بالخبر، فقام كندغدى لوقته وأخذ الملك طغرل

وسار به مختفيا، وقصدا قلعة سميران «1» ، فضلا عن الطريق إلى قلعة سرجا هان «2» ، وكان ضلالهما سببا لسلامتهما، فإن السلطان جعل طريقه على قلعة سميران، فسلما منه بما ظناه عطبا. ووصل السلطان إلى عسكر أخيه فكبسه ونهب ما فيه وأخذ من خزانة أخيه ثلثماية ألف دينار. وأقام السلطان بزنجان وتوجه منها إلى الرى ونزل طغرل من قلعة سرجاهان، ولحق هو وكندغدى، بكنجة «3» ، وقصده أصحابه فقويت شوكته، وتمكنت الوحشية بينهما. وفى سنة ثلاث عشرة وخمسماية كانت الحرب بين السلطان سنجرشاه وبين السلطان محمود، وكان الظفر لعمه سنجرشاه عليه، وقطعت خطبته من بغداد، وخطب لسنجرشاه، ثم اتفقا وحضر (السلطان محمود) إلى خدمة عمه فأكرمه وأحسن إليه وجعله ولى عهده كما قدمناه فى أخبار السلطان سنجر. قال: وأقطعه عمه سنجرشاه من حد خراسان إلى الداروم «4» بأقصى الشام، وهى من الممالك: همذان، وأصفهان، وبلد

ذكر مقتل الأمير منكبرس

الجبال جميعها، وديار مضر «1» ، وبلاد فارس، وكرمان وخوزستان والعراق، وأذربيجان، وأرمينية، وديار بكر، وبلاد الموصل، والجزيرة، وديار ربيعة» ، وما بين هذه من الممالك. قال القاضى عماد الدين بن الأثير فى تاريخه: ورأيت منشوره بذلك، وليس ابن الأثير هذا هو الجزرى صاحب التاريخ المترجم بالكامل بل هو صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية وهو الذى عاصرناه. ذكر مقتل الأمير منكبرس ومنكبرس هو الذى كان شحنة بغداد الذى قدمنا ذكره، وكان مقتله فى سنة ثلاث عشرة وخمسماية. وكان سبب قتله أنه لما انهزم السلطان محمود من عمه، عاد إلى بغداد، فنهب عدة مواضع من طريق خراسان، وقصد دخول بغداد. فسير دبيس بن صدقة من منعه، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطان وعمه. فدخل إلى السلطان سنجر ومعه سيف وكفن، فقال له: «انا لا أؤاخذ أحدا» وسلمه إلى السلطان محمود وقال له: «هذا مملوكك، اصنع به ما تريد» فأخذه، وكان فى نفسه منه أشياء: منها أنه لما توفى السلطان محمد أخذ سريته والدة الملك مسعود قهرا قبل انقضاء عدتها، ومنها استبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية العراق والسلطان

ذكر مقتل الأمير على بن عمر

كاره لذلك، وما فعله ببغداد. فقتله السلطان محمود صبرا وأراح الناس من شره والله أعلم. ذكر مقتل الأمير على بن عمر وفيها أيضا قتل الأمير على بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر الأمراء، وانقادت له العساكر، فحسده الأمراء وأفسدوا حاله مع السلطان محمود وحسنوا له قتله. فعلم بذلك فهرب إلى قلعة برجين- وهى بين بروجرد «1» وكرج- وكان بها أهله وماله، وسار منها فى مائتى فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبورى بن برسق وابنى أخويه أرغلى بن يلبكى وهندو بن زنكى. فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته. فلما سار إليهم أرسلوا عسكرا منعوه من قصدهم، ولقوه على ستة فراسخ من تستر «2» فانهزم هو وأصحابه ووقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فنشب ذيله «3» بسرجه الأول (فأزاله) «4» ثم عاود التعلق فأبطأ فأدركوه وأسروه وكاتبوا السلطان محمود فى أمره، فأمرهم بقتله فقتلوه.

ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والحرب بينهما والصلح

ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والحرب بينهما والصلح وفى سنة أربعة عشرة وخمسماية فى شهر ربيع الأول كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه مسعود. وكان لمسعود الموصل وأذربيجان وكان سبب هذه الحرب أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك الملك مسعود، ويحثه على طلب السلطنة. وكان مقصد أن يقع الاختلاف بينهما، فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبو باختلاف السلطان محمد وبركياروق. وكان اقسنقر البرسقى مع الملك مسعود منذ فارق شحنكية بغداد، وأقطعه الملك مسعود مراغا مضافة إلى الرحبة. وكان بينه وبين دبيس عداوة مستحكمة. فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بالقبض على البرسقى، فعلم البرسقى بذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلا محله وزاده. واتصل الأستاذ أبو اسماعيل الحسين بن على الأصبهانى الطغرائى بالملك مسعود. فاستوزره مسعود بعد (أن) عزل (أبا على) «1» بن عمار، فحسن له أيضا مخالفة السلطان، والخروج عن طاعته. فبلغ السلطان محمود الخبر فكتب إليهم يحذرهم من مخالفته، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على الطاعة، فلم يصغوا إلى قوله وأظهروا ما كانوا أضمروه،

وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس «1» ، وكان ذلك على تفرق عساكر السلطان محمود، فقوى طمعهم وأسرعوا إليه ليلقوه وهو فى قلة من العسكر. واجتمع إليه نحو خمسة عشر ألف فارس. فسار السلطان إليهم فالتقوا عند عقبة استراباد «2» نصف شهر ربيع الأول، واقتتلوا نهارا كاملا والبرسقى فى مقدمة عسكر السلطان محمود وأبلى يومئذ بلاء حسنا. فانهزم عسكر الملك مسعود فى آخر النهار، وأسر جماعة كبيرة من أعيان أصحابه. وأسر الوزير، فأمر السلطان بقتله وقال: «ثبت عندى فساد نيته» وكان حسن الكتابة والشعر، وله تصانيف فى صنعة الكيميا ضيعت للناس من الأموال ما لا يحصى كثرة. قال: ولما انهزم أصحاب الملك مسعود وتفرّقوا، قصد جبلا بينه وبين المصاف اثنى عشر فرسخا، واختفى فيه بألفى فارس، وأرسل إلى أخيه يطلب منه الأمان، فرق له وأجابه إلى ما طلب، وأمر اقسنقر البخارى بالمسير إليه وإعلامه بعفو السلطان وبسط أمله. ولما كتب إلى أخيه فى طلب الأمان وصل إليه بعد ذلك بعض

ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود

الأمراء، وحسن له المسير إلى الموصل، ومكاتبة دبيس بن صدقة، والاتفاق معه، ومعاودة طلب السلطنة، فسار من ذلك الموضع ووصل اقسنقر البخارى فلم يجده فسار فى أثره وجد المسير، فأدركه على ثلاثين فرسخا من مكانه ذلك، فاجتمع به وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك. وأمر السلطان بإنزاله عند والدته وجلس له وأحضره، واعتنقا وبكيا، وانعطف عليه السلطان محمود، ووفّى له، وخلطه بنفسه فى جميع أحواله، فعد الناس ذلك من مكارم السلطان محمود. وكانت الخطبة لمسعود بالسلطنة بأذربيجان والجزيرة والموصل ثمانية وعشرين يوما. وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة استراباد، وانتظر الملك مسعود فلم يره، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره فلما بلغه ما كان من أمر الملك مسعود وأخيه، سار إلى السلطان هو بهمذان ودخل إليه فأمنه. وأما الأمير دبيس بن صدقة، فإنه نهب البلاد وخربها وفعل الأفعال القبيحة، فأمنه السلطان، والله أعلم. ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود قال: كان دخول الملك طغرل فى طاعة أخيه السلطان محمود فى المحرم سنة ست عشرة وخمسماية، وكان قد قصد أذربيجان

فى سنة أربع عشرة. وكان أتابكه كندغدى يحسن له ويقويه عليه، فاتفقت وفاته فى شوال سنة خمس عشرة وكان الأمير اقسنقر صاحب مراغة «1» عند السلطان ببغداد، فاستأذن السلطان فى المضى إلى إقطاعه فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كندغدى عند الملك طغرل ويتنزل منزلته، فسار إليه واجتمع به، وأشار عليه بمكاشفة أخيه، وقال له: «اذا وصلت إلى مراغة، اتصل بك عشرة آلاف فارس وراجل» فسار طغرل معه، فلما وصلا إلى اردبيل «2» ، أغلقت أبوابها دونهما، فسارا عنها إلى قرية تبريز، فأتاهما الخبر أن السلطان محمود سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل على مراغة فى عسكر كثيف، فعدلا إلى خويه «3» وانتقض عليهما ما كانا فيه، وراسلا الأمير شيران «4» - الذى كان أتابك طغرل- (أيام أبيه) «5» يدعوانه إلى إنجادهما. وكان باقطاعه أبهر وزنجان «6» ، فأجابهما واتصل بهما، وساروا إلى أبهر فلم يتم لهم ما أرادوه فعند ذلك راسلوا السلطان بالطاعة وسألوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك، واستقرت القاعدة، وتم الصلح.

ذكر قتل الوزير السميرمى

ذكر قتل الوزير السميرمى وفى سلخ صفر سنة ست عشرة وخمسمائة قتل الوزير كمال الدين أبو طالب السميرمى وزير السلطان محمود وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان، فدخل إلى الحمام وخرج وبين يديه الرجالة والخيالة، وهو فى موكب عظيم، فاجتاز بمنفذ ضيق فيه (حظائر الشوك) «1» فتقدم أصحابه لضيق المكان، فوثب عليه باطنى، وضربه بسكين فوقعت فى بغلته، وهرب الضارب إلى دجلة، وتبعه الغلمان فخلا الموضع، فظهر رجل آخر فضربه بسكين فى خاصرته، وجذبه عن البغلة إلى الأرض، وضربه عدة ضربات. وعاد أصحاب الوزير فحمل عليهم رجلان باطنيان، فانهزموا منهما ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة، وبه نيف وثلاثون «2» ، جراحة فقتلوا قتلته. قال: ولما كان فى الحمام أخذ المنجمون له الطالع للخروج فقالوا: «هذا وقت جيد، وإن تأخرت يفوت طالع السعد» فأسرع وركب وأراد أن يأكل طعاما فمنعوه لأجل الطالع، فقتل ولم ينفعه ذلك. وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر، وانتهب ماله، وأخذ السلطان خزانته. وكانت زوجته قد خرجت فى هذا اليوم فى موكب كبير ومعها نحو ماية جارية وجمع من الخدم، والجميع بمراكب

ذكر قتل الأمير جيوش بك

الذهب.. فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات، وقد تبدلن عن العز هوانا، وعن المسرة أحزانا. وكان السميرمى ظالما كثير المصادرات للناس، سيىء السيرة، فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس، واستوزر بعده شمس الملك عثمان بن نظام الملك. ذكر قتل الأمير جيوش بك كان مقتله فى شهر رمضان سنة ست عشرة وخمسماية. وكان السلطان قدمه بعد عوده إليه، وأحسن إليه، وأقطعه أذربيجان، وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين الأمراء منافرة ومنازعة، فوشوا به عند السلطان فقتله. وكان عادلا، حسن السيرة. وفيها أقطع السلطان محمود الأمير اقسنقر البرسقى مدينة واسط. وأعمالها، مضافة إلى ولاية الموصل وشحنكية العراق، فسير البرسقى إلى واسط عماد الدين زنكى. ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج وفى سنة سبع عشرة وخمسماية اشتدت نكاية الكرج «1» فى بلاد الإسلام، ونظم الامر على الناس، لا سيما أهل

دربند شروان «1» ، فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان، وشكوا إليه ذلك، فسار إليهم وقد وصل الكرج إلى شماخى «2» فنزل السلطان ببستان هناك، وتقدم الكرج إليه، فخافهم العسكر خوفا شديدا، وأشار الوزير على السلطان بالعود. فلما سمع أهل شروان بذلك، قصدوا السلطان وقالوا: «نحن نقاتل ما دمت عندنا وإن تأخرت ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا» فأقام بمكانه، وبات العسكر على وجل عظيم، فأتاهم الله بفرج من عنده، وألقى بين الكرج والقفجاق الاختلاف، فاقتتلوا تلك الليلة، ورحلوا شبه المنهزمين، وكفى الله المؤمنين القتال. وأقام السلطان بشروان ثم عاد إلى همذان. وفى سنة ثمان عشرة وخمسماية عزل اقسنقر البرسقى عن شحنكية العراق ورسم له بالعود إلى الموصل، وأرسل السلطان محمود إليه ولدا صغيرا له مع أمه ليكون عنده. فلما وصل الصغير إلى العراق تلقته المواكب، وكان لدخوله يوما مشهودا. وتسلم البرسقى الصغير وسار به وبأمه إلى الموصل. وولى شحنكية العراق سعد الدولة برنقش «3» . وملك البرسقى فى هذه السنة مدينة حلب وقلعتها.

ذكر وصول الملك ودبيس بن صدقة إلى العراق وعودهما

ذكر وصول الملك ودبيس بن صدقة الى العراق وعودهما كان الخليفة المسترشد بالله خرج لقتال دبيس بن صدقة فى سنة سبع عشرة وخمسماية، وقاتله، فانهزم دبيس كما ذكرناه فى أخبار المسترشد، ثم التحق بعد هزيمته بالملك طغرل أخى السلطان محمود. فلما وصل إليه أكرمه وأحسن إليه، وجعله من أعيان خواصه وأمرائه. فحسن له دبيس قصد العراق، وهون الأمر عليه، وضمن له أن يملكه، فسار معه إلى العراق فى سنة تسع عشرة وخمسماية فوصلوا إلى دقوقاء «1» فى عساكر كثيرة. فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة بذلك، فخرج الخليفة فى العساكر والرجال ونزل بصحراء الشماسية «2» ، وبرنقش أمامه. فلما بلغ الملك طغرل الخبر، عدل إلى طريق خراسان، وتفرق أصحابه للنهب وتوجه هو ودبيس إلى الهارونية «3» . وسار الخليفة حتى أتى الدسكرة «4» ، فاستقر الأمر بين طغرل ودبيس أن يسيرا حتى يعبرا نهر ديالى «5» ويقطعا جسر النهروان، ويقيم دبيس لحفظ. المخايض، ويتقدم الملك طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها.

ذكر مقتل البرسقى وملك ابنه عز الدين مسعود

فسارا على ذلك فحصل لطغرل حمى شديدة منعته من ذلك، وبلغ الخليفة الخبر، فعاد إلى بغداد. وانتقض على طغرل ودبيس مادبراه، فقصدا السلطان سنجر واجتازا فى طريقهما بهمذان. فبسط على أهلها ما لا كثيرا وأخذاه، فبلغ خبرهما السلطان محمود فجد السير فى إثرهما، فانهزما منه إلى خراسان، واجتمعا بالسلطان سنجر، وشكيا من الخليفة، وبرنقش، وأقاما عند السلطان سنجر؛ ثم كان من أمرهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر مقتل البرسقى وملك ابنه عز الدين مسعود وفى سنة عشرين وخمسماية قتل اقسنقر البرسقى صاحب الموصل بمدينة الموصل، قتله الباطنية فى يوم الجمعة بالجامع. وكان من عادته أنه يصلى الجمعة فى الجامع مع العوام. وكان قد رأى فى منامه فى تلك الليلة أن عدة من الكلاب ثاروا به، فقتل بعضهم ونال منه الباقى ما أذاه، فقص ذلك على أصحابه فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام. فقال: «لا أترك الجمعة لشئ أبدا» فغلبوه على رأيه ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، وأخذ المصحف ليقرأ فيه، فأول ما خرج له وله تعالى: «وكان أمر الله قدرا مقدورا» فركب إلى الجامع على عادته. وكان يصلى فى الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفسا، عدة الكلاب التى رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح (هو) «1» ، بيده ثلاثة منهم، وقتل رحمه الله تعالى.

وكان تركيا خيرا، يحب أهل العلم والدين، كثير العدل يحافظ. على الصلوات لأوقاتها، ويصلى بالليل تهجدا. ولما قتل كان ابنه مسعود بحلب يحفظها من الفرنج، فأرسل إليه أصحاب والده بالخبر فسار إلى الموصل، ودخلها فى أول ذى الحجة، ثم توجه إلى السلطان محمود فأحسن إليه وأعاده. وفى هذه السنة وقع الاختلاف بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله. وكان سببه برنقش، فسار السلطان إلى العراق، وكان بينه وبين الخليفة ما قدمناه فى أخبار المسترشد بالله، ثم اتفقا على مال حمله الخليفة إليه. وفى سنة إحدى وعشرين وخمسماية. أسند السلطان شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكى على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره. وفيها فى عاشر شهر ربيع الآخر سار السلطان محمود من بغداد وحمل إليه الخليفة الخلع والدواب الكثيرة، فقبل جميع ذلك، ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبى القاسم على بن الناصر النسابادى «1» فى شهر رجب لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله، وأرسل إلى بغداد وأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد، فوصل إلى السلطان وهو بإصفهان، فخلع عليه الوزارة واستوزره، فاستمر عشرة أشهر وعزل نفسه، وعاد إلى بغداد فى شعبان سنة اثنتين وعشرين، فأعيد الوزير أبو القاسم.

ذكر ما فعله دبيس بن صدقة وما كان من أمره

وفى سنة إحدى وعشرين توفى عز الدين مسعود بن البرسقى أمير الموصل فأقام السلطان مقامه عماد الدين زنكى. وفى سنة اثنتين وعشرين وخمسماية قدم السلطان سنجر عم السلطان (محمود) إلى الرى، واستدعى السلطان (محمود) «1» فسار إليه فأكرمه وأجلسه معه على التخت، ولما عاد (سنجر) «2» إلى خراسان سلم دبيس بن صدقة إلى السلطان محمود، وأوصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده، فرجع محمود إلى همذان، ودبيس فى صحبته. ثم سار إلى العراق، وقدم بغداد فى المحرم سنة ثلاث وعشرين: ودبيس معه ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله. فامتنع الخليفة من إجابة السلطان إلى ولاية دبيس ابن صدقة البتة، فلم يمكن السلطان إجباره وأقام ببغداد إلى رابع جمادى الآخرة من السنة، وعاد إلى همذان، وجعل بهروز على شحنكية بغداد، وسلم إليه الحلة واستصحب دبيس بن صدقة معه. ذكر ما فعله دبيس بن صدقة وما كان من أمره قال: ولما سار السلطان محمود من بغداد إلى همذان ماتت زوجتا ابنة عمه السلطان سنجر، وكانت تعتنى بأمر دبيس. فلما ماتت انحل نظامه. واتفق أن السلطان مرض مرضا شديدا، فأخذ دبيس ابنا له صغيرا وقصد العراق، فلما بلغ المسترشد خبره، جند

الأجناد وحشّد وجمع. وكان بهروز بالحلة ففارقها ودخلها دبيس فى شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسماية. فلما بلغ السلطان الخبر أحضر الأميرين نيزك «1» والأحمديلى وقال: «أنتما ضمنتما منى دبيس بن صدقة وأريده منكما» . فسار الأحمديلى إلى العراق فاتصل خبره بدبيس، فكتب إلى الخليفة يستعطفه ويقول: «إن رضيت عنى فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك» ، وترددت الرسائل بينهما، ودبيس فى خلال ذلك يجمع الرجال والأموال «2» ، وكان معه ثلاثمائة فارس فصار فى عشرة آلاف فارس: ووصل الأحمديلى بغداد فى شوال، وسار إلى دبيس، وسار السلطان بعد ذلك إلى العراق، فأرسل إليه دبيس هدايا جليلة وبذل ثلاثمائة حصان منعولة بالذهب ومائتى ألف دينار إن رضى عنه السلطان والخليفة، فلم يجبه إلى ذلك. فسار إلى البصرة وأخذ منها أموالا كثيرة، فسير الخليفة فى إثره عشرة آلاف فارس ففارق البصرة ودخل البرية، ثم سار إلى الشام فى سنة خمس وعشرين ليملك صرخد، وكان صاحبها قد توفى، واستولت جاريته على القلعة وما فيها، فاستدعت دبيس بن صدقة ليتزوج بها، ويملك القلعة. فسار إليها فضلّ عن الطريق، فنزل بناس من كلب «3»

ذكر وفاة السلطان محمود وشىء من اخباره وملك ابنه داود

كانوا بنواحى الغوطة» فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق، فحبسه عنده، فسمع أتابك زنكى خبره، فأرسل إليه يطلبه منه ويتهدده إن لم يرسله إليه، فأرسله إليه، فأحسن إليه زنكى إحسانا لم يسمع بمثله، وكان قد ظن أنه يهلكه فأقام عنده وانحدر معه إلى العراق (والله اعلم) . وفى سنة أربع وعشرين وخمسماية خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان وكان عند عمه السلطان سنجر ووصل إلى ساوه. فسار السلطان من بغداد إلى همذان، وفى ظنه أن مسعود يخالفه على عادته. فلما وصل إلى كرمان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه، فأقطعه كنجه وأعمالها. ذكر وفاة السلطان محمود وشىء من اخباره وملك ابنه داود كانت وفاته بهمذان فى شوال سنة خمس وعشرين وخمسماية وكان له من العمر نحو سبع «2» وعشرين سنة، وكانت مدة سلطنته ثلاث عشرة سنة «3» وتسعة أشهر وعشرين يوما وكان حليما كريما عاقلا، يسمع ما يكره فلا يعاقب عليه مع القدرة، قليل الطمع

فى أموال الناس، عفيفا عنها، كافا لأصحابه عن الظلم والتطرق إلى أموال رعيته. ونقل بعض المؤرخين أن الأموال ضاقت فى آخر أيامه حتى عجزوا فى بعض الأيام عن إقامة وظيفة الفقاعى، فدفعوا له بعض صناديق الخزانة فباعها وصرف ثمنها فى حاجته. ولما توفى والد السلطان محمد خلف ثمانية آلاف ألف دينار، سوى المصوغات والجواهر وأصناف الثياب وغير ذلك، فآل الأمر فى أيام محمود إلى هذه الغاية. قال: وطلب يوما من سابور الخادم الخازن غالية «1» ، فشكا «2» إليه الإقلال واستمهله. ثم أحضر إليه بعد مدة ثلاثين مثقالا، فقال له السلطان وكان خازن أبيه: «كم كان فى خزانة السلطان والدى من الغالية؟» فقال: «كان فى قلعة أصفهان منها فى أوانى الذهب والفضة والبلور المحكم والصينى ما يقارب ماية وثمانين رطلا، ومعنا فى خزانة الصحبة ما يقارب ثلاثين رطلا» فجعل يتعجب من ذلك ويقول لمن حضر: اعجبوا من التفاوت بين هذه الأيام وتلك» . وكان له من الأولاد. محمدشاه ولى السلطنة، وملكشاه وليها أيضا، وجفرى شاه، وداود ووزراؤه ربيب الدولة أبو منصور وزير والده. ثم نظام الدين كمال الملك أبو طالب على بن أحمد السميرمى، صفى أمير المؤمنين إلى أن قتل كما ذكرناه. واستوزره بعده شمس الدين عثمان بن نظام الملك إلى أن قتله فى سنة سبع

ذكر أخبار السلطان غياث الدنيا والدين أبى الفتح مسعود بن ملكشاه وما كان من أمره، وخروجه من السلطنة وسلطنة أخيه السلطان طغرل، وعوده اليها

عشرة وخمسماية. واستوزر الوزير القوام أبا القاسم على بن الناصر النساباذى، وقبض عليه فى شهر رجب سنة عشرين. واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد، ثم استعفى من الوزارة وأعيد الوزير أبو القاسم. قال: ولما توفى السلطان محمود جلس ابنه داود فى السلطنة باتفاق من الوزير أبى القاسم، وأتابكه اقسنقر الأحمديلى، وخطب له فى جميع بلاد الجبل [وأذربيجان] «1» . ولما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الرى ليأمن بها حيث هى للسلطان سنجر. وكان سبب خوفه أنه قبل وفاة السلطان محمود خاف من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة منهم: عين الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفى، والأمير أنوشتكين المعروف بشير كير. وولده عمر وهو أمير حاجب، فقبض عليهم. فأما عين الدولة فإنه أرسله إلى مجاهد الدين بهروز فحبسه بتكريت، ثم قتل بها، وأما شير كير وولده. فقتلهما فى جمادى الآخرة. ذكر أخبار السلطان غياث الدنيا والدين أبى الفتح مسعود بن ملكشاه وما كان من أمره، وخروجه من السلطنة وسلطنة أخيه السلطان طغرل، وعوده اليها وقد رأيت من قدم أخبار السلطان طغرل على أخبار أخيه السلطان مسعود ثم ذكر سلطنة مسعود بعدها. وليس كذلك لأن السلطان

ذكر ما اتفق للسلطان مسعود مع أخيه الملك سلجق شاه وداود بن محمود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود

طغرل ما تسلطن إلا بعد حرب السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، ومسعود لم يحارب عمه سنجر بعد أن خطب له بالسلطنة فتعين بهذا أن السلطان مسعود تقدمه فى السلطنة وقد بدأت بأخبار السلطان مسعود وجعلت أخبار السلطان طغرل مندمجة فى أخبار السلطان مسعود وبينتها بالتراجم الدالة عليها لأن السلطان مسعود تسلطن قبله وعاش بعده. ذكر ما اتفق للسلطان مسعود مع أخيه الملك سلجق شاه وداود بن محمود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه المترجم بالكامل: لما توفى السلطان محمود بن محمد، وخطب لولده الملك داود ببلاد الجبل أذربيجان سار الملك داود من همذان فى ذى القعدة سنة خمس وعشرين وخمسماية إلى زنكان «1» ؛ فأتاه الخبر بمسير عمه. السلطان مسعود من جرجان، وأنه وصل إلى تبريز واستولى عليها. فسار الملك داود إليه، وحصره بها وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وتأخر الملك داود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز، واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وكانت رسل الملك داود تقدمت إلى بغداد فى طلب الخطبة، فأجاب المسترشد بالله إن الحكم فى الخطبة للسلطان سنجر، فمن أراد

خطب له. وأرسل الخليفة إلى السلطان سنجر أن لا يأذن فى الخطبة لأحد، وأنه ينبغى أن تكون الخطبة له وحده دون بنى أخيه، فوقع ذلك منه موقعا حسنا. ثم إن السلطان مسعود كاتب عماد الدين أتابك زنكى صاحب الموصل وغيرها يستنجده ويطلب مساعدته فوعده بالنصر، فقويت نفسه بذلك على طلب السلطنة. قال: ثم إن السلطان «1» سلجق شاه بن محمد ساربه أتابكه قراجا الساقى صاحب بلاد فارس وخوزستان فى عسكر كثير إلى بغداد، فوصل إليها قبل وصول أخيه السلطان مسعود، ونزل بدار السلطنة، فأكرمه الخليفة واستخلفه لنفسه. ثم [وصل رسول السلطان] «2» يطلب الخطبة لنفسه ويتهدد إن منعها، فلم يجبه المسترشد إلى ما طلب، فسار حتى نزل عباسية «3» الخالص. فبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجق شاه قراجا الساقى نحو مسعود، وقد عزموا على حربه، فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكى إلى المعشوق «4» ، فعبر قراجا الساقى فى أكثر العساكر إلى الجانب الغربى وسار فى يوم وليلة إلى المعشوق، والتقى هو وزنكى فهزمه الساقى وأسر جماعة من أصحابه، وانهزم زنكى إلى تكريت، وسار إلى الموصل.

ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرشاه وهزيمة مسعود وسلطنة طغرل

قال: وسار السلطان مسعود من العباسية المالكية «1» ، وحصلت المناوشة بين عسكره وعسكر أخيه سلجق شاه ودامت يومين، فأرسل سلجق شاه إلى قراجا يستحثه فى العود، فعاد مسرعا. فلما علم مسعود بهزيمة زنكى رجع إلى ورائه، وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الرى، وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره، ويقول: «إن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق [ويكون العراق] «2» لوكيل الخليفة فأنا موافق على ذلك» . وترددت الرسائل بينهم، فوقع الاتفاق على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، والسلطنة لمسعود وسلجق شاه ولى عهده، وتحالفوا على ذلك. ودخل السلطان مسعود بغداد ونزل بدار السلطنة ونزل سلجق شاه بدار الشحنكية، وذلك فى جمادى الأولى سنة ست وعشرين وخمسماية. ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرشاه وهزيمة مسعود وسلطنة طغرل قال: ولما وصل الخبر بوفاة السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجرشاه، سار عن خراسان إلى بلاد الجبال «3» ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد، وكان قد لازمه، فوصلا إلى الرى ثم إلى همذان، فاتصل الخبر المسترشد بالله والسلطان مسعود ومن

ذكر الحرب بين السلطان طغرل بن محمد وبين أخيه الملك داود بن محمود

قال: ولما تمت الهزيمة على مسعود، نزل السلطان سنجر وأحضر قراجا الساقى وسبه ووبخه وقال له: «يا مفسد، أى شىء كنت ترجو بقتالى» قال: «كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطانا أحكم عليه» . فقتله صبرا، وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه، فحضر إليه فأكرمه، وعاتبه على عصيانه ومخالفته وأعاده إلى كنجه. وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد فى السلطنة، وخطب له فى جميع البلاد، واستوزر له الوزير: أبا القاسم النساباذى وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان. ذكر الحرب بين السلطان طغرل بن محمد وبين أخيه الملك داود بن محمود قال: لما توجه السلطان سنجر إلى خراسان عصى الملك داود بن محمود على عمه السلطان طغرل وجمع العساكر، وسار إلى همذان فى مستهل شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسماية. فخرج إليه السلطان طغرل، وعبى كل منهما أصحابه، والتقوا فوقع الخلف فى عسكر داود، فهرب أتابكه اقسنقر الأحمديلى، وتبعه الناس، وبقى الملك داود متحيرا إلى أوائل ذى الحجة منها فقدم بغداد هو وأتابكه الأحمديلى.

ذكر عود السلطان مسعود [بن محمد] إلى السلطنة وانهزام طغرل

ذكر عود السلطان مسعود [بن محمد] «1» الى السلطنة وانهزام طغرل قال: لما سمع السلطان مسعود انهزام داود، وأنه قصد بغداد، سار هو أيضا إلى بغداد فى سنة سبع وعشرين وخمسماية. فلما قاربها لقيه داود ودخل فى خدمته إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة فى صفر، وخاطب فى الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له ولداود بعده. ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما وخلع على مسعود فى يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة. وكانت الخلع سبع دراريع مختلفات الأجناس والألوان والسابعة سوداء، وتاجا مرصعا بالجوهر والياقوت، وطوق ذهب وسراويل، وقلده بسيفين وعقد له لواءين بيده، وسلم إليه داود بن أخيه وأوصاه به مشافهة. ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان، وأرسل الخليفة معهما عسكرا فساروا. وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وهرب من بها من الأمراء مثل قراسنقر وغيره، وتحصن كثير منهم بمدينة أردبيل «2» ، فقصدهم مسعود وحصرهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم الباقون. ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل فاستولى عليها فى شعبان. ولما استقر بها قتل اقسنقر الأحمديلى،

قتله الباطنية. وسار طغرل حتى بلغ قم «1» ، ثم عاد إلى أصفهان وأراد أن يتحصن بها، فسار إليه مسعود ليحاصره بها فرحل طغرل إلى بلاد فارس. واستولى مسعود على أصفهان، وفرح أهلها به، ثم سار منها نحو فارس، فوصل إلى موضع بقرب البيضا «2» ، فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه طغرل معه أربعماية فارس، فأمنه فخاف طغرل من عسكره أن يلتحقوا بأخيه، فانهزم وقصد الرى. قال: ولما تم على طغرل ماتم من الهزيمة، قال لوزيره أبى القاسم النساباذى: «قد علمت أنه ماتم علىّ هذا الخذلان إلا لظلمك للعباد فقال له: «لا تقلق، قد أمرت أهل ألموت بقتل اقسنقر وسائر أعدائك وهم فاعلون» فأمر به فضرب وصلب، فانقطع به الحبل، فقطع إربا إربا، وطيف بأعضائه فى كل بلد عضو، وكان قتله بأصفهان. واستمر طغرل حتى أتى الرى فى ثلاثة آلاف فارس، وسار الملك مسعود فى طلبه فلحقه بموضع يقال له ذكراور، فوقع بينهما مصاف هناك، فانهزم طغرل ووقع عسكره فى أرض قد نضب عنها الماء، وهى وحل، فأسر منهم جماعة فأطلقهم مسعود، ولم يقتل فى هذا المصاف إلا نفر يسير. وكان هذا المصاف فى ثامن عشر شهر رجب سنة سبع وعشرين وخمسماية، ورجع الملك مسعود إلى همذان.

ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام السلطان مسعود

ذكر عود الملك طغرل الى الجبل وانهزام السلطان مسعود وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية عاد الملك طغرل إلى بلاد الجبل فملكها؛ وسبب ذلك أن السلطان مسعود لما عاد من حربه، بلغه عصيان داود ابن أخيه بأذربيجان، فسار إليه وحصره بقلعة روندر «1» واشتغل بحصره، فجمع الملك طغرل العساكر، واستمال بعض أمراء السلطان مسعود، وتقدم لفتح البلاد وفتحها أولا فأولا، وكثرت عساكره، فقصد مسعود. فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه، ولما تدانا العسكران انهزم السلطان مسعود وذلك فى أواخر شعبان من السنة، فأرسل إلى الخليفة المسترشد بالله فى القدوم إلى بغداد فأذن له. وكان نائبه بأصفهان النفيس «2» السلاحى ومعه الملك سلجق شاه، فلما سمعا بانهزام مسعود قصدا بغداد فنزل سلجق شاه بدار السلطان فأكرمه الخليفة وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم مسعود إلى بغداد، وأكثر أصحابه على الجمال لعدم الخيل، فأرسل إليه الخليفة ما يحتاج إليه من الخيل والخيام والسلاح والثياب وغير ذلك، ونزل بدار السلطنة، وذلك فى منتصف شوال من السنة. وأقام طغرل بهمذان فعاجلته المنية.

ذكر وفاة الملك طغرل وملك أخيه السلطان مسعود بلد الجبل

ذكر وفاة الملك طغرل وملك أخيه السلطان مسعود بلد الجبل كانت وفاته بهمذان فى المحرم سنة تسع وعشرين وخمسماية ومولده فى المحرم سنة ثلاث وخمسماية. وكان عاقلا خيرا عادلا، محسنا إلى الرعية قريبا منهم. وكان قبل وفاته قد خرج يريد السفر لقتال أخيه مسعود، فدعا له الناس فقال: «ادعو لخيرنا للمسلمين» وكان له من الأولاد أرسلان شاه، ولى السلطنة، ومحمد ألب أرسلان لم يلها. وزراؤه: الوزير قوام الدين النساباذى وزير السلطان محمود إلى أن قتله، ثم استوزر شرف الدين على بن رجا. قال: ولما توفى وصل الخبر بموته أخيه السلطان مسعود، فسار من وقته نحو همذان، وأقبلت العساكر إليه ودخلت فى طاعته، واستقل بالسلطنة بعده. وفى هذه السنة وقع بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود، والتقوا واقتتلوا، فانهزمت عساكر الخليفة ثم قتل على ما قدمناه فى أخبار الدولة العباسية. ذكر قتل الأمير دبيس بن صدقة وفى سنة تسع وعشرين وخمسماية قتل السلطان مسعود الأمير دبيس بن صدقة وهو على باب سرادقه بظاهر مدينة خوى. أمر غلاما أرمنيا بقتله، فقام على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه فضرب عنقه وهو لا يشعر. وكان صدقة يعادى المسترشد كما

ذكر اجتماع الأطراف على حرب السلطان مسعود وخروجهم عن طاعته

ذكرناه، فلما قتل المسترشد ظن صدقة أن الدنيا قد صفت له، فما لبث بعده. وهذه عادة الدنيا يتبع صفاها كدرها، وجودها ضررها كما قيل. إن الليالى لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان قال: ولما قتل دبيس كان ابنه صدقة بالحلة، فاجتمع إليه مماليك أبيه وأصحابه وكثر جمعه، وبقى بها إلى أن قدم السلطان بغداد فى سنة إحدى وثلاثين، فقصده وأصلح حاله معه، ولزم بابه. ذكر اجتماع الأطراف على حرب السلطان مسعود وخروجهم عن طاعته وفى سنة ثلاثين وخمسماية اجتمع كثير من أصحاب الأطراف على الخروج عن طاعة السلطان [مسعود] . فسار الملك داود ابن أخى السلطان فى عسكر أذربيجان إلى بغداد، فوصل إليها فى رابع صفر ونزل بدار السلطنة. ووصل بعده عماد الدين زنكى صاحب الموصل. ووصل الأمير برنقش بازدار صاحب قزوين وغيرها؛ والنفيس الكبير [صاحب أصفهان وصدقة بن دبيس] «1» صاحب الحلة وغيرهم. فجعل الملك داود فى شحنكية بغداد برنقش بازدار، وقطعت خطبة السلطان مسعود وخطب لداود، فسار السلطان مسعود إلى بغداد، فتفرقت تلك الجيوش وسار الخليفة وزنكى إلى الموصل

وخلع الراشد، وبويع المقتضى على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية.. وفى سنة ثلاثين وخمسماية عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلمة الدر كزينى وهو من خراسان. وفيها أرسل السلطان قراسنقر بعساكر كثيرة فى طلب الملك داود، فسار وأدركه عند مراغة، فالتقيا واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم داود إلى خوزستان، فاجتمع عليه هناك كثير من التركمان وغيرهم، فبلغت عدتهم عشرة آلاف فارس، فقصد بهم تستر «1» وحاصرها. وكان عمه السلطان سلجق شاه ابن السلطان محمد بواسط، فأرسل إلى أخيه السلطان مسعود يستنجده ويستمده، فأمده بالعساكر، فسار إلى داود وهو يحاصر تستر، فالتقوا فانهزم سلجق شاه. وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية أذن السلطان مسعود للعساكر التى عنده ببغداد فى العود إلى بلادهم، وذلك فى المحرم منها. وسبب ذلك أنه بلغه أن الراشد بالله المخلوع فارق الموصل. قال: وزوج ابنته للأمير صدقة بن دبيس بن صدقة، وتزوج الخليفة المقتضى بفاطمة أخت السلطان فاطمأن السلطان عند ذلك وفرق العساكر.

ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء

ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية كانت الحرب بينهم، وسبب ذلك أن الراشد بالله المخلوع فارق الموصل وسار نحو أذربيجان فوصل إلى مراغة. وكان الملك داود بن محمود والأمير منكبرس صاحب فارس والأمير بوزابه نائبه بخوزستان، والأمير عبد الرحمن طغايرك على خوف ووجل من السلطان. فتجمعوا كلهم ووافقوا الراشد على الاجتماع معه ليكونوا يدا واحدة ويردوه إلى الخلافة فأجابهم إلى ذلك، إلا أنه لم يجتمع معهم. ووصل الخبر إلى السلطان وهو ببغداد، فسار عنها فى شعبان، والتقوا واقتتلوا، فانهزم الملك داود، وأسر الأمير منكبرس فقتل صبرا بين يدى السلطان وتفرقت عساكر السلطان مسعود فى النهب واتباع من انهزم، وكان بوزابه وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان وقد تفرقت عساكره، فحملا عليه، فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابه على جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة وأتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وعنتر بن أبى العساكر، وتركهم عنده. فلما بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم جميعا وصار العسكران مهزومين، وهذا من عجيب الاتفاق. وقصد السلطان مسعود أذربيجان وقصد الملك داود همذان، ووصل إليها الراشد بعد الوقعة واختلفت آراء الجماعة، فمنهم

عز الملك. وضاقت الأمور على السلطان، فاستقطع البلاد على غير رضاه، ولم يبق له غير اسم السلطنة. وفيها توفيت زبيدة خاتون زوجة السلطان مسعود، وهى ابنة السلطان بركياروق، فتزوج مسعود بعدها سفرى ابنة دبيس بن صدقة فى جمادى الأولى وتزوج أيضا ابنة قاروت، وهو من البيت السلجقى. وفيها أيضا قتل السلطان [مسعود] ابن البقش السلاحى شحنة بغداد لظلمه وعسفه للناس، وجعل شحنة العراق مجاهد الدين بهروز، فأحسن السيرة. وفى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية قدم السلطان مسعود إلى بغداد فى فصل الشتاء، وصار يشتو «1» بالعراق ويصيف بالجبال. ولما قدمها أزال المكوس وكتب الألواح بإزالتها، ووضعت على أبواب الجوامع وفى الأسواق. وتقدم إلى الجند أن لا ينزل أحد منهم فى دار عامى إلا من اذن له، فكثر الدعاء له والثناء عليه. وفى سنة تسع وثلاثين وخمسماية قبض السلطان على وزيره البروجردى، واستوزر بعده المرزبان أبا عبد الله بن نصر الأصفهانى وسلم إليه البروجردى، فاستخرج منه الاموال، ومات مقبوضا عليه.

ذكر اتفاق بوزابة وعباس على الخروج عن طاعة السلطان مسعود

ذكر اتفاق بوزابة وعباس على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وفى سنة أربعين وخمسماية سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان فى عساكره إلى قاشان، ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، واجتمع بوزابه والأمير عباس صاحب الرى، واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان وملكا كثيرا من بلاده. فأتاه الخبر وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك- وهو الحاكم فى دولته- وكان ميله إليهما. فسار السلطان عن بغداد فى شهر رمضان. فلما تقابل العسكران ولم يبق إلا القتال، لحق سليمان شاه بأخيه السلطان مسعود، وشرع عبد الرحمن فى تقرير الصلح على القاعدة التى أرادوها. وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وارّانية على ما بيده، وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود، [وهو وزير بوزابه] «1» وصار السلطان معهم تحت الحجر. ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الرى وفى سنة إحدى وأربعين وخمسماية قتل السلطان مسعود الأمير عبد الرحمن طغايرك أمير حاجب دولته والحاكم عليها، وكان لم يبق للسلطان معه غير الاسم وكان سبب قتله أنه لما ضيق على السلطان

وحجر عليه واستبد بالأمر دونه وأبعد خواصه عنه، فكان ممن أبعد عنه بك أرسلان المعروف بخاص بك، وكان السلطان قد رباه وقربه فأبعده عنه وحجبه، وصار لا يراه. وكان فى خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة، فاستقر بينه وبين السلطان قتل عبد الرحمن. فاستدعى خاص بك من يثق به وتحدث معهم، فكلهم خاف الإقدام عليه إلا رجل اسمه زنكى- وكان جاندارا- فإنه بذل من نفسه أن يلقاه ويبدأه بالقتل، ووافق خاص بك على ذلك جماعة من الأمراء فبينما عبد الرحمن فى موكبه بظاهر جنزه «1» ، إذ ضربه زنكى الجاندار على رأسه بمقرعة حديد كانت فى يده، فسقط إلى الأرض وأجهز عليه خاص بك، وأعانه جماعة ممن كان واطأه من الأمراء. وبلغ السلطان الخبر وهو ببغداد، ومعه الأمير عباس صاحب الرى وعسكره أكثر من عسكر السلطان، فأنكر الأمير عباس ذلك وتألم له، فداراه السلطان ولطف به، ثم استدعاه فى بعض الأيّام. فلما عبر إليه، منع أصحابه من الدخول وعدل به إلى حجرة، وقيل له: اخلع الزردية، وكان لا يزال يلبسها، فقال: إن لى مع السلطان أيمانا وعهودا، فلكموه وخرج عليه غلمان أعدوا له، فتشاهد وخلع الزردية وألقاها فضربوه بالسيوف، واحتزوا رأسه، وألقوه إلى أصحابه، ثم ألقوا جسده ونهبت خيامه. وكان مقتله فى ذى القعدة. وكان من غلمان السلطان محمود حسن السيرة ودفن بالجانب الغربى ثم أرسلت ابنته وحملته إلى الرى ودفنته هناك.

ذكر قتل الأمير بوازبة

قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل: ومن الاتفاق العجيب أن العبادى كان يعظ يوما فحضره عباس فأسمع [العبادى] بعض من حضر المجلس، ورمى بنفسه نحو الأمير عباس، فضربه أصحابه خوفا عليه، لأنه كان شديد الاحتراس من الباطنية، لا يفارق لبس الزردية ومعه الغلمان الأجلاد، فقال له العبادى: «يا أمير كم ذا الاحتراز، والله لئن قضى عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية، فينفذ القضاء فيك» فكان كما قال كان السلطان قد استوزر ابن دارسست وزير بوزابة كارها، فلما كان الآن استعفى وسأل العزل والعود إلى صاحبه فعزله وقرر معه أن يصلح له بوزابه ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس. وفيها حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، والله أعلم. ذكر قتل الأمير بوازبة قال: ولما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكر فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها وسير عسكرا آخر إلى همذان، وعسكرا ثالثا إلى قلعة الباهلى «1» ثم سار هو عن أصفهان

ذكر الخلف بين السلطان وجماعة من الأمراء ووصولهم إلى بغداد وما كان منهم

وراسل السلطان مسعود فى الصلح فلم يجبه؛ وسار مجدا فالتقيا بمرج قراتكين «1» واقتتل العسكران، فانهزمت ميمنة السلطان وميسرته واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه، وصبر الفريقان فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه. وقيل بل كبابه فرسه فأخذ أسيرا، وحمل إلى السلطان فقتل بين يديه، وانهزم أصحابه،. وبلغت هزيمة ميمنة السلطان وميسرته إلى همذان. وقتل من الفريقين خلق كثير. وكانت هذه الحرب من أعظم الحروب الكائنة بين الأعاجم. وكانت فى سنة اثنتين وأربعين والله أعلم. ذكر الخلف بين السلطان وجماعة من الأمراء ووصولهم الى بغداد وما كان منهم وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية فارق السلطان مسعود جماعة من الأمراء الأكابر وهم: ايلدكز المسعودى صاحب كنجة وأرانية «2» ، وتبر الحاجب، وطرنطاى المحمودى شحنة واسط، وابن طغايرك وغيرهم. وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى [خاص بك] ، واطراحه لهم فخافوا أن يفعل بهم كما فعل بعبد الرحمن وعباس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق. فلما بلغوا حلوان خاف الناس ببغداد وأعمال

العراق، وغلت الأسعار وأرسل الخليفة إليهم العبادى الواعظ فلم يرجعوا، ووصلوا إلى بغداد فى شهر ربيع الآخر، ومعهم الملك محمد ابن السلطان محمود، فنزلوا بالجانب الشرقى. ووقع القتال بين الأمراء وعامة بغداد ومن بها من العسكر عدة وقعات، فانهزم الأمراء من العامة فى بعض الأيّام خديعة ومكرا، فلما تبعوهم عطفوا عليهم وقتلوهم، فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله وتفرق العسكر بالمحال الغربية، وأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة ونهبوا بلد دجيل «1» وغيره، وأخذوا النساء والولدان ثم اجتمع الأمراء ونزلوا مقابل التاج «2» وقبلوا الأرض أمام الخليفة المقتفى، وترددت الرسائل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار، وعادوا إلى خيامهم ثم تفرقوا وفارقوا العراق. هذا كله والسلطان ببلد الجبل، والرسل بينه وبين عمه سنجر تتردد. وكان سنجر يلومه على تقدمه خاصبك [خاص بك] ويتهدده أن يزيله عن السلطنة إن لم يبعده، وهو يغالط ولا يفعل. فسار السلطان سنجر إلى الرى، وسار السلطان مسعود إلى خدمته واسترضاه فسكن. وكان اجتماعهما فى سنة أربع وأربعين وخمسماية.

ذكر وفاة السلطان مسعود

ذكر وفاة السلطان مسعود كانت وفاته بهمذان فى شهر رجب سنة سبع وأربعين وخمسماية ومرض بحمى حادة نحو أسبوع ومات، ودفن بمدرسة جمال الدين إقبال الجمدار. وكان مولده فى ذى القعدة سنة اثنتين وخمسماية، فيكون عمره أربعا «3» وأربعين سنة وثمانية أشهر، ومدة سلطنته منذ وقع اسم السلطنة عليه إحدى وعشرين سنة وشهورا، بما فى ذلك من أيام أخيه السلطان طغرل. وكان رحمه الله حسن الأخلاق والسيرة كريما عفيفا عن أموال الرعية من أصلح الملوك سيرة، وألينهم عريكة. ولما مات زالت سعادة البيت السلجقى بموته، ولم يقم له بعده قائمة، فكأنه المعنى بقول الشاعر: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما ذكر سلطنة ملكشاه بن محمود بن محمد طبر بن ملكشاه والقبض عليه قال المؤرخ: كان السلطان مسعود قبل موته قد استدناه وقربه وأقره عنده، وعهد إليه بالسلطنة بعده. فلما توفى السلطان خطب الأمير خاصبك بن بلنكرى لملكشاه بالسلطنة باتفاق الأمراء، ورتب الأمور وقررها بين يديه، وأذعنت له جميع العساكر بالطاعة. وكان ملكشاه شريبا خميرا، لا يصحو ساعة واحدة، كثير الاشتغال

ذكر سلطنة محمد بن محمود

باللهو، فاجتمع الأمراء على خلعه وتولية السلطنة محمد بن محمود فخلعوه وقبض عليه خاصبك واعتقله بمرج همذان فتراخى مستحفظوه فهرب، ولم يطلب ولا علم له خبر فكانت مدة سلطنته شهرين أو ثلاثة. وقال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه: إنه توجه إلى أصفهان وكثرت جموعه، وكتب إلى بغداد فى طلب الخطبة لنفسه، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصيا كان خصيصا به يقال له أغلبك الكوهزاتينى «1» فمضى إلى بلاد العجم واشترى جارية من قاضى همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه ووضعها لتسمه، ووعدها بمواعيد كثيرة، فسمته فى لحم مشوى. فمات فى سنة خمس وخمسين وخمسماية، وجاء الطبيب فأعلم أصحابه أنه مات بسم، فقررت الجارية فأقرت. ولما مات خرج أهل البلد أصحابه وخطبوا لسليمان شاه بن محمد والله أعلم. ذكر سلطنة محمد بن محمود هو أبو شجاع محمد بن محمود ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان محمد جغرى بيك داود بن ميكائيل بن سلجق. ومحمد هذا فى طبقة محمود ومسعود ابنى محمد طبر، وقيل هو محمد بن محمود بن محمد طبر أخو ملكشاه الذى ذكرناه آنفا. قال: ولما قبض خاصبك على ملكشاه أرسل إلى محمد وهو بخوزستان وكان عمه السلطان سنجر قد ملكه إياها، واستدعاه ليسلطنه،

وسير إليه الأمير مشيد الدين وكاتبه الزنجانى، وكان قصد خاصبك أنه إذا حضر عنده قبض عليه وخطب لنفسه بالسلطنة. فلما اجتمعا بمحمد حسنا له قتل خاصبك إذا استقر فى السلطنة، وقالا له ان أمرك لا يتم إلا بقتله. وعادا إلى خاصبك وأخبراه أن محمدا قد حلف له، وسار محمد من خوزستان إلى همذان فى عدة يسيرة، فتلقاه خاصبك وخدمه وأجلسه على تخت المملكة، وذلك فى أوائل صفر سنة ثمان وأربعين وخمسماية، وخطب له بالسلطنة، وبالغ فى خدمته، وحمل إليه هدايا عظيمة جليلة المقدار. ولما كان فى اليوم الثانى أو الثالث من جلوسه، استدعى خاصبك ليشاوره فجاء إليه ومعه زنكى الجاندار، وهما قتلة عبد الرحمن طغايرك فقتلهما جميعا، وألقى رأسيهما إلى أصحابهما، فتفرقوا ولم ينتطح فيها عنزان. ووجد فى خزانة خاصبك ألف وسبعماية ثوب من الديباج لون العنابى خاصة، سوى أنواع الثياب الأطلس والمصور وغير ذلك. وطلب له كفن فلم يقدر عليه، حتى جبى له من سوق العسكر. قال وكان أيدغدى التركمانى- المعروف بشملة- مع خاصبك لما استدعاه السلطان، فنهاه عن الدخول إليه فلم يرجع إلى قوله، فلما قتل خاصبك مضى هو إلى خوزستان. قال: وكان خاصبك صبيا تركمانيا، اتصل بالسلطان مسعود تقدم عنده على سائر الأمراء. قال: ولما قتل السلطان خاصبك أشار عليه وزيره جلال الدين

ذكر سلطنة سليمان شاه بن محمد طبر بن ملكشاه

ابن الوزير قوام الدين أن يبعث برأس خاصبك إلى الأميرين صاحبى أذربيجان، ففعل. فلما وصل الرأس إليهما أكبرا ذلك، وعزما على إخراج سليمان شاه عليه. ذكر سلطنة سليمان شاه بن محمد طبر بن ملكشاه قال: لما أخرج سليمان شاه من محبسه بقزوين اتصل به الأمير مظفر الدين بن ألب أرغو أو أخرجه معه إلى زنجان واتصل به الأمير شمس الدين ايلدكز والأمير آق سنقر بعسكريهما، وأخذاه من زنجان ومضيا إلى همذان فأجفل منهما محمد إلى أصفهان. وجلس سليمان شاه على سرير السلطنة بهمذان، وأخذ فى الشرب واللهو فكان لا يصحو، وكذلك وزيره فخر الدين أبو طاهر القاشانى فلما رأى أيلدكز ذلك عزم على الرجوع فعاد إلى بلاده، ورجع نصرة الدين آق سنقر إلى أعماله. ثم اجتمع الأمراء مع نصير الدين أرسلان وقرروا أن ينتقلوا إلى مرج قراتكين ويتركوه بهمذان، ويقبضوا على وزيره. وكان مع سليمان شاه تباتكين بن خوارزم شاه وأخوه يوسف وأختهما زوجته والغالبة على أمره، فجاءت إليه ليلا وهو معرس على ابنة ملك الكرج، وأخبرته باجتماع الأمراء بالمرج، واتفاقهم على القبض عليه وعلى وزيره، فهرب بها وبأخويها ليلا، وترك خاتون الكرجية؛ وأصبح الأمراء فما علموا أين راح ولا كيف ذهب.

ذكر عود السلطان محمد من أصفهان إلى مقر ملكه

ذكر عود السلطان محمد من أصفهان الى مقر ملكه قال: لما فارق همذان وصل إلى أصفهان كاتب أمراء الأطراف فأتى إليه الأمير إينانج صاحب الرى فقويت به يده، واتفق رجوع أيلدكز فسار السلطان محمد إلى همذان، فدخلها فى سنة ثمان وأربعين وخمسماية، واستقامت له المملكة. وفى سنة تسع وأربعين عزم الخليفة المقتفى على قطع دعوة الترك من بغداد، وفعل ما قدمنا ذكره فى أخبار المقتفى من إخراج الشحنة مسعود البلالى الخادم منها؛ وتقوية الخليفة لوزيره عون الدين بن هبيرة، وما أقطعه من الإقطاعات، وما حازه الخليفة من ملك العراق من أقصى الكوفة إلى حلوان ومن تكريت إلى عبادان. قال: ولما عاد السلطان بعد هرب سليمان شاه، راسل الخليفة فى الخطبة فامتنع، واجتمع عند السلطان الأمراء الذين انقطعت أرزاقهم من بغداد، وسألوه فى الرحيل معهم إليها. وكان يرجع إلى عقل ودين، فاستمهلهم حتى يكاتب الخليفة كرة ثانية، فامتنعوا وقالوا: «نحن نكفيك أمره» فوافقهم فتأهبوا وخرجوا وعليهم مسعود البلالى الذى أخرجه الخليفة من بغداد، وأخذوا معهم لفيفا من التركمان، وساقوا مواشيهم وأغنامهم ليقاتلوا عليها. وكانت تكريت قد بقيت بيد مسعود البلالى، وملكشاه بن سلجق معتقل بها وأرسلان شاه بن طغرل، فلما احتاج هذا الجمع إلى ملك يضم شملهم اجتمعوا على إخراج أرسلان شاه بن طغرل. فأخرجوه وركبوه ووصلوا به إلى نواحى العراق، وأرهبوا على الناس.

وخرج الخليفة بعسكره وجنوده متوشحا بالبردة، وبيده القضيب، وعلى مقدمته وزيره عون الدين بن هبيرة. وخيم الخليفة على مرحلتين، من بغداد وتقابلا قريبا من شهر والخليفة ينتظر البداية. فظن مسعود البلالى أنه إنما ترك البداية بالحرب خورا فبدأه، وركب الجيشان والتقيا، وكانت وقعة عظيمة انهزم فيها الملك أرسلان بن طغرل ووصل إلى أرانية، واستقر عند شمس الدين أيلدكز زوج أمه. وغنم الخليفة وعسكره معسكرهم وأغنام التركمان وذراريهم والترك، وقتلوا فى كل واد. وعاد الخليفة إلى بغداد فى أواخر سنة تسع وأربعين وخمسماية. قال: ولما رجع العسكر إلى السلطان محمد عاتبهم، وقال: لقد أتيتم بعثرات لا تقال، وأفسدتم هيبتنا عند الخليفة، وأخرجتم أرسلان بن طغرل وما حفظتموه، وقد صار عند أيلدكز، وصار الخليفة لنا خصما. ولم يستقم للملوك السلجقية بعدها ببغداد سلطنة.

ذكر وصول سليمان شاه بن محمد طبر إلى بغداد وخروجه بالعساكر وحربه هو والسلطان محمد وهزيمته وحصار السلطان محمد بغداد ورجوعه

ذكر وصول سليمان شاه بن محمد طبر الى بغداد وخروجه بالعساكر وحربه هو والسلطان محمد وهزيمته وحصار السلطان محمد بغداد ورجوعه وفى سنة خمسين وخمسماية وصل السلطان سليمان شاه إلى بغداد مستنجدا بالخليفة المقتفى على السلطان محمد، فلم يلقه الوزير عون الدين بل لقيه ابنه عز الدين محمد. فلما أخبره ابن الوزير سلام أمير المؤمنين عليه ترجل وقبل الأرض ودخل بغداد. فلما وصل إلى باب النوبى من القصر، أنزلوه ليقبل العتبة، فقبلها وما قبلها قبله ملك سلجقى ولا ديلمى. وأنزله الخليفة بدار السلطنة وخطب له على المنابر، ولم ينعته بالسلطان ولا بالمعظم «1» وجهز معه الخليفة جيشا كثيفا، واستوزر له شرف الدين الخراسانى وسار سليمان شاه بالجيوش إلى أذربيجان ثم إلى أرانية ثقة أن يخرج معه شمس الدين ايلدكز. وتحرك السلطان محمد إليه من همذان، والتقوا؛ فانهزم سليمان وعاد إلى بغداد على طريق الدربند، فقبض عليه على كورجك، واعتقله بقلعة الموصل وذلك فى شعبان سنة إحدى وخمسين وخمسماية. وتجهز السلطان محمد بقصد بغداد، فوصل إليها فى ذى القعدة من السنة، وقد جمع الجيوش

ذكر وفاة السلطان محمد بن محمود وما اتفق بعد وفاته

العساكر وحاصرها، وكان الخليفة قد حصن بغداد بالمجانيق والرجال والسفن وغير ذلك، واستمر الحصار والحرب إلى سنة اثنتين وخمسين وجرت فى خلال هذه المدة وقائع كثيرة يطول شرحها كان آخرها أنه وقع الاختلاف بين أصحاب السلطان فهزمتهم جيوش الخليفة ونهبوا أثقالهم، ولم تفلح السلجقية بعدها مع الخلفاء. ذكر وفاة السلطان محمد بن محمود وما اتفق بعد وفاته قال الشيخ جمال الدين أبو الحسن على بن أبى المنصور ظافر ابن حسين الأزدى فى أخبار الدولة. أنه توفى فى سنة خمس وخمسين وخمسماية، وقال: ولم أعرف له عقبا فأذكره وقرض الدولة السلجقية بوفاته. وقال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل أنه توفى سنة أربع وخمسين بباب همذان، وكان مولده فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسماية، وأنه لما حضرته الوفاة أحضر أمواله وجواهره وخصاياه ومماليكه ونظر إليها من طيارة وبكى، وقال: «هذه العساكر والأموال والمماليك وغيرها لم تغن عنى مقدار ذرة ولا يزيدون فى أجلى ذرة» وفرق من ذلك شيئا كثيرا وكان كريما عادلا كثير التأنى فى أموره. وكان له ولد صغير فسلمه إلى اقسنقر الأحمديلى وقال له: «أنا أعلم أن العساكر لا تطيع هذا الطفل وهو وديعة عندك فارحل به إلى بلادك» فرحل به إلى مراغة. فلما مات مختلف الأمراء فطائفة طلبوا ملكشاه وأخاه وطائفة طلبوا سليمان شاه عمه وهم الأكثر، وطائفة طلبوا أرسلان الذى مع ايلدكز فأما ملكشاه فإنه سار من خوزستان ومعه دكلا صاحب فارس وشملة

ذكر مسير سليمان شاه بن محمد طبر إلى همذان

التركمانى وغيرهما، فوصل إلى أصفهان فسلمها إليه ابن الخجندى وجمع له مالا أنفقه عليه وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته فلم يجيبوه لعدم الاتفاق ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه. ذكر مسير سليمان شاه بن محمد طبر الى همذان وفى سنة خمس وخمسين وخمسماية سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان وكان معتقلا بها كما قدمناه؛ فلما مات السلطان محمد بن محمود. أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل فى طلبه منه ليولوه السلطنة، فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه هو السلطان وقطب الدين ودود أتابكه وجمال الدين وزير قطب الدين وزيره؛ وتحالفوا على ذلك وجهزه قطب الدين بما يحتاج إليه من الأموال والخيول وغير ذلك. فلما قارب بلاد الجبل أقبلت العساكر إليه أرسالا فاجتمع عسكر عظيم فخافهم قطب الدين مودود على نفسه؛ وعاد إلى الموصل. فلما فارقه قطب الدين لم ينتظم أمره وقبض العسكر على سليمان شاه بباب همذان فى شوال سنة ست وخمسين وخمسماية. ذكر سلطنة أرسلان شاه ابن الملك طغرل ابن محمد طبر قال: لما قبض الأمراء على سليمان شاه فى شوال خطبوا لأرسلان شاه، وهو الذى كان قد تزوج أيلدكز بأمه، ثم خطب له فى سنة

ذكر أخبار السلطان طغرل بن أرسلان شاه ابن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان

ثمان وخمسين بقومس وبسطام ودامغان «1» . وذلك أن المؤيد صاحب نيسابور فتح هذه الجهات وخطب بها لأرسلان شاه فأرسل إليه الخلع فلبسها المؤيد؛ ودام ملك أرسلان شاه إلى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية، فتوفى ولم أقف من أخباره على شىء فأذكره. وذلك أن الدولة السلجقية كانت قد ضعفت وبقى ملوكها يقتصرون على حفظ ما بأيديهم دون التطلع إلى ما سواه. ولما مات أرسلان شاه خطب بعده لولده طغرل. ذكر أخبار السلطان طغرل بن أرسلان شاه ابن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان خطب له بالسلطنة ببلاد الجبل بعد وفاة أبيه أرسلان شاه فى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية، ونحن نذكر ما ظفرنا به من أخباره على سبيل التلخيص والاختصار: ذكر الحرب بين طغرل وجيوش الخليفة الناصر لدين الله وظفره بهم وفى سنة أربع وثمانين وخمسماية جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرا كثيفا؛ وجعل المقدم على الجيش وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم لمساعدة قزل على كف السلطان طغرل عن البلاد.

ذكر اعتقال طغرل وخلاصه وما كان من أمره إلى أن قتل، وانقراض الدولة السلجقية

فسار العسكر فى ثالث صفر إلى أن قارب همذان، وخرج طغرل إليهم، والتقوا واقتتلوا فى ثامن شهر ربيع الأول عند همذان، فانهزمت عساكر بغداد ولم تثبت، وأخذ أصحابه ما كان مع الوزير من خزانة وغيرها وعاد إلى همذان. ذكر اعتقال طغرل وخلاصه وما كان من أمره الى أن قتل، وانقراض الدولة السلجقية قال: واتفق أن قزل أرسلان بن أيلدكز ظفر بالسلطان طغرل، واعتقله، ولم أظفر بتاريخ اعتقاله «1» ولا كيفيته «2» فأذكره، إلا أنه لم يزل فى اعتقاله إلى أن مات قزل أرسلان فى سنة ثمان وثمانين وخمسماية، فخرج طغرل من حبسه بعد قزل واجتمع عليه جماعة والتقى هو و [قتلغ اينانج] «3» بن البهلوان بن ايلدكز، فانهزم اينانج إلى الرى، وملك طغرل همذان وغيرها؛ فأرسل قتلغ اينانج إلى علاء الدين خوارزم شاه تكش يستنجده، فسار إليه فلما تقاربا ندم قتلغ اينانج على استدعائه خوارزم شاه وخاف على نفسه فمضى

ذكر مقتل السلطان طغرل وانقراض الدولة السلجقية

بين يديه؛ وتحصن فى قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الرى وملكها، وفتح قلعة طبرك «1» فراسله طغرل واصطلحا. ذكر مقتل السلطان طغرل وانقراض الدولة السلجقية كان مقتله فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسعين وخمسماية؛ وسبب ذلك أنه قصد الرى فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه تكش وفر منه قتلغ اينانج بن البهلوان، فراسل خوارزم شاه يسأله النصر مرة ثانية. واتفق وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد. فسار خوارزم شاه لقتاله. فلما سمع طغرل بذلك كانت عساكره متفرقة فما أمهل حتى يجمعها، بل سار فيمن معه وكان يدل بشجاعته؛ فالتقى العسكران بالقرب من الرى؛ فحمل طغرل بنفسه فى وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقوه عن فرسه، وقتلوه وحملوا رأسه إلى خوارزم شاه، فأنفذ الرأس إلى بغداد فنصبها بباب النوبى. وملك خوارزم شاه جميع تلك البلاد وانقرضت الدولة السلجقية من العراق والجبال وخراسان، ولم يبق من البيت السلجقى إلا من هو ببلاد الروم، على ما نذكره بعد ذكر الملوك السلجقية بالشام إن شاء الله. وكانت مدة هذه الدولة منذ خطب لداود فى شهر رجب سنة ثمان وعشرين وأربعماية؛ ماية سنة وإحدى وستين سنة وثمانية

ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام وحلب

أشهر وأياما. ومدتها بالعراق منذ خطب للسلطان طغرل بك ببغداد فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعماية، وإلى أن قطعت عند إخراج مسعود البلالى الشحنة من بغداد فى شهور سنة تسع وأربعين وخمسماية؛ ماية سنة وستين. فلنذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام. ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام وحلب [ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام] وأول من ملك منهم السلطان تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان محمد بن جغربيك داود بن ميكائيل بن سلجق وهو أخو ملكشاه وكان السلطان ملكشاه قد أقطعه الشام وما يفتحه من تلك النواحى فى سنة سبعين وأربعماية، فجاء إلى حلب وحصرها ولحق أهلها مجاعة شديدة. وكان معه جماعة كثيرة من التركمان فأنفذ إليه الأقسيس «1» صاحب دمشق يستنجده على العساكر المصرية، لأنها كانت قد حاصريه بدمشق من قبل أمير الجيوش بدار الجمالى، فسار إلى نصرة الأقسيس. فلما سمع العسكر المصرى بقربه فارقوا البلد وعادوا إلى مصر، وخرج الأقسيس يلتقيه عند سور دمشق، فاغتاظ منه تتش كونه لم يتقدم فى تلقيه، وعاتبه، فاعتذر بأمور لم يقبلها منه، فقبض عليه تتش فى الوقت وقتله، وملك دمشق

ذكر استيلائه على حمص وغيرها من ساحل الشام

وأحسن السيرة فى أهلها، وعدل فيهم، وذلك فى سنة إحدى وسبعين وأربعماية وقيل فى سنة اثنتين وسبعين. وفى سنة أربع وسبعين افتتح تاج الدولة [تتش] انطرطوس بعض الحصون الساحلية وعاد إلى دمشق. وفى سنة تسع وسبعين وأربعماية كانت الحرب بينه وبين سليمان بن قتلمش السلجقى صاحب الروم وانطاكية، فهزم عسكره وقتله على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار سليمان. وملك تتش مدينة حلب خلا القلعة، فكتب العتابى إلى السلطان ملكشاه يستدعيه، فوصل إليها وفارقها تتش كما قدمنا ذكره. ذكر استيلائه على حمص وغيرها من ساحل الشام كان تاج الدولة تتش قد توجه إلى أخيه السلطان ملكشاه إلى بغداد فى سنة أربع وثمانين، وجاء إليه أيضا زعماء الأطراف، فلما أذن لهم فى العود أمر [ملكشاه] اقسنقر صاحب حلب، وتوران صاحب الرها، أن يسيرا فى خدمة أخيه [تتش] بعساكرهما إلى أن يستولى على ما هو للمستنصر العلوى صاحب مصر بساحل الشام من البلاد؛ ويتوجها معه إلى مصر ليملكها. فساروا فى سنة خمس وثمانين، ونزل [تتش] على حمص وحصرها وبها صاحبها ملاعب، وكان الضرر به وبأولاده عظيما على المسلمين، فحصروا البلد وضيقوا على من به وملكه تتش، وأخذ ملاعب وولديه.

ذكر ما تقوله فى طلب السلطنة

ثم سار إلى قلعة عرقة، وهى بالقرب من طرابلس فملكها وملك أفامية، ثم نازل طرابلس وبها جلال الملك بن عمار، فراسل [ابن عمار] اقسنقر وحمل إليه ثلاثين ألف دينار وتحفا بمثلها وعرض عليه المناشير التى بيده من السلطان بالبلد والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والتحذير من محاربته فقال اقسنقر لتتش: «أنا لا أقاتل من هذه المناشير بيده» ورجل من الغد، فرحل تاج الدولة وعاد بوزان إلى بلاده، والله أعلم. ذكر ما تقوله فى طلب السلطنة قال: لما بلغ تاج الدولة تتش قدوم أخيه السلطان ملك شاه إلى بغداد توجه من دمشق إلى خدمته،، فلما وصل إلى هيت «1» أتاه الخبر بموته، فاستولى على هيت وعاد إلى دمشق. فتجهز لطلب السلطنة، وجمع العساكر وأخرج الأموال وسار إلى حلب وبها قسيم الدوله اقسنقر، فصالحه قسيم الدولة وأتبعه لما علم من اختلاف أولاد صاحبه، وأرسل إلى ياغى سيان صاحب أنطاكية وإلى بوزان صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تاج الدولة، حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا ذلك وصاروا معه وخطبوا له فى بلادهم. وقصد تتش الرحبة فملكها فى المحرم سنة ست وثمانين وأربعماية،

ذكر ملكه ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام

ثم سار إلى نصيبين ففتحها عنوة وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب الأموال وفعل الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلى. وسار يريد الموصل، وأتاه الكافى بن فخر الدولة بن جهير وكان بجزيرة ابن عمر «1» فاستوزره، والتقى بإبراهيم ابن قريش بن بدران أمير بنى عقيل «2» فى شهر ربيع الأول. وكان إبراهيم فى ثلاثين ألفا وتتش فى عشرة آلاف، فاقتتلوا فانهزم ابراهيم والعرب، ثم اخذ أسيرا وجماعة من العرب فقتلوا صبرا، ونهبت أموالهم وما معهم من الخيل والإبل والأغنام وغيرها وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفا من السبى والفضيحة، وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها على بن شرف الدولة مسلم وهو ابن صفية عمة تتش. ذكر ملكه ديار بكر وأذربيجان وعوده الى الشام قال: ثم سار تاج الدولة تتش فى شهر ربيع الآخر فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان. وانتهى خبره إلى ابن أخيه بركياروق وكان قد استولى على كثير من البلاد، فسار فى عسكره ليتبع عمه، فلما تقارب العسكران

ذكر عود تتش إلى البلاد وملكه همذان وغيرها

اجتمع قسيم الدولة وبوزان وقالا: «نحن إنما أطعنا هذا حتى ننظر ما يكون من ابن صاحبنا وقد ظهر أمره» ففارقاه والتحقا ببركياروق فعاد تتش إلى الشام. ذكر عود تتش الى البلاد وملكه همذان وغيرها قال: ولما عاد إلى الشام أخذ فى جمع العساكر فكثرت جموعه وعظم جنده. فسار فى سنة سبع وثمانين وأربعماية عن دمشق نحو حلب لطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة اقسنقر وبوزان وأمدهما السلطان ركن الدولة بركياروق بالأمير كربوقا. فالتقوا بالقرب من تل السلطان «1» قريب حلب واقتتلوا واشتد القتال فانهزموا، وثبت قسيم الدولة فأخذ أسيرا وجىء به إلى تاج الدولة فقال له: «ما كنت تصنع بى لو ظفرت» قال: «كنت أقتلك» قال: «فأنا أحكم عليك بحكمك» فقتله صبرا. وسار نحو حلب، ودخلها وأسر بوقا وبوزان وتسلم الرها وحران. وسار إلى بلاد الجزيرة فملكها جميعها، وملك ديار بكر وخلاط. وسار إلى أذربيجان فملك جميع بلادها، ثم منها إلى همذان فملكها، واستوزر فخر الملك بن نظام الملك. ذكر انهزام بركياروق منه قال: ولما سار تتش إلى أذربيجان كان بركياروق بنصيبين فبلغه الخبر. فسار إلى قتاله ولم يكن معه غير ألف رجل، وعمه

ذكر قتل تاج الدولة تتش

فى خمسين ألفا. فجهز إليه عمه بعض الأمراء فكبسه وهزمه ونهب سواده، فسار إلى أصفهان على ما ذكرناه فى أخباره وخطب للسلطان تاج الدولة ببغداد. ذكر قتل تاج الدولة تتش قال: ولما هزم بركياروق سار من موضع الوقعة إلى همذان، ثم سار إلى الرى وكاتب الأمراء الذين بأصفهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم الأموال الكثيرة. وكان بركياروق مريضا بالجدرى، فأجابوه يعدونه أنهم ينحازون إليه، وهم ينتظرون ما يكون من صاحبهم. فلما عوفى بركياروق أرسلوا إلى تتش أنه ليس لك عندنا إلا السيف، وخرجوا له والتقوا بموضع قريب من الرى، وقد كثرت جموع بركياروق، فانهزم أصحاب تتش وثبت هو فى القلب فقتله أصحاب قسيم الدولة بثأر صاحبهم، والله أعلم. ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما تتش قال: كان تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابنه الملك رضوان. وكتب إليه من بلد الجبل قبل المصاف الذى قتل فيه يأمره بالمسير إلى بغداد، وأن يقيم بدار المملكة. فسار فى عدد كثير منهم إيلغازى بن أرتق، والأمير وثاب بن محمود بن صالح ابن مرداس وغيرهما. فلما قارب هيت جاءه الخبر بقتل أبيه، فعاد إلى حلب ومعه والدته فملكها، وكان بها أبو القاسم بن على

الخوارزمى قد سلمها تتش إليه، وحكّمه فيها وفى القلعة. ولحق برضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن إيتكين، وكان مع تتش فسلم من المعركة. وكان مع رضوان أيضا أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام فكانوا كلهم مع أبى القاسم كالأضياف لتحكمه فى البلد؛ فاستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر أجناد القلعة. فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبى القاسم، وأرسل إليه الملك رضوان يطيب قلبه، فاعتذر فقبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، وكانت الخطبة قد دامت باسم أبيه بعد قتله نحو شهرين. وسار جناح الدولة فى تدبير الدولة أحسن سيرة، وخالف عليهم الأمير ياغى سيان «1» بن محمد بن ألب التركمانى صاحب انطاكية ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر لخلوها من وال يحفظها. فساروا جميعا وقدم عليهم من بالأطراف الذين كان تتش قد رتبهم فيها، وقصد واسروج، فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق فأخذها ومنعهم منها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا من عساكره وما يفسدونه من غلاتهم، ويسألونه الرحيل. فرحل عنهم إلى الرها، وكان بها رجل يقال له الفارقليط- كان يضمن البلد من بوزان- فقاتل قتالا شديدا ثم ملكها. وطلب ياغى سيان القلعة من رضوان فوهبها له، فتسلمها وحصنها، فهرب رجالها وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم

البلد، فسمع ذلك قراجا فصلب ابن الفتى وغيره ممن اتمهم وجاء الخبر إلى رضوان وقد اختلف جناح الدولة وياغى سيان وأضمر كل منهما لصاحبه الغدر، فهرب جناح الدولة إلى حلب فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان. وسار رضوان وياغى إلى حلب، فسمع بدخول جناح الدولة إليها، ففارق ياغى سيان الملك رضوان وسار إلى انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمى ودخل رضوان حلب. هذا ما كان من أمر رضوان، وأما الملك دقاق بن تتش، فإنه كان قد حضر المصاف مع أبيه، فلما قتل أبوه أخذه إيتكين الحلبى- وهو من غلمان أبيه- وسار به إلى حلب، فأقام عند أخيه الملك رضوان. ثم راسله الأمير ساوتكين الخادم- متولى دمشق- سرا يدعوه ليملكه دمشق؛ فهرب من حلب. فأرسل أخوه رضوان فى طلبه عدة من الخدام فلم يدركوه، وسار حتى وصل إلى دمشق ففرح به ساوتكين الخادم وأظهر البشر لورده. فلما صار بدمشق أرسل إليه ياغى سيان يشير عليه أن ينفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان. واتفق وصول معتمد الدولة طغتكين إلى دمشق ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره وقد سلموا من الوقعة وكان طغتكين قد أسر ثم خلص فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب الدولة وبالغوا فى تعظيمه وإكرامه. وكان طغتكين زوج والدة دقاق، فمال إليه لذلك ووثق به وحكمه فى بلاده. ثم اتفقا على قتل ساوتكين الخادم فقتلاه. وسار إليه ياغى سيان من انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمى فجعله وزيرا لدقاق، وحكمه فى دولته. فصارت دمشق لدقاق وحلب لرضوان.

ذكر الحرب بين الملكين رضوان وأخيه دقاق

ذكر الحرب بين الملكين رضوان وأخيه دقاق وفى سنة تسعين وأربعماية سار الملك رضوان من حلب إلى دمشق يريد الاستيلاء عليها وانتزاعها من أخيه دقاق. فلما قاربها رأى حصانتها وامتناعها، فعلم عجزه عنها. فسار إلى نابلس وإلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه ذلك وانقطعت العساكر عنه فعاد إلى حلب ومعه ياغى سيان صاحب انطاكية وجناح الدولة وكانا قد التحقا به. ثم فارقه ياغى سيان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب. فجمع دقاق عساكره وسار ومعه ياغى سيان، فأرسل رضوان إلى سقمان بن ارتق وهو بسروج يستنجده، فأتاه فى خلق كثير من التركمان. فسار بهم رضوان نحو دقاق والتقيا بقنسرين «1» ، واقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وأموالهم وعاد رضوان إلى حلب. ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق وأنطاكية قبل أخيه دقاق، وقيل كان ذلك فى سنة تسع وثمانين. وفى سنة تسعين وأربعماية خطب الملك رضوان فى أكثر ولايته للمستعلى بأمر الله صاحب مصر. «2» وسبب ذلك أن جناح الدولة كان قد فارق رضوان لتغير رآه منه، وجاء إلى حمص وكانت له، فلما رأى ياغى سيان بعده عن رضوان صالحه،

ذكر ملك دقاق مدينة الرحبة

وجاء إلى حلب، ونزل بظاهرها وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أبو سعد يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذهب العلويين. وأتته رسل المستعلى تدعوه إلى طاعته ويبذل له المال وإنفاذ الجيوش لأخذ دمشق، فخطب له بشيزر وجميع أعمال ولايته سوى أنطاكية، وقلعة حلب، والمعرة «1» ، وكانت الخطبة أربع جمع. ثم حضر إليه سقمان بن أرتق وياغى سيان فأنكرا ذلك واستعظماه فأعاد الخطبة العباسية. وسار ياغى سيان إلى انطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وملكوها فى سنة إحدى وتسعين وأربعماية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار المستعلى صاحب مصر. ذكر ملك دقاق مدينة الرحبة وفى شعبان سنة ست وتسعين وأربعماية ملك الملك دقاق مدينة الرحبة؛ وكانت بيد قايماز أحد مماليك السلطان ألب أرسلان، استولى عليها لما قتل كربوقا، فسار دقاق وطغتكين «2» أتابكه إليه وحصراه، ثم رحلا عنه. فاتفقت وفاته فى صفر من هذه السنة، وقام مقامه غلام تركى اسمه حسن، وخطب لنفسه وخاف من الملك دقاق، فاستظهر لنفسه وأخذ جماعة من أعيان

ذكر وفاة الملك دقاق وملك ولده ثم أخيه

البلد وصادرهم وحبس آخرين، فسار دقاق إليه وحاصره، فسلم العامة البلد واعتصم هو بالقلعة فأمنه دقاق وسلمها له فتسلمها وأقطعه إقطاعا كثيرا بالشام، وقرر الرحبة وجعل فيها من يحفظها وعاد إلى دمشق. ذكر وفاة الملك دقاق وملك ولده ثم أخيه كانت وفاته فى شهر رمضان سبع وتسعين وأربعماية. ولما توفى خطب أتابكه طغرتكين لولد له صغير عمره سنة واحدة، ثم قطع خطبته وخطب لبلتاش «1» ابن تتش عم هذا الطفل فى ذى الحجة وله من العمر اثنتا «2» عشرة سنة. ثم أشار عليه طغرتكين بقصد الرحبة فخرج إليها وملكها، وعاد فمنعه من دخول البلد، فمضى إلى حصون له. وأعاد طغرتكين خطبة الطفل ولد دقاق، وقيل إن والدة بلتاش خوفته من طغرتكين وقالت له: إنه زوج أم دقاق، وهى لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولد ابنها، فخاف. ثم حسن له من [كان] «3» يحسد طغرتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج، والعود إلى دمشق وأخذها من طغرتكين. فخرج من دمشق سرا فى سنة ثمان وتسعين وأربعماية مع صغر سنه، ولحقه الأمير إيتكين الحلبى وهو صاحب بصرى، فعاثا فى ناحية حوران ولحق بهما من كان يريد الفساد، وراسلا بغدوين ملك الفرنج «4»

ذكر أخبار ملوك حلب

يستنجدانه، فأجابهما إلى ذلك. فسارا إليه واجتمعا به، وقررا معه القواعد، وأقاما عنده، فلم يريا منه إلا التحريض على الإفساد فى أعمال دمشق وتخريبها. فلما يئسا من نصرته فارقاه وتوجها فى البرية إلى الرحبة فملكها بلتاش «1» وعاد عنها، واستقام أمر طغرتكين بدمشق، واستبد بالأمر وأحسن إلى الناس ونشر فيهم العدل. هذا ما كان من أمر ملوك دمشق ثم انتقل مكلها إلى طغرتكين وأولاده من بعده على ما نذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا لملوك حلب السلجقية ومن ملكها بعدهم إلى أن ملكها أتابك زنكى بن اقسنقر. ذكر أخبار ملوك حلب قد قدمنا أن حلب كانت بيد الملك رضوان بن تتش، فلم تزل بيده إلى أن توفى فى سنة سبع وخمسماية. وكانت أموره غير مشكورة فإنه قتل (أخويه) «2» أبا طالب وبهران وكان يستعين فى كثير من أموره بالباطنية لقلة تدبيره. فلما مات ملك بعده ابنه تاج الملوك ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة. ولم يكن أخرس، وإنما كان فى لسانه حبسه وتمتمة وأمه بنت ياغى سيان الذى كان صاحب أنطاكية. قال: ولما ملك تاج الملوك سلك سنة أبيه فى قتل إخوته فقتل

ذكر أخبار من ملك حلب بعد انقراض الدولة السلجقية منها

أخوين له وهما شقيقه ملكشاه، ومبارك لأبيه، واستولى على أمور دولته لؤلؤ الخادم، فلم يكن لتاج الملوك معه فى السلطنة غير اسمها، ومعناها للؤلؤ. ولم تطل مدته فى الملك، فإن غلمانه قتلوه فى سنة ثمان وخمسماية، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، فكان مع لؤلؤ كعادة أخيه. فلما كان فى سنة إحدى عشرة وخمسماية- وقيل سنة عشر- قتل لؤلؤ المستولى على الأمر. وكان سبب قتله أنه أراد قتل سلطان شاه كما فعل بأخيه، ففطن غلمان سلطان شاه لذلك، فبادروه بالقتل. وولى أتابكة سلطان شاه بعده شمس الخواص يارقتاش، فبقى شهرا وعزلوه، وولى بعده أبو المعالى بن الملحى الدمشقى ثم عزلوه وصادروه. فخاف أهل حلب من الفرنج فسلموا البلد إلى الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق وانقرضت الدولة السلجقية من حلب، والله أعلم. ذكر أخبار من ملك حلب بعد انقراض الدولة السلجقية منها ملكها الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق باتفاق أهلها فى سنة إحدى عشرة وخمسماية، فتسلمها. وكان له مع الفرنج وقائع كثيرة وحروب يطول شرحها. واستناب بحلب ولده سليمان، فخالفه وعصى عليه. فى سنة خمس عشرة وخمسماية وكان عمره إذ ذاك عشر سنين، فبلغ والده الخبر، فسار مجدا فلم يشعر إلا وقد هجم البلد وقبض على من كان حسن لابنه العصيان، وقتلهم. وكان منهم إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، كان إيلغازى قد قدمه على أهل حلب وجعل إليه الرئاسة فجازاه بذلك،

فقطع يديه ورجليه وسمله [فمات] «1» . وأراد قتل ولده فمنعته رقة الوالد، واستناب بحلب سليمان شاه ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق، ولقبه بدر الدولة، وعاد إلى ماردين؛ فلم تزل حلب بيده، إلى أن توفى فى سنة ست عشرة وخمسماية بميافارقين. وبقى سليمان بحلب إلى أن استولى عليها، ابن عمه بلك بن بهرام بن أرتق؛ وبقيت بيد بلك إلى أن قتل فى سنة ثمان عشرة وخمسماية وهو يحاصر منبج «2» ، وكان قد قبض على صاحبها حسان البعلبكى، وملك المدينة وحاصر القلعة، فأتاه سهم فقتله وكان حسام الدين تمرتاش ابن إيلغازى مع عمه بلك، فحمله مقتولا إلى ظاهر حلب، فتسلمها فى العشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمانى عشرة، واستولى عليها، وجعل فيها نائبا يثق به، وعاد إلى ماردين. وكان يحب الدعة والرفاهية، فلما عاد إلى ماردين ملك حلب اقسنقر البرسقى صاحب الموصل بمكاتبة من أهلها، لأن الفرنج كانوا حاصروهم وضيقوا عليهم، فكتبوا إليه يستنجدونه، فحضر بعساكره، فرحل الفرنج عنها، وملكها فى ذى الحجة سنة ثمانى عشرة، فكانت بيده إلى أن قتل فى سنة عشرين وخمسماية على يد الباطنية. وملك بعده ابنه عز الدين مسعود إلى أن توفى فى سنة إحدى وعشرين وخمسماية، فبقيت بيد نائبه قومان، ثم استناب بعده بها قتلغ، فوصل إليها بعد وفاة مسعود، وتسلمها فى الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وخمسماية، فظهر منه بعد

ذكر أخبار من ملك دمشق بعد انقراض السلجقية منها إلى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى

أيام جور عظيم وظلم شديد، ومديده إلى أموال الناس. وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق- الذى كان صاحبها قديما- فأطاعه أهلها، وقبضوا على أصحاب قتلغ الذين بالمدينة فى شوال من السنة، وحاصروه فى القلعة. فسمع الفرنج بذلك فتقدموا إلى المدينة، فصولحوا بمال حتى رحلوا عنها. وداموا على حصار قتلغ بالقلعة إلى منتصف ذى الحجة، ثم ملكها عماد الدين زنكى بن اقسنقر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الأتابكية. هذا ما كان من أمر حلب، فلنذكر أخبار دمشق. ذكر أخبار من ملك دمشق بعد انقراض السلجقية منها الى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى أول من ملكها معتمد الدولة ظهير الدين طغرتكين، وقيل فيه طغركين وطغدكين. استولى على دمشق كما قدمناه فى سنة سبع وتسعين وأربعماية، واستقل بالأمر منذ فارقها الملك بلتاش بن تتش وكان لطغرتكين مع الفرنج وقائع كثيرة فى سنين عديدة يطول شرحها، أضربنا عن ذكرها لأنها لم تسفر عن فتح بلد ولا أسر ملك وملك طغرتكين بصرى فى سنة تسع وتسعين وأربعماية، وكانت بيد إيتكين الحلبى، فلما صار مع السلطان الملك بلتاش كما ذكرنا سلمها أهلها لطغرتكين، فتسلمها وأحسن إليهم، واستمر فى ملك دمشق إلى سنة اثنتين وعشرين وخمساية، فتوفى فى ثامن عشر صفر منها، وكان عاقلا خيرا، كثير الغزو والجهاد للفرنج، حسن

ذكر أخبار تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين

السيرة فى رعيته، مؤثرا للعدل فيهم. ولما توفى ملك بعده ابنه والله أعلم. ذكر أخبار تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى ثامن عشر صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسماية بوصية من أبيه له بالملك. وكان أكبر أولاده، فلما ملك أقر وزير والده- وهو أبو على طاهر بن سعيد المزدغانى- على وزارته. ذكر أخبار الاسماعيلية وقتل الوزير المزدغانى كان بهرام مقدم الإسماعيلية قد هرب قديما من بغداد إلى الشام بعد قتل أخيه إبراهيم الإسدابادى، وملك قلعة بانياس، وجعل خليفته بها يدعو الناس إلى مذهبه، فكثروا وانتشروا؛ وملك عدة حصون منها القدموس وغيره، وهى الآن تعرف بقلاع الإسماعيلية، من الأعمال المضافة إلى المملكة الطرابلسية. وكان بوادى (التيم) من أعمال بعلبك أرباب مذاهب مختلفة منهم النصيرية الدرزية والمجوس وغيرهم، وأميرهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام فى سنة اثنتين وعشرين وخمسماية وقاتلهم، فخرج إليه الضحاك فى ألف رجل، وكبس عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتل بهرام فيمن قتل، وانهزم من بقى وأتوا بانياس على أقبح صورة. وكان بهرام قد استخلف على بانياس رجلا من

ذكر حصار الفرنج دمشق وانهزامهم

أعيان أصحابه اسمه إسمعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من سلم من أصحابه، وبث دعاته فى البلاد، وساعده الوزير المزدغانى وعاضده وأقام المزدغانى بدمشق عوض بهرام إنسانا اسمه أبو الوفا، فقوى أمره على شأنه، وكثر أتباعه حتى صار هو المستولى على دمشق، وحكم أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدغانى راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق ويسلموا إليه مدينة صور، واستقر الأمر بينهم على ذلك، وتقرر الميعاد فى يوم جمعة عينوه، وقرر المزدغانى مع الإسماعيلية أن يحتاطوا على أبواب الجامع فى ذلك اليوم، فلا يمكنوا أحدا من الخروج منه، لتجيىء الفرنج ويملكوا البلد. فاتصل الخبر بتاج الملوك. فاستدعى الوزير المزدغانى فحضر إليه فلما خلا به قتله وعلق رأسه على باب القلعة، ونادى فى [الناس] «1» بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف؛ وذلك فى منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسماية. فخاف إسماعيل متولى بانياس عند ذلك من الناس أن يثوروا به وبأصحابه، فسلم بانياس إلى الفرنج، وانتقل إليهم هو ومن معه، فلقوا شدة عظيمة وهوانا ومات إسمعيل فى أوائل سنة أربع وعشرين وخمسماية. ذكر حصار الفرنج دمشق وانهزامهم قال: ولما بلغ الفرنج ما كان من قتل المزدغانى عظمت المصيبة عليهم، واجتمعوا بجملتهم، صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب

طرابلس وغيرهم من ملوك الفرنج وقمامصتهم ومن وصل إليهم فى البحر فكانوا فى ألفى فارس. وأما الراجل فلا يحصى كثرة، وساروا إلى دمشق لمحاصرتها، فبلغ ذلك تاج الملوك، فجمع العرب والتركمان فاجتمع معه ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج إلى دمشق فى ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين فنازلوها، وأرسلوا سراياهم إلى أعمالها لجمع الميرة والإغارة. فبلغ تاج الملوك أنهم ساروا إلى حوران، فسير أميرا من أمرائه اسمه شمس الخواص فى جمع من المسلمين، فلقوا الفرنج وقاتلوهم قتالا شديدا، كان الظفر للمسلمين وقتل الفرنج فلم يفلت منهم غير مقدمهم فى أربعين رجلا، وأخذوا [أخذ المسلمون] ما معهم وكان عشرة آلاف دابة موقرة، وثلثماية أسير، وعادوا إلى دمشق بالظفر والغنيمة. فألقى الله الرعب فى قلوب الفرنج فرحلوا شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وغيره، وتبعهم المسلمون يقتلون من تخلف منهم. وكان نزولهم ورحيلهم فى ذى الحجة. وفى سنة أربع وعشرين استوزر تاج الملوك الرئيس أبا الدوّاد المفرج بن الحسن بن الصوفى. وفى سنة خمس وعشرين وخمسماية ثار الباطنية بتاج الملوك. فجرحوه جرحين فبرأ أحدهما وبقى الآخر، فاشتد عليه فى شهر رجب سنة ست وعشرين وخمسماية فأضعفه وأسقط قوته فمات، فى الحادى والعشرين من الشهر. وكانت مدة إمارته أربع سنين وخمسة أشهر وأياما، وكان كثير الجهاد مقداما فأقام فى حروبه مقام أبيه وفاق عليه ولما مات قام بعده ولده إسمعيل بوصية منه.

ذكر أخبار شمس الملوك اسماعيل ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين

ذكر أخبار شمس الملوك اسماعيل ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى الحادى والعشرين من شهر رجب سنة ست وعشرين وخمسماية. وكان والده قد أوصى له بالملك ولولده الآخر شمس الدولة محمد بمدينة بعلبك وأعمالها. فنفذت وصيته وقام بتدبير الأمر بين يدى شمس الملوك الحاجب فيروز شحنة دمشق- وهو صاحب أبيه- واعتمد عليه، وابتدأ أمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم. قال: وبلغ شمس الملوك أن أخاه شمس الدولة صاحب بعلبك استولى على حصنى اللبوة والراس واستمال من بهما وتسلمهما، وجعل فيهما من الجند من يحفظهما. فراسله فى ذلك وتلطف معه وقبح عليه فعله، وطلب إعادتهما إليه، فامتنع. فتجهز بعساكره فى آخر ذى الحجة من السنة وقصد جهة الشمال، ثم عطف مغربا، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فراسلوه فى طلب الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن من يومه. وسار إلى حصن الراس وفعل به كذلك، وتسلمه وجعل فيهما من يحفظهما. ثم رحل إلى بعلبك وحصرها وبها شمس الدولة وقد استعد، فوالى الزحف حتى ملك البلد بعد قتال شديد. وتحصن شمس الدولة فنازله فراسله فى طلب الأمان وأن يقره على ما أوصى له به والده، فأجابه إلى ذلك وعاد إلى دمشق.

ذكر ملكه قلعة بانياس

ذكر ملكه قلعة بانياس وفى سنة سبع وعشرين وخمسماية ملك شمس الملوك قلعة بانياس من الفرنج. وسبب ذلك أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه. وكانت قد تقررت بينهم هدنة، فقصدوا نقضها، ومدوا أيديهم إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت، فشكا «1» التجار ذلك إلى شمس الملوك، فراسل الفرنج فى إعادة ما أخذوه، فلم يردوا شيئا. فجمع العساكر وتأهب ولم يعلم أحدا بمقصده. ثم سار فى آخر المحرم من السنة ونزل على بانياس فى صفر. وزحف زحفا متتابعا. وقرب من سور المدينة وترجل بنفسه، وتبعه الناس فوصلوا إلى السور ونقبوه، ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان فيه من جند الفرنج إلى الحصن، فقتل كثير من الفرنج بالبلد وقاتل من بالقلعة قتالا شديدا، ثم ملك القلعة بالأمان فى رابع صفر وعاد إلى دمشق. ذكر ملكه مدينة حماة وفى شوال سنة سبع وعشرين وخمسماية ملك شمس الملوك مدينة حماة وهى لأتابك زنكى بن اقسنقر،. وذلك أنه لما ملك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان، وسار إلى حماة فى العشر الأخر منه. وكان قد بلغه أن الخليفة

ذكر ملكه شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج

المسترشد بالله قد حضر إلى الموصل، فطمع فى البلاد لتغير الخليفة على زنكى، فحصر حماة وقاتل من بها يوم العيد، وملك البلد فى اليوم الثانى قهرا، وطلب من به الأمان فأمنهم، وحصر القلعة، واستولى عليها وعلى ما بها من الذخائر، وسار منها إلى قلعة شيزر، وبها صاحبها ابن منقذ، فحصرها ونهب بلدها. فراسله صاحبها وسار معه بمال، فعاد إلى دمشق فى ذى القعدة من السنة. وفى تاسع شهر ربيع الآخر وثب على شمس الملوك بعض مماليك جده طغرتكين، فضربه بسيف فلم يصنع فيه شيئا، وتكاثر عليه مماليك شمس الدولة فمسكوه، فقرره ما الذى حمله على ما فعل، فقال: «أردت راحة المسلمين من شرك وظلمك» فلم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك، فقتلهم من غير تحقيق، وقتل أخاه سونج، فعظم ذلك على الناس، ونفروا عنه وأنفوه. ذكر ملكه شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية سار إلى شقيف تيرون «1» وهو فى الجبل المطل على بيروت وصيدا، وكان فى يد الضحاك بن جندل رئيس وادى التيم قد تغلب عليه وامتنع به واحتمى على المسلمين والفرنج. فسار إليه [شمس الملوك] وملكه فى المحرم من هذه السنة؛ فعظم أخذه على الفرنج، لأن الضحاك كان لا يتعرض إلى شىء من بلادهم المجاورة له، فجمع الفرنج جموعهم فساروا إلى بلد حوران

ذكر مقتل شمس الملوك وملك أخيه شهاب الدين محمود

يخربون أمهات الضياع. فسار إليهم [شمس الملوك] ونزل بإزائهم وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم نهض ببعض عسكره وجعل بقيتهم قبالة الفرنج. وسار وقصد بلاد طبرية والناصرة وعكا وما جاورها من البلاد، والفرنج لا يشعرون به، فقتل وخرب وأحرق وسبى وامتلات أيدى المسلمين من الغنائم، فبلغ الفرنج خبره، فرجعوا إلى بلادهم، وعاد هو على غير الطريق الذى سلكه، فوصل سالما وراسله الفرنج فى تجديد الهدنة. ذكر مقتل شمس الملوك وملك أخيه شهاب الدين محمود وفى شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسماية، قتل شمس الملوك إسمعيل. وسبب ذلك أنه كان قد ركب طريقا شنيعا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أهل البلد وأعيانه، وبالغ فى العقوبات، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس. ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكى ليسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول، وأخلى المدينة من الذخائر والأموال، ونقل ذلك إلى صرخد وتابع الرسل إلى زنكى يحثه على الوصول ويقول: إن أهملت المجىء سلمت البلد إلى الفرنج. فامتغص أصحاب أبيه وجده منه، وذكروا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر. ثم ارتقب غفلة غلمانه وأمرت غلمانها بقتله فقتلوه. وأمرت بإلقائه فى موضع من الدار ليشاهده غلمانه، فلما رأوه سروا بمقتله. وأمه زمود خاتون ابنة جاولى، وهى التى بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادى الشقراء، ونهر بردى. هذا أحد ما قيل فى قتله.

ذكر أخبار شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين

وقيل كان سبب مقتله أن والده كان له صاحب اسمه يوسف بن فيروز، وكان متمكنا منه حاكما فى دولته ثم فى دولة ولده هذا، فاتهم بأم شمس الملوك. وبلغه الخبر فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصن بها وأظهر الطاعة لشمس الملوك. وأراد [شمس الملوك] ، قتل أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفا على نفسها، والله أعلم. وكان مولده فى سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسماية، فتكون مدة حياته اثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر، ومدة ملكه سنتين وتسعة أشهر وأياما. ذكر أخبار شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين ملك دمشق بعد مقتل أخيه شمس الملوك فى شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسماية. وحلف له الناس واستقر له الأمر ثم وصل أتابك زنكى إلى دمشق ونازلها فى أول جمادى الأولى من السنة، فبينما هو يحاصر [دمشق] إذ ورد عليه رسول الخليفة المسترشد بالله بالخلع ويأمره بصلح صاحب دمشق والرحيل عنها، فصالحه، وخطب له بدمشق مع صاحبها، وفارق البلد لليلتين بقيتا من الشهر. ذكر ملكه مدينة حمص وفى الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وخمسماية، تسلم شهاب الدين محمود مدينة حمس وقلعتها. وذلك أن أصحابها

ذكر ملك جمال الدين محمد ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين

أولاد الأمير خرخان بن قراجا «1» الوالى عليها من قبلهم ضجروا من كثرة تعرض عسكر زنكى إليها وإلى أعمالها، وتضييقهم على من بها، فراسلوا شهاب الدين فى تسليمها، فأجابهم، وسار إليها وتسلمها، وسلم إليهم تدمر، وأقطع حمص لمملوك جده معين الدين أنر «2» وجعل فيها نائبا عنه ممن يثق به من أعيان أصحابه، وعاد إلى دمشق ثم ملكها أتابك زنكى فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية، وتزوج زمرد خاتون والدة شهاب الدين لتحكمها بدمشق، وظن أنه تملك البلد باتصاله بها، فلم يتهيأ له ملكها. قال: واستمر ملك شهاب الدين محمود إلى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية، فقتل على فراشه فى شوال منها، قتله ثلاثة من خواصه كانوا يبيتون عنده فقتلوه ليلا، وخرجوا من القلعة فنجا أحدهما وقتل الاخران. ذكر ملك جمال الدين محمد ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين ملك دمشق بعد مقتل أخيه شهاب الدين محمود فى شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية. وذلك أن محمود لما قتل، كتب معين الدين أنر إلى جمال الدين صاحب بعلبك بالخبر، واستدعاه ليملكه

ذكر أخبار مجير الدين ابق ابن جمال الدين محمد بن بورى ابن طغرتكين

البلد، فجاء مسرعا وجلس لعزاء أخيه، وخلف الجند وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنر، وزاده فى علو مرتبته، وأقطعه بعلبك، وزوجه بأمه. قال: ولما اتصل بزمرد خاتون قتل ابنها محمود كتبت إلى زوجها أتابك زنكى وهو بالجزيرة أن ينهض فى طلب ثار ابنها، فسار مسرعا وملك بعلبك عنوة فى ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثين، وحصر دمشق فى سنة أربع وثلاثين، وبذل لمعين الدين حمص وبعلبك وغير ذلك على أن يسلم إليه دمشق فلم يوافق، فجد فى الحصار. فبينما هو يحاصرها مرض جمال الدين محمد ومات فى ثامن شعبان منها، فطمع زنكى حينئذ فى البلد ووالى الزحف والقتال. قال: ولما مات جمال الدين ولى بعده ولده. ذكر أخبار مجير الدين ابق ابن جمال الدين محمد بن بورى ابن طغرتكين ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى ثامن شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسماية، وهى إذ ذاك محاصرة، فقام بتدبير دولته معين الدين مدبر دولة أبيه. وداوم زنكى الحصار وضيق على أهل البلد، فعند ذلك راسل أنر الفرنج واستدعاهم لنصرته، وإعانته على حرب زنكى. وبذل لهم بذولا من جملتها أن يحاصر بانياس ويسلمها إليهم. وخوفهم أن زنكى إن ملك دمشق قصدهم وغزاهم. فاجتمعوا وعزموا على المسير إلى دمشق، فاتصل ذلك بزنكى فتوجه إلى حوران

وقصد غزو الفرنج وذلك فى منتصف شهر رمضان. فبلغ خبره الفرنج فأقاموا ببلادهم، فعاد إلى حصار دمشق ثم نزل بعذرا «1» فى سادس شوال، وأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة، وعاد إلى بلاده. ووصل الفرنج إلى دمشق فى ميعاد أنر، بعد رحيل زنكى فسار معهم إلى بانياس وحصرها وأخذها وسلمها للفرنج. ولما فعل ذلك عاد زنكى لمحاصرة دمشق فقاتله أهلها، فرحل عنهم. ثم اتفق قتل عماد الدين زنكى فى سنة إحدى وأربعين وخمسماية، فسار مجير الدين ابق إلى بعلبك وحصرها وبها نجم الدين أيوب، فخاف أن أولاد زنكى لا يمكنهم إنجاده فى عاجل الحال، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعا ومالا، وملكه عدة قرى من بلد دمشق. وانتقل نجم الدين أيوب إلى دمشق وسكنها، وأقام بها، واستمرت دمشق بيد مجير الدين إلى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى فى سنة تسع وأربعين وخمسماية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره. ولما ملكها [نور الدين] تحصن مجير الدين بالقلعة، فراسله فى تسليمها وبذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص، فأجاب إلى ذلك، وسلم القلعة وتسلم الإقطاع، وسار إلى حمص. ثم راسل أهل دمشق بعد ذلك على أن يسلموها إليه. فعلم نور الدين به،

ذكر أخبار الملوك السلجقية أصحاب قوينة واقتصرا وملطية ودقوقا من الروم

وأخذ منه حمص وعوضه عنها بالس «1» فلم يرض بها، وسار إلى بغداد وابتنى بها دارا بالقرب من النظامية. وتوفى بها. هذا ما كان من أخبار ملوك دمشق على سبيل الاختصار، وإنما أوردنا أخبارهم فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، ولئن تكون أخبارهم متتابعة. فلنرجع إلى أخبار الملوك السلجقية، ولنذكر ملوك الروم منهم. ذكر أخبار الملوك السلجقية أصحاب قوينة واقتصرا «2» وملطية ودقوقا من الروم أول من ملك منهم شهاب الدولة قتلمش بن أرسلان بيغو ابن سلجق. وكان ابتداء أمره أنه عصى على السلطان طغرل بك فى سنة ثلاث وخمسين وأربعماية، وملك قلعة كردكوه وامتنع بها، وأخذ أموالا كانت حملت من خوارزم إلى السلطان. فسير إليه طغرلبك جيشا فهزمه مرة بعد اخرى. فلما مات طغرلبك أظهر [شهاب الدين قتلمش] العصيان على ألب أرسلان ابن جغربيك «3» داود، وجمع جموعا كثيرة، وقصد الرى ليستولى عليها عند ما بلغه وفاه طغرلبك، فسار إليه السلطان ألب أرسلان والتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر قتلمش، وفر هو لقصد كردكوه.

ذكر أخبار الملك سليمان ابن شهاب الدولة قتلمش وهو الثانى من الملوك السلجقية بالروم،

فوجد ميتا غير مقتول، كما ذكرنا ذلك فى أخبار ألب أرسلان فى سنة ست وخمسين وأربعماية ولما مات ملك بعده ابنه سليمان. ذكر أخبار الملك سليمان ابن شهاب الدولة قتلمش وهو الثانى من الملوك السلجقية بالروم، ملك ما كان بيد أبيه بعد وفاته فى سنة ست وخمسين وأربعمائة. ذكر فتح مدينة أنطاكية وفى سنة سبع وسبعين وأربعماية سار سليمان من بلاده، وقصد الشام وملك مدينة انطاكية، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلثماية. وكان سبب ملكه إياها أن صاحبها الفزدرؤس الرومى «1» كان قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب فى انطاكية شحنة وكان الفزدرؤس كثير الإساءة إلى أهل البلد وإلى جنده، حتى أنه حبس ابنه، فاتفق ابنه والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان، فكاتبوه يستدعونه فركب فى البحر ومعه ثلثماية فرس وكثير من الرجالة، وخرج منه وسار فى جبال وعرة ومضايق شديدة حتى وصل إليها فى وقت الموعد، فنصب السلاليم وصعد باتفاق من الشحنة وابن صاحبها، فملكها فى شعبان من السنة. وقاتله أهل البلد فهزمهم مرة بعد أخرى، وقتل كثيرا منهم، ثم عفا

ذكر قتل الملك سليمان قتلمش

عنهم، وتسلم القلعة وأخذ من الأموال ما لا يحصى كثرة، وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم، وأرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بالفتح فأظهر الفرح بذلك وهنأ الناس. قال: ولما فتحها أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب حلب يطلب منه حمل ما كان صاحب انطاكية يحمله إليه، ويخوفه معصية السلطان. فأجابه أن صاحب انطاكية كان كافرا يحمل الجزية عن رأسه وأصحابه، وأنا مسلم والخطبة والسكة فى بلادى للسلطان، وهذا الفتح إنما فتحته بسعادته وكاتبته به. فنهب شرف الدولة بلد انطاكية، ونهب سليمان بلد حلب، فلقيه أهل السواد، فشكوا إليه من نهب عسكره. فقال لهم: «أنا كنت أشد كراهة لما جرى، ولكن صاحبكم أحوجنى إلى ما فعلت، فلم تجر عادتى بنهب مال مسلم. ولا أخذ ما حرمته الشريعة» وأمر أصحابه بإعادة ما نهب على أصحابه، فأعادوه. ثم جمع شرف الدولة الجموع وسار لقتال سليمان. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر شرف الدولة وقتل هو؛ وذلك فى يوم الجمعة لست بقين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعماية. ذكر قتل الملك سليمان قتلمش قال: ولما قتل سليمان بن شرف الدولة، أرسل إلى مقدم حلب يطلب تسليمها له، فأنفذ إليه مالا، واستهمله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه. وأرسل المقدم إلى تتش صاحب دمشق يعده بتسليمها إليه، فسار تتش إلى حلب. فعلم سليمان بذلك،

ذكر أخبار قلج أرسلان بن سليمان وهو الثالث من الملوك السلجقية بالروم.

فسار نحوه والتقوا وقاتلوا، فانهزم أصحاب سليمان وثبت هو فى القلب. فلما عاين الهلكة. قتل نفسه بسكين، وقيل بل قتل فى المعركة، واستولى تتش على معسكره، وذلك فى سنة تسع وسبعين وأربعماية. وكان سليمان قد أرسل جثة شرف الدولة مسلم فى صفر سنة ثمان وسبعين على بغل، ملفوفة فى إزار إلى حلب، وطلب من أهلها تسليمها إليه، فأرسل تتش جثة سليمان فى صفر من السنة التى تليها على تلك الهيئة، وطلب منهم تسليمها. ولما قتل ملك بعده ببلاد الروم ولده والله أعلم. ذكر أخبار قلج أرسلان بن سليمان وهو الثالث من الملوك السلجقية بالروم. ملك بعد قتل أبيه فى صفر سنة تسع وسبعين وأربعماية، واستمر فى المملكة الرومية وملك الموصل فى سنة خمسماية. وذلك أن صاحبها جكزمش كان قد حاصره جاولى سقاووا «1» ، وأسره ومات فى أسره. فكتب أصحاب جكرمش إلى الأمير صدقة، وإلى قسيم الدولة اقسنقر البرسقى، وإلى قلج أرسلان، يستدعون كل واحد منهم إليها، ليسلموا إليه الموصل، فامتنع صدقة، وسار قلج أرسلان. فلما وصل إلى نصيبين رحل جاولى عن الموصل، واتفق وصول البرسقى وهو شحنة بغداد إلى الموصل، ونزل بالجانب الشرقى بعد رحيل جاولى وفى ظنه أنه يملك البلد، فلم يخرج إليه

ذكر قتل الملك قلج أرسلان وملك ولده الملك مسعود

أحد من أهلها ولا راسلوه بكلمة واحدة، فعاد فى بقية يومه. وأرسل أصحاب جكرمش وأهل الموصل إلى قلج أرسلان واستحلفوه لهم، فحلف، وحلفهم على الطاعة له والمناصحة، وسار إلى الموصل وملكها لخمس بقين من شهر رجب سنة خمسماية، وأسقط خطبة السلطان وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر وخلع على ولد جكرمش وأخذ القلعه، من غزغلى «1» مملوك جكرمش وجعل عليها دزدارا، ودفع الرسوم المحدثة فى الظلم، ونشر العدل وتألف الناس، وقال: «من سعى إلى بأحد قتلته» فلم يسع إليه أحد بأحد. ذكر قتل الملك قلج أرسلان وملك ولده الملك مسعود كان مقتله فى العشرين من ذى القعدة من سنة خمسماية. وذلك أنه لما فارق جاولى الموصل سار إلى الرحبة وملكها بعد حصار وقتال، فلما أحكم الملك قلج أمر الموصل، سار عنها لقتال جاولى، وجعل ابنه ملكشاه فى دار الإمارة بالموصل، وسنّه إحدى عشرة «2» سنة، وجعل معه أميرا يدبره وجماعة من العسكر. وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدد الكاملة والخيل الجيدة. فسمع عسكره بقوة جاولى وكثرة أتباعه وجنده، فاختلفوا، فكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال صاحب آمد «3» ، وكان معه لما فتح

قال: وملك بعده ولده الملك مسعود بن قلج، وهو الرابع من الملوك السلجقية ببلاد الروم.

الموصل. ففارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور «1» إلى بلده ثم فارقه غيره. فعمل قلج فى المطاولة لما بلغه من قوة جاولى وكثر جموعه، وأرسل فى طلب عساكره من الروم. وكان فى جملة عسكر جاولى الملك رضوان صاحب حلب، فاغتنم جاولى قلة أصحاب قلج فقاتله قبل وصول عسكره، واقتتلوا قتالا شديدا، فحمل قلج بنفسه وانهزم أصحابه. فلما رأى قلج انهزم عسكره ألقى نفسه فى الخابور، وحمى نفسه بالنشاب، فانحدر به الفرس إلى ماء عميق، وغرق، فظهر بعد أيام، فدفن بالسليمانية وهى قرية من قرى الخابور. وسار جاولى ودخل الموصل وأرسل ملكشاه بن قلج إلى السلطان محمد. قال: وملك بعده ولده الملك مسعود بن قلج، [وهو الرابع من الملوك السلجقية ببلاد الروم.] وأقام فى الملك إلى سنة إحدى وخمسين وخمسماية، فتوفى فيها. ولم أقف من أخباره على شىء أورده له، وملك بعده ولده. ذكر أخبار الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود ابن قلج ارسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق وهو الخامس من الملوك السلجقية ببلاد الروم. ملك بعد وفاة والده فى سنة إحدى وخمسين وخمسماية. وكان ذا سياسة، وعدل وافر، وهيبة عظيمة، وله غزوات كثيرة إلى بلاد الروم. وكان له من بلاد الروم قونية وأعمالها واقصرا وسيواس

ذكر تسليمه البلاد لبنيه وبنى أخيه وما جعل لكل منهم

وملطية وغير ذلك. وكان له عدة أولاد، فلما كبرت سنه فرق بلاده على أولاده فى حياته، وملك نحو تسع «1» وعشرين سنة. ذكر تسليمه البلاد لبنيه وبنى أخيه وما جعل لكل منهم قال المؤرخ: لما ضعف الملك عز الدين قلج أرسلان هذا عن القيام بوظائف الملك لكبر سنه، أفرد البلاد لأولاده وأولاد أخيه وسلم لكل واحد منهم جهة، فسلم إلى ابنه ركن الدين سليمان دوقاط، وإلى ابنه غياث الدين كيخسرو قونية، ولولده محى الدين أنقره- وتسمى أنكورية- ولولده معز الدين قيصر شاه ملطية، ولولده مغيث الدين طغرل شاه أبلستين، ولولده نور الدين محمود قيسارية، ولولده قطب الدين سيواس وأقصرا، ولولد أخيه نكسار، ولولد أخيه أماسيا. هذه أمهات البلاد، ويضاف إلى كل جهة ما تجاورها. ثم ندم على ذلك وأراد أن يجمع جميع المملكة لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب مصر ليتقوى به، فلما اتصل ذلك ببقية أولاده امتنعوا من طاعته، وأزالوا حكمه عنهم، فكان يتردد بينهم على سبيل الزيارة، ثم توجه إلى ولده غياث الدين [كيخسرو] «2» صاحب قونية. فخرج إليه وقبل الأرض بين يديه واستبشر بقدومه. واتمر بأمره. فقال له: «أريد أن أسير إلى ولدى محمود صاحب

ذكر قتل نور الدين محمود واستيلاء قطب الدين على قيسارية ووفاته واستيلاء ركن الدين سليمان على سائر المملكة

قيسارية، وآخذها منه» فسار هو وولده كيخسرو، وحصرا محمود، فمرض قلج أرسلان، وتوفى فى منتصف شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسماية فعاد كيخسرو إلى بلده، واستقر كل واحد منهم على ما بيده من البلاد. ذكر قتل نور الدين محمود واستيلاء قطب الدين على قيسارية ووفاته واستيلاء ركن الدين سليمان على سائر المملكة قال: كان قطب الدين صاحب أقصرا وسيواس إذا توجه من أحدهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، ويجتمع بأخيه نور الدين محمود صاحبها، ويظهر له المودة. فاطمأن له محمود. وكان الأمير اختيار الدين حسن أحد أمراء والده يحذره عاقبة طمأنينته لأخيه، فنزل قطب الدين فى بعض الأحيان بظاهر قيسارية وجاء نور الدين إليه فقتله، ورمى برأسه إلى أصحابه، وتسلم البلد بعد أن امتنع من بها عليه، ثم قتل الأمير اختيار الدين حسن وكان من أكابر الأمراء الديانين، وألقاه فى الطريق، فجاء كلب ليأكل من لحمه، فثار الناس وقالوا: «لا سمعا ولا طاعة هذا أمير كبير فى الإسلام، وبنى مدرسة للعلم، وله صدقات دارة، ولا نتركه نأكله الكلاب» فأمر عند ذلك بدفنه، فدفن فى مدرسته. ثم مرض قطب الدين ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهى تجاوره، فملكها ثم ملك قيسارية أقصرا.

ذكر وفاة ركن الدين سليمان وملك ولده قلج أرسلان

ثم سار بعد ذلك إلى قونية، وبها أخوه غياث الدين فحصره بها. وملكها، ففارقها غياث الدين إلى الشام. ثم عاد إلى الروم وسار إلى القسطنطينية، ثم ملك البلاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وسار ركن الدين بعد ذلك إلى نكسار وأماسيا فملكها من ابنى عمه، وملك ملطية فى شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسماية، وفارقها أخوه معز الدين قيصر شاه، وسار إلى الملك العادل أبى بكر» وكان زوّجه ابنته. فاجتمع لركن الدين سليمان ملك جميع البلاد التى كانت بيد إخوته وأولاد عمه إلا أنقره، فإنها امتنعت عليه لحصانتها، فجعل عليها من عسكره من يحصرها، فحوصرت ثلاث سنين كوامل وتسلمها فى سنة ستماية، وعوض أخاه محى الدين عنها قلعة فى أطراف بلاده، وحلف له عليها، فسار محى الدين إليها فجهز فى إثره من قتله. ذكر وفاة ركن الدين سليمان وملك ولده قلج أرسلان قال: ولما غدر بأخيه محى الدين صاحب أنكورية وقتله، لم يمهله الله عز وجل، فمرض بالقولنج، بعد قتله لخمسة أيام، ومات فى سبعة أيام، وكانت وفاته فى سادس ذى القعدة سنة ستماية. وكان قيما بأمر الملك، شديدا على الأعداء، إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد فى اعتقاده، وأنه يقول بقول الفلاسفة. وكان كل من رمى بهذا المذهب يأوى إليه، لكنه كان يستر ذلك عن الناس، ولا يتظاهر به.

ذكر ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قلتمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، بلاد الروم من ابن أخيه، وهو الثانى من ملوك السلجقية بالروم

قال: ولما مات اجتمع الناس بعده على ولده قلج أرسلان، وملكوه عليهم وكان صغير السن، فبقى إلى بعض سنة إحدى وستماية. ذكر ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قلتمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، بلاد الروم من ابن أخيه، وهو الثانى من ملوك السلجقية بالروم ملك المملكة الرومية فى شهر رجب، سنة إحدى وستماية. وذلك أن ركن الدين سليمان لما أخذ منه قونية، كما قدمناه، قصد الشام إلى الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولا، فسار من عنده وتنقل فى البلاد إلى أن سار إلى القسطنطينية،، فأحسن إليه ملك الروم وأكرمه وأقطعه إقطاعا، فأقام عنده وتزوج بابنة بعض البطارقة الأكابر. وكان للبطريق قلعة من قلاع القسطنطينية، فلما ملك الفرنج قسطنطينية «1» ، هرب غياث الدين إلى [حميه] «2» ، بالقلعة، فنزل عنده وقاسمه فيما هو فيه وقنعا بها فلما مات أخوه فى سنة ستماية كما ذكرناه، وملك ولده قلج أرسلان، فخالف عليه بعض الأمراء الأكابر وكان من الترك، فأنف أن يملك صغيرا، فراسل غياث الدين فحضر إليه فى جمادى الأولى، واجتمع معه بعض العسكر وتوجه إلى قونية وبها قلج أرسلان بن أخيه، فخرج له بعض عسكرها

ذكر ملكه مدينة أنطاكية

فهزموه وبقى حيران ولا يدرى ما يصنع، ولا أين يتوجه. فقصد بلدة صغيرة من بلاد قونية يقال لها أو كرم، فقدر الله أن أهل مدينة أقصرا وثبوا على واليها، فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين. فلما وصل الخبر أهل قونية قال أهلها: «نحن أولى بذلك منهم، لأنه كان حسن السيرة فينا» فنادوا باسمه، وأخرجوا من عندهم، واستدعوه، فملك المدينة وقبض على ابن اخيه، وملك البلاد أجمع فى ساعة واحدة، فسبحان من إذا أراد أمرا هيأ أسبابه. وحضر إليه أخوه قيصر شاه الذى كان صاحب ملطية، فلم يجد عنده قبولا، فأعطاه شيئا وأمره بمفارقة البلاد، فعاد إلى الرها، واستتب الملك لكيخسرو وأعظم شأنه، والله أعلم. ذكر ملكه مدينة أنطاكية وفى ثالث شعبان سنة ثلاث ستماية ملك الملك غياث الدين كيخسرو مدينة أنطاكية بالأمان، وكانت للروم. وكان قد حصرها قبل هذا التاريخ وهدم عدة أبرجة من سورها، وأشرف على فتحها عنوة، فاستنجد من بها من الروم بفرنج جزيرة قبرص، فوصل إليها جماعة منهم فيئس منها وفارقها وترك طائفة من أصحابه بالقرب منها فى الجبال التى بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة عنها. فضاق أهلها فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم، فظنوا أنهم يريدون إخراجهم من المدينة. فوقع الخلف بينهم، فأقتتلوا فأرسل الروم إلى المسلمين يطلبونهم ليتسلموا البلد، فوصلوا إليهم واجتمعوا

ذكر ملك علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق وهو العاشر من ملوك السلجقية بالروم

معهم على قتال الفرنج، فانهزم الفرنج منهم واعتصموا بالحصن. فأرسل المسلمون يطلبون كيخسرو، فجاء من قونية وحصر الفرنج وتسلم الحصن. واستمر غياث الدين كيخسرو فى الملك إلى أن توفى سنة سبع وستماية وملك بعده ولده الملك الغالب عز الدين كيكاووش «1» بن كيخسرو، وملك كيكاووش هذا بعض بلاد حلب، وانتزعت منه، واستمر فى المملكة الرومية إلى سنة ست عشرة وستماية، فتوفى ولم يكن له ولد فملك بعده أخوه. ذكر ملك علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق وهو العاشر من ملوك السلجقية بالروم ملك بعد وفاة أخيه فى سنة ست عشرة وستماية، وكان أخوه كيكاووش قد اعتقله لما ملك، وأشار عليه أصحابه بقتله فلم يفعل. فلما مات كيكاووش أخرج الجند كيقباذ وملكوه عليهم. وقيل إنه لما اشتدت علة كيكاووش أخرجه من الاعتقال، وحلف له العساكر. قال: ولما ملك كيقباذ خالف عمه مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان صاحب أرزن الروم؛ ومغيث الدين هذا هو الذى أمر ولده أن ينتصر وزوجه ملكة الكرج، وأقام معها مدة، فهويت غيره من مماليكها فرآه معها، فأنكر ذلك عليها، فاعتقلته. ومات مغيث الدين هذا فى سنة اثنتين وعشرين وستماية، وملك بعده ابنه.

قال: ولما ملك كيقباذ خاف من الروم المجاورين لبلاده، فأرسل إلى الملك الأشرف صاحب دمشق وصالحه، وتعاهد على المصافاة والتعاضد، والله أعلم. وفى سنة ثلاث وعشرين وستماية فى شعبان سار كيقباذ إلى بلاد الملك المسعود صاحب آمد، وملك عدة من حصونه. وكان صاحب آمد قد اتفق مع السلطان جلال الدين خوارزم شاه على مخالفة الأشرف صاحب دمشق، فأرسل الأشرف إلى كيقباذ بقصد آمد، فسار وفتح حصن منصور «1» وحصن سمسنكاذا وغيرهما. فلما رأى صاحب آمد ذلك راسل الملك الأشرف، وعاد إلى موافقته. فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه الصلح وأن يعيد إلى صاحب آمد ما أخذه، فامتنع وقال: «ما أنا نائب الأشرف يأمرنى وينهانى» فأمر الأشرف عساكره بمساعدة صاحب آمد إن أصر ملك الروم على قصد محاصرته «2» . فاجتمع العسكر الأشرفى مع صاحب آمد وساروا إلى كيقباذ وهو يحاصر قلعة الكختا، فالتقوا فى شوال فانهزم صاحب آمد ومن معه هزيمة عظيمة، وأسر كثير من أصحابه، وجرح، وملك كيقباذ قلعة الكختا.

ذكر اجتماع كيقباذ والأشرف على حرب جلال الدين خوارزم شاه وانهزامه منهما

وفى سنة خمس وعشرين وستماية ملك كيقباذ أرزنكان «1» وكان صاحبها بهرام شاه قد طال ملكه بها، وجاوز ستين سنة، ولم يزل فى طاعة السلجقية ملوك الروم. فلما توفى ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه، فأرسل إليه كيقباذ يطلبه بعسكره يسير معه إلى مدينة: أرزن «2» الروم ليحاصرها. فحضر إليه فقبض عليه وأخذ مدينته، ثم ملك حصن كماخ «3» ، وكان من أمنع الحصون. وقصد أرزن الروم ليأخذها من ابن عمه طغرل شاه، فاستنجد صاحبها بالأمير حسام الدين على نائب الأشرف بخلاط، وأظهر طاعة الأشرف، فسار إليه بمن عنده من العسكر خوفا أن كيقباذ إذا ملك أرزن الروم قصد خلاط وغيرها، فعاد ولم يقدم على قصدها، وتوجه إلى مدينة أنطاكية ليشتو بها والله أعلم. ذكر اجتماع كيقباذ والأشرف على حرب جلال الدين خوارزم شاه وانهزامه منهما كان سبب ذلك أن جلال الدين خوارزم شاه لما حاصر خلاط حضر إليه صاحب أرزن الروم. وهو طغرل شاه السلجقى ابن عم كيقباذ، وأطاعه وأعانه على الحصار. وكان بينه وبين ابن عمه

عداوة مستحكمة فخاف كيقباذ أن السلطان جلال الدين يتوصل إلى ملك بلاده، فراسل الملك الكامل صاحب مصر «1» وهو إذ ذاك بحران، وساله أن يستدعى الملك الأشرف من دمشق، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرف «2» واجتمع هو وكيقباذ، واتفقا على حرب جلال الدين. وكان عسكر كيقباذ عشرين ألف فارس وعسكر الأشرف خمسة آلاف فارس، إلا أنهم كانوا من الشجعان الذين لا يقوم أحد بحربهم. فسار جلال الدين لقتالهم والتقوا يوم السبت الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وعشرين وستماية بمكان من أعمال أرزنجان، فانهزم جلال الدين وعاد إلى خلاط، فأخذ من كان بها من أصحابه وفارقها، وأسر فى هذه الوقعة جماعة من أصحاب السلطان. فأمر كيقباذ بضرب أعناقهم، وأسر ابن عمه صاحب أرزن الروم، وقصد به بلده، فتسلم أرزن الروم وما معها من القلاع، وما بها من الخزائن وغيرها. فكان طغرل شاه كما قيل: «خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا اذنين» ؛ وكان هذا قد عاهد جلال الدين على أنه يملكه بعض بلاد كيقباذ، فأخذ ما بيده. واستمر كيقباذ فى الملك إلى أن توفى، وكانت وفاته فى سنة أربع وثلاثين وستماية، وملك بعده ولده.

ذكر ملك غياث الدين كيخسرو ابن الملك علاء الدين كيقباذ غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، وهو الحادى عشر من الملوك السلجقية، بالروم

ذكر ملك غياث الدين كيخسرو ابن الملك علاء الدين كيقباذ غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، وهو الحادى عشر من الملوك السلجقية، بالروم ملك المملكة الرومية بعد وفاة أبيه الملك كيقباذ فى سنة أربع وثلاثين وستماية. وجلس على تخت السلطنة بمدينة قونية وراسله الملوك فى الموافقة، وهى السنة التى وصل التتار فيها إلى الروم. وفى سنة خمس وثلاثين أرسل غياث الدين إلى والدة الملك العزيز مخطب بنت ابنها العزيز لنفسه، وأن يتزوج الملك الناصر صاحب حلب أخت السلطان غياث الدين. فاستقر بينهما الأمر، وعقا عقد السلطان على غازية خاتون ابنة الملك العزيز على خمسين ألف دينار. ووصل الصاحب كمال الدين بن العديم من حلب إلى السلطان. فزوج أخته من الملك الناصر على نظير هذا الصداق. فحصل الاتفاق بينهما، ثم أرسل السلطان غياث الدين إلى حلب يطلب أن تقام له الخطبة بها وتضرب السكة باسمه. فتوقفت الصاحبة والدة العزيز فى ذلك، فأشير عليها بالموافقة فأجابت إلى ذلك، وخطب له بحلب. وفى سنة إحدى وأربعين وستماية، دخل بيجو مقدم التتار إلى بلاد الروم، والتقى هو والسلطان غياث الدين فكسرهم كيخسرو، ثم عاودوا القتال فهزموه، وقتل جماعة من أصحابه، والتجأ إلى بعض المعاقل؛ ثم حصلت المهادنة على أتاوة يؤديها غياث الدين للتتار فى كل سنة.

وفى سنة أربع وخمسين وستماية وصل التتار إلى بلاد الروم صحبة جرماغون وبيجو من قبل منكوفان الملك. فخرج السلطان غياث الدين لقتالهم بجميع عساكره، واستصحب حريمه ليقاتل قتال الحريم. واستشار أصحابه فيما يفعل، فكان منهم من هول عليه أمر التتار وكان غياث الدين قد زوجه والده بكرجى خاتون ابنة ملك الكرج. فلما أفضت السلطنة إليه جعل أخاها مقدما على الجيش، وكان نصرانيا، لم ينتقل عن ملته، فكرهه الأمراء وكرهوا السلطان بسببه. فلما كان فى هذا الوقت قال للسلطان غياث الدين: «ضم إلى من فى عسكرك من الكرج والفرنج، وأنا ألقى التتار بهم» . فغاظ الأمراء كلامه، وتقدم أحد أعيانهم فحلف أنه لا بد أن يلقى التتار بنفسه، ومن صحبه، وركب فى نحو عشرين ألف فارس، وتقدم إلى التتار وهم بصحراء اقشهر زنجان، وكان غياث الدين على الجبل الأقرع واسمه كوسا داغ، وهو مشرف على الوطأة التى نزل بها التتار. وسار الأمير فيمن معه، وتبعه السلطان ببقية الجيش فوجد المقدم أمامه واد قطعه السيل، فلم يستطع قطعه إلى جهة التتار، فسار مع لحف لجبل، يطلب طريقا يمكنه التوصل منه إلى التتار. فركب التتار وقصدوه ودنوا منه وراسلوه بالسهام، فأهلكوا أكثر الخيل التى معه، فكان السهم لا يقع إلا فى فرس أو فارس، فتفرقوا عند ذلك، وطلبوا النجاة لأنفسهم. وعاد السلطان غياث الدين إلى المخيم. وجهز حريمه إلى قونية، وهى دار المملكة، ومسافتها من المكان الذى هو فيه نحو شهر، فسرن صحبة أمير، ولم يحملن معهن إلا ماخف، ورجع

ذكر أحوال أولاد السلطان غياث الدين كيخسرو بعد وفاة أبيهم

السلطان وترك الوطاق والدهاليز والخيام منصوبة، وبها الأثقال والخزائن والذحائر وأقام التتار ثلاثة أيام لم يقدموا على دخول الوطاق ظنا منهم أنها مكيدة، ثم عبروا الوطاق واستولوا على ما فيه، ورجعوا. وتوفى غياث الدين فى هذه السنة، وخلف ثلاثة أولاد: عز الدين كيكاووش، وركن الدين قلج أرسلان وعلاء الدين كيقباذ. ذكر أحوال أولاد السلطان غياث الدين كيخسرو بعد وفاة أبيهم قال: لما توفى غياث الدين استقر أولاده الثلاثة فى السلطنة، ولم ينفرد بها أحد عن الآخر، وضربت السكة باسمهم جميعا، وخطب لهم وكان والدهم قد جعل ولاية عهده لولده علاء الدين كيقباذ بن كرجى خاتون، فاتفقوا على أن يتوجه إلى منكوقان يطلب منه الصلح والهدنة، ويقرر له أتاوة. هذا بعد أن استولى بيجو على قيسارية وأعمالها وما حولها، وصار بيده من المملكة الرومية مسافة شهر. قال: فتوجه علاء الدين كيقباذ إلى منكوقان ملك التتار ومعه الهدايا والتحف، وذلك فى سنة خمس وخمسين وستماية. وقصد الأرد «1» ومعه الأمير سيف الدين طرنطاى، وهو من أكابر الأمراء

وشجاع الدين ملك السواحل. وأقام أخواه بقونية فاختلفت آراؤهما وآل أمرهما إلى القتال. فانتصر عز الدين كيكاووش واستقر بقونية بمفرده، واعتقل ركن الدين قلج أرسلان، كل ذلك وبيجو بالروم قال: ولما اعتقل قلج أرسلان، ضاق أصحابه ومنهم الصاحب شمس الدين الطغراى والأمير سيف الدين جاليش وغيرهم، ففكروا فيما يفعلون فزورّوا كتابا عن السلطان عز الدين كيكاووش إلى سيف الدين طرنطاى ورفيقه، أن يسلما إليهم السلطان علاء الدين كيقباذ، وما معهما من الهدايا والتحف، ليتوجه الصاحب بذلك إلى منكوقان، ويعود طرنطاى ورفيقه إلى قونية. وساروا بهذه الكتب الموضوعة فى إثر السلطان كيقباذ، فلحقوه وقد وصل إلى أردوباطو. فدخلوا على باطو وقالوا: «إن السلطان عز الدين كان قد أرسل أخاه ليتوجه إلى القان وأرسل معه هذين- يعنون طرنطاى ورفيقه- ثم اتضح له أنهما قد أضمرا السوء، وأن طرنطاى ضربته صاعقة فيما مضى من الزمان، فلا يصلح أن يدخل بين يدى القان «1» . ورفيقه شجاع الدين طبيب ساحر، وقد أخذ صحبته شيئا من السم القاتل ليغتال به منكوقان. فأرسلنا عوضا عنهما وأمر بردهما، فلما سمع باطو ما قاله الصاحب، أمر بإحضار طرنطاى ورفيقه وفتش ما معهما من القماش والأصناف، فكان فيه برانى أشربة وعقاقير، من جملتها السقمونيا، فأمره أن يأكل من ذلك فأكل وامتنع من السقمونيا: فظنها باطوسمّا، واستدعى الأطباء فقالوا إنها من الأدوية وآخر الأمر

قال: ووصل الصاحب ورفقته إلى الروم

أن باطو خير الصاحب ورفقته بين أن يستصحبوا الهدايا إلى القان، ويكون السلطان صحبة طرنطاى ورفيقه أو العكس. فاختار الصاحب أن يكون السلطان معه والهدايا مع طرنطاى، وافترقا على. ذلك. وتوجه السلطان كيقباذ والصاحب إلى القان وتوجه طرنطاى ورفيقه بالهدايا إليه، وافترقوا فى الطريق، فكل قصد جهة. واتفقت وفاة السلطان فى طريقه، وجرت لهم خطوب يطول شرحها، آخرها أنهم وصلوا إلى القان بالأردو وتنافسوا الرياسة فى مجلسه، ثم اتفق الحال أن تكون مملكة الروم مقسومة بين الأخوين، فجعل لعز الدين كيكاووش من نهر سيواس إلى حد بلاد اشكرى «1» ، ولركن الدين قلج أرسلان من نهر سيواس إلى تخوم أرزن الروم من الجهة الشمالية المتصله ببلاد التتار. واستقر عليهما اتاوة يحملونها إلى الأردو وعاد الصاحب شمس الدين وطرنطاى ورفقتهما من عنده، فما وصلوا إلى الروم حتى دخله التتار، وكان بينهم وبين السلطان عز الدين ما نذكره إن شاء الله فى أخبار التتار. قال: ووصل الصاحب ورفقته الى الروم فى سنة سبع وخمسين وستماية، واستقرت القسمة بين الأخوين على ما قرره منكوقان، وانفرد كل منهما بما استقر له، وانضم إليه جماعة من الأمراء. ثم قدم هولاكو وملك بغداد، فاستدعاهما فسار إليه، وحضرا معه أخذ حلب، ثم عادا إلى بلادهما على القسمة التى قسمها منكوقان. فلما كان فى سنة ستين

وستماية بعث هولاكو يستدعى شمس الدين يوتاش نائب السلطان عز الدين، فأرسله إليه فوصل إلى أرزنكان صحبة رسل هولاكو. فوافق وصولهم إليها عند غطاس النصارى، فخرجوا إلى الفرات بجمع كثير، ومعهم الجاثليق وقد رفعوا الصلبان على الرماح، وأعلنوا بالنواقيس والصياح، فأنكر عليهم شمس الدين، وقصد منعهم، فمنعه رسل هولاكو، وقالوا: «هذه بلاد السلطان ركن الدين فلا يحدث فيها» وسألوا الجاثليق: «كيف كان عادتكم فى أيام السلطان غياث الدين؟» فقال: «كنا نحمل له ثلاثة آلاف درهم، ونعمل ما نختار» فأخذوا منه ثلاثة آلاف درهم ومكنوه من عمل العيد كما أراد. فلما جرت هذه المفاوضة بين رسل هولاكو وشمس الدين، عاد مغضبا ورجع إلى السلطان عز الدين، وحمله على المخالفة والعصيان، فوافقه على ذلك واستولى على أكثر بلاد أخيه ركن الدين. فتوجه ركن الدين إلى هولاكو واستنصر به، فبعث معه تومانا «1» من التتار، فكسرهم عز الدين. ثم استمدوا هولاكو، فأمدهم بتومان آخر فهرب عز الدين وفارق البلاد ودخل إلى الأشكرى بالقسطنطينية، وصحبته أخواله، وهما على دين النصرانية، وثلاثة نفر من أمرائه. واستولى ركن الدين على جميع البلاد واستقل بملكها. وأما عز الدين فإنه لما وصل إلى الأشكرى أكرمه وأحسن إليه،

فأقام عنده إلى سنة اثنتين وستين وستماية، فقصد الأمراء الذين كانوا معه وهم عز الدين أمير آخر، وعلى بهادر، وأمير مجلس، أن يثبوا على الأشكرى فيقتلوه، وأعلموا صاحبهم عز الدين بذلك. وقالوا له: «اكتمه عن خاليك» فلم يكتمه عنهما، وأعلمهما به، وأمرهما أن يعرفا الأشكرى بذلك، وأنه لا يركب فى اليوم الذى قصد الأمراء الفتك به فيه. فعرفاه، فقبض على الأمراء وكحلهم، وقبض على السلطان عز الدين واعتقله بقلعة من القلاع الغربية، فأقام بها إلى سنة ثمان وستين وستماية. وجمع الأشكرى أصحاب الأمراء وأتباعهم، وعرض عليهم الدخول فى دينه. فمن وافق تركه، ومن أبى كحله. فمنهم من وافق وتنصّر، ومنهم من امتنع فكحل، وعرض على رجل منهم أن يتنصر فصاح وقال: «الجنة معدة للإسلام، والنار معدة لكم» فقال: هذا رجل ثابت على دينه وأطلقه، وكتب له ورقة للطريق. وفى سنة ثمان وستين وستماية خلص السلطان عز الدين وأهله من الاعتقال، وسبب ذلك أن منكوتمر بن طغان جهز عسكر إلى اسطنبول، فأغاروا عليها، وأخذوا عز الدين من القلعة التى كان بها، وأحضروه إلى منكوتمر، فأكرمه وأحسن إليه وأقام ببلاده قرم، وتزوج بها، واستمر إلى أن توفى فى سنة سبع وسبعين وستماية.

ذكر قتل السلطان ركن الدين قلج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين كيخسرو

ذكر قتل السلطان ركن الدين قلج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين كيخسرو وفى سنة ست وستين وستماية دبر البرواناه على السلطان ركن الدين، واتفق مع التتار الذين عنده على قتله ليتمكن من البلاد. فعمل وليمة واجتمع فيها التتار، واستدعوا السلطان فحضر إليهم وأكل وشرب، فقاموا إليه وخنقوه بوتر، فمات، واستقر فى الملك بعده ولده السلطان غياث الدين كيخسرو، وله من العمر أربع سنين، واستولى البرواناه على الحكم فى المملكة الرومية، والله أعلم. ذكر خبر البرواناه معين الدين سليمان وأصله وتنقله أما أصله فمن الديلم. وكان والده مهذب الدين على. حضر وهو شاب فى أيام السلطان علاء الدين كيقباذ إلى سعد الدين المستوفى بالروم، وهو إذ ذاك نافذ الحكم، فسأله أن يجرى عليه جاريا فى بعض المدارس، يكون درهما فى اليوم، يقتات به. وكان شاب جميلا وسيما من طلبة العلم، فمال إليه المستوفى فقال: «أريد أن أتخذك ولدا» وأخذه وقربه وأدناه وأحسن إليه، وزوجه بابنته ثم اتفقت وفاة المستوفى، فوصف مهذب الدين للسلطان علاء الدين بالكفاية والمعرفة والفضيلة، فقربه منه، وترشح للوزارة واستوزره

وألقى إليه مقاليد الدولة، ورزق مهذب الدين ولده معين الدين سليمان المسمى بالبرواناه. وتقدم معين الدين فى الدولة السلجقية إلى أن استولى على الحل والعقد. ولم يكن للسلطان غياث الدين كيخسرو هذا معه فى السلطنة غير الاسم. ومعين الدين هذا هو والد الأمير علاء الدين على بن البرواناه، أحد أمراء الدولة الناصرية «1» . وولى القاهرة، ثم ولى نيابة دار العدل الشريف، وتقدم على الجيوش. قال: واستمر غياث الدين كيخسرو فى اسم السلطنة بالروم إلى أيام السلطان أحمد «2» فى سنة إحدى وثمانين وستماية، فاستدعاه إلى الأردو، وعزله عن السلطنة، ورسم له بالإقامة بارزنكان، فأقام بها إلى سنة اثنين وثمانين وستماية. فدس عليه أرغون بن أبغا من خنقه بوتر فمات. ولما عزل غياث الدين فوض السلطان أحمد السلطنة فى الروم إلى السلطان مسعود ابن السلطان غياث الدين كيكاووش ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباذ ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان عز الدين قلج أرسلان ابن الملك

ذكر أخبار الدولة الأتابكية

مسعود ابن الملك قلج أرسلان ابن الملك سليمان ابن الملك شهاب الدولة قتلمش بن رسلان بيغو بن سلجق ملك المملكة الرومية، بعد عزل غياث الدين كيخسرو ابن ركن الدين قلج أرسلان فى أيام السلطان أحمد فى سنة إحدى وثمانين وستماية، فاستمر وليس له من الأمر شىء إلا اسم السلطنة خاصة، والحكم فى المملكة الرومية للتتار وشحانهم (جمع شحنة) . هذا آخر ما اتصل إلينا من أخبارهم إلى حين وضعنا هذا التأليف فى سنة أربع عشرة وسبعماية. فلنذكر أخبار الدولة الأتابكية، لأنها من فروع الدولة السلجقية، وبتمامها يتم هذا الباب إن شاء الله تعالى. ذكر أخبار الدولة الأتابكية وهذه الدولة من فروع الدولة السلجقية كان ابتداؤها أولا بحلب فى سنة تسع وسبعين وأربعماية، ثم انقطعت بقتل اقسنقر مدة ثم قامت بالموصل وحلب والشام وبمصر خطبة. وقاعدة هذه الدولة وعمادها المشار إليه من ملوكها نور الدين محمود بن زنكى. ونحن نذكر أصل هذا البيت الأتابكى وننقله إلى أن ملك نور الدين الشهيد وما انتهى إليه حال هذه الدولة إلى حين انقراضها، فنقول أصل البيت الأتابكى اقسنقر التركى.

ذكر أخبار قسيم الدولة اقسنقر التركى

ذكر أخبار قسيم الدولة اقسنقر التركى كان تركيا من أصحاب السلطان ركن الدولة ملكشاه السلجقى، وتربى معه من صغره وهو من أترابه، واستمر فى صحبته حتى أفضت إليه السلطنة، فكان من أعيان أمرائه، واعتمد عليه فى مهماته وزاد فى علو مرتبته، فصار الوزير نظام الملك مع عظم شأنه وجلالة قدره، يتقيه ويداريه. ومما يدل على مكانته وعلو شأنه كونه لقب قسيم الدولة مع صون الألقاب والمشاححة فيها فى ذلك الوقت. ولما ملك السلطان ملكشاه مدينة حلب كما ذكرناه فى أخباره سلمها لقسيم الدولة فى سنة تسع وسبعين وأربعماية، وقيل فى سنة ثمانين، فعمرها وأحسن السيرة فيها فمال الناس إليه وأحبوه، ثم تسلم من الأمير نصر بن على بن منقذ الكنانى صاحب شيزر، اللاذقية وأفامية وكفر طاب، فأشار الوزير نظام الملك على السلطان ملكشاه أن يسلم ذلك إلى قسيم الدولة مع حماه ومنبج، فأقطعه السلطان جميع ذلك، فعظمت هيبته، وظهرت كفايته، وقمع أهل الفساد والبغى. ثم استدعاه السلطان إلى العراق فقدم متجملا بعسكر عظيم، فاستحسن ذلك منه وعظمه وأعاده إلى أعماله. وفى سنة إحدى وثمانين وأربعماية قصد اقسنقر شيزر ونهبها وعاد إلى حلب. وفى سنة ثلاث وثمانين حاصر مدينة حمص وملكها، فسار صاحبها ملاعب إلى الديار المصرية. وفى سنة أربع وثمانين ملك حصن أفامية والرحبة. واستمر قسيم الدولة كذلك إلى أن مات السلطان ملكشاه فى سنه خمس

ذكر قتل قسيم الدولة

وثمانين، فجهز عند ذلك جيشا إلى تكريت فملكها. واتفق أن تاج الدولة تتش صاحب دمشق طمع بعد وفاة أخيه السلطان ملكشاه فى السلطنة، فسار من دمشق إلى حلب، فلم يمكن قسيم الدولة إلا موافقته والدخول فى طاعته. وكان من أمر تتش ما قدمناه فى أخباره، وفارقه قسيم الدولة والتحق بالسلطان بركياروق ولد صاحبه السلطان ملك شاه كما قدمنا ذكر ذلك مبينا. ذكر قتل قسيم الدولة قال: ولما فارق قسيم الدولة تتش واستمر فى خدمة السلطان بركياروق وعاد تتش إلى الشام، أمر بركياروق قسيم الدولة وبوزان صاحب حوران بالعود إلى بلادهما ليمنعا تتش من التغلب عليها، فعادا، وجمع تتش العساكر وسار نحو حلب، فاجتمع قسيم الدولة وبوزان، وأمدهما السلطان بركياروق بالأمير كربوقا صاحب الموصل. فالتقوا مع تتش بالقرب من تل السلطان على ستة فراسخ من مدينة حلب. فانهزم جيش قسيم الدولة وأخذ أسيرا، فقتله تتش صبرا، ودخل بوزان وكربوقا حلب، فحصرهما تاج الدولة تتش وفتحها وأخذهما، فقتل بوزان واعتقل كربوقا، فلم يزل إلى أن خلص فى أيام الملك رضوان بعد قتل تتش. وكان مقتل قسيم الدولة فى سنة سبع وثمانين وأربعماية. وكان رحمه الله حسن السيرة والسياسة كثير الإحسان إلى رعيته فكانوا فى أيامه بين عدل غامر ورخص شامل وأمن واسع، رحمه الله تعالى.

ذكر أخبار عماد الدين أتابك زنكى بن قسيم الدولة اقسنقر

ذكر أخبار عماد الدين أتابك زنكى بن قسيم الدولة اقسنقر قال المؤرخون: لما قتل قسيم الدولة كان عمر ولده زنكى نحو عشر سنين، ولم يخلف من الذرية غيره، فاجتمع مماليك والده عليه وأصحابه. فلما خلص قوام الدين كربوقا من السجن، بعد قتل تتش فى سنة تسع وثمانين وأربعماية، وملك حران ونصيبين والوصل وماردين، وعظم شأنه وهو فى طاعة السلطان بركياروق، أحضر مماليك قسيم الدولة، وأمرهم بإحضار عماد الدين زنكى، وقال: «هو ابن أخى، وأنا أولى الناس بتربيته» فأحضروه إليه، وأقطعهم كربوقا الإقطاعات السنية واستعان بهم فى حروبه، وسار بهم إلى آمد وصاحبها من أمراء التركمان، والتقوا فهزمهم كربوقا. وهو أول مصاف حضره زنكى بعد قتل والده. ولم يزل عند كربوقا إلى أن توفى [كربوقا] فى سنة أربع وتسعين وأربعماية. وملك بعده موسى التركمانى، فقتل ولم تطل مدته. ثم ملك الموصل شمس الدولة جكرمش، وهو من مماليك السلطان ملكشاه، فاتخذ عماد الدين زنكى كالولد، فكان عنده إلى أن قتل فى سنة خمسماية. ثم ملك الموصل بعده جاولى سقاور، فاتصل به عماد الدين، وقد كبر وظهرت شهامته. ولم يزل معه حتى عصى على السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه، فأرسل السلطان الأمير مودود إلى الموصل، فى سنة اثنتين وخمسماية، وأقطعه إياها، ففارقه عماد الدين وغيره من الأمراء، والتحقوا بمودود، فأكرم زنكى وشهد حروبه.

ثم سار مودود إلى الشام ففتح فى طريقه قلاعا كانت للفرنج، ثم حضر عند أتابك طغرلتكين (طغتكين) صاحب دمشق وسار إلى طبرية وحاصرها، وقاتلوا قتالا شديدا، فظهر من عماد الدين زنكى شجاعة عظيمة، منها أنه كان فى نفر وخرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه فهزمهم، واستمر فى حملته وهو يظن أن أصحابه يتبعونه، فتخلفوا عنه وتقدم وحده إلى أن وصل إلى باب المدينة، وأثر رمحه فيه. وقاتل الفرنج عليه وحمى نفسه، وعاد سالما، فعجب الناس من إقدامه وسلامته. ثم عاد إلى دمشق صحبة الأمير مودود، فخرج مودود لصلاة الجمعة، فلما صلى وانصرف، فبينما هو فى صحن الجامع ويده بيد طغرلتكين وثب عليه إنسان فضربه بسكين، فحمل إلى بيت طغرلتكين فمات فى بقية يومه، وكان صائما ولم يفطر، وقتل قاتله. قال: ولما قتل كتب ملك الفرنج إلى طغرلتكين يقول: «إن أمة قتلت عميدها، فى يوم عيدها، فى بيت معبودها، حقيق على الله أن يبيدها» ثم أقطع السلطان الموصل وغيرها بعد قتل مودود للأمير جيوش بك، وسير معه ولده الملك مسعود، كما ذكرناه. ثم جهز السلطان اقسنقر البرسقى فى العساكر لقتال الفرنج، وكتب إلى عساكر الموصل وغيرها يأمرهم بالمسير معه، فساروا وفيهم عماد الدين زنكى. وكان يعرف فى عساكر العجم زنكى الشامى، فسار اقسنقر إلى الرها وإلى سميساط «1» وبلد سروج،

ذكر ابتداء حال عماد الدين زنكى وترقيه وتنقله فى الولايات

وقاتل الفرنج وأبلى زنكى فى هذه المواقف بلاء حسنا. فعادت العساكر تتحدث بما فعله، وعاد البرسقى وأقام زنكى بالموصل مع الملك مسعود، والأمير جيوش بك، إلى أن أظهر العصيان على السلطان فى سنة أربع عشرة وخمسماية، ثم استأمن الملك مسعود لأخيه السلطان على ما قدمنا ذكر ذلك فى أخبار الدولة السلجقية. ذكر ابتداء حال عماد الدين زنكى وترقيه وتنقله فى الولايات كان ابتداء ولايته فى سنة ست عشرة وخمسماية، وذلك أن السلطان محمود أقطع الأمير اقسنقر البرسقى مدينة واسط. وأعمالها، مضافا إلى ما بيده من ولاية الموصل وشحنكية العراق وغير ذلك. فسير البرسقى إليها عماد الدين زنكى وأمره بحمايتها. فسار إليها فى شعبان وقام بحمايتها أحسن قيام، وحضر مع الخليفة المسترشد بالله قتال دبيس بن صدقة أمير الحلة. وكان لعماد الدين فى ذلك آثار حسنة، وأقام إلى أن عزل اقسنقر البرسقى عن شحنكية العراق ورجع إلى الموصل فى سنة ثمانى عشرة وخمسماية. وكان عماد الدين إذ ذاك بالبصرة قد سيره البرسقى لحمايتها. فلما توجه البرسقى إلى الموصل أرسل إليه يأمره باللحاق به، فقال لأصحابه: «قد ضجرنا مما نحن فيه بالموصل، فى كل يوم أمير جديد، ونحتاج نخدمه، وقد رأيت أن أسير إلى السلطان محمود فأكون معه» ؛ فأشاروا عليه بذلك. فسار إلى السلطان [محمود] فقدم عليه وهو بإصفهان، فأكرمه. وكان يقف عن يمين تخت السلطان إلى جانبه لا يتقدم عليه غيره، وهى منزلة والده من قبله.

ذكر ولاية عماد الدين زنكى شحنكية العراق

ثم بلغ السلطان [محمود] أن العرب تجمعت ونهبت البصرة، فأقطعها لعماد الدين زنكى، وأعاده إليها، وهذه الولاية هى أول ولاياته من قبل السلطان، فضبط عماد الدين زنكى البصرة وأعمالها وقام فيها أحسن قيام، وكف الأيدى عنها. فلما وقع الاختلاف بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله، وحضر السلطان إلى بغداد وحصرها كما قدمنا ذكر ذلك، أرسل إلى عماد الدين زنكى وهو بواسط يأمره بالحضور بنفسه ومعه المقاتلة فى السفن وعلى الدواب. ففعل [عماد الدين زنكى] ذلك وجاء فى موكب عظيم فى البر والبحر، فركب السلطان للقائه، ورأى الناس من ذلك ماهالهم، وعظم عماد الدين فى أعينهم. ثم حصل الاتفاق بعد ذلك بين السلطان والخليفة كما ذكرنا. ذكر ولاية عماد الدين زنكى شحنكية العراق وفى شهر ربيع الاخر سنة إحدى وعشرين وخمسماية أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى الأمير عماد الدين زنكى. ومسبب دلك أن السلطان لما عزم على المسير عن بغداد إلى همذان، نظر فيمن يصلح لشحنكية العراق ممن يأمن جانبه مع الخليفة. واعتبر أعيان دولته، فلم ير فيهم من يقوم بأعباء هذا الأمر مقامه، فاستشار أصحابه فى ذلك فكل أشار عليه به [عماد الدين] وقالوا: «لا يقدر على سد هذا الخرق، وإعادة ناموس هذه الولاية، ولا يقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر، غير عماد الدين زنكى، ففوض إليه

ذكر ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها

ولايتها، مضافا إلى ما بيده من الإقطاع. وكانت شحنكية العراق من أعظم الولايات. وسار السلطان عن بغداد وقد اطمأن من جهة العراق. ولم يطل مقام زنكى ببغداد حتى انتقل إلى ولاية الموصل. ذكر ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها كانت ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها فى سنة إحدى وعشرين وخمسماية. وسبب ذلك أن اقسنقر البرسقى لما قتل على ما ذكرناه، وولى بعده ابنه مسعود فى ثامن ذى القعدة سنة عشرين وخمسماية، فمات مسعود فى سنة إحدى وعشرين وهو يحاصر الرحبة. فلما مات قام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد جاولى مملوك أبيه، ودبر أمر الصبى وأرسل إلى السلطان يطلب تقرير أعمال الموصل على الصغير ولد اقسنقر البرسقى، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك. وكان الرسول فى ذلك القاضى بهاء الدين على ابن القاسم الشهرزورى وصلاح الدين محمد [الباغسيانى] «1» أمير حاجب البرسقى، فسارا حتى حضرا دركاة السلطان ليخاطباه فى ذلك. وكانا يكرهان جاولى ويخافانه، ولا يرضيان بطاعته، فاجتمع صلاح الدين مع نصير الدين جغر الذى صار ينوب عن عماد الدين. فذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وكان بينهما صهارة. فخوفه نصير الدين من جاولى، وقبح عنده طاعته، وقرر فى نفسه أن جاولى إنما أبقاه لحاجته إليه وأنه متى أجيب إلى مطلوبه لا يبقى على أحد منهم، وحسن له المخاطبة فى ولاية عماد الدين زنكى،

وضمن له الولايات والإقطاعات الكبيرة وكذلك للقاضى بهاء الدين، فقاما وركبا إلى دار الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد، واجتمعا به وقالا له: «قد علمت وعلم السلطان أن ديار الجزيرة والشام قد يمكن الفرنج منهما، وقويت شوكتهم بها، واستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر، ما عدا البلاد الباقية للمسلمين. وكان البرسقى بشجاعته وانقياد العساكر إليه، يكف بعض عاديتهم وشرهم، وقد زاد طمعهم منذ قتل، وولده هذا طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذى رأى وتجربة، يذب عنها، ويحمى حوزتها. وقد أنهينا الحال لئلا يجرى خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين فيختص اللوم بنا ويقال لم لا أنهيتم إلينا جلية الحال» ، فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فاستحسنه وشكرهما عليه، وأحضرهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية، فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكى، وبذلا عنه تقربا إلى خزانة السلطان مالا جليلا، فأجاب السلطان إلى ولايته، فأحضره وولاه جميع تلك البلاد، وكتب منشورة بها، وسار عماد الدين زنكى إليها فبدأ بالبوازيج «1» ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره، لأنه خاف من جاولى أنه ربما يصده عن البلاد. ثم سار عن البوازيج إلى الموصل، فلما سمع جاولى بقربه خرج إلى لقائه ومعه سائر العسكر، وترجل عند مقابلته، وقبل الأرض بين يديه، وعاد فى خدمته إلى الموصل، فدخلها فى

شهر رمضان من السنة. وأقطع جاولى الرحبة وسيره إليها، وولى نصير الدين دزداريّة قلعة الموصل وجعل إليه سائر دزدارية القلاع، وجعل صلاح الدين محمد أمير حاجب، وبهاء الدين على الشهرزورى قاضى القضاة بجميع بلاده، وزاده إقطاعا وأملاكا، وكان لا يصدر إلا عن رأيه. فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمرو بها مماليك البرسقى، فامتنعوا عليه فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة على التسليم، فلم يجيبوه إلى ذلك فجد فى قتالهم. «1» وكان بينه وبين البلد دجلة، فأمر الناس بإلقاء أنفسهم فى الماء، ففعلوا وعبروا سباحة وعبر بعضهم فى السفن والأكلاك، وتكاثروا على أهل الجزيرة. وكانوا قد خرجوا إلى أرض بين الجزيرة ودجلة، تعرف بالزلاقة، ليمنعوا عسكر عماد الدين، فلما رأوه قد عبر دجلة انهزموا ودخلوا البلد، وأرسلوا فى طلب الأمان، فأمنهم ودخل البلد بعسكره. ثم زادت دجلة فى تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد، وصارت الزلاقة مملوءة بالماء، فلو أقام بها عماد الدين تلك الليلة هلك هو وعسكره ولم يسلم منهم أحد، فأيقن الناس بسعادته. ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين، وكانت لحسام الدين تمرتاش ابن إيلغازى صاحب ماردين، فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا

فاستنجده على أتابك زنكى، فوعده النجدة بنفسه وجميع عسكره. وعاد تمرتاش إلى ماردين، وأرسل رقعة على جناح طائر إلى نصيبين، يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه واصلان إليهم بالعسكر الكثير لدفع زنكى عنهم، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام. فبينما أتابك زنكى فى خيمته وإذا بطائر سقط على الخيمة وهو ينظر إليه، فأمر بمسكه فمسك، فرأى فيه الرقعة فقرأها، وأمر بكتب غيرها يقول: «إننى مضيت إلى ركن الدولة وقد وعدنى النصرة بجميع العساكر وما نتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوما» وأمرهم بحفظ البلد هذه المدة، إلى أن يصلوا وجعلها على الطائر، وأرسله. فوصل إلى نصيبين فلما قرأ من بها الرقعة، سقط فى أيديهم، وعلموا عجزهم عن حفظ البلد هذه المدة، فأرسلوا إلى زنكى وصالحوه وسلموا إليه البلد، فبطل على داود وتمرتاش ما كانا عزما عليه. ولما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع من بها عليه ثم صالحوه وسلموها إليه، وسير منها الشحن إلى الخابور فملكه جميعه. ثم سار إلى حران وهى للمسلمين. وكانت الرها وسروج والبيرة وتلك النواحى جميعها للفرنج، وأهل حران معهم فى ضر عظيم، وضيق شديد، لخلو تلك البلاد من حامى يذب عنها. فلما قاربها خرج أهل البلد إلى لقائه، وسلموها إليه، فأرسل إلى خوستكين» صاحب الرها، وتلك البلاد وهادنه مدة يسيرة،

ذكر ملك عماد الدين حلب

وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، ويحشد، ويملك حلب والشام، ثم يقاتل الفرنج. ذكر ملك عماد الدين حلب وفى المحرم سنة اثنتين وعشرين وخمسماية، ملك عماد الدين زنكى حلب وقلعتها. وسبب ذلك أنها كانت بيد قرمان نيابة عن عز الدين مسعود بن اقسنقر البرسقى. ثم استناب بعده قتلغ فوضل إليها بعد وفاة مسعود، وتسلمها. ثم ثار به أهل المدينة وسلموها إلى سليمان بن عبد الجبار. فسير عماد الدين إليها الأمير سنقردار والأمير حسن قراقوش فى عسكر قوى، ومعهما التوقيع من السلطان لعماد الدين بالموصل والجزيرة والشام. فوصلا إلى حلب وسيرا قتلغ وابن عبد الجبار إلى عماد الدين بالموصل، فسار إليه وأقام حسن قراقوش بحلب واليا عليها. فلما وصل بدر الدولة [سليمان] بن عبد الجبار وقتلغ إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يردهما إلى حلب، وسير حاجبه صلاح الدين محمد الباغسيانى فى عسكر إلى حلب، فصعد إلى قلعتها ورتب الأمور، وجعل فيها واليا. وسار عماد الدين إلى الشام فى جيوشه، فملك فى طريقه مدينة منيح وبزاعة، ووصل إلى حلب، فتلقاه أهلها، فدخلها ورتب أحوالها، وجعل رئاستها لأبى الحسن على بن عبد الرزاق.

ذكر ملكه مدينة حماه

ذكر ملكه مدينة حماه وفى سنة ثلاث وعشرين ملك عماد الدين زنكى مدينة حماة. وسبب ذلك أنه أظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إليه تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين صاحب دمشق يستنجده، ويطلب منه معونته على جهاد الفرنج، وكانوا قد حصروا دمشق. فأجاب إلى ذلك وجرّد تاج الملوك عسكرا من دمشق، وأرسل إلى ابنه سونج وهو بمدينة حماه يأمره بالنزول إلى العسكر والمسير به إلى زنكى. ففعل وساروا جميعهم فوصلوا إليه، فأكرمهم وأحسن لقاءهم، وتركهم أياما، ثم قبض على سونج بن تاج الملوك، وعلى جماعة من الأمراء والمقدمين، وأنهب خيامهم وما فيها واعتقلهم بحلب. وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهى خالية من الجند فاستولى، عليها، ورحل عنها إلى حمص. وكان صاحبها خيرخان «1» بن قراجا فى عسكر عماد الدين، وهو الذى أشار عليه بالقبض على تاج الملوك، فقبض عليه أيضا. ونزل على حمص، وطلب منه أن يأمر أصحابه وولده بحمص بتسليمها، فأرسل إليهم فلم يفعلوا، فحصرها مدة طويلة، ثم رحل عنها وعاد إلى الموصل.

ذكر ملكه حصن الأثارب وهزيمة الفرنج

ذكر ملكه حصن الأثارب وهزيمة الفرنج قال: ولما فرغ عماد الدين من أمر البلاد الشامية، رجع إلى الموصل فأراح واستراح، وأمر أصحابه بالاستعداد فاستعدوا. ورجع إلى حلب وعزم على قصد حصن الأثارب، وهو فيما بين حلب وانطاكية على ثلاثة فراسخ من حلب. وكان من به من الفرنج يقاسمون أهل حلب على جميع أعمالها الغربية حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان، بينها وبين البلد عرض الطريق. فلما علم الفرنج بقصده جمعوا فارسهم وراجلهم واستعدوا وساروا نحوه، فتقدم إليهم والتقوا واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وأسر كثير من فرسانهم، وقتل كثير، وتقدم إلى الحصن فنازله وفتحه عنوة، وعم من فيه بالقتل والأسر وأخربه، وجعله دكا. ثم سار إلى قلعة حارم وهى بالقرب من انطاكية فحصرها، فبذل الفرنج نصف دخل بلد حارم وهادنوه فأجابهم إلى ذلك، وعاد عنهم وقد اشتد أزر المسلمين وصار قصار الفرنج حفظ ما بأيديهم، وذلك فى سنة أربع وعشرين وخمسماية. ولما عاد إلى ديار الجزيرة ملك سرجا «1» ودارا وهما من أعمال ركن الدولة صاحب حصن كيفا.

وفى سنة ست وعشرين سار عماد الدين بالعساكر من الموصل إلى العراق لنصرة السلطان مسعود بعد وفاة السلطان محمود. وكان مسعود قد كاتبه واستنجد به، فسار إليه ومعه الأمير دبيس بن صدقة فسار حتى نزل إلى البادية. وخرج الخليفة المسترشد بالله لحربه- وذلك فى سابع عشرين شهر رجب من السنة- والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فحمل عماد الدين على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فهزمها، فحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر فرأى الناس قد تفرقوا عنه فانهزم، وقتل من العسكر جماعة. ثم سار المسترشد وحاصر الموصل كما ذكرناه فى أخباره. وأن سبب ذلك أن الخليفة أرسل الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفراينى الواعظ إلى عماد الدين برسالة فيها خشونة، زادها الشيخ [أبو الفتوح] زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين وأهانه ولقبه بما يكره. فسار الخليفة فى النصف من شعبان سنة سبع وعشرين ونازل الموصل، ففارقها زنكى ببعض العسكر، وترك بعضه مع نائبه نصير الدين جقز دزدار القلعة. ووصل عماد الدين إلى سنجار وقطع الميرة عن عسكر الخليفة وتخطف من ظفر به من العسكر. وقام الحصار ثلاثة أشهر، ثم رحل الخليفة عنها ولم يظفر منها بشىء. وفى مدة الحصار ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة.

ذكر حصره مدينة آمد وملكه قلعة الصور

ذكر حصره مدينة آمد وملكه قلعة الصور وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية اجتمع عماد الدين أتابك زنكى وتمرتاش صاحب ماردين، وحصرا مدينة آمد فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان صاحب حصن كيفا يستنجده، فجمع عساكره وغيرها وسار نحو آمد ليرحلهما عنها، فالتقوا على بابها، واقتتلوا فى جمادى الآخرة. فانهزم داود وقتل جماعة من عسكره. ولم يبلغ عماد الدين من آمد غرضا، فقصد قلعة الصور «1» من ديار بكر، وحصرها وضايقها، فملكها فى شهر رجب واتصل به ضياء الدين أبو سعيد الكفرتوثى «2» فاستوزره. وكان حسن السيرة عظيم الرياسة والكفاية، والله أعلم. ذكر ملكه قلاع الأكراد الحميدية وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية أيضا استولى [عماد الدين زنكى] على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلعة العقر وقلعة شوش «3»

ذكر حصره مدينة دمشق

وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدى على ولايتها وأعمالها، فلما حضر المسترشد الموصل حضر عيسى إليه وجميع الأكراد معه. فلما رحل المسترشد أمر عماد الدين بحصر قلاع الأكراد فحصرت مدة طويلة، وقوتل من بها إلى أن ملكت فى هذه السنة، فاطمأن حينئذ أهل السواد المجاورين لهذه القلاع، لأنهم كانوا مع الأكراد فى ضيق عظيم من نهب أموالهم. وفيها صلح أمر زنكى مع الخليفة. ذكر حصره مدينة دمشق وفى سنة تسع وعشرين وخمسماية نازل عماد الدين أتابك زنكى مدينة دمشق، وحصرها فى جمادى الأولى. وكان سبب ذلك أن صاحبها شمس الملوك كان قد كتب إليه يستدعيه ليسلم إليه البلد، فسار إليها، فقتل شمس الملوك قبل وصوله وملك أخوه شهاب الدين محمود كما ذكرناه. فاستمر فى مسيره فحاصرها. فأتاه وهو فى الحصار رسول الخليفة بالخلع، ويأمره بمصالحة صاحب دمشق والرحيل عنها فصالحهم، وخطب له بدمشق ورحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة. وفى سنة ثلاثين وخمسماية استنصر الخليفة الراشد بالله بعماد الدين على السلطان مسعود كما ذكرناه فى أخبار الدولة العباسية فجاء إليه هو وأصحاب الأطراف إلى بغداد. وكان بين الخليفة والسلطان ما ذكرناه من غلبة السلطان مسعود ومسير الخليفة إلى

ذكر غزاة العسكر الأتابكى إلى بلاد الفرنج

الموصل مع عماد الدين، وقد شرحنا ذلك مبينا فى أخبار الدولة العباسية، فلا فائدة فى إعادته، وإنما نبهنا عليه فى هذا الموضع جريا على القاعدة. ولما خلع الراشد وبويع للمقتضى «1» لأمر الله، أرسل إليه عماد الدين محمد بن عبد الله الشهرزورى، فحضر إلى الديوان، فأمر الخليفة أن يعطى أتابك زنكى صريفين «2» ودرب هرون وجرّى ملكا، وهى من خاص الخليفة، وزاد فى ألقابه وقال: «هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون لهم نصيب من خاص الخليفة.» فعظم بذلك شأنه، وبايع للمقتفى لأمر الله وخطب له بالموصل. ذكر غزاة العسكر الأتابكى الى بلاد الفرنج وفى شعبان سنة ثلاثين وخمسماية جهز عماد الدين أتابك زنكى عساكره مع الأمير أسوار نائبه بحلب، فقصدوا بلد الفرنج على حين غفلة منهم، وساروا نحو جهة اللاذقية، فنهبوا منها شيئا كثيرا، وقتلوا وأسروا سبعة آلاف أسير ما بين رجل وامرأة وصبى، وغنموا ماية ألف رأس من الدواب، ما بين فرس وحمار وبقر وغنم،

ذكر ملكه قلعة بعرين وهزيمة الفرنج

وغنموا غير ذلك من الأقمشة والعين والحلى ما لا يدخل تحت الإحصاء وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها، ورجعوا بالظفر والغنيمة، والله أعلم ذكر ملكه قلعة بعرين وهزيمة الفرنج وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية حصر عماد الدين زنكى حمص، وهى لصاحب دمشق، فلم ينل منها غرضا. فرحل عنها إلى بعرين «1» وهى للفرنج، فحاصرها فى شوال، وهى من أمنع الحصون وأحصنها، وزحف عليها، فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم وساروا بملوكهم وقمامصتهم وكنودهم «2» ليرحلوه عنها. فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال، فأجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل ناحية، فاحتمى ملوكهم وفرسانهم بحصن بعرين لقربه، فحصرهم. فدخل القسوس والرهبان إلى بلاد الفرنج والروم وما ولاها من بلاد النصرانية مستنفرين على المسلمين، وقالوا: «إن المسلمين ليس لهم همة إلا قصد البيت المقدس» فاجتمعت ملوك النصرانية وصاروا على الصعب والذلول وقصدوا الشام، وجدّ عماد الدين فى الحصار، فقلت الأقوات عندهم، فسألوا الأمان على أن يتركهم يتوجهوا إلى بلادهم. فلم يجب إلى ذلك، إلى أن بلغه أن ملك الروم قد أقبل بجموع الفرنج والنصرانية، فآمنهم على تسليم الحصن وخمسين ألف دينار. ففعلوا ذلك. فلما فارقوا

ذكر ملكه مدينة حمص وغيرها من أعمال دمشق

الحصن بلغهم اجتماع الروم والفرنج بسببهم، فندموا على تسليمه وفتح عماد الدين فى مقامه المعرة وكفر طاب من الفرنج. ولما فتح المعرة حضر إليه أهلها أرباب الأملاك، وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها فاعتذروا أنها عدمت عند ما ملكها الفرنج، فأمر بإحضار دفاتر الديوان بحلب، وكشف منها فمن وجد باسمه خراج فيها عن ملك سلمه إليه أو لعقبه إن كان قد مات. وأعاد الأملاك بهذه الطريق. وهذه غاية فى الإحسان وفى تسهيل البر والخير ونهاية فى العدل وفيها سار [عماد الدين] إلى دقوقا وملكها بعد قتال شديد ذكر ملكه مدينة حمص وغيرها من أعمال دمشق وفى المحرم سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية وصل زنكى إلى حماة، وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل «1» وسار إلى حمص وحصرها وملكها وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه وكان لصاحب دمشق، وبعث إلى شهاب الدين محمود صاحب دمشق يخطب أمه زمرد خاتون ابنة جاولى، فتزوجها وحملت إليه.

ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين

ذكر وصول ملك الروم الى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين كان ملك الروم صاحب القسطنطينية قد دخل إلى البلاد فى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، وخرج على انطاكية وسار إلى أذنه والمصيصة «1» ، وهما بيد ابن لاون الأرمنى «2» صاحب الدروب «3» فحصرها وملكها ورحل إلى عين زربة «4» فملكها عنوة، وملك تل حمدون وحمل أهله إلى جزيرة قبرص، وعمر ميناء اسكندرونه ثم خرج إلى الشام فحصر مدينة انطاكية فى ذى القعدة فصالحه صاحبها ريمند الفرنجى «5» ، فرحل عنها إلى بغراس «6» ودخل ابن ليون فى طاعته. ثم سار إلى الشام فى سنة اثنتين وثلاثين وقصد بزاعة فحصرها وهى مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب، فملكها بالأمان فى

الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وسبى فتنصر قاضيها وجماعة من أهلها وأعيانها نحو من أربعماية نفس. وأقام الروم عشرة أيام يطلبون من اختفى، ودخنوا على من دخل المغاير، فهلكوا. ثم رحل [ملك الروم] إلى حلب ونزل على قويق «1» ومعه الفرنج الذين بساحل الشام، وكان عماد الدين يحاصر حمص فلما بلغه خبرهم، سير طائفة من العسكر ليحفظوا حلب منهم، فلما نزلوا على حلب خرج إليهم أحداث البلد وقاتلوهم قتالا شديدا، فقتل كثير من الروم وجرح كثير، وقتل بطريق عظيم القدر عندهم. فأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى قلعة الأثارب «2» ، فخاف من بها من المسلمين فهربوا عنها فى تاسع شعبان، فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى، ومعهم جمع كثير من الروم يحفظونهم، وساروا. فلما سمع الأمير سوار نائب عماد الدين بحلب بذلك، سار بمن عنده من العسكر إلى الأثارب فأوقع بالروم وقتلهم وخلص الأسرى وعاد إلى حلب. وأما عماد الدين فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية «3» فنزلها، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة، وأقام جريدة. وقصد الروم شيزر، وهى من أمنع الحصون وكانت للأمير أبى المعالى سلطان بن على بن منقذ الكنانى، فنازلوها وحاصروها ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقا

فأرسل صاحبها إلى عماد الدين يستنجده، فسار إليه ونزل على نهر العاصى بينها وبين حماه، فكان يركب بعسكره إلى شيزر ويقفون «1» حيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم. ثم أرسل إلى ملك الروم يقول: «إنكم قد تحصنتم منى بهذه الجبال، فانزلوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقى، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم وإن ظفرتم بى استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها» . ولم تكن له بهم قوة، وإنما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بقتاله وهونوا عليه أمره، فلم يفعل، وقال: «أتظنون أن ليس لهم من العسكر إلا ما ترون، إنما هو يريد أن تلقوه «2» فيأتيه من نجدات المسلمين ما لا يحد» وكان عماد الدين يرسل إلى ملك الروم يقول إن فرنج الشام خائفون منه، ولو فارق مكانه لتخلفوا عنه. ويرسل إلى الفرنج فيقول: «إن ملك ملك الروم من الشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعها» . فاستشعرت كل طائفة من الأخرى. فرحل ملك الروم من شيزر فى شهر رمضان وكان مقامه عليها أربعة وعشرين «3» يوما وترك المجانيق وآلات الحصار كما هى، فسار عماد الدين يتبع ساقة العسكر، فظفر بكثير منهم ممن تخلف.

ذكر ملك عماد الدين بعلبك

ذكر ملك عماد الدين بعلبك وفى ذى القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية ملك [عماد الدين] زنكى مدينة بعلبك وهى لصاحب دمشق. وسبب ذلك أن شهاب الدين محمود صاحب دمشق قتله غلمانه فى هذه السنة كما ذكرنا، وملك بعده أخوه جمال الدين محمد. وكانت والدة محمود زوجة عماد الدين بحلب، فوجدت لذلك وجدا عظيما وحزنت حزنا شديدا وكتبت إلى أتابك زنكى وهو بالجزيرة تعرفه بالحادثة وتطلب أن يقصد دمشق ويطلب ثأر ولدها. فبادر إلى ذلك ولم يتوقف وعبر الفرات عازما على قصد دمشق. فبلغ ذلك صاحبها فاحتاط واستعد، وسار عماد الدين إلى بعلبك فوصل إليها فى العشرين من ذى القعدة، وضيق على أهلها ونصب عليها أربعة عشر منجنيقا ترمى ليلا ونهارا. فأشرف أهلها على الهلاك، فطلبوا الأمان فأمنهم وتسلم المدينة. وبقيت القلعة وبها جماعة من شجعان الأتراك، فلما أيسوا من نصرة معين الدين أتابك صاحب دمشق- وكانت بعلبك له- فطلبوا الأمان، فأمنهم وتسلم القلعة منهم. ثم غدر بهم وصلبهم ولم ينج منهم إلا القليل. فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموه وحذروه ونفروا منه. قال: ولما فتح بعلبك كان لمعين الدين بها جارية وكان يهواها، فأخذها زنكى وسيرها إلى حلب، فلم تزل بها إلى أن قتل زنكى، فسيرها نور الدين إلى معين الدين، فكانت أعظم أسباب المودة بينهما. قال:

ولما فرع عماد الدين من بعلبك سار إلى دمشق فى شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وخمسماية ونزل على داريا «1» ، فقاتله أهل دمشق فكسرهم وتقدم إلى المصلى «2» فقاتلوه مرة بعد أخرى. كل ذلك والظفر له عليهم. وأرسل إلى صاحب دمشق يبذل له بعلبك وحمص وغيرها مما يختاره من البلاد، فمال إلى تسليمها، فحذره أصحابه وخوفوه عاقبة غدره، فامتنع من الإجابة فعاد عماد الدين القتال والزحف. واتفقت وفاة جمال الدين صاحب دمشق فى ثامن شعبان، وولى بعده ابنه مجير الدين أبق، فاشتد طمع عماد الدين وزحف زحفا شديدا، فلما رأى أنابك [أنر] «3» أن عماد الدين لا يندفع عنهم، راسل الفرنج واستنصر بهم، فاجتمعت الفرنج وعزموا على المسير لدفعه عن دمشق، فعلم عماد الدين بذلك فتوجه إلى حوران فى خامس «4» عشر رمضان عازما على لقاء الفرنج قبل أن يجتمعوا مع الدماشقة. فلما بلغ الفرنج خبره لم يتحركوا من بلادهم، فعاد إلى حصار دمشق ونزل بعذرا «5» شماليها فى سادس شوال، وأحرق عدة من قرى المرج والغوطة، ورحل إلى بلاده. ثم وصل الفرنج إلى دمشق، وكان معين الدين قد بذل لهم أنه يحاصر بانياس ويسلمها إليهم، وكانت فى طاعة زنكى. ففعل

ذكر ملكه شهرزور وأعمالها

معين الدين ذلك وسلمها للفرنج. فلما بلغ عماد الدين ذلك رجع إلى بعلبك وفرق عساكره للإغارة على بلد حوران وأعمال دمشق. وسار جريدة، فنزل على دمشق بخواصه فى آخر الليل، ولم يعلم به أحد من أهلها. فلما أصبح الناس ورأوا عسكره ارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور، وخرجوا إليه فقاتلوه، فلم يمكنه الإقدام على القتال لتفرق عساكره، فأحجم عنهم وعاد إلى مرج راهط، وأقام ينتظر عود عسكره، فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم فلما اجتمعوا رحلوا إلى بلاده. ذكر ملكه شهرزور وأعمالها وفى سنة أربع وثلاثين وخمسماية ملك [عماد الدين زنكى] شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركمانى. وكان حكمه نافذا على سائر التركمان، قاصيهم ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضا؛ وتحاماه الملوك، وأتاه التركمان من كل فج عميق. فلما كان فى هذه السنة سير أتابك عماد الدين عسكرا، فجمع قفجاق أصحابه ولقيهم، واقتتلوا فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش الأتابكى فى أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع وبذلوا الأمان لقفجاق فسار إليهم، وانخرط فى سلك العسكر وسار فى الخدمة هو وابنه من بعده. وفى سنة خمس وثلاثين وخمسماية كان بين أتابك زنكى وبين داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا حرب شديدة انهزم فيها

ذكر ملك عماد الدين زنكى قلعة آشب وغيرها من بلاد الهكارية

داود، وملك زنكى من بلاده قلعة بهمود «1» ، وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل. وفيها خطب له بمدينة آمد وصار صاحبها فى طاعته، وكان قبل ذلك موافقا لداود على قتال زنكى فلما رأى قوة زنكى سار معه. وفيها أغار العسكر الأتابكى من حلب على بلد الفرنج، فأخربوا ونهبوا وظفروا بسرية للفرنج، فقتلوا منهم وكان عدة من قتل سبعماية رجل. توفى ضياء الدين أبو سعيد الكفرتوثى وزير عماد الدين أتابك زنكى، وكان رحمه الله حسن السيرة كريما رئيسا ذكر ملك عماد الدين زنكى قلعة آشب وغيرها من بلاد الهكارية «2» وفى سنة سبع وثلاثين وخمسماية أرسل عماد الدين جيشا إلى قلعة آشب «3» ، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، وبها أموالهم وأهلوهم» . فحصرها الجيش الأتابكى وضيق على من بها وملكها، فأمر عماد الدين بهدمها، وبنى القلعة العمادية وكانت العمادية حصنا عظيما من حصونهم فخرّبوه لكبره، لأنه كبير جدا، فعجزوا عن حفظه فخربت الآن آشب وعمرت العمادية. والعمادية

ذكر صلحه والسلطان مسعود

نسبة إلى عماد الدين زنكى. وكان نصير الدين جقر نائب عماد الدين بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية. ذكر صلحه والسلطان مسعود وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته، وجمع العساكر وتجهز لقصد بلاد زنكى، وكان قد حقد عليه واتهمه أنه أفسد عليه أصحاب الأطراف وحرضهم على الخروج على السلطان. فلما بلغ زنكى ذلك أرسل إلى السلطان يستعطفه ويستميله، وأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنبارى فى تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار، يحملها عماد الدين إلى السلطان ليعود عنه، فحمل منها عشرين ألف دينار أكثرها عروضا. ثم تنقلت الأحوال بالسلطان حتى احتاج إلى مدارة زنكى، فأطلق له ما بقى. ومن جيد الرأى ما فعله عماد الدين زنكى فى هذه الحادثة، فإن ولده الأكبر سيف الدين غازى كان لا يزال عند السلطان- سفرا وحضرا- بأمر والده، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل، وأرسل إلى نائبه بالموصل أن يمنع ابنه المذكور من الدخول. فلما هرب غازى أرسل إليه يأمره بالعود إلى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولا إلى السلطان يقول: «إن ولدى هرب خوفا لما رأى تغير السلطان على، وقد أعدته، ولم أجتمع به فإنه مملوكك والبلاد لك» فوقع ذلك من السلطان بموقع عظيم، ومال إلى زنكى

ذكر ملكه بعض ديار بكر

ذكر ملكه بعض ديار بكر وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية سار عماد الدين زنكى إلى ديار بكر، فملك بها عدة حصون منها مدينة طنزة «1» ومدينة أسعرد «2» ومدينة المعدن التى يعمل بها النحاس، ومدينة حيزان «3» وحصن الرونق «4» ، وحصن قطليس «5» ، وحصن باناسا «6» وحصن ذى القرنين وغير ذلك. وأخذ من بلاد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين والموزر «7» وتل موزر «8» وغيرها من حصون شبختان «9» ، ورتب أمور الجميع وجعل فيها من يحفظها. وقصد مدينة آمد وحانى. «10» فحصرهما وأقام بتلك الناحية. وفيها سير عسكرا إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها.

ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما هو بيد الفرنج

ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما هو بيد الفرنج وفى سادس جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسماية فتح عماد الدين أتابك زنكى مدينة الرها من حصون الفرنج الجزيرية. وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة وكانت مملكة الفرنج بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها وسروج والبيرة وسن بن عطير «1» وحملين والموزر والقرادى وغير ذلك. وكانت هذه الأعمال وغيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين «2» الفرنجى، وكان صاحب رأى الفرنج والمقدم على عساكرهم، لما فيه من الشجاعة والمكر وكان عماد الدين يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع من الفرنج بها من يمنعها ويتعذر عليه ملكها لما هى عليه من الحصانه، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ إلى قصد بلادهم. فاطمأنوا وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاده الغربية. فبلغ أتابك زنكى ذلك فنادى فى العسكر بالرحيل إلى الرها وجمع الأمراء عنده وقدم الطعام وقال: «لا يأكل معى على مائدتى هذه إلا من يطعن معى غدا فى باب الرها.» فلم يتقدم غير أمير واحد وصبى لا يعرف، لما يعلمو من إقدام زنكى وشجاعته، وأن أحدا لا يقدر على مساواته فى الحرب. فقال الأمير لذلك الصبى:

«ما أنت فى هذا المقام» فقال أتابك زنكى: «دعه فو الله إنى أرى وجهه لا يتخلف عنى.» وسار والعسكر معه فوصل إلى الرها، فكان عماد الدين أول من حمل على الفرنج والصبى معه، وحمل فارس من الفرنج على زنكى عرضا فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم زنكى. ونازل البلد وقاتل عليه ثمانية وعشرين يوما وملكه عنوة، وملك القلعة، ونهب الناس الأموال، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء. فلما رأى عماد الدين البلد أعجبه ورأى أن تخريب مثله لا يجوز فى السياسة، فنودى بالعسكر برد ما أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، ورد ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا ذلك وعاد البلد إلى حالته الأولى، وجعل فيه عسكرا يحفظه وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التى كانت بيد الفرنج شرقى الفرات ما عدا البيرة لحصانتها. وحكى ابن الأثير رحمه الله فى تاريخه الكامل قال: حكى لى بعض العلماء بالأنساب والتواريخ، قال: كان صاحب صقلية قد أرسل سرية إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال فنهبوا وقتلوا. وكان عند صاحب صقلية رجل مسلم كان يكرمه ويحترمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان، حتى كان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب. ففى بعض الأيام كان جالسا فى منظرة يشرف على البحر، وإذا بموكب لطيف قد أقبل وأخبر من فيه أن عسكره دخلوا بلاد الإسلام وظفروا وغنموا وقتلوا. وكان المسلم

ذكر مقتل نصير الدين جقر، وولاية زين الدين على كورجك

إلى جانبه، وقد أعفى فقال له الملك: «يا فلان ألا تسمع إلى ما يقولون» قال: «لا» قال: «إنهم يخبرون بكذا وكذا، أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها.» قال: «كان قد غاب عنهم وشهد فتح الرها، فقد فتحها المسلمون الآن» فضحك من هناك من الفرنج فقال الملك: «لا تضحكوا فما يقول والله إلا الحق» فوصل بعد أيام الخبر من فرنج الشام بفتحها. قال ابن الأثير: وحكى لى جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنسانا صالحا رأى الشهيد زنكى فى منامه فقال له: «ما فعل الله بك» قال: «غفر لى بفتح الرها» . ذكر مقتل نصير الدين جقر، وولاية زين الدين على كورجك كان مقتله فى ذى القعدة تسع وثلاثين وخمسماية. وسبب ذلك أنه كان ينوب عن عماد الدين أتابك زنكى بالموصل وسائر الأعمال التى شرقى الفرات. وكان الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجى ولد السلطان محمود عند زنكى. وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود وأصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك. وكان ألب أرسلان فى هذه السنة بالموصل، ونصير الدين يحضر إلى خدمته فى كل يوم، فحسن له بعض المفسدين طلب الملك وقالوا له: «إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها، ولا يبقى مع أتابك زنكى فارس واحد» فمال إلى ذلك. فلما دخل نصير الدين إليه وثب إليه من عنده فقتلوه، وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظنا

منهم أنهم يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلاد، فلما رأى أصحابه الرأس قاتلوا من بالدار مع الملك واجتمع معهم الخلق الكثير، فدخل القاضى تاج الدين يحيى بن الشهرزورى إلى الملك ألب أرسلان وخدعه، وكان فيما قاله حين رآه منزعجا: «يا مولانا لم تحرد من هذا الكلب؟ هو وأستاذه «1» مماليكك، الحمد لله الذى أراحنا منه ومن صاحبه على يديك» ثم قال له: «وما الذى يقعدك فى هذه الدار؟ قم لتصعد إلى القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند وليس دون البلاد بعد الموصل مانع» فقام معه وركب وأصعده إلى القلعة، فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال، فتقدم إليهم القاضى تاج الدين فقال: «افتحوا الباب وتسلموه وافعلوا ما أردتم» ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضى إلى القلعة ومعهما من أعان على قتل نصير الدين. فلما صاروا بالقلعة سجنوا كلهم إلا القاضى. وبلغ الخبر عماد الدين وهو يحاصر قلعة البيرة، وقد أشرف على فتحها، فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، ففارق البيرة وأرسل زين الدين على بن بكتكين «2» إلى قلعة الموصل واليا على ما كان نصير الدين يتولاه. وسار عماد الدين عن لبيرة، فخاف من بها من الفرنج أن يعود إليهم. فسلموها لصاحب

ذكر مقتل عماد الدين زنكى

ماردين. وملكها المسلمون. فإن لم يكن عماد الدين زنكى فتحها فهو سبب فتحها. ذكر مقتل عماد الدين زنكى كا مقتله رحمه الله لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسماية. وذلك أنه كان يحاصر قلعة جعبر، وكانت بيد سالم بن مالك العقيلى منذ سلمها السلطان ملكشاه إلى أبيه، عوضا عن قلعة حلب كما تقدم فى أخبار السلجقية. فحاصرها عماد الدين الآن وأقام عليها إلى هذا التاريخ، فدخل عليه نفر من مماليكه فقتلوه غيلة، وهربوا إلى القلعة ولم يشعر أصحابه. فلما صعد أولئك النفر إلى القلعة صاح من بها بالعسكر، وأعلموهم بقتل صاحبهم، فبادر أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق. ثم مات رحمه الله تعالى وكان عمره نحوا من أربع «1» وستين سنة، ومدة ملكه منذ ولى الموصل وإلى أن قتل عشرين سنة. وكان حسن الصورة أسمر اللون، وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة لا يقدر القوى معه على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابا من الظلم، وتنقل الولاة، ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلات بأهلها وغير أهلها. وكان ينهى أصحابه عن اقتناء الأملاك ويقول: «مهما كانت البلاد لنا فأى حاجة لكم إلى أملاك؟ فإن خرجت عن أيدينا فالأملاك تذهب معها، ومتى

ذكر ملك سيف الدين غازى ابن الشهيد عماد الدين أتابك زنكى

صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية، وتعدوا عليهم، وغصبوهم أملاكهم، والإقطاعات تفنى أصحاب السلطان عنها» «1» وخلف من الأولاد سيف الدين غازى وهو أكبر أولاده ونور الدين محمود وهو الملك العادل، وقطب الدين مودود، وهو أبو الملوك بالموصل، ونصير الدين أمير أميران. فانقرض عقب سيف الدين من الذكور والإناث، ونور الدين من الذكور، وبقى فى عقب قطب الدين على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: ولما قتل أتابك زنكى كان ولده نور الدين محمود معه، فأخذ خاتمه من يده وسار إلى حلب فملكها. وسنذكر أخباره مفصلة بعد سيف الدين غازى، والله أعلم. ذكر ملك سيف الدين غازى ابن الشهيد عماد الدين أتابك زنكى قال: لما قتل أتابك زنكى كان الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود معه، فاجتمعت العساكر عليه وكان الحاكم على دولة زنكى والمدبر لها من أرباب الأقلام جمال الدين محمد بن على بن منصور الإصفهانى شبه الوزير، ومعه الحاجب صلاح الدين محمد بن أيوب الباغسيانى فاتفقا على حفظ الملك لأولاد صاحبهم عماد الدين وتحالفا على ذلك، وركبا إلى خدمة الملك ألب أرسلان، وخدماه،

وضمنا له فتح البلاد، وقالا له: «إن أتابك زنكى إنما كان الناس يطيعونه لأنه كان نائبك» فقبل منهما ذلك وظن صدقهما ومناصحتهما وقربهما، وأرسلا إلى زين الدين على بن مظفر الدين صاحب اربل بالموصل يعرفانه «1» بوفاة الشهيد ويأمرانه «2» أن يرسل إلى ابنه سيف الدين غازى ليحضر إلى الموصل، وكان بشهرزور وهى إقطاعه من قبل أبيه، ففعل ذلك ووصل إلى الموصل. وأشار جمال الدين على الملك بإرسال الحاجب صلاح الدين إلى حلب ليدبر أمر نور الدين فأمره بالمسير إليها فسار، وكانت حماه إقطاعه، وانفرد جمال الدين الملك ألب أرسلان فقصد به الرقة، واشتغل بالشرب واللهو واستمال جمال الدين العسكر، وحلفهم لسيف الدين غازى، وصار يأمر من تخلف بالمسير إلى الموصل هاربا من الملك، وبقى جمال الدين يسير بالملك من الرقة إلى سنجار، ويخذله ويطعمه، وما زال حتى انتهى به إلى الموصل. وأرسل الأمير عز الدين الدبيسى إلى الملك فى عسكر، والملك فى نفر يسير، فأخذه وأدخله الموصل، فكان آخر العهد به. فاستقر أمر سيف الدين بالموصل واستوزر جمال الدين وأرسل إلى السلطان مسعود فى إمرة الموصل فأمره على البلاد، وأرسل له الخلع. وكان سيف الدين قد تقدمت له خدمة على السلطان مسعود ولازمه سفرا وحضرا فى أيام زنكى. قال: ولما استتب الأمر لسيف الدين غازى بالموصل عبر إلى الشام لينظر فى أمور البلاد، ويقرر قاعدة بينه وبين أخيه نور الدين،

ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعله سيف الدين غازى

ولما عبر الفرات لم يحضر نور الدين إليه وخافه فراسله واستماله بحسن سياسته، فاستقرت الحال بينهما أن يجتمعا خارج العسكر السيفى، وكل منهما فى خمسمائة فارس. فسار نور الدين يوم الميعاد من حلب بهذه العدة، وسار سيف الدين من معسكره فى خمسة فوارس، فلما رآه نور الدين ترجل وقبل الأرض، وأعاد أصحابه فاجتمعا وتحالفا واتفقا أحسن اتفاق، واستقر نور الدين بحلب وما معها، وسيف الدولة بالموصل وما معها. ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعله سيف الدين غازى وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية وصل ملك الألمان «1» فى جمع كثير من الفرنج وعزم على ملك الشام، وظن أنه يملكه لا محالة لكثرة أصحابه، واجتمع عليه من بالشام والسواحل من الفرنج. ووصل إلى دمشق وحاصرها، ونزل الميدان الأخضر، فأيقن أهلها بخروجها عن الإسلام. وكان ملكها يوم ذاك مجير الدين أبق بن محمد ابن بورى بن طغرتكين، وليس له من الأمر شىء والحكم فى البلد لأتابكه معين الدين [أنر] مملوك جد أبيه، فأرسل إلى سيف الدين غازى يستنجده، فجمع عساكره والعساكر الحلبية، وسار إلى دمشق، فخافه الفرنج. ثم راسل فرنج الساحل وأوعدهم بحصر بانياس، فاجتمعوا بملك الألمان وقالوا له: «إن هذا ملك بلاد المشرق

ذكر وفاة سيف الدين غازى ابن عماد الدين زنكى

قد قدم» وخوفوه عاقبة أمره، فرحل ملك الألمان إلى بلاده، وتسلم الفرنج بانياس، كما وقع الاتفاق عليه، وعاد سيف الدين إلى الموصل. ذكر وفاة سيف الدين غازى ابن عماد الدين زنكى كانت وفاته فى أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسماية بالموصل لمرض حاد، ودفن بمدرسته التى بناها بالموصل. فكانت ولايته ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما، وعمره نحوا من أربع «1» وأربعين سنة. وخلف ولدا ذكرا رباه عمه نور الدين محمود أحسن تربية، وزوجه بابنة عمه قطب الدين، ولم تطل مدته، ومات فى عنفوان «2» شبابه، وانقرض عقب غازى بوفاته. قال: وكان سيف الدين غازى يمد لعسكره فى كل يوم سماطا كبيرا، طرفى النهار يكون فى سماطه للغذاء مائة رأس من الغنم، وأمر الأجناد أن يركبوا بالسيوف والدبابيس، فاقتدى به أصحاب الأطواف وهو أول من حمل على رأسه السنجق من عمال الأطراف، وبنى المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل، ووقفها على طائفتى الشافعية والحنفية، وبنى رباط الصوفية بالموصل. ولم تطل أيامه حتى يفعل ما فى نفسه من وجوه البر، رحمه الله. وسنذكر إن شاء الله تعالى من ملك الموصل بعده إذا انقضت أخبار الشهيد نور الدين وولده.

ذكر أخبار الملك العادل نور الدين أبى القاسم محمود ابن أتابك عماد الدين أبى سعيد زنكى بن أقسنقر

ذكر أخبار الملك العادل نور الدين أبى القاسم محمود ابن أتابك عماد الدين أبى سعيد زنكى بن أقسنقر قد ذكرنا أنه لما مات والده رحمه الله فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسماية، توجه بخاتمه إلى حلب وملكها، وذكرنا أيضا ما كان بينه وبين أخيه سيف الدين غازى رحمه الله، وما اتفقا عليه، فلنذكر من أخباره خلاف ذلك. ولنبدأ بغزواته وفتوحاته؛ ثم نذكر ما استولى عليه من الممالك وغير ذلك. ذكر الغزوات والفتوحات النورية وما استنقذة من أيدى الفرنج ذكر عصيان مدينة الرها وفتحها الفتح الثانى ونهبها قال: لما قتل أتابك زنكى كان جوسكين الفرنجى صاحب الرها فى ولايته وهى تل باشر، فراسل عامة أهل الرها من الأرمن وحملهم على العصيان والامتناع على المسلمين، فأجابوه إلى ذلك. فسار فى عساكره إلى الرها وملك البلد، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها فسار نور الدين، وجد السير إليها. فلما قاربها هرب جوسكين عنها، وعاد إلى بلده، ودخل نور الدين البلد. ونهب المدينة، وسبى أهلها، فخلت منهم ولم يبق بها إلا القليل، وذلك فى سنة إحدى وأربعين وخمسماية. وفى سنة اثنتين وأربعين وخمسماية،

ذكر فتح حصن العريمة

فتح [نور الدين] مدينة ارتاح «1» بالسيف، ونهبها وحصر ما يوله «2» وبصر فوث «3» وكفر لاثا «4» ، وكان الفرنج بعد قتل أتابك زنكى قد طمعوا وظنوا أنهم يستردون ما أخذ منهم فخاب ظنهم. ذكر فتح حصن العريمة وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية فتح حصن العريمة، وهو من أعمال طرابلس. وكان ملك الألمان لما سار عن دمشق وجه إلى العريمة ولد ألفتش «5» صاحب ظليطه، وهو من أولاد أكابر ملوك الفرنج. وكان جده هو الذى فتح طرابلس، فملك العريمة، وأظهر أنه يريد أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين، وإلى معين الدين صاحب دمشق أن يقصدا حصن العريمة ويملكاه. فسار نور الدين من حلب ومعين الدين من دمشق واستمدا سيف الدين غازى، فأمدهما بعسكر كثيف مع الأمير عز الدين الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر. فنازلوا الحصن، وحصروه وبه ولد ألفتش، فاستسلم من به بعد متناع، وملكه المسلمون، وأخذوا كل من فيه من فارس وراجل وصبى وامرأة. وكان ولد ألفتش ممن أسر وأخربوا الحصن ثم عادوا

ذكر انهزام الفرنج بيغرا

ذكر انهزام الفرنج بيغرا «1» وفى سنة ثلاث وأربعين أيضا، اجتمع الفرنج لقصد حلب: فسار إليهم الملك العادل نور الدين بعسكره، فالتقوا بيغزى، واقتتلوا قتالا شديدا، أجلت الحروب عن ظفر الملك العادل، وانهزام الفرنج وأسر جماعة من مقدميهم. ولم ينج من ذلك الجمع إلا اليسير. وأرسل نور الدين من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم. وفى هذه الوقعة يقول ابن القيسرانى من قصيدة أولها. يا ليت أن الصد مصدود ... أو لا، فليت النوم مردود جاء منها وكيف لا يثنى على عيشنا المحم ... ود والسلطان محمود وصارم الإسلام لا ينثنى ... إلا وشلو الكفر مقدود مكارم لم تك «2» موجودة ... إلا ونور الدين موجود وكم له من وقعة يومها ... عند ملوك الكفر مشهود

ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية

ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وفى سنة أربع وأربعين وخمسماية، غزا نور الدين بلاد الفرنج، من ناحية انطاكية وقصد حصن حارم «1» وهو للفرنج، وحصره وخرب ربضه، ونهب سواده ثم رحل إلى حصن إنب «2» فحصره، فاجتمعت الفرنج لقتاله مع البرنس، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الفرنج وقتل البرنس «3» وجماعة كثيرة من أصحابه، وأسر خلق كثير. وكان البرنس من عتاة الفرنج. ولما قتل ملك بعده انطاكية ابنه بيمند» ، ثم غزاهم نور الدين غزوة ثانية، فقتل وأسر، وكان ممن أسر البرنس الثانى زوج أم بيمند صاحب انطاكية. وكان قتل البرنس [ريموند] عظيما عند الطائفتين وأكثر الشعراء مدح نور الدين بهذا الظفر، فكان ممن قال فيه ابن القيسرانى الكاتب قصيدته المشهورة وهى: هذى العزائم لاما تدعى القضب ... وذى المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللائى متى خطبت «5» ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب صافحت يابن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعى درنها تعب «6»

ذكر فتح حصن أفامية

ما زال جدّك يبنى كل شاهقة ... حتى بنى قبة أوتادها الشهب أغرت سيوفك بالإفرنج «1» راجفة ... فؤاد روميّة الكبرى لها يجب ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها «2» الصلب وانحطت لها الصلب طهرت أرض الأعادى من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب ذكر فتح حصن أفامية وفى سنة خمس وأربعين وخمسماية فتح الملك العادل نور الدين حصن أفامية من الفرنج، وهو مجاور شيزر وحماة، وهو من أحصن القلاع وأمنعها، فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا نحوه ليرحلوه، فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه من الذخائر والسلاح وشحنة بالرجال. وسار عنه فى طلب الفرنج، فعدلوا عن طريقه وسألوه الهدنة، وعاد مظفرا منصورا. ذكر أسر جوستكين وفتح بلاده كان نور الدين قد جمع عساكره فى سنة ست وأربعين وخمسماية وسار إلى بلاد جوستكين الفرنجى وهى شمالى حلب، وعزم على محاصرتها. وكان جوستكين فارس الفرنج وطاغيتهم، صاحب رأى وشجاعة، فجمع وأكثر، وسار نحو نور الدين والتقوا واقتتلوا،

فكانت الهزيمة على المسلمين، وقتل كثير منهم. وأسر سلحدار نور الدين فيمن أسر، فأخذ جوستكين سلاحه، وأرسله إلى الملك مسعود قلج صاحب الروم، وقال: «هذا سلاح زوج ابنتك وسآتيك بعده بما هو أعظم منه» فأهم نور الدين ذلك وعظم عليه، وعلم أنه لا يتمكن من جوستكين فى حرب، لأنه إما أن يحارب أو يحتمى بحصونه. فجعل عليه العيون من التركمان، ووعدهم إن أسروه وأتوا به أو برأسه بمواعيد كثيرة. فرصدوه إلى أن خرج إلى الصيد، وأسروه فصالحهم على مال يؤديه إليهم، فسير فى إحضار المال إليهم فجاء بعضهم إلى أبى بكر بن الداية، نائب نور الدين بحلب، وأخبره بالقضية. فسير عسكرا مع من حضر إليه بالخبر، وكبس التركمان وأخذوا جوستكين أسيرا. وكان من أعظم الفتوحات: وأصيبت النصرانية كافة بأسرها «1» ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها، وهى تل باشر وعين تاب وإعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البادة وكفر سود، وكفر لاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعماله فى مدة يسيرة. واجتمع الفرنج فى سنة سبع وأربعين، وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو بدلوك، فلما قربوا منه رجع إليهم واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر له وقتل وأسر منهم. وعاد إلى دلوك فملكها. وكان نور الدين إذا فتح حصنا من هذه الحصون شحنه بما يحتاج إليه من الرجال والسلاح والذخائر وغيرها.

ذكر حصر قلعة حارم وفتحها

ذكر حصر قلعة حارم وفتحها وفى سنة إحدى وخمسين وخمسماية حصر نور الدين قلعة حارم وشدد الحصار، فصالحه الفرنج على نصف أعمال حارم، وصالحهم ورحل عنهم ثم فتحها فى شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسماية. ذكر ملكه بانياس وما قرره على طبرية وأعمالها وفى سنة تسع وخمسين ملك حصن بانياس، وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسماية، كما قدمنا. فنازله، فجمع الفرنج لقصده، فلم يكمل جمعهم إلا وقد ملك الحصن وشحنه بالرجال والذخائر، ثم شاطر الفرنج على أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التى لم يشاطرهم عليها فى كل سنة ما لا يحملونه إليه، والله أعلم. ذكر فتح المنيطرة والمنيطرة فيما بين طرابلس وبعلبك وهى الآن من الأعمال المضافة إلى المملكة الطرابلسية. فلما كان فى سنة إحدى وستين وخمسماية، سار نور الدين إليها جريدة، وملكها وأعجل الفرنج عن الاجتماع لرده، وسبى وغنم، فجاء الفرنج بعد أن ملكها فأيسوا منها، ورجعوا عنها، والله أعلم.

ذكر فتح صافيثا وعريمة

ذكر فتح صافيثا وعريمة وفى سنة اثنتين وستين وخمسماية جمع نور الدين العساكر وسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل واجتمعا على حمص، فدخل بالعساكر إلى بلاد الفرنج بالساحل واجتاز على حصن الأكراد «1» ، فأغاروا ونهبوا وسبوا. وقصدوا عرقة «2» فنازلوها وحصروها، وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها. وسارت عساكر المسلمين فى بلادهم يمينا وشمالا تغير وتخرب، وفتحوا العريمة، وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها شهر رمضان، وكان الفرنج فى سنة ثمان وأربعين قد كبسوا عسكر نور الدين بالبقيعة على حين غفلة من العسكر، فنالوا من المسلمين منالا عظيما، فجعل نور الدين فى مقابلة ذلك فتح حارم وبانياس والمنيطرة وصافيثا وعريمة وتخريب بلادهم، وأدرك ثأره عن غير بعد. ثم سار بعد شهر رمضان إلى بانياس، وقصد العبور إلى بيروت، فجرى بين العسكر اختلاف أوجب رجوعه. وأعطى قطب الدين فى هذه السنة الرقة، وأعاده إلى بلده. هذا ما فتحه رحمه الله من بلاد الفرنج، فلنذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية.

ذكر ما استولى عليه من البلاد الاسلامية

ذكر ما استولى عليه من البلاد الاسلامية فى سنة أربع وأربعين وخمسماية، استولى الملك العادل [نور الدين] على سنجار، وكانت بيد أخيه قطب الدين، ملكها بعد وفاة سيف الدين غازى، ثم حصل الاتفاق بينهما على أن يكون نور الدين صاحب حلب وحمص والرحبة والشام؛ وقطب الدين بالموصل وديار الجزيرة، وسلم سنجار لأخيه قطب الدين، وأخذ نور الدين ما كان من الذخائر بسنجار، وكانت كثيرة جدا، وعاد إلى حلب وقد حصل الاتفاق بينه وبين أخيه. ذكر ملكه مدينة دمشق وفى سنة تسع وأربعين وخمسماية ملك دمشق من مجير الدين أبق بن محمد بن بورى بن طغرلتكين. وسبب قصده لها أن الفرنج ملكوا فى السنة التى قبل هذه السنة مدينة عسقلان، واستولوا على تلك النواحى، فلم يتمكن نور الدين من غزوهم ودفعهم، لأن دمشق تحول بينه وبينهم. ولم تمكنه مفاجأة صاحبها لعلمه أنه إن سار إليها راسل صاحب دمشق الفرنج واستنجد بهم. وكان قد استقر لهم ضريبة على دمشق تحمل إليهم فى كل سنة، ويحضر رسلهم لقبضها، فزاد استيلاؤهم إلى أن أخذوا كل من فيها من الغلمان والجوارى، بحيث أنهم يطلبون الغلام أو الجارية ويخيروه، فان أختار الرجوع إليهم أخذوه، اختار مولاه أو امتنع؛ وان اختار

ذكر ملكه بعلبك

المقام عند مواليه تركوه. فأهم ذلك نور الدين، وخاف أن الفرنج متى استولت على دمشق ملكوا الشام أجمع، فأخذ فى إعمال الحيلة وراسل مجير الدين صاحبها وهاداه وداهنه واستماله. وبقى يوقع بينه وبين أمرائه، فكتب إليه يقول: «إن فلانا الأمير قد كاتبنى فى تسليم دمشق» فقبض عليه مجير الدين حتى اختل أمر عسكره وضعف. ثم راسل نور الدين الأحداث من الأمراء بدمشق، ووعدهم الجميل فمالوا إليه ووعدوه بتسليمها له، فسار إليها. فلما نازلها كاتب مجير الدين الفرنج وبذل لهم بعلبك ليمنعوا نور الدين عنه، فحشدوا فارسهم وراجلهم، فلم يتكامل جمعهم إلا وقد ملك نور الدين دمشق، سلمها له الأمراء، ودخلها من الباب الشرقى. وتحصن صاحبها بالقلعة، فبذل له نور الدين حمص، فرضى وسلم القلعة وسار إلى حمص، ثم عوضه عن حمص مدينة بالس فامتنع، وتوجه إلى بغداد ومات بها. وفى سنة اثنتين وخمسين، ملك نور الدين حصن شيزر من آل منقذ وكانت الزلزلة قد هدمت أسواره فعمرها والله أعلم. ذكر ملكه بعلبك وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسماية ملك بعلبك وقلعتها. وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعى، منسوب إلى البقاع البعلبكى، كان صاحب دمشق قد ولاه إياها، فلما ملك نور الدين دمشق لم تمكنه مشاححته لقربه من الفرنج، فطاوله إلى الآن وملكها منه.

ذكر ملكه قلعة جعبر

ذكر ملكه قلعة جعبر وفى سنة أربع وستين وخمسماية ملك [نور الدين] قلعة جعبر من صاحبها شهاب الدين مالك بن على بن مالك العقيلى وكانت بيده وبيد آبائه كما تقدم. وكان السبب فى ملكه لها أن صاحبها سار إلى الصيد، فأسره بنو كلاب «1» وجاؤوا به إلى نور الدين فى شهر رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله نور الدين وأكرمه فى اعتقاله. وأخذ فى طلبها باللين، فلم يوافق على إعطائها ثم أخذه بالشدة فلم يوافق، فسير الجيوش لحصرها، فحوصرت مدة فلم يظفر منها بطائل، فعاود صاحبها بالملاطفة، وعوضه عنها سروج وأعمالها والملاحة التى من بلد حلب وباب بزاعه. وعشرين ألف دينار معجلة. فقبل العوض وسلم القلعة. وهذه القلعة فى عصرنا هذا إلى سنة أربع عشرة وسبعماية خرابا لا باب عليها والله أعلم. ذكر ملكه الديار المصرية وفى سنة أربع وستين وخمسماية ملك أسد الدين شيركوه الديار المصرية بجيوش الملك العادل نور الدين، وهى السفرة الثالثة له إليها من قبل نور الدين ونذكر ذلك مفصلا فى أخبار الدولة الأيوبية، ودامت الخطبة بها للملك العادل مدة حياته، وصدرا من أيام ولده الملك الصالح إسمعيل.

ذكر ملكه الموصل

ذكر ملكه الموصل وفى سنة ست وستين وخمسماية ملك الموصل بعد وفاة أخيه قطب الدين، وأقر عليها سيف الدين غازى بن قطب الدين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار غازى. وأطلق نور الدين سائر المكوس بالموصل وبسائر البلاد. وجاءته الخلع من الخليفة المتسنصر بالله، فلبسها، ثم خلعها على سيف الدين غازى ابن أخيه. وأمر ببناء الجامع النورى بالموصل، فبنى وأقام بالموصل عشرين يوما وعاد إلى الشام. ذكر وفاته رحمه الله وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاة الملك العادل نور الدين محمود فى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسماية، بعلة الخوانيق، ولقب بعد موته بالشهيد. ومولده فى سنة إحدى عشرة وخمسماية، فيكون عمره نحوا من ثمان «1» وخمسين سنة، ومدة ملكه منذ وفاة أبيه ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر وستة أيام. ومن العجب أنه ركب إلى الميدان الأخضر بدمشق فى ثانى شوال، ونصب فيه قبقا «2» ،

فسايره الأمير همام الدين مودود، وقال له: «أترى هل نكون ههنا فى مثل هذا اليوم من العام المقبل؟» فقال له نور الدين: «لا تقل هكذا، قل هل نكون ههنا بعد شهر؟ فإن السنة بعيدة» ورجع إلى القلعة، وختن ابنه وأصابته العلة، فمات بعد عشرة أيام. ومات الأمير همام الدين قبل استكمال الحول. ودفن نور الدين بقلعة دمشق، ثم نقل إلى مدرسته التى بناها بجوار سوق الخواصين بدمشق وقبره هناك مشهور. وأما سيرته وأفعاله رحمه الله تعالى فانه أفرغ وسعه فى الجهاد، واستنقذ من أيدى الفرنج ما ذكرناه. وكان ثابتا فى حروبه، وبنى المدارس والمساجد والربط والبيمارستان والخانات والطرق والجسور، وجدد القنى وأصلحها، وأوقف الوقوف على معلمى الخط لتعليم الأيتام، وعلى سكان الحرمين الشريفين، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات حتى كفوا عن التعرض إلى الحاج. وبنى أسوار المدن والحصون التى هدمتها الزلزلة التى ذكرناها فى أخبار الدولة العباسية. وكان رحمه الله مواظبا على الصلاة فى الجماعة، حريصا على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصدا فى الإنفاق والمطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش فى رضاه ولا فى سخطه وعاقب على شرب الخمر قال الشيخ عز الدين أبو الحسن على بن عبد الكريم الجزرى المعروف بابن الأثير رحمه الله: «قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين

ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه» قال: وكان رحمه الله لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة. كان بالجزيرة رجل من الصالحين العباد، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله فيرجع إلى قوله، فبلغه أن نور الدين يدمن اللعب بالأكرة «1» فكتب إليه يقول: «ما كنت أظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة» فكتب إليه نور الدين بخطه يقول: «والله ما يحملنى على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن فى ثغر، العدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع الصوت فنركب فى الطلب ولا يمكننا أيضا ملازمة الجهاد ليلا ونهارا شتاء وصيفا. إذ لا بد من الراحة للجند ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت حماما لا قدرة لها على إدمان السير فى الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف فى الكر والفر فى المعركة فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب، فيذهب حمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها فى الحرب. فهذا والله الذى بعثنى على اللعب بالكرة» . قال: وحكى عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها؛ فبينما هم معه فى حديثها إذ جاءه رجل صوفى فأمر له بها. فقيل له إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطى غيرها كان أنفع له. فقال: «أعطوها له، فانى أرجو أن أعوض عنها فى الآخرة» فسلمت إليه. قيل والذى أعطيها شيخ الصوفية عماد الدين بن حمويه، فبعثها إلى همذان، فبيعت بألف دينار.

قالوا وكان عارفا بالفقه على مذهب أبى حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان يعظم الشريعة المطهرة، ويقف عند أحكامها، فمن ذلك أنه كان يلعب بالكرة عند دمشق، فرأى إنسانا يحدث آخر ويومئ إليه بيده، فأرسل يسأله عن حاله، فقال: «لى مع الملك العادل حكومة، وهذا غلام القاضى ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمنى على الملك الفلانى» فلما قيل ذلك له ألقى الجوكات من يده وخرج من الميدان وتوجه إلى القاضى كمال الدين بن الشهرزورى وأرسل إليه يقول: «انى قد جئت فى محاكمه فاسلك معى ما تسلكه مع غيرى.» فلما حضرا، ساوى خصمه وحاكمه، فلم يثبت قبله حق، وثبت الحق لنور الدين. فعند ذلك أشهد على نفسه أنه وهب الملك للذى حاكمه، وقال: «كنت أعلم أن لاحق له عندى، وإنما حضرت معه لئلا يظن بى أنى ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لى، وهبته له» . قال: وهو أول من بنى دار الكشف وسماها دار العدل. وكان يجلس فيها فى الأسبوع يومين، وعنده القاضى والفقهاء لفصل الحكومات بين القوى والضعيف. وكان شجاعا حسن الرأى والمكيدة فى الحرب، عارفا بأمور الأجناد. وكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين. وتركشين «1» ، وباشر القتال بنفسه. وكان يقول: «طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها» . قال: ومن أحسن الآراء ما كان يفعله مع أجناده. كان إذا توفى

أحدهم وخلف ولدا، أقر الإقطاع عليه: فإن كان كبيرا استبد بتدبير نفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا عاقلا يثق إليه يتولى أمره إلى أن يكبر. فكان الأجناد يقولون هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها، وكان ذلك سببا عظيما للنصر فى المشاهد والحروب. قال: وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، فمنها حلب وحماه وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنيج، وغيرها من القلاع والحصون، وأخرج عليها الأموال الكثيرة التى لا تسمح النفوس بمثلها. وبنى المدارس بحلب وحماه ودمشق وغيرها. وبنى الجوامع فى كثير من البلاد، فمنها جامعه بالموصل، إليه النهاية فى الحسن والإتقان وفوض عمارته والخرج عليه للشيخ عمر الملا، وكان من الصالحين. فقيل له إنه لا يصلح لمثل هذا العمل، فقال: «إذا وليت بعض أصحابى من الأجناد والكتاب، أعلم أنه يظلم فى بعض الأوقات، فلا يقى عمارة الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظنى أنه لا يظلم، فإن ظلم كان الاثم عليه لا على» وبنى أيضا بمدينة حماه جامعا على نهر العاصى من أحسن الجوامع وأنزهها، وجدد فى غيرها من عمارة الجوامع ما كان قد تهدم بسبب زلزلة وغيرها. وبنى البيمارستانات فى البلاد، ومن أعظمها وأشهرها البيمارستان الذى بناه بدمشق، وقفه على كافة المسلمين من غنى وفقير، وبنى الربط والخانقاهات «1» للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأدر عليهم الإدرارات الصالحة.

ذكر أخبار الملك الصالح اسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك زنكى بن أقسنقر

قال: وكان قد ضبط ناموس الملك إلى غاية لا مزيد عليها، فكان يلزم الأجناد بوظائف الخدمة، ولا يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس، إلا نجم الدين أيوب، وأما من عداه كأسد الدين شيركوه وغيره، فإنهم كانوا يقفون حتى يأمرهم بالجلوس. وكان مع ذلك إذا دخل عليه الفقير والصوفى والفقيه يقوم له ويجلسه إلى جانبه. وكان إذا أعطى أحدهم شيئا يقول إن هؤلاء لهم فى بيت المال حق، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا. ولم يزل الناس معه فى غاية الأمن والخير والبركة والنمو والإحسان والعدل والبر وإظهار السنة وقمع البدعة إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى. ذكر أخبار الملك الصالح اسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك زنكى بن أقسنقر ملك بعد وفاة والده فى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسماية. وحلف له الأمراء وأطاعه الناس فى سائر البلاد وخطب له الملك الناصر صلاح الدين يوسف بالديار المصرية. ولم يكن الملك الصالح إذ داك قد بلغ الحلم. وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم. قال العماد الأصفهانى الكاتب: وورد كتاب صلاح الدين بالثال الفاضلى معزيا للملك الصالح وفى آخره: «وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليل لنهاره، وسيل لقراره، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه، وذلك من أقل فروض البيت الكريم، وأيسر

لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع عشر ذى القعدة وهو اليوم الذى أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره فى الموقف العظيم، والجمع الذى لا لهو فيه ولا تأثيم، وأشبه يوم الخادم أمسه فى الخدمة، وفيما لزمه من حقوق النعمة، وجمع كلمة الإسلام عالما أن الجماعة رحمة» . قال: ولما بلغ سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود وفاة عمه، استبشر لذلك، ونادى بالموصل بالفسحة فى الشرب واللهو. وكان الخبر قد أتاه وهو سائر إلى خدمة عمه نور الدين، فإنه كان قد استدعاه بالجيوش، فعاد وهرب سعد الدين كمشتكين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار سيف الدين غازى مبينا. قال: ولما اتفق ذلك منه لم يكتب الجماعة الذين فى خدمة الملك الصالح إلى صلاح الدين يوسف بالخبر، خوفا أنه إذا بلغه ذلك أقصدهم، واستولى على الملك الصالح وأبعدهم، فشق ذلك عليه وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وأقام الملك الصالح بدمشق وجماعة الأمراء عنده لم يمكنوه من المسير إلى حلب، لئلا يغلبهم عليه شمس الدين بن الداية، ويختص بخدمته، فإنه كان من أكبر الأمراء النورية. ولما وصل كمشتكين من الموصل إلى حلب أحسن إليه الأمير شمس الدين بن الداية، وأكرمه، وجهزه إلى دمشق لإحضار الملك الصالح منها إلى حلب، وجهز معه العساكر. فلما قارب دمشق سير الأمير شمس الدين محمد بن المقدم عسكرا إليه، فهزموه. ونهبوا ما معه،

فعاد إلى حلب منهزما، فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه ثم نظر أمراء دمشق المصلحة، فعلموا أن مسيره إلى حلب أجود من مقامه بدمشق. فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون سعد الدين كمشتكين ليأخذ الملك الصالح، فجهزه إليهم، فسار إلى دمشق فى المحرم سنة سبعين وخمسماية، فأخذ الملك الصالح وعاد به إلى حلب. فلما وصل إليها، قبض سعد الدين على ابن الداية وإخوته، وعلى الرئيس ابن الخشاب رئيس حلب، ومقدم الأحداث بها. واستبد سعد الدين بتربية الملك الصالح، فخاف ابن المقدم وغيره من الأمراء بدمشق أن سعد الدين يسير إليهم ويفعل بهم كما فعل بابن الداية، فراسل سيف الدين غازى بن مودود فى الحضور من الموصل ليتسلم دمشق فخشى غازى أن تكون مكيدة فلم يحضر، فراسله سعد الدين، واتفق الحال على أن يستقر بيده ما استولى عليه من الأعمال الجزيرية. فقال أمراء دمشق: حيث صالح سيف الدين، لم يبق له مانع من المسير إلى دمشق. فراسلوا الملك الناصر صلاح الدين فى الحضور من مصر ليتسلمها. فوصل إليها، وتسلمها، وملك حمص وحماه وبعلبك. ولم يقطع خطبة الملك الصالح، وأظهر أنه إنما حضر لخدمته، واسترجاع ما استولى عليه سيف الدين غازى وغيره من الأعمال الجزيرية. ثم كان بينه وبين العسكر الحلبى من الحروب ما نذكره فى أخبار الدولة الأيوبية، إلى أن أحوجوه إلى الاستقلال بالأمر والخطبة لنفسه وملك البلاد.

ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وحصر الفرنج حارم

ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وحصر الفرنج حارم وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية قبض الملك الصالح على سعد الدين، وهو المتولى على أمر دولته، والحاكم فيها. وسبب ذلك أن أبا صالح بن العجمى كان من أكابر حلب، وكان مقدما عند نور الدين، وتقدم عند ولده وأطاعه الناس، وكثرت أتباعه، فوثبت عليه بعض الباطنية بالجامع فقتله، فنسب ذلك لسعد الدين فوشوا به عند الملك الصالح، فقبض عليه. وكانت حارم اقطاعه، فامتنع من بها من تسليمها فسيره الملك الصالح تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها؛ فأمرهم فلم يرجعوا إلى قوله، وعذب وهم ينظرون إليه إلى أن مات تحت العقوبة. فبلغ الفرنج ذلك، فنازلوا قلعة حارم ونصبوا عليها المجانيق، فصالحهم الملك الصالح على مال ففارقوها، وتسلمها بعد حصار ثان، ورتب فيها من المماليك النورية من يحفظها. ذكر وفاة الملك الصالح اسماعيل كانت وفاته لخمس بقين من رجب سنة سبع وسبعين وخمسماية. وابتدأت علته فى تاسع الشهر، وكان مرضه القولنج ومات وله من العمر تسع عشرة سنة. وقيل فى سبب وفاته إن علم الدين سليمان بن جندر «1» سقاه فى عنقود عنب وهو فى الصيد؛

وقيل بل سقاه ياقوت الأسدى فى شراب، فعظم موته على سائر الناس، وحزنوا لفقده حزنا شديدا. قال ابن الاثير: ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوى، فاستفتى الفقيه علاء الدين الكاشانى وأفتاه بجواز شربها، فقال: «إن كان الله قد قرب أجلى أيؤخره شرب الخمر» فقال: لا والله فقال: «والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه على» ومات رحمه الله ولم يشربها. ولما أيس من نفسه أحضر الأمراء والأجناد فى الثالث والعشرين من شهر رجب وأوصاهم بتسليم البلد لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، واستحلفهم على ذلك. فقال بعض أصحابه إن عز الدين ملك الموصل وله ما يكفيه، ولو أوصيت بها لابن عمك عماد الدين زنكى فإنه تربية والدك، وزوج أختك، وليس له غير سنجار. فقال: «إن هذا لم يغب عنى، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد يمكن وتغلب على عامة البلاد الشامية، ومتى كانت حلب لعماد الدين عجز عن حفظها وعز الدين يحفظها، وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام فاستحسن الناس ذلك منه، وعجبوا من جودة رأيه مع صغر سنه، وأن مرضه لم يشغله عن حسن اختياره. ثم مات رحمه الله. وكان عفيف اليد والفرج واللسان، لا يعرف له شىء مما يتعاطاه الملوك والشباب، حسن السيرة، عادلا فى رعيته. وبوفاته انقرض عقب نور الدين المذكور.

ذكر أخبار قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر

ولنرجع إلى ذكر ملوك الموصل الذين ملكوا بعد وفاة سيف الدين غازى بن عماد الدين زنكى. ذكر أخبار قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر ملك الموصل بعد وفاة أخيه سيف الدين غازى فى أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسماية. وذلك أنه لما مات سيف الدين غازى اجتمعت كلمة الوزير جمال الدين الأصفهانى وزين الدين على أمير الجيش على تولية قطب الدين طلبا للسلامة، فاستحلفوه وحلفوا له وركبوه إلى دار السلطان، وأطاعه سائر البلاد التى كانت تحت يد أخيه. وتزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين. وكان سيف الدين غازى قد تزوجها ولم يدخل بها، فنزوجها قطب الدين وهى أم أولاده الملوك. قال: ولما قطب الدين كان نور الدين بحلب، وهو أكبر منه، فكاتبه بعض الأمراء وطلبوه، فسار إليهم، وقصد انتزاع الملك من أخيه قطب الدين، ثم اتفقا وعاد نور الدين إلى حلب، وشهد قطب الدين بعض الحروب مع أخيه نور الدين؛ كما ذكرناه فى أخبار نور الدين.

ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على ابن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته

ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على ابن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته وفى سنة ثمان وخمسين وخمسماية قبض قطب الدين على الوزير جمال الدين واعتقله، فتوفى فى اعتقاله فى شعبان سنة تسع وخمسين [ولعمرى ما كان يستحق أن يعتقل، وهو الذى عمل على إثبات الملك فى البيت الأتابكى بعد قتل الشهيد أتابك زنكى، على ما قدمنا فى أخبار سيف الدين غازى] «1» قال بن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل: حكى لى إنسان صوفى يقال له أبو القاسم؛ كان مختصا بخدمته فى الحبس، قال: «لم يزل مشغولا فى محبسه بأمر آخرته، وكان يقول كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر، فلما أن مرض قال لى فى بعض الأيام: يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفنى» قال: «فقلت فى نفسى قد اختلط عقله» فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط، فقلت: «قد جاء الطائر» فاستبشر ثم قال: «جاء الحق» وأقبل على الشهادة، وذكر الله تعالى إلى أن توفى. فلما توفى طار ذاك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئا فى معناه» . ودفن بالموصل عند فتح [الكرامى] «2» رحمة الله عليهما نحو

سنة، ثم نقل إلى المدينة، فدفن بالقرب من حرم النبى صلى الله عليه وسلم فى رباط بناه لنفسه. وقال لأبى القاسم: «بينى وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة فدفنه بها فى التربة التى عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره» . فلما توفى سار أبو القاسم إلى شيركوه فى المعنى، فقال له شيركوه: «كم تريد» فقال «أريد أجرة جمل يحمله، وجمل يحملنى وزادى» فانتهره وقال: «مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة» وأعطاه مالا صالحا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرءون بين يدى تابوته إذا حمل وإذا أنزل عن الجمل. فإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراءون ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه فى كل بلد يجتاز بها، وأعطاه أيضا مالا للصدقة فصلى عليه فى تكريت وبغداد والحلة فيد «1» ومكة والمدينة، وكان يجتمع له فى كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أراد الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلا صوته: سرى نعشه «2» فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر على الوادى فتنشنى «3» رماله ... عليه وبالنادى فتثنى أرامله فلم ير باكيا أكثر من ذلك اليوم، وطافوا به حول الكعبة، وصلوا

عليه بالحرم الشريف، وبين قبره وقبر النبى صلى الله عليه وسلم خمسة عشر ذراعا. وأما سيرته رحمه الله فكان [الوزير جمال الدين محمد بن على] أسخى الناس وأكثرهم بذلا للمال، رحيما بالخلق متعطفا عليهم عادلا فيهم، فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف «1» بمنى وغرم عليه أموالا كثيرة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وأذهبها وعملها بالرخام. ولما أراد ذلك أرسل إلى المتقى لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كبيرة، وخلعا ثنية، منها عمامة شراها بثلثماية دينار، حتى مكنه من ذلك. وعمر أيضا المسجد الذى على جبل عرفات، والدرج الذى يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة فى صعودهم. وعمل بعرفات أيضا مصانع للماء، وأجرى الماء إليها عن نعمان فى طرق معمولة تحت الأرض. وأخرج على ذلك مالا كثيرا وكان يجرى الماء فى المصانع فى كل سنة أيام الحج. وبنى سورا على مدينة النبى صلى الله عليه وسلم. وعلى فيد. وكان يخرج على باب داره فى كل يوم للصعالك والفقراء ماية دينار أميرى؛ هذا سوى الإدرارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوت. ومن أبنيته العجيبة التى لم ير الناس مثلها الجسر الذى

بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلز فقبض قبل أن تكمل عمارته وبنى أيضا جسرا كذلك على النهر المعروف بالأرفاد، وبنى الربط. وقصده الناس من أقطار الأرض. وكانت صدقاته وصلاته من أقاصى خراسان إلى حدود اليمن، وكان يشترى الأسرى فى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشترى من الكرج. وقال ابن الأثير: أيضا حكى لى والدى عنه قال كثيرا ما كنت أرى جمال الدين إذا قدم إليه الطعام يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه فى خبز بين يديه. فكنت أنا ومن يراه نظن أنه يحمله إلى أم ولده على. فاتفق أنه فى بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى دارى لتدخل الحمام، فبقيت فى الدار أياما. فبينما أنا عنده فى الخيام، وقد أكل الطعام فعل كما كان يفعل. ثم تفرق الناس فقمت فقال: «اقعد» فقعدت. فلما خلا المكان قال لى: «قد آثرتك اليوم على نفسى، فإننى فى الخيام ما يمكننى أن أفعل ما كنت أفعله. خذ هذا الخبر واحمله أنت فى كمك فى هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت فى طريقك فقيرا يقع فى نفسك أنه مستحق، فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام» قال: ففعلت ذلك، وكان معى جمع كثير ففرقتهم فى الطريق لئلا يرونى أفعل ذلك، وبقيت فى غلمانى، فرأيت فى موضع إنسانا أعمى وعنده أولاد له وزوجته، وهم من الفقر على حال شديد، فنزلت عن دابتى إليهم وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه. وقلت للرجل تجيىء غدا بكرة إلى دار فلان، أعنى دارى- ولم أعرفه نفسى- فإننى آخذ لك

ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين

من صدقة جمال الدين شيئا. ثم ركبت إليه العصر، فلما رآنى قال: «ما الذى فعلت فى الذى قلت لك» فأخذت أذكر له شيئا يتعلق بدولتهم فقال: «ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الطعام الذى سلمته إليك» فذكرت له الحال ففرح، ثم قال: «بقى أنك قلت للرجل يجىء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير وتجرى لهم كل شهر دنانير» قال: فقلت له: «قد قلت للرجل يجى إلى» فازداد فرحا وفعل للرجل ما قال. ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض. قال: وله من هذا كثير. فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه فى بعض السنين التى تعذرت فيها الأقوات. ولما وقفت على ترجمته لهجت بالترحم عليه، وقرأت ختمة شريفة فى شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبعماية وسألت الله تعالى أن يسطر ثوابها فى صحيفة حسناته، وقررت ذلك على نفسى فى كل سنة فى شهر رمضان وأرجو أن لا أقطعها ما لم أنس ذلك، رحمه الله تعالى. ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين وفى سنة ثلاث وستين وخمسماية فارق زين الدين على بن بكتكين النايب عن قطب الدين خدمته، وسار إلى أربل. وكان هو الحاكم فى الدولة وأكثر البلاد بيده، ومنها أربل وبها أهله وأولاده وخزانته، وشهرزور وجميع القلاع التى معها، وجميع بلاد الهكارية وبلد الحمدية، وتكريت وسنجار، وحران، وقلعة الموصل هو بها. وكان قد أصابه طرش ثم عمى، فما عزم على

ذكر وفاة قطب الدين مودود وملك ولده سيف الدين غازى

مفارقة الموصل إلى بيته بأربل، سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين، وبقى معه أربل خاصة. وكان شجاعا عاقلا حسن السيرة سليم القلب ميمون النقيبة، ما انهزم من حرب قط. وكان كريما كثير العطاء للجند وغيرهم، فمن عطاياه أن الحيص بيص الشاعر قد امتدحه بقصيدة، فلما أراد إنشادها قال له: «أنا لا أعرف ما تقول ولكنى أعلم ما تريد» وأمر له بخمسمائة دينار وخلعة وفرس فكان مجموع ذلك بألف دينار. ولم يزل بأربل إلى أن مات بها فى هذه السنة. ولما فارق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد المسيح وحكمه فى البلاد، فعمر القلعة وكانت خرابا لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة. وسار عبد المسيح سيرة شديدة وسياسة عظيمة وكان خصيا أبيض من مماليك أتابك زنكى. ذكر وفاة قطب الدين مودود وملك ولده سيف الدين غازى كانت وفاة قطب الدين مودود بن زنكى بالموصل فى ذى الحجة سنة خمس وستين وخمسماية، وقيل فى شوال منها. وكان مرضا حمى حادة فكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورا. وكان من أحسن الملوك سيرة، وأعفهم عن أموال الرعية، كثير الإنعام والإحسان إليهم، محبوبا إلى كبيرهم، وصغيرهم عطوفا على شريفهم ووضيعهم، كريم الأخلاق. ولما مات رحمه الله تعالى ملك بعده ولده سيف الدين غازى.

ذكر أخبار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى

ذكر أخبار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى ملك الموصل وما كان بيد والده قطب الدين بعد وفاته فى ذى الحجة أو شوال سنة خمس وستين وخمسماية؛ بوصية من أبيه. وكان والده قد أوصى بالملك بعده لولده الأكبر عماد الدين زنكى، فعرف عبد المسيح رأيه عنه. فلما كان فى اليوم الثانى استخلف سيف الدين غازى، فاستقر فى الملك بعد وفاة أبيه، واستولى عبد المسيح على المملكة. ولم يكن لغازى معه غير الاسم، فاتصل ذلك بنور الدين محمود، فأزعجه وأنف منه وكبر لديه، فسار إلى الموصل سنة ست وستين ودخلها من غير قتال. وكان الجند والعوام قد كاتبوه فى تسليم البلد إليه. فلما علم بذلك عبد المسيح كاتبه أيضا وسأله الأمان، فأمنه وقال: «لا سبيل أن يكون بالموصل» ؛ ونقله إلى الشام ودخل نور الدين الموصل فى ثالث عشر جمادى الأولى.، وأقر سيف الدين غازى على الموصل، وولى القلعة خادما يقال له سعد الدين كمشتكين، وجعله دزدارا ثم عاد إلى الشام رحمه الله. ذكر ملك سيف الدين غارى البلاد الجزيرية كان سبب ذلك أن عمه الملك العادل نور الدين قد استدعاه بعساكر الموصل وديار الجزيرة وغيرها لقصد الغزاة فسار سيف الدين غازى وجعل على مقدمته سعد الدين كمشتكين. فلما كانوا ببعض

ذكر حصره أخاه زنكى بسنجار

الطريق، وافاهم الخبر بوفاة نور الدين، فهرب سعد الدين جريدة، واستولى غازى على بركه وثقله وموجوده. وعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور، واستولى عليه وأقطعه. وسار إلى حران فحصرها عدة أيام، وبها قايماز الحرانى مملوك نور الدين، فأطاعه بعد امتناع على أن تكون حران له. فلما نزل إليه، قبض عليه سيف الدين غازى، وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وبها خادم خصى أسود لنور الدين، فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر، فأعطيها ثم أخذت منه، ثم انتهى حاله إلى أن استعطى ما يقوم به. وسير سيف الدين إلى الرقة، فملكها وملك سروج وجميع بلاد الجزيرة، إلا قلعة جعبر لحصانتها، ورأس عين لأنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين. وعاد عبد المسيح إلى خدمة سيف الدين من سيواس، وحسن لسيف الدين العبور إلى الشام ليملكه، فأشار عليه عز الدين محمود- وهو من أكابر الأمراء- أن يقتصر على ما بيده، فرجع إليه وعاد إلى الموصل، وذلك فى سنة تسع وستين وخمسماية ذكر حصره أخاه زنكى بسنجار وفى سنة سبعين وخمسماية فى شهر رمضان حصر سيف الدين غازى أخاه عماد الدين زنكى بسنجار. وكان سبب ذلك أن الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين كتب إلى [ابن عمه] سيف الدين

[غازى] «1» يستحثه على الوصول إليه ليدفع الملك الناصر صلاح الدين يوسف عن حلب، فجمع سيف الدين غازى العساكر، وكاتب [أخاه] عماد الدين فى اللحاق به. وكان صلاح الدين قد كاتبه وأطمعه فى الملك، فامتنع عماد الدين بسبب ذلك. فجهز سيف الدين العساكر مع أخيه عز الدين مسعود إلى الشام. وتوجه هو [سيف الدين] لحصار أخيه بسنجار، فحصرها، وبينما هو كذلك، إذ أتاه الخبر بانهزام أخيه مسعود من صلاح الدين، فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده، ورحل إلى الموصل. ثم كان بين سيف الدين وبين الملك الناصر [صلاح الدين] ما نذكره فى أخبار الملك الناصر من هزيمة غازى فى سنة إحدى وسبعين. ورجع [سيف الدين] إلى الموصل. وعزل عز الدين زلفندار «2» استعمل مكانه فى إمارة الجيش مجاهد الدين قايماز. وفى سنة اثنتين وسبعين وخمسماية عصى شهاب الدين محمد بن مروان «3» صاحب شهرزور على سيف الدين غازى وكان قبل ذلك فى طاعته، فراسله فى معاودة الطاعة. فعاد وحضر إلى الخدمة

ذكر وفاة سيف الدين غازى

ذكر وفاة سيف الدين غازى كانت وفاته فى ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسماية وكان مرضه السل، فطال به، ثم أدركه سرنيام «1» فمات، وعمره نحوا من ثلاثين سنة، وكانت مدة ولايته عشر سنين وشهورا وكان حسن الصورة تام القامة أبيض اللون. وكان عاقلا وقورا قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس ولم يذكر عنه فى نفسه ما ينافى العفاف. وكان شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدام الصغار فإذا كبر أحدهم منعه. وكان لا يحب سفك الدماء ولا أخذ الأموال على شحه وجبنه. ولما اشتد مرضه أوصى بالملك لولده معز الدين سنجرشاه، وكان عمره حينئذ اثنتى عشرة «2» سنة، فخاف على الدولة من ذلك، لتمكن صلاح الدين يوسف بالشام، وامتنع عز الدين مسعود من الموافقة والأيمان. فأشار الأمراء أن يكون الملك بعده لعز الدين مسعود أخيه. ففعل، وجعل لولده سنجرشاه جزيرة ابن عمر وقلاعها، وجعل قلعة الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك «3»

ذكر ملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى

ذكر ملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى ملك الموصل بعد وفاة أخيه سيف الدين غازى فى ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسماية، وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايماز. وفى سنة سبع وسبعين كانت وفاة الملك الصالح اسماعيل، وأوصى بحلب لعز الدين مسعود كما ذكرناه فى أخباره. فكاتبه الأمراء بذلك واستدعوه لتسليمها. فسار إليها ومعه مجاهد الدين قايماز، فدخلها فى العشرين من شعبان منها وأقام بحلب عدة شهور ثم سار إلى الرقة. ذكر تسليم حلب الى عماد الدين زنكى وأخذ سنجار عوضا عنها قال: ولما فارق عز الدين مسعود حلب ووصل إلى الرقة، جاءته رسل أخيه عماد الدين زنكى صاحب سنجار يطلب منه أن يسلم إليه مدينة حلب ويأخذ سنجار، فلم يجب إلى ذلك، فراسله مرة أخرى وألح فى طلبها، وقال متى لم تسلم إلى حلب وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين، فأشار [الأمراء] «1» بتسليمها إليه فسلمها له، وتسلم سنجار، وعاد إلى الموصل.

ذكر القبض على مجاهد الدين قايماز

ذكر القبض على مجاهد الدين قايماز وفى جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وخمسمائة قبض عز الدين مسعود على نائبه مجاهد الدين قايماز. ولما قصد القبض عليه لم يقدم عليه مفاجأة لقوة مجاهد الدين، فأظهر المرض وانقطع عن الركوب فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان خصيصا به لا يمنع من الدخول على النساء. فقبض عليه وركب لوقته إلى القلعة. واحتوى على أموال وقايماز وخزائنه، وولى زلفندار قلعة الموصل وجعل شرف الدين أحمد بن أبى الخير- وهو ابن أمير حاجب العراق- أمير حاجب، وحكمه فى دولته. وكانت أربل وأعمالها تحت حكم مجاهد الدين، ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين على، وهو صبى صغير. وتحت حكمه أيضا جزيرة ابن عمر وهى لمعز الدين سنجرشاه ابن سيف الدين غازى، وهو صبى أيضا؛ وبيده شهرزور وأعمالها ونوابه بها، ودقوقا، وقلعة عقر الحميدية ونائبه بها. ولم يكن مع عز الدين إلا الموصل خاصة وقلعتها لمجاهد الدين «1» . فلما قبض امتنع صاحب أربل عن الطاعة، واستبد صاحب الجزيرة وأرسل الخليفة من حصر دقوقا وأخذها، ولم يحصل لعز الدين غير شهرزور والعقر، وصارت أربل والجزيرة أضر شىء عليه وأرسل صاحب أربل إلى الملك الناصر صلاح الدين بالطاعة له، وقوى طمع الملك الناصر فى الموصل لما قبض على مجاهد الدين، فلما

ذكر اطلاق مجاهد الدين قايماز وما كان من العجم وانهزامهم

رأى عز الدين ما حصل من الضرر والفساد بسبب قبض مجاهد الدين، قبض على شرف الدين أحمد الحاجب وزلفندار، عقوبة لهما كونهما حسنا له القبض على قايماز. ذكر اطلاق مجاهد الدين قايماز وما كان من العجم وانهزامهم قال: وفى المحرم سنة ثمانين وخمسماية أطلق عز الدين مسعود مجاهد الدين قايماز، وذلك بشفاعة شمس الدين بن البهلوان صاحب همذان وبلاد الجبل. ولما أطلقه سيره إلى ابن البهلوان وإلى أخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين. فبدأ فى مسيره بقزل وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضى إلى شمس الدين، وقال: «مهما يختار أنا أفعله» وجهز معه ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو أربل ليحصروها. فلما قاربوها أفسدوا فى البلاد وخربوها، وسبوا وأخذوا النساء قهرا، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم. وسار إليهم زين الدين يوسف صاحب أربل فى عسكره، فلقيهم وهم قد تفرقوا للنهب، فانتهز الفرصة وقاتل من لقى منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على العجم، وغنم الإربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، وكان يقول: مازلنا ننتظر العقوبة من الله عز وجل على سوء فعل العجم» .

ذكر وفاة عز الدين مسعود

ذكر وفاة عز الدين مسعود كانت وفاته فى التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ودفن بالمدرسة التى أنشأها بالموصل مقابل دار المملكة وبقى فى مرضه ما يزيد على عشرة أيام لا ينطق إلا بالشهادتين وتلاوة القرآن والاستغفار. وكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وسبعة أشهر إلا أياما. وكان خيّر الطبع كثير الخير والإحسان وزيارة الصلحاء وبرهم. وكان حليما قليل المعاقبة كثير الحياء لا يكلم جلساءه إلا وهو مطرق. وما قال فى شيئ سئله «لا» ولبس خرفه التصوف «1» بمكة، وكان يلبسها فى كل ليلة، ويخرج إلى مسجد بناه فى داره فيصلى فيه نحو ثلث الليل، رحمه الله. وملك بعده ولده نور الدين أرسلان شاه بن مسعود، وقام بتدبير دولته فى ابتدائها مجاهد الدين قايماز مدبر دولة والده، واستمر نور الدين أرسلان شاه فى الملك إلى سنة سبع وستماية، فتوفى فى أوائل شهر ربيع منها، ودفن فى مدرسته التى أنشأها مقابل داره بالموصل. وكانت علته قد طالت، وكانت مدة ملكه سبع عشرة «2» سنة وأحد عشر شهرا. وكان بينه وبين الملك

العادل بن أيوب مخالفة، ثم اتفاق ومصاهرة. وكان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه مانعا من تعدى بعضهم على بعض. ولما مات ملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى. وكان والده قد حلّف له العساكر وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكى قلعة عقر الحميدية» وقلعة سوس وأمر أن يتولى تدبير دولة القاهر فتاه بدر الدين لؤلؤ، فقام بتدبير الدولة والنظر فى مصالحهما. واستمر الملك القاهر فى الملك إلى سنة خمس عشرة وستماية، فتوفى فى ليلة الأثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول منها، فكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر. وكان كريما قليل الطمع فى أموال رعيته مقبلا على أمرائه. وملك بعده ولده نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه ملك الموصل، بوصية من أبيه. وكان عمره يوم ذاك عشر سنين. وجعل الوصى عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ فقام أحسن قيام وراسل الملوك أصحاب الأطراف المجاورين له، وطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التى كانت اتفقت بينهم وبين أبيه، فوافقوه. وكتب إلى الديوان العزيز، فجاءته الخلع والتقليد من الخليفة بولاية نور الدين. ونظر بدر الدين فى أمور الدولة فلم يلبث نور الدين إلى أن توفى فى هذه السنة.

ولما مات استحلف بدر الدين لؤلؤ العساكر لأخيه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه، وله من العمر ثلاث سنين. واستمر بدر الدين لؤلؤ فى تدبير الدولة، فتجدد طمع عز الدين زنكى بن مسعود ومظفر الدين عمّيه فى ملك الموصل لصغر سنة، فجمعا الرجال وتجهزا للحركة، وقصدا أطراف الموصل بالنهب والفساد، فخرج إليهم بدر الدين لؤلؤ بعساكر الموصل، والتقوا، فكانت الهزيمة على العسكر البدرى، وعاد إلى الموصل وتبعه مظفر الدين، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك واستقر كل واحد على ما بيده. ثم ملك عماد الدين قلعة كواشى «1» وهى من أحسن قلاع الموصل. ثم مات ناصر الدين محمود بعد مدة يسيرة، واستقر بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل، وتلقب بالملك الرحيم ودامت أيامه إلى أن توفى فى سنة سبع وخمسين وستماية، فكانت مدة ملكه نحو أربعين سنة، وملك بعده أولاده، فكان الذى استقل بملك الموصل من أولاده الملك الصالح ركن الدين إسمعيل، قتله التتار فى سنة تسع وخمسين وستماية، وملك ولده الملك المجاهد سيف الدين إسحاق بلاد الجزيرة؛ وملك الملك المظفر علاء الدين على سنجار. ولما استولى التتار على هذه الممالك وصل هؤلاء إلى الديار المصرية المحروسة فى أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وجهزهم صحبة فى أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وجهزهم صحبة الخليفة المستنصر بالله؛ فكان من أمره وأمرهم ما ذكرناه ونذكره

ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن اقسنقر

إن شاء الله تعالى؛ فلنرجع إلى ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن مودود. ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن اقسنقر إستقر ملكه بسنجار بعد وفاة أبيه واستقلال أخويه سيف الدين غازى ثم عز الدين مسعود بملك الموصل، ثم تعوض عماد الدين بحلب عن سنجار كما قدمنا ذكره فى أخبار عز الدين مسعود. ثم أخذ الملك الناصر يوسف منه حلب، وعوضه عنها بسنجار وربض الخابور والرقة، على ما نبينه إن شاء الله فى أخبار الملك الناصر فاستقر ملكه أخيرا بسنجار وما معها فى سنة تسع وسبعين وخمسماية ولم يزل بها إلى أن توفى فى المحرم سنة أربع وتسعين وخمسماية وكان عادلا حسن السيرة فى رعيته عفيفا عن أموالهم، كثير التواضع، يحب أهل العلم والدين، ويجلس معهم، ويرجع إلى آرئهم إلا أنه كان شديد البخل. ولما مات ملك بعده ولده قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكى. وتولى تدبير دولته مجاهد الدين برنقش مملوك أبيه، وكان دينا خيرا عادلا حسن السيرة. واستمر ملك قطب الدين بسنجار إلى سنة ست عشرة وستماية، فتوفى فى ثامن صفر منها. وكان كريما حسن السيرة فى رعيته كثير الإحسان إليهم. وكان قد سلم الأمور إلى نوابه.

ذكر أخبار معز الدين سنجرشاه ابن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى

ولما مات ملك بعده ابنه عماد الدين شاهان شاه بن محمد. ولما ملك سار بعد شهور إلى تلعفر «1» ، وهى فى مملكته فدخل عليه أخوه عمر بن محمد فى جماعة فقتلوه. وملك عمر بن محمد- وهو فروخ شاه- فبقى بسنجار إلى أن أخذها الملك الأشرف فى سنة سبع عشرة وستماية، وعوضه عنها الرقة. وهو آخر من ملك سنجار من البيت الأتابكى، فكانت مدة ملكهم لها أربعا وتسعين سنة. وتوفى بعد أخذها منه بقليل. فلنذكر أخبار أولاد غازى. ذكر أخبار معز الدين سنجرشاه ابن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى ملك جزيرة ابن عمر بعد وفاة والده فى صفر سنة ست وسبعين وخمسماية. وكان كثير الأذى لعمه عز الدين مسعود، فحاصره مسعود فى سنة سبع وثمانين أربعة أشهر، واستقرت القاعدة بينهما على أن يكون لكل منهما نصف أعمال الجزيرة، وتكون الجزيرة بيد سنجرشاه فى جملة النصف. ودام ملكه بالجزيرة إلى أن قتل.

ذكر مقتله وملك ولده معز الدين محمود

ذكر مقتله وملك ولده معز الدين محمود كان قتله فى سنة خمس وستماية على يد ولده غازى. وسبب ذلك أن سنجرشاه كان سى السيرة فى رعيته وأولاده وجنده وغيرهم، فكان من جملة ما اعتمده مع أولاده أنه بعث ابنيه «1» محمودا وسودودا إلى قلعة فرح «2» من بلد الزوزان «3» وأخرج ابنه غازى إلى دار بالمدينة أسكنه بها ووكل به من يمنعه من التصرف وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية فكان يدخل إليها من البستان الحيات والعقارب وغير ذلك من الحشرات، فاصطاد غازى حية وسيرها إلى أبيه لعله يرق له ويعطف عليه، فلم يزده إلا تماديا وإصرارا. فعندها أيس من خيره وأعمل الحيلة حتى نزل من الدار، ووضع إنسانا كان يخدمه أظهر أنه غازى، وخرج من بلاد الجزيرة وقصد الموصل. فشاع الخبر أن غازى قد توجه إلى الموصل وهو مختلف بالجزيرة ما خرج منها، ثم أعمل الحيلة وتسلق فنزل إلى دار أبيه، فستر عليه سرارى والده لبغضهم فى أبيه. ثم اتفق أن والده شرب فى بعض الأيام وسكر ودخل الخلاء، فضربه ابنه غازى هذا بسكين فقتله، ثم ذبحه وتركه ملقى وقعد يلعب مع الجوارى. .

فخرج بعض الخدم الصغار إلى باب الدار وأعلم أستاذ الدار بالخبر فأحضر أعيان الدولة، وعرفهم الأمر وأغلق الأبواب على غازى واستحلف الناس لمحمود بن سنجرشاه ودخل على غازى فمانع عن نفسه ثم قتلوه ورمى على باب الدار، وأكلت الكلاب بعضه ودفن باقيه. ووصل محمود إلى البلد وملك ولقب معز الدين لقب أبيه. وغرّق الجوارى اللوائى اتفقن مع غازى على قتل أبيه فى دجلة. ثم قتل محمود أخاه مودودا بعد مدة يسيرة. ثم استقرت هذه الممالك الجزيرية وغيرها فى يد بدر الدين لؤلؤ وهو الملقب بالملك الرحيم، وملك أولاده من بعده إلى أن استولى عليها التتار فى سنة سبع وخمسين وستماية. هذا ملخص ما وصل الينا من أخبار هذه الدولة فلنذكر ما عداها.

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الخوارزمية والدولة الجنكزخانية

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الخوارزمية والدولة الجنكزخانية الدولة الخوارزمية هى من أعظم الدول الإسلامية والدولة الجنكزخانية هى دولة التتار وإنما جمعناهما فى باب واحد لتعلق كل دولة منهما بالأخرى، ولأن الدولة الخوارزمية انقرضت عند قيام الجنكزخانية، وغلبة جنكزخان التمرجى على البلاد على ما نشرح ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.

ذكر أخبار الدولة الخوارزمية وابتداء أمر ملوكها وظهورهم وما استولوا عليه من البلاد والأقاليم وما كان بينهم وبين الملوك من الحروب والوقائع

ذكر أخبار الدولة الخوارزمية وابتداء أمر ملوكها وظهورهم وما استولوا عليه من البلاد والأقاليم وما كان بينهم وبين الملوك من الحروب والوقائع وهذه الدولة هى من جملة فروع الدولة السلجقية لأن أصل البيت الخوارزمى من مماليك أحد أمراء الدولة السلجقية، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بذكر ابتداء أمر ملوكها. وأول من نبغ منهم وترشح للولايات وما وليه وكيف تنقلت بهم الحال إلى أن ملكوا أقاصى البلاد وأدانيها وما آل إليه أمرهم إلى حين انقراض دولتهم، فنقول: أول من نبغ منهم خوارزم شاه محمد بن انوشتكين «1» ولى خوارزم من قبل أمير (داذ) «2» حبشى متولى خراسان فى شهر رجب سنة تسعين وأربعماية وأبوه انوشتكين مملوك الأمير تلكاتك «3» أحد أمراء السلجقية، إشتراه من رجل من غرشستان «4» . وكان

ذكر أخبار خوارزم شاه اتسز بن محمد

حسن الطريقة كامل الأوصاف فكبر وعلا محله، وولد له محمد هذا، فانتشأ أحسن نشأة، وتعلم وتدرب، وتقدم بنفسه كما قيل: نفس عصام سودت عصاما. ولحظته العناية الأزلية لظهور ما هو كامن فى الغيب. وكان سبب ولايته خوارزم أنه لما ولى أمير داذ حبشى خراسان كان خوارزم شاه البلخى قد قتل «1» فنظر الأمير حبشى فيمن يوليه خوارزم، فوقع اختياره على محمد هذا، فولاه خوارزم، ولقبه خوارزم شاه على عادة ولاة خوارزم فقصر أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فازداد ذكره حسنا وظهر اسمه، وعلا محله فلما ملك السلطان سنجرشاه السلجقى خراسان أفر محمد على ولاية خوارزم وظهرت كفايته فعظم محله عند السلطان سنجر، واصطلى حرب الأتراك بنفسه، وهزمهم ودام فى ولاية خوارزم إلى أن توفى فى سنة [إحدى وعشرين وخمسمائة «2» وولى بعده ولده اتستز بن محمد. ذكر أخبار خوارزم شاه اتسز بن محمد ولى خوارزم من قبل السلطان سنجر بعد وفاة أبيه. وكان قد انتشأ فى حياة أبيه، وقاد الجيوش، وقصد بلاد الأعداء وقاتلهم

ذكر الحرب بين خوارزم شاه اتسز والسلطان سنجر السلجقى، واستيلاء سنجر على خوارزم، وما كان من أمر اتسز إلى أن استقر الصلح بينه وبين السلطان سنجر

وملك مدينة منقشلاغ «1» . فلما مات أبوه ولاه السلطان بعده، فأفاض العدل، وأمن البلاد، فأحبه السلطان سنجر وقربه وأدناه وعظمه واعتضد به، واستصحبه معه فى أسفاره وحروبه؛ فظهرت- كفايته فزاده تقدما وتقريبا. ولم يزل عنده فى هذه النزلة إلى أن فسد ما بينهما واقتتلوا على ما نذكره. ذكر الحرب بين خوارزم شاه اتسز والسلطان سنجر السلجقى، واستيلاء سنجر على خوارزم، وما كان من أمر اتسز الى أن استقر الصلح بينه وبين السلطان سنجر وكانت الحرب بينهما فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية. وسبب ذلك أن السلطان بلغه أن خوارزم شاه أتسز قد عزم على الخروج من طاعته والامتناع عليه، فقصد خوارزم بعساكره فلما قاربها جمع أتسز عساكره وخرج لقتاله. والتقوا، فلم يكن له قبل بعساكر سنجر لكثرتها، فانهزم هو ومن معه وقتل من أصحابه خلق كثير، وقتل له ولد، فوجد اتسز عليه وجدا عظيما. ولما انهزم السلطان اتسز ملك سنجر خوارزم وأقطعها لابن أخيه سليمان شاه بن محمد على ما قدمناه فى أخبار الدولة السلجقية. ثم عاد السلطان إلى مرو فجمع خوارزم شاه أصحابه ورجع إلى خوارزم فأعانه أهلها على ملكها، ففارقها سليمان شاه ومن معه، ورجع إلى

عمه السلطان سنجر، واستحكمت العداوة بين السلطان سنجر وأتسز، وعلم أتسز أنه لا قبل له به، فكاتب ملك الخطا «1» بما وراء النهر، وحثه على المسير لقتال السلطان سنجر وأطمعه فى ملك بلاده. فسار ملك الخطا فى ثلثماية ألف فارس، وكان من انهزام سنجر، وملك الخطا ما وراء النهر ما قدمنا ذكره فى أخبار سنجر، وذلك فى سنة ست وثلاثين وخمسماية. ولما تمت الهزيمة على سنجر استولى خوارزم شاه اتسز على البلاد وقصد خراسان فوصل إلى سرخس «2» فى شهر ربيع الأول من السنة ورحل منها إلى مرو الشاهجان «3» ، فنزل بظاهر البلد واستدعى الفقهاء والأعيان، فثار عامة مرو، وقتلوا بعض أصحاب خوارزم شاه وأخرجوهم من البلد، وأغلقوا أبوابه واستعدوا للامتناع، فقاتلهم، ودخل البلد فى سابع عشر الشهر، وقتل جماعة كثيرة من أعيان البلد، وعامتهم واستصحب جماعة من فقهائها معه، وسار فى شوال إلى نيسابور فخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء والزهاد، وسألوه أن لا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو. فأجابهم

إلى ذلك، وأخذ أموال أصحاب السلطان جميعها، وقطع خطبة سنجر وخطب لنفسه، وسير جيشا إلى أعمال بيهق «1» فقاتلوا أهلها خمسة أيام ثم ساروا ينهبون البلاد. واستمرت حال خوارزم شاه أتسز إلى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية فجمع السلطان عساكره وسار إلى خوارزم، فتحصن أتسز بها، وجمع عساكره ولم يخرج من المدينة. وكان القتال يقع بينهما من وراء السور. ثم راسل السلطان فعفا عنه وبذل له الأموال، فأجابه إلى ذلك على قاعدة استقرت بينهما، وعاد سنجر إلى مرو واستقر خوارزم شاه بخوارزم، إلى أن مات وكانت وفاته فى تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسماية. وكان قد أصابه فالج فعالجه الأطباء منه فلم يبرأ فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير رأى الأطباء، فاشتد مرضه وضعفت قوته فمات. ولهج عند موته بقوله تعالى: «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» «2» وكان حسن السيرة، كافا عن أموال رعيته، محبوبا إليهم. ولما توفى ملك بعده أحد أولاده، فقتل نفرا من أعمامه وسمل أخا له، فمات بعد ثلاثة أيام، وقيل بل قتل نفسه. وملك بعده أيل «3» أرسلان بن اتسز بن محمد، وأرسل إلى السلطان سنجر، وبذل له الطاعة والانقياد لأمره. فكتب له منشورا بولاية خوارزم،

ذكر ملك سلطان شاه محمود بن ايل أرسلان ابن اتسز بن محمد، واخراجه من الملك، وملك أخيه علاء الدين تكش

وسير إليه الخلع فى شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسماية، وذلك بعد هرب سنجر من أمر الغزو، وعوده إلى مرو واستقرار ملكه. فأمن أيل أرسلان بهذه الولاية واستمر إلى سنة ثمان وستين وخمسماية فتوفى بعد عوده من قتال الخطا. ولما مات ملك بعده ولده السلطان شاه. ذكر ملك سلطان شاه محمود بن ايل أرسلان ابن اتسز بن محمد، واخراجه من الملك، وملك أخيه علاء الدين تكش لما مات ايل أرسلان ملك بعده ولده سلطان شاه محمود، ودبرت والدته المملكة والعساكر. وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما بجند «1» وكان والده أقطعها له، فأنف من تولية أخيه الصغير وتقديمه عليه، وقصد ملك الخطا بما وراء النهر، واستمده على أخيه، وأطمعه فى الأموال والذخاير، فجهز معه جيشا كثيفا. فلما قارب خوارزم، خرج منها سلطان شاه وأمه، وسارا إلى المؤيد صاحب نيسابور واستنجداه. ودخل علاء الدين تكش خوارزم وملكها بغير قتال. ولما اجتمع السلطان شاه وأمه بالمؤيد أهديا له هدايا جليلة، وأطمعاه فى الذخائر والأموال، فجمع جيوشه وسار حتى بقى من

خوارزم على عشرين فرسخا، فتقدم إليهم تكش بعساكره، فانهزم المؤيد، ثم أخذ أسيرا وجىء به إلى خوارزم شاه تكش، فقتل بين يديه صبرا. وهرب سلطان شاه إلى دهستان. «1» فقصده تكش، وافتتح المدينة عنوة، وهرب سلطان شاه منها، وأخذت أمه فقتلها تكش، وعاد إلى خوارزم وتوجه سلطان شاه إلى غياث الدين ملك الغز فأكرمه وعظمه. قال: ولما ثبت قدم علاء الدين فى الملك ترادفت عليه رسل ملك الخطا بالتحكم فى بلاده، وطلب الأموال والمقترحات، لأنهم رأوا أنهم هم الذين ملكوه، فأنفت نفسه من ذلك، وداخلته حمية الإسلام والملك، فقتل أحد أقارب ملك الخطا، وأمر وجوه أهل خوارزم أن يقتل كل رجل منهم واحدا من الخطا ففعلوا. ونبذ عهد ملك الخطا. فبلغ ذلك سلطان شاه، فسار إلى ملك الخطا، واستنجده على أخيه وزعم أن أهل خوارزم معه، وأنه إذا وصل إليهم سلموا إليه البلد، فجهز معه جيشا كثيفا من الخطا، فسار بهم وحصر خوارزم، فأمر تكش بإجراء ماء جيحون عليهم، فكادوا يغرقون، فرحلوا عن البلد ولم يبلغوا منها غرضا، وندموا على قصدهم خوارزم. ولم يزل سلطان شاه مشردا فى البلاد، تارة عند الخطا، وتارة عند غياث الدين، وكرة يغار بالخطا على مرو وسرخس إلى أن مات فى شهر رمضان سنة تسع وثمانين وخمسماية.

ذكر ملك تكش مدينة بخارى من ملك الخطا

ذكر ملك تكش مدينة بخارى من ملك الخطا وفى سنة أربع وتسعين وخمسماية جهز ملك الخطا جيشا كثيفا لحصر خوارزم، فحصروها. فكان خوارزم شاه يخرج إليهم فى كل ليلة، ويقتل منهم خلقا كثيرا، حتى أتى على أكثرهم، فدخل من بقى منهم إلى بلادهم. ورحل تكش فى آثارهم، وقصد مدينة بخارى فنازلها، ففاتله أهلها مع الخطا، وانتهى حالهم فى نكايته أنهم أخذوا كلبا أعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا هذا خوارزم شاه وكان تكش أعور- وطافوا بالكلب على السور، ثم رموه بالمنجنيق، وقالوا للعسكر هذا ملككم. ثم ملك تكش البلد عنوة بعد أيام يسيرة وعفا عن أهله، وأحسن إليهم وفرق فيهم مالا كثيرا، وأقام بها مدة ثم عاد إلى خوارزم.. وفى سنة خمس وتسعين وخمسماية وصلت الخلع من جهة الخليفة إلى خوارزم شاه تكش ولولده قطب الدين محمد والتقليد بما بيده من البلاد، فلبسا الخلع، واشتغل تكش بقتال الملاحدة «1» فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان [كشاى] «2» وانتقل

ذكر وفاة خوارزم شاه تكش

إلى حصار الموت. ثم عاد إلى خوارزم، وأمر ولده قطب الدين بحصار قلعة نرشيش «1» من حصون الملاحدة، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة وصالحوه على ماية ألف دينار، ففارقها وأجابهم إلى الصلح لما بلغه من مرض أبيه. ورحل عنها، وعاد إلى خوارزم فمات والده قبل وصوله إليه. ذكر وفاة خوارزم شاه تكش كانت وفاته فى العشرين من شهر رمضان سنة ست وتسعين وخمسماية بشهر ستانه «2» بين نيسابور وخوارزم. وكان قد سار من خوارزم لقصد خراسان وبه مرض الخوانيق، فاشتد مرضه ومات. ولما اشتد به المرض أرسل من معه إلى ولده قطب الدين يستدعونه، فوصل بعد وفاة أبيه، وتولى الملك، ولقب بلقب أبيه علاء الدين خوارزم شاه، وأمر بحمل أبيه إلى خوارزم، فحمل إليها ودفن فى تربة كان قد عملها فى المدرسة التى بناها، وكان عادلا سن السيرة وله معرفة وعلم. وكان حنفى المذهب ويعرف الأصول رحمه الله تعالى.

ذكر أخبار السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد ابن علاء الدين تكش بن ألب أرسلان بن أتسز ابن محمد بن أنوشتكين

ذكر أخبار السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد ابن علاء الدين تكش بن ألب أرسلان بن أتسز ابن محمد بن أنوشتكين وهو الذى عظم من ملوك هذه الدولة شأنه، وكثرت جيوشه وأعوانه، وشاع بين الملوك ذكره، وعم الممالك نهيه وأمره، واجتمع فى ملكه ما افترق لغيره من الممالك، وتسهل لديه ما شسع على من سواه من المسالك، ودان لطاعته ملوك الأقطار، فتساوى عنده الآمر والمأمور، والمملوك والمالك. قال شهاب الدين محمد بن أحمد بن على المنشى النسوى. «1» فى تاريخه، أنه ضم إلى ما ورثه من أبيه من ملك خراسان وخوارزم والعراق ومازندران «2» ؛ وضم إلى هذه الواسطة كرمان ومكران وكيش وسجستان وبلاد الغور وغزنة وباميان «3» إلى ما يليها من الهند بأغوارها وأنجادها، والسيوف مهملة فى أغمادها، والعواتق

معطلة فى نجادها، ملكها بالهيبة عفوا صفوا، وملك عن الخطاية «1» وغيرهم من ملوك الترك، وقروم «2» ما وراء النهر ما يقارب أربعماية مدينة. وخطب له على منابر فارس وأران «3» وأذربيجان إلى مايلى در بند شروان. قال: واشتملت جريدة ديوان الجيش على ما يقارب أربعماية ألف فارس، فلما عظم شأنه وتمكن سلطانه تطاول إلى طلب ملك آل سلجوق والحكم ببغداد، وتكررت مراسلاته إلى الخليفة فلم يجب إلى ذلك، فاحتفل بهذا الأمر، فكان من جملة ذلك أن بطل النوب الخمس التى كانت تضرب على أبواب الملوك فى أوقات الصلوات الخمس على عادة من تقدمه «4» ، وجعلها إلى أولاد السلاطين يضربونها فى الأقاليم التى سماها لهم على أبواب دور السلطنة واختص هو بضرب نوبة الاسكندر ذى القرنين- وهى عند طلوع

الشمس وعند غروبها- واستعمل بهذه النوبة سبعا «1» وعشرين دبدبة من الذهب ورصعها بأنواع الجواهر؛ وكذلك جمع ما يحتاج إليه من الآلات. ونص فى أول يوم اختاره لضربها على سبعة وعشرين ملكا من أكابر الملوك وأولاد السلاطين ليسمع بذلك. وكان منهم ابن طغرل السلجقى، وأولاد غياث الدين صاحب الغور وغزنة والهند، والملك علاء الدين صاحب باميان والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ «2» ، والملك سنجر صاحب بخارى، وأشباه هؤلاء وأعوزه لتمام سبعة وعشرين ملكا فكملهم بابن أخيه أدبزخان «3» ، ووزير الدولة نظام الملك ناصر الدين محمد بن صالح، فهؤلاء الذين ضربوها فى اليوم الذى اختير لضربها فشغله عن ملك بغداد حادثة التتار، وهى الداهية العظمى؛ على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وها نحن نذكر سياقه أخباره وابتداء سلطنته فنقول: كان ابتداء ملكه بعد وفاة أبيه فى العشر الآخر من شهر رمضان سنة ست وتسعين وخمسماية. ولما ملك استدعى أخاه على شاه ابن تكش عن إصفهان، فسار إليه فنهب أهل إصفهان خزانته. فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب خراسان والتقدم على جندها وسلم إليه نيسابور. قال وكان هندوخان ابن أخيه ملكشاه بن تكش، فخاف عمه محمد فهرب منه بعد أن نهب كثيرا من خزائن جده تكش عند وفاته، فإنه كان معه وسار إلى مرو وجمع جموعا كثيرة، فسير إليه

ذكر ملك خوارزم شاه وما كان الغورية قد ملكوه من بلاده

عمه جيشا مقدمه جقر التركى، فهرب هندوخان عن خراسان، وسار إلى غياث الدين ملك غزنة يستنجده على عمه. فأكرمه وأحسن إليه وأقطعه أقطاعا، وأوعده النصرة، ودخل جقر مدينة مرو وبها والده هندوخان وأولاده، فأرسلهم، إلى خوارزم مكرمين، ثم راسل جقر غياث الدين صاحب غزنة فى الانضمام إليه ومفارقة الخوارزمية، فأطمعه ذلك فى البلاد، وجهز أخاه شهاب الدين لقصد خراسان، والاستيلاء على ما بها من بلاد خوارزم شاه. فسار فى جمادى الأولى سنة سبع وتسعين، وملك مرو وسلمها غياث الدين إلى هندوخان بن ملكشاه، وملك سرخس، وملك طوس، وملك نيسابور وبها على شاه أخو السلطان خوارزم شاه، فسلمه إلى أخيه شهاب الدين على ما قدمناه فى أخبار الدولة الغورية. ذكر ملك خوارزم شاه وما كان الغورية قد ملكوه من بلاده كان سبب ذلك أن شهاب الدين الغورى بعد أن ملك ما ملك من بلاد خوارزم شاه، توجه إلى الهند، بعد أن رتب فى كل بلد من نوابه من يحفظه ويقوم بمصالحه فلما توجه إلى الهند راسل خوارزم شاه غياث الدين وعاتبه، وقال فى جملة رسالته: إننى كنت أظن أنك تنصرنى على من يقصد التطرق إلى بلادى من ملوك الخطا وغيرهم، فحيث لم تفعل فلا أقل أن لا تؤذينى فى ملكى. وطلب منه إعادة ما أخذه من بلاده. وقال: ومتى لم تفعل انتصرت عليك بالخطا

وغيرهم من الأتراك، إن عجزت عن استرجاع بلادى، إلى غير ذلك من الكلام فأخذ غياث الدين يغالطه فى الجواب ويكرر الرسائل، وهو ينتظر خروج شهاب الدين من الهند، فإن غياث الدين كان يعجز عن ملاقاته لما به من النقرس، فجمع علاء الدين العساكر وسار فى منتصف ذى الحجة سنة سبع وتسعين وتوجه إلى مرو، فلما قاربها هرب منها ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه وتوجه إلى غياث الدين، وملكها خوارزم شاه، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين محمد الغورى صهر غياث الدين، وهو الذى كان يلقب ضياء الدين، فقاتله قتالا شديدا. وطال مقام خوارزم شاه، فراسله غير مرة فى تسليم البلد وهو لا يجيب، رجاء أن يصله المدد من غياث الدين فلما طال عليه الحصار وأيس من وصول الأمداد إليه، راسل فى طلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية، فأجابه إلى ذلك وتسلم البلد، وأحسن إلى علاء الدين ومن معه. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس وبها الأمير زنكى فحصره أربعين يوما، فضاقت الميرة على أهل البلد، فراسله زنكى أن يتأخر عن باب البلد ليفارقها هو ومن معه، واعتذر أنه لا يمكنه الاجتماع به لقرب نسبه من غياث الدين، فتأخر خوارزم شاه عن المدينة وأبعد. فخرج زنكى، وأخذ من الغلات والأقوات والأحطاب التى كانت فى العسكر ما يحتاج إليه، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان ضاق به الأمر، فندم خوارزم شاه على موافقته، ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من أمرائه يحاصرونه. فلما سار خوارزم شاه

عن سرخس قصد نائب الغورية بالطالقان «1» أن يكبس العسكر الخوارزمى المحاصر لسرخس. وكتب بذلك إلى زنكى؛ فشعر الخوارزميون بذلك ففارقوا سرخس، فأدركهم نايب الطالقان، وأوقع بهم، وقتل أمير علمهم، وكسر كوساتهم «2» ، فانقطع صوتها عن العسكر، ولم يروا الأعلام، فانهزموا، ونال الغورية منهم منالا عظيما قتلا وأسرا. فلما اتصل هذا الخبر بخوارزم شاه، عاد إلى خوارزم، وكتب إلى غياث الدين وراسله فى الصلح، فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسن بن محمد المرغنى، ومرغن من قرى العور، فقبض عليه خوارزم شاه، وكان أخوه عمر بن محمد المرغنى نائب الغورية بهراة. وسار خوارزم شاه إلى هراة بمكاتبة بعض أمرائها، فنمى خبر من كاتبه إلى المرغنى، فأمسكهم، وأقام خوارزم شاه يحاصر المدينة أربعين يوما، ثم رجع عنها لما بلغه عود شهاب الدين الغورى من الهند وذلك بعد مصالحة أميرها المرغنى على مال حمله إليه. ولما عاد شهاب الدين من الهند بلغه ما فعله خوارزم شاه فى غيبته، وما ملكه من بلاد خراسان، فسار إلى خراسان، فانتهى إلى بلخ ثم إلى باميان وإلى مرو، عازما على حربه. فالتقت أوائل عسكريهما،

فاقتتلوا قتالا شديدا، وتوجه خوارزم شاه شبه المنهزم، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فشتا «1» بها وهو على عزم المسير لمحاصرة خوارزم، فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فعاد إلى هراة وجلس للعزاء واستخلف بطوس محمد بن جريك «2» ، فجهز خوارزم شاه من عساكره من حصر طوس فجرى بينهم وبين النايب بها حروب كثيرة، آخرها أن النايب بها سأل الأمان لنفسه فأمنه منغور «3» التركى- وهو مقدم العسكر الخوارزمى- فلما خرج إلى العسكر قتلوه، وأخذوا ما معه، وملكوا طوس. واتصل هذا الخبر بشهاب الدين الغورى فعظم عليه، وترددت الرسائل بينه وبين خوارزم شاه، فلم يحصل بينهما اتفاق. ثم قصد شهاب الدين غزو الهند على عادته، فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازى، وقلد الملك علاء الدين محمد بن على الغورى بمدينة فيروزكوه «4» وبلد الغور، وولاه حرب خراسان. وتوجه إلى الهند، فقصد خوارزم شاه مدينة هراة وحاصرها. وذلك فى شهر رجب سنة ستماية. واستمر إلى سلخ شعبان، وكثرت القتلى بين العسكرين، فراسل خوارزم شاه ألب غازى أن يخرج إليه ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك ثم اتفق

مرض ألب غازى، واشتد به فخاف أن يشتغل بمرضه، فيملك البلد فأجاب إلى ذلك، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض، فمات ولم بشعر به أحد. وارتحل خوارزم شاه إلى سرخس فأقام بها. قال: ولما اتصل الخبر بشهاب الدين عاد من الهند، وقصد خوارزم، فراسله خوارزم شاه فى العود، وتهدده إن لم يعد بحرب هراة، ومنها إلى غزنة، فعاد عليه جوابه أن خوارزم تجمعنا. وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، ونزل بظاهرها، فلما أتاه جواب شهاب الدين فرق عساكره وأحرق جميع ما معه من العلوفات ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم فسبقه إليها، وقطع الطريق التى تسلكها الغورية بإجراء المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام فى إصلاحها أربعين يوما حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم. والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، وجرى بينهم قتال شديد، كثرت فيه القتلى من الطائفتين، فأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم على الغورية، وهم حينئذ ملوك ما وراء النهر، فاستعدوا وساروا إلى بلاد الغورية، فبلغ شهاب الدين خبر مسيرهم، فعاد عن خوارزم. وكان من أمره مع الخطا وقتالهم وهزيمته منهم ما قدمناه فى أخباره وذلك فى صفر سنة إحدى وستماية، فلا فائدة فى إعادته فى هذا الموضع. ولم تطل مدة شهاب الدين بعد ذلك فإنه فتل فى أوائل شعبان سنة اثنتين وستماية، فاستولى خوارزم شاه حينئذ على ما نذكره بخراسان وغيرها

ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان

ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان كان سبب ذلك أن شهاب الدين الغورى لما قتل كما ذكرنا استقر الملك بعده لغياث الدين بن غياث الدين أخيه ووقع من الاختلاف بين الغورية وافتراقهم ما ذكرناه فى أخبارهم، واتفق أن الحسين بن [خرميل] «1» والى هراة كاتب خوارزم شاه فى الانتماء إليه والخروج عن طاعة الغورية. وشرع يغالط فى الخطبة بهراة لغياث الدين وهو ينتظر وصول العسكر الخوارزمى إليه، فراسله غياث الدين، فى الخطبة له، وجهز إليه الخلع فلبسها ابن خرميل وأصحابه ووعد بالخطبة له فى يوم الجمعة. فلما كان فى يوم الجمعة قرب العسكر الخوارزمى من هراة فطالبه رسل غياث الدين بالخطبة، فقال نحن فى أشغل من ذلك بقرب هذا العدو. ولما وصل العسكر الخوارزمى تلقاهم ابن خرميل وأنزلهم بظاهر هراة، وجهز إليهم الإقامات، فقالوا قد رسم لنا خوارزم شاه أن نطيعك ولا نخالف أمرك، فشكرهم على ذلك. ثم بلغه أن خوارزم شاه نزل على بلخ وحاصرها، وأن صاحبها قاتله بظاهر البلد، وأنه نزل على أربعة فراسخ منها، فاستدل ابن خرميل بذلك على عجزه. وندم على مراسلته، وقال للعسكر إن خوارزم شاه قد صالح غياث الدين والمصلحة أن ترجعوا، فرجعوا. واتفق أن غياث الدين

ذكر ملكه ترمذ وتسليمها للخطا

بلغه ما فعله ابن خرميل، فاحتاط على إقطاعه وقبض على من يلوذ به، فوصل الخبر إليه بذلك فأعاد العسكر الخوارزمى بعد رحيله بيومين وسلم لهم البلد، وأخرج من كان بها من العورية، ومن يميل إليهم، ثم ملك خوارزم شاه مدينة بلخ فى سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستماية صلحا، بعد حروب كثيرة بينه وبين عماد الدين. وخلع خوارزم شاه عليه، وأقره بالبلد ثم سار عنها إلى جرزبان «1» ، وبها على بن أبى على، فراسله وآيسه من نجدة غياث الدين، فنزل عنها وسلمها له، وتوجه إلى غياث الدين وسلّم خوارزم شاه جرزبان إلى ابن خرميل فإنها كانت أقطاعه، ثم قبض على عماد الدين صاحب بلخ وسيره إلى خوارزم، واستناب ببلخ جقر التركى. ذكر ملكه ترمذ وتسليمها للخطا قال: ثم سار خوارزم شاه من مدينة بلخ إلى ترمذ مجدا، وبها ولد عماد الدين صاحب بلخ، فراسله فى تسليمها، ووعده الخير، واعتذر من إرسال أبيه إلى خوارزم أنه أنكر منه حاله، وأنه سيره مكرما، فرأى ابن عماد الدين أن خوارزم شاه قد حاصره من جانب والخطا حاصروه من جانب، فضعفت نفسه وسلم البلد، بعد أن استحلف خوارزم شاه على الوفاء له. ولما تسلم خوارزم شاه البلد، سلمها للخطا خديعة منه ليتمكن من ملك خراسان.

ذكر ملكه الطالقان

وفى سنة اثنتين وستماية، سار من عسكر خوارزم شاه عشرة آلاف فارس إلى بلد الجبل، فوصلوا أرزنكان، وكان صاحبها أيتغمش قد اشتغل بحرب صاحب أريل ومراغه، فاغتنموا خلو البلاد وأفسدوا وقتلوا ونهبوا، ثم عاد أيتغمش فاوقع بهم، فانهزم الخوارزميون، وأخذهم السيف من كل جانب. ذكر ملكه الطالقان قال: ولما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار إلى [اندخوى] «1» وكان النايب بها عن غياث الدين سونج أمير شكار، فاستماله خوارزم شاه، فأبى إلا القتال، وبرز لقتاله فالتقوا بالقرب من الطالقان. فلما تقابل العسكران حمل سونج بمفرده حتى قارب عسكر خوارزم شاه، وألقى نفسه إلى الأرض، ورمى سلاحه، وقبل الأرض، وسأل العفو عنه. فذمه خوارزم شاه وسبه، وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب، وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول، وأراد بذلك التقرب إليه وملاطفته. واستناب بالطالقان بعض أصحابه، ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا. قال: وتوجه ابن خرميل نائب خوارزم شاه بهراة إلى اسفزار «2» فى صفر سنة ثلاث وستماية. وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين

ذكر أسر خوارزم شاه وخلاصه

فحصرها وتسلمها فى شهر ربيع الأول من السنة بالأمان. ولما أخذها أرسل إلى صاحب سجستان يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه، والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك وخطب له. ذكر أسر خوارزم شاه وخلاصه وفى سنة أربع وستماية عبر السلطان علاء الدين خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا. وسبب ذلك أنهم كانت قد طالت مدتهم ببلاد تركستان وما وراء النهر، وثقلت وطأتهم على الناس. وكان لهم فى كل مدينة نائب يجبى لهم الأموال وهم يسكنون الخركاهات «1» على عادتهم قبل الملك. وكان مقامهم بنواحى أوزكند «2» وبلاساغون «3» وكاشغر «4» . فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى ويلقب قان قانان ومعناه سلطان السلاطين، وهو من أولاد الملوك الخانية عريق فى الإسلام والملك، أنف من تحكم الكفار الخطا على المسلمين، فأرسل إلى خوارزم شاه يحثه على قصد الخطا وقتالهم، وأنه يكون معه عليهم، ويحمل إليه ما يحمله إليهم، ويخطب له ببلاده،

ويضرب السكة باسمه، وحلف له على ذلك، وسير إليه أكابر بخارى وسمرقند. فاستوثق خوارزم شاه منه وأخذ فى إصلاح بلاده وتقرير النواب بها، وصالح غياث الدين محمود الغورى على ما بيده ثم جمع العساكر وسار إلى خوارزم، وتجهز منها وعبر جيحون. واجتمع بسلطان سمرقند، فاجتمع الخطا، وجاء إليه. وكان بينهم حروب كثيرة تارة له وتارة عليه، ودامت على ذلك مدة، فاقتتلوا فى بعض الأيام فانهزم عسكره، وقتل منهم وأسر جماعة، فكان من أسر خوارزم شاه، أسر هو وابن شهاب الدين مسعود وهو من أكابر أمرائه، أسرهما رجل واحد. ووصلت العساكر الخوارزمية إلى خوارزم وقد فقدوا السلطان فاتصل الخبر بكزلك «1» خان والى نيسابور وكان إذ ذاك يحاصر هراه بعد قتل ابن خرميل على ما نذكره، ففارق هراه وتوجه إلى نيسابور وكان خوارزم شاه لما ملكها من الغورية خرب سورها فشرع فى إصلاحه وشحنها بالجند واستكثر من الميرة وعزم على الاستيلاء على خراسان، إن صح له فقد السلطان. واتصل خبر خوارزم شاه بأخيه على شاه وهو بطبرستان فدعا لنفسه وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة. هذا ما كان من أولئك، وأما خوارزم شاه فأنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود: «المصلحة أن تصير خادما لى فى هذه المدة لأتحيل فى خلاصك» فصار خوارزم شاه يخدمه، ويقف بين.

يديه، ويلبسه قماشه، ويطويه إذا قلعه، ويقدم له الطعام، ويعامله معاملة الغلمان. فقال الذى أسرهما لابن مسعود: «أرى هذا يخدمك» فقال: «هو غلامى» قال: «فمن أنت» قال: «أنا فلان» فأكرمه الخطاى وعظمه وقال له: «لولا أن القوم قد عرفوا بمكانك عندى أطلقتك» فشكره ابن مسعود وأعقله أياما وقال له: «إنى أخاف أن يرجع المنهزمون فلا يرانى أهلى معهم، فيظنون إننى قتلت، فيقتسمون مالى فأهلك، وأحب أن تقرر علىّ ما تريد من المال، أحمله إليك، فقرر عليه مالا وقال: «أريد أن تأمر رجلا عاقلا من أصحابك يذهب بكتابى إلى أهلى، ويخبرهم بعافيتى، ويحضر معه المال» ثم قال: إن أصحابك لا يعرفون أهلنا، وهذا غلامى أنا أثق به، ويصدقه أهلى بسلامتى. فأذن الخطاى فى إرساله، فجهزه وأرسل معه عدة من الفرسان يحمونه، فسار حتى قارب خوارزم، وعاد الفرسان ووصل خوارزم شاه إلى خراسان، فاستبشروا به وضربت البشائر وبلغه ما فعله أخوه بطبرستان وكذلك خان بنيسابور. فأما كزلك خان فإنه لما بلغه وصوله أخذ أمواله وأهله وأصحابه وهرب صوب العراق؛ وأما على شاه فهرب إلى غياث الدين الغورى فأكرمه. ودخل خوارزم شاه إلى نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائبا وأما ابن مسعود فإن الخطاى قال له: «قد عدم خوارزم شاه فهل عندك شىء من خبره» قال: «هو أسيرك» قال: فلم لا أعلمتنى به حتى كنت أبالغ فى خدمته وأسير بين يديه إلى ملكه؟» قال: خفت عليه منك. فسار الخطائى وابن مسعود إلى خوارزم شاه فأكرمهما إكراما كثيرا وبالغ فى الإحسان إليهما.

ذكر قتل الحسين بن خرميل وحصرهراه وملك فيروزكوه والفور

ذكر قتل الحسين بن خرميل وحصرهراه وملك فيروزكوه والفور كان سبب ذلك أن خوارزم شاه لما سار إلى بلاد الخطا ساءت سيرة من بهراة «1» من العسكر الخوارزمى، وتعدوا على الرعية. فقبض ابن خرميل النايب بهراة عليهم وحبسهم. وكتب بذلك إلى خوارزم شاه، فعظم ذلك عليه، وما أمكنه الإنكار عليه لبعده عن البلاد، فكتب إليه يستصوب رأيه فيهم، ويأمره بإنقاذه، إليه لاحتياجه إلى الجند. وقال: «قد أمرت عز الدين جلدك بن طغرل أن يكون عندك لعقله وحسن سيرته، وأرسل إلى جلدك أن يحتال وفى القبض على ابن خرميل» فسار جلدك فى ألفى فارس إلى هراه، فخرج إليه ابن خرميل، فنهاه الوزير المعروف بخواجا الصاحب، كان قد حنكته التجارب، وقال: «أخشى عليك أن تكون مكيدة» فخالفه وخرج للقاء جلدك، فلما التقيا ترجلا للسلام؛ فحال جلدك بين ابن خرميل وأصحابه وأمسكه، فانهزم أصحابه ودخلوا مدينة هراة، وأعلموا الصاحب بذلك، فأغلق الأبواب وامتنع على جلدك، فقدم ابن خرميل إلى السور، وخاطب الوزير فى فتح الباب، فامتنع وأظهر شعار غياث الدين الغورى، فعندها قتل جلدك ابن خرميل، وكتب إلى خوارزم شاه يعلمه بذلك، فأنفذ خوارزم شاه إلى كزلك خان والى نيسابور، وإلى أمير الدين صاحب زوزن «2» يأمرهما

بالمسيرة إلى هراة وحصارها، فسارا فى عشرة آلاف فارس، فعجزا عنها وقال الوزير: «ما أسلمها إلا لخوارزم شاه، إذ أعاد هذا كله قبل أسر خوارزم شاه» . فلما أسر وشاع عدمه فارقها كزلك خان إلى نيسابور كما ذكرنا، واستمر من سواه على حصارها فلما عاد خوارزم شاه ودخل إلى نيسابور كما ذكرنا، سار منها إلى هراة، وأحسن إلى العسكر الذى استمر على حصارها وشكرهم، وطلب تسليمها فامتنع الوزير وقال: لا أسلمها إلا إلى غياث الدين. ثم اتفقت فتنة بهراة بين الوزير والجند، فكتب إلى خوارزم شاه من البلد، فزحف عليها وهدم برجين من أبراجها، وأهلها قد اشتغلوا بالفتنة الكائنة بين الوزير والجند، فملكها خوارزم شاه وقبض على الوزير وقتله وذلك فى سنة خمس وستماية. وأصلح حال البلد وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، وأمره بالمسير إلى غياث الدين محمود الغورى بفيروزكوه، وأن يقبض عليه وعلى أخيه على شاه بن تكش، ويأخذ فيروزكوه. فسار إلى فيروزكوه، فاتصل الخبر بصاحبها غياث الدين محمود، فبذل الطاعة وسأل الأمان، فأمنه ونزل غياث الدين إليه، فقبض أمير ملك عليه وعلى على شاه أخى خوارزم شاه، وكتب إلى خوارزم شاه بذلك، فأمره بقتلهما فقتلا فى يوم واحد، وذلك فى سنة خمس وستماية. وانقرضت الدولة الغورية بقتل غياث الدين هذا واستقامت خراسان لخوارزم شاه.

ذكر عوده إلى بلاد الخطا وظفره بهم وأسر مقدمهم وملكه ما وراء النهر

ذكر عوده الى بلاد الخطا وظفره بهم وأسر مقدمهم وملكه ما وراء النهر قال: ولما استقر ملك خراسان للسلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد، جمع العساكر وعبر نهر جيحون، وجمع الخطا جمعا عظيما، وكان المقدم عليهم طاينكوه، وهو شيخ دولتهم والقائم مقام الملك فيهم، وكان عمره قد تجاوز ماية سنة، وله خبرة بالحروب. فاجتمع خوارزم شاه- هو وصاحب سمرقند- والتقوا هم والخطا، وذلك فى سنة ست وستماية. فجرى بينهم حروب كان الظفر فيها لخوارزم شاه وانهزم الخطا وقتل منهم وأسر خلقا كثيرا. فكان ممن أسر مقدمهم طاينكوه، فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه، ثم جهزه إلى خوارزم. وقصد خوارزم شاه بلاد ما وراء النهر، فملكها مدينة بعد أخرى حتى بلغ أوزكند «1» ، فجعل نوابه فيها على عادة الخطا وعاد إلى خوارزم، ومعه سلطان سمرقند. وكان من أحسن الناس صورة، فكان أهل خوارزم يتجمعون حتى ينظروا «2» إليه، فزوجه خوارزم شاه ابنته، ورده إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بها على عادة الخطا.

ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين

ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين قال: ولما عاد صاحب سمرقند إليها ومعه الشحنة، أقام معه سنة، فرأى صاحب سمرقند من سوء سيرة الخوارزميين ماندم بسببه على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه، ويعود إلى طاعته، وأمر بقتل كل من بسمرقند من الخوارزمية، ممن كان بها قديما وحديثا، وأخذ أصحاب خوارزم شاه، فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم فى الأسواق كما يعلق القصاب اللحم. ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته- ابنه خوارزم شاه- فأغلقت الأبواب، ووقفت بجواريها، ومانعت عن نفسها، وأرسلت إليه تقول: «أنا امرأة وقتل مثلى قبيح عليك، وما فعلت معك من الإساءة ما استوجب ذلك منك، ولعل تركى أحمد عاقبة، فاتق الله.» فتركها ووكل بها من يمنعها من التصرف فى نفسها. ووصل الخبر إلى خوارزم شاه، فعظم عليه، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعته أمه من ذلك، وقالت: «هذا بلد قد أتاه الناس من أقطار الأرض ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل.» فأمر بقتل أهل سمرقند فمنعته من ذلك أيضا، فتركهم. وأمر عساكره بالتجهز إلى ما وراء النهر، وسيرهم أرسالا، فعبروا جيحون، وعبر هو فى آخرهم، وسار حتى نزل على سمرقند. وأنفذ إلى صاحبها يقول: قد فعلت ما لم يفعله مسلم، واستحللت من دماء المسلمين ما لم يقدم عليه غيرك من مسلم ولا كافر، والآن عفا الله

ذكر الواقعة التى أفنت الخطا

عما سلف، فاخرج من البلاد وامض إلى حبث شئت. فامتنع من ذلك، فأمر خوارزم شاه بالزحف على سمرقند، فلم يكن بأسرع من أن فتح البلد، وأمر أن لا يتطرق إلى الغرباء بسوء، وأذن لأصحابه فى نهب البلد، وقتل أهله، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فيقال أنهم قتلوا من أهل سمرقند مايتى ألف إنسان، وسلم الدرب الذى فيه الغرباء، فلم يعدم منهم أحد، ثم أمر بالكف عن النهب والقتل. ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ماملأ قلبه هيبة ورعبا، فطلب الأمان فلم يجبه خوارزم شاه إلى ذلك، وزحف على القلعة وملكها، وقتل صاحبها صبرا. وقتل معه جماعة من أقاربه، ولم يترك أحدا ممن ينسب إلى الخانية. ورتب فيها وفى سائر البلاد نوابه ولم يبق لغيره بها حكم. ذكر الواقعة التى أفنت الخطا وهذه الواقعة قد اختلف فى إيرادها ابن الأثير الجزرى فى تاريخه المترجم بالكامل، وشهاب الدين محمد المنشى فى التاريخ الجلالى، ونحن الآن نذكر فى هذا الموضع ما نقله ابن الأثير، ونذكر فى أخبار الدولة الجنكزخانية ما نقله المنشى. وإتما نبهنا على ذلك فى هذا الموضع لئلا يقف عليه متأمل فيرى فى النقل الاختلاف فيظن أن ذلك عن سهو أو غلط أو التباس. فأما ما حكاه ابن الأثير فإنه قال: لما فعل خوارزم شاه بالخطا ما فعل- يعنى من هزيمتهم وأسر مقدمهم طاينكوه- مضى من سلم

منهم إلى ملكهم، فإنه لم يكن قد شهد الحرب، فاجتمعوا عنده. وكانت طائفة عظيمة من التتار قد خرجوا من بلادهم حدود الصين ونزلوا وراء بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا حروب كثيرة وعداوة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بعساكر الخطا قصدوهم مع ملكهم كشليخان «1» فأرسل ملك الخطا إلى خوارزم شاه يقول: «أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فمعفو عنه، وقد أتانا من هذا العدو مالا قيل لنا به، فإن انتصروا علينا وملكوا البلاد، فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض لما بيدك من البلاد، ونقنع بما فى أيدينا.» وأرسل إليه كشليخان يقول: «إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداؤنا، فساعدنا عليهم، ونحلف لك أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك، ونقنع بالمواضع التى ينزلونها، والمراعى التى يرعونها.» فأجاب كل منهما: «إننى معك على خصمك،» وسار بعساكره إلى أن نزل قريبا من الموضع الذى يتصافون «2» ، فيه ولم يخالطهم مخالطة يعلمون بها أنه مع أحد منهم على الآخر، فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها. والتقى التتار والخطا فانهزم الخطا منهم هزيمة عظيمة، فعند ذلك مال خوارزم شاه على الخطا، وجعل يقتل منهم ويأسر وينهب، فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم، فى موضع من نواحى

بلاد الترك، تحيط بها جبال يتعذر الوصول إليها إلا من جهة واحدة، فتحصنوا بها، وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة. وصاروا فى عسكره فأنفذ خوارزم شاه إلى كشليخان ملك التتار يمت عليه «1» بأنه ساعده، ولولا ذلك ما تمكن من الخطا. فاعترف له بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا. وقال: «كما أن نحن اتفقنا على إبادتهم ينبغى أن نقتسم بلادهم،» فقال: «ليس لك عندى إلا السيف، ولستم بأقوى منه شوكة، ولا أعز ملكا، فإن رضيت بالمسالة وإلا سرت إليك وفعلت بك شرا مما فعلت بهم» وتجهز كشليخان ونزل بالقرب من خوارزم شاه، فعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به، فكان يراوغه، فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم، فينهبها، وإذا سارت طائفة منهم عن مكانهم سار فأوقع بهم. فأرسل إليه كشليخان يقول: «ليس هذا فعل الملوك وإنما هو فعل اللصوص، فإن كنت سلطانا كما تقول فيجب أن نلتقى، فإما تهزمنى وتملك البلاد التى بيدى، أو أفعل أنا بك ذلك. فكان خوارزم شاه يغالطه فى الجواب، ولا يصمم على حربه، ولكنه أمر أهل الشاش «2» وفرغانة وأسفيجاب «3» وكاشان، وما حول ذلك من المدن التى لم يكن فى الدنيا أنزه منها ولا أحسن عمارة، بالجلاء

ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران من السند

منها واللحاق ببلاد الإسلام، ثم خربها جميعا خوفا من التتار أن يملكوها. ثم اتفق خروج جنكزخان التمرجى ملك التتار على كشليخان، فاشتغل بقتاله عن قتال خوارزم شاه، فخلا وجهه، وعاد من بلاد ما وراء النهر إلى خراسان. ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران من السند قال: كان من جملة نواب خوارزم شاه تاج الدين أبو بكر نايبه بمدينة زوزن. وكان تاج الدين هذا فى ابتداء أمره جمّالا، يكرى الجمال للأسفار، ثم صار على جمال خوارزم شاه، فرأى منه جلدا وأمانة، فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره، ثم ولاه مدينة زوزن. وكان ذا عقل وسياسة، فقال يوما لخوارزم شاه: «إن بلاد كرمان مجاورة لبلدى، فلو أضاف السلطان إلىّ عسكرا لملكتها فى أسرع وقت» فسير معه عسكرا فمضى إلى كرمان، فقاتل صاحبها [حرب] «1» بن محمد بن أبى الفضل، وملكها فى أسرع وقت، وسار منها إلى نواحى مكران، فملكها إلى السند من حدود كابل، وسار إلى هرمز مدينة على ساحل بحر مكران، فأطاعه صاحبها وخطب بها لخوارزم شاه، وخطب له

ذكر ملكه غزنة وأعمالها

بقلهات «1» وبعض عمان، وذلك فى سنة إحدى عشرة وستماية أو ما يقاربها. ذكر ملكه غزنة وأعمالها قال: ولما استولى خوارزم شاه على عامة بلاد خراسان، وملك باميان» وغيرها، أرسل إلى تاج الدين الدز صاحب غزنة، وهو الذى ملكها من الغورية، وهو من مماليكهم، أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه، ويسير إليه قبلا، ليصالحه ويقر بيده غزنة. واستشار تاج الدين أمراءه فى ذلك فأشاروا به، وكان الحاكم على دولته والمتصرف فيها خوشداشه قتلغ تكين وهو النايب عنه بغزنة، فكان ممن أشار بذلك، فخطب لخوارزم شاه بغزنة، وضرب السكة باسمه، واستقر ذلك. ثم مضى تاج الدين الدز إلى الصيد، فأرسل قتلغ تكين إلى خوارزم شاه يستدعيه ليسلم إليه غزنة، فسار مجدا، وسبق خبره، وتسلم غزنة والقلعة من قتلغ تكين، وقتل من بها من عسكر الغورية، فوصل الخبر إلى صاحبها تاج الدين الدز فهرب هو ومن معه إلى لهاوور «3» .

ذكر عزمه على المسير إلى العراق وقصد بغداد، ومراسلته فى طلب آل سلجق ببغداد وما أجيب به

وأقام خوارزم شاه بغزنة، فلما تمكن أحضر قتلغ تكين، وسأله كيف كانت حاله مع الدز، فأخبره أنه كان الحاكم على دولته، والمتصرف فى الحكم وغيره، وكان يعرف ذلك، وإنما أراد إقامة الحجة عليه. فلما انتهى حديثه قال [خوارزم] شاه له: «إذا كنت ما رعيت الحق لمن أنت وهو من بيت واحد، وقد حكمك فى ملكه وصرفك فيه، فكيف تفعل مع ابنى إذا تركته عندك؟» وأمر بالقبض عليه، وأخذ منه أموالا جمة حملها على ثلاثين دابة وأربعماية مملوك، ثم قتله. وترك ولده جلال الدين بغزنة فى جماعة من عساكره وأمرائه وكان ملكه لها فى سنة ثنتى عشرة وستماية، وقيل سنة ثلاث عشرة. ذكر عزمه على المسير الى العراق وقصد بغداد، ومراسلته فى طلب آل سلجق ببغداد وما أجيب به قال شهاب الدين محمد المنشى فى تاريخه: لما عظم أمر السلطان [خوارزم شاه] وتجلت له الدنيا فى أرفع ملابسها وأشرقت شمس دولته من أكرم مطالعها، واستملئت جريدة ديوان الجيش على ما يقارب أربعمائة ألف فارس، سمت همته إلى طلب ما كان لبنى سلجوق من الحكم والملك ببغداد، وترددت الرسل فى ذلك مرارا «1» فلم يجبه الخليفة إلى مراده لعلمه بما بين يديه من الشواغل عما وراء

النهر وبلاد الترك. قال: وحكى القاضى فخر الدين عمر بن سعد الخوارزمى- وكان عند السلطان من ذوى الحظوة والاختصاص- وقد أرسله إلى بغداد مرارا، قال: كان آخر رسالاتى إليها مطالبة الديوان بما ذكرناه، فأبوا ذلك وأنكروه كل الإنكار، وقالوا: إن اختلاف الدول، وتقلب الدهر، وتغلب الخارجى على بغداد، وتسحب الإمام القائم بأمر الله منها إلى مدينة عانة، وانتصاره بطغرلبك ابن ميكائيل هو الذى اقتضى تحكم بنى سلجوق فى بغداد، «1» وإلا فليس يحسن أن يكون مع الزمان على أكتاف الخلافة محتكم يأمر فيها كيف شاء بما سر وساء، وليس فيما أنعم الله عليه به من الممالك الواسعة والأقاليم المتباعدة المتشاسعة غنية عن الطمع فى ملك أمير المؤمنين، ومشاهد آبائه الراشدين، قال: وأصحب فى عوده الشيخ شهاب الدين السهروردى «2» رحمه الله مدافعا، وواعظا وازعا، عما كان السلطان يلتمسه. وتراجعت المراسلات فى المعنى وتكررت، فكانت غير مجدية، وانضاف إلى ذلك كثرة استهانتهم بالسبيل الذى كان للسلطان فى طريق مكة، حتى بلغه تقديمهم سبيل صاحب الإسماعيلية جلال الدين الحسن على سبيله.

قال المنشى: وسمعت القاضى فخر الدين المذكور يقول: إن الشيخ شهاب الدين لما دخل على السلطان، وعنده من حسن الاعتقاد برفيع منزلته، وعالى قدره، وتقدمه فضلا على مشايخ عصره، ما أوجب تخصيصه بمزيد الإكرام عن سائر الرسل الواردة عليه من الديوان، فوقف قائما فى صحن الدار ثم أذن له فى الدخول.، فلما استقر المجلس بالشيخ قال: إن من سنة الداعى للدولة القاهرة أن يقدم على أداء الرسالة حديثا من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، تيمنا وتبركا، فأذن له السلطان فى ذلك، وجثا على ركبتيه أدبا عند سماع الحديث. فذكر الشيخ حديثا معناه التحذير من أذية بنى العباس، فلما فرغ من رواية الحديث قال السلطان: «أنا وإن كنت رجلا تركيا قليل المعرفة باللغة العربية، لكنى فهمت معنى ما ذكرته من الحديث، غير أننى ما أذيت أحدا من ولد العباس، ولا قصدتهم بسوء، وقد بلغنى أن فى محابس أمير المؤمنين منهم خلقا مخلدين «1» ، يتناسلون بها، ويتوالدون، فلو أعاد الشيخ الحديث بعينه على مسامع أمير المؤمنين كان أولى وأنفع وأجدى وأنجع.» فقال الشيخ: إن الخليفة اذا بويع فى مبدأ خلافته على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاده، فإن أفضى اجتهاده إلى حبس شرذمة لإصلاح أمة، لا يقدح ذلك فى طريقته المثلى. وطال الكلام «2» ، وعاد الشيخ والوحشة قائمة على ساقها. واتفق بعد ذلك قتل الاسماعيلية

ذكر مسيره إلى العراق وما اتفق له

أغلمش الأتابكى، وكان ينوب عن السلطان بالعراق، فركب يلتقى الحاج عند منصرفهم من الحج. قفز عليه باطنى فى زىّ حاج فقتله، وانقطعت حينئذ خطبة السلطان بالعراق فحركه ذلك إلى المسير لإعادتها. ذكر مسيره الى العراق وما اتفق له قال: ولما قتل أغلمش، وكان يقيم رسمى الخطبة والطاعة للسلطان بالعراق، طمع الأتابك أزبك بن محمد صاحب أران وأذربيجان، وسعد بن زنكى «1» صاحب فارس فيه فنهضا إليه لعلمهما ببعد السلطان، وأنه فى أعماق بلاد الترك. فرحل أزبك ودخل أصفهان بمواطأة من أهلها، وملك سعد الرى وقزوين وسمنان «2» وما تاخم ذلك وداناه. فانتهى الخبر إلى السلطان وهو بسمرقند، فاختار من العساكر ماية ألف، وترك معظم عساكره مع أمرائه بما وراء النهر وثغور الترك. فلما وصل إلى قومس اختار ممن استصحبه معه اختيارا ثانيا، ونهض فى اثنى عشر ألف فارس وسار مجدا فسبق خبره إلى جبل برزك وهى كورة من كور الرى، وسعد بظاهرها. فلما رأى سعد أوائل الخيل قد أقبلت، ظن أنهم من الأزبكية «3»

المنازعين له فى ملك العراق، فركب بنفسه وعسكره وصدق القتال. فلما شاهد السلطان جده أمر بنشر الجتر «1» . وكان ملفوفا فنشر، فحين تحقق أصحاب سعد أن الجيش جيش السلطان ولوا الأدبار ونزل سعد فقبل الأرض، فأخذ وكتف وأحضر بين يدى السلطان فأمر بالاحتياط عليه، وحمله على بعل حتى وصل إلى همذان، وقضى وطره من أزبك على ما سنذكره. وأما الأتابك أزبك صاحب أران وأذربيجان فإنه لما سمع ماحل بسعد من الأسر والإهانة «2» ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يبق له هوى العود إلى ملكه، وقنع من العنيمة بالإياب. فركب وأعد السير إلى أن قارب همذان، وهو يظن أن السلطان بالرى. فلما بقى على مرحلة من همذان، بلغه أن السلطان بها، فسقط فى يده، وتحير لا يعرف طريق الرى. فاستشار أصحابه، فأشار بعضهم بعوده إلى أصفهان، وأشار بعضهم بالمبادرة إلى أذربيجان جريدة، وترك أثقاله. وأشار عليه وزيره ربيب الدين أبو القاسم بن على بالتحصن بقلعة قزوين، وكانت قريبة منه، وهى من أمهات قلاع الأرض، ومشاهير حصونها، فلم يوافقه. واجتمع رأيه أن وجه أثقاله وخزائنه ومعظم حاشيته مع الملك نصرة الدين محمد بن تتشتكين «3»

صوب تبريز، واستصحب من خواصه زهاء مائتى فارس، وأخذ بهم نحو أذربيجان فى المسالك الوعرة والجبال الصعبة. ووجه الوزير ربيب الدين إلى السلطان برسالة، يعتذر إليه، فوقع الأمير دكجك السلحدار على أثقاله ومن معها، فهزمهم وتبعهم إلى ميانج «1» وهى كورة من كور أذربيجان على حافة النهر الأبيض، وأسر الملك نصرة الدين ومعظم من معه، وانتهبت الخزائن والأثقال، ووجد الوزير ربيب الدين فى الطريق فساقه فى جملة الأسرى إلى المخيم، فلم يصدق فى رسالته، واعتقد أنه زورها عند أسره. قال: وبقى فى كل يوم يساق الأتابك سعد ونصرة الدين والوزير ربيب الدين إلى الميدان بهمذان فيهانون والسلطان يلعب بالأكرة إذلالا لهم، ولم يزالوا كذلك إلى أن عاد نصير الدين دولتيار وهو متولى منصب الطغرا «2» للسلطان، وهو من المناصب الجليلة. غير أنه دون كتابة الإنشا فى بيت الخوارزمشاهية وفوقها عند السلاجقة وكان السلطان قد بعثه رسولا إلى الأتابك أزبك، بعد هربه يأمره بإقامة رسمى الخطبة والسكة باسمه فى عامة مملكته، وأن يحمل فى كل سنة إلى الخزانة السلطانية أتاوة معلومة، فجعل بالسكة والخطبة، وخطب للسلطان على منابر أذربيجان وأران، إلى ما يلى دربند شروان وسير إلى السلطان من الهدايا والتحف والألطاف جملة طائلة، وسلم

قلعة قزوين إلى نواب السلطان، واعتذر فى أمر الأتاوة أن الكرج استضعفوا جانبه، واستولوا على أطراف بلاده، وهذه حاله والبلاد بما تثمر من الأموال، فكيف إذا انقسمت، وحمل منها أتاوة؟. فقبل السلطان عذره فى ذلك، ورضى منه بالسكة والخطبة، وبعث إلى الكرج رسولا من جهته يقول: إن بلاد الأتابك أزبك صارت من جملة بلادنا، وهى كأحد ممالكنا، وحذرهم من الوصول إليها وقصدها، فعاد رسول السلطان من الكرج، ومعه رسولهم مصحوبا بالتقادم. هذا ما كان من أمر أزبك. وأما الملك نصرة الدين فإنه كان يحضر إلى الميدان فى كل يوم كما ذكرنا. فنظر السلطان إليه فى بعض الأيام فاذا بأذنيه حلقتان كبيرتان مجوفتان فى غلظ السوار، فسأله عن ذلك فقال: إن السلطان ألب أرسلان. السلجقى لما غز الكرج ونصره الله عليهم وأسر أمراءهم من عليهم، وأطلقهم، وأمر أن يشنقوا كل واحد منهم بحلقتين، يكتب عليهما اسسه، فلما تطاولت المدة ووهت قواعد الدولة السلجقية خلع أولئك ربقة الطاعة، ما خلا جدى فإنه أسلم وسلمت بلاده وأعقابه، ببركتى الإسلام والوفاء فرق له السلطان، وأمر بإطلاقه، وخلع عليه، وغير الحلقتين، وكتب عليهما اسمه، وأمر له بتوقيع بما كان تحت يده من البلاد التى ورثها أبا عن جد مثل مدينتى أبهر «1» وفراوى «2» بقلاعهما وأعمالهما وأضاف إليه مدينة

سراة وهى أقرب المدن إليه مما يملكه أزبك، وخلع عليه خلعة ملوكية. وأما الأتابك سعد الدين زنكى صاحب فارس فإن السلطان أطلقه وتسلم قلعتى اصطخر «1» واسكناباد وسلمها السلطان إلى المؤيد الحاجب، وزوّج الأتابك سعد بامرأة من بيت والدته، وشرط عليه أن يحمل فى كل سنة إلى الخزانة ثلث الخراج من بلاده، وأعاده بالخلع والتشاريف، وكان ولده نصرة الدين أبو بكر لما بلغه أسر والده انتصب مكانه واستمال قلوب الأمراء وبذل الأموال فأطاعوه. فلما أطلق الأتابك سعد، ووصل إلى شيراز- وهى كرسى مملكته- امتنع ولده من تسليم الملك. فبينما نصرة الدين دات يوم فى داره لم يرعه إلا وقد فتح عليه الباب، ودخل حسام الدين تكين باش «2» - وهو أكبر مماليك الأتابك والمقدم فى دولته- والأتابك وراه وبيده سيف مجرد، فضرب به وجه ابنه ضربة أثرت فى وجهه، وححز بينهما اختلاط الفريقين، فأمر الأتابك بالقبض على ابنه، فقبض عليه واعتقله مدة ثم أطلقه وعظم حال حسام الدين عنده ورقاه إلى درجة الملوكية، هذا ما كان من أمره.

ذكر قصد السلطان بغداد وما رتبه من أحوال مملكته وعوده بعد مسيره

ذكر قصد السلطان بغداد وما رتبه من أحوال مملكته وعوده بعد مسيره قال شهاب الدين محمد المنشى: ثم عزم السلطان على قصد بغداد، ورتب أحوال مملكته، وأظهر الناموس. فمن ذلك أنه ضرب نوبة الإسكندر على ما قدمناه، ومنها أنه سير الملك تاج الملك بلكان خان «1» صاحب أترار إلى مدينة نسا «2» ليقيم بها، وسير إلى خوارزم برهان الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز البخارى المعروف بصدر جيهان «3» ، رئيس الحنفية ببخارى وخطيبها. قال: ولعله بعد من الملوك والأكابر، وكان تحت يده ستة آلاف فقيه. ومنها

أنه قسم الملك بين أولاده، وعين لكل واحد منهم بلادا، ففوض خوارزم وخراسان ومازندران إلى ولى عهده قطب الدين أزلاغ شاه، واختار لتواقيعه طرة من غير تلقيب، وهى السلطان أبو المظفر ازلاغ شاه ابن السلطان محمد ناصر أمير المؤمنين. وإنما خصصه بولاية العهد دون جلال الدين اتباعا لرأى أمه تركان خاتون. وفوض ملك غزنة وباميان والغوروبست «1» وتكياباذ وزمين «2» وما يليها من الهند إلى ولده الملك جلال الدين منكبرتى، واستوزر له الصدر شمس الملك شهاب الدين الهروى، واستناب عنه كريره «3» ملك، واستصحب جلال الدين معه، وفوض ملك كرمان وكيش ومكران لولده غياث الدين [بيرشاه] «4» واستوزر له الصدر تاج الدين ابن كريم الشرق النيسابورى، وسلم ملك العراق إلى ولد، ركن الدين غور شايجى واستوزر له عماد الملك محمد بن الشديد الساوى واختار لتواقيعه من الطرة السلطان المعظم ركن الدنيا والدين أبو الحارث غور شايجى ابن السلطان الأعظم محمد قسيم أمير المؤمنين.

ذكر عود السلطان إلى بلاد ما وراء النهر ووصول رسل التتار إليه وما اتفق من الحوادث

قال: ولما رتب هذه القواعد وقرر هذا النظام عزم على قصد بغداد وسير أمامه من العساكر ما غصت به البيداء فضاقت برحبها، وسار وراءهم إلى أن علا عقبة سراباد. وكان قد قسم نواحى بغداد وهو بهمذان أقطاعا وعملا، وكتب بها توقيعات، فسقط عليه بالعقبة ثلج عظيم، فأهلك خلقا كثيرا من الجيش وتلفت الأثقال، فرجع السلطان منها، وتطير من قصد بغداد، وكان ذلك فى سنة أربع عشرة وستماية. قال: ولما رجع السلطان إلى نيسابور أتاه الخبر بوفاة مؤيد الملك قوام الدين والى كرمان ونايبه بها، فملّك السلطان ولده غياث الدين بيرشاه كرمان وكيش ومكران فسار إليها واستقام أمره بها. ذكر عود السلطان إلى بلاد ما وراء النهر ووصول رسل التتار إليه وما اتفق من الحوادث قال: ثم عاد السلطان عند منصرفه من العراق إلى ما وراء النهر ووصل إلى سمرقند، فوافته بعد ذلك رسل جنكزخان ملك التتار وهم محمود الخوارزمى وعلى خواجه البخارى ويوسف بن كنكا الأترارى «1» مصحوبين بمجلوبات الترك من نقر المعادن ونصب الختو ونوافج المسك وأحجار اليشب والثياب التى تسمى طرقوا وتتخذ من وبر الجمال البيض يباع الثوب منها بخمسين دينارا

وأكثر. وكانت الرسالة تشتمل على طلب المسالمة والموادعة، وقالوا له: إن الخان الكبير يسلم عليك ويقول: ليس يخفى علىّ عظم شأنك وسعة سلطانك، ولقد علمت بسطة ملكك ونفاذ حكمك فى أكثر أقاليم الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجب، وأنت عندى مثل أعز أولادى وغير خاف عنك أيضا أننى ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك وقد أذعنت لى قبايلهم وأنت أخبر الناس أن بلادى مثارات العساكر ومعادن الفضة وأن فيها لغنية عن طلب غيرها فإن رأيت أن تفتح للتجار فى الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت الفوائد. قال المنشى: فلما سمع السلطان الرسالة صرف الرسل، ثم استدعى محمود الخوارزمى ليلا بمفرده، وقال له: أنت رجل خوارزمى، ولا بد لك من موالاة فينا وسبيل إلينا، ووعده بالإحسان إن صدقه فيما يسأله عنه، وأعطاه جوهرة نفيسة من معضدته علامة للوفاء بما وعده، وشرط عليه أن يكون عينا له على جنكزخان. فأجابه إلى ذلك رغبة أو رهبة ثم قال: «أصدقنى فيما يقول جنكزخان أنه ملك الصين واستولى على مدينة طوغاج «1» أصادق فيما يقول أم كاذب؟» قال: «بل صادق ومثل هذا الأمر لا يخفى» . ثم قال له: «أنت تعرف ممالكى وبسطتها وعساكرى وكثرتها، فمن هذا اللعين حتى يخاطبنى بالولد «2» ؟ وما مقدار ما معه من

العساكر؟» فلما شاهد محمود الخوارزمى آثار الغيظ على وجه السلطان أعرض عن النصح، وقال: ليس عسكره بالنسبة إلى عسكرك إلا كفارس فى خيل، أو دخان جنح ليل. ثم أجاب السلطان إلى المهادنة واستقر الحال على المسالمة إلى أن وصل من بلاد التثار تجار إلى أترار وهم عمر خواجه الأترارى، والجمال المراغى «1» ، وفخر الدين البخارى «2» وأمين الدين الهروى وكان ينال خان «3» ابن خال السلطان ينوب عن السلطان بأترار فشرهت نفسه فى أموال أولئك التجار «4» ، فكاتب السلطان يقول: [إن] «5» هؤلاء القوم قد جاءوا إلى أترار فى زى التجار وليسوا بتجار، وإنما هم أصحاب أخبار، وإنهم إذا خلوا بأحد من العوام يهددونه، ويقولون إنكم لفى غفلة عما وراءكم، وسيأتيكم ما لا قبل لكم به فأذن له السلطان فى الاحتياط عليهم إلى أن يرى فيهم رأيه، فقبض ينال خان عليهم، وانقطع خبرهم، وأخذ ما كان معهم من الأموال والأمتعة ثم وردت رسل جنكزخان بن كفرج بغرا كان أبوه من

ذكر ما اعتمده السلطان من سوء التدبير لما قصده التتار

أمراء السلطان تكش ومعه رجلان يقولون للسلطان: «إنك قد كتبت خطك وأمانك للتجار أن لا تتعرض إليهم، وقد غدرت ونكثت، والغدر قبيح على الملوك، فإن زعمت أن الذى ارتكبه ينال خان كان من غير أمرك فسلمه إلىّ لأجازيه على فعله، وإلا فأذن بالحرب» فلم يرسل ينال خان، وظن أنه إن لاطف جنكزخان، أطمعه، وأمر بقتل رسله، فقتلوا. فيالها من قتلة هدرت دماء الإسلام، وأجرت بكل قطرة سيلا من الدم الحرام. فعند ذلك تجهز جنكزخان لقصده. ذكر ما اعتمده السلطان من سوء التدبير لما قصده التتار كان أول ما اعتمده من سوء التدبير لنفاذ حكم العلى القدير أنه لما بلغه خبر التتار وقصدهم البلاد، عزم أن يبتنى سورا على مدينة سمرقند على كبرها ودورها، على ما قيل اثنى عشر فرسخا، ثم يشحنها بالرجال، لتكون سدا بينه وبين الترك. ففرق عماله فى سائر أقاليم مملكته، وأمرهم أن يستسلفوا خراج سنة خمس عشر وستماية برسم عمارة السور، فجبى خراجا كاملا وأعجله التتار فلم يتمكن من عمارته، ثم بعث الحياة مرة ثانية إلى سائر الممالك، وأمرهم بجباية خراج ثالث فى سنتهم، وهى سنة أربع عشرة وستماية، وأن يستخدم بذلك رجالة ورماة، يستخدم من كل بلد بقدر ما يتحصل من المال. ثم فرق عساكره بمدن ما وراء النهر وبلاد الترك فترك ينال خان بأترار فى عشرين ألف فارس

وقتلغ خان فى جماعة أخرى فى عشرة آلاف فارس بشهر كنت، «1» والأمير اختيار الدين كشكى أمير آخور، واغل حاجب الملقب باينانج خان فى ثلاثين ألف فارس ببخارى، وطغاينجان «2» خاله وأمراء الغور فى أربعين ألف فارس بسمرقند وفخر الدين حبش النسوى وعسكر سجستان بترمذ، وبلخمورخان بوخش «3» وأبا محمد خال أبيه ببلخ. ولم يترك بلدا مماوراء النهر خاليا من عسكر كبير فكان ذلك من أعظم الأسباب التى استولى بها جنكزخان على البلاد الإسلامية، ولو جمع عساكره ولقى التتار لهزمهم. ولما شارف جنكزخان تحوم البلاد الإسلامية تباشر صوب أترار، واستولى عليها «4» بعد قتال، وأحضر ينال خان بين يديه، وأمر بسبك الفضة، وقلبها فى أذنيه وعينيه فمات. ثم استولى جنكزخان على البلاد وتحيل حتى أوقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وبين أمه وأخواله.

ذكر ما وقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وأمه وأخواله من الاختلاف بحيلة تمت بجنكزخان عليهم وما فعلته والدته من القتل ومفارقة خوارزم وما آل اليه أمرها

ذكر ما وقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وأمه وأخواله من الاختلاف بحيلة تمت بجنكزخان عليهم وما فعلته والدته من القتل ومفارقة خوارزم وما آل اليه أمرها كان سبب ذلك أن جنكزخان لما ملك أترار، أحضر نايب الوزارة بها، وهو بدر الدين العميد، واتفق معه على أن زور كتبا على لسان الأمراء أقارب والدة السلطان إلى جنكزخان، يبذلون له الدخول فى طاعته، ويقولون: «إنا تسحبنا من بلاد الترك بعشائرنا ومن يلوذ بنا إلى السلطان، رغبة فى خدمة والدته، فما نصرناه على كافة ملوك الأرض، وذلت له الجبابرة وخضعت له الرقاب فها هو الآن تغيرت نيته فى حق والدته، عتوا منه وعقوقا، وهى تأمرنا بخذلانه، فنحن على انتظار وصولك واتباع أمرك.» وكان هذا تدبير نايب الوزارة المذكور «1» . وسلم جنكزخان الكتب إلى بعض خواصه، وأمره أن يتوجه بها إلى السلطان، ويظهر له أنه قد هرب من صاحبه إليه، ففعل ذلك. فلما وصل إلى السلطان ووقف على الكتب لم يشك فى صحة ذلك، ونفر من هؤلاء «2» الأمراء، ونأى عنهم وبدد شملهم.

فلما فعل ذلك بأقارب والدته تركان خاتون غضبت لذلك، وكتب جنكزخان إليها على يد دانشمند الحاجب- وهو من خواصه- وهى إذ ذاك بخوارزم، يقول: «قد عرفت مقابلة ابنك حقوقك بالعقوق، وقد قصدته بمواطأة من أمرائه، ولست بمعترض إلى ما تحت يدك من البلاد، وأسلم لك خوارزم وخراسان وما يتاخمهما من قاطع جيحون. فكان جوابها عن هذه الرسالة أن خرجت عن خوارزم، واستصحبت ما أمكنها من حرم السلطان وصغار أولاده ونفايس خزائنه، وأمرت بقتل من كان بخوارزم من الملوك المعتقلين وأبناء الملوك وأكابر الصدور، فقتلت زهاء اثنين وعشرين «1» نفسا منهم إبنا السلطان غياث الدين الغورى وابن طغرل السلجقى وعماد الدين صاحب بلخ وابنه بهرام شاه صاحب ترمذ وعلاء الدين صاحب باميان، وجمال الدين عمر صاحب وخش وابنا «2» صاحب سقتاق من بلاد الترك، وبرهان الدين محمد وصدر جهان وأخوه «3» افتخار جهان وابناه ملك الإسلام وعزيز الإسلام واستصحبت معها عمرخان صاحب يازر «4» فصحبها إلى بلاده، وخدمها أتم خدمة، حتى إذا قاربت تخوم يازر خافت أن يفارقها، فأمرت بضرب عنقه فقتل صبرا. وسارت بمن معها إلى قلعة ايلال من قلاع مازندران، فأقامت بها

وذلك فى سنة خمس عشرة وستماية؛ وأمرت بتحصين القلعة، فحصنت؛ ثم حوصرت أربعة أشهر فكان من الاتفاق العجيب أن القلعة نفذ ماؤها، وكانت العادة أن تلك القلعة دائمة الأنواء، فقدر الله عز وجل أن صحت السماء فى زمن الحصار حتى نفذ الماء، فألجأها ذلك إلى طلب الأمان، فأجيبت إليه، ونزلت من القلعة ومعها الوزير محمد بن صالح. وذكر أنها لما نزلت من القلعة فاضت الصهاريج فى هذا اليوم، حتى نزل السيل من باب القلعة وحملت تركان خاتون أسيرة إلى جنكزخان. قيل أنه انتهى حالها إلى أن كانت تحضر سماط جنكزخان وتحمل منه فى كل وقت ما يقوتها مدة بعد أن حكمت فى أكثر البلاد على ما نذكره. وأما صغار أولاد ابنها الذين كانوا معها فقتلوا عن آخرهم إلا أصغرهم فإنه ترك عند جدته مدة ثم قتل بعد ذلك خنقا. هذا ما كان من الذكور. وأما الإناث فزوجوا بالمرتدة إلا سلطان خان «1» - التى كانت امرأة صاحب سمرقند- أخذها دوشى خان واصطفاها لنفسه هذا ما كان من أمرها وأمر من معها بعد وفاة ابنها، فلنذكر شيئا من أخبارها وما كان لها من الحكم فى دولة ابنها.. كانت تركان خاتون والدة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد من قبيلة بياووت «2» وهى فرع من فروع يمك، وهى بنت

خان جنكش، ملك من ملوك الترك وتزوج بها السلطان تكش. ولما انتقل الملك إلى ابنها أتته قبائل يمك ومن يجاورها من الترك فكثر بهم، واستظهر بمكانهم وتحكمت هى بهذا السبب فى الممالك، فلم يملك السلطان إقليما إلا وأفرد لخاصتها منه ناحية جليلة. ولقبت عند ارتفاع شأنها بخداوند جهان، معناه صاحبة العالم. وكانت [ذات] «1» مهابة ورأى. وإذا رفعت الظلامات إليها حكمت فيها على قانون العدل والإنصاف، غير أنها كانت [جسورا] «2» على سفك الدماء، وكان لها خيرات وسبلات فى البلاد قال المنشى: وكان لها من كتاب الإنشاء سبعة من مشاهير الفضلاء وسادات الأكابر وإذا ورد عنها وعن السلطان توقيعان مختلفان فى قضية واحدة لم ينظر إلا فى التاريخ فيعمل بالآخر منهما فى سائر الأقاليم. وكان طغرا تواقيعها عصمة الدنيا والدين ألغ تركان ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة فيها بحيث يعسر أن يزور عنها، فلنرجع إلى أخبار السلطان.

ذكر ما اتفق للسلطان بعد أن ملك التتار البلاد إلى أن توفى

ذكر ما اتفق للسلطان بعد أن ملك التتار البلاد إلى أن توفى قال: لما ملك جنكزخان أترار، ملك بعدها بخارى ثم سمرقند، فاتصل الخبر بالسلطان وهو مقيم بحدود كتلف «1» وأندخوذ «2» ينتظر وصول الجموع المتفرقة إليه من الجهات. فلما اتصل خبر ملك جنكزخان بخارى بالسلطان، عبر جيحون وقد أيس من بلاد ما وراء النهر، وفارقه إلى التتار من الأتراك عشيرة أخواله زهاء سبعة آلاف من الخطايية، واتصل علاء الدين صاحب قندز وغيره بجنكزخان وأخذ الناس فى التخاذل والتسلل، فلما اتصلت هذه الجموع بجنكزخان عرفوه بمكان السلطان وبما هو عليه من الوجل. وبما داخله من الخوف فعند ذلك جرّد يمنويّة «3» وسبطى «4» بهادر فى ثلاثين ألف فارس فعبروا النهر صوب خراسان ورحل السلطان من حافة جيحون إلى نيسابور، وتسلل عنه الناس فلم يقم بنيسابور إلا ساعة من نهار، ثم سار حتى أتى العراق فنزل بمرج دولت أباد. وهى من أعمال همذان وأقام أياما يسيرة ومعه زهاء عشرين ألف فارس فلم يرعه إلا صيحة الغارة وإحداق خيول التتار به، فغاتهم بنفسه، وشمل القتل جل أصحابه، ونجا السلطان فى نفر يسير

من خواصه إلى بلد الجبل ثم منها إلى الاستنداد «1» وهى أمنع ناحية من نواحى مازندران ذات دربندات ومضايق ثم منها إلى حافة البحر وأقام عند الغرضة بقرية من قراها، يحضر إلى المسجد فيصلى به إمام القرية الصلوات الخمس ويقرأ له القرآن، وهو يبكى وينذر النذور ويعاهد الله تعالى بإقامة العدل. ولم يزل كذلك إلى أن كبسه التتار فحين هجموا الضيعة ركب السلطان المركب وخاضت خلفه طائفة منهم فلم يدركوه. قال شهاب الدين المنشى: حدثنى غير واحد ممن كان مع السلطان فى المركب قال: كنا نسوق المركب بالسلطان وبه من علة ذات الجنب ما آيسه من الحياة وهو يظهر الاكتئاب، ويقول لم يبق لنا مما ملكناه من أقاليم الأرض قدر ذراعين. فلما وصل الجزيرة «2» سر بذلك سرورا تاما وأقام بها فريدا طريدا والمرض يزداد به. وكان فى أهل مازندران ناس يتقربون إليه بالمأكول والمشروب وما يشبهه، فقال فى بعض الأيام: أشتهى أن يكون عندى فرس يرعى حول خيمتى هذه- وقد ضربت له خيمة صغيرة- فلما سمع تاج الدين حسن وكان من جملة سرهنكيته «3» أهدى إليه فرسا أصفر قال: وكانت

ذكر وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش

جشارات خيله تنيف على ثلاثين ألف جشار متفرقة فى ممالكه ويدل على ذلك ما قاله الأمير اختيار الدين أكبر أمير أخورية السلطان؛ وكان قد ضم إليه ثلاثين ألف فارس، فكان يقول: إن المرتب معى ثلاثون ألف فارس ولو شئت جعلتها ستين ألفا من غير أن أتكلف صرف دينار أو درهم، وذلك أننى أستدعى من كل جشار «1» من جشارات خيل السلطان جوبانا واحدا فينيفوا على ثلاثين ألفا، فانظر إلى ما بين الحالتين فى الكثرة والقلة والعزة والذلة. قال: وكان من حمل إليه شيئا من المأكولات وغيره فى تلك الأيام كتب له توقيعا بمنصب جليل وإقطاع طايل فربما كان الرجل يتولى كتابة التوقيع لنفسه لعدم من يكتب عند السلطان. وكانت هذه التواقيع تسمى التواقيع الجزيرية، وكلها برسالة جلال الدين. فلما ظهر أمر جلال الدين أحضرت إليه التواقيع فأمضاها بكمالها ومن كان معه منديل أو سكين علامة من السلطان بإقطاع أو غيره قبلها جلال الدين وأمضى حكمها. ذكر وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش كانت وفاته بالجزيرة فى سنة سبع عشرة وستماية. وذلك أنه لما استقر بها اشتدت به علة ذات الجنب فمات وغسله شمس الدين محمود بن يلاغ الجاوش ومقرب الدين مهتر مهتران «2» مقدم

الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن فيه فكفنه شمس الدين محمود المذكور بقميصه، ودفن بالجزيرة فكانت مدة سلطنته إحدى وعشرين سنة، وكان له من الأولاد خمسة وهم جلال الدين منكبرتى، وقطب الدين أزلاغ شاه، وآق شاه، وركن الدين غورشايجى- وكان بالعراق- وغياث الدين بيرشاه وفيه يقول المنشى: أذل «1» الملوك وصاد القروم ... وصيّر كل عزيز ذليلا وحف الملوك به خاضعين ... وزفوا إليه رعيلا رعيلا فلما تمكن من أمره ... وصارت له الأرض إلا قليلا وأوهمه العز أن الزمان ... إذا رامه ارتد عنه كليلا أتته المنية مغتاظة ... وسليت عليه حساما صقيلا فلم تغن عنه حماة الرجال ... ولم يجد قيل عليه فتيلا «2» كذا يفعل الله بالشامتين ... ويفنيهم الدهر جيلا فجيلا هذا ما اتفق للسلطان؛ وأما التتار الذين ساقوا خلفه فإنهم خربوا البلاد وسفكوا الدماء واستولوا على الممالك وساووا فى القتل بين المملوك والممالك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. فلنذكر الآن أخبار أولاد السلطان علاء الدين محمد وما كان من أمرهم بعد وفاة أبيهم ونورد أخبارهم فى جملة أخبار أخيهم السلطان جلال الدين فإنه الملك المشار إليه منهم.

ذكر أخبار السلطان جلال الدين منكبرتى

ذكر أخبار السلطان جلال الدين منكبرتى وقيل فيه منكوبرتى ابن السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد ابن تكش بن ألب أرسلان بن اتسز بن محمد بن انوشتكين. ملك بعد وفاة أبيه فى سنة سبع عشرة وستماية، وذلك أن والده السلطان لما اشتد مرضه بالجزيرة خلع قطب الدين أزلاغ شاه من ولاية العهد وفوضها للسلطان جلال الدين بحضور أخويه أزلاغ شاه وآق شاه. وقال: إن عرى السلطنة قد انفصمت والدولة قد وهت قواعدها وتهدمت، وهذا العدو قد تأكدت أسبابه وتشبثت بالممالك أظفاره، وتعلقت أنيابه، وليس يأخذ بثارى منه إلا ولدى منكوبرتى وهأنا موليه ولاية العهد فعليكما بطاعته والانخراط فى سلك تباعته. وشد سيفه بيده فى وسط جلال الدين ثم مات بعد ثلاثة أيام. قال: ولما دفن السلطان بالجزيرة ركب جلال الدين البحر ومعه أخواه «1» ومعهم زهاء سبعين نفسا لقصد خوارزم، فلما قاربوها التقوهم منها بالدواب والأسلحة والأعلام، وتباشر الناس بمقدمهم واجتمع عندهم من العساكر ممن أضمرته البوادى ونقضتهم المجالس والنوادى زهاء سبعة آلاف فارس، أكثرهم البياووتية ومقدمهم توخى بهلوان الملقب بقتلغ خان، فمالوا إلى أزلاغ شاه للقرابة التى بينهم، وعزموا على القبض على جلال الدين وقتله أو سمله. فعلم إينانج خان بما دبروه، فأعلم بذلك جلال الدين وأشار عليه بالرحيل

فرحل صوب خراسان فى ثلثماية فارس، مقدمهم دمر ملك «1» وقطع المفازة الحاجزة بين خوارزم وخراسان وهى ست عشرة «2» مرحلة فى أيام قلايل، وتخلص منها إلى بلد نسا «3» . وكان جنكزخان لما بلغه عود أولاد السلطان إلى خوارزم وجه إليها عسكرا كثيفا وتقدم إلى من بخراسان من عساكره بالتفرق على حافات تلك البرية مترصدين فضربوا على البرية المذكورة حلقة من تخوم مرو إلى حدود شهرستان، حتى إذا هم أولاد السلطان بالمسير إلى خراسان عند إزعاجهم من خوارزم يقبضون عليهم. وكان بحافة برية نسا منهم سبعماية فارس فلما خرج جلال الدين من البرية صادفهم أمامه، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه لجلال الدين عليهم، فعمهم بالقتل وغنم ما معهم، ولم يفلت منهم إلا الشارد. وهذا أول مصاف كان بين جلال الدين وبينهم فتقوى بما غنمه منهم ووصل إلى نيسابور. وأما أخواه «4» فإنهما أقاما بعده بخوارزم ثلاثة أيام؛ وأتاهم الخبر بحركة التتار فخرجا بمن معهما مجفلين إلى صوب خراسان. فلما انتهوا إلى مرج سابغ «5» ونزلوا به، وافتهم الأخبار أن طائفة من التتار أقبلت فى طلبهم، فركب أزلاغ شاه ومن معه ورحل والتتار

ذكر مسير جلال الدين من نيسابور إلى غزنة

فى طلبه إلى استوى «1» بلد خيوشان «2» فأدركه التتار بقرية تسمى فرست «3» ، فوقف لهم واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لأزلاغ شاه عليهم، فسروا بذلك وظنوا أنه لم يكن من التتار بتلك الناحية غير هذه الطائفة التى انهزمت، واستقروا بتلك المنزلة، فلم يرعهم إلا وخيول التتار قد أحدقت بهم إحداق الأطواق بالأعناق فثوى اليسر عسرا وترادف النصر كسرا، فكانوا إن شاء الله كما قيل: تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر فاستشهد أزلاغ شاه وآق شاه ومن معهما وعاد التتار برأسيهما وقد نصبوهما على الرماح. ذكر مسير جلال الدين من نيسابور الى غزنة قال: وأقام جلال الدين بنيسابور شهرا يتابع الرسل إلى الجهات فى الاحتشاد والاستمداد، إلى أن علم التتارية فأسرعوا نحوه وأعجلوه عن مراده، فخرج من نيسابور فى من انضوى إليه من الخوارزمية، إلى أن وصل إلى القلعة القاهرة وهى التى بناها مؤيد الملك صاحب كرمان بزوزن، فهم أن يتحصن بها فبعث إليه عين الملك ختن مؤيد

الملك- وهو مستحفظها- يحذره ذلك، ويقول: إن ملكا «1» لا يحسن به أن يتحصن بقلعة ولو بنيت على قرن الفرقد أو هامة الجوزاء بل أعلا وأبعد، وحصون الملوك متون الحصن، وما للضراغم وللمدن ولو تحصنت بالقلعة لأفنت التتار أعمارهم إلى أن ينالوا الغرض. فأمر جلال الدين بإحضار ما فى القلعة من الذهب فأحضر، وفرق أكياسه على من صحبه من خواصه، وفارق القاهرة، وجد السير إلى تخوم بست، فأعلم أن جنكزخان مقيم بالطالقان «2» بجيوش عظيمة، فتحير فى أمره لا يدرى ما يصنع. ثم خاطر بنفسه واستمر فى السير، فبلغه أن أمين ملك وهو ابن خالة متولى هراة ومقطعها بالقرب منه، وقد أخلى هراة ومعه زهاء عشرة آلاف فارس، والأتراك الذين سلموا من النكبة، فبعث جلال الدين إليه يعلمه بقربه ويحثه على سرعة الوصول إليه، فاجتمعوا واتفقا على كبس التتار الحاصرين قلعة قندهار «3» فنهضا إليهم وأوقعا بهم فلم يسلم من التتار إلا من وصل بخبرهم إلى جنكزخان وهم نفر يسير، فأخبروه بما تم على عسكره، فغضب لذلك. وساق جلال الدين حتى أتى غزنة وكان بها كربر ملك ينوب عنه منذ جعلها والده له كما قدمناه، وقد ضبطها. فوصل إليها جلال الدين فى سنة ثمانى عشرة

ذكر الحرب بين جلال الدين وتولى خان بن جنكزخان وانهزام التتار وقتل تولى خان

وستماية، فسر الناس بوصوله واتصل به سيف الدين بغراق «1» الخلجى وأعظم ملك صاحب بلخ، ومظفر ملك صاحب الأيغانية والحسن قزلق وهم فى زهاء ثلاثين ألف فارس ومعه عسكره وعسكر أمين ملك مثلها. ذكر الحرب بين جلال الدين وتولى خان بن جنكزخان وانهزام التتار وقتل تولى خان قال المنشى: ولما بلغ جنكزخان ما حل بعسكره بقندهار، جرد ابنه تولى خان فى عسكر كثيف، فاستقبله جلال الدين بنية فى الجهاد قوية وهمة فى الإسلام أبية. فلما تراءى الجمعان حمل بنفسه على قلب تولى خان، فبدد نظامه ونثر تحت قوائم الخيل أعلامه وألجأه فى الانهزام وإسلام المقام، وتحكمت فيهم سيوف الانتقام وقتل تولى خان «2» فيمن قتل، وكثر الأسر فى التتار حتى كان الفراشون يحضرون أساراهم إلى بين يديه فيدقون الأوتاد فى آذانهم تشفيا بهم، وكانت شرذمة من التتار قد حاصرت قلعة ولخ وضايقتها فلما بلغهم ما حل بأولئك رجعوا عنها.

ذكر الحرب بين جلال الدين وجنكزخان وانهزام جلال الدين

ذكر الحرب بين جلال الدين وجنكزخان وانهزام جلال الدين قال: ولما عاد من سلم من المعركة إلى جنكزخان قام بنفسه وعساكره لقصد حرب جلال الدين. واتفق أن العساكر الخلجية فارقوا جلال الدين فى ذلك الوقت صحبة سيف الدين بغراق وأعظم ملك ومظفر ملك. وسبب ذلك أنهم لما كسروا التتار زاحمهم الأتراك فيما أفاء الله عليهم من الغنائم، فاتفق أن بعض الأتراك الأرمينية نازع أعظم ملك فى فرس من خيل التتار. وطال بينهما التنازع فضربه التركى بمقرعة، فاشمأزت لذلك نفوسهم ونفرت قلوبهم وفارقوا جلال الدين، واجتهد على ردهم فأبوا ذلك. ولما بلغه أن جنكزخان قد قاربه بجيوشه علم أنه لا طاقة له بملاقاته بعد مفارقة هذه الجيوش له، فرأى أن يتأخر إلى حافة ماء السند ثم يستأنف مكاتبة من فارقه، فإن رجعوا إليه لقى جنكزخان بهم وبمن معه من الأتراك. فعاجله جنكزخان عن إمضاء ما دبره؛ وكان جلال الدين قد أصابه قولنج شديد عند خروجه من غزنة ولم ير مع ذلك الجلوس فى المحفة، وركب الفرس تجلدا، فمن الله عليه بالعافية، فورد عليه الخبر أن مقدمة جنكزخان نزلت بجردين فركب ليلا وكبس المقدمة فقتلهم ولم يفته إلا من نجا به فرسه. فلما بلغ جنكزخان هذا الخبر هاله، وجاء جلال الدين إلى حافّة ماء السند، وصاق عليه الوقت عما كان يثق به من جمع المراكب واسترجاع الكتايب، ووصل مركب واحد فأمر بتعبير والدته وحرمه ومن ضمته الدور وحجبته الستور، فانكسر المركب قبل عبورهم.

ذكر حال جلال الدين بعد عبوره ماء السند

ووصل جنكزخان فلقبه جلال الدين واقتتلوا قتالا شديدا فحمل جلال الدين بنفسه على قلب جنكزخان فمزقه، وانهزم جنكزخان وكادت الدائرة تكون عليهم، لولا أن جنكزخان كان قد كمن كمينا فيه عشرة آلاف فارس فخرجوا على ميمنة جلال الدين- وفيها أمين ملك- فكسروها وطرحوها على القلب، فتبدد نظامه، وتزعزعت عن الثبات أقدامه، وانجلت المعركة عن قتلى مصرعين فى الدماء، وغرقى غاطسين فى الماء، فكان الرجل يأتى إلى الماء يهوى بنفسه فى تياره وهو يعلم أنه غريق لا محالة. وأسر ولد جلال الدين وهو ابن سبع أو ثمانى سنين فقتل بين يدى جنكزخان. قال: ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كثبرا رأى والدته أم ولده وجماعة من حرمه يصحن بأعلى أصواتهن: بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن. فهذه من عجائب البلايا ونوادر المصايب والرزايا. وأما العساكر الخلجية المفارقة لجلال الدين فاستنزلهم جنكزخان بعد فراغه من جلال الدين من عصم الجبال والحصون، وقتلهم أجمعين. ذكر حال جلال الدين بعد عبوره ماء السند قال: ولما وصل جلال الدين إلى حافة ماء السند اقتحم بفرسه ذلك الماء العظيم، فخلص إلى البر، وخلص معه أربعة آلاف رجل من عسكره حفاة عراة، وفيهم ثلثماية فارس كانوا قد تقدموا جلال الدين (ومعهم) من خواصه ثلاثة نفر وهم قلبرس بهادر وقابقح

وسعد الدين على الشربدار «1» ، ورمى بهم الماء إلى جهة بعيدة عن القوم ولم يعلموا ما كان منه، فاتصل بهم فى اليوم الثانى. قال: وكان فى الزردخانا «2» الجلالية «3» شخص يعرف بجمال الزراد، وقد انتبذ قبل الوقعة بما كان له من المال إلى بعض الجهات، فوصل إذ ذاك بمركب فيه ملبوس ومأكول، فوقع ذلك عند جلال الدين موقعا عظيما وولاه أستاذ داريته «4» ، ولقبه اختيار الدين. قال: ولما علم زانه شنزه صاحب جبل الجودى بما كان من أر جلال الدين وانهزامه، وأنه فى قلة من أصحابه، ركب فى ألف فارس وخمسة آلاف راجل. فقصد جلال الدين عبور الماء إلى جهة التتار ويختفى بمن يسلم معه فى الغياض ويعيشون «5» بالغارات، لعلمه أن الجنود إن ظفروا به قتلوه وقتلوا من معه. فحين تواتروا على ذلك توجهت الرجالة لهذا القصد، وتأخر عنهم جلال الدين بمن معه من أصحاب الخيل على رسم الترك، فجاء زانه شنزه، ومعه

ذكر ما كان بين جلال الدين وقباجة من وفاق وخلاف

أعيان أصحابه وخيالته. فلما رأى جلال الدين حمل عليه بمن معه، فلما قاربه رماه جلال الدين بسهم فى صدره فقتله وانهزم عسكره وتحمل جلال الدين فيما غنمه من خيله وعدته، وما أفاء الله عليه من أمواله وأسلحته. قال: ولما سمع قمر الدين نائب قباجة بدبدبة وساقون، تقرب إلى جلال الدين بهدايا جليلة وألطاف، وفى جملتها الدهلين، فوقع ذلك من جلال الدين موقعا عظيما «1» . ذكر ما كان بين جلال الدين وقباجة «2» من وفاق وخلاف قال: ثم بلغ جلال الدين أن بنت أمين ملك سلمت من الغرق إلى أوجاهى من مدن قباجة، فراسله جلال الدين يذكر أنها تمت له بقرابة، وأن نساءه غرقن وطلبها، فتقدم قباجة بتجهيزها إليه وجهز معها هدايا تليق بجلال الدين. فقبل جلال الدين ذلك منه وانتظم بينهما الصلح وأمنت البلاد إلى أن قضت الفرقة وتأكدت أسباب الوحشة وسبب ذلك أن شمس الملك شهاب الدين ألب، كان السلطان علاء الدين قد استوزره لجلال الدين، فرمته الوقعة إلى قباجة،

فأمنه وآواه وأحسن إليه. واعتقد قباجة أن جلال الدين قتل، فاسترسل مع شمس الملك فى أمور كان الحزم يقضى إخفاءها عنه، فلما تحقق سلامة جلال الدين استوحش من شمس الملك وندم على ما كان قد أبداه له، ولما بلغ جلال الدين أن شمس الملك عنده استدعاه، فحمل قباجة التوهم منه على قتله فقتله، لما كان قد أودعه من أسرار خشى إذاعتها. ومن ذلك أن قرن خان بن أمين ملك كانت الوقعة طرحته إلى مدينة كلور «1» من مدن قباجة، فشرهت نفوس عامتها إلى سلبه، فقتل وحمل إلى قباجة من سلبه درة كانت فى أذنه فأخذها، فحقد جلال الدين ذلك عليه وأسره فى نفسه إلى أن اتصل بخدمته جماعة من الأمراء المفارقين لخدمة أخيه غياث الدين بمن معهم من العسكر، فقويت نفسه بهم وقصد مدينة كلور فحاصرها وداوم القتال والزحف بنفسه فأصابته نشابة فى يده، ولم يفتر فى القتال ليلا ولا نهارا حتى ملكها وملك مقاتلتها ثم رحل منها إلى قلعة برنوزج فحاصرها وباشر القتال بنفسه وأصابته هناك نشابة أخرى، فألحق برنوزج بأختها وتأكدت الوحشة بهذه الأسباب بينه وبين قباجة. ولما رأى قباجة أن بلاده تطوى شيئا فشيئا فزع إلى الاحتشاد، فركب فى زهاء عشرة آلاف فارس، وأنجده شمس الدين ايلتتمش «2» ببعض عساكره، فعلم جلال الدين بخبره

ذكر الحوادث بعد كسر جلال الدين قباجة وما جرى بينه وبين شمس الدين ايلتتمش

ونيته ليلا، وأحاط بعسكره فأعجلهم عن الركوب، فانهزم قباجة بنفسه ومن نجا به فرسه، وترك العسكر شاغرا بما فيه من الخيام والخزائن والعدد المتوفرة، فاحتوى جلال الدين على ذلك. ذكر الحوادث بعد كسر جلال الدين قباجة وما جرى بينه وبين شمس الدين ايلتتمش قال: لما كسر جلال الدين قباجة نزل على نهاوور «1» وكان بها ابن لقباجة «2» وقد عصى على والده وتغلب عليها، فأقرها جلال الدين عليه على مال يحمله فى كل سنة ومال يعجله. ورحل صوب سيستان وبها فخر الدين السلارى واليا عليها من جهة قباجة، فتلقاه بالطاعة، وسلم إليه مفاتيحها، فجبى المال ثم رحل عنها صوب أوجا فحاصرها أياما، وقاتله أهلها فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم صالحوه على مال حمل إليه. ورحل صوب خانسر «3» وكان ملكها من أتباع شمس الدين فخرج طائعا للخدمة الجلالية. فألقى بها عصى القرار ليريح من معه، فأتاه الخبر أن إيلتتمش قاصده فى ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلثماية فيل، فخرج جلال الدين نحوه مجدا، وقدم أمامه جهان بهلوان أزبك باين- وهو من حماة الأبطال-

فساق، وخالفه يزك شمس الدين، فتوسط أزبك عسكر شمس الدين فهجم على جماعة منهم، فقتل منهم وحضر إلى جلال الدين من أخبره بذلك الجمع الكثير ثم ورد عليه برسول إيلتتمش فى طلب الموادعة ويقول: «ليس بخفى علىّ ما وراءك من عدو الدين، وأنت سلطان المسلمين وابن سلطانهم، ولست استحل أن أكون عليك عونا، ولا يليق بمثلى أن يجرد السيف فى وجه مثلك، إلا لضرورة الدفع، وإن رأيت أن أزوجك ابنتى لتزول الوحشة وتتأكد الثقة بينى وبينك فافعل» . فمال جلال الدين إلى ذلك وأصحب رسوله باثنين من أصحابه، يزيدك بهلوان وسنقرجق طايسى، فمضيا إليه وأقاما لديه وترادفت الأخبار على جلال الدين أن ايلتتمش وقباجة وسائر ملوك الهند قد تآمروا على أن بمسكوا على جلال الدين حافة ماء خجنير، فعظمت إذ ذاك بليته وفترت فى وجوه العزائم نيته، ورأى أن الزمان حزّب عليه أحزابا ومتى سد للحوادث بجهده بابا فتح عليه أبوابا، فاستشار نصحاءه فى ذلك، فأشار عليه الذين وردوا من العراق وهم الذين انفصلوا من أخيه غياث الدين أن يقصد العراق وينتزعه من يد أخيه، وأشار عليه جهان بهلوان أزبك باين بلزوم بلاد الهند خشية من جنكزخان واستضعافا لملوك الهند، فحمله شغفه بحب الممالك الموروثة والحكم فيها على قصد العراق، فاستناب جهان بهلوان على ما كان يملكه من بلاد الهند، والحسن قزلق على ما قد نجا من بلاد الغور وغزنة من صدمات التتار، فاستمر جهان بهلوان فيما ولاه إلى سنة

ذكر طلوع جلال الدين من الهند ووصوله إلى كرمان وما جرى له من الحوادث إلى أن ملك العراق

سبع وعشرين وستماية، ثم طرد عنها ووصل إلى العراق على ما نذكره فى موضعه؛ واستمر قزلق إلى حين وفاته. ذكر طلوع جلال الدين من الهند ووصوله الى كرمان وما جرى له من الحوادث الى أن ملك العراق كان عوده من الهند فى سنة إحدى وعشرين وستماية. قال شهاب الدين محمد المنشى: قاسى جلال الدين ومن معه من رذايا الأرواح المتخلصة من مشتجر الرياح فى البوادى، القاطعة بين كرمان والهند، شدائد نستهم سائر الكرب، وأوردتهم بأجمعهم سواقى العطب. وقد أوعزتهم فى تلك القفار علالات الشفاه «1» ، وبلالات الأفواه، فضلا عن الأقوات، فكان الرجل يتنفس عند هبوب السموم كتنفس المحموم. قال: فتخلص إلى كرمان فى أربعة آلاف، فيهم ركّاب أبقار وحمر. وكان بها براق الحاجب ينوب عن أخيه غياث الدين بيرشاه. وبراق هذا كان حاحبا لكورخان ملك الخطايية، ورد رسولا على السلطان مبدأ المكاشفة بينهما، فمنعه أن يعود إلى مرسله رغبة فيه، ثم اتصل بخدمة غياث الدين. فلما وصل جلال الدين أقام بكراشير «2» - وهى دار المملكة- شهرا ثم أحس أن براقا قد أضمر الغدربه، فقصد جلال الدين

القبض عليه واستشار فى ذلك، فأشار أورخان بالقبض عليه، وأن يواليه مملكة كرمان ويستظهر بها على غيرها من الممالك. وخالفه فى هذا الرأى شمس الملك على بن أبى القاسم المعروف بخواجه جهان، وقال: هذا أول من بذل الطاعة من نواب الأطراف، وولاة البلاد، وليس كل أحد يتحقق غدره ومكيدته، فمتى عوجل نفرت القلوب واشمأزت النفوس وتبدلت الأهواء، وتغيرت النيات والآراء. فرحل جلال الدين إلى صوب شيراز، وورد عليه الأتابك علاء الدولة صاحب يزد، مذعنا بالطاعة، وقدم له تقادم كثيرة فكتب له توقيعا بتقرير بلاده عليه. وكان الأتابك سعد صاحب فارس قد استوحش من أخيه غياث الدين لإساءة سبقت، فرغب جلال الدين فى إصلاحه لنفسه، وسير الوزير شرف الملك إليه خاطبا ابنته، فأسرع إلى الإجابة والانقياد وزوجه ابنته وحملها إليه فاستظهر جلال الدين بمصاهرته ثم تقدم من شيراز إلى أصفهان، فخرج إليه القاضى ركن الدين مسعود بن صاعد بأحسن اللقاء، قال: ولما بلغ غياث الدين توسط جلال الدين فى بلاده، ركب إليه فى جموعه فى زهاء ثلاثين ألف فارس، فرجع جلال الدين حين سمع بقربه وقد أيس مما طمحت إليه نفسه، وسير إلى غياث الدين أدك أمير أخور؛ وكان من دهاة خواصه، يقول: «إن الذى قاسيته بعد السلطان من الشدايد الفادحة، لو عرضت على الجبال لأشفقن منها واستثقلتها فأبين أن يقبلنها، وحين ضاقت على الأرض بما رحبت، وانتفضت يدى عما ورثت وكسبت، وكنت قصدتك لأستريح عندك أياما وحيث علمت أن ليس عندك للضيف إلا ظبى

السيف، ورجعت بظمأ من الشوق عن المناهل.» وسير إليه سلب تولى خان بن جنكزخان وفرسه وسيفه. فلما سمع غياث الدين الرسالة انصرف إلى الرى، وتفرقت عساكره فى المصايف. قال: وكان جلال الدين سير صحبة رسوله عدة خواتيم، وأمره بإيصالها إلى جماعة من الأمراء علامات منه، يستميلهم ويمنيهم الإحسان، فمنهم من تناول الخاتم وسكت وأجاب إلى الانقطاع إليه أو التقاعد عن نصرة غياث الدين، ومنهم من سارع إلى غياث الدين فناوله الخاتم، فعند ذلك أمر بالقبض على الرسول المذكور والاحتياط عليه. وبادر إلى خدمة جلال الدين، أبو بكر ملك- وهو من بنى أخواله- وذكر له أن القلوب مجتمعة على محبته، فركب جلال الدين فى ثلاثة آلاف ضعاف، وجد السير حتى وافى غياث الدين وأعجله عن التدبير. فلما أتاه النذير ركب فرس النوبة إلى قلعة سلوقان، ودخل جلال الدين خيمته وبها بكلواى والدة غياث الدين، فاستوفى لها أدب الخدمة، وشرط التعظيم والحرمة وأنكر انزعاج غياث الدين وإخلاءه «1» مكانه، وذكر لها إشفاقه عليه. فسيرت إليه من سكن روعته، فعاد إلى خدمة أخيه جلال الدين ونزل جلال الدين فى منزلة السلطان، وأتته الأمراء واستعفوا مما كان منهم، فأقبل عليهم وعاملهم بالإحسان. ثم جاءه من كان بخراسان والعراق ومازندران من المتغلبين. فمنهم من حسنت سيرته فى أيام الفتنة، فأقره وأعاده إلى مكانه، ومنهم من ساءت طريقته فأذيق

ذكر مسيره صوب خوزستان

وبال طغيانه، وتفرقت الوزراء والعمال فى الأطراف فضبطوها بتواقيع جلال الدين. ذكر مسيره صوب خوزستان ولما تمكن السلطان جلال الدين من أخيه غياث الدين، وصار معه كأحد أمرائه، توجه نحو خوزستان، وشتى بها، ووجه من هناك ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود العارض النسوى رسولا إلى الديوان العزيز. وكان من قبل ذلك قد جرد جهان بهلوان إيلجى برسم اليزك، فصادف المذكور عسكرا من عساكر الديوان وعربان خفاجة، فأوقع بهم وأخرق الهيبة، وهتك الحرمة، فعادوا إلى بغداد على وجه غير مرضى، وأحضرت طائفة منهم إلى المخيم الجلالى، فأطلقوا. ووصل ضياء الملك بعد الحادثة إلى بغداد فطال مقامه، وأرجف الناس به إلى أن ملك السلطان مراغة، فأذن له فى العود بوفور الحظ من الإنعام. قال: ولما انجلى الشتاء رحل السلطان نحو أذربيجان، فلما أشرف على دقوقا صعد أهلها السور وشتموه، لما بلغهم من شنه الغارات على بلاد الديوان، فغاظه ذلك وأمر بالزحف عليها، فلم تكن إلا حملة واحدة حتى ملكوا البلد ووضعوا السيف فى أهلها. ثم سار نحو أذربيجان. فلما حاذى جبال همذان أتاه إيغان طايسى «1» من أذربيجان، وانتظم فى الخدمة.

ذكر ملكه أذربيجان ومراغة

ذكر ملكه أذربيجان ومراغة قال: ولما انتظم أيغان طايسى فى الخدمة رحل السلطان صوب أذربيجان، فلما قاربها ورد على شرف الملك كتب من أهل مراغة، حاثين عزائم السلطان بالمسير إليها لضعف الأتابك صاحبها عن دفع الكرج. فساق إليها ودخلها من غير مدافع، وأقام بها أياما. ووجه من هناك القاضى مجير الدين عمر بن أسعد الخوارزمى رسولا إلى ملك الروم وملك الشام ومصر بكتب تتضمن تملكه بلاد أذربيجان وقلعه ما تشبثت بها من أنياب الكرج، وإعلامهم أنه نوى أن يغزو الكرج. ثم رحل من مراغة صوب أذربيجان، وهى أرض معشبة ذات مياه جارية، وقد خرب التتار مدينتها، فأقام بها أياما والناس يمتارون من تبريز وبها بنت طغرل بن أرسلان زوجة الأتابك أزبك، فلم يمنعوهم. وجاءه من أهل تبريز من أطمعه فى ملكها، فسار نحوها، وأحاط بها من كل جانب، فخرج إليه الرئيس نظام الدين ابن أخى شمس الدين الطغرائى، وكان متحكما فيها، يملك رقاب أهلها موالاة له ولأسلافه. وتقدم إلى الأمراء بترتيب آلات الحصار من المحانيق والذبابات والسلاليم، فأخذوا فى ترتيب ذلك. فلما كان بعد سبعة أيام خرج إليه رسول من جهة بنت السلطان طغرل فى طلب الأمان لها ولجواريها وخدمها، على أموالهم ودمائهم، وعلى أن تكون مدينة خوى مفردة باسمها. فأجاب إلى ذلك، وتسلم تبريز، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين وستماية، وسير معها خادميه تاج الدين قليج وبدر الدين هلال، فأوصلاها إليها بمن معها من أتباعها. وولى السلطان رياسة تبريز للرئيس نظام الدين.

ذكر كسر السلطان الكرج

ذكر كسر السلطان الكرج قال: ولما ملك السلطان أذربيجان اجتمع الكرج بموضع يعرف بكربى- من حدود دوين «1» - فى ستين ألفا، وقد قلقوا لمجاورته، وقصدوا باجتماعهم أعلامه بما هم عليه من الكثرة والقوة، لعله يرغب فى مهادنتهم. فلما بلغ السلطان اجتماعهم توجه نحوهم فيمن حضر من عساكره، وقد كان أكثرهم تفرقوا إلى إقطاعاتهم بالعراق وغيره. فحين وصل إلى شاطئ نهر أرس، «2» وجد هناك أمراء الترك ومقدمهم جهان بهلوان ايلجى، فأعلموه بأن العدو بالقرب منهم، وأن فيهم كثرة، فكان جوابه عن ذلك عبوره إلى المخاضة بفرسه، وتبعته العساكر. فلما انتهى إلى كربى رأى الكرج وقد نزلوا على نشزعال، فلم يتقدموا، إليه وبات ليلته وعليه الحرس حتى الصباح، وقال لأصحابه: إن هؤلاء قصدهم المطاولة. وأمر بالحملة عليهم من كل جهة، فحملوا عليهم صاعدين إليهم، فبادرت ميسرة السلطان بالصعود، وفيهم غياث الدين أخوه وأورخان وأيغان طايسى وغيرهم، فحمل عليهم شلوة- وكان من فرسان الكرج المشهورين- والتقى

ذكر عوده من دوين إلى تبريز وتركه الميمنة ببلاد الكرج

الفريقان برأس الجبل، فولت الكرج، وقتل منهم زهاء أربعة آلاف، ووقف السلطان على التل، والكرج تساق إليه، وتبع المسلمون من انهزم من الكرج. قال المنشى: حكى شمس الدين القمى، وكان من حجاب الأتابك أزبك- قال: «أرسلنى صاحبى إلى الكرج أيام استيلائهم، فخاشننى شلوة فى الكلام، حتى قال وددت أن يكون على- يعنى ابن أبى طالب (رضى الله عنه «1» - باقيا فى زمانى، لأريه من سطوتى ما ينسى يومى بدر وحنين» فلما كان فى هذه الوقعة نزل إلى الأرض ولطخ وجهه بالدم، ونام بين القتلى. فحدث ابن داية غياث الدين وهو صبى به، فأخرجه وأحضره إلى السلطان مكتوفا فأمنه. قال: ووجه السلطان ملك الخواص تاج الدين قليج إلى تبريز بجماعة من أمرائهم الأسرى ورؤوس القتلى. وساق من المعركة إلى مدينة دوين فزحف عليها وافتتحها فى الوقت. ذكر عوده من دوين الى تبريز وتركه الميمنة ببلاد الكرج قال: لما حصل للسلطان ما ذكرناه من النصر والظفر والفتوح، بث غيارته إلى أخريات بلاد أبخاز وفى نفسه قصد تفليس، فورد عليه كتاب من شرف الملك بتبريز يذكر فيه أن شمس الدين الطغرائى وابن أخيه الرئيس نظام الدين قد تآمرا «2» على الفتك به والعصيان

على السلطان، وكان ذلك إفكا وزورا وكذبا، افتراه من كان يلوذ بشرف الملك من نوابه وخواصه. وذلك أن الطغرائى كان دينا، منصفا، حسن السيرة، ذابا عن الرعية، لا يمكن من الحيف عليهم، تارة بالشفاعة، وطورا بالتوبيخ والتشنيع؛ ونواب شرف الملك يكرهون ذلك. فلما وقف على الكتاب عزم على العود إلى تبريز، وأحضر أمراء الميمنة بباب سرادقه، وخرج إليهم بعض الحجاب، وقال: السلطان يقول لكم: «إنا قد تحققنا تقصيركم فى المصاف، واتفاقكم على أن تولوا وجوهكم إن حمل الكرج عليكم، وحيث وهب الله لنا النصر والظفر، فقد عفونا عنكم ما تحققناه، على أن تقيموا ببلادها فتقلبوها بغاراتكم ظهرا لبطن إلى أن تعود إليكم» . فضمنوا له ذلك، وأقاموا ثلاثة أشهر يشنون عليها الغارات إلى أن أخلوها قتلا وسبيا، ورخصت المماليك الكرجية، حتى أن المملوك منها يباع بدينارين أو ثلاثة. قال: ورجع السلطان إلى تبريز، وكان رجوعه فى شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وستماية، وأحضر شرف الملك إلى بين يديه من الأوباش من شهد على الطغرائى وابن أخيه بما كان أنهاه عنهما. فأمر بالقبض عليهما. فأما الرئيس فقتل فى الوقت وترك بالشارع طريحا، وأما الطغرائى فحبس وصودر على ما ينيف على ماية ألف دينار كان الذى وصل منها إلى الخزانة السلطانية دون الثلاثين ألفا، ثم حمل من تبريز إلى مراغة محتاطا عليه. هذا وشرف الملك يعمل الحيلة

على قتله حتى أخذ خاتم السلطان بذلك، وأراد الله تعالى إبقاءه «1» فضن «2» النائب بمراغة بقتله، فأعانه بالخيل وهربا جميعا وسارا إلى أربل ومنها إلى بغداد. وحج فى سنة خمس وعشرين فلما ازدحم الناس حول الكعبة وقف تحت الميزاب وعلى رأسه مصحف، والحاج من الأقاليم وقوفا، والذى كان يتولى ركب السلطان فيهم، وقال: «أيها الناس، قد أجمع المسلمون كافة أن ليس لله فى أرضه مقام «3» أشرف من هذا المقام، ولا يوم «4» أجل من هذا اليوم، ولا كتاب «5» أعظم من هذا الكتاب، وأنا حالف بهذه الثلاثة أن الذى نسبنى إليه شرف الملك ما كان إلا إفكا مفترى» . وغلظ بما تغلظ به أيمان البيعة فى البراءة، وتفرق الناس إلى بلادهم وتحدث بذلك كل طائفة. وتواترت به الأخبار على السلطان، فعلم عند ذلك براءته، وندم على فعله، وأمنه وأعاده إلى تبريز، ورد عليه أملاكه هذا ما كان من أمره. قال: وأقام السلطان بتبريز، فصام بها شهر رمضان، وأمر بمنبر فوضع بدار السلطنة، ونص على ثلاثين من علماء الأطراف وفضلائها، وقد حضروا لحاجاتهم، فوعظ كل واحد منهم يوما والسلطان لجانب المنبر، فشكر منهم من وعظ وقال حقا، وذم من بالغ فى الإطراء.

ذكر ملك السلطان كنجة وسائر بلاد أران

ذكر ملك السلطان كنجة وسائر بلاد أران قال: ولما استقر السلطان بتبريز بعد انصرافه من الكرج، وجه أورخان فى رجالة إلى كنجة، فتسلمها وما يضاف إليها من الكور، مثل بيلقان «1» وبرذعة «2» وسكور «3» [وشيز] «4» . فتمكن أورخان بكنجة. ذكر نكاح السلطان بنت طغرل بن أرسلان قال: وورد على السلطان نساء من قبل بنت طغرل بن أرسلان وهو بتبريز، يعلمن السلطان برغبتها فى أن يملكها، ويعلن أنها أثبتت بالشهود أنها مطلقة من زوجها الأتابك أزبك، فأجابها إلى ذلك وشهد لها أن زوجها حلف بطلاقها أن لا يغدر بفلان وغدر به، وحكم

ذكر عوده إلى بلد الكرج وفتحه تفليس

بذلك قاضى تبريز عز الدين القزوينى. فتزوج بها السلطان جلال الدين وسار بعد عقد النكاح إلى خوى ودخل بها، وزادها على خوى مدينتى سلماس وأرمية «1» باعمالهما. قال: وكان الأتابك بقلعة ألنجة من أعمال نخجوان «2» يسمع باستيلاء السلطان على بلاده، فلم يزد على قوله: «إن الأرض لله يورثها من يشاء «3» » ؛ فلما بلغه أمر النكاح وأنه برغبة الملكة، حم لوقته ومات بعد أيام. ذكر عوده الى بلد الكرج وفتحه تفليس قال: ثم سار السلطان بعد عيد الفطر من سنة اثنتين وعشرين وستماية إلى غزو الكرج فلما وصل إلى نهر أرس مرض مرضا شديدا تعذرت بسببه حركته، فشتا «4» هنالك، وقاسى من معه من شدة الثلوج أمرا عظيما. فلما انكشف الشتاء، تقدم السلطان إلى مروج تفليس، وجر العساكر إليها متجردة عن أثقالها، فوجدها منيعة حصينة، قد بنى معظم سورها على الجبال والشقفان. فخرج عامة أهلها فتأخر الجيش حتى أبعدهم عن المدينة، وحملوا عليهم حملة

ذكر المصاف الكائن بينه وبين التتار بظاهر أصفهان

كان فيها بوارهم، وسبقهم إلى الباب غياث الدين، فملكت المدينة، وتحكمت السيوف فى أهلها، وقتل من بها من الكرج والأرمن، وتحصن أجناد الكرج بالقلعة- وبينها وبين المدينة نهر عظيم لا يخاض-. وكان بينهما جسران «1» من الخشب فأحرقا، فلم يبت السلطان حتى عبر النهر إلى صوب القلعة، وأمر بنصب آلات الحصار، فخرج رسول الكرج فى طلب الأمان، فأجاب [السلطان] «2» إلى ذلك، وتسلمها بما فيها. ذكر المصاف الكائن بينه وبين التتار بظاهر أصفهان وفى سنة أربع وعشرين وستماية وردت الأخبار من خراسان بحركة التتار، وأنهم على عزم العبور، فجمع السلطان عساكره وتوجه إلى أصفهان، وجرد أربعة آلاف فارس صوب الرى ودامغان «3» لليزك، فكانت الأخبار ترد من جهتهم يوما فيوما؛ والتتار يتقدمون واليزك يتأخر، إلى أن عادوا إلى السلطان. ونزل التتار شرقى أصفهان على مسيرة يوم بقرية تسمى السين «4» وفيهم تاجن نوين «5»

وباناك نوين وباقو نوين وأسن طغان نوين وياتماس نوين وباشاور نوين وغيرهم. وكان المنجمون أشاروا على السلطان بمصابرتهم ثلاثة أيام والتقائهم فى اليوم الرابع، فتأخر عن الملتقى وظن التتار أن ذلك فشلا منه ووهنا، فجردوا ألفى فارس إلى جبال بلاد اللؤلؤ للإغارة. فاختار السلطان من عسكره ثلاثة آلاف، فأخذوا عليهم المضايق وأوقعوا بهم، وأحضروا منهم إلى السلطان زهاء أربعماية أسير، فأمر بضرب أعناقهم. ثم خرج للقاء التتار فلما تراى الجمعان خذله غياث الدين وفارقه بعسكره وطائفة من عسكر السلطان مقدمهم جهان بهلوان أيلحى، فلم يعبأ السلطان بمفارقتهم، وصمم على لقاء التتار، فالتقوا واقتتلوا، وحملت ميمنة السلطان على ميسرة التتار فانهزموا وركبهم السيف إلى تخوم قاشان «1» ، وهم يظنون أن الميسرة فعلت بالميمنة كذلك. وكان للتتار كمين «2» ، فخرج وقد جنحت الشمس للغروب على ميسرة السلطان، فضربها على القلب، فثبت الأمراء والخانات أصحاب السلطان حتى قتلوا، ولم يسلم منهم إلا ثلاثة وهم كوج تكين بهلوان والحاجب الخاص خان بردى وأودك أمير أخور. وأسر علاء الدولة أباخان صاحب يزد، أخذه رجل من المرتدة، فأعطاه ما كان معه من المال، فأطلقه فوقع بالليل فى بئر فمات. ووقف السلطان فى القلب وقد أحاطت به التتار من كل جانب، ولم يبق

معه الا أربعة عشر من خواص مماليكه، فالتفت فإذا هو بحامل [سنجقه] «1» قد ولى منهزما، فلحقه وطعنه فقتله، وحمل على التتار، فأفرجوا له ولخواصه، فخرج. قال: ثم تفرق القلب والميسرة وطرحتهم الجفلة إلى كرمان وأذربيجان، ومنهم من دخل إلى أصفهان. وعادت الميمنة بعد يومين من جهة قاشان، وظنوا أن السلطان بأصفهان، فلمّا تحققوا الحال تسحبوا. قال: وخفى أمر السلطان ثمانية أيام، وكان المصاف فى الثانى والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وعشرين وستماية. وكان الأتابك إيغان طايسى لم يخرج من أصفهان يوم المصاف لمرضه، فاتفق القاضى ومن تخلف بها من أرباب الدولة على أنهم إن صلوا العيد ولم يظهر السلطان أجلسوه على سرير الملك، فلما خرج الناس لصلاة العيد حضر السلطان إلى الصلاة، فسر الناس به وأقام بها عدة أيام إلى أن تجمع ما تشتت من عساكره المتفرقة. وأما التتار فإن السيوف نالت منهم منالا عظيما، ولم يخلص منهم- مع انتصارهم- إلى ما وراء جيحون إلا قليل «2» ؛ فإن السلطان لما تجمعت عساكره سار «3» فى آثارهم إلى الرى. وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل أن ابن جنكزخان أرسل إلى السلطان إثر هذه الوقعة يقول: إن هؤلاء ليسوا منا «4» .

ذكر ما آل اليه أمر غياث الدين

ذكر ما آل اليه أمر غياث الدين قال: وأما غياث الدين، فإنه لما فارق السلطان عند لقاء التتار، سار إلى خوزستان، وأرسل وزيره كريم الشرق إلى الديوان العزيز معلما بمفارقته لأخيه، ويذكر أنه قد جاور الممالك الديوانية زمانا بالعراق فأحسن الجوار، إلى أن حضر أخوه من الهند فشن الغارات عليها وقلبها بطنا لظهر وسأل أن يعان على استرجاع ما غصبه جلال الدين من ملكه، ويكون من جملة غلمان الديوان، فأعيد رسوله بوعد جميل، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار. ثم تسحب غياث الدين إلى ألموت لما بلغه ظهور السلطان. قال: ولما وصل السلطان إلى الرى مقتفيا آثار التتار بعد الوقعة، ففرق عساكره بتخوم ألموت من حدود الرى إلى أبخاز «1» فصار علاء الدين صاحب ألموت كالمجنون، فراسل السلطان يلتمس الأمان لأخيه غياث الدين ليعود إلى الخدمة، فأجابه إلى ذلك وحلف له؛ وأصحب رسوله رسولين من عنده إلى غياث الدين وهما تاج الملك نجيب الدين يعقوب الخوارزمى وجمال الدين فرج الطشتدار. فلما وصلا إلى غياث الدين ندم على طلبه الأمان، وسأل صاحب ألموت أن يعينه بما يحمله هو ومن معه، فأعانه بثلاثمائة فرس أو أربعماية، فخرج ووقعت عليه طائفة من العساكر المركزة حول ألموت فلحقوه

ذكر مسير السلطان إلى خلاط ومحاصرتها

بحدود همذان وكادوا يمسكونه، ثم خلص منهم ونجا إلى كرمان- وبها الحاجب براق نائبه- فسار إليه طمعا فى وفائه. فأول ما اعتمده معه أنه تزوج بوالدته على كره منها ومنه. ثم ذكر بعد ذلك أنها قصدت أن تسقيه سما فقتلها وقتل معها الوزير كريم الشرق وجهان بهلوان إيلجى، وحبس غياث الدين ببعض القلاع، واختلفت الأقاويل فى عاقبة أمره، فقيل إن براقا قتله بعد حين وقيل إنه تخلص من الحبس إلى أصفهان وقتل فيها بأمر السلطان والله أعلم. ذكر مسير السلطان الى خلاط ومحاصرتها قال: وسار السلطان إلى خلاط وكان قدم العساكر والأثقال كلها، وتوجه هو جريدة فى ألف فارس صوب نخجوان وحث السير إلى ناحية بجنى «1» وكمن بها ليلا حتى إذا أصبحت رعية الكرج، وسرحوا بمواشيهم على عادتهم، ضرب عليها وساقها إلى نخجوان، فكان الثور الجيد يباع بدينار. وكان سبب مسيره إلى نخجوان رغبة صاحبتها فى الاتصال به، فتزوجها وأقام بها أياما، ثم سار حتى أتى خلاط، وقد سبقته العساكر إلى تخومها، وأقامت على مسيرة يوم منها. فلما وصل إليهم ورد عليه رسول من عز الدين أيبك نائب السلطان الملك الأشرف موسى بها، يذكر أن السلطان استنابه، وقبض على الحاجب لإساءته وتطرقه إلى بلاد السلطان

ذكر الحوادث فى مدة حصار خلاط

جلال الدين وأنه من جملة نوابه، وبالغ فى الملاطفة. فأجابه السلطان عن ذلك بجواب مغالط، وقال: إن كنت تقصد رضاى فابعث إلى بالحاجب على. فلما عاد الرسول بهذا الجواب قتل الحاجب على، ورحل السلطان، ونزل على خلاط وحاصرها ونصب عليها اثنى عشر منحنيقا كانت العمالة منها ثمانية. ذكر الحوادث فى مدة حصار خلاط كان من ذلك وصول ركن الدين جهان شاه صاحب أرزن الروم، فتلقاه السلطان أحسن لقاء. وقدم المذكور إلى السلطان ما قيمته عشرة آلاف دينار، وخلع السلطان عليه وعلى أصحابه وأعاده إلى بلده. وأمره أن يجهز إليه ما يمكنه من آلات الحصار، فسير منجنيقا كبيرا وأتراسا ونشابا وغير ذلك. ومنها أن خان سلطان أخت السلطان «1» التى كانت أسرت مع تركان خاتون، واستخصها دوشى خاتون بن جنكزخان لنفسه على ما قدمناه، وصل رسولها إلى السلطان بخاتم كان لإبنها أمارة، وهى تذكر أن الخاقان قد أمر بتعليم أولادها القرآن، «وقد بلغه أخبار شوكتك وعزم على مصاهرتك والمهادنة معك، على أن تشاطره الملك على نهر جيحون، فيكون لك ما دونه وله ما وراءه، فان كنت تجد من قوتك ما تقاومهم وتنتقم منهم فشأنك وما أردت،

ذكر مسير رسول السلطان إلى الديوان العزيز واجتماعه بالخليفة وما اتفق له وعوده بالخلع والتشاريف

وإلا فاغتنم السلامة والمسالمة حال رغبتهم فيها.» فتشاغل عنها بخلاط ولم يعد عليها جوابا يقتضى الصلح. ومنها ورود سعد الدين الحاجب رسولا من الديوان العزيز إلى السلطان يلتمس أشياء، منها أنه يستصحب معه رسولا من أجلاء أصحاب السلطان وخواص حضرته ليعود بالخلع؛ ومنها أن السلطان لا يحكم على بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ومظفر الدين كوكبرى صاحب أربل وشهاب الدين سليمان شاه ملك الأبويه وعماد الدين بهلوان بن هزار سف ملك الجبال، بل يعدهم فى جملة أولياء الديوان وأتباعه وخدمه وأشياعه. ومن جملتها أن السلطان علاء الدين لما رجع من جبال همذان ولم يتم له ما نواه من قصد بغداد، أسقط خطبة الخليفة بعامة ممالكه، واستمر الحال على ذلك. فلما خاطبه رسول الديوان فى ذلك أصدر تواقيعه إلى عامة بلاده بالخطبة لأمير المؤمنين المستنصر بالله أبى جعفر. ذكر مسير رسول السلطان الى الديوان العزيز واجتماعه بالخليفة وما اتفق له وعوده بالخلع والتشاريف قال شهاب الدين محمد المنشى وهو كاتب السلطان جلال الدين: لما انقضت أشغال رسول الخليفة سعد الدين بن الحاجب أعاده السلطان وأصحبه الحاجب الخاص بدر الدين طولق. وكتب السلطان إلى أمير المؤمنين يسأله أن يحضر بين يدى المواقف الشريفة،

تميزا له على سائر الملوك بمزيد الإكرام، فأجيب إلى ذلك. قال المنشى: حدثنى الحاجب الخاص قال: كان السلطان أمرنى أنى إذا حضرت إلى الديوان لا أقبل يد الوزير بدر الدين القمى «1» ، ولا أوفيه حق التعظيم لأمور كان ينقمها عليه، ففعلت ذلك امتثالا لما أمر. فلما مضت أيام فإذا بحراقة فى بعض العشيات وصلت إلى منزلى بحافة دجلة، ودخل على سعد الدين الحاجب، وقال: استعد لخدمة أمير المؤمنين. فركبت الحراقة وركبها سعد الدين معى، فتكلم الملاح بكلمات غريبة لم أفهمها؛ فقفز سعد الدين من الحراقة إلى أخرى بجنبها وتركنى منفردا فيها، فسألته عن ذلك، فقال: ما كنت أعرف أن تلك من المراكب الخاصة، وقد سيروها لك تشريفا، فقمت وخدمته وشكرت ودعوت، وسقنا إلى أن وصلنا إلى باب كبير، فدخلت وتأخر سعد الدين ولم يتغير من هناك. فقلت: «لم لا تدخل؟» فقال: «وما منا إلا له مقام معلوم، ليس لى أن أتعدى هذا المقام» . وكان خلف الباب خادم، فأوصلنى إلى باب آخر وطرق الباب، ففتح فدخلت وإذا بخادم شيخ جالس على دكة وبين يديه مصحف وشمعة، فأجلسنى ورحب بى إلى أن جاء خادم آخر أبيض حسن الصورة فصافحنى ولاطفنى بالعجمى وأخذ بيدى وأوصانى بتعظيم المواقف الشريفة، وحسن الأدب وتقبيل الأرض حيث يشير إلى. فذكر ما اتفق له إلى أن انتهى إلى

الستر والوزير قائم فأمر بالوقوف بالقرب من الوزير، ثم قال له أمير المؤمنين: كيف الجناب العالى الشاهنشاهى- وهكذا كان يخاطب فى الكتب- ثم وعده بمواعيد جميلة فى حق السلطان، وأنه يقدمه على سائر ملوك زمانه، وخلع عليه وأعيد؛ وأصحب بالأمير فلك الدين ابن سنقر الطويل وسعد الدين بن الحاجب، ومعهما خلعة للسلطنة؛ فوصلوا إلى خلاط فى فصل الشتاء، والسلطان يحاصرها. قال: وكان الذى استصحبوه من الأنعام والخلع خلعتين للسلطان إحداهما حبة وعمامة وسيف هندى مرصع النجاد والثانية قباء وكمة وفرجية «1» وسيف قلاجورى محلى بالذهب معرقه الحياصة بالدنانير، وقلادة مرصعة يمنية، وفرسان بالساحات والسرفسارات والطوق أثقل ما يكون وأبهى، وثمان تطبيقات طبقت حوافرها عند التسليم وزن كل تطبيقة منها مائة دينار، وترس ذهب مرصع بنفائس الجواهر، وثلاثون فرسا من الخيل العربية مجللة بالأطلس الرومى مبطنة الجلال بالأطلس البغدادى وعلى رأس كل جنيب مقود من الحرير وقد ضرب عليه ستون دينارا خليفتية؛ وثلاثون أو عشرون مملوكا بالعدة والمركوب، وعشرة فهود بجلال الأطلس وقلائد الذهب، وعشرة صقور مكللة الكمام بصغار الحب، ومائة وخمسون بقجة فى كل واحدة عشرة ثياب وخمسة أكر من العنبر الأشهب مضلعة بالذهب، وشجرة عود طولها خمسة أذرع أو ستة تحمل بين يدى رجلين، وأربع عشرة خلعة برسم الخانات كلها بالخيل والساجات

والكرفسارات والطوق وحوائص الذهب والكنابيش؛ وثلاثمائة خلعة برسم الأمراء، كل خلعة قباء وكمة فحسب. وكانت خلعة شرف الملك الوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيفا «1» هنديا «2» وأكرتين «3» من العنبر وخمسين «4» ثوبا وبغلة. وعشرون خلعة برسم أصحاب الديوان كل خلعة منها جبة وعمامة. قال المنشى: وخصصت من سائر أرباب الديوان ببغلة شهباء جيدة وعشرين «5» ثوبا أكثرها أطلس رومى وبغدادى. قال: فلبس السلطان الخلع خلعة بعد أخرى فى نهار واحد ولبس الناس بعده. ثم خاطب رسولا الخليفة السلطان فى الشفاعة فى أمر خلاط وترك الحصار فلم يرد عليهما جواب شفاعتهما. ثم بعث إليهما بعد عودهما إلى منازلهما معاتبا، وقال: قد بلغتمانى عن أمير المؤمنين أنه يريد إعلاء أمرى وتعظيم شأنى وتحكيمى على ملوك الزمان ثم تشيران على بإزالة الحصار بعد أن آن الفتح؟ وهذا ينافى ما ذكرتما، فاعتذرا، وقالا: «إنما قلنا ذلك شفقة، وخشينا أن يطول الحصار، ولا تتمكن منها فترجع عنها، فيكون ذلك بوساطتنا أسلم من مطاعن المستعجزين» فقبل عذرهما، واستمر الحصار. وكان أهل خلاط قد كفوا عن الشتم فى أيام حضور رسل الخلافة فلما تحققوا أنهم ما شفعوا عادوا إلى عادتهم فى السب

ذكر ملكه مدينة خلاط

والشتم. ثم وردت عليه رسل الملوك، كالملك المسعود صاحب آمد والملك المنصور صاحب ماردين يبذلان الطاعة، فكتب إليهما بالخطبة له فى بلادهما. ومما اتفق له أن امرأة عجوزا أتته وهى من دهاة الأرض تتكلم بثلاث لغات: الفارسية والتركية والأرمينية، وكان مضمون رسالتها أن ركن الدين العجمى- وهو من ذوى الحظ عند الملك الأشرف- استدعى من السلطان خمسة آلاف دينار يفرقها فى الأجناد بخلاط فتجلب أهواءهم وتسلم للسلطان خلاط. قدفع السلطان لها ألف دينار وقال: إذا ثبت صدقك وعدت برسالة ثانية كملت لك المال، وكانت الرسالة غير صحيحة، فشاع الخبر فى العسكر حتى بلغ عز الدين أيبك فقتل ركن الدين، ثم ظفر السلطان بالعجوز بعد فتح خلاط واستعاد الذهب منها وقد صرفت منه ثلثماية دينار، وأمر بقتلها فقتلت. ذكر ملكه مدينة خلاط قال: وملك السلطان جلال الدين خلاط فى آواخر سنة ست وعشرين وستماية وقيل إنه حاصرها فى أوائل سنة ست وعشرين وملكها يوم الأحد لئلاث بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين قال: ولما طالت مدة الحصار وعدمت الأقوات حتى أكل الناس الكلاب والسنانير، أدلى الأمير إسمعيل الإيوانى بعض أصحابه ليلا من السور؛ فحضر إلى السلطان وأعلمه أن اسمعيل يلتمس

من السلطان أن يعين له أقطاعا بأذربيجان ليسلم المدينة، فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع بأذربيجان، وحلف له على تقريرها بيده، ولبس الناس لامة حربهم وأدلى إسمعيل الحبال ليلا، فطلعت أعلام السلطان مع رجاله، واستعد الناس للزحف. فلما أصبحوا زحفوا على الثلمة فقاتل من بخلاط من بقايا الأجناد القيمرية «1» قتالا شديدا، ثم نظروا إلى الأبراج وإذا أكثرها قد مليت بالرجال والأعلام السلطانية فزحف عليهم من بالأبراج فولوا منهزمين، وأسرت الأمراء القيمرية والأسد بن عبد الله وغيرهم، وتحصن عز الدين أيبك ومجير الدين وتقى الدين ابنا الملك العادل بن أبى بكر ابن أيوب بالقلعة. وأراد السلطان أن يحمى خلاط من النهب فغلبوا على رأيه فيها، فأباحها ثلاثة أيام، ومات جماعة كثيرة من أهلها بالعقوبات فى طلب الأموال. ثم نزل تقى الدين وناصر الدين القيمرى وطلبا الأمان لعز الدين أيبك، فأمنه. ونزل إليه هو ومجير الدين ثم قبض السلطان بعد ذلك على عز الدين وحبسه وترددت رسل الملك الأشرف فى الصلح فأمر السلطان بقتل عز الدين أيبك فى محبسه فقتل. قال: ولما ملك السلطان خلاط أمر بعمارة ما هدمته المجانيق منها فعمر وأقطع كورها للخانات والأمراء، ثم وردت رسل الديوان بالشفاعة فى تقى الدين ومجير الدين، فسلم السلطان تقى الدين خاصّة.

ذكر مسيره إلى بلد الروم وانهزامه من عسكرى الشام والروم

ذكر مسيره الى بلد الروم وانهزامه من عسكرى الشام والروم قال: ولما ملك السلطان خلاط سار منها إلى منازجرد «1» ليرتب الحصار، فوصل إليه ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب أرزن الروم نائبا، وأعلم السلطان باتفاق ملوك الشام والروم عليه وقال: «إن الرأى أن تبادرهم قبل أن يجتمعوا» فصوب السلطان رأيه، وعرف نصيحته، فاتفقا على أن يقيما بخرت برت «2» وينظرا حركة العساكر، فأيهما تحرك أولا ساقا إليه قبل اتصاله بصاحبه. فلما وصل السلطان إلى خرت برت مرض مرضا شديدا يئس منه من الحياة، وتواترت كتب ركن الدين صاحب أرزن الروم يحرضه على الحركة، ويعلمه بحركة العسكر، والسلطان فى شغل بنفسه عن قراءتها. فحين خف عنه المرض ركب بعد اجتماعهما، وكان قد أذن لبعض العساكر الأرانية والأذربيجانية والعراقية والمازدندانية فى العود إلى أوطانهم، ولم يستحضرهم وسار، وجرد أمامه أوترخان فى ألفى فارس برسم اليزك. ثم التقى الجمعان بعد ذلك واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الهزيمة على أصحاب السلطان،

وأسر ألغ خان وأطلس ملك وعدة من المفاردة «1» ؛ فأمر صاحب الروم بضرب أعناقهم. وأسر ركن الدين صاحب أرزن الروم على ما ذكرناه فى أخبار السلجقية ملوك الروم. قال: وسار السلطان جلال الدين إلى أن وصل إلى منازجرد، فوجد وزيره شرف الملك قد ضايقها ونصب عليها عدة من المجانيق وأشرف على فتحها، فاستصحبه معه إلى خلاط، فلما وافاها حمل ما أمكنه من الخزائن، وأحرق البقية لقلة الظهر وضيق الوقت وفارقها إلى أذربيجان. فلما وصل إلى سكماناباذ، خلف شرف الملك ومن كان معه من العراقيين هناك برسم اليزك، وأقام بخوى. وأما أصحاب السلطان الذين كانوا بزكا، فإن الهزيمة استمرت بهم إلى موقان «2» . قال: ولما بلغ الملك الأشرف أن شرف الملك هو المقيم بسكماناباذ راسله فى طلب الصلح، وقال: إن سلطانك هو سلطان الإسلام والمسلمين وسيدهم، والحجاب دونهم ودون التتار؛ وغير خاف علينا ماتم على حوزة الإسلام وبيضة الدين بموت والده، ونحن نعلم أن ضعفه ضعف الإسلام. وطلب منه أن يرغبه فى الألفة وضمن له من علاء الدين كيقباذ والملك الكامل أخيه، والقيام بما يزيل عارض الوحشة؛ فركن السلطان إلى ذلك، وترددت الرسائل إلى أن تم الصلح.

ذكر وصول مقدمة التتار إلى تخوم أذربيجان ورحيل السلطان من تبريز إلى موقان

ذكر وصول مقدمة التتار الى تخوم أذربيجان ورحيل السلطان من تبريز الى موقان قال: كان السلطان قد جرد يرغو أحد بهلوانيته «1» ليكشف بالعراق أخبار التتار فلما وصل إلى مرج شروان «2» بين زنجان «3» وأبهر صادق «4» يزك التتار، وكان معه من أصحابه أربعة عشر نفسا فلم ينج منهم غيره، فرجع إلى تبريز بالخبر المزعج. فرحل السلطان من تبريز إلى موقان، اذ كانت عساكره بها متفرقة فى مشاتيها، فأعجلته الحادثة قبل أن ينظر فى أمر حرمه فيسيرها إلى قلعة حصينة من حصونه، فخلفها بتبريز، وسار فيمن معه من خواصه متوجها إلى موقان، حاثا فى السير ليجمع بها متفرق عساكره. فوصلها فوجد عساكره متفرقة، منهم من أقام بها ومنهم من توجه ليشتى بشروان، ومنهم من امتد إلى المكتور «5» . فوجه إليهم البهلوانية بقداح كانت علامات الاستقرار والاستحضار وقد هجم التتار عليهم قبل اجتماعهم وانتقض هذا النظام.

ذكر كبسة التتار السلطان وهو بحد (شيركبوت)

ذكر كبسة التتار السلطان وهو بحد (شيركبوت) قال: لما انفصلت البهلوانية لجمع العساكر اشتغل السلطان بالصيد وهو فى قلّ من العدد زهاء ألف فارس من خواصه، فترك ليلة بقرب شيركبوت، وهى قلعة مبنية على تل بموقان، يحيط بها خندق بعيد القعر، متصل متسع العرض، ينبع الماء منه فيفيض فيسقى البلد. فبينما هو بتلك المنزلة كبسه التتار ليلا فانهزم وساقوا فى أثره. فلما وصل إلى نهر آرس أوهم التتار أن قطع النهر صوب كنجة وعطف إلى أذربيجان، فأقام بماهان «1» ، وهى فضاء كثيرة الصيد فشتا «2» بها. وكان عز الدين صاحب قلعة شاهق يبعث إلى السلطان ما يحتاج إليه من المأكل وغيره فى المراكب. وقد كان قبل ذلك يجاهره بالعداوة، فرضى عنه السلطان كل الرّضى، وكان عز الدين يعلم بأخبار التتار فلما انقضى الشتاء أخبره أن التتار قد ركبوا من أوجان «3» لقصده، وأنهم تحققوا مكانه؛ وأشار إليه بالعود إلى أران فرحل صوبها.

ذكر القبض على شرف الملك وزير السلطان وقتله

ذكر القبض على شرف الملك وزير السلطان وقتله قال المنشى: لما نبت الجفلة بالسلطان شرع شرف الملك فى تمهيد القواعد لنفسه، وكاتب الملك الأشرف وغيره من الملوك، وذكر رجوعه عن السلطان، ونعت جلال الدين بالمخذول، وكتب إلى نواب الأطراف فى ذلك وذكره فى كتبه إليهم بالظالم المخذول؛ وصدر منه من الأفعال ما يناسب ذلك، فظفر السلطان بشيئ من هذه الكتب وكتمها؛ لكنه كان يكتب إلى نواب الأطراف يحذرهم منه ومن امتثال أمره، ويغض منه فى كتبه. وكان شرف الملك قد استقر بقلعة حيزان «1» وعمرها وصادر أصحاب السلطان، وجاهر بالعداوة، فلما رجع السلطان من ماهان وقارب حيزان، راسله فى النزول إليها وتغافل عن جميع ما صدر منه، وأوهمه أنه باق على ما عهده. ونزل شرف الملك إليه فأكرمه بما لم يكن يعامله به قبل ذلك، فإنه أحضره فى مجلس شرابه وشرب معه، ولم تكن هذه عادتهم مع وزرائهم، فسر شرف الملك بذلك وظن أنه زاده تقريبا وتعظيما. قال: وسار السلطان حتى قارب قلعة جاريبرد- وهى من مضافات أران- وعزم على أن يحبس شرف الملك بها، فركب إليها وصعد

لكشفها، وصعد شرف الملك معه، فأمر السلطان واليها سرا- واسمه سملان سلك بك وهو شيخ تركى ظالم شرير- أنه إذا نزل يمنع شرف الملك من النزول ويحبسه بالقلعة ويقيده. وكان يخشى منه أنه يفارقه إلى بعض الجهات فيثير فتنة، وعزم على حبسه إلى أن تخمد فتنة التتار، ثم يخرجه ويعيده إلى الوزارة من غير تقرير عشر البلاد، بل يقرر باسمه فى كل شهر ألف دينار أسوة بوزير الخليفة، ولا يطلق يده فى الإطلاقات، فحبس شرف الملك بالقلعة، ونزل إلى متولى القلعة بعد حبسه بأيام وقد جلس السلطان للمظالم، فكثرت الشكوى فى متولى القلعة والسلطان لا يجيب فى أمره بشيئ تألفا له. فخاف المتولى أن السلطان يعزله، فاتفق مع شرف الملك. وكان السلطان لما اعتقل شرف الملك ضم مماليكه الذين أمّرهم إلى أوترخان وكان كبيرهم ناصر الدين قشتمر، فدخل يوما على أوترخان بخاتم شرف الملك وقال إن متولى القلعة سيره إليه يقول: إننى قد واطأت صاحبك على إطلاقه، وأننا نصالح الكرج، فمن رغب منكم فى خدمته فليأت القلعة. فلما سمع السلطان بذلك سقط فى يده وفت فى عضده. وكان ابن المتولى فى جملة بهلوانية السلطان وجماقداريته، فبعثه إلى أبيه يقبح عليه فعله ويذكره بإحسانه إليه وأنه ليس لجنايته موجب. فرجع الغلام وأخبر السلطان عن أبيه. أنه على الطاعة إن وثق من السلطان أنه لا يعزله. فقال السلطان مصداق هذا القول أنه يبعث إليه برأس شرف الملك. ووجه صحبة ابن المتولى خمسة من السلحدارية. قال: فلما دخلوا عليه وعلم مقصدهم استمهلهم ريثما يتوضأ ويصلى ركعتين. فلما فرغ من صلاته أذن لهم فى

الدخول. فقالوا له: ماذا تختار: الخنق أم السيف؟ فاختار السيف فقالوا: إن الملوك لا تقتل بالسيف، والخنق أهون عليك، فقال: شأنكم وما تريدون. فخنقوه وخرجوا من عنده حتى يبرد ثم يدخلوا عليه فيقطعوا رأسه. فلما دخلوا عليه وجدوه قد أفاق وجلس، فضربوا عنقه. هذا ما نقله شهاب الدين المنشى فى سبب قتله. وقال غيره من المؤرخين: إن سبب خلاف شرف الملك على السلطان وانضمام الناس إليه أن جلال الدين ظهر منه فى هذه السنة- وهى سنة ثمان وعشرين وستمائة- نقائص وأمور دلت على نقص عقله، وأوجبت انحراف وزيره وعساكره عنه. فمنها أنه كان له خادم خصى يسمى قلج، وكان جلال الدين يحبه، فمات فأظهر عليه من الهلع والجزع ما لم يسمع بمثله، ولا نقل عن مجنون ليلى ولا غيره من جهال العرب، الذين ضرب بهم المثل، وأمر الجند والأمراء أن يمشوا فى جنازته رجّاله. وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ فمشى الناس كما أمرهم، ومشى هو بعض الطريق راجلا، فألزمه وزيره وأمراؤه بالركوب، وأرسل إلى أهل تبريز أن يتلقوا الجنازة فتلقوها، فأنكر عليهم لتأخرهم وكونهم ما تقدموا الموضع الذى لقوها فيه، وكونهم لم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما أظهروا، وقصد معاقبتهم على ذلك، فشفع فيهم الأمراء فتركهم ولم يدفن الخادم، وكان يستصحبه معه أين سار وهو يلطم ويبكى، وامتنع من الأكل والشرب. وكان إذا اقدم له طعام يقول: احملوا من هذا إلى قلج، فيحملونه ويعودون فيقولون: هو يقبل الأرض ويقول: إننى الآن أصلح مما كنت، ولا يتجاسر أحد يقول: إنه مات،

ذكر رحيل السلطان صوب كنجة وتملكها ثانيا

فإنه قيل له مرة إنه مات فقتل القائل. فحصل لأمرائه من الغيظ والأنفة ما حملهم على الخروج عن طاعته والانحياز عنه والانضمام إلى وزيره؛ فكان ذلك سبب خروجه. ذكر رحيل السلطان صوب كنجة وتملكها ثانيا قال: كان أوباش كنجة قد قتلوا من بها من الخوارزمية وتجاهروا بالفساد، وملك زمام أمرهم رجل يعرف ببندار وأطاعه الأوباش فبسط يده فى المصادرات، واقتصرت أذيته على من لم يدخل معه فى العتو. فوجه السلطان إليه يدعوه إلى الطاعة، ويحذره ويحذرهما من المخالفة، فلم يجيبوا إلى ذلك. فسار السلطان إليها، ونزل ببعض بساتينها، وترددت الرسائل فى بذل الأمان والوعد بالعفو، فلم يجيبوا إلى ذلك، وخرجوا للحرب، ورموا خيمة السلطان بالسهام ووصلوا إلى حائط البستان. فركب فيمن حضر من خواصه، وأوقع بهم، وسار حتى دخل المدينة. وأقام بكنجة سبعة عشر يوما ينتظر ما يسوغه التدبير، ثم أجمع على الاستنجاد بالملك الأشرف موسى على التتار، وكان جماعة من الجبناء يسيرون عليه بذلك وهو يخالفهم باطنا ويوافقهم ظاهرا. فسار إلى خلاط من طريق كيلكون، والغارات تنقلب بلاد الكرج بطنا لظهر، والسلطان يتابع رسله إلى الملك الأشرف يستنجد به. ولما بلغ الملك الأشرف توجه الرسل إليه يستمدونه، توجه إلى مصر واجتمع رسل السلطان بدمشق، والكتب ترد عليهم من الملك الأشرف بأننا واصلون من مصر لإنجاد السلطان.

ذكر نزول السلطان بلد آمد وكبس التتار له وما كان من أمره

مواعيد كما لاح سراب المهمه القفر ... فمن يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر ثم وردت عليه كتب رسله يؤيسونه من إنجاد الملك الأشرف، فبعث إلى الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل أبى بكر يستصرخه بنفسه، ومن عنده ومن حوله من الملوك، مثل صاحب آمد وماردين. فأجاب الملك المظفر أنه غير مستقل بالأمر وإنما هو ينوب عن إخوته. وأما صاحب آمد وماردين فلم يسمعا الرسالة. ذكر نزول السلطان بلد آمد وكبس التتار له وما كان من أمره قال: لما آيس السلطان جلال الدين من إنجاد الملوك أحضر أمراءه واتفقوا على أن يتركوا أثقالهم بديار بكر، ويتجردوا «1» خفافا بمن يعز عليهم من نسائهم وأولادهم إلى أصفهان. فورد علم الدين سنجر- المعروف بقصب السكر- رسول الملك المسعود صاحب آمد رسالة تشتمل على الطاعة والخدمة، ويزين للسلطان قصد الروم، وأطمعه فى الاستيلاء عليها وعدم من ينازعه، ووعد السلطان أن يخرج بنفسه وأربعة آلاف فارس ولا يفارق خدمته. وكان سبب ذلك أن صاحب الروم قد أوغر صدر الملك المسعود صاحب آمد، واستولى على عدة من قلاعه. فمال السلطان إلى كلامه، وعدل عما كان قد عزم عليه من المسير إلى أصفهان، وعطف صوب بلد آمد،

ونزل الجسر بقربها. قال: وشرب تلك الليلة حتى سكر، فأتاه وهنا من الليل شخص تركمانى وقال: «إننى رأيت فى منزلتك التى كنت بها أمس عسكرا قد نزلها غير ذى عسكرك بخيل أكثرها شهب.» فكذبوه، وقالوا: هذه حيلة. فلما كان قبيل الفجر، أحاط التتار به وبمن معه، فكانوا كما قيل: فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب ومن فى كفه منهم قناة ... كمن فى كفه منهم خضاب قال: وأحاط التتار بخركاة «1» السلطان وهو نائم فى سكره، وإذا بأورخان قد وصل بأصحابه، وحمل على التتار حتى كشفهم عن الخركاة، ودخل بعض الخواص فأخذ بيد السلطان وأخرجه من الخركاة وعليه طاقية بيضاء. فركب فرسه ولم يذكر فى ذلك الوقت إلا الملكة ابنة الأتابك سعد، فجهز فى خدمتها من يسوق بها إلى حيث ترميهم الجفلة، وساق وأطلاب التتار تتبعه مجدة فى السير خلفه فلما رأى ذلك، أمر أورخان أن يفارقه بمن معه من العسكر ليتبع التتار سواده، ويخلص هو بمفرده، ففعل ذلك. قال المنشى: ولقد أخطأ، فإن أورخان لما فارقه انضوى إليه خلق كثير، ووصل إلى أربل ومعه أربعة آلاف فارس، وساق إلى أصفهان وملكها زمنا إلى أن قصدها التتار. وأما السلطان فساق بعد فراقه لأورخان إلى أن وصل إلى باشورة آمد، فرموه بالحجارة

ذكر مقتل السلطان جلال الدين وانقراض الدولة الخوارزمية

ومنعوه الدخول، فتيا سر عنها، وانضم إليه تقدير مائه فارس، فرمته الجفلة بهم إلى حدود جزيرة، وبها الدربندات المنيعة، فمنعوه من العبور، فأشار عليه أوترخان بالعود، وقال: إن أسلم الطّرق اليوم طريق سلكه التتار، فرجع ووصل إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل ببيدرها وسيب الخيل لتستوفى شبعها، ثم ركب أوترخان وفارقه فى ذلك الوقت جبنا منه وخورا، ووثوقا بما كان بينه وبين الملك المظفر شهاب الدين غازى من المكاتبات، وأقام السلطان بالبيدر طول ليلته، فلما أصبح طلع عليه طائفة من التتار فركب وعوجل أكثر من معه عن الركوب فقتل بعضهم وأسر بعضهم. (والله أعلم) ذكر مقتل السلطان جلال الدين وانقراض الدولة الخوارزمية كان مقتله رحمه الله فى النصف من شوال سنة ثمان وعشرين وستمائة وذلك أنه لما كبسه التتار بالبيدر وركب، أخبرهم من أسر من رفاقه أن الذى انهزم هو السلطان، فجدوا فى طلبه وساق خلفه منهم خمسة عشر فارسا، فلحقه منهم فارسان فقتلهما، ويئس الباقون من الظفر به فرجعوا، ثم صعد جلال الدين إلى جبل. وكان الأكراد يحفظون الطرق لما يتخطفونه «1» فأخذوه وسلبوه على عادتهم بمن يظفرون «2» به، وأرادوا قتله فقال لكبيرهم سرّا: «إننى

أنا السلطان فلا تعجل بقتلى، ولك الخيار فى أن تحضرنى عند الملك المظفر شهاب الدين فيغنيك أو إيصالى إلى بعض بلادى فتصير ملكا» فرغب الرجل فى إيصاله إلى بلده، ومشى به إلى عشيرته، وتركه عند امرأته ومضى بنفسه إلى الخيل لإحضار ما يحمله عليه. فلما توجه الكردى جاء شخص من سفلة الأكراد وأراذلها وبيده حربة، فقال للمرأة: ما هذا الخوارزمى؟ ولم لا تقتلونه؟» فقالت: «قد آمنه زوجى وهو السلطان» فقال الكردى: «كيف تصدقون أنه السلطان وقد قتل لى بخلاط أخ خير منه» وضربه بالحربة ضربة فمات منها. فكانت مدة ملكه منذ وفاة أبيه اثنتى عشرة «1» سنة تقريبا قال: وكان أسمر قصيرا، تركى العبارة. وكان يتكلم بالفارسية، وكان حليما عفيف اللسان لا يكاد يضحك إلا تبسما، وكان يحب العدل. قال المنشى: وكان يكتب إلى الخليفة فى مبدأ خروجه من الهند والوحشة قائمة، حذوا على منوال أبيه خادمه المطواع منكوبرتى ابن السلطان سنجر. ولما أتته الخلع الخليفتية بالسلطنة كتب إليه «عبده» والخطاب: «سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين وإمام المسلمين، خليفة رسول رب العالمين، إمام المشارق والمغارب المنيف على الذروة العلياء من لؤى بن غالب» . وكان يكتب إلى علاء الدين كيقباذ وملوك مصر والشام أجمع اسمه واسم أبيه منعوتا بالسلطان، ولا يزيدهم على ذلك. وكانت علامته على تواقيعه «النصرة من الله وحده» . وكان يكاتب بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأشباهه بهذه العلامة وخوطب من الخليفة فى مبدأ طلوعه من الهند: الجناب الرفيع الخاقانى

ولم يزل يقترح عليهم أن يخاطب بالسلطان، فلم تحصل الإجابة لذلك إذ لم تجر به عادة، فلما كثر إلحاحه خوطب بالجناب العالى الشاهنشاهى. وانقرضت الدولة الخوارزمية بقتل السلطان جلال الدين، وكانت مدة قيام هذه الدولة منذ ولى خوارزم شاه محمد بن أنوشتكين خوارزم من قبل أمير داذ حبشى متولى خراسان فى شهر رجب سنة تسعين وأربعماية، وإلى أن قتل السلطان جلال الدين هذا، مائة سنة وثمان «1» وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وأياما. وعدة من ولى منهم سبعة وهم خوارزم شاه محمد بن أنوشتكين «2» ، ثم ابنه اتسز بن محمد، ثم ابنه ايل «3» أرسلان بن اتسز، ثم ابنه سلطان شاه محمود بن ايل «4» أرسلان،- ولم تطل أيامه-، ثم أخوه علاء الدين تكش، ثم ابنه علاء الدين محمد بن تكش، ثم ابنه جلال الدين منكوبرتى.

ذكر أخبار الدولة الجنكزخانية وابتداء أمرها وما تفرع عنها

ذكر أخبار الدولة الجنكزخانية وابتداء أمرها وما تفرع عنها والدولة الجنكزخانية هى دولة التتار وقيل فيهم التاتار، وهذه النسبة إلى جنكزخان التمرجى. «1» ونحن نذكر ملخص أخباره وابتداء ظهوره وما كان من أمره إلى أن ملك البلاد، ونشرح من ذلك ما لخصناه مما طالعناه ونورد ما تلقفناه من أفواه الرجال وسمععناه. ولما اتسعت ممالك هذه الدولة وبعدت، وكانت بين المؤرخين الضالة التى ما نشدت، تعذر علينا أن نتحقق أحوالها، ونجوس خلالها ونستوعب أخبارها، ونستقصى آثارها. ولم يمكن أن نخلّ بها وقد اشتهرت، ونطوى أخبارها وقد انتشرت، فأوردنا من أخبار ملوكها طرفا على غير مساق، ونبذة على غير اتساق، مما أورده المنشى فى تاريخه الجلالى، وعز الدين بن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل. وأما غيرهما ممن لعله أرخ لهم فلم يصل ما أرخه إلينا، ولا ورد ما دونه من أخبارهم علينا، فنقلنا ما نورده مما لم يتضمن تاريخيهما، وما بعدهما مما نقل إلينا عن رسلهم الذين وردوا إلى أبواب ملوكنا من جهتهم، ومن غيرهم ممن ورد من تلك البلاد على ما سنقف عليه إن شاء الله. ولنبدأ بذكر أخبار جنكزخان.

ذكر أخبار جنكزخان التمرجى وابتداء أمره وسبب ظهور ملكه

ذكر أخبار جنكزخان التمرجى وابتداء أمره وسبب ظهور ملكه وجنكزخان التمرجى هو أصل هذه الدولة، والقائم بأمرها، والناشر لذكرها. وإليه يرجع ساير ملوكها الذين استولوا على أقاصى البلاد وأدانيها، ورقاب العباد ونواصيها من الصين إلى الفرات وما دانا ذلك وتخلله وجاوره من الممالك والمدن والحصون والقلاع والأقطار. وقد اختلف فى نسبة جنكزخان إلى التمرجى فقال قوم إنه كان حدادا والتمرجى بلغتهم هو الحداد، وقال قوم بل هى نسبة إلى قبيلة تعرف بالتمرجى، وأنهم سكان البرارى ببلاد الصين وجين الصين. وتسمى هذه البلاد بلغتهم جين «1» [وما جين] «2» بين الجيم والشين. ومسيرة أقطارها ستة أشهر، وبها جبال منيعة تحيط بها كالسور، بها الأنهار العذبة المتسعة، وقيل إنه يحوى ملك الصين سور واحد لا ينقطع إلا عند الجبال المنيعة والأنهار الوسيعة وكان ملك الصين ينقسم قديما إلى ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره خان، والخان بلغتهم الملك، يحكم ذلك الخان على القوم القاطنين بذلك السقع، ومرجع هؤلاء الخانات الستة

إلى خان واحد هو ملكهم الأكبر، ومقامه بطوغاج بوسط أرض الصين، وله مصايف ومشاتى يصيّف فى هذه ويشتى فى الأخرى..... وأما مبدأ أمر جنكزخان وسبب ملكه فقيل إنه تزهّد مدة طويلة وانقطع بالجبال. وكان سبب زهده أنه سأل بعض اليهود فقال له: «بم أعطى موسى وعيسى ومحمد هذه المنزلة العظيمة، وشاع لهم هذا الذكر» ، فقال له اليهودى: «لأنهم أحبّوا الله وانقطعوا إليه فأعطاهم» ، فقال جنكزخان: «وأنا إذا أحببت الله وانقطعت إليه يعطينى؟» قال: «نعم، وأزيدك أن فى كتبنا أن لكم دولة ستظهر» فترك جنكزخان ما كان فيه من عمل الحديد أو غيره وتزهد، وفارق قومه وعشيرته، والتحق بالجبال وكان يأكل من المباحات، فشاع ذكره فكانت الطائفة من قبيلته تأتيه للزيارة فلا يكلمهم، ويشير إليهم أن يصفقوا بأكفهم، ويقولوا: يا الله يا الله يخشى در، فيفعلون ذلك ويوقعون له وهو يرقص، فكان هذا دأبه وطريقته مع من يقصده للزيارة، وهو مع ذلك لا يدين لديانة ولا يرجع إلى ملة بل مجرد محبة الله بزعمه، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث فهذه كانت بدايته. وأما سبب ملكه فحكى شهاب الدين محمد المنشى وغيره فى سبب ملك جنكزخان أنه كان من جملة الستة خانات الذين يحكمون على مملكة الصين خان يسمى دوشى خان. وكان الخان الكبير الذى مرجع الستة إليه فى زمن ظهور جنكزخان التمرجى ملك اسمه الطون خان «1» فاتفقت وفاة دوشى خان أحد الخانات الستة ولم يخلف

ولدا، وله زوجة هى عمة جنكزخان التمرجى، فاختارت أن ترتبه مكان زوجها دوشى خان. وكان الخان الأكبر غائبا عن مدينة طوغاج «1» فلما قصدت ذلك أرسلت إلى اثنين من الخانات الستة يسمى أحدهما كشلوخان والآخر جنكزخان وهما متوليان على ما يتاخم ولاية زوجها دوشى خان، فأعلمتهما بوفاة زوجها، وأنه لم يخلف ولدا، وأنها تقصد ترتيب ابن أخيها مكانه. وسألتهما الإعانة والمساعدة على ذلك. فأجاباها إليه وأشارا أن تقيمه مقام زوجها، وضمنا لها أمر التون خان الأكبر. فأقامته ولقبته جنكزخان، وانضم إليه أقوام من عشيرته. فلما عاد التون خان إلى طوغاج حضر الخانات إلى خدمته وجاء كل منهم بما جرت به العادة من التقادم، وعرض عليه الحجاب الأمور التى اتفقت فى غيبته، وقدموا بين يديه التقادم إلى أن وصلوا إلى تقدمة جنكزخان التمرجى بحضور الخانين اللذين أشارا على عمته بتقدمته. فعجب التون خان من توليته فى غيبته. وكونه ترشح لما لا يستحقه، فغضب من ذلك وخرج وأمر أن تقطع أذناب خيله وترد مطرودة. ففعل ذلك وشتمه الحجاب وشتموا صاحبيه كشلوخان وجنكزخان، وبالغوا فى وعيده ووعيدهما. فلما خرجوا من بين يديه نزعوا أيديهم من الطاعة وانفردوا عن الخان الكبير التون خان، وخالفوه وانضم إليه خلق كثير، فكثرت جموعهم وأهم التون خان أمرهم، فكاتبهم يعدهم تارة ويتهددهم أخرى، على أن يرجعوا إلى الطاعة، فأبوا إلا الخلاف. فلما أيس

التون خان من رجوعهم إلى الطاعة جمع جموعه وخرج فالتقوا واقتتلوا فكسروه، وقتلوا من قبائل الترك الذين معه مقتلة عظيمة، وهرب التون خان بنفسه إلى وراء كنك «1» وأخلى البلاد، فتمكنوا منها وملكوها، وضعف أمر التون خان ووهى حتى راسلهم يطلب المهادنة وقنع بالسقع الذى انتهى هربه إليه، فأجابوه إلى ذلك. واستمر الأمر بين الثلاثة: كشلوخان وجنكزخان الأكبر، وجنكزخان الأصغر تمرجى، هذا على المشاركة، فكانوا كذلك إلى أن مات جنكزخان الأكبر، وبقى كشلوخان، وجنكزخان تمرجى مشتركين فى الأمر، وامتدت أيديهما فى البلاد، وسارا إلى بلاساغون «2» فملكاها وما يتاخمها ويدانيها من البلاد. فاتفقت وفاة كشلوخان فقام ولده مقامه، ولقب كشلوخان بلقب أبيه، فلم ينصفه جنكزخان واستضعف جانبه لحداثة سنه، ولم يعامله بما كان يعامل به أباه من الاشتراك فى الأمر والنهى والتناصف فى قسمة الممالك. فجرى بينهما مراسلات ومعاتبات أفضت إلى مفارقة كشلوخان بن كشلوخان إلى قيالق «3» والمالق «4» ، فصالحه صاحبها ممدوخان بن أرسلان واتفقا وتعاضدا. واتفق أن كورخان- خان الخانية ملك الخطا- كان بينه وبين

السلطان علاء الدين محمد بن تكش من الحروب ما ذكرناه فى أخباره، وكان السلطان علاء الدين لما هزم كورخان التجا إلى حدود كاشغر فقصده كشلوخان وممدوخان «1» وأرادا أنهما يجلسانه على تخت الملك لينضاف إليهما بسببه قبائل الترك، فنهضا إليه من قيالق وكبسا عليه وهو بحدود كاشغر وأخذاه وأجلساه على سرير الملك. وكان كشلوخان يقف بين يديه عند الإذن العام موقف الحجاب، فيشاوره فى سائر الأمور ولا يعمل منها إلا بما يختاره، فكانت واقعتهم هذه شبيهة بواقعة السلطان سنجرشاه السلجقى مع الغز لما أسروه، قال: واستوليا على خزانته وأمواله وذخائره، فبلغ السلطان علاء الدين محمد بن تكش ذلك، فأرسل إلى كشلوخان يطالبه بإرساله إليه ويتهدده إن أخره عنه، ويقول: إنه كان هادنه على أن يزوجه ابنته طوغاج خاتون ويزفها إليه بما فى خزانته من الجواهر النفيسة والأعلاق الثمينة، على أن يتركه فى أخريات بلاده؛ فما أجاب إلى ذلك، ودافعه عنه بالملاطفة والممالطة. وفى أثناء ذلك بلغ جنكزخان تمرجى أن كشلوخان استولى على كاشغر وبلاساغون وأن ملك الخطا قد وقع بين يديه، فبعث إليه ولده دوشى خان «2» فى زهاء عشرين ألف فارس فأوقع بهم دوشى خان ابن جنكزخان، وغنم ما معهم وذلك فى سنة ثنتى عشرة وستمائة وكان السلطان علاء الدين قد عبر النهر لقصد كشلوخان وقتاله، فبلغه أن دوشى خان بن جنكزخان أوقع به، وجاءته رسالة دوشى خان

ذكر خروج التتار إلى البلاد الاسلامية

مع من يقول له: إنه يقبل الأرض ويعتذر من عبوره إلى البلاد، ويقول: إنه إنما عبر لطلب كشلوخان وينازله فى رسالته وقال: إن الغنائم بين يديه إن شاء أن ينعم على من باشر القتال بشىء منها، وإلا فالأمر إليه وإلا يرسل من يتسلمها ويسوقها إلى عنده، وذكر له أن أبا جنكزخان أوصاه بسلوك الأدب فى خدمة السلطان علاء الدين إن صادفه أو صادف بعض عساكره. فلم يصغ علاء الدين إلى كلامه وقال: إن كان جنكزخان أمرك أن تقاتلنى فالله أمرنى بقتالك. وتقدم إليه والتقيا، فكسر دوشى خان ميسرة السلطان علاء الدين ومزقها، وكادت تكون الهزيمة حتى عطفت الميمنة على ميسرة دوشى خان ثم حجز بينهما الليل فأججوا نيرانا كثيرة. وركبوا وساقوا فى تلك الليلة مسيرة يومين، وتمكن الرعب فى قلب السلطان محمد وعاد إلى سمرقند. ثم راسل جنكزخان السلطان علاء الدين خوارزم شاه وهاداه، وطلب منه أن يفسح للتجار أن تتواصل من بلادهما واتفقا على ذلك على ما قدمناه فى أخبار خوارزم شاه. ذكر خروج التتار الى البلاد الاسلامية كان سبب ذلك أن جنكزخان لما راسل السلطان محمد وهاداه، وانتظم بينهما الصلح، وفسحا للتجار فى الوصول إلى بلاد الإسلام وبلاد الصين، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن وصل إلى أترار «1»

ذكر استيلاء جنكزخان على بخارا

- وهى من ممالك السلطان علاء الدين محمد- عدة من تجار جنكزخان. وكان بها ينال خان ينوب عن السلطان، فقتلهم وأخذ أموالهم. فاتصل ذلك بجنكزخان، فراسل السلطان يلومه على ذلك، ويقول: إنك كتبت خطك وأمانك للتجار، وقد غدرت ونكثت، فإن زعمت أن الذى ارتكبه ينال خان كان عن غير أمرك فسلمه إلى لأجازيه على فعله، وإلا فأذن بالحرب. فقتل رسله كما قدمنا ذلك فى أخبار خوارزم شاه، فعند ذلك تجهز جنكزخان لقصد البلاد الإسلامية. وكان من سوء تدبير علاء الدين خوارزم شاه وتفرقة عساكره فى كل مدينة من مدن ما وراء النهر ما ذكرناه، فتجهز جنكزخان بجموع التتار، ولما شارف البلاد الإسلامية تياسر صوب أترار واستولى عليها بعد قتال شديد، وأحضر ينال خان بين يديه وأمر بسبك الفضة وقلبها فى أذنيه وعينيه، فمات. ذكر استيلاء جنكزخان على بخارا قال: ولما استولى جنكزخان على أترار وقتل النائب بها، ورتب الحيلة التى أوقع بها بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وبين أمه وأخواله على ما قدمناه فى أخبار الدولة الخوارزمية، تقدم إلى بخارا، وقصد بذلك أن يقطع بين السلطان وبين عساكره المتفرقة، حتى أنه لو أراد جمعهم لعجز عن ذلك فلما انتهى إليها حاصرها، وقدم بين يديه رجال أترار، وداوم الحصار والقتال ليلا ونهارا وكان بها

الأمير اختيار الدين كشلى أمير آخور «1» وأغلى حاحب الملقب بإينانج خان فى ثلاثين ألف فارس، فلما رأوا أنها قد أشرفت على الأخذ تخاذلوا، وأجمعوا على الهزيمة، فخرجوا وحملوا على التتار حملة رجل واحد، فأفرجوا لهم وانهزموا أمامهم حتى كادت الهزيمة تكون على جنكزخان، وظن أنهم يعودون للقتال. فلما علم جنكزخان أن مقصدهم الهرب أرسل فى آثارهم من أكابر التتار من يتبعهم ويتخطفهم إلى أن وصلوا إلى حافة نهر جيحون، فلم ينج منهم إلا إينانج خان فى شرذمة يسيرة، وشمل القتل معظم ذلك الجيش وغنم التتار ما معهم. قال: ولما فارق العسكر الخوارزمى بخارا طلب أهلها الأمان فآمنهم وكان قد بقى من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة، وفتحت أبواب المدينة بالأمان، وذلك فى يوم الثلاثاء رابع ذى الحجة سنة ست عشرة وستمائة. فدخل التتار بخارا ولم يتعرضوا إلى أحد بل قالوا لهم: أخرجوا إلينا جميع ما هو متعلق بالسلطان من الذخائر وغيرها، وساعدونا على قتال من بالقلعة، وأظهروا لهم العدل وحسن السيرة. ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى فى البلدان أن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل. فحضروا بأجمعهم وأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى كان التتار يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونها فى الخندق.

ذكر استيلائه على سمرقند

ثم تابعوا الزحف على القلعة وبها أربعماية فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم ومانعوا اثنى «1» عشر يوما يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد، فما زالوا كذلك إلى أن وصل النقابون إلى القلعة. واشتد الأمر ورمى المسلمون بجميع ما عندهم من حجارة وسهام ونار ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وملك جنكزخان القلعة، فلما فرغ من أمر القلعة أمر بجمع رؤساء البلد، فجمعوا وعرضوا عليه فقال لهم: «أريد منكم النقرة التى باعكم خوارزم شاه فإنها لى وأخذت من أصحابى» فأحضر كل من كان عنده شىء منها ما عنده، ثم أمرهم بالخروج من البلد مجردين فخرجوا ليس مع أحد منهم غير ثيابه التى عليه، ونهب التتار البلد وقتلوا من تخلف فيه. وأحاطوا بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم ففعلوا ذلك وأصبحت بخارى خاوية؛ على عروشها، وارتكب التتار من الفساد العظيم والناس ينظرون إليهم ولا يستطيعون ردهم. فمنم من لم يرض بذلك واختار الموت وقاتل حتى قتل، ومنهم من استسلم وأسر. وألقوا النار فى البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب فى طلب الأموال ثم ساروا إلى سمرقند. ذكر استيلائه على سمرقند قال: ولما فرع جنكزخان من أمر بخارا سار إلى سمرقند وقد تحقق عجز السلطان علاء الدين عن قتاله، وهو بمكانه بين ترمذ

وبلخ، وأمر جنكزخان أن يتوجه من سلم من أهل بخارا فخرجوا مشاة على أقبح حال، فمن أعياه التعب وعجز عن المشى قتل. فلما قاربوا سمرقند، ورموا الخيالة، وتركوا الأثقال والأسارى والرجالة وراهم، وتقدموا شيئا فشيئا ليكون ذلك أرعب لقلوب المسلمين، فاستعظم أهل البلد سوادهم فلما كان فى اليوم الثانى وصلت الأسارى والرجال والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظنه أهل البلد أن الجميع مقاتلة وأحاطوا بالبلد، وكان [طغانخان] «1» خال السلطان وأمراء الغور فى أربعين ألف فارس وقيل فى خمسين ألف فارس، وعامة البلد لا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلاد رجال، ولم يخرج معهم أحد من العسكر الخوارزمى لما فى قلوبهم من الجزع فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتار يتأخرون وأهل البلد يتتبعونهم ويطمعون، فيهم، حتى بعدوا عن البلد، وكان التتار قد كمنوا كمينا، فلما جاوزه المسلمون خرج الكمين من ورائهم وحال بينهم وبين البلد وعطف عليهم التتار فصاروا فى وسط القوم وآخرهم السيف، قتلوا عن آخرهم، وكانوا سبعين ألفا. فضعفت نفوس الجند ومن بقى من العامة وأيقنوا بالهلاك؛ فقال الجند- وكانوا أتراكا- نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا «2» ، فطلبوا الأمان فأجابوهم له، ففتحوا أبواب البلد وخرج الجند إليهم بأهاليهم وأموالهم فقال لهم التتار: «إدفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم» . ففعلوا ذلك ثم وضعوا فيهم السيف

ذكر ما فعلته الطائفة المغربة من التتار

وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا نساءهم فلما كان فى اليوم الرابع نودى فى البلد أن يخرج أهله بأجمعهم ومن تأخر قتل، فخرج جميع من به من الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند كفعلهم مع أهل بخارا من النهب والقتل والسبى والفساد، ونهبوا ما فى البلد، ثم أحرقوا الجامع وتركوا البلد على حاله، وذلك فى المحرم سنة سبع عشرة وستمائة. هذا وخوارزم شاه مقيم بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون عليهم. نعوذ بالله من الخذلان. قال: ولما ملك جنكزخان بخارى وسمرقند فرق عساكره للاستيلاء على الممالك، فجهز طائفة خلف خوارزم شاه وهى المغربة، وطائفة إلى خراسان وطائفة إلى خوارزم وطائفة إلى بلاد فرغانة وطائفة إلى ترمذ وطائفة إلى كلاية، فاستولت كل طائفة على ما توجهت إليه وفعلت من القتل والنهب والأسر والسبى والتخريب وأنواع الفساد ما فعله أصحابهم. فأول طائفة جهزها من أصحابه الطائفة المغربة وفعلت ما نذكره. ذكر ما فعلته الطائفة المغربة من التتار قال ابن الاثير: لما ملك جنكزخان سمرقند جهز خمسة وعشرين ألف فارس من أصحابه فى طلب خوارزم شاه حيث كان. وهذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم لأنهم الذين أوغلوا فى البلاد وكان المقدم

ذكر استيلائهم على مازندران ووصولهم إلى الرى وهمذان

على هذه الطائفة سبطى بهادر «1» ويمنويه «2» فساروا وقصدوا موضعا يسمى فنج اب ومعناه خمس مياه، فلم يجدوا سفينة، فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر ووضعوا فيها أسلحتهم وأمتعتهم. وألقوا الخيل فى الماء وأمسكوا أذنابها وشدوا تلك الحياض إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض، فعبروا كلهم دفعة واحدة فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه فى أرض واحدة. وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبا وخوفا وحصل بينهم اختلاف، فكان ثباتهم بسبب أن نهر جيحون فاصل بينهم وبين التتار. فلما عبروه كان من أمر السلطان علاء الدين وانهزامه ووفاته ما قدمناه فى أخباره. ذكر استيلائهم على مازندران ووصولهم الى الرى وهمذان قال ابن الأثير: لما أيس التتار المغربة من إدراك خوارزم شاه قصدوا بلاد مازندران فملكوها فى أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، فقتلوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد وألحقوها بغيرها ثم سلكوا نحو الرى، ووصلوا إليه فى سنة سبع عشر وستماية أيضا. وكان مسيرهم إلى الرى فى طلب خوارزم شاه، لأنهم بلغهم أنه توجه نحو الرى، فجدوا السير فى أثره وانضاف

ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وقتالهم مع الكرج

إليهم كثير من العساكر المسلمين والكفار والمفسدين، فوصلوا الرى على حين غفلة من أهلها فملكوها، ونهبوا وسبوا الحريم، وأسرفوا فى القتل ومضوا مسرعين فى طلب خوارزم شاه، ونهبوا فى طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها، ووضعوا السيف فى الرجال والنساء والأطفال، ولم يبقوا على شيئ. وانتهوا إلى همذان، فلما قاربوها خرج رئيسها إليهم ومعه الجمل من الأموال والأقمشه والخيل وغير ذلك، وطلب الأمان لأهل البلد، فأمنوهم ثم فارقوها. وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ما فعلوه بالرى، ووصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا فى قتالهم ودخلوها عنوة بالسيف واقتتلوا هم وأهل البلد فى باطنه حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين وقتل من الفريقين مالا يحصى، فزادت القتلى من أهل قزوين على أربعين ألف قتيل ثم فارقوا قزوين. ذكر مسيرهم الى أذربيجان وقتالهم مع الكرج قال: لما هجم الشتاء على التتار بهمذان وبلد الجبل وترادفت الثلوج ساروا إلى أذربيجان، وعاثوا فى طريقهم ونهبوا وخربوا ما مروا عليه من المدن الصغار والقرى على عادتهم، ووصلوا إلى تبريز وبها أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان، فلم يخرج إليهم ولا قاتلهم لاشتغاله باللهو والشرب، وصالحهم على مال وثياب ودواب، وحمل ذلك إليهم، فتوجهوا من عنده يريدون ساحل البحر لقلة رده وكثرة مراعيه. فوصلوا إلى موقان «1» وتطرقوا فى مسيرهم إلى بلاد الكرج

ذكر ملكهم مدينة مراغة

فجاء إليهم من الكرج نحو عشرة آلاف، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم وأرسل الكرج إلى أزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح، والاتفاق على دفع التتار، فاتفقا على أنه إذا انحسر الشتا لقوهم. وراسلوا الملك الأشرف بن العادل صاحب خلاط وديار الجزيرة فى ذلك، وظنوا جميعهم أن التتار لا يتحركون إلى انقضاء فصل الشتاء، فما صبروا (التتار) وتحركوا وتوجهوا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم (إلى التتار) مملوك تركى من مماليك أزبك اسمه أقوش، وجمع أهل بلد الجبل والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم، فاجتمع إليه جماعة منهم، فمال التتار إليه للجنسية فسار فى مقدمتهم إلى الكرج فملكوا حصنا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وقتلوا ووصلوا إلى قرب تفليس، فاجتمعت الكرج، قلقيهم أقوش بمن معه فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم أدركهم التتار فلم يثبت الكرج وانهزموا أقبح هزيمة، وأخذهم السيف من كل جانب وقتل منهم ما لا يحصى كثرة- وذلك فى ذى القعدة- ونهبوا من البلاد ما كان قد سلم منهم. ذكر ملكهم مدينة مراغة قال: ولما فعلوا بالكرج ما فعلوه، ودخلت سنة ثمان عشر وستمائة ساروا من بلاد الكرج ومروا على تبريز، فصانعهم صاحبها أيضا بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها، وليس بها من يمنعها لأن صاحبتها كانت امرأة وكانت مقيمة بقلعة رويندز «1» ، فقاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق واستعانوا بأسرى السلمين.

وكانت عادتهم (التتار) إذا فتحوا مدينة استعانوا بأسراها على فتح غيرها، ويجعلون الأسرى أمامهم عند القتال، فيقع القتل فيهم. فإذا فتحوا البلد قتلوهم بعد ذلك وتعوضوهم بمن أسروه من البلد الآخر. فأقاموا عليها عدة أيام وملكوها عنوة، وذلك فى رابع صفر من السنة، ووضعوا السيف فى أهلها، ونهبوا ما صلح لهم وحرقوا ما سواه. قال: واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم نادوا فى الدروب أن التتار قد رحلوا فينادون فيسمعهم من اختفى فيظهر فيقتلونه. قال ابن الأثير: ولقد بلغنى أن امرأة من التتار دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنون أنها من الرجال، فلما وضعت السلاح، رأوها امرأة، فقتلها رجل كانت أخذته أسيرا. قال: وسمعت من بعض أهلها أن رجلا من التتار دخل دربا فيه ما يزيد على مائة رجل فقتلهم واحدا واحدا، حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه. وقعت الذلة على الناس، نعوذ بالله من الخذلان. قال: ثم رحلوا نحو مدينة أربل، فكتب مظفر الدين صاحبها إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جماعة، وكتب الخليفة إلى صاحبى الموصل وأربل يأمرهما بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا «1» لمنع التتار، لما بلغه أنهم عدلوا عن إربل لصعوبتها وقصدوا العراق. فسار مظفر الدين ومن معه من العسكر الموصلى فى صفر. وكتب الخليفة إلى الملك الأشرف

ذكر ملكهم همذان وقتل أهلها

بأمره بالحضور بنفسه فى عساكره لتجمع العساكر ويقصدون التتار فمنعه من ذلك مسيره إلى الديار المصرية لنصرة الملك العادل بن أيوب على الفرنج، واستعادة دمياط من أيديهم. فلما اجتمع مظفر الدين هو والعسكر الموصلى بدقوقا، سير إليهم الخليفة مملوكه قشتمر «1» - وهو أكبر أمير بالعراق- ومعه عشرة من الأمراء فى نحو ثمان مائة فارس، فاجتمعوا ليتصل بهم عساكر الخليفة، والمقدم عليهم مظفر الدين صاحب إربل، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على التتار. ولما سمع التتار باجتماع العسكر رجعوا القهقرى، ظنا منهم أن العسكر يتبعهم، فلما لم يتبعهم أقاموا وأقام العسكر بدقوقا، ثم تفرق المسلمون وعادوا إلى بلادهم. ذكر ملكهم همذان وقتل أهلها قال: لما تفرق العسكر الإسلامى عاد التتار إلى همذان، فنزلوا بالقرب منها، وكان لهم شحنة يحكم فيها، فأرسلوا إليه أن يطلب لهم من أهلها ما لا وثيابا وكان رئيس همذان من الأشراف ذا رئاسة قديمة بها وهو الذى سعى فى أمر أهل البلد مع التتار، وتوصل إليهم بما جمع من الأموال فما طلب المال ثانيا من أهل همذان لم يجدوا ما يحملونه لهم، فاجتمعوا إلى الشريف ومعهم انسان فقيه قام فى اجتماع الكلمة على التتار، فشكوا إلى الشريف حالهم، وما نالهم من الهوان، وطلب ما لا يقدرون عليه. فقال: إذا كنا نعجز

عن دفعهم فليس إلا مصانعتهم بالأموال، فثاروا عليه، وأغلظوا له فى القول، فوافقهم على مرادهم. فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتار فوثب العامة على الشحنة فقتلوه، وامتنعوا. فتقدم إليهم التتار وحصروهم، فقاتلهم أهل البلد قتالا شديدا، والرئيس والفقيه فى أوائلهم، فقتل من التتار خلق كثير، وجرح الفقيه عدة جراحات وافترقوا. ثم اقتتلوا من الغد أشد مما مضى بالأمس. وأرادوا الخروج فى اليوم الثالث، فلم يطق الفقيه الركوب ولم يوجد الرئيس، وهرب من سرب كان قد صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله، واستعصم بقلعة هناك على جبل عال. فحار الناس ثم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا، وكان التتار قد عزموا على الرحيل لكثرة من قتل منهم، فلما تقاصر أهل البلد عن الخروج إليهم طمعوا واستدلوا على ضعفهم، فقصدوهم وقاتلوهم، ودخلوا المدينة بالسيف، وذلك فى شهر رجب سنة ثمان عشرة. وقاتلهم الناس فى الدروب بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ثم قوى التتار على المسلمين فأفنوهم وما سلم منهم إلا من كان عمل له نفقا فى الأرض، واختفى فيه، ثم أحرقوا البلد ورحلوا عنه.

ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وملكهم أردويل وغيرها

ذكر مسيرهم الى أذربيجان وملكهم أردويل «1» وغيرها قال: لما فرغوا من همذان ساروا إلى أذربيجان فوصلوا إلى أردويل فملكوها، وقتلوا وخربوا أكثرها وساروا إلى تبريز، ففارقها صاحبها أزبك بن البهلوان وتوجه إلى نقجوان وكان كثير التخلف والشرب واللهو، فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائى، وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتوانى، وحصن البلد. فبلغ التتار ذلك فراسلوه يطلبون منه مالا وثيابا فاستقر الأمر بينهم على قدر معلوم فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو «2» فنهبوها وقتلوا جميع من فيها. ورحلوا عنها إلى بيلقان من بلاد أران «3» فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى وقتلوا من ظفروا به وحصروا بيلقان «4» ، فاستدعى أهلها منهم رسولا ليقرر الصلح فأرسلوا إليهم رسولا من أكابرهم ومقدميهم، فقتلوه، فزحف

ذكر وصولهم إلى بلاد الكرج

التتار إليهم وقاتلوهم وملكوا البلد عنوة، وذلك فى شهر رمضان من السنة، ووضعوا السيف فلم يبقوا على أحد من الرجال والنساء والأطفال حتى شقوا بطون النسوان الحوامل وقتلوا الأجنة. وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها. ثم ساروا إلى مدينة كنجة- وهى أم بلاد أران- فعلموا بكثرة من فيها وشجاعتهم لدربتهم بقتال الكرج، فلم يقدموا عليهم لذلك ولحصانة البلد. فراسلوا أهلها فى طلب المال والثياب، فحمل إليهم ما طلبوا وساروا عنها.. ذكر وصولهم الى بلاد الكرج قال: لما فرغوا من البلاد الإسلامية أذربيجان وأران بعضها بالملك وبعضها بالصلح، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضا: وكان الكرج قد استعدوا لهم، وسيروا جيشا كثيفا إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتار عنها، فالتقوا، فلم يثبت الكرج وولوا منهزمين فأخذتهم سيوف التتار، فلم يسلم منهم إلا الشديد. فكانت الفتلى منهم نحو ثلاثين ألفا، ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم وخربوها، كعادتهم. ووصل من سلم من الكرج إلى مدينة تفليس- وبها ملكهم- فجمع جموعا أخرى، وسيرهم ليمنعوا التتار من توسط بلادهم فرأوهم قد دخلوا البلاد ولم يمنعهم وعر ولا مضيق، فعادوا إلى تفليس ونهب التتار مامروا عليه من بلادهم، ورأوا البلاد كثيرة المضايق والدربندات فما أوغلوا فيها، وداخل الكرج منهم خوف عظيم قال ابن الأثير: سمعت عن بعض أكابر الكرج أنه قال: من

ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه

حدثكم أن التتار انهزموا وأسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا، فإنهم قوم لا يفرون أبدا، ولقد أخذنا أسيرا منهم فألقى نفسه عن الدابة وضرب رأسه بالحجر حتى مات، ولم يسلم نفسه للأسر ... ذكر وصولهم الى دربند شروان «1» وما فعلوه فيه قال: لما عادوا من بلاد الكرج قصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخى «2» وقاتلوا أهلها، فصبروا على الحصار وقاتلوا أشد قتال، وعلموا أن الموت لا بد منه، فقالوا نموت كراما وصبروا إلى أن كلوا وتعبوا. وتوالى الزحف، فملك التتار البلد، وأكثروا القتل ونهبوا الأموال. ثم أرادوا عبور الدربند فلم يقدروا على ذلك، فأرسلوا رسولا إلى شروان ملك الدربند، وطلبوا منه أن يرسل إليهم رسولا يسعى بينهم فى الصلح، فأرسل عشرة من أعيان أصحابه، فقتلوا أحدهم وقالوا لمن بقى: دلونا على طريق نعبر فيه ولكم الأمان، وإلا قتلناكم. فقالوا: ليس فيه طريق البتة، وإنما فيه موضع هو أسهل ما فيه، فساروا بهم إلى ذلك الطريق فعبروا فيه.

ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق

ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق قال: لما عبر التتار دربند شروان، ساروا فى تلك البلاد والأعمال- وفيها أمم كبيرة من اللان واللكز وطوائف من الترك- فنهبوا وقتلوا كثيرا من اللكز- وهم مسلمون وكفار- ووصلوا إلى اللان وهى أمم كثيرة، فبلغهم الخبر فجدوا وجمعوا جمعا من قفجاق، فقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى. فأرسل التتار إلى قفجاق فقالوا: نحن وأنتم جنس واحد واللان ليسوا منكم، ولا دينكم كدينهم حتى تنصروهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض إليكم، ونحمل لكم من الأموال والثياب ما شئتم، وتتركوننا وإياهم. فاستقر الأمر بينهم على ما حملوه لهم من مال وثياب وغير ذلك ففارقهم قفجاق فأوقع التتار عند ذلك باللان، فقتلوا منهم وسبوا وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون. لما استقر بينهم من الصلح فطرقوا بلادهم وأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوه إليهم. وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر، ففروا من غير قتال، واعتصم بعضم بالغياض وبعضهم بالجبال ولحق بعضهم ببلاد الروس. وأقام التتار ببلاد قفجاق، وهى أرض كثيرة المرعى صيفا وشتاء وفيها أماكن باردة فى الصيف وأماكن حارة فى الشتاء، وغياض، وهى على ساحل البحر، ووصلوا إلى مدينه سوداق- وهى مدينة قفجاق- فملكوها، وفارقها أهلها، فبعضهم صعد إلى الجبال بأهله وماله. وبعضهم ركب فى البحر وساروا إلى بلاد الروم التى بيد الملوك السلجقية ...

ذكر ما فعلوه بقفجاق والروس

ذكر ما فعلوه بقفجاق والروس قال: لما استولى التتار على قفجاق وتفرقوا، والتحقت طائفة كثيرة منهم ببلاد الروس- وهى بلاد كبيرة طويلة عريضة تجاور القفجاق وأهلها يدينون بدين النصرانية- فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم، واتفقوا على قتال التتار إن قصدوهم. فسار التتار إلى بلاد الروس فى سنة عشرين وستمائة، فسار قفجاق والروس إلى طريق التتار ليلقوهم قبل وصولهم إلى بلادهم ويمنعوهم عنها، فبلغ التتار مسيرهم، فرجعوا على أعقابهم. فطمعت القفجاق والروس فيهم، وظنوا أنهم عادوا خوفا منهم، وعجزوا عن قتالهم، فأتبعوهم وساقوا فى إثرهم اثنى عشر يوما، فعطف التتار عليهم وهم على غرة، لأنهم كانوا قد آمنوا ووثقوا بالقدرة عليهم: فلم يجتمعوا للقتال إلا وقد بلغ التتار منهم مبلغا عظيما. فصبر الطائفتان صبرا لم يسمع بمثله. ودام القتال عدة أيام، فاستظهر التتار عليهم، فانهزمت قفجاق والروس هزيمة فاضحة، وكثر القتل فى المنهزمين، فلم يسلم منهم إلا القليل. ووصل من سلم منهم على أقبح حال، والتتار تتبعهم يقتلون وينهبون ويخربون فاجتمع كثير من أغنياء تجار الروس وأعيانهم، وحملوا ما يعز عليهم، وتوجهوا فى البحر فى عدة مراكب إلى بلاد الإسلام، فلما قاربوا المرسى الذى يقصدونه انكسر منهم مركب فغرق ونجا من فيه وسلم باقى المراكب [وأخبر من بها بهذه الحال] «1»

ذكر عود التتار إلى ملكهم

ذكر عود التتار الى ملكهم قال: ولما فعل التتار بالروس ما ذكرناه عادوا عنها وقصدوا بلغار فى أواخر سنة عشرين وستمائة «1» . فلما سمع بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم فى عدة مواضع، وخرجوا إليهم فلقوهم واستجروهم إلى أن جاوزوا مواضع الكمناء، فخرجوا من وراء ظهورهم. وبقى التتار فى وسطهم، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلا القليل نحو أربعة آلاف رجل، فساروا إلى سقسين وعادوا إلى ملكهم جنكزخان. وكانت الطرق منقطعة تتخللهم فى البلاد. فلما خلت البلاد منهم اتصلت الطرق وحمل التجار الأمتعة على عادتهم. هذا ما فعله التتار المغربة منذ مفارقتهم جنكزخان وإلى أن عادوا إليه فى مدة أربع سنين فلنذكر أخبار غير هذه الطائفة ممن سيرهم جنكزخان. قال: ولما جهز جنكزخان هذه الطائفة المغربة جهز طائفة إلى بلاد فرغانة وطائفة إلى ترمز وطائفة إلى كلانة «2» وهى قلعة حصينة

ذكر ملك التتار خراسان

إلى جانب جيحون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التى أمرت بقصدها ونازلتها، واستولت عليها، وفعلت من القتل والنهب والأسر والسبى والتخريب وأنواع الفساد كما فعل أصحابهم. فلما فرعوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان، وهو مقيم بسمرقند، فجهز جيشا إلى خوارزم مع أحد أولاده وجهز جيشا آخر فعمروا نهر جيحون إلى خراسان. ذكر ملك التتار خراسان قال أبو الحسن بن الأثير: لما سار الجيش الذى جهزه جنكزخان إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ. وطلب أهلها الأمان فأمنوهم، فسلم البلد ولم يتعرضوا إليه بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة. وقصدوا الزوزان «1» وميمند واندى خوى «2» وفارياب «3» فملكوا الجميع، وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا إلى أهلها بسوء، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم، وذلك فى سنة سبع عشرة وستماية. ثم قصدوا الطالقان، وهى ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها (منصور كوه) لا ترام علوا وارتفاعا وبها رجال شجعان يقاتلون فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلا ونهارا، ولم يظفروا

منها بشى فكاتبوا جنكزخان، وأعلموه بالعجز عنها لحصانتها وكثرة من بها من المقاتلة. فسار بنفسه وبجموعه، وحصرها ومعه خلق كثير من الأسرى والمسلمين، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم، فقاتلوا، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى، فقتل من التتار خلق كثير. فلما رأى جنكزخان ذلك أمر أن يجمع له الأحطاب والأخشاب فجمعت، وصار يعمل صفا من خشب وحطب وفوقه من التراب ما يغطيه، حتى صار تلا عاليا يوازى القلعة، فعند ذلك اجتمع من بالقلعة وحملوا حملة رجل واحد فسلم الخيالة منهم ونجوا وسلكوا الجبال والشعاب، وقتل الرجالة، ودخل التتار القلعة وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأمتعة. قال: ثم جمع جنكزخان أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتى ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وقد عزموا على لقاء التتار؛ فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. ولما رأى المسلمون إقدام التتار وصبرهم، ولوا منهزمين، فقتل منهم وأسر خلق كثير، ولم يسلم منهم إلا القليل، ونهبت أموالهم. وأرسل ابن جنكزخان إلى ما حوله من البلاد، وأمرهم بجمع الرجال لحصار مرو، فاجتمعوا وتقدموا للحصار ولازموا القتال. هذا وأهل البلد قد ضعفت نفوسهم بانهزام تلك الطائفة الكبيرة. فلما كان فى اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتار إلى أمير البلد يقولون له: «لا تهلك نفسك ومن معك، واخرج إلينا ولك الأمان، ونحن نجعلك أمير

هذه البلد ونرحل عنك!» . فطلب الأمان لنفسه وأهل البلد فأمنوهم؛ فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان واحترمه وقال له: «اعرض على أصحابك حتى أستخدم منهم من يصلح لخدمتنا وأعطيه إقطاعا ويكون معى» فجمعهم له، فلما تمكن منهم أمر بالقبض عليهم وعلى أميرهم ثم قال: «اكتبوا لنا تجار البلد ورؤساء أرباب الأموال فى جريدة واكتبوا أرباب الصناعات والحرف فى أخرى واعرضوا ذلك علينا» . ففعلوا، فأمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم وأموالهم فخرجوا بأجمعهم، فجلس على كرسى من الذهب، وأحضر أولئك الجند الذين قبض عليهم، وأمر بضرب أعناقهم فقتلوا صبرا، والناس ينظرون إليهم ويبكون عليهم، وأما العامة فتقاسمهم التتار فكان يوما مشهودا، وأخذوا أرباب الأموال، فاستصفوا أموالهم وعذبوهم على طلب المال؛ ثم أحرقوا لبلد وتربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلبا للمال. ودأبوا على ذلك ثلاثة أيام، فلما كان فى اليوم الرابع، أمر بقتل أهل البلد كافة؛ وقال: هؤلاء عصوا علينا؛ فقتلوا أجمعين، وأمر بإحصاء القتلى فكانوا سبعمائة ألف قتيل. ثم ساروا إلى نيسابور، فحوصرت خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامى، فلم تكن لهم بالتتار قوة، فملك التتار المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوما بخربون ويفتشون المنازل، وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم أن قتلاهم سلم كثير منهم ولحقوا ببلاد الإسلام، فأمروا أن تقطع

ذكر ملكهم مدينة غزنة وبلاد الغور

رؤوس أهل نيسابور حتى لا يسلم منهم أحد. فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك، وخربوها، وأحرقوا المشهد الذى فيه على بن موسى الرضا والرشيد. ثم ساروا إلى هراة وهى من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وآمنوا وقتلوا بعضهم وجعلوا فيها شحنة. ذكر ملكهم مدينة غزنة وبلاد الغور قال ابن الأثير: لما فرغ التتار من خراسان وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان، جهز جيشا كثيفا وسيره إلى غزنة وبها السلطان جلال الدين منكوبرتى ابن السلطان جلال الدين خوارزم شاه وكان قد وصل إليها بعد مفارقته خوارزم كما قدمناه، وقد اجتمع عنده من الجيوش نحوا من ستين ألفا. وكان الجيش الذى سار إليه من عسكر التتار نحو اثنى «1» عشر ألفا. فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع السلطان جلال الدين إلى موضع يقال له بلق «2» فالتقوا هناك واقتتلوا قتالا شديدا، ودامت الحروب بينهم ثلاثة أيام، فانتصر المسلمون وانهزم التتار، وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، وعاد من سلم منهم إلى ملكهم بالطالقان. قال: فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا على الوالى الذى عندهم من قبل التتار فقتلوه، فسير إليهم جنكزخان عسكرا فملكوا البلد وخربوه وقتلوا من فيه وسبوا الحريم، ونهبوا السواد أجمع وأحرقوا المدينة.

وهذه الحرب والواقعة لم يذكرها شهاب الدين المنشى فى تاريخه، وإنما قال: إن جلال الدين لما سار إلى غزنة اجتمع فى طريقه بابن خالد أمين ملك، وهو الذى كان يتولى هراة وهى إقطاعة، وكان قد فارقها ومعه زهاء عشرة آلاف فارس، فاتفقا على كبس التتار المحاصرين قلعة قندهار، فنهضا إليها وأوقعا بمن عليها من التتار، فلم يسلم منهم إلا من وصل بخبرهم إلى جنكزخان فغضب لذلك وجهز ابنه تولى خان، وقد ذكرنا ذلك فى أخبار جلال الدين فلنذكر ما ساق ابن الأثير. قال: ولما انهزم التتار أرسل جلال الدين إلى جنكزخان رسولا يقول له فى أى موضع يختار أن تكون الحرب حتى يأتى إليه، فجهز جنكزخان عسكرا كثيرا مع ابنه تولى خان «1» فوصل إلى كابل فتوجه إليهم جلال الدين بالعساكر الإسلامية، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم جيش التتار، وقتل تولى خان بن جنكزخان وغنم المسلمون ما معهم واستنقذوا ما فى أيديهم من الأسارى، ولم يذكر ابن الأثير قتل تولى خان، وانما ذكره المنشى وهو الصحيح «2» . فلما بلغ جنكزخان انهزام عساكره وقتل ولده غضب لذلك، وتجهز بنفسه وبجيوشه، وسار إلى صوب غزنة لحرب جلال الدين وطلب

ذكر ملكهم مدينة خوارزم

ثأر ابنه. واتفق اختلاف المسلمين، ومفارقة العساكر الخلجية صحبة سيف الدين بغراق وأعظم ملك ومظفر ملك للسلطان جلال الدين بسبب ما وقع منهم عند قسم الغنيمة على ما بيناه فى أخبار جلال الدين. واجتهد جلال الدين فى ردهم فعجز، ودهمه وصول جنكزخان، ففارق غزنة وتوجه صوب السند، فأدركه جنكزخان قبل عبوره ماء السند فاضطر جلال الدين إلى القتال فكان من أمره وانهزامه وعبوره إلى بلاد الهند ما قدمناه فى أخباره. ولما فارق جلال الدين البلاد رجع جنكزخان إلى غزنة فملكها من غير مدافع ولا ممانع لخلوها من العساكر فقتل التتار أهلها ونهبوا الأموال وسبوا الحريم وألحقوها بخراسان ... ذكر ملكهم مدينة خوارزم قال شهاب الدين المنشى: كان حصار خوارزم فى ذى القعدة سنة عشرين وستماية، واستيلاؤهم عليها فى صفر. قال: لما انفصل جلال الدين وإخوته عن خوارزم كما ذكرناه فى أخباره، وافى التتار تخومها، وأقاموا بالبعد منها حتى تكاملت عدتهم وآلات الحصار. ثم تقدموا إليها. فأول من وصل إليها منهم باجى ملك «1» فى عسكر كثيف ثم بعده أوكتاى «2» بن جنكزخان وهو الذى انتهت إليه

القانية «1» فيما بعد ثم سير جنكزخان بعدهم حلقته الخاصة ومقدمها بقرجن نوين وأردفهم بابنه جغطاى ومعه طولن نوين «2» واستون نوين وقاضان نوين فى مائة ألف فارس. وطفقوا يستعدون للحصار ويستعملون آلاته من المجانيق والدبابات وغير ذلك. ولما رأوا خوارزم وبلدها خالية من حجارة المنجنيق وجدوا هناك من أصول التوت الغلاظ ما استعملوه بدلا من الحجارة، فكانوا يقطعونها وينقعونها فى الماء فتصير كالحجارة ثقلا وصلابة، فتعوضوا بها عن الحجارة. ثم وصل دوشى خان بن جنكزخان إلى بلاد ماوراء النهر فراسلهم فى الأمان وقال: إن جنكزخان قد أنعم عليه بها وأنه لا يؤثر تخريبها ويضن به ويحرص على عماراتها. قال: ومما يدل على ذلك أن العساكر مدة مقامهم بالقرب منها ما تعرضوا إلى الغارات على رساتيقها فمال ذووا النباهة من أهلها إلى المسالمة، فغلب عليهم السفلة وامتنعوا، فعند ذلك ساق إليها دوشى خان، وأخذ يطويها محلة محلة، فكلما أخذ واحدة منها التجأ الناس إلى أخرى، وهم يحاربون أشد حرب إلى أن أعضل الأمر، ولم يبق معهم إلا ثلاث محال تراكمت الناس فيها متزاحمين. فأرسلوا إلى دوشى خان

ذكر عود طائفة من التتار إلى همذان وغيرها

الفقيه علاء الدين الخياطى «1» محتسب خوارزم- وكان من أهل العلم والعمل- مستعطفا له؛ فأمر دوشى خان باحترامه، وأن تنصب له خيمة. ثم أحضره فأدى رسالته فقال فى جملة ما قال: إننا قد شاهدنا هيبة الخان وقد آن أن نشاهد مرحمته. فاستشاظ غضبا وقال: «ماذا رأوا من هيبتى وقد أفنوا رجالى؟ فأما أنا فشاهدت هيبتهم وها أنا أريهم هييتى.» وأمر بإخراج الناس ونودى فيهم بانفراد أرباب الصنائع وانعزالهم على حدة، فمنهم من فعل ونجا، «2» ومنهم من اعتقد أن أرباب الحرف تساق إلى بلادهم وغيرهم يترك فى وطنه فلم ينفرد، ثم وضع السيف فيهم فقتلوا جميعا وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل أن التتار بعد ذلك فتحوا السكر «3» الذى يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق جميعه وتهدمت الأبنية ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن الذين اختفوا من التتار غرقهم الماء وقتلهم الهدم. وهذا ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان ولا حديثه. ثم عاد التتار إلى جنكزخان وهو بالطالقان.. ذكر عود طائفة من التتار الى همذان وغيرها وهم غير التتار المغربة الذين قدمنا ذكرهم قال ابن الأثير: وفى سنة إحدى وعشرين وستمائة وصلت طائفة

من التتار من جهة جنكزخان إلى الرى؛ وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها، فوضع التتار فيهم السيف وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخربوه، وتوجهوا إلى ساوة «1» ففعلوا بها كذلك، ثم إلى قم وقاجان «2» وكانتا قد سلمتا من التتار والمغربة. ثم عاثوا فى البلاد يخربون ويقتلون ثم قصدوا همذان، وقد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها، فأبادوهم قتلا وأسرا ونهبا. قال: وكانوا لما وصلوا إلى الرى رأوا بها عسكرا كثيرا من الخوارزمية فقتل بعضهم وانهزم الباقون إلى أذربيجان، فنزلوا بأطرافها، فلم يشعروا إلا والتتار قد كبسوهم، ووضعوا فيهم السيف، فانهزموا فوصلت طائفة منهم إلى تبريز، وتفرق الباقون ووصل التتار إلى قرب تبريز فراسلوا صاحبها أزبك بن البهلوان فى طلب من التحق به من الخوارزمية، فعمد إلى من عنده منهم فقتل بعضهم وأسر البعض، وساق الأسرى وحمل الرؤوس إلى التتار، وأنفذ إليهم من الأموال والثياب والدواب شيئا كثيرا فعادوا عن بلاده نحو خراسان. قال: ولم تكن هذه الطائفة أكثر من ثلاثة آلاف، وكانت الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف فارس؛ وعسكر أزبك أكثر من الجميع، ومع هذا فلم يمتنعوا عنهم ولا حدثوا نفوسهم بحربهم

هذا كله وجلال الدين خوارزم شاه ببلاد الهند. ثم اتفق خروجه منها فى سنة إحدى وعشرين وستمائة؛ واستولى على ملك العراق، وانتزعه من يد أخيه غياث الدين [ببرشاه] «1» وملك أذربيجان ومراغة وغيرها» وقاتل الكرج على ما قدمناه فى أخباره. ولم يهجه التتار ولا قاتلوه إلى سنة خمس وعشرين وستمائة بعد وفاة جنكزخان وقام ولده [أوكداى] «2» مقامه. هذا ما انتهى إلينا من وقائع التتار وحروبهم وما استولوا عليه فى أيام ملكهم جنكزخان التمرجى؛ وهو على سبيل الاختصار لعدم من تحقق من أخبارهم ويدون آثارهم. ثم كان بعد وفاة جنكزخان وقيام من قام بعده من أولاده حروب ووقائع، نذكرها إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا وفاة جنكزخان.

ذكر وفاة جنكزخان التمرجى وأسماء أولاده واخوته وما قرره لأولاده من الوظائف والبقاع وغير ذلك

ذكر وفاة جنكزخان التمرجى وأسماء أولاده واخوته وما قرره لأولاده من الوظائف والبقاع وغير ذلك كانت وفاة جنكزخان فى سنة أربع وعشرين وستماية، وقيل فى سنة خمس وعشرين فى فصل الشتاء. قال: ولما حضرته الوفاة طلب إخوته وهم أوتكين [وبلكوتى] «1» ونوين و [الحاى نوين ووكوب ووكابى] «2» وحضر من أولاده جغطاى و (أوكتاى) «3» وكتب لهم وصية وقال امتثلوها بعدى، وإذا أنا مت وجاء وقت الربيع تجمعوا كلكم وتعمل وليمة عظيمة ثم تقرأ هذه الوصية بحضوركم، وينصب فى الملك من عينته فيها وامتثلوا أمره، ثم فرقهم فى مشاتيهم التى قررها لهم ففعلوا ذلك وامتثلوا أمره على ما نذكره، ومات هو. وكان له من الأولاد تسعة عشر ولدا من امرأة واحدة وهى تسوجى خاتون؛ «4»

[منهم تلى خان وهو طلوخان وهو الذى قتل فى سنة ثمانى عشرة وستمائة] «1» فى الحرب التى كانت بينه وبين السلطان جلال الدين منكوبرتى على ما قدمنا ذكر ذلك. وكان لتلى خان من الأولاد منكوقان وهو الذى استقر فى القانية بعد على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وهولاكو وأريق بوكا وقبلاى، وهو الذى جلس على تخت القانية بعد منكوقان واستقرت القانية فيه وفى بنيه من بعده إلى آخر وقت، وسنذكر لك ذلك إن شاء الله تعالى. وكان جنكزخان قد فوض لابنه تلى خان هذا ترتيب العساكر والجيوش وتدبيره فى المقام فى مشتاه ومصيفه وجعل له من البلاد خراسان والعراقين وما يليها، فقتل قبل تمام الفتوح. ومنهم دوشى خان بن جنكزخان وهو الذى فتح خوارزم فى حياة أبيه كما تقدم، وفتح أيضا بعد وفاة أبيه بلاد الشمال، واستولى على ملكها، وأباد من بها من طوائف الأتراك وقبائل القفجاق وغيرهم من القبائل: كاللان، وآلاص «2» ، والأولاق «3» ، و [الجركس] «4» والروس وغيرهم من سكان البلاد الشمالية. واستقر ملك هذه البلاد بيده، ثم بيد باطوخان بن دوشى خان ثم فى (صرطق بن دوشى خان) «5» ، ثم فى أولاد باطوخان وإخوته على ما نذكره بعد.

ومن أولاد دوشى خان بن جنكزخان أرديوا وهو صاحب غزنة وباميان. وقد قيل إن أرديوا بن جنكزخان، وكان جنكزخان قد جعل وظيفة دوشى خان ترتيب الصيد، وهى عندهم أكبر المراتب، وعين له من البلاد والمياه لمشتاه ومصيفه حدود قيالق وبلاد خوارزم إلى أطراف [سقسين] «1» وبلغار إلى حيث تنتهى حوافر خيلهم من الفتوح. ومنهم أوكتاى خان بن جنكزخان وهو أوكتاى، وهو الذى جلس على تخت القانية بعد وفاة أبيه جنكزخان، وكان جنكزخان، قد جعله مشيره وصاحب الرأى وعين له من البلاد آمل «2» وقوتاق «3» وجعله ولى عهده من بعده، وعهد إليه أنه إذا انتهى الملك إليه أن يعطى ما بيده من البلاد لولده كيوك خان ثم يتحول إلى مستقر الملك من بلاد الخطا والأيغور بقرا قورم وغيرها. ومنهم جغطاى بن جنكزخان كان أبوه قد فوض إليه مهمات

السياسة والحكومة للياسا «1» واليرغو «2» ، وجعل له من البلاد للمراعى والمشاتى والمصيف من حدود بقاع الأيغور وسمرقند وبخارى وما يتاخم ذلك من البلاد. وكان مقامه قبل ذلك بقرب المالق وما يليها. فهؤلاء الأربعة هم المشار إليهم من أولاد جنكزخان وله غير هؤلاء منهم أورخان، وكلكان، والغوانوين، وجورجاى «3» ، وأولطاى خان، وأرديوا، وقد تقدم الخلاف فيه هل هو ابن جنكزخان أو ابن دوشى خان «4» ومن أولاده مغل بن جنكزخان وهو جد نوغية، ولنوغية هذا أخبار تذكر بعد ان شاء الله تعالى. وقد قيل إن مغل بن دوشى خان. وأما بقية أولاد جنكزخان فلم تنقل إلينا أسماؤهم بحكم أنه لم يكن لهم ملك وإنما كانوا فى خدمة إخوتهم. وعين جنكزخان أيضا لأخوته وأقاربه أماكن من ملكه، فاستقرت حالهم على ما قرره

ذكر ملك أوكتاى بن جنكزخان

لهم، وكان قد خالف جنكزخان من قبائل التتار أويرات وقنورت «1» فلم يزل جنكزخان يلاطفهم ويسوسهم إلى أن قرر على نفسه أن يزوجوهم ما لهم من البنات ولذريتهم. واستقرت هذه القاعدة فيهم إلى وقتنا هذا. هذا ملخص ما انتهى إلينا من أخبار أولاد جنكزخان وما قرره لهم؛ فلنذكر أخبار من انتصب فى القانية بعد وفاة جنكزخان من أولاده وأولادهم. ذكر ملك أوكتاى بن جنكزخان قد ذكرنا أن جنكزخان كان قد كتب وصية قبل وفاته بمحضر إخوته وبعض بنيه، وقرر معهم أن يعملوا بها بعده، وأمرهم أنه إذا دخل فصل الربيع يجتمع إخوته وأولاده، والخواتين «2» والأمراء وأن يذبحوا الدبائح ويعملوا الأفراح أربعين يوما من حين اجتماعهم؛ ثم تقرأ وصيته ويعمل بمقتضاها. فلما دخل فصل الربيع وذلك فى سنة خمس وعشرين وستمائة، سير حلف الأعمام والأخوة والخواتين وأمراء التمانات «3» ؛ فكان أول من حضر منهم جغطاى بن جنكزخان ثم أخوه أوكتاى ثم حضر نقيبهم

ولم يتخلف منهم أحد. ثم ذبحوا الذبائح وأحضروا الخمور وألبان الخيل، وهى القمز «1» . وعملوا الأفراح إلى أن مضت المدة التى عينها لهم، ثم اجتمعوا وأخرجوا كتاب الوصية الذى اكتتبه جنكزخان، فقرىء بمشهد منهم، فإذا الوصية فيه بالملك لأوكديه خان. فلما سمع أوكديه خان ذلك قال: كيف أجلس على كرسى الملك وفى إخوتى وأعمامى من هو أكبر منى وأصلح، فلا أجلس. فلم يرجعوا إلى قوله، وأقام أخوه جغطاى وأخذ بيده اليمنى وأخذ عمه أوتكين بيده اليسرى فأقاماه وأجلساه على كرسى الملك. ثم ملأ أخوه الأصغر وهو ألغو نوين هنابا «2» من المشروب فناوله إياه، فعند ذلك قام جميع من حضر من أعمامه وإخوته وأمراء التمانات فضربوا جوك- وهو الخدمة عندهم-؛ وكيفيته أن يبرك الرجل منهم على أحد ركبتيه ويسير بمرفقه إلى الأرض؛ وهذه الخدمة عندهم غاية التعظيم. وشرب أوكديه خان ذلك الهناب، وأمر بإجلاس الناس على مراتبهم، ونزلهم منازلهم، فأجلس الأعمام والإخوة عن يمينه وأجلس الخواتين عن يساره. فقام الإخوة وجلسوا بين يديه وقالوا: قد امتثلنا ياسا أبينا جنكزخان، ونشد أوساطنا فى الخدمة والإخلاص، ونبذل أنفسنا فى الطاعة، فشكرهم أوكديه وفتح الخزائن، وفرق الأموال والخلع، وأنعم حتى على الغلمان

ذكر الحروب الكائنة بين التتار والسلطان جلال الدين، وما كان من أمرهم إلى أن ملكوا ما كان بيده

والرعاة، وفرق الناس فى مصايفهم ومنازلهم واستقر هو بقرا قروم وجهز أخاه دوشى خان «1» إلى بلاد الشمال ففتحها فى سنة سبع وعشرين وستماية وملكها وأقام بها على ما نذكر ذلك فى أخبارهم. فلنذكر الحروب الكائنة بين عساكر أوكديه خان وبين السلطان جلال الدين وغيره من المسلمين. ذكر الحروب الكائنة بين التتار والسلطان جلال الدين، وما كان من أمرهم الى أن ملكوا ما كان بيده كانت أول حرب وقعت بين السلطان جلال الدين منكوبرتى وبين التتار بعد خروجه من الهند فى سنة خمس وعشرين وستمائة بظاهر أصفهان، فهزموه ثم هزمهم، وأذاهم بالقتل ولم يسلم منهم إلا قليلا. وحكى أن هذه الطائفة من التتار كان جنكزخان قد نقم على مقدمها وأبعده عنه، وأحرجه من بلاده، فقصد خراسان فرآها خرابا، فقصد الرى لتغلبه على تلك النواحى. ثم تقدم إلى قرب أصفهان فالتقى هو وجلال الدين، ولما هزمه جلال الدين، أرسل إليه أوكديه بن جنكزخان يقول إن هذه الطائفة ليست منا، فأمن عند ذلك جانب أوكتاى، ثم انقطعوا عنه ثلاث سنين.

وفى سنة ثمان وعشرين وستمائة فى أوائلها، وصلت طائفة من التتار من بلاد ما وراء النهر إلى تخوم أذربيجان. وكان سبب ذلك أن مقدم الاسماعيلية كاتبهم وعرفهم أن جلال الدين قد ضعف وانهزم من كيقباذ صاحب الروم ومن الأشرف، وأنه وقع بينه وبين من يجاوره من الملوك، ووصلت إساءته إلى كل منهم وأنهم لا ينصرونه وضمن لهم الظفر به. «1» فبادرت طائفة منهم من التتار ودخلوا البلاد، واستولوا على الرى وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان وقتلوا من ظفروا به من أهلها، ولم يقدم جلال الدين على قتالهم لتفرق عساكره ومخالفة وزيره شرف الملك عليه. وكان من كبسهم للسلطان جلال الدين، وانهزامه منهم، وتنقله من مكان إلى آخر ما قدمناه فى أخباره. ثم كبسه التتار وهو بالقرب من آمد فهرب منهم. وكان من خبر مقتله ما قدمناه، فتمكن التتار بعد مقتله من البلاد وملكوها من غير ممانع عنها ولا مدافع.

ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتار

ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتار قال ابن الأثير الجزرى: وفى سنة ثمان وعشرين وستمائة أطاع أهل أذربيجان التتار. وسبب ذلك أن جلال الدين لما كبسه التتار بآمد وانهزم منهم، وانقطع خبره، سقط فى أيدى الناس وأذعنوا بطاعة التتار وحملوا إليهم الأموال والثياب وغير ذلك. فممن دخل فى طاعتهم أهل مدينة تبريز- وهى توريز- وهى أصل أذربيجان ومرجع الجميع إليها. وكان مقدم جيش التتار نزل بعساكره بالقرب منها ودعا أهلها إلى طاعته، وتهددهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه الأموال والتحف ومن كل شى حتى الخمر، وبذلوا الطاعة. فشكرهم على ذلك، وطلب حضور أكابر أهلها إليه، فتوجه إليه قاضى البلد ورئيسه وجماعة من الأعيان، وتخلف عنهم شمس الدين الطغرائى وكان مرجع الجميع إليه، إلا أنه لا يظهر ذلك. فلما حضروا عنده سألهم عن سبب امتناع الطغرائى من الحضور، فاعتذروا بانقطاعه وعدم تعلقه بالملوك وأنهم الأصل، فسكت. ثم طلب صناع الثياب الخطاى وغيرها فحضروا إليه، فأمرهم أن يستعملوا للقان ثيابا، وقرر ثمنها على أهل تبريز، وطلب منهم خركاة للقان أيضا فعملوا خركاة عظيمة غشوا ظاهرها بالأطلس وباطنها بالسمور والقندر، وقرر عليهم فى كل سنة من المال والثياب شيئا معلوما.

ذكر دخول التتار ديار الجزيرة

ذكر دخول التتار ديار الجزيرة قال: لما انهزم جلال الدين من التتار على آمد نهب التتار سواد آمد وميافارقين وقصدوا مدينة أسعرد «1» فقاتلهم أهلها فبذل لهم التتار الأمان، فسلموا لهم البلد، فعند ذلك بذلوا فيهم السيف حتى كادوا يأتون عليهم. فما سلم منهم إلا من اختفى، وقليل ما هم. قيل إن القتلى بلغت تقدير خمسة عشر ألفا، وكانت مدة الحصار خمسة أيام، ثم ساروا منها إلى مدينة طنزة «2» ففعلوا فيها كذلك، وساروا منها إلى واد بالقرب منها يقال له وادى القريشية، فيه طائفة من الأكراد القريشية، وفيه مياه جارية وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فمنعهم القريشية منه وقتلوا كثيرا منهم، فعاد التتار ولم يبلغوا منهم غرصا، وساروا فى البلاد لا مانع يمنعهم فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما مروا عليه من بلدها واحتمى صاحبها وأهل دنيسر بقلعة ماردين. ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة فأقاموا عليها بعض يوم ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها فعادوا عنها؛ وتوجهوا إلى بلد سنجار، فوصلوا إلى البلاد من أعمالها، فنهبوا ودخلوا الخابور فوصلوا إلى عربان «3» ، فنهبوا

وقتلوا وعادوا وتوجهت طائفة منهم على طريق الموصل، فوصلوا إلى قرية تسمى المؤنسة، وهى على مرحلة من نصيبين بينها وبين الموصل، فنهبوا واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها، فقتلوا كل من فيه ومضت طائفة منهم إلى نصيبين الروم وهى على الفرات من أعمال آمد، فنهبوا وقتلوا منها ثم عادوا إلى آمد ثم إلى بلد بدليس «1» فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرا، وأحرقوا المدينة، ثم ساروا من بدليس إلى خلاط فحصروا مدينة من أعمالها يقال لها باكرى [وهى] «2» من أحصن البلاد، فملكوها عنوة وقتلوا كل من بها، وقصدوا مدينة أرجيش «3» من أعمال خلاط، وهى مدينة كبيرة عظيمة ففعلوا كذلك، وذلك فى ذى الحجة سنة ثمان وعشرين وستمائة. قال ابن الأثير فى تاريخه الكامل: لقد حكى لى عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذى ألقاه الله تعالى فى قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الواحد منهم كان يعبر «4» القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فيقتلهم واحدا بعد واحد ولا يجسر أحد يمد يده إليه. قال: ولقد بلغنى أن إنسانا منهم أخذ رجلا ولم يكن معه ما يقتله به فقال له: وضع رأسك على الأرض ولا تبرح،

ذكر وفاة آوكتاى خان وقيام ولده كيوك خان بعده وقتله

فوضع رأسه على الأرض ومضى التتارى وأتى بسيف فقتله به. قال: وحكى لى كثير من ذلك أعفيت عنه رغبة فى الاختصار. قال: وفى ذى الحجة سنة ثمان وعشرين وصلت طائفة من التتار من أذربيجان إلى أعمال أربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوائية والأكراد وغيرهم إلى أن دخلوا إلى بلد أربل، فنهبوا القرى وقتلوا من ظفروا به، ثم وصلوا إلى بلد دقوقا وغيرها وعادوا، ولم يرعهم أحد ولا وقف فى وجوههم فارس. هذا آخر ما أورده ابن الأثير والمنشى فى تاريخيهما من أخبار التتار لم يتجاوزا سنة ثمان وعشرين وستمائة، وبعض ما أوردناه لم يورداه فى تاريخيهما كوفاة جنكزخان وقيام ولده، فإنه ما وصل إليهما. والله أعلم. ذكر وفاة آوكتاى خان وقيام ولده كيوك خان بعده وقتله كانت وفاة أوكديه خان بن جنكزخان فى «سنة إحدى وثلاثين وستمائة» «1» ولما دنت وفاته استدعى أعمامه والأمراء وأمرهم بإجلاس ولده كيوك خان على كرسى المملكة، وأمر أن يكون جلوسه بحضور الأعمام والإخوة والأمراء. فلما مات اجتمعوا كلهم، إلا دوشى خان «2» فإنه كان قد أوغل فى بلاد الشمال واستولى

ذكر جلوس منكوقان بن (تلى خان) بن جنكزخان على تخت القانية

عليها وعلى ما يدانيها من القفجاق وغيرها، فلم يمكنه الحضور لبعد المسافة، فأرسل أخاه مغل بن جنكزخان، ومغل هذا هو جد نوغيه فسار مغل وأوصى على أولاده لعلمه ببعد المسافة. فلما وصل إلى قرا قروم اجتمع أهل البيت الجنكزخانى والخواتين فأنكروا عليه وقالوا له: ولم لم يأت دوشى خان، فاعتذر عنه بأعذار، فلم يقبلوها وأشاروا أن يسقوه سما فيقتلوه، فناولوه قدحا فشربه. فلما علم أن فيه السم أيس من الحياة وأخرج سكينا كان فى خفه ووثب على كيوك فقتله «1» ، وخرج جماعة من أكابر الناس عليه فقتلوه. ذكر جلوس منكوقان «2» بن (تلى خان «3» ) بن جنكزخان على تخت القانية ومنكوقان هو الملك الرابع من الملوك الذين جلسوا على تخت القانية. قال: ولما قتل كيوك خان من غير وصية اجتمع أولاد الخانات وأمراء التمانات، واتفقت آراؤهم على إقامة منكوقان، فإنهم لم يجدوا فى البيت أرجح منه ولا أرشح للملك، فأجلسوه

على كرسى القانية. ولما استقر جرد أخاه قبلاى إلى بلاد الخطائية «1» فعاد منهزما منهم، فأعاد وجهز معه أرنيكا «2» ، فتوجها إليهم بعساكرهما فكسروهم وغنموا غنايم كثيرة، فوقع بين الأخوين التنازع فى الغنايم، حتى كان بينهما «3» قتال، فهزم أرنيكا قبلاى ثم اصطلحا واستقر الأمر بينهما وكانت سائر ملوك التتار داخلة تحت طاعة من ينتصب على تخت القانية يأتمرون بأمره. وانما استقل كل منهم بنفسه وانفرد بمملكته بعد وفاة منكوقان. ولما ملك منكوقان انقطع التتار عن الوصول إلى العراق والروم وغيرهما مما يكون داخلا «4» فى طاعة الخلفاء العباسيين مدة سنين، وأرى ذلك إنما كان لاشتغالهم بقتال من يليهم، ثم رجعوا إلى هذه الممالك ففتحوها مملكة بعد أخرى «5» .

ذكر دخول التتار إلى بلاد الروم وما استولوا عليه من البلاد

ذكر دخول التتار الى بلاد الروم وما استولوا عليه من البلاد كان أول دخول التتار إلى البلاد الرومية فى سنة أربع وثلاثين وستمائة، فى أواخر أيام السلطان علاء الدين كيقباد وابتداء سلطنة ولده غياث الدين كيخسرو. ثم وردت طائفة منهم إلى الروم فى سنة إحدى وأربعين وستمائة، فى أيام السلطان غياث الدين كيخسرو. وكانت هذه الطائفة من قبل باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، ملك البلاد الشمالية؛ فجمع كيخسرو العساكر وخرج إليهم والتقوا واقتتلوا. فكانت الهزيمة أولا على التتار ثم تراجعوا، فهزموا صاحب الروم هزيمة عظيمة، وقتلوا وأسروا خلقا كثيرا من المسلمين، ونهبوا من الأموال ما لا يحصى كثرة. وهرب غياث الدين إلى بعض المعاقل، وتحكمت التتار فى البلاد، ثم استولوا على بلاد خلاط وآمد، ودخل غياث الدين بعد ذلك فى طاعة التتار على مال يحمله إليهم. وفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، قصد التتار بغداد ونهبوا ما مروا عليه فى طريقهم، ووصلوا إلى ظاهرها، واستعدت عساكر الخليفة للقائهم. فلما جاء الليل أوقد التتار نارا عظيمة ورجعوا تحت الليل. ثم انقطعت أخبار التتار إلى أن جردهم منكوقان فى سنة أربع وخمسين وستمائة على ما نذكره.

ذكر تجريد منكوقان العساكر إلى بلاد الروم وما استولوا عليه منها

ذكر تجريد منكوقان العساكر الى بلاد الروم وما استولوا عليه منها وفى سنة أربع وخمسين وستمائة جرد منكوقان جرماغون وبيجو «1» وجماعة من عساكره إلى بلاد الروم؛ وهى يومئذ فى يد السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ السلجقى. فساروا إليها ونزلوا على أرزن الروم «2» ، وبها يومئذ سنان الدين ياقوت العلائى أحد مماليك السلطان علاء الدين كيقباذ. فحاصروها مدة شهرين ونصبوا عليها اثنى عشر منجنيقا. فهدموا أسوارها، ودخلوها عنوة، وأخذوا سنان الدين ياقوت، وملكوا القلعة فى اليوم الثانى، وقتلوا الجند واستبقوا أرباب الصنائع وذوى المهن، وقتلوا ياقوت؛ وغنموا وسبوا، وعادوا، ومات جرماغون ثم عاد بيجو إلى الروم مرة ثانية فى هذه السنة، فوصل إلى آقشهر زنجان، ونزل بالصحراء التى هناك. فجمع غياث الدين كيخسرو عساكره وسار للقائهم، فانهزم من غير لقاء، كما ذكرناه فى أخباره، وغنم التتار خيامه وخزائنه وأثقاله إلا ما حمله مما خف منها. وفر غياث الدين إلى قونية وتوفى فى هذه السنة.

وعاد بيجو ثم رجع إلى بلاد الروم فى سنة خمس وخمسين وستمائة فدخلها وشن الغارات وسبى، وكان المحرك لعوده أن بيجار الرومى حضر إلى باب السلطان غياث الدين ليحضر السماط، ولم تكن له صورة بعسكر الروم، فمنعه البرددارية «1» وضربه بعضهم بعصاه على رأسه، فسقط طرطوره إلى الأرض فشق ذلك عليه، وقال: أنتم رميتم طرطورى فى هذا الباب، لا بد أن أرمى عوضه رؤوسا كثيرة. وخرج من فوره وتوجه إلى بيجو وحثه على قصد الروم، فقصده وأغار وخرج بعد الإغارة. ثم عاد إلى الروم فى هذه السنة، وقد استقل عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو بالسلطنة. فلما بلغه عود التتار، جهز جيشه وقدم عليهم أميرا من أكابر أمرائه اسمه أرسلان دغمش، فتوجه بعساكر الروم وكان بيجو قد نزل بصحراء قونية. فلما كان بعد توجه أرسلان بأيام شرب كيكاوس مسكرا وتوجه إلى بيت أرسلان دغمش وهو على حالة من السكر ليهجم على حريمه؛ فبلغه ذلك فغضب له وقال: أكون قد بذلت نفسى فى دفع عدوه ويخلفنى فى حريمى بهذا. وأجمع على الخلاف، وأرسل إلى بيجو ووعده أنه يتخاذل عند اللقاء وينحاز إليه. فلما التقوا، عمل أرسلان إلى سناجق «2» صاحبه فكسرها

وانهزم بالعسكر ثم توجه إلى بيجو فأكرمه وتلقاه وحضر معه إلى قونية. ولما اتصل خبر الكسرة بالسلطان عز الدين فر من قونية إلى العلايا «1» وأغلق أهل قونية أبواب المدينة. فلما كان يوم الجمعة أخذ الخطيب ما يملكه من ماله وحلى نسائه وأحضره معه إلى الجامع، ورقى المنبر وقال: «يا معشر المسلمين، إننا قد ابتلينا بهذا العدو وليس لنا من يعصمنا منه، وقد بذلت مالى، فابذلوا أموالكم واشتروا نفوسكم بنفائسكم، واسمحوا بما عندكم لنجمع من بيننا ما نفدى به نفوسنا وحريمنا وأولادنا» . ثم بكى وأبكى الناس وسمح كل أحد بما أمكنه. وجهز الخطيب المذكور الإقامات وخرج إلى مخيم بيجو فلم يصادفه، لأنه كان قد توجه إلى الصيد، فقدم ما كان معه إلى الخاتون زوجة بيجو. فقبلته منه وأقبلت عليه وأكل من المأكول فأكلت وقدم المشروب فأخذ منه شيئا على سبيل الشاشنى «2» ، وناوله لصغير. فقالت له: لم لا تشرب أنت منه؟ فقال: هذا محرم علينا. قالت: من حرمه؟ قال: الله حرمه فى كتابه. قالت: فكيف لم يحرمه علينا؟ فقال: أنتم كفار ونحن مسلمون. فقالت له: أنتم خير عند الله أم نحن؟ قال: بل نحن. قالت: فإذا كنتم خيرا

منا عنده، فكيف نصرنا عليكم؟ فقال: هذا الثوب الذى عليك- وكان ثوبا نفيسا يمنيا مرصعا بالدراتب «1» - تعطيه لمن يكون خاصا بك أو بعيدا عنك؟ قالت: بل أخص به من يختص بى. قال: فإذا أضاعه وفرط فيه ودنسه، ما كنت تصنعين به؟ قالت: كنت أنكل به وأقتله. فقال لها: دين الإسلام بمثابة هذا الجوهر، والله أكرمنا به فما رعيناه حق رعايته، فغضب علينا وضربنا بسيوفكم واقتص منا بأيديكم. فبكت زوجة بيجو وقالت للخطيب: من الآن تكون أبى وأكون ابنك. فقال: ما يمكن حتى تسلمى: فأسلمت على يديه، وأجلسته إلى جانبها على السرير، فحضر بيجو من الصيد، فهم الخطيب أن يقوم له، فمنعته وقالت: «أنت قد صرت حماه «2» وهو يريد يجئ إليك ويخدمك» . فلما دخل بيجو إلى الخيمة قالت له: هذا قد صار أبى. فجلس بيجو دونه وأكرمه وقال لزوجته: أنا عاهدت الله أننى إذا فتحت قونية وهبتها لك. فقالت: وأنا وهبتها لأبى. ثم أمر بفتح قونية، وأمن أهلها ورتب على كل باب شحنة من التتار ورسم أن لا يدخلها من التتار إلا من له حاجة، وأن يكونوا خمسين خمسين، لا يزيدون على ذلك. فلم يتعرضوا لأهلها بسوء. ثم اتفق بعد هذه الواقعه توجه رسل صاحب الروم إى منكوقان، ومصالحتهم وبذلهم ما بذلوه وقسمه البلد بين ولدى كيخسرو على ما قدمناه فى أخبارهم.

ذكر مهلك منكوقان وما حصل بين اخوته من التنازع فى القانية

ذكر مهلك منكوقان وما حصل بين اخوته من التنازع فى القانية كانت وفاة منكوقان بمقام نهر ألطاى من بلاد أيغور، سنة ثمان وخمسين وستمائة «1» . وكان قد قصد غزو الخطا. وكان منكوقان يدين بدين النصرانية «2» ، وكان أخوه «3» أرنيكا «4» ينوب عنه فى كرسى المملكة بقراقروم. فلما مات منكوقان، أراد [أرنيكا] الاستيلاء على المملكة، وكان أخوه قبلاى مجردا ببلاد الخطا من جهة منكوقان، فجلس فى دست القانية. فأرسل بركة بن باطوخان صاحب البلاد الشمالية إلى أرنيكا يقول: أنت أحق بالقانية، لأن منكوقان رتبك فيها فى حياته، وانضم إليه بنو عمه قجى «5» ابن أوكتاى وإخوته. ثم عاد قبلاى من بلاد الخطا، فسار أرنيكا لحربه، والتقوا واقتتلوا فكانت الكسرة على قبلاى، وانتصر أرنيكا، واحتوى على الغنائم والسبايا واختص بها، ولم يسهم منها لأحد

ذكر ملك قبلاى بن تولى خان بن جنكزخان القانية وهو الخامس من ملوكهم

من بنى عمه شيئا. فوجدوا عليه وتفرقوا عنه ومالوا إلى قبلاى، فعاود القتال، فاستظهر [قبلاى] عليه وأخذ أرنيكا أسيرا. ذكر ملك قبلاى بن تولى خان بن جنكزخان القانية وهو الخامس من ملوكهم قال: ولما انهزم جيش أرنيكا وأسر هو، استقر قبلاى فى القانية بقراقروم، وسقى أرنيكا سما فمات. وبلغ ذلك هولاكو، فسار فى طلب القانية لنفسه، فما وصل إلى البلاد إلا وقد استقر (أخوه) «1» قبلاى فى القانية فاستقرت له ما افتتحه من الأقاليم. وفى سنة سبع وثمانين وستمائة كانت الحرب بين جيوش قبلاى القان وبين قيدوا «2» بن قيجى بن طلوخان بن جنكزخان صاحب ما وراء النهر، وكان سببها أنه (قبلاى) غضب على أمير من أمرائة اسمه طردغا، فأحس أن قبلاى قد عزم على الإيقاع به، فهرب ولحق بقيدو وحسن له قصد قبلاى وحربه، وأطمعه فى القانية. وقال: إن قبلاى قد كبر سنه وما بقى ينهض بتدبير مملكته وإنما أولاده هم الذين يتولون الأمور وهم صبيان، فسار قيدو بجيوشه وطردغا صحبته، وبلغ قبلاى الخبر فجهز جيوشه صحبة ولده نمغان «3» . فلما صار قيدوا بالقرب من القوم بلغه ما هم عليه

من الكثرة، فهم بالرجعة فقال له طردغا: «يعطينى الملك تمانا «1» من نقاوة العسكر، وأنا أدبر الحيلة وأهزمهم» فقال له قيدوا: «وكيف تصنع؟» فقال: «إن الطريق أمامنا فيه واد بين جلبين، فأتوجه أنا بالتمان وأكمن فى الوادى، ويتقدم الملك إلى القوم، فإذا التقى الجمعان يرجع الملك فهم لا بد يتبعونه، فإذا تبعوه نستدرجهم إلى أن يصيروا بينه وبين الوادى، فأخرج أنا إليهم ويعطف الملك عليهم بمن معه» . ففعل قيدو ذلك وفر أمامهم حتى تجاوزوا الكمين. فخرج عليهم طردغا وعطف قيدو بمن معه فانكسر نمغان وعساكره وقتل منهم خلق كثير. وسار قيدو ومن معه فى آثارهم حتى أشرفوا على منازلهم، ونهبوا من النساء والصبيان شيئا كثيرا. وجلبت المماليك التتار إلى الديار المصرية إثر هذه الوقعة. قال: ولما وصل نمغان إلى أبيه غضب عليه، وأرسله إلى بلاد الخطا فأقام حتى مات. ودامت أيام قبلاى وطالت إلى سنة ثمان وثمانين وستمائة «2» ، فكانت مدة ملكه نحوا من ثلاثين سنة «3» . ولما مات جلس بعده ابنه شرمون بن قبلاى بن تلى خان بن جنكزخان وهو السادس من ملوكهم. كان جلوسه على تخت القانية بعد وفاة أبيه فى شهور سنة ثمان

ذكر أخبار ملوك البلاد الشمالية من أولاد جنكزخان التمرجى

وثمانين وستمائة وكان لقبلاى ثلاثة أولاد وهم نمغان وشرمون «1» وكملك «2» . فأما نمغان فإنه كان ببلاد الخطا كما ذكرنا، فمات بها. وكان شرمون هو الأكبر، فجلس فى الملك ودامت أيامه إلى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وتوفى فيها أو فيما يقاربها. ولما مات سار طقطا بن منكوتمر صاحب البلاد الشمالية فى طلب القانية، فمات أيضا ولم يلها. وجلس على كرسى القانية أحد أولاده ولم يصل إلينا جلية الخبر فنذكره. فلنذكر ملوك البلاد الشمالية من البيت الجنكزخانى ذكر أخبار ملوك البلاد الشمالية من أولاد جنكزخان التمرجى هذه المملكة ببلاد الشمال ونواحى الترك والقفجاق وكرسيها مدينه حراى «3» . وأول من ملك هذه المملكة من أولاد جنكزخان.

دوشى خان «1» وهو الذى فتحها لما جهزه أخوه أوكديه خان عند انتصابه فى القانية بعد مهلك جنكزخان، وذلك فى سنة سبع وعشرين وستمائة، وهلك فى سنة إحدى وأربعين وستمائة. وملك بعده ابنه باطوخان بن دوشى خان، وهو الملقب صاين قان، واستمر فى الملك من سنة إحدى وأربعين وستمائة إلى أن توفى فى سنة خمسين وستمائة. وكانت مدة ملكه عشر سنين وهو الثانى من ملوك هذه المملكة. ولما مات صاين قان خلف من الأولاد ثلاثة، وهم طغان وبركة وبركجار «2» . فنازعهم عمهم صرطق «3» بن دوشى خان بن جنكزخان الملك، واستبد به دونهم، فملك فى سنة خمسين وستمائة وهو الثالث من ملوك هذا البيت واستمر فى الملك إلى أن هلك فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فكانت مدة ملكه سنة وشهورا. ولم يكن له ولد. وكانت براق شين «4» زوجة طغان ابن أخيه باطوخان قد

ذكر ملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان وهو الرابع من ملوك هذه المملكة الشمالية

أرادت أن تولى ولدها تدان منكوا السلطنة بالبلاد الشمالية بعد وفاة صرطق، وكان لها بسطة وتحكم، فلم يوافقها الخانات أولاد باطوخان عمومة ابنها، وأمراء التمانات على ذلك. فلما رأت ذلك من اقناعهم راسلت هولاكو بن تلى خان وأرسلت إليه نشابة بغير ريش، وقباءا بغير بنود؛ وأرسلت إليه تقول له: «قد تفرع الكاشن من النشاب وخلا القرنان من القوس، فتحضر لتتسلم الملك» ثم سارت فى إثر الرسول، وقصدت اللحاق بهولاكو أو إحضاره إلى بلاد الشمال. فلما بلغ القوم ما دبرته أرسلوا فى إثرها وأعادوها، على كره منها وقتلوها. هذا ما انتهى علمه إلينا من أخبار هؤلاء الملوك الثلاثة، ولم نطلع على ما كان لكل منهم من الأخبار والحروب والوقائع والفتوحات فنذكره، وإنما أوردنا ما أوردناه وما نورده مما تلقفناه من أفواه الرجال. ذكر ملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان وهو الرابع من ملوك هذه المملكة الشمالية كان جلوسه على تخت المملكة الشمالية فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة بعد وفاة عمه صرتق، وأسلم بركة هذا وحسن إسلامه، وأقام منار الدين، وأشهر شعائر الإسلام وأكرم الفقهاء وأدناهم منه، وقربهم لديه ووصلهم. وابتنى المساجد والمدارس بنواحى مملكته، وهو أول من دخل فى دين الإسلام من عقب جنكزخان.

لم ينقل إلينا أن أحدا منهم أسلم قبله «1» . ولما أسلم أسلم أكثر قومه وأسلمت زوجته ججك خاتون، واتخذت لها مسجدا من الخيام تسافر به. وفى سنة ثلاث وخمسين وستمائة كانت الحرب بين بركة وهولاكو «2» ملك خراسان والعراقين وما مع ذلك. وذلك أن هولاكو لما انتهت إليه رسالة براق شين زوجة طغان كما ذكرناه، أطمعه ذلك فى ملك هذه المملكة ليضمها إلى ما بيده من الممالك. فتجهز وسار بجيوشه إليها، فكان وصوله بعد قتل براق شين وجلوس بركة على سرير الملك وانتظام الأمر له. ولما اتصل ببركة خبر هولاكو وقربه من البلاد سار بجيوشه للقائه وكان بينهما نهر يسمى نهر ترك وقد جمد ماؤه لشدة البرد، فعبر عليه هولاكو بعساكره إلى بلاد بركة. فلما التقوا واقتتلوا كانت الهزيمة على هولاكو. فلما وصل إلى ذلك النهر تكردس أصحابه عليه. فانخسف بهم، ففرق منهم خلق كثير «3» ، ورجع هولاكو بمن بقى معه من أصحابه إلى بلاده. ونشأت الحرب بينهم من هذه

السنة، وكان فيمن شهد هذه الوقعة مع بركة ابن عمه نوغيه «1» ابن ططر بن مغل بن جنكزخان فأصابته طعنة رمح فى عينه فغارت. ولنوغيه هذا أخبار نذكرها بعد إن شاء الله تعالى. وراسل بركة هذا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى ملك الديار المصرية والممالك الشامية فى سنة إحدى وستين وستمائة يخبره بما من الله تعالى به عليه من الإسلام فأجابه السلطان يهنيه بهذه النعمة، وجهز له هدايا جليلة، من جملتها ختمة شريفة ذكر أنها من المصاحف العثمانية، وسجادات للصلاة وأكسية لواتية، وعدة من النطوع المصرطقة والأديم وسيوف قلاجورية مسقطة، ودبابيس مذهبة، وخوذ وطوارق، وفوانيس وشمعدانات، ومشاعل جفناوات وقواعد برسمها مكفتة، وسروج خوارزمية؛ ولجم؛ كل ذلك بسقط الذهب والفضة، وقسى حلق وقسى بنيدق وحروج وأسنة ونشاب بصناديقه وقدور برام، وقناديل مذهبة، وخدام سود، وجوارى طباخات، وخيول عربية سبق، وهجن نوبية، وحمير فرة، ونسانيس وبغانغ وغير ذلك. «2» وأعاد السلطان الملك الظاهر رسله فى شهر رمضان من السنة المذكورة، وكتب إليه يغريه بهولاكو ويحضه على حربه.

وفى سنة ثلاث وستين وستمائة كانت الحرب بين عساكر بركة وعساكر أبغا بن هولاكو، وذلك أن هولاكو لما توفى فى هذه السنة وجلس ابنه أبغا بعده، جهز جيشا لقتال بركة، فلما بلغه الخبر جهز جيشا وقدم عليه ييسوا نوغا «1» بن ططر بن مغل، فصار فى المقدمة ثم أردفه بمقدم آخر اسمه بستاى فى خمسين ألف فارس، فسبق نوغا بمن معه وتقدم إلى عسكر أبغا وبستاى على إثره. فلما أشرفت عساكر أبغا على بستاى وهو مقبل فى سواده العظيم تكردسوا وتجمعوا للهزيمة، فظن بستاى أنهم أحاطوا بنوغا ومن معه فانهزم راجعا من غير لقاء. وأما نوغا فإنه تبع عساكر أبغا وواقعهم وهزمهم، وقتل منهم جماعة وعاد إلى بركة؛ فعظم قدره عنده وارتفع محله، وقدمه على عدة تمانات. وعظم ذنب بستاى عند بركة. ودامت أيام بركة هذا بهذه المملكة إلى أن توفى فى سنة خمس وستين وستمائة وهو على دين الإسلام، رحمه الله تعالى ولم يكن لبركة ولد يرث الملك من بعده فاستقر الملك من بعده لابن أخيه منكوتمر «2» .

ذكر ملك منكوتمر بن طوغان بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان وهو الخامس من ملوكهم بهذه المملكة

ذكر ملك منكوتمر بن طوغان «1» بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان وهو الخامس من ملوكهم بهذه المملكة ملك هذه المملكة وجلس على كرسى الملك بصراى، وصار إليه ملك بلاد الشام والترك والقفجاق وباب الحديد وما يليه؛ وذلك فى سنة خمس وستين وستمائة. ولما ملك كاتبه السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى من الديار المصرية بالتهنئة والتعزية بعمه «2» ، وأغراه بأبغا بن هولاكو وحرضه عليه كما كان قد فعل لما كاتب بركة، وذلك فى سنة ست وستين وستمائة. ذكر مسير عساكر منكوتمر الى بلاد القسطنطينية وفى سنة ثمان وستين وستمائة جهز منكوتمر جيشا إلى اصطنبول. وكان رسول السلطان الملك الظاهر ركن الدين يومذاك عند الأشكرى «3» ، وهو فارس الدين المسعودى. فخرج المذكور إلى عسكر منكوتمر وقال: أنتم تعلمون أن صاحب اصطنبول صلح مع صاحب مصر وأنا رسول الملك الظاهر، وبين أستاذى وبين الملك منكوتمر مراسلة ومصالحة واتفاق. واصطنبول مصر ومصر اصطنبول. فرجعوا عنها

ونهبوا بلادها وشعثوا. فلما وصل الفارس المسعودى فى الرسلية إلى الملك منكوتمر من جهة السلطان، أنكر عليه كونه صد جيوشه عن أخذ اصطنبول. وكان المسعودى قد فعل ذلك من قبل نفسه وبرأيه، لا برأى السلطان الملك الظاهر وأمره. فلما عاد المسعودى إلى السلطان الملك الظاهر نقم عليه وضربه واعتقله. ولما كان جيش منكوتمر باصطنبول ورجعوا، مروا بالقلعة التى فيها عز الدين كيكاوس صاحب الروم معتقلا فأخذوه منها، وأحضروه إلى الملك منكوتمر، فأكرمه وأحسن إليه وأقام عنده إلى أن مات. ودامت أيام منكوتمر إلى سنة تسع وسبعين وستمائة وتوفى، ووردت الأخبار بوفاته إلى الديار المصرية فى سنة إحدى وثمانين وستمائة. وكان سبب وفاته أنه طلع له دمل فى حلقه فبظه فمات منه فى شهر ربيع الأول من السنة. فكانت مدة ملكه نحو أربع عشرة «1» سنة. وخلف منكوتمر من الأولاد تسعة «2» ، وهم ألغى «3» وأمه ججك خاتون «4» وكان لها حرمة وبسطة لأنها من الذرية القانية،

ذكر ملك تدان منكوا بن طغان بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان

وبرلك «1» ، وصراى بغا «2» ، وطغرلجا «3» ، وتلغان «4» ، وتدان «5» وطقطا «6» وهو الذى ملك البلاد فيما بعد، وقدان، وقطغان «7» . وكان له (منكوتمر) من الإخوة لأبيه تدان منكوا «8» ، وأدكجى «9» ؛ وتدان منكوا أكبرهم. فدفع تدان منكوا أولاد أخيه عن الملك واستقر هو فى الملك بعد أخيه منكوتمر. ذكر ملك تدان منكوا «10» بن طغان بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان ملك البلاد الشمالية بعد وفاة أخيه فى شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وستمائة «11» . وقيل إنه جلس فى جمادى الآخرة سنة ثمانين. وهو السادس من ملوك هذه المملكة. وكان السلطان الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية قد أرسل

رسلا إلى منكوتمر وهما شمس الدين سنقر الغتمى، وسيف الدين تلبان الخاص تركى؛ وسير معهما ستة عشر تعبية من القماش النفيس لمن يذكر: الملك منكوتمر، وأدكجى، وتدان منكو، وتلابغا «1» ، ونوغاى؛ وكان قد تقدم عنده. وما هو للخواتين من الأقمشة وهن: ججك خاتون وإلجى خاتون وتوتكين خاتون، وبدارن خاتون وسلطان خاتون وخطلوا خاتون. وما هو للأمراء وهم: الأمير مادوا أمير الميسرة، والأمير طبرا أمير الميمنة. وما هو لقيالق زوجة ايلجى. وما هو للسلطان غياث الدين صاحب الروم. وكانت هدية جليلة من الأقمشة والتحف والقسى والجواشن والخوذ. فلما وصلا وجدا منكوتمر قد مات، وجلس تدان منكوا فى الملك، فقدموا له الهدية فقبلها. واستمر تدان منكوا فى الملك إلى سنة ست وثمانين وستمائة، فأظهر الزهد والتخلى عن النظر فى أمور المملكة وصحب الفقراء والمشايخ وقنع بالقوت، فقيل له: إن المملكة لا بد لها من ملك يسوس أمورها، فنزل عن الملك لتلابغا «2» .

ذكر ملك تلابغا بن طربوا بن دوشى خان ابن جنكزخان

ذكر ملك تلابغا بن طربوا بن دوشى خان ابن جنكزخان ملك البلاد الشمالية بعد تزهد تدان منكوا فى سنة ست وثمانين وستمائة، وهو السابع من ملوك هذه المملكة. فلما ملك تجهز بعساكره لغزو الكرك. «1» واستدعى نوغيه بن ططر بن مغل بن دوشى خان، وهو الذى قلعت عينه فى حرب هولاكو كما ذكرناه. وأمره بالمسير بمن معه من التمانات، فسار إليه وتوافيا فى المقصد، وشنوا الغارة على بلد كرك ونهبوا وقتلوا وعادوا وقد اشتد البرد وكثرت الثلوج، ففارقهم نوغيه بمن معه وسار إلى مشاتيه، فوصل سالما. وسار تلابغا، فضل عن الطريق فهلك جماعة ممن معه واضطره الحال إلى أن أكل أصحابه دوابهم وكلاب الصيد ولحوم من مات منهم لشدة ما نالهم من الجوع. فتوهم أن نوغيه قصد له المكيدة فأضمر له السوء، وكان ذلك سبب قتله. ذكر مقتل تلابغا كان مقتله فى سنة تسعين وستمائة وذلك أنه لما عاد من غزو الكرك اجتمع على الإيقاع بنوغيه، ووافقه على ذلك من انتمى إليه من أولاد منكوتمر. وكان نوغيه شيخا مجربا له معرفة وممارسة بالمكائد،

فنمى الخبر إليه فكتمه، ثم أرسل تلابغا يستدعى نوغيه وأظهر له احتياجه إلى مشورته وأخذ رأيه، فراسل نوغيه والدة تلابغا وقال لها: إن ابنك شات وإننى أحب أن أبذل له النصيحة وأعرفه بما يعود عليه نفعه من مصالح ملكه، ولا يمكن أن أبديها له إلا فى خلوة يجب ألا يطلع عليها سواه، وأختار أن ألقاه فى نفر يسير. فمالت المرأه إلى مقالته وأشارت على ابنها بموافقته والاجتماع به وسماع ما يقول. ففرق تلابغا عساكره التى كان جمعها وأرسل إلى نوغيه ليحضر عنده، فتجهز بجميع من عنده من العساكر وأرسل إلى أولاد منكوتمر الذين كانوا يميلون إليه، وهم طقطابرلك وصراى بغا وتدان باللحاق معهم. ثم سار مجدا فلما صار بالقرب من مقام تلابغا الذى تواعدا أن يجتمعا فيه ترك العسكر الذى معه وأولاد منكوتمر طقطا وإخوته كمينا واستصحب معه نفرا يسيرا، وتوجه نحو تلابغا، فصار تلابغا لتلقيه ومعه من أولاد منكوتمر أولغى وطغرلجا وتلغان وقدان وقتغان، وهم الذين انحازوا إليه. فلما اجتمع تلابغا ونوغيه وأخذا فى الحديث لم يشعر تلابغا إلا وخيول أصحاب نوغيه قد أقبلت، فتحير فى أمره وتقدم العسكر، فأمرهم نوغيه بإنزال تلابغا ومن معه من أولاد منكوتمر عن خيولهم فأنزلوهم، ثم أمر بربطهم فربطوا وقال لطقطا: هذا تغلب على ملك أبيك وهؤلاء بنو أبيك وافقوه على أخذك وقتلك. وقد سلمتهم إليك، فاقتلهم أنت كما تشاء، فقتلهم جميعا.

ذكر ملك طقطا بن منكوتمر بن طوغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو الثامن من ملوك هذه المملكة

ذكر ملك طقطا بن منكوتمر بن طوغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو الثامن من ملوك هذه المملكة ملك البلاد الشمالية فى سنة تسعين وستمائة. وذلك أنه لما قتل تلابغا وإخوته الخمسة أولاد منكوتمر أجلسه نوغيه على كرسى الملك، ورتب أمور دولته، وسلم إليه من بقى من إخوته الذين اتفقوا معه. وقال: «هؤلاء إخوتك يكونون فى خدمتك فاستوص بهم» . وعاد نوغيه إلى مقامه، وبقى فى نفسه من الأمراء الذين اجتمعوا مع تلابغا عليه عند ما أرسل إليه يستدعيه. ذكر ايقاع طقطا بجماعة من أمرائه وفى سنة اثنتين وتسعين وستمائة. جهز نوغيه زوجته ييلق خاتون إلى الملك طقطا برسالة. فلما وصلت إلى الأردو تلقاها بالإكرام واحتفل بها غاية الاحتفال، ثم سألها عن موجب حضورها، فقالت له: أبوك يسلم عليك ويقول لك: قد بقى فى طريقك قليل شوك فنصفه. قال: وما هو؟ فسمت له الأمراء وهم: «كلكتاى «1» ويوقق وقرا كيوك وما جار (وتاين «2» طقطا) وكبى وبركوا «3» وطراتمر والتمر ونكا وبيطرا وبيملك تمر وبيطقتمر (وبيقور الطاجى) «4»

ذكر ابتداء الخلف بين طقطا ونوغيه

وتادوة «1» وملخكا وبرلغى «2» وكنجك وشردق وقراحين وجاجرى وابشقا بينننجى. وهؤلاء هم الذين اتفقوا مع تلابغا على نوغيه» . فلما أبلغتة هذه الرسالة، وسمت له هؤلاء الأمراء، طلبهم وقتلهم جميعا، وعادت ييلق خاتون إلى نوغية فاطمأن خاطره؛ وتحكم أولاد نوغيه وأولاد أولاده. وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة «3» وهم جكا وتكا «4» وطراى وابنة تسمى طغلجا وابن بنت يسمى أقطاجى. وكانت ابنته متزوجة لشخص يسمى طاز بن منجك، فقويت شوكتهم، ثم وقع الخلف بين طقطا ونوغيه. ذكر ابتداء الخلف بين طقطا ونوغيه وفى سنة سبع وتسعين وستمائة ابتدأ الخلف بين طقطا ونوغيه، وكان لذلك أسباب منها أن ييلق خاتون زوجة نوغيه نفرت من ولديه جكا وبكا وأظهرا لها الإساءة والامتهان، فأغرت طقطا بهما وأرسلت إليه تحرضه عليهما. ومنها أن بعض أمراء طقطا أو جسوا منه خيفة ففارقوه وانحازوا إلى نوغيه؛ فقبلهم وأحسن إليهم، وأنزلهم فى حوزته، وزوج أحدهم وهو طاز بن منجك بابنته، فطلبهم طقطا منه فمنعهم عنه فأغضبه ذلك، وأرسل إليه رسولا وصحبته محراث «5» وسهم نشاب وقبضة تراب. فجمع أكابر

ذكر الوقعة الأولى بين طقطا ونوغيه

عشيرته وقال: «ما عندكم فيما أرسله طقطا؟» فقال كل منهم قولا، فقال: «ما أصبتم وأنا أخبركم بمراده. أما المحراث فهو يقول: إن نزلتم إلى أسافل الأرض أطلعتكم بهذا المحراث؛ وأما النشابة فيقول: إن طلعتم إلى الجو أنزلتكم بهذا السهم، وأما التراب فيقول: اختاروا لكم أرضا تكونون فيها للملتقى» . فقال نوغيه لرسوله: «قل لطقطا إن خيلنا قد عطشت ونريد نسقيها من ماء تن- وهو نهر على مقام صراى وفيه منازل طقطا- وجمع جنوده وسار للقائه. ذكر الوقعة الأولى بين طقطا ونوغيه وفى سنة سبع وتسعين وستمائة سار طقطا للقاء نوغيه، فجمع عساكره ومن انضاف إليه، وكانوا يزيدون على مائتى ألف فارس. وسار كل منهما لقصد صاحبه، فالتقوا على نهر يقصى بين مقام طقطا ومقام نوغيه. فكانت الهزيمة على طقطا وعساكره، وانتهت بهم الهزيمة إلى نهر تن، فمنهم من عبر وسلم ومنهم من هوى به فرسه فغرق. وأمر نوغيه عساكره أن لا يتبعوا منهزما ولا يجهزوا على جريح، وأخذ الغنائم والسبايا والأسلاب وعاد إلى مكانه.

ذكر الوقعة الثانية وقتل نوغيه

ذكر الوقعة الثانية وقتل نوغيه وفى سنة تسع وتسعين وستمائة، عزم طقطا على حرب نوغيه، واتفق أن جماعة من أمراء نوغيه الذين كان يعتمد عليهم فارقوه وانحازوا إلى طقطا. فقويت به شوكتهم، وكانوا فى ثلاثين ألف فارس. ولما تجهز طقطا اتصل خبره بنوغيه، فتجهز أيضا لحربه وخرج كل منهما للقاء الآخر. فلما صار بينهما مسافة يوم، أرسل نوغيه شخصا ومعه مائة فارس للكشف، فظفر بهم طقطا وقتلهم ونجا مقدمهم بمفرده. فأخبر نوغيه أن العسكر قد دهمه، فركب فيمن معه والتقوا على كو كان لك واقتتلوا، فكانت الكسرة على نوغيه فى وقت المغرب، فانهزم أولاده وعشائره وثبت هو على ظهر فرسه، وكان قد كبر وطعن فى السن، وتغطت عيناه بشعر حواجبه، فوافاه رجل روسى من عسكر طقطا وقصد قتله، فعرفه بنفسه وقال: «أنا نوغيه فاحملنى إلى طقطا فلى معه حديث» . فلم يصغ الروسى لمقالته وقتله. وحمل رأسه إلى طقطا وقال: «هذا رأس نوغيه» . فقال له: «ومن الذى أعلمك أنه نوغيه؟» فقص عليه القصة. فآلمه ذلك، وأمر بقتل قاتله، وقال: «إن من السياسة قتله حتى لا يجترئ أمثاله على قتل مثل هذا الرجل الكبير» . ثم عاد طقطا إلى مقامه.

ذكر أخبار أولاد نوغيه

ذكر أخبار أولاد نوغيه ولما انهزم عسكر نوغيه وقتل، استقر أولاده بمقامه فلم تطل بهم الأيام حتى وقع الخلف بينهم. وقتل جكا بن نوغيه أخاه بكا، واستبد جكا بملك أبيه وأقام له نائبا يسمى طنغر؛ فنفر عنه أصحابه وعلموا أنه لا يبقى عليهم بعد أن قتل أخاه. واتفق نائبه طنغر مع طاز بن منجك- وهو صهر نوغيه، زوج ابنته طغلجا- على الإغارة على بلاد أولاق والروس. فسارا وتذاكرا سوء سيرة جكا فيهم، واتفقا على أن يقبضا عليه عند عودهما، وعادا لذلك. فبلغه الخبر ففر منهما فى مائة وخمسين فارسا، ودخل بلاد آص وكان بها مقدم وطمأن من عسكره فأقام بينهم. ووصل طنغر ثانية وطاز بن منجك صهره إلى بيوته فنهبوها واستولوا عليها. ولما أقام جكا ببلاد آص تسلل إليه كثير من عسكره. فكثرت بهم عدته، وسار لحرب طنغر وطاز بن منجك، والتقوا واقتتلوا فاستظهر جكا عليهما وأسروا بيوتهما به. وكانت أخته طقلجا تقاتله بنفسها فى هذه الوقعة. فلما انكسر زوجها ومن معه، كاتبوا طقطا يستمدونه، فأمدهم بجيش صحبة أخيه برلك بن منكوتمر.. فلما جاءهم المدد والتقوا للقتال لم يكن لكيجا «1» بهم قبل. فهرب إلى بلاد «2» أولاق. وكان ملكها والحاكم عليها صروجا أحد

ذكر ما اتفق طراى بن نوغيه وصراى بغا بن منكوتمر من الخروج عن طاعة الملك طقطا وقتلهما

أقارب جكا فآوى إليه، فاجتمع أصحابه وقالوا: هذا عدو طقطا، ولا نأمن أنه إذا بلغه أنه انحاز إلينا يقصدنا بجيوشه ولا قبل لنا به. فأمسكه دعوقه فى قلعته واسمها تزنوا وطالع طقطا بأمره فأمره بقتله، فقتله فى هذه السنة وهى سنة سبعمائة، ودخلت مملكة الملك طقطا ممن يساويه، واستقر يزلك «1» بن منكوتمر فى مقام نوغيه من قبل أخيه طقطا. ولم يبق من أولاد نوغيه إلا أصغرهم وهو طراى. ورتب طقطا بيجى بن قرمسى يرصع أباجى أخاه. وجهز ولديه يكل بغا وأربصا إلى بلاد نوغيه، فاستقر يكل بغا فى صنعجى ونهر طنا «2» وتايل باب الحديد، وهى منازل نوغيه. وأقام ايربصا، بنق ورتب أيضا أخاه صراى بغا. «3» . ذكر ما اتفق طراى بن نوغيه وصراى بغا بن منكوتمر من الخروج عن طاعة الملك طقطا وقتلهما وفى سنة إحدى وسبعمائة تحرك طراى بن نوغيه فى طلب ثار أبيه وأخيه من طقطا، ولم يكن له قوة بنفسه، فجاء إلى صراى بغا ابن منكوتمر. وكان أخوه «4» طقطا قد رتبه فى مقام نوغيه فتوصل طراى إليه ولازمه، ولم يزل يلاطفه حتى حسّن له الخروج على أخيه طقطا وأن يستقل بالملك. فوافقه صراى بغا ومال إليه

وركب بتمانه وعبر نهر اتل، وترك العسكر، وتوجه جريدة، اجتمع بأخيه برلك، وعرفه ما عزم عليه وطلب منه الموافقة فأجابه إلى ما طلب. ثم بادر برلك «1» بالاجتماع بأخيه طقطا، وعرفه الصورة وما همّ به صراى بغا وطراى بن نوغيه. فركب طقطا لوقته فى خواصه وجهز إليهما من أحضرهما، فقتلا بين يديه، ورتب ولده فى المكان الذى كان قد رتب فيه صراى بغا. ولما قتل طقطا طراى هرب قرا كشك بن جكا بن نوغيه، وهرب معه اثنان من أقاربه وهما جركتمر ويلتطلوا.- وكان بزلك قد أرسل فى طلبه- فانهزم هو وهذان إلى بلاد ششتمن «2» إلى مكان يسمى يدرك بالقرب من كدك ومعهم نحو ثلاثة آلاف فارس، فآواهم ششتمن وأصحابه وقاموا عنده يعبرون على الأطراف ويأكلون من كسبهم إلى آخر أيام طقطا. وفى سنة سبع وسبعمائة وردت الأخبار إلى الديار المصرية أن طقطا نقم على الفرنج الجنوبية الذين بقرم وكفار البلاد الشمالية لأمور نقلت إليه عنهم، منها استيلاؤهم على أولاد التتار وبيعهم بالبلاد الإسلامية، فأرسل جيشا إلى مدينة كفا وهى مسقط رؤوسهم. فشعر الفرنج بهم فركبوا فى مراكبهم وتوجهوا فى البحر فلم يظفر الجيش منهم بأحد. فنهب طقطا أموال من كان منهم بمدينة صراى وما يليها.

أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو التاسع من ملوك هذه المملكة

وفى سنة تسع وسبعمائة كانت وفاة ايرصا «1» بن طقطا حتف أنفه. وكان مرشحا عند أبيه للتقدمة على العساكر. وتوفى أيضا أخوه برلك بن منكوتمر ودامت أيام طقطا إلى أن توفى فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة وملك بعده؟ أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو التاسع من ملوك هذه المملكة ووصلت رسله إلى أبواب مولانا السلطان الملك الناصر «2» سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية وغيرها من الممالك الإسلامية وكان وصولهم فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وصحبهم من التقادم لمولانا السلطان ما لم تجر بمثله عادة. وكان من جملة رسالته أنه هنأ مولانا السلطان الملك الناصر بإيصال الإسلام من الصين إلى أقصى بلاد الغرب؛ وقال إنه كان قد بقى فى مملكته طائفة على غير دين الإسلام فلما ملك خيرهم بين الدخول فى دين الإسلام أو الحرب؛ فامتنعوا وقاتلوا، فأوقع بهم وهزمهم واستأصل شأفتهم بالقتل والأسر. وجهز إلى مولانا السلطان عدة من سباياهم، فأعاد مولانا السلطان رسله صحبة رسل منه وأنعم عليهم وأرسل معهم الهدايا الوافرة. هذا ما نقل إلينا من أخبار ملوك هذه المملكة

وأما ملوك ما وراء النهر من ذرية جنكزخان

الشمالية إلى حين وضعنا لهذا التأليف. ومهما اتصل بنا من أخبارهم بعد ذلك نورده إن شاء الله فى جملة أخبار الدولة الناصرية بالديار المصرية المحروسة. وأما ملوك ما وراء النهر من ذرية جنكزخان فلم يصل إلينا من أخبارهم ماندونه لبعد بلادهم وانقطاع رسلهم عن ملوكنا؛ إلا أن ملك ما وراء النهر انتهى إلى قيدوا بن قيجى بن طلوا بن جنكزخان، وطلوا هو تلى خان. ورأيت فى شجرة وضعها الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى أن قيدوا ابن قيجى بن أوكديه بن جنكزخان «1» . وطالت أيام قيدوا واستمر الملك إلى أن توفى فى تسع وسبعمائة «2» . وكرسى مملكته. كاشغر وقلا صاق «3» ، وله تركستان وقيالق «4» والمالق «5» وبخارى وغير ذلك. ولما مات ملك بعده ابنه جابار واستمر إلى أن مات فى سنة سبع عشرة وسبعمائة «6» . وملك بعد أخوه ألوين بغا

ابن قيدوا. ولقيدوا غير هؤلاء من الأولاد تانجار «1» وأروس «2» . وهذه الطائفة يقابلون القان الكبير الجالس على تخت القانية بقراقروم وغيره. وأما ملوك غزنة وباميان وهم أولاد أرديوا «3» بن دوشى خان ابن جنكزخان وهم أقرب إلى ملوك البلاد الشمالية من غيرهم من البيوت لأن أرديوا بن دوشى خان هو أخوباطوخان بن دوشى خان. فدوشى خان بن جنكزخان يجمعهم وأخبارهم أيضا منقطعة عن بلادنا لبعد بلادهم، لأن بيت هولاكو بيننا وبينهم. والذى وصل إلينا من أخبارهم أن ملك غزنة وباميان انتهى إلى قيجى «4» بن أرديوا بن دوشى خان. ودامت أيامه إلى أن توفى فى سنة إحدى وسبعماية، فاختلف أولاده وبنو عمه فى الملك بعد وفاته وتنازعوه بينهم وافترق بعضهم عن بعض، وكان له من الأولاد «5» . نيان. وكبلك «6» وطقتمر. وبغانمر. ومنغطاى.

وصاحى. وكان كبلك قد استقر فى الملك بعد وفاة أبيه فسار أخوه نيان إلى الملك طقطا واستنجد به، واستمده على أخيه، فأمده بأخيه برلك وسار كبلك إلى قيدوا واستعان به فأمده بجيش. وعادا من جهة طقطا وقيدوا، والتقوا واقتتلوا فكسر كبلك ثم مات واستقر أخوه نيان فى المملكة الغزنوية: واستمر إلى سنة ثمان وسبعماية، فوقع الخلف بينه وبين أخيه منغطاى بن قيجى «1» وتنازعا الملك، وانحاز إلى كل واحد منهما فئة، فاستظهر منغطاى على أخيه نيان بكثرة من انحاز إليه، فانهزم نيان واستقر منغطاى فى الملك. وأقام نيان ببلاد بكمرش وهى على أطراف حدودهم. ثم توجه قرشياى بن كبلك إلى قيدوا فى سنة تسع وسبعماية، واستنجده على عمه نيان، فأنجده عليه، وجرد معه جيشا. فقصد نيان واقتتلا فانهزم نيان وتوجه إلى عند الملك طقطا، لأنه كان قد أمده أولا وأعانه. وتمكن قرشتاى من بلاد نيان واستقر بها، واستمر منغطاى فى ملك المملكة الغزنويّة إلى وقتنا هذا. وانقطعت أخبارهم عنا من سنة عشر وسبعمائة فلم يصل إلينا منها ما نشرحه. وإنما أوردنا هذه النبذة اليسيرة من أخبار هذين البيتين لتكون دالة على وجودهم ومنبهة عن ممالكهم، وإلا فأخبارهم كثيرة لم نظفر بها. فلنذكر الآن نبذة من أخبار هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وأخبار أولاده، وما ملكه وملكوه بعده من الأقاليم. والممالك.

ذكر أخبار هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان وابتداء أمره وما استولى عليه من الممالك والأقاليم ومن ملك من ذريته

ذكر أخبار هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان وابتداء أمره وما استولى عليه من الممالك والأقاليم ومن ملك من ذريته وهذا البيت من التتار وهو أقرب البيوت إلى القان الكبير، لأن القانية استقرت فى إخوة هولاكو، ثم فى بنى أخيه قبلاى بن تولى خان، كما قدمناه فى أخبارهم. وكان ابتداء أمر هولاكو أن أخاه منكوقان وهو الجالس فى أيامه على تخت القانية بقراقروم بعثه لفتح العراق فى سنة خمسين وستماية، فسار فيمن معه من الجيوش إلى بلاد الاسماعيلية، ويسمون ببلاد العجم الملاحدة، فاستولى عليها وأباد أهلها قتلا وأسرا وسبيا ونهبا. ثم كان بينه وبين بركة من الحرب ما شرحناه فى أخبار بركة. وكانت الهزيمة على هولاكو وقتل كثير من أصحابه وغرق كثير منهم. وعاد هولاكو إلى العراق بمن بقى معه. وتمكنت العداوة بين هذين البيتين ونشأت الحرب بينهم من هذه السنة وهى سنة ثلاث وخمسين.

ذكر استيلائه على بغداد وقتله الخليفة المستعصم بالله

ذكر استيلائه على بغداد وقتله الخليفة المستعصم بالله وفى سنة ست وخمسين وستماية سار هولاكو بعساكر التتار إلى مدينة بغداد ونازلها. وكان قد أرسل إلى بيجو «1» يستدعيه من بلاد الروم، فكره بيجو اللحاق به. وما أمكنه مفاجأته بذلك؛ فاعتذر إليه أن جمعا كثيرا من القرى تليه والأكراد والياروقية قد تجمعوا فى الطرقات، ومقدمهم شرف الدين بن بلاش، وأنهم أخذوا عليه وعلى من معه المضيق، ولا سبيل لهم إلى الخروج من حدود ديار بكر. وقصد بيجو بذلك المدافعة. فجهز هولاكو تمانين من التوامين «2» التى معه، مقدم أحدهما قدغان ومقدم الآخر كتبغا «3» نوين لفتح الطريق. وفى أثناء ذلك أوقع. «4» بالأكراد والقراتلية وقعة عظيمة وجعل منهم أهل أرزنجان وتحصنوا بجبل يسمى أرن سور. فلما وصل التتار إلى أرزنجان تسلموها وحاصروا

كماج، وهزموا الأكراد وقتلوا منهم وسبوا، وأقام قدغان وكتبغا حتى وصل إليهما بيجو. وأخبرنى الأتمر البدرى رحمه الله وهو من ذرية بيجو كما زعم، وكان له معرفة بأخبارهم، أن منكوقان لما جهز بيجو لفتح الروم، أوصاه أنه لا يتعرض إلى بغداد، وأنه لما جهز هولاكو أوصاه أن لا يخالف بيجو وأنه لا يصل إلى بغداد، وكتب معه إلى بيجو بذلك. فغير هولاكو الكتب وجعل معناه أن بيجو لا يخالف أمر هولاكو، وكانت كراهية منكوقان لفتح بغداد أنهم رأوا فيما عندهم أنها إذا فتحت لا تطول مدة القان. ثم توجه بيجو ومن عنده إلى هولاكو ونزلوا بالجانب الغربى من بغداد، ونزل هولاكو بالجانب الشرقى منها. وحاصروها واشتد الحصار، فخرج إليهم عسكر الخليفة صحبة مجاهد الدين أيبك الدوادار الكبير «1» - وكان مقدما على عشرة آلاف فارس- فالتقن مع التتار وهزمهم. فولوا عامة ذلك النهار، وقتل كثيرا منهم إلى أن حجز بينهم الليل، واستبشر المسلمون بالنصر. فلما أصبحوا تراجع التتار إليهم، فانكسر الدوادار ومن معه. وكان أكثر أصحابه لما أيقنوا بالظفر دخلوا بغداد فى تلك الليلة، فلما انهزم مجاهد الدين

بمن بقى معه قصد التحصن ببغداد، فحال بينه وبينها- للقضاء المقدر- شق انبثق من دجلة، وساحت منه مياه عظيمة، فصار الماء أمامه والتتار وراءه، فأدركوه هو ومن معه، وأخذهم السيف، ومرق جماعة منهم. وقتل مجاهد الدين أيبك وولده أسد الدين- وكان مقدم خمسة آلاف فارس-، «وسليمان شاه ترجم «1» » . أمير علم الخليفة، وجماعة من الأمراء، وأسروا خلقا. وحملت رؤوس هؤلاء الثلاثة إلى الموصل، وحملت على باب المدينة ترهيبا لأهلها. ورمى أهل بغداد بالداهية الكبرى والمصيبة العظمى، وارتاع الخليفة وأغلقت أبواب المدينة، وأحاط بها التتار وضايقوها وفتحوها عنوة، ودخلوها فى العشرين من المحرم سنة ست وخمسين وستماية؛ ووضعوا السيف فيها سبعة أيام، لم يرفعوه عن شيخ كبير ولا طفل صغير. وجىء بالخليفة إلى هولاكو فأمر أن يجعل فى جولق ويداس بأرجل الخيل، ففعل به ذلك حتى مات، كما ذكرناه فى أخبار الدولة العباسية. ومن عادة التتار أنهم لا يسفكون دماء الملوك والأكابر غالبا. وسبى التتار من بالقصر، وأخذوا ذخائر الخلافة، واستدعى هولاكو الوزير ابن العلقمى، وكان قد كاتبه وحثه على قصد بغداد وأضعف جيوش الإسلام. فلما مثل بين يدى هولاكو سبه

ذكر استيلاء التتار على ميافارقين

ووبخه على عدم موافاته لمن هو غذى نعمته، وأمر بقتله فقتل. وقيل لم يقتله بل استبقاه. ثم عزم هولاكو على إحراق مدينة بغداد، فمنعه كتبغا نوين، وقال هذه أم الأقاليم ويتحصل منها الأموال العظيمة، والمصلحة إبقاؤها، فأبقاها ورتب فيها شحنة، ثم سار عنها بعد انقضاء الشتاء إلى الشام، وجرد إلى مياّفارقين، والله أعلم. ذكر استيلاء التتار على ميافارقين وفى سنة ست وخمسين أيضا أرسل هولاكو طائفة من عساكره إلى ميافارقين صحبة صرطق «1» نوين وقطغان نوين. وكان بها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المظفر غازى بن العادل أبى بكر ابن أيوب، فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق من كل ناحية، فقاتله أهلها، وامتنعوا وصبروا على شدة الحصار، وقلت الأقوات عندهم حتى أكلوا الكلاب والسنانير والميتة. ففتحها التتار بعد سنتين، بعد أن فنى الجند من كثرة القتال، وأسر من بقى، وأخذ الملك الكامل صاحبها وتسعة نفر من مماليكه، وأحضروا بين يدى هولاكو فقتلوا، إلا مملوكا واحدا يسمى قراسنقر سأله عن وظيفته، فذكر أنه أمير شكار «2» ، فأبقاه وسلم إليه طيوره. وجاء قراسنقر هذا بعد موت هولاكو إلى الديار المصرية فى الأيام

ذكر وفاة بيجو مقدم التتار

الظاهرية، فجعله السلطان من مقدمى الحلقة المنصورة. وكان استيلاء التتار على ميافارقين فى سنة ثمان وخمسين وستماية. ولما قتل الملك الكامل هذا حمل التتار رأسه على رمح وطيف به البلاد ومروا به على حلب وحماه ووصلوا به إلى دمشق فى سابع عشرين جمادى الأولى من السنة، وطافوا به فى دمشق بالمغانى والطبول، وعلق رأسه بباب الفراديس فلم يزل إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفراديس. ذكر وفاة بيجو مقدم التتار وفى سنة ست وخمسين أيضا نقم هولاكو على بيجو لما بلغه عنه من إضمار الخلاف وما قصده من التأخير عنه لما طلبه وأنه قصد الانفراد ببلاد الروم. فلما فرغ من فتح بغداد والعراق سقاه سما فمات. وقيل إنه كان قد أسلم قبل موته، ولما حضرته الوفاة أوصى بأن يغسل ويدفن على عادة المسلمين. وكان له من الأولاد أفاك «1» . وسوكناى. وأفاك هذا هو أبو سلامش «2» وقطقطو اللذين وفدا إلى الديار المصرية فى الأيام المنصورية. ولما فتح هولاكو العراق جاءه ملوك الأطراف، فكان ممن جاءه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بهدايا جليلة وتحف.

ولما قصد السفر من الموصل جاءه أهلها وقالوا: «إنا نخشى عليك من سطوة هذا الملك الجبار» فقال: «أرجو أن أتمكن منه وأعرك أذنيه» فلما جاءه وقدم ما معه أعجب هولاكو وأقبل عليه. فلما فرغ من تقدمته قال: «قد بقى معى شيئ خاص بالقان» وأخرج له حلقتى أذن من الذهب، فيهما درتان كبيرتان، فأعجباه فقال: «أشتهى القان يشرفنى بأن أجعلهما بيدى فى أذنيه ليعظم قدرى بذلك عند الملوك وأهل بلادى وأعلم رضاه عنى» فأصغى إليه بأذنيه فمسكهما ووضع الحلقتين فيهما، ونظر إلى من معه من أهل الموصل يعنى: «اننى قد قلت قولا وقد حققته» . وأرسل إليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب الشام ولده العزيز بهدايا وتحف اقتداء بصاحب الموصل، فقبل تقدمته وسأله عن تأخير أبيه، فاعتذر بأنه لا يمكنه مفارقة البلاد خوفا عليها من عدو الإسلام الفرنج، فقبل عذره وأعاده إلى أبيه. وجاءه عز الدين كيكاوس، وركن الدين قلج أرسلان ملك الروم فقسم البلاد بينهما على ما قرره منكوقان. وفى سنة سبع وخمسين وستماية وجه هولاكوا أرغون- وهو من أكابر المقدمين- فى جيش إلى كرجستان، فغزا تفليس وأعمالها، فأغار ونهب وعاد إليه وهو بالعراق. وفيها أيضا قدم هولاكو إلى شرقى الفرات ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزيرية، وذلك بعد وفاة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.

ذكر منازلة هولاكو مدينة حلب واستيلائه عليها وعلى بلاد الشام

وأرسل هولاكو أحد أولاده إلى حلب فوصل إليها فى العشر الآخر من ذى الحجة من السنة. وكان الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بحلب ينوب عن ابن أخيه الملك الناصر، فخرج بالعسكر الحلبى لقتال التتار، فأكمن التتار كمينا عند الباب المعروف بباب الله قريب من مدينة حلب من شمائلها، والتقوا واقتتلوا عند بانقوسا «1» ، فاندفع التتار بين يدى العسكر الحلبى وتبعهم العسكر حتى خرجوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فطلب المسلمون المدينة والتتار يقتلون فيهم. وهلك فى الأبواب جماعة من المنهزمين. ثم رحل التتار إلى اعزاز وتسلموها بالأمان، ثم تقدم هولاكو بجيوشه فبدأ بالبيرة فملكها، ووجد بها الملك السعيد ابن الملك العزيز أخا الملك الناصر معتقلا فأطلقه، وسأله عما كان بيده فقال: الصبيبة وبانياس، فكتب له بذلك فرمانا، ثم تقدم هولاكو إلى حلب. ذكر منازلة هولاكو مدينة حلب واستيلائه عليها وعلى بلاد الشام وفى سنة ثمان وخمسين وستماية عبر هولاكو الفرات بجموعه، ونازل حلب، وأرسل إلى الملك المعظم توران شاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف يقول: «إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر، فاجعلوا عندكم شحنة وبالقلعة شحنة

ونتوجه نحن إلى العسكر فإن كانت الكسرة عليهم كانت البلاد لنا وتكونون «1» قد حقنتم دماء المسلمين. وان كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين فى الشحنتين إن شئتم القتل أو الإطلاق فقال له الملك المعظم: «ليس له عندى إلا السيف» . وكان الرسول إليه من جهة هولاكو صاحب أرذن الروم، فعجب من جوابه، وتألم لما علم من ضعف المسلمين عن ملاقاة التتار وأحاط التتار بحلب فى ثانى صفر وهجموا على البواشير فى الثالث من الشهر؛ فقتل من المسلمين جماعة، منهم أسد الدين ابن الملك الزاهر صلاح الدين. واشتدت مضايقة التتار لحلب، وهجموه من عند حمام حمدان وذلك فى يوم الأحد تاسع صفر، وصعد إلى القلعة خلق كثير. وبذل التتار السيف والنهب فى أهل حلب إلى يوم الجمعة رابع عشر الشهر، فأمر هولاكو برفع السيف، ونودى بالأمان، فقتل منها فى هذه المدة ما لا يحصى كثرة، وكان قد تجمع بها من أهل القرى خلق كثير. وسبى من النساء والذرارى زهاء مائة ألف، بيعوا فى جزائر الفرنج وبلاد الأرمن، ولم يسلم ممن كان بحلب إلا من التجأ إلى أماكن كان مع أهلها فرمانات من هولاكو منها: دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخى مزدكين، ودار البازيار، ودار علم الدين قيصر الموصّلى، والخانقاه التى فيها زين الدين الصوفى، وكنيسة اليهود. فقيل إن الذين سلموا فى هذه الأماكن يزيدون على خمسين ألف إنسان.

واستمر الحصار على القلعة والمضايقة لها نحو شهر، فوثب جماعة ممن بالقلعة على صفى الدين بن طرزة رئيس حلب وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز ابن القاضى نجم الدين بن أبى عصرون فقتلوهما لأنهم توهموا أنهما باطنا التتار. ثم سأل من بالقلعة الأمان، فأمنوا، وتسلمها التتار فى يوم الإثنين حادى عشر ربيع الأول من السنة. وأمر هولاكو من كان بالقلعة أن يعود كل منهم إلى داره وملكه وأن لا يعارض. ونزل العوام والغرباء إلى الأماكن التى أحميت بالفرمانات. وكان بقلعة حلب فى الاعتقال جماعة من البحرية الصالحية الذين حبسهم الملك الناصر، منهم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وسكز، وترامق، وغيرهم؛ فأخذهم وأضافهم إلى مقدم يسمى سلطان جق من أكابر القفجاق. وكان سلطان جق هذا قد هرب من التتار لما استولوا على بلاد القفجاق وقدم إلى حلب، فأكرمه الملك الناصر وأحسن إليه وأقام عنده، فلم توافقه البلاد فالتحق بهولاكو فأكرمه؛ هذا ما كان من أمر حلب. وأما حماه فان صاحبها الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب كان قد فارقها وتوجه إلى دمشق، وترك بها الطواشى مرشد. فلما بلغه أخذ حلب فارق حماه، وتوجه إلى الملك المنصور بدمشق، فتوجه أكابر حماه بمفاتيحها إلى هولاكو. وسألوه الأمان لأهل البلد، وطلبوا منه شحنة يكون عندهم؛ فامنهم وأرسل معهم شحنة من العجم اسمه خسروشاه، كان يدعى أنه من ولد خالد بن الوليد، فقدم حماه وأقام بها وآمن أهلها. وكان

ذكر استيلاء التتار على دمشق

بقلعة حماه مجاهد الدين قايماز أمير جاندار فسلم القلعة إليه. ودخل فى طاعة التتار. ووصل إلى هولاكو وهو على حلب جماعة منهم الملك الأشرف موسى بن إبراهيم بن شيركوه وهو صاحب حمص، فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص. وكان الملك الناصر قد أخذها منه فى سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر، فأعادها هولاكو عليه الآن. ووصل إليه أيضا من دمشق القاضى محيى الدين بن الزكى فأقبل عليه هولاكو وخلع عليه وولاه قضاء الشام. ولما عاد ابن الزكى إلى دمشق لبس خلعة هولاكو، فكانت مذهبة، وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو. ثم رحل هولاكو إلى حارم بعد أن ولى على حلب عماد الدين القزوينى. فلما وصل إليها طلب تسليمها، فامتنع من بها أن يسلموها إلا إلى فخر الدين متولى قلعة حلب. فأحضره هولاكو فتسلمها، فغضب هولاكو وأمر بقتل من بها فقتلوا عن آخرهم وسبى النساء. ذكر استيلاء التتار على دمشق قال: وجرد هولاكو إلى دمشق مقدما يسمى السبان وصحبته علاء الدين الكازى وزين الدين الحافظى وزير الملك الناصر بحلب؛ وكان قد خدم هولاكو. وكان الملك الناصر قد فارق دمشق فى منتصف صفر فوصل التتار إلى دمشق، وملكوا المدينة بالأمان، ولم يتعرضوا إلى قتل ولا إلى نهب. وعصيت القلعة عليهم فحاصرها

التتار، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة ونصبوا عليها المجانيق ثم تسلموها بالأمان فى منتصف جمادى الأولى من السنة. ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها فتسلموها وخربوا قلعتها. وجرد هولاكو إلى الشام كتبغا نوين فى اثنى عشر ألف فارس وأمره أن يقيم بالشام، فوصل إلى دمشق وهو الذى حاصر قلعتها وفتحها وقتل واليها بدر الدين بن [قرمجاه] «1» ونقيبها. ونزل كتبغا بالمرج، وحضر إليه رسل الفرنج بالساحل، وأحضروا معهم التقادم، وحضر إليه أيضا الملك الظاهر أخو الملك الناصر، وكان بصرخد فأقره على حاله. ثم توجه كتبغا إلى عجلون فامتنعت عليه قلعتها، فحاصرها وأحضر إليه الملك الناصر وهو فى حصار عجلون، فأمر من بالقلعة أن يسلموها إلى التتار فسلموها. وجهز كتبغا الملك الناصر إلى هولاكو فوصل إليه وهو بحلب فسأله عن عساكر الديار المصرية، فقال: «عساكر ضعيفة، وهم نفر قليل» وصغرهم عنده. وقال: «يكفيهم القليل من الجيش» . فاقتصر هولاكو عند ذلك على كتبغا نوين ومن معه ولم يردفه بغيره. وعاد هولاكو من حلب إلى بلاد قراقروم لطلب القانية لنفسه، فوجدها قد استقرت لأخيه قبلاى، كما قدمنا ذكر ذلك. ولما فارق

حلب أمر عماد الدين القزوينى فى المسير إلى بغداد، ورتب مكانه رجلا أعجميا. وأمر هولاكو أن يخرب أسوار قلعة حلب، وأسوار المدينة، فخربت عن آخرها. وأمر الملك الأشرف موسى صاحب حمص أن يتوجه إلى حماه ويخرب أسوارها وأسوار قلعتها، فوصل إلى حماه ونزل بدار المبارز وشرع فى تخريب سور القلعة، فخربت أسوارها وأحرقت زردخاناتها، وبيعت الكتب التى بدار السلطنة بأبخس الأثمان، وسلمت أسوار المدينة، لأن حماه كان بها رجل يقال له إبراهيم بن الفرنجية كان ضامن الجهة المفردة، فبذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال وقال: إن الفرنج بالقرب منا، فى حصن الأكراد، ومتى ضربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام بها. فأخذ منه المال وأبقى أسوار المدينة. ولم يزل خسروشاه بمدينة حماه إلى أن انهزم التتار على عين جالوت ففارقها وعاد إلى هولاكو. وأما كتبغا نوين فإنه أرسل إلى الملك المظفر قطز صاحب الديار المصرية يطالبه ببذل الطاعة أو تعبية الضيافة، فقتل (قطز) رسله إلا صبيا واحدا فإنه استبقاه وأضافه إلى مماليكه. وتجهز وسار إلى لقاء التتار، فتجهر كتبغا لقتاله والتقوا بعين جالوت، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم التتار وأخذهم السيف والأسار، وقتل كتبغا نوين، وفر من بقى من أصحابه إلى هولاكو. ولما استقرت القانية لقبلاى، استقر لهولاكو ما نذكره.

ذكر الأقاليم التى استقرت فى ملك هولاكو بعد وفاة منكوقان

ذكر الأقاليم التى استقرت فى ملك هولاكو بعد وفاة منكوقان منها: إقليم خراسان: وكرسيه نيسابور ومن مدنه المشهورة طوس وهراة وترمذ ولحج ومرو. ويضاف إليه همذان ونسا وكنجة ونهاوند. عراق العجم: وكرسيه أصفهان. ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وسجستان وطبرستان وكيلان وبلاد الاسماعيلية وغيرها. عراق العرب: وكرسيه بغداد ومن مدنه واسط والكوفة والبصرة والدينور وغير ذلك. أذربيجان: وكرسيها تبريز وهى توريز؛ ومن مدنها الأهواز وغيرها. بلاد فارس: ومدينتها شيراز؛ ومن أعمالها كنشن وكرمان وكازرون والبحرين. ديار بكر: وكرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار وأسغرد «1» ورأس العين ودنيسر وحران والرها وجزيرة ابن عمر وخرتبرت وملطية وسمياط وغيرها. بلاد الروم: وكرسيها قونية وتشتمل البلاد الرومية على عده أعمال منها: أرمينية الكبرى، ومن ملكها سمى شاه أرمن. ومن مدنها خلاط وأعمالها وان وسطان وأرجيس وما معها.

ذكر مهلك هولاكو ونبذة من أخباره

أرزن الروم وأعمالها؛ ومن مدنها شهر وبانوب وقجمار وتسمى دار الجلال. مدينة ألتى «1» وأعمالها، وهى متصلة ببلاد الكرج وتخومها وهى ذات قلعة حصينة. أرزنجان وأعمالها، ومن مدنها أقشهر ودرخان وكماج وقلعة كغونية وما مع ذلك. سيواس وبلاد دانشمند وتسمى دار العلاء، ومن مدنها أماسية وتوقات وقمنات وبلاد كنكر وبلاد انكورية ومدينة سامسون وكستمونية وطرخلوا وبرلوا وهذه متصلة بسواحل البحر المحيط، وطنغزلوا وأعمالها وقرا حصار ودمرلوا وأقصرا وأنطاليا والعلايا. ذكر مهلك هولاكو ونبذة من أخباره كانت وفاته فى تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستماية بالقرب من كورة مراغة. وقيل إنه حمل إلى قلعة تلا «2» ودفن بها. وكانت مدة ملكه منذ فتح بغداد سبع سنين وشهورا ومنذ وفاة أخيه منكوقان واستقلاله بالملك خمس سنين.

وكان لهولاكو أحكام غريبة منها ما حكى عنه أن قوما أتوه واستغاثوا أن بعض صناع المبارد قتل قرابة لهم، وسألوه أن يمكنهم منه ليقتلوه بصاحبهم فسأل عن صناع المبارد وكم عدتهم، فذكر له عدة يسيرة فأطرق ساعة ورفع رأسه إلى أولياء المقتول، وأمرهم أن يقتلوا بصاحبهم بعض صناع البرادع والرحال، فقالوا: إن الذى قتل صاحبنا. مباردى ولا يقتل به غيره. فسأله بعض خواصه عن ذلك فقال: إن صناع المبارد عندنا قليل ومتى قتلناه احتجنا إليه، ولا يقوم غيره مقامه، وصناع البرادع والرحال كثير، ومن قتلناه منهم استغنينا عنه. فلما امتنع أولياء المقتول من ذلك أطلق لهم بقرة وقال: خذوا هذه بدلا من صاحبكم. ومنها أن بعض الصناع الزراكشة تخاصم مع رجل فضربه ضربة أصابت إحدى عينيه فزالت، فجاء إلى هولاكو واستغاث على الزركشى أنه قلع عينه، فأمره أن يقلع عين أحد صناع النشاب. فقيل له عن ذلك فقال: إن الزركشى يحتاج إلى عينيه ومتى قلعت إحداهما تضرر، والنشابى لا يحتاج إلا إلى عين واحدة فإنه إذا قوم السهم غلق إحدى عينيه ونظر بالأخرى، وما أشبه هذه الأحكام. ولهولاكو وقائع من هذا الجنس أضربنا عن ذكرها. وكان له من الأولاد الذكور خمسة عشر وهم جمغار «1» وهو

ذكر ملك أبغا بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان

أكبرهم سنا، وأباقا وهو أبغا وهو الذى ملك بعده. ويصمت «1» ، وتشتشين «2» وبكشى «3» . وتكدار «4» - وهو أحمد وملك بعد أبغا-. وأجاى. وألاجو «5» وسبوجى «6» . ويشودار «7» . ومنكوتمر. وقنغرطاى «8» . وطرغاى و «طغاى تمر» وهو أصغرهم ولما مات هولاكو ملك بعده أبغا. ذكر ملك أبغا بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان وهو الثانى من ملوك هذا البيت جلس على كرسى المملكة بعد وفاة أبيه هولاكو فى تاسع عشر شهر ربيع الاخر سنة ثلاث وستين وستماية. فأول ما بدأ به أن جهز جيشا لحرب عساكر بركة ملك

البلاد الشمالية، فتوجه العسكر والتقى مع عساكر بركة، فكانت الهزيمة على أصحاب أبغا كما شرحنا ذلك فى أخبار بركة، وهى الوقعة الثانية بين عسكريهما. وفى سنة اثنتين وسبعين وستماية وقع بين أبغا وبين ابن عمه تكدار «1» بن موجى بن جغطاى بن جنكزخان. وكان تكدار مقدما على ثلاثين ألفا، وهو مقيم ببلاد كرجستان، فكاتب قيدو وقصد الاتفاق معه على أبغا، فوقعت الكتب فى يد أبغا فطلب عساكره المتفرقة من الروم وغيرها وقصد تكدار، فانهزم والتجأ إلى بلاد الكرج بمن معه، فمنعه صاحبها الملك كركيس من دخولها، فأوى إلى جبل من جبالها هو ومن معه، فأكلت خيولهم من عشبه وكان فيه حشيشة مضرة بالدواب، فنفقت خيولهم، فطلبوا الأمان من أبغا فأمنهم فنزلوا إليه، ففرّق أصحاب تكدار فى جيوشه، ورسم لتكدار أن لا يركب فرسا قارحا ولا جزعا «2» إلا مهرا صغيرا، وأن لا يمس بيده قوسا. فبقى كذلك حتى مات، حتى أن ولدا له صغيرا أحضر إليه قوسه ليوتره له، فامتنع وقال: ما أقدر أمس القوس بيدى لأجل مرسوم أبغا. وفى سنة خمس وسبعين وستمائة وقع المصاف الكائن بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس وبين المغل أصحاب أبغا،

ومعهم العسكر الرومى بالبلستين «1» من بلاد الروم. فكانت الهزيمة على المغل وعساكر الروم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار دولة الترك فى أيام الملك الظاهر. وقتل وأسر من المغل فى هذا لمصاف خلق كثير، وقيل أيضا وأسر من عسكر الروم. فلما اتصلت هذه الوقعة بأبغا جاء إلى موضع المضاف وشاهد القتلى، فاستعظم قتل المغل وأسرهم؛ وجاءه أيبك الشيخ أحد أمراء الملك الظاهر- وكان قد هرب- فأطلعه على أن البرواناه- وهو المتحكم فى الروم نيابة عن الملوك السلجقية- كاتب المك الظاهر، وحثه الى قصد الروم، فنقم أبغا على البرواناه وأكد ذلك عنده أنه وجد القتلى من المغل وليس من الروم إلا القليل، فأمر عند ذلك بنهب بلاد الروم، وقتل من بها من المسلمين، فتفرقت عساكره تقتل وتنهب المسلمين خاصة سبعة أيام، ووكل أبغا بالبرواناه من يحفظه من حيث لم يشعر بذلك. ثم سار إلى أرزنكان «2» اشتراها؛ واعتد ثمنها من الإتاوة التى على بلاد الروم، وأخذ فى استرجاع قلاع الروم. فلما وصل إلى قلعة بابرت «3» ، خرج إليه شيخ منها، وقال له: «أريد أمان القان لأتكلم بين يديه» . فقال: «قل ولك الأمان» . فقال: «إن

ذكر قتل سليمان البرواناه

عدوك حضر إلى بلادك ولم يتعرض إلى رعيتك، ولا أسأل لهم محجمة دم، وأنت قصدت العدو وجئت فى طلبه، فلما فاتك قتلت رعيتك ونهبت بلادهم وخربتها. فمن هو من الخانات الذين تقدموك من أسلافك فعل مثل هذا الفعل وسن هذه السنة؟» فأنكر أبغا عند ذلك على الأمراء الذين أشاروا عليه بذلك وأمر بإطلاق الأسرى المسلمين، فأطلقوا، وكانوا أربعمائة ألف أسير، وعاد إلى الأردو. ذكر قتل سليمان البرواناه «1» قال: ولما وصل أبغا إلى الأردو استشار فى أمر البرواناه، فطائفة أشارت بقتله، وطائفة أشارت بإبقائه، فهم بإعادته إلى الروم. فتجمع نساء من قتل من المغل ونحن وبكين، فسمعهن أبغا وسأل عن شأنهن، فقيل إنهن بلغهن أن القان يريد إطلاق البرواناه، فهن يبكين على أهلهن وأزواجهن. فعند ذلك أمر أبغا كوكجى بهادر- وهو من أمرائه- أن يأخذ البرواناه ويتوجه به إلى موضع عينه له فيقتله. فاستدعى البرواناه وقال: إن أبغا يريد أن يركب، ورسم أن تركب أنت وأصحابك معه، فركب فى اثنين وثلاثين نفرا من

مماليكه وألزامه، وتوجه مع كوكجى، فأخذ به نحو البر ومعه مائتا «1» فارس. فلما انتهوا إلى المكان المعين أحاط به فسأل المهلة أن يصلى ركعتين، فأمهله. فلما قضى صلاته قتله وقتل من معه. ولما بلغ من بقى من مماليك البرواناه قتل صاحبهم تجمعوا وفيهم سنجر البروانى، وبكتوت أمير أخور، وأوتروا قسيّهم ونكثوا نشابهم، وقالوا: نموت كراما. فطولع أبغا بخبرهم فشكرهم على ذلك وأعادهم إلى الروم. وكان مقتل البرواناه فى آخر صفر سنة ست وسبعين وستمائة. وفى سنة ثمانين وستماية فى رابع عشر شهر رجب انهزم التتار أصحاب أبغا الذين حضروا مع جهته إلى الشام والتقوا مع السلطان الملك المنصور قلاوون، وكانوا صحبة منكوتمر بن هولاكو. وكان أبغا قد نازل الرحبة ثم جرد هؤلاء وعاد إلى الأردو، ووصل منكوتمر بمن معه إلى حمص، والتقوا هم والعساكر الإسلامية. فاستظهر التتار فى مبادئ الوقعة فانهزمت ميسرة الملك المنصور، وما شك التتار فى الظفر، ونزلوا وأكلوا الطعام. ثم كانت الدائرة عليهم فانهزموا أقبح هزيمة على ما نبينه فى أخبار السلطان الملك المنصور. وأما منكوتمر ابن هولاكو فإن الهزيمة استمرت به إلى جزيرة ابن عمر، فلما وصل إليها مات. وقيل إن علاء الدين الجوينى صاحب الديوان كان قد عزم على اغتياله واغتيال أبغا ونقل الملك عنه، فكتب إلى مؤمن أغا- شحنة الجزيرة- يأمره أن يتحيل على منكوتمر ويقتله، فسقاه

ذكر وفاة أبغا بن هولاكو

مؤمن سما فمات. ولما مات هرب مؤمن الشحنة من الجزيرة، وعلم أصحاب منكوتمر بأمره فطلبوه فلم يدركوه، فقتلوا نساءه وأولاده. وتوجه مؤمن إلى الديار المصرية ومعه ولداه فأعطوا بها أقطاعا، وحمل منكوتمر إلى قلعة تلا فدفن بها. وفى سنة ثمانين وستماية أيضا كانت وفاة علاء الدين الجوينى «1» صاحب الديوان. وكان قد تمكن فى دولة التتار تمكنا عظيما بسبب أخيه الصاحب شمس الدين، فإنه كان المشار إليه. ثم نقم عليه أبغا لما توهم أنه واطأ المسلمين، واستصفى أمواله. ثم مات بعراق العجم وولى بعده ولد أخيه هارون بن الصاحب شمس الدين. ذكر وفاة أبغا بن هولاكو كانت وفاته فى أوائل المحرم سنة إحدى وثمانين وستمائة. وكان سبب موته أن الصاحب شمس الدين محمد الجوينى صاحب الديوان كان إليه التصرف فى الأموال، وكانت تحمل إليه من سائر بلاد التتار، وتصرف بقلمه، فخاف غائلة أبغا، فتحيّل فى قتله، ودس إليه من سقاه سما، فمات. وقيل إنه منذ انكسرت جيوشه على حمص أخذ حاله فى النقص، ثم أتاه الخبر أن الخزائن التى جمعها هولاكو- وكانت ببرج بقلعة فى وسط البحر- فسقط

ذكر ملك توكدار بن هولاكو وهو المسمى أحمد سلطان، وهو الثالث من ملوك هذا البيت

البرج بجميع ما فيه من الأموال والذخائر والجواهر فى البحر. ثم دخل الحمام وخرج فسمع أصوات الغربان، فقال لمن حوله: إننى أسمع هذه الغربان تقول: «أبغا مات» ، وركب فعوت كلاب الصيد فى وجهه، فتشاءم بذلك. ولم يلبث أن مات فى التاريخ، وقيل فى نصف ذى الحجة سنة ثمانين وستمائة. «1» وخلف من الأولاد أرغون، وكيختو «2» . ومات أخوه أجاى بعده بيومين. ذكر ملك توكدار بن هولاكو وهو المسمى أحمد سلطان، وهو الثالث من ملوك هذا البيت كان جلوسه على كرسى المملكة بعد وفاة أخيه أبغا فى المحرم سنة إحدى وثمانين وستمائة. وذلك أن أبغا لما مات كان ولده الأكبر أرغون بخراسان. وكان كيختو عنده بالأردو فاجتمع الأمراء ليقع اتفاقهم على من يجلس مكان أبغا. وكان بعض المغل يختار توكدار «3» لأنه كان قد استمالهم إليه، فاجتمع رأيهم عليه. فجلس على كرسى المملكة، وأرسل أخاه قنغرطاى يقول لأرغون ابن أخيه أبغا: «إن الشرط فى الياسا أنه إذا مات ملك لا يجلس عوضه إلا الأكبر

من أهل بيته، وهذا عمك أحمد هو الأكبر، وقد أجلسناه، ومن خالف يموت» فأطاعوه. ولما جلس كان أول ما بدأ به أنه أظهر دين الإسلام وأشاعه، وكتب إلى بغداد كتابا، نسخته بعد البسملة: «إنا جلسنا على كرسى الملك، ونحن مسلمون، فتبلغون أهل بغداد هذه البشرى، ويعتمدون فى المدارس والوقوف وجميع وجوه البر ما كان يعتمد فى أيام الخلفاء العباسيين، ويرجع كل ذى حق إلى حقه فى أوقاف المساجد والمدارس، ولا يخرجون عن القواعد الإسلامية. وأنتم يا أهل بغداد مسلمون، وسمعنا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال هذه العصابة الإسلامية مستظهرة ظافرة إلى يوم القيامة. وقد عرفنا أن هذا خبر صحيح ورسول صحيح. رب واحد. أحد. فرد. صمد. فتطيبون قلوبكم وتكتبون إلى جميع البلاد» . وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يعلمه بإسلامه. واستولى على السلطان أحمد وعلى دولته الشيخ عبد الرحمن، وأصله من الموصل، وكان مملوكا؛ ويقال له عبد الرحمن النجار، وأظهر للمغل المخاريق والخيل، وأخذ فى إفساد ما بين السلطان أحمد وبين أهله، وقصد بذلك الاستبداد، وعظم أمره، وتحدث فى سائر الأوقاف، ومال إليه أبناء المغل. وانتهى من أمره أن أحمد سلطان كان يقف فى خدمته، ويقتدى بما يقول، وركب بالخبز والسلاح داربة. وحضر عبد الرحمن هذا فى رسلية إلى السلطان الملك المنصور (قلاوون) . فقتل أحمد فى غيبته، فأقام هو بالشام. ومات به، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الملك المنصور.

ذكر ما اتفق بين توكدار وبين أرغون ابن أخيه أبغا

ذكر ما اتفق بين توكدار وبين أرغون ابن أخيه أبغا وفى سنة اثنتين وثمانين وستماية سار أرغون بن أبغا من خراسان لقتال عمه توكدار، فجرد إليه عمه جيوشا صحبة الناق نائبه، فكبسهم أرغون وهم على غير استعداد، فقتل منهم جماعة. فركب أحمد سلطان فى أربعين ألف فارس وسار لقصد أرغون، وأسره من غير حرب، وعاد إلى تبريز. فجاءت زوجة أرغون وخواتين كثيرة من النساء اللواتى لهن الدخول على أحمد، وسألته العفو عن أرغون وإطلاق سبيله والاقتصار به على خراسان. فلما أجاب إلى ذلك- وكان أحمد قد أمسك من أكابر أمراء المغل اثنى عشر أميرا وقيدهم وأهانهم- فتغيرت خواطر الأمراء عليه وعزموا على قتله. ذكر مقتل توكدار بن هولاكو كان مقتله فى سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وذلك أنه لما أسر أرغون ابن أخيه أبغا، وكل به من يحفظه. واتفق تشويش خواطر المغل عليه من أسباب: منها إساءته إلى أكابرهم؛ ومنها ما ألزمهم به من الدخول فى دين الإسلام طوعا أو كرها؛ ومنها وثوبه على أخيه قنغرطاى «1» وإحضاره من الروم وقتله؛ وغير ذلك مما نقل عنه فى ميله إلى أبناء المغل والخلوة بهم، وهو أمر لم يألفوه قبله. فأجمعوا على قتله،

ذكر ملك أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذا البيت

وإقامة أرغون. وكان من جملة الأمراء ثلاثة وهم بغا «1» وأروق- وهما أخوان- وقرمشى بن هندغون «2» ، فتوجهوا إلى ججكب «3» وشكوا إليه ما يلقون من أحمد، وعرفوه ما عزموا عليه، فوافقهم ججكب، واتفقوا جميعا. وجاءوا إلى المكان الذى فيه أرغون تحت التوكيل، فأطلقوه وكبسوا الناق «4» نائب أحمد فقتلوه؛ وقصدوا الأردو، فأحسّ بهم أحمد فركب فرسا وانهزم فأدركوه وقتلوه وأقاموا أرغون. ذكر ملك أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذا البيت كان جلوسه على كرسى المملكة فى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين «5» وذلك أن الأمراء لما أطلقوه من توكيل عمه توكدار وفرّ توكدار، أجلسوه على كرسى السلطنة. وساق المغل خلفه وكان قد هرب هو وصاحب الديوان شمس الدين، فأدركوا توكدار وقبضوا عليه، وأحضروه إلى أرغون فقتل بين يديه. وأما شمس الدين صاحب الديوان، فإن أرغون اتهمه أنه دبر على [ابيه] «6» أبغا

وعمه منكوتمر حتى ماتا، وأخرج الملك منه إلى عمه أحمد، فطلبه ففر منه ولجأ إلى بعض القلّاع، فأخذ وجى به إليه، فقتله صبرا، وأرسل كل قطعة منه إلى مكان من بلاده، واستناب أرغون (الأمير) أبغا- أحد الأمراء الثلاثة الذين اتفقوا على إقامته- ثم أوقع به بعد مدة يسيرة وبالأميرين الآخرين، واستناب طاجار «1» ، ودس على ججكب جوشكاب من سقاه سما فمات. وقتل غياث الدين كيخسرو صاحب الروم لتوهمه أنه واطأ «2» عمه أحمد على قتل عمه قنغرطاى، وكان قنغرطاى قد أقام ببلاد الروم من أيام أبغا، وقرر أرغون أن بيدو يحكم على إقليم بغداد، وأولاجو يحكم على إقليم الروم، وترك ولديه غازن وخربندا بخراسان، ووكل أمرهما إلى نيروز «3» ، وجعله أتابكهما، واستوزر سعد الدولة اليهودى، وأصله من أبهر من كور عراق العجم. وكان (سعد الدولة) فى أول أمره يشتغل بالطب، فتميز وانتقل إلى أن ترشح للوزارة. وأحسن أرغون إلى والدة عمه أحمد وهى [قوتوى خاتون] » ، وأبقى عليها بلادها التى كانت لها فى زمن ابنها وهى طوبان، وميّافارقين. ودامت أيامه إلى سنة [تسعين] «5» وستمائة فمات

ذكر ملك كيخاتو بن أبغا بن هولاكو وهو الخامس من ملوك هذا البيت

حتف أنفه فى شهر ربيع الأول منها على شاطئ نهر الكر «1» من بلاد أران. وقيل إنه مات مغتالا بسم. وقيل إنّه كان يدين بدين البخشيّة وهى الطائفة المشهورة بعبادة الأصنام. وكان يجلس فى السنة أربعين يوما فى خلوة، ويتجنب أكل لحوم الحيوان. فوفد عليه رجل من الهند يزعم أنه يعلم علم الأديان والأبدان، وأوحى إليه أنه يتخذ له معجونا، من داوم مناولته طالت حياته، وركب له. فتناول منه فأوجب له انحرافا وصرعا، فمات وملك بعده أخوه كيخاتو. ذكر ملك كيخاتو «2» بن أبغا بن هولاكو وهو الخامس من ملوك هذا البيت جلس على كرسى المملكة بعد وفاة أخيه أرغون فى شهر ربيع الأول سنة تسعين وستمائة. وذلك أن أرغون لما مات كان له من الأولاد غازان وخربندا؛ وكانا بخراسان، فاجتمع الأمراء وأرباب الرأى على إقامة كيخاتو فأقاموه فى المملكة. فلما استقر حكمه ونفذ أمره أساء السيرة، وخرج عن الياسا المقررة. وأفحش فى الفسق، وتعرض إلى نسوان المغل وأولادهم الذكور. وتمادى على ذلك فاجتمعوا وشكوا ذلك إلى بيدو «3» ابن

ذكر ملك بيدو بن طرغاى بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وهو السادس من ملوك هذا البيت

عمه، فوثب به [بيدو بن طرغاى] «1» وبشتاى وصنجك، فعلم بهم فهرب من الأردو إلى نحو كرخستان «2» ، فقتل بمقام سلاسوار «3» من أعمال موغان، فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة «4» . ذكر ملك بيدو بن طرغاى بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وهو السادس من ملوك هذا البيت جلس على كرسى المملكة فى جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستماية بعد مقتل كيخاتو. ولما ملك كان غازان بن أرغون بخراسان وصحبته أتابكه نيروز، فحسن له قصد بيدو وانتزاع المملكة منه. فجمعا وحشدا وحضرا من خراسان، وسار بيدو بعساكره إليهما. فلما تراءى الجمعان تبين لغازان أن جمعه لا يقوم بمن مع بيدو، فراسله واتفقا على الصلح وعاد غازان إلى خراسان. وأقام نيروز عند بيدو، فإنه منعه من الرجوع مع غازان لئلا يتفقا على حربه مرة ثانية. فأعمل نيروز الفكرة واغتنم الفرصة فى مدة إقامته عند بيدو.

واستمال جماعة من الأمراء لغازان واستوثق منهم أنه متى دنا منهم انحازوا إليه وفارقوا بيدو. فلما استوثق منهم أعلم غازان بأمرهم فتجهز للمسير من خراسان وبلغ بيدو خبره فأوجس منه خيفة، وذكر ذلك لنيروز، فقال: «أنا أكفيك أمره وأدفعه عن قصدك، ومتى توجهت إليه ثنيت عزمه، وأرسلته إليك مربوطا.» فاستحلفه بيدو أنه لا يخون ثم جهزه. فسار إلى غازان وأخبره بما اتفق عليه الأمراء وتعاضدا وخرجا معا لقصد بيدو، وأرسل إليه نيروز قدرا مربوطا فى عدل، وقال: «قد وفيت بما قلت لك وأرسلت قازان إليك» ومعنى قازان فى لغتهم القدر، فغضب بيدو لهذه الرسالة وتحقق أنه خدعه ومكر به، وسار بيدو للقائهما. فلما التقى الجمعان بنواحى همذان، انحاز الأمراء الذين وافقوا نيروز إلى جهة غازان، فقوى بهم وضعف بيدو وهرب، فأدركوه بنواحى همذان، وقتلوه فى ذى الحجة «1» من السنة، فكانت مدة ملكه نحو سبعة أشهر.

ذكر ملك غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان وهو السابع من ملوك هذا البيت

ذكر ملك غازان «1» بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان وهو السابع من ملوك هذا البيت جلس على كرسى المملكة بعد مقتل بيدو ابن عم أبيه فى ذى الحجة سنة أربع وتسعين وستماية. وترك أخاه خربندا بخراسان واستقر نيروز أتابك العسكر ومدبر المملكة. وفى سنة خمس وتسعين وستمائة فارقت الطائفة الأويراتية «2» بلاد التتار، وحضروا إلى الديار المصرية والشام، والتجأوا إلى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وكانوا زهاء ثمانية عشر ألف بيتا ومقدمهم طرغاى، وسنذكر أخبارهم فى دولة الترك فى الأيام العادلية، وكان سبب هربهم أن مقدمهم طرغاى كان ممن وافق بيدو على قتل كيخاتو، فلما صار الملك إلى غازان خافه طرغاى على نفسه، فهرب هو ومن انضاف إليه. وفى سنة سبع وتسعين وستماية حضر إلى غازان جماعة من

النواب بالممالك الإسلامية والأمراء، وهم: الأمير سيف الدين قفجاق. «1» نائب الشام، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار المعروف بالسلاحدار، والأمير فارس الدين البكى الساقى نائب المملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين عزاز الصالحى، والتحقوا به للسبب الذى نذكره إن شاء الله فى أخبار الملك المنصور لاجين المنصورى وفيها قتل غازان أتابكه نيروز «2» وسبب ذلك أن نيروز أحس بما أضمر له غازان من قتله، فكاتب الملك المنصور لاجين، والتمس منه أن يجرد عسكرا ليساعده على الحضور إلى أبوابه، فوقعت الأجوبة فى يد غازان، فأحضره وقتله. وقتل أخويه فيما بعد، وقتل الذى وصل إليه بالأجوبة من الديار المصرية. ورتب قطلوشا «3» فى نيابته عوضا عن نيروز. وفيها أيضا فارق سلامش بن أفاك بن بيجو وأخوه قطقطو بلاد التتار إلى الديار المصرية وكان سلامش معدما على التمان ببلاد الروم. فلما وصل إلى الديار المصرية خيره الملك المنصور لاجين فى المقام بمصر أو الشام، فسأله أن يجرد معه عسكرا ليخلص أهله من الروم، فجرد معه طائفة من العسكر بحلب. فلما قاربوا بلاد الروم ظفر بهم التتار وأخذوا عليهم المضايق ففر سلامش، والتجا إلى قلعة من قلاع الروم، ثم أحضر إلى غازان فقتله، واستقر قطقطو بمصر.

ذكر مسير غازان إلى الشام ووقعة مجمع المروج واستيلائه على البلاد الشامية وعوده عنها

ذكر مسير غازان الى الشام ووقعة مجمع المروج واستيلائه على البلاد الشامية وعوده عنها وفى سنة تسع وتسعين وستمائة توجه غازان بعساكره وجموعه ومن انضم إليه من الكرج والأرمن وصحبته الأمراء والنواب الذين التحقوا به من الديار المصرية والشام، وسار بهم حتى قطع الفرات وانتهى إلى حلب، وتقدم إلى مجمع المروج بالقرب من حمص. وجاء السلطان الملك الناصر «1» بعساكره والتقوا فى يوم الأربعاء ثامن وعشرين «2» شهر ربيع الأول من هذه السنة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميمنة التتار هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، فاعتزل غازان فى نحو ثلاثين فارسا واعتد للهزيمة. ثم ركب من التتار من لم يشهد الوقعة، وحملوا على ميسرة الملك الناصر، فانهزمت وكانت الكسرة. وعاد الملك الناصر إلى الديار المصرية. وكانت القتلى من جيش غازان أضعاف من قتل من العساكر الإسلامية، والنصر لهم. ولما عاين غازان من قتل من عساكره ورأى الهزيمة ظنها مكيدة

فتوقف عن اتباع من انهزم. ثم سار إلى حمص وبها الخزائن السلطانية فسلمها إليه والى حمص من غير ممانعة، وأخرج إليه مفاتيح البلد فتسلمها، وأمن أهلها. ورحل منها إلى دمشق ونزل بالغوطة وهى أحد مستنزهات الدنيا الأربعة، وخرج إليه أكابر دمشق بالتقادم والتحف والهدايا. وتعرض من فى عسكره من الأرمن إلى المدارس والمساجد والجامع بجبل الصالحية وخربوه وحرقوه. ورتب الأمير سيف الدين قفجاق لتحصيل الأموال من الدماشقة، فأخذ فى جبايتها فجبى من الأموال ما لا يحصى كثرة. ورسم بمحاصرة القلعة فحوصرت وبها الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى فحفظها فلم يتمكن غازان منها ولما اشتد الحصار خشى أرجواش أن يتمكن التتار من القلعة بما حولها من البنيان، فهدمه جميعه، فكان من جملة ما هدم دار السعادة وهى الدار التى يسكنها نواب السلطنة؛ ودار الحديث الأشرفية، والمدرسة العادلية، ودار تعرف بالزين الحافظى، وطواحين باب الفرج، وغير ذلك مما جاور القلعة. وجاء رجل منجنيقى فالتزم لغازان بأخذ القلعة، وقرر أن ينصب المجانيق عليها فى جامع دمشق، فأجمع أرجواش رأيه أنه متى نصبت المجانيق بالجامع رمى عليها بمجانيق القلعة. وكان ذلك يؤدى إلى هدم الجامع، فانتدب رجال من أهل القلعة بعد أن تهيأت أعواد المجانيق ولم يبق إلا رميها وخرجوا بحمية الإيمان، وهجموا الجامع ومعهم المياسير، فأفندوا ما رتبه التتار وهيؤوه من أعواد المجانيق، ثم جددوا غيرها واحترزوا عليها. فانتدب رجل من أهل القلعة، وبذل نفسه والتزم بقتل المنجنيقى، وخرج إلى الجامع والمنجنيقى بين المغل، فتقدم إليه وضربه بسكين

فقتله، وهجم رجال القلعة فنفرت الناس عن القاتل وحماه أصحابه فجاء إلى القلعة وبطل ما دبروه من عمل المجانيق ونصبها على القلعة. وكتب غازان إلى سائر نواب القلاع والحصون الشامية والساحلية فى تسليمها فما أجابه أحد إلى تسليم ما بيده، وتربصوا ثقة بالله تعالى ثم بالعساكر الإسلامية أنها لا تتأخر عن دفع غازان. وتقدم بكتابة الفرمانات وابتدأها بقوله بعد البسملة: بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية، وأظهر فيها شعائر الإسلام واتباع السنة. هذا وأفعاله تناقض أفعاله لأنه رضى بما فعله الأرمن من الفساد. ثم رتب الأمير سيف الدين قفجاق قبجق فى النيابة عنه بالشام، ورتب الامير سيف الدين بكتمر السلحدار فى النيابة بالممالك الحلبية والحموية وحمص، ورتب الأمير فارس الدين البكى الساقى فى النيابة بالممالك الطرابلسية والصفدية والفتوحات والسواحل، وجعل الأمير يحيى ابن جلال الدين على جباية الأموال، ومرجع نواب الممالك إليه، وجرد من عسكره عشرين ألف فارس صحبة بولاى «1» وانشقا «2» وججك وهولاجو، فنزلوا الأغوار، وشنوا الغارات، فانتهت غاراتهم إلى القدس وبلد الجبل ونابلس ووصلوا إلى غزة، وقتلوا بجامعها خمسة عشر نفرا. ورحل غازان عائدا إلى الشرق فى منتصف جمادى الأولى، وترك نائبه قطلوشاه يحاصر قلعة دمشق، فحصرها أياما فلم يتمكن منها،

فجبى له قفجاق من أهل المدينة مالا فأخذه وتوجه إلى غازان. ثم لم يلبث بولاى ومن معه من التتار إلا قليلا، وتوجهوا إلى بعلبك والبقاع فأغاروا عليها ورجعوا إلى الشرق فى ثامن شهر رجب من هذه السنة، لما بلغهم أن السلطان الملك الناصر تجهز بجيوشه لدفعهم. وأما السلطان الملك الناصر، فإنه لما دخل إلى الديار المصرية شرع فى الاهتمام والاحتفال بالعساكر، وأنفق فيهم الأموال، وعاد إلى الشام فبلعه توجه غازان، فجرد نائبه الأمير سيف الدين سلار واستاذ داره الأمير ركن الدين بيبرس، ثم انحاز إليه الامراء: سيف الدين قفجاق، وسيف الدين بكتمر، وفارس الدين البكى. على ما نذكر ذلك فى أخبار الدولة الناصرية. وفى سنة سبعماية عاد غازان لقصد الشام، وانتهى إلى حلب وتقدم ونزل فيما بينها وبين حماه. ثم خرج السلطان الناصر بعساكره إلى الشام، وأقام بمنزله بدعرش بالقرب من غزة، وجرد من العساكر طائفة. ثم عاد غازان إلى الشرق والملك الناصر إلى مصر من غير قتال.

ذكر مسير غازان إلى الشام وعوده وتجريد عساكره وانهزامها بمرج الصفر

ذكر مسير غازان الى الشام وعوده وتجريد عساكره وانهزامها بمرج الصفر وفى سنة اثنتين وسبعماية سار غازان من الأردو ونازل الرحبة وحاصرها، فخرج إليه نائبها بلبان «1» الغتمى بالإقامات ولاطفه، وقال: «أنت أيها الملك متوجه إلى الشام فإذا أخذت البلاد فهذه القلعة لا تمتنع عليك» فوافقه غازان، وأخذ ابنه ومملوكه رهينة، ثم رحل عنها وعاد إليها. وجرد قطلوشاه وصحبته اثنا عشر تمانا لقصد الشام وعاد غازان إلى العراق فى أوائل شعبان من السنة. وهجم عساكره على أطراف البلاد الحلبية فتأخر العسكر إلى حماة وغارت كل طائفة منهم على القريتين «2» ونهبوا من هناك من التركمان وسبوا نساءهم وذراريهم، وتوجهوا منها فى البرية إلى صوب عرض «3» ، وهم زهاء عشرة آلاف فخرج إليهم طائفة من العساكر الإسلامية مقدمهم الأمير سيف الدين اسندمر كرجى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، وعدتها على التحرير ألف وخمسمائة فارس، فالتقوا هم والتتار على عرض، واقتتلوا أشد قتال، فكانت الكسرة على التتار، وقتل منهم خلق كثير. ثم اتفق بعد ذلك اجتماعهم ووصولهم إلى الشام والعساكر

ذكر وفاة غازان

تتأخر عنهم منزلة بعد أخرى، إلى أن قاربوا دمشق ونزلوا على مرج الصفر، واجتمع به سائر نواب السلطنة بالشام، والعساكر المجردة من الديار المصرية. ووصل السلطان بعساكره إلى المرج فى مستهل شهر رمضان، وفى الساعة التى انتهى السلطان فيهما إلى هذه المنزلة كان وصول التتار، وكنت ممن شهد هذا المصاف فى جملة العساكر الإسلامية. فالتقى الجمعان يوم السبت مستهل شهر رمضان من بعد الزوال إلى عشية النهار، فهزمت ميسرة التتار ميمنة المسلمين، فأردفها القلب، وألجأوا التتار إلى جبل هناك، فارتقوا ذروته وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وهرب فى هذا اليوم بولاى فى نحو عشرين ألف فارس. وكان مقابل الميسرة الإسلامية فلما رأى كثرة جموعها فرّ من غير قتال طائل. وبات التتار على الجبل فى تلك الليلة، وأصبحوا يوم الأحد إلى وقت الزوال ففرج لهم الأمير سيف الدين اسندمر كرجى نائب الفتوحات فرجة من طرف الميسرة، فانهزموا منها على فرقتين فرقة تتلوها أخرى، وأخذهم السيف من كل مكان. وسنذكر إن شاء الله هذه الوقعة فى أخبار الدولة الناصرية ونزيدها بيانا وتفصيلا. ذكر وفاة غازان كانت وفاته فى الثالث عشر من شوال سنة ثلاث وسبعماية بمقام جبل من نواحى الرى، فكانت مدة ملكه ثمان سنين وعشرة شهور. ولما مات ملك بعده أخوه خربندا ويقال فيه خدابندا.

ذكر ملك خدابندا بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولى خان

ذكر ملك خدابندا «1» بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولى خان وهو الثامن من ملوك هذا البيت جلس على تخت المملكة بعد وفاة أخيه غازان فى الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة ثلاث وسبعماية، وتلقب بأولجاتو سلطان، وذلك بمقام أوجان. ولما جلس أطلق رسولى الملك الناصر، وكان غازان قد عوقهما؛ وهما الأمير حسام الدين ازدمر المجيرى، والقاضى عماد الدين بن السكرى، وجهزهما إلى الديار المصرية، وأصحبهما رسولا من جهته. فوصلوا فى سنة أربع وسبعماية وكان مضمون رسالته التماس الصلح والاتفاق. ذكر قتل قطلوشاه نائب خربندا وتولية جوبان النيابة وفى سنة خمس وسبعماية جرد خربندا نائبه قطلوشاه وهو الذى كان ينوب عن غازان، وأقره خربندا إلى جبال كيلان لقتال الأكراد فسار إليهم والتقوا واقتتلوا فهزمه الأكراد وقتلوه؛ ورتب خربندا بعده فى النيابة جوبان. وفى سنة سبع وسبعمائة سار خربندا «2» إلى جبال كيلان،

وأوقع بالأكراد وقتل منهم خلقا كثيرا، وسبى نساءهم وأولادهم، وأمر ببيعهم بمدينة تبريز، فبيعوا بها. وفى سنة تسع وسبعمائة ابتنى خربندا بابنة الملك المنصور نجم الدين غازى بن المظفر قرا أرسلان صاحب ماردين، وحملت إليه إلى الأردو، وحمل جهازها على ما نقل إلينا على ألف جمل. وفيها توفى ولد خربندا واسمه أبو يزيد «1» . وفى سنة اثنتى عشرة وسبعماية وصل إلى خربندا من نواب السلطنة بالشام والأمراء جماعة وهم. الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب المملكة الحلبية، والأمير جمال الدين أقش الافرم نائب المملكة الطرابلسية، والأمير عز الدين أزدمر الزردكاش، والأمير سيف الدين بلبان الدمشقى، وبدر الدين بيسرا الحسامى؛ والتحقوا به وأقاموا عنده. وكان سبب ذلك أن السلطان الملك الناصر قبض على جماعة من الأمراء ممن اتهمهم ونقم عليهم. فخاف هؤلاء على أنفسهم ففارقوا البلاد، ولجأوا إليه، فقبلهم وأكرمهم وتجهز بعساكره وقصد الشام ونازل الرحبة والأمراء معه. وقيل إن خربندا لم يصل إلى الرحبة، وإنما وصلت جيوشه إليها، وحاصروها وأقام هو شرقى الفرات. ثم رجعت عساكره عنها فى السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتى عشرة وسبعمائة ولم يعلم سبب رجوعهم، وعادوا إلى بلادهم.

ذكر خبر مدينة قنغر لام وتسمى السلطانية

ذكر خبر مدينة قنغر لام «1» وتسمى السلطانية هذه المدينة كان غازان قد شرع فى إنشائها واهتم بأمرها، فهلك قبل تكملتها، فأمر خدابندا بالاهتمام بعمارتها. وهى مدينة بالقرب من قلعة كردكوه على عشرة مراحل من مدينة تبريز. ووصلت إلينا الأخبار فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة أنها كملت وسكنت وأن خدابندا نقل إليها من مدينة تبريز جماعة كثيرة من التجار والمتعيشين والحاكة والصناع وغيرهم، وألزمهم سكناها والإقامة بها، فسكنوها على كره منهم. ثم وصلت الأخبار إلينا أن أكثر الحاكة والصناع نسحبوا منها وعادوا إلى تبريز وغيرها من البلاد التى نقلوا منها. ذكر وفاة خدابندا وملك ابنه أبى سعيد بن خدابندا وفى سنة ست عشرة وسبعمائة وردت الأخبار بوفاة خدابندا وأن وفاته كانت فى سابع شوال من السنة. وكان قد أظهر الرفض وتمذهب به، وقرب الروافض، وأبعد أهل السنة وأطرحهم وأهانهم، ونقل إلينا أنه قبل وفاته أمر بإشهار النداء بنواحى مملكته أنه من تلفظ بذكر أبى بكر وعمر مات؛ فأهلكه الله تعالى بعد سبعة أيام من حين أمر بذلك. ولما هلك اختلفت آراء الأمراء وأرباب دولته، فيمن يجلس على تخت السلطنة، فذكر لنا أن منهم من مال إلى

ابن قازان «1» ، ومنهم من مال إلى غيره من أهل هذا البيت الجنكزخانى ثم اجتمعت كلمتهم على أن أقاموا أبا سعيد بن خدابندا وعمره أحد عشر «2» سنة فنصبوه فى الملك، وقام بتدبير دولته جوبان نائب أبيه، ووصلت رسله وهداياه إلى السلطان الملك الناصر بالديار المصرية. وتكرر ذلك منه، وانتظم الصلح، وحصل الاتفاق. هذا ما انتهى إلينا من خبر التتار إلى حين وضعنا لهذا التأليف، ومهما ورد علينا من أخبارهم بعد هذا أوردناه فى أخبار الدولة الناصرية بالديار المصرية آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. كمل الجزء الخامس والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول الجزء السادس والعشرين الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك الديار المصرية والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل. وانتهينا من المراجعة الخامسة فى تمام الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة 21 جمادى الآخرة سنه 1385. الموافق 16 أكتوبر سنه 1965. وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق أولا- المراجع العربية - ابن الأثير: 1- الكامل فى التاريخ- 12 جزءا. (القاهرة 1290 هـ) 2- اللباب فى تهذيب الأنساب- 3 أجزاء (القاهرة 1357 هـ) إبن تغرى بردى (أبو المحاسن يوسف) 1- النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة- 12 جزءا طبعة دار الكتب المصرية- بقية الكتاب طبعة كاليفورنيا (1931 م) 2- المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى- 3 أجزاء- مخطوط بدار الكتب المصرية. - إبن الجوزى (أبو الفرج عبد الرحمن) : المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك (حيدرأباد 1357 هـ) - إبن حوقل (أبو القاسم محمد) : المسالك والممالك والمفاوز والمهالك (ليدن 1822 م) - إبن خلكان (شمس الدين أبو العباس أحمد) : وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان 3 أجزاء (القاهرة 1299 هـ) - رشيد الدين (الهمذانى) : جامع التواريخ- نقله من الفارسية إلى العربية محمد صادق

نشأت ومحمود موسى هنداوى وفؤاد عبد المعطى الصياد (القاهرة 1960) . - زكريا القزوينى آثار البلاد- نشر وستنفلد (جوتنجن 1848 م) - زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة فى التاريخ الإسلامى نقله إلى العربية الأستاذ الدكتو زكى محمد حسن وآخرون (القاهرة 1951 م) - سعيد عبد الفتاح عاشور: الحركة الصليبية- جزءان (القاهرة 1963 م.) - السيوطى (جلال الدين عبد الرحمن) : تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الأمة (القاهرة 1351 هـ) - إبن شاكر الكتبى: فوات الوفيات (القاهرة 1299 هـ) - إبن طباطبا: الفخرى فى الآداب السلطانية (القاهرة 1913 هـ) - إبن العبرى: تاريخ مختصر الدول (بيروت 1958 م)

- العينى (بدر الدين محمود) : عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان (مخطوطة دار الكتب المصرية فى 23 جزءا) . - فؤاد عبد المعطى الصياد: المغول فى التاريخ (القاهرة 1960 م) . - أبو الفدا (الملك المؤيد اسماعيل) المختصر فى أخبار البشر- 4 أجزاء (القاهرة 1325 هـ) . - أبو الفضائل (مفضل ابن) : كتاب النهج السديد والدر الفريد فيما بعد تاريخ ابن العميد (باريس 1932 م) . - القلقشندى (أبو العباس أحمد) : صبح الأعشى فى صناعة الإنشا (القاهرة 1913 م) . - إبن كثير (عماد الدين أبو الفدا إسماعيل) البداية والنهاية (مخطوط بدار الكتب المصرية) - لسترانج: بلدان الخلافة الشرقية. ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد (بغداد 1954 م) - المقريزى (تقى الدين أحمد بن على) السلوك لمعرفة دول الملوك. تحقيق محمد مصطفى زيادة حتى سنة 755 هـ- بقية الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية

- المنشى النسوى: سيرة جلال الدين منكبرتى تحقيق حافظ حمدى (القاهرة 1953) . (وطبعة باريس 1891) - إبن واصل (جمال الدين محمد بن سالم) : مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب تحقيق جمال الدين الشيال حتى سنة 615 هـ- بقية الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية. - ياقوت (شهاب الدين أبو عبد الله) معجم البلدان- 5 مجلدات (بيروت 1955 م) .

ثانيا - المراجع الفارسية

ثانيا- المراجع الفارسية - حافظ آبرو: ذيل جامع التواريخ رشيدى- نشر الدكتور خانبابابيانى (طهران 1317 هـ. ش) . - رشيد الدين فضل الله: جامع التواريخ- جزءان. نشر الدكتور بهمن كريمى (طهران 1338 هـ. ش.) - رشيد الدين تاريخ مبارك غازانى- داستان غازان خان (هرتفورد 1940 م) - عبد الله بن فضل الله الشيرازى: تاريخ وصاف (بمباى 1926 م) . - عطا ملك الجوينى: تاريخ ملك نكشاى تحقيق محمد بن عبد الوهاب القزوينى (ليدن 1911- 1937 م) - محمد بن على بن سليمان الراوندى: راحة الصدور وآية السرور تحقيق محمد إقبال (ليدن 1921 م) .

- محمد عوفى: لباب الألباب- تحقيق سعيد نفيسى (طهران 1335 هـ. ش) - محمود بن محمد المشتهر بالكريم الاقسرايى: مسامرة الأخيار ومسايرة الأخبار. تحقيق عثمان توران (أنقرة 1944 م) . - منهاج سراج الجوزجانى: طبقات ناصرى- الجزء الأول- تحقيق عبد الحى حبيبى (كابول 1342 ش.)

ثالثا - المراجع الأوربية

ثالثا- المراجع الأوربية Allen (W. E. D.) : A Hist. of the Georgian PeoPle (London, 1932) :relupS ;dlohtraB. Die Mongolen in Iran. (LeiPzig 1939) . Barthold: Turkestan down to the Mongol Invasion. (Oxford 1928) - Cahen .) 5491:.A.I (.edikujileS arhguT aL: (.) - Cam. Med. Hist (Cambridge 1957) - Dozy .sebarA sel zehc stnemeteV sed smoN sed.tciD.1: (.) (Cambridge, 1957) 2. SuPPlement Aux Dictionnaires Arabs. D (M.) : Histoire des Mongols dePuis Tchinguiz Khan Jusqu چa Timour Bey ou Tamerlan. (Paris, 1824) . EncycloPaedia of Islam. Howorth (H.) : The History of the Mongols (4. Vols.) (London, 1876) . Lane Poole (S.) : Mohammadan Dynesties. (Westminster, 1894) . Quatremere (E.) : Hist. des Sultans Mamlouks de l. (Paris, 1845 (.

فهرس موضوعات الجزء السابع والعشرون

فهرس موضوعات الجزء السابع والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري .... رقم الصفحة - المقدمة 5 - ذكر أخبار السلطان مغيث الدين 9 - ذكر مسير الملك مسعود ابن السلطان محمد وجيوش بك، وما كان بينهما وبين البرسقى والأمير دبيس بن صدقة 11 - ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود 13 - ذكر مقتل الأمير منكبرس 16 - ذكر مقتل الأمير على بن عمر 17 - ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود 20 - ذكر قتل الوزير السميرمى 22 - ذكر قتل الأمير جيوش بك 23 - ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج 23 - ذكر وصول الملك ودبيس بن صدقة وعودهما 25 - ذكر مقتل البرسقى وملك ابنه عز الدين مسعود 26 - ذكر ما فعله دبيس بن صدقة وما كان من أمره 28 - ذكر وفاة السلطان محمود، وشىء من أخباره، وملك ابنه داود 30 - ذكر أخبار السلطان غياث الدين والدنيا، أبى الفتح مسعود ابن ملكشاه، وما كان من أمره وخروجه من السلطنة وسلطنة أخيه السلطان طغرل وعوده إليها 32

- ذكر ما اتفق للسلطان مسعود مع أخيه الملك سلجق شاه وداود ابن محمود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود 33 - ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرشاه وهزيمة مسعود وسلطنة طغرل 35 - ذكر الحرب بين السلطان طغرل بن محمد وبين أخيه الملك داود ابن محمود 37 - ذكر عود السلطان مسعود بن محمد إلى السلطنة وانهزام طغرل 38 - ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام السلطان مسعود 40 - ذكر وفاة الملك طغرل وملك أخيه السلطان مسعود بلد الجبل 41 - ذكر قتل الأمير دبيس بن صدقة 41 - ذكر اجتماع الأطراف على حرب السلطان مسعود وخروجهم عن طاعته 42 - ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء 44 - ذكر قتل الوزير الدركزينى ووزارة ابن الخازن وزير قراسنقر 45 - ذكر اتفاق بوزابة وعباس على الخروج عن طاعة السلطان مسعود 47 - ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الرى 47 - ذكر قتل الأمير بوزابة 49 - ذكر الخلف بين السلطان وجماعة من الأمراء ووصولهم إلى بغداد، وما كان منهم 50 - ذكر وفاة السلطان مسعود 52 - ذكر سلطنة ملكشاه بن محمود بن محمد طبر بن ملكشاه والقبض عليه 52 - ذكر سلطنة محمد بن محمود 53 - ذكر سلطنة سليمان شاه بن محمد طبر بن ملكشاه 55

... رقم الصفحة - ذكر عود السلطان محمد من أصفهان إلى مقر ملكه 56 - ذكر وصول سليمان شاه بن محمد طبر إلى بغداد، وخروجه بالعساكر وحربه هو والسلطان محمد، وهزيمته، وحصار السلطان محمد بغداد ورجوعه 58 - ذكر وفاة السلطان محمد بن محمود وما اتفق بعد وفاته 59 - ذكر مسير سليمان شاه بن محمد طبر إلى همذان 60 - ذكر سلطنة أرسلان شاه ابن الملك طغرل بن محمد طبر 60 - ذكر أخبار السلطان طغرل بن أرسلان شاه بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان 61 - ذكر الحرب بين طغرل وجيوش الخليفة الناصر لدين الله وظفره بهم 61 - ذكر اعتقال طغرل وخلاصه وما كان من أمره إلى أن قتل، وانقراض الدولة السلجقية 62 - ذكر مقتل السلطان طغرل وإنقراض الدولة السلجقية 63 - ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام وحلب 64 - ذكر إستيلاء (تتش) على حمص وغيرها من ساحل الشام 65 - ذكر ما اتفق فى طلب السلطنة 66 - ذكر ملكه ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام 67 - ذكر عود تتش إلى البلاد وملكه همذان وغيرها 68 - ذكر انهزام بركياروق منه 68 - ذكر قتل تاج الدولة تتش 69 - ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما تتش 69 - ذكر الحرب بين الملكين رضوان وأخيه دقاق 72 - ذكر ملك دقاق مدينة الرحبة 74 - ذكر وفاة الملك دقاق وملك ولده ثم أخيه 74

... رقم الصفحة - ذكر أخبار ملوك حلب 75 - ذكر أخبار من ملك حلب بعد انقراض الدولة السلجقية منها 76 - ذكر أخبار من ملك دمشق بعد انقراض الدولة السلجقية منها، إلى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى 78 - ذكر أخبار تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين 79 - ذكر أخبار الإسماعيلية وقتل الوزير المزدغانى 79 - ذكر حصار الفرنج دمشق وانهزامهم 80 - ذكر أخبار شمس الملوك إسماعيل ابن تاج الملوك بورى ابن طغرتكين 82 - ذكر ملكه قلعة بانياس 83 - ذكر ملكه مدينة حماة 83 - ذكر ملكه شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج 84 - ذكر مقتل شمس الملوك وملك أخيه شهاب الدين محمود 85 - ذكر أخبار شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين 86 - ذكر ملكه مدينة حمص 86 - ذكر أخبار مجير الدين أبق بن جمال الدين محمد بن بورى بن طغرتكين 88 - ذكر أخبار الملوك السلجقية أصحاب قونية واقصرا، وملطية ودقوقا من الروم 90 - ذكر أخبار الملك سليمان ابن شهاب الدولة قتلمش 91 - ذكر فتح مدينة أنطاكية 91 - ذكر قتل الملك سليمان قتلمش 92 - ذكر أخبار قلج أرسلان بن سليمان 93 - ذكر قتل الملك قلج أرسلان وملك ولده الملك مسعود 94

... رقم الصفحة - ذكر أخبار الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود 95 - ذكر تسليمه البلاد لبنيه وبنى أخيه وما جعل لكل منهم 96 - ذكر قتل نور الدين محمود واستيلاء قطب الدين على قيسارية ووفاته واستيلاء ركن الدين سليمان على سائر المملكة 97 - ذكر وفاة ركن الدين سليمان وملك ولده قلج أرسلان 98 - ذكر ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه، وهو الثانى من ملوك السلجقية بالروم 99 - ذكر ملكه مدينة أنطاكية 100 - ذكر ملك علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان ... ، وهو العاشر من ملوك السلجقية بالروم 101 - ذكر إجتماع كيقباذ والأشرف على حرب جلال الدين خوارزم شاه وانهزامه منهما 103 - ذكر ملك غياث الدين كيخسرو ابن الملك علاء الدين كيقباذ ابن غياث الدين كيخسرو....، وهو الحادى عشر من الملوك السلجقية بالروم 105 - ذكر أحوال أولاد السلطان غياث الدين كيخسرو بعد وفاة أبيهم 107 - ذكر قتل السلطان ركن الدين قلج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين كيخسرو 112 - ذكر خبر البرواناه معين الدين سليمان وأصله وتنقله 112 - ذكر أخبار الدولة الأتابكية 114 - ذكر أخبار قسيم الدولة أقسنقر التركى 115 - ذكر قتل قسيم الدولة 116 - ذكر أخبار عماد الدين أتابك زنكى بن قسيم الدولة اقسنقر 117 - ذكر إبتداء حال عماد الدين زنكى وترقيه وتنقله فى الولايات 119

... رقم الصفحة - ذكر ولاية عماد الدين زنكى شحنكية العراق 120 - ذكر ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها 121 - ذكر ملك عماد الدين حلب 125 - ذكر ملكه مدينة حماه 126 - ذكر ملكه حصن الأثارب وهزيمة الفرنج 127 - ذكر حصره مدينة آمد وملكه قلعة الصور 129 - ذكر ملكه قلاع الأكراد الحميدية 129 - ذكر حصره مدينة دمشق 130 - ذكر غزاة العسكر الأتابكى إلى بلاد الفرنج 131 - ذكر ملكه قلعة بعرين وهزيمة الفرنج 132 - ذكر ملكه مدينة حمص وغيرها من أعمال دمشق 133 - ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين 134 - ذكر ملك عماد الدين بعلبك 137 - ذكر ملكه شهرزور وأعمالها 139 - ذكر ملك عماد الدين زنكى قلعة آشب وغيرها من بلاد الهكارية 140 - ذكر صلحه والسلطان مسعود 141 - ذكر ملكه بعض ديار بكر 142 - ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما هو بيد الفرنج 143 - ذكر مقتل نصير الدين جقر، وولاية زين الدين على كورجك 145 - ذكر مقتل عماد الدين زنكى 147 - ذكر ملك سيف الدين غازى ابن الشهيد عماد الدين أتابك زنكى 148

... رقم الصفحة - ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعله سيف الدين غازى 150 - ذكر وفاة سيف الدين غازى ابن عماد الدين زنكى 151 - ذكر أخبار الملك العادل نور الدين أبى القاسم محمود ابن أتابك عماد الدين أبى سعيد زنكى بن أقسنقر 152 - ذكر الغزوات والفتوحات النورية وما استنقذه من أيدى الفرنج- ذكر عصيان مدينة الرها وفتحها الفتح الثانى ونهبها 152 - ذكر فتح حصن العريمة 153 - ذكر انهزام الفرنج بيغرا 154 - ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية 155 - ذكر فتح حصن أفامية 156 - ذكر أسرجوستكين وفتح بلاده 156 - ذكر حصر قلعة حارم وفتحها 158 - ذكر ملكه بانياس وما قرره على طبرية وأعمالها 158 - ذكر فتح المنيطرة 158 - ذكر فتح صافيثا وعريمة 159 - ذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية 160 - ذكر ملكه مدينة دمشق 160 - ذكر ملكه بعلبك 161 - ذكر ملكه قلعة جعبر 162 - ذكر ملكه الديار المصرية 162 - ذكر ملكه الموصل 163 - ذكر وفاته رحمه الله وشىء من أخباره وسيرته 163 - ذكر أخبار الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك زنكى بن أقسنقر 168

... رقم الصفحة - ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وحصر الفرنج حارم 171 - ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل 171 - ذكر أخبار قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر 173 - ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على بن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته 174 - ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين 178 - ذكر وفاة قطب الدين مودود وملك ولده سيف الدين غازى 179 - ذكر أخبار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى 180 - ذكر ملك سيف الدين غازى البلاد الجزيرية 180 - ذكر حصره أخاه زنكى بسنجار 181 - ذكر وفاة سيف الدين غازى 183 - ذكر ملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى 184 - ذكر تسليم حلب إلى عماد الدين زنكى وأخذ سنجار عوضا عنها 184 - ذكر القبض على مجاهد الدين قايماز 185 - ذكر إطلاق مجاهد الدين قايماز وما كان من العجم وانهزامهم 186 - ذكر وفاة عز الدين مسعود 187 - ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر 190 - ذكر أخبار معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى 191 - ذكر مقتله وملك ولده معز الدين محمود 192

الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الخوارزمية والدولة الجنكزخانية .... رقم الصفحة - ذكر أخبار الدولة الخوارزمية وابتداء أمر ملوكها وظهورهم، وما استولوا عليه من البلاد والأقاليم، وما كان بينهم وبين الملوك من الحروب والوقائع 197 - ذكر أخبار خوارزم شاه إتسز بن محمد 198 - ذكر الحروب بين خوارزم شاه إتسز والسلطان سنجر السلجقى، واستيلاء سنجر على خوارزم، وما كان من أمر إتسز إلى أن استقر الصلح بينه وبين السلطان سنجر 199 - ذكر ملك سلطان شاه محمود بن أيل أرسلان بن إتسز بن محمد، وإخراجه من الملك، وملك أخيه علاء الدين تكش 202 - ذكر ملك تكش مدينة بخارى من ملك الخطا 204 - ذكر وفاة خوارزم شاه تكش 205 - ذكر أخبار السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد بن علاء الدين تكش بن ألب أرسلان بن إتسز بن محمد بن أنوشتكين 206 - ذكر ملك خوارزم شاه وما كان الغورية قد ملكوه من بلاده 209 - ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان 214 - ذكر ملكه ترمذ وتسليمها للخطا 215 - ذكر ملكه الطالقان 216 - ذكر أسر خوارزم شاه وخلاصه 217 - ذكر قتل الحسين بن خرميل وحصر هراة وملك فيروزكوه والغور 220

... رقم الصفحة - ذكر عوده إلى بلاد الخطا وظفره بهم وأسر مقدمهم وملكه ما وراء النهر 222 - ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين 223 - ذكر الواقعة التى أفنت الخطا 224 - ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران من السند 227 - ذكر ملكه غزنة وأعمالها 228 - ذكر عزمه على المسير إلى العراق وقصد بغداد، ومراسلته فى طلب آل سلجق ببغداد وما أجيب به 229 - ذكر مسيره إلى العراق وما اتفق له 232 - ذكر قصد السلطان بغداد وما رتبه من أحوال مملكته وعوده بعد مسيره 237 - ذكر عود السلطان إلى بلاد ما وراء النهر، ووصول رسل التتار إليه وما اتفق من الحوادث 239 - ذكر ما اعتمده السلطان من سوء التدبير لما قصده التتار 242 - ذكر ما وقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وأمه وأخواله من الاختلاف بحيلة تمت بجنكزخان عليهم، وما فعلته والدته من القتل ومفارقة خوارزم وما آل إليه أمرها 244 - ذكر ما اتفق للسلطان بعد أن ملك التتار البلاد إلى أن توفى 248 - ذكر وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش 250 - ذكر أخبار السلطان جلال الدين منكبرتى 252 - ذكر مسير جلال الدين من نيسابور إلى غزنة 254 - ذكر الحرب بين جلال الدين وتولى خان بن جنكزخان وانهزام التتار وقتل تولى خان 256 - ذكر الحرب بين جلال الدين وجنكزخان وانهزام جلال الدين 257 - ذكر حال جلال الدين بعد عبوره ماء السند 258

... رقم الصفحة - ذكر ما كان بين جلال الدين وقباجة من وفاق وخلاف 260 - ذكر الحوادث بعد كسر جلال الدين قباجة وما جرى بينه وبين شمس الدين إيلتتمش 262 - ذكر طلوع جلال الدين من الهند ووصوله إلى كرمان، وما جرى له من الحوادث إلى أن ملك العراق 264 - ذكر مسيره صوب خوزستان 267 - ذكر ملكه أذربيجان ومراغة 268 - ذكر كسر السلطان الكرج 269 - ذكر عوده من دوين إلى تبريز وتركه الميمنة بيلاد الكرج 270 - ذكر ملك السلطان كنجة وسائر بلاد أران 273 - ذكر نكاح السلطان بنت طغرل بن أرسلان 273 - ذكر عوده إلى بلد الكرج وفتحه تفليس 274 - ذكر المصاف الكائن بينه وبين التتار بظاهر أصفهان 275 - ذكر ما آل إليه أمر غياث الدين 278 - ذكر مسير السلطان إلى خلاط ومحاصرتها 279 - ذكر الحوادث فى مدة حصار خلاط 280 - ذكر مسير رسول السلطان إلى الديوان العزيز واجتماعه بالخليفة وما اتفق له وعوده بالخلع والتشاريف 281 - ذكر ملكه مدينة خلاط 285 - ذكر مسيره إلى بلد الروم وانهزامه من عسكرى الشام والروم 287 - ذكر وصول مقدمة التتار إلى تخوم أذربيجان ورحيل السلطان من تبريز إلى موقان 289 - ذكر كبسة التتار السلطان وهو بحد (شيركبوت) 290 - ذكر القبض على شرف الملك وزير السلطان وقتله 291 - ذكر رحيل السلطان صوب كنجة وتملكها ثانيا 294

... رقم الصفحة - ذكر نزول السلطان بلد آمد وكبس التتار له وما كان من أمره 295 - ذكر مقتل السلطان جلال الدين وانقراض الدولة الخوارزمية 297 - ذكر أخبار الدولة الجنكزخانية وابتداء أمرها وما تفرع عنها 300 - ذكر أخبار جنكزخان التمرجى وابتداء أمره وسبب ظهور ملكه 301 - ذكر خروج التتار إلى البلاد الإسلامية 306 - ذكر استيلاء جنكزخان على بخارا 307 - ذكر استيلائه على سمرقند 309 - ذكر ما فعلته الطائفة المغربة من التتار 311 - ذكر استيلائهم على مازندران ووصولهم إلى الرى وهمذان 312 - ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وقتالهم مع الكرج 313 - ذكر ملكهم مدينة مراغة 314 - ذكر ملكهم همذان وقتل أهلها 316 - ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وملكهم أردويل وغيرها 317 - ذكر وصولهم إلى بلاد الكرج 319 - ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه 320 - ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق 321 - ذكر ما فعلوه بقفجاق والروس 322 - ذكر عود التتار إلى ملكهم 323 - ذكر ملك التتار خراسان 324 - ذكر ملكهم مدينة غزنة وبلاد الغور 327 - ذكر ملكهم مدينة خوارزم 329 - ذكر عود طائفة من التتار إلى همذان وغيرها 331 - ذكر وفاة جنكزخان التمرجى، وأسماء أولاده وإخوته وما قرره لأولاده من الوظائف والبقاع وغير ذلك 334

... رقم الصفحة - ذكر ملك أوكتاى بن جنكزخان 338 - ذكر الحروب الكائنة بين التتار والسلطان جلال الدين، وما كان من أمرهم إلى أن ملكوا ما كان بيده 340 - ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتار 342 - ذكر دخول التتار ديار الجزيرة 343 - ذكر وفاة أوكتاى خان وقيام ولده كيوك خان بعده وقتله 345 - ذكر جلوس منكوقان بن (تلى خان) بن جنكزخان على تخت القانية 346 - ذكر دخول التتار إلى بلاد الروم وما استولوا عليه من البلاد 348 - ذكر تجريد منكوقان العساكر إلى بلاد الروم وما استولوا عليه منها 349 - ذكر مهلك منكوقان وما حصل بين إخوته من التنازع فى القانية 352 - ذكر ملك قبلاى بن تولى خان بن جنكزخان القانية، وهو الخامس من ملوكهم 354 - ذكر أخبار ملوك البلاد الشمالية من أولاد جنكزخان التمرجى 356 - ذكر ملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذه المملكة الشمالية 358 - ذكر ملك منكوتمر بن طوغان بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان، وهو الخامس من ملوكهم بهذه المملكة 362 - ذكر مسير عساكر منكوتمر إلى بلاد القسطنطينية 362 - ذكر ملك تدان منكوا بن طغان بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان 364 - ذكر ملك تلابغا بن طربوا بن دوشى خان بن جنكزخان 366

... رقم الصفحة - ذكر ملك طقطا بن منكوتمر بن طوغان بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، وهو الثامن من ملوك هذه المملكة 368 - ذكر إيقاع طقطا بجماعة من أمرائه 368 - ذكر ابتداء الخلف بين طقطا ونوغيه 369 - ذكر الوقعة الأولى بين طقطا ونوغيه 370 - ذكر الوقعة الثانية وقتل نوغية 371 - ذكر أخبار أولاد نوغية 372 - ذكر ما اتفق طراى بن نوغية وصراى بغا بن منكوتمر من الخروج عن طاعة الملك طقطا وقتلهما 373 - أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان 375 - ذكر أخبار هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وابتداء أمره وما استولى عليه من الممالك والأقاليم ومن ملك من ذريته 379 - ذكر استيلائه على بغداد وقتله الخليفة المتعصم بالله 380 - ذكر استيلاء التتار على ميافارقين 383 - ذكر وفاة بيجو مقدم التتار 384 - ذكر منازلة هولاكو مدينة حلب واستيلائه عليها وعلى بلاد الشام 386 - ذكر استيلاء التتار على دمشق 389 - ذكر الأقاليم التى استقرت فى ملك هولاكو بعد وفاة منكوقان 392 - ذكر ملك هولاكو ونبذة من أخباره 393 - ذكر ملك أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان 395

... رقم الصفحة - ذكر قتل سليمان البرواناه 398 - ذكر وفاة أبغا بن هولاكو 400 - ذكر ملك توكدار بن هولاكو، وهو المسمى أحمد سلطان وهو الثالث من ملوك هذا البيت 401 - ذكر ما اتفق بين توكدار وبين أرغون ابن أخيه أبغا 403 - ذكر مقتل توكدار بن هولاكو 403 - ذكر ملك أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذا البيت 404 - ذكر ملك كيخاتو بن أبغا بن هولاكو، وهو الخامس من ملوك هذا البيت 406 - ذكر ملك بيدو بن طوغاى بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وهو السادس من ملوك هذا البيت 407 - ذكر ملك غازان بن أرغون بن ألغا بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وهو السابع من ملوك هذا البيت 409 - ذكر مسير غازان إلى الشام، ووقعة مجمع المروج واستيلائه على البلاد الشامية وعوده منها 411 - ذكر مسير غازان إلى الشام وعوده، وتجريد عساكره وانهزامها بمرج الصفر 415 - ذكر وفاة غازان 416 - ذكر ملك خدابندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى خان 417 - ذكر قتل قطلوشاه نائب خربندا وتولية جوبان النيابة 417 - ذكر خبر مدينة قنغرلام، وتسمى السلطانية 419 - ذكر وفاة خدابندا وملك ابنه أبى سعيد بن خدابندا 419

مراجع التحقيق

مراجع التحقيق .... رقم الصفحة (أولا) المراجع العربية 421 (ثانيا) المراجع الفارسية 425 (ثالثا) المراجع الأوربية 425 مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب رقم الايداع بدار الكتب ISBN -977 -01 -0608 -9 1985/3475

الجزء الثامن والعشرون

الجزء الثامن والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة المحقق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وذريته وتابعيه إلى يوم الدين. وبعد فهذا هو الجزء الثامن والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين النويرى، وهو الجزء السادس والعشرون من مخطوطة الكتاب المحفوظة بمكتبة كوبريللى بالأستانة، والتى توجد منها نسخة مصورة بدار الكتب المصرية بالقاهرة تحت رقم 549 معارف عامة. ويختلف منهج التحقيق فى هذا الجزء بالذات عن منهج تحقيق الأجزاء السابقة، فضلا عن الأجزاء اللاحقة، ذلك، أنه توجد عدة نسخ غير متكاملة من مخطوط نهاية الأرب لدرجة أنه توافرت لبعض الأجزاء أربع نسخ، منها نسخة بخط المؤلف فى بعض الأحيان، مما جعل مهمة تحقيق النص أكثر سهولة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لهذا الجزء بالذات، فلا توجد نسخ أخرى كاملة من هذا الجزء بين ما هو معروف من نسخ كتاب نهاية الأرب. وتزداد صعوبة العمل فى تحقيق هذا الجزء لوجود نقص فى أوله- قد لا يزيد عن بضع ورقات- كما يوجد نقص فى آخره- قد يكون ورقة واحدة-، كما أن سياق الكلام والحوادث غير متصل فيما بين اللوحتين 124، 125.

فأوراق هذا الجزء تبدأ باللوحة رقم 7، وعلى هامشه إشارة لأحد العاملين بدار الكتب «الأصمعى» فى الثلاثينات من هذا القرن، تفيد أن الأوراق من 1 إلى 6 موضوعة خطأ. وبالبحث عن هذه الأوراق المفقودة، وبالرجوع إلى سلبيات تصوير هذا الجزء، والتى ترجع إلى سنة 1923، تبين أن هذه الأوراق موجودة بالسلبية، ولكن بها أخبار حوادث سنوات 599- 602 هـ، وهذه الأحداث تقع ضمن الجزء التالى، وأن الأوراق التى نزعت من بداية الجزء 26 نقلت إلى موضعها فى بدايات الجزء 27 من المخطوطة. وإزاء هذا الوضع لم نجد بدّا من تقديم المتن الموجود من الجزء 26 من المخطوط كما هو، مع الإشارة إلى مواضع النقص. وإزاء عدم وجود نسخ أخرى من هذا الجزء كان لزاما الرجوع إلى المصادر التى نقل عنها النويرى للمقابلة عليها فى محاولة لتقديم نص أقرب ما يكون لنص المؤلف، ولم يكن الأمر سهلا، فرغم أن النويرى يبدأ عباراته بلفظ «قال» ، أو «قال المؤرخ» ، فإنه لا يذكر لنا من الذى قال، أو من هو المؤرخ إلا فى حالات محدودة ذكر فيها صراحة أنه نقل عن «ابن جلب راغب فى تاريخ مصر» ، وهو المعروف بابن ميسر. وعن طريق متابعة هذه الإشارات، مع مقارنة النصوص ومقابلتها على المصادر المعاصرة للأحداث أمكن التعرف على أهم مصادر النويرى فى هذا الجزء. وطبيعة هذا الجزء الذى يتناول فيه النويرى «أخبار ملوك الديار المصرية» من بداية العصر الطولونى حتى دخول الملك العادل الأيوبى القاهرة فى أوائل العصر الأيوبى، جعلت النويرى ينتقى لكل فترة

مصدرا أو أكثر يأخذ عنه مادته العلمية، فعلى سبيل المثال، عند ما يتناول أخبار الدولة الفاطمية فى شمال أفريقيا بعتمد على كتاب افتتاح الدعوة للقاضى النعمان، وعند ما تنتقل الدولة إلى مصر يعتمد على كتاب أخبار مصر لابن ميسر، وعند ما يتحدث عن الحملة الصليبية الأولى يعتمد على كتاب الكامل لابن الأثير، وهكذا. وبالإضافة إلى هذه المصادر الأساسية كان النويرى ينقل عبارات أو مقتطفات من مصادر أخرى يضمنها كتاباته، وعلى سبيل المثال أيضا ما كان يأخذه عن كتاب أخبار الدول المنقطعة لابن ظافر. لذلك استلزم تحقيق هذا الجزء بالذات مقابلة ما ورد به مع المصادر المعاصرة للأحداث، فى محاولة لتقديم نص متكامل أقرب ما يكون إلى نص المؤلف، واقتضى الأمر إضافة بعض الكلمات أو العبارات، أو تصحيح بعضها وفقا لما يرد فى هذه المصادر. وفى جميع الأحوال أشرنا إلى ذلك فى الهوامش، فكل ما أضيف إلى المتن وضع بين حاصرتين [] ، وكل ما تم تصحيحه تم التنبيه عليه فى الهوامش. وبالإضافة إلى معالجة النص تم التعريف بالأعلام والأماكن والمصطلحات بقدر الإمكان، وذلك عند ورودها لأول مرة، مع ترك المعروف منها والمتواتر حتى لا نثقل الهوامش ويطغى التعليق على النص الأصلى للمؤلف. ولما كان هذا الجزء يتناول أساسا العصر الفاطمى، من الورقة 21 إلى الورقة 105، فقد كان للنصوص التى نشرت حديثا عن هذا العصر

أهمية خاصة فى تحقيق هذا الجزء، وعلى سبيل المثال: أخبار الدول المنقطعة لابن ظافر والذى صدر عام 1972، والجزء الثالث من اتعاظ الحنفا للمقريزى عام 1973، وكتاب افتتاح الدعوة للقاضى النعمان عام 1975، وأخبار مصر للمسبحى عام 1978، وأخبار مصر لابن ميسر عام 1981، ونصوص من أخبار مصر لابن المأمون عام 1983. وقبل أن أختتم هذه المقدمة أحب أن أشير إلى أن مؤسسة التأليف والترجمة سبق وأن عهدت إلى المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة بتحقيق هذا الجزء من كتاب نهاية الأرب، وقد قام رحمه الله بإنجاز هذا التحقيق فى حوالى سنة 1965، ولكن ولأسباب مختلفة تأخر طبع أجزاء كتاب نهاية الأرب. وعند ما شرع مركز تحقيق التراث فى تقديم هذا الجزء إلى المطبعة فى عام 1985 رأى أن التحقيق المقدم من المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد منذ عشرين عاما فى حاجة إلى استكمال. ولم يكن فى وسع أحد أن يستكمل ما بدأه الدكتور محمد حلمى محمد أحمد نظرا لاختلاف مناهج التحقيق، فضلا عن ظهور العديد من المصادر والمراجع التاريخية التى لم تكن متوافرة وقت أن حقق المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد هذا الجزء، ومن ثمّ أصبح من الضرورى إعادة قراءة هذا الجزء وتحقيقه فى ضوء المصادر التى ظهرت بعد سنة 1965. ورغم عدم إمكانية الإفادة من التحقيق الذى قام به الدكتور محمد حلمى محمد أحمد- للأسباب المذكورة- فإنى رأيت أن أضع اسم المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد- كمحقق مشارك- على غلاف هذا الجزء باعتبار أنه- رحمه الله- أول من عمل فى تحقيق هذا

الجزء، وأن ظروف وفاته هى التى حالت دون أن يظهر هذا الجزء بتحقيقه، وذلك تكريما له، وإحياء لذكراه، رحمه الله. وفى ختام هذه المقدمة لا يسعنى إلا أن أتقدم بالشكر إلى كل من الأستاذ محمد كامل محمد شحاته، وكيل الوزارة ورئيس قطاع دار الكتب والوثائق القومية، والأستاذ على عبد المحسن زكى مدير عام مركز تحقيق التراث، لما قاما به من تذليل للصعاب والمعوقات الإدارية، وتوفيرهما للمخطوطات والمصورات التى احتجت إليها عند تحقيق هذا الجزء. كما أوجه الشكر إلى السيد/ محمد محمد صقر الباحث الأول بمركز تحقيق التراث لما بذله من جهد فى الإشراف على طبع هذا الجزء وتصحيح تجارب الطباعة، مما أدى إلى إخراج الكتاب على هذا النحو. كذلك أوجه الشكر إلى السيدة/ حكمت الخضرى لما بذلته من جهد فى إعداد (ماكيت) الكتاب. وبعد، فالكمال لله وحده، ولا يسعنى إلا أن أذكر قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، وأدعوه سبحانه وتعالى أن يوفقنا لخدمة التراث الإسلامى، والله ولى التوفيق.. دكتور محمد محمد أمين القاهرة 15 شعبان 1406 هـ فى 24 ابريل 1986 م

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار ملوك الديار المصرية] «1» [الدولة الطولونية] «2» [ذكر ولاية أحمد بن طولون وهو الأول من ملوك الطولونية] [7] فتجهز أحمد للمسير إلى الشام «3» ، وسار فى شوال سنة أربع وستّين لقصده «4» . واستحلف على مصر ابنه العبّاس، وعضّده بأحمد بن محمد الواسطى. وكتب إلى علىّ بن أماجور وإلى أصحاب أبيه الّذين أقاموه يذكر أنّ الخليفة «5» أقطعه الشام والثّغور مضافا إلى ما بيده. فأجابوه بالسّمع والطّاعة، وتلقّاه ابن أماجور بالرّملة، فأقّره عليها. وسار إلى دمشق فملكها وأقّر قوّاد أماجور على إقطاعاتهم. وسار إلى حمص فتلقّاه عيسى الكرخىّ،

وكان يتقلّدها، فشكاه أهلها فعزله عنهم [وولّاها يمن التركى] «1» . وملك حماة وحلب. وأرسل إلى سيما الطّويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقرّ على ولايته، فامتنع، فعاوده، فلم يطعه، فسار إليه. ودلّوه على عورة أنطاكية فنصب عليها المجانيق، وملك البلد عنوة، وقاتله سيما الطويل حتى قتل، فساء أحمد قتله لأنّه كان نصيحه قديما «2» ؛ وكان ذلك فى المحرّم سنة خمس وستين ومائتين. ورحل عن أنطاكيّة إلى طرسوس «3» ، فدخلها فى جمع عظيم، وعزم على المقام بها وملازمة الغزو، فغلا السّعر وضاقت بعساكره، فركب أهلها إليه بالمخيّم وقالوا له: لقد ضيّقت علينا بلدنا وأغليت أسعارنا، فإما أقمت فى عدد يسير وإمّا رحلت عنا، وأغلظوا له فى القول وشغبوا عليه، فقال لأصحابه أن ينهزموا عن الطرسوسيّين ويرتحلوا عن البلد، ليظهر للعدوّ أنّ ابن طولون على كثرة عساكره لم يقو لأهل طرسوس، وأنّه انهزم عنهم، لتقع مهابتهم فى قلوب العدوّ. وعاد إلى الشام، فأتاه خبر ولده العبّاس أنّه عصى عليه بمصر وأخذ الأموال وسار إلى برقة، فلم يكترث أحمد لذلك، وقضى أشغاله، وحفظ

أطراف بلاده. وبعث إلى حرّان «1» أحمد بن جيغويه فى جيش كثيف، ونزل غلامه لؤلؤ بالرّقّة «2» فى جيش كثيف، وكانت حرّان لمحمّد بن أتامش، فأخرجه أحمد بن جيغويه عنها، وهزمه هزيمة قبيحة، فاتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان شجاعا بطلا، فجمع عسكرا كثيرا، وسار بهم إلى نحو حرّان. فاتّصل ذلك بابن طولون، فأهمّه وأقلقه وأزعجه، فنظر إليه رجل من الأعراب يقال له أبو الأغرّ، فقال له: أيها الأمير أراك مفكّرا منذ أتاك خبر ابن أتامش، وما هذا محلّه، فإنه طائش قلق، ولو شاء الأمير أتيته به أسيرا. فغاظه قوله «3» ، وقال: لقد شئت أن تأتينى به أسيرا [فقال الاعرابى] «4» فاضمم إلىّ عشرين أختارهم. قال: افعل. فانتقاهم أبو الأغرّ، وسار بهم. فلمّا قارب عسكر موسى، كمّن بعضهم، وجعل بينه وبينهم إشارة إذا سمعوها ظهروا. ثمّ دخل العسكر فيمن بقى معه على زىّ الأعراب، وأصحاب موسى على غرّة، وقد تفرّق بعضهم فى حوائجهم، فانزعج العسكر وركبوا، فركب موسى، فانهزم أبو الأغربين يديه، فاتّبعه حتى أخرجه من العسكر، واستمرّ حتّى جاور الكمين، فنادى أبو الأغرّ بالإشارة التى بينه وبينهم، فثاروا،

ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وما كان من أمره

وعطف أبو الأغرّ على موسى فأسره، وأخذوه حتّى وصلوا به إلى ابن جيغويه وإلى ابن طولون فاعتقلاه، ورفع إلى مصر. وكان وصوله إليها فى سنة ستّ وستّين «1» .. ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وما كان من أمره وفى سنة خمس وستّين ومائتين عصى العباس بن أحمد على أبيه، وسبب ذلك أنّ أباه لمّا استخلفه بمصر، كما ذكرناه، وخرج إلى الشّام، حسّن للعبّاس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والإنسراح «2» إلى برقة، ففعل ذلك، وحمل معه أحمد بن محمد الواسطى كاتب أبيه، وأيمن الأسود مقيّدين. فلمّا رجع أحمد إلى مصر وجده قد أخذ ألفى ألف دينار، واستلف من التّجار ثلاثمائة ألف دينار، وأمر صاحب الخراج أن يضمنها لهم، ففعل. فراسل أحمد ابنه واستعطفه، فلم يرجع، فخاف من معه وأشاروا عليه بقصد إفريقية، فسار إليها، وكاتب وجوه البربر، فأتاه بعضهم وامتنع بعضهم. وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب «3» يقول: إن أمير المؤمنين قلّدنى

إفريقية وأعمالها، ورحل حتّى أتى حصن لبدة «1» ، ففتحه أهله له، فقابلهم أسوأ مقابلة، ونهبهم، فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النّفوسى، رئيس الإباضيّة هناك، فاستغاثوا به، فغضب لذلك، وسار إلى العباس ليقابله. وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشا «2» وأمره بقتال العبّاس، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز بينهما اللّيل. فلمّا كان الغد وافاهم إلياس ابن منصور الإباضى فى اثنى عشر ألفا من الإباضيّة، فأجمع هو وعامل طرابلس على قتال العبّاس. فاقتتلوا، فقتل من أصحابه خلق كثير، وانهزم أقبح هزيمة، وكاد أن يؤسر. فخلّصه مولى من مواليه، ونهبوا سواده، وأكثر ما حمله من مصر. فعاد إلى برقة أقبح عود. [وشاع بمصر أن العباس قد انهزم] «3» [8] فاغتمّ أبوه لذلك غمّا شديدا، وسيّر إليه العساكر، فقاتلهم وقاتلوه، فانهزم، وكثر القتل فى أصحابه، وأخذ أسيرا، وحمل إلى أبيه. فحبسه فى حجرة فى الدّار إلى أن قدم العسكر ببقيّة الأسرى من أصحابه. فلمّا قدموا أحضرهم أحمد عنده، والعبّاس معهم، وأمره أن يقطع أيدى أعيانهم وأرجلهم، ففعل ذلك. فلمّا فرغ منهم وبّخه أبوه وذنّبه. وقال له: هكذا يكون الرّئيس والمقدّم! كان الأحسن أنّك ألقيت نفسك بين يدىّ وسألت الصّفح عنك وعنهم،

ذكر خلاف لؤلؤ على احمد

فكان ذلك أعلى لمحلّك. وكنت قضيت حقوقهم «1» . ثم أمر به فضربه مائة مقرعة، ودموع أحمد تجرى على خدّه رقّة على ولده، ثم ردّه إلى الحجرة واعتقله، وذلك فى سنة ثمان وستّين ومائتين. ذكر خلاف لؤلؤ على احمد كان سبب ذلك أن الحسين بن مهاجر «2» غلب على أحمد بن طولون، وحسّن له جمع الأموال ومنعه من سماحته وجريه على عوائده الجميلة، فنفرت القلوب عن أحمد، وتغيّرت الخواطر عليه، فتنكّر له غلامه لؤلؤ، وكان عمدته عليه، وكان فى يده حلب وحمص وقنّسرين وديار مضر. وكان أحمد إذا أنكر على لؤلؤ شيئا أوقع بكاتبه محمد بن سليمان، ويقول له. هدا منك ليس منه، فحمل محمّد بن سليمان الخوف من أحمد على أن حسّن [-] «3» لؤلؤ حمل جملة من المال إلى الموفّق «4» ، فحمل ذلك إليه، وكتب إليه عن لؤلؤ كتابا يعرّفه رغبته فى المصير إليه، والتّصرّف تحت أمره ونهيه، والدّخول فى طاعته، فسرّ الموفّق لذلك واستبشر، لما فى نفسه من أحمد، ورأى أنّ ذلك من الفرص الّتى يتعيّن انتهازها، فأجابه بأحسن جواب، وأنفذ إليه خلعا.

وكانت مع لؤلؤ طائفة من خواصّ أحمد، فلمّا أنكروا حاله، واطّلعوا على ما فعله، فارقوه، والتحقوا بأحمد، وأطلعوه على ما كان من أمر لؤلؤ. فتألّم لذلك، وأخذ فى إعمال الحيلة والمخادعة للؤلؤ والتلطّف به، ومكاتبة محمّد بن سليمان، فلم يفد ذلك عنده. فكتب أحمد إلى المعتمد على الله كتابا يقول فيه: إنّى خائف على أمير المؤمنين من سوء يلحقه، وقد اجتمع عندى مائة ألف عنان أنجاد، وأنا أرى لسيّدى أمير المؤمنين الانجذاب إلى مصر، فإنّ أمره يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العزّ، ولا يتهيّأ لأخيه الموفق شىء ممّا يخافه عليه. وجهّز له قرين ذلك، سفاتج «1» بمائة ألف دينار، وذلك فى سنة ثمان وستين ومائتين. وأظهر أحمد الخروج لهذا الأمر. فلمّا وصل كتابه إلى الخليفة. تجهّز لقصده مصر، فكان من خروجه ورجوعه إلى بغداد ما ذكرناه فى أخباره. وأمّا أحمد فإنّه تجهّز إلى الشام، وأخذ معه ابنه العبّاس مقيّدا، واستخلف ابنه خمارويه على مصر. فسار، فوصل إلى دمشق وهو يظهر الانتصار للمعتمد، ويقصد لؤلؤا غلامه فعند ذلك التحق لؤلؤ بالموفّق، وكان لحاقه به فى سنة تسع وستين. وانتهى إلى أحمد عود المعتمد، وأنّه فصيّق عليه، فأحضر أحمد قضاة أعماله وفيهم بكّار بن قتيبة «2» والعمرى وأبو حازم، وغيرهم، وخلع الموفّق، فكلّهم وافقه على ذلك إلّا بكّار. وأسقط أحمد دعوة الموفّق، وقلع اسمه

من الطّرز. فلمّا بلغ الموفّق ذلك أمر بلعن أحمد بن طولون فى المنابر فى سائر الأمصار. ثم رجع الموفّق عن ذلك، وأمر كاتبه صاعد بن مخلّد وجماعة من خاصّته بمكاتبة أحمد بن طولون وتوبيخه على ما فعله، فكتبوا إليه واستمالوه، فعلم أنّ ذلك عن رأى الموفّق وإذنه لهم، فأجابهم بأحسن جواب. فعرضوا كتبه على الموفّق، فسرّه ما تضمّنته، وعلم أنّ ابن طولون إنّما فعل ذلك لمغالاته فى المناصحة هم. وكان الموفّق كامل العقل، فسكّن ذلك منه ما كان فى نفسه على أحمد، ومال قلبه إليه. وكتب الموفّق إلى أخيه المعتمد يعلمه برجوعه عن أمر أحمد وندمه على ما كان منه فى حقّه، وسأله أن يكتب إليه، فسرّ المعتمد بذلك، وكتب إلى أحمد كتابا بخطّه، وأمره بالرجوع عمّا هو عليه من أمر الموفّق، وبعث إليه كتاب الموفّق برجوعه عن لعنه، وأنفذ الكتاب مع الحسن بن عطّاف. فلمّا بلغ الرّقّة بلغه وفاة أحمد ابن طولون «1» ، فرجع إلى الحضرة. وأما لؤلؤ فإنّه بلغه أنّ مولاه أحمد باع أولاده وخدمه بسوق الرّقيق بمصر، وقبض على أملاكه، فبلغ ذلك منه كلّ مبلغ، وتقدّم إلى الموفّق وبكى، وسأله إنفاذ الجيوش معه، وضمن له أخذ البلد من مولاه، وبسط لسانه فى سيرته، فخلع الموفّق عليه، وحمله على دابة، ووعده، وأمر بتجريد الجيوش [9] معه، كلّ ذلك وهو يسخر به ويماطله إلى أن يعود جواب أحمد مع الحسن ابن عطّاف، فقبض حينئذ على لؤلؤ وردّه إلى مولاه، واستقبح ما فعله لؤلؤ فى حقّ سيده، فلمّا اتفق وفاة أحمد، أقام لؤلؤ فى

ذكر وفاة أحمد بن طولون وشىء من أخباره وسيرته

خدمة الموفّق إلى سنة ثلاث وسبعين، فقبض الموفّق عليه، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار، وكان لؤلؤ يقول: ليس لى ذنب إلّا كثرة مالى. ولم تزل أمور لؤلؤ فى إدبار إلى أن افتقر، ولم يبق له شىء، فعاد إلى مصر فى آخر أيام هارون بن خمارويه «1» بغلام واحد. وهكذا تكون ثمرة الغدر وكفر الإحسان. ذكر وفاة أحمد بن طولون وشىء من أخباره وسيرته كانت وفاته فى نصف اللّيل من ليلة الأحد لعشر ليال خلون من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين. قيل: وكان سبب وفاته أن نائبه بطرسوس «2» وثب عليه يازمان «3» الخادم وقبض عليه، وأظهر الخلاف على أحمد. فجمع أحمد العساكر، وسار إليه. فلمّا وصل إلى أذنة «4» كاتبه وراسله واستماله، فلم يلتفت

يازمان الخادم إلى رسالته. فسار أحمد إليه وحصره، فخرق يازمان نهر البلد «1» على منزلة العسكر، فكاد النّاس يهلكون. فرحل أحمد حنقا، وكان الزمان شتاء، وكتب إلى يازمان: إننى لم أرحل إلّا خوفا أن تنخرق حرمة هذا الثّغر، ويطمع العدو فيه. وعاد إلى أنطاكيّة، فأكل من لبن الجواميس وأكثر منه، فأصابته هيضة واتّصلت به حتى صار منها ذرب «2» . وكان الأطبّاء يعالجونه، وهو يأكل سرّا غير ما يصفونه، فلم ينجع الدّواء فيه. فمات رحمه الله. هكذا ذكر ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل فى سبب وفاته «3» . وأما صاحب الدّول المنقطعة «4» فإنه قال: إنّه رجع إلى مصر واعتلّ بزلق للمعدة. واشتدّت به العلّة وطالت، فعهد إلى ابنه أبى الجيش خمارويه، وأطلق ابنه العباس من قيده، وذلك فى القعدة سنة سبعين ومائتين، وخلع عليه وقلّده جميع الأعمال الخارجة عن أعمال مصر من الشّامات والثّغور، وأوصاه بتقوى الله وطاعة أخيه. ثمّ توفّى رحمه الله وسنّه يومئذ خمسون سنة وشهر وثمانية وعشرون يوما، ومدّة إمرته على مصر ستّ عشرة سنة وشهر واحد وسبعة وعشرون يوما. «5»

وأمّا سيرته، فإنّه، رحمه الله، كان عادلا شجاعا، كريما متواضعا، حسن السّيرة، يباشر الأمور بنفسه ويتفقّد رعاياه، ويحبّ أهل العلم، ويدنى مجالسهم. وكان كثير الصّدقات. وهو الذى بنى قلعة يافا، وكانت المدينة بغير قلعة. اولاده ثلاثة وثلاثون «1» . منهم «2» : أبو الفضل العبّاس، أبو الجيش خمارويه، أبو العشائر مضر. أبو الكرم ربيعة، أبو المقانب شيبان، أبو ناهض عياض، أبو معدّ عدنان، أبو الكراديس خزرج. أبو حبشون عدىّ، أبو شجاع كندة، أبو منصور أغلب، أبو بهجة ميسرة، أبو البقاء هدى، أبو المفوض غسّان، أبو الفرج مبارك، أبو عبد الله محمد، أبو الفتح مظفر. والبنات ستّ عشرة، وهنّ: فاطمة، ولميس، وتعلب «3» ، وصفية، وغالية «4» ، وخديجة، وميمونة، ومريم، وعائشة، وأم القرى «5» ، ومؤمنة، وعزيزة، وزينب، وسمانة، وسارة، وغريرة. وخلّف من الأموال والعين والورق كثيرا، ومن الغلمان أربعة وعشرين ألف غلام، ومن الموالى سبعة آلاف رجل، ومن الخيل سبعة آلاف وثلاثمائة وخمسين رأسا، منها: لركابه ثلاثمائة وخمسون، ومن الجمال ثلاثة آلاف

ذكر ولاية أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثانى من ملوك الطولونية

جمل، وألف بغل، ومن المراكب الحربيّة الكبار مائتى مركب بآلتها، ومن الأمتعة والفرش والآلات والأوانى ما لا يحصى كثرة ولا يعدّ اتّساعا، وأنفق على الجامع مائة ألف وعشرين ألف دينار، وعلى البيمارستان ستّين ألف دينار، وعلى العين الّتى بالمعافر مائة ألف وأربعين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة مائة ألف دينار. وأنفق فى بناء الميدان مائة ألف وخمسين ألف دينار، وعلى مرمّات الثّغور وحصن يافا مائتى ألف دينار. وكانت صدقاته فى كلّ شهر ألف دينار سوى المرتّبات، وكانت له وظائف من خبز ولحم تجرى على قوم مستورين، فى كلّ شهر ألفا دينار. وكان يصنع فى كلّ جمعة من أصناف الأطعمة والحلو أشياء كثيرة يحضرها النّاس من فقير، ومستور، ومتجمّل، ومحتاج، وكان إذا عاين ذلك وهو بمشترف عال يسجد لله تعالى شكرا تارة، ويصلّى تارة، ويدعو تارة، ويبكى تارة. فكانت سيرته رحمه الله أجمل سيرة، وفراسته أعظم فراسة، بحيث إنّه كان ينظر إلى الرّجل فيدرك [10] بفراسته غرضه، ولمّا مات ملك بعده ولده. ذكر ولاية أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثانى من ملوك الطولونية ملك بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد لعشر خلون من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين، وهو ابن عشرين سنة وشهور، فى خلافة المعتمد على الله. وذلك أنّه لمّا توفّى والده اجتمع الأجناد وقتلوا ولده العباس الأكبر وولّوا خمارويه، فاستقلّ بالأمر.

ذكر مسير إسحاق بن كنداجق ومحمد بن أبى الساج إلى الشام

ذكر مسير إسحاق بن كنداجق «1» ومحمد بن أبى الساج إلى الشام قال المؤرّخ «2» : لمّا توفى أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجق على الموصل والجزيرة، وابن أبى السّاج «3» على أرمينية والجبال، فطمعا فى الشّام، واستصغرا أولاد أحمد بن طولون، فكاتبا الموفّق واستمدّاه، فأمرهما بقصد الشام، ووعدهما إنفاذ الجيوش. فجمعا وقصدا ما يجاورهما من البلاد، فاستوليا عليها، وأعانهما نائب دمشق الّذى كان من قبل أحمد بن طولون ووعدهما الانحياز إليهما، وأظهر العصيان، واستولى إسحاق على حلب وحمص وأنطاكيّه ودمشق. فلمّا انتهى الخبر إلى أبى الجيش خمارويه ندب العساكر المصريّة إلى الشام، فملكوا دمشق، وهرب نائبها. وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر «4» لقتال إسحاق وابن أبى السّاج، فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق. وهجم الشّتاء على الطّائفتين، وأضرّ بأصحاب خمارويه، فتفرّقوا فى المنازل بشيزر. ووصل العسكر العراقى إلى ابن كنداجق وعليهم أبو العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد بالله. فلمّا وصل سار مجدّا إلى عسكر

ذكر وقعة الطواحين

خمارويه بشيزر، فكبسهم فى المساكن ووضع فيهم السّيف، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم منهم إلى دمشق على أقبح صورة. فسار المعتضد إليهم، ففارقوا دمشق وتوجّهوا إلى الرّملة، وأقاموا بها. ودخل أبو العبّاس المعتضد إلى دمشق فى شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. وكتب عسكر مصر إلى خمارويه، فخرج من مصر بعساكره. ذكر وقعة الطواحين وفى سنة إحدى وسبعين ومائتين كانت وقعة الطّواحين «1» بين أبى العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد، وبين أبى الجيش خمارويه بن أحمد. وكان سبب هذه الوقعة أنّ المعتضد لمّا ملك دمشق سار بعساكره إلى الرّملة لقصد عسكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عسكره وكثرة من معه من الجموع، فهمّ المعتضد بالعود، فلم يمكّنه من معه من أصحاب ابن طولون الّذين صاروا معه. وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجق وابن أبى السّاج ونسبها إلى الجبن، حيث انتظراه حتّى وصل إليهما ولم يناجزا عسكر خمارويه الحرب، ففسدت نياتهما. قال: ورحل خمارويه ونزل على الماء الّذى عليه الطواحين [عند الرملة] «2» وملكه، فنسبت الوقعة إليه. ووصل المعتضد وقد عبّأ أصحابه، وفعل خمارويه كذلك، وجعل كمينا عليهم سعد الأيسر، فحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه فانهزمت. فلمّا رأى خمارويه ذلك، ولم يكن

رأى مصافّا قبله، ولّى منهزما فى طائفة من الأحداث الّذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر. ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه وهو لا يشكّ فى تمام النّصر، فخرج سعد الأيسر بالكمين وانضاف إليه من بقى من الجيش، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد وقد اشتغلوا بنهب السّواد، فوضع المصريّون السّيف فيهم. فظنّ المعتضد أنّ خمارويه قد عاد، فركب وانهزم لا يلوى على شىء، ووصل إلى دمشق فلم يفتح له أهلها، فمضى منهزما حتّى وصل طرسوس. واقتتل العسكران وليس لواحد منهما أمير [11] ، وطلب سعد الأيسر خمارويه فلم يجده. فأقام أخاه أبا العشائر مقامه. وتمّت الهزيمة على العراقيّين، وقتل منهم خلق كثير، وأسر خلق كثير. وجاءت البشائر بالنّصر إلى مصر، فسرّ خمارويه بالظّفر، وخجل من الهزيمة، وأكثر الصّدقة، وفعل مع الأسرى ما لم يسبق إليه، وقال لأصحابه: هؤلاء أضيافكم، فأكرموهم. ثم أحضرهم بعد ذلك وقال: من اختار المقام عندنا فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرّجوع جهّزناه وسيّرناه، فمنهم من أقام، ومنهم من عاد مكرّما. وسارت عساكر خمارويه إلى الشّام ففتحه أجمع، واستقر ملك خمارويه «1» . وفى سنة اثنتين وسبعين ومائتين زلزلت مصر فى جمادى الآخرة زلزلة شديدة أخربت الدّور والمسجد الجامع، وأحصى بها فى يوم واحد ألف جنازة.

ذكر اختلاف محمد بن أبى الساج وإسحاق بن كنداجق والخطبة لخمارويه بالجزيرة

ذكر اختلاف محمد بن أبى الساج وإسحاق بن كنداجق والخطبة لخمارويه بالجزيرة وفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين فسدت الحال بين محمد بن أبى الساج واسحاق بن كنداجق «1» ، وكانا قبل ذلك متّفقين بالجزيرة. وسبب ذلك أنّ ابن أبى السّاج نافس إسحاق فى الأعمال وأراد التقدّم، فامتنع إسحاق عليه، فكاتب محمّد بن أبى الساج خمارويه وانضمّ إليه، وخطب له بأعماله، وهى قنّسرين، وسير ولده ديوذاد «2» إلى خمارويه رهينة، فأرسل خمارويه إلى الشّام، واجتمع هو وابن السّاج ببالس «3» . وعبر ابن أبى السّاج الفرات إلى الرّقّة فلقيه إسحاق، وكان بينهما حرب انجلت عن انهزام إسحاق، واستولى ابن أبى الساج على ما كان معه. وعبر خمارويه الفرات ونزل الرّافقة «4» ، وانهزم إسحاق إلى قلعة ماردين «5» ، فحصره ابن أبى السّاج بها، وسار عنها إلى سنجار «6» ، وأوقع بطائفة من

ذكر الاختلاف بين خمارويه ومحمد بن أبى الساج والحرب بينهما

لأعراب. وسار إسحاق إلى الموصل فلقيه ابن أبى الساج ببرقعيد «1» ، وكمّن له، واقتتلوا، فخرج الكمين على إسحاق، فانهزم وعاد إلى ماردين. فقوى ابن أبى السّاج وظهر أمره، واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيها، ثمّ لنفسه بعده. وفيها أيضا ثار السّودان بمصر، وحصروا صاحب الشّرطة «2» ، فركب خمارويه بنفسه، وبيده سيف مسلول، وقصد دار صاحب الشّرطة، فقتل من لقيه من السّودان، فهزموا، وكثر القتل فيهم، وسكنت مصر. ذكر الاختلاف بين خمارويه ومحمد بن أبى السّاج والحرب بينهما وفى سنة أربع وسبعين ومائتين خالف محمّد بن أبى الساج على خمارويه، فسار خمارويه إلى الشّام، فقدمها فى آخر السّنة، وسار ابن أبى السّاج إليه، فالتقوا عند ثنيّة العقاب «3» ، على مرحلة من دمشق إلى جهة حمص. واقتتلوا فى المحرّم سنة خمس وسبعين، فانهزمت ميمنة خمارويه، وأحاط عسكر خمارويه بابن أبى السّاج، فانهزم، واستبيح عسكره. وكان قد خلّف بحمص أموالا كثيرة، فندب خمارويه إليها قائدا من قوّاده فى جيش جريدة «4» ، فسبقوا ابن أبى السّاج إليها ومنعوه من الدّخول

ذكر الدعاء لخمارويه بطرسوس

والاعتصام بها، واستولوا على أمواله الّتى بها. فمضى إلى حلب، ومنها إلى الرّقّة، فتبعه خمارويه، ففارقها. وعبر خمارويه الفرات وسار فى أثره، فوصل إلى مدينة بلد «1» ، وسبقه ابن أبى السّاج إلى الموصل، ثمّ فارقها إلى الحديثة «2» ، وأقام خمارويه ببلد، وعمل له سريرا طويل الأرجل، وكان يجلس عليه فى دجلة. ذكر الدعاء لخمارويه بطرسوس وفى سنة سبع ومائتين دعا يازمان بطرسوس لخمارويه. وسبب ذلك أنّ خمارويه أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار، وخمسمائة ثوب، وخمسمائة مطرف، وسلاحا كثيرا، فلمّا وصل ذلك إليه، دعا له، ثمّ وجّه إليه خمسين ألف دينار. ثم توفى يازمان فى جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين، فخلفه ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه بوفاة يازمان، فأقرّه على ولاية طرسوس، وأمدّه بالخيل [12] والسّلاح والذّخائر، ثمّ عزله، واستعمل عليها ابن عمّه محمّد ابن موسى بن طولون. ذكر الفتنة بطرسوس وفى سنة ثمان وسبعين ومائتين ثار النّاس بطرسوس بالأمير محمد بن موسى، فقضوا عليه. وسبب ذلك أنّ الموفق كان له خادم من خواصه يقال

ذكر زواج المعتضد بالله بابنة خمارويه ابن أحمد بن طولون

له راغب؛ فلمّا مات الموفّق اختار راغب الجهاد، فسار إلى طرسوس على عزم المقام بها، فلمّا وصل إلى الشّام سيّر ما معه من دوابّ وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هو جريدة إلى خمارويه ليزوره ويعرّفه ما عزم عليه، فلقى خمارويه بدمشق، فأكرمه خمارويه وأنس به وأحبّه، فاستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس، فطال مقامه عنده. فظنّ أصحابه أنّه قبض عليه، وأذاعوا ذلك، فاستعظمه النّاس، وقالوا: يعمد إلى رجل قصد الجهاد فى سبيل الله فيقبض عليه، فشغبوا على أميرهم، وقبضوا عليه، وقالوا: لا تزال فى الحبس حتى يطلق ابن عمّك خمارويه راغبا، ونهبوا داره، وهتكوا حرمه. وبلغ الخبر خمارويه فأطلع راغبا عليه، وأذن له فى المسير إلى طرسوس. فلمّا دخلها أطلق أهلها اميرهم محمد بن موسى، فسار عنها إلى البيت المقدّس. ولمّا سار عنها وليها أحمد العجيفى، وكان يليها قبل ذلك «1» . ذكر زواج المعتضد بالله بابنة خمارويه ابن أحمد بن طولون قال: ولمّا توفى المعتمد على الله «2» وتولّى المعتضد بالله «3» بادر خمارويه

ذكر مقتل أبى الجيش خمارويه

إليه بالهدايا الجليلة على يد الحسين «1» بن عبد الله بن منصور بن الجصّاص الجوهرى، فأقرّه المعتضد بالله على ما بيده من الأعمال. وسأل خمارويه المعتضد أن يزوّج ابنته قطر الندى «2» للمكتفى بالله ولىّ العهد، فقال المعتضد بل أنا أتزوجها. [وكان ذلك] «3» فى سنة ثمانين، وحملت إليه فى سنة إحدى وثمانين ومائتين، وأصدقها ألف ألف درهم. وقيل: إنّ المعتضد بالله إنّما قصد بزواجها إفقار الطّولونيّة، وكذلك كان، فإنّ خمارويه جهّزها بجهاز لم يسمع بمثله «4» ، حتى قيل إنّه كان لها ألف هاون من ذهب، وشرط المعتضد على خمارويه أن يحمل فى كلّ سنة مائتى ألف دينار، بعد القيام بجميع وظائف مصر وارزاق الجند، فأجاب إلى ذلك. ذكر مقتل أبى الجيش خمارويه كان مقتله فى ليلة الأحد لثلاث بقين من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وقيل «5» فى ذى الحجة منها بدمشق.

ذكر ولاية أبى العشائر جيش ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثالث من الملوك الطولونية

وكان سبب قتله أنّه قيل له إن جوارى داره قد اتّخذت كلّ واحدة منهنّ خصيّا وجعلته لها كالزّوج، وقال له النّاقل إن شئت [أن] » تعلم صحّة ذلك فقرّر بعض الجوارى بالضّرب، فكتب من وقته إلى نائبه بمصر يأمره أن يسيّر إليه الجوارى، فاجتمع جماعة من خدم الخاصّة وتواعدوا على قتله، فذبحوه على فراشه ليلا. فلما قتل قتل من خدمه الّذين اتّهموا بقتله نيّف وعشرون نفسا. وحمل خمارويه إلى مصر فدفن بجبل المقطّم. وكانت مدّة ملكه ثنتى عشرة سنة وأياما. ذكر ولاية أبى العشائر جيش ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثالث من الملوك الطولونية ملك بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد لثلاث بقين من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وذلك أنّ خمارويه لمّا قتل اجتمع القوّاد على ابنه أبى العشائر [13] وبايعوه، وكان مع أبيه بدمشق، وهو أكبر ولده، ففرّق فيهم الأموال، ورجع إلى مصر، وكان صبيّا غرّا.

ذكر عصيان دمشق على جيش وخلاف جنده وقتله

ذكر عصيان دمشق على جيش وخلاف جنده وقتله وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين خرج جماعة من قوّاد جيش بن خمارويه وجاهروه بالخلاف، وقالوا: لا نرضى بك أميرا، فاعتزلنا حتى نولّى الإمارة «1» عمّك. وكان سبب ذلك أنه لمّا ولى قرّب الأحداث والسّفل، وأخلد إلى سماع أقوالهم، فغيّروا نيّته على قواده وأصحابه، فصار يقع فيهم ويذمّهم، ويظهر العزم على الاستبدال بهم، وأخذ نعمهم وأموالهم، فاتّفقوا على قتله وإقامة عمّه. فبلغه ذلك فلم ينته، وأطلق لسانه فيهم، ففارقه بعضهم، وخلعه طغج بن جفّ «2» أمير دمشق. وسار القوّاد الذين فارقوه إلى بغداد، وهم: محمّد بن إسحاق بن كنداجق، وخاقان المفلحى، وبدر بن جفّ أخو طغج، وغيرهم من قوّاد مضر «3» . فسلكوا البرّيّة وتركوا أموالهم وأهليهم، فتاهوا أيّاما، ومات جماعة منهم من العطش، وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين، وقدموا على المعتضد، فخلع عليهم، وأحسن إليهم. وبقى سائر الجند بمصر على خلافهم، فسألهم كاتبه على بن أحمد الماذرائى أن ينصرفوا يومهم ذلك،

ذكر ولاية أبى موسى هارون ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الرابع من ملوك الدولة الطولونية

فرجعوا، فقتل جيش عمّين من عمومته «1» ، فثار الجند إليه، فرمى لهم بالرّأسين، فهجم الجند عليه وقتلوه، ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها «2» . وكانت ولايته تسعة أشهر، وقيل ثمانية، والله أعلم. ذكر ولاية أبى موسى هارون ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الرابع من ملوك الدولة الطولونية ملك بعد مقتل أخيه فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وهو ابن عشر سنين، فاختلّت الأحوال، واختلف القوّاد وطمعوا، فانحلّ النظام، وتفرّقت الكلمة، ثم اتّفقوا على أن جعلوا أبا جعفر بن أبّى التّركى مدبّر الدولة، وكان مقدّما عند أبيه وجدّه، فأصلح الأحوال جهد طاقته. وجهز جيشا إلى دمشق عليه بدر الحمامى والحسن بن أحمد الماذرائى، فأصلحا حالها، وقرّرا أمور الشّام، واستعملا على دمشق طغج بن جفّ الفرغانى، وهو والد الإخشيد، ورجعا إلى مصر، وفى الأمور اختلال، والقوّاد قد تغلّبوا، وضمّ كلّ منهم إلى نفسه طائفة من الجند. ولم يزل الأمر على ذلك إلى سنة إحدى وتسعين ومائتين.

ذكر انقراض الدولة الطولونية

ذكر انقراض الدولة الطولونية كان انقراضها فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين وسبب ذلك أن الخليفة المكتفى بالله «1» ندب محمّد بن سليمان كاتب الجيش فى سنة إحدى وتسعين ومائتين، وخلع عليه وعلى جماعة من القوّاد، وأمرهم بالمسير إلى الشّام ومصر وانتزاعهما من هارون بن خمارويه، لما ظهر من عجزه واختلاف أصحابه عليه. فسار عن بغداد فى شهر رجب، هو وعشرة آلاف، ووصل إلى حدود مصر فى المحرّم سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ووجّه المكتفى أيضا دميانة الرّومى غلام يازمان بالمراكب، فوصل إلى تنّيس «2» ودخل نهر النّيل، فوجه إليه هارون جماعة من القوّاد، فالتقوا، فهزمهم دميانة، وزحف محمّد بن سليمان بالجيوش فى البرّ حتى دنا من مصر، وكاتب من بها من القوّاد، فكان أوّل من خرج إليه والتحق به بدر الحمامى، وهو رئيس القوّاد ففتّ ذلك فى أعضاد المصريّين. وتتابع القوّاد إليه. فلمّا رأى هارون ذلك خرج بمن بقى معه من القوّاد لقتال محمّد بن سليمان، فكانت بينهم حروب، ثمّ وقع بين

أصحاب هارون فى بعض الأيّام، فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكّنهم، فرماه بعض المغاربة بمزراق «1» فقتله، وقيل بل فعل ذلك عمّه شيبان، وذلك لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وكانت مدّة ولايته نحوا من تسع سنين تقريبا. فبايع الأجناد عمّه [14] أبا المقانب شيبان بن أحمد بن طولون، وهو الخامس من ملوك الدّولة الطّولونية، وعليه انقرضت. قال: ولمّا بويع بذل الأموال للجند فأطاعوه «2» ، وقاتلوا معه قتالا شديدا، ثم لم يلبثوا أن وافتهم كتب بدر الحمامى يدعوهم إلى الأمان فأجابوه إلى ذلك. وسار محمّد بن سليمان إلى مصر، فدخلها فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فأرسل إليه شيبان يطلب منه الأمان، فأمّنه، فخرج إليه ولم يعلم به أحد من جنده، فلمّا أصبحوا قصدوا دار الإمارة «3» فلم يجدوه، فبقوا حيارى. واستولى محمّد بن سليمان على مصر، وعلى منازل آل طولون وأموالهم، وقبض عليهم كلّهم، وهم عشرون رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم. وكتب بالفتح إلى الخليفة، فأمره بإشحاص آل طولون وأشياءهم «4» من مصر والشام إلى بغداد، فحملهم وأتباعهم وأنقاض

قصورهم، وعاد إلى بغداد، وولّى معونة «1» مصر عيسى النوشرى «2» . وانقرضت الدّولة الطّولونيّة، وكانت مدّتها من لدن ولاية أحمد بن طولون وإلى آخر أيام أبى المقانب سبعا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وملك منهم خمسة نفر.

ذكر أخبار من ولى مصر بعد انقراض الدولة الطولونية وإلى قيام الدولة الإخشيدية من الأعمال وملخص ما وقع فى أيامهم من الحوادث

ذكر أخبار من ولى مصر بعد انقراض الدّولة الطولونية وإلى قيام الدّولة الإخشيديّة من الأعمال وملخّص ما وقع فى أيامهم من الحوادث لمّا انقرضت الدولة الطولونية كما ذكرنا، كان أول من ولى مصر عيسى النوشرى، رتّبه فى ولاية معونتها محمّد بن سليمان الكاتب، فلما سار محمد إلى العراق ظهر بمصر رجل يسمى إبراهيم الخليجى وتغلب عليها. ذكر إبراهيم الخليجى «1» وما كان من أمره كان ابراهيم هذا من القوّاد الطّولونيّة، وكان قد تخلّف عن محمّد بن سليمان «2» ، فاستمال جماعة وخالف على السّلطان وكثر جمعه. وعجز النوشرىّ عنه، فسار إلى الإسكندرية، ودخل الخليجى مصر. وكتب النوشرىّ إلى المكتفى بالخبر، فندب إليه الجنود مع فاتك مولى المعتضد، وبدر الحمامى، فساروا فى شوّال سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ووصلوا إلى نواحى مصر فى سنة

ثلاث، فتقدم أحمد بن كيغلغ «1» فى جماعة من القوّاد، فلقيهم الخليجى بالقرب من العريش، فهزمهم أقبح هزيمة، فندب من بغداد جماعة من القوّاد فيهم إبراهيم بن كيغلغ «2» فخرجوا فى شهر ربيع الأول. واتّصلت الأخبار بقوة الخليجى حتى برز المكتفى بالله إلى باب الشماسيّة على عزم المسير إلى مصر، ثم التقى القوّاد بالخليجى، واقتتلوا قتالا شديدا عدة دفعات، كان آخرها أن انهزم الخليجى ودخل فسطاط مصر، واستتر عند رجل من أهلها، ودخل عسكر الخليفة فظفروا به وأخذوه هو والذى استتر عنده «3» وحبسوهما، وكتبوا بذلك إلى الخليفة، ووجه فاتك إبراهيم الخليجى إلى بغداد، فدخلها هو ومن معه فى شهر رمضان، فحبسهم المكتفى. واستقر عيسى النوشرى بمصر إلى سنة سبع وتسعين ومائتين، فتوفى فى شعبان منها، وحمل إلى البيت المقدس فدفن به. واستعمل المقتدر «4» على مصر تكين الخاصّة «5» فى منتصف شهر رمضان من السّنة.

ذكر استيلاء حباسة على الإسكندرية

وفى سنة ثلاثمائة ندب تكين عسكرا وجعل مقدمه أبا النمر «1» أحمد بن صالح، فمضى إلى برقة والتقى مع عسكر حباسة قائد المهدى، وأبلى بلاء حسنا، ثم صرفه تكين وولى حر المنصورى فمضى إلى برقة فوجد أبا النمر موافقا لحباسة، فلمّا علم أبو النمر بعزله تخاذل حنقا «2» على تكين، فاغتنم حباسة الفرصة وحاربهما، فكسرهما، وعادا إلى مصر. ذكر استيلاء حباسة على الإسكندريّة [15] وفى المحرم سنة اثنتين وثلاثمائة سار حباسة قائد المهدى من برقة ودخل الإسكندرية وملكها، فوصل من بغداد أحمد بن كيغلغ، وأبو قابوس محمود بن حمد، والقاسم بن سيما، فى جمع من القواد والعساكر، وكان وصولهم فى العشرين من صفر، فخرج بهم تكين إلى الجيزة فى يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الأولى فعسكر بها، وسار حباسة من الإسكندرية بعسكر مستوفى، ونودى فى فسطاط مصر بالنّفير فى العشرين من الشهر، فخرج الناس إلى الجيزة، ولم يتخلف أحد من الخاصّة والعامّة، وتقدم حباسة فى جيوشه والتقى الفريقان وكثرت القتلى بينهم، فقتل أكثر رجال حباسة، وانهزم بمن بقى معه. ثم قدم مؤنس الخادم من العراق فى منتصف شهر رمضان من السّنة، ومعه جمع من الأمراء، وأمر أحمد بن كيغلغ بالمسير إلى الشام، وصرف

ذكر وصول أبى القاسم بن المهدى إلى الديار المصريه واستيلائه على الإسكندرية والفيوم والأشمونين

تكين الخاصّة عن ولاية مصر لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة. فكانت مدة ولايته خمس سنين وشهرين. وفى سنة ثلاث وثلاثمائة قدم أبو الحسن ذكا «1» الأعور الرومى أميرا على مصر، وذلك لاثنتى عشرة ليلة خلت من صفر، وخرج مؤنس بجيوشه إلى العراق لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وخرج ذكا إلى الإسكندرية لإصلاحها، وجعل فيها ولده مظفرا وتتّبع من كان يذكر بمكاتبة المهدى، فحبس جماعة منهم، وقطع أيدى جماعة وأرجلهم. ذكر وصول أبى القاسم بن المهدى إلى الدّيار المصريّه واستيلائه على الإسكندرية والفيّوم والأشمونين وفى سنة سبع وثلاثمائة، فى الثانى من صفر، وصل أبو القاسم بن المهدى بجيوش المغرب إلى الإسكندريّة وملكها. وهى الدّفعة الثّانية، فإنه كان قد قدم فى سنة إحدى وثلاثمائة وملكها أيضا، ثم عاد إلى أفريقية. ووافق وصوله الآن والجند مخالفون لذكا أمير مصر، فتقاعدوا عن الخروج معه للقاء عسكر المهدى، فخرج إلى الجيزة فى عسكر قليل فى النّصف من صفر، وابتنى حصنا بالجيزة، واحتفر خندقا على عسكره، ثم صرف ذكا، وتوفّى لليلة خلت من شهر ربيع الأول من السنة، وكانت مدة إمارته أربع سنين وأياما.

وقدم أبو قابوس محمود بن حمد أمير الشام بعساكره نصرة لعساكر مصر، فكان قدومه لثمان خلون من شهر ربيع الأول، ونزل الجيزة، ثمّ قدم إبراهيم بن كيغلغ لسبع بقين من شهر ربيع الآخر. ودخل تكين الخاصّة متولّيا لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وثلاثمائة، ونزل الجيزة، وحفر خندقا ثانيا، وأقبلت مراكب المهدى صاحب إفريقيّة، وهى مائة مركب حربيّة «1» ، وعليها سليمان الحاكم «2» ، فبعث تكين إلى بمال الخادم أمير طرسوس أن ينجده، فحضر إليه فى مراكبه «3» ، وانتهى إلى ثغر رشيد، والتقت مراكبه بمركب المهدىّ لعشر بقين من شوال من السنة، وكان بينهم حرب شديدة، وهبّت ريح على مراكب المهدىّ فألقتها إلى البر، وتكسّر أكثرها، وأسر من فيها، وقتل منهم خلق كثير، ودخل من بقى منهم إلى الفسطاط، وهم سبعمائة نفر، فقتلوا عن آخرهم. وقدم مؤنس الخادم من بغداد فى الخامس من المحرم سنة ثمان وثلاثمائة «4» ، وتولّى إمرة مصر من بغداد هلال بن بدر، ودخلها فى السّادس من ربيع الآخر سنة تسع وثلاثمائة، وأقام إلى سنة «5» عشرة،

فشغب «1» عليه الجند، وكثر النهب والقتل والفساد بمصر فصرف هلال عن مصر فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. فكانت مدة ولايته نحو سنتين. وتولى مصر أحمد بن كيغلغ فقدمها فى شهر رجب من السنة، فأقام بمنية الأصبغ «2» ، وأحضر الجند، ووضع العطاء فيهم، وأسقط كثيرا من الرّجاله، فسعت الرجال عليه، وخرجوا لقتاله، فانتقل إلى فاقوس وأقام بها إلى أن قدم رسول تكين الخاصّة بولاية مصر، وذلك فى ذى القعدة من السّنة. وقدم تكين من العراق لعشر مضين من المحرم سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة، فكان بها إلى أن توفى فى السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلى بيت المقدس فدفن هناك، فكانت مدة ولايته هذه تسع سنين وأربعة أشهر إلا أربعة أيام، واستخلف ابنه محمد، وكان الوزير بمصر والمتولّى لخراجها يومئذ محمد بن على الماذرائى «3» فوقع بينه وبين محمد

ابن تكين فتنة لأربع بقين من الشهر، وانتشرت حتى قامت الحرب بينهما، وقتل فيها جماعة من الفريقين وأحرق دور الماذرائى الوزير وجماعة من أصحابه [16] وخرج محمد بن تكين هاربا من مصر، ودعى بمصر لمحمّد ابن طغج بن جفّ الإخشيدى فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من السّنة، ثم دعى لأحمد بن كيغلغ «1» فى شوال من السنة، ثم رجع محمد بن تكين إلى مصر فى يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأقام بالجيزة أياما، ودخل دار الإمارة بمصر، واستقر بها لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ودعى له بالأمارة ثمّ وقع بينه وبين عرب المغاربة حرب انجلت «2» عن انهزامهم إلى الصّعيد، وأقام محمد بن تكين ثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما، ثم هرب مع جماعة من أصحابه لخمس خلون من شهر رجب. ودخل أحمد بن كيغلغ فى يوم السّبت السّادس من الشهر، ثم رجع محمد بن تكين لقتاله لثلاث بقين منه، وكان بينهما حرب انجلت «3» عن انهزام محمد بن تكين، ثم نفى بعد ذلك إلى الصعيد، فلم يزل هناك إلى أن جاء محمّد بن طغج.

ذكر أخبار الدولة الإخشيدية وابتداء أمر من قام بها وكيف كان سبب ملكه وقيامه ومن ملك بعده إلى أن انقرضت أيامهم

ذكر أخبار الدولة الإخشيدية وابتداء أمر من قام بها وكيف كان سبب ملكه وقيامه ومن ملك بعده إلى أن انقرضت أيامهم كانت هذه الدّولة بمصر والشام، وهى من الدّول المشهورة. وأول من ولى من ملوكها الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج. واسم طغج عبد الرحمن ابن جفّ بن يلتكين بن فورى «1» بن خاقان الملك، وهو من فرغانة، وكان طغج من القواد الطّولونيّة، وتولّى لخمارويه بن أحمد [بن طولون] «2» دمشق والشام. ولما مات طغج ترك من الأولاد أبا بكر محمدا الإخشيد، وأبا القاسم عليّا، وأبا المظفر الحسين، وأبا الحسن عبيد الله، وكان أبو بكر أكبرهم فتولّى الولايات وتنقل فى المراتب إلى أن ملك مصر والشام. وكان ابتداء ولايته الدّيار المصريه والدعاء له بها فى يوم الجمعة لاثنتى عشر ليلة خلت من شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما قدمناه، ولم تثبت ولايته هذه. ثم دعى لأحمد بن كيغلغ، وكان ما ذكرناه، ثم ولى مصر فى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فى خلافة الرّاضى بالله «3»

وكانت هذه الولاية مفتعلة فى ابتدائها، وذلك أن التقليد من دار الخلافة ببغداد خرج باسم محمد بن تكين الخاصّة، وكان بن طغج بالسّاحل فقبض على الرّسول الواصل من دار الخلافة وأخذ منه التّقليد وكشط «تكين» وكتب «طغج» وأنفذ التقليد إلى مصر فورد فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان، فاعتزل أحمد بن كيغلغ النّظر، وامتنع محمد ابن على الماذرائى الوزير من التسليم له، وكان غالبا على أمر أحمد [بن كيغلغ] «1» ، وعزم على قتال محمد بن طغج، فبلغه ذلك، فبعث صاعد بن كلملم بمراكب كثيرة من ساحل الشام، وسار هو فى البرّ، فقدمت عساكره مصر برّا وبحرا، ووصل صاعد إلى الجيزة فى يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، وأقام خمسة أيام، وأحرق الجسر، ووصل الإخشيد إلى مصر فلقيه محمد بن على الماذرائى الوزير وأحمد بن كيغلغ ومحمد بن عيسى النوشرى وبرزوا لقتاله. فلما تصافّوا للقتال انحاز أحمد بن كيغلغ وانضم إلى الإخشيد، وقاتل الماذرائى وابن النوشرى قتالا شديدا، ثم انهزما إلى الفيوم. ودخل الإخشيد مصر بعد القتال فى يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان من السنة، فندب صاعدا لقتال الماذرائى وابن النوشرى، فوقع بينهما حرب انجلت «2» عن قتل صاعد وهرب النوشرى إلى برقة، وراسل القائم «3»

صاحب إفريقية يطلب نجدة، فسير إليه عسكرا عليه أبو تازرت «1» فدخلوا الإسكندرية وملكوها، فخرج إليهم أبو المظفر الحسين بن طغج ومعه صالح ابن نافع، ووقع بينهم القتال، فانهزم النوشرى وعسكر المغاربة، وقتلوا أبو تازرت، وأسر عامر المجنون، وجماعة منهم. وأما محمد بن على الماذرائى الوزير فإنه استتر، ودام استتاره إلى أن دخل الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة وتلقاه الإخشيد، وزينت له مصر، فأخرجه. ثم وصل التقليد من دار الخلافة لمحمد بن طغج فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة نعت الخليفة الراضى بالله محمّد بن طعج بالإخشيد بسؤال منه فى ذلك. ومعنى الإخشيد ملك الملوك. وفى سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة خرج الإخشيد إلى الشام واجتمع بالخليفة المتقى «2» بالله بالرّقة، وخدمه، ومشى بين يديه، وسأله المسير معه إلى مصر [17] وخوّفه من توزون التّركى، فلم يقبل منه. فضمّ إليه الإخشيد عسكرا وقائدا من قوّاده ورجع الإخشيد إلى الشام، ثم إلى مصر. وولّاه المتقى مصر والشام والحرمين، وعقد لولديه من بعده،

أنوجور وعلى، على أن يكفلهما «1» كافور الخصىّ. وكان عود الإخشيد إلى مصر فى يوم الأحد الثالث عشر من جمادى الأولى، وأخذ البيعة على الناس لولده أبى القاسم أنوجور لليلتين بقيتا من ذى القعدة منها.

ذكر مسير الإخشيد إلى الشام ووفاته وشىء من أخباره وسيرته

ذكر مسير الإخشيد إلى الشام ووفاته وشىء من أخباره وسيرته وفى خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة خرج الإخشيد إلى الشام والتقى بأصحاب ابن حمدان «1» ، على لدّ «2» ، وهزمهم. ثم سار إلى حمص وقاتل سيف الدولة بن حمدان، ومضى إلى حلب. ثمّ وقع الصلح بينهما، وتسلم الإخشيد من سيف الدّولة حلب وحمص وأنطاكية «3» ، وتزوج سيف الدولة بنت عبيد الله بن طغج أخى الإخشيد. ثم عاد الإخشيد إلى دمشق فتوفّى «4» بها فى يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان عمره ستّا وستين سنة وخمسة أشهر وسبعة أيّام، وكانت مدة ولايته الثانية «5» من لدن دخوله إلى مصر وإلى حين وفاته إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر إلّا يوما واحدا. قال التنوخى «6» : وكان الإخشيد حازما شديدا، يتيقّظ فى حروبه،

ذكر ولاية أبى القاسم أنوجور

حسن التّدبير، مكرما للأجناد، أيدا «1» فى نفسه، لا يكاد يجرّ قوسه الأفذاذ من النّاس لقوثه، حسن السيرة فى رعيّته، وكان جيشه يحتوى على أربعة آلاف رجل، وله ثمانية آلاف مملوك، يحرسه فى كل ليلة منهم «2» ألفا مملوك. وكان إذا سافر يتنقّل فى الخيام عند النّوم حتى كان ينام فى خيمة الفرّاشين. قال وترك الإخشيد سبع بيوت مال، فى كل بيت مال منها ألف ألف دينار من سكّة واحدة. أولاده: أبو القاسم أنوجور، أبو الحسن على. كتّابه: أبو جعفر بن المنفق، وابن قوماقس، وابن الرودبارى. ولما مات ملك بعده ابنه أنوجور. ذكر ولاية أبى القاسم أنوجور ومعنى أنوجور محمود؛ ابن أبى بكر محمد بن طغج، وهو الثانى من ملوك الدّولة الإخشيديّة. كانت ولايته بالشام بعد وفاة أبيه لثمان بقين من ذى الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وبويع له بمصر عند ورود الخبر بوفاة الإخشيد فى اليوم الثانى من المحرّم سنة خمس وثلاثين، وعمره يومئذ اثنتا عشرة سنة. وقام ببيعته الوزير أبو بكر محمد بن على بن مقاتل «3» . وكان أبو المظفّر الحسن بن

ذكر قيام أبى نصر علبون بن سعيد المغربى وما كان من أمره

طغج بمصر فقبض على الوزير محمد بن على المذكور فى ثالث المحرّم، وعزله، وولّى الوزارة «1» محمد بن على الماذرائى، وحبس ابن مقاتل، فلم يزل فى الاعتقال إلى أن قدم كافور بالعسكر من الشام فأفرج عنه. وكان قدوم كافور بالعسكر فى يوم الثلاثاء لثمان مضين من صفر سنة خمس وثلاثين. ثم خرج كافور بالعسكر إلى الشّام ومقدّمه أبو المظفّر بن طغج، أخو الإخشيد، وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأوّل. وكان سبب خروجه أن سيف الدّولة بن حمدان طمع فى ملك الشام لمّا توفى الإخشيد، فسار إلى دمشق وملكها، ثم سار إلى الرّملة فلقيه كافور بها وقاتله، وكانت الهزيمة على ابن حمدان. واستعاد الإخشيديّة ما كان سيف الدولة استولى عليه، وأقام كافور بالشّام. ذكر قيام أبى نصر علبون بن سعيد المغربى وما كان من أمره كان قيامه فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وكان يتولى عمل اسيوط وأخميم من صعيد مصر، فعزله [18] كافور عنهما وهو بالشّام، فامتنع، وطمع لخلوّ البلاد من الأستاذ كافور، فندب إليه عسكرا فهزمهم غلّبون، وهزم عسكرا ثانيا، وتقوّى بما أخذه منهم. ثم سار إلى الشّرقيّة فى أواخر السّنة ثم سار منها ونزل على بركة الحبش «2» فخرج إليه جماعة من الإخشيديّة

فهزمهم. فرحل عند ذلك أبو القاسم أنوجور وأخوه وأهلهما «1» ، والوزير إلى الشام، وأخليت دار الإمارة، فدخل غلبون مصر وسيّر عسكرا إلى أبى القاسم فتبعه إلى مسجد تبر «2» . ومسك الوزير محمّد بن الماذرائى وجىء به إلى غلبون، فلما رآه أطلقه. وسار أبو القاسم نحو الشّام، فلقيه مرتاح الشّرابى فى أثناء الطّريق، وقد قدم من قبل كافور فى جماعة من الإخشيديّة، فردّه. وعاد أبو القاسم إلى مصر بالعسكر فوجدوا غلبون وقد تفرّق عنه أصحابه فى البلد، فحاربهم فى نفر يسير، فانهزم. ودخلوا دار الإمارة، فوجدوا الوزير ابن الماذرائى، فهمّوا بقتله، فأخذه القائد منجح وخبأه عنده، ونهبت دوره وأحرق بعضها. ووصل الخبر إلى كافور بالشّام فقبض على ولده، واستوزر عوضا عنه أبا الفضل جعفر «3» بن الفرات المعروف بابن حنزابة، ثم قدم الأستاذ كافور من الشّام فى شهر رمضان، سنة ست وثلاثين، فأطلق الوزير ابن الماذرائى وأكرمه، وردّ عليه ضياعه وأملاكه، واستوزر محمد بن على بن مقاتل. وفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة لستّ خلون من صفر زلزلت مصر، وتتابعت الزّلازل بها، فتهدّم أكثر دورها، وسقط من الجامع العتيق بمصر

ذكر وفاة الوزير أبى بكر محمد بن الماذرائى وشىء من أخباره ومآثره

قطعة، وتوالت الزّلازل فى سنة أربعين أيضا ثلاثة أيام متوالية، وخسف بعض القرى وهلك من كان بها. فقال محمد بن عاصم من قصيدة مدح بها كافور جاء منها: ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... وإنّما رقصت من عدله فرحا وفى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة انقضّت نار من السّماء فأحرقت أكثر دور مصر. ذكر وفاة الوزير أبى بكر محمد بن الماذرائى وشىء من أخباره ومآثره وفى شوال من سنة خمس وأربعين وثلاثمائة مات الوزير أبو بكر محمد بن على بن أحمد بن إبراهيم الماذرائى، وزر «1» الخمارويه بن أحمد ولغيره من أمراء مصر، ومولده بالعراق سنة سبع وخمسين ومائتين، وكان له ضياع وأملاك، قيل إن مقدار ارتفاعها «2» فى كل سنة أربعمائة ألف دينار. وواصل الحجّ من سنة إحدى وثلاثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين، وكان ينفق فى كل حجة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وكان يحمل معه أحواضا من الخشب على الجمال، مزروع فيها الخضروات، وكان لا ينصرف عن الحجاز إلا وقد استغنى فقراؤه. ثم واصل الحج من سنة نيّف وعشرين إلى سنة أربعين. وقام أربعين سنة يصوم.

ذكر وفاة أبى القاسم أنوجور وولاية أخيه أبى الحسن على بن الإخشيد

وقال المسبّحى فى تاريخه «1» : حبس هذا الوزير على مكة والمدينة ضياعا ارتفاعها نحو مائة ألف دينار فى كل سنة، منها كورة سيوط، ومنها نوير، ومنها بركة الحبش. وحبس أيضا عليهما بالشام. وقال فى كتب وقفه: من بدلها فرسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه. رحمه الله تعالى. وفى سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة خالف شبيب العقيلى، وكان واليا على الرّملة والساحل، وسار إلى دمشق وفتحها، ودخل إليها من باب الجابية، فوقع عن فرسه ميّتا، واختلف فى موته، فقيل إن امرأة أرخت عليه حجر طاحون، وقيل بل مات حتف أنفه، واتّصل الخبر بالأستاذ كافور فسكن بعد قلق عظيم. والله أعلم. ذكر وفاة أبى القاسم أنوجور وولاية أخيه أبى الحسن على بن الإخشيد كانت وفاته لسبع «2» خلون من ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وكانت مدّة وقوع اسم الملك عليه أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وأيّاما. وكان كافور هو الغالب على أمره والحاكم [19] فى دولته، وليس لأبى القاسم معه إلا مجرّد الاسم.

ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصى الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع

ولما مات عقدت البيعة بعده لأخيه أبى الحسن علىّ فى يوم الأحد لثمان خلون من ذى القعدة، فجرى الأستاذ كافور معه على قاعدته مع أخيه، وزاد على ذلك بأن حجبه ومنعه من الظّهور إلى النّاس إلّا معه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن توفّى لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين «1» وثلاثمائة، وكان مدة ملكه خمس سنين وشهرين وأيّاما، وقيل: إنّ وفاته كانت فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين، وكان مولده لأربع بقين من صفر سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، وخلّف ولدا واحدا وهو أبو الفوارس أحمد. ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصىّ الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع كانت ولايته بعد وفاة أبى الحسن على، ابن سيده، لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وقيل فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين. قال الفرغانى المؤرخ: لمّا توفى علىّ بن الإخشيد استدعانى كافور وقال لى: ما ترى أن أصنع؟ فقلت له: أيها الأستاذ إنّ للمرحوم عندك صنائع وآثارا تقتضى أن ينظر لعقبه؛ والرأى عندى أن تنصب أحمد بن الأمير علىّ مكان «2» أبيه، وتدبر أنت الدولة كما كنت. فاعتذر بصغره، فقلت: قد

عقد لأبيه ولم يبلغ سنّه، وأجاز ذلك ثلاثة أئمّة: المتّقى والمستكفى «1» والمطيع «2» . فقال ننظر فى ذلك. وانصرفت. فبلغنى أنّه قال بعدى: أبو محمد لا يشكّ فى ولائه «3» لكنه يميل إلى الفرغانيّة، ثم لم يقبل ما أشار به الفرغانى، بل وثب على الأمر وأنزل اسم مواليه عن المنابر، وأقام كذلك إلى أن توفّى فى يوم الثلاثاء لعشرين بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان سبب وفاته أنه سمّ فى لوزينج «4» قدمته له إحدى جواريه وقد أتى من الميدان وهو جائع، فأكله ومات، وقتلت الجارية بعده، وكانت قد وضعت لذلك. ومات وله من العمر خمس وستون سنة على التّقدير، فإنه جلب فى سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة وعمره أربع عشرة سنة، وبيع بأثنى عشر دينارا «5» . قال المؤرخ: وكان لكافور معروف فى كل سنة للحاج أكثر ما «6» ينفذ معهم مالا وكسوة وطعاما، ويبعث معهم صندوقين من كسوة بدنه تفرّق على الأشراف. وكان له من الغلمان الأتراك ألف وسبعون غلاما يغلق عليهم باب داره، وتمام الألفى غلام روم، سوى المولّدين والسّودان، يكون عدّة

غلمانه أربعة آلاف غلام. وكان راتبه فى مطبخه فى كل يوم ألف وسبعمائة رطل لحما سوى الدّجاج والفراريج والخراف المشويّة والحلوى وغير ذلك. وخطب له بالحرمين الشريفين، ونفذ حكمه فى الشّام والحجاز وطرسوس. وكانت له خزانة شراب يفرّق منها فى كل يوم خمسون قرابة «1» من سائر الأشربة فى الحاشية. ولما مات كافور خلّف فى خزائنه عينا وجوهرا وثيابا وسلاحا بمبلغ ألف ألف دينار. وحكى عنه أنه كان فى ابتداء أمره قبل اتصاله بالإخشيد لحقه جرب حتّى كان لا يقابل فطرده سيّده، وكان يمشى فى سوق بنى جاسة، وفيه طبّاخ يبيع الطبيخ، فطلب كافور منه أن يطعمه، فضربه بالمغرفة على يده، وهى حارّة، فسقط مغشيّا عليه؛ فأخذه رجل من المصريّين وداواه حتى وجد العافية فأتى إلى سيّده فقال له سيّده: خذ أجرة ما فعلت. فأبى؛ وقال: أجرى على الله. وكان كافور كلما عزّت نفسه يذكّرها بضرب الطّباخ بالمغرفة، وربما يركب ويأتى ذلك الخطّ وينزل ويسجد شكرا لله عز وجل. وحكى أيضا أنه اجتاز يوما بالنحّاسين وهو فى موكبه فوقف على حانوت هرّاس «2» ، وكان إلى جانبه الوزير ابن الفرات فبكى كافور بكاءا شديدا وكان يقول فى بكائه: فاز الجمال فاز الجمّال، وساق وهو على تلك الحال، فلمّا استقرّ بمكانه وسكن، سأله الوزير عن سبب بكائه، فقال: لمّا طلعت من المركب من بحر الحجاز، وكان يومئذ سيدى الذى جلبنى إبراهيم البلوقى،

فركب الجمل وقصدنا قوص ونزلنا فى بعض الأيام وجلست مع الجمّال ورجل آخر كان معنا قد وصل من الحجّ، فقال الرجل: أشتهى على الله قدر هريسة قدّامى. فقلت: أنا أشتهى على الله ملك مصر، فقال الجمّال اشتهيت على الله الجنّة. وغاب عنى هذا الحديث. فاتّفق أنّ سيّدى إبراهيم باعنى لمحمد بن هاشم، ثمّ باعنى لأبى أحمد بن عيّاش، فوهبنى لجارية له، ثمّ وهب [20] أبو أحمد الجارية بعد مدّة الإخشيد، فطلبنى تكين الخاصّة من الإخشيد فأهدانى إليه، فلم أزل إلى أن ملكت مصر. وصاحب الحانوت الذى وقفت عنده هو الذى اشتهى القدر الهريسة؛ فعرفت أنّ ذلك الوقت وهب الله لكلّ منّا ما اشتهى، ففاز الجمّال بالجنة. وحكى أبو جعفر المنطقى قال: دعانى كافور يوما وقال لى: أتعرف منجّمّا، كان يجلس عند دار فلان؟ فقلت: نعم. قال: ما صنع؟ قلت: مات منذ سنين كثيرة. فقال: مررت عليه يوما فدعانى وقال: أنظر لك؟ قلت: افعل. فنظر، ثمّ قال: ستملك هذه المدينة وتأمر فيها وتنهى. وكان معى درهمين فدفعتهما إليه، وقلت: ما معى غيرهما. وقال: وأزيدك؛ ستملك هذه المدينة وغيرها وتبلغ مبلغا عظيما، فاذكرنى. فانصرفت. فلمّا نمت البارحة رأيته فى منامى وهو يقول لى: ما على هذا فارقتنى وأريد أن تمضى وتسأل عن حاله، وهل له ورثة؟ فسألت عنه فقيل: له ابنتان إحداهما بكر والأخرى متزوّجة، وأعلمته؛ فاشترى لهما دارا بأربعمائة دينار، ودفع للبكر مائتى دينار تتجهز بها. وقال الحسن بن زولاق المصرى المؤرخ: كان الشريف عبد الله بن أحمد

الحسينى، وهو ابن طباطبا، يرسل إلى كافور فى كل يوم جامين «1» حلوى «2» ورغيفا فى منديل مختوم، فخوطب كافور فى الرّغيف وقيل له الحلوى حسن فما تصنع بالرغيف؟ فأرسل إليه وقال: يجرينى الشريف فى الحلوى على العادة. ويعفينى من الرغيف، فركب الشّريف إليه وقال: أيّدك الله، أنا ما أنفذ الرغيف تطاولا ولا تعاظما وإنّما هى صبيّة حسنيّة تعجنه بيدها وتخبزه، فأرسله «3» على سبيل التبرّك؛ فإذا كرهته قطعناه. فقال: لا والله، ولا يكون قوتى سواه. وقيل أنه ركب يوما فى موكبه والشّريف أبو جعفر «4» نقيب الطالبين يسايره، فوقعت مقرعته، فنزل الشريف فناوله إياها؛ فتذممّ كافور من ذلك وتأوّه وبلغ منه مبلغا عظيما. فلمّا نزل إلى داره أرسل إلى الشّريف جميع ما كان يملكه فى موكبه من مماليك ودوابّ وآلة واعتذر منه. قال التنوخى فى نشوار المحاضرة: وكان قيمة ما سيّره إليه خمسة عشر ألف دينار «5» . وفى سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة قدم عليه أبو الطيب المتنبى «6» فأكرمه وخلع عليه، وأنزله بدار، وحمل إليه ألوفا من المال، فقال أبو الطيب

قصيدته التى أولها: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب «1» المنايا أن تكون أمانيا تمنّيتها لما تمنّيت أن أرى ... صديقا، فأعيا أو عدوّا مداجيا وجاء منها فى مدح كافور: فجاءت «2» به إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا فحسن موقعه عند كافور، ثمّ هرب منه وهجاه بما هو مسطور فى ديوانه «3» . ولما مات كافور قام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد بن على بن الإخشيد محمد بن طغج بن جفّ، كانت ولايته بعد الأستاذ كافور لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وذلك أن القواد والغلمان الإخشيديّة اجتمعوا وتحالفوا ألّا يختلفوا، وعقدوا الرئاسة له،

وهو ابن إحدى عشرة سنة، وجعلوا الخليفة عنه الحسن «1» بن عبد الله ابن طغج، وهو ابن عم أبيه؛ وردّوا تدبير العساكر والرجال إلى شمول «2» الإخشيدى، وتدبير الأموال إلى جعفر بن حنزابة «3» الوزير؛ وذلك كلّه قبل دفن كافور.؟ وأقام الأمر على ذلك ثلاثة أشهر وثمانية عشر يوما، واشترك معه ابن عمّ أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج، وكان يخطب لهما جميعا بمصر والشّام والحرمين، يبدأ فى الخطبة بأبى الفوارس ويثنّى بأبى محمد الحسن. ثم سار الحسن إلى الشام لقتال القرامطة، وصادر الوزير جماعة من المصريين، وقبض على يعقوب بن كلّس وصادره على أربعة آلاف وخمسمائة دينار؛ وقبض على إبراهيم بن مروان النّصرانى، كاتب أنوجور وعلى ابنى الإخشيد وصادره على عشرة آلاف دينار. ولم يقدر الوزير على رضا الإخشيديّة والكافورية لتباين أغراضهم؛ فاضطرب التدبير على الوزير، واستتر مرّتين، ونهبت داره ودور أصحابه، فكتب جماعة من وجوه البلد إلى المعز «4» بإفريقية يستدعون منه إنفاذ العساكر. وكان بمصر فى هذه السّنة غلاء شديد وفناء عظيم، فإن النيل انتهت زيادته فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة إلى اثنى عشر ذراعا وتسعة عشر

أصبعا، ولم يوف فى السنة التى قبلها، فاشتد الغلاء، وكثر الوباء. نقل بعض المؤرخين أنه أحصى من كفّن ودفن خارجا، عدا من رمى فى البحر، ستمائة ألف إنسان. وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم الحسن بن عبيد الله من الشّام [21] منهزما من القرامطة، ودخل مصر، وقبض على جعفر بن الفرات الوزير، واستوزر الحسن بن جابر الرياحى، ثم أطلق الوزير بن الفرات، بوساطة أبى جعفر مسلم الحسينى الشريف، وفوّض إليه الوزارة، ثم سار الحسن بن عبيد الله إلى الشّام فى مستهل شهر ربيع الآخر؛ وخرج جماعة من الأولياء والكتاب والأشراف إلى الشام، وخرج يعقوب «1» بن كلّس إلى الغرب مستترا، ثمّ صار منه ما نذكره إن شاء الله تعالى. ثمّ تواترت الأخبار فى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أن المعزّ صاحب إفريقية قد جهّز عساكره مع غلامه جوهر إلى مصر، فجمع الوزير القوّاد ووقع رأيهم على تقديم نحرير سويران فاستدعوه من الأشمونين «2» ، وعقدوا له الرئاسة عليهم. ووصل الخبر بوصول جوهر إلى برقة، فاجتمع رأى الجماعة على أن بعثوا الشريف أبا جعفر مسلما الحسنى وأبا إسماعيل بن أحمد الزينبى وأبا الطيب

العباس بن أحمد العباسى والقاضى أبا ظاهر، وغيرهم، لتقرير الصلح بينهم وبين جوهر على تسليم البلاد له، فساروا فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فلقوه على تروجة «1» ، فأكرمهم وأجابهم إلى ما طلبوه ثم بعد انفصالهم اجتمع القواد على إبطال المصالحة وتجهّزوا للحرب، ورجع أولئك النّفر بكتاب الأمان، فلم يقبل القواد ذلك، وخرجوا إلى الجيزة بأجمعهم. ووصل جوهر وابتدأ القتال يوم الخميس الحادى عشر من شعبان من السّنة، ثمّ سار جوهر بعد ذلك إلى منية شلقان «2» وملك المخايض، فبعث المصريون مزاحم بن أرتق لحفظها فلم يحفظها، وخامر عليهم، وعدى «3» جوهر، وانهزم الإخشيديون، ودخل جوهر مصر بعد العصر من يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان منها، وندب القائد جوهر المعزّىّ بعد ذلك جعفر بن فلاح إلى الشام، والتقى هو والحسن بن عبيد الله على الرملة فى شهر رجب سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، واقتتلا «4» فانهزم الحسن وأسر، وملك جعفر الشّام أجمع. وانقرضت الدّولة الإخشيدية، وكانت مدتها خمسا وثلاثين سنة، وتسعة أشهر، وأيّاما.

ذكر أخبار الدولة العبيدية التى انتسب ملوكها إلى الشرف وألحقوا نسبهم بالحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما

ذكر أخبار الدولة العبيديّة التى انتسب ملوكها إلى الشرف وألحقوا نسبهم بالحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما هذه الدّولة من الدّول التى امتدّت أيامها واتّسعت ممالكها، واستولت ملوكها على كثير من الممالك المشهورة شرقا وغربا، ببلاد المغرب، والدّيار المصرية، والبلاد الشاميّة، والثّغور والعواصم، وغير ذلك. وكان ابتداء ظهور هذه الدّولة ببلاد المغرب، وإنّما أوردناها فى أخبار ملوك الدّيار المصرية، وألحقنا ملوكها بملوك هذا الوادى لأن الدّيار المصرية قاعدة ملكهم وبها قام أكثر ملوكهم. ولنبدأ بذكر أخبار ملوك هذه الدّولة وابتداء أمرهم، وما قيل فى نسبهم وإلى من ينسبون، وكيف تنقّلت «1» بهم الحال إلى أن ملكوا البلاد، واستولوا على الأقاليم. وهذه الدّولة أسباب ولوازم وشيعة، هم الذين مهّدوا لهم البلاد. ووطّنوا الممالك. وهزموا الجيوش، وفتحوا الأقاليم، وأبادوا الأبطال. حتى إستقر الملك لملوك هذه الدّولة وتسلّموه عفوا صفوا.

لا بدّ لنا أن نبتدئ بذكر أخبارهم، وما فتحوه واستولوا عليه قبل ظهور المهدىّ الّذى هو أوّل ملوك هذه الدّولة، ثم نذكر عاقبة أمر من قرر لهم الملك معهم، ونذكر من ملك من ملوك هذه الدولة واحدا بعد واحد إلى أن انقرضت دولتهم وبادت أيّامهم. فنقول وبالله التوفيق: أوّل من ملك منهم عبيد الله المنعوت بالمهدىّ، ونسب نفسه أنه: عبيد الله بن الحسن بن علىّ بن محمد بن علىّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، وأهل العلم بالأنساب من المحقّقين ينكرون ذلك وينفونه عن «1» الشّرف، ويقولون: اسم عبيد الله سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله القدّاح «2» بن أبى شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، صاحب كتاب «الميدان فى نصر الزّندقة» ، وهو من أهل رامهرمر «3» ، كورة من كور الأهواز، وكان من خرّميّة المجوس «4» ، ومن المؤرخين من زعم أن الحسين بن أحمد زوج أم سعيد وأن أبا سعيد يهودى. وقال القاضى أبو بكر بن الطيّب «5» فى كتابه المسمّى بكشف الأسرار

وهتك الأستار: إنّ سعيدا هذا كان قد رباه عمّه محمد بن أحمد المكنى بأبى الشلغلغ [22] وكانوا دعاة لمحمّد بن إسماعيل بن جعفر الصّادق، يأكلون البلاد باسمه ويدّعون أنّه حىّ يرزق إلى زمانهم، وفيه عمل ابن المنجم قصيدته التى يقول فيها: فإنّك فى دعواك أنّك منهم ... كمن يدّعى أنّ النّحاس من الذّهب متى كان مولى الباهليّين ملحقا ... بآل رسول الله يوما إذا انتسب ولما ملك بهاء الدّولة أبو نصر [بن] «1» عضد الدّولة فناخسرو، ابن بويه، بغداد جمع الطالبيّين من آفاق العراق، وسألهم عنهم، فكلّهم أنكرهم ونفاهم، وتبرّأ منهم؛ فأخذ خطوطهم بذلك. وكان ممن شهد الشّريفان الرّضىّ «2» والمرتضى «3» وأبو حامد الأسفراينى «4» ، وأبو الحسين

ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم

القدورى «1» ، وغيرهم «2» ، وذلك فى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة «3» بأمر القادر بالله «4» العباسىّ. هذا مع ما ينسب إلى بنى بويه من التشيّع. فلنذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم. ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم قال أبو محمد عبد العزيز بن شدّاد بن الأمير تميم بن المعزّ بن باديس فى كتابه المترجم بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان: أوّل من قام منهم أبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، وكان ممّن صحب أبا الخطّاب محمّد بن أبى زينب «5» مولى بنى أسد، فألقوا إلى كلّ من اختصّوا به أنّ لكل شىء من العبادات باطنا، وأنّ الله تعالى ما أوجب على أوليائه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجّا؛ ولا حرّم عليهم شيئا من المحرمات؛ وأباح لهم نكاح البنات والأخوات. وإنما هذه العبادات عذاب على الأمّة وأهل الظّاهر، وهى ساقطة عن الخاصّة. يقولون ذلك لمن يثقون به ويسكنون

إليه. ويقولون فى آدم وجميع الأنبياء: كذّابون محتالون طلاب للرّئاسة. فاشتدّت شوكة هؤلاء فى الدّولة العبّاسيّة، وتفرقوا فى البلاد شرقا وغربا، يظهرون التقشّف، والزّهد، والتصوّف، وكثرة الصّلاة والصّيام، يعرّفون الناس بذلك وهم على خلافه، ويذكرون أبا الخطاب إلى أن قامت البيّنة بالكوفة أنّ أبا الخطاب أسقط العبادات وأحلّ المحارم، فأخذه عيسى «1» بن موسى الهاشمى، مع سبعين من أصحابه، فضرب أعناقهم، فتفرّق بقيّة أصحابه فى البلاد، فصار قوم ممّن كان على مذهبه إلى نواحى خراسان، وقوم إلى الهند، وصار أبو شاكر ميمون بن سعيد إلى بيت المقدس مع جماعة من أصحابه، وأخذوا فى تعلم الشعبذة «2» والنارنجيات «3» والحيل ومعرفة الرّزق من صنعة النّجوم والكيمياء، ويحتالون على كلّ قوم بما يتّفق عندهم، وعلى العامّة بإظهار الزّهد والورع، ونشأ لأبى شاكر ابن يقال له عبد الله القدّاح، علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النّحلة، فتحذّق وتقدّم، وكانوا يظهرون التشيع والبكاء على أهل البيت ويزيدون أكاذيب خترعوها يخدعون بها ضعفاء العقول. وكان من كبار الشعوبيّة «4» رجل يسمى محمد بن الحسين بن جهار نجار

الملقب دندان «1» وهو بنواحى الكرج «2» وأصفهان له حال واسعة وضياع عظيمة، وهو المتولّى على تلك المواضع، وكان يبغض العرب ويذمّهم، ويجمع معايبهم، وكان كلّ من طمع فى نواله تقرّب إليه بذمّ العرب، فسمع به عبد الله بن ميمون القدّاح وما ينتحله من بغض العرب وصنعة النّجوم، فسار إليه، وكان عبد الله يتعاطى الطّب وعلاج العين، ويقدح الماء النّازل فيها، ويظهر أنه إنما يفعل ذلك حبسة وتقربا إلى الله عز وجلّ، فطار له هذا الاسم بنواحى أصفهان والجبل، فأحضره دندان وفاتحه الحديث، فوجده كما يحبّ ويهوى، وأظهر له عبد الله من مساوئ العرب والطعن عليهم أكتر مما عنده، فاشتدّ إعجابه به، وقال له. مثلك لا ينبغى أن يطبّ، وإنّ قدرك يرتفع ويجلّ عن ذلك، فقال: إنّما جعلت هذا ذريعة لما وراءه ممّا ألقيه إلى الناس وإلى من أسكن إليه على رفق ومهل، من الطّعن على الإسلام، وأنا أشير عليك ألّا تظهر ما فى نفسك إلى العرب، ومن يتعصّب لهذا الدّين، فإنّ هذا الدّين قد غلب على الأديان كلّها فما يطيقه ملوك الرّوم، ولا الترك، والفرس، والهند، مع بأسهم ونجدتهم، وقد علمت شدّة بابك صاحب الخرّمية «3» وكسرة عساكره، وأنّه لما أظهر ما فى نفسه من بغض الإسلام وترك التستّر بالتشيّع «4» [23] كما يقول أوّلا قلع أصله،

فالله الله أن تظهر ما فى نفسك، والزم التشيّع والبكاء على أهل البيت، فإنّك تجد من يساعدك على ذلك من المسلمين، ويقول: هذا هو الإسلام [وسبّ أبا بكر وعمر] «1» وادّع عليهما عداوة الرّسول وتغيير القرآن وتبديل الأحكام، فإنك إذا سببتهما سببت صاحبهما «2» ؛ فإذا استوى لك الطّعن عليهما فقد اشتفيت من محمّد، ثم تعمل الحيلة بعد ذلك فى استئصال دينه. ومن ساعدك على هذا فقد خرج من الإسلام من حيث لا يشعر، ويتم لك [الأمر] «3» كما تريد، فقال دندان «4» : هذا هو الرأى. ثم قال له عبد الله القدّاح: إن لى أصحابا وأتباعا أبثّهم فى البلاد فيظهرون التقشّف والتصوّف والتشيع، ويدعون إلى ما تريده بعد إحكام الأمر. فاستصوب دندان ذلك وسرّ به، وبذل لعبد الله القدّاح ألفى ألف دينار. فقبل المال وفرّقه فى كور الأهواز والبصرة وسواد الكوفة، وبطالقان، وخراسان «5» ، وسلمية من أرض حمص. ثم مات دندان فخرج عبد الله القدّاح إلى البصرة وسواد الكوفة، وبثّ الدعاة، وتقوى بالمال، ودبّر الأمر.

وحكى الشّريف أبو الحسين محمّد بن على الحسين المعروف بأخى محسن «1» فى كتابه أن عبد الله بن ميمون هذا كان قد نزل عسكر مكرم «2» فسكن بساباط أبى نوح، وكان يتستّر بالتشيّع والعلم، فلمّا ظهر عنه ما كان يضمره ويسرّه من التّعطيل والإباحة، والمكر والخديعة، ثار النّاس عليه، فأول من جاءه «3» الشيعة، ثم المعتزلة وسائر الناس، وكبسوا داره، فهرب إلى البصرة ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازى، فنزل بباهلة على موال لآل عقيل بن أبى طالب، وقال لهم: أنا من ولد عقيل، وداع «4» إلى محمّد بن إسماعيل بن جعفر «5» . فلمّا أقام وانتشر خبره طلبه العسكريّون فهرب وأخد طريق الشام ومعه الحسين الأهوازى، فلما توسطا الشام عدلا إلى سلمية «6» ليخفى أمرهما فأقام بها عبد الله وخفى أمره. نرجع إلى قول ابن شداد. قال: ثم مات عبد الله، وكان له جماعة من الولد فخلفه منهم ابنه «7» أحمد، فقام مقام أبيه، وجرى على قاعدته،

وبثّ الدّعاة، واستدعى رجلا من أهل الكوفة يقال له أبو الحسين رستم بن الكرخيين بن حوشب بن زادان النجار؛ وكان هذا الرجل من الإماميّة الذين يقولون بإمامة موسى» بن جعفر، فنقله إلى القول بإمامة إسماعيل «2» بن جعفر. وكانوا يرصدون من يرد من المشاهد وينظرون إليهم، فمن كان فيه مطمع وجهالة استدعوه، ولا يستدعون إلا الجهّال ومن له بأس وجلد، وعشيرة ومال، وعزّ ومنعة، ويتجنّبون الفقهاء والعلماء، والأدباء والعقلاء. وكانوا يطلبون أطراف البلاد، فقال لهم بعض من ورد عليهم: إن بجيشان «3» والمدحرة والجند «4» من أرض اليمن رجلا جلدا كثير المال والعشيرة، يتشيّع، وبهذه الناحية شاعر يقال له ابن خيران يسبّ فى شعره أبا بكر وعمر، المهاجرين والأنصار، على مثل سبيل الحميرى الشاعر، فورد ذلك الرّجل المذكور، وهو أبو الخير محمد بن الفضل من أهل جيشان من اليمن، ودخل إلى الحيرة، فرأوه يبكى على الحسين بن على، فلما فرغ من زيارته أخذ الدّاعى يده وقال له: إنّى رأيت ما كان منك من البكاء والقلق

على صاحب هذا القبر، فلو أدركته ما كنت تصنع قال: كنت أجاهد بين يديه، وأجعل خدّى أرضا يطأ عليها، وأبذل مالى ودمى دونه. فقال له: أتظنّ أن ما بقى لله حجّة بعد صاحب هذا القبر؟ قال: بلى، ولكن لا أعرفه بعينه، قال: فتريده؟ قال: إى والله. فسكت عنه الدّاعى. فقال له محمد ابن الفضل: ما قلت لى هذا القول إلا وأنت عارف به. فسكت الداعى، فقوى ظنّ ابن الفضل أن هذا الرجل يعرف الإمام والحجّة، فألحّ عليه وقال له: الله الله فى أمرى، اجمع بينى وبينه، فإنى خرجت إلى الحجّ وجئت إلى هذه الزيارة أريد الله تعالى، فسكت الدّاعى، وازدادت رغبة ابن الفضل، فصار يتضرع إليه، ويسأله، ويقبّل يده. فقال له الدّاعى: اصبر، ولا تعجل، وأقم، فهذا الأمر لا يتمّ بسرعة، ولا بدّ له من صبر ومهلة. فقال ابن الفضل لأصحابه ومن كان معه من جيشان: انصرفوا فلى بالكوفة شغل، فانصرفوا، وأقام هو واجتمع بالدّاعى، فقال له: ما عملت فى حاجتى؟ فقال انتظرنى حتى أعود إليك، فانصرف عنه ومضى إلى أحمد بن القدّاح وعرّفه حال ابن الفضل وحرصه على لقاء الحجّة وإمام الزمان، وبقى الدّاعى يرقبه ويراه لا يكاد يبرح من المسجد من غير أن يعلم ابن الفضل به، فلمّا كان بعد أربعين يوما أتاه إلى المسجد وهو جالس، فقال له: أنت بعدها هنا؟ فقال: نعم؛ ولولا تحنّنى لأقمت فى هذا المسجد إلى أن أموت. فعلم الدّاعى أنه قد قصده، فأخذه وجمع بينه وبين أحمد بن عبد الله ابن ميمون [24] . وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن على الحسينى فى كتابه الّذى صرّح فيه منفى هؤلاء عن النّسب إلى الحسين بن علىّ، رضى الله عنهما، واستدلّ

على ذلك بأدلة يطول شرحها- أنّ أحمد بن عبد الله بن ميمون لمّا قام بالأمر بعد أبيه عبد الله بعث الحسين الأهوازى «1» من سلمية داعية إلى العراق، فلمّا انتهى إلى سواد الكوفة لقى حمدان بن الأشعث، وهو قرمط الذى ينسب إليه القرامطة، فصحبه، وأتبعه قرمط، وتابعه كثير من النّاس. فلما مات الأهوازى أسند الأمر من بعده إلى حمدان بن الأشعث، قرمط، وقد ذكرنا هذه القصّة فى أخبار القرامطة. نرجع إلى قول ابن شداد. قال: وكان أحمد يقول للحسن ابن حوشب الكوفى النّجار: يا أبا القاسم هل لك فى غربة فى الله؟ فيقول: الأمر إليك يا مولاى، فلمّا اجتمع بابن الفضل قال له: قد جاء ما كنت تريد يا أبا القاسم، هذا رجل من أهل اليمن، وهو عظيم الشأن، كثير المال، ومن الشيعة، قد أمكنك ما تريد، وثمّ خلق من الشيعة، فاخرج وعرّفهم أنك رسول المهدىّ، وأنه فى هذا الزّمان يظهر فى اليمن. واجمع المال والرّجال، والزم الصوم والصّلاة والتقشف، واعمل بالظاهر ولا تظهر الباطن، وقل لكلّ شىء باطن، وإن ورد عليك شىء لا تعلمه فقل لهذا من يعلمه، وليس هذا وقت ذكره. وجمع بينه وبين ابن الفضل، وخرجا جميعا إلى أرض اليمن. ونزل ابن حوشب بعدن، وكان فيها قوم من الشيعة يعرفون ببنى موسى، وخبرهم عند ابن ميمون، فنزل ابن حوشب بالقرب منهم، وأخذ فى بيع ما معه من القماش، ولزم الزّهد والتقشف. فقصده بنو موسى وقالوا له: فيم جئت؟ قال: للتجارة. قالوا: لست بتاجر، وإنّما أنت رسول المهدىّ،

وقد بلغنا خبرك. وعرّفوه بأنفسهم، فأظهر أمره عليهم، وسار إلى عدن لاعة «1» . وسار ابن الفضل إلى بلده. ولما وصل ابن حوشب إلى عدن لاعة قوّى عزائمهم وقرّب أمر المهدىّ عليهم، وأنه من عندهم يخرج، وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح ولم يزل أمر ابن حوشب يقوى وأخباره ترد على من بالكوفة من الإمامية وطبقات الشيعة، فيبادرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: دار الهجرة، فكبر عددهم واشتدّ بأسهم، وأغار على من جاوره ونهب وسبى، وجبى الأموال، وأنفذ إلى من بالكوفة من ولد عبد الله القدّاح أموالا عظيمة، وهدايا وطرفا، وكذلك لابن الفضل. وكانوا نفذوا إلى المغرب رجلين، أحدهما يعرف بالحلوانى والآخر بأبى سفيان «2» ، وتقدّموا إليهما بالوصول إلى أقاصى المغرب، والبعد عن المدن والمنابر، وقالوا لهما ينزل كلّ واحد منكما بعيدا من الآخر، وقولا: لكلّ شىء باطن، ونحن فقد قيل لنا اذهبا فالمغرب أرض بور فاحرثاها واكرباها حتى يأتى صاحب البذر، فنزل أحدهما بأرض كتامة «3» بمدينة مرمجنه «4» والآخر سوق «5» حمار، فمالت قلوب أهل تلك النّواحى إليهما، وصارا يحملان

التّحف التى تحمل إليهما إلى ابن القدّاح، ثم ماتا على قرب بينهما بعد أن أقاما سنين كثيرة. فقال ابن حوشب لأبى عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا الشيعى، وكان قد هاجر إليه، يا أبا عبد الله أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلوانى وأبو سفيان وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادر إليها فإنها موطأة ممهدة لك، فخرج أبو عبد الله وأخرج ابن حوشب معه عبد الله بن أبى ملاحف، وأمدّه بمال، وأوصاه بما يعمل وكيف يحتال. وكان أبو «1» عبد الله قد شاهد أفعال ابن حوشب وعرف تدبيره، فسار إلى مكة، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأما أحمد بن عبد الله بن ميمون فإنه لما قوى أمره، وكثرت أمواله، ادّعى أنه من ولد عقيل ابن أبى طالب، وهم مع هذا يسترون أمرهم، ويخفون أشخاصهم، ويغيّرون أسماءهم وأسماء دعاتهم، ويتنقلون فى الأماكن. ثم مات أحمد وصار الحسين إلى سلمية وله بها أموال من ودائع جدّه عبد الله القدّاح، ووكلاء، وأتباع، وغلمان. وبقى ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلغلغ «2» ، وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان، وهو مؤدب بآداب الملوك. وكان الذى بسلمية يدّعى أنه الوصىّ وصاحب الأمر دون بنى القدّاح،

ويكاتب الدّعاة، ويراسلونه من اليمن، والمغرب، والكوفة. واتفق أنه جرى بحضرته بسلمية حديث النّساء فوصفوا امرأة رجل يهودى حداد مات عنها زوجها، وأنها فى غاية الجمال، فقال لبعض وكلائه: زوّجنى بها، فقال إنها فقيرة ولها ولد، فقال: ما علينا من الفقر، زوّجنى بها فأرغبها وأبذل لها ما شاءت. فتزوّجها وأحبّها، وحسن موقعها عنده، وكان ابنها يماثلها فى الجمال، فأحبّه وأدبه، [25] وعلّمه، وأقام له الخدم والأصحاب فتعلّم الغلام، وصارت له نفس كبيرة وهمّة عظيمة. فمن العلماء من أهل هذه الدّعوة من يقول: إن الإمام الذى كان بسلمية من ولد القدّاح مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودى الحدّاد، وهو عبيد الله الذى نعت بالمهدىّ، وأنه عرّفه أسرار الدّعوة من قول وفعل، وأعطاه الأموال، وتقدّم إلى أصحابه ووكلائه بطاعته، وخدمته ومعونته، وعرّفهم أنه الإمام والوصىّ، وزوجه ابنة عمّه أبى الشلغلغ. هذا قول ابن القاسم الأبيض العلوى وغيره من العلماء بهذه الدعوة. وبعض الناس، وهم قليل، يقولون إن عبيد الله هذا، المنعوت بالمهدىّ، من ولد القدّاح. ومنهم من يقول فيه قولا آخر، نذكر إن شاء الله عزّ وجلّ. فهذا ما حكى فى ابتداء أمرهم، فلنذكر أخبار الشيعىّ ببلاد المغرب، والله أعلم.

ذكر أخبار أبى عبد الله الشيعى داعى المغرب وما كان من أمره وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب

ذكر أخبار أبى عبد الله الشّيعى «1» داعى المغرب وما كان من أمره وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب قال أبو إسحاق إبراهيم «2» بن القاسم الكاتب المعروف بابن الرّقيق، فى تاريخ إفريقية، وغير ابن الرّقيق ممّن ذكر أخبار هذه الدّولة «3» : كان أبو عبد الله الشيعى من أهل الكوفة، وقيل من أهل صنعاء، واسمه الحسين ابن أحمد بن محمّد بن زكريّا، فاتصل بالذى يدّعى أنه الإمام، وهو ابن القداح الّذى ذكرناه المختلف فى نسبه، فأرسله إلى أبى القاسم الحسن بن حوشب «4» الكوفى النجار، وهو المعروف بالصّناديقى، داعيتهم باليمن وكتب إليه أن ينصره ويرشده، وقال لأبى عبد الله: امتثل سيرته، وانظر «5» إلى

مخارج أفعاله فاعمل بها، ثم اذهب إلى المغرب. فخرج حتى انتهى إلى أبى القاسم، فأنزله وأكرمه، وأقام عنده من وقت انصراف الحاجّ من مكة إلى اليمن إلى وقت خروجهم فى العام المقبل. فخرج أبو عبد الله مع الحاجّ إلى مكة. فلما قضى الناس حجّهم واستقرّوا بمنى جعل الشّيعى يمشى بمنى وينظر إلى الناس، فمرّ بجماعة من كتامة وهم فى رحالهم، وكانوا من الشّيعة الّذين تشيّعوا بسبب الحلوانى وفيهم حريث الجيملى وموسى بن وجاد «1» فسمعهما الشيعىّ يذكران لأصحابهما فضائل على بن أبى طالب، رضى الله عنه. فجلس إليهما وذكر من ذلك شيئا، وأقبل على القوم وحدّثهم طويلا، ثم نهض ليقوم فقاموا معه، ومشوا بمشيه، وعرفوا مكانه. ثم أتوا من الغد فأوسع لهم فى الحديث، فزادهم ذلك فيه رغبة، وعليه إقبالا. ثم صحبهم فى طول الطريق بعد انصرافهم من الحج إلى أن وصلوا إلى مصر، وهم يبالغون فى خدمته، ويرحلون برحيله، وينزلون بنزوله، وهو يسألهم عن بلادهم فى خلال ذلك، وعن طاعتهم لملوكهم، فيقولون ما علينا طاعة لهم، وهو لا يعرّض لهم بقصده ولا رغبته فى بلادهم. فلما أتوا مصر أظهر أنه يريد الإقامة بها، فتألّموا لفراقه، وقالوا ما الذى تقصد بمقامك مصر؟ قال: التعليم. فسألوه أن يصحبهم إلى بلادهم وأنهم يوجبون له على أنفسهم أجرة فى كلّ سنة، وما أوجب. ولم يجبهم إجابة كلّية؛ ورغبتهم كلّ يوم تزيد فيه، فأجابهم إلى الخروج معهم، ففرحوا بذلك واستبشروا، وجعلوا يزيدون فى برّه، ويقولون له: عندنا كثير من إخوانك ومن يذهب إلى

مذهبك، ولو رأوك ما رضوك إلّا إلى شيوخهم، فضلا عن صبيانهم؛ ولسنا نخلّيك للتعليم بل نعدّك لما هو أعظم منه. فلما عزم على المسير معهم جمعوا له دنانير وأتوه بها، فامتنع من قبولها، وقال لم يكن منى ما يوجب ذلك؛ فعظم فى أنفسهم، وزادت هيبته فى صدورهم. وخرجوا به من مصر، وساروا حتى إذا كان بسوجمار «1» من أرض سماتة، تلقاهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبر الشّيعى، ونظروا إلى تعظيم الكتاميين له؛ فرغب كلّ واحد منهم أن يكون نزوله عنده، حتى رموا عليه السهام، فخرج سهم أبى عبد الله الأندلسىّ فنزل عنده، ونزل كل واحد على صاحبه. وأصاب أبو عبد الله عندهم من علم الشيعة أصلا قويّا، فزاد فى الكلام معهم، فأجلّوه. ثم سار القوم فدخلوا حد كتامة يوم الخميس النّصف من شهر ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، ومعهم أبو عبد الله الأندلسى وأبو القاسم الورفجومى، فأراد كلّ واحد من الكتاميين نزول الشيعىّ عنده، وتنازعوا فى ذلك حتى خيّروه فى النزول، فقال أىّ موضع عندكم [26] فجّ الأخيار؟ فقالوا: عند بنى سكتان فقال: فإيّاه نقصد، ثم نأتى كلّ قوم منكم فى موضعهم، ونزورهم فى بيوتهم، ولا نجعل لأحد منكم حظّا من نفسى دون أحد إن شاء الله تعالى، فأرضاهم كلّهم بذلك، وسار كلّ قوم إلى جهتهم، وسار الشّيعى مع موسى بن حريث وأبى القاسم الورفجومى وأبى عبد الله الأندلسى إلى

إيكجان «1» موضع موسى من بنى سكتان. قال ولما نزل عبد الله بإيكجان ومضى كل معه من الحجيج إلى مرافقهم أخبروا من قدموا عليه من أصحابهم بخبر، ووصفوه لهم مع النّاس، فتسامع النّاس به، وأقبلوا إليه من كل ناحية؛ فكان يجلس لهم ويحدثهم [بظاهر] «2» فضائل على رضى الله عنه. قال: فاتصل خبر الشيعى بابراهيم «3» بن أحمد صاحب إفريقية، فكتب إلى موسى بن عيّاش «4» يسأل عن خبره فضعّف موسى أمره فكتب إليه ثانيا وأرسل ابن المعتصم المنجم؛ وأمر إبراهيم بن أحمد موسى بن عيّاش أن يتلطّف فى اتصاله إلى أبى عبد الله، وأن يختبر أحواله، ويأتيه بصحيح خبره، وأوصاه بوصايا أمره أن يذكرها له. فلمّا وصل إلى موسى أرسل إلى بنى سكتان يخبرهم أن إبراهيم قد بعث برجل إلى أبى عبد الله ليجتمع به. فرفع ذلك إلى أبى عبد الله، فأذن له. فلمّا انتهى إليه قرّبه وأقبل عليه، فقال له ابن المعتصم: إن الأمير إبراهيم ابن أحمد وجّهنى إليك برسالة، فإن أذنت لى أدّيتها. فقال له: أدّ رسالتك قال: وأنا آمن؟ قال: نعم. فقال: يقول لك الأمير: ما حملك على التعرّض لسخطى، والوثوب فى ملكى، وإفساد رعيّتى، والخروج علىّ؛ فإن كنت تبتغى عرضا من أعراض الدنيا فإنك تجده عندى، وإن أنت

تلافيت أمرك، ورجعت عن غيّك، فصر إلىّ وأنت آمن؛ فإن أردت المقام ببلدنا أقمت، وإن أحببت الانصراف انصرفت. وإن كان قصدك قصد من سوّلت له نفسه الخلاف على الأئمة، واستفساد جهلة الأمة، فلقد عرفت عواقب من تمنّيه نفسه أمنيتك، وسوّلت له ما سوّلت لك، من الهلاك العاجل، قبل سوء المصير فى الآجل. ولا يغرّنّك ما رأيت من إقبال هؤلاء الأوباش عليك، واتّباعهم إياك، فإنى لو صرفت وجهى إليك لأسلموك، وتبرّءوا منك. واعلم أنى إنّما أردت الإعذار إليك، لاستظهار الحجّة عليك. وهذا أوّل كلامى «1» وآخره، لا أقبل لك بعد هذا توبة، ولا أقيلك عثرة، ولا أجعل جواب ما يمكن منك إلا النّهوض إليك بنفسى، وجميع أبطال رجالى، وأنصار دولتى، وجملة أهل «2» مملكتى فعند [ذلك] «3» تندم حين لا ينفعك النّدم، ولا تقبل منك التّوبة. فانظر فى يومك لغدك، وقد أعذر إليك من «4» أنذر. فقال له أبو عبد الله الشيعى: قد قلت فاسمع، وبلّغت فابلغ: ما أنا ممّن يروّع بالإيعاد، ولا ممّن يهوله الإبراق والإرعاد. فأما تخويفك إياىّ برجال مملكتك، وأنصار دولتك، أبناء حطام الدّنيا، الّذين يقتادون لكل سائق، ويجيبون كلّ داع وناعق، فإنى فى أنصار الدّين، وحماة المؤمنين، الذين لا تروعهم كثرة أنصار الباطل «5» ، مع قول الله تعالى، وهو أصدق

القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «1» فأمّا ما أطمع به من دنياه وعرضه من زبدها وحطامها، فلست من أهل الطّمع فأميل إليه، ولا ممن يرغب فيما عنده فيأتيه. وإنما بعثت «2» رسولا لأمر قد حمّ وقرب، فإن سوّلت له نفسه ما وعد به، ودعته «3» إليه، فسوف يعلم أنّ الله عز وجل من ورائه ولن تغنى عنه فئة شيئا ولو كثرت وأنّ الله مع المؤمنين «4» فهذا جواب ما جئت به، فبلّغه إن شاء الله. قال «5» : ولما اشتهر أمر الشّيعى ببلد كتامة، ونظر رؤساء القبائل وولاة البلدان فلم يروا فى إبراهيم بن أحمد نهضة فى أمر، وخافوا على زوال الرئاسة من أيديهم، وتقديم من يسارع إلى أمره عليهم، ممّن كانوا يرونه دونهم، كتب بعضهم إلى بعض فى ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا. وكان ممن سعى فى ذلك موسى بن عياش صاحب ميلة «6» ، وعلى بن عسلوجة صاحب سطيف «7» وحى بن تميم صاحب بلزمة «8» وكلّ هؤلاء أمراء هذه المدن، وعندهم العدّة والعدّة والأموال الكثيرة والنّجدة، والقوّة، ومن مقدّمى

كتامة وكبارهم وولاة أمورهم: فتح بن يحيى المشالى «1» ، وكان يقال له الأمير، ومهدى بن كناره «2» ، رئيس لهيصة، وقرح بن خيران «3» رئيس أجّاته، وثميل بن فحل «4» رئيس لطاية، واستعملوا آراءهم فى أخذ الشّيعى فعلموا، أنهم لا يقدرون عليه عنوة من أيدى بنى سكتان لأنّهم يمنعونه، ويجتمع عليهم جيملة وغيرها من قبائل كتامة، فتفرّق ذات البين، ويكون ذلك داعية إلى أن يجعلوا له أنصارا، وتصير كتامة فريقين، ولم يأمنوا سوء العواقب، فقصدوا بنان «5» بن صقلان، وهو من وجوه بنى سكتان، ولم يكن له يومئذ دخل فى أمر الشيعىّ، وأرسلوا جماعة منهم إليه، وبعثوا له أربعة أفراس وأغنما وهديّه. وقالوا له: إن هذا الرجل قد بدّل الدّين، وفرّق الجماعة، وشتّت الكلمة، وأدخل الاختلاف بين الأقارب [27] وقد قصدناك فى أمره، وأملكناك فى قطع هذا المكروه بأن تقبض على الشيعىّ وتخرجه من بلدنا، وتنفيه عنّا إن كرهت قتله، ونجعل لك بعد ذلك التّقدمة على جميع كتامة والعرب، فيكون لك شرف الدنيا وفخرها، وثواب الآخرة وأجرها، وتزيل عن أهل بيتك مكروها، وتقطع عنهم شرا. وأخذوا معه فى ذلك وحذّروه عواقب السلطنة. فقال لهم بنان: هذا رجل صار بين أظهرنا، وهو ضيف عندنا، كيف ينبغى أن نفعل فيه مثل هذا الفعل. فتنازعوا فى ذلك طويلا، وكان آخر خطاب بنان لهم أن قال: الرأى أن نجمع العلماء إليه فيناظرهم، فإن كان

على حقّ فما أولانا وإيّاكم بنصرته واتّباعه، وإن كان على باطل عرّفنا من اتّبعه أن يرجعوا عنه. فانصرفوا إلى أصحابهم وأخبروهم بما كان من بنان، فخافوا أن تقوم حجّته، ويستحكم أمره، فتزول رئاستهم بسببه. فأجمعوا على أن يمضوا فى جماعة ويظهروا أنهم أثوا بالعلماء، فإذا خرج إليهم قتلوه، وانصرفوا على حميّة. فاجتمعوا فى عدد عظيم من الخيل والرّجل؛ فلمّا رآهم بنو سكتان ركبوا خيولهم؛ والتقى الجمعان. فقالوا لبنان إنما أتيناك لما كان بيننا وبينك. فقال: إنّما كان بيننا أن تأتوا بالعلماء، وقد أتيتم بالزّحف والعدّة، وعلا الكلام بينهم، فالتحم القتال، وتداعت جيملة من كلّ مكان؛ فانهزم القوم، وانصرف عنهم بنو سكتان. وكان الشيعىّ قد سيّر فى مبادئ هذا الأمر، وخاف عليه أصحابه. ثم راسل الجماعة بنانا مرّة ثانية، وقالوا. قد كنّا أخطأنا فيما أتينا به من الجمع، ولم يكن ذلك عن قصد، ولكن تسامع النّاس بنا فتبعونا. وقد رجوناك لإصلاح جماعتنا، وقدّمناك، واخترناك لأنفسنا، لتحقن دماءنا، وتجمع ما تبدّد من شملنا، فقد عادى من أجل هذا الرّجل الأخ أخاه، والابن أباه، والقريب قريبه؛ وهذه فتنة قد بدت، وردّة قد ظهرت. وهذا الرجل من أهل المشرق، وهم كما علمت شياطين. وعلماؤنا بربر، وقوم ليست لهم تلك الأذهان؛ فإنهم [إن] «1» ناظروه يظهر عليهم ولم يجدوا حجّة. يحتجون بها عليه. وقالوا له: أترى نحن وآباؤنا والنّاس كلّهم فى

ذكر انتقال أبى عبد الله الشيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت

ضلالة، وهذا وحده على الحقّ والهدى. وكرّروا عليه ما وعدوه به من التّقدمة عليهم؛ فأصغى إليهم ووعدهم أن يتلطّف فى إخراجه. فجعل يتكلم فى ذلك ويحتجّ على أهل بيته، ويخوّفهم العواقب؛ فاتصل كلام بنان بالشيعىّ فانتقل عنهم. ذكر انتقال أبى عبد الله الشّيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت «1» قال: واتّصل هذا الخبر بالحسن بن هارون العصمى «2» ، وكان قد دخل فى هذا الأمر، وهو معروف بالأدب وكثرة النّعمة، وهو مطاع فى قومه. فأتى الشّيعى ورغب إليه فى الانتقال إلى مكانه، ووعده بالذّبّ عنه، والمدافعة بنفسه وأهله وماله؛ وذكر ذلك لأصحابه فأشاروا عليه به. وعظم ذلك على بنى سكتان وكرهوه، وقالوا له: نحن ندافع عنك بأنفسنا حتى نقتل كلّنا دونك. فشكر قولهم. وانتقل إلى الحسن بن هارون إلى تازرارت فتلقاه من بها من أصحابه وغيرهم. وقام «3» العصميون «4» بما احتاج إليه الشيعىّ وأصحابه، وقاسموه أموالهم. وأقبل أصحاب الشيعى من كلّ ناحية، وكلّ

منهم يأتى بما يملكه، ويبذله بين يديه. فاجتمع أمره، وامتنع جانبه، واجتمعت عصمان على نصرته، وخلق كثير من قبائل كتامة، وندم بنان بن صقلان على ما كان منه فى حقه، وعظم شأن الحسن بن هارون بفعله. وكان للحسن أخ هو أسنّ منه، اسمه محمود، فوجد فى نفسه من ذلك، وكان قبل ذلك مقدما على أخيه لسنّه، وكان أيضا مطاعا فى أهل بيته، فنكل بذلك، وفشا «1» عنه هذا والحسن يداريه ويستعطفه، خوفا من أن يفترق جماعة عصمان. فلمّا صار أمر الشيعىّ. بتازرارت إلى ما صار إليه وانتهى ذلك إلى القوم الّذين كانوا تعاقدوا عليه أولا، فسقط فى أيديهم، وعظم أمره عليهم، فرجوا أن يصلوا من محمود بن هارون إلى ما يريدونه من أمر الشّيعى. فاجتمعوا إلى مهدى بن أبى كتامة اللهيمى «2» . فذكروا له ما بلغهم عن محمود، وقالوا له: هذا جارك وصديقك، فلعلّك أن تستميله فتفرّق به جماعة عصمان، فيمكننا ما تريد. فركب مهدى إلى محمود، وذكر له اجتماع وجوه كتامة وأنهم أرسلوه إليه وقالوا إنّه قد أجحف أخوك بنفسه وأهل بيته وجاء إلى عصمان ببليّة قد تعافى منها بنو سكتان، وتخلّصوا من شرّها [28] . وجعل يخوفه من سوء العواقب، ووعده عنهم «3» بالتّقدمة على أنفسهم. فاستماله بذلك مع ما

داخله «1» من الحسد لأخيه والغيرة منه. فقال: القول فى ذلك ما قلت، ولكنّه قد تمكّن وقوى وكثرت أتباعه، وليس هو الآن كما كان فى بنى سكتان، وقد أجابته عصمان وكثير من عامّة كتامة، فهم يقاتلون دونه؛ فمتى دعوت من يطيعنى من عصمان إلى أخذه صرنا فريقين، وأهلك بعضنا بعضا. وما أرى فى أمره إلّا ما رأى لى بنان «2» : أن يأتى بالعلماء إليه فيناظروه، فإن قامت حجّتهم عليه وجدنا السّبيل إليه، وإن كانت الأخرى دبّرنا رأيا آخر إن شاء الله تعالى. وانصرف مهدى إلى القوم فأخبرهم. فقالوا: من الذى يناظره من علمائنا وأنت ترى الواحد من جهّالنا إذا دخل فى أمره ناظرهم فقطعهم، فكيف به فقال: قد رأيت من محمود شهوة فى قتله ومال إلى ما وعدناه به من التّقدمة، مع ما داخله من الحسد لأخيه؛ ولم أجد عنده غير ما فارقته عليه. وما علينا أن نأتى بالعلماء فإذا هم أخرجوه وقعنا «3» عليه أسيافنا فقتلناه، ويكون بعد ما عساه أن يكون. فأرسلوا فى طلب العلماء من كلّ ناحية، وقالوا لا نأتيه فى احتفال كما فعلنا ببنى سكتان. واتصل الخبر بالحسن بن هارون، وبالشّيعىّ، فقال لهم ليجتمع جماعة عصمان إلى محمود فيلاطفوه ويذكروا له ما اتصل بهم، ويحذّروه العار، والنّقص، وسوء العواقب، ويقدّموه على أنفسهم، ويعظّموه، ويرفعوا من شأنه. ففعلوا ذلك؛ ووافاه أخوه الحسن وجماعة عصمان، وقالوا: نحن

أهل بيتك وعشيرتك وأنت أميرنا ومقدّمنا، وهذا الرّجل ضيفك وضيفنا، وقد رأيت ما لحق ببنى سكتان من النّقص فى إخراجه، وأنّهم ندموا عليه، وأن بنانا حاول ردّه إليه ليصلح ما أفسده على نفسه فلم يجبه إلى ذلك. فلا تجعل علينا عارا ولا نقصا. وحلفوا له وقدّموه على أنفسهم فمال إليهم. فلما علم محمود ان أولئك القوم قربوا من تازرارت ركب فى جماعة وأركب الشّيعىّ أصحابه معه وقال لهم: إن قدرتم أن تلحموا الحرب «1» فافعلوا. فلمّا التقوا قالوا لمحمود: هؤلاء العلماء قد جئنا بهم؛ وعزلوهم ناحية: فقال لهم محمود: انصرفوا ودعوهم عندنا حتى نجمع بينهم وبين الرّجل، مع عشرة رجال من وجوهكم وخياركم، فى مجلس، فننظر ما يكون بينهم. فانحلّ ما عقدوه. فقالوا: وما عليكم أن تخرجوه إلى هاهنا ونشهد ما يكون منه ومن العلماء، فيكون ذلك أشهر وأقطع للأمر: فقال لهم محمود: قد بلغنا عنكم أنّكم عقدتم أمرا وطمعتم أن تنزعوا ضيفنا من أيدينا بالتّغلّب. فردّوا عليهم. فحمل عليهم هو وأصحابه، والتحم القتال، وقاتل محمود قتالا شديدا فجرح، ثم افترقوا، فمات محمود من جراحه، فسرّ أخوه والشّيعىّ بموته، وأظهروا الطّلب بدمه. واجتمعت عصمان ألّبا واحدا وصحّت الرئاسة للحسن بن هارون وولّاه الشّيعى أعنّة الخيل، وقوّده وعوّده على جميع أصحابه. واشتعلت الحرب بين عصمان ولهيصة بسبب قتل محمود. واجتمع أمراء بلزمه وأكثر القبائل للشّيعىّ وأظهر نفسه، وكان يشهد الحرب ويباشرها.

وطالت الحرب بينهم، ثمّ اصطلحت لهيصة وعصمان بعد أن قتل مهدى، وانضمّوا كلهم إلى الشّيعى، واشتدّ أمره، وحاربوا من بينهم من القبائل، وشنّوا الغارات على من بعد منهم. وبعث الشيعىّ خيلا مغيرة إلى مزاتة ورئيس مزاتة «1» يومئذ يوسف القنطاسى، وكان قدم على إبراهيم بن أحمد فوصله وحيّاه، وكساه، وأعطاه جارية؛ فكبسته خيل الشّيعى، وأخذوا جميع ما كان له، وسبوا الجارية، وقتلوا من قدروا عليه من أصحابه، واختفى هو فنجا، ووصلوا إلى الشّيعىّ بالغنيمة فاصطفى الجارية لنفسه وهى أمّ ولده. فلما رأت القبائل ظهور الشّيعى واجتماع لهيصة له، وقتل مهدى، مشى بعضهم إلى بعض، وأرسلوا إلى مزاته، فاجتمع رأيهم على أن يدخلوا إليه بعيالاتهم ويحيطوا به من كلّ جانب، فتسلمه عصمان ولهيصة ومن معهم ويستأصلوهم. فانتهى الأمر إلى الشّيعى، فجمع أصحابه كلّهم بتازرارت، وجاءت كتامة من أطرافها وأحاطوا به. فخندق على نفسه، وأشار عليه وجوه أصحابه أن يعتزل الحرب وهم يقاتلون. فشكرهم على ذلك، وأبى أن يقبله. ووعدهم النّصر، وحثّهم على القنال؛ فأخرج كلّ واحد ما عنده من مال وسلاح وكراع، وتشاوروا فيه، وكمّلوا عدّتهم وعدّتهم، فبلغوا سبعمائة فارس، لا يزيدون ولا ينقصون، وألفى راجل. والتقوا بعد مراسلة لم تجد شيئا واقتتلوا قتالا شديدا. ودام القتال بينهم ثلاثة أيّام، ودام فى اليوم الثّالث إلى العصر، وكان الظّفر لأصحاب الشيعى. وانهزم أولئك، وتبعوهم وقد امتلأت أيدى أصحابه من الغنائم والأموال؛ وتفرّق ذلك الجمع. قال: فبيع الجمال كلّ عشرة بدينار [29] والحمار بعشر

بصلات، وغنموا من الخيل ما لا يحصى. «1» وانصرف الشيعىّ إلى تازرارت وابتنى بها قصرا يسكنه، واتخذها دار مقامه؛ وأقطع أصحابه دورا حول قصره. وارتحل إليه أصحابه من كلّ ناحية، وابتنوا وسكنوا، وقوى أمرهم. واستأمن إليه كثير من القبائل؛ وشنّ الغارات، وداوم الحرب، فأقبل النّاس إليه من كل جهة. ولحق فتح بن يحيى بإفريقية «2» فقدم على أبى العبّاس [بن] «3» إبراهيم ابن أحمد، وهو يومئذ بتونس بعد خروج أبيه إبراهيم إلى صقلّية، فوصله وأدناه، وأكرمه، وسأله عن الشّيعىّ، فضعّف أمره، فقال: أليس قد اجتمعتم عليه فى عساكر عظيمة فلم تقدروا عليه؛ فقال: ليس أمرنا من أمرك فى شىء، إنّما نحن مقاتلة بغير رأس، ونقاتل من يعرفنا من أهل بلدنا، ولو جاءه عسكر من قبلك لكانت هيبته فى صدور النّاس. فأطمعه أبو العباس، ثم أمسك عنه. قال: واستولى الشيعى على جميع بلد كتامة، وظهرت دعاته فى كلّ ناحية منها، وغلب عليها؛ وكانت وقائع كثيرة ببلد كتامة. وأقام بعد انهزام الجمع نحو سنتين وهو يشنّ الغارات، ويغنم الأموال، حتّى أجابوه، وسلّموا الأمر إليه. ولم يبق إلّا المدينة الحصينة ومن فيها من

ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة ميلة

أمرائها ومن انضمّ إليها من القبائل. ذكر تغلّب أبى عبد الله الشيعى على مدينة ميلة قال ابن الرقيق: كان سبب ذلك أن قيس بن أبى جرير «1» من وجوه أهل ميلة، وهم [من] «2» ربيعة وكان رئيسهم يومئذ حسن بن أحمد، فوصل إلى الشيعىّ سرا وأطلعه على أمر المدينة، فتقدّم الشيعىّ إليها وقاتل من بها، وغلب على جميع أرضها، فدخل جميع من كان بها إلى الحصن، ثم سألوا الأمان، فأمّنهم ما لم يحدثوا حدثا. ففتحوا أبواب المدينة ودخلها أصحاب الشيعى، وخرج إبراهيم بن موسى بن عيّاش مع جماعة منهم فى الليل، فهربوا إلى إفريقية، إلى أبى العبّاس بن إبراهيم، فأخبروه بالخبر، وضعّفوا عنده أمر الشيعىّ، وسألوه فى إخراج عسكر إليه، وضمنوا أمره. فأمر بالحشد. وجمع وجوه رجاله، وأمّر عليهم ابنه محمّدا المعروف بأبى حوال «3» فاجتمع له عساكر عظيمة انتقى منها اثنى عشر ألف فارس. واتّصل الخبر بالشّيعىّ فاستعدّ للّقاء.

ذكر الحرب بين أبى عبد الله الشيعى وبين أبى حوال محمد بن أبى العباس

ذكر الحرب بين أبى عبد الله الشّيعىّ وبين أبى حوال محمد بن أبى العباس قال «1» : وخرج أبو حوال بالعسكر الّذى اختاره من مدينة تونس، فى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكلّ من مرّ عليه من القبائل، بدأهم بالعطاء وخلع على وجوههم، وقصد إلى سطيف، فلم يصل إليها حتّى زاد فى عسكره مثله. وتلقّاهم بنو عسلوجة أصحاب سطيف «2» ، وبنو تميم أصحاب بلزمه، ومن حولهم ممّن لم يدخل فى طاعة الشيعىّ، فقتل من وجوههم قتلا ذريعا، وانتهب أموالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وقصد الشيعى بتازرارت، واتصل به الخبر، فبرز إليه بمن معه، والتقوا ببلد بلزمة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الشّيعىّ وأصحابه، واتّبعهم أبو حوال إلى الليل، ثم أصبح فلقوه واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الشيعىّ ثانية إلى تازرارت وجاءهم ثلج عظيم، فحال بينهم. ولم ير الشيعىّ أن تازرارت تحصّنهم، فأخذوا ما قدروا عليه، وانضموا إلى إيكجان. فلمّا ارتفع الثّلج تقدّم أبو حوال إلى تازرارت فأخربها وهدم قصر الشيعى وسار إلى ميلة، ثم التقى هو والشيعىّ واقتتلوا إلى الليل، فانهزم أبو حوال إلى تونس، ورجع الكتاميّون إلى ميلة، واعتلّ الحسن بن هارون فمات بإيكجان، وسكنها الشيعىّ وابتنى بها قصرا.

ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة سطيف

وجاء الخبر إلى الشيعىّ بوفاة إبراهيم بن أحمد وأنّ ابنه أبا العباس ولى الأمر بعده «1» ، وجلس فى المسجد وردّ على الناس ظلاماتهم، وأنّه يجلس على حصير وبين يديه الدّرّة، فاغتمّ لذلك لأن العوامّ مالت إليه. ثمّ أتاه الخبر بقتل أبى العبّاس، وأنّ ابنه زيادة الله «2» قتله وولى مكانه، وأنّه شرب الخمور وارتكب المحارم، وعكف على الملاهى، فسرّه ذلك، وقال لهم: قد زال عنكم ما كنتم تخافونه، وهذا آخر ما تحاربون، وسيصير الأمر إليكم. قال: ثم خرج أبو حوال بالعساكر تانية قبل وفاة أبيه، فهزمه الشيعىّ واستولى على ميله، وعاد أبو حوال إلى بلاده وقد ملك زيادة الله، فقتله زيادة الله [30] وقتل إخوته، والله أعلم. ذكر تغلّب أبى عبد الله الشيعىّ على مدينة سطيف كانت مدينة سطيف لعلىّ بن حفص، المعروف بابن عسلوجة، وكان قد زحف مع أبى حوال لقتال الشّيعىّ. فلمّا استقام أمر الشيعىّ وأخذ ميلة ذهب بجموعه إلى سطيف وأقام عليها أربعين يوما وهو يقاتله، ثمّ انصرف إلى

ذكر خروج إبراهيم بن حنبش إلى بلد كتامة

إيكجان فأقام بها شهرا، وجمع «1» من قدر عليه، وعاد إلى مدينة سطيف فأحاط بها، وقاتله علىّ بن عسلوجة، فهزمه الشيعىّ فتحصّن بالمدينة. وأقام أيّاما يحاصره، فمات على بن عسلوجة، هو وأخوه أبو حبيب. فى أيّام قلائل فاستولى الشيعىّ عليها «2» . ذكر خروج إبراهيم بن حنبش إلى بلد كتامة قال «3» : لمّا اتصل بالأمير زيادة الله أخبار الشيعىّ، وظهوره على بلد كتامة، وافتتاحه ميلة، ووصل إلى زيادة الله من كتامة من خاف على نفسه، وعرّفوه أنّه إن لم يعاجل الشيعىّ زاد أمره، أخذ زيادة الله عند ذلك فى الاحتشاد وزاد فى العطاء. فاجتمعت له عساكر عظيمة، فقدّم عليها إبراهيم بن حنبش «4» ، فبلغت عدّة من خرج معه أربعين ألفا، من فارس وراجل. وأخرج معه أموالا جليلة وسلاحا كثيرا، وعددا عظيمة، وأمر ببذل الأموال، وأخرج معه وجوه رجاله ومن وصل إليهم من كتامة.

فسار إبراهيم بن حنبش حتى أتى قسطنطينية «1» ، وبينها وبين إيكجان الّتى بها الشيعىّ نحو مرحلتين، وأردفه زيادة الله بسديد بن أبى شدّاد «2» ، فاجتمع معه نحو مائة ألف. وأقام بقسطنطينية ستّة أشهر لا يتقدّم إليه الشيعى، فلمّا رأى ذلك زحف بعساكره كلّها، فندب الشيعىّ خيلا اختارها من كتامة ليختبروا بروز حنبش، فأتوه. فلمّا رأى الخيل قصدها بنفسه. هذا والأثقال على الدوابّ؛ فانتشبت الحرب، واقتتلوا قتالا شديدا. واتّصل الخبر بأبى عبد الله الشيعىّ، فزحف بمن معه، فوقعت الهزيمة على ابن حنبش وأصحابه، وأسلموا الأثقال، وتبعهم أصحاب الشيعىّ يومهم ذلك إلى الليل، ومن الغد، يقتلون ويغنمون. فقتلوا منهم كثيرا وغنموا من الأموال والأمتعة والسّلاح والكراع ما لا يحصى كثرة. ووصل ابن حنبش إلى باغاية «3» وكتب كتابا بخطّه إلى زيادة الله يخبره بالخبر. ثم قدم إلى إفريقية، فاضطربت وما جت بأهلها، وعظم أمر الشيعىّ ثم غلب على مدينة طبنة «4» ثم على مدينة بلزمة، ثم مدينة تيجس «5» ، ثم

ذكر هرب زيادة الله إلى المشرق

مدينة باغاية «1» ، ثم قفصة «2» ، وقصطيلية «3» ، ثم مدينة الأربس «4» . وكان له فى خلال هذه الفتوحات وقائع كثيرة كان آخرها مع إبراهيم بن أبى الأغلب لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ستّ وتسعين ومائتين، فانهزم إبراهيم إلى جهة القيروان واتّبعهم أصحاب الشيعىّ يقتلون ويغنمون ويأسرون «5» . ذكر هرب زيادة الله إلى المشرق قال «6» : ولمّا وصل خبر هذه الهزيمة إلى زيادة الله وهو برقّادة «7» ، وكان قد علم أنّه لا يقوم له أمر إذا انهزم إبراهيم، لأنّه آخر ما جمع من الجيوش واستنفذ فيه الوسع والطّاقة، فلمّا جاءه خبر الهزيمة أظهر أنّه جاءه الفتح، وأرسل إلى السّجون فأحضر رجالا منها فضرب أعناقهم، وأمر أن

[31] ذكر رجوع أبى عبد الله الشيعى إلى إفريقية

يطاف برءوسهم فى القيروان، وأخذ فى تجهيز أثقاله، وحملها وحمل أمواله، وأنذر خاصّته وأهل بيته بالخروج معه، وعرّفهم بالخبر؛ فأشار عليه ابن الصّائغ «1» بالمقام، فأبى ذلك، وخرج إلى مصر، كما ذكرناه «2» وأقبل النّاس فى صبيحة يوم هرب زيادة الله وانتهبوا رقّادة. والله أعلم. [31] ذكر رجوع أبى عبد الله الشّيعىّ إلى إفريقية قال: ولمّا وافاه الخبر بهرب زيادة الله أمير إفريقية، وهو بناحية سبيبة «3» رحل لوقته، وخرج إليه شيوخ القيروان، وتلقّوه، فأكرمهم، ودخل أبو عبد الله الشيعىّ رقّادة فى يوم السّبت غرّة شهر رجب، سنة ستّ وتسعين ومائتين، ونزل ببعض قصورها، وفرّق دورها على كتامة، ولم يكن قد بقى بها أحد من أهلها، وأمر مناديه فنادى فى القيروان بالأمان، فرجع

ذكر خروج أبى عبد الله الشيعى إلى سجلماسة

النّاس إلى أوطانهم. وغيّر المنكرات، وولّى قضاء القيروان محمّد «1» بن عمر المروزىّ، وأمره، ورتّب الخطباء وأمرهم أن يصلّوا على: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ، والحسن والحسين وفاطمة، وأمر بضرب السّكّة، وأن ينقش على الوجه الواحد «بلغت «2» حجّة الله» . وعلى الوجه الآخر «تفرّق أعداء الله» ، ونقش على السلاح «عدّة لسبيل «3» الله» ، ونقش على خاتمه الّذى يطبع به الكتب (وتمّت كلمات ربّك صدقا وعدلا) «4» ورسم فى جلال الخيل «5» «الملك لله» . ذكر خروج أبى عبد الله الشّيعىّ إلى سجلماسة «6» قال «7» : ولمّا استقرّ أبو عبد الله الشيعى برقّادة، أتاه أخوه أبو العبّاس محمد ابن أحمد، فسرّ بمقدمه، وكان أسنّ من أبى عبد الله وأحدّ ذهنا،

وكان الشيعىّ يعظّمه، فإذا دخل قام إليه، وإذا دخل هو على أبى العبّاس قبّل يده ووقف حتى يأمره بالجلوس فيجلس. ولما وصل أبو العباس أراد أن ينفى من القيروان من خالف مذهبه، فقال له أبو عبد الله إن دولتنا دولة حجّة وبيان، وليست دولة قهر واستطالة، فاترك النّاس على مذاهبهم، فتركهم. وأخذ أبو عبد الله فى الخروج إلى سجلماسة، فرحل إليها فى النّصف من شهر رمضان من السّنة، فى جيوش عظيمة، واستخلف على إفريقية ابا زاكى تمام ابن معارك وأخاه «1» أبا العباس. قال: ولمّا خرج اهتز الغرب لخروجه وزالت زناتة «2» والقبائل عن طريقه، وأوقع بقبائل عرضت له فى الطّريق حتّى إذا قرب من سجلماسة راسل أميرها اليسع بن مدرار «3» ، وكان من أمره معه ما نذكره بعد فى أخبار المهدىّ عبيد الله إن شاء الله. فهذه أسباب ظهور هذه الدّولة وقيامها وخبر شيعتها. فلنذكر أخبار المهدىّ وما كان من أمره. وخروجه من بلاد الشام، وما اتفق له فى مسيره إلى أن تسلم الملك من أبى عبيد الله الشيعىّ، بعد أن مهّد له القواعد وفتح

ذكر ابتداء الدولة العبيدية وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعى

البلاد. ثم نذكر فى أخبار عبيد الله، المنعوت بالمهدىّ، تتّمة أخبار أبى عبد الله الشيعىّ إلى أن قتل هو وأخوه أبو العبّاس محمد بن أحمد. فنقول وبالله التوفيق. ذكر ابتداء الدّولة العبيديّة وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشّام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعىّ كان ابتداء ظهور هذه الدولة وقيامها ببلاد المغرب فى سنة ستّ وتسعين ومائتين، عند ظهور عبيد الله بن الحسن المنعوت بالمهدىّ، وخلاصه من سجن سجلماسة وقتله الحسن بن مدرار. ومنهم من يجعل ابتداءها عند وصول عبيد الله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بأخبار المهدىّ فى رحلته إلى المغرب. ذكر رحيل عبيد الله من الشام [32] ووصوله إلى سجلماسة وكان سبب ذلك أن المعتضد بالله أبا العبّاس العباسىّ طلب عبيد الله هذا طلبا شديدا، فخاف على نفسه إن هو أقام بالموضع الذى هو فيه من أرض الشام، فخرج بنفسه وبولده أبى القاسم محمّد، وهو يومئذ غلام حدث وعبيد الله شابّ، وخرج معه خاصّته ومواليه، يريدون المغرب، وذلك فى خلافة المكتفى بالله العباسى، وأمير إفريقية يومئذ زيادة الله بن أبى العبّاس بن إبراهيم بن أحمد.

فلما انتهى عبيد الله إلى مصر أراد أن يقصد اليمن، وكان بها أبو القاسم الحسن بن حوشب الكوفى الدّاعى كما ذكرنا، وقد استقام له الأمر وملك أكثر البلاد، ثم بعث بعده علىّ بن الفضل فاستحلّ المحارم ودعا النّاس إلى الإباحات، فلما اتّصل ذلك به كره دخول اليمن على هذه الحال، وبلغه ما فعل الشيعىّ بالمغرب، وما فتح على يديه فأقام بمصر مستترا فى زىّ التّجار، وعامل مصر يومئذ عيسى النوشرى بعد انقراض الدّولة الطّولونيّة؛ فأتته الكتب بصفته، وأمر بالقبض عليه. وكان بعض خاصّة النّوشرى يتشيع، قيل إنّه ابن المدبّر، فبادر إلى عبيد الله وأخبره، وأشار عليه بالمسير؛ فخرج من مصر بمن صحبه. ففرّق النّوشرى الرّسل وذكر لهم صفته، ثم خرج بنفسه فأدركه وقد رحل من تروجة، وهى على مرحلة من الإسكندرية، فمشى النّوشرىّ فى القافلة التى عبيد الله فيها، وجعل ينظر إلى وجوه القوم، حتّى رأى عبيد الله على هيئته التى وصفت له، فقبض عليه وعلى من كان معه، وأطلق الرّفقة وعاد به إلى ببستان فنزل به، وأنزل عبيد الله ومن معه بمفردهم ووكل بهم. ثم خلا به وقال له أصدقنى عن أمرك فأنى ألطف فى خلاصك، فقد جاءت صفتك من قبل أمير المؤمنين وأمر بطلبك، وذكر أنّك تروم الخلافة. فقال عبيد الله «1» إنما أنا رجل تاجر، ولست أعلم شيئا ممّا نقول، وأنت غنىّ عن تقلّد إثمى. فما زال يلاطفه يومه وليلته حتّى أطلقه وقال: امض إلى سبيلك وأنا أبعث معك خيلا تشيّعك. فشكره وقال: أنا أستغنى بنفسى وبمن معى، وانصرف. فرجع أصحاب النّوشرى عليه بالملامة، وقالوا له: ماذا صنعته

بنفسك! عمدت إلى بغية أمير المؤمنين وطلبته فأطلقته. فندم على إطلاقه وهمّ أن يبعث إليه خيلا تردّه. فلمّا سار عبيد الله أميالا افتقد أبو القاسم ابنه كلبة صيد كانت له، فبكى عليها فعرفّه عبيده «1» أنهم تركوها بالبستان؛ فرجع عبيد الله فى طلبها، فرآهم النّوشرى، فقال: من هؤلاء؟ فقال بعض أصحابه: الرّجل قد رجع. فبعث غلمانه فسألوا أصحاب عبيد الله عن سبب رجوعه، فقالوا: افتقد ولد سيدنا كلبة، وهو عزيز على أبيه، فعاد معه فى طلبها بعد أن قطع أميالا كثيرة. فقال النّوشرى لأصحابه: قبّحكم الله! أردتم أن تحملونى على رجل حاله مثل هذه الحال أعتقله بشبهة. لو كان مرتابا لطوى المراحل وما عاد إلينا من مسافة بعيدة فى طلب كلبة صيد. ورجع النّوشرى من وقته إلى مصر، وعاد المهدىّ ولحق برفقته. فلمّا انتهى إلى مدينة طرابلس، فارق من كان معه من التّجار، وقدّم أبا العبّاس محمّد بن أحمد بن محمّد بن زكريا، أخا أبى عبد الله الشيعىّ إلى القيروان ببعض ما كان معه، وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العبّاس إلى القيروان وجد الكتب قد سبقت إلى زيادة الله فى أمر عبيد الله فأحضر الرّفقة وسألهم عنه، فأخبروه أنه تخلّف بطرابلس وذكروا أنّ أبا العبّاس من أصحابه؛ فأخذ وقرّر، فأنكر، فحبس. واتصل الخبر بعبيد الله بطرابلس فصادف رفقة خارجة إلى قصطيلية، فخرج معهم، وأتى كتاب زيادة الله إلى طرابلس بصفته وطلبه، فكتب إليه عاملها أنه خرج من عمله، وسار عبيد الله حتى وصل إلى قصطيلية، ثم منها

إلى سجلماسة، وصاحب سجلماسة يومئذ اليسع بن مدرار، فهاداه عبيد الله، فأكرمه اليسع وعظّمه. فلم يزل كذلك إلى أن أتاه كتاب زيادة الله يخبره أنه هو الّذى يدعو إليه الشيعىّ، فتغير اليسع عند ذلك عليه إلّا أنه لم يكن منه فى حقه ما يكره. ثم كان من تغلّب الشيعىّ ما قدّمناه، وعلم بمكان عبيد الله، وكان يكاتبه فى السّرّ. فلمّا هزم الشيعىّ جيش إبراهيم بن حنبش كتب إلى عبيد الله يخبره بالفتح، فأرسل إليه مالا مع رجال من قبله من كتامة، وكان ذلك أول فتح ورد على عبيد الله، فسرّ به. ثم استولى الشيعىّ على ما ذكرناه، وهرب منه زيادة الله، وملك رقّادة والقيروان، وسار إلى سجلماسة فلما انتهى خبره إلى اليسع بن مدرار وقرب من سجلماسة سأله فحلف أنه ما اجتمع بالشيعىّ ولا رآه قطّ ولا عرفه، وقال: إنما أنا رجل تاجر فأغلط له فى القول فلم [يغير] «1» كلامه الأوّل ولم يخرج عنه. فجعله فى دار وجعل عليه حرسا، وجعل ابنه أبا القاسم فى دار أخرى، وفرّق بينهما. واختبر كلّ واحد منهما [33] فلم يجد بينهما خلافا، وامتحن رجالا كانوا معهما بالعذاب ليقرّوا فلم يعترفوا بشىء. واتصل الخبر بالشّيعىّ فعظم عليه، وأرسل إلى اليسع بن مدرار يؤمّنه جانبه ويذكر أنّه إنّما قصد سجلماسة لحاجة وبعده الجميل والبرّ والإكرام، وأكد ذلك وبالغ فيه فلما وصلت رسل اليسع رمى بالكتب وقتل الرّسل، واتّصل ذلك بالشيعىّ فعاوده ولاطفه؛ كلّ ذلك خوفا منه أن يكون منه فى حقّ عبيد الله ما يكرهه؛ فقتل الرّسل أيضا فلمّا رأى الشيعىّ إصراره عبّأ

عساكره ودنا من المدينة فخرج إليه اليسع بمن معه، فناوشهم القتال، فقتل من أصحابه جماعة وكان ذلك فى آخر النّهار، فحجز بينهما اللّيل. فلما جنّ اللّيل هرب اليسع بن مدرار مع أهل بيته وبات الشيعىّ ومن معه فى غمّ عظيمّ تلك الليلة، لا يعلم ما صنع بعبيد الله وابنه، ولم يمكنه دخول المدينة، وما علم بهرب اليسع، حتى أصبح، فخرج إلى الشيعى وجوه أهل المدينة وأعلموه بهرب اليسع، فدخل إلى المكان الذى فيه عبيد الله فأخرجه وأخرج ولده أبا القاسم، وقرّب لهما فرسين وحفّت بهما العساكر، وسار الشّيعىّ والدّعاة بين يدى عبيد الله وهو يقول: هذا مولاى ومولاكم؛ حتى انتهى عبيد الله إلى فسطاط ضرب له، فدخله، وهو إذ ذاك شاب لم ينبذه الشّيب، وابنه حرطرّ شاربه. هذا ما حكاه إبراهيم بين الرّقيق فى تاريخه. وقال غيره إن اليسع بن مدرار لمّا أراد الخروج من سجلماسة أحضر الشخص الذى اعتقله وقتله قبل هروبه، وأن الشيعى لمّا دخل وعلم بقتل عبيد الله خاف من كتامة لأنه كان يعدهم بخروج المهدىّ وملكه الأرض على زعمه، وخشى أن يفتضح فيهلك ويزول ما حصل فى يده، فأخرج لهم رجلا يهوديّا كان يخدم الشّخص المقتول، وقال هذا إمامكم وإمام الاسماعيلية، وأركبه ومشى فى ركابه وانسلخ له من الأمر. وهذا فيه بعد، وأراه من التّغالى فى نفيهم عن النّسب؛ والذى حكاه ابن الرّقيق أشبه. فلنرجع إلى ما حكاه إبراهيم بن الرّقيق. قال: ولما استقرّ عبيد الله بالفسطاط أمر بطلب اليسع بن مدرار حيث كان، فخرجت الخيل فى طلبه، فأدركوه ومن معه من أهل بيته،

فأخذوهم وأتوا بهم إلى عبيد الله، فأمر بضرب اليسع بالسياط، فضرب وطيف به فى بلاد سجلماسة؛ ثم أمر بقتله فقتل هو وكلّ من هرب معه من أهل بيته وغيرهم. وأمّن الناس بعد ذلك وسكّنهم، واستعمل عليهم عاملا، وأتته القبائل من كلّ ناحية فأكرمهم، ووعدهم بكل جميل. وأقام بسجلماسة أربعين يوما، ثم سار يريد إفريقية. فلما حازى بلاد كتامة مال إليها، ووصل إلى إيكجان، وأمر بإحضار الأموال التى كانت مع الشيعىّ والشيوخ، فأحضرها وشدّها أحمالا وقدم بها. وكان وصوله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وفى هذه السنة زال ملك بنى الأغلب وكان له بإفريقية مائة سنة واثنتا عشرة سنة. وزال بزواله ملك بنى مدرار وكان له بسجلماسة وما حولها مائة سنة وستون سنة. وزال ملك بنى رستم من تاهرت «1» وما حولها، وله مائة سنة وثلاثون سنة «2» . قال: ولما قارب عبيد الله القيروان تلقّاه شيوخها ومشوا بين يديه، فجزاهم خيرا ونزل عبيد الله بقصر من القصور برقّادة، وأنزل العساكر بدورها ودعى له بالخلافة فى يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر من السّنة برقّادة والقيروان والقصر القديم «3» وأنفذ رسله ردعاته وأتته وفود البلدان.

ذكر أخبار أبى عبيد الله الشيعى وأخيه أبى العباس وما كان من أمرهما بعد قيام عبيد الله المهدى إلى أن قتلهما

قال ثمّ عرض عليه الشيعىّ جوارى زيادة الله فاصطفى منهنّ لنفسه وأعطى ولده، وفرّق أكثرهنّ على وجوه كتامة؛ وقسّم عليهم أعمال إفريقية، واستعمل وجوههم على مدنها، وأمرهم بالتجمّل وحسن اللّباس، فلبسوا الثّياب الفاخرة وركبوا بالسّروج المحلّاة. ورتّب الدّواوين وأنعم على النّاس، فرفع إليه صاحب بيت المال ما أخرجه من الصّلات فى شهر رمضان، فبلغ مائة الف دينار واستكثره صاحب بيت المال فقال عبيد الله: لو بلغت ما أؤمّله ما رضيت بمثل هذا المال لرجل واحد [من أوليائى] «1» . ذكر أخبار أبى عبيد الله الشيعىّ وأخيه أبى العبّاس وما كان من أمرهما بعد قيام عبيد الله المهدىّ إلى أن قتلهما قال: لمّا استقامت الأمور لعبيد الله المهدىّ داخل أبا العبّاس محمدا أخا الشّيعىّ فساد دينه «2» وسبب ذلك أنّ أخاه أبا عبد الله كان يعظّمه ويقوم له عن مجلسه ويقبّل يده [34] كما قدمناه، وكان لأبى عبد الله من الرئاسة ونفوذ الكلمة والغلبة على الأمر كلّه ما ذكرناه «3» . فلمّا صار الأمر لعبيد الله المهدىّ زالت تلك الرئاسة عن أبى عبد الله وأخيه، فداخله الحسد، فجعل يزرى على عبيد الله عند

أخيه وأبو عبد الله ينكر ذلك على أخيه، وأبو العبّاس لا يرعوى، ويؤكّد أسباب النّفاق. ثم قال أبو العبّاس لأخيه: لقد ملكت أمرا عظيما وانطاع لك النّاس، فجئت بمن أزالك عنه وأخرجك منه، وكان الواجب عليه ألّا يهتضمك هذا الاهتضام. ولم يزل يغريه بمثل دلك إلى أن أثّر ذلك فيه، وحمله على مشافهة عبيد الله المهدىّ ببغضه، وأشار عليه بتفويض الأمور إليه والانقطاع فى قصره والاحتجاب عن الناس، وقال هذا أهيب لك وأشدّ لامرك. فردّ عليه فى ذلك ردّا لطيفا. وكان قد بلغ المهدىّ ما هو عليه، فحقّقه ولم يره أنّه اطّلع على شىء من ذلك. وعمد أبو العبّاس إلى الدّعاة، وكانوا يعظّمونه لما يرون من تعظيم أخيه أبى عبيد الله له، فجعل يرمز لهم، ثمّ صرّح، وطعن فى عبيد الله، وأدخل فيه الشّبهة. وكلّ ذلك يبلغ عبيد الله فيعرض عنه ويغضى عليه، هذا والشيعىّ فى ذلك مدار لم يبلغ حد النّفاق إلى أن فشا أنّ حال أبى العبّاس قد أنهيت إلى عبيد الله. وما زال أبو العبّاس يتخيّل إلى أن قال للدّعاة إنّ الإمام هو الّذى ياتى بالآيات والمعجزات ويختم بخاتمه فى البلاط، فأمّا هذا فقد شككنا فيه. فعند ذلك أرسل هارون بن يونس «1» أحد المشايخ إلى عبيد الله يقول: قد شككنا فى أمرك فأتنا بآية إن كنت المهدىّ كما قلت. فتعاظم ذلك وقال: ويحكم إنكم كنتم قد أيقنتم والشكّ لا يزيل اليقين، فأبيتم إلّا الإصرار! ثمّ أمر من قتله. فلمّا علم أبو العبّاس والقوم الذين استزلّهم «2» بقتله جعلوا ذلك سببا لمباينة عبيد الله وأجمعوا على النّقض والإبرام فى دار ابى زاكى ابن معارك، وعزموا على الفتك بعبيد الله. واجتمع كتامة إلّا قليلا منهم؛

وكان عزوية «1» بن يوسف يأتى بأخبارهم لعبيد الله، فجمع عبيد الله إليه من سلم من النّفاق والعبيد واستعدّ لهم، على كثرتهم وقلّة المبايعين له. فجمعوا له الجموع وأحاطوا بقصره ليوقعوا به، وهو فى ذلك جالس منتصب غير مكترث؛ فقذف الله فى قلوبهم الرّعب على كثرتهم وقلّة من معه، حتّى كانوا يعبرون وقد عزموا على الفتك به، فإذا قابلوه ملأت الهيبة قلوبهم فإذا انصرفوا ندموا على تركه لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «2» . فنظر عبيد الله فى بعض الأيّام إلى أبى عبيد الله الشيعىّ وقد لبس توبه مقلوبا، ودخل عليه ثلاثة أيّام وهو على تلك الحال، فقال له فى اليوم الثّالث: يا أبا عبد الله؛ ما هذا الأمر الّذى شغلك وأذهلك عن أمر نفسك؟ فقال: وما هو يا مولاى؟ قال: إنّ ثوبك مقلوب عليك منذ ثلاثة أيّام ما اهتديت له، وما أحسبك نزعته. فنظر إليه وقال: والله يا مولاى ما علمت به. فقال: إنّ هذا لشغل عظيم؛ فأين تبيت منذ كذا من اللّيالى؟ فسكت. فقال: ألست تبيت فى دار أبى زاكى قال له: بلى. قال: وما أخرجك من دارك التى أنزلتك بها؟ قال: يا مولاى خفت. قال: وما يخاف المرء إلّا من عدوّه، والمؤمن لا يخاف وليّه «3» . فسكت أبو عبد الله وأيقن أنّ عورته قد بدت لعبيد الله، ووجبت حجّته عليه، وحلّ له قتله. فانصرف وأعلم القوم بما جرى بينهما، فأمسكوا عن الدّخول إلى عبيد الله وخافوا على أنفسهم منه. ثمّ جاءوه بعد ذلك وأظهروا البراءة مما قيل فيهم،

واعتذروا؛ فردّ عليهم ردّا جميلا، وأخرج جماعة منهم إلى البلدان، فتفرّقت جماعتهم. وأخرج فيمن أخرج أبا زاكى بن معارك «1» إلى طرابلس، وكان غزوية بن يوسف واليا عليها «2» ، فلمّا وصل إليه كتب إليه عبيد الله، فقتله وبعث برأسه إليه. وقتل جماعة منهم كذلك فى البلدان بصنوف من القتل. وخرج أبو عبد الله فى بعض الأيام هو وأخوه أبو العبّاس يريدان قصر عبيد الله على العادة، فحمل غزوية بن يوسف «3» على أبى عبيد الله، وحمل خير بن ماشيت «4» على أبى العبّاس. فقال أبو عبد الله لابن غزوية: يا بنىّ لا تفعل. فقال: الّذى أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك. وقتلاهما فيما بين القصرين؛ وذلك فى يوم الاثنين، النّصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين؛ وأمر عبيد الله بدفنهما. قال: وهذا اليوم هو اليوم الّذى قتل فيه أبو زاكى بطرابلس. قال: ولما قتل أبو عبد الله وأبو العبّاس ثار جماعة من بنى الأغلب وأصرّوا على النّفاق، وكانوا بالقصر القديم، فأخرجوا منه الكتاميّين وقتلوا جماعة منهم، فأحاط به من حوله من كتامة، فقاتلهم بنو الأغلب، وقتل من

ذكر أخبار من خالف على عبيد الله وما كان من أمرهم

الطّائفتين قتلى كثير. فبلغ ذلك عبيد الله فردّ كتامة وأنكر عليهم، فتفرّق بنو الأغلب وانصرفوا إلى دورهم، فتركهم عبيد الله ثم قبض عليهم فقتلوا على باب رقّادة؛ ثم تتبّع من بقى منهم فقتلهم. ولمّا استقامت الأمور لعبيد الله [35] عهد إلى ولده أبى القاسم، وخرجت كتبه: من ولىّ عهد المسلمين محمد بن عبيد الله. ذكر أخبار من خالف على عبيد الله وما كان من أمرهم قال: وبقيت «1» بقيّة من المنافقين عليه، فساروا «2» إلى بلد كتامة، فأقاموا غلاما حدثا من جبل أوراس من جهة أورسّه «3» . وزعموا أنّه المهدىّ، ثمّ نحلوه النّبوّة، وزعموا أنّ الوحى يأتيه، وقالوا: أبو عبد الله حىّ لم يمت؛ وأباحوا الزّناء، وأحلّوا المحارم. وزحفوا إلى ميلة فأخذوها. فبلغ ذلك عبيد الله «4» فأخرج إليهم ولىّ العهد فى عسكر فحاصرها مدّة، ثم قاتلوه فهزمهم حتى انتهى بهم إلى البحر، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ الغلام الّذى نصبوه فأتى به إلى أبيه، فأمر بقتله، فقتل. وخالف عليه أهل طرابلس، فأخرج إليهم عسكرا مع أبى يوسف، فحاصرها، ثمّ انصرف عنها ولم يفتحها، فخرج إليها بعد ذلك أبو القاسم، وقد قدّموا على أنفسهم ابن إسحاق القرشى، فكان خروجه يوم الأحد

ذكر بناء مدينة المهدية

لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة ثلاثمائة. فحاصرها وضيّق على من بها حتى أكلوا الجيف، ففتحوا فى آخر شهر رجب من السّنة، فعفا عنهم، لكنّه غرّمهم جميع ما أنفق من مال وغيره، وكانت جملته ثلاثمائة ألف وأربعين ألف دينار، وحمل وجوه رجالهم معه إلى رقّادة رهائن، واستخلف عليها، وانصرف. ذكر بناء مدينة المهديّة وفى سنة ثلاثمائة «1» خرج عبيد الله إلى تونس وقرطاجنة وغيرها، يرتاد لنفسه موضعا على ساحل البحر يبتنى به مدينة، فاختار موضع المهديّة، فأمر ببنائها وتحصينها بالسّور وأبواب الحديد المحكم، فجعل فى كلّ مصراع من الحديد مائة قنطار. وكان ابتداء الشّروع فى بنائها فى يوم السّبت لخمس خلون من ذى القعدة «2» من السنة. وانتقل إليها فى سنة ثمان وثلاثمائة. قال: ولمّا عزم على الانتقال إليها ثقل ذلك على جنده، فقال: نحن ننتقل إليها وندعكم بمكانكم، وعمّا قليل ستنتقلون. ففعلوا ذلك، فما كان إلّا أن أرسل الله عليهم أمطارا غزيرة، فهدمت مساكنهم، فسألوه النّقلة إليها فأذن لهم. وفى سنة ثلاث وثلاثمائة خرج ولىّ العهد أبو القاسم إلى الدّيار المصريّة.

ذكر خروج أبى القاسم إلى بلاد المغرب [36] وبنائه مدينة المسيلة

وكان خروجه من رقّادة لستّ بقين من جمادى الآخرة منها «1» ؛ وكان من أمره وأمر حباسة بن يوسف ووصولهما إلى الإسكندرية ما قدّمناه فى الحوادث فيما كان بين الدّولة الطّولونيّة والدّولة الإخشيدية. ولما وصل حباسة إلى عبيد الله أمر بقتله على ما كان من انهزامه. ثم خرج أبو القاسم بابنه إلى الديار المصرية. وكان خروجه يوم الاثنين غرّة ذى القعدة، سنة ستّ وثلاثمائة، ووصل إلى الإسكندرية فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة، فخرج عنها عامل المقتدر، وملكها أبو القاسم. ثمّ ملك الفيّوم والأشمونين، وغير ذلك. وأقام نحو سنتين. ثمّ وقع الفناء فى عسكره، وماتت خيلهم؛ وجاء مؤنس من بغداد واجتمعت عليه العساكر كما ذكرنا، فعجز عن قتالهم، فرجع إلى أفريقية. وكان وصوله إلى المهديّة لعشر ليال مضين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثمائة. ذكر خروج أبى القاسم إلى بلاد المغرب [36] وبنائه مدينة المسيلة قال: وفى سنة خمس عشرة وثلاثمائة خرج أبو القاسم، ولىّ العهد، إلى بلاد المغرب فى عسكر عظيم وكان خروجه من المهديّة فى يوم الخميس لسبع مضين من صفر منها، ففتح مزاته، وهوارة، ومطماطة، ولماية،

ذكر وفاة عبيد الله المهدى وشىء من أخباره

وكل من خالطهم من الصّفّريّة «1» والإباضيّة «2» وبلغ إلى ما وراء تاهرت «3» . ولمّا انصرف من سفرته اختط مدينة المسيلة «4» برمحه، وأمر علىّ بن حمدون الأويسى ببنائها، واستعمله على المحمدية فبناها وحصّنها، وكانت خطّة لبنى كملان فأخرجهم منها، وأمرهم أن يرتفعوا إلى فحص «5» القيروان، وانتقل الناس إليها وعظم أمرها. ذكر وفاة عبيد الله المهدىّ وشىء من أخباره كانت وفاته ليلة الثّلاثاء، النّصف من شهر ربيع الأول «6» ، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة؛ وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وكانت إمارته منذ وصل

إلى رقّادة إلى يوم وفاته أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر «1» وعشرين يوما. قال: ولمّا مات كتم ابنه أبو القاسم موته سنة حتى دبّر أمره. أولاده: أبو القاسم عبد الرحمن، ولىّ عهده وتسمّى بالمغرب محمدا. أبو علىّ أحمد، مات بمصر للنّصف من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ودفن بالقصر. أبو طالب موسى، مات بمصر فى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ودفن بالقصر. أبو الحسين عيسى، توفّى برقّادة فى سنة. اثنتين وثمانين وثلاثمائة. أبو عبد الله الحسين، توفّى بالمغرب فى أيّام القائم. أبو سليمان داود، توفّى بالمغرب فى أيام القائم. وكان له سبع بنات، ومن السّرارى أمّهات الأولاد ستّة. قضاته: أبو جعفر محمّد بن عمر» المروروزى، مات بعد أن عزل فى سنة ثلاث وثلاثمائة، ثم إسحاق بن المنهال؛ ثمّ محمّد بن محفوظ المصمودى، مات فى المحرم سنة سبع وثلاثمائة؛ ثم محمّد بن عمران النفطى، مات فى سنة عشر وثلاثمائة، ثم إسحاق بن المنهال ثانيا.

ذكر بيعة القائم بأمر الله

حاجبه: جعفر بن على. حامل مظلّته: [مسعود الصقلبى، ثم غرس الصقلبى] «1» ذكر بيعة القائم بأمر الله هو أبو القاسم محمّد، وقيل أبو العبّاس، ويدعى نزارا، وكان اسمه بالمشرق عبد الرحمن فتسمى محمّد بن عبيد الله المهدىّ، وهو الثّانى من ملوك الدّولة العبيديّة؛ بايع له أبوه بولاية العهد كما تقدّم، ثم جدّدت له البيعة بعد وفاة أبيه بسنة، فإنّه كتم وفاته سنة كاملة، حتّى مهّد قواعد دولته، ثم أظهرها. واستقلّ بالأمر وهو ابن سبع وأربعين سنة، فقام مقام أبيه، واقتفى آثاره، وأظهر عليه من الحزن ما لم يسمع بمثله وواصل الحزن لفقده، ولم يرق «2» سريرا، ولا ركب دابة منذ أفضى إليه الأمر إلى أن مات إلّا مرّتين، مرّة صلّى على جنازة، ومرّة صلّى بالنّاس العيد. وافتتحت فى أيامه مدائن كثيرة من مدن الروم؛ وثار عليه عدّة ثوّار فتمكّن منهم؛ فكان ممّن ثار عليه ابن طالوت القرشىّ، فسار إلى ناحية طرابلس وزعم للبربر أنّه المهدىّ فقاموا معه واتبعوه، فزحف بهم على مدينة طرابلس فى عدد عظيم، ثم تبيّن للبربر أمره فقتلوه، وأتوا برأسه إلى أبى القاسم. قال: وأوّل ما بدأ به أنه أمر باتّخاذ أنواع السّلاح فى سائر البلاد،

ذكر وفاة القائم بأمر الله [37] وشىء من أخباره

وأخرج ميسور «1» الصقلبى فى عدد عظيم إلى المغرب، فانتهى إلى مدينة فاس، وهزم ابن أبى العافية، وأخذ ابنه الثورى أسيرا، وأخرج بعد ذلك يعقوب بن إسحاق على أسطول عظيم إلى بلد الرّوم، فافتتح بلد جنوة. وكان ممّن خرج عليه أبو زيد مخلّد بن كيداد «2» ، فى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وهو رجل إباضىّ، يظهر الزّهد، وأنّه إنما قام عليهم غضبا لله. وكان لا يركب غير حمار، ولا يلبس إلّا الصّوف. وكان بينهما وقائع كثيرة، فملك أبو زيد جميع مدن القيروان، ولم يبق للقائم غير المهديّة، فحاصرها أبو زيد إلى أن هلك القائم. وكان بينه وبين ابنه المنصور ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة القائم بأمر الله [37] وشىء من أخباره كانت وفاته بالمهديّة فى يوم الأحد الثّالث عشر من شوّال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ومولده بسلمية التى بالقرب من مدينة حماة من الشّام فى المحرّم سنة ثمانين ومائتين «3» . وكان عمره أربعا وخمسين سنة وتسعة أشهر، ومدة ملكه ثنتى عشرة سنة وستّة شهور وأيّاما. أولاده: كان له من الأولاد الذّكور سبعة، وهم: أبو الطاهر إسماعيل قام بالأمر بعده؛ وأبو عبد الله جعفر، توفّى فى أيّام المعزّ؛ وحمزة،

ذكر بيعة المنصور بنصر الله

وعدنان. وأبو كتامة قضوا بالمغرب؛ ويوسف، مات ببرقة سنة اثنتين وستّين وستّمائة؛ وأبو القران عبد الجبار، توفّى بمصر فى سنة سبع وستّين وثلاثمائة، وأربع بنات وسبع سرار. قضاته: إسحاق بن أبى المنهال إلى أن توفّى؛ ثم أحمد بن بحر إلى أن قتله أبو زيد «1» لمّا فتح إفريقية فى صفر سنة ثلاثين؛ ثم أحمد بن الوليد، ولّته الرّعيّة فأقره. حاجبه: جعفر بن على حاجب أبيه. ذكر بيعة المنصور بنصر الله هو أبو الظّاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله بن عبيد الله المهدىّ، وهو الثالث من ملوكهم. بايع له أبوه القائم بأمر الله فى حياته، وولّاه حرب أبى «2» زيد؛ وهلك أبوه القائم بأمر الله، فأخفى إسماعيل موته، وناصب أبا زيد حتّى رجع إلى المهديّة، وتوجّه أبو زيد إلى سوسة فحاصرها، فأدركه المنصور إسماعيل فطرده عنها؛ ووالى عليه الهزائم إلى أن أسره فى يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة؛ فمات بعد أسره بأربعة أيّام من جراحة كانت به، فأمر المنصور بسلخه، وحشى جلده قطنا وصلبه، وبنى مدينته المسمّاة بالمنصوريّة فى موضع الوقعة، واستوطنها فى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.

ذكر وفاة المنصور بنصر الله وشىء من أخباره

وكان المنصور شجاعا بليغا يرتجل الخطب. حكى المروروذىّ قال: خرجت مع المنصور يوم هزم أبو زيد، فسايرته وبيده رمحان «1» فسقط أحدهما مرارا وأنا أمسحه وأناوله إيّاه وتفاءلت له بذلك. فأنشدت: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر فقال: ألا قلت ما هو خير من هذا وأصدق وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ «2» . ذكر وفاة المنصور بنصر الله وشىء من أخباره كانت وفاته فى يوم الجمعة آخر شوّال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. وكان سبب وفاته أنّه خرج فى شهر رمضان من السّنة إلى جلولاء «3» ومعه جاريته قضيب، وكان يحبّها، فجاء مطر عظيم وريح شديدة بجلولاء واشتدّ البرد بها؛ فخرج منها على فرس وقضيب فى غمازيه وهو يريد المنصوريّة، ودام عليه المطر والبرد. قال أبو الرّقيق: أخبرنى من كان معه، قال: كنّا ننظر إلى العبيد السّودان على الطريق قعودا فنتأمّلهم فنجدهم موتى، وقد جفّوا من البرد. ووصل المنصور إلى قصره آخر النّهار، فدخل الحمّام، فاعتلّ لوقته. وصلّى العيد

[38] ذكر بيعة المعز لدين الله

بالنّاس فى مبادئ عّلته، ثم اشتدّت به، فمات فى التّاريخ [المذكور] «1» ، وأوصى ابنه أن يمنع من النّوح عليه. وكان مولده بالقيروان، فى سنة اثنتين وثلاثمائة، وكان عمره أربعين سنة. وقال ابن الرّقيق: إنّه ولد برقّادة فى سنة إحدى وثلاثمائة، وكان عمره أربعين سنة تقريبا. ومدّة ملكه سبع سنين وأيّام «2» . أولاده الذكور خمسة، وهم: أبو تميم معدّ، وهاشم، وحيدرة، مات بمصر سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وأبو عبد الله الحسين، وأبو جعفر طاهر. وكان له خمس بنات، وثلاث أمّهات أولاد. قضاته: أحمد بن محمد بن الوليد، ثم محمد بن أبى المسطور، ثم عبد الله بن هاشم، ثم على بن أبى شعيب، على المنصوريّة. ثم أبو محمد زرارة بن أحمد، ثم أبو حنيفة النّعمان «3» بن محمّد التّيمى. حاجبه: جعفر بن على، حاجب أبيه وجدّه. [38] ذكر بيعة المعزّ لدين الله هو أبو تميم معدّ بن المنصور بن القائم بن المهدىّ، وهو الرّابع من ملوك الدّولة العبيديّة. وأول من ملك مصر والشّام منهم.

صار الأمر إليه ببلاد المغرب بعد وفاة أبيه المنصور، فى آخر شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فدبّر الأمور وأحكمها إلى يوم الأحد السّابع من ذى الحجة من السنة، فجلس على سرير الملك، ودل عليه الخاصّة وكثير من العامّة فسلّموا عليه بالخلافة، وتلقّب بالمعزّ لدين الله. ولم يظهر على أبيه حزنا؛ وكان عمره يوم ولى أربعا وعشرين سنة. وأرسل إلى جميع من بالمهديّة من عمومته وعمومة أبيه، فأتوه وسلّموا عليه بالإمارة، فأخذ عليهم البيعة، ومشوا بين يديه رجّالة، وأرضاهم بالمصلّاة. واستقام له الأمر. وصلّى بالنّاس عيد الأضحى، ثم صرفهم إلى المهديّة. ودخل فى طاعته من العصاة من عصى على غيره ممّن كان بجبل أوراس من بنى كملان ومليلة، وهما من قبائل هوّارة. ثمّ بعث القائد جوهرا فى يوم الخميس لسبع خلون من صفر، سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فى جيش عظيم إلى المغرب، فسار حتّى بلغ البحر المحيط، فأمر أن يصاد من سمكه، وجعله فى قلّة وجعل فيها الماء، وحملها إلى المعزّ صحبة البريد؛ وجعل فى باطن كتابه من ضريع البحر. وعاد وفتح فاس يوم الخميس لعشر بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة؛ واستخلف عليها وعلى سجلماسة وتاهرت وعاد جوهر من المغرب إلى رقّادة يوم الجمعة لاثنتى عشرة [ليلة] «1» بقيت من شعبان. وفى سنة خمسين «2» وثلاثمائة، فى النّصف من المحرّم، غلبت الرّوم على

جزيرة إقريطش «1» ، ففتحوا المدينة وقتلوا من أهلها مائتى ألف رجل وسبوا من النساء والصّبيان مثل ذلك، وحرّقوا المصاحف والمساجد؛ وكانوا قد أتوا فى سبعمائة مركب. وفى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة بعث المعزّ لدين الله عمّاله من برقة إلى سجلماسة، إلى جزيرة صقلّية، وأمرهم أن يكتبوا جميع الأطفال الّذين فى أعمالهم من الخاصّة والعامّة ليختنوا مع أولاده، فبلغوا عدّة لا تحصى. فلمّا كان فى أول يوم من شهر ربيع الأول من هذه السنة ابتدأ بطهور أولاده وأهل بيته وأولاد خاصّته من الكتّاب ورجال الدّولة وغيرهم، وأعطاهم الصّلات والكساوى. قال: وازدحم النّاس فى يوم الاثنين لإحدى عشرة [ليلة] «2» خلت من شهر ربيع الأول فمات من الرّجال مائة وخمسون نفسا. وفى سنة خمس وثلاثمائة أمر المعزّ لدين الله بحفر الآبار فى طريق مصر وأن يبنى له فى كلّ موضع يقيم به قصور، فأخذوا فى عمل ذلك، حتّى تمّ، وفى يوم الجمعة لليلة بقيت من جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسين، وردت النّجب من مصر بوفاة كافور الإخشيدى، وكانت وفاته لعشر بقين من جمادى الأولى. كما تقدم.

ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الديار المصرية

ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الدّيار المصريّة وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم القائد جوهر من المغرب بعسكر عظيم من كتامة والجند والبربر؛ فأمره المعزّ بالاستعداد والخروج إلى مصر. فأقام بقصر الماء بالقرب من المنصوريّة ليجتمع إليه الحشود؛ وفتح المعز بيت المال ووضع العطاء. وحشد من إفريقية من الكتاميين والزويليين والجند والبربر، وأعطى من مائة دينار إلى عشرين دينارا حتى عمّهم بالعطاء، وتصرفوا فى القيروان وصبره فى ابتياع ما يحتاجون إليه، ثم أمر المعزّ بالرّحيل، فرحل فى يوم السّبت لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول منها. وفارقه خمسمائة فارس من البربر، فجرّد خلفهم عدّة من الوجوه فلم يرجعوا؛ فقال المعز: الله أكرم أن ينصرنا بالبربر، ثم سار جوهر بجميع من معه من العساكر، ومعه ألف حمل من المال، ومن السلاح والعدد والكراع ما لا يوصف، وأغذّ السير حتى أقبل على الدّيار المصرية. [39] ذكر خبر وصول جوهر القائد بالعساكر إلى الدّيار المصرية وما كان بينه وبين الإخشيدية والكافورية من المراسلة فى طلب الآمان وتقريره الصّلح ونكثهم وقتاله إياهم إلى أن ملك الدّيار المصرية واختط القاهرة.

قال ابن جلب «1» راغب فى تاريخ مصر: وفى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وردت الأخبار إلى مصر بقدوم القائد جوهر، فاضطرب المصريون لذلك اضطرابا شديدا، ووقع اتّفاق أرباب الدّولة بحضرة الوزير جعفر بن الفضل على مراسلته فى الصّلح وطلب الأمان، وإقرار ضياعهم وأعمالهم فى إيديهم. فراسلوه فى ذلك واشترط نحرير سويران «2» ألّا يجتمع مع القائد جوهر، وأن يكون له الأشمونين إقطاعا، وتقلّد مكّة والمدينة، ويتوجّه فيقيم بالحجاز، وسألوا الشّريف أبا جعفر مسلم الحسنى فى المسير برسالتهم إلى جوهر، فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من الأعيان، فجهّزوا معه أبا إسماعيل إبراهيم بن أحمد الزّينبى، وأبا الطّيب العباس بن أحمد العبّاسى والقاضى أبا طاهر، وغيرهم. وكتب الوزير كتابا بما يريد. وسار أبو جعفر بمن معه فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب من السّنة، وقيل لليلة بقيت منه، فلقى القائد جوهرا قد نزل بتروجه فاجتمعوا به فبالغ القائد فى إكرام الشّريف، وأدى الشّريف إليه الرسالة وأعطاه كتب الجماعة، وعرّفه ما التمسوه، فأجابهم إلى ذلك، وكتب كتابا بالأمان نسخته. «بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من جوهر الكاتب، عبد أمير

المؤمنين المعزّ لدين الله صلوات الله عليه، لجماعة أهل مصر من السّاكنين بها وبغيرها «1» . إنّه قد ورد من سألتموه الترسّل إلىّ والاجتماع معى، وهم «2» : أبو جعفر الشّريف أطال الله بقاءه، وأبو طاهر إسماعيل الرئيس «3» ، أيّده الله، وأبو الطيب الهاشمىّ، أيّده الله، والقاضى أبو طاهر «4» أعزه الله، وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله. فذكروا عنكم أنّكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم فى أنفسكم وأموالكم، وبلادكم ونعمكم «5» وجميع أحوالكم؛ فعرّفتهم ما تقدّم به أمر مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، من نصره لكم «6» . لتحمدوا الله «7» تعالى على ما أولاكم وتحمدوه على ما حباكم «8» ، ولتدأبوا «9» فيما يلزمكم، وتسارعوا للطّاعة «10» العاصمة لكم، العائدة بالسّعادة عليكم، المقضية بالسلامة لكم «11» ، وهو أنّه صلوات الله عليه،

لم يكن إخراجه هذه العساكر» المنصورة، والجيوش المظفّرة، إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم، والجهاد عنكم؛ إذ قد تخطفتكم «2» الأيدى، واستطال عليكم المشرك «3» ، وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلادكم «4» [فى هذه السنة، والتغلب عليه، وأسر من فيه] «5» والاحتواء «6» على نعمكم وأموالكم، حسب ما فعله فى غيركم من أهل بلدان المشرق، وتأكّد عزمه واشتدّ كلبه، فعاجله مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، بإخراج العساكر المنصورة وبادره بإنفاذ الجيوش المظفّرة لتقاتله «7» دونكم، وتجاهده «8» عنكم وعن كافّة المسّلمين ببلد المشرق، الّذين عمّهم الخزى، وعلتهم «9» الذّلّة، واكتنفتهم المصائب، وتتابعت لديهم «10» الرّرايا، واتّصل عندهم الخوف، وكثرت استغاثتهم، وعظم ضجيجهم، وعلا صياحهم «11» ، ولم يغثهم «12» إلّا من أرمضه «13» حالهم، وأبكى عنه ما نالهم، وأسهره «14» ما حلّ بهم، وهو مولانا وسيّدنا [فرجا بفضل الله،

وإحسانه لديه، وما عوّده وأرجاه عليه، استنقاذ من أصبح منهم فى ذلّ مقيم، وعذاب أليم] «1» أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، وأن يؤمّن من استولى عليه المهل «2» ويفرخ روع من لم يزل فى خوف ووجل. وآثر إقامة الحجّ الذى تعطّل، وأهمل العباد فروضه وحقوقه، للخوف «3» المستولى عليهم، و [إذ] «4» لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم، [و] «5» إذ قد وقع «6» بهم مرّة بعد أخرى، فسفكت دماؤهم. وأطال جوهر فى كتابه «7» ، وحضّهم على الطّاعة؛ وأشهد عليه الشّهود فيه، وخلع على الجماعة، وحملهم. قال: ولما توجّه الشريف ومن معه إلى القائد جوهر، اضطرب بعده البلد اضطرابا شديدا، وأخذت الإخشيديّة والكافوريّة فى إخراج مضاربهم، وقام رجل من أهل بغداد، بعرف بابن شعبان، يوم الجمعة فى المسجد قبل الصّلاة فقال: أيها النّاس قد أظلّكم من أخرب فارس وسبى أهلها، وذكر ما حلّ بأهل بلاد المغرب منه، وقال: القوا الرّجل القليل المعرفة، يعنى الوزير جعفر ابن حنزابة، فإنّه قد شرع فى إتلاف بلدكم وسفك دمائكم بمراسلة هذا الرّجل، يعنى القائد جوهرا، فسمع النّاس كلامه،

ورجعوا عما سألوه من الأمان. وبلغ الشّريف ومن معه انتقاض الإخشيديّة والكافوريّة، وعزمهم على القتال، فكتموه عن القائد جوهر خوفا أن يعتقلهم، وبادروا [40] بالعود وساروا. فبلغ القائد ذلك بعد رحيلهم، فردّهم، وقال: قد بلغنى أنّ القوم قد نقضوا ورجعوا، فردّوا علىّ خطّى فرفقوا به وداروه، وقالوا: إذا يظفرك الله وينصرك. فقال للقاضى: ما تقول فيمن أراد [أن] «1» يشقّ مدينة مصر فيجعلها طريقا لجهاد المشركين والحجّ إلى بيت الله الحرام؟ فمنعوه، من الجواز له أن يقابلهم. فقال: نعم، اكتب خطّك بذلك «2» . ثم سار الشريف ومن معه إلى مصر فوصلوها لسبع خلون من شعبان، فركب الوزير والنّاس إليهم، واجتمع الإخشيديّة والكافوريّة وغيرهم، فقرأ عليهم السّجل الذى كتبه القائد، وأوصل إلى كلّ واحد جواب كتابه بما أراد من الأمان والولاية والإقطاع. فلما قرءوا الكتب خاطبوا الشّريف بخطاب طويل؛ فقال نحرير ما بيننا وبينه إلّا السيف فقدّموا عليهم نحرير سويران، وعبأوا عساكرهم، وعدوّا إلى الجيزة والجزيرة، وحفظوا الجسور. ووصل جوهر، وابتدأ القتال بينهم فى حادى عشر شعبان. ثمّ مضى القائد جوهر بعد ذلك إلى منية الصّيادين «3» ، وأخذ المخاضة بمنية شلقان واستأمن إليه جماعة من أهل مصر وغلمانهم فى مراكب، ووقع القتال،

وزحف جعفر بن فلاح، بالرجال، وقاتل عساكر مصر، ووقع القتل فى الإخشيديّة والكافوريّة فانهزموا ليلا ودخلوا مصر وأخذوا ما فى دورهم، وساروا إلى الشّام. قال: ولما انهزم ركب الناس إلى دار الشّريف أبى «1» جعفر مسلم وسألوه كتابا إلى القائد جوهر بإعادة الأمان عليهم؛ فكتب كتابا إليه يهنئه بالفتح، وسأله إعادة الأمان للمصريّين؛ فكتب القائد أمانا وبعثه إلى الشّريف، فقرأه على النّاس، وهو: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. وصل كتاب الشّريف، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وتمكينه «2» ، يهنّئ بما هيأه الله «3» من الفتح المبارك «4» ، «وهو، أيّده الله، المهنأ بذلك لأنها دولته ودولة أهله، وهو المخصوص بذلك» «5» وأمّا ما سأل من الأمان وإعادة الأمان الأول، فقد أعيد إليه ما طلب، وجعلت إليه عن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، أن يؤمّن النّاس كيف شاء بما شاء «6» . وقد كتبت إلى الوزير، أيده الله، بالاحتياط على بيوت «7» الهاربين إلى أن يدخلوا فى الطّاعة، وما دخلت فيه

الجماعة «1» ، ويعمل الشّريف أيّده الله، على لقائى فى يوم الأحد لأربع عشرة ليلة تخلو من شعبان» بجماعة الأشراف والعلماء والثناء، وأهل البلدان إن شاء الله تعالى» . فقرأ الشريف الكتاب على الناس وسكّنهم وهدّأهم، ففتحوا البلد، وأخذ النّاس فى التجهّز إلى لقاء القائد جوهر، وقتل نحرير وميسر وبلال ويمن الطويل. وجىء برءوسهم إلى القائد. قال: وخرج النّاس إلى الجيزة والتقوا القائد، فنادى مناد ينزل النّاس كلّهم إلا الشّريف والوزير، ففعلوا ذلك، وسلّموا عليه واحدا واحدا، وأبو جعفر أحمد بن نصر يعرّفه بالنّاس، والشّريف أبو جعفر مسلم عن يمينه، وأبو الفضل الوزير عن يساره. فلمّا فرغ السّلام انصرف النّاس، وابتدأ العسكر فى الدّخول منذ زوال الشّمس. فعبروا الجسر بالدّروع والجواشن «3» ، ودخل القائد جوهر إلى المدينة بعد العصر من يوم الثلاثاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، والبنود «4» والطّبول بين يديه، ونزل الموضع الذى اختطّ فيه القاهرة واختط القصر.

وأصبح المصريّون حضروا إليه للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر فى تلك اللّيلة. قال: ولم يكن فى المكان عمارة ألبتّة إلّا بستان كافور. ولم يزل هذا البستان على حالته إلى سنة خمس وأربعين وستمائة فعمر مكانه مساكن وهو الخطّ الذى يعرف الآن بالكافورىّ «1» . قال صاحب كتاب خطط «2» مصر: لمّا دخل جوهر القائد واختطّ القاهرة قرّر كلّ جانب منها على أمير من أمراء عسكره وأرصده لبناء تلك «3» الحارة حسبما أمره المعزّ لدين الله فسميت كلّ حارة باسم مقدّمها أو الطّائفة التى نزلت بها. وابتدأ بالعمارة فى شهر رمضان من السنة «4» . قال المؤرخ: ودخل القائد جوهر مصر، وبين يديه ألف ومائتا صندوق مالا «5» ، وأقام عسكره يدخل سبعة أيّام. وبعث إلى مولاه المعزّ لدين الله يبشّره بالفتح. قال: ولما دخل القائد مصر كان الغلاء بها، فنادى مناديه: من عنده قمح فليخرجه. وفرّق الصّدقات على النّاس، وأقرّ أبا الفضل على الوزارة،

ذكر إقامة الخطبة، وضرب السكة بمصر، [41] للمعز لدين الله وما قيل فى الدعاء له على المنبر، وما نقش على السكة

وجهّز جعفر «1» بن فلاح إلى الشّام. ذكر إقامة الخطبة، وضرب السكة بمصر، [41] للمعزّ لدين الله وما قيل فى الدعاء له على المنبر، وما نقش على السّكة وفى يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان من السّنة ركب القائد جوهر إلى المسجد الجامع العتيق «2» لصلاة الجمعة، ولإقامة الدّعوة. فى عسكر كثير. وخطب هبة الله بن أحمد خليفة عبد السميع بن عمير العبّاسى، لغيبة عبد السميع. فخطب وعليه البياض، ودعا للمعزّ لدين الله. وقال فى دعائه فى الخطبة الثّانية: اللهم صلّ على عبدك ووليّك، ثمرة النّبوّة، وسليل العترة الهادية المهديّة، عبد الله الإمام معدّ أبى تميم المعزّ لدين الله، أمير المؤمنين، كما صلّيت على آبائه الطاهرين وأسلافه المنتخبين «3» ، الأئمة الراشدين. اللهم ارفع درجته، وأعل كلمته، وأوضح حجّته، واجمع الأمّة على طاعته، والقلوب على موالاته [وصحبته] «4» ، واجعل الرّشاد فى موافقته، وورثّه مشارق الأرض ومغاربها، وأحمده مبادئ الأمور وعواقبها، فإنك تقول وقولك

الحق وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» فلقد امتعض «2» لدينك، ولما انتهك من حرمتك «3» ، ودرس من الجهاد فى سبيلك، وانقطع من الحجّ إلى بيتك، وزيارة قبر رسولك صلى الله عليه [وسلم] «4» وأعدّ للجهاد «5» عدّته، وأخذ لكل خطب أهبته فسيّر الجيوش لنصرك «6» ، وأنفق الأموال فى طاعتك، وبذل المجهود فى رضاك، فارتدع الجاهل، وقصر المتطاول، وظهر الحقّ وزهق الباطل. فانصر اللهم جيوشه التى سيّرها، وسراياه التى انتدبها لقتال المشركين [وجهاد الملحدين، والذب عن المسلمين، وعمارة الثغور والحرم] «7» وإزالة الظّلم والتّهم «8» ، وبسط العدل فى الأمم. اللهم اجعل راياته عالية منشورة «9» ، وعساكره مؤيّدة منصورة «10» ، وأصلح به وعلى يديه، واجعل لنا منه واقية عليه. وضربت السّكة على الدّنانير، وكان على الوجه الواحد لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، علىّ خير الوصيّين، ووزير خير المرسلين، محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره

المشركون «1» . وعلى الوجه الآخر دعاء الإمام معدّ، لتوحيد «2» الإله الضّمد، المعزّ لدين الله، أمير المؤمنين. ضرب بمصر فى سنة ثمان وخمسين [وثلاثمائة] «3» . قال: وأشرك القائد جوهر فى الدّواوين المصريّين والمغاربة، فجعل فى كلّ مكان مصريّا ومغربيّا. وفى ذى الحجّة من السنة تكامل بمصر من الإخشيدية وقوّادهم خمسة آلاف فارس استأمنوا للقائد جوهر، وفيهم أربعة عشر رئيسا فأمّنهم، ثم قبض عليهم واعتقلهم، ثم سيّرهم إلى المعزّ بإفريقية. وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، فى يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الآخر «4» ، صلّى القائد جوهر فى جامع ابن طولون وأذّن «حىّ على خير العمل» ، وهو أوّل ما أذّن به بمصر، ثم أذّن بذلك بالجامع العتيق بمصر فى الجمعة الثانية.

ذكر خروج تبر الإخشيدى والقبض عليه

ذكر خروج تبر الإخشيدى والقبض عليه وفى شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ثار تبر الإخشيدى «1» بناحية أسفل الأرض، ودعا للخليفة المطيع لله، وكتب اسمه على البنود، فراسله جوهر، فلم يقبل؛ وكان معه أبو القاسم العلوى الأقطينى. فأنفذ القائد جوهر العساكر لقتاله برّا وبحرا، وكان قد كبس صهرجت «2» ونهبها، فأمر القائد بنهب دوره بمصر. وقبض على صهره فأغار تبر، ونهب ضياعا. فوافته العساكر بصهرجت، فانهزم إلى تنّيس، وركب البحر الملح يريد الشام، ثم إلى الروم، فأنفذ القائد جوهر أسطولا خلفه. فلما بلغ صور «3» دخل بها الحمّام، فقبض عليه وجماعة من أتباعه وغلمانه، وذلك فى شهر رمضان منها، وحمل إلى مصر، فقدمها لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، فأدخل على فيل وبين يديه رجل وخلفه رجل، وغلامه عجيب على جمل خلفه، ومعه قرد، وخلفه غلامه سرور على جمل، وجماعه على جمل منكّسى الرؤوس، ثم اعتقلوا واستصفى القائد أمواله وودائعه، وطولب بالأموال، فلما اشتد عليه الطلب جرح نفسه فمات بعد أيام فسلخ جلده وحشى تبنا وصلب جلده، وضرب شلوه «4» .

ذكر فتوح الشام

ذكر فتوح الشام [42] قد ذكرنا أن القائد جوهرا جهّز جعفر بن فلاح إلى الشام بالعساكر فى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فسار جعفر ولقى الحسن بن عبد الله بن طغج بالرّملة، وهو يومئذ صاحب الشام، فهزمه جعفر بن فلاح وأسره، وبعث به إلى مصر، ثمّ سار إلى دمشق فملكها فى سنة تسع وخمسين بعد حرب شديدة. فكتب إلى القائد جوهر بالفتح، واستأذنه فى المسير إلى غزو أنطاكية «1» ، فأذن له القائد فسار نحوها فى نحو عشرين ألف فارس. فأقام مدة وكثرت جموعه وعساكره وانبسطت يده، ودانت له البلاد، فحاصر أنطاكية مدة إلى أن اتّصل به مسير مدد الرّوم إليها، فعاد عنها إلى دمشق «2»

ذكر مقتل جعفر بن فلاح واستيلاء القرامطة على دمشق

ذكر مقتل جعفر بن فلاح واستيلاء القرامطة على دمشق وفى سنة ستين وثلاثمائة «1» وصل الحسن «2» الأعصم القرمطىّ إلى دمشق. وقيل إنه إنّما قدم بأمر الخليفة المطيع فخرج إليه جعفر بن فلاح وقاتله، وكان عليلا فقتل وانهزم أصحابه ونصب رأسه على دمشق. وملك القرمطىّ دمشق والشام، وسار إلى الرّملة فانحاز عنه سعادة بن حيان «3» إلى يافا وتحصن بها، فسار إليه وحاربه، ثم سار يريد مصر، فتأهب القائد جوهر لذلك، وحفر خندقا «4» ، وبنى عليه بابا كبيرا، وركّب عليه الباب الحديد الذى كان على الميدان الإخشيدى، وبنى عليه بابين آخرين، وبنى القنطرة على الخليج، وجعلها ممرّا لمن يريد المقس «5» .

وكاد القرمطى يأخذ القاهرة، ثمّ رجع عنها بغير سبب عليم «1» ، وكبس الفرما، ثم قاطع أهلها على مال فحملوه إليه، وأخذ عاملها عبد الله بن يوسف، وقيل إنّه كان معه خمسة عشر ألف بغل تحمل صناديق الأموال وأوانى الذهب والفضّة والسّلاح، سوى ما تحمل المضارب والخيام والأثقال «2» . وفى سنة ستّين وثلاثمائة أيضا بنى جوهر سورا على القصور التى بناها فى سنة ثمان وخمسين وجعلها بلدا وسماها المنصورية، ولما استقرّ المعزّ سمّاها القاهرة. وفى سنة إحدى وستّين وستمائة، فى المحرّم، كبس ياروق الفرما وأخرج منها ابن العمر القرمطىّ، وأرسل إلى مصر رؤوسا وأعلاما وغير ذلك. وفى هذا الشّهر عصى أهل تنيس وغيّروا الدّعوة، ودعوا للمطيع والقرامطة، وحاربوا ياروق. وفى صفر وصل ياروق منهزما من القرامطة وهم فى إثره، وأقبلت عساكر القرامطة حتى بلغوا عين شمس واستعدّ القائد [جوهر] «3» للقائهم، وأغلق الأبواب التى بناها. وفى مستهلّ ربيع الأول جاءت مقدّمة القرامطة ووقفوا على الخندق،

فقاتلهم القائد، واشتدّ القتال، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وأصبح النّاس متكافئين للقتال. وسار الأعصم القرمطىّ بجميع عسكره، ووقع القتال على الخندق والباب مغلق، وعمل القائد جوهر الحيلة فانهزم عن القرمطىّ، ودام القتال إلى الزّوال، ثم فتح القائد الباب وانتصب للقتال، وخرجت العبيد والمغاربة إلى القرامطة. واشتدّ القتال واضطرب النّاس فى المدينة وكثرت القتلى من الفريقين. وانهزم الأعصم القرمطى، وأراد المغاربة اتّباعه فمنعهم «1» القائد جوهر لدخول اللّيل، وخشية من مكيدة أو كمين. ونهبت صناديق القرمطىّ ودفاتره، وفارق القرمطىّ من كان معه من الإخشيدية والعرب. قيل: وهذه أوّل هزيمة كانت للقرامطة «2» . ثم وصل بعد الكسرة بيومين أبو محمد الحسن بن عمّار بمدد معه من جهة المعزّ، وهرب القرمطىّ الذى كان بتنّيس وعادت الدّعوة المعزّية بها. وفى شهر ربيع الآخر قبض القائد على أربعمائة وأربعين رجلا من الإخشيديّة والكافوريّة وقيّدهم وحبسهم. وفى شعبان منها ورد على القائد جوهر رسول من ملك الرّوم «3» برسالته وهديته.

ذكر خروج المعز لدين الله من بلاد الغرب إلى الديار المصرية [43] وما رتبه ببلاد المغرب قبل مسيره

وفى شهر رمضان لسبع خلون منه كمل بناء الجامع بالقاهرة، وجمعت فيه الجمعة. وفى شوّال منها ابتدأ القائد جوهر يحفر الخندق الذى كان عبد الرحمن ابن جحدم «1» ، خليفة عبد الله بن الزبير، حفره قبلىّ «2» مصر، ثم شقّ الخندق حتى بلغ قبر الإمام الشّافعى رحمه الله، فعدل به عنه، ثم شقّه مشرّقا إلى الجبل على المقابر، أراد بذلك أن يحفظ طريق الحج من ناحية القلزم. وفى ذى القعدة منها خرج أبو محمد الحسن بن عمّار إلى تنّيس، فسار إليه أسطول القرامطة فواقعه وأسر منه سبع مراكب، وسيّرها إلى مصر ومعها خمسمائة رجل منهم «3» . ذكر خروج المعز لدين الله من بلاد الغرب إلى الديار المصرية [43] وما رتّبه ببلاد المغرب قبل مسيره وفى يوم الاثنين لثمان بقين من شوّال سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، رحل

المعزّ لدين الله من المنصورية إلى سردانية «1» ومعه يوسف بن زيرى «2» بن مناد فسلّم إليه إفريقية وأعمالها وسائر أعمال المغرب، وذلك فى يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى الحجة منها، وأمر الناس بالسّمع والطّاعة له، وفوّض إليه أمور البلاد كلّها إلّا بلاد جزيرة صقليّة وطرابلس. وأقام المعز بسردانية أربعة أشهر، ورحل منها لخمس خلون من صفر سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وسار حتى أتى قابس، ثم وصل إلى طرابلس فأقام بها أيّاما، ورحل منها فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر منها، وسار فوصل إلى الإسكندرية فى يوم الجمعة لستّ خلون من «3» شعبان، ونزل تحت المنار، وأنزل النّاس حولها، وأتاه أهلها فسلّموا عليه، ووافى يوم الأحد أبو طاهر «4» قاضى مصر، ومعه العدول وقدم أبو عبد الرحمن بن أبى الأعز فى بنى عمّه وغيرهم من العرب، فركب لهم المعزّ فسلّموا عليه وانصرفوا. ثم رحل من الإسكندرية يوم الاثنين لثلاث بقين من شعبان. فلما

كان يوم السّبت لليلتين خلتا من شهر رمضان نزل المنية بساحل مصر، وهى بولاق، فأقام بها إلى يوم الاثنين؛ وخرج إليه الشريف أبو جعفر مسلم الحسنى قبل وصوله فى جماعة الأشراف ووجوه البلد، فرأى المعزّ وهو سائر والمظلّة على رأسه، فنادى مناد: يتقدم الشّريف أوّل الناس، فقتدّم وسلّم على المعز. ثم تقدّم النّاس كلّهم وسلّموا عليه واحدا بعد واحد حتى فرغوا، وهو واقف على دابّته؛ ثم سار والشريف يحادثه. قال: وأخذ الناس فى التّعدية بعيالاتهم وأثقالهم فى هذه الأيام إلى ساحل مصر، وتفرق النّاس فى الدّور بمصر والقاهرة، وأكثرهم فى المضارب فيما «1» بين القاهرة ومصر. ثم عبر المعزّ لدين الله إلى القاهرة يوم الثلاثاء لخمس خلون «2» من شهر رمضان، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ولم يدخل إلى مصر ودخل إلى قصره. فلما انتهى إلى الإيوان الكبير خرّ ساجدا لله تعالى، وجلس على سرير الجوهر «3» الذى صنعه له القائد جوهر، وقبل الهناء، ومدحه الشعراء. قال: وكان تلقّى القائد جوهر له عند جوازه من الجسر الثّانى، فكانت مدّة تدبير جوهر الديار المصرية إلى أن قدم المعز، أربع سنين وعشرين يوما.

وحكى بعض المؤرخين أنّه لما وصل المعزّ وخرج الأشراف للقائه، قال له أبو [محمد] «1» عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينى، من بينهم يا مولانا، إلى من تنتسب؟ فقال المعزّ: سنقعد لكم ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا. فلما استقرّ فى قصره جمع النّاس فى مجلس عامّ وقال: هل بقى من جماعتكم أحد؟ فقالوا: لم يبق منا معتبر فجرّد عند ذلك سيفه إلى نصفه وقال هذا نسبى وفرّق المال وقال: هذا حسبى. فقالوا: سمعنا وأطعنا. وكان الخليق بما قيل: جلوا صارما وتلوا باطلا ... وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم! وقال ابن جلب راغلب فى تاريخه: إنّ المعزّ لمّا قدم صعد المنبر وخطب خطبة بليغة، وذكر نسبه إلى علىّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، فكتب إليه بعض المصريين ورقة ولصقها بالمنبر فيها: إنّا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر فى الجامع إن كنت فيما تدّعى «2» صادقا ... فاذكر أبا بعد الأب الرّابع

أو فدع «1» الأنساب مستورة ... وادخل بنا فى النّسب الواسع أو كنت فيما تدّعى صادقا ... فانسب لنا نفسك كالطّائع «2» قال: وكان يتظاهر بذكر الماجريات قبل وقوعها لاطلاعه على علم النّجامة ولكتب كاتب عنده يستدلّ، فكتب إليه بعض المصريين ورقة وطرحها فى مجلسه، فيها: بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة إن كنت أوتيت «3» علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة «4» وقال بعض المؤرخين: لمّا قدم المعزّ إلى مصر أحضر معه توابيت آبائه. وكان معه خمسة عشر ألف رجل تحمل صناديق الأموال والسّلاح وغير ذلك، وكان معه مائة جمل تحمل شبه الطّواحين من الذهب، وثلاثة آلاف جمل على كل جمل صندوقان وألف وثمانمائة بختى محملة، وثلاثمائة جمل تحمل الخركاهات وجملان يحملان «5» الإكسير الذى يصنع به الكيمياء [44]

وثلاثة آلاف شينى وغراب «1» فى البحر تحمل الموجود. ومن الرجال المقاتلة من قبيلة كتامة مائة ألف، ومن البربر أربعون ألفا، ومن الرموح ستون ألفا، وغير هؤلاء من قبائل العرب والمغاربة، وهو مع ذلك شديد الخوف من القرمطّى. قال ابن زولاق» فى تاريخ مصر: ولما انقضى شهر رمضان ركب المعزّ لصلاة العيد وصلّى بالناس، وكان القاضى ابن النعمان «3» يبلّغ عنه فى التكبير. وقرأ فى الأولى بعد الفاتحة «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» ، وفى الثانية بعد الفاتحة بسورة الضّحى، ثم صعد المنبر وخطب بعد أن سلّم على الناس يمينا وشمالا، وذلك بالمصلى الذى بناه القائد جوهر «4» قال: وأقام المعزّ بعد مقدمه أيّاما وعزل القائد جوهرا من جميع ما كان إليه من النّظر على الدّواوين وجباية الأموال، وتدبير الأمور، وغير ذلك. والله أعلم «5» .

ذكر مكاتبة المعز لدين الله القرمطى وجواب القرمطى له

ذكر مكاتبة المعزّ لدين الله القرمطىّ وجواب القرمطىّ له قال بعض المؤرخين: لما استقر المعز بالقاهرة أهمه أمر الأعصم القرمطىّ فرأى أن يكتب إليه كتابا يعلمه فيه أن المذهب واحد. وأن القرامطة [منهم] «1» استمدّوا وهم سادتهم فى هذا الأمر. وبهم وصلوا إلى هذه الرتبة، فكتب إليه المعز كتابا مشحونا بالمواعظ وضمّنه من أنواع الكفر ما لا يصدر إلا عن مارق من الدين. كان عنوان الكتاب: «من عبد الله ووليّه، وخيرته وصفيّه، معدّ أبى تميم بن إسماعيل، المعزّ لدين الله أمير المؤمنين، وسلالة خير النّبيين، ونجل [على] «2» أفضل الوصيّين إلى الحسن بن أحمد. وأول الكتاب: «رسوم النطقاء، ومذاهب الأئمة والأولياء «3» ، ومسالك الرّسل والأنبياء «4» ، السّالف منهم والآنف «5» ، صلى الله «6» علينا وعلى آبائنا أولى الأيدى والأبصار، فى متقدّم الدهور والأكوار، وسالف الزمان والأعصار.

عند قيامهم بأحكام الله وانتصابهم لأمر الله، الابتداء بالإعذار، والانتهاء إلى الإنذار «1» ، قبل نفاذ الإنذار «2» فى أهل الشقاق والإصرار «3» ، ولتكون الحجّة على من خالف وعصى والعقوبة على من باين وغوى، حسبما قال الله تعالى «4» : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «5» ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «6» . وقد ذكرنا فى أخبار القرامطة جملة من مواعظ هذا الكتاب على ما نقف عليه هناك «7» . ومن جملة ما لم نذكره هناك. أما علمت أنّى «8» نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «9» أعلم خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ «10» وحشاه بأنواع من الكفر وحضّه «11» على اقتفاء آثار آبائه وعمومته وموالاتهم، فقال: إن آباءك كانوا أتباع آبائى. ثم قال فيه بعد الإطالة: وكتابنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت

مذكور، لا نرفع قدما ولا نضع قدما إلا بعلم مصنوع، وعلم مجموع، وأجل معلوم» . ثم قال فيه: «وأما أنت أيّها الغادر [الخائن] «1» النّاكث المباين «2» عن هدى «3» آبائه وأجداده، المنسلخ من دين أسلافه وأنداده، الموقد لنار الفتنة، الخارج عن الجماعة والسّنة، لم أغفل أمرك، ولا خفى علىّ خبرك، وإنّك منّى بمنظر وبمسمع، قال الله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «4» ، ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «5» فعرّفنا على أىّ رأى ضللت «6» وأىّ طريق سلكت. وقال فى فصل منه: «إنّا لسنا مهمليك ولا ممهليك إلّا ريثما يرد به كتابك والوقوف على مجرى جوابك، فانظر لنفسك ما يبقى ليومك ومعادك، قبل انغلاق باب التّوبة، وطول وقت النّوبة. حينئذ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً «7» . ثم ختمه بأن قال: «فما أنت وقومك إلّا كمناخ نعم، أو مراح غنم» . فأمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «8» ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ «9» . هكذا رأيت. والتّلاوة فى سورة يونس «10» أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا

مَرْجِعُهُمْ* «1» فعندها تخسر الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ » . وأنذرتهم ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى «3» . يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «4» . فليتدبّر من كان ذا نذير. وليتفكّر من كان ذا تفكير؛ وليحذر يوم القيامة، يوم الحسرة والنّدامة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «5» . ويا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا «6» . ويا ليتنا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ «7» . وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «8» . وسلم من عواقب الرّدى. وهو حسبنا ونعم الوكيل قال: فلما وقف الحسن «9» بن أحمد القرمطى [على] «10» هذا الكتاب المطوّل «11» كتب جوابه بعد البسملة: «وصل كتابك الّذى كثر تفصيله

وقلّ تحصيله؛ ونحن سائرون على إثره. والسّلام» «1» وقيل إنّه كتب: «والجواب ما تراه دون ما تسمعه» «2» . وقيل [45] إنّه كتب إليه: ظنّت رجال الغرب أنّ سهولتى ... بمحالها، وأخو المحال ذليل إن لم أروّ النيل من دمهم، فلا ... نلت المراد، ولا سقانى النيل وفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. فى شعبان، بلغت تقدمة القرامطة إلى أرياف مصر وأطراف المحلة «3» . فنهبوا، واستخرجوا الخراج؛ واشتهر الأعصم القرمطىّ ببلبيس فتأهّب المعزّ للقائه، وعرض العساكر، وفرّق فيهم الأموال والسّلاح. وسيّر جيشا قدّم عليه ولده الأمير عبد الله «4» ، فالتقى مع الأعصم، فانهزم القرمطىّ وأسر جماعة من رجاله، وجهّز جيشا آخر قدّم عليه ريان الصقلبى فى أربعة آلاف فارس. فأزال القرامطة عن المحلة ونواحيها.

ذكر فتوح طرابلس الشام

وفى هذا الوقت ورد الخبر من الصّعيد الأعلى أن عبيد الله «1» أخا الشريف مسلم أوغل فى الصّعيد واستخرج الأموال، وقتل ألفا من المغاربة. وفى هذه السنة، فى المحرّم منها، انبسطت المغاربة فى نواحى القرافة، ونزلوا فى الدّيور، وأخرجوا النّاس من أماكنهم، وشرعوا فى السّكن فى المدينة، وكان المعزّ أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة، فاستغاث النّاس إلى المعزّ فأمر أن يسكنوا نواحى عين شمس، وركب بنفسه وشاهد المكان، وأخبرهم بالبناء فيه، وهو الموضع المعروف الآن بالخندق «2» ، وجعل لهم واليا وقاضيا، ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين للناس. ذكر فتوح طرابلس الشام كان فتوحها فى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وستّين وثلاثمائة، على يد ريّان الخادم غلام المعز، وهرب ابن الزّيّات بعد أن كان نصب عليها الصّلبان وجعلها للرّوم. وفى جمادى الأولى منها سار نصير الخادم غلام المعزّ فى عسكر كثير، ودخل إلى بيروت، وتواقع مع الرّوم على طرابلس وهزمهم، وكانت الوقعة فى نصف شعبان.

ذكر وفاة المعز لدين الله وشىء من اخباره

وفى هذا الشّهر وصل الخبر إلى المعز بوصول أفتكين التركى من بغداد إلى دمشق بقصد مصر. فشرع المعزّ فى تجهيز العساكر. وفى شهر رمضان منها كثرت الأراجيف بمسير الرّوم إلى الشام لأن أفتكين التّركى كاتب ابن السنهسكى «1» فسار بالرّوم إلى بيروت، فلقيهم نصير غلام المعزّ فهزموه وأسروه. وتوجّهوا إلى صيدا فخرج إليهم أفتكين التّركى وقبّل الأرض لابن السنهسكى وهادنه على دمشق؛ وسار ابن السنهسكى إلى طرابلس، فخرج إليه ريّان الخادم بعساكر المعزّ فقاتله وهزمه، وقتل مقتلة عظيمة من عامّة عسكره. وانصرف ابن السنهسكى معلولا، فسرّ المعزّ بذلك. وهنأه النّاس بهذا الفتح، ومدحه الشّعراء «2» . ذكر وفاة المعز لدين الله وشىء من اخباره كانت وفاته بالقاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة؛ وقيل فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة بقيت من الشهر «3» . وكانت مدة حياته خمسا وأربعين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، ومدّة مقامه بمصر سنتين وسبعة أشهر وأيّاما.

وكان نقش خاتمه: بنصر العزيز العليم ينتصر الإمام أبو تميم. وقيل: كان لتوحيد الإله الصّمد دعاء الإمام «1» معدّ. وقيل: لتوحيد الإله العظيم دعاء الإمام «2» أبو تميم. أولاده: أبو المنصور نزار تميم الظّاهر «3» ، وبه كنى، توفّى بمصر فى ذى القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة؛ الأمير عقيل، توفّى فى شعبان من السنة؛ وسبع بنات. قضاته: قاضيه الواصل معه من المغرب أبو حنيفة النّعمان بن محمّد الدّاعى، مات بمصر فى سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وستّين وثلاثمائة، ولم يل القضاء بها؛ واستقضى بالمغرب أبا طالب أحمد بن القائم «4» بن محمد بن المنهال؛ ولمّا وصل إلى مصر وجد القائد جوهرا قد استخلف على القضاء أبا طاهر محمّد بن أحمد بن عبد الله الذهلى البغدادى، وهو القاضى على أيام كافور، فأقرّه، وكان أبو سعيد عبد الله «5» بن محمّد بن أبى ثوبان حكم بمصر بين المغاربة الجند والتجار إلى أن مات فى شهر ربيع الأول سنة خمس وستين؛ فتولّى القضاء أبو الحسن علىّ بن النعمان على قاعدته إلى أن مات [46] أبو طاهر، فقضى أبو الحسن على الجميع. كتّابه: كان جوهر قد فوض تدبير الأموال فى أيامه إلى علىّ ابن العرمرم

ذكر بيعة العزيز بالله

وأبى محمد الرودبارى، ورجاء بن صولات «1» ، وعبد الله بن عطاء الله، وأبى الحسن الكرجى «2» ؛ وردّ تدبير هؤلاء الكتاب إلى الوزير أبى الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات. واستقرّ الأمر بعد وصول المعزّ على عسلوج، ويعقوب بن يوسف. وممّن وزر للمعزّ يعقوب بن كلّس، وهو أول وزراء دولتهم بمصر، وهو من جملة كتاب الدّولة الإخشيدية. وسنذكر خبره إن شاء الله مستوفى فى أخبار العزيز. حاجبه: جعفر بن علىّ إلى أن توفّى، فولى عمّار بن جعفر؛ والله أعلم بالصواب. ذكر بيعة العزيز بالله وهو أبو المنصور «3» نزار «4» بن المعزّ بن المنصور بن القائم بن المهدىّ، وهو الخامس من ملوك الدولة العبيديّة، والثانى من ملوك مصر والشام منهم. كان قد ولى العهد من أبيه فى حياته، ثم بايعه النّاس فى يوم وفاة أبيه، لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين وثلاثمائة.

ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله

حكى الرئيس ابن القلانسى فى تاريخ الشام فى سبب بيعة العزيز الأولى أن أباه المعزّ لدين الله كان مغرما بعلم النّجوم والنّظر فيما تقتضيه أحكام مولده، فحكم له بقطع، فاستشار منجمه فيما يزيله عنه، فأشار عليه أن يعمل له سردابا تحت الأرض ويتوارى فيه مدّة إلى حين زوال ذلك القطع. فصنع ذلك وأحضر وجوه دولته، وقال لهم: إنّ بينى وبين الله عهدا وعدنيه قد قرب أوانه، وقد جعلت عليكم ولدى نزارا، ولقّبته بالعزيز بالله، واستخلفته عليكم وعلى تدبير أحوالكم مدّة غيبتى؛ فالزموا الطّاعة والمناصحة له. فقالوا: نحن عبيدك وخدمك. فأخذ البيعة له ووصّاه بما أراد، وجعل القائد جوهرا مدبّرا لأموره، ونزل السّرداب الّذى اتخذه، وأقام به سنة. فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجّلوا على الأرض وأرموا بالسّلام عليه. ثمّ خرج بعد ذلك، وجلس النّاس، فدخلوا على طبقاتهم وسلّموا عليه؛ ولم يلبث بعد ذلك إلّا مدّة يسيرة، واعتلّ فمات «1» . ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله ولنذكر ابتداء أمر أفتكين «2» لتأتى أخباره بسياقه. هو أبو المنصور أفتكين المعزّى، أحد مماليك معزّ الدولة بن بويه «3» وكان سبب وصوله إلى الشام أنه لما وقعت الفتنة بين الترك والديلم ببغداد

وخلع المطيع «1» كما ذكرناه، وتوالت تلك الفتن، انفصل أفتكين عن بغداد فى سنة ثلاث وستّين وثلاثمائة فى ثلاثمائة غلام، وسار حتّى قدم حمص فأقام أيّاما يسيرة، وسار منها إلى دمشق، فوجد أحداث البلد قد تحكّموا فيها والفتن بين أهلها وبين عسكر المغاربة. فخرج إليه شيوخ دمشق وأظهروا السّرور به، وسألوه أن يتولّى عليهم، ويكفّ أيدى المفسدين، وتوثّقوا منه وتوثّق منهم بالأيمان، ودخل البلد وأصلح أمره، وأحسن السّيرة، وكفّ المفسدين، فاستقام له الأمر وثبت قدمه «2» . فاضطر إلى مكاتبة المعزّ لدين الله بمصر فكاتبه وخادعه، وغالطه، وأظهر الانقياد إليه والطاعة لأمره. فأجابه المعزّ يستدعيه إلى حضرته ليشاهده، ويصطفيه لنفسه، ويعيده إلى ولايته؛ فلم يثق إلى ذلك وامتنع من الإجابة. ووافق ذلك علّة المعزّ ووفاته. وكتب أفتكين فى أثناء هذه القضيّة إلى مولاه ببغداد يقول إنّ الشام قد صفا فى يدى، فإن سيّرت إلىّ عسكرا ومالا وسلاحا فتحت ديار مصر، فبعث إليه الجواب: غرك عزك فصار قصار ذلك ذلّك فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدأ بهذا. فلما أيس أفتكين من إنفاذ العساكر إليه من بغداد اضطرّ عند ذلك إلى مكاتبة القرامطة، فقصدوه ووافوه فى سنة خمس وستّين وثلاثمائة؛ وكان الذى أتاه منهم إسحاق، وكسرى، وجعفر؛ فنزلوا بظاهر دمشق، ووافاه معهم كثير من العجم. فأكرمهم أفتكين وحمل إليهم الميرة، فأقاموا أيّاما وتوجّهوا إلى الرّملة، فخرجت إليهم عساكر السّاحل، واقتتلوا، فهزمهم أفتكين، وقتل منهم مقتلة عظيمة.

وكان على السّاحل ظالم بن موهوب العقيلى، فانهزم إلى صور. وأحصيت القتلى فجاءوا أربعة آلاف فارس، فكاتب العزيز بن المعزّ أفتكين واستماله ووعده إن وطئ بساطه أن يرفع منزلته. فأبى إلّا مخالفته، وأغلظ له فى الجواب. فاستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلّس فيما يفعله فأشار عليه بإخراج [47] جوهر القائد إليه بالعساكر؛ فشرع العزيز فى ذلك وجهّز جوهرا، فلما سمع أفتكين ذلك عاد إلى دمشق واستشار أهلها، وقصد التّوجّه لبلاد الرّوم؛ وكان أهل دمشق يكرهون المغاربة لمخالفتهم لهم فى الاعتقاد، فطمأنوه، وثبّتوه للقاء عساكر مصر. وخرج جوهر فى العساكر العظيمة بعد أن استصحب أمانا من العزيز لأفتكين «1» فلما وصل جوهر إلى الرّملة كاتب أفتكين ولاطفه، وعرّفه ما معه له من الأمان؛ فلاطفه أيضا أفتكين فى الجواب واعتذر إليه بأهل دمشق، فعلم جوهر أنّه لا بدّ من الحرب. فسار إليه ونزل بالشماسية «2» فبرز إليه أفتكين؛ ونشبت الحرب بين الفريقين مدّة شهرين، وقتل من الطائفتين عدد كثير. وظهر من شجاعة أفتكين ما عظم به قدره فى النّفوس، فأشار عليه أهل دمشق بمكاتبة أبى محمد الحسن بن محمد القرمطىّ واستدعائه لدفع عساكر مصر، فكاتبه فأتاه القرمطىّ، فعلم جوهر أنه إن أقام استظهر أفتكين عليه، فرجع إلى طبريّة وتبعه أفتكين والقرمطىّ فقاتلاه؛ فانهزم إلى عسقلان فتبعه أفتكين وحصره بها حتى أشرف جوهر على الهلاك، فصالحه، ووقع الصّلح

ذكر حرب أفتكين وأسره

بينهما على أن يخرج جوهر وأصحابه حفاة عراة لا شىء يستر عوراتهم «1» . وكان العزيز قد خرج من الدّيار المصريّة لإغاثة جوهر، فلقيه فى الطريق على تلك الحال، فاخبره جوهر أن كتامة خذلوه فقبض عليهم، ثم أظهر الغضب على جوهر وعزله عن الوزارة. ذكر حرب أفتكين وأسره وفى سنة ثمان وستين وثلاثمائة، فى المحرّم منها، وصل العزيز بالله إلى الرّملة وأفتكين وعسكره بالطّواحين، ووقع المصافّ بينهما، ونشبت الحرب فى يوم الخميس سابع الشهر. فانهزم أصحاب أفتكين وقتل عامتهم وشوهد العزيز فى هذا اليوم وقد انفرد عن عسكره وصلى على الأرض وهو يقول: اللهم ارحمنى وارحم من ورائى من هذه القبلة، وانصرنى، فما أستمدّ النّصر إلّا منك، وهو يعفّر وجهه على التّراب ويبكى، ثمّ ركب وقد انتصر عسكره، وجىء إليه بأفتكين أسيرا، اسره مفرج بن دغفل ابن الجرّاح الطائى «2» أمير طيئ، فجاء به وفى عنقه حبل، فأحسن إليه العزيز لما رأى من شجاعته، ومنّ عليه، ورجع به إلى مصر؛ فأقام بها إلى أن مات فى سنة سبعين وثلاثمائة، والحجّاب والأكابر يركبون إلى داره. ولما رجع العزيز هنأه الناس بهذا الفتح، ومدحه الشعرا. فمنهم الحسين

ذكر فتوح اللاذقية

ابن عبد الرحيم الزلالى بقصيدته التى أولها: لاح للحقّ شهاب فوقد ... فرأى قاصده أين قصد بالعزيز بن المعزّ اعتضدت ... دولة الحقّ، وبالله اعتضد يا أمير المؤمنين المرتضى ... وعماد الدّين، والرّكن الأسدّ بنزار بن معدّ، وهما ... خير أبناء نزار بن معد «1» ومنها: أصلح الشّام بما دبّره ... وتلافاه، وقد كان فسد أطفأ الفتنة فيه، بعد ما ... أيرق التركىّ فيها ورعد وكان عود العزيز إلى مصر ووصوله إليها فى يوم الاثنين لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وستّين وثلاثمائة. وفى سنة تسع وستين وثلاثمائة، فى ثامن عشر شهر ربيع الأول، تزوّج العزيز بابنة «2» عمه، وأمهرها مائتى ألف دينار عينا. ذكر فتوح اللاذقية وفى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فى حادى عشر شهر ربيع الأول، ورد كتاب نزال «3» يذكر فيه أنه واقع الرّوم بساحل الشّام، وكسرهم، وأخذ

ذكر فتح قنسرين وحمص

اللاذقية. ثم ورد نزال من الشّام فى العاشر من جمادى الآخرة، ومعه نحو خمسمائة نفر من الرّوم أسرى فى السّلاسل. وفى هذه السّنة وصل من تنّيس رجل وامرأة بمولودة لها رأسان ووجهان وأربع أيد كاملة الخلق فى جسد واحد، وسنها دون الشهرين. وفيها كان النّوروز لسبع خلون من شهر ربيع الأول وأكل الناس [48] الرّطب قبل النّوروز على عادتهم، وأصرمت النّخل «1» ، ولم يبق عليها شىء ألبتّه، ثم حمل النخل ثانيا، فأكل الناس البلح والبسر مرة ثانية؛ ولم يتّفق مثل ذلك فى زمن من الأزمنة. ذكر فتح قنّسرين وحمص وفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، فى شهر ربيع الأول منها، دخلت عساكر العزيز إلى قنّسرين وحمص، وأقاموا الدعوة له بها. وفيها فى ثامن شوّال صرف العزيز وزيره يعقوب بن كلّس واعتقله، وحمل من ماله خمسمائة ألف دينار؛ ثم افرج عنه بعد ذلك، وأعاده إلى الوزاره، فى سنة أربع وسبعين، ووهب له العزيز مالا كثيرا وألفا وخمسمائة غلام تكون فى خدمته، وإليهم تنسب حارة الوزيرية «2» بالقاهرة.

وفى هذه السّنة اشتد الغلاء بمصر وبلغت حملة الدّقيق الجشكار «1» أحد عشر دينارا والعلامة اثنى عشر دينارا؛ والحملة ثلاثمائة رطل بالمصرى. وفيها فى العشرين من ذى القعدة ورد الخبر أنّ ابن حمدان «2» خطب للعزيز بحلب والجزيرة كلّها. وفى سنة ستّ وسبعين وثلاثمائة خطب للعزيز بمعرّة النّعمان. وفى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة استجدّ العزيز فى جامع مصر «3» العين الفوّارة، ودامت إلى أيّام العاضد، فحربت فى الحريق فى سنة أربع وستين وخمسمائة؛ ثم جدّدها الملك العادل أبو بكر بن أيوب وفيها لاعن القاضى محمّد بن النّعمان بين رجل من لدن عقيل وامرأته. وفى سنة ثمانين وثلاثمائة اختطّ العزيز الجامع بالقاهرة، وهو الجامع المعروف بالحاكم «4» بباب الفتوح. وفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة خرج منير والى دمشق على العزيز بالله «5» ، وقتل ابن أبى العواد «6» الكاتب ولحقه بشارة الإخشيدى، فسار

نزال والى الرّملة إلى دمشق، فحاربه منير، فهزمه نزال. وكانت الوقعة بمرج عذراء «1» فى تاسع شهر رمضان وهرب منير يريد حلب، فأخذه العرب وأحضروه إلى دمشق لنزال، فوجدوا منجوتكين «2» قد وصل إليها فأخذ منيرا وحرسه على جمل وإلى جانبه قرد وعليه طرطور. وأقام منجوتكين بدمشق بقية سنة إحدى وثمانين. وأمده العزيز فى سنة اثنتين [وثمانين] «3» بخمسمائة فارس وخزانة وسلاح صحبة صالح بن على وجيلين التركى، فاشتمل عسكر منجوتكين على ثلاثة عشر ألف فارس فطمع فى ملك حلب بحكم وفاة صاحبها سعيد الدولة «4» بن حمدان فحشد وخرج إليها فى ثلاثين ألف فارس ونازلها، وفتحها فى شهر ربيع الآخر. وبقيت القلعة بيد أبى الفضل بن سعيد الدولة بن حمدان ولؤلؤ، فكاتبا بسيل «5» ملك الرّوم، فكتب لصاحب أنطاكية، وهو من قبله، بأن يجمع العساكر ويتوجّه إلى حلب لنصرة صاحبها، ودفع المغاربة عنها، فسار إليها فى خمسين ألف راجل. وقال المسبّحى: كان عسكر الرّوم سبعين ألفا وعسكر منجوتكين خمسة وثلاثين ألفا.

فنزل الرّوم على جسر الحديد بين أنطاكية وحلب، فأشار أصحاب منجوتكين عليه بقصد الرّوم، فتوجه نحوهم «1» وانضم إليه جماعة من بنى كلاب، فالتقوا فانكسرت عساكر الرّوم، وغنم منجوتكين ومن معه الغنائم الجزيلة، وجمع من رؤوس الرّوم مقدار عشرة آلاف رأس، فسيّرها إلى مصر. وتبع منجوتكين الرّوم إلى أنطاكية، وأحرق ضياعا، ونهب رساتيقها «2» ، ورجع إلى حلب. فعمل لؤلؤ مقدم حلب على رجوع منجوتكين عن بلده، فكاتب أبا الحسن بن المغربى وزير منجوتكين وخواصّه أن يحسّنوا «3» له الرجوع إلى دمشق والعود إلى حلب فى العام المقبل، ووعدهم على ذلك بالأموال الجزيلة. فذكروا ذلك لمنجوتكين فصادف هذا الرأى منه موقعا لسوقه إلى دمشق، فرجع عن حلب. ولمّا بلغ العزيز رجوعه عنها انزعج لذلك وعلم أنه بتدبير وزيره ابن المغربى، فعزله عن وزارة منجوتكين، وولى صالح بن على الرّوذبارى. وفى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ظهر من الجراد والكمأة «4» على جبل المقطم بمصر ما لم يعهد مثله، فخرج النّاس إليه وجعلوا يدخلون القاهرة

[49] ذكر وفاة العزيز بالله وشىء من أخباره وأخبار وزيره يعقوب بن كلس ومن ولى بعده

ومصر فى كلّ يوم، فبيع الجراد أربعة أرطال بدرهم، والكمأة سبعة أرطال بدرهم. وفيها فى يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة احترقت صناعة الإنشاء «1» بمصر بما فيها من المراكب الحربية وآلات السلاح وغير ذلك، فاتّهم الأمراء بذلك، فقتل منهم مائة وسبعة نفر، ثم أحضر عيسى ابن نسطورس من بقى من الرّوم فاعترفوا بذلك، فأمر العزة بالله أن تنهب كنيسة الرّوم، فنهبت وأخذ منها ما ينيف عن تسعين ألف درهم. [49] ذكر وفاة العزيز بالله وشىء من أخباره وأخبار وزيره يعقوب بن كلّس ومن ولى بعده كانت وفاة العزيز بالله بعد الظهر من يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة بمدينة بلبيس فى مسلخ الحمام بعلتى القولنج والحصاة «2» . وكان مولده بالمهديّة فى يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.

وكانت مدّة حياته اثنتين وأربعين سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، ومدّة ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا «1» . وكان أسمر، طويلا، بدينا، أشهل، أعين، أصهب الشّعر، عريض المنكبين. وكان لا يؤثر سفك الدماء. قال المؤرخ: وجدّد فى أيام العزيز من الأبنية قصر الذّهب «2» ، وجامع القرافة «3» والفوّارة وبستان السردوس «4» ، وقصور عين شمس، والمصلى الجديد بالقاهرة. وهو أوّل من بنى دار الفطرة» ، وقرر الرّواتب، وسنّ إعطاء الضّحايا للأولياء. وكان قريبا من الناس، بصيرا بالخيل والجوارح والصّيد. ولده: أبو على المنصور، وهو الحاكم بأمر الله.

ذكر أخبار الوزير يعقوب بن كلس

ذكر أخبار الوزير يعقوب بن كلّس وكنيته أبو الفرج؛ وهو أوّل من خوطب بالوزارة فى دولتهم. وكان يهوديّا من أهل بغداد، فهاجر منها إلى الشام ونزل الرّملة، فجلس وكيلا للتّجار بها، فاجتمع عنده مال فاكتنزه، وسافر إلى مصر. واتّصل بخدمة كافور، فتاجر فى متاع كان يحيله بثمنه على الضياع، فكان إذا احتيل على عمل بمال لا يخرج منه حتى يعلم مستخرجه ونفقته وارتفاعه، فعلم أحوال ديار مصر، فأخبر كافور به، فقال: لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا. فبلغه ذلك، فأسلم على يدى كافور، فى يوم الجمعة فى الجامع العتيق، فى سنة خمسين وثلاثمائة. ثم تعلّقت به مطالبات ديوانيّة فى الدولة الإخشيدية فهرب بسببها من مصر، فلقى العسكر المغربىّ قاصدا مصر فعاد فى صحبته، فلمّا ملك القائد جوهر مصر تصرّف ابن كلّس فى الأمور الدّيوانيّة مدّة أيام المعز، ثم انتقل إلى خدمة ولده العزيز، فاختصّ به وتمكّن منه، واقتنى الأموال، فاستوزره فى يوم الجمعة ثامن عشر شهر رمضان سنة ثمان وستين «1» وثلاثمائة؛ وأقطعه بمصر والشام فى كلّ سنة ثمانية آلاف دينار- وبسط يده فى الأموال، وكتب اسمه على الطّرز «2» ، وابتدأ بنفسه فى المكاتبات والعنوانات. من يعقوب بن يوسف وزير أمير المؤمنين.

وتمكن من الدولة حتى أسقط المغاربة، واستخدم المشارقة، فى سنة سبعين وثلاثمائة، من التّرك والإخشيدية. وأذل جوهرا الرّومى غلام المعزّ وجعله على المرمّة. وكان [جوهر] «1» يقول: قبح الله طول هذا العمر الذى أحوج لمثل هذا. ثم نكبه العزيز النكبة التى ذكرناها فى سنة ثلاث وسبعين، ثمّ أطلقه وأعاده إلى الوزارة، وقال له: عزلت بالإغراء، ورددت بصمم الآراء. ووهب له ألفا وخمسمائة غلام كما ذكرنا «2» . ولم يزل ابن كلس على ذلك إلى أن توفى لستّ خلون من ذى الحجة، سنة ثمانين وثلاثمائة. ولمّا مرض مرضته التى مات فيها ركب العزيز إليه، وعاده، وقال له: وددت أنّك تباع فأبتاعك بملكى وولدى. ولمّا مات أمر العزيز أن يدفن فى داره فى قبة كان بناها لنفسه؛ وحضر جنازته وصلّى عليه، وألحده فى قبره. وبلغ قيمة الكفن الذى أنفذه العزيز له، وهو خمسون ثوبا مثقلة سبعة آلاف دينار. وانصرف من دفنه، وأظهر الحزن وأغلق الدّواوين ثمانية عشر يوما، وعطّل الأعمال أياما، واشتملت تركته على مال عظيم. ولم يستوزر [العزيز] «3» بعده أحدا بل ضمن أموال الدّولة بجماعة من المستخدمين وجعل الغالب عليهم عيسى بن نسطورس النّصرانى، فمال إلى

ذكر بيعة الحاكم بأمر الله

النّصارى وقلدهم الأعمال. واستناب بالشام منشا بن إبراهيم اليهودىّ فقدّم اليهود ومال إليهم، واطّرح المسلمين، فوقفت للعزيز امرأة بيدها قصّة مكتوب فيها: يا أمير المؤمنين بالّذى أعزّ النّصارى بابن نسطورس وأعزّ اليهود بمنشّا بن إبراهيم وأذلّ المسلمين بك إلا ما نظرت فى أمرى وكشفت ظلامتى «1» ! فقبض العزيز على عيسى، وكتب بالقبض على منشّا بالشام، ثم شفعت ستّ الملوك ابنة العزيز فى عيسى فردّه إلى ما كان عليه، وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وشرط عليه استخدام المسلمين فى دولته وأعماله. قضاته: أبو طالب محمد بن أحمد البغدادى إلى أن استعفى، ثم على بن النعمان إلى أن توفّى فى شهر رجب سنة أربع وسبعين، فردّ القضاء إلى أخيه أبى عبد الله محمّد بن النّعمان. حجّابه: الأمير منجوتكين [50] ، القائد باروخ. ولمّا مات العزيز قام بالأمر بعده ولده أبو على المنصور. ذكر بيعة الحاكم بأمر الله وهو أبو على المنصور بن العزيز بالله نزار، بن المعز لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، بن القائم بأمر الله أبى القاسم محمد، بن المهدى عبيد الله. وهو السادس من ملوك الدّولة العبيدية، والثالث من ملوك مصر والشام منهم. بايع له أبوه العزيز قبل وفاته ببلبيس، وكان ولّى قبله ابنه محمدا فهلك فى حياة أبيه العزيز، ثم جدّدت البيعة للحاكم بأمر الله صبيحة وفاة أبيه فى

ذكر القبض على الوزير عيسى بن نسطورس النصرانى وقتله

يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولبس أثواب الخلافة، وتعمّم بعمامة عليها الجوهر، وعمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة وستة أشهر «1» . وتولّى كفالته برجوان «2» الخادم، وقام بأمر الجيوش وتدبير الدّولة أبو محمد الحسن بن عمّار ابن أبى الحسين، وتلقب بأمين الدّولة، وهو أول من لقب فى دولتهم بمصر، وكان ذلك بوصية من العزيز. قال: وكان الكتاميون قد أضعفهم الوزير ابن كلّس، فأظهرهم ابن عمّار وردّهم إلى ما كانوا عليه. ذكر القبض على الوزير عيسى بن نسطورس النصرانى وقتله كان القبض عليه فى تاسع شوال سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة: وذلك أن ابن عمار اتّهمه بالإغراء عليه ومباطنة منجوتكين، فبسط عليه العذاب، واستخرج منه سبعمائة ألف دينار، ثم أخرجه لثلاث بقين من المحرم سنة سبع وثمانين على حمار، إلى المقس، وضرب عنقه هناك. رحم الله ابن عمار الآمر بقتله، فلقد حكى عنه من جوره على المسلمين واطّراحه لهم ما لا مزيد عليه. حكى الأثير بن بيان المصرى أنّ بعض رؤساء المصريّين كتب ورقة يعاتب فيها عيسى على قبح فعله مع المسلمين وبالغ، فيها فأجابه عيسى عنها يقول:

ذكر مخالفة منجوتكين بدمشق وحربه وأسره وسبب ذلك

«إن شريعتنا متقدّمة، والدّولة كانت لنا ثم صارت إليكم، فجرتم علينا بالجزية والذّلّة، فمتى كان منكم إلينا إحسان حتى تطالبونا بمثله!. إن ما نعناكم قاتلتمونا، وإن سالمناكم أهنتمونا، فإذا وجدنا لكم فرصة فماذا تتوقّعون أن نصنع بكم» . ثم تمثل فى آخرها ببيتين: بنت كرم غصبوها أمّها ... ثم داسوها، هوانا، بالقدم ثم عادوا حكّموها فيهم ... وأناهيك بخصم قد حكم! ذكر مخالفة منجوتكين بدمشق وحربه وأسره وسبب ذلك كان سبب ذلك أن ابن عمار أظهر الكتاميين وبالغ فى الإحسان إليهم، وخوّلهم فى الأموال وبسط أيديهم، وفرّق فيهم ما خلّفه العزيز. قال بعض المؤرخين: إن العزيز كان عنده عشرون ألف عليقة ما بين فرس وبغل، وجمل وحمار، ومن الأموال ما لا يدخل تحت الإحصاء؛ ففرّق ابن عمار ذلك فيمن أراد اصطناعه. فلما كان فى سنة سبع وثمانين ومائتين انبسطت يد كتامة وجاروا على النّاس بديار مصر، وامتدّوا لأخذ أموالهم، ثم اجتمع مشايخهم وحسّنوا للحسن بن عمار قتل الحاكم. فعلم برجوان بذلك، فبالغ فى حفظ الحاكم وضم إليه شكر العضدى من غلمان عضد الدّولة بن بويه. وكاتبا منجوتكين أمير دمشق يعرّفانه ما عزم عليه ابن عمّار، وأنه بسط يد كتامة فى الأموال ومكنهم من الجور وأنهم حصروا الحاكم بقصره، وأشارا عليه أن يقصد مصر ليكون عوضا عن الحسن بن عمّار.

فلما قرأ منجوتكين الكتاب جمع القوّاد والأجناد وغيرهم بجامع دمشق، وعرّفهم ما جرى من كتامة، وبكى، وخرّق ثيابه؛ فأطاعه النّاس وحلفوا له على طاعة الحاكم وقتال ابن عمار. فأنفق فيهم الأموال ووثّق منهم؛ وبرز من دمشق فى ستة آلاف فارس. فلما اتّصل ذلك بابن عمار عظم عليه وجمع وجوه كتامة وعرّفهم الحال، فقالوا: [51] نعرّف الناس أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وخالف عليه، وخرج عنه، ليبالغوا فى قتاله؛ ففعل ذلك وأظهره، وفرّق الأموال فى وجوه الدّولة. ثم أحضر برجوان وشكر العضدى وقال لهما: أنا شيخ كبير وقد كثر الكلام علىّ والقول فىّ، وليس لى غرض إلّا فى حفظ الإمام الحاكم. وسألهما أن يحلفا له على المساعدة فما وسعهما إلا أن حلفا «1» له. وندب من وقته أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه على العسكر، وأمره بالمسير إلى الشام، فخرج فى ستة عشر ألف فارس وراجل. فسار سليمان فى ثانى صفر، ورحل منجوتكين إلى الرّملة فملكها ومعه مفرّج بن دغفل بن جراح؛ وسار سليمان حتى نزل بظاهر عسقلان. وتقابل الجيشان بعد ثلاثة أيّام؛ وكان المصافّ فى يوم الجمعة لأربع بقين من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فاستأمنت العرب من أصحاب دغفل وغيرهم إلى سليمان، فاستظهر، وقتل من أصحاب منجوتكين أربعة قوّاد. وانهزم منجوتكين وأحصيت القتلى من أصحابه فجاءت ألفى فارس، وامتلأت أيدى أصحاب سليمان. وبذل سليمان لمن

ذكر الفتنة بين المشارقة والمغاربة وهرب ابن عمار وما كان من أمره

يحضر منجوتكين عشرة آلاف دينار ومائتى ثوب، فأسره على بن الجرّاح وحمله إلى سليمان، فسيّره إلى مصر. فاصطنع الحسن بن عمّار منجوتكين، وسار سليمان ونزل طبريّة. فلما بلغ أهل دمشق ما اتفق لمنجوتكين نهبوا داره. وبعث سليمان أخاه إلى دمشق فى خمسة آلاف فارس، فلمّا وصلها أغلقوا دونه الأبواب، فكتب إلى أخيه بذلك، فسار إلى دمشق وتلطّف بأهلها، وطيّب قلوبهم، ففتحوا له الأبواب. ودخل البلد واستقر أمره، وثبت قدمه، واستتبّ له الأمر، فنظر فى أمر السّاحل واستبدل بولاية الجابرين، وعزل [الأمير] «1» جيش بن الصّمصامة من طرابلس الشام واستعمل عليها أخاه، فحضر جيش إلى مصر ولم يجتمع به. ذكر الفتنة بين المشارقة والمغاربة وهرب ابن عمار وما كان من أمره كان سبب ذلك أنّ سليمان بن جعفر لما عزل جيش بن الصّمصامة عن طرابلس حضر [جيش] «2» إلى مصر واجتمع بشكر الخادم وبرجوان سرّا وعرّفهما بغض أهل الشّام فى المغاربة؛ وكان جيش أيضا من كتامة وبينه وبين سليمان عداوة متمكنة، فحسّن لهما الفتك بالحسن بن عمّار، فوقع هذا الكلام من برجوان بالموقع العظيم مع ما تقدّم بينهما من الوحشة. وعلم برجوان أن القاهرة ومصر قد خلتا من المغاربة ولم يبق فيهما إلّا العدد القليل،

وأمكنته الفرصة فانتهزها، وراسل الأتراك والمشارقة فى القبض على الحسن ابن عمّار. وأحسّ ابن عمار بذلك فقصد المبادرة بالإيقاع ببرجوان وشكر، ورتّب جماعة فى دهليز داره، وقرر معهم الفتك بهما إذا دخلا إليه. وكان لبرجوان عيون كثيرة فاطّلعوا على ما دبّره ابن عمار عليه. واتفق أنّ الحسن استدعاه [ومعه شكر] «1» فركبا إلى داره، وكانت فى آخر القاهرة مما يلى الجبل، ومعهما جماعة من الغلمان. فلمّا وصلا إلى باب الدّار ظهرت لهما عين القضيّة فعاد إلى القصر بسرعة، وجرّد الغلمان سيوفهم، فدخلا قصر الحاكم. فثارت الفتنة، واجتمع الأتراك والدّيلم والمشارقة وغيرهم على باب القصر، وبرجوان يبكى، وهم يبكون لبكائه، وهو يحرّضهم على القيام بواجب خدمة الحاكم. وركب الحسن بن عمّار فى كتامة إلى الجبل، وتبعه وجوه الدّولة، فصار فى عدد كثير. وفتح برجوان خزائن السّلاح وفرّقها على الغلمان وغيرهم، وأحدقوا بالقصر، فبرز منجوتكين وفارحتكين وينال الطويل فى خمسمائة فارس من الأتراك. ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن بن عمّار إلى وقت الظهر من يوم الخميس سلخ شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فانهزم ابن عمّار، ورجعت العامّة إلى داره فنهبوها ونهبوا خزائنه؛ واستتر عند بعض العوامّ وتفرّقت عنه جموعه «2» . وفتح برجوان باب القصر، وأجلس الحاكم، وأوصل إليه النّاس،

وجدّد له البيعة على الجند، فلم يختلف عليه أحد؛ وكتب الأمانات لوجوه كتامة وقوّاد الدّيلم وراسلهم بما يطيّب قلوبهم فأتوه. واستقام أمر برجوان وكتب إلى أهل دمشق يطيّب قلوبهم ويأمرهم بالقيام على سليمان والإيقاع به؛ فثار أحداث «1» دمشق وقصدوا دار أميرها سليمان، فوجدوه وقد التهى بالشّرب وانهمك على لذّاته، فهرب على ظهر فرسه ونهبت خزائنه [52] وأمواله. وجعل برجوان الحسين بن القائد جوهر قائد القوّاد، وبعث جيش ابن محمد بن الصّمصامة إلى دمشق، وتلطّف فى إخراج الحسن بن عمّار من استتاره، فخرج، فأعاد برجوان عليه ما كان بيده من الإقطاعات وحلّفه ألّا يخرج من داره. وفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة عصى أهل صور على الحاكم بسبب فتنة برجوان وابن عمار وقتلوا جماعة من جند المصريّين، وثار بعض الملاحين من أهلها، ويعرف بالعلاقة، فملك البلد. وثار مفرج بن دغفل الجراحى بالرّملة ونهبها. فندب برجوان إلى الشام أبا الحسن عبد الصّمد ابن أبى يعلى، وضمّ إليه عسكرا، فسار من القاهرة لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، سنة ثمان وثمانين «2» . فلمّا وصل إلى الرّملة حضر إليه من جند السّاحل خمسة آلاف

ذكر قتل برجوان الخصى

فارس، ووجد سليمان بن جعفر [بن] «1» فلاح بها فقبض عليه وسيّره إلى مصر. وسيّر إلى صور أبا عبد الله الحسن بن ناصر الدّولة وياقوتا الخادم ومن معه من عبيد الشّراء، فوقعت الحرب بينهم وبين أهل صور؛ ثم طلبوا الأمان فأمّنوا. وأسر العلاقة الثائر، وكان قد استنصر بالروم، فسلخ وهو حىّ، وحشى جلدة تبنا وصلب. وكان قد ضرب على الدينار بصور «عزّ بعد فاقة، وشطارة بلباقة، للأمير العلاقة» . وفيها فى شعبان ورد الخبر بفتح أنطاكية على يد [الأمير] «2» جيش بن محمد ابن الصّمصامة. ذكر قتل برجوان الخصىّ كان مقتله فى ثالث عشر «3» شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة. وسبب ذلك أنه كان لفرط إشفاقه على الحاكم منعه من الرّكوب خوفا عليه، ومنعه من العطاء لغير مستحقّ، فثقل على الحاكم، ولم يبق للحاكم فى الأمر غير الاسم، واستبدّ برجوان بالأمر. وكان عند الحاكم خادم اسمه ريدان الصقلبى قد اختصّ به وأنس إليه، فشرع فى إغراء الحاكم على برجوان. وكان من جملة ما قال له: إن هذا يقصد أن يفعل بك كما فعل كافور الإخشيدى مع أولاد سيّده، فباطن الحاكم الحسين بن جوهر قائد

القواد على قتل برجوان، ووعده أن يفوّض إليه تدبير الأمر بعده. ثم ركب الحاكم وبرجوان فى بعض الأيام إلى بستان اللّؤلؤة «1» على عادته، فمال عليه ريدان بسكين فضربه بها فى ظهره وأخرجها من صدره. فقال برجوان للحاكم: غدرت. فزعق على الخدّام فاحتزّوا رأسه؛ فانزعج النّاس لذلك ولبسوا السلاح، فسبق الحاكم ودخل القصر. وحضر شكر الخادم والجند وأحاطوا بالقصر ظنّا منهم أن الحسن بن عمار تمّم على الحاكم حيلة. فلما رأى الحاكم ذلك تراءى للنّاس فترجلوا وقبّلوا الأرض، وسكنت الفتنة. ثم فتح الحاكم القصر واستدعى أكابر النّاس وقال لهم: أنكرت على برجوان حاله وقتلته، واستدعى الحسين بن جوهر وأمره بصرف الناس إلى منازلهم، فصرفهم. وركب مسعود الحاكمى إلى دار برجوان فأحاط على ما فيها، وكان من جملة ما وجد له ألف سروال «2» دبيقى بألف تكّة حرير، وناهيك بموجود يكون هذا من جملته. وإلى برجوان هذا تنسب حارة برجوان «3» التى بالقاهرة. واستقرّ الحسين بن جوهر فى تدبير الدّولة فى ثالث جمادى الأولى من السنة. وقتل فى أثناء هذه الفتنة الحسن بن عمّار الكتامى. وتوفّى جيش ابن محمد بن الصّمصامة أمير الشام بدمشق فى ثالث عشر ربيع الأول منها،

ذكر ما فعله الحاكم بأمر الله وأمر به من الأمور الدالة على اضطراب عقله بعد أن استقل بالأمر بمفرده

وندب الحاكم لولايتها القائد تميم بن اسماعيل المعزّى الملقب بفحل. ذكر ما فعله الحاكم بأمر الله وأمر به من الأمور الدالّة على اضطراب عقله بعد أن استقل بالأمر بمفرده كان أول ذلك أنه نهى فى سادس شهر رجب سنة تسعين وثلاثمائة أن يخاطب الناس بعضهم بعضا بسيدنا أو مولانا، وألّا يخاطب بذلك غيره «1» . وفى سنة إحدى وتسعين، فى شهر المحرم، أمر أن تزيّن مصر ويفتح الناس دكاكينهم ليلا؛ ولازم الركوب بالليل، وكثر ازدحام النّاس، وصار البيع باللّيل أكثر من النهار، وأكثر الناس الوفود. وغلب النساء على أزواجهم على الخروج، فأمر فى رابع عشر الشّهر ألّا تخرج أمرأة من العشاء لهذا السبب، فلم يخرجن بعد أمره «2» . وفى سنة ثلاث وتسعين حصل للحاكم مرض المانخوليا، فأخذ فى قتل أرباب الدّولة وذوى المناصب وغيرهم، وصدر عنه من الأفعال [53] ما نذكره إن شاء الله تعالى بتواريخه على حكم السّنين. ذكر بناء الجامع المعروف بجامع راشده كان ابتداء عمارته فى سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. وكان سبب إنشائه أن أبا المنصور الزيات الكاتب زرع هذا الموضع

ذكر بناء الجامع المعروف بالحاكم الذى هو بين باب النصر و [باب] الفتوح بالقاهرة

وبنى للنّصارى فيه كنيسة فرفع أمره للحاكم، فأمر بهدم الكنيسة وأن يجعل موضعها مسجدا، ثم أمر بالتوسعة فيه، فخربت مقابر اليهود والنّصارى؛ وجمع فيه الجمعة لليلتين بقيتا من الشهر، وبنى فيه منبر من الطّين، وصلّى فيه ابن عصفورة القارئ. ثم ظهر بعد ذلك أن المحراب وضع على غير صحّة فهدم ما كان ارتفع من البناء، ثم بنى عليه ما هو عليه الآن «1» . ذكر بناء الجامع المعروف بالحاكم الذى هو بين باب النصر و [باب] «2» الفتوح بالقاهرة قد ذكرنا أن العزيز بالله كان قد اختطّه فى سنة ثمانين وثلاثمائة، ومات العزيز بالله ولم تكمل عمارته «3» . فلما كان فى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، أمر الحاكم بالله بإتمامه. وقيل إن الوزير يعقوب بن كلّس، وزير العزيز، هو الذى كان بدأ بعمارته وقدّر له أربعين ألف دينار، فأخرج له خمسة آلاف دينار ومات ولم يكمل، فابتدئ بعمارته فى هذا التاريخ. وفى هذه السنة قتل الحاكم مقداد ابن حسن كاتب جوهر، ضرب عنقه وأحرق بالنار، وفيها لليلتين خلتا من ذى الحجة قتل ريدان الصقلبى

الخادم، وكان خصيصا به مكينا عنده، وإليه ينسب الريدانية التى هى بظاهر القاهرة خارج باب النّصر. وفيها قتل منجمه العكبرى صاحب الرّصد الحاكمى وكان شديد الاختصاص به. ونادى مناديه بإباحة دم المنجّمين وأنهم كفار، فهربوا ولم يبق بالديار المصرية منجم. وفى سنة أربع وتسعين وثلاثمائة اشتدت السّوداء على الحاكم، فصار يركب فى الهاجرة حمارة بلقاء والسّياف بين يديه، فيقتل من يخطر بخاطره قتله. فقتل خلقا كثيرا وغرّق وأحرق، حتى قتل الركابية «1» وأصحاب السّتر والوزراء والقضاة؛ واستمرّ به هذا الحال. وفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، فى رابع عشرى المحرم قرئ سجل من الحاكم بمنع الملوخيا «2» والمتوكلية «3» والترمس المعفن والدّليس «4» وعمل الفقاع «5» ، وعن ذبح البقر «6» ، وألا يدخل أحد الحمّام إلّا بمئزر، ولا تكشف امرأة وجهها فى طريق ولا خلف جنازة، وألا يباع من السّمك ما ليس له قشر.

وفى رابع صفر منها كتب على المساجد بسب الصحابة رضى الله عنهم، وعلى حيطان الشوارع والقياسر «1» ، ثم نهى عن ذلك فى سنة سبع وتسعين. وأمر اليهود والنصارى الا الحبابرة بلبس السّواد «2» ، وأن يحمل النّصارى الصّلبان على أعناقهم، وأن يكون طول الصليب ذراعا وزنته عشرة «3» أرطال، وعلى أعناق اليهود قوامى الخشب والجلاجل، وألا يركبوا شيئا من المراكب المحلّاة، وأن يكون ركبهم من الخشب وألا يستخدموا أحدا من المسلمين ولا يركبوا حمارا لمكّار مسلم. وفى سابع عشرى صفر منها نودى بالقاهرة ألا يخرج أحد بعد عشاء المغرب إلى الطريق ولا يظهر بها. وفى سادس عشر شهر ربيع الآخر منها أمر بقتل الكلاب فقتلت عن آخرها «4» . وفى تاسع عشر جمادى الآخرة فتحت دار بالقاهرة وسميت دار الحكمة «5» ، وجلس فيها الفقهاء وحملت إليها الكتب من خزائن القصور، ونسخ النّاس من الكتب ما اختاروه؛ وجلس فيها القرّاء والفقهاء والنّحاة واللّغويون، والأطباء والمنجّمون، بعد أن فرشت وزخرفت، وعلّقت السّتور على جميع أبوابها وممرّاتها، وجعل لها قوّام وخدّام. وحصل فى هذه الدّار من الكتب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله، وأجريت بها الأرزاق.

ذكر أبى ركوة وظهوره وما كان من أمره إلى أن قتل

وفى هذا الشهر منع الناس من العبور إلى القاهرة ركّابا مع المكّارية، ومنع من الجلوس على باب الزّهومة «1» إلى أقصى [54] الباب [المعروف] «2» بباب الزمرد. وفى سنة ستّ وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم فى موكبه ومعه أرباب دولته فمرّ على الموضع الذى يباع فيه الحطب وقد تراكمت الأحطاب فيه بعضها على بعض، فوقف وأمر أن تؤجّج النّار فى بعضها؛ ثم أمر بقاضى القضاة بمصر، وهو الحسين بن على بن النعمان، فأنزل عن دابّته ورمى به فى تلك النّار حتى هلك «3» ، ولم يتقدّم له مقدّمة توجب ذلك «4» . ثم مرّ كأن لم يصنع شيئا. ذكر أبى ركوة وظهوره وما كان من أمره إلى أن قتل كان ظهوره فى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وادّعى أنه الوليد بن هشام «5» بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموى، وتلقّب بالثائر بأمر الله

والمنتقم من أعداء الله. ونحن الآن نذكر أخباره وابتداء أمره، وكيف تنقّلت به الحال إلى أن كان منه ما نذكره إن شاء الله تعالى. كان مولده بالأندلس ونشأ بها ثم خرج منها بحال سيّئة يجوب البلاد إلى أن وصل إلى القيروان، ففتح بها مكتبا يعلّم الصبيان فيه القرآن، ثم توجه منها إلى الإسكندرية ومنها إلى مصر فأقام بها وبأريافها يعلم الصبيان، ثم توجه إلى الفيّوم وعلّم بها الصبيان أيضا، وعاد إلى مصر، وخرج إلى سبك الضحاك «1» فنزل به على رجل يعرف بأبى اليمن، ثم نزل بقرنفيل «2» وسار منها إلى البحيرة فنزل على بنى قرة. وكان الحاكم قبل ذلك فى سنة خمس وتسعين قد بعث إليهم جيشا مقدّمه أبو الفتيان التّركى وقتل الحاكم بعضهم وحرّقهم بالنّار، فوجدهم قد أجمعوا على أن يلتقوه بجموعهم ويحاربوه، ولم يعلموا من يقدّمونه عليهم، فعرّفهم أبو ركوة «3» أنّه من بيت الخلافة، فانقادوا إليه وبايعوه بالخلافة، ونعت «4» بأمير المؤمنين، وانضاف إليهم من لوانة ومزاتة وزناتة جمع كثير، وجاءوا إلى مكان بالقرب من برقة. فلمّا بلغ الحاكم أمره جهز العساكر لقصده؛ فأول من خرج بها ينال الطّويل التركى فى منتصف شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، فالتقوا

واقتتلوا، فقتل ينال وعامّة من معه من العساكر، وغنموا ما معهم. وسار أبو ركوة إلى برقة وأخذها بعد حصار، فاستفحل أمره. وشرع الحاكم فى تجريد العساكر إليه، فجهّزها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين وعليها ابن الأرمنية، فسار إلى المكان المعروف بالحمام «1» ، فلقيه بنو قرّة فى جماعتهم فهزموه وقتلوه وانتهبوا ما كان معه. فندب الحاكم عسكرا وقدّم عليه أبا الحسن ابن فلاح وجلين وإبراهيم بن الأفرنجية؛ ثم ندب القائد أبا الفتوح فضل بن صالح لقتاله، فخرج إلى أرض الجيزة فى رابع شوال وأنفق فى العساكر، وكوتب على بن الجرّاح بالوصول إلى الحضرة، فورد من الشام فى سابع عشر شوّال. وورد الخبر بنهب الفيوم، فبعث الحاكم سريّة لحفظه، وسار الفضل بن صالح عن مكانه إلى ذات الكوم «2» فى رابع ذى القعدة، وكسر أبو ركوة عسكر ابن فلاح ونهب سواده والخزائن التى معه، وقتل من أصحابه جماعة؛ فاضطرب النّاس واشتد خوفهم، وباتوا فى الدكاكين والشوارع. وتوجّه القائد فضل للقاء أبى ركوة، فالتقيا بموضع يعرف برأس البركة، على نصف مرحلة من مدينة الفيوم، لثلاث خلون من ذى الحجّة. واقتتل العسكران قتالا شديدا وانجلت الحرب عن قتل عامّة عسكر أبى ركوة. وانهزم أبو ركوة إلى بلاد النّوبة وتبعه الفضل إلى الأعمال القوصية.

وذكر بعض المؤرخين أن الحاكم لمّا أعياه أمره دسّ إليه جماعة من أولياء دولته وأمرهم بطاعته، وأن يذكروا انحرافهم عن الحاكم بسبب قتله لهم؛ ففعلوا ذلك، فاغترّ به «1» ، ووصل معهم إلى أوسيم على ثلاثة فراسخ من القاهرة، فالتقى هو والفضل كما ذكرنا، واتّبعه، فبلغه أنه وصل إلى بلاد النوبة فكتب إلى متملكها يقول إن عدوّ أمير المؤمنين الحاكم فى بلادك، وكتب إلى صاحب الجبل وهو نائب صاحب دنقلة ومقره ببلد الدّو «2» فيما بين دنقلة وأسوان. وندب الفضل من العسكر من توجّه لقبضه، وكان المساعد على مسكه الشيخ أبو المكارم هبة الله، شيخ بنى ربيعة وقيل إنه وجد فى دير يعرف بدير أبى شنودة فى أطراف النوبة، فمسك. وكان الطعن به فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. وعاد القائد فضل إلى القاهرة فوصل إلى بركة الحبش فى يوم الجمعة، النّصف من جمادى الآخرة منها، وتلقّاه أكابر الدّولة الحاكميّة؛ وركب فى سابع عشر الشّهر وأبو ركوة على جمل وعلى رأسه طرطور، وطيف به على هذه الصفة وخلفه قرد يصفعه «3» ، ثم صلب [55] وضربت عنقه وجهّزت

رأسه إلى البلاد. ونقل بعض المؤرخين أنه اعتبرت الأكياس التى خرجت مع القائد فضل لمّا خرج للقاء أبى ركوة، وكان زنتها فوارغ خمسة وعشرين قنطارا. وقيل إنّ جملة ما أنفق ألف ألف دينار والله أعلم. وفى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة أمر الحاكم بقتل أصحاب الأخبار حيثما وجدوا؛ وذلك أن كان قد قتل خلقا كثيرا لسعايتهم، ثم اطّلع على خيانتهم وأنهم ضيّروا ذلك معيشة، فقتلهم عن آخرهم. وفيها أمر بهدم كنيسة قمامة بالبيت المقدس، فكتب ابن خيران صاحب ديوان الإنشاء فى ذلك «خرج أمر الإمامة بهدم كنيسة قمامة «1» ، فليصيّر طولها عرضا، وسقفها أرضا» . وفى سنة ثمان وتسعين أيضا، فى سابع عشرى «2» شعبان، عزل القائد حسين بن جوهر عن جميع ما كان يتولّاه، وكتب سجل بتوليته صالح بن على بن صالح الروزبارى فانصرف الحسين إلى داره وأمر بلزومها، ثم خلع عليه وركب فى رابع عشر جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة «3» . وفى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فى يوم الجمعة التاسع من شهر رمضان، حضر النّاس إلى القصر وقرئ سجل لصالح بن علىّ لقب فيه بثقة الثقات للسّيف والقلم، وخلع عليه، وقيّد بين يديه بغلات وخيل.

ذكر خروج آل الجراح على الحاكم ومتابعتهم لأبى الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى وما كان من أمرهم

وفيها مرض الحاكم فداواه بن معشر، فأعطاه عشرة آلاف دينار. وفيها سخط الحاكم على وزيره ابن المغربى وقتله، وقتل أخاه وابنه، وهرب ابنه الآخر إلى الشام. وفيها فى تاسع عشر ذى الحجّة أمر الحاكم بهدم كنائس القنطرة التى فى طريق المقس وكنائس حارة الرّوم، فهدم جميع ذلك. وفى سنة أربعمائة، فى يوم الخميس حادى عشر شهر رمضان، جمع الأولياء. وأصحاب الدواوين فى صحن الإيوان بالقصر، وخلع على أبى نصر بن عبدون، وقرئ سجله، ولقّب بالكافى، وولى مكان صالح بن على بن صالح الروزبارى. وكانت مدّة ولاية صالح سنتين وأربعة عشر يوما. ذكر خروج آل الجرّاح على الحاكم ومتابعتهم لأبى الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى وما كان من أمرهم كان سبب ذلك أنّ نصر بن عبدون كان بينه وبين بنى المغربى عداوة متمكنة، فسعى بهم عند الحاكم وأغراه، إلى أن أمر بضرب أعناقهم، وذلك فى ثالث ذى القعدة سنة أربعمائة؛ فقتل أخوى الوزير وولده وثلاثة من أهل بيته، واستتر الوزير أبو القاسم بن المغربى وهرب إلى الشام، فى تاسع ذى القعدة منها، والتجأ إلى حسّان بن المفرج بن دغفل بن الجرّاح، واستجار به فأجاره؛ وأنشده عند دخوله عليه:

أمّا وقد خيّمت وسط الغاب ... فليقسونّ على الزّمان عتابى يترنّم الفولاذ دون مخيّمى ... وتزعزع الخرصان دون قبابى وإذا بنيت على الثّنيّة خيمة ... شدّت إلى كسر القنا أطنابى وهى قصيدة مطولة مدح بها آل الجرّاح. فلما سمعها حسّان هشّ لها وجدّد من القول ما طاب به قلب الوزير وسكن جأشه. ثم حسّن ابن المغربى لبنى الجراح أنّ يخرجوا عن طاعة الحاكم، فوافقوه على ذلك، وقتلوا نارتكين أحد الأمراء الحاكميّة المقيم بالرّملة؛ ثم حسّن لهم أن يقيموا أبا الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى خليفة، وهو أمير الحرمين يومئذ «1» ، وأن يحضروه من مكّة؛ فأجابوه إلى ذلك، وأسلوا إلى مكّة وأحضروه إليهم. فلمّا قرب أبو الفتوح من ديار بنى الجرّاح خرجوا إليه وتلقّوه، وقبّلوا الأرض بين يديه، وبايعوه بالخلافة ولقبوه الرّاشد بالله. فحينئذ صعد أبو القاسم بن المغربى المنبر وخطب خطبة يحرّض الناس فيها على الخروج على الحاكم، فأشار إلى مصر وقرأ: طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي

الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما [مِنْهُمْ] «1» ما كانُوا يَحْذَرُونَ «2» . فلمّا سمع الحاكم ذلك أزعجه، فندب الجيوش لقتالهم، مع ياروخ تكين العزيزى، فاعترضه حسّان بين رفح والدّاروم «3» ، والتقوا واقتتلوا، فانهزمت أصحاب ياروخ تكين، وأسر هو ونقل إلى الرّملة، وسمع غناء جواريه وحظاياه بحضوره وهو مقيّد معه فى المجلس، وارتكب معه الفواحش العظيمة، ثم قتله صبرا بين يديه. وبقى الشّام لبنى الجرّاح. فشرع الحاكم [56] يأخذهم بالملاطفة، وراسلهم، وبذل لهم الرّغائب والأموال، والأقمشة والجوارى، وقرّر لكلّ واحد منهم خمسين ألف دينار عينا، واستمالهم عن أبى الفتوح. فاتصل ذلك بأبى الفتوح، فقال لهم: إن أخى قد خرج بمكة، وأخاف أن يستأصل ملكى بها. فأعادوه إلى مكّة فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة. وكان الحاكم قد أرسل إلى الوزير أبى القاسم بن المغربى وكتب له أمانا واستماله، وبنى على أهله تربا فى القرافة وهى «4» ستّ ترب، وتعرف بالسبع قباب إلى هذا الوقت. ولما ورد أمان الحاكم على أبى القاسم وهو مقيم عند بنى الجراح أجابه برسالة وضمّن أولها بيتين:

ذكر تفويض السفارة والوساطة لأحمد بن محمد القشورى وقتله

وأنت، وحسبى أنت، تعلم أنّ لى ... لسانا أمام المجد يبنى ويهدم «1» وليس كريما «2» من تباس يمينه ... فيرضى، ولكن من يعضّ فيحلم وسأل آل الجرّاح أن يجهّزوه إلى العراق فجهّزوا معه من أخرجه من بلاد المغاربة؛ وعاد بنو الجرّاح إلى طاعة الحاكم. وأقام ابن المغربى بالعراق إلى أن توفى بميّافارقين «3» فى سنة ثمان عشرة وأربعمائة؛ وحمل إلى الكوفة فدفن بها. ولمّا فارق آل الجراح قدم بغداد وتقلد الوزارة لمشرف الدولة بن بويه كما ذكرنا ذلك فى أخبار الدّولة البويهيّة «4» . ذكر تفويض السّفارة والوساطة لأحمد بن محمد القشورى وقتله وفى سنة إحدى وأربعمائة فى يوم الخميس رابع المحرّم استدعى الحاكم النّاس على طبقاتهم إلى القصر فركبوا «5» معه إلى خارج باب الفتوح، ثمّ عاد إلى قصره وأمر من مكان بالموكب بالنّزول إلى القصر، فنزلوا وحضروا فى الإيوان. فخرج من عند الحاكم خادم فأخذ بيد أحمد بن محمد المعروف بالقشورى «6» الكاتب وأخرجه من بين القوم، ثم عاد القشورى وقد خلع

عليه وبيده سجلّ، فأخذه أبو على العبّاسى الخطيب وقرأه على النّاس، فإذا هو يتضمّن تقليده السّفارة والوساطة بين النّاس وبين الحاكم، وتفويض الأمور إليه. وصرف ابن عبدون. وأقام [القشورى] «1» إلى الثالث عشر من الشّهر، فقبض عليه وقت الظّهر وهو فى مجلس ولايته، وضربت رقبته، ولفّ فى حصير ورمى. فكانت ولايته عشرة أيام. وكان سبب ذلك إكرامه للقائد حسين بن جوهر وتعظيمه له وكثرة سؤاله الحاكم فى معناه. وفوضت هذه الوظيفة فى يوم الأحد رابع عشر الشّهر لأبى الخير زرعة «2» ابن عيسى بن نسطورس النصرانى الكاتب، على عادة من تقدّمه، ولم يخلع عليه إذ ذاك، ثم خلع عليه فى سابع عشر شهر ربيع الآخر منها. وفى السادس والعشرين منه قرئ بجامع مصر سجلّ يتضمّن النّهى عن معارضة الحاكم فيما يفعله، وترك الخوض فيما لا يعنى، وإعادة حىّ على خير العمل فى الأذان، وإسقاط الصّلاة خير من النّوم، والنّهى عن صلاة التراويح والضّحى. وفى ثانى عشر شهر جمادى الآخرة دخل قائد القواد الحسين بن جوهر، والقاضى عبد العزيز بن النعمان إلى القصر، وكان قد خلع عليهما فى ثانى صفر، فلمّا أراد الانصراف بعث إليهما زرعة بن نسطورس يقول إن الخليفة يريدكما لأمر يختاره. فجلسا حتى انصرف النّاس، فقتلا وقتل معهما أبو على أخو الفضل بن صالح، ووقعت الحوطة على دارهم.

وفى سنة إحدى واربعمائة قامت دعوة الحاكم بالمدائن، وهى على نصف مرحلة من بغداد، وخطب له بمدينة الأنبار وقصر ابن هبيرة «1» من العراق بدخول مالك بن عقيل بن قراوش بن المقلد «2» فى طاعته وإظهار تشيّعه، وذلك فى أيام الخليفة القادر العباسى «3» . ثم بلغ قراوش بن المقلّد اختلال أمر الحاكم وقتله أرباب دولته وأن المانخوليا غلبت عليه، فأعاد الخطبة العباسيّة. وفيها قام بدعوة الحاكم بمدينة الجامعين وهى الحلة «4» وما جاورها من العراق الأمير على «5» بن مزيد الأسدى، وكان قد هزم خفاجه واستولى على بلادهم وخطب فيها للحاكم. وفى سنة اثنتين وأربعمائة تاب الحاكم ونهى عن شرب الخمر وعن كلّ ما يعمل منه، كالزبيب والعسل؛ ونفى المغانى، وحرّم الملوخيا، ومنع أن تقبّل الأرض بين يديه، وأن تقبّل يده، وأن يخاطب بمولانا؛ واقتصر على قولهم السّلام على أمير المؤمنين.

ذكر هدم كنائس الديار المصرية

وفى سنة ثلاث وأربعمائة قطعت كروم العنب بأسرها ورميت إلى الأرض ودرست بالبقر، وجمع ما كان من الخمر بالمخازن وأهريق فى البحر. وفيها كسرت جرار العسل؛ وأمر اليهود والنّصارى بلبس العمائم السّود إلا الجبابرة، ومنعوا أن يستخدموا [57] المسلمين؛ وأن يركبوا مع المكّارية؛ وإذا دخل النّصرانى الحمّام يكون الصليب فى عنقه، واليهودى الجلجل؛ ثم أفرد بعد ذلك حمّامات للنّصارى وحمامات لليهود؛ وأسلم جماعة من النصارى فى شهر ربيع الأول. وفيها فى شهر ربيع الآخر شدّد الحاكم على النّصارى واليهود فى حمل الصّلبان، وأن يكون الصّليب فى طول ذراع وزنته خمسة أرطال «1» ، فلما أضرّ ذلك بهم دخلوا فى دين الإسلام. وفيها فى شهر رمضان أمر الحاكم ببناء مصلّى العيد «2» بسفح المقطّم وأحسن بناءه، وكان قبل ذلك ضيّقا صغيرا، فهدمه الحاكم وبناه على ما هو عليه الآن. ذكر هدم كنائس الدّيار المصرية وفى العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بهدم جميع الكنائس بالديار المصرية فسأل جماعة من النّصارى أن يتولّوا هدم كنائسهم بأيديهم وأن يبنوها مساجد؛ فوهب الحاكم جميع الكنائس بجميع

ذكر البيعة بولاية العهد لأبى القاسم عبد الرحيم

ما فيها من أوانى الذّهب والفضة وغيرها من الحواصل والمآكل ومالها من رباع وأملاك لجماعة من الصّقالبة والفرّاشين والسعدية، ولم يردّ من سأله شيئا منها، وكوتب كلّ متصرّف فى عمل من الأعمال بهدم ما فى عمله من الكنائس، فهدمت من جميع أعمال الديار المصرية. وفى ثالث شهر رجب منها قرئ سجل بتحبيس ضياع ومواضع على الفقراء والفقهاء والمؤذّنين بالجوامع. وفى رابع عشر جمادى الآخرة منها أمر الحاكم بعمل رصد «1» بالقرافة، فنزل القاضى مالك بن سعد وأشرف على الرّصد وابتدأ بعمله ولم يتم. ذكر البيعة بولاية العهد لأبى القاسم عبد الرحيم وفى ثالث شهر ربيع الأوّل، سنة أربع وأربعمائة «2» عهد الحاكم بولاية العهد بعده لابن عمّه أبى القاسم عبد الرّحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدى، فبويع بولاية العهد، وكتب اسمه على السّكة، ودعى له على المنابر. وفيها منع الحاكم النّساء من الخروج مطلقا ليلا أو نهارا، ومن دخول الحمّامات، وطلوع الأسطحة، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف لهنّ، وشدّد فى ذلك، فشكى إليه التّجار من ذلك، فأمرهم أن يحملوا ما يبيعونه

ذكر إحراق مصر وقتال أهلها.

فى الأسواق ويطوفوا به فى الدّروب ويبيعوا النساء، وأن يكون للمرأة شىء مثل المغرفة بساعد طويل تتناول به ما تبتاعه من الرّجل. ثمّ أمر بإطلاق العجائز والإماء فى يوم الخميس تاسع شهر رمضان منها، فخرج بعض النّساء إلى القصر داعيات للحاكم، فعلم بهنّ فأعاد المنع والتشديد فى يومه، ولم يسمح إلا للنّساء المتظلمات للشّرع، والخارجات للحجّ، والإماء للبيع، والأرامل، وغواسل الأموات، والأرامل اللّواتى يبعن الغزل. ذكر إحراق مصر وقتال أهلها. كان سبب ذلك أن الحاكم ركب فى ذى القعدة سنة عشر وأربعمائة، فوجد صورة امرأة متردّية عملت من قراطيس، وفى يدها جريدة عليها ورقة فيها سبّ للحاكم وأسلافه وذكره بقبيح الفعال. فلمّا وقف عليها أمر بنهب مصر وحرق بعض دورها، وفرّق السلاح على السّودان والعبيد، فتبادروا إليها وفعلوا ما أمرهم به. فقام أهلها وقاتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيّام، ثم أرسلوا إلى الحاكم يستقبلون فلم يقلهم، فعاودوا القتال؛ وأحرق من مصر جانب جيد. فلما رأى الحاكم أن الأمر يؤول إلى التّلاف كفّ عنهم بعد أن تلف من العقار ما لا تحصى قيمته، وسيّر عيادا الصقلبى إليها فى جماعة من الجند لنسكين الفتنة، فشاهد أمرا عظيما، فعاد إلى الحاكم وذكر له قبح النّازلة وعظم الفادحة وقال: لو أن بسيل ملك الروم دخل مصر لما استحسن أن يفعل فيها هذا الفعل. فغضب الحاكم من كلامه وأمر بقتله، فقتل. وفى سنة عشر وأربعمائة أمر الحاكم وولىّ العهد، عبد الرّحيم بن إلياس، بالخروج إلى دمشق واليا عليها، ثم عزله فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وأربعمائة.

ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه والسبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم

وفى شهر رجب [58] منها اشتدّ غضب الحاكم على أهل مصر فأحرق السّاحل، ووقع النّهب فى الأسواق والقياسر «1» . وسنذكر إن شاء الله السّبب الذى أوجب خروج الحاكم على أهل مصر إلى أن فعل بهم ما فعل. ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه والسّبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم قال المؤرخ: لمّا كان فى آخر ليلة الاثنين السّابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ركب الحاكم حماره وخرج على جارى عادته، فأصبح عند قبر الفقاعىّ «2» بقرافة مصر وردّ من كان معه، ففقد من ذلك الوقت. ولم يزل النّاس يخرجون ويلتمسون رجوعه إلى يوم الخميس سلخ الشهر؛ ثم خرج مظفّر حامل المظلّة فى يوم الأحد الثّالث من ذى القعدة ومعه جماعة الأمراء والكتاميين إلى حلوان، وأمعنوا فى الكشف. فبينما هم كذلك إذ بصروا بالحمار الّذى كان الحاكم قد خرج عليه وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بالسيف فأثر فيهما، فتتبّع الأثر فإذا أثر الحاكم وأثر آخر خلفه وآخر أمامه، فقصّوه حتى انتهوا إلى بركة القصب شرقىّ حلوان، فأنزلوا

رجلا من الرّجالة فوجد ثياب الحاكم فى البركة، وهى سبع جباب «1» مزرّرة لم تحلّ أزرارها، وفيها آثار السكاكين، فعادوا إلى القصر ولم يشكّوا فى قتله. وأما السبب الذى نقل فى إعدامه فقالوا: كان السّبب فى ذلك أنّ ستّ لملك أخت الحاكم وقع بينها وبينه، فتنكّر لها وهمّ بقتلها. وكرهت أمورا صدرت منه منها أنه رأى بعض قهارمتها داخلة إلى القصر، فقال لها: قد سمعت أنّكم تجمعون الجموع وتدخل إليكم الرّجال؛ والله لأقتلنّكم أجمعين. «2» وتكرر هذا القول منه، فأعملت ستّ الملك الحيلة فى إعدامه، وخرجت ليلا إلى دار الأمير سيف الدّين حسين ابن دوّاس «3» ، فدخلت عليه واختلت به وعرّفته بنفسها أنها ابنة العزيز بالله أخت الحاكم؛ فعظّمها، وبالغ فى إكرامها. فقالت له: إنّك قد علمت ما فعل أخى وما صدر منه من سفك الدّماء وقتل الأولياء ووجوه الدّولة بغير سبب، وقد عزم على قتلك وقتلى. فقال لها: فكيف الحيلة فى أمره، فأشارت: أن تجهّز إليه رجالا يقتلونه إذا خرج إلى حلوان فإنه ينفرد بنفسه هناك، ووعدته أن يكون هو المدبّر لدولة ولده والوزير لها. فاتّفقا على ذلك وتحالفا عليه، ورجعت هى إلى قصرها. فلمّا ركب الحاكم وانفرد عند وصوله إلى المقطّم على عادته، كان ابن دوّاس قد أحضر عشرة من العبيد، وأعطى كلّ واحد منهم خمسمائة دينار، وحلّفهم، وعرّفهم كيف يقتلونه. فسبقوه إلى الجبل فى تلك اللّيلة؛ فلمّا

انفرد خرجوا عليه وقتلوه بالمكان الّذى ذكرناه، وخرج الموكب لتلقّيه على العادة، فطال انتظارهم له فلم يرجع، فعادوا؛ ثمّ خرجوا ثانيا وقصّوا الأثر، فوجدوا حماره وثيابه، كما ذكرناه، فعادوا إلى القصر وطلبوه من أخته ستّ الملك وقالوا: إن مولانا ما جرت عادته بهذا. فقالت لهم: إن رقعته قد وصلت إلينا أنه يأتى بكرة الغد. فتفرّقوا. فبعثت الأموال إلى وجوه الدّولة والقوّاد على يد ابن دوّاس، وبقى الأمر مستمرّا والحال متماسكا إلى عاشر ذى الحجة من السنة، فجرى بين العساكر وبين ستّ الملك كلام كثير أوجب أنها أخرجت إليهم ولده أبا الحسن عليّا فى يوم الأضحى فبايعه الناس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره، هذا ما حكى فى سبب إعدامه. وأما سيرته وأفعاله وأخباره، فقد قدّمنا منها على حكم السنين ما قدمنا، فلنذكر خلاف ذلك. قال المؤرخ: كان الحاكم سيئ الاعتقاد، كثير التنقّل من حال إلى حال. كان فى ابتداء أمره يلبس الثّياب الفاخرة والمذهبة، والعمائم المنظومة بالجوهر النّفيس، ويركب فى السّروج المحلّاة، ثم ترك ذلك على تدريج أن ينتقل منه إلى لباس المعلم غير المذهب، ثم لباس الساذج؛ ثم زاد به الأمر حتى لبس الصّوف والشواشى وركب الحمير، وأظهر الزّهد، وكثر استطلاعه على أخبار النّاس، فلم يخف عليه خبر رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيّته وكان يأخذ بيسير الذّنوب، ولا يملك نفسه عند غضبه؛ أفنى خلقا كثيرا، وأقام هيبة عظيمة. وكان مع طعيانه المستمرّ وفتكه، وسفكه للدّماء، وظلمه، يركب وحده تارة وفى الموكب أخرى، وفى المدينة طورا وفى البرّيّة آونة، والنّاس كافّة على غاية الهيبة له والخوف منه، وهو بينهم كالأسد

الضارى «1» ثم عنّ له أن يدّعى الإلهية، ويصرّح بالحلول والتّناسخ، ويحمل النّاس عليه. وألزم النّاس أن يسجدوا له مدة إذا ذكر؛ فلم يذكر فى محفل أو غيره إلّا سجد من سمع بذكره، وقبّل الأرض إجلالا له [59] . ثم لم يرضه ذلك «2» فلمّا كان فى شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن ابن حيدرة الفرغانى الأخرم يرى حلول الإله فى الحاكم ويدعو إلى ذلك، ويتكلّم فى إبطال النّبوّة «3» ، ويتأوّل جميع ما وردت به الشريعة «4» . فاستدعاه الحاكم [وقد كثر تبعه] «5» وخلع عليه خلعا سنيّة، وحمله على فرس بسرجه ولجامه، وركّبه فى موكبه [وذلك] «6» فى ثانى شهر رمضان منها. فبينما هو يسير فى الموكب فى بعض الأيام تقدّم إليه رجل من الكرخ [وهو على جسر طريق المقس] «7» فألقاه عن فرسه، ووالى الضّرب عليه حتى قتله [وارتج الموكب] «8» ، وأمسك الكرخى فأمر الحاكم بقتله، فقتل لوقته ونهب الناس دار الأخرم فى القاهرة. وكان بين الخلع عليه وقتله ثمانية أيام «9» . ثم ظهر رجل من دعاته فى سنة عشر وأربعمائة يقال له حمزة اللباد، أعجمى من الزّوزن، ولازم الجلوس فى المسجد الذى عند سقاية ريدان خارج باب

النصر، وأظهر الدعاء إلى عبادة الحاكم وأنّ الإله حلّ فيه. واجتمع إليه جماعة من غلاة الإسماعيليّة، وتلقّب بهادى المستجيبين. وكان الحاكم إذا ركب إلى تلك الجهة خرج إليه من المسجد وانفرد به وحادثه، وتمادى على ذلك وارتفع شأنه؛ واتّخذ لنفسه خواصّ لقّبهم بألقاب، منهم رجل لقّبه بسفير القدرة وجعله رسولا له، وكان يرسله لأخذ البيعة على الرؤساء على اعتقاده فى الحاكم، فلم يمكنهم مخالفته خوفا على نفوسهم من بطشه «1» . ثم نبغ شابّ من مولّدى الأتراك اسمه أنوشتكين النجارى «2» ، ويعرف بالدّرزى، فسلك طريق الزّوزنى وكثرت أتباعه. وكان الحاكم أيضا يقف معه ويخلو به؛ وسمّى نفسه سند الهادى «3» وحياة المستجيبين. واستمر الأمر على ذلك إلى الثّانى عشر من صفر، سنة إحدى عشرة «4» وأربعمائة، فاجتمع جماعة من أصحاب حمزة الزّوزنى على خيول وبغال، ودخلوا الجامع العتيق ركبانا وهم يعلنون بمذهبهم، وجاء ثلاثة منهم إلى الموضع الذى يجلس فيه قاضى القضاة، والمتحاكمون جلوس، ينتظرونه، فتكلّموا بكلام أنكره الناس وضجّوا بالتكبير والتهليل والثناء على الله عزّ وجلّ، واجتمع أهل مصر بالجامع من كلّ جهة، ومضى بعض الناس للقاء القاضى فلقوه وعرّفوه ما جرى، فجاء إلى المجلس، فتقدّم إليه أحد الثّلاثة فناوله رقعة من الزوزنى «5» فى أولها: «بسم الحاكم الله الرّحمن الرّحيم» يأمره فيها بالاعتراف

بإلهيّة الحاكم. فلم يجبه القاضى بشىء سوى أن قال حتى أدخل إلى حضرة مولانا. فطاوله الكلام، فقتله العوامّ وقتلوا رفيقيه والجماعة الّذين بالجامع أبرح قتل. ووثب العوامّ على قوم كانوا يعرفونهم بهذا المعتقد فقتلوا من وجدوه منهم وحرّقوهم «1» . فلمّا اتّصل ذلك بالحاكم أمر بعزل أصحاب الشّرط وولّى غيرهم، وأمرهم بطلب من اعتدى على أصحاب الزّوزنى، فقبضوا على جماعة منهم يناهزون الأربعين، فقتلوا فى أوقات متعدّدة. واجتمع الأتراك وقصدوا دار الزّوزنى فغلّقها عليه وعلى من عنده، وقاتلهم من أعلاها، فهدموها ونهبوا ما فيها، وقتلوا نحوا من الأربعين رجلا ممّن كان معه فيها. وفرّ الزّوزنى فلم يقدر عليه، ودخل إلى القصر، فأخفاه الحاكم فيه. فاجتمع الأتراك ولبسوا سلاحهم وطلبوه من الحاكم، فوعدهم بتسليمه لهم، فانصرفوا. ثمّ ركبوا فى اليوم الثّانى وطلبوه منه، فخرج جوابه لهم أنّه قتل؛ فرجعوا إلى ريدان فى طلب الزّوزنى فلم يجدوه. وأظهر الحاكم الغضب على كافّة الجند طول شهر ربيع الأول، ثم رضى عنهم فى الرّابع من شهر ربيع الآخر. وتحقق [الحاكم] «2» أنّ أوّل من جرّأ عليه العسكر وحملهم على قتل دعاته أهل مصر، فأمهلهم حتّى دخل جمادى الآخر، ثم ابتدأ فى التّدبير عليهم. فأوّل ما عمل أن سلّط عليهم الرّجّالة ومقدّمى السّودان وغيرهم، وقرّر

معهم أن ينزلوا إلى مصر على هيئة المناسر «1» ، فيكبسون الحمّامات ومنازل أهل مصر؛ فكانوا يفعلون ذلك نهارا. وتكرّر ذلك منهم، فاجتمع النّاس ووقفوا للحاكم وسألوه أن يكفّ عنهم أيديهم، فما أجابهم بجواب فتزايد بهم الضّرر إلى أن بقيت الرّجّالة تكبس مساكنهم ويأخذون ما فيها، ويعرّونهم فى الطّرقات، ويفتحون دكاكين البزّازين وغيرهم، وينهبون ما فيها ويحرقون أبوابها بعد ذلك، والنّاس يستغيثون فلا يغاثون. ثم نزل بعد ذلك جمع كثير بعد أن غلّقت الدّروب، وكانت بقيت تغلق قبل الغروب، وتخلّلوا البلدان، وفتحوا ما وراء الجامع من النّحاسين والأبزاريين «2» والسّكريّين ودار الشّمع، وغير ذلك مما يقرب من هذه الأسواق، وأخذوا ما أرادوا منها، وأفسدوا بقيّة ما فيها؛ فكانوا يخلطون العقاقير والأصناف بعضها ببعض، والمياه المختلفة بالزّيت؛ ويفسدون ما لا يمكنهم حمله. وطرحوا النّار فى أبواب القياسر «3» المجاورة للجامع بعد ذلك، فأخذ النّاس فى الانتقال إلى القاهرة، وضجّوا بالابتهال إلى الله تعالى فى كشف ما بهم من «4» البلاء. قال: وكان الحاكم قبل ذلك قد ضيّق على النّصارى واليهود كما [60] قدمناه، وأمرهم بالتّظاهر بالإسلام؛ فأسلم بعضهم وهرب بعضهم إلى بلاد الروم؛ وهدم جميع الكنائس. فلمّا كان فى شهر جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أذن لهم بالرّجوع إلى دينهم، فارتدّوا، وأذن لهم

ذكر مولد الحاكم ومدة عمره وملكه وأولاده وكتابه ووسائطه وقضاته ونقش خاتمه

ببناء الكنائس فأعادوها. فاشتدّ غضب العسكر وحنقهم، فاجتمع الأتراك والكتاميّون وتحالفوا على قتل الرّجّالة الّذين فعلوا بالمصريين ما فعلوا، فوقع القتال بينهم، فقتل الرّجّالة أبرح قتل، ورأى أهل مصر فيهم وفى حرمهم ومنازلهم ما أسلاهم «1» عما جرى عليهم. وتمادى الحال على ذلك والحرب قائمة بينهما، والحاكم على حاله فى ركوبه وهيبته، فإذا بلغه ركوبهم للحرب تركهم تارة وجاء أخرى، فإذا رأوه تفرّقوا لهيبته. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن فقد الحاكم فى التّاريخ الّذى ذكرناه. ذكر مولد الحاكم ومدّة عمره وملكه وأولاده وكتّابه ووسائطه وقضاته ونقش خاتمه كان مولده بالقاهرة فى يوم الخميس لستّ بقين من شهر ربيع الآخر «2» ، سنة خمس وسبعين وثلاثمائة. فكانت مدّة عمره ستّا وثلاثين سنة وستة أشهر ويومين؛ ومدّة ولايته خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا إلّا ثلاثة أيام إلى يوم ركوبه الذى عدم فيه. أولاده: أبو الحسن على، وهو الظاهر أبو الأشبال الحارث؛ مات فى حياته لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربعمائة. كتّابه ووسائطه: أمين الدّولة أبو محمد الحسن بن عمّار «3» ، ثم الأستاذ

ذكر بيعة الظاهر لإعزاز دين الله

برجوان «1» الخصىّ إلى أن قتل؛ ثم استقل الحاكم بالأمر وولّى من ذكرناهم وغيرهم. وكتب له أبو العلاء فهد بن إبراهيم النّصرانىّ. قضاته: أبو عبد الله محمّد «2» بن النّعمان إلى أن توفّى فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة؛ وأقام النّاس بغير قاض تسعة عشر يوما؛ ثم ولّى أبا عبد الله الحسن «3» ابن علىّ بن النّعمان إلى أن صرفه فى شهر رمضان سنة أربع وتسعين؛ وولّى أبا القاسم عبد العزيز «4» بن محمّد بن النّعمان ثم صرفه فى شهر رجب سنة ثمان وتسعين؛ وولّى مالك «5» بن سعيد إلى أن قتله فى سنة خمس وأربعمائة، لأربع بقين من شهر ربيع الآخر. وأقام النّاس بغير قاض إلى أن ولّى أبا العبّاس أحمد «6» بن محمّد بن عبد الله بن أبى العوام فى يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة منها إلى آخر وقت. نقش حاتمه: بنصر العلىّ الولىّ ينتصر الإمام أبو علىّ «7» . ذكر بيعة الظّاهر لإعزاز دين الله هو أبو هاشم، وقيل أبو الحسن، علىّ بن الحاكم؛ وهو السّابع من ملوك الدولة العبيديّة. بويع له بعد أن نحقّق الناس عدم الحاكم بأمر الله فى

يوم الأضحى من سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وأقام النّاس منذ فقد الحاكم فى سابع عشر شوّال منها إلى هذا التّاريخ بغير خليفة، وستّ الملك، ابنة العزيز وأخت الحاكم، تدبّر أحوال الدّولة، وتسكّن الجيوش، وتفرّق الأموال على يد الأمير سيف الدّين الحسين بن دوّاس. ثمّ جرى بينهما وبين العساكر كلام كثير أوجب أنها أخرجت إليهم أبا هاشم هذا وقت الظّهر من يوم الأضحى، فبايعه النّاس وازدحموا عليه، فركب تحت الأرض فى السّرداب إلى قصر الذّهب، وخرج من بابه إلى باب العيد، فأجلسته وقالت: هذا خليفتكم. فلما رآه ابن دوّاس قبّل الأرض، وسلّم عليه بالخلافة، فبايعه الأمراء والأجناد، ولقّب الظّاهر لإعزاز دين الله «1» وكتبت الكتب لسائر الأعمال بأخذ البيعة؛ وجمعت ستّ الملك الأجناد وأحسنت إليهم، ورتّبت الأمور أحسن ترتيب، وعدلت عن ولىّ العهد إلياس «2» بن داوود بن المهدىّ وجىء به فبايع والسّيف على رأسه، وحبس، وكان آخر العهد به. وكان يشار بالخلافة إلى عبد الرحيم بن إلياس ابن أحمد بن المهدىّ، فأدخل عليه الشّهود وهو يتشحّط «3» فى دمه فأشهدهم أنه فعل ذلك بنفسه، ثم قضى نحبه. وقام ابن دوّاس بتدبير الدّولة هو والعزيز عمار بن محمد؛ وكانا لا يصدران إلّا عن رأى ستّ الملك عمة الظاهر.

ذكر مقتل الحسين بن دواس

ذكر مقتل الحسين بن دوّاس قال: لمّا استقرّ أمر الظّاهر لإعزاز دين الله وسكنت الأحوال خرج من القصر خصىّ وبيده سيف مجرّد، واستدعى وجوه الدّولة، والوزير فى دسته والحسين بن دوّاس قائد القوّاد إلى جانبه. فقال الخصىّ أمر مولانا أن يقتل بهذا السّيف [61] قاتل مولانا الحاكم، فنادوا السّمع والطاعة فصبّه على ابن دوّاس فقتله، ولم يختلف اثنان «1» . وقيل إنه إنما قتل فى شهر رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. والله أعلم. وباشرت السيّدة ستّ الملك للأمور بنفسها وقامت هيبتها عند الناس. وفى ثالث عشر ذى الحجّة من السّنة، فى اليوم الرابع من بيعة الظّاهر، قرئ سجل لأصحاب الأخبار أنّهم لا يرفعون ما لا فائدة فيه ممّا كان ينهى إلى الحاكم. وفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة منها ركب القاضى عبد العزيز بن النّعمان ومعه جماعة وتوجّهوا نحو الجبل لافتقاد الحاكم وعادوا. وفى يوم الخميس لعشرين منه أقيمت المآتم فى القصر وسمع الصّراخ واتّصل، وارتجّ البلد فى تلك اللّيلة بالصّراخ إلى أن مضى وقت كثير من اللّيل، وأصبح النّاس على وجل، وأغلقت أبواب القاهرة. وفى المحرّم سنة ثنتى عشرة وأربعمائة سومح بمكس الفقاع. وكان مبلغه فى الشهر سبعمائة دينار.

وفى حادى عشر ذى القعدة، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، توفّيت ستّ الملك ابنة العزيز؛ وكان مولدها فى ذى القعدة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببلاد المغرب، وكانت من الدّهاة. وفى سنة أربع عشرة وأربعمائة ظهر ببلاد الفيوم بركة ينصبّ إليها الماء، فاستخرج منها سمك بلطىّ، ومقدارها أربعة آلاف فدان. وفى شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة ورد الخبر بإقامة الدّعوة الظاهرية بالموصل والبصرة والكوفة وأعمال الشرق. وفيها وردت الأخبار أن سنان بن صمصام الدّولة وصالح «1» بن مرداس جمعا العساكر وحشدا «2» العربان لحصار دمشق، وأنّهم حاصروها وقطعوا أشجارها، وقتلوا فلّاحى الضّياع. وتقرّر الحال أن يقاتل العوام يوما وعسكر السّلطان يوما؛ واتّصلت الحرب بينهم وقتل جمع عظيم. وحاصر صالح بن مرداس حلب؛ واضطربت أحوال الشّام بأسره، وتغلّبت الحرب عليه. وطلب سنان من أهل دمشق ثلاثين ألف دينار ويرتحل عنهم، فأجابه أهل البلد لذلك، فمنعهم الشّريف ابن الحسن وأشار بنفقتها فى عيّارى البلد، فأنفقوها «3» وقاتلوا قتالا شديدا، فقتل من العرب جمع كثير. وطلب العرب الصّلح فأجيبوا إليه، ثم عادوا إليها فى الوقت برأى ابن الجرّاح ... ووصل الخبر من جهة بنى قرة، عرب البحيرة، أنهم أقاموا عليهم إنسانا

ببرقة ولقّبوه بأمير المؤمنين. وفى الحادى والعشرين من ذى الحجّة سنة خمس عشرة وأربعمائة اجتمع من العبيد ألف عبد عند سفح المقطّم وقصدوا نهب مصر، فأركب الظّاهر لإعزاز دين الله من حفظها، وأمر أهل مصر بقتل من ظفروا به منهم، ونهبوا فى اليوم الثانى أطراف مصر، فقاتلهم النّاس فانهزموا. وفى سنة سبع عشرة وأربعمائة جرّد الظّاهر أمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى «1» من مصر بعساكر كثيرة لدفع العرب «2» عن الشّام، وخرج الظّاهر لتوديعه. وسار فى سبعة آلاف فارس غير العرب، وعيّد عيد الأضحى فى الرّملة، وجمع العساكر. فلما بلغ حسّان بن مفرّج «3» خروجه بعث إلى صالح بن مرداس «4» فأتاه من حلب فى بنى كلاب. ووقعت الحرب بينهم بالأقحوانة «5» من عمل طبريّة يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة. فطعن صالح بن مرداس، فسقط عن فرسه، فقتل، وحمل رأسه إلى أمير الجيوش. فعندها انهزم حسّان. وقتل من أصحابهم مقتلة عظيمة، وهرب أصحاب صالح إلى بعلبك وحمص وصيدا وحصن عكّار «6» . واستولى نصر بن صالح وأخوه ثمال على حلب وأعمالها

ذكر وفاة الظاهر لإعزاز دين الله على ابن الحاكم بأمر الله وشىء من أخباره

وبالس «1» ، ومنبج «2» . وسار الدّزبرى حتى أتى دمشق، ثم إلى حلب، فظفر بشبل الدّولة» نصر بن صالح فقتله. ثم عاد إلى دمشق فأقام بها وعلت منزلته. ذكر وفاة الظاهر لإعزاز دين الله على ابن الحاكم بأمر الله وشىء من أخباره كانت وفاته فى ليلة الأحد النّصف من شعبان المكرّم من شهور سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببستان الدكة بالمقس «4» ، فركب الوزير صفىّ الدين أبو القاسم على الجرجرائى «5» إلى البستان، وحمل الظّاهر منه إلى القصر. وكان مولد الظّاهر فى يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان المعظّم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. وكانت مدّة عمره إحدى وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيّام، ومدة ملكه خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وستّة

أيام. وكان أجمل النّاس صورة. وتولّى غسله قاضى القضاة عبد الحاكم، ومعه ظاهر بن عبد الخالق بن أحمد ابن المهدى شيخ القرافة؛ وصلّى عليه قاضى القضاة وأخذ سلبه. قال واستمرّت النّوائح تنحن عليه مدّة شهر. وكان كريما مشتغلا [62] بلذّاته معوّلا على وزيره. ولده أبو تميم معدّ المستنصر بالله، وهو الّذى ولى الأمر من بعده على ما نذكره. وزراؤه ووسائطه: أبو الحسين عمّار «1» بن محمد، أحد وسائط أبيه الحاكم بأمر الله، إلى أن زال أمره فى ذى القعدة سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، ثم قتل؛ وتولّى الوساطة أبو الفتوح موسى «2» بن الحسن، وذلك فى المحرّم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، إلى أن قبض عليه فى العشرين من شوّال وقيل صبيحته؛ وتولى الوساطة أبو الفتح مسعود «3» بن ظاهر الوزّان إلى أن عزل؛ وتولّى الوزارة عميد الدّولة أبو محمد «4» الحسن ابن صالح الروذبارى، أحد وسائط الحاكم بأمر الله؛ ثم عزل فى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة بالوزير أبى القاسم على «5» بن أحمد الجرجرائى إلى آخر المدّة، ولقب بالوزير الأجلّ الأوحد صفىّ الدّين؛ وكان أقطع اليدين؛ وتمكّن من الظاهر تمكّنا عظيما. حكى من تمكّنه أنّه كان بينه وبين خليل الدولة بن العدّاس عداوة، فاتّفق

ذكر بيعة المستنصر بالله

أن خليل الدّولة سأل الظّاهر لإعزاز دين الله أن يشرّفه بزيارته ببركة الحبش فأجابه الظّاهر إلى ذلك وحضر عنده، فاغتنم ابن العدّاس الفرصة وجعل يذكر للظاهر مثالب الوزير. فسدّ الظّاهر مسامعه وقال لابن العداس: إنّى وإن رعيت حقّ تشريفى إياك بزيارتى فما أترك حقّ من أرتضيه لوزارتى، ولا بدّ أذكر له طرفا من ذلك، فاذكر خيرا لأحكيه له. فرجع عن ذكر مثالبه وأثنى عليه، فذكر الظّاهر للوزير عنه خيرا، فكان ذلك سبب الصّلح بينهما. وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبار الوزير الجرجرائى مستوفاة عند ذكر وفاته فى سنة ستّ وثلاثين فى أخبار المستنصر. ذكر بيعة المستنصر بالله هو أبو تميم معدّ «1» ؛ بن الظّاهر لإعزاز دين الله أبى هاشم علىّ. بن الحاكم بأمر الله أبى علىّ المنصور، بن العزيز بالله أبى المنصور نزار، بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، بن القائم بأمر الله أبى القاسم محمّد، بن المهدىّ عبيد الله. وهو الثّامن من ملوك الدّولة العبيديّة وهو الخامس من ملوك مصر والشّام منهم.

بويع له صبيحة يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان «1» سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وذلك أنّ الوزير الجرجرائى أحضر وجوه القبائل من الكتاميين، وغيرهم من الأتراك، فلمّا اجتمعوا قال لهم: مولانا ضعيف والآجال بيد الله سبحانه، فإن قضى الله بانتقاله ما تقولون فى ولده الأمير معدّ؟ قالوا: الذى يقوله الوزير نحن به راضون، وله سامعون. فلمّا رتّب هذا الأمر استدعى الوزير، فنهض قائما ودخل إلى قاعة من قاعات القصر، ثم أحضر الجماعة، فوجدوا الأمير معدّا على سرير الملك وعليه التاج؛ فقال: هذا مولاكم، سلّموا عليه بالخلافة. فسلّموا عليه وانصرفوا؛ ولقّب المستنصر بالله، وكان عمره إذ ذاك سبع سنين. فلمّا كان فى صبيحة يوم مبايعته، وهو يوم الخميس، وقف الكتاميّون وعبيد الشّراء «2» وغيرهم بباب القصر، وأغلظوا فى الكلام وطلبوا أرزاقهم واستحقاقاتهم من الوزير، فقال: أنا كنت وزير الظّاهر لإعزاز دين الله وقد توفّى، وأنا أحمل إليكم جميع ما فى دارى. وأصبح حمل جميع ما فى داره إلى القصر، فغضب له الأتراك، وأعادوا ما أحضره إلى مكانه. وتقرّر اجتماعه يوم السّبت، فاجتمع الأتراك والدّيلم وعليهم السّلاح، وجاء الكتاميّون، فلما اجتمعوا بباب القصر خرج إليهم [أحد] «3» الخدم وقال: ليدخل من كلّ طائفة عشرة أنفس، فدخل جماعة، فقال لهم الوزير:

مولانا يقرئكم السّلام ويقول لكم: إذا كان مستهلّ شهر رمضان أمر بالنّفقة فيكم. فانصرفوا، وجلس قاضى القضاة عبد الحاكم يحلّف النّاس للمستنصر بالله. فلمّا استهلّ شهر رمضان أنفق فى الاشراف والكتاميّين والعرب والدّيلم وغيرهم لكلّ واحد منهم ثلث رزقه، فلم يرضوا بذلك. ودامت النّفقة إلى العشر الأوسط من شوّال فتحالف الكتاميون والأتراك أن يكونوا عصبة واحدة فى طلب واجباتهم. واجتمعوا بباب القصر، فخرج إليهم الأمير أن احضروا بكرة الغد، فحضروا، وركب المستنصر إلى أن بلغ باب البحر «1» ، فرموه بالحجارة وصاحوا عليه، ورماه أحد العبيد بحربة فلم يصبه، فرمى نفسه عن دابّته ودخل من باب البحر إلى القصر. وانصرف النّاس، وعادوا بكرة نهار الغد، فدخل من كلّ طائفة مائة نفر، ووقع كلام كثير، وتقرّر فى آخر الأمر أن يحضروا [63] البغاة منهم، وخرجوا على مثل ذلك؛ ثم عادوا بعد ذلك وتنصّلوا من ذنوبهم. وسكّن الوزير جميع الطّوائف، واختلف بنو قرّة مع كتامة بالجيزة، فأخرج الوزير عسكرا فأصلح بينهم، واستقرّت الأمور. وركب المستنصر فى مستهلّ المحرّم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة من باب العيد «2» إلى باب الذّهب «3» ؛ ومشى النّاس كافّة بين يديه، والوزير راكب

ذكر عود حلب إلى ملك ملك الديار المصرية

خلفه. وتفرّق النّاس، ودخل الوزير إلى مكانه، فدخل عليه جماعة من الأتراك الصّغار وطلبوا أرزاقهم وأغلظوا له فى القول، وقصدوا قتله؛ فدخل بعض الأمراء الكبار فخلّصه منهم. ذكر عود حلب إلى ملك ملك الدّيار المصرية وفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة ملكت حلب على يد أمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى أمير الشام، وذلك بعد أن التقى هو ونصر بن صالح بن مرداس، صاحب حلب، يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة فانهزم عسكر ابن صالح. ثمّ كانت وقعة ثانية، فانهزم ثمال بن صالح وأخوه نصر، فبادر ثمال بدخول البلد، وأخذ من قلعة حلب أموالا وتحفا، واستخلف بها عمّه مقلّد بن كامل بن مرداس، وسار يستنجد بأخواله بنى خفاجة «1» ، فثار العوامّ ونهبوا حلب. ووافى طغان، أحد الأمراء الّذين مع أمير الجيوش، فدخل حلب بموافقة من أهلها. ثمّ وصل أنوشتكين الدّزبرى إليها فى يوم الثّلاثاء لثمان خلون من شهر رمضان، وأقام بها إلى آخر السّنة، ورجع إلى دمشق فى تاسع عشرى «2» الحجّة منها. ذكر الوحشة الواقعة بين الوزير أبى القاسم الجرجرائى وأمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى قال المؤرخ: كان ابتداء الوحشة بينهما فى سنة ثلاثين وأربعمائة. وسبب ذلك أن شبيب بن وثّاب النّميرى صاحب الجزيرة توفّى، فقصد أمير

ذكر ظهور سكين المشبه بالحاكم وقتله

الجيوش [أنوشتكين] أن يزوّج ابنته لولد أبى نصر أحمد بن مروان ليكون له عونا على بنى نمير أصحاب الجزيرة؛ وكتب أمير الجيوش إلى مصر يستدعى ابنته، فلم يطلقها الوزير ولا رأى إتمام الزّواج لانضمام ابن مروان إلى الدّولة العبّاسية وتظاهره بموالاتها. وكتب لولاة الشام ألّا يمتثلوا أمر أمير الجيوش. فوقعت الوحشة بينهما، وأطلق أمير الجيوش لسانه فى الوزير، وسبّه. ودامت الوحشة إلى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، فصرفه الوزير عن دمشق، واستعمل عليها ناصر الدّولة الحسن بن الحسين بن حمدان. فلمّا علم بذلك أهل دمشق تنكّروا على أميرهم، وحاصروه بقصره ظاهر دمشق، فى سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين، فهرب إلى حلب، وقاسى مشقّة عظيمة فى طريقه، ونهبت أمواله. فلمّا دخل حلب أقام بها ثلاثة أيّام ومرض، فتوفّى يوم الأحد النّصف من جمادى الأولى، ووصل سجلّ إلى ثمال بن صالح بن مرداس بولاية حلب، وذلك قبل وفاة أنوشتكين أمير الجيوش. ذكر ظهور سكين المشبه بالحاكم وقتله وفى شهر رجب سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقاهرة رجل يسمى سكين «1» يشبه الحاكم وكان بمصر أقوام يعتقدون أنّ الحاكم حىّ وأنّه غاب لرأى رآه. وهذه الطّائفة باقية إلى وقتنا هذا، ويحلفون فيما بينهم فيقولون: وحقّ غيبة الحاكم، إلّا أنّهم لا يتظاهرون بذلك لكلّ حد. قال: فلمّا كان فى هذه السّنة ظهر هذا الرّجل، فاجتمع عليه القائلون بغيبة الحاكم

ذكر وفاة الوزير صفى الدين أبى القاسم أحمد بن على الجرجرائى وشىء من أخباره

وزفّوه إلى القصر، وأدخلوه إيّاه، وقد دهش النّاس، فأدّى الأمر إلى أن حاربهم أولياء الدّولة، وركب الوزير، فأخذوا جميعا وصلبوا أحياء، ورشقوا بالسّهام حتى هلكوا. ذكر وفاة الوزير صفىّ الدّين أبى القاسم أحمد بن على الجرجرائى وشىء من أخباره كانت وفاته لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ستّ وثلاثين وأربعمائة، [64] وأوصى أن يدفن فى داره فى المكان الّذى كان يجلس فيه؛ فأخرج وصلّى عليه المستنصر فى الإيوان، وأعيد إلى داره فدفن بها، ثمّ نقل إلى تربته بالقرافة. وكانت وزارته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما. وهذه النسبة إلى جرجرايا، قرية من قرى العراق. قدم إلى مصر هو وأخوه أبو عبد الله محمد، فتنقلت به الحال إلى أن خدم فى الصّعيد، فكثرت فيه المرافعات فى أيام الحاكم، فاعتقله فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعمائة، ثم أمر بقطع يده، فأخرج اليسار عوضا عن اليمين فقطعت؛ فقيل ذلك للحاكم فقال: إنما أنا أمرت بقطع يمينه؛ وأمر بقطع اليمين، فقطعت على باب القصر المعروف بباب البحر، وهو الباب الّذى مقابل دار الحديث الكاملية «1» فى وقتنا هذا. وكان قطّعهما فى ثامن عشر شهر ربيع الآخر منها.

قال: ولما قطع الحاكم يديه مضى من وقته وجلس فى ديوانه، فقيل له فى ذلك، فقال: إنّ أمير المؤمنين أدّبنى وما صرفنى. فبلغ الحاكم ذلك، فأمر باستمراره. ثمّ صرفه وولّاه ديوان النفقات «1» فى سنة ستّ وأربعمائة، ثم رتّب أن يكون واسطة فى نظر الدّواوين مع أبى عبيد الله محمد بن العدّاس، فى سنة ثنتى عشرة وأربعمائة. ثم وزر للظّاهر لإعزار دين الله فى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، فاستكتب أبا الفرج البابلى وأبا علىّ الرّئيس. وكان القاضى أبو عبد الله القضاعى صاحب كتاب الشّهاب يكتب عنه العلامة «2» وهى: «الحمد لله شكرا لنعمه» . وكانت أيامه تسمى الأعراس لطيبها. وضبط الأمور أحسن ضبط واستعمل الأمانة التامة، وتمكن فى الدّولة الظّاهرية، على ما قدّمناه. قال: وهجاه جماعة من الشعراء. فمن ذلك قول أبى الحسن علىّ بن عبد العزيز الجلبى المعروف بالفكيك ويعرف بجاسوس الفلك: يا جرجرائىّ اتئد ... وارفق، ودع عنك التّحامق أزعمت أنك فى الثّقا ... ة، فهبك فيما قلت صادق أعلى الأمانة والتّقى ... قطعت يداك من المرافق! قال: ولمّا مات أوصى أن تفوّض الوزارة بعده لأبى نصر صدقة «3» بن

ذكر مقتل أبى سعيد التسترى وعزل الوزير وقتله ووزارة ابن الجرجرائى

أبى الفضل يوسف ابن على الفلاحىّ، فخلع عليه خلع الوزارة. وكان يهوديّا، ولقّب بالوزير الأجلّ تاج الرئاسة فخر الملك مصطفى أمير المؤمنين، ثمّ أسلم بعد الوزارة. ذكر مقتل أبى سعيد التّسترى وعزل الوزير وقتله ووزارة ابن الجرجرائى وفى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة قتل أبو سعيد «1» التّسترى اليهودىّ، وكان يتولّى ديوان والدة المستنصر. وذلك أنها كانت جاريته، فأخذها منه الظّاهر واستولدها فولدت المستنصر بالله. فلمّا أفضت الخلافة إلى ولدها فوّضت إليه أمر ديوانها، فعظم أمره وانبسطت كلمته بعد وفاة الجرجرائى الوزير حتّى لم يبق للوزير الفلاحىّ معه إلا اسم الوزارة، فدبّر الفلاحى فى قتله فقتل. وقيل بل كان السّبب فى قتله أنّ عزيز الدّولة ريحان الخادم كان قد خرج فى هذه السنة إلى بنى قرّة، عرب البحيرة، لما أفسدوا فى البلاد، فظفر بهم وقتل منهم. وعاد إلى القاهرة وقد عظم قدره وزاد إدلاله، فثقل أمره على أبى سعيد. واستمال المغاربة وزاد فى أرزاقهم ونقص من أرزاق الأتراك ومن ينضاف إليهم. فجرى بين الطّائفتين حرب بباب زويلة.

ومرض إثر ذلك عزيز الدّولة ومات فاتّهم أبو سعيد أنّه سمّه. فلما كان فى يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأولى ركب أبو سعيد من داره فى موكب عظيم وتوجّه إلى القصر على عادته، فاعترضه ثلاثة من الغلمان الأتراك واختلطوا فى الموكب وقتلوه. فاجتمعت الطّوائف إلى المستنصر بالله وقالوا: نحن قتلناه. وقطّع لحمه، فاشترى أهله ما وصلوا إليه من أعضائه، وأحرق ما بقى، وضمّ أهله ما اشتروه منه فى تابوت وغطّوه بستر، وأوقدوا أمام التابوت الشموع ووضعوه فى بيت مفرد. وزرّوا البيت بالسّتور، فوصل لهب النّار إلى بعض السّتور فاحترق، وقويت النّار فأحرقت التّابوت بما فيه. قال: وكان التّسترى قد زاد أذاه فى حقّ المسلمين حتى كانوا يحلفون: وحقّ النّعمة على بنى إسرائيل. ولما قتل ولى مكانه فى نظر ديوان والدة المستنصر بالله أبو محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن اليازورى. وحقدت والدة المستنصر بالله [65] على الوزير الفلاحىّ وتحقّقت أنّه تسبّب فى قتله، فقبضت عليه وصرفته عن الوزارة فى هذه السّنة، واعتقلته بخزانة البنود «1» ؛ ثم قتل بعد ذلك «أبو منصور صدقة» «2» ودفن بخزانة البنود، وذلك فى سنة أربعين وأربعمائة.

ووالد هذا الوزير هو أبو الفضل يوسف بن على الذى هجاه الواسانى «1» بقصيدته المشهورة التى أولها: يا أهل جيرون هل لسامركم ... إذا استقلّت كواكب الحمل وقد أوردنا أكثر هذه القصيدة فى الباب الثانى من القسم الثّالث من الفنّ «2» الثانى. ولمّا قبض عليه ولى الوزارة أبو البركات الحسين «3» بن محمد بن أحمد الجرجرائى، ابن أخى الوزير صفىّ الدّين. وفى سنة أربعين وأربعمائة صرف ناصر الدّولة الحسن «4» بن حمدان عن ولاية دمشق، وأحضر تحت الحوطة وولى مكانه القائد طارق، ثمّ أطلق ابن حمدان فى سنة إحدى وأربعين. وفى سنة إحدى وأربعين صرف أبو البركات الحسين بن الجرجرائى عن الوزارة ونفى إلى صور واعتقل بها، ثم أطلق، فسار إلى دمشق. ونظر فى الدّواوين بعده عميد الدّولة أبو الفضل «5» صاعد بن مسعود. ثم فوضت

الوزارة لأبى محمد الحسين «1» بن على بن عبد الرحمن اليازورى. وفى سنة ثلاث وأربعين أظهر المعزّ» بن باديس الصّنهاجى، صاحب إفريقية، الخلاف على المستنصر بالله؛ وقد ذكرنا سبب ذلك فى أخبار ملوك إفريقية «3» . وكتب المعزّ إلى بغداد، فأجيب عن رسالته على لسان رسول من بغداد، يعرف بأبى غالب الشّيرازى، وسيّر إليه صحبته عهدا بالولاية ولواء أسود وخلعة فاجتاز أبو غالب ببلاد الرّوم فقبض عليه صاحب القسطنطينية «4» وبعثه إلى المستنصر بالله؛ فقدم الرّسول إلى مصر وهو مجرّس «5» على جمل، وحفر بين القصرين حفيرة، وحرق فيها العهد والخلع واللّواء. وفيها فى ذى القعدة عصى بنو قرّة، عرب البحيرة، على المستنصر بالله. وكان سبب ذلك أنّ الوزير اليازورى قدّم عليهم رجلا يقال له المقرّب، فنفروا منه واستعفوا منه، فلم يجب الوزير سؤالهم؛ ثم دخلوا على الوزير وطالبوه بواجباتهم، وأغلظوا له فى القول، فتوعّدهم باستئصال شأفتهم. ففارقوه وأظهروا العصيان، واجتمعوا بالجيزة فى جمع كثير؛ فندب الوزير

عسكرا لقتالهم فكسروه، فندب عسكرا ثانيا فهزمهم وقتل منهم قتلى كثيرة. وحمل إلى الخزانة المستنصرية من أموالهم جملة عظيمة، فهربوا إلى برقة. وفى سنة ثمان وأربعين بعث المستنصر بالله ووزيره اليازورى خزائن الأموال إلى أبى الحارث «1» أرسلان البساسيرى ليقيم الدّعوة المستنصريّة ببغداد واستنفد ما كان بالقصر من الأموال. وكان من أمر البساسيرى وقيامه، والخطبة للمستنصر هذا ببغداد، ما قدّمناه فى أخبار الدّولة العباسية «2» ولمّا خطب للمستنصر ببغداد فى سنة خمسين وأربعمائة، ورد الخبر إلى مصر بذلك فزيّنت القاهرة. وكان عند المستنصر مغنّية تغنى بالطّبل «3» ، فدخلت عليه وغنّته فى ذلك اليوم: يا بنى العبّاس ردّوا «4» ... ملك الأمر معدّ ملككم ملك معار «5» ... والعوارى تستردّ

ذكر القبض على الوزير أبى محمد الحسن بن على ابن عبد الرحمن اليازورى وقتله وشىء من أخباره

فقال لها: تمنّى. فقالت: أتمنى الأرض المجاورة للمقسم. فقال: هى لك. فعرفت الأرض بأرض الطبّالة «1» إلى وقتنا هذا. ذكر القبض على الوزير أبى محمد الحسن «2» بن على ابن عبد الرّحمن اليازورى وقتله وشىء من أخباره وفى المحرّم سنة خمسين وأربعمائة سعى بالوزير المذكور عند المستنصر بالله أنّه كاتب السّلطان طغرلبك السّلجوقى وحسّن له قصد الدّيار المصريّة، فقبض عليه وجهّزه إلى تنّيس، ثم أمر بقتله، فقتل فى الثانى والعشرين من صفر «3» منها. وكان من أكابر وزراء ملوك هذه الدّولة. قال المؤرخ: كان والد اليازورى قاضى يازور، وهى قرية من أعمال الرّملة، فلمّا توفّى خلفه ولده الحسين المذكور، ثمّ عزل عنها، فقدم مصر وسعى فى إعادته لحكم يازور، فرأى من قاضى مصر اطّراحا لجانبه، فصحب رفق المستنصرىّ- وكان خصيصا بوالدة المستنصر، فكلّم القاضى فى أن يسمع قوله بمصر ففعل. فلمّا قتل أبو سعيد التّسترى أشار رفق على [66] والدة المستنصر أن يكون اليازورى وزيرها، فرتّبته فى وزارتها، فخافه الوزير أبو البركات الجرجرائى أن يلى الوزارة، فسعى له فى الحكم

ليشغله عن الوزارة، فامتنع اليازورى من ذلك، فأشارت عليه والدة المستنصر بقبول الولاية فقبل. ولم تمض إلّا مدّة يسيرة حتى صرف ابن الجرجرائى عن الوزارة وفوّضت الوزارة إلى اليازورى «1» مضافة لما بيده من قضاء القضاة وديوان والدة المستنصر بالله. قال القاضى أبو الحسين أحمد الأسوانى فى تاريخه: حدّثنى القاضى إبراهيم ابن مسلم الفوّى قال: شهدت خطير الملك، ولد «2» اليازورى الوزير، وكان قد ناب عن والده فى قضاء القضاة والوزارة وغير ذلك، وسار إلى الشام بعساكر عظيمة فأصلح أمره. ورأيته بعد ذلك بمسجد فوّة «3» وهو يخيط للنّاس بالأجرة وهو فى حال شديدة من الفقر والحاجة، فرأيته ذات يوم وهو يطالب رجلا بأجرة خياطة خاطها له، والرّجل يدافعه ويماطله، وهو يلحّ فى الطلب. فلمّا ألح عليه قال له الرجل: يا سيّدنا، اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك فى السّفرة الشامية. فقال: دع ذكر ما مضى. فسألته عن ذلك فلم يحدّثنى بشىء، وسألت غيره فقال: الذى ذهب منه فى سفرته فى نفقات سماطه ستّة عشر ألف دينار. قال المؤرخ: وكان اليازورى سيئ التّدبير، أوجب سوء تدبيره خروج إفريقية وحلب عن المستنصر بالله.

قال: ولما قبض على اليازورى ولى الوزارة بعده صاحبه أبو الفرج عبد الله «1» بن محمد البابلى، وكان خصيصا به، فلما ولى الوزارة بعده سعى فى قتله كلّ السّعى، ويقال إنّه جهّز إليه من قتله بغير أمر المستنصر، فلما اطّلع على ذلك عظم عليه. وعزل البابلى فى شهر ربيع الأوّل منها. واستوزر أبا الفرج محمد «2» بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين المغربى، ثم صرفه فى شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأعيد البابلى. وفى سنة خمسين وأربعمائة استعمل ناصر الدّولة بن حمدان على ولاية دمشق. وفى سنة ثلاث وخمسين، فى المحرّم، صرف البابلىّ عن الوزارة ووليها عبد الله «3» بن يحيى بن المدبّر، ثم صرف فى بقية السنة وولى أبو محمد عبد الكريم «4» بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقىّ فى شهر رمضان من السنة؛ فقال أبو الحسن على بن يسر الرحمن بن بشر الصقلى يخاطب ابن المدبر: لا تجزعنّ عن الأمور إذا التوت ... وابشر بلطف مسبّب الأسباب ما كنت إلّا السّيف، جرّد ماضيا ... وأقرّ مذخورا ليوم ضراب لله سيرتك الّتى ما سرتها ... إلا بأقوم سنّة وكتاب شيّدت للوزراء يا ابن مدبّر ... شرفا لهم يبقى على الأعقاب وجمعت بين طهارة الأعراق، وال ... أخلاق، والأفعال، والأثواب

ذكر الفتنة الواقعة التى أوجبت خراب الديار المصرية

جعل الإله لكلّ قوم سادة ... وبنو المدبّر سادة الكتّاب وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة فى المحرم توفّى الوزير أبو محمد عبد الكريم، فردّت الوزارة إلى أخيه أبى على أحمد «1» بن عبد الحاكم، وكان يلى قضاء القضاة؛ وصرف عن الحكم فى صفر، ثم صرف عن الوزارة، وقيل إنه صرف عنها بعد سبعة عشر يوما من ولايته. وأعيد البابلى مرة ثالثة فى شهر ربيع الأول من السنة، واستعفى بعد خمسة أشهر، فاستوزر المستنصر سديد الدّولة أبا عبد الله الحسين «2» بن على الماسكى، وكان يلى نظر الدّواوين بدمشق، ثم صرف فى شوال وأعيد البابلىّ. ذكر الفتنة الواقعة التى أوجبت خراب الديار المصرية كان ابتداء هذه الفتنة فى سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وسببها أنّ المستنصر بالله كان فى كلّ سنة يركب على النّجب ومعه النّساء والخمر «3» إلى المكان المعروف بجبّ عميرة «4» ، وهو موضع نزهة. ويذكر أنّه خرج يريد

الحجّ، على سبيل الاستهزاء والتهكّم، ومعه الخمر فى الرّوايا بدلا عن الماء، يسقيه للنّاس كما يسقى الماء فى طريق مكّة [67] ، شرّفها الله تعالى. فلمّا كان فى هذه السّنة خرج على عادته فى جمادى الآخرة؛ فاتّفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا على سكر منه على بعض عبيد الشّراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه، فجاء الاتراك إلى المستنصر وقالوا: إن كان هذا عن رضاك فالسّمع والطاعة، وإنّ كان عن غير رضاك فلا نصبر عليه. فأنكر المستنصر ذلك؛ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد قتال شديد على كوم شريك «1» . وكانت والدة المستنصر تعين العبيد بالأموال والسّلاح، فاطّلع بعض الأتراك على ذلك، فجمع طائفة كثيرة من الأتراك ودخل على المستنصر بهم، وأغلظوا له فى الكلام؛ فحلف أنّه لم يكن عنده علم من ذلك. ودخل على والدته وأنكر عليها؛ وصار السّيف بين الطّائفتين. ثمّ سعى أبو الفرج بن المغربى، الّذى كان يلى الوزارة، وجماعة معه، فى الصّلح بين الطّائفتين، فاصطلحوا؛ ولم تصف طائفة منهم للأخرى. ثمّ اجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرا دمنهور «2» فى جمع كثير. وكان سبب كسرتهم أنّ والدة المستنصر لمّا قتل سيدها ووزيرها أبو سعيد التّسترى اليهودىّ غضبت لقتله، وشرعت فى شراء العبيد السّودان واستكثرت منهم، وجعلتهم طائفة لها؛ فاشتدّ أمرهم إلى أن صار العبد منهم يحكم

حكم الولاة. فلمّا ولى أبو البركات بن الجرجرائى أمرته أن يغرى العبيد بالأتراك، فخاف العاقبة فلم يفعل؛ فصرفته وولّت وزيرها اليازورى وأمرته بذلك، فلم يقبل منها، ودبّر الأمر وساسه إلى أن قتل. ووزر البابلىّ فأمرته بذلك، ففعل، ووقع بين الطائفتين. قال: فلمّا خرج العبيد إلى شبرا دمنهور قويت شوكة الأتراك وطلبوا الزّيادات فى أرزاقهم إلى أن خلت الخزائن من الأموال وضعفت الدّولة، والعبيد على حال من الضرورة وهم يتزايدون عدّة، فتكامل منهم ما بين فارس وراجل خمسون ألفا. فبعثت والدة المستنصر لقوّاد العبيد، فى سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وأغرتهم بالأتراك؛ فاجتمعوا ووصلوا إلى الجيزة، فخرج الأتراك لقتالهم، والمقدّم عليهم ناصر الدّولة الحسن «1» بن حمدان، فلقيهم فكسره العبيد ونهبوا عسكره، واشتغلوا بالنّهب، فعطف عليهم ابن حمدان وهزمهم إلى الصّعيد، وعاد إلى القاهرة وقد قويت شوكته. ثمّ تجمّع العبيد فى الصّعيد فى خمسة عشر ألف فارس وراجل، فقلق الأتراك لذلك قلقا شديدا، وحضر المقدّمون إلى المستنصر ليشكوا ذلك إليه، فأمرت والدته من عندها من العبيد والخدم بالهجوم عليهم «2» وقتل الأتراك، ففعلوا ذلك. وسمع ناصر الدّولة ابن حمدان بالخبر، فركب إلى ظاهر القاهرة واجتمع إليه من بقى من الأتراك ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد المقيمين بمصر والقاهرة، ودامت بين الفريقين أيّاما. فانتصر ناصر

ذكر الوحشة الواقعة بين ناصر الدولة والأتراك

الدّولة والأتراك على العبيد، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة؛ ولم يبق منهم بالقاهرة ومصر إلّا القليل. وبقى العبيد المقيمون بالصّعيد على حالهم. وكان بالإسكندريّة منهم جماعة. فسار ناصر الدّولة إليهم، فسألوا الأمان، فأمّنهم؛ ورتّب بالإسكندرية من يثق به. وانقضت سنة تسع وخمسين فى حربهم. وقويت شوكة الأتراك فى سنة ستين وأربعمائة، وطمعوا فى المستنصر بالله، وقلّ ناموسه عندهم. وكان مقرّرهم فى كلّ شهر ثمانية وعشرين ألف دينار، فصار فى كلّ شهر أربعمائة ألف دينار. وطالبوا المستنصر بالأموال، فاعتذر أنّه لم يبق عنده شىء منها؛ فطالبوه بذخائره فأخرجها إليهم، وقوّمت بأنجس الأثمان. وخرج ناصر الدّولة بن حمدان فى جماعة من الأتراك إلى الصّعيد لقتال من فيه من العبيد، وكان قد كثر فسادهم، فالتقوا واقتتلوا، فكانت الهزيمة على ناصر الدّولة والأتراك، فعادوا إلى الجيزة. فاجتمع على ناصر الدّولة من سلم من عسكره، وشغبوا على المستنصر بالله، واتّهموه أنه يمدّ العبيد بالنّفقات سرّا، فحلف لهم على ذلك. ثمّ خرج الأتراك إلى العبيد وقاتلوهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة ولم ينج منهم إلّا القليل. وزالت دولة العبيد، وعظم أمر ناصر الدّولة بن حمدان. ذكر الوحشة الواقعة بين ناصر الدّولة والأتراك وفى سنة إحدى وستين وأربعمائة ابتدأت الوحشة بين ناصر الدّولة بن حمدان وبين الأتراك. وسبب ذلك أنّ ناصر الدّولة قوى واشتدّت شوكته، وانفرد بالأمر دون قوّاد الأتراك، فعظم ذلك عليهم وفسدت نياتهم

[68] ، وشكوا ذلك إلى الوزير الخطير «1» ، وقالوا: كلّما خرج من الخزانة مال أخذ ناصر الدّولة أكثره وفرّقه فى حاشيته، ولا يصل إلينا منه إلّا القليل. فقال: ما «2» وصل إلى هذا الأمر وغيره إلا بكم، ولو فارقتموه لم يتمّ له أمر. فاتّفق أمرهم على محاربته وإخراجه من ديار مصر، فاجتمعوا وذكروا ذلك للمستنصر، وسألوه أن يخرجه عنهم؛ فأرسل إليه يأمره بالخروج ويتهدّده إن لم يفعل. ففارق ناصر الدّولة القاهرة وغدا إلى الجيزة، ونهبت دوره ودور حواشيه وأصحابه. فلمّا جاء الليل دخل ناصر الدّولة، واجتمع بالقائد تاج الملوك شادى، وقبّل رجليه. وسأله أن يعينه على إلدكز «3» والوزير الخطير. قال: وكيف الحيلة فى ذلك؟ قال: تركب أنت وأصحابك وتسير بين القصرين، فإذا أمكنتك الفرصة فاقتلهما. فأجابه إلى ذلك. وركب شادى من بكرة الغد للتسيير فعلم إلدكز بمراده، فهرب إلى القصر واستجار بالمستنصر فسلم. وأقبل الوزير فى موكبه فقتله شادى، وسيّر إلى ناصر الدّولة يأمره بالحضور؛ فعدّى من الجيزة إلى القاهرة. فأشار إلدكز على المستنصر بالرّكوب، وقال: متى لم تركب هلكت «4» وهلكنا معك. فلبس

سلاحه وركب، وتبعه خلق من عامّة النّاس والجند، واصطفّوا للقتال. فحملت الأتراك على ناصر الدّولة فانهزم، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ومضى لا يلوى على شىء وتبعه بعض أصحابه فالتحق ببنى سنبس بالبحيرة فأقام عندهم وصاهرهم، وتقوّى بهم. ولما تحقّق ناصر الدّولة ميل المستنصر عنه قصد إبطال دعوته، وكتب إلى السّلطان ألب «1» أرسلان السلجوقى «2» ملك خراسان والعراق يسأله أن يسيّر إليه عسكرا يفتح له مصر ويقيم الدّعوة العبّاسية بها. فتجهز ألب أرسلان من خراسان بعساكره، وكتب إلى صاحب حلب «3» يأمره بقطع دعوة المستنصر وإقامة الدّعوة العباسية، ففعل ذلك، وانقطعت دعوة المستنصر «4» من حلب؛ ثمّ ملكها ألب أرسلان؛ كما ذكرناه فى أخبار الدّولة السلجوقية «5» ؛ ثم ملكت عساكره دمشق «6» .

ذكر الحرب بين ناصر الدولة والأتراك

ذكر الحرب بين ناصر الدّولة والأتراك قال: ولما اتّصل بالمستنصر ما فعله ناصر الدّولة من مكاتبة ألب «1» أرسلان جرّد عسكرا لقتاله من الأتراك، فساروا ثلاث فرق. فأراد أحد المقدّمين أن يلقاه ليكون الظّفر له دون رفيقيه، فتقدّم والتقى بناصر الدّولة، فهزمه ناصر الدّولة وقتل جماعة من أصحابه وأسره. ثمّ التقى العسكر الثّانى ولم يعلموا بما جرى على الأوّل، فهزمهم أقبح هزيمة؛ وهرب العسكر الثّالث. وقوى ناصر الدّولة بهذا الظّفر، وقطع الميرة عن القاهرة ومصر، ونهب أكثر الوجه البحرى، وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط والوجه البحرى، وخطب للقائم بأمر الله «2» العبّاسى. وعدمت الأقوات بالقاهرة ومصر، واشتدّ الغلاء، وكثر الوباء، وامتدّت أيدى الجند إلى نهب العوامّ. ذكر الصّلح بين ناصر الدّولة والأتراك وفى المحرّم سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقع الصّلح بين ناصر الدّولة بن حمدان والأتراك. وسبب ذلك أنّ المستنصر بالله والأتراك اشتدّت بهم الضّائقة لقطع الميرة، فاضطرّوا إلى مصالحته، فصالحوه على أن يكون مقيما بمكانه ويحمل إليه مال قرّره المستنصر، ويكون تاج الملوك شادى نائبا عنه. فرضى بذلك وسيّر الغلال إلى مصر. ثمّ وقع الخلاف بينهم بعد شهور، فجاء

ذكر الحرب بين ناصر الدولة وتاج الملوك شادى وما كان من أمر ناصر الدولة إلى أن قتل

ناصر الدّولة من البحيرة، وعساكر كثيرة، وحاصر مصر فى ذى القعدة من السّنة، ودخل أصحابه فنهبوا شطرا منها، وأحرقوا دور السّاحل؛ ثم عادوا إلى البحيرة. والله أعلم «1» . ذكر الحرب بين ناصر الدّولة وتاج الملوك شادى وما كان من أمر ناصر الدّولة إلى أن قتل وفى سنة أربع وستّين وأربعمائة جمع ناصر الدّولة جموعه من العربان وجاء إلى الجيزة، واستدعى إليه تاج الملوك شادى وبعض المقدّمين، فخرجوا للقائه، فقبض عليهم ونهب مصر [69] وأحرقها. وكان سبب ذلك أنّ شادى كان قد قطع عن ناصر الدّولة ما كان قد تقرّر حمله إليه من المال، ولم يوصّل إليه إلّا اليسير منه. فلمّا قبض عليهم سيّر المستنصر إليه عسكرا كثيفا، فهزموه، فهرب إلى البحيرة وجمع جموعه من العربان وغيرهم، وقطع خطبة المستنصر وأبطل ذكره. ثم قدم ناصر الدّولة فى شعبان من السنة ودخل إلى مصر وحكم بها، وأرسل إلى المستنصر يطلب منه المال؛ فرآه الرّسول وهو جالس على حصير وحوله ثلاث خدم، ولم ير شيئا آخر من آثار المملكة. فلمّا ذكر الرّسول رسالته للمستنصر قال: ما يكفى ناصر الدّولة أن أجلس فى مثل هذا البيت على هذه الحال! فبكى الرّسول، وعاد إلى ناصر الدّولة وذكر له الحال؛ فأطلق ناصر الدّولة للمستنصر بالله فى كلّ شهر مائة دينار، وحكم فى القاهرة، وبالغ فى إهانة المستنصر، وقبض

على والدته وعاقبها، وأخذ منها الأموال. وتفرّق عن المستنصر جميع أقاربه وأولاده، ومضوا إلى بلاد المغرب والعراق «1» . وعمل ناصر الدّولة على إقامة الدّولة العبّاسية. فنهض إلدكز أحد الأمراء، ويلدكوز، واجتمعا بمن بقى من الأتراك، واتّفقوا كلّهم على قتل ناصر الدّولة، وكان قد أمن وترك الاحتراس لقوّته وسطوته، وظنّ أنّ الدّنيا صفت له. فتواعد الأتراك وركبوا إلى داره، فى شهر رجب سنة خمس وستين وأربعمائة، وهو إذ ذاك بمصر بمنازل العزّ «2» ، فدخلوا عليه من غير استئذان إلى أن بلغوا صحن الدّار، فخرج إليهم فى رداء، فقتلوه وأخذوا رأسه. وكان الّذى تولى قتله إلدكز، وقتل أخوه فخر العرب وأخوهما تاج المعالى وجماعة من أهل بيته. وانقطع ذكر آل حمدان، ولم يبق بمصر لهم ذكر «3» . وناصر الدّولة هذا هو الحسن بن الحسين بن ناصر الدّولة الحسن بن عبد الله بن أبى الهيجاء حمدان بن حمدون. نرجع إلى حوادث الدّولة المستنصريّة. وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة ندب أمير الجيوش بدر الجمالى لولاية دمشق على حربها «4» ، وفوّض إليه فى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ولاية

ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية

الشّام بأسرها «1» ذكر الغلاء الكائن بالدّيار المصريّة كان ابتداؤه فى سنة سبع وخمسين وأربعمائة واشتدّ من سنة إحدى وستّين، وقلّت الأقوات فى الأعمال حتّى أكل النّاس الميتة؛ وتزايد فى سنة اثنتين وستّين: وكثر الوباء بالقاهرة ومصر حتّى إنّ الواحد كان يموت فى البيت فيموت فى بقيّة اليوم أو اللّيلة كلّ من بقى فيه. وخرج من القاهرة ومصر جماعة كثيرة إلى الشّام والعراق؛ وأكل بعض النّاس بعضا. ودام ذلك إلى سنة أربع وستّين. وشبّهت هذه السّنين بسنى يوسف عليه السلام. قال ابن الهمذانى فى تاريخه «2» : وفى سنة اثنتين وستّين وأربعمائة ورد إلى بغداد من مصر الرّجال والنساء هربا من الجوع والفتنة، وأخبروا أنّ بعضهم أكل بعضا. وورد التّجار ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته وذخائره؛ وكان معهم أشياء كثيرة نهبت عند القبض على الطّائع، فى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة؛ وما نهب فى وقعة البساسيرى «3» . قال: وخرج من خزانة المستنصر بالله أشياء عظيمة، من جملتها ثلاثون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف ثوب ديباج خسروانى «4» ،

[70] ذكر قدوم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر واستيلائه على الدولة

وأحد عشر ألف «1» درع، وعشرون ألف سيف محلاة، وغير ذلك. قال المؤرخ: ومن جملة ما بلغ من أمر الغلاء أنّ امرأة كان لها حلى باعت ما يساوى ألف دينار بثلاثمائة دينار واشترت به حنطة، فنهبت منها فى الطّريق، فنهبت مع من نهب، فحصّل لها ما جاء رغيفا واحدا «2» . وحكى أنّ بعض أهل اليسار وقف بباب القصر وصاح واستصرخ إلى أن أحضر بين يدى المستنصر، فقال له: يا مولانا، هذه سبعون قمحة وقفت علىّ بسبعين دينارا، كلّ قمحة بدينار، فى أيامك؛ وهو أنى اشتريت أردبّ قمح بسبعين دينار، فنهب منّى فنهبت مع من مهب، فوقع فى يدى هذه؛ فكلّ قمحة بدينار. فقال المستنصر الآن فرّج الله عن النّاس فإنّ أيّامى حكم لها أنّ القمحة تباع بدينار «3» . قالوا: ولم يكن هذا الغلاء عن نقص النّيل، وإنّما كان لاختلاف الكلمة وحروب الأجناد، وتغلّب المتغلّبين على الأعمال. وكان النّيل يزيد ويهبط فى كلّ سنة، ولم يجد من يزرع الأراضى؛ وانقطعت الطّرقات برّا وبحرا إلّا بالخقارة الكثيرة، وأبيع الرّغيف الخبز بأربعة عشر دينارا أو درهما. قال الحوانى: وأبيع الأردبّ القمح بمائتى دينار. [70] ذكر قدوم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر واستيلائه على الدولة كان تقدّمه فى سنة ست وستّين وأربعمائة. وسبب ذلك أنّ المستنصر

تواترت «1» عليه الرّزايا وحصره ابن حمدان كما ذكرنا فلمّا قتل ابن حمدان استطال إلدكز والأتراك والوزير ابن أبى كدينة «2» ، فضاق المستنصر ذرعا، وكاتب أمير الجيوش بدر الجمالى «3» وحسّن له أن يكون المتولّى لأمر دولته، فأعاد الجواب واشترط أن يستخدم معه عسكرا، وألّا يبقى على أحد من عسكر مصر. فأجابه إلى ذلك. فاستخدم العساكر وركب فى البحر الملح، وكان إذ ذاك بعكّا. وسار فى مائة مركب فى أوّل كانون، وهو وقت لم تجر العادة بركوب البحر فى مثله، فوصل دمياط، وركب منها. وسار إلى أن نزل بظاهر قليوب. وأرسل إلى المستنصر بالله أن يقبض على إلدكز «4» ، فقبض عليه، ودخل أمير الجيوش إلى القاهرة فى شهر ربيع الآخر منها، وقيل فى جمادى الأولى. فما لبث أن بعث كل أمير من أمرائه إلى قائد من قوّاد الدّولة ليلا وأمره أن يأتيه برأسه؛ فأصبح وقد أحضر إليه من رءوس قوّاد الدّولة شىء كثير. وقبض على الأتراك وقويت شوكته، وقمع كلّ مفسد، حتى لم يبق أحد منهم بمصر والقاهرة. وخلع المستنصر «5» بالله على بدر الجمالى بالطّيلسان، وصار أمر المستخدمين فى حكمه، والدّعاة والقضاة نوّابه. قال: ولمّا قدم مصر حضر إليه المتصدّرون بالجامع، فقرأ ابن

ذكر هلاك عرب الصعيد وقتل كنز الدولة

العجمى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ» «1» وسكت عن تمام الآية. فقال له بدر: والله لقد جاءت فى مكانها، وسكوتك عن تمام الآية أحسن «2» ؛ وأحسن إليه. وقيل: بل قال له: لم لا قرأت «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» «3» . وقتل أمير الجيوش من أماثل المصريين ووزرائهم وحكامهم جماعة، وشرع فى إصلاح الأعمال وقتل المفسدين. وفى سنة ثمان وستّين وأربعمائة خطب للمستنصر بمكّة والمدينة، وكانت الخطبة بهما قد انقطعت منذ خمس «4» سنين. وفيها حاصر أتسيز «5» دمشق وملكها، على ما ذكرناه فى الباب العاشر من القسم الخامس من هذا الفنّ فى أخبار الدّولة السلجقية. وانقطعت خطبة المستنصر من الشّام. ذكر هلاك عرب الصعيد وقتل كنز الدولة وفى سنة تسع وستين وأربعمائة اجتمع جماعة كثيرة من عرب جهينة

والجعافرة والثعالبة وغيرهم بمدينة طوخ «1» العليا من صعيد مصر، واتّفقوا على قتال أمير الجيوش، فخرج إليهم. فلمّا قاربهم هجم عليهم فى نصف اللّيل، فهزمهم وأبادهم بالقتل، وغرق خلق كثير منهم، وغنم أموالهم وحملت إلى المستنصر. وكان كنز الدّولة «2» محمّد قد تغلّب على ثغر أسوان ونواحيها وعظم شأنه وكثرت أتباعه؛ فقاتله أمير الجيوش وقتله، وبنى فى المكان مسجدا سمّاه مسجد النّصر. وكانت هذه الوقعة آخر إصلاح حال مصر وعربانها. وقيل كان قتل كنز الدّولة فى سنة خمس وسبعين والله أعلم. وفى غيبة أمير الجيوش [هجم] » أتسيز على الدّيار المصريّة، وكان ابن يلدكوز قد التحق به وأهدى له تحفا جليلة المقدار، منها ستّون حبّة لؤلؤ مدحرج «4» تزيد كلّ حبة على مثقال، وحجر ياقوت زنته سبعة عشر مثقالا، وغير ذلك، وأطمعه فى ملك الدّيار المصريّة، وملك ما وصل إليه. فجمع أمير الجيوش عساكره وخرج إليه، وقاتله وهزمه، وقتل خلقا كثيرا من أصحابه بعد أن أقام بأرياف مصر جماديين وبعض شهر رجب «5»

ذكر بناء باب زويلة بالقاهرة

وفيها خرج على أمير الجيوش عرب قيس وسليم وفزارة، فخرج إليهم وقاتلهم، وهزمهم، وطردهم إلى برقة «1» . وفى سنة سبعين وأربعمائة فوّض لأمير الجيوش بدر الجمالى قضاء القضاة، ونعت بكافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين. وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة خالف الأوحد بن أمير الجيوش على والده، واجتمع معه جماعة من العربان وغيرهم، واستولى على الإسكندريّة. فسار إليه والده وحاصره بها، وفتحها، وقبض على ولده: وبنى أمير الجيوش الجامع المعروف بجامع العطّارين بالإسكندرية «2» من أموال أخذها من أهل البلد؛ وكانت عمارته فى شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين. وقامت الخطبة بهذا الجامع إلى آخر أيّام العاضد «3» . وفى سنة اثنتين وثمانين [71] وأربعمائة ندب أمير الجيوش بدر الجمالى عسكرا إلى السّاحل ففتح صور وصيدا، وصارا بيد نوّابه. ثم سار بعد ذلك وفتح جبيل وعكّا. وكان ذلك فى يد تاج الدولة تتش «4» صاحب دمشق. ذكر بناء باب زويلة بالقاهرة وفى سنة خمس وثمانين وأربعمائة أمر أمير الجيوش بدر الجمالى ببناء باب

ذكر وفاة أمير الجيوش بدر الجمالى وولاية ولده الأفضل

زويلة الكبير، الذى هو الآن باق، وعلّى أرضه «1» ، وأراد أن يجعل له عطفة على عادة أبواب الحصون حتّى لا تهجم عليه العساكر فى أوقات الحصار، ويتعذّر دخولها جملة؛ فأشار عليه بعض المهندسين أن يعمل فى بابه زلّاقة من حجارة الصّوّان، فعمله على هذا الحكم. ولم يزل كذلك إلى أن دخل منه السّلطان الملك الكامل «2» بن الملك العادل، فزلق فرسه، فرسم أن يخفّف من حجارته، فخفّف منها، ولم يبق إلّا القليل على ما هو عليه الآن «3» . وفى سنة ستّ وثمانين وأربعمائة ملك تاج الدّولة تتش ثغر صور بمواطأة من نائب بدر بها. ذكر وفاة أمير الجيوش بدر الجمالى وولاية ولده الأفضل كانت وفاته فى شهر ربيع الأول «4» ، وقيل فى جمادى الأول، سنة سبع وثمانين «5» وأربعمائة. وكان حكمه بديار مصر حكم الملوك ولم يبق للمستنصر بالله أمر، بل سلّم الأمور إليه فضبطها أحسن ضبط. وكان شديد الهيبة،

ذكر وفاة المستنصر بالله وشىء من أخباره

سريع البطش؛ قتل خلقا كثيرا من أكابر المصريّين وقوّادهم وكتّابهم؛ وعلى يديه صلحت الدّيار المصريّة بعد أن خربت. وكان له نحو الثّمانين سنة. وكان أرمنىّ الجنس مملوكا لجمالىّ الدّولة بن عمار وإليه ينسب. وتولّى إمرة الشّام والسّاحل. ولما كان يلى دمشق جرت فتنة من عسكره وأحداث البلد خرب بسببها قصر الإمارة والجامع الأموى. ذكر وفاة المستنصر بالله وشىء من أخباره قال المؤرخ: ولمّا ولى مصر أطلق الخراج للمزارعين ثلاث سنين إلى أن تمّت أحوالهم واتّسعت أموالهم. وكانت إمارته بمصر إحدى وعشرين سنة. ولمّا توفى ولى بعده الوزارة ولده الأفضل، ونعت بنعوت أبيه، وقبض على جماعة من الأمراء كانوا قد ثاروا عليه. كانت وفاته فى ليلة الخميس الثامن عشر من ذى الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، ومولده فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، فكانت مدّة حياته سبعا وستين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام، ومدة ولايته ستّين سنة وأربعة أشهر. ولقى فى ولايته أهوالا عظيمة وشدائد كثيرة وفاقة متمكّنة حتى جلس على نخّ «1» وكانت أيّامه ما بين غلاء ووباء وفتن، على ما نذكره. وكان قد عتا وتجبّر واشتهر، وذلك أنه اشتهر عنه أنه نصب خركاه فى القصور التى بعين

شمس وبنى فسقيّة عظيمة وحمل إليها الخمر فى الرّوايا وأخرج جميع من فى قصره من الملاهى والقيان إلى الخركاة وهم يغنون بأصوات مرتفعة ويستقون من فسقيّة الخمر، ويطوفون بالخركاة، يضاهون بذلك البيت المعظّم وزمزم، ويقول: هذا أطيب من زيارة حجارة، وسماع صوت كريه، وشرب ماء آسن. فآخذه الله تعالى وعجّل العقوبة، وأراه الذّلّ مع قيام سلطانه، وسلّط عليه أنصار دولته حتّى نهبوا أمواله واستولوا على قصره، ولم يبق له إلّا بساط فجذبوه من تحته. وصار إذا ركب لا يجد ما يركبه حامل مظلّته إلّا أن يستعار له بغلة ابن هبة، صاحب ديوان الإنشّاء، وكلّ خواصّه مشاة ليس لهم دواب يركبونها؛ وكانوا إذا مشوا يتساقطون فى الطّرفات من الجوع. وكانت ابنة بابشاذ تبعث إليه برغيفين فى كلّ يوم «1» . وهذه عاقبة الطغيان والاستهتار. وكان له أولاد منهم: أبو القاسم أحمد، وأبو المنصور نزار، وأبو القاسم محمد، وأبو الحسين جعفر «2» ، وغيرهم. ووزر له جماعة «3» وهم: أبو القاسم الجرجرائى الأقطع، وزير والده، إلى أن توفّى، فاستوزر من ذكرناهم [72] إلى آخر سنة أربع وخمسين. وتكرّر بعضهم فى الوزارة مرارا واستوزر ابا غالب عبد الظّاهر بن فضل العجمى غير مرّة، دفعة فى جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وصرف بعد

ثلاثة أشهر، ودفعة فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ وخمسين وصرف بعد ثلاثة وأربعين يوما، ثم وليها ثالثة فى أيام الفتنة ولقّب تاج الملوك شادى، وقتل فى سنة خمس وستين. وولى له الحسن بن ثقة الدولة بن أبى كدينة القضاء والوزارة، كلّ منصب منها خمس دفعات، ويقال إنه من ولد عبد الرحمن ابن ملجم قاتل على بن أبى طالب رضى الله عنه. ولمّا وصل أمير الجيوش بدر الجمالى أرسله إلى دمياط وأمر بضرب عنقه، فدخل عليه السيّاف بسيف كليل «1» فضربه عدّة ضربات حتى أبان رأسه، وكان عدّة ما ضربه عدّة ولاياته الحكم والوزارة. وولى أبو المكارم أسعد ثم قتله أمير الجيوش، ووزر بعده أبو على الحسن بن أبى سعد إبراهيم بن سهل التّسترى عشرة أيام ثم استعفى، وكان يهوديا فأسلم، وولى أبو القاسم هبة الله محمد الرعبانى دفعتين كلّ دفعة عشرة أيام. ووزر الأثير أبو الحسن بن الأنبارى أياما وصرف، ووزر أبو على الحسين بن سديد الدولة الماسكى مرة ثانية أيّاما ثم صرف، ووزر أبو شجاع محمد بن الأشرف بن فخر الملك، وفخر الملك هو الذى وزر لبهاء الدولة ابن بويه، فصرف وسار إلى الشّام فقتله أمير الجيوش فى مسيره. واستوزر أبا الحسن طاهر ابن الوزير الطرابلسى، من طرابلس الشّام، ثم صرفه، وكان أحد الكتّاب بديوان الإنشاء، واستوزر أبا عبد الله محمد بن أبى حامد السيسى يوما واحدا ثم قتل، فاستوزر أبا سعد منصور بن أبى اليمن سورس بن مكرواه بن زنبور. وكان نصرانيّا ثم أسلم، والنصارى ينكرون إسلامه. واستوزر أبا العلاء عبد الغنى بن نصر بن سعيد وصرف وبقى أيّاما وقتله أمير الجيوش. ثم قدم أمير الجيوش بدر الجمالى من عكا ووزر

ذكر بيعة المستعلى بالله

للسّيف والقلم والحكم إلى أن مات، ثم ولده الأفضل بعده «1» . قضاته: كان منهم جماعة من الوزراء قد ذكرناهم، ومن لم يل الوزارة عبد الحاكم بن سعيد الفارقى فى أوّل خلافته، ثم القاسم بن عبد العزيز بن النعمان. وفى ولاية أمير الجيوش أبو يعلى العرقى إلى أن مات، فولى أبو الفضل القضاعى. ثم جلال الدّولة أبو القاسم على بن أحمد بن عمار، ثم صرفه وولّى أبا الفضل بن عتيق، ثم أبا الحسن على بن يوسف الكحال النابلسى؛ ثم فخر الأحكام محمد بن عبد الحاكم «2» . وكان نقش خاتم المستنصر بالله «بنصر السّميع العليم ينتصر الإمام أبو تميم» «3» ذكر بيعة المستعلى بالله هو أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبى تميم معدّ، وهو التّاسع من ملوك الدّولة العبيديّة، والسادس من ملوك مصر منهم. بويع له فى بكرة نهار الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وذلك أن المستنصر بالله لما توفى بادر الأفضل أمير الجيوش بدخول القصر وأجلسه على تخت المملكة، وسيّر إلى إخوته نزار وعبد الله وإسماعيل،

وأعلمهم بوفاة أبيهم، وأمرهم بسرعة الحضور. فلمّا حضروا شاهدوا أخاهم الصّغير وقد جلس على سرير الخلافة، فامتعضوا من ذلك، فقال لهم الأفضل: تقدّموا وقبّلوا الأرض لله تعالى ولمولانا المستعلى بالله وبايعوه، فهو الذى نصّ عليه الإمام المستنصر بالله قبل وفاته بالخلافة من بعده. فقال نزار: لو قطّعت ما بايعت من هو أصغر منّى سنّا، وخطّ والدى عندى بولاية العهد، وأنا أحضره. وخرج مسرعا ليحضر الخطّ فمضى إلى الإسكندريّة، فسيّر الأفضل خلفه من يحضره، فلم يعلم أحد أين توجّه ولا كيف سلك، فانزعج الأفضل «1» لذلك. وقيل إنّه لمّا توفى المستنصر بالله جلس بعده ولده أبو منصور نزار، وهو ولىّ العهد وأراد أخذ البيعة لنفسه فامتنع الأفضل أمير الجيوش من ذلك لكراهته فيه «2» واجتمع بجماعة الأمراء والخواصّ وقال لهم: إن هذا كبير السّن ولا نأمنه على نفوسنا، والمصلحة أن نبايع لأخيه الصغير أبى القاسم أحمد. فوافقوه على ذلك إلا محمود بن مصال اللكى «3» ، فإن نزارا كان قد وعده بالوزارة والتّقدمة على الجيوش مكان الأفضل. فلمّا علم ابن مصال الحال أطلع نزارا عليه. وبادر الأفضل وبايع أحمد الخلافة، ونعته بالمستعلى بالله وأجلسه على

ذكر ما اتفق لنزار ومن معه

سرير الملك، [73] وجلس الأفضل على دكّة الوزارة. وحضر قاضى القضاة نصر الإمام على بن الكحال ومعه الشّهود، وأخذ البيعة على مقدّمى الدّولة ورؤسائها وأعيانها، ثم مضى إلى إسماعيل وعبد الله، وهما بالقصر فى المسجد وعليهما التوكيل، فقال لهما: إن البيعة قد تمّت لمولانا المستعلى بالله، وهو يقرئكما السّلام ويقول لكما: تبايعانى أم لا؟ فقالا: السمع والطاعة؛ إن الله اختاره علينا. وبايعاه، وكتب بذلك سجلّ قرأه على الأمراء الشّريف سناء الملك محمد بن محمد الحسنى الكاتب بديوان الإنشاء. وبادر نزار وأخوه عبد الله ومحمود بن مصال إلى الإسكندرية، وعليها ناصر الدّولة «1» أفتكين التّركى، أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالى، فعرّفوه الحال ووعدوه بالوزارة، فبايعه، وبايعه أهل الثّغر، ولقّب بالمصطفى لدين الله. ذكر ما اتّفق لنزار ومن معه قال: وفى المحرّم سنة ثمان وثمانين وأربعمائة خرج الأفضل أمير الجيوش بعساكره إلى الإسكندرية لقتال نزار وأفتكين وابن مصال. فلمّا قرب منها خرجوا إليه، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الهزيمة على الأفضل ومن معه، فرجع إلى مصر ونهب نزار ومن معه من العرب أكثر بلاد الوجه البحرى. ثم خرج الأفضل ثانيا وحاصر الإسكندرية، واشتدّ الحصار إلى ذى القعدة. فلمّا اشتد الحال رأى ابن مصال مناما، فلمّا أصبح أحضر رجلا أعجميّا وقال له: رأيت كأنّى راكب فرسا وكأنّ الأفضل يمشى فى ركابى.

ذكر استيلاء أمير الجيوش على البيت المقدس

فقال له العجمىّ: الماشى على الأرض أملك لها. فلمّا سمع منه ذلك جمع أمواله وهرب إلى لكّ قرية من قرى برقة. فعند ذلك ضعفت قوّة نزار وأفتكين، فاضطرّ إلى مسالمة الأفضل [وبعثا] «1» يطلبان الأمان، فأمّنهما وفتحت البلد. ودخل الأفضل الإسكندرية وقبض على نزار وأفتكين، وسيّرهما إلى مصر، وكان آخر العهد بنزار. قيل إنّه جعله بين حائطين إلى أن مات. وكان مولده فى عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وأمّا أفتكين فإنه أظهر قتله بعد ذلك للناس. وأمّا محمود بن مصال فكاتبه الأفضل ورغّبه فى العود، فعاد إلى مصر، فأكرمه الأفضل. وفى سنة تسعين وأربعمائة خطب الملك رضوان «2» صاحب حلب للمستعلى بالله أربع جمع «3» ، ثم قطع خطبته، على ما ذكرناه «4» فى أخبار الدولة السلجقية والله أعلم. ذكر استيلاء أمير الجيوش على البيت المقدّس وفى شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة خرج الأفضل أمير الجيوش بعساكره إلى الشام ونزل على البيت المقدس، وهو فى يد الأمير سقمان

ذكر استيلاء الفرنج على ما نذكره من البلاد الإسلامية بالساحل والشام والبيت المقدس

وإيلغازى، ابنى أرتق «1» ، وجماعة من أقاربهما وخلق كثير من الأتراك. فراسلهما يلتمس منهما تسليم البيت المقدّس من غير حرب ولا سفك، فلم يجيباه لذلك. فنصب المجانيق وهدم منه قطعة، وقاتل، فاضطرّا لتسليمه فسلّماه له، فخلع عليهما وأطلقهما. وعاد الأفضل إلى مصر «2» . ونقل محمد بن على بن يوسف بن جلب راغب فى تاريخ مصر أن الأفضل لمّا رجع من بيت المقدس مرّ بعسقلان، وكان فى مكان دارس بها رأس الحسين بن على، رضى الله عنهما، فأخرجه وعطّره وطيّبه، وحمل فى سفط إلى أجلّ دار بها، وعمر المشهد، ولما تكامل حمل الأفضل الرأس على صدره وسعى ماشيا إلى أن ردّه إلى مقره، ثم نقل إلى مصر على ما نذكره إن شاء الله. وقيل إن المشهد [بعسقلان] «3» ابتدأ بعمارته بدر الجمالى وكمّله الأفضل «4» . ذكر استيلاء الفرنج على ما نذكره من البلاد الإسلامية بالساحل والشام والبيت المقدس لم يكن جميع ما استولوا عليه مما نذكره داخلا فى ملك الدولة العبيديّة، بل كان منه ما هو فى أيدى نوّاب المستعلى وما هو بيد الملوك الذين تغلّبوا على الأطراف، ولم يكن أيضا فى أيام المستعلى خاصّة. وإنما وردناه بجملته فى

ذكر ملكهم مدينة أنطاكية

هذا الوضع لتكون الأخبار متتابعة ولا تنقطع بالسنين والدول. وقد نبّهنا عليه فيما تقدم من أخبار الدولة العباسية «1» . والذى نذكره الآن فى هذا الموضع هو ما استولوا عليه [74] من سواحل الشام سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وما بعدها. وكان ابتداء ظهورهم وامتدادهم وتطرّقهم إلى البلاد الإسلامية فى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وذلك أن بلاد الأندلس «2» لما تقسّم ملوكها بعد بنى أمية وصارت كلّ جهة بيد ملك، وأنفت نفس كل واحد أن ينقاد إلى الآخر، ويدخل تحت طاعته، فكانوا كملوك الطوائف فى زمن الفرس، وعجز كلّ واحد عن مقاومة من يليه أو يقصده من الفرنج، أدى ذلك إلى اختلال الأحوال، وتغلب الأعداء على البلاد الإسلامية. فأول ما استولوا عليه مدينة طليطلة من الأندلس، على ما ذكرناه «3» فى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ثم ملكوا جزيرة صقليّة فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وتطرّقوا إلى أطراف أفريقية فملكوا منها شيئا ثم استرجع منهم، على ما قدّمناه «4» ذكر ملكهم مدينة أنطاكيّة كان استيلاء الفرنج خذلهم الله تعالى، على مدينة أنطاكيّة فى جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وكانت بيد ملوك الرّوم من سنة ثمان

وخمسين وثلاثمائة إلى أن افتتحها الملك سليمان «1» بن شهاب الدين ولد قتلمش السلجقى، صاحب أقصرا وقونية وغير ذلك من بلاد الروم فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة، على ما ذكرناه فى أخبار الدولة السّلجقية «2» ، وبقيت فى يده إلى أن قتل. وتداولتها أيدى المتغلّبين من ملوك الإسلام وأمرائهم إلى أن استقرت بيد ياغى سيان وهو يخطب فيها للملك رضوان ابن تتش صاحب حلب، ولأخيه الملك دقاق صاحب دمشق. فلمّا كان فى سنة تسعين وأربعمائة جمع بغدوين «3» ملك الفرنج جمعا كثيرا من الفرنج، وكان تسيب رجار «4» الفرنجى صاحب صقلّية، فأرسل إليه بغدوين يقول: قد جمعت جمعا كثيرا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورا لك. فجمع رجار أصحابه واستشارهم فقالوا كلّهم: هذا جيد لنا ولهم، وتصبح البلاد كلّها للنصرانية. فلمّا سمع رجار كلامهم وما اجتمعوا عليه، رفع رجله وحبق حبقة قوية، وقال: وحقّ دينى هذه خير من كلامكم. قالوا: وكيف ذلك؟ قال إذا وصلوا إلىّ احتجت إلى كلفة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من جهتى معهم، فإن فتحوا البلاد وكانت

لهم وصارت مؤونتهم من صقلّية وينقطع عنى ما يصل إلىّ من المال من ثمن الغلّات فى كل سنة، وإن لم يفتحوها رجعوا إلى بلادى وتأذّيت بهم، ويقول تميم «1» ، صاحب إفريقية غدرت بى ونقضت عهدى، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبين بلاد إفريقية، وإفريقية باقية متى وجدنا قوة أخذناها بها. ثم أحضر رسوله وقال له إذا عزمتم على جهاد المسلمين فاقصدوا بذلك فتح بيت المقدس وخلّصوه من أيديهم، ويكون لكم الفخر، وأمّا إفريقية فبينى وبين أهلها أيمان وعهود، فاخرجوا إلى الشام. «2» وقيل إنّ المستنصر، أو المستعلى، لمّا رأى قوة الدولة السلجقية وتمكّنها، وأنهم استولوا على ملك بلاد الشام [إلى] «3» غزّة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، راسل الفرنج يدعوهم إلى الخروج إلى الشّام، ليملكوه، ويكونوا بينه وبين المسلمين. والله تعالى أعلم «4» . قال فلمّا عزم الفرنج على قصد الشّام ساروا إلى قسطنطينية ليعبروا المجاز إلى بلاد الإسلام ويسيروا فى البرّ فيكون أسهل عليهم. فمنعهم ملك الروم «5» من ذلك، ولم يمكّنهم أن يمرّوا ببلاده، وقال: لا أمكّنكم من العبور إلّا أن تحلفوا أنكم تسلمون إلىّ أنطاكية. وكان قصده أن يحثّهم على

الخروج إلى بلاد الإسلام ظنّا منه أن الترك لا يبقون منهم أحدا لما أرى من صرامتهم وملكهم «1» البلاد. فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج فى سنة تسعين وأربعمائة. ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان «2» بن سليمان بن قتلمش، فلقيهم فى جموعه ومنعهم، فقاتلوه وهزموه، وذلك فى شهر رجب منها. ومرّوا فى بلاده إلى بلاد ابن ليون الأرمنى، فسلكوها وخرجوا منها إلى أنطاكيّة، فحصروها. «3» قال المؤرّخ «4» : فلمّا سمع صاحبها ياغى سيان بتوجّههم إليها خاف من النّصارى الذين بها، فأخرج من بها من المسلمين بمفردهم فى أول يوم وأمرهم أن يحفروا الخندق، ثم أخرج النصارى من الغد لذلك. فعملوا فيه إلى العصر، فلمّا أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم فهبوها لى حتى أنظر ما يكون بيننا وبين الفرنج. فقالوا: من يحفظ أولادنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم «5» فأمسكوا ثم صاروا فى عسكر الفرنج. وحصرت أنطاكية تسعة أشهر، وظهر من حزم ياغى سيان واحتياطه وجودة رأيه ما لم يشاهد مثله، وهلك [75] أكثر الفرنج موتا وقتلا، وحفظ ياغى سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكفّ الأيدى عنهم.

فلمّا طال مقام الفرنج عليها راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو ذراد، ويعرف بروزبة «1» ، وبذلوا له مالا وإقطاعا، وكان يتولى حفظ برج يلى الوادى، وهو مبنى على شباك فى الوادى. فلمّا تقرّر الأمر بينهم وبينه، جاءوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة منهم بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة، ضربوا البوق وذلك عند السّحر وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ ياغى سيان وسأل عن الحال فقيل له: هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد أخذت. ولم يكن من القلعة وإنما من ذلك البرج. فداخله الرّعب؛ ففتح باب البلد وهرب فى ثلاثين غلاما، وجاء نائبه ليحفظ البلد، فقيل له: إنه قد هرب، فخرج من الباب الآخر هاربا. وكان ذلك إعانة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا. ثم إن الفرنج دخلوا البلد من بابه، ونهبوا وقتلوا من فيه من المسلمين. وأما ياغى سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إلى عقله وكان كالولهان. فرأى نفسه وقد قطع عدّة فراسخ؛ فقال لمن معه: أين أنا؟ فقالوا: على أربعة فراسخ من أنطاكية. فندم كيف خلص سالما ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل. وجعل يتلهّف على ترك أهله وأولاده والمسلمين، ويسترجع؛ فسقط عن فرسه لشدة ما ناله، وغشى عليه. فأراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه

ذكر مسير المسلمين لحرب الفرنج وما كان من أمرهم

مسكة، وكان قد قارب الموت، فتركوه وساروا عنه. فاجتاز به إنسان أرمنى كان يقطع الحطب وهو بآخر رمق فقتله، وحمل رأسه إلى الفرنج بأنطاكيّة «1» ذكر مسير المسلمين لحرب الفرنج وما كان من أمرهم قال «2» : ولما اتصل خبر أنطاكيّة بالأمير قوام الدّين كربوقا صاحب الموصل «3» جمع العساكر وسار لحربهم واجتمع معه الملك دقاق صاحب دمشق وصاحب حمص وصاحب سنجار «4» . فلمّا بلغ الفرنج اجتماعهم عظمت عليهم المصيبة وداخلهم الخوف؛ لما هم فيه من الوهن وقلّة الأقوات. وسار المسلمون حتى نازلوا أنطاكيّة، فأساء كربوقا السيّرة فيمن معه من المسلمين، فأغضب الأمراء وتكبّر عليهم، ظنّا منه أنّهم يقيمون معه على هذه الحال. فأغضبهم ذلك وأضمروا فى أنفسهم الغدر به إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند الصّدمة «5» .

قال: وأقام الفرنج بانطاكيّة بعد أن ملكوها ثلاثة «1» عشر يوما ليس لهم ما يأكلونه؛ فتقوّت الأقوياء بدوابّهم والضّعفاء بالميتة وورق الشّجر. فلمّا انتهت حالهم إلى ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم، وقال: لا تخرجون منه إلّا بالسّيف. وكان معهم من الملوك بغدوين وصنجيل وكندفرى والقمص صاحب الرّها وبيمند صاحب أنطاكيّة «2» وهو مقدّم العسكر. وكان معهم راهب مطاع فيهم «3» فقال لهم: إن المسيح عليه السّلام كان له حربة مدفونة بالقسيان «4» الّذى بأنطاكيّة، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنّكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقّق. وكان هو قد دفنها قبل ذلك وعفّى أثرها. وأمرهم بالصّوم ثلاثة أيّام والتّوبة؛ ففعلوا ذلك. فلمّا كان فى اليوم الرّابع أدخلهم جميعهم وجميع عامّتهم والصّنّاع، وحفروا عليها فى ذلك المكان فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظّفر. فخرجوا فى اليوم الخامس من الباب من خمسة وستّة ونحو ذلك؛ فقال المسلمون لكربوقا: ينبغى أن نقف على الباب فقتل كلّ من يخرج فإنّ أمرهم الآن سهل. فقال: أمهلوهم حتى يتكاملوا؛ ولم

ذكر ملكهم معرة النعمان

يمكّن من معاجلتهم؛ فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم بنفسه ومنعهم. فلمّا تكامل خروج الفرنج ولم يبق منهم أحد بأنطاكية ضربوا مصافّا عظيما، فانهزم العسكر الإسلامى لما عاملهم به كربوقا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم، فتمّت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم. وآخر من انهزم سقمان بن أرتق وجناح الدولة، لأنهما كانا فى الكمين؛ وانهزم كربوقا معهم. فلمّا رأى الفرنج ذلك ظنّوه مكيدة، فخافوا أن يتبعوهم؛ وثبت جماعة من المجاهدين وقاتلوا حسبة ورغبة فى الشّهادة فقتل الفرنج منهم ألوفا، وغنموا ما فى العسكر من الأقوات والأموال والآلات والدّوابّ، وغير ذلك؛ فصلحت حالهم وعادت إليهم قوّتهم. ذكر ملكهم معرة النعمان [76] قال المؤرّخ. ثم سار الفرنج إلى معرة النّعمان «1» ، فنازلوها وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالا شديدا، فرأى الفرنج منهم شدّة ونكاية عظيمة. فعمل الفرنج عند ذلك برجا من خشب يوازى سور المدينة، ووقع القتال عليه، فصبر المسلمون على القتال إلى اللّيل. ثمّ خاف قوم منهم وفشلوا، وظنّوا أنهم إذا تحصّنوا ببعض الدّور الكبار امتنعوا بها. فنزلوا عن السّور وأخلوا مكانهم الذى كانوا يحفظونه، وفعلت طائفة أخرى مثل ذلك.

ذكر استيلائهم خذلهم الله تعالى على البيت المقدس

ولم تزل كلّ طائفة منهم تتبع الأخرى حتّى خلا السّور، فصعد الفرنج إليه على السّلاليم. فلمّا علوه تحيّر المسلمون ودخلوا دورهم، ووضع الفرنج فيهم السّيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبّوا السّبى الكثير. وأقاموا بها أربعين يوما وساروا إلى عرقة «1» ، فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدّة نقوب ولم يقدروا عليها. وراسلهم ابن منذر «2» صاحب شيزر، وصالحهم عليها. ثم ساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدّولة. وخرجوا على طريق النّواقير «3» إلى عكا فلم يقدروا عليها «4» ؛ فساروا إلى البيت المقدّس. ذكر استيلائهم خذلهم الله تعالى على البيت المقدس كان استيلاء الفرنج، خذلهم الله تعالى، على البيت المقدّس فى يوم الجمعة، ضحى، لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وكان إذ ذاك بيد افتخار الدّولة نيابة عن المستعلى بالله. فإنه كان بيد تاج الدّولة تتش السّلجقى صاحب الشّام، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التّركمانى، فجاءه الأفضل أمير الجيوش واستولى عليه «5» ، وبقى بيد نوّابه إلى الآن.

فقصده الفرنج عند عجزهم عن فتح عكّا، وحصروه نيّفا وأربعين يوما، ونصبوا عليه برجين، أحدهما من ناحية صهيون «1» ، فأحرقه المسلمون وقتلوا جميع من فيه من الفرنج. فلمّا فرغوا من ذلك أتاهم الصّارخ أن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وهو الجانب الشّمالى، وركب النّاس السيف ولبث الفرنج أسبوعا يقتلون فيهم. واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلّموه إليهم، فوفوا لهم؛ وخرجوا ليلا إلى عسقلان وأقاموا بها. وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعبّادهم وزهّادهم، ممّن فارق أهله، ووطنه وجاور بذلك الموضع الشّريف. وأخذوا منّ عند الصّخرة نيّفا وأربعين قنديلا من الفضّة، زنة كلّ قنديل [ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة وزنه] «2» أربعون رطلا بالرّطل الشامى «3» ؛ وأخذوا من القناديل الصّغار مائة وخمسين قنديلا من الفضّة؛ ومن الذهب نيّفا وعشرين قنديلا. وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء.

وورد إلى بغداد القاضى سعيد القروى «1» فى شهر رمضان، ومعه جماعة، يستنفرون النّاس، وأوردوا فى الدّيوان كلاما أبكى العيون، وصدع القلوب واستغاثوا بالجامع يوم الجمعة، وبكوا، وذكروا ما نزل بالمسلمين من البلاء، وما حلّ بهم من المصيبة. فأمر الخليفة أن يسير القاضى أبو محمد الدّامغانى، وأبو بكر الشّاشى، وغيرهما «2» ، إلى السّلطان «3» بسبب ذلك، فاتّفق ما ذكرناه من الاختلاف الذى وقع بين الملوك السّلجقية «4» ؛ فتمكّن الفرنج من البلاد. قال: ولمّا اتّصل خبر هذه الحادثة العظيمة بالأفضل أمير الجيوش جمع العساكر وخرج إليهم، فقاتلهم فى شهر رمضان من السّنة. ثمّ كبسه الفرنج هو ومن معه، وهم على غير تعبئة، فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وحاصر الفرنج عسقلان، فصالحهم أهلها على عشرة آلاف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، فعادوا إلى القدس. قال: وكان الذى ملك البيت المقدّس من الفرنج كندفرى «5» .

ذكر ظفر المسلمين بالفرنج

ذكر ظفر المسلمين بالفرنج قال المؤرخ «1» : وفى ذى القعدة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة لقى كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وهو صاحب ملطية وسيواس، بيمند الفرنجى بالقرب من ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه واستقدمه عليه، فورد عليه [77] فى خمسة آلاف؛ فلقيهم ابن الدّانشمند، وقاتلهم، فهزم بيمند وأسر. ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، فأرادوا خلاص بيمند، فأتوا إلى قلعة أنكورية «2» فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين؛ وساروا إلى قلعة أخرى فحصروها وفيها إسماعيل بن الدّانشمند، فجمع الدّانشمند جمعا كثيرا، ولقى الفرنج، وجعل له كمينا؛ فقاتلهم وخرج عليهم الكمين فقتلهم. وكانوا ثلاثمائة ألف لم يفلت منهم غير ثلاثة آلاف «3» هربوا. وسار ابن الدّانشمند إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها. قال ابن الأثير الجزرى: وكانت هذه الوقائع فى شهور «4» قريبة. قال: ولم يزل بيمند فى أسره إلى سنة خمس وتسعين، فأخذ منه مائة

ذكر قتل كندفرى وملك أخيه بغدوين وما استولى عليه الفرنج من البلاد وهى: حيفا. وأرسوف. وقيسارية. والرها. وسروج

ألف دينار وأطلقه «1» . ذكر قتل كندفرى وملك أخيه بغدوين وما استولى عليه الفرنج من البلاد وهى: حيفا. وأرسوف. وقيسارية. والرها. وسروج وفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة سار كندفرى صاحب البيت المقدّس إلى عكّا، فحاصرها، فأصابه سهم فقتله «2» . وكان قد عمّر مدينة يافا وسلّمها إلى قمص من الفرنج اسمه طنكرى «3» . فلما قتل كندفرى سار أخوه بغدوين «4» إلى البيت المقدّس فى خمسمائة فارس وراجل، فبلغ ذلك الملك شمس الملوك دقاق صاحب دمشق، فنهض إليه فى عسكره ومعه الأمير جناح الدّولة فى جموعه فقاتله، فنصر على «5» الفرنج. وفى هذه السنة ملك الفرنج مدينة حيفا عنوة وهى على ساحل البحر بالقرب من عكّا، وملكوا أرسوف بأمان وأخرجوا أهلها منها، وملكوا قيساريّة بالسيف وقتلوا أهلها. وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، وكانوا قبل ذلك قد ملكوا الرّها بمكاتبة من أهلها لأن أكثر أهلها

ذكر أخبار صنجيل الفرنجى وما كان منه فى حروبه وحصار طرابلس وألطوبان وملك أنطرسوس

أرمن. فلمّا كان الآن جمع الأمير سقمان بن أرتق جمعا عظيما من التّركمان وزحف بهم إليهم، فلقوه وقاتلوه؛ فهزموه فى شهر ربيع الأول. فلمّا تمّت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج، فتسلّموها، وقتلوا كثيرا من أهلها وسبوا حريمهم، ونهبوا أموالهم، ولم يسلم منهم إلّا من انهزم «1» . ذكر أخبار صنجيل الفرنجى وما كان منه فى حروبه وحصار طرابلس وألطوبان وملك أنطرسوس وفى سنة خمس وتسعين وأربعمائة لقى صنجيل «2» الملك قلج أرسلان صاحب قونية، وصنجيل فى مائة ألف مقاتل وقلج فى عدد يسير، واقتتلوا؛ فانهزم الفرنج وأسر كثير منهم، وفاز قلج بالظّفر والغنيمة «3» . ومضى صنجيل مهزوما فى ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمّار «4» صاحب طرابلس إلى الأمير جناح الدّولة «5» بحمص وإلى الملك دقاق بدمشق يقول: من الصّواب معاجلة صنجيل إذ هو فى العدد اليسير.

فخرج إليه جناح الدّولة بنفسه «1» وسيّر دقاق ألفى مقاتل؛ وأتتهم الأمداد من طرابلس. وصافّوا صنجيل فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس ومائة إلى عسكر دمشق وخمسين إلى عسكر حمص وبقى هو [فى] «2» خمسين. فأما عسكر حمص فانهزموا عند المشاهدة وتبعهم عسكر دمشق. وأما عسكر طرابلس فإنهم قتلوا المائة الذين قاتلوهم، فحمل صنجيل فى المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل. ونازل طرابلس وحصرها. وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصرها، هم وأهل السّواد، لأن أكثرهم نصارى. فقاتل من بها أشدّ قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة: ثم هادنهم ابن عمّار على مال وخيل، فرحل صنجيل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، «3» وهى من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها «4» ، وقتل من بها من المسلمين. ورحل إلى حصن ألطوبان «5» ، ومقدّمه ابن العريض، فقاتلهم فنصر

[78] ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا

عليهم وأسر فارسا من أكابر فرسانهم، فبذل فيه صنجيل عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك. ثمّ سار صنجيل إلى حصن الأكراد «1» فحصره، فجمع الأمير جناح الدّولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطنىّ بالمسجد الجامع. فلما قتل صبّح صنجيل حمص من الغد ونازلها وملك أعمالها. [78] ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا وفى سنة سبع وتسعين وأربعمائة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة لاذقيّة، فيها التّجّار والمقاتلة والحجّاج وغيرهم؛ فاستعان بهم صنجيل الفرنجى على حصار طرابلس فحاصروها معه وضايقوها، فلم يروا فيها مطمعا، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل «2» فحصروها وقاتلوا عليها قتالا شديدا. فلمّا رأى أهلها عجزهم عن الفرنج طلبوا الأمان على تسليمها، فبذل لهم صنجيل الأمان، وتسلّم البلد منهم فلم يف لهم. وأخذ الأفرنج أموالهم وعاقبوهم عليها بأنواع العذاب. ثم ساروا إلى عكّا نجدة لبغدوين، صاحب القدس، على حصارها؛ فنازلوها وحصروها فى البر والبحر، وعليها زهر الدّولة «3» الجيوشى، فقاتلهم أشدّ قتال. فلمّا عجز عن حفظ البلد فارقه؛ وملك الفرنج عكّا بالسّيف، وفعلوا بأهلها الأفعال الشنيعة. وساروا منها إلى دمشق ثم إلى مصر.

ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت

وفى سنة تسع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج حصن أفامية وسرمين من أعمال حلب. وفى سنة اثنتين وخمسمائة فتح السردانى «1» عرقة، وذلك أنّها كانت بيد غلام فخر الملك بن عمّار وقد عصى على مولاه، فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة، فكاتب طغزتكين «2» صاحب دمشق أن يرسل إليه من يتسلّم الحصن لعجزه عن حفظه. فبعث إليه طغزتكين صاحبا له اسمه إسرائيل فى ثلاثمائة، فتسلّم الحصن. فلمّا نزل غلام ابن عمّار رماه إسرائيل بسهم فقتله فى الاختلاط «3» طمعا فى المال الذى بعرقة لئلا يطّلع طغزتكين عليه. قال وأراد طغزتكين أن يشحن الحصن بالعساكر والأقوات، فتوالت الأمطار [والثلج] «4» مدّة شهرين، فعجز عن ذلك. فلمّا انقطع المطر ركب أربعة آلاف فارس وجاءوا إلى عرقة، فتوجّه إليه السّردانى وهو يحاصر طرابلس ومعه ثلاثمائة فارس، فانهزم عسكر طغزتكين عند ما أشرفت الخيل من غير قتال، فأخذ السّردانى أثقالهم وتسلّم الحصن بأمان، وقبض على إسرائيل، وقال لا أطلقه إلا بفلان وهو من أكابر الفرنج كان أسيرا، ففودى به. ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت كان صنجيل لمّا ملك مدينة جبيل، كما ذكرنا، حصر طرابلس، فلمّا

لم يتمكّن منها وعجز عن الاستيلاء عليها بنى بالقرب منها حصنا وجعل تحته ربضا، وأقام يرصدها ينتظر فرصة، فخرج فخر الملك أبو على بن عمّار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه؛ فوقف صنجيل على سقوفه المحترقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم. فمرض صنجيل عشرة أيّام، ومات، وحمل إلى القدس فدفن هناك. وذلك فى سنة تسع وتسعين وأربعمائة «1» . ودامت الحرب على طرابلس خمس سنين. فسار فخر الملك ابن عمّار إلى بغداد يستنجد بالخليفة والسّلطان على الفرنج، على ما ذكرناه، وعاد من بغداد فى منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسمائة وتوجه إلى جبيلة «2» فدخلها وأطاعه أهلها. وأما طرابلس فإن ابن عمّار لمّا فارقها راسل أهلها الأفضل أمير الجيوش يلتمسون منه واليا يكون عندهم ومعه الميرة فى البحر، فسيّر إليهم الأفضل شرف الدّولة بن أبى الطّيّب واليا، ومعه الغلال وغيرها. فلمّا صار إليها قبض على جماعة من أهل ابن عمّار واستولى على ما وجده من أمواله وذخائره «3» . فلمّا كان فى شعبان سنه ثلاث وخمسمائة وصل أسطول كبير من بلد

الفرنج، مقدّمه قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل «1» ، ومراكبه مشحونة بالرّجال والسلاح والميرة وليس ريمند هذا ابن صنجيل صاحب الحصن «2» المقدم ذكره. فنزل على طرابلس وكان السّردانى وهو ابن اخت صنجيل محاصرا لها قبله، فجرت بينهما فتنة أدّت إلى الشرّ والقتال فوصل تنكرى صاحب أنطاكيّة إليها إعانة للسّردانى، ووصل بغدوين صاحب البيت المقدّس فى عسكره، فأصلح بينهم «3» ونزل الفرنج بأجمعهم على طرابلس وضايقوها، وذلك [79] فى شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها. فلمّا شاهد الجند وأهل البلد ذلك سقط فى أيديهم، وذلّت نفوسهم، وزادهم ضعفا. فتأخر الأسطول المصرىّ عنهم بالميرة والنّجدة؛ وداوم الفرنج القتال والزّحف إلى أن ملكوا البلد عنوة؛ وذلك فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة، سنة ثلاث وخمسمائة «4» . ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النّساء والذّرّية، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة

ذكر ملك الفرنج جبلة وبلنياس

وكتب العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يوصف. وكانت طرابلس من أعظم البلاد وأهلها من أكثر الناس أموالا. وسلم الوالى الذى كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق؛ وعاقب الفرنج أهل طرابلس بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم «1» . ووصل الأسطول المصرى بالرجال والغلال وغيرها، ما يكفيهم سنة، وكان وصول الأسطول إليها بعد أن ملكت بثمانية أيام؛ ففرّق ما فى الأسطول على الجهات المجاورة لها: صور وصيدا وبيروت. ذكر ملك الفرنج جبلة وبلنياس قال: ولما فرغ الفرنج من طرابلس سار تنكرى صاحب أنطاكية إلى بلنياس «2» فافتتحها وأمّن أهلها؛ ونزل على مدينة جبلة «3» وبها فخر الملك ابن عمّار، وكان القوت قد قلّ بها، فقاتل من بها إلى أن ملكها فى الثانى والعشرين من ذى الحجة بالأمان. وخرج فخر الملك ابن عمّار وقصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان ابن علىّ بن منقذ الكنانى. ثمّ سار إلى دمشق فأكرمه طغزتكين

ذكر ملكهم مدينة صيدا

صاحبها، وأجزل له فى العطيّة وأقطعه أعمال الزّبدانى؛ وذلك فى المحرم سنة أربع وخمسمائة «1» . ذكر ملكهم مدينة صيدا وفى جمادى الأولى «2» سنة أربع وخمسمائة ملك الفرنج مدينة صيدا، وكانت من جملة ما هو بيد طغزتكين صاحب دمشق. وذلك أنّه وصل فى البحر ستّون مركبا للفرنج مشحونة بالرّجال والذّخائر مع بعض ملوكهم «3» ، ليحجّ إلى القدس ويغزو «4» المسلمين بزعمه؛ فاجتمع به بغدوين صاحب القدس وقرّر معه الغزو فنزلوا «5» على مدينة صيدا فى ثالث شهر ربيع الآخر، وضايقوها فى البرّ والبحر، ومنعوا الأسطول المصرىّ من الوصول إليها، وكان بساحل مدينة صور، فعمل الفرنج برجا من الخشب وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النّار والحجارة عنه، وزحفوا به. فلمّا عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت؛ فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا الأمان، فأمّنهم على نفوسهم وأموالهم والعسكر الّذى عندهم، ومن أراد المقام بها «6» عندهم أمّنوه،

ذكر استيلائهم على حصن الأثارب وحصن زردنا

ومن أراد المسير عنهم لا يمنعونه؛ وحلفوا لهم على ذلك فخرج الوالى وجماعة كثيرة معه تحت الأمان؛ وكانت مدّة الحصار سبعة وأربعين يوما. ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثمّ عاد إليها بعد مدّة يسيرة يقرّر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فاستغرق أموالهم وأفقرهم. ذكر استيلائهم على حصن «1» الأثارب وحصن زردنا وفى سنة أربع وخمسمائة جمع صاحب أنطاكيّة الفارس والرّاجل، وسار إلى حصن الأثارب، وهو على ثلاث فراسخ من حلب، فحصره ومنع الميرة عمّن فيه؛ فضاق الأمر عليهم. فنقب المسلمون من القلعة نقبا وقصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكيّة فيقتلوه. فلمّا فعلوا ذلك استأمن إليه صبىّ أرمنىّ فعرّفه الحال، فاحتاط لنفسه واحترز؛ وجدّ فى قتالهم حتى ملك الحصن عنوة، وقتل من أهله ألفى رجل «2» وسبى. ثم سار إلى حصن زردنا «3» ، فحصره وفتحه، وفعل باهله مثل ذلك. فلمّا سمع بذلك أهل منبج فارقوها خوفا من الفرنج، وكذلك أهل بالس «4» ، فطلب أهل الشّام الهدنة، فامتنع الفرنج ثمّ أجابوا. فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنتين [80] وثلاثين ألف دينار، وخيول وثياب، وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار،

ذكر حصر مدينة صور وفتحها

وصالحهم علىّ الكردى صاحب حماة على ألفى دينار. وكانت عدة الهدنة إلى إدراك المغلّ وحصاده «1» . ثمّ جاءت العساكر من العراق ولم يبلغوا غرضا. ذكر حصر مدينة صور وفتحها كان استيلاء الفرنج، خذلهم الله تعالى، على مدينة صور فى الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة. وكان ابتداء الحصار فى سنة خمس وخمسمائة؛ وذلك أن الفرنج فى هذه السّنة اجتمعوا مع بغدوين صاحب القدس على حصارها، وكانت إذ ذاك بيد نوّاب الآمر بأحكام الله «2» وبها من قبله عز الملك الأعز، فحصروها فى الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السّنة، وعملوا ثلاثة أبراج من الخشب علوّ البرج سبعون ذراعا فى كلّ برج ألف رجل؛ ونصبوا عليها المجانيق. وألصقوا أحد الأبراج بسور صور، فجمع عزّ الملك أهل البلد واستشارهم فى حيلة يدفعون بها شرّ الأبراج. فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن إحراقها، وأخذ ألف رجل بالسّلاح التام، ومع كلّ رجل حزمة حطب؛ فقاتلوا الفرنج حتّى وصلوا إلى البرج الملتصق بالسّور وألقوا الحطب من جهاته، وأشعلوا فيه النار. ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين فى الأبراج بإطفاء النّار، فرماهم بجرار مملوءة بالعذرة كان قد أعدّها لهم فلمّا سقطت عليهم اشتغلوا بما نالهم من الرّائحة الكرهة،

فتمكّنت النار من البرج. وأحرق المسلمون البرجين [الآخرين] «1» أيضا. وكاتب عزّ الملك طغزتكين، صاحب دمشق، فأنجده بالرّجال، وأرسل أصحابه للإغارة على بلاد الفرنج، فرجعوا من حصار مدينة صور فى شوّال من السّنة. ثم عادوا فى سنة ستّ وخمسمائة إلى الحصار، وضايقوا البلد، فأرسل أهل صور إلى طغزتكين صاحب دمشق يطلبون منه أن يرسل إليهم من جهته من يتولّى أمرهم ويحميهم، وتكون البلد له. فسيّر إليهم عسكرا، وجعل عندهم واليا اسمه مسعود، وكان شهما شجاعا عارفا بالحرب ومكايدها، وأمدّه بالعساكر والميرة؛ فطابت قلوب أهل البلد. ولم يقطع خطبة الآمر بأحكام الله ولا غيّر سكّته؛ وكتب إلى الأفضل أمير الجيوش يعرّفه ما عمل ويقول: متى وصل من مصر من يتولّاها ويذبّ عنها سلّمتها إليه؛ وطلب منهم ألّا ينقطع الأسطول عنها بالرّجال والميرة. فأجابه الأفضل إلى ذلك، وشكره على ما فعل، وجهّز أسطولا إليها، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة ستّ عشرة وخمسمائة، بعد قتل الأفضل أمير الجيوش. وذلك أن المأمون بن البطائحى لمّا ولى إمرة الجيوش بعد قتل الأفضل سيّر إلى مدينة صور أسطولا على العادة، وأمر المقدّم عليه أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود، الوالى من قبل طغزتكين، ويقبض عليه، ويتسلم البلد منه. وكان سبب ذلك أنّ أهل صور شكوا منه إلى الآمر بأحكام الله. فلمّا وصل الأسطول وجاء الأمير مسعود ليسلّم على المقدّم قبض المقدّم عليه

واعتقله، وحمله إلى الآمر؛ فأكرمه وأعاده إلى صاحبه بدمشق. واستولى مقدّم الأسطول على مدينة صور، وراسل الأمير طغزتكين بالخدمة، واعتذر إليه، فقبل عذره «1» ، ووعده المساعدة. فلمّا سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها، وشرعوا فى الجمع؛ واتّصل خبرهم بواليها، فعلم أنّه لا قوّة له ولا طاقة بهم، لقلّة من بها من الجند والميرة، وأرسل إلى الآمر بذلك؛ فرأى أن يردّ ولاية صور إلى طغزتكين، فأرسل إليه بذلك، فملكها ورتّب بها الجند وغيرهم. وسار الفرنج إلى صور، ونازلوها فى شهر ربيع الأول سنة ثمانى عشرة، وضيّقوا عليها ولازموا القتال؛ فقلّت الأقوات، وسئم من بها القتال، وضعفت نفوسهم. وسار طغزتكين إلى بانياس ليقرب منهم ويذبّ عن البلد، وأرسل إلى الآمر يستنجده، فلم ينجده؛ وأشرف أهلها على الهلاك. فحينئذ راسل طغزتكين الفرنج على أن يسلّم إليهم البلد ويمكّنوا من بها من الجند والرّعية من الخروج بما قدروا عليه من أموالهم وغيرها فاستقرّت القاعدة على ذلك، وفتحت أبواب البلد، وفارقه أهله، وحملوا ما أطاقوا وتفرّقوا فى البلاد، ولم يتعرّض الفرنج إليهم. وملك الفرنج البلد فى التّاريخ [81] الذى قدّمناه، ولم يبق بصور إلّا ضعيف عاجز عن الحركة «2» . وفى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ملك الفرنج حصن القدموس «3» من المسلمين، وملكوا بانياس بمراسلة إسماعيل الإسماعيلى ورغبته فى ذلك،

ذكر وفاة المستعلى بالله

وانضمامه إلى الفرنج، على ما قدّمنا ذكره «1» فى أخبار تاج الملوك طغزتكين صاحب دمشق. هذا ما استولى عليه الفرنج من البلاد الإسلامية. فلنرجع إلى أخبار الدّولة العبيديّة. ذكر وفاة المستعلى بالله كانت وفاته فى يوم الثّلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر «2» سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ومولده لعشر بقين من المحرّم سنة سبع وستين «3» وأربعمائة؛ وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة «4» وثمانية وعشرين يوما. ومدّة ولايته سبع سنين وشهرا واحدا وثمانية وعشرين يوما. ولم تكن له سيرة تذكر، فإن الأمر كان للأفضل أمير الجيوش، لم يكن للمستعلى معه من الأمر إلّا الاسم، والرّسم للأفضل.

ذكر بيعة الآمر بأحكام الله

وكان للمستعلى من الأولاد أبو على المنصور، وجعفر، وعبد الصّمد. وزيره الأفضل أمير الجيوش. قضاته: أبو الحسن بن الكحّال النابلسى؛ ثم أعاد بن عبد الحاكم، ثم أبو طاهر محمد بن رجاء، ثم أبو الفرج محمد بن جوهر بن ذكا النابلسى. ذكر بيعة الآمر بأحكام الله هو أبو على المنصور بن المستعلى بالله؛ وهو العاشر من ملوك الدّولة العبيديّة والسّابع من ملوك الدّيار المصريّة منهم. قال المؤرخ: لمّا مات المستعلى بالله أجلس الأفضل أمير الجيوش ولده أبا على هذا على سرير الخلافة، وذلك فى يوم الثّلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة؛ وبايع له النّاس ولقّبه بالآمر بأحكام الله وله من العمر خمس سنين وشهر واحد وأيام. قال: ودبّر الأفضل الأمر على ما كان عليه فى أيام أبيه المستعلى «1» . وفى سنة خمسمائة بنى الأفضل أمير الجيوش الدّار المعروفة بدار الملك «2» على شاطئ النيل بمصر، وكملت عمارتها فى سنة إحدى وخمسمائة، وسكنها.

ذكر إنشاء ديوان التحقيق

ومدحه الشّعراء. فمن مدحه أبو الفضل بن أمية المغربى من قصيدة جاء منها: دار هى الفلك الأعلى، وأنت بها ... شمس الضّحى، وبنوك الأنجم الزّهر ودار الملك هذه هى دار الوكالة الآن «1» ؛ وكان موضعها أخصاص موقوفة على الأشراف، فأمر أن يؤخذ ما كان لهم من الحكر على الأخصاص من مال الرّياع السّلطانية. ذكر إنشاء ديوان التحقيق وفى سنة إحدى وخمسمائة جدّد الأفضل ديوانا وسمّاه ديوان التحقيق «2» ، واستخدم فيه أبا البركات يوحنّا بن أبى اللّيث النّصرانى؛ وبقى فيه إلى أن قتل فى سنة ثمان وعشرين «3» . واستمرّ هذا الديوان إلى أن انقرضت الدّولة العبيديّة وانقطع، ثم أعاده السّلطان الملك الكامل بن الملك العادل فى سنة أربع وعشرين، واستخدم فيه أبو كوجك «4» اليهودى. ثمّ أبطل فى سنة ستّ وعشرين وستمائة فلم يعد. واستخدم فى أيام السلطان

ذكر حل الإقطاعات وتحويل السنة

الملك المعزّ أيبك صفىّ الدّين عبد الله بن على المغربى فى استيفاء مقابلة الدواوين، وهو نوع منه «1» . ذكر حل الإقطاعات وتحويل السنة وفى سنة إحدى وخمسمائة كثرت شكاوى الأجناد وطوائف العساكر المصريّة بسبب إقطاعاتهم، وأنّها خربت وقلّ ارتفاعها، وأنّها لا تقوم ببعض كلفهم، وأن الإقطاعات التى بيد الأمراء زائدة عن الارتفاع. فأحضر الأفضل محمد [82] بن فاتك البطائحى «2» ، وهو وزيره وأستاذ داره، واستشاره فيما يفعل فى ذلك؛ فأشار عليه بحلّ جميع الإقطاعات التى بيد الأمراء وغيرهم، وأن يجمع الأمراء والطّوائف للمزايدة فيها. فاتّفق الرأى على ذلك. وأحضر الأمراء والأجناد فى دار الوزارة، وتحدّث معهم فى ذلك؛ فقال الأمراء: لنا فى إقطاعاتنا أملاك وبساتين ومعاصر وغيرها. فقال الأفضل: الأملاك لملّاكها على حالها يتصرّفون فيها بالبيع والإيجار. ثم حلّ الإقطاعات ووقعت الزّيادة فيها، وتميّز لكلّ منهم إقطاع، وكتبت المناشير بذلك. ثم شكى إليه كثرة عبرة البلاد «3» وأنّ متحصّلها لا يفى بالعبرة.

ذكر أخذ الفرما وهلاك بغدوين الفرنجى صاحب القدس

وحصل للديوان ضياع مفردة «1» عبرتها خمسون ألف دينار فى كلّ سنة. ونقلت السّنة الشمسية الخراجيّة إلى الهلاليّة؛ وكانت سنة إحدى وخمسمائة الهلالية وسنة سبع وتسعين وأربعمائة الخراجيّة فنقلت إلى سنة إحدى وخمسمائة «2» . ذكر أخذ الفرما وهلاك بغدوين الفرنجى صاحب القدس وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة «3» أغار بغدوين ملك الفرنج على الفرما «4» وقتل جميع من بها، وأحرق جامعها ومساجدها، وذلك بعد أن حاصرها أياما والفرما كانت بلدة بين القصير والغرابى من منازل الرّمل، وهى الآن خراب. وقصد بغدوين مصر فرحل عن الفرما. ورجع إلى البيت

ذكر نهب ثغر عيذاب

المقدّس، وهو مثقل بالمرض، فهلك بموضع يقال له جور قبل وصوله إلى العريش. فشقّ الفرنج بطنه وألقوا مصارينه هناك، فهى ترجم إلى وقتنا هذا، ودخلوا بجثته، فدفنوها بقمامة بالبيت المقدس. وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة رتّب ذخيرة الملك جعفر فى ولاية القاهرة، ونظر الحسبة وظلم وعسف؛ وهو الّذى بنى المسجد بسوق الخيل المعروف: بالذّخيرة، ومسجد «لا بالله» «1» ، وسبب تسميته بذلك أنّه كان يقبض النّاس من الطّريق ويعسفهم، فيقولون له: لا بالله، فيقيّدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة. ولم يعمل فيه صانع إلّا وهو مكره مقيّد. فابتلى الله ذخيرة الملك بأمراض شديدة، ولمّا مات تجنّب النّاس الصلاة عليه وتشييعه. ذكر نهب ثغر عيذاب وفى سنة ثنتى عشرة وخمسمائة عمّر الشريف أبو محمد قاسم بن أبى هاشم «2» ، أمير مكة، مراكب حربية وشحنها بالمقاتلة وسيّرهم إلى عيذاب «3» ، فنهبوا مراكب التّجار وقتلوا جماعة منهم. فحضر من سلم من

ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش ابن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره

الجار إلى باب الأفضل وشكوا ما حلّ بهم فأمر بعمارة حراريق «1» لجهّزها، ومنع الناس أن يحجّوا فى سنة أربع عشرة، وقطع الميرة عن الحجاز، فغلت الأسعار. وكان الأفضل قد كتب إلى الأشراف بمكة يلومهم على فعل صاحبهم، فكتب الشريف إلى الأفضل يعتذر، والتزم بردّ المال إلى أربابه، ومن قتل من التّجار فماله لورثته. وأعاد الأموال فى سنة خمس عشرة «2» . ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش ابن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره كان مقتله فى يوم الأحد سلخ شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقد ركب من دار الملك بمصر فقتل عند كرسى الجسر «3» ،؟؟؟ تلة الباطنية. قيل بمواطأة من الآمر لأنه كان قد ضاق منه لتحكّمه عليه ومنعه من شهواته، فقصد اغتياله إذا دخل عليه للسلام، فمنعه أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم، ابن عمه، وقال: إنّ هذا الأمر فيه من قبح الأحدوثة وسوء الشّناعة ما لا تحمد عاقبته، لأنّ هذا الرجل ما عرف له ولا لأبيه إلّا المودّة فى خدمة هذا البيت والذّب عنه، وإن قتلناه غيلة لا غنية أن

نولّى منصبه لغيره، فيكون المتولّى بعده على وجل واحتراس. وإنّما الرأى أن ندبّر عليه. فدبّر عليه حتى قتل. هذا أحد الأقوال فى قتله. قال: ولما وثب الباطنية عليه ضرب ثمانى ضربات، فمات لوقته، وحمل على أيدى مقدّمى ركابه، والقائد الميمون محمد وأخوته لا يمكّنون أحدا من الدنوّ منه، وهم [83] يبشرون النّاس بسلامته، حتى وضعوه على سريره وغطّى. ونفّذ المأمون أخاه حيدرة إلى الآمر يقول له: أدركنى وتسلّم ملكك لئلا أغلب عليه أنا وأنت؛ وأوصاه أن يهنّئ من وجده بسلامة الأفضل. ففعل حيدرة ذلك، وهنّأ حرم الأفضل وغيرهم. فعزم أولاده على إثارة فتنة وأنهم يطلبون الأمر لأخيهم تاج المعالى؛ فأمر الآمر بحمل أولاد الأفضل إلى الإعتقال بخزانة البنود، فحملوا إليها، وبات الأمر بدار الملك. قال: وكان الأفضل حسن الاعتقاد فى مذهب السنّة، جميل السيّرة، مؤثرا للعدل، صائب الرأى والتّدبير، حسن الهمّة، كريم النّفس، صادق الحديث. ونال النّاس بعد قتل الأفضل من الظّلم والجور والعسف ما لا يعبّر عنه. فجاء النّاس إلى باب الآمر واستغاثوا، ولعنوا الأفضل وسبّوه أقبح سبّ؛ فخرج إليهم الخدم وقالوا: مولانا يسلّم عليكم ويقول لكم: ما السّبب فى سبّ الأفضل وقد كان قد أحسن إليكم وعدل فيكم؟ فقالوا: إنّه عدل وتصدّق وحسنت آثاره، ففارقنا بلادنا حبّا لأيّامه، وأقمنا فى بلده، فحصل بعده هذا الجور؛ فهو السّبب فى خروجنا عن أوطاننا واستقرارنا ببلده.

قال المؤرخ: لما قتل الأفضل أحضر الآمر وزيره الشيخ أبا الحسن على الحلبى والقائد أبا عبد الله محمدا وسألهما عن الأموال، فقال القائد: أمّا السّر فأعلمه وأمّا الظاهر فالوزير يعلمه؛ وأخبراه بذخائره وأمواله. وأقام الآمر فى دور الأفضل، وهى دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة، وغيرهما، أربعين يوما، والكتّاب بين يديه يكتبون ما ينقلونه إلى القصور؛ فوجد له من الذّخائر النفيسة ما لا يحصى «1» . وذكر أن الذى وجد له من الأموال ستّة آلاف ألف دينار عينا؛ وفى بيت الخاصّة ثلاثة آلاف ألف دينار، وفى البيت البرّانى ثلاثة آلاف [ألف] «2» ومائتان وخمسون دينارا، وخمسون أردبا دراهم [ورق] «3» وثلاثون راحلة من الذّهب العراقى المغزول برسم الرّقم؛ وعشرة بيوت فى كلّ بيت منها عشرة مسامير من الذهب «4» ، زنة كلّ مسمار مائتا مثقال، عليها العمائم المختلفة الألوان مغطاة بالمناديل المزركشة، وتسعمائة ثوب من الدّيباج الملوّن، وخمسمائة صندوق من دقّ دمياط وتنيس برسم كسوة جسده، ولعبة من العنبر على قدر جسده برسم ثيابه توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وترك من الطّيب والآلات والنّحاس ما لا يحصى. وترك من الأبقار والجواميس والأغنام ما بلغ ضمان ألبانها ونتاجها أربعين ألف دينار فى السنة. وكانت الدّواة التى يكتب منها مرصّعة بالجواهر، فقوّم ما عليها من الجواهر باثنى عشر ألف دينار. وخلّف من الكتب

خمسمائة ألف مجلد «1» وحكى القاضى زكىّ الدين أبو زكريّا يحيى بن على الدّمشقى فى تاريخه عما خلّفه الأفضل فقال: خلّف. جملة لم يسمع أنّ أحدا من الملوك والخلفاء فى هذا الزّمان جمع مثله ولا ادّخر مثل بعضه: وأن الآمر بأحكام الله شرع فى حمل ما فى دوره إلى القصر، فحمل على عدّة كثيرة من الجمال والبغال، ونقل فى شهرين وأيّام. قال: وحكى الدينبلى التاجر الآمدى أن متولّى الخزانة بالقصور ذكر له جملا ممّا حمل من موجوده فى الدّار، منها ستّة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن الورق ما قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار، ومن أطباق الذهب والفضة سبعمائة طبق «2» ، ومن الآلات مثل أتوار واصطال وصحاف وشربات وأباريق وزبادى وقدور وقطع من الفضة والذهب مختلفة الأجناس ما لا يحصى كثيرة؛ وبرانى «3» صينى كبار؛ وعيبات مملوءة جواهر، ومن أصناف الدّيباج والعتابى وغيره تسعون ألف ثوب، وثلاث خزائن مملوءة صناديق كلّها من الدّبيقى والشرب استعمال تنيس ودمياط، وخزانة الطّيب مملوءة أسفاطا، وعود، وبرانى مسك ونوافج، وبرانى زجاج مملوءة من

الكافور القنصورى، غير مصاعد، ومن العنبر ما لا يحصى كثرة «1» . وكان له مجلس يجلس فيه للشراب فيه صور ثمانى جوارى متقابلات، أربع منهنّ بيض من كافور، وأربع سود من عنبر، قيام فى المجلس، عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى وأحسن الجواهر، فكان إذا دخل باب المجلس نكّسن رءوسهنّ خدمة له، فإذا جلس فى صدر المجلس استوين قائمات. ووجد له من المقاطع والسّتور، والدّيباج والدّبيقى الحريرى، والذهب، والفرش، والمخادّ والمساند على اختلاف أجناسها، كلّ حجرة مملوءة من ذلك، وعدّة صناديق مملوءة حقاق ذهب عراقىّ برسم الاستعمال. ووجد له ثمانمائة جارية [84] منهن حظانا خمس وستون، لكلّ جارية حجرة وخزانة مملوءة من الكساوى والآلات الدّيباج والذّهب والفضة. ومن كل صنف. «2» قال الخازن: هذا ما حضرنى حفظه ممّا فى داره. وأما ما كان فى مخازنه وتحت يد عمّاله وجباته وضمّان النّواحى فما لا يحصى كثرة، من الأموال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والأخشاب وغير ذلك. وكلّ نوع منه ما يجاوز الحدّ والإحصاء، ولا يمكن تحرير حسابه إلّا فى المدة الطويلة «3» . وأمّا العدد والخيول والسلاح والبقر والغنم والخيام، فقال الخازن لم تتحرّر

لكثرتها. وقال حمل من داره أربعة آلاف بساط، وستّون حمل «1» طنافس، وخمسمائة قطعة بلور كبار وصغار، وخمسمائة قطعة محكم، وألف عدل من متاع اليمن والإسكندرية والغرب، وسبعة آلاف مركب «2» من أصنافها. وأمّا ما عمّره من المساجد فمنها: جامع الفيلة «3» ، وقيل إنّه لم يكمله. وحكى الشريف محمّد بن أسعد الجوانى فى كتابه المترجم بالنقط فى ذكر الخطط أن جامع الفيلة بناه الأفضل فى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأنّ الأفضل مات ولم يكمّله فكمّله المأمون فى وزارته، وولّى خطابته الشّريف أمين الدّولة أبا جعفر، محمد بن محمد بن هبة الله الحسينى الطرابلسى النّسابة، وأمر أن يحضر جميع وجوه الدّولة والرؤساء فى أوّل جمعة، فحضروا. فلمّا رقى الشّريف المنبر قال: «الحمد لله» ، وأرتج عليه ودهش، فلم يزل يكرّرها إلى أن أضجر النّاس، ونزل وقد همّ، ومضى إلى داره، فاعتلّ ومات فى سنة سبع عشرة وخمسمائة. ومنها المسجد الّذى على جبل المقطّم. وبنى فى جامع عمرو بن العاص المئذنة الكبيرة والمئذنة السعيدية «4» والمئذنة المستجدة [به أيضا] «5» وجامع الجيزة. وغير ذلك. وهو الّذى أنشأ التّاج والخمسة وجوه.

قال ناظم سيرة المأمون: وعمل الأفضل خيمة سماها خيمة الفرج، ثم سمّيت بالقاتول لأنها كانت إذا نصبت يموت تحتها من الفرّاشين رجل أو رجلان «1» . اشتملت على ألف ألف ذراع [وأربعمائة ألف ذراع] «2» وكان ارتفاعها خمسين ذراعا بذراع العمل «3» ، أنفق عليها عشرة آلاف ألف دينار. ومدحه جماعة من الشعراء وذكروا هذه الخيمة، منهم أبو جعفر محمد بن هبة الله الطرابلسى بقصيدته التى يقول فيها: ضربت خيمة عزّ فى مقرّ علا ... أوفت على عذبات الطّود ذى القنن «4» جاءت مدى الطّرف، حتى خلت ذروتها ... تأوى من «5» الفلك الأعلى إلى سكن أقطارها ملئت من منظر عجب ... يهدى «6» إليك ذكاء الصّانع الفطن فمن رياض سقاها القطر صيّبه ... فما بها ظمأ يوما إلى المزن وجامح فى عنان لا يجاذبه ... وطائر غير صدّاح على فنن وأرقم لا يمجّ السّم ريقته ... وضيغم ليس بالعادى ولا الوهن ومائلين صفوفا فى جوانبها ... لو يستطيعون خرّ الجمع للذّقن

زينث بأروع، لا تحصى فضائله ... ماض من المجد والعلياء فى سنن وأطلع الدّست فيها شمس مملكة ... يرى «1» التّأمّل فضل العين والأذن وعد على السّعد أنّ النّصر يضربها ... بالصّين، بعد فتوح الهند واليمن وقال أبو على حسن بن زيد الأنصارى، الكاتب بديوان المكاتبات، يصفها ويمدح الأفضل: مهلا، فقد قصرت عن شأوك الأمم ... وأبدت العجز منها هذه الهمم أخيمة ما نصبت اليوم، أم فلك؛ ... ويقظة ما نراه منك، أم حلم؟ ما كان يخطر فى الأفكار قبلك أن ... تسمو علوّا على أفق النّهى الخيم حتى أتيت بها شمّاء شاهقة ... فى مارن الدّهر من تيه بها شمم إنّ الدّليل على تكوينها فلكا ... أن احتوتك، وأنت النّاس كلّهم ومنها: [85] لديك جيش، وجيش فى جوانبها ... مصوّر، وكلا الجيشين مزدحم إذا الصّبا حرّكتها ماج موكبها ... فمقدم منهم فيها ومنهزم أخيلها خيلك الّلاتى تغير بها ... فليس تنزع «2» عنها الحزم والّلجم علّمت أبطالها أن يقدموا أبدا ... فكلّهم لغبار الحرب مقتحم أمّنتهم أن يخافوا سطوة لردى ... فقد تسالمت الأسياف والقمم «3» كأنّها جنّة، والقاطنون بها ... لا يستطيل على أعمارهم هرم

علت، فخلنا لها سرّا تحدّثه ... للفرقدين وفى سمعيهما صمم إن أنبتت أرضها زهرا، فلا عجب ... وقد همت فوقها من كفّك الدّيم قال المؤرخ: وكان للأفضل شعر حسن، فمن قوله فى غلامه المعالى: أقضيب يميس، أم هو قدّ ... أم شقيق يلوح، أم هو خدّ أنا مثل الهلال سقما عليه «1» ... وهو كالبدر حين وافاه سعد «2» وكانت ولاية لأفضل سبعا وعشرين سنة وخمسة أشهر.

ذكر تفويض أمور الدولة وإمرة الجيوش للمأمون البطائحى

ذكر تفويض أمور الدّولة وإمرة الجيوش للمأمون البطائحى قال المؤرخ: وفى الخامس من ذى الحجة من سنة خمس عشرة وخمسمائة فوّض الآمر بأحكام الله أمور الدّولة وإمرة الجيوش للقائد أبى عبد الله محمّد بن الأمير ثقة الدّولة أبى شجاع فاتك بن الأمير منجد الدّولة أبى الحسن مختار المستنصرىّ المعروف بابن البطائحى «1» ، وكان قبل ذلك عند الأفضل أستاذ داره «2» . واستقرّت نعوته فى سجلّه المقروء على كافة الأمراء والأجناد بالأجلّ المأمون، تاج الخلافة، وجيه الملك، فخر الصنّائع، ذخر أمير المؤمنين. ثمّ نعت بعد ذلك بالأجلّ المأمون، تاج الخلافة، عزّ الإسلام، فخر الأنام، نظام الدّين والدعاة. ثمّ نعت بعد ذلك بنعوت الأفضل وهى: السّيّد الأجل المأمون، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين «3» . قال ناظم سيرة المأمون: ولما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من ذى الحجة من السّنة، وهو يوم الهناء بعيد النّحر، جلس المأمون فى داره وقت أذان

الفجر، وجاء النّاس لخدمته للهناء على طبقاتهم فى أرباب البيوت والأقلام، ثم الشّعراء، وركب إلى القصور، فأتى باب الذّهب، فوجد المرتبة المختصّة بالوزارة قد هيّئت له فى موضعها الجارى به العادة، وأغلق الباب الّذى عندها على الرّسم المعتاد لوزير السّيف والقلم، وهذا الباب يعرف بباب السّرداب. فلما شاهد المرتبة توقّف عن الجلوس عليها لأنّه لم يذكر له ذلك قبل حضوره، ثم ألجأته الضّرورة، لأجل حضور الأمراء، إلى الجلوس عليها فجالس وأولاده الثّلاثة عن يمينه، وأخواه عن يساره، والأمراء المطوّقون «1» خاصّة قائمون بين يديه، ومن عداهم لا يصل إلى هذا الموضع. فما كان بأسرع من أن فتح الباب وخرج عدّة من الأستاذين المحنكين «2» وخرج إليه الأمير الثّقة متولّى الرّسالة وزمام القصور «3» ، فوقف أمام المرتبة وقال: أمير المؤمنين يردّ على السّيّد الأجلّ المأمون السّلام. فوقف المأمون عند ذلك وقبل الأرض، وجلس فى موضعه، وتأخر الأمير الثّقة حتى نزل من على المصطبة التى عليها المرتبة وقبّل الأرض ويد المأمون، ودخل من فوره من الباب، وأغلق الباب، على [حاله على] «4» ما كان عليه الأفضل.

قال: وكان الأفضل يقول: ما أزال أعدّ نفسى سلطانا حتى أجلس على تلك المرتبة ويعلق الباب فى وجهى والدّخان فى أنفى؛ لأن الحمّام كانت خلف الباب فى السّرداب. قال: ثم فتح الباب وعاد الثّقة وأشار بالدّخول إلى القصر؛ فدخل المأمون إلى المكان الذى هيّئ له، ودعى لمجلس الوزارة. وبقى الأمراء بالدّهاليز إلى أن جلس الخليفة واستفتح المقرئون. واستدعى المأمون فحضر بين يديه وسلّم عليه أولاده وإخوته «1» ؛ ثم دخل الأمراء وسلّموا على طبقاتهم، ثمّ الأشراف وديوان المكاتبات والإنشاء، ثمّ قاضى القضاة [86] ، والشهود، والداعى، ثم مقدّموا الرّكاب ومتولّى ديوان المملكة. ثمّ دخل الأجناد من باب البحر، وهو الباب الذى يقابل المدرسة الكامليّة الآن، ثمّ دخل والى القاهرة ووالى مصر وسلّما ببياض أهل البلدين، ثم البطرك والنّصارى والكتّاب منهم، وكذلك رئيس اليهود. ودخل الشّعراء على طبقاتهم، وأنشد كلّ منهم ما سمحت به قريحته. وكانت هذه عادة السّلام على ملوك هذه الدّولة، وإنما أوردنا ذلك ليعلم منه كيف كانت عادتهم «2» . وفى سنة سبع عشرة وخمسمائة ورد إلى الدّيار المصريّة طائفة كثيرة من عرب لواته من جهة المغرب، وانتهوا إلى الإسكندريّة وأعمالها، وأفسدوا فسادا متحكّما. فندب المأمون إليهم أخاه نظام الملك «3» حيدرة، الملقّب بالمؤتمن، فقاتلهم وهزمهم، وغنم أموالهم. وتوجّه إلى الإسكندرية

ذكر القبض على المأمون

ودخلها، فصادف مراكب البنادقة قد هجموا على ساحل الثغر وأسروا، فخرج إليهم، وحاربهم وهزمهم، فعادوا. «1» ذكر القبض على المأمون قال: وفى سنة تسع عشرة وخمسمائة فى يوم السّبت لأربع خلون من شهر رمضان قبض الآمر بأحكام الله على وزيره المأمون أبى عبد الله محمّد وعلى أخوته [الخمسة] «2» وثلاثين نفرا من خواصّه وأهله، واعتقله، ولم يزل فى اعتقاله إلى سنة اثنتين وعشرين، فصلبه مع أخوته. وقيل فى سبب ذلك إنّ المأمون راسل الأمير جعفرا، أخا الآمر، وأغراه بقتل أخيه وأنّه يقيمه مكانه فى الخلافة، واستقرّت القاعدة بينهما على ذلك، واتّصل ذلك بالشيخ أبى الحسن على بن أبى أسامة، متولّى ديوان المكاتبات، وكان خصيصا بالآمر قريبا منه، وناله من المأمون أذى كثير، فأعلم الآمر بالحال. وكان المأمون كثير التطلّع لأخبار النّاس والبحث عن أحوالهم، وكثرت الوشاة فى أيّامه. قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل: كان ابتداء حال المأمون أن والده كان من جواسيس الأفضل بالعراق، فمات ولم يخلّف شيئا، فتزوّجت أمّه وتركته فقيرا فاتصل ببعض البنائين بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسّوق الكبير. فدخل مع الحمّالين إلى دار الأفضل مرّة بعد أخرى فرآه الأفضل خفيفا رشيقا، حسن الحركة، حلو الكلام والحجّة؛

ذكر أخبار أبى نجاح بن فنا النصرانى الراهب وقتله

فسأل عنه؛ فقيل هو ابن فلان؛ فاستخدمه مع الفرّاشين. ثم تقدّم عنده وكبرت منزلته وعلت درجته، إلى أن انتهى إلى ما ذكرنا «1» . قال محمد بن على بن يوسف بن جلب راغب» فى تاريخ مصر: إن ابن الأثير وهم فى وفاة والد المأمون، وأن والده مات فى سنة ثنتى عشرة وخمسمائة، والمأمون إذ ذاك مدبّر دولة الأفضل «3» . وأكثر النّاس يذكرون ما ذكره ابن الأثير. وقال صاحب كتاب البستان فى حوادث الزّمان: إن المأمون كان يرشّ بين القصرين، وجدّه من غلمان المستنصر بالله. والله أعلم «4» . ذكر أخبار أبى نجاح بن فنا النصرانى الراهب وقتله كان هذا الرّاهب من أهل أشموم طنّاح «5» . وكان قد خدم ولىّ الدّولة يحنّا بن أبى الليث، ثم اتّصل بالخليفة الآمر بعد القبض على المأمون. وبذل فى مصادرة قوم من النّصارى مائة ألف دينار، فأطلق يده فيهم. وتسلسل الأمر إلى أن عمّ البلاء منه جميع رؤساء الدّيار المصريّة وقضاتها وكتّابها وغيرهم. ولم يبق أحد إلا ناله منه مكروه من الضّرب والنهب وأخذ المال. وارتفع شأنه عند الآمر حتى كان يعمل له «6» ملابس

مخصوصة به بدمياط وتنّيس من الصّوف الأبيض المنسوج بالذّهب، فكان يلبسها ويلبس من فوقها الغفافير الدّيباج «1» . وكان يتطيب فى كلّ يوم بعدة مثاقيل من المسك. وكان يركب الحمير بالسّروج المحلّاة بالذهب والفضة، ويجلس فى قاعة الخطابة بالجامع العتيق بمصر ويستدعى النّاس للمصادرة. فاستدعى فى بعض الأيام رجلا يعرف بابن الفرس، وكان من أكابر العدول ذوى الهيئات والدّيانة، والناس يعظمونه ويبجّلونه- وأوقع به الإهانة والإخراق؛ فخرج من عنده ووقف فى الجامع يوم الجمعة وقال: يا أهل مصر، انظر واعدل مولانا الآمر فى تمكينه هذا النّصرانى من المسلمين! فارتجّ الناس لكلامه وكادت تكون فتنة؛ فدخل جماعة على الآمر وخوّفوه العاقبة، وعرّفوه ما حلّ بالمسلمين منه [87] فاستدعاه، وكان فى المجلس رجل من الأشراف «2» ، فأنشد الآمر أبياتا منها: إن الّذى شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب فقال له الآمر: ما تقول يا راهب؟ فمسكت. فأمر به فقتل. وكان الّذى تولّى قتله الأمير مقداد والى «3» مصر، وصلبه على الجسر. ثم أنزل وربط على خشبة ورمى فى بحر النيل وخرجت الكتب إلى الأعمال البحريّة أنّه إذا ألقاه الماء إلى جهة أخرجوه عنها حتّى ينتهى إلى البحر المالح.

ذكر مقتل الآمر بأحكام الله وشىء من أخباره

ولما قتل هذا الرّاهب وجدوا له مقطعا فيه ثلاثمائة طرّاحة «1» سامان محشوة، جددا، لم تستعمل. هذا من هذا النّوع، خلا ما وجد من الذّهب والفضة والأقمشة والديباج «2» . ذكر مقتل الآمر بأحكام الله وشىء من أخباره كان مقتله فى يوم الثلاثاء لليلتين خلتا «3» من ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بجزيرة مصر «4» بالقرب من المقياس. وثب عليه عشرة نفر من النّزارية وقتلوه، فحمل فى جل «5» إلى الجامع، ونقل فى مركب عشارى «6» ، وأحدر إلى اللؤلوة فى الخليج، ثم حمل إلى القصر؛ فتوفّى بقية يومه. وقتل القوم الذين قتلوه.

وكان مولده فى يوم الثلاثاء لليلة خلت من المحرّم «1» سنة تسعين وأربعمائة وقتل فى يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم «2» منها، فكان عمره أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وولايته تسعة وعشرين سنة وثمانية أشهر ونصف شهر. وكان محكوما عليه إلى أن قتل الأفضل وتولّى المأمون فظهر أمره، وصار يتصرّف [ويركب] «3» فى يوم الجمعة ويوم السّبت ويوم الثلاثاء وإذا لم يركب فى يوم منها ركب فى غيره. ولم يستوزر بعد المأمون وزيرا للسّيف والقلم، بل استبدّ بأموره وباشرها بنفسه. وكان قبيح السّيرة فى رعيّته، يظلمهم ويأخذ أموالهم ويغتصب أملاكهم؛ وسفك دماءهم، وارتكب المحذورات، واستحسن القبائح. ويكفى من سوء سيرته تمكينه الرّاهب من المسلمين، وقد تقدم خبره. «4» وولد للآمر فى هذه السنة ولد سمى أبا القاسم الطّيب وجعله ولىّ عهده «5» ، فأخفاه الحافظ. وزراؤه: الأفضل؛ ثم المأمون. قضاته: ابن ذكا النابلسى إلى أن رفع إبراهيم حمزة الشاهد إلى الأفضل أمير الجيوش أنه أحدث فى مجلس الحكم فعزله؛ وولّى أبا الفضل نعمة بن بشير الجليس النابلسى إلى أن استقال؛ فولّى الرشيد أبا عبد

ذكر بيعة الحافظ لدين الله

الله محمد بن قاسم الصقلى إلى أن توفى؛ فأعاد الجليس ثم صرفه؛ وولّى أبا الفتح مسلم، فبقى إلى أن تولى المأمون فعزله ونفاه لمّا أخطأ فى قراءته؛ وولّى أبا الحجاج يوسف بن أيوب الأندلسى إلى أن توفى فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة؛ فولّى الآمر أبا عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسّر القيسرانى، فاستمر إلى أن قتل الآمر بأحكام الله «1» . ذكر بيعة الحافظ لدين الله هو أبو الميمون عبد المجيد بن محمّد بن المستنصر بالله، وهو الحادى عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والثّامن من ملوك الدّيار المصريّة منهم. بويع له بعد مقتل ابن عمّه الآمر، فى يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بولاية العهد إلى أن يستبرئ نساء الآمر وهل فيهنّ من هى مشتملة على حمل أم لا. ذكر قيام أحمد بن الأفضل الحافظ وما كان من أمر أحمد إلى أن قتل قال المؤرّخ: لما بويع الحافظ لدين الله ثار الجند الأفضليّة وأخرجوا ابن مولاهم، أبا علىّ أحمد بن الأفضل، الملّقب بكتيفات، وولّوه إمرة الجيوش؛ وذلك فى يوم الخميس السّادس «2» من ذى القعدة منها، فحكم، واعتقل الحافظ صبيحة يوم بيعته، ودعا للإمام المنتظر؛ وقوى أمر ابن الأفضل.

وفى سنة خمس وعشرين رتّب أحمد بن الأفضل فى الأحكام أربعة قضاة: الشّافعية والمالكية والإسماعيلية [88] والإمامية، يحكم كلّ قاض بمقتضى مذهبه ويورّث بمقتضاه، فكان قاضى الشافعيّة الفقيه سلطان «1» ، وقاضى المالكية الّلبنى «2» ، وقاضى الإسماعلية أبو الفضل «3» ابن الأزرق، وقاضى الإمامية ابن أبى كامل «4» . وسار أحمد بن الأفضل سيرة جميلة بالنّسبة إلى أيّام الآمر، وردّ على الناس بعض مصادراتهم، وأظهر مذهب الإمامية الاثنى عشرية، وأسقط من الأذان قولهم «حىّ على خير العمل» ، وأمر بالدّعاء لنفسه على المنابر بدعاء اخترعه لنفسه وهو: «السّيد الأجلّ الأفضل، مالك أصحاب الدّول، والمحامى عن حوزة الدّين، وناشر جناح العدل على المسلمين، الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحقّ فى حالتى غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضى سيفه، وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادى القضاة إلى اتّباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، ورافع الجور عن الأمم، ما لك فضيلتى السّيف والقلم؛ أبو على أحمد بن السيد الأجلّ الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش «5» » .

ذكر بيعة الحافظ لدين الله الثانية

واستمر أمره إلى يوم الثّلاثاء سادس عشر المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمسمائة. فاتّفق ركوبه فى هذا اليوم إلى الميدان بالبستان الكبير «1» ظاهر القاهرة، للّعب بالأكرة «2» على جارى عادته، فوثب عليه مملوك رومىّ، وقيل بل من صبيان الخاصّة «3» ، فطعنه طعنة ألقاه بها عن فرسه، ونزل واحتزّ رأسه، ومضى به إلى القصر؛ وذلك بموافقة من الأجناد. فكانت مدّة تغلّبه على الأمر سنة واحدة وشهرين وثلاثة عشر يوما؛ ودفن بتربة أبيه خارج باب النصر «4» . ذكر بيعة الحافظ لدين الله الثانية قال: ولما قتل أحمد بن الأفضل بويع الحافظ بالخلافة بيعة عامّة، وظهر الحمل المنتظر بنتا، فانتقلت الخلافة إليه، وأمر أن يدعى له على المنابر: اللهم صلّ على الذى شيّدت به الدّين بعد أن رام الأعداء دثوره، وأقررت الإسلام بأن جعلت طلوعه على الأمّة وظهوره، وجعلته آية لمن يدبّر الحقائق بباطن البصيرة، مولانا وسيّدنا وإمام عصرنا وزماننا، عبد المجيد أبى الميمون، وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، صلاة دائمة

ذكر الخلف بين ابنى الحافظ لدين الله

إلى يوم الدين «1» . قال: ولما تم أمر الحافظ استوزر أبا الفتح يانس، وهو رومّى من مماليك الأفضل، ولقبه بأمير الجيوش؛ فقتل الطّائفة المعروفة بصبيان الخاصّ، ومن جملتهم قاتل أحمد بن الأفضل. وكان عظيم الهيبة، بعيد الغور، فخافه الحافظ وتخيّل منه، وتخيّل يانس أيضا من الحافظ، فدبّر كلّ واحد منهما على صاحبه، فسبق تدبير الحافظ فيه فسمّه فى إبريق استعمل الماء منه عند الطّهارة فعولج وكاد أن يبرأ. فكلّم الحافظ بعض الأطباء، فقال له الطبيب: إن رأى مولانا أمير المؤمنين أن يمضى إليه ويزوره ويهنّئه بالعافية فإنّه لا بدّ أن ينهض إليك ويمشى، فإذا مشى لا يكاد يعيش أبدا. فمضى إليه الحافظ فقام إليه وتلقّاه، فمات فى ليلته؛ وذلك فى السّادس والعشرين من ذى الحجة «2» فكانت مدة وزارته تسعة أشهر. ذكر الخلف بين ابنى الحافظ لدين الله قال المؤرخ: وفى شعبان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة جرى بين أبى نزاب حيدرة وحسن، ولدى الحافظ، حرب شديدة، وافترقت العساكر على فرقتين، وهما الرّيحانية والجيوشية، وكان بينهما وقعة فى خامس شهر رمضان ووقع الحرب بينهما بين القصرين؛ وقتل من الطّائفتين تقدير عشرة آلاف إنسان. وكان سبب ذلك أن الحافظ جعل ولده حيدرة ولىّ عهده من بعده، فلم يرض حسن بذلك، فوقع الاختلاف والحرب بينهما. واستظهر حسن على أخيه حيدرة، فهرب حيدرة إلى أبيه، فأرسل الحافظ إلى ابنه حسن ليدخل إليه، فامتنع وضايق القصر، وطالبه بأخيه

[89] ذكر مقتل حسن بن الحافظ

حيدرة، فتلافاه الحافظ وجعله ولىّ عهده من بعده. وتمكّن حسن من الدّولة والتصرف فيها بحسب رأيه، ولم يبق للحافظ معه حكم «1» . [89] ذكر مقتل حسن بن الحافظ كان مقتله فى يوم الثّلاثاء الثّالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة وذلك أنه لمّا استقر فى ولاية العهد والوزارة والتدبير واستبدّ بالأمر، قبض على جماعة من الأمراء وقتلهم، بسبب قيامهم مع أحمد بن الأفضل، وأقام غيرهم؛ فخافه من بقى من الأمراء العتق، وأجمعوا على خلع أبيه من الخلافة وولده حسن من الوزارة فاجتمعوا بين القصرين، وراسلوا الحافظ، وأعلموه بما أجمعوا عليه، فاستعطفهم الحافظ واعتذر إليهم؛ وهرب حسن إلى أبيه، فقبض عليه وقيّده، وذكر ذلك للأمراء، فقالوا: لا بدّ من قتله، فسقاه أبوه سمّا فمات، وجعله على سرير، وأمر الأمراء بمشاههدته، فدخلوا عليه وورأوه فسكتوا. وقيل إن قيام الأمراء «2» كان بتدبير الحافظ. ذكر وزارة بهرام الأرمنى وفى يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة، وقيل لإحدى عشرة ليلة خلت منه، استوزر الحافظ بهرام الأرمنى النّصرانى، ونعته بسيف الإسلام تاج الملوك «3» وكان بهرام المذكور قد وصل إلى الدّيار المصريّة

واجتمع بالحافظ، فرأى منه عقلا وافرا وإقداما فى الحرب وحسن تدبير «1» . وكان سبب وصوله من بلاده أنّ القائم بأمر الأرمن مات، وكان بهرام أحقّ بمكانه من غيره فعدل الأرمن عنه وولّوا غيره، فغضب لذلك وخرج من تلّ باشر «2» وقدم مصر؛ فعيّنه الحافظ للوزارة. واستشار بعض أهله وأكابر دولته فيه، فكلّهم كره ذلك وأشار عليه ألا يفعل، وقالوا: إنّه نصرانى لا يرضاه المسلمون، وإنّ من شروط الوزارة أنّ الوزير يرقى المنبر مع الإمام فى الأعياد ليزرّ عليه المزرة الحاجزة بينه وبين الناس؛ وأنّ القضاة هم نواب الوزراء، من زمن أمير الجيوش. بدر الجمالى، ويذكرون فى النّيابة عنهم فى الكتب الحكمية النّافذة عنهم إلى الآفاق وكتب الأنكحة. فقال الحافظ: إذا رضيناه نحن فمن يخالفنا، وهو وزير السيف؟ وأمّا صعود المنبر فيستنيب عنه فيه قاضى القضاة، وأمّا ذكره فى الكتب الحكميّة فلا حاجة إلى ذلك. واستوزر والنّاس ينكرون ذلك عليه «3» . وقال بعض المؤرخين: إن بهرام كان والى الغربيّة يومئذ وإنّه سار منها مجدّا إلى أن وصل إلى القاهرة وحاصرها يوما واحدا ودخلها. فلمّا ولى الوزارة وثبتت بها قدمه سأل الحافظ أن يسمح له بإحضار إخوته وأهله، فأذن له فى ذلك. فأرسل إليهم وأحضرهم من تلّ باشر، فتواصلوا حتى كمل منهم ومن غيرهم من الأرمن تقدير ثلاثين ألف إنسان؛ فاستطالوا على المسلمين. وبنيت فى أيّامه كنائس كثيرة وديرة

ذكر خروج بهرام من الوزارة ووزارة رضوان ابن الولخشى

حتى إن كل رئيس من أهله بنى له كنيسة؛ وخاف أهل مصر منهم أن يغيّروا الملّة الإسلاميّة. وكثرت الشّكايات فيه. وكان أخوه المعروف بالباساك، وإليه تنسب المنية «1» التى بالقرب من إطفيح «2» ، قد ولى الأعمال القوصيّة فجار فيها جورا عظيما واستباح الأموال، فعظم ذلك على النّاس. ذكر خروج بهرام «3» من الوزارة ووزارة رضوان ابن الولخشى قال: ولما ثقلت وطأة بهرام على النّاس اجتمع الأمراء وكاتبوا رضوان بن الولخشى، وذلك فى صفر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وكان يومئذ متولى الغربيّة ولاه بهرام إيّاها إبعادا له، فلمّا أتته كتب الأمراء نهض فى طلب الوزارة، ورقى المنبر، وخطب خطبة بليغة حرّض النّاس فيها على الجهاد. فأجابوه. وحشد العربان وقدم إلى القاهرة. وكان الأمراء قد كاتبوه وقالوا: إذا وقع الوجه فى الوجه ارفع المصاحف على الرّماح فإنّا ننحاز إليك؛ ففعل ذلك. وخرج بهرام إليه لمّا قرب من القاهرة؛ فلمّا عاين الأمراء [90] والجند المصاحف التحقوا جميعهم برضوان، وبقى بهرام فى الأرمن خاصّة. فراسل الحافظ وقال: أنا ألقاهم بمن معى. فخاف الحافظ عاقبة ذلك، فأمره أن يتوجّه إلى قوص ويقيم عند أخيه الباساك إلى حين يدبّر أمرا. فعاد بهرام إلى القاهرة،

وأخذ ما خفّ حمله، وخرج من باب البرقيّة فى حادى عشر جمادى الأولى؛ وتوجّه إلى الأعمال القوصيّة. قال: ولما انفصل عن القاهرة أتت العوامّ منازل الأرمن، وكانوا قد نزلوا الحسينيّة «1» وعمروها دورا. ولمّا اتصل بأهل قوص انهزام بهرام ثاروا بأخيه الباساك وقتلوه ومثّلوا به، وربطوا فى رجله كلبا ميّتا، ورموه على مزبلة. فقدم بهرام بعد ذلك بيومين، ومعه طائفة من أقاربه، فرأى الباساك على هذه الحال، فقتل جماعة من أهل قوص بالسّيف ونهبها وسار إلى أسوان. ثمّ رجع ونزل بالدّيرة البيض «2» ، وهى من أعمال أخميم بالجانب الغربى. قال: ولمّا فارق بهرام القاهرة دخلها رضوان ووقف بين القصرين، واستأذن الحافظ فيما يفعله؛ فأمره بالنّزول بدار الوزارة، فنزلها، وخلع عليه خلع الوزارة، ونعته بالأفضل. وندب رضوان جماعة من العسكر مع أخيه ناصر الدّين، فتوجّهوا إلى بهرام، فاستقرّ الأمر بينهم أن يقيم بالدّيرة البيض؛ وعاد الجند الّذين مع بهرام إلى مصر. ودبر رضوان الأمر أحسن تدبير، وصادر جماعة من أصحاب بهرام وشدّد عليهم الطّلب، وقتلهم بالسيف. وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة أحضرت «3» من تنّيس امرأة بغير يدين، وموضع يديها مثل الحلمتين، فجىء بها إلى مجلس الوزارة بين يدى رضوان، فعرّفته أنّها تعمل برجليها ما يعمله الناس باليدين من خطّ ورقم وغير ذلك. فأحضر لها دواة، فتناولت الأقلام

ذكر خروج رضوان من الوزارة وما كان من أمره إلى أن قتل

برجلها اليسرى وتأمّلتها قلما قلما فلم ترض شيئا منها؛ فأخذت السّكين وبرت لنفسها قلما وشقّته وقطّته، واستدعت ورقة فأمسكتها برجلها اليمنى، وكتبت باليسرى بأحسن خطّ ما تكتب النّساء بأيديهنّ مثله، وحمدت الله فى آخر الرّقعة، وناولتها للوزير. فتناولها فوجدها قد سألته الزّيادة فى راتبها؛ فزادها، وأعادها إلى بلدها «1» . وفيها بنى رضوان المدرسة المعروفة به بالإسكندريّة «2» ، واستدعى الفقيه أبا طاهر بن عوف «3» إلى حضرته وأسند إليه تدريسها. ذكر خروج رضوان من الوزارة وما كان من أمره إلى أن قتل وفى شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة أحضر الحافظ بهرام الأرمنى من الصّعيد، وأسكنه فى القصور وأكرمه، فعظم ذلك على الأفضل رضوان، فشغب الحافظ عليه الجند، فقام بعضهم عليه، وجرت بينهم حرب بالقاهرة. وطلب رضوان أن يسكن مع الحافظ فى القصور، فلم يمكّنه. فتزايد الحال على الأفضل وضعفت قدرته عن لقاء العساكر، فهرب إلى الشام، وذلك فى منتصف شوال منها، وقصد

كمشتكين والى صرخد «1» ، فأقام عنده فأكرمه «2» . ثمّ عاد إلى مصر فى سلخ المحرّم سنة أربع وثلاثين وقد جمع جمعا صالحا من الجند، فخرج إليه العسكر وحاربوه عند باب الفتوح، فمضى ونزل عند الرّصد، ثم مضى إلى الصّعيد. فندب اليه الحافظ الأمير سيف الدّولة أبا الفضل «3» بن مصال بأمان؛ فسار إليه وتلطّف به، إلى أن أحضره إلى القصر، فى رابع شهر ربيع الآخر من السّنة، فاعتقله فى بعض قاعات القصور. فأقام فى الاعتقال إلى سنة اثنتين وأربعين، فخرج من نقب نقبه فى القصر، وذلك فى ليلة الثّلاثاء لسبع بقين من ذى القعدة منها. وركب وحوله جماعة ممن كان يكاتبه، وتوجّه إلى الجيزة، ولقى عسكر الحافظ وقاتلهم عند جامع ابن طولون، فهزمهم. ودخل القاهرة، ونزل بالجامع الأقمر «4» ، وأغلق الحافظ باب القصر فى وجهه؛ فاستحضر رضوان أرباب الدّولة والدّواوين، وأمر ديوان الجيش بعرض الجند، فعرضهم، وأخذ أموالا كثيرة خارجة عن القصر كانت فى الدّواوين، وأنفق؛ وأرسل إلى الحافظ فى طلب المال، فأرسل إليه عشرين ألف دينار. وأمر الحافظ مقدّمى السّودان بالهجوم على رضوان وقتله، فهجموا عليه، فهمّ بالركوب، فاعجلوه عن ذلك، وضربه بعضهم بسيف فقتله. وقتل معه أخوه، وأحضرت رأساهما إلى الحافظ.

ذكر وفاة بهرام الأرمنى

وسكنت الفتنة، وأرسل الحافظ الرأس [91] لزوجة رضوان فلمّا وقع فى حجرها قالت: هكذا تكون الرجال. فلم يكن فى وقت رضوان أسمع «1» منه. وكان مولده فى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وأوّل ولاية وليها الأعمال القوصيّة والأعمال الإخميمية فى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ذكر وفاة بهرام الأرمنى كانت وفاته لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بالقصور، وكان الحافظ قد أسكنه بدار بها ولم يمكّنه من التصرف، وكان يشاوره فى تدبير الدّولة والأمور ويصدر عن رأيه. فلمّا هلك حزن عليه حزنا شديدا، وأمر بغلق الدّواوين ثلاثة أيام. وأحضر الحافظ بطرك الملكية بمصر، وأمره بتجهيزه، فجهّزه. وأخرج وقت صلاة الظّهر فى تابوت عليه الدّيباج، وحوله جماعة من النّصارى يبخّرون باللّبان والسّندروس والعود؛ وخرج النّاس كلّهم مشاة ولم يتخلّف عن جنازته أحد من الأعيان. ثمّ خرج الحافظ على بغلة خلف التّابوت وعليه عمامة خضراء وثوب أخضر بغير طيلسان. ولم تزل النّاس مشاة والقسوس يعلنون بقراءة الإنجيل، والحافظ على حالته إلى دير الخندق «2» بظاهر القاهرة؛ وقيل بل فى بستان الزّهرى

ذكر وفاة الحافظ لدين الله وشىء من أخباره

فى الكنيسة المستجدة «1» . ونزل الحافظ عن بغلته، وجلس على شفير القبر، وبكى بكاء «2» كثيرا. وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة طلع النّيل حتى بلغ تسعة عشر ذراعا وأربع أصابع «3» ، ووصل الماء إلى الباب الجديد «4» أوّل الشارع الأعظم بالقاهرة، وصار النّاس يتوجّهون من القاهرة إلى مصر من جهة المقابر. ولمّا وصل الماء إلى الباب أظهر الحافظ الحزن والانقطاع، فدخل عليه بعض خواصّه وسأله عن السّبب، فأخرج له كتابا وقال له: انظر هذا السّطر؛ فقرأه، فإذا فيه، إذا وصل الماء إلى الباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد. وقال: هذا الكتاب الذى تعلم منه أحوالنا وأحوال الدّولة وما يأتى بعدها «5» . ذكر وفاة الحافظ لدين الله وشىء من أخباره كانت وفاته فى ليلة الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ومولده فى المحرّم سنة أربع وستّين

وأربعمائة، وقيل فى المحرّم سنة ثمان وستين «1» . فكانت مدّة عمره ستّا وسبعين سنة وشهورا، ومدّة ولايته منذ بويع البيعة العامّة الثانية، بعد قتل أحمد بن الأفضل، ثمانى عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما. قال المؤرخ: وكان الحافظ موصوفا بالبطش والتيقّظ؛ وكان شديد المناقشة. وهو الذى عمل طبل القولنج الذى كسره الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف؛ وكان هذا الطّبل قد عمل من سبعة معادن والكواكب السبعة فى إشراقها. وكان خاصّته أنه كلّما ضرب به ضربة خرج الرّيح من مخرج الضّارب «2» . قال بعض المؤرخين: إنّ الحافظ خطر بباله أن ينقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى القاهرة، وكانت المدينة إذ ذاك يخطب بها لبنى العبّاس، لظهور ملوك الدّولة السّلجقية؛ فأرسل نحوا من أربعين رجلا من أهل النّجدة والقدرة، فتوجّهوا إلى المدينة وأقاموا بها مدّة، وتحيّلوا بأن حفروا سربا من مكان بعيد، وعملوا حساب الخروج فى المكان المقصود. فعصم الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلّم من أن ينقل من المكان الذى اختاره له؛ فيقال إن السّرب انهار عليهم فهلكوا؛ وقيل بل سعى بهم فأهلكوا. وكان للحافظ من الأولاد: أبو علىّ حسن؛ هلك كما ذكرنا؛ وعبد الله، هلك فى حياته أيضا؛ وأبو المنصور إسماعيل؛ وأبو الأمانه جبريل؛ ويوسف.

ووزراؤه: تقدّم ذكرهم. ولمّا قتل رضوان بن الولخشى لم يستوزر بعده أحدا، وإنما كانوا كتّابا. فمن أشهر كتابه أبو على حسن الأنصارى كان [القاضى] «1» الفاضل يقول: لم يسمح الزّمان يمثله. ومن أشهر شعرائه الشّريف أبو الحسن الأخفش المغربى، فى جملة شعره فى قصيدة: ذكر الدّوح وشاطى بردى ... وحبابا فيه يحكى بردا [92] والصّبا يمرح فى أرجائه ... وتحوك الرّيح منه زردا ينثر الدّرّ عليه فضّة ... وتذيب الشمس فيه عسجدا ورشألو لم تكن ريقته ... خمرة صافية ما عر بدا قضاته: لمّا غلب أحمد بن الأفضل على الآمر، أبقى محمد ابن هبة الله ابن ميسّر القيسرانى على القضاء، ثم صرفه الحافظ واستقضى أبا الفخر صالح بن عبد الله بن أبى رجاء؛ ثم قبض عليه الوزير يانس الرّومى وقتله، فولّى سراج الدّين أبو الثّريّا نجم من جعفر، مضافا إلى الدّعوة، إلى أن قتل فى ذى القعدة سنة ثمان وعشرين؛ فأعيد سناء الملك بن ميسّر، فأقام إلى أن قبض عليه فى يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين، وسيّر إلى تنّيس فقتل بها. وولى بعده القاضى الأعزّ أبو المكارم أحمد بن عبد الرّحمن بن محمد بن أبى عقيل، إلى أن توفى فى شعبان سنة ثلاث

ذكر بيعة الظافر بأعداء الله

وثلاثين. وأقام الناس بغير قاض ثلاثة أشهر، ثم ولى أبو الفضائل هبة الله بن عبد الوارث الأنصارى لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة منها. ثمّ جرت مفاوضة بينه وبين «النبيه» «1» أبى الحسن على بن «اسماعيل» «2» ، قيل أدّت الى مصافعة خرج فى أثنائها القاضى إلى القصر وهو مخرّق الأثواب وقد تحلّقت عمامته فى حلقه، فعظم على الحافظ خروجه على هذه الهيئة وغرّمه مائتى دينار؛ واستناب أبا طاهر إسماعيل ابن سلامه الأنصارى، فأقام فى النّيابة إلى مستهلّ المحرّم سنة خمس وثلاثين، فوفّر جارى القضاء، وهو أربعون دينارا فى كل شهر، وخدم لجارى التّقدمة فى الدّعوة، وهو ثلاثون دينارا، فى الوظيفتين؛ فأجيب إلى ذلك وأقام إلى أن صرف لسبع خلون من صفر سنة ثلاث وأربعين، وبقى على الدّعوة. وولى القضاء أبو الفضائل يونس بن محمد بن الحسين المقدسى إلى آخر المدّة «3» . ذكر بيعة الظّافر بأعداء الله هو أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله، وهو الثّانى عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والتّاسع من ملوك الدّيار المصريّة منهم. بويع له بعد وفاة أبيه لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. واستوزر الأمير نجم الدّين أبا الفتح سليم بن محمّد بن

ذكر قيام العادل بن السلار ووزارته ومقتل ابن مصال

مصال، ونعته بالسيّد الأجل المفضّل أمير الجيوش؛ وكان إذ ذاك من أكابر أمراء الدّولة. وفى الرابع من شعبان من السّنة اجتمع السودان وجماعة من المفسدين بالبهنسانية «1» ، فخرج إليهم الوزير فحاربهم وهزمهم. ذكر قيام العادل بن السّلار ووزارته ومقتل ابن مصال فى هذه السنة ثار الأمير المظفّر أبو الحسن على «2» بن السّلار والى الإسكندرية وخرج وحشد وتقدّم بمن معه، ودخل القاهرة فى يوم الأربعاء سابع شعبان، ووقف على باب القصر، وراسل الظافر والمدبّر له من النساء؛ فراجعت فى ذلك وفاء لابن مصال، ثم أجيب إلى ما سأله. وفتح باب القصر، وخلع على المظفّر خلع الوزارة ولقّب بالعادل. فلمّا اتصل ذلك بابن مصال جمع عربان البلاد، ووافقه بدر بن رافع مقدّم العربان بتلك البلاد؛ وقصد ابن السّلار فندب إليه ربيبه عبّاس بن يحيى بن تميم بن المعّز بن باديس بعسكر معه. فعسكر ببركة الحبش. فندب ابن مصال لحربه الأمير الماجد فجدّ فى السّير وكبس عسكر عباس، فأثحنهم جراحا وقتلا؛ فانهزم عباس.

واجمع ابن مصال رأيه على قصد بلاد الصّعيد، فعاجله ابن السّلار وأمدّ ربيبه بالعساكر وأمره بمعاجلته قبل الجمع، فأدركه بالقرب من دلاص «1» . والتقوا بينها وبين مهد، وهى قرية هناك، واقتتلوا؛ فانجلت الحرب عن قتل ابن مصال وبدر بن رافع. وكانت هذه الوقعة فى يوم الأحد تاسع عشر شوال. وحمل رأس ابن مصال إلى القاهرة، وطيف به، وخلع على العادل فى ذلك «2» اليوم. وفى السّادس والعشرين من شهر رمضان أغلق العادل أبواب القاهرة والقصور، وقبض على صبيان الخاصّ وقتلهم، وكانوا جمعا كثيرا وهم أولاد الأجناد والأمراء وعبيد الدّولة فكان الرجل إذا توفّى وخلّف أولادا حملوا إلى حضرة الخلافة وأودعوا فى أماكن مفردة لهم، ويؤخذ فى تعليمهم الفروسية وغير ذلك؛ وتسمّوا صبيان الخاص. وكان سبب إيقاع العادل بهم أنه بلغه أنهم تعاقدوا على قتله، فبادر بهم، وقبض عليهم، وقتل أكثرهم، وجعل من بقى منهم فى المراكز بالثغور «3» . وفى يوم الجمعة لأربع خلون من شوّال من السّنة قتل العادل أبا المكرّم الموفّق محمّد بن معصوم التنّيسى ناظر الدّواوين، وكان سبب ذلك أن العادل فى مبدأ أمره كان من صبيان الحجر وكان يتكرر [دخوله] «4» إلى الموفق برسائل ويكلّمه بكلام غليظ، فكرهه

ذكر ما فعله الفرنج بالفرما وما جهزه العادل من الأسطول إلى بلادهم

الموفّق، ثم كتب بعد ذلك لابن السّلار منشور بإقطاع، فدخل به إليه، فتغافل عنه وأهمل أمره؛ فقال له ابن السّلار: ما تسمع؟ فقال: كلامك ما يدخل فى أذنى أصلا. فأخذ ابن السّلار منشوره وخرج من حيث أتى. فلمّا ولى أمر الدّولة دحل عليه الموفّق وسلّم عليه، فقال له: ما أظنّ كلامى يدخل فى أذنك. فتلجلج بين يديه وقال له: عفو السّلطان. فقال: قد استعملت للعفو من حين خروجى من عندك، ما أتيتك به. وأشار لبعض خدمه فأحضر مسمارا من حديد عظيم الهيئة «1» ، وقال: هذا والله أعددته لك من ذلك الوقت. وضرب المسمار فى أذنه حتى نفذ من الأخرى، وحمل إلى باب زويلة الأوسط ودقّ المسمار فى خشبة، وعلّق عليها وقد مات. ذكر ما فعله الفرنج بالفرما وما جهّزه العادل من الأسطول إلى بلادهم وفى شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة أغار الفرنج على الفرما فنهبوها وأحرقوها «2» وعادوا إلى بلادهم. فجهّز العادل المراكب الحربيّة وشحنها بالرّجال وسفّرها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وأربعين، فمضت إلى يافا وقاتلوا من بها فى المراكب، واستولوا على عدّة كثيرة من مراكب الفرنج، وأحرقوا ما عجزوا عن أخذه، وقتلوا خلقا كثيرا. ثم امتدّوا إلى ثغر عكّا وفعلوا فيه كفعلهم بيافا. وكذلك فعلوا بصيدا وبيروت وطرابلس. وأنكوا فى الفرنج نكاية عظيمة.

ذكر مقتل العادل بن السلار وسلطنة ربيبه عباس

ووجدوا طائفة كثيرة من حجّاج الفرنج فقتلوهم عن اخرهم. وكان جملة ما أنفق فى هذا الأسطول ثلاثمائة ألف «1» دينار. وفى سنة ستّ وأربعين قطعت جميع الكساوى المرتّبة للأمراء والدّواوين عن أربابها، وتوفّرت. ذكر مقتل العادل بن السّلار وسلطنة ربيبه عبّاس كان مقتله فى السّادس من المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وكان سبب ذلك أن العادة كانت جارية بتجريد عسكر من مصر فى كلّ سنة لحفظ عسقلان من الفرنج، وكان الفرنج قد حاصروها فى سنة سبع وأربعين. فلمّا كان فى هذه السنة وقعت القرعة فى البدل على عبّاس ربيب العادل، وهو ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، فجرّده العادل بالعساكر، وقال له: هذا الثّغر قد نازله الفرنج، ولا غنية أن تتوجّه بالعساكر إليه لتدفعهم عنه. فخرج عباس من القاهرة ومعه جماعة من أكابر الأمراء، منهم أسامة بن منقذ، وكان خصيصا بعبّاس فلمّا وصلوا إلى بلبيس تذاكر عبّاس وأسامة القاهرة وطيب المقام بها وما خرجا إليه، وما يلقيانه من الشّدائد ولقاء العدوّ؛ فتأوّه عبّاس لذلك ولام عمّه كونه جرّده، فقال له أسامة: لو أردت أنت كنت سلطان مصر. قال: وكيف الحيلة فى ذلك؟ فقال: هذا ولدك نصر «2» ، بينه وبين الظّافر مودّة عظيمة، فأرسله إليه وخاطبه على لسانه أن تكون أنت

ذكر مقتل الظافر بأعداء الله وأخويه

السّلطان مكان عمّك، فهو يختارك ويكره العادل. فإن أجابك لذلك فاقتل عمّك. فجهّز عبّاس ابنه وعرّفه ما تقرّر مع أسامة. فدخل إلى القاهرة على حين غفلة من العادل؛ واجتمع بالظّافر وأعلمه الحال؛ فأجاب لما طلب. ثمّ مضى نصر إلى عند جدّته، زوجة العادل «1» ، وأعلم العادل أنّ والده أعاده شفقة عليه من السّفر. ومضى العادل إلى مصر وجهّز المراكب الحربية، وأنفق فى رجالها ليلحق عبّاسا، وأقام طول نهاره فى العرض [94] والنّفقة على رجالها، وعاد إلى داره بالقاهرة وهو على غاية من التّعب. فلمّا نام على فراشه احتزّ نصر بن عبّاس رأسه، ومضى به إلى القصر، ودخل إلى الظّافر، وجهّز إلى أبيه، فركب لوقته؛ ودخل القاهرة صبيحة نهار الأحد الثّانى عشر من المحرّم، فوجد جماعة من الأتراك، كان العادل قد اصطنعهم لنفسه، قد ثاروا لذلك، فلا طفهم وطمّنهم؛ فلم يطمئنوا. ومضوا إلى دمشق. وكانت وزارة العادل ثلاث سنين ونصف سنة تقريبا؛ وكان من الأكراد الزرزارية. ولمّا قتل طيف برأسه فى القاهرة جميعا. ونصب الظّافر عبّاسا فى السّلطنة «2» . ذكر مقتل الظّافر بأعداء الله وأخويه كان مقتله فى ليلة الخميس سلخ المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وذلك أنه خرج ليلا متنكّرا ومعه خادمان وجاء إلى دار نصر

ابن عبّاس، وهى الدّار المعروفة قديما بدار جبر بن القاسم ثم عرفت بسكن المأمون بن البطائحى، وهى المدرسة المعروفة بالسّيوفيّة «1» فى وقتنا هذا، المقابلة لحافر الدبابله. بخط سوق السّيوفيين بالقاهرة وهى لطائفة الفقهاء الحنفيّة. فلمّا جاء الظّافر إليه قتله نصر بن عبّاس، وحفر له تحت لوح رخام ودفنه «2» ، وقتل أحد الخادمين وهرب الآخر. وكان سبب ذلك أنّ الأمراء استوحشوا من أسامة بن منقد لمّا حسّن لعبّاس قتل عمّه العادل، وقصدوا قتل أسامة. فلمّا علم بذلك اجتمع بعبّاس وقال له: كيف تصبر على ما يقوله النّاس فى ولدك واتّهامهم أنّ الخليفة الظّافر يفعل به ما يفعله مع النساء! فعظم ذلك على عبّاس. وقيل بل كان الظّافر قد أنعم على نصر بن عبّاس بقليوب، فجاء نصر إلى والده وأعلمه بذلك، فقال له أسامة: ما هى بمهرك غالية. فقال عبّاس لأسامة: كيف تكون الحيلة على هذا الأمر؟ فقال: إنّ الخليفة فى كلّ وقت يأتى لولدك فى هذه الدّار خفية، فإذا أتاه فأمره بقتله. فأوصى عبّاس ابنه بذلك؛ فلما جاءه قتله نصر «3» . قال: ولمّا كان صبيحة يوم قتله ركب عبّاس وولده على العادة وأتى إلى القصر؛ فقال لبعض الخدم: أعلم مولانا ليجلس للاجتماع معه.

فدخل وأعلم أهل القصر بما التمسه عبّاس من الاجتماع بالخليفة. فقالوا: قل له إنّه خرج البارحة ولم يعد. فجاء الخادم إليه وأعلمه الخبر؛ فشدّد عبّاس فى طلب الظّافر، ودخل إلى القاعات ومعه أكابر الخدم، وقال: لا بدّ من مولانا. فقيل له عند دلك: أنت أعلم بحاله. فأحضر أخويه يوسف وجبريل وقال لهما: أنتما قتلتما مولانا. فأنكرا ذلك وحلفا عليه الأيمان المغلّظة. وأحضر القاضى وجماعة من الأعيان أهل الفتيا وداعى الدّعاة وقال: قد صحّ عندى أنّ أخوى الظّافر قتلاه. فأفتوه بقتلهما؛ فقتلا بين يديه وقيل إنّه قتل معهما أبا البقاء ابن حسن بن الحافظ، وصارم الدّولة، مصلح، زمام القصر «1» قال: وكان الظافر من أحسن خلق الله وجها. وكان مولده يوم الأحد، النّصف من شهر ربيع الآخر «2» سنة سبع وعشرين وخمسمائة؛ فكانت مدّة عمره إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر وخمسة عشر يوما؛ ومدّة ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وخمسة أيام «3» ولده: أبو القاسم عيسى. وزراؤه: تقدّم ذكرهم. قضاته: أبو الفضائل يونس، إلى أن صرفه العادل بن السّلار فى سنة سبع وأربعين؛ وولّى أبا المعالى مجلى «4» بن نجا المخزومى، فأقام إلى آخر الدّولة.

ذكر بيعة الفائز بنصر الله

ذكر بيعة الفائز بنصر الله هو أبو القاسم عيسى بن الظّافر بأعداء الله؛ وهو الثالث عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والعاشر من ملوك الدّيار المصرية منهم. بويع له بعد مقتل والده فى يوم الخميس سلخ المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وعمره خمس سنين. وذلك أنّه لما قتل الظّافر استدعى عبّاس ابنه أبا القاسم عيسى هذا وحمله على كتفه، ووقف فى القاعة، وأمر أن تدخل الأمراء، فدخلوا؛ فقال: هذا ولد مولاكم وقد قتل أبوه وعمّاه كما ترون، والواجب الطّاعة لهذا الطفل. فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا؛ وصاحوا صيحة عظيمة زلّ منها عقل الصّبى واختل. ثمّ سيّره [95] إلى إمّه ولقّب بالفائز؛ فأقام يصرع فى كلّ يوم «1» . وانفرد عبّاس بالوزارة وبتدبير الأمور، ولم يبق على يده يد، وظنّ أن الأمر استقام له. ذكر خروج عبّاس من الوزارة وما آل إليه أمره قال المؤرخ: لما قتل الظّافر بأعداء الله أكثر أهل القصر النّواح عليه، وشرعوا فى إعمال الحيلة على عبّاس، ووافق ذلك نفور الأمراء منه لإقدامه على القتل: فاختلفت الكلمة عليه، وهاجت العساكر. وتفرّقت الفرق، ولبسوا السّلاح. فخرج إليهم عبّاس فى يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول من السنة، فقاتلهم وهزمهم، وقتل جماعة منهم.

ذكر وزارة الصالح أبى الغارات طلائع بن رزيك

فأرسلت عمّة الفائز أخت الظّافر شعور أهل القصر طىّ الكتب إلى الأمير طلائع ابن رزّيك، وهو إذ ذاك متولّى الأعمال السّيوطية، وقيل كان متولّى منية بنى خصيب «1» ، وسألوه الانتصار لمولاه فجمع العربان والأجناد ومقطعى البلاد، وسار إلى القاهرة، فوصل إليها فى تاسع عشر شهر ربيع الأول من السّنة، وخرج النّاس للقائه. فاستشار عبّاس أسامة بن منقد فأشار عليه باللّحاق بالشّام. فدخل إلى القصر وأخذ فى [جمع] «2» تحفه وحمل أمواله، وسار هو وأسامة بن منقذ إلى الشّام على طريق أيلة. فأرسلت عمّة الفائز إلى الفرنج بعسقلان رسلا على البريد تعلمهم الحال وتبذل لهم الأموال فى الخروج على عبّاس وأخذ ما معه. فخرجوا إليه وقاتلوه، فتخاذل عنه أصحابه، ونهبوا ما معه فأسره الفرنج وحملوه إلى عسقلان؛ ونجا أسامة إلى دمشق «3» . وقيل إن الفرنج قتلوا عبّاسا وأسروا ابنه نصرا ففداه الصّالح بن رزّيك، وأحضره إلى القاهرة وضرب عنقه. ذكر وزارة الصّالح أبى الغارات طلائع بن رزيك قال المؤرخ: لمّا توجّه عبّاس نحو الشّام وافق ذلك قدوم طلائع بن رزيك، فخرج الأمراء والعساكر إليه. فمن الأمراء من شهر سلاحه

وقاتله، ومنهم من التحق به؛ ثم انجلى الأمر بعد ساعة عن دخول طلائع إلى القاهرة والعساكر بين يديه. وشقّ القاهرة وهو لابس السّواد، وأعلامه سود كذلك حزنا على الظّافر، وشعور نساء القصر التى سيّرت إليه على الرّماح «1» . ونزل طلائع دار المأمون الّتى كان بها نصر بن عبّاس، وأحضر الخادم الذى كان مع الظّافر لمّا قتل وأعلمهم بمكانه، فأخرج وغسّل وكفّن، وحمل فى تابوت على أعناق الأمراء والأستاذين، وابن رزّيك يمشى أمام التّابوت. وأتوا به إلى القصر فصلّى عليه ابنه الفائز ودفن فى تربتهم بالقصر وجلس الفائز فى بقيّة النّهار، وخلع على ابن رزّيك بالموشّح والعقد، وعلى ولده وإخوته وحاشيته، وقرئ سجلّه «2» بالوزارة، ونعت بالملك الصّالح. وقبض على جماعة من الأمراء وقتلهم، فى ثالث عشرى شهر ربيع الأول من السنة وفى سنة خمسين وخمسمائة خرج الأمير تميم «3» ، متولّى إخميم وأسيوط، على الصّالح، وجمع جمعا صالحا «4» ، فأخرج إليه الصّالح عسكرا، فالتقوا واقتتلوا، فقتل تميم فى سابع عشر رجب. وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة انفسخت الهدنة بين الصّالح بن رزّيك والفرنج، فجهّز الصّالح الجيوش والسّرايا إلى بلاد الفرنج. فوصلت سريّة إلى عسقلان وغنمت وعادت سالمة. وجهّز المراكب فى

البحر إلى نحو بيروت، فأوقعت بمراكب الفرنج. وجهّز سريّة إلى جهة الشّوبك «1» فعاثوا فى تلك النّواحى، وعادوا سالمين بالغنائم والأسرى. وفى يوم الثلاثاء تاسع عشر ذى الحجّة سنة اثنتين وخمسين قبض الصّالح ابن رزّيك على الأمير ناصر الدّولة ياقوت وأولاده واعتقلهم؛ وسبب ذلك أنّه بلغه أنّه كاتب أخت الظّافر وقصد القيام على الصّالح، وكان واليا عاملا على الأعمال القوصيّة، وهو بالقاهرة. ولم يزل فى حبسه إلى أن توفى فى شهر رجب سنة ثلاث وخمسين. وفى سنة أربع وخمسين ثار على الصّالح طرخان بن سليط بن ظريف، متولّى الإسكندريّة، وجمع جموعا من العربان وغيرها؛ وتقدّم بها لحربه؛ فندب الصّالح إليه الأمير عزّ الدّين حسام بن فضّة بعسكر، فالتقوا واقتتلوا، فهزم حسام جيوشه وظفر به؛ فاعتقله الصّالح. فلمّا كان فى المحرّم سنة خمس وخمسين ثار أخوه إسماعيل طلبا لثأره، وتلقّب بالملك الهادى؛ فندب الصّالح [96] إليه الجيوش. فلمّا هجمت عليه هرب وأتى الجيزة، واستتر عند بعض العربان. فلمّا كان فى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر هرب طرخان من الاعتقال هو والموكل به، فقبض عليه فى السّادس من الشهر وصلب على باب زويلة، ورمى بالنشّاب، ثم مسك أخوه إسماعيل وصلب إلى جانبه بعد ضرب عنقه «2» . وفى سنة أربع وخمسين بنى الصّالح حصنا من اللبن على مدينة بلبيس «3» .

ذكر وفاة الفائز بنصر الله

ذكر وفاة الفائز بنصر الله كانت وفاته فى ليلة الجمعة السّابع عشر من شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة؛ وقيل لليلة بقيت منه؛ وكان مولده فى يوم الجمعة لتسع بقين من المحرّم سنة أربع وأربعين، فكان عمره إحدى عشرة سنة وستّة أشهر وأيّاما، ومدّة ولايته ستّ سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما «1» . وزراؤه: الأفضل عبّاس بن يحيى بن تميم؛ ثم الصّالح طلائع بن رزّيك. قضاته: أبو المعالى مجلّى بن نجا القرشى المخزومىّ؛ ثمّ صرف فى أوّل وزارة الصّالح، وأعيد أبو الفضائل يونس؛ ثم صرف بالقاضى المفضّل أبى القاسم هبة الله بن كامل. ذكر بيعة العاضد لدين الله هو أبو محمد عبد الله بن يوسف، بن الحافظ عبد المجيد، بن محمد، ابن المستنصر بالله أبى تميم معدّ، بن الظّاهر لإعزاز دين الله أبى هاشم على، بن الحاكم بأمر الله أبى على المنصور [بن العزيز بالله] «2» نزار، بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، ابن القائم بأمر الله أبى القاسم محمد، بن المهدىّ عبيد الله. وهو الرابع عشر من ملوك الدولة العبيدية، والحادى عشر من ملوك الديار المصرية

منهم؛ وعليه انقرضت دولتهم. بويع له بعد وفاة الفائز بنصر الله فى يوم الجمعة السّابع عشر من شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وكان الملك الصّالح طلائع قصد أن يبايع لشخص من أقارب العاضد، فقال له بعض أصحابه لا يكن عبّاس أحزم منك حيث اختار صغيرا وترك من هو أسنّ منه، واستبدّ هو بالأمر. فعدل الصّالح إلى العاضد، وبايع له وهو مراهق البلوغ؛ فكانت الخلافة للعاضد اسما وللصّالح رسما «1» . ويوسف أبو العاضد هو أحد الأخوين «2» اللذين قتلهما عبّاس بعد قتل الظافر. وفى سنة ستّ وخمسين تزوّج العاضد لدين الله بابنة الملك الصّالح بن رزّيك؛ وكان العاضد توقّف عن زواجها، فجبره الصّالح على ذلك واعتقله إلى أن تزوّجها؛ وقصد بذلك أن يرزق العاضد منها ولدا فتحصل الخلافة والملك لبنى رزّيك، فجاء بخلاف ما قصد «3» .

ذكر مقتل الملك الصالح طلائع بن رزيك وقيام ولده الملك العادل رزيك

ذكر مقتل الملك الصّالح طلائع بن رزّيك وقيام ولده الملك العادل رزّيك كان مقتله فى السّابع عشر من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة. وذلك أنّه ركب فى هذا اليوم من دار الوزارة إلى القصر، وجلس على مرتبته على عادته؛ فلمّا انقضى المجلس خرج؛ فبينما هو فى دهاليز القصر وثب عليه جماعة فضربوه بالسّكاكين عدّة ضربات مهلكة. وكان سبب ذلك أنّه تحكّم فى الدّولة لخلوّها من الأمراء وصغر سنّ العاضد، وكان قد فرّق الأمراء وقتل بعضهم؛ فبعثت ستّ القصور عمّة العاضد الأموال إلى بعض الأمراء وأغرتهم به، فرتبوا ذلك. قال: ولمّا ضرب بالسّكاكين ألقى ابن الزّبد نفسه عليه وقاتل دونه ودخل بقيّة الأمراء فخلّصوه فركب وبه بعض رمق. فلمّا رأته ستّ القصور وقد ركب أيقنت بالهلاك. قال: ولمّا استقرّ فى منزله أرسل إلى العاضد يعاتبه على ما كان منه، فحلف وأنكر أن يكون اطّلع «1» على هذا الأمر قبل وقوعه فأرسل إليه أن يبعث إليه عمّته ستّ القصور، فتوقّف العاضد عن ذلك، فأرسل الصّالح إلى [ست] «2» القصور وأخرجها؛ فلما جاءت إلى منزله أمر [97] بخنقها، فخنقت بين يديه حتّى ماتت. ومات الصّالح فى بقيّة ليلته. قال: وكان الصّالح شديد التّشيّع متغاليا فى مذهب الإماميّة؛ وكان يكره أهل السّنّة. وقيل إنّه كان يسبّ الصّحابة، رضى الله عنهم،

وغضب على من يتنقّصهم. وكان فيه بخل وحسد. ومنع فى أيّامه من بيع الغلال حتى غلت الأسعار. وكان كثير التّطلّع إلى ما فى أيدى النّاس، وصادر جماعة ليس لهم تعلّق بالدّولة وأفنى الأمراء قتلا واعتقالا. وهو أوّل من خوطب بالملك فى الدّيار المصريّة «1» . وقال ابن الحباب فى سيرته: إنّه من ولد جبلة بن الأيهم الغسّانى الذى ارتدّ عن الإسلام فى خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. قال المؤرخ: وكان والد الصّالح يسمى أسد رزّيك، قدم مع أمير الجيوش بدر الجمالى. قال: وكان الصّالح مع ذلك حازما ضابطا لأمور دولته شاعرا أديبا. قال القاضى الأرشد عمارة اليمنى «2» ، دخلت على الصّالح قبل وفاته بليلتين فناولنى رقعة وقال: قد عملت هذين البيتين فى هذه السّاعة؛ فإذا فيها: نحن فى غفلة ونوم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام قد رحلنا إلى الحمام سنينا ... ليت شعرى! متى يكون الحمام!!

فقلت: هما صالحان، وقمت، فكان آخر عهدى به «1» . قال المؤرخ: وكان الصّالح يقطع اللّيل أثلاثا: فالثّلث الأوّل مع أمراء دولته ووجوهها؛ والثّلث الثّانى مع جلسائه وندمائه وشعرائه؛ والثّلث الثالث مع خواصّ نسائه. فكان يسمّى: أبو العمرين قالوا: وكذلك كان أمير الجيوش بدر الجمالى: ومن شعر الصّالح قوله: يا مريض القلب بالذّن ... ب، متى بالعفّو تبرا كلّما جدّدت يوما ... توبة ضيّعت أخرى تشتهى الأجر ولا تف ... عل ما يكسب أجرا أترى بعد ذهاب ال ... عمر تستأنف عمرا وقوله: يا ماشيا فوق الثّرى ... رفقا، فسوف تصير تحته إن قلت إنّى أعرف ال ... مولى القدير، فما عرفته إن كنت تعبد للمخا ... فة والرّجاء، فما عبدته «2» والصّالح هو الذى بنى الجامع «3» خارج باب زويلة المعروف به. وكان يقول: ندمت على ثلاثة: أحدها أننى بنيت الجامع بظاهر القاهرة وجعلته عونا على باب زويلة فيضرّها وقت الحصار؛ والأخرى توليتى شاور أعمال الصّعيد، والله لا كان خراب دولة بنى رزّيك إلا على يديه؛

والثّالثة أنّنى أنفقت فى العساكر مائتى ألف دينار لأجل فتح بيت المقدس فتأخّرت عن ذلك «1» . قال: ولمّا توفى دفن بدار الوزارة ثمّ نقل إلى تربته الّتى بقرافة مصر. قال: ولمّا حضرته الوفاة أحضر ولده رزّيك وأوصاه بوصايا كثيرة، من جملتها أنّه لا يعزل شاور ولا يغيّر عليه مغيّرا. قال: ورثاه الشّعراء بقصائد كثيرة، فيها ما قاله القاضى الأرشد عمارة اليمنى: أفى أهل ذا النّادى عليم أسائله ... فإنّى لما بى، ذاهب العقل ذاهله «2» سمعت حديثا أحسد الصّمّ عنده ... ويذهل واعيه، ويخرس قائله ومنها: وقد رابنى من شاهد الحال أنّنى ... أرى الدّست منصوبا وما فيه كافله وأنّى أرى فوق الوجوه كآية ... تدلّ على أنّ النّفوس ثواكله دعونى. فما هذا أوان بكائه «3» ... سياتيكم طلّ البكاء ووابله وهى قصيدة طويلة أتى فيها بكل عجيب قال: ولمّا مات الصّالح خرجت الخلع من القصر لولده، وتلقّب بالملك العادل مجد الإسلام «4»

[98] ذكر ظهور حسين بن نزار وقتله

[98] ذكر ظهور حسين بن نزار وقتله وفى شهر رمضان سنة سبع وخمسين وخمسمائة ورد حسين بن نزار، بن المستنصر بالله ابن الظّاهر لإعزاز دين الله من بلاد المغرب، وقد جمع جمعا عظيما وتلقب بالمنتصر بالله؛ فخرج إليه الأمير عزّ الدين حسام بن فضّة ابن رزّيك على صورة الانضمام إليه واللّحاق به. فلمّا صار عنده فى خيمته غدر به وقتله، وحمل رأسه إلى العاضد لدين الله. وفيها بنى الأمير أبو الأشبال ضرغام البرج المعروف به بثغر الإسكندرية. ذكر انقراض دولة بنى رزيك قد ذكرنا أن الملك الصّالح بن رزّيك، والد العادل، لمّا حضرته الوفاة أوصى ابنه العادل بوصايا كثيرة منها أنّه لا يعزل شاور من عمله ولا يحرّكه؛ وحذّره من ذلك فلمّا كان فى سنة سبع وخمسين اجتمع أقارب العادل وحسّنوا له عزل شاور عن ولاية الصّعيد، فذكّرهم بوصيّة أبيه، فأصروا على عزله، وكان أشدّهم فى ذلك الأمير عزّ الدّين حسام ابن فضّة، فألزم العادل إلى أن كتب كتابا يستدعى فيه شاور ويأمره بالحضور إلى القاهرة فكتب إليه شاور يستعطفه ويظهر الطّاعة والإدلال لسابق الخدمة لأبيه، ومناصحته فى القيام بأمور الدّولة، ثمّ قال فيه إن كان القصد أن يلى الأعمال أحدكم فليرسل السّلطان من يتسلّمها غير عزّ الدين حسام؛ وإن كان غيركم من الأمراء فأنا أحق به من سواكم؛ وقد سمعتم وصيّة أبيكم الصّالح فى حقّى وما كرّره عليكم فى أمرى

وإقرار أعمال الصّعيد فى يدى. وأرسل الكتاب إلى العادل، فوقف عليه، وأوقف عليه أقاربه وأهله. فقالوا: إن أبقيته طمع فى البلاد ولا يحمل إليك مالا. فقال العادل لهم: المصلحة تركه. فصمّموا على عزله. فأحضر العادل نصير الدّين شيخ الدّولة، وهو من أقاربه، وخلع عليه وولّاه الأعمال القوصيّة، وكتب على يده إلى شاور بتسليم الأعمال إليه ووصوله إلى القاهرة. وتوجّه نصير الدّين. فلمّا وصل إلى إخميم أقام بها وأرسل الكتاب إلى شاور طىّ كتابه؛ فلمّا وقف شاور على الكتاب أرسل إلى نصير الدّين رسولا من جهته برسالة يقول له: إنّ بينى وبينك صحبة ولا تغترّ بقول حسام، وارجع من حيث أتيت فهو خير لك. فرجع نصير الدّين إلى القاهرة ولم يعاوده. وأظهر شاور العصيان على الدّولة، وأحضر جماعة من العربان من بنى شيبان وغيرهم، وتوجّه من الأعمال القوصية، وجعل طريقه على الواحات، وخرج منها إلى تروجة، وحشد العربان وأنفق فيهم الأموال؛ فوافقوه وانطاعوا له؛ فسار بهم نحو القاهرة. فندب العادل لحربه سيف الدّين حسينا، صهره، ومعه جماعة من الأمراء. فراسلهم شاور واستمالهم، وبذل لهم الأموال الجمّة، فمالوا إليه فلمّا التقوا انحازوا إلى جماعته وفارقوا مقدّمهم، فانهزم حسين واستجار بظريف ابن مكنون أمير جذام فأجاره، وحمله فى البحر؛ فمضى إلى مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم فمات هناك فندب إليه العادل عزّ الدّين حساما، فانهزم منه أيضا. فعند ذلك خرج العادل من القاهرة وتوجّه إلى إطفيح، واستصحب أهله وذخائره. واستجار بسليمان بن الفيض اللّخمى، وكان من

[99] ذكر وزارة شاور الأولى وخروجه منها

أصحاب أبيه الصّالح، فأنزله عنده؛ ومضى من وقته إلى شاور وأخبره بخبر العادل، فندب إليه جماعة فأخذوه أسيرا هو ومن معه، ونهب أصحاب ابن الفيض ما كان معه. وحمل إلى شاور فوصل إليه فى ليلة الجمعة لثلاث بقين من المحرّم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فأمر شاور باعتقاله؛ وقال لسليمان بن الفيض: لقد خبأك الصّالح ذخيرة لولده حين استجار بك فأسلمته لى، وأنا أخبئك ذخيرة لولدى. ثمّ أمر به فشنق. وسمّيت فرقة ابن الفيض غمازة من ذلك اليوم، فهى تعرف الآن بهذا الاسم. فكانت أيام العادل سنة واحدة وثلاثة أشهر وأيّاما. وجميع دولة بنى رزّيك تسع سنين تقريبا. [99] ذكر وزارة شاور الأولى وخروجه منها كانت وزارته فى يوم الأحد لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وذلك أنّه لما انهزمت جيوش العادل بن رزّيك وهرب هو إلى إطفيح خلت القاهرة منهم؛ فدخلها شاور، وحضر بين يدى الخليفة العاضد لدين الله، فخلع عليه خلع الوزارة، وسلطنه، ولقّبه بأمير الجيوش. وأطلق شاور لأهل القصور الإطلاقات الكثيرة، وزادهم على مقرّراتهم فى أيّام بنى رزّيك واستدعى أموال بنى رزّيك وودائعهم. وبسط العدل أيّاما، ثم شرع فى ظلم النّاس؛ وبسط يده ويد أولاده فى الدّولة؛ وقطع أرزاق الأمراء والجند واستخفّ بهم وبالعاضد. وعتا ولده الكامل وتجبّر، ولبس رداء الكبر، وبذخ فى الأموال، وصرفها فى غير وجوه مصارفها «1» .

ذكر وزارة الضرغام بن سوار

وساءت سيرته فى الأمراء فأجمعوا على إخراج العادل من الاعتقال ونصبه فى الوزارة. فاتّصل ذلك بالكامل بن شاور؛ فأشار على أبيه بقتل العادل، فامتنع من ذلك وقال: إنّه أولانى خيرا فلا أقتله، فقتله الكامل من غير إذن أبيه. فعظم ذلك على شاور وعلى الأمراء، وغضب الأمراء لقتل العادل، وخرجوا عن شاور، وافترقوا على فرقتين: فكان الضّرغام وإخوته وأهله فرقة، والظّهير عزّ الدين مرتفع وعين الزّمان وابن الزّبد فرقة. وكان الضّرغام ومن معه أظهر الفرقتين. فخرج على شاور وحاربه، فجمع شاور أمواله وذخائره وغلمانه، وخرج ليلا من القاهرة، فركب الضّرغام فى إثره فلحقه عند باب النصر؛ فقاتله طىّ بن شاور، فقتل طىّ، وأسر أخوه الكامل؛ ومضى شاور إلى الشّام. وذلك فى صبيحة يوم الجمعة، لثلاث بقين من شهر رمضان من السّنة. فكانت وزارته ثمانية أشهر وخمسة أيّام «1» . والله أعلم. ذكر وزارة الضّرغام بن سوار قال: ولمّا توجّه شاور إلى الشّام عاد الضّرغام إلى القصر وأرسل إلى العاضد بما كان من أمر شاور، ومضى إلى داره بقيّة ليلته. وجاء إلى القصور من بكرة النّهار، فاستدعاه العاضد لدين الله، وولّاه الوزارة، ولقّبه بالملك المنصور، واستحلف له الأمراء.

ذكر قدوم شاور من الشام وعوده إلى الوزارة ثانيا وقتل الضرغام

وأرسل علم الملك بن النحاس إلى الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، صاحب الشّام، يقبض على شاور. فأظهر نور الدّين الإجابة لذلك، وباطنه بخلاف ظاهره «1» . قال: ولمّا ولى الضّرغام الوزارة خرج عليه الأمير على بن الخوّاص، فظفر به الضّرغام، فأشهره بالقاهرة، وصلبه. وأحضر جماعة من الأمراء إلى داره لدعوة عملها، فلما حضروا إليه قبض عليهم وقتلهم «2» . ذكر قدوم شاور من الشّام وعوده إلى الوزارة ثانيا وقتل الضّرغام كان قدومه فى جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وذلك أنّه لمّا توجه إلى دمشق اجتمع بالملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، وحسّن له أن يجهّز معه جيشا يفتح به مصر؛ ووصفها له ورغّبه فيها، والتزم أنّه يحمل خزائنها «3» إليه يستعين بها على قتال الفرنج. فمال إليه، وجهّز معه أسد الدّين شيركوه بعساكر. فلمّا قاربوا مصر ندب إليهم الضّرغام عسكرا وقدّم عليه أخاه ناصر المسلمين، فلقيهم على بلبيس، فانهزم العسكر المصرىّ وعاد إلى القاهرة.

وسار شاور والعساكر الشّاميّة، فنزل بظاهر القاهرة فى آخر الشّهر، واجتمع معه خلق كثير من العربان. فعلم الضّرغام أنّه لا قبل له بما دهمه؛ فركب إلى القصر، وطاف به، وجعل ينادى العاضد، وهو يخاف أن ينزل إليه. فأرسل إليه العاضد يقول: أنج بنفسك. فخرج من القاهرة يريد مصر، ودخل شاور وشيركوه إلى القاهرة، وندب جماعة فى إثر الضرغام فأدركوه عند مشهد السّيدة نفيسة، فقتلوه هناك فى يوم الجمعة، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. وطيف برأسه القاهرة [100] على رمح، وبقيت جثّته ملقاة بين الآكام ثلاثة أيّام حتى أكلتها الكلاب. ودفن ما بقى منه عند بركة الفيل، وعمل عليه قبّة، فكانت مدّة ملك الضرغام تسعة أشهر «1» . وكان فارسا بطلا، كريما، عاقلا، أديبا، يحبّ العلماء ويقرّبهم؛ وله مجلس يجتمع فيه أهل العلم والأدب دون غيرهم. وكان حسن الخطّ. يقال إنّه كان يحاكى ابن البوّاب «2» فى خطّه. قال: ودخل شاور إلى العاضد لدين الله فى مستهلّ شهر رجب، فعاتبه على ما كان منه فى إحضار العسكر الشّامىّ، وحذّره عاقبة ذلك؛ فوعده أنّه يصرفهم إلى بلادهم، فقبل ذلك منه، وخلع عليه خلع الوزارة.

ذكر غدر شاور بشيركوه

ذكر غدر شاور بشيركوه قال: ولما انتصب شاور فى الوزارة وتمّ له ما أراد، أخذ فى التّدبير على العسكر الشّامى، وحلّف الأمراء، وتخاذل عن شيركوه؛ وصار يخرج إليه بوجه عليه آثار الغضب. ففهم أسد الدّين شيركوه عنه، وعلم شاور أنّه لا قبل له بشيركوه، فاستعان بالفرنج «1» واستدعاهم من السّاحل لنصرته، ووعدهم بالأموال. واتّصل ذلك بأسد الدّين فحاصر القاهرة. واتّصل خبر شاور بالملك العادل نور الدّين، فكتب إلى أسد الدين وأعلمه بما بلغه من مباطنة الفرنج، وأمره بالخروج عن الدّيار المصريّة. فأبى ذلك وتوجّه إلى بلبيس، واحتوى على بلاد الحوف، وجعل مدينة بلبيس ظهره. فاجتمعت العساكر المصريّة ومن أتاهم من الفرنج، ونازلوا أسد الدّين، وحصروه ببلبيس ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها لم يبرز إليهم، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر على الفرنج أنّ نور الدّين ملك حارم «2» وسار إلى بانياس، فراسلوا شيركوه يسألونه الصّلح؛ فأجابهم إلى ذلك؛ وخرج من مدينة بلبيس «3» ، فلمّا صار بظاهرها أشار شاور على تلك الفرنج بمهاجمته وقبضه فامتنع مرّى «4» ، ملك الفرنج، وأبى إلّا الوفاء بيمينه لشيركوه. وسار أسد الدّين إلى الشّام، وعاد شاور إلى القاهرة، ومعه طائفة من الفرنج يتقوّى بهم. وكان قد بذل لهم على نصرته أربعمائة ألف دينار، ويهادنهم خمس سنين.

ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية بالعساكر الشامية وانفصاله

وكان دخول شاور إلى القاهرة لستّ مضين من ذى الحجة من السّنة؛ واستمرّ بمصر من غير منازع، إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ذكر عود أسد الدّين شيركوه إلى الدّيار المصرية بالعساكر الشاميّة وانفصاله قال المؤرخ: لمّا انفصل أسد الدّين شيركوه عن الدّيار المصريّة فى سنة تسع وخمسين، بقى عنده منها أمر عظيم. وكان إذا خلا بنور الدّين الشّهيد يرغّبه فيها. فجهّزه بالعساكر والحشود، فسار من الشّام فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستّين وخمسمائة، فاتّصل ذلك بشاور، فراسل الفرنج وانتصر بهم. فخرج الفرنج ووقفوا على الطّريق الّتى يسلكها شيركوه إلى الدّيار المصريّة، فعدل شيركوه عن تلك الطّريق وجعلها عن يمينه، وسار حتى نزل إطفيح، فى سادس شهر ربيع الآخر. وعبر النّيل إلى الجانب الغربىّ، ونزل الجيزة، وأقام عليها إلى العشرين من جمادى الأولى. واستولى على الغربية وغيرها. فأرسل شاور إلى الفرنج يستحثّهم، فأتوه على الصّعب والذّلول، وقد طمعوا فى ملك الدّيار المصريّة «1» . فلما تكاملوا بالقاهرة توجّه أسد الدّين شيركوه نحو الصّعيد، وسار شاور والفرنج فى آثارهم. فجمع أسد الدّين الأمراء واستشارهم [فى] «2» العبور إلى الجانب الشّرقى والعود إلى الشّام، فوافقوه على ذلك؛ فنهض

شرف الدّين بزغش، أحد الأمراء المماليك النّوريّة، وكان شجاعا مقداما، وأنكر ذلك كلّ الإنكار، وامتنع من الموافقة، وقال: من خاف من الأسر أو القتل فلا يخدم الملوك «1» ويأكل رزقهم، ويكون فى بيته عند امرأته. وقال: والله لا نزال نقاتل إلى ان نقتل عن آخرنا أو ننتصر. فوافقه أسد الدّين، وجمع عسكره ورتّبهم، وجعل أثقاله فى القلب ليكثر بها السّواد ولئلّا ينهبها أهل البلاد. فبينما هم فى التّعبئة إذا بشاور والفرنج قد أقبلوا، ورتّبهم واقتتلوا، فكانت الهزيمة على شاور والفرنج «2» وتوالت عليهم الحملات من العسكر الشّامى، فتمادت بهم الهزيمة إلى الجيزة، وشيركوه فى آثارهم. وقتل منهم خلق وغرق كثير منهم. وأسر أسد الدّين [101] صاحب قيسارية «3» . ودخل شاور والفرنج إلى القاهرة، وملك أسد الدّين البرّ الغربى بكماله؛ وقصد الإسكندريّة ليحاصرها. فلمّا قرب منها خرج إليه أهلها وسلّموها إليه من غير ممانعة؛ وكان والى الثّغر يوم ذاك نجم الدّين بن مصال. فدخل شيركوه البلد، وأقام بها أيّاما قلائل، واستناب بها صلاح الدّين يوسف بن أبيه نجم الدّين أيوب، وتركه بها ومعه ألف فارس. وتوجّه هو إلى الصّعيد فاستولى عليه، واستخرج أمواله؛ وصام شهر رمضان بمدينة قوص. هذا وشاور يتجهّز للخروج ويرتّب أحواله وأحوال الفرنج ويرمّ ما تلف لهم. فلمّا تكامل ما يحتاج إليه قصد الإسكندريّة، فأخرج أهلها

الأموال وأنفقوها، واستعدّوا للحصار؛ فكان فى جملة ما أخرجوه للحصار أربعة وعشرون ألف قوس زنبورك وما يناسب ذلك من الآلات. وسار شاور ومرّى ملك الفرنج، فنازلوا الإسكندريّة. فلمّا رأوا شدّة أهلها واجتماعهم على الحصار، تقدّم شاور إليهم وقال: سلّموا إلىّ صلاح الدّين ومن معه وأضع عنكم المكوس، وأعطيكم الأخماس. فامتنعوا وقالوا: معاذ الله أن نسلم المسلمين إلى الفرنج والإسماعيلية. فعند ذلك وقع الحصار واشتدّ على أهل الإسكندرية إلى أن قلّت الأقوات. وبلغ ذلك أسد الدّين فسار من الصّعيد وجدّ فى السّير إلى الإسكندرية، وكان شاور قد أفسد التّركمان الذين مع أسد الدين فصاروا معه؛ واجتمع لشيركوه طائفة كبيرة من العربان، فلمّا علم شاور بقربه خافه وراسله فى طلب الصّلح، وبذل له خمسين ألف دينار، سوى ما أخذه من خراج البلاد، على أن يفارق الدّيار المصريّة. فأجاب أسد الدّين إلى ذلك «1» ، وشرط عليهم أن يرجع هو إلى الشّام ويرجع الفرنج إلى بلادهم. فاستقرّت هذه القاعدة، وحلف الفرنج عليها. ففتحت الإسكندريّة عند ذلك، وخرج صلاح الدّين يوسف إلى مرّى ملك الفرنج وجلس إلى جانبه. فدخل شاور عليهما، فقال لمرّى: سلّمه إلى وأعطيك فى كلّ سنة خمسين ألف دينار. فقال مرّى: نحن إذا حلفنا

لا نغدر؛ ووبّخه. وكان أسد الدّين قد شرط على شاور أنّ الفرنج يرحلون ولا يلتمسون من البلاد درهما ولا ضيعة ولا غير ذلك. قال: وارتحل أسد الدّين، ودخل مصر برضاء أهلها، وسار إلى بلبيس. وأرسل إلى ابن أخيه يوسف أن يتوجّه فى المراكب إلى عكّا، هو ومن معه من العسكر، وما معه من الأثقال؛ ففعل ذلك، وركب من عكّا إلى دمشق. هكذا حكى ابن جلب راغب فى تاريخه. قال: وارتحل أسد الدّين من بلبيس فى نصف شوّال، ودخل شاور إلى الإسكندريّة، ثمّ خرج منها وعاد إلى القاهرة، فدخلها فى مستهلّ ذى القعدة، وتلقّاه العاضد لدين الله. وأمّا الفرنج، فاستقرّ بينهم وبين شاور أن يكون لهم شحنة «1» بالقاهرة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم فى كلّ سنة مائة ألف دينار. وفى سنة ثلاث وستّين وخمسمائة خرج يحيى بن الخياط على شاور وطلب الوزارة؛ فندب شاور عسكرا لحربه، فانهزم ومضى إلى بلاد الفرنج «2» .

ذكر وصول الفرنج إلى القاهرة وحصارها وحريق مصر

ذكر وصول الفرنج إلى القاهرة وحصارها وحريق مصر قال المؤرخ: وفى سنة أربع وستّين وخمسمائة عاد الفرنج إلى القاهرة. وذلك أنهم لمّا توجّهوا فى سنة اثنتين وستّين رتّبوا فى القاهرة جماعة من أبطالهم وشجعانهم وفرسانهم ليحموها من عسكر يأتى إليها من الشّام؛ فلمّا رأوا خلوّ مصر من الأجناد راسلوا ملكهم مرّى واستدعوه، وكان من الشّجاعة والمكر على أمر عظيم. فامتنع وقال: الرّأى ألا نقصدها فإنّها طعمة لنا، وأموالها تحمل إلينا نتقوّى بها على قتال نور الدّين؛ وإن قصدناها حمل أصحابها الخوف على تسليمها لنور الدّين، وإن أخذها وجعل فيها مثل أسد الدّين شيركوه فهو هلاك الفرنج وخروجهم من الشام. فلم يقبلوا رأيه، وقالوا: ما يصل عسكر نور الدّين إلينا إلا وقد ملكناها. وغلبوا على رأيه. فتجهّز الفرنج وساروا حتّى وصلوا إلى مدينة بلبيس ونازلوها؛ فوقع الإرجاف بمصر؛ وشرع شاور فى إنشاء حصن على مصر واستعمل فيه النّاس، فلم يبق أحد إلا وعمل فيه؛ وحفر خندقا. وملك الفرنج بلبيس عنوة وسبوا وقتلوا خلقا كثيرا «1» . وكان معهم بعض الأمراء المصريّين ممّن هرب من شاور، منهم يحيى بن الخياط. ثمّ ساروا [102] إلى القاهرة وأحاطوا بها، وذلك فى العاشر من صفر، فخاف أهلها إن أهملوا القتال أن يحلّ بهم ما حلّ بأهل بلبيس، فجدّوا فى القتال والاحتراز.

قال: ولمّا قرب الفرنج من القاهرة أمر شاور بنهب مصر وإحراقها، فأحرقت فى تاسع صفر، ونهبت؛ وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فانتقل بعضهم، وتحصّن البعض بالجزيرة، وتوجّه آخرون فى المراكب إلى ثغرى الإسكندريّة ودمياط، وطائفة إلى الوجه القبلى؛ وتفرّقوا وذهبت أموالهم. كلّ ذلك قبل نزول الفرنج على القاهرة بيوم. قال: وبقيت النّار تعمل فيها أربعة وخمسين يوما؛ إلى حادى عشر شهر ربيع الآخر. قال: ولمّا علم العاضد لدين الله عجز أهل القاهرة عن مقاومة الفرنج أرسل إلى الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى يستغيث به، وسيّر إليه شعور نسائه فى طىّ الكتب. وقيل إن شاورا أرسل إلى نور الدّين أيضا. وأرسل شاور إلى مرّى ملك الفرنج يذكّره بسابق الصحبة والعهود القديمة، وقرّر أن يحمل إليه ألف ألف دينار؛ فأجاب مرّى إلى ذلك وقال لأصحابه: نأخذ المال ونتقوّى به ونمضى ثمّ نرجع فلا نبالى بعد ذلك بنور الدّين. فاستوثق شاور منه بالأيمان وعجّل له مائة ألف دينار، وماطله بالبقيّة؛ وشرع يجمع له من أهل القاهرة المال، فلم يحصل له من جهتهم غير خمسة آلاف دينار لضعفهم. هذا والرّسل تتتابع إلى الملك العادل ويستغيثون به. وقرّر له ثلث الدّيار المصرية. قال: ولما وصلت الكتب إليه طلب أسد الدّين شيركوه من حمص، فسار منها إلى حلب فى ليلة واحدة، فجهّزه نور الدّين وأعطاه مائتى ألف دينار سوى الثّياب والسّلاح وغير ذلك. فاختار أسد الدّين من العسكر ألفى فارس من الأقوياء، وستّة آلاف من بقيّة العسكر. وأنفق نور

ذكر قدوم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ورحيل الفرنج عنها

الدّين لكلّ فارس عشرين دينارا. ثمّ سار شيركوه، فكان خروجه من دمشق فى منتصف شهر ربيع الأول؛ وأردفه نور الدين بجماعة من الأمراء، منهم مملوكه عز الدين جرديك، وشرف الدين بزغش وعين الدّولة الياروقى، وناصح الدّين خمارتكين، وقطب الدين ينال بن حسّان المنبجى، وغيرهم «1» . والله أعلم. ذكر قدوم أسد الدّين شيركوه إلى الدّيار المصرية ورحيل الفرنج عنها قال: وقدم أسد الدّين شيركوه بالعساكر، فكان وصوله إلى مصر فى يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين وخمسمائة. ولمّا بلغ الفرنج قربه عادوا عن القاهرة إلى بلادهم، وكان رجوعهم فى يوم السّبت ثالث شهر ربيع الآخر، ومعهم من الأسرى اثنا عشر ألف نفس. ودخل أسد الدّين القاهرة فى سابع شهر ربيع الآخر، وخرج إليه العاضد لدين الله وتلقّاه. وحضر يوم الجمعة التاسع من الشّهر إلى الإيوان وجلس إلى جانب العاضد، وخلع عليه؛ وفرح النّاس بقدومه. وعاد أهل مصر إليها، وشرعوا فى إطفاء النّيران وإصلاح ما تشعّث. وكانت سقوف جامع عمرو بن العاص بمصر قد احترقت فجدّده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف. قال: وأمر العاضد أسد الدّين بالنّزول على شاطىء النّيل بالمقس، ورتّب له شاور ولمن معه الإقامات الوافرة، وأظهر له ودّا كثيرا، وصار يتردّد إليه فى كلّ يوم. فطلب أسد الدّين من شاور ما لا ينفقه فى عسكره، فمطله

[103] ذكر مقتل شاور

فسيّر إليه شيركوه الفقيه عيسى الهكّارى يطالبه بالنّفقة ويقول له: إن العسكر قد طال مقامهم وطالبوا بالنّفقة وتغيّرت قلوبهم عليك، وإنّى أخشى عليك منهم. فلم يكترث شاور بذلك، وشرع فى المماطلة فيما كان قرّره لنور الدّين. وعزم شاور على أن يصنع دعوة ويحضر أسد الدّين وجماعة الأمراء الذين معه إلى داره، ويقبض عليهم، ويستخدم من معه من الجند فيمتنع بهم من الفرنج. فنهاه عن ذلك ولده الكامل، وحلف أنّه إن صمّم على هذا الأمر عرّف به شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم تفعل هذا قتلنا عن آخرنا. فقال الكامل لأبيه: صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنّه ليس بينك وبين [عود] «1» الفرنج إلا ان يسمعوا أنّ أسد الدّين قد قبض عليه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدّين ما أغاثه، ويملكون البلاد. فترك ما عزم عليه «2» . واتّصل ذلك بالعاضد فأعلم شيركوه. [103] ذكر مقتل شاور كان مقتله فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر من السنة. وذلك أنّ الأمراء النّوريّة لمّا رأوا مماطلته بالنّفقة وبلغهم أنّه قد عمل على القبض عليهم اتّفق صلاح الدّين يوسف وعزّ الدين جرديك، وغيرهما، على قتله وأعلموا أسد الدّين بذلك؛ فنهاهم عنه. واتّفق أنّ شيركوه خرج لزيارة قبر الإمام الشّافعى هذا اليوم، وحضر شاور له على عادته، فقيل إنّه توجّه للزّيارة؛ فقال: نتوجّه إليه. فتوجّه ومعه يوسف

وجرديك وهما يسايرانه، فأنزلاه عن فرسه، وكتّفاه، فهرب عنه أصحابه. فجعلاه فى خيمة، وأحاط بها جماعة ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدّين «1» . فحضر من القصر جماعة من قبل العاضد، يستحثّ على قتله، وحضر أسد الدّين إلى المخيّم ورسل العاضد تتواتر لأسد الدّين يأمره بقتله. فقتل، وأرسل رأسه إلى العاضد على «2» رمح. ومضى أولاده إلى القصور واستجاروا بالعاضد، فقتلوا بعد العقوبة الشّديدة، فى يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأولى منها. وهم: الكامل، والمعظّم، وركن الإسلام. وتأسّف شيركوه بعد ذلك على الكامل لأنه بلغه ما جرى بينه وبين أبيه. قال: ولما قتل شاور استدعى العاضد أسد الدّين شيركوه، فدخل إلى القاهرة فى السّاعة الّتى قتل فيها شاور، فرأى العوامّ وقد اجتمعوا، فهاله ذلك، فقال لهم: إنّ مولانا العاضد لدين الله أمير المؤمنين يأمركم أن تنهبوا دور شاور. فتفرّق النّاس عنه، ونهبوها. ودخل شيركوه إلى القصر، فتلقّاه العاضد، وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه الملك المنصور أمير الجيوش «3» . ولم تطل مدّته فى الوزارة حتّى توفى إلى رحمة الله تعالى بعد خمسة وستّين يوما؛ وقام بالأمر بعده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدّولة الأيّوبيّة.

ذكر انقراض الدولة العبيدية والخطبة للمستضىء بنور الله العباسى

ذكر انقراض الدّولة العبيديّة والخطبة للمستضىء بنور الله العبّاسى كان انقراض هذه الدّولة عند خلع العاضد لدين الله، وذلك فى يوم الجمعة لسبع مضين من المحرّم سنة سبع وستّين وخمسمائة. وكان سبب ذلك أنّ صلاح الدّين يوسف لمّا ثبتت قدمه فى ملك الدّيار المصريّة واستمال النّاس بالأموال قتل مؤتمن الخلافة جوهرا، زمام القصور، ونصب مكانه قراقوش الأسدىّ الخصىّ خادم عمه، ثمّ كانت وقعة السّودان فأفناهم بالقتل، على ما نذكره إن شاء الله مستوفى فى أخباره. ثمّ أسقط من الأذان قولهم: «حىّ على خير العمل» ؛ وأبطل مجلس الدّعوة؛ وضعف أمر العاضد معه إلى الغاية فعند ذلك كتب الملك العادل نور الدّين إلى الملك النّاصر صلاح الدّين يأمره بالقبض على العاضد وأقاربه، والخطبة للخليفة المستضىء بنور الله «1» ، وكان المستضىء قد راسله فى ذلك. فامتنع صلاح الدّين، وكره إزالة هذه الدّولة. فكتب إلى الملك العادل يعتذر، وقال: إن فعلنا هذا الأمر لا نأمن من قيام أهل مصر علينا لميلهم إلى هذه الدّولة. وكان قصد صلاح الدّين أن يتفوّى بالعاضد على نور الدّين إن هو أراد الدّخول إلى الديار المصريّة «2» . فلما ورد جوابه على نور الدّين بالاعتذار انزعج لذلك، ورادف رسله إليه يأمره بخلع العاضد والقبض عليه «3» .

فاستدعى الملك الناصر الأمراء واستشارهم فى ذلك، فمنهم من حذّره، ومنهم من هوّنه عليه. فأحضر الفقيه اليسع بن يحيى بن اليسع، وعرّفه الحال. فلمّا كان فى هذه الجمعة صعد إلى المنبر بجامع مصر قبل طلوع الخطيب، ودعا للمستضىء بنور الله؛ فلم ينكر عليه أحد. فلمّا كان فى الجمعة الثّانية أمر الملك النّاصر الخطباء بمصر والقاهرة أن يخطبوا للمستضىء بنور الله أبى محمد الحسن، بن المستنجد بالله العباسى؛ فخطبوا له. ثمّ توفى العاضد لدين الله إثر هذا الخلع، فى يوم عاشوراء من السّنة، بعد ثلاثة أيّام من خلعه. وكان ضعيفا لمّا قطعت خطبته، فقال صلاح الدّين: لا تعلموه، فإن عوفى أعلمناه، وإن توفى فلا نفجعه بهذه الحادثة. وقال [104] بعض المؤرخين: إنّ صلاح الدين لمّا قطع خطبته دخل عليه وقبض عليه واعتقله، فلمّا رأى ذلك كان فى ذخائره فصّ فى خاتم، فمصّه، فمات لوقته. فكان صلاح الدّين يقول: ندمت [على] كونى دخلت على العاضد وفعلت به ما فعلت، وكان أجله قد قرب. ولمّا مات جلس الملك النّاصر للعزاء به. فكانت مدّة ولايته إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما، ومولده فى يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرّم سنة ستّ وأربعين وخمسمائة؛ فعمره على هذا إحدى وعشرون سنة إلّا أحد عشر يوما. وكان له من الأولاد ثلاثة عشر وهم علىّ؛ وموسى؛ وعبد الكريم؛ وأبو الحجّاج يوسف؛ وأبو الفتوح؛ وإبراهيم؛ وجعفر؛ ويحيى؛ وعبد القوى؛ وعبد الصّمد؛ وأبو البشر؛ وعيسى. فاعتقلهم الملك النّاصر بأجمعهم، واستمرّوا فى الاعتقال إلى سنة اثنتين وستّمائة، فكان من أمرهم ما نذكره فى أخبار الدّولة الأيوبية.

جامع أخبار الدولة العبيدية ومدتها ومن ملك من ملوكها

ووزرله من ذكرنا أخبارهم، وهم: الصّالح أبو الغارات طلائع بن رزّيك؛ ثم ولده العادل رزّيك، ثمّ شاور؛ ثمّ الضّرغام؛ ثم عاد شاور؛ ثمّ أسد الدّين شيركوه؛ ثمّ الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف. قضاته: أبو القاسم هبة الله بن كامل؛ وأبو الفتح عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى؛ ثمّ الأعز أبو محمّد الحسن بن على بن سلامة؛ ثم أعيد عبد الجبّار؛ ثم أعيد ابن كامل، ثمّ صرف على أيام الملك النّاصر بالقاضى صدر الدين أبى القاسم عبد الملك بن درباس «1» . وكان العاضد شديد التشيّع متغاليا فى سبّ الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين. إذا رأى سنّيّا استحلّ دمه. جامع أخبار الدّولة العبيديّة ومدّتها ومن ملك من ملوكها كانت مدّة تغلّب ملوك هذه الدّولة على البلاد منذ أخرج أبو عبد الله الشيعىّ عبيد الله، المنعوت بالمهدىّ، من سجلماسة، من سجن اليسع ابن مدرار إلى أن مات العاضد هذا مائتى سنة وسبعين سنة وشهورا «2» . منها ببلاد الغرب، منذ دخل عبيد الله المهدى رقّاده إلى أن وصل المعزّ لدين الله إلى القاهرة أربع وستون سنة وعشرة أشهر وخمسة وعشرون

يوما «1» . وباقى هذه المدّة بمصر والشّام، إلى أن انقطعت دعوتهم. بخروج عسقلان عن يد المسلمين واستيلاء الفرنج عليها، فى جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فى أيام الظافر بأعداء الله فى وزارة عبّاس بن يحيى بن تميم. وعدّة من ملك منهم أربعة عشر ملكا تسمّوا كلّهم بالخلافة؛ وهم: عبد الله المنعوت بالمهدىّ؛ ثم ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد؛ ثمّ ابنه المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل؛ ثم ابنه المعزّ لدين الله أبو تميم معدّ، وهو أوّل من ملك الدّيار المصريّة والبلاد الشامية منهم، وإليه تنسب القاهرة المعزيّة؛ ثم ابنه العزيز بالله أبو المنصور نزار؛ ثمّ ابنه الحاكم بأمر الله أبو على المنصور؛ ثمّ ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم، وقيل أبو الحسن، علىّ؛ ثم ابنه المستنصر بالله أبو تميم معدّ؛ ثم ابنه المستعلى بالله أبو القاسم أحمد؛ ثم ابنه الآمر بأحكام الله أبو على المنصور؛ ثم ابن عمّه الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد بن محمّد بن المستنصر بالله؛ ثم ابنه الظّافر بأعداء الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ؛ ثم ابنه الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر؛ ثم ابن عمّه العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر؛ وعليه انقرضت دولتهم، وانتهت أيّامهم، وباد ملكهم، فلم يعد إلى وقتنا هذا. قال المؤرخ: ولما خلع العاضد ومات واعتقل الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف أولاده بالقصور مرّ القاضى الأرشد عمارة اليمنى الشّاعر بالقصور، وهى مغلّقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها؛ فأنشأ قصيدته المشهورة التى رثى بها القصور وأهلها،

وهى من عيون المراثى [105] وأوّلها «1» : رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلى «2» بالعطل سعيت فى منهج الرّأى العثور، فإن ... قدرت من عثرات الدهر «3» فاستقل هدمت قاعدة المعروف «4» عن عجل ... سقيت مهلا، أما تمشى على مهل! لهفى ولهف بنى الآمال قاطبة ... على فجيعتنا «5» فى أكرم الدّول قدمت مصر فأولتنى خلائفها ... من المكارم ما أربى على الأمل قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... جمالها «6» أنّها جاءت ولم أسل منها: يا عاذلى فى هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت فى عذلى

بالله زرساحة القصرين، وابك معى ... عليهما، لا على صفّين والجمل وقل لأهلهما: والله ما التحمت ... فيكم جراحى، ولا قرحى بمندمل «1» ماذا ترى «2» كانت الإفرنج فاعلة ... فى نسل آل أمير المؤمنين على هل كان فى الأمر شىء غير قسمة ما ... ملّكتم بين حكم السّبى والنّفل وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمّد، وأبيكم غير منتقل مررت بالقصر، والأبواب خالية ... من الوفود، وكانت قبلة القبل فملت بوجهى خوف منتقد ... من الأعادى، ووجه الودّ لم يمل أسلت من أسفى «3» دمعى غداة خلت ... رحابكم، وغدت مهجورة السّبل أبكى على مأثرات «4» من مكارمكم ... حال الزّمان عليها، وهى لم تحل

وهى قصيدة مشهورة مطوّلة. ولمّا انقرضت هذه الدّولة قامت الدّولة الأيوبيّة على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار ملوكها والله أعلم.

ذكر أخبار الدولة الأيوبية

ذكر أخبار الدولة الأيوبية وهى دولة السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيوب وأولاده، ودولة أخيه الملك العّادل سيف الدّين أبو بكر وأولاده، رحمهم الله تعالى. ولنبدأ بذكر نسب نجم الدين أيّوب والد ملوك الدّولة الأيّوبيّة وابتداء حاله وحال أخيه أسد الدّين، وكيف تنقّلت بهم الحال إلى أن ملك أسد الدّين شيركوه الدّيار المصريّة، وكيف انتقل الملك من بعده إلى ابن أخيه الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف. ثمّ نذكر أخبار من ملك من أولاده وأخيه الملك العادل وأولاده فى حربهم وسلمهم إلى حين انقراض دولتهم. وبالله التوفيق ذكر نسب الملك الأفضل نجم الدّين هو [أبو] «1» سعيد أيوب بن شادى بن مروان. هذا هو المقطوع به الذى لا نزاع فيه، ولا خلاف بين أحد من المؤرخين ونقلة أخبارهم. وقال الملك الأمجد مجد الدّين أبو محمد الحسن، ابن السلطان الملك النّاصر صلاح الدين أبى المفاخر داود، ابن السلطان الملك المعظّم شرف الدّين أبى المظفر عيسى، ابن السلطان الملك العادل سيف الدّين أبى بكر محمد، ابن الملك الأفضل نجم الدّين أبى سعيد أيوب، رحمهم الله تعالى، فى كتابه المترجم بالفوائد الجليّة فى الفرائد النّاصريّة: سمعت من يقول: مروان بن محمد؛ وقال بعض النّاس محمد بن يعقوب.

وقال شهاب الدّين أبو شامة عبد الرحمن فى كتابه المترجم بالرّوضتين فى أخبار الدّولتين سمعت من يقول: مروان بن يعقوب «1» . وقال [106] الملك الأمجد: وقد اختلف فى نسبهم على ثلاثة أقوال: القول الأول: ما قاله عز الدّين على بن الأثير الجزرى المؤرخ أنّ نجم الدين أيوب من بلد دوين «2» من أذربيجان، وأصله من الأكراد الرّواديّة؛ وهذا القبيل هم أشرف الأكراد «3» . قال الملك الأمجد: وهذا شىء يجرى على ألسنة كثير من النّاس، ولم أر أحدا ممّن أدركه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا النّسب، لكنّهم لا ينكرون أن نجم الدّين كان بدوين. قال: والمشهور عند بيتنا أنّ جدنا نزل على الأكراد وتزوّج منهم، فصارت بيننا وبينهم خؤولة لا غير. ويدلّ على ذلك أن السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف لمّا ملك البلاد تقدّم فى دولته جماعة من الأكراد، فلم يبق أحد منهم إلا جاء بنو عمّه وأقاربه، حتى صار فى عصبة من أهله؛ والسّلطان رحمه الله لم يأت إليه من يمتّ بقرابة إلا من جهة النّساء فقط؛ ولو كان من الرّواديّة لكان جميع القبيلة أولاد عمه وإن لم يكن له ابن عمّ قريب فيكون ابن عمّ بعيد قطعا لأن القبيلة كلّها أولاد رجل واحد. ولا شكّ أنّ الدّواعى تتوفّر على الانتماء إلى الملك ما لا تتوفّر على الانتماء إلى الأمراء. القول الثانى: أنهم من أولاد مروان بن محمد الأموى، آخر خلفاء الدولة الأموية.

قال الملك الأمجد: وهذا شىء ادّعاه الملك المعزّ فتح الدين أبو الفداء إسماعيل بن الملك العزيز ظهير الدين أبى الفوارس سيف الإسلام طغتكين، ابن أيوب، باليمن، لما ملكه بعد أبيه، وتلقّب بالإمام الهادى بنور الله المعز لدين الله أمير المؤمنين. وقال يحيى بن حميد بن أبى طىّ: قد نقّبت عن ذلك فأجمع الجماعة من بنى أيوب على أنهم لا يعرفون جدّا فوق شادى» . القول الثالث: ما ذكره حسن بن عمران الجرشى فإنه جاء إلى الملك المعظم وعمل شجرة لنسب بنى أيوب، فوصله بعلىّ بن أحمد المرّى «2» ممدوح أبى الطيب المتنبى الذى يقول فيه: شرق الجوّ بالغبار إذا سا ... ر على بن أحمد القمقام وقال أيضا فى مدحه: إنما بن عوف بن سعد ... جمرات لا تشتهيها النعام ولم ينكر الملك المعظّم عليه ذلك بل قبل منه. قال: وهذا سرد النّسب الذى عمله الجرشىّ، وهو: أيّوب بن شادى ابن مروان بن أبى على. قال الملك الأمجد: قلت: ويحتمل أن يكون أبو على هذا هو محمد المقدم ذكره- وأبو على كنية له- ابن عنترة بن الحسن بن على بن أحمد ابن أبى على بن عبد العزيز بن هدية بن الحصين بن الحارث بن سفيان بن عمرو بن مرة بن شبة بن غيظ بن مرّة بن عوف بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانه بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبقية النسب معروف. هذا ما قيل فى نسبه. وأما ابتداء حاله:

ذكر ابتداء حال الملك الأفضل نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه

ذكر ابتداء حال الملك الأفضل نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه قال المؤرخ: قدم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدّين شيركوه من بلد دوين إلى العراق فى خلافة المسترشد بالله «1» ، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدّين عقلا ورأيا وحسن سيرة، وكان أسنّ من أخيه أسد الدّين، فجعله مجاهد الدين دزدارا «2» بقلعة تكريت «3» ، وكانت له، فسار إليها ومعه أسد الدّين. وقيل بل كان نجم الدّين قد خدم السّلطان محمد بن ملكشاه السّلجقى «4» ، فرأى منه أمانة وعقلا، وسدادا وشهامة، فولّاه قلعة تكريت، فقام بها أحسن قيام. فلمّا ولى السّلطان مسعود «5» أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز، فأقرّ نجم الدّين فى الولاية. وكان أتابك عماد الدّين زنكى بن آق سنقر، والد السّلطان الشّهيد نور الدّين لمّا انهزم من قراجا السّاقى فى سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، كما ذكرناه «6» ، بلغت به الهزيمة إلى تكريت، فقام نجم الدّين بخدمته أتمّ قيام، وأقام له

السّفن إلى أن عبر دجلة، فكان ذلك سبب وصلته بالبيت الأتابكى [107] وتقدّمه. قال: ثمّ اتفق بين أسد الدّين وبين قوارص النّصرانى، كاتب بهروز، مشاجرة فى بعض الأيام، فكلّمه النّصرانى بكلمة أمضّته، فضرب عنقه بيده، ورماه برجله «1» فلمّا اتصل الخبر ببهروز وحضر عنده من حذّره من جرأة شيركوه وتمكين نجم الدّين واستحوازه على قلوب الرّعايا خاف عاقبة ذلك، وكتب بالإنكار عليه بسبب ما كان من أخيه، وعزله. فسار نجم الدّين أيوب وشيركوه إلى عماد الدين زنكى فى الموصل، فلمّا وصلا إليه سرّ بهما وأحسن إليهما، فأقطعهما الإقطاعات الجليلة، وشهدا معه حروب الكفار وقتال الفرنج. فلمّا ملك زنكى قلعة بعلبك، فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة جعل نجم الدّين دزدارا بها؛ فأقام بها إلى أن قتل عماد الدين زنكى، فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وحاصر معين الدّين أنر، صاحب دمشق قلعة بعلبك، حتّى ضاق الأمر على نجم الدّين، فاضطر إلى تسليمها إليه، وتعوّض عنها إقطاعا وأملاكا؛ وكان عنده من الأكابر الأمراء. واتّصل أسد الدين شيركوه بخدمة الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، فجعله مقدّما على عسكره، وجعل له حمص والرّحبة وغيرهما. فلما تعلقت همّة نور الدّين بملك دمشق أمر أسد الدين بمكاتبة أخيه نجم الدّين أيوب فى ذلك، فراسله، فأعان نور الدّين على فتح دمشق؛ فعظم محلّهما عند نور الدّين. فكان نجم الدين إذا دخل عليه جلس من غير أن يؤذن له فى الجلوس، ولم تكن هذه الرّتبة لغيره من سائر الأمراء. فلمّا كان من أمر شاور ما قدّمناه وقصد نور الدّين محمود أو استغاث به،

ذكر وزارة الملك المنصور أسد الدين شيركوه بالديار المصرية ووفاته

أرسل معه أسد الدّين بالعساكر؛ وكان من أمره فى المرّة الأولى، فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، والمرّة الثانية، فى سنة اثنتين وستّين، والمرّة الثالثة فى سنة أربع وستّين وخمسمائة [على] ما قدّمنا ذكره فى أخبار الدّولة العبيديّة فى أيّام العاضد لدين الله. ذكر وزارة الملك المنصور أسد الدّين شيركوه بالدّيار المصريّة ووفاته كانت وزارته للعاضد لدين الله فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستّين وخمسمائة. وذلك أنّه لما كان من أمر شاور ومقتله ما ذكرناه آنفا استدعى العاضد لدين الله أسد الدّين شيركوه، فدخل إلى القاهرة فى السّاعة التى قتل فيها شاور، فرأى من اجتماع العوام ما هاله، فخاف على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين يأمركم بنهب دار شاور. فقصدها النّاس ونهبوها، وتفرّقوا عنه. ولمّا نزل أسد الدّين بدار شاور، وهى دار الوزارة، لم يجد فيها ما يجلس عليه «1» . قال: ولمّا تفرق الناس للنهب دخل أسد الدّين على العاضد لدين الله، فتلقّاه وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه بالملك المنصور أمير الجيوش، وكتب له تقليد الوزارة، وكتب عليه العاضد بخطه عهدا: (عهد لم يعهد لوزير بمثله، وتقليد أمر رآك أمير المؤمنين أهلا لحمله. والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتززت بخدمتك من

النّبوة «1» ؛ واتّخذ الفوز سبيلا «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) «2» . وخرج من عند العاضد وركب إلى دار الوزارة وسكنها، واستقلّ بالأمر. واستعمل على الأعمال من يثق به من كفاة أصحابه، وأقطع البلاد لعساكره. وأرسل إلى ديوان الإنشاء بالقصر يطلب من يكتب بين يديه، فأرسل إليه متولى الديوان القاضى الفاضل عبد الرّحيم البيسانى؛ وظن رؤساء ديوان المكاتبات أنّ هذا الأمر لا يتمّ، وأن «3» أسد الدّين يقتل عن قريب كما قتل غيره، فأرسلوا إليه القاضى الفاضل وقالوا لعلّه يقتل معه. فكان من أمره ما كان. ولم تطل مدّة أسد الدّين فى الوزارة بل انقضت أيامه، وفاجأه حمامه، فتوفّى فى يوم السّبت لثمان بقين من جمادى الآخرة من السّنة. واختلف فى سبب وفاته، فقيل إنّه مات فجأة، وقيل بعلّة الخوانيق، وقيل بل سمّ. فكانت مدّة وزارته خمسا وستّين يوما «4» ؛ وعمل عزاؤه ثلاثة أيام، وحمل إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصّلاة

ذكر أخبار الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك الأفضل نجم الدين أيوب ووزارته بالديار المصرية

والسّلام؛ ودفن هناك برباط الوزير [108] جمال الدّين وزير الموصل «1» . ولمّا مات أسد الدّين شيركوه استقرّ فى الوزارة بعده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب. ذكر أخبار الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف ابن الملك الأفضل نجم الدّين أيّوب ووزارته بالدّيار المصريّة كانت وزارته بالدّيار المصرية عقب وفاة عمّه الملك المنصور أسد الدّين شيركوه وقد تطاول «2» جماعة من الأمراء النّورية للوزارة؛ منهم عين الدولة الياروقى، وقطب الدّين قايماز، وسيف الدّين المشطوب الهكّارى، وشهاب الدّين محمود الحارمى، وهو خال صلاح الدّين؛ وخطبها كلّ منهم لنفسه. فأشار جماعة من المصريّين وخواصّ العاضد لدين الله على العاضد أن يولّى صلاح الدّين، وقالوا: إنه أصغر الجماعة سنّا ولا يخرج من تحت أمر أمير المؤمنين. فإذا استقرّ وضعنا على العساكر من يستميلهم «3» إلينا، فيبقى عندنا من الجند من نتقوى

به، نم نأخذ يوسف بعد ذلك أو نخرجه فإنّ أمره أسهل من غيره، فاستدعاه العاضد لدين الله، وخلع عليه خلع الوزارة. ولقّبه بالملك النّاصر «1» ، فلم يطعه أحد من الأمراء الذين كانوا تطاولوا للوزارة ولا خدموه. وكان الفقيه عيسى الهكّارى «2» معه، فسعى مع الأمير سيف الدّين على بن أحمد المشطوب حتّى استماله إليه، وقال له: إنّ هذا الأمر لا يصل إليك مع الياروقى والحارمى وغيرهما. ثمّ اجتمع بالحارمى وقال له مثل ذلك، وقال له: إن صلاح الدّين ولد أختك، وعزّه وملكه لك، وقد استقام له الأمر، فلا تكن أوّل من سعى فى إخراج الأمر عنه. واجتمع بالأمراء واستمالهم. فأطاعه بعضهم وعصى بعضهم. فأمّا الياروقى فإنه قال: لا أخدم يوسف أبدا، وعاد إلى الملك العادل نور الدّين هو وجماعة من الأمراء. وصار صلاح الدّين نائبا عن الملك العادل نور الدّين، والخطبة لنور الدّين ولا يكاتبه إلا: «بالأمير الأسفهسلار «3» صلاح الدّين وكافة الأمراء بالدّيار المصرية. يفعلون كذا وكذا» . ويفعل علامته فى الكتب، عظمة أن يكتب اسمه. ولمّا وزر صلاح الدين ثبت قدمه، واستمال قلوب الناس بالأموال فمالوا إليه فقوى أمره، وضعف أمر العاضد.

ذكر مقتل مؤتمن الخلافة جوهر، زمام القصور وانتقال وظيفته إلى قراقوش الأسدى وحرب السودان

ذكر مقتل مؤتمن الخلافة جوهر، زمام القصور وانتقال وظيفته إلى قراقوش الأسدى وحرب السودان كان مقتل مؤتمن الخلافة فى يوم الأربعاء لخمس بقين من ذى القعدة، من سنة أربع وستين وخمسمائة. وسبب ذلك أن الملك الناصر شرع فى نقض «1» إقطاع المصريين، فاتفق هذا الخادم مع جماعة من الأمراء المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى الديار المصرية، والاعتضاد بهم على صلاح الدين ومن معه؛ وأرسل الكتب مع إنسان، فجعلها فى نعل ولبسه، وسار على أنه فقير رثّ الهيئة. فلما وصل إلى البيضاء «2» وجده تركمانى، فأنكر حاله إذ هو رثّ الهيئة جديد المداس. فأخذ مداسه وفتقه، فوجد الكتب فيه، فحمله بها إلى الملك النّاصر، فوقف عليها، وكتم الأمر، وقرّر الرجل بالعقوبة، فأقرّ أنّ الكتب بخط رجل يهودى، فاستحضره، فأقرّ بها. ثم قتل صلاح الدّين القاصد. واستشعر مؤتمن الخلافة من الملك النّاصر، فلزم القصور واحترز على نفسه، فكان لا يخرج منها. فلمّا طال ذلك عليه خرج فى هذا اليوم لقصر «3» له بالخرقانيّة، فأرسل إليه الملك النّاصر جماعة فقتلوه، وأتوه برأسه، فرتّب حينئذ على أزمّة

القصور قراقوش الخصىّ، وكان من مماليك عمّه أسد الدين ليطالعه بما يتجدّد بالقصور. قال: ولما قتل مؤتمن الخلافة ثار السّودان لذلك وأخذتهم الحميّة، وعظم عليهم قتله، لأنّه كان رأسهم ورئيسهم، فحشدوا واجتمعوا، فزادت عدّتهم على خمسين ألف عبد؛ وكانوا أشدّ على الوزراء من العسكر. فندب الملك الناصر العسكر لقتالهم، وقدّم على العسكر أبا الهيجاء السّمين؛ فالتقوا بين القصرين واقتتلوا، فقتل من الفريقين جمع كثير. [109] فلمّا رأى الملك النّاصر قوّتهم وشدة بأسهم أرسل إلى محلّتهم المعروفة بالمنصورة «1» ، خارج باب زويلة، فأحرقها؛ فاتّصل ذلك بهم، فضعفت نفوسهم، فانهزموا إلى محلّتهم فوجدوا النّيران تضرم فيها. واتّبعهم العسكر فمنعهم من إطفائها «2» . ودام [القتال] «3» بينهم أربعة أيّام، نهارا وليلا، إلى يوم السّبت الثامن والعشرين من ذى القعدة؛ فخرجوا بأجمعهم إلى الجيزة وقد أيقنوا بالهلاك، وخرج إليهم تورانشاه أخو الملك النّاصر فقتلهم، ولم ينج منهم إلا اليسير. وكتب الملك الناصر إلى ولاة البلاد بقتل من يجدونه منهم، فقتلوا من عند آخرهم. وبقى الملك النّاصر يخشى من أهل القصر لما فعله بمؤتمن الخلافة جوهر، فكان جوهر هذا سبب زوال ملك الدّولة العبيديّة وجوهر القائد سبب ملك المعزّ للبلاد؛ فشتان بين الجوهرين.

ذكر الحوادث فى الأيام الناصرية غير الفتوحات والغزوات

ذكر الحوادث فى الأيام النّاصريّة غير الفتوحات والغزوات لم نقدّم هذه الحوادث التى نذكرها الآن على الغزوات والفتوحات إلا أنها سابقة على ذلك فى التّاريخ، ولأنّا أردنا أن نفرد غزواته وفتوحاته ليأتى الكلام عليها سياقة يتلو بعضه بعضا، ولا ينقطع بغيره، فكان ممّا نذكره: ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدّين أيّوب والد الملك النّاصر إلى الديار المصرية كان الملك النّاصر قد كتب فى طلب والده، رحمهما الله تعالى، فوصل بأولاده وأهله إلى القاهرة فى السّابع والعشرين من شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة؛ ولمّا وصل تلقّاه الخليفة العاضد لدين الله بظاهر باب الفتوح عند شجرة الإهليلج «1» ، ولم تجر بمثل ذلك عادة، فكان يوما مشهودا. وخلع العاضد عليه، ولقّبه الملك الأفضل، وحمل إليه من أنواع التحف والألطاف شيئا كثيرا؛ وأقطعه الإسكندريّة ودمياط والبحيرة، وأقطع ولده شمس الدولة، أخا النّاصر، قوص وأسوان وعيذاب، وكانت عبرتها يوم ذاك مائتى ألف وستّة وستّين ألف دينار «2» . ذكر إبطال الأذان بحىّ على خير العمل قال المؤرخ: ولعشر مضين من ذى الحجّة سنة خمس وستّين وخمسمائة أمر الملك النّاصر أن يسقط من الأذان قولهم «حىّ على

ذكر ما أنشأه الملك الناصر صلاح الدين بالقاهرة ومصر من المدارس والخوانق

خير العمل، محمّد وعلىّ خير البشر» . وكانت أوّل وصمة دخلت على الشّيعة والدّولة العبيديّة؛ ويئسوا بعدها من خير يصل إليهم من الملك النّاصر. ثم أمر أن يذكر فى الخطبة بكلام مجمل، ليلبس على الشّيعة والعامّة: اللهم أصلح العاضد لدينك «1» . ذكر ما أنشأه الملك النّاصر صلاح الدّين بالقاهرة ومصر من المدارس والخوانق قال المؤرخ: وفى أوّل سنة ستّ وستين وخمسمائة أمر الملك النّاصر بهدم دار المعونة «2» المجاورة للجامع العتيق بمصر. ودار المعونة هى المكان الذى يعتقل فيه النّاس. وأمر ببنائها مدرسة لطائفة الفقهاء الشافعية، وتعرف هذه المدرسة بابن زين التجّار «3» . وإنّما عرفت به لأنه درس بها. ثم عمر دار الغزل المجاورة لباب الجامع المعروف بباب الزكخته مدرسة للطائفة المالكيّة» ودرس فيها ابن أبى المنصور. وفيها اشترى تقىّ الدّين عمر بن شاهنشاه، ابن أخى صلاح الدّين، الدّار المعروفة بمنازل العّز «5» بمصر، وبناها مدرسة للطائفة الشافعيّة.

ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية للقاضى صدر الدين بن درباس

وكانت هذه الدّار يسكنها الأمير ناصر الدولة بن حمدان فى الأيّام المستنصرية؛ وقد تقدّم ذكر ذلك. ثم أمر الملك النّاصر ببناء مدرسة الشافعىّ والبيمارستان، وعمّر الخانقاه المعروفة بسعيد السعداء على ما يأتى ذكر ذلك. وفى [هذه] «1» السّنة أيضا أبطل الملك النّاصر مجلس الدّعوة من الجامع الأزهر وغيره، وكان [110] من سنّة الدّولة العبيديّة أن يقيموا لهم دعاة كالخطباء والله أعلم. ذكر تفويض القضاء بالدّيار المصريّة للقاضى صدر الدّين بن درباس وفى سنة ستّ وستّين وخمسمائة فى ثامن عشرى جمادى الآخرة فوّض السّلطان الملك النّاصر القضاء بالدّيار المصريّة إلى القاضى صدر الدّين أبى القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الماردانى، فاستمرّ إلى آخر الأيّام النّاصرية. وفى سنة سبع وستين وخمسمائة، فى سابع المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله، ومات فى يوم عاشوراء كما قدّمناه. وفيها فى الثّالث عشر من جمادى الأولى كشف حاصل الخزائن بالقصور، فوجد فيها ما يزيد على مائة صندوق، ومن الذّخائر النّفيسة ما لا مزيد عليه. وفيها فى صفر أمر الملك النّاصر بإبطال المكوس بالقاهرة والأعمال عن التّجار المتردّدين إليها وإلى ساحل المقسم صادرا وواردا، فكان مبلغ ذلك مائة ألف دينار عينا.

ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب

وفيها رسم بتحويل سنة خمس وستّين الخراجية إلى سنة سبع وستين الهلاليّة، وكانت قد حوّلت فى سنة خمسمائة فى أيام الأفضل أمير الجيوش «1» . ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب كانت وفاته رحمه الله تعالى فى يوم الثّلاثاء السّابع والعشرين «2» من ذى الحجة سنة ثمان وستّين وخمسمائة. وذلك أنّه ركب من داره، فلمّا انتهى إلى باب القصر فى وسط المحجة شبّ به فرسه فسقط عنه، فحمل إلى منزله، فعاش ثمانية أيّام ومات فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدّين فى الدّار السّلطانية، ثم نقلا إلى المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصّلاة والسّلام، وقبرا فى تربة الوزير جمال الدين الأصفهانى وزير الموصل رحمه الله. وفى سنة تسع وستّين وخمسمائة أمر الملك النّاصر ببيع الكتب التى بخزانة القصر «3» ، فكانت أكثر من مائة ألف كتاب من سائر المصنفات، فأبيعت بأخسّ الأثمان. ذكر عمارة قلعة الجبل والسّور وفى سنة تسع وستين وخمسمائة أيضا أمر الملك النّاصر بعمارة قلعة الجبل والسّور الدائر على القاهرة ومصر، وجعل مبدأه من شاطىء

النّيل إلى شاطئه. فكان دور السّور على القاهرة ومصر والقلعة تسعة وعشرين ألف ذراع، وثلاثمائة ذراع وذراعين. من ذلك ما بين قلعة المقسم والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع؛ ومن القلعة بالمقسم إلى حائط قلعة الجبل ثمانية آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع واثنان وتسعون ذراعا؛ ومن حائط قلعة الجبل إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع. ودائر قلعة الجبل ثلاثة آلاف ومائتا ذراع وعشرة أذرع، كل ذلك بالذراع الهاشمى. وتولّى عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، وحفر فى رأس الجبل بئرا يتوصل إلى مائها المعين من درج منحوتة من الجبل؛ وتوفى الملك الناصر قبل أن تكمل عمارته «1» . وفيها أمر ببناء المدرسة عند تربة الإمام الشّافعى رحمه الله، وتولاها الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشانى. وأمر باتّخاذ دار فى القصر بيمارستانا للمرضى، ووقف على ذلك وقوفا. وهذا البيمارستان يسمّى فى وقتنا هذا البيمارستان العتيق «2» . وفيها أسقط مكوس مكّة، شرّفها الله تعالى، المقررة على الحاج وعوض أميرها عن ذلك فى كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحا تحمل إلى ساحل جدة، وعيّن لذلك ضياعا بالدّيار المصرية وقرّر أيضا حمل غلّات إلى المجاورين بالحرمين الشريفين والفقراء؛ فقال الشيخ أبو

ذكر قتل جماعة من المصريين

الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسى «1» فى ذلك من قصيدة يمدح بها الملك الناصر: رفعت مكارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشّامل الغامر وأمّنت أكناف تلك البلاد ... فهان السّبيل على العابر وسمت أياديك فيّاضة ... على وارد وعلى صادر فكم لك بالشّرق من حامد ... وكم لك بالغرب من شاكر ذكر قتل جماعة من المصريين وفى سنة تسع وستين وخمسمائة أيضا، فى ثانى شهر رمضان صلب جماعة ممّن أراد الوثوب بمصر من أصحاب الخلفاء العبيديّين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعتهم، منهم عمارة اليمنى الشاعر، وعبد الصّمد الكاتب، والقاضى الأعزّ سلامة المعروف بالعوريس «2» ، والقاضى ضياء الدّين نصر بن عبد الله بن كامل، وداعى الدعاة، وغيرهم من جند العبيديين ورجال السّودان وحاشية القصر ومن وافقهم من الأمراء الصّلاحية والجند- اتّفق رأيهم على استدعاء الفرنج من جزيرة صقليّة ومن سواحل الشّام إلى الديار المصريّة على شىء بذلوه لهم من المال والبلاد، وقرّروا أنّ الملك الناصر إذا خرج إليهم بنفسه ثار هؤلاء بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العبيديّة، العلوية بزعمهم، ويعود من معه من العساكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام بالبلاد. وإن أقام هو وأرسل العساكر إليهم ثاروا به فأخذوه باليد. وقال لهم عمارة: وأنا فقد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفا أن يسدّ مسدّه، وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج وتقرّرت هذه القاعدة بينهم.

قال: وكان ممن أدخلوه معهم فى هذا الأمر زين الدّين علىّ «1» بن نجا الواعظ، وهو القاضى ابن نجيّة، ثمّ اختلفوا فى وزارة الخليفة؛ فقال بنو رزّيك: يكون الوزير منّا. والقاضى؛ وقال بنو شاور: بل يكون الوزير منّا فحضر ابن نجا إلى الملك النّاصر وأعلمه بصورة الحال، فأمره بمباطنتهم وموافقتهم، ومطالعته بأحوالهم. ففعل ذلك. ثم وصل رسول من ملك الفرنج إلى الملك النّاصر بهدايا، وهو فى الظّاهر له وفى الباطن لهؤلاء، فوضع الملك النّاصر عليه من النّصارى من داخله وباطنه؛ فذكر له الحال على جليّته، فأعلم به الملك النّاصر. فلما تحقّقه قبض على هؤلاء وصلبهم، فكان ممن صلب عمارة اليمنى، وعبد الصّمد الكاتب، والقاضى الأعز العوريس، وغيرهم «2» . وجاء عمارة إلى باب القاضى الفاضل لمّا مسك، فاحتجب عنه، فقال عمارة: عبد الرّحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص من العجب «3» ونودى فى أجناد المصريين بالرّحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصى الصّعيد، واحتاط الملك النّاصر على من بالقصر من سلالة العاضد

وأهله. وأمّا من كان قد وافقهم من أصحابه فلم يخاطبهم فى ذلك ولا أوهمهم أنّه علم به. وبلغ ذلك فرنج السّاحل فلم يتحركوا من أماكنهم، وأما فرنج صقليّة فإنهم قصدوا ثغر الإسكندريّة على ما نذكره. وفى سنة سبعين وخمسمائة، فى أوائلها، خالف الكنز «1» ، أمير العرب، على الملك النّاصر بصعيد مصر، واجتمع معه جماعة كبيرة من رعايا البلاد والعربان والسّودان وغيرهم، وقتل أخا الأمير أبى الهيجاء السّمين، وكان قد توجّه لإقطاعه بالصّعيد. فعظم قتله على أخيه، وكان من أكابر الأمراء النّاصريّة، فسار إلى قتال الكنز. وندب معه الملك الناصر جماعة من الأمراء والعسكر، فوصلوا إلى مدينة طود، وهى على مسافة يوم من مدينة قوص إلى جهة الصّعيد، فامتنع من بها عليهم، فقاتلوهم وظفروا بهم وقتلوا كثيرا منهم، وأخربوا البلد، فهى إلى وقتنا هذا تعرف بطود الخراب، وغيطانها عامرة. ثمّ سار العسكر منها إلى الكنز، فقاتلوه، فقتل هو ومن معه من الأعراب، وأمنت البلاد واستقرّ أهلها «2» . وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة ظهر بالدّيار المصرية فأر كثير جدّا. قال القاضى الفاضل عبد الرحيم: حدّثنى من شاهد هذا الفأر وهو يرحل من بقعة إلى أخرى فيغطّى الأرض بكمالها حتى لا يظهر منها شىء ألبتّة

وأنه شاهد يمرّ بأماكن فلا يلمّ بها ولا يخرج عليها والزّروع بها محصورة، ويمرّ بأخرى فلا يلبث أن يفسد جميع ما فيها ولا يرتحل عنها وبها شىء من الزّرع ولا المقات بالجملة. وفى سنة تسع وسبعين وخمسمائة [112] ظهر بأبو صير السدر «1» من أعمال الجيزة بيت أشاع النّاس أنّه بيت هرمس، ففتح بحضور القاضى نظام الدّين بن الشّهرزورى وأخرج منه أشياء، من جملتها صور كباش وضفادع بأزهر، وقوارير دهنج، وفلوس من فضّة ونحاس، وأصنام نحاس وياقوت، وغير ذلك من الذّهب والفضة والتّحف القديمة ووجد فيه خلق كثير من الأموات. وفى سنة ثمانين وخمسمائة فى يوم الاثنين مستهلّ المحرم درّس فى المدرسة الفاضلية «2» الّتى أنشأها القاضى الفاضل عبد الرّحيم بالقاهرة بدرب ملوخيّا؛ ورتّب فيها لإقراء كتاب الله تعالى الشيخ الإمام العالم الزّكى أبو [محمد] «3» القاسم بن فيرّه الرّعينى الشّاطبى؛ وفى التّدريس على مذهبى الشّافعى ومالك الفقيه أبو القاسم عبد الرحيم بن سلامة الإسكندرى، رحمهما الله تعالى. وحيث ذكرنا هذه النّبذة من الحوادث الّتى اتّفقت فى خلال دولته، فلنذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلاميّة.

ذكر ما استولى عليه الملك الناصر من البلاد الإسلامية بنفسه وأتباعه

ذكر ما استولى عليه الملك الناصر من البلاد الإسلامية بنفسه وأتباعه كان من البلاد التى خطب بها للملك النّاصر صلاح الدّين يوسف طرابلس الغرب وبعض بلاد إفريقية، منها مدينة قابس «1» . وسبب ذلك أن شرف الدين قراقوش مملوك تقىّ الدين عمر «2» ، ابن أخى الملك النّاصر، توجّه فى سنة ثمان وستين وخمسمائة فى طائفة من الأتراك إلى جبال نفوسة «3» ، واجتمع به مسعود بن زمام المعروف بالبلاط، وهو من أعيان أمراء تلك النّاحية، وكان خارجا عن طاعة [ابن] «4» عبد المؤمن. فاتّفقا وكثر جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب، فحاصراها مدّة وضيّقا على أهلها، ثمّ فتحاها، فاستولى قراقوش عليها، وأسكن أهله بقصرها. ثمّ ملك كثيرا من بلاد أفريقية إلا المهديّة وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع. وكثر جمع قراقوش، فحكم على تلك البلاد، وجمع أموالا عظيمة وجعلها بمدينة قابس، وقويت نفسه، وطمع أنّه يستولى على جميع أفريقيّة لبعد ابن عبد المؤمن عنها واشتغاله بجهاد الفرنج. ثم جاء نورا به مملوك تقىّ الدين أيضا، بطائفة من التّرك فزاد بهم قوّة إلى قوّتة. ثم اجتمع الأتراك وعلىّ

ابن إسحاق الملثّم [المعروف بابن غانية] «1» وملكوا بجاية فى سنة ثمانين، وانقادوا إلى الملثّم واستعانوا به، لأنّه من بيت المملكة والرئاسة القديمة، ولقّبوه بأمير المسلمين؛ وقصدوا بلاد أفريقية فملكوها شرقا وغربا إلا تونس والمهديّة فإنّ الموحّدين حفظوها. ولمّا حصل استيلاؤهم على بلاد أفريقية قطعت خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للنّاصر لدين الله العبّاسى؛ وقصدوا مدينة قفصة فتسلّموها فى سنة اثنتين وثمانين؛ وأقام بها طائفة من الملثمين والأتراك. فلمّا اتّصلت هذه الأخبار بالأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن «2» اختار من عسكره عشرين ألف فارس من الموحّدين، وسار بهم فى صفر سنة ثلاث وثمانين، فوصل إلى مدينة تونس. وأرسل ستّة آلاف مع ابن أخيه فساروا إلى الملثم والأتراك بقفصة، فهزمهم الملثم ومن معه فى شهر ربيع الأول من السّنة. فجاء يعقوب بن يوسف بمن معه فى نصف شهر رجب منها، والتقوا على مدينة قابس، فانهزم الأتراك والملثم، وقتل كثير منهم. وفتح يعقوب قابس، وأخذ أموال قراقوش وأهله وحملهم على مراكش. وحصر مدينة قفصة ثلاثة أشهر وبها التّرك، فطلبوا الأمان لهم ولأهل البلد، فأمّنهم وسيّر الأتراك إلى الثّغور لما رأى من شجاعتهم. هذا ما اتّفق لهذه الطائفة، وإن كانت هذه الفتوحات لا تختصّ كلّها بالدّولة الأيوبية، إلا أنهم كانوا سببا، وهم الّذين استولوا على البلاد كما ذكرنا فأوردناها فى أخبارهم.

[113] ذكر استيلائه على اليمن

[113] ذكر استيلائه على اليمن وفى سنة تسع وستّين وخمسمائة جهّز الملك النّاصر أخاه الملك المعظّم شمس الدّولة تورانشاه «1» إلى اليمن، فسار فى مستهلّ شهر رجب. وكان عمارة اليمنى الشّاعر يذكر له البلاد ويحسّنها له ويحثّه على قصدها، ويعظّم مملكتها. فسار ووصل إلى مكة شرّفها الله تعالى، ومنها إلى زبيد «2» وبها صاحبها عبد النبىّ المتغلب عليها «3» . فلمّا قرب منها ورأى أهلها انهزموا، فوصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا عليه من يمانع عنه، فنصبوا السّلاليم وصعدوا عليها إلى السّور فملكوا البلد عنوة ونهبوه، وأسر المتغلب عليها عبد النّبىّ وزوجته المدعوة بالخيرة، وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة. وسلّم شمس الدّولة عبد النّبى إلى سيف الدّولة مبارك بن كامل بن منقذ، وهو من أمرائه، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فاستخرج منه شيئا كثيرا وأظهر دفائن كانت له. ودلّتهم الخيّرة على ودائع لها كثيرة. ثم أصلح أمر زبيد وخطب بها للنّاصر لدين الله «4» . ثم سار إلى ثغر عدن، وهى فرضة «5» الهند والزّنج والحبشة وعمان وكرمان وكشّ وفارس وغير ذلك؛ وهى من جهة البرّ من أمنع البلاد

ذكر ملكه مدينة دمشق

وأحصنها. وصاحبها يومئذ رجل اسمه ياسر «1» ، فخرج إليه وقاتله، فانهزم هو ومن معه؛ فسبقه بعض عسكر الدّولة فدخلوا البلد قبل أهله وملكوه، وأسر صاحبه. وقصد العسكر نهب البلد، فمنعهم شمس الدّولة، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وإنّما جئنا لنملكها ونعمّرها وننتفع بها. ثمّ عاد إلى زبيد وحصر ما فى الجبل من الحصون فملك قلعة تعزّ واسمها الدّمولة، وهى من أحصن القلاع، وبها تكون خزائن صاحب اليمن. وملك غيرها من الحصون والمعاقل، واستناب بثغر عدن عزّ الدين عثمان الزّنجيلى، وبزبيد سيف الدّين مبارك بن كامل بن منقذ. وجعل فى كلّ حصن نائبا من أصحابه. وأحسن شمس الدّولة إلى أهل البلاد؛ وعادت زبيد إلى أحسن ما كانت عليه من العمارة والأمن. ثمّ عاد شمس الدولة من اليمن، وقدم إلى دمشق بعد أن ملكها الملك الناصر، فوصل إليها فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. ذكر ملكه مدينة دمشق قال المؤرخ: لمّا توفى الملك العادل نور الدّين الشهيد محمود» ابن زنكى رحمه الله، كما قدّمناه «3» فى أخباره، وولى بعده ولده الملك الصّالح إسماعيل أقرّ الملك النّاصر الخطبة باسمه بعد أبيه، ولم يخطب لنفسه. ثم اتّفق ما ذكرناه من نقلة الملك الصّالح من دمشق إلى حلب، ولم يستأذن الملك النّاصر فى ذلك ولا كتب له فيه؛ فسار

ذكر ملكه مدينة حمص وحماه

[الملك الناصر] «1» من الدّيار المصريّة إلى الشام فى شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة، ووصل إلى دمشق فى يوم الاثنين سلخ الشهر- وقال ابن شدّاد فى سلخ شهر ربيع الآخر «2» - وتسلّم دمشق من الأمير شمس الدّين بن المقدّم ونزل بدار العقيقى، وكانت سكن أبيه، وأحسن إلى الأمراء وأكرمهم، وأظهر أنّه إنّما حضر إلى الشّام نصرة للملك الصّالح، وليعيد عليه ما أخذه ابن عمه سيف الدّين غازى «3» من بلاده. وأقرّ خطبته ولم يقطعها ولا خطب لنفسه. ذكر ملكه مدينة حمص وحماه قال المؤرخ: ولمّا ملك دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام «4» طغزتكين بن أيوب، وتوجّه إلى مدينة حمص فى مستهلّ جمادى الأولى، فنازلها، فملك المدينة ولم يشتغل بالقلعة؛ وترك بالمدينة من يحفظها ويمنع من [فى، «5» القلعة من التصرّف. وسار منها فوصل إلى مدينة حماة فى مستهلّ جمادى الآخرة؛ وكان بقلعتها الأمير عزّ الدّين جرديك، وهو من المماليك النوريّة، فامتنع من تسليمها. فأرسل إليه يعرّفه ما هو عليه من الطّاعة للملك الصّالح، فاستحلفه جرديك على ذلك، وخرج إليه، وترك أخاه بالقلعة ليحفظها. وتوجّه عزّ الدّين جرديك إلى حلب ليكون سفيرا [114] بين الملك الناصر وبين كمشتكين فاعتقل بحلب فلما بلغ أخاه ذلك سلم القلعة إلى الملك الناصر فملكها.

ذكر حصره حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك

ذكر حصره حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك قال: ولمّا بلغ الملك النّاصر خبر عزّ الدين جرديك والقبض عليه، توجّه إلى حلب وحصرها فى جمادى الآخرة من السّنة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصّالح وهو صبىّ وعمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل حلب، وذكّرهم بإحسان والده إليهم، واستنصر بهم فى دفع صلاح الدّين، فبكوا وحلفوا له على بذل النّفوس والأموال، وقاتلوا أشدّ قتال. وأرسل سعد الدّين كمشتكين إلى سنان، مقدّم الإسماعلية، مالا كثيرا على قتل الملك النّاصر؛ فسيّر إليه جماعة، فظفر صلاح الدّين بهم وقتلهم. ورحل عن حلب فى مستهلّ شهر رجب من السنة. وكان سبب رحيله أنّ كمشتكين أرسل إلى القومص ريمند «1» الصّنجيلى، صاحب طرابلس، أن يجهّز إلى بلاد صلاح الدّين من الفرنج من يمنعه من الوصول إليها. فلمّا بلغه ذلك فارق حلب وعاد إلى حماة فى ثامن الشهر، بعد نزول الفرنج على حمص بيوم. فلمّا سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص، ووصل صلاح الدّين إلى حمص، وملك القلعة بعد حصار. وكان ملكه لها فى الحادى والعشرين من شعبان من السّنة. ثمّ سار منها إلى بعلبك، وكان بها يمن الخادم متوليها من أيّام نور الدّين، فحصرها الملك النّاصر، فطلب يمن الأمان، فأمّنه وتسلّم القلعة فى رابع شهر رمضان.

ذكر انهزام عسكر سيف الدين غازى من الملك الناصر وحصره حلب ثانيا

ذكر انهزام عسكر سيف الدين غازى من الملك الناصر وحصره حلب ثانيا قال المؤرخ. كان الملك الصّالح كتب إلى عمه سيف الدّين غازى يستنجده على قتال صلاح الدّين ودفعه فجهّز العسكر صحبة أخيه عزّ الدين مسعود، وتأخّر هو لما وقع بينه وبين أخيه عماد الدّين من الاختلاف الذى قدمناه فى أخبار الدولة الأتابكية «1» فسارت العساكر السّيفيّة، واجتمع معها العسكر الحلبىّ، وساروا كلّهم لقتال الملك النّاصر فأرسل إلى سيف الدّين يبذل له تسليم حمص وحماة وأن يقرّ بيده مدينة دمشق نيابة عن الملك الصالح؛ فلم يجب إلى ذلك وقال: لا بدّ من تسليم جميع ما أخذه من بلاد الشام ويعود إلى مصر. فلما امتنع سيف الدّين من إجابته تجهّز عند ذلك للقاء عزّ الدين مسعود ومن معه وقتالهم، فالتقوا فى تاسع عشر شهر رمضان بقرون حماة «2» ، فلم تثبت عساكر سيف الدّين وانهزموا لا يلوى بعضهم على بعض. وتبعهم الملك النّاصر وغنم معسكرهم، ووصل إلى حلب وحاصرها، وقطع خطبة الملك الصالح، وأزال اسمه. فلمّا طال الحصار على من بحلب راسلوه فى الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشّام ولهم ما بأيديهم منها؛ فأجابهم إلى ذلك، وانتظم الصّلح. فرحل عن حلب فى العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة، ووصلت إليه بها رسل الخليفة المستضىء بنور الله، ومعهم الخلع والأعلام السّود وتوقيع من الدّيوان العزيز بالسّلطنة ببلاد مصر والشام.

ذكر الحرب بين الملك الناصر وسيف الدين غازى وانهزام غازى

وفيها ملك قلعة بعرين «1» فى العشر الأول من شوال من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزّعفرانى، وكان من أكابر الأمراء النّورية، فجاء إلى خدمة الملك النّاصر، وظن أنّه يكرّمه ويقرّبه، فلم ير من ذلك شيئا، ففارقه وعاد إلى قلعته. فلما استقرّ الصّلح بين الملكين النّاصر والصّالح نازل [الناصر] «2» بعرين ونصب عليها المجانيق وملكها. ذكر الحرب بين الملك النّاصر وسيف الدين غازى وانهزام غازى قد قدّمنا انهزام عزّ الدين مسعود بالعسكر السّيفى من الملك النّاصر فى سنة سبعين وخمسمائة. فلمّا كان فى سنة إحدى وسبعين جمع سيف الدّين غازى جميع عساكره وفرّق فيهم الأموال، واستنجد بصاحب حصن كيفا «3» وصاحب ماردين «4» وغيرهما، وسار إلى حلب، واستصحب سعد الدّين كمشتكين مدبّر دولة الملك الصّالح والعسكر الحلبىّ. وكان صلاح الدّين فى قلّة من العسكر لأنّه جهّز أكثر عساكره إلى الدّيار المصريّة فلمّا بلغه ذلك [115] أرسل يستدعى عساكره، فلم تلحقه؛ وأعجلته الحركة، فسار من دمشق إلى حلب للقاء غازى ومن معه، فالتقى العسكران بتلّ السّلطان بالقرب من حلب، فى عاشر شوال من السّنة.

ذكر ما ملكه الملك الناصر من بلاد الملك الصالح بعد هذه الوقعة

وكان عزّ الدين زلفندار مقدّم العسكر الموصلى قليل المعرفة بالحروب، فجعل أعلام صاحبه فى وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها فلما لم يرها النّاس ظنّوا أن سيف الدّين غازى قد انهزم، وانهزموا لا يلوى الأخ على أخيه. ولم يقتل من العسكر على كثرته غير رجل واحد. وانهزم سيف الدّولة إلى الموصل وترك أخاه عزّ الدّين بحلب «1» . قال العماد الأصفهانى: إن سيف الدّين غازى كان فى عشرين ألف فارس؛ وخطّأه ابن الأثير الجزرى فى ذلك وقال إن أخاه مجد الدّين أبا السّعادات المبارك كان يتولّى كتابة الجيش، وأنه وقف على جريدة العرض فكانت ستّة آلاف «2» . وإن جمعنا بين قوليهما فنقول: إنّ الجريدة الّتى وقف عليها ابن الأثير كانت للجيش المختصّ بسيف الدّين غازى خاصّة، والّذى نقله العماد الأصفهانى عن جميع ما صحبه من سائر الجيوش الحلبية والحصفية، والماردينيّة، والله أعلم. ذكر ما ملكه الملك الناصر من بلاد الملك الصالح بعد هذه الوقعة قال المؤرّخ: لمّا استولى الملك النّاصر على أثقال العسكر الموصلىّ وغنمها، واتّسع هو وعسكره بها، سار إلى بزاعة «3» ، فحصرها وملكها «4» بعد قتال من بقلعتها، وجعل بها من يحفظها. ثمّ

سار إلى منبج «1» فحصرها فى آخر شوّال، وبها صاحبها قطب الدّين ينال بن حسّان المنبجى، وكان شديد العداوة للملك النّاصر والتّحريض عليه؛ فملك المدينة وحاصر القلعة وملكها عنوة، وأسر صاحبها ينال، ثم أطلقه، فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدّين غازى مدينة الرّقة. ثم سار إلى قلعة عزاز «2» فنازلها فى ثالث ذى القعدة ونصب عليها المجانيق، ولازم الحصار ثمانية وثلاثين يوما وتسلّمها فى حادى عشر ذى الحجّة من السّنة «3» . ووثب عليه فى مدّة الحصار باطنىّ «4» فضربه بسكّين فى رأسه، فردّ عنه المغفر «5» ، وضربه عدّة ضربات وقعت فى زيق كزاغنده «6» .

ذكر حصره مدينة حلب والصلح عليها

ذكر حصره مدينة حلب والصلح عليها قال: ثمّ رحل الملك النّاصر عن أعزاز ونازل حلب فى نصف ذى الحجة، وحصرها إلى العشرين من المحرّم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وتردّدت الرّسائل بينهم فى الصّلح، فاستقرّت القاعدة بين الملك النّاصر وسيف الدّين غازى والملك الصّالح وصاحب ماردين وصاحب حصن كيفا، وتحالفوا أن يكونوا كلّهم عونا على النّاكث منهم. فتمّ الصّلح، وأعاد الملك النّاصر إليهم قلعة أعزاز، ورجع عن حلب. ذكر نهبه بلاد الإسماعيلية قال: لمّا عاد الملك النّاصر من حلب قصد بلاد الإسماعيليّة فى شهر المحرّم سنة اثنتين وسبعين لقتالهم، لأنّهم أرادوا قتله؛ فنهب بلادهم وخرّ بها؛ ونازل قلعة مصياف «1» . فأرسل سنان مقدّم الإسماعيليّة إلى الأمير شهاب الدّين الحارمى صاحب حماة، وهو خال الملك النّاصر، يطلب منه الدّخول بينهما فى الصّلح والشّفاعة، وتهدّده بالقتل إن لم يفعل. ففعل ذلك، وتمّ الصلح. وتوجّه الملك النّاصر إلى دمشق، ثم رحل منها إلى الدّيار المصريّة لأربع خلون من شهر ربيع الأول، ووصل إلى القاهرة لأربع بقين منه. ذكر عبوره الفرات وملكه الديار الجزيرية وفى سنة ثمان وسبعين «2» وخمسمائة كان الملك الناصر يحاصر بيروت، فأتته كتب مظفّر الدّين كوكبرى بن زين الدّين على بن

ذكر ملكه مدينة سنجار

تكين «1» مقطع حرّان يطلبه إلى البلاد ويعده المساعدة. فسار وعبر الفرات، وكاتب ملوك الأطراف [116] ووعدهم، وبذل لهم البذول على نصرته فأجابه نور الدّين محمد صاحب حصن كيفا. فسار الملك النّاصر إلى مدينة الرّها فحصرها فى جمادى الأولى، وداوم الحصار، فطلب صاحبها فخر الدّين مسعود الزّعفرانى الأمان، فأمّنه وتسلّم البلد، وصار صاحبها فى خدمته؛ وتسلّم القلعة. فلما ملكها سلّمها لمظفّر الدّين صاحب حرّان. ثم سار عنها إلى الرّقّة وكان بها مقطها قطب الدّين ينال بن حسان المنبجى، فملكها، وسار صاحبها إلى عز الدّين أتابك. وسار إلى الخابور فملكه. بكماله. ثمّ سار إلى نصيبين، فملك المدينة لوقته، وحصر القلعة عدّة أيّام، فملكها؛ وأقطعها للأمير أبى الهيجاء السّمين، وهو من أكابر الأمراء، وسار عنها، ومعه نور الدّين صاحب الحصن، فحاصر الموصل فلم يظفر منها بشىء لحصانتها وكثرة من بها. ذكر ملكه مدينة سنجار قال: ثم سار الملك النّاصر من الموصل إلى سنجار، فسيّر مجاهد الدّين قايماز إليها نجدة من العسكر، فمنعهم الملك النّاصر الوصول إليها، وأوقع بهم وأخذ سلاحهم ودوابّهم، وسار إليها ونازلها وبها شرف الدّين أمير أميران أخو عز الدّين صاحب الموصل، فملكها بأمان بعد حصار عظيم. وسار شرف الدّين ومن معه إلى الموصل. واستقرّ للملك النّاصر جميع ما ملكه فى هذه الوقعة بملك سنجار «2» واستناب بها سعد الدّين بن معين الدّين أنر، وهو من أكابر الأمراء،

ذكر ملكه مدينة آمد وتسليمها إلى صاحب حصن كيفا

وأحسنهم صورة ومعنى. وعاد إلى نصيبين، فلقيه أهلها وشكوا إليه من أبى الهيجاء السّمين فأنكر عليه وعزله. وسار إلى حرّان فوصل إليها فى أوائل ذى القعدة، فكاتب عزّ الدّين صاحب الموصل صاحب خلاط، وهو شاه أرمن «1» ، واستنجد به على حرب الملك النّاصر. فلمّا بلغه اجتماعهما سار إلى بحرزم «2» بالقرب من ماردين. ذكر ملكه مدينة آمد وتسليمها إلى صاحب حصن كيفا قال: ثم سار من هذه الجهة الى آمد فوصل إليها فى سابع عشر ذى الحجة «3» فنازلها وحاصرها، ونصب عليها المجانيق. وهى من أحصن البلاد، يضرب المثل بحصانتها، وكان صاحبها ابن نيسان فى غاية الشّح يبخل ببذل المال، فملّه أصحابه وتخاذلوا عنه. فأخرج نساء إلى القاضى الفاضل «4» وسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله، وأن يؤخّر ثلاثة أيام حتى ينقل ماله بالبلد من الأموال والذّخائر. فأجابه الملك الناصر إلى ذلك، وتسلّم البلد فى العشر الأول من المحرّم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وانقضت الأيّام الثّلاثة قبل فراغه من نقل أمواله، فمنع مما بقى. وسلّم الملك النّاصر البلد بما فيه إلى نور الدّين صاحب الحصن، وكان فيه من الذخائر ما تزيد قيمته على ألف ألف دينار «5» .

ذكر ملكه تل خالد وعين تاب

ذكر ملكه تل خالد وعين تاب قال: ثمّ سار الملك النّاصر إلى تلّ خالد من أعمال حلب فحصرها ورماها بالمجانيق، فطلب أهلها الأمان، فأمّنهم، وتسلّمها فى المحرّم أيضا. وسار منها إلى عين تاب، وبها ناصر الدّين محمد [بن خمارتكين] «1» من أيّام نور الدّين الشّهيد، فحصرها، فراسله فى طلب الأمان على أن يكون الحصن بيده ويكون فى خدمته. فأجابه إلى ذلك وحلف له عليه، فنزل إليه واتصل بخدمته «2» . ذكر ملكه حلب قال: ثمّ سار من عين تاب إلى حلب فى المحرّم أيضا ونزل بالميدان [الأخضر] «3» عدّة أيّام ثم انتقل إلى جبل جوشن «4» ؛ فنزل بأعلاه وأظهر أنّه يريد [أن] «5» يبنى مساكن لنفسه ولأصحابه وعساكره، وأقام أيّاما والقتال بين العسكرين فى كلّ يوم. وكان صاحبها عماد الدّين زنكى بن مودود بن زنكى مجدّا فى القتال، فطالبه بعض الجند بأرزاقهم، [117] فاعتذر بقلّة المال عنده؛ وكان قد شحّ بإخراجه، فقال له من يريد حفظ حلب يخرج الأموال ولو باع حلىّ نسائه. فجنح إلى تسليمها، فراسل الملك النّاصر فى طلب العوض عنها: سنجار ونصيبين والخابور والرّقّة وسروج.

ذكر فتح الملك الناصر حارم

فسلّم «1» مثل حلب وأعمالها وتعوّض عنها قرى ومزارع، وجرت الأيمان على ذلك. وتسلّمها الملك النّاصر فى ثامن عشر صفر. فسبّ النّاس عماد الدّين زنكى وأسمعوه المكروه على فعله. واستقرّت الحال بينهما أنّ عماد الدّين يحضر إلى خدمة الملك النّاصر متى استدعاه بنفسه وعسكره ولا يحتجّ بحجة. قال: ولما تسلّم الملك النّاصر حلب امتدحه القاضى محيى الدين ابن الزّكى، قاضى دمشق، بقصيدة جاء منها: وفتحكم حلبا بالسّيف فى صفر ... مبشّر بفتوح القدس فى رجب «2» فكان كذلك. ونقل الملك النّاصر أخاه الملك العادل من نيابة الدّيار المصرية إلى حلب، فى سنة تسع وسبعين، وأعطاه حلب وقلعتها وأعمالها ومنبج وما يتعلّق بها؛ وسيّره فى شهر رمضان. ذكر فتح الملك النّاصر حارم قال: ولمّا فتح الملك النّاصر حلب كان بقلعة حارم «3» سرخك، وهو من المماليك النّورية، فامتنع من تسليمها، فراسله فى ذلك وخيّره فيما يريد من القلاع، ووعده الإحسان؛ فاشتطّ فى الطّلب. فتردّدت الرّسائل بينهم، فراسل سرخك الفرنج ليحتمى بهم، فبلغ ذلك من معه من الأجناد فخافوا أن يسلّمها للفرنج، فقبضوا عليه واعتقلوه، وراسلوا الملك النّاصر فى طلب الأمان، فأجابهم وتسلّم الحصن ورتّب

ذكر حصار الموصل

فيه دزدارا من بعض خواصّه «1» ، وأقام الملك النّاصر بحلب إلى أن قرّر قواعدها وأقطع أعمالها. ذكر حصار الموصل وفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حاصر الملك النّاصر الموصل. وذلك أنّه سار من دمشق فى ذى القعدة سنة ثمانين لقصد حصارها فلمّا وصل إلى مدينة بلد «2» سيّر إليه عز الدّين صاحب الموصل والدته وابنة عمه «3» الملك العادل نور الدّين الشهيد وغيرهما من النّساء فى جماعة من أعيان الدولة يسألونه المصالحة، وبذلوا موافقته وإنجاده بالعساكر متى طلبها، ليعود عن قصد الموصل. وإنّما أرسلهنّ ظنّا منه أنّه لو سيّر ابنة نور الدّين إلى الملك النّاصر فى طلب الشّام أعطاه لأنّها ابنة مخدومه. فتلقّاهنّ بالإكرام، وأحسن إليهن، واستشار أصحابه فى ذلك، فكلّ أشار عليه بموافقتهنّ. فقال له الفقيه عيسى الهكّارى وعلىّ المشطوب: مثل الموصل لا تترك لامرأة، وإنّ عزّ الدّين ما أرسلهنّ إلّا وقد عجز عن الحرب. فوافق ذلك هواه فردّهنّ خائبات، واعتذر بأعذار غير مقبولة، وقصد الموصل وحاصرها، وكان بينهم مناوشات فلم يتمكّن منها، فندم حيث

ذكر ملكه ميافارقين

لم يحبس النّساء. ففى أثناء ذلك توفى شاه أرمن «1» صاحب خلاط، فأشار عليه أصحابه بمفارقة الموصل وقصد خلاط، ففارقها. ذكر ملكه ميّافارقين قال: ولمّا سار الملك النّاصر إلى خلاط جعل طريقه ميّافارقين «2» وكان صاحبها قطب الدّين صاحب ماردين قد توفى «3» وملك بعده ابنه وهو طفل وكان حكمها إلى شاه أرمن وعسكره بها؛ فتوفى شاه أرمن أيضا، فطمع فى أخذها ونازلها. فرآها مشحونة بالرّجال، وفيها زوجة قطب الدّين المتوفّى وبناته، والمقدّم على جيشها أسد الدّين برتقش «4» ، وكان فيه شجاعة وشهامة. فحصرها الملك النّاصر من أوّل جمادى الأولى، ونصب عليها المجانيق والعرّادات؛ واشتدّ القتال فلم يظفر منها بشىء؛ فرجع عن القوّة إلى إعمال الحيلة. فراسل امرأة قطب الدّين المقيمة بالبلد يقول إنّ أسد الدّين قد مال إلينا فى تسليم البلد، ونحن نرعى حقّ أخيك نور الدّين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك نصيب، وأنا أزوّج بناتك بأولادى، وتكون ميّافارقين وغيرها لك وبحكمك، [118] ووضع من أرسل إلى أسد الدّين يعرّفه أنّ الخاتون قد مالت للانقياد إلى تسليمها، وأنّ من بخلاط قد كاتبوه ليسلّموها إليه. فسقط فى يده، وضعفت نفسه، وأرسل إلى الملك النّاصر يقترح إقطاعا ومالا، فأجيب إلى ذلك. وسلّم البلد فى سلخ جمادى الأولى، وعقد نكاح بعض أولاده على بعض البنات.

ذكر عوده إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين صاحبها

ذكر عوده إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين صاحبها قال: ولمّا تسلّم الملك الناصر ميّافارقين وفرغ من أمرها وتدبير أحوالها، عاد إلى الموصل لحصارها. فتردّدت الرّسائل بينه وبين عزّ الدين صاحبها، ووقع الاتّفاق على أن يسلّم للملك النّاصر شهرزور وأعمالها، وولاية القرابلى، وجميع ما وراء الزّاب، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب السّكّة باسمه؛ وتحالفا على ذلك. فتسلّم الملك النّاصر البلاد، وسكنت الدّهماء. ورحل إلى حرّان فمرض بها وطال مرضه حتى أيس منه؛ ثمّ عوفى. وعاد إلى دمشق فى المحرّم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. قال: ولمّا كان الملك النّاصر مريضا بحرّان كان عنده ابن عمه ناصر الدّين محمد [بن] «1» شيركوه، وله من الإقطاع حمص والرّحبة، فسار إلى حمص واجتاز بحلب، وأحضر جماعة من أحداثها، ووعدهم، وأعطاهم مالا؛ ثمّ وصل إلى حمص وراسل جماعة من الدّماشقة على تسليم البلد إذا مات الملك النّاصر. وأقام ينتظر موته؛ فتوفّى ناصر الدّين ليلة عيد الأضحى سنة إحدى وثمانين، وعوفى الملك الناصر. [وكان الملك الناصر] «2» لما بلغه ما اعتمده ناصر الدّين بحلب ومراسلته للدّماشقة، وضع عليه النّاصح بن العميد سقاه سمّا فمات، وطلب ابن العميد من الغد فلم يوجد؛ وسار من ليلته إلى الملك النّاصر؛ فقويت الظّنّة «3» بذلك.

ولمّا توفى أعطى الملك النّاصر إقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلّف ناصر الدّين من الأموال والخيول والآلات شيئا كثيرا، فحضر الملك النّاصر إلى حمص وعرض تركته، وأخذ أكثرها، واستعان به على الجهاد، ولم يترك إلّا ما لا خير فيه. وحضر شيركوه عند الملك النّاصر [بعد موت أبيه بسنة] «1» ، فأجلسه فى حجره وسأله إلى أين انتهى من القرآن، فقال إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «2» ، فاضطرب الملك النّاصر لذلك وظنّ أنّه عرّض بفعله، وطلب مؤدّبه ولوحه فوجده كذلك. فعوّضه عمّا أخذه من مال أبيه الضّياع الخراب بالشّام فى ذلك الوقت، وهو الذى يعرف إلى زماننا هذا بالخراب الأسدىّ: وورثته إلى هذا التّاريخ يبيعون خراب ضياع الشّام والسّواد والبلقاء وغير ذلك. واستولوا من الخراب على ما ليس فى كتابهم، وأباعوا مالا هو لهم، فإنّه قيل إن الذى اشتمل عليه كتاب المبايعة أربعمائة ضيعة، وهى الّتى كانت قد استولى عليها الخراب فى ذلك الوقت، فأباع ورثته جميع ما خرب بعد ذلك ممّا لم يتضمّنه كتابهم وأعانهم على ذلك أنّهم يبيعونه لأرباب الجاهات بأحسن الأثمان. وأعرف بلدا يسمّى رمدان من بلاد البلقاء بالقرب من الرّقيم والجادية وسنجاب «3» اشتراها الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى «4» لمّا كان ينوب عن السّلطنة بالشام،

ذكر غزوات الملك الناصر وما افتتحه من بلاد الفرنج

من الورثة الأسديّة بسبعمائة درهم؛ فلمّا مات وانتقل بعض ميراثه إلى السلطان الملك النّاصر «1» بالولاء الشّرعى. وكنت أباشر ديوانه بالشام، حصّلت من مغلّ هذه البلدة فى سنة إحدى وسبعمائة ما أبيع بنيّف وعشرين ألف درهم. فانظر إلى هذا التّفاوت العظيم. ذكر غزوات الملك النّاصر وما افتتحه من بلاد الفرنج وقد رأيت أن أفرد غزوات الملك النّاصر وفتوحاته ونكاياته فى الفرنج، ولا أضمّ ذلك إلى غيره من أخباره، لأنّ فيه ما يدلّ على قوّة الإسلام، وأنّ الله تعالى لم يزل يؤيّد هذا الدّين من عباده بمن يناضل عنه، ويحمى حوزته، ويذب عن أهله، ويستأصل شأفة عدوهم. ونذكر ذلك على التّرتيب. فكان أول ذلك وصول الفرنج إلى ثغر دمياط ورجوعهم عنه. كان وصول الفرنج، خذلهم الله تعالى، إلى ثغر دمياط فى صفر سنة خمس وستين وخمسمائة، [119] فحاصروا الثّغر. وكان سبب ذلك أنّ أسد الدّين شيركوه لمّا ولى الوزارة للخليفة العاضد لدين الله خافه فرنج السّاحل، فكاتبوا أهل صقليّة والأندلس من الفرنج يستمدّونهم ويخبرونهم أن أسد الدّين قد ملك الدّيار المصرية، وأنهم لا يأمنونه على البيت المقدّس. فأمدّوهم بالمال والرّجال والسّلاح، فنازلوا دمياط وضيّقوا على أهلها. فأرسل الملك النّاصر إليهم العساكر برّا وبحرا، وكتب إلى الملك العادل نور الدّين الشّهيد بذلك، ويعرّفه «2»

ذكر غزوه بلاد الفرنج وفتح أيلة

أنّه لا يمكنه الخروج من القاهرة لأنه لا يأمن أمر الشّيعة وأنّهم يثورون بعده، فيبقى الفرنج أمامه والمصريّون خلفه. فأمدّه نور الدّين بعسكر، وخرج نور الدّين بنفسه إلى بلاد الفرنج للإغارة عليها؛ فاستباح أموالها لخلوّ البلاد السّاحلية منهم فلمّا بلغهم ذلك رجعوا إلى بلادهم بساحل الشام بعد مقامهم على دمياط نيّفا وخمسين يوما، ولم يظفروا منها بشىء. وأخرج العاضد للملك النّاصر فى هذه الغزاة ألف ألف دينار مصريّة، سوى الثّياب والأسلحة. ذكر غزوه بلاد الفرنج وفتح أيلة وفى سنة ستّ وستّين وخمسمائة سار الملك النّاصر عن القاهرة وأغار على أعمال عسقلان والرّملة، وهجم على ربض غزّة فنهبه. وأتاه ملك الفرنج «1» فى قلّة من العسكر ليردّه، فهزمه الملك النّاصر بعد أن أشرف على أسره، وعاد إلى القاهرة، وعمل مراكب مفصّلة ونقلها على الجمال إلى البحر، فجمع قطعها وشدّها، وألقاها فى الماء. وحصر أيلة برّا وبحرا، وفتحها فى العشر الأول من شهر ربيع الآخر، واستباح أهلها وما فيها؛ وعاد إلى الدّيار المصريّة «2» . ذكر محاصرة الشوبك وعوده عنها قال المؤرخ: وفى صفر سنة سبع «3» وستين توجّه الملك النّاصر إلى حصن الشّوبك ونازله، وحصره، وضيّق على من به من الفرنج. ودام القتال، فطلب أهله الأمان، واستمهلوه إلى عشرة أيّام فأجابهم

ذكر وصول [أسطول] صقلية إلى ثغر الإسكندرية وانهزامه

إلى ذلك. ثمّ بلغه أنّ الملك العادل نور الدّين جاء من دمشق إلى الشّوبك من الجانب الآخر، فخاف أنّ نور الدّين متى ملك الشوبك قبض عليه، فعاد إلى الدّيار المصريّة، وكتب إلى نور الدّين يعتذر بمرض أبيه بمصر، فقبل عذره ظاهرا، ووقعت الوحشة بينهما باطنا ذكر وصول [أسطول] «1» صقلية إلى ثغر الإسكندرية وانهزامه كانت هذه الحادثة فى سنة سبعين وخمسمائة، ولم يكن للملك النّاصر بها غزاة بنفسه ولا مباشرة للحرب. وكان سبب وصول هذا الأسطول إلى الثّغر ما قدّمناه من مكاتبة المصريّين الذين صلبهم صلاح الدّين الفرنج. فوصل من صقلية مائتا شينى تحمل الرجال، وستّ وثلاثون طريدة «2» تحمل الخيل، وستّ مراكب تحمل آلة الحرب، وأربعون مركبا تحمل الأزواد. وفى المراكب من الرجال: خمسون ألفا ومن الفرسان ألف فارس وخمسمائة فارس. وكان المقدّم عليهم ابن عمّ صاحب صقليّة. فوصلوا إلى الثّغر فى السّادس والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وستّين على حين غفلة، فخرج إليهم أهل الثّغر بعددهم وأسلحتهم، فمنعهم المتولّى عليهم، وأمرهم أن يقاتلوا من وراء السّور. وطلع الفرنج إلى البرّ ونصبوا الدبّابات «3» وقاربوا السّور؛ وقاتلهم أهل البلد قتالا شديدا. وجاء إلى الإسكندرية من كان إقطاعه بالقرب منها.

[120] ذكر مسيره إلى عسقلان وغيرها وانهزام عسكره وعوده

وكتب إلى الملك النّاصر بذلك؛ فتجهّز بنفسه؛ وقدّم من يعلم أهل الثّغر بوصوله، وكان أهل الثّغر قد أنكوا فى الفرنج، وقتلوا وجرحوا كثيرا منهم، وحرقوا الدّبابات. ولمّا علم الفرنج بمقدم الملك النّاصر جنحوا إلى الهرب، وأخذتهم سيوف أهل الثّغر، وحرقوا بعض مراكبهم، ونهبوا خيامهم، وأخذوا سلاحهم؛ وكثر القتل فيهم، وهرب من بقى؛ واحتمى ثلاثمائة من الفرسان على تلّ، فقاتلهم المسلمون طوال الليل إلى ضحى الغد، فأخذوا بين أسير وقتيل. [120] ذكر مسيره إلى عسقلان وغيرها وانهزام عسكره وعوده وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة خرج الملك النّاصر إلى غزّة وعسقلان. وكان رحيله من القاهرة بعد صلاة الجمعة لثلاث ليال خلون من جمادى الأولى من السّنة، فوصل إلى عسقلان فى يوم الأربعاء لليلة بقيت من الشهر، فسبى وسلب، وضرب أعناق الأسرى؛ وتفرّق عسكره للإغارة على الأعمال. ثمّ سار إلى الرّملة فى يوم الجمعة مستهلّ جمادى الآخرة، فاعترضه الفرنج وقد جمعوا جموعا كثيرة؛ فكان بينهما وقعة عظيمة استشهد فيها أحمد ولد الملك المظفّر تقى الدين [عمر] » ، وأسر ولده الثّانى شاهنشاه، وأقام فى الأسر سبع سنين حتى افتكّه السّلطان بمال كثير. وأسر الفقيه عيسى الهكّارى.

ذكر وقعة مرج عيون وانهزام الفرنج وأسر ملوكهم

ثم كانت على المسلمين. وذلك أنّ العساكر كانت قد تعبّت للحرب، فلما قاربهم العدوّ أراد بعض الأمراء أن ينقل الميمنة إلى الميسرة والميسرة إلى القلب، فلمّا اشتغلوا بهذه التّعبئة هجم عليهم الفرنج، فانكسروا وطلبوا الدّيار المصرية، وضلّوا فى الطّريق. وعاد السّلطان ومن معه إلى القاهرة فى يوم الخميس منتصف الشهر «1» . ذكر وقعة مرج عيون وانهزام الفرنج وأسر ملوكهم كانت هذه الوقعة فى يوم الأحد لثمان خلون من شهر المحرّم سنة خمس وسبعين وخمسمائة؛ وكان الفرنج فى عشرة آلاف مقاتل. فلمّا التقوا مع المسلمين انهزم ملكهم «2» مجروحا عند اللقاء وأسر منهم جماعة، منهم: مقدّم الدّاوية «3» . ومقدّم الأسبتارية، وصاحب طبريّة، وأخو صاحب جبيل «4» ، وابن القومصيّة «5» ، وابن بارزان «6» صاحب الرّملة، وصاحب جينين، وقسطلان يافا، وابن صاحب مرقيّة وعدّة من خيّالة القدس وعكّا. وغيرهم من المقدّمين الأكابر زادت عدّتهم على مائتين وسبعين، سوى غيرهم، فنقلهم السّلطان إلى دمشق. فأمّا ابن بارزان فإنّه بذل فى نفسه مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار صوريّة، وإطلاق ألف أسير من المسلمين، والتزم بفكاك الفقيه عيسى الهكّارى. وأما ابن القومصية فافتكّته أمّه بخمسة وخمسين ألف

ذكر هدم بيت الأحزان

دينار صوريّة. وأما مقدّم الداويّة فإنه هلك، فطلبت جثته بإطلاق ألف أسير من مقدّمى المسلمين «1» . قال: وفى هذا اليوم ظفر الأسطول المصرىّ ببطشة «2» كبيرة للفرنج، فاستولى عليها وعلى أخرى، وعاد إلى الثّغر بألف أسير. والله أعلم. ذكر هدم بيت الأحزان كان الفرنج قد عمروا حصن بيت الأحزان فى مدّة مقام الملك النّاصر على بعلبك واشتغاله بأمرها؛ فبنوه على مخاضة بيت الأحزان، وبينه وبين صفد وطبريّة نصف يوم. وكان فى بنائه ضرر عظيم على المسلمين، فبذل لهم الملك النّاصر فى هدمه مائة ألف دينار، فأبوا ذلك. فجهّز إليه الجيش، فوصل إلى المخاضة يوم السّبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين، والحصن مبنىّ دونها من الغرب. فنصبوا عليه المجانيق بعد العصر من يوم الأحد، فما جاء اللّيل إلّا وقد استولوا على الباشورة «3» . ثم أدار حوله النّقوب، فاستمرّت إلى يوم الخميس، لستّ بقين من الشهر، فهدم الجدار، ودخل العسكر الحصن وغنموا ما فيه؛ فكان ما غنموه من أنواع السّلاح الجديدة مائة ألف قطعة؛ وأسروا سبعمائة أسير، ومن أسرى المسلمين مائة. ثم هدم الحصن إلى الأساس، وكان سمكه عشرة أذرع «4» .

ذكر مسير الملك الناصر إلى بلاد الأرمن

قال: ولمّا عمر الفرنج بيت الأحزان قال النشو أحمد الدّمشقى: هلاك الفرنج أتى عاجلا ... وقد آن تكسير صلبانها ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها «1» ذكر مسير الملك الناصر إلى بلاد الأرمن [121] وفى سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، توجّه الملك النّاصر إلى بلاد الأرمن. وذلك أن ابن لاوون «2» ملك الأرمن كان قد استمال قوما من التّركمان، فلمّا أتوه وهم آمنون أسرهم. فدخل الملك النّاصر إلى بلاده واستولى على قلعة تعرف بالمانقير «3» ، وهدمها إلى الأساس، وأخذ ما فيها من الآلات. ووجد المسلمون فى أرضها صهريجا مملوءا من الآلات الذّهب والفضّة والنّحاس. فبذل ابن لاوون جملة من المال، وأنّه يطلق الأسرى، ويشترى خمسمائة أسير من بلاد الفرنج ويطلقهم. فأجابه السّلطان إلى ذلك، وأخذ رهينة عليه. ثمّ عاد إلى الدّيار المصريّة، وأقام بها إلى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة «4» . ذكر مسيره إلى الشام والإغارة على طبرية وبيسان وما كان من الظفر بمراكب الفرنج ببحر عيذاب وفى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة توجّه السّلطان الملك النّاصر لقصد الشام عند وفاة الملك الصّالح بن الملك العادل نور الدّين. فأغار

على طبريّة وبيسان فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأوّل، فانتصر بعد قتال. وفيها كان الظفر بالفرنج ببحر عيذاب «1» . وذلك أنّ البرنس صاحب الكرك «2» عمل أسطولا بالكرك، ونقل قطعه إلى بحر أيلة، وجمعها وألقاها فى البحر، وشحنها بالمقاتلة، فساروا فى البحر وافترقوا فرقتين: فرقة حصلت أيلة، وفرقة توجّهت إلى عيذاب. وأفسدوا السّواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوه من المراكب الإسلامية ومن فيها من التّجار. وجاءوا على حين غفلة، فرأى النّاس ما لم يعهدوه، فإنّ هذا البحر لم ير النّاس فيه فرنجيّا قطّ، لا تاجرا ولا مقاتلا قبل هذا الوقت. وكان الملك العادل ينوب عن أخيه الملك النّاصر بالدّيار المصريّة، فعمر أسطولا وجهّز فيه جماعة من المسلمين، ومقدّمهم حسام الدّين لؤلؤ الخاص، فسار فى طلبهم. وابتدأ بالمركب التى على أيلة، فظفر بها، وقتل بعض من فيها وأسر بعضهم. وتوجّه لوقته بعد ظفره بهم إلى الذين توجّهوا إلى عيذاب، وكانوا قد عزموا على الدّخول إلى الحجاز وأخذ الحاج، والدّخول بعد ذلك إلى اليمن، فوصل لؤلؤ إلى عيذاب فوجدهم قد نهبوا ما وجدوه بها وتوجّهوا، فسار فى أثرهم، فبلغ رابغ والحوراء فأدركهم بها، وأوقع بهم. فلمّا تحقّقوا العطب خرجوا إلى البرّ واعتصموا ببعض تلك الشّعاب، فنزل من مراكبه وقاتلهم فى البرّ أشدّ قتال، وأخذ خيلا من الأعراب الذين هناك فركبها، وقاتلهم، فظفر بهم وقتل أكثرهم؛ وأسر من بقى، وأرسل

ذكر الإغارة على الغور

بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لهم على قصدهم البيت الحرام. وعاد إلى مصر ببقية الأسرى، فقتلوا «1» . ذكر الإغارة على الغور قال: ولمّا ملك الملك النّاصر حلب وعاد إلى دمشق ثم رحل منها فى ثامن جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وخمسمائة نزل على بيسان فوجد أهلها قد ارتحلوا عنها، فنهبها العسكر النّاصرى وتقوّوا بما فيها، وحرقوا ما لم يمكنهم أخذه. وسار بهم حتى أتى الجالوت، وهى قرية عامرة وعندها عين جارية، فعبّأ أصحابه عندها للقتال، ورحل إلى الفولة «2» ، ووقع القتال بينه وبين الفرنج، وكان الظّفر له. ثمّ عاد إلى دمشق، فوصل إليها فى يوم الخميس الرّابع والعشرين من جمادى الآخرة من السّنة. وتوجّه إلى الكرك فى هذه السّنة، وعاد. ثمّ جمع العساكر المصريّة والحلبيّة وغيرها وقصد الكرك فى سنة ثمانين وخمسمائة، وهى الدّفعة الثانية؛ فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم للذّبّ عنها، ففارقها السّلطان، وجهّز طائفة إلى نابلس فنهبوها وعادوا إليه «3» . ذكر غزوة الكرك والشوبك وفتح طبرية ومجدل يابا ويافا قال العماد الأصفهانى فى البرق الشامى: وفى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة برز الملك النّاصر من دمشق فى أول المحرّم، فى العسكر

العرمرم، ومضى بأهل الجنّة لجهاد أهل جهنم. فلمّا وصل إلى رأس الماء «1» أمر ولده الأفضل بالمقام عندها ليجتمع عنده الأمراء الواصلون من الجهات. وسار السّلطان [122] إلى بصرى، ثمّ منها إلى الكرك، ورعى الزّروع وقطع الأشجار. ثمّ سار إلى الشّوبك وفعل مثل ذلك. ووصل إليه العسكر المصرىّ ففرّقه على قلعتى الكرك والشّوبك. وأقام إلى أن انقضى من السّنة شهران، والملك الأفضل مقيم برأس الماء، وقد اجتمعت عنده العساكر، فتقدّم إلى سريّة منهم بالغارة على أعمال طبريّة، فانتهوا إلى صفّوريّة «2» فخرج إليهم الفرنج فقاتلوهم، فكان الظّفر للمسلمين، وهلك مقدّم الأسبتار؛ وعادوا إليه فكانت مقدّمة النّصر المبين. وانتهت البشائر إلى الملك النّاصر وهو بنواحى الكرك والشّوبك، فسار بمن معه فى يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل، وعرضهم فى اثنى عشر ألف فارس. وعزم على دخول السّاحل، فانتهى إلى ثغر الأقحوانة «3» فاجتمعت الفرنج فى زهاء خمسين ألفا، ونزلوا على مرج صفّوريّة بأرض عكّا، فلم يتقدّموا عنها. فتقدّم السّلطان إلى الأمراء أن يقيموا فى مقابلتهم، ونزل هو بمن معه من خواصّه على طبريّة وشرع فى نقب سورها، فهدموه فى ساعة من نهار، وامتنعت القلعة بمن فيها. فلمّا اتّصل بالفرنج فتح طبريّة تقدّموا، وذلك فى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر، فترك السّلطان على طبريّة من يحفظ قلعتها، وتقدّم بالعسكر، فالتقيا على سطح جبل طبريّة الغربىّ منها. وحال

بينهما اللّيل، فباتا إلى صبيحة يوم الجمعة، فتصادما بأرض قرية اللّوبيا؛ واستمرّت الحرب بينهما إلى الليل فكانت من أعظم الحروب. ثمّ باتا إلى صبيحة يوم السّبت، فالتقيا. فلمّا عاين القومص «1» أنّ الدائرة تكون على طائفته هرب فى أوائل الأمر قبل اشتداده، وسار نحو صور، فتبعه جماعة من المسلمين، فنجا بمفرده. ثمّ انهزمت طائفة أخرى فتبعها أبطال المسلمين، فلم ينح منها واحد. واعتصمت الطّائفة الأخرى بتل حطّين، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النّيران، فقتلهم العطش، فأسر مقدّمهم، وقتل الباقون وأسروا، وألقى الله عليهم الخذلان. قال القاضى أبو المحاسن ابن شداد: لقد حكى لى من أثق به أنّه لقى بحوران شخصا واحدا ومعه طنب خيمة فيه نيّف وثلاثون أسيرا «2» . وأمّا القومص الذى هرب فإنّه وصل إلى طرابلس، وأصابه ذات الجنب، فأهلكه الله. قال: وبات السّلطان بالمنزلة، ونزل يوم الأحد على طبريّة وتسلّم قلعتها فى بقيّة يومه، وأقام بها إلى يوم الثّلاثاء. قال: ولمّا يسر الله هذا الفتح كتب السّلطان إلى أخيه الملك العادل سيف الدّين بمصر يبشّره به، وأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقى عنده من العساكر، ومحاصرة ما يليه منها؛ فسارع إلى ذلك، وسار ونازل حصن مجدليابة «3» وفتحه، وغنم ما فيه، ثم سار إلى يافا وفتحها عنوة، وقتل وسبى، وأسر وغنم ...

ذكر فتح عكا ونابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة ومعليا والفولة والطور والشقيف وغير ذلك

ذكر فتح عكا ونابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والنّاصرة ومعليا والفولة والطور والشّقيف وغير ذلك قال ابن شدّاد: ثمّ رحل السّلطان طالبا عكّا. وكان نزوله عليها فى يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، وقاتلها بكرة الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذها، واستنقذ من كان فيها من الأسارى، وكانوا زهاء أربعة آلاف؛ واستولى على ما فيها من الأموال والذّخائر. ثم تفرّقت العساكر فى بلاد السّاحل فأخذوا نابلس، وحيفا، وقيساريّة، وصفّوريّة، والنّاصرة، ومعليا، والفؤلة، والطّور، والشّقيف وقلاعا تلى هذه كثيرة؛ وكان ذلك لخلوّها من الرّجال فإنّهم عمّهم القتل والأسر «1» . ذكر فتح تبنين وصيدا وصرفند وبيروت وجبيل قال: ثم أرسل السلطان [ابن] «2» أخيه تقى الدين إلى تبنين، فضايقها، وكتب إلى السلطان أن يأتيه بنفسه، فوصل إليها ونازلها يوم الأحد الحادى عشر من جمادى الأولى، فسأل من بها الأمان واستمهلوا خمسة أيام لينزلوا بأموالهم، وأطلقوا الأسارى، فخرجوا إليه، فسرّ بهم وكساهم. وخلص فى تلك السنة [123] من الأسرى أكثر من عشرين ألف أسير، ووقع فى أسره من الكفار مائة ألف. قال: ثم رحل السّلطان من تبنين إلى صيدا، فاجتاز فى طريقه بصرفند فأخذها بعد قتال.

ذكر فتح عسقلان وما يجاورها

ثم سار إلى صيدا، ففارقها صاحبها وتركها خالية، فتسلّمها ساعة وصوله إليها لتسع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وسار من يومه نحو بيروت فقاتل أهلها على سورها وظنّوا أنهم قد قدروا على حفظه، فدخلها المسلمون من الجانب الآخر، فسألوا الأمان فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، وتسلّمها فى التاسع والعشرين من الشهر. وأمّا جبيل فكان صاحبها فى جملة الأسرى الذين نقلوا إلى دمشق، فسأل إطلاقه وتسليمها، فأحضره مقيّدا، فسلّم البلد وأطلق أسرى المسلمين، وأطلقه السّلطان. ذكر فتح عسقلان وما يجاورها قال: وسار السّلطان إلى عسقلان والرملة وغزة والدّاروم وغير ذلك. فنزل على عسقلان فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، ونصب عليها المجانيق، فسلّموها على خروجهم بأموالهم سالمين؛ وذلك فى يوم السبت سلخ جمادى الآخرة «1» . ثم تسلّم حصون الدّاويّة وهى غزّة، والدّاروم، والرّملة، وتبنى، وبيت لحم، ومشهد الخليل، ولدّ، وبيت جبريل «2» . قال: وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ استولى عليها فى السّابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

ذكر فتح البيت المقدس

قال العماد: وفوّض السّلطان القضاء والحكم والخطابة وجميع المناصب الدينيّة بمدينة عسقلان وأعمالها إلى جمال الدّين عبد الله بن عمر الدّمشقى، وهو المعروف بقاضى اليمن. ذكر فتح البيت المقدس قال المؤرخ: لمّا فرغ السّلطان الملك النّاصر من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى البيت المقدّس، فكان وصوله إليه فى يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وكان به البطرك المعظّم عندهم، وهو أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا ياليان بن بارزان صاحب الرّملة ومن خلص من فرسان الفرنج من حطّين، واجتمع به أهل عسقلان وغيرها، كلّهم يرى الموت عليه أهون من أن يملك البيت المقدّس. فنزل السّلطان بالجانب الغربىّ وأقام خمسة أيّام يطوف حول البلد لينظر من أين يقاتله. ثمّ انتقل إلى الجانب الشّمالىّ يوم الجمعة، العشرين من الشّهر، وكانت عدّة من به من المقاتلة ستّين ألفا غير النّساء والصّبيان فنصب السّلطان المجانيق فى تلك اللّيلة، ونصب الفرنج على السّور مجانيق أيضا، وقاتلوا أشد قتال رآه النّاس لأنّ كلّا من الفريقين يرى ذلك عليه من الواجبات لا يحتاج فيه إلى سلطان. وكانت خيّالة الفرنج يخرجون فى كلّ يوم إلى ظاهر البلد فيقاتلون ويبارزون. وتوالى الزّحف، ونقب المسلمون السّور مما يلى وادى جهنّم. فلما رأى الفرنج ذلك أخلدوا إلى طلب الأمان، وبعثوا جماعة من أكابرهم فى ذلك؛ فامتنع الملك النّاصر من ذلك وقال: لا أفعل بكم إلّا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة من

القتل والسّبى. فلما رجع الرّسل إليهم، أرسل باليان بن بارزان يطلب الأمان لنفسه ليحضر إلى الملك النّاصر، فأمّنه، فحضر إليه وسأله الأمان، فلم يجبه، واستعطفه فلم يتعطّف، واسترحمه فلم يرحمه. فلمّا أيس منه قال له ما معناه: أيها السّلطان، اعلم أنّنا فى هذه المدينة فى خلق كثير لا يعلمهم إلّا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، وهم يكرهون الموت ويرغبون فى الحياة؛ فإذا رأينا أنّ الموت لا بدّ منه والله لنقتلنّ أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، فلا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما، ولا تسبون ولا تأسرون رجلا ولا امرأة. [124] فإذا فرغنا من ذلك أخرجنا الصّخرة والمسجد الأقصى؛ وغير ذلك من المواضع الشّريفة؛ ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، وهم خمسة آلاف، ولا نترك لنا دابّة ولا حيوانا إلا قتلناه. ثمّ نخرج إليكم، كلّنا، فنقاتلكم قتال من يريد يحمى دمه ونفسه، فلا يقتل الرّجل منا حتى يقتل؛ فإمّا أن نموت أعزاء أو نظفر كراما. فلمّا سمع الملك النّاصر كلامه استشار عند ذلك أصحابه، فأشاروا عليه بموافقتهم. ووقع الصّلح على أن يسلّموا أسرى المسلمين، ويبذلوا عن كلّ رجل من الفرنج عشرة دنانير، وعن كلّ امرأة خمسة، وعن كلّ طفل وطفلة دينارين، يستوى فى ذلك الغنىّ والفقير. وبذل ابن بارزان فى الفقراء ثلاثين ألف دينار من ماله، وعلى أن تكون المدّة أربعين يوما، فمن أدّى ذلك قبل المدّة خلص ومن تأخّر استرقّ. وتسلّم السّلطان المدينة فى يوم الجمعة السّابع والعشرين من شهر

ذكر رحيله ومحاصرة صور

رجب. وكان يوما مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على الأسوار «1» ، ورتّب السّلطان على أبواب البلد أمناء من الأمراء يأخذون من أهله ما استقرّ عليهم، فخانوا، ولو أدّوا الأمانة لامتلأت الخزائن. قال: وصلّى الملك النّاصر الجمعة الثّانية فى رابع شعبان فى قبّة الصّخرة، وكان الخطيب والإمام القاضى محيى الدّين ابن الزّكى قاضى دمشق «2» . ثم رتّب له خطيبا وإماما ونقل إليه المنبر الذى كان عمله الملك العادل نور الدّين بحلب برسم البيت المقدّس إذا فتحه. وكان بين عمله وفتح البيت المقدّس ما يزيد على عشرين سنة. ثمّ تقدّم أمر السّلطان بعمارة المسجد الأقصى ومحو ما كان الفرنج صنعوه من الصّور على عادتهم، ونقل إليه المصاحف، وطهّره من أدناس الكفر، رحمه الله تعالى، وتقدّم بعمل الرّبط والمدارس، وجعل دار الأسبتار مدرسة للشّافعيّة» . ذكر رحيله ومحاصرة صور قال المؤرّخ: وأقام السّلطان الملك النّاصر بالبيت المقدّس إلى الخامس والعشرين من شعبان من السّنة، ثمّ سار لقصد محاصرة صور وقد اجتمع فيها خلق كثير من الفرنج. وقدم إليها المركيس «4» فى

البحر بأموال عظيمة؛ وكانت عادته أن يحضر إلى البيت المقدّس بأموال يفرّقها، فلمّا حضر فى هذا الوقت ووصل عكّا فرآها قد خرجت عن أيدى الفرنج سار إلى صور فملكها، وأنفق ما معه على من بها، فقوى أمره وانحاز إليه جميع من خلص بالأمان من سائر البلاد. فأنفق على سور صور وخنادقها، وعمّقها، فصارت كالجزيرة فى البحر لا يمكن الوصول إليها. فوصل الملك النّاصر إلى عكّا فى مستهل شهر رمضان، فأصلح من شأنها، ثم رحل عنها ونازل صور فى تاسع شهر رمضان ونزل على نهر بالقرب من البلد؛ ثمّ نزل على تلّ يقارب صور فى الثّانى والعشرين من الشّهر، وقسّم القتال على العسكر لكلّ جمع منهم وقت معلوم. واستدعى الأسطول المصرىّ، وكان بعكّا، فجاءته عشر شوان، وكان للفرنج فى البحر مراكب فيها رماة الجروخ «1» والزنبوركات «2» يرمون من دنا من البحر. فاستطال الأسطول عليها، وأحاط بهم المسلمون وقاتلوا برّا وبحرا؛ ثمّ أغفلوا أمرهم فملك الفرنج من الشوانى خمسة وأسروا مقدّمها «3» . ثمّ كانت حروب كثيرة ووقائع. ثمّ رحل السّلطان عنها فى آخر شوّال، وهو أول كانون «4» ، وسار إلى عكّا، وأذن للعساكر بالعود إلى أوطانهم للرّاحة فى الشتاء والعود فى الربيع، فعادت عساكر الشّرق والموصل والشّام ومصر، وبقى

ذكر فتح هونين

السّلطان فى عكّا فى حلقته وخاصّته، وردّ أمرها إلى الأمير عز الدّين جرديك «1» . ذكر فتح هونين قال المؤرخ: كان السّلطان لمّا فتح تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فرتّب عليها من يحصرها؛ فطلب من بها الأمان لمّا كان السّلطان يحاصر صور، فأمّنهم، ونزلوا منها وتسلّمها. «2» [واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان فى ست جمع مع أنها فى أيدى أشجع الناس] «3» [125] وأشدهم عداوة للمسلمين، فيسر الله فتحها فى أيسر مدة.

ذكر فتح حصن برزية

ذكر فتح حصن برزية قال: ولما رحل السلطان من قلعة الثغر سار إلى قلعة برزية «1» ، وبحصانتها يضرب المثل، وهى تقابل حصن أفامية «2» وتناصفها فى أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصى، ومن عيون تنفجر من جبل برزية وغيره. وكان أهلها أضر شىء على المسلمين يقطعون الطّريق ويبلغون فى الأذى. فنزل السّلطان شرقيّها فى رابع عشرى الشّهر «3» ، وركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه، فلم يجده إلا من جهة الغرب. وهذه القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهتى الجنوب والشّمال ألبتّة، فإنّ جبلها لا يصعد إليه من هاتين الجهتين؛ وأمّا الجانب الشرقىّ فيمكن الصّعود منه لغير مقاتل لصعوبته وارتفاعه؛ وأما جهة الغرب فإنّ الوادى المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعا كثيرا حتّى قارب القلعة بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسّهام. فنزله المسلمون ونصبوا المجانيق، ونصب أهل القلعة منجنيقا، فرأى السّلطان المجانيق لا تفيد، فتركها وعزم على الزّحف ومكاثرتها بالرّجال؛ فقسّم العسكر ثلاثة أقسام، يزحفون بالنّوبة. فطال ذلك على أهلها وعجزوا عن مقاتلتهم فملكها المسلمون عنوة ونهبوا وأسروا وسبوا، وأخذوا صاحبها وأهله، وأمست خالية خاوية. وألقى المسلمون النّار فى بعض البيوت فاحترقت «4» .

ذكر فتح قلعة دربساك

ذكر فتح قلعة دربساك قال: ثمّ رحل السّلطان بعد فتوح برزيّة من الغد فأتى جسر الحديد، وهو على العاصى بالقرب من أنطاكيّة، فأقام هناك حتّى وافاه من تخلّف عنه من عسكره ثمّ سار إلى قلعة دربساك، فنزل عليها فى ثامن شهر رجب سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وهى من أحصن معاقل الدّاويّة وقلاعهم التى يدّخرونها عند نزول الشدائد بهم. فنصب عليها المجانيق، وتابع الرّمى بالحجارة، فهدم قطعة يسيرة من سورها؛ ثمّ أمر بالزّحف عليها ومهاجمتها؛ فتوالى الزّحف والقتال، وتقدّم النّقّابون فنقبوا منها برجا وعلقوه فسقط، وطلب أهله الأمان فأمّنهم على ألا يخرجوا منها بغير ثيابهم خاصّة، فخرجوا كذلك، وتوجهوا إلى أنطاكيّة، وتسلّمه فى تاسع عشر شهر رجب «1» . ذكر فتح قلعة بغراس قال: ثمّ سار عن دربساك إلى قلعة بغراس، فحصرها بعد أن اختلف أصحابه فى حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية. فسار إليها وجعل أكثر عسكره مقابل أنطاكية يغيرون على ضياعها، وبقى هو فى بعض أصحابه على القلعة ونصب عليها المجانيق فلم يؤثّر فيها، فغلب على الظّنون تعذّر فتحها. فبينما هم فى ذلك إذ جاء رجل من القلعة يطلب الأمان لرسول، فأعطيه، وجاء رسول يطلب الأمان لأهلها، وسلّموها على قاعدة دربساك، فأجابهم إلى ما طلبوا. وعاد

ذكر الهدنة بين المسلمين وبين صاحب أنطاكية

الرّسول ومعه الأعلام السّلطانيّة فرفعت على رأس القلعة، وتسلّمها السّلطان وأمر بتخريبها فخربت «1» . ذكر الهدنة بين المسلمين وبين صاحب أنطاكية قال: ولمّا فتح السّلطان بغراس قصد حصار أنطاكيّة فجاءته رسل بيمند تسأله الهدنة ثمانية أشهر بحيث يطلق جميع من عنده من أسرى المسلمين. فاستشار السّلطان أصحابه، فأشار أكثرهم بذلك ليستريح العسكر ويجدّدوا [126] ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك ووقعت الهدنة ثمانية أشهر أولها تشرين الأول «2» . وتوجّه السّلطان إلى حلب فوصل إليها فى ثالث شعبان، وفرّق العساكر الشّرقية: عماد الدّين زنكى بن مودود صاحب سنجار، وعسكر الموصل، وغيرهما. ثمّ رحل إلى دمشق فدخلها فى أول شهر رمضان من السّنة. ذكر فتح الكرك والشوبك وما يجاورهما قد ذكرنا أنّ السّلطان كان قد جعل على الكرك من يحصره، وهو سعد الدّين كمشبه «3» ، فى أوّل سنة أربع وثمانين؛ فلازم الحصار هذه المدّة الطويلة حتى نفذت ذخائر الفرنج، وأكلوا دوابّهم. فراسلوا الملك العادل أخا السّلطان، وكان السّلطان قد جعله بتلك النّواحى فى مجمع من العسكر، وسألوه الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى سعد الدّين مقدّم العسكر فتسلّم القلعة منهم وأمّنهم.

ذكر فتح قلعة صفد

وتسلّم أيضا ما قارب هذا الحصن من الحصون وهو الشوبك، وهرمز، والوعيرة، والسلع فأمنت القلوب من تلك الجهة «1» . ذكر فتح قلعة صفد قال: ولمّا وصل السّلطان إلى دمشق أشير عليه أن يفرّق العساكر، فقال: إنّ العمر قصير والأجل غير مأمون، وقد بقى بيد الفرنج هذه الحصون: صفد والكوكب، ولا بدّ من الفراغ من ذلك فإنّهما فى وسط بلاد الإسلام. وأقام بدمشق إلى منتصف شهر رمضان من السّنة، وسار إلى قلعة صفد، فحصرها ونصب عليها المجانيق، وداوم الرّمى ليلا ونهارا، فسألوا الأمان، فأمّنهم وتسلّمها، وخرج أهلها إلى صور «2» . ذكر فتح كوكب قد قدّمنا «3» أنّ السلطان كان قد جعل على كوكب الأمير قايماز النّجمى «4» . فلمّا حصر السّلطان صفد أرسل من بصور من الفرنج نجدة من جهاتهم إلى كوكب، وهم مائتا رجل من الشّجعان، فظفر بهم قايماز فقتلهم عن آخرهم، وأرسل إلى السلطان المقدّمين عليهم، وهما رجلان من فرسان الأسبتار، فأمر بقتلهما، فقال أحدهما ما أظن أنّنا ينالنا سوء بعد أن رأينا وجهك الصّبيح. فعفا عنهما واعتقلهما. ولما ملك صفد سار عنها إلى كوكب وشدّد الحصار ووالى الزّحف، وأشرف على أخذها، فسأل الفرنج الأمان فأمّنهم وأطلقهم، وتسلّم

الحصن فى منتصف ذى القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فالتحق من كان به بصور فقويت شوكتهم وكثروا، لأنه اجتمع عندهم شجعان الفرنج وكماتهم. وتابعوا الرّسل إلى ملوك الفرنج بالأندلس وصقليّة والجزائر يستغيثون بهم ويسألون الأمداد، فكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: ثمّ سار السّلطان إلى البيت المقدّس فعيّد فيه عيد الأضحى. ثمّ سار منه إلى عكّا وأقام بها إلى أن انسلخت السنة «1» . وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثار بالقاهرة اثنا عشر رجلا من الشّيعة، ونادوا بشعار العلويّين، وصاحوا: يا لعلىّ «2» وسلكوا الدّروب ينادون، ظنّا منهم أن أهل البلد يلبّون دعوتهم ويخرجون معهم، فيعيدون الدولة العبيديّة ويملكون البلد ويخرجون من بالقصر من العلويين؛ فلم يجبهم أحد من الناس. فلمّا خاب سعيهم تفرّقوا فأخذوا. وكتب بذلك إلى السّلطان فأهمّه وأزعجه. فقال له القاضى الفاضل عبد الرّحيم: ينبغى أن يفرح السّلطان بذلك ولا يحزن، حيث علم من بواطن رعيّته المحبّة له والنّصيحة، وترك الميل إلى عدوّه. ولو وضع السّلطان جماعة يفعلون مثل هذه الحالة ليعلم بواطن أصحابه ورعيّته وخسر الأموال «3» الجلية لكان قليلا فسرّى عنه.

[127] ذكر فتح شقيف ارنوم

[127] ذكر فتح شقيف ارنوم وفى شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وخمسمائة سار السّلطان إلى شقيف أرنوم «1» ، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، ونزل بمرج عيون فنزل صاحب الشّقيف، وهو أرناط «2» صاحب صيدا، إلى السّلطان؛ وكان من أكثر النّاس دهاء ومكرا فقال: أنا محب لك ولدولتك، ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يطّلع المركيس على ما بينى وبينك فينال أولادى وأهلى منه أذى، فإنّهم عنده بصور؛ وأحبّ أن تمهلنى حتى أتوصّل إلى تخليصهم من عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم إلى عندك ونسلّم الحصن إليك، ونكون فى خدمتك، نقنع بما تعطينا من الإقطاع. فأجابه السلطان إلى ذلك وظنّ صدقه، واستقرّ الأمر بينهما أن يسلّم الشّقيف فى جمادى الآخرة. وأقام السّلطان بمرج عيون ينتظر الأجل وهو قلق مفكر لقرب انقضاء الهدنة بينه وبين صاحب أنطاكية فأمر تقى الدّين ابن أخيه أن يسير فيمن معه من عساكره ومن يأتيه من بلاد الشّرق ويكون مقابل أنطاكيّة لئلا يغير صاحبها على ما يجاوره من بلاد الإسلام عند انقضاء الأجل. وكان السّلطان أيضا منزعج الخاطر لما بلغه من اجتماع الفرنج بصور وما يصل إليهم من الأمداد، وأنّهم اجتمعوا فى خلق كثير وخرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها؛ فخاف أن يترك الشّقيف وراء ظهره. وكان أرناط فى هذه المدّة يشترى الأقوات من سوق العسكر، والسّلاح، وغير ذلك مما يحصّن به شقيفه، فيبلغ السّلطان فلا ينكره بحسن ظنّه. وكان قصد أرناط المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور.

ذكر مسير السلطان من مرج عيون إلى صور وما كان عليها من الوقائع

فلما قارب الأجل تقدّم السلطان إلى الشّقيف، واستدعى أرناط وقد بقى من الأجل ثلاثة أيّام، فجاءه، فتحدّث معه فى تسليم الحصن، فاعتذر بأولاده وأهله وأنّ المركيس لم يمكّنهم من المجىء إليه، وطلب المهلة مدّة أخرى. فحينئذ تحقق السّلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف فطلب قسّيسا وحمّله رسالة سرّا، وأظهر أنّه أمره بتسليمه؛ فامتنع من بالحصن من تسليمه: فسرّ أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدّم إلى الشّقيف وضيّق على من به، وترك عليه من يحفظه ويمنع من الوصول إليه. فتسلّمه فى يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين، وأطلق صاحبه «1» . ذكر مسير السلطان من مرج عيون إلى صور وما كان عليها من الوقائع قال: وجاءت السّلطان كتب أصحابه الذين جعلهم يزكا «2» فى مقابلة الفرنج على مدينة صور يخبرونه أنّ الفرنج قد اجتمعوا على عبور الجسر الذى لصور، وعزموا على حصار صيدا. فسار جريدة فى شجعان أصحابه، فوصل إليهم بعد أن كانت الوقعة بين الفرنج وبين اليزك. وذلك أن الفرنج خرجوا من مدينة صور، فلقيهم اليزك على مضيق وقاتلوهم ومنعوهم، وكانت حربا شديدة، وأسر من الفرنج جماعة، منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين، وقتل من المسلمين

ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها

جماعة. ثم عجز الفرنج عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى صور والله أعلم «1» . ثم كانت لهم وقعة ثانية بعد وصول السّلطان مع المتطوّعة. وذلك أن السّلطان لما جاء إلى صور أقام مع اليزك فى خيمة صغيرة ينتظر عودة الفرنج للخروج؛ فركب فى بعض الأيام فى عدّة يسيرة لينظر إلى مخيّم الفرنج من الجبل، فظنّ من هناك من المتطوّعة أنّه قصد الغزاة، فساروا مجدّين وأوغلوا فى أرض العدوّ وبعدوا [128] عن العسكر، وخلّفوا السّلطان وراء ظهورهم؛ فبعث من يردّهم فلم يرجعوا. وظنّ الفرنج أنّ وراءهم من يحميهم فأحجموا عنهم؛ فلمّا علموا بانفرادهم حملوا عليهم حملة رجل واحد، فقتل منهم جماعة من المعروفين؛ فشقّ ذلك على السّلطان والمسلمين. وكانت هذه الوقعة فى تاسع جمادى الأولى. فلمّا رأى السّلطان ذلك انحدر من الجبل بمن معه، وحمل على الفرنج فردّهم إلى الجسر، فرموا بأنفسهم فى الماء، فغرق منهم مائة دارع سوى من قتل. وعادوا إلى مدينة صور، فعادا السّلطان إلى تبنين ثم إلى عكا. ثم كانت وقعة ثالثة فى يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة صبر فيها الفريقان «2» . ذكر مسير الفرنج إلى عكّا ومحاصرتها قال المؤرخ: لما كثر جمع الفرنج بصور، على ما ذكرناه من أنّ السّلطان كان كلّما فتح حصنا أو مدينة بالأمان سار أهلها إلى صور

بأموالهم وأهليهم، اجتمع بها منهم عالم كثير لا يحصون، وأموال كثيرة، ثم إنّ الرّهبان والقسوس لبسوا السواد وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدّس عنهم، وتابعهم جماعة من المشهورين. فأخذهم البطرك «1» ودخل بهم إلى بلاد الفرنج يطوفها بهم ويستنجدون أهلها ويستجيرون بهم، ويحثّونهم على الأخذ بثأر البيت المقدّس. وصوّروا صورة المسيح عليه السّلام وصورة رجل أعرابى والعربىّ يضربه بين جماعة، وقالوا: هذا المسيح يضربه محمّد نبى المسلمين، وقد جرحه وقتله «2» . فعظم ذلك على الفرنج وحشدوا، حتّى النساء، فإنّهم كان معهم على عكّا عدّة من النساء يبارزن الأقران. ومن لم يستطع أن يخرج استأجر عنه أو يعطيهم مالا. فاجتمع لهم من الرّجال والأموال مالا. يحصى كثرة. واجتمعوا بصور والبحر يمدّهم بالأموال والأقوات والعدد والذّخائر، فضاقت عليهم مدينة صور، باطنها وظاهرها؛ فأرادوا قصد صيدا، فكان من ردّهم ما ذكرناه. فاتّفقوا على قصد عكّا ومحاصرتها؛ فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، ولزموا البحر فى مسيرهم، لا يفارقونه فى السّهل والوعر، ومراكبهم تسايرهم وفيها السّلاح والذّخائر. فكان رحيلهم من مدينة صور فى ثانى شهر رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ونزولهم

على عكّا فى منتصف الشّهر. فتخطّف المسلمون منهم فى مسيرهم وأخذوا من انفرد. وجاء الخبر إلى السّلطان برحيلهم، فسار حتى قاربهم. ثمّ نزلوا على عكّا قبل وصوله إليها، ونازلوها من سائر جهاتها برّا وبحرا، فلم يبق للمسلمين إليها طريق. ونزل السّلطان عليهم وضرب خيمته على تلّ كيسان «1» وامتدّت ميمنته إلى تلّ العياضيّة وميسرته إلى النّهر الجارى «2» ، ونزلت الأثقال بصفّوريّة. وسيّر الكتب إلى الأطراف يستدعى العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار، وغيرها من بلاد الجزيرة. وأتاه تقىّ الدّين ابن أخيه، ومظفّر الدّين بن زين الدين صاحب حرّان والرّها. فكانت الأمداد تأتى المسلمين فى البرّ وتأتى الفرنج فى البحر. وكان بين الفريقين مدّة مقامهم على عكّا حروب كثيرة. نحن نذكر المشهور منها على سبيل الاختصار؛ وأمّا الحروب التى تكون بين بعض هؤلاء وبعض هؤلاء، والمناوشات، فلو شرحناها لطال بها الكتاب لأن مدّة هذا الحصار كانت ثلاث سنين وشهرا. وكان ابتداء القتال فى مستهل شعبان من السّنة. فقاتلهم السّلطان فى ذلك اليوم ولم يبلغ منهم غرضا؛ ثم باكرهم القتال واستدار عليهم من سائر جهاتهم إلى أن انتصف النّهار، وصبر الفريقان أعظم صبر. فحمل تقىّ الدّين من الميمنة على من يليه منهم وأزاحهم عن مواقفهم، فركب بعضهم بعضا لا يلوى الأخ على أخيه، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم. وانكشف نصف البلد، وملك تقىّ الدّين مكانهم، ودخل

المسلمون البلد وخرجوا منه، واتصلت الطريق وزال الحصار. وأدخل السّلطان إلى البلد [129] من أراد من الرّجال، وما أراد من الذّخائر، والأموال، والسّلاح؛ فكان من جملة من أمره السلطان بالدّخول إليها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السّمين. وقتل من الفرنج فى هذا اليوم خلق كثير. ثم كانت بينهم وقعات فى ثامن شعبان، وتاسعه، وعاشره، وحادى عشره. ثمّ كانت وقعة فى تاسع عشر شعبان بين أهل عكّا والعدوّ فقتل من فى الطّائفتين وجرح. ثم كانت الوقعة الكبرى فى الحادى والعشرين من شعبان وذلك أن الفرنج اجتمعوا وتشاوروا، وقالوا إن العسكر المصرىّ إلى الآن ما قدم وهذا فعل السّلطان، فكيف إذا قدمت عساكره فأجمعوا رأيهم على مناجزة الحرب. وكانت عساكر السّلطان متفرّقة: منها طائفة فى مقابلة أنطاكية تمنع صاحبها من الإغارة على الأعمال الحلبيّة؛ وطائفة على حمص فى مقابلة طرابلس؛ وطائفة تقاتل من بقى بصور؛ وطائفة بالدّيار المصرية لحماية ثغرى الإسكندرية ودمياط، ومن بقى من العسكر المصرى إلى الآن لم يصل؛ وهذا ممّا أطمع الفرنج فى الظّهور. قال: وأصبح المسلمون فى هذا اليوم على عادتهم، منهم من يتقدّم إلى القتال ومنهم من هو فى خيمته، ومنهم من قد توجه فى حاجته. فخرج الفرنج من معسكرهم كالجراد المنتشر قد ملأوا الأرض، فكانت وقعة عظيمة ابتداؤها على المسلمين، ثم أنزل الله نصره عليهم، فهزموا الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم من رؤسائهم عشرة آلاف، وقتل من المسلمين فى هذه الموقعة من الغلمان ومن لم يعرف مائة وخمسون، ومن المعروفين الأمير مجلى بن مروان،

ذكر رحيل السلطان عن منزلته وتمكن الفرنج من حصار عكا

والظّهير أخو الفقيه عيسى [الهكارى] «1» ، وكان والى البيت المقدّس، جمع العلم والدّين والشجاعة، والحاجب خليل الهكّارى، وجمال الدّين بن رواحة الحموىّ، ولم يكن بالمصافّ. وأسر من الفرنج مقدّم الدّاويّة! وكان السّلطان قد أسره فيما تقدّم وأطلقه، فقتله الآن. قال: وأمر السّلطان بجمع القتلى وإلقائهم فى النّهر الذى يشرب منه الفرنج. قال العماد الأصفهانى رحمه الله: ومن العجب أنّ الذين ثبتوا فى هذه الوقعة لم يبلغوا ألفا، ردّوا مائة ألف، وآتاهم الله قوة بعد ضعف. قال ابن الأثير: وأخذ فى جملة الأسرى ثلاث نسوة فرنجيّات كنّ يقاتلن على الخيل، فلما أسرن وألقى عنهنّ السلاح عرفن «2» . ذكر رحيل السّلطان عن منزلته وتمكّن الفرنج من حصار عكّا كان رحيله فى رابع شهر رمضان من السّنة. وسبب ذلك أنه لما قتل من الفرنج هذه المقتلة العظيمة جافت الأرض منهم وتغيّر الهواء، وحدث للأمزجة فساد، وحصل للسّلطان مرض القولنج، وكان يعتريه، فأشار عليه الأمراء والأطباء بالانتقال، وقالوا لو أراد الفرنج أن ينصرفوا لما قدروا فإنّا قد ضيقنا عليهم؛ والرأى أن ينثقل عن هذه المنزلة، فإن رحلوا فقد كفينا شرّهم، وإن أقاموا عدنا إلى القتال، فوافقهم. وكان بئس الرّأى.

ذكر وصول العسكر المصرى فى البر [130] والأسطول فى البحر

ورحل السّلطان إلى منزلة الخرّوبة «1» ، وكتب إلى أهل عكّا يعلمهم بسبب رحيله ويحثّهم على حفظ البلد وغلق أبوابها. قال: ولما رحل السلطان بعساكره عن تلك المنزلة أمن الفرنج وانبسطوا، وانبثّوا، وعادوا إلى حصار عكّا فى البرّ والبحر، وشرعوا فى حفر خندق عليهم يكون بينهم وبين المسلمين إن قصدوهم وعملوا سورا من تراب، وجاءوا بما لم يكن فى الحسبان. هذا والسّلطان قد اشتدّ به المرض فلم يستقل منه إلى أن تكامل حفر الخندق وعمل السّور من ترابه. ذكر وصول العسكر المصرىّ فى البر [130] والأسطول فى البحر قال: وفى منتصف شوال سنة خمس وثمانين وصلت العساكر المصرية ومقدّمها الملك العادل سيف الدّين. فلما وصلت قويت قلوب النّاس، وأحضر من آلات الحصار شيئا كثيرا. ثم وصل بعده الأسطول المصرى فى خمسين قطعة ومقدّمهم الأمير حسام الدّين لؤلؤ، وكان شهما شجاعا، مقداما ميمون النقيبة، خبيرا بقتال البحر؛ فوصل بغتة، فوقع على بطشة كبيرة للفرنج، فغنمها وأخذ ما فيها من الأموال الكثيرة والميرة، وعبر بذلك إلى عكّا؛ فسكنت نفوس النّاس بذلك. وقال العماد: إنه ظفر ببطشتين «2» .

ذكر خبر ملك الألمان وما كان من أمره إلى نهايته

ذكر خبر ملك الألمان وما كان من أمره إلى نهايته قال العماد الأصفهانى: ونمى الخبر بوصول ملك الألمان «1» إلى قسطنطينية فى ثلاثمائة ألف مقاتل على قصد العبور إلى بلاد الإسلام. فاستنفر الملك الناصر الجيوش والعساكر من كلّ جهة، وجهّز القاضى بهاء الدين شدّاد وأمره بالمسير إلى الدّيوان العزيز ببغداد «2» وأن يمرّ على صاحب سنجار «3» ، وصاحب الموصل «4» ، وصاحب إربل «5» ، ويستدعيهم بأنفسهم وعساكرهم. قال ابن شدّاد: فسرت فى حادى عشر شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وأبلغت الرّسائل، فأجابوا إلى ذلك، فعدت فى خامس شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين، وسبقت العساكر «6» . ثم وصلت العساكر عند انقضاء الشتاء فى شهر ربيع الأول وأمده الخليفة بحمل من النّفط الطّيّار وحملين من القنا، وتوقيع بعشرين ألف دينار يقبض على الدّيوان العزيز من التجار، وخمسة من الزّرّاقين.

وكان العدوّ قد اصطنع ثلاثة أبرجة من الخشب والحديد كالجبال وألبسها الجلود المسقاة بالخل، فيسّر الله تعالى على المسلمين إحراقها، وذلك فى الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول. قال: وكان السّلطان قد كتب إلى مصر بعمارة الأسطول وإحضاره إلى عكّا، فوصل فى يوم الخميس ثامن الشهر، فكانت الحرب فى هذا اليوم فى ثلاثة مواضع فى البحر، والحصار فى البحر، وكان النّصر بحمد الله للمسلمين. هذا ما كان من أمر السّلطان لمّا بلغه خبر ملك الألمان. وأما ملك الألمان فقال ابن الأثير فى تاريخه الكامل: وفى سنة ست وثمانين وخمسمائة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم طائفة من الفرنج من أكثرهم عددا وأشدّهم بأسا، وكان قد أزعجه ملك المسلمين البيت المقدّس، فجمع عساكره وسار بهم، وطريقه فى مسيره على القسطنطينيّة. فأرسل ملك الرّوم «1» بخبره إلى السّلطان، ووعده أنّه لا يمكّنه من العبور إلى بلاده. فلمّا وصل ملك الألمان إلى القسطنطينيّة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنّه منع عنهم الميرة، فقلّت أزواده؛ وساروا حتّى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهى مملكة الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجقى «2» . فلمّا وصلوا إلى أوائلها ثار عليهم التّركمان [فما زالوا] «3» يسايرونهم، فيقتلون من انفرد منهم ويسرقون ما قدروا

عليه؛ فنالهم لذلك مشقّة عظيمة، وهلك كثير منهم من الجوع والبرد وكثرة الثّلوج. فلمّا قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان [ليمنعهم] «1» فعجز عن ذلك، فعاد إلى قونية، فأسرعوا السّير فى أثره فنازلوا قونية وأرسلوا إليه هدية وطلبوا منه أن يأذن للرّعيّة فى بيع الأقوات عليهم، فأذن فى ذلك. وطلبوا من الملك قطب الدّين أن يأمر رعيّته بالكفّ عنهم وأن يجهّز معهم جماعة من أمرائه رهائن، فخافهم، وسلّم إليهم نيّفا وعشرين أميرا كان يكرههم. فساروا بهم معهم، ولم يمتنع اللّصوص وغيرهم من أذاهم؛ فقبض ملك الألمان على من معه من الأمراء وقيّدهم، فمنهم من مات فى أسره ومنهم من فدى نفسه «2» . قال ابن شدّاد: وأعوزهم الزّاد وعراهم جوع عظيم، وعجزوا عن حمل أقمشتهم، فجمعوا عددا كثيرة وسلاحا [131] وجعلوا ذلك بيدرا «3» وأضرموا فيه النّار، لعجزهم عن حمله، ولئلّا ينتفع به غيرهم. قال: وبقيت بعد ذلك رابية من حديد «4» . قال ابن الأثير: ثمّ سار إلى أن أتى إلى بلاد الأرمن، وصاحبها يومئذ لافون «5» بن اصطفانه بن ليون الأرمنى، فأمدّهم بالأقوات والعلوفات، وحكّمهم فى بلاده، وأظهر الطّاعة لهم. ثمّ سار إلى

أنطاكيّة، وكان فى طريقهم نهر «1» فنزلوا عنده، وعبر ملكهم إليه ليغتسل فيه، فغرق فى مكان لا يبلغ الماء وسط الرّجل فيه. وكفى الله شرّه «2» . وقال ابن شدّاد: إنه لمّا وصل إلى طرسوس سبح فى النّهر فمرض من شدّة برد الماء فمات؛ ولمّا مات سلقوه فى خلّ وجمعوا عظامه فى كيس ليحملوها إلى القدس ويدفنوها به «3» . قال ابن الأثير: وكان معه ولد كبير فملك بعده وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه؛ وأحبّ بعضهم العود إلى بلاده فتخلّف عنه، ومال بعضهم إلى تمليك أخ له فعاد أيضا، وسار هو فيمن بقى معه، فعرضهم، وكانوا نيّفا وأربعين ألفا وقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكيّة وكأنّهم قد نبشوا من القبور فتبرّم بهم صاحبها وحسّن لهم المسير إلى عكّا. فساروا على اللاذقية وجبلة وغيرهما من البلاد التى ملكها المسلمون؛ وخرج أهل حلب وغيرها إليهم وأسروا منهم خلقا كثيرا، ومات أكثر ممّن أسر «4» . قال: وبلغوا إلى طرابلس وأقاموا بها أيّاما فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلّا نحو ألف رجل، فركبوا فى البحر إلى الفرنج الذين على عكّا. ولمّا وصلوا ورأوا ما نالهم فى طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكب، فلم ينج منهم أحد «5» .

ذكر الوقعة العادلية على عكا

وقال ابن شدّاد: إنّهم لمّا وصلوا إلى أنطاكية طلب ابن ملكهم من صاحبها قلعتها لينقل إليها أمواله وخزائنه وأثقاله، فسلّمها إليه طمعا فى ماله، وكان كذلك، فإنّه لم يعد إليه واستولى الإبرنس على ما فيها «1» . قال: وجاءت فرقة منهم إلى حصن بغراس وظنّوا أنّه للفرنج، ففتح لهم والى الحصن الباب وتسلّم منهم الأموال، وأسر جماعة منهم وقتل. وخرج إليهم العسكر الحلبىّ فقتل منهم وأسر. ثمّ أخذ من بقى منهم على طريق طرابلس فخرج عليهم من باللاذقية وجبلة، فقتلوا منهم وأسروا. ثم ركب ملك الألمان فى البحر من طرابلس بمن بقى معه لقصد عكّا، فى أواخر شعبان، فثارت عليهم ريح كسرت منهم ثلاث مراكب، ووصل الباقون إلى صور ثمّ إلى عكا فى سادس شهر رمضان سنة ستّ وثمانين؛ وكان لقدومهم وقع عظيم «2» . وسيأتى ذكر ما تجدّد بعد وصولهم إلى عكّا إن شاء الله تعالى. فلنذكر ما كان قبل وصولهم من الوقائع. ذكر الوقعة العادليّة على عكّا كانت هذه الوقعة فى يوم الأربعاء العشرين من جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين. قال ابن شدّاد: لمّا بلغ السّلطان وصول ملك الألمان إلى بلاد الأرمن جهّز بعض العساكر إلى البلاد المتاخمة لطريق عسكر العدوّ،

[132] ذكر وصول الكندهرى إلى عكا نجدة للفرنج وما جدده من آلة الحصار

وتقدّم أمره بهدم سور طبريّة وهدم يافا وأرسوف وقيساريّة، وهدم سور صيدا وجبيل ونقل أهلها إلى بيروت. فلمّا علم الفرنج أنّ العساكر قد تفرّقت نهضوا للقتال بغتة وهجموا على الميمنة وفيها مخيّم الملك العادل، فلما بصر بهم ركب فيمن معه، وتلاحقت به العساكر، واقتتلوا، فكانت من أعظم الوقائع، قتل فيها خلق كثير من الفرنج. قال: ولقد خضت فى الدّماء بدابّتى واجتهدت أن أعدّهم فما قدرت على ذلك لكثرتهم وتفرّقهم؛ وشاهدت منهم امرأتين مقتولتين. وكانت هذه الوقعة فيما بين الظّهر والعصر فى الميمنة وبعض القلب، ولم نفقد من المسلمين فيها غير عشرة غير معروفين «1» . قال: ولمّا أخبر من بعكّا من المسلمين بهذه الوقعة خرجوا إلى مخيّم العدوّ من البلد، وجرى بينهم مقتلة عظيمة انتصر فيها المسلمون، ونهبوا ما كان بخيام الفرنج من الأقمشة وغيرها، حتى الطّعام الذى فى القدور، وسبوا النّساء. قال: واختلف النّاس فى عدد من قتل من الفرنج فى هذه الوقعة، فقيل ثمانية آلاف، وقيل سبعة آلاف، ولم ينقصهم حازر عن خمسة آلاف «2» [132] ذكر وصول الكندهرى إلى عكّا نجدة للفرنج وما جدّده من آلة الحصار قال: ثمّ وصل الكندهرى «3» فى البحر نجدة للفرنج فى عدد كثير أضعاف ما نقص منهم، ففرّق الأموال واستخدم؛ ونصب المجانيق على

ذكر ما كان من أمر الفرنج بعد وصول ابن ملك الألمان إلى عكا وما اتخذوه من آلات الحصار

عكا فحرقها المسلمون؛ ثمّ نصب منجنيقين فأحرقا فى أوّل شعبان، وكان قد أنفق عليهما ألف دينار وخمسمائة دينار، وأسر من الفرنج سبعون فى هذا اليوم ومن جملتهم فارس كبير عندهم فقتله المسلمون «1» ثمّ جهّز الفرنج بطشا لمحاصرة برج الذبان «2» ، وهو برج فى وسط البحر على باب ميناء عكّا، فعمدوا إلى بطشة من البطش وعملوا برجا على صاريها وملأوه حطبا ونفطا على أنهم يلحقون البطشة ببرج الذّبان، ثمّ يحرقون البرج الذى على الصّارى. وجعلوا فى البطشة وقودا كثيرا حتّى يلقوه فى البرج إذا اشتعلت فيه النّيران. وعبئوا بطشة ثانية وملأوها حطبا على أنّها تدخل بين المراكب الإسلاميّة ثم يلهبونها فتحترق هى والبطش الإسلاميّة وجعلوا فى بطشة ثالثة جماعة من المقاتلة. وقدّموا البطشة نحو البرج، وكان الهواء مسعدا لهم، فلمّا أحرقوا البطشة والبرج الّذى قصدوا بهما إحراق بطش المسلمين وبرج الذّبان انعكس الهواء عليهم بإذن الله تعالى، فاحترقت البطشتان، وانقلبت الثالثة بمن فيها من المقاتلة. والله أعلم «3» . ذكر ما كان من أمر الفرنج بعد وصول ابن ملك الألمان إلى عكّا وما اتّخذوه من آلات الحصار قال: ولمّا وصل ابن ملك الألمان القائم فى الملك بعد أبيه إلى عكّا كان وصوله إليها فى سادس شهر رمضان سنة ستّ وثمانين

وخمسمائة. فكان أول ما بدأ به أنّه خرج إلى يزكيّة السّلطان وقاتلهم، فقتل من أصحابه وجرح خلق كثير، وانكسروا ورجعوا إلى المخيّم غروب الشّمس من ذلك اليوم؛ وقتل من المسلمين اثنان وجرح جماعة. فلمّا عاين ذلك رجع إلى قتال من فى البلد، واتّخذ من آلات الحصار ما لم ير قبل ذلك مثله، فكان ممّا أحدثه آلة عظيمة تسمّى دبّابة يدخل من تحتها المقاتلة، وهى من الخشب الملبّس بصفائح الحديد، ولها من تحتها عجل يحرّك من داخلها حتى تنطح السّور بشدّة عظيمة فتهدمه بتكرار نطحها، وآلة أخرى وهى قبو فيه رجال تسحبه وفيه كبش، ورأس تلك الآلة ممدة شبه سكّة المحراث، ورأس الكبش مدوّر، هذا يهدم بثقله، وتلك تهدم بحدّتها وثقلها، وهى تسمّى سفودا «1» ، وأعد السّتائر «2» والسّلاليم وغير ذلك؛ وأعدّ فى البحر بطشة عظيمة وصنع فيها برجا بخرطوم إذا أرادوا قلبه على السّور بحركة انقلب بحركات ويبقى طريقا إلى المكان الذى ينقلب عليه تمشى عليها المقاتلة، ونصب المجانيق وحكّمها على السّور، وتوالت حجارتها حتى أثّرت فيها أثرا بيّنا فأخذ المسلمون سهمين عظيمين من سهام الجروح وأحرقوا نصالهما حتّى بقيا كالشّعلة من النّار ثم رميا فى منجنيق الفرنج فاحترق، واتّصل لهبه بالآخر فأحرقه «3» . ثمّ زحف العدوّ على البلد فى شهر رمضان فى خلق كثير، فأمهلهم أهل البلد حتى سحبوا آلتهم المذكورة وقاربوا أن يلصقوها بالسّور ويحصل منهم فى الخندق جماعة كثيرة، فأطلقوا عليهم الجروخ

والمجانيق والسّهام والنيران، وفتحوا الأبواب وهجموا على العدوّ من كل مكان، وكبسوهم فى الخندق، فانهزموا؛ ووقع السّيف فيمن بقى فى الخندق منهم. ثم ألقوا النّار فى كبشهم، فاحترق، وسرت ناره إلى السّفّود فاحترق أيضا، وعلّق المسلمون فى الكبش الكلاليب الحديد فسحبوه وهو يشتعل، فحصل عندهم، فأطفأوه بالماء. ووزن ما كان عليه من الحديد فكان مائة قنطار بالشّامى [133] فكان هذا اليوم من أحسن أيام الإسلام «1» . قال: واستأنف الفرنج عمل دبابة أخرى وفى رأسها شكل عظيم يقال له الكبش، وله قرنان فى طول الرّمح كالعمد الغلاظ، وسقوفها هى والكبش بأعمدة الحديد، ولبّسوا رأس الكبش بعد الحديد بالنّحاس، فلم يبق للنار عليها سبيل؛ وشحنوها بالرّجال. فنصب المسلمون عليها المجانيق ورموها بالحجارة، فأبعدت الرّجال من حولها، ثمّ رموها بحزم الحطب فأحرقوا ما بين القرنين، وخسفها المنجنيق، وخرج أهل عكّا فقطعوا رأس الكبشين. قال: وفى العشر الأوسط من شهر رمضان ألقت الرّيح بطشتين فيهما رجال ونساء وصبيان، وميرة عظيمة وأغنام، فغنمهما المسلمون «2» . وكان فى إحداهما امرأة محتشمة كثيرة الأموال؛ واجتهد الفرنج فى استنقاذها فلم يجابوا لذلك. وكان بينهم فى بقيّة السّنة عدّة وقائع يطول شرحها.

ذكر وصول ملك افرنسيس

وفى سابع ذى الحجّة هدمت قطعة عظيمة من سور عكّا فسدّها المسلمون وقاتلوا عليها قتالا شديدا حتى أحكموا بناءها. وفى ثانى ذى الحجّة هلك ابن ملك الألمان وكند كبير، ومرض الكندهرى، ووقع فيهم فناء عظيم. والله أعلم. ذكر وصول ملك افرنسيس كان وصوله فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين وخمسمائة فى ستّ بطش عظام مشحونة بالمقاتلة «1» ؛ وكان ملكا مطاعا فيهم، ووعدهم بالأمداد خلفه. وكان معه باز عظيم الخلق أبيض اللّون، فطار من يده وسقط على سور عكّا، فأخذه المسلمون وأنفذوه إلى السّلطان؛ فبذل الفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا لذلك. قال: وزحف الفرنج على عكّا فى يوم الخميس الرّابع من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين، ونصبوا عليها سبعة مجانيق. وبلغ من مضايقتهم لها أنّهم كانوا يلقون فى خندقها ما يموت من دوابّهم وما يؤيس منه ممّن أثخنته الجراح. وانقسم أهل البلد أقساما: قسم ينزلون إلى الخندق ويقطعون الدّواب ليسهل نقلها، وقسم ينقلون ذلك إلى البحر، وقسم يذبّون عنهم، وقسم فى المنجنيقات وحراسة الأسوار. قال: وكانوا قد صنعوا دبّابة عظيمة أربع طبقات، الأولى من الخشب، والثّانية من الرّصاص، والثّالثة من الحديد، والرّابعة من

ذكر وصول ملك الإنكلتير

النّحاس؛ فكانت تعلو على السّور وتركب فيها المقاتلة؛ وقرّبوها من السّور فكاد أهل البلد يطلبون الأمان؛ فأعان الله على حرقها «1» . وكان فى جمادى الأولى عدّة وقعات. قال: ولمّا حرقت دبّابات الفرنج وكباشهم وأبرجتهم الخشب وستائرهم أقاموا أمام خيامهم ممّا يلى عكّا تلّا مستطيلا عاليا من التّراب، فكانوا يقفون وراءه ويحوّلونه ليقرّبوه من السّور؛ إلى أن صار بينه وبين السّور مقدار نصف غلوة سهم. فلم تعمل فيه النّار. ذكر وصول ملك الإنكلتير كان وصوله إلى عكّا فى ثالث عشر جمادى الأولى من السّنة «2» بعد أن ملك فى مسيره قبرص عنوة؛ ووصل فى أربعين قطعة. ولمّا قدم توالى الزّحف والقتال. ثمّ مرض مرضا شديدا وجرح الإفرنسيس، وهم مع ذلك لا يدعون القتال. هذا واللّصوص يدخلون عليهم فى خيامهم ويسرقون أقمشتهم ويخطفونهم، فكانوا يدخلون على الرّجل من الفرنج وهو نائم فيوقظونه، ويشيرون إليه بالسّلاح: إن تكلّمت ذبحناك، ويحملونه [134] ويخرجون به إلى عسكر المسلمين. فعلوا ذلك مرارا كثيرة. قال: ثمّ تردّدت الرّسائل من الفرنج إلى السّلطان مدافعة بسبب مرض الإنكلتير؛ ثم استأذن فى إهداء جوارح، وقال إنّها قد ضعفت وتغيّرت من البحر، وطلب أن يسيّر لها دجاج وطير تأكله لتقوى به ثمّ

ذكر استيلاء الفرنج على عكا

يهدى للسّلطان. ففهم السّلطان أنّه يحتاج ذلك لنفسه لأنّه حديث عهد بمرض، فسيّر إليه ذلك. ثمّ أرسل فى طلب فاكهة وثلج، فأرسل إليه. وهم مع ذلك يحاصرون البلد أشدّ حصار «1» . ذكر استيلاء الفرنج على عكّا قال: ثمّ اشتدّ الحصار فى سابع جمادى الآخرة، فركب السّلطان بالعسكر وجرى قتال عظيم إلى اللّيل، ولم يطعم فى ذلك اليوم؛ ولمّا حال بينهما اللّيل عاد إلى خيامه. ثمّ باكر القتال، فوصلت مطالعة من بالبلد يذكرون أنّ العجز قد بلغ بهم الغاية، وأنّهم فى الغد متى لم يعمل ما يمنع العدوّ طلبوا الأمان وسلّموا البلد. فرأى السّلطان مهاجهة العدوّ، فلم يساعده العسكر. فضعفت نفوس أهل البلد، وتمكّن العدوّ من الخنادق فملكوها، ونقبوا السّور وأحرقوه، فوقعت بدنة من الباشورة ودخل العدوّ إليها، فقتل منها زهاء مائة وخمسين نفسا؛ وكان منهم ستّة من أكابرهم، فقال أحدهم: لا تقتلونى حتى أرحّل الفرنج عنكم. فقتل رجل من الأكراد وقتل الخمسة، فناداهم الفرنج من الغد احفظوا السّتّة فإنّا نطلقكم كلّكم بهم. فقالوا: قد قتلناهم. فقوى عزم الفرنج على عدم المصالحة وأنّهم لا يطلقون من فى البلد إلا بإطلاق جميع الأسرى الذين فى أيدى المسلمين، وتعاد إليهم البلاد السّاحليّة. فصالحهم من بالبلد على أنّهم يسلّمون إليهم البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدد والمراكب، ومائتى ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير

مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معيّنين، وصليب الصّلبوت؛ على أنهم يخرجون بأنفسهم ونسائهم وذراريهم، وما معهم من أموالهم وأقمشتهم. فكتبوا فى ذلك إلى السّلطان، فأنكر هذا الأمر واستعظمه؛ وعزم على أن يكتب بالإنكار على من بعكّا. وجمع أمراءه وأصحاب المشورة، فما شعر المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانه على أسوار البلد؛ وذلك ظهر نهار الجمعة السّابع عشر من جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة. فعظمت المصيبة على المسلمين وتحيّز المسلمون إلى بعض أطراف البلد. ثم تردّدت الرّسائل بينهما على تقرير القاعدة فى خلاص من بعكّا من المسلمين، فاستقرّت الحال على مائة ألف دينار وستّمائة أسير وصليب الصّلبوت. وأنفذوا ثقاتهم وعاينوا الصّليب فى ثامن عشر شهر رجب؛ ثم طلبوا أن يسلّم ذلك إليهم فإذا صار عندهم أطلقوا الأسرى؛ فامتنع السّلطان من ذلك إلا بعد تسليم الأسرى. فلمّا رأوه قد امتنع منه أخرجوا خيامهم إلى ظاهر الخنادق فى الحادى والعشرين من الشّهر؛ ثمّ ركبوا فى وقت العصر فى اليوم السّابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وثمانين، وجمعوا الأسرى، وحملوا عليهم حملة الرّجل الواحد، فقتلوهم صبرا، طعنا بالرّمح وضربا بالسّيف، رحمة الله عليهم؛ ولم يبقوا من المسلمين إلّا أكابرهم. فلمّا اتصل الخبر بالسّلطان حمل المسلمون عليهم، وجرت بينهم حرب عظيمة دام القتال فيها طول النّهار. وتصرّف السّلطان فيما كان قد حصّله من المال، وأعاد الأسرى إلى أماكنهم، وردّ صليب الصّلبوت إلى مكانه «1» .

ذكر ما كان بعد أخذهم عكا

ذكر ما كان بعد أخذهم عكّا قال: ثمّ سار الفرنج إلى صوب عسقلان فى مستهل شعبان، وسار السّلطان فى عراضهم، والمسلمون يتخطّفونهم ويقتلون منهم ويأسرون؛ وكلّ أسير جىء به إلى السّلطان أمر بقتله. ثمّ كانت وقعة عظيمة فى تاسع شعبان عند رحيلهم من قيساريّة، انتصر فيها المسلمون. ثمّ رحل السّلطان فنزل شعراء أرسوف. وطلب ملك الإنكلتير الاجتماع بالملك العادل خلوة، فاجتمعا، فأشار بالصّلح. وكان حاصل كلامه [135] أنّه قد طال بيننا القتال ونحن فى نصرة فرنج السّاحل، ورأيى الصّلح، ويرجع كلّ منا إلى مكانه. فقال له الملك العادل: على ماذا يكون الصّلح؟ قال: على أن تسلّموا لأهل السّاحل ما أخذ منهم من البلاد. فأبى الملك العادل «1» . ثم كانت وقعة أرسوف فى يوم السّبت رابع عشر شعبان؛ وكانت الدائرة فيها على الفرنج «2» . ذكر هدم عسقلان قال: ثمّ رحل السّلطان بعد وقعة أرسوف فى تاسع عشر شعبان، ونزل بالرّملة، واستشار أصحابه فى أمر عسقلان، فأشاروا عليه بتخريبها خشية أن يستولى العدوّ عليها وهى عامرة، فتكون سببا لأخذ البيت

المقدّس وقطع طريق مصر. فعلم السّلطان عجز المسلمين عن حفظها لقرب عهدهم بقتال عكّا؛ فسار حتى أتى عسقلان، وأمر بتخريبها، وكان هو وولده الملك الأفضل يستعملان النّاس فى الخراب خشية من حضور العدوّ فيتعذّر هدمها، ثمّ حرقها بالنّار؛ والأخبار تتواتر من جهة العدوّ بعمارة يافا. واستمرّ الخراب والحريق إلى سلخ شعبان «1» . ثمّ رحل السّلطان عنها يوم الثّلاثاء، ثانى شهر رمضان فنزل على الرّملة يوم الأربعاء، وأمر بتخريب حصنها وتخريب كنيسة لدّ. وركب جريدة إلى القدس الشريف، فوصل إليه فى يوم الخميس. وفى يوم الجمعة ثانى عشر شهر رمضان من السّنة كانت بينهم وقعة انتصر فيها المسلمون. قال: ثمّ سار السّلطان إلى الرّملة فى سابع شوّال وأقام بها عشرين يوما، فجرت وقعات؛ منها وقعة فى ثامن شوّال، وفى سادس عشره، والدّائرة فيها على العدو. وفى ثامن عشر شوّال اجتمع الملك العادل والإنكلتير على طعام، وانفصلا «2» على توادد، وسأله الاجتماع بالسّلطان فامتنع السّلطان من ذلك. ثمّ رحل الفرنج فى ثالث ذى القعدة إلى الرّملة، وأظهروا قصد بيت المقدس والحرب مستمرّة بين المسلمين وبينهم. ورحل السّلطان إلى القدس فى الثّالث والعشرين من ذى القعدة بنيّة المقام به، وشرع فى تحصينه.

ذكر وقوع الصلح والهدنة العامة بين المسلمين والفرنج

ذكر وقوع الصّلح والهدنة العامّة بين المسلمين والفرنج قال: ولم تزل الحرب قائمة والمراسلات متّصلة بينهم على طلب الصّلح، والسّلطان لا يرضى بما يختارونه، وهم لا يوافقون على ما يريده السّلطان، إلى الحادى والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، فوقّعت هدنة عامّة فى البرّ والبحر، وجعل لهم من يافا إلى قيسارية إلى عكّا إلى صور، وأدخلوا فى الصّلح طرابلس وأنطاكية. وأخرج من عمل يافا الرّملة ومجدل يابا «1» ومن عمل عكّا الناصرة وصفّوريّة واشترط خراب عسقلان. ووقعت المصالحة مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر «2» ، أوّلها مبتدأ أيلول الموافق لهذا التّاريخ، وذلك بعد سؤال ملك الإنكلتير وتكرار رسائله. قال: ثمّ أمر السّلطان أن ينادى فى الطّرقات والأسواق: ألا إنّ الصّلح قد انتظم، فمن شاء من بلادنا يدخل بلادهم ومن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل. ووقع له عزم الحجّ فى ذلك المجلس «3» . ثمّ أمر بإرسال مائة نقّاب لتخريب سور عسقلان وإخراج الفرنج منها، فخرّبت. وكان يوم الصّلح يوما مشهودا واختلط العسكران. ثمّ اشتدّ المرض بالإنكلتير فرحل ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان وسار معه الكندهرى إلى جهة عكّا، ولم يبق بيافا [136]

ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب

إلا مريض أو عاجز. ثم أذن السّلطان للنّاس فى الرّجوع إلى أوطانهم، فسار عسكر إربل والموصل وسنجار؛ وقوى عزمه على الحج. ثم عاد السّلطان إلى القدس ورتّب أحواله وعيّن الكنيسة التى فى شارع قمامة للبيمارستان ونقل إليه العقاقير والأدوية؛ وأدار سور القدس. وأقام بالقدس إلى يوم الأربعاء رابع شوال، وخرج فى يوم الخميس خامس الشهر قاصدا دمشق. فلمّا انتهى إلى طبريّة وصل إليه بهاء الدين قراقوش الأسدى وقد خلص من الأسر، فاستصحبه معه وكشف القلاع والحصون، ودخل إلى دمشق فى يوم الاثنين السادس عشر من شوّال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة: وجلس النّاس يوم الخميس؛ وأنشده الشّعراء؛ وكان مجلسا عامّا، وعمّ النّاس فيه بعدله. ولم يزل كذلك إلى أن مات، رحمه الله تعالى. ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب كانت وفاته رحمه الله تعالى بعد صلاة الصّبح يوم الأربعاء لثلاث بقين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وكان مولده بقلعة تكريت فى شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة؛ فكان عمره سبعا وخمسين سنة تقريبا. ومدّة ملكه منذ ولى وزارة العاضد لدين الله ولقّب بالملك النّاصر لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وإلى هذا التّاريخ أربعا وعشرين سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام؛ ومنذ خلع العاضد فى السابع المحرّم سنة سبع وستّين وخمسمائة اثنتين وعشرين سنة وشهرا واحدا وعشرين يوما.

وكان ابتداء مرضه يوم السّبت سادس عشر صفر؛ ونال المسلمون لوفاته من الألم ما لا يعبّر عنه. ولمّا مات دفن بقلعة دمشق فى منزله؛ وما زال ابنه الأفضل يتروّى فى موضع ينقله إليه، فشرع فى بناء تربته عند مسجد القدم «1» وبنى عندها مدرسة للشّافعيّة. وأمر ببناء التّربة فى سنة تسعين وخمسمائة؛ فاتّفق وصول ابنه العزيز تلك السّنة من الدّيار المصريّة للحصار، فخرب ما كان قد ارتفع من البناء. ثمّ أمر بعمارة القبّة فى حدّ جامع دمشق، فعمّرت ونقل إليها يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة؛ ومشى الأفضل أمام تابوته وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، «2» وأدخل منه إلى الجامع، وصلّى عليه قدّام باب السر، صلّى عليه القاضى محيى الدّين محمّد بن على بإذن الأفضل. ثم حمل إلى لحده، وألحده الأفضل وجلس فى الجامع ثلاثة أيام. وكان الملك النّاصر رحمه الله كريما جوادا شجاعا، حسن الأخلاق، مضت أكثر أيّامه فى الجهاد فى سبيل الله تعالى. قال ابن شدّاد: لمّا مات السّلطان لم يخلّف فى خزائنه من الذّهب والفضّة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريّة وجراما «3» واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف ملكا فى سائر أنواع الأملاك. وحسب ما وهبه من الخيل فى مدّة مقامه على عكّا فكان تقديره اثنى عشر ألف رأس؛ ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، وصاحبه يلازمه فى طلبه؛ وما حضر

اللقاء إلا استعار فرسا فركبه. وكان لا يلبس إلا ما يحلّ كالكتان والقطن والصّوف. وكان له ركعات يصلّيها من الليل «1» . وخلف رحمه الله من الأولاد، على ما نقله العماد الأصفهانى وغيره سبعة عشر ولدا: الملك الأفضل نور الدّين أبو الحسن [على] «2» ، وهو أكبرهم؛ والملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان؛ والملك الظاهر غياث الدّين، وقيل شهاب الدّين، أبو منصور غازى؛ والملك الظّافر مظفّر الدّين أبو العباس خضر؛ والملك المعز فتح الدّين أبو يعقوب يوسف «3» ؛ والملك الأعز شرف الدّين أبو يوسف «4» يعقوب [137] والملك المؤيّد نجم الدين أبو الفتح مسعود؛ والملك الزّاهر مجير الدين أبو سليمان داود «5» ؛ والملك المفضل قطب الدّين أبو محمد موسى «6» ؛ والملك الأشرف عزّ الدّين محمد «7» ؛ والملك المحسن شهاب الدّين «8» أبو العباس أحمد؛ والملك الجواد ركن الدّين أبو سعيد أيوب؛ والملك المظفّر «9» فخر الدّين أبو منصور تورانشاه؛ والملك العادل نور الدّين أبو المظفّر

ذكر من ملك الممالك التى كانت جارية فى ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى من أولاده وإخوته وأقاربه وألزامه بعد وفاته

ملكشاه «1» ؛ والملك المنصور نصرة الدّين مروان «2» ؛ والملك الصالح معين الدين إسماعيل «3» ؛ وعماد الدين شادى، ويسمى عمر؛ وابنة صغيرة «4» . ذكر من ملك الممالك التى كانت جارية فى ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى من أولاده وإخوته وأقاربه وألزامه بعد وفاته استقرّ ملك دمشق وما معها للملك الأفضل نور الدّين أبى الحسن على، وهو أكبر أولاده وولىّ عهده، وعنده أخواه شقيقاه الملك الظّافر خضر والملك المفضّل «5» موسى. واستقرّ ملك الدّيار المصريّة للملك العزيز عماد الدّين أبى الفتح عثمان. واستقرّ ملك حلب وما يليها للملك الظّاهر غياث الدّين غازى، وعنده أخوه الملك الزاهر داوود، فجعله من قبله على البيرة. واستقرّ ملك حمص والرّحبة [وتدمر] «6» للملك المجاهد أسد الدّين شيركوه بن محمّد بن شيركوه، وهو ولد ابن عمّ السّلطان الملك النّاصر.

واستقر ملك حماة وسلمية والمعرّة ومنبج للملك المنصور ناصر الدّين محمّد بن تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب. واستقرّ ملك حرّان والرّها وميّافارقين والرّقة وقلعة جعبر والكرك والشّوبك للملك العادل سيف الدّين أبى بكر بن أيوب، وهو أخو السّلطان. واستقرّ ملك بعلبك للملك الأمجد [بهرامشاه] «1» بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. واستقر ببعرين وأفاميه وكفرطاب عزّ الدّين [إبراهيم] «2» بن شمس الدّين بن المقدّم. واستقرّ بصهيون ناصر الدّين [منكورس بن خمارتكين] «3» غلام أبى قبيس. واستقرّ بتلّ باشر بدر الدّين دلدرم بن ياروق. واستقرّ بعينتاب ناصر الدّين شحنة حلب. هذه الممالك التى كانت جارية فى ملك السّلطان الملك النّاصر رحمه الله. فلنذكر الآن أخبار الدّيار المصريّة ومن ملكها بعد وفاة السّلطان الملك النّاصر، ونجعل ما يقع لهؤلاء الملوك، أو فى ممالكهم، من الحوادث فى ضمن أخبار ملوك الدّيار المصرية؛ وننبّه عليها بالتراجم، على ما نقف عليه إن شاء الله تعالى.

ذكر أخبار الملك العزيز عماد الدين أبى الفتح عثمان ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب

ذكر أخبار الملك العزيز عماد الدّين أبى الفتح عثمان ابن الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيوب وهو الثانى من ملوك الدّولة الأيوبية بالدّيار المصرية «1» ملك الدّيار المصريّة عند ما وصل إليه الخبر بوفاة والده السّلطان الملك النّاصر، رحمه الله تعالى، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ولما ملك أحسن السيرة وأطلق جميع ما كان يؤخذ من التّجار وغيرهم من المكوس على اسم الزّكاة. وجهّز إلى البيت المقدّس عشرة الآف دينار لتصرف فى مصالحه؛ وأكرم أصحاب أبيه وعاملهم الأفضل أخوه صاحب دمشق بخلاف ذلك، فمالت القلوب إلى الملك العزيز ونفرت عن الملك الأفضل. فاستشعر الأفضل من أمرائه، وعزم على القبض عليهم؛ فبلغهم الخبر ففارقوه، واتّصلوا بخدمة أخيه الملك العزيز بالدّيار المصريّة فى بقيّة السّنة فأكرمهم وقرّبهم «2» وكان منه ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر استيلاء الفرنج على جبيل [138] كان استيلاؤهم على حصن جبيل فى مستهلّ صفر سنة تسعين وخمسمائة بمواطأة ممّن كان فيه. وذلك أنّ الحصن كان عدّة من فيه خمسة عشر رجلا، فندب متولّى البلد منهم عشرة لجباية الجزية، وخرج متولّى الحصن إلى الحمام، فاستصحب أحد الخمسة الذين تأخّروا

بالحصن معه، وبقى به أربعة من الأكراد، فأغلقوا باب الحصن. وتوجّه أحدهم إلى الفرنج الذين بالتّيرون فأخبرهم بخلو الحصن، وكان به حدّاد نصرانى، فصعد هو والثلاثة إلى أعلى الحصن. فلمّا عاد الوالى منعوه من الدّخول ورموه بالحجارة، فكسروا يده، وقالوا هذه القلعة قد صارت للقومص. وجاء أهل التيرون بالليل فطردوا من كان بالباشورة من المسلمين. ووصل ابن ريمون أخو صاحب جبيل وتحدّثوا مع الأكراد، فنزل أحدهم إليهم وقرّر معهم أن يعطوا نصف ما بالحصن من سائر الحواصل وغيرها، وأن تكون لهم ثلاثة ضياع من عمل طرابلس؛ واستحلفهم على ذلك. وتسلّموا الحصن، فرتّب الفرنج فيه من الجرخيّة «1» ألفا وخمسين جرخيا «2» . فلما اتّصل الخبر بالسّلطان الملك العزيز عظم عليه، وأخرج خيامه فى يوم الأحد العشرين من شهر ربيع الأول، وأمر بالاستعداد للخروج إلى الشام لاستنقاذ جبيل من الفرنج، وأرسل شمس الخلافة رسولا إلى الفرنج بسبب إعادة جبيل فتوجّه فى سادس عشر شهر ربيع الآخر. وفى سنة تسعين وخمسمائة، لسبع بقين من شهر ربيع الأول، عزل القاضى صدر الدّين بن درباس وفوّض القضاء بالدّيار المصرية للقاضى زين الدّين أبى الحسن على بن يوسف بن عبد الله بن رمضان الدّمشقى؛ فولى سنة وعزل فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وأعيد القاضى صدر الدّين. وقيل بل ولى القاضى محيى الدّين محمّد بن عبد الله بن أبى عصرون، وعزل فى يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين

ذكر مسير الملك العزيز إلى الشام والصلح بينه وبين أخيه الملك الأفضل وعوده إلى القاهرة

وخمسمائة. وأعيد القاضى زين الدّين الدّمشقى فولى سنة، ثم عزل، وأعيد القاضى صدر الدّين إلى أن توفّى فى سنة خمس وستمائة والله أعلم. ذكر مسير الملك العزيز إلى الشام والصّلح بينه وبين أخيه الملك الأفضل وعوده إلى القاهرة قال: وفى تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسعين وخمسمائة توجّه الملك العزيز إلى الشام وترك بالقاهرة من الأمراء بهاء الدّين قراقوش وصيرم، وجهّز ثلاثة عشر لواء إلى ثغرى الإسكندريّة ودمياط ومعهم سبعمائة فارس. واستصحب معه من الأمراء سبعة وعشرين أميرا عدتهم تقدير ألفى فارس، ومن الحلقة ألف فارس. فلمّا اتصل بالأفضل خروجه استعدّ وأنفق النّفقات الوافرة، وخرج إلى رأس الماء فى سبعمائة فارس، ولمّا وصل الملك العزيز إلى الغور احتاط على الخاصّ الأفضلى به، وشرع فى إقطاع أعمال الشام. وجهّز من أمرائه: قايماز، وعشرين أميرا، منهم، جهاركس، وميمون القصرى، وسنقر الكبير، والشجاع الخادم، والجناح، وجرديك. فتقدّموا ووقعوا على أطراف العسكر الشّامى، فرجع الأفضل إلى دمشق وغلّقت أبواب البلد لمّا قرب العسكر المصرىّ منها. وتقدّم العزيز وترك ثقله بمسجد القصب بظاهر دمشق، ونزل هو بالكسوة «1» ؛ فاستنجد الأفضل بعمه الملك العادل فحضر إلى دمشق، وحضر الظّاهر من حلب، وناصر الدّين صاحب حماة، وأسد الدّين

صاحب حمص، وعسكر الموصل وغيره. فلمّا رأى العزيز اجتماعهم علم أن لا قدرة له بهذا الجمع، وكتب إلى عمّه العادل يقول: أنا ما خرجت من الدّيار المصريّة إلا لاستنقاذ جبيل من الفرنج، فبلغنى أنّ الملك الأفضل حالف الفرنج علىّ، واستنصر بهم، ووعدهم أن يعيد البلاد إليهم، فاقتضى ذلك سوقنا إليه. [139] وبلغنا أنك تدخل بيننا وبينه، وحوشيت من ذلك، وأنا خير لك من غيرى. وإن أردت أن تكون السّلطان ورئيس الجماعة فأنا راض بذلك. وكتب لأخيه الملك الظّاهر وغيره من [حكام] «1» الممالك وتردّدت الرّسائل بينهم. وتقرّرت الحال على أن يكون للملك العزيز البيت المقدّس وما جاوره من أعمال فلسطين؛ وأن تكون دمشق وطبريّة وأعمال الغور للملك الأفضل؛ وأن يعطى الأفضل لأخيه الملك الظّاهر جبلة واللاذقيّة؛ وأن يكون للملك العادل بالدّيار المصريّة إقطاعه الأوّل، وأن يخطب للملك العزيز ببلاده وتنقش السّكّة باسمه؛ وأنّ الملك العزيز يمدّه بألف فارس إعانة له على فتح خلاط. واجتمع الملك العادل بالملك العزيز، وتزوّج العزيز ابنته، وجاء الملك الظّاهر صاحب حلب إلى أخيه الملك العزيز. وتقرّرت قواعد الصلح. وتأخّر الملك العزيز إلى الكسوة ثم إلى مرج الصّفّر «2» ، ومرض به ثمّ أفاق. ولمّا عزم على العود إلى الدّيار المصريّة خرج لوداعه سائر الملوك الذين حضروا لنصرة الأفضل، ثم خرج إليه الأفضل فى سابع شعبان

ذكر خروج الملك العزيز لقصد الشام ثانيا ورجوعه وقصد العادل والأفضل الديار المصرية وما تقرر من القواعد

وأدركه بنيق، وهى أعلى الغور، فأكرمه الملك العزيز، وبالغ فى احترامه وساله الأفضل أن يرجع إلى دمشق ليزور قبر أبيه، فأجاب إلى ذلك؛ ثم أشار عليه أصحابه ألّا يفعل، فامتنع. وعاد الأفضل، وسار العزيز إلى الدّيار المصريّة فدخلها فى أواخر شعبان. وفى مستهلّ جماد سنة تسعين وخمسمائة هبّت رياح عاصفة بالقاهرة من وقت العصر، وسقط فى ثالث الشهر برد كثير أكبره قدر البيض وأصغره قدر النّبق، وصار على جبل المقطم منه شىء كثير كالجبل الثّانى: ونقل النّاس منه مدّة أربعة أيام؛ ثم سال حتّى ملأ الخندق، ودخل الماء من المرامى الّتى فى السّور إلى القاهرة، وعلا، حتّى خيف على البلد. ذكر خروج الملك العزيز لقصد الشّام ثانيا ورجوعه وقصد العادل والأفضل الدّيار المصريّة وما تقرر من القواعد كان سبب ذلك أن الملك الأفضل قلّد وزارة دمشق لضياء الدّين ابن] «1» الأثير الجزرى وحكّمه فى البلاد، فقصد الأمراء بالأذى والاطّراح، وتشاغل الأفضل عنهم. ففارق خدمة الأفضل [فارس الدين] «2» ميمون القصرى [وشمس الدين] «3» وسنقر الكبير وعز الدّين سامة، وغيرهم. وحضر بعض هؤلاء إلى الدّيار المصريّة وانضموا إلى الملك العزيز، وقالوا له: إنّ الأفضل مسلوب الاختيار؛ وحرّضوه على قصد دمشق؛ فخرج إليها فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.

فلمّا اتّصل خبر خروجه بالأفضل ركب من دمشق فى رابع جمادى الأولى وتوجّه إلى عمّه الملك العادل، وهو بقلعة جعبر، واستنجد به، وسار إلى أخيه الملك الظّاهر بحلب واستنجد به أيضا، فركب الملك العادل وجدّ فى السّير إلى دمشق خوفا أن يسبقه العزيز إليها. وكاتب الملك العادل الأمراء الذين صحبة العزيز، وكان العزيز قد نزل بمنزلة الفوّار على مرحلتين من دمشق، واستمالهم وحذّرهم من العزيز، فمالوا إليه، واستمالوا أبا الهيجاء السّمين، وفارقوا العزيز وقصدوا دمشق؛ وذلك فى يوم الاثنين رابع شوال من السّنة. فلمّا وصلوا إلى دمشق اتّفق العادل والأفضل، وتحالفا على قصد العزيز وانتزاع الدّيار المصريّة منه، على أن يكون ثلث الدّيار المصرية للملك العادل إقطاعا والثّلثان للملك الأفضل. وساروا فى طلب العزيز، فرجع إلى الدّيار المصريّة وجدّ فى السّير ودخل القاهرة «1» . قال: ولمّا وصل العادل والأفضل إلى القدس سلّماه وأعماله وما يجاوره من أعمال السّاحل لأبى الهيجاء السّمين، فرتّب فيه نوّابه، وسار معهما إلى الدّيار المصريّة. فنزل الملك العادل على بلبيس، وكان السعر ماشيا «2» فاستظهر العزيز عليهم. [140] قال: ولم يكن غرض العادل قصد مصر وإنما خشى على الملك العزيز من الأمراء أن يقتلوه ويستولوا على الدّيار المصريّة، فقصدها لهذا السبب. ولمّا ضاقت الميرة على العسكر الشّامى وقلّت أزوادهم ندموا على وصولهم إلى الدّيار المصريّة؛ فأرسل الملك العادل إلى القاضى الفاضل

ذكر ملك الملك العزيز دمشق وخروج الأفضل إلى صرخد

عبد الرّحيم فى الاجتماع به، فأذن له العزيز فى ذلك؛ فخرج إليه، فاستبشر النّاس بخروجه رجاء وقوع الصّلح. وركب العادل وتلقّاه على فراسخ «1» ، فاجتمعا، واستقرّت القواعد على أن يكون إقطاع العادل بمصر على عادته، وأن تكون إقامته عند الملك العزيز بالقاهرة، وأن يعفو [العزيز] «2» عن الأسديّة والأكراد. واجتمع العادل بالأفضل وأمره بالرّجوع إلى دمشق. ثمّ اجتمع الأفضل بالعزيز، واستقرّ الصلح بينهما، وأهدى العزيز إليه هدايا جليلة المقدار. ورجع الأفضل إلى دمشق ومعه أبو الهيجاء السّمين، فدخلها فى المحرّم سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. ولم تطل المدّة إلى أن بلغ الملك العادل عن الأفضل ما استوغر خاطره، فعند ذلك قرّر، مع الملك العزيز، أن يجهّز العساكر لتمهّد قواعد الملك بالشّام وسائر البلاد، واتّفقا على أن يكون العزيز بدمشق والعادل ينوب عنه بالدّيار المصريّة. ذكر ملك الملك العزيز دمشق وخروج الأفضل إلى صرخد قال: ولمّا اتفق الملك العادل والملك العزيز على ما قرّراه تجهّز [الملك العادل] «3» للمسير إلى دمشق وبرز بخيامه من القاهرة فى يوم السّبت

مستهل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة [فى] «1» ثلاثة آلاف فارس. ثمّ برز الملك العزيز فى يوم الثّلاثاء، رابع الشهر، وظاهر خروجه وداعه لعمّه الملك العادل، وحث العساكر المجرّدة على الخروج. وأقام ببركة الجبّ. فلمّا كان فى العشرين من الشّهر اتّصل بالملك العادل عن الملك الأفضل أنّه كاتب الأسديّة، وأنّه قبض على أموال كانت للعادل بدمشق، وأطلق رهائن كانت عند نوّابه، وأنّه وافق الظاهر صاحب حلب؛ فقرّر مع الملك العزيز أن يتوجّها جميعا ويأخذا دمشق من الأفضل وحلب من الظّاهر، فاتّفقا على ذلك وعقدا بينهما يمينا. وشرع الملك العزيز فى تجهيز رجال الحلقة والأعيان، ورحل هو وعمّه الملك العادل من البركة فى يوم الثّلاثاء ثامن جمادى الأولى، فحصل للعادل ضعف فى هذا النّهار منعه عن الحركة. وكان وصولهما إلى بلبيس فى سابع عشر الشهر، وكملت صحّة العادل فى العشرين من الشهر، وسار إلى الشام على مهل ورفق. فلمّا تحقّق الملك الأفضل قصدهما لبلاده استشار شيوخ دولته، فأشاروا عليه أن يستقبل أخاه وعمه ويسلّم لهما الأمر؛ وأشار وزيره ضياء الدّين ابن الأثير الجزرى بالتّصميم والمخالفة، فرجع إلى رأيه، وحصّن البلد، وفرّق الأمراء على الأسوار. فلمّا رأى شيوخ الدولة وأكابرها أنّه لم يرجع إليهم واعتمد على رأى وزيره راسلوا الملك العزيز والملك العادل فى انتهاز الفرصة؛ فركبا بعساكرهما وتأهّبا فى يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رجب وخرج أهل دمشق لقتالهم؛ والتقوا فى السّابع والعشرين من الشّهر. فلم يكن بأسرع من انهزام العسكر

الشامى. وتبعهم العزيز والعادل حتى ألجأوهم إلى سور البلد، ودخلوا دمشق «1» ، وتبعهم العسكر، فملكت البلد. فعندها ركب الملك الأفضل إلى خيمة أخيه الملك العزيز، واجتمع به بظاهر دمشق. قال: ودخل الملك العادل ومن معه باب توما والباب الشّرقى، ونزل بالدّار الأسدية. ودخل الملك العزيز من باب الفرج وبات فى دار عمّته الحساميّة «2» . وملك العزيز دمشق وأقيمت له الخطبة فى يوم الجمعة الثّامن والعشرين من الشهر. قال: ولمّا ملك الملك العزيز دمشق ندم على ما كان قرر من إقامته بالشام وتمكين عمه الملك العادل من الدّيار المصريّة واعتذر [141] إلى أخيه الملك الأفضل فى السّر. فأظهر الأفضل سرّه لمن معه فظنّوا أن هذه خديعة. فأرسل إلى العادل وأعلمه بمرسلة العزيز، فعتبه العادل، فأنكر الحال «3» . وخرج الأفضل إلى صرخد «4» وقرّر له فى كلّ سنة مائتى ألف درهم من صرخد وغيرها، وهو كاره لذلك. وسأل أن يكون بمكّة؛ وينقطع إلى الله تعالى، وينزل عن الملك، فلم يجبه العزيز. وكان خروج الأفضل من دمشق إلى صرخد يوم الاثنين، ثانى شعبان سنة اثنتين وتسعين، فكانت مدّة ملكه لدمشق، منذ وفاة والده إلى أن ملكها العزيز، ثلاث سنين وخمسة أشهر.

ودخل الملك العزيز قلعة دمشق واستقرّ بها فى يوم الأربعاء رابع شعبان من السّنة المذكورة، وجلس يوم الجمعة بدار العدّل وأسقط من المكوس بدمشق ما هو مقرّر على سوق الرّقيق وسوق الدوّاب ودار البطّيخ، والملاهى، والعصير، والفحم، والحديد، وسبكى الفولاذ والزّجاج. قال: وهرب ضياء الدّين ابن الأثير ونهبت داره. ونودى فى دمشق أن يلبس أهل الذّمّة العمائم الغيار ليعرفوا من المسلمين وكان سبب ذلك أنّ الملك العزيز لمّا جلس بدار العدل دخل عليه رجل له هيئة حسنة، فما شكّ العزيز أنه من الأشراف، فلمّا علم أنّه ذمّىّ أمر بذلك. قال: ولاطف الملك العزيز عمّه الملك العادل إلى أن قام بدمشق فى النّيابة، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع. وسلّم ديوان دمشق لصفىّ الدّين ابن شكر «1» كاتب العادل. وفارق الملك العزيز دمشق فى العشر الأوسط من شعبان، وعاد إلى الدّيار المصريّة بعد أن استخلف الملك العادل وسلّم إليه دمشق وما هو مضاف إليها من القلاع والحصون والأعمال؛ والخطبة والسّكّة باسم الملك العزيز. ودخل العزيز إلى القاهرة جريدة فى رابع شهر رمضان؛ وفوّض شدّ الأموال والخطاب عليها للأمير فخر الدّين إياز جهاركس؛ وضمّن الخمور فى كلّ سنة بسبعة عشر ألف دينار، فتجاهر النّاس بها وظهر

الفساد وفشا فى النّاس؛ واجتمع الرّجال والنّساء فى شهر رمضان من غير استتار، سيّما فى الخليج وساحل مصر؛ ورتّب ضمان الخمر فى النّفقة على طعام السّلطان؛ وهذه من البلايا التى لم يسمع بمثلها، فإنّ عادة الملوك والأكابر [أن] «1» يجتهدوا أن يكون مأكلهم من أجلّ الجهات كالجوالى «2» وما يناسبها. وبسبب إطلاق الخمور كثر القتل بالقاهرة والجراحات، وخطف العمائم والأمتعة والمآكل من الأسواق. قال المؤرخ: وغلت الأسعار فى هذه السّنة بالدّيار المصريّة، واشتدّ الأمر على النّاس، وكثر الوباء، وبلغ القمح كلّ أردبّ بدينارين، وأظن الدّينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم، وهذا كان نهاية الغلاء فى ذلك العصر. ولقد وصف «3» الفاضل من عظم ما حلّ بالنّاس غلوّ السّعر أمرا عظيما فكيف لو أدرك الفاضل الديار المصريّة فى سنة خمس وتسعين وستّمائة وقد أبيع القمح سعر الأردب ثلاثة عشر دينارا ونصف دينار وأبيع الفرّوج بخمسين درهما، ورطل البطّيخ الأخضر بأربعة دراهم، والسّفرجلة بثلاثين درهما «4» . قال المؤرخ: وفى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة كانت وفاة الشيخ السّيد الشريف عبد الرّحيم «5» ، قدّس الله روحه ونوّر ضريحه، بقنا من أعمال قوص ودفن بجبّانتها، وضريحه معروف هناك من أعظم مزارات

[142] ذكر استيلاء الفرنج على بيروت

أهل الصّلاح بالدّنيا. وممّا نقل من كلامه، قدسّ الله روحه، وقد سمع المؤذّن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال الشيخ شهدنا بما شاهدنا. ومن كلامه: لا يستطيع العارف أن يوصّل إلى من لا يعرف حقيقة ما عرف، كما لا يستطيع البصير أن يوصل إلى الأكمه «1» حقيقة الألوان. وعرض هذا الكلام على الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز «2» بن عبد السّلام، رحمه الله ونفع به، فقال هذا كلام من غرق فى الحقيقة. [142] ذكر استيلاء الفرنج على بيروت وفى يوم الجمعة عاشر ذى الحجّة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة بيروت من المسلمين وسبب ذلك أنّ فرنج السّاحل راسلوا ملك الألمان «3» فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكان قد ملك جزيرة صقلية، وعرّفوه أنّ المسلمين قد اشتغلوا بحرب بعضهم بعضا؛ فأقبل فى مراكبه «4» إلى عكّا. وصادف ذلك سقوط الكندهرى «5» ملك عكا من

ذكر وفاة سيف الإسلام بن أيوب ملك اليمن وملك ولده شمس الملوك

شبّاك فهلك، فملك ملك قبرص «1» عكّا، وخرج إلى بيروت فملكها من المسلمين، وكان بها عزّ الدين أسامة. فعمّرها الفرنج ولم تزل بأيديهم إلى أن فتحها الملك الأشرف «2» فى سنة تسعين وستّمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار دولة التّرك. وفيها خرجت المراكب الحربية لقصد بلاد الفرنج، فوجدوا بطشا للفرنج فملكوها، فوجد المسلمون فيها أموالا جليلة. وفيها أنشأ الأمير فخر الدين إياز جهاركس النّاصرى القيساريّة المعروفة به بالقاهرة المحروسة، وجاءت من أحسن الأبنية «3» . ذكر وفاة سيف الإسلام بن أيّوب ملك اليمن وملك ولده شمس الملوك وفى يوم الأربعاء الثالث من شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة توفى الملك العزيز سيف الإسلام طغتكين بن أيّوب، أخو السّلطان الملك النّاصر [صلاح الدين] «4» بالمنصورة التى أنشأها باليمن. وكان قد طرد ولده شمس الملوك [إسماعيل] «5» إلى الحجاز. فلمّا سمع بوفاة والده سار إلى اليمن وملك بعده.

ذكر وفاة الملك العزيز وشىء من أخباره

وإلى سيف الإسلام هذا ينسب البستان «1» الذى كان بظاهر القاهرة، وهو الآن عمائر تعرف أرضها بحكر سيف الإسلام. ذكر وفاة الملك العزيز وشىء من أخباره كانت وفاته فى ليلة الأحد العشرين «2» من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة بداره بالقاهرة. وكان قد خرج إلى الفيّوم لقصد الصّيد إلى ذات الصّفا، فحمّ، فعاد إلى القاهرة واشتدّ مرضه، فمات. وقيل إنّه ساق خلف الصّيد فكبا به فرسه مرّة بعد أخرى، فمات بعد ثلاث. ودفن بداره بالقاهرة [وكان مولده بالقاهرة] «3» فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستّين، وقال الفاضل فى جمادى الآخرة. فكانت مدّة عمره سبعا وعشرين سنة وثمانية أشهر واثنى عشر يوما؛ ومدة ملكه خمس سنين وعشرة أشهر وعشرين يوما. وكان رحمه الله عادلا كريما بالمال، بخيلا على طعامه شجاعا حسن الأخلاق. وخلّف من الأولاد أحد عشر ولدا، وهم الملك المنصور محمّد، القائم بعده؛ وعلى، وعمر، وإبراهيم؛ وعيسى؛ ومحمود؛ ورعاه، ويوسف؛

ذكر سلطنة الملك المنصور محمد بن الملك العزيز ابن الملك الناصر وهو الثالث من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية

ويونس؛ وولدان صغيران. ولم يخلّف فى خزانته ذهبا ولا دراهم إلّا بعض قماش ليس بالطّائل. ذكر سلطنة الملك المنصور محمد بن الملك العزيز ابن الملك الناصر وهو الثالث من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصريّة [143] ملك الدّيار المصريّة بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد العشرين «1» من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة بوصية منه. ولمّا مات الملك العزيز كان عمّه الملك العادل يحاصر ماردين فاجتمعت الأمراء الصّلاحية وعقدوا الأمر لولده ولقّبوه بالملك المنصور، وكان قبل ذلك يلقّب بالنّاصر وإنما تركوا النّاصر لموافقته لقب الخليفة «2» وركب فى يوم الثلاثاء الثانى والعشرين من المحرّم، وشقّ القاهرة من باب زويلة إلى باب النّصر، والأمراء فى خدمته. وكتب الأمراء إلى الملك العادل يعزّونه فى ابن أخيه الملك العزيز، ويدكرون اتفاقهم على تنصيب «3» ولده فى السّلطنه بعده، وأنهم على طاعة الملك العادل. ثم اجتمع الأمراء الأسدية والصّلاحية بظاهر القاهرة وقالوا: إن الذى فعلناه من حفظ الملك العزيز فى ولده هو نعم الرأى، وإنما هو صغير السّن لا يفهم ما يقال له، ولا يقوم بأعباء الملك، ولا بد لنا من كبير من

ذكر وصول الملك الأفضل إلى القاهرة واستقراره فى تدبير دولة المنصور

هذا البيت يربّيه ويكفله ويدبّر أحوال الدّولة، وليس لها مثل الملك العادل، وهو الآن مشغول ببلاد الشّرق. وقصدوا أن يكتبوا إليه ويستدعوه فكره بعضهم شدة أخلاقه ومماقتتة «1» للجند فعدلوا عنه واتفقوا على استدعاء الملك الأفضل من صرخد. وأن يتولّى أتابكيّة الملك المنصور وأن ينوب عن الأفضل إلى حين وصوله، أخوه الملك الظافر خضر، فاستقرّ ذلك «2» . وكتبوا إلى الأفضل وذلك فى يوم الخميس سادس عشر صفر من السّنة ونزل الملك الظّافر بدار السّلطنة فى القاعة العزيزيّة، وقام بنيابة السلطنة. قال: ولمّا وصل كتاب الأمراء إلى الأفضل خرج من صرخد فى ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من صفر، وسلك البرّيّة إلى البيت المقدّس. ذكر وصول الملك الأفضل إلى القاهرة واستقراره فى تدبير دولة المنصور كان وصوله إلى القاهرة فى يوم الخميس السّابع من شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة؛ فبرز الناس للقائه، وزيّنت المدينة، لقدومه. ولما دخل أقرّ الخطبة باسم الملك المنصور ابن أخيه، ونقش السّكة باسمه، وكان الأفضل يذكر بعده. وكتب إلى عمّه الملك العادل يبذل له الطّاعة والانقياد إلى أمره

ذكر مسير الملك الأفضل إلى الشام وحصار دمشق وعوده عنها وخروجه عن الديار المصرية

قال: ولمّا وصل الملك الأفضل إلى بلبيس خرج فخر الدّين إياز جهاركس وزين الدين قراجا على أنهما يلتقيانه، فتوجها إلى الملك العادل. ثم خرج فى يوم وصوله الأمير شمس الدّين «1» سراسنقر بمماليكه وجماعة من أصحابه والتحق بالملك العادل، وسار إليه، إلى ماردين. ذكر مسير الملك الأفضل إلى الشام وحصار دمشق وعوده عنها وخروجه عن الديار المصريّة قال: ولما استقرّ الأفضل فى تدبير الدّولة بالدّيار المصريّة، ولم يبق للملك المنصور معه إلا الشّركة فى الخطبة، حمله أصحابه على قصد دمشق وحصرها، وقالوا: هى لك بوصيّة أبيك الملك النّاصر فعزم على المسير اليها، وأمر العساكر بالاستعداد لذلك. وبرز إلى المخيّم ببركة الجبّ، هو وابن أخيه الملك المنصور، فى يوم السّبت العشرين من جمادى الأولى من السّنة واستحثّ العسكر على الخروج. ووصل إليه فى يوم الأربعاء، السّادس من جمادى الآخرة، رسول من أخيه الملك الظّاهر صاحب حلب وهو يلومه على إنفاذ الرّسل بالطّاعة للعادل، ويقول: إن أكثر الناس كانوا منصرفين عنه فانصرفوا إليه، وحثّه على سرعة قصد دمشق؛ ويقول: اغتنم الفرصة ما دام العادل فى حصار ماردين؛ ووعده بالوصول إليه فأكّد ذلك ما عنده، وأقام ببركة الجبّ وهو يحثّ العسكر على سرعة الحركة، إلى ثانى شهر رجب، فرحل عنها.

وفى مدّة مقامه ببركة الجبّ أحضر قاضى القضاة والشّهود، وأشهدهم على نفسه [144] أنه وقف المطريّة «1» ومنية الباسل «2» والرّباع المسوّغة والمستمرّة بيد الدّيوان على عمارة سور القاهرة ومصر والبيمارستان بالقاهرة. قال: ولمّا وصل الأفضل إلى بلبيس احتاط على ما كان باسم العادل وألزامه بالدّيار المصريّة؛ وأقطعه، ثم قبض على أخيه الملك المؤيّد وقيّده وأعاده إلى القاهرة، فاعتقل بالقلعة. وتمادى الملك الأفضل فى سيره إلى دمشق. هذا ما كان منه. وأمّا الملك العادل فإن سراسنقر النّاصرى وصل إليه بماردين واستحثّه على العود إلى دمشق، فأوصى ولده الملك الكامل بمحاصرتها. وفارقها العادل لخمس بقين من شهر رجب، ووصل إلى دمشق فى يوم الاثنين حادى عشر شعبان، وأخذ فى تحصين البلد. ووصلت العساكر المصرية فى يوم الخميس، ورتّب الأطلاب وسار الملك المنصور بن الملك العزيز فى القلب وزحف على البلد فأخذ قصر حجّاج والشّاغور. وكان العادل لما شاهد إقبال العساكر أمر بإحراق قصر حجّاج، فأحرق، واحترق فيه عدّة مساجد وأطفال. وأحاطت العساكر المصريّة بدمشق، ودخلها جماعة منهم من باب السّلامة، وانتهوا إلى السّوق الكبير، وخرجوا من باب الفراديس. وقدم الأفضل الميدان الأخضر «3» ثم تأخّر إلى ميدان الحصى؛ واستقر بهذه المنزلة أكثر من ستّة أشهر.

وكاتب الملك العادل جماعة من الأمراء المصريّين، ففارقوه ودخلوا إلى دمشق فأكرمهم. ثم وصل الملك الظّاهر صاحب حلب ومعه أخواه الظّافر والمعزّ وجاءهم الملك المجاهد صاحب حمص، وعسكر حماة دون سلطانها، وحسام الدّين بشارة صاحب حمص بانياس، وكان من أكابر الدّولة، فأشار بالصلح. قال: ولمّا حاصر الملك الأفضل دمشق منع من يدخل إليها بشىء من الميرة، وقطع عنها الأنهار؛ فاشتدّ الأمر على أهل دمشق، واستغاثت الرّعايا على العادل، وتسلّطوا عليه، وحملوه على تسليم البلد. وانتقل أكثر من فى البلد إلى العسكر، ونصبوا به أخصاصا ومساكن؛ وأقيمت الأسواق به. فلمّا اشتدّ الأمر على العادل كتب إلى الظّاهر يستميله وقال: أنا أسلّم البلد إليك دون غيرك، فنمى الخبر إلى الأفضل، فاضطرب رأيهما، وقيل بل كتب إليهما يقول: أنا أسلم البلد إليكما بعد سبعة أشهر فأجاباه إلى ذلك. وقيل إنه كان يكتب إلى الأفضل يقول الظّاهر قد صالحنى، وإلى الظّاهر بمثل ذلك. واتفق فى فساد حال الأفضل أن جماعة الأمراء كان بأيديهم إقطاعات بالدّيار المصريّة جليلة المقدار، فحسدهم آخرون عليها، فكانوا يأتون إلى الملك الأفضل ويقولون: إنّ فلانا قد عزم على قصد عمّك العادل والانضمام إليه، ويأتون لذلك الأمير فيقولون: إنّ الأفضل قد عزم القبض عليك، ويأتى ذلك الأمير إلى الأفضل فيرى فى وجهه أثر التغيّر لما نقل عنه، فلا يشكّ ذلك الأمير فى صدق النّاقل فالتحق به جماعة من الأمراء

فبينما الأفضل كذلك إذ قدم الملك الكامل بن الملك العادل من الشّرق، فى تاسع عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، بالعساكر والتّركمان فاشتدّ به عضد أبيه. وتأخر الأفضل بمن معه إلى سفح جبل العقبة، ثم انتقل إلى مرج الصّفّر فى يوم الاثنين ثانى عشرى صفر؛ وعاد الظّاهر والمجاهد «1» . واشتد البرد على العسكر المصرى فعاد الأفضل إلى الدّيار المصريّة، وساق العادل بعساكره فى أثره. فكان وصول الأفضل إلى بلبيس فى حادى عشرى شهر ربيع الأول فأشار عليه أصحابه بالإقامة بها. قال: ولمّا وصل الملك العادل إلى تلّ العجول «2» أقام به حتى اجتمع إليه أصحابه، وراسل الأفضل، فعاد جوابه أنه لا يصالحه حتّى يفارق الأمراء الصلاحية. فلما اتصل ذلك بالصلاحية غضبوا وعزموا على المسير إليه. هذا والأفضل على بلبيس، وقد تفرق معظم أصحابه إلى إقطاعاتهم وجماعة منهم باطنوا الملك [العادل] «3» .

[ومضى الملك العادل يطوى المراحل إلى أن دخل الرمل وبلغ الملك الأفضل ذلك، فرام جمع عساكره، فتعذر ذلك عليه لتفرقهم فى أخبارهم، وتشتتهم فى الأماكن التى يربعون فيها خيلهم، فخرج فى جمع قليل، ونزل السانح. ووصل الملك العادل، وضرب معه مصافا، فانكسر عسكر الملك الأفضل، وولوا منهزمين لا يلوون على شىء. ثم سار الملك العادل بالعساكر، ونزل بركة الجب، وسير إلى الملك الأفضل يقول له: «أنا لا أحب أن أكسر ناموس القاهرة، لأنها أعظم معاقل الإسلام، ولا تحوجنى إلى أخذها بالسيف، واذهب الى صرخد وأنت آمن على نفسك» . فاستشار الملك الأفضل الأمراء فرأى منهم تخاذلا، فأرسل إلى عمه يطلب منه أن يعوضه عن الديار المصرية بالشام، فامتنع من ذلك، فطلب أن يعوضه حران والرها فامتنع، فطلب منه جافى وجبل جور وميافارقين وسميساط، فأجابه إلى ذلك، وتسلم القاهرة منه.] «1» [انتهى الجزء السادس والعشرون من كتاب: نهاية الأرب فى فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع والعشرون، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل] «2» .

مختصرات مصادر ومراجع التحقيق

مختصرات مصادر ومراجع التحقيق تحتوى القائمة التالية على أسماء المصادر والمراجع الإضافية ومختصراتها التى استلزمها تحقيق الجزء الثامن والعشرين من كتاب نهاية الأرب للنويرى. «1» أولا: القرآن الكريم. ثانيا: المصادر والمراجع: (1) اتعاظ الحنفا- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) : - اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا. 3 أجزاء- تحقيق جمال الدين الشيال- محمد حلمى محمد أحمد- القاهرة 1967- 1973. (2) أخبار الدول المنقطعة- ابن ظافر (جمال الدين بن على ت 597 هـ/ 1201 م) : أخبار الدول المنقطعة- دراسة تحليلية للقسم الخاص بالفاطميين- تحقيق أندريه فريه. المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1972. (3) أخبار مصر المسبحى (محمد بن عبيد الله بن أحمد، ت 420 هـ/ 1029 م) : - الجزء الأربعون من أخبار مصر. تحقيق أيمن فؤاد سيد، وتيارى بيانكى- القسم التاريخى. المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1978.

(4) الإشارة- ابن الصيرفى (على بن منجب بن سليمان ت 542 هـ/ 1147 م) : - الإشارة إلى من نال الوزارة. تحقيق عبد الله مخلص. المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1924. (5) الاعتبار- أسامة بن منقذ، ت 584 هـ/ 1188 م) : - كتاب الاعتبار. نشره فيليب حتى. جامعة برنستون- الولايات المتحدة 1930. (6) أعلام الإسكندرية- جمال الدين الشيال: - أعلام الإسكندرية- القاهرة 1967. (7) افتتاح الدعوة- القاضى النعمان (النعمان بن محمد بن منصور بن حيون، ت 363 هـ/ 973 م) : - كتاب افتتاح الدعوة. تحقيق فرحات الدشراوى- تونس 1975. (8) الانتصار- ابن دقماق (إبراهيم بن محمد، ت 809 هـ/ 1406 م) : - الانتصار لواسطة عقد الأمصار. نشر فولرز- بولاق 1309 هـ/ 1893 م. (9) البداية والنهاية- ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ/ 1373 م) : - البداية والنهاية- 14 جزء- بيروت 1966. (10) تاريخ الحروب الصليبية- رنسمان: - تاريخ الحروب الصليبية- ترجمة السيد الباز العرينى. 3 أجزاء- بيروت 1967- 1969

(11) تاريخ الدول الإسلامية- أحمد السعيد سليمان - تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسرات الحاكمة- جزءان- دار المعارف- القاهرة 1969. (12) تاريخ دولة الكنوز الإسلامية- عطية القوصى - تاريخ دولة الكنوز الإسلامية- القاهرة 1976. (13) تاريخ ابن الفرات- ابن الفرات (محمد بن عبد الرحيم المصرى، ت 807 هـ/ 1404 م) : - تاريخ الدول والملوك. المجلد الرابع- البصرة 1967. المجلد 7- 9- بيروت 1936- 1942 (14) تاريخ مدينة الإسكندرية- جمال الدين الشيال - تاريخ مدينة الإسكندرية فى العصر الإسلامى- القاهرة 1967. (15) تاريخ ووصف قلعة القاهرة- كازانوفا: - تاريخ ووصف قلعة القاهرة- ترجمة أحمد دراج- القاهرة 1974. (16) تكملة تاريخ ابن البطريق- يحيى بن سعيد الأنطاكى. - تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكى نشر كراتشكوفسكى- 1924. (17) الحركة الصليبية- سعيد عبد الفتاح عاشور - الحركة الصليبية- جزءان- القاهرة 1962.

(18) حسن المحاضرة- السيوطى (عبد الرحمن بن أبى بكر ت 911 هـ/ 1505 م) : - حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة- جزءان- القاهرة 1967. (19) خزانة السلاح- مجهول خزانة السلاح، مع دراسة عن خزائن السلاح ومحتوياتها- نشر نبيل محمد عبد العزيز القاهرة 1978. (20) ذيل تاريخ دمشق- ابن القلانسى (أبو يعلى حمزة بن أسد التميمى، ت 555 هـ/ 1160 م) : - ذيل تاريخ دمشق- نشر أمدروز- بيروت 1908. (21) رحلة ابن جبير- محمد بن أحمد بن جبير، ت 614 هـ/ 1217 م) : - رحلة ابن جبير- بيروت 1964. (22) الروضتين- أبو شامة (عبد الرحمن بن اسماعيل، ت 665 هـ/ 1268 م) : - الروضتين فى أخبار الدولتين. الجزء الأول تحقيق محمد حلمى محمد أحمد- القاهرة 1956- 1962. (23) السلوك- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) : - كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك. ح 1- 2 تحقيق د. محمد مصطفى زيادة- القاهرة 1934- 1958.

(24) سيرة ابن طولون- البلوى (عبد الله بن محمد بن عمير، ت بعد 330 هـ/ 941 م: - سيرة أحمد بن طولون- تحقيق محمد كرد على- دمشق 1358 هـ. (25) شذرات الذهب- ابن العماد الحنبلى (عبد الحى بن أحمد بن محمد، ت 1089 هـ- 1678 م) : شذرات الذهب فى أخبار من ذهب- 8 أجزاء- بيروت. (26) الشرق الأوسط والحروب الصليبية- السيد الباز العرينى - الشرق الأوسط والحروب الصليبية- القاهرة 1963. (27) شفاء القلوب- الحنبلى: - شفاء القلوب فى مناقب بنى أيوب. مخطوط مصور بمكتبة جامعة القاهرة رقم 24031. (28) صبح الأعشى- القلقشندى (أحمد بن على، ت 821 هـ/ 1418 م) : صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء- 14 جزء- القاهرة 1919- 1922. (29) الطالع السعيد- الادفوى (جعفر بن ثعلب، ت 748 هـ/ 1347 م) : - الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد- تحقيق سعد محمد حسن- القاهرة 1966. (30) طبقات الشافعية الكبرى- السبكى (عبد الوهاب بن على، ت 771 هـ/ 1370 م) : - طبقات الشافعية الكبرى- 10 أجزاء- القاهرة 1976.

(31) العبر- الذهبى (محمد بن أحمد، ت 748 هـ/ 1348 م) : - العبر فى خبر من غبر، نشر صلاح الدين المنجد وفؤاد السيد- 5 أجزاء- الكويت 1960- 1966. (32) العقد الثمين- الفاسى (محمد بن أحمد الحسنى المكى، ت 832 هـ/ 1428 م) : - العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين. تحقيق فؤاد السيد- 8 أجزاء- القاهرة 1959- 1969. (33) عقد الجمان- العينى (محمد بن أحمد، بدر الدين، ت 855 هـ/ 1451 م) : - عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان. مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 1584 تاريخ. (34) القاموس الجغرافى- محمد رمزى: - القاموس الجغرافى للبلاد المصرية. قسمان فى 5 أجزاء- القاهرة 1953- 1963. (35) القاموس المحيط- الفيروزآبادى (محمد بن يعقوب الشيرازى، ت 803 هـ/ 1400 م) : 4 أجزاء- القاهرة 1952. (36) قوانين الدواوين- ابن مماتى (الأسعد شرف الدين أبو المكارم ت 606 هـ/ 1209 م) : - كتاب قوانين الدواوين- تحقيق عزيز سوريال عطية- مصر 1943. (37) الكامل- ابن الأثير (على بن أبى الكرم، ت 630 هـ/ 1233 م) : - الكامل فى التاريخ. 13 جزء- بيروت 1983.

(38) كنز الدرر- ابن أيبك الدوادارى (أبو بكر بن عبد الله، ت بعد 736 هـ/ 1235 م) : - كنز الدرر وجامع الغرر. الجزء السادس: الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية. - تحقيق صلاح الدين المنجد- القاهرة 1961. الجزء السابع: الدر المطلوب فى أخبار بنى أيوب. - تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور- القاهرة 1972. (39) الكواكب السيارة- ابن الزيات (محمد الأنصارى ت 814 هـ/ 1411 م) : - الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة. بولاق 1325 هـ. (40) لسان العرب- ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم الأنصارى، ت 711 هـ/ 1311 م) : - لسان العرب- 20 جزء- بولاق 1300- 1308 هـ. (41) المختصر- أبو الفدا (إسماعيل بن على، ت 732 هـ/ 1331 م) : - المختصر فى أخبار البشر- 4 أجزاء- استانبول 1938. (42) المسلمون والبيزنطيون- أحمد عبد الكريم سليمان. - المسلمون والبيزنطيون فى شرقى البحر المتوسط. الجزء الأول- القاهرة 1982. (43) مصر فى عصر الإخشيديين- سيدة إسماعيل كاشف. - مصر فى عصر الإخشيديين- القاهرة 1970. (44) مضمار الحقائق- محمد بن عمر بن شاهنشاه الأيوبى، ت 617 هـ/ 1220 م) : - مضمار الحقائق وسر الخلائق- تحقيق حسن حبشى- القاهرة 1968.

(45) معجم البلدان- ياقوت (ياقوت الحموى، ت 626 هـ/ 1229 م) : - معجم البلدان- 5 مجلدات- بيروت. (46) معجم البلدان الليبية- الطاهر أحمد الزاوى. - معجم البلدان الليبية. طرابلس- 1968. (47) معجم السفن الإسلامية- درويش النخيلى. - السفن الإسلامية على حروف المعجم. القاهرة 1979. (48) المغرب- البكرى (أبو عبيد، ت 487 هـ/ 1094 م) : - المغرب فى ذكر بلاد أفريقية والمغرب- نشر دى سلان- الجزائر 1857. (49) مفرج الكروب- ابن واصل (جمال الدين محمد بن سالم، ت 697 هـ/ 1298 م) : - مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب. ج 1- 3 نشر جمال الدين الشيال- القاهرة 1953- 1960. (50) الملل والنحل- الشهرستانى (محمد عبد الكريم) : - الملل والنحل- تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل- 3 أجزاء- القاهرة 1968. (51) المنتقى من أخبار مصر- ابن ميسر (محمد بن على بن يوسف جلب راغب، ت 677 هـ/ 1278 م) : - المنتقى من أخبار مصر. تحقيق أيمن فؤاد سيد. المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1981.

(52) المواعظ والاعتبار- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) : - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- جزءان- بولاق 1270 هـ/ 1854 م. (53) النجوم الزاهرة- ابن تغرى بردى (جمال الدين أبو المحاسن يوسف، ت 874 هـ/ 1470 م) : - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة. 16 جزء- القاهرة 1929- 1972. (54) نصوص من أخبار مصر- ابن المأمون (موسى بن المأمون البطائحى، ت 588 هـ/ 1192 م) : - نصوص من أخبار مصر. تحقيق أيمن فؤاد سيد. المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1983. (55) النكت العصرية- عمارة اليمنى (أبو الحسن نجم الدين، ت 569 هـ/ 1174 م) : - كتاب النكت العصرية فى أخبار الوزراء المصرية- باريس 1897 م. (56) نهاية الأرب- النويرى (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، ت 732 هـ/ 1332 م) : - نهاية الأرب فى فنون الأدب. 27 جزء- مطبوع بالقاهرة 1923- 1985. (57) النوادر السلطانية- ابن شداد (يوسف بن رافع، بهاء الدين، ت 632 هـ/ 1234 م) : - النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية- تحقيق جمال الدين الشيال- القاهرة 1964.

محتويات الكتاب

(58) وصف قلعة الجبل- كريزويل: - وصف قلعة الجبل- ترجمة جمال محمد محرز- القاهرة 1974. (59) وفيات الأعيان- ابن خلكان (أحمد بن محمد، ت 681 هـ/ 1282 م) : - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- 8 أجزاء- تحقيق إحسان عباس- بيروت 1968- 1972. (60) الولاة والقضاة- الكندى (محمد بن يوسف، ت 350 هـ/ 961 م) : - كتاب الولاة وكتاب القضاة، صححه رفن كست- بيروت 1908. محتويات الكتاب الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار ملوك الديار المصرية الدولة الطولونية الموضوع الصفحة خروج أحمد بن طولون إلى الشام سنة 264 هـ 11 ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وما كان من أمره 14 ذكر خلاف لؤلؤ على أحمد 16 ذكر وفاة أحمد بن طولون وشىء من أخباره وسيرته 19 ذكر ولاية أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثانى من ملوك الطولونية 22 ذكر مسير إسحاق بن كنداجق ومحمد بن أبى الساج إلى الشام 23 ذكر وقعة الطواحين 24 ذكر اختلاف محمد بن أبى الساج وإسحاق بن كنداجق والخطبة لخمارويه بالجزيرة 26 ذكر الاختلاف بين خمارويه ومحمد بن أبى الساج والحرب بينهما 27 ذكر الدعاء لخمارويه بطرسوس 28 ذكر الفتنة بطرسوس 28

الموضوع الصفحة ذكر زواج المعتضد بالله بابنة خمارويه بن أحمد بن طولون 29 ذكر مقتل أبى الجيش خمارويه 30 ذكر ولاية أبى العشائر جيش بن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وهو الثالث من الملوك الطولونية 31 ذكر عصيان دمشق على جيش، وخلاف جنده وقتله 32 ذكر ولاية أبى موسى هارون بن أبى الجيش خمارويه ابن أحمد بن طولون، وهو الرابع من ملوك الدولة الطولونية 33 ذكر انقراض الدولة الطولونية 34 ذكر أخبار من ولى مصر بعد انقراض الدولة الطولونية وإلى قيام الدولة الإخشيدية من الأعمال وملخص ما وقع فى أيامهم من الحوادث 37 ذكر إبراهيم الخليجى وما كان من أمره 37 ذكر استيلاء حباسة على الإسكندرية 39 ذكر وصول أبى القاسم بن المهدى إلى الديار المصرية واستيلائه على الإسكندرية والفيوم والأشمونين 40 ذكر أخبار الدولة الإخشيدية وابتداء أمر من قام بها، وكيف كان سبب ملكه وقيامه ومن ملك بعده إلى أن انقرضت أيامهم 44 ذكر مسير الإخشيد إلى الشام ووفاته وشىء من أخباره وسيرته 48 ذكر ولاية أبى القاسم أنوجور 49 ذكر قيام أبى نصر غلبون بن سعيد المغربى وما كان من أمره 50 ذكر وفاة الوزير أبى بكر بن الماذرائى وشىء من أخباره ومآثره 52 ذكر وفاة أبى القاسم أنوجور وولاية أخيه أبى الحسن على بن الإخشيد 53

الموضوع الصفحة ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصى الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع 54 ذكر أخبار الدولة العبيدية التى انتسب ملوكها إلى الشرف وألحقوا نسبهم بالحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما 63 ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم 66 ذكر أخبار أبى عبد الله الشيعى داعى المغرب وما كان من أمره، وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب 77 ذكر انتقال أبى عبد الله الشيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت 85 ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة ميلة 91 ذكر الحرب بين أبى عبد الله الشيعى وبين أبى حوال محمد بن أبى العباسى 92 ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة سطيف 93 ذكر خروج إبراهيم بن حنبش إلى بلد كتامة 94 ذكر هرب زيادة الله إلى المشرق 96 ذكر رجوع أبى عبد الله الشيعى إلى أفريقية 97 ذكر خروج أبى عبد الله الشيعى إلى سجلماسة 98 ذكر ابتداء الدولة العبيدية وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعى 100 ذكر رحيل عبيد الله من الشام ووصوله إلى سجلماسة 100 ذكر أخبار أبى عبد الله الشيعى وأخيه أبى العباس وما كان من أمرهما بعد قيام عبيد الله المهدى إلى أن قتلهما 106 ذكر أخبار من خالف على عبيد الله وما كان من أمرهم 110 ذكر بناء مدينة المهدية 111

الموضوع الصفحة ذكر خروج أبى القاسم إلى بلاد المغرب وبنائه مدينة المسيلة 112 ذكر وفاة عبيد الله المهدى وشىء من أخباره 113 ذكر بيعة القائم بأمر الله 113 ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من أخباره 116 ذكر بيعة المنصور بنصر الله 117 ذكر وفاة المنصور بنصر الله وشىء من أخباره 118 ذكر بيعة المعز لدين الله 119 ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الديار المصرية 122 ذكر خبر وصول جوهر القائد بالعساكر إلى الديار المصرية 122 ذكر إقامة الخطبة، وضرب السكة بمصر للمعز لدين الله وما قيل فى الدعاء له على المنبر، وما نقش على السكة 131 ذكر خروج تبر الإخشيدى والقبض عليه 134 ذكر فتوح الشام 135 ذكر مقتل جعفر بن فلاح واستيلاء القرامطة على دمشق 136 ذكر خروج المعز لدين الله من بلاد الغرب إلى الديار المصرية، وما رتبه ببلاد المغرب قبل مسيره 139 ذكر مكاتبة المعز لدين الله القرمطى، وجواب القرمطى له 145 ذكر فتوح طرابلس الشام 150 ذكر وفاة المعز لدين الله وشىء من أخباره 151 ذكر بيعة العزيز بالله 153 ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله 154 ذكر حرب أفتكين وأسره 157 ذكر فتوح اللاذقية 158

الموضوع الصفحة ذكر فتح قنّسرين وحمص 159 ذكر وفاة العزيز بالله وشىء من أخباره وأخبار وزيره يعقوب بن كلس ومن ولى بعده 163 ذكر أخبار الوزير يعقوب بن كلّس 165 ذكر بيعة الحاكم بأمر الله 167 ذكر القبض على الوزير عيسى بن نسطورس النصرانى وقتله 168 ذكر مخالفة منجوتكين بدمشق وحربه وأسره وسبب ذلك 169 ذكر الفتنة بين المشارقة والمغاربة، وهرب ابن عمار وما كان من أمره 171 ذكر قتل برجوان الخصى 174 ذكر ما فعله الحاكم بأمر الله وأمر به من الأمور الدالة على اضطراب عقله بعد أن استقل بالأمر بمفرده 176 ذكر بناء الجامع المعروف بجامع راشدة 176 ذكر بناء الجامع المعروف بالحاكم الذى هو بين باب النصر وباب الفتوح بالقاهرة 177 ذكر أبى ركوة وظهوره، وما كان من أمره إلى أن قتل 180 ذكر خروج آل الجراح على الحاكم ومتابعتهم لأبى الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى وما كان من أمرهم 185 ذكر تفويض السفارة والوساطة لأحمد بن محمد القشورى وقتله 188 ذكر هدم كنائس الديار المصرية 191 ذكر البيعة بولاية العهد لأبى القاسم عبد الرحيم 192 ذكر إحراق مصر وقتال أهلها 193 ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه، والسبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم 194

الموضوع الصفحة ذكر مولد الحاكم ومدة عمره وملكه وأولاده وكتابه ووسائطه وقضائه ونقش خاتمه 201 ذكر بيعة الظاهر لإعزاز دين الله 202 ذكر مقتل الحسين بن دوّاس 204 ذكر وفاة الظاهر لإعزاز دين الله على بن الحاكم بأمر الله وشىء من أخباره 207 ذكر بيعة المستنصر بالله 209 ذكر عود حلب إلى ملك ملك الديار المصرية 212 ذكر الوحشة الواقعة بين الوزير أبى القاسم الجرجرائى، وأمير الجيوش أنوشتكين الدزبرى 212 ذكر ظهور سكين المشبه بالحاكم وقتله 213 ذكر وفاة الوزير صفى الدين أبى القاسم أحمد بن على الجرجرائى وشىء من أخباره 214 ذكر مقتل أبى سعيد التسترى وعزل الوزير وقتله ووزارة ابن الجرجرائى 216 ذكر القبض على الوزير أبى محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن اليازورى وقتله، وشىء من أخباره 221 ذكر الفتنة الواقعة التى أوجبت خراب الديار المصرية 224 ذكر الوحشة الواقعة بين ناصر الدولة والأتراك 227 ذكر الحرب بين ناصر الدولة والأتراك 230 ذكر الصلح بين ناصر الدولة والأتراك 230 ذكر الحرب بين ناصر الدولة وتاج الملوك شادى وما كان من أمر ناصر الدولة إلى أن قتل 231 ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية 233

الموضوع الصفحة ذكر قدوم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر واستيلائه على الدولة 234 ذكر هلاك عرب الصعيد وقتل كنز الدولة 236 ذكر بناء باب زويله بالقاهرة 238 ذكر وفاة أمير الجيوش بدر الجمالى وولاية ولده الأفضل 239 ذكر وفاة المستنصر بالله وشىء من أخباره 240 ذكر بيعة المستعلى بالله 243 ذكر ما اتفق لنزار ومن معه 245 ذكر استيلاء أمير الجيوش على البيت المقدس 246 ذكر استيلاء الفرنج على ما نذكره من البلاد الإسلامية بالساحل والشام والبيت المقدس 247 ذكر ملكهم مدينة أنطاكية 248 ذكر مسير المسلمين لحرب الفرنج وما كان من أمرهم 253 ذكر ملكهم معرة النعمان 255 ذكر استيلائهم خذلهم الله تعالى على البيت المقدس 256 ذكر ظفر المسلمين بالفرنج 259 ذكر قتل كندفرى وملك أخيه بغدوين وما استولى عليه الفرنج من البلاد وهى: حيفا وأرسوف وقيسارية والرها وسروج 260 ذكر أخبار صنجيل الفرنجى وما كان منه فى حروبه وحصار طرابلس وألطوبان وملك انطرسوس 261 ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا 262 ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت 264 ذكر ملك الفرنج جبلة وبلنياس 267 ذكر ملكهم مدينة صيدا 268 ذكر استيلائهم على حصن الأثارب وحصن زردنا 269

الموضوع الصفحة ذكر حصر مدينة صور وفتحها 270 ذكر وفاة المستعلى بأحكام الله 273 ذكر بيعة الآمر بأحكام الله 274 ذكر إنشاء ديوان التحقيق 275 ذكر حل الإقطاعات وتحويل السنة 276 ذكر أخذ الفرما وهلاك بغدوين الفرنجى صاحب القدس 277 ذكر نصب ثغر عيذاب 278 ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش بن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره 279 ذكر تفويض أمور الدولة وإمرة الجيوش للمأمون البطائحى 288 ذكر القبض على المأمون 291 ذكر أخبار أبى نجاح بن فنا النصرانى الراهب وقتله 292 ذكر مقتل الآمر بأحكام الله وشىء من أخباره 294 ذكر بيعة الحافظ لدين الله 296 ذكر قيام أحمد بن الأفضل الحافظ وما كان من أمر أحمد إلى أن قتل 296 ذكر بيعة الحافظ لدين الله الثانية 298 ذكر الخلف بين ابنى الحافظ لدين الله 299 ذكر مقتل حسن بن الحافظ 300 ذكر وزارة بهرام الأرمنى 300 ذكر خروج بهرام من الوزارة ووزارة رضوان ابن الولخشى 302 ذكر خروج رضوان من الوزارة وما كان من أمره إلى أن قتل 304 ذكر وفاة بهرام الأرمنى 306 ذكر وفاة الحافظ لدين الله وشىء من أخباره 307 ذكر بيعة الظافر بأعداء الله 310

الموضوع الصفحة ذكر قيام العادل بن السّلار ووزارته ومقتل ابن مصال 311 ذكر ما فعله الفرنج بالفرما وما جهّزه العادل من الأسطول إلى بلادهم 313 ذكر مقتل العادل بن السّلار وسلطنة ربيبه عباس 314 ذكر مقتل الظافر بأعداء الله وأخويه 315 ذكر بيعة الفائز بنصر الله 318 ذكر خروج عباس من الوزارة وما آل إليه أمره 318 ذكر وزارة الصالح أبى الغارات طلائع بن رزيك 319 ذكر وفاة الفائز بنصر الله 322 ذكر بيعة العاضد لدين الله 322 ذكر مقتل الملك الصالح طلائع بن رزّيك، وقيام ولده الملك العادل رزّيك 324 ذكر ظهور حسين بن نزار وقتله 328 ذكر انقراض دولة بنى رزيك 328 ذكر وزارة شاور الأولى وخروجه منها 330 ذكر وزارة الضّرغام بن سوار 331 ذكر قدوم شاور من الشام وعوده إلى الوزارة ثانيا وقتل الضّرغام 332 ذكر غدر شاور بشيركوه 334 ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية بالعساكر الشامية وانفصاله 335 ذكر وصول الفرنج إلى القاهرة وحصارها وحريق مصر 339 ذكر قدوم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ورحيل الفرنج عنها 341 ذكر مقتل شاور 342

الموضوع الصفحة ذكر انقراض الدولة العبيدية والخطبة للمستضىء بنور الله العباسى 344 جامع أخبار الدولة العبيدية ومدتها ومن ملك من ملوكها 346 ذكر أخبار الدولة الأيوبية 351 ذكر نسب الملك الأفضل نجم الدين 351 ذكر ابتداء حال الملك الأفضل نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه 354 ذكر وزارة الملك المنصور أسد الدين شيركوه بالديار المصرية ووفاته 356 ذكر أخبار الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك الأفضل نجم الدين أيوب ووزارته بالديار المصرية 358 ذكر مقتل مؤتمن الخلافة جوهر زمام القصور وانتقال وظيفته إلى قراقوش الأسدى وحرب السودان 360 ذكر الحوادث فى الأيام الناصرية غير الفتوحات والغزوات 362 ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدين أيوب والد الملك الناصر إلى الديار المصرية 362 ذكر إبطال الأذان بحىّ على خير العمل 362 ذكر ما أنشأه الملك الناصر صلاح الدين بالقاهرة ومصر من المدارس والخوانق 363 ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية للقاضى صدر الدين بن درباس 364 ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب 365 ذكر عمارة قلعة الجبل والسور 365 ذكر قتل جماعة من المصريين 367 ذكر ما استولى عليه الملك الناصر من البلاد الإسلامية بنفسه وأتباعه 371

الموضوع الصفحة ذكر استيلائه على اليمن 373 ذكر ملكه مدينة دمشق 374 ذكر ملكه مدينة حمص وحماه 375 ذكر حصره حلب وعوده منها وملكه قلعة حمص وبعلبك 376 ذكر انهزام عسكر سيف الدين غازى من الملك الناصر وحصره حلب ثانيا 377 ذكر الحرب بين الملك الناصر وسيف الدين غازى وانهزام غازى 378 ذكر ما ملكه الملك الناصر من بلاد الملك الصالح بعد هذه الوقعة 379 ذكر حصره مدينة حلب والصلح عليها 381 ذكر نهبه بلاد الإسماعيلية 381 ذكر عبوره الفرات وملكه الديار الجزيرية 381 ذكر ملكه مدينة سنجار 382 ذكر ملكه مدينة آمد وتسليمها إلى صاحب حصن كيفا 383 ذكر ملكه تل خالد وعين تاب 384 ذكر ملكه حلب 384 ذكر فتح الملك الناصر حارم 385 ذكر حصار الموصل 386 ذكر ملكه ميّافارقين 387 ذكر عوده إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين صاحبها 388 ذكر غزوات الملك الناصر وما افتتحه من بلاد الفرنج 390 ذكر غزوة بلاد الفرنج وفتح أيلة 391 ذكر محاصرة الشوبك وعوده عنها 391 ذكر وصول أسطول صقلية إلى ثغر الإسكندرية وانهزامه 392 ذكر مسيره إلى عسقلان وغيرها، وانهزام عسكر وعوده 393

الموضوع الصفحة ذكر وقعة مرج عيون وانهزام الفرنج وأسر ملوكهم 394 ذكر هدم بيت الأحزان 395 ذكر مسير الملك الناصر إلى بلاد الأرمن 396 ذكر مسيره إلى الشام والإغارة على طبريه وبيسان، وما كان من الظفر بمراكب الفرنج ببحر عيذاب 396 ذكر الإغارة على الغور 398 ذكر غزوة الكرك والشوبك وفتح طبريه ومجدل يابا ويافا 398 ذكر فتح عكا ونابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة ومعليا والفولة والطور والشّقيف وغير ذلك 401 ذكر فتح تبنين وصيدا وصرفند وبيروت وجبيل 401 ذكر فتح عسقلان وما يجاورها 402 ذكر فتح البيت المقدس 403 ذكر رحيله ومحاصرة صور 405 ذكر فتح هونين 407 ذكر فتح حصن برزية 408 ذكر فتح قلعة دربساك 409 ذكر فتح قلعة بغراس 409 ذكر الهدنة بين المسلمين وبين صاحب أنطاكية 410 ذكر فتح الكرك والشوبك وما يجاورهما 410 ذكر فتح قلعة صفد 411 ذكر فتح كوكب 411 ذكر فتح شقيف أرنوم 413 ذكر مسير السلطان من مرج عيون إلى صور وما كان عليها من الوقائع 414

الموضوع الصفحة ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها 415 ذكر رحيل السلطان عن منزلته وتمكن الفرنج من حصار عكا 419 ذكر وصول العسكر المصرى فى البر والأسطول فى البحر 420 ذكر خبر ملك الألمان وما كان من أمره إلى نهايته 421 ذكر الوقعة العادلية على عكا 425 ذكر وصول الكندهرى إلى عكا نجدة للفرنج وما جدده من آلة الحصار 426 ذكر ما كان من أمر الفرنج بعد وصول ابن ملك الألمان إلى عكا وما اتخذوه من آلات الحصار 427 ذكر وصول ملك افرنسيس 430 ذكر وصول ملك الإنكلتير 431 ذكر استيلاء الفرنج على عكا 432 ذكر ما كان بعد أخذهم عكا 434 ذكر هدم عسقلان 434 ذكر وقوع الصلح والهدنة العامة بين المسلمين والفرنج 436 ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب 437 ذكر من ملك الممالك التى كانت جارية فى ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى 440 ذكر أخبار الملك العزيز عماد الدين أبى الفتح عثمان ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب 442 ذكر استيلاء الفرنج على جبيل 442 ذكر مسير الملك العزيز إلى الشام والصلح بينه وبين أخيه الملك الأفضل وعوده إلى القاهرة 444 ذكر خروج الملك العزيز لقصد الشام ثانيا ورجوعه وقصد العادل والأفضل الديار المصرية وما تقرر من القواعد 446 ذكر ملك الملك العزيز دمشق وخروج الأفضل إلى صرخد 448

الموضوع الصفحة ذكر استيلاء الفرنج على بيروت 453 ذكر وفاة سيف الإسلام بن أيوب ملك اليمن وملك ولده شمس الملوك 454 ذكر وفاة الملك العزيز وشىء من أخباره 455 ذكر سلطنة الملك المنصور محمد بن الملك العزيز بن الملك الناصر وهو الثالث من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 456 ذكر وصول الملك الأفضل إلى القاهرة واستقراره فى تدبير دولة المنصور 457 ذكر مسير الملك الأفضل إلى الشام وحصار دمشق وعوده عنها وخروجه عن الديار المصرية 458 انتهى بحمد الله الجزء الثامن والعشرون- من تجزئة المطبوع- من كتاب نهاية الأرب، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع والعشرون.

الجزء التاسع والعشرون

الجزء التاسع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تمهيد باسم الله، والحمد لله، وبعد: فقد عهد إلىّ تحقيق هذا الجزء (التاسع والعشرين) من موسوعة «نهاية الأرب» للنّويرى (أحمد بن عبد الوهاب- المتوفّى سنة 733 هـ.) : الأديب المؤرخ- إعدادا لنشره. ولما شرعت فى العمل، لم أجد فى أول الأمر غير نسخة مخطوطة واحدة لهذا الجزء، هى النسخة التى أخذت بالتصوير الشمسى عن الأصل المحفوظ بمكتبة «كوبريلّلى» بالأستانة، وهى موجودة بدار الكتب المصرية، وهى التى نرمز إليها بحرف (ك) . فعند المراجعة تبيّن لى أن هذه النسخة (ك) تحتوى على أخطاء عديدة، كما أن هناك نقصا فى بعض الكلمات أو العبارات. ولم يكن هناك سبيل لمعرفة صواب هذه الأخطاء، أو إكمال النقص، إلا بالرجوع إلى المصادر الأخرى التى كتبت عن هذا العصر- ولا سيما كتب المعاصرين للفترة، أو من تلاهم- فرجعت إلى «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزى وهو «أبو المظفّر» ، الذى يشير إليه المؤلف وينقل عنه كثيرا فى المتن، وكان معاصرا للدولة الأيوبية، كما رجعت إلى «الذّيل على الرّوضتين» لأبى شامه المؤرخ المعروف، وكان معاصرا أيضا- وان كان يتأخر فى الزمن قليلا عن ابن الجوزى- وإلى كتاب «الرّوضتين» أيضا لنفس المؤرخ، وكذلك كتاب «مفرّج الكروب» لابن واصل، وكتاب «السّلوك» للمقريزى و «النجوم الزاهرة» لابن تغرى بردى، ثم كتب التاريخ والتّراجم مثل: «الكامل» لابن الأثير و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان، و «حسن المحاضرة» للسّيوطى وهكذا.

ومع ذلك، فما كان يمكن أن نعتبر أن التحقيق قد تمّ، أو بلغ الدرجة التى نشعر فيها بالتّقة، إلا إذا وجدت نسخة أخرى مخطوطة للأصل. وقد تم نقل صورة شمسية عن نسخة محفوظة بمعهد مخطوطات جامعة الدول العربية وتبين أن هذه النسخة بخط المؤلف «النويرى» نفسه! فحينئذ وصل التحقيق إلى مرحلته النهائية. وهذه النسخة الثانية نرمز إليها بحرف (ع) وبمراجعتها على النسخة (ك) اكتشفنا أن هذه ناقصة بعض الكلمات والعبارات، بل ناقصة بضع صفحات كاملة، وذلك فى أحداث سنتى: 619 و 620 هـ، ولما كانت النسخة (ع) هى بخط المؤلف فقد جعلناها الأصل المعتمد للتحقيق، فهى أقدم وأثبت، وجعلنا النسخة الأخرى (ك) مساعدة لها. ومن ثم أكملنا النقص الذى أشرنا إليه، ونقلنا الصفحات من النسخة (ع) ، وساعدتنا هذه أيضا على تصحيح كثير من الألفاظ. لم يكن من اليسير الوصول إلى صوابها بغيرها، وإن كانت هذه النسخة من وجه آخر، غير حسنة الخط، وتترك كلمات كثيرة بدون نقط، فالأولى تفوقها فى حسن الخط وظهوره، كما وجدنا أن النسخة (ع) بدورها ناقصة بضع صفحات، فعلى العموم كانت كل منهما مكمّلة للأخرى. وبهما، وبالمصادر السابقة وغيرها، وصلنا إلى اكمال وتصويب المتن إلى أقصى درجة ممكنة. وكان لابدّ من تنظيم المتن، وتقسيمه إلى فقرات، وتحديد الجمل بالفواصل، وضبط أسماء الأعلام والأماكن، وغيرها من الكلمات التى تحتاج إلى الضّبط، حتى تكون قراءة المتن سهلة، ويمكن الإفادة منها. وكان من الضرورى بعد ذلك- وهذه هى المرحلة الثانية فى المهمة- إكمال المتن بشرح ألفاظه، والتعليق على الأحداث، والمصطلحات التّاريخيّة، وتحديد المواضع الجغرافية، والتعريف بالأعلام الواردة فيه بنبذ موجزة، حتى تتّضح معانى الوقائع، وتظهر روح العصر الذى حدثت فيه، وتزيد الفائدة العلمية للكتاب.

وهذه الحقبة التى يتناولها هذا الجزء من كتاب «النويرى» - تمتد من عام 596 هـ: من بدء دخول «العادل» أبى بكر بن أيوب القاهرة، ليبدأ ملكه وملك أسرته فيها، ثم فى الأقطار المجاورة: فلسطين وسوريا ولبنان والعراق والجزيرة، واليمن أيضا- حتى آخر سنة 658 هـ: أى بدء عهد الظاهر بيبرس. فهى حقبة تبلغ أكثر من ستين عاما وتشمل أحداثا هامة من تاريخ مصر والشرق العربى، فهى تضمّ جزءا من تاريخ الحروب الصّليبيّة، وتاريخ الدولة الأيّوبيّة فى مصر والشام والجزيرة منذ بدء عهد العادل، ثم نهاية هذه الأسرة وقيام دولة المماليك، وغزو التّتار وموقعة عين جالوت، وغير ذلك. هذا إلى الجوانب الأدبية والاجتماعية. ونأمل أن نكون قد أدّينا مهمتنا التى عهد إلينا بها على الوجه الذى يحقق أكبر فائدة. والعصمة لله وحده، وبالله تعالى التّوفيق. القاهرة صفر 1383 يوليه 1963 محمد ضياء الدين الريس

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية] [ذكر أخبار الدولة الأيوبية] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ذكر أخبار السّلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وسلطنته كان دخول السلطان الملك العادل إلى القاهرة فى يوم السبت، لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر، سنة ستّ وتسعين وخمسمائة- فى يوم خروج الملك الأفضل «1» منها. فاستبقى رضاء الأمراء النّاصريّة «2» ، بإبقاء الخطبة للملك المنصور بن

الملك العزيز. وأعاد قاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس «1» ، إلى القضاء- وكان الأفضل قد عزله واستقضى زين الدّين علىّ بن يوسف «2» . واستدعى الملك العادل ابنه الملك الكامل من حرّان «3» إلى الديار المصرية، ليستنيبه بها. فسلّم تلك الولاية لأخيه الملك الفائز، ووصل إلى دمشق، فى سادس عشر شعبان من السنة- ومعه شمس الدين، المعروف بقاضى دارا، وهو وزيره. وخرج من دمشق فى الثالث والعشرين من الشهر، ووصل إلى القاهرة لثمان بقين من شهر رمضان. فالتقاه والده وأنزله بالقصر. ثم ركب إليه بعد يومين، واستصحبه معه إلى الدار- وكان قد زوّجه بابنة عمه الملك الناصر، فدخل بها.

قال: وركب الملك العادل- فى يوم الاثنين- بالصّنجق «1» السّلطانى. وأمر الخطباء بالخطبة له ولولده: الملك الكامل بولاية العهد من بعده- بعد الخليفة «2» - فخطب لهما فى الحادى والعشرين من شوال، سنة ست وتسعين وخمسمائة. وانقطعت خطبة المنصور بن الملك العزيز، وأولاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف، فلم تعد إلى الآن. وانتقل ملك الديار المصرية إلى البيت العادلى، فكان فيهم إلى أن انقرضت الدولة الأيّوبيّة. قال المؤرّخ: ولم يقطع الملك العادل خطبة الملك المنصور إلا بعد أن أحضر الفقهاء والقضاة، واستفتاهم: هل تجوز ولاية الصغير والنيابة عنه؟ فقالوا: إن الولاية غير صحيحة، ولا تصح النيابة- لا سيما فى السلطنة- فإنه لا حقّ فيها للصغير. فأحضر الأمراء وخاطبهم فى اليمين له، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له. قال: وركب الملك الكامل فى يوم السبت بالصّنجق السلطانى- على عادة الملوك. قال: ولما وصل الملك العادل، كان الصاحب: صفى الدين عبد الله ابن على بن شكر «3» فى صحبته، فاستوزه. وكان- على ما حكى- قد استحلف الملك العادل بالبيت المقدس، أنه متى حصل له ملك الديار

ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية فى الدولة العادلية وهو الغلاء المشهور

المصرية يمكّنه من المصريّين، فحلف له على ذلك. فلما ولى السلطنة استوزره، ومكّنه. ذكر الغلاء الكائن بالديّار المصرية فى الدولة العادلية وهو الغلاء المشهور قال المؤرخ: كان ابتداء هذا الغلاء من استقبال شوال- وقيل ذى القعدة- سنة ست وتسعين وخمسمائة، إلى ذى القعدة سنة تسع وتسعين، فكانت مدته ثلاث سنين وشهرا. وذلك أن قرار النيل فى سنة ست وتسعين كان مقداره ذراعان «1» ، وبلغ غايته إلى اثنى عشر ذراعا «2» وإحدى وعشرين إصبعا. فصام الناس ثلاثة أيام، قبل يوم التّروية «3» ، واستسقوا ثلاثة أيام، آخرها يوم العيد. ثم أخذ الماء فى النقص، فاشتد الغلاء وامتد البلاء، وهلك القوىّ، فكيف الضّعيف!. قال العماد الأصفهانى: وبلغ سعر القمح عن كل إردب الكيل المصرى خمسة دنانير. واستقر القاع فى سنة سبع وتسعين على ذراعين، وبلغ

ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره

غايته خمسة عشر ذراعا ونصف ذراع. فعدم الناس القوت، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا أولادهم والميتة. وخرج خلق كثير من الديار المصرية إلى الشام والسواحل. وحكى ابن جلب راغب «1» فى تاريخ مصر: أنه نودى على دجاجة، تزويد فيها إلى أن بلغت ألف درهم ورقا. وبيعت بطيخة بفرس. قال: وكانت الدّجاجة تباع بالأوقية. وحكى- أيضا- أن بعض الناس سمع صياح امرأة، تفتر ثم تعاود الأنين والصراخ! فتتبع الصوت، حتى انتهى به إلى منزل وفيه امرأة سمينة ملقاة، وشاب يقطع من لحم فخذها. فلما راتهم قالت: لا تعارضوه فإنه ابنى، وأنا قلت له يقطع من لحمى، ويأكل ويطعمنى، مما آلمنا من الجوع! ولم يسمع بمثل هذا. ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره هو القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين، أبو على عبد الرحيم، بن القاضى الأشرف أبى الحسين على بن الحسن، بن الحسين بن أحمد، بن الفرج «2» بن أحمد، اللّخمى- الكاتب. كانت وفاته فجأة فى ليلة الأربعاء، السابع من شهر ربيع الآخر، سنة ست وتسعين وخمسمائة. ومولده بعسقلان فى خامس عشر جمادى الآخرة، سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وكان أبوه قاضى عسقلان «1» ، وصاحب ديوانها. ونسبته إلى بيسان نسبة انتقال. وذلك أن قاضى عسقلان كان قاضى البلاد الشمالية من ساحل الشام، وبيسان «2» فى ولايته. وكان إذا خرج إليها قاض لحقه من الوخم ما يوجب مرضه، ومنهم من يموت. فقرر قاضى عسقلان على الشهود أن يخرج كلّ واحد منهم إلى بيسان ثلاثة أشهر، ويعود، ويخرج غيره. فجاءت النّوبة لحد القاضى الفاضل «3» ، فمضى إليها وصح بها جسمه. فاختار الإقامة بها. فأجيب إلى ذلك وعمر بها أملاكا، فعرف بالبيسانى. ثم تقلبت بوالد القاضى الأحوال إلى أن ولى القضاء بعسقلان، والنظر فى أموالها. وبقى إلى زمن الظافر «4» ، فدخل إلى مصر لمحاققة واليها «5» بسبب كند كبير «6» ، من الفرنج كان الوالى داجى عليه وأطلقه. فانتصر

بعض الأمراء للوالى ونصروه، فخانق الأسعد «1» . وصودر، ووقع التحامل عليه، إلى أن لم يبق له شىء. وخرج ولده الفاضل إلى ثغر الإسكندرية، واجتمع بابن حديد- القاضى والناظر بها- وعرّفه بوالده فعرفه بالسّمعة، فاستكتبه ابن حديد، وأطلق له معلوما. وبقيت كتبه ترد إلى مجلس الخلافة بخط الفاضل وهى مشحونة بالبلاغة. فكشف عن ذلك ابن الخلّال والجليس بن الحبّاب- وكانا فى ديوان المكاتبات- فحسداه على فضيلته، وعلما أنه يتقدم، فقالا للظافر عنه: انه قصّر فى المكاتبة. وكان صاحب ديوان المجلس- الأثير بن بنان- يحكى أنه دخل على الظافر، فأمره أن يكتب لابن حديد بقطع يد كاتبه، بسبب أنه جعل بين السطرين الأولين مقدار شبر، وهذا سوء أدب، فقال الأثير للظافر: يا أمير المؤمنين، تأمر بإحضار الكتب، فأحضرت. فلما قرأها الأثير علم فضل الفاضل، فقال له: هذا الكاتب لم يحصل منه سوء أدب، وانما حسد على بلاغته، فعمل على أذاه. فقال: اكتب لابن حديد يسيره إلينا،

لسنتخدمه. فصار من كتاب الدّرج «1» ، فى أواخر الدولة العبيديّة «2» . وأما اتصاله بملوك الدولة الأيوبية فحكى عن الأثير بن بنان أنه قال: لما ولى أسد الدين شيركوه اختص به ابن الصقيل البلنسى «3» . وكنت بالقصر أنا والفاضل، فدخل علينا ابن الصقيل وقال: كنت البارحة عند السلطان، وذكركما وتوعّدكما بالقتل. ثم خرج من عندنا. فلم يكن بأسرع من أن طلبنا أسد الدين من العاضد، فأرسلنا إليه. قال الأثير: فلما دخلنا عليه وجدنا الأمراء عنده. فسلمت سلاما سمعه من حضر، فلم يرد علينا! فقلت له: ولم لا ترد السلام؟ فالتفت إلىّ، وقال: لستما عندى من أهل السلام! لأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: السلام تحية لملّتنا، وأمان لذمتّنا. ولا تحية لكما عندى! فوقفنا، فقلت: لا قدرة لى على القيام، فقال أجث، فجثوت. ثم قلت ولم لا أتربع؟ ففسح لى فى ذلك. قلت: وصاحبى. قال: وصاحبك.

ثم التفت إليه دونى، وقال له: تكتب للفرنج، على لسان شاور، وتقول فى حقنا ما قلت، وتحثهم على قتالنا! والله لأقتلنك شرّ قتلة، ولأسلّن لسانك، ولأقطعنّ يدك ورجلك، من خلاف!! فقلت: أدام الله سلطان مولانا. هذا القاضى إذا عدم، لا يوجد مثله فى جميع البلاد. فالتفت إلىّ، وقال: نجرّب قولك. وقال له: أكتب كتابين: أحدهما للمولى نور الدين بن زنكى، يقرأ على منبر دمشق يهنّيه بالفتوح، وكتاب يقرأ على منبر القاهرة. واشتغل فى الحديث. فسارع الفاضل فى نجاز «1» الكتابين، وجعل أسد الدين يسارقه النظر، والفاضل يكتب كأنه يكتب من حفظه. وفرغ منهما إلى أسرع وقت. فقال أسد الدين: أقرأهما، فقرأهما. قال الأثير: والله لو حسن الرقص فى ذلك المكان، لرقصت!. فعند ذلك التفت إلىّ أسد الدين، وقال: يا قاضى، جزاك الله خيرا فى حقه. عندنا كتبة بالشام نأمرهم بالشىء، فيمضون ويقيمون اليوم واليومين، ولا يأتون به على الغرض. وهذا قلنا له كلمتين، كتب هذه الكتب التى لا نظير لها. وأقمنا عنده إلى صلاة المغرب، فقام للصلاة. فقال لى: تقدم. فقت: هذا أفضل منى، لأنى توليت المكوس «2» ، وهذا لم يل شيئا منها. فتقدم الفاضل وصلّى. واتصل به. هذا ما نقل عن الأثير بن بنان.

وقيل: إنه لما اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين، وأن الأثير كان يكتب بين يديه قبله، فاشتكى من بطئه فى المكاتبات، فقيل له: إن الأسعد البيسانى لم يكن فى الكتاب أرشق منه. فاستدعاه وأمره بكتاب، فكتب بين يديه وبالغ فيه، وأسرع فى نجازه وقرأه عليه. فعظم عند الملك الناصر، ونعته بالقاضى الفاضل. وكان له شعر حسن. وقيل: إن أول اتصال الفاضل بالدولة العبيديّة فى أيام العادل بن الصالح ابن رزّيك «1» . وأنه استخدم فى ديوان الجيوش، فأقام فيه مدة. فلما كانت دولة شاور الثانية، نقله إلى ديوان المكاتبات شريكا للموفّق بن الخلّال. فلم يزل إلى أيام أسد الدين، فاتفق له ما ذكرناه. ولما استقرّ الملك الناصر فى الملك، علت منزلته عنده، واختص به وقرب منه، وتمكن فى دولته. قال: ومن سعادة الفاضل أنه مات قبل ملك العادل، لأنه كان بينهما شحناء باطنة. ولما مات، صلىّ عليه الملك الأفضل. ودفن بسفح المقطم- رحمه الله. وقد ذكرنا من كلامه فى باب كتابة الإنشاء ما يدل على تمكنه وفضله.

واستهلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

واستهلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة ذكر الخلف الواقع بين الأمراء الصّلاحيّة «1» والسلطان الملك العادل قال المؤرخ: كان ابتداء فساد الحال بينهم فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وسبب ذلك أن الملك العادل لما ملك الديار المصرية أقطع الإقطاعات المخلولة عن الأمراء المنصرفين عن الخدمة، وحاسب المستمرين حسابا شديدا، فساءت ظنونهم وتغيرت قلوبهم، وفسدت نياتهم. وكان فارس الدين ميمون القصرى «2» مقيما بنابلس، فلما بلغه إسقاط خطبة الملك المنصور بن العزيز، واستقلال الملك العادل بالملك- عظم ذلك عليه ونفر منه، وأنكره. وكتب إلى الملك العادل يقول: «إنا دخلنا فى طاعتك، ونصرناك على موالينا: أولاد الملك الناصر، مراعاة للملك العزيز، وخوفا أن يتطرق إلى ولده ضرر ويزول عنه ملكه، ولا بد أن تعيده إلى حاله. وإن لم ترجع عما فعلت، كان ذلك سبب فساد قلوب الجند، ودخول الوهن على الدولة» . فغالطه العادل فى الجواب. فراسله ميمون ثانيا يقول إنا كنا حلفنا على قاعدة، فإن كانت تغيرت فلا يسعنا المقام بعد ذلك بهذه الدار، وأنا أسال أن أعطى دستورا «3» ليقوم

عند الله وعند الناس عذرى، فأرسل إليه الملك العادل، يقول: لم أدخل فى هذا الأمر إلا بعد أن رضى به الجماعة. فإن كرهت مجاورتى فصر إلى أرزن الروم» ، وتزوج بصاحبتها ماما «2» خاتون، فإنها أرسلت إلىّ وطلبت منى من أنفذه إليها. وكان «ميمون» قد كاتب الأمراء الصّلاحيّة، فأجابوه: «إنا قد افتضحنا بين الناس بأننا نقيم فى كل يوم ملكا، ونعزل آخر. ثم إلى من نسلم هذا الأمر؟ أما الملك الأفضل فغير أهل، وغيره من إخوته فغير عظيم فى الأنفس. والملك الظاهر بعيد عنا، ولا يمكنه أن يترك بلاده ويصير إلينا. قال: واتفق ورود رسل الملك الظاهر- صاحب حلب- إلى عمه العادل، فى شهر ربيع الآخر من السنة، وهما: نظام الدين كاتبه، وعلم الدين قيصر الصّلاحى. فلما وصلا إلى بلبيس، أرسل العادل إليهما أن لا يدخلا القاهرة. وأن يذكرا رسالتهما لقاضى بلبيس يبلغها عنهما، وإن لم يفعلا فيرجعا إلى صاحبهما. فعادا إلى الملك الظاهر، واجتمعا بميمون القصرى فى عودهما، ورغباه فى الخدمة الظاهرية. فمضى إلى صرخد «3» وبها الملك الظافر أخو الأفضل. ولحق بميمون جماعة من الصلاحية.

واعتزل عنه فخر الدين جهاركس «1» فى قلاعه- وكان معه بانياس «2» وتبنين «3» وشقيف أرنون «4» ووافقه على الاعتزال زين الدين قراجا، وأظهر الاعتزال عن الفريقين. وباطنهما مع الملك العادل. قال: ولما وصل ميمون إلى صرخد، كاتب الأفضل والظاهر ودعاهما إليه. وأنفذ إلى الملك الظاهر فخر الدين الطّنبا الجحاف «5» فلما وصل إليه، قوى عزم الملك الظاهر على الخروج. فراسل ميمون، وأخذ عليه وعلى من معه من الأمراء العهود والأيمان.

ثم قدم عليه أخوه الأفضل فى تاسع جمادى الأولى، وسارا إلى أفاميه «1» ، وبها قراقوش- مملوك شمس الدين بن المقدّم «2» - فأغلق الأبواب دونهما، وامتنع من تسليمها. فضرب الظاهر ابن المقدّم «3» تحت القلعة ضربا موجعا، بحيث يراه مملوكه قراقوش، فلم يكترث لذلك. وراسله ابن المقدّم فى تسليمها، فامتنع كل الامتناع. فلما أيس الظاهر منه أرسل ابن المقدم إلى حلب، وأمر باعتقاله بها. وسارا بعد ذلك إلى بعلبك لقصد دمشق، وسار إليهما ميمون القصرى ومن معه والملك الظافر، واجتمعوا بمكان يعرف بالزّرّاعة «4» . وتشاوروا على قصد دمشق، وبها يومئذ الملك المعظم عيسى بن العادل وهو صغير، والقيّم بأمره فلك الدين سليمان بن شروة بن جلدك- وهو أخو العادل لأمه- ومن الأمراء الأكابر عز الدّين أسامة «5» . فساروا بأجمعهم إلى دمشق، وحاصروها فى رابع عشر ذى القعدة، سنة سبع وتسعين، واشتد الحصار.

قال: ولما اتصل بالملك العادل خروج الظاهر من حلب، خرج من القاهرة فى شهر رمضان من السنة. وجدّ السير إلى أن نزل على نابلس، وجعل يعمل الحيل والمكايد بين الظاهر والأفضل، وإفساد قلوب الأمراء الذين مع الظاهر. وأرغب الملك الظاهر أنه إن فارق أخاه الأفضل يملكه قطعة من بلاد المشرق، التى بيد العادل. وكاتب الظاهر فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، وأرغبهما فى الانضمام إليه. فوقع الاتفاق معهما- بعد مراجعة- أن الأفضل يسلم لزين الدين قراجا صرخد وعشرة آلاف دينار، وللأمير فخر الدين جهاركس عشرين ألف دينار. واستقرت القاعدة على ذلك. فلما تسلما ذلك وصلا إلى الخدمة الظاهرية، واجتمعا بالأفضل والظاهر. ثم شرعا يستوقفان الأمراء عن حصار دمشق «1» . فاتصل ذلك بالملكين فهرب جهاركس وقراجا وصار إلى بانياس، فراسلهما الظاهر وقبّح فعلهما. فأعادا الجواب: إنا قد استشعرنا الخوف بسبب ما نسب إلينا. ونحن على الطاعة ومتى فتحت دمشق كنا فى خدمتكما. وجدّ الظاهر فى حصار دمشق إلى أن نزل وقاتل بنفسه، وجرح فى رجله بسهم. ثم هرب الطّنبا الهيجاوى من عسكر الظاهر وتلاه علاء الدين شقير، ودخلا دمشق. ودخل معهما

جماعة من المفاردة «1» فانحلّ لذلك عزم الظاهر، ورجع عن دمشق إلى بلاده وصحبه الملك الأفضل. وقيل: بل كان سبب الرجوع عن دمشق أن الاتفاق كان قد حصل بين الأخوين: الأفضل والظاهر، على أنه إذا فتحت دمشق كانت للأفضل. فإذا استقر بها، سار هو والظاهر إلى مصر، وقاتلا العادل، فإذا حصلت مصر لهما تكون حينئذ للأفضل، ودمشق للظاهر. فلما قوى الحصار على دمشق ولم يبق إلا فتحها، حسد الظاهر أخاه الأفضل عليها، وقال آخذها لنفسى. فلاطفه الأفضل وسأل أن ينعم بها عليه، فامتنع، وقال: إن فتحت تكون لى دونك. فلما أيس منه الأفضل، خرج من ساعته واجتمع بالأمراء، وقال: إن كنتم خرجتم إلى فقد أذنت لكم فى الرجوع إلى العادل، وإن كنتم خرجتم إلى أخى الظاهر فشأنكم وإياه. وكتب فى الوقت إلى عمه الملك العادل، وهو يطلب منه سميساط «2» وسروج «3» ورأس العين «4» ، فأعطاه ذلك، وحلف عليه. فلما اتصل ذلك بالظاهر كتب أيضا

إلى عمه العادل، يطلب منه منبج «1» وأفامية «2» وكفر طاب «3» ، فأعطاه ذلك. وارتحلا عن دمشق. فبقى الأفضل بسميساط، إلى أن مات. وعاد الظاهر إلى حلب. وصحبه ميمون القصرى. فأقطعه الظاهر إقطاعات عظيمة. وهى: أعزاز «4» وقلعتها، والخوار «5» وبلدها، ونهر الجوز «6» وبلده، وجسر «7» الحديد وبلدها، وأماكن متفرقة، وأكرمه إكراما تاما. وبقى فى خدمته، إلى أن مات فى سنة عشر وستمائة. وسار معه أيضا سرا سنقر والفارس البكّى، وجماعة الصّلاحيّة، وأقطعهم الإقطاعات الحسنة.

ذكر اتفاق الملوك الأيوبية وما استقر لكل منهم من الممالك

وكان رحيلهم عن دمشق فى ذى الحجة، سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وسار الملك العادل ودخل دمشق. واصطلح مع الملك المنصور صاحب حماه. وتزوج العادل ابنته. ذكر اتفاق الملوك الأيّوبيّة وما استقر لكل منهم من الممالك قال المؤرخ: ثم استقرت القاعدة بين الملوك، فى سنة تسع وتسعين وخمسمائة على أن يكون للملك العادل الديار المصرية، ودمشق والسواحل وبيت المقدس، وجميع ما هو فى يده ويد أولاده ببلاد الشرق. وأن يكون للملك الظاهر حلب وما معها. وأن يكون للملك المنصور- ناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب- حماه وأعمالها، والمعرّة وسلميّه «1» وبارين «2» . وأن يكون للملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه

حمص، والرّحبة «1» ، وتدمر «2» . وأن يكون للملك الأمجد، بن فرّخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب، بعلبك وأعمالها. وأن يكون للملك الأفضل، بن الملك الناصر، سميساط «3» وبلادها، لا غير. وأن يقطع الملك الظاهر خبز «4» عماد الدين المشطوب «5» ولا يستخدمه. فقطع خبزه، فصار إلى الملك العادل فلم يستخدمه، وقال له: تخدم بعض أولادى. فقصد الملك الأوحد، فلم يستخدمه. فاستخدمه الملك الأشرف، وندبه لحصار ماردين، وحلف له على أربعمائة فارس، إذا فتحت. فسار ابن المشطوب إليها وحاصرها، فأرسل صاحبها إلى الملك الأشرف خمسة آلاف دينار، فتركها. نعود إلى أخبار الملك العادل، فى أثناء هذه المدة التى قدمنا ذكرها، والحوادث التى وقعت فى خلالها.

ذكر خبر الزلزلة الحادثة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وغيرها

وفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فى ذى القعدة، اعتقل الملك العادل، الملك المؤيد والملك العزيز وهما: ابنا أخيه صلاح الدين يوسف. رحمه الله تعالى. ذكر خبر الزلزلة الحادثة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وغيرها وفى هذه السنة فى شعبان، جاءت زلزلة من الصعيد، فعمت الدنيا فى ساعة واحدة. وهدمت أماكن كثيرة بالديار المصرية، ومات تحت الهدم خلق كثير. وامتدت إلى الشام والساحل، فهدمت مدينة نابلس، فلم يبق بها جدار قائم إلا حارة السامرة «1» ، ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا. وهدمت عكا وصور وجميع قلاع الساحل. وامتدت إلى دمشق، فرمت بعض المنارة بالجامع، وأكثر الكلّاسة والبيمارستان النّورى، وعامة دور دمشق إلا القليل. وهرب الناس إلى الميادين. وسقط من الجامع ستة عشر شرفة «2» ، وتشققت قبّة النّسر «3»

وتهدمت بانياس «1» وهونين «2» وتبنين «3» . وخرج قوم من بعلبك يجمعون الرّيباس «4» من جبل لبنان، فالتقى عليهم الجبلان، فماتوا بأسرهم. وتهدمت قلعة بعلبك- مع عظم حجارتها. وامتدت إلى حمص، وحماه، وحلب، والعواصم. وقطعت البحر إلى قبرص، وانفرق البحر فصار أطوادا، وقذف بالمراكب إلى الساحل، فتكسرت. ثم امتدت إلى خلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة. وأحصى من هلك فى هذه السنة، بسبب هذه الزلزلة، فكانوا ألف ألف إنسان، ومائة ألف. وكانت قوة الزّلزلة، فى مبدأ الأمر، بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف. ثم دامت بعد ذلك أياما. حكى ذلك أبو المظفر يوسف سبط بن الجوزى «5» فى تاريخه: «مرآة الزمان» . وقد ذكرت زلزلة أيضا فى شعبان، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة،

وذكر مما حدث بسببها نحو هذا. فالله أعلم: هل هى هذه، أو هما اثنتان؟. وفى هذه السنة توفى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، الزّمام «1» ، فى مستهل شهر رجب بالقاهرة، وله من العمر ثمان وثمانون سنة: وهو الذى عمّر سور القاهرة، وقلعة الجبل «2» وقناطر نهيا «3» من الجيزة. وعمر بالمقس «4» رباطا، وبظاهر القاهرة- خارج باب الفتوح- سبيل. والناس ينسبون إليه فى ولايته أحكاما غريبة، حتى وضع الأسعد بن ممّاتى خبرا لطيفا، سماه «الفاشوش فى أحكام قراقوش» ، ذكر فيه أشياء يبعد وقوعها من مثله «5» ، فإن الملك الناصر صلاح الدين يوسف،

مع حسن تدبيره وسداد رأيه، كان يعتمد عليه فى المهمات الجليلة والمناصب العالية، وثوقا بمعرفته وكفايته. والله أعلم. ولما مات، أقطع الملك العادل إقطاعه لابنه الملك الكامل. وفيها، فى يوم الاثنين مستهل شهر رمضان، توفى بدمشق القاضى عماد الدين محمد بن محمد بن حامد، الأصفهانى، الكاتب، صاحب الخريدة، والرسائل المشهورة «1» . ومولده فى يوم الاثنين، ثانى جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وخمسمائة. وفيها كانت وفاة الشيخ جمال الدين أبو الفرج: عبد الرحمن، بن على، بن عبيد الله، بن حماد، بن أحمد، بن جعفر، الجوزى الواعظ، البكرى التّيمى ببغداد، فى الليلة المسفرة عن يوم الجمعة، ثالث عشر رمضان. ودفن يوم الجمعة عند قبر الإمام أحمد بن حنبل- رحمهما الله تعالى.

واستهلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة:

واستهلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة: ذكر عمارة المسجد الجامع بقاسيون فى هذه السنة، شرع الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى الحنبلى شيخ المقادسة- رحمه الله تعالى- فى بناء المسجد الجامع، بجبل قاسيون «1» . وكان بالجبل رجل فامى «2» ، يقال له أبو داود، فوضع أساسه وبلغ قامة، وأنفق عليه ما كان يملكه. وبلغ مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل ذلك، فبعث إلى الشيخ أبى عمر مالا يملكه، ووقف عليه وقفا. ثم أرسل ألف دينار. وأراد أن يسوق إليه الماء من برزه «3» ، فقال الملك المعظم عيسى: طريق الماء كلها مقابر، فكيف يجوز أن تنبش أموات المسلمين! وأشار أن يشترى بغل يدور بدولاب، ويشترى ببقية المال مكان يوقف عليه. ففعلوا ذلك. ذكر وفاة الملك المعز صاحب اليمن وقيام أخيه نجم الدين أيوب كانت وفاة الملك المعز: فتح الدين أبى الفدا إسماعيل، بن الملك العزيز، ظهير الدين أبى الفوارس: سيف الإسلام طعتكين «4» بن أيوب،

ملك اليمن بالقرو «1» من أعمال زبيد، فى شهر رجب سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وكان قد ادعى أنه من بنى أمية، وتلقب بألقاب الخلفاء، وهو الإمام الهادى بنور الله، المعز لدين الله، أمير المؤمنين. وغيّر زيّه، فلبس القميص الواسع والعمامة والطّيلسان. وكتب إليه عمه العادل ينكر عليه ذلك، فلم يجبه. وكان سبب ذلك أن الشعراء باليمن سموه فى مدائحهم بالخليفة، وفضلوه على من سواه. ومنهم من امتدحه بقوله: بنى العباس هاتوا ناظرونا.. وهى أبيات لم يقع منها غير هذا. ولما مات، قام بعده بملك اليمن أخوه: نجم الدين أيوب، وتلقب بالناصر. وكان دون البالغ، فقام بأمره سيف الدين: مملوك أبيه. وفيها توفى الرئيس مؤيّد الدين، أبو المعالى: أسعد، بن عز الدين أبى يعلى حمزة، بن القلانسى التّميمى «2» بدمشق، فجأة فى رابع عشرين شهر ربيع الأول. ومولده فى سابع عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائة.

وكان رئيس دمشق وكبيرها وصدرها. وسائر أهل البلد تحت حكمه، وهو المقدم عليهم. وكان الدماشقة فى الزمن الأول لكل طائفة منهم مقدم، يركبون «1» مع الملوك ويجاهدون «2» الفرنج. ولكل طائفة قطعة من السور يحفظونها، بغير إقطاع لهم على ذلك ولا جامكيّة «3» . وما برح الحال على ذلك إلى زمن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، فأبطل ذلك وقال: لا نقاتل بالعوام. وإنما فعل ذلك خوفا على نفسه منهم، فإنهم كانوا إذا طلبهم ملك قتلوه. ولما ولى الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل دمشق، شرع فى مصادرة أكابر دمشق واستئصال أموالهم. فاشتغلوا بالظلم عما كانوا بصدده، من ركوب الخيل وجمع السلاح، وغير ذلك. وكان مؤيّد الدين هذا رئيس دمشق فى زمانه، ومقدم الجماعة. بحيث أنه لا يباع من أملاك دمشق ملك، حتى يأتيه جماعة ويشهدون عنده أنه ملك البائع، انتقل إليه بالميراث أو الابتياع. فإذا ثبت ذلك عنده كتب بخطه فى ذيل الكتاب ليشهد فيه بالتبايع، فيشهد الشهود بعد ذلك. وخطه موجود فى الكتب القديمة بذلك. وكان رحمه الله تعالى من أرباب المروءات لمن قصده ولجأ إليه. وله نظم حسن، فمن نظمه: يا رب جد لى إذا ما ضمّنى جدثى ... برحمة منك تنجينى من النار أحسن إلىّ إذا أصبحت جارك فى ... لحدى، فإنك قد أوصيت بالجار

واستهلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة:

وتوفى والده عز الدين «1» حمزة يوم الجمعة، سابع شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ودفن بقاسيون. وكان فاضلا حسن الخط والنظم. وجمع تاريخا لحوادث سنة أربعمائة إلى حين وفاته- رحمهما الله تعالى. وفى يوم عيد النحر من هذه السنة، ورد إلى فوّه» مراكب الروم فنهبوها نهبا شديدا. واستهلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة: فى هذه السنة أخرج الملك العادل الملك المنصور، بن العزيز، من الديار المصرية إلى الرّها «3» . وفيها ملك الفرنج القسطنطينية من الروم. وخرج الفرنج منها لقصد الساحل. [فجمع الملك العادل عساكره وخرج إليهم. فاستقر الصلح بينه وبينهم على أن يكون لهم من بلاد المناصفات «4» أشياء، مثل الرّملة والناصرة.

ذكر حصار ماردين وما حصل من الاتفاق

وفيها بعث الخليفة- الناصر لدين الله- الخلع إلى الملك العادل وأولاده، وسراويلات الفتّوة «1» ، فلبسوها فى شهر رمضان «2» ] . ذكر حصار ماردين «3» وما حصل من الاتفاق وفى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، جمع السلطان الملك العادل عساكره، وفرق فيهم السلاح والأموال، وقدم عليهم ولده: الملك «الأشرف موسى» ، وأمره بالمسير إلى ماردين. فسار إليها وحاصرها، وشدد الحصار. فدخل الملك الظاهر غازى، صاحب حلب، فى الصلح بين عمه وصاحب ماردين. فأجاب الملك العادل إلى الصلح- على أن يخطب له صاحب ماردين فى جميع بلاده، ويضرب السّكّة باسمه، ويحمل إليه مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويكون عسكر ماردين فى خدمته، متى طلبه. فأجاب صاحب ماردين إلى ذلك. فرحل الملك الأشرف عنها، وحمل صاحب ماردين إلى الملك الظاهر عشرين ألف دينار، لتوسطه فى الصلح.

واستهلت سنة ستمائة

وحكى أن السبب فى حصار ماردين أن شاعرا، يقال له الكمال، قال: متى تقبل الرايات من أرض جلّق «1» ... وتنتزع الشهباء من كفّ أرتق «2» ! فبلغ هذا البيت أرتق صاحب ماردين، فاعتقل هذا الشاعر. فاتصل خبره بالملك العادل، فندب هذا الجيش إليها. والله أعلم. وفى هذه السنة- فى أواخرها- حصل الشروع فى عمارة سور قلعة دمشق. فابتدىء ببرج الزاوية القبلى منها، المجاور لباب النصر. وفيها ماجت النجوم شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر، يمينا وشمالا. ولم ينقل ذلك إلا فى مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، وفى سنة إحدى وأربعين ومائتين. ويقال إن هذه السنة كانت أكثر انتشارا. والله أعلم. واستهلت سنة ستمائة فى هذه السنة وصلت مراكب الفرنج من ساحل عكا إلى فوّه «3» ، فنهبوها وغنموا كثيرا من أطرافها. وأقاموا عليها خمسة أيام. وخرج بعض عساكر مصر فقاتلتهم.

واستهلت سنة إحدى وستمائة:

وفيها كانت وفاة الحافظ: عبد الغنى بن عبد الواحد بن على، ابن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسى الحنبلى، الجمّاعيلى. ولد بجمّاعيل «1» - وهى قرية من أعمال نابلس، فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وفيها، فى العاشر من جمادى الأولى، كانت وفاة القاضى السعيد أبو القاسم: هبة الله بن أبى الرّدّاد «2» - متولى المقياس بجزيرة مصر- وكان خطيب الجامع. واستهلت سنة إحدى وستمائة: فى هذه السنة رخصت أسعار الديار المصرية. وبلغ سعر القمح ستة أرادب بدينار. وفيها قدم الملك العادل من الشام فى ثالث جمادى الآخرة وتوجه إلى الإسكندرية، وحصّل منها أموالا جمّة.

واستهلت سنة اثنتين وستمائة:

وفيها، أخرج الملك الكامل أولاد الخليفة العاضد لدين «1» الله، وهم: داود والمظفّر، إلى الإيوان بالقصر، وقيدهم، وأخذ جميع ما كان عندهم من الأقمشة والأوانى وغير ذلك. وفيها ابتدأ الصاحب صفى الدين بن شكر بمصادرة أصحاب الدواوين، ومستخدمى الدولة والمتعينين، وأهانهم، لما كان فى باطنه منهم. وفيها توفى القاضى كمال الدين أبو السعادات: أحمد بن القاضى جلال الدين أبى المعالى شكر، بن محمود بن يعقوب اللّخمى. وكان ناظر الدواوين فى الأيام الناصرية والعزيزية. وكانت وفاته بثغر الإسكندرية. وهو الذى نوّه بذكر الصاحب صفى الدين ورباه، وصفىّ الدين ربيبه. كان جلال الدين شكر والمخلص أبو الحسن- والد الصاحب صفى الدين- إخوة لأم. واستهلت سنة اثنتين وستمائة: فى هذه السنة هدمت قنطرة الباب الشرقى بدمشق، وبلط بحجارتها صحن الجامع، وفرغ منها فى شهر رمضان سنة أربع وستمائة، وفيها فى شوال غير قبّة النّسر بجامع دمشق، عدة أضلاع من شماليها. والله أعلم.

واستهلت سنة ثلاث وستمائة:

واستهلت سنة ثلاث وستمائة: ذكر قصد العادل بلاد الفرنج فى هذه السنة فى جمادى الأولى، وقيل فى شعبان، خرج الملك العادل بعساكره وقصد عكا. فصالحه أهلها. فعاد إلى دمشق. وخرج الفرنج من طرابلس، وأغاروا على حمص. فخرج الملك العادل من دمشق، ونزل على بحيرة قدس «1» بظاهر حمص، وحضرت إليه عساكر البلاد. فأقام إلى آخر شهر رمضان. وتوجه يوم العيد إلى حصن الأكراد «2» ، وقاتل أشد قتال، وفتح برجا بالقرب من الحصن، وأخذ منه خمسمائة رجل وسلاحا. ثم سار إلى القليعات «3» ، فأخذها بعد حصار. وتقدم إلى طرابلس، وقاتل قتالا شديدا، وأقطع ثمارها. ثم أنس من عسكره فشلا، فعاد إلى حمص. فأنشذ إليه صاحب طرابلس وطلب الصلح، وأرسل مالا وأسرى. وفيها توفى الطواشى جمال الدين إقبال، الخادم الصّلاحى، من خدام

واستهلت سنة أربع وستمائة:

الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وكانت وفاته بالبيت المقدس، بعد أن وقف داريه بدمشق مدرستين: إحداهما على الطائفة الشافعية، والأخرى على طائفة الحنفية، ووقف عليهما أوقافا: جعل ثلثيها للشافعية وثلثها للحنفية. وذلك فى رابع عشر ذى القعدة. واستهلت سنة أربع وستمائة: ذكر انتقال السلطنة من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل وأول من سكن قلعة الجبل من الملوك الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل. وذلك فى سنة أربع وستمائة- وهو إذ ذاك ينوب عن والده بالديار المصرية. وأول من بدأ بعمارتها الملك الناصر صلاح الدين يوسف. فعمر بها برجا، وهو المطل على مشهد السيدة نفيسة. ثم كملت فى أيام الملك العادل. ونقل أولاد العاضد من القصر إلى قلعة الجبل، وبنى لهم بها مكان اعتقلوا فيه. فكانوا فيه إلى سنة إحدى وسبعين وستمائة. وتوفى الأمير داود فى هذه السنة. ذكر ورود رسل الخليفة الناصر لدين الله بالخلع للملك العادل وأولاده ووزيره كان السلطان الملك العادل قد جهز القاضى نجم الدين خليل الحنفى- قاضى عسكر الشام- رسولا إلى الخليفة الناصر لدين الله، فوصل إلى بغداد

فى هذه السنة فجهز الخليفة إلى السلطان رسولين، وهما: الشيخ شهاب الدين السّهروردى «1» ونور الدين سنقر الرّكنى الخليفتى. وأصحبهما الخلع للسلطان، ولولديه: الأشرف والمعظم، ولوزيره صفى الدين بن شكر، ولأستاذ داره شمس الدين إلدكز العادلى. وكانت خلعة السلطان جبة أطلس وسيعة الكم بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب مجوهر، وسيف جميع؟؟؟ ملبس بالذهب، وحصان أشهب بمركب ذهب، وقصبة ذهب عليها علم أسود، مكتوب عليه بالبياض. فتلقاها السلطان الملك العادل إلى الغسولة «2» بجميع عساكره، وعاد. ولبسوا الخلع من القصر إلى القلعة بدمشق. وحمل الأمير بدر الدين دلدرم التقليد على رأسه بين يدى السلطان، ودخلوا جميعهم من باب الحديد وقت أذان الظهر. وقرأ الوزير التقليد قائما، بمحضر من القضاة وبياض البلد، بإيوان القلعة، والسلطان وأولاده وسائر من حضر قياما إلى أن تكاملت قراءته. وتضمن التقليد تفويض البلاد إلى السلطان، وهى ديار مصر والساحل ودمشق، وبلاد الشرق وخلاط. وحضرت رسل الملوك: الظاهر صاحب

ذكر استيلاء الملك الأوحد بن السلطان الملك العادل على خلاط

حلب، والمنصور صاحب حماة، وصاحب حمص، ومع كل منهم ألف دينار، ينثرها على السلطان. فرسم السلطان بتوفير ذلك لرسول الخليفة. وسار الشيخ شهاب الدين ورفيقه إلى القاهرة، بخلعة الملك الكامل. فتلقاهما الملك الكامل، وزينت القاهرة ومصر لدخول الرسل. ولبس الكامل الخلعة الخليفية. ثم عاد الشيخ شهاب الدين السّهروردى ورفيقه إلى بغداد. وأصحبهما السلطان أستاذ داره شمس الدين، وصحبته التحف والألطاف. فوصل إلى بغداد فى سنة خمس وستمائة. فتلقى بالموكب. ونقم الخليفة على الشيخ شهاب الدين السهروردى كونه مد يده إلى الأموال وقبلها، وحضر دعوات الأمراء بالشام، منهم الأمير عز الدين سامه وغيره. وكان قبل ذلك قد اشتهر بالزهد. فاعتذر أنه إنما قبل الأموال ليفرقها فى الفقراء فلم يقبل عذره. ومنع من الوعظ، وأخذ منه الرّبط التى كانت بيده. وفرق الشيخ ما كان قد حصل له من الأموال- وكانت جملة طائلة- فاغتنى بها جماعة من الفقراء. وقبل الخليفة ما كان مع شمس الدين إلّدكز من الهدايا، وشرّفه وأعاده إلى مرسله. ذكر استيلاء الملك الأوحد بن السلطان الملك العادل على خلاط «1» وفى سنة أربع وستمائة، استولى الملك الأوحد: نجم الدين أيوب، بن الملك العادل على مدينة خلاط، بمكاتبة أهلها.

وكان سبب ذلك أن الهزار دينارى قتل صاحبها ابن بكتمر- وكان شابا لم يبلغ عشرين سنة- وقيل انه غرّقه فى بحر خلاط. وكانت أخته بنت بكتمر زوجة صاحب أرزن الروم «1» ، فقالت: لا أرضى إلا بقتل قاتل أخى. فسار صاحب أرزن إلى خلاط فخرج إليه الهزار دينارى وتبارزا، فقتله صاحب أرزن الروم. وعاد إلى أرزن. وبقيت خلاط بغير ملك. وكان الملك الأوحد- صاحب ميّافارقين «2» - يكاتبه أعيان خلاط. فجاء إليهم واستولى على المدينة. واشترط عليه مقدموها شروطا، وكانوا جبابرة، فقبل الشروط. ثم أبادهم- قتلا وتغريقا- وبدد شملهم. ومن عجيب ما اتفق أن الملك العادل، سيف الدين، كان له عدة أولاد، ليس فيهم أقبح صورة من الملك الأوحد هذا، فإنه كان قصيرا ألثغ زرىّ المنظر. فخرج مع والده وإخوته إلى الصيد. فأرسل والده بازيّا على طائر، فسقط البازى على رأس الأوحد، فضحك السلطان والده، وقال: قد صاد بازيّنا اليوم بومة! فانكسر خاطر الأوحد لذلك، وتألم وأسرّها فى نفسه. فلما قدر الله تعالى له بفتح خلاط، وخطب له بشاه أرمن على قاعدة ملوك خلاط، كتب إلى أبيه الملك العادل، يبشره بالفتح، ويقول له: إن البومة- التى صادها بازى مولانا السلطان فى اليوم الفلانى- قد اصطادت مدينة خلاط، وصارت شاه أرمن! وكان بين الواقعتين عشر سنين.

وفى هذه السنة، فى شهر رجب، وضعت الساعات بالمئذنة الشمالية بجامع دمشق. وفيها حصل الشروع فى عمارة البرج الذى يقابل المدرسة القيمازيّة «1» من قلعة دمشق. وفيها حدثت زلازل ورياح شديدة ببلاد خلاط.، وخسف بمكان الملك الأوحد بن الملك العادل قد نزل به ثم رحل عنه، قبل الخسف بليلة. وفيها كانت وفاة الأمير داود، بن الخليفة العاضد لدين الله، فى محبسه بقلعة الجبل. وكان دعاة الإسماعيلية يقولون إن العاضد نصّ عليه بالإمامة، وأنه صاحب الأمر بعده. وكان عظيما عند العامّة. فلما توفى انقطعت دعوة الإسماعيلية «2» وزال أمرهم. وأشهر العادل وفاته، فعظم موته على من هو يتوالى فيهم. فاستأذن الناس الملك الكامل فى النياحة عليه وندبه، فأذن لهم. فبرز النساء حاسرات، والرجال فى ثياب الصوف والشعر، وأخذوا فى ندبه والبكاء عليه. واشتهر من كان مستترا من الإسماعيلية. فلما اجتمعوا وكملوا، أرسل الملك الكامل جماعة من عسكره، فنهبوا ذلك الجمع، وقبض على المعروفين منهم، وملأ بهم الحبوس، واستصفى أموال ذوى اليسار منهم، وهرب جماعة آخرون. وزال أمر الإسماعيلية من الديار المصرية. ولم يتجاهر بعد ذلك أحد بمذهبهم.

واستهلت سنة خمسة وستمائة:

واستهلت سنة خمسة وستمائة: فى هذه السنة فى يوم الجمعة، خامس شهر رمضان، ولى قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن، بن عبد العلى، بن على، السّكّرى- القضاء بالديار المصرية. وذلك أن الملك العادل كان قد خرج إلى الشام فى شعبان، فلما وصل إلى العبّاسة «1» ، بلغه وفاة قاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن درباس. وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء، الخامس من شهر رجب، من هذه السنة. ومولده فى أواخر سنة ست عشرة، أو أوائل سنة سبع عشرة وخمسمائة. ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى. ولما اتصلت وفاته بالسلطان، استدعى الفقيه عماد الدين، فسار إلى العبّاسة. فولاه الحكم، وعاد «2» إلى القاهرة. فدخلها فى يوم الاثنين، ثامن الشهر. ولما وصل إلى مسجد التّبن، دخل إليه- ومسجد التبن بظاهر القاهرة- ولبس الطّرحة وألقى الطّيلسان «3» . وكانت العادة جارية أن لا يتطرح إلا من علم فضله واشتهر. وفيها كانت وفاة الملك الأمجد: مجد الدين حسن، بن السلطان الملك

واستهلت سنة ست وستمائة:

العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بالقدس- وهو شقيق الملك المعظم والملك العزيز- رحمهم الله تعالى. واستهلت سنة ست وستمائة: فى هذه السنة- وقيل فى سنة سبع- نزلت الكرج «1» على خلاط، وبها الملك الأوحد، بن الملك العادل. وملك الكرج اسمه إيرانى «2» . واتفق فى أمر هذا الحصار واقعة غريبة، ذكرها الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن إبراهيم الجزرى فى تاريخه: «حوادث الزمان» عمّن حكى لوالده، قال: كنت فى خلاط، وقد أشرف الكرج على فتحها، ولم يبق إلا دخولهم إليها. فبلغ الملك الأوحد أن منجم ايرانى قد حكم لصاحبه أنه متى زحف يوم السبت أول النهار، دخل خلاط، وجلس على تخت الملك، ولا يبيت ليلة الأحد إلا فى قلعتها. فأحضر الملك الأوحد منجمه، وذكر له ما بلغه، فقال له: لا تخف، فإن خلاط لا تخرج عن ملكك، وأنت مستظهر على الكرج.

واتفق أن إيرانى شرب الخمر، وركب فى جيوشه وقصد باب أرجيش «1» ، وحمل ليدخل البلد قبل أخيه، فكبا به فرسه فى حفيرة، فسقط إلى الأرض. واتفق خروج جماعة من القيمريّة «2» من ذلك الباب، ليدفعوا الكرج من البلد، فرأوا إرانى قد سقط، فحملوا على أصحابه وكشفوهم عنه، وأسروه. ودخلوا باب المدينة، وقد تجهز الملك الأوحد للهزيمة، فجلس فى القلعة أمام تخت المملكة على كرسى. وكان بقلعة خلاط تخت عظيم، لا يجلس عليه الملك إلا فى يوم ملكه، ثم لا يعود يجلس عليه. فلما أحضر ملك الكرج إليه، تلقاه وأكرمه، وأجلسه على تخت الملك وجلس بين يديه على كرسى، وقال له: البلاد لك. فكتب إيرانى إلى أخيه، وإلى الكرج، بالانصراف عن البلد، فرحلوا. وتحالف الملك الأوحد وملك الكرج على الموافقة والمعاضدة. وتزوج الملك الأوحد ابنة إيرانى، وجهزه إلى مدينته تفليس، بعد أن استأذن والده على ذلك، فأذن له. ويقال كان إطلاقه فى ثانى عشر جمادى الأولى، سنة سبع وستمائة. والله أعلم. وزفّت البنت إلى الملك الأوحد بعد ذلك، وهى على دينها، وبنى لها بيعة بقلعة خلاط. وأطلق الكرج القلاع التى كانت أخذت- وهى إحدى وعشرون قلعة- ومائة ألف دينار. ووافق قول كل من المنجمين: جلس الكرجى على تخت الملك، وبات بالقلعة، وانتصر الأوحد.

ذكر حصار الملك العادل سنجار ورجوعه عنها وأخذ نصيبين والخابور

وفيها جهز الملك العادل جمال الدين المصرى «1» رسولا إلى الخليفة. فأدى، وأعيد. وصحبه من الديوان العزيز ابن الضحاك وأقباش «2» الناصرى. فاجتمعوا بالسلطان الملك العادل على رأس العين. ذكر حصار الملك العادل سنجار ورجوعه عنها وأخذ نصيبين والخابور وفى سنة ست وستمائة، سار الملك العادل إلى سنجار «3» - وصاحبها، يوم ذاك، قطب الدين بن عماد الدين زنكى. فلما خيم بظاهرها، أخرج صاحبها نساءه وخدمه، يسألن العادل إبقاء المدينة عليه. فلما حصلن عنده، أمر باعتقالهن. وأرسل إلى قطب الدين، يقول: انه لا يطلقهن إلا بعد تسليم البلد. فاضطر إلى موافقته. وتقررت الحال بينهما: أن يعوض قطب الدين الرّقّة وسروج وضياع فى بلاد حرّان. فأطلق العادل النسوة، وأرسل أعلامه إلى البلد، فلما دخلن البلد، ودخلت الأعلام العادلية، أمر قطب الدين بغلق الأبواب وتكسير الأعلام. وأرسل إلى العادل، يقول: غدرة بغدرة، والبادى أظلم.

فحاصرها العادل، وقطع أشجارها وهدم جواسقها. فانتصر صاحب الموصل لصاحب سنجار، خوفا على بلاده. وراسل مظفر الدين صاحب إربل، وكان بينهما وحشة. وكان من جملة رسالة صاحب الموصل له: أن الأحقاد تذهبها الشدائد. فراسل مظفر الدين العادل، يشفع عنده فى صاحب سنجار. فرد رسوله أقبح رد. فمضى إلى صاحب الموصل، واتفق معه، وراسلا صاحب الجزيرة. وأرسل مظفر الدين إلى صاحب سنجار، يشير عليه بمراسلة الخليفة. فأرسل إليه، فمضى الرسول إلى بغداد. فأرسل الخليفة إلى العادل، يشفع عنده فى صاحب سنجار. فلم يجب العادل لذلك. فغضب رسول الخليفة، وعاد إلى الموصل، وقال لمن بها من الملوك: قد أذن لكم أمير المؤمنين فى قتال العادل. فكتبوا إلى الملك الظاهر صاحب حلب، وأغروه بعمه. فأرسل أخاه الملك المؤيد: نجم الدين مسعود إلى عمه، يشفع فى صاحب سنجار. فرده أقبح رد. فبرز الظاهر من حلب، فى ثامن شعبان، لقصد العادل. فتفرقت عساكره، والتحق بعضها بالعادل. ثم رأى أهل سنجار أن من خرج منهم غضبه عسكر العادل، وفسقوا بمن خرج من النساء، فقاتلوا قتال الحريم. فاضطر العادل إلى الصلح مع صاحب سنجار. فتقرر أن يسلموا إلى العادل: نصيبين والخابور، ويحملوا إليه مالا. ففعل، وفارق سنجار. وفيها كانت وفاة الملك المؤيّد: نجم الدين مسعود بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، برأس عين، عند منصرفه من عند عمه الملك

العادل، برسالة أخيه بسبب سنجار. وكان قد نام فى بيت مع ثلاثة نفر، وعندهم منقل فيه نار، والبيت بغير منفذ، فانعكس البخار فأخذ على أنفاسهم، فماتوا جميعا فحمل المؤيد فى محفة إلى حلب، فدفن بها وفيها توفى الشيخ الإمام العلامة: فخر الدين أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين بن على بن محمد، التّيمى البكرى الطّبرستانى الأصل، الرّازى- المعروف بابن خطيب الرّىّ، الفقيه الشافعى، صاحب التصانيف المشهورة «1» . وكانت وفاته بهراه «2» فى يوم الاثنين- وهو يوم عيد الفطر- سنة ست وستمائة. ومولده فى خامس عشر شهر رمضان، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وفيها كانت وفاة القاضى الأسعد: أبى المكارم أسعد بن الخطير أبى سعيد، مهذّب بن مينا بن زكريا بن أبى قدامة، بن أبى مليح ممّاتى، المصرى الكاتب الشاعر. كان يتولى نظر الدّواوين بالديار المصرية. وكان نصرانيا فأسلم فى ابتداء الدولة الناصرية الصلاحية، هو وجماعته. وله مصنفات عديدة: نظم سيرة الملك الناصر صلاح الدين، ونظم كتاب كليلة ودمنة. وله ديوان شعر. وباشر ديوان الجيش الصّلاحى، ثم ولى نظر الدواوين. وخاف الصاحب صفى الدين بن شكر فهرب إلى حلب، والتحق بالملك الظاهر صاحبها.

واستهلت سنة سبع وستمائة:

وكانت وفاته بحلب فى سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة، وعمره اثنتان وستون سنة. ودفن بالمقبرة المعروفة بالمقام، على جانب الطريق بالقرب من مشهد الشيخ الهروى. وممّاتى لقب أبى المليح جده الأعلى. وسبب تلقيبه بهذا اللقب أنه وقع بمصر غلاء عظيم، وكان كثير الصدقة والإطعام، خصوصا لأطفال المسلمين، وكان الأطفال إذ رأوه نادوه: ممّاتى، فغلب عليه. حكى ذلك ابن خلّكان عن الحافظ زكىّ الدين عبد العظيم- رحمه الله تعالى. واستهلت سنة سبع وستمائة: فى هذه السنة- فى يوم الاثنين الثانى والعشرين من شعبان- قدم الملك العادل إلى القاهرة، وصحبته الصاحب صفى الدين عبد الله بن شكر. ثم توجه إلى الطّور «1» لعمارته. وفى هذه السنة، فى سابع شوال، حصل الشروع فى عمارة مصلّى ظاهر دمشق، وهى المجاورة لمسجد النارنج، فعمرت لصلاة العيدين، ثم عمل بالمصلى رواقات فى سنة ثلاث عشرة وستمائة، وعملت حيطانه ورتب فيه خطيب لإقامة صلاة الجمعة فى سابع عشر من شهر رمضان. وفيها، فى حادى عشر من شهر شوال جددت أبواب جامع دمشق من جهة باب البريد، وعملت بالنحاس الأصفر وركبت. وفى سادس عشر من شوال حصل الشروع فى إصلاح الفوارة بجيرون «2» . وعمل الشّاذروان والبركة

واستهلت سنة ثمان وستمائة:

بساحتها، واتخذ فيها مسجد بإمام راتب. وأول من رتب فيه- بأمر الصاحب صفى الدين بن شكر- الشيخ نفيس الدين المصرى، كان يلقب بوق الجامع لقوة صوته، وكان حسن الصوت. وفيها فى سابع عشر من ذى القعدة، وصلت مراكب الفرنج إلى ثغر دمياط، على غرّة من أهله. فنهبوا أطراف الثغر، وأسروا جماعة من المسلمين. واستهلت سنة ثمان وستمائة: والسلطان الملك العادل، وابنه الملك المعظم، نازلان بالمخيّم على الطور «1» ، ومعهما العساكر، لعمارة حصنه. وهما مجتهدان فى إدارته حوشا. ذكر بناء القبة على ضريح الإمام الشافعى- رحمه الله تعالى- وعمارة السوق كان ابتداء عمارة هذه القبّة فى سنة ثمان وستمائة وكانت أرض هذا المكان مقبرة عتيقة. فاتفق أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف أنشأ المدرسة المجاورة للضريح. فلما كان فى هذه السنة، فى خامس عشر من صفر، توفيت والدة الملك الكامل، وكان الملك الكامل، قبل وفاتها بأيام، ركب وطوّف القرافة على مكان يبنيه عليها، ويجعل فيه سوقا. فوقع الاختيار على دفنها بالضريح. فلما توفيت، دفنها وعمر عليها هذه القبة الموجودة الآن.

وغرم عليها أموالا جليلة المقدار، أجرى إليها الماء الحلو من بركة الحبش «1» وانتقل البناء من القرافة الكبرى إلى هذا الموضع. ثم تغالى الناس بعد ذلك فى العمائر بالقرافة وزخرفوها، حتى صارت على ماهى عليه الآن. وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير فخر الدين أبى المنصور، أياز جهاركس، الناصرى الصلاحى، بدمشق فى صفر، ودفن بقاسيون. وكان الملك العادل قد أقطعه بانياس وتبنين والشّقيف وهونين «2» وتلك البلاد، لأجل انحرافه عن الملك الأفضل، ابن أخيه الملك الناصر. ولما مات جهاركس، أقر السلطان ما كان بيده على ابنيه. وقام بالأمر والتدبير الأمير صارم الدين خطلبا التّبنينى أحسن قيام، وسد تلك الثغور. واشترى صارم الدين ضيعة بوادى بردى «3» تسمى الكفر، ووقفها على تربة جهاركس، وعمر له قبة. وفيها توفى الأمير صارم الدين برغش العادلى، بدمشق، فى ثالث وعشرين صفر، ودفن بقاسيون غربى بالجامع المظّفرى.

واستهلت سنة تسع وستمائة:

واستهلت سنة تسع وستمائة: ذكر عزل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر وولاية الصاحب الأعز بن شكر وفى يوم الاثنين، لسبع مضين من شهر ربيع الأول، سنة تسع وستمائة، صرف الصاحب صفى الدين من الوزارة والزم داره. ونحن الآن نذكر فى هذا الموضع سبب اتصاله بخدمة السلطان العادل، وموجب انفصاله. كان قد اتصل بالخدمة العادلية فى أواخر الأيام الناصرية. فلما مات ابن النّحّال النصرانى- كاتب الملك العادل- تقدم صفى الدين، فرآه شهما مقداما فقدمه، وتمكن من دولته. فلما كانت حادثة الأفضل، ورجوعه عن دمشق بعد حصارها، وخرج العادل فى طلبه اجتاز بالبيت المقدس، ومعه صفى الدين، فتحلف معه أنه إن قدّر الله تعالى له بملك الديار المصرية، يمكنه من المصريين، وحلفه على ذلك فحلف له. فلما ملك العادل الديار المصرية، لم يتمكن صفى الدين من مصادرات المصريين، لأمرين: أحدهما ما حل بالناس من الغلاء المشهور، والثانى ملازمة العادل ببلاد الشام. فلم يزل كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة عند قدوم العادل من الشام، فأمسك الصاحب جماعة من رؤساء المصريين، وأصحاب الدواوين والمستخدمين وغيرهم، وعاقبهم أشد عقوبة ونكّل بهم، وفعل بهم ما أوجب حقد الناس عليه. وكثر بطشه بالناس، وأقام لنفسه حرمة عظيمة زادت على حرمة السلطان وعظم أمره، حتى كان أولاد

الملك العادل يأتون إلى داره فيجلسون على بابه، حتى يؤذن لهم، فثقل ذلك على أمراء الدولة وخاطبوا السلطان فى أمره، وهو لا يسمع فيه كلام متكلّم. فلما كان فى سنة ست وستمائة- والسلطان على سنجار- اتفق أن الصاحب تحدّث معه فى شىء، لم يوافق رأى السلطان، فتوقف عن إجابته. فقام الصاحب من مجلس السلطان، وقد غضب، وجرح جرحا مفرطا فى المجلس، حتى خجل العادل ممن حضره، ووجدوا للكلام مجالا فتكلموا فيه. وكان العادل من أثبت الناس، وأحلمهم وأقلهم بطشا، وصفىّ الدين بخلاف ذلك. فبقيت هذه الحادثة فى نفس السلطان كامنة. وكان القاضى الأعز بن شكر فى هذه السفرة نائب الوزارة بالديار المصرية، وهو ناظر الدواوين بها فى خدمة الملك الكامل، فحصل بينهما مودة. فحسده من كان ينوب عن الصاحب فى الوزارة قبله. وكانوا يكاتبون «1» الصاحب ويقولون له إنّ الأعز قد توثب عليك، واتصل بالكامل وتمكن منه. فلما كان فى ذى الحجة، سنة سبع وستمائة، اجتمع بنو شكر عند الصاحب على طعامه. فأشار أن توضع زبديّة «2» طعام مخصوص بين يدى الموفق- وهو أحد من كان ينوب عن الوزارة- فقال أحد الحاضرين: يده طويلة! - يريد أنها تطول لمكان الزبدية. فقال آخر: طوّلها الذى صرفه من نيابة الوزارة- يعرض به أنه كان يتبرطل! فضحك الأعز ضحكا مفرطا،

بمعنى أنه أمين، ليس فيه ما يقال كما قيل فى غيره! فغضب الصاحب لذلك وانتهره، لإساءته فى مجلسه بالضحك. فأسرع الأعز فى القيام إلى داره. فلما قام، قال بعض من حضر للصاحب: لا تأمنه من سوء يكيدك به. وأغروه به، فأمر باحضاره. فلما جاءه الرسول، علم أنه إن وقع فى يده لا يأمنه على نفسه. فتسّور من مكان فى داره، وطلع إلى القلعة، واحتمى بالكامل. فلما سمع الصاحب بذلك طلبه من الكامل، فدافعه به. فغضب واجتمع بالملك العادل، وقال: ان الأعز لزمه حساب، وقد أحماه الكامل علينا. وكرر عليه القول. فتحدث العادل مع ابنه الكامل فى ذلك، فقال: يصلح بينهما. وقصد الكامل بذلك مدافعة الأيام، ليقع سفر العادل إلى الشام معه، فيسكن ما عند الصاحب منه، فلم يزده ذلك إلا حنقا. فلما كان فى آخر ذى الحجة- سنة ثمان وستمائة- ركب الكامل إلى دار الوزارة، وحضر مجلس الوزير، والأعز معه، وأصلح بينهما. فاصطلحا ظاهرا، والبواطن بخلاف ذلك. وقصد الصاحب أن الأعز إذا انصرف إلى داره، قبض عليه، فلم يفارق الأعز الخدمة الكاملية بالقلعة. فازداد الصاحب حنقا عليه، وتحدث مع العادل أن يعزله عن نظر الدواوين. فتوقف السلطان فى ذلك. وتمادى الأمر، إلى آخر صفر. فامتنع الصاحب من الكتابة على المناشير والتّواقيع، وحلف أنه لا يباشر والأعزّ يكتب معه أيدا. فتعطلت أحوال الناس، وشكوا ذلك إلى السلطان. فأرسل إلى الصاحب بروضه،

ويقول: لا بد أن أمكّنك من الأعز، وهو لا يزداد إلا غضبا وإساءة فى الجواب. فإذا عاد رسول السلطان إليه، لا يمكنه مخاطبته بما قاله الصاحب، ويغالط فى الجواب. فأرسل السلطان بعض الأمراء إلى الصاحب برسالة، ومعه أحد مماليكه، وقال له احفظ ما يقوله الصاحب، وأعده علىّ. فكان من جملة قول الصاحب: والله لا كتبت والأعز يكتب معى أبدا. فعند ذلك، خرج السلطان على ابنه الكامل وانتهره، وأغلظ فى القول، وقال: يسلّم الأعز إلى الصاحب فى هذه الساعة!. فلما عاد الكامل إلى القلعة، تلقاه الأعز على عادته. فقال: قد أمر السلطان بتسليمك للصاحب، وخرج علىّ بسببك، وعجزت عن حمايتك. فقال له الأعز: يا مولانا، والله عداوتى للصاحب بسببك! وهو أنه كاتبنى فى حقك أنه لا بد أن يعمل على صرفك من مملكة الديار المصرية، وأن يجعل عوضا عنك الأشرف موسى. وهذه كتبه إلىّ. فلما وقف الكامل على الكتب كان من جملة ما تضمنته: «وأما هذا المجنون- يشير إلى الكامل- فلا بد من صرفه، وإحضار الأشرف إلى الدّيار المصرية» . وتضمنت من سبه وشتمه كثيرا. فعاد الكامل للعادل، والكتب معه، وجاء فى غير الوقت المعتاد. فقال له العادل: ما جاء بك الآن؟ فقال: هذا الصاحب يريد أن يوقع بين السلطان وأولاده، وبين الإخوة. هذه كتبه للأعز، وعداوته بسببها. فلما وقف العادل عليها، عظم عليه سبه لابنه- وكان العادل يدارى جميع أولاده، خوفا أن يقوم أحدهم عليه، فتنخرق حرمته- فقال نعزله، ولا يسلّم إليه الأعز. ويكتب الأعز وحده.

ذكر حادثة الأمير عز الدين أسامة واعتقاله والاستيلاء على قلاعه

فخرج الكامل لوقته، واستدعى الأعز فخر الدين أبا الفوارس مقدام، بن القاضى جمال الدين أحمد بن شكر. وأمر أمير جانداره «1» بجمع الدواوين وتسليمهم للأعز. فسلمهم إليه. وجلس الصاحب الأعز، وتحدث فى الوزارة لوقته. وقام الصاحب صفى الدين من مجلس الوزراة ولازم داره. ثم كان من خبر مصادرته، وإخراجه من الديار المصرية ما نذكره- إن شاء الله تعالى. ذكر حادثة الأمير عز الدين أسامة واعتقاله والاستيلاء على قلاعه كان الأمير عز الدين أسامة الجبلى من أكابر الأمراء، وصهر الملك العادل. وهو الذى بنى الجسر الذى على نهر الأردن، المعروف بجسر أسامة. وقيل أنه هو الذى بنى قلعة عجلون «2» . وكانت داره بدمشق، التى هى الآن

المدرسة البادرائيّة «1» بدمشق. فاتهمه السلطان بمباطنة الملك الظاهر صاحب حلب، واستوحش هو أيضا من السلطان الملك العادل وأولاده، فقصد الانحياز إلى قلاعه- وكان له عجلون وقلعة كوكب «2» . واتفق أن السلطان توجه فى هذه السنة إلى ثغر دمياط، وصحبته أولاده الملك الكامل والملك المعظم والملك الفائز، فاغتنم عز الدين أسامة غيبتهم، وركب من القاهرة فى يوم الاثنين سلخ جمادى الآخرة، وخرج وأظهر أنه يريد الصيد. فلما مر ببلبيس، بطق «3» متوليها إلى السلطان يخبره. فقال الملك العادل: من ساق خلفه فله أمواله وقلاعه. فانتدب الملك المعظم لذلك. وركب من ثغر دمياط ليلة الثلاثاء، غرة شهر رجب. وساق فى ثمانية ممن يعتمد عليهم، وعلى يده حصان جنيب «4» فوصل إلى غزة صبح الجمعة،

وسبق أسامة إليها، وأمسك عليه الطرق. وأما أسامة فإنه تقطعت عنه مماليكه ومن كان معه، وبقى وحده، وبه مرض النّقرس. ووصل إلى الدّاروم «1» فعرفه بعض الصيادين، فأعطاه أسامة ألف دينار، وقال: خذ هذه وأوصلنى إلى الشام. فأخذه وجاء إلى رفاقه فعرفوه، وتوجهوا به على طريق الخليل، ليتوجهوا به إلى عجلون. فوصلوا به إلى القدس، فى يوم الأحد سادس من شهر رجب. ونزل بصهيون- وهى ضيعة بالقدس. وعلم به الملك المعظم، فأرسل إليه بثياب وطعام، ولاطفه، وقال له أنت شيخ كبير ما يصلح لك الحصون، فسلّم الىّ كوكب وعجلون. وقال أنا أحلف لك على مالك وملكك وجميع أسبابك، وتعيش بيننا مثل الوالد. فامتنع من ذلك، وسب المعظم أقبح سب. فلما يئس منه، بعث به إلى الكرك «2» واعتقله بها واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره. فكان قيمة ما أخذ له ألف ألف دينار. وأما السلطان الملك العادل فانه كان توجه فى العشرين من جمادى الأولى إلى ثغر دمياط، وتوجه منه إلى ثغر الاسكندرية، ثم عاد وتوجه إلى الشام، فى ثانى شوال من هذه السنة. وحاصر كوكب أشد حصار، واستولى عليها. وأخذ منها أموالا عظيمة وهدمها وعفّى أثرها. وذلك فى العشر الأوسط من ذى القعدة

ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط واستيلاء أخيه الملك الأشرف عليها

ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط واستيلاء أخيه الملك الأشرف عليها وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك الأوحد نجم الدين أيوب، بن السلطان الملك العادل، وهو صاحب خلاط. وكانت وفاته بملازكرد «1» فى ثامن شهر ربيع الأول، ودفن بها. وكان قد استزار أخاه الملك الأشرف من حرّان، فأقام عنده أياما. واشتد مرضه، فقصد الأشرف الرجوع إلى حرّان لئلا يتخيّل «2» منه الأوحد. فقال له الأوحد: يا أخى كم تلح؟ والله، إنى ميت، وأنت تأخذ البلاد! ثم مات. فدفنه الملك الأشرف. وجاء إلى خلاط، واستولى عليها، وعلى ما بها من الأموال. فتوجه الملك العادل إليه، وقد غضب لكونه «3» فعل بغير أمره. فلما وصل إليها، اعتذر الملك الأشرف أنه إنما فعل ذلك خوفا أن يسبقه غيره من ملوك الأطراف إليها، فقبل عذره، واستمر به فيها «4» . وأنعم السلطان على ولده الملك المظفر شهاب الدين غازى بميّافارقين وأعمالها.

واستهلت سنة عشر وستمائة:

واستهلت سنة عشر وستمائة: ذكر قيام أهل مصر على الملك الكامل، ورجمه وفى جمادى الأولى سنة عشر وستمائة، شغب العوامّ بمصر على الملك الكامل ورجموه، وسبب ذلك أن أبا شاكر النصرانى الطبيب كان الملك الكامل يميل إليه، وكان إلى جانب الكنيسة المعلّقة بمصر مسجد قد عفى أثره، فقصد العوام تجديده. فامتنع الكامل من إجابتهم إلى ذلك، بسبب أبى شاكر. فثار العوام، وقالوا لا بد من عمارته. فركب الملك الكامل من القلعة، وجاء إلى الكنيسة المعلّقة «1» ، وكشف المكان بنفسه. فلما شاهده، قال: ما كان هذا مسجدا قط. فاستغاث العوام، وشغبوا ورموه بالحجارة، فهرب منهم إلى القلعة. وفيها توجه الملك الظافر الخضر، بن السلطان الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب، من حلب لقصد الحج. فنزل بالقابون «2» فى يوم الأحد رابع شوال، ثم انتقل إلى مسجد القدم «3» فى خامس الشهر. وكان الملك المعظم بحوران، فوصل إلى دمشق، وأدخله إليها وعمل له ضيافة. ثم توجه

إلى الحجاز، صحبة الركب الشامى، فلما وصل إلى المدينة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحرم بالحج من ذى الحليفة «1» ، فلما انتهى إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه من مصر إلى بدر، خوفا منه أن يتوجه إلى اليمن. فقالوا له: ترجع. فعلم مرادهم. فقال إنه قد بقى بينى وبين مكة مسافة يسيرة، وانى قد أحرمت. وو الله ما قصدى اليمن ولا أقصد غير الحج، فقيدونى، واحتاطوا بى، حتى أقضى المناسك وأعود. فلم يوافقوه على ذلك، وأعادوه إلى الشام فصنع كما صنع النبى صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت: قصّر وذبح ما تيسر، وعاد إلى الشام. وفيها توفى الأمير فارس الدين ميمون القصرى بحلب فى رابع عشر من شهر رمضان. وكان من أكابر الأمراء الناصرية. وكانت أعزاز «2» اقطاعه. وخلف أموالا جمّة. وهذه النسبة إلى القصر الذى بالقاهرة، كان تربّى «3» فيه- رحمه الله.

واستهلت سنة إحدى عشرة وستمائة:

واستهلت سنة إحدى عشرة وستمائة: ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل على اليمن وفى هذه السنة جهز الملك الكامل ابنه الملك المسعود، صلاح الدين أتسز- وهو أقسيس «1» - إلى الحجاز، ويتوجه من هناك إلى اليمن. وكان سبب إرساله إلى اليمن أن الناصر أيوب، بن سيف الإسلام بن أيوب، قد توفى، واستولى على اليمن سليمان بن شاهنشاه، بن تقى الدين عمر، بن شاهنشاه بن أيوب- باتفاق من أجنادها- وتزوج بأم الناصر. ووصل الخبر إلى الملك الكامل بذلك، فجهز ابنه الملك المسعود. فرحل من بركة الجبّ «2» فى يوم الاثنين، سابع عشر من شهر رمضان، ومعه ألف فارس، ومن الجانداريّة «3» والرّماة خمسمائة و [كان] ذلك بعد أن سيره إلى خدمة السلطان الملك العادل بدمشق، ولقبه بالملك المسعود، وأعاده إلى القاهرة.

فتوجه إلى مكة- شرفها الله تعالى، فلما قضى مناسك الحج توجه إلى بلاد اليمن. فكان وصوله إلى زبيد فى يوم السبت مستهل المحرم، سنة ثنتى عشرة وستمائة. فملكها من غير قتال، وتسلم ثمانية حصون من تهامة. وندب قطعة من العسكر لحصار تعزّ «1» - وكان سليمان قد تحصن بها- ففتح الحصن فى ثالث صفر، ودخله العسكر المسعودى، ومسك سليمان واعتقل. ثم جهزه إلى الديار المصرية هو زوجته. وكانت صنعاء فى يد عبد الله بن حمزة- المدعى الخلافة- فجرد الملك المسعود إليه عسكرا، فوصل العسكر إلى صنعاء فى مستهل جمادى الأولى. فهرب عبد الله لما سمع بقرب العسكر، وجعل لا يخرج من مدينة إلا بعد تخريب أسوارها، وتعفية ما يستطيع من أثرها، وهدم منار المساجد، ولحق بالجبال وتعلق بها. وملك الملك المسعود البلاد. وكان جبّارا فاتكا، فيقال إنه قتل باليمن ثمانمائة شريف، وخلقا كثيرا من الأكابر. وفيها استولى الملك المعظّم- شرف الدين عيسى- على قلعة صرخد «2» ، وأخذها من ابن قراجا، وعوضه عنها مالا وإقطاعا، وأعطاها لمملوكه، أستاذ داره عز الدين أيبك المعظمى. فبقيت فى يده إلى أن أخرجه منها الملك الصالح نجم الدين أيوب، فى سنة أربع وأربعين وستمائة.

واستهلت سنة ثنتى عشرة وستمائة:

وفيها أحدثت المعاملة بالقراطيس السّود العادلية بدمشق، كما يتعامل الناس بالورق بالديار المصرية. فبقيت زمانا، ثم بطل ضربها وتناقصت من أيدى الناس، إلى أن توفى الملك العادل. وفيها توجه الملك المعظم شرف الدين عيسى، بن الملك العادل، من دمشق إلى الحجاز. وجدد فى الطريق البرك والمصانع والمناهل، وأحسن إلى الناس، وتصدق، وحجّ قارنا- وكان حنفىّ المذهب- وعاد إلى الشّام. وفيها اهتم السلطان- الملك العادل- بعمل الميدان الذى بسوق الخيل، بظاهر القاهرة، والفساقى المجاورة لها. وفيها، فى ثالث شهر ربيع الأول، فوض تدريس الحنفية، بالمدرسة النّورية بدمشق، للشيخ جمال الدين محمد بن الحصيرى «1» العجمى. وحضر الملك المعظم درسه مع الفقهاء. واستهلت سنة ثنتى عشرة وستمائة: فى هذه السنة، وصل الملك المعظم شرف الدين عيسى من الحجاز، وصحبته الأمير السيد الشريف: سالم بن قاسم «2» ، أمير المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وكان قد شكى من قتادة: أمير مكة، فوعده بالمساعدة عليه. فلما وصل الآن معه، اجتمع بالسلطان الملك

العادل- وكان بخربة اللّصوص «1» - وقدّم الشريف إلى السلطان ما أحضره- على سبيل الهدية- من تحف الحجاز، وعشرين فرسا من خيل الحجاز، فأكرمه السلطان. واستخدم معه جماعة من أمراء التركمان والرجال، فتوجه بهم فى ثالث عشر شعبان. واتفقت وفاته قبل وصوله إلى المدينة، فقام ولد أخيه الأمير جمّاز بن شيحه بالأمر بعد عمه، واجتمع أهله على طاعته. فمضى من كان مع عمه لقصد قتادة أمير مكة. فجمع قتادة «2» عسكره وأصحابه والتقوا بوادى الصّفراء «3» . وكان الظفر لجمّاز ومن معه، واستولوا على عسكر قتاده، قتلا ونهبا وأسرا. وانهزم قتادة إلى الينبع «4» وتحصن بقلعته، فتبعوه وحصروه.

ثم عاد من كان مع الأمير سالم من التركمان وغيرهم، صحبة الناهض ابن الجرخى، وفى صحبتهم كثير مما غنموه، من أموال قتادة ومن النساء والصبيان. وظهر منهم جماعة من الأشراف، فسلموا إلى أكابر أشراف دمشق، ليكفلوهم ويشركوهم فى وقف الأشراف وفى هذه السنة حصل الشروع فى عمارة المدرسة العادلية «1» بدمشق وحضر السلطان الملك العادل لترتيب وضعها. وفيها فى سابع من شهر ربيع الأول، عزل قاضى القضاة: زكى الدين أبو العباس الطاهر، بن محيى الدين، [عن] الحكم بدمشق وأعمالها. وولى من الغد الشيخ جمال الدين الحرستانى «2» ، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة وشهور. وفيها أبطل السلطان الملك العادل ضمان الخمر والقيان بدمشق، فى رابع عشرين جمادى الآخرة. وبقى الأمر على ذلك، إلى أن توفى الملك العادل فى سنة خمس عشرة وستمائة.

وفيها وصل رسول الخليفة من بغداد، وهو الشيخ شهاب الدين السّهروردى «1» ونزل بجوسق «2» العادل. وتوجه إلى السلطان فلحقه بالقدس الشريف، فأدى الرسالة وعاد، فى خامس عشر شوال. وفيها- فى منتصف شعبان، توفى الشيخ الصالح العارف: أبو الحسن على بن حميد، المعروف بابن الصّبّاغ قدس الله روحه. وكانت وفاته بقنا- من الأعمال القوصيّة من الصعيد الأعلى. ودفن بجانبها عند قبر شيخه: الشيخ السيد القطب عبد الرحيم «3» . وضريحهما من المزارات المشهورة- نفع الله تعالى بهما.

واستهلت سنة ثلاث عشرة وستمائة:

واستهلت سنة ثلاث عشرة وستمائة: فى هذه السنة كانت الحادثة بين أهل الشّاغور «1» والعقيبة «2» بدمشق. وحملت كل طائفة منهم السلاح، واقتتلوا. فركب العسكر للفصل بينهم «3» . وحضر الملك المعظم من جوسق الرئيس لتسكين الفتنة- وكان مقيما به. وقبض على جماعة من مقدمى الحارات واعتقلوا، بسبب ذلك. ذكر القبض على الصاحب الأعز وفى يوم الاثنين، سابع عشر جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة وستمائة. قبض الملك العادل على وزيره الصاحب فخر الدين الأعز، وضربه وقيده، وحمله إلى قلعة بصرى «4» فاعتقله بها. وكان لذلك أسباب: منها أنه صرف ما غرم على القبة بالشافعى من مال الديوان- وكان وتقرر صرفه من مال الديوان الكاملى. ومنها أنه كشف على الأموال التى أنفقت فى تجهيز الملك المسعود إلى اليمن، وكانت جملة عظيمة، فأنكر عليه ذلك، وفعل به ما فعل.

وعرضت الوزارة على القاضى الأشرف: أحمد بن القاضى الفاضل عبد الرحيم، فتوقف عنها. ثم خوطب فقال: كان والدى فى الأيام الناصرية لا يكتب فى الدولة. فأجيب إلى ذلك، واستقرت القاعدة أنه يتحدث فى الأموال بلسانه، دون قلمه. ورتب القاضى عماد الدين بن جبريل صاحب ديوان الدولة، ورتب شمس الدين أبو القاسم بن التبنى وزير الصّحبة. وفيها فى شهر المحرم، صرف قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن، ابن عبد العلى بن على السّكّرى «1» - عن القضاء بالديار المصرية. وكان سبب ذلك أن السلطان عقد مجلسا بحضوره بسبب وقف المدرسة- التى أوقفها إبراهيم بن شروه «2» ، وولى القطب، قاضى قوص، النظر عليها- فلم يمض القاضى عماد الدين الوقف. فقال السلطان: هذه القضية أنا أعرفها وأشهد بها. فامتنع من إثباتها. فغضب السلطان، وأشهد على نفسه بعزله فى المجلس. ثم صرف عن الخطابة بالجامع الحاكمى، وولاها الشيخ بهاء الدين بن الجمّيزى «3» لأربع بقين من شهر ربيع الآخر من السنة.

ولما عزله السلطان عن القضاء، استشار شيخ الشيوخ: صدر الدين أبا الحسن بن حمّويه «1» ، فيمن يوليه القضاء. فأشار أن يقسم العمل شطرين: قبليّا وبحريّا، وأن يولى ابن عين الدولة القاهرة والوجه البحرى، وابن الخرّاط مصر والوجه القبلى. فعمل برأيه. وفوض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى شرف الدين بن عين الدولة، فى يوم السبت ثانى صفر منها- وقيل فى المحرم- وفوض قضاء مصر والوجه القبلى للقاضى تاج الدين: أبى محمد عبد السلام بن على بن الخراط- وكان قاضى دمياط- وذلك فى يوم الاثنين سابع عشر صفر- وقيل فى يوم الاثنين ثالث عشر المحرم. هذا هو السبب الظاهر [للناس «2» فى عزل القاضى عماد الدين بن السكرى] وأما السبب الباطن- وهو مما أخبرنى به والدى رحمه الله تعالى عن جده زكى الدين عبد الدايم، وغيره- أن الفقيه الشيخ الصالح الشهيد الناطق: رضى الدين: عبد الرحمن العقيلى، المعروف بالنّويرى (وهى نسبة انتقال، وانما هو قدم من بلاد المغرب مع أبيه وسكنا النّويرة، واستطونها

الشيخ عبد الرحمن وخدمه أهلها، وكانوا يفتخرون بالانتساب إلى خدمته، واختص بخدمته جد والدى زكى الدين عبد الدايم، فكان أخص الناس به، وأعلاهم منزلة عنده) كان مع ما هو عليه من العبادة والصلاح المشهور، ينوب عن القاضى عماد الدين فى الحكم بالنّويرة، وما معها. فاتفق أن رجلين «1» تداعيا فى بقرة، فكتب أحدهما محضرا أن البقرة ملكه وشهد فيه جماعة من الشهود، وأدوا شهادتهم بذلك عند الفقيه، ولم يبق إلا تسليمها لصاحب المحضر. فتأمل الفقيه البقرة، ونظر إليها. وسأله الذى شهد له الحكم بما ثبت عنده، وتسليمها إليه. فقال: كيف أسلمها إليك، وهى تقول أنها لخصمك، وتخبرنى أن المحضر زور- أو ما هذا معناه؟!. وسلمها لخصمه. فاعترف الخصم الذى أثبت بصحة ما أخبر به الشيخ الفقيه رضى الدين عن البقرة، وأظهر التوبة والإنابة. فلما اتصلت هذه الواقعة بالقاضى عماد الدين، كتب إلى الشيخ رضى الدين يقول: كان ينبغى أن تعمل فى هذه القضية بظاهر الشرع، وتسلم البقرة لمن أثبت. وعزله عن نيابته. فلما اتصل العزل به، قال لمن حضر عنده: اشهدوا علىّ أنى قد عزلته، وعزلت ذريته من بعده. فعزل فى تلك الساعة. ولم يعد إلى القضاء بعدها، ولاولى القضاء بعده أحد من ذريته. وأعرف أن القاضى عماد

الدين، ولد ولده فوه له بالقضاء غير مرة، [وعيّن] «1» وربما فصّلت له خلعة الولاية، ورسم بكتابة تقليده، ثم يعدل عنه إلى غيره، ولا يتم أمره. ومات- رحمه الله تعالى- ولم يل القضاء. ولم يبق من ذريته فى وقتنا هذا من فيه أهلية لذلك. وهذه الحكاية التى ذكرتها لا أشك فيها ولا أرتاب، وهى مشهورة يعرفها كثير من الناس. وفى سنة ثلاث عشرة وستمائة- فى العشرين من جمادى الآخرة- توفى الملك الظاهر: غياث الدين غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، صاحب حلب- رحمه الله تعالى بحلب. وكان مولده بالقاهرة، فى منتصف شهر رمضان، سنة ثمان وستين وخمسمائة. وملك بعده ولده: الملك العزيز غياث الدين محمد. وكان صغير السن، يقال كان عمره ثلاث سنين، فقامت ضيفة «2» خاتون- ابنة الملك العادل- بتدبير الدولة. ونصبت شهاب الدين طغرل الخادم فى أتابكيّة «3» الدولة.

ذكر مصادرة الصاحب صفى الدين بن شكر ونفيه من الديار المصرية

ذكر مصادرة الصاحب صفى الدين بن شكر ونفيه من الديار المصرية كان سبب ذلك أن السلطان الملك العادل، لما قدم من الشام، ظن الصاحب صفى الدين أنه يعيده إلى الوزارة. فصار يركب فى المواكب، ويستعرض للقاء السلطان. ثم فتح بابه وصار الناس يدخلون إليه، والأعز وغيره يذكرون ذلك للملك الكامل. فاتفق أن الملك الكامل مرّ بدار الصاحب فوجد الخيل على بابه، فقال لمن معه من الأمراء: ما هذا إلا أحمق! يفتح بابه ويأمر الناس أن يدخلوا إليه ويمد السّماط، والسلطان غير راض عنه. فبلغ العادل ما قاله الكامل. فقال فى مجلسه: ما يكفى ابن شكر أنه أخذ مالى، حتى أطّرح جانبى بفتح بابه. فاتصل ذلك بالصاحب، فركب إلى القلعة، وأراد الاجتماع بالملك الكامل- وكان الملك الكامل على الشراب. فسير إليه، وقال ما حاجتك؟ فإن لنا الآن شغلا! فقال: القصد أن يستخدمنى السلطان، أو يتركنى أخرج من بلاده. وسأل أن يكون الكامل سفيره عند أبيه الملك العادل. فعزّ كلامه عليه، وقال للرسول قل له: هذا ما لا أدخل فيه. فعاد خجلا، ومضى إلى دار والدة الملك المعز مجير الدّين يعقوب، بن السلطان الملك العادل، وتعلق بذيل ستر الباب. ووافق أن العادل كان عندها فى ذلك الوقت. فعظم ذلك عليه. لكونه قصد زوجته، وأراد قتله، ثم سكن، وأرسل إلى الملك الكامل يقول: إن ابن شكر أخذ منى وأنا على سنجار ستمائة ألف دينار، فطالبه بها.

فأحضره الملك الكامل فى مجلس شرابه، ووبخه، وأمر بأخذ أملاكه وحسبها له، بستمائة ألف دينار. ثم حضر جماعة بعد ذلك إلى الملك الكامل، فقالوا: هذا كان فى ابتداء أمره قطّانا، فمن أين له هذا المال؟ فقال ابن التبنى: أنا صانعته عن نفسى بمائتى ألف دينار، وصانعه شهاب الدين بن الفاضل بثلاثمائة ألف دينار. فنقل المجلس إلى الملك العادل، وذكر له من أخذ منه المصانعات، فأمر بنفيه. فاستمهل إلى أن يبيع موجوده، فأذن له. فشرع فى بيع موجوده إلى أن كمل ثم أرسل إليه السلطان يقول: أخرج من بلادى إلى بلد، لا تقام لى فيه خطبة. فخرج من القاهرة فى يوم الخميس، لخمس بقين من جمادى الآخرة من السنة. فلما وصل إلى بلبيس أمر السلطان الملك العادل بتعويقه، وأخذ منه مالا ووكل به أياما ببلبيس ثم أطلقه فتوجه إلى آمد «1» . وفيها صادر السلطان الملك العادل حسام الدين يونس، متولّى الإسكندرية، على ثلاثمائة ألف دينار. وفيها فى سابع شوال، توجه العادل إلى ثغر الإسكندرية. وذلك أنه اجتمع بها من تجار الفرنج نحو ثلاثة آلاف رجل، فخاف أهل الثغر جانبهم.

واستهلت سنة أربع عشرة وستمائة:

فخرج السلطان بعساكره إلى الثّغر، وبه ملكان «1» من ملوك الفرنج. فأحضرهما، فذكرا أن التجار صمموا على الوثوب بأهل الثغر وقتلهم، وأخذه. فقبض حينئذ على تجار الفرنج واستصفى أموالهم، واعتقلهم، واعتقل الملكين. وعاد إلى القاهرة، فى سابع ذى الحجة من السنة. واستهلت سنة أربع عشرة وستمائة: ذكر مسير السلطان إلى الشام وفى يوم الأحد، التاسع من شهر ربيع الآخر، من هذه السنة- توجه السلطان الملك العادل إلى الشام، لما بلغه قصد الفرنج بلاد الشام. وكان رحيله من البركة «2» يوم السبت لثمان بقين من الشهر، وتوجه إلى البيت المقدس. وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة، فى كتاب «الروضتين فى أخبار الدولتين» أنه توجه إلى قلعة الكرك بذخائره وأمواله، وأقام بها مدة، وترك الأموال والذخائر بها. وقال غيره: إنه بقى بالقدس إلى أن وصلت أمداد الفرنج فى البحر، من روميه الكبرى ومن الغرب الشمالى- وكان المقدم عليهم صاحب روميه- فنزلوا على عكا. وسار الملك العادل على أنه يسبقهم إلى الماء بخربة اللّصوص «3» ، فسبقوه إليها. فلما قاربهم، حيّد عنهم إلى جهة دمشق. فأغاروا

على بيسان فنهبوها وما حولها، وعادوا إلى مرج عكّا بالسبى والغنائم. وجهزوا آلات الحصار، وقصدوا الطّور «1» - وكان العادل قد بناه فى سنة تسع وستمائة- فحاصروه سبعة عشر يوما. فقتل بعض ملوكهم بسهم، ففارقوا الحصن. واستشهد على حصار الطور من أبطال المسلمين: الأمير بدر الدين محمد بن أبى القاسم، وسيف الدين بن المرزبان- وكان من الصالحين الأجواد. وكتب الملك المعظم إلى الخليفة كتابا أوله: قل للخليفة- لا زالت عزائمه ... لها على الكفر إبراق وإرعاد إن الفرنج بأرض القدس قد نزلت ... لا تغفلنّ، فأرض القدس بغداد وفى نسخة: إن الفرنج بحصن الطّور قد نزلوا ... لا تغفلنّ، فحصن الطّور بغداد

ذكر قصد الفرنج جزين وقتلهم

ذكر قصد الفرنج جزين «1» وقتلهم قال: ولما انفصل الفرنج، قصد ابن أخت الهنكر «2» جبل صيدا وقال: لا بدّ لى من أهل هذا الجبل. فنهاه صاحب صيدا، وقال إن أهله رماة، وبلده وعر. فلم يقبل قوله. وصعد فى خمسمائة من أبطال الفرنج إلى مدين- وهى ضيعة الميادنة «3» بالقرب من مشغرا «4» - فأخلاها أهلها. ونزلها الفرنج وترجّلوا عن خيولهم للراحة. فتحدرت عليهم الميادنة من الجبال، فأخذوا خيولهم وقتلوا عامتهم. وأسروا ابن أخت الهنكر. وهرب من بقى منهم نحو صيدا. وكان معهم رجل «5» يقال له الجاموس، كانوا أسروه من المسلمين، فقال لهم أنا أعرف إلى صيدا طريقا سهلا أوصلكم إليها. فقالوا: إن فعلت أغنيناك. فسلك بهم أودية وعرة، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون،

واستهلت سنة خمس عشرة وستمائة:

ففهموا أن الجاموس قصد ذلك، فقتلوه. ولم يفلت منهم إلى صيدا غير ثلاثة، وكانوا خمسمائة. وجاءوا بالأسرى إلى دمشق، وكان يوما مشهودا. وفى هذه السنة، احترق مسجد الحسين بالقاهرة. وفيها، توفى قاضى القضاة جمال الدين أبو القاسم: عبد الصمد بن محمد بن أبى الفضل، الأنصارى الحرستانى «1» وكانت وفاته بدمشق فى رابع ذى الحجة، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة عشرين وخمسمائة. وأعيد القاضى زكىّ الدين إلى القضاء، بعد وفاته. واستهلت سنة خمس عشرة وستمائة: ذكر تخريب حصن الطّور «2» فى هذه السنة استدعى السلطان الملك العادل ولده الملك المعظم، وقال له: إنك قد بنيت هذا الطّور، وهو يكون سبب خراب الشام، وقد سلّم الله تعالى من كان فيه من أبطال المسلمين، والسلاح والذخائر. وأرى من المصلحة خرابه، ليتوفر من فيه من المسلمين والعدد على حفظ دمياط، وأنا أعوضك عنه. وكانت دمياط قد حوصرت- على ما نذكره. فتوقف الملك المعظم، وبقى أياما لا يدخل على أبيه العادل. فبعث إليه وأرضاه بمال، ووعده ببلاد بالديار المصرية. فأجاب، وبعث فنقل ما كان فيه من العدد والذخائر إلى القدس وعجلون والكرك، ودمشق، وهدمه.

ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر: محمد بن أيوب وشىء من أخباره

ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر: محمد بن أيوب وشىء من أخباره كانت وفاته- رحمه الله تعالى- فى يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، سنة خمس عشرة وستمائة، بعالقين «1» . وذلك أنه لما عرج عن الفرنج وقصد دمشق، أقام بظاهرها مدة وهو مريض. فلما بلغه أخذ برج السّلسلة بثغر دمياط، ضرب بيده على صدره، وانزعج، وحصل له من الغم ما أفضى به إلى الوفاة- رحمه الله تعالى. ومات، وله ست وسبعون سنة تقريبا. وذلك أنه سئل عن مولده، فقال: ولدت سنة فتوح الرّها. وذلك فى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقيل كان مولده ببعلبك، لما كان والده فى خدمة الملك العادل: نور الدين الشهيد. ومدة ملكه تسع عشرة سنة «2» ، وأربعين يوما. ولما مات لم يشعر بوفاته غير كريم الدين الخلاطى. وكان ولده الملك المعظم عيسى بنابلس. وكان قد التقى مع الفرنج على القيمون «3» فى هذا الشهر، فانتصر عليهم،

وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر من الدّاويّة «1» مائة فارس، وأدخلهم القدس منكّسة أعلامهم. وأقام بنابلس. فكتب إليه على جناح طائر يعلمه بالخبر، فجاء يوم السبت إلى عالقين. فاحتاط على الخزائن، وصبّر أباه العادل وكتم موته، وجعله فى محفّة «2» ، وعنده خادم يروح عليه، ورفع طرف سجاف المحفّة وأظهر أنه مريض. ودخلوا به إلى دمشق فى يوم الأحد، والناس يشيرون إلى من بالمحفّة بالخدمة والسلام، والخادم يومىء إلى جهة السلطان، كأنه يخبره بمن يسلم عليه، ودخلوا به إلى قلعة دمشق. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وشمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزى، فى تاريخهما: ومن العجائب أنهم طلبوا له كفنا فلم يقدروا عليه، فأخذوا عمامة النّجيب الفقيه ابن فارس فكفنوه بها، وأخرجوا قطنا من مخدّة فلفوه به، ولم يقدروا على ما يحفرون به، فسرق كريم فأسا من الخندق فحفروا له به. ودفن بقلعة دمشق، إلى أن بنى له القبة المجاورة لمدرسته، فنقل إليها فى سنة تسع عشرة وستمائة. وحصل لابنه الملك المعظم وهم، فلما دفن السّلطان قام قائما، وشقّ ثيابه ولطم على رأسه ووجهه.

ذكر تسمية أولاد السلطان الملك العادل وما استقر لهم من الممالك والإقطاع

واشتهرت وفاته بعد دفنه. وعمل عزاؤه ثلاثة أيام، وصلى عليه فى غالب مدن الإسلام. ونودى ببغداد: من أراد الصلاة على الملك العادل الغازى، المجاهد فى سبيل الله، فليحضر إلى جامع القصر. فحضر الناس وصلّوا عليه صلاة الغائب. ولم يتأخر غير الخليفة. وتقدموا إلى خطباء الجوامع بأسرهم، فصلوا عليه بعد صلاة الجمعة. وكان- رحمه الله- قد امتد ملكه واتسعت ممالكه. وكان ثبتا حازما، حسن التدبير صفوحا، يدبّر الملك والممالك على الوجه المرضى، متمسكا بأوامر الشرع الشريف ونواهيه، منفذا للأحكام الشرعية، عادلا مجاهدا عفيفا، كثير الصّدقة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. طهّر جميع ممالكه من الخمور والفواحش بأسرها، وأسقط كثيرا من المكوس والمظالم. وكان الذى يتحصّل من هذه الجهات بدمشق خاصة مائة ألف دينار، فأبطل ذلك. وشدّد فى أمر الخمر، ومنع من دخوله إلى دمشق- رحمه الله تعالى. ذكر تسمية أولاد السلطان الملك العادل وما استقر لهم من الممالك والإقطاع كان له رحمه الله تعالى من الأولاد الذكور سبعة عشر، وهم: الملك الكامل، ناصر الدين محمد، ملك الديار المصرية. والملك المعظم: شرف الدين عيسى، صاحب دمشق والبيت المقدس، والكرك «1»

والشّوبك «1» ، والسواحل. والملك الأشرف: مظفر الدين موسى، صاحب خلاط وما والاها وحرّان والرّها، وما مع ذلك. والملك المظفر شهاب الدين غازى، صاحب ميّافارقين وما والاها والملك المظفّر شهاب الدين الحافظ أرسلان صاحب قلعة جعبر «2» وأعمالها. والملك العزيز: عثمان له بانياس وتبنين وأعمال ذلك، وعدة أماكن من بلد دمشق، مثل نوى «3» وغيرها. والملك الصالح: عماد الدين اسماعيل، له قلعة بصرى وأعمالها، والسواد جميعه- وهو والعزيز فى خدمة أخيهما الملك المعظم. والملك الفائز: إبراهيم، كان السلطان قد أقطعه الأعمال القوصية والملك المفضل: قطب الدين، أقطعه السلطان أيضا الأعمال الفيّومية، فأقر الملك الكامل ذلك بأيديهما. والملك المعز: مجير الدين يعقوب. والملك الأمجد: تقى الدين أبو الفضائل عباس- عند أخيهما الملك الأشرف صاحب خلاط. وله أيضا غير هؤلاء: الملك القاهر: إسحاق، وخليل- وهو أصغرهم.

ومات له من الأولاد- فى حياته- أربعة، وهم: شمس الدين مودود، والد الملك الجواد يونس. والملك الأوحد: نجم الدين أيوب، الذى افتتح خلاط، كما تقدم. والملك المغيث: محمود. والملك الأمجد حسن- وهو شقيق الملك المعظم، والملك العزيز. وكان له عدة بنات، أجلهن ضيفة خاتون، والدة الملك العزيز، ابن الملك الظاهر صاحب حلب. ولما مات السلطان الملك العادل، أقر ولده- الملك المعظم- أحوال دمشق، على ما هى عليه فى أيام والده، بقية جمادى الآخرة. فلما استهل شهر رجب، أعاد المكوس وأطلق الخمور والمنكرات، وما كان والده السلطان قد أبطله. فقيل له فى ذلك، فاعتذر بقلة الأموال وقتال الفرنج. ثم سار إلى بانياس، وراسل الأمير صارم الدين التبّينى فى تسليم الحصون التى بيده، فأجاب إلى ذلك، وسلمها، فأخرب الملك المعظم بانياس وتبنين. وأعطى ما كان بيد أولاد الأمير فخر الدين جهاركس لأخيه الملك العزيز عثمان، وزوّجه ابنة «1» جهاركس. ونزل الأمير صارم الدين وولده وأصحابه من الحصون، فأكرمهم الملك المعظم وأحسن إليهم، وأظهر أنه ما أخرب بانياس وتبنين، إلا خوفا من استيلاء الفرنج عليها.

ذكر أخبار السلطان الملك [الكامل] ناصر الدين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين، أبى بكر محمد بن أيوب

ذكر أخبار السلطان الملك [الكامل] » ناصر الدين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين، أبى بكر محمد بن أيوب وهو السادس من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية. ملك الديار المصرية بعد وفاة والده الملك العادل، فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. وكان قبل ذلك ينوب عن والده بها كما تقدم. ونحن نذكر أخبار الملك الكامل، وما اتفق من الحوادث والوقائع فى أيامه، بالديار المصرية: فى كل سنة نبدأ بذلك، ثم نذكر فى بقية السنة أخبار ملوك الشام من إخوته وغيرهم، ومن توفى فيها من المشهورين، ونأتى بالسنة التى بعدها، على ما تقف عليه- إن شاء الله. ذكر نزول الفرنج على ثغر دمياط كان نزول الفرنج على ثغر دمياط فى يوم الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، سنة خمس عشرة وستمائة- وذلك قبل وفاة الملك العادل، وهو اذ ذاك بمرج الصّفّر «2» . ونزلوا بالبر الغربى «3» . فخرج إليهم الملك الكامل بعساكره، وكتب إلى السلطان بالخبر. فأرسل إليه عساكر الديار المصرية التى كانت فى صحبته. وأقام الملك الكامل بثغر دمياط بظاهرها، واتصل القتال بين الفريقين.

ذكر حوادث وقعت فى مدة حصار ثغر دمياط

فلما كان فى جمادى الأولى، ملك الفرنج برح السّلسلة- وهو بين دمياط والبر الغربى، فى وسط بحر النيل- وذلك أنهم عملوا برجا من الخشب على بطسة «1» كبيرة، وأسندوه إلى البرج. وحصل القتال بين المسلمين المقيمين به وبين الفرنج، إلى أن ملكوه فى يوم السبت، ثامن الشهر. ثم كانت وقعة كبيرة بين المسلمين والفرنج. فلما كان فى شهر رمضان، عمل الفرنج مرمّة عظيمة «2» ، وزحفوا بها فى بطسة، وقصدوا سور دمياط. فأحرقها المسلمون. وغرق للفرنج «3» فى هذا الشهر مراكب كثيرة، فى البحر الملح. ذكر حوادث وقعت فى مدة حصار ثغر دمياط كان مما اتفق فى مدة الحصار جباية التبرع من التجار، من أرباب الأموال وذلك فى ذى القعدة، سنة خمس عشرة.

وفى يوم الثلاثاء، سابع عشر من الشهر، رحل السلطان الملك الكامل عن ثغر دمياط، وتأخر إلى أشموم «1» . وسبب ذلك أن الملك الفائز كان عند أخيه الملك الكامل بثغر دمياط، وكان الأمير عماد الدين بن المشطوب يكره الملك الكامل، فأراد القبض عليه، وإقامة الملك الفائز. فاتصل ذلك بالكامل، فارتحل عن دمياط ليلا، وترك خيامه وخزائنه. فشعر المسلمون برحيله، فارتحلوا بأجمعهم، وتركوا أثقالهم وأموالهم. وأصبح الفرنج فلم يروا أحدا فى البر الشرقى. فظنوا أن ذلك مكيدة، فارتابوا. ثم حققوا الأمر، فلما اتضح لهم عدّوا بجملتهم، وكبسوا المنزلة «2» ونهبوا ما كان بها، واحتاطوا بدمياط برا وبحرا. وكان السلطان قصد أن يتوجه إلى مصر، لخوفه من ابن المشطوب. فأشار عليه بعض الأمراء بالإقامة على المنصورة، فاستقر بها. وثارت الفتن بالديار من العربان، فكانوا على المسلمين أشد من الفرنج.

ذكر وصول الملك المعظم عيسى - صاحب دمشق وإخراج عماد الدين بن المشطوب وما اتفق له بعد خروجه

ذكر وصول الملك المعظم عيسى- صاحب دمشق وإخراج عماد الدين بن المشطوب وما اتفق له بعد خروجه كان وصول الملك المعظّم شرف الدين عيسى إلى المنصورة فى يوم الخميس، لليلة بقيت من ذى القعدة، من السنة. فاشتد به عضد أخيه الملك الكامل. ولما وصل، شكى له ما يحذره من أمر عماد الدين بن المشطوب «1» . فركب الملك المعظم وجاء إلى خيمة عماد الدين. فلما أخبر بذلك، قال لغلمانه قولوا له هو نائم! فذكروا ذلك للملك المعظم، فقال: ننتظره إلى أن يستيقظ، وثنى رجله إلى عنق فرسه. فلما طال ذلك على عماد الدين، خشى عاقبة هذا الأمر. فخرج إليه وهو بغير خفّ، وقبّل يده. فقال له المعظم: ليركب الأمير، حتى يحصل الاتفاق معه على نصب المجانيق على أطراف البحر.

فلما ركب، سايره الملك المعظم وشغله بالحديث حتى أحاط به عسكر المعظم. ثم نظر إليه نظرة مغضب، وقال له: لما مات السلطان الملك العادل كان من أولاده من اسمه: عماد الدين بن المشطوب؟! قال: الله الله، يا مولانا! فأمر بإنزاله عن فرسه فأنزل. وحمل على بغلة إلى أشموم. ولما أمر الملك المعظم بسفره، اعتذر أن لا نفقة معه، وسأل الرجوع إلى خيمته ليلبس خفّه، ويأخذ نفقة. فأعطاه الملك المعظم خمسمائة دينار، وقال له: جميع ما تخلّف من أموالك وأثقالك ودوابك يصل إليك. ثم رجع المعظم إلى خيمة ابن المشطوب، فجهز إليه خيله وأثقاله وغلمانه، وجميع ما يتعلق به، فلحقوه إلى الشام. ووصل ابن المشطوب إلى دمشق، ثم إلى حماه وأقام بها. فبعث إليه الملك الأشرف منشورا، بأرجيش «1» ببلاد خلاط، وزيادة. وبعث إليه بالخلع. فتوجه إلى خدمته، فأكرمه وأحسن إليه. فصار يركب بالشّبّابة «2» ، ويمشى مشى الملوك. ثم خرج عن طاعة الملك الأشرف، فى سنة سبع عشرة. وعاث فى أرض سنجار، وساعده صاحب ماردين. فسار إليه الملك الأشرف، ونزل على دنيسر «3» . وجاء الملك الصالح، فأصلح بين الأشرف صاحب

ذكر وصول الصاحب صفى الدين بن شكر ووزارته

ماردين. ودخل ابن المشطوب إلى تل أعفر «1» . فسار إليه فارس الدين بن صيره من نصيبين، وبدر الدين لؤلؤ من الموصل، وحصراه بها. فاستنزله الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ بالأمان، وحمله معه إلى الموصل، ثم قيده وبعث به إلى الملك الأشرف. فاعتقله بالجب فمات بالجوع والقمل. وكانت وفاته فى سنة تسع عشرة وستمائة. على ما نذكره. ذكر وصول الصاحب صفى الدين بن شكر ووزارته وفى مستهل ذى الحجة، سنة خمس عشرة وستمائة، قدم الصاحب صفى الدين بن شكر من آمد، وكان السلطان قد استدعاه. فلما قدم، ركب إليه وتلقاه وأكرمه وذكر له السلطان ما يحتاج إليه من الأموال والكلف، فالتزم له بتحصيل ذلك. وشرع فى مصادرات أرباب الأموال والتجار والأكابر. وقرر التبرع على الأملاك، وأحدث حوادث كثيرة. وجبى الأموال، حتى من الساسة والصوانع والمغانى ومعلمى المكاتب، وغيرهم. واستهلت سنة ست عشرة وستمائة: فى مستهل المحرم منها، أمر السلطان بخروج أهل مصر والقاهرة، لقتال الفرنج. فخرج الناس. وأقام الصاحب بالقاهرة إلى سابع عشرين من شهر

ذكر خراب القدس

رمضان، سنة ست عشرة. فاستدعاه السلطان واستوزره، وصرفه. واحتجب الملك الكامل من الناس بعد ذلك. وكان قبل ذلك يركب بنفسه، ويستحث العوام على جهاد الفرنج. ذكر خراب القدس كان ابتداء الخراب بالقدس فى بكرة يوم الأحد سابع المحرم، سنة ست عشرة وستمائة. وسبب ذلك أن الملك المعظم لما توجه إلى أخيه الملك العادل، بلغه أن طائفة من الفرنج قد عزموا على قصد القدس. فاتفق مع جماعة من الأمراء على إخرابه. وقال: قد خلا الشام من العساكر، فلو أخذه الفرنج حكموا على دمشق وبلاد الشام. فأمر بإخرابه. وكان بالقدس الملك العزيز عثمان، وعز الدين أيبك أستاذ الدار. ووقع فى البلد ضجة عظيمة. وخرج الناس أجمع، حتى البنات المخدّرات والعجائز والشيوخ وغيرهم، إلى الصخرة والأقصى، فقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم. وخرجوا على وجوههم وتركوا أموالهم. وامتلأت بهم الطرقات، فمنهم من توجه إلى الديار المصرية، ومنهم من توجه إلى الكرك، وبعضهم إلى دمشق. وصار البنات المخدرات يمزقن ثيابهن، ويلففنها على أرجلهن، من الحفا. ومات خلق كثير من الجوع والعطش. ونهب ما كان لهم بالقدس، حتى بيع القنطار الزيت بالقدس بعشرة دراهم، ورطل النحاس بنصف درهم.

ذكر استيلاء الفرنج على دمياط

وأكثر الشعراء القول فى ذلك، فقال بعض أهل العلم- يشير إلى الملك المعظم- من أبيات: فى رجب حلّل الحميّا ... وأخرب القدس فى المحرّم! ذكر استيلاء الفرنج على دمياط كان استيلاء الفرنج على ثغر دمياط فى يوم الثلاثاء، لخمس بقين من شعبان سنة ست عشرة- وقيل لثلاث بقين منه. وذلك أنهم كانوا قد أحاطوا بها برا وبحرا، ومنعوا الميرة عن أهلها، حتى هلكوا من الجوع، ومات أكثرهم. وعدمت الأقوات، وغلت الأسعار حتى بيع السكر بزنته ذهبا، والدجاجة بثلاثين دينارا، والبيضة بدينار، وبيعت بقرة بألف وستمائة دينار، واشترط البائع أن يكون له بطنها ورأسها، فباع ذلك بمائة دينار وأربعة عشر دينارا مصرية- على ما حكاه ابن جلب راغب فى تاريخه. قال: فلما اشتد بهم ذلك، بذل لهم الفرنج الأمان على أنهم يخرجون منها ويتسلمها الفرنج، فأجابوه إلى ذلك، وخرج الناس منها. وبقى من عجز عن الحركة، فأسرهم الفرنج، وحملوا فى المراكب إلى عكا. فكانت مدة الحصار على ثغر دمياط ستة عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما. وكان السلطان إذا أراد أن يرسل إلى دمياط أرسل العوامين، فيحملون الكتب ويغطسون فى الماء، ويطلعون من تحت سور دمياط. فلما أحسن الفرنج بذلك، عملوا شباكا وخطاطيف من دمياط إلى البر الغربى، وثبتوا ذلك فى

ذكر عود الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشام وما اعتمده

المراكب. فصار العوّام إذا غطس فى الماء وقع فى الشباك أو الخطاطيف، فيأخذونه فلا يكاد يفوتهم عوّام، ويقتلون من يجدونه. فامتنع الدخول إليها. ولما استولى الفرنج على ثغر دمياط، أشار السلطان الملك الكامل على أخيه الملك المعظم بالعود إلى الشام، وغزو الفرج من تلك الجهة، واستجلاب العساكر من بلاد الشرق. ذكر عود الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشام وما اعتمده قال الشيخ أبو المظفر: يوسف، سبط بن الجوزى فى تاريخه: لما استولى الفرنج على ثغر دمياط، كتب إلىّ الملك المعظم كتابا بخطه، يخبرنى بما جرى على أهل دمياط من الكفر، ويقول: إنى كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفى ضيعة: ألف وستمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانية «1» . وكم مقدار ما تقوم هذه الأربعمائة من العساكر؟ وأريد أن يخرج الدماشقة، ليذبوا عن أملاكهم- الأصاغر منهم والأكابر- ويكون لقاؤنا وهم فى صحبتك إلى نابلس، فى وقت سمّاه.

ذكر وفاة ست الشام ابنة أيوب وايقافها أملاكها، وتفرقة أموالها، وما فعله الملك المعظم مع قاضى الشام، بسبب ذلك

قال: فجلست فى جامع دمشق، وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة فلما حلّ ركابه بالساحل وقع التقاعد من الأماثل، فأوجب ذلك أخذ الثّمن والخمس من أموالهم، مؤاخذة لهم. قال: وخرجت أنا إليه بالساحل وهو نازل على قيساريّة «1» ، فأقام بها حتى فتحها عنوة، وفتح غيرها. وعاد إلى دمشق. ذكر وفاة ست الشام ابنة أيوب وايقافها أملاكها، وتفرقة أموالها، وما فعله الملك المعظم مع قاضى الشام، بسبب ذلك وفى هذه السنة فى ذى القعدة، كانت وفاة ست الشام بنت أيوب: أخت السلطان الملك الناصر صلاح الدين، والملك العادل. وهى شقيقة الملك المعظم: شمس الدولة تورانشاه، وسيف الاسلام «2» : ابنى أيوب. وكانت سيدة الخواتين. وهى التى ينسب إليها المدرستان، بدمشق وظاهرها، أحداهما قبلىّ البيمارستان النّورى، والأخرى ظاهر دمشق بالعوينة. وتعرف أيضا بالحسامية، نسبة إلى ابنها حسام الدين بن

لاجين «1» - وكانت دفنته بها. ودفنت هى معه فى قبره. وهو القبر الذى يلى الباب القبو من القبور الثلاثة. والقبلىّ قبر تورانشاه بن أيوب، والأوسط قبر ابن عمها: ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادى- وكان قد تزوجها بعد لاجين. وكانت- رحمها الله- كثيرة الصدقة والبر. وكانت تصنع الأشربة والأدوية والمعاجين والعقاقير، فى كل سنة بألوف دنانير، وتفرقها على الناس. وكانت ست الشام، وأختها ربيعة خاتون، محرما على نيف وثلاثين ملكا وسلطانا. وكان الملك المعظم يتهمها أن عندها من الجواهر ما لا يحصى قيمته. وأن ذلك اتصل إليها مما كان بالقصور بالقاهرة. وكان كثير الإحسان إليها والبر بها، ويمنعها من الخروج من دمشق. ويظهر أن ذلك برأيها. ويرجو وفاتها عنده، ليستولى على أموالها وأملاكها، فاتفقت وفاتها وهو بالصيد. ولما مرضت، جاء وكيلها ابن الشيرجى إلى قاضى القضاة: زكى الدين، وطلبه إليها بدارها. فأخذ معه أربعين عدلا من أعيان دمشق، فشهدوا عليها أنها أوقفت أملاكها على مدرستها، ووجوه البر وأنواع القربات، وجعلت دارها مدرسة ووقفت عليها وقوفا، وأبرأت جواريها وخدمها ووكلاءها. وماتت بعد ذلك. وأسندت وصيتها إلى القاضى. فعاد

السلطان من الصيد، فوجد الأمر قد مضى على ذلك. فتألم لوقوعه، وأنكر على القاضى، وقال: يحضر إلى دار عمتى من غير إذنى، ويسمع كلامها، هو والشهود!. ثم اتفق بعد ذلك أن القاضى طلب جابى أوقاف المدرسة العزيزيّة «1» - وهو سالم بن عبد الرازق، خطيب عقربا «2» - أخو المؤيد العقربانى- وطلب منه حسابها، فأغلظ له فى القول. فأمر القاضى بضربه، فضرب بين يديه، كما تفعل الولاة. فوجد الملك المعظم سبيلا إلى إظهار ما عنده، فأرسل إلى القاضى بقجة، وهو فى مجلس حكمه، وفى مجلسه الجمال المصرى وكيل بيت المال، وجماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فجاءه الرسول، وقال للقاضى: السلطان يسلم عليك ويقول لك: الخليفة- سلم الله عليه- إذا أراد أن يشرف أحدا من أصحابه خلع عليه من ملابيسه، ونحن نسلك طريقه! وقد أرسل إليك من ملابيسه، وأمرأن تلبسها فى مجلسك هذا،

وأنت تحكم بين الناس. وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباء «1» أبيض، وكلّوتة صفراء «2» . وفتح الرسول البقجة. فلما نظر القاضى إلى ما فيها وجم!. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: فأخبرنى الرسول الذى أحضر هذه الخلعة والرسالة بذلك، قال: وكان السلطان قد أمرنى أن ألبسه إياها بيدى، إن امتنع أو توقف. فأشرت عليه بلبسها، وأعدت عليه الرسالة. فأخذ القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته بالأرض ولبس الكلّوتة الصفراء على رأسه، ثم قام ودخل بيته إثر هذه الحادثة، ورمى كبده ومات. ويقال أن ذلك كان فى يوم الأربعاء، سابع عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة. وفوّض السلطان قضاء الشام بعده للجمال المصرى «3» وكيل بيت المال، وذلك فى شهر رجب سنة ثمان عشرة وستمائة. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزى: وكانت حركة قبيحة وواقعة شنيعة، لم يجر فى الإسلام أقبح منها. وكانت من غلطات الملك المعظم. قال ولقد قلت له: ما فعلت إلا بصاحب الشرع، ولقد وجبت عليك دية القاضى. فقال: هو أحوجنى إلى هذا. ولقد ندمت.

واتفق أن الملك المعظم بعث إلى شرف الدين بن عنين الشاعر «1» - حين تزهّد- خمرا ونردا، وقال: سبّح بهذا- إشارة إلى أن زهده ليس حقيقة! فكتب إليه ابن عنين: يا أيها الملك المعظم، سنّة ... أحدثتها، تبقى على الآباد تجرى الملوك على طريقك بعدها ... : خلع القضاة وتحفة الزّهّاد وفى هذه السنة، توفى الشيخ جلال الدين أبو محمد: عبد الله بن نجم ابن شاس بن نزار، بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس، الجذامى السّعدى: الفقيه المالكى. وكان عالم مذهب مالك فى زمانه. وصنّف فى مذهب مالك كتابا نفيسا، سماه: «الجواهر الثمينة فى علم صاحب المدينة» . فانتفع به المالكية انتفاعا كثيرا. وكان مدرّسا بمدرسة المالكية بمصر، المجاورة للجامع. ثم توجه إلى ثغر دمياط بنيّة الجهاد، فتوفى هناك فى جمادى الآخرة، أو رجب، سنة ست عشرة وستمائة- رحمه الله تعالى. وفيها، توفى بالقاهرة القاضى: جمال الدين أبو الحسن على، ابن القاضى شرف الدين أبو المعالى شكر، بن القاضى كمال الدين أبو السّعادات: أحمد بن شكر، الشافعى- رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة سبع عشرة وستمائة:

واستهلت سنة سبع عشرة وستمائة: فى هذه السنة، كانت وقعة البرلّس «1» : بين السلطان الملك الكامل والفرنج. وكانت من الوقعات العظيمة، المشهورة. قتل من الفرنج فيها عشرة آلاف. وغنم المسلمون خيولهم وسلاحهم. فرجعوا إلى دمياط. وفيها أخذ ابن حسّون- مقدّم الشّوانى «2» الإسلامية- للفرنج إحدى عشرة حرّاقة «3»

وفيها فى يوم الاثنين، السابع عشر من جمادى الآخرة، احترق بمدينة قوص، بظاهرها- خان الأمير مجد الدين مكرم بن اللمطى. وعدم للتجار فيه ما يقارب قيمته خمسمائة ألف دينار. وكان متولى الأعمال القوصية، يومئذ، الأمير سيف الدين: سنقر الدّوادار العادلى. فكتب الأديب الفاضل: نجم الدين عبد الرحمن ابن وهيب القوصى «1» ، عن المتولى، كتابا إلى السلطان الملك الكامل، يخبره بهذه الحادثة، وهو: «المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالى، المولوىّ السلطانى، الملكى الكاملى الناصرى: غياث الاسلام، سلطان الأنام، ولىّ النعمة، كاشف غياهب الغمّة، جامع فضيلتى السيف والقلم، ورافع زينتى العلم والعلم- لا زالت آيات ملكه باهرة، ونجوم خرصانه «2» فى سماء العجاج «3» زاهرة، ووجوه أوليائه ناضرة، إلى ربها ناظرة ووجوه أعدائه ساهية ساهرة، تظنّ أن يفعل بها فاقرة «4»

وينهى وقوع الكائنة التى عظم مصابها وأصاب عظيمها، وآلم موجعها وأوجع أليمها، وسقم بها من القلوب صحيحها، وصحّ بها من الخطوب سقيمها. وأحالت الأفكار فى ميدان الفكرة، وأطلق من الألسن والأعين عنان العبرة والعبرة. وهى حلول النار بالخان، الذى أنشأه الأمير مجد الدين مكرم بن الّلمطى بظاهر مدينة قوص وهذا الخان المذكور، قد كان محطا للرفيق ومجتمعا للسّفّار، يأتون إليه من كل فجّ وطريق، خصوصا الكارم «1» الإسكندرى- عوّضهم الله أموالهم، وبلّغهم آمالهم- فلا ينزلون بغيره منزلا، ولا يختارون سواه حصنا وموئلا. وإذا حل به أحدهم فكأنه ما فارق وطنه. يتخيّرون منازله وغرفه، ويهرعون إليه كما يهرعون ليوم عرفة. فاتفق لقضاء الله السابق وقدره اللاحق، وإظهار ما كان من مغيّبه مستورا، وتلاوتهم كان ذلك فى الكتاب مسطورا- فاتفق يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الآخرة، أن خطبت على أعاليه ألسن النّيران، واسودّ الفضاء المشرق لتتابع الدّخان. وعاين أهله الهلاك، وجاءهم الموت من كل مكان. فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقد احدقت بهم النار إحداق الأجفان بالأحداق واستدار عليهم اللهب استدارة الأطواق بالأعناق. وتلالهم لسان القدر: ما عندكم ينفد وما عند الله باق.

وزحفت الخطوب إليه زحفا، وصار للوقت دكا دكّا. والناس حوله صفّا صفّا. هذا، ولسان النار يقول: هل من مزيد؟ ومدامع الخلق تهمى وتزيد، فعلت الأصوات عند ذلك بالدعاء، وكاد اللهب يخمد من جريان ماء البكاء، وشهد الناس منه اليوم المشهود. وهبّت الأرياح فلم تخمد للأرواح ضراما، وخالفت هذه النار نار الخليل «1» ، فلم تعقب بردا وسلاما! فكلّ مالك لموضع صار فيه «مالكا «2» » . وكلّ ذى حال حسنة حاله حالكا. فمن فائز بنفسه دون نفائسه، ومن راغب فى هربه لشدة رهبه، ومن آبق «3» بمرده «4» دون أهله وولده. قد لزم كل منهم ما يعنيه، وعمل بقوله عز وجل: «يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» . فإنا لله وانا اليه راجعون، ولأمره طائعون. لا صادف لمصادف قضائه، ولا صارف لصرف بلائه. لم يبق هذا المصاب لهولاء القوم جلدا، ولم يؤخّر عنه حزنا ولا كمدا. وكلّ أحد منهم يقول: أهلكت مالا لبدا «5» . فكم من كريم كان يجزل الهبات فصار جديرا بأن يتصدّق بها عليه. وكم من مموّل كان يؤدى الزكاة فصار مستحقا بأن تصرف إليه. كانوا أعزّاء فى الغربة بأموالهم، فصاروا

أذلّاء فى المواطن لإقلالهم. لم يخلص لهم إلا النّزر اليسير، والشىء الحقير، والقليل من الكثير مقدار أزوادهم إلى مواطنهم، وكفافهم إلى وصول مساكنهم. هذا، ولم يعلم السبب فى وقوع النار. فقال قوم: صاعقة سمائية، وقال قوم: آفة أرضية. وتزاحمت فى ذلك الظنون، وعند الله من علمه السّرّ الكنون. إلا أن المملوك أرسل عليه من الماء طوفانا، وأجرى اليه بحارا- ولا أقول غدرانا- إلى أن عاد غريقا بعد ما كان حريقا، وصار موردا بعد ما كان موقدا. وأصبح ماء ثجّاجا «1» بعد ما كان سراجا وهاّجا. وعلموا أن المدفوع من بلاء الله أعظم، وقرأوا: «ولكن الله سلّم» . أنهى المملوك ذلك، ليطالح بخفىّ الأحوال وجليّها، حتى لا يخفى عن علمه السامى خافية- لا زالت أنوار المملوك بذلك المقام متوالية متلالية- إن شاء الله تعالى. وفيها، فى العشر الآخر من شعبان، صرف قاضى القضاة تاج الدين ابن الخرّاط «2» عن القضاء، بمصر والوجه القبلى. وسبب ذلك أن إحدى بنات مرزوق العلائى تزوجت بإنسان علّاف اسمه داود، وهو غير كفء لها. فاستدعاه السلطان إلى المنصورة، وعقد له

مجلسا وسلم المرأة لزوجها. وصرف القاضى عن الحكم، وصك الشهود. وأضاف قضاء مصر والوجه القبلى لقاضى القضاة: شرف الدين بن عين الدولة الصّفراوى. «1» ثم ولى القاضى تاج الدين المذكور، بعد ذلك، قضاء دمياط وكان بها، إلى أن مات- رحمه الله. وفيها خرّبت صفد «2» . ثم عمّرها الفرنج بعد ذلك، عندما تسلموها من الملك الصالح إسماعيل- فى سنة ثمان وثلاثين. وفيها قتل صاحب سنجار «3» أخاه. فسار الملك الأشرف إليها، فأخذها وعوض صاحب سنجار الرّقّة «4» وفيها قصد مظفّر الدين بن زين الدين- صاحب إربل «5» - الموصل. فخرج إليه بدر الدين لؤلؤ، فهزمه زين الدين، فأفلت لؤلؤ وحده. فانتصر الملك الأشرف له، ونازل إربل. فبعث الخليفة إليه، فردّه عنها، وأصلح بين الملوك.

وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك الفائز: إبراهيم، بن الملك العادل. وكان قد وافق الأمير عماد الدين بن المشطوب، وحلف له جماعة من الأمراء بالديار المصرية على الملك الكامل. وكاد أمره يتم. فاتفق من إخراج ابن المشطوب ما قدّمناه. وبقى الملك الكامل فى ضيق منه. فيقال انه استشار الصاحب- صفى الدين بن شكر الوزير- فى أمره، فأشار بإرساله إلى الملوك ببلاد الشّرق، يستحثّهم على الحضور. فلما كانت واقعة البرلّس، قال السلطان الملك الكامل للملك الفائز: إن الملك المعظّم قد أبطا علينا والملك الأشرف، وليس لهذا المهم سؤال، فتوجّه إلى أخيك الملك الأشرف، وعرّفه ما نحن فيه من الضائقة. فتوجه. وكان الملك الأشرف على الموصل. فمرض الفائز بين سنجار والموصل. فمات- وقيل انه سمّ- فردّه من معه الى سنجار. فدفن عند تربة عماد الدين زنكى- رحمهما الله تعالى. وحكى ابن جلب راغب، فى وفاته، أن السلطان جهّزه إلى الملك الأشرف، باتفاق من الملك المعظم، وبرأى الصاحب صفى الدين، وأنه. جهز معه شيخ الشيوخ، فسقاه سمّا فى طريقه. فلما شعر الفائز به، قال له: يا شيخ السّوء فعلتها بى! كل من هذا الذى أحضرته. فأكل منه، فماتا جميعا «1»

وحكى غير ابن جلب راغب- وهو أقعد منه بهذه الحادثة- فى وفاة شيخ الشيوخ، فقال ما معناه: كانت وفاة شيخ الشيوخ: صدر الدين «1» أبى الحسن محمد، بن الإمام شيخ الشيوخ عماد الدين أبى الفتوح عمر «2» ، ابن الفقيه أصيل خراسان أبى الحسن على، بن الإمام الزاهد: أبى عبد الله محمد، بن حمّويه «3» ، الحمّوى الخراسانى النّيسابورى الجوينى، البحيراباذى «4» الشافعى- فى منتصف جمادى الآخرة- وقيل فى يوم الاثنين رابع عشرين الشهر بالموصل، بعلة الذّرب «5» . وكان الملك الكامل قد أرسله إلى الخليفة، يستنجده على الفرنج، فمرض بين حرّان والموصل، فوصل إلى الموصل ومات بها. وقيل كانت وفاته فى جمادى الأولى.

ومولده بجوين فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وجوين هذه، التى نسب إليها، ناحية كبيرة من نواحى نيسابور، وإليها ينسب إمام الحرمين أبو المعالى: عبد الملك الجوينى. وأما أبو المعالى الجوينى: محمد بن الحسن ابن عبد الله- فهو منسوب إلى جوين: قرية من قرى سرخس. وهو إمام فاضل. وأما وقّاد بن قيس الجوينى الشاعر فمنسوب إلى جوين: بطن من سنبس «1» . وفى هذه السنة كانت وفاة السيد الشريف: قتادة بن إدريس، الزّيدى الحسنى «2» العلوى، أمير مكة. وكنيته أبو عزيز. كان رحمه الله- عادلا منصفا. واطمأن الحاجّ فى أيامه. وما وطىء بساط خليفة قط. وكان يحمّل إليه فى كل سنة من بغداد الخلع والذهب. وكان يقول: أنا أحقّ بالخلافة من غيرى. وبعث إليه الخليفة الناصر يستدعيه، ويقول له: أنت ابن العم والصاحب، وقد بلغنى شهامتك وحفظك للحاج، وعدلك وشرف نفسك، وقد أحببت أن أراك وأشاهدك، وأحسن إليك. فكتب إليه:

ولى كفّ ضرغام أدلّ ببسطها ... وأشرى بها بين الورى وأبيع تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفى وسطها للمجدبين «1» ربيع أأجعلها تحت الرّجا، ثم أبتغى ... خلاصا لها، إنى إذا لوضيع وما أنا إلا المسك فى كل بقعة ... يضوع «2» ، وأما عندكم فيضيع وكانت وفاته- رحمه الله- إحدى الجماديين، بمكة- شرفها الله تعالى- وله سبعون سنة. وملك بعده ابنه الحسن- وقيل أن ابنه الحسن سمّه- وكان له ولد آخر اسمه: راجح. وكان قتادة قد اتسعت ولايته من حدود اليمن إلى المدينة: وله قلعة ينبع واستكثر من المماليك. وذكر ابن الأثير وفاته فى سنة ثمان عشرة. والله أعلم. وفيها، كانت وفاة الملك المنصور: محمد بن عمر بن شاهنشاه ابن أيوب- صاحب حماه. وكان شجاعا محبّا للعلماء. وصنف كتابا سماه: «المضمار» جمع فيه جملة من التواريخ، وأسماء من ورد عليه وأقام عنده، فى عشرة مجلدات. وكان كثير الصدقة، حافظا لرعيته. وكانت وفاته بحماه فى شوال، ودفن عند أبيه. وقام بعده بملك حماه ولده الأكبر: الملك الناصر قليج أرسلان.

ثم أخذ منه الملك الكامل حماه، وأعطاها لأخيه الملك المظفّر، واعتقل قليج أرسلان فى الجبّ بقلعة الجبل، بظاهر القاهرة المعزّية. وفيها كانت وفاة الملك الصالح: نجم الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، صاحب آمد. وكان شجاعا عاقلا جوادا، محبا للعلماء. وكان الملك الأشرف يحبّه، وحضر إلى خدمة الأشرف غير مرة إلى دنيسر، وغيرها. ومات بآمد فى صفر. وقام بعده ولده الملك المسعود. وكان ضد اسمه: بخيلا فاسقا. حضره الملك الكامل بعد ذلك فى آمد، ووجد فى قصره خمسمائة امرأة من الحرائر يفترسهنّ، من بنات الناس. فأخذه الكامل إلى مصر، وأحسن إليه. وكاتب الروم وسعى فى هلاك الكامل. فقبض عليه واعتقله فى الجبّ. ثم أطلقه، فتوجه إلى التتار. وكان معه جواهر كثيرة، وأخت جميلة، فقتله التتار، وأخذوا ما معه. وفيها، فى العشر الأول من ذى الحجة، توفى الشيخ القدوة العارف: أسد الشام عبد الله اليونانى «1» صاحب الكرامات المشهورة والرّياضات والمجاهدات. وكان- رحمه الله ورضى عنه- لا يقوم لأحد من الملوك ولا لغيرهم، تعظيما لله تعالى، ويقول: لا ينبغى القيام لغير الله تعالى. وكان لا يمسّ بيده درهما ولا دينارا، ولا يلبس غير الثوب الخام، وقلنسوة

من جلد الماعز. ويبعث إليه بعض أصحابه فى الشتاء بفروة قرظ «1» ؛ يلبسها، ثم يؤثر بها إذا اشتد البرد. وكان إذا لبس ثوبا قال: هذا لفلان وهذا لفلانة، يوعد به ويعطيه إذا أتاه غيره. وكان من خبر وفاته أنه دخل الحمام فى يوم الجمعة واغتسل، ولبس ثوبيه، وكان قد سمّاهما لا مرأتين، وصلى الجمعة بجامع بعلبك وهو صحيح. وجاءه داود المؤذّن وكان يغسل الموتى، فقال له: ويحك يا داود، انظر كيف تكون غدا! فلم يفهم. ثم صعد الشيخ المغارة، وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا الصخرة التى عند الّلورة، التى كان ينام تحتها ويجلس عندها، وعندها قبره. فنجّزت فى نهار الجمعة، وبقى منها مقدار نصف ذراع. فقال لهم: لا تطلع الشمس إلا وقد فرغتم منها. وبات فى ليلة السبت، وهو يذكر أصحابه ومعارفه، ويدعو لهم حتى طلع الفجر. فصلى بهم الصبح، وخرج إلى صخرة كان يجلس عليها، فجلس وبيده سبحة. وقام الفقراء ليكملوا حفر الصخرة، فطلعت الشمس وقد فرغوا منها، والشيخ قاعد وبيده السّبحة. وجاء خادم من القلعة إليه فى شغل، فرآه نائما، فما تجاسر أن يوقظه. فجلس ساعة، فلما طال مجلسه قال لخادم الشيخ: يا عبد الصمد، ما أستطيع أن أقعد أكثر من هذا. قال عبد الصمد: فتقدمت إليه، وناديته: سيّدى سيّدى! فما تكلم. فحركته، فإذا هو ميت! فارتفع الصياح.

واستهلت سنة ثمانى عشرة وستمائة:

وكان الملك الأمجد- صاحب بعلبك- فى الصيد، فأرسلوا إليه. فجاء، فرآه على تلك الحال: لم يقع: ولا وقعت السّبحة من يده، وهو كأنه نائم! فقال: نبنى عليه بنيانا وهو على حاله، ليكون أعجوبة! فقال أتباع الشيخ: السّنّة أولى. وغسله داود، ودفع الثوبين للمرأتين ولما الحدوه، قال له الحفّار: يا شيخ عبد الله، اذكر ما فارقتنا، أو اذكرنا عند ربك. قال: ففتح عينيه، ونظر إلىّ شزرا «1» . ودفن رحمه الله فى يوم السبت، وقد جاوز ثمانين سنة. والأخبار عنه فى الكرامات كثيرة، قد اقتصرنا على هذه النبذة. واستهلت سنة ثمانى عشرة وستمائة: ذكر وصول ملوك الشرق إلى السلطان الملك الكامل وانهزام الفرنج واستعادة ثغر دمياط، وتقرير الهدنة فى هذه السنة، توجه الملك المعظم شرف الدين عيسى، بن السلطان الملك العادل، إلى أخيه الملك الأشرف، واجتمعا على حرّان «2» . وكان الملك المعظم من أحرص الناس على إعانة أخيه الملك الكامل، على استعادة ثغر دمياط من الفرنج. وكان الملك الأشرف قد باين الملك الكامل، وتقاعد عنه فى هذه الحادثة: فتلطف الملك المعظم بالملك

الأشرف، ولم يزل به حتى قطع الفرات بالعساكر، والمعظم يقدمه، إلى أن نزل الملك المعظم على حمص، والأشرف على سلمية «1» . قال أبو المظفّر يوسف، فى تاريخه: وكنت قد توجهت إلى حمص لطلب الغزاة، وكان العزم قد وقع على دخول العساكر إلى طرابلس. فاجتمعت بالملك المعظم على حمص فى شهر ربيع الآخر. فقال لى: قد سحبت الأشرف إلى ههنا بأسنانى وهو كاره، وكل يوم أعتبه فى تأخره وهو يكاشر «2» ، وأخاف من الفرنج أن يستووا على مصر. وهو صديقك، فتوجّه إليه، فإنه قد سألنى عنك مرارا. قال: ثم كتب كتابا إلى أخيه بخطّه نحو ثمانين سطرا، فأخذته وتوجهت إليه إلى سلميّة؟ فتلقانى وأكرمنى، فقلت له: المسلمون فى ضائقة، واذا أخذ الفرنج الديار المصرية، ملكوا حضرموت وعفوا آثار مكة، وأنت تلعب؟ قم الساعة وارحل. فأمر برمى الخيام والدّهليز «3» لوقته. وقمت فركبت، وسبقته إلى حمص. فركب المعظم والتقى بى، وقال: والله ما نمت البارحة، ولا أكلت فى يومى هذا! فأخبرته أن الملك

الأشرف يصل إليه بكرة الغد. فسرّ بذلك، ودعا لى. وأقبلت الأطلاب «1» من الغد. وجاء الأشرف فما رأيت أجمل من طلبه «2» ، ولا أحسن رجالا ولا أكمل عدة. قال: وبات الأخوان الملكان فى تلك الليلة يتشاوران. فاتفقا على الدخول فى السحر إلى طرابلس، وكانوا على أحسن حال. فأنطق الله الملك الأشرف- من غير قصد- وقال للمعظم: ياخوند «3» ، م عوض دخولنا إلى الساحل ونضعف عساكرنا وخيلنا، ونضيع الزمان، ما نتوجه إلى دمياط ونستريح! فحلّفه المعظم بقول رماة البندق «4» فحلف، وقبّل المعظم قدمه. ونام الأشرف، فخرج المعظم من الخيمة ونادى فى الناس: الرحيل إلى دمياط، وما كان يظنّ أن الأشرف يسمح بذلك. وساق المعظم إلى دمشق، وتبعته العساكر. ونام الأشرف فى خيمته إلى وقت الظهر، وانتبه فدخل الحمّام فلم يرحول خيمته خيمة! فسأل عن العساكر، فأخبر بالخبر. فسكت وركب إلى دمشق. ونزل القصر فى رابع عشر جمادى الأولى، فأقام بها إلى سلخ الشهر.

وعرض العساكر، وتوجه إلى مصر، هو والملك المعظم- فى غرة جمادى الآخرة. ووصلوا إلى المنصورة، فى ثالث شهر رجب من السنة. ووصل أيضا الملك المظفر بن الملك المنصور، صاحب حماه، وغيره من الملوك. هذا ما كان من خبر هؤلاء. وأما الملك الكامل، فإنه فى هذه السنة اجتهد فى قتال الفرنج.. واستمر القتال بينهم وبينه فى البر والبحر. وطلع النيل وعم البلاد، وجرى فى بحر المحلّة، فرتّب السلطان مراكب الأسطول فى بحر المحلّة، ومنع الميرة «1» عن الفرنج. فاشتد ضررهم لذلك، وعدموا القوت. وعزموا على الرجوع إلى دمياط، فأحرقوا أثقالهم وهربوا ليلا. فأمر السلطان بقطع جسر البرمون «2» ، وغيره من الجسور، فقطعت. فأحاط بهم النيل من كل جانب. وكان فيهم مائة كند «3» ، وثمانمائة من الخيّالة المعروفين، وملك عكا، والدّوك «4» واللّو كان «5» نائب الباب «6» ، ومن الرّجّالة ما لا يحصى كثرة. فلما عاينوا الهلاك، راسلوا السلطان، وبذلوا له أن ينزلوا على ثغر دمياط، ويؤمّنهم على أنفسهم وأموالهم. فأجابهم إلى ذلك. ووصل

الملكان: الأشرف والمعظّم فى هذه الأيام. وتقررت الهدنة ثمانى سنين، وأنه يطلق جميع الأسرى من الجهتين. وجلس الملك الكامل مجلسا عظيما. ووقف الملك الأشرف والملك المعظم وسائر الملوك فى خدمته. ولم يجلس معه إلا الملك المعظم محمد [بن] سنجرشاه، بن أتابك، صاحب جزيرة ابن «1» عمر- وكان قد وصل إلى الملك الكامل فى أوائل هذه السنة، قبل وصول الأشرف والمعظم- وعظّمه الملك الكامل تعظيما كثيرا. وكان فى مدة مقامه عنده، إذا حضر رسل الفرنج يقول لهم الملك الكامل: إنه الآن لا حكم لى، وحديثكم مع ملك الشّرق، والأمر له. وحضر رسول الفرنج مرة، فوقف الملك الكامل بين يدى الملك المعظّم هذا، وكذلك من كان بحضرته من الملوك الأيوبية. وكان الملك المعظم محمد شكلا مهيبا، جهورىّ الصوت، هيول الخلقة ففرق رسل الفرنج منه. ولما جلس السلطان فى هذا اليوم، أراد الملك المعظم الوقوف بين يديه مع الملوك الأيوبية، فلم يمكّنه من ذلك، وأجلسه إلى جانبه. وحضر الملك يوحنا- صاحب عكا- إلى السلطان بظاهر البرمون، بعد أن أعطاه السلطان رهاين: ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخاه الملك المفضل قطب الدين، وجماعة من أولاد الأمراء. فحلف يوحنا

ذكر رجوع السلطان إلى القاهرة وإخراج الأمراء إلى الشام

للسلطان، ولأخويه: الأشرف والمعظم، وحلفوا له. وذلك فى يوم الأربعاء، لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب، من السنة. وتسلم ثغر دمياط فى تاسع عشر شعبان من السنة. فكانت مدة استيلاء الفرنج على الثغر سنتين، إلا ستة أيام. ومدة مقامهم بالديار المصرية ثلاث سنين، وأربعة أشهر، وستة عشر يوما. وتوجه الفرنج إلى عكا: بعضهم فى البر، وبعضهم فى البحر. وعاد الملك المعظم، صاحب الجزيرة، والملك المعظم، صاحب دمشق، إلى ممالكهما. وتأخر الملك الأشرف عند السلطان الملك الكامل، وتصافيا، وزال ما عند كلّ منهما من الآخر. واتفقا على الملك المعظم صاحب الشام. ذكر رجوع السلطان إلى القاهرة وإخراج الأمراء إلى الشام قال: ولما تسلم السلطان ثغر دمياط، وعاد الفرنج إلى بلادهم، رجع السلطان إلى القاهرة. واستقر بقلعة الجبل. ثم ركب فى ذى القعدة، وجاء إلى منظرة الصاحب صفى الدين بن شكر، لزيارته. فزاره، واستشاره فى أمر الأمراء، الذين كانوا مع عماد الدين بن المشطوب، لما قصد إقامة الفائز. فأشار بإخراجهم من البلاد. وكانوا فى الجزيرة، مقابل ثغر دمياط، لعمارتها. فكتب السلطان إليهم بالانصراف، إلى حيث اختاروا. فتوجهوا إلى الشام. ولم يتعرض لشىء من

واستهلت سنة تسع عشرة وستمائة:

موجودهم، وأقطع أخبازهم «1» لمماليكه. فى هذه السنة- أعنى سنة ثمانى عشرة وستمائة- كانت وفاة أمين الدين أبو الدرّ: ياقوت بن عبد الله الموصلى، الكاتب المعروف بالمالكى- نسبة إلى السلطان ملكشاه السّلجقى. إليه انتهى حسن الخطّ وجوده الكتابة فى زمانه، وما أدّى أحد طريقة ابن البوّاب «2» فى زمانه مثله. وكتب كثيرا من الكتب. وانتشر خطه. وكان مغرى بنقل صحاح الجوهرى، كتب منها نسخا كثيرة: كل نسخة فى مجلدة واحدة. قال ابن خلّكان: ورأيت منها نسخا عدة، وكل نسخة تباع بمائة دينار. وكتب عليه خلق كثير، وانتفعوا به. وقصده الناس من البلاد إلى الموصل. وبها مات، وقد أسنّ وتغير خطّه- رحمه الله. واستهلت سنة تسع عشرة وستمائة: فى هذه السنة- فى أولها- وصل الملك الأشرف إلى القاهرة إلى أخيه الملك الكامل، وأمر بعمارة تربة لوالدته بالقرافة. وعاد فى شعبان من السنة. وفيها ظهر بالشام جراد كثير، لم يعهد مثله. فأكل الزرع والشجر. فأظهر الملك المعظم أن ببلاد العجم طائرا، يقال له: السّمرمر يأكل الجراد. فأرسل الصدر البكرى محتسب «3» دمشق، ورتّب معه صوفيّة، وقال:

تمضى إلى العجم. فهناك عين يجتمع فيها السّمرمر، فتأخذ من مائها قوارير، وتعلقه على رءوس الرماح، فكلما رآه السمرمر يتبعك! وكان قصد الملك المعظم فى إرسال البكرىّ أن يتوجه إلى السلطان: جلال الدين خوارزم شاه ويتفق معه، لما بلغه إتفاق الملك الكامل والأشرف عليه. فتوجه البكرى، واجتمع بالسلطان جلال الدين، وقرر معه الأمور، وجعله سندا للملك المعظم. وكان الجراد قد قلّ، فلما عاد البكرى كثر وولاه الملك المعظم مشيخة الشيوخ «1» مضافة إلى الحسبة «2» . وفيها نقل الملك العادل فى تابوته من قلعة دمشق إلى مدرسته «3» ، التى أنشأها عند دار العقيقى «4» . وأخرجت جنازته من القلعة، وعليها مرقعته، وأرباب الدولة حوله. ودخلوا من باب البريد إلى الجامع، ووضع فى صحن الجامع، قبالة حائط النّسر. وصلى عليه الخطيب الدّولعى «5» . ثم حملوا جنازته وخرجوا من باب البطّاقين، خوفا من ازدحام الناس فى الطريق. فلم يصل إلى تربته إلا بعد جهد، لضيق المسلك. وتردّد القراء والفقهاء مدة إلى التربة، غدوة وعشية. ولم تكن كملت عمارتها.

ذكر توجه الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى الحجاز، وما اعتمده

ثم درس فيها قاضى القضاة جمال الدين المصرى، قبل كمال عمارتها. وحضر السلطان الملك المعظّم، وتكلم فى الدرس مع الجماعة. وكان الإجتماع بالإيوان الشمالى بالمدرسة. وجلس عن يمين السلطان إلى جانبه- الشيخ جمال الدين الحصيرى شيخ الحنفية، ويليه شيخ الشافعية: الشيخ فخر الدين بن عساكر، ثم القاضى شمس الدين الشّيرازى، ثم القاضى محيى الدين بن الزّكى. وجلس عن يسار السلطان، الى جانبه، مدرّس المدرسة قاضى القضاة «1» ، والى جانبه سيف الدين على الآمدى، ثم القاضى شمس الدين يحيى بن سنىّ الدولة، ثم القاضى نجم الدين خليل قاضى العسكر. ودارت حلقة صغيرة، والناس وراءهم متصلون ملء الايوان. وكان فى تلك الحلقة أعيان المدرسين والفقهاء. وقبالة السلطان الشيخ تقىّ الدين بن الصّلاح وغيره. وكان مجلسا جليلا، لم يقع مثله إلا فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ذكر توجه الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى الحجاز، وما اعتمده فى هذه السنة، حج الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل بالناس من اليمن، فى عسكر عظيم.

وجاء إلى الجبل وقد لبس هو وأصحابه السلاح، ومنع علم الخليفة «1» . أن يصعد إلى الجبل. وأصعد علم أبيه: الملك الكامل، وعلمه. وقال لأصحابه: إن طلع البغاددة بعلم الخليفة فاكسروه، وانهبوهم. ووقفوا تحت الجبل من الظهر إلى غروب الشمس، يضربون الكوسات «2» ويتعرضون إلى الحاجّ العراقى، وينادون: يا ثارات ابن المقدّم «3» فأرسل «4» إليه حسام الدين بن أبى فراس- أمير الحاج العراقى- أباه، وكان شيخا كبيرا، فعرّفه ما يجب من طاعة الخليفة، وما يلزمه من ذلك من الشّناعة. فيقال إنه أذن فى صعود العلم قبيل الغروب. وقيل لم يأذن. وبدا من الملك المسعود أقسيس «5» فى هذه الواقعة جنون عظيم، وأفعال شنيعة. قال أبو المظفّر «6» : حكى لى شيخنا جمال الدين

الحصيرى «1» ، قال: رأيت أقسيس قد صعد على قبّة زمزم، وهو يرمى حمام مكة بالبندق! قال: ورأيت غلمانه فى المسعى يضربون الناس بالسيوف فى أرجلهم، ويقولون: اسعوا قليلا قليلا، فإن السلطان نائم سكران فى دار السلطنة التى بالمسعى. والدّم يجرى من ساقات الناس!. وفيها، فى العشرين من شعبان، ظهر كوكب كبير فى الشرق، له ذؤابة طويلة غليظة. وكان طلوعه وقت السّحر، فبقى كذلك عشرة أيام. ثم ظهر أول الليل فى المغرب مما يلى الشمال. فبقى كذلك إلى آخر شهر رمضان. وفى هذه السنة، توفى الملك المفضّل قطب الدين أحمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، بالفيوم. ونقل إلى القاهرة فدفن بالقرافة الصغرى. وإلى قطب الدين هذا، تنسب الدار القطبيّة التى بين القصرين بالقاهرة المعزّيّة، التى هى الآن البيمارستان المنصورى. وكان قد جمع أخواته بنات الملك العادل، بعد وفاة أبيه، وسكنها، وهنّ تحت كنفه، فسمّيت الدار القطبية به- رحمه الله تعالى.

وفيها توفى الأمير عماد الدين: أبو العباس أحمد، بن الأمير الكبير سيف الدين أبى الحسن على، بن أحمد، بن أبى الهيجا، بن عبد الله، بن أبى الخليل بن مورتان، الهكّارى «1» ، المعروف بابن المشطوب «2» . والمشطوب لقب والده، لقّب به لشطبة كانت بوجهه. وكان أميرا كبيرا، وافر الحرمة عند الملوك، يعدّونه بينهم كواحد منهم. وكان عالى الهمة غزير الجود، واسع الكرم، شجاعا أبىّ النفس. وكان من أمراء الدولة الصّلاحيّة. فإن والده لما توفى «3» ، كانت نابلس إقطاعا له، أرصد منها السلطان الملك الناصر صلاح الدين الثّلث لمصالح بيت المقدس، وأقطع ولده عماد الدين هذا بقيّتها. ولم يزل قائم الجاه والحرمة نافذ الكلمة، الى أن صدر منه على ثغر دمياط ما قدمنا ذكره. وكان من خبره واعتقاله ما قدمناه. ثم كانت وفاته بحرّان. وبنت له ابنته قبّة على باب مدينة رأس عين، ونقلته من حرّان إليها، ودفنته بها. وأما والده- رحمه الله تعالى- فكان من أكابر الأمراء الصّلاحيّة. وكان الملك الناصر «4» قد رتّبه بعكا، هو وبهاء الدين قراقوش الأسدى. ولما خلص منها، وصل إلى السلطان وهو بالقدس. قال ابن شدّاد: إنه دخل عليه بغتة، وعنده الملك العادل، فنهض إليه واعتنقه، وسر به سرورا عظيما. وأخلى له المكان، وتحدث معه طويلا.

واستهلت سنة عشرين وستمائة:

ولم يكن فى الدولة الناصرية من يضاهيه فى الرّتبة وعلو المنزلة. وكانوا يسمونه: الأمير الكبير. وكان ذلك علما عليه عندهم، لا يشاركه فيه غيره. وكان إقطاعه- نابلس وغيرها- بعد خلاصه من الأسر- ثلاثمائة ألف دينار. وكانت وفاته- أعنى والده- بالقدس، فى يوم الخميس سادس عشر شوال، سنة ثمان وثمانين «1» وخمسمائة، بعد خلاصه من الأسر بعكا بمائة يوم. ودفن بداره، بعد أن صلّى عليه فى المسجد الأقصى- رحمه الله تعالى. وفيها توفى جلال الدين أبو بكر، بن القاضى كمال الدين أبى السعادات: أحمد بن شكر. واستهلت سنة عشرين وستمائة: ذكر ملك الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل مكة- شرفها الله تعالى وفى هذه السنة، ملك الملك المسعود أقسيس بن السلطان الملك الكامل- صاحب اليمن- مكة- شرفها الله تعالى. وكان صاحبها يومئذ: الأمير حسن بن قتادة «2» ، وكان قد أساء السيرة. فسار إليه الملك المسعود وقاتله بالمسعى ببطن مكة، فى رابع شهر ربيع الآخر. فتغير الخليفة الناصر لدين الله على الملك الكامل، بسبب ذلك.

ذكر عصيان الملك الملك المظفر شهاب الدين غازى على أخيه الملك الأشرف وقتاله، وانتصار الملك الأشرف

ذكر عصيان الملك الملك المظفّر شهاب الدين غازى على أخيه الملك الأشرف وقتاله، وانتصار الملك الأشرف وفى هذه السنة، عاد الملك الأشرف موسى من الديار المصرية، من عند أخيه الملك الكامل. فلما وصل إلى دمشق، تلقاه أخوه الملك المعظم عيسى، وعرض عليه النزول بالقلعة. فامتنع، ونزل بجوسق أبيه. وبدت الوحشة بين الإخوة: الكامل والمعظم والأشرف. وركب الأشرف من الجوسق فى وقت السحر، فسار ونزل ضمير «1» . ولم يعلم المعظم برحيله. وسار يطوى البلاد إلى حرّان. وكان الأشرف قد استناب أخاه الملك المظفر شهاب الدين غازى، صاحب ميّافارقين، بخلاط، لما توجه إلى مصر، وجعله ولىّ عهده، ومكّنه فى جميع بلاده. فسوّلت له نفسه العصيان، وحسّنه له أخوه الملك المعظم، وغيره، ووعدوه المساعدة والإنجاد على أخيه الأشرف. فسار الأشرف من حرّان إلى سنجار. وكتب إلى أخيه غازى أن يحضر إليه، فامتنع. فكتب إليه ثانيا، يحذّره عاقبة العصيان، ويلاطفه ويقول له: أنت ولىّ عهدى، والبلاد والخزائن بحكمك، فلا تخرّب بيدك وتسمع كلام أعدائك. فأصرّ على العصيان. (معجم البلدان: ج 4- 441)

فجمع الأشرف عساكر الشرق وحلب، وتجهز وسار إليه. وجمع غازى جمعا، وخرج إليه. والتقوا، واقتتلوا، فى سنة إحدى وعشرين وستمائة. وقاتل غازى قتالا شديدا. وكان أهل خلاط يحبون الملك الأشرف. فبينما غازى يقاتل من باب فتح أهل خلاط بابا آخر. وأصعدوا صناجق الأشرف منه، ونادوا بشعاره. فهرب غازى إلى القلعة، وتحصن بها يومين. ثم نزل إلى أخيه الملك الأشرف، واعتذر. فقبل عذره، وأعاده إلى ميّافارقين وديار بكر. فتوجه إلى ميّافارقين، مريضا من جراحات أصابته. وأقام الملك الأشرف بخلاط ثلاثة أيام، وسلّمها لمملوكه أيبك والحاجب علىّ، ورجع إلى رأس عين. وكان الملك المعظم قد خرج من دمشق، ونزل بالقطنة «1» ، لإنجاد أخيه غازى على أخيه الأشرف. وبعث إليه عيسى الدّباهى سرّا. فوصل، وقد فات الأمر. ورجع المعظم إلى دمشق، وذلك فى سنة إحدى وعشرين وستمائة. وفيها كانت وفاة مبارز الدين سنقر الحلبى- الصّلاحى- والد الظّهير. وكان قبل ذلك مقيما بحلب، ثم انتقل إلى ماردين فخاف الملك الأشرف عاقبة قربه، فبعث إلى أخيه الملك المعظم يقول: ما دام المبارز فى الشرق لا آمن على نفسى! فبعث إليه الملك المعظم ولده الظّهير غازى، يلتمس منه وصوله إليه، ويعرّفه رغبته فيه، ووعده أن يقطعه نابلس، وما اختار من بلاد الشام.

واستهلت سنة إحدى وعشرين وستمائة:

فتوجه إليه ولده الظّهير، وأبلغه رسالة الملك المعظم إليه. وعرفه رغبته فيه. فأشار عليه صاحب ماردين أن يقيم، ولا يتوجه، وقال: هذه خديعة. ومكّنه من مملكته وخزائنه. فأبى إلّا الانحياز إلى الملك المعظم. وتوجه إلى الشام، فى سنة ثمانى عشرة «1» وستمائة. فخرج المعظم إليه وتلقاه، ولم ينصفه. ونزل بدار شبل الدولة الحسامى «2» بقاسيون. وأعرض المعظم عنه، إلى أن تفرق عنه من كان حوله، وأنفق ما كان فى حاصله، واحتاج إلى بيع دوابه وقماشه. ولم يزل كذلك إلى أن مات غمّا، فى هذه السنة. وكان قد وصل إلى الشام، ودائرته بمائة ألف دينار، فمات وليس له ما يكفّن فيه! فقام بتجهيزه شبل الدولة كافور الحسامى، وابتاع له تربة بألف درهم، ودفنه بها. وكانت للمبارز المواقف المشهودة، حتى يقال إنه لم يكن فى زمانه أشجع ولا أكرم منه. ويقال إنه كان مملوك شمس الدولة تورانشاه بن أيوب «3» - رحمهما الله تعالى. واستهلت سنة إحدى وعشرين وستمائة: ذكر وصول الملك المسعود من اليمن وفى هذه السنة، قدم الملك المسعود أقسيس- بن الملك الكامل- من اليمن إلى القاهرة، من جهة الحجاز. وإنما جاء طمعا فى أخذ دمشق والشام.

وكان معه من الهدايا والتحف أشياء كثيرة: من جملة ذلك ثلاثة أفيلة، الكبير منها يدعى بالملك، وعليه محفة بدرابزين، يجلس فيها على ظهره عشرة أنفس، وفيّاله راكب على رقبته، وبيده كلّاب يضربه به، ويسوقه كيف أراد! وركب السلطان الملك الكامل للقائه. فلما دنت الفيلة منه، وضعت رؤوسها إلى الأرض، خدمة للسلطان! وكان فى جملة الهدية مائتا «1» خادم، وأحمال من العود والمسك والعنبر، وتحف اليمن. وقيل إن قدمته هذه كانت فى سنة ثلاث وعشرين. والله أعلم. وفيها، أنشأ الملك الكامل دار الحديث الكامليّة «2» التى بالقاهرة المعزّيّة بين القصرين وهى تقابل باب القصر، المعروف بباب البحر. وفى سنة إحدى وعشرين أيضا- فى سلخ شعبان- توفى الوزير الأعز فخر الدين أبو الفوارس مقدام بن القاضى كمال الدين أبو السعادات أحمد بن شكر ومولده فى سنة إحدى وستين وخمسمائة.

وتوفى الصاحب صفى الدين أبو محمد عبد الله، بن المخلص أبى الحسن على، بن الحسين بن عبد الخالق، بن الحسين بن الحسن بن منصور- الشّيبى القرشى المالكى، المعروف بابن شكر. ولم يكن من بنى شكر، إنما هو ابن عم كمال الدين أحمد بن شكر لأمّه، فعرف به. ومولده بالدّميرة: بلدة من الأعمال الغربيّة بالديار المصرية- فى تاسع صفر، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وقد تقدم ذكر وزارته وعزله وإعادته، وغير ذلك من أحواله. وكانت وفاته فى يوم الجمعة ثامن شعبان، ودفن برباطه الذى أنشأه بالقاهرة، بالقرب من مدرسته «1» . وكان شديد البطش، عظيم الهيبة سريع البادرة، جسورا مقداما. وقاسى الناس منه شدائد كبيرة. وانتزح جماعة من الأكابر عن أوطانهم بسببه. وكان كريما، إلا أنه لم يسمع بوزير من المتعمّمين «2» كان أظلم منه. ولما مات، استوزر السلطان الملك الكامل بعده ولده: الصاحب تاج الدين يوسف، نحو شهرين. ثم قبض عليه واعتقله. وانتصب السلطان الملك الكامل للأمور بنفسه، وقرّر مصالح دولته، ونظر فى وجوه الأموال ومصارفها، واستصفى أموال الصاحب صفى الدين، وذخائره وأملاكه. وفيها، فى سلخ شوال، توفى القاضى الأسعد: أبو البركات عبد القوى، بن القاضى الجليس: مكين الدولة أبى المعالى عبد العزيز بن الحسين، بن عبد الله بن الحبّاب- رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثنتين وعشرين وستمائة:

واستهلت سنة ثنتين وعشرين وستمائة: ذكر ابتداء المعاملة بالفلوس بالديار المصرية فى هذه السنة فى ذى القعدة، ضربت الفلوس «1» بالقاهرة ومصر، وصارت من جملة النقود. وتقررت القيمة عن كل درهم ورق «2» ، من معاملة الديار المصرية، ستة عشر فلسا. ثم أبطلت المعاملة بها، فى سنة ثلاثين وستمائة. ثم عادت. وفيها ضربت دراهم مستديرة، وأمر السلطان أن لا يتعامل بالدراهم المصرية العتق «3» ، وحصل للناس ضرر عظيم بسبب ذلك «4» ، وصار كل ما يتحصّل منها يسبك ويضرب من الجديد، وبلغ ضرب العتيق ستين درهما بدينار.

وفيها، فى يوم الأربعاء سابع عشر شعبان، استخدم السلطان الملك الكامل القاضى سديد الدين: أبا عبد الله محمد بن سليم، صاحب ديوان الجيوش. ثم صرف بعد ذلك بمدة يسيرة. وهو والد الصاحب بهاء الدين على، المعروف بابن حنا: وزير الدولة الظاهرية الرّكنيّة «1» - وسيأتى ذكره- إن شاء الله تعالى. وفيها صلب الملك المعظم عيسى رجلا، يقال له: ابن الكعكى، ورفيقا له. وكان ابن الكعكى رأس حرب «2» ، وله جماعة أتباع وكانوا ينزلون على الناس فى البساتين، ويقتلون وينهبون. والمعظم يوم ذاك بالكرك، وبلغه أن ابن الكعكى قال لأخيه الملك الصالح إسماعيل: أنا آخذ لك دمشق، وكان إسماعيل ببصرى. فكتب الملك المعظم إلى متولّى دمشق أن يصلب ابن الكعكى، ورفيقه، منكّسين. فصلبا، فى العشر الآخر من شهر رمضان. فأقاما أياما لا يجسر أحد أن يطعمهما ولا يسقيهما، فماتا. وقدم الملك المعظم دمشق بعد وفاتهما، فمرض مرضا أشفى منه، ثم أبلّ. ولم يزل ينتقض عليه، حتى مات. وكان رفيق ابن الكعكى خيّاطا، شهد له أهل دمشق بالصلاح، والبراءة مما رمى به.

وفيها كانت وفاة الملك الأفضل، نور الدين على بن السلطان الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- فجأة- فى صفر، سنة ثنتين وعشرين وستمائة، بسميساط. ونقل إلى حلب، فدفن بها بظاهرها بتربته. وكان مولده بالقاهرة فى سنة خمس وستين وخمسمائة، يوم عيد الفطر. وكان فاضلا شاعرا حسن الخط قليل الحظّ، تقلّبت به الأحوال. وقد تقدم ذكر ملكه دمشق ومصر، وغير ذلك. ثم استقر آخرا بسميساط. ومما يعزى إليه من الشعر أنه كتب الى الخليفة الناصر- لما أخرج من دمشق «1» ، واتفق عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمه الملك العادل أبو بكر: مولاى، إن ابا بكر «2» ، وصاحبه ... عثمان «3» ، قد غضبا بالسيف حقّ على «4» فانظر إلى حظ هذا الاسم، كيف لقى ... من الأواخر، ما لاقى من الأول فأتاه الجواب من الإمام الناصر، وفى أول الكتاب: وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالود، يخبر أن أصلك طاهر غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبى له بيثرب ناصر فابشر، فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر، فناصرك الامام الناصر

وقيل أن الخليفة جرّد لنصرته سبعين ألف فارس، فبلغه فوات الأمر فأعاد العسكر إلى بغداد. وفيها، فى يوم الخميس سادس عشر ذى الحجة- وقيل سابع عشر ذى القعدة- توفى الإمام فخر الدين أبو عبد الله: محمد بن إبراهيم بن أحمد ابن طاهر، بن أبى الفوارس الخبرى الفارسى الشّيرازى الفيروزبادى، الشافعى الصوفى، من أجلّ مشايخ الطريقة، كبير الشأن. وكانت وفاته بمعبده: معبد ذى النّون بالقرافة الصغرى، على شفير الخندق من غربيّه. ودفن بتربته، وقبره من المزارات المباركة المشهورة. وكان من علماء مشايخ وقته، شديد الهيبة فى قلوب الناس. وله تصانيف كثيرة فى الطريق، وشعر. قدم دمشق فى شهر رجب، سنة ست وستين وخمسمائة، ودخل مصر فى نصف شعبان من السنة: ورحل الى الإسكندرية، وسمع بها من الحافظ السّلفى «1» ، وحدّث بالكثير عنه. وتوفى، وله من العمر ثلاث وتسعون سنة. وجاور بمكة، وحدّث بها. وقال: نحن من خبر سروشين، وهو إقليم من عمل شيراز، مشربهم من جبل الدينار. ولهم خبر آخر يقال له: خبر سمكان، من عمل شيراز أيضا. وخبر ثالث، يقال له: خبر فيروز أباد- خبر بإسكان الباء الموحّدة.

واستهلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة:

واستهلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة: ذكر وصول رسول الخليفة إلى الملوك أولاد السلطان الملك العادل، وطلب الصلح بينهم والاتفاق فى هذه السنة، قدم الشيخ جمال الدين أبو محمد يوسف بن الجوزى «1» ، رسولا من الخليفة الظاهر بأمر الله «2» - إلى السلطان الملك الكامل وإخوته، وصحبته الخلع للملك الكامل، والتقليد بالولاية. والخلع لولديه: الملك المسعود، والملك الصالح. وخلعة لوزيرة الصاحب صفى الدين- وكان قد مات- فأمر السلطان الفخر سليمان، كاتب الإنشاء، أن يلبس خلعة الصاحب، فلبسها. ولبس السلطان وولداه الخلع، وعبروا من باب النصر، وخرجوا من باب زويلة «3» بالقاهرة، وطلعوا إلى القلعة. وكان يوما مشهودا. ووصل أيضا- صحبته- الخلع للملك المعظم شرف الدين عيسى، وللملك الأشرف: مظفر الدين موسى.

وتضمنت رسالته إلى الملك المعظم رجوعه عن السلطان جلال الدين خوارزم شاه» ، والصلح مع إخوته: الملك الكامل والملك الأشرف. وكان الملك المعظم قد راسل السلطان جلال الدين- كما تقدم. ثم بعث إليه مملوكه الركين، فرحّله من تفليس، وأنزله على خلاط. والأشرف يومئذ بحرّان. فقال الملك المعظم للشيخ جمال الدين: الرسول: «إذا رجعت عن السلطان جلال الدين، وقصدنى، إخوتى ينجدوننى؟ قال: نعم. فقال: ليس لكم عادة تنجدون أحدا! هذه كتب الخليفة الناصر عندنا ونحن على دمياط، ونحن نكتب إليه نستصرخ به، ونقول انجدونا. فيجيىء الجواب: إنا قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة، ولم يفعلوا. ثم ضرب له مثلا وحكى عليه حكاية. وقال: إن إخوتى قد اتفقوا علىّ، وقد أنزلت السلطان جلال الدين خوارزم شاه على خلاط. فإن قصدنى الأشرف منعه، وإن قصدنى الكامل قدرت على ملاقاته ودفعه. وفى هذه السنة، عاد الملك المسعود إلى اليمن. وكان عوده فى ذى القعدة. وقد تقدم ذكر وصوله إلى خدمة أبيه بالهدايا، فى سنة إحدى وعشرين وستمائة. وذكر ابن جلب راغب: أن قدومه وعوده كان فى هذه السنة. والله أعلم.

وفيها وصل الملك الأشرف إلى أخيه الملك المعظم بدمشق، وأعطاه رسالة، وتضرع إليه واعترف له بسابق فضله وسالف إحسانه، وسأله أن يرسل إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه يرحّله عن خلاط. فبعث إليه فرحّله عنها، وكان قد أقام عليها أربعين يوما. وسقط عليه وعلى أصحابه بها ثلج عظيم. وأقام الملك الأشرف عند أخيه الملك المعظم بدمشق. وكان المعظم يلبس خلعة خوارزم شاه، ويرحّله عن خلاط. فبعث إليه فرحّله عنها، وكان قد أقام عليها أربعين يوما. وسقط عليه وعلى أصحابه بها ثلج عظيم. وأقام الملك الأشرف عند أخيه الملك المعظم بدمشق. وكان المعظم يلبس خلعة خوارزم شاه، ويركب فرسه، وإذا جلسوا على الشراب يحلف برأس خوارزم شاه، والأشرف يتألم لذلك أشدّ الألم، ولا يستطيع أن يتكلم. ثم توجه الملك الأشرف إلى ضيافة أخيه الملك الكامل بالديار المصرية. وفيها، عقد السلطان الملك الكامل نكاح ابنته على ابن صاحب الروم «1» . وفيها توفى شبل الدولة: كافور بن عبد الله الحسامى «2» ، خادم ست الشام. وكان عاقلا أديبا فاضلا، له حرمة وافرة فى الدولة، ومنزلة عالية عند الملوك. وبنى مدرسة على نهر ثورا «3» وتربة، ووقف عليها الأوقاف، ونقل إليها الكتب الكثيرة. وبنى الخانقاه للصوفية، إلى جانب مدرسته. وفتح

طريقا للناس من الجبل إلى دمشق، قريبة عند القفارات، على طريق عين الكرش. وبنى المصنع الذى على رأس الزّقاق، ومصنعا آخر عند المدرسة. وكان كثير الإحسان إلى الفقراء، وصدقاته دارّة إلى الآن. وسمع الحديث ورواه. وكانت وفاته فى شهر رجب الفرد، ودفن بترتبه إلى جانب مدرسته «1» - رحمه الله تعالى. وفيها فى نصف شهر رجب، توفى قاضى القضاة جمال الدين: أبو محمد وأبو الفضل وأبو الوليد وأبو الفرج: يونس بن بدران بن فيروز، بن صاعد بن على بن محمد بن على، القرشى الشّيبى، الحجازى الأصل، المليجى المولد «2» المصرى الدار، الدّمشقى الوفاة، المعروف بالمصرى. مولده تقريبا سنة خمسين وخمسمائة. وبلده التى ولد بها مليج: من الأعمال المنوفية، بالديار المصرية. تفقه بمصر، وسمع بالإسكندرية والقاهرة. وترسّل لبغداد. وتولى وكالة بيت المال بدمشق، ثم ولى القضاء بها- كما تقدم- فى سنة ثمان عشرة وستمائة. رحمه الله تعالى. وفيها كانت وفاة الشريف حسن بن قتادة، بن إدريس الحسنى: أمير مكة- شرفها الله تعالى. وكان قد ولى الإمارة بعد أبيه كما تقدم- مغالبة- وكان سيىء السّيرة، ظلوما مقداما. وقتل أقباش «3» أمير الحاج العراقى، فى سنة سبع عشرة. وأحدث بمكة أمورا منكرة. ولما وصل الملك المسعود إلى مكة،

واستهلت سنة أربع وعشرين وستمائة:

وأخذها منها، هرب. فتوجه إلى بغداد مريضا، فمات بالجانب الغربى على دكة. فلما علم به، غسّل وكفّن وصلّى عليه وحمل إلى مشهد موسى، ودفن هناك. واستهلت سنة أربع وعشرين وستمائة: فى هذه السنة، عاد الملك الأشرف موسى إلى بلاده. وفيها قدم رسول الأنبرور «1» إلى الملك الكامل، بطلب الفتوح «2» . وتوجه إلى الملك المعظم بدمشق، فأغلظ له. وقال: قل لصاحبك ما أنا مثل الغير، ليس عندى إلا السيف! وفيها كان ختان الملك العادل بن الملك الكامل، وعمل سماط «3» عظيم بالميدان الأسود، تحت قلعة الجبل. ذكر هدم مدينة تنّيس «4» وفى شوال، سنة أربع وعشرين وستمائة، أمر السلطان الملك الكامل

ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الكامل وبين اخيه المعظم

بهدم مدينة تنّيس. وسيّر إليها النّقّابين والحجّارين، فهدّمت بكمالها فى هذا الشهر، وأخليت ولم يبق بها ساكن. وكانت من المدن الجليلة: كدمياط والإسكندرية. ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الكامل وبين اخيه المعظم وفى هذه السنة، تأكدت الوحشة بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك المعظم: صاحب دمشق. فكتب الملك الكامل إلى الأنبرور- ملك الألمان- أن يحضر إلى الشام والساحل، ويعطيه البيت المقدس، وجميع الفتوحات الصّلاحيّة بالساحل. وكتب الملك المعظم إلى السلطان: جلال الدين خوارزم شاه، يسأله أن ينجده ويعينه على أخيه الملك الكامل. ويكون من جملة المنتمين إليه، ويخطب له على منابر بلاده، ويضرب باسمه الدينار والدرهم، فأجابه إلى ذلك. وسيّر إليه خلعة فلبسها، وشقّ بها مدينة دمشق. وغرم على رسل السلطان جلال الدين، فى مدة تسعة أشهر، تسعمائة ألف درهم. وقطع خطبة الملك الكامل.

فتجهز الملك الكامل وخرج لقصد دمشق. فكتب إليه الملك المعظم يقول: إننى قد نذرت لله تعالى أن كل مرحلة رحلت منها لقصدى أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معى وكتبهم عندى، وأنا آخذك بعسكرك. هذا ما كتب له فى الباطن. وكتب إليه فى الظاهر يقول: أنا مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وأنا أول من حضر لخدمتك قبل ملوك جميع الشام والشرق. فأظهر السلطان هذا الكتاب للأمراء، وعاد إلى القاهرة، وقبض على جماعة من الأمراء الذين توهّم فيهم أنهم كاتبوا الملك المعظم: من جملتهم الأمير فخر الدين الطّنبا الحبيشى «1» ، وفخر الدين الطّنبا الفيّومى أمير جاندار، وعشرة من الأمراء البحرية العادلية، وأخذ جميع أموالهم. وفيها، فى يوم الأربعاء، سابع عشر شهر ربيع الأول، توفى القاضى ناصر الدولة أبو الحجاج يوسف، بن الأمير فخر الدين شاهان شاه، بن الأمير عز الدين أبى الفضل غسّان، بن الأمير العظم جلال الدين أبى عبد الله: محمد بن جلب راغب الآمرى «2» ، وقد تجاوز سبعين سنة. وهو من أولاد الأمراء المصريين، لم يزالوا أمراء من الدولة الآمريّة إلى أيام شاور الوزير، فأبادهم وقتل بعضهم. ولما جاء أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية تزيّا القاضى ناصر الدين بزىّ القضاة، وخدم فى الخدم الديوانية، وعند الأمراء. وناصر الدولة هذا هو جد تاج الدين محمد بن

على، المعروف بابن ميسّر «1» ، صاحب التاريخ- رحمه الله تعالى. وفيها فى يوم الأحد تاسع عشر شوال، كانت وفاة قاضى القضاة: عماد الدين عبد الرحمن، بن عفيف الدين أبى محمد عبد العلى بن على، السّكّرى. تفقّه على الفقيه شهاب الدين الطّوسى «2» ، وعلى الفقيه أبو المنصور ظافر بن الحسين «3» . وسمع الحديث وحدّث به. وولى القضاء- كما تقدم. وولى الخطابة بالجامع الحاكمى بالقاهرة، والتدريس بمدرسة منازل العزّ بمصر «4» . ثم صرف عن القضاء والخطابة كما تقدم. وكان هيوبا. وصحب جماعة من المشايخ، وله معهم أحوال ومكاشفات. ومولده بمصر فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

ذكر وفاة الملك المعظم عيسى وشىء من أخباره وسيرته، وقيام ولده الملك الناصر داود

ذكر وفاة الملك المعظم عيسى وشىء من أخباره وسيرته، وقيام ولده الملك الناصر داود وفى هذه السنة، فى يوم الجمعة مستهلّ ذى الحجة، كانت وفاة الملك المعظّم شرف الدين عيسى، بن السلطان الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب بن شادى- صاحب دمشق، وكانت مدة ملكه، بعد وفاة والده الملك العادل، تسع سنين وستة أشهر، إلا ثمانية أيام. ومولده بالقاهرة فى سنة ست وسبعين وخمسمائة. وكان- رحمه الله- قد جهّز العساكر إلى نابلس، خوفا من اتفاق أخيه الملك الكامل مع الأنبرور، فمرض فى منتصف شوال واشتد به مرضه، وأصابه ذرب مفرط حتى رمى قطعة من كبده. وقيل أنه سمّ، ومات وغسّله كريم الدين الخلاطى، والنّجم يصب عليه الماء. وكان قد أوصى أن لا يدفن بقلعة دمشق، وأن يخرج إلى الميدان فيصلّى عليه ويحمل إلى قاسيون، فيدفن على تربة والدته تحت الشجرة. فلم تنفّذ وصيته، ودفن بالقلعة. ثم أخرج منها بعد مدة، لما ملك الملك الأشرف، على حالة غير مناسبة لمثله، وبين يديه نصف شمعة ومعه العزيز خليل، ودفن مع والدته فى القبّة- وفيها أخوه الملك المغيث.

وكان الملك المعظم- رحمه الله تعالى- فقيها فاضلا، نحويّا، قرأ القرآن وتفقه على مذهب أبى حنيفة على الشيخ فخر الدين الرّازى، وحفظ المسعودى، واعتنى بالجامع الكبير. واشتغل بالأدب على تاج الدين الكندى «1» ، فأخذ عنه كتاب سيبويه، وشرحه للسّيرافى، والحجّة فى القراءات لأبى على الفارسى، والحماسة. وقرأ الإيضاح لأبى على، حفظا. وسمع مسند أحمد بن حنبل بدمشق على ابن طبرزد «2» ، وأشياء من مسموعاته. وسمع السّيرة لابن هشام، وغير ذلك. وله ديوان شعر. وصنّف فى العروض، وكان مع ذلك لا يقيم وزن الشعر فى بعض الأوقات. وكان شجاعا مقداما كثير الحيا متواضعا، حسن الصّوت ضحوكا غيورا، جوادا حسن العشرة، محافظا على الصّحبة والمودة وكان إذا خرج إلى الغزاة لا ينام إلا على حبل طرح، وزرديّته مخدّته. ولا يقطع الاشتغال بالقرآن والجامع الكبير وسيبويه. وكان يركب فى كل يوم غالبا، فإذا نزل مدّ السّماط، فإذا أكل الناس انتصب لقضاء الحوائج إلى الظهر.

وكان فى أيام الفتح مع الفرنج يرتب النيران على الجبال، من باب نابلس إلى عكّا. وله جماعة على جبل الكرمل- المقابل لعكا- عليه المنورون، وبينهم وبين الجواسيس علامات. وله فى عكا أصحاب أخبار- وأكثرهم نساء الخيّالة- وكانت طاقات بيوتهم مقابلة الكرمل- فإذا عزم الفرنج على الإغارة فتحت المرأة طاقتها. فإن كان يخرج مائة فارس، أوقدت شمعة واحدة. وإن كانوا مائتين، أوقدت شمعتين. وتشير بالنار إلى الجهة التى يقصد الفرنج الإغارة عليها. وكان الفرنج لا يقصدون جهة، إلا يجدون عسكر المعظم قد سبقهم إليها. وكان يعطى النساء الجواسيس فى كل فتح جملة كثيرة. قال الشيخ أبو المظفر، يوسف سبط ابن الجوزى: قلت للملك المعظم فى بعض الأيام: هذا إسراف فى بيوت الأموال. فقال: أنا أستفتيك: لما أن عزم الأنبرور على الخروج إلى الشام، أراد أن يخرج من عكا بغتة، ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارسا عظيما، وقال له: أخف أمرنا ومجيئنا إلى البلاد لنغير بغتة. وكان بعكا إمرأة مستحسنة، فكتبت إلىّ تخبرنى الخبر. فبعثت إليها ثيابا ملوّنة، ومقانع «1» وعنبرا، فلبست ذلك، واجتمعت بذلك الفارس. فدهش، وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من عند

صديق لى من المسلمين. فقال: من هو؟ فقالت: الكريدى. فصلّب «1» على وجهه، وقام فخرج من عندها. فمازالت تلك المرأة تتلطف به، حتى تسحب المودة بينى وبينه. فصرت أهاديه، حتى كان يبعث إلىّ كتب الأنبرور التى يبعثها إليه، مختومة. وأرسل إليه، فيكتب ما أقول. فأنا أدارى عن المسلمين بهذا القدر اليسير، وأفدى به الخطير، فإن الأنبرور لو جاء بغتة، أسر من أهل الشام، وساق من مواشيهم وأموالهم ما لا يحصى قيمته. وكان الملك المعظم- رحمه الله- قد أمر الفقهاء أن يجرّدوا «2» له مذهب أبى حنيفة، دون صاحبيه. فجّردوا له المذهب فى عشر مجلّدات، وسماه التّذكرة. فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا، ويديم مطالعته. ويكتب على كل مجلّد: أنهاه- حفظا- عيسى بن أبى بكر بن أيوب. قال أبو المظفر: فقلت له: ربما تؤخذ عليك، لأن أكبر مدرس فى الشام يحفظ القدورى «3» مع تفرّغه، وأنت مشغول بتدبير الملك. فقال: ليس الاعتبار بالألفاظ، وإنما الاعتبار بالمعانى. باسم الله، سلونى عن جميع مسائلها

واستهلت سنة خمس وعشرين وستمائة:

وكان رحمه الله تعالى- حسن التدبير للملك. وكان وزيره شرف الدين بن عنين، الشاعر الهجّاء المشهور. واستعفى من الوزارة، وكتب إلى الملك المعظم: أقلنى عثارى، واتّخذها وسيلة ... تكون برحماها إلى الله راقيا كفى حزنى أن لست ترضى، ولا أرى ... فتى راضيا عنى، ولا الله راضيا أخوض الأفاعى طول دهرى دائبا ... وكم يتوفّى من يخوض الأفاعيا فأعفاه. ولابن عنين أخبار نذكرها، إن شاء الله تعالى- عند وفاته. ولما مات الملك المعظم، ملك بعده دمشق ولده: الملك الناصر صلاح الدين داود. فأساء السّيرة، واشتغل عن مصالح دولته بالشرب واللهو والطرب. فاقتضى ذلك ما نذكره، من إخراجه من دمشق. واستهلت سنة خمس وعشرين وستمائة: فى هذه السنة، وصل إلى دمشق الأمير عماد الدين بن الشيخ «1» ، من جهة السلطان الملك الكامل، إلى ابن أخيه الملك الناصر، ومعه جلدك بالخلع والتغيير للملك الناصر. وأقام عماد الدين بدمشق.

وفيها عزم. الملك الكامل على المسير إلى الشام، وبرز بخيامه ظاهر القاهرة. ولما عزم على ذلك سلطن «1» ولده نجم الدين أيوب، ونعته بالملك الصالح، وركب بشعار السّلطنة «2» فى سلخ شعبان، ووالده الملك الكامل مبرّز بظاهر القاهرة. ورتّب السلطان مع الملك الصالح- فى النيابة- الأمير فخر الدين: يوسف بن الشيخ «3» . فأساء الملك الصالح السيرة بعد توجه والده، واشترى بستان الخشّاب «4» ، وعمّر فيه مناظر. ففارقه الأمير فخر الدين بن الشيخ، فى العشرين من شوال، ولحق بالسلطان الملك الكامل. وفيها فى سادس عشر شعبان، أفرج السلطان الملك الكامل عن تاج الدين: يوسف، بن الصاحب صفىّ الدين بن شكر- وكان قد استوزره بعد وفاة والده، ثم اعتقله بعد شهرين- كما تقدم. فأفرج عنه الآن، وأنعم عليه بمائة وخمسين دينارا، واستخدمه موقّعا «5»

واستهلت سنة ست وعشرين وستمائة:

وفيها كانت الوقعة على صور «1» . وذلك أن الملك العزيز عثمان، وصارم الدين التّبنينى، كمنا للفرنج قريبا من صور. فلما تعالى النّهار. خرج أهل صور «2» : فارسهم وراجلهم بمواشيهم، فخرجا عليهم فيمن معهما من الكمين، فقتلوا وأسروا سبعين فارسا، واستاقوا الأغنام والجواميس. ولم يسلم ممن خرج من الفرنج، غير ثلاثة. وفيها توفى شرف الدين أبو المعالى: شكر بن القاضى كمال الدين أبى السعادات، أحمد بن شكر. وهو أخو الوزير الأعز فخر الدّين مقدام. وكان قد ولى نظر ثغر الإسكندرية وغيرها- رحمه الله تعالى. وفيها توفى أبو الفتح: نصر بن صغير بن داغر، أبو خالد القيسرانى الحلبى كان شيخا أديبا، له نظم حسن. رحمه الله تعالى. واستهلت سنة ست وعشرين وستمائة: ذكر تسليم البيت المقدس وما جاوره للفرنج كان تسليم البيت المقدّس وما جاوره للفرنج فى العشر الآخر، من شهر ربيع الأول، من هذه السنة.

وسبب ذلك أن السلطان الملك الكامل، لما اتصلت به أفعال ابن أخيه الملك الناصر داود، خرج من القاهرة فى الثالث والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين، واستناب ولده الملك الصالح كما تقدم، وبقى إلى العشر الأوسط من شهر رمضان، وسار إلى البيت المقدس. ثم عاد ونزل بتلّ العجول «1» . فأرسل الملك الناصر داود الفخر بن بصاقة «2» إلى عمه الملك الأشرف ليستنجده، ويعرفه قصد الملك الكامل بلاده. فجاء الأشرف إلى دمشق، ونزل ببستانه بالنّبرب «3» . ولما شاهد حركات ابن أخيه المذمومة، أطمعته نفسه فى أخذ دمشق لنفسه. ووصل الملك الكامل إلى نابلس، ورتّب الولاة والنّوّاب فى البلاد الساحلية. فبلغه أن الأنبرور فرديك «4» قد وصل إلى يافا فى ميعاده. فعاد إلى تل العجول، وتردّدت الرسائل بينه وبين الأنبرور. وكان السفير بينهما الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، والصّلاح الإربلىّ. فتقرر الصلح على: أن السلطان يعطى الأنبرور البيت المقدس، والقرايا التى على طريقه من يافا إلى

القدس، ومدينة لدّ «1» وتبنين «2» وأعمالها. ووقّعت الهدنة مدة عشر سنين. وتسلم الأنبرور البيت المقدس، وهذه الأماكن. فحضر الأئمة والمؤذنون، الذين كانوا بالصخرة والمسجد الأقصى، إلى باب الدّهليز الكاملى، وأذّنوا فى غير وقت الأذان. فأمر الملك الكامل أن يؤخذ منهم ما معهم من السّتور والقناديل والآلات، وأن يتوجهوا إلى حال سبيلهم. قال: ولما وصلت الأخبار بتسليم بيت المقدس للفرنج، عملت الأعزية فى جميع بلاد الإسلام، بسبب ذلك. وأشار الملك الناصر داود- صاحب دمشق- إلى الشيخ شمس الدين أبى المظفّر: يوسف سبط ابن الجوزى، أن يذكر ما جرى على القدس فى مجلس وعظه بجامع دمشق، ليكون ذلك زيادة فى الشناعة على عمه الملك الكامل. فجلس ووعظ، وقال: انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم فى تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم فى تلك المساكن من دمعة. بالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفت. ولو انقطعت قلوبهم أسفا لما اشتفت. أحسن الله عزاء المسلمين. يا محلّة ملوك المسلمين. لهذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات.

ثم أنشد قوله: أعينىّ لا ترقى «1» من العبرات ... صلى بالبكا الآصال بالبكرات وهى أبيات ذكر فيها البيت المقدّس وفضله، وزوّاره، وما حل به من هذه الحادثة- تركنا ذكرها اختصارا. وكان الملك الأشرف قد قال للملك الناصر داود: أنا أتوجّه إلى عمك الملك الكامل، وأصلح حالك معه. وتوجه إلى السلطان فوجده قد سلّم البيت المقدس للفرنج، فشق ذلك عليه ولامه. فقال الملك الكامل: ما أحوجنى إلى هذا إلا المعظّم- يشير إلى أن المعظم أعطى الأنبرور من الأردنّ إلى البحر، وأعطاه الضّياع التى من باب القدس إلى يافا، وغيرها. ولما اجتمع الملك الأشرف بالملك الكامل اتفقا على حصار دمشق. وقبض الملك الناصر على فخر الدين بن بصاقة «2» ، وابن عمه المكرّم، واعتقلهما فى الجبّ «3» ، واستأصل أموالهما. وكان قد اتهم الفخر أنه حسّن للأشرف الاستيلاء على دمشق.

ذكر توجه السلطان إلى دمشق وحصارها، وأخذها من ابن أخيه: الملك الناصر داود، واستقرار الملك الناصر بالكرك وما معها

وفى هذه السنة فى آخر صفر، فوّض الملك الناصر داود القضاء بدمشق للقاضى: محيى الدين أبى الفضائل، يحيى بن محمد بن على بن محمد بن يحى، القرشى: المعروف بابن الزّكى- شريكا لقاضى القضاة: شمس الدين أحمد الخويى «1» . وعزل القاضى نجم الدين: أحمد بن محمد بن خلف المقدسى- وكان ينوب عن القاضى شمس الدين الخويىّ فى القضاء. وصار الخويىّ وابن الزّكى فى القضاء جميعا. ذكر توجه السلطان إلى دمشق وحصارها، وأخذها من ابن أخيه: الملك الناصر داود، واستقرار الملك الناصر بالكرك وما معها قال: لما سلم السلطان الملك الكامل البيت المقدس وما جاوره إلى الأنبرور، سار إلى دمشق، وصحبه الملك الأشرف. ووصل إليه الملك العزيز عثمان، صاحب بانياس، ومعه ولده الملك الظاهر، فأعطاه خمسين ألف دينار، وأعطى ولده عشرة آلاف، وأنعم عليهما بقماش وخلع، وذلك بمنزلة سكّاء «2»

ثم قدم عليه الأمير عز الدين أيدمر المعظّمى- وكان الملك الناصر بن سيده قد أساء إليه- فأنعم عليه السلطان بعشرين ألف دينار من الخزانة، وكتب له توقيعا بعشرين أردب غلة، على الأعمال القوصيّة، وأعطاه أملاك الصاحب صفى الدين بن شكر. وكان قد عزم على العود إلى الديار المصرية، فلما جاءه الأمير عز الدين قال: قد جاءنى مفتاح الشام، وسار إلى أن وصل إلى دمشق وحاصرها. وكان نزوله عليها فى شهر ربيع الآخر. وشدد الحصار، وضيّق على من بالبلد. فخرج إليه الملك الناصر داود سرّا، ووقف على باب الدّهليز «1» وأرسل مملوكه خلف أحد الحجّاب، فلما جاء إليه الحاجب، قال له: قل لمولانا السلطان: مملوكك داود ابن أخيك بالباب، فأعلم الحاجب السلطان فخرج إليه وتلقاه واعتنقه، فقبّل الناصر رجله وقال: يا عم قد جئتك بذنوبى وهؤلاء حرم أخيك. فبكى الملك الكامل، وقال: والله يا ولدى، لو كان وصولك إلىّ قبل إستنجادك بعمك الأشرف، وحضوره من بلاده- أبقيت دمشق عليك. ولكن إذ جاء الملك الأشرف إلى عندى، أنا أعطيك الكرك والشّوبك «2» والساحل «3» والغور «4» . وإذا سيّرت إليك فلا توافق حتى يكمل لك ألف وخمسمائة فارس. عد إلى مكانك. فعاد الناصر، وهو طيب النفس.

ذكر تسليم دمشق للملك الأشرف

وبلغ الملك الأشرف خروج الملك الناصر الى السلطان، فركب وأسرع ليدركه ويقبض عليه، فلم يدركه. فوبخ الأشرف الكامل على إطلاقه وتمكينه من دمشق. فقال له الملك الكامل: إنه جاءنى وبكى، وقال هؤلاء حرم أخيك. ثم قال الملك الكامل: هؤلاء أولادنا، لابد لهم من مكان يأوون إليه. فقال الأشرف: يكون لهم الشّوبك. فقال الكامل: ما يكفيهم إلا أن تكون الكرك معها. فسيّر إلى الناصر فى إعطائه الكرك والشّوبك، فلم يرض بذلك. ولم يزل إلى أن يقرّر له الكرك والشّوبك والغورين والبلقاء، فأجاب إلى ذلك. وخرج الناصر عن دمشق، وتسلمها الملك الكامل فى غرة شعبان. فكان مدة المقام عليها أربعة أشهر. ومضى إلى الكرك، وتسلم ما أقطع باسمه. وقيل إن السلطان لم يعطه الشّوبك، وسأله إياها، فقال له: يا ابن أخى أنا ليس لى حصن يحمى رأسى، وافرض أن هذا الحصن لك وقد وهبتنى إياه. وإنه أعطاه الكرك وعجلون ونابلس وبلاد القدس. والله أعلم. ذكر تسليم دمشق للملك الأشرف قال: لما تسلم الملك الكامل دمشق، سأله أخوه: الملك الأشرف موسى، أن يهبه دمشق، ويعوّضه عنها حرّا وأعمالها، والرّها وسروج، ورأس عين والرّقّة، وجملين. فرضى كلّ منهما بذلك. وتسلم الملك الأشرف دمشق. ووجه الملك الكامل الأمير فخر الدين بن الشيخ، فتسلم ذلك. وتسلم الملك الأشرف دمشق. وتوجه الملك الكامل إلى هذه الجهات، فرتّب أحوالها.

ذكر أخذ مدنية حماه وتسليمها للملك المظفر

قال: ولما أقام الملك الأشرف بدمشق، دخل عليه شرف الدين بن عنين الشاعر، فلم ير منه ما كان يعهده من الملك المعظم، من الإنبساط، وما كان يقع فى مجلسه من سماع أهاجى ابن عنين، فيما كان يفعله. فنهاه الملك الأشرف، وقال: ليس مجلسى كما عهدت. يكفينى ما أنا فيه، حتى أضيف إليه ثلب المسلمين. فخرج من عنده، وقال: وكنا نرجّى بعد عيسى «1» محمدا «2» ... لينقذنا من شدّة الضّر والبلوى فأوقعنا فى تيه موسى «3» كما ترى ... حيارى، بلا منّ لديه ولا سلوى! فبلغ الأشرف ذلك، فأمر بقطع لسانه. فدخل على جماعة من الأكابر، وحلف أن الشعر ليس له. ثم هرب إلى بلاده بزرع «4» وحوران. فكف الملك الأشرف عن طلبه. ذكر أخذ مدنية حماه وتسليمها للملك المظفر قال: لما توجه السلطان الملك الكامل إلى بلاد الشرق، اجتاز بمدينة حماه، فأخذها من صاحبها: قليج أرسلان بن الملك المنصور «5» - وكان قد

ذكر وفاة الملك المسعود، صاحب اليمن

استولى عليها لما قدم الملك المظفر «1» إلى الملك الكامل بالمنصورة. فلما استقر الملك الكامل بمصر، أرسل إلى قليج أرسلان يقبّح عليه فعله، ويلتمس منه الخروج عن حماه، وإعادتها إلى أخيه. فلم يجب إلى ذلك. فأقطع الملك الكامل المظفر إقطاعا بمصر. فلما اجتاز الملك الكامل الآن بحماه، خرج إليه قليج أرسلان فقبض عليه، وسلّم حماه للملك المظفر، وهو أخو قليج أرسلان، فتسلمها. وفى هذه السنة فى شهر رجب، وصل القاضى بهاء الدين بن شدّاد، قاضى حلب، فى خطبة ابنة السلطان الملك الكامل للملك العزيز بن الملك الظاهر، صاحب حلب. فزوجه السلطان بابنته. وفيها قبض السلطان الملك الكامل على ورثة ولد القاضى الفاضل، وسائر أملاكه. وأخذت الكتب من داره وحملت إلى القلعة، فكانت عدّتها أحد عشر ألف مجلّدا. ذكر وفاة الملك المسعود، صاحب اليمن كانت وفاة الملك المسعود صلاح الدين أقسيس «2» بن السلطان الملك الكامل، صاحب الحجاز واليمن- فى ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة. ومولده فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

وكان بلغه وفاة عمه الملك المعظم بدمشق، فطمع فى الشام. وتجهز جهازا لم يسبقه أحد من الملوك إليه. وذلك أنه نادى فى التجار ببلاد اليمن: من أراد السفر صحبة السلطان إلى الديار المصرية والشام فليتجهز. فتجهز معه سائر التجار الذين وصلوا من الهند، بالأموال والأقمشة والجواهر. فلما تكاملت المراكب، قال اكتبوا لى [ما] معكم من البضائع، لأحميها من الزكاة. فكتبوها له. فصار يكتب لكل تاجر برأس ماله على بعض بلاد اليمن، واستولى على البضائع. فاجتمعوا واستغاثوا، فلم يسمع شكواهم. فيقال إن نقله كان فى خمسمائة مركب، ومعه ألف خادم، ومائة قنطار من العنبر والعود والمسك، ومائة ألف ثوب، ومائة صندوق فيها الأموال والجواهر. وركب إلى مكة، فمرض فى طريقه. فما دخل مكة إلا وقد فلج ويبست يداه ورجلاه، ورأى فى نفسه العبر. فلما احتضر بعث إلى رجل مغربى بمكة وقال: والله ما أرضى لنفسى، من جميع ما معى، كفنا أكفّن فيه، فتصدّق على بكفن! فبعث إليه نصف ثوب بغدادى، ومائتى درهم، فكفنوه بهما. ودفن بالمعلّى. ويقال إن الهواء ضرب المراكب فرجعت إلى زبيد، فأخذها أصحابها.

وحكى أن الملك الكامل- والده- سرّ بوفاته. ولما جاء خزنداره «1» إليه، لم يسأله كيف مات، بل قال: كم معك من المال والتحف! وكان الملك المسعود قد استناب باليمن أستاذ داره «2» : عمر بن على ابن رسول. فتزوج زوجته: ابنة صاحب جوزا «3» وملك البلاد. وكتب إلى السلطان الملك الكامل، وجهّز إليه الأموال والتحف. واستقر على حكم النيابة. ثم استقلّ بعد ذلك بملك اليمن، وتلقب بالملك المنصور. وأرسل رسولا إلى الديوان العزيز فى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فوصل فى سابع عشر صفر منها، فتلقاه بعض الأمراء ودخل، وقبّل العتبة بالباب النّوبى. وحضر فى اليوم الثالث من وصوله إلى دار الوزير وأدّى رسالته، وأنهى إلى الديوان العزيز استيلاء مرسله على جميع بلاد اليمن، وأنه مخلص فى طاعة الديوان.

واستهلت سنة سبع وعشرين وستمائة:

وهو يسأل قبول ما سيّره من التحف والهدايا. حكاه ابن الساعى فى تاريخه. واستمر الملك بالديار اليمانية فيه وفى أولاده من بعده، إلى وقتنا هذا. وفيها فى جمادى الأولى، توفى ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خمارتكين عتيق مجاهد الدين بزان صاحب صرخد. وكان ناصر الدين المذكور صاحب صهيون «1» . وتولى مملكة صهيون بعده ولده مظفّر الدين عثمان. واستهلت سنة سبع وعشرين وستمائة: فى هذه السنة، فى ثانى عشر شهر رجب منها، قدم السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية. وكان سبب عوده أنه بلغه أن ابنه الملك الصالح- نجم الدين أيوب- قد ترتب على الملك بالديار المصرية، وأنه اشترى ألف مملوك، فعاد. وأخرج ابنه الملك الصالح إلى بلاد الشرق، ولم يعطه شيئا.

ولما وصل الملك الكامل إلى قلعة الجبل، عمل له صلاح الدين الإربلى دعوة فى داره، فحضرها السلطان. فأنشده الصلاح: لو تعلم دارنا بمن قد جمعت ... مالت طربا وصفّقت واستمعت والخمرة لو تعلم من يشربها ... كانت شكرت لعاصريها، ودعت وفيها قصّر النيل فلم يوف، وانتهى إلى ثلاثة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين أصبعا وقيل أنه انتهى إلى أربعة عشر ذراعا، وأصابع، وقيل بل بلغ ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. فارتفع سعر الغلّة. فسعّر الملك الكامل القمح بعشرين درهما ورقا «1» الإردب. وأمر مستخدمى «2» الأهراء السلطانية ببيع القمح بخمسة وعشرين درهما ورقا. ومنع الناس من شراء الكثير منه، إلا المئونة. واستمر السعر كذلك بقية السنة. ثم أطلق السلطان سعر الغلّة، فى ثالث المحرم سنة ثمان وعشرين، وأمر أن يباع بالسعر الواقع. فأبيع القمح فى هذا الوقت بخمسين درهما ورقا الإردب، والخبز أربعة أرطال بدرهم ورق. فنال الناس من ذلك شدّة عظيمة. هكذا نقل مؤرخو «3» ذلك العصر. فكيف لو شاهدوا ما شاهدناه فى- سنة خمس وتسعين وستمائة، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى.

ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك

ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك وفى هذه السنة، بعث الملك الأشرف- صاحب دمشق- أخاه الملك الصالح إسماعيل إلى بعلبكّ. فحصرها ونصب عليها المجانيق «1» ، ورماها بأحجارها. ثم توجه إليها الملك الأشرف. ودخل الصاحب صفى الدين- إبراهيم ابن مرزوق- بين الملك الأشرف والملك الأمجد صاحب بعلبك، وحصل الاتفاق. فتسلمها الملك الأشرف، وانتقل الأمجد منها إلى دمشق. وأقام بداره بها، وهى الدار المعروفة بدار السعادة، التى ينزلها نوّاب السلطنة فى وقتنا هذا. ولم تطل مدة حياته، فإنه قتل فى سنة ثمان وعشرين وستمائة. وفيها استولى السلطان: جلال الدين خوارزم شاه «2» على مدينة خلاط، بعد أن حاصرها مدة عشرة أشهر. وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار جلال الدين. ولما ملكها، أخذ منها مجير الدين يعقوب وتقىّ الدين عباس: ابنى «3» الملك العادل، وأخذ الكرجيّة: زوجة الملك الأشرف، ودخل بها من ليلته. وقتل عز الدين أيبك الأشرفى.

وبلغ الملك الأشرف ذلك، وهو بدمشق، والملك الكامل بالرّقّة «1» فتوجه من دمشق إلى الرقة. وأتته رسل السلطان علاء الدين كيقباذ- صاحب الروم «2» - فى الإجتماع على حرب جلال الدين. فاستشار الملك الأشرف أخاه الملك الكامل فى ذلك، فأشار به. وقطع الملك الكامل الفرات فى سبعة آلاف فارس، وتوجه إلى الديار المصرية- للسبب الذى ذكرناه. وسار الملك الأشرف إلى حرّان فى سبعمائة فارس، فأقام بها. وكتب إلى حلب والموصل والجزيرة فجاءته العساكر، وتوجه إلى صاحب الروم واجتمعوا. والتقوا بالسلطان جلال الدين خوارزم شاه، فكسروه. وقد ذكرنا خبر استيلاء جلال الدين على خلاط، فى أخباره. وذكرنا خبر هذه الكسرة فى أخبار السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم، فى أخبار الدولة السّلجقيّة. فلنذكر الآن ما يتعلق بالملك الأشرف. ولما انهزم جلال الدين، قال الملك الأشرف للسلطان علاء الدين كيقباذ: لا بدّلى من خلاط. فأعطاه علاء الدين. وأنعم على أصحابه: من الأموال والخلع. والثياب والتّحف والخيول، ما قيمته ألفا ألف دينار.

وتوجه كيقباذ إلى بلاده، وجرّد فى خدمة الملك الأشرف جماعة، فتوجه بهم إلى خلاط. فوجد جلال الدين قد أخذ مجير الدين وتقىّ الدين والكرجيّة معه. فساق الأشرف خلفه. ثم تراسلا، واصطلحا. فأطلق جلال الدين مجير الدين وتقىّ الدين، وبعث بهما إلى الخليفة ببغداد. فأنعم الخليفة على كل منهما بخمسة آلاف دينار. وعاد الملك الأشرف إلى دمشق، فى سنة ثمان وعشرين وستمائة. فأقام بها شهرا، وتوجه إلى أخيه الملك الكامل بالديار المصرية. وفى هذه السنة، استخدم الملك المظفّر: شهاب الدين غازى- صاحب ميّافارقين- العزّ بن الجاموس على ديوانه. وأمّره وأعطاه الكوسات «1» والأعلام، وقدّمه على جماعة ومكّنه. ودعى بالصاحب الأمير عز الدين. فظلم الناس وعسفهم، وأخذ أموالهم. فلم تمهله المقادير، ومات فى بقية سنة سبع وعشرين بميّافارقين. واستولى الملك المظفر على تركته، وظهر له سوء فعله، فصار يصرّح بلعنه. وجاء عمه من دمشق يطلب ميراثه، فسبه المظفر، ثم أعطاه ألف درهم وعاد إلى دمشق.

واستهلت سنة ثمان وعشرين وستمائة:

وفيها، فى ثامن جمادى الآخرة، توفى بمصر الفقيه الإمام: شرف الدين أبو عبد الله محمد، بن الشيخ أبى حفص عمر، بن الشيخ أبى عبد الله محمد بن عمرو بن جعفر، الأزدى الغسّانى، المالكى- المعروف بابن الّلهيب. ومولده فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وتولى التدريس بالمدرسة الصّاحبيّة «1» بالقاهرة، إلى حين وفاته. وهو من بيت الخير والصلاح والفقه. واستهلت سنة ثمان وعشرين وستمائة: فى يوم الاثنين، عاشر جمادى الآخرة، قدم الملك الأشرف إلى القاهرة، لخدمة السلطان الملك الكامل- ومعه صاحب الجزيرة. وفيها، فى منتصف شعبان، إبتدأ السلطان الملك الكامل بحفر البحر، من دار الوكالة إلى صناعة التّمر الفاضلية. واستعمل فيه الملوك والأمراء، وعمل بنفسه. وكان هذا البحر فى أوان احتراق النيل يكون طريقا سالكا إلى المقياس. وتمر المراكب ما بين الروضة والجيزة. ثم صار على العكس من ذلك فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة «2» ، فصار فى احتراق النيل ليس بين الروضة وبين بر الجيزة غير ماء قليل يخاض، فلا يغطّى أكثر من خلخال. ثم أخذ فى الزيادة بعد ذلك. إلى أن صار، فى سنة عشرين وسبعمائة «3»

وما بعدها تسافر فيه المراكب صيفا وشتاء. والبحران الآن على ذلك. ولكن البحر فيما بين الروضة ومصر أكثر، وهو البحر الذى تسافر فيه السفن فى الاحتراق. نعود إلى سياقة أخبار سنة ثمان وعشرين وستمائة. وفيها بنى أسد الدين شيركوه- صاحب حمص والرّحبة- قلعة بالقرب من سلميّة «1» وسماها شميمس، وهى على تلّ عال. وفيها كان مقتل الملك الأمجد: بهرام شاه، بن فرّخشاه، بن شاهنشاه ابن أيوب- صاحب بعلبكّ. كان وكانت بعلبك بيده، منذ أعطاه إياها السلطان الملك الناصر صلاح الدين عند وفاة أبيه، فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. فلم تزل بيده، إلى أن انتزعها الملك الأشرف منه- كما تقدم- فى السنة التى قبلها. وأعانه على ذلك صاحب حمص: أسد الدين شيركوه. وكان سبب مقتله أن بعض مماليكه سرق له حياصة «2» ودواة- قيمة ذلك مائتا دينار- وخبّأ هما عند مملوك آخر، فلما ظهر له ذلك حبس السارق فى خزانة داره- والخزانة خلف المكان الذى يجلس فيه الملك الأمجد- وتوعّد ذلك المملوك- بقطع اليد. فلما كانت ليلة الأربعاء، ثانى عشر شوال، جلس على عادته أمام الخزانة- وعنده عباس بن أخى الشريف البهاء وهما يلعبان بالنّرد، وعنده فهيد المنجّم وبيده الاسطرلاب ليأخذ له طالع الوقت.

فقال له فهيد: يا مولانا انظر إلىّ، فهذه ساعة سعيدة، لو أردت أخذ دمشق لأخذتها. فقال له: لا تكلّمنى، فقد تعيّن لى الغلب! وكان مع المملوك الذى فى الخزانة سكّين، فعالج رزّة الخزانة برفق فقلعها، وفتح الباب. فهجم على الملك الأمجد وأخذ سيفه فجذبه وضربه به. فصاح، فحلّت الضّربة كتفه، ونزل السيف إلى ثديه. ثم ضربه أخرى، فقطع يده وقطعته فى خاصرته. وهرب يصعد إلى السطح، فتبعوه. فألقى نفسه إلى الدار. فماتا جميعا. وجهّز الملك الأمجد ودفن فى تربة أبيه، التى على الميدان على الشّرف الشّمالى. وكان فاضلا شاعرا، وله ديوان شعر بأيدى الناس- رحمه الله تعالى. قال أبو المظفر: ورآه بعض أصحابه فى المنام بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: كنت من ذنبى على وجل ... زال عنى ذلك الوجل أمنت نفسى بوائقها «1» ... عشت لما متّ يا رجل قال أبو المظفر: وكان الأمجد قد قتل ابنا له جميلا، كان واطأ عليه الملك العزيز عثمان «2» ، وكتب إليه يقول: قد يسّرت باب السّرّ «3» فسر إلينا

وقت السّحر. وكان الملك العزيز بالصّبيبة «1» ، فسار منها فى أول الليل- والمسافة بعيدة- فوصل إلى بعلبك وقد طلعت الشمس ففاته الغرض. واطلع الأمجد على ما فعله ابنه فقتله. وقيل بنى عليه بيتا، فمات. وفيها توفى المهذّب الدّخوار، الطبيب «2» : رئيس الأطباء بدمشق. وكان طبيبا حاذقا، وما كان يرى أن فى الدنيا مثله. وكان يقرأ عليه الطّب. وكانت له دار بدمشق وبستان، فوقف الدار مدرسة يقرأ فيها الطب، ووقف بستانه عليها. والمدرسة باقية بدمشق، تعرف بالدّخوارية، رأيتها فى سنة ثلاث وسبعمائة. وفيها، فى ثامن عشر شعبان، توفى الأمير شجاع الدين أبو المنصور: جلدك بن عبد الله المظّفرى التّقوى «3» ، بالقاهرة. سمع من الحافظ السّلفى. وكان مكرّما لأهل العلم والفضلاء، مساعدا لهم بماله وجاهه. وحضر مواقف كثيرة فى قتال العدو بالساحل. وتولى ثغر دمياط والإسكندرية، وقوص، وشدّ الدواوين «4» ، وغير ذلك. وكان يكتب فى

واستهلت سنة تسع وعشرين وستمائة:

كل بلد يتولاه ختمة. فحكى عنه أنه قال: كتبت بخطى أربعا وعشرين ختمة. وكان قد قارب ثمانين سنة- وقيل مات فى عشر التسعين. والله أعلم. واستهلت سنة تسع وعشرين وستمائة: فى هذه السنة توجه السلطان الملك الكامل إلى بلاد الشرق، بسبب فتح آمد. وسنذكر ذلك. وفيها- فى جمادى- عزل قاضى القضاة: شمس الدين بن سنىّ الدولة الخويّى، وقاضى القضاة شمس الدين بن سنىّ الدولة- جميعا- عن قضاء القضاة بدمشق، وفوّض ذلك إلى قاضى القضاة: عماد الدين عبد الكريم، بن قاضى القضاة جمال الدين الحرستانى. وفيها توفى الأمير فخر الدين عثمان بن قزل الكاملى بحرّان، فى الثامن والعشرين من ذى الحجة، ودفن بظاهرها. ومولده بحلب فى سنة إحدى وستين وخمسمائة. وكان أحد الأمراء الأكابر فى الدولة الكاملية. وكان راغبا فى فعل الخير، مبسوط اليد بالصدقة والإسعاف، يتفقّد أرباب البيوت وغيرهم. وأنشأ المدرسة المعروفة بالقاهرة المعزّيّة، والمسجد المقابل لها، وكتّاب السبيل والرّباط بالقرافة بسفح المقطّم. وأوصى بوصيّة ذكر فيها كثيرا من أنواع البر- رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثلاثين وستمائة:

واستهلت سنة ثلاثين وستمائة: ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وحصن كيفا «1» كان الاستيلاء على ذلك فى سنة ثلاثين وستمائة. وكان السلطان قد توجّه فى سنة تسع وعشرين وستمائة، واستقّل ركابه من مقرّ ملكه، بقلعة الجبل المحروسة بظاهر القاهرة المعزّيّة، فى ثامن جمادى الآخرة، واستصحب عساكر الديار المصرية. ووصل إلى دمشق واستصحب أخاه الملك الأشرف، وولده الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكان سبب قصده هذه الجهة أن أخاه الملك الأشرف، بما حضر إلى الديار المصرية، عرّف السلطان أن الملك المسعود مودود بن الملك الصالح بن أرتق، صاحب آمد وبلادها وحصن كيفا- قد اشتغل عن مملكته باللهو والشرب والطرب، وأنها خالية من العساكر. فتجهّز إليها. ولما بلغ الملك المسعود أن السلطان قصد بلاده، بادر بإرسال وزيره شرف العلا إلى السلطان يستعطفه، ويسأل مراحمه فى إبقاء ما بيده والكفّ عن طلبه. فوصل إلى السلطان، وكان إلبا «2» على صاحبه، وعرّف السلطان إقباله على اللهو والطرب، وأن مملكته خالية من العساكر، فأطمعه فى أخذ البلاد.

فسار إليها، ونازلها فى يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذى الحجة ونصب عليها المجانيق. وأنذر صاحبها الملك المسعود ووعده بالإقطاعات الكبيرة، فلم يصغ إلى ذلك. ثم شاهد الغلبة، فخرج إلى السلطان وفى عنقه منديل. فوكّل به، وتسلّم آمد فى مستهل المحرم، سنة ثلاثين وستمائة. واستولى على أمواله وذخائره، وطلب منه تسليم القلاع فسلّمها بجملتها. ودخل الملك الكامل إلى آمد. فترجّل فى خدمته جميع الملوك الأيوبية، وسائر ملوك الشرق- إلا صاحب الروم السلطان: علاء الدين كيقباذ السّلجقى، وصاحب الجزيرة «1» الملك المعظّم: محمد بن سنجر شاه، فإنهما أرادا أن يترجّلا فلم يمكّنهما الملك الكامل من ذلك، ودخلا راكبين لركوب السلطان، ونزلوا جميعا فى القلعة. وبقى حصن كيفا بيد نائبه، لم يسلّمه. فكتب الملك المسعود إلى نائبه أن يسلمه، فامتنع من ذلك. فبعث السلطان الملك الكامل أخاه الملك الأشرف إلى الحصن، ومعه الملك المسعود، فتوجه به وعاقبه تحت الحصن، وكان يبغضه، فأصر النائب على الامتناع من تسليمه. وكان بينهما إشارة، فلما آلمته العقوبة جاء إلى تحت الحصن، وقبض على شعر نفسه وقطعه بمقصّ، فعند ذلك سلّم النائب الحصن- وكانت هذه إشارة بينهما. وكان تسليم الحصن فى صفر من السنة.

وكان الملك المسعود، لما حاصر السلطان آمد، قد كتب إلى نائبه بحصن كيفا يقول له: من مرّ عليك من أهل الجزيرة فاعتقله، لأن صاحب الجزيرة كان قد توجه إلى خدمة السلطان الملك الكامل. وكان المتولى يرصد القفول إذا مرّت بالحصن، فمن كان منهم من أهل الجزيرة قبض عليه واعتقله. واجتمع فى حبسه خلق كثير منهم. فلما فتح الحصن أفرج السلطان عنهم. وأنعم الملك الكامل على ولده، الملك الصالح نجم الدين أيوب، بحصن كيفا وأعماله- وكان، منذ أخرجه من الديار المصرية، بغير ولاية. وجعل شهاب الدين غازى- بن شمس الملوك- نائب السلطنة بآمد. ومعين الدين بن الشيخ الوزير، والطّواشى شمس الدين صواب العادلى متولى تدبير تلك الممالك. قال أبو المظفر: قال لى الملك الأشرف: وجدنا فى قصر الملك المسعود خمسمائة حرّة من بنات الناس للفراش. وعاد السلطان إلى الديار المصرية فى سنة ثلاثين وستمائة، واستصحب أكابر أهل آمد وأعيانها، صحبته، إلى الديار المصرية- وكان منهم بدر الدين، وموفق الدين، وابن أخيهما شمس الدين، وجماعة كبيرة. فأما هؤلاء الثلاثة فإنهم باشروا وترقوا فى المناصب بالديار المصرية، والشام. ومن عداهم من أهل آمد نالتهم فاقة شديدة وضرورة، حتى استعطوا بالأوراق. وأما الملك المسعود فإن السلطان أنعم عليه بالإقطاعات بالديار المصرية.

ذكر توجه رسول السلطان الملك الكامل إلى بغداد، وعوده هو ورسول الخليفة بالتقليد

ذكر توجه رسول السلطان الملك الكامل إلى بغداد، وعوده هو ورسول الخليفة بالتقليد «1» فى هذه السنة توجّه القاضى الأشرف: بهاء الدين أبو العباس، أحمد ابن القاضى محيى الدين عبد الرحيم البيسانى- رسولا من جهة السلطان الملك الكامل إلى الدّيوان العزيز. فعاد فى صحبة رسول الخليفة «2» ، وهو الشيخ جمال الدين أبو محمد يوسف بن الجوزى، ومعهما جماعة من الأجناد. وأعطى ابن الجوزى محفّة تمييزا له. ونفّذ معهما تقليد، من إنشاء الوزير أبى الأزهر: أحمد بن النّاقد «3» ، بخطّ العدل ناصر بن رشيد الحربوى «4» . وفى أعلاه بخط الوزير ما مثاله: للآراء المقدسة- زادها الله تعالى جلالا وتعظيما- مزيد فى شرفها فى تتويجه. والعلامة المستنصرية عليه، تحت البسملة: «الله القاهر فوق عباده» .

ونسخة التقليد

ونسخة التقليد بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذى أطمأنّت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كلّ شىء رحمته، وظهرت فى كلّ أمر حكمته. ودلّ على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا، وخلق كلّ شىء فقدّره تقديرا- ممدّ الشاكرين بنعمائه التى لا تحصى عددا. وعالم الغيب الذى لا يظهر على غيبه أحدا. لا معقّب لحكمه فى الإبرام والنّقض، ولا يئوده حفظ السموات والأرض. تعالى أن يحيط به الضّمير، وجلّ أن يبلغ وصفه البيان والتفسير، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. وأحمد الله الذى أرسل محمدا- صلى الله عليه وسلم- بالحق، بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا. وابتعثه هاديا للخلق، وأوضح به مناهج الرّشد وسبل الحق. واصطفاه من أشرف الأنساب وأعزّ القبائل. واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل، وجعله لديه أعظم الشّفعاء وأقرب الوسائل. فقذف- صلى الله عليه- بالحقّ على الباطل. وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجّة» البيضاء والسّنن العادل، حتى استقام إعوجاج كل زائغ، ورجع إلى الحق كلّ حائد عنه ومائل. وسجد لله كلّ شىء يتفيّا ظلاله عن اليمين والشمائل. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام

الأفاضل، صلاة مستمّرة بالغدوات والأصائل- خصوصا على عمّه وصنو «1» أبيه: العباس بن عبد المطلب، الذى اشتهرت مناقبه فى المجامع والمحافل. ودرّت ببركة الاستسقاء به أخلاف «2» السّحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول- صلى الله عليه وسلم- على عقبه. فى الخلافة المعظّمة، بما لم يفز به أحد من الأوائل. والحمد الله الذى حاز شريف مواريث النبوة والإمامة، ووفّر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيه ومحيى شريعته: الذى أحلّه الله عز وجلّ من معارج «3» الشرف والجلال فى أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهى بأمتن عصمة وأوثق عروة، واستخرجه من أشرف نجار «4» وعنصر، واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر، ونصبه للمؤمنين علما، واختاره للمسلمين إماما وحكما، وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القوىّ والضعيف: إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين: أبى جعفر المنصور، المستنصر بالله، أمير المؤمنين، ابن الإمام السعيد التقىّ أبى نصر محمد: الظاهر بأمر الله، [ابن الإمام السعيد الوفىّ أبى العباس أحمد: الناصر لدين الله] «5» ، ابن الإمام السعيد الزكى: أبى محمد الحسن المستضىء بأمر الله، أمير المؤمنين-

صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديّين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض، وهم عنه راضون. وبعد: فبحسب ما أفاضه الله تعالى على أمير المؤمنين- صلوات الله عليه وسلامه- من خلافته فى الأرض، وفوّضه إلى نظره المقدّس فى الأمور من الإبرام والنقض، واستخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى شريف نظره ومقدّس اجتهاده- لا يزال صلوات الله عليه- يكلأ العباد «1» بعين الرّعاية، ويسلك بهم فى المصالح العامة والخاصة مذاهب الرّشد وسبل الهداية، وينشر عليهم جناحى عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر فى ارتياد «2» الأمناء الصّلحاء، من خلصاء أكفائه وأعوانه- متخيّرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعى وتعرّف إليه فى سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدّواعى، وسلك فى مفروض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل. وعلم منه حسن الاضطلاع فى مصالح المسلمين بالعبء الثقيل. والله عز وجل يؤيّد آراء أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- بالتأييد والتسديد. ويمدّه أبدا من أقسام التوفيق الإلهى بالموفور والمزيد، ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح ويسنّى له فيما يأتى ويذر أسباب الخير والصلاح. وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله- عليه يتوكّل وإليه ينيب.

ولما وفّق الله تعالى نصير الدين: محمد «1» ، بن سيف الدين أبى بكر، بن أيوب- من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، والخطوة فى جهاد أعداء الدين بالمساعى الصالحة، والفوز من المراضى الشريفة الإمامية- أجلّها الله تعالى- بالمغانم الجزيلة والصّفقة الرابحة- لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه. وشفع تالده «2» فى تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه «3» . واستوجب بسلوكه فى الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع فى الإنعام عليه بمنشور شريف إمامى يسلك فى اتّباعه هداه. والعمل بمراشده سواء الصراط وقصد السبيل- اقتضت الآراء الشريفة المقدسة- زادها الله تعالى جلالا متألّق الأنوار، وقدسا يتساوى فى تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار- الإيعاز بإجابته إلى ما وجّه أمله إلى الإنافة «4» فيه به إليه. والجذب بضبعه «5» إلى ذروة الاجتباء الذى تظهر أشعّة أنواره الباهرة عليه. فقلّده- على خيرة الله تعالى- الزّعامة والصّلاة، وأعمال الحرب، والمعاون «6» والأحداث «7» ، والخراج والضّياع، والصّدقات والجوالى «8» ، وسائر وجوه الجبايات، والفرض والعطاء «9» والنفقة فى

الأولياء، والمظالم والحسبة فى «1» بلاده، وما يفتتحه ويستولى عليه من بلاد الفرنج الملاعين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده، من المارقين عن الإجماع المنعقد بين المسلمين، ومن يتعدّى حدود الله تعالى، بمخالفة من جعلت الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته- ضاعف الله جلاله- بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولة، حيث قال- عزّ من قائل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم. واعتمد- صلوات الله عليه وسلامه- فى ذلك على حسن نظره، ومدد رعايته. وألقى مقاليد التفويض فيه إلى وفور اجتهاده، وكمال سياسته. وخصّه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلّد له على ممرّ الزمان حسن ذكره وجزيل فخاره. وحباه بتقليد يوطّد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده «2» رتاج «3» الأبواب والمسالك، ويفيد قاعدته فى بلاده زيادة تقرير وتمهيد، ويطير به صيته فى كل قريب وبعيد.

ووسمه بالملك الأجلّ: السيد الكامل، المجاهد المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، جمال الأنام، جلال الدولة فخر الملة. عزّ الأمة. سند الخلافة. تاج الملوك والسلاطين.، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، إلب غازى بك، محمد، بن أبى بكر بن أيوب، معين أمير المؤمنين- رعاية لسوابق خدمه، وخدم آبائه وأسلافه، وإبانة عن وفور احتبائه «1» ، وكمال ازدلافه «2» . وإنافة به «3» من ذروة القرب إلى محلّ كريم، وإختصاصا له بالإحسان الذى لا تلقّاه إلا من هو- كما قال الله تعالى- ذو حظّ عظيم- وثوقا بصحة ديانته التى يسلك فيها سواء سبيله، وإستنامة إلى أمانته فى الخدمة التى ينصح فيها لله تعالى ولرسوله. وركونا إلى [كون] الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى فى أحسن موضع، واقعا به لديه فى خير مستقرّ ومستودع. وأمير المؤمنين- صلوات الله عليه- لا زالت الخيرة موصولة بآرائه، والتأييد الإلهى مقرونا بإنفاذه وإمضائه- يستمدّ من الله عز وجل حسن الإعانة فى اصطفائه، الذى اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدى إليه إرتياده المقدّس الإمامى واجتهاده. وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل-. أمره بتقوى الله تعالى، التى هى الجنّة الواقية، والنّعمة الباقية، والملجأ المنيع والعماد الرفيع، والذّخيرة النافعة فى السّر والنّجوى، والجذوة

المقتبسة من قوله سبحانه: وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى. وأن يدّرع شعارها فى جميع الأقوال والأفعال، ويهتدى بأنوارها فى مشكلات الأمور والأحوال. وأن يعمل بها سرّا وجهرا، ويشرح للقيام بحدودها الواجهة صدرا. قال الله تعالى: ومن يتّق الله يكفّر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وأمره بتلاوة كتاب الله متدبّرا غوامض عجائبه، سالكا سبيل الرّشاد والهداية فى العمل به. وأن يجعله مثالا يتّبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدى بمراشده الواضحة فى أوامره ونواهيه. فإنه الثّقل الأعظم، وسبب الله المحكم، والدليل الذى يهدى للّتى هى أقوم. ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبيّن لهم بهداه الرّشد والضلال. وفرّق بدلائله الواضحة وبراهينه الصادعة بين الحرام والحلال. فقال- عزّ من قائل-: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتّقين. وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب. وأمره بالمحافظة على مفروض الصّلوات، والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات. وأن يكون نظره فى موضع نجواه من الأرض، وأن يمثّل لنفسه فى ذلك موقفه بين يدى الله تعالى يوم العرض. قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون. وقال سبحانه: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا. وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة، ولا يلهو بسبب عن اقامة سننها الراتبة، فانها عماد الدّين الذى سمت أعاليه، ومهاد الشّرع الذى رست قواعده ومبانيه. قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين. وقال سبحانه: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد. ويقوم فى ذلك بما فرض الله تعالى عليه وعلى العباد. وأن يتوجه إلى المساجد والجوامع متواضعا، ويبرز إلى المصلّيات الضاحية فى الأعياد خاشعا. وأن يحافظ فى تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب. ويعظّم باعتماد ذلك شعائر الله التى هى من تقوى القلوب. وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه، بيوت الله التى هى محالّ البركات ومواطن العبادات، والمساجد التى تأكّد فى تعظيمها وإجلالها حكمه والبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وأن يرتّب لها من الخدم من يتبتّل «1» لإزالة أدناسها. ويتصدّى لإذكاء مصابيحها فى الظلام وإيناسها. ويقوم لها بما تحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات. ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات. وأمره باتّباع سنّة النبى- صلى الله عليه وسلم- التى أوضح جددها «2» وثقّف- عليه السلام- أودها «3» . وأن يعتمد فيها على الأسانيد التى نقلها الثّقات. والأحاديث التى صحّت بالطّرق السليمة والروايات. وأن يقتدى بما جاءت به من مكارم الأخلاق، التى ندب- صلى الله عليه وسلم- إلى التمسك بسببها، ورغّب أمته فى الأخذ بها والعمل بأدبها. قال الله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» . وقال سبحانه وتعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» .

وأمره بمجالسة أهل العلم والدين، وأولى الإخلاص فى طاعة الله تعالى واليقين. والاستشارة بهم فى عوارض الشك والالتباس. والعمل بآرائهم فى التمثيل والقياس. فإن فى الاستشارة بهم عين الهداية، وأمنا من الضّلال والغواية. وبها يلقح عقم الأفهام والألباب، ويقتدح زناد الرّشد والصواب. قال الله تعالى فى الإرشاد إلى فضلها، والأمر فى التمسك بحبلها: «وشاورهم فى الأمر» . وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر فى ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره. مستصلحا نيّاتهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التّفحّص عنها والتّفقّد. وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم. وتهديهم فى انتظامها واتّساقها إلى الصراط المستقيم. وتحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتّلزّم بها بأقوى الأسباب وأمتن العصم. ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والئتلاف. ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف. وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم فى الإعطاء والمنع. وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرّفع. وأن يثيب المحسن منهم على إحسانه، ويسبل على المسىء- ما وسعه العفو واحتمل الأمر- صفحه وامتنانه. وأن يأخذ برأى ذوى التجارب منهم والحنكة، ويجتنى بمشاورتهم فى الأمر ثمر الشّركة. إذ فى ذلك أمن من خطأ الإفراد، وتزحزح عن مقام الزّيغ والاستبداد.

وأمره بالتّبتّل «1» لما يليه من البلاد ويتّصل بنواحيه من ثغور أولى الشرك والعناد. وأن يصرف مجامع الالتفات إليها. ويخصّها بوفور الإهتمام بها والتطلع عليها. وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهى فى أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة «2» الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها من يختاره من الأمناء التّقاة. ويسدها بمن ينتخبه من الشجعان الكماة «3» . وأن يتأكد عليهم فى أسباب الحيطة والاستظهار، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار. وأن يكون المشار إليهم ممن تربّوا فى ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد وتدربوا فى نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد وكثرة العدد، والتوسعة فى النفقة والعطاء. والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم فى التقصير والغناء. إذ فى ذلك حسم لمادّة الأطماع فى بلاد الإسلام، ورد لكيد المعاندين من عبدة الأصنام. فمعلوم أن هذا الغرض أولى ما وجّهت إليه العنايات وصرفت، وأحقّ ما قصرت عليه الهمم ووقفت. فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التى ألزم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التى كتب العمل بها على خلقه. فقال سبحانه وتعالى- هاديا فى ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضا لعباده على

قيامهم له بفروض الجهاد: «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة «1» فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفّار، ولا ينالون من عدوّ نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا- إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون» . وقال تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» * «2» . وقال النبى صلى الله عليه وسلم: من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر. وقال عليه السلام: غدوة فى سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس. هذا قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها. فكيف بمن كان كما قال عليه السلام: ألا أخبركم بخير الناس: ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله، كلّما سمع هيعة «3» طار إليها. وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى فى رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه، وأن يسلك فى السياسة بهم سبل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح. ويمدّ ظلّ رعايته على مسلمهم ومعاهدهم، ويزحزح الأقذاء والشّوائب عن مناهلهم فى العدل ومواردهم. وينظر فى مصالحهم نظرا يساوى بين الضعيف والقوى، ويقوم بأودهم قياما يهتدى به ويهديهم فيه إلى الصّراط السّوىّ.

قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . وأمره باعتماد أسباب الاستظهار والأمنة، واستقصاء الطاقة المستطاعة والقدرة الممكنة، فى المساعدة على قضاء تفث «1» حجّاج بيت الله الحرام وزوّار نبيّه- عليه أفضل الصلاة والسلام. وأن يمدّهم بالإعانة فى ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التّخطّف والأذى فى حالتى الظّعن والمقام. فإن الحجّ أحد أركان الدين المشيّدة وفروضه الواجبة المؤكّدة. قال الله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت. وأمره بتقوية أيدى العاملين بحكم الشرع فى الرّعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوى الاستحقاق، والشّدّ على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق. وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن إجابة داعى الحكم، أو تقاعس فى ذلك لما يلزم من الأداء والغرم- جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشّرع، واضطره بقوة الإنصاف إلى الأداء بعد المنع. وأن يتوخّى عمّال الوقوف التى تقرّب المتقرّبون بها، واستمسكوا فى ظل ثواب الله بمتين سببها. وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة وحسن الموازرة والمعاضدة، فى الأسباب التى تؤذن بالعمار والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء. قال الله تعالى: وتعاونوا على البرّ والتقوى.

وأمره أن يتخيّر من أولى الكفاية والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب من أداء الأمانة والحراسة والتّتمير، لبيت المال وأن يكونوا من ذوى الاضطلاع بشرايط الخدم المعيّنة وأمورها، والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها. وأن يتقدّم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقّنة، وجبايتها فى أوقاتها المعيّنة. إذ ذاك من لوازم مصالح الجند ووفور الاستظهار، وموجبات قوّة الشّوكة بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحيطة التى يحمى بها البلاد والأمصار. ويأمرهم بالجرى فى الطّسوق «1» والشّروط على النّمط المعتاد، والقيام فى مصالح الأعمال أقدام الجدّ والاجتهاد. وإلى العاملين على الصّدقات بأخذ الزّكوات على مشروع السّنن المهيع «2» ، وقصد الصّراط المتّبع، من غير عدول فى ذلك عن المنهاج الشرعى، أو تساهل فى تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعى فإذا أخذت من أربابها الذين يطّهّرون ويزكّون بها سعى فى العمل فى صرفها إلى مستحقّيها بحكم الشريعة النبوية وموجبها. وإلى جباة الجزية من أهل الذّمّة بالمطالبة بأدائها فى أول السّنة، واستيفائها منهم على حسب أحوالهم بحكم العادة فى الثّروة والمسكنة. إجراء فى ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام. وأمره أن يتطّلع على أحوال كل من يستعمله فى أمر من الأمور، ويصرّفه فى مصلحة من مصالح الجمهور، تطلّعا يقتضى الوقوف على حقائق أماناتهم،

ويوجب تهديتهم فى حركاتهم وسكناتهم، ذهابا مع النّصح لله تعالى فى بريّته، وعملا بقول النبى صلى الله عليه وسلم: كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته. وأمره أن يستصلح من ذوى الاضطلاع والغناء، من يرتّب للفرض والعطاء، والنّفقة فى الأولياء وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين فى المناصحة بإخلاص الطّويّة وإصفاء السّريرة، حالين من الأمانة والصّون بما يزين. ناكبين عن مظانّ الشّبه والطمع الذى بصم ويشين. وأن يأمرهم باتّباع عادات أمثالهم فى ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال واعتبار شيات «1» الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيّرها واقتناء جيادها. وبذل الجهد فى قيامهم من الكراع «2» والبرك «3» والسّلاح بما يلزمهم، والعمل بقول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» . فإذا نطقت جرائد «4» الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقّق الاعتبار والعيان قيامهم بما وجب عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم، وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقاتهم. فإن هذه الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقوام الأمر فيما أوجبه الله تعالى من أمر الاستعداد

بفرض الجهاد. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» . وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا، وللسنة النبوية فى إقامة حدودها متّبعا. فيعتمد فى الكشف عن أحوال العامّة فى تصرفاتها الواجب. ويسلك فى التطلع على معاملاتهم السّبيل الواضح والسّنن اللاحب «1» . ويأتيهم فى الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين، ويعتمد فى مؤاخذة المطفّفين «2» وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين. ويحذّرهم فى تعدّى حدود الإنصاف شدّة نكاله، ويقابل المستحقّ للمؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله. قال الله تعالى: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» . وقال سبحانه: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . فليتولّ الملك الأجلّ، السيد الكامل المجاهد المرابط، نصير الدين ركن الإسلام أثير الإمام، جمال الأنام، جلال الدولة، فخر الملة عزّ الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، أمير المجاهدين: ألب غازى بك، معين أمير المؤمنين- ما قلّده عبد الله وخليفته فى أرضه، القائم له بحقّه الواجب

وفرضه: أبو جعفر المنصور «المستنصر بالله» أمير المؤمنين- بقلب مطمئن بالإيمان، ونصح لله تعالى ولخليفته- صلوات الله عليه- فى السر والإعلان وليشرح بما فوّض إليه من هذه الأمور صدرا، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرّا وجهرا. وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الإمامية، وليقتف آثار مراشدها المقدّسة النبوية. وليظهر من أثر الجدّ فى هذا الأمر والإجتهاد، وتحقيق الظن الجميل فيه والإرشاد- ما يكون دليلا على تأيد الرأى الأشرف المقدس- أجلّه الله تعالى- فى اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النّجح والرّشد فى التفويض إلى حسن قيامه وكمال غنائه وليقدر النّعمة عليه فى هذه الحال حقّ قدرها. وليمتر- «1» بأداء الواجب عليه من جزيل الشكر- غزير درّها، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض. ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة- أجلّها الله تعالى- ما يلتبس عليه من الشكوك والعوارض. ليرد عليه من الأمثلة ما يوضّح له وجه الصّواب فى الأمور، ويمدّ من المراشد الشريفة التى هى شفاء لما فى الصدور، بما يكون وروده عليه. وتتابعه إليه، نورا على نور- إن شاء الله تعالى. وكتب فى شهر رجب من سنة ثلاثين وستمائة «2» . والحمد رب العالمين. وصلواته على سيدنا محمد النبى الأمّى، وآله الطاهرين. وفى هذه السنة، فتحت دار الحديث الأشرفية «3» المجاورة لقلعة دمشق المحروسة، ليلة النصف من شعبان. وأملى بها الشيخ الإمام العلامة: تقى

ذكر ركوب الملك العادل بشعار السلطنة

الدين بن الصّلاح الشافعى «1» . ووقف عليها الملك الأشرف أوقافا جليلة. ذكر ركوب الملك العادل بشعار السّلطنة وفى الساعة التاسعة من يوم الثلاثاء، ثامن عشر شهر رمضان، من هذه السنة- سلطن السلطان الملك الكامل ولده الملك العادل سيف الدين أبا بكر، وركّبه فى هذه الساعة بشعار السّلطنة. وشقّ القاهرة، وفى خدمته جميع الأمراء والقضاة وأصحاب الدواوين والأماثل وغيرهم. وفيها- فى صفر- تسلم راجح بن قتادة مكة- شرّفها الله تعالى- وكان قد قصدها فى سنة تسع وعشرين، وصحبته عسكر صاحب اليمن: الملك المنصور عمر بن علىّ بن رسول. وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ بمكة، ففارقها. وفيها كانت وفاة الملك العزيز: فخر الدين عثمان بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وهو شقيق الملك المعظم. وكان صاحب بانياس وتبنين وهونين والحصون. وهو الذى بنى قلعة الصّبيبة وكان عاقلا قليل الكلام، مطيعا لأخيه الملك المعظم، وإنما أخرجه عن موالاة ولده- الملك الناصر داود- أنه كان قصد بعلبك فى سنة خمس وعشرين وستمائة، بمواطئة من ابن الملك الأمجد صاحبها- كما تقدم- فلما

فاته وقت الميعاد، الذى اتفقا عليه، نزل على بعلبك، وأخذ فى حصارها. فأرسل الملك الأمجد إلى الملك الناصر يقول له: أنت تعلم ما كان بينى وبين والدك الملك المعظم من المودة، وأننى كنت صديق من صادقه وعدوّ من عاداه، فرحّل عنى الملك العزيز. فأنفذ الملك الناصر داود الغرس خليلا إلى الملك العزيز، وأمره بالرحيل. وقال له: متى لم يرحل، ارم خيمته على رأسه! فرحل العزيز إلى بانياس وأوجبت هذه الحادثة غضبه، إلى أن التحق بالملك الكامل، وجاء معه إلى دمشق- كما تقدم. وكانت وفاة الملك العزيز فى يوم الاثنين، عاشر شهر رمضان، سنة ثلاثين وستمائة، ببستانه فى النّاعمة، ببيت لهيا «1» من غوطة دمشق. ودفن بقاسيون فى تربة الملك المعظّم، عند والدته- رحمه الله تعالى. وفيها، فى يوم الاثنين، سابع عشرين شهر ربيع الأول، توفى بالقاهرة الشيخ جلال الدين أبو العزائم: همّام بن راجى الله سرايا، بن أبى الفتوح ناصر. بن داود الشافعى: إمام جامع الصالح، بظاهر باب زويلة «2» رحل إلى بغداد واشتغل بها مدة، وسمع الحديث، واشتغل بالأدب بمصر على ابن برّى «3» ولقى جماعة من الأدباء، وصنّف كتبا كثيرة فى

الأصول والفروع والخلاف، مختصرة ومطولة. وله شعر. ومولده بونا من صعيد مصر، فى ذى القعدة أو ذى الحجّة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. رحمه الله. ولما مات، ولى الإمامة بالجامع الصالحى بعده ولده: نور الدين على. وفيها كانت وفاة الشيخ شهاب الدين أبى حفص: عمر بن محمد بن عبد الله السّهروردى. وهو ينتسب إلى أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فيما قيل. وذكر ابن خلّكان أن وفاته كانت فى مستهلّ ذى الحجة، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. ومولده بسهرورد، فى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقد تقدم ذكر ترّدده فى الرّسالة، من جهة الخليفة إلى الملك العادل، وغيره. وكان رجلا صالحا عابدا، زاهدا ورعا. وصنّف كتابا للصوفية، سماه عوارف المعارف. حكى أنه جلس يوما ببغداد على منبر وعظه، فذكر أحوال القوم، وأنشد: ما فى الصّحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد، ولا صبّ نجاريه وجعل يردّد البيت ويطرب! فصاح به شاب من طرف المجلس- عليه قباء وكلّوتة «1» - وقال: يا شيخ، كم تشطح وتنتقص القوم! والله إن

فيهم من لا يرضى أن يجاريك، ولا يصل فهمك إلى ما تقول! هلا أنشدت: ما فى الصحاب، وقد سارت حمولهم ... إلا محب له فى الركب محبوب كأنما يوسف فى كل راحلة ... والحىّ فى كل بيت منه يعقوب فصاح الشيخ، ونزل عن المنبر وقصد الشاب، ليعتذر إليه. فلم يجده. ووجد فى موضعه حفرة فيها دم، مما فحص برجله عند إنشاد الشيخ البيت!. وفيها توفى الشيخ الفاضل: عز الدين أبو الحسن على، بن أبى الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، بن عبد الواحد الشّيبانى- المعروف بابن الأثير الجزرى «1» . وكانت وفاته فى هذه السنة من شعبان. ومولده فى رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، بجزيرة ابن عمر «2» . وكان رجلا فاضلا، صنّف فى التاريخ كتاب «الكامل» من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة. وهو من أجود التواريخ التى رأيناها. واختصر كتاب «الأنساب» لأبى سعيد عبد الكريم بن السّمعانى،

واستدرك عليه فى مواضع. ونبّه على أغاليط، وزاد أشياء. وهو كتاب مفيد فى ثلاث مجلّدات وأصله فى ثمانية، وهو عزيز الوجود. وفضائله وآدابه مشهورة- رحمه الله تعالى. وفيها كانت وفاة شرف الدين أبى المحاسن: محمد بن نصر بن مكارم، ابن الحسن بن على بن محمد، بن غالب الأنصارى، المعروف بابن عنين- الكوفى الأصل، الدّمشقى المولد. وقيل بل هو من زرع من إقليم حوران. نشأ فى دمشق، وسافر عنها، وطوّف البلاد شرقا وغربا. ودخل بلاد الجزيرة والروم والعراق وبغداد وخراسان وما وراء النهر، وبلاد الهند واليمن والحجاز ومصر. ومدح ملوك هذه الأماكن وأعيانها. وكان ظريفا حسن الأخلاق جميل العشرة. غزير المادّة فى الشّعر، مولعا فى الهجاء وثلب أعراض الناس- خصوصا الأكابر. وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقا كثيرا من رؤساء الشام وأهل دمشق، سماها: «مقراض الأعراض» ، يقال إنها خمسمائة بيت. وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد نفاه من دمشق، بسبب وقوعه فى الناس. ولما نفى كتب من الهند إلى دمشق: فعلام أبعدتم أخاثقة ... لم يجترم ذنبا ولا سرقا انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفى كلّ من صدقا

ولما مات الملك الناصر صلاح الدين، وملك الملك العادل دمشق، سار متوجها إلى الشام. وكتب إلى الملك العادل قصيدته الرّائيّة، واستأذنه فى الدخول إلى دمشق. ووصفها وصف ما قاسى فى الغربة، ولما فرغ من وصف دمشق وأنهارها وبساتينها ومستنزهاتها، قال فى قصيدته: فارقتها لا عن رضى، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيّرا أسعى لرزق فى البلاد مشتّت ... ومن العجائب أن يكون مقتّرا وأصون وجه مدائحى متقنّعا ... وأكفّ ذيل مطامعى متستّرا جاء منها فى شكوى الغربة، وما قاساه منها: أشكو إليك نوى، تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا لا عيشتى تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفنى يصافحه الكرى أضحى عن الأخوى المريع محلّا «1» ... وأبيت عن ورد النّمير «2» منفرّا ومن العجائب أن تفيّأ ظلّكم ... كلّ الورى، ونبذت وحدى بالعرا فلما وقف العادل على هذه القصيدة، أذن له فى الدخول إلى دمشق، فدخلها.

وقال: هجوت الأكابر فى جلّق «1» ... ورعت الوضيع بسبّ الرّفيع وأخرجت منها، ولكننى ... رجعت على رغم أنف الجميع وكانت وفاته فى عشية يوم الأثنين، العشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثلاثين وستمائة. ومولده فى يوم الاثنين، تاسع شعبان، سنة تسع وأربعين وخمسمائة- حكاه ابن خلّكان وابن السّاعى. وقال أبو المظفّر فى مرآة الزمان: إن وفاته كانت فى سنة ثلاث وثلاثين. قال: وكان خبيث اللسان هجّاء. فاسقا متهتّكا. قال: ولما عاد إلى دمشق، استوزره الملك المعظم. وكانت مجالسه معمورة بقبائحه. قال: وحضر مجلس الإمام فخر الدين الرّازى بن خطيب الرّىّ، وهو يعظ، فجاءت حمامة وخلفها جارح، فألقت نفسها على الإمام فخر الدين، فغطّاها بكمّه. فقال ابن عنين، بديها: يا ابن الكرام، المطعمين إذا شتوا ... فى كل مسغبة «2» وثلج خاسف العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين المخارم والوتين «3» الرّاعف

من أنبا الورقاء «1» أنّ بحلّكم ... حرما، وأنّك ملجأ للخائف وفدت عليك، وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستانف ولو انّها تحيى بمال، لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف جاءت سليمان الزّمان بشكرها ... والموت يلمع من جناحى خاطف قرم «2» لواه الفوت حتى ظلّه ... بإزائه يجرى بقلب خائف قال: فرمى عليه الإمام فخر الدين جميع ما كان عليه، وفعل الحاضرون كذلك. فبلغ قيمة ذلك أربعة آلاف دينار! وكتب معه كتابا إلى الملك الناصر، وكتابا إلى الملك العادل، يشفع فيه. فقبل الملك شفاعته. ولما عاد هجا العادل، فقال: إن سلطاننا الذى نرتجيه ... واسع المال ضيّق الإنفاق هو سيف كما يقال، ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق وهجا أيضا أولاد شيخ الشيوخ الأربعة، فقال: أولاد شيخ الشيوخ قالوا ... ألقابنا كلّها محال لا فخر فينا ولا عماد ... ولا معين، ولا كمال وأهاجيه فى الأكابر والأعيان كثيرة- سامحه الله تعالى وإيانا:

واستهلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة:

واستهلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة: ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى بلاد الروم وفى هذه السنة، وصل الملك الأشرف، صاحب دمشق، إلى السلطان بالديار المصرية، وحرّضه على قصد بلاد الروم. فخرج بالعساكر من القاهرة فى ليلة السبت، لخمس خلون من شعبان، واستناب بالديار المصرية ولده الملك العادل: سيف الدين أبا بكر. وسار حتى وصل إلى دمشق، وجمع سائر الملوك. وسار من دمشق، فنزل بظاهر البيرة «1» . واجتمعت الملوك، فكانوا ثلاثة عشر ملكا: كلهم من بنى أيوب. وعرض العساكر أطلابا، فكبرت نفسه وتعاظم. ثم دخل بهم الدّربندات «2» ، وأشرف على أرض الروم، وما شكّ فى أخذها. فاجتمع الملوك إلى الملك الأشرف، قالوا: متى فتح الملك الكامل بلاد الروم، استولى على ممالكنا، وعوّضنا عنها من بلاد الروم. فاتفقوا على خذلانه، ومكاتبة صاحب الروم: علاء الدين كيقباد، بن كيخسرو

السّلجقى، فكاتبوه. فوقعت الكتب إلى الملك الكامل، فرحل عن الدّربندات لوقته، وعاد إلى السّويداء «1» وخيّم بها. وكان عند نزوله على الدّربندات، أرسل الملك المظفّر صاحب حماه، والطّواشى شمس الدين صواب، وجماعة من الأمراء، إلى خرت برت «2» . وكان بها عسكر كثيف من عساكر الروم، فكسروهم، وأسروا بعض الأمراء الكاملية، وطلع الملك المظفر، والطواشى صواب، والبانياسى وجماعة من الأمراء، إلى القلعة، فأقاموا بها سبعة عشر يوما، وطلبوا الأمان من صاحب الروم. فأمّنهم على تسليم القلعة، ولا يأخذوا منها شيئا. ففعلوا ذلك، ونزلوا إليه. فخلع عليهم وأعادهم إلى الملك الكامل. ولم يسلم من خيلهم فى هذه الوقعة إلّا سبعة أو ثمانية: كلّ أمير على فرس. فسيّر السلطان الملك الكامل إليهم الخيول، فركبوها ووصلوا إلى السلطان إلى السّويدا، فأحسن إليهم. ثم عاد إلى الديار المصرية، وقد حصلت الوحشة بينه وبين سائر الملوك. وكان وصوله فى جمادى الأولى، سنة اثنتين وثلاثين.

ولما رجع، جهّز صاحب الروم جيشا كثيفا إلى حرّان والرّها وآمد، والسّويدا وقطينا «1» ، فاستولى على ذلك، ورتّب فيهم من يحفظهم. وكانت هذه الجهات تحت يد شهاب الدين غازى- أخى السلطان- والملك الصالح نجم الدين أيوب: ولده. فلما اتصل ذلك بالملك الكامل، تجهز بعساكره وخرج من القاهرة، فى ثالث عشرين ذى القعدة من السنة: وكان قد أوصى ولده الملك الصالح نجم الدين وأخاه شهاب الدين غازى- أن صاحب الروم إذا قصد البلاد يتركونها، ويحضرون، وقال له: إذا أخذ البلاد استعدتها منه، وإذا أخذكم لا أقدر على استعادتكم منه. فلما وصل عسكر صاحب الروم إلى البلاد، تركاها، وسارا بعسكرهما إلى سلميّه. ولما قدم السلطان إلى دمشق، كان بها ولدا «2» ولده الملك الصالح، وهما: جلال الدين، وتورانشاه، فخرجا يسلّمان على جدّهما، فانتهرهما، فخرجا من عنده. واتصل ذلك بأبيهما، فعلم أن الغضب انما هو عليه، لا على ولديه. فأرسل إليهما وأخذهما من دمشق، ولم يشعر بذلك جدّهما. وسار عن سلميّه، ومعه شهاب الدين غازى، فوصل إلى حصن كيفا، ووصل شهاب الدين إلى ميّافارقين. فعظم ذلك على السلطان، وذكر ما فعله الصالح لبعض الأمراء. فتلطف فى الاعتذار عنه، وقال: الملك الصالح معذور، لأ السلطان سلّم له البلاد وجعله تحت الحجر. ثم فعل

السلطان بأولاده ما فعل. فأرسل إليه وطيّب قلبه، وأمره أن يمضى هو وشهاب الدين غازى لمحاصرة السّويداء، فتوجّها إليهما. ووصل السلطان إليها أيضا. ثم مضى إلى آمد، فهرب العسكر الرّومىّ منها. ووصل السلطان إلى حرّان، وفتحها عنوة فى ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وفتح قلعة الرّها عنوة. وتسلّم السّويداء عنوة، فى جمادى الآخرة. وهدم قلعة الرّها. وأسر من كان فى هذه القلاع من الروم. وأخذ قطينا فى شهر رجب عنوة، ونزل على دنيسر «1» فأخربها، إلا الجامع. وسيّر جميع. الأمراء إلى الديار المصرية فى الجوالق، وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف. ورتب ولده الملك الصالح بآمد. وأضاف إليه حرّان والرّها ونصيبين، والخابور «2» ورأس عين والرّقّة، وجعله سلطانا مستقلا. وعاد إلى الديار المصرية. فوصل إلى القاهرة فى شعبان، سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.

نعود إلى تتمة حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة. فيها ولى الأمير جمال الدين يغمور «1» شدّ الدواوين بالديار المصرية وفيها عمّر الملك الأشرف مسجد جرّاح خارج باب الصّغير بدمشق، ورتّب فيه خطبة للجمعة، يصلى فيه سكان الشّاغور وغيرهم. وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج بالهدايا والتّحف، وفى جملة ذلك دب أبيض، شعره مثل شعر السّبع، ينزل إلى البحر فيصيد السمك ويأكله، وطاووس أبيض، وغير ذلك. وفيها عزل قاضى القضاة عماد الدين بن الحرستانى عن قضاء الشام، ووليه قاضى القضاة شمس الدين بن سنىّ الدّولة. وفيها، توفى الأتابك: شهاب الدين طغرل الخادم، عتيق السلطان الملك الظاهر، صاحب حلب- وكان أرمنىّ الجنس، حسن السّيرة محمود الطريقة، صالحا عفيفا، زاهدا كثير الصدقة والإحسان، يقسّم الليل أثلاثا: فالثّلث الأول يجرى حكايات الصالحين وأحوال الناس ومحاسنهم، وينام الثلث الأوسط، ويحيى الثّلث الآخر قراءة وصلاة وبكاء. وكان حسن الوساطة عند الملك الظاهر

ولما توفى الظاهر، قام بأمر ولده العزيز أحسن قيام. واستمال الملك الأشرف، حتى حفظ على الملك العزيز البلاد- ولما استعاد الملك الأشرف تلّ باشر «1» ، دفعها لهذا الخادم، وقال هذه تكون لصدقاتك وما يلزمك، فإنك تكره أن تتصرف فى أموال الصغير، فنقل إليها من الأموال والذخائر كلّ نفيس. وكان قد طهّر حلب من الفسق والفجور والمكوس. وكان الملك الأشرف يقول: إن كان لله تعالى فى الأرض ولىّ، فهو هذا الخادم، الذى فعل ما عجز عنه الفحول. فلما ترعرع الملك العزيز بن الملك الظاهر، فى سنة تسع وعشرين وستمائة- قال له بعض خواصّه: قد رضيت لنفسك أن تكون تحت حجر هذا الخادم! فأخذ منه تلّ باشر، ونزع يده منه. وبقى الأتابك لا ينفّذ له أمر ثم مرض وتوفى بحلب، فى ليلة الحادى عشر من المحرم، من هذه السنة. ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الشيخ أبو عبد الله: الحسين بن محمد بن يحيى، بن مسلم الزّبيدى. سمع أبا الوقت عبد الأوّل «2» بن عيسى، وغيره.

وهو من ساكنى باب البصرة، وحضر إلى الشام وحدّث بدمشق بصحيح البخارى عن أبى الوقت غير مرّة. وهو شيخ شيوخنا. ولما وصل إلى دمشق، أكرمه الملك الأشرف، وحصل له دنيا صالحة بعد فقر وضرورة. ثم عاد إلى بغداد، فمرض قبل وصوله إليها، وتوفى بعد أن دخلها بأيام. كانت وفاته يوم الاثنين، الثالث أو الرابع والعشرين من صفر، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وسئل عن مولده، فقال: سنة ست، أو سبع، وأربعين وخمسمائة- الشّكّ منه- ودفن بمقبرة جامع المنصور. وفيها توفى ركن الدين منكرس الفلكى: مملوك فلك الدين- أخى الملك العادل لأمّه- كان من أكابر الأمراء. ولّاه العادل مصر والشام نيابة عنه. وكان صالحا ديّنا، عفيفا عادلا، كثير الصدقات. وله بقاسيون مدرسة وتربة أوقف عليها أشياء كثيرة. وكانت وفاته. بجرود «1» : قرية من قرى دمشق، وحمل منها فدفن بتربته بقاسيون- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الأمير كريم الدين الخلاطى. وكان كثير المروءة حسن الملتقى، يتعصّب فى الخير. خدم الملك الكامل والمعظم والأشرف. وتقدّم فى زمن الملك العادل. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون- رحمه الله تعالى.

وفيها توفى صلاح الدين أبو العباس: أحمد بن عبد السيد بن شعبان ابن محمد بن جابر، بن قحطان الإربلى- وهو من بيت كبير بإربل «1» . وكان حاجبا عند الملك المعظم: مظفر الدين بن زين الدين صاحب اربل. فتغير عليه واعتقله مدة. فلما أفرج عنه، خرج منها إلى الشام، واتصل بخدمة الملك المغيث: محمود بن العادل- وكان قد عرفه من إربل- فحسنت حاله عنده. فلما توفى الملك المغيث، انتقل الصّلاح إلى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختصّ به فى خلواته. وجعله أميرا. وكان الصلاح ذا فضيلة تامة، ومشاركة حسنة. وله نظم حسن، ودوبيت «2» . ثم تغيّر عليه الملك الكامل، واعتقله، فى المحرم سنة ثمانية عشر وستمائة، والسلطان بالمنصورة. فاستمر فى الاعتقال بقلعة الجبل، مضيّقا عليه، إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين. فعمل الصلاح دوبيت، وأملاه على بعض المطربين، فغنّى به عند الملك الكامل. وهو: ما أمر تجنّيك على الصّبّ خفى ... أفنيت زمانى بالبكا والأسف ماذا غضب بقدر ذنبى، ولقد ... بالغت وما قصدك إلا تلفى

فاستحسنه الملك الكامل، وسأل لمن هو؟ فقيل: للصلاح الإربلى. فأمر بالإفراج عنه. وقيل إن الشعر غير هذا، وهو: اصنع ما شئت، أنت أنت المحبوب ... ما لى ذنب، بلى- كما قلت- ذنوب هل يسمح بالوصال فى ليلتنا ... يجلو صدا القلب ويعفو، وأتوب ولما أفرج عنه، عادت مكانته عنده إلى أحسن ما كانت عليه ولما توجه الملك الكامل إلى بلاد الروم كان فى خدمته، فمرض بالعسكر بالقرب من السّويدا، فحمل إلى الرّها فمات قبل وصوله إليها، فى خامس عشرين ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكان مولده فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ولما مات وجد بداره بدمشق خمسة عشر ألف دينار، وبداره بالقاهرة خمسة آلاف دينار. ولما عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية، أقطع ولده صنافير «1» بالقليوبيّة خاصا له، وجعل معه أقارب والده ومماليكه- وعدتهم سبعة عشر نفرا- وذلك فى سنة اثنتين وثلاثين. وتوفى الأديب الفاضل: نجم الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى محمد عبد الوهاب بن الحسن بن على، المعروف بابن وهيب القوصى، بحماه.

واستهلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة:

وكان قد توجّه فى خدمة الملك المظفر- صاحب حماه- ووزر له. وكانت بينهما مودة ورعاية. ثم نقم عليه أمرا، فقتله- رحمه الله تعالى. وكان فاضلا، له اليد الطّولى فى الأدب والتّرسّل، والشّعر الرائق. وقد تقدم من كلامه ما كتب به عن متولّى الأعمال القوصية، فى معنى حريق خان المكرم، ظاهر مدينة قوص. واستهلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: فى هذه السنة، توجه الأمير أسد الدين جغريل أحد مماليك السلطان الملك الكامل- إلى مكة، شرفها الله تعالى، وصحبته سبعمائة فارس فتسلمها فى شهر رمضان. وهرب منها الأمير: راجح بن قتادة، ومن كان بها من عسكر اليمن. ذكر إنشاء جامع التّوبة بالعقيبة «1» بدمشق فى هذه السنة، شرع السلطان الملك الأشرف فى هدم خان الزّنجبيلى «2» ، الذى كان بالعقيبة بظاهر دمشق، وكان قد جمع أنواع الفساد من الخمور والفسق فقيل للسلطان إن مثل هذا لا يصلح أن يكون فى بلاد الإسلام، فهدمه وعمره جامعا، غرم عليه جملة كثيرة، وسماه الناس جامع التّوبة.

قال القاضى شمس الدين بن خلّكان فى وفيات الأعيان: «وجرت فيه نكتة لطيفة أحببت ذكرها، وهى أنه كان بمدرسة ستّ الشام التى خارج البلد إمام، فعرف بالجمال السّتّى- أعرفه شيخا حسنا، ويقال إنه كان فى صباه يلعب بشىء من الملاهى، وهى التى تسمى الجعانه. ولما أسنّ حسنت طريقته، وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى عدّ فى الأخيار. فولاه الملك الأشرف خطابة الجامع، لثناء الناس عليه. فلما توفى، ولى بعده العماد الواسطى الواعظ، وكان يتّهم بالشّراب. وكان صاحب دمشق يومئذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فكتب إليه الجمال عبد الرحيم: المعروف بابن زوينة الرّحبى: يا مليكا أوضح الحقّ لدينا وأبانه جامع التّوبة قد قلّدنى منه أمانه قال: قل للملك الصالح- أعلى الله شانه: يا عماد الدين، يا من حمد الناس زمانه كم إلى كم أنا فى ضرّ وبؤس وإهانه لى خطيب واسطى يعشق الشّرب ديانه والذى قد كان من قبل يغنّى بالجعانه فكما نحن، وما زلنا- ولا أبرح- حانه ردّنى للنّمط الأوّل، واستبق ضمانه

وفى هذه السنة، فى تاسع صفر، كانت وفاة الملك الزاهد: مجير الدين أبو سليمان، داود بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب- صاحب قلعة البيرة «1» . وكان يحب العلماء وأهل الأدب، ويقصدونه من البلاد. وكان فاضلا أديبا شاعرا، جوادا سمحا. ومولده بالقاهرة لسبع بقين من ذى القعدة- وقيل ذى الحجة- سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. ولما مات، توجه الملك العزيز، ابن أخيه الملك الظاهر، إلى قلعة البيرة، فملكها. وفيها توفى الأمير الأجل الطواشى: شمس الدين صواب، مقدّم عسكر الملك العادل. وكانت وفاته بحرّان، فى العشر الآخر من شهر رمضان. وكان السلطان الملك الكامل قد جعله بها، وبغيرها، من تلك البلاد- كما تقدم. وكان أميرا كبيرا فى الدّولتين: العادلية والكاملية. وكان خادما عاقلا، ديّنا شجاعا جوادا. وكان العدل والكامل يعتمدان عليه. وكان له مائة خادم، تعيّن جماعة منهم وتأمّروا بعد وفاته: منهم بدر الدين الصّوابى، وشبل الدولة: كافور الخزندار بدمشق، وشمس الدين صواب السّهيلى بالكرك، وغيرهم. وكان شمس الدين صواب العادلى-

هذا- إذا حمل فى الأعداء يقول: أين أصحاب الحصى «1» . وكان له برّ وصدقة، وفيه إنصاف- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الصاحب تاج الدين: أبو اسحاق يوسف بن الصاحب الوزير: صفى الدين أبى محمد عبد الله، بن القاضى المخلص أبى الحسن على، الشّيبى المالكى بمدينة حرّان، فى الحادى عشر من شهر رجب، ودفن بها ومولده بمصر فى شوال سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وكان فقيها مالكيا، درّس بمدرسة أبيه بالقاهرة. وناب عن والده فى الوزارة بالديار المصرية. وولى الوزارة بعد والده نحو شهرين. ثم صرف واستخدم فى التّوقيع. ثم ولى نظر الدواوين بالديار المصرية. ثم عزل واعتقل، ثم أفرج عنه فى سادس عشر شعبان، سنة خمس وعشرين وستمائة. ثم ولى الجزيرة وديار بكر وحرّان فى الدولة الكاملية ومات هناك- رحمه الله تعالى. وفيها توفى شرف الدين، أبو حفص وأبو القاسم: عمر بن على بن المرشد بن على، الحموىّ الأصل، المصرى الدار والمولد والوفاة: المعروف بابن الفارض، الشاعر.

واستهلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة:

له ديوان شعر مشهور. وكانت وفاته بالجامع الأزهر بالقاهرة المعزّيّة، فى يوم الثلاثاء الثانى من جمادى الأولى، ودفن من الغد بسفح المقطم. ومولده بالقاهرة فى الرابع والعشرين من ذى القعدة، سنة ست وسبعين وخمسمائة. واستهلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة: فى هذه السنة، حصل بمصر وباء عظيم، مات فيه خلق كثير. واستمر ثلاثة أشهر. وفيها، فى المحرم، وصل الملك الناصر داود، صاحب الكرك، إلى بغداد. واجتاز فى طريقه بالحلّة «1» ، وبها الأمير شرف الدين، بن الأمير جمال الدين قشتمر، زعيم الحلّة ومقدّم الجيوش، فتلقاه وأكرمه، وأقام له الإقامات الوافرة. وعمل له دعوة عظيمة اشتملت على أنواع من المآكل. قال ابن الساعى فى تاريخه: بلغت النفقة على تلك الدعوة اثنى عشر «2» ألف دينار. ثم قصد بغداد، فوصل إليها فى يوم الاثنين سادس عشر المحرم، فبرز لتلقّيه الموكب، وفيه جميع الحجاب والدعاة، وفى صدره قطب الدين: أبو عبد الله بن الأقساسى،- نقيب الطالبيّين- وعن يمينه وشماله خادمان من

خدم الديوان العزيز «1» . وحين وافى باب النّوبى «2» نزل وقبّل العتبة. وحضر دار الوزارة، فأكرم وخلع عليه قباء «3» أطلس، وشربوش «4» ، وأعطى فرسا بمركب ذهب. وأسكن محلّة المقتدى، بالدار المنسوبة إلى أبى تميم الموسوى، وأقيمت له الإقامات الوافرة من المخزن المعمور «5» فى كل يوم. وأنهى للديوان العزيز ما اعتمده معه عمّاه من إخراجه من دمشق- وهى مملكة أبيه- ونقله إلى الكرك. وأقام ببغداد إلى خامس عشرين شعبان. ثم أحضر إلى دار الوزارة، وخلع عليه قباء أطلس أسود، وفرجيّه «6» مموّج، وعمامة قصب كحلية مذهّبة. وأنعم عليه بفرس عربى بمركب ذهب، وكنبوش «7» ومشدّة إبريسم «8» . وأعطى العلم والجفتاوات «9» والكراع «10» . والخيام والمفارش

والآلات، وخمسة وعشرين ألف دينار، وعدّة من الخيل وجوز من الثياب الفاخرة. وشرّف من معه من أصحابه وأتباعه ومماليكه. وأذن له فى التوجه إلى بلده- وذلك بعد الصلح بينه وبين عميه: الكامل والأشرف. وخرج من بغداد فى ثالث شهر رمضان- وصحبته الأمير: سعد الدين حسن بن على- إلى الملك الكامل، يأمره عن الديوان العزيز بإجابة سؤاله. ذكر ذلك ابن الساعى فى تاريخه. وفيها، توفى الحافظ: أبو الخطاب عمر بن الحسن بن محمد بن دحية الأندلسى البلنسى «1» ، المعروف بذى النّسبين. طلب الحديث فى أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقى علماءها ومشايخها. ثم رحل الى بر العدوة «2» ودخل مراكش واجتمع بفضلائها. ثم ارتحل إلى إفريقية، ومنها إلى الديار المصرية، ثم إلى الشام والشرق والعراق. ودخل إلى عراق العجم وخراسان، وما والاها، ومازندران «3» ، فى طلب الحديث والاهتمام بائمته، والأخذ عنهم. وهو فى ذلك يؤخذ عنه، ويستفاد منه.

وقدم مدينة إربل، فى سنة أربع وستمائة، عند توجهه إلى خراسان. واجتمع بصاحبها: الملك المعظم بن زين الدين. وكان المعظم عظيم الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم، فألف له كتابا سماه: التّنوير فى مولد السّراج المنير، وقرأه عليه فأعطاه ألف دينار. وله عدة تصانيف. ولما عاد إلى الديار المصرية، ولّاه الملك الكامل دار الحديث الكاملية «1» بالقاهرة. ثم عزله منها قبل وفاته، وولى أخاه محيى الدين أبا عمرو. وتوفى أبو عمرو بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، سنة أربع وثلاثين وستمائة. وكان حافظا للغة العرب. وكانت وفاة أبى الخطاب بالقاهرة فى الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى مستهل ذى القعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة. وفيها، فى سلخ شهر ربيع الآخر- توفى الأمير أبو التّقى صالح بن الأمير المكرم أبى الطاهر «2» إسماعيل بن أحمد بن الحسن بن اللّمطي، بمنية بنى

خصيب «1» من صعيد مصر. وصلّى عليه على ساحل البحر، وحمل فى مركب وأحدر إلى مصر، فوصل بعد صلاة العصر مستهل جمادى الأولى، ودفن بسفح المقطم، بتربة كان أنشأها لنفسه قبل وفاته بيسير- وقد قارب الستين. سمع ببغداد جماعة كبيرة وبنيسابور وبمرو وهراه وهمدان ودنيسر ودمشق. وجال فى البلاد كثيرا، ودخل ما وراء النهر. ولم يحصّل من مسموعاته إلا اليسير- رحمه الله تعالى. وفيها فى شهر ربيع الأول، توفى الأمير فخر الدين أياز البانياسى بخرتبرت من ديار الجزيرة. وحمل إلى القاهرة، ودفن بتربته التى أنشأها بالقرافة الصغرى، وأنشأ بجانبها حوض سبيل. وكان قد ولى مصر مدة، وله غزوات وتقدّم فى الدولتين العادلية والكاملية. وكان مشهورا فى شبيبته بالقوة. وكان محبا لأهل الخير متفقدا لهم- رحمه الله تعالى. وفيها، توفى خطيب مصر الشيخ الفقيه: أبو الطاهر محمد بن الحسين ابن عبد الرحمن الجابرى- من ولد جابر بن عبد الله الأنصارى- رضى الله عنه. وهو المشهور بالمحلّى، وهو من أصحاب الشيخين: الشاطبى والقرشى.

واستهلت سنة أربع وثلاثين وستمائة:

واستهلّت سنة أربع وثلاثين وستمائة: ذكر وقوع الوحشة بين السلطان الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف كان وقوع الوحشة بين الملكين الأخوين فى هذه السنة. وسبب ذلك أن الملك الأشرف طلب من أخيه الملك الكامل الرّقّة، وقال إن الشّرق قد صار للسلطان، وأنا فى كل يوم فى خدمته، فتكون هذه برسم عليق دوابّى. وجعل الفلك المسيرى واسطة بينه وبين السلطان. فكتب الفلك إلى الملك الكامل بذلك، فأجابه الملك الكامل بكتاب أغلظ له فيه. وكان الملك الكامل، لما عاد من بلاد الشرق فى سنة ثلاث وثلاثين، بلغه اتفاق الملوك عليه، فعجّل السير إلى الديار المصرية. فكتب إليه الملك الأشرف يقول: إنك أخذت منى الشرق. وقد افتقرت لهذه البواكير، ودمشق بستان ليس لى فيها شىء. فبعث إليه عشرة آلاف دينار، فردّها عليه، وقال: أنا أدفع هذه لأميرين. فغضب الملك الكامل، وقال: الملك الأشرف يكفيه عن الملك عشرته للمغانى وتعلّمه لصناعتهم! فاتصل ذلك بالملك الأشرف، فتنمّر له وقال: والله لأعرّفنّه قدره. وراسل الملوك: بحلب وحماه وبلاد الشرق، وصاحب الروم، وقال: قد عرفتم بخل الكامل وطمعه فى البلاد.

ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وقيام ولده الملك الناصر

فحلفوا كلهم واتفقوا، وسيروا رسلهم إلى الملك الكامل يقولون: انهم معه صلحا، ما أقام بالديار المصرية ولم يخرج إلى الشام لفتح شىء من البلاد. ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وقيام ولده الملك الناصر وفى سنة أربع وثلاثين وستمائة، كانت وفاة الملك العزيز غياث الدين محمد، بن الملك الظاهر غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- صاحب حلب، بها. ومولده فى ذى الحجة سنة تسع أو عشر وستمائة. وملك بعده ولده الملك الناصر صلاح الدن يوسف. وكان عمره يوم ذاك ست سنين. فقام بتدبير المملكة والدة أبيه، وهى ابنة الملك العادل. وجعلت الأمير شمس الدين لؤلؤ أتابكه. ثم زوّجه السلطان الملك الكامل ابنته عاشورا شقيقة الملك العادل، فى تاسع عشر ذى الحجة من السنة.

واستهلت سنة خمس وثلاثين وستمائة:

واستهلّت سنة خمس وثلاثين وستمائة: ذكر وفاة الملك الأشرف وشىء من أخباره وقيام أخيه الملك الصالح إسماعيل وإخراجه من الملك فى يوم الخميس رابع المحرم، سنة خمس وثلاثين وستمائة، توفى الملك الأشرف: مظفر الدين موسى، بن الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب- صاحب دمشق- بها. ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى تربته بالكلّاسه «1» ، بجوار الجامع الأموى. ومولده بالقاهرة- وقيل بقلعة الكرك- فى سنة ست وسبعين وخمسمائة. وقيل إنه قبل أخيه الملك المعظم بليلة واحدة. وكان- رحمه الله تعالى- عفيفا عن المحارم، ما خلا بامرأة قط إلا أن تكون زوجته أو جاريته. وحكى أبو المظفر يوسف بن قزوغلى سبط ابن الجوزى عنه، فى كتابه: «مرآة الزمان» ، من الأوصاف الجميلة، والمروءة الغريرة، والكفّ عن المحارم، والعفة عنها مع التمكن منها، ما يرجى له به الخير عند الله تعالى. وكان مما حكاه عنه قال: جلست يوما عنده فى منظرة بقلعة خلاط، يعتب على أخيه الملك المعظم فى قضية بلغته عنه، ثم قال: والله ما مددت عينى إلى حريم أحد: لا ذكر ولا أنثى.

ولقد كنت يوما قاعدا فى هذه الطّيّارة، فدخل الخادم فقال: على الباب امرأة عجوز، تذكر أنها من عند بنت شاه أرمن- صاحب خلاط. فأذنت لها، فدخلت، ومعها ورقة من عند بنت صاحب خلاط، تذكر أن الحاجب «علىّ» «1» قد أخذ ضيعتها وقصد هلاكها، وما تتجاسر أن تظهر، خوفا منه. فكتبت على الورقة بإطلاق القرية، ونهيت الحاجب عنها. فقالت العجوز: هى تسأل الحضور بين يديك، فعندها سرّ ما يمكن ذكره إلا للسلطان! فأذنت لها. فتوجّهت وعادت بعد ساعة، ومعها امرأة ما رأيت فى الدنيا أحسن من قدّها، ولا أظرف من شكلها، كأن الشمس تحت نقابها! فخدمت ووقفت. فقمت لها وقلت: وأنت فى هذا البلد، وما علمت بك؟! فسفرت عن وجهها فأضاءت منه المنظرة! فقلت: غطّ وجهك، وأخبرينى بحالك. فقالت: أنا بنت شاه أرمن، صاحب هذه البلاد. مات أبى، واستولى بكتمر على الممالك، وتغيرت الدّول، وكانت لى ضيعة أعيش منها، أخذها الحاجب «علىّ» وما أعيش إلا من عمل النّقش، وأنا ساكنة فى دار بالأجرة! قال: فبكيت، وأمرت الخادم أن يكتب لها توقيعا بالضّيعة وبالوصيّة، وأمرت لها بقماش من الخزانة، وأمرت لها بدار تصلح لسكنها، وقلت باسم الله، امضى فى حفظ الله ودعته.

فقالت العجوز: يا خوند «1» ، ما جاءت إلى خدمتك إلا حتى تحظى بك الليلة! قال: فلما سمعت كلامها، وقّع الله فى قلبى تغيّر الزمان، وأن يملك خلاط غيرى، وتحتاج بنتى إلى أن تقعد مثل هذه القعدة بين يديه: فقلت: يا عجوز، معاذ الله! والله ما هو من شيمتى، ولا خلوت بغير محارمى، فخذيها وانصرفى، وهى العزيزة الكريمة! ومهما كان لها من الحوائج تنفّذ إلى هذا الخادم. فقامت، وهى تبكى، وتقول- بالأرمنية: صان الله عاقبتك، كما صنتنى. قال: فلما خرجت، أفتتنى نفسى، وقالت: ففى الحلال مندوحة عن الحرام، تزوّجها. فقلت: يا نفسا خبيثة، فأين الحيا والكرم والمرؤة! والله لا فعلته أبدا. ومما حكاه أبو المظفر- أيضا- قال: كنت عنده بخلاط، فقدم النظّام بن أبى الحديد، ومعه نعل النبى صلى الله عليه وسلم. فأخبرته بقدومه، فأذن بحضوره. فلما جاء، ومعه النعل، قام ونزل من الإيوان، وأخذ النعل فقبّله، ووضعه على عينيه، وبكى! وخلع على النظّام وأعطاه نفقة، وأجرى عليه جراية، وقال يكون فى الصّحبة نتبرك به. ثم عزم على أخذ قطعة من النعل تكون عنده. قال بعد ذلك: فلما عزمت على ذلك بتّ مفكرا، وقلت: إن فعلت هذا فعل غيرى مثله، فيتسلسل الحال ويؤدى إلى استئصاله. فرجعت عن هذا الخاطر. وتركته لله، وقلت: من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه. ثم أقام النظّام عندى شهورا ومرض، وأوصى لى بالنعل، ومات وأخذته بأسره.

ولما اشترى دار قايماز النّجمى، وجعلها دار حديث، ترك النعل فيها، ونقل إليها الكتب الثمينة، وأوقف عليها الأوقاف. وعمر غيرها من الأماكن الشريفة: منها مسجد أبى الدّرداء بقلعة دمشق- بناه وزخرفه- وكان غالب إقامته به. والمسجد الذى عند باب النصر، وجامع العقيبة ومسجدا خارج باب الصغير ومسجد القصب خارج باب السلامة، وجامع بيت الآبار. ووقف على ذلك الأوقاف الكثيرة. وزاد وقف دار الحديث النّوريّة. هذا وتربته بالكّلّاسة بدمشق، وتربة والدته بالقرافة بمصر. وبنى أيضا ببلاد الشرق وخلاط خانات السبيل. وكان- رحمه الله تعالى- حسن الظن بالفقراء، يحسن إليهم ويزورهم ويتفقدهم بالمال والأطعمة. وكان فى ليالى شهر رمضان لا يغلق باب قلعة دمشق، ويرسل فى الليل جفان الحلو إلى الجامع والزوايا والرّبط، ما قرب منه وما بعد. وكان ابتداء مرضه فى شهر رجب، سنة أربع وثلاثين وستمائة، مرضين مختلفين فى الأعالى والأسافل. وكان الحرائحى يخرج العظام من رأسه، وهو يسبّح الله ويحمده ثم اشتد به الذّرب، فلما يئس من نفسه قال لوزيره- جمال الدين بن جرير-: فى أى شى تكفننى؟ فقال: حاشاك! فقال دعنى من هذا، فما بقى فى قوّة يحملنى أكثر من نهار غد، وتوارونى. فقال فى الخزانة تصافى. فقال: حاش لله أن أكفن من هذه الخزانة.

وقال: لعماد الدين بن موسك أحضر لى الوديعة. فقام، وعاد وعلى رأسه مئزر صوف أبيض تلوح منه الأنوار، ففتحه وإذا فيه خرق الفقراء وطواقى الأولياء، وفيه إزار عتيق ما يساوى خمسة قراطيس. فقال يكون هذا على جسدى أتقى به حرّ الوطيس، فان صاحبه كان من الأبدال وكان حبشيّا، أقام بحبل الرّها يزرع قطعة زعفران يتقوت بها، وكنت أصعد إليه وأزوره، وأعرض عليه المال فلا يقبله، فسألته شيئا من أثره أجعله فى كفنى، فأعطانى هذا الإزار، وقال قد أحرمت فيه عشرين حجّة. وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله. ثم مات فى التاريخ المذكور. قال أبو المظفر: ولما أحسّ بوفاته فى آخر سنة أربع وثلاثين، قلت له: استعد للقاء الله فما يضيرك، قال: لا والله بل ينفعنى. ففرّق البلاد، وأعتق مائتى مملوك وجارية. ووقف دار فرّخشاه، التى يقال لها دار السعادة، وبستان النّيرب «1» على ابنته. وأوصى لها بجميع الجواهر. قال أبو المظفر: وحكى لى الفقيه محمد اليونانى «2» ، قال: حكى لى فقير صالح من جبل لبنان.، قال: لما مات الأشرف رايته فى المنام وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، مع جماعة من الأولياء. فقلت له يا موسى، إيش تعمل مع هؤلاء، وانت كنت تفعل فى الدنيا وتصنع؟ فالتفت إلى وتبسم، وقال: الجسد الذى كان يفعل تلك الأفاعيل تركناه عندكم، والروح التى كانت تحب هؤلاء قد صارت معهم- رحمه الله تعالى.

ذكر ملك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل - ابن الملك العادل - دمشق، ووصول الملك الكامل إليها وحصار دمشق وأخذها وتعويض الصالح عنها

ذكر ملك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- ابن الملك العادل- دمشق، ووصول الملك الكامل إليها وحصار دمشق وأخذها وتعويض الصالح عنها لما مات الملك الأشرف: مظفر الدين موسى- رحمه الله تعالى- ملك دمشق بعده- بوصية منه- أخوه الملك الصالح: عماد الدين إسماعيل، الملقب بأبى الخيش! وإنما لقّب بذلك، لأنه- فيما حكى عنه- كان يملأ خيشة تبنا ويبيّتها فى الماء، ثم يطعنها برمحه فيرفعها عليه. فلقب بذلك. ولما انفصلت أيام عزاء الملك الأشرف، ركب الملك الصالح إسماعيل بشعار السلطنة، وترجّل الناس فى ركابه، وأسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى جانبه، وحمل الأمير عز الدين أيبك- صاحب صرخد- الغاشية «1» بين يديه. ثم عاد كل منهما إلى مملكته، واستقر هو بدمشق. وصادر جماعة من أهلها، اتهمهم بمكاتبة الملك الكامل: منهم العلم تعاسيف «2» وأولاد مزهر وابن عريف البدرى، واستصفى أموالهم. وأفرج

عن الشيخ على الحريرى من الاعتقال بقلعة عزّتا- وكان الملك الأشرف قد اعتقله بها فى سنة ثمان وعشرين وستمائة- فأفرج عنه الآن، ومنعه من الدخول إلى دمشق. وأما الملك الكامل فإنه لما بلغه وفاة أخيه الملك الأشرف، سر بذلك سرورا عظيما، لما كان قد وقع بينهما من الوحشة التى تأكدت أسبابها- وقد تقدم ذكرها. فتجهز بعساكر الديار المصرية وتوجه من قلعة الجبل، لقصد دمشق، فى ثالث عشرين صفر. ولما اتصل خبره بالملك الصالح حصّن دمشق، وقسم الأبراج على الأمراء، وغلّق أبواب المدينة. وجاء الأمير عز الدين أيبك من صرخد، وأمر بفتح الأبواب ففتحت. ووصل الملك الكامل بعساكره، ونزل عند مسجد القدم. ونزل الملك الناصر داود بالمزّة «1» ، ونزل مجير الدين وتقىّ الدين ابنا الملك العادل بالقابون «2» ، وهم فى طاعة الملك الكامل. وأحدقت العساكر بدمشق،

وقطع الملك الكامل عنها المياه. وردّ ماء بردى «1» إلى ثورا «2» . وشدد الحصار، فغلت الأسعار. وسد الصالح أبواب دمشق، إلا بابى الفرج والنصر. وتقدم الملك الناصر داود إلى باب توما، وعمل النّقوب فيه. ولم يبق إلا فتح البلد. فأرسل الملك الكامل إليه فخر الدين بن الشيخ، فرده عنها، ورحّله إلى أرض برزه. «3» وأحرق الصالح إسماعيل قصر حجّاج والشّاغور، وأخرب ظاهر دمشق خرابا لم يعهد مثله. واحترق جماعة من سكان هذه الجهات فى دورهم، ومن سلم منهم لم يبق له ما يرجع إليه إلا الكدية وسؤال الناس. وحكى أن الصالح- أو ابنه- وقف على العقيبة «4» ، وقال للزّرّاقين «5» أحرقوها، فضربوها بالناس. وكان لرجل من سكانها عشر بنات، فقال لهن: اخرجن، فقلن لا والله، النار ولا العار، ما نفتضح بين الناس! فاحترقت الدار وهم فيها، فاحترقوا. وجرى من الخراب بظاهر دمشق ما لم يحر مثله قبل ذلك.

ثم راسل الملك الصالح أخاه الملك الكامل يقول: بلغنى أنك تعطى دمشق للملك الناصر داود وأنت أحق بها، وان أنت لم تعطنى ما أريد، وإلا ضربت قوارير النّفط فى أربع جوانب دمشق وأحرقتها، وأحرقت قلعتها، وأخرّبها خرابا لا تعمر بعده أبدا. فعلم الملك الكامل من جرأته أنه يفعل، فأعطاه ما طلب. ودخل بينهما الشيخ محيى الدين بن الجوزى- رسول الخليفة- وكان بدمشق- فوقع الاتفاق والصلح على أن الملك الكامل أقرّ بيد أخيه الملك الصالح بصرى «1» والسّواد «2» ، وأعطاه بعلبك وأعمالها. ولو طلب أكبر من ذلك أعطاه، خوفا من أن يحرق دمشق. وتسلم الملك الكامل دمشق، ودخلها فى عاشر جمادى الأولى- وقيل فى أواخر الشهر المذكور. وأفرج عن الفلك المسيرى، وكان الملك الأشرف قد اعتقله فى حبس الحيّات. ولما دخل الملك الكامل إلى دار رضوان بقلعة دمشق، رأى قبر أخيه الأشرف فرفسه برجله وسبّه، وقال انقلوه الساعة. فنقلوه إلى الكلّاسة. ولما ملك الملك الكامل دمشق، عزم على قصد حمص، لاتفاق صاحبها الملك المجاهد شيركوه، فيما مضى، مع الأشرف. فصالحه الملك المجاهد على أن يحمل إلى خزانته ألف درهم، ودخل عليه بالنساء، فأجاب الملك إلى ذلك. ومات الكامل قبل حمل المال.

ذكر وفاة السلطان الملك الكامل

ذكر وفاة السلطان الملك الكامل كانت وفاته فى يوم الأربعاء، وقيل ليلة الأربعاء- الحادى والعشرين من شهر رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة، بقلعة دمشق بقاعة الفضّه. ومولده بالقاهرة فى ذى الحجة، سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وكان أسنّ أولاد الملك العادل. وكانت مدة عمره تسعا وخمسين سنة وسبعة أشهر- تقريبا. ومدة ملكه- بعد وفاة والده الملك العادل عشرين سنة، وشهرين وستة عشر يوما. وملك دمشق واحدا «1» وسبعين يوما. ومنذ خطب له بولاية العهد، ثمانيا وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وستة عشر يوما. ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بجوار الجامع الأموى بدمشق. وكان مدة مرضه نيفا وعشرين يوما، بالإسهال والسّعال ونزلة فى حلقه، ونقرس فى رجله. وأظهروا موته يوم الجمعة. ولم يظهروا الحزن عليه بدمشق. حكى عن خادمه الذى كان يعلّله فى مرضه، قال: طلب منى الملك الكامل الطّشت «2» لسقيا، فأحضرته له. وكان الناصر داود على الباب يطلب الإذن. فقلت له: داود على الباب. فقال: ينتظر موتى! وانزعج. فخرجت إليه، وقلت له: ليس هذا وقت عبورك، فإن السلطان منزعج. فتوجه إلى دار أسامة «3» - وكان قد نزل بها. ودخلت إلى السلطان، فوجدته قد قضى، والطّشت بين يديه، وهو مكبوب على المخدة.

ذكر ما اتفق بدمشق بعد وفاة السلطان الملك الكامل فى هذه السنة

وكان ملكا حازما، ضابطا لأموره. متطلعا لجمع المال، يباشر الحمول التى تصل إليه بنفسه ويكتبها بخطه فى دفتر له، ويحاقق المستخدمين فيما يطلع عليه. وجمع مالا عظيما، حتى يقال إنه خلف ألف إردب ذهب. وهذا ما لم يسمع بمثله. وأراه- والله أعلم- من التغالى. وكان يجلس فى مجلس خاص فى كل ليلة جمعة، يجتمع فيه الفقهاء والأدباء والشعراء وغيرهم. وله فى بقية الجمعة ليال، يختلى فيها مع ندمائه على الشراب وسماع القيان «1» . وكان حسن الاعتقاد فى السّنّة. وكان جهورىّ الصوت، وله هيبة عظيمة فى قلوب الرّعايا والخواصّ. وعمّر قاعة بقلعة الجبل، يجلس فيها مع الفقهاء والصالحين فى شهر رمضان، سماها قاعة رمضان. وهى الآن من جملة الخزائن السلطانية. ذكر ما اتفق بدمشق بعد وفاة السلطان الملك الكامل فى هذه السنة لما توفى الملك الكامل اجتمع الأمراء، وهم: سيف الدين على بن قليج، وعز الدين أيبك، وركن الدين الهيجاوى، وعماد الدين، وفخر الدين: ابنا شيخ الشّيوخ «2» ، وتشاوروا فى أمر دمشق، وانفصلوا

عن غير شىء. وكان الملك الناصر داود بدار أسامة، فأتاه الرّكن الهيجاوى ليلا، وبيّن له وجه الصواب. وأرسل إليه أيبك المعظّمى يقول له: أخرج المال، وفرّقه فى مماليك أبيك والعوامّ، فهم معك، وتملك البلد، ويبقى هؤلاء بالقلعة محصورين. فلم يتّفق ذلك. ثم اجتمع هؤلاء الأمراء بالقلعة فى يوم الجمعة، وذكروا الملك الناصر داود، والملك الجواد مظفر الدين: يونس بن مودود بن الملك العادل. وكان فخر الدين بن الشيخ يميل إلى الملك الناصر، وعماد الدين يكرهه فأشار عماد الدين بالملك الجواد، ووافقه الأمراء، وقالوا لفخر الدين بن الشيخ: ما تقول فيه؟ فقد اتفق الأمراء عليه. فقال: المصلحة أن نولّى بعض الخدام نائبا عن الملك العادل: ابن أستاذنا الملك الكامل، فمتى شاء عزله [وإن رضى أبقاه، ولا تولوا من بيت الملك فيتعذر عزله] «1» ويستقل بالملك. وبلغ ذلك الملك الجواد فجاء إليه، وتحدث معه، وذكر له سالف صحبة ومودة، وترفق له ووعده أن يعطيه إقطاع مائة وخمسين فارسا، وعشرة آلاف دينار. فقال: والله لا وافقت إلا على ما فيه مصلحة لابن أستاذى. فلما يئس منه، فرّق ضياع الشام على الأمراء وخلع عليهم، وأعطاهم ما فى الخزائن- وكان بها تسعمائة ألف دينار. وتوجه فخر الدين بن الشيخ إلى الديار المصرية، ومعه جماعة من الأمراء، بعد أن تردّد إلى الملك الناصر مرارا، وهو بالقابون.

ذكر ما وقع بين الملكين: الناصر والجواد وهرب الناصر إلى الكرك

واستقر أمر الملك الجواد فى يوم الجمعة. وأرسل الأمراء الأمير ركن الدين الهيجاوى إلى الملك الناصر داود- وهو فى دار أسامة- فأمره بالخروج إلى مملكته بالكرك. فقام وركب، وقد اجتمع الناس من باب داره إلى القلعة. وهم لا يشكّون أنه يطلع إلى القلعة. فتوجه. وخرج من باب الفرج، وصاحت العامّة واستغاثوا. محبة له ورغبة فيه. وتوجه إلى القابون. وأما الملك الجواد فانه فرّق الأموال وخلع الخلع. فيقال إنه خلع خمسة آلاف خلعة، غير الأموال. وأبطل الخمور والمكوس، ونفى الخواطى «1» . وأقام الملك الناصر بالقابون أياما، وعزموا على القبض عليه، فرحل، وبات بقصر عفرا. وركب خلفه أيبك الأشرفى ليمسكه. فبعث إليه عماد الدين بن موسك فى السّر فعرفه. فسار فى الليل إلى عجلون «2» وعاد أيبك إلى دمشق. ذكر ما وقع بين الملكين: الناصر والجواد وهرب الناصر إلى الكرك قال: ولما توجه الملك الناصر إلى عجلون، سار منها إلى غزّة. واستولى على الساحل بموافقة عسكره، ومقدمهم. الأمير مجد الدين عمر- أخو الفقيه عيسى الهكّارى «3» - ووصلت غاراته إلى الورّادة «4» وخرّب برج الحمام

بها. فخرج إليه الملك الجواد فى عسكر مصر والشام، وأمر الأمراء الأشرفية بمكاتبة الناصر وإطماعه فى الملك، ففعلوا ذلك. فاغتر بكتبهم واطمأن إليهم، وركب من غزة فى سبعمائة فارس، وقصد نابلس باثقاله وخزائنه وأمواله- وكانت على سبعمائة جمل- وضرب دهليزه على سبسطيه «1» ، وترك عساكره مقطّعة خلفه. والملك الجواد على جينين «2» فركب بعسكره وأحاط به. فركب الناصر فى نفر يسير، وساق نحو نابلس، واستمرت به الهزيمة إلى قلعة الكرك لا يلوى على شىء. واستولى الملك الجواد على خزائنه وذخائره، وخيوله وخيامه وأثقاله- وكان فيها ما لا يحصى قيمته. وكانت هذه الواقعة فى رابع عشرين ذى الحجة من السنة. قال أبو المظفر: وبلغنى أن عماد الدين بن الشيخ وقع بسفط صغير، فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر، وفصوص ليس لها قيمة، فدخل على الجواد وطلبه منه، فأعطاه إياه. قال: وهذه الأموال- التى كانت على جمال الملك الناصر- هى التى جهّز بها الملك المعظم ابنته دار مرشد، لما زوجها بالسلطان: جلال الدين خوارزم شاه- أخذها الناصر منها ظنا منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد، فكان الأمر بخلاف ما ظنّ.

ذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب ببلاد الشرق فى هذه السنة

وكان نصحاؤه أشاروا عليه- وهو بغزّة أنه يبعث بالأموال والأثقال إلى الكرك، على عقبة الزّوبرة «1» ، ويجمع عسكره ويتوجه إليهم جريدة «2» . فاغتر بمكاتبة الأشرفيّة. وجهز الملك الجواد الطلعات والصّناجق «3» إلى الديار المصرية، فوصلت فى سادس وعشرين الشهر. وعاد إلى دمشق بالظفر والغنيمة. هذا ما كان بدمشق، فلنذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب، ببلاد الشرق. ذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب ببلاد الشرق فى هذه السنة كان الملك الصالح نجم الدين قد استخدم الخورازميّة، الذين سلموا من أصحاب السلطان جلال الدين خوارزم شاه «4» ، فى سنة أربع وثلاثين

وستمائة. وكانوا- قبل ذلك- خدموا صاحب الروم السلطان: علاء الدين. كيقباذ، ففارقوه. واستخدمهم الملك الصالح، واستعان بهم، فخالفوا عليه فى سنة خمس وثلاثين. وأرادوا القبض عليه- وكان على الفرات- فهرب إلى سنجار، وكان قد ملكها واستولى عليها بعد وفاة عمه الملك الأشرف. وترك خزانته وأثقاله، فنبهوا ذلك بجملته. ولما صار بسنجار، وعلم الملك الرحيم: بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل- مخالفة الخوارزميّة، قصده وحصره بسنجار، فى ذى القعدة. فأرسل الملك الصالح إليه يسأله الصلح. فقال: لابد من حمله إلى بغداد فى قفص! وكان بدر الدين لؤلؤ وملوك الشرق يكرهون مجاورة الملك الصالح، وينسبونه إلى الكبر والظلم. فبعث الملك الصالح القاضى بدر الدين- أبا المحاسن يوسف- قاضى سنجار إلى الخوارزميّة، فتحيّل فى الخروج من سنجار، بأن حلق لحيته وتدلّى من السّور بحبل، وتوجه إليهم. وشرط لهم كل ما أرادوا. فساقوا جرايد «1» من حرّان، وكبسوا بدر الدين لؤلؤ وعسكر الموصل بسنجار. فهرب منهم على فرس، وترك خزائنه وأثقاله وخيوله. فنهبت الخوارزمية جميع ذلك، واقتسموه. فصلحت به أحوالهم واستغنوا. هذا ما كان من أخبار دمشق والشام، وأخبار الملك الصالح بالشرك بعد وفاة والده: الملك الكامل، فى سنة خمس وثلاثين. فلنذكر أخبار الملك العادل.

ذكر أخبار السلطان الملك العادل

ذكر أخبار السلطان الملك العادل هو سيف الدين: أبو بكر، بن السلطان الملك الكامل: ناصر الدين أبى المعالى محمد، بن السلطان الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد، ابن أيوب. وهو السابع من ملوك الدولة الأيوبية، بالديار المصرية. استقر فى الملك بعد وفاة والده: السلطان الملك الكامل. وذلك أنه لما مات والده بدمشق، كان هو ينوب عنه بالديار المصرية. فاجتمع الأمراء الذين كانوا بدمشق، فى خدمة السلطان الملك الكامل، الأمير سيف الدين على بن قليج، والأمير عماد الدين، وفخر الدين: ابنا الشيخ، وغيرهم من أكابر الأمراء، فى قاعة المسرّة بقلعة دمشق، وحلفوا للملك العادل هذا، واستحلفوا له جميع العساكر المصرية والشامية. وذلك فى يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة. ورتّبوا الملك الجواد: مظفر الدين يونس بن مودود- ابن عمه- فى نيابة السلطنة بدمشق، كما تقدم. وطالعوا السلطان الملك العادل بالخبر. فخطب للملك العادل بالديار المصرية، فى سابع شعبان من السنة، وأعلن بوفاة الملك الكامل. فقال القاضى برهان الدين بن الفقيه نصر:

قل للذى خاف من مصر، وقد أمنت ... ماذا تألّمه منها وخيفته إن كان قد مات عن مصر محمّدها ... فقد أقيم أبو بكر خليفته «1» قال: ولما استقر فى الملك، وضع المكوس «2» ، وزاد الأجناد «3» ، ووسّع على الناس فى أرزاقهم. ورضى ما قرره الأمراء من استنابة الملك الجواد بدمشق، وأرسل إليه الخلع والصّنجق. فركب بذلك فى يوم الأحد تاسع عشرين شهر رمضان من السنة. ووصلت العساكر المصرية التى كانت مع الملك الكامل بالشام- وكان ابتداء وصولهم فى ثانى عشر شعبان، وكملوا فى مستهل شهر رمضان من السنة- وتأخر منهم من جرّد مع الملك الجواد. فأكرمهم الملك العادل وخلع عليهم، وزاد فى أرزاقهم. ثم عاد من تأخر منهم إلى الديار المصرية، بعد هرب الملك الناصر داود من سبسطية- كما تقدم. وكان وصولهم فى ثامن المحرم سنة ست وثلاثين وستمائة. وفى سابع عشرين شوال، من سنة خمس وثلاثين، وصل الشيخ محيى الدين يوسف بن أبى الفرج الجوزى، برسالة الخليفة بالتّعزية للملك العادل بأبيه، والتهنئة له بالملك. واستحلفه للخليفة. فى ثانى ذى القعدة منها.

ذكر ما وقع فى هذه السنة من الحوادث - خلاف ما تقدم -

ذكر ما وقع فى هذه السنة من الحوادث- خلاف ما تقدم- فى هذه السنة، فى ليلة الإثنين سادس جمادى الآخرة، أمر السلطان الملك الكامل أن لا يصلّى بالمسجد الجامع بدمشق صلاة المغرب إلا خلف إمام واحد: وهو خطيب الجامع الشافعى. وأبطل من عداه من الأئمة المالكية والحنفية والحنابلة، فى صلاة المغرب خاصة، لانحصارها فى وقت واحد، واشتباه الحال على المأمومين وفيها قصد الملك المنصور: عمر بن على بن رسول- متملك اليمن- مكة. فلما بلغ الأمير أسد الدين جغريل الخبر، خرج من مكة بمن معه من العسكر إلى الديار المصرية، فى سابع شهر رجب، ووصلوا إلى القاهرة متفرقين، فى العشر الأوسط من شعبان. ودخل صاحب اليمن مكة فى تاسع شهر رجب. وفيها ولى الشريف: شمس الدين الأرموى «1» الشافعى- قاضى العسكر- نقابة الأشراف بالديار المصرية- وذلك فى يوم الأربعاء سلخ ذى القعدة. وقرىء تقليده بجامع مصر، وحضر قراءته الأمير جمال الدين بن يغمور، وفلك الدين المسيرى، وابن النجيلى.

وفيها فى شعبان، ولى الشيخ كمال الدين: عمر بن أحمد بن عبد الله ابن طلحة النّصيبى «1» - الخطابة، بعد وفاة عمه الدّولعى «2» - وكانت وفاته فى رابع عشر جمادى الأولى، ودفن بالمدرسة التى أنشأها بجيرون «3» . وكان له أخ جاهل فولى الخطابة، ثم عزل. فوليها الشيخ كمال الدين. وفيها كانت وفاة قاضى القضاة: شمس الدين أبو البركات- يحيى بن هبة الله- بن الحسن، المعروف بابن سنىّ الدولة، فى يوم الأحد سادس ذى القعدة، ودفن بقاسيون. وكان فقيها إماما فاضلا عفيفا- رحمه الله تعالى. وولى القضاء بعده قاضى القضاه: شمس الدين أحمد بن الخليل الخويّى فى ذى القعدة، استقلالا وعدّل جماعة كبيرة من أهل دمشق وهو أول قاض رتّب مراكز الشهود بدمشق وكان قبل ذلك مورقون يورقون المكتوب، ويتوجه أربابه إلى بيوت العدول فيشهّدونهم. وفيها توفى الأمير صارم الدين خطلبا التّبنينى، فى يوم الاثنين ثالث شعبان، ودفن بتربته التى أنشأها بقاسيون. وكان ديّنا صالحا عاقلا. أقام فى الثّغور مدة سنين، يجاهد العدوّ. وكان كثير الصدقة دائم المعروف، طاهر اللسان، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ست وثلاثين وستمائة:

واستهلّت سنة ست وثلاثين وستمائة: ذكر القبض على الصاحب صفى الدين مرزوق ومصادرته واعتقاله فى هذه السنة- فى أولها- قبض الملك الجواد على الصاحب صفى الدين بن مرزوق، وصادره، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار. وكان سبب ذلك أنه كان بينه وبين الملك المجاهد- أسد الدين صاحب حمص- عداوة مستحكمة، لما استوزره الملك الأشرف. وكان الملك الجواد لا يخرج عن رأى الملك المجاهد، فحسّن الملك المجاهد للملك الجواد القبض عليه. وكان ابن مرزوق قد استشعر ذلك، فعمد إلى تابوت وضع فيه جواهر ولآلىء، وأظهر أن إحدى سراريه قد ماتت وهى عزيزة عنده. وأنه يريد دفنها فى داره المجاورة للمدرسة النّوريّة، بالقرب من الخوّاصين- وهى التى تعرف الآن بالنّجيبيّة الشافعية- وعمل فى القبّة أزجا، ثم أخرج التابوت على أعناق غلمانه وخدامه إلى الجامع، وحضر الناس للصلاة على الميّتة، بزعمهم، وعمل العزاء وتردّد القرّاء إلى التربة أياما. ثم قبض على مرزوق بعد أيام قلائل، وأخذ جميع موجوده، وحبس بقلعة دمشق. فاتفق أن خادمه الكبير ضرب خادما صغيرا، فجاء الخادم، وسأل الاجتماع بالملك الجواد. واجتمع به وأخبره بالواقعة. فأرسل القاضى والشهود وأمير جاندار وأستاذ الدار، فتوجهوا وفتحوا التربة، وأحضروا التابوت بحاله. وكشف بين يدى الجواد وصاحب حمص، فوجد فيه من

ذكر خروج دمشق عن الملك العادل وتسليمها لأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب

الجواهر ما قوّم بمائتى ألف دينار وستين ألف دينار «1» . وكانوا- قبل ذلك بأيام- قد طولب ابن مرزوق بمال يحمله، فحلف برأس الملك الجواد أنه لا يملك شيئا. فلما وجد هذا التابوت، سلّمه الجواد للملك المجاهد. فاعتقله بقلعة حمص. فأقام سنين لا يرى الضّوء. وقيل أنه حبس اثنتى عشرة سنة. وأظهر أسد الدين موته، وكتب بينه وبينه مبارأة «2» . ذكر خروج دمشق عن الملك العادل وتسليمها لأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب كان سبب ذلك أن السلطان الملك العادل- لما حضر الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ من الشام إلى الديار المصرية- أنكر عليه، ولامه وتهدده (لكونه) «3» سلم دمشق للملك الجواد. فقال: أنا أتوجه إلى دمشق وأنزل بالقلعة، وأبعث الملك الجواد إلى السلطان. وان امتنع، أقمت نائبا عن السلطان عوضه. وتوجه من القاهرة فى شهر ربيع الأول، وقرر أن يقطع الملك الجواد ثغر الإسكندرية. ولما عزم على المسير، أشار عليه أخوه فخر الدين أن لا يتوجه إلى دمشق، وقال أخاف عليك من ابن ممدود- يعنى الجواد.

فقال أنا ملّكته دمشق، ولا يخالفنى فقال: أنت فارقته وهو أمير، وتعود إليه وقد صار سلطانا، فتطلب منه تسليم دمشق، وتعوضه الإسكندرية، ويقيم عندكم، فكيف يطيب له هذا؟ أو تسمح نفسه بمفارقة الملك؟ فأما إذا أبيت إلا التوجه، فانزل على طبريّة وكاتبه. فإن أجاب، وإلا تقيم مكانك وتكتب إلى الملك العادل. فلم يرجع إلى رأيه، وتوجه إلى دمشق. وخرج الجواد إليه، وتلقاه بالمصلّى، وأنزله بالقلعة فى قاعة المسرّة. وأرسل إليه الملك الجواد الخلع والأموال والأقمشة والخيل، ففرق عماد الدين الخلع على أصحاب. وجاء الملك المجاهد أسد الدين- صاحب حمص- إلى دمشق. قال: ولما قال الأمير عماد الدين للملك الجواد أن يتوجه إلى الديار المصرية، ويأخذ ثغر الإسكندرية- غضب، ورسم عليه فى الدار «1» ، ومنعه من الركوب. ثم جاء إليه وقال: إذا أخذتم دمشق منى، وأعطيتمونى الإسكندرية، لا بد لك من نائب بدمشق، فاجعلونى ذلك النائب. ومتى لم تفعلوا هذا، فقد كاتبت الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسلّم إليه دمشق، وأتعوض عنها سنجار. فقال له ابن الشيخ: إذا فعلت هذا، اصطلح السلطان الملك العادل والملك الصالح، ولا تحصل أنت على شىء ألبتّة

ففارقه الجود وخرج مغضبا، وحكى ما جرى بينه وبين ابن الشيخ للملك المجاهد. فقال: والله إن اتّفق الصالح والعادل لا تركا بيد أحد منا شيئا، وسلبانا ملكنا وما بأيدينا، حتى نحتاج إلى الكدية «1» فى المخالى. ثم جاء صاحب حمص إلى ابن الشيخ، وقال له: المصلحة أن تكتب إلى الملك العادل، وتشير عليه بالرجوع عن هذا الرأى: يعنى إخراج الملك بالرجوع عن هذا الرأى. يعنى إخراج الملك الجواد من دمشق. فقال: حتى أتوجه إلى برزه «2» ، وأصلّى صلاة الاستخارة. فقال له أسد الدين: كأنك تريد أن تتوجه إلى برزة، وتهرب منها إلى بعلبك. فغضب عماد الدين وانفصلا على هذه الحال واتفق الجواد وصاحب حمص على قتل عماد الدين وتوجه أسد الدين إلى حمص. وكان عماد الدين قد مرض، وأبل «3» . فلما كان فى يوم الثلاثاء، السادس والعشرين من جمادى الأولى، بعث الجواد إلى الأمير عماد الدين يقول له: إن شئت أن تركب وتتنزه فاركب إلى ظاهر البلد. فظن أن ذلك بوادر الرضا. ولبس فرجيّة كان الجواد قد بعث بها إليه، وقدموا له حصانا كان سيّره إليه أيضا، فلما خرج من باب الدار إذا

هو بنصرانى من نصارى قارا «1» قد وقف وبيده قصبة وهو يستغيث، فأراد الحاجب أن يأخذ القصبة منه، فقال: لى مع الصاحب شغل. فقال عماد الدين: دعوه. فتقدم إليه، وناوله القصبة. فلما تناولها، ضربه النصرانى بسكّين فى خاصرته! وجاء آخر وضربه بسكين على ظهره، فمات وأعيد إلى الدار ميّتا واحتاط الجواد على جميع موجوده، وكتب محضرا أنه ما مالأ على قتله. وقصد استخدام مماليكه، فامتنعوا وقالوا له: أنت تدّعى أنك ما قتلته، وهذا له إخوة وورثة، فبأى طريق تأخذ ماله؟ فاعتقلهم. وجهّز عماد الدين، ودفن بقاسيون فى زاوية الشيخ سعد الدين. وكان مولده فى يوم الاثنين سادس عشر شعبان، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة- رحمه الله تعالى. ولما قتل عماد الدين، علم الجواد أنه إن دخل الديار المصرية وسلم من القتل، صار ضميمة «2» . واتفق وصول رسول الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الملك الجواد، وهو يبذل له أن يكون له سنجار والخابور ونصيبين والرّقّة، ويسلّم دمشق للملك الصالح. فأذعن إلى ذلك، لعلمه أن دمشق لا تبقى له. وقيل إن الملك الجواد هو الذى كتب إلى الملك الصالح، والتمس منه ذلك، فأجاب الملك الصالح إليه.

ذكر أخبار الملك الجواد، وما كان من أمره بعد تسليم دمشق

ورتّب ولده: الملك المعظم غياث الدين تورانشاه فى بلاد الشرق، وجعل مقامه بحصن كيفا. ورتب النّواب بآمد، وأقطع الخوارزميّة حرّان والرّها والرّقّة وبلاد الجزيرة وسار إلى دمشق، فوصل إليها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين وستمائة. وحمل الجواد الغاشية «1» بين يديه من تحت القلعة، وحملها الملك المظفر صاحب حماه- من باب الحديد. وتسلم الملك الصالح القلعة، وخرج الجواد منها فى تاسع الشهر، وترك دار فرّوخشاه. واستوزر الملك الصالح جمال الدين بن جرير. ثم توجه الملك الصالح فى شهر رمضان إلى نابلس، وكان ما نذكره. ذكر أخبار الملك الجواد، وما كان من أمره بعد تسليم دمشق قال المؤرّخ: لما قدم الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دمشق، رتّب له الملك الجواد الضّيافات كل يوم، فى قاعة من قاعات دمشق، ورتّب فى كل قاعة ما تحتاج إليه من الفرش والآلات وأوانى الفضة، وغير ذلك. وكان إذا حضر إلى قاعة سلمها إليه بجميع ما فيها، ثم ينتقل إلى قاعة أخرى، وكان آخر الضيافة فى قاعة المسرّة. ثم خرج الملك الجواد، وركب والعسكر فى خدمته، فقال لهم: سلطانكم الملك الصالح. فحلّف الصالح العساكر فى تلك الساعة، إلا الأمير سيف الدين على ابن قليج، فإن الصالح قبض عليه.

فعظم ذلك على النّوّاب، ولامه أصحابه على ما فعل من تسليم السلطنة للملك الصالح. فأراد نقض ما أبرمه، والقبض على الملك الصالح. فاستدعى المقدّمين والجند واستحلفهم، وجمع الصالح أصحابه عنده فى القلعة، وأراد أن يحرق دار فرّخشاه. فدخل جمال الدين بن جرير بينهما، وأصلح الأمر. وخرج الجواد إلى النّيرب «1» ، واجتمع الناس على باب القصر يدعون عليه ويسبّونه فى وجهه- وكان قد أساء السّيرة فيهم، وسلط عليهم خادما لبنت كرجى يقال له الناصح، فأخذ أموالهم وصادرهم، وعلقهم وضربهم، فيقال إنه أخذ منهم ستمائة ألف درهم. وأرسل الملك الصالح إلى الجواد يأمره أن يعطى الناس أموالهم، فلم يصغ إلى قوله، ولا أجابه عن ذلك بجواب. وتوجه إلى بلاد الشرق. فلما وصل إلى ضمير «2» رأى بدويّا فاستراب منه، فقبض عليه، فوجد معه كتبا من الملك الصالح إلى الخوارزميّة- وكانوا على حمص- يحسّن لهم القبض على الملك الجواد، وأخذ ما معه، وأن يسيّروه إليه. فعند

ذلك أخذ على طريق السّماوة «1» وعرج عن حمص، وسار إلى عانة، «2» فدخلها وأقام بها. فبلغه أن صاحب الموصل يحاصر سنجار- وبها أيدمر مملوك الجواد- فسار إليه فى مائتى فارس. ولما قرب منها رسم أن يضرب فى كل ناحية طبل باز وفرّق من معه فرقا، وجعل كل فرقة طبلخاناه «3» ومشاعل، وأمرهم أن يضربوا طبلخاناتهم جملة واحدة وسار إلى سنجار ليلا على هذه الصّفة، فظن صاحب الموصل أن معه عسكرا، فارتحل عن سنجار فى ليلته، ودخلها الملك الجواد بكرة النهار، وأقام بها سنة. وحاصره الخوارزميّة، وعادوا عنه وترددت الرسائل بينه وبين صاحب الموصل فى المصاهرة بينهما. وقصد الجواد أن يتصل بابنة صاحب الموصل، ليكون عضدا له. فعقد عقد النكاح بالموصل، وكان وكيل الجواد زريق مملوكة.

ثم سأله صاحب الموصل الاجتماع، وسير ولده رهينة. فوافق الجواد على ذلك وتوجه إلى عانة. هذا، وصاحب الموصل قد أفسد أهل سنجار. ولما سار الجواد من سنجار، جاء صاحب الموصل إليها فدخلها من غير ممانع- وذلك فى سنة سبع وثلاثين وستمائة. فسار الجواد إلى بغداد، واستنصر بالخليفة. وأقام ببغداد ستة أشهر. فوصله الخليفة بأربعة آلاف دينار، وأمره بالخروج عن بغداد. فسار إلى عانه وأقام ها، ثم اشتراها الخليفة منه بمائة وعشرين ألف درهم. فقبض الجواد المال وسلّمها- وهى جزيرة فى وسط الفرات. وسار الجواد بعد تسليمها إلى حرّان، وهى بيد الخوارزمية، فأقام عندهم سنة. وسار إلى حلب معهم وقاتل أهلها، ثم عاد معهم الى حرّان. فاستدعاه الملك الصالح نجم الدين- بعد أن ملك الديار المصرية- فسار ومر على قرقيسيا «1» ، واجتاز بالرّحبة بالبريّة، وأقام عند ابن صدقه «2» أياما. وسار فى البرّيّة إلى الشّوبك، وسير مملوكه زريق إلى الصالح فى البرية. فعظم ذلك على الصالح، وأنكر كونه حضر من البرية. ووصل الجواد إلى العبّاسة «3» ، فأرسل إليه الملك الصالح الطّواشى دينارا وأمره برده. وأن يعود إلى الشّوبك «4» ، ولا يدخل مصر. فسار على طريق الرّمل يريد الساحل، ووصل إلى رفح.

فندب الملك الصالح كمال الدين بن الشيخ للقبض عليه. فعلم بذلك فتوجه إلى الملك الناصر داود- وكان إذ ذاك بالقدس- وتحالفا على قتال الصالح، وذلك فى سنة تسع وثلاثين وستمائة. فاستبشر الناصر بقدومه، وجرّد العساكر معه. وجاء كمال الدين بن الشيخ، والتقوا على مكان يقال له بيت قوريك- وهى قرية من قرى نابلس- بالقرب منها، فيما بينها وبين الغور من جهة أريحا، فكسره الجواد وأسره. وأحضره إلى عند الملك الناصر داود، فوبخ الناصر كمال الدين. وأقام الجواد عند الناصر فتخيّل منه وقبض عليه بعد أيام، وأراد قتله، لما كان بينهما من الذّحول «1» القديمة. ثم سيّره إلى بغداد فى البرّية تحت الاحتياط، فنزل قريبا من الأزرق، فعرفه جماعة من العرب فأطلقوه. فتوجه إلى عمه الملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- فلم يمكّنه من الدخول إليها، وبعث إليه بالنفقات. وجرّد معه خمسمائة فارس، وكتب إليه بالمسير إلى الساحل والاجتماع بملوك الفرنج ومقدّم الدّيويّة «2» . فتوجه إليهم واجتمع بهم بقيساريّة «3» - وكانت أمه فرنجية- فمالوا إليه. فبلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين، فكتب إليه يعده بمواعيد جميلة، وطلب منه أن يستميل الفرنج إلى طاعته، ويعدهم عنه بجميع ما يختارونه. ففعل الجواد ذلك، واستمالهم، وكتب إليه أن يسير رسوله إليهم.

ففعل الملك الصالح ذلك، وأرسل رسوله إلى الفرنج، واستحلف الملك الجواد ومقدّم الدّيويّة وأكابر الفرنج. فلما وثق الصالح بذلك، سير الأمير ركن الدين الهيجاوى. إلى غزّة بعسكر، وكتب إلى الجواد أن يرحل وينزل عند الهيجاوى، ويتفق معه على الصلح. ففعل الجواد ذلك. ثم كتب الملك الصالح إلى الهيجاوى يأمره بالقبض على الملك الجواد، وإرساله إليه. فأخبره الهيجاوى بذلك. فاتفقا على مفارقة الملك الصالح أيوب. فتوجه الجواد إلى عكّا، والتجأ إلى الفرنج. وتوجه الركن الهيجاوى إلى دمشق، والتحق بصاحبها الملك الصالح إسماعيل وأقام عنده. ولم يخدمه، بل كان يتردد إليه فيكرمه ويستشيره فى أموره. ثم كتب الملك الصالح إسماعيل إلى الملك الجواد يعنّفه. على لحاقه بالفرنج وطلبه إليه ثم أرسل إلى الفرنج وطلب منهم المعاضدة على صاحب مصر. ووعدهم أنه إذا ملك مصر أعطاهم البلاد الساحلية. وجميع فتوح الملك الناصر صلاح الدين يوسف. فاستشاروا الجواد فى ذلك، فكتب إليهم يحذرهم من الملك الصالح إسماعيل، وينهاهم عن موافقته. فوقع بخطه للملك الصالح إسماعيل، فقبض عليه بمنزلة العوجاء «1» ، وسيّره إلى دمشق، واعتقله بعربا. فمات فى شوال سنة إحدى وأربعين وستمائة. وطلبه الفرنج وشددوا فى طلبه، فأظهر أنه مات. وأهله يقولون إنه خنقه. والله أعلم. ولما مات دفن بقاسيون فى تربة الملك المعظم- رحمهما الله تعالى. هذا ما كان من أمر الملك الجواد. فلنرجع إلى بقية أخبار الملك العادل صاحب مصر.

ذكر مخالفة الأتراك على السلطان الملك العادل، وتوجههم إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق

ذكر مخالفة الأتراك على السلطان الملك العادل، وتوجههم إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق وفى سنة ست وثلاثين وستمائة، ندب السلطان الملك العادل العساكر إلى الساحل، وقدّم عليهم الأمير ركن الدين الهيجاوى، وأنفق فيه الأموال- وذلك فى جمادى الآخرة. فأقاموا ببلبيس إلى العشرين من شهر رمضان. وأظهر جماعة من الأتراك والمضافين إليهم الخروج عن طاعة الملك العادل، وشيّعوا أنه يقصد القبض عليهم، وعزموا على قصد الملك الصالح أيوب. فأرسل الملك العادل إليهم الأمير فخر الدين بن الشيخ، وبهاء الدين ابن ملكشو، وطيّب قلوبهم واستمالهم، فلم يجيبوا ولما كان فى الحادى والعشرين من شهر رمضان، خرج جماعة من الحلقة «1» من القاهرة، من باب النصر وغيره، تقدير ألف فارس من الأتراك- وأظهروا أن السلطان عزم على القبض عليهم، وقصدوا اللحاق بمن كان على بلبيس من الأمراء فبطق «2» الملك العادل إلى الأمراء الأكراد

ذكر وصول الملك الناصر داود - صاحب الكرك - إلى السلطان الملك العادل

ببلبيس، بمناجزة الأتراك وقتالهم، فقاتلهم الأكراد قبل وصول الحلقة إليهم. فانهزم الأتراك إلى جهة الشام وانضم أكثرهم إلى الأكراد. ولما انهزموا تبعهم الأكراد، ثم رجعوا خوفا على أثقالهم من الحلقة فوجدوا الحلقة قد وصلوا إلى بلبيس، فلم تتعرض إحدى الطائفتين إلى الأخرى بقتال، لدخول الليل. وتوجه الأتراك للّحاق بأصحابهم الذين انهزموا، وساروا إلى دمشق واتصلوا بخدمة الملك الصالح أيوب. ذكر وصول الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان الملك العادل وفى خامس شوال، سنة ست وثلاثين وستمائة، وصل نجّاب «1» من الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان، يخبره بوصوله. فخرج السلطان للقائه فى سابع الشهر، وزيّنت القاهرة ومصر زينة لم يشاهد مثلها، وعاد السلطان والملك الناصر معه فى ثامن الشهر، واستبشر بقدومه وحلف كلّ منهما لصاحبه. وفى العشرين من شوال، وردت الأخبار بوصول عسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب- صحبة ولده الملك المغيث جلال الدين عمر- إلى جينين فجمع الملك العادل والناصر الأمراء، وتحالفوا على قتاله. وخرج الملك الناصر داود فى يوم الأحد تاسع ذى القعدة، لقصد الشام. وندب الملك العادل جماعة من الأمراء فى خدمته، لقتال الملك الصالح نجم الدين أيوب. وجهّز صحبته خزانة مال وسلاح خاناه، وخرج لوداعه إلى بركة

الجبّ، وعاد إلى القلعة. ثم خرج الملك العادل فى يوم الثلاثاء- سلخ ذى الحجة- لقصد الشام، لقتال أخيه الملك الصالح، فنزل على بلبيس وفى هذه السنة، فى يوم الأحد ثامن صفر، كانت وفاة الشيخ الإمام جمال الدين أبى المحامد، محمود بن أحمد الحصيرى الحنفى، بدمشق. وأصله من بخارى، من قرية يقال لها حصيره. تفقه فى بلده، وسمع الحديث الكثير. وقدم الشام، ودرّس بالنّوريّة. وانتهت إليه رياسة أصحاب أبى حنيفة. وقرأ عليه الملك المعظم الجامع الكبير، وغيره. وصنّف الكتب الحسان، وشرح الجامع الكبير. وكان كثير الصدقة غزير الدّمعة نزها عفيفا. وكان إذا أتى قلعة دمشق لا ينزل عن حماره إلا على الإيوان السلطانى، والملوك تعظّمه وتجلّه. ودفن بمقابر الصوفية عند المنيبع «1» ، على الجادّة رحمه الله تعالى. وفيها توفى الوزير جمال الدين بن جرير، وزير الملك الأشرف. ثم وزر للملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق دون الشهر، ومات. وأصله من الرّقّة. وكانت وفاته فى يوم الجمعة- السابع والعشرين من جمادى الآخرة- بعلة الخوانيق. ودفن بمقابر الصّوفية عند المنيبع- رحمه الله تعالى. وفيها فى شعبان، توفى الأمير علاء الدين أبو الحسن على، بن الأمير شجاع الدين أبو المنصور جلدك، بن عبد الله المظفّرى التّقوى، بثغر دمياط- وكان واليا به- رحمه الله تعالى.

ذكر عود السلطان الملك العادل من بلبيس إلى قلعة الجبل

ذكر عود السلطان الملك العادل من بلبيس إلى قلعة الجبل قد ذكرنا أن السلطان كان قد خرج من قلعة الجبل فى سلخ ذى الحجة سنة ست وثلاثين، لقصد الشام. ونزل على بلبيس وأقام بها، إلى سادس عشر المحرم من هذه السنة، ثم رجع. وكان سبب رجوعه أن الأمراء قصدوا القبض عليه، وتحيّلوا على ذلك، فسألوه أن يعمل كلّ منهم دعوة ويحضّرها للسلطان، ففسح لهم فى ذلك. وحضر عند بعضهم فأكل، ثم قدّم الشراب فشرب، ورأى ما أنكره فقام، ودخل إلى خربشت «1» لقضاء الحاجة، فخرج من ظهر خربشت، وركب فرسا وساق إلى القلعة. فلما طال على الأمراء انتظاره، دخلوا فلم يجدوه فتفرقوا، وعلموا أنه شعر بما أرادوه من اغتياله. فسيّروا إليه يطلبونه، فأظهر أنه ما دخل إلى القاهرة إلا ليخلّق «2» المقياس ويكسر الخليج «3» ، ويعود إليهم. ثم ألجأته الضرورة إلى الخروج،

ذكر قتال الفرنج وفتح القدس

فخرج إلى العبّاسة فى يوم الخميس الرابع والعشرين من الشهر، وقبض على الأمير فخر الدين بن الشيخ، وزين الدين غازى، وفتح الدين بن الرّكن، ووصل بهم إلى قلعة الجبل بكرة نهار الأحد السابع والعشرين من الشهر. وفى خامس عشرين صفر، توجه الملك الناصر داود من العبّاسة إلى الكرك، وصحبته ابن قليج وجماعة من أمراء مصر. وفى يوم الخميس، الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، عملت والدة الملك العادل وليمة عظيمة فى الميدان تحت قلعة الجبل، لجميع الناس: الخواصّ والعوامّ، ذبحت فيها ألف رأس من الغنم، وجملة من الخيل والبقر والجاموس والإبل، وحلت ما يزيد على مائة قنطار من السّكّر، فى ثلاث فساقى كانت على جانب الميدان مما يلى القلعة، وتفرق الناس ذلك بالأوانى. وكان ذلك فرحا باعتقال الملك الصالح أيوب، فإنه كان قد اعتقل بالكرك- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى أخباره. ذكر قتال الفرنج وفتح القدس وفى يوم الخميس- ثامن عشر شهر ربيع الأول، من السنة- وردت الأخبار، إلى السلطان الملك العادل، أن الفرنج قصدوا الأمير ركن الدين الهيجاوى ومن معه من العسكر، والتقوا واقتتلوا، فى يوم الأحد رابع عشر الشهر، عند سطر الجمّيز بالقرب من غزّة. وكانت الهزيمة على الفرنج. وأسر ملكهم، وثلاثة من ينودهم، وما يزيد على ثمانين فارسا، ومائتين وخمسين راجلا. وقتل منهم ألف وثمانمائة إنسان. ولم يقتل من المسلمين فى هذه الوقعة إلا دون العشرة،

ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص

منهم: الأمير سيف الدين محمد بن الأمير أبى عمر، وعثمان بن الأمير علكان ابن أبى على الكردى الهيجاوى- وكان شابا صالحا- وعمره ثلاثون سنة- رحمه الله تعالى. فخذلت هذه الكسرة الفرنج. ثم فتح الملك الناصر داود صاحب الكرك- ومن معه من العسكر المصرى- البيت المقدّس، فى يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى. فقال جمال الدين بن مطروح: المسجد الأقصى له عادة ... سارت، فصارت مثلا سائرا إذا غدا للشّرك مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا فناصر «1» طهّره أوّلا ... وناصر «2» طهّره آخرا قال: ولما فتح البيت المقدّس، تحصن جماعة من الخيّالة والرّجّالة، ببرج داود والأبراج والبدنات، فنصب عليها المجانيق وهدمها. فسألوا الأمان على أنفسهم خاصة، فأمّنهم. ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص وفى ثامن عشر شهر رجب، من السنة- وقيل فى يوم الثلاثاء العشرين منه- توفى الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه، بن شادى- صاحب حمص- بها، ودفن بها.

ذكر وصول رسل الخليفة إلى السلطان الملك العادل بالتشاريف

وكانت حمص بيده، منذ أعطاها إياه السلطان الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- عم أبيه- بعد وفاة والده، فى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. فكانت مدة ملكه بحمص سبعا وخمسين سنة، تقريبا. وكان شجاعا شهما، مقداما، يباشر الحروب بنفسه. وحفظ بلاده من الفرنج والعرب. وبنى الأبراج على مخائض العاصى «1» ورتّب فيها الرجال والطيور. وكان الفرنج إذا خرجوا أطلق الرجال الطيور، فيركب بنفسه وعساكره، فيسبق الفرنج ويردّهم. وكذلك كان يقصد العرب من جهة البرّيّة. وكان قد منع النساء أن يخرجن من باب حمص، مدة ولايته. وكان إذا اعتقل إنسانا أطال حبسه. وملك بعده حمص ولده الملك المنصور إبراهيم. ذكر وصول رسل الخليفة إلى السلطان الملك العادل بالتّشاريف وفى ثامن عشر شهر رمضان- سنة سبع وثلاثين وستمائة- وصل الشيخ محيى الدين بن الجوزى- رسول الخليفة- وفلك الدين المسيرى، بخلع الخليفة إلى السلطان الملك العادل، ولولده. ولقّب ولده- الملك المغيث- من الدّيوان العزيز بألقاب الملك الكامل جدّه، وسمّى باسمه، ثم انتفض ذلك، وأعيد إلى ألقابه الأول، وهى الملك المغيث فتح الدين عمر.

ذكر القبض على السلطان الملك العادل وخلعه

ووصلت الخلع أيضا لجماعة من الأمراء، وخلعة للوزير- ولم يكن للسلطان الملك العادل وزير- فرسم بنقل خلعة الوزير إلى الخزانة العادلية. وكانت جملة الخلع ثمانى عشرة خلعة. وسيّر للسلطان مع خلعته فرس له سرج مشغول بالذهب، وعلمان، وسيفان، تقلد بهما عن اليمين والشمال. فلبس السلطان الخلعة بظاهر القاهرة، وشقّ البلد. ثم اتصل بالملك العادل أن الملك الصالح قد أطلق من حبسه بالكرك، وأنه قصد نابلس، وخطب له بها. فخرج من القاهرة فى يوم السبت الخامس من شوال، ونزل على بلبيس، فأقام بها، إلى أن قبض الأمراء عليه. ذكر القبض على السلطان الملك العادل وخلعه وفى يوم الجمعة، لثمان مضين من ذى القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة- وقيل لسبع بقين من شوال، منها- قبض الأمراء على السلطان الملك العادل، وخلعوه. وذلك أن الأمير عز الدين أيبك الأسمر- مقدّم الأشرفيّة- ومقدّمى «1» الحلقة، وهم: الطّواشى مسرور الكاملى، وكافور الفائزى، وجوهر النّوبى، وجماعة من الحلقة- اتفقوا على خلعه، والقبض عليه، واستدعاء أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب. فخلعوه وقبضوا عليه. فكانت مدة سلطنته سنتين، وثلاثة أشهر، وثمانية عشر يوما.

ذكر أخبار السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل - وما كان من أمره بعد وفاة أبيه إلى أن ملك الديار المصرية

ولما قبض على الملك العادل، ركب جماعة من الأتراك وقصدوا أمراء الأكراد، لما كان بينهم من الذّحول «1» التى أثرتها وقعة بلبيس. وكان الأكراد على غير أهبة، فنهبهم الأتراك. ووافقهم ممالك الأكراد على أستاذيهم «2» ، ومالوا للأتراك للجنسيّة، فاستولى الأتراك على خيامهم وأثقالهم وخيولهم. وانهزم الأكراد، كلّ منهم على فرس، ودخلوا القاهرة. وقبض الأمراء على خواصّ الملك العادل وحرفائه. وكان الملك العادل قد اشتغل باللهو والهزل واللعب. وكان لا يؤثر قيام ناموس المملكة. ووثق بكرمه وبذله الأموال، وظن أن ذلك يغنيه عن التحفظ. وكان من أكرم الناس وأكثرهم عطاء، ودليل ذلك أنه فرّق فى مدة سلطنته ما يزيد على ستة آلاف (ألف) «3» دينار، وعشرين ألف ألف درهم، من الأموال التى خلّفها والده: السلطان الملك الكامل. ذكر أخبار السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل- وما كان من أمره بعد وفاة أبيه إلى أن ملك الديار المصرية كان السلطان الملك الصالح، لما توفّى والده السلطان الملك الكامل، مقيما بسنجار «4» - وله آمد وحرّان والرّها، ونصيبين والخابور، ورأس عين

والرّقّة «1» - من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وتوفى السلطان الملك الكامل والده، والأمر على ذلك. ثم كان من أخباره مع الخوارزميّة، ومفارقتهم له، ومحاصرة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ له بسنجار، واستنصاره بالخوارزمية وعودهم إلى خدمته، وهرب بدر الدين لؤلؤ- ما قدّمناه. وملك بعد ذلك دمشق من الملك الجواد- كما تقدم. ولما ملك دمشق، راسل عمّه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- صاحب بعلبك- والتمس منه مساعدته على قصد الديار المصرية، وانتزاعها من أخيه الملك العادل. وشرط له أنه إذا فتح الديار المصرية تكون له، وتكون دمشق للصالح إسماعيل. فأجابه إلى ذلك، وشرع فى الاستعداد والاستخدام والاحتشاد. فاتصل ذلك بالملك العادل ووالدته، فكتبا إلى الملك الصالح إسماعيل، وكتب إليه بعض الأمراء المصريين، وهم يصرفون رأيه عن مساعدة الملك الصالح أيوب، وحسّنوا له أخذ دمشق. فاتفق الصالح إسماعيل، وصاحب حمص على مخالفة الملك الصالح نجم الدين. وخرج الملك الصالح أيوب من دمشق فى شهر رمضان سنة ست وثلاثين وستمائة، وقصد نابلس- وهى فى جملة مملكة الملك الناصر داود، صاحب الكرك- فاستولى عليها وعلى بلادها- وذلك فى شوال من السنة. وتوجه الملك الناصر داود إلى الديار المصرية- كما تقدم.

وأقام الملك الصالح نجم الدين بنابلس، ينتظر وصول عمه الملك الصالح إليه بعسكره، ليتوجها إلى الديار المصرية. وكان بقلعة دمشق الأمير ناصر الدين القيمرى، ينوب عن الملك الصالح، فاتصل به خبر الملك الصالح إسماعيل وما عزم عليه. فكتب إلى الملك الصالح أيوب، يعلمه أن عمه الصالح إسماعيل قد عزم على مخالفته، واستخدم الرجال لذلك، وحذّره منه مرّة بعد أخرى. ووالى كتبه إليه، وهو لا يكترث بقوله. فلما كرر كتبه بذلك، أجابه: إن مقرعتى إذا وقعت فى فلاة لا يقدر أحد أن يمسّها بيده، ولا يتجاسر عليها! فلما وقف على جوابه كفّ عنه. وكان الملك المسعود بن الملك الصالح إسماعيل فى خدمة الملك الصالح أيوب- هو والأمير ناصر الدين بن يغمور- فتواترت كتب الملك الصالح إلى عمه الصالح يستحثه على اللحاق به. وهو يتقاعد عنه، ويجيبه إننى لا يمكننى إخلاء قلعة بعلبك بغير حافظ، والقصد إرسال ولدى إلىّ لأجعله بها، وأحضر إليك. فعند ذلك جهّز الملك الصالح نجم الدين أيوب الحكيم سعد الدين بن صدقة المعرّى، إلى عمه الملك الصالح، برسالة، ظاهرها استحثاثه على سرعة الوصول إليه، وأمره أن يطالعه بما يظهر له من أحوال عمه، وهل هو على الطاعة أو العصيان. فلما وصل الحكيم إلى بعلبك، اطلع على ما اتفق عليه الصالح إسماعيل وصاحب حمص: من قصد دمشق، وانحرافهما عن الملك الصالح. فكان يكتب إليه بذلك، ويدفع البطايق إلى البرّاج ليرسلها على الحمام، فيرصده الصالح إسماعيل ويأخذها منه، ويغيّرها بخط أمين الدولة السامرى،

ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب - على دمشق

بما معناه أن الملك الصالح إسماعيل محبّ فى السلطان، وقد استخدم واحتفل، وهو على عزم القدوم إلى السلطان. فتصل هذه البطايق المزوّرة إلى الملك الصالح أيوب، فلا يشك أنها صحيحة. فعند ذلك أرسل الملك المسعود الى أبيه ببعلبك، وقد طابت نفسه ووثق [أن عمه] معه. فلما حصل ولده عنده، سار من بعلبك، وسار صاحب حمص من حمص، وتوافوا بجبل قاسيون. وكان جملة من استخدم الملك الصالح إسماعيل ألف فارس وأحد عشر ألف راجل. واستخدم صاحب حمص أربعة آلاف راجل. وتقرر بينهما أن يكون ثلثا دمشق وأعمالها للملك الصالح إسماعيل، والثلث لصاحب حمص. وكان الصالح إسماعيل قد أفسد بعض أمراء الصالح أيوب. كل ذلك والأمير ناصر الدين القيمرى يطّلع عليه، ويطالع به الملك الصالح أيوب، وهو لا يلتفت إليه، ولا يرجع إلى نصحه. ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- على دمشق قال: ولما تكامل للملك الصالح ما أراد من الاستخدام والاحتشاد، ووافقه صاحب حمص- الملك المجاهد أسد الدين شيركوه- راسل الأمير ناصر الدين القيمرى النائب بقلعة دمشق، وبذل له عشرة آلاف دينار على تسليم القلعة. فوافقه على ذلك، ووقع منه بموقع، لأنه كان قد كرّر نصائحه لمخدومه الملك الصالح- نجم الدين أيوب- وحذّره، فما رجع إليه، وأجا؟؟؟ بما تقدم ذكره. فحمله ذلك على موافقة الملك الصالح عماد الدين، وتفرر

بينهما أن الصالح يحاصر قلعة دمشق ثلاثة أيام، ويسلّمها إليه، ففعل ذلك. ودخل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء، سادس أو سابع عشرين صفر، سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكان دخوله من باب الفراديس، من غير ممانعة، فإنه لم يكن عليه من يدفع عنه، ولا عن البلد. ونزل الصالح بداره بدرب الشّعّارين. ونزل صاحب حمص فى داره. وزحفوا فى يوم الأربعاء ثامن عشرين الشهر على القلعة، ونقبوها من ناحية باب الفرج، وقاتل عليها ثلاثة أيام، وتسلّمها من القيمرى- كما تقرر بينهما وكان بها الملك المغيث: جلال الدين عمر بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاعتقله الملك الصالح إسماعيل عم أبيه فى برج بالقلعة. واتصل الخبر بالملك الصالح أيوب، وهو بمخيّمه بظاهر نابلس، وقيل له: إن القلعة ما أخذت فاستحلف عسكره، وخلع على عمّيه: مجير الدين وتقىّ الدين، والرّكن والنّميس وغيرهم، وأعطاهم الأموال واستشارهم. فقالوا: نتوجه إلى دمشق قبل أخذ القلعة. فركب بهم من نابلس، فلما انتهوا إلى القصير «1» المعينى بالغور «2» أنفق فى عسكره، وجدّد

عليهم الأيمان وقت صلاة المغرب. وبلغهم أن قلعة دمشق قد استولى عليها الصالح إسماعيل. فلما كان فى نصف الليل، رحلوا عنه بأجمعهم، وتركوه وليس معه إلا دون المائة من مماليكه. وتفرق عنه بقية مماليكه وخواصّه. فرجع يقصد نابلس، ومعه جاريته أمّ ولده خليل: المدعوة شجر الدّر. وطمع فيه حتى الغوارنة «1» والعشران «2» وكان مقدّمهم رجل شيخ جاهل، يقال له تبل «3» من أهل بيسان، قد سفك الدماء وركبت الجيوش بسبه مرارا، فتبعه بمن معه. وقد توجه الملك الصالح على طريق جينين يريد نابلس، والغوارنة والعشران يتبعونه، وهو يرجع إليهم ويحمل عليهم بمماليكه فيفرّق جماعتهم. وأخذ بعض خيولهم، واستولوا هم أيضا على بعض ثقله. ووصل إلى سبسطية «4» . وكان الوزيرىّ- نائب الملك الناصر داود- عاد إلى نابلس، بعد خروج الملك الصالح منها. فأرسل إليه الملك الصالح أيوب يقول: إنه قد مضى ما مضى، وما زال الملوك على هذه الحال. وقد جئت الآن مستجيرا بابن عمى الملك الناصر. ونزل فى الدار بنابلس. وكان الملك الناصر داود قد عاد من الديار المصرية على غير رضا. ووصل إلى الكرك. فكتب إليه الوزيرىّ يخبره بخبر الملك الصالح نجم الدين أيوب.

ذكر القبض على الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتقاله بقلعة الكرك

ذكر القبض على الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتقاله بقلعة الكرك قال: ولما وصل كتاب الوزيرىّ إلى الملك الناصر بالكرك، ندب الأمير عماد الدين بن موسك، والظّهير بن سقر الحلبى، فى ثلاثمائة فارس إلى نابلس. فركب الملك الصالح أيوب وتلقاهم، فخدموه وقالا له: طيّب قلبك. إنما جئت إلى بيتك. فقال: لا ينظر ابن عمى إلى ما فعلت، فما زال الملوك على هذا. وقد جئت إليه، أستجير به، فقالا له: قد أجارك، ولا بأس عليك. وأقاموا أياما حول الدار. فلما كان فى بعض الليالى، ضرب بوق النّفير، وقيل جاء الفرنج إلى الظّهر. فركب الناس وركب مماليك الملك الصالح ووصلوا إلى سبسطية. فجاء عماد الدين والظّهير والعسكر إلى الدار التى بها الملك الصالح. ودخل الظّهير عليه، وقال له: تتوجه إلى الكرك، فإن ابن عمك له بك اجتماع. وأخذ سيفه. وكانت جاريته حاملا، فأسقطت. وأخذوه، وأركبوه بغلة، بغير مهماز فى رجله، ولا مقرعة فى يده- وذلك فى ليلة السبت، لثمان بقين من شهر ربيع الأول- وتوجهوا به حتى وصلوا إلى الرّيّة «1» . قال أبو المظفر: إن الملك الصالح أخبره، قال: إلى الرّيّة فى ثلاثة أيام، والله ما كلّمت أحدا منهم كلمة، ولا أكلت لهم طعاما، حتى جاء خطيب الرّيّة ومعه بردة وعليها دجاجة، فأكلت منها- قال: وأقاموا بالرّيّة

يومين، وما علمت المقصود بى ما هو؟ وإذا هم يريدون أن يأخذوا طالعا نحسا، يقتضى أن لا أخرج من الكرك. ثم أدخلونى الكرك ليلا، على الطالع الذى كان سبب سعادتى. ووكّل بى الناصر مملوكا له فظّا غليظا، يقال له زريق وكان أضرّ علىّ من كلّ ما جرى. قال: فأقمت عندهم إلى شهر رمضان، سبعة أشهر- يعنى من سنة سبع وثلاثين. وحكى الملك الصالح له ما ناله من الضائقة والشّدة والإهانة شيئا كثيرا. ولما توجهوا به إلى الكرك، جهز الوزيرىّ خزانته ونساءه، وخيله وأسبابه، إلى الصّلت «1» . وعاد مماليك الملك الصالح فلم يجدوه، فتفرقوا وأما عسكره الذى فارقه من منزلة القصير «2» - فانهم توجهوا إلى دمشق. فمنعهم الصالح من الدخول إليها، وقال: هذه بلد الملك العادل فلا تدخلوها إلا بإذنه. ثم استخدم بعد ذلك جماعة منهم، وطرد طائفة واعتقل طائفة. وزيّنت مصر والقاهرة للقبض على الملك الصالح شهرا. وعملت والدة الملك العادل الوليمة التى ذكرناها. وأرسلت القاضى الشريف شرف الدين موسى، والعلاء بن النابلسى، إلى الملك الناصر، بقفص حديد، ليجعل فيه الملك الصالح، ويرسله معهما إلى الديار المصرية! وبذلت فيه للملك الناصر مائة ألف دينار. وكاتبه الصالح إسماعيل وصاحب حمص، فى

ذكر إطلاق الملك الصالح من الاعتقال بالكرك، وما كان من أمره إلى أن ملك الديار المصرية

إرساله إلى دمشق. وبذل الصالح إسماعيل فيه للناصر ربع دمشق. فما أجاب الناصر إلى ذلك وقيل: كان السبب فى امتناع الملك الناصر من تسليمه، لمن بذل فيه ما بذل، أن الصالح أيوب كان قد أرسل جمال الدين بن مطروح- الكاتب- إلى الخوارزميّة فى الحضور إليه، لمحاصرة دمشق. فتوجه لذلك. فلما قبض على الصالح، أرسل ابن مطروح رسولا على النّجب إلى الملك الناصر، يقول له: إن فرط فى الملك الصالح أمر، فاعلم أن الخوارزمية لا يبقون لك فى البلاد قعر قصبة، فقد حلفوا على ذلك. وقيل إن والدة الملك الناصر اهتمّت بأمر الملك الصالح، وخدمته أتم خدمة، وتولت ذلك بنفسها، وكانت تطبخ له بيدها. وحلفت على ولدها أنه إن فعل به ما يكره، لا أقامت عنده. وقالت له: ما ملّكنا البلاد، وجعلنا فى هذا الحصن إلا والده- تعنى: الملك الكامل. فتوقف عن إرساله. والله أعلم. ذكر إطلاق الملك الصالح من الاعتقال بالكرك، وما كان من أمره إلى أن ملك الديار المصرية قال: ولما كان فى أواخر شهر رمضان، استشار الملك الناصر داود الأمير عماد الدين بن موسك، وابن قليج، والظّهير، فى أمر الملك الصالح. فوقع الاتفاق على تحليفه وإخراجه. فاجتمع الناصر والصالح وتحالفا، وأفرج عنه وذلك فى أواخر شهر رمضان، سنة سبع وثلاثين وستمائة. ولما أخرجه الناصر من اعتقاله، ركّبه بالكرك بشعار السّلطنة، وحمل الغاشية بين يديه، وأظهر الناصر الخلاف على الملك العادل.

وحكى عماد الدين بن شدّاد- فى سبب خلاص الملك الصالح- أن الملك العادل كان قد حلّف الناصر، وحلف له على الاتفاق واجتماع الكلمة على قتال الملك الصالح، وأن تكون دمشق إذا فتحت للملك الناصر. فلما اتفق هجوم الملك الصالح إسماعيل على دمشق، وأخذها، أرسل إليه الملك العادل يصوّب رأيه، ويشكر فعله. فعظم ذلك على الملك الناصر، وكان سبب خلاص الملك الصالح. وحكى أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزى، فى كتابه: «مرآة الزمان» أن الملك الصالح نجم الدين أيوب أخبره- بعد أن ملك الديار المصرية- قال: حلّفنى الناصر على أشياء، ما يقدر عليها ملوك الأرض، وهو أن آخذ له دمشق، وحمص، وحماه وحلب، والجزيرة والموصل وديار بكر، وغيرها، وأن يكون له نصف الديار المصرية، ونصف ما فى الخزائن: من الأموال والجواهر والخيول والثياب وغيرها. فحلفت من تحت القهر والسيف. وقد شاهدت أنا بعض نسخة اليمين عند المولى الملك العزيز: فخر الدين عثمان، بن الملك المغيث فتح الدين عمر- صاحب الكرك- كان بالقاهرة- وفيها أشياء كثيرة من هذا النّوع، وإلزامات، يعلم المستحلف العاقل أن الحالف لا يفى بها، لكثرتها وخروجها عن حد القدرة البشرية، وأن النفوس لا تسمح بها لوالد مشفق، ولا ولد بارّ، فكيف لابن عمّ عدوّ.

ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية وهو السلطان الثامن من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية

قال المؤرّخ: ولما أطلقه الملك الناصر، ركب الملك الصالح من يومه، وسار إلى نابلس. فوصل إليها فى يوم السبت، تاسع عشرين الشهر، وخطب له بها يوم عيد. ونثر ابن موسك على الخطيب والناس الذهب. وخرج الرّكن الهيجاوى إلى الديار المصرية، فأرسل إليه الملك العادل يأمره بالإقامة على بلبيس، إلى أن تصل إليه العساكر. ثم خرج الملك العادل بعساكره- فى خامس شوال- لقتال أخيه الصالح، فقبض الأمراء عليه- كما قدّمنا. ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية وهو السلطان الثامن من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية قال المؤرّخ: لما قبض الأمراء الذين قدمنا ذكرهم على الملك العادل، كتبوا إلى الملك الصالح يستدعونه، فسار لوقته. وكان وصوله- والملك الناصر داود- إلى بركة الجبّ «1» ، فى يوم الخميس الحادى والعشرين من ذى القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة. فنزل فى خيمة الملك العادل- والملك العادل معتقل فى خركاه «2»

ذكر عود الملك الناصر داود إلى الكرك

واستدعى الملك الصالح معين الدين بن شيخ الشيوخ، واستوزره، ورد إليه النظر فى الدواوين. وأقام ببركة الجبّ إلى يوم الأحد، لستّ بقين من الشهر. فركب وصعد إلى القلعة فى الثالثة من النهار- وذلك باتفاق المنجّمين. واعتقل أخاه الملك العادل فى بعض آدر القلعة. وبقى ابنه الملك المغيث- فتح الدين عمر- فى خدمة عمه السلطان الملك الصالح مدة، ثم رأى منه نجابة فحجبه فى الدار القطبيّة، عند عمته ابنة السلطان الملك العادل، أخت الملك الكامل. فلم يزل الملك المغيث بها، إلى أن مات عمه الملك الصالح وملك ابنه الملك المعظم، فنقله إلى الشّوبك واعتقله بها. وكان من أمره ما نذكره- إن شاء الله تعالى. وفى الثامن والعشرين من ذى القعدة، من السنة- تقدم أمر السلطان بتجريد جماعة من الأمراء والعساكر إلى الأعمال القوصيّة، لإصلاح العربان بالوجه القبلى. وجعل المقدّم عليهم الأمير زين الدين بن أبى زكرى. ذكر عود الملك الناصر داود إلى الكرك كان عوده إلى الكرك فى ذى الحجة، من السنة. وسبب ذلك أنه اجتمع هو والسلطان الملك الصالح، بقلعة الجبل على شراب، فلما جنّهم الليل وأخذ منهم الشراب، قال الملك الناصر للسلطان: أفرج عن أخيك الملك العادل فى هذه الساعة. فلاطفه الملك الصالح، وهو يكرر عليه القول! وكان آخر كلام الملك الناصر أن قال للسلطان: لو غسلت رجلىّ وشربت ماءهما، ما أدّيت حقّى! فأمر السلطان مماليكه بإخراجه.

فأخرجوه وركّبوه إلى الوزارة. فلما أصبح، سأل عما كان منه، فأخبر به. فقال: ما بقى لنا مقام فى هذه الديار. وأحضر النّجب، وعمل عليها الأخراج- وفيها ما كان معه من الأموال- وهمّ أن يركبها. فبينما هو يتهيأ للركوب، إذ حضر إليه الأمير: عز الدين أيدمر الجمدار «1» الصالحى، ومعه عشرة آلاف دينار، وعشرة أفراس وخلع، وقال له: يقول لك السلطان: هذه ضيافة، خذها وامض إلى بلادك. فأخذها، وركب من وقته، وسلك طريق البرّيّة. ثم ندم السلطان على إطلاقه، وكونه ما قبض عليه ليأمن شره. وقيل: إن السبب عوده أن الملك الصالح إسماعيل راسل الفرنج، فى قصد بلاد الناصر. فتوجهوا إلى نابلس، فقاتلهم أهلها وهزموهم، فرجعوا إلى بلادهم. فعاد بسبب ذلك. هذا ما حكاه ابن جلب راغب، فى تاريخه، فى سبب عود الملك الناصر. وحكى أبو المظفر يوسف، فى «مرآة الزمان» ، عما أخبره به الملك الصالح نجم الدين- من لفظه- عندما حضر إليه فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، عن وقائع اتفقت له، بين خروجه من اعتقال الملك الناصر إلى أن ملك ورجع الناصر.

منها أنه قال: والله لم أحضر الملك الناصر معى إلى الديار المصرية، إلا خشية أن يكون قد عمل علىّ. ومنذ فارقنا غزّة، تغيّر علىّ ولا شك أن بعض أعدائى أطمعه فى الملك. فذكر لى جماعة من مماليكى أنه تحدث معهم فى قتلى. قال: ومنها أنه لما أخرجنى ندم، وعزم على حبسى، فرميت روحى على ابن قليج، فقال: ما كان قصده إلا أن نتوجه إلى دمشق أولا، فإذا أخذناها عدنا إلى مصر. ومنها أنه لما وصلنا إلى بلبيس، شرب وشطح إلى العادل، فخرج العادل من الخركاه «1» وقبّل الأرض بين يديه، فقال له: كيف رأيت ما أشرت به عليك، ولم تقبل منّى؟! فقال: يا خوند «2» ، التّوبة. فقال طيّب قلبك، الساعة أطلقك. قال الصالح: وجاء فدخل علينا الخيمة، ووقف. فقلت له: باسم الله اجلس. فقال: ما أجلس حتى تطلق العادل. فقلت: اجلس- وهو يكرر هذا القول. ثم سكت. ولو أطلقته ضربت رقابنا كلّها ثم نام وما صدّقت بنومه. وقمت فى بقية الليل، وأخذت العادل فى محفّة، ودخلت به إلى القاهرة. قال: ولما دخلنا القاهرة، بعثت إليه بعشرين ألف دينار، فعادت لى مع مماليكى. ومنها أنه قال فى بعض الأوقات: قبّل قدمىّ ورجلىّ- إلى غير ذلك، مما لا تصبر عليه النّفوس.

ذكر عدة حوادث وقعت فى سنة سبع وثلاثين وستمائة - خلاف ما قدمناه

ذكر عدة حوادث وقعت فى سنة سبع وثلاثين وستمائة- خلاف ما قدّمناه فى هذه السنة- فى شهر ربيع الأول- أخرج الملك الكامل من مدفنه بقلعة دمشق، إلى تربته شمالىّ حائط الجامع الأموى، وفتح فى الحائط ثلاث شبابيك الى الجامع: أحدها باب يتوصّل منه إلى الجامع. وفيها فوّض السلطان الملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- الخطابة بالجامع الأموى لشيخ الإسلام: عزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام- وذلك فى شهر ربيع الآخر. وفيها أمر الملك الصالح- المذكور- الخطباء بدمشق والشام، بالخطبة لصاحب الروم. وفيها فوّض الصالح- أيضا- قضاء الشام للقاضى: رفيع الدين أبى حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد، بن إسماعيل بن عبد الهادى بن عبد الله الجيلى «1» الشافعى- وكان قبل ذلك قاضى بعلبك. وظهر منه من سوء السّيرة والعسف والظلم، ومصادرات أرباب الأموال، ما لا يصدر مثله من ظلمة الولاة. وكانت عاقبة ذلك ما نذكره- إن شاء الله تعالى- من قتله. وفيها، فى ليلة الثلاثاء خامس عشر ذى القعدة، سقط كوكب عظيم قبل طلوع الفجر بمنزلة، وكان مستديرا على هيئة ومقدار، فأضاءت منه

الدنيا، وصارت الأرض أشدّ نورا من ليلة التّمام. وشاهده من كان ببلبيس عابرا عليها آخذا من المشرق إلى نحو القبلة، وشاهده من كان بظاهر القاهرة، عابرا من جهة باب النّصر إلى صوب قلعة الجبل. ثم قطع البحر إلى ناحية الجزيرة، وكانت له ذؤابة طويلة خضراء، مبتورة قدر رمحين. واعتقبه رعد شديد، وتقطّع منه قطع. وأقام، من حين إدراك النّظر له حين انطفائه، بقدر ما يقرأ الانسان سورة الإخلاص ثلاثين مرة- هكذا قدّره من شاهده- على ما نقل إلينا. وفيها فى شعبان- كانت وفاة قاضى القضاء، شمس الدين أحمد، ابن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الخويّى «1» الشافعى، بالمدرسة العادلية، بدمشق، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. وكان- رحمه الله تعالى- حسن الأخلاق، لطيفا كثير الإنصاف، عالما فاضلا فى علوم متعددة، عفيفا متواضعا- رحمه الله تعالى. وكان وروده إلى دمشق، فى أيام الملك المعظم شرف الدين عيسى، ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وحكى أنه لما ورد إلى دمشق، كان مع فضيلته وعلومه يلعب بالقانون، ويغنّى عليه، وقد أتقن صناعته. فأنهى إلى الملك المعظم أمره، فاستحضره إلى مجلس أنسه، ولعب بين يديه بالقانون، وغنّى عليه، ونادمه فأعجبه. وأمره بملازمته فى أوقات خلواته ومجالس شرابه. هذا سبب اجتماعه بالملك المعظم.

وأما سبب ولايته القضاء بدمشق، فإنه كان قد بلغ الملك المعظم عن القاضى جمال الدين المصرى- قاضى قضاة دمشق- أنه يتعاطى الشراب. فأراد تحقيق ذلك عيانا، فاستدعاه، وهو فى مجلس الشراب، فحضر إليه. فلما رآه قام إليه، وناوله هنّابا «1» مملوءا خمرا. فولى القاضى جمال الدين المصرى ورجع، فغاب هنيهة، ثم عاد وقد خلع ثياب القضاء: الطّرحة «2» والبقيار «3» والفوقانيّة «4» ، ولبس قباء «5» ، وتعمّم بتخفيفه وحمل منديلا. ودخل على الملك المعظم فى زى النّدماء. وقبّل الأرض، وتناول الهنّاب من يده وشرب ما فيه. ونادم المعظم فأحسن منادمته فأعجبه. واعتذر من قراره أنه ما كان يمكنه تعاطى ذلك، وهو فى زىّ القضاة. فاغتبط الملك المعظم به.

واستهلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة:

ولما انقضى مجلس الشراب، ورجع المعظم إلى حسّه، علم أنه لا يجوز له أن يقرّه على ولاية القضاء- وقد شاهد من أمره ما شاهد. ففوّض القضاء للقاضى شمس الدين الخويّى، وخلع عليه. وجلس للحكم بين الناس، وأحسن السّيرة. وانقطع عن مجلس الملك المعظم وحضوره، إلا فى أوقات المواكب، على عادة القضاة. واستمر على ذلك مدة. ثم ذكره الملك المعظم واشتاق إلى منادمته، وسماع قانونه. فاستدعاه وتحدث معه، واستوحش منه. ثم كلمه فى الحضور إلى مجلس الأنس معه، فى بعض الأوقات، وأنه لا يخليه منه جملة، وتلطف به فى ذلك. فأجابه عن ذلك، بأن قال: إذا أمر السلطان- أعزّه الله بهذا- امتثلت أمره، وفعلت. ولكن يكون هذا بعد عزلى عن منصب القضاء والحكم بين الناس، وتولية قاض غيرى. فإننى لا أجمع بين منصب القضاء وما يضادّه أبدا، لما يترتب على ذلك من فساد عقود أنكحة المسلمين، ويتعلق ذلك بذمة السلطان. فإن أحبّ السلطان ذلك، فليولّ قاض غيرى. فأعجب الملك المعظم ذلك منه، وسرّبه، وقال: بل نرجّح مصلحة المسلمين على غرضنا. واستقر على القضاء. وما سمع عنه بعد ولائه القضاء ما يشينه فى دينه ولا يغضّ من منصبه- رحمه الله تعالى. واستهلّت سنة ثمان وثلاثين وستمائة: فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر، رتّب السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب دار العدل. وجعل افتخار الدين ياقوت الجمالى نائبا عنه بها. ونصب معه شاهدان من العدول، وجماعة من الفقهاء، منهم:

الشريف شمس الدين الأرموى «1» نقيب الأشراف، والقاضى فخر الدين بن السّكّرى، والفقيه عز الدين. فصار الناس يأتون إليها، ويتظلمون وتكشف ظلاماتهم. وإنما فعل السلطان ذلك، لأنه كان غليظ الحجاب، فاستغنى بذلك عن مواجهة الناس. وفيها، فى رابع المحرم، حصل الشروع فى بناء القنطرة على الخليج الحاكمى- وهى المعروفة فى وقتنا هذا بقنطرة السّدّ. وفيها فى تاسع شهر ربيع الأول، رسم السلطان بتجهيز زرد خاناه «2» وشوانى «3» وحراريق «4» إلى القلزم «5» لقصد اليمن. وجرّد جماعة من الأمراء والجند بسبب ذلك، فى سادس عشر الشهر. ثم عاد العسكر فى خامس شهر رمضان، بسبب حادثة الأشرفية التى نذكرها. لأنهم بلغهم أن الأشرفية ومن شايعهم عزموا على نهب العسكر المذكور- وكان ببركة الجبّ. وبطل التّجريد «6» إلى اليمن.

ثم توجه من جملة العسكر ثلاثمائة إلى مكة، فى أواخر شهر رمضان. فدخلوا مكة سلما «1» ، فى ذى القعدة، وهرب من كان بها من العسكر اليمنى. وفى شهر ربيع الأول من السنة، قبض السلطان على الأمير عز الدين أيبك الأسمر، والخدام الذين وافقوه على القبض على أخيه الملك العادل، وهم: جوهر النّوبى، وشمس الخواص سرور، وكافور الفايزى، وعلى جماعة من الأتراك والحلقة «2» ، ونفى جماعة من الأتراك، وسيّرهم مخشّبين فى المراكب نحو الصعيد وبلاد المغرب، وأخذ أموالهم وقتل بعضهم. وانهزم بعض الأشرفية، واختفى بعضهم. وأمّر السلطان مماليكه، وأعطاهم الإقطاعات. وفيها فى يوم السبت- تاسع شهر ربيع الآخر- وقيل فى خامس عشرة- ولد للسلطان الملك الصالح ولد ذكر، من سرّيّته: شجر الدّرّ، وسمّاه خليلا. ثم مات بعد مدة يسيرة. وفيها، فى تاسع شهر ربيع الأول، صرف الأمير سيف الدين بن عدلان، عن ولاية الصناعة بمصر. ووليها أسد الدين، بن الأمير شجاع الدين جلدك.

ذكر مسير الملك الصالح إسماعيل، صاحب دمشق، منها لقصد الديار المصرية، وقتاله الملك الناصر صاحب الكرك، وعوده إلى دمشق

وفيها، فى سابع عشرين شهر ربيع الآخر، نقل الأمير بدر الدين باخل من ولاية مصر إلى ولاية ثغر الإسكندرية. وفيها، فى سابع شهر ربيع الآخر، صرف عن شدّ «1» الدواوين علم الدين كرجى، وولّى الأمير حسام الدين لؤلؤ. وفى يوم الاثنين خامس شعبان، أمر السلطان بالشروع فى عمارة قلعة البحر، التى بالروضة. فابتدىء فى حفر أساسها فى هذا اليوم، وبنى فيها فى آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة، سادس عشر الشهر. وهدمت الدّور التى كانت بالجزيرة وتحوّل الناس إلى مصر. ذكر مسير الملك الصالح إسماعيل، صاحب دمشق، منها لقصد الديار المصرية، وقتاله الملك الناصر صاحب الكرك، وعوده إلى دمشق قال المؤرخ: لما اتصل بالملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- ما وقع بمصر من الفتن، والقبض على الأمراء الأشرفية والخدّام وغيرهم، عزم على قصد الديار المصرية، وأطمعته آماله فى الإستيلاء عليها. فتجهز بعساكره، ومعه الملك المنصور صاحب حمص، ونجدة من حلب، وقصد الديار المصرية.

ذكر تسليم صفد وغيرها للفرنج وما فعله الشيخ عز الدين بن عبد السلام - بسبب ذلك - وما اتفق له مع الملك الصالح

فبلغه أن الملك الناصر صاحب الكرك على حسبان «1» من بلد البلقاء، فقصده بمن معه. والتقوا واقتتلوا، فانكسر صاحب الكرك. واستولى الصالح إسماعيل على أثقاله، وأسر جماعة من أصحابه. ثم رحل ونزل على نهر العوجا «2» ، وطلب الملك الجواد- وكان عند الفرنج- فحضر إليه. واستنصر بالفرنج، فكتب الجواد إليهم يحذرهم منه. فوقع كتابه للصالح، فقبض عليه واعتقله- كما ذكرنا- وعاد إلى دمشق، وتفرقت العساكر التى كان قد جمعها. ذكر تسليم صفد وغيرها للفرنج وما فعله الشيخ عز الدين بن عبد السلام- بسبب ذلك- وما اتفق له مع الملك الصالح وفى هذه السنة، خاف الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على نفسه من الملك الصالح نجم الدين أيوب، فكاتب الفرنج واستنصر بهم، واتفق معهم على معاضدته. وأعطاهم قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشّقيف «3» وبلادها، ومناصفة صيدا، وطبوية وأعمالها، وجبل عامله، وجميع بلاد الساحل. ومكّنهم من دخول دمشق لابتياع السلاح.

فشقّ ذلك على المسلمين. واستفتى المتديّنون، ممن يبيع السلاح، الشّيخ عزّ الدين: عبد العزيز بن عبد السلام، فى مبايعة الفرنج السلاح. فأفتاهم أنه يحرم عليهم بيعه للفرنج. وتوقّف عن الدعاء للملك الصالح إسماعيل على منبر الجامع بدمشق، وجدّد دعاء يدعو به على المنبر، بعد الخطبة الثانية قبل نزوله، وهو: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشيدا، يعزّ فيه وليّك ويذلّ فيه عدوّك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك» . والناس يصيحون بالتّامين، والدعاء للمسلمين. فكوتب الصالح إسماعيل بذلك، فورد كتابه بعزله واعتقاله. واعتقل الشيخ أبو عمرو بن الحاجب أيضا، لموافقته الشيخ على الإنكار. ثم وصل الصالح بعد ذلك إلى دمشق، فأفرج عنهما، واشترط على الشيخ عز الدين أنه لا يفتى، ويلزم بيته، ولا يجتمع بأحد. فسأله الشيخ أن يفسح له فى صلاة الجمعة، والاجتماع بطبيب أو مزيّن، إن دعت حاجته إليهما، وفى دخول الحمّام، فأذن له فى ذلك. ثم انتزح الشيخان: عز الدين وأبو عمرو، عن دمشق إلى الديار المصرية- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. وفيها كانت الوقعة بين عسكر حلب والخوارزميّة «1» . وكان الملك الجواد والملك المنصور- صاحب حمص- مع الخوارزميّة. فقصدوا حلبا، ونزلوا على باب بزاعة «2» فى خمسة آلاف فارس. وخرج إليهم عسكر حلب

فى ألف وخمسمائة، فكسروهم، وأسروا من أمرائهم ونهبوا من أثقالهم. فتوجه الخوارزمية حيلان «1» وقطعوا الماء عن حلب، وضايقوهم. ثم عادوا إلى منبج «2» ، فنهبوها، وقتلوا أهلها وفضحوا النساء، ثم عادوا الى حرّان «3» . وكان الملك المنصور إبراهيم- صاحب حمص- قد نزل على شيزر «4» ، فاستدعاه الحلبيون، فجاء إلى حلب، ونزل بظاهرها- ومعه عسكر حمص. وفيها سلّم الملك الحافظ قلعة جعبر «5» إلى صاحب حلب، وعوضه عنها أعزاز. وكان سبب ذلك أنه حصل له فالج، فتوجه ولده إلى الخوارزميّة يستنجدهم على أبيه، وطلب منهم عسكرا لمحاصرته، فخشى من ذلك، فسلّمها لصاحب حلب. وفيها تسلم عسكر صاحب الروم آمد، بعد حصار شديد. ويقال إنهم اشتروها بثلاثين ألف دينار.

واستهلت سنة تسع وثلاثين وستمائة:

وفيها، فى ليلة الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر، توفى الشيخ محيى الدين: أبو عبد الله محمد بن على بن محمد، المغربى الحاتمى الطائى، المعروف بابن العربى، وهو من أهل الأندلس. ومولده فى ليلة الاثنين، سابع عشر شهر رمضان، سنة ستين وخمسمائة، بمرسية من بلاد الأندلس. ونشأبها، وانتقل إلى إشبيليّة «1» ، فى سنة ثمان وتسعين. ثم رحل إلى بلاد الشرق، ودخل بلاد الروم. وطاف البلاد وحج. وصحب الصوفية. وصنف كتبا كثيرة فى علوم القوم. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون. واستهلّت سنة تسع وثلاثين وستمائة: وفى هذه السنة، حصل الشروع فى عمارة المدرستين الصّالحيّتين، بالقاهرة المعزّيّة، بين القصرين- والمكان التى عمرتا فيه من جملة القصر. وكان الشروع فى الهدم والإنشاء فى ذى الحجة. ولما كملتا، أوقفهما على طوائف الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، وأوقف عليهم الأوقاف. ويقال انه لما فرغ من عمارتها ندم، لكونه لم يبن مكانهما جامعا، ويرتّب فيه الدروس التى رتبها فيهما.

ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السنجارى

ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السّنجارى وفى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الآخر، من هذه السنة، كتب السلطان الملك الصالح إلى قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة كتابا، من جملته: أن القاهرة المحروسة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل- تقدّمنا أن يتوفّر القاضى على القاهرة وعملها، لا غير. وفوّض السلطان قضاء القضاة، بمصر والوجه القبلى، للقاضى بدر الدين أبى المحاسن: يوسف السّنجارى قاضى سنجار. ثم مرض القاضى شرف الدين المذكور، إثر ذلك، ومات فى هذه السنة. ذكر وفاة قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، وشىء من أخباره وفى ليلة الخميس، التاسع عشر من ذى القعدة، سنة تسع وثلاثين وستمائة- كانت وفاة قاضى القضاة شرف الدين أبو المكارم: محمد بن عبد الله ابن الحسن بن على، بن عين الدولة: أبى القاسم صدقة بن حفص الصّفراوى الإسكندرانى. وكان قد ولى القضاء فى أيام السلطان الملك العادل: سيف الدين- جدّ السلطان- كما تقدّم، واستمّر بعده.

ولما مات- رحمه الله- صلّى عليه بمصلّى بنى أميّة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بعد صلاة الظهر بالقرافة، وأمّ الناس عليه ولده محيى الدين: أبو الصلاح عبد الله. ومولده- رحمه الله تعالى- بثغر الإسكندرية فى يوم السبت، مستهلّ جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وكانت مدة عمره ثمانيا وثمانين سنة، وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. ومدة ولاية القضاء- استقلالا- ستا وعشرين سنة، وتسعة أشهر، وسبعة عشر يوما. وناب عن القضاء قبل ذلك ثمانيا وعشرين سنة. وشهرين وأياما. وكان رحمه الله تعالى- ذا رياسة قديمة، ووالده وجده من كبراء أهل الثّغر. وجدّ أبيه- القاضى الجليل- من رؤسائه. وبلغ من محلّه فى الدولة العبيديّة «1» أن لقّب بعين الدولة، ولقّب ولده بثقة الدولة، وولد ولده بعين الدولة. فسأل تخصيصا مانعا، لاشتباه الولد بالجدّ، فميّز الولد «2» بعين الدولة ومكينها، ووالده بثقة الدولة وأمينها- بتقليد من الخلفاء العبيديّين. وعمّر القاضى الجليل مائة سنة وأربع سنين. ومات عن عدة أولاد ذكور، ما منهم إلا من عدّل «3» بالديار المصرية، وتولى الأحكام الشرعية. وكان القاضى شرف الدين- رحمه الله تعالى- مالكىّ المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعى

وسبب ذلك أنه قدم من ثغر الإسكندرية إلى مصر وسكن بها، فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. واتصل بالقاضى المرتضى ابن القسطلانى، ثم اتصل بقاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن عيسى ابن درباس الهذبانى «1» ، فعدّله واستكتبه، فى ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. فلما عزل ابن الجاموس «2» من خطابة الجامع بالقاهرة، أمره القاضى صدر الدين أن يخطب، فخطب وأجاد وأبلغ فى الموعظة، ونزل فصلّى وجهر بالبسملة. فلما فرغ من الصلاة، وجلس بين يدى القاضى صدر الدين، شكره وأثنى عليه- والمجلس غاصّ بالفقهاء والصّدور وأرباب المناصب- فقال بعض الأكابر: يا شرف الدين جهرت بالبسملة، وخالفت مذهبك. فأنشد قول المتنبّى فى كافور: فراق، ومن فارقت غير مذمّم ... وأمّ، ومن يممّت خير ميمّم

فاستحسن ذلك القاضى والجماعة. وصار شافعيّا من ذلك اليوم. واشتغل بمذهب الشافعى على القاضى: ضياء الدين أبى عمرو عثمان بن درباس «1» ، مصنّف الاستقصاء، وعلى الفقيه: أبى إسحاق إبراهيم بن منصور العراقى «2» واستنابه القاضى صدر الدين عنه فى الحكم بمصر، فى يوم الاثنين والخميس، فى العشر الأوسط من ذى القعدة، سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فحضر إليه يستعفى من ذلك. وكان جمال الدولة: أبو طالب شراتكين- سلف القاضى صدر الدين- حاضرا، هو من الأجناد- فأسرّ إليه، وقال له: لا تستعفى، فأنت، والله، بعد اثنتين وثلاثين سنة، قاضى القضاة. فأرّخها فلم تزد ولم تنقص. ووقّع للقاضى زين الدين على بن يوسف الدّمشقى «3» ، أيام ولايته. ثم عاد القاضى صدر الدين إلى الحكم، فعاد إليه. وولّى القاضى محيى الدين: أبو حامد محمد بن القاضى شرف الدين بن أبى عصرون، فوقّع له.

ثم عاد صدر الدين، فعاد إليه، ولم يزل كاتبه إلى أن توفى. وكان كثير الرّكون إليه، والاعتماد عليه. حتى إن شرف الدين مرض، فسأل عنه القاضى صدر الدين، فأخبر بشدة مرضه، فقال: والله لئن قضى عليه بمحتوم، لأعزلنّ نفسى، لأننى لا أجد من أثق به سواه. ولما ولّى القاضى عماد الدين: عبد الرحمن بن عبد العلىّ السّكّرى القضاء، كتب له، إلى أن عزل القاضى عماد الدين فى شهر المحرم، سنة ثلاث عشرة وستمائة، فقسّم السلطان الملك العادل القضاء شطرين: فولّى القاضى شرف الدين هذا القاهرة والوجه البحرى، فى الشهر المذكور- وقيل فى يوم السبت ثانى صفر- وولّى القاضى تاج الدين بن الخرّاط مصر والوجه القبلى، كما تقدم. ثم أضاف السلطان الملك الكامل إليه قضاء مصر والوجه القبلى، فى العشر الآخر من شعبان- أو فى شهر رمضان- سنة سبع عشرة وستمائة، كما تقدم ذكر ذلك وكان السلطان الملك الكامل كثير التّنويه بذكره، والافتخار بولايته، والابتهاج بما يراه من أحكامه، وما يبلغه من سيرته، وما يتحققه من حسن طويّته، وجميل سريرته. وكان إذا نظر إليه يقول: والله لنتعبنّ بعد هذا، إذا فقدناه، ولا نجد بعده من يقوم مقامه

وكان إذا كتب إلى السلطان، يستأذنه فى عزل نائب من نوابه بالأعمال، أو فى أمر يقصد فعله، يجيبه عن كتابه بخطّه على ظهر كتابه، أو بين سطوره. وكان يقترح ذلك على السلطان، فى بعض الأحيان. وكان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة جاريا «1» على غير ما هو عليه، فى عصرنا هذا. وقد رأينا أن نثبت من مكاتبات قاضى القضاة إلى السلطان، وأجوبته له، فى هذا الموضع، ما يعلم منه كيف كان الرّسم جاريا «2» . فمن ذلك ما كتب به إلى السلطان الملك الكامل: «اللهم إنى أسألك حسن الفاتحة، والخاتمة فى عافية. المملوك يخدم المقام المولوىّ السّلطانى المالكىّ، الكاملى- بلّغه الله تعالى كلّ مراد وأمل، ووفّقه لطاعة ربه فى كل قول وعمل- وينهى: أن النائب فى الحكم بإطفيح «3» قد كثر من القول فيه ما تقتضى المصلحة الاستبدال به وهو ابن أخت الأجلّ مجد الدين، أخى الفقيه الأجل عيسى «4» - وقد كان المتظلمون، من مدة، حضروا شاكين لأمره، وطالع المملوك مولانا بحاله، وكان مولانا فى بعض متوجّهاته الميمونة. فورد الجواب، بأن مولانا ينظر فى ذلك. وقد كثر القول. والمملوك يستأذن على ما يفعله فى أمره، من صرف أو إبقاء.

المملوك يخدم، وينهى أن النائب فى الحكم بالمحلّة قد ظهر من أحواله، وتحايفه على من يحقد عليه، ويقصد مضادّته لما فى نفسه- ما يقتضى كفّ يده وهو يستند إلى متولّى الحرب بالمحلة، ويعوّل على ثنائه عليه وميله إليه- على ما ذكر للمملوك. وهو يستأذن على أمره. المملوك يسأل الإجراء- على عادة الفضل والكرم- فى أنه، إن حسن التشريف عن هذين الفضلين بالجواب، أن يكون تشريف الخطّ الكريم- لا زال عاليا- ليكون سببا لستر القضية، إلى أن يعتمد فيها ما يرسم من توقّف أو إمضاء والله تعالى يمنّ على المملوك بدوام جميل آراء مولانا وعضده له، وتقوية يده فى نيابته عن مولانا فيما فوّضه إليه. المملوك ينهى أن من اعتمد فى أمره من الشهود والنوّاب- الأمر الذى أرشد مولانا المملوك فيه إلى الصواب- لكلّ منهم جهة «1» ربما شقّ عليها ما جرى، وحصل منها فى حقّ المملوك ما يقضى بتغيير خاطر وتقسيم فكر. والله ما يبالى المملوك- بعد رضى الله تعالى-[إلا] برضى مولانا بمن أحب أو أبغض، أو أعان أو تعصب. ولو كان كلّ الناس عنى بجانب ... لما ضرّنى، إذ كنت منك بجانب المملوك ينهى أن مولانا، لما شرّف المملوك فى الخدمة، كان فى التقليد أنه لا يستنيب إلا من كان على مذهب الإمام الشافعى- قدّس الله روحه. ولما كان بعد ذلك، ورد مكتوب من مولانا فى زمن إقامة ركابه بالمنصورة،

يتضمن أن أمر الإستنابة إلى المملوك. وفى النواب اليوم شخصان على مذهب مالك- رحمه الله تعالى. فيحيط العلوم أنه ما خالف إلا بعد ما ورد ما ذكره. وكان ممنّ تقدّم المملوك فى الحكم من استناب الشافعية والحنفية والمالكية بمصر نفسها، وبالأعمال. أنهى ذلك، والرأى أعلى فى التشريف بالجواب- إن شاء الله ربّ العالمين. فأجابه على ظهر كتابه- بخطّه- ما مثاله: «اخترتك دون غيرك، لبراءة ذمّتنا وذمّتك. افعل ما يخلّصك عند الله، من خير معنا تفعله، ومع نفسك- إن شاء الله تعالى» وختمه. وكتب على الختم القاضى شرف الدين قاضى القضاة. وأضاف السلطان إليه الحكم فى الينبع، فى بعض شهور سنة ست وعشرين وستمائة، فاستناب فيه. ثم أضاف إليه الحكم بغزّة والخليل والأردنّ وطبريّة وبانياس، فى سنة إحدى وثلاثين، فاستناب عنه فيها نوابّا. ثم تقدم إليه أن يستنيب عنه خطيبا وحاكما بثغر دمياط، فى شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة، فاستناب فى ذلك. وكتب إلى السلطان- قبل أن يستنيب- يستأذنه فى النيابة، ويستوضح عن أمر البلاد الشامية، فأجابه: «ورد كتاب الحضرة- أعاد الله علينا من بركاتها، ونفعنا بمتقبّل دعواتها، وأسعد آراءها، ووفّق قصودها وأنحاءها، ولا زالت تصرفاتها فى الشريعة أبدا ميمونة، وأحكامها بإصابة الحق مقرونة- وفضضنا ختمها ووقفنا عليها، وأحاط علمنا بما اشتملت عليه، وما أومأت الحضرة إليه

وشكرنا اجتهادها المفوّف البرود، وتحرّزها فى الأمور الشرعية الجليلة العقود. وأتينا على ديانتها التى رقّتها عندنا إلى المقام المحمود. فأما إشارتها إلى أنها تستنيب فى غزّة وما معها، عنا أو عن نفسها، فنحن أضفنا ذلك إليها، وهى تستنيب عن نفسها من يكون أهلا لذلك. وأما استفهامها أن المواضع المذكورة: هل لها جامكيّات «1» مقرّرة أم لا؟ نعم لها جامكيّات مقررة، والديوان شاهد بها. وأما استيضاحها: هل لهذه المواضع أصل، حتى يقال: الموضع الفلانى وعمله، فيولّى فيه شخصا واحدا، أو كلّ موضع، وإن قلّ، مفتقر إلى نائب مفرد- فلتعلم الحضرة أن مرادنا أن نستنيب شخصين: أحدهما لغزّة وطبريّة والأردن وجبل الخليل، والآخر لبانياس وعملها. ثم ذكر غير ذلك فى جوابه، وقال: وكتب لسبع خلون من شوال سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بمنزلة تقابل البيرة بشاطىء الفرات، من برّ الشام المحروس- شفاها. وكتب إلى السلطان أيضا يستأذنه فى صرف بعض النوّاب، فأجابه: «وردت مكاتبة الحضرة- أيّدها الله بتوفيقه فى جميع حالاتها، ولا أخلى من صالح دعواتها فى شريف أوقاتها، وأجراها من السّداد والتّحرّز على مختار عاداتها- ووقفنا عليها جميعا، وأحاطت علومنا بما أشارت إليه، وما نبّهت فيها عليه.

فأما إشاراتها إلى صرف قاضى الفيّوم والاستبدال به بخطيب البلد وصرف قاضى قوص، وتعريضها بأنها لا يجوز لها إعادته. وعزمها على صرف قاضى إخميم، وما عرّضت به من انتمائه إلى كريم الدين الخلاطى. وإصرارها على صرف قاضى منية زفتى، وتصريحها بأنه ذاكر أنّا نعرفه. وقد خلعنا عليه- فجوابنا عن جميع ذلك: أنا قلّدناها هذا الأمر العظيم. وذمّمناها هذا الخطب الجسيم، ونهجنا بها السّلوك فى طريقه المستقيم، وفوّضنا ذلك إليها، وجعلنا أزمّة نقضه وإبرامه بيديها، وصيّرنا ركائب آمال طالبى التّولية مناخة لديها- نرجو بذلك براءة الذّمّة عند الله تعالى، وأن لا تقوم الحجّة علينا ولا عليها. فمن استصلحته ورضيته من النّواب، فلتقرّه على حاله. ومن ظهر لها اعوجاجه وسخطته، فلتصرفه، ولا تعرّج على أساطير أقواله. فالإرهابات والتّمويهات لا مدخل لها فى أمور الدين، والشّرع الشريف منزّه عن شفاعة الشافعين. فلتعلم الحضرة ذلك، ولتواصل بالمتجدّدات «1» ، موفّقة فى ذلك- إن شاء الله تعالى. سطّرت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بظاهر السّويدا- مشافهة. هذا كان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة. وفيه دليل على أن قاضى القضاة بالديار المصرية، فى ذلك الوقت، كان لا يستقلّ بعزل نائب من نوّابه بالأعمال- وإن صغرت جهة ولايته- إلا بعد مراجعة السلطان،

واستئذانه. وما زال الأمر جاريا على ذلك، إلى أن ملك السلطان الملك الصالح نجم الدين، فغلظ حجابه، وتعذّر خطابه وجوابه، وتعاظم أن يشاور فى الجزئيات، وأن يشافه إلا فى الأمور المعضلات. فاستقلّ حينئذ القضاة وغيرهم، واستبدّوا بالولايات والعزل. ولنرجع إلى أحوال قاضى القضاة: شرف الدين، وسيرته. وكان- رحمه الله تعالى- جوادا كريما، زاهدا لا يدّخر شيئا: ولا يملك إلا سجّادة خضراء من الصوف، وسجّادة من أدم ومشطا وسبحه، ومقراضا، وعودا من أراك «1» . وليس له إلا بدلة واحدة، فإذا تغيّرت، غسلت له ليلا. وبغلة واحدة. فإذا كان زمن الربيع، استأجر بغلة فى كل يوم بثلاثة دراهم، ويقوم بعلفها من عنده، ما ملك عقارا، ولا وجبت عليه زكاة فى عمره. وكان مضبوط المجلس، لا يسارّ أحدا فى مجلسه ولا يضحك فيه. وكان كثير العبادة، يسرد الصّوم، ولا يفطر إلا الأيام التى لا يجوز صومها، كثير التلاوة للقرآن، والذّكر والأدعية. وكان. لا يكلّف أحدا قضاء حاجة، إلا ويعطيه فوق أجرته. حتى كان يدفع ملء إبريق ماء حارا فى الشتاء من الحمّام، عند كل صلاة، نصف درهم للحمّامى، وربع درهم لحامل ذلك إليه. وكان يدفع لبارى أقلامه أجرة، من درهمين إلى ثلاثة.

وكان له شعر حسن، قد وقفت منه على قصائد، يمدح بها السلطان الملك الكامل- تركنا إيرادها إختصارا. فمن شعره، بديهة: وليت القضاء، وليت القضا ... ء لم يك شيئا تولّيته وقد قادنى للقضاء القضا ... وما كنت قدما تمنّيته وكان حسن النّثر. وكانت علامته: الحمد لله متولّى السرائر. ويكتب تحت خط الشهود: أقام شهادته عندى بذلك، وشخص المذكور. والله على كل شىء شهيد. وأخباره- رحمه الله تعالى- وأوصافه الحسنة كثيرة، وقد أتينا منها بما فيه الكفاية. ولما مات قاضى القضاة شرف الدين فى التاريخ المذكور، خرج الأمر السلطانى بالإذن للعقّاد والنواب عنه بالقاهرة- فى يوم الأحد الثانى والعشرين من ذى القعدة من السنة- بالإستمرار، إلى أن يقع الإختيار على قاض، ولم يؤذن لنائبه: القاضى محيى الدين عثمان بن يوسف القليوبى- بشىء- وهو الذى كان خليفة القاضى شرف الدين بن عين الدولة فى الحكم- إلى أن مات. واستمر ذلك إلى يوم الأربعاء، الخامس والعشرين من الشهر. ففوّض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى لقاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى- وصرف عن الحكم بمصر والوجه القبلى. وكان قد

ذكر وصول شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام - إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها - وغير ذلك - إليه، وما فعله وعزله نفسه

استناب بمصر ابن عمه: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلّكان «1» ، وفوّض إليه عقود الأنكحة وقضاء الجيزة، واستناب شمس الدين عنه فى قضاء الجيزة أخاه: بهاء الدين محمد بن محمد. فلما ولى القاضى بدر الدين القاهرة، استناب القاضى شمس الدين- المذكور- بها فجلس فى يوم الخميس- السادس والعشرين من ذى القعدة- بجامع الأزهر، وأمر الشهود بالانتقال إلى حرم الجامع. ثم شرك بينه وبين القاضى محيى الدين، فى النيابة بالقاهرة. وولّى قضاء مصر الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام. ذكر وصول شيخ الإسلام «2» عبد العزيز بن عبد السلام- إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها- وغير ذلك- إليه، وما فعله وعزله نفسه كان وصوله إلى الديار المصرية فى سنة تسع وثلاثين وستمائة وذلك أنه لما وقع له مع الملك الصالح إسماعيل بدمشق ما وقع، وعزله وألزمه داره- كما تقدم- فارق دمشق، وقصد البيت المقدس.

فوافاه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالغور «1» ، فأكرمه ونقله إلى الكرك. وقال له: تقيم عندى بهذا الحصن وأنا لا أخرج عن أمرك. فأقام عنده مدة يسيرة. ثم استأذنه فى الخروج، فسأله عن موجب خروجه وكراهة مقامه. فقيل إنه قال له: هذا بلد صغير، وأنا أحبّ الانتقال إلى بلد أنشر به ما عندى من العلم. فأذن له، وتوجه الشيخ إلى القدس، وأقام به. فجاء الملك الصالح إسماعيل بعساكره إلى القدس- وصحبته الفرنج- فأرسل إلى الشيخ بعض خواصّه بمنديله، وقال له: ادفع إليه منديلى وتلطّف به واستنزله، وعده بعوده إلى مناصبه. فإن أجاب، فائتنى به. وإن خاشنك فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمتى. فأتاه الرسول ولاطفه، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك، وتعود إلى ما كنت عليه وزيادة، أن تقبّل يد السلطان. فقال له: «والله ما أرضاه أن يقبّل يدى، فضلا أن أقبّل يده» !! فقال: إنه قد رسم أن أعتقلك إذا لم توافق. فقال افعلوا ما بدالكم! فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمة السلطان. وكان يقرأ القرآن والسلطان يسمعه. فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون هذا الذى يقرأ؟ قالوا نعم: قال هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علىّ تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته من الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته عن دمشق فجاء إلى القدس. وقد جددت اعتقاله

لأجلكم. فقالوا له: لو كان هذا قسّيسنا، لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!. ثم فارق الصالح القدس. وقدم الشيخ إلى الديار المصرية. فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأكرمه، وفوّض إليه الخطابة والإمامة بجامع عمرو بن العاص بمصر، فى يوم الجمعة العاشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وثلاثين وستمائة، عوضا عن أبى المجد الإخميمى- وكان أبو المجد قد ولى الخطابة بعد وفاة أبى طاهر المحلّى، وكان ينوب عنه فى حال حياته. وخطب الشيخ عز الدين فى هذا اليوم. وأذّن الأذان الثانى على الدّكّة يومئذ، مؤذّن واحد- خلاف العادة. ثم فوضّ إليه القضاء بمصر والوجه القبلى- فى يوم الثلاثاء التاسع من ذى الحجة، من السنة- بعد انتقال قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى منها إلى القاهرة والوجه البحرى. وشغرت «1» مصر عن حاكم، فيما بين نقل القاضى بدر الدين وتولية الشيخ، أربعة عشر يوما ووليها الشيخ مضافة إلى الخطابة. وجلس فى هذا اليوم، وحكم بين الناس. واستناب الشيخ عنه، فى الحكم، القاضى صدر الدين موهوب: قاضى جزيرة ابن عمر. وفى يوم جلوس الشيخ للحكم، أسقط عدلين من العدول المتقدّمة.

وسبب ذلك أنه وجد مسطورا «1» ، فيه شهادتهما، وهو غير مؤرّخ، وفى خطّ كلّ منهما: كتبه فلان فى تاريخه. وسأل أحدهما عن فرائض الصلاة، فلم يجبه جوابا مرضيا. ثم أسقط، بعد ذلك بأيام، القاضى فخر الدين بن قاضى القضاة عماد الدين بن السّكّرى- مدرّس منازل العزّ- لأنه وجد شرط الواقف بالمدرسة أن يكون المدرّس بها عارفا بالأصولين «2» ، وهو عار عن معرفتهما. فأسقطه لذلك. وأسقط أيضا جماعة من عدول «3» القاضى شرف الدين بن عين الدولة. ثم أسقط ولده محيى الدين أبا الصلاح. وطلبه فخرج مستخفيا إلى ثغر الإسكندرية. واستند فى إسقاط كلّ منهم إلى موجب ظاهر. ثم عزل نفسه. فتلطف السلطان فى إعادته، فعاد. ثم أسقط الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ: وزير السلطان الملك الصالح ونائبه، ومقدّم جيوشه. وعزل نفسه عن القضاء ثانيا. وسبب ذلك: أن الصاحب معين الدين كان قد بنى فراشخاناه «4» على ظهر مسجد، بجوار داره. وكان السلطان قد فوّض إلى الشيخ أيضا

النظر فى عمارة المساجد، بمصر والقاهرة. فأرسل إليه يأمره بهدم ما استجدّه على ظهر المسجد وإزالته، وإعادة المسجد الى ما كان عليه. فلم يجب إلى ذلك. ثم عاوده فلم يفعل. فلما طال ذلك على الشيخ، أمر الفقهاء طلبته أن يأتوه فى غد- ومع كل واحد منهم معول- ففعلوا ذلك. فلما رآهم العوامّ اجتمع منهم خلق كثير بالمساحى. وركب الشيخ إلى دار الصاحب معين الدين، وهو فى خدمة السلطان، وأمر بإخراج ما فى ذلك المكان، فأخرج، ثم أمر بهدمه فهدم. فتألم الصاحب معين الدين لذلك، ولم يمكنه أن يحدث فيه شيئا. فلما كان بعد مدة يسيرة، جلس الشيخ بجامع مصر لتعديل من شهد بعدالته، منهم: فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد. واجتمع لذلك جمع كثير من العلماء والفقهاء والأكابر والقرّاء- وكانت العادة كذلك فى إنشاء العدالة. فاتصل الخبر بالصاحب معين الدين، فأمر والى مصر أن يدخل إلى المجلس، ويفرّق ذلك الجمع، ويقول للشيخ عز الدين: يقول لك الصاحب: بلد السلطان لا يجتمع فيه الجموع. ففعل الوالى ذلك. فصرخ الشيخ فى المجلس بإسقاط عدالة الصاحب معين الدين! ثم عزل نفسه عقيب ذلك. وكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات. ولما اتصل خبر هذا الإسقاط بالسلطان، منع الصاحب معين الدين من الدخول إليه ثلاثة أيام، حتى لفّق صيغة شهدت أن الشيخ إنما أسقطه بعد أن عزل نفسه، وأن إسقاطه لم يصادف محلّا، وأنه باق على عدالته.

وأثّر هذا الإسقاط فى الصاحب معين الدين أثرا مؤلما. وهو أنه حكى أن السلطان أرسل رسولا إلى الدّيوان العزيز «1» ببغداد، وكان المشافه للرسول عن السلطان الصاحب معين الدين. فلما أبلغ الرسالة قال له الوزير: أيوب شافهك بهذه الرسالة؟ قال: لا، إنما شافهنى بها عنه الصاحب معين الدين. فقال له الوزير: معين الدين أسقط الشيخ عزّ الدين عدالته، فلا يرجع إلى مشافهته. ولما عزل الشيخ نفسه، أراده السلطان على العود إلى القضاء، فامتنع من ذلك. ففوّض السلطان الملك الصالح القضاء بعده، بمصر والوجه القبلى، إلى نائبه: القاضى صدر الدين أبى منصور موهوب، بن عمر بن موهوب، بن إبراهيم، الجزرى «2» الشافعى- وذلك فى سنة أربعين وستمائة. فأعاد بعض من أسقطهم الشيخ عز الدين إلى العدالة. ولم تطل ولايته، فإنه استمر فى القضاء نحو سنة. وعزل، ولم يل القضاء بعدها. وفى سنة تسع وثلاثين وستمائة- أيضا- توجه السلطان الملك المنصور- صاحب حمص- وعسكر حلب، إلى حرّان، والتقوا مع الخوارزميّة، ومزّقوهم كلّ ممزّق، فكسروا الخوارزمية.

واستهلت سنة أربعين وستمائة:

واستهلّت سنة أربعين وستمائة: فى هذه السنة، عزم السلطان الملك الصالح نجم الدين على التوجه إلى الشام، فبلغه أن العساكر مختلفة، والبلاد مختلّة، فأقام. وفيها كانت وقعة عظيمة بين عسكر حلب والخوارزمية. وكان الملك المظفّر شهاب الدين غازى- صاحب ميّافارقين «1» - مع الخوارزميّة، وكانوا قد حلفوا له وحلف لهم. وأخربوا بلاد الموصل وماردين، فاضطر صاحب ماردين إلى موافقتهم. وجمع غازى الخانات الخوارزمية، وأشار عليهم بقصد بلاد الموصل فقالوا: لا بد من لقاء العسكر الحلبى، فألجأته الضرورة إلى موافقتهم. وركبوا فى ثامن عشرين المحرم، من جبل ماردين إلى الخابور «2» ، وساقوا إلى المجدل «3» . ووقف الخانات ميمنة وميسرة، ووقف الملك المظفر غازى فى القلب، والتقوا. فصدمهم العسكر الحلبى صدمة رجل واحد. فانهزموا لا يلوون على شىء، ومعهم الحلبيون يقتلون ويأسرون. وأخذوا أثقال غازى وأغنام التركمان، وخيلهم ونساءهم، وكانوا خلقا

كثيرا. فبيع الفرس بخمسة دراهم، ورأس الغنم بدرهم. ونهبت نصيبين، وسبى نساؤها- وكانت قد نهبت مرارا فى سنة تسع وثلاثين- يقال نهبت سبع عشرة مرة، من المواصلة والخوارزمية وعسكر ميّافارقين وماردين- وعاد الملك المظفر غازى إلى ميّافارقين. وتفرقت الخوارزمية، ثم اجتمعوا على نصيبين. ثم رحلوا فنزلوا رأس عين، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال وسبوا النساء. وفعلوا بالخابور كذلك، ونهبوا أغنام التّركمان. وفيها وصل إلى الملك المظفّر- شهاب الدين غازى- منشور بخلاط وأعمالها، مع شمس الدين النائب بالروم، فتسلّمها وما فيها. وفيها توفيت ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل: سيف الدين أبى بكر ابن أيوب. وهى والدة الملك العزيز: بن الملك الظاهر صاحب حلب- والد الملك الناصر. وكانت هى التى دبّرت الدولة، وحفظ الملك بسببها على ابنها وابنه، بعد وفاة الملك الظاهر، ولما توفيت، قام بتدبير الدولة الحلبية الأمير الأتابك: شمس الدين لؤلؤ، أتابك الملك الناصر صاحب حلب.

ذكر الإتفاق والاختلاف بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب مصر، وعماد الدين إسماعيل صاحب دمشق

ذكر الإتفاق والاختلاف بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب مصر، وعماد الدين إسماعيل صاحب دمشق فى هذه السنة ترددت الرّسل بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب الديار المصرية، وعمّه عماد الدين إسماعيل صاحب الشام، وتوجه شرف الدين بن التّينى والأصيل الإسعردى «1» الخطيب، إلى دمشق. فأطلق الملك الصالح إسماعيل الملك المغيث جلال الدين- ولد السلطان الملك الصالح نجم الدين- من الاعتقال. وركب وخطب لابن أخيه الملك الصالح أيوب بدمشق. ورضى الملك الصالح أيوب بإقرار دمشق بيد عمّه الصالح إسماعيل، بعد أن يسلّم إليه ولده. وحصل الاتفاق على ذلك، ولم يبق إلا أن يتوجه الملك المغيث إلى أبيه. فصرف أمين الدولة السّامرى- وزير الملك الصالح إسماعيل- رأيه عن ذلك وقال: هذا خاتم سليمان، لا تخرجه من يدك يعدم الملك. فتوقّف، ولم ينتظم الحال. وقطع خطبة ابن أخيه، وأعاد الملك المغيث إلى الاعتقال بالبرج، واستمر به إلى أن مات. وكانت وفاته يوم الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وأربعين وستمائة. وحمل إلى تربة جده الملك الكامل فدفن بها. وكان عاقلا، ما حفظت عنه كلمة فحش- رحمه الله تعالى.

ولما رجع الصالح إسماعيل عن الصلح، كتب الملك الصالح أيوب إلى الخوارزمية فى الحضور إلى الشام. فعبروا إلى الفرات وانقسموا قسمين: قسم جاءوا على البقاع البعلبكّى، وقسم على غوطة دمشق. ونهبوا وسبوا وقتلوا. وسد الصالح إسماعيل أبواب دمشق. وتوجه الخوارزمية إلى غزّة. وكان من خبرهم ما نذكره- إن شاء الله تعالى. وفيها عزل قاضى القضاة: صدر الدين موهوب الجزرى عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وفوّض السلطان الملك الصالح ذلك إلى القاضى: أفضل الدين أبى عبد الله، محمد بن نامادر، بن عبد الملك، بن زنجلين، الخونجى «1» ، وكانت ولايته فى يوم عيد النّحر من هذه السنة. واستمر فى القضاء إلى أن مات. وفيها فى يوم الجمعة بعد الصلاة، ثانى العيد الأضحى، أمر الملك الصالح إسماعيل بالقبض على أعوان القاضى رفيع الدين الجيلى- وكانوا ظلمة آذوا الناس. وكان كبيرهم الموفق حسين بن عمر بن عبد الجبّار- المعروف بابن الواسطى. ثم قبض على القاضى الرفيع بعد أيام. وأمر بمصادرتهم فصودروا، وعوقبوا وعذبوا بأنواع العذاب- وكانوا لذلك أهلا. ثم قتل الرفيع فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ببعلبك: جهّزه أمين الدولة السّامرى إليها، فقتل هناك.

وكان القاضى الرفيع هذا قد صادر أهل دمشق، وفعل ما لا يفعله ظلمة الولاة. وكتب إلى السلطان يقول: إننى قد حملت إلى خزانتك ألف ألف دينار، من أموال الناس. فقال السامرى: ولا ألف ألف درهم. وكان السامرىّ قد تمكن من الملك الصالح تمكّنا عظيما، لا يخالفه فى شىء ألبتّه. فقال الملك الصالح: أنا أحاققه، فإنه قد أكل الأموال، وأقام علينا الشّناعة، والمصلحة تقتضى عزله ومؤاخذته، ليعلم الناس أنك لم تأمره بأذاهم. فعزله عن القضاء. ثم تسبب فى قتله. ولما عزل، فوّض القضاء بعده لقاضى القضاة محيى الدين يحيى، بن قاضى القضاة محيى الدين محمد، بن على بن محمد بن يحيى، القرشى. وقرىء تقليده بالجامع بدمشق، فى خامس عشرين ذى الحجة. وحكم بإسقاط عدالة أصحاب الرّفيع، وهم: المعزّ بن القطّان، والزّين الحموى، والجمال بن سيده، والموفّق الواسطى، وسالم المقدسى، وابنه محمد- لما فعلوه بالمسلمين من أنواع الأذى، وقطع المصانعات.

واستهلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة:

واستهلّت سنة اثنتين وأربعين وستمائة: ذكر الواقعة الكائنة بين عسكر مصر- ومن معه من الخوارزمية- وبين عسكر الشام- ومن شايعهم من الفرنج، وانهزام الفرنج وعسكر الشام، على غزّه قد ذكرنا وصول الخوارزمية إلى الشام، ونزولهم على غزّه. ولما استقروا بها، أرسل إليهم السلطان الملك الصالح النفقات والخلع والكساوى، وطائفة من العسكر المصرى. فاتفق الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور صاحب حمص، والملك الناصر داود صاحب الكرك، وراسلوا الفرنج. وكان الصالح إسماعيل قد سلّم إليهم من الحصون ما تقدم ذكره. ووعدهم الآن أنه متى ملك الديار المصرية، أعطاهم الأعمال الساحليّة بأسرها. واستقر ذلك بينهم وبين الملوك الثلاثة المذكورين. وخرج الملك المنصور- صاحب حمص- بعسكره وعساكر دمشق. وأقام الصالح بدمشق. وجهّز الملك الناصر داود عسكره من نابلس- صحبة الظهير سنقر الحلبى والوزيرىّ، وأقام هو بالكرك. واجتمعت هذه العساكر، وعساكر الفرنج: الدّيويّة والإسبتار والكنود «1» ، على يافا. والعسكر المصرى والخوارزمية على غزّه.

قال أبو المظفّر: وساق صاحب حمص وعسكر دمشق، تحت أغلام الفرنج- وعلى رءوسهم الصّلبان، والأقساء «1» فى الأطلاب «2» يصلّبون «3» على المسلمين ويقسّسّون عليهم، وبأيديهم كئوس الخمر والهنّابات «4» يسقونهم. وساق العسكر المصرى والخوارزمية. والتقوا بمكان يقال له أربيا «5» - بين غزّة وعسقلان. وكان الفرنج فى الميمنة، وعسكر الناصر داود فى الميسرة، وصاحب حمص فى القلب. وكان يوما عظيما، لم يجر فى الإسلام بالشام مثله، واقتتلوا. فانكسرت الميسرة، وهرب الوزيرى، وأسر الظّهير سنقر الحلبى وجرح فى عينه. ثم انهزم صاحب حمص. وكان العسكر المصرى قد انهزم، ووصل إلى قرب العريش. وثبت الخوارزمية والفرنج، واقتتلوا، فمالت الخوارزمية عليهم بالسيوف، يقتّلونهم كيف شاءوا. قال أبو المظفّر: وكنت يوم ذاك بالقدس، فتوجهت فى اليوم الثانى من الكسرة إلى غزة، فوجدت الناس يعدّون القتلى بالقصب، فقالوا: إنهم يزيدون على ثلاثين ألفا.

وبعث الخوارزمية بالأسارى والرءوس إلى الديار المصرية. وفى جملة الأسرى الظّهير سنقر وجماعة من المسلمين. وكان يوم وصولهم إلى القاهرة يوما مشهودا. وعلّقت رءوس القتلى على الأسوار، وامتلأت الحبوس بالأسرى. ووصل صاحب حمص إلى دمشق فى نفر يسير، ونهبت خزانته وخيله وسلاحه، وقتل أكثر أصحابه. فكان يقول: والله لقد علمت، حيث سقنا تحت أعلام الفرنج- أننا لا نفلح! وفى هذه السنة، توفى شيخ الشيوخ: تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن على بن محمد بن حمّويه، بن محمد بن محمد بن أبى نصر بن أحمد، بن حمّويه بن على. وكانت وفاته بدمشق، فى سادس صفر. وصلّى عليه بجامعها، ودفن بمقابر الصّوفية. ومولده يوم الأحد، رابع عشر شوال، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وهو عمّ الأمراء: فخر الدين، وعماد الدين، ومعين الدين، وكمال الدين: أولاد صدر الدين شيخ الشيوخ. وكان شيخا حسنا متواضعا، عالما فاضلا، نزها عفيفا أديبا، صحيح الاعتقاد، شريف النفس عالى الهمة، قليل الطمع، لا يلتفت إلى أحد من أبناء الدنيا، لا إلى أهله ولا إلى غيرهم، بسبب دنياهم. وصنف التاريخ وغيره- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الأمير عمر: بن الملك المظفر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وكان يلقّب: بالملك السعيد. وكان شابا حسن الأخلاق، جميل الصورة، جوادا شجاعا.

ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه وملك ولده المنصور

وكان التّتار قد استولوا على ديار بكر، وأخذوا خلاط. فخرج الملك المظفر غازى من ميّافارقين، ليستنجد عليهم الخليفة والملوك. وخرج معه ولده عمر هذا، وأمير حسن بن تاج الملوك أخى غازى. فوصلوا إلى الهرماس «1» ، لوداع الملك المظفر: فقال المظفر لولده عمر: المصلحة تقتضى أن ترجع إلى ميّافارقين، وتحفظ المسلمين من التتار، وأنا أتوجه إلى بغداد وإلى مصر أستنجد الملوك. فقال: والله لا أفارقك. وجاء حسن بن تاج الملوك وجلس إلى جنبه، وأخرج سكّينا وضرب عمر فى خاصرته. وهرب ليرمى نفسه فى ماء العين فيغرق. فصاح الملك المظفر: امسكوه، فقد قتل عمر ولدى! وقام غازى ليقتله، فقصد حسن الملك المظفر ليقتله. فرمى عمر نفسه على أبيه، وقال لحسن: يا عدّو الله، قتلتنى وتقتل والدى! فضربه حسن بالسيف، فقطع خاصرته فسقط إلى الأرض. وأمر غازى بحسن فقطّع قطعا، وحمل عمر إلى الحصن فدفن به- رحمه الله. ذكر وفاة الملك المظفر تقىّ الدين محمود صاحب حماه وملك ولده المنصور وفى هذه السنة، فى يوم السبت ثامن جمادى الأولى، توفى الملك المظفر تقى الدين محمود، بن الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد، بن

الملك المظفر تقى الدين عمر، بن الأمير نور الدولة شاهنشاه بن أيوب- صاحب حماه. ومولده فى يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان، سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وملك حماه فى سنة ست وعشرين وستمائة، كما تقدم. ولما مات ملك بعده ولده الملك المنصور: ناصر الدين محمد. وفيها كانت وفاة السلطان نور الدين أرسلان شاه، بن عماد الدين زنكى، بن نور الدين أرسلان شاه، بن عز الدين مسعود، بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى «1» ، بن قسيم الدّولة: آقسنقر «2» . كان والده- رحمه الله تعالى- لما ملك شهرزور، وحضرته الوفاة- أخذ العهود على الأمراء والأجناد والأعيان، فاستقرّ بها. وقاتل التتار مرارا عديدة. ثم مات- رحمه الله تعالى. وكانت وفاته فى يوم الأحد، رابع عشر شعبان. وفيها فى يوم الأربعاء، العشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الشيخ شهاب الدين أبو طالب: محمد بن أبى الحسن بن على، بن على بن الفضل ابن التامغاز، المعروف بابن الخيمى. كان إماما فى اللغة، راوية للشعر والأدب. وكان مولده فى الثامن والعشرين من شوال، سنة تسع وأربعين وخمسمائة، بالحلّة المزيديّة «3» . وله نظم حسن: رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة:

واستهلّت سنة ثلاث وأربعين وستمائة: ذكر استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق، وأخذها من عمه الملك الصالح إسماعيل. وعود الصالح إسماعيل إلى بعلبك وما معها لما اتّفقت الوقعة- التى ذكرناها- بين عساكر السلطان الملك الصالح نجم الدين ومن انضم إليها من الخوارزمية، وبين عسكر الملك الصالح إسماعيل والفرنج وحصلت المكاشفة- جهّز الملك الصالح نجم الدين جيشا كثيفا إلى دمشق، فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وقدّم عليه الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ. وأقامه مقام نفسه، وأمره أن يجلس فى رأس السّماط على عادة الملوك، ويقف الطواشى شهاب الدين رشيد- أستاد الدار- فى خدمته، وأمير جاندار، والحجّاب. فسار إلى دمشق، ومعه الخوارزمية، فحاصروها أشد حصار. فلما كان فى يوم الإثنين ثامن المحرم- سنة ثلاث وأربعين، بعث الملك الصالح إسماعيل إلى الأمير الصاحب- معين الدين بن الشيخ- سجّادة وإبريقا وعكّازا، وقال: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك! فبعث إليه الصاحب معين الدين جنكا «1» وزمرا، وغلالة حرير أصفر وأحمر، وقال: أما ما أرسلت به إلىّ فهو يصلح لى، وقد أرسلت بما يصلح لك!

ثم أصبح معين الدين وركب فى العسكر، وزحفوا على دمشق من كل ناحية، ورميت بالمجانيق. وكان يوما عظيما. وبعث الملك الصالح إسماعيل الزّرّاقين «1» ، فى يوم الثلاثاء تاسع الشهر، فأحرقوا الجوسق «2» العادلى، ومنه إلى زقاق الرّمّان والعقيبة بأسرها. ونهبت أموال الناس. وفعل فيها كما فعل عند حصار الملك الكامل دمشق، وأشدّ منه. واستمر الحال على ذلك. ثم خرج الملك المنصور صاحب حمص فى شهر ربيع الأول إلى الخوارزمية، واجتمع ببركة خان «3» وعاد إلى دمشق. وجرت وقائع فى خلال هذا الحصار. ثم أرسل السامرىّ وزير الملك الصالح إلى الأمير معين الدين، يطلب منه شيئا من ملبوسه. فأرسل إليه فرجيّة وعمامة وقميصا ومنديلا، فلبس ذلك وخرج إليه بعد العشاء الآخر، وتحدث معه وعاد إلى دمشق. ثم خرج إليه مرة أخرى، فوقع الاتفاق على تسليم دمشق- على أن يكون للملك الصالح إسماعيل ما كان له أوّلا، وهو بعلبك وأعمالها وبصرى وبلادها، والسّواد. وأن يكون للملك المنصور حمص وبلادها، وتدمر والرّحبة. فأجاب الأمير معين الدين إلى ذلك، وتسلّم دمشق. ودخلها فى يوم الإثنين- العاشر من جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وتوجه الملك الصالح إلى بعلبك. وصاحب حمص إلى بلده.

ونزل الأمير الصاحب معين الدين- بدار أسامة، والطواشى شهاب الدين رشيد بالقلعة. وولّى الأمير معين الدين بن الشيخ الجمال هارون المدينة. وعزل قاضى القضاة محيى الدين، وفوّض القضاء لقاضى القضاة: صدر الدين بن سنىّ الدولة. ووصل الأمير سيف الدين بن قليج من عجلون، منفصلا من خدمة الملك الناصر داود، وأوصى بعجلون وما له بها من الأموال للملك الصالح، ونزل بدمشق بدار فلوس. وجهّز الأمير- معين الدين بن الشيخ- الأمير ناصر الدين بن يغمور إلى الديار المصرية- وكان الملك الصالح إسماعيل قد اعتقله بقلعة دمشق، فى سنة إحدى وأربعين وستمائة، لموافقته الملك الجواد، فاستمر فى الاعتقال إلى الآن- فجهّزه، وجهّز أيضا أمين الدولة السامرى إلى الديار المصرية، تحت الاحتياط. فاعتقلا مدة، ثم شنقهما الملك الصالح نجم الدين على قلعة الجبل. وكان أمين الدولة يطبّ فى ابتداء أمره. ثم تمكن من الملك الصالح إسماعيل، ووزر له. وارتفع محلّه عنده، بحيث إنه ما كان يخرج عن إشارته. وكان يتستّر بالإسلام ولا يتمسك بدين. وقيل إنه مات فى سنة ثمان وأربعين وستمائة.

قال أبو المظفر: وظهر له من الأموال والجواهر واليواقيت، والتّحف والذخائر ما لا يوجد فى خزائن الخلفاء والسلاطين. وأقاموا ينقلونه مدة. قال: وبلغنى أن قيمة ما ظهر له ثلاثة آلاف ألف دينار- غير الودائع التى كانت له عند ثقاته والتجار. ووجد له عشرة آلاف مجلد، من الكتب النفيسة والخطوط المنسوبة. وأما الخوارزمية فإنهم ما عملوا بالصلح إلا بعد وقوعه. فرحلوا إلى داريّا «1» ، فنهبوها. وقيل إن معين الدين منعهم من الدخول إلى دمشق، وأقطعهم أكثر بلاد الشام والسواحل بمناشيره. ودبّر الأمر أحسن تدبير. قال: ولما بلغ السلطان خروج عمه الملك الصالح إلى بعلبك، كتب بالإنكار على الطّواشى شهاب الدين رشيد والأمراء، لكونهم «2» مكنوه من المسير إلى بعلبك. وقال إن الأمير معين الدين حلف، وأنتم ما حلفتم. فلم يفد إنكاره شيئا، بل أثّر ما نذكره- إن شاء الله تعالى.

ذكر وفاة الأمير الصاحب معين الدين

ذكر وفاة الأمير الصاحب معين الدين وفى ليلة الأحد- ثانى عشر شهر رمضان، من السنة- كانت وفاة الأمير الصاحب معين الدين الحسين، بن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد، ابن عمر بن حمّويه- بدمشق، وهو يومئذ نائب السلطنة بها. ومات وله ست وخمسون سنة. ودفن إلى جانب أخيه عماد الدين. وكان جوادا كريما ديّنا صالحا- رحمه الله تعالى. ولما مات، كتب السلطان إلى الطّواشى شهاب الدين رشيد أن يتولى نيابة السلطنة، بدمشق. ذكر محاصرة الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك دمشق، وما حصل بها من الغلاء بسبب الحصار قال المؤرخ: لمّا بلغ الملك الصالح عماد الدين- صاحب بعلبك- إنكار الملك الصالح نجم الدين أيوب- ابن أخيه- على الأمراء، لكونهم «1» مكّنوه من التوجه إلى بعلبك- خاف على نفسه، وعلم سوء رأى السلطان فيه، وأنه متى ظفر به لا يبقى عليه، فكاتب الأمير عزّ الدين أيبك

المعظّمى صاحب صرخد وأكابر الخوارزمية، واتفقوا ونازلوا دمشق، فى ثالث عشرين ذى القعدة، من السنة. وحاصروها، ونهبوا بلادها وعاثوا فيها، وقطعوا الميرة «1» عنها. فغلت الأسعار، وعدمت الأقوات. وبلغ سعر القمح- عن كل غرارة- ألف درهم وثمانمائة درهم ناصرية. فمات أكثر أهل البلد جوعا واستمر ذلك مدة ثلاثة شهور. وفى هذه السنة، وصل رسول الخليفة المستعصم بالله «2» - وهو الشيخ جمال الدين «3» عبد الرحمن، بن الشيخ محيى الدين يوسف بن الجوزى- إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، بالخلع والتقليد. وكانت خلعة السلطان عمامة سوداء، وفرجيّة مذهّبة، وثوبين مذهّبة، وسيفين محلّاة، وقلمين، وطوق ذهب، وحصان بسرج ولجام وعدة خلع لأصحاب السلطان. وقرأ الشيخ جمال الدين- رسول الخليفة- التقليد على منبر والسلطان قائم على قدميه، وقد لبس خلعة الخليفة، حتى انتهت قراءة التقليد.

وكان من جملة الخلع الواصلة من الخليفة خلعة سوداء للوزير معين الدين- وكان قد توفى- فرسم السلطان أن يلبسها أخاه الأمير فخر الدين بن الشيخ، فلبسها- وكان السلطان قد أفرج عنه من الاعتقال فى هذه السنة، بعد أن لاقى شدائد كثيرة- وكان له فى الاعتقال ثلاث سنين. وفى هذه السنة، بعث الملك الصالح نجم الدين الأمير حسام الدين بن بهرام الى حصن كيفا، لإحضار ولده الملك المعظم تورانشاه الى الديار المصرية. وكتب إليه: الولد يقدّم خيرة الله، ويصل الى بالس «1» ، ويعدّى عندها، فقد اتفقنا مع الحلبيّين، وذكروا أنهم يجرّدون ألف فارس فى خدمتك. واعبر ببلد ماردين ليلا، فما نحن متفقين. فلما قرأ الكتاب كره ذلك، وما كان يؤثر الخروج من الحصن. وقال لابن بهرام: يكون الانسان مالك رأسه يصبح مملوكا محكوما عليه! ولم يجبه. ولما اتصل خبر طلبه بالملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ- صاحب الموصل أرسل إليه المماليك والخيل والخيام. وكذلك فعل شهاب الدين غازى. قال أبو المظفّر: حكى لى الأمير حسام الدين بن أبى على أن الملك الصالح كان يكره مجىء ابنه المظم اليه. وكنا إذا قلنا له: أحضره، ينفض يديه ويغضب، ويقول: أجيبه أقتله؟! وكأنّ القضاء موكّل بالمنطق!

وفيها وصلت الكرجيّة بنت إيوانى ملك الكرج «1» . وهى التى كانت زوجة الملك الأوحد بن الملك العادل، وتزوجها بعده أخوه الملك الأشرف موسى. ثم أخذها جلال الدين خوارزم شاه، عند ما استولى على خلاط. فوصلت الآن الى خلاط، ومعها فرمان القان- ملك التّتار- بخلاط وأعمالها. فراسلت الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل تقول: أنا كنت زوجة أخيك، والقان قد أقطعنى خلاط، فان تزوجت بى فالبلاد لك. فما أجابها إلى ذلك. فأقامت بخلاط. وكانت غارات عساكرها تصل الى ميّافارقين. وفى هذه السنة، توفى فلك الدين المسيرى، وزير العادل وابنه الكامل. وكانت وفاته فى يوم الجمعة تاسع شهر رجب. وكان عالى المنزلة فى الدولة الأيوبية. وفيها توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت الملك الناصر والملك العادل، وأخت ست الشام. وكانت وفاتها بدمشق بدار العقيقى- وقد قاربت ثمانين سنة.

وكانت زوجة سعد الدين مسعود، بن معين الدين أتسز، ثم مات عنها. فزوجها الملك الناصر- أخوها- من مظفر الدين بن زين الدين- صاحب إربل- فأقامت بإربل. ثم قدمت دمشق فأقامت بها، وخدمتها أمة اللطيف العالمة- بنت الناصح بن الحنبلى- وحصل لها من جهتها الأموال الكثيرة. فلما ماتت ربيعة خاتون، لقيت أمة اللطيف شدائد كثيرة، وصودرت وطولبت بالأموال، واعتقلت بقلعة دمشق ثلاث سنين. ثم أطلقت من الحبس وتزوجت بالملك الأشرف- ابن صاحب حمص- وتوجه بها إلى الرّحبة. فتوفيت فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة. وظهر لها من الأموال والذخائر ما قيمته ستمائة ألف درهم- غير الأملاك والأوقاف. وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام: تقىّ الدين أبو عمرو عثمان، بن عبد الرحمن بن عثمان، بن الصّلاح- المحدّث «1» المفتى المشهور. وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الأربعاء، الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر. ومولده فى سنة سبع وسبعين وخمسمائة، بشهرزور. وفيها فى ثانى عشر المحرّم، توفى بالقاهرة الأمير شجاع الدين بن أبى زكرى. كان من أعيان الأمراء. وفيها توفى القاضى الأشرف: بهاء الدين أبو العباس أحمد، بن القاضى الفاضل: محيى الدين عبد الرحيم البيسانى، فى سابع جمادى الآخرة بمصر. ومولده فى المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان الملك الكامل

واستهلت سنة أربع وأربعين وستمائة:

قد عرض عليه الوزارة فأباها، وتوفر على التّرسّليّة إلى الدّيوان العزيز، والمشورة. وكان صالحا نزها عفيفا، سمع الحديث وأسمعه. وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام، المقرىء المفتى: علم الدين أبى الحسن على بن محمد بن عبد الصمد، المصرى السّخاوى «1» . قرأ القرآن على الشاطبى، وشرح قصيدته. وكانت وفاته بدمشق، فى ليلة الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون. سمع الحافظ السّلفى وأبا القاسم البوصيرى، وغيرهما. واستهلّت سنة أربع وأربعين وستمائة: ذكر وقعة الخوارزمية وقتل مقدمهم واستيلاء الملك الصالح على بعلبك وأعمالها، وصرخد وفى سنة أربع وأربعين، كانت الوقعة بين الخوارزمية- ومن انضم إليهم- وبين العساكر الحلبية والشامية والحمصية. وذلك أن السلطان الملك الصالح نجم الدين كان قد استمال الملك المنصور- صاحب حمص- إليه. فوافقه ومال إليه، وانحرف عن الملك الصالح إسماعيل. ثم كتب إلى الحلبيين يقول: إن هؤلاء الخوارزمية قد كثر فسادهم، وأخربوا البلاد، والمصلحة أن نتفق عليهم، فأجابوه.

وخرج الأتابك شمس الدين لؤلؤ بالعساكر الحلبية. وجمع صاحب حمص أصحابه، ومن إنضم إليه من العربان والتّركمان. وخرج إليهم عسكر دمشق. واجتمعت هذه العساكر كلها على حمص. واتفق الملك الصالح إسماعيل والخوارزمية، والملك الناصر داود صاحب الكرك، وعز الدين أيبك المعظّمى صاحب صرخد، واجتمعوا على مرج الصّفّر «1» ولم ينزل الملك الناصر من الكرك، بل سيّر عسكره وأقام. وبلغهم أن صاحب حمص يريد قصدهم. فقال بركة خان: إن دمشق لا تفوتنا، المصلحة أن نتوجه إلى هذا الجيش ونبدأ بهم. فساروا والتقوا على بحرة حمص، فى يوم الجمعة- سابع أو ثامن المحرم- من هذه السنة. وكانت الدائرة على الخوارزمية. وقتل مقدمهم بركةخان فى المعركة. وهرب الملك الصالح إسماعيل، وعز الدين أيبك المعظمى، ومن سلم من العسكر، كلّ منهم على فرس ونهبت أموالهم. ووصلوا إلى حوران. وتوجه صاحب حمص والعسكر الحلبى إلى بعلبك، واستولى على الرّبض «2» ، وسلّمه للأمير ناصر الدين القيمرى، وجمال الدين هارون. وعاد إلى حمص، وودع الحلبيين. وتوجهوا إلى حلب. وجاء الملك المنصور إلى دمشق، خدمة للملك الصالح، فنزل ببستان أسامة.

ومضت طائفة من الخوارزمية إلى البلقاء «1» ، فنزل إليهم الملك الناصر صاحب الكرك وصاهرهم واستخدمهم، وأسكن عيالهم بالصّلت «2» . وفعل الأمير عز الدين المعظمى كذلك. وساروا فنزلوا نابلس، واستولوا عليها. وعاثوا فى الساحل. فندب السلطان الملك الصالح نجم الدين الأمير فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى الشام. فلما وصل إلى غزّة، عاد من كان بنابلس من الخوارزمية إلى الصّلت. فتوجه إليهم، وقاتلهم على حسبان «3» وكسرهم، وبدّد شملهم. وكان الملك الناصر معهم، فسار إلى الكرك وتحصّن بها. وتبعه الخوارزمية، فلم يمكّنهم من دخول الكرك. وأحرق ابن الشيخ الصّلت. وكان الأمير عز الدين أيبك المعظمى مع الناصر، فعاد إلى صرخد وتحيّز بها. وكانت كسرة الخوارزمية هذه فى سابع عشر شهر ربيع الآخر. ونزل الأمير فخر الدين بن الشيخ على الكرك، فى الوادى. وكتب إلى الملك الناصر يطلب من عنده من الخوارزمية. وكان عنده صبى مستحسن من الخوارزمية، اسمه طاش بورك بزخان، فطلبه ابن الشيخ، فقال الناصر: هذا طيّب الصوت، وقد أخذته ليقرأ عندى القرآن. فكتب إليه ابن الشيخ كتابا غليظا، وذكره غدره بأيمانه

ذكر استيلاء جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخروج الملك الصالح إسماعيل عنها

وخبثه، وقال: لا بدّ من الصبى، وأنا أبعث إليك عوضه أعمى يقرأ أطيب منه. فبعثه إليه. وتسلم أعيان الخوارزمية. ورحل عن الكرك. وأحسن الأمير فخر الدين إلى الخوارزمية وخلع عليهم. واستصحبهم معه. ذكر استيلاء جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخروج الملك الصالح إسماعيل عنها وفى هذه السنة- أيضا- توجه الأمير حسام الدين بن [أبى] على من دمشق إلى بعلبك، وتسلم قلعتها- باتفاق من السّامانى، مملوك الملك الصالح إسماعيل، وكان حاكما عليها. وبعث أولاد الصالح إسماعيل وعياله إلى مصر وتسلم نوّاب الملك الصالح نجم الدين بصرى- وكان بها الشهاب غازى واليا، فأعطى حرستا «1» القنطرة وفيها، فى شهر ربيع الآخر، توجه الملك الصالح إسماعيل فى طائفة من الخوارزمية، هاربين إلى حلب. ولم يبق للصالح إسماعيل بالشام مكان يأوى إليه. فتلقّاهم الملك الناصر يوسف- صاحب حلب- وأنزل الصالح إسماعيل فى دار جمال الدولة الخادم. وقبض على كشلوخان والخوارزمية، وملأ بهم الحبوس.

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص، وقيام ولده الملك الأشرف

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص، وقيام ولده الملك الأشرف وفى هذه السنة- فى العاشر من صفر- وقيل فى يوم الأحد حادى عشرة- كانت وفاة الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادى، ببستان الملك الأشرف بالنّيرب، بظاهر دمشق وكانت مدة ملكه حمص ست سنين، وسبعة أشهر. وكان شجاعا مقداما. وملك بعده ولده الملك الأشرف: مظفر الدين موسى. وفيها بعث السلطان الملك الصالح نجم الدين الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح إلى دمشق، وزيرا. وأنعم عليه بإقطاع، وعدّة سبعين فارسا، فوصل إلى دمشق وباشر ما رسم له به. ثم كان من أمره وعوده ما نذكره- إن شاء الله تعالى. ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الشام، وما استولى عليه فى هذه السفرة، وما قرره، وعوده فى هذه السنة، توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى الشام. فوصل إلى دمشق فى تاسع عشر ذى القعدة، وأحسن إلى أهلها وفرح الناس به وزيّنت البلد لمقدمه، وكان يوما مشهودا. وأقام خمسة عشر يوما وتوجه إلى بعلبك وكشفها

ثم رجع، وتوجه نحو صرخد. وسعى الأمير ناصر الدين القيمرى والصاحب جمال الدين بن مطروح، فى الصلح بين السلطان والأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد. وتوجه السلطان من دمشق إلى بصرى. ونزل إليه الأمير عز الدين أيبك. وتسلّم صرخد، وصعد إليها- وذلك فى ذى الحجة منها. وقدم عز الدين أيبك إلى دمشق، ونزل بالنّيرب «1» وكتب له منشور بقرقيسيا «2» والمجدل «3» وضياع فى الخابور، فلم يحصل له منها شىء. ثم كان من خبره ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى سنة خمس وأربعين وستمائة. ولما تسلم الملك الصالح صرخد، عاد إلى الديار المصرية ودخل إلى القدس. وتصدق فيه بألفى دينار عينا. وأمر بعمارة سور القدس فذرع، فكان ستة آلاف ذراع بالهاشمى «4» ، فرسم أن يصرف مغلّ بلاد القدس عليه، وإن احتاج إلى زيادة جهّزت من الديار المصرية. قال أبو المظفّر: وكنت لما أطلقه الملك الناصر من اعتقاله، وجاء إلى القدس، أخذت يده على ذلك.

واستهلت سنة خمس وأربعين وستمائة:

وفى هذه السنة، تسلم السلطان- أيضا- حصن الصّبيبة «1» من الملك السعيد: مجد الدين حسن، بن الملك العزيز، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر، فى سابع عشرين ذى الحجة. وتسلم الصّلت من ابن عمه الملك الناصر داود. وفيها قبض الملك الناصر داود على عماد الدين، بن الأمير عز الدين بن موسك فى الكرك، واحتاط على موجوده. ثم شفع فيه الأمير فخر الدين بن الشيخ فأفرج عنه. وخرج من الاعتقال، وفى حلقه خرّاج كبير فبطّ، وحشى من الدواء الحارق، فمات بالكرك. ودفن بمشهد جعفر الطّيّار. وكان- رحمه الله تعالى- من الأجواد. وفيها توفى الأمير ركن الدين الهيجاوى، فى معتقله بالديار المصرية. وكان سبب اعتقاله أنه فارق خدمة السلطان الملك الصالح، والتحق بدمشق. وكان قدومه على العساكر، فقبض عليه، واعتقله. فمات فى اعتقاله- رحمه الله تعالى. وكان خيّرا جوادا، عفيفا نزها، كثير الإحسان إلى جيرانه، يبرّ غنيّهم وفقيرهم. واستهلّت سنة خمس وأربعين وستمائة: فى هذه السنة، جهز السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب جيشا، وقدم عليه الأمير فخر الدين بن الشيخ، وبعثه إلى بلاد الفرنج.

ففتح عسقلان- فى ثامن عشرين جمادى الآخرة- وأخربها. ورحل عنها إلى طبريّة، ففعل بها كذلك. ثم كتب إليه أن يتوجه إلى دمشق، ويقيم بها بمن معه من العساكر، لأمر بلغه عن الملك الناصر- صاحب حلب. وفيها تسلم نوّاب السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعة شميمس «1» ، من الملك الأشرف صاحب حمص. فأمر السلطان بتحصينها، وبعث إليها الخزائن. وفيها جهز السلطان تاج الدين بن مهاجر، والمبارز نسيبه، إلى دمشق، ومعهما تذكرة فيها أسماء جماعة من الدماشقة، رسم بانتقالهم إلى الديار المصرية، وهم: القاضى محيى الدين بن الزّكى، وابن الحصيرى، وابن العماد الكاتب، وبنو صصرّى الأربعة، وشرف الدين بن العميد، وابن الخطيب العقربانى، والتاج الإسكندرانى- الملقب بالشّحرور، وأبو الشامات، مملوك الملك الصالح إسماعيل، وغازى- والى بصرى- والحكيمى، وابن الهادى المحتسب. فتوجهوا إلى الديار المصرية، وأمروا بالمقام بها، ولم يحجر عليهم، وخلع على بعضهم. وأقاموا بالديار المصرية، إلى أن توفى الملك الصالح أيوب، فعادوا إلى دمشق. وكان سبب طلبهم أن السلطان بلغه أنهم خواصّ الملك الصالح إسماعيل. وفيها فى شهر ربيع، فوّضت الخطابة بدمشق للقاضى عماد الدين بن الحرستانى، ورسم بإخراج العماد خطيب بيت الآبار «2» ، الخطيب بالجامع، إلى بيت الآبار.

ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمى، ووفاته

ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمى، ووفاته وفى هذه السنة- فى ثالث عشر ذى القعدة- اعتقل الأمير عز الدين أيبك المعظّمى صاحب صرخد- كان- فى دار فرّخشاه. وذلك بترتيب الصاحب جمال الدين بن مطروح وغيره. ووضعوا مترجما أنه جاءه من حلب، من جهة الملك الصالح إسماعيل. وكتبوا بذلك إلى السلطان الملك الصالح. [فأمر] أن يحمل إلى القاهرة تحت الاحتياط. فحمل واعتقل فى دار صواب. ورافعه ولده إبراهيم، وقال للسلطان: إن أموال أبى قد بعث بها إلى الحلبيين وأنه لما خرج من صرخد كانت أمواله فى ثمانين خرجا، أودعها عند ابن الجوزى. ولما وصل إلى الديار المصرية مرض، ولم يسمع منه كلمة حتى مات. ودفن بمقابر باب النصر، ثم نقل إلى دمشق، ودفن بتربته. وكان خيّرا ديّنا، كثير الصدقة والإحسان إلى خلق الله تعالى. اشتراه الملك المعظم، فى سنة سبع وستمائة، لما كان على الطّور، وجعله أستاد داره، وأعطاه صرخد. وكان عنده فى منزلة الولد. رحمهم الله تعالى. وطلب جماعة اتهموا بأمواله، بسعاية ولده إبراهيم، وهم: البرهان كاتبه، وابن الموصلى صاحب ديوانه، والبدر الخادم، وسرور، وغيرهم، وحملوا إلى الديار المصرية. فمات البرهان بظاهر دمشق، عند مسجد النّارنج، لما ناله من الفزع. وأما بقيّتهم فإنهم عوقبوا على أمواله، فلم يظهر عندهم الدّرهم الواحد.

واستهلت سنة ست وأربعين وستمائة:

وفيها كانت وفاة الشيخ الصالح المحقّق على الحريرى، المقيم بقرية بشر، المجاورة لزرع «1» من بلاد حوران. وبهذه القرية قبر اليسع- عليه السلام. وهذا الشيخ هو شيخ طائفة الحريريّة. واستهلّت سنة ست وأربعين وستمائة: فى هذه السنة، استولى الملك الناصر- صاحب حلب- حمص، وانتزعها من الملك الأشرف موسى صاحبها، وعوّضه عنها تلّ باشر. ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى دمشق، وما اعتمده فى هذه السنة، توجه السلطان من الديار المصرية إلى دمشق، وعزل الطواشى شهاب الدين رشيد الدين عن النيابة، والصاحب جمال الدين بن مطروح عن الوزارة. وفوّض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير جمال الدين موسى بن يغمور. وجهّز العساكر مع الأمير فخر الدين بن الشيخ إلى حمص. وسخّر الفلاحين لحمل المجانيق إلى حمص، فنالهم لذلك مشقة عظيمة، وكان يغرم على العود الذى يساوى درهما ألف درهم، فخرب الشام لذلك ونصب المجانيق على حمص. وكان الشيخ نجم الدين البادرائى بالشام، فدخل بين الطائفتين، وردّ الحلبيين إلى حلب، والعسكر الصالحى إلى دمشق.

ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى وقيام ولده الملك الكامل

وفيها احترق المشهد الحسينى بالقاهرة. وذكر من تتّبع التواريخ أنه ما احترق مكان شريف إلا وأعقبه غلاء، أو جلاء من العدو. وكان كذلك: أخذت دمياط، على ما نذكره. ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى وقيام ولده الملك الكامل فى هذه السنة، توفى الملك المظفر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- صاحب ميّافارقين. وقام بأمر مملكته بعده ولده الملك الكامل، ناصر الدين محمد. وفيها، توفى الملك العادل: سيف الدين أبو بكر، بن الملك الكامل، بن الملك العادل- أخو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكان السلطان قد رسم أن يتوجه إلى الشّوبك، بنسائه وولده وعياله، فى خامس شوال، على ما حكاه سعد الدين مسعود بن شيخ الشيوخ تاج الدين. وبعث إليه الطواشى محسن الخادم، فأخبره بما رسم به السلطان من توجهه. فامتنع، وقال: إن أراد قتلى فى الشّوبك فههنا أولى، ولا أتوجه أبدا. فعذله محسن الخادم، فرماه بدواة كانت عنده. فعاد إلى السلطان وأخبره. فقال له: دبّر أمره. فأخذ ثلاثة مماليك- وقيل أربعة- ودخلوا عليه، فى ليلة الاثنين ثانى عشر شوال، فخنقوه بشاش علمه- وقيل بوتر- وعلّقوه بعمامته، وأظهروا أنه شنق نفسه. وخرجت جنازته كجنازة الغرباء، ودفن بتربة شمس الدولة. ولم يتمتع الملك الصالح بعده بالدنيا، فإنه مات بعد ذلك بعشرة أشهر.

وفيها، فى خامس شهر رمضان، كانت وفاة قاضى القضاة: أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن ناماد بن عبد الملك، ابن زنجلين، الخونجى «1» - قاضى مصر والوجه القبلى. ودفن بالقرافة، بالقرب من تربة الإمام الشافعى. ومولده فى جمادى الأولى، سنة تسعين وخمسمائة. وكان قد تفرّد فى زمانه بعلم المنطق، حكيما أصوليا، فاضلا، مشاركا فيما عدا ذلك «2» ولما مات- رحمه الله تعالى- أقرّ نائبه- القاضى جمال الدين يحيى- على القضاء، إلى جمادى الأولى سنة سبع وأربعين ثم فوّض القضاء بمصر والوجه القبلى للقاضى عماد الدين أبى القاسم إبراهيم. بن هبة الله بن إسماعيل ابن نبهان، بن محمد الحموى المعروف بابن المقنشع «3» - فى جمادى الأولى سنة سبع وأربعين. وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام العلّامة: جمال الدين أبو عمرو عثمان، ابن عمر بن أبى بكر بن يونس، الدّوينى «4» ثم المصرى، الفقيه المالكى- المعروف بابن الحاجب.

كان والده حاجب الأمير عز الدين موسك الصّلاحى- متولّى الأعمال القوصية- ومولده بإسنا- مدينة مشهورة من عمل قوص- فى سنة سبعين وخمسمائة. وانتقل إلى القاهرة فى صغره، فقرأ القرآن، واشتغل بالعلم على مذهب الإمام مالك، فتفقه. واشتغل بالعربية، فبرع وأكبّ على الاشتغال حتى صار يشار إليه. انتقل إلى دمشق، ودرس بجامعها. وكان من أحدّ الناس ذهنا. وغلب عليه علم العربية. وقيل أنه قدم إلى دمشق مرارا، آخرها سنة سبع عشرة وستمائة. وصحب شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، واختص به ولازمه. وخرج معه من دمشق، فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وقدم إلى الديار المصرية. وأقام بالقاهرة واشتغل الناس عليه. وله مصنّف فى مذهب الإمام مالك- هو من أجود مختصرات المالكية، ما حفظه طالب منهم إلا وأشير إليه بالفقه. ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية للإقامة به، فلم تطل مدة إقامته بالثغر. وكانت وفاته فى ضحى يوم الخميس، سادس عشر شوال، ودفن بخارج باب البحر- رحمه الله تعالى. وفيها، فى شهر رمضان، توفى الوزير: أبو الحسن على بن يوسف بن إبراهيم، بن عبد الواحد بن موسى بن أحمد بن محمد إسحاق، القفطى- المعروف بالقاضى الأكرم، وزير حلب. كان جمّ الفضائل ذا فنون، مشاركا لأرباب كل علم فى علومهم: من القراءات، والحديث والفقه، والنحو واللغة، والأصول والمنطق، والنجوم

والهندسة، والتاريخ، والجرح والتّعديل «1» - يتكلم فى كل علم مع أربابه أحسن كلام. وله شعر حسن. وصنف كتبا كثيرة، منها: كتاب الضاد والظاء، وهو ما اشتبه فى اللفظ واختلف فى الخط، وكتاب الدّرّ الثّمين فى أخبار المتيّمين. وكتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته، ثم ألوت عليه فوضعته. وكتاب أخبار المصنّفين، وما صنّفوه. وكتاب أخبار النّحويّين. وكتاب تاريخ مصر، من ابتدائها إلى حين ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- فى ستّ مجلدات. وكتاب تاريخ الألموت «2» ، ومن تولّاها. وكتاب تاريخ اليمن، منذ اختطّت إلى زمانه. وكتاب الحلى والشيآت. وكتاب الإصلاح لما وقع من الخلل فى كتاب الصّحاح «3» . وكتاب الكلام على الموطّا «4» وكتاب الكلام على صحيح البخارى. وكتاب تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه، إلى حين انقراض دولتهم، وكتاب تاريخ السّلجقيّة، من ابتداء أمرهم إلى انتهائه. وكتاب الإيناس فى أخبار آل مرداس. وكتاب الرد على النصارى. وغير ذلك.

وكان- رحمه الله- سخىّ الكفّ، طلق الوجه. وكان محبا للكتب، جمّاعا لها، جمع منها ما لم يجمعه أحد من أمثاله. واشتهر بالرغبة فيها، والمغالاة فى أثمانها، فقصده الناس بها من الآفاق. فاجتمع له منها ألوف كثيرة، بالخطوط المنسوبة، وخطوط المشايخ والمصنّفين. ولم يقع له كتاب مليح فردّه، بل يبالغ فى إرضاء صاحبه بالثّمن. فإذا ملكه استوعب قراءته، ثم جعله فى خزائنه، ثم يشحّ فى إخراجه، فلا يكاد يظهر عليه أحدا، صيانة له وضنّا به!. قال الحافظ محبّ الدين بن النجار: كنّا عنده ليلة، فى شهر رمضان، فجرى بحث أفضى إلى اعتبار كلمة وكشفها من كتاب الصّحاح. فقال لبعض مماليكه: إذهب إلى المؤيّد- يعنى أخاه- وأحضر من عنده نسخة من الصّحاح. قال: فقلت له: والمولى ما عنده نسخة من الصّحاح؟! فقال: وحياتك- يا محبّ- عندى خمس نسخ، وما يطيب على قلبى أن أخرج منها نسخة- لا سيما بالليل، ونحتاج إلى إدخال الضوء. وله فى شغفه بالكتب حكايات كثيرة، أضربنا عن ذكرها. وأوصى بكتبه بعد وفاته للملك الناصر: صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز، صاحب حلب. وكانت تساوى خمسين ألف دينار. ودفن بحلب- رحمه الله تعالى. وفيها توفى عماد الدين، بن سديد الدين، محمد بن سليم بن حنّا- وهو أخو الصاحب بهاء الدين.

واستهلت سنة سبع وأربعين وستمائة:

واستهلّت سنة سبع وأربعين وستمائة: والسلطان الملك الصالح نجم الدين بدمشق، وهو مريض. فعاد إلى الديار المصرية فى محفّة «1» ، لشدة ما ناله من المرض. وكان خروجه من دمشق فى يوم الإثنين، رابع المحرم، ونادى فى الناس: من كان له علينا أو عندنا شىء، فليحضر لقبضه. فطلع الناس إلى القلعة، وأخذوا ما كان لهم. وفى هذه السنة؛ رسم السلطان لنائبه بدمشق- الأمير جمال الدين بن يغمور- بهدم دار أسامة، وقطع أشجار بستان القصر بالقابون، وهدم القصر. فتوقف عن ذلك مدة، ثم ترادفت عليه الكتب بذلك، ففعل. ذكر استيلاء الفرنج على ثغر دمياط وفى سنة سبع وأربعين وستمائة، وصل ريد افرنس «2» بعساكره وجموعه إلى ثغر دمياط. وخرج السلطان الملك الصالح بعساكره إلى المنصورة، ونزل بها. وجرّد إلى ثغر دمياط جماعة من الأمراء، فالتقوا مع ريدا فرنس، واقتتلوا قتالا شديدا فقتل الأمير شهاب الدين بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيرى. وخرج أمراء الكنانيّة من دمياط وأخلوها، فاستولى عليها ريدا فرنس

ذكر استيلاء السلطان على قلعة الكرك وبلادها

فى يوم الأحد، لسبع بقين من صفر، من السنة. فشنق السلطان أمراء الكنانية- وكانوا نيّفا وخمسين أميرا- بعد أن استفتى فى شنقهم- لخروجهم عن الثّغر بغير أمره. وكان قد جعل [عندهم من الميرة ما يكفيهم زمنا طويلا «1» ] . ذكر استيلاء السلطان على قلعة الكرك وبلادها وفى هذه السنة، ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الكرك، وبلادها. وسبب ذلك أن صاحبها الملك الناصر داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى- توجه منها إلى بغداد، واستخلف أولاده بها. فكاتبوا السلطان، واتفقوا معه على تسليمها. واشترطوا عليه شروطا، وتولى ذلك من أولاده: الملك الأمجد أبو على الحسن. فأجاب السلطان إلى ما التمسوه، وتسلم القلعة، ووفى لهم بما اشترطوه- وذلك فى جمادى الآخرة. وأخرج عيال الملك المعظم وأولاده وبناته، وأمّ الملك الناصر، وجميع من كان بالحصن. وبعث الملك الصالح الى الحصن ألف ألف دينار- عينا- وجواهر وذخائر وأسلحة، وغير ذلك.

ذكر وفاة الملك السلطان الصالح نجم الدين أيوب

ولما عاد الملك الناصر من بغداد، ووجد الأمر على ذلك، توجه إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، وأقام عنده، إلى أن ملك دمشق. وحضر فى خدمته إليها. ثم بلغه عنه أسباب رديّة، فأخرجه إلى البويضا بظاهر مدينة دمشق. فمات بها حتف أنفه. وكانت وفاته فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ونقل من البويصا، وصلّى عليه عند باب النصر، ودفن عند أبيه بالتربة المعظّميّة، بقاسيون- رحمه الله تعالى. ذكر وفاة الملك السلطان الصالح نجم الدين أيوب كانت وفاته- رحمه الله تعالى- بمنزلة المنصورة، فى ليلة الإثنين النصف من شعبان، سنة سبع وأربعين وستمائة. ومولده بالقاهرة المعزّيّة فى سنة ثلاث وستمائة. ولما مات، كتم أمر وفاته، ودفن بالمنصورة. ثم نقل- فى سنة ثمان وأربعين وستمائة- إلى تربته، التى بنيت بعد وفاته، بجوار مدرسته بالقاهرة المحروسة، بين القصرين فكانت مدة سلطنته بالديار المصرية عشر سنين، إلا خمسين يوما. وكان ملكا مهيبا، شجاعا حازما، ذا سطوة. وكانت البلاد فى أيامه آمنة، والطرق سابلة. وكان عفيف الذّيل. غير أنه كان عظيم الكبر، غليظ الحجاب. وكان محبّا لجمع المال. ويقال إنه عاقب امرأة أبيه- أمّ أخيه الملك العادل- وأخذ منها الأموال والجواهر. وقتل أخاه وجماعة من الأمراء ومات فى حبسه ما يريد على خمسة آلاف.

ولما مات، كانت سرّيّته- والدة خليل- فى صحبته بالمنصورة. فكتم أمر وفاته إلا عن خواصّ الأمراء. وكان السّماط «1» يمدّ على العادة. والأمراء، ومن جرت عادته بحضور السّماط، يدخلون ويأكلون وينصرفون. ويظنون أن السلطان إنما احتجابه بسبب مرضه. وكانت والدة خليل تكتب خطّا يشبه خطّ السلطان، فتخرج العلائم «2» بخطّها. واتفق الأمراء على إحضار ولده: الملك المعظّم غياث الدين تورانشاه من حصن كيفا. وكان السلطان الملك الصالح قد كتب كتابا بخطّه. يشتمل على وصيته لولده الملك المعظم. نذكر- إن شاء الله تعالى- مضمونه فى أخبار الملك المعظم. فتوجّه لإحضاره الأمير فارس الدين أقطاى الصالحى- مملوك والده وقام بتدبير الدولة- فيما بين وفاة السلطان الملك الصالح ووصول الملك المعظم- الأمير فخر الدين: يوسف بن الشيخ. إلى أن قتل.

ذكر خبر الأمير فخر الدين أبى الفضل يوسف ابن الشيخ، وقتله

ذكر خبر الأمير فخر الدين أبى الفضل يوسف ابن الشيخ، وقتله لما مات السلطان الملك الصالح، قام بتدبير الأمر بعده- إلى أن يصل ولده الملك المعظم- الأمير فخر الدين أبو بكر أبو الفضل: يوسف، بن شيخ الشيوخ صدر الدين «1» . وكان هو وزير السلطان ومقدّم جيوشه، والمشار إليه فى دولته. فدبّر الأمر أحسن تدبير، وأقطع البلاد بمناشيره. وأطلق السّكّر والكتّان أن يسافر به التّجّار إلى الشام- وكان ذلك قد منع، وأراد جماعة من العسكر أن يملكوه، فامتنع من ذلك. وتنكر له بعض الأمراء المماليك الصالحية، وعزموا على قتله فاستدعى أكابر الأمراء، وأعلمهم أنه لا طمع له فى الملك ولا رغبة، وأنه إنما يحفظه للملك المعظّم إلى أن يصل. فاعتذروا له وحلفوا. وكان المتّهم بإغراء الأمراء الطواشى محسن، وجماعة. وجهّز جماعة يستحث الملك المعظم من دمشق، بعد وصوله إليها. فلما كان فى يوم الثلاثاء- رابع ذى القعدة أو خامسه- هجم الفرنج على عساكر المسلمين، واندفع المسلمون بين أيديهم. وكانت وقعة عظيمة.

فركب فخر الدين فى وقت السحر ليكشف الخبر، وأنفذ إلى الأمراء والحلقة «1» ليركبوا. وساق بنفسه فى طائفة من مماليكه وأجناده. فصدمه طلب «2» الدّاويّة «3» وحملوا عليه. فهرب من كان معه، وثبت هو. فطعن فى جنبه، فوقع عن فرسه. فضربوه ضربتين فى وجهه، طولا وعرضا، بالسيف فقتلوه!. وجاء مماليكه إلى داره، فكسروا صناديقه، ونهبوا أكثر ما فيها. ونهبت أمواله وخيله. وأخذ الجولانى «4» قدور حمّامه، والدّمياطىّ أبواب داره. ثم أخرج من المعركة بقميص واحد، وجعل فى حرّاقة «5» وأرسل إلى مصر. وحمل إلى تربته بالقرافة الصغرى، بجوار تربة الإمام الشافعى، فدفن عند والدته. واشتد بكاء الناس عليه، وعملت له الأعزية. وكان له من العمر، يوم مات ست وستون سنة- رحمه الله تعالى. وكان له شعر جيّد كثير، فمن شعره: عصيت هوى نفسى صغيرا، فعندما ... رمتنى الليالى بالمشيب وبالكبر أطعت الهوى- عكس القضيّة- ليتنى ... خلقت كبيرا، وانتقلت إلى الصّغر

ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب، وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية

ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب، وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية ملك الديار المصرية والشام، بعد وفاة والده السلطان الملك الصالح وكان مقيما بحصن كيفا «1» ، وما مع ذلك، منذ تركه والده هناك- كما تقدم. فلما مات السلطان، اجتمع رأى الأمراء على إقامته، وجهزوا لإحضاره الامير فارس الدين أقطاى، كما ذكرنا آنفا. وكان السلطان الملك الصالح، فى مرض موته، قد كتب إلى ولده الملك المعظم هذا كتابا، أسند فيه الملك إليه، واشتمل كتابه على جملة من الوصايا. وقد وقفت على الكتاب المذكور- وهو بخطّ السلطان الملك الصالح بجملته. وقد رأيت أن أشرح ما تضمّنه، لما فيه من الوصايا التى يتعين على الملوك التمسك بها والرجوع إليها، والإعتماد عليها. ابتدأ السلطان الملك الصالح كتابه هذا- الذى منه نقلت- بأن كتب فى طرّته قبل البسملة: والده أيوب بن محمد «2»

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * الولد تورانشاه- أصلحه الله ووفّقه يا ولدى، أنت تعلم ما سبب تأخير طلبك إلا ما أعلمه منك، من الصّبيانية والجرأة وقلة الثبات. والملك ما يحتمل هذا. والوالد ما يشتهى لولده إلا الخير. والخصائل التى أعرفها منك اتركها، يدوم لك الملك. وإن أنت خالفت أمرى وبقيت على ما أعلمه منك، يروح منك الملك. واثبت فى جميع أمورك. وسنّ سيرتى فى العسكر. واترك الأشياء على ما هى عليه: كل أحد متولّى الشغل الذى هو فيه، ولا تحدث حادث. والوصية بجميع الأمراء، وأكرمهم واحترمهم، وأرفع منزلتهم. فهم جناحك الذى تطيربه، وظهرك الذى تركن إليه. وطيّب قلوبهم، وزيد فى إقطاعهم. وزيد كلّ أمير على [ما] معه من العدّة عشرين فارس. وأنفق الأموال. وطيّب قلوب الرجال، يحبوك وتنال غرضك فى دفع هذا العدو. ولا تؤاخذ بما جرى فى دمياط، فهذا أمر سماوىّ، ما لأحد فى هذا حيلة. والأخ فخر الدين بن الشيخ ما عندى من أقدّم سواه، فأكرمه، واحترمه كما تحترمنى. واجعله عندك كالوالد. واسمع قوله ورأيه ولا تخالفه. واجعل له من العدة مائتى فارس. يا ولدى: الوصية بأم خليل، فلها علىّ من الحقوق والخدمة ما لا أقدر أصفه، ارعى جانبها وأكرمها واحترمها، وارفع منزلتها، فهى عندى بمنزلة عظيمة. وكنت طيّب القلب بصحبتها، آمنا على نفسى من جهتها، فاجعلها لك مثل الوالدة. واجتهد فى اتصال الراحة إليها، وطيّب

قلبها، واجعلها حاكمة على جميع أمورك وأموالك. ولا يبدو منك كلمة تضيّق صدرها، ولا توجع لها قلبا أبدا، ولا من يتعلق بسببها، ولا من يضيق صدرها بسببه. ولا تخرج عن رأيها وتدبيرها. وهذه وصيتى فلا تخالف أمرى. واخدمها كما تخدمنى، واحترمها كما تحترمنى. ولا تجعل على يدها يد. والوصية بجميع العيال، أحسن إليهم فلهم علىّ خدمة. ولا تقصّر فى حق الصغير منهم والكبير. واحفظ وصيتى، فمتى خالفتنى يروح منك الملك، وتكون عاقّا لى. وكتبت هذه الوصية ولم يطلع عليها أحد، لئلا تضيق صدورهم. وكتبتها فى مدة طويلة. واعلم يا ولدى أن الملك فى ابتداء ملكه كمثل الشّجرة فى ابتداء طلوعها، فيأتى ريح يهب عليها يحرّكها، وربما يقلعها من أصلها. فإذا مضت عليها الأيام والسنين قوى أصلها، واشتد ساقها، فلا تحركها الرياح العواصف. فاعلم يا ولدى إشارتى، وتنبّه لغرضى. وإن ضاق صدرك من شخص فاحتمله، وأحسن إليه تحسن سيرتك، ويحبّك عدوّك. ولا تعجل بالعقوبة. واعلم أن الناس أعداء لبعضهم البعض، فلا تسمع كلام أحد دون أن تقابل بينه وبين خصمه، ولو أتاك مقطوع اليد. فربما خصمه أسوأ حالا منه. فإذا عرف هذا منك، تقلّ الشّكاوى والرّفاعات «1» ، ويستريخ خاطرك.

والذى أعرّفك به يا ولدى: لمّا نزل العدوّ على زمن الشّهيد «1» - رحمه الله- على دمياط، ما كان فيها سوى الوالى والكنانيّة، وأهلها حفظوها إلى أن وصل الشّهيد من القاهرة، وعسكر مصر من الشام. وما قدر العدو ينزل برّ دمياط، وما كان فيها ذخيرة شهر واحد. فلما اختلف العسكر على الشّهيد- رحمه الله- وتحزّبوا- مثل ابن المشطوب «2» والأكراد- مع الملك الفائز، غضب الشّهيد، وساق إلى أشموم. وتبعه العساكر، وتركوا جميع الخيم والقماش. وخرج من دمياط من خرج، والوالى. وما بقى فيها إلا أهلها. وغلّقوها وقعدوا فيها وحفظوها، إلى أن مات أكثر من فيها والباقى تكشّحوا، وخلت الأصوار من المقاتلين. فصعدت الفرنج وأخذتها، بعد أن تعبوا من النّقوب من تحت الأرض، وشربوا بالبتاتى، والزحف عليها من جميع الجهات، وما قدروا يأخذوها. وأنا قويّت دمياط، وملأتها ذخائر من كل شىء، يكفيها عشرين سنة، مع ما كان عند أهلها من الذخائر. واكشف من الديوان يعرّفوك ما كان فيها من الخيرات. وقويّتها بجميع عسكر الديار المصرية، من فارس وراجل، ونقدى، وما خليت لها عذر، حتى بقيت وحدى فى أشموم بسبب المرض.

فلما أن أقبل العدو وشاهدوه وطلبوا البرّ بالحراريق، انهزموا وسلّموا لهم البرّ، واشتغلوا بالنساء ونقلهم من دمياط، وهربت العوامّ وتبعهم الأجناد. وكان المقدّم عليهم الأخ فخر الدين ساق خلفهم وردّهم، وجعل على أبواب دمياط كل باب أمير. فلما أصبح، ما وجد فى المدينة أحد. هربوا الكنانية فى الليل، وكسروا الخوخ «1» ونزلوا من السّور، وتركوا أموالهم وذخائرهم نهبوها المسلمين بعضهم بعض. وأخلوا دمياط، حتى أخذتها الفرنج ثانى يوم. وهذا كله بقضاء الله وقدره.. واصبر تنال ما تريد. وهذا العدو المخذول، إن عجزت عنه، وخرجوا من دمياط وقصدوك، ولم يكن لك بهم طاقة وتأخّرت عنك النّجدة، وطلبوا منك الساحل وبيت المقدس وغزّة وغيرها من الساحل- أعطيهم ولا تتوقّف، على أن لا يكون لهم فى الديار المصرية قعر قصبة. وإن نزلوا منزلة من تقدّمهم من العدوّ قبالة المنصورة، فرتب العسكر يكونوا ثابتين خلف السّتاير مع البحر، ليل ونهار. فهم ما لهم زحف إلا بالشّوانى «2» ، فقوّوا الشّوانى، كيفما قدرتم. واجهدوا أن يكون بعض الحراريق «3» على بحر المحلّة من خلف مراكبهم، تقطع عنهم الميرة. وهو يكون- إن شاء الله- سبب هلاكهم. فتلك المرّة ما انتصر الشهيد- رحمه الله- عليهم إلا من بحر المحلّة.

وتكون العرب مع الخوارزمية مع ألفين فارس بينهم وبين دمياط. واستخدم، الفارس والراجل. وأنفق الأموال ولا تتوقف. وإن كان الشّرق لا ينجدوك لأجل الناصر وإسماعيل، واشترطوا أن تردّ عليهم بلادهم، ورأيت الغلوبيّة، ولا بدّ من ذلك وإلا ذهب الملك- فالضرورات لها أحكام. إعلم- يا ولدى- أن الديار المصرية هى كرسىّ المملكة، وبها تستطيل على جميع الملوك. فإذا كانت بيدك، كان بيدك جميع الشّرق. ويضربوا لك السّكّة والخطبة. فاتّفق أنت والأخ فخر الدين، وأرضى الناصر «1» بما يطيب به قلبه. فالناصر ما أخرجه من يدى إلا تغيّرى عليه، بسبب أوراق كانت تصل إلىّ عنه أنه فعل وصنع. وكشفت عن ذلك، ما رأيت لها صحّة. فلما انقطع رجاه منىّ لتغيّرى، استند إلى إسماعيل وابن ممدود، وجرى منهم ما جرى. كل ذلك من إسماعيل وابن ممدود، وهو يشاركهم فى جميع ما يفعلوه. وأما الذى فعله معى على نابلس فما كان إلا مصلحة عظيمة، أنا أشكره عليها. طلع بى الكرك إلى أن ذهبت أيام القطوع. لولا ذلك أخذنى إسماعيل «2» ، لأنه ضيّق علىّ أرض الشام بالعسكر فى طلبى، فما فعل فى حقى إلا خير. فهو كان السبب فى خروجى، فى الوقت الذى كان قدّر الله بتوجهى فيه إلى الديار المصرية بالملك. فلا يضيع له هذا القدر.

وكنت نويت له كلّ خير. فإن حصل بينكما اتّفاق، وصفت نيّته فى محبتك، ووفى لك باليمين، فخاطرك به مستريح فى أمر الساحل. فما ذنوبه عندى ذنوب إسماعيل، الذى بارزنى، وأخذ منّى دمشق، واعتقل ولدى، وفعل فى حقّى ما فعل، وأعطى الساحل والحصون التى فيه لعدوّ الدّين، واستعان بالكفر «1» علىّ، وعلى أخذ بلادى. فارضيه بشىء يستعين به: بصرى مع السّواد، ولا تعطى له قلعة بعلبك. وتحسن إلى أولاده وأهله، وينفذوا إليه. فالله يقابل المسىء، ويجازى المحسن وأطلق المحتبسين كلهم، إلا من كان له تعلّق فى قبض عمك، أو مفسد فى الدولة. فإن قدّر الله لك بالنصر على هذا العدوّ المخذول «2» ، وأخذت دمياط- إن شاء الله تعالى- ابنى باشورة «3» تكون طول قامة، وبسطة بشراريف، ومرامى من فوق وأسفل، وتكون الباشورة عرّض يتمكّن القتال عليها، إما بالحجر أو بالطوب الأحمر، ويكون لها سلالم، بين كل سلّم وسلّم ثلاثين خطوة. تعمل هذه الباشورة من قبالة برج السّلسلة، قريب من الماء البحر إلى البرزخ، إلى المكان الذى نزلوا فيه الفرنج، وفوق منه بثلاث رميات نشّاب. ومن آخر هذه الباشورة تحفر خندق، من البحر المالح إلى البحر الحلو، مثل ما حفره الشّهيد «4» تلك المرّة، بحيث إذا جاء العدو

لا يقدر على الماء الحلو، ولا يبقى له منزلة ينزل فيها. وبين كل سلمين لعبتين يرموا بالحجارة، والعسكر تقاتل من على الباشورة والمنجنيق والرّماة ترمى من خلف الباشورة من المرامى، ما يقدر أحد يقرب البر. وعجبت كيف غفل عن هذا الشهيد- رحمه الله- وعمل قلعة. فهذه الباشورة فيها ألف مصلحة قسّطها على الأمراء وعلى بيت المال والأسرى الفرنج تعمل فيها. واجتهد فى عملها تأمن على دمياط وتستريح وإن لم يخرج العدوّ من دمياط وتطاول الأمر ينتظروا نجدة تصل إليهم، ازحف عليهم من برّ دمياط ومن برّ البرزخ، بالفارس والراجل وبالشّوانى من البحر، لعل أن تملكوا برّ البرزخ. فإذا ملكتوه ملكتم فم البحر، ومنعتوا أن يدخل إليه مركب، أو يخرج. ويا ولدى: قلّدت إليك أمور المسلمين، فافعل فيهم ما أمرك الله به ورسوله. يا ولدى إياك والشّرب، فإن جميع الآفات ما تأتى على الملوك إلا من الشّرب. ولا تخالفنى تندم، وتدخل عليك العارض «1» . فما يسقيك إلا من تأمن إليه، ولا يدخل عليك العارض إلا من القريب. يا ولدى: وامنع المسلمين والنصارى أن يعصروا الخمر. وطهّر العساكر من القحاب، والمدن. ولا تجلس مع من يشرب، فيزين لك الشيطان فتشرب، فتكون قد خالفتنى، وتدخل عليك العارض. وأنا قد جرّبت الأشياء ووقعت فيها، وتحقّقت الخطأ من الصواب، وندمت وقت لا ينفع الندم. فاجتنب يا ولدى ما حذّرتك منه. فقد أخبرك مجرّب صادق، مشفق عليك

وانظر يا ولدى فى ديوان الجيش. فهم الذين أفسدوا البلاد وأخربوها- وهم النّصارى- أضعفوا العساكر، وكأن البلاد ملكهم يبيعوها بيع. إذا كتب منشور لأمير يأخذوا منه المائتين وأكثر، ومن الجندى من المائة ونازل. ويكون الجندى خبزه «1» ألف دينار يفرقوا خبزه فى خمس ست مواضع: فى قوص وفى الشرقية وفى الغربية، فيريد الجندى أربع وكلاء، يروح الخبز للوكلا. ومتى يحصل للجندى من خبزه شىء، إذا كان مثلا فى بيكار «2» ويقاسى العليقة بثلاثة نقرة «3» ، كيف يكون حاله؟ يخرب بيته ويهلك! فهذا سبب هلاك الجندى. والنصارى يقصدوا هذا، لخراب البلاد وضعف الأجناد، حتى تروح منا البلاد. وجندى يحصل له وجندى ما يحصل له شىء أصلا. تردّ عبرة البلاد «4» إلى ما كانت عليه فى زمن صلاح الدين- رحمه الله. والجندى لا يكون خبزه مفرّق، بل فى موضع أو موضعين قريبين. فتعمر البلاد ويقوى الجندى ويقوى الفلاح. فإذا كانوا جماعة فى بلد، وكل أحد يخرب من ناحية ويجور المقطعين على الفلّاحين، تخرب البلاد. وهذا كله فعل النصارى.

وبلغنى أنهم بعثوا إلى ملوك الفرنج فى الساحل فى الجزائر، وقالوا لهم. أنتم ما تجاهدوا المسلمين، بل نحن نجاهدهم الليل والنهار، بأخذ أموالهم ونستحلّ نساهم، ونخرّب بلادهم ونضعف أجنادهم. تعالوا خذوا البلاد، ما تركنا لكم عاقة. فالعدوّ معك فى دولتك- وهم النصارى. ولا تركن لمن أسلم منهم ولا تعتقد عليه، فما يسلم أحد منهم إلا لعلّة، ودينه فى قلبه باطن كالنار فى الحطب! يا ولدى، أكثر الأجناد اليوم عامّة، وباعة وقزّازين: كل من لبس قباء «1» وركب فرس، وجاء إلى أمير من هؤلاء الترك، وقدم له فرس، ويبرطل نقيبه وأستاذ داره «2» على خبز جندى، من جندى معروف بالشجاعة والحرب- طرده أميره، وأعطى خبزه لذاك العامى الذى لا ينفع وأكثرهم على هذه الحالة. فإذا عاينوا العدو وقت الحاجة هربوا، وينكسروا العسكر. لأنهم ما يعرفوا قتال، ولا هو شغلهم. فينبغى أن لا يستخدم [إلا] من يعرف يلعب بالرمح على الفرس، ويرمى بالنّشّاب والأكرة، وتظهر فروسيته- حينئذ يستخدم. واحفظ يا ولدى ما أقوله لك، فهذا جميعه ما عرّفنى به إلا الأخ فخر الدين، وأخبرنى أنه وقف على كتاب بخط صلاح الدين، أن الفيّوم وسمنّود والسواحل والخراج للأسطول. فالأسطول أحد جناحى الإسلام. فينبغى أن يكونوا شباعا. ورجال الأسطول إذا أطلق لهم كل شهر عشرين

درهم مستمرة راتبه، جاءوا من كل فجّ عميق، ورجال معروفين بالقذف والقتال. وإنما تجو «1» وقت الحاجة تقبضوا ناس مستورين لهم أطفال وبنات، وهو الذى يطعمهم ويسقيهم، تأخذوه فى الأسطول ولا ينفع، تموت أطفاله بالجوع، ويدعو علينا! كيف تنتصر على العدو؟! وتأخذوا إلى البحر عند قبض الأسطول كل يوم ألف دينار، لأنه يقبض من الصبح إلى المغرب، مساتير وبياعين وأرباب معايش، يجو أهاليهم إلى بيت الوالى، كل أحد يزن الذهب ويخلّص نفسه «2» . والفقير الذى ماله قدرة تحدّروه فى المراكب. فقد نبّهت الولد على هذه الأشياء. والأخ فخر الدين عرفنى بهذه الأحوال جميعها. فاسمع ما بقوله لك. الولد يتوصّى بالخدام: محسن ورشيد والخدام المقدّمين، لا تغيرهم. فما قدّمت أحد من الخدام ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته. وأستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم. وكذلك الحسام لا تغيرهم. فإنى أعتمد عليهم فى جميع أمورى. القيمريّة «3» ، الولد لا يسمع كلام بعضهم فى بعض. وناصر الدين عند كذب وخبث. وما باطنه جيّد. وقد عرّفت الأخ فخر الدين الرّسل الذى مسكوا من دمشق إلى حلب من عنده. والحسام يكون بمفرده لا حلّ ولا ربط. وضيا الدين القيمرى، إن احتاجوا إلى أن يخرج عسكر إلى جهة من الجهات، يكون مقدّم. وناصر الدين أرجل لا يخرج مع عسكر.

وسيف الدين القيمرى تعمل معه ما يقرّر مع الأخ فخر الدين، يكون مقدّم العسكر فى دمشق. وابن يغمور مشدّ «1» ، وناصر الدين على المظالم. فابن يغمور يصلح يكون مشدّ ووالى وجابى الأموال، ولا يصلح يكون مقدّم على عسكر، ولا يصلح لجنديه. ولا تؤمن إليه كل الأمن. بل تمشّى به الحال فى مكان مدة، ثم ينقل إلى غيره. وهو بالكتّاب أليق. وكذلك قرائب فخر الدين عثمان كلهم لا يصلحوا لجندية. ابن العزيز الرأى عندى أن تؤخذ جماعته، ويبقى هو ومماليكه بمفردهم، ويقطع له ولمماليكه، وحاشيته ودوره، ما يقوم بهم من خاصة. فالأخ فخر الدين يعرف ما جرى منه، فهو نحس مفسد مخسخس. وقد عرف الأخ فخر الدين حاله وما جرى منه فى دمياط وغير دمياط، فما يصلح لصالحة. متولّى ديوان الأحباس «2» اصرفه. وولىّ ابن النّحوى، فقد سألنى المتصدرين ذلك. وطرائق بن الجباب غير صالحة. والوكيل اصرفه. وولىّ ابن الفقيه نصر، فهو رجل جيّد فقيه عنده خوف من الله. وقد عيّنت فى ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدّمهم، تعطى لكل واحد كوس «3» وعلم، وتحسن إليهم. وتتوصّى بالمماليك غاية الوصية. فهم الذى كنت أعتمد عليهم، وأثق بهم. وهم ظهرى وساعدى. تتلطّف بهم، وتطيّب قلوبهم، وتوعدهم بكل خير. ولا تخالف وصيتى. ولولا المماليك ما كنت قدرت أركب فرس، ولا أروح إلى دمشق، ولا إلى غيرها. فتكرمهم وتحفظ جانبهم.

فهذه وصيتى إليك، فاعمل بما فيها ولا تخالف وصيتى. وكل يوم طالعها، واقف عليها. ولا تعمل شىء دون أن تشاور الأخ فخر الدين. والله يقدر بما فيه الخير- إن شاء الله تعالى. يا ولدى، إن ألزموك- الحلبيين- أن تدفع الكرك «1» إلى الناصر، فأعطه الشّوبك. وإن لم يرض زده من الساحل، حتى يرضى. ولا تخرج الكرك من يدك. الله الله احفظ وصيتى. فلا تعلم ما يكون من هذا العدو والمخذول، لعله- والعياذ بالله- أن يتقدم إلى مصر يكون ظهرك الكرك، تحفظ فيه رأسك وحريمك، فمصر ما لها حصن. ويجتمع عندك العسكر وتتقدم إليهم، تردهم عن مصر. وإن لم يكون لك ظهر مثل الكرك، تفرقت عنك العساكر. وقد عزمت أن أنقل إليها المال والذخائر والحرم، وكل شىء أخاف عليه، واجعلها ظهرى. والله ما قوى قلبى واشتد ظهرى، الا لما حصلت فى يدى. الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه- وآله وصحبه- وسلامه هذا آخر ما تضمنه كتاب الوصية. وقد نقلته بنصّه وهيئته- على ما فيه من لحن فى بعض ألفاظه، ونقص ألفات فى بعضه. ولم يعتمد الملك المعظم ما أوصاه به، ولا رجع إليه ولا عرّج عليه، بل خالفه فى جميع ما تضمنته وصيته. وكان من أمره، وزوال ملكه، ما نذكره.

ولنرجع إلى سياقة أخبار الملك المعظم: قال: ولما وصل إليه الأمير فارس الدين، وهو بحصن كيفا، رحل وسلك البرّيّة «1» . وأخفى أمره عن الملوك المجاورين له. خشية من غائلتهم. وترك بالحصن ولده الملك الموحد، وسار حتى انتهى إلى دمشق. فكان وصوله إليها فى يوم السبت، سلخ شهر رمضان، سنة سبع وأربعين وستمائة. وعيّد بها عيد الفطر. وخلع وأنعم على الأمراء، وأقرّ الأمير جمال الدين موسى بن يغمور على النّيابة بدمشق. وأفرج عن كل من كان فى حبس والده. قال أبو المظفر: وبلغنى أنه كان بدمشق ثلاثمائة ألف دينار، فأخذها صحبته، وتجهز إلى الديار المصرية وكان رحيله من دمشق فى الخامس والعشرين من شوال، منها. وكان سبب تأخره بدمشق، هذه المدة، أن الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ كان قد سيّر إليه جماعة من المماليك الصالحية. يستحثه على سرعة الحضور فأوهمه بعضهم أن فخر الدين حلّف العساكر لنفسه. وأنه متى حضر قتله، واستقلّ بالأمر. فأنفق الملك المعظم الأموال بدمشق. واستحلف العساكر. وحلّف المماليك الذين حضروا من جهة الأمير فخر الدين، على قتل فخر الدين. فحلفوا له. فاتفق قتل فخر الدين قبل وصول الملك المعظم، كما تقدم. وجهز الملك المعظم كاتبه- معين الدين، هبة الله بن أبى الزّهر حشيش- إلى قلعة الكرك، فى مستهل ذى القعدة فحقّق ما بها من الأموال

ذكر عدة حوادث كانت فى سنة سبع وأربعين وستمائة، غير ما تقدم

والذخائر، وحمل إليه من حاصلها مائتى ألف دينار، عينا، مما كان الملك الصالح قد نقله إليها. ولحق معين الدين السلطان إلى الرّمل «1» . وكان نصرانيا فوعده بالوزارة، فأسلم. ووصل السلطان إلى العساكر الديار المصرية، بمنزلة المنصورة- فى يوم الثلاثاء سابع عشر ذى القعدة، من السنة. ولما وصل، وضع يده على ما سلم من تركة الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ، وأخذ مماليكه الصغار، وبعض قماشه- وثمّن ذلك بخمسة عشر ألف دينار- وهى دون نصف القيمة، فيما قيل. ولم يعوّض الورثة عن ذلك شيئا، فإنه قتل قبل ذلك. ذكر عدة حوادث كانت فى سنة سبع وأربعين وستمائة، غير ما تقدم فى هذه السنة تأمّر بمكة- شرّفها الله تعالى- أبو سعد على بن قتادة، وذلك فى العشرين من ذى القعدة. وفيها قتل الأمير شيحه، صاحب المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وولى بعده ولده عيسى بن شيحه. وفيها فى خامس عشر شعبان، توفى الطّواشى مسرور بالقاهرة، ودفن بتربته بالقرافة.

واستهلت سنة ثمان وأربعين وستمائة:

وفيها توفى الشيخ صالح أبو الحسن على، بن أبى القاسم بن عربى بن عبد الله، الدّمياطى، المعروف بابن قفل- فى يوم الأحد الرابع والعشرين من ذى الحجة، برباطه بالقرافة، وبه دفن. وفيها توفى شهاب الدين ابن قاضى دارا «1» . وكان من النّظّار فى الدولة الكاملية، وبعدها. ولى نظر الأعمال القوصيّة. «2» وكان السلطان الملك الكامل يكتب إليه بخطّه، ويأمره وينهاه. ويقال إنه كان من ظلمة النّظّار، يضرب بظلمه المثل. سامحه الله- وإيانا بكرمه. واستهلّت سنة ثمان وأربعين وستمائة: ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم ريدا فرنس قال المؤرّخ: لما وصل السلطان الملك المعظم إلى المنصورة، كان ملك الفرنج ريدا فرنس «3» - بعساكره وجموعه- بالجزيرة التى قبالة المنصورة، وهى الدّقهلية. فرحل بمن معه طالبا دمياط. وذلك فى ليلة الأربعاء، مستهل المحرم، من السنة.

فتبعته عساكر المسلمين إلى فارس كور «1» ، وقاتلوه قتالا شديدا وأخذوه أسيرا- هو وأخوه- واستولوا على عساكر الفرنج، وقتلوا منهم زيادة عن عشرة آلاف فارس. وأسر من الخيّالة والرّجّالة ما يناهز مائة ألف. وجىء بريدا فرنس وأخيه إلى المنصورة، فاعتقلا فى دار فخر الدين بن لقمان «2» بها. ورتّب السلطان الأمير فخر الدين الطّورى «3» لقتل أسرى الفرنج فكان يقتل منهم فى كل ليلة ثلاثمائة نفر، ويرميهم فى البحر. وكتب السلطان الملك المعظم- كتابا بخطّه إلى الأمير جمال الدين موسى ابن يغمور النائب بدمشق، مضمونه بعد البسملة: «ولده تورانشاه. الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن. وما النصر إلا من عند الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وأما بنعمة ربك فحدّث. وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. يبشّر المجلس السامى الجمالى- بل يبشّر الإسلام كافّة- بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بعدوّ الدين. فإنه كان قد استفحل أمره، واستحكم شرّه، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد. فنودوا: لا تيأسوا من روح الله.

ولما كان فى يوم الأربعاء- مستهلّ السنة المباركة- تمّم الله على الإسلام بركاتها- فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرّقنا السّلاح، وجمعنا العربان والمطّوّعة «1» ، واجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، وجاءوا من كل فجّ عميق، ومن كل مكان بعيد سحيق. ولما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح، على ما وقع الاتفاق بينهم وبين الملك الكامل، فأبينا. ولما كان الليل، تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، ونحن فى آثارهم طالبين. وما زال السيف يعمل فى أدبارهم، عامّة الليل. وحلّ بهم الحرب والويل. فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفا، غير من ألقى نفسه فى الّلجج. وأما الأسرى فحدّث عن البحر ولا حرج. والتجأ الإفرنسيس إلى المنية «2» ، وطلب الأمان فأمّنّاه، وأخذناه وأكرمناه. وتسلّمنا دمياط بعون الله تعالى، وقوته وجلاله وعظمته. وذكر كلاما طويلا.

وبعث مع الكتاب غفارة «1» ريدا فرنس إلى الأمير جمال الدين، فلبسها. وهى اسقلاط «2» أحمر، تحته سنجاب «3» ، وفيها شكل يكلة «4» ذهب. فنظم الشيخ نجم الدين محمد، بن الخضر بن إسرائيل، مقطّعات ثلاثا، ارتجالا، وهى: إن غفارة الفرنسيس التى جا ... ءت حباء لسيّد الأمراء كبياض القرطاس لونا، ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدّماء وقال- يخاطب الأمير جمال الدين: يا واحد العصر الذى لم يزل ... يجوز فى نيل المعالى المدا لا زلت فى عزّ وفى رفعة ... تلبس أسلاب ملوك العدا

ذكر مقتل السلطان الملك المعظم

وكتب عن الأمير جمال الدين مقدّمة كتاب، للسلطان: أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجّزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده ولما وصل هذا الكتاب بهذه البشرى، اجتمع عوامّ دمشق فى العشرين من المحرم ودخلوا كنيسة مريم بالمغانى والبشائر، وهمّوا بهدمها. وأما النصارى ببعلبك فيقال إنهم سوّدوا وجوه الصّور، التى فى كنائسهم، حزنا على هذه الحادثة. فعلم بهم متولّى البلد، فجنّاهم جناية شديدة «1» ، وأمر اليهود بصفعهم وضربهم وإهانتهم. وفيها نفى السلطان الملك المعظم الملك السعيد مجير الدين حسن، بن الملك العزيز عثمان، بن الملك العادل- وهو ابن عم أبيه- من الديار المصرية إلى الشام. ووصل إلى دمشق، واعتقل بعزّتا «2» ثم أفرج عنه، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى. ذكر مقتل السلطان الملك المعظم كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من المحرّم، سنة ثمان وأربعين وستمائة.

وسبب ذلك أنه لما ملك شرع يبعد مماليك والده وغلمانه وترابيه، ويقرّب غلمانه الذين وصلوا معه من بلاد الشرق وجعل خادمه الطواشى مسرور أستاد داره «1» ، والطّواشى صبيح أمير جاندار «2» - وكان عبدا حبشيا فحلا- وأمر أن يصاغ عصاة من ذهب، وأنعم عليه بالأموال والإقطاعات. وتوعد جماعة من مماليك والده، وأهانهم. وكان يسميهم بأسمائهم، من غير أن ينعت أحدا منهم. وكان قد وعد فارس الدين أقطاى بالإمرة، فلم يف له. فاستوحش منه. وكانت والدة خليل- سرّيّة أبيه- قد توجهت إلى القلعة لمّا وصل إلى الشام، فأرسل إليها يتهدّدها، ويطلب منها الأموال والجواهر. فيقال إنها خافته، وكتبت إلى المماليك الصالحية بسببه. فاجتمع منهم جماعة، واتفقوا على قتله. فلما كان يوم الإثنين- سادس أو سابع عشرين المحرم، جلس السلطان على السّماط، واجتمع الأمراء على العادة. فلما تفرقوا، تقدم أحد مماليك والده، وضربه بالسيف. فالتقى الضربة بيده، فانهزم الضارب فقام السلطان، ودخل إلى برج خشب كان فى خيمته، وقال: من ضربنى؟ قالوا: الحشيشيّة «3» . فقال: لا والله،

إلّا البحريّة «1» ! والله لا أبقيت منهم بقيّة! وقد عرفت الضارب واستدعى الجرائحىّ «2» ليخيط يده فاجتمع الجماعة الذين اتفقوا على قتله، وهجموا عليه، وبأيديهم السيوف مجذوبة. فهرب إلى أعلى البرج، وأغلق بابه. فحرقوه بالنار، فنزل من البرج، وهرب إلى البحر. فأدركوه، وضربوه بالسيوف! فرمى نفسه فى البحر، وهو يستغيث بهم. وتعلق بذيل أقطاى، واستجار به، فما أجاره. وهو يقول: دعونى أعود إلى الحصن، فو الله ما أريد الملك. وهم لا يلتفتون إلى قوله. وقتلوه فى الماء، فمات قتيلا حريقا غريقا! وكانت مدة سلطنته واحدا وسبعين «3» يوما. وانهزم أصحابه الذين وصلوا صحبته من الشّرق، واختفوا. وكان الذين باشروا قتل الملك المعظم، من مماليك أبيه، أربعة حكى عن سعد الدين مسعود، بن تاج الدين شيخ الشيوخ، أنه قال: أخبرنى صادق أن السلطان الملك الصالح، لما أمر الطّواشى محسن الخادم بقتل أخيه الملك العادل- أمره أن يأخذ معه من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جميع المماليك، فامتنعوا بأسرهم. إلا هؤلاء الأربعة، فإنهم أجابوه وتوجهوا معه، وخنقوا الملك العادل. فسلّطهم الله تعالى على ولده الملك المعظم؟؟؟، فقتلوه

ذكر ملك شجر الدر: والدة خليل سرية الملك الصالح نجم الدين أيوب

قال أبو المظفّر يوسف سبط ابن الجوزى: وحكى لى العماد بن درباس، قال: رأى جماعة من أصحابنا الملك الصالح نجم الدين فى المنام، وهو يقول: قتلوه شرّ قتله ... صار للعالم مثله لم يراعوا فيه إلّا «1» ... لا، ولا من كان قبله ستراهم عن قليل ... لأقلّ الناس أكله والملك المعظم هذا هو آخر ملوك الدولة الأيوبية، بالديار المصرية، المستقلين بالملك. وملكت بعده شجر الدّر. ذكر ملك شجر الدر: والدة خليل سرية الملك الصالح نجم الدين أيوب قال: ولما قتل الملك المعظم، اتفق الأمراء الصالحية والبحرية على إقامة شجر «2» الدّرّ- سرّيّة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب- وحلفوا لها، واستحلفوا جميع العساكر الشامية والمصرية.

ذكر استعادة ثغر دمياط من الفرنج وإطلاق ريدا فرنس

وكانت المناشير والتّواقيع تخرج باسمها. ويكتب عليها ما صورته: والدة خليل. ويكتب الموقّع: خرج الأمر العالى المولوى السّلطانى الخاتونى الصالحى، الجلالى العصمى الرّحيمى- زاده الله شرفا ونفاذا. وقد شاهدت منشورا منها، هذه ترجمته. وتواقيعها موجودة بأيدى الناس، إلى وقتنا هذا. وخطب باسمها على المنابر. واستقّر الأمير عز الدين أيبك- التّركمانى الصالحى- أتابك العساكر. ذكر استعادة ثغر دمياط من الفرنج وإطلاق ريدا فرنس قال: ثم حصل الاتفاق بين الأمراء وريدا فرنس- ملك الفرنج- على أن يسلّم ثغر دمياط، ويحمل إليهم وظيفة «1» تقرّرت بينهم، ويطلقوه. فسلّم إليهم الثّغر فى يوم الجمعة، ثالث صفر، سنة ثمان وأربعين وستمائة. وتوجه هو- وأخوه وزوجته، ومن بقى من الفرنج- إلى بلادهم. فكانت مدة استيلائهم على الثّغر أحد عشر شهرا، وتسعة أيام. ذكر خلع شجر الدّرّ نفسها من الملك وانقراض الدولة الأيوبية من الديار المصرية كان سبب ذلك أن الأمراء اتفقوا على أن يتزوج الأمير عز الدين أيبك التّركمانى شجر الدر، فتزوجها، وخلعت نفسها من الملك، وسلّمت

[الأيوبيون فى غير الديار المصرية]

السّلطنة إليه- فى التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة. وكانت مدة ملكها ثلاثة أشهر وقد قيل إن زواجه بها كان فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وانتصب الأمير عزّ الدين فى السلطنة، وتلقّب بالملك المعزّ. وأقام معه الملك الأشرف: مظفّر الدين موسى، بن صلاح الدين يوسف، بن الملك المسعود صلح الدين أقسيس ملك اليمن، بن الملك الكامل- وكان عمره ست سنين. فأقام على ذلك زمنا، ثم حجبه الملك المعزّ، واستقلّ بالملك. وانقرضت الدولة الأيوبية من الديار المصرية. [الأيوبيون فى غير الديار المصرية «1» ] وبقى من ملوكها من نذكرهم: بالشام، وحصن كيفا، ونصيبين، وميّافارقين. وهم: الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز غياث الدين محمد، بن الملك الظاهر غياث الدين غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادى- صاحب دمشق وحلب وحمص، وما مع ذلك

وليس من الذّرّيّة الصّلاحيّة من يخطب له بمملكة، سواه. ومن الذّرّيّة العادلية من نذكرهم، وهم: الملك المغيث فتح الدين عمر، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب- صاحب الكرك والشّوبك. والملك الموحّد: تقىّ الدين عبد الله، بن الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن الملك الصالح نجم الدين أيوب- صاحب حصن كيفا ونصيبين، وأعمال ذلك. والملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك المظفّر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب- صاحب ميّافارقين. ومن الذّرّيّة الأيوبية: الملك المنصور ناصر الدين محمد، بن الملك المظفر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور محمد، بن الملك المظفر تقى الدين أبى سعد عمر، بن شاهنشاه، بن أيوب- صاحب جاه. هؤلاء بنو أيوب ومن الذرية الأسدية: شيركوه بن شادى الملك الأشرف مظفر الدين موسى، بن الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك

أما السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز، بن الملك الظاهر، ابن الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب - فإنه كان بيده ملك حلب وأعمالها

المنصور أسد الدين شيركوه، بن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى- صاحب تل باشر والرّحبة. وسنورد فى هذا الموضع نبذا من أخبارهم، تدل على ملخّص أحوالهم، إلى حين وفاة كل منهم، ومن قام بعده من أولاده، إن كان- على سبيل الاختصار. أما السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز، بن الملك الظاهر، ابن الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- فإنه كان بيده ملك حلب وأعمالها ملك ذلك بعد وفاة والده الملك العزيز- كما تقدم- فى سنة أربع وثلاثين وستمائة. ثم استولى على حمص، فى سنة ست وأربعين وستمائة: انتزعها من الملك الأشرف موسى، بن الملك المنصور إبراهيم، بن شيركوه، وعوّضه عنها تلّ باشر- وقد تقدم أيضا. ثم استولى على دمشق. ذكر استيلاء الملك الناصر على دمشق وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة- بعد مقتل الملك المعظم تورانشاه- تجهز الملك الناصر من حلب بعساكره، فوصل إلى قارا «1» فى مستهل شهر ربيع الآخر.

وسبب ذلك أن الأمراء القيمرية، «1» الذين بدمشق، كاتبوه وباطنوه على أخذها فإن الأمير جمال الدين موسى بن يغمور- نائب السلطنة بها- اتفق هو والأمراء الصالحية النّجميّة، الذين كانوا بدمشق، وتظافروا، واجتمعت كلمتهم فتغيرت بواطن الأمراء القيمريّة، فكاتبوه، فسار إلى دمشق. ولما اتصل خبر مقدمه بالأمير جمال الدين بن يغمور، أحضر الملك السعيد بن الملك العزيز عثمان، من قلعة عزّتا «2» إلى دمشق- وكان قد اعتقله بها- كما تقدم، وأنزله فى دار فرّخشاه. وتقدم الملك الناصر بعساكره، ونزل القصر. ثم انتقلوا إلى داريّا «3» ، فى يوم السبت سابع الشهر. وزحفوا على المدينة يوم الأحد ثامنه، وجاءوا إلى باب الصغير- وكان مسلّما إلى الأمير صارم الدين القيمرى، وإلى باب الجابية وكان مسلّما إلى الأمير ناصر الدين القيمرى. فلما انتهى العسكر الناصرى إلى البابين، كسرت أقفالها من داخل المدينة، وفتح البابان، ودخل العسكر الناصرى منهما. ونهبت دار الأمير جمال الدين، بن يغمور، وسيف الدين المشدّ ونهب عسكر دمشق، وأخدب خيولهم من إسطبلاتهم. ودخل الأمير جمال الدين بن يغمور القلعة، وبها الملك المجاهد إبراهيم، ثم نودى بالأمان

ونزل الملك الناصر فى دهليز «1» ضرب له بالميدان الأخضر. ونزل الأمير شمس الدين لؤلؤ- أتابكه- فى الجوسق «2» العادلى. ثم انتقل الملك الناصر بعد ذلك إلى القلعة، واستولى على ما بها من الخزائن والذخائر. واعتقل الأمير جمال الدين بن يغمور، ثم أفرج عنه وأحسن إليه. واعتقل الأمراء الصالحية، وأرسلهم إلى الحصون، وأقطع أصحابه أخبازهم «3» وكان الملك الناصر داود- بن الملك المعظم- قد نزل بالعقيبة «4» ، فجاءه الملك السعيد بن الملك العزيز عثمان، فبات عنده ليلة. ثم هرب إلى قلعة الصبيبة «5» - وكان بها أحد خدامه، وقد كاتبه- فوصل إليها وفتح له الباب، فدخلها واستقرّ بها. وتسلّم الملك الناصر داود بعلبك من الحميدى، وتسلم بصرى وصرخد. ثم قبض عليه الملك الناصر يوسف بعد ذلك- فى ثانى شعبان من السنة. وذلك أن السلطان كان قد مرض ونزل بالمزّة «6» ، ونزل الناصر داود بالقصر بالقابون «7» ، فأرسل إليه الأمير ناصر الدين القيمرى ونظام الدين بن المولى، فأحضراه إلى المزّه، وضربت له خيمة واعتقل بها.

واختلف فى سبب القبض عليه: فنقل أنه كان قد طلب من السلطان دستورا إلى بغداد، فأذن له وأعطاه أربعين ألف درهم، فانفقها فى الجند وعزم على قصد الديار المصرية. وقيل: إن الملك الصالح إسماعيل جاءه كتاب من الديار المصرية، فأوقف الأتابك شمس الدين لؤلؤ عليه. وأخبر القاصد أنه أحضر إلى الناصر داود كتابا، فسئل عن ذلك، فأنكره. فنقم عليه السلطان بسبب ذلك. وقيل: بل أشار عليهم الملك الصالح إسماعيل بالقبض عليه، وقال أنتم ما تعرفونه، نحن نعرفه. وأنتم على قصد الديار المصرية، والمصلحة أن لا نتركه خلفنا، ولا نستصحبه. فقبض عليه، واعتقل بالمزّة أياما. ثم نقل فى قلعة حمص، واعتقل بها. وأسكن أهله ووالدته وأولاده فى خانقاه الصوفية، التى بناها شبل الدولة كافور الحسامى. ثم نقل إلى البويضا- وهى قرية قبلىّ دمشق، كانت تكون لعمّه الملك المعزّ مجير الدين يعقوب بن العادل. وتوفى بها، كما تقدم.

ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد، وما جهزه صحبته من الهدايا والتقادم، وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه

ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد، وما جهزه صحبته من الهدايا والتقادم، وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه ولما استولى الملك الناصر على دمشق، جهز الصاحب كمال الدين أنا حفص عمر بن أبى جراده- المعروف بابن العديم «1» إلى الديوان العزيز «2» . قال تاج الدين على بن أنجب- المعروف بابن السّاعى- فى تاريخه: كان وصول كمال الدين بن أبى جراده إلى بغداد، فى شعبان، سنة ثمان وأربعين فأكرم، وخرج إلى لقائه موكب الديوان العزيزى، مصدّرا بعارض الجيش، مجنّحا بخادمين من خدم الدار العزيزة. فالتقاه ظاهر البلد، ودخل معه. وقبّل صخرة باب النّوبى على العادة، وانكفا إلى حيث أنزل

وحضر- فى اليوم الثالث من قدومه- دار الوزير، وأدى رسالته. وعرض ما صحبه من تحف وهدايا. ومن جملة ذلك: دار خشب بديعة الصنعة، وخمسة وعشرون «1» جملا، وعشرة أرؤس من الدواب: منها أربع بغلات، وبقيتها من جياد الخيل، مجلّلة بالأطلس [وزرديات «2» وخوذ- عمل الفرنج- ومائة وخمسين طقشا «3» ، وثلاثمائة ترس لليد، وعشرين ثوبا سقلاط «4» . ومن الثياب: الأطلس] والرّوسى والخطائى «5» والمموّج، ومقاصير ونقايير وخياشى مذهبة، وحريرى ألف وخمسمائة قطعة، وصناديق بها أوانى ذهب وفضة مجوهرة، وثلاثمائة مجلّد بخطوط منسوبة، وأصول صحيحة الضّبط، ومصحف كريم بخط ابن الخازن، وكتب عليه من نظمه قوله: «وعليكم نزل الكتاب وفيكم ... وإلى ربوعكم نحنّ ونرجع»

قال: وكان قد جلس له الوزير فى الشّبّاك العالى، وجلس بين يديه على الصّفّة الطويلة، ظاهر الشباك، حاجبا باب النّوبى- وذكر جماعة. قال: ثم أذن للرسول فى الدخول، وجلس إلى جانب حاجب باب النّوبى. وقرأ القرّاء، ثم نهض الرسول، وخطب خطبة بليغة من إنشائه قال ابن أنجب: وكنت حاضرا ومن خطّه الرائق نقلتها، وهذه نسختها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * الحمد لله الذى أسبغ علينا جزيل النّعمة. ودفع عنا وبيل النّقمة. ومنّ علينا بالخلفاء الراشدين، والأئمة المهديّين وجعلنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بأنوارهم خير أمّة. أحمده على هباته السنيّة، وصلاته الهنيّة، ومننه التى لا تحصى بحدّ ونعمه التى لا تستقصى بعدّ- حمد من لزمه الحمد ووجب. وتمسك من الطريقة المثلى بأقوى سبب. وأحلّنا الله دار المقامة من فضله، لا يمسّنا فيها نصب. وأشهد أن لا إله الله وحده، شهادة من أزال عنه الشكّ ونفى، وخلص منه الإيمان وصفا. وتبوّأ من منازل الفوز غرفا، واكتسب بطاعة إمامه فخرا وشرفا. وأشهد أن محمدا عبده المصطفى المجتبى، ورسوله

الذى اقتعد ذروة الشّرف واحتبى. وتبّوأ على المقامات رتبا، وفضل العالمين أصلا ونسبا- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما هبّت شمال وصبا. والصلاة والسلام على قسيم النّبىّ فى النّسب، وشريكه فى مدارج الفخار والرّتب. واحدىّ ماله من المناقب والحسب: خليفة الله فى أرضه. القائم بسننه وفرضه. المستخرج من عنصر النبوة، المخصوص بفضيلتى. العلم والأبوة: إمام الزمان، المتهجّد بتلاوة القرآن. الذى هجر فى حفظ دين الله وسنه «1» . ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. ذى الفضل المبين، والحقّ اليقين. الإمام الأوّاه: المستعصم بالله، أمير المؤمنين «2» لا زالت جباه الملوك العظماء بثرى عتباته الشريفة موسومة. وأرزاق العباد بما جرى من أوامره اللطيفة مقسومة. والأقضية والأقدار جارية بما يوافق حكمه ومرسومة. والأقذية والأقذار بطول بقائه منفيّة محسومة: ماذا يقول الذى يتلو مدائحه ... وقد أتتنا بها الآيات والسّور إن قال، فالقول يفنى دون غايتها ... وإن أطال، ففى تطويله قصر خليفة الله، لا تحصى مناقبكم ... إنّ البليغ بها فى حصرها حصر «3»

أما الشفاعة عنكم فى المعاد لنا ... لذى الكبائر والزّلّات تدّخر أما النّدى من نداكم جاد صيّبه «1» ... من بعد ما ضنّ، فاستسقى به عمر «2» فالغيث فى هذه الدنيا لنا بكم ... والغوث نرجوه فى الأخرى وننتظر وبعد: فإن الله- وله الحمد- جعل لنا أئمّة خيرة، راشدين بررة. يهتدى بهداهم، ويجتدى «3» نداهم. دفع عنّا الشّبه والياس، ورفع بهم النّقمة والالتباس. وآخر نسل عمّ نبيّه العبّاس. من تمسك بهداهم اهتدى. ومن حاد عن طريقهم حادّ «4» الله واعتدى. بحبّهم يدرك الأمل والسّول. وطاعتهم مقرونة بطاعة الله والرسول. تعظيمهم واجب مفترض وبموالاتهم يدرك الفوز والغرض. أقرب الناس إلى الله من هو فى ولايتهم عريق، وأولاهم بالنجاة من هو فى بحر محبّتهم غريق. ولما كان عبد الديوان العزيز: يوسف بن محمد بن غازى- المستعصمى «5» - ممّن تقمّص بلباس هذه الأوصاف، وتخصص باقتباس هذه الشّيم الشّراف. وتردّى بالتمسك فى هذه الحلّة الجميلة، وتبدّى بالتّنسّك بهذه الخلّة الجليلة. واغتدى متقلّبا فى صدقات الدّيوان. واغتذى

من نعمه بلبان الإحسان، وورث ولاء هذا البيت النبوى الفاخر، كابرا عن كابر، وأصبح أوّلا فى العبوديّة، وإن أمسى زمنه الآخر. وكان أحقّ العبيد بأن يقبل- لسلفه سوالف الخدم. وأولاهم بأن يسبل عليه معاطف أذيال الجود والكرم- أحبّ أن تظهر عليه آثار هذه النّعمة، وأن يدرك بها الفضل فى الدنيا، كما يرجو فى الآخرة الرّحمة. فارتاد من رعيّته من يقوم مقامه فى تقبيل الأرض، ويقف عنه هذا الموقف الجميل لأداء الفرض. ووجد هذا العبد المملوك- الماثل بين يدى مولانا: سلطان الوزراء وسيد الملوك- أقدمهم فى ولايات هذه الدولة النّبويّة المعظّمة أصلا، وأبلغهم فى موالاة المواقف المقدسة المكرمة نسلا، وأصلبهم، عند العجم «1» فى دعوى الرّقّ والولاء عودا. وأثبتهم فى التّعلّق بدولة الحقّ والانتماء عمودا. فندبه إلى المسير إلى دار السلام. والنيابة عنه فى هذا المقام. والطّواف حول كعبة الرجاء والاستلام. وإنهاء ما تجدّد من الأحوال بمصر والشّام. وأن يضرع إلى عواطف الإفضال، ومشارع النّوال. ويخضع لمواقف الآمال، وشوارع الإقبال فى أن يحفظ له حقّ الآباء والجدود. وقد وقف العبد المملوك عنه فى هذا الموقف الجليل، وحجّ عن فرضه إلى كعبة الجود والتّأميل. وحظى باستلم حجر ركنها وفاز بالتّقبيل. ويودّ مرسله لو فاز به أو استطاع إليه سبيل. فإنه قد حصل للعبد من القبول والثواب. ما أفاء على الأمل وزاد على الحساب. وتصدّق عليه من الديوان

العزيز بصدقة، يبقى فخرها فى الأعقاب. ولا ينسخ حكمها مرّ السّنين والأحقاب. والله تعالى يسبغ ظلّ الديوان العزيز على كافّة أوليائه. ويمتّعهم بدوام اقتدار سلطانه وطول بقائه. ويوزعهم «1» شكر مولانا سلطان الوزراء وجزيل آلائه. ويتولّى حسن مجازاته عنهم، فإنهم عاجزون. والحمد لله رب العالمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما. قد سيّر عبد الديوان العزيز: يوسف، إلى الخزائن المقدسة، والمواطن التى هى على التقوى مؤسّسة- خدمة على يد أقلّ مماليك الديوان وعبيده من طارف إنعام الديوان العميم وتليده، وسالف الإحسان القديم وجديده. وهو يضرع إلى العواطف الرحيمة، ويسأل من الصّدقات العميمة، أن ينعم عليه بقبولها، والتّقدّم بحملها إلى الخزائن الشريفة ووصولها، وأن يكسى بذلك فخرا لا يبلى جدّته مرّ الليالى والأيام. ولا يذهب نضرته كرّ السّنين والأعوام. والسلام. فعند ذلك، أذن الوزير مؤيّد الدّين بن العلقمى فى إحضار الهدايا والمدّ، المقدّم ذكره، فأدخل شيئا فشيئا- والرسول قائم- إلى أن أحضر جميعه، وعرف قبوله. ثم انكفأ إلى منزله، واستحسن إيراده، واستجيد إنشاده وزيد فى احترامه، وبولغ فى إكرامه

[الحرب بين الملك الناصر والملك المعز]

[الحرب بين الملك الناصر والملك المعز] وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة- أيضا- كانت الحرب بين الملك الناصر، والملك المعز صاحب الديار المصرية. وذلك أنه لما استقر له ملك دمشق، وأضافها إلى ما بيده، حسّن له أتابكه- شمس الدين لؤلؤ- والأمراء القيمريّة، أن يقصد الديار المصرية، وينتزعها من الملك المعزّ: عزّ الدين أيبك التّركمانى. وكان شمس الدين لؤلؤ- المذكور- يستقلّ عساكر الديار المصرية، ويقول: أنا آخذ الديار المصرية بمائتى قناع «1» !. فسار بجيوشه إليها، فخرج إليها الملك المعزّ بالعساكر المصرية. والتقوا واقتتلوا بمنزلة الكراع «2» ، بالقرب من الخشبى «3» . فكان الظفر له أوّلا، وبلغت الهزيمة بالعسكر المصرى إلى القاهرة. ومنهم من فرّ إلى جهة الصّعيد وذلك فى يوم الخميس، العاشر من ذى القعدة من السنة. واتصل خبر الهزيمة بمن بقلعة الجبل، فخطب للملك الناصر بها- فى يوم الجمعة الحادى عشر من الشهر.

ولما حصلت هذه الهزيمة على العسكر المصرى، ثبت الملك المعز فى نحو ثلاثمائة فارس أبطال أصحابه. وحمل بهم على الصّناجق الناصرية، رجاء أن يكون الملك الناصر تحتها، فيظفر به. وكان الملك الناصر قد احتاط لنفسه واعتزل المعركة، وتحيّز إلى فئة. فرجع إلى الشام- وصحبه نوفل الزّبيدى، وعلى السّعدى. وكان من انهزام عساكره وتمزيق جيوشه، وقتل أتابكه، ما نذكره فى أخبار الملك المعز- جريا على القاعدة. وكان الأتابك شمس الدين لؤلؤ قد أسر، فأراد الملك المعز إبقاءه، وأشار عليه بذلك الأمير حسام الدين بن أبى على، وقال: لا تقتله، فإنك تأخذ به الشام. فقال الأمير فارس الدين أقطاى: هذا الذى يقول: إنه يأخذ مصر بمائتى قناع! فضربوا عنقه!. وكان- رحمه الله تعالى- أرمنىّ الجنس، صالحا عابدا، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقتل وقد ناف على ستين سنة. ولما حصلت هذه الوقعة، تأكّدت أسباب الوحشة بين الملكين: الناصر والمعزّ، وثارت الفتن بينهما. وتجرّدت الجيوش من كل من الطائفتين مقابلة الأخرى، إلى أن قدم الشيخ نجم الدين البادرائى رسول الخليفة، فأصلح بين الملكين. ووقع الاتفاق على أن يأخذ الملك المعز من الملك الناصر القدس وغزّة، وجميع البلاد الساحلية، فتسلّم ذلك. وحلف كلّ من الملكين للآخر. ثم استعاد الملك الناصر ذلك من الملك المعزّ، لمّا التحق بها لأمراء البحريّة عند هربهم من الديار المصرية، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى- على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى. فلنذكر خلاف ذلك من أخباره.

ذكر اتصال السلطان الملك الناصر بابنة السلطان علاء الدين كيقباذ

ذكر اتصال السلطان الملك الناصر بابنة السلطان علاء الدين كيقباذ وفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وصلت الخاتون الكبرى، ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ السّلجقى «1» - صاحب الروم «2» ، وأمّها ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب- صحبة الشريف عز الدين المرتضى- وكان السلطان قد عقد نكاحها قبل ذلك، فزفّت إليه الآن. «3» ووصلت إلى دمشق، واحتفل لها إحتفالا عظيما، وتلقاها القضاة والأكابر، وقدّموا لها التّقادم «4» الكثيرة، وتجمّل الملك الناصر لقدومها تجمّلا، «5» لم ير الناس مثله. وفى هذه السنة، توفى الملك القاهر: نصرة الدين بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وهو عمّ والد الملك الناصر. وكانت وفاته بحلب- رحمه الله تعالى.

وفى سنة أربع وخمسين وستمائة:

وفى سنة أربع وخمسين وستمائة: فتحت المدرسة الناصرية، التى عمرها الملك الناصر داخل باب الفراديس «1» بدمشق، وذكر بها الدرس بحضرة السلطان. وفيها شرع الملك الناصر فى عمارة تربته ورباطه، غربىّ قاسيون. وفيها وصل الشيخ نجم الدين البادرائى «2» رسولا من جهة الخليفة، إلى دمشق. فرتّب له فى كل يوم مائة دينار، والإقامات الوافرة. وبنيت له المدرسة البادرائيّة بدمشق- وكانت قبل ذلك الدار المعروفة بأسامه. وفيها- أيضا- كانت وفاة الملك المعزّ مجير الدين يعقوب، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. ودفن بتربة والده بالمدرسة العادلية بدمشق، وحضر السلطان جنازته وغلق البلد. وخلّف ولدين وهما: شهاب الدين غازى المعروف بالأسود، وسيف الدين أبو بكر، وابنة- رحمه الله. وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام، العالم الواعظ، شمس الدين أبى المظفّر يوسف بن قزغلى: سبط الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى. كان والده قزغلى تركيّا من عتقاء الوزير عون الدين بن هبيرة «3» ، زوجه أبو الفرج بن الجوزى ابنته، فولدت شمس الدين هذا، فنسب إلى جدّه، لا إلى أبيه.

وفى سنة ست وخمسين وستمائة:

وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الثلاثاء، حادى عشر ذى الحجة، بمنزله بقاسيون، ودفن هناك. ومولده فى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ببغداد. وشهد السلطان جنازته. وكان كريما على الملوك الأيوبية، تقدّم من أخباره ما يدلّ على ذلك. وله مصنّفات منها: «مرآة الزّمان» - رحمه الله تعالى. وفى سنة ست وخمسين وستمائة: كانت وفاة الأمير سيف الدين: على بن عمر بن قزل التّركمانى، الياروقى، المصرى المولد والمنشأ، الدّمشقى الوفاة، المعروف بالمشدّ «1» . ودفن بقاسيون. ومولده فى شوال سنة اثنتين وستمائة. وكان فاضلا أديبا. وله ديوان شعر مشهور- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الشيخ محيى الدين: محمد بن على بن محمد بن أحمد، الطائى الحاتمى، المعروف بابن العربى، بدمشق- فى ثانى جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون. ومولده فى سابع عشر رمضان، سنة ثمان عشرة وستمائة. ذكر سياقة أخبار الملك الناصر ومراسلته هولاكو، وغير ذلك من أحواله- إلى أن قتل- رحمه الله قالوا: ولما اتّصل بالملك الناصر صلاح الدين ما ذكرناه، من أخبار هولاكو «2» ، واستيلائه على الممالك، وتقدّم جيوشه، ارتاع لذلك وسقط

فى يده. وكان قبل ذلك قد تغافل عن مراسلة هولاكو منذ وصل إلى العراق، فاستدرك الفارط، وجهّز ولده الملك العزيز إلى خدمته، وبعث معه كتابا إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، والتمس منه أن يحسن السّفارة بينه وبين هولاكو، ويعتذر عنه. وكتب علاء الدين بن يعيش- كاتب الملك الناصر- كتابا إلى صاحب الموصل، يذكر أنه سيّر ولده إلى خدمة هولاكو، واستشهد فيه بقول الشاعر: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.. فقال الملك الناصر: لو استشهدت ببيتى أبى فراس كان أنسب. فقال: وما هما؟ قال: قوله: فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفى الشّدّة الصّمّاء تفنى الذّخائر وقد يقطع العضو النّفيس لغيره ... ويدفع بالأمر الكبير الكبائر فأصلح الكاتب الكتاب. وتوجه الملك العزيز بالهدايا النفيسة والتّحف، و؟؟؟ الملك الناصر زين الدين الحافظى والأمير سيف الدين الجاكى، وجماعة من الحجّاب- وذلك فى سنة خمس وخمسين وستمائة. فلما وصلوا إلى هولاكو وقدّموا التقادم، سأل عن سبب تأخر الملك الناصر عن خدمته. فاعتذروا أن الفرنج بجوار بلاده، وأنه خشى إن فارقها أن يستولى عدوّه عليها، وأنه سيّر ولده ينوب عنه. فأظهر هولاكو قبول العذر- وباطنه بخلاف ذلك- وأعادهم. وكان وصولهم إلى الملك الناصر فى سنة سبع وخمسين وستمائة.

فعرّف الزين الحافظى الملك الناصر أن هولاكو أقبل عليهم، وأحسن إليهم. فقال بعض الأمراء، الذين كانوا فى صحبة الملك العزيز: ليس الأمر كذلك، وإنما الزّين الحافظىّ كان يتردد إلى هولاكو ويجتمع به سرا، وأطمعه فى البلاد. وكان الأمر كذلك. وفى خلال ذلك، وصل الأمراء الشّهرزوريّة «1» إلى الشام، عند انهزامهم من هولاكو- وكانوا نحو ثلاثة آلاف فارس. فأشار الأمراء القيمرية باستخدامهم، ليكثر بهم جمعه ويستظهر بهم على أعدائه. فاستخدمهم، وأنعم عليهم وأحسن إليهم، ووصلهم بالأموال، وهم لا يزدادون إلا طلبا. ثم بلغه عنهم أنهم مالوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فزاد فى الإحسان إليهم، فلم يفد ذلك فيهم. ثم فارقوه، وقصدوا الملك المغيث واتصلوا به. فاجتمع عنده البحريّة والشّهرزوريّة، فقويت نفسه وطمع فى أخذ دمشق، وكاتب جماعة من الأمراء الناصرية وكاتبوه. فاتصل ذلك بالملك الناصر، فأنعم على أمرائه وطيّب خواطرهم، وجدّد عليهم الأيمان. فامتنع جماعة من الأمراء العزيزية- مماليك والده- من الحلف، فزادهم وبالغ فى الإحسان إليهم، ولم يكلّفهم اليمين.

ثم بلغه أن الملك المغيث خرج من الكرك لقصد دمشق. فخرج بعساكره فى أوائل سنة سبع وخمسين، ونزل ببركة زيزا «1» ، وخيّم بها نحوا من ستة أشهر. ثم وقع الصلح بين الملكين. وحصل الاتفاق على أن يسلم الملك المغيث إليه البحريّة، فسلّم إليه من نذكره منهم. وعاد إلى دمشق. فلما استقر بها، بلغه أن هولاكو وصل إلى حرّان، ونازلها بعساكره. فاستشار الأمراء فيما يفعله. فأشاروا عليه أن يخرج بالعسكر الشامى إلى ظاهر دمشق، وصمموا على قتال هولاكو. فخرج بعسكره وخيموا بظاهر برزة «2» . فصار نجم الدين الحاجب والزّين الحافظى- وجماعة معهما- يذكرون شدة عزم هولاكو، ويعظّمون أمره، ويقولون: من الذى يلتقى مائتى ألف فارس؟! فضعفت نفسه عن ملاقاته. ثم بلغه أن هولاكو ملك قلعة حرّان، وأنه عزم على عبور الفرات إلى جهة الشام، ومنازلة حلب. فازداد ضعفا إلى ضعفه. فاجتمعت آراء الأمراء والعساكر أن يسيّروا نساءهم وأولادهم إلى الديار المصرية، ويقيمون ثم فى خدمة الملك الناصر جرائد، ففعلوا ذلك. وبعث الملك الناصر زوجته: ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو السّلجقى صاحب الروم- وكان قد تزوج بها فى سنة تسع وأربعين وستمائة- إلى الديار المصرية، وبعث معها ولده وأمواله وذخائره. وكذلك فعل جميع أمرائه وأجناده،

وصار الجند يتوجهون بنسائهم على أنهم يوصلونهم ويرجعون، فمنهم من يعود، ومنهم من لا يعود. فتفلّلت العساكر وتفرقت الجنود، وضعفت النفوس. ولم يبق مع الملك الناصر إلا جماعة من أمرائه جرائد «1» . ونازل هولاكو مدينة حلب فى المحرم، سنة ثمان وخمسين وستمائة. وفتحها عنوة. وسفك فيها من الدماء ما لم يسفك مثله، ببلاد العجم! وأسر التتار من النساء والصبيان ما يزيد على مائة ألف. ثم فتح قلعة حلب، فى حادى عشر ربيع الأول من السنة، وأخذ جميع ما فيها. وأسر أولاد الملك الناصر وأمهاتهم. وخرج إليه الملك المعظم تورانشاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وكان شيخا كبيرا- فلم يتعرض هولاكو إليه، وأمّنه على نفسه. ومات الملك المعظم بعد أيام يسيرة. واستمرّ هولاكو بالوزير «2» المؤيد بن القفطى، على حاله. فورد الخبر على الملك الناصر بأخذ حلب، وهو نازل على برزة. فاستشار الأمراء، فأشاروا عليه أن يتأخر إلى غزّة، وأن يكاتب الملك المظفر قطز ويستدعيه بعساكر الديار المصرية، ليجتمع الكل على لقاء هولاكو، ودفعه عن البلاد.

فعمل برأيهم. ورحلوا يوم الجمعة بعد الصلاة، منتصف صفر، سنة ثمان وخمسين وستمائة. فانقضت مملكة الملك الناصر فى ذلك اليوم. وكانت مدة ملكه بحلب ثلاثا وعشرين سنة، وسبعة أشهر، ومدة ملكه منها بدمشق عشر سنين، إلا خمسين يوما. ونزل الملك الناصر بمن معه على غزة، وأقام بها. ولما توجه الملك الناصر، دخل الزّين الحافظى «1» إلى دمشق وجمع أكابرها، واتفقوا على تسليم دمشق لنوّاب هولاكو، وأن يحقنوا دماء أهلها. فتسلمها فخر الدين المردغاوى وابن صاحب أرزن والشريف على- وكان هؤلاء رسل هولاكو إلى الملك الناصر- وكانوا عنده بظاهر دمشق: فلما دخلوا إليها وتسلموا قلعتها، كتبوا بذلك إلى هولاكو. فسير إليها المان التترى وعلاء الدين الكازى العجمى، نوّابا، وأمرهما هولاكو أن لا يخرجا عن إشارة الزّين الحافظى. وأوصاهما بالإحسان إلى أهل دمشق. ثم بلغ هولاكو وفاة أخيه منكوقان «2» ، فعاد من حلب- كما قدمناه فى أخباره.

وبعث كتبغانوين «1» فى جيش كثيف إلى الشام فوصل كتبغا إلى دمشق، وأقام بها أياما، ورحل عنها إلى مرج برغوث «2» . ثم وصل الملك الأشرف صاحب حمص من عند هولاكو- وكان قد توجه إلى خدمته وهو بحلب- فعاد، وبيده مرسومة، أن يكون نائب المملكة بدمشق وحلب، وجميع البلاد الشامية. فاجتمع بكتبغا فى مرج برغوث. فبعث إلى الزّين الحافظى ونواب دمشق بالاتفاق مع الملك الأشرف، على مصالح البلاد. ثم عصى بعد ذلك محمد بن قرمجاه، وجمال الدين بن الصّيرفى- نقيب قلعة دمشق- وأغلقوا أبواب القلعة. فحصرها كتبغا ومن معه وقاتل قتالا شديدا، ثم تسلمها بالأمان. فكتب الزين الحافظى بذلك إلى هولاكو، فعاد جوابه بقتل محمد ابن قرمجاه وجمال الدين بن الصّيرفى. فقال كتبغا للزين الحافظى: أنت كتبت إلى هولاكو بسببهم، فاقتلهم أنت. فقتلهما الزين الحافظى صبرا، بيده وسيفه، بمرج برغوث. وبعث كتبغا نوين جيشا إلى نابلس، وقدم عليهم كشلوخان، فمضى إليها، وبها فخر الدين إبراهيم بن أبى ذكرى، نائب السلطنة بها. فركب

ومعه الأمير على بن الشجاع الأكتع، وفخر الدين درباس المصرى وجماعة، فصادفهم كشلوخان فى زيتون نابلس، فقتلهم بأجمعهم. قال: ولما اتصل بالملك الناصر ومن معه من الأمراء وصول كشلوخان إلى نابلس وما فعله، حملهم الخوف على دخول الرّمل «1» فبلغ الملك المظفّر دخولهم، فتوهم أن ذلك مكيدة لتملك الديار المصرية. فكتب إلى الأمراء الناصرية والشّهرزوريّة، يعدهم بالإكرام والإحسان إن وصلوا إليه. ففارقوا الملك الناصر ومضوا إلى المظفر، أوّلا فأوّلا. ولم يبق مع الملك الناصر إلا الملك الصالح نور الدين إسماعيل بن صاحب حمص، والأمير ناصر الدين القيمرى، وأخوه شهاب الدين، وابن عمه شهاب الدين يوسف بن حسام الدين. فوصلوا إلى قطيا «2» . ثم خشى عاقبة دخوله إلى الديار المصرية، فعطف من قطيا، وسلك البرّيّة إلى الشّوبك بهم. فوصلوا إليها، ولم يبق لكل واحد منهم الا الفرس الذى تحته، وكل منهم فى نفرين أو ثلاثة، وقد نهبت خزائنهم وأموالهم وذخائرهم وبيوتات الملك الناصر. ثم توجه الملك الناصر بمن معه إلى الكرك. وأرسل إليه الملك المغيث ما يحتاج إليه من الخيل والأقمشة والبيوتات وغير ذلك، وعرض عليه المقام عنده، والانفراد بالشّوبك. وقصد مكافاته عن سالف إحسانه، فإنه كان

قد أحسن إلى ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان، لما توجه إليه إلى دمشق- على ما نذكره. فلم يجب الملك الناصر إلى ذلك، ومضى إلى البلقاء وأقام بأطراف البلاد. وسير حسين الكردى الطّبردار إلى كتبغا نوين، يلتمس أمانه. وقيل: بل حسين الكردى، لما شعر بالملك الناصر، توجه إلى كتبغا وأعلمه بمكانه. فركب كتبغا بنفسه فى جيش كثيف إلى الملك الناصر وقبض عليه، وعلى من معه. فاعتقل الأمراء القيمرية بدمشق. وكان الملك الظاهر- أخو الناصر- نازلا على قلعة صرخد بحربها، بأمر هولاكو. فأمر كتبغا بطلبه، وقبض عليه. وجاء إلى قلعة عجلون وحاصرها- والملك الناصر معه- وقدّمه إلى القلعة، فأمر من بها أن يسلّموها، فسلموها بعد امتناع. ثم جهز الملك الناصر وأخاه الملك الظاهر، والملك الصالح بن الملك الأشرف، صاحب حمص، إلى هولاكو- وصحبتهم الملك العزيز فخر الدين عثمان، بن الملك المغيث صاحب الكرك. فأخبرنى المولى الملك العزيز المشار إليه- مدّ الله فى عمره- أنهم توجهوا جميعا إلى هولاكو، واجتمعوا به بتوريز «1» . فأما الملك العزيز فأعاده بعد يومين أو ثلاثة، فوصل إلى دمشق- على ما نذكره. وأما الملك الناصر وابنه الملك العزيز، والملك الظاهر، وابن صاحب حمص- فإن هولاكو أخّرهم عنده.

قال: وبلغنى أنه سأله عن أحوال الديار المصرية وعساكرها، فهوّن أمرها عنده، والتزم له بفتحها، وحمل أموالها وأموال الشام إليه. ولم يزل يتلطف إلى أن أمر بعوده. فلما رجع من عنده، لقيه من سلم من الجيش الذين كانوا مع كتبغا نوين، لمّا كسرهم الملك المظفر قطز. فقبضوا عليه وأعادوه معهم إلى هولاكو. وقالوا له: ما كان على عسكرك أضرّ من مماليك هذا، ومماليك أبيه. وهم الذين قاتلونا وقتلوا كتبغا نوين، وهزموا عساكرك. فأمر بضرب عنقه، وعنق ولده الملك العزيز، وأخيه الملك الظاهر، وابن صاحب حمص- وذلك فى سنة ثمان وخمسين وستمائة. واجتمع الناس لعزائه بجامع دمشق فى سابع جمادى الأولى، سنة تسع وخمسين وستمائة. ومولده بقلعة حلب فى يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان، سنة سبع وعشرين وستمائة. وكان- رحمه الله تعالى- ملكا حليما كريما، لم يكن لأحد من الملوك قبله- فيما سمعنا- ما كان له من التّجمّل. فإنه كان يذبح فى مطبخه فى كل يوم، أربعمائة رأس من الغنم الكبار- خارجا عن الخراف الرّضّع والأجدية والدّجاج والحمام. وكان الغلمان يبيعون فضلات الطعام بظاهر قلعة دمشق، بأبخس الأثمان، حتى استغنى أهل دمشق فى أيامه عن الطبخ فى بيوتهم. حتى حكى عن علاء الدين على بن نصر الله، قال: جاء السلطان إلى دارى بغتة، ومعه جماعة من أصحابه. فمددت له فى الوقت سماطا، فيه من

الأطعمة الفاخرة والدجاج المحشو بالسكر والحلويات شيئا كثيرا. فعجب من ذلك، وقال: فى أى وقت تهيّا لك هذا كلّه؟ فقلت: والله هذا كله من نعمتك وسماطك، ما صنعت منه شيئا، وإنما اشتريته من عند باب القلعة. وحكى مباشرو البيوت بدمشق أن نفقة مطابخه كانت فى كل يوم تزيد على عشرين ألف درهم. وكان إذا مات أحد من أرباب الوظائف فى دولته، وله ولد فيه أهليّة، فوّض ما كان بيده من المناصب لولده. فإن كان صغيرا استناب عنه إلى أن يصلح. ومن مات من أرباب الرواتب والصدقات، أقرّ ما كان باسمه باسم أولاده- رحمه الله تعالى. وكان له شعر رقيق جيد. فمن شعره قوله، يتشوق إلى حلب: سقى حلب الشهباء فى كل لزبة «1» ... سحابة غيث نوءها ليس يقلع فتلك ربوعى، لا العقييق ولا الغضا ... وتلك ديارى، لا زرود ولعلع «2» إلا أنه كان ضعيف الرأى، شغلته الملاذّ والشّعر والغزل وتلحين الأقوال عن النظر فى أمر دولته. فآل أمره إلى ما ذكرناه. هذا ما كان من أمر الملك الناصر- على سبيل الاختصار. وبقى بعد مقتله عند التتار صغار أولاده، الذين أسروا من حلب، زمنا طويلا بعد أن هلك هولاكو. ومات بعضهم هناك. وبقى منهم ولده الصغير

وأما الملك المغيث فتح الدين عمر ابن السلطان الملك العادل، بن السلطان الملك الكامل، بن السلطان الملك العادل بن أيوب - صاحب الكرك والشوبك

نجم الدين أيوب، فحضر إلى الشام، ثم إلى الديار المصرية، ورتّب له راتب من جهة الملوك- أسوة أولاد الملوك الأيوبية. وهو باق إلى وقتنا هذا، مقيم بالقاهرة المعزّيّة- حماها الله تعالى. وأما الملك المغيث فتح الدين عمر ابن السلطان الملك العادل، بن السلطان الملك الكامل، بن السلطان الملك العادل بن أيوب- صاحب الكرك والشّوبك فإنه لما قبض الأمراء على والده- كما قدّمنا ذكر ذلك- وملك عمّه الملك الصالح نجم الدين أيوب الديار المصرية، مشى فى خدمته مدة. ثم رأى منه نجابة ونبلا وشهامة، فأمر باعتقاله فى الدار القطبيّة «1» عند عمّة السلطان وعمة والد الملك المغيث- وهى ابنة السلطان الملك العادل، أخت الملك الكامل- رحمهم الله تعالى. فلم يزل عندها، إلى أن مات الملك الصالح وملك ولده الملك المعظم تورانشاه. فأمر بإرساله إلى قلعة الشّوبك، واعتقاله بها. وندب لذلك الأمير عز الدين الحلّى، والأمير سيف الدين بلبان النّجاحى، فتوجها به إلى الشّوبك، واعتقلاه بها، وعادا إلى الديار المصرية.

فما كان بأسرع من أن قتل الملك المعظم تورانشاه- كما ذكرنا- فلما اتصل خير مقتله بابن رسول، وشهاب الدين عمر بن صعلوك- وكانا متولّيى «1» أمر الشّوبك- نهضا وأخرجا الملك المغيث من الاعتقال، وملّكاه وحلفا له، وحلّفا من عندهما- وكانوا نحو عشرة- وحلّفاه بالوفاء لهم. فأرسل إليهما بدر الدين بدر الصّوابى الخادم- النائب بقلعة الكرك- وأنكر عليهما إقدامهما على هذا الأمر بغير إذنه. فأرسلا إليه يقولان: بك فعلنا ذلك. فأعاد عليهما الجواب: إذا كان كذلك، فانقلاه إلى عندى فحلف للملك المغيث وحلف الملك المغيث له، وتوثّق كلّ منهما من صاحبه بأكيد الأيمان. فانتقل الملك المغيث من الشّوبك إلى الكرك- فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وتسلّم ما بها من الخزائن، التى بقيت مما نقل إليها الملك الصالح نجم الدين أيوب- بعد ما أخذه الملك المعظّم منها فوجد بها تسعمائة ألف وتسعين ألف دينار عينا. واستمرّ بالكرك والشّوبك، ورزق بها أولاده. وراسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف- صاحب دمشق وحلب- وأرسل إليه والده الملك العزيز: فخر الدين أبا المظفر عثمان، برسالة. فأكرمه الملك الناصر وأبرّه وقرّبه، وأجلسه فى مجلسه بالقرب منه ورتّب له فى كل يوم ألف درهم، وأربعمائة جراية وأربعمائة عليقة، وغير ذلك، ونقّله فى مستنزهات دمشق، وأقام عنده نحو ثلاثة شهور. ثم ركّبه الملك الناصر بشعار السّلطنة، وأعاده إلى أبيه. وقد عامله بنهاية البر وغاية الإكرام.

وكان للملك المغيث أخبار، يأتى ذكرها فى أثناء دولة الترك. وبعث الملك المغيث ولده العزيز الى هولاكو، يلتمس له أمانا. وجهز معه شهاب الدين بن صعلوك والنجيب خزاعة- وهما أعيان أصحابه. فأخبرنى الملك العزيز أنه اجتمع بهولاكو بتوريز، فأمره بالجلوس، مع صغر سنه فى ذلك الوقت. فنظرت اليه الخاتون- زوجة هولاكو- وسألته بترجمان عن أمّه، وهل هى باقية أم لا؟ فقال: هى باقية عند أبى. فقالت للترجمان: قال له: تحبّ أن أردّك الى أبيك وأمك، أو تقيم عندى؟ قال: فأعدت عليها: أنه لا أمر لى فى هذا، وإنما أبى أرسلنى إلى القان» يسأله الأمان لنفسه ولمن عنده، وأنا تحت أوامره. فنهضت قائمة وكلّمت هولاكو، وشفعت. فأشار إليها، فقالت: قد أعطاك القان أمانا لأبيك، ودستورا «2» بالعود!. قال: فضربت له جوكا، ورجعت من عنده. وأرسل معى من التتار من يوصلنى إلى الكرك، ويكون بها شحنه «3» . قال: فلما وصلت إلى دمشق نزلت بدار العقيقى، ونزل التتار بمدرسة العادلية. وكان كتبغا نوين قد توجه للقاء العساكر المصرية. فكانت الكسرة على التتار- على ما نذكره. قال: فاتصل الخبر بنا، فتحصّنا بدار العقيقى «4» . فلما كان فى نصف الليل رجع التتار هاربين. فقصدوا أخذى معهم، فمانع عنى من

معى، وأعجلهم الهرب عن حصار الدار، فتركونى. قال: ولما جاء الأمير جمال الدين المحمّدى إلى دمشق- قبل وصول الملك المظفر قطز إليها- خرجت إليه وتلقيته، وسلمت عليه. فسأل عنى، فأخبر أننى ابن الملك المغيث، فعوّقنى إلى أن قدم السلطان الملك المظفر قطز. فأمر بإرسالى إلى قلعة الجبل. فنقل إليها. فكان بها معوّقا فى برج، عند الأمير سيف الدين بلبان النّجاحى. إلى أن أعاده الملك الظاهر بيبرس إلى أبيه الملك المغيث- على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى أخباره. ولم يزل الملك المغيث بالكرك والشّوبك، إلى أن استولى الملك الظاهر على الشّوبك، لأربع بقين من ذى الحجة، سنة تسع وخمسين، عند ما جرّد إليها الأمير بدر الدين الأيدمرى. وبقى بيد الملك المغيث الكرك وأعمالها. ثم حصل الاتفاق بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس والملك المغيث، وحلف السلطان الملك الظاهر له يمينا مستوفاة، وأشهد عليه بما تضمنه مكتوب الحلف. وقد شاهدت المكتوب. وهو بخط القاضى فخر الدين: إبراهيم بن لقمان- صاحب ديوان الإنشاء. وما فيه من اسم السلطان بخطّ السلطان، ومثاله: «بيبرس» . ونسخة هذه اليمين- على ما شاهدته ونقلت منه:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * أقول وأنا بيبرس. والله والله والله، وتا لله وتالله وتالله، وبالله وبالله وبالله، العظيم الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع، عالم الغيب والشهادة والسّر والعلانية، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازى لها بما احتسبت. وجلال الله وعظمة الله وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا- إننى من وقتى هذا وساعتى هذه، وما مدّ الله فى عمرى، قد أخلصت نيّتى وأصفيت سريرتى، وأجملت طويّتى، فى موافقة المولى: الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الشهيد الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن محمد، بن أبى بكر بن أيوب، ومصافاته ومودّته. لا أضمر له سوءا ولا غدرا، ولا خديعة ولا مكرا لا فى نفسه ولا فى ماله، ولا فى أولاده، ولا فى مملكته ولا فى قلعته، ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه، ولا فى أجناده، ولا فى غلمانه، ولا فى مماليكه، ولا فى ألزامه ولا فى عربانه، ولا فى رعيّته، ولا فيما يتعلّق به وينسب إليه، من قليل وكثير.

وإننى والله لا أعارضه ولا أشاققه، ولا آمر من يعارضه فى بلاده الجارية فى مملكته، وهى: قلعة الكرك المحروسة، وربضها وسائر عملها، والغور المعروف بغور زغر «1» - بكماله، وحدّ ذلك من القبلة الحسا، ومن الشمال حد الموجب نصف القنطرة والمسيل، ومن الشرق الثنيتين، ومن الغرب السبخة المعروفة بأبى ضابط، ومنتهى حد الغور المذكور من القبلة الكثيب الرمل المعروف بالدبة، ومن الشمال الماء النازل من الموجب إلى البحيرة. وإننى والله لا آمر ولا أشير، ولا أكتب، ولا آذن بصريح ولا بكناية، ولا بقول لأحد، فى التعرض لبلاده المذكورة، ولا السعى فيها بفساد. وإننى والله متى حضر المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور إلى خدمتى، عند حلولى بالشام المحروس، لمنازلة عدوّ يطرق بلادى، أو لعدو يطرق بلاده، لا أتعرض إليه بأذيّة، ولا أقصده بسوء فى نفسه ولا فى ماله ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه ولا فى أجناده، ولا فى عربانه ولا فى مماليكه، ولا فى رعيته، ولا فيمن يصل صحبته من أصحابه.

وإننى والله لا أطالبه، ولا أطالب أحدا من أمرائه وأجناده، وأصحابه ومماليكه ولا من غلمانه، ولا من رعيته ولا من عربانه، ولا أحدا من سائر أصحابه، بسبب متقدّم إلى تاريخ هذه اليمين المباركة. ولا أمكّن أحدا من أمراء دولتى، ولا من جندها، ولا من سائر مماليكى، وأصحابى من الجماعة البحريّة وغيرهم، من مطالبته ولا مطالبة أحد من أمرائه وأجناده ومماليكه ورعيته، وسائر أصحابه، أهل الكرك وغيرهم، بسبب متقدّم عن تاريخ هذه اليمين المباركة- صامت كان أو غير صامت- من قماش وأثاث، وغير ذلك. وإننى والله، لا أستخدم أحدا من أمراء المولى الملك المغيث: فتح الدين عمر المذكور، ولا من أجناده ولا من أجناد أمرائه، ولا من مماليكه ولا من مماليك أمرائه، ولا من عربانه ولا من غلمانه، الا من انفصل عنه بدستور. ومتى تسحّب أحد من أمرائه أو أجناده، أو أجناد أمرائه أو مماليكه، أو مماليك أمرائه أو غلمانه أو عربه، أو غير ذلك من أصحابه وفلاحى بلاده، وحضر إلى بلادى أو الى مملكة من ممالكى، والتمس عوده اليه- تقدّمت باعادته اليه، بجهدى وطاقتى. وإننى والله متى قصد بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور عدوّ- مسلما كان أو كافرا- أعنته على دفعه وزجره وردعه، جهدى وطاقتى. وإننى والله، متى تعرض أحد من عرب بلادى الى بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور، أو الى جهة من جهات مملكته، أو الى أحد من رعيته أو أحد من سائر أصحابه، أو سعى بفساد فيما يتعلق بمملكته، واطّلعت عليه- تقدّمت بزجره وردعه عن ذلك. وفعلت فى أمره ما تقتضيه السّياسة.

وإننى والله- أفى للمولى الملك المغيث: فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل محمد، بن أبى بكر بن أيوب- بهذه اليمين من أولها إلى آخرها، ما دام وافيا لى باليمين التى يحلّفه بها نائبى، لا أنقضها ولا شيئا منها، ولا أستثنى فيها ولا فى شىء منها، ولا أستفتى فيها ولا فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها. ومتى نقضتها أو نقضتها فيها أو فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها، فكلّ ما أملكه من صامت وناطق- صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين. وكلّ مملوك أو أمة فى ملكى، أو أتملكهما فيما بقى من عمرى، حرّ من أحرار المسلمين. وعلىّ أن أفكّ عشرة آلاف رقبة مؤمنة من أيدى الكفار، إن خالفت هذه اليمين أو شيئا منها. وهذه اليمين يمينى، وأنا بيبرس. والنّيّة فيها بأسرها نيّة المولى الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن أبى بكر، بن أيوب، ونيّة مستحلفى له بها- أشهد الله علىّ بذلك، وكفى به شهيدا. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما. وشهد على السلطان الملك الظاهر، بهذه اليمين، من نذكرهم وهم: الأتابك فارس الدين أقطاى، وأقوش النّجيبى، وقلاوون الألفى، وعز الدين أزدمر «1» ، وأيدمر الحلّى، وبيسوى الشّمسى، وبيليك

الطرندار، وأيبك الأفرم، وكاتب اليمين إبراهيم بن لقمان بن أحمد. وهى مؤرّخة فى الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة. وشهد على السلطان اثنان ممن حضر من الكرك، وهما: أمجد الكركى- وهو كاتب الملك المغيث- وكان قد أمّره، وآخر لم أحقّق اسمه عند قراءته. وبآخر رسم خط الشهود خط المستحلف. وصورته: أحلفت مولانا السلطان الكبير، العالم المجاهد، المرابط المؤيّد المنصور، الملك الظاهر أبا الفتح بيبرس بن عبد الله، الصالحى، أعزّ الله سلطانه- بهذه اليمين المباركة من أولها إلى آخرها، على الوجه المشروح فيها، تاريخ الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة- أحسن الله تقضّيها. وكتبه خزاعة بن عبد الرّزّاق بن على- حامدا لله تعالى ومصلّيا. وجهز السلطان الملك الظاهر للملك المغيث ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان- وكان معتقلا بالقلعة من الأيام المظفّريّة، كما قدمنا- فأطلقه السلطان الآن، وأقطعه ذبيان «1» بمنشور، ثم سيّر إليه السلطان بعد ذلك صنجقا وشعار السلطنة. فقبّل الملك المغيث عقب الصّنجق، وركب بشعار السلطنة. وظن الملك المغيث أن الصلح قد انتظم بمقتضى هذه اليمين، فركن إلى ذلك. ثم جهّز والدته فى سنة إحدى وستين وستمائة إلى الملك الظاهر. فوجدها السلطان بغزّة، فأنعم عليها إنعاما كبيرا، وعلى من معها. وأجرى معها الحديث فى وصول الملك المغيث إليه، لينتظم الصلح شفاها، وتتأكد

أسبابه. وأعاد عليها العطاء ثانيا، وجهّزها إلى الكرك. وجهز فى خدمتها الأمير شرف الدين الجاكى المهمندار «1» ، لتجهيز الإقامات للملك المغيث. فاغترّ الملك المغيث بذلك. واستخلف ابنه الملك العزيز فخر الدين بالكرك، واستحلف له من تركه بقلعة الكرك، وترك عنده بقية أولاده- إخوة الملك العزيز- وكان له سبعة أولاد ذكور، أسنّهم الملك العزيز فخر الدين عثمان. وولد له بعد قبضه ابنان. وكان الملك العزيز، يوم ذاك، صغير السن، فإن مولده- كما أخبرنى به- فى الأول من يوم الإثنين ثالث شوال، سنة اثنتين وخمسين وستمائة. وفارق الملك المغيث الكرك، وتوجه إلى السلطان الملك الظاهر، وهو بمنزلة الطّور. فلما بلغ السلطان وصول الملك المغيث إلى بيسان، ركب إليه وتلقاه، وساقا جميعا إلى منزلة السلطان. فلما وصل الملك المغيث إلى باب الدّهليز، ترجّل ودخل إلى الخيمة. فأدخل على خركاه «2» ، وقبض عليه وعلى من معه- وذلك فى يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى، سنة إحدى وستين وستمائة. وأظهر السلطان لقبضه سببا، نذكره فى أخبار السلطان الملك الظاهر- إن شاء الله تعالى- تقف عليه بعد هذا.

ولمّا قبض عليه، جهّزه فى تلك الليلة إلى قلعة الجبل- صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى. ولما وصل إلى قلعة الجبل، أدخل البرج الذى كان به ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان، فقال للأمير سيف الدين بلبان النّجاحى- متولّى قلعة الجبل-: فى هذا البرج كان ولدى عثمان؟ قال: نعم. ولم يستقّر بذلك البرج، بل نقل منه فى يومه، وأدخل إلى قاعة من قاعات الدور السلطانية، فقتل من يومه. وكان آخر العهد به. وتولى ذلك الأمير عز الدين أيدمر الحلّى- نائب السلطنة- بالغيبة. واستدلّ على قتله أن بعض الخدام حكى، فقال: لما أدخل الملك المغيث إلى القاعة، طلب له طعام من الآدر «1» السلطانية- قال الخادم: فتوجهت لإحضار الطعام، فأتيت به على رأس خادم آخر، فوجدت الأمير عز الدين قد خرج من القاعة، وأغلق الباب! فقلت: قد حضر الطعام. فقال: بعد أن أغلقنا الباب لا نفتحه فى هذه الليلة. فرجعت بالطعام. ولم يفتح ذلك الباب، إلى ثلاثة أشهر أو نحوها. وكان مولد الملك المغيث- رحمه الله تعالى- بمنزلة العبّاسة «2» فى شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين وستمائة.

وأما الملك الموحد تقى الدين عبد الله ابن الملك المعظم تورانشاه، بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب - صاحب حصن كيفا ونصيبين وأعمالها

ولما قبض عليهم، جهز الملك الظاهر، إلى الكرك، الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير أيدمر الظاهرى، وكتب إلى من بها يعدهم الإحسان. ثم توجه بنفسه إليها، وتسلّمها على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى أخباره. وأنعم على ولده: الملك العزيز فخر الدين عثمان بإمرة مائة فارس. ورتّب لإخوته وأهله الرواتب. ثم قبض عليه، بعد ذلك، واعتقله- على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأما الملك الموحّد تقىّ الدين عبد الله ابن الملك المعظم تورانشاه، بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- صاحب حصن كيفا ونصيبين وأعمالها فإن والده الملك المعظم كان قد تركه بحصن كيفا، عند قدومه إلى الديار المصرية، وهو دون البلوغ. فاستمر بالحصن بعد مقتل والده، ودبّر. أمر دولته خادما أبيه: افتخار الدين ياقوت، وجمال الدين طقز. فلم تزل هذه المملكة بيده، إلى أن استولى هولاكو على البلاد.

فلما قارب بلاد الملك الموحد خرج إليه بأمان وتلقاه، وقدم له أشياء مما كان عنده من التّحف ونفائس الذخائر، فأقرّه على عمله. ولم يتعرض لحصن كيفا، ولا هراق به دما. وقرر عليه قطيعة فى كل سنة أحد عشر ألف دينار ثمنها «1» ستة وستين ألف درهم. ثم خرجت نصيبين عنه. وذلك أن صاحب ماردين: الملك المظفر، بن الملك السعيد بن أرتق- ضمنهما من التتار، وأضافها إلى مملكته. ثم نقل أبغا بن هولاكو- فى أول دولته- الملك الموحّد إلى الأردوا «2» ، أخلى قلعة حصن كيفا، وخرّبها. وسبب ذلك أن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، لما ملك الديار المصرية وما معها، خشى عاقبة الملك الموحد، وأنه من البيت الأيوبى، وملك الديار المصرية لأبيه وجده، وجدّ أبيه وجد جده. فأمر بمكاتبته ومكاتبة خادميه- عن جماعة من الأمراء الصالحية- يستدعون الملك الموحّد إليهم، ليملّكوه ملك آبائه. ووصلت الكتب بذلك إليهم، فمالت نفوس الخدّام إلى ذلك ورغبوا فيه، ولم يخشوا عاقبة المكايد.

فحملهم حبّ ذلك على أن أجابوا الأمراء عن كتبهم: أنهم يصلون إليهم بالملك الموحد. وأخذ القصّاد «1» الكتب ورجعوا، فظفر بهم مقدّم التتار. فأرسل الكتب إلى أبغا، فأحضره، وأحضر الخادمين، وقتلهما. وأقره بالأردوا مدة سبع سنين- هذا، ونائبه مقيم بحصن كيفا. ثم أطلقه وأعاده إلى الحصن. فكان به إلى أن توفى. وكانت وفاته- رحمه الله- ضحى يوم الأحد، النصف من شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة عشر، وهم: الأمير سيف الدين أبو بكر شادى الكبير، وعلاء الدين على الكبير، ومغلطاى- وإنما سمّى بذلك، لأنه ولد بالأردوا «2» ، فأمرت قولى «3» خاتون، زوجة هولاكو، أن يسمّى بذلك. وأرسلان، ويوسف، وزكرى، وعثمان، وخليل، وعلى الأصغر، وإبراهيم شقيقه، وأبو بكر الأصغر- وهو ابن أخت ناصر الدين يحيى، بن جلال الدين الحيتى، أحد مقدّمى التتار. ونجم الدين أيوب، وحسن. ومات من أولاده- قبل وفاته- الملك المعظم محمد- مات قبل والده بسبعة أيام. واللّمسن- وهو شقيق أرسلان. ولما مات الملك الموحّد، ملك حصن كيفا بعده ولده: الملك الكامل سيف الدين أبو بكر شادى- بتقرير التتار. فاستمر إلى شهر رجب، سنة تسع وتسعين وستمائة. ثم قتله قازان، ملك التتار. وسبب ذلك أن بعض إخوته شكوه له، وذكروا أنه قتل بعضهم.

وملك بعده الملك العادل سيف الدين أبو بكر الأصغر، ملّكه قازان. رعاية لحق أخواله. فملك أربعة أشهر، وقتل بمنزلة الميدان- بقرب إربل- قتله الأكراد، هو وأخوه أرسلان- وكانا نازلين بتلك المنزلة مع جماعة من التتار، كبسهم الأكراد الشّهريّة «1» بها. وملك بعده أخوه الملك المعظم، حسام الدين خليل- أربعة أشهر- فعسف وظلم فنازعه فى المملكة ابن أخيه الملك الصالح صلاح الدين يوسف، بن الملك الكامل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الموحّد، وشكاه إلى التتار، فسلّم إليه عمّه الملك المعظم، فخنقه. واستقر الملك الصالح هذا فى المملكة بحصن كيفا، خمس سنين. ثم نازعه (عمّه) «2» حسن، وتوجه إلى التتار فملّكوه الحصن. ولقّب الملك الظاهر بدر الدين حسن، وأرسلوا معه عسكرا، فهرب ابن أخيه أمامه. وأقام بالحصن سنة. ولحق الملك الصالح بالشيخ الشرف، بن الشيخ عدىّ الهكّارى، بجبل هكّار «3» ، وأقام سنة. ثم جمع جمعا كثيرا من الأكراد، وعاد إلى الحصن، عند خلو البلاد من التتار، وحاصر عمّه الملك الظاهر حسن، مدة أربعة أشهر. فوافقه أهل القلعة وسلموه إليه، فقتله، وعاد إلى مملكته. وأرسل إلى التتار وأرضاهم، فأقروه. فهو إلى وقتنا هذا.

وأما الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل: سيف الدين أبى بكر بن أيوب صاحب ميافارقين

أخبرنى بذلك المولى الأمير علاء الدين على، بن الملك الموحّد- وهو على الأصغر، المقدّم الذكر- وهو يوم ذاك بالقاهرة المعزّيّة. وكان قد فارق الحصن، لمّا حصل من ابن أخيه هذا: من قتل إخوته أولاد الملك الموحّد. ووصل إلى الديار المصرية، فى أوائل سنة ثلاث وسبعمائة، واستقر بها. وأقطعه السلطان الملك الناصر إقطاعا متميزا، بحلقتها. وأخبرنى أنه لم يبق من أولاد الملك الموحّد- لصلبه- سواه. وأن بقية من ذكرناهم أفناهم الموت والقتل. وذلك فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة. وأما الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل: سيف الدين أبى بكر بن أيوب صاحب ميّافارقين فإنه لم يزل بها، إلى أن ملك التتار البلاد. فندب هولاكو صرطق نوين، وقطغان نوين «1» لمحاصرته بميّافارقين، بطائفة كثيرة من التتار. فحاصروه مدة سنتين، حتى قلّت الأقوات عندهم، وأكلوا الكلاب والسّنانير والميتة. ففتحها التتار بعد أن فنى من عنده من الجند من القتال- وذلك فى سنة ثمان وخمسين وستمائة. وأسر الملك الكامل، وتسعة نفر من مماليكه، وأحضروا بين يدى هولاكو، فقتلوا، إلا مملوكا واحدا- كما تقدم فى أخبار هولاكو

وكان الملك الكامل هذا- رحمه الله تعالى- ملكا حازما كريما، كثير الزّهد والوّرع. ولما قتل- رحمه الله- حمل التتار رأسه على رمح، وطيف به البلاد. ومرّوا به على حلب وحماه وأتوا به إلى دمشق- فى سابع عشر جمادى الأولى من السنة- وطافوا به دمشق، وأمام الرأس المغانى والطّبول! وعلّق رأسه بباب الفراديس، إلى أن دخل الملك المظفر قطز إلى دمشق- بعد هزيمة التتار- فأنزل الرأس، ودفن بمشهد الحسين داخل باب الفراديس فقال الشيخ شهاب الدين أبو شامه «1» فى ذلك، من أبيات: ابن غازى غزا وجاهد قوما ... أثخنوا «2» فى العراق والمشرقين طاهرا عاليا، ومات شهيدا ... بعد صبر عليهم عامين لم يشنه إذ طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين ثم واروا بمشهد الرأس ذاك الرأ ... س، فاستعجبوا من الحالتين

وأما الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين محمود، بن الملك المنصور أبى عبد الله محمد، بن الملك المظفر تقى الدين أبى سعيد عمر، بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه

وأما الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين محمود، بن الملك المنصور أبى عبد الله محمد، بن الملك المظفر تقى الدين أبى سعيد عمر، بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه فإنه كان قد ملك حماه بعد وفاة والده- فى ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة. فاستمر فى ملك حماه، وطالت مدته. وكان يتردد إلى الديار المصرية فى الأيام الظاهرية والمنصورية، وهم يعظّمونه. وهداياه وتقادمه تصل إلى الملوك. وهو يشهد معهم الحروب والوقائع، بعسكر حماه. وما زال كذلك، إلى أن توفى فى شوال، سنة ثلاث وثمانين وستمائة. ومولده فى الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. ولما توفى، رتّب السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون فى ملك حماه ولده: الملك المظفر تقىّ الدين محمود بن محمد. وكوتب من ديوان الإنشاء بما كان يكاتب به والده. وحملت إليه وإلى أهله وإلى أهل بيته الخلع والتشاريف السلطانية واستقر فى ملك حماه إلى أن توفى فى يوم الخميس، الحادى والعشرين من ذى القعدة، سنة ثمان وتسعين وستمائة،

ودفن ليلة الجمعة. وكان مولده فى الساعة العاشرة من ليلة الأحد، خامس عشر المحرم، سنة سبع وخمسين وستمائة. واستقرت المملكة الحمويّة بعد وفاته فى يد نوّاب ملوك مصر. وكان أول من وليها من النواب: الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى، نقل من الصّبيبة إليها. ثم نقل منها إلى نيابة حلب، فى سنة تسع وتسعين وستمائة، بعد وقعة قازان «1» . وفوّضت نيابة السلطنة بحماه إلى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى- وكان قبل ذلك بصرخد- فلم يزل بها إلى أن مات، فى سنة اثنتين وسبعمائة. فوليها الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، فكان بها إلى أول الدولة الناصرية الثانية. ونقل منها، فى سنة تسع وسبعمائة، إلى نيابة المملكة الحلبية. وفوّضت نيابة السّلطنة بحماه للأمير سيف الدين أسندمر كرجى «2» فكان بها، إلى أن فوّض السلطان- الملك الناصر- نيابة المملكة الحمويّة إلى الأمير عماد الدين إسماعيل، بن الملك الأفضل نور الدين على، ابن الملك المظفر محمود، بن الملك المنصور محمد، بن الملك المظفر تقىّ الدين عمر، بن شاهانشاه بن أيوب، فى سنة عشر وسبعمائة

فاستمر فى نيابة السلطنة مدة ثم كوتب بعد ذلك من ديوان الإنشاء بالمقام العالى الملكى العمادى ولم يزل كذلك، إلى أن فوّض السلطان الملك الناصر إليه سلطنة حماه، ولقبه بالملك المؤيّد. وركب بالقاهرة المحروسة بشعار السلطنة، وذلك فى يوم الخميس سابع عشر المحرم، سنة عشرين وسبعمائة- على ما نذكره ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية. وهو باق إلى وقتنا هذا. ويصل فى كل سنة إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية بالتقادم والتّحف، ويحصل له الإنعام السلطانى، والتشاريف، وغير ذلك. وملوك حماه- وإن لقّبوا بألقاب الملوك، وخوطبوا وكوتبوا بما يخاطب ويكاتب به الملوك- فلا تعدّ أيامهم من جملة الدولة الأيوبية، لأنهم فى الخدمة السلطانية على رسم النّواّب. وإنما أوردنا ما ذكرناه من أخبارهم، لتعلم.

وأما الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه ابن شادى.. صاحب تل باشر والرحبة

وأما الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه ابن شادى.. صاحب تلّ باشر والرّحبة فقد ذكرنا أنه كان بيده حمص وتدمر والرّحبة «1» ، إلى أن استولى الملك الناصر- صاحب حلب- على حمص، فى سنة ست وأربعين وستمائة، وعوّضه عنها تلّ باشر «2» . فلم يزل بها إلى أن استولى هولاكو على حلب- كما ذكرنا فى سنة ثمان وخمسين وستمائة- فحضر إليه، فأكرمه هولاكو، وأعاد عليه حمص، وفوّض إليه نيابة السلطنة بالشام والسواحل. فلما هزم الملك المظفر سيف الدين قطز التتار على عين جالوت، ووصل إلى دمشق- أقرّه على حمص والرحبة وتدمر. وأقر الملك الظاهر- بعده- ذلك بيده، إلى أن توفى فى حادى عشر صفر، سنة اثنتين وستين وستمائة. ولم يكن له عقب، فاستقرّ ما كان بيده فى يد نوّاب السلطنة، إلى وقتنا هذا. ولبعض من ذكرنا أخبارهم فى هذا الوضع، أخبار ووقائع مع الملوك، يأتى ذكرها فى أخبار ملوك الديار المصرية- على ما تقف على ذلك، إن شاء الله تعالى، فى مواضعه. وإنما ذكرناهم فى هذا الموضع، لتكون أخبارهم مجتمعة، على سبيل الاختصار.

[إنتهاء الدولة الأيوبية]

[إنتهاء الدولة الأيوبية] «1» وكانت هذه الدولة الأيوبية بالديار المصرية- منذ ولى الملك المنصور أسد الدين شيركوه وزارة العاضد لدين الله العبيدى، ولقّبه بالملك المنصور أمير الجيوش، فى سابع عشر شهر ربيع الآخر، سنة أربع وستين وخمسمائة، إلى أن ملك السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التّركمانى الصالحى، فى التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين وستمائة- أربعا وثمانين سنة، وأربعة أشهر، واثنى عشر يوما- وإلى أن استولى هولاكو على الشام، وهرب الملك الناصر، صاحب الشام وحلب، فى النصف من صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثلاثا وتسعين سنة، وعشرة أشهر، تقريبا. هذا ما أمكن إيراده من أخبار هذه الدولة الأيوبية، على سبيل الاختصار. فلنذكر أخبار دولة التّرك، وهى فرع الدولة الأيوبية.

ذكر أخبار دولة الترك وابتداء أمر ملوكها، وما ملكوه من الممالك والحصون والأقاليم والثغور والأعمال، وما افتتحوه، وغير ذلك من أخبارهم

ذكر أخبار دولة التّرك «1» وابتداء أمر ملوكها، وما ملكوه من الممالك والحصون والأقاليم والثغور والأعمال، وما افتتحوه، وغير ذلك من أخبارهم كان ابتداء هذه الدولة بالديار المصرية. ثم انتشرت بالبلاد الشامية، ثم امتدت إلى الممالك الحلبية والفراتية. ثم استولت على الثّغور والقلاع والحصون الساحلية. واستنقذت حصون الدّعوة من أيدى الإسماعيلية «2» . وبلغت المملكة الرومية. ودانت لها الأقطار اليمانية والحجازية. وانتمت إليها الطوائف القرمانية «3» . ورغب فى مسالمتها الملوك. الجنكزخانيّة. ونفذت أوامرها واتّصلت أحكامها ببلاد إفريقية وما يليها، والتّكرور «4» وما يدانيها. ودخل فى طاعتها وعقد ذمّتها من بإقليم النّوبة، من بلاد الدّوّ «5» ، المجاور لثغر أسوان، إلى بلاد الكرسى والعريان «6» ، وهو آخر العمل بالقرب من مجرى نهر النيل. على ما نورد ذلك، إن شاء الله تعالى، ونوضّحه ونبيّنه ونشرحه.

ذكر أخبار الأتراك وابتداء أمرهم وكيف كان سبب الاستيلاء عليهم، واتصالهم بملوك الإسلام. ومن استكثر منهم، وتغالى فى اتباعهم وقدمهم على العساكر

ولنبدأ بذكر أخبارهم، وسبب الاستيلاء عليهم. ذكر أخبار الأتراك وابتداء أمرهم وكيف كان سبب الاستيلاء عليهم، واتصالهم بملوك الإسلام. ومن استكثر منهم، وتغالى فى اتباعهم وقدّمهم على العساكر قد ذكرنا فى أخبار الدولة العبّاسيّة من اتصل منهم بالخلفاء، وتقدم على العساكر، وعلا قدره وطار اسمه. وذكرنا أيضا فى أخبار الدولة العبيديّة- فى أيام المستنصر بالله- ما كان من أمرهم، وقيامهم، ومحاربتهم ناصر الدولة بن حمدان- تارة، ومعه أخرى. ثم ذكرنا أن الملك الناصر- صلاح الدين يوسف بن أيوب- كان ممن اهتمّ بتحصيلهم، وأخوه الملك العادل، ثم ابنه الملك الكامل. وكانوا إذ ذاك لا يجلبهم التّجّار إلا خفية، ولا يقدرون على تحصيلهم إلا سرقة، لأن حماهم كان مصونا من التّجاهر ببيعهم، أو التطرق إليهم. وأما السبب الموجب للاستيلاء عليهم، وبيعهم فى الأمصار- فهو أنه لما ظهر جنكزخان التمرجى، ملك التتار، واستولى على البلاد الشرقية

والشمالية، وبثّ عساكره فى البلاد، فانتهوا إلى بلاد القفجاق واللّان «1» ، وأوقعوا بهم- على ما قدّمنا ذكره، فى أخبار الدولة الجنكزخانيّة- فبيعت ذرارى التّرك والقفجاق، وجلبها التجار إلى الأمصار. ثم رجعت عنهم هذه الطائفة الذين ندبهم جنكزخان إليهم، فى سنة ست عشرة وستمائة- وهم التتار المغرّبة «2» - وعادوا إلى ملكهم جنكزخان. واستقرت طوائف الأتراك بأماكنهم من البلاد الشمالية. وهم أصحاب عمود «3» ، لا يسكنون دارا، ولا يستوطنون جدارا، بل يصيّفون فى أرض ويشتّون بأخرى. وهم قبائل كثيرة فمن قبائلهم ما أورده الأمير ركن الدين بيبرس، الدّوادارى المنصورى، نائب السلطنة الشريفة كان- أحسن الله عقباه، وقد فعل، وعامله بألطافه فيما بقى من الأجل- فى تاريخه «4» : قبيلة طقصبا. وتيبا. وبرج أغلى. والبرلى، وقنغر أغلى. وأنجغلى. ودروت. وقلابا أغلى. وجرثان. وقرا تركلّى. وكتن. قال: ولم يزالوا مستقرين فى مواطنهم، قاطنين بأماكنهم، إلى سنة ست وعشرين وستمائة. فاتفق أن شخصا من قبيلة دروت يسمى منغوش بن

كتن خرج متصيّدا، فصادفه شخص من قبيلة طقصبا اسمه آق كبك- وكان بينهما منافسة قديمة- فأخذه أسيرا، ثم قتله. وأبطأ خبر منغوش عن أبيه وأهله، فأرسلوا شخصا اسمه جلنغر لكشف خبره، فعاد إليهم وأخبرهم بقتله. فجمع أبوه أهله وقبيلته وساق إلى آق كبك. فلما بلغه مسيرهم نحوه، جمع أهل قبيلته وتأهب لقتالهم. فالتقوا واقتتلوا، وكان الظفر لقبيلة دروت، وجرح آق كبك وتفرق جمعه. فعند ذلك أرسل أخاه أنص إلى دوشى خان بن جنكزخان- وكان أوكدى «1» ، وهو الملك يومئذ بكرسى جنكزخان «2» ، قد ندبه إلى البلاد الشمالية- مستصرخا به، وشكا إليه ما حلّ بقومه من قبيلة دروت القبجاقيّة، وأعلمه أنه إن قصدهم لم يجد دونهم من يمانع. فسار إليهم فى عساكر، وأوقع بهم، وأتى على أكثرهم قتلا وأسرا وسبيا. فاشتراهم عند ذلك التجار، ونقلوهم إلى البلاد والأمصار. وأما أول من استكثر منهم وتغالى فيهم، وقدّمهم على العساكر، فهو الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل. وقد ذكرنا فى أخبار الدولة الكاملية- فى سنة سبع وعشرين وستمائة- أن الملك الكامل اتصل به أن ابنه الملك الصالح ابتاع ألف مملوك، وأنه توثّب على الملك، فنقم عليه وأخرجه من الديار المصرية.

فلنذكر ملوك دولة الترك:

فلما أفضت السلطنة إليه، استكثر منهم، وأمرهم وقدّمهم على العساكر. فكانوا فى خدمته، إلى أن مات. وملك بعده ابنه الملك المعظم تورانشاه، فعاملهم بما يكرهونه. وبذل لسانه فيهم، وتواعدهم، فحملهم ذلك على قتله، وطلب الملك لأنفسهم. وكان ما ذكرناه من إقامة شجر لدّرّ، وخلعها. فلنذكر ملوك دولة الترك:

أول من ملك من ملوك هذه الدولة: السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى الصالحى

أول من ملك من ملوك هذه الدولة: السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى الصالحى وليس بتركمانى، وإنما هى نسبة إلى أولاد التركمانى، لأنه كان عند أحدهم، ثم ملكه الملك الصالح نجم الدين أيوب. وهو تركىّ الجنس. ملك الديار المصرية، فى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين وستمائة. وأقام معه فى السلطنة الملك الأشرف مظفر الدين موسى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك المسعود صلاح الدين يوسف، بن الملك الكامل، وأجلسه على كرسى السلطنة فى يوم الأربعاء- ثالث جمادى الأولى، سنة ثمان وأربعين. وركب وشقّ المدينة فى يوم الخميس- وكان عمره نحو ست سنين. وكانت المناشير والتّواقيع والمراسم تخرج عن الملكين، وليس للأشرف معه إلا مجرد التسمية، والأمر للملك المعزّ. ولم يزل كذلك، إلى أن قتل الأمير فارس الدين أقطاى فى سنة اثنتين وخمسين- على ما نذكره. فاستقل حينئذ بالملك. وكان الملك الأشرف فى هذه المدة قد حجب عن الناس، واسمه قائم دون شخصه.

ذكر الحرب الكائنة بين الملك المعز والملك الناصر صاحب الشام، وانتصار المعز

ذكر الحرب الكائنة بين الملك المعز والملك الناصر صاحب الشام، وانتصار المعز وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة، كانت الحرب بين السلطان الملك المعزّ وبين الملك الناصر- صاحب الشام. وسبب ذلك أن الملك الناصر، لما استولى على دمشق فى هذه السنة- كما قدّمنا فى أخباره- أشار عليه أتابكه- شمس الدين لؤلؤ- والأمراء القيمرية، بقصد الديار المصرية. فسار من دمشق. واتصل خبره بالملك المعز، فخرج إليه بعساكر الديار المصرية. والتقيا على منزلة الكراع، بالقرب من الخشبى «1» . واقتتل العسكران، فى يوم الخميس، العاشر من ذى القعدة من السنة. فكانت الهزيمة على العسكر المصرى. ووصلت طائفة من العسكر المصرى إلى القاهرة. ومنهم من فرّ إلى جهة الصعيد. وثبت الملك المعز، واختار من عسكره ثلاثمائة فارس، وحمل بهم على صناجق الملك الناصر، طمعا أن يكون بجهتها فيظفر به. وكان الملك الناصر تحيّز إلى فئة، واعتزل المعركة خوفا على نفسه، واحتياطا لها. فلما عاين حملة الملك المعز، وشاهد إقدامه، انهزم، ورجع إلى الشام- كما تقدم.

وساقت الأمراء العزيزيّة- مماليك والده- بأطلابهم «1» إلى خدمة الملك المعزّ، ودخلوا فى طاعته، وهم: الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى، والأمير شمس الدين أقش البرلى، والأمير شمس الدين أقش الحسامى، وأمثالهم. وكان سبب انصرافهم عن سلطانهم الملك الناصر أنه أضافهم، يوم الحرب، إلى طلب «2» الأمير شمس الدين لؤلؤ- أتابكه- فعزّ ذلك عليهم، وفارقوا خدمة الملك الناصر. قال: واجتمع الأمراء القيمريّة، وغيرهم، إلى شمس الدين لؤلؤ، وهنّوه بالنصر على زعمهم- وتفرقت جماعتهم فى طلب المكاسب. فلم يبق معهم من مماليكهم إلا نفر قليل. فصادفهم الملك المعزّ بمن معه من عسكره، فقاتلهم. فقتل شمس الدين لؤلؤ، وجماعة من الأمراء القيمرية، وهم: حسام الدين، وصارم الدين، القيمريّان، وسعد الدين الحميدى، ونور الدين الزّرزارى، وجماعة من أعيان مماليك الملك الناصر. وقتل أيضا تاج الملوك، بن الملك المعظم تورانشاه. وأسر جماعة، وهم: الملك الصالح بن العادل سيف الدين أبى بكر ابن أيوب. ثم قتله الملك المعز فى سنة تسع وأربعين، ودفنه بالقرافة. وأسر أيضا الملك المعظم تورانشاه، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخوه نصرة الدين، والملك الأشرف صاحب حمص، وشهاب الدين بن حسام الدين القيمرى، وغيرهم.

وأما بقية الأمراء الناصرية، فانهم ما علموا بشىء من ذلك. بل ساقوا خلف من انهزم من العسكر، إلى أن وصلوا إلى العبّاسة «1» وخيّموا بها. ثم بلغهم الخبر فرحلوا بمكاسبهم وأثقالهم. قال: ولما انتصر الملك المعز، وقتل من قتل، وأسر من أسر، ساق إلى العبّاسة ليلتحق بعساكره. فرأى دهليز الملك الناصر وعساكره قد خيم على العبّاسة، فعرّج عن طريقها. وسار على طريق العلاقمة «2» إلى بلبيس فلم يجد بها من العسكر أحدا. وبلغه أن منهم من دخل إلى القاهرة، ومنهم من انهزم إلى الصعيد. فنزل على بلبيس بمن كان معه، إلى أن تحقق عود من سلم من العسكر الشامى. وعاد الملك المعز إلى قلعة الجبل، مؤيدا منصورا. قال: ولما طلع إلى القلعة، وجد جماعة من الأمراء المعتقلين بها، لمّا بلغهم وصول المنهزمين من العسكر المصرى، ظنوا أن الهزيمة تستمر، فخطبوا للملك الناصر على منبر الجامع بالقلعة، فى يوم الجمعة حادى عشر ذى القعدة من السنة. فعظم ذلك على الملك المعز، وشنق الأمير ناصر الدين إسماعيل بن يغمور الصالحى، وأمين الدولة وزير الملك الصالح، على شراريف قلعة الجبل- وكانا من جملة المعتقلين بها- ومن أشار بالخطبة للملك الناصر. ثم أخرج جميع من دخل إلى القاهرة من العسكر الناصرية، وأعادهم إلى دمشق على دوابّ- وكانوا ثلاثة آلاف نفس- ولم يركب أحدا منهم فرسا، إلا نور الدين بن الشجاع الأكتع، وأربعة من مماليك الملك الناصر.

واستهلت سنة تسع وأربعين وستمائة:

واستهلّت سنة تسع وأربعين وستمائة: فى هذه السنة، خرج الملك المعز بعساكر الديار المصرية، لقصد الملك الناصر، فنزل على أمّ البارد عند العبّاسة. واتصل ذلك بالملك الناصر، فجهز العسكر الشامى إلى غزّة، ليكون قبالة العسكر المصرى. وأقام العسكران فى منازلهما ستين يوما. ونزل الملك الناصر على غمّتا من الغور، وخيّم عليها. وأقام بعسكره ستة أشهر. وفيها فى شعبان، عزل قاضى القضاة: عماد الدين أبو القاسم إبراهيم ابن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن محمد، الحموى، المعروف بابن المقنشع- عن القضاء بمصر والوجه القبلى. وأضيف ذلك إلى قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى. فاجتمع له الآن قضاء القضاة بالمدينتين، والوجهين القبلى والبحرى، ولم يجتمعا له قبل ذلك. وفيها، قصد الأمير جمّاز بن شيحة المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وقبض على أخيه عيسى، وأقام بالمدينة. وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام العالم بهاء الدين على بن سلامة بن المسلم بن أحمد، بن على اللّخمى المصرى، المعروف بابن الجمّيزى. وكان إماما فاضلا، عالما بمذهب الإمام الشافعى. وأخذ العلم عن الشيخ شهاب الدين محمد الطّوسى، وعن محمد بن يحيى، وشرف الدين بن أبى عصرون. وتفقّه بالشام، وقرأ القرآن على جماعة منهم الشاطبى

والبطايحى. وسمع الحديث الكثير، ورواه. سمع شهدة «1» ببغداد. والحافظ السّلفى بمصر. وأجيز بالفتيا فى سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وهو سبط الفقيه أبى الفوارس الجمّيزى. وكان دمث الأخلاق، كريم النفس، قل أن يدخل إليه أحد إلا وأطعمه وكان يخالط الملوك، ويعظّمونه. ولم يزل كذلك إلى أن حج فى سنة خمس وأربعين وستمائة. فأهدى له صاحب اليمن هدية بمكة. فقبلها. فأعرض عنه الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكانت وفاته بمصر فى ليلة الخميس، رابع عشر ذى الحجة. ودفن يوم الخميس بالقرافة، قريبا من روزبهان. ومولده يوم النحر سنة تسع وخمسين وخمسمائة- رحمه الله تعالى. وفيها توفى الفقيه الشيخ، الرّياضى، علم الدين قيصر: بن أبى القاسم بن عبد الغنى بن مسافر، الحنفى المصرى، المعروف بتعاسيف. كان إماما فى علوم الرياضة، وفى فنون كثيرة. وكانت وفاته بدمشق، فى يوم الأحد ثالث عشر شهر رجب. ودفن خارج باب شرقى، ثم نقل إلى الباب الصغير. ومولده سنة أربع وسبعين

وخمسمائة، بأصفون من أعمال مدينة قوص، من الصّعيد الأعلى بالديار المصرية «1» . وأصفون بلدة مشهورة هناك. وفيها، توفى الصاحب الوزير: جمال الدين أبو الحسين يحيى، بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين بن على بن حمزة بن إبراهيم، بن الحسين- بن مطروح. من أهل صعيد مصر، ونشأ هناك. وأقام بمدينة قوص مدة. وتنقلت به الأحوال فى الخدم والولايات. ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فى نيابته عن أبيه السلطان الملك الكامل بالديار المصرية. وانتقل فى خدمته عند توجهه إلى بلاد الشرق، فى سنة تسع وعشرين وستمائة. ولم يزل هناك إلى أن ملك الملك الصالح الديار المصرية، فوصل إلى خدمته، فى أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة. فرتّبه ناظر الخزانة. ثم نقله إلى دمشق، لما ملكها ثانيا، من عمه الملك الصالح إسماعيل، وجعله وزيرا وأميرا. واستمر إلى أن وصل السلطان الملك الصالح إلى دمشق فى شعبان سنة ست وأربعين وستمائة، فعزله عن الوزارة وسيّره مع العسكر لحصار حمص. ثم عاد فى خدمة السلطان الى الديار المصرية، وأقام معه بالمنصورة- وقد تغيّر عليه لأسباب اتصلت به عنه- ومع ذلك فلم يزل يلازم الخدمة. إلى أن مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة. فجاء إلى مصر، وأقام بداره إلى أن مات.

واستهلت سنة خمسين وستمائة:

وكان حسن الأخلاق. وله ديوان شعر وكانت وفاته بمصر فى ليلة الأربعاء، مستهلّ شعبان، سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن بسفح المقطم. ومولده بمدينة سيوط من صعيد مصر، فى يوم الإثنين ثامن شهر رجب، سنة اثنتين وتسعون وخمسمائة- رحمه الله تعالى. واستهلّت سنة خمسين وستمائة: والاختلاف بين الملكين: الناصر- صاحب دمشق والشام- والمعزّ صاحب الديار المصرية- على حاله، والعساكر من الطائفتين مجرّدة، كل طائفة معتدّة للأخرى. ولم يكن فيها من الأخبار ما نذكره. واستهلّت سنة إحدى وخمسين وستمائة: ذكر الصلح بين الملكين: المعز والناصر قال: ولم تزل الفتنة بين الملكين: المعز والناصر قائمة، إلى أن وصل الشيخ نجم الدين البادرائى رسول الخليفة، فسعى فى الصلح بينهما. فوقع الاتفاق: على أن يأخذ الملك المعز من الملك الناصر القدس وغزة، وجميع البلاد الساحلية- إلى حدود نابلس. واستحلف الشيخ نجم الدين الملكين على ذلك. فتم الصلح بينهما وانتظم.

واستهلت سنة اثنتين وخمسين وستمائة:

وأفرج الملك المعز عن الملك المعظم صلاح الدين يوسف بن أيوب، والملك الأشرف صاحب حمص، وأولاد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وغيرهم. من الأمراء الذين كانوا قد أسروا فى المصافّ، الكائن فى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وذلك فى المحرم من هذه السنة. وفى هذه السنة، لثلاث خلون من شعبان، قتل أبو سعد: الحسن بن على بن قتادة- صاحب مكة- شرّفها الله تعالى. واستهلّت سنة اثنتين وخمسين وستمائة: ذكر خبر عربان الصعيد، وتوجه الأمير فارس الدين أقطاى إليهم وإبادتهم كان من خبر العربان بالصعيد، أنه لما اشتغل الملك الصالح نجم الدين أيوب وعساكره بقتال الفرنج بالمنصورة، وحصل ما قدّمنا ذكره: من وفاته، ومقتل ولده الملك المعظّم، واشتغال الملك المعز بحرب الملك الناصر، وتجريد الجيوش إلى جهتة، وعدم الالتفات إلى غير ذلك- تمكن العربان بهذه الأسباب من البلاد، وكثر شرّهم، وزاد طغيانهم وبغيهم. وحصل لأهل البلاد منهم، من أنواع الأذى ونهب الأموال والتعرض إلى الحريم، وأمثال ذلك، ما لا حصل من الفرنج أكثر منه.

واجتمعوا على الشريف حصن الدين بن ثعلب الجعفرى «1» وأطاعوه ظاهرا، وانقادوا له. إلا أنه لا يستطيع دفعهم عن كل ما يقصدونه من أذى. وأخذ أموالهم، وكثرت جموعهم معه، حتى زادوا على اثنى عشر ألف فارس، وستين ألف راجل، بالسلاح والعدد. فلما تم الصلح بين الملكين، وتفرغ وجه السلطان الملك المعز من جهة الشام، صرف فكرته إلى جهتهم، وانتدب لحربهم الأمير فارس الدين أقطاى. واستشار الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى فى عدّة العسكر الذى يقوم بحربهم، فأشار بانتخاب ألفى فارس من العسكر، والتزم أنه يفرّق بهذه العدة جموعهم، ويبيدهم بها. فانتخب الأمير فارس الدين هذه العدّة من العسكر، وتوجه بهم- وصحبته الأمير عز الدين المذكور- وتوجه إلى جهة الصعيد، وقصد العربان. وكانوا قد اجتمعوا بمكان يسمى الصّلعا «2» بمنشاة إخميم، فى البر الغربى- وهى أرض وسيعة، تسع عدّتهم. فساق الأمير فارس الدين ومن معه من العسكر، من جهة الحاجز بالبر الغربى، سوقا عظيما، ما سمع الناس بمثله، وانتهى إليهم فى ثلاث علايق- وهذه المسافة لا يستطيع البريد أن يصل إليها فى مثال هذه المدة، إلا إن أجهد نفسه.

ذكر خبر الأمير فارس الدين أقطاى، وما كان من أمره إلى أن قتل

وطلع عليهم فى صبح اليوم الرابع، ودهمهم بغتة بهذا المكان. فلما شاهد كثرتهم، كاد يقف عن ملاقاتهم، وأنكر على الأمير عز الدين، وقال: لقد غششتنا، فإن هذه العدّة التى معنا لا تقوم بهذه الجموع الكثيرة. فقوّى نفسه، وقال: أنا أعرف هؤلاء، وهذه بلاد ولايتى. وحمل عليهم، ورمتهم العسكر بالنّشّاب، فما كان السّهم يقع إلا فى أحدهم. فما كان بأسرع من أن انهزموا أقبح هزيمة، وأخذهم السيف. وتفرقت تلك الجموع، واختفوا، وغيّروا لباسهم. وقتل منهم فى المعركة والطّلب خلق كثير. ولما عاين الشريف حصن الدين انهزام أصحابه، بادر بالهزيمة. وحمل معه ألف دينار، واستصحب حظيّة له، وتوجه إلى الوجه القبلى. ثم قبض عليه بعد ذلك- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. وعاد الأمير فارس الدين إلى القاهرة بعسكره، ومعه جماعة من العربان، من جملتهم: ابن عم الشريف حصن الدين بن ثعلب، فشنق تحت قلعة الجبل. ثم قتل الأمير فارس الدين أقطاى، فى هذه السنة. ذكر خبر الأمير فارس الدين أقطاى، وما كان من أمره إلى أن قتل كان الأمير فارس الدين أقطاى، الجمدار «1» الصالحى، قد استفحل أمره فى الدولة المعزّيّة بالديار المصرية، وقويت شوكته فى سنة إحدى وخمسين وستمائة.

وانضم إليه الأمراء البحريّة واعتضد بهم. وتطاول، إلى أن خطب ابنة الملك المظفّر صاحب حماه. وكان الرسول فى ذلك الصاحب فخر الدين محمد، بن الصاحب بهاء الدين على- قبل وزارة والده- فأجيب إلى ذلك. وعقد النكاح، وحملت إليه، فوصلت إلى دمشق. وقتل، قبل وصولها إليه. ولما تزوج بها زادت نفسه قوة، وعظّمه الأمراء، وخفّضوا من جانب الملك المعز، وألان الملك المعزّ جانبه له، ولهم. واستمر الأمر على ذلك إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة. فامتدت أطماعه إلى صلب ثغر الإسكندرية، إقطاعا، فلم يمكن الملك المعز مخالفته، لقوة شوكته. وتطاول البحريّة، واشتطوا فى طلب الإقطاعات والزيادات. واتصل بالملك المعز أنهم يدبّرون عليه، وأنهم قد عزموا على الوثوب، فبادر عند ذلك بالتدبير والاحتياط. ولما كان فى يوم الإثنين- حادى عشر شعبان، من هذه السنة، استدعاه السلطان على العادة، وكمن له عدّة من مماليكه، بقاعة الأعمدّة. وقرر معهم أنه إذا عبر إليه يغتالوه. فحضر فى نفر يسير، ثقة منه واسترسالا، واطّراحا لجانب السلطان، وأنه لا يجسر أن يقدم عليه، ولم يشعر به خوشد اشيّته «1» . فلما قرب، منع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزّية فقتلوه

وحكى عن عز الدين أيبك الفارسى- أحد مماليكه- فى خبر مقتله، قال: كان قد ركب إلى قلعة الجبل فى يوم مقتله، واجتمع بالسلطان، وطلب منه أن ينعم على بعض البحرية بمال. فاعتذر الملك المعز أن الخزائن قد خلت من الأموال، وقال له: توجّه بنا إلى الخزانة لنشاهدها، ونتحقق حالتها. فتوجها جميعا إلى الخزانة من جهة الدّور. وإنما فعل المعز ذلك، لأن الوصول إلى الخزانة من جهة الدور حرج «1» المسلك، ويمرّ المارّ على بعض قاعات الحريم، فلا يمكن استصحاب الكثير من المماليك. وكان الملك المعز قد كمن فى عطفة من عطفات الدهاليز مملوكه الأمير سيف الدين قطز- ومعه عشرة من المماليك المعزّيّة، من ذوى القوة والإقدام. فلما وصلوا إلى ذلك المكان، تأخر السلطان: واسترسل الأمير فارس الدين على ما هو عليه، وتقدم إلى المكان. فوثبوا عليه، وقتلوه. قال: وأمر الملك المعز بغلق قلعة الجبل، فغلقت. وركب مماليكه وحاشيته- وكانوا نحو سبعمائة فارس- وجماعة من البحرية، وقصدوا قلعة الجبل، وظنوا أنه قد قبض عليه، ليطلقوه. فلما صاروا تحت القلعة، أمر السلطان بإلقاء رأسه إليهم، من أعلى السور فعلموا

فوات الأمر فيه، فتفرقوا. وكانت هذه الواقعة شبيهة بواقعة عمرو بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن مروان «1» . وتفرّق شمل البحريّة لمقتله، وانتشر نظامهم. وكان من خبره ما نذكره. ولما قتل الأمير فارس الدين أقطاى، وهرب البحرية ومماليكه، ركب السلطان الملك المعزّ بشعار السّلطنة بالقاهرة. وذلك فى يوم الأحد، سابع عشرين شعبان المذكور. وجهّز الملك الأشرف، الذى كان قد شركه معه فى الملك إلى دمشق- فى هذا الشهر. واستقلّ بالسلطنة. وانفرد بالأمر، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى. ومن المؤرخين من جعل هذا التاريخ ابتداء سلطنة الملك المعز، وجعله فيما مضى أتابكا للملك الأشرف مظفر الدين موسى. إلا أن الأمر منذ خلعت شجر الدر نفسها، كان للملك المعز، مع تمكّن الأمير فارس الدين أقطاى من الدولة وتحكّمه. وفى هذه السنة، أقطع الأمير جمال الدين أيد غدى العزيزى دمياط- زيادة على إقطاعه- وكان متحصّلها يومئذ ثلاثين ألف دينار.

ذكر أخبار الأمراء البحرية، وما اتفق لهم بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى

وفيها، عزل قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى، عن تدريس المدرسة الصالحية، بالقاهرة المعزّيّة. وفوض ذلك لشيخ الاسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام. وتوجه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى الى الحجاز الشريف، من جهة البحر، وعاد فى البر. وفى هذه السنة، وصلت الأخبار من مكة- شرفها الله تعالى- أن النار ظهرت من بعض جبال عدن، وأن شررها يطير فى الليل ويقع فى البحر، ويصعد منها دخان عظيم فى النهار. فظن الناس أنها النار التى أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تظهر فى آخر الزمان، وهى من أشراط «1» الساعة. فتاب الناس، وأقلعوا عما كانوا عليه من الظلم والفساد، وشرعوا فى أفعال الخير والصّدقات. ذكر أخبار الأمراء البحرية، وما اتفق لهم بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى قد رأينا أن نذكر أخبار الأمراء البحريّة فى هذا الموضع- متتابعة- من حين هربهم، ولانقطعها بالسنين، لتكون أخبارهم سياقة يتلو بعضها بعضا. كان من خبرهم، أنه لما شاع الخبر بمقتل الأمير فارس الدين أقطاى، واتصل ذلك بالأمراء خوشداشيّته- وفيهم الأمير ركن الدين البندقدارى،

والأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير شمس الدين سنقر الأشفر. والأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى، والأمير بدر الدين بيسرى الشّمسى، والأمير سيف الدين سكر، والأمير عز الدين أزدمر السّيفى، والأمير سيف الدين سنقر الرّومى، والأمير سيف الدين بلبان المستعربى، والأمير سيف الدين برامق، وغيرهم من الأمراء، ومن انضم إليهم من خوشداشيهم- خرجوا من القاهرة ليلا، وأحرقوا باب القراّطين، وتوجهوا إلى الشام. واعتقل السلطان- الملك المعزّ- من بقى منهم بالقاهرة. وتوجه الذين خرجوا من القاهرة حتى نزلوا غزّة، وكاتبوا السلطان الملك الناصر صاحب الشام، وسألوه أن يأذن لهم فى الوصول إليه، فأجابهم إلى ذلك. ووصلوا إليه، فأنعم عليهم بالأموال والخلع، وأقطعهم الإقطاعات. وأقاموا عنده يحرّضونه على قصد الديار المصرية، فما وثق بهم. وكان الملك المعز قد كتب إليه وخيّله منهم، وأوهمه: فطلب الملك الناصر من الملك المعز القدس وجميع البلاد الساحلية- التى كان قد أخذها منه عند وقوع الصلح- بحكم أنها كانت جارية فى إقطاع البحرية، وأنهم انتقلوا إلى مملكته، واستقروا فى خدمته، فأعادها الملك المعزّ إليه. فأمّر الملك الناصر كل من له إقطاع فى هذه البلاد على إقطاعه، وكتب مناشير بذلك. وأقاموا فى خدمته إلى سنة خمس وخمسين وستمائة. ثم فارقوه، لما رأوه من ضعف رأيه، وتوجهوا إلى نابلس. وقصدوا الملك المغيث صاحب الكرك، فوصلوا إلى خدمته- فى عاشر شوال- فقبلهم وأكرمهم فالتمسوا منه المساعدة على قصد الديار المصرية، وأوهموه أن الأمراء بالديار المصرية كانبوهم، وراسلوهم فى ذلك. فجمع الملك

المغيث من قدر عليه، وسار بهم وبسائر البحرية- وذلك فى سلطنة الملك المنصور نور الدين، بن الملك المعز. فخرج إليهم الأمير سيف الدين قطز المعزّى بالعساكر المصرية، والتقوا واقتتلوا- فى يوم السبت الخامس والعشرين، من ذى القعدة، سنة خمس وخمسين وستمائة. فانكسر الملك المغيث، ومن معه من البحرية. واستولى العسكر المصرى على أثقالهم. وقتل: الأمير عز الدين الرّومى الصالحى، وسيف الدين الكافورى، وبدر الدين إيغان الأشرفى. وأسر الأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى. ولما أسر الأمير سيف الدين قلاوون، ضمنه الأمير سيف الدين قيزان المعزّى أستاذ الدار السلطانية، فما تعرض إليه أحد. وأقام بالقاهرة برهة يسيرة. ثم تسحب واختفى بالحسينيّة، عند الأمير سيف الدين قطليجا الرومى. وقصد اللحاق بخوشداشيّته، فزوّده وجهّزه، فتوجه إلى الكرك. ثم فارق البحريّة الملك المغيث، وتوجهوا نحو الغور «1» . فصادفهم الأمراء الشّهرزوريّة «2» ، عندما جفلوا من بلاد الشّرق. فاجتمع البحرية بهم، وتزوج الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى- وهو الملك الظاهر- منهم. فبلغ الملك الناصر ذلك، فجهز جيشا لقتالهم، فالتقوا بالغور،

واقتتلوا. فانهزم العسكر الناصرى. فغضب الملك الناصر لذلك، وخرج بنفسه إليهم. فعلموا عجزهم عن مقابلته، فتوجهوا إلى الملك المغيث بالكرك، وتوجه الشّهرزوريّة إلى الديار المصرية. واتّفق للأمير ركن الدين البندقدارى مع الملك المغيث حكاية عجيبة. وهو أنه كان فى يده نتوء فى اللحم شبه خرزة، فجلس فى بعض الأيام بين يدى الملك المغيث- وقد أتى بلوز أخضر وعسل، فجعل يفرك اللّوز على العسل- فنظر الملك المغيث إلى النتوء الذى فى يده، فقال: ما هذا يا ركن؟ قال: هذه خرزة الملك! فتغير وجه الملك المغيث، وعلم جرأته. وقصد قتله، ثم تركه. أخبرنى بذلك المولى شرف الدين أبو الروح، عيسى بن الملك المغيث، عمن حضر هذه الواقعة وسمع ذلك من لفظهما. قال المؤرخ: ولما بلغ الملك الناصر عود البحرية إلى خدمة الملك المغيث، كتب إليه يطلب منه تسليمهم، ويهدده إن لم يفعل. فدافع عنهم. فسار الملك الناصر بنفسه، ونزل ببركة زيزا «1» ، وعزم منازلة الكرك- إن أصر الملك المغيث على الامتناع من تسليمهم إليه. وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى قد تخيّل «2» من الملك المغيث، للحكاية التى قدمناها. فأرسل إلى السلطان الملك الناصر الأمير بهاء الدين أمير أخور ليلا «3» ، يطلب منه الإذن فى حضوره إلى خدمته، ومفارقة

الملك المغيث، وأن يستحلفه له ولجماعة معه أن لا يغدر بهم، وأن يكون السفير فى ذلك الأمير عماد الدين بن المجير. فأجاب الملك الناصر إلى ذلك. فبعث إليه الأمير ركن الدين الشيخ يحيى، برسالة، مضمونها: أن يحلف له ولعشرين من أصحابه، وأن يقطعه خبز مائة فارس، وشرط أن تكون قصبة نابلس وجينين «1» وزرعين «2» مما يقطعه له. فأجاب إلى نابلس لا غير، وحلف له. فقدم الأمير ركن الدين إلى الملك الناصر، فى العشر الأول من شهر رجب- وصحبته الجماعة الذين حلف لهم، وهم: الأمير بدر الدين بيسرى الشّمسى، والأمير سيف الدين أتامش المسعودى، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى، وجمال الدين أقش الرّومى، وسيف الدين بلبان الدّاودار، وعلاء الدين كشتغدى الشّمسى، وحسام الدين لاجين الدّوادار، المعروف بالدّرفيل، وعلاء الدين أيدغمش الحكيمى، وعلاء الدين كستغدى المشرفى، وعز الدين أيبك الشيخ، وركن الدين بيبرس خاص ترك الصغير، وسيف الدين بلبان المهرانى، وعلم الدين سنجر الأسعدى، وعلم الدين سنجر الهمامى، وشمس الدين أباز الناصرى، وشمس الدين طمان، وعز الدين أيبك العلائى، وحسام الدين لاجين

الشّقيرى، وسيف الدين بلبان الأقسيسى، وعلم الدين سلطان الألدكزى- فأكرمهم الملك الناصر، ووفى لهم، وخلع عليهم وأحسن إليهم، وأقطعهم. ثم أمسك الملك المغيث من بقى عنده من البحرية، وسيّرهم إلى الملك الناصر، وهم: الأمير سيف الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين سكز، والأمير سيف الدين برامق- فأرسلهم الملك الناصر إلى قلعة حلب، واعتقلهم بها. حتى استولى هولاكو على حلب، فأفرج عنهم وأضافهم إلى عسكره. وبقى الأمير ركن الدين البندقدارى، والأمير سيف الدين قلاوون، وغيرهما، ممن لم يمسك من خوشداشيّتهما، فى خدمة الملك الناصر، إلى أثناء سنة ثمان وخمسين وستمائة. ففارقوه، لما ملك التتار حلب، وعلموا عجزه عن ملاقاتهم، ففارقوه وتوجهوا إلى غزّة. وكان للبحرية فى بعض هذه المدة أحوال يطول شرحها، حتى أعوزهم القوت فى بعض الأوقات. ثم اجتمعوا بعد مفارقة الملك الناصر، وتوجهوا إلى خدمة الملك المظفر سيف الدين قطز، وشهدوا معه حرب التتار- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى موضعه. فلنرجع إلى سياقة أخبار الملك المعز.

واستهلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة:

واستهلّت سنة ثلاث وخمسين وستمائة: ذكر مخالفة الأمير عز الدين أيبك الأفرم وخروجه عن الطاعة، وتجريد العسكر إليه وإلى من وافقه، وانتقاض أمره كان الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى أقام فى البلاد، بعد أن هزم الأمير فارس الدين أقطاى الصالحى العرب- كما تقدم- وتأخر هو لتمهيد البلاد. فلما قتل الأمير فارس الدين أقطاى، تظاهر بالعصيان، واستولى على الأعمال القوصيّة- بموافقة متولّيها الأمير ركن الدين الصّيرمى. واستولى أيضا على الأعمال الإخميميّة والأسيوطيّة، وقطع الحمول عن بيت المال بقلعة الجبل من هذه الأعمال، واقتطع الأموال لنفسه. ووافقه الشريف حصن الدين بن ثعلب. فندب السلطان العساكر لذلك، وقدّم عليها الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى. فتوجه إلى جهة الصعيد، وظفر بالشريف حصن الدين بن ثعلب. فأحضره إلى السلطان، فاعتقله بقلعة الجبل، ثم نقله إلى ثغر الإسكندرية، واعتقله هناك. فلم يزل فى الاعتقال، إلى أن شنقه السلطان الملك الظاهر ركن الدين- على ما نذكره

وأما الأمير عز الدين الأفرم، فإنه [] «1» وأما الأمير ركن الدين الصّيرمى- متولّى الأعمال القوصية- فإنه كان قد ظن أنه يستبدّ بالأمر، ويستولى على البلاد ويستمر له ذلك، وتخيّل ذلك بذهنه. فلما انتقض عليه هذا الأمر، تحيّل فى الهرب، وتوجه إلى دمشق. والتحق بخدمة السلطان الملك الناصر. وكان وصوله إلى دمشق فى جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة- بعد أن نهبت أمواله، وقتلت رجاله. ولما وصل، أنزل بالمدرسة العزيزيّة «2» على الشّرف الأعلى، فقال للفقهاء: اعذرونى، فأنتم اخلوا لى الجوسق الذى على الميدان، وما أنتقل إليه إلا بطالع. وأحضر المنجمّ، وأخذ له الطالع، وانتقل إلى الجوسق. فاستقل الناس عقله.! فإنه وصل من النهب والهرب، والشّتات وقتل الرجال، وهو يتمسك بالطوالع وأقوال المنجّمين.

واستهلت سنة أربع وخمسين وستمائة:

واستهلّت سنة أربع وخمسين وستمائة: ذكر تفويض قضاء القضاة بالديار المصرية للقاضى: تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف فى هذه السنة، فوّض السلطان- الملك المعز- قضاء القضاة بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة: تاج الدين عبد الوهاب، بن القاضى الأعزّ خلف، بن محمود بن بدر العلامى «1» - وهو المعروف بابن بنت الأعزّ. وكتب له تقليد شريف معزّى، تاريخه تاسع شهر رمضان. وكان ذلك جاريا «2» فى ولاية قاضى القضاة: بدر الدين يوسف السّنجارى. فاستقر القاضى بدر الدين- قاضى القضاة- بالقاهرة والوجه البحرى. ثم فوّض ذلك، فى بقية هذا الشهر، لقاضى القضاة تاج الدين- المشار إليه- بتقليد تاريخه لثمان بقين من شهر رمضان من السنة. فكمل له بهذه الولاية قضاء القضاة بالمدينتين، والعملين القبلى والبحرى، وسائر أعمال الديار المصرية. وعزل قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى عن القضاء.

وقد شاهدت تقليدى قاضى القضاة تاج الدين. ونسخة التقليد الأول- بعد البسملة، ومثال العلامة المعزية:- «حسبى الله. الحمد لله مقيم منار الشريعة الهادية، وناشر أعلامها. ورافع محلّها على الشرائع ومعلى مقامها. وهادى الخليقة إلى اتباع أقضيتها وأحكامها. وناصر دينه باتّساقها وانتظامها. ومشيد أركانها بصالحى أئمّتها وحكامها، وجاعلهم أئمة يهدون بأمره فى نقض الأمور وإبرامها. وصلّى الله على سيدنا محمد، خاتم الرسل وإمامها. ومنير الملّة بعد إظلامها. وعلى آله وأصحابه، نجوم سماء المعارف وبدور تمامها- صلاة لا تنقطع مادة دوامها، ولا يأتى النّفاد على لياليها وأيامها. أما بعد. فإنا لما فوّض الله إلينا من أمور بريّته، واستحفظنا إياه من تدبير خليقته، وآتانا بقدرته من اليد الباسطة، وجعلنا بينه وبين عقد خلقه الواسطة، ومنحناه من السلطان والتّمكين، وخصّنا به من الفضل المبين- لا نزال من حسن التدبير فى تصعيد وتصويب، ومن مصالح الإسلام فى تمهيد وترتيب، ومن الرأى الأصيل فى خبب وتقريب «1» ، عالمين بأن الله تعالى يسأل كلّ راع عما استرعاه، وكلّ ساع عما سعاه، ويحاسبه عليه يوم رجعاه، ويجد عمله مكتوبا مسطّرا، وتجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا- وكان أولى الأمور بالنظر، وأحقّها أن يصان صفوها عن الكدر،

منصب الشريعة، الذى هو ملاك الدين وقوامه، وانتظام الإسلام والتئامه، والطريق التى فرض الله اتباعها على خلقه، والسبيل التى من فارقها فقد خلع ربقة «1» الإسلام من عنقه-. ارتدنا لهذا المنصب الشريف من يرعاه ويصونه، وتجرى على يده حياطته وتحصينه. ونظرنا فيمن يقع عليه سهم الاختيار، ويظهر جوهره الابتلاء والاختبار. فكان المجلس السامى القاضى الأجلّ، الإمام الصدر، الفقيه الكبير العالم العامل الفاضل، الأعزّ المرتضى، الورع الكامل المجتبى، الأشرف السعيد، تاج الدين جلال الإسلام، مفتى الأنام، شمس الشريعة، صدر العلماء، قاضى القضاة، سيد الحكام، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب بن القاضى الأجل، الفقيه العالم الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وتمكينه، ورفعته وتمهيده، وقرن بالنّجح قصوده- طلبتنا المنشودة، وإرادتنا المقصودة. لما جمع الله فيه من الخلال الفاخرة، والديانة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، والعلم الذى أمسى به للهداة علما، وعلى أئمة وقته مقدّما. وأصبح كل مانع إليه مسلّما. وراح بقداح الفضائل فائزا، ولكنوز العلوم الشريفة حائزا. فهو فقيه مصره، لا،

بل فقيه عصره. وبكّار «1» زمانه علما وورعا، وسوّار «2» وقته تقمّصا بالتقوى وتدرّعا. قدّمنا خيرة الله تعالى، وولّيناه قضاء القضاة وحكم الحكام، بمصر المحروسة، وجميع الوجه القبلى: من البرّين الشرقى والغربى، إلى منتهى ثغر عيذاب «3» ، وما يجاوره- من حدود مملكتنا، وبلاد دعوتنا، وجميع ما فى هذه الولاية من المدارس وأوقافها، وكلّ ما كان فى نظر القاضى الفقيه شرف الدين بن عين الدولة- رحمه الله- من ذلك، وما استجدّ بعده، واستقرّ فى نظر الحكام. وفوّضنا إليه ذلك التفويض التام. وبسطنا يده فى الولاية والعزل. وحكّمناه فى العقد والحلّ. فليستخر الله فى تقلّد ما قلّدناه، وقبول ما فوّضناه إليه ورددناه. وليحكم بين الناس بما أراد الله. فإن قبول ذلك يجب عليه وجوبا، لما يتحقق أن الله يجريه فى أحكامه، ويقدّره فى أيامه، من حياطة الدين ومصالح المسلمين.

وإذا احتاج الحكّام وولاة الأمور إلى وصايا يطال فيها ويطنب، ويبالغ فى توكيدها ويسهب- وجدناه غنيّا عن ذلك، بما سنّاه الله له ويسّره، وخلقه من كماله وقدّره، ومثله لا يوصّى، ولا يستوعب له القول ولا يستقصى. والله تعالى يرقّيه إلى درجات الكرامة، ويجعل فيما فوّض صلاح الخاصّة والعامّة والاعتماد فيه على العلامة الشريفة، السلطانية الملكية المعزّيّة- زاد الله علاها وشرفها، إن شاء الله عز وجل. كتب فى التاسع من شهر رمضان، سنة أربع وخمسين وستمائة. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيّبين الطّاهرين، وسلم تسليما كثيرا. وحسبنا الله ونعم الوكيل» . ونسخة التقليد الثانى: «الحمد لله، كافل المزيد لمن شكره، ورافع الدرجات لمن أطاعه فيما نهاه وأمره، وهادى أمّة الحق إلى السبيل الذى يسّره، وشرعه الذى ارتضاه لدينه وتخيّره. وجاعل العلماء ورثة أنبيائه، فيما أباحه من الأحكام وحظّره. أحمده حمدا لا يحصى عدده. وأشكره شكرا يتجدّد كلما طال أمده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، شهادة تستنفد الإمكان. ويشهد بالإخلاص فيها الملكان-. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى اصطفاه وانتخبه. وفرض اتباعه على خلقه وأوجبه. وبعثه رسولا فى الأميّين. وأرسله رحمة للعالمين.

ونصب شريعته سبيلا منجّيا. وطريقا إلى الرسل مؤدّيا. وشرف رتبتها وعظّمها. وأعلى قدر من رقى ذروتها وتسنّمها- صلى الله عليه- ما تعاقب شمس وقمر. وذكر مبتدأ وخبر وجرى بالكائنات مشيئة وقدر. وعلى الأنبياء الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار، وجعلهم من المصطفين الأخيار. وعلى آله أولى الأيدى والأبصار. وأصحابه المهاجرين والأنصار. صلاة دائمة الاستمرار. باقية على تعاقب الليل والنهار. أما بعد، فإن الله. تعالى- جعل شريعة نبيّه صراطا متّبعا وطريقا مهيعا «1» ومحلّا مرتفعا. وأنزل بتعظيمها قرآنا، وجعلها بين الحق والباطل فرقانا. فقال مخاطبا لنبيّه- تنبيها وتعليما، وتبجيلا لقدرته وتعظيما: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. وعظّم قدر العلماء فى آياته المحكمات، وكلماته البيّنات، فقال عزّ وجل: يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات. فتعيّن بذلك على ولاة الأمور، من الاجتهاد المأثور، أن يتخيّروا لهذا المنصب الشريف، من الولاة: من هو أجلّهم علما. وأعدلهم حكما، وأنفذهم فى الحقّ سهما. وأضواهم حسّا، وأشرفهم نفسا، وأصلحهم يوما وأمسا. وأطهرهم وأورعهم. وأجداهم للإسلام وأنفعهم. وكنا قد مثلنا كنانة «2» العلماء بمصرنا، فعجمنا عيدانها. واختبرنا أعيانها. فوجدنا المجلس العالى: القاضى الأجلّ، الصدر الكبير، الإمام

العالم العامل. الزاهد العابد، الكامل الأوحد، المجتبى المؤيد الأعز الأسعد، تاج الدين جلال الإسلام، ضياء الأنام، بهاء الملّة، شمس الشريعة سيد الحكام، قدوة العلماء: يمين الملوك والسلاطين، قاضى قضاة المسلمين، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب، بن القاضى الفقيه، الأجلّ الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وبسطته، وتمكينه ورفعته- قد زادت صفاته على هذه الصفات، وأوفت عليها أتمّ الموافاة. واختبرنا منه رجلا، لو عرضت عليه الدنيا لم يردها. ولو صوّر نفسه لم يزدها. ووقع على سيادته إجماع الحاضرين والبادين، والمسودين والسّائدين. وشهدوا بها، ونحن على ذلك من الشاهدين. ففوّضنا إليه ما فوّضناه: من قضاء القضاة بمصر المحروسة، والأقاليم القبلية، وما معها. والأوقاف والمدارس وما جمعها- الجارية فى نظر الحكم العزيز. ثم تجدّد لنا نظر يعمّ المسلمين شانه، ومنظر يرمقهم بالمصالح إنسانه. وعلمنا أن هذه الولاية بعض استحقاقه، وأنها قليلة فى جنب نصحه للمسلمين وإشفاقه. وأن صدره الرحيب لا يضيق بأمثالها ذرعا، ولا يعجز- بحمد الله- أن يرعيها بصرا من إيالته وسمعا. إذ كان قد. أحيى بها السّنّة السّلفيّة، وأظهر أسرار العدل الخفيّة. وزاد الحقّ بنظره وضوحا، والمعروف دنواّ والمنكر نزوحا- رأينا أن نجمع إليه قضاء القضاة بالقاهرة المعزية والوجه البحرى، وما كان يتولاه من قبله، من أوقاف البلاد ومدارسها، وربطها ومحارسها، ومنابت العلوم ومغارسها. وقد أكملنا له بذلك قضاء القضاة بجميع الديار المصرية: أرجاء وأكنافا، ومداين وأريافا، وأوساطا وأطرافا. وجعلناه الحاكم فى أقضيتها،

والمتصرف فى أعمالها ومدانيها. وأقاصى بلادها وأدانيها. وأطلقنا يده فى أحكامها، وما يراه من تولية وعزل لحكّامها. والنظر فيما كان الحكّام قبله يتولونه من الوقوف. وهو غنىّ أن يوصّى بنهى عن منكر أو أمر بمعروف. لما فيه من صفات الكمال، وشريف الخلال. ولم نستوف وصية فى عهدنا إليه ولم نستقصها، واستغنينا عن مبسوط الأقوال بملخّصها- تحقّقا أنه صاحب قياس الشريعة ونصّها. فليحكم بما فوّضناه إليه، وبسطنا فيه يديه: من الجرح والتّعديل «1» ، والإقرار والتّبديل. والله يوفّقه فيما تولاه قائلا وفاعلا، ويرشده لمراضيه مسئولا وسائلا، ويجعل الصلاح للكافّة به شاملا. ويقرن التقوى بلسانه وقلبه، ويلبسه من السعادة ملبسا لا تتخطّى الخطوب إلى سلبه. ويجعله داعيا إلى الله على بصيرة من ربه. إن شاء الله عز وجل. «كتب لثمان بقين من شهر رمضان المعظم، من سنة أربع وخمسين وستمائة. بالإشارة العالية الصاحبية، الوزيريّة المولويّة الشّرفيّة، ضاعف الله علاها. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله، وسلّم. حسبنا الله ونعم الوكيل» . وكتب الوزير الصاحب شرف الدين الفائزى- على كلّ من هذين التقليدين، تحت خط السلطان فى بيت العلامة، ما مثاله: «تمثيل الأمر العالى- أعلاه الله وشرّفه» .

ذكر ما حدث بالمدينة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - من الزلازل، والنار التى ظهرت بظاهرها

وقد نقلت ذلك من التقليدين، كما شاهدته. ولم يتعرض الموقّع فيهما إلى ذكر جامكيّة «1» ولا جراية. والله أعلم. ولم تطل مدة هذه الولاية. فإنه صرف فى السنة التى تليها، سنة خمس وخمسين- فى ثالث شهر ربيع الأول، وقيل بعد ذلك بقليل. والله أعلم. ذكر ما حدث بالمدينة النبوية- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- من الزلازل، والنار التى ظهرت بظاهرها وفى سنة أربع وخمسين وستمائة، وردت كتب من المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- بخبر هذه الحادثة. من جملتها، كتاب القاضى شمس الدين سنان، بن عبد الوهاب بن نميلة الحسينى- قاضى المدينة- وإلى بعض أصحابه بدمشق، مضمونه: «لما كانت ليلة الأربعاء. ثالث جمادى الآخرة- حدث بالمدينة فى الثّلث الأخير من الليل، زلزلة عظيمة، أشفقنا منها، ودامت بقيّة تلك الليلة. تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات. والله، لقد زلزلت مرة، ونحن حول حجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى اضطرب لها المنبر، وسمعنا منه صوت الحديد الذى فيه! واضطربت قناديل الحرم الشريف! ودامت

الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوىّ مثل دوىّ الرعد القاصف! ثم طلع، يوم الجمعة، فى طريق الحرّة «1» فى رأس قريظة، على طريق السّوارقيّة «2» بالمقاعد، مسيرة من الصبح إلى الظهر- نار عظيمة مثل المدينة العظيمة! وما ظهرت لنا إلا ليلة السبت. وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما. وطلعت إلى الأمير وكلّمته، فقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى. فأعتق مماليكه، وردّ على جماعة أموالهم. فلما فعل هذا، قلت له: اهبط الساعة معنا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. فهبط، وبتنا ليلة السبت، والناس جميعا والنسوان وأولادهم، وما بقى أحد، لا فى النخيل ولا فى المدينة- إلا عند النبى صلى الله عليه وسلم. وأشفقنا منها، وظهر لها لسان- حتى رؤيت من مكة، ومن الفلاة جميعها. ثم سال منها نهر من نار، وأخذ فى وادى أحيلين «3» ، وسدّ الطريق. ثم طلع إلى بحرة الحاج، وهو نهر نار يجرى- وفوقه جمر تسير إلى أن قطعت الوادى- وادى الشّظاة «4» . وما عاد يجىء فى الوادى سيل قط،

لأنها حرّة، تجى قامتين وثلاثا علوّها. وتمت تسير، إلى أن سدّت بعض طرق الحاج، وبعض البحرة، بحرة الحاج. وجاء فى الوادى إلينا منها قتير «1» وخفنا أنه يجيئنا. واجتمع الناس، ودخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم، وياتوا عنده جميعهم ليلة الجمعة. فطفىء قتيرها الذى يلينا، بقدرة الله سبحانه. وهى الى الآن وما نقصت، الّا ترى مثل الجمال حجارة من نار. لها دوىّ، ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب. وما أقدر أصف لك عظمها، وما فيها من الأهوال. وأبصرها أهل التّنعيم «2» ، وندبوا قاضيهم ابن أسعد. وجاء وعدّى اليها، وما قدر يصفها من عظمها. قال: وكتبت الكتاب، يوم خامس رجب، وهى على حالها، والناس منها خائفون. والشمس والقمر، من يوم طلعت، ما يطلعان إلا كاسفين. نسأل الله العافية. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: بان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان. وكنا حيارى من ذلك، لا ندرى ما هو؟ إلى أن اتضح، وجاء هذا الخبر عن هذه النار.

وجاء كتاب آخر من بعض بنى القاشانى بالمدينة، يذكر فيه خبر هذه الحادثة، نحو ما تقدم، ويقول: «ومن قبل ذلك بيومين، سمع الناس صوتا مثل صوت الرعد- ساعة بعد ساعة- وما فى السماء غيم، حتى يظنّ أنه منه. ثم زلزلت الأرض فى يوم الأربعاء المذكور آنفا، فرجفت بنا رجفة لها صوت كدوى الرعد. ففزع الناس إلى المسجد، وضجّوا بالستغفار والصلاة. ودامت ترجف بالناس، ساعة بعد ساعة، من ليلة الأربعاء إلى صبح يوم الجمعة. فارتجت الأرض رجة قوية، إلى أن اضطرب بنا المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم! وسكتت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة، إلى قبل الظهر. ثم ظهرت نار من الحرّة تتفجر من الأرض، فارتاع الناس لها روعة عظيمة. ثم ظهر لها دخان عظيم فى السماء، ينعقد، حتى بقى كالسحاب الأبيض، يتصل إلى قبيل مغيب الشمس من يوم الجمعة. ثم ظهر للنار ألسن تصعد إلى السماء حمر، وعظمت حتى غطّت حمرة النار السماء كلّها. وبقى الناس فى مثل ضوء القمر. وأيقن الناس بالهلاك والعذاب. وذكر من توبة الناس، وفعل الأمير بالمدينة وعتقه مماليكه، ووضعه المكوس، نحو ما تقدم. قال: وبقيت النار تلتهب التهابا، وهى كالجبل العظيم، ولها حسّ كالرعد. فدامت كذلك. فدامت كذلك أياما. ثم سالت فى وادى أحيلين «1» ، فتحدرت فى الوادى إلى الشّظاة، حتى لحق سيلانها بالبحرة

بحرة الحاج، والحجارة معها تتحدر وتسير، حتى كادت تقارب حرّة العريض. ثم سكنت ووقفت أياما. ثم عاد يخرج من النار حجارة أمامها وخلفها، حتى بنت جبلين أمامها وخلفها، وما بقى يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما. ثم انها عظمت الآن، وسناها إلى الآن، وهى تتّقد كأعظم ما يكون. ولها صوت عظيم من آخر الليل إلى صحوة فى كل يوم. ولها عجائب ما أقدر أصفها، ولا أشرحها لك على الكمال. وإنما هذا منها طرف. قال: وكتبت هذا الكتاب، ولها شهر وهى فى مكانها، ما تتقدم ولا تتأخر. وقال بعض أهل المدينة فى ذلك شعرا، وهو: يا كاشف الضّرّ: صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا، ونحن بها، حقاّ أحقّاء زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شمّاء أقام سبعا يرجّ الأرض، فانصدعت ... عن منظر، منه عين الشمس عشواء بحر من النار، تجرى فوقه سفن ... من الهضاب، لها فى الأرض إرساء كأنما فوقه الأجبال، طافية ... موج علاه لفرط الهيج غثّاء «1» يرى لها شرر كالقصر طائشة ... كأنّها ديمة تنصبّ هطلاء تنشقّ منها قلوب الصّخر، إن زفرت ... رعبا، ويرعد مثل السّعف رضواء منها تكاثف فى الجوّ الدّخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهى دهماء

ذكر خبر احتراق مسجد المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

قد أثّرت سفعة فى البدر لفحتها ... قليلة التّمّ بعد النور ليلاء تحدّث النّيرات السّبع ألسنها ... بما يلاقى بها تحت الثّرى الماء وقد أحاط لظاها بالبروج، إلى ... أن كاد يلحقها بالأرض إهواء فيالها آية «1» من معجزات رسول ... الله يعقلها القوم الألبّاء فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذّنوب، وساء القلب أسواء «2» فاسمح وهب وتفضّل وامح واعف وجد ... واصفح «3» ، فكل لفرط الجهل خطّاء فقوم يونس لما آمنوا أمنوا ... كشف العذاب، وعمّ القوم نعماء ونحن أمة هذا المصطفى، ولنا ... منه إلى عفوك المرجوّ دعّاء هذا الرسول الذى لولاه ما سلكت ... محجّة فى سبيل الله بيضاء فارحم وصلّ على المختار، ما خطبت ... على علا منبر الأوراق ورقاء ذكر خبر احتراق مسجد المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وفى هذه السنة- فى ليلة الجمعة أول شهر رمضان- احترق مسجد المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

ابتدأ حريقه من زاويته الغربية، من الشمال. وكان سبب ذلك أن أحد القومة دخل إلى الخزانة، ومعه نار، فعلقت فى آلات ثمّ، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبّت فى السقوف، فأعجلت الناس عن قطعها. فما كان إلا ساعة، حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، [ووقعت «1» بعض أساطينه وذاب رصاصها- وذلك قبل أن نام الناس. واحترق سقف الحجرة الشريفة] . قلت: وفى وقوع هذه النار معجزة لنبينا- صلى الله عليه وسلم، فإن الخلفاء والملوك بعده- صلى الله عليه وسلم- زادوا فى عمارة المسجد بأنواع من العمارة، وتفنّنوا فى النقوش والإتقان، وهو- صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، وقال- فى مرضه الذى انتقل فيه إلى جوار ربه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وقالت عائشة- رضى الله عنها- ولولا ذلك لأبرز قبره- صلى الله عليه وسلم. فجاءت هذه النار، فأكلت ما كرهه صلى الله عليه وسلم.

واستهلت سنة خمس وخمسين وستمائة:

واستهلّت سنة خمس وخمسين وستمائة: ذكر مقتل السلطان الملك المعز وشىء من أخباره، ومقتل شجر الدر الصالحية كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة. وسبب ذلك أن شجر الدّرّ- سرّيّة «1» الملك الصالح زوجته- اتصل بها أنه سيّر يخطب ابنة صاحب الموصل فتنكرت لذلك. وكان هو أيضا قد تغيّر عليها، بسبب امتنانها عليه، وأنها هى التى ملّكته الديار المصرية، وسلمت إليه الخزائن. وعزم المعزّ على قتلها، فلم يخفها ذلك. فبادرت بالتدبير عليه، واتفقت هى ومحسن الجوجرى الخادم، ونصر العزيزى، على قتله. فلما كان فى هذا التاريخ، طلع الملك المعزّ من الميدان إلى قلعة الجبل عقيب اللعب بالكرة- فأمر بإصلاح الحمّام، وعبر إليها. فدخل عليه محسن الجوجرى، وغلام له شديد القوة، فقتلوه فى الحمّام!

وشاع الخبر بقتله، فى بكرة نهار الأربعاء، فسمّر محسن الجوجرى الخادم وغلامه على باب قلعة الجبل. وأما نصر العزيزى فإنه هرب إلى الشام. وأحضرت شجر الدر إلى أم نور الدين بن الملك المعز، فما زالت تضربها- هى وجواريها وخدمها- إلى أن ماتت. وألقيت من أعلى السور الى الخندق. وبقيت أياما عريانة ملقاة فى الخندق. ثم حملت ودفنت فى تربتها المجاورة لمشهد السيدة نفيسة. وكانت شجر الدر هذه سرّيّة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهى والدة خليل ابنه. وكانت قد ملكت الديار المصرية، وخطب لها وخرجت تواقيعها ومناشيرها، بالأرزاق والمباشرات والإقطاعات- وقد تقدم ذكر شىء منها. ولما ملك السلطان الملك المعز وتزوجها، ما زالت تخاطب بالسلطنة، وتخرج تواقيعها بالاطلاقات وإبطال الحوادث وكف المظالم، فتنفذ كنفوذ التواقيع السلطانية. وقد شاهدت منها توقيعا على ظهر قصة، مترجمها على بن هاشم، مضمونها: «يقبّل الأرض بالمقام العالى السلطانى الخاتونى، عصمة الدين، بسط الله ظلها فى مشارق الأرض ومغاربها- وينهى أن له خدمة على مولانا الشهيد- قدّس الله روحه- وله مليك اقتناه فى أيامه، ولم يسقّع «1» عليه قط. وفى هذه الأيام التمسوه، وسأل إجراءه على عادته، من غير حادث.

وخرج التوقيع فى ظهرها، ومثال العلامة عليه: والدة خليل الصالحية: «المرسوم، بالأوامر العالية المولوية السلطانية- زادها الله شرفا وعلوا- أن يجرى الأمير الأجل الأخص الأمجد الأعز: نور الدين مترجمها- أدام الله توفيقه- على عادته. ولا يطلب بسبب تصقيع «1» ولا غيره، وليعف من ذلك- رعاية لحق خدمته على الدولة الشريفة، ولقدم هجرته وانقطاعه إلى الله تعالى. فليعتمد ذلك بعد الخط الشريف أعلاه وثبوته- إن شاء الله تعالى. كتب فى ثانى عشرين جمادى الآخرة، سنة ثلاث وخمسين وستمائة- برسالة الطواشى شرف الدين مختص الجمدار- أيّده الله تعالى. وكتب عليه بالامتثال. ونفّذ حكمه وعمل بمقتضاه. وإنما شرحنا هذا التوقيع، ليعلم أن تواقيعها كانت جارية بلفظ السلطنة، فى الدولة المعزّيّة. وكانت مدة سلطنة الملك المعز ست سنين وأحد عشر شهرا، إلا أربعة أيام. وكان ملكا حازما شجاعا، سئوسا حسن التدبير- إلا أنه كان سفّاكا للدماء. قتل جماعة من خوشداشيّته بغير ذنب، ليقيم ناموس ملكه. ووزر له الصاحب الأسعد: شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى. وتمكّن منه تمكنا عظيما. وقدّمه على العساكر وصرّفه فى الأموال.

ذكر أخبار السلطان الملك المنصور نور الدين: على بن السلطان الملك المعز وهو الثانى من ملوك دولة الترك بالديار المصرية

وكان الوزير المذكور من قبط مصر. خدم الملك الفائز أخا الملك الكامل كاتبا، ثم تقدم وترقى وتنقل فى المراتب، إلى أن وزر. وتحول فى الدولة وابتاع المماليك لنفسه. وتعالى فى أثمانهم، فكان يبتاع المملوك بألف دينار عينا. واجتمع له نحو من سبعين مملوكا، يركبون فى خدمته وينزلون. وكان يقول فى وزارته: كنت كاتب المصايد بقنطرة سيوط، بدرهم وثلث فى كل يوم، ثم ترقيت إلى هذه الغاية. وكان ظالم النفس، أحدث فى وزارته حوادث كثيرة ومكوسا. واستناب القاضى زين الدين بن الزّبير، لفضيلته وكفايته ومعرفته باللغة التركية. وكان يحفظ له نظام المجلس. ولما قتل الملك المعزّ ملك بعده ولده الملك المنصور. ذكر أخبار السلطان الملك المنصور نور الدين: على بن السلطان الملك المعز وهو الثانى من ملوك دولة الترك بالديار المصرية ملك الديار المصرية بعد مقتل أبيه- رحمه الله تعالى- فى يوم الخميس السادس والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة. وذلك باتّفاق من الأمراء المعزّيّة- مماليك والده- فحلفوا له، واستحلفوا

جميع العساكر. وجعلوا الأمير فارس الدين أقطاى، المستعرب الصالحى-. خوشداش «1» والده- أتابكه، بحكم صغر سنّ الملك المنصور. ثم استقرت الأتابكية- بعد ذلك- للأمير سيف الدين قطز، المعزّى- مملوك والده. ووزر له الصاحب شرف الدين الفائزى، أياما قلائل، ثم قتل. وذلك أن الأمير سيف الدين قطز عزله عن الوزارة، وأمر بالحوطة على أمواله وأسبابه وذخائره. وكان مثريا، وله ودائع كثيرة، فتتبّعت واستخرجت ممن كانت تحت يده. واعتقل، فسأل أن يعطى مالا، فداء عن نفسه. حكى عن الصاحب بهاء الدين السّنجارى أنه قال: دخلت عليه فى محبسه، فسألنى أن أتحدث فى إطلاقه- على أن يحمل فى كل يوم ألف دينار. قال: فقلت له: كيف تقدر على هذا؟ فقال: أقدر عليه إلى تمام سنة. وإلى انقضاء سنة يفرج الله! ولما بذل هذا المال، امتنعت والدة الملك المنصور من ذلك، ولم ترض إلا بقتله. لأنها كانت مجفوّة من السلطان الملك المعزّ، وكان قد اتّخذ سرارى «2» وجعلهنّ عند الوزير شرف الدين، فنقمت ذلك عليه، وأمرت بقتله. فقتل صبرا.

ذكر أخبار الوزراء، ومن ولى وزارة الملك المنصور إلى أن استقر فى الوزارة قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز

ذكر أخبار الوزراء، ومن ولى وزارة الملك المنصور إلى أن استقر فى الوزارة قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز لما صرف الصاحب شرف الدين الفائزى، فوّضت الوزارة بعده للفقيه: نور الدين بن على بن رضوان القرافى مؤدّب الملك المنصور هذا، وخلع عليه خلع الوزراء. فامتنع أن [يخطّ] بقلمه، أو يكتب على توقيع أو منشور، واستمر كذلك عشرين يوما، واستعفى. فأرسل إليه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى، يلتمس منه أن يتحدث له فى الوزارة، ويعده أنه لا يخرج عن أمره. فقال للسلطان، ولوالدته- وكانت لا تحتجب عنه، فيما قيل- للأتابك: أنا لا أصلح لهذا المنصب، ولا أنفع ولا أنتفع به. وأشار بالقاضى بدر الدين. فعند ذلك فوّض للفقيه نور الدين هذا نظر الأحباس والأوقاف، والشافعى والخانقاه والتّرب، وغير ذلك من الأوقاف وفوّضت الوزارة لقاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى، فوليها ثلاثة أشهر وأياما، ثم عزل. وفوّضت الوزارة بعده لقاضى القضاة: تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ- وكان قد صرف عن القضاء قبل ذلك، وأعيد قاضى القضاء بدر الدين. وكانت وزارته فى العاشر من شهر رمضان، سنة خمس وخمسين وستمائة.

ونسخة التّقليد- على ما نقلته عنه- ومثال العلامة السلطانية بعد البسملة: «الحمد لله وبه توفيقى. الحمد لله الذى أوضح بعد الغىّ سبيل الرّشد. وتدارك من المجد ما أخلق من أبراده «1» الجدد. وثقّف «2» قناة الملك حتى لا يرى فيها عوج ولا أود «3» . واستغنى فى تدبير سلطانه العظيم عن وزير به يعتضد. أحمده على نعم سهّلت صعبا. وسقت على ظمأ باردا عذبا. ورجع بها ما ضاق من الأمور واسعا رحبا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذى أضحى به معهد الإيمان معهودا. ونظام المكرمات منضودا. وعلى آله وأصحابه، الذين كان سعيهم فى الإسلام محمودا، وأنوار مناقبهم متوقّدة لا تعرف خمودا. وبعد، فلما كان المجلس السامى، الصاحب الأجلّ، الصدر الكبير، الإمام العالم، الوزير الكامل، المجتبى المختار، تاج الدين، بهاء الإسلام، مجد الأنام، شرف الوزراء زين الفضلاء، رئيس الأصحاب، صفوة الملوك والسلاطين، مفتى الفرق، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب

ابن القاضى الأعز خلف- أدام الله سعادته، وقرن بالتأييد بدأه وإعادته- ممن سلكت به التّجربة حزنا وسهلا «1» ، وراض جامح الأمور ناشئا وكهلا، وتمّت كلمات تفضيله بفضائله صدقا وعدلا، وجدّدت له مساعيه الحميدة ملابس ثناء لا تبلى. وأجلى من أبكار معانيه بدورا لا تعرف أفولا ولا كسوفا، واستلّ من آرائه شعلا، فلو طبعت لكانت سيوفا. واتّسق نظام بلاغته، فكأنه نظام فريد. واستعيدت ألفاظه فما أخلقها العود على المستعيد. وحلّى بدرر مساعيه جيدا من الملك عاطلا، وعاد ربع المكارم بمناقبه عامرا آهلا. رسم بالأمر العالى المولوى السلطانى، الملكى المنصورى النّورى- شرّفه الله وأعلاه، وأنفذه وأمضاه- أن يفوّض إليه أمر الوزارة، لما علم فيه من السّودد الذى اقتاد به صعب المكارم والمفاخر، التى حاز منها ما لم يحزه الأوائل، وإن جاء فى الزّمن الآخر. والفضائل التى فاز منها بقصب السّبق، والأحكام التى تحلّى فيها بدرّ الأناة والرّفق. والسياسة التى سلك بها نهج السبيل إلى الحق. والمعالى التى أبدى فى كسبها ما أبداه، من ثغره الضاحك ووجهه الطّلق. والنزاهة التى أهّلته لأشرف المناصب، وقضت له بسلامة العواقب، والصنايع التى غذت معارفه عند مناكرة النوائب، والمكارم التى لحّت فى العلوّ، فكأنها تحاول أخذ ثأر من الكواكب

ولقد أمعنّا النظر فى إرتياده. وانتقدناه من بين الناس، فلم نأل جهدا فى انتقاده. وخطب لهذه الرّتبة الرفيعة لما أوراه فى المكرمات من زناده. وأهّل لهذا المنصب الشريف الذى يدع الآباء والأبناء من حسّاده. فليتولّ ما ولّيناه من أمر الوزارة، فهو لها من الأكفاء. وما اصطفيناه إلا هو جدير بهذا الاصطفاء. ولمثل هذه الرتبة يتخيّر الأكارم من الرجال. وإذا تناسبت الأشياء، ظهر عليها نضرة وجمال. فليرهف لتدبيره عزمه الماضى الضّرائب. وليستر بمحاسن سعيه ما يبدو له من المعايب. وليهتم بأمر الأموال، فان الأغراض منها مستفادة. وليولّ من الأمناء من يستحق منا الحسنى وزيادة. ولينعم النّظر فى عمارة البلاد. واستعمال العدل الذى به تدرّ أرزاق العباد. وبنوره يهدى إلى سبيل المراشد كلّ هاد. وعنده يوجد تصديق ظنون الرّوّاد والورّاد. وليكن لأحوال ولاة الأمور متفقّدا، وللنظر فى أحوالهم مجدّدا. وليضرب عليهم بالأرصاد مغيبا ومشهدا. وليصفح عن من لم يكن منهم للزّلّة متعمدا. فما نؤثر إلا أن يكون الإحسان للناس شاملا، والبرّ إليهم متواصلا. وما تحسن السّير إلا إذا تحلّت بالمناقب والمفاخر. وتضمنت محاسنها بطون الأوراق وصدور الدّفاتر. وليتناول من الجامكيّة والجراية «1» ، لاستقبال المباشرة فى الشهر، من العين مائة دينار من الجوالى «2» بالصّرف الحاضر. ومن الغلّات، من

الأهراء المباركة بمصر المحروسة، خمسين إردبا قمحا وشعيرا- ثلثين وثلث. ومن الراتب- الشاهد به الديوان المعمور لمن تقدّمه- النصف» . وعيّن جهات الراتب، فقال: «الخبز من المخابز، واللحم مع التّوابل والخضر المثمّنة، وما هو مقرّر على دار الوكالة مشاهرة، من عرصتى الفاكهة بالقاهرة ومصر والرّباع، وغير ذلك. والعليق المقرر على الاسطبلات من الأهراء أيضا. وإن تعذّر حصول الغلّة المقدّم ذكرها، والعليق المذكور، يثمّن بالسعر الحاضر، وتكون جهته من جهة الجامكية. فليستعن بهذا المقرّر على كلف أوقاته. وليصرفه فى وجوه نفقاته، بعد العلامة الشريفة أعلاه، وثبوته بحيث يثبت مثله، إن شاء الله تعالى. وكتب فى العاشر من شهر رمضان المبارك، سنة خمس وخمسين وستمائة، بالإشارة العالية المولويّة الأتابكيّة الفارسية- أدام الله علوّها. الحمد لله وحده. وصلواته على سيدنا محمد نبيه، وآله، وسلامه» . وكتب هذا التقليد فى ورق بغدادى فى قطع الرّبع. وعادة تقاليد الوزراء- فى وقتنا هذا- تعظّم أربابها فى النّعوت والكتابة، أكثر من هذا. وفى هذه السنة- وقيل فى السنة الآتية- كانت الوقعة بين العساكر المصرية والملك المغيث والبحرية، وانتصر العسكر المصرى، وانهزم الملك المغيث والبحرية. وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار البحرية، فلا فائدة فى إعادته.

واستهلت سنة ست وخمسين وستمائة:

واستهلّت سنة ست وخمسين وستمائة: فى هذه السنة، كانت وفاة بهاء الدين أبو الفضل زهير، بن محمد بن على بن يحيى بن الحسن، بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلّبى «1» الكاتب. كان من فضلاء عصره. وكان قد خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب، لمّا كان ينوب عن والده الملك الكامل. وتوجه فى خدمته إلى الشّرق، ولازمه إلى أن قبض على الملك الصالح واعتقل بالكرك. فأقام بنابلس محافظة لمخدومه، إلى أن خلص، فعاد إلى خدمته. وحضر فى صحبته إلى الديار المصرية، وتمكن منه واطّلع على سره. وكانت وفاته قبيل المغرب من يوم الأحد، رابع عشر ذى القعدة. ودفن من الغد، بعد صلاة الظهر، بتربته بالقرافة الصغرى، بالقرب من تربة الإمام الشافعى. ومولده بمكة- شرّفها الله تعالى- فى يوم الأربعاء، خامس ذى الحجة، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وفيها، توفّى الإمام الحافظ زكى الدين أبو محمد عبد العظيم، بن عبد القوى بن عبد الله بن سلام، بن سعد بن سعيد المنذرى.

واستهلت سنة سبع وخمسين وستمائة:

وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم السبت، أول الساعة العاشرة، ثالث أو رابع ذى القعدة، سنة وخمسين وستمائة. وصلّى عليه فى يوم الأحد- بعد الظهر- بالمدرسة الكاملية بالقاهرة المعزّيّة. ثم صلى عليه تحت القلعة. وصلى عليه عند قبره قبل العصر. ودفن بسفح المقطم. وكان مولده بفسطاط مصر، فى غرّة شعبان، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وانتهت إليه رياسة الحديث فى زمانه- رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الشيخ الفقيه الإمام: أبو إسحاق إبراهيم، بن يحيى بن أبى المجد، الأسيوطى الشافعى. وكانت وفاته بالقاهرة المعزّيّة، فى عشية اليوم السابع من ذى القعدة، من هذه السنة، ودفن بسفح المقطّم. ومولده فى سنة سبعين وخمسمائة- تقريبا. وكان أحد المشايخ المشهورين بمعرفة مذهب الشافعى. وكان كثير الإيثار مع الإقتار، والإفضال مع الإقلال، كريم الأخلاق. رحمه الله تعالى. واستهلّت سنة سبع وخمسين وستمائة: فى هذه السنة- ثانى عشر جمادى الآخرة- جبى التّسقيع «1» بالقاهرة.

ذكر القبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، واعتقالهما

وفيها، فى شعبان- أمسك شخص يعرف بالكورانى، فضرب ضربا شديدا، وحبس على بدع رؤيت منه وسمعت عنه. ثم جدّد إسلامه وتاب، على يد شيخ الإسلام: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وأطلق من الحبس. وكان مقامه بالجبل الأحمر. ذكر القبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، واعتقالهما كان القبض على السلطان الملك المنصور، بن السلطان الملك المعزّ، فى يوم الجمعة- السابع والعشرين من ذى القعدة- سنة سبع وخمسين وستمائة. وسبب ذلك أنه تشاغل باللهو واللعب، والمسابقة بالحمير الفره، بين يديه، وأمثال ذلك. وكانت أمه تدبّر المملكة تدبير النساء. فأطمعت الأمير سيف الدين قطز المعزّى نفسه بالملك. واتفق خروج خوشداشيّته إلى الصيد، فانتهز الفرصة، وقبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، وعلى والدته. واعتقلهما فى برج السّلسلة «1» بثغر دمياط، ثم سفّر إلى القسطنطينية فى الأيام الظاهرية الرّكنية. فكانت مدة سلطنته سنتين، وثمانية أشهر، ويومين.

ذكر أخبار السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى. وهو الثالث من ملوك دولة الترك بالديار المصرية

ذكر أخبار السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز المعزّى. وهو الثالث من ملوك دولة الترك بالديار المصرية ملك الديار المصرية فى يوم السبت، لليلتين بقيتا من ذى القعدة، سنة سبع وخمسين وستمائة- بعد أن قبض على الملك المنصور، بن مولاه الملك المعزّ. قال: ولما ملك، حضر خوشداشيّته من الصيد، وتنكروا له، وامتعضوا من ملكه. فقبض عليهم واعتقلهم، وأعجلهم عن التدبير. وهم: الأمير علم الدين سنجر الغتمى، والأمير شرف الدين قيزان «1» المعزّى، وعز الدين أيبك النّجيبى الصغير، وشمس الدين قرا سنقر المعزّى. واعتقل أيضا شمس الدين الدود: خال الملك المنصور بن المعزّ، والطّواشى حسام الدين بلال المغيثى اللّالا. واستحلف الأمراء والعساكر، وأظهر الحزم. واستوزر الصاحب زين الدين بن الزبير. وعزل الأمير حسام الدين بن باذ عن وظيفة شاد الدواوين. وولى الأمير نور الدين بن السديد. واستمرّ بالأمير فارس الدين أقطاى المستعرب على الأتابكة، وفوض إليه أمر العساكر.

واحتفل بامر الجند، واستعد للجهاد، وأرسل إلى الملك الناصر صاحب الشام، وطلب منه الاتفاق واجتماع الكلمة. والمظافرة على العدو، وأن يكونا يدا واحدة على حرب التتار. فحلف له على ذلك. ثم كان من أمر الملك الناصر، واضطراب أمره، وزوال ملكه، واستيلاء التتار على حلب ودمشق وغيرها- ما قدمناه. وملك التتار الشام بأسره. وجرّد هولاكو كتبغا نوين فى جيش كثيف، اختاره من المغل، وبعثه إلى الشام. وكان من أمره، وأمر جيوش الشام، وتحلّلهم بلاد الشام، ووصولهم إلى نابلس، وقتل من قدمنا ذكره بها- ما شرحنا ذلك فى أخبار الملك الناصر. فلا فائدة فى إعادته. وفى سنة سبع وخمسين وستمائة. توفى الأمير منيف بن شيحة، صاحب المدينة النبوية. وقام بعده بالمدينة أخوه: جمّاز بن شيحه. وفيها، توفى الشيخ الفاضل الصّدر الكبير فتح الدين أبو العباس: أحمد بن الشيخ جمال الدين أبى عمرو عثمان، بن أبى الحوافر- رئيس الأطباء بالديار المصرية. وكانت وفاته فى ليلة الخميس، رابع عشر رمضان، ودفن بالقرافة. وولى رياسة الأطباء بعده ابن أخيه: الصّدر شهاب الدين أحمد، بن محيى الدين رشيد بن جمال الدين عثمان، بن أبى الحوافر.

واستهلت سنة ثمان وخمسين وستمائة:

واستهلّت سنة ثمان وخمسين وستمائة: ذكر وصول البحرية والشهرزورية إلى خدمة السلطان الملك المظفر فى هذه السنة، فارق الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى- ومن معه من الأمراء البحريّة- السلطان الملك الناصر صاحب الشام، لما رأوه من ضعف رأيه، وتخاذله عن ملاقاة عدوه. وتوجهوا إلى غزّة. واجتمعوا هم والأمراء الشّهرزوريّة. وأرسل الأمير ركن الدين بيبرس- المذكور- الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إلى السلطان الملك المظفّر، يستأذنه فى الحضور إلى خدمته- هو ومن معه- ويلتمس إيمانه لهم. فأجاب الملك المظفر إلى ما طلب. فتوجه من غزّة بمن معه. وكان وصولهم إلى القاهرة فى يوم السبت، الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول. فركب الملك المظفر للقائهم، وأنزل الأمير ركن الدين بدار الوزارة. وأقطعة قصبة قليوب، لخاصّه. فأشار الأمير ركن الدين عليه بحرب التتار. وقوّى عزائمه على ذلك.

ذكر خبر المصاف الكائن بين السلطان الملك المظفر ومن معه من الجيوش الإسلامية، وبين جيش التتار على عين جالوت. وانهزام التتار وقتل مقدمهم كتبغا نوين، وما يتصل بذلك من الأخبار

ذكر خبر المصافّ «1» الكائن بين السلطان الملك المظفّر ومن معه من الجيوش الإسلامية، وبين جيش التتار على عين جالوت «2» . وانهزام التتار وقتل مقدمهم كتبغا نوين، وما يتصل بذلك من الأخبار لما ملك التتار الممالك الشامية، وزالت دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف من الشام- كما قدمنا ذكر ذلك- راسل كتبغا نوين، مقدّم جيش التتار، السلطان الملك المظفّر، وأرسل إليه، يطالبه ببذل الطاعة، وتعبئة الضّيافة. فقتل الملك المظفّر رسله، إلا صبيّا واحدا، فإنه استبقاه، وضمه إلى جملة مماليكه. واستعدّ للجهاد، وخرج بعساكر الديار المصرية، ومن انضم إليه من جيوش الشام- الذين فارقوا الملك الناصر- ومن حضر إليه من الأمراء البحريّة، والأمراء الشّهرزوريّة، وغيرهم.

وراسل الملك الأشرف مظفر الدين موسى، صاحب حمص- وكان قد عاد من جهة هولاكو من حلب- وفوّض إليه نيابة السلطنة بالشام أجمع، وحلب، وغير ذلك، والملك السعيد بن الملك العزيز عثمان بن الملك العادل- وكان قد أخذ من هولاكو فرمانا بالصّبيبة وبانياس «1» . وسألهما المظافرة والمعاونة على حرب العدوّ، وأن تكون الكلمة واحدة. فتوجه رسوله، واجتمع بالملك السعيد. فسبّه وسبّ من أرسله، وقال: من هو الذى يوافق هذا الصبى، أو يدخل فى طاعته أو ينضم إليه؟! ونحو هذا من الكلام. ففارقه وتوجه إلى الملك الأشرف. فخلا الملك الأشرف بالرسول، وقبّل الأرض بين يديه تعظيما لمرسله. وأجلسه مكانه على مرتبته وجلس بين يديه، وسمع رسالته. وقال له: قبّل الأرض بين يدى مولانا السلطان الملك المظفّر، وأبلغه عنى أننى فى طاعته وموافقته، وامتثال أمره. والحمد لله الذى أقامه لنصرة هذا الدين. ووعد أنه، إن حضر المصافّ مع التتار، انهزم بهم، إلى غير ذلك. وأعطى الرسول ذهبا جيّدا، واعتذر إليه. فعاد الرسول، وأبلغ الملك المظفر عن كل من الملكين ما قال له. فعامل كلا منهما، عند ظفره، بما نذكره.

قال: وجمع السلطان الملك المظفر الأمراء بالصالحيّة «1» ، واستشارهم: أين يكون لقاء العدو؟ فأشاروا أن يكون بالصالحيّة. وصمّموا على ذلك. فوافقهم على رأيهم ظاهرا. وركب فى صبيحة ليلة المشورة من منزلة الصالحية. وحرّك الكوسات «2» ودخل الرّمل. فانجرت العساكر خلفه، ولم يتخلف منهم أحد عنه. وسار بعساكره وجموعه، حتى انتهى إلى عين جالوت- من أرض كنعان «3» ، بالقرب من بيسان، مدينة غور الشام. وأقبل كتبغا نوين بجيوش التتار، ومن انضم إليه. والتقوا واقتتلوا- وذلك فى يوم الجمعة، الخامس والعشرين من شهر رمضان، سنة ثمان وخمسين وستمائة. وثبت الملك المظفّر أحسن ثبات. حكى بعض من حضر هذه الواقعة قال: كنت خلف السلطان الملك المظفّر، لما التحم القتال ووقعت الصّدمة الأولى، فاضطر جناح عسكر السلطان، وتتعتع طرف منه. فلما رأى الملك المظفر ذلك، رمى خوذته عن رأسه، وصاح: وا إسلاماه! وحمل، فأعطاه الله تعالى النصر. وكانت الدائرة على التتار، وأخذهم السيف والإسار. وقتل كتبغا نوين، فيمن قتل. وانهزم من سلم من التتار، لا يلوون على شىء. وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى ممن شهد هذه الوقعة، وأبلى يومئذ بلاء حسنا.

ذكر مسير السلطان الملك المظفر إلى دمشق ووصوله إليها، وملكه الممالك الشامية، وما قرره من ترتيب الملوك والنواب، وغير ذلك مما اتفق بدمشق

وكان ممن أسر من التتار، فى هذه الوقعة: كتبغا المنصورى- وهو يومئذ شاب- وهو الذى ملك الديار المصرية- بعد ذلك- فى سنة أربع وتسعين وستمائة، ولقب بالعادل. ووقع فى ذلك حكاية غريبة، نذكرها- ان شاء الله تعالى- عند ذكرنا لسلطنة الملك العادل كتبغا. قال: ولما تمت الهزيمة على التتار، جاء الملك السعيد- بن الملك العزيز- إلى السلطان الملك المظفر، مستأمنا. وكان شهد الوقعة مع التتار. فترجّل عن فرسه، وتقدم إلى السلطان ليقبّل يده. فضربه برجله على فمه، فأدماه. وجاء أحد سلاح دارية «1» السلطان، فضرب عنقه! وفعل ذلك به، مؤاخذة له على جوابه، الذى ذكره لرسول السلطان. ذكر مسير السلطان الملك المظفر إلى دمشق ووصوله إليها، وملكه الممالك الشامية، وما قرره من ترتيب الملوك والنواب، وغير ذلك مما اتفق بدمشق قال المؤرخ: ولما تم النصر، تقدم السلطان الملك المظفر، طالبا جهة دمشق. واتصل [الخبر] بالزين الحافظى ونواب التتار بدمشق، ومن كان قد وصل- صحبة الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث، صاحب

الكرك- من جهة هولاكو من توريز «1» ، ليكون شحنة «2» بالكرك، وكانوا بدمشق. فخرجوا هاربين إلى هولاكو. وكان النصارى بدمشق، فى أيام التتار، قد استطالوا على المسلمين، ومدوا أيديهم، وبسطوا ألسنتهم فيهم. فلما اتصل خبر النصر بالمسلمين، ثار جماعة من العوام، وحرقوا كنيسة مريم، وخربوا بعضها. فأقاموا كذلك من يوم الجمعة إلى يوم الثلاثاء. إلى أن وصل الأمير جمال الدين أقش المحمّدى، بكتاب السلطان الملك المظفر، ودخل دمشق. ونزل دار السعادة، وسكّن الناس وطمّنهم. ثم وصل السلطان فى يوم الأربعاء، سلخ شهر رمضان. ونزل على الجسورة «3» ، وخيّم بها. وعيّد عيد الفطر، ثم دخل إلى دمشق، فى ثانى شوال، وملك البلاد. ورتّب النوّاب فى المماليك الشامية: ففوّض نيابة دمشق إلى الأمير- علم الدين سنجر الحلبى- الصالحى. وجعل معه الأمير فخر الدين: أبا الهيجا بن خشترين. وأقر الملك الأشرف مظفر الدين موسى على مملكته، بحمص والرّحبة وتدمر. وبعث الملك المظفر بن الملك الرحيم- بدر الدين

ذكر مقتل السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز، ونبذة من أخباره

لؤلؤ- إلى حلب نائبا بها، ونعته بالملك السعيد- لمشاركة النّعت. وأقر الملك المنصور بن الملك المظفر على مملكته بحماه. وأقطع البلاد الشامية والحلبية. وأصلح ما اضطرب من الأمور. وعاد لقصد الديار المصرية، فقتل- قبل وصوله إليها. ذكر مقتل السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز، ونبذة من أخباره كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم السبت، الخامس عشر من ذى القعدة، سنة ثمان وخمسين وستمائة- وقيل فى سابع عشر الشهر. وذلك أنه لما قرّر أمور الشام، ورتب الملوك والنواب والممالك، عاد من دمشق لقصد الديار المصرية، فى سادس عشر شوال. فلما وصل إلى منزلة القصير من منازل الرّمل «1» ، ركب إلى الصيد. وكان الأمير بدر الدين أنص الأصفهانى، وجماعة معه، تظافروا هم والأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، على اغتياله. فقصدوه- وهو فى الصيد- وقتلوه غيلة!

وحكى فى كيفية قتله: أنه كان قد تغير خاطره على الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. فلما تقدّم الأمراء إليه، سأله الأمير بدر الدين أنص الرضا عن الأمير ركن الدين. فقال: قد رضيت عنه. فترجل الأمير ركن الدين ليقبّل يده. فلما تناولها قبض عليها، وجذبه عن سرجه، وبدره أولئك الأمراء بالضرب، فقتلوه- رحمه الله تعالى. ويقال: إن الأمراء الذين اتفقوا على قتله [هم] : الأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى، والأمير سيف الدين بهادر المعزّى- خوشداشه «1» - والأمير بدر الدين بكتوت الجو كان دار «2» المعزّى، والأمير سيف الدين بيغان الرّكنى، والأمير سيف الدين بلبان الهارونى، ومن ذكرنا. وكان الملك الظاهر يدّعى أنه هو الذى قتله بيده. وقال جماعة: إنه لم يباشر قتله، وإنما كان يدّعى ذلك، افتخارا. وقد نقل أن الملك الظاهر لما قبض على يده، ضربه الأمير بدر الدين بكتوت الجو كان دار على عاتقه بالسيف، فأبانه. وألقاه الأمير بدر الدين أنص عن فرسه. ثم رماه الأمير سيف الدين بهادر المعزّى بسهم، أتى على روحه- رحمه الله تعالى. فكأنه المعنى بقول الشاعر: وما كان إلا السيف، لاقى ضريبة «3» ... فقطّعه، ثم انثنى فتقطّعا

وكانت مدة ملكه أحد عشر شهرا، وسبعة عشر يوما. وأما غير ذلك من أحواله- رحمه الله تعالى-: فقد حكى أنه كان من أولاد الملوك الخوارزميّة. وأنه محمود بن ممدود، ابن أخت السلطان خوارزم شاه. وإنما أبيع، لما استولى التتار على البلاد، وملكوا ملك الخوارزميّة. وقتلوا الرجال وأسروا النساء والصبيان، وكان هو ممن أسر وأبيع. وقد كان هو يصرّح بذلك- فيما حكى عنه- ويستكتم من يحكيه له. وقد نقل الشيخ شمس الدين: محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن إبراهيم ابن عبد العزيز، بن أبى الفوارس الجزرى، ثم الدّمشقى- فى تاريخه: «حوادث الزمان وأنبائه» أن والده أخبره أن الحاج على الفرّاش أخبره، قال: لما كان قطز فى رقّ ابن الزّعيم «1» بدمشق- وكان سكنه بالقصّاعين «2» - غضب عليه فى بعض الأيام فلطم وجهه، ولعبة ولعن والديه وجدّه. قال: فبكى قطز بكاء شديدا، وجعل ينتحب طول نهاره، وامتنع من الأكل. وركب أستاذه بعد صلاة الظهر إلى الخدمة، فقال لى: استرضه وأطعمه، واعتبه على بكائه.

قال الفرّاش: فجئت إليه وجعلت ألومه على بكائه من لطمة واحدة، فكيف لو ضربت ألف عصاة أو دبّوس، أو جرحت بسيف؟! فقال: والله ما بكائى وغيظى من أجل لطمة، وإنما كونه لعن أبى وأمى وجدى. فقلت له: ومن أبوك وجدك وأمك؟ فقال: والله أبى خير من أبيه، وأمى خير من أمه، وجدى خير من جده. فقلت له: أنت مملوك تركى، كافر بن كافرين. فقال: والله، ما أنا إلا مسلم، ابن مسلمين: أنا محمود بن ممدود، ابن أخت خوارزم شاه، من أولاد الملوك. قال: فسكتّ عنه وطايبته. وتقلّبت به الأحوال، إلى أن ملك الديار المصرية والشام. ولما ملك دمشق أحسن إلى الحاج على الفراش المذكور، وأعطاه خمسمائة دينار، ورتب له راتبا جيّدا. قال الشيخ شمس الدين: وقد حكى لى ولوالدى، هذه الحكاية عنه. هذا معنى كلامه ولفظه. ومما يؤيّد هذه الحكاية أيضا- ويشهد لها- ما حكاه الشيخ شمس الدين- المذكور- عن والده، قال: حكى لى الحاج أبو بكر بن الدّريهم الإسعردى، والحاج زكى الدين إبراهيم الجزرى- المعروف بالجبيلى، أستاذ الفارس أقطاى- قالا: كنا عند الأمير سيف الدين قطز فى أول دولة أستاذه: الملك المعزّ، وقد حضر عنده منجّم ورد من بلاد المغرب- وهو موصوف بالحذق فى علم الرّمل والفلك. فأمر قطز أكثر من عنده من حاشيته بالانصراف، فانصرفوا.

وهممنا بالقيام، فأمرنا بالجلوس، فجلسنا. وما ترك عنده إلا من يثق به من خواصّه. وقال للمنجّم: اضرب الرمل. ففعل. وحدّثه بأشياء كثيرة، مما كان فى نفسه. وكان آخر ما قال له: اضرب وانظر من يملك بعد أستاذى، ومن يكسر التتار؟ فضرب، وحسب حسابا طويلا، وبقى يفكر ويعدّ أصابعه. وقال: قد طلع معى خمس حروف بغير نقط، وأبوه أيضا خمس حروف بغير نقط. وأنت اسمك ثلاث حروف، وابن السلطان كذلك. فقال له: لم لا تقول: محمود بن ممدود؟ فقال المنجم: لا يقع غير هذا الاسم. فقال قطز: أنا محمود بن ممدود. وأنا أكسر التتار، وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه. ثم استكتمنا هذا الأمر. وأنعم على المنجم بثلاثمائة درهم، وصرفه. وحكى عن المولى المرحوم تاج الدين أحمد بن الأثير- رحمه الله تعالى- ما معناه: أن الملك صلاح الدين يوسف صاحب الشام- رحمه الله تعالى- لما كان على برزة «1» ، فى أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة- وصل إليه قصّاد «2» من الديار المصرية، بكتب، تتضمن أن قطز قد تسلطن وملك الديار المصرية، وقبض على الملك المنصور بن أستاذه الملك المعز. قال القاضى تاج الدين: فطلبنى السلطان- رحمه الله- فقرأت عليه الكتب.

فقال لى: خذ هذه الكتب، وتوجه إلى الأمير ناصر الدين القيمرى، والأمير جمال الدين بن يغمور، وأوقف كلّا منهما عليها. قال: فأخذتها وخرجت من عنده. فلما بعدت عن الدّهليز، لقينى حسام الدين البركة خانى «1» ، فسلم على، وقال، جاءكم بريد أو قصّاد من الديار المصرية فورّيت «2» ، وقلت: ما عندى علم بشىء من هذا. قال: قطز يتسلطن، ويملك الديار المصرية، ويكسر التتار. قال القاضى تاج الدين: فعجبت من كلامه، وقلت له: ايش هذا القول؟ من أين لك هذا؟ قال: والله، هذا قطز هو خوشداشى «3» . كنت أنا واياه عند الهيجاوى من أمراء مصر، ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير، فكنت أسرّح رأسه- على أننى كلما أخذت عنه قملة، آخذ منه فلسا أو صفعة. فلما كان بعض الأيام أخذت عنه قملا كثيرا، وشرعت أصفعه، ثم قلت فى غضون ذلك: والله ما أشتهى إلا أن الله يرزقنى إمرة خمسين فارسا، فقال لى: طيّب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارسا. فصفعته، وقلت: والك «4» ، أنت تعطينى إمرة؟! قال نعم! فصفعته! فقال لى: والك، ايش يلزم لك إلا إمرة بخمسين فارس، أنا والله، أعطيك. قلت: والك، كيف تعطينى؟.

قال: أملك الديار المصرية: قلت: تملك الديار المصرية؟! قال: نعم، رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، وقال لى: أنت تملك الديار المصرية، وتكسر التتار. وقول النبى صلى الله عليه وسلم لا شك فيه. فسكت. وكنت أعرف منه الصّدق فى حديثه وعدم الكذب. وتنقّلت به الأحوال، وارتفع شأنه. إلى أن صار هو المحتكم فى الدولة. وما أشك أنه يملك الديار المصرية- مستقبلا- ويكسر التتار- كما أخبره النبى صلى الله عليه وسلم- فى المنام. قال القاضى تاج الدين: فلما قال لى هذا القول، قلت له: والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن فى الديار المصرية. قال لى: والله، وهو يكسر التتار. فما مضى إلا مدة يسيرة، حتى خرج وكسر التتار. قال المولى تاج الدين- رحمه الله- فرأيت الأمير حسام الدين البركة خانى، الحاكى لى- بعد ذلك- بالديار المصرية، بعد كسرة التتار. فسلّم على وقال لى: تذكر ما قلت فى الوقت الفلانى؟ قلت: نعم. قال: والله، حالما عاد الملك الناصر «1» من قطيا «2» ، ودخلت أنا إلى الديار المصرية، أعطانى إمرة خمسين فارسا، كما قال- رحمه الله- لا زايد على ذلك. وقد ذكر هذه الحكاية الشيخ قطب الدين اليونينى «3» فى تاريخه، وقال أيضا:

وحكى لى الأمير عز الدين بن أبى الهيجا ما معناه: أن الأمير سيف الدين بلقاق حدثه، أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكى حكى له، قال: كنت أنا والملك المظفر قطز، والملك الظاهر ركن الدين بيبرس- رحمهم الله تعالى- فى حال الصّبا، كثيرا ما نكون مجتمعين فى ركوبنا وغير ذلك. فاتفق أن رأينا منجّما فى بعض الطرق بالديار المصرية. فقال له الملك المظفر: أبصر نجمى. فضرب بالرمل وحسب، وقال له: أنت تملك هذه البلاد، وتكسر التتار! فشرعنا نهزأ به. ثم قال له الملك الظاهر: فأبصر نجمى. فضرب بالرمل وحسب، وقال: وأنت تملك الديار المصرية وغيرها. فتزايد استهزاؤنا به! ثم قالا لى: لا بد أن يبصر نجمك. فقلت له أبصر لى. فضرب وحسب، وقال لى: وأنت تحصل لك إمرة بمائة فارس، يعطيك هذا- وأشار إلى الملك الظاهر. فاتفق أن الأمر وقع كما قال. وهذا من عجيب الاتفاق. قال الشيخ قطب الدين اليونينى- نفع الله به-: وكان السلطان الملك المظفّر بطلا شجاعا، ولم يكن يوصف بشح ولا كرم، بل كان متوسطا. وهو أول من أجترأ على التتار، وكسرهم، بعد خوارزم شاه، كسرة عظيمة، جبر بها الإسلام.

قال: ومما حكى لى عنه: أنه قتل فى يوم المصافّ «1» جواده بعين جالوت، ولم يصادف فى تلك الساعة أحد من أوشاقيّته «2» ، الذين معهم جنائبه، فبقى راجلا. ورآه بعض الأمراء الشجعان، فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه. فامتنع، وقال له ما معناه: ما كنت لآخذ حصانك فى هذا الوقت، وأمنع المسلمين الانتفاع بك، وأعرضك للقتل. وحلف عليه أن يركب فرسه. فامتثل أمره، وركب. ووافاه الأوشاقيّة بالجنائب «3» ، فركب جنيبا. فلامه بعض خواصّه على ذلك، وقال: لو صادفك- والعياذ بالله- بعض المغل، وأنت على الأرض راجلا، كنت رحت، وراح الإسلام! فقال:- أما أنا فكنت أروح إلى الجنة- إن شاء الله تعالى. وأما الإسلام، فما كان الله عز وجل ليضيعه. فقد مات الملك الصالح، وقتل ولده الملك المعظم، والأمير فخر الدين بن الشيخ- مقدّم العساكر- ونصر الله الإسلام، بعد اليأس من نصره- يشير إلى نوبة المنصورة «4»

قال: ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة «1» ، أجرى الناس كافّة، على ما كانوا عليه إلى آخر الأيام الناصرية، فى رواتبهم ومقرّراتهم وإطلاقاتهم. ولم يتعرض إلى مال أحد، ولا إلى ملكه. ثم توجّه «2» ، بعد تقرير قواعد الشام. فرزقه الله الشهادة، فقتل مظلوما. رحمه الله تعالى

انتهى الجزء التاسع والعشرون من كتاب «نهاية الأرب» للنويرى الحمد لله

فهرس موضوعات الجزء التاسع والعشرون

فهرس موضوعات الجزء التاسع والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري الصفحة تمهيد 5 ذكر أخبار السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وسلطنته 9 ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية فى الدولة العادلية وهو الغلاء المشهور 12 ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره 13 ذكر الخلف الواقع بين الأمراء الصلاحية والسلطان الملك العادل 19 ذكر اتفاق الملوك الأيّوبية وما استقر لكل منهم من الممالك 26 ذكر خبر الزلزلة الحادثة بالديار المصرية والبلاد الشامية وغيرها 28 ذكر عمارة المسجد الجامع بقاسيون 32 ذكر وفاة الملك المعز صاحب اليمن وقيام أخيه نجم الدين أيوب 32 ذكر حصار ماردين وما حصل من الاتفاق 36 ذكر قصد العادل بلاد الفرنج 40 ذكر انتقال السلطنة من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل 41 ذكر ورود رسل الخليفة الناصر لدين الله بالخلع للملك العادل وأولاده ووزيره 41

الصفحة ذكر استيلاء الملك الأوحد بن السلطان الملك العادل على خلاط 43 ذكر حصار الملك العادل سنجار ورجوعه عنها وأخذ نصيبين والخابور 49 ذكر بناء القبة على ضريح الإمام الشافعى- رحمه الله تعالى- وعمارة السوق 53 ذكر عزل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر وولاية الصاحب الأعز بن شكر 55 ذكر حادثة الأمير عز الدين أسامة واعتقاله والاستيلاء على قلاعه 59 ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط واستيلاء أخيه الملك الأشرف عليها 62 ذكر قيام أهل مصر على الملك الكامل ورجمه 63 ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل على اليمن 65 ذكر القبض على الصاحب الأعز 71 ذكر مصادرة الصاحب صفى الدين بن شكر ونفيه من الديار المصرية 76 ذكر مسير السلطان إلى الشام 78 ذكر قصد الفرنج جزين وقتلهم 80 ذكر تخريب حصن الطور 81 ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر: محمد بن أيوب وشىء من أخباره 82 ذكر تسمية أولاد السلطان الملك العادل وما استقر لهم من الممالك والإقطاع 84 ذكر أخبار السلطان الملك الكامل ناصر الدين بن السلطان الملك العادل سيف الدين، أبى بكر محمد بن أيوب 87 ذكر نزول الفرنج على ثغر دمياط 87 ذكر حوادث وقعت فى مدة حصار ثغر دمياط 88 ذكر وصول الملك المعظم عيسى- صاحب دمشق- وإخراج عماد الدين بن المشطوب وما اتفق له بعد خروجه 90 ذكر وصول الصاحب صفى الدين بن شكر ووزارته 92 ذكر خراب القدس 93 ذكر استيلاء الفرنج على دمياط 94 ذكر عود الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشام وما اعتمده 95 ذكر وفاة ست الشام ابنة أيوب وإيقافها أملاكها، وتفرقة أموالها، وما فعله الملك

المعظم مع قاضى الشام: بسبب ذلك 96 ذكر وصول ملوك الشرق إلى السلطان الملك الكامل وانهزام الفرنج واستعادة ثغر دمياط، وتقرير الهدنة 113 ذكر رجوع السلطان إلى القاهرة وإخراج الأمراء إلى الشام 118 ذكر توجه الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى الحجاز. وما عتمده 121 ذكر ملك الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل مكة 125 ذكر عصيان الملك المظفر شهاب الدين غازى على أخيه الملك الأشرف وقتاله. وانتصار الملك الأشرف 126 ذكر وصول الملك المسعود من اليمن 128 ذكر ابتداء المعاملة بالفلوس بالديار المصرية 131 ذكر وصول رسول الخليفة إلى الملوك أولاد السلطان الملك العادل، وطلب الصلح بينهم والاتفاق 135 ذكر هدم مدينة تنّيس 139 ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه المعظم 140 ذكر وفاة الملك المعظم عيسى، وشىء من أخباره وسيرته، وقيام ولده الملك الناصر داود 143 ذكر تسليم البيت المقدس وما جاوره للفرنج 149 ذكر توجه السلطان إلى دمشق وحصارها، وأخذها من ابن أخيه: الملك الناصر داود، واستقرار الملك الناصر بالكرك وما معها 153 ذكر تسليم دمشق للملك الأشرف 155 ذكر أخذ مدينة حماه وتسليمها للملك المظفر 156 ذكر وفاة الملك المسعود، صاحب اليمن 157 ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك 162 ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وحصن كيفا 170 ذكر توجه رسول السلطان الملك الكامل إلى بغداد، وعوده هو ورسول الخليفة بالتقليد 173 ذكر ركوب الملك العادل بشعار السلطنة 190 ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى بلاد الروم 198

الصفحة ذكر إنشاء جامع التوبة بالعقيبة بدمشق 207 ذكر وقوع الوحشة بين السلطان الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف 216 ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وقيام ولده الملك الناصر 217 ذكر وفاة الملك الأشرف وشىء من أخباره وقيام أخيه الملك الصالح إسماعيل وإخراجه من الملك 218 ذكر ملك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- بن الملك العادل- دمشق، ووصول الملك الكامل إليها وحصار دمشق وأخذها وتعويض الصالح عنها 223 ذكر وفاة السلطان الملك الكامل 227 ذكر ما اتفق بدمشق بعد وفاة السلطان الملك الكامل فى هذه السنة 228 ذكر ما وقع بين الملكين: الناصر والجواد، وهرب الناصر إلى الكرك 230 ذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب ببلاد الشرق فى هذه السنة 232 ذكر أخبار السلطان الملك العادل 234 ذكر ما وقع فى هذه السنة من الحوادث- خلاف ما تقدم- 236 ذكر القبض على الصاحب صفى الدين مرزوق ومصادرته واعتقاله 238 ذكر خروج دمشق عن الملك العادل وتسليمها لأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب 239 ذكر أخبار الملك الجواد، وما كان من أمره بعد تسليم دمشق 243 ذكر مخالفة الأتراك على السلطان الملك العادل، وتوجههم إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق 249 ذكر وصول الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان الملك العادل 250 ذكر عود السلطان الملك العادل من بلبيس إلى قلعة الجبل 252 ذكر قتال الفرنج وفتح القدس 253 ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص 254 ذكر وصول رسل الخليفة إلى السلطان الملك العادل بالتّشاريف 255 ذكر القبض على السلطان الملك العادل وخلعه 256 ذكر أخبار السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل- وما كان من أمره بعد وفاة أبيه إلى أن ملك الديار المصرية 257 ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن السلطان الملك العادل سيف الدين

أبى بكر محمد بن أيوب- على دمشق 260 ذكر القبض على الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتقاله بقلعة الكرك 263 ذكر إطلاق الملك الصالح من الاعتقال بالكرك، وما كان من أمره إلى أن ملك الديار المصرية 265 ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية وهو السلطان الثامن من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 267 ذكر عود الملك الناصر داود إلى الكرك 268 ذكر عدة حوادث وقعت فى سنة سبع وثلاثين وستمائة خلاف ما قدمناه 271 ذكر مسير الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق منها لقصد الديار المصرية، وقتاله الملك الناصر صاحب الكرك وعوده إلى دمشق 277 ذكر تسليم صفد وغيرها للفرنج وما فعله الشيخ عز الدين بن عبد السلام- بسبب ذلك- وما اتفق له مع الملك الصّالح 278 ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السّنجارى 282 ذكر وفاة قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة، وشىء من أخباره 282 ذكر وصول شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام- إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها- وغير ذلك- إليه، وما فعله، وعزله نفسه 294 ذكر الاتفاق والاختلاف بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب مصر، وعماد الدين إسماعيل صاحب دمشق 302 ذكر الواقعة الكائنة بين عسكر مصر- ومن معه من الخوارزمية- وبين عسكر الشام- ومن شايعهم من الفرنج- وانهزام الفرنج وعسكر الشام، على غزه 305 ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه وملك ولده المنصور 308 ذكر استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق وأخذها من عمه الملك الصالح إسماعيل، وعود الصالح إسماعيل إلى بعلبك وما معها 310 ذكر وفاة الأمير الصاحب معين الدين 314 ذكر محاصرة الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك دمشق، وما حصل بها من الغلاء

بسبب الحصار 314 ذكر وقعة الخوارزمية وقتل مقدمهم، واستيلاء الملك الصالح على بعلبك وأعمالها، وصرخد 319 ذكر استيلاء جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخروج الملك الصالح إسماعيل عنها 322 ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص، وقيام ولده الملك الأشرف 323 ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الشام وما استولى عليه فى هذه السفرة، وما قرره، وعوده 323 ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمى، ووفاته 327 ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى دمشق وما اعتمده 328 ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى وقيام ولده الملك الكامل 329 ذكر استيلاء الفرنج على ثغر دمياط 334 ذكر استيلاء السلطان على قلعة الكرك وبلادها 335 ذكر وفاة الملك السلطان الصالح نجم الدين أيوب 336 ذكر خبر الأمير فخر الدين أبى الفضل يوسف بن الشيخ- وقتله 338 ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 340 ذكر عدة حوادث كانت فى سنة سبع وأربعين وستمائة، غير ما تقدم 354 ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم ريدا فرنس 355 ذكر مقتل السلطان الملك المعظم 359 ذكر ملك شجر الدر: والدة خليل، سرية الملك الصالح نجم الدين أيوب 362 ذكر استعادة ثغر دمياط من الفرنج وإطلاق ريدا فرنس 363 ذكر خلع شجر الدر نفسها من الملك وانقراض الدولة الأيوبية من الديار المصرية 363 الأيوبيون فى غير الديار المصرية 364 ذكر استيلاء الملك الناصر على دمشق 366 ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد. وما جهزه

صحبته من الهدايا والتقادم وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه 370 الحرب بين الملك الناصر والملك المعز 377 ذكر اتصال السلطان الملك الناصر بابنة السلطان علاء الدين كيقباذ 379 ذكر سياقة أخبار الملك الناصر ومراسلته هولاكو. وغير ذلك من أحواله 381 ذكر أخبار دولة الترك 414 ذكر أخبار الأتراك وابتداء أمرهم وكيف كان سبب الاستيلاء عليهم. واتصالهم بملوك الاسلام. وما استكثر منهم. وتغالى فى اتباعهم وقدمهم على العساكر 415 السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى الصالحى 419 ذكر الحرب الكائنة بين الملك المحز والملك الناصر صاحب الشام. وانتصار المعز 420 ذكر الصلح بين الملكين: المعز والناصر 426 ذكر خبر عربان الصعيد. وتوجه الأمير فارس الدين أقطاى إليهم وإبادتهم 427 ذكر خبر الأمير فارس الدين أقطاى. وما كان من أمره إلى أن قتل 429 ذكر أخبار الأمراء البحرية، وما اتفق لهم بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى 433 ذكر مخالفة الأمير عز الدين أيبك الأفرم وخروجه عن الطاعة. وتجريد العسكر إليه وإلى من وافقه، وانتقاض أمره 439 ذكر تفويض قضاء القضاة بالديار المصرية للقاضى: تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف 441 ذكر ما حدث بالمدينة النبوية من الزلازل. والنار التى ظهرت بظاهرها 449 ذكر خبر احتراق مسجد المدينة النبوية 454 ذكر مقتل السلطان الملك المعز وشىء من أخباره. ومقتل شجر الدر الصالحية 456 ذكر أخبار السلطان الملك المنصور نور الدين: على بن السلطان الملك المعز وهو الثانى من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 459 ذكر أخبار الوزراء، ومن ولى وزارة الملك المنصور 461 ذكر القبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، واعتقالهما 468 ذكر أخبار السلطان الملك المظفر سيف الدين قطر المعزى وهو الثالث من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 469

الصفحة ذكر وصول البحرية والشهر زورية إلى خدمة السلطان الملك المظفر 471 ذكر خبر المصاف الكائن بين السلطان الملك المظفر ومن معه من الجيوش الإسلامية. وبين جيش التتار على عين جالوت. وانهزام التتار وقتل مقدمهم كتيغانوين. وما يتصل بذلك من الأخبار 472 ذكر مسير السلطان الملك المظفر إلى دمشق ووصوله إليها. وملكه الممالك الشامية. وما قرره من ترتيب الملوك والنواب. وغير ذلك مما اتفق بدمشق 475 ذكر مقتل السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز. ونبذة من أخباره 477

الجزء الثلاثون مركز تحقيق الترات نهاية الأرب فى فنون الأرب تأليف شهاب الدّين احمد بن عبد الوهاب النويرى 677- 733 هـ الجزء الثلاثون تحقيق* مراجعة د- محمد عبد الهادى شعيرة* د- محمد مصطفى زيادة 1410 هـ- 1990 م

أشرف على الطبع والتصحيح أحمد صلاح زكريا الباحث الأول بمركز تحقيق التراث

الجزء الثلاثون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم هذا هو الجزء الثلاثون من نهاية الأرب فى فنون الأرب لشهاب الدين النويرى، وهو يقابل الجزء الثامن والعشرين بتقسيم المؤلف. ويبدأ هذا الجزء بذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى (سنة ثمان وخمسين وستمائة) وينتهى بذكر وصول السلطان الملك السعيد ناصر الدين الى قلعة الجبل، وما كان من أمره إلى أن انخلع من السلطنة، وتولية أخيه السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش من بعده، إلى أن تم خلعه (سنة ثمان وسبعين وستمائة) . وقد اعتمد المحقق والمراجع- رحمهما الله- فى تحقيق هذا الجزء على نسختين: الأولى: نسخة أيا صوفيا وهى نسخة مصورة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 551 معارف عامة وقد رمز لها بالحرف (ا) واعتبرت أصلا. الثانية: نسخة كوبريللى وهى نسخة مصورة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 549 معارف عامة وقد رمز لها بالحرف (س) . نسأل الله التوفيق والسداد. مركز تحقيق التراث

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية] [تتمة ذكر اخبار دولة الترك] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وبه توفيقى ذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى وهو الرابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية المحروسة، [سنة ثمان وخمسين وستمائة] وهو تركى الجنس من قبيلة البرلى، ملك الديار المصرية والبلاد الشامية فى يوم السبت المبارك الخامس عشر من ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان ذلك بمنزلة القصير «1» من منازل الرمل، فى اليوم الذى قتل فيه السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى. وذلك أنه لما قتل الملك المظفر ساق الأمراء إلى الدهليز ونزلوا به، وجلسوا كلهم دون طراحة السلطنة، وتشاوروا فيمن يملكونه «2» عليهم، فوقع اختيارهم عليه. ويقال إن الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب الصالحى الأتابك قال فى ذلك المجلس: «ينبغى ألا يلى السلطنة إلا من خاطر بنفسه فى قتل السلطان وأقدم على هذا الأمر العظيم» فقال الملك الظاهر: «أنا قتلته» ووثب وجلس

على طراحة السلطنة، فبايعه الأمير فارس الدين المذكور، وحلف له، ثم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، ثم الأمراء على طبقاتهم. ثم قال له الأمير فارس الدين الأتابك: «ان السلطنة لا تسم لك إلا بدخولك إلى قلعة الجبل» ، فركب لوقته، وركب معه الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير بدر الدين بيسرى «1» الشمسى، ومماليكه وخواصه. وتوجه [بيبرس] إلى قلعة الجبل، ورتب فى مسيره إليها أرباب الوظائف: فرتب الأمير جمال الدين أفش «2» النجيبى الصالحى استاد دارا «3» ، والأمير عز الدين أيبك الأقرم الصالحى أمير جاندار، والأمير حسام الدين لاجين الدرفيل، والأمير سيف الدين بلبان الرومى فى الدوادارية، والأمير بهاء الدين أمير آخور على عادته. ولفيه فى طريقه الأمير عز الدين إيدمر الحلى، وكان ينوب عن الملك المظفر بقلعة الجبل، وقد خرج لتلقيه، فأعلمه الملك الظاهر بما اتفق، وعرض عليه أن يحلف، ثم تقدم [إيدمر] إلى القلعة واجتمع بمن بها، ووعدهم عن السلطان المواعيد الجميله فأجابوه، ولم يزل على باب القلعة إلى أن وصل السلطان إليها، فدخلها ليلا وتسلمها. ويقال إنه لما ملك [بييرس] تلقب بالملك القاهر ووصل إلى قلعة الجبل ولقبه ذلك، فأشار الصاحب زين الدين بن الزبير بتغيير هذا اللقب، وقال إنه ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه وخلع وسمل.

ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم. فنقل السلطان لقبه إلى الملك الظاهر والله أعلم. قال المؤرخ «1» وكانت القاهرة ومصر قد زينتا لقدوم الملك المظفر، والناس فى سرور لمقدمه إثر هذا النصر العظيم «2» ، فلم يرعهم إلا ومناد ينادى: «معشر الناس، رحمكم الله، ترحموا على الملك المظفر، وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر ركن الدين» فوجم الناس لذلك، وتألموا خوفا من شدة البحريه وما كانوا «3» يعتمدونه من الظلم والسلطنة فى غيرهم، فكيف وقد صارت فيهم. فعاملهم السلطان بما سرهم به، وهو أن الملك المظفر كان قد جدد على الناس حوادث «4» فى سنة ثمان وخمسين وستمائة: منها تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاتها، وأخذ ثلث الترك الأهلية، ومضاعفه الزكاة، رجباية الدينار من كل إنسان، ومبلغ ذلك ستمائة ألف دينار. فأبطل السلطان [بيبرس] ذلك، وكتب به توقيعا قرىء على المنابر، فطابت قلوب الناس. قال: ولما أصبح السلطان [بيبرس] فى يوم الأحد جلس بالإيوان بقلعة الجبل وحلف العساكر لنفسه، واستناب مملوكه الأمير بدر الدين بيليك الخزندار «5»

وأقر الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب فى الأتابكية. وكاتب الملوك والنواب والأمراء بالممالك الشامية يخبرهم بما جدده الله تعالى له من أمر السلطنة، ويطلب منهم بذل الطاعة والموافقة.

واستهلت سنة تسع وخمسين وستمائة

واستهلت سنة تسع وخمسين وستمائة فى هذه [السنة] كان السلطان فى ابتداء سلطنته أخبار متشعبة متباينة: منها ما هو فى حضرته بمقر ملكه بالديار المصرية؛ ومنها ما هو بدمشق، ومنها ما هو بحلب، وكل ذلك فى هذه السنة، وبعضه فى أواخر سنة ثمان وخمسين. وقد رأينا أن نبدأ من ذلك بما كان فى مقر مملكته فى بعض هذه السنة خاصة، ثم نذكر ما كان بدمشق وحلب من الحوادث والوقائع إلى أن استقرت قواعد سلطنته وتأكدت أسباب دولته، ثم نذكر ما يشمل المملكة عموما، ثم نذكر بعد ذلك ما اتفق [له] من الأحوال، وما رتبه من الأمور، وما أمر به من العمائر والأوقاف وغير ذلك بمصر والشام، ونذكر الأخبار والوقائع على حكم السنين نقدم ما قدمه التاريخ ونؤخر ما أخره. لا نستثنى مما نورده من أخبار دولته إلا الغزوات والفتوحات: فانا نذكرها مفردة، ونختم بها أخبار دولته، فإنها من الفتوحات الجليلة والغزوات المشهورة فأحببنا إيرادها فى موضع واحد، لئلا تنقطع بغيرها من أخباره، على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى. فأما ما كان من الأخبار والحوادث فى مقر ملكه بالديار المصرية فمن ذلك ركوب السلطان من قلعة الجبل فى يوم الأثنين سابع صفر من السنة بشعار السلطنة، وساق خارج المدينة إلى باب النصر ودخل منه، وشق القاهرة وخرج من باب زويلة إلى قلعة الجبل، والأمراء وأعيان الدولة مشاة فى خدمته.

ذكر تفويض الوزارة إلى الصاحب الوزير بهاء الدين على بن القاضى سديد الدين أبى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنا

ومنه تفويض وزارة الدولة إلى الصاحب بهاء الدين. ذكر تفويض الوزارة إلى الصاحب الوزير بهاء الدين على بن القاضى سديد الدين أبى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنا فى هذه السنة، فوض السلطان إليه وزارة دولته، وخلع عليه، وركب فى خدمته الأعيان والأكابر، والأمير سيف الدين بلبان الرومى الداودار، وجماعة من الأمراء، وذلك فى يوم الأثنين ثامن شهر ربيع الأول وقبيل ثانية، وتمكن [الصاحب بهاء الدين] من السلطان ودولته تمكنا عظيما. وحكى لى بعض الأكابر الثقات [أن] الصاحب بهاء الدين رأى فى منامه قبل وزارته أنه ذبح السلطان الملك الظاهر، فقصّ ذلك على من يثق به ممن له معرفة بالتعبير، فقال له: «تتمكن منه تمكن الدابح من المدبوح» . وكان منه فى أقرب منزلة وأعز مكانة. ذكر القبض على جماعة من الامراء المعزّية وفى شهر ربيع الأول أيضا، قبض السلطان على جماعة من الأمراء المعزية وسبب ذلك أنه حضر إلى السلطان أحد أجناد الأمير عز الدين الصيقلى «1» وأنهى أن مخدومه فرق جملة من الذهب على جماعة، وقرر معهم الوثوب على السلطان وقتله، وكذلك الأمير علم الدين الغتمى، والأمير سيف الدين بهادر المعزى،

ذكر تفويض قضاء القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز

والأمير شجاع الدين بكتوت وغيرهم. فقبض عليهم، ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدى «1» الأشرفى، فى شهر ربيع الآخر، واعتقله فلم يزل فى اعتقاله حتى مات. ذكر تفويض قضاء القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز وفى هذه السنة فوض السلطان الملك الظاهر قضاء القضاة بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف بن بنت الأعز «2» ، وعزل قاضى القضاة بدر الدين السنجارى «3» ، وعوق عشرة أيام، ثم أفرج عنه وعطل عن الحكم. ونسخة التقليد السلطانى: «لقاضى القضاة تاج الدين» ومثال العلامة الظاهرية عليه بعد البسملة: «المستعلى بالله» . «الحمد لله الذى أنار مطالع الهدى، وصان ما ابتذل من الأمور التى ما أهملت سدى، وألبس الشريعة المطهرة ثويا من الشرف مجددا، وأعلى منارها بمن أضاءت مساعيه، فلو سرى بها الركب لا هتدى» .

«أحمد على نعم توالى هطل غمامها، ومنن أضحت متناسقة عفود نظامها» . «والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى عزت به أمور الإسلام بعد اهتضامها، وعلى آله وأصحابه الذين أضحت بهم عرى الدين الحنيف وثيقة بعد انفصامها. وبعد، فلما كان المجلس السامى، القاضى الأجل، الصدر الكبير، الإمام العالم، الفقيه الفاضل، المختار المرتضى، الصاحب تاج الدين، عز الإسلام، مجد الأنام، شمس الشريعة، مفتى الفرق، رئيس الأصحاب، ذخر الملوك والسلاطين، قاضى القضاة عبد الوهاب بن خلف، أدام الله سعادته ونعمته، ممن أحرز فى الفضايل قصب سبقه، ووصل سح «1» غمامه فى العلوم الشرعية ببرقه واجتنى ثمارها الدانية القطوف، واجتلى أقمار معانيها التى لا تتوارى عنه بالسجوف «2» وسلك سهيلا من العفاف أضحى به وحيدا منفردا، ومارس أمور الشريعة فثقف منها أودا، وأعمل فكرته الصافية فحلل منها عقدا، وأنعم نظره فيها فأوضح له من الضلال رشدا. رسم بالأمر العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، زاد الله فى علائه، وضاعف مواد نفاذه ومضائه «3» أن يفوض إليه الحكم العزيز بجميع الديار المصرية المحروسة، لما علم فيه من فضل مازالت ثماره تجتنى، ومساع حميدة

ما برح بها إلى الخلائق محسنا، ودين متين يشيد من أمور الآخرة ما بنا، وسؤدد مازال فيه وفى بيته مستوطنا، وأوصانى جميلة خصته بنباهة أضحى بها متقدما [وآراء مسددة أضاءت من سبل] الرشاد ما كان مظلما، ونزاهة مازالت له خلقا لا تخلقا، وعفاف ما برح منه مثريا لا معلقا. فليباشر هذا المنصب الذى أضحى ظل شرفه وارفا، وكعبة حرمه التى يتوجه إليها من كان باديا أو عاكفا، عاملا فيه بالتقوى التى يحافظ عليها مسرا ومعلنا، ويتمسك بأسبابها إذا صد عنها غيره وانثنى، فهى المعقل الذى لا يستباح له حمى، والمقام الذى يجد الخائف أمنه فيه محققا لا غيبا مرجّما «1» ، والعصمة التى تنجى من العطب، والمركب الذى تجد به الأنفس راحتها الكبرى بعد التعب. وليول من القضاة من يحيى من الحق سننا، ويميت من الباطل بدعا، ويكون رجاؤه بالاخرة متصلا، ومن الدنيا منقطعا، ليرجع به سبيل الحق بعد ضيقه متسعا، وشمل الباطل بعزيمته مفترقا لا مجتمعا. وليتفقد أمر العدول الذين أضحوا على الحقيقة عدولا عن المنهج القويم، راغبين عن المحامد بما يأتوته من كل وصف ذميم. ولا يترك منهم إلا شاهدا كان عن المعايب غائبا أو متورها، لا يعتمد من الأمور إلا ما كان واجبا، لتسلم عدالته من وصمه التجريح، وتظهر مساعيه التى تذلل له من العلا كل جموح. وأموال الأيتام والأوقاف فلا يباشرها إلا من كان لمباشرتها أهلا، ومن تتحقق أنه يكون عليها قفلا. فطالما ابتذلت أيدى الخونة منها مصونا، وجعلت

العين منها أثرا حين مدت إليها عيونا. ولا تخلها من نظر يحفظ منها مضاعا ويحسم عنها أطماعا، ويخصها بمزية الزيادة بعد النقصان، ويكتب لها من مخاوف الخونة كتاب أمان. فقد قلدناك هذه الأحكام التى ترجو بك الخلاص من تبعاتها، ورعينا بك حق الرعية، فلا تخل أمورهم من مراعاتها، وامضى عزيمتك فى إقامة منار الشريعة بعد القمود، واعل همتك فى نظم ما تبدد له من العقود. واجتهد فى أمره الاجتهاد الذى يرفل منه فى ضافى البرود، ومتع الخلائق بأيام بيض من أحكامك غير سود، ففيك من السؤدد ما ينقاد به المفاخر، ومن الأوصاف الجميلة ما تتميز به على الأوائل وأن جئت فى الزمن الآخر. وقد قررنا لك من الجامكية والجراية نظير ما كان مقررا لمن تقدمك، وهو فى كل شهر أربعون دينارا صرف أربعين وستمائة وسنة وستون درهما ناصرية وثلثان وخمسة وعشرون أردبا غلة نصفين. فليوصل ذلك إليه على تمامه وكماله عند وجوبه واستحقاقه، بعد العلامة الشريفة أعلاء إن شاء الله تعالى. وكتب فى السابع عشر من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وستمائة. الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه، وآله وصحبه الظاهرين وسلامه. وعين جهة الجامكية على الجوالى بالديار المصرية، والغلة على الأهراء المباركة بمصر المحروسة. واستمر [الصاحب تاج الدين] فى القضاء بجميع الديار المصرية إلى شوال من السنة، فاقتطع منه قضاء مصر والوجه القبلى، وفوض ذلك إلى القاضى برهان

ذكر ما اعتمده السلطان فى ابتداء سلطنته ورتبه من المصالح وقرره من القربات والأوقاف والعماير

الدين الخضر بن الحسن بن على بن الخضر السنجارى «1» فى ثالث شوال، ثم عزل [برهان الدين الخضر] وأعيد قاضى القضاة تاج الدين بتقليد سلطانى تاريخه الثامن من صفر سنة ستين وستمائة. وقد شاهدت هذا التقليد ووقفت عليه. ذكر ما اعتمده السلطان فى ابتداء سلطنته ورتبه من المصالح وقرره من القربات والأوقاف والعماير كان مما ابتدأ به، رحمه الله تعالى وعفا عنه وأنابه، عمارة الحرم الشريف النبوى وسنذكره. ثم وصلت الكتب فى سنة تسع وخمسين أن القبة التى بالصخرة الشريفة ببيت المقدس قد تداعت، فكتب إلى دمشق بتجهيز الصناع إليها وما يحتاج إليه من الآلات، ونجزت العمارة بها فى سنة ستين. وكانت عدة ضياع من أوقاف الخليل قد دخلت فى الإقطاعات، فأمر [السلطان] بارتجاعها، وعوض الأمراء عنها، وأعادها إلى الأوقاف، وأوقف قرية أذنا «2» على الخليل عليه السلام. ذكر بناء قلعة الجزيرة «3» كان السلطان الملك المعز قد أمر بهدمها، وأباح ما بها من الرخام والأصناف

التى غرم عليها السلطان الملك الصالح الأموال العظيمة، فرسم السلطان [بيبرس] بعمارتها، وندب لذلك الأمير جمال الدين بن يغمور، فشرع فى إصلاح ما استهدم من قاعاتها، ورتب فيها الجاندارية، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة. وفرق السلطان الأبراج: فرسم أن يكون برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون «1» الألفى، وثانيه للأمير عز الدين الحلى «2» ، والبرج الثالث للأمير عز الدين إيغان «3» ، وبرج الزاوية الغربى للأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. وفرق بقية الأبراج على الأمراء، ورسم أن تكون بيوتاتهم واسطبلاتهم بها، وسلم إليهم المفاتيح. ورسم بعمارة القناطر بجسر شبر منت بالجيزية وأكثر ما كانت الجيزية تشرق عنه. فبنيت القناطر فى هذا الجسر تلتقى صدمه الماء الأولى وتفتح لتصريف المياه أولا فأولا (كذا) . ورسم بعمارة مشهد النصر «4» بعين جالوت، وكتب بذلك إلى نواب الشام. وحث على عمارة الأسوار بثغر الاسكندرية وحفر خنادقها، ورتب جملة من الأموال فى كل شهر تصرف فى نفقة العماير وبنى مرقبا لثغر رشيد لكشف مراكب الفرنج. ورسم بردم فم بحر دمياط، وتوغيره بالقراتيص، وتضييقه ليمنع السفن الكبيرة من الدخول فيه.

ورسم بحفر بحر أشموم طناح، وندب لذلك الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى فتوجه لذلك وحفر ما يجب حفره، وغرق المراكب قبلى فم البحر من الجانب الغربى حتى ترد الماء إليه. واهتم بعمارة الشوانى وأعادها إلى ما كانت عليه من الأيام الكاملية والصالحية. وأمر بعمارة شوانى الثغرين وأحضرها إلى ساحل مصر، وكانت تزيد على أربعين قطعه، وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد والسلالير «1» . وركب الخليفة والسلطان فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة من القلعة إلى ساحل مصر، وركبا «2» فى الحراريق، وتفرجا، وطلعا إلى قلعة الجزيرة وجلسا بمقعد البانياسى، ولعبت الشوانى، ثم عادا إلى القلعة. ورسم بعمارة القلاع المنصورة بالبلاد الشامية وهى: قلعة دمشق، والصلت وعجلون، وصرخد، وبصرى، وبعلبك، والصبية، وشيزر، وشميس «3» ، وكان التتار قد خربوا أسوارها فرسم بإعادة ما استهدم وإصلاح ما تشعث. ورسم بعمارة مدرسته التى بالقاهرة، وسيأتى ذكرها، إن شاء الله تعالى. هذا ما قرره من المصالح العامة ورتبه من المهمات فى ابتداء سلطنته، فلنذكر خلاف ذلك من المتجددات.

ذكر وصول من يذكر من الملوك إلى خدمة السلطان وما قرره لكل منهم وما عاملهم به من الإحسان

ذكر وصول من يذكر من الملوك إلى خدمة السلطان وما قرره لكل منهم وما عاملهم به من الإحسان وفى سنة تسع وخمسين وستمائة، وردت كتب النواب بدمشق يذكرون وصول الملك الصالح صاحب الموصل «1» بأهله وغلمانه وأولاده، فكتب السلطان إلى النواب بدمشق بالمبالغة فى خدمته وترتيب الإقامات له ولمن معه فى الطرقات من دمشق إلى القاهرة، فوصل فى شعبان من السنة، فتلقاه السلطان وأنزله فى أدر أخليت له. ثم ورد بعده بأيام الخبر بوصول أخيه الملك المجاهد صاحب الجزيرة «2» فاعتمد السلطان معه نظير ما اعتمده فى حق أخيه. وكان الملك المظفر «3» أخوهما قد اعتقله الأمراء بحلب على ما نذكره، فأفرج السلطان عنه وأحضره إلى الديار المصرية، وذلك قبل وصولهما إليه، فلما وصل أخواه استأذن فى تلقيهما، فأذن له السلطان فى ذلك. وأنعم السلطان عليهم بالأموال والخيول والخلع والحوائص لهم ولأصحابهم وعين جماعة من البحرية برسم خدمتهم والتصرف فى مهماتهم، ثم رسم السلطان

بكتابة تقاليدهم ببلادهم. وكان الخليفة قد فوض ذلك إلى السلطان بتقليد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فكتب تقليد الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بالموصل وولاياتها: بالوصا، والجزيرة [و] مدينة البوازيج «1» ، والزيادة: عقر «2» [و] شوش، ودارا وأعمالها، والقلاع العمادية، [و] كنكور وبلدها. وكتب تقليد الملك المجاهد سيف الدين إسحق ببلاد الجزيرة وأعمالها وزيادة حمرين. وكتب تقليد الملك المظفر: سنجار وأعمالها. وكتب لعلاء الملك ولد الملك الصالح تقليد بقلعة الهيثم. ولما توجه السلطان إلى الشام وخيم بظاهر القاهرة سيرت هذه التقاليد إليهم ومعها أحمال الكوسات والصناجق والأموال. وأعفوا من الحضور والخدمة عليها، وساروا فى خدمة السلطان إلى الشام فسلطنهم. وذلك أنه أحضرهم مجلسه وجهز لهم خيل النوبة والعصائب «3» والجمدارية «4» ،

ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى ان قتل

ولبسوا الخلع وقبلوا الأرض وخرجوا بشعار السلطنة، والأتابك فى خدمتهم، وتوجهوا صحبة الخليفة على ما نذكره. فاتفق انفصالهم منه فى أثناء الطريق لأسباب جرت، وتوجه كل منهم إلى مملكته: فأما الملك الصالح فتوجه إلى الموصل وأقام بها، فاتفق اجتماع التتار عليها وحصارها. وأما أخواه فإنهما خافا مهاجمة العدو فعادا إلى الشام، واستأذنا فى الحضور، فأذن لهما السلطان فحضرا، وسألا السلطان إنجاد أخيهما فجرد الأمير شمس الدين سنقر الرومى وجماعة من البحرية والحلقة. فتوجهوا فى رابع جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وكتب [السلطان] إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين طيبرس «1» ورحل العسكر المصرى والشامى من دمشق فى عاشر جمادى الآخرة. ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى ان قتل قال المؤرخ: وفى العشر الآخر من جمادى الآخر «2» سنة تسع وخمسين وستمائة ورد كتاب علاء الدين طيبرس، والأمير علاء الدين البندقدار «3» مضمونه أنه وصل

إلى جهة دمشق فى أول الغوطة رجل ادعى أنه أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر ومعه جماعة من عرب خفاجة فى قريب من خمسين فارسا، وأن الأمير سيف الدين قليج البغدادى عرف أمراء العرب المذكورين وقال: «بهؤلاء يحصل القصد من العراق» فكتب السلطان بخدمته وتعظيم حرمته وأن يسير صحبته حجاب. فكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الخميس التاسع من شهر رجب من السنة، فخرج السلطان للقائه وساير أهل المدينتين، وكان يوما مشهودا، وشق القاهرة وهو لابس شعار بنى العباس، وطلع إلى القلعة راكبا، ونزل فى المكان الذى أخلى له. وفى يوم الإثنين ثالث عشر أحضر السلطان الفقهاء والأئمة والعلماء والأمراء والصوفية والتجار وغيرهم بقاعة العمد، وحضر الخليفة وأثبت نسبه على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية. ولما ثبت النسب بايعه السلطان على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وأخذ الأموال بحقها وصرفها فى مستحقها، ثم قلد الخليفة السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلاميه وما سيفتحه الله من أيدى الكفار. وكتب بذلك تقليد شريف عن الخليفة للسلطان، وبايع الناس الخليفة على اختلاف طبقاتهم. وكتب السلطان إلى سائر الأعمال بأخذ البيعة له وأن يخطب باسمه على المنابر وتنقش السكة باسمه. ولما كان فى يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب خطب الخليفة بالناس فى جامع القلعة «1» ، واهتم السلطان بذلك ونثرت جمل من الذهب والفضة. وحصل

للخليفة توقف فى الخطبة. وفى يوم الإثنين رابع شعبان ركب السلطان إلى خيمة ضربت فى البستان الكبير والناس فى خدمته، وحملت الخلع صحبة الأمير مظفر «1» الدين وشاج الخافجى وخادم الخليفة. ودخل السلطان إلى خيمة أخرى ولبس الخلعة الخليفية، وهى عمامة سوداء مزركشة، ودرّاعة بنفسجى، وطوق، وعدة سيوف تقلد منها وحملت خلفه، ولواءان، وسهمان كبيران، وترس، وغير ذلك مما جرت العادة به. وقدم له فرس أشهب فى رقبته مشدة سوداء، وعليه كنبوش «2» أسود. وطلب الأمراء وخلع عليهم، وعلى الصاحب بهاء الدين، وقاضى القضاة، وصاحب ديوان الإنشاء الشريف: وهو القاضى فخر الدين بن لقمان، وطلع ابن لقمان على منبر قد جلل بالأطلس الأصفر، وقرىء التقليد على كافة الناس وهو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» * الحمد لله الذى أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف. وشيد ما وهى من علاثه حتى أنسى ذكر ما سلف. وقبض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التى تسرح الأمين منها فى الروض الأنف، وألطافه التى وقف الشكر عليها فليس عنها منصرف «4»

وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى جبر من الدين وهنا، وأظهر من المكارم فنونا لافتا، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقيه لا تفنى، وأصحابه الذين صحبوه فى الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وسلم تسليما» . «وبعد: فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه الحميد متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرمه نارا وأجراه دما. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى- شرفه الله وأعلاه- ذكرها الديوان العزيز النبوى «1» تنويها لشريف قدره، واعترافا بصنعه الذى تنفد العباره ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أفعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان «2» ، وعتب دهرها المسىء فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، وأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف لها اهتمامه فرجع كل مضيق من أمرها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة فى ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاحتفال بأمر الشريعة والبيعه أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه، ولو تمسك

بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامه حسابه. والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها فى صحف صنعه، ومكرمة [قضت «1» ] لهذا البيت الشريف النبوى بجمع شمله بعد أن حصل الإياس من جمعه» . «وأمير المؤمنين يشكر الآن [لك] هذه الصنائع. ويعترف أنه لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الرافع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار الجزرية «2» ، والبكرية، والحجازية، واليمنية وما يتجدد من الفتوحات فورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردا: وما جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون مستثنى ولا جهة من الجهات تعد فى الأعلى ولا فى الأدنى» . فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لثقلها حاملا، وخلص نفسك اليوم لك التبعات، ففى غد تكون مسئولا عنها لا سائلا. ودع الاغترار بأمر الدنيا، فما نال أحد منها طائلا، وما لحظها أحد بعين الحق إلا رآها خيالا زائلا، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمته غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل، فقد امر الله بالعدل والإحسان. وكرر ذكره فى مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه آثاما، وجعل يوما واحدا منه كعبادة ستين عاما ما سلمك [أحد «3» ] سبيل العدل واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد

تداعى أركانه مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث الزمان فكانت أيامه فى الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن من الغرر فى أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد» . «وهذه الأقاليم المنوطة بنظرك تحتاج إلى حكام وأصحاب رأى من أرباب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم فى أمرك فنقب عليه تنقيبا، واجعل عليه فى تصرفاته رقيبا، وسل عن أحواله، ففى يوم القيامة تكون عنه مسئولا وبما اجترم مطلوبا، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا. وأمرهم بالأناة فى الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء فى حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق. وألا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم برا وإحسانا، وألا يستحلوا حرماتهم إذا استحل لهم الزمان حرمانا، والمسلم أخو المسلم، وإن كان أميرا عليه أو سلطانا. فالسعيد من نسج ولاته فى الخير على منواله، واستنوا بسنته فى تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله» . «ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيىء السنن، وجدّد من المظالم التى هى على الخلائق من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد، فإن المحامد رخيصة بأغلى الثمن. ومهما جنى منها من الأموال فإنها فانية «1» وإن كانت حاصله، وأجياد الخزائن وإن أصبحت بها خالية فإنما هى الحقيقة عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعى الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له

خصما، وتحمل ظلم الناس مما صدر عنه من أعماله، وقد خاب من حمل ظلما. وحقيق بالمقام الشريف السلطانى الملكى الظاهرى الركنى أن تكون ظلامات الأيام مردودة بعدله، وغزائمه نخفف عن الخلائق ثقلا لا طاقة لهم بحمله «1» ، فقد أضحى على الإحسان قادرا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى، وأوجب لك مزية التعظيم وتنبيه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور ينبغى أن تلاحظ وترعى، وأن توالى عليها حمد الله، فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا. وقد تبين أنك صرت فى الأمور أصلا، وصار غيرك فرعا» . ومما يجب ذكره: الجهاد الذى أضحى على الأمة فرضا، هو والعمل الذى يرجع به مسود الصحائف مبيضا. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصّهم بالجنة لا لغو فيها ولا تأثيم» . «وقد تقدمت لك فى الجهاد يد بيضاء أسرعت فى سواد الحساد، وعرف منك عزمة هى أمضى «2» مما تحت ضمائر الأغماد. واشتهرت لك مواقف فى القتال هى أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، ويعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وبسيفك الذى أثر فى الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه من الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان هاجعا، وكن فى مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا. وأيد كلمة التوحيد فما تجد فى تأييدها إلا مطيعا سامعا» .

«ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدما، وسد منها ما غادره العدو متداعيا متهدما. فهذه حصون يحصل منها [الانتفاع «1» ] وبها تحصم الأطماع، وهى على العدو داعية افتراق لا اجتماع» . «وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعدو إليه ملتفتا ناظرا، لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحا، ورجع خاسرا، واستأصلهم الله فيما مضى حتى ما أقال منهم عائرا» . «وكذلك الأصطول الذى ترى خيله كالأهلة وركائبه بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليمانى، فإن ذلك غدت له الرياح حاملة وهذا تكفلت يحمله المياه السائلة. وإذا لحظها الظرف سائرة فى البحر كانت كالاعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع فى أيام» . «وقد سنى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأى الذى يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط من السعاده ما كان قد كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يؤيدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه. فإن النعم تستتم بشكره، بمنه وكرمه» . ثم ركب السلطان وشق المدينة بعد أن زينت، وحمل التقليد الأمير جمال الدين النجيبى استاد الدار العالية، والصاحب الوزير بهاء الدين فى بعض الطريق «2»

وبسط أكثر الطريق للسلطان بالثياب الفاخرة، [و «1» ] مشى عليها بفرسه، ووصل إلى القلعه. وشرع السلطان فى الستخدام للخليفة: فكتب للأمير سابق الدين بوزبا أتابك العسكر بألف فارس، وللأمير ناصر الدين محمد بن صيرم الخازندار بمائنى فارس، وللأمير الشريف نجم الدين استاد الدار بخمسمائة فارس. وأمر جماعة من العربان، وحملت إليهم الطلبخاناة والصناجق، وأنفق فيهم الأموال لعدة شهور. واشترى السلطان مائة مملوك «2» جمدارية وسلاح دارية للخليفة، وأعطى لكل واحد منهم ثلاثة أرؤس خيلا وجملا لعدته، ولم يبق أحد ممن تدعو الحاجة إليه من صاحب ديوان وكاتب إنشاء وديوان وأئمه ومؤذنين وغلمان وحكماء وجرائية إلا استخدموا. ولما تكامل ذلك كله تقدم السلطان بتجهيز العساكر. وفى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من السنة ركب السلطان هو والخليفة فى السادسة من النهار، ونزل كل منهما فى دهليزه، واستمرت النفقه فى أجناد الخليفة. وفى يوم العيد ركب الخليفة والسلطان تحت الجتر، وصليا العيد، وفى هذه الليلة حضر الخليفة إلى خيمة السلطان وألبسه الفتوة بحضور «3» من يعتبر حضوره فى ذلك.

وفى يوم السبت سادس شوال رحلا متوجهين إلى الشام، فلما وصلا إلى الكسوة خرج عسكر الشام للقائهما، ودخلا دمشق فى يوم الإثنين سابع ذى القعدة. ونزل السلطان بالقلعة، ونزل الخليفة فى تربة الملك الناصر بجبل الصالحية «1» . وجرد الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير شمس الدين سنقر الرومى إلى جهة حلب، وأمرهم السلطان بالمسير إلى الفرات، وأنه متى ورد عليهم كتاب الخليفة يطلب أحدا منهم إلى العراق يتوجه إلى خدمته لوقته. وركب السلطان وودع الخليفة، وسير إليه الملوك الذين ذكرناهم. ثم ورد كتاب الخليفة يذكر أنه وصل إلى حديثة وعانا، وولى فيها «2» ثم كان ما ذكرنا من خروج طائفة من التتار وقتال الخليفة لهم واستشهاده، رحمه الله تعالى، على ما قدمناه فى أخباره، فى أخبار خلفاء الدولة العباسية. وحسب ما أنفق فى مهم الخليفة والملوك فكان ألف ألف دينار عينا وفى هذه السنة قبل مسير السلطان إلى الشام، كتب منشور الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا «3» بالإمرة على جميع العربان، وأطلق السلطان للعريان الغلال من بلد حلب، وذلك قبل خروج السلطان إلى الشام.

ذكر استيلاء الأمير علم الدين سنجر الحلبى على دمشق وسلطنته بها، وأخذها منه، وتقرير نواب السلطان بها

هذا ما كان من الأخبار بالديار المصرية، فلنذكر ما اتفق بالشام من حين ابتداء سلطنة السلطان الملك الظاهر إلى أن استقرت قواعد ملكه. ذكر استيلاء الأمير علم الدين سنجر الحلبى على دمشق وسلطنته بها، وأخذها منه، وتقرير نواب السلطان بها قد ذكرنا أن السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز كان قد فوض نيابة السلطنة بدمشق للأمير علم الدين سنجر الحلبى «1» ، فلما اتصل به خبر قتل الملك المظفر وثب على السلطنة بدمشق وحلف العساكر الشامية لنفسه، ولقب نفسه بالملك المجاهد، وركب بشعار السلطنة، فلما اتصل ذلك بالسلطان الملك الظاهر كتب إليه يقبح فعله ويسترجعه عنه، فعادت أجوبته بالمغالطة. فأرسل إليه السلطان الأمير جمال الدين أقن المحمدى يستميله «2» ويرده عن تعاطى ما لايتم له، وسير إليه صحبته مائة ألف وعشرين ألف درهم وحوائص وخلعا وملابس بألفى دينار عينا. فلما وصل ذلك إليه جلس الأمير علم الدين الحلبى مجلسا عاما للناس وأشهدهم على نفسه أنه قد نزل عن الأمر الذى كان قد استحلف الناس عليه، وأنه من جملة النواب الظاهرية. ثم رجع عن ذلك وركب بشعار السلطنة على ما كان عليه أولا، فركب الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وخرج إلى ظاهر دمشق، ونادى باسم السلطان الملك الظاهر ومعه جماعة فساق بهم إلى جهة السواد، فندب الحلبى جماعة لقتالهم، فانهزم أصحاب الحلبى، ثم رأى انحراف الناس عنه واتفاقهم عليه،

ذكر ما اتفق بحلب فى أمر النيابة

ففارق دمشق وتوجه إلى قلعة بعلبك. ودخل الأمير علاء الدين البندقدار دمشق، وحلف الناس للسلطان الملك الظاهر وجهز إلى بعلبك من أحضر الحلبى تحت الأحتياط. وكتب بذلك إلى السلطان، فجدد السلطان المناشير للأمراء والجند، وقرر الحديث فى الأموال ونيابة القلعة للأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى، ورسم باحضار الحلبى، فلما وصل إليه اعتقله بقلعة الجبل، ثم أطلقه بعد ذلك وخلع عليه، واستمر فى الخدمة إلى أن جهزه إلى نيابة حلب. هذا ما اتفق بدمشق. ذكر ما اتفق بحلب فى أمر النيابة كان السلطان الملك المظفر قد استناب بالمملكة الحلبية الملك المظفر علاء الدين ابن صاحب الموصل، ولقبه بالملك السعيد على ما ذكرناه، فتوجه إلى حلب، وحصلت منه أمور أنكرها عليه الأمراء، وكان الملك المظفر قطز قد أقطع جماعة من الأمراء العزيزية والناصرية بالبلاد الجبلية، فلما اتصل بهم قتل الملك المظفر اجتمعوا وقبضوا على الملك السعيد ونهبوا وطاقة، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله «1» للقاء التتار، واستولوا على خزائنه فلم يجدوا فيها مالا طائلا، فتهددوه بالعذاب إن لم يقر لهم بالمال، فأخرج لهم من تحت الأشجار مالا كان قد دفنه، تقدير خمسين ألف دينار مصرية، ففرقت فى الأمراء واعتقلوا الملك السعيد بالشغر «2» ، ثم أفرجوا عنه بعد ذلك، وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزى، فكتب السلطان إليه تقليد بنيابة المملكة الحلبية.

ذكر وصول طائفة من التتار إلى البلاد الإسلامية وما فعلوه بحلب وتقدمهم إلى حمص وقتالهم وانهزامهم وما كان من خبر عودهم

ذكر وصول طائفة من التتار إلى البلاد الإسلامية وما فعلوه بحلب وتقدمهم إلى حمص وقتالهم وانهزامهم وما كان من خبر عودهم وفى سنة تسع وخمسين وستمائة بلغ التتار أن الأمراء العزيزية والناصرية قد وقع بينهم اختلاف، فتجمعوا من كل جهة وعبروا الفرات، ولما بلغ الملك السعيد خبرهم وأنهم وصلوا إلى جهة البيرة جرد إليهم جماعة قليلة من العسكر الحلبى، وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصرى، فنهاه الأمراء العزيزية والناصرية عن ذلك، واستقلوا العسكر المجرد، فلم يرجع إلى قولهم، وصمم على إرساله، فسار سابق الدين ومن معه حتى قاربوا البيرة، فصدمهم التتار، فهرب سابق الدين منهم ودخل البيرة، بعد أن قتل أكثر من معه. فكان ذلك من أكبر الأسباب التى أوجبت القبض على الملك السعيد، ثم توجه التتار إلى جهة حلب، فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندار والعسكر الحلبى بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتار إلى حلب فى أواخر سنة ثمان وخمسين وستمائة وملكوها، وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا، واسمها قديما مقر الأنبياء، فسماها العامة قرنبيا، فلما اجتمعوا بها بذل التتار فيهم السيف فقتلوا أكثرهم. وتقدم التتار إلى جهة حماة، ففارقها العسكر الحلبى وصاحبها الملك المنصور إلى حمص، واجتمعوا هم والملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص، واتفقوا على قتال التتار، وانضم إليهم الأمير زامل بن على أمير العربان. ووصل التتار إلى حمص، والتقوا واقتتلوا فى يوم

الجمعة خامس المحرم من السنة «1» فانهزم التتار أقبح هزيمة، وقتل أبطالهم وشجعانهم، فاستشهد فيهم بقول الشاعر: فإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص فى قابل فإن الحسام الصقيل «2» الذى ... قتلتم به فى يد القاتل وقد شاهد جماعة كثيرة فى هذه الواقعة طيورا كثيرة بيضاء تحوم حال القتال. حكى عن الأمير بدر الدين محمد القيمرى قال: «والله، لقد رأيت بعينى طيورا بيضا وهى تضرب بأجنحتها فى وجوه التتار» . وقد ذكر ذلك جماعة كثيرة حتى بلغ حد التواتر، فما كان بأسرع من انهزام التتار. قال المؤرخ: ثم اجتمع من سلم من التتار ونزلوا بسلمية، وعادوا إلى حماة، ورحلوا عنها إلى أفامية، وكان قد وصل إلى أفامية الأمير سيف الدين الديبلى «3» الأشرفى ومعه جماعة فأقام بقلعتها وبقى بغير على التتار، فرحلوا عن أفامية وعادوا إلى حلب، فأخرجوا من بها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من ضعف عن الحركة واختفى خوفا على نفسه، ثم نادوا فيهم: من كان من أهل حلب فليعتزل. فلم يعلم الناس ما يراد بهم، فظن الغرباء النجاة لأهل حلب، وظن أهل حلب نجاة الغرباء،

فاعتزل بعض كل من الطائفتين مع الأخرى بحسب ما أدّى كل منهم اجتهاده، فلما تميز الفريقان أخذ التتار الغرباء وتوجهوا بهم إلى بابلى «1» فضربوا أعناقهم، وفيهم جماعة من أهل حلب وأقارب الملك الناصر، ثم أعادوا من بقى من أهل حلب إليها، وسلموا كل طائفة إلى رجل من الأكابر، ثم أحاطوا بالبلد ولم يمكنوا أحدا يدخل إليه ولا يخرج منه. ثم فارق التتار حلب فى أوائل جمادى الأول سنة تسع وخمسين وستمائة وكان سبب رحيلهم عنها أن السلطان الملك الظاهر جرد فى العشر الأول من شهر ربيع الأول الأمير فخر الدين الطنبا الحمصى والأمير حسام الدين لاجين الجو كان دار «2» والأمير حسام الدين العين تابى «3» فى عسكر لدفع التتار عن حلب. فلما وصلوا إلى غزة أرسل فرنج عكا إلى التتار بخبرهم فرجعوا وفارقوا حلب. ولما رحل التتار عن حلب تغلب عليها جماعة من أحداثها لخلوها من العسكر، منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر، وعلى بن الأنصارى، وأبو الفتح، ويوسف بن معالى، فقتلوا ونهبوا، وبلغوا أغراضهم ممن كان فى قلوبهم منهم ضغائن» فلما قاربوا الأمير فخر الدين الحمصى والأمير حسام الدين تابى، ومن معهما هرب هؤلاء عن حلب. ولما ذخلها الأمير فخر الدين الحمصى صادر

ذكر الغلاء الكائن بحلب

أهلها وعذبهم واستخرج منهم ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم بيروتية، وأقام بها إلى أن وصل الأمير شمس الدين أقش البرلى، ففارقها. ذكر الغلاء الكائن بحلب قال الشيخ شمس الدين بن الجزرى فى تاريخه: وفى سنة تسع وخمسين وستمائة بعد أن توجه «1» التتار من البلاد الإسلامية غلت الأسعار بحلب، وقلت الأقوات فبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهما، ورطل السمك ثلاثين، ورطل اللبن خمسة عشر، ورطل الشيرج سبعين، ورطل الخل ثلاثين، ورطل الأرز عشرين، ورطل الحب رمان ثلاثين، ورطل السكر خمسين، والحلوى كذلك، ورطل العسل ثلاثين، ورطل الشراب ستين، والجدى الرضيع بأربعين درهما، والدجاجة بخمسة دراهم، والبيضة بدرهم ونصف «2» ، والبصلة بنصف درهم، وباقة البقل بدرهم، والبطيخة بأربعين درهما، والتفاحة بخمسة دراهم، ولم يذكر سعر الخبز والقمح، ولعل ذلك لعدمه. قال: وكانت المكاسب كثيرة والدرهم متيسر الحصول. ذكر اختلاف العزيزية والناصرية، ومفارقة الأمير شمس الدين أقش البرلى البلاد، وتولية الحلبى نيابة حلب وعزله، وعود البرلى إليها وخروجه منها، ونيابة البندقدار وعود البرلى إليها ثانية وخروجه وفى سنة تسع وخمسين وستمائة، بعد وقعة التتار، اختلف الأمراء العزيزية

والناصرية، وحضروا إلى الساحل، فأعطى السلطان بعضهم الإقطاعات، وحضر الباقون إلى الديار المصرية، وكان الأمير شمس الدين أقش البرلى مقطعا مدينة نابلس من الأيام المظفرية، فزاده السلطان بيسان وجعل لمملوكه قجقار عدة نواحى وتوجه إلى دمشق. ثم أمر السلطان بإمساك الأمير بهاء الدين بغدى الأشرفى فغضب البرلى لذلك، واجتمع معه العزيزية والناصرية، ونزلوا بالمرج وتوجهو إلى حلب. وكان السلطان قد استناب الأمير علم الدين الحلبى بحلب قبل حدوث هذه الواقعة، وأمّر جماعة وقرر لهم وظائف وهم: الأمير شرف الدين قيران «1» الفخرى وجعله استاذ الدار، والأمير بدر الدين جماق وجعله أمير جاندار، والأمير علاء الدين ايدكين الشهابى وجعله شاد الدواوين. فتوجه الأمير علم الدين ووصل إلى حلب فى يوم السبت ثالث شعبان من السنة ووصلت مطالعته إلى السلطان يذكر عبوره إلى حلب، وأن جماعة من العزيزية والناصرية حضروا إليه يطلبون الأمانات. ولما وصل الحلبى إلى حلب جرد جماعه من العسكر خلف البرلى ومن معه من العزيزية والناصرية، فعطف عليهم العزيزية والناصرية فهزموهم، فعزل السلطان الحلبى لذلك. وقيل إنه إنما عزله لأسباب أخر اتفقت أوجبت عزله. ولما عزل الحلبى فارق حلب وعاد إلى دمشق، فخلت مدينة حلب، فحضر الأمير شمس الدين البرلى إليها وأقام بها، وسير الأمير بدر الدين أيدمر الحلى رسولا منه إلى السلطان يبذل له الطاعة، فأبى السلطان إلا حضوره إلى الخدمة. وأقام البرلى بحلب إلى أن وصل السلطان إلى دمشق فى سنة تسع وخمسين، فجرد العساكر إليها ففارقها البرلى وتوجه إلى الفرات، وعاد العسكر

وأغار على بلاد أنطاكية «1» ، وكان فى العسكر صاحب حمص وصاحب حماة، فأخذت الينا وأحرقت المراكب، وأخذت الحواصل، وعادت العساكر إلى القاهرة فى يوم الخميس تاسع وعشرين شهر رمضان سنة ستين وستمائة وصحبتهم ما يزيد على مائتين وخمسين أسيرا «2» . ثم استناب السلطان بحلب الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار «3» ، فتوجه إليها وأقام بها. ثم خشى عاقبة عود الأمير شمس الدين اقش البرلى، ففارق حلب وعاد وأقام بحماة واعتذر أنه إنما فارق حلب لشدة الغلاء وعدم الأقوات. وكان الأمير شمس الدين البرلى قد أرسل إلى السلطان الأمير علم الدين جكم بكتبه يسأله الصفح، فلما فارق البندقدار حلب عاد البرلى إليها وكتب إلى السلطان يعتذر من رجوعه إلى حلب، وأنه مارجع إلا طائعا، وأن الأمير علاء الدين انفصل عن حلب اختيارا منه، ولو أقام لما قصده أحد، وتوالت كتبه بالاعتذار واستأذن فى توجهه إلى الموصل، والسلطان يغلظ له تارة ويلين أخرى. ثم جرد السلطان عسكرا صحبه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نجدة لصاحب الموصل، وانفق فيهم الأموال. فلما اتصل الخبر بالأمير شمس الدين البرلى توجه إلى سنجار والنقى التتار وقاتلهم قتالا شديدا. وكان معه نحو ألف فارس وهم فى جموع كثيرة فلم تساعده المقادير، وذلك أنه سقط عن فرسه فأنكسرت رجله، فركبه أحد مماليكه وساق يوما كاملا ولم يعلم من معه أن رجله كسرت، ثم كان من أمره ما نذكره، إن شاء الله تعالى.

ذكر ما اتفق للسلطان بالشام فى مدة مقامه بدمشق وما وقع فى سفرته هذه خلاف ما قدمنا ذكره من أمر الخليفة

هذا ما اتفق بالشام وحلب. ذكر ما اتفق للسلطان بالشام فى مدة مقامه بدمشق وما وقع فى سفرته هذه خلاف ما قدمنا ذكره من أمر الخليفة من ذلك أنه لما وصل إلى دمشق وصل إلى خدمته الملك المنصور صاحب حماة، والملك الأشرف صاحب حمص والرحبة، فتلقاهما وأكرمهما وأنعم عليهما بخيل النوبة والعصائب وشعار السلطنة، وركب كل منهما بمفرده والأمراء مترجلون فى خدمته، وكتب لهما التقاليد، وزاد الملك الأشرف تل باشر والملك المنصور بلاد الإسماعيلية، وتوجها إلى بلادهما. ومن ذلك أن أمراء العريان حضروا إلى خدمة السلطان فأنعم عليهم ووصل أرزاقهم، وسلم إليهم خفر البلاد، وألزمهم حفظها إلى حدود العراق «1» . ومن ذلك أنه فوض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى، وكان قبل ذلك بنيابة قلعة دمشق، والأموال «2» . ذكر ركوب السلطان إلى الميدان بدمشق ولعبه بالكره ومن كان فى خدمته من الملوك قال المولوى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: ولعب السلطان فى ميدان دمشق، فرأيت فى خدمته جماعة من الملوك وهم: الملك الصالح صاحب الموصل [و] «3» الملك المجاهد صاحب الجزيرة، [و] الملك المظفر

ذكر الصلح مع ملوك الفرنج

صاحب سنجار، [و] الملك علاء الملك. [و] الملك الأشرف صاحب حمص، [و] الملك الزاهر أسد الدين، [و] الملك المنصور صاحب حماة [و] الملك الأمجد تقى الدين بن الملك العادل سيف أبى بكر بن أيوب «1» ، [و] الملك المنصور [و] الملك السعيد، [و] الملك المسعود، وأولاد الملك الصالح عماد الدين اسماعيل (و) الملك الأمجد وأخوته أولاد الملك الناصر داود، (و) الملك الأشرف ابن ولد أقسيس [و] الملك القاهر بن الملك المعظم، وجماعة كثيرة منهم. قال: وهذا ما لا رآه ملك آخر. ذكر الصلح مع ملوك الفرنج لما توجه السلطان إلى الشام سير سير جوان ديكين، كنديافا، يبذل الطاعة. ولما وصل السلطان إلى العوجا سأل الأمان للحضور إلى الدهليز، فتوجه الأتابك إليه وأحضره إلى السلطان. فأكرمه وكتب له منشورا ببلاده ورده إلى بلده. قال: ثم وردت رسل ملوك الفرنج يهنون السلطان بالسلامة ومعهم الإقامات الكثيرة. فلما وصل السلطان إلى دمشق حضر رسول من عكا يسأل أمانا للرسل المتوجهين من ساير البيوت. فكتب إلى متولى بانياس بتمكينهم «2» ، فحضر أكابر الفرنج والتمسوا الصلح، فتوقف السلطان واشترط شروطا كثيرة فتوقفوا،

ذكر الغارة على العرب والفرنج

فأهانهم وزجرهم. وكان العسكر قد توجه للإغارة على بلاد الفرنج من جهة بعلبك، فسألوا فى رجوعه وتقرير الصلح على ما كان الأمر عليه إلى آخر الأيام الناصرية وإطلاق الأسرى، من حين انفصال الأيام المذكورة إلى وقت هذه الهدنة. وتوجهت الرسل معهم لأخذ العهود عليهم «1» . وكذلك تقررت الهدنة لصاحب بافا ومتملك بيروت على حكم الأيام الناصرية، وأمنت السبل وكثرت الأجلاب. وشرع السلطان فى جمع الأسارى وسيرهم إلى مدينة نابلس حفظا للعهود، والفرنج يكاسرون «2» فى أمر الأسارى. فلما طال ذلك رسم السلطان بنقل الأسارى إلى دمشق واستعمالهم فى العمائر وبقى الحال موقوفا «3» . ذكر الغارة على العرب والفرنج قال: ولما وصل السلطان إلى الشام جرد الأمير جمال الدين المحمدى، وجرد معه جماعة من العسكر المنصور، ورسم لهم بالإغارة على بلد الفرنج، فتوجهوا ونهبوا وكسبوا، وعادوا ساطين «4» . وجرد جماعة من البحرية وكتم خبرهم. وكان السلطان بلغه أن جماعة من عرب زبيد قد كثر فسادهم وأنهم مخالطون الفرنج وموافقوهم فى الباطن ويدلونهم على عورات المسلمين، فساق البحرية إليهم وانتهبوا أموالهم وقتلوا منهم وذبحوا جماعة كثيرة، وكفى الله الإسلام شرهم «5» .

ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية

وفى هذه السنة والسفرة، عزل السلطان القاضى نجم الدين بن قاضى القضاة صدر الدين بن سنى الدولة عن القضاة بدمشق، وفوضه للقاضى شمس الدين أحمد ابن بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن خلكان البرمكى من العريش إلى سلمية، وفوض إليه النظر فى جميع الأوقاف بالشام، منها الجامع والبيمارستان والمدارس وغير ذلك، وفوض إليه تدريس سبع مدارس وهى: العادلية، والعذراوية، والناصرية، والفلكية، والركنية، والإقبالية، والبهنسية. وكان تدريس هذه المدارس بيد القاضى نجم الدين المعزول، ووكل بالقاضى نجم الدين «1» وأمره أن يتوجه إلى الديار المصرية. وكان مذموم السيرة فى ولايته. ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة جملة من معانيه. ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية قال: ولما استقرت هذه الأمور عاد السلطان إلى الديار المصرية، وكان وصوله فى يوم السبت سابع عشر ذى الحجة سنة تسع وخمسين وستمائة. ذكر أخذ الشويك كان السلطان قد جهز الأمير بدر الدين الأيدمرى وصحبته جماعة من العسكر، وما أعلم أحدا ممن جرد بالجهة التى يتوجهون إليها، فتوجه إلى الشويك وبذل المال والخلع فسلمت إليه. ووصل الخبر بتسليمها فى سادس عشرين ذى الحجة من السنة. وولى نيابتها الأمير سيف الدين بلبان المحتصبى «2» ، واستخدم بها النقباء

والجاندارية، وأفرد لخاص القلعة ما كان لها إلى آخر أيام الصالحية النجمية. وفى هذه السنة، كانت وفاة الصاحب صفى الدين أبى إسحق إبراهيم ابن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن مرزوق العسقلانى، وكان قد وزر للملك الأشرف ابن الملك العادل بدمشق مدة، ثم عزل بجمال الدين بن جرير، وكان تاجرا مشهورا بالثروة وكثرة الأموال. وكان ابتداء أمره كما حكى عنه أنه حكاه عن نفسه قال: أرسلنى والدى إلى القاهرة من مصر لأبتاع له قمحا، وكان له طاحون بمصر، فتوجهت إلى دار بعض الأمراء فاشتريت ألف أردب بخمسة آلاف درهم، وتسلمتها، وبت فى تلك الليلة بالقاهرة، وأصبحت فتحسن سعرها فبعتها بسبعة آلاف، فأوفيت الثمن، وأخذت ما بقى، وصرفت به مائة وثلاثين دينارا. وأتيت والدى فسألنى عن القمح، فقلت: بعته، فقال: ولم لا أتيت به؟ فقلت له: إنك لم ترسل معى الثمن، حتى ولم تعطنى دابة أركبها، وعندك عشرين دابة، ماهان عليك أن أركب منها دابة «1» . وكنت قد مشيت من مصر إلى القاهرة فحقدت ذلك عليه. قال: ثم اتجرت فى ذلك المال الذى ربحته من ثمن القمح فبارك الله لى فيه حتى جمعت منه ستمائة ألف دينار عينا، غير ما اشتريت من العقار والأثاث والخدم والدواب والمسفر وغيره. وكانت وفاته بمصر ودفن بسفح المقطم. ومولده فى شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى. وفيها توفى الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خماردكين «2» ، وهو صاحب صهيون، وجده عتيق الأمير مجاهد الدين صاحب صرخد.

وكانت وفاته فى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وستمائة بقلعة صهيون ودفن بها، وولى بعده ولده سيف الدين محمد. وكان هو قد ولى صهيون بعد وفاة والده ناصر الدين منكورس فى سنة ست وعشرين وستمائة. وخلف الأمير مظفر الدين من الأموال ما لا يحصى كثرة. حكى الشيخ شمس الدين ابن الجزرى فى تاريخه قال: حكى لى الصاحب مجد الدين اسماعيل بن كسيرات الموصلى قال: كان مظفر الدين صاحب صهيون يجلس فى كل يوم فى باب القلعة ويأخذ قطعا من الشمع ويختم عليها بخاتمه، فمن كان له دعوى على خصمه أو محاكمة جاء إليه وأحضر معه شيئا من المأكول فيضعه فى الدركاه بين يدى الأمير مظفر الدين، ويأخذ قطعة من ذلك الشمع المختوم ويتوجه إلى خصمه ويقول هذا ختم السلطان، فيأخذ الخصم معه شيئا أيضا ويحضر إلى بين يديه فيحكم بينهما بنفسه. قال: فسألته عن مقدار ما يحضره الواحد منهم. قال: يأتى كل واحد بحسبه من الرأس الغنم إلى خمس بيضات. ومات وقد ناف على تسعين سنة، رحمه الله. وفيها توفى الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن عيسى بن درياس الماردانى «1» الشافعى، وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم السبت سادس شوال، ودفن من يومه بسفح المقطم. ومولده فى ليلة الثلاثاء ثانى عشرين شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمية، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ستين وستمائة

واستهلت سنة ستين وستمائة فى هذه السنة، فى ثالث عشرين المحرم، أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهرى نائب السلطنة الشريفة على ابنة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل كان، وكان عقد النكاح قد عقد فى ثالث عشر شوال سنة تسع وخمسين وستمائة، وذلك أن السلطان كان قد استدعى الملوك إخوتها فى اليوم المذكور وعرفهم مكانة الأمير بدر الدين منه، وأن محله محل الولد، وخطب أختهم له، فأجابوا إلى ذلك، وعقد النكاح. وملكه السلطان فى ذلك اليوم بانياس وقلعتها بالبيع الشرعى. ثم كان البناء بها فى هذه السنة. وعمل العرس بالميدان الأسود. واحتفل السلطان به احتفالا عظيما، وفوض إليه بعد أيام قلائل النظر فى أمر الجيش: يقطع الإقطاعات ويزيد وينقص، وفوض إليه أمر الرعايا وكشف ظلاماتهم وغير ذلك. وفيها، حصل الصلح بين السلطان والملك المغيث صاحب الكرك «1» ، وكان ولده الملك العزيز فى الاعتقال من الأيام المظفرية. فإن والده كان قد سيره إلى هولاكو كما ذكرنا فاتفق عوده إلى دمشق عند دخول الملك المظفر إليها، فأمر بإرساله إلى قلعه الجبل واعتقاله بها. فأطلقه السلطان الآن، وأقطعه دبنان «2» بمنشور، وحلف السلطان لأبيه. ثم بعد ذلك سير السلطان له صنجقا وشعار السلطنة، فقبل عقب الصنجق وركب بشعار السلطنة.

ذكر وصول الأمير شمس الدين سلار البغدادى وشىء من أخباره

وفيها، انتصب السلطان لعرض العساكر بنفسه وحلّف الناس لولده الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان، فحلفوا له، وسيرت نسخ الأيمان إلى القلاع والممالك «1» والناس بأجمعهم. ذكر وصول الأمير شمس الدين سلار البغدادى وشىء من أخباره «2» وفى نصف شهر رجب سنة ستين وستمائة وصل الأمير شمس الدين سلار البغدادى من العراق إلى الديار المصرية، وكان رجلا تركيا من قبيلة دروت «3» وهو من مماليك الخليفة الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله، ولاه واسط والكوفة والحلة. فأقام بها فى الأيام الظاهرية والمستنصرية والمستعصمية. فلما استولى هولاكو على بغداد وقتل الخليفة، اجتمع سلار هذا وصاحب شستر ومن انضم إليهما، وقاتلوا التتار فلم يكن لهم بهم طاقة لكثرة التتار، فتوجه إلى برية الحجاز، فأقام بها نحوا من سنة أشهر، ثم راسله هولاكو وكتب له فرمانا بإفراره على ما كان عليه فى الأيام المستعصمية، فحضر إليه فأقره، فلما أفضت السلطنة بالديار المصرية إلى السلطان الملك الظاهر كاتبه السلطان، وطلب منه الوصول إليه مرة بعد أخرى، فتقرر حضوره إليه، وتأخر ذلك إلى أن يتحيل لنفسه ويجمع أمواله، فاتفق أن السلطان تحدث مع قليج البغدادى فى بعض الأيام فقال له السلطان: خوشداشك سلار يصل إلينا؟ فقال: هذا لا يتصور

وقوعه، لأن سلار من الملوك بالعراق، فكيف يفارق ما هو فيه ويحضر إلى هذه البلاد؟ فقال السلطان: متى لم يحضر برضاه أحضرته بغير رضاه. وبعث قاصدا يكتب إليه على أنها أجوبة كتبه، وبعث قاصدا آخر وقال له: إذا قربت من الأردو فاقتل هذا القاصد واتركه وما معه، ففعل ذلك. ولما قتل القاصد وجده القراؤل، فأحضره إلى هولاكو فقرىء ما معه من الكتب فوجدت أجوبة سلار. وكان بمقام هولاكو جماعة من أولاد مماليك الخليفة أخذهم لنفسه وجعلهم خواصا عنده، فسيروا إلى سلار فى الوقت يعلمونه الخبر، فعلم أنها مكيدة، ورسم هولاكو بطلبه إلى الأردو، فوصل إليه الخبر قبل ورود مرسوم هولاكو بطلبه. وكان حال وصول الخبر إليه يتصيد، فعلم أنه متى وصلى إلى هولاكو قتله، فساق لوقته إلى أن وصل إلى الديار المصرية. وترك جميع أمواله وذخائره وأهله وأولاده. ولما وصل أكرمه السلطان وعامله بإحسان كثير، وأنزله بالكبش، وأمره طبلخاناه، وأقطعه منية بنى خصيب. فقال للسلطان: لقد ضيع السلطان على المسلمين أموالا عظيمة، فإنك لو تركتنى حتى أحضر بما جمعته من الأموال والذخائر انتفع بيت المال به، فإنى جمعت خراج سنتين. فقال له السلطان: إنما كان قصدى حضورك، ولم أقصد الأموال. ولا تجلس بين يدى. السلطان لا يرفع أحدا عليه «1» . ثم جرده السلطان فى مقابلة الفرنج بساحل عكا، فكتب إلى السلطان يسأله أن يقيم بالشام فأقطعه نصف [مدينة] نابلس «2» ، وأقام ستة أشهر ثم أعاده [السلطان] إلى الديار المصرية.

ذكر عود رسل السلطان من جهة الأنيرور

وكان السلطان قبل وصول سلار البغدادى قد اعتقل الأمير سيف الدين قليج لأمر صدر منه، فأطلقه السلطان بغير شفاعه، وأحسن إليه وأعاده إلى الإمرة ولعب معه الكرة. ذكر عود رسل السلطان من جهة الأنيرور «1» وفى شعبان سنة ستين وستمائة، وصل الأمير سيف الدين الكرزى «2» ، والقاضى أصيل الدين خواجا إمام، وكان السلطان بعثهما إلى الأنيرور، وذكرا أن الأنيرور أهتم بأمرهما اهتماما عظيما، وأنه أحضرهما ساعة وصولهما وعرضت عليه الهدية، وكان فى جملتها زرافة فأعجبته إعجابا عظيما، وشاهد التتار الذين سيروا إليه [ذلك] «3» ، وذكرا أنه جهز رسولا وهدية تحضر فيها بعد. وكان فى جملة رسله إلى السلطان نفران من البحرية «4» ، فلما وصلا، أمر السلطان بتأديبهما لما بلغه من سوء اعتمادهما، وسيرهما إلى قلعة الجزيرة يعملان فيها. ذكر عود رسل السلطان من جهة صاحب الروم ووصول رسله إلى السلطان، وما قرره السلطان من بلاده. وفى هذا الشهر، وصل الأمير شرف الدين الجاكى، والشريف عماد الدين الهاشمى. وكان السلطان قد سيرهما إلى السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو

صاحب الروم ووصل صحبتهما الأمير ناصر الدين نصر الله بن كوح «1» رسلان أمير حاجب، والصدر صدر الدين الخلاطى «2» رسولان منه، ومعهما كتابه إلى السلطان يذكر أنه نزل للسلطان عن نصف بلاده، وسيّر درجا فيها علائم بما يقطع من البلاد لمن يختاره السلطان ويؤمره [وسأل أن] «3» يكتب له من جهته منشورا قرين منشور صاحب الروم. فلما وصل الرسل إلى السلطان أكرمهم وجهز جيشا نجدة لصاحب الروم. وأمر بكتب المناشير، وعين الأمير ناصر الدين أغلمش السلاح دار الصالحى لتقدمة الجيش، وعين له ثلاثمائة فارس، وأقطعه فى الروم، وكتب للامير ناصر الدين الرسول المذكور منشورا بثلاثمائة فارس وأقطعه آمد وأعمالها، وتقرر سفره صحبة العسكر، وأن يتوجه صدر الدين رفيقه فى البحر صحبة رسل السلطان. ووقع الإهتمام فى كتب المناشير وتجريد الأمراء من الشام وحلب. وفى شهر رجب من السنه، وصل الأمير عماد الدين ولد الأمير مظفر الدين صاحب صهيون رسولا من جهة أخيه الأمير سيف الدين، وصحبته الهدايا الحسنة. فأحسن السلطان إليه وكتب له منشورا فى بلاد حلب بثلاثين فارسا، وكتب له منشورا آخر فى بلاد الرومية بمائة طواش. وفى هذه المده ورد كتاب صاحب الروم يذكر أن العدو لما بلغهم اتفاقه مع السلطان ولوا هاربين، وأنه سير إلى قونيه يحاصرها ليأخذ من بها من أصحاب أخيه.

ذكر عود رسل السلطان من جهة الأشكرى وخبر مسجد القسطنطينية

وفى هذا التاريخ، وصلت كتب الأمير علاء الدين الخزندار مقدم العسكر المتوجه إلى الصعيد بسبب العربان عند ما قتلوا الأمير عز الدين الهواش متولى الأعمال القوصية يذكر تبديد شملهم وأبادتهم وأنه أراح المسلمين من فسادهم. وفى شعبان منها توالى وصول جماعة ممن كان صحبه الأمير شمس الدين أقش البرلى من العزيزية والناصرية، فأحسن السلطان إليهم، ولم يؤاخذهم بما كان منهم. ذكر عود رسل السلطان من جهة الأشكرى وخبر مسجد القسطنطينية وفى هذه السنة، وصل الأمير فارس الدين أقش «1» المسعودى الذى كان توجه رسولا إلى الأشكرى، وكان الأشكرى قد سير رسولا إلى السلطان يلتمس بطركا للنصاوى الملكيين «2» فعين لذلك الرشيد الكحال، وسيّر إليه صحبة الأمير فارس الدين المذكور، فأكرمه الأشكرى وأكرم من صحبه من الأساقفة، وصادف وصولهم إلى الأشكرى فتح القسطنطينية، فركب يوما ليفرج فارس الدين المذكور فيها وفى عمارتها. فمر بمكان وقال: هذا جامع، وقد أبقيته ليكون ثوابه للسلطان. فلما سمع السلطان هذا الخبر استبشر به وفرح فرحا عظيما. وأمر لوقته بتجهيز الحصر العبدانى «3» والقناديل المذهبة والستور المرموقه والسجادات والمباخر والعنبر والعود والمسك وماء الورد.

ذكر حضور الأمير شمس الدين أقش البرلى العزيزى إلى الديار المصرية

وهذا المسجد كانت عمارته فى سنة ست وتسعين للهجرة. وكان قد وقع الصلح مع الروم على أن يبنى بها مسجد جامع «1» فبنى. ولما طالت المدة جعلوه حدسا. وقيل: إن الصلح كان قد تقرر على أن يبنى مسجد قدر جلد بعير، وتقررت العهود على ذلك فعمد المسلمون إلى جلد بعير فقدوه سيورا ومدوها. فأنكر ذلك فقال المسلمون: هذا جلد بعير، لم نزد عليه شيئا، وعليه وقع الاتفاق. فسكتوا وقيل: إن بانيه مسلمة بن عبد الملك فى أيام أخيه الوليد. والله أعلم. ذكر حضور الأمير شمس الدين أقش البرلى العزيزى إلى الديار المصرية «2» قد ذكرنا من أخباره وتردده إلى حلب وقتاله التتار فى سنة تسع وخمسين وستمائة ما قدمناه. قال المؤرخ: ولم يزل السلطان يكاتبه ويرغبه ويعطيه العهود والمواثيق على الوفاء، وسير إليه الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى فى رسالة، وشافهه باليمين، فقال له الأمير شمس الدين: «قد جاءتنى رسالة هولاكو يطلبنى إليه، وحلف لى. وهذه رسالة السلطان ويمينه، وأنا، والله «أعلم أن هولاكو يفى، وأن السلطان لا يفى» . وكان أولاده وأهله بالقاهرة فترجح عنده الحضور فحضر، ولما وصل إلى دمشق كتب السلطان إلى النواب بخدمته وترتيب الإقامات له فى جميع الطرقات والمنازل إلى أن يصل إلى القاهرة، وكان متمرضا من

ذكر القبض على علاء الدين طيبرس الوزيرى نائب السلطنة بالشام

جراحة فى رجله فجهز إليه الأدوية واهتم بأمره اهتماما عظيما، وكان وصوله إلى القاهرة فى ثانى ذى الحجة سنة ستين وستمائة، فركب السلطان لتلقيه وحمل إليه من الأموال والأقمشة والخلع والخيول وآلات البيوتات ما لا يكون مثله إلا لملك. ولم يترك شيئا مما يحتاجه الأمراء إلا سيره إليه. وكتب له منشورا بستين فارسا، وأعطاه طبلخاناه، وأمر من صحبه من الأمراء. وأعطى كل واحد منهم يحسب حاله. قال: ولما استقر أرسل إلى السلطان يسأله زيادة فى الشام «1» أو فى نابلس أو بلاد الصلت أو بعلبك أو حران، وينزل عن البيرة، ويقول: إن قدرته تعجز عن حفظها، فشكره السلطان ولم يقبل البيرة منه. وقال: «أنا أرجو لك الزيادة» وصار السلطان يقربه فيسايره إذا ركب، ويستشيره إذا جلس، ويساهمه فى كل شىء حتى فيما يكون بين يديه من الطرف، ولازمه حتى لم يفارقه صيد ولا غيره، ثم جدد السؤال فى قبول البيرة، فقبلها السلطان منه وأعطاه الرها وغيرها، وأمر مماليكه. وسافر فى صحبة السلطان إلى الطور ثم قبض عليه لاسباب نذكرها، إن شاء الله تعالى. ذكر القبض على علاء الدين طيبرس الوزيرى نائب السلطنة بالشام «2» وفى سنة ستين وستمائة، بلغ السلطان عن الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى النائب بدمشق أمور أنكرها عليه، فسير الأمير عز الدين الدمياطى، والأمير علاء الدين أيدغدى الحاج الركنى فتوجها من الديار المصرية فى شوال،

ودخلا إلى دمشق فى ثالث ذى القعدة. فلما خرج اليهما ليتلقاهما ووصل إلى الأمير عز الدين الدمياطى أهوى ليكارشه على ما جرت العادة به فى السلام، فقبض الدمياطى بيده على عضد طيبرس وبيده الأخرى على سيفه، وأنزل عن فرسه وركبوه بغلا، وقيد وأرسل إلى السلطان ووقعت الحوطة على أمواله وحواصله بدمشق، وكان قد سير جملة منها مع العرب، وكان طيبرس قد أساء السيرة فى أهل دمشق، وضيق عليهم، وتسلم الأمير علاء الدين الركنى دمشق ينظر فيها إلى حين حضور نائب مستقل. ومن عجيب ما وقع فى القبض عليه ما حكاه شمس الدين الجزرى فى تاريخه عن الرشيد فرج الله كاتب البيرتات بدمشق، قال: لما وصل الأمراء الذين قبضوا على طيبرس إلى الكسوة طلبنى وقال: جهز سماطا جيدا لهؤلاء الأمراء، وأحضره أنت بنفسك واحترز عليه، فأنا لا أحضره. قلت: لأى سبب يتأخر مولانا عنه؟ فأسر إلى وقال: إن هؤلاء جاءوا ليقبضوا على قبل دخولهم إلى دمشق. فقلت: يكفيك الله، وبكيت. فقال: هذا أمر لا بد منه، فأبصر أنت كيف تكون. فخرجت من عنده، وجهزت السماط كما رسم، وكان من قبض ما تقدم قال الرشيد: فدخلت يوما على الأمير علاء الدين الركنى وهو يحكم بدمشق، فسألنى عن أشياء تتعلق بالديوان والسماط إلى أن ذكر الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى وأثنى عليه خيرا، فوجدت مجالا للكلام، فذكرت له هذه الحكاية. فقال لى: أنا أحكى لك أعجب من هذا: بينا أنا فى دارى بالقاهرة فى وقت القابلة وإذا برسل السلطان تستدعينى إليه، فما شككت حين طلبنى فى غير الوقت المعتاد أنه يقبض على. فأوصيت استادارى بما يعتمده، وودعت أهلى، وركبت إلى القلعة، فوافيت الأمير عز الدين الدمياطى وقد طلب كما طلبت، فتحققنا

ذكر وصول جماعة من التتار إلى خدمة السلطان

جميعا إننا تمسك، ثم دخلنا على السلطان فوجدناه فى خلوة، فلما أقبلنا عليه نهض قائما، وأكرمنا فقبلنا الأرض بين يديه وزال عنها ما كان نجده، ثم أمرنا بالقرب منه، فتقدمنا حتى التصقت ركبنا بركبتيه، ثم أخرج من جيبه ختمة واستحلفنا أننا لا نذيع له سرا، وأن نفعل ما يأمرنا به، فحلفنا، فلما تمت اليمين قال: تتوجها الساعة إلى دمشق وتستصحبا معكما العسكر المقيم بغزة، وتمسكوا «1» علاء الدين طيبرس نائب الشام، وتكون أنت مكانه، وإن سمعت هذا الحديث من أحد من خلق الله تعالى قبل أن تفعلاه شنقتكما. فخرجنا من عنده فلما صرنا تحت القلعة إذا بحرفوش يقول لآخر: هؤلاء رايحين إلى دمشق يقبضوا على طيبرس نائب السلطنة بها، فأصفر عند ذلك لونى ولون الدمياطى، وحلفنا جميعا لا نصل إلى بيوتنا، وقال كل منا لاستاد داره أن يلحقه بهجين وجنيب إلى البئر البيضاء «2» وسقنا من وقتنا إليها. فلحقنا غلمائنا وما نحناج إليه بعد العصر، واستمر بنا السير حتى نفذنا أمر السلطان. وهذا شىء أجراه الله تعالى على ألسنة عوام مصر، لا ينطقون بشىء فى غالب الأوقات إلا ويكون كذلك. ذكر وصول جماعة من التتار إلى خدمة السلطان «3» قال المؤرخ: كان السلطان قد جهز كشافة من الأمراء وهم، جمال الدين أفش الرومى الصلاح دار من الخواص ومعه الخيول الجياد، ثم جهز الأمير علاء الدين أقسنقر الناصرى، وكتب إلى الشام بأردافهم، وأرسل أمراه

العربان فساقوا إلى حدود العراق. وكانت الأخبار من جهة القصاد قد وردت أن هولاكو جمع جمعا كبيرا ولم يعلم قصده، فاحترز السلطان وسير هذه الكشافة. فأمسكوا من وسط التتار جماعة، واستطلعوا منهم الأخبار، وكانوا مسلمين، فأطلقهم الأمير علاء الدين. ولما توالت الأخبار بحركة هولاكو عمل السلطان بالحزم، وتقدم إلى أهل دمشق بالحضور بأهاليهم لتخف ظهورهم وترخص الأسعار فحضر منهم جماعة كثيرة. وكتب إلى التواب بحلب بحريق الأعشاب، وسير جماعة إلى بلاد آمد ومواضع الأعشاب فأحرقوا من المروج مسيرة عشرة أيام، وكذلك أعشاب بلاد خلاط «1» حتى صارت كلها رمادا. ثم ورد كتاب الأمير الحاج علاء الدين أقسنقر الناصرى أن الكشافة وجدوا جماعة كثيرة من التتار مستأمنين وافدين إلى باب السلطان، وأنهم من أصحاب الملك بركة، وكانوا نجدة عند هولاكو، فلما وقع بينهما كتب الملك بركة إليهم بالحضور إليه وإن عجزوا عن ذلك ينحازوا «2» إلى عسكر الديار المصرية وأنهم يذكرون أن العداوة قد استحكمت بين الملكين هولاكو وبركة، وأن ولد هولاكو قتل فى المصاف، وأنهم فوق مائتى فارس، فكتب السلطان إلى نواب الشام بإكرامهم وترتيب الإقامات لهم فى الطرقات وحمل الخلع إليهم وإلى نسائهم، وأحسن إلى مقدميهم الأربعة، فوصلوا يوم الخميس رابع عشرين ذى الحجة سنة ستين، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت السادس والعشرين من الشهر. وكان السلطان قد رسم بعمارة أدر ومساكن لهم بقرب اللوق، فسكنوها، وحملت إليهم الخلع وسيقت الخيول، وفرقت فيهم

ذكر إنفاذ الرسل إلى الملك بركة

الأموال، ولعبوا الكرة مع السلطان، وأمر أكابرهم بمائة فارس فما دونها، ونزل بقبتهم فى جملة بحربته ومماليكه، وأفردت لهم جهات يستخرج منها مرتبهم. وأسلموا وحسن إسلامهم. وبلغ التتار ما قال هؤلاء من الإحسان وما شملهم من الأنعام فتوافدوا جماعة بعد جماعة، والسلطان يعتمد مع كل من يحضر منهم مثل ما اعتمد مع من قبلهم. ذكر إنفاذ الرسل إلى الملك بركة «1» قال: ولما وصلت جماعة التتار إلى السلطان، واستطلع منهم الحال وعرف أحوال الملك بركة ومقامه والطريق إليه جهز إليه رسله وهم: الأمير سيف الدين كشربك «2» وهو رجل تركى كان جمدار السلطان خوارزمشاه يعرف البلاد واللغات، والفقيه مجد الدين الروذ راورى، وسير صحبتهم نفرين «3» من التتار الذين وصلوا إليه من أصحاب الملك بركة. وكتب على أيدى الرسل كتابا بستميله ويحثه على الجهاد، ويصف العساكر الإسلامية وكثرتهم وعدة أجناسهم من الترك وعشاير الأكراد وقبائل العربان ومن أطاعها من الملوك الإسلامية والفرنجية، ومن خالفها، ومن وافقها، ومن هاداها «4» وهادنها، وأن جميعها فى طاعته وسامعة لإشارته إلى غير

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير جمال الدين النجيبى الصالحى

ذلك من الأغراء بهولاكو وتهوين أمره وتقبيح الغفلة عنه، وأعلمه بوصول من وصل من التتار وادعائهم أنهم من أصحابه، وأن الإحسان إليهم إنما هو من أجله. وكان الخليفة الحاكم بأمر الله قد حضر وبويع بحضور الرسل وكتب نسبته وأذهبت وأشهد على ثبوت نسبه، وسير ذلك إلى الملك بركة. وزود الملك الظاهر الرسل لمدة شهور، وتوجهوا فى المحرم سنة إحدى وستين. ووصلوا إلى بلاد الأشكرى فأحسن إليهم وصادف وصولهم وصول رسل الملك بركة إلى الأشكرى، فسيرهم صحبتهم ورجع الفقيه مجد الدين لمرض حصل له، وتوجه الرسل صحبة رسل الملك بركة: الأمير جلال الدين والشيخ نور الدين على، ووصلت كتب الأشكرى أن رسل السلطان توجهوا سالمين. ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير جمال الدين النجيبى الصالحى «1» قال: ولما تسلم الأمير علاء الدين الركنى مدينة دمشق على ما قدمناه اختار السلطان الأمير جمال الدين أقش النجيبى الصالحى لنيابة السلطنة بدمشق، وجهز معه الصاحب عز الدين عبد العزيز بن وداعة وزير الشام. وكان قد حصل بينه وبين الأمير علاء الدين طيبرس مفاوضات أوجبت حضوره إلى الباب السلطانى صحبة الركاب الشريف فرسم بعوده على وظيفته «2» . وفى هذه السنة فى ذى القعدة، خرج أمر السلطان لقاضى القضاة تاج الدين «3» أن يستنيب نوابا من المذاهب الثلاثة، فاستناب القاضى صدر الدين سليمان

ذكر وفاة شيخ الإسلام عز الدين أبى محمد ابن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم ابن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى الشافعى وشىء من أخياره

الحنفى، والشيخ شرف الدين عمر السبكى المالكى، والشيخ شمس الدين الحنبلى. وفيها: اشتد الغلاء بالشام «1» ، وأبيعت غرارة القمح بأربعمائة وخمسين درهما، والشعير بمائتين وخمسين، وأبيع القمح بحماة عن كل مكوك أربعمائة درهم، ثم غلت سائر الأصناف، ومات خلق كثير من الجوع. وفيها: فى ذى الحجة ظهر بالقاهرة عند الركن المخلق معبد وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه السلام، فجددت عمارته. وهو إلى الآن يعرف بمعبد موسى. ذكر وفاة شيخ الإسلام عز الدين أبى محمد ابن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم ابن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى الشافعى وشىء من أخياره «2» كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بالمدرسة الصالحية النجمية بالقاهرة المعزية، فى يوم السبت فبيل العصر التاسع من جمادى الأول سنة ستين وستمائة، ودفن يوم الأحد قبل الظهر بسفح المقطم. ومولده تقريبا فى سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وولى من المناصب الدينية بدمشق: تدريس زاوية الغزالى، وخطابة الجامع الأموى. وولى بالديار المصرية: القضاء بمصر والوجه القبلى، وخطابة جامع عمرو بن العاص، وتدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة، والنظر فى عمارة

المساجد بالقاهرة ومصر. وكان، رحمه الله تعالى، أحد أئمة المسلمين، إليه انتهت الفتيا فى زمانه، وصنف التصانيف المشهورة، منها: الإمام فى أدلة الأحكام، وقواعد الفقه الكبرى، والوسطى، والصغرى، والغابة فى اختصار النهاية، وجمع بين الحاوى والنهاية، واختصر الشامل لابن الصباغ، واختصر الكشاف، واختصر تفسير ابن عباس والماوردى، وفسر سورة البقرة فى مجلدة «1» ، وفسر من سورة يس إلى سورة الناس، واختصر صحيح مسلم فى مجلدين، وعمل عليهما حواشى مفيدة، واختصر الرعاية، وصنف فى الزهد شجرة المعارف، وغير ذلك من التصانيف المفيدة. وكان، رحمه الله، كثير الزهد والإيثار، لا يعتنى بالملابس، ولا يكترث بها، ولا تأخذه فى الله لومة لائم ولا يخشى سطوة ملك، لم يزل يصدع الملوك بمر الحق، ويفتى بحكم الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف ذلك آراء الملوك واعتقادهم، وكرهوه منه، ونهوه عنه فلا يرجع عما علمه، ويطلب المناظرة عليه. واتفقت له وقائع مع الملوك راموا فيها قتله، فحماه الله تعالى منهم، وهى وقائع تدل على صلابة دينه، وحسن يقينه، وتمسكه من السبب الأقوم بمتينه. منها: واقعته مع الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل صاحب دمشق فى مسألة الكلام. وكان الملك الأشرف قد صحب جماعة من مبتدعة الحنابلة من صغره ممن يقول بالحرف والصوت، فاستمالوه إلى مذهبهم وقرروه عنده حتى أمتزج بلحمه ودمه، واعتقد كفر من يعتقد خلافه وأنه مباح الدم. وكان فى ابتداء سلطنته يميل إلى الشيخ عز الدين لما يبلغه عنه، وقصد حضوره إليه، والشيخ بأبى ذلك ويمنع منه ولا يجيب إليه. فألقى

إلى السلطان من صحبه من الحنابلة أن الشيخ مخالف لرأيه مباين لمذهبه، وأنه يقدح فيمن يعتقده ويذمه ويسبه، فأتهمهم السلطان فى ذلك، وطلب منهم تحقيقه عنده، فاجتمعوا وكتبوا فتيا فى مسألة الكلام وأرسلوها إلى الشيخ، وكان قد اتصل به خبر مكيدتهم، فلما أتته كتب عليها بما يعتقده من تعظيم الله تعالى وتنزيهه وتوحيده، وأنه حى مريد سميع بصير عليم، قدير متكلم قديم أزلى ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور فى كلامه أن ينقلب مدادا فى الألواح والأوراق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور فى أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على ذاته، كما يجب احترامها لدلالتها على صفاته. وأطال فى الفتيا وبسط الكلام واستدل، ونفى عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأكابر أصحابه خلاف ذلك، وأخرج الفتيا من يده وقد تحقق ما يؤول أمرها إليه، فعرضت على السلطان، ومن عرضها لا يشك أن فيها سفك دم الشيخ. فلما وقف عليها استشاط غضبا وقال: صح عندى ما قالوه عنه، وتكلم فى حقه بأشنع الكلام، وكفره، وكان ذلك فى شهر رمضان، وقد اجتمع على سماطه القضاة والعلماء، فما استطاع أحد منهم أن يرد عليه لما عنده من الحرج. فقال بعضهم: السلطان أولى بالعفو والصفح لا سيما فى مثل هذا الشهر، وموّه آخرون بكلام يوهم صحة فذهب خصمه، ثم انفصلوا من المجلس. فنهض فى ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكى، رحمه الله تعالى، وهو عالم مذهبه فى زمانه. واجتمع بالقضاة والأعيان الذين حضروا المجلس، ووبخهم ولامهم وشدد عليهم النكير كونهم ما ذكروا الحق وكونهم سألوا العفو والصفح، وقال: هذا يوهم الذنب، ولم يزل إلى أن أخذ

خطوطهم بموافقة الشيخ. فعند ذلك التمس الشيخ من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين. وقال: الذى يعتقد فى السلطان أنه إذا ظهر له الحق يرجع إليه، وأنه يعاقب من موه الباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، فأنه كان قد عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادها وبدع «1» بهم وأهانهم. فأجابه السلطان بخطه ما مثاله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* «وصل إلىّ ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام، أصلحه الله، من عقد مجلس وجمع المفتيين والفقهاء. وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الإجتماع به. ونحن فنتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين [قال] صلّى الله عليه وسلّم، فى حقهم. «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى» . وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا أن كنت تدعى الاجتهاد فعليك أن تثبت، ليكون الجواب على قدر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس. وأما ما ذكرته عن الذى جرى فى أيام والدى، تغمده الله برضوانه، فذلك الحال أنا أعلم به منك. وما كان له سبب إلا فتح باب السلامه، لا لأمر دينى وجرم جره سفهاه قوم فحل بغير جانيه العذاب. ومع هذا فقد ورد فى الحديث

الفتنة نائمة، لعن الله مثيرها، ومن تعرض إلى إثارتها قابلناه بما يخلصنا من الله، وما يعضد كتاب الله وسنة رسوله» . فلما وصلت هذه الرقعة إلى الشيخ قرأها، وقال للرسول: إذهب فقد وصلت. فقال: تقدمت الأوامر المطاعة السلطانية باحضار جوابها، فكتب الشيخ ما مثاله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) «1» أما بعد حمد الله الذى جلت قدرته وعلت كلمته وعمت رحمته وسبقت نعمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم لديه: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) «2» وقد أنزل الله تعالى كتبه وأرسل رسله بنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وكان فيما أوصى به خلقه أن قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) «3» وهو سبحانه وتعالى أولى من قبلت نصيحته وحفظت وصيته. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملنى عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين فقال: «الدين النصيحه» ؛ قيل لمن؟ يا رسول الله: قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم» ، فنصح الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولكتابه بالعمل بمواجبه، وللائمة بارشادهم

إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه، ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويؤلفهم لديه. وقد أديت ما علىّ فى ذلك. والفتيا التى وقعت فى هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف فى ذلك إلا رعاع لا يعبا الله بهم، وهو الحق الذى لا يجوز دفعه، والصواب الذى لا يمكن رفعه. ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول، والسلطان أقدر الناس على تحقيق ذلك. وقد كتب الجماعة خطوطهم بمثل ما قلته، وإنما سكت من سكت فى أول الأمر لما رأوا من غضب السلطان. ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا. ومع ذلك فيكتب ما ذكرته فى هذه الفتيا وما ذكره الغير، ويبعث إلى بلاد الإسلام ليكتب فيها من يجب الرجوع إليه ويعتمد فى الفتيا عليه. ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين ليقف عليها السلطان. وبلغنى أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعرى يستهين بالمصحف. ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب. وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشىء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه، وصار ماله فيئا للمسلمين، وتضرب عنقه، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن فى مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع. ومذهبنا أن كلام الله سبحانه وتعالى قديم أزلى قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه ذاته ذات الخلق ولا يتصور فى شىء من صفاته أن يفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو مع ذلك

مكتوب فى المصاحف محفوظ فى الصدور مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد الكاتبين ولا ألفاظ اللافظين. ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين وخرج عن عقائد المسلمين بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبى، وربنا المستعان على ما تصفون. وليس رد البدع وايطالها من باب إثاره الفتن. فإن الله سبحانه وتعالى أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه. ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله. وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس: فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحد، والخلاف فى الفروع. ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله. والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده. وبعد ذلك فأنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندى لا يخاطر بنفسه فليس بجندى. وأما ما ذكر من أمر باب السلامة، فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازا للدين ونصرة للحق. ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السراير، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم» . وكتب الشيخ هذا الجواب مسترسلا بحضرة رسول السلطان، ودفعه إليه. فلما قرأه السلطان اشتد غضبه، وأرسل اليه أستاد داره غرس الدين خليلا برسالة،

وكان غرس الدين يحب الشيخ ويعتقده، فحضر إليه وجلس بين يديه، وتلطف به واستأذنه فى أداء الرسالة، فقال: أدها كما قيلت لك. فقال: يقول لك السلطان: «إنا قد شرطنا عليك ثلاثة شروط، أحدها: ألا تفتى، والثانى: ألا تجتمع بأحد، والثالث: أن تلزم بيتك» . فقال له: إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علىّ، المستوجبه للشكر لله تعالى على الدوام. أما الفتيا: فإنى والله كنت متبرما بها وأكرهها. وأعتقد أن المفتى على شفير جهنم. ولولا أنى كنت أراها متعينة علىّ لما أفنيت. والآن فقد سقط عنى الوجوب وتخلصت ذمتى ولله الحمد والمنة. وأما ترك اجتماعى بالناس ولزومى لبيتى: فهذا من سعادتى لتفرغى لعبادة الله تعالى. والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى. وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلىّ أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان. والله لو كان عندى خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعتها «1» عليك ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها فقبلها الحاجب وقبلّها، وانصرف إلى السلطان وقص عليه ما قاله الشيخ. فقال لمن حضره: قولوا لى ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة، أتركوه، بيننا وبينه الله. وبقى على ذلك ثلاثة أيام الى أن ركب الشيخ العلامة جمال الدين الحصيرى شيخ الحنفية حماره وتوجه إلى القلعة، وكان معظما عند السلطان وقد جمع العلم والعمل، فلما بلغ السلطان وصوله إلى القلعة أرسل خواصه يتلقونه، وأمرهم أن يدخلوا إلى داره على حماره ففعل. ولما رآه السلطان وثب إليه وتلقاه،

وأنزله عن حماره وأجلسه على تكرمته واستبشر به. وكان ذلك عند غروب الشمس. فلما أذن المؤذن وصلوا المغرب قدم السلطان إليه شرابا وناوله إياه بيده. فقال: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك. فقال: يرسم الشيخ ونحن نمتثل أمره. فقال: أى شىء بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان فى الهند أو فى أقصى الدنيا كان ينبغى للسلطان أن يسعى فى حلوله فى بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك. قال: عندى خطه باعتقاده فى فتيا، وخطه أيضا فى رقعة جواب، رقعة سيرتها إليه. فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بينى وبينه. ثم أحضر الورقتين، فقرأهما الشيخ وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ونفس المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط فى حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء. وأرسل إليه واسترضاه، وطلب محاللته ومخاللته. وتقدم السلطان إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام فى مسأله الكلام وألا يفتى أحد فيها بشىء سدا لباب الخصام. ثم وصل السلطان الملك الكامل إلى دمشق. وكانت الواقعة قد اتصلت به، فرام الاجتماع بالشيخ فاعتذر إليه، فطلب أن يكتب له صورة الواقعة مستقصاة، فأمر ولده الشيخ شرف الدين أن يكتب ذلك من أوله إلى آخره ففعل. وأرسله إلى الملك الكامل فقرأه وكتمه. ثم سأل أخاه الملك الأشرف عن الواقعة. فقال: منعت الطائفتين من الكلام فى المسألة، وانقطع بذلك الخصام. فقال له السلطان

الملك الكامل: ليست هذه سياسة حسنة، تساوى بين أهل الحق والباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتأمرهم أن يكتموا ما أنزل الله إليهم. كان الطريق أن تمكن أهل السنة أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله، إلى غير ذلك من الكلام. وتحقق الملك الأشرف صحة ما قاله الشيخ وصرح بخجله منه، وصار يترضاه، ويعمل بفتاويه، ويأمر أن يقرأ عليه تصانيفه الصغار مثل: الملحة فى اعتقاد أهل الحق، ومقاصد الصلاة، وكرر قراءتها عليه فى يوم ثلاث مرات. واستمر الحال على ذلك إلى أن مرض الملك الأشرف مرضة موته «1» وأرسل أكبر أصحابه إلى الشيخ وقال: قل للشيخ محبك موسى بن العادل أبى بكر يسلم عليك ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غدا عند الله تعالى. فأبلغه الرسول الرسالة، فتوجه إلى السلطان فسر برؤيته، وقال له: اجعلنى فى حل، وادع لى، وأوصنى، وأنصحنى: ففعل الشيخ ذلك، وتحدث معه فى أشياء منها: إبطال المنكرات بدمشق. فأمر بأبطالها، وتولى الشيخ إزالة بعضها بنفسه، وأطلق السلطان له ألف دينار عينا، فردها عليه: هذه اجتماعه لله تعالى، لا أكدرها بشىء من الدنيا. ثم مات الملك الأشرف إثر ذلك. ولما حضر الملك الكامل إلى دمشق وانتزعها من أخيه الصالح إسماعيل كما تقدم، حضر الشيخ إلى مجلس السلطان فأكرمه، وفوض إليه تدريس زاوية الغزالى بجامع دمشق ثم فوض إليه قضاء القضاة بعد ذلك بدمشق. فاشترط شروطا كثيرة ولم يله. وقيل إنه تولاه مدة يسيره وعزل نفسه.

ثم كانت واقعة مع الملك الصالح عماد الدين إسماعيل [بن العادل «1» ] صاحب دمشق [عند ما أذن للفرنج فى دخول دمشق وشراء السلاح ... فأفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج ... وكان الصالح غائبا عن دمشق فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام. وولى خطابة] «2» دمشق، بعد عز الدين بن عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار. فلما سلم الملك الصالح صفد والشقيف وغير ذلك للفرنج وصالحهم، كما تقدم، امتنع [الشيخ ابن عبد السلام] من الدعاء له على المنبر الجامع بدمشق فكان من خبر عزله واعتقاله وخروجه من الشام ووصوله إلى الديار المصرية وولايته الخطابة بجامع عمرو بن العاص بمصر، والقضاء بمصر والوجه القبلى، وعزله نفسه مرة بعد أخرى، وغير ذلك من أحواله ما قدمناه فى أخبار الدولة الصالحيه النجمية. ولم يزل الشيخ، رحمه الله تعالى، معظما عند الملك الصالح وغيره من الملوك بعده بالديار المصرية يرجعون إلى رأيه ويعتمدون على فتاويه، ويقف الأكابر عند أوامره إلى أن ملك السلطان الملك الظاهر فزاد فى تعظيمه وإكرامه وبره، واستشاره فى ابتداء دولته فيما بفعله مما فيه صلاح دولته، فقال له: إن الدولة لا تقوم إلا بأمرين؛ أحدهما: قيام الشرع الشريف. والثانى: تحصيل الأموال من وجوهها، ولا أرى لمنصب القضاء مثل تاج الدين عبد الوهاب، يريد ابن بنت الأعز، وللوزارة مثل بهاء الدين على. فرجع السلطان إلى رأيه وتمسك بقوله، وفوض المنصبين لهما، فقام كل منهما فى منصبه أحسن قيام. وحمدت عاقبة هذه الولاية، وشكر سداد هذا الرأى.

ولما توفى الشيخ، رحمه الله تعالى، تألم السلطان لفقده، وشيع جنازته أمراء الدولة وأكابرها، وحملوا نعشه إلى أن وضع فى قبره، رحمه الله تعالى. وهذا الذى أوردته من أخبار الشيخ فى مسألة الكلام نقلته من خط ولده الشيخ شرف الدين محمد، رحمه الله تعالى. وفضائله ومناقبه، رحمه الله تعالى، كثيرة. وقد أتينا منها بما يدل على مجموعها. وفيها: أيضا توفى الصاحب كمال الدين «1» عمر، ابن قاضى القضاء نجم الدين أبى الحسن أحمد بن هبة الله «2» بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى ابن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبى جراده الحنفى المعروف بابن العديم الحلبى، كان فاضلا أديبا شاعرا كاتبا رئيسا مؤرخا، وكانت وفاته بمصر فى العشرين من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، ودفن بسفح المقطم، ومولده بحلب فى العشر الأول من ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

واستهلت سنة إحدى وستين وستمائة

واستهلت سنة إحدى وستين وستمائة ذكر البيعة للإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى «1» كان وصوله إلى الديار المصرية فى سنة ستين وستمائة فتلقاه السلطان وأكرمه وخدمه، وأنزله بقلعة الجبل، وأدر عليه النفقات، ثم بايعه فى يوم الخميس الثانى من المحرم سنة إحدى وستين وستمائة على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية. ذكر القبض على الملك المغيث صاحب الكرك واعتقاله «2» كان القبض على الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك فى يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأول سنة إحدى وستين وستمائة. وذلك أن السلطان توجه من قلعة الجبل المحروسه لقصد الشام فى سابع شهر ربيع الآخر من السنة، وخيم بظاهر القاهرة إلى أن تجهز الناس، ورحل فى حادى عشر الشهر فوصل إلى غزة المحروسة فوجد والدة الملك المغيث بها، فأحسن إليها وأنعم عليها، وأعطاها شيئا كثيرا، وحصل الحديث معها فى حضور ولدها [إلى السلطان] «3» ، وتقررت الأمور سرا ولم يعلم أحد بما تقرر، وأعاد عليها العطاء والإنعام وعلى كل

من حضر معها، وتوجهت وصحبتها الأمير شرف الدين الجاكى المهندار، برسم تجهيز الإقامات للملك المغيث إذا حضر من الكرك. ونظر السلطان فى أمر أمراء التركمان وخلع عليهم. وأحضر أمراء العابد وجرم وثعلبة وضمنهم اليلاد، وألزمهم بالعداد «1» وشرط عليهم إقامة خيل البريد فى المراكز. ثم سار من غزة ونرل الطور، فى ثانى عشر جمادى الأول. وسير الملك الأشرف صاحب حمص إلى السلطان يلتمس الإذن له فى الحضور إلى الخدمة فأذن له، فحضر فى نصف الشهر فتلقاه السلطان وأحسن إليه. وصارت رسل الملك المغيث تتوالى إلى السلطان وهو ينعم عليهم. وخرج [إليه] «2» الملك المغيث من الكرك وأقام مدة فى الطريق. وأظهر السلطان من الإحتفال بأمره شيئا كثيرا وخدعه أعظم خديعة. ولما وصل الملك المغيث إلى بيسان ركب السلطان لتلقيه فالتقاه وساق الملك المغيث إلى جانبه، فلما وصل إلى باب الدهليز ترجل ودخل إلى الخيمة فأدخل إلى خركاه واحتيط عليه وعلى أصحابه. وكان السلطان قد استدعى قبل ذلك قاضى القضاة بدمشق والعلماء وأظهر أن ذلك لمبايعته، ولم يطلع أحد على غير ذلك. فلما وقعت الحوطة على الملك المغيث أحضر السلطان الملوك والأمراء وقاضى القضاة والشهود والأجناد ورسل الفرنج وأخرج كتبا من جهة العدو المخذول إليه. وقال الأتابك لمن حضر: «السلطان يسلم عليهم ويقول ما أخدت الملك المغيث إلا بهذا السبب» . وقرئت الكتب. وانصرف

الملك الأشرف ومن حضر. وقال للقاضى وجماعة العلماء: ما طلبتكم إلا بهذا السبب. وكتب مكتوب بصورة الحال، وكتب فيه القاضى والجماعة. ثم جهز الملك الأشرف وركب السلطان لوداعه. وفى اليوم الذى قبض فيه على الملك المغيث جلس السلطان بعد انقضاء المجلس وأمر بالكتب إلى الكرك: بعد من فيها بالإحسان، ويحذرهم عاقبة مخالفته. وسير الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير عز الدين أيدمر الظاهرى أستاد الدار العالية إلى جهة الكرك وجهز الخلع والأموال ليلحقهما بها «1» ، وجهز الملك المغيث عشية النهار إلى الديار المصرية صحبة من أختاره لذلك، وأطلق أهله وحاشيته، وسير حريمه إلى مصر وأطلق لهم الرواتب. وكان من خبر وفاة الملك المغيث ما قدمناه فى أخباره، رحمه الله. وفى هذه المنزلة «2» وصلت رسل دار الدعوة ومعهم الهدايا ووصل ولذا «3» الصاحبين مقدمى الدعوة، فأحسن السلطان إليهما وتوجها. وفيها: أغار السلطان على عكا، وكان من أخبار الفرنج ما نذكر إن شاء الله تعالى فى غزوات السلطان وفتوحاته. ولما رجع السلطان من الغارة توجه إلى نحو الكرك، وكان رحيله من منزلة الطور فى يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة من السنة. وجرد صحبته جماعة من العسكر وطائفة أخرى صحبة الأمير علاء الدين أمير جاندار إلى الصالحية.

ذكر أخذ الكرك

ووصل السلطان إلى القدس الشريف فى يوم الجمعة، فزار تلك الأماكن الشريفة وعاين ما يحتاج إليه من العمارة، وكتب إلى دمشق يتجهيز جميع ما يحتاج إليه من الأصناف والصناع. ثم صلى الجمعة، وتصدق وكتب بحماية الأوقاف، وتوجه نحو الكرك. ذكر أخذ الكرك «1» وفى يوم الخميس ثالث وعشرين جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وستمائة نزل السلطان على الكرك وصحبته العساكر، وأحضرت السلاليم الخشب من الصلت وغيرها. وكان السلطان قد استصحب من الديار المصرية جماعة من الحجارين والبنائين والنجارين والصناع على أنه يبتى الطور، وأحضر جماعة من دمشق وغيرها وسيروا إلى عين جالوت، وأشاع أن ذلك لبناء جامع، ولم يكن ذلك إلا لأجل الكرك. وعزم على الطلوع إليها بنفسه. فخاف أهل الكرك، ونزل أولاد الملك المغيث، وقاضى المدينة، وخطيبها وجماعة من أهلها، ومعهم مفاتيح الحصن والمدينة، وطلبوا العوض فحلف السلطان على ما طلبوا وأرضاهم بالعطاء، وسير الأمير عز الدين أيدمر أستاد الدار، والصاحب فخر الدين «2» لتسلم الحصن. قطلعا فى ليلة الجمعة وقت المغرب وتسلماه. ودعى للسلطان فى بكرة الجمعة على أسوارها، ونصبت الصناجق السلطانية على أبراجها. وأصبح السلطان وطلع إلى الحصن فى الثالثة من نهار الجمعة وجلس فى القاعة الناصرية ورتب أحوال الحصن واهتم بأمره، وعين للقلعة خاصا. وأعطى أولاد الملك المغيث جميع

ما حواه الحصن من مال وقماش وأثاث، وكذلك سائر غلمانهم وجميع الأمراء والمغادره والأجناد، ولم يتعرض لأحد منهم فى «1» شىء، ونزلوا جميعهم فى ذلك النهار، وصلى السلطان بها الجمعة وخطب له. ونزل وقت المغرب. وفى يوم الأحد، سير إلى الملك العزيز ولد الملك المغيث الخلع والقماش، وكذلك [إلى] «2» الطواشى بهاء الدين صندل والأمير شهاب الدين بن صعلوك أتابكه. وكتب السلطان إلى الشام بحمل الغلال والذخائر والأصناف إليها. وطلع إليها يوم الاثنين وكتب المناشير لعربانها ومن بها. وكانت تزيد على ثلاثمائة منشور فى وقت واحد، وعلم عليها، وثبتت، وسلمت لأصحابها بعد تحليفهم بين يدى السلطان، كل هذا فى بعض يوم. وجرد السلطان بها جماعة من البحرية والظاهرية، واستناب الأمير عز الدين أيدمر أستاد الدار بالكرك، وأضاف إليه النظر على الشوبك وأعمالها. وحلف مقدمى المدينة وحلف نصارها على الإنجيل. وحمل ما كان معه إلى الحصن من الزرد خاناه والأغنام والشعير وغير ذلك من سائر الأصناف والأقمشة وسبعين ألف دينار عينا، ومائة ألف وخمسين ألف درهم، وأعطى الأمير عز الدين أستاد الدار ثلاثين ألف درهم وجملة من القماش. وتوجه السلطان إلى القاهرة فى يوم الأربعاء [تاسع عشر جمادى الآخرة] «3» فكان دخوله إليها فى سابع عشر رجب، وزينت المدينة أحسن زينة. وشق

ذكر القبض على الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى والأمير شمس الدين أقش البرلى والأمير عز الدين الدمياطى، وما نقل من الأسباب الموجبة لذلك

السلطان المدينة، وخلع على الأمراء والمقدمين والمغادرة وجميع حاشيته وغلمانه وأمر ولد الملك المغيث الأكبر: مائة فارس. ذكر القبض على الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى والأمير شمس الدين أقش البرلى والأمير عز الدين الدمياطى، وما نقل من الأسباب الموجبة لذلك وفى شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين وستمائة، قبض السلطان على الأمراء المذكورين واعتقلهم. وسبب ذلك أن السلطان كان قد أحسن إليهم إحسانا عظيما. وكان مما اعتمده مع الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى أنه فوض إليه أمر المملكة، وأنفذ كلمته، وأطلق له فى كل جمعة خوانين من عنده يمدان بجميع ما يحتاج إليه حتى ماء الورد، إلى غير ذلك. ورتب له فى كل شهر كلّوتتين زركشا بمائة دينار عينا، وكلبنداتها، كل كلبند بأربعين دينارا. كل ذلك زيادة على الإقطاعات العظيمة والمرتبات الكثيرة، وعلى الإنعام، حتى جامكيات «1» البزدارية والفهادين وعليق خيلهم. واشتغل الرشيدى بالشرب واللهو. وأما الأمير عز الدين الدمياطى «2» فإن السلطان أعطاه وزاده، ومن جملة ما كان بيده نصف مدينة غزة زيادة، وكتب له توقيعا أنه إذا سافر فى جميع المملكة لا يمنع شيئا يطلبه فى الشام من غزة إلى الفرات.

وأما الأمير شمس الدين البرلى فقد تقدم ما عامله به عند وصوله واستمر ذلك إلى آخر وقت. ثم بلغ السلطان أن الرشيدى قد فسدت نيته فجعل عليه عيونا تحفط جميع ما يجرى منه، فكان مما أنكر السلطان عليه أن الأمير أسد الدين أستاد دار الملك المغيث أخبر السلطان أن كتاب الرشيدى وصل إلى الملك المغيث يقول له لا تحضر، فإن السلطان يريد أن يمسكك. وكان جواب السلطان: «إن كان الملك المغيث قد حلف للرشيدى فلا يحضر، وإن كان حلف لى فيحضر» . ولم يظهر للرشيدى شيئا من ذلك. ولما سير السلطان الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى إلى الكرك كتب إلى السلطان يقول: «إننى أمسكت كتابا من الرشيدى بالكرك يقول: «لا تسلموها» ، ويحسن لهم التوقف عن التسليم ويعرض عليهم الاتفاق معه على أن يحضر هو ويتسلمها منهم ويحفظها لهم، فكتم السلطان ذلك وأمر الأمير بدر الدين بيسرى بالأحتراز والتحفظ. ولما توجه السلطان إلى الكرك جعل على الرشيدى عيونا، فبلغ السلطان أنه لما نزل الكفرين ونمرين قصد الركوب فى أصحابه ومماليكه «1» ويسبق إلى الكرك فيدخلها هجما. فركب السلطان إليه ونزل عنده ولاطفه ومازحه، ففاته مادبره، وحفظ السلطان عليه الطرقات، ثم نزل السلطان بركة زيزاء، فبلغه أن الرشيدى قد عزم على الركوب إلى الكرك، فخدعه السلطان بأن أرسل إليه أحد خواصه يبشره بتسليم الكرك. فلما سمع الرشيدى ذلك وقف عن فعله وخلع على المبشر. فلما رجع السلطان من الكرك وتزل غزة قام ليسبغ الوضوء على العادة، وتفرقت الخاصكية للوضوء

والتهيؤ لصلاة الجماعة. وقام السلطان يتركع قبل الأذان، وإذا بالرشيدى قد أقبل فى مقدار ثلاثمائة فارس مستعدة من مماليكه والدمياطى والبرلى، فلما قضى السلطان صلاته شد سيفه، وقال للأمير شمس الدين سنقر الرومى: ما الذى رأيت؟ فقال: «جماعة ما جاءوا فى خير» . ثم حضر الأمير سيف الدين قلاون الألفى وركب فرسا جيدا ووقف، واجتمعت الخاصكية. وركب السلطان، وأتى الرشيدى فوقف بالقرب من السلطان فى مكان ما جرت عادته بالوقوف فيه، فحضر الأمير عز الدين إيغان الركنى فقال للرشيدى: «أراك فى هذا المكان، ما هذا مكانك يا سيف الدين» ومازحه ومازال به حتى ساق من ذلك المكان، وساق الدمياطى والبرلى وتفرقوا. وكان الدمياطى قد جرت منه قضية أخرى وهى أن السلطان لما ملك الكرك وأنزل أولاد الملك المغيث أعطاهم السلطان خلعا وأقمشة وإنعاما كثيرا وأنزلهم فى المنظرة التى فى الوادى تحت الكرك بقرب منزلة السلطان: سير الدمياطى ضوّاء «1» وجماعة يمشون حولهم بغير أمر السلطان ثم حضر فى الليل إليهم جماعة من مماليكه بالسيوف متلثمين فكسروا الصناديق وأخذوا القماش الذى كان السلطان أنعم عليهم به ظنا منهم أن تقوم فتنة وشوشة فى العسكر ولا يعلم أنهم مماليك الدمياطى، فكشف الله ذلك، وظهر القماش عند خواص مماليكه، واطلع السلطان على ذلك، وتحدث الأمير شجاع الدين المهندار مع الدمياطى فما أنصف من مماليكه، وقال: «أنا أغرم عنهم» ، وأحضر بعض القماش، وقرر أن تقوم بدارهم عن بقية ذلك. هذا والسلطان لا يتكلم بكلمة بل كتم ذلك إلى أن استقر بقلعة الجبل فلما أصبح طلب الرشيدى

ذكر وصول [رسل] الملك بركة

فأعتقله، وطلع الأمراء إلى الخدمة فى اليوم الثانى، فأمسك الدمياطى والبرلى وأحسن إلى مماليكهم وخواصهم وأقرهم على أخبازهم، ولم يغير على أحد منهم ولا تعرض على بيوت الأمراء. ذكر وصول [رسل «1» ] الملك بركة قال: ولما وصل السلطان إلى غزة عند عوده من الكرك، وصل إليه البريد من الأمير عز الدين الحلى نائب السلطنة بالديار المصرية، يذكر أن رسل الملك بركة وصلوا إلى ثغر الإسكندرية، وهم الأمير جلال الدين بن القاضى، والشيخ نور الدين على ومعهما جماعة، وبخبر بوصول رسل الملك الأشكرى، ورسل مقدم الجنوية، ورسل السلطان عز الدين صاحب الروم. فكتب بالإحسان إلى جميعهم. ولما استقر السلطان بقلعة الجبل أحضرهم واجتمع بهم بحضور الأمراء وغيرهم، وقرئت الكتب ومضمونها، السلام والشكر وطلب الإنجاد على هولاكو والإعلام بما هو عليه من مخالفة يسق «2» جنكرخان، وأن جميع ما فعله من إتلاف النفوس بطريق العدوان منه، وأننى قد قمت أنا وأخوتى الأربعة بحربه من سائر الجهات لإقامة منار الإسلام، والتمس إنفاذ جماعة من العسكر إلى جهة الفرات لإمساك الطريق على هولاكو، ويوصى على السلطان عز الدين صاحب الروم ويستمد مساعدته. فأنعم السلطان على الرسل إنعماما عظيما، ورسم بتجهيز الهدية إلى الملك بركة.

ذكر توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية

قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر: وكان فى جملة الهدية ختمة شريفة ذكر أنها خط عثمان بن عفان رضى الله عنه، ونمزلقات «1» ، وسجادات وذكر أشياء كثيرة من جملتها زرافة، وسافرت الرسل فى سابع عشر شهر رمضان سنة إحدى وستين وستمائة. ذكر توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية «2» وفى سادس شوال سنة إحدى وستين وستمائة، توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية، وذلك بعد أن توجه نحو الصيد وتصيد. وكان دخوله إلى الثغر فى يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة، ودخل من باب رشيد. ورسم بمكتوب برد مال السهمين، وصلة أرزاق الفقراء، ووضع المظالم، ثم لعب الكرة، وخلع على الأمراء ووصلهم بالأموال والأقمشة. وركب لزيارة الشيخ القبارى «3» والشاطبى وجلس بدار العدل فى يوم الخميس تاسع الشهر وبسط المعدلة وأمر بتطهير الثغر من الخواطى الفرنجيات. ثم رجع السلطان فى حادى عشر الشهر. وفى آخر ذى القعدة من السنة نزل السلطان إلى القاهرة، وعاد الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير علاء الدين أيدغدى الركنى والأمير حسام الدين بركة خان.

ذكر وصول التتار المستأمنين

وفى ليلة الأربعاء الخامس من ذى الحجة توفى الأمير حسام الدين المذكور، فحضر السلطان جنارته ومشى فيها. ذكر وصول التتار المستأمنين «1» وفى سابع ذى القعدة من السنة، وردت الكتب من البيرة وحلب أن جماعة من التتار مستأمنه واردة إلى الباب العزيز، يزبدون على ألف وثلاثمائة فارس من المغل والبهادرية. فكتب السلطان بالإحسان إليهم وتجهيز الإقامات لهم. وفى يوم الخميس السادس والعشرين من ذى الحجة كان وصولهم، فركب السلطان وتلقاهم، فنزلوا عندما رأوا السلطان، وقبلوا الأرض. وكان السلطان قد رسم بعمارة مساكن لهم فعمرت باللوق فنزلوها، وأحسن إليهم. ثم وردت الكتب بقدوم جماعة أخرى كثيرة منهم، فاحتقل بهم وركب لتلقيهم. ثم ورد جماعة أخرى فاعتمد معهم من الإحسان نظير أولئك. وكان الواصل إلى الخدمة فى هذه الثلاث مرار من أكابر أمرائهم من يذكر. وهم: كرمون أغا، وهو الذى فتح بلاد الترك جميعها، وامتغا أغا «2» ونوكا أغا «3» ، وجبراك «4» أغا، وقنان أغا، وطيشور، وناصغبة «5» ونبتو، وصحبتى «6» وجوجلان،

واجقرقا، وأرقدق «1» وصلاعنة «2» وميقتدم «3» ، واجتمعوا بمن كان قد وصل قبلهم وهم: صراغان أغا ومن كان قد وصل معه. ثم عرض السلطان عليهم الإسلام فأسلموا على يديه. وفى هذه السنة أمر السلطان بعمل جامع خام «4» يضرب على يمنة الخيمة السلطانية، وعمل له محاريب وعدة أبواب ومقصورة برسم السلطان. وفيها: أمر السلطان بعمارة دار العدل تحت قلعة الجبل، وتجديد بنائها. وفيها: وصلت رسل اليمن بتقادم ومعهم هدايا لخواص الأمراء، فأمر السلطان بإنفادها إلى من عينت له وأذن لهم فى قبولها. وفيها: عرض السلطان العساكر، وكان يجلس لذلك فى كل خميس واثنين. وفيها: جهز السلطان عرب خفاجة، وسير الخلع إلى كبراء العراق، وكتب إلى صاحب شيراز وغيره بالاغراء بهولاكو. وفيها: توفى الأمير فخر الدين «5» أبو الهيجا بن عيسى بن خشترين الأزكشى الكردى أحد الأمراء بدمشق، وكان شجاعا أبلى فى وقعه عين جالوت بلاء حسنا، رحمه الله تعالى.

وفيها: توفى الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك المسعود صلاح الدين أقسيس بن الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وكانت وفاته بنابلس فى خامس عشر ذى الحجة سنة إحدى وستين وستمائة، ومولده بدار الوزارة بالقاهرة فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو الذى كان قد ملك الديار المصرية فى أيام الملك المعز عز الدين أيبك كما تقدم. فلما ملك السلطان الملك الظاهر أمرّه بالشام، وخلف، رحمه الله، ولدا اسمه ناصر الدين محمد، ونعته بالملك الكامل.

واستهلت سنة اثنتين وستين وستمائة

واستهلت سنة اثنتين وستين وستمائة ذكر تفويض أمر جيش حماة إلى الطواشى شجاع الدين مرشد الحموى وفى أول هذه السنة طلب السلطان الطواشى المذكور «1» وتحدث فى أشتغال «2» صاحب حماه مخدومه بالملاذ واللهو، وقال: «كتب إليه أو نبتهه من هذه الغفلة، وسيرت إليه شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ فى ذلك فما أفاد، وقد اعتمدت عليك فى مصلحة هذا البلد، لما فيك من الديانة والخير والشجاعة» ، والزمه بتكملة الجيش والزام الجند باقامة البرك والعدة الكاملة. فالتزم بهذه الأمور. وكتب تقليده بذلك وتوجه. ذكر عمارة المدرسة الظاهرية وترتيب الدروس «3» كان الشروع فى عمارة المدرسة الظاهرية التى هى بالقاهرة المحروسة بين القصرين فى ابتداء الدولة فى ثامن شهر ربيع الآخر سنة ستين وتنجر بابها ودهليزها وأبوابها وكتاب السبيل فى أواخر شعبان من السنة المذكور. ولم يشرع فى بنائها حتى رتب أمور أوقافها. وكان المتولى عمارتها الأمير جمال الدين ابن يغمور، ورسم له السلطان ألا يستعمل أحدا فيها بغير أجرة. وكان اجتماع

ذكر وفاة الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص والرحبة

أهل العلم بها فى يوم الأحد الخامس من صفر سنة اثنتين وستين وستمائة. وفوض السلطان تدريس الحنفية للصدر مجد الدين بن الصاحب كمال الدين بن العديم، وتدريس الشافعية للقاضى تقى الدين بن رزين. وصدر الافراء للفقيه كمال الدين المحلى، والتصدر لإفادة الحديث النبوى للشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطى شيخنا. وذكرت الدروس بها فى هذا اليوم، وحضر السلطان، ومدت الأسمطة وأنشد الشعراء وخلع عليهم. وفى صفر من سنة، خرج السلطان متصيدا إلى جهة الغربية وتوجه إلى ثغر دمياط وزار البرزخ ومر فى عوده ببلاد أشموم «1» ، وتصيد بمنزلة ابن حسون، وأخذ على بلاد الشرقية. ذكر وفاة الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص والرحبة «2» وفى يوم الجمعة حادى عشر صفر من هذه السنة، توفى الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادى [بن مروان] رحمه الله تعالى. ولم يكن له ولد ولا أخ ولا ولى عهد، فسير السلطان إلى نوابه بتسليمها. فوصل البريد فى سابع عشرين صفر بأن بدر الدين بيليك العلائى أحد الأمراء قد تسلما، وحلف الناس بهما للسلطان.

وفى هذا التاريخ ورد كتاب الأمير جمال الدين النجيبى النائب بدمشق يذكر أنه ولى حران للأمير جمال الدين الجاكى، والرقة لأمير آخر. وفى هذا الشهر: سأل الفرنج نواب السلطان أنهم بأذنون لهم فى زراعة البلاد وتقويتها من أموالهم وهى جملة كثيرة من الغلال، فتقررت الهدنة معهم إلى أيام الحصاد. وفى هذه السنة. ثمن القرط الذى قضمته الخيول السلطانية وجمال المناخات فكان ثمنه خمسين ألف دينار «1» . وفيها: استدعى السلطان الأمير علاء الدين الشهابى النائب «2» بحلب وأمره أن يستنيب عنه الأمير نور الدين بن محلى «3» ففعل ذلك. ولما وصل الملك إلى الأبواب السلطانية عزله السلطان عن نيابة حلب، وأقر الأمير نور الدين بن محلى فى نيابة حلب فأحسن السيرة، وعمر البلاد وأعاد الفلاحين «4» ، وأفرد الخاص على ما كان عليه فى الأيام الناصرية.

ذكر جلوس السلطان بدار العدل وما رتبه عند غلو الأسعار

ذكر جلوس السلطان بدار العدل وما رتبه عند غلو الأسعار «1» قال: وفى شهر ربيع الآخر من السنة غلت الأسعار [بمصر] وبلغ ثمن الأردب إلى قريب المائة درهم نقرة. فرسم السلطان بالتسعير طلبا للرفق. فاشتد الحال وعدم الخبز. فأمر السلطان أن ينادى باجتماع الفقراء تحت القلعة، ونزل إلى دار العدل فى يوم الخميس سابع الشهر، فأول ما تكلم فيه إبطال التسعير. ورسم أن يباع من الأهراء فى كل يوم خمسمائة أردب بما يقدره الله من ويبتين فما دونها تباع على الضعفاء والأرامل. ونزل الحجاب تحت القلعة وكتبت أسماء للفقراء، وسير إلى كل جهة حاجبا لكتابة الأسماء فى القاهرة ومصر وحواضرها، ولما تكامل حصر العالم أخذ السلطان ألوفا، وأعطى لنواب ولده الملك السعيد كذلك، وأعطى لكل أمير جماعة على قدر عدته، وفرق على الأجناد ومفاردة الحلقة والمقدمين والبحرية، وعزل التركمان والأكراد البلدين، ورسم أن يعطى لكل فقير مئونته مدة ثلاثة شهور، ويسلم نواب الأمراء والأكابر والتجار الفقراء. ثم قال السلطان: «هؤلاء الفقراء جمعناهم فى هذا اليوم وقد انقضى نصف النهار فليعط كل منهم نصف درهم يتقوت به خبزا، ومن غد يتقرر الحال» . فانفق فيهم جملة كثيرة بهذا القدر خاصة. وأخذ الصاحب جماعة العميان والأتابك [جماعة] «2» التركمان، ولم يبق أحد من الخواص والحواشى وأرباب المناصب وغيرهم إلا أخذ جماعة. فانحطت الأسعار لذلك وكثر الخبز.

وفى ثالث شهر ربيع الآخر من السنة رسم السلطان بمسامحة بنات الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزى «1» بما وجب للديوان فى تركة أبيهن، أربعمائة ألف درهم نقرة. وفى هذه السنة، قصد متملك الأرمن حلب المحروسة مرة بعد أخرى، فلم يظفر بشىء، وخاب سعيه على ما نشرحه إن شاء الله فى غزوات السلطان وفتوحاته «2» . وفيها: رسم السلطان بحفر خليج الإسكندرية «3» ، وكانت قد استدت فوهته، وندب لذلك الأمير عز الدين أمير جاندار فأهتم بذلك وحفر المكان المعروف بالنقيدى، وأمر ببناء مسجد هناك ليكون تذكرة باقية. وجهز الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستاد الدار العالية وأمره بالاهتمام بأمر جزيرة بنى نصر لما بلغه قلة ريها، فاحتفل بها كل الأحتفال. وفيها: فى جمادى الأول، تقدم أمر السلطان إلى الأمير سيف الدين بلبان الزينى أمير علم بالتوجه إلى الشام للاهتمام بأمر القلاع والبلاد وعرض عساكر حماة وحلب ورجال الثغور، والنظر فى المهمات الخاصة والعامة، والزام الأمراء بتكملة العدد والعدة «4» وازاحة الأعذار وأخذ الأهبة للجهاد، وكتب على يده إلى دمشق بحمل خزانة كبيرة إلى البيرة برسم نفقاتها، فتوجه لذلك.

ذكر جلوسه بدار العدل وما قرره من مشاركة أمناء الحكم للأوصياء

وفى العشر الأوسط من جمادى الاخره حصل الظفر بجاسوسين للتتار، وكانت أخبارهما وحلّاهما وصلت إلى السلطان من جهة القصاد والناصحين بالأردو «1» ، وكذلك من كل جهة يصلان إليها، إلى أن ركبا من عكا فى البحر، فلما وصلا إلى ثغر دمياط مسكا وأحضرا إلى بين يدى السلطان فذكر لهما الأماير، فأقرّا، ووجد معهما فرمانين للأتابك من هولاكو، وهو يرغبه ويستميله. فطلب السلطان الأتابك وأراه ذلك، ولم يصدق ذلك فيه، ومزق ذلك وحرقه، واستدل بذلك على ضعف هولاكو. وفى هذه السنة تنجّز البرج الذى أمر السلطان بعمله فى قارا «2» ، وشرع فى بناء برج أكبر منه لحفظ الطرقات وصون الرعية من عوادى الفرنج المجاورين. وفى جمادى الأول من السنة شرع النواب بالشام فى بناء شقيف تيرون. وفى الشهر أنعم السلطان على عسكر الساحل الذين هم صحبة الأمير ناصر الدين القيمرى بمائتى ألف درهم فرقت عليه. ذكر جلوسه بدار العدل وما قرره من مشاركة أمناء الحكم للأوصياء «3» وفى مستهل شهر رجب سنة اثنتين وستين وستمائة، جلس السلطان بدار العدل، فتقدم رجل من الأجناد ومعه صغير، فقال: «أنا وصىّ هذا الصغير»

ذكر وصول جماعة من عسكر شيراز

وشكا من قضية تتعلق به. فقال السلطان لقاضى القضاة: «أعلم أن الأجناد يموت الواحد منهم فيستولى خوشداشيته على موجوده ويجعل اليتيم أوشاقية، ويموت اليتيم فيستولى الوصى على الموجود، أو يكبر اليتيم ولا يجد شيئا ولا يقوم له حجة على موجوده. وقد يموت الوصى فينغمس مال اليتيم فى ماله، وأنا أرى ألا ينفرد أحد من الأوصياء بوصية، وأن يكون نظر الشرع شاملا، وأموال اليتامى مضبوطة، وأمناء الحكم يحاققون على المصروف وطلب نواب الأمراء ونقباء العساكر وأمرهم بذلك. واستمرت الحال عليه إلى وقتنا هذا. ذكر وصول جماعة من عسكر شيراز «1» وفى جمادى الآخر، بلغ السلطان أن جماعة من عسكر شيراز وصلوا لقصد الخدمة الشريفة، فأمر بالإحسان إليهم. ووصلوا فى ثالث شهر رجب ومقدمهم بكلك ورفقته وهم: سيف الدين اقبار جمدار «2» السلطان جلال الدين خوارزمشاه والأمراء الأتابكية غلمان أتابك سعد منهم: سنقر جاه وغيره من الأتابكية. ووصل صحبتهم حسام الدين بن ملاح أمير العراق وجماعة من أمراء خفاجة، فتلقاهم السلطان وأحسن إليهم، وأمرّ الأمير سيف الدين بكلك وأعطاه طبلخاناه، وكذلك أمراء خفاجة، والأمير مظهر الدين وشاح بن سهرى «3» ، وأطلق لحسين ابن ملاح قرية فى الشام، وجهزهم إلى بلادهم.

ذكر سلطنة الملك السعيد

وفى شهر رمضان وصل رسول من الملك «1» شارل أخى الملك افرنسيس وهو صاحب مرشيلية، وصحبته عدة من السناقر الشهب والأمتعة. ومضمون كتابه المحبة والمشابعة. ووصل كتاب استاد داره يقول: إن مخدومه أمره أن يكون أمر السلطان نافذا فى بلاده، وأن يكون نائب السلطنة كما هو نائبه. وفى يوم الجمعة خامس عشر شهر رمضان: قرىء مكتوب بجامع مصر بأبطال ما قرره على ولاية مصر من الرسوم وهى مائه ألف درهم وأربعة آلاف درهم [نقرة «2» ] . وفى هذا الشهر أحضرت فلوس من جهة قوص وجدت مدفونة فأخذ منها فلس: فإذا عليه صورة ملك واقف، وفى يده اليمنى ميزان، وفى اليسرى سيف، ومن الوجه الآخر رأس مصور بآذان كبيرة، ويداير الفلس سطور، فقرأها راهب يونانى: فكان تاريخه إلى وقت قراءته ألفين وثلاثمائة سنة. وفيه مكتوب: أنا غلياث الملك، ميزان العدل، والكرم فى يمينى لمن اطاع، والسيف فى يسارى لمن عصى، وعلى الآخر: أنا غلياث الملك، أذنى مفتوحة لسماع كلمة المظلوم، وعينى مفتوحة أنظر بها مصالح ملكى. ذكر سلطنة الملك السعيد «3» وفى يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة اثنتين وستين وستمائة، حصل الاتفاق على سلطنة الملك السعيد، فأركبه السلطان بشعار السلطنة، ومشى بنفسه فى

ركابه وحمل الغاشية. ثم أخذها الأمراء وحملوها وعليهم الخلع الفاخرة، ورجع السلطان. ولم يزل الملوك والأمراء فى خدمته إلى باب النصر، ودخلوا القاهرة رجالة يحملون الغاشية، وقد زينت المدينة أحسن زينة. وشقى الملك السعيد القاهرة وأتابكه عز الدين الحلى راكب إلى جانبه. وبسط الأمراء الثياب الأطلس والعتابى وغيرها تحت حوافر فرسه. ولم يزل إلى أن عاد إلى القلعة «1» . وكانت [الثياب «2» ] بجملة عظيمة تفرقها المماليك السلطانية وأرباب المنافع. وكتب له تقليد شريف أنشأه المولى محيى الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر، وقرىء بحضور الأمراء وقاضى القضاة والعلماء فى سابع عشر الشهر. وفى العشر الأول من ذى القعدة من السنة، عرض السلطان الجيش «3» ، وكان قبل ذلك رسم بتكملة العدة والتأهب للغزاة فجلس فى هذا اليوم على الصفة التى بجانب دار العدل عند طلوع الشمس، وساق كل أمير فى طلبه، وعليهم لامة الحرب، وجروا الجنائب عليها عدة الحرب دون غيرها من التشامير والمراوات المتخذة للزينة. وعبرت العساكر خمسة خمسة. فلما طال الأمر عبروا عشرة عشرة، وهلك الناس من الزحام. وإنما قصد السلطان عرض العسكر فى يوم واحد حتى لا يقال إن أحدا استعار من أحد شيئا. وكان الناس يدخلون من باب القرافة ويخرجون من جهة الجبل إلى صوب باب النصر إلى الدهليز المضروب هناك. ولما قرب وقت المغرب ركب السلطان وساق فى وسط العساكر فى جماعة يسيرة من سلاح داريته وخواصه، ونزل إلى الدهليز، ورتب

المنازل، ورجع إلى قلعته وقت المغرب. ثم اهتم الناس بعد ذلك باللعب بالقبق، ولبسوا خيولهم التشاهير والبراجم «1» البحرية والمراوات والأهلة الذهب والفضة والأطلس وغير ذلك. وساق السلطان إلى ميدان العيد «2» وبين يديه جنائيه العظيمة وهى مزينة. حكى القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية قال: قال لى القاضى فتح الدين بن سناء الملك وهو صاحب ديوان الخزائن قبل هذا الوقت بمدة سنة: إن الذى دخل فى المراوات من البنود الأطلس الأصفر قيمته عشرة آلاف دينار، وما تجدد بعد ذلك لا يحصى. قال: وشرط السلطان لكل أمير يصيب القبق فرسا من خيوله بما عليه من التشاهير، ولكل مفردى أو مملوك أو جندى خلعة تليق بمثله. ودخل الناس بالرماح بكرة النهار، ثم شفع السلطان ذلك برمى النشاب. وحضر رسل الملك بركة فى ذلك الوقت ووقفوا مع السلطان وشاهدوا ذلك واستعظموه، وأقام العسكر كذلك أياما. وفى تاسع عشر ذى القعدة خلع السلطان على الملوك والأمراء والبحرية والحجاب والمفاردة وأرباب المناصب من الوزراء والقضاة وأرباب البيوت «3» . وحضر الناس بالخلع والتشاريف ولعبوا بقية ذلك النهار. فقالت رسل الملك بركة للسلطان: «هذه عساكر مصر والشام؟» . فقال: «بل عساكر المدينة خاصه، غير الذين فى الثغور، والمجردين والذين «4» فى إفطاعهم» فعجبوا من ذلك.

ذكر ختان الملك السعيد ومن معه

ذكر ختان الملك السعيد ومن معه قال: وفى عاشر ذى القعدة من السنة رسم السلطان بعمل سماط عظيم، ومد بالقلعة لختان الملك السعيد بن السلطان، فأكل الناس وختن الملك السعيد ثم ختن بعده ابن الأمير عز الدين الحلى، وابن الأمير شمس الدين سنقر «1» الرومى، وولد الأمير سيف الدين سكر، وولد الأمير حسام الدين بن بركة خان، وولد الملك المجاهد ابن صاحب الوصل، ثم أولاد الملك المغيث صاحب الكرك الخمسة «2» وولد فخر الدين الحمصى، وجماعة أخر من أولاد الأمراء. وكان قد تقدم قبل ذلك بكسوة جماعة من الأيتام وأبناء الفقراء بالقاهرة ومصر، فأحضروا إلى القلعة وخنتوا. وحمل السلطان عن الأمراء والخواص كلفة التقادم «3» . ذكر خبر غازية الخنافة «4» وفى هذه السنة ظهر بخليج القاهرة قتلى، وفقد جماعة من الناس أتهم بهم معارفهم، والتبس أمرهم. ودام ذلك شهورا. ثم ظهر أن امرأة حسناء وضيئة تسمى غازية كانت تتبرج بزينة فاخرة وتطمع من يراها من الأحداث فى نفسها، ومعها امرأة عجوز، فإذا رأت أحدا قد مال إليها تعرضت له وخاطبته فى أمرها وقالت: هذه لا يمكنها أن تجتمع بأحد إلا فى منزلها خوفا على نفسها. فمنهم من يحمله الغرض على موافقتها فيتوجه معها، فإذا حصل عندها خرج إليه رجلان

فيقتلانه ويأخذان «1» لباسه وما معه. وكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر مخافة الشعور بهم، ثم سكنوا خارج باب الشعرية على الخليج، وكان بالقاهرة ماشطة مشهورة فجاءتها العجوز وقالت لها: عندنا أمرأة قد زوجناها ونحتاج إلى قماش وحلى تتجمل به بالأجرة على العادة، فأحضرى لها ما يمكنك ونحن نزيدك فى الأجرة، وواعدتها أن تأتيها ليلا ففعلت الماشطة ذلك وأتتها ومعها جارية تحمل القماش والمصاغ، فوصلتها الجارية وعادت، فلما دخلت الماشطة قتلت وأخذوا ما معها، ثم جاءت الجارية من الغد وطلبت الماشطة فأنكروها، فتوجهت الجارية إلى متولى المدينة، فجاء وهجم الدار، فوجد فيها الصبيّة والعجوز، فأخذهما وقررهما، فأفرتا على نفسيهما «2» وعلى رجلين آخرين فحبسهما. وجاء أحد الرجلين يتفقد أمرهما فى الاعتقال فقبض عليه وعوقب قأقر ودل على رفيقه وعلى رجل «3» طواب كان يحرق لهم من يقتلونه «4» فى قمين الطوب. فطولع السلطان فى أمرهم، فأمر بتسمير الخمسة فسمروا تحت القلعة، وشفع بعض الأمراء فى إطلاق المرأة فأطلقت وفكت المسامير فماتت بعد أيام. وهدم عوام القاهرة الدار التى كانوا يسكنونها ويقتلون فيها. وبنيت مسجدا «5» بمأذنة، وظهر فى الدار حفيرة فيها قتلى كثيرة.

ذكر وصول رسل الملك بركة

ذكر وصول رسل الملك بركة قد ذكرنا «1» أن السلطان كان قد جهز الأمير سيف الدين كشريك والفقيه مجد الدين الروذ راورى إلى الملك بركة، وأنهما توجها فى المحرم سنة إحدى وستين وستمائة. وذكرنا عود الفقيه مجد الدين للمرض الذى أصابه، فتوجه الأمير سيف الدين ومن معه من المفل. وكان اجتماعهم بالأشكرى فى أنبه، ثم رحلوا إلى القسطنطينية فى عشرين يوما. ومنها إلى اصطنبول «2» ، ومنها إلى دفنسيا، وهى ساحل السوادق من جهة الأشكرى، ثم ركبوا فى البحر إلى البر الآخر ومسيرة ما بين العشرة أيام إلى يومين، ثم طلعوا إلى جبل يعرف بسوداق، فالتقاهم وإلى تلك الجهة فى قرية اسمها القرم «3» ، يسكنها عدة أجناس من الففجاق والروس واللان. ومن الساحل إلى هذه القرية مسيرة يوم، ثم ساروا من القرم إلى برية يوما واحدا، فوجدوا بها مقدم عشرة الآلاف وهو حاكم على تلك الجهات، ثم ساروا عشرين يوما فى صحراء عامرة بالخركاهات والأغنام إلى بحر إتل، وهو بحر حلو سعته سعة نهر النيل، وفيه مراكب الروس ومنزلة الملك بركة على طول ساحله. قال: وحملت إليهم الإقامات فى طول الطرقات. ولما قاربوا الأردو تلقاهم الوزير شرف الدين القزوينى.

ذكر توجه السلطان إلى الاسكندرية وتقديم سيف الدين عطاء الله على عرب برقة

ثم حضروا عند الملك بركة، وكانوا قد علموا آدابه التى تعتمد معه، وهى الدخول عليه من جهة اليسار، فإذا أخذت الكتب منهم انتقلوا إلى جهة اليمين، ويكون القعود الى الركبتين. ولا يدخل أحد معه إلى حركاته بسيف ولا سكين ولا عدة، ولا يطا برجله عتبة الخركاه، ولا يقلع الإنسان عدته إلا على الجانب اليسار، ولا يترك القوس فى القربان، ولا يخليه موترا ولا يخط فى تركاشه نشابا، ولا يأكل الثلج، ولا يغسل ثوبه فى الأردو. قال: ووجد الملك بركة فى؟؟؟ تسع خمسمائة رجل مكسوة لبادا أبيض، مستورة من داخلها بالصندات والخطاى «1» مرصعة بالجواهر واللؤلؤ، وهو جالس على تخت، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، وعنده خمسون أو ستون أميرا «2» على كراص الخركاه. ولما دخلوا إليه أمر وزيره بقراءة الكتاب، ثم نقلهم عن اليسار إلى اليمين، وسألهم عن النيل، وقال: «سمعت أن عظماء لابن آدم ممتدا على النيل يعبر الناس عليه؟» فقالوا: «ما رأينا هذا» قال: وأخذ قاضى القضاة الذى عنده هذا الكتاب وفسره وبعث به نسخة إلى القان. وقرىء كتاب السلطان بالتركى على من عنده، ففرحوا به. وأعادوا الرسل بجوابه، وسير معهم رسله، فكان وصولهم فى ذى القعدة من هذه السنة. ذكر توجه السلطان إلى الاسكندرية وتقديم سيف الدين عطاء الله على عرب برقة قال: ولما فرغ السلطان من هذا المهم توجه إلى ثغر الإسكندرية متصيدا،

فعدّى فى ذى القعدة من السنة وسار إلى تروجة «1» ، ومنها إلى الحمامات، وسار إلى منزلة الكرش بالقرب من العقبة الصغرى، وضرب حلقة هناك، ووصلت المسيرة إلى قرب العقبة الصغرى، وعيّد عيد الأضحى، وصلى صلاة العيد، ونحر الأضاحى، وبلغه أن بعض العربان قد عصوا فى البرارى، فجرد إليهم جماعة، وحضر جماعة من عرب هوارة وعرب سليم فكتب عليهم الحجج بعمارة البلاد، وألا يقربوا أحدا من العربان العصاة. وعاد السلطان إلى الإسكندرية، وصلى فى الجامع الغربى «2» ، ولعب الكره بميدانها. وزار الشيخ الشاطبى «3» ، ورجع إلى القاهرة فلما وصل إلى تروجة رسم بتقديم سيف الدين عطاء الله بن عزار «4» على عرب برقة، وتحدث معه فى أمر العربان وكونهم ينتفعون من مصر بأثمان الخيول المحلوبة والأغنام، وأنهم يستنتجون الأغنام ويزرعون ولا يقومون بحق الله. فالتزم المذكور بحفظ البلاد واستخراج الزكاة من العربان. وأنعم عليه السلطان بصنجق «5» ونقارات «6» ، وتوجه «7» .

ذكر الواقعة الكائنة بين المسلمين والفرنج ببلاد الأندلس - وانتصار المسلمين

قال: ولما وصل السلطان من الإسكندرية وصل شحنة «1» تكريت ومعه جماعة فأحسن إليهم. ذكر الواقعة الكائنة بين المسلمين والفرنج ببلاد الأندلس- وانتصار المسلمين كانت هذه الواقعة فى سنة اثنتين وستين وستمائة. وورد الخبر بها إلى الديار المصرية فى سنة ثلاث وستين بمقتضى كتاب ورد فى جمادى الآخرة يتضمن انتصار المسلمين على الفرنج. وأمير المسلمين وسلطانهم يومئذ أبو عبد الله بن الأحمر وكان ألفنش ملك الفرنج قد طلب منه الساحل من طريف إلى الجزيرة، ومالقة إلى المرية، وحضر بجموعة، فاجتمع المسلمون ولقوهم واقتتلوا، فانهزم الفرنج مرارا، وأخذ أخو الفنش أسيرا. ثم اجتمع الفرنج فى جموع كثيرة ونزلوا على أغرناطه «2» فقتل المسلمون منهم مقتله عظيمة، وجمعوا من رءوسهم نحو خمسة وأربعين ألف رأس، وجعلت تلا، وأذن المسلمون فوقه. وأسر من الفرنج عشرة آلاف. وذلك فى يوم الخميس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة. وانهزم ألفنش الى اشبيلية، وكان قد دفن أباه بجامعها فأخرجه من قبره، خوفا من استيلاء المسلمين عليها وحمله إلى طليطلة، واستعاد المسلمون من الفرنج اثنتين وثلاثين بلدا «3» من جملتها اشبيلية ومرسية وشريش وغير ذلك.

ذكر مقتل الزين الحافظى

وفى هذه السنة كانت وفاة الأمير حسام الدين لاجين العزيزى الجوكندار «1» بدمشق، ودفن بفسح قاسيون. وقيل إنه سم، وأن مملوكه جمال الدين أيدغدى واطأ عليه. وكان شجاعا كريما متواضعا يحب الفقراء ويكرمهم ويتولى خدمتهم بنفسه، رحمه الله تعالى. ذكر مقتل الزين الحافظى «2» وفى أواخر سنة اثنتين وستين وستمائة، احضر هولاكو زين الدين أبا المؤيد سليمان بن عامر العقريانى، المعروف بالحافظى، وقال له ما معناه: قد ثبت عندى خيانتك وتلاعبك بالدول، وأنك خدمت صاحب بعلبك طبيبا، فخنته، واتفقت مع غلمانه على قتله. ثم انتقلت إلى خدمة الملك الحافظ الذى عرفت به ونسبت إليه، فلم تلبث أن خنته، وباطنت الملك الناصر حتى أخرجت قلعة جعبر عن يد مخدومك، ثم انتقلت إلى خدمة الملك الناصر فخنته معى، ثم انتقلت إلىّ، فأحسنت إليك إحسانا لم يخطر ببالك أن تصل إلى بعضه منى، وقد شرعت تعاملنى بما عاملت به الملك الناصر. وعدد له ذنوبا أخر من خيانته فى الأموال التى كانت قد ندبه لاستخراجها من البلاد، وأمر بقتله هو وأهله، فقتل هو وأخوته وأولاده وأقاربه ومن يلوذ بهم، وكانوا نحو الخمسين لم ينج منهم إلا ولده مجير الدين محمد وولد أخيه اختفى بالسوق وقيل إن السلطان الملك

الظاهر تسبب فى قتله، فأنه أحسن إلى أخيه عماد الدين أحمد، ورتب له راتبا كبيرا، وأمره بمكاتبة أخيه واستدعائه، وأنه إذا وصل كان له ما يقترحه، بشرط المواطأة على هولاكو وإفساد من يقدر على إفساده منهم. فلما وصلت إليه الكتب حملها إلى هولاكو وقال: إن صاحب مصر إنما يكاتبنى بمثل هذا لتقع الكتب فى يدك فتقتلنى، وقد عزمت على أن أكاتت الأمراء القائمين بدولته والأعيان، وأكيده كما كادنى. فأبى «1» هولاكو ذلك، فلم يزل يراجعه حتى أذن له. فكاتب جماعة فعلم السلطان أنها مكيدة، فكتب إليه يشكره على عرض الكتب على هولاكو، ويستصوب رأيه فى عرضها لتزول التهمة عنه، وأمر القصاد أنهم إذا وصلوا إلى شط جزيرة ابن عمر يتجردوا من ثيابهم ويتجيلوا فى إخفاء أنفسهم ليظن أنهم قصدوا السباحة فغرقوا، ففعلوا ذلك. وجاء نواب التتار فوجدوا الثياب فأخذوها وجهزوا الكتب إلى هولاكو فقرأها. وكان ذلك من أسباب قتله، والله تعالى أعلم.

واستهلت سنة ثلاث وستين وستمائة

واستهلت سنة ثلاث وستين وستمائة فى المحرم منها، وصل الأمير جمال الدين سكز بن «1» الدوادار، وكان أبوه المجاهد دوادار الخليفة ببغداد، وكانت له نعمة عظيمة، فأحسن إليه السلطان وأمره بطبلخاناه. وفى صفر من السنة، وقف السلطان الخان بالقدس الشريف، وقرىء كتاب وقفه بحضور السلطان وقاضى القضاة تاج الدين. ووقف اسطبلين تحت القلعة يعرف أحدهما بجوهر النوبى، وحبسهما على وجوه البر. وفيها فى العشر الآخر من المحرم، انهى إلى السلطان أن جماعة من الأمراء والأجناد اجتعموا فى دار على أكل ططماج وجرى بينهم كلام كثير أفض إلى الغض من الدولة، فاتصل ذلك بالسلطان وعين له ثلاثة نفرا وسعوا فى الكلام فى ذلك فأمر بتسميرهم، فسمر أحدهم، وكحل الثانى، وقطعت رجل الثالث. وأفرج عن بقيتهم، وأمر ألا يجتمع أميران فى مكان، وألا تعمل وليمة ولا ضيافة عن غير موجب، فحسمت مادة الاجتماعات. وفى صفر ورد كتاب الأمير عز الدين أيدمر النائب بالكرك أنه رتب راتب الأسمطة والضيافة بحرم الخليل عليه الصلاة والسلام للوافدين. وكان ذلك قد قطع من مدة طويلة.

وفيها فى تاسع عشر شهر ربيع الأول قطع السلطان أيدى جماعة من نواب متولى القاهرة والخفراء وأصحاب الأرباع والمقدمين، وكانوا ثلاثة وأربعين رجلا «1» ، وكان سبب ذلك على ما حكاه الصاحب عز الدين بن شداد، ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها ينهبون ويقتلون حتى تعرضوا للعربان الذين تحت القلعة، فارتفعت أصواتهم حتى سمعها السلطان وسأل عن خبرهم فأخبر بصورة الحال، فلما أصبح أتته ورقة الصباح وليس فيها ذكر هذه الحادثه، فأنكر على متولى القاهرة، فاعتذر أن نوابه لم يطالعوه بها، فأمر السلطان بقطع أيديهم فمات بعضهم وسلم البعض. وحكى غيره، عن الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى، أن السلطان خرج ليلة متنكرا وجعل يطوف أزقة القاهرة، وكان يفعل ذلك ويتفقد أمور الناس وأحوالهم ويسمع من ألفاظهم ما لا ينقل إليه، فمر فى بعض أزقة المدينة فوجد بعض مقدمى «2» الوالى قد أمسك امرأة وهو يتهددها، وهى تقول له: اتق الله، والله ما أفعل هذا [إلا «3» ] من حاجة وأنت تعلم أن عندى خمسة أيتام. فقال: أنا ما أعرف هذا، ولا بد أفعل وأصنع. فقالت له تقدم عنى ناحية. وخلعت لباسها وناولته إياه، وقالت: والله ما أمسك سواه فأخذه وأطلقها. فعرفه السلطان ثم لم تكن له همة إلا أن جمعهم وقطع أيديهم، وشاهد فيمن قطع، ذلك المقدم بعينه.

وفى هذه السنة توجه السلطان إلى الصيد بجهة العباسة، وذلك بعد عوده من ثغر الإسكندرية، فرمى البندق، وأصرع جماعة وادعوا للسلطان «1» ، ومن جملتهم الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك. وتوجه السلطان من العباسية إلى قلعة الجبل فأقام ليلة واحدة، وجهز العساكر، ثم توجه هو بعدها إلى الشام وصرع بشرا «2» بالقرب من رأس الماء، وذلك فى ثالث شهر ربيع الأول. وكان سبب توجهه ما بلغه من محاصرة التتار البيرة وكان فى هذه السفرة من الغزوات والفتوحات ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى موضعه. وفى هذه السنة رسم السلطان بتبطيل المزر «3» بالديار المصرية وأن تخرب البيوت التى يعمل فيها وتكسر مواعينه ويسقط من الديوان ارتفاعه، ورسم بتعويض المقطعين عنه. وكتب بذلك إلى الأمير عز الدين الحلى فأبطلها. ولما فتح السلطان فى هذه السفرة ما نذكره من بلاد الفرنج عاد إلى مقر ملكه، وكان رحيله من أرسوف فى يوم الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة، ودخوله إلى القاهرة فى يوم الخميس حادى عشر شعبان من السنة، وشق المدينة والأسارى بين يديه، وعم الناس بالخلع والإنعام،

ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر واتهام أهل الذمة وما قرره عليهم من الأموال بسببه

من الأمراء والوزراء والمقدمين والمفاردة والخواص حتى البرد «1» دارية وجميع الحاشية، وتصدق بجملة عظيمة من الدراهم والغلال على الفقراء، وفرق كساوى بالجوامع. ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر واتهام أهل الذمة وما قرره عليهم من الأموال بسببه «2» وفى هذه السنة فى جمادى الآخرة، وقعت نار بحارة الباطلية بالقاهرة، فأوقب ثلاثا «3» وستين دارا جامعة. ثم كثر الحريق بعد ذلك بمصر حتى احترق من رباعها المشهورة ربع فرح، وكان وقفا على الأشراف بالمدينة، وأكثر ربع العادل وغير ذلك. وكانت توجد لفايف من المشاق والكبريت والأصناف النفطية على الأسطحه. وشاع الخبر أن النصارى يفعلون ذلك لأجل ما فعله السلطان ببلاد الفرنج من إحراق الكنائس. فجمع السلطان عند عوده من الشام النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التى تفسخ عهودهم، وأمر بتحريقهم. فجمع منهم عالم كثير تحت القلعة وأحضرت الأحطاب والحلفا. فسأل أهل الذمة مراحم السلطان، فقرر عليهم حمل خمسمائة ألف دينار إلى بيت مال المسلمين، والتزم بتوزيعها واستخراجها بطرك النصارى، والتزموا أنهم لا يعودون إلى شىء مما كانوا يعتمدونه من المنكرات، ولا يخرجون عن الذمة وشرطها وحمل المال المقرر شيئا بعد شىء.

وفى هذه السنة، اعتقل السلطان الأمير نور الدين زامل بن على «1» ، وكان قد حصل منه إساءات وفتن مرة بعد أخرى. وقبض السلطان عليه ثم أطلقه وأصلح بينه وبين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، والأمير أحمد بن حجى، والأمير هارون، وحلفهم، وأعاد إقطاع زامل إليه وإمرته. فلما توجه لم يتأن إلى أن يصل البلاد بل ساق من أوائل الرمل [وهجم على بيوت عيسى «2» ] وأفسد، وأمسك قصاد السلطان ومملوك الأتابك المتوجه إلى شيراز، وأخذ منهم الكتب، وتقرب بها إلى هولاكو، وتوجه إليه وأطمعه فى البلاد فأعطاه إقطاعا فى العراق. وتوجه [زامل] إلى الحجاز فنهب وقتل وانتهك حرمة الأشراف، وحضر إلى أوائل الشام «3» . وكان السلطان قد أعطى إقطاعه وإمرته لأخيه أبى بكر، فراسل زامل السلطان فى طلب العفو، فتقرر حضوره فى وقت معلوم وأنه متى تأخر عنه ليس له عهد ولا أيمان، فتأخر عن المدة المعينة ثم وصل فاعتقله السلطان. وفيها: حضر إلى السلطان نعجة قد ولدت خروفا على صورة الفيل له خرطوم طويل وأنياب وإلية خروف. وفيها: جهز السلطان الأخشاب والحديد والرصاص والآلات والصناع «4» ، فكانوا ثلاثة وخمسين رجلا لإتمام عمارة الحرم الشريف النبوى. وأنفق فيهم الأموال وجهز معهم المئونة، وندب لذلك الطواشى شهاب الدين محسن الصالحى «5» ،

ورضى الدين أبا بكر، والأمير شهاب الدين غازى بن فضل اليغمورى مشدا، ومحيى الدين أحمد بن أبى الحسين بن تمام طبيبا إلى البيمارستان الذى بالمدينة، ومعه أدوية وأشربة ومعاجين ومراهم وسكر لأجل من يعتريه من الجماعة مرض. وكان خروجهم من القاهرة فى سابع عشر شهر رجب. ووصلوا إلى المدينة فى ثانى شوال. واستمر العمل فى العمارة إلى سنة سبع وستين وستمائة. وكان السلطان يمدهم بما يحتاجون إليه من النفقات والآلات. وفيها: توجه السلطان إلى بحر أشموم، وغرق عدة مراكب لإصلاحه، وتولى الحفر بنفسه، وشاهد الناس على كتفه قفة مملوءة نرابا. فلم يبق أحد من الأمراء وغيرهم إلا بادر وفعل مثل ذلك. فتنجز ذلك فى ثمانية أيام، وذلك فى شوال من السنة. وفى حادى عشرين الشهر رسم السلطان بإبطال حراسة النهار، وكانت جملة مستكثرة وكتبت التواقيع بإبطالها. وفى الشهر قرىء مكتوب بجامع أشموم بمسامحة الأعمال «1» الدقهلية والمرتاحية بأربعة وعشرين ألف درهم عن رسوم الولاية والمال المستخرج برسم النقيدى «2» . وفيه توجه شجاع الدين بن الداية الحاجب رسولا إلى الملك بركة «3» ، فى كف غارات الملك بركة عن بلاد الأشكرى حسب سؤاله فى ذلك، وسير معه ثلاث

ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام

عمر أعتمر بها بمكة الملك بركة. وسير معه قمقمان من ماء زمزم، ودهن بلسان وغير ذلك. وفى ذى القعدة وصل الأمير جمال الدين النجيبى نائب السلطنة بالشام فتحدث السلطان «1» معه فى مهمات، وكتب على يده تذكرة «2» ، وعاد فى ذى الحجة. ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام «3» وفى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وستمائة فوض السلطان القضاء بالقاهرة والديار المصرية لأربعة قضاة، لكل مذهب قاض. وسبب ذلك أن الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى كان يكره قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ويغض منه عند السلطان لتثبته فى أحكامه وتأنيه «4» واحترازه، فاتفق أن السلطان جلس بدار العدل فقدمت له قصة من بيت الملك الناصر تتضمن أنهم ابتاعوا دارا من القاضى بدر الدين السنجارى وأن ورثته بعد وفاته ادعوا أنها وقفت قبل ذلك، فأخذ الأمير جمال الدين أيدغدى ينتقص المتعممين فقال السلطان للقاضى تاج الدين: «هكذا تكون القضاة؟» . فأجابه بالآية: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * «5» . قال: «فكيف العمل فى هذا؟» . قال: «إذا ثبت الوقف يستعاد

الثمن من الورثة من مال مورثهم» . فقال السلطان: «فإن عجزوا عن الثمن؟» قال: «الوقف باق على أصله» . فامتعض السلطان لذلك. فلم يتم الكلام حتى تقدم رسول صاحب المدينة النبوية وقال: «حملت كتاب السلطان إلى قاضى القضاة أن يسلم إلى المال الذى تحت يده من الوقف؛ لأنفقه فى فقراء أهل المدينة، فلم يفعل» . فسأل السلطان القاضى عن ذلك. فقال: «صدق هذا الرجل، أنا لا أعرفه، ولا أسلم المال إلا لمن أعرفه وأثق بدينه وأمانته، فإن تسلمه السلطان أحضرته بين يديه» . فقال السلطان: «تخرجه من عنقك وتجعله فى عنقى، لا تسلم المال إلا لمن تختاره وترضاء» . وتقدم بعض الأمراء فى المجلس وشكى من القاضى تاج الدين فى قضية آخرى هى شهادة «1» لم يثبتها لبعض أولاد خوشد اشيته فقال القاضى: «لم تأتنى بينة» «2» . فقال الأمير: حضرت البينة فلم تسمعها. فسأله السلطان عن امتناعه من سماع البينة. قال: «لا حاجة إلى ذكر الجواب» . فقال الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى للقاضى نحن نترك مذهب الشافعى لك ويولى السلطان من كل مذهب قاضيا «3» ، فرجع السلطان إلى قوله، وفوض النظر فى الأحكام والقضايا إلى حكام أربعة «4» وهم: قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب المشار إليه، قاضى الشافعية. والشيخ شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله ابن صالح بن عيسى السبكى، قاضى المالكية، والقاضى صدر الدين سليمان قاضى الحنفية والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسى،

قاضى الحنابلة. وجعل لهم السلطان أن يولوا فى الأعمال نوابا عنهم. وخص قاضى القضاة، تاج الدين الشافعى، بالنظر فى أموال الأيتام والأوقاف بمفرده بالديار المصرية، بتقليد سلطانى نسخته بعد البسملة، ومثال العلامة السلطانية بين السطرين المستعلى بالله. «الحمد لله مجرد سيف الحق لمن اعتدى، وموسع مجاله لمن راح إليه وأغتدى، وموضح طريقه لمن اقتاد به واقتدى، ومزين سمائه بنجوم تستمد الأنوار من شمس الهدى، الذى أعذب لشرعة الشريعة المحمدية ينبوعا، وأقامها أصلا مد بثمار الرشد فروعا. نحمده على نعمة التى ألزمتنا التشييد [فى] «1» مبانى الإنصاف شروعا» . «ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نعمر بها من القلوب والأفواه ربوعا. ونصلى على سيدنا محمد الذى بعثه الله إلى العالم جميعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة يناجى القائل بها بصيرا سميعا» . «وبعد: فإن أحق من استوعبت كليات المحامد له بالتبعيض، وطافت الممادح من كعبة العلم بركن منه طواف المفرض لا طواف المفيض وخلد له إرضاء الأحكام وإمضاء النفويض، وريش جناحه وإن لم بك بالمهيض، وفسح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسمت من سحائبه الأنواء، ومن أشعته الأنوار، ووغزر مدّه فجرت منه فى رياض الرشد الأنهار، وغدا تخشع لتقواه القلوب، وتنصب لفتواه الأسماع وترنو لمحياه الإبصار، من أوفد من إرشاده للامة وللائمة لطفا فلطفا، وأوقد من علمه جذوة لا تخبو، ومن عدله قبسا بالهوى لا يطفأ، وفات النظراء والنظار فلا يرسل أحد

معه طرفا، ولا يمد إليه حياء منه طرفا، وقد جاز واحتوى من العلوم على ما تفرق فى غيره وغدا «1» خير دليل إلى الحق، فلا يقتدى فى المشكلات إلا برأى اجتهاده، ولا يهتدى فى المذاهب إلا بسيره، وأصبح لفلك الشريعة المحمدية قطبا، ولجثمانها قلبا ولسوارها قلبا، وأضحى لدليلها برهانا، ولإنسانها عينا، ولعينها إنسانا، فكم أرضى بعدله وفضله بنى الأيام عن الأيام، وكم أغضى مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى حكما لا انفصال لعروته ولا انفصام، وكم أفضى بالجور إلى ماله وبالعدل إلى الأيتام، فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعديه، ولم يداجه لكونه يستر عليه تعبده فى دياجيه، فهو الحاكم بالحق ولو على نفسه، والمسترد الحقوق الذاهبة حتى لغده من يومه وليومه من أمسه. «ولما كان المجلس السامى القضائى الإمامى، العالمى العاملى، الأشرف الزاهدى الأثيرى الماجدى الذخيرى الأفضلى الجلالى التاجى، حجة الإسلام، شرف الأنام، مجد الأمة، فخر الأئمة، صدر الشريعة مقتدى الفرق، رئيس الأصحاب، لسان الحق، ذخر الملوك والسلاطين، ولى أمير المؤمنين، قاضى القضاة، عبد الوهاب بن القاضى الأجل الأوحد الأعز أبى القاسم خلف، حرس الله جلاله، ممن هو فى أحسن هذه السمات يتصور، وله أنوار بركات تعدّ ونجوم السماء بها تتكثر، وقد تجوهر بالعلوم فأصبح التاج المجوهر، وله مزايا السؤدد التى لا يشك فيها ولا يرتاب، وسجايا الديانة التى إذا دخل غيره إليها من باب واحد دخل هو إليها من عدة أبواب، وهو شجرة الأحكام ومصعد كلم الحكام، ومطلع أنجم شرائع الإسلام، ومهبط وحى التقدمات والارتسام وعكاظ قضايا الحلام والحرام» .

«خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، لا زال ماضيا وبالسداد قاضيا: بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية فليحكم جميعها بما أراه الله من مذهب الإمام المطلبى محمد بن إدريس الشافعى، رضى الله عنه، وأموالى اليتامى على اختلاف أجناسها هى ودائع الأموات، وذخائر كل ممنوع من التصرفات، وقد أوصى الله بها، واوسع المتعدى عليها إنكارا وتحذيرا، وخوف من أكلها ظلما، فقال جل وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً » «1» . وقد رأينا أن نخصص المجلس السامى بالنظر فى جميع أمورها واذ قد غدت ذخر كل منقطع فنجعله من ذخرها، فلينظر «2» فى جميع أموال الأيتام على اختلاف أجناسها بالقاهرة ومصر المحروستين والديار المصرية بمفرده وبمن يستنيبه عنه، وليحطها بنظره، ويضبطها بحسن تأثيره وأثره، وكذلك ما يختص بمذهبه من الجوامع والمناصب والمساجد والربط والتصديرات والأوقاف، ينظر فى جميعها ويولى فى أصولها وفروعها، والأوقاف العامة من الصدقات وغيرها، ينظر فيها بنفسه وبنوابه، حافظا لأمورها وملاحظا لتدبيرها، ومجتهدا فى صلاحها وتثميرها، وليستصحب من ذلك ما هو ملى باستصحابه. وليستمر على إقامة منار الحق الذى هو موثق عراء ومؤكد أسبابه، عالما بأن كل إنارة أضأتها من قبسه وأن استضأنا بها فى دياجى المنى، وكل ثمرة من مغترسه وإن مددنا إليها يد الاجتنا، وكل جدول هو من بحره وإن بسطت إليه راحة الاغتراف وكل منهج هو من جادته وإن ثنيت البه أعنة الاستطلاع للافادة والاستكشاف

وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادة للعناصر وإن كان يصيبه منها أوفر تصيب، والصادق الذى ينبىء بالحق إذا وامرته «1» المراسيم، ولا ينبؤك مثل خبير، ووصاياه منها يسترشد، فلا يفاوض فيها، ومنه تتعلم فلا نكرر عليه ما يستفاد منه من معانيها، والله تعالى يسد بأحكامه الذريعة، ويحمى به حمى الشريعة إن شاء الله تعالى، وكتب فى ثامن وعشرين ذى القعدة سنة ثلاث وستمائة بالاشارة العالية المولوية الأتابكية الفارسية وأعزها الله، الحمد الله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه» . ولما فوض السلطان القضاء بالديار المصرية لحكام أربعة، فعل مثل ذلك بدمشق «2» ، وجهز التقاليد إلى الحكام الذين وقع الاختيار عليهم، وهم: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الشافعى، على عادته، والشيخ زين الدين عبد السلام الزواوى المالكى قاضى المالكية، والقاضى شمس الدين عبد الله ابن محمد بن عطاء الأذرعى الحنفى قاضى الحنيفة، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمر الحنبلى قاضى الحنابلة، ووصلت تقاليدهم بذلك فى سادس جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، فامتنع المالكى والحنبلى من قبول الولاية والدخول فى باب القضاء، فطولع السلطان بذلك، فورد جوابه بالزامهما، وأنهما إن استقرا على الامتناع وصمما عليه يعزلا عما بأيديهما من المناصب ويخرجا من بلاد السلطان، فقيلا الولاية، وامتنعا من قبول المعلوم المقرر للقضاة وقالا: «نحن فى كفاية عن قبول المعلوم» .

ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع

ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع وفى ذى الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة، قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع. وسبب ذلك أن رسول الملك بركة أحضر معه رجلا ادعى أنه الملك الأشرف بن الملك المظفر شهاب الدين غازى، فطلب السلطان من يشهد له بصحة ذلك، فشهد له المذكور، فبحث السلطان عن أمره، فوجد الأمير شمس الدين المشار إليه بعث اليه واستدعاه من عند الملك بركة لغرض كان فى نفسه، فقبض السلطان عليه واعتقله، واعتقل من شهد له بخزانة البنود. ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الرومى «1» وذنوبه السالفة وفى رابع وعشرين ذى الحجة من السنة، أمسك السلطان الأمير شمس الدين سنقر الرومى. وسبب ذلك؛ أنه كان له مملوك جميل الصورة، فبلغه أن السلطان ربما تعرض إليه يفعل، فغضب لذلك، وشفع السلطان عنده فيه فلم يقبل شفاعته، وضربه وحمى سفودا من الحديد وجعله فى دبره فمات، فطلبه السلطان من وقته واعتقله. وأما ذنوبه السالفة فإنه كان جمدار الملك الصالح، وكان مؤاخى الملك الظاهر لما كانا فى الخدمة الصالحية وبينهما صداقة، ولما كان من أمر البحرية ما قدمناه كانا جميعا وكان الملك الظاهر يتفقده بالمال والقماش، ولما قتل الملك المظفر لم يكن شمس الدين حاضرا، وأعطاه السلطان الإقطاعات العظيمة فصار يخلو بجماعة بعد جماعة ويفرق عليهم المال الذى ينعم

ذكر وفاة قاضى القضاة بدر الدين السنجارى وشىء من أخباره

به السلطان عليه، فاتصل ذلك بالسلطان فأرسل إليه يحذره مع خوشداشيته، فلم يفد ذلك شيئا، وبقى ذلك فى خاطر السلطان، فلما قتل الآن مملوكه وقبض عليه أرسل يقول: «اشتهى أعرف ذنبى» ، فسير السلطان إليه من عدد ذنوبه، فتحسر وقال: «آه، لو كنت حاضرا قتل الملك المظفر حتى أعاند السلطان فى الذى جرى» ، وكان قد تكلم بهذا الكلام وشافه السلطان به فى حال إحسانه إليه، واستمر فى الاعتقال إلى أن توفى، وكانت وفاته فى يوم الأحد عاشر جمادى الأول سنة ست وسبعين وستمائة. ذكر وفاة قاضى القضاة بدر الدين السنجارى وشىء من أخباره «1» وفى هذه السنة فى يوم السبت رابع عشر شهر رجب: كانت وفاة قاضى القضاة بدر الدين أبى المحاسن يوسف بن الحسن بن على بن الخضر السنجارى الشافعى، رحمه الله تعالى، فجأة، وكان قد أكل بطيخا أصفر وسلنجنينيا «2» عقب خروجه من الحمام. ودفن فى يوم الأحد بمدرسته بالقرافة بجوار تربة الإمام الشافعى، وصلى عليه قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. ومولده بسواد إربل فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكان قاضيا بسنجار، وكان له على السلطان الملك الصالح من الخدمة بسنجار ما قدمنا ذكره، فلما ملك الملك

الصالح دمشق كما تقدم، ولاه قضاء بعلبك وأعمالها وقرر له معلوما كثيرا، وكان قد وصل فى صحبته، ولما ملك الديار المصرية حضر إليه فأكرمه، وفوض إليه القضاء بمصر والوجه القبلى، ثم بالقاهرة والوجه البحرى كما تقدم ذكر ذلك، وولى الوزارة كما تقدم أيضا فى أيام الملك المنسور نور الدين بن الملك المعز، وكان، رحمه الله تعالى، مكينا عند السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ بكرهه، فكتب إلى السلطان الملك الصالح يذكر عنه أنه يأخذ من نوابه الأموال، ومن يعدله من الشهود، وأشباه ذلك، فأجابه السلطان فى طرة كتابه: «يا أخى فخر الدين: للقاضى بدر الدين على حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها، والذى وليناه قليل فى حقه، وما قمت له بما يجب على من مكافأته» ، فلم يعاوده الأمير فخر الدين فى أمره، وبقيت هذه الورقة عنده فى جملة أوراقه، فلما قتل وخلف بنتا صغيرة، احتاط ديوان الأيتام على موجوده فوجدوا هذه الورقة فحملوها إلى القاضى بدر الدين، فأوقف الناس عليها، وكان رحمه الله تعالى، كريما كثير الاحتمال، كثير المروءة، حسن العشرة، يقبل الاعتذار، ولا يكافىء على السيئة بمثلها، بل يحسن لمن ظهرت اساءته، ويبره بماله ويستميله باحسانه، إلا أنه شهر عنه فى ولاية القضاء قبول هدايا النواب، حتى قيل إنه ربما كان قرر على كل منهم ما لا يحمله فى كل مدة فى مقابلة ولايته على قدر الولاية، وكذلك أيضا من يقصد إنشاء عدالته حتى كثر المعدلون فى أيامه، ووصل إلى العدالة من ليس من أهلها، ولما ولى قاضى القضاة تاج الدين أسقط كثيرا من عدوله، ولقد جاء بعد ذلك زماننا وأدركت بقايا عدوله فكانوا أميز العدول وأجلّ الناس، ومنهم من لى قضاء القضاة وبلغ، رحمه الله تعالى، خمسة وثمانين سنة وثلاثة أشهر، رحمه الله تعالى.

وفى هذه السنة فى يوم الاثنتين مستهل شعبان توفى الأمير جمال الدين موسى ابن شرف الدين يغمور بن جلدك بلمان «1» بن يغمور استاد دار السلطان الملك الظاهر، وهو الذى كان ينوب عن الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق، وكان عالى المنزلة عند الملوك الأيوبية ومن بعدهم، ودفن بسفح المقطم، وكان مولده بالقرية اليغمورية بقرب سمهود من الأعمال القوصية «2» فى جمادى الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وهو ياروقى الأصل،: وكان عفيفا كريما سمحا جوادا، كيسا لطيفا، متواضعا حسن العشرة والسيره، كثير البر والصدقة، رحمه الله تعالى. وفى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وستمائة أيضا: أمر السلطان بشنق الشريف حصن الدين بن ثعلب الجعفرى «3» بالإسكندرية، فشنق خارج باب البحر، وكان السلطان قد اعتقله بها، وسبب شنقه أن الشريف السرسناى أحد عدول الثغر كان يتردد إليه فى معتقله لتأنيسه وقضاء حوائجه، فاتصل بالسلطان أنه أعمل الحيلة فى هروبه، وكان الشريف قد حضر إلى مصر لقضاء حوائج حصن الدين فأحضره السلطان وسأله عن ذلك، فأنكره، فأراه الخطوط الواردة من الإسكندرية بالشهادة عليه بذلك، وأمر بشنقه فشنق تحت قلعة الجبل. وسير السلطان عز الدين أيبك الأغا حصارى «4» إلى الإسكندرية فشنق الشريف حصن الدين.

واستهلت سنة أربع وستين وستمائة

واستهلت سنة أربع وستين وستمائة فى هذه السنة توجه الملك السلطان الظاهر إلى الشام فى مستهل شعبان «1» ، واستناب بقلعة الجبل الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وجعله فى خدمة ولده الملك السعيد هو والصاحب بهاء الدين، وتوجه، وكان فى سفرته هذه من فتوح صفد والغارات على بلاد الفرنج ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ذكر عمارة جسر دامية «2» وفى جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، رسم السلطان ببناء جسر على نهر الأردن، وهو النهر الذى يشق غور الشام، ويسمونه الشريعة. وهذا الجسر هو بقرب دامية، فيما بينها وبين فراوى. واتفق فيه أعجوبة لم يسمع بمثلها: وذلك أن السلطان ندب الأمير جمال الدين بن نهار المهندار لعمارته، ورسم أن يكون خمس قناطر، واجتمع الولاة لذلك ومنهم: الأمير بدر الدين محمد بن رحال متولى نابلس وحصلوا الأصناف وجمعوا الصناع، وعمروه على ما رسم به السلطان. فلما تكاملت عمارته وتفرق ذلك الجمع اضطرب بعض أركان الجسر، فقلق السلطان لذلك وأنكر عليهم وأعادهم لإصلاح ذلك. فتعذر عليهم لزيادة الماء وقوة جريانه، فأقاموا كذلك أياما وقد تيقنوا العجز عنه. فلما كان فى الليلة المسفرة عن السابع عشر من شهر ربيع الأولى سنة ست وستين

انقطع ماء الشريعة حتى لم يبق بها شىء منه، فتبادروا وأشعلوا النيران الكثيرة والمشاعل واغتنموا هذه الحادثة وأصلحوا الأركان وقووها، وأصلحوا منها ما لا كان يمكن عمله. وركبوا من يكشف خبر هذه الحادثة، فساقوا الخيل فوجدوا كتارا «1» مرتفعا كان يشرف على الشريعة من الجانب الغربى، والكتار شىء يشبه الجبل وليس بحبل لأن الماء يحله بسرعة كالطين، قد سقط فى الشريعة فسدها، وانسكر الماء وتحامل على جهة الغور مما وراء السكر، قعادوا بالخبر، وانقطع الماء من نصف الليل إلى الرابعة من النهار، ثم تحامل الماء وكسر ذلك الكتار، وجاء طول رمح فلم يؤثر فى ذلك البناء لإتقانه، وحمل الماء ما كان هناك من آلات العمارة. وهذه الحادثة من عجائب الاتفاق. وهذا الجسر باق إلى وقتنا هذا. وفى جمادى الأولى أيضا تكاملت عمارة الدار الجديدة «2» المرسوم بعمارتها عند باب السر المطل على سوق الخيل. وعمل بها دعوة للأمراء. وفى هذه السنة اهتم السلطان بحفر خليج الإسكندرية، وندب الأمير علم الدين المسرورى لذلك. ثم توجه السلطان بنفسه وباشر الحفر وأزيلت الرملة التى كانت على الساحل بين النقيدى وفم الخليج، ثم عدى إلى برأبيار، وغرق المراكب هناك وبنى عليها بالحجارة، ثم رجع إلى القاهرة. وفى شهر رمضان من السنة وصل إلى دمشق ولد الخليفة المستعصم بالله المسمى بالمبارك «3» الذى كان عند هولاكو، وصحبته جماعة من أمراء العربان.

ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى

فأنزله الأمير جمال الدين النجيبى فى أعز مكان. فلما وصل السلطان إلى دمشق سير إليه جمال الدين بن الدوادار والطواشى مختار، فما عرفاه. وظهر أنه بخلاف ما ادعاه، فسير إلى مصر تحت الاحتياط. وفى ذى القعدة وصل شخص آخر أسود ادعى أنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضا. ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى «1» وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى قال: لما كان فى يوم الاثنين منتصف ذى الحجة سنة أربع وستين وستمائة جلس الأمير عز الدين الحلى بدار العدل، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، وإذا بإنسان يخترق الصفوف- وبيده قصة-، فوقف قدامه، وكان بيده سكين بين أثوابه، فضرب بها حلق الأمير عز الدين. فأمسكها بيده فجرحت يده، ثم رفسه برجله ونام على ظهره وقصد أن يضربه مرة أخرى أو يضرب الصاحب. فلما رفع يده جاءت السكين فى فؤاد الأمير صارم الدين قايماز المسعودى فمات لساعته. وكان فخر الدين متولى الجيزة حاضرا فأمسكه ورماه. فوقع على قاضى القضاة، وضرب بالسيوف فمات. وعرف الضارب أنه من الجانداريه. وكانت به شعبة من الجنون. ولما وصل الخبر بسلامة الحلى إلى السلطان وهو راجع من أفامية أعطى مملوك الحلى ألف دينار عينا، وأعطى رفيقه ثلاثة آلاف درهم، وأحسن إلى ورثة المسعودى.

وفى هذه السنة فتحت صفد على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ورجع السلطان منها إلى دمشق، وأنعم على أمرائها وقضاتها وأرباب المناصب بالتشاريف. ونظر السلطان فى أمر الجامع الأموى ومنع من مبيت الفقراء «1» به. وفيها: أبطل السلطان ضمان الحشيشة وأمر بتأديب أهلها «2» . وفيها: فى ثالث ذى القعدة توفى الأمير كرمون أغا بدمشق بعد منصرفه من فتح صفد «3» فشهد السلطان جنازته، ودفن برأس ميدان الحصا عند قباب التركمان. وفيها: فى ليلة عرفة، كانت وفاة الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى «4» وكان قد جرح على صفد وبقى مدة والألم يتزايد به إلى أن مات، رحمه الله تعالى. وكان من أكابر الأمراء، وسمع الحديث، وحدّث، وكان مشهورا بالشجاعة والكرم والديانة وسعة الصدر وكثرة الصدقة، وكان قد رتب على نفسه صلة للفقراء من أرباب البيوت والزوايا فى كل سنة تزيد على مائة ألف درهم وألوف أراد ب غلة، هذا غير صدقاته. وكان مقتصدا فى ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندى والبعلبكى وغيره مما يباح ولا يكره لبسه. وكان من السلطان بالمنزلة العلية لا يخرج عن رأيه ومشورته سيما فى الأمور الدينية وأحوال

القضاة. ومما يدل على ذلك: ما تقدم «1» من إشارته بتولية الحكم لأربعة قضاة. فرجع السلطان فى ذلك إلى رأيه، وفعله لوقته. وكان رحمه الله من حسنات الزمان، وقد ختم له بالشهادة، فإنه مات من ألم تلك الجراحة. ودفن فى مقبرة الملك النساصر بسفح قاسيون، رحمه الله.

واستهلت سنة خمس وستين وستمائة ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية وبناء الجامع الظاهرى

واستهلت سنة خمس وستين وستمائة ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية وبناء الجامع الظاهرى «1» كان خروج السلطان من دمشق فى يوم الاثنين ثانى المحرم سنة خمس وستين وستمائة. فلما وصل إلى منزلة الفوّار فارق العسكر وتوجه إلى الكرك. ولما وصل إلى بركة زيزاء تقنطر عن فرسه، وذلك فى يوم الأحد ثامن المحرم، فتأخر هناك أياما، ونزل إليه الأمير عز الدين نائبه بالكرك فأعطاه ألف دينار، وخلع عليه وسير الخلع إلى من بالكرك. ثم توجه فى محفة حملها الأمراء والخواص على أكتافهم إلى غزة. ووصل إلى بلبيس فى ثالث عشر صفر فتلقاه ولده الملك السعيد والأمير عز الدين الحلى، وزينت المدينة لمقدمه. وفى أول شهر ربيع الأول ركب السلطان فرسه وضربت البشائر لذلك، ونزل بباب النصر وأقام هناك إلى خامس الشهر، ثم توجه إلى بركة الجب لرمى البندق. وفى شهر ربيع الآخر، سير السلطان الأتابك والصاحب فخر الدين ولد الصاحب لكشف مكان يعمل به جامعا بالحسينية. فاتفقا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان: «أولى ما جعلت ميدانى الذى هو نزهتى جامعا «2» » . وركب فى ثامن شهر ربيع الآخر وصحبته الوزير والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش،

ورتب أمور بنائه جامعا، وأن يكون بقية الميدان وقفا عليه، ورجع ودخل مدرسته بالقاهرة. وفى هذه السنة أمر السلطان بإنشاء القناطر على بحر أبى الرجا «1» فأنشئت، وتولى عمارتها الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار فحصل الرفق بها للمسافرين وكانوا يجدون شدة وإزدحاما بسبب المعادى. وفى سابع وعشرين شهر ربيع الآخر وصل الملك المنصور صاحب حماة «2» ، وكان السلطان قد توجه إلى العباسية فتلقاه إلى رأس الماء وسير له ولمن معه التشاريف، وعاد السلطان إلى قلعته. وطلب صاحب حماة التفرج فى الإسكندرية فسير إليها وسير فى خدمته الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهرى، فوصل إليها وعظم تعظيما كثيرا، ثم عاد، وتوجه فى خدمة السلطان إلى غزة ثم توجه إلى مملكته. وفى جمادى الآخرة وصلت رسل صاحب «3» الدعوة وصحبتهم جملة من الذهب وقالوا: هذا المال الذى كنا نحمله قطيعة للفرنج قد حملناه لبيت مال المسلمين، وكان السلطان قد شرط ذلك عليهم عند وصول رسلهم وسؤالهم الصلح وشرطه على بيت الاسبتار فى جملة ما اشترط عليهم.

ذكر إقامة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة وشى من أخباره

ذكر إقامة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة وشى من أخباره «1» وفى يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وستمائة أقيمت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر. وسبب ذلك أن الأمير عز الدين الحلى خاطب السلطان فى أمره وتبرع بجملة من ماله فى عمارته، وانتزع أشياء من أوقافه كانت مغصوبة فى أيدى جماعة، وشرع فى عمارته، فعمر ما وهى من أركانه وجدرانه وبيضه وبلطه، وأصلح سقوفه وفرشه. واستجد به مقصورة حسنة، وعمل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار الظاهرى فيه مقصورة كبيرة ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء الشافعية، ورتب فيها محدثا يسمع الحديث النبوى والرقائق «2» ، وسبعا لقراءة القرآن. ووقف على ذلك أوقافا، وولى خطابته زين الدين أدريس ابن صالح بن وهيب المصرى القليوبى، فاستمر به إلى أن توفى. وكانت وفاته فى ليلة السبت رابع عشرين شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وستمائة، ومولده سنة ثمان عشرة «3» وستمائة. وهذا الجامع هو أول مسجد جامع وضع للناس بالقاهرة المعزية، وفرغ من بنائه وأقيمت فيه الجمعة فى شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة. فلما ولى العزيز بن المعز جدد به أشياء وعمر به عدة أماكن. ويقال إن به طلسم لا يسكنه بسببه عصفور ولا يفرخ فيه. وفى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير

ذكر إنشاء القصر الأبلق بالميدان بظاهر دمشق

أبو الفرج يعقوب بن كلس الخليفة أن يأذن له فى صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأذن له. فأطلق لكل منهم كفايته واشترى لهم دارا إلى جانب الجامع، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وذكروا فيه دروس فقه وكان أبو يعقوب قاضى الخندق، وكانوا نيفا وثلاثين فقيها لأن دولة العبيد بين ما كان يستقل فيها بفقيه، ولما عمر الحاكم الجامع نقل الخطبة إليه. ذكر إنشاء القصر الأبلق بالميدان بظاهر دمشق «1» وفى سنة خمس وستين وستمائة، أمر السلطان الملك الظاهر بإنشاء القصر الأبلق بالميدان الأخضر بظاهر دمشق، فعمر على ما هو عليه الآن. واتفق فى عمارته واقعة غريبة، حكى بعض من كان يباشر عمارته، قال: لما انتهت عمارة القنطرة التى بالإيوان ولم يبق من ختمها إلا وضع حجر واحد أسود، فرفع بالحبال بعد أن نحت وجهز ليوضع فى مكانه وتشد به القنطرة، فانقطع الحبل وسقط الحجر إلى أرض الإيوان فانكسر، فتألم المهندس لذلك، ثم دخل إلى مرحاض القصر العتيق لقضاء الحاجه، [فرأى «2» ] فى أحد كراسيه حجرا أسود منحوتا، فقاسه فوجده قدر الحجر الذى انكسر سواء، فاستأذن المهندس، الأمير جمال الدين النجيبى على قلعه ووضعه فى رأس القنطرة، فأذن فى ذلك، فقلع من كرسى المرحاض وجعل فى رأس القنطرة بالإيوان فختمت به. وجاء كأنه عمل لها، ووضع الحجر الذى انكسر مكانه. وهذا من عجيب الإتفاق، وقد وقع نظير هذه الواقعة فى أساس سور بغداد وعتبة جامع غزنة، وتقدم ذكر ذلك.

ذكر توجه السلطان إلى الشام وعمارة قلعة صفد

ذكر توجه السلطان إلى الشام وعمارة قلعة صفد «1» وفى العشرين من جمادى الآخرة توجه السلطان إلى الشام فى جماعة من أمرائه وأراح بقية العسكر. ولما وصل إلى غزة وردت إليه رسل الفرنج «2» بهدية وجماعة من أسرى المسلمين. وتوجه السلطان إلى صفد بقصد عمارتها فرتب أمورها. وتوجه إلى دمشق مسرعا عند ما بلغه أن التتار عزموا على قصد الرحبة، فأقام بها خمسة أيام واهتم بأمر الرحية «3» وعاد الى صفد فى رابع وعشرين شهر رجب، فقسم الخندق على الأمراء، وأخذ نصيبا وافرا لنفسه ومماليكه وحاشيته، وعمل السلطان بنفسه وبيده، فلم يتوفر أحد من العمل. ولما كملت عمارة قلعة صفد رسم السلطان أن يكتب على أسوارها: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «4» أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «5» أمر بتجديد هذه القلعة المحروسة وتحصينها وتكملة عمارتها وتحسينها، من خلصها من أيدى الفرنج الملاعين، وردها إلى أيدى المسلمين، ونقلها من مسكن إخوة الداوية إلى سكن إخوة المؤمنين، فأعادها للايمان كما بدأها أول مرة، وجعلها للكفار خسارة

وحسرة، ولم يزل بنفسه يجتهد ويجاهد حتى عوض عن الكنائس بالجوامع والبيع بالمساجد، وبدل الكفر بالإيمان، والناقوس بالأذان، والإنجيل بالقرآن ووقف بنفسه التى هى أعز النفوس حتى حمل تراب خنادقها وحجارتها منه ومن خواصه على الرءوس، سلطان الإسلام والمسلمين ومسترد صوال الدين، مبيد التتار، فاتح القلاع والحصون والأمصار، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر الزمان، صاحب القرآن أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، خلد الله سلطانه، فمن صارت إليه هذه القلعة من ملوك الإسلام، ومن سكنها من المجاهدين المثاغرين على الدوام فليجعل لهذا السلطان فاتحها ومجددها نصيبا من أجره، ولا يخله «1» من الرحمة فى سره وجهره فى طول عمره، فإنه جعلها دار يمن وأمان، بعد أن كانت دار كفر وطغيان، وصار يقال عمر الله سرحها، بعد أن كان يقال عجل الله فتحها، والعاقبة للمؤمنين إلى يوم الدين «2» .» ولما كملت العمارة طلع السلطان إلى القلعة فرأى بالبرج صنما كبيرا كان الفرنج يقولون إن القلعة فى خفارته ويسمونه أبا جرج، فأمر بقلعه وتكسيره، وعمر مكانه محرابا. ورسم بتجديد عمارة حرم الخليل، وكتب بذلك إلى دمشق، وتوجه الأمير جمال الدين بن نهار لذلك، فجدد الأخشاب والمقاصير والأبواب، ودهن ما يحتاج منها إلى الدهان، وجددت الضرائح المقدسة.

ووصلت رسل الفرنج إلى السلطان وهو على صفد، وتحدثوا معه فى أمر بلادهم، وأجابوا إلى ما قاله من مناصفة صيدا وهدم الشقيف. ثم أغار على عكا على ما نذكره إن شاء الله، ولم ينتظم أمر الصلح. ثم حضرت رسل سيس ورسل بيروت «1» ومعهم جماعة من أسرى المسلمين، وردوا مال التجار. وفيها: توفى القاضى صدر الدين موهوب بن عمر بن إبراهيم الجزرى الشافعى «2» وهو الذى كان ينوب عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمصر، وولى القضاء بعده كما قدمنا ذكر ذلك، وكان فاضلا عالما بمذهب الشافعى ومشاركا فى غيره من العلوم. وكان فى مبدأ أمره على قضاء جزيرة ابن عمر. وكان كثير المال مرزوقا فى التجارة، فاكتسب مالا جزيلا فمد صاحب الجزيرة عينه إلى أمواله وقصد أخذها، فبلغه ذلك، فأرسل أكثر أمواله إلى مصر والشام صحبة التجار ثم هرب واختفى، ووصل إلى الشام ثم إلى الديار المصرية. ولما ولى الصاحب بهاء الدين الوزارة قصد أذاه فخافه خوفا شديدا. حكى عنه أنه قال: لما خفت الصاحب بهاء الدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام فسألنى عن حالى فقلت: يا رسول الله، إنى خائف من الصاحب فقال لى: لا تخف منه وقل له بأمارة كذا وكذا لا تؤذنى، فإن رسول الله قد شفع فى عندك، قال: فانتبهت فرحا بمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما صليت

ذكر وفاة قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ونبذة من أخباره رحمه الله ومن ولى قضاء الشافعية وغيره من مناصبه بعد وفاته

الصبح ركبت دابتى ووقفت للصاحب فى طريقه إلى القلعة، فسلمت، عليه وقلت له: معى رسالة، فقال: ممن هى؟ قلت: من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقول لك: بأمارة كذا وكذا لا تؤذنى فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد شفع فى عندك، فقال: صدقت أنت، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانت اليوم فقد بقيت أتشفع بك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله لا حصل لك منى سوء أبدا، فالمولى يرسم والمملوك يمتثل، ومن اطلع عليه مولانا وله حاجة «1» من مضرور أو مظلوم ترسل إلى تعرفنى حتى أقضى حاجته بنفسى، واعتذر إليه، وبقى يعظمه، ولو فسح فى أجله لولاه القضاء بعد القاضى تاج الدين ولكنه مات قبله. وكانت وفاته فى مستهل شهر رجب سنة خمس وستين وستمائة. وقيل بل كانت وفاته فجأة فى تاسع الشهر، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى النصف من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة بالجزيرة. ولما مات ترك ما يقارب ثلاثين ألف دينار، وكان له ابنتان: إحداهما بالجزيرة، والأخرى زوجة القاضى بدر الدين ولد القاضى تقى الدين بن رزين، «2» فورثتاه وشركهما بيت المال، وكان رحمه الله كثير المروءة والإحسان الى أهل بلده ومن يقصده. ذكر وفاة قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز «3» ونبذة من أخباره رحمه الله ومن ولى قضاء الشافعية وغيره من مناصبه بعد وفاته وفى السابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وستين وستمائة،

كانت وفاة قاضى القضاة، تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب بن القاضى الأعز أبى القاسم خلف بن رشيد الدين أبى الثناء محمود بن بدر العلامى «1» - وبنو علامة بطن من لخم- وهو المشهور بابن بنت الأعز والأعز هذا هو جده لأمه، وهو الصاحب الأعز فخر الدين أبو الفوارس مقدام بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر، أحد وزراء السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، وقد تقدم ذكره فى أخبار الدولة العادلية. ومولد القاضى تاج الدين بالقاهرة فى مستهل شهر رجب سنة أربع وستمائة. ولما مات والده الاعز خلف- رحمه الله تعالى- ترك دنيا عريضة، فيقال إنه خلف اثنى عشر ألف دينار عينا، وقيل سبعة آلاف، فانفقت والدته ابنة الصاحب الأعز جميع ذلك على نفسها ومن يلوذ بها من أهلها، ونشأ فلم يجد شيئا من ذلك، فما شافهها فيه بكلمة، وكان بارابها، واشتغل بالعلم، وولى إعادة المدرسة المعروفة بزين التجار بمصر، وولى شهادة بيت المال فى الدولة الكاملية. وكان سبب ذلك أن الشريف شمس الدين الأرموى نقيب السادة الأشراف، رحمه الله تعالى، كان يلى تدريس المدرسة المذكورة فتوجه من جهة السلطان الملك الكامل فى رسالة واستناب القاضى تاج الدين هذا فى التدريس والنظر، فأحسن الخلافة عنه وعمّر الوقف وقام بالوظيفة أحسن قيام، فلما عاد الشريف ووجد الأمر على ذلك، أنهاه إلى السلطان وشكره وأثنى عليه، فرسم السلطان الملك الكامل له بمباشرة شهادة بيت المال فباشر ذلك، وكان إذ ذلك على غاية الفاقة، وسلك طريقى الضبط والأمانه، وهذه الوظيفة هى أول مناصبه الديوانية،

فاشتهر بحسن المباشرة والأحتراز، فتقدم فى الأيام الصالحية النجمية وما بعدها، وولى نظر بيت المال، ثم ولى نظر الدواوين بالديار المصرية فى أيام الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الملك الصالح، بتقليد معظمى، تاريخه لخميس بقين من ذى القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة، نعت فيه بالحضرة السامية: القاضى، ثم كتب له منشور كريم خاتونى بأقطاع لخاصه ولأربعة أتباع. وقد رأيت أن أشرح هذا المنشور بنصه وأبين وضعه ليعلم منه كيف كان الرسم والمصطلح فى مثله، وهو أن الموقع كتب عن يمين الدرج ما مثاله: (الصالحية) بقلم أغلظ من قلم المنشور، ثم كتب البسملة بعد هذه اللفظة بقدر أصبعين وكتب تلو البسملة ما مثاله: خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الخاتونى الصالحى الجلالى العصمى الرحيمى، زاده الله شرفا ونفاذا، أن يجرى فى إقطاع المجلس السامى، القاضى الأجل، الصدر الكبير، الرئيس الفقيه، العالم الإمام، الفاضل الأوحد، العامل المرتضى، الكامل المجتبى، المختار تاج الدين مجد الإسلام بهاء الأنام اختيار الدولة، مجتبى الملوك السلاطين، فخر الرؤساء، علم العلماء، شرف الفقهاء، رضى أمير المؤمنين عبد الوهاب بن خلف الناظر بالدواوين المعمورة، أدام الله رفعته ونعمته، ما رسم له به الآن من الإقطاع لخاصه ولأربعة أتباع معه فى السنة ما يأتى ذكره. خاصه: الثلثان من أبواب الهلالى بمدينة الفيوم. كفور سقط رشين خارجا عن بنى شريان «1» ، ومعصرة أبى دخان، ودبيس، وهى منشاة ابن مليح، كوم

بنى مؤمنة، كوم الحمير، كوم مغنين «1» ، منشأة حراز، فزونة «2» ، قبالة الجعاف «3» . وذلك فى الإقطاع لإستقبال مغل سنة سبع وأربعين وستمائة بعد الإعتداد على غايتة بما قبضة من الجامكية لاستقبال المدة من جملة ما يعوض به، وفى الخدمة مستهل المحرم منها. أتباعه وعدتهم أربعة فى السنة: ستة عشر ألف درهم ناصرية جهة ذلك من متحصل السدس من بحيرة تنيس لإستقبال تاريخ عرضهم بالديوان المعمور بعد الخط الشريف، أعلاه الله، وثبوته حيث ثبتت مثله. كتب فى ثامن ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة، وبين السطرين الأول والثانى بخطها ما مثاله: والده خليل. ورأيت فى هذا المنشور أشياء تستغرب ويستنكر مثلها فى وقتنا هذا: وهو أن بيت العلامة الذى هو بين السطرين كتبب فيه الملكة، وفيه تحت خطها بين السطرين: خط ناظر الدواوين ومثاله: ليثبت بديوان النظر على الدواوين المعمورة إن شاء الله تعالى، وخط شاد الدواوين: امتثل الخط الشريف، وبينهما فى بيت العلامة أيضا: خط ناظر الفيوم ومثاله: ليثبت إن شاء الله تعالى بديوان نظر الفيوم. وما معه وفى سامتة السطر الثانى ما مثاله: ليثبت بالديوان المعمور مما يختص بالوجه القبلى، وأسفل منه ما مثاله: ليثبت

بالديوان المعمور بالوجه البحرى، وإلى جانبه عن يساره ليثبت بديوان الجيوش المنصورة إن شاء الله تعالى، ثم بعد ذلك خطوط الكتاب، ولعل ناظر الفيوم الذى كتب فى هذا الموضع هو شرف الدين هبة الله الفايزى الذى ولى الوزارة فيما بعد، فإنه كان ناظر الصناعة والفيوم فى ذلك الوقت، والله أعلم. ثم ولى القاضى تاج الدين نظر بيت المال فى الأيام المعزية، بتوقيع تاريخة ثالث عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقرر له فى كل شهر خمسون دينارا، وفى السنة مائتا أردب واثنى عشر أردبا نصفين، ثم ولى بعد ذلك نظر الدواوين. فهذه مناصبه قبل أن يلى القضاء والوزارة. ثم ولى قضاء القضاة بمصر والوجه القبلى فى تاسع شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة، عوضا عن القاضى بدر الدين السنجارى، وجمع له القضاء بالقاهرة والوجة البحرى فى الشهر المذكور لثمان بقين منه، وعطل القاضى بدر الدين السنجارى عن القضاء. ولما ولى القضاء شدد على العدول وأسقط كثيرا منهم، فكان يكتب؟؟؟ بأسقاط عدالة جماعة بعد جماعة من عدول السنجارى، ويشهد على نفسه بما تضمنته، فقلق الناس لذلك، ولم تطل مدة ولايته هذه، فإنه عزل فى بعض شهور سنة خمسة وخمسين وستمائة كما قدمنا ذكر ذلك، ثم فوضت إليه الوزارة بالديار المصرية كما تقدم ذكره، ثم عطل عن الوزارة والقضاء فى الأيام المظفرية- قطز- إلى أن كانت الدولة الظاهرية الركنية، ففوض السلطان الملك الظاهر له قضاء القضاة بجميع الديار المصرية فى السابع عشر من جمادى الأول سنة تسع وخمسين وستمائة، عوضا عن القاضى بدر الدين السنجارى، ثم أفردت عنه مصر والوجه القبلى فى السنة المذكورة، وفوض ذلك إلى القاضى

برهان الدين الخضر السنجارى، ثم أعيد ذلك إليه فى الثامن من صفر سنة ستين وستمائة. وقد شرحنا مضمون تقاليد هذه الولايات فى مواضعها. وفوض إليه تدريس المدرسة الصالحية النجمية، بتوقيع ظاهرى تاريخه ثانى عشر جمادى الأول سنة ستين وستمائة بعد وفاة الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ثم فوض إليه النظر العام على الأشراف والأوقاف والأحباس، ومشهد السيد الحسين ومدرسة الإمام الشافعى، والخانكاه والمشاهد بالباب الشريف وبجميع أعمال الديار المصرية بتوقيع ظاهرى تاريخه السابع من جماد الآخر سنة ستين وستمائة. وفوض إليه تدريس مدرسة الشافعى بتقليد تاريخه نصف ذى الحجة سنة إحدى وستين. ثم قسم القضاء بين أربعة حكام، فكتب له تقليد كما تقدم، تاريخه ثامن عشرين ذى القعدة سنة ثلاث وستين، وخص بالنظر فى جميع أموال الأيتام بالقاهرة ومصر والديار المصرية بمفرده والأوقاف، وقد شرحنا ذلك. واستمر كذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله، كثير الاحتراز والتحفظ، وضبط ناموس الشرع، وإقامة الحرمة، وكف الأيدى العادية، والتطلع على جهات الأوقاف، وأخبار العدول، وغير ذلك مما هو متعلق بمنصب الشرع الشريف. ولما مات، رحمه الله تعالى، قسم قضاء الشافعية بعده، ففوض قضاء مصر والوجه القبلى للقاضى محيى الدين بن الصلاح «1» عبد الله بن قاضى القضاة شرف الدين محمد ابن عين الدولة الصفراوى «2» . وفوض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى

ذكر وصول الشريف بدر الدين مالك بن منيف وإعطائه نصف إمرة المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

تقى الدين محمد بن الحسين بن رزين «1» . وولى النظر على ديوان الأحباس القاضى تاج الدين أبو الحسن على بن الشيخ أبى العباس أحمد المعروف بالقسطلانى. وولى تدريس المدرسة الصالحية القاضى صدر الدين أبو حفص عمر ولد قاضى القضاة تاج الدين المشار إليه. وولى نظر الخانقاه قاضى القضاة شمس الدين الحنبلى، وولى تدريس مدرسة الإمام الشافعى فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين. وفيها أيضا: توفى الأمير ناصر الدين الحسين بن عزيز بن أبى الفوارس القيمرى مقدم الجيش بالساحل «2» ، وكانت وفاته فى ثالث شهر ربيع الأول بالساحل، ومولده فى سنة ستمائة بقيمر، وهو الذى بنى المدرسة الشافعية بدمشق بناحية مادنه «3» فيروز. وكان جوادا كريما جليلا مقداما تقدم على جيوش الشام فى الأيام الصالحية والناصرية، وكان جميع الأكراد فى طاعته وخدمته. وكان أمره فى الأيام الناصريه أنفذ من أمر السلطان لانقياد الجيوش إليه. ثم حمل فى الأيام الظاهرية إلى أن أقطعه السلطان الملك الظاهر إقطاعا بالساحل، وقدمه على أمراء الساحل، فصلحت حاله، وكان مقامه بجنين، رحمه الله تعالى. ذكر وصول الشريف بدر الدين مالك بن منيف «4» وإعطائه نصف إمرة المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وفى سنة خمس وستين وستمائة: وصل الشريف بدر الدين مالك بن منيف

ذكر تسمير من يذكر بالقاهرة

ابن شيحة، وكان السلطان على صفد، فشكى من الشريف عز الدين جماز، وقال: إن المدينة كانت بين أبى وبينه نصفين، وتوفى والدى وأنا صغير، فظلمنى وأخذ نصيبى، وقد جئت مستجيرا بالسلطان فى رد حقى. فكتب السلطان إلى الشريف جماز يأمره بتسليم النصف الذى كان لمنيف لولده مالك، وكتب تقليده بنصف إمرة المدينة ونصف الأوقاف، وسلم إليه نصف الأوقاف التى بمصر والشام، وتوجه. وورد جواب الشريف عز الدين جماز إلى السلطان بامتثال الرسوم، وأرسل خادمين من خدام الضريح النبوى يشهدان بذلك، فكتب السلطان إليه يشكره على ذلك. ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل. وكان وصوله إليها فى يوم الثلاثاء رابع عشر ذى الحجة سنة خمس وستين وستمائة. ذكر تسمير من يذكر بالقاهرة وفى العشرين من ذى الحجة من السنة بعد عود السلطان إلى الديار المصرية أمر بتسمير جماعة كانوا معتقلين بخزانه البنود منهم: أقش الففجاقى أحد المماليك الصالحية، وكان قد ادعى النبوة. وأحضر فى شهر رمضان إلى دار العدل، فأمر نائب السلطنة باعتقاله. فلما حضر السلطان من الشام أنهى إليه أمره فاستحضره وسمع كلامه وأمر بتسميره. ومنهم: الناصح الواحى كان فى ابتداء أمره ضامن الواحات، ثم ترقى إلى أن ولى نظر أخميم وأسبوط وغير ذلك بالوجه القبلى. وكان يركب بالطبلخاناه، وقويت نفسه وكثرت أتباعه واتسعت أمواله. فأرسل السلطان وقبض عليه

وأمر باعتقاله بخزانه البنود، فانهى إلى السلطان الآن أنه اتفق مع الملك الأشرف ابن شهاب الدين غازى ومع رجل نصرانى على أن ينقبوا خزانة البنود ويخرجوا منها ويتوجهوا إلى الواحات فيتسلطن بها الملك الأشرف ويكون الناصح وزيره والنصرانى كاتبه، فأمر السلطان بتسميرهم، فسمروا فى يوم واحد.

واستهلت سنة ست وستين وستمائة

واستهلت سنة ست وستين وستمائة ذكر أخذ الزكاة من عرب الحجاز «1» كان السلطان قد اهتم بأمر الزكاة من سائر الجهات حتى المغرب والحجاز، وأذعن عريان بلاد برقة لذلك وقاموا بالزكاة. وفى صفر سنة ست وستين وستمائة: وصل الأمير ناصر الدين بن محيى الدين الجزرى الحاجب من المدينة النبوية، وكان قد توجه لا ستخراج الزكاة والعشر، فأحضر صحبته مائة وثمانين جملا وعشرة آلاف درهم فاستقلها السلطان وأمر بردها عليه، ثم وصل بنو صخر، وبنو لام، وبنو عنزة وغيرهم من عريان الحجاز، والتزموا بزكاة الغنم والإبل، وتوجه معهم مشدون لاستخراج ذلك، هذا والسلطان على صفد لعمارتها. ذكر ظهور الماء بالقدس الشريف «2» وفى سنة ست وستين وستمائة: ورد كتاب قاضى القدس أن الماء انتزح من بئر السقاية وعظمت مشقة الناس، فنزل رجل إلى البئر وشاهد قناة مسدودة من زمن بخت نصر الذى هدم البيت المقدس، فأحضر الأمير علاء الدين الحاج الركنى [نائب القدس «3» ] بنايين وكشف القناة السليمانية، ومشوا فيها تحت

الأرض إلى الجبل الذى تحت الصخرة المقدسة فوجدوا بابا مقنطرا ففتحوه، فخرجت عين ماء كادت تغرقهم. وكان خروج الماء فى ذى الحجة سنة خمس وستين. ووردت كتاب الأمير الحاج علاء الدين الركنى أنه نقص ماء السقاية الذى ظهر ونزح، ودخل الصناع إليه فوجدوا سدا، فنقب فيه الحجارون مقدار عشرين يوما ووجد سقف مقلفط به مائة وعشرون ذراعا بذراع العمل، فخرج الماء وملأ القناة. وفى هذه السنة: وصلت هدية صاحب اليمن «1» ورسله، وأحضر فيها من الخيل المسومة عشرون فرسا بالبركسطوانات «2» الأطلس المزركشة وفيلة وحمارة وحش عتابية اللون، وغير ذلك من المسك والعنبر والعود والصينى «3» وغيره، فقبلت هديته، وجهزت له هدية وصنجق وخلعة وشعار السلطنة وجوشن وكبش «4» وغيره من آلة الحرب، وسير إليه طيور جوارح. وكوتب «5» بالمقام العالى المولوى السلطانى، وكاتبه السلطان بالمملوك. وتوجه بالهدية فخر الدين المقرى «6» ووصل صحبة أحد رسوليه- وهو ابن الماكسانى التاجر- بها، وذكر أن «7» والده صاحب اليمن

ذكر خبر الحبيس النصرانى ومقتله

سير به للمجاهدين ولوجوه البر، فأودع ثمنه بالخزانة. ولما توجه السلطان إلى الغزاة أنفق منه جملة فى إقامة مجانيق أفردها لها، وأفتك ببقيته جماعة من أسارى المسلمين. ذكر خبر الحبيس النصرانى ومقتله هذا الحبيس من نصارى مصر، وكان فى ابتداء أمره من كتاب صناعة الإنشاء، ثم ترهب وانقطع فى جبل حلوان. فيقال إنه وجد فى مغارة منه مالا للحاكم العبيدى كان قد وضعه هناك، فتصدق هذا الحبيس على الفقراء من سائر الملل. واتصل بالسلطان خبزه فطلبه، وطلب منه المال، فقال: «أما أنى أعطيك من يدى إلى يدك فلا يتصور، ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره ولا يقدر على ما تطلبه منه، فأساعده بمال يحمله إليك» وشفع فيه، فأطلقه السلطان. ولما كانت واقعة النصارى المتقدمة، كان يحضر عند مشد المستخرج، ومن عجز عن أداء ما قرر عليه ساعده به وأداه عنه، نصرانيا كان أو يهوديا. وكان يدخل إلى الحبوس ويطلق منها من عليه دين ويقوم بما عليه. وكان يعطى ما ينافر العقول. وتوجه إلى الصعيد، ودفع عن أهل الذمة أكثر ما قرر عليهم، وتوجه إلى الإسكندرية، وعامل أهلها بما هالهم من بذل الأموال. فوصلت فتاوى الفقهاء إلى السلطان بقتله، وعللوا ذلك: «خوف الفتنة» . فوافق ذلك رأى السلطان فأحضره فى سنة ست وستين وستمائة، وطلب منه المال وأن يعرفه من أبن أصله، وكيف حصل له، فلم يعرفه وجعل يغالطه ويدافعه، إلى أن أيس السلطان منه فعذبه حتى مات. وأخرج من القلعة ورمى

ذكر بناء القرية الظاهرية قرب العباسة

بظاهرها على باب القرافة. وذكر أن مبلغ ما وصل إلى بيت المال وما واسى به من مدة سنين: ستمائة ألف دينار عينا، مما أحصى بقلم الصيارفة الذين كان يجعل الأموال عندهم ويكتب إليهم أوراقه بما يعطيه. وذلك غير ما كان يعطيه سرا من يده. ذكر بناء القرية الظاهرية قرب العباسة وفى سنة ست وستين وستمائة: مر السلطان على وادى السدير قرب العباسة فأعجبه. فأختار منه مكانا بنى به قرية سماها الظاهرية، وعمر بها جامعا. وفيها: توجه السلطان إلى الشام. وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى من الفتوحات. ذكر إيقاع الحوطة السلطانية على الأملاك والبساتين وما تقرر على أربابها من المال وفى سنة ست وستين وستمائة: لما كان السلطان نازلا على الشفيف أمر بإيقاع الحوطة على البساتين والقرى والضياع التى بأيدى أهل دمشق ملكا وحبسا. وقال: «نحن فتحنا هذه البلاد بالسيف، وانتزعناها من أيدى التتار» . وكان قد تحدث بذلك فى السنة الخالية. وعقد مجلس حضره السلطان والقضاة والفقهاء، فقال قاضى القضاة شمس الدين بن عطاء الحنبلى: «هذا لا يحل ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه» وقام مغضبا، فتوقف السلطان ثم تقدم الآن بإيقاع الحوطة على البساتين فاتقق وقوع صقعة باردة على البساتين فأحرقت أكثر أشجارها، فظن أهل

ذكر وصول الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار والصلح مع التكفور هيتوم صاحب سيس

دمشق أن هذه الحادثة تبعث السلطان على الإفراج عنها فلم يفعل، ولما وصل إلى دمشق وعزم على العود إلى الديار المصرية عقد مجلسا بدار العدل حضره القضاة والفقهاء وأهل البلد، وأجرى ذكر البساتين وأخرج فتاوى الفقهاء من الحنفية باستحقاقها، فتوسط الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عند السلطان على أن يقرر على أصحاب البساتين ألف ألف درهم، فامتنعوا من ذلك. وقالوا: «لا طاقة لنا بها معجلة» ، وسألوا أن يقسطها، فامتنع السلطان، وتمادى الحال إلى أن خرج من دمشق، ولما وصل إلى منزلة اللجون عاوده الصاحب فخر الدين والأتابك والأمراء، فاستقر الحال أن يعجلوا منها أربعمائة ألف درهم ويعقد لهم بما قبضه نواب السلطان من المغل، ويقسط ما بقى، فى كل سنة مائتى ألف درهم، وكتب بذلك توقيع وقرىء على المنبر بدمشق. ذكر وصول الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار والصلح مع التكفور هيتوم صاحب سيس كان السلطان قد جهز العساكر إلى سيس، وأسروا ليفون بن هيتوم ولد صاحب سيس على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فترددت الرسل منه إلى السلطان يعرض عليه كل ما تقرر عليه من مال وقلاع. فاقترح السلطان عليه أمورا، منها أن يحضر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار، وأن يرد القلاع التى أخذها من المملكة الحلبية، فسأل مهلة سنة إلى أن توجه إلى الأردو، وكشف خبره وأجيب إلى إطلاقه. ثم ورد كتاب صاحب سيس بذكر أنه حصله. وورد كتاب الأمير شمس الدين المذكور بعلائم وأماير. فتوقف

صاحب سيس فى الإجابة إلى رد بعض القلاع، فرد السلطان رسله وكتب إليه: «إنك إذا كنت قسوت على ولدك وولى عهدك، أنا أقسو على صديق ما بينه وبينى نسب، ويكون الرجوع منك لا منى. ونحن خلف كتابنا. ومهما شئت افعل بسنقر الأشقر» . فلما وصل إليه هذا الكتاب والسلطان إذ ذاك على أنطاكية خاف ويذل ما رسم به السلطان، وتقرر الصلح على تسليم قلعة بهسنا والدربساك ومزريان ورعبان والروب وشيح الحديد «1» ؛ وجميع ما كان أخذه من بلاد الإسلام، وردها بحواصلها كما تسلمها، وإطلاق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وأن يطلق السلطان له ولده وولد أخيه وغلمانهما. وأنه يحضر رهينة باسال أخ الملك، ويسير ريمون أخ زوجة الملك ليفون، ويبقى باسيل المأسور بن كندا صطبل هو وهؤلاء رهائن على تسليم القلاع. وكتبت الهدنة بذلك فى شهر رمضان بأنطاكية. وأرسل السلطان الأمير بدر الدين بجكا «2» الرومى على خيل البريد إلى قلعة الجبل، فأحضر ليفون وتوجه به إلى أبيه على خيل البريد فى حادى عشر شوال. ثم توجه الأمير سيف الدين بلبان الرومى الداودار إلى سيس لتقرير فصول رسم بها السلطان. ولما وصل ليفون إلى أبيه أطلق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. وكان السلطان يتصيد بجرود بالقرب من بلاد حمص مما يلى دمشق، فلما بلغ السلطان قربه، ركب مختفيا والتقاه وأحضره معه إلى الدهليز وباتا جميعا. ولما أصبح واجتمع الناس للخدمة خرج إليهم السلطان والأمير شمس الدين فى خدمته، فبهت الناس لرؤيته. وأنعم عليه السلطان بالأموال والخلع والحوائص والخيل

والبغال والجمال والمماليك وجميع ما يحتاجه الأمراء. ولما حضر إلى الديار المصرية أمّره، وبنيت له دار بقلعة الجبل. وأما القلاع المذكورة فتسلمها نواب السلطان، وأطلقت الرهائن. ولما ترتبت هذه المصالح وفتحت هذه الفتوحات العظيمة التى نذكرها، رجع السلطان من أنطاكية ووصل إلى شيزر، وتوجه منها فى البرية إلى حمص للصيد. ووصل السلطان إلى دار النائب بحمص فى ثلاثة نفر وهم: الأمير بدر الدين بيسرى «1» ، والأمير بدر الدين الخزندار، والأمير حسام الدين الدوادار. ثم دخل دمشق فى سادس عشرين شهر رمضان والأسرى بين يديه، وخرج منها فى ثامن عشر ذى القعدة، وعيد فى أم البارد [وهى السعيدية «2» ] ورحل إلى قلعته فى حادى عشر ذى الحجة وحمل عن الناس كلفة الزينة. وفيها: توفى الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور بن محمد بن محمد ابن محمد بن وداعة الحلبى «3» . وقيل إنه كان فى ابتداء أمره خطيبا بجبلة، ثم اتصل بالملك الناصر وصار من خواصه، فولاه شد الدواوين بدمشق، وكان يعتمد عليه. فلما ملك السلطان الظاهر ولاه وزارة الشام، فوقع بينه وبين الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة مفاوضة اقتضت حضوره إلى الديار المصرية، ثم أعيد إلى الوزارة بالشام عند ما فوض السلطان نيابة السلطنة بدمشق للأمير جمال الدين النجيبى كما تقدم، فوقع بينه وبينه [خلاف] أيضا، فكان يهينه، فكتب إلى السلطان يذكر أن الأموال قد انكسرت، وأن الشام يحتاج إلى مشد تركى شديد

المهابة مبسوط اليد وتكون أمور الاموال والولايات والعزل راجعة إليه، وقصد بذلك رفع يد الأمير جمال الدين النجيبى عن الأموال، وظن أن المشد يكون بحكمه ولا يتصرف إلا عن أمره. فرتب السلطان فى المشد الأمير علاء الدين كشتغدى «1» الشقيرى وبسط يده حسب ما اقترح ابن وداعة، فلم يلبث أن وقع بينهما [خلاف] وكان يهينه بأنواع [الإهانات] ويسبه، فيشكو ذلك إلى النجيبى فلا يلبى دعوته، ويقول له: «أنت طلبت مشدا تركيا، وقد جاء ما طلبت» . ثم كاتب الشقيرى فى حقه، فورد الجواب بمصادرته، فصادره وضربه بالمقارع وعصره وعلقه، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وباع موجوده وأماكن كان قد وقفها وحمل ثمن ذلك، ثم طلب إلى الباب السلطانى فتوجه، وحدث نفسه بالعود إلى منصبه، فأدركته منيته، فمات فى ذى الحجة من السنة، ودفن فى مستهل المحرم سنة سبع.

واستهلت سنة سبع وستين وستمائة

واستهلت سنة سبع وستين وستمائة فى هذه السنة فى أولها، جهز السلطان من كان عنده من رسل الملوك فتوجهوا إلى مرسليهم ذكر تجديد الحلف للملك السعيد وفى يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين وستمائة: جلس السلطان فى مرتبته، وجلس الأمير فارس الدين الأتابك والأمير عز الدين الحلى بين يديه، والصاحب بهاء الدين، وكاتب الإنشاء. وكان قبل ذلك يتحدث مع الأمراء فى أمر ولد الملك السعيد وتفويض الأمور إليه فأجابوا بالسمع والطاعة. وحلف الأمراء فى هذا اليوم وسائر العساكر المنصورة. وفى ثالث عشر الشهر ركب الملك السعيد فى الموكب كما يركب والده، وجلس فى الإيوان، وقرئت عليه القصص. وفى العشرين من الشهر قرىء تقليده بتفويض السلطنة إليه. وهو من إنشاء المولى فخر الدين بن لقمان «1» وخطه. ونسخته بعد البسملة والعلامة السلطانية الظاهرية: «الحمد لله الذى أجزل العطاء والمواهب، وضاعف النعماء التى يفيض شعابها، وأمواه العيون نواضب، وضاعف عزا لا يعز معه مقصد، ولا يتعذر معه المطالب، وحلى عطل الأيام بالمحاسن التى تستر بها ما ظهر من المعايب. أحمده على نعمه التى

تجلى بنورها ظلم الغياهب، والأنطاف التى نظمت من المجد عقدة المتناسق ودره «1» المتناسب» . «وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ بها يوم الإشهاد قاصيه المنى، وتجعل كل صعب هينا. وأشهد أن محمدا عبده الذى صدع بالحق معلنا، ورسوله الذى أظهر الإسلام وما تباحد عزمه ولا انثنى، صلّى الله عليه وعلى آله الذين شيدوا من المعالى البنا، وأصحابه الذين أحسنوا والله يحب من من كان محسنا» . «وبعد: فإنا لما أتانا الله تعالى من السلطان الذى ملك به من العز ما جمح، والقدرة التى قربت «2» من الآمال ما نزح، والمهابة التى ملأت عيون الأعداء بالذل لا الوطف، والعزايم التى أذكرت من مواقف المهاجرين والأنصار ما سلف، والهمم التى نهضنا بها لفتح معاقل الكفار، والجهاد الذى كانت أثارنا فيه من أحسن الآثار، والغزوات التى كان معروفها منكرا، والوقائع التى نصر الله فيها حزب الإيمان فأضحى الدهر ينشر حديثه متعطرا، وشد أزرنا بولدنا الملك السعيد الأجل الكبير العالم العادل ناصر الدين بركه خاقان، امتع الله الإسلام ببقائه، وأقر عيون المجد بنصر لوائه، وتوسمنا فيه مخايل السعادة بادية الغرر، وظهرت فيه أدلة النجابة، والأدلة إذا ظهرت لا تستتر، وبدت فيه مساع أوجبت له مزبة التكريم، وعم فيها فضله فتعين أن يخص بالتعظيم، ولاحت منه إشارات يعرب عن الرشد، وتدل أنه فى تدبيره حسن القصد، وسما نور هلاله فاتفقت

النفوس أن يكون بدرا كاملا، ووثقت الآمال أن يرجع حاليا كل ما كان عاطلا، رأينا أن نفوض إليه حكم كل ما أمضى الله فيه حكمنا من البلاد، وتحققنا أن رائد نظرنا فى أمره يصدق فيما اختار من الارتياد. وقلدناه أمر الديار المصرية والبلاد الشامية والقلاع والحصون، وهى: الديار المصرية، البلاد الشامية، البلاد الحلبيه، البلاد الحموية، البلاد الحمصيه. فهذا الملك إليه ممتد الرواق، ودو نظامه يتزين بحسن الإتساق «1» ، ونواحيه مع اتساعها محروسة بهممه، فكأنه خصر «2» اشتمل عليه النطاق، ونعم الله محروسه معه بالشكر، مفيده عنده بالإطلاق، والدين الحنيفى من عزمه عالى المنار، والنفوس واثقة «3» أن تكون بناصره دائمة الانتصار، وأخبار نصره تحفظها الليالى مما تكرره ألسن السمار، ومهابته تسرى إلى قلوب الأعداء فتحول منها الأفكار، والدولة الزاهرة به محاطة «4» الأرجاء، وسحائب إحسانه متدفق الأنواء، وآثار نعمة الله فيها ظاهرة، والله يحب أن يرى على عبده أثر النعماء. والشريعة المطهرة بتأييده نافذة الأحكام، وأمورها مرعية بهممه التى أضحت المعالى أنها لا تنام. وأطلقنا تصرفه وحكمه فى الخزائن والأموال، وتعيين الإقطاعات فى الغيبه منا والحضور. وأمرنا أن لا يرد أمره فى جميع ما يقتضيه رأيه الشريف من الأمور. فبيديه الحل والعقد، وإلى أبوابه ينتهى القصد. فقد أضحى بحمد الله حلية للمجد، والأيام تزهو به كما تزهو الدرر بواسطة العقد، وإليه فى الأمور النقض والإبرام. وعليه المعتمد فى فصل

الأحكام. وإليه ترجع الولاية والعزل، وهو الفرع الذى زكا، ولا يزكو الفرع إلا إذا كان طيب الأصل. ومن شيمته الأقتداء بنا فى بسط الإحسان والعدل وإحياء سنتنا مما يضفيه على الأولياء من ملابس الفضل، واقتقاء آثارنا فى غزو بلاد الكفار، والمجاهدة التى تطول بها أيدى الكماة بالسيوف القصار، وإلى الله نرغب أن يوفقه لمراضيه، ويلهمه رشده فيما يستقبل من أموره، ويمضيه ويؤيده بالنصر الذى تروى أحاديثه وتتلى، ويمده بتوفيقه الذى يرشده من الضلال ناشئا وكهلا، ويساعده بالتأييد الذى يستجد له ذكرا خالدا لا يبلى، والظفر الذى تستحلى أحاديثه إذا أعيدت، وإن كان الحديث المستعاد لا يستحلى. ونسأل كل واقف على هذا التقليد أو من يسمع به من الأمراء والنواب والعساكر المنصورة- أيدهم الله تعالى- امتثال أمره، والقيام بما يجب عليه من طاعته فى سره وجهره، والنهوض فى خدمة ركابه، والإجتهاد فى تسهيل ما يصعب من طلابه، والمسير عند سيره تحت علمه، والإلتجاء فى السراء والضراء إلى حرمه، والوفود إلى جنابه المنيع المريع، فهو بحمد الله كعبة تحج إليها الآمال، وحرم يخفف ما على الأعناق من أعباء الخدم الثقال. والإعتماد على الخط الشريف أعلاه، وكتب فى عاشر صفر سنة سبع وستين وستمائة» . وقرىء هذا التقليد بالإيوان بحضور الأمراء وأعيان الدولة واستمر جلوس الملك السعيد وركويه. وفى ثانى عشر جمادى الآخرة، توجه السلطان إلى الشام واستصحب أكابر الأمراء وجماعة من العسكر المنصور. وفى غرة شهر رجب شرع السلطان فى النفقة فى الأمراء الذين صحبته، ونزل أرسوف لكثرة مراعيها.

ذكر توجه السلطان على خيل البريد إلى الديار متنكرا وعوده إلى مخيمه بخربة اللصوص ولم يعلم من به بتوجهه

ووصل إليه رسل أبغابن هولاكو، فقرىء على السلطان كتابه، ومعناه الرغبة فى الصلح، وأعاد الرسل بالجواب، وكاتب أبغا نظير ما كاتبه به. ذكر توجه السلطان على خيل البريد إلى الديار متنكرا وعوده إلى مخيمه بخربة اللصوص ولم يعلم من به بتوجهه قال القاضى عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية عن هذه الوقعة حسبها أملاه السلطان من لفظه: لما خرج السلطان من دمشق، بعد تجهيز رسل أبغا، ودع الأمراء كلهم وتوجهوا إلى الديار المصرية، ولم يبق معه من الأمراء الأكابر غير الأتابك، والمحمدى، والأيدمرى، وابن اطلس خان، وأقش الرومى، توجه إلى القلاع، فابتدأ بالصبيبة ومنها إلى الشقيف وصفد، وبلغه وفاة الأمير عز الدين الحلى، فكتب إلى الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار بالحضور بالأثقال والعساكر إلى خربة اللصوص والعسكر قد خيم بها. وخطر له التوجه إلى الديار المصرية، فكتب إلى النواب بالشام بمكاتبة الملك السعيد والإعتماد على أجوبته، ورتب أنه كلما جاء بريد يقرأ عليه ويخرج علائم على دروج بيض تكتب عليها أجوبة البريد، واستقرت هذه القاعدة مدة. وفى رابع عشر شعبان أظهر تشويشا، وأحضر الحكماء إلى الخيمة، وحصل احتفال ظاهر بهذا الأمر، وأصبح الأمراء فدخلوا وشاهدوا مجتمعا فى صورة متألم، وكتب إلى دمشق باستدعاء الأشربة. وتقدم إلى الأمير بدر الدين الأيدمرى وسيف الدين بكتوك جرمك الناصرى، بأنهما يتوجهان إلى حلب على خيل البريد، وودعاه وصحبتهما بريدى،

وتوجها فى ليلة السبت سادس عشر شعبان، وأوصاهم أنهم إذا ركبوا يحيدون إلى خلف الدهليز ليتحدث معهم مشافهة. وجهز آقسنقر الساقى فى البريد إلى الديار المصرية وأعطاه تركاشة «1» ، وأمره بالوقوف خلف خيمة الجمدارية خلف الدهليز. ولبس السلطان جوخة مقطعة وتعمم بشاش دخانى عتيق، وأراد أن يخرج ولا يعلم به الحرس، فأخذ قماش نوم لأحد المماليك، وطلب خادما من خواصه وقال له: ها أنا خارج بهذا القماش فامش أمامى، فإن سألك أحد فقل: هذا بعض البابية «2» معه قماش أحد الصبيان حصل له مرض وما يقدر يحضر إلى الخدمة هذه الليلة، وهذا غلامه خارج إليه بقماشه. فخرج بهذه الحيلة، وتوجه إلى الجهة التى واعد آقسنقر إليها. وكان قد سير بهاء الدين أمير آخور ومعه أربعة أرؤس من الخيل، وأمره أن يقف بها فى مكان، فتوجه إليه، وأخذ آقسنقر الخيل، وسير بهاء الدين أمير آخور إلى التل فأحضر الأيدمرى ورفقته، وساق بهم السلطان وهم لا يعرفونه فلما اختلطوا قال للأيدمرى: «تعرفنى؟» قال: «أى والله» ، وأراد النزول لتقبيل الأرض فمنعه. وقال: لجرمك «تعرفنى» ، فقال: «إيش هذا يا خوند» ؟ فقال له: «لا تتكلم» وكان معهم علم الدين شقير مقدم البريدية فصاروا خمسة، معهم أربعة جنائب من خيل السلطان الخاص.

وساقوا إلى جهة مصر، فوصلوا إلى القصير «1» المعينى نصف الليل، فدخل السلطان ليأخذ فرس الوالى، فقام إليه يهاوشه بأربعين خمسين راجلا، وقال له: «هذه الضيعة ملك السلطان ما يقدر أحد يأخذ منها فرسا، فإن رحتم وإلا قاتلناكم» . فتركوه وتوجهوا إلى بيسان فأتوا دار الوالى وقالوا: «نريد خيلا للبريد» . فقال: «انزلوا خذوا» ، فنزلوا، وقعد السلطان عند رجلى الوالى وهو نايم. ثم قال للأيدمرى «الخلائق على بابى وأنا على باب هذا الوالى لا يلتفت إلى، ولكن الدنيا نوب» . وطلب من الوالى كوزا فقال: «ما عندنا كوز، إن كنت عطشان اخرج واشرب» فأحضر له الأيدمرى كوزا شرب منه. وركبوا فصابحوا جينين، فوجدوا خيل البريد بها عرجا معقرة، فركب السلطان منها فرسا ما كاد يثبت عليه من رائحة عقوره. ولما وصلوا العريش قام السلطان والأمير سيف الدين جرمك ونقيا الشعير. فقال السلطان للأيدمرى: «أين السلطنة، واستاد الدار، وأمير جاندار، وأين الخلق الوقوف فى الخدمة؟ هكذا تخرج الملوك من ملكهم، وما يدوم إلا الله سبحانه وتعالى» . ووصلوا إلى قلعة الجبل ليلة الثلاثاء الثلث الأول، فأوقفهم الحراس حتى شاوروا الوالى. ونزل السلطان فى باب الأسطبل وطلب أمير آخور، وكان قد رتب مع زمام «2» الأدر أنه لا يبيت إلا خلف باب السر، فدق السلطان باب السر، وذكر علايم لزمام الأدر، ففتح الباب، وأحضر السلطان رفقته إلى باب السر، وأقام هو وهم يومى الثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس لا يعلم بهم أحد إلا زمام الأدر،

وهو ينظر إلى الأمراء وغيرهم فى سوق الخيل. فلما قدّم الفرس للملك السعيد يوم الخميس قدم أمير آخور للسلطان فرسا. ولما خرج الملك السعيد ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه، فخاف، فلما عرفه قبل الأرض، وركب السلطان وخرج والوقت مغلس، فأنكر الأمراء ذلك ووضعوا أيديهم على قبضات سيوفهم وطلّعوا «1» فى وجه السلطان فلما حققوه قبلوا الأرض. وساق السلطان إلى ميدان العيد، وعاد إلى القلعة، فقضى أشغال الناس، ولعب الكرة يوم السبت. وتوجه يوم الأحد إلى مصر لرمى الشوانى، وركب فى الحراريق. وسافر ليلة الأثنين على البريد. ولما قربوا من الدهليز المنصور رد الأيدمرى وجرمك إلى خيامهم، وأخذ السلطان جراب البريد على يده وفى كفه فوطة، وتوجه راجلا ودخل من جهة الحراس، فمانعه حارس وأمسك الحارس أطواقه ونتشه، فانجذب منه ودخل من باب الدهليز. وركب عصر يوم الجمعة، وحضر الأمراء إلى الخدمة، فأظهر أنه كان متغلث المزاج، وضربت البشائر بالعافية، ولم يدر بهذه الأمور إلا الأتابك وأستاد الدار وخواص الجمدارية. وفى هذه السنة فى تاسع جمادى الآخرة رسم السلطان بأبطال الخواطى «2» من القاهرة ومصر والديار المصرية، وأمر بحبسهن وتزويجهن. وفيها أيضا وردت الأخبار أن زلزلة حدثت ببلاد سيس «3» أخرجت قلاعها مثل سرفند كار، وحجر شعلان، وقتل بسببها جماعة حتى سال النهر دما.

ذكر وفاة الأمير عز الدين أيدمر الحلى [الصالحى نائب السلطنة]

ذكر وفاة الأمير عز الدين أيدمر الحلى [الصالحى نائب السلطنة «1» ] لما خرج السلطان لسماع رسالة الملك أبغا خرج الأمير عز الدين المذكور فى خدمته، فلما استقر السلطان طلب دستورا وتوجه إلى دمشق لملاحظة أملاكه، فلما دخل السلطان إلى دمشق أطلق له شيئا كثيرا، وزار السلطان فقيرا بجبل الصالحية ومعه الأمير عز الدين، فقام عز الدين ليجدد الوضوء، فقال الشيخ للسلطان: «هذا يموت فى هذه الأيام ولا يخرج من دمشق» ، وكان إذ ذاك كالأسد قوة، فمرض فى اليوم الثانى، وتوفى فى أوائل شعبان سنة سبع وستين. وحضر ولده «2» إلى الدهليز بخربة اللصوص فأحسن السلطان إليه وسيره إلى القاهرة. ولما وصل السلطان إلى القاهرة أمره بأربعين فارسا. وفيها: توفى الأمير أسد الدين سليمان بن الأمير عماد الدين داود بن عز الدين موسك «3» الدوادى الهذبانى، من بيت الإمرة وله اختصاص كبير بالملوك والتقدم عندهم. وحدّه الأمير عز الدين من أكابر الأمراء الصالحية، وترك أسد الدين هذه الخدم وتزهد ولازم مجالس العلماء، ولبس الخشن من الثياب، وكانت له نعمة عظيمة ورثها من أبيه فأذهبها، ولم بيق له سوى ربع أملاكه، فكانت تقوم بكفايته إلى أن توفى فى يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأول بدمشق، ودفن بقاسيون، وله شعر حسن، رحمه الله تعالى.

ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الحجاز الشريف

ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الحجاز الشريف «1» قال: لما قوى عزم السلطان على الحجاز الشريف كتم ذلك، وأنفق ونقى من جيشه، وجرد جماعة صحبة الأمير جمال الدين أقش الرومى السلاح دار، وهم المتوجهون صحبة السلطان، وجرد العساكر التى بقيت صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر أستاد الدار إلى دمشق. فنزلوا بظاهرها. وتوجه السلطان إلى الكرك فى صورة أنه يتصيد، فوصل إلى الكرك فى مستهل ذى القعدة، وكان رسم بتجهيز جميع ما يحتاج إليه برسم الحجاز هناك. فسير الثقل فى رابع ذى القعدة، وتوجه السلطان فى السادس من الشهر إلى الشوبك، وتوجه منه فى حادى عشر الشهر، ووصل إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فى الخامس والعشرين منه، فزار ورحل فى السابع والعشرين. فقدم مكة، شرفها الله تعالى، فى خامس ذى الحجة، فتصدق بصدقات وافرة وكساوى كثيرة، وبقى كأحد الناس بغير حاجب، ثم غسل الكعبة، وبقى فى وسط البيت، ومن رمى له إحرامه غسله له بما ينصب من الماء فى الكعبة ويرميه إلى صاحبه، ثم جلس على باب الكعبة وأخذ بأيدى الناس ليطلع بهم إلى الكعبة. وتعلق أحد العوام به، فلم يصل إلى يده لازدحام الناس عليه، فتعلق بإحرامه وكاد يرميه إلى الأرض وهو مستبشر بهذا الأمر، وعلق كسوة البيت الشريف ورفعها بيده على أركان البيت الشريف هو وخواصه. وسبل «2» البيت الشريف

لسائر الناس، وتردد إلى الصالحين. وكان قاضى القضاة صدر الدين سليمان معه فى طول الطريق يستفتيه. وكتب إلى صاحب اليمن كتابا ينكر «1» عليه أمورا وكتب فيه: «سطرتها من مكة وقد أخذت طريقها فى سبع عشرة خطوة «2» » يريد بالخطوة المنزلة. وقضى السلطان فرض الحج ومناسكه كما يحب، وحلق، ونحر، وأحسن إلى أميرى مكة، شرفها الله تعالى: الأمير نجم الدين أبى نمى، والأمير إدريس بن قتادة، وإلى صاحب ينبع و [أمير] خليص، وزعماء الحجاز كلهم. وطلب أميرا مكة نائبا من السلطان، فرتب شمس الدين مروان. وزاد أميرى مكة جملة من الغلال فى كل سنة بسبب تسبيل البيت الشريف، وزاد أمراء الحجاز، إلا جما ومالك أميرى المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه. وخرج السلطان من مكة، شرفها الله تعالى، فى ثالث عشر ذى الحجة، ووصل إلى المدينة فى العشرين منه، وخرج فى بكرة النهار الثانى، ووصل إلى الكرك فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة.

واستهلت سنة ثمان وستين وستمائة

واستهلت سنة ثمان وستين وستمائة واستهلت سنة ثمان وستين وستمائة والسلطان الملك الظاهر بقلعة الكرك، فأقام بها حتى صلى الجمعة، وركب من الكرك بعد الصلاة مستهل المحرم فى مائة فارس جريدة، وعلى يد كل واحد من أصحابه جنيب، وساق إلى دمشق. فلما قاريها والناس لا يعلمون شيئا من حاله ولا يجسر أحد يتكلم، سير أحد خواصه فى البريد بكتب البشاير بسلامته وقضاء حجة إلى دمشق. فأحضر الأمير جمال الدين النجيبى الأمراء وغيرهم ليقرأ عليهم كتاب البشرى، فبينما هم فى ذلك وقد بلغهم أن السلطان فى الميدان. فتوجه إليه الأمير جمال الدين النجيبى فوجد السلطان قد نزل بالميدان بمفرده ووهب فرسه لإنسان من منادية سوق الخيل عرفه وقبل الأرض بين يديه، وحضر الأمراء إلى الخدمة وأكلوا شيئا، وتوجهوا ليستريح السلطان، فقام وركب فى جماعته اليسيرة وتوجه إلى حلب، فعادوا إلى الخدمة فلم يجدوا أحدا. ودخل السلطان حلب والأمراء فى الموكب فساق إليهم فما عرفه أحد، وبقى ساعة ثم عرفه الصرورى «1» ، فنزل الأمراء وقبلوا الأرض، ونزل بدار السلطنة بحلب، وشاهد قلعتها، وعاد منها، فوصل إلى دمشق فى ثالث عشر المحرم، ولعب الكرة وركب فى ليلته وتوجه إلى القدس والخليل عليه الصلاة والسلام فزار تلك الأماكن المقدسة وتصدق. وكان

ذكر توجه السلطان إلى الشام جريدة

العسكر «1» المصرى قد سبقه صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار إلى تل العجول. هذا كله وما غير عباءته التى عليه، وذلك كله فى عشرين يوما. وركب من تل العجول ووصل إلى قلعة الجيل فى ثالث صفر. ثم توجه إلى ثغر الإسكندرية فى ثانى عشر صفر ودخل الثغر فى الحادى والعشرين من الشهر. وكان الصاحب بهاء الدين قد سبقه إلى الثغر وجهز الأموال والتعابى من الأقمشة، فخلع على الأمراء وأنعم عليهم بالتعابى والنفقات. ولعب الكرة بالإسكندرية. وخرج منها إلى الحمامات، ونزل بالليونة «2» ، وابتاعها من وكيل بيت المال. وبلغه حركة التتار فعاد إلى قلعته، فوصل إليها فى ثامن ربيع الأول سنة ثمان وستين وستمائة. ذكر توجه السلطان إلى الشام جريدة «3» قال: ولما بلغ السلطان حركة التتار. وأنهم تواعدوا مع فرنج الساحل، وأن التتار أغاروا على الساجور بقرب حلب، وعلى جهة أخرى وأخذوا مواش العربان، فأراح العسكر وجرد الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار بجماعة من

العسكر ليقيموا فى أوائل البلاد الشامية. وركب فى جماعة يسيرة من قلعته، وذلك فى ليلة الاثنين حادى عشرين شهر ربيع الأول ووصل إلى غزة، وتوالت الأمطار، فوصل إلى دمشق فى سابع شهر ربيع الآخر، ووردت إليه الأخبار برجوع التتار لما بلغهم خروجه، فأغار على عكا، واستولى على بلاد الإسماعيلية على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأقام السلطان بالشام بقية سنة ثمان وستين وستمائة. وفى هذه السنة نصب الدرابزين على الحجرة الشريفة النبوية. وذلك أن السلطان لما توجه إلى الحجاز رأى الضريح النبوى والزوار تقف إلى جانب الحائط، فرأى أن يعمل درابزبنا ليكون حرما حول الحجرة، فأمر بعمله، فعمل وكمل، وسير إلى المدينة فى سنة ثمان وستين صحبة الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلى، فنصب. وفيها: كانت وفاة قاضى القضاة محيى الدين أبى الفضل يحيى بن قاضى القضاة محيى الدين أبى المعالى محمد بن قاضى القضاة زكى الدين أبى الحسن على ابن قاضى القضاة مجد الدين أبى المعالى محمد بن قاضى القضاة زكى الدين أبى الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثمانى «1» . وكانت وفاته بفسطاط مصر فى رابع عشر شهر رجب سنة ثمان وستين. ودفن بالقرافة. ومولده بدمشق فى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة، ورياسته وأصالته أشهر من أن يأتى عليها. وفيها: توفى الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على، وزير الصحبة، ضحى يوم الاثنين الحادى والعشرين من شعبان ودفن بكرة نهار الثلاثاء

بتربتهم بالقرافة. ومولده فى اثنين وعشرين وستمائة بفسطاط مصر، وفوضت وزارة الصحبة بعده لولده الصاحب تاج الدين محمد. وفيها: توفى الصاحب الوزير زين الدين أبو يوسف يعقوب بن عبد الرفيع ابن زيد الزبيرى، المعروف بابن الزبير نسبة إلى الزبير بن العوام الأسدى رضى الله عنه. وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء رابع عشر شهر ربيع الآخر. ومولده سنة ست وثمانين وخمسمائة. وكان عالما فاضلا رئيسا يتكلم باللغة التركية. وزر للملك المظفر فظفر، ثم وزر بعده للسلطان الملك الظاهر أياما، ثم عزله، فلزم داره إلى أن مات، رحمه الله تعالى، وكان له شعر حسن رقيق. وفيها: توفى الشيخ الإمام الخطيب أصيل الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن عمر بن على العوفى الأسعردى المولد. قدم دمشق فى الدولة الصالحية وولى الخطابة بها. ثم عزل بالشيخ عز الدين بن عبد السلام، وعاد ثم عزل بالقاضى عماد الدين بن الحرستانى. وانتقل إلى الديار المصرية صحبة الملك المظفر فى سفرته التى قتل فيها. وتولى خطابة الجامع الصالحى خارج بابى زويلة. وتولى نيابة الحكم بالشارع الأعظم نيابة عن قاضى القضاة بدر الدين السنجارى. واستمر على الخطابة والحكم إلى أن توفى فى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستين فى بيت الخطابة قبل صلاة الجمعة، وجاء ريس المؤذنين كما جرت العادة فوجده ساجدا وعليه ثياب الخطابة وقد قضى نحبه، فأحضر ولده فى تلك الساعة وأعلم بموت والده، فطلع المنبر وخطب وصلى بالناس. ودفن الخطيب فى بكرة يوم السبت بسفح المقطم بقرافة سارية. وكان لطيفا حسن العبادة والصوت. وله تصانيف ونظم ونثر، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة تسع وستين وستمائة

واستهلت سنة تسع وستين وستمائة فى هذه السنة، توجّه السلطان إلى عسقلان فى سابع صفر فهدمها «1» وعفى آثار عمارتها ورمى حجارتها فى ميناها، وعاد فوصل إلى قلعته فى ثامن شهر ربيع الأول. وفيها: هلك الملك المجير هيتوم بن قنسطنطين صاحب سيس «2» ، ووردت مطالعة ولده ليفون فى سابع عشرين شهر ربيع الأول مضمومها: أنه لما كان فى خامس عشرين تشرين الأول ترهب والده وانتقل إلى الدير وخرج عن أمور الدنيا. فلما كان فى نهار الثلاثاء ثامن عشرين تشرين الأول وهو حادى وعشرين ربيع الأول مات وقت مغيب الشمس، وسأل شموله بالمراحم السلطانية فى ضمه إلى جناح الرحمة. فكتب بتعزيته بأبيه وتهنئته بما صار إليه من الملك، وإطابة قلبه. ذكر القبض على الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك والأمراء الشهرزورية «3» قد ذكرنا أن السلطان لما تسلم الكرك من المشار إليه بعض القبض على والده أمّره بمائة فارس. واستمر المذكور فى الخدمة الشريفة ولازم السلطان

فى أسفاره وغزواته. وكان يلعب معه بالكرة، ويحضر معه فى أوقات الصيد وغير ذلك من مشاهده العامة. وظهرت منه شهامة، وأحسن رماية النشاب وأخذ نفسه فى ذلك بمأخذ الفرسان الشجعان. ولما كان السلطان على هدم عسقلان أفرد له جانبا يهدمه، فمر السلطان عليه فى بعض الأيام وهو قائم يستعمل الرجالة ويحثهم على الهدم ويجتهد فيما هو فيه. فبينما السلطان ينظر إليه ويتأمله إذا انهدم ما تحته من البناء فوثب من مكانه وألقى نفسه إلى الأرض ووثب أخرى فسلم والسلطان ينظر إليه. فعجب السلطان من اهتمامه مع حداثة سنه. ثم عاد إلى ما كان عليه من الهدم ولم يتأثر لذلك. وبينما السلطان فى أواخر هدم عسقلان ورد عليه كتاب نائبه الأمير بدر الدين الخزندار يستحثه على العود إلى قلعة الجبل، ويعلمه أنه لا يأمن وثوب الأمراء الشهرزورية، وأن قدرته تضعف عن مقاومتهم فى غيبة السلطان. وحال ورود كتابه أمر الناس بالرحيل ورجع لوقته إلى الديار المصرية. ولما رجع رمى الملك العزيز بقرة وحش بيده فى أثناء الطريق وحملها إلى السلطان والأمير شمس الدين سنقر الأشقر وغيره من الأمراء عنده. فقال السلطان للأمير شمس الدين المذكور: انظر إلى هذا الصغير وما هو عليه، والله ما يقصر!. فقال له سنقر الأشقر: لقد ربيت حية صغيرة بين ثيابك تنتفغ بها إذا كبرت. وكان سنقر الأشقر يكرهه لقبض أبيه عليه وتسليمه للملك الناصر واعتقاله كما تقدم، فأراد مكافأته فى ولده. ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل فى ثامن شهر ربيع الأول، كما تقدم، نزل إلى الميدان فى يوم الثلاثاء الثانى عشر من الشهر ولعب بالكرة، ودخل الملك العزيز على عادته إلى الميدان ولعب بالكرة، فجاء الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ليأخذ الكرة منه، والملك العزيز مجتهد فى ضربها، ورفع جوكانه ليضربها فوقع

فى رأس الأمير شمس الدين ولم يقصد ذلك، فكاد أن يسقط إلى الأرض لولا [أن] اعتنق عنق فرسه حتى سكن ما به من ألم الضربة. فجاء السلطان إليه وهو يمازحه، فقال له: «كاد هذا الصغير أن يرميك عن فرسك حتى اعتنقت رقبته.» فنظر إلى السلطان وقال: «والله إن كان اليوم ما رمانى، فغدا يرميك أنت، وهذا الصبى والله لك بئس الذخيرة» . فلما كان فى يوم الخميس رابع عشر الشهر جلس السلطان فى مجلسه واستدعى الأمراء الشهرزورية وهم عشرة منهم: الأمير بهاء الدين يعقوبا «1» ، وتوتل، وسنقران وقبض عليهم، وقبض على الملك العزيز معهم واعتقلوا، ثم أحضر الأمراء الشهرزورية وغيرهم وقررهم، فاعترفوا أنهم قصدوا قتل الملك السعيد ابنه، وقيامهم بالأمر فان أطاعهم الناس وإلا أفاموا الملك العزيز، فسألهم: «هل كان هذا الأمر عن مباطنته؟» فحلفوا أنه لم يطلع على ما عزموا عليه ولا باطنهم فيه. واستمر الملك العزيز فى الإعتقال إلى آخر أيام الملك السعيد عند ما حوصر بالقلعة فأفرج عنه وعن الأمراء الشهرزورية وغيرهم. وكان قد رزق أولادا فى اعتقاله فى الدولة الظاهرية، فلما أفرج عنه الملك السعيد أمره أن ينصرف فى حال نفسه ويتوجه إلى الأمراء إن أحب ذلك، أو يقيم بالقلعة إلى أن ينفصل الأمر. وخرج بعض من أفرج عنهم إلى الأمراء فقبضوا عليهم واعتقلوهم، فخشى الملك العزيز من ذلك فسأل أن يرجع إلى معتقله ويقيم مع أولاده فرجع إليهم، فاستمر فى الإعتقال إلى أن ملك الملك الأشرف خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاون فأفرج عنه فى سنة تسعين وستمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ولنرجع إلى سياقة أخبار الدولة الظاهرية:

ولنرجع إلى سياقة أخبار الدولة الظاهرية: وفى عاشر جمادى الآخرة من السنة توجه السلطان إلى الشام وصحبته ولده الملك السعيد «1» ، فكان دخول الملك السعيد إلى دمشق فى ثامن شهر رجب. وخرج هو والأمير بدر الدين الخزندار من جهة القطيفة. وكان السلطان قد توجه من جهة بعلبك ووصل إلى طرابلس، فأغار وقتل وفتح صافيتا وحصن الأكراد «2» وحصن عكا وبلاد الإسماعيلية، وغير ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها فى تاسع شوال: دخل الشيخ خضر شيخ السلطان إلى دمشق، وجاء إلى كنيسة اليهود وأخرجهم منها وجعلها زاوية، وعمل لأصحابه بسيسة عشرة قناطير بالدمشقى، فأكلوا منها، وحضر المغابى تعمل سماعا ورقصوا على بقية البسيسة بأرجلهم، فما أفلح بعد ذلك. فاجتمع اليهود وخرجوا عن مظالم كانت بينهم ورفعوا أصواتهم بالدعاء وقالوا: «يا محمد بن عبد الله، نحن فى ذمتك وعهدك، لا دولة لنا ولا سلطان، فانتصر لنا» . فكانت حادثة السيل، وخروج الشيخ خضر من الكنيسة على صورة منكرة. ذكر حادثة السيل بدمشق «3» وفى ثانى عشر شوال سنة تسع وستين وستمائة، وهو يوم عيد عنصرة اليهود، جاء سيل عظيم إلى دمشق فى الساعة الثامنة من النهار، وعلا على سور دمشق قدر

رمح، وفى بعض المواضع أحد عشر ذراعا، ودخل من باب الفراديس بعد أن خرب جسره، وأخرب جسر بابى السلامة وتوما، ووصل إلى المدرسة الفلكية وصار فيها مقدار قامة وبسطة. واستمر ثلاث ساعات من النهار وهبط. وكان مبدأ هذا السيل أنه انعقد على جبال بعلبك غيم متكائف فسمع لرعده دوى هائل فى يوم السبت حادى عشر شوال، وكان بذلك الوادى ثلوج كثيرة، فوقع المطر على الثلوج فحلها، وسال فى يوم الأحد من جهة عين الفيجة بعد أن رمى فيها صخورا عظيمة ساقها بين يديه، واقتلع أشجار جوز عادية، وانتهى إلى دمشق وخرب عدة كثيرة من دور العقبية، وخرب حيطان الميدان وقطاير «1» البساتين، وأهلك خلقا كثيرا من الروم والعجم كانوا قد قدموا حجاجا ونزلوا بالميدان فغرقوا عن آخرهم هم وجمالهم ودوابهم، وأغرق من الحيوانات على اختلاف أجناسها مما لا يعد كثرة، وردم الأنهار بطين أصفر، واقتلع الأشجار من أصولها. ودخل السلطان بعد ذلك بأيام إلى دمشق فما وجد بها ماء ولا حماما يدور، وشرب الناس من الصهاريج والآبار. ويقال إنه هلك بهذا السيل عشرة آلاف نفس، وأخذ الطواحين بحجارتها. وحكى أن فقيرا يعرف بالخبر حضر «2» إلى دار نائب السلطنة بدمشق قبل هذه الحادثة وقال: «عرفوا الأمير أنى أريد أعدو إلى بعلبك» . فقال له الأمير: «رح، اجر» . وضحكوا منه. فتوجه، وعاد وهو ينذر الناس بالسيل. فضحكوا منه ولم يعبأوا بكلامه. فما أحسّوا إلا والسيل قد هجم.

ذكر سفر الشوانى الإسلامية إلى قبرس وكسرها وأسر من كان بها وخلاصهم

وفى هذه السنة: عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن قضاء دمشق، وخرج منها فى ذى القعدة. وكانت مدة ولايته عشر سنين سواء. وقلد القضاء بعده بالشام قاضى القضاة، عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر المعروف بابن الصايغ. وكان تقليده قد كتب والسلطان على طرابلس، وتأخر إلى أن حضر السلطان إلى دمشق، وكان وصول السلطان إلى دمشق فى يوم الأربعاء خامس عشر شوال «1» . ذكر سفر الشوانى الإسلامية إلى قبرس وكسرها وأسر من كان بها وخلاصهم وفى شوال سنة تسع وستين وستمائة: كتب السلطان من الشام إلى الديار المصرية بتسفير «2» الشوانى لقصد قبرس، فأشار ابن حسون برأى كان بئس الرأى، وهو أنه قال: «لو دهنت الشوانى سوادا تشبها بشوانى الفرنج، وعملت لها أعلام بصلبان حتى إذا دخلت إلى بلاد الفرنج يعتقدونها لهم، فتغتنم الغرة منهم» فاتبع رأيه. وتطاير الناس بذلك، وسافرت الشوانى فانكسرت بالقرب من قبرس. فورد كتاب صاحب قبرس إلى السلطان وفيه تقريع: «إن الشوانى كسرها الريح وأخذتها، وهى أحد عشر شينيا، وأسرت من فيها» . فكتب السلطان إلى الديار المصرية وهو بالشام بإنشاء عشرين شينيا، وإحضار خمس شوانى كانت بقوص. وأجاب [السلطان] صاحب قبرس «3» بتقريع وتوبيخ،

ذكر عود السلطان إلى قلعته ووصول رسل اليمن، واهتمامه بأمر الشوانى، وما أنعم به من الخلع والخيول على الأمراء والأجناد

ويعلمه أنه فتح القرين، فى كلام كثير تركنا ايراده اختصارا. وبقى القواد فى الأسر هم والرماة. ففادى بهم الفرنج أسرى، وبقى الإحتياط على الرؤساء وهم ستة نفر، منهم ريس الإسكندرية، وريس دمياط، وأبو العباس المغربى وغيرهم. واستمروا فى الأسر إلى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وقصد السلطان ابتياعهم وسير الأمير فخر الدين المقرى الحاجب إلى صور بسبب ذلك، فتغالى الفرنج فيهم. وكانوا قد نقلوا إلى عكا وحصل الإحتراز عليهم، وجعلوا فى حبس حصين. فرسم السلطان للأمير سيف الدين بن خطلبا- أحد النواب بصفد- بسرقتهم، فأرغب الموكلين بهم بالمال حتى دخلوا إليهم بمبارد ومناشير، وسرقوا من جب القلعة، وخرجوا فى مركب. وكانت خيل مهيأة، فركبوا ووصلوا إلى القاهرة ولم يدربهم أحد بعكا. ثم قامت فتنة بعكا بسببهم. ذكر عود السلطان إلى قلعته ووصول رسل اليمن، واهتمامه بأمر الشوانى، وما أنعم به من الخلع والخيول على الأمراء والأجناد قال: وسار السلطان إلى الديار المصرية فدخل قلعة الجبل فى ثانى عشر ذى الحجة سنة تسع وستين، وعند وصوله جهز الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار بالعساكر إلى الشام، فخرجوا فى الشهر المذكور. ووصلت هدية صاحب اليمن فى الشهر [المذكور] وفيها التحف الثمينة وفيل ودب أسود. ووالى السلطان للنزول إلى مصر بنفسه والأمراء فى خدمته لمباشرة عمل الشوانى.

ذكر القبض على من يذكر من الأمراء

وفى الشهر المذكور خلع وفرق بالميدان على ألف وسبعمائة نفر من الأمراء والحلقة أتمان خيل، وفرق ألفا وثمانمائة وخمسين رأسا، وذلك فى ثانى عشرين الشهر. ثم أعاد العطاء فى الثالث والعشرين منه حتى فرغ الناس وعمهم بالعطاء، ولازم صناعة الإنشاء عدة أيام بسبب الشوانى. ذكر القبض على من يذكر من الأمراء «1» وفى هذه السنة فى خامس عشر ذى الحجة أمر السلطان بالقبض على جماعة من الأمراء، منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبى الكبير، والأمير جمال الدين أقش المحمدى، والأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى الناصرى، والأمير عز الدين إيغان الركنى سم الموت، والأمير شمس الدين سنقر المساح، والأمير سيف الدين بيغان «2» الركنى، والأمير علم الدين سنجر طردح «3» الآمدى وغيرهم، وحبسوا فى قلعة الجبل. وسبب ذلك أن السلطان بلغه عنهم وهو بالشقيف أنهم قد عزموا على القبض عليه، فأسرها فى نفسه إلى أن وصل إلى القاهرة وقبض عليهم واعتقلهم، ثم أفرج بعد ذلك عن بعضهم. وفيها: فى سابع عشر ذى الحجة تقدم أمر السلطان بإراقة الخمور «4» فى سائر بلاده، والوعيد لمن يعصرها بعد ذلك بالقتل والنهب. فأهريقت بأعمال بالديار المصرية

وأبطل ضمانها، وكان فى كل يوم بالديار المصرية خاصة يزيد على ألف دينار. وكتب بذلك توقيع قرىء على الناس بالقاهرة ومصر. وفى هذه السنة: أمر السلطان بإنشاء جامع بمنشاة المهرانى، وهى التى على نهر النيل، والخليج الحاكمى فارق بينهما وبين مصر، فعمّر. وفيها: توفى قاضى القضاة الشيخ شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكى المالكى قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية «1» . وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وستين وستمائة. ودفن من الغد بمقابر باب النصر. ومولده بالصالحية من الأعمال القليوبية فى ذى الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة. وكان رحمه الله تعالى عالما، وكان قد ولى الحسبة بالقاهرة مدة وعقود الأنكحة، ثم ولى نيابة الحكم بالقاهرة عن قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. ثم فوض إليه القضاء أحد الأربعة كما تقدم ذكر ذلك، رحمه الله تعالى. وولى بعده قضاء المالكية القاضى نفيس الدين أبو البركات محمد بن القاضى المخلص هبة الله بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر. وفيها: أيضا توفى القاضى شمس الدين أبو إسحق إبراهيم بن المسلم بن هبة الله ابن البارزى قاضى حماة الشافعى، رحمه الله، وولى قضاة حماة فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، و؟؟؟ إلى أن توفى الآن. وفيها: كانت وفاة الملك الأمجد تقى الدين أبى الفضائل عباس بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وهو آخر من مات من أولاد الملك

العادل، وكان محترما عند الملوك الأيوبية، معظما عند السلطان الملك الظاهر، لا يرتفع عليه أحد فى المجلس ولا الموكب. وكان رحمه الله دمت الأخلاق سمحا كريما عاقلا حازما. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الجمعة ثانى عشرين جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون، وليس له عقب. وفيها: توفى القاضى كمال الدين أبو السعادات أحمد بن الوزير فخر الدين الأعز أبى الحمايل مقدام بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر. كان أحد الأكابر المشهورين بالديار المصرية متأهل للوزارة وغيرها. وهو خال قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، رحمهما الله تعالى، وكانت وفاته بالقاهرة فى السادس والعشرين من شهر رمضان. ودفن من الغد من يوم وفاته بسفح المقطم، وكان يومئذ ناظر بيت المال، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى الأمير علم الدين سنجر الصيرفى «1» وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية، فلما تمكن السلطان الملك الظاهر أخرجه إلى الشام وأقطعه إقطاعا جيدا وزاده عدة قرى ببعلبك، فتوجه إليها، فمات فى يوم الأربعاء سادس صفر وهو فى عشر الستين رحمه الله تعالى. وفيها: توفى الشيخ العارف قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ابن نصر بن محمد بن سبعين المرسى الزقوطى «2» ، أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وله تصانيف عدة وجماعة كثيرة ينسبون إليه، وأقام بمكة سنين كثيرة إلى أن

توفى بها فى الثامن والعشرين من شوال من هذه السنة، ومولده فى سنة أربع عشرة وستمائة. والزقوطى نسبة إلى حصن من عمل مرسية يسمى زقوطة، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى العدل الرئيس زين القضاء أبو المكارم عبد الوهاب بن القاضى الرئيس فخر القضاء أبى الفضائل أحمد بن المرتضى أبى عبد الله محمد بن الجليس أبى المعالى عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله بن الحباب التميمى السعدى الأغلبى، سمع وحدّث، وهو من بيت الرياسة والعدالة والفضل بالديار المصرية منذ سكنوها، وهم من ذرية زيادة الله بن الأغلب آخر ملوك بنى الأغلب بأفريقية. وكانت وفاته بمصر فى التاسع والعشرين من جمادى الأول من السنة. ومولده فى غرة المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وفيها: توفى الطواشى الأمير شجاع الدين مرشد الخادم المظفرى عتيق صاحب حماة ومقدم جيشها، وكان من الشجعان الأبطال، وكان إذا حمل فى جيش العدو يقول: أين أصحاب الخصى. وكان السلطان الملك الظاهر يعتمد عليه لأمانته وشجاعته. وكان يتصرف فى المملكة الحموية تصرف ملوكها للوثوق به.

واستهلت سنة سبعين وستمائة

واستهلت سنة سبعين وستمائة ذكر توجه السلطان إلى الكرك ثم إلى الشام وعزل الأمير جمال الدين النجيبى عن نيابة دمشق وتولية الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك نيابة السلطنة بالشام واستنابة الأمير علاء الدين أيدكن أستاد الدار بالكرك وفى سنة سبعين وستمائة: بلغ السلطان أن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وغيره من العربان تغيرت نياتهم وعزموا على الإنضمام إلى التتار. فعلم أنه إن استدعاهم لا يحضرون وينكشف الحال، وإن قصد الشام تسحبوا، فنزل إلى الميدان فى سابع المحرم وفرق على خواصه أربعمائة ألف درهم، واثنى عشر ألف دينار عينا، وستين حياصة ذهبا، وأمر بتجهيز العساكر إلى عكا بعد الربيع. وتوجه السلطان من قلعته بعد المغرب من ليلة تسفر عن سابع وعشرين المحرم فى جماعة يسيرة من خواصه، وخرج من الزعقة «1» فى البرية إلى الكرك وأخفى مقصده، فوصل فى سادس صفر، وطلع إلى قلعة الكرك، وكتب تقليد الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك بنيابة الشام، ولم يعلمه بذلك [حتى تسلم أيدكين نيابة الكرك] بل أفهمه أنه يستنيبه بحصن الأكراد، وتوجه إلى دمشق فوصل إليها فى ثالث عشر الشهر وسير للأمير جمال الدين النجيبى [نائب دمشق] تشريفا وأمره أن

أن يتوجه إلى الديار المصرية، وولى الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى نيابة السلطنة بالشام. وركب السلطان فى ليلة سادس عشر صفر وتوجه إلى حماة ونزل بظاهرها بالجوسق، ونزل صاحب حماة فى خيمة أسوة الناس، ورتب استاد داره وأمير جانداره وحواشيه فى خدمة السلطان لأنه كان جريدة. فكان أول ما شرع فيه أمر العربان. وكان سبب نفورهم أشياء من جملتها أخذ أولادهم رهائن. ولما وصل إلى حماة وجد عثمان بن مانع وعمرو بن مخلول وجماعة من أكابر العربان بغتة فأكرمهم، وما أظهر لهم شيئا، وكتب إلى الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا يطلب منه فرس فلان، والفرس الفلانى تسكينا له، وكان عيسى قد كتب إلى السلطان قبل خروجه من الديار المصرية يستأذن فى الحضور خديعة، فخدعه السلطان ورسم أن لا يحضر حتى يطلب. فكتب إليه الآن: «إنك كنت طلبت الحضور، ونحن الآن بحماة، فإن أردت الحضور فاحضر» . فحضر فسأله السلطان عما نقل عنه العربان، فاعترف به، فرعى له حق الصدق. وأحسن إليه وإلى أمراء العربان، وأطلق رهائنهم، وأطلق لعيسى نصف خبزه الذى كان أخذه منه فى سنة ثمان وستين من سلمية وغيرها، وهو مائة ألف وثلاثون ألف درهم، وأطلق له من حلب ألف مكوك غلة إنعاما، وأطلق لغيره من العربان من خمسمائة مكوك إلى ما دونها. وفى مستهل شهر ربيع الأول، ركب السلطان من حماة بعد العشاء الآخرة ولم يعلم بقصده، وسار على طريق حلب، ثم عرج فأصبح بظاهر حمص، وتوجه إلى حصنى الأكراد وعكار فكشفهما «1» ، وتوجه إلى دمشق.

وورد الخبر أن جماعة من التتار أغاروا على عين تاب، وتوجهوا إلى عمق حارم «1» فى نصف شهر ربيع الأول، فكتب [السلطان] إلى الديار المصرية بتجريد الأمير بدر الدين بيسرى بثلاثة آلاف فارس، وتوجه بذلك صارم الدين المشرقى، وخرج من دمشق الثالثة من نهار الأحد ثامن عشر شهر ربيع الأول، ودخل القاهرة الثالثة من ليلة الأربعاء حادى عشرينه، فخرج الأمير بدر الدين بيسرى والعسكر بكرة نهار الأربعاء المذكور. ووصل الأمير شمس الدين أستاد الدار بالعسكر المجرد وكانوا على جينين وهم خمسمائة فارس. وكان التتار قد أغاروا على حارم والمروج وقتلوا جماعة، وتأخر ابن مجلى والعسكر الحلبى إلى حماة، وجفل أهل دمشق، وبلغت قيمة الجمل ألف درهم، وأجرته إلى مصر مائتى درهم. ووصل الأمير بدر الدين بيسرى والعسكر إلى دمشق فى رابع شهر ربيع الآخر، وتوجه السلطان بالعسكر إلى حلب، وجرد الأمير شمس الدين أستاد الدار وجماعة معه إلى مرعشن، وجرد الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا إلى حران والرها، فتوجها ووصلا إلى حران، فاتصل الخبر بمن فيها من نواب التتار فخرجوا فالتقاهم الأمير شرف الدين عيسى وطاردهم وطاردوه، ثم وصل العسكر فخرج عليهم كمينه، فلما رأوه نزلوا عن خيولهم، وقبلوا الأرض، وألقوا سلاحهم، فقبضوا عن آخرهم، فكانوا ستين رجلا. ثم سار الأمير علاء الدين طيبرس إلى حران، فلما أشرف عليها أغلق من فيها أبوابها وتركوا بابا واحدا، فخرج منه الشيخ محاسن أحد أصحاب الشيخ

ذكر عود السلطان من حلب ورجوعه إلى الديار المصرية وعوده إلى الشام

حياة ومعه جماعة كثيرة، وذلك فى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الآخر، وأخرج لهم طعاما قليلا لأجل البركة، فتلقاه الأمير علاء الدين وترجل له. فلما اجتمع به أخرج له الشيخ مفاتيح حران وقال له: «هذا بلد السلطان فتسلمه» . فقال له: «طيب قلوب الجماعة ويكونون «1» على ما هم عليه إلى أن يصل السلطان» . وعصى برج باب يزيد وفيه شحنة التتار فطلبه فامتنع، وقال: «اذا جاء السلطان خرجت إليه» ؛ فعاد الأمير علاء الدين طيبرس ولم يدخل حران، وعبر الفرات سباحة. وبعد توجهه فارق أكابر أهل حران البلد ووصلوا إلى دمشق مثل: أمين الدين بن شقير، وخطيبها الشيخ شهاب الدين بن تيمية، وأولاد بشر، وابن علوان وغيرهم. وأقام جماعة كثيرة من أهل حران بحلب وحماة وحمص وتفرقوا فى البلاد، وبقى جماعة بحران. فلما كان فى الخامس والعشرين من شهر رمضان من السنة، وصل جماعة من التتار إلى حران،؟؟؟ أسوارها وأكثر أسوافها ودورها ونقضوا جامعها وأخذوا أخشاب سقوفه، واستصحبوا معهم من بقى فيها، فخربت وأخليت و؟؟؟ إلى الآن. وكانت من المدن الجليلة. ذكر عود السلطان من حلب ورجوعه إلى الديار المصرية وعوده إلى الشام «2» وفى آخر شهر ربيع الآخر بلغ السلطان أن الفرنج أغاروا على قاقون، وقتل

الأمير حسام الدين استاد الدار، وجرح الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق وجرح [بجكا العلائى] والى قاقون. فرحل السلطان من حلب، ودخل دمشق وبين يديه التتار الذين أسروا من حران. وأما الفرنج فإنهم لما قصدهم العسكر المجرد بقاقون تأخروا عنها، ووصل الأمير جمال الدين أقش الشمسى بعسكر عين جالوت، فولوا مدبرين، ولحقهم العسكر واسترجع منهم تركمانا، وقتل من رجالتهم وعرقب من خيولهم [خمسمائة رأس] . وخرج السلطان من دمشق فى ثالث جمادى الأول وصحبته العساكر بنية الغارة على الفرنج، وقصد عكا فتوالت الأمطار وهو على مرج برغوث «1» حتى كاد الناس يهلكون. فانثنى عزمه عن الإغارة. ورد العسكر الشامى وصار إلى الديار المصرية. فوصل إلى قلعة الجبل فى الثالث والعشرين من جمادى الأول وأقام بقلعته أياما. ثم توجه إلى الجيزية للتنزه فى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة فى جماعة من أمرائه وخواصه، فحضر إليه مطالبيه، وأخبروه أن بناحية بوصير السدر من الجيزية مغارة بها مطلب. فتوجه إليها وأمر بحفرها. فجمع متولى الجيزية جماعة، فحفروا وأعمقوا، فأخرجوا قطاطا ميتة، وكلاب صيد، وطيورا وغير ذلك من الحيوانات، وهى ملفوفة فى خرق، فإذا حلت اللفائف عنها وأصابها الهواء صارت ترابا تذروه الرياح، ولم يوجد فيها خلاف ذلك. وعاد السلطان من الجيزية فى يوم الثلاثاء العشرين من الشهر.

ذكر إيقاع الحوطة على القاضى شمس الدين الحنبلى واعتقاله

ذكر إيقاع الحوطة على القاضى شمس الدين الحنبلى واعتقاله «1» وفى سنة سبعين وستمائة: أمر السلطان بإيقاع الحوطة على منزل قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسى الحنبلى. وسبب ذلك أن تقى الدين شبيب الحرانى كان أخوه ينوب عن قاضى القضاة المشار إليه بالمحلة فعزله، فغضب أخوه المذكور لذلك، وكتب رقعة إلى السلطان يقول: «إن القاضى شمس الدين عنده ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام وغيرهم جملة كثيرة، وقد مات بعض أهلها واستولى عليها» . فاستدعاه السلطان وسأله عن ذلك فأنكره وجحد، فطلب منه اليمين فحلف وتأول يمينه. فعند ذلك أمر السلطان بهجم داره، فهجمت ووجد فيها كثير مما ادعاه شبيب، بعضه قد مات أربابه، فأخذت زكاة ما وجد مدة ستين. وسلم ما بقى لأصحابه. فغضب السلطان عند ذلك على قاضى القضاة، وأمر باعتقاله، وتوجه السلطان إلى الشام وهو فى الإعتقال، فتسلط شبيب عليه حينئذ وادعى أنه حشوى وأنه يقدح فى الدولة. وكتب بذلك محضرا، فأمر الأمير بدر الدين الخزندار نائب السلطنة بعقد مجلس، فعقد له يوم الاثنين حادى عشر شعبان من السنة واستدعى من شهد فى المحضر، فنكل بعضهم عن الشهادة فأطلقوا، وشهد الباقون، فأخرق بهم وجرسوا. ثم تبين للأمير بدر الدين الخزندار تحامل شبيب لما ظهر له من إساءته على القاضى شمس الدين والقدح فيه، فأمر باعتقاله

ذكر توجه السلطان إلى الصيد ثم إلى الشام

والحوطة على موجوده. وأعاد القاضى إلى الإعتقال فاستمر به إلى أن أفرج عنه فى النصف من شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، [ولم يول السلطان بعده قضاء الحنابلة أحدا] «1» ذكر توجه السلطان إلى الصيد ثم إلى الشام «2» قال: ولما عاد السلطان من الجيزية، أقام بقلعة الجبل إلى شهر رجب من هذه السنة، وخرج متصيدا إلى جهة الصالحية، فبلغه حركة التتار فرجع إلى القلعة وتجهز. وخرج إلى الشام فى ثالث شعبان من السنة، ونزل بمرج قيسارية وحصلت الهدنة مع الفرنج «3» . ونزل السلطان بمنزلة الروحاء وعيّد بها عيد الفطر، ورحل منها فى ثانى شوال إلى خربة اللصوص، ثم توجه إلى دمشق. ووردت رسل التتار، وهم رسل صمغار مقدم عسكر التتار بالروم، ورسل البرواناه، فحضروا بين يدى السلطان وسمع مشافهتهم، وتضمن الكتاب الذى على أيديهم الرغبة فى الصلح وطلب رسل من السلطان. فجهز إليهم الأمير مبارز الدين الطورى أمير طير، والأمير فخر الدين المقرى الحاجب، فتوجها هما

والرسل فى نصف شوال سنة سبعين، واجتمعا بصمغار، بين سيواس والجسر، فأكرمهم وأوصلوه ما كان معهم من الهدية، وهى: قسى تسعة، دبابيس تسعة. واعتذروا عن قلتها كونهم حضروا على خيل البريد. وفى اليوم الثانى اجتمعا بالبرواناه واعطياه قماشا فاخرا كان السلطان قد سيره إليه خفية، وسير معهما هدية لأبغا بن هولاكو، وهى جوشن ريش قنفد، وخوذه كذلك، وسيف، وقوس، ودركاش «1» ، وتسع فردات نشابا، وتوجهوا صحبة البرواناه إلى الأردو، وأوصلوا إلى أبغا هديته. وقال له الأمير مبارز الدين الطورى: «السلطان يسلم عليك ويقول: إن رسل منكوتمر وردوا إليه مرارا، أن السلطان يركب من جهته. ويركب الملك منكوتمر من جهته، وأين وصلت خيل سلطاننا كان له، وأين وصلت خيل منكوتمر كان له» فانزعج أبغا انزعاجا عظيما، وقام وركب وخرجت الرسل إلى خيامهم، ثم طلب أمراءه للشورة «2» ، وبعد ذلك خلع على الرسل وأذن لهم فى السفر فعادوا. وأما السلطان فإنه أقام بدمشق حتى ضحى بها، وأحسن إلى صاحب حماة، وأمر بجلوسه معه بطراحة ومسند وكرسى فى رأس السياط مسامتا للسلطان. ثم توجه بعد ذلك إلى حصنى الأكراد وعكار «3» وشاهد العمارة بهما، وعمل بيده، وخلع على من بحصن الأكراد من الأمراء وأرباب الوظائف. وعاد فتصيّد فى الطريق وخلع مقدار خمسمائة تشريف على من أحضر صيدا، ورجع إلى دمشق فدخلها فى خامس المحرم سنة إحدى وسبعين.

وفى سنة سبعين وستمائة: كانت وفاة الملك الأمجد أبى الحسن بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب «1» ، رحمهم الله تعالى، بدمشق فجأة فى يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، ودفن بسفح قاسيون وله من العمر ما ينيف على خمسين سنة تقريبا. وكان من الفضلاء، وله مشاركة فى العلوم ومعرفة بالأدب، وتنقلت به الأحوال فى عمره، وصحب الفقراء والمشايخ، وانتفع بهم وأخذ عنهم. وكان كثير البرّ لمن يصحبه من المشايخ. وكانت همته عالية ونفسه ملوكية، وله صبر على المكاره. وكان جميع أهل بيته يعظمونه ويعترفون له بالتقدمة، حتى هم أبيه الملك الأمجد تقى الدين الذى قدمنا ذكر وفاته. وكان حسن الخط والترسل، وكان واسطة عقد هذا البيت. فإن أمه ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن السلطان الملك العادل الكبير، تسمى باسم جده. وإلى جده لأمه المذكور ابن الملك العادل ينسب الغور الأمجدى وهو الخميلة، والنويعمة «2» ، ودامية، والحمام، وورثة أولاد الملك الناصر عن أمهم. وتزوج الملك الأمجد هذا ابن الملك الناصر داود، ابنة الملك العزيز غياث الدين بن الملك الظاهر أخت الملك الناصر صاحب الشام وأولدها ولدا سماه صلاح الدين محمود. وفيها: توفى الصدر الكبير وجيه الدين أبو عبد الله محمد بن على بن سويد بن معالى بن محمد بن أبى بكر الربعى التغلبى التكريتى التاجر «3» المشهور بسعة المال والثروة

والجاه ونفوذ الكلمة، [بلغ] مالم يبلغه أحد من أمثاله. وكانت كتبه تنفذ عند سائر الملوك، حتى عند ملوك الفرنج بالساحل. وكانت النجابون تأتيه من بغداد إلى دمشق فى مهمات تتعلق بالخلافة. وكانت متاجره لا يتعرض إليها. وكان خصيصا بالملك الناصر صاحب الشام لا يخرج عن إشارته ورأيه. وانبسطت يده فى دولته. وكان عنده فضة كثيرة، مراود وجسرا «1» ، فاستأذن الملك الناصر على ضربها دراهم فأذن له، وجعل دار الضرب بدمشق بيده، فضرب منها شيئا كثيرا، وكانت مغشوشة، فخسر الناس فيها أموالهم. ولما ملك هولاكو البلاد وصل إليه فرسان من جهتة يتضمن تأمينه على نفسه وماله فما وثق به. وفارق دمشق إلى الديار المصرية. وغرم جملة مقارب ألف ألف درهم بسبب الدراهم المغشوشة وغيرها. ثم تمكن فى الدولة الظاهرية تمكنا كبيرا، ووكله السلطان الملك الظاهر، وجعله وصيّه على أولاده من بعده وناظر أوقافه، وخوطب فى مكاتباته بالمجلس السامى المولوى. وكان مع تمكنه من الملك الناصر لا يكتب له عنه إلا الصدر الأجل. وكان سبب تمكنه من السلطان الملك الظاهر ما حكاه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر الجزرى فى تاريخه عن والده، رحمه الله تعالى، قال: كنت عند وجيه الدين فى داره فى أيام الملك الناصر، وقد جاء إليه الملك الظاهر وهو يومئذ فى خدمة الملك الناصر من أمرائه، وشكى إليه ضعف إقطاعه، وأنه قد ركبه دين كثير، وليس عنده كسوة لصغاره، وسأله أن يتحدث له مع الملك الناصر، وكان قد وصل إلى وجيه الدين فى تلك الساعة من عكا جوخ سقلاط وغيره، فأعطاه منه كفاية

عشرة أقبية، وخرق كتان فرنجى مائتى دراع، وخمس تقاطيع سكندرى، وتفصيلتين حرير، وألف درهم. وقال له: «ياخوند «1» مهما كان لك من حاجة أو خدمة أطلب ذلك منى، ولا حاجة بقول السلطان» . قال: والله لقد رأيت الملك الظاهر وقد أهوى إلى أقدام وجيه الدين ليقبلها، فرعى له السلطان الملك الظاهر حق هذا الإحسان. وملك وجيه الدين المذكور عدة من ضياع دمشق وأملاكها. وكان مع ذلك كله فيما حكى عنه شحيحا على طعامه، لكنه كان يتكرم بماله. وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شوال سنة سبعين وستمائة. ومولده بتكريت فى ذى القعده سنة تسع وستمائة، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة إحدى وسبعين وستمائة

واستهلت سنة إحدى وسبعين وستمائة ذكر توجه السلطان إلى الديار المصرية على خيل البريد وعوده إلى الشام قال: لما عاد السلطان من كشف الحصون فى خامس المحرم من هذه السنة، استشار خواص الأمراء فى أن التتار تواترت الأخبار بحركتهم، وأنهم متى قصدوا البلاد والعساكر والخزائن غير حاضرة صعب الأمر، وعرفهم أنه بتوجه إلى الديار المصرية على البريد. وركب ليلة السادس من المحرم بعد عشاء الآخرة، وصحبته الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير جمال الدين أقش الرومى، وجبرك «1» السلاح دار، وجرمك الناصرى، وسنقر الألفى السلاح دار، وعلم الدين شقير مقدّم البريدية. فدخل قلعته يوم السبت ثالث عشر المحرم، ولم يشعر الناس إلا وهو داخل من باب القلعة، فدخل وتوجه إلى الميدان ولعب الكرة، وكتب إلى الأمراء المقيمين بالشام أنه سطرها من البيرة، وسير علائم بخطه ليكتب عليها أجوبة البريد من دمشق إلى الأطراف. وكان الأمير سيف الدين الدوادار بقلعة دمشق لتجهيز الكتب والبريد. وفى يوم الثنين توجه إلى مصر وركب فى البحر ولعبت الشوانى. وفى ليلة الأربعاء سابع عشرين المحرم جهز العسكر المجرد إلى الشام،

ذكر اعتقال الشيخ خضر والأسباب التى أوجبت ذلك

وتوجه هو إلى الشام فى ليلة التاسع والعشرين من الشهر هو ومن كان معه من الأمراء. ووصل إلى دمشق فى ثالث صفر، ودخل قلعتها ليلا. وحضر إليه رسل أبغا وكان مضمون مشافهتهم طلب الاتفاق. ثم توجه السلطان إلى قلعة البيرة عند ما نازلها التتار. وكان من انهزامهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الغزوات والفتوحات. ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية فدخل قلعته فى الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وستمائة. وفى السابع والعشرين من الشهر: أفرج عن الأمير عز الدين الدمياطى «1» وأنزله بدار الوزارة ورتب له الرواتب، وكان فى الإعتقال من شهر رجب سنة إحدى وستين وستمائة. وفى شهر رجب: خلع السلطان على الأمراء والوزراء والقضاة «2» والمقدمين، وعم بذلك المسافرين والمقيمين. وفى هذه السنة: نجزت عمارة قبة الصخرة الشريفة «3» ، وذلك فى يوم عرفة، وكان السلطان قد توجه إليها وجميع الصناع لعمارتها كما قدمناه. ذكر اعتقال الشيخ خضر «4» والأسباب التى أوجبت ذلك وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوال سنة إحدى وسبعين: أحضر الشيخ خضر

ابن أبى بكر بن موسى العدوى المهرانى شيخ السلطان إلى قلعة الجبل، وأحضر جماعة خانقوه على أشياء كثيرة منها اللواط والزنا وغيره، فتقدم أمر السلطان باعتقاله. وكان سبب ذلك أنه تعاطى أمورا منكرة وأفحش، ثم شرع يغض من الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين، وانتقل إلى حد المهاجرة لهما بالقول بحضرة السلطان، وهو أن السلطان أطلق له شيئا فتوقف الأمير بدر الدين فى إمضائه، فقال له بين يدى السلطان: «كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده، كما فعل قطز بأولاد الملك المعز» . فخشى عاقبة ذلك. فاتفق هو والصاحب بهاء الدين على التدبير عليه وإطلاع السلطان على ما خفى عنه من حقيقة حاله، ووافقهما على ذلك الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بالشام، ورتبه، وذلك أنه طلب إسماعيل ومظفر نائبه بدمشق وآخر من أتباعه اسمه محمد بن بطيخ وتهددهم أولا، ثم وعدهم أنهم متى اعترفوا على شيخهم بما يعتمده أحسن إليهم وجعل لهم الرواتب. فذكروا عنه أشياء كثيرة وأشهدوا على أنفسهم بذلك. فكاتب السلطان فى أمره، فأمر بإرسالهم على خيل البريد فأرسلوا. ولما حضروا بين يدى السلطان سمع كلامهم. ثم أحضره وقال له: «هؤلاء نوابك بالشام، ما تقول فيهم؟» فذكر من خبرهم وصدقهم وأنه رضى بما يقولونه فيه. فذكروا عنه من القبائح والمنكرات وارتكاب المحرمات شيئا كثيرا، وخانقوه على ذلك. فأطلقهم السلطان وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده. وحكى الشيخ قطب الدين اليونينى فى تاريخه: أنه لما حضر أولئك لمخانقته كان ذلك بحضور الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب الأتابك، والأمير سيف الدين قلاون، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سيف الدين قشتمر

العجمى، فخانقه أصحابه على كل عظيمة لا تصدر من مسلم. فقال: «ما أعرف ما تقولون. ومع هذا، أنا ما قلت إنى رجل صالح، أنتم قلتم هذا. فإن كان الذى تقولون صحيح فأنتم كذبتم» . فقام السلطان وقال للأمراء: «قوموا بنا لئلا نحترق بمجاورته» . فقاموا وانتقلوا إلى طرف الإيوان. فاستشار السلطان الأمراء فى أمره، فقال له الأتابك: «هذا مطلع على أسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغى إبقاؤه، ووافقه من حضر من الأمراء على هذا الرأى، وقالوا: ببعض ما قيل عنه يباح دمه. ففهم ما هم فيه، فقال للسلطان: «اسمع ما أقول لك، أنا أجلى قريب من أجلك، وما بينى وبينك إلا مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه الآخر عن قريب» . فلما سمع السلطان كلامه وجم، وقال للأمراء: «ما تشيرون فى هذا» ؟ فسكتوا. فقال السلطان: «أرى أن يحبس فى مكان لا يصل إليه أحد ولا يسمع كلامه، فيكون كمن قبر وهو حى» . ثم أمر به فحبس فى مكان منفرد بقلعة الجبل، ولم يدخل إليه إلا من يثق السلطان به غاية الوثوق. وكان يرسل إليه الأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، واستمر فى الإعتقال إلى أن توفى فى سنة ست وسبعين وستمائة قبل وفاة السلطان بأحد وعشرين يوما. وسنذكر إن شاء الله تعالى، مبدأ أمره وسياقة أخباره عند ذكر وفاته. وفيها: هرب الأمير عمرو بن مخلول من آل فضل من قلعة عجلون هو وحامد رفيقه. وكان السلطان قد اعتقلهما فى برج من أبراج القلعة، فحفر حفيرة ملاصقة للسور ووقدوا النار حتى تكلس حجر السور، فنقباه وخرجا منه، وقد كانت أعدت لهما خيل سوابق فركباها وتوجها إلى بلاد التتار، ثم ندما على ما فعلاه، فكتبا إلى السلطان يسألان مراحمه، فحلف أنه لا يرضى عنهما إلا أن

يعودا الى قلعة عجلون ويضعا أرجلهما فى القيود على ما كانا عليه، ففعلا ذلك. وكان عودهما من بلاد التتار فى ذى الحجة سنة اثنين وسبعين وستمائة. ولما رجعا إلى الطاعة وفعلا ما أمر السلطان به عفا عنهما وأطلقهما وأحسن إليهما. وفى هذه السنة فى رابع عشرين ذى الحجة: توفى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الفائز إبراهيم بن الملك السلطان العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمهم الله تعالى، فى معتقله بجب خزانة البنود، ودفن بتربتهم بالقرافة بجوار الإمام الشافعى. ومولده فى صفر سنة ست وستمائه، رحمه الله تعالى «1» . وفيها: كانت وفاة الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن الأمير ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خمردكين «2» صاحب صهيون وبرزية فى شهر ربيع الأول. وكانت وفاته بصهيون وقد ناف على ستين سنة، ودفن بتربة والده. وتسلم صهيون وبرزية بعده ولده الأمير سابق الدين سليمان، ثم أخذهما السلطان منه فى هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها: كانت وفاة الحافظ الخطيب فخر الدين أبى محمد وأبى الفرج عبد القاهر ابن الشيخ علاء الدين عبد الغنى بن محمد بن تيمية الحرانى. وكانت وفاته بدمشق فى ثانى عشر شوال من هذه السنة. ودفن بمقابر الصوفية. ومولده فى سنة ثنتى عشرة وستمائة، سمع الحديث من جده ومن ابن اللتى، وخطب بجامع حران وكان فاضلا دينيا، وهو من بيت معروف بالعلم والفضيلة، رحمه الله تعالى «3» .

واستهلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة

واستهلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة ذكر الطلسم الذى وجد بباب القصر بالقاهرة قال المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، فى السيرة الظاهرية: لما كان يوم عاشوراء من هذه السنة وجد ما سنذكره «1» ، وذلك أنه كان قد رسم بنقض علو أحد أبواب «2» القصر المسمى بباب البحر قبالة دار الحديث الكاملية، لأجل نقل عمد منه لبعض العمائر السلطانية، فظهر صندوق فى حائط مبنى عليه، وللوقت أحضرت الشهود وجماعة كثيرة وفتح الصندوق. فوجد فيه صورة من نحاس أصفر مفرغ على كرسى شكل الهرم، ارتفاعه قدر شبر له أربعة أرجل تحمل الكرسى، والصنم جالس عليه متوركا، وله يدان مرفوعتان ارتفاعا جيدا، يحمل صفيحة يكون دورها قريب الثلاثة أشبار، وفى هذه الصفيحة أشكال بايتة «3» ، الأوسط صورة رأس بغير جسد، وعليه دوائر مكتوب عليها كتابة بالقبطى بالقلفطريّات «4» ، وإلى جانبها فى الصفيحة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب الآخر شكل على رأسه صليب، وآخر فى يده عكاز وعلى رأسه صليب وتحت أرجلهما أشكال طيور. وفوق رءوس الأشكال كتابة كثيرة أكثر من

نصف الصفيحة. وعلى الأشكال كتابة. ووجد مع هذا الصنم فى الصندوق لوح من الواح الصبيان التى يكتبون فيها فى المكاتب مدهون وجهه الواحد «1» أبيض، ووجهه الآخر أحمر، وفيه كتابة قد تكشّط أكثرها من طول المدة وقد بلى اللوح وما يقيت الكتابة تلتئم ولا الخط يفهم. قال: والوجه الأبيض مكتوب بقلم الصفيحة القبطىّ. وذكر ما ظهر من الكتابة على الوجه الأحمر وهى ثلاثة عشر سطرا، ذكر ألفاظا غير ملتئمة، إلا أن المفهوم منها على غير التئامة: «الإسكندر ذو الملك يزجر» . وذكر ما ظهر فى كل سطر، وأخلى لما تكشط منه مما لا فائدة فى ذكره، والذى شرحه من السطر الثانى عشر ما صورته: «شد أيضا كل امار «2» أشد به» . قال: وقيل إن هذا اللوح بخط الحاكم خليفة مصر. وأعجب ما فيه اسم السلطان وهو بيبرس. قال: ولما شاهد السلطان ذلك أمر بقراءته، فعرض على قراء الأقلام، فقرىء، وهو بالقلم الفبطى، ومضمونه طلسم عمل للظاهر بن الحاكم، وفيه أسماء ملائكة وعزائم ورقىّ وأسماء روحانية وصور ملائكة، وأكثره حرس للديار المصرية وثغورها وصرف الأعداء وكفهم عن طروقهم إليها، وابتهال إلى الله بأقسام كثيرة بحماية الديار المصرية، وصونها من الأعداء، وحفظها من كل طارق ومن جميع الأجناس. قال: وتضمن هذا الطلسم كتابه بالقلفطريات «3» وأوفاق وصور وخواص لا يعلمها إلا الله تعالى. وحمل هذا الطلسم إلى السلطان فبقى فى ذخائره.

ذكر توجه السلطان إلى الشام

قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر: رأيت فى كتاب عتيق رث «1» سماه مصنفه: وصية الإمام العزيز والد الإمام الحاكم لولده المذكور، وقد ذكر فيه الطلسمات التى على أبواب القصر. وقال: إن أول الكواكب الحمل، وهو قلب المريخ، وشرف الشمس، وله القوة على جميع سلطان الفلك، لأنه صاحب السيف، وله الأمر والحرب والسلطان والقوة، والمستولى لقوة روحانيته على مدينتنا عند ما بنيناها. وقد أقمنا طلسما لساعته ويومه لقهر الأعداء وذل المنافقين، فى مكان أحكمناه على شرافة عليه «2» والحصن الجامع لقصره مجاور لأول باب بنيناه. هذا نص ما فى الكتاب، والله أعلم. ذكر توجه السلطان إلى الشام «3» وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة: وردت الأخبار بحركة أبغا بن هولاكو ملك التتار، فخرج السلطان فى ليلة السادس والعشرين من المحرم، وصحبته جماعة من أمرائه الخواص، منهم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير سيف الدين أوتامش «4» السعدى. فلما وصل إلى عسقلان بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد وقد خرج إلى الزاب متصيدا، فكتب إلى القاهرة يستدعى العساكر. فخرج منها يوم السبت حادى عشر صفر أربعة آلاف فارس [مع] مقدميهم: الأمير علاء الدين طيبرس الوزير، والأمير جمال الدين أقش

الرومى، والأمير شمس الدين أقش المعروف «1» بقطليجا، والأمير علم الدين سنجر طردح «2» . ورحلوا من البركة فى يوم الاثنين. ثم قويت الأخبار، وهو فى أثناء الطريق بحركة التتار، فكتب السلطان بخروج العساكر جميعها والعربان من الديار المصرية صحبة بدر الدين بيليك الخزندار، ورسم بأن جميع من فى مملكته ممن له فرس يركب إلى الغزاة، وأن يخرج أهل كل قرية بالشام من بينهم خيالة على قدر حال أهل البلد، ويقومون بكلفتهم. ودخل السلطان إلى دمشق فى سابع عشر صفر. وكان رحيل العساكر من القاهرة فى العشرين من صفر، فوصلوا إلى يافا، وورد المرسوم بنزولهم قريبا منها، وركب السلطان من دمشق فى نحو أربعين فارسا جرائد، ولم يستصحبوا ركاب دار السلطان ولا غيره «3» . فوصل وقد طلّبت العساكر وقاربوا المنزلة، فاعترضهم السلطان وجماعته وقد ضرب كل منهم على وجهه لثاما، فظن الحجاب أنهم من التركمان، فرسموا لهم بالترجل فما ترجلوا «4» . وساق السلطان منفردا وجاء من خلف الصناجق وحسر اللثام عن وجهه، فعرفه السلاح دارية فأفرجوا له، فدخل وساق فى الموكب فنزل الناس وقبلوا الأرض، وساق السلطان ونزل بدهليزه فرتب المصالح. وأصبح فى اليوم الثانى وركب فى موكبه، ونزل فقضى حوائج الناس وركب عند المساء، هو ومن حضر معه وعاد إلى دمشق.

ذكر وصول الملك شمس الدين بهادر صاحب شميصاط وشىء من أخباره

ذكر وصول الملك شمس الدين بهادر صاحب شميصاط «1» وشىء من أخباره هذا المذكور هو الملك شمس الدين بهادر بن الملك فرج «2» ، أمير الطست للسلطان جلال الدين خوارزم شاه منكربرتى، وكان والده قد ملك بعد السلطان جلال الدين قلعة كيران «3» وست قلاع أخرى فى ناحية نقجوان «4» . ووصل إلى بلاد الروم فأقطع أقصرا، فكاتب شمس الدين هذا السلطان وراسله، وتقرب إليه بإعلامه بحقيقة أخبار العدو، وذلك فى سنة إحدى وسبعين وستمائة. واتفق السلطان معه على نكتة غريبة قتل بسببها الجاثليق النصرانى؛ وكان قد أهان المسلمين ببغداد وسكن «5» مواطن الخلافة وأفسد أمور المسلمين. فكتب السلطان كتابا إلى الجاثليق مضمونه: عرفنا محبتك وتوصيتك على النصارى الذين ببلادنا، وقد أكرمناهم لأجلك، وعرفنا أخبار المغل الباطنة التى أشرت إليها. وذكر فى الكتاب أمورا موهمة لا أصل لها، منها: الذى التمسته لمن أشرت قد أجبنا إليه، وتسليم الأمكنة لمن عنيت قد حلفنا على تسليمها، والدواء الذى تقرر السعى فى استعماله لمن أشرت إليه قد علم، والله يقدر ذلك، والذى طلبته من دهن البلسان والآثار المسيحية «6» قد سيرناها،

ذكر الظفر بملك الكرج

وسيرنا قطعة من صليب الصلبوت، وسيرنا ذلك إلى الرحبة، وعرفنا الناتب بها إلأمارة التى قررت. فأرسل من تثق إليه بالأمارة ليتسلم ذلك. وسير السلطان هذا الملطف «1» إلى النائب بالبيرة، ورسم له أن يجهزه صحبة أرمنى يوصله إلى الجاثليق، وأنه إذا جهزه يرسل إلى الملك شمس الدين بهادر يعرفه بخبره وحليته. ففعل ذلك، وأرسل بهادر من أمسك هذا القاصد وسير به إلى أبغا. فلما وقف أبغا على الملطف كان فيه هلاك الجاثليق، وتقرب شمس الدين بهادر إلى السلطان بأشياء كثيرة مثل ذلك. فشعر التتار به فأمسكوه وتوجهوا به إلى الأردو، وهربت حاشيته ومماليكه، فوصلوا إلى باب السلطان وهم يزيدون على ألفى نفر من مماليك وأجناد وغيرهم، فأحسن إليهم ورتب لهم الرواتب. وأما الملك شمس الدين بهادر فإنه هرب ونجا بنفسه ووصل البيرة فتلقاه أهلها، وسير إلى السلطان. وذكر أنه أقام سبعة أيام لم يأكل شيئا. ولما وصل تلقاه السلطان وأكرمه وأعطاه الإقطاعات بالديار المصرية وأحسن إليه. ذكر الظفر بملك الكرج وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة: ظفر السلطان بملك الكرج. وذلك أنه حضر لزيارة بيت المقدس، فاتصل ذلك بالسلطان، فأرسل من يعرف حليته فأمسك هو وثلاثة نفر من أعيان الكرج من بين الزوار، وسير [وا] إلى السلطان وهو بدمشق فطيب قلوبهم، وعرفهم أنه متيقظ لمن يدخل إلى بلاده، واحترز عليهم.

ولما سكنت الأخبار عاد السلطان والعساكر فدخل إلى قلعته فى رابع عشرين جمادى الآخرة من هذه السنة. وفى شعبان من هذه السنة: رسم السلطان بعمارة جسرين قناطر بالقرب من الرملة لعبور العساكر، فعمرت. وفيها: فى يوم السبت عاشر ذى القعدة حضر متولى القرافة إلى مستنيبه الأمير سيف الدين أبى بكر بن اسباسلار متولى مصر، وأخبره أن شخصا دخل إلى تربة الملك المعز وجلس عند القبر يبكى، فسأله من بالمكان عن بكائه، فأخبرهم أنه قاءان بن الملك المعز، وكان الملك المظفر قد أرسله مع أخيه الملك المنصور إلى بلاد الأشكرى كما تقدم، فأحضر وقيد واعتقل. وطولع السلطان بأمره، فأحضره وسأله عن أمره، فذكر أنه عاد إلى الديار المصرية منذ ست سنين، وأنه يتوكل للجند. فطلب منه من يعرفه، فذكر أن رجلا معتقلا بالإسكندرية كان يتردد إلى بلاد الأشكرى، فأمر السلطان باحضاره واعتقال قاءان، فحبس فى حبس اللصوص بمصر، وأجرى عليه بعض مماليك المعز نفقة. وفيها: أفرج السلطان عن الأمير سيف الدين الجوكندار، وكان له مدة فى الاعتقال. وفى ثانى عشر شهر رمضان من السنة: توجه الملك السعيد إلى الشام «1» ، وجرد السلطان فى خدمته الأمير سيف الدين أستاد دار وجماعة من أكابر الأمراء والخواص. ودخل إلى دمشق فى سادس عشرين الشهر، ولم يشعر به نائب السلطنة إلا وهو بينهم فى سوق الخيل، فنزلوا وقبلوا الأرض، ودخل الملك

ذكر ختان الملك المسعود نجم الدين خضر ولد السلطان الملك الظاهر

السعيد القلعة وخلع على الأمراء فى ليلة العيد، وخلع أيضا على المقدمين والمفاردة والأكابر، وخرج متصيدا بالمرج، ثم توجه إلى الشقيف وصفد، وعاد إلى مصر فى حادى عشر شوال منها. ذكر ختان الملك المسعود نجم الدين خضر ولد السلطان الملك الظاهر «1» كان ختانه فى يوم عيد الفطر سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وحمل السلطان عن الناس كلفة التقادم والهدايا وشملهم بالخلع والإنعام والعطاء. ذكر نكتة غريبة «2» وفى هذه السنة: ورد كتاب الغوس بن شاور والى الرملة يذكر أنه فى هذه السنة حصل لأهل البلاد مرض وحمايات «3» من شرب مياه الآبار وزاد ذلك، فحضر إليه رجلى نصرانى فقال: «هذه الآبار قد حاضت كما جرى فى السنة التى جاء التتار فيها إلى الشام، وأن الفرنج أنفذوا إلى قرية تسمى عابور «4» فى الجبل أخذوا من مائها وسكبوه فى الآبار فزال الوخم.» فلما سمع ابن شاور ذلك سير إلى الضيعة المذكورة وأخذ من مائها وصبه فى الآبار التى بياقا، وكان الماء قد كثر فيها. فلما سكب الماء فيها نقصت إلى حدها المتعارف «5» . وقيل: إن هذه الآبار إناث تحيض، وآبار الجبل ذكور.

ذكر ورود كتاب متملك الحبشة

ذكر ورود كتاب متملك الحبشة «1» قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: فى هذه السنة وصل كتاب متملك الحبشة إلى السلطان عطف كتاب صاحب اليمن. وهو يقول: «إن سلطان الحبشة قد قصدنى فى حاجة عند السلطان، وقد سيرت كتابه عطف كتابى» فكان مضمون كتاب متملك الحبشة إلى السلطان «2» :- «أقلّ المماليك، محرا «3» ملاك يقبل الأرض وينهى بين يدى السلطان الملك الظاهر، خلد الله ملكه، أن رسولا وصل من [جهة] والى قوص بسبب الراهب الذى جاءنا، فنحن ما جاءنا مطران وبلادنا بلاد مولانا السلطان ونحن عبيده. فيرسم مولانا يأمر الأب البطرك يعمل لنا مطرانا رجلا جيدا عالما لا يحب ذهبا ولا فضة، ويسيره إلى مدينة عوان و «4» أقل المماليك يسير إلى أبواب «5» الملك المظفر صاحب اليمن ما يلزمه، وهو يسيره إلى أبواب السلطان. وما كان سبب تأخر الرسل عن الحضور إلى السلطان إلا أننى كنت فى بيكار. والملك داود «6» توفى، وقد ملك ولده، يا مولانا. وعندى فى عسكرى

مائة ألف فارس مسلمين. وإنما النصارى كثير لا تعد. وكلهم غلمانك وتحت أوامرك. والمطران [الكبير «1» ] هو يدعو لك، وهذه الخلق «2» كلهم يقولون: آمين بطول بقاء عمر سلطاننا «3» مالك مصر، ويهلك الله عدوه، ويقول الخلق آمين. وكل من بصل «4» من المسلمين إلى بلادنا أقل المماليك يحفظهم ويسفرهم كما يحبون «5» . وإنما الرسول الذى سيره وإلى قوص فجدر «6» وهو مريض. وبلادنا بلاد وخمة أى من مرض ما يقدر أحد يدخل إليه، وأى من شم رائحته يمرض ويموت. والراهب قال: ما يروح [بغير «7» ] رفيق. ونحن فنحفظ كل من يأتى من المسلمين، وارسموا فسيروا مطرانا يحفظهم» . أنهى ذلك. هذا نص كتابه ومخاطبة ملك اليمن له بالسلطان «8» . قال: فكتب جوابه عن السلطان: «ورد كتاب الملك الجليل الهمام العادل فى مملكة حطى ملك امحره، أكبر ملوك الحبشان، الحاكم على ما لهم من البلدان، نجاشى عصره [وفريد مملكته فى دهره] سيف الملة المسيحية، عضد [دولة] دين النصرانية، صديق

الملوك والسلاطين سلطان الأمحره، حرس الله نفسه، وبنى على الخير رأسه. فوقفنا عليه وفهمنا ما فيه فأما طلب المطران، فلم يحضر من جهة الملك رسول حتى كنا نعرف الغرض المطلوب، وانما كتاب مولانا السلطان الملك المظفر ورد. مضمونه: أنه وصل من جهته كتاب وقاصد، وأنه أقام عنده حتى يسير إليه الجواب. وأما ما ذكره من كثرة عساكره وأن من جملتها مائة ألف فارس مسلمين، فأخبار البلاد عندنا، ولا تخفى عنا، فالله يكثر عساكر المسلمين. وأما وخم بلاده، فالآجال مقدرة من الله، وما يموت أحد الا بأجله، ومن فرغ أجله مات، وكم من جريح بالسيف عاش وصحيح مات، والأمر لله فى الجميع» . وفى هذه السنة: كانت وفاة الصاحب محيى الدين أبى العباس أحمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد، فى ليلة الأحد التاسع والعشرين من شعبان؛ ودفن من الغد بسفح المقطم؛ سمع من جماعة، وحدّث ودرّس بمدرسة والده [التى أنشأها بزقاق القناديل بمصر «1» ] وكان منقطعا عن المناصب يحب التخلى والإنفراد كثير الصدقة، وبنى رباطا بمصر، ومولده بالفسطاط فى سنة ست وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى. وفيها: فى ليلة الثلاثاء رابع عشر الآخر توفى الشيخ العالم الزاهد الورع أبو محمد عبد الله بن عمر بن يوسف الحميدى القصرى، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى. كان أوحد أهل زمانه فى أصول الدين والفقه، وله معرفة بكلام الفقراء وأحوالهم رحمه الله تعالى.

وفيها: فى ليلة الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر توفى أبو المحاسن يوسف بن عبد الله بن نهار البكرى، خطيب جامع ابن طولون، ودفن بالقرافة. ومولده بالقاهرة فى سنة ثلاث وستمائة، رحمه الله تعالى. وفيها: فى يوم الأحد رابع عشر المحرم توفى الصدر الرئيس الأصيل مؤيد الدين أبو المعالى أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن على بن محمد التميمى الدمشقى، المعروف بابن القلانسى «1» رئيس دمشق وكبيرها والمشار إليه. وكان متواضعا كريما سمحا جوادا متصدقا «2» حسن السيرة جميل الطريقة طاهر اللسان. وكان السلطان الملك الظاهر قد عرض عليه نظر الشام فلم يقبل، فألزمه بوكالته الخاصة والنظر فى ديوان ولده الملك السعيد، فباشر ذلك. وكانت وفاته بدمشق ودفن بتربته بسفح قاسيون، ومولده بدمشق فى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وهو والد الصاحب الرئيس عز الدين حمزة. وفيها: فى ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان توفى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ النحاة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائى «3» الجيانّى. وكانت وفاته بالمدرسة العادلية بدمشق، ودفن بقاسيون بتربة بنى الصايغ، له التصانيف المفيدة فى علم العربية، وشهرته أكثر من أن يؤتى على شرحها، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة

واستهلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة فى هذه السنة: وصل الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمة السلطان «1» ، فأحسن إليه وإلى ولده وأخيه وعاد إلى بلاده. وفى ثامن صفر منها: توجه السلطان إلى الكرك على الهجن من الطريق البدريّة، فوصل إلى الكرك والشوبك. وأقام بالكرك ثلاثة عشر يوما، وعاد إلى قلعته فى ثانى عشرين شهر ربيع الأول «2» . وفيها: فى سادس عشر شهر ربيع الآخر توجه السلطان إلى العباسة، وفى صحبته ولده الملك السعيد، فصرع الملك السعيد أوزة خبّيّة «3» ، وقيل له: «لمن تدعى» ؟ فقال: «لمن أدعو بحياته» . فقبّله السلطان. وعاد السلطان بعد خمسة أيام. وكان سبب عوده أنه ظفر بكتب من جماعة من الأمراء إلى التتار، وهم: قجمقاد «4» الحموى، وتوغان بن منكو، وسريغا، وطنغرى يورى، وطنغرى يرمس، وأنوك، وبرمش، وبلبان مجلى، والبغلائى المرتد، وبلاغا، وطغينى «5» ، وأيبك، وسنجر الحواشى «6» . وقبض عليهم وقررهم فأقروا. وكان آخر العهد بهم.

وفيها: أقبل السلطان على الأمير شهاب الدين يوسف بن الأمير حسام الدين الحسن بن أبى الفوارس القيمرى، وهو من أعيان الأمراء فى الدولة الصالحية النجمية والدولة الناصرية وكان السلطان قد نقم عليه، فأنه تخيل؟؟؟ كان يثبط الملك الناصر عن قتال التتار، فواخذه بذلك وقطع خبزه، وعطّل، وأطلق له فى كل يوم عشرين درهما، ودام على ذلك فأعطاه الآن إمرة أربعين. وفيها: توجه السلطان إلى الشام فى شعبان بجميع العساكر واستخلف بقلعة الجبل الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقانى، والصاحب بهاء الدين، واستصحب معه الصاحب تاج الدين وزير الصحبة وكان فى هذه السفرة غزاة سبس على ما نذكر ذلك. وفيها: رسم السلطان بعمارة ما كان تداعى من منارة الإسكندرية. وفيها: فى يوم السبت تاسع جمادى الآخرة توفى الأمير فارس الدين آقطاى المستعرب الصالحى الأتابك، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الإمام الشافعى، ومشى السلطان فى جنازته، وحضر دفنه، وحزن عليه وبكى بكاء شديدا. وكان يستحق ذلك منه، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى قاضى القضاة شمس الدين عبد الله بن [محمد بن الحسن بن عطاء ابن الحسن] عطاء الأذرعى الحنفى «1» بدمشق فى يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى. ولما مات عزل قاضى القضاة زين الدين الزوّاوى المالكى نفسه من القضاء حال دفنه، فإنه أخذ بيده من تراب القبر وحثاه عليه وقال: «والله لا حكمت

بعدك، فإن لك أربعين سنة تحكم، ثم هذه «1» مآلك» . وعزل نفسه من الحكم، وبقى نائبه القاضى جمال الدين يوسف الزواوى يحكم على حاله. وفوض السلطان قضاء الحنفية بعده للقاضى مجد الدين أبى المجد عبد الرحمن ابن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحنفى «2» فوصل إلى دمشق فى يوم الاثنين سلخ ذى القعدة، وحكم فى ذى الحجة من السنة. وفيها: توفى الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن يحمود «3» الأسدى اليغمورى «4» بالمحلة فى ليلة الأربعاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر. كان فقيها أصوليا مشاركا فى علوم كثيرة، وصحب الأمير جمال الدين بن يغمور فعرف به. وكان قد توجه لزيارة الأمير شهاب الدين بن يغمور بالمحلة فمات. ومات الأمير شهاب الدين بعده بشهرين ويومين، رحمهما الله تعالى. وفيها: توفى الأمير سليمان بن الملك السعيد بن الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وكانت وفاته بدمشق فى حادى عشر صفر رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة أربع وسبعين وستمائة

واستهلت سنة أربع وسبعين وستمائة استهلت سنة أربع وسبعين وستمائة والسلطان بالشام، فرسم بإحضار ولده الملك السعيد، فتوجه الأمير بدر الأمير بيليك الخزندار نائب السلطنة على خيل البريد لذلك، فى الرابع والعشرين من المحرم. ووصل إلى قلعة الجبل، فأرسل إليه الملك السعيد ألف دينار وتشريفا. وكان السلطان أيضا قد رسم للأمراء بإحضار أولادهم فتجهزوا. وتوجه الملك السعيد على خيل البريد، فى سلخ المحرم ووصل إلى دمشق فى سادس صفر، وركب السلطان للقائه، وحضر بعد ذلك طلبه «1» ومماليكه. وفى هذه السنة: وصلت رسل برواناه، وأخبر «2» بقصد التتار البيرة، وقال إنه اتفق هو وجماعة على أن العساكر إذا أقبلت من بر الشام وشاهدوا الصناجق السلطانية يضع السيف فى التتار، فلم يف بذلك. ثم بلغ السلطان حركة التتار، وأن قصدهم البيرة، فجمع العساكر من جميع البلاد، وأقام ينتظر خبرا محققا، فوصل الخبر أن التتار، نازلوا البيرة، فى يوم الخميس ثانى جمادى الآخرة، وأنهم أقاموا فى تلك الليلة أحد عشر منجيقا، واهتموا بالحصار ونصب المجانيق، وكان مقدّمهم إبتاى «3» ، فأنفق السلطان فى

ذكر شنق الطواشى شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وغيره

العساكر وتولى النفقة بنفسه. وخرج بالعساكر، فلما وصل إلى القطّيفة بلغه رحيل التتار لانقطاع الميرة عنهم، فوصل إلى حمص، ثم عاد إلى دمشق فى مستهل شهر رجب متوجها إلى الديار المصرية، فدخل إلى قلعة الجبل فى ثامن عشر الشهر. ذكر شنق الطواشى شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز «1» وغيره كان هذا الطواشى المذكور قد تمكن فى الدولة الظاهرية وكبر شأنه، وتعاظم فى نفسه، وصار فى غيبة السلطان يركب إلى الميدان ويلعب بالكرة ويعود إلى القلعة، ثم تعاطى بعد ذلك، فيما نقل، إدمان شرب الخمر فى دور السلطان، ويجتمع على ذلك مع الخدام: فاتصل ذلك بالسلطان، فلما عاد أحضره بين يديه ليلا، وقام السلطان إليه بنفسه ولكمه وقصد أن يؤدبه بالضرب والإخراق «2» ليرتدع بذلك. وكان لهذا الخادم على السلطان إدلال كبير، فحمله إدلاله على أن خاطب السلطان بما لا يليق أن يخاطب به، فكان مما قال له: «هذا الضرب لا يفيدك، ولكن اشنقنى» . فغضب السلطان وأمر بشنقه، فشنق بالميدان الأسود تحت قلعة الجبل فى ليلته، وشنق إلى جانبه خمسة من الأجناد كانوا قد تخلفوا عن العرض بحمص، وشفع فى جماعة أخر من الجند، فحبسوا بخزانة البنود.

ذكر متجددات اتفقت بعد وصول السلطان إلى الديار المصرية غير ما تقدم ذكره

وأمر السلطان بمن كان يحضر مع صدر الدين «1» من الخدام على الشراب فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم. وقد حكى لى حكاية عجيبة عن هذا الخادم وهى: أن السلطان، قبل وصوله إلى الديار المصرية، كان قد كتب إلى النائب بقلعة الجبل أن يتقدم بنصب مائة خشبة بالميدان الأسود للشنق فنصبت، وما علم لمن هى، فكان الطواشى إذا توجه الى الميدان يمر على الخشب فينظر الى خشبة منها، ويقول: أجد قلبى يحن الى هذه الخشبة، وتكرر ذلك منه، فشنق عليها. وهذا من عجيب الإنفاق فى إحساس الخواطر. ذكر متجددات اتفقت بعد وصول السلطان إلى الديار المصرية غير ما تقدم ذكره منها: وصول هدية صاحب اليمن «2» ، ومن جملتها الفيل والكركدن والحمار الوحشى العنابى وأصناف من التحف والبهار وغير ذلك، فعرض ذلك على السلطان، وجهز [السلطان] له هدية سنية وسيرها صحبة رسله. ومنها: تجهيز رسل الملوك، وهم: رسل الملك منكوتمر ملك البلاد الشمالية، ورسل الأشكرى، ورسل الفنش، ورسل جنوة، وإرسال الرسل إلى أشبيلية.

ذكر توجه رسل السلطان إلى أشبيلية وما كان من خبرهم

ذكر توجه رسل السلطان إلى أشبيلية وما كان من خبرهم كان الفنش «1» صاحب أشهيلية قد سير رسولا إلى السلطان اسمه دينار، وعلى يده هدية سنية ورسالة، مضمونها: استدعاء مودة السلطان، وذلك قبل هذا التاريخ. فسير السلطان إليه الآن رسلا، وهم: الأمير سيف الدين الجلدكى والأمير عز الدين أيبك الكبكى «2» ، والفقيه العدل (؟؟؟ «3» ) الدين الحسين ابن همام بن مرتضى، وعلى أيديهم هدية سنية وعقاقير. فتوجهوا من القاهرة فى العشر الآخر من شوال وتوجهوا إلى الإسكندرية، وتوجهوا منها فى البحر فى ذى القعدة، فوصلوا إلى سنقريس «4» ، فعوقهم صاحب برشنونة أياما ثم أفرج عنهم، فساروا حتى وصلوا إلى مرعش «5» ، وهى من جملة مملكة الفنش، فأعلم بوصلولهم فاستدعاهم، وكان يومئذ ببنطورية «6» فتوجهوا إليه، فكانوا كلما مروا ببلد خرج إليهم أهل البلد وتلقوهم بالأفراح، إلى أن وصلوا إلى بنطورية، فخرج جميع من بها من الخيالة والرجالة والتقوهم بظاهرها، ثم استدعاهم الملك بعد ثلاث وأكرمهم غاية الإكرام، واستحضرهم فى اليوم الثانى وأحضروا

ذكر اتصال الملك السعيد بابنة الأمير سيف الدين قلاون

الهدية، فاستبشر وطابت نفسه وقبلها، ثم جهز لهم مركبا ببرشنونة «1» فتوجهوا فى البر إليها، ثم ركبوا منها فى المركب فى آخر ذى الحجة، فوصلوا إلى الإسكندرية فى صفر سنة خمس وسبعين وستمائة. ذكر اتصال الملك السعيد بابنة الأمير سيف الدين «2» قلاون وفى هذه السنة: فى يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة، عقد نكاح الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان بن السلطان الملك الظاهر على [غازية خاتون] ابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفى العلائى الصالحى. وكان العقد بالإيوان بقلعة الجبل على صداق مبلغه خمسة آلاف دينار، المعجل منه ألفا دينار، ومعاملة صرف الدينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم. وكان الوكيل عن الملك السعيد فى قبول النكاح، الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والوكيل عن الأمير سيف الدين قلاون، الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار العالية، بعد أن ثبت التوكيل فى المجلس عند قاضى القضاة صدر الدين سليمان الحنفى. وجرى العقد بين الوكيلين بحضوره، وحضر السلطان والوزراء والقضاة والأكابر وأعيان الأمراء والمقدمين «3» . وكان الصدّاق بخط القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، وإنشائه، وقرأه فى المجلس، فخلع عليه وأعطى مائة دينار. ونسخه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* «الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة، ومصدق الفال لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح بشبيه سلطانه وصهرة ملكه، الذى جعل للأولياء من لدنه سلطانا ونصيرا، وميز أقدارهم باصطفاء تأهيله حتى حاروا نعيما وملكا كبيرا، وأفرد فخارهم بتقربته حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا، وشرف وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بها عظيما وأفضاله كثيرا، مهيىء أسباب التوفيق العاجلة والآجلة، وجاعل ربوع كل أملاك من الأفلاك «1» بالشموس والبدور والأهلة أهلة، جامع أطراف الفخار لذوى الإيثار حتى وصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة.» «نحمده على «2» [أن] أحسن عند الأولياء بالنعمة لاستيداع وأجمل لتأميلهم الاستطلاع، وكمّل لاختيارهم الأجناس من الغرر والأنواع «3» ، وآتى «4» آمالهم ما لم يكن فى حساب أحسابهم من الإبتداء بالتخويل والابتداع.» «وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حسنة الأوضاع ملية بتشريف الألسنة وتكريم الأسماع.»

«ونصلى على سيدنا محمد الذى أعلا الله به الأقدار وشرف به الموالى والأصهار، وجعل كرمه دارا لهم فى كل دار، وفخره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرق الأنوار، صلى الله عليه وعليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار.» «وبعد، فلو كان «1» إفضال كل شىء بحسب المتصل به فى تفضيله «2» لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله، ولكن ليتشرف بيت يحل به القمر، ونبت يزوره المطر، ولسان يتعوذ بالآيات والسور، ونضار يتجمل باللآلىء والدرر. وكذلك تجمّلت برسول الله صلى الله عليه وسلم أصهاره من أصحابه، وتشرفت أنسابهم بأنسابه، تزوج صلى الله عليه وسلم منهم، وتمّت لهم به مزية الفخار حتى رضوا عن الله ورضى عنهم. والمرتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن سعد الأجنة «3» منه سعد السعود. وإظهار خطبة يقول الثريا لا نتظام عقودها كيف، وإبراز وصلة «4» يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذى يغطيه «5» [على] ايداع هذا الجوهر به كل سيف، ونسج صهارة يتم بها إن شاء الله تعالى كل أمر شديد، ويتفق بها كل توفيق، تخلق الأيام وهو جديد. ويختار لها أبرك طالع، وكيف لا تكون البركة فى ذلك الطالع وهو السعيد، وذلك أن المراحم الشّريفة

السلطانية أرادت أن تخص المجلس السامى الأمير- وذكر نعوته- بالإحسان المبتكر، وتفرده بالمواهب التى ترهف بها منه الحد المنتظر، وأن ترفع من قدره بالصّهارة، مثل ما رفعه صلى الله عليه وسلم من قدر صاحبيه أبى بكر وعمر، فخطب إليه أسعد البرية وأمنع من تحميها السيوف المشرفية، وأعزّ من تسبل عليها ستور العيون الخفية، وتضرب دونها خدور «1» الجلال الرضية، وتتجمل بنعوتها العقود. وكيف لا، وهى الدرة الألفية. فقال والدها الأمير المذكور: هكذا ترفع الأقدار وتزان، وكذا يكون قران السعد وسعد القران. وما أسعد روضا أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة «2» ، وأشرف سيفا غدت منطقة بروج سمائها له خميلة، وما أعظمها معجزة آتت الأولياء من لدنها سلطانا، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لإبرامها: ليت، وأشرفها عبودية كرمت سلمانها بأن جعلته من أهل البيت. وإذ قد حصلت الاستخارة فى رفع قدر المملوك «3» ، وخصّصته بهذه المزية التى تقاصرت عنها أمال أكابر الملوك. فالأمر لمليك البسيطة فى رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذا الإنشاء، وهو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* «هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الخط وأقلام الخطّ على تحريره، وتنافست مطالع النّوار ومشارق الأنوار على نظم سطوره، فأضاء نور الجلالة وأشرق،

ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده

وهطل نوره بالإحسان فأغدق. وتناسبت فيه أجناس من تجنيس لفظ التفضيل، فقال الاعتراف، هذا ما تصدق، وقال العرف، هذا ما أصدق مولانا السلطان- وذكر نعوته وألقابه- أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا وشجرة الأنساب ثمارا، ومشكاة الجلالة أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا. فبذل لها من العين المصرى ما هو بإسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدى هباته وصدقاته قد تصرف» . ثم كان الدخول بها فى شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة. واهتم السلطان بذلك اهتماما لم يسمع بمثله، وخلع على جميع أكابر دولته من الأمراء والمقدمين والوزراء والقضاة والكتاب. وأنعم على الأمير سيف الدين قلاون بتشريف كامل بشربوش كان السلطان قد لبسه ثم خلعه عليه. ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده «1» وفى يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة من هذه السنة: حالة انقضاء العقد، ركب السلطان على الهجن وتوجه إلى الكرك فى جمع يسير من جهة البرية، فوصل إلى قلعة الكرك فى ثالث وعشرين الشهر. وكان سبب ذلك أنه بلغه عن بعض رجال القلعة أنهم عزموا على إثارة فتنة ونقل دولة، وأنهم عزموا على الوثوب بنواب السلطان بالكرك فيقتلونهم ويسلمون الحصن لأخ كان للملك القاهر ابن الملك المعظم لأمه، كونه ينسب إلى الملك الناصر، وكان مقيما بالكرك لا يؤبه

له. فدخل السلطان إلى الكرك بغتة، واستدعى الرجالة، وكانوا زهاء ستمائة، وأمر بالقبض عليهم وشنقهم، فشفع ما كان معه فيهم، فأخرجهم من الحصن وقطع أيدى وأرجل ستة نفر منهم من خلاف، كانوا سبب الفتنة. وكان السلطان قد استخدم رجالا يثق بهم، وسفرهم إلى غزة، ولم يعرف أحدا قصده بهم، فأحضرهم إلى الكرك ورتبهم عوض من كان بها من الرجال. واستدعى السلطان الطواشى شمس الدين صواب السهيلى الصالحى- وكان يتولى صناعة الإنشاء بمصر- وسلم إليه الحصن، وفوض «1» إليه النظر فى أمواله وحواصله وذخائره. وخرج متوجها إلى دمشق فى يوم الجمعة ثامن عشرين ذى الحجة سنة أربع وسبعين وستمائة. واتفق للسلطان فى هذه السفرة أمور، وشاهد أبنية ومنازل غريبة فى مسيره من الديار المصرية إلى الكرك. وقد ذكرها المولى محيى الدين بن عبد الظاهر واعتذر فى بسط القول فيها «2» لغرابتها. فأحبنا أن نذكر ذلك تلخيصا. قال: رحل السلطان من قلعته يوم الخميس المذكور فنزل بلبيس، وأقام إلى قرب وقت العصر، ورحل فنزل رأس الماء بوادى السدير، ورحل منه فى نصف ليلة السبت، فنزل الكراع وأقام إلى غروب الشمس، وحمل الماء لكفاية يومين، وتوجه على طريق البدرية، وساق سوقا عنيفا إلى وقت الفجر من يوم الاثنين، لم يرح ولم يسترح إلا بقدر ما تشرب الخيل الماء وتستوفى العليق، فنزل جبل بدر، ثم ركب بعد الإسفار لشدة الوعر فوصل إلى بدر، ونزل عند العين.

قال: وهى عين تخرج من جبل أخضر ليس فيه نبات، منبعها من جهة الغرب تحت جبل شاهق، وهى شكل مغارة منقوبة، يدخل الإنسان منها مقدار عشرة خطى، فيجد عينا تنبع عن بسرة الداخل إليها. وكان السلطان قبل وصوله إلى العين قد بعث جماعة من العرب وأمرهم أن يجمعوا من ماء العين ما يكون حاصلا للورود، فصنعوا حول العين حياضا فى الأرض شكل البرك محوطة بالحجارة، وملأوها من ماء العين، فوردها السلطان ومن معه، وارتفقوا بها، ولولا ذلك لهلكوا من الأزدحام على الماء. ثم دخل السلطان بنفسه إلى المغارة، وجلس عند العين، وكان يملأ لمن معه قربهم بيده ويناول كل قربة لصاحبها حتى ملأوا ما معهم. ثم رحل من بدر فنزل حسنة، وهى بئر واحدة. ورحل منها حتى انتهى إلى عين تعرف بالمليحة فوردها. ورحل وبات تحت جبل يعرف بنقب الرّباعى، فلما أسفر الصبح صعد إلى الجبل وإذا هو جبل عظيم به عقاب صعبة- وهى حجارة رخوة تشبه الرمل المتجمد، متغيرة الألوان إلى الحمرة والزرقة والبياض- وثم ثقوب فى الجبل يعبر الراكب منها، وبها أمكنة تشبه السلالم من حجارة. وبها قبر هارون نبى الله أخى موسى ابن عمران، عليهما السلام، على يسرة السالك المتوجه إلى الشام. وثم قلعة تعرف بالأصوت «1» صعدها السلطان وشاهدها، فوجدها من أعجب الحصون وأمنعها لا يكون أحصن منها. ونزل من نقوب الرباعى إلى مدائن بنى إسرائيل، وهى ثقوب فى الجبال من أحسن الأشكال ذات بيوت بالعمد وأبواب، وظواهر البيوت مصوقة «2» بالنقوش فى الحجارة بالإزميل، وكلها مخربة، بها صور أشكال

وهى على قدر دور الناس المبنية الآن، وداخل هذه البيوت الأواوين المنورة المعقودة والصفف المتقابلة والخزائن والدهاليز والحرميات «1» . وليس ذلك مبنيا بل جميعه منحوت بالحديد أشكال المغاير «2» . قال: وقد خلق الله تعالى جبلين متقابلين، بينهما طريق، وكل جبل منهما كأنه شكل سور مرتفع، والدور متصلة يمينا وشمالا. ثم خرج السلطان من تلك الأمكنة إلى وادى المدرة، ثم منه إلى قرية تعرف بالعذبا «3» ، عرفت بذلك لأن بها العين التى يحسها موسى بن عمران عليه السلام بعصاه، وكانت تجرى دما، فقال: «عد بأمر الله ماء عذبا» فعادت العين ماء حلوا رائقا باردا. فبات السلطان بها، ورحل منها ليلة السبت حادى عشرين الشهر، فوصل قلعة الشوبك نصف نهار الأحد، وخيم هناك، وحضر أمراء بنى عقبة وغيرهم من أمراء العربان، وقدموا الخيول والهجن وغير ذلك، ثم رحل من الشوبك نصف نهار الاثنين على طريق الحسا، فوصل إلى الكرك نصف نهار الثلاثاء ثالث عشرين الشهر. قال: ولما كان فى سابع وعشرين الشهر يوم الجمعة خرج السلطان إلى باب قلعة الكرك، وأحضر رجالها، وذكر من خبر إخراجهم نحو ما تقدم. وفى هذه السنة: توفى الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب.

وكانت وفاته بدمشق فى خامس عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون. وكان من أجمل الناس صورة وألطفهم خلقا وأكثرهم أدبا، كثير المكارم وحسن العشرة، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى الصاحب موفق الدين أبو الحسن على بن محمد بن على بن محمد المذحجى الآمدى، وكان من أعيان الأكابر ممن يرشح للوزارة، وولى نظر الدواوين ثم رتب آخرا ناظر الكرك والشوبك، فباشر ذلك مكرها، واستمر على ذلك إلى أن مات بالكرك. وكانت وفاته فى ثامن عشر ذى الحجة، ودفن قريبا من مشهد جعفر التيار رضى الله عنه. وفيها: فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأول كانت وفاة الأمير ركن الدين خاص ترك الكبير بدمشق ودفن بقاسيون «1» . وفيها: فى العشرين من شهر رمضان توفى الشيخ الإمام الفاضل تاج الدين أبو الحسن على بن الأنجب البغدادى- المعروف بابن الساعى- المؤرخ خازن كتب المدرسة المستنصرية «2» . كان فاضلا، وله تاريخ مذيل على تاريخ ابن الأثير الجزرى، رحمهما الله تعالى.

واستهلت سنة خمس وسبعين وستمائة

واستهلت سنة خمس وسبعين وستمائة «1» ذكر وصول جماعة من أمراء الروم إلى خدمة السلطان وطاعتهم له «2» قال: ووصلت الأخبار أن جماعة من أمراء الروم اظهروا طاعة السلطان وتجاهروا بذلك. وأن البرواناه أنفرد عنهم وتقرب إلى التتار ورجع عما كان مشتركا معهم فيه من طاعة السلطان، وتوجه إلى الأردو وطلب من أكابر أمراء الروم النجاة بأنفسهم «3» . وأخذ «4» الأمير شرف الدين مسعود بن الخطير وأخوه ضياء الدين محمود: السلطان غياث الدين صاحب الروم وتوجها به إلى قلعة نكيدة «5» ، وكاتبوا السلطان. وكذلك الأمير حسام الدين بينجار «6» وولده الأمير بهاء وأولاده، وجماعة من الأمراء وهم إثنا عشر أميرا، وطلبوا من السلطان أنه»

يتداركهم بعسكره. فركب [السلطان] من الكرك كما تقدم، ووصل إلى دمشق فى رابع عشر المحرم، فوصل الأمير حسام الدين بينجار والأمير بهاء الدين بهادر وولده [أحمد «1» ] ، ثم وصل بعدهما الأمير سيف الدين حيدربك «2» صاحب الأبلستين «3» ، والأمير مبارز الدين [سوار بن] «4» الجاشنكير وجماعة من أمراء الروم، فتلقاهم السلطان بنفسه وأحسن إليهم ووصل حريمهم وأولادهم، فجهزهم «5» إلى الديار المصرية. وكتب السلطان إلى الأمير بدر الدين بيسرى والأمير شمس الدين أفش [البرلى] [و] قطليجا «6» ، فحضرا إلى دمشق على خيل البريد، فطلب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر «7» . وتوجه السلطان إلى حلب، وجهز الأمير سيف الدين بلبان الزينى الصالحى وصحبته جماعة من العسكر، فوصلوا إلى عين تاب، وقرر معهم التوجه إلى القلعة التى بها السلطان غياث الدين وابن الخطير. فورد كتاب الزينى أنه وصل إلى كرصو «8» ، فبلغه أن التتار وصلوا إليها أيضا، وبقى بينه وبين العدو النهر، وجالوا بين العسكر وبين قلعة نكيدة، فرجع العسكر إلى

ذكر ظهور المسجد بجوار دير البغل وإقامة شعائر الإسلام به

عين تاب، وهرب شرف الدين بن الخطير «1» إلى بعض القلاع فتقرب إلى العدو بتسليمه [السلطان] إليهم. وبقى أخوه ضياء الدين فى خدمة السلطان [الظاهر بيبرس] لأنه كان حضر إليه مستنجدا وسير هذا العسكر بسبب حضوره. وأما السلطان غياث الدين فعلم التتار أنه محكوم عليه فعفوا عنه، وسلموه «2» إلى الصاحب والبرواناه. وعاد السلطان إلى دمشق ومنها إلى الديار المصرية، فدخل قلعة الجبل فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة، فأقام إلى شهر رمضان من السنة وتوجه إلى الشام فى العشرين من الشهر، فكانت غزوة الروم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى، فى الغزوات. ذكر ظهور المسجد بجوار دير البغل وإقامة شعائر الإسلام به وفى التاسع عشر من شوال من هذه السنة: خرج جماعة إلى دير القصير، المعروف بدير البغل ظاهر مصر، فرأوا أثر باب بجوار الدير، فدخلوا المكان فرأوا آثار محاريب المسلمين، فأنهوا ذلك إلى الصاحب بهاء الدين، فتقدم إلى القاضى بهاء الدين ناظر الأحباس أن يتوجه وصحبته نواب الحكم والعدول والمهندسون ومن يعتبر حضوره فى مثل ذلك. فتوجه وصحبته القضاة [و] المشايخ: وجيه الدين البهنسى، وظهير الدين التّزمنّى، وعلم الدين السمنودى نائب الحكم، ونظام الدين الخليلى، وجماعة من المهندسين، فشاهدوا المكان ورأوا به من

من الأثار ما يدل على أنه مسجد، وشهدوا بذلك عند القاضى علم الدين السمنودى فأثبته، ونقل الحكم إلى قاضى القضاة محيى الدين بن عين الدولة. وطولع الملك السعيد بذلك، فأمر الصاحب بهاء الدين بعمارته وإقامة من يحتاج إليه من إمام ومؤذن وزيت وفرش، فرتب ذلك له، وهو باق إلى يومنا هذا. وفى هذه السنة فى رابع شوال: كانت وفاة الصاحب بدر الدين جعفر بن محمد بن على بن محمد المذحجى الآمدى «1» بدمشق وهو يومئذ ناظر النظار بها، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكان هو وأخوه موفق الدين من أمناء المباشرين وأرباب الستر على الكتاب، ولقب كل منهما بالصاحب، ولم يليا وزارة. ولما حضرا من بلاد آمد فى سنة ثلاثين وستمائة هما وابن اختهما شمس الدين، لما نقل الملك الكامل أهل آمد منها. فلما عبرا الفرات قال موفق الدين لهما: «اعلما أننا نقدم على بلاد لا نعرف فيها أحدا، وليس لنا فيها معين إلا الله تعالى، فتعاهدانى والله تعالى، على الأمانة وألا نخون السلطان ولا الناس» . فتعاهدوا على ذلك ودخلوا إلى الديار المصرية. وولوا المناصب فوفيا بما عاهدا عليه، ونكث ابن اختهما شمس الدين، فسلما فى مباشراتهما. وكان شمس الدين كثير النكبات والمصادرات. وفيها: كانت وفاة الشيخ الصالح برهان الدين أبى إسحق بن سعد الله بن جماعة ابن على بن جماعة الكنانى الحموى بالقدس الشريف يوم عيد الفطر، رحمه الله تعالى.

وفيها: كانت وفاة القاضى شرف الدين محمد بن يشكور المصرى الكاتب، ولى مناصب جليلة، منها: نظر الجيش ونظر الدواوين بالديار المصرية. وكان بينه وبين الصاحب بهاء الدين مصاهرة ووحشة. وكانت وفاته بداره على الخليج بالقرب من مصر فى ليلة الأحد خامس عشرين جمادى الأولى. ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده سنة ست عشرة وستمائة. وفيها: توفى الأمير عز الدين إيغان ولا دمر «1» الركنى المعروف بسم الموت فى محبسه بقلعة الجبل، وسلم إلى أهله فى يوم الخميس ثامن عشر جمادى الآخرة، فدفن من يومه بمقابر باب النصر. وكان من الأمراء الأكابر، وقد تقدم «2» ذكر اعتقاله. هذا آخر ما لخصناه من الحوادث فى الأيام الظاهرية، فلنذكر الغزوات والفتوحات الظاهرية.

ذكر غزوات السلطان الملك الظاهر وفتوحاته وما استولى عليه من البلاد الإسلامية

ذكر غزوات السلطان الملك الظاهر وفتوحاته وما استولى عليه من البلاد الإسلامية ولنبدأ من ذلك بذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية مما كان بيد غيره من الملوك وأصحاب الحصون. ثم نذكر الغزوات والفتوحات على مساقها بمقتضى ما يقدمه التاريخ ويؤخره توفية للشرط الذى شرطناه. ذكر ما استولى عليه من القلاع والحصون والبلاد الإسلامية وأضافه إلى ممالكه كان مما استولى عليه السلطان الملك الظاهر من القلاع والحصون والبلاد بعد أن استقر فى الملك: الشوبك، والكرك، وقلعة البيرة، وحمص، والرحبة. وقد تقدم ذكر ذلك فى أثناء أخباره فلا فائدة فى إعادته. واستولى على خلاف ذلك مما نذكره الآن وهو: سواكن من بلاد اليمن، وخيبر من بلاد الحجاز، وقرقيسيا، وبلاطنس، وصهيون، وبرزية، وحصون الدعوة من الشام وما والاه. ذكر فتوح سواكن كان فتحها فى سنة أربع وستين وستمائة. وسبب ذلك أن صاحبها [الشريف] علم الدين أسبغانى كان قد تعرض للتجار «1» ، وأخذ ميراث من مات

ذكر فتوح خيبر

منهم فى البحر ومنع أولادهم منه، وكوتب فى ذلك وحذر من العود إليه، فلم تغن المكاتبات شيئا. فرسم الأمير علاء الدين الخزندار متولى الأعمان القوصية والأعمال الإخميمية، فقصده، فورد كتابه أنه وصل إلى ثغر عيذاب وسير عسكرا إلى سواكن فهرب صاحبها، ثم توجه علاء الدين المذكور إليها من عيذاب فى عشرة أيام، وكان معه من المراكب الكبار والصغار نيف وأربعون مركبا، ووصل إليه من القصير كلالين «1» موسّقة بالمقاتلة، ودخل سواكن وأقام بها ومهدها وقرر أحوالها، ثم رجع إلى مدينة قوص. ولما فارق سواكن عاد صاحبها إليها فقاتله من بها أشد قتال، وعاد منها. ذكر فتوح خيبر «2» كان فتحها فى سنة اثنتين وستين وستمائة، وذلك أن أصحابها عبيد على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وصلت كتبهم إلى السلطان يبذلون الطاعة والخدمة، فسير نجابين تستصح «3» الأخبار، وندب الأمير أمين الدين موسى بن التركمانى، وجهز الرماة والمقاتلة، وأنفق فيهم الأموال وجهز الخلع للمقدمين والمشايخ وكتب إلى نائب الكرك بتجهيز أمراء العربان وجماعة من البحرية صحبته، وجهز الغلال والذخائر لهذه القلعة، فتوجه الأمير أمين الدولة وافتتحها.

ذكر فتوح قرقيسيا

ذكر فتوح قرقيسيا «1» وقرقيسيا هذه من أقدم المدن، وكانت تعرف بالزبّاء الملكة. وفيها يقول ابن دريد: فاستنزل الزباء قسرا وهى فى ... عقاب لوح الجو أعلا منتما «2» وكان السلطان قد راسل أهلها، وسير إليها الأمير كمال الدين الطورى وملكها وأقام بها مدة، فقصدها التتار، فعاد كمال الدين إلى السلطان وتركها. وفى شهر رمضان سنة ثلاث وستين وستمائة، أرسل مقدموها إلى عز الدين السكندرى النائب بالرحبة «3» ، وسألوه عفو السلطان وسيروا رهائنهم. فتوجه إليها جماعة من الخيالة والأقحية، وساقوا من أول الليل إلى نصفه وباتوا على ماكسين «4» ، فلما أصبح الصبح أحاط بها المسلمون والعسكر وقتلوا من كان بها من عسكر التتار والكرج، وأسروا من المرتدة نيفا وثمانين نفرا، وتسلموا الجسر ومراكبه والسلسلة، فى نصف الشهر.

ذكر أخذ بلاطنس وخبرها

ذكر أخذ بلاطنس وخبرها «1» كانت بلاطنس جارية فى مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، فلما دخل التتار البلاد استولى عليها الأمير مظفر الدين عثمان صاحب صهيون «2» ، فطلب السلطان منه رد هذا الحصن، فصار يدافع ويقول: «أنا من جملة النواب» . فلما توجه السلطان إلى أنطاكية سير إليه هدية ردها السلطان عليه، وسيّر جماعة من عسكر حلب أغاروا عليها. فتوالت رسله «3» بالإذعان بالتسليم ويطلب قرية توقف عليه، فعين السلطان له قرية الحلمة «4» من بلد شيزر، ووقفها عليه وعلى أولاده، وقرر أن يعطى صاحب بلاطنس شيئا من بلد صهيون فقرر له السلطان منها بلادا تغل «5» ثلاثين ألف درهم، وتسلمت بلاطنس منه فى سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وستين وستمائة. وهذا الحصن من جملة معاقل الإسلام الحصينة لأنه برى بحرى سهلى، ما أخذ بالسيف قط، بناه رجال يعرفون ببنى الأحمر من أهل الجبال وحصنوه، فلما سمع بهم قطبان أنطاكية المسمى ببقيطا عاجلهم قبل إتمامه فملكه بالأمان، وأخذ فى تحصينه وإتمام بنائه، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. فلما كان

ذكر تسليم صهيون وبرزية

فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة، خرج روجار صاحب انطاكية فدوخ بلاد الإسلام، وقصد حصن بلاطنس وفيه بنو ضليعة أولاد أخى القاضى شرف الدين، فنزل على بلاطنس فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذى الحجة من السنة، وأجلب عليه فتسلمه فى يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة ثنتى عشرة، وعوضهم عنه بأنطاكية ثلاث قرى. فلما كان فى يوم السبت سابع وعشرين شعبان سنة ثلاثين وخمسمائة وثب أهل بلاطنس على من فيه من الفرنج فقتلوهم، فاحتمت عليهم القّلة. فأرسل أهل الجبال إلى منكجك التركمانى صاحب بكسرائيل «1» يستنجدونه فأتاهم وأقام يحاصرها مدة. فعمل الفرنج الذين بها حيلة عليه، وراسلوه وبذلوا له تسليمها على شرط أن يخفر نساءهم وأولادهم حتى يصلوا إلى جبلة أو إلى صهيون. فإذا جاءت لهم العلامة بوصولهم سالمين سلموها له، فلما وصلهم امتنعوا من التسليم. وكان ذلك حيلة منهم، فإن الأقوات ضاقت عندهم وضاقت الغلة عليهم، فاستراحوا بخروجهم عنهم وقويت نفوسهم. واتصل الخبر بأنطاكية فسيروا إليها عسكرا دفعه عنها. واستقرت بأيديهم إلى أن ملكها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على ما قدمناه. ذكر تسليم صهيون وبرزية «2» وفى سنة إحدى وسبعين وستمائة: تسلم السلطان صهيون وبرزية، وذلك

ذكر أخبار الإسماعيلية وابتداء أمرهم والاستيلاء على حصونهم

أن صاحبها الأمير سيف الدين محمد «1» بن الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس «2» بن بدر الدين خمرد كين توفى فى هذه السنة كما تقدم، وكان السلطان يومئذ بدمشق فاستدعى ولده الأمير سابق الدين سليمان «3» فحضر» ، وأقطعه إمرة بأربعين فارسا، فكتب إلى عمه جلال الدين بتسليم القلعة إلى نواب السلطان بذخائرها، فتسلموا ذلك فى ثانى عشر شهر ربيع الأول منها. وأقطع السلطان عميه جلال الدين مسعود ومجاهد الدين إبراهيم؛ كل منهما إمرة عشرة طواشية، ووصل أهل صاحب صهيون إلى دمشق. ذكر أخبار الإسماعيلية وابتداء أمرهم والاستيلاء على حصونهم أول من قام بدعوتهم الحسن بن الصباح المعروف بالكيال، وهو من تلامذة ابن عطاش الطبيب. قدم مصر فى زمن المستنصر العبيدى فى زى تاجر فى سنة ثمانين وأربعمائة، ودخل عليه وخاطبه فى إقامة الدعوة ببلاد العجم فأذن له. وكان الحسن كاتبا للرئيس عبد الرزاق بن بهرام بالرّى. وادعى أنه قال للمستنصر: «من إمامى بعدك؟» فأشار إلى نزار: فمن هنا سموا بالنزارية. وقال ابن السمعانى فى تاريخه: إنما سموا بالإسماعيلية لأن جماعة من الباطنية ينسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لانتساب زعيمهم المصرى إلى

محمد بن إسماعيل المذكور. وكان أول إظهار دعوتهم بالألموت وطلوع أعلامه فى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وجرى لنزار ما قدمناه بعد وفاة أبيه ومسك من الإسكندرية وجىء به إلى القصر فكان آخر العهد به. وانفصل أهل الألموت من العبيديين من ذلك الوقت. وشرع الإسماعيلية فى افتتاح الحصون، فأخذوا قلعة وبنوا أخرى وأظهروا شغل السكين. وأول عملهم بالسكين؛ أن ابن الصباح كان ذا دين فى الظاهر، وله جماعة من نسبته يتبعونه، فلما حضر من مصر إلى الألموت وهى حصينة وكان أصحابها ضعفاء، فقالوا «1» لأصحابها: «نحن قوم زهاد نعبد الله ونشترى منكم نصف هذه القلعة ونقيم معكم نعبد الله» . فاشترى نصفها بتسعة آلاف دينار. ثم قوى واستولى عليها وصاروا جماعة، فبلغ خبرهم ملك تلك البلاد فقصدهم بعساكره. فقال رجل منهم يعرف بعلى اليعقوبى: «أى شىء يكون لى عندكم إن كفيتكم أمر هذا الجيش» ؟ قالوا: «نذكرك فى تسابيحنا» . فقال: «رضيت» . فنزل بهم وقسمهم أرباعا فى أرباع العسكر وجعل معهم طبولا وقال: «إذا سمعتم الصايح فاضربوا الطبول وقولوا «2» يا آل على» بم هجم بهم على الملك فقتله فصاح أصحابه، فضرب أولئك الطبول، فامتلأت قلوبهم خوفا وهربوا لا يلوى منهم أحد على أحد، وأصبحت خيامهم خالية، فنقلوا «3» ما فيها إلى القلعة. وسنوا السكين من ذلك الوقت.

ثم بعثوا داعيا من دعاتهم يعرف بأبى محمد إلى الشام فملك قلاعا من بلاد الناصرية. ثم ملك بعده سنان: وهو سنان بن سليمان بن محمد البصرى، وأصله من قرية من قرى البصرة تعرف بعقر السدن «1» . وأقام فى الشام نيفا وثلاثين سنة، وكان يلبس الخشن، ولا يراه أحد يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يبصق، بل يجلس على ضجرة، فاعتقدوا فيه التأله. ثم ولى مكانه أبو منصور بن محمد وكان ابن الصباح، الذى قدمنا ذكره. [و] «2» لما قتل نزار طالبوه به، فقال: «إنه بين أعداء كثيرة والبلاد بعيدة ولا يمكنه الحضور، وقد عزم على أن يختفى فى بطن امرأة ويجىء سالما ويستأنف الولاده» . فقنعوا بذلك، وأحضر لهم جارية قد أحبلها وقال: «إنه قد اختفى فى هذه» ، فعظموها فولدت ابنا سماه حسنا. وقال: «نغير الاسم لتغيير الصورة» . ومات حسن فى سنة خمس عشرة وخمسمائة، وخلف ولده محمدا. ولمحمد ولد اسمه حسن خلف أباه بعد موته. ولما سمع ملك خوارزم شاه قصد بلادهم. فأظهر محمد بن حسن هذا أنه رأى على بن أبى طالب فى المنام يقول له: «تعيد شعار الإسلام وفرائضه وسننه» فعرف جماعته بذلك. ثم قال لهم: «الدين لنا، نتصرف تارة بوضع التكاليف عنكم، وتارة نأخذها منكم» . فقالوا:

ذكر استيلاء السلطان على بلاد الإسماعيلية وشىء من أخبارها

«السمع والطاعة» فكتب إلى بغداد وسائر البلاد بذلك، واستدعى القراء والفقهاء واستخدم أهل قزوين «1» فى ركابه. وسير الخليفة رسولا صحبة رسوله إلى حلب بتقوية يد نوابه «2» وأن يقتل النائب القديم ويولى هذا الواصل، فخلصوا بذلك من صولة خوارزم شاه. هذا ابتداء أمر هذه الطائفة. وقد ذكرنا طرفا من أخبارهم فيما تقدم، فلنذكر سبب الاستيلاء على بلادهم، وكيف انتزعها السلطان الملك الظاهر منهم. ذكر استيلاء السلطان على بلاد الإسماعيلية وشىء من أخبارها «3» وهى مصياف «4» والعليقة والرصافة والكهف والمنيقة «5» والقدموس والخوابى. وكان السلطان الملك الظاهر، رحمه الله، قد كسر شوكة هذه الطائفة الإسماعيلية، وأبطل رسومهم التى كانت مقررة لهم على ملوك الديار المصرية،

وقرر عليهم قطيعة «1» يحملونها إلى بيت المال. ثم لم يرضه ذلك إلى أن استولى على حصونهم وانتزعها من أيديهم. وأول ما استولى عليه من حصونهم مصياف: استولى عليها فى العشر الأوسط من شهر رجب سنة ثمان وستين وستمائة. وذلك أن السلطان كان قد حضر فى جمادى الآخرة من هذه السنة إلى حصن الأكراد «2» وأغار على البلاد الساحلية، ونزل بالقرب من البلاد الإسماعيلية، وحضر إلى خدمته صاحب حماة وصاحب صهيون، ولم يحضر نجم الدين [حسن «3» ] ابن صاحب الإسماعيلية ولا ولده شمس الدين. وسيروا يطلبون أن ينقصوا من القطيعة التى كانوا يقدمون بها للفرنج وأبطلها السلطان وتقررت لبيت المال. وكان السلطان قبل ذلك قد غضب على صارم الدين ابن [مبارك] الرضى صاحب العليقة «4» لأجلهم، فتوصل صاحب صهيون فى إصلاح أمره، فحضر إلى السلطان فرضى عنه وقلده بلاد الدعوة «5» استقلالا، وأعطاه طلبخاناه، وعزل نجم الدين وولده من نيابة الدعوة. ونعت صارم الدين بالصحوبية على عادة نواب الدعوة، وتوجه فى سابع عشر جمادى الآخرة

ذكر فتوح العليقة والرصافة

وصحبته عز الدين العديمى أحد مفاردة الشام لتقرير أمره، وجرد صحبته جماعة من شيزر «1» وغيرها، فوصلوا إلى مصياف وتحدثوا مع أهلها، فامتنعوا، فسير السلطان إليهم، فسلموها فى العشر الأوسط من شهر رجب. ومصياف هذه كرسى مملكة الدعوة، وبها أكابرهم، ومنها رسلهم إلى الملوك، فلما علم نجم الدين وولده سرعة هذا الاستيلاء سألوا الحضور. وحضر الصاحب نجم الدين [حسن] وعمره تسعون سنة، فرحمه السلطان وعفا عنه وولاه النيابة شريكا لابن الرضى لأنه صهره، وكان أبوه هو المشار إليه. وقرر حمل مائة وعشرين ألف درهم فى كل سنة. وتوجه نجم الدين وبقى ولده ملازما باب السلطان، وتقرر على صارم الدين بن الرضى حمل ألفى دينار فى كل سنة. وكانت مصياف قديما بيد الأمير وثاب بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس «2» من أمراء بنى كلاب فى سنة خمس وتسعين وأربعمائة، فملكها ولده ناصر الدين سابق، فباعها لعز الدين أبى العساكر سلطان بن منقذ فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وجعل فيها الحاجب سنقر، فقتله الباطنية وملكوا الحصن فى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وبقى فى أيديهم إلى الآن. ذكر فتوح العليقة والرّصافة هذا الحصن من أمنع الحصون، وكان مختصا بالرضى، ثم بولده صارم الدين، فجرت من المذكور أمور أوجبت اعتقاله بمصر، ورسم للعسكر المقيم

ذكر فتوح بقية حصون الدعوة

ببلاطنس «1» بمنازلتها، وسير إلى عبد الظاهر النائب بها وإلى جماعة من أهلها بالترغيب والترهيب، فتسلمها نواب السلطان فى يوم السبت حادى عشر شوال سنة تسع وستين وستمائة، واستخدم بها الرجالة، ثم هجم نواب السلطان على الرصافة، وملكت فى آخر الشهر المذكور. ذكر فتوح بقية حصون الدعوة كان قد تقرر على الصاحب نجم الدين عند وصوله إلى السلطان مائة ألف وعشرين ألف درهم فى كل سنة، واستقر أن يكون هو وولده «2» فى خدمة السلطان، واستقر شمس الدين فى صحبة ركاب السلطان، فنسب إليه أنه كاتب الفرنج. فحضر والده نجم الدين فى سنة تسع وستين وستمائة عند فتوح حصن الأكراد فاعتذر عنه، وتحدث هو وولده المذكور مع الأتابك فى تسليم القلاع، وأنهما يحضران إلى باب السلطان، فأجابهم إلى ذلك. وتوجه شمس الدين إلى الكهف لتدبير أمور أهله فى عشرين يوما ويعود، وسافر أبو، فى الخدمة إلى القرين «3» ثم إلى الديار المصرية، فما حضر ولده وصار يعتذر «4» عن الحضور. فكتب إليه السلطان: «أن الذى كنتم سألتموه من تسليم القلاع كأنكم رجعتم عنه، والوعد الذى وعدناكم نحن ما نخلفه، من أننا نعطيك إمرة بأربعين فارسا، وقد تسلم والدك الإقطاع» . فورد جوابه يعتذر عن الحضور ويطلب حصن العليقة،

وأنه يسلم بقية الحصون. فأجيب إلى ذلك. وسير السلطان الأمير علم الدين سنجر الدوادارى وقاضى حمص فخلّفا شمس الدين بحصن الكهف، ثم طالبوه من التسليم «1» فامتنع أهل الكهف عن ذلك باتفاق منه، فعادت الرسل بذلك. ثم أعيد إليه الأمير علم الدين الدوادارى وعلم الدين شقير مقدم البريدية، فمنعا من الدخول إلى الكهف، ولم تؤخذ منهم الكتب. فأمر السلطان بمضايقتهم، فندم شمس الدين ونزل من الكهف، وجاء إلى السلطان بظاهر حماة فى سادس وعشرين صفر سنة تسع وستين، فأكرمه السلطان، فسير ورقة إلى السلطان يقول: «إن أهل الكهف كانوا جهزوا فداوية إلى الأمراء.» فغضب السلطان وأمر بإمساكه فى الوقت وإمساك أصحابه، وسيروا إلى مصر. واستمرت مضايقة حصونهم، وأمسك وإلى الدعوة والناظر بسرمين «2» ، وكان لهم أقارب بالخوابى، فأشار عليهم الأمير سيف الدين بلبان الدوادار بمكاتبة أقاربهم بالتسليم. فحضر منهم جماعة، وأعطاهم السلطان الخلع والنفقات وأجراهم على رسومهم، فسلموا حصن الخوابى فى سنة تسع وستين وستمائة. واستمر امتناع أهل الكهف والمنيقة والقدموس من التسليم، فرسم السلطان للملك المنصور بمضايقة الكهف. واستمر ذلك إلى أواخر سنة إحدى وسبعين وستمائة. فأما المنيقة: فتسلمها نواب السلطان فى ثالث ذى القعدة من السنة. والقدموس: حضر جماعة من أكابر أهلها وبذلوا الطاعة وتسلّمت فى ذى القعدة.

ذكر أخبار هذه الحصون

وأما الكهف: فتسلمه الأمير جمال الدين أقش الشهابى أحد أمراء الشام فى ثانى وعشرين ذى الحجة من السنة، وسيرت مفاتيحه صحبة رسلهم ورسل صاحب جماة، وتكمل بذلك قلاع الدعوة. وأقيمت بها الجمع وترضى عن الصحابة رضى الله عنهم، وأظهرت شعائر الإسلام بها. ذكر أخبار هذه الحصون فأما حصن الكهف: فقد ذكر فى الكتب أنه الكف بغير هاء، وسمعت أكثر أهل تلك البلاد لا ينطقون فى اسمه بالهاء. وكان هذا الحصن فى يد نواب العبيديين ملوك مصر، فانتزعه الأمير ليث الدولة بن عمرون وأخذه، وبقى إلى ولاية سيف الدولة بن عمرون «1» ، فذبح على فراشه فى سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وتولى ولده الحسن وهو خائف مما جرى على أبيه، فالتجأ إلى الإسماعيلية، واستدعى قوما منهم وأسكنهم معه فى الحصن ليتقوى بهم على بنى عمه الذين يقصدونه. فأخرجوه من الحصن وملكوه إلى هذا الوقت. وأما القدموس: فإنه كان فى يد بنى محرز بعد ولاية العبيديين، وكان آخر بنى محرز، منير الدولة حمدان بن حسن بن محرز، فتوفى وملكه بعده ولده علم الدولة يوسف، فضعف عن حفظه، فسلمه للإسماعيلية فى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وأما حصن المنيقة: وهو فى جبل الرواديف، وبانيه رجل اسمه نصر بن مشرف الرواد فى كان قد استولى على جميع المسلمين الساكنين بجبل الرواديف وما يليه،

واستقحل أمره، فأخذ وحمل إلى أنطاكية، فاستتيب وأطلق، فعاد إلى أذية المسلمين والروم، فأخذ وطلب العفو، وأعطى ولده رهينة. وتنصح للروم وقال: «إن فى آخر عمل الروم من آخر جبل الرواديف ضيعة تعرف بالمنيقة، ومكانها يصلح أن يكون به حصن ليحفظ على جميع الأعمال» . فأجابوه إلى ذلك. فقال: «إن المسلمين لا يمكنونكم من بنائه، وإنما أنا أدفع المسلمين عنه، وأفهمهم أننى أبنيه لنفسى، فإذا بنيته سلمته لكم» ، فاغتر الروم بقوله وأعانوه، فلما بناه استعصى به، وشرع فى بناء حصن آخر امنع منه. ثم إن نقيطا قطبان «1» أنطاكية أتى إلى الحصن وحاصره فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فلم يظفر به، ثم عاد إليه وملكه وخرب أبرجته إلى الأرض، ثم عمرت وصارت بعد ذلك للإسماعيليه. وأما حصن الخوابى: وهو من جبل بهراء «2» ، فإن محمد بن على بن حامد سلمه للروم فى سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ثم صار للإسماعيلية. هذا ما أمكن إيراده من أخبار هذه الفتوحات وابتداء أمر هذه الطائفة. فلنذكر خلاف ذلك من الغزوات الظاهرية والفتوحات، وما يتخلل ذلك ويناسبه من الصلح والمهادنات إن شاء الله تعالى.

ذكر غزوات السلطان وفتوحاته وما وقع من المصالحات والمهادنات

ذكر غزوات السلطان وفتوحاته وما وقع من المصالحات والمهادنات ولنبدأ من ذلك بالأمور التى أوجبت انحراف السلطان عن الفرنج بالبلاد الساحلية «1» وأخذ بلادهم. قد ذكرنا ما كان قد تقرر من الهدنة عند وصول السلطان إلى الشام فى سنة تسع وخمسين وستمائة، وأن الفرنج لم يفوا بما تقرر من إطلاق الأسرى. فلما وصل السلطان إلى جهة الطور «2» على ما قدمناه فى سنة إحدى وستين عند القبض على الملك المغيث صاحب الكرك، وكان الفرنج قد شرعوا يحيدون عن الحق ويطلبون زرعين، والسلطان يجاوبهم «إنكم أخذتم العوض عنها فى الأيام الناصرية ضياعا من مرج «3» عيون، وقايضتم «4» بها صاحب تبنين «5» » . ثم وردت رسلهم الآن يهنئون بالسلامة ويقولون: «ما عرفنا بوصول السلطان» . فأجابهم: «إن من يريد يتولى أمرا ينبغى أن يكون فيه يقظة، ومن خفى عنه هذه العساكر وجهل ما علمه الوحوش فى الفلاة والحيتان فى المياه من كثرة هذه العساكر، التى لعل بيوتكم ما فيها موضع إلا ويكنس منه التراب الذى أثارته خيل هذه العساكر، ولعل وقع سنابكها

قد أصمّ سماع من وراء البحر من الفرنج وفى موغان «1» من التتار. فإذا كانت هذه العساكر تصل إلى أبواب بيوتكم ولا تدرون بها فأى شىء تعلمون» . وانفصل الرسل على هذا الحال. ووصلت نواب يافا، ونواب أرسوف «2» بهدية أخذت منهم «3» ، وكانت كتبهم وردت قبل ذلك مضمونها: طلب فسخ الهدنة والندم عليها، فصارت ترد الآن ببقائهم عليها وتمسكهم بالمواثيق. وجرت أمور ومراسلات يطول شرحها اقتضت تغير السلطان، ثم كاتبهم السلطان يقول: «أنتم فى أيام الملك الصالح إسماعيل أخذتم صفد والشقيف على أنكم تنجدونه على السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخرجتم جميعا خدمته ونجدته، وجرى ما جرى من خذلانه، وقتلكم وأسركم وأسر ملوككم ومقدميكم. وقد نقضت تلك الدولة ولم يؤاخذكم السلطان الشهيد عند فتوحه البلاد وأحسن إليكم، فقابلتم ذلك بأنكم رحتم إلى الريذ افرانس وأتيتم صحبته إلى مصر وساعدتموه حتى حوى عليكم ما جرى من القتل والأسر، فأى مرة وفيتم فيها لمملكة مصر. وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من الصالح إسماعيل لإعانة مملكة الشام وطاعة ملكها ونصرته، وقد صارت مملكة الشام وغيرها لى وأنا لا أحتاج إلى نصرتكم، فتردّون ما أخذتموه بهذا الطريق، وتفكون جميع أسرى

ذكر مسير السلطان إلى عكا

المسلمين، وغير ذلك لا أقبله.» فلما سمعوا هذه المقالة قالوا: «نحن لا ننقض الهدنة ونطلب مراحم السلطان فى استدامتها، ونفك الأسرى» . فقال السلطان: «كان هذا قبل خروجى فى هذا الشتاء ووصول هذه العساكر «1» » . وانفصلوا على هذه الصورة، وأمر أنهم لا يبيتون فى الوطاق «2» . ورسم بهدم كنيسة الناصرة وهى أكبر مواطن عبادات النصرانية. فتوجه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إليها وهدمها إلى الأرض، فلم يجسر أحد من سائر الفرنجية أن يخرج من باب عكا. ثم جرد السلطان الأمير بدر الدين الأيدمرى وصحبته جماعة فتوجهوا إلى جهة عكا وهجموا إلى أبوابها، ثم توجه الأمير المذكور مرة أخرى فأغار على المواشى واستباح منها شيئا كثيرا، وأحضر ذلك إلى المخيم المنصور. ذكر مسير السلطان إلى عكا «3» وفى ليلة السبت رابع جمادى الآخرة سنة إحدى وستين: ركب السلطان وجرد من كل عشرة فارسا صحبته، واستناب الأمير شجاع الدين الشبلى أمير مهمندار «4» فى الدهليز، وساق من منزلة الطور نصف الليل. فلما أصبح وقف قريب عكا فى الوادى الذى بقربها، ومنه يشرف عليها. وأمر الناس بلبس السلاح ورتب العساكر وساق وطاف بعكا من جهة البر، وسير جماعة إلى برج

كان قريبا منها فيه جماعة فحاصروه، وللوقت عملت فيه الثقوب إلى قرب وقت المغرب والفرنج ينظرون من أبواب المدينة وتل الفضول «1» . ثم رجع السلطان إلى الدهليز قريب البرج المذكور عند الماء. ولما أصبح ركب وساق إليها، وكان الفرنج قد حفروا خنادق حول تل الفضول وجعلوها معاثر فى الطريق. ووقف الفرنج صفوفا على التل، ورتب السلطان العساكر للقتال بنفسه، وردمت تلك الخنادق بحوافر الخيل وأيدى الغلمان والفقراء المجاهدين. وطلع الناس إلى تل الفضول وانهزم الفرنج إلى المدينة. وحرق الناس ما حول عكا من الأبراج والأسوار وقطعوا الأشجار. وساق العسكر إلى أبواب عكا يقتلون ويأسرون، فقتل جماعة كثيرة من الفرنج فى ساعة واحدة، وأسرت جماعة بخيولهم، وجرح أكابرهم ووقعوا فى الخندق بخيولهم، وهرب من بقى من الفرنج إلى الأبواب. ثم ساق السلطان وقت العصر إلى البرج الذى كان النقابون علقوه، ووقف حتى رمى وأخرج منه بالأمان أربعة خيالة أخوة، ونيف وثلاثين راجلا [وبات السلطان على ذلك «2» ] . وأصبح السلطان وكشف بلاد الفرنج مكانا مكانا، وعبر على على كنيسة الناصرة «3» ، ثم رجع وجلس على مسطبة كان قد أمر ببنائها قبالة الطور «4» ، وأوقد الشموع وأحضر الصاحب فخر الدين وزير الصحبة «5» ، وجماعة

ذكر قصد متملك الأرمن حلب المحروسة

كتاب الدرج «1» ، وكتاب الجيش، والسديد المعز «2» مستوفى الصحبة «3» . وجعل الأمير سيف الدين بلبان الزينى أمير علم «4» جالسا عند ديوان الجيش لكناية الأمثلة «5» وتجهيز الطليخاناه، والأتابك «6» بين يدى السلطان. واستدعى من جشاراته «7» خمسمائة فرس برسم الطلبخاناه وخيول الأمراء، وأحضرت الخلع الكثيرة، ولم تزل المثالات والمناشير تكتب والسلطان يعلم، وكتب بين يديه فى تلك الليلة ستة وخمسون منشورا كبارا بخطب وهو يعلم، والنائب يكتب، و [كتاب «8» ] ديوان الجيش يثبتون، ومستوفى الصحبة ينزل حتى كملت بين يديه. وأصبح السلطان فخلا بنفسه وجهز الطلبخاناه والصناجق والخيل والخلع للأمراء، وجعل الأمير ناصر الدين القميرى نائب السلطنة بالفتوحات الساحلية، ورحل من الطور وتوجه إلى الكرك وفتحها على ما قدمنا ذكره. ذكر قصد متملك الأرمن حلب المحروسة وفى سنة اثنتين وستين وستمائة: وصل هيتوم بن قسطنطين متملك الأرمن

من جهة هولاكو، وتوجه قبل دخوله إلى بلاده إلى السلطان ركن الدين صاحب الروم، فعزم [صاحب الروم «1» ] على الإيقاع به على غرة، ثم ينسب ذلك إلى التركمان، فشعر هيتوم «2» بذلك، وكان قد استصحب معه قاضى بلاد هولاكو ليصلح بينه وبين صاحب الروم، وأعطاه عطاء كثيرا واستماله، فقال له هيتوم: «لا أقدر على دخول بلاد الروم حتى تحضر جماعة من التتار يخفروننى «3» » . فكتب القاضى إلى التتار الذين بالروم، فحضر منهم أربعمائة فارس، فتوجه بهم إلى السلطان ركن الدين، فخرج إليه وتلقاه مترجلا لأجل القاضى، والأرمتى لم يترجل، وقدم كل منهما للآخر تقدمة، لكن كانت تقدمة صاحب الروم لهيتوم أكثر، ثم جاءوا جميعهم إلى هرقلة «4» وتحالفا واتفقا، واهتم هيتوم بجمع العساكر لقصد البلاد الإسلامية. وكان فى عسكره من بنى كلاب ألف فارس فقصد عين تاب. وكان السلطان قد اطلع على هذا الأمر لاهتمامه بالاستطلاع على الأخبار، فسير إلى عسكر حماة وعسكر حمص بالتوجه إلى حلب، فتوجهوا، وتوجه جماعة من العسكر المصرى، فأغاروا على الأرمن وأسر أمير من أمراء هيتوم، وأخذ له مائة جمل من البخاتى فولوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، وجرح صاحب حموص «5» قرابة هيتوم الملك جراحة شديدة، فكتب الأرمنى إلى التتار الذين بالروم، وهم

سبعمائة، فحضروا إليه لقصد الشام؛ فلما وصلوا إلى مرج «1» حارم وقعت ثلوج شديدة، وكان الأرمنى قد كتب إلى أنطاكية يطلب نجدة، فأنجد منها بمائة وخمسين فارسا، ولبسوا كلهم السراقوجات «2» تشبها بالتتار، واجتمعوا كلهم بالقرب من مرج حارم فكادوا يهلكون من كثرة الثلوج والأمطار، وخرج العسكر المنصور لقصدهم، وانقطعت عنهم الميرة فتأخروا راجعين، فعدم من أصحاب الأرمنى مائة وعشرون فارسا، وثلاثون تتربا، وستة من خيالة أنطاكية وجماعة من رجالتهم. ثم اهتم هيتوم بعد ذلك وجمع العساكر وفصلّ ألف قباء تترى وألف سراقوج ألبسها أصحابه، ليوهم أنهم نجدة من التتار. فجرد السلطان عسكرا من دمشق إلى حمص وجماعة من حماة، وتوجه الأمير حسام الدين العين تابى فأغار على مرزبان «3» وقتل وأسر وعاد سالما. وتوالت الغارات من جميع الجهات، فتفرق جمع هيتوم، وعدل العسكر الإسلامى إلى أنطاكية فغنم وقتل وأسر. وفى جمادى الآخرة منها: أغارت العساكر التى بالساحل صحبة الأمير ناصر الدين القيمرى ووصلت إلى أبواب عكا. وفى شهر رمضان من السنة: وصل كتاب الأمير ناصر الدين المذكور، يذكر أنه بلغه أن الفرنج توجهوا إلى جهة يافا، فأمره السلطان بالغارة على قيسارية «4»

ذكر محاصرة التتار البيرة وتجريد العساكر وانهزام العدو

وعثليث، فساق إلى باب عثليث فنهب وقتل وأسر، ثم ساق إلى قيسارية واعتمد فيها مثل ذلك. فرجع الذين ببافا. ذكر محاصرة التتار البيرة وتجريد العساكر وانهزام العدو «1» كان السلطان قد توجه إلى جهة العباسة «2» ، فى أوائل سنة ثلاث وستين وستمائة، للصيد ورمى البندق كما قدمناه، فأتته الأخبار أن التتار قد جمعوا ونازلوا البيرة، وللوقت أمر الأمير بدر الدين الخزندار بالركوب على الخيل السوابق إلى القلعة، وأنه ساعة وصوله يجرد أربعة آلاف فارس من العسكر الخفيف. ورجع السلطان إلى القلعة فبات ليلة واحدة، وجهز الأمير عز الدين إيغان، ورسم له بتقدمة العساكر وصحبته الأمير فخر الدين الحمصى، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، والأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى وجماعة من الأمراء والحلقة «3» . وتوجهت هذه العساكر فى رابع عشر ربيع الأول، وأمر الأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى بالسفر فى أربعة آلاف فارس أخر، فخرجوا بعد العسكر الأول بأربعة أيام، وشرع السلطان فى التجهيز، وخرج فى خامس شهر ربيع الآخر،

ورحل فى سابع الشهر، ووصل إلى غزة فى العشرين منه، فوصلت كتب النواب: إن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا. فكتب إلى الأمير عز الدين إيغان يستحثه على سرعة الحركة، ويقول: «متى لم تدركوا هذه القلعة؟ وإلا سقت إليها بنفسى جريدة» . فساق العسكر وحث السير، فلما كان فى السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، ورد البريد من جهة الأمير جمال الدين النجيى نائب السلطنة بالشام وعطف كتابه بطاقة «1» من الملك المنصور صاحب حماة مضمونها: أنه وصل إلى البيرة بالعساكر المنصورة صحبة الأمير عز الدين إيغان، وأن التتار عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقهم وغرقوا مراكبهم، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد. ثم وصلت أربعة من مماليك الأمراء بالبشارة. وورد كتاب الأمير جمال الدين أقوش «2» المغيثى النائب بالبيرة يذكر صورة الحال، وأنه لما كثر العدو على القلعة وطم الخندق، حفر أهل البيرة حفيرا قدر قامة، وعملوا منه سردابا نافذا إلى الأحطاب التى كان العدو رماها فى الخندق فأضرموا فيها النار، فاحترقت جميعها، ثم سد المسلمون السرّب المحفور. وذكر مصابرة أهل الثغر، وأن نساءهم فعلن من حسن البلاء فى مصابرة الأعداء ما لم يفعله الرجال. ومن جملة ما وصف أن برجا واحدا كان عليه خمسة عشر منجنيقا وثبت شهرين. فكتب السلطان بإطابة قلوب من بالثغر، وعينت أمثلة «3»

بالإقطاعات لمن جاهد من البحرية وغيرهم بالبيرة. واستشهد صارم الدين بكتاش الزاهدى «1» أحد الأمراء المجردين بها بحجر منجنيق، وترك موجودا كثيرا وبنتا واحدة؛ فرسم السلطان بجميع ميراثه لابنته. واهتم السلطان بأمر القلعة، وكتب إلى جميع القلاع والولايات «2» بما يحملونه إلى هذا الثغر من الأموال والغلال والأسلحة والعدد وغير ذلك، مما يحتاج أهل هذه القلعة إليه لمدة عشر سنين. وكتب إلى الأمراء والملك المنصور صاحب حماة أنهم لا يتحركون «3» من مكانهم حتى ينظفوا الخندق وينقلوا الحجارة التى فيه، ففعلوا ذلك وأقاموا مدة بسببه. ووردت كتب الأمراء يخبرون أنه لما كانت نوبة الأمير عز الدين إيغان والأمير فخر الدين الحمصى والأمير بدر الدين الأيدمرى وجماعة من البحرية، وكانت خيلهم ترعى فى الجانب الشامى وهم يعملون، فأحاط بهم فرقة من التتار المغل ملبسين «4» ، فأجمعوا ورموهم بالنشاب وأنكرهم بالجراحات فولوا منهزمين، وساق العسكر خلفهم فوجد منهم جماعة قد هلكوا فى الطريق من الجراحات، وقتل جماعة فى ذلك اليوم. فاستدعى السلطان من الديار المصرية مائتى ألف درهم ومائتى تشريف، وكتب إلى دمشق بتجهيز مائة تشريف ودراهم، وجهز ذلك إلى البيرة، وكتب إلى الأمير عز الدين إيغان بأن يحضر أهل القلعة جميعهم من

ذكر الفتوحات بالبلاد الفرنجية فى هذه السفرة

الأمراء والجند والعوام ويخلع عليهم وينفق فيهم المال حتى الحراس والضوية «1» . ثم عاد الأمراء بعد أن نظفوا الخندق ونقلوا إلى القلعة زلطا كثيرا. ولما وصلوا رسم السلطان أن يكون الأمير جمال الدين المحمدى مقدما على العساكر المصرية والشامية لكبر سنه، والأمير عز الدين إيغان يتحدث فى المهمات وإطلاق الأموال وترتيب أمور البلاد. هذا ما أتفق من أمر البيرة. فلنذكر ما افتتحه السلطان من البلاد الساحلية فى هذه السفرة. ذكر الفتوحات بالبلاد الفرنجية فى هذه السفرة قال: لما وصلت الأخبار إلى السلطان وهو بالساحل بانهزام التتار، واستقر خاطره من تلك الجهة، ثنى أعنته الى جهة الفرنج وجرد العزائم نحوهم. وركب من العوجاء بعد رحيل الأطلاب للصيد فى غاية أرسوف. ورتب الحلقة ودخل الغابة وتصيد. ثم ساق إلى أرسوف «2» وقيسارية وشاهدهما وعاد إلى دهليزه «3» ، فوجد أخشاب المجانيق قد وصلت صحبة زرد خاناه. فأمر الأمير عز الدين أمير جاندار أن ينصب عدة مجانيق مغربية وفرنجية، فعمل فى ذلك اليوم أربع منجنيقات كبارا وعدة من الصغار. وكتب إلى القلاع يطلب المجانيق والصناع والحجارين

ذكر فتوح قيسارية

ورسم للعسكر بعمل سلاليم وعين لكل أمير عدة منها، ورحل إلى قريب عيون الأساور «1» وأمر العسكر بعد العشاء الآخرة بلبس السلاح وأخذ أهبة الحرب، وركب قريب وقت الصبح وساق إلى قيسارية على حين غفلة من أهلها. ذكر فتوح قيسارية «2» نزل السلطان عليها فى يوم الخميس تاسع جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة، وللوقت طاف بها وهاجمها الناس، وألقوا نفوسهم فى خنادقها، وعمدوا إلى سكك الخيل الحديد «3» والشّبح والمقاود «4» فتعلقوا فيها وطلعوا من كل جانب، ونصبت عليها الصناجق، وحرقت أبوابها، فهرب أهلها إلى قلعتها. فنصبت المجانيق على القلعة وهى من أحصن القلاع وأحسنها، وتعرف بالخضراء. وكان الريدا فرانس حمل إليها العمد الصوان وأتقنها، ولم ير فى الساحل أحسن منها عمارة ولا أمنع ولا أرفع، لأن البحر حافّ بها، وجايز فى خنادقها، والنقوب لا تعمل فيها للعمد الصوان المصلبة فى بنائها، حتى إذا علقت لا تقع. فاستمر الزحف عليها ورمى المنجينقات وعملت دبابات «5» وزحافات «6» . وكان السلطان يركب فى بعض الدبابات وتجر من

ذكر التوجه إلى عثليث وأخذ حصن الملوحة وحيفا

تحته بالعجل حتى يصل إلى الأسوار ويرى النقوب. وأخذ فى بعض الأيام بيده ترسا وقاتل، وما رجع إلا وفى ترسه عدة سهام. وفى ليلة الخميس منتصف الشهر حضر الفرنج وسلموا القلعة بما فيها، وتسلق المسلمون إليها من الأسوار وحرقوا الأبواب ودخلوا من أعلاها وأسفلها، وأذن بالصبح عليها. وطلع السلطان إلى القلعة وقسم المدينة على أمرائه وخواصه ومماليكه وحلقته، وشرع فى الهدم وأخذ بيده قطاعة وهدم بنفسه ويده. وقيسارية هذه من المدن القديمة فتحت فى صدر الإسلام فى سنة تسع عشرة للهجرة، على يد معاوية بن أبى سفيان، بعد قتال عظيم، ولم يكن معاوية أمير الجيش، إنما كان من قبل أخيه يزيد بن معاوية. وفى جماد الأول: جرد السلطان الأمير شهاب الدين القيمرى بجماعة من عسكر الساحل لجهة بيسان «1» ، فسير جماعة من العربان والتركمان للإغارة على عكا، فأغاروا ووصلوا إلى أبوابها وغنموا وعادوا. ذكر التوجه إلى عثليث «2» وأخذ حصن الملوحة وحيفا قال: ولما قارب السلطان الفراغ من هدم قيسارية سير الأمير شمس

ذكر فتوح أرسوف

سنقر الألفى الظاهرى، والأمير سيف الدين المستعربى. وجماعة فهدموا قلعة للفرنج عند الملوحة «1» وكانت عاصية فدكوها إلى الأرض. وفى سادس وعشرين جمادى الأولى: توجه السلطان إلى عثليث جريدة، وسير الأمير شمس الدين سنقر السلاح «2» دار الظاهرى والأمير عز الدين الحموى، والأمير شمس الدين سنقر الألفى الظاهرى إلى حيفا، فساروا إليها ودخلوا قلعتهما، فنجا الفرنج بأنفسهم إلى المراكب بعد أن قتل منهم وأسر. وأحضرت الأسرى والرؤس، وأخربوا المدينة وقلعتها وأحرقوا أبوابها، وذلك جميعه فى يوم واحد. وأما السلطان فإنه وصل إلى عثليث وأمر بتشعيثها وقطع أشجارها، فقطعت جميعها وخربت أبنيتها فى ذلك النهار، وعاد السلطان إلى قيسارية وكمل هدمها. ذكر فتوح أرسوف «3» وفى تاسع وعشرين جمادى الأولى من السنة: رحل السلطان من قيسارية وسار إلى أرسوف، فنازلها فى مستهل جمادى الآخرة، وأمر بنقل الأحطاب فصارت حولها كالجبال الشاهقة، فعملت منها الستائر، وأمر بحفر سربين «4» من خندق المدينة الى خندق القلعة، وأسقفت بالأخشاب وسلمها لأكابر الأمراء، وعمل طريق من الخندقين إلى القلعة، فخرج الفرنج لإحراق الأحطاب

فطلبهم الأمير سيف الدين قلاون الألفى وغيره، وقلب على الأحطاب المياه فطفئت «1» النيران. ولما تكامل ردم الخندق بالأحطاب، تحيل الفرنج ونقبوا من داخل القلعة إلى أن وصلوا إلى تحت الردم وعملوا بتاتى «2» ملآنة أدهانا وشحوما وأضرموا النيران وعملوا فى النقوب المفاتح «3» ، ولم يعلم العسكر بذلك إلا بعد تمكن النيران، فاحترقت تلك الأحطاب جميعها وكان ذلك فى الليل. وجاء السلطان بنفسه وسكب المياه بالروايا، فلم تقد شيئا. فعند ذلك تقدم السلطان إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومى والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير بدر الدين الخزندار، والأمير شمس الدين الدكز الكركى، وجماعة من الأمراء، وهم نصف الأمراء الصنجقية «4» ، وميمنة الأمراء البحرية، وميمنة الأمراء الظاهرية، وميمنة الحلقة، بأن يأخذوا من مكانهم فى باب السرب من حافات الخندق من جهة سوره حفرا إلى البحر الملح «5» . وتقدم إلى الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير علم الدين الحلبى، والأمير سيف الدين كرمون وجماعة الأمراء، وهم نصف الأمراء الصنجقية من جهة الميسرة وميسرة الحلقة والبحرية، بأن يحفروا من الجهة الأخرى، وأن يحفر [وا] من كل ناحية من هذه النواحى سربا يكون حائط خندق وساترا له.

وتحفر فى هذا الحائط أبواب يرمى التراب فيها ويترك فى هذه السروب حتى يساوى أرضها بأرض الخندق، وعذق «1» هذا الأمر بعز الدين أيبك الفخرى أحد أصحاب الأتابك، فأستمر العمل فى هذه الخنادق والسلطان طائف فيها بنفسه ويعمل بيده، وهو تارة فى السروب، وتارة فى الأبواب التى تفتح، وتارة على حافة البحر، ويرامى مراكب الفرنج ويجر فى المنجنيق ويرمى من الستائر «2» . وحكى عنه الأمير جمال الدين بن نهار، رحمه الله، قال: «رأيت السلطان فى هذا النهار رمى بثلاثمائة سهم نشابا» . واتفق أن السلطان حضر إلى السرب وقعد فى رأسه خلف طاقة يرمى فيها، فخرج جماعة من الفرنج الفرسان ومعهم الرماح بالخطاطيف فلم يشعر إلا وهم على باب السرب، فقام وقاتلهم يدا بيد، وكان معه الأمير شمس الدين سنقر الرومى والأمير بدر الدين بيسرى والأمير بدر الدين الخزندار وغيرهم. وصار سنقر الرومى يناوله الحجارة، فقتل بها فارسين، وقطع الأمير حسام الدين الدوادار أحد الخطاطيف بسيفه وجرح فى عضده، ورجع الفرنج على أسوأ حال. وحضر فى هذه الغزاة جمع كبير من العباد «3» والزهاد والفقهاء والفقراء وأصناف العباد، ولم يعهد فيها خمر ولا شىء من الفواحش، بل كانت «4» النساء

الصالحات يسقين الماء ويجررن فى المجانيق. وأطلق السلطان لجماعة من الصالحين الرواتب مثل: الشيخ على المجنون والشيخ إلياس، وأطلق للشيخ على البكا جملة من المال. قال: وأهتم بأمر المجانيق وأحضرها من دمشق، وعمل كرمون أغا منجنيقا بسبعة سهام وأثر أثرا حسنا. وكان للأمير عز الدين أيبك الأقرم أمير جاندار فى هذه الغزاة أوفر نصيب، وهو الذى تولى أمر المجانيق. قال: ولما أثرت المجانيق فى هذه الأسوار ونجزت الأسربة التى إلى جانب الخندق من الجهتين وفتحت فيها أبواب متسعة حصل الزحف على أرسوف فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة، وافتحت فى يوم الخميس. وذلك أن الباشورة «1» سقطت فى الساعة الرابعة من النهار، وطلع المسلمون إليها تسلقا «2» ، وما أحس الفرنج بالمسلمين إلا وقد خالطوهم من كل باب. ورفعت الأعلام على الباشورة، وحفت بها المقاتلة، وطرحت النيران فى أبوابها. وأعطى السلطان صنجقه للأمير شمس الدين الرومى، وأمره أن يؤمن الفرنج به من القتل عند ما طلبوا الأمان. فلما رآه الفرنج بطلوا القتال، وسلم الصنجق للأمير علم الدين سنجر المسرورى الحاجب المعروف بالخياط، ودليت له الحبال من قلعة أرسوف فربطها فى وسطه والصنجق معه، ونشله الفرنج إلى القلعة فأخذ

ذكر ما ملكه السلطان لأمرائه من النواحى التى فتحها الله على يده

سيوفهم، وأحضروا فى الحبال [إلى السلطان «1» ] . ولما خلت القلعة من الفرنج أباحها السلطان للمسلمين بجميع ما فيها من أموال وغلال وذخائر. وكان بها جملة من الخيول والبغال لم يتعرض [لشىء «2» ] منها إلا لما اشتراه بالمال. وكان فى أسر الفرنج جماعة من المسلمين خلصوا فى تلك الساعة وأخذت قيودهم وقيد بها الفرنج. وجرد جماعة من المقدمين يتوجهون مع الأسرى. وسير لكل أمير جماعة، ولكل مقدم جماعة. وشرع السلطان فى تقسيم أبراج أرسوف على الأمراء، وجعل هدمها دستورهم «3» ، ورسم بأحضار الأسارى لإخرابها، فكانوا كما قال الله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ «4» . ورحل السلطان عن أرسوف بعد استكمال هدمها فى يوم الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة. ذكر ما ملكه السلطان لأمرائه من النواحى التى فتحها الله على يده قال: لما فتح الله تعالى على السلطان قيسارية أمر الأمير سيف الدين الدوادار الرومى بكشف بلادها وتحقيق متحصلاتها، وعملت أوراق بذلك. ولما فتح الله أرسوف طلب [السلطان] قاضى القضاة بدمشق وجماعة من

العدول ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراء [المجاهدون «1» ] من البلاد التى فتحها الله على يديه ما يأتى ذكره. وكتبت التواقيع لكل منهم ولم يطلعوا عليها، ولما كملت التواقيع قرئت «2» على أربابها، وكتب بذلك مكتوب جامع بالتمليك: ونسخته بعد البسملة: أما بعد حمد الله على نصرته المتناسقة العقود، وتمكينه الذى «3» رفلت الملة الإسلامية منه فى أصفى البرود، وفتحه الذى إذا شاهدت العيون مواقع نفعه وعظيم وقعه علمت أنه الأمر ما يسود من يسود. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى جاهد الكفار، وجاهرهم بأعمال السيف البتار، وأعلمهم لمن عقبى الدار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشى والأبكار. فإن خير النعم نعمة وردت بعد اليأس، وجاءت بعد توحشها وهى حسنة الإيناس، وأقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاون الناس، (وصرعت أبواب الجهاد وقد غلقت فى الوجوه، وأنطقت السنة المنابر وشفاة المحابر بالبشائر التى ما اعتقد أحد أنه بها يفوه «4» ) ، فأكرم بها نعمة على الإسلام وصلت للملة المحمدية

أسبابا، وفتحت للفتوحات أبوابا، وهزمت من التتار والفرنج العدوين، ورابطت بين الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم فى عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار، وتملأ خنادقهم بشاهق الأسوار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب فى قبضة القيد إلى حلقات الأسار. ففرقة منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصينا. وفرقة تتسلم بالحجاز «1» قلاعا شاهقة وتتسنّم هضابا سامقة، فهى بحمد الله البانية الهادمة والمفيدة العادمة والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله للأمة الإسلامية راحما، وجرد به سيفا قد شحذت التجارب حديه ففرى، وحملت رياح النصرة ركابه تسخيرا فسار إلى مواطن الظفر وسرى، وكونته السعادة ملكا إذا رأته فى دستها قالت تعظيما: «هذا ملك ما هذا بشرا» . وهو مولانا السلطان الأجل العالم العادل المؤيد المنصور، ركن الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين، محيى العدل فى العالمين، قاتل الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، سلطان بلاد الله، حافظ عباد الله، وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، صاحب القرآن، ملك البحرين صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، الآمر ببيعة الخليفتين صلاح الجمهور صاحب البلاد والأقاليم والثغور، فاتح الأمصار، مبيد التتار، ناصر الشريعة المحمدية، رافع علم الملة الإسلامية، مقتلع القلاع من الكافرين، القائم بفرض

الجهاد فى العالمين «1» أبو الفتح «2» بيبرس قسيم أمير المؤمنين، جعل الله سيوفه مفاتيح «3» البلاد وأعلامه أعلاما من الأسنة، على رأسها نار لهداية العباد، فإنه آخذ البلاد ومعطيها، وواهبها بما فيها، وإذا عامله الله بلطفه شكر، وإذا قدر عفا وأصلح، فكم وافقه قدر، وإذا أهدت إليه النصرة فتوحا بسيفه قسمها فى حاضريها لديه متكرما، وقال الهدية لمن حضر، وإذا خوله الله تخويلا من بلاد الكفر وفتح على يديه قلاعا جعل الهدم للأسوار، والدماء للسيف البتار، والرقاب للإسار، والنواحى المزروعة للأولياء والأنصار، ولم يجعل لنفسه إلا ما تسطره الأملاك فى الصحائف لصفاحه «4» من الأجور، وتطوى عليه طويات السّير التى غدت بما فتحه الله من الثغور باسمه باسمة الثغور. فتى جعل البلاد من العطايا ... فأعطى المدن واحتقر الضياعا سمعنا بالكرام وقد رأينا «5» ... عيانا ضعف ما فعلوا سماعا إذا فعل الكرام على قياس ... جميلا كان ما فعل ابتداعا ولما كان- خلد الله سلطانه- بهذه المثابة، وفتح الفتوحات التى أجزل الله بها أجره وثوابه، وله أولياء كالنجوم إنارة وضياء، وكالأقدار نفاذا ومضاء، وكالعقود تناسقا، وكالوبل تلاحقا إلى الطاعة وتسابقا، وكالنفس الواحدة

عبودية له وتصادقا، رأى- خلد الله سلطانه- أن لا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يتخصص ولا يستأثر بمنحة غدت بسيوفهم تستنقذ، وبعزائمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم «1» عليهم الأشعة من أنوار شمسه، ويبقى للولد منهم وولد الولد ما يدوم إلى آخر الدهر ويبقى على الأبد، ويعيش الأبناء فى نعمته كما عاش الآباء. وخير الإحسان ما شمل، وأحسنه ما خلد، فخرج الأمر العالى لا زال يشمل الأعقاب والذرارى، وينير إنارة «2» الأنجم الدرارى، أن يملك جماعة أمرائه وخواصه الذين يذكرون، وفى هذا المكتوب الشريف يسطرون، ما يعين من البلاد والقرى والضياع على ما يشرح ويبين من الأوضاع وهو: المولى الأتابك فارس الدين أقطاى الصالحى* عتيل بكمالها الأمير جمال الدين إيدغدى العزيزى النصف من زيتا الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى نصف طور كرم الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهرى نصف طور كرم الأمير شمس الدين الدكز «3» الكركى ربع زيتا الأمير سيف الدين قليج البغدادى ربع زيتا الأمير ركن الدين بيبرس خاص ترك الكبير الصالحى أفراسين «4» بكمالها

الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحى باقة الشرقية بكمالها الأمير عز الدين أيدمر الحلى «1» الصالحى نصف قلنسوة الأمير شمس الدين سنقر الرومى الصالحى نصف قلنسوة الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحى نصف طيبة الاسم الأمير عز الدين إيغان الركنى سم الموت نصف طيّبة الاسم الأمير جمال الدين أقش النجيبى نائب سلطنة الشام أم الفحم بكمالها من قيسارية الأمير علم الدين سنجر الحلبى الصالحى بثان «2» بكمالها الأمير جمال الدين أقش المحمدى الصالحى نصف بورين الأمير فخر الدين الطنبا الحمصى نصف بورين الأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى الناصرى نصف بيزين «3» الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى الصالحى نصف بيزين الأمير فخر الدين عثمان بن الملك المغيث ثلث حلمة «4» الأمير شمس الدين سلار البغدادى ثلث حلمة

الأمير صارم الدين ضراغان «1» التترى ثلث حلمة الأمير ناصر الدين القيمرى نصف البرج الأحمر الأمير سيف الدين بلبان «2» الزينى الصالحى نصف البرج الأحمر الأمير سيف الدين إيتامش السعدى نصف يما الأمير شمس الدين آقسنقر السلحدار الظاهرى نصف يمّا الملك المجاهد سيف الدين إسحق صاحب الجزيرة نصف ديابة «3» الملك المظفر علاء الدين أخوه صاحب سنجار نصف ديابة الأمير بدر الدين محمد بى بن بركة خان دير الغصون «4» بكمالها الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار نصف الشّويكة الأمير سيف الدين كرمون أغا [التترى «5» ] نصف الشويكة الأمير بدر الدين بيليك الوزيرى نصف طبرس الأمير ركن الدين منكورس الدوادارى نصف طبرس الأمير سيف الدين قشتمر العجمى علارّ بكمالها

الأمير علاء الدين أخو الدوادار نصف عرعرا «1» الأمير سيف الدين سنجق «2» البغدادى نصف عرعرا الأمير سيف الدين دكاجك «3» البغدادى نصف فرعون الأمير علم الدين سنجر الأزكشى نصف فرعون الأمير علم الدين سنجر طردح الآمدى «4» استابا بكمالها «5» الأمير حسام الدين إيتمش بن أطلس خان سيدا بكمالها الأمير علاء الدين كندغدى الظاهرى أمير مجلس الصبر الفوقا «6» الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى نصف أرتاح الأمير شمس الدين سنقر الألفى نصف أرتاح الأمير علاء الدين «7» طيبرس الظاهرى نصف باقة الغربية الأمير علاء الدين على سكز «8» نصف باقة الغربية

الأمير عز الدين أيدمر الفخرى الأتابكى القصير بكمالها الأمير علم الدين سنجر الصير فى الظاهرى أخصاص بكمالها الأمير ركن الدين بيبرس المعزى «1» نصف قفين الأمير شجاع الدين [طغريل الشبلى «2» ] أمير مهمندار نصف كفر راعى الأمير علاء الدين كندغدى الحبيشى مقدم الأمراء البحرية نصف كفر راعى الأمير شرف الدين يعقوب بن أبى القاسم نصف كسفا «3» الأمير بهاء الدين يعقوب «4» بن الشهرزورى نصف كسفا «5» الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستاد الدار العالية نصف برويكة «6» الأمير علم الدين سنجر الحلبى «7» الغزاوى نصف برويكة الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار «8» نصف حانوتا من أرسوف الأمير سيف الدين بيدغان الركنى فرديسيا بكمالها من «9» قيسارية

ذكر قصد البرنس صاحب طرابلس حمص وانهزامه

الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى نائب الكرك ثلث جبلة «1» من أرسوف الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهرى ثلث جبلة من أرسوف [الأمير جمال الدين أقوش السلاح دار الرومى ثلث جبلة من أرسوف «2» ] الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح ثلث جلجولية الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومى ثلث جلجولية الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى الصالحى ثلث جلجولية وكتب من كتاب التمليك الشرعى الجامع نسخ، وفرقت لكل أمير نسخة بمكانه، وخلع على قاضى القضاة، وتوجه [السلطان «3» ] إلى دمشق. ذكر قصد البرنس صاحب طرابلس حمص وانهزامه «4» وفى ثامن صفر سنة أربع وستين وستمائة، جمع البرنس بيمند بن بيمند «5» جموعه، واستنصر بالدواية والإسبتار، وقصد جهة حمص. وكان النائب بها

ذكر إغارة العساكر على طرابلس بالشام وفتح قلعة حلبا وقلعة عرقا

الأمير علاء الدين [سنجر «1» ] الباقشردى «2» قد اطلع على حركته، فاحترز وجعل الطلائع على المخائض. فقصد البرنس مخاضة «3» بلاله فسبقه الباقشردى إليها وملكها. فلما جاء البرنس ورآها قد ملكت عدل إلى غيرها فقويت نفوس المسلمين، وعدّوا الماء إليه وتبعوه فانهزم، وساقوا خلفه يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن توغل فى بلاده. ذكر إغارة العساكر على طرابلس بالشام وفتح قلعة حلبا وقلعة عرقا «4» وفى سنة أربع وستين وستمائة فى شهر رجب، أهتم السلطان بأمر الغزاة، وطلب الأجناد من إقطاعاتهم من سائر أعمال الديار المصرية. فحضروا بأجمعهم. وخرج السلطان فى مستهل شعبان ورحل فى ثالثه. ولما وصل إلى غزة جرد الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى والأمير سيف الدين قلاون الألفى وجماعة من العسكر المنصور. وتوجه السلطان لزيارة البيت المقدس والخليل، صلوات الله عليه، فزار وكشف المظالم ومد سماط الخليل، عليه الصلاة والسلام، وأكل منه وأكل الناس، وفرق جملة من المال على الأئمة والفقراء والمؤذنين والعوام

وغيرهم وبلغه أن اليهود والنصارى يؤخذ منهم حقوق «1» زيارة الخليل، والنزول فى المغارة، فأنكر ذلك، وكتب مرسوما بمنع أهل الذمة من دخول المقام الشريف. ثم رحل إلى عين جالوت. وأما العسكر المجرد: فوصلوا إلى حمص فورد عليهم كتاب السلطان بالتوجه إلى طرابلس، فركبوا على غرة من العدو، فأصبحوا على حصن الأكراد، وأغاروا إلى ساحل البحر من جهة طرابلس، ونزلوا على حصن ثيب «2» من عمل حصن الأكراد فأقاموا عليه يوما واحدا، فأخذوه وأسروا منه جماعة وهرب من كان بحلبا من الفرنج وأخلوها، فدخلها العسكر وكسبوا منها شيئا كثيرا من نحاس وصناديق وسكر وغيره، ولما هرب أهلها أدرك العسكر أواخرهم، فقتلوهم وأخذوا نساءهم. ولما شاهد «3» أهل عرقا ما حل بحلبا نجوا بأنفسهم، فأخرب العسكر القلعتين ونزلوا على حصن القليعات فتسلموه فى رابع شهر رمضان بالأمان وهدموه، وعادت العساكر. فنزل الأمير سيف الدين قلاون بالقرب من القليعات، وسير بالليل بعض المقدمين ليترقب من يخرج من الفرنج، فوجد خمسين نفرا متوجهين من صافيتا «4» إلى حصن الأكراد أقجية وجرخية «5» فقتلهم جميعا، وأحضرت رءوسهم. وخرج جماعة من الداوية للغارة على الغلمان الذين يحشون «6» لخيل العسكر، وكان

ذكر إغارة العسكر على صور

الأمير سيف الدين قلاون قد رتب مع الغلمان جماعة من العسكر، فلما جاءهم الداوية خرج عليهم العسكر فقتلوا بعض الفرنج وأسروا البعض. وسير صاحب صافيتا جاسوسا فأمسك وشنق. وكان فى جملة هذا العسكر من العربان ألفا «1» فارس وجاهدوا «2» أتم جهاد، وجرح الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا جرحين. ورسم السلطان أنه من عدم له فرس بعوض عنه رأسين من البقر، ورسم بتجريد جماعة لحمص وعود العسكر. ذكر إغارة العسكر على صور «3» قال: ولما نزل السلطان على عين جالوت رحل منها إلى جهة عكا، وجرد الأمير علاء الدين البندقدار والأمير عز الدين «4» إيغان الركتى بجماعة من العسكر إلى جهة صور، فأغاروا عليها وغنموا كثيرا من الجمال والبقر والغنم. وأسر كمندور «5» صاحب سيس ونفران معه كانوا انحازوا إلى برج فأخذوا بالأمان، وأخذ وزير صور وجماعة من الفرنج. وتوجه الأمير سيف الدين أو تامش إلى جهة صيدا «6» ؛ ورسم لهم السلطان بالحضور إلى جهة صفد. وتوجه السلطان إلى عكا، وجرد الأمير

ذكر فتوح صفد

بدر الأيدمرى والأمير بدر الدين يسرى «1» إلى جهة القرين «2» ، وجرد الأمير فخر الدين الحمصى إلى جبل عاملة «3» ، فأغارت العساكر [على الفرنج «4» ] من كل جهة، وحاصر الأمراء القرين، وأخذت قلعة بالقرب من عكا، وتوالت المكاسب حتى لم يوجد من يشترى الأبقار والجواميس لكثرتها. ذكر فتوح صفد «5» كان السلطان، قبيل توجهه إلى عكا، قد رسم للأمير علاء الدين أيدكين الشهابى أحد الأمراء بالشام ولجماعة من العسكر أن يتوجهوا إلى بلاد الفرنج، ولم يعلم إلى أى جهة. ثم كتب كتابا وأمره أن لا يقرأه إلا إذا ركب هو والعساكر، وكان مضمونه أن يتوجه إلى صفد، ويتوجه الأمير فخر الدين الفايزى إلى الشقيف. فتوجه الأمير علاء الدين إليها وأحاط بها إحاطة حافظ لا مقاتل، ثم جرد الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح ومعه دهليز «6»

إلى صفد، ثم حضر إليها الأمير علاء الدين البندقدار والأمير عز الدين إيغان الركنى بعد إغارتهم على صور فنزلوا إليها وضايقوها، وأقام السلطان على عكا. ثم حضرت عساكر الغارات، وعمل [السلطان «1» ] عدة مجانيق وفرقها على الأمراء ليحملوها، ثم رحل والعساكر لابسة وساق إلى قريب باب عكا ووقف على تل الفضول، ثم دخل إلى عين جالوت، وكان الأمير سيف الدين الزينى قد توجه إلى دمشق لإحضار المجانيق، فأحضرها وحملت على الرقاب، وسار السلطان ونزل على صفد فى يوم الاثنين ثامن شهر رمضان سنة أربع وستين وستمائة. وأنفق السلطان فى العساكر، وأتفق أن الناس تناوشوا القتال فساق الأمير عز الدين خاص ترك الظاهرى وحمل وواصل «2» الطعن، فتقدم الحجارون وأخذوا فى النقوب ورمى الزراقون «3» بالنفط فاحترق الباب. وأنعم السلطان على خاص ترك بعشرة آلاف درهم وفرس وجوشن «4» وخلعة. ثم أقيمت المجانيق ورمت فى سادس وعشرين الشهر، وكان وصولها فى الحادى والعشرين منه، ولما وصلت إلى جسر يعقوب «5» عجز الجمال عن نقلها، فندب السلطان الأمراء والجند وسائر الناس لحملها على الرقاب، وخرج [السلطان «6» ] بنفسه وخواصه وجر أخشابها بيده. ووصلت العساكر التى كانت فى الغارة ببلاد طرابلس، واستمر الحصار وشرع الناس فى الزحف فى شوال، وأمر السلطان بتحريك الطلبخاناه فى نصف الليل،

وركب وهجم خندق الباشورة، فقاتل الفرنج قتالا شديدا، وأبلى المؤمنون بلاء حسنا واستشهد جماعة من المجاهدين، وصار الإنسان يرى رفيقه قد قتل فيجره ويقف مكانه، وتكاثرت النقوب ودخلت «1» النقابون إليها، وأعطاهم السلطان ثلاثمائة دينار، وصار كل من عمل شيئا جزاه السلطان لوقته عنه بالخلع والمال. وفى أثناء ذلك نظر السلطان إلى الناس وقد تعبوا فى وقت القائلة من القتال، وتفرق بعضهم وهو راكب ملازم، فأمر خواصه بالسّوق إلى الصواوين وإقامة الأمراء والجند منها بالدبابيس، وسبّ الأمراء. وقال: «المسلمون على هذه الصورة وأنتم تستريحون» ورسم بأمساك الأمراء وكانوا نيفا وأربعين أميرا فقيدهم ونقلهم إلى الزردخاناه «2» ، فوقعت الشفاعة فيهم فأطلقهم وأمرهم بملازمة مواضعهم. ووسعت النقوب وشرطت الأسوار، فحرق الفرنج الستائر التى كانت على الباشورة ليحموها «3» من التسلق «4» . فأمر السلطان بضرب الطبلخاناه، وقام كل أحد إلى جهته، فضرب المسلمون سكك الخيل «5» فى سفح الباشورة، فما أصبح الصبح إلا والصناجق على أسوار الباشورة من كل جهة، وأندفع الفرنج إلى القلعة وسلموا الباشورة فى يوم الثلاثاء نصف شوال. وفى هذا اليوم أخذت النقوب فى

برج اليتيم «1» وغيره من أبراج القلعة. فعند ذلك أتت رسل الفرنج إلى السلطان يسألون الأمان، فاشترط عليهم ألا يستصحبوا «2» سلاحا ولا لامة حرب ولا شيئا من الفضيات، ولا يتلفوا «3» ذخائر القلعة بنار ولا هدم، فعادوا لأصحابهم على ذلك. وبقى السلطان يعطى الأمانات من المرامى ويسير المناديل، وتقرر مع جماعة أنهم يفتحون الأبواب. فتسامع الفرنج بذلك، ووقع بينهم الاختلاف، وحضر خمسة عشر نفرا من القلعة منفردين «4» فى وقت واحد فخلع عليهم، ونودى فى العسكر بأن لا يرموا أحدا من الفرنج غير الديوية. فأمسك الفرنج من تلك الساعة عن القتال، وردوا الأمان وقالوا: «ما ندخل فى شرط» ، ورمى الرسل الخلع والمال المنعم عليهم من الأسوار. ثم أيقنوا بالهلاك، فسيروا رسلهم فى يوم الجمعة ثامن عشر الشهر يطلبون ما كانوا طلبوه أولا، فامتنع السلطان من ذلك. فأخذ الأتابك منديل جمال الدين أقش القليجى مقدم الجمدارية «5» وأعطاه لهم على أنهم لا يخرجون شيئا «6» مما ذكرناه. فتوجه الرسل وصاح الفرنج بعد صلاة الجمعة: «يا مسلمين! الأمان» وفتحت أبواب القلعة وقت العصر، وطلعت الصناجق. ووقف السلطان راكبا على باب صفد، ونزل الفرنج أولا فأولا وصاروا جميعهم بين يديه، وأخرجوا معهم الأسلحة والفضيات «7» وأخفوها فى قماشهم «8» ، وأخذوا جماعة من أسرى

المسلمين وصغارهم على أنهم نصارى. فلم يخف الله ذلك، ورسم بتفتيشهم فوجد ذلك معهم فأخذ منهم، وأنزلوا عن خيولهم، وجعلوا فى خيمة، وقد حصل منهم ما ينقض العهد أن لو كان، فكيف ولم يكن حقيقة. وأمر السلطان بضرب أعناقهم، فضربت رقابهم على تل بالقرب من صفد كانوا يضربون رقاب المسلمين فيه. ولم يسلم منهم غير نفرين، أحدهما الرسول بحكم أن السلطان كان قد شرب قمزا فى النقب وخرج إليه الرسول فسقاه منه، فعفا السلطان عنه وخيّره فى التوجه إلى قومه او الإقامة عنده، فاختار المقام فى خدمة السلطان وأسلم «1» ، فأعطاه السلطان إقطاعا، وأما الآخر فإن الأتابك «2» شفع فيه قأطلقه السلطان. ودخل السلطان القلعة وفرق على الأمراء ما فيها من العدد الفرنجية والجوارى والمماليك، واستناب فى القلعة الأمير عز الدين العلائى، وولى الأمير مجد الدين الطورى ومقدم العسكر الأمير علاء الدين أيدغدى السلاح دار، ونقلت إليها الزردخاناه التى كانت صحبة السلطان، وصار يحمل النشاب على كتفه، فنقلت فى أسرع وقت، وطلب لها الرجال من دمشق، وتقررت نفقة رجالها فى كل شهر ثمانين ألف درهم. واستخدم على جميع بلادها الأمراء، وعمل بها جامع بالقلعة وجامع فى الربض، ووقف على الشيخ على المجنون نصف وربع الحفاف «3»

ذكر غزوة سيس وأسر ملكها وقتل أخيه وعمه وأسر ولد عمه

والربع منها على الشيخ إلياس، ووقف على قبر خالد بن الوليد قرية منها. ورحل منها إلى دمشق فى سابع وعشرين شوال، فنزل بالجسورة، وأمر أن العساكر لا تدخل دمشق بل تتوجه إلى سيس «1» . ذكر غزوة سيس وأسر ملكها وقتل أخيه وعمه وأسر ولد عمه قال: وجهز السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وجرد معه الأمير عز الدين إيغان، والأمير سيف الدين قلاون، ورسم للأمراء بتعظيمه. وتوجهوا فى خامس ذى القعدة من سنة أربع وستين. فوصلوا إلى الدرب ساك «2» ودخلوا الدربند. وكان الملك المجير هيتوم بن قسطنطين بن باساك «3» قد ملّك ولده ليفون وانقطع هو مترهبا، فلما طلب «4» المسلمون وقف ليفون فى عسكره وطلّب، وتوهم أن المسلمين لا يقدرون على الطلوع فى الجبال لأن التكفور كان قد بنى على رءوس الجبال أبراجا، فكانت كقول الشاعر: وإن بين حيطانا عليه فانما ... أولئك عقالاته لا معاقله

فطلعت العساكر «1» فى رءوس الجبال، فلما وقعت العين فى العين أسر الملك ليفون، وقتل أخوه وعمه، وانهزم كندا سطبل عمه الآخر، وأسر ولده، وهرب صاحب حموص «2» . وكان فيهم اثنا عشر ملكا تمزقوا كل ممزق، وقتلت أبطالهم. وساقت العساكر فى هذا النهار وأقامت على كونجيد «3» من عمل سرفندكار، ونزلت فى اليوم الثانى بأعمال تل حمدون، وهى تقتل وتأسر وتحرق. وأحرقوا حموص، ثم توجهوا إلى نهر جهان فخاضته العساكر ونزلوا بقرب العمودين «4» ، وهى قلعة حصينة شاهقة للداوية. فلما طافت بها العساكر أذعن أهلها لتسليمها وكان فيها ألفان ومائتان نفرا، فقتل الرجال، وفرقت السبايا على العساكر. وأحرقت هذه القلعة وما فيها من الحواصل والذخائر. ورحلوا إلى سيس فأخربوها وأقامت العساكر أياما تحرق وتقتل وتأسر. وأقام الملك المنصور صاحب حماة بها. وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى جهة الروم، والأمير سيف الدين قلاون إلى المصيصة وأدنة وإياس وطرسوس فقتلوا وأسروا وأحرقوا. وهدمت قلعة الداوية المعروفة بالبنية «5» ، وحرقت لهم أماكن كثيرة من حصون وبلاد وهدمت.

ذكر قتل أهل قارا وسبى ذراريهم

ثم عادت العساكر إلى سيس بعد أن غنمت غنائم كثيرة، حتى بيع الرأس البقر بدرهمين ولم يجد من يشتريه، وأستاقت العساكر الغنائم. ووردت هذه الأخبار إلى السلطان وهو يتصيد بجرود «1» ، فأعطى المبشر ألف دينار، ودخل دمشق فتجهز وخرج لتلقى عساكره. ذكر قتل أهل «2» قارا وسبى ذراريهم لما توجه السلطان من دمشق ليلقى عساكره الواردة من سيس مر بقارا فى سادس ذى الحجة فأمر بنهبها وقتل من بها. وكان سبب ذلك أن بعض الركابية كان قد خدم الطواشى مرشد مقدم العسكر بحماة لما عاد من الخدمة السلطانية كما تقدم، ووصل إلى منزلة العيون مرض بها وبات ولم يشعر به الطواشى. فأتاه رجلان من أهل قارا وتوجها به إليها ليضيفاه، فأقام عندهما ثلاثة أيام حتى عوفى، ثم أخذاه بالليل وتوجها به إلى حصن الأكراد فأباعاه «3» بها بأربعين دينارا صورية. واتفق فى تلك السنة توجّه بعض تجار دمشق إلى حصن الأكراد لإبتياع أسرى، فاشترى ذلك الركابى فى جملة ما اشتراه وحمله إلى دمشق وأطلقه، فخدم بعض الجند وخرج فيمن خرج مع السلطان. فلما وصل إلى قارا حضر الركابى إلى مجلس الأمير

فارس الدين الأتابك وأنهى إليه صورة الحال، فسأله هل يعرف الذى باعه؟ قال: «نعم» فسير معه جاندارية، فتوجه ووجد أحد الرجلين فقبض عليه وأحضره. فأنهى الأتابك ذلك إلى السلطان فأحضرهما بين يديه، وتقابلا فأنكر القارى «1» . فقال الركابى: «فأنا أعرف بيته وما فيه» ، فعند ذلك أعترف القارى، وقال: «ما أنا أفعل هذا جميع من بقارا يفعله» . وكان قد حضر من قارا رهبان بضيافة إلى باب الدهليز، فأمر السلطان بالقبض عليهم، وركب بنفسه وقصد الديرة التى خارج قارا، فقتل من بها ونهبها، ثم عاد وأمر العسكر بالركوب، وقصد التل الذى بظاهر قارا من جهة الشمال، واستدعى أبا العز الريس بها، وقال له: «نحن بقصد الصيد، فمر أهل قارا بالخروج بأجمعهم» . فخرج منهم جماعة إلى ظاهر القرية، فلما أبعدوا عنها، أمر بضرب رقابهم فضربت ولم يسلم منهم إلا من هرب واختفى بالعمائر والآبار، وعصى بالأبرجة بها جماعة فأمّنوا وأخذوا أسرى، وكانوا ألفا وسبعين نفرا من رجل وامرأة وصبى. وانتمى جماعة إلى أبى العز ريسها فأطلقهم السلطان له، ثم أمر بتوسيط «2» الرهبان الذين حضروا بالضيافة فوسطوا. وتقدم إلى العسكر بنهب قارا فنهبوها «3» ، ثم أمر أن يجعل كنيستها جامعا، ونقل إليها الرعية من التركمان وغيرهم حتى شحنها بالناس، ورتب فيها خطيبا وقاضيا، وكانت قبل ذلك يسكنها النصارى. وكان السبب فى إبقاء الرئيس أبى العز أن السلطان الملك الظاهر لما ساق خلف التتار بعد وقعة عين

ذكر وقعة مع الفرنج كانت النصرة فيها للمسلمين

جالوت مر بقارا فخرج إليه هذا الرئيس وأضافه، فرعى السلطان له ذلك وأحسن إليه. وبيعث أولاد أهل قارا فتربّوا بين المماليك وتكلّموا باللغة التركية، ثم صاروا بعد ذلك أجنادا، وتأمر منهم جماعة وتولوا الأقاليم الكبار والمناصب بالديار المصرية، وتمولوا. قال: ولما فرغ السلطان من قتل أهل قارا ونهبها توجه إلى حماة، فعيّد بها عيد الأضحى، وسار منها «1» إلى أفامية «2» ، ورحل للقاء العساكر فى ثالث عشر ذى الحجة. وكان قد افرد نصيب السلطان من الغنائم، ففرق ذلك على عساكره. وأحسن إلى صاحب سيس ومن معه فى الأسر، وعاد إلى دمشق فى رابع وعشرين الشهر فدخلها مطّلبا «3» وصاحب سيس وابن عمه وأصحابه بين يديه، وخلع على الملوك والأمراء والأكابر، وسير لصاحب حماة ولأصحابه الخيول والخلع والأموال، وودعه، وتوجه إلى مملكته. وخرج السلطان من دمشق فى ثانى المحرم على ما قدمناه. ذكر وقعة مع الفرنج كانت النصرة فيها للمسلمين «4» وفى المحرم سنة خمس وستين وستمائة: بلغ العسكر الصفدى أن العدو أجاز

ذكر إغارة السلطان على عكا

على بلد طبرية، فركب العسكر وطلبوا جهة عكا، فلما وصلوا إلى وادى علين «1» خرج عليهم الفرنج، وكان قد وصلهم نجدة من قبرص وغيرها، فضرب العسكر معهم مصافا فانكسر الفرنج، وكانت عدتهم ألف ومائة فارس فقتل أكثرهم، وعملت أعزبة عظيمة بعكا لمن قتل من ملوكهم فى هذه الوقعة. ذكر إغارة السلطان على عكا «2» قد ذكرنا أن السلطان توجه إلى الشام لعمارة صفد فى سنة خمس وستين وستمائة، وأن رسل الفرنج أتوه بها وتحدثوا معه فى أمر بلادهم. وأجابوا إلى ما قاله لهم من مناصفة صيدا وهدم الشقيف. قال: وأنكر السلطان عليهم إغارتهم على مشغر «3» ، وأقيموا قياما مزعجا، وأمر السلطان العساكر بالركوب خفية «4» للغارة. وركب السلطان، والفرنج قد اطمأنوا بإرسال رسلهم إليه «5» ، فما أحسّوا إلا والعساكر قد وصلت إليهم. وساق السلطان ونزل على باب عكا بتل الفضول، وأحضرت إليه رءوس القتلى من كل جهة، وضرب دهليزه تحت التل وبات فيه، ثم أصبح على تملك الحالة، وعاد إلى جهة صفد.

ووصلت رسل سيس بالهدايا فشاهدوا، هم ورسل الفرنج، رءوس القتلى على الرماح. وأحضر جماعة ممن أسر فى هذه الغارة فقتلوا فى صفد. وطلب السلطان رسل الفرنج وقال: «هذه الغارة قبالة إغارتكم على بلاد الشقيف» . ولم ينتظر أمر الصلح، فردّ الرسل الفرنجية بغير جواب. وركب [السلطان «1» ] فى حادى وعشرين شعبان من السنة وساق [من صفد «2» ] إلى عكا، فما علموا إلا وهو على أبوابها، فقسّم الحجارين والناس على البساتين والأبنية والآبار للهدم والقطع. وعمل اليزك بنفسه على باب عكا تحت ذيل التل. وأقام أربعة أيام حتى تكامل الهدم والإحراق والقطع، وسير إلى طاحون كردانة «3» التى لبيت الإسبتار فهدمها. وفى هذه الأيام أحضر رسل سيس ورسل بيروت «4» [هدايا] وجماعة «5» من أسرى المسلمين وردوا مال التجار، وكتبت أجوبتهم وتوجهوا. وفى شهر رمضان وصل رسل «6» صور وسألوا استمرار الهدنة. فقال السلطان: «أنا ما فعلت ما فعلت إلا لأنكم قتلتم السابق شاهين غلامى، وإذا قمتم بديته استمرت الهدنة» . وأحضر أولاد السابق شاهين فقرر ديته خمسة عشر ألف دينار صورية،

ذكر الصلح مع بيت الإسبتار على حصنى الأكراد والمرقب

أحضر الرسل نصفها وجماعة «1» من أسارى المغاربة «2» واستمهلوا باليقية. وقال السلطان: «تبنين وهدنين وبلادهما [بلاد «3» ] أخذتهما بسيفى وصارت للإسلام فاستقرت للمسلمين» . وأجيبوا إلى الصلح وكتبت الهدنة لمدة عشر «4» سنين. واستقرت أيضا قاعدة الصلح ببيروت بعد أن تقرر عليهم أن يردوا أموال التجار الذين كانوا أخذوا بمراكب «5» الأتابك وإطلاقهم وثمن المراكب. ثم قبلت هديتهم واستمرت هدنتهم. ذكر الصلح مع بيت الإسبتار على حصنى الأكراد والمرقب «6» كان بيت الإسبتار قد تقدم طلبهم لذلك. فاستقر هذا الأمر بشرط أن الفسخ يكون للسلطان وحضرت رسلهم الآن، والتمسوا أن يحلف لهم السلطان. فقررت الهدنة لعشر سنين وعشرة شهور وعشرة أيام وعشر ساعات وبطلت القطائع عن بلاد الدعوة وهى ألف ومائتا دينار، ومائة مدى «7» حنطة

ذكر فتوح يافا

وشعيرا، وعن مملكة حماة وهى أربعة آلاف دينار، وعن شيزر وأفامية وهى فى كل سنة على أبو قبيس ستمائة دينار مصرية، وعلى عينتاب «1» خمسمائة دينار صورية، والرسم المعروف بالمفادنة، وهو عن كل فدان مكو كان غلة وستة دراهم. وسير لإستحلاف مقدم الإسبتار، الأمير فخر الدين المقرى والقاضى شمس الدين ابن قريش كاتب الدرج. ذكر فتوح يافا «2» قال: كان الصلح قد استقر بين السلطان وصاحب يافا جوان ديكين، فصار نوابه يتعدّون، وسيروا متجرّمة فى زى صيادين إلى قطيا. فاتفق هلاك صاحب يافا وقيام ولده جاك «3» بعده. ولما كان السلطان على صفد لعمارتها حضر إليه قسطلان «4» يافا وسأله فى هدنة لولد صاحبها. فامتنع السلطان من ذلك. ثم وصلت الأخبار أن أهل يافا يحملون الميرة إلى عكا، وكانت ممنوعة عنها. وأقاموا فى يافا حانة وأوقفوا فيها عدة من المسلمات، واعتمدوا أسبابا ليست فى هدنة. فلما كان فى سنة ست وستين وستمائة، خرج السلطان من الديار المصرية متوجها إلى الشام، وذلك فى مستهل جمادى الآخره ورحل فى ثالثه فوصل إلى

غمزة، وبلغه أن جماعة من الجمالين تعرضوا إلى الزرع فقطع أنوفهم. وبلغه أن علم الدين سنجر الحموى أحد أمرائه، ساق فى زرع فأنزله عن فرسه واعطاه [وأعطى «1» ] سرجه ولجامه لصاحب الزرع. ونزل السلطان على العوجاء فحضر إليه القسطلان وأكابر يافا، فعوقوا إلى أن يخرجوا من الدعاوى. فبذلوا للسلطان تسليم المدينة والقلعة على أن يطلقوا بأموالهم وأولادهم. فأجيبوا إلى ذلك. وركب السلطان فى العشرين من جمادى الآخرة وساق إليها وما أحسّ أهلها إلا والعساكر قد أطاقت بها. وأخذ الأتابك من حصل معه الحديث منهم وحضر به إلى يافا، فما تفاوضوا فى الحديث إلا والعسكر قد طلعتها من كل جانب، وفتحت أبوابها. ثم زحفوا على القلعة فسلمها أهلها فى اليوم الثانى، ومنع السلطان من نهبها، وطلع إلى القلعة وجهز أهلها إلى مأمنهم، وجرد معهم الأمير بدر الدين بيسرى. وشرع فى هدم القلعة فهدمت، وأخذ من أخشابها وألواح رخام وجدت فيها ما أوسق بها مركبا وسيرها إلى القاهرة. ورسم بعمل ذلك الخشب مقصورة فى الجامع الظاهرى بالحسينية والرخام لمحرابه. ورتب السلطان الخفراء على السواحل وألزمهم بدركها، ورسم أن المال المتحصل من هذه البلاد لا يغمس فى غيره، وجعل مأكوله ومشروبه منه. وملك الأمير علاء الدين منها قرية، والأمير علم الدين سنجر الحموى قرية. ورتب إقامة التركمان بالبلاد الساحلية لحمايتها، وقرر عليها خيلا وعدة، ورسم بتجديد مقام الخليل، عليه الصلاة

والسلام، وعمل مكان الخوان ناحية من الحرم «1» . وهذه يافا فتحها عمرو بن العاص فى خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، ويقال بل فتحها معاوية، ذكره البلاذرى. وذكر عز الدين بن عساكر أن الملك طنكى بناها فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، ونزل عليها السلطان الملك الناصر رحمه الله، فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. فخرج البطرق «2» وجماعة منها وسألوا السلطان على أنهم يسلموها بالأمان ويكونوا أسارى، واستمهلوا فى التسليم إلى الصبح «3» فأمهلهم. فوصل ملك الانكتير فى تلك الليلة إليها ودخل قلعتها، ونقض ما كان تقرر، فرحل السلطان عنها ونزل اللاطون «4» . ثم نزل عليها الملك العادل بعساكر ولد أخيه الملك العزيز صاحب مصر ففتحها فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. هكذا حكاه القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر فى فتحها، وقد تقدم أنها من الفتوح الناصرية «5» . قال: وما حضر الأنيرور فرديك فى أيام الملك الكامل نزلها وحصن قلعتها وبناها. وما حضر الريدافرنس بعد خلاصه من الأسر فى سنة ثمان وأربعين وستمائة، عمّر مدينتها وأنفق عليها أموالا كثيرة.

ذكر فتوح شقيف أرنون

قال: ولما فرغ السلطان من هدم يافا رحل عنها فى ثامن عشر رجب، ووصل إلى صفد ثم منها إلى الشقيف. ذكر فتوح شقيف أرنون «1» كان السلطان قد كتب إلى الأمير جمال الدين النجيبى، نائب السلطنة بالشام، بتجهيز العسكر الشامى إلى أن يحضر بريدى يسير قدامهم. ولما خرج إلى الشام فى هذه السفرة توجه البريدى. وكان السلطان قد قرر مع النجيبى أمارة يمسكها البريدى من يده، فوصل البريدى وأمسك الأمارة من يده. فأحضر الأمراء للوقت ورسم لهم باتباع البريدى، فسار بهم إلى بانياس، فأخرج لهم بريدى آخر كتبا مختومة فى بانياس للأمير علم الدين الحصنى والأمير بدر الدين الأتابكى متضمنة منازلتهم للشقيف، وأنهم لا يجذبون قتالا ولا غيره، فما عرف بهم إلا وقد نازلوا الشقيف. وكان جماعة من الفرنج قد توجهوا من الشقيف إلى عكا وصيدا، فنازله «2» العسكر قبل حضورهم «3» ، وسار بعض العسكر إلى جهة صيدا فأسروا وقتلوا. وجهز هذا العسكر أخشاب المجانيق والستائر. ثم جهز السلطان بعد فتوح يافا الأمير بدر الدين بكتوت من عكا «4» بعسكر مصرى فنزلوا على الشقيف. وتوجه السلطان فوصل إليه يوم الأربعاء تاسع شهر رجب، فأقام منجنيقين ورمى بهما فى اليوم الثانى من وصوله.

واتفق أن الفرنج الذين بالشقيف كانوا سيروا شخصا إلى عكا لما نزل عليها العسكر الشامى يعلمونهم بحالهم ويذكرون لهم عورات الحصن «1» ، فسيروا «2» الجواب. فلما وصل القاصد وحضر إلى السلطان وأحضر رسالة أخوية أهل عكا إليهم «3» [تتضمن إعلام النواب بالشقيفين أن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظتم به فجدوا فى أمركم «4» ] . فحصل التحبل فى قراءتها، وعلم منها أسماء المقدمين الذين بالشقيف، فكتبت الأمارات لهم بأسمائهم ورمى بها إلى الحصن بالنشاب. وكتب أحد التراجمة عوض [رسالة] أخوية عكا، وعكس عليهم فيها القضايا. وكان فى الكتاب أن الوزير لا يكون خاطره متغلثا «5» بسبب المصادرة له، ففى ساعة يمكن تعويضه عن ذلك، فعكس ذلك: وقيل للمقدم بالشقيف يحترز من الوزير كليام، ففى قلبه إحنة من مصادرتا له، وأغرى بينهم بهذا القول وما يناسبه. ورميت هذه الكتب فى سهم فحصل «6» الاختلاف بينهم، ووجدوا الأمانات التى كانت كتبت للمقدمين، فأمسكوا جماعة وتوهموا من الوزير. وكان الفرنج لما تسلموا الشقيف من الملك الصالح إسماعيل، فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، هو وصفد، عمروا إلى جانبه قلعة أخرى، فعجزوا فى هذا

الوقت عن حماية جهتين. فلما كان فى ليلة الأربعاء السادس والعشرين من شهر رجب عمدوا إلى هذه القلعة المستجدة وحرقوا جميع ما بها من غلة وقماش وغيره، وانتقلوا إلى القلعة المستقرة، وأصبح المسلمون وتسلموها، وقدمت المجانيق «1» إلى هذه القلعة فى سابع وعشرين الشهر ورمى بها. وأقام السلطان فى سطح برج من أبراجها بالقرب من العدو، فعرف الفرنج موضعه فرموا حجرا قريبا منه فقتل ثلاثة نفر، ولم ينتقل السلطان عن موضعه. وكان باب هذه القلعة تجاه باب القلعة الأخرى، فعمل السلطان سربا طويلا فى أعلى القلعة نازلا إلى أسفلها وصار يتعلق به ويطلع وينزل وهو لابس عدته. قال واشتد القتال، فبينما الناس فى ذلك وإذا بالوزير كليام قد خرج مستأمنا، ثم سألوا الأمان على نفوسهم وأنهم يؤخذون أسارى، وسألوا إطلاق الحريم والأطفال، فأجاب السلطان إلى ذلك. وفى يوم الأحد سلخ شهر رجب سنة ست وستين وستمائة، استدعوا الصناجق فرفعت على القلعة. وسير الأمير بدر الدين الخزندار فتسلمها «2» ، وخرج الفرنج إلى الخنادق فقيدوا، وأخرج النساء والأطفال. وجرد الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى «3» صحبتهم فأوصلهم إلى جهة صور، وسلم الرجال إلى العساكر «4» . قال: وهذا الشقيف من أحصن المعاقل وأحسنها وكان مضرة على بلاد الصبيبة. وكان الملك العادل الكبير قد جدده، وما زال فى يد الإسلام إلى أن سلمه الصالح إسماعيل للفرنج على ما قدمناه.

ذكر توجه السلطان إلى طرابلس وإغارته عليها

قال: ولما قدر الله تعالى فتح الشقيف، انفق [السلطان] فى جميع العساكر وخلع على الملوك الذين فى خدمته، مثل: الملك المنصور صاحب حماة وأخيه، وأولاد صاحب الموصل، والملك الأمجد بن العادل، وغيرهم من أولاد الملوك، وعلى الأمراء والمقدمين، ومن جرت عادتهم بالخلع. وشرع السلطان فى هدم القلعة المستجدة فهدمت إلى الأرض ورتب الأمير صارم الدين قايماز الظافرى «1» نائبا لهذه القلعة، ورتب فيها الأجناد والرجالة، ورتب بها قاضيا وخطيبا «2» ، وأقيمت شعائر الإسلام بهذه القلعة وجميع تلك البلاد، وولى الأمير سيف الدين بلبان الزينى عمارتها، وكان قد خرج منها جماعة من المسلمين حالة الحصار فكتب لهم السلطان فدنا وقفا عليهم. ذكر توجه السلطان إلى طرابلس «3» وإغارته عليها كان بيمند صاحب طرابلس قد كثر تعديه على بلاد الإسلام، وأخذ البلاد المجاورة له بعد زوال الأيام الناصرية واستيلاء التتار على الشام، وكان من أكبر أعوان التتار. فلما رحل السلطان من الشقيف نزل قريبا من جسر بانياس، وجهز الأثقال إلى دمشق وجرد الأمير عز الدين إيغان بجماعة توجهوا من جهة، والأمير بدر الدين الأيدمرى بجماعة من جهة أحرى، فحفظت الطرقات

ذكر فتوح أنطاكية

وامتلأت بالعساكر، وتوجه إلى طرابلس على جهة جبال الطنيين «1» ، وكان البرنس قد وعّر الطرقات، فوصل السلطان فى نصف شعبان وملك هذه الجبال التى يقول فيها المتنبى: وجبال لبنان وكيف بقطعها ... وهو الشتاء وصيفهن شتاء لبس الثلوج بها علّى مسالكى ... فكأنها ببياضها سوداء وخيم السلطان قريبا من طرابلس واستمر على الركوب إليها، والعساكر تناوش [أهلها] القتال ويرامونهم «2» بالنشاب، وافتتح برجا قد عصى فيه جماعة من الفرنج [و] ضرب رقابهم، وجرد جماعة خربوا الحرث ونهبوا تلك الجبال وأخذوا عدة مغاير بالسيف، وقطعت الأشجار وهدمت الكنائس وقنى المياه والقناة الرومانية، وقسم السلطان الغنائم فى العساكر ورحل عن طرابلس فى العشر الآخر من شعبان من السنة. ذكر فتوح أنطاكية «3» لما رحل السلطان عن طرابلس لم يطلع أحدا على الجهة التى يقصدها، فتوجه إلى حمص فى سابع وعشرين شعبان. وأمر ببناء مسجد بحمص، ولما وصل إلى حماة رتب العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، وفرقه مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة صحبة الركاب السلطانى.

فتوجه الأمير بدر الدين الخزندار إلى السويدية، وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى الدرب ساك، فقتلوا وأسروا. وتوافوا جميعهم بأنطاكية، ونزل السلطان أفامية، ومنها إلى جسر تحت الشغر وبكاس، وأصبح مغيرا على أنطاكية وذلك فى مستهل شهر رمضان. وتقدم فى الجاليش «1» الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار، فصادف جماعة من عسكر أنطاكية وأنتشبت الحرب بينهم، فحمل أحد أجناد الأمير شمس الدين أقسنقر وهو فلان الدين المظفرى على كنداسطبل «2» فأسره وأحضره إلى السلطان، فأمّره السلطان وأحسن إليه. وأطافت العساكر بأنطاكية من كل جانب. وكان النزول عليها بالخيام والثقل، بكرة يوم الجمعة ثالث شهر رمضان «3» سنة ست وستين وستمائة. ولما حضر كنداسطبل إلى السلطان رآه رجلا عاقلا، فسأل أنه يدخل إلى أنطاكية ويتوسط لأهلها، فجرى السلطان على عادته فى الإنذار قبل المهاجة. فسيّر كنداسطبل [من «4» ] أحضر ولده رهينة، ودخل البلد وتحدث، وخرج مع جماعة من القسيسين والرهبان، وأقاموا يترددون ثلاثة أيام فظهر منهم قوة نفس وخوف من صاحبهم البرنس. وفى بكرة السبت أنذرهم بالزحف، وصبر حتى دخل الأقساء والرهبان إلى أنطاكية، ورسم بالزحف. فزحفت العساكر وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالا شديدا. فتسور

المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة ونزلوا المدينة، فهرب أهلها إلى القلعة. وشرعت العساكر فى النهب والقتل والأسر، وما رفع السيف عن أحد من الرجال بالمدينة، وكان بها فوق المائة ألف نفر. وأخذ التركمان من الغنائم ما لا يحصى. ثم رسم السلطان بحفظ أبواب المدينة والإحتراز عليها. وأما القلعة فاجتمع فيها ثمانية آلاف مقاتل غير الحريم والأولاد، فتحاشروا بها فمات عالم. وأما البالى «1» والوزير الوالى فإنهم لما شاهدوا هذا الحال هربوا رجالة فى الليل، تدلوا بالحبال، وأصبح أهل القلعة فما وجدوا أحدا منهم، ولم يكن بالقلعة ماء ولا طواحين تكفيهم. فسيروا يوم الأحد ثانى يوم الفتح يطلبون الأمان من القتل وأنهم يؤخذون أسرى. فللوقت طلع السلطان فصادف جميع من فى القلعة قد خرج إلى ظاهرها وعليهم الملابس الحسنة واستغاثوا للسلطان، فعفا عنهم من القتل، وأحضرت الحبال فربطوا بها، وتسلم كل أمير جماعة من الأسرى، وكذلك كل مقدم، والكتاب ينزلون ذلك، وكتبت كتب البشائر، ومن جملتها كتاب إلى صاحب انطاكية «2» : نسخته بعد البسملة: «قد علم القومص الجليل [المبجل المعزز الهمام، الأسد الضرغام، بيمند فخر الأمة المسيحية، رئيس الطائفة الصليبية كبير الأمة العيسوية «3» ] بيمند

المنتقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية [منه] من البرنسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده. ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له فى عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر، وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من بساط الأرض، ودارت الدوائر على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال، واستخدمت الأولاد، وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار، ولم يترك إلا ما يصلح لأعواد المجانيق [إن شاء الله] والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والمواشى، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب «1» واستخدم الخديم وركب الماشى» . «هذا وأنت تنظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: على هذا الصوت «2» ، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود. وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت ماشية إلا وهى لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهى فى ملكنا جارية، ولا سارية إلا وهى فى أيدى المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير «3» التى هى فى رءوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التى هى فى التخوم مخترفة وللعقول خارقة. وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر. وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا تبعد عنك، وأن بعدنا فسنعود على الأمر. وها نحن نبلغك بماتم، ونفهمك بالبلاء الذى عم» .

«كان رحيلنا عنك [و «1» ] عن طرابلس يوم الأربعاء رابع عشرين شعبان، ونزولنا أنطاكية فى مستهل شهر رمضان. وفى حالة النزول خرجت عساكرك المبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كنداسطبل، فسأل مراجعة أصحابك. فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك وأعيان أعوانك فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك فى إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأن رأيهم فى الخير مختلف، وقولهم فى الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت رددناهم وقلنا: «نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول فى الإنذار والآخر» فرجعوا متشبهين بفعلك ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففى بعض ساعة مر شأن المرشان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان» . «وفتحناها بالسيف فى الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من أخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شىء من الدنيا، فما بقى أحد منا إلا وعنده شىء منهم ومنها. فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنهاية فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهى توزن «2» بالقنطار، وداماتك «3» وكل أربع منهن تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسرت

ونشرت، وصحفها من الأناجيل المزورة قد نثرت «1» ، وقبور البطارقة قد بعثرت. ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس والمدبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء الملوك وقد دخلوا فى المملكة. ولو شاهدت النيران وهى فى قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان قد زلّت كل منها وزالت، لكنت تقول: «يا ليتنى كنت ترابا، ويا ليتنى لم أوت بهذا الخبر كتابا» ، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفى تلك النيران بماء عبرتك. ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك «2» وقد أخذت فى السويدية «3» بمراكبك، فصارت سوانيك من من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذى أنطاك «4» أنطاكية منك استرجعها، والرب الذى أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض أقتلعها. ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام وهو: دير كوش، وشقيف تلميس، وشقيف كفردنين، وجميع ما كان من بلاد أنطاكية، [و] «5» استنزلنا أصحابك من الصياصى وأخذناهم بالنواصى، وفرقناهم فى الدانى والقاصى، ولم يبق شىء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما سمى بالعاصى، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فهو أجراها بما سفكناه فيه دما» .

ذكر ملخص أخبار أنطاكية

«وكتابنا هذا يتضمن البشرى لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر، بكونك لم تكن لك فى أنطاكية فى هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت بها فتكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا، وإما كسيرا. وسلامة النفس هى التى يفرح بها الحى، إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات. ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحق الأمر على ما جرى. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغى لك أن تكذب لنا خيرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخيرا «1» .» قال: ولما وصل إليه هذا الكتاب اشتد غضبه، ولم يبلغه خبر أنطاكية إلا من هذا الكتاب. ولما تسلم السلطان القلعة سلمها للأمير بدر الدين [بيليك] الخزندار والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. وأما كنداسطبل فإن السلطان أطلقه وأطلق أهله وأقاربه، فاختار التوجه إلى سيس، ففسح له فى ذلك. ذكر ملخص أخبار أنطاكية ذهب المفسرون لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ «2» أن القرية أنطاكية.

وقال أصحاب لأخبار فيها: إن الملك انتيوخس قصد بناء مدينة يعمرها لتكون نسبتها إليه، فسير حكماه ووزراه «1» لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر والجبل، فوجدوا هذا المكان. فاختاروه لأنه جبلى بحرى «2» يحكم عليه الهواه الغربى، وعيون الماه العذبة حوله، والبحيرة الحلوة شرقية، والبحر المقلوب، وهو العاصى، خارج سورها وعليه طواحينها، وفيه المراكب تحمل الغلات إليها وغير ذلك. فعرفوا ملكهم هذه الصفات، فأمر ببنائها، وأخرج النفقات، وطلبوا حجرا جيدا لبنائها، فوجدوه فى مسافة يومين منها. فاستخدم لها من الرجال والبنائين ثمانين ألف رجل وثمانمائة رجل، ومن العجل ستمائة عجلة، وألف وتسعمائة حمار، ومائة زورق لنقل الحجارة، خارجا عما فى ميناء السويدية من العجل والرجال والزوارق التى تحمل الرخام والعمد والقواعد. فنجزت فى ثلاث سنين ونصف، وبنيب أسوارها وأبراجها وهى مائة وثلاثة وخمسون برجا، ومائة وثلاثة وخمسون بدنة، وسبعة أبواب، منها خمسة كبار وبابان صغارا «3» . وجعل فيها سبع عوادى ترمى إلى النهر عند الوادى المسمى الحسكروت، وجعل منه باب «4» فى الجيل ينزل منه إلى المدينة، وعليه قناطر يعبر الناس «5» عليه، وإذا امتلأ يخرج من تحت السور، وساقوا الماء إليها «6» فى قناتين: البوليط «7» والعاوية «8» .

ولما فرغت حضر الملك إليها ورآها، فأكرم الصناع ومدّ لهم طعاما ثلاثة أيام، وأمر ببناء الأدر والدكاكين، فشرع الناس فى بنائها، ووهب كل من يحضر إليها وينزل حولها خراج ثلاث سنين، وبنى الكنائس وبيوت عباداتهم فاجتمع العالم إليها. واتفق أن الملك جلس فى بعض الأيام وهو مسرور فرح، فقال له وزيره: «لو عرفت ما أنفقت فى هذه المدينة ما كنت تفرح» فاستيقظ لنفسه، وأمر بعمل حساب ما أنفق فيها سوى الضيافات والجواميس التى أخذت من المروج والبهائم بغير ثمن، فجاءت أربعة آلاف قنطار وخمسين قنطارا ذهبا، فعظم ذلك عنده، وأمسك عن العمارة، وشرع فى بناء مدائن تغل، فبنى سبع مدائن، وأسكن الناس فيها. واستمرت فى يد الملك، ومن ملك بعده، وعمارتها تتزايد، وكل ملك يؤثر بها تأثيرا، ويجدد بها طلسما إلى أن ظهر المسيح عليه السلام. وما زالت فى يد الروم إلى أن فتحها المسلمون فى خلافة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كما قدمناه فى خلافته. ولما ولى معاوية بن أبى سفيان نقل إلى أنطاكية فى سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص، وكان منهم: مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن مسلم الأنطاكى. ولم تزل بيد عمال الخلفاء فى الدولتين الأموية والعباسية، ثم استقرت فى يد بنى حمدان. فلما مات سيف الدولة ابن حمدان اتفق أهلها أنهم لا يمكنون أحدا من الحمدانية يدخلها، وولوا شخصا يسمى بغلوش الكردى، وكان قد ورد الغزاة من خراسان خمسة آلاف رجل فأمسكهم وتقوى بهم واشتد أمره، وكان منهم رجل أسود

من الصعاليك يعرف بالزعلى «1» قد جمع طائفة وسموا نفوسهم بالغزاة. فدخل يوما عليه للسلام، فقتل الكردى وهرب أصحابه، واستولى الأسود على المدينة هو ومن معه. وكان فى بغراش نائب للروم اسمه ميخائيل البرجى وبطرس. فحضرا إليها فى جمع كبير، فعجز المسلمون عن حفظها لا تساعها، فملكها الروم فى يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذى الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. فطرح المسلمون النار بينهم وبين الروم، وفتحوا باب البحر وخرجوا منه. وأسر الروم جميع من كان بها من المسلمين، فقوى الروم بفتحها، وتوجهوا إلى حلب فصالحهم أهلها وأهل حمص على مال يحمل فى كل سنة إلى ملك الروم وهو عشرة قناطير ذهبا، ومن كل مسلم دينار سوى ذوى العاهات، وأقامت إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فسير جعفر بن فلاح غلامه «فتوحا» إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر فلم يظفر بها. وحدثت فى هذه السنة زلزلة عظيمة هدمت قطعة من سورها فأنفذ ملك الروم ثانيا، اثنى عشر ألف دينارا وصناعا «2» لإصلاح ذلك، فبنيت أحسن ما كانت. وبنى قلعتها لاون بن الفقاس وحصنها، وكان فى خدمته جماعة من الأرمن، ومات فكمل عمارتها الملك بسيل «3» وهو الذى وجد له لما مات ستة آلاف قنطار ذهبا، ولما ولى كان فى حاصل بيت المال أربعة قناطير لا غير، وهو الذى ملك أرجيش من بلاد أرمينية فى سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان ملكه تسعا وأربعين سنة وأحد عشر شهرا. وبقيت فى أيدى الروم إلى أن فتحها الملك سليمان بن قتلمش السلجقى فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة على ما أوردناه فى

أخبار الدولة السلجقية، وبقيت فى يده إلى أن قتل فى سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فصارت بيد وزيره الحسن بن طاهر الشهرستانى يتولى أمرها. فلما استرد السلطان ملكشاه بلاد الشام استردها وضمها إلى الوزير المذكور، فأقام بها إلى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ثم فارقها [الوزير] ودخل الروم، فسلمها لباغى شيان بن ألب [أرسلان] وكانت بنته منزوجة للملك رضوان صاحب حلب. وحدثت زلزلة بأنطاكية فى التاسع عشر من شعبان سنة أربع وثمانين وأربعمائة خربت دورها وأهلكت خلقا كثيرا، ورمت من أبراجها نحو السبعين برجا، فتقدم السلطان بعمارة ما انهدم فى سنة خمس وثمانين. واستمرت أنطاكية بيد ملوك الإسلام إلى أن ملكها الفرنج فى جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة على ما قدمناه. وكان قد اجتمع عليها جماعة من ملوك الفرنج والملك الكبير المشار إليه منهم اسمه كندفرى، فقرر أن كل ملك من الملوك يحاصرها عشرة أيام، ومن فتحت فى نوبته فهى له، ففتحت فى نوبة ملك منهم اسمه ميمون «1» . فلما اتصل ذلك بملوك الإسلام بالشام اجتمعوا ومقدميهم ظهير الدين طغرتكين صاحب دمشق، وجناح الدولة حسن صاحب حمص، وكربغا صاحب الموصل، وحاصروا أنطاكية، وكان الفرنج فى قل، فسألوا الأمان ليخرجوا منها فلم يجيبوهم، ووقع تنافس بين المسلمين فخرج الفرنج إليهم فانهزموا من غير قتال. وبقى ميمون مالكها حتى كسره الدانشمند وأسره وقتل أكثر عسكره، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فاشترى نفسه بعد ذلك بمائة ألف دينار، واستخلف ميمون فيها ولد أخيه طنكرى،

وركب فى البحر وسار إلى بلاده ليستنجد الفرنج ويعود، فأهلكه الله تعالى. واستمر طنكرى مالكا لأنطاكية وأعمالها إلى أن أهلكه الله تعالى فى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة، وملكها بعده روجار. وكان طنكى «1» قد استدعاه من بلده وجعله ولى عهده، وهو الذى حضر الى بيت المقدس فى ملك بغدوين، وكان بغدوين شيخا كبيرا، فاجتمعا بالبيت المقدس وقررا عهدا: أن من مات منهم قبل الآخر انتقل ملكه إلى الباقى منهما. وتزوج روجار بنت بغدوين، فقتل روجار فى حرب كانت بينه وبين نجم الدين إيلغازى بن أرتق فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. فقتل روجار «2» وجميع من معه، فسار بغدوين إلى أنطاكية وملكها، وأقام بها إلى أن وصل شاب، فى ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة، من الفرنج فى البحر وادّعى أنه ميمون بن ميمون الذى كان صاحب أنطاكية، فسلم بغدوين أنطاكيه له فملكها. وكان شجاعا مقداما، وأقام بها إلى أن سار نحو الدروب فلقيه ابن الدانشمند فكسره وقتل جماعة من عسكره بأرض عين زرية، وذلك فى نصف شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. وملك بعده الأبرنس، ولقى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى على حصن الأكراد فى شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فكسر المسلمون وقتل جماعة منهم، واستولى الفرنج على أثقالهم. فجمع نور الدين العساكر، والتقاه فى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وخمسمائة فقتله وقتل فرسانه واستولى على خيامه. وولى أنطاكية بعده الأبرنس أرناط، فأقام إلى أن لقيه مجد الدين أبو بكر نائب

ذكر ما اعتمده السلطان فى قسمة عنائم أنطاكية وإحراقه قلعتها وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: ديركوش وشقيف كفردنين وشقيف كفر تلميس

الملك العادل فى المملكة الحلبية، وذلك فى صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فكسره وقتل أصحابه وأخذه أسيرا، فأقام فى حبس الملك العادل. وملك أنطاكية وهو فى الأسر رجل من ذريته اسمه بيمند «1» وخلص أرناد «2» ، وتزوج صاحبة الكرك وأقام بالحصن حتى ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وقتله. وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة عقد السلطان الملك الناصر الكبير مع بيمند صاحب أنطاكية هدنة لمدة ثمانية أشهر من تشرين الأول إلى آخر آيار، وحلفا على ذلك، ورحل الناصر عنها وتوجه إلى حلب على ما ذكرناه فى أخباره. ثم ملكها الأبرنس المعروف بالأسير، وملكها ابنه من بعده، ثم ملكها بيمند ولده أيضا، وهو الذى أخذت منه الآن فى الدولة الظاهرية. هذا تلخيص خبر أنطاكية من حين عمرت إلى حين فتحت هذا الفتح. ذكر ما اعتمده السلطان فى قسمة عنائم أنطاكية وإحراقه قلعتها وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: ديركوش وشقيف كفردنين وشقيف كفر تلميس «3» قال: ولما فتحت أنطاكية وفرغ الناس من نهبها، رسم السلطان بإحضار المكاسب للقسمة، وركب وأبعد عن الخيام، وحمل ما غنمه وما غنمه مماليكه

وخواصه. وقال للأمراء: «ينبغى أن تخلصوا ذمتكم وتحضروا «1» ما غنمتموه، وأنا أحلّف الأمراء والمقدمين، وهم يحلفون أجنادهم ومضافيهم» . فأحضر الناس الأموال والمصاغ من الذهب والفضة، فطال الوزن، فقسمت النقود بالكاسات والشربوشات «2» ، ولم يبق غلام إلا أخذ. وتقاسم الناس النسوان والبنات والأطفال، وبيع الصغير بأثنى عشر درهما، والجارية بخمسة دراهم. وباشر السلطان القسمة بنفسه، وما ترك شيئا حتى قسمه من الأموال والقماش والمصوغ والدواب والمواشى. ثم ركب إلى قلعة انطاكية وأحرقها وعم الحريق أنطاكية. وكان صاحب طرابلس قد استولى عند أخذ التتار حلب على ديركوش، وهو من أمنع الحصون، وعلى شقيف كفردنين وعلى شقيف «3» كفر تلميس، وكانت هذه الحصون شجى فى حلق المسلمين. فلما فتحت أنطاكية انقطعت حيلة هذه الحصون فطلبوا الأمان، على أنهم يسلمون الحصون ويؤسرون، فسير الأمير بدر الدين بيليك الأشرفى الظاهرى، فتسلم ديركوش فى ليلة الجمعة حادى عشر شهر رمضان، وتسلم بقية هذه الحصون.

ذكر صلح القصير على المناصفة

ذكر صلح القصير على المناصفة «1» كان القصير للبطرك الكبير خاصة، وزعموا أن بأيديهم خط عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما نزل السلطان فى هذه الجهات بذلوا نصف البلاد للسلطان، فكتبت لهم هدنة، وأنضاف إلى مملكة الإسلام نصف بلاد القصير. ذكر فتوح حصن بغراس «2» من الديوية قال: ولما فتح الله تعالى هذه الحصون والجهات على السلطان ولم يبق بتلك الجهات سوى بغراس، خاف من بها من الديوية، فانهزموا وتركوه. فجهز السلطان الأمير شمس الدين أقسنقر [الفارقانى] أستاد الدار العالية بعسكر فتسلمه فى يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان من السنة، ولم يجد به سوى امرأة عجوز، ووجده عامرا بالحواصل والذخائر. وقال البلاذرى: كانت أرض بغراس لمسلمة بن عبد الملك فوقفها فى سهيل البر، ولمّا قصد المسلمون غزاة عمورية صحبة مسلمة، حمل هو والعسكر النساء معهم للجد فى القتال. فلما صاروا فى عقبة بغراس عند الطريق المستدقة التى تشرف على الوادى سقط جمل عليه امرأة، فأمر مسلمة النساء أن يمشين، فسميت تلك العقبة عقبة النساء. قال: وكان فى تلك الطريق سباع لا يسلك فيها بسببها، فشكا الناس ذلك إلى الوليد بن عبد الملك فبعث أربعة آلاف جاموسة وفحولها، فانكفأت السباع. ثم بناها بعد ذلك وحصنها أتم تحصين

ذكر الإغارة على صور

الملك فقفور ملك الروم الذى خرج إلى بلاد الإسلام فى آخر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وقتل وسبى. ولما بنى هذا الحصن، الذى هو حصن بغراس. رتّب فيه نائبا له يعرف بالبرجى، ورتب معه ألف رجل، وحصن بغراس. ثم ملكه «1» الفرنج وما زالوا يتداولونه ويحصنونه على طول المدد، إلى أن ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، فى ثانى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة، على ما قدمناه، ثم ملكه الديوية بعد ذلك. ذكر الإغارة على صور كانت قد تقررت مهادنة بين السلطان وبين صاحب صور، فلما توجهت الرسل إليه حلف على بعضها «2» ، وأسقط فصولا لم يحلف عليها. فلما كان السلطان بالشام، فى سنة سبع وستين وستمائة، ووقفت له امرأة ذكرت أنها كانت أسيرة فى صور، وأنها اشترت نفسها ثم قطعت على بنت لها قطيعة، وحصلت من أوقاف دمشق مبلغا اشترتها به من صور بمكاتبة عليها خط الفرنج، ولما خرجت بها إلى قرب بلاد صفد سير خلفها جماعة من صور أخذوا البنت منها ونصّروها. فلما سمع السلطان كلامها غضب لله تعالى، وكتب يطلب هذه البنت، فاعتذروا بأنها تنصرت. وكان بالنواقير من جهة صفد جماعة [من المسلمين «3» ] سيّر صاحب صور أمسكهم وقتل منهم نفرين واعتقل الباقين. وطلبهم السلطان

ذكر الإغارة على بلاد كركر وأخذ قلعة شرموشاك

فأصروا على منعهم، فركب السلطان فى العشرين من شهر رمضان، وساق بنفسه ومن معه من العسكر الخفيف، وتوجه الأمير جمال الدين المحمدى من جهة، والأتابك من جهة، ووصلوا إلى صور، فأمسكوا جماعة من الرجال والنساء والصغار، وهرب فى ذلك الوقت مملوك للأمير جمال الدين أقش الرومى فنصّره صاحب صور لوقته. وطلب منه فدافع عنه، وأمسك السلطان عن إتلاف زرعه ورد الحريم والأطفال ورجع إلى المخيم وأمهل عليه مدة، فلما استمر على منع البنت والمملوك، جرد السلطان جماعة لاستغلال بلاده «1» . ذكر الإغارة على بلاد كركر «2» وأخذ قلعة شرموشاك وفى هذه السنة توجهت الغّيارة من البيرة وغيرها إلى جهة كركر فأحرقوا بلدها وأخذوا مواشى، وتوجهوا إلى قلعة بين كركر والكختا «3» اسمها شرموشاك، فزحفوا عليها وأخذوها وقتلوا رجالها ونهبوا من المواشى شيئا كثيرا، وأخرجوا من الفلاحين إلى البلاد السلطانية خلقا كثيرا، وأخذ الخمس من الغنيمة للديوان ورسم بترتيب الناجعين فى البلاد الحمصية والشيزرية وجهات أنطاكية. ذكر الإغارة على عكا وفى سنة ثمان وستين وستمائة، توجه السلطان جريدة إلى الشام، وكان الفرنج بعكا اعتمدوا أشياء لا يصبر عليها: منها أن أربعة من مماليك السلطان

هربوا ودخلوا عكا، فلما طلبهم منهم طلبوا العوض عنهم، فأنكر السلطان ذلك عليهم، فنصّروهم، وذلك فى سنة سبع وستين. فكتب السلطان إلى النواب بوقوع الفسخ، فأغار عليهم الأمير جمال الدين أقش الشمسى فقتل وأسر منهم جماعة. واتفقت حركة للسلطان إلى الحجاز فأطلق الذين أسروا، وعوق «1» رسل الفرنج على إحضار المماليك، وأطلق منهم وزير الإستبار خاصة، لأنه كان يخدم السلطان. فلما كان فى هذه السنة بلغ السلطان أن الفرنج وصل إليهم سفائن من جهة الريدراكون «2» ، أحد ملوك الغرب، فيها جماعة من أصحابه وأقار به وكتبه، يقول فيها: أنه واعد أبغا بن هولاكو أنه يوافيه بالبلاد الإسلامية، وأنه «3» واصل لمواعدته [من جهة سيس فى سفن كثيرة] ، «4» فأرسل الله تعالى ريحا مزعجة كسرت عدة من سفائنه ولم يسمع لهم خبر. وأما أهل عكا فانهم خرجوا هم ومن وصل إليهم من الغرب إلى ظاهر عكا، وخيموا وصاروا يركبون [وتوجهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد «5» ] ، وبلغهم أن السلطان وصل جريدة فتوهموا أنه لا يقصدهم. واتفق أن السلطان خرج متصيدا إلى جهة الحارسة، وعاد مسرعا وتوجه على أنه يتصيد فى مرج برغوث «6» . ولما وصل فى أثناء الطريق إلى برج الفلوس «7» سير الأمير عز الدين معن الظاهرى السلاح دار لإحضار السلاح

وسير الأمير ركن الدين إياجى لإحضار العسكر الشامى كله، فتكامل الناس عنده فى مرج برغوث، فى بكرة نهار الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع، وركب وساق فوصل جسر يعقوب عشية النهار، وساق فأصبح الصبح وهو بأول المرج. وكان قد سير إلى الأمير جمال الدين الشمسى مقدم عسكر عين جالوت، والأمير علاء الدين أيدغدى مقدم عسكر صفد بالإغارة فى ثانى وعشرينه، وأنهم ينهزمون قدام الفرنج. فخرج جماعة من الفرنج مقدمهم كندلوفير «1» المسمى زيتون، وفيهم أقارب الريدراكون وغيرهم، ودخل السلطان الكمين. فعند ما خرج الفرنج لقتال العسكر الصفدى تقدم الأمير عز الدين إيغان الركنى، وبعده الأمير جمال الدين الحاجبى، ومعهما أمراء الشام. وساق قدام السلطان الأمير شمس الدين أيتمش السعدى، والأمير علاء الدين كتدغدى الظاهرى أمير مجلس ومعهما مقدموا الحلقة. وقاتل الأمراء الشاميون أحسن قتال، وأمسك الأمير عز الدين إيغان فارسا اسمه ريمون «2» دكوك. وأما السلطان ومن كان قدامه من الأمراء، فما وصلوا إلى الأمراء المتقدمين إلا والعدو قد انكسر فلم يحصل لهم اختلاط. وكان القتال شديدا تماسكوا فيه بالأيدى، وأكمن زيتون فجال العسكر بينهم وأخذوا عليه وعلى أكابر الفرنج حلقة وقتل أخو زيتون، وابن أخت الريدراكون، وجماعة من الخيالة، ونائب فرنسيس «3» بعكا، ولم يعدم من عسكر الإسلام إلا الأمير فخر الدين الطونبا الفائزى. وعاد السلطان ورءوس القتلى بين يديه إلى صفد، وتوجه منها إلى دمشق، فدخلها فى يوم الأحد سادس وعشرين الشهر، والأسرى والرءوس بين يديه.

ذكر فتوح قلعة صافيتا

ذكر فتوح قلعة صافيتا «1» وفى سنة تسع وستين وستمائة، توجه السلطان من الديار المصرية فى عاشر جمادى الآخرة وصحبته ولده الملك السعيد، ودخل الملك السعيد إلى دمشق فى ثامن شهر رجب، وخرج هو والأمير بدر الدين الخزندار من جهة القطيفة. وكان السلطان قد توجه من جهة بعلبك وتوجه إلى طرابلس، فقتل من رعاياها وأسر، واتصلت الغارة بصافيتا، فطلب من فيها الأمان، ثم نكثوا، فرحل عنهم السلطان وأنزل جماعة حولهم. فسير كمندور «2» أنطرطوس إلى السلطان يشفع فى الإخوة الديوية بصافيتا، على أنه يأمرهم بالتسليم. فأجابهم السلطان إلى ذلك، فأرسل إليهم فنزلوا، وكانوا سبعمائة رجل، خارجا عن النساء والأطفال، وأحضروا إلى السلطان وهو على حصن الأكراد، فأطلقهم وجهز معهم من أوصلهم إلى مأمنهم، وتسلم السلطان صافيتا وبلادها، وتسلمت الحصون والأبراج المجاورة لحصن الأكراد، مثل تل خليفة وغيره. وقد ذكرنا ما كان قد وقع من المهادنة على حصن الأكراد والمرقب، ثم اتفق من بيت الإسبتار أمور «3» أوجبت فسخ الهدنة: منها أن السلطان لما أغار على طرابلس فى سنة ست وستين وستمائة، وكتب إلى النائب بحمص بأن يقيم بحدود حصن الأكراد لدفع الضرر عن بلاد الهدنة، وكتب إلى عدة جهات بالوصية بهم، وحضر رسول حصن الأكراد يسأل الوصية، فأعطاهم علما برنكه.

ولما عبرت الأثقال من جهة القصب، عبر أحد الحرافشة ومعه رفقة له على بستان بقرب تل خليفة المجاور للحصن «1» فأخذوا منه شيئا لا قيمة له، فأخذهم المقدم [الفرنجى «2» ] بتل خليفة وضرب رقاب بعضهم وأسر البعض. فنزل النائب بحمص على تل خليفة وطلب الخصوم. فامتنع النائب بها عن تسليمهم وقال: «أنا قتلت» ، وأساء فى القول. فحاصرهم [نائب حمص] وسير إليهم شجاع الدين عنبر «3» ، فاحتال الى أن استنزل الخصوم، وسيروا الى السلطان. فحضرت رسل من حصن الأكراد تطلبهم، فأجابهم السلطان إنه لا بد من تحقيق هذه الواقعة؛ فقوت نفوس الذين فى الحصن. وغّلق النائب [الفرنجى «4» ] باب الحصن ومنع الميرة، وألبس جماعة العدد. ولما رجع السلطان من طرابلس عند توجهه إلى أنطاكية ومرّ تحت الحصن متوجها إلى حمص، فسيّر يقول: «ما كان ينبغى لكم تعبرون من ههنا إلا بأمرى» . وقيل لهم: «لأى معنى غلقتم الأبواب ولبستم العدد، وأنتم صلح؟» . فقال: «ما غلقناها إلا شفقة على عسكر السلطان من الفرنج الغرب الذين عندنا، لأنهم لا يخافون الموت» . فعّز ذلك على السلطان لأن الغرب الذين عنده عدتهم دون المائة نفر. وكان هذا الأمر مقدمة انحراف السلطان عليهم. وبقى ذلك فى خاطره. فلما توجه إلى الشام جريدة فى سنة ثمان وستين وتوجه إلى حماة ثم رحل عنها فى ثالث جمادى الآخرة توجه إلى حصن الأكراد

بمقدار مائتى فارس بغير عدة، وصعد جبل الحصن فى أربعين فارسا، فخرج له جماعة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وكسرهم، وقتل منهم جماعة ووصل إلى الخندق، وقال- وهو متنكر لا يعرف من هو-: «قولوا لذلك الرسول الذى حضر سنة طرابلس يخلّى الفرنج الغرب يخرجوا، فما نحن أكثر من أربعين فارسا بأقبية بيض» «1» . وعاد إلى مخيمه، ورعت الخيول المروج والزروع، فكان ذلك أحد أسباب الإستيلاء على الحصن لأنه ليس له مادة إلا من زرع بلده. فلما توجه السلطان، فى سنة تسع وتسعين وستمائة إلى الشام، وأغار على طرابلس كما قدمنا نازل حصن الأكراد، فى تاسع شهر رجب من السنة وملك أرباض الحصن فى العشرين منه، وحضر الملك المنصور صاحب حماة، فتلقاه السلطان وترجل لترجله، وساق السلطان تحت صناجق صاحب حماة بغير جمدارية ولا سلاح دارية أدبا معه، وسير إليه دهليزا أمره بنصبه. ووصل الأمير سيف الدين صاحب صهيون، والصاحب نجم الدين صاحب الدعوة. وفى أواخر شهر رجب، تكمل نصب عدة مجانيق، وفى سابع شعبان، أخذت الباشورة بالسيف، وفى سادس عشر الشهر، تشقق برج من أبارج القلعة، وزحف العسكر وطلع الناس إلى القلعة وتسلموها، وطلع الفرنج القلعة «2» [الأخرى] وأحضرت جماعة من الفرنج والنصارى، فأطلقهم السلطان، ونقلت المجانيق إلى القلعة ونصبت على القلة. وكتب السلطان كتابا على لسان مقدم الفرنج

بطرابلس إلى من بالقلعة يأمرهم بالتسليم. ثم طلبوا الأمان، فكتب لهم أمان على أنهم يتوجهون إلى بلادهم. وفى يوم الثلاثاء رابع عشرين شعبان، خرج الفرنج من القلعة وجهزوا إلى بلادهم، وتسلم السلطان الحصن. ورتب الأمير صارم الدين الكافرى «1» نائبا بحصن الأكراد، وفوض أمر عمارة الحصن إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم وعز الدين أيبك الشيخ. وهذا الحصن كان قديما بيد المسلمين، فلما نازل صنجيل طرابلس كان يشن الغارات على هذا الحصن وما قاربه من الحصون، ثم قصده فى سنة ست وتسعين وأربعمائة وحاصره وضيق على من به وأشرف على أخذه، فاتفق قتل جناح الدولة صاحب حمص فطمع فيها ورحل عنه. وهلك صنجيل وملك ابنه، فجرى على عادة أبيه فى أذية أهل هذا الحصن وإفساد أعماله، ثم فارقه وتوجه لحصار بيروت. فجاء طنكلى «2» صاحب أنطاكية ونازله، وأهله فى غاية الضعف، فسلمه صاحبه إليه، وكان يرجو أنه؟؟؟ فيه لأنه اختاره على صنجيل فأنزله وأهله منه، وأخذه صحبته، ورتب فيه من يحفظه من الفرنج؛ وحكى ذلك ابن عساكر. وذكر ابن منقذ فى كتاب البلدان أن: نور الدين محمود بن زنكى، رحمه الله تعالى، كان قد عامل بعض رجالة التركمان المستخدمين من جهة الفرنج بهذا الحصن، على أنه إذا قصده نور الدين يثور هو وجماعة من أصحابه فى الحصن ويرفعون علم نور الدين على الحصن وينادون باسمه. وكان هذا التركمانى له أولاد وإخوة قد وثق بهم الفرنج، وكان الإتفاق

ذكر صلح أنطرطوس والمرقب

بينه وبين نور الدين أن يقف على رأس الباشورة، فكتم نور الدين هذا الأمر عن أصحابه وتقدم أوائل العسكر النورى فرأوا التركمانى على الباشورة فرموه بالنشاب فمات، واشتغل أهله بوفاته، فلم يتم لنور الدين ما دبره. ولم يفتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين. وكان فتحه على يد السلطان الملك الظاهر الآن. ذكر صلح أنطرطوس والمرقب «1» قال: وسأل كمندور «2» أنطرطوس ومقدم بيت الإسبتار السلطان على الصلح، فأجابهم على أنطرطوس خاصة، خارجا عن صفيتا وبلادها، وعلى المرقب. واسترجع منهم بلدة وأعمالها وما أخذوه فى الأيام الناصرية، وعلى أن جميع ما لهم من المناصفات والحقوق على بلاد الإسلام يتركونه. وعلى أن تكون بلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين بيت الإسبتار، وعلى أن لا تجدد عمارة بالمرقب، وحلف لهم السلطان على ذلك، وتوجه لتحليف المقدم المذكور بأنطرطوس الأمير فخر الدين المقرى الحاجب، وأخلى الفرنج برج قرميص «3» ، وأحرقوا مالا أمكنهم حمله من موجودهم، وتسلم البرج المذكور فى هذه الأيام، وكذلك البرج الذى فى بلدة هدم الفرنج بعضه وحرقوه، ورسم السلطان بهدم باقيه «4» .

ذكر فتوح حصن عكار

ذكر فتوح حصن عكّار «1» قال: ولما رتب السلطان أمور حصن الأكراد توجه إلى حصن عكار ونازله، فى يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، ورتب طلوع المجانيق، وركب بنفسه على الأخشاب فوق العجل فى تلك الجبال إلى أن أوصلها إلى مكان نصبت به، وشرع فى نصب المجانيق الكبار فى العشرين من الشهر. وفى هذا اليوم، استشهد الأمير ركن الدين منكورس الدوادارى، وكان يصلى فى خيمته فجاء حجر منجنيق فمات، رحمه الله تعالى. وفى التاسع والعشرين من الشهر، طلب أهل الحصن الأمان ورفعت الصناجق السلطانية على أبراجه، وفى يوم الثلاثاء سلخ الشهر، خرج أهل حصن عكار منه، وجهزوا إلى مأمنهم، وعيّد السلطان بالحصن» ورحل إلى مخيمه بالمرج. وهذا الحصن يعرف بابن عكّار، وكان بيد المسلمين، فلما ملك الفرنج طرابلس وغيرها ترددت الرسائل بينهم وبين طغتكين وهو بحمص، فوقع الأتفاق على أن يكون للفرنج ثلث بلاد البقاع وتسلمون حصن المنيطرة «2» وحصن عكار، وألا يتعرضوا إلى البلاد بغارة. وتقرر معهم أن مصياف وحصن الوادى وحصن الطوبان وحصن الأكراد فى الصلح، ويحمل إلى الفرنج مال عنها. فلما تسلم الفرنج الحصنين عادوا إلى ما كانوا عليه من الغارات، وصار هذا الحصن لما تسلمه الفرنج من أضر شىء على المسلمين المارين من حمص إلى بعلبك، ولم يكن

له كبير ذكر فيما مضى، إلى أن وصل ريدافرنس «1» إلى الساحل بعد فكاكه من الأسر بمصر فرأه حصنا صغيرا، فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه وهو يساعده فى عمارته، فزاد فيه زيادة كثيرة من جهة الجنوب. وهو فى واد بين جبال محيطة به من أربع جهاته. ولما فتحه السلطان الملك الظاهر كتب إلى صاحب طرابلس ما مثاله بعد البسملة «2» : «قد علم القومص يمند- جعله الله ممن ينظر لنفسه ويفكر فى عاقبة يومه من أمسه- نزولنا بعد حصن الأكراد على حصن عكار، وكيف نقلنا المنجنيقات إليها فى جبال تستصعبها الطيور لأختيار الأوكار، وكيف صبرنا فى جرها على مناكدة الأوحال ومكابدة الأمطار، وكيف نصبنا المنجنيقات على أمكنة يزلق عليها النمل إذا مشى، وكيف هبطنا تلك الأودية التى لو أن الشمس من الغيوم ترى بها ما كان غير جيالها رشا، وكيف صارت رجالك الذين ما قصرت فى انتخابهم، وحسنت بهم استعانة نائبك الذى انتحى بهم «3» » . وكتابنا هذا يبشرك بأن علمنا الأصفر نصب مكان علمك الأحمر، وأن صوت الناقوس صار عوضه الله أكبر، ومن بقى من رجالك أطلقوا ولكن جرحى القلوب والجوارح، وسلموا ولكن من ندب السيوف إلى بكاء النوايح، وأطلقناهم ليحدثوا القومص بما جرى، ويحذروا أهل طرابلس من أنهم يغترون بحديثك المفترى، وليروهم الجراح التى أريناهم بها نفادا، ولينذروهم لقاء يومهم هذا،

ذكر صلح طرابلس

ويفهموكم أنه ما بقى من حياتكم إلا القليل، وأنهم ما تركونا إلا على رحيل، فتعرّف كنائسك وأسوارك أن المنجنيقات تسلّم عليها إلى حين الإجتماع عن قريب، ونعلّم أجساد فرسانك أن السيوف تقول إنها عن الضيافة لا تغيب، لأن أهل عكار ما سدّوا لها جوعا، ولا قضت من ريها بدمائهم الوطر، وما أطلقوا إلا لما عاقب شرب دمائهم. وكيف لا، وثلاثة أرباع عكار عكر. يعلم القومص هذه الجملة المسرودة «1» ويعمل بها، وإلا فيجهز مراكبه ومراكب أصحابه، وإلا فقد جهزنا قيودهم وقيوده. وقال المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر: يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الإرادة إن عكار يقينا ... هى عكا وزيادة ذكر صلح طرابلس «2» قال: ولما استقر أمر حصن عكار رحل السلطان من منزلته بالأرزونية هو وجميع العساكر والأثقال، وساق على عزم حصار طرابلس، فوردت الأخبار أن ملك الإنكتار وصل «3» إلى عكا، فى أواخر شهر رمضان من هذه السنة، وصحبته ثلاثمائة فرس، وثمانى بطس وشوانى ومراكب تكملة ثلاثين مركبا، غير ما كان سبقه صحبة استاد داره، وأنه يقصد الحج. ففتر عزم السلطان ونزل

ذكر فتوح القرين

قريبا من طرابلس جريدة. وتردد الأتابك إلى جهة طرابلس، والأمير سيف الدين الدوادار واجتمعا بصاحبها. وأراد السلطان قطع ما بقى من الأشجار، فسير البرنس يطلب الصلح وخرج وزراؤه، وكتبت الهدنة لمدة عشر سنين. وجهز السلطان فخر الدين بن جلبان، وشمس الدين الاخنائى شاهد الخزانة ومعهما ثلاثة آلاف دينار مصرية لفكاك الأسرى. وتوجه السلطان إلى حصن عكار، ثم عاد إلى مخيمه بالأرزونية، ثم توجه إلى حصن الأكراد، ثم رحل فوصل إلى دمشق فى نصف شوال. ذكر فتوح القرين «1» كان حصن القرين لإسبتار الأرمن «2» ، ولم يكن لهم بالساحل غيره، وكان من أمنع الحصون وأضرها على صفد، فتوجه السلطان إليه من دمشق، فى الرابع والعشرين من شوال سنة تسع وستين وستمائة، ووصل إلى صفد وجهز منها المجانيق وسار إلى القرين ونازله. وبينما السلطان واقف لنصب المجانيق وردت رسل عكار «3» . واتفق أن السلطان [كان «4» ] يرمى نشابا على القلعة فمرّ به طائر فرماه فإذا فيه بطاقة من جاسوس فى العسكر للفرنج مضمونها أخبار السلطان، وذلك بحضور الرسل، فسلم السلطان الطائر لهم وقال: «استصحبوه معكم لتقرأ الفرنج

ذكر صلح صور وما تقرر من المناصفة

هذه البطاقة، ونحن نفرح بمن يخبركم بأخبارنا» . وفى مستهل ذى القعدة ملك الربض، وفى ثانيه أخذت الباشورة، وأخذت النقوب فى السور، وشرط السلطان للحجارين عن كل حجر ألف درهم. واشتد القتال، فحضر رسلهم، وتقرر خروجهم وتوجههم حيث شاءوا، وأنهم لا يستصحبون مالا ولا سلاحا. وكتب الأمان بذلك، ورفعت الصناجق السلطانية عليها، وركب السلطان وأصبح على أبواب عكا مطّلبا، فما ترك أحد من الفرنج، وعاد إلى مخيمه بالقرين، وأمر بهدم القلعة، فتكمل هدمها فى رابع وعشرين ذى القعدة من السنة. ذكر صلح صور وما تقرر من المناصفة «1» وحضرت رسل صاحب صور، وحصل الإنفاق على أن يكون لهم من بلاد صور عشرة بلاد خاصا، وللسلطان خمسة بلاد يختارها تخصه، وبقية البلاد مناصفة، وحلف السلطان على ذلك. وجهز الرسل فحلّفوا صاحب صور على ما تقرر. ذكر منازلة التتار البيرة وكسرهم على الفرات وقتل مقدمهم جنقر «2» وفى تاسع شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وستمائة وردت الأخبار بحركة التتار، فجرد السلطان الأمير فخر الدين الحمصى بجماعة من العساكر المصرية والشامية إلى جهة حارم، ثم جهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيرى بجماعة

من العساكر وجماعة من العربان. وعدّى التتار إلى البر الشامى لقصد الرحبة فتقسم «1» فكر السلطان ليقسمهم على البيرة والرحبة، ورحل من ظاهر دمشق، فبلغه رحيل العدو عن الرحبة، فجدّ فى مسيره ووصل إلى الفرات إلى مخاضة تعرف بمخاضة الحمام، فوجد التتار قد وقفوا على شط الفرات، وعدتهم قريب الخمسة آلاف فارس، ومقدمهم جقر «2» أحد مقدميهم الكبار وحفظوا فم المخاضة. وكان السلطان قد استصحب عدة مراكب من دمشق وحمص فرست فى الفرات، وركب فيها الرجالة الأقجية لكشف البر. وعمل التتار مكيدة: وهى أنهم تركوا المخاضة السهلة ووقفوا على مكان بعيد الغور وعملوا الستائر، فاعتقد المسلمون أن المكان الذى حفظوه هو المخاضة السهلة فخاضوا منه، وكان العدو قد عملوا سيبا «3» على البر من جانبهم ليقاتلوا من ورائها، فرتبت العساكر الإسلامية نفوسها بخيولها، وعاموا أطلابا، الفارس إلى جانب الفارس، متماسكين بالأعنة معتمدين على الرماح، كما قال القائل: فعمنا إليهم بالحديد سباحة ... ومن عجب أن الحديد يعوم وازدحم الناس وانسكر الماء بهم فصار كالجبال. وطلع المسلمون، والسلطان فى أوائل القوم «4» ، فلم يلبث التتار أن انهزموا أقبح هزيمة، وقتل مقدمهم جنقر وجماعة كثيرة منهم وأسرت جماعة، وأقام السلطان إلى العصر وجمع الأسرى ورءوس القتلى وبات فى مكان النصر، والعساكر لابسة والخيل

ذكر فتوح كينوك

ملجمة. وأصبح يوم الاثنين بمنزلته حتى عاد من كان قد ساق خلف العدو، واستبرىء أمر العدو، ثم عادت العساكر، وكان العود عليهم أشق. ولما صار السلطان بالبر الشامى بلغه أن التتار الذين كانوا نازلوا البيرة ومقدمهم درباى قد هربوا وتركوا أزوادهم والمجانيق التى معهم؛ ورموا النار فى بعض ذلك، ونزل أهل البيرة وحملوا من ذلك شيئا كثيرا. فنزل السلطان على جبل مشرف قرب البيرة من الجانب الشامى، وتوجه إليها على الجسر الذى مده العدو وهو جسر كبير تحته المراكب والصوارى والسلاسل، ومعه جماعة من الأمراء، وأنعم على النائب بها بألف دينار، و [الأمير سيف الدين] الصروى «1» المجرد بها بألف دينار، وعم من بها بالتشاريف، وأنعم على أهل الثغر بمائة ألف درهم، وجرد بها جماعة زيادة على من بها، وعاد إلى مخيمه، وسار إلى دمشق فدخلها فى ثالث جمادى الآخرة والأسرى بين يديه. ذكر فتوح كينوك «2» كان قد كثر فساد أهل كينوك وتعديهم على التجار والقصاد، وكتب إلى صاحب سيس فى ذلك فلم تفد فيه المكاتبة، فجرد الأمير حسام الدين العين تأبى مقدم العسكر الحلبى إلى كينوك، فوصل إليها فى ثالث المحرم، فأخذوا الحوش البرانى، ودخل الأرمن إلى القلعة، فقاتلهم المسلمون وملكوها وقتلوا الرجال وسبوا الحريم، وأغار العسكر على أطراف طرسوس ونهبوا وسبوا.

ذكر إغارة عيسى بن مهنا على الأنبار

وهذه كينوك هى الحدث الحمراء التى بناها سيف الدولة على بن حمدان، ومعنى تسميتها كينوك أى المحترقة. وكان قسطنطين صاحب سيس قد أخذها من ملوك الروم السلجقية وأحرقها. وهى التى يقول فيها المتنبى عند بنائها يمدح سيف الدولة فى قصيدته التى أولها: «على قدر أهل العزم تأتى العزائم» سل الحدث الحمراء يعرف لونها ... ويعلم أى الساقيين الغمائم سقتها الغمام الغر قبل نزوله ... فلما دنا منها سقتها الجماجم بناها علىّ والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم وكان من خبرها: أن سيف الدولة بن حمدان سار لبنائها، وكان أهلها سلموها بالأمان للدمستق ملك الروم، فى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فنزلها سيف الدولة فى يوم الأربعاء ثانى جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فحط الأساس من يومه، وحفر أول الأساس بيده، وأقام حتى كمل بناؤها فى يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب من السنة. ذكر إغارة عيسى بن مهنا على الأنبار «1» وفى سنة اثنتين [وسبعين «2» ] وستمائة: رسم السلطان للأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا [أمير العرب «3» ] بالإغارة على بلاد العراق، فوصل إلى الأنبار فوجد بها جماعة من التتار، وكان السلطان قد اختفى أمره «4» ، فلما وصل عيسى إلى

ذكر الإغارة على مرعش

الأنبار توهموا أن السلطان دهمهم، فعدّوا إلى البر الآخر «1» ، واقتتل عيسى وخفاجة، ودام القتال نصف نهار، وكانت هذه الإغارة فى ثامن عشر شعبان. ذكر الإغارة على مرعش «2» وفى سنة ثلاث وسبعين وستمائة: توجه عسكر حلب صحبة الأمير حسام الدين العين تابى إلى جهة مرعش، وأغاروا على بلاد سيس، وحازوا غنائم كثيرة، وقلعوا أبواب ربض مرعش، وغرق ربيعة بن الظاهر بن غنام فى نهر هناك. ذكر غزوة سيس «3» كان صاحب سيس قد اعتمدوا ما يقتضى فسخ الهدنة التى وقع الإتفاق عليها فى سنة ست وستين عند إطلاق ولده ليفون «4» ، وقطع الهدايا المقررة عليه، وخالف الشروط من أنه لا يجدد بناء ولا يحصن قلعة، وصار لا يطالع بخبر صحيح كما تقرر معه، ثم لم يقتصر على ذلك إلى أن صار يلبس الأرمن السراقوجات ويخيف «5» القوافل ويدّعى أنهم من عسكر التتار، فاقتضى ذلك أخذ كينوك وإخرابها كما ذكرنا، فتصور «6» صاحب سيس من ذلك. فذكر السلطان لرسوله سوء اعتماده، وأرسل إليه يعرفه أنه عزم على قصد سيس، ثم أسر السلطان

فى نفسه قصده ولم يبده لأحد، بل أظهر الحركة إلى الشام، وعرض العساكر فى يوم واحد تحت القلعة، وخرج ثالث شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ووصل إلى دمشق فى سلخ الشهر، وخرج منها فى سابع شهر رمضان بجميع العساكر. ولما وصل إلى حماة خرج الملك المنصور صاحب حماة بعساكره، ثم سار وفى خدمته العساكر والعربان. فجرد الأمير شرف الدين بن مهنا، والأمير حسام الدين العين تابى إلى جهة البيرة بصورة جاليش العسكر المنصور فوصلوا إليها. ولما وصل السلطان إلى سرمين رحل منها إلى جهة الدربساك، وأخر الأثقال وبعض العسكر صحبة الأمير شمس الدين سنقر جاه بسرمين، وجرد الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير مبارز الدين الطورى لتمهيد جوانب النهر الأسود، فقطعته العساكر بمشقة. ونزل السلطان بين الدربساك وبغراس، وأمر جماعة من مقدمى الألوف أن يتوجه كل منهم إلى جهة، فطلعوا تلك الجبال، وأمر الناس بوقود الشموع فقطعوا تلك الجبال والأوعار والمضايق. وكان السلطان قد حمل ثلاثين مركبا لأجل التعدية، ونزل السلطان داخل باب اسكندرونة خلف السور الذى بناه الملك هيتوم والد ليفون صاحب سيس، ثم رحل إلى قرب المثقب، وملكت العساكر جسر المصيصة وملكوا المصيصة، وغلبت العساكر على ما فيها، وقتلوا من وجدوه بها، وغنم الناس ما لا يحصى كثرة من البقر والجاموس والغنم، وحضر إلى الطاعة جماعة كبيرة من التركمان والعربان بمواشيهم وخيولهم، فجهزهم السلطان إلى البلاد الإسلامية، وساق مطلبا فى تاسع وعشرين شهر رمضان، فوصل إلى سيس، فعدل عنها ووصل دربند «1» الروم، ووجد بقايا من حريم

التتار فسبين، وعاد فبات فى تلك الجبال، وعيّد بمدينة سيس، وهى كرسى ملك الأرمن، وبها بستان متملكها ومناظره. فانتهبت مدينة سيس وهدمت وأحرقت وتحصن أهلها بقلعتها. ولما فرغ من إحراق المدينة وهدم قصور التكفور، وعادت الجاليشية بما سبوه من حريم المغول وأولادهم، وسيقت الغنائم، وعاد السلطان ورعت العساكر الزروع. ووصل الأمير جمال الدين المحمدى، والأمير عز الدين الدمياطى إلى طرسوس ووجدوا بها من الخيل والبغال مقدار ثلاثمائة رأس فاستاقوها. وتوجه الأمير مبارز الدين الطورى، والأمير عز الدين كرجى إلى قريب البحر وقاتلوا جماعة من العدو، ووجدوا مراكب فى البحر فدخلوا إليها وأخذوها وقتلوا من فيها. ووصل الأمير سيف الدين الزينى إلى قلعة البرزين، ووصل الأمير بدر الدين الأيدمرى إلى أذنة، وغنموا نساء وأطفالا. وأغارت للعساكر فى «1» تلك الجبال وقتلوا رجالا كثيرة. ووصل الأمير بدر الدين بيسرى والأمير سيف الدين أيتمش السعدى إلى أياس، وكان خبر العسكر قد وصل إلى من بها من الفرنج فنقلوا أموالهم إلى المراكب فأحرقت العساكر وقتلت جماعة كبيرة فى البر والبحر، وحضر بعد ذلك كتاب والى إسكندرونة يتضمن: أن العساكر لما قصدت أياس ركب جماعة منها من الفرنج والأرمن قريب ألفى نفس هاربين فغرقوا جميعهم، وأخذ الأمير بدر الدين أمير سلاح جشارات خيول. هذا ما يتعلق بعزوة سيس. وأما العسكر والعربان الذين توجهوا إلى جهة البيرة فوصلوا إلى رأس عين وغنموا غنائم كثيرة، وانهزم من كان فى تلك الجهة من التتار، وعاد العسكر سالما منصورا. ووصل السلطان إلى المصيصة وأحرقت من الجانبين.

ذكر شىء من أخبار بلاد سيس وسبب استيلاء الأرمن عليها

ولما تكامل حضور الأمراء بالغنائم وخروج التركمان والعربان الواصلين إلى الطاعة من الدربندات، رحل السلطان وعبر على بحيرة بها أغصان ملتفة مثل الغابة وبها جزائر قد تحصن بها جماعة من تلك البلاد ونقلوا إليها حريمهم وأموالهم، فرمى العسكر نفوسهم فيها عوما بالخيل، فقتلوا وسبوا. ثم عبروا على تل حمدون، وقلعة النقير فعاثت العساكر فيها، وخرج العسكر من الدربندات فشاهدوا الغنائم قد ملأت المروج طولا وعرضا، فوقف السلطان بنفسه وفرق الغنائم وعمّ بها الناس، وما أخذ لنفسه شيئا منها. ثم سار بعد القسمة فنزل دهليزه بحارم. فقال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر: يا ملك الأرض الذى عزمه ... كم عامر للكفر منه خرب قلبت سيسا فوقها تحتها ... والناس قالوا سيس لا تنقلب ذكر شىء من أخبار بلاد سيس وسبب استيلاء الأرمن عليها المصيصة بناها عبد الملك بن مروان فى أيام أبيه، فى سنة أربع وثمانين للهجرة النبوية. وأما طرسوس فهمى من المدن القديمة، وفيها دفن الخليفة عبد الله المامون ابن الرشيد كما ذكرنا. وطرسوس وأذنة وما يليهما تسمى قيليقيا، وتعرف هذه البلاد بالدروب والعواصم، وبها كان الغزو والرباط والجهاد والمثاغرة، وكانت مضافة إلى مملكة

نعود إلى أخبار السلطان الملك الظاهر.

مصر فى إمارة أحمد بن طولون ومن بعده، حتى استولى الروم عليها كما قدمنا. واستمرت بيد الروم إلى أن استولى عليها مليح بن لاون الأرمنى، وذلك فى أيام العادل نور الدين الشهيد، بمساعدته، وهزم [مليح] جيش الروم فقوى عند ذلك البلاد، وكانت هزيمته للروم فى يوم الأحد سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأسر من مقدميهم ثلاثين أسيرا، فأحسن إليه نور الدين وخلع عليه، وكتب إلى بغداد يعظم أمر الروم ويذكر أن هذا مليح الأرمنى من جملة غلمانه، وأنه كسر الروم، ومنّ بذلك على أهل بغداد. واستمر ملك هذه البلاد فى هذا البيت إلى الآن. نعود إلى أخبار السلطان الملك الظاهر. قال: ثم رحل السلطان وخيم بموج أنطاكية، وانبثت العساكر فى تلك المروج ورعت الأعشاب، ثم رحل. ذكر منازلة حصن القصير وفتحه «1» هذا الحصن مما لم يفتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف ابن أيوب رحمه الله، وقيل إنه صالح عليه، وما زال لمن يكون بابا برومية؛ والبابا خليفة عند الفرنج ينفذ أمره وحكمه فى سائر ملوك الفرنج. وأمر الحصن راجع إلى بترك «2» أنطاكية، والفرنج تميزه وتؤثره. وأهله أهل شره ومنعة وفساد، وكان مضرة على الفرعة «3» وتلك الجهات. ولما فتح السلطان

أنطاكية سأل أهل القصير الهدنة والمناصفة، فأجيبوا إلى ذلك كما قدمنا. فما وفوا وأخفوا فى المناصفة. ولما وصل صمغار [مقدم التتار] إلى جهة حارم ضرب أهل القصير البشائر، ودلوا على الطريق وأمثال ذلك مما يقتضى فسخ الهدنة. وكان السلطان قد رسم للأمير سيف الدين الدوادار بالتردد إلى كليام النائب بالقصير وإظهار مصافاته. واعتمد ذلك وتوجه المذكور إليه فى خامس عشر شوال سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ومعه جماعة من السلاح دارية بصورة أصحابه، فوصلوا إلى القصير وأظهر الأمير سيف الدين غضبا كون كليام ما خرج للقائه وقصد الرجوع، فبلغه ذلك فخرج مسرعا ليسترضيه ويرده. فادركه فامتنع من الرجوع واستدرجه حتى أبعد عن الحصن، ثم قتل من كان معه وأخذ كليام وأحضره إلى السلطان. فكتب إلى أصحابه بالتسليم فما رجعوا إلى كلامه. فجرد السلطان جماعة من أمراء حلب وهم: سيف الدين الصروى «1» وشهاب الدين مروان والى أنطاكية وجماعة من الرجال، فنازلوا القصير. وتوجه السلطان إلى دمشق واستصحب كليام معه، وكان شيخا كبيرا وكان ابنه فى الأسر، فمات كليام فى الأسر بعد اجتماعه بابنه. ولما اشتد الحصار على القصير وعدموا الأقوات سلموا الحصن المذكور فى يوم الأربعاء ثالث وعشرين جمادى الأولى سنة أربع وسبعين. وحمل أهله إلى الجهات التى قصدوها.

ذكر وفاة الأبرنس صاحب طرابلس وما انفق بعد وفاته

ذكر وفاة الأبرنس صاحب طرابلس وما انفق بعد وفاته «1» وفى تاسع شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين وستمائة: توفى الأبرنس بيمند ابن بيمند صاحب طرابلس. ووصل ملك قبرص، وهو ابن عم الأبرنس إلى طرابلس لتعزية ولده، وكان السلطان قد كتب إلى البرنس يقول: «إن اللاذقية ما برحت للمسلمين، ولما راح صاحب حلب تغلّب أبوك وأخذها ظلما وعتوا، ونحن لنا فى اللاذقية النصف، فتترك النصف الآخر فإنه من حقوق المسلمين» . فلما سمع الفرنج ذلك قووا البرج، وخاف المسلمون عاديتهم. فرسم السلطان لركن الدين النائب ببلاطنس بنقل من باللاذقية يذكر أنهم ما برحوا فى الطاعة، وقد عز عليهم خروج من عندهم. ووردت رسل ملك عكا وهو يشفع عند السلطان فى استمرار الصلح، فترك السلطان الحديث فى اللاذقية. وكان السلطان قد سير عسكر للحوطة على عرقا ومغل بلادها، فسير ملك عكا وقبرص يتوسل فى أمرهم، وسأل إنفاد من يوثق به لأجل الدعاوى، ويكون منه إلى نواب السلطان ومن ملك عكا إلى نواب البرنس. فسير الأمير سيف الدين الدوادار فتوجه إلى عرقا. وأقام بها، فاجتمع عنده نائب بعلبك، وولاه البر ومشايخ البلاد ومستخدميها ونواب الفرنجية. وكتبت الدعاوى وترددت الرسل. واتفقت وفاة الأمير صارم الدين الظافرى «2» النائب بحصن الأكراد، فبقى الفرنج يعتذرون به وأنكروا

ذكر غزوة النوبة

الدعاوى، ثم سأل الملك حضور الأمير سيف الدين إلى طرابلس فدخلها فى ثامن المحرم فى تجمل كثير من المماليك السلطانية ومماليكه وأجناده، وتلقاه أبناء الملوك بها، واجتمع بالملك وسلم إليه كتاب السلطان، وتقرر على الفرنج القيام بعشرين ألف دينار صورية وعشرين أسيرا من المسلمين. ذكر غزوة النوبة «1» وفى سنة أربع وسبعين وستمائة: كثر تعدى داود متملك النوبة، وحضر إلى قريب أسوان وأحرق سواقى. وكان قبل ذلك قد حضر إلى عيذاب، وفعل الأفعال الشنيعة. وتوجه الأمير علاء الدين الخزندار والى قوص إلى أسوان فلم يدركه وظفر بنائبه الأمير قمر الدين [بقلعة] الدو المسمى صاحب الجبل وجماعة معه، فجهزهم إلى السلطان فوسطوا. وأمر السلطان بتجريد الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار، والأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، وصحبتهم جماعة من العسكر ومن أجناد الولايات والعربان بالوجه القبلى. وكان قد حضر ابن أخت ملك النوبة مرمشكد «2» الذى أخذ داود الملك منه. فجهز العسكر المنصور وتوجه [مرمشكد] صحبتهم. فأغار الأمير عز الدين على قلعة الدو وقتل وسبى، وسار الأمير شمس الدين فى أثره يستأصل «3» شأفة من بقى، ونزل الأمير شمس الدين بجزيرة ميكائيل وهى رأس جنادل النوبة، وهى كثيرة الأوعار وفى وسط البحر، فقتلوا وأسروا. وكان نائب قلعة الدو الذى ولى عوض الموسط

قد هرب إلى الجزائر، فأعطى أمانا واستمر على نيابته، وحلف لمرمشكد المتوجه صحبة العسكر ما دام على الطاعة. وخاض الأمير عز الدين فى وسط البحر إلى برج فحاصره وأخذه وقتل به مائتين وخمسين نفرا. ثم ساق العسكر والتقوا الملك داود، وما زال السيف يعمل فيهم حتى أفناهم وما سلم إلا من ألقى نفسه فى البحر، وهرب داود، وأسر أخوه سنكوا «1» . وجردّ جماعة من العسكر وساقوا ثلاثة أيام وأمسكوا أم الملك «2» داود وأخته. وقرروا على الملك مرمشكد المتوجه صحبة العسكر قطيعة فى كل سنة، وعرض على أهل النوبة الإسلام أو القيام بالجزية أو القتل، فاختاروا القيام بالجزية وأن يقوم كل واحد بدينار عينا، وحرقت كنيسة سوس التى كان داود يزعم أنها تحدثه بما يؤديه. وكان داود قد بنى مكانا سماه عيذاب عمره على أكتاف المسلمين [الذين أسرهم من عيذاب وأسوان «3» ] وفيه منازل وكنائس، وميدان صور فيه قتلى المسلمين بعيذاب وأسراهم بأسوان، فمحيت تلك التصاوير منه وخرّب. وتقرر حمل ما هو مخلف عن الملك داود وأقاربه. وكانت إقامة العسكر بدنقلة سبعة عشر يوما حتى تمهدت البلاد واستنقذت أسرى المسلمين المأسورين من أسوان وعيذاب، وألبس مرمشكد التاج على عادة ملوك النوبة، وأجلس بمكان الملك [داود «4» ] وحلف اليمين العظيمة عندهم على ما تقرر وهى:

«والله، والله والله، وحق الثالوث المقدس، والإنجيل الطاهر، والسيدة الطاهرة العذراء أم النور والمعمورية؛ والأنبياء المرسلين والحواريين والقديسين، والشهداء الأبرار. وألا: أجحد المسيح كما أجحده بودس «1» ، وأقول فيه ما يقول اليهود وأعتقد ما يعتقدونه. وألا: أكون بودس الذى طعن المسيح بالحربة، أننى أخلصت نيتى وطويتى من وقتى هذا وساعتى هذه للسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس، وأنى أبذل جهدى وطاقتى فى تحصيل مرضاته، وأنى مادمت نائبه لا أقطع ما قرر علىّ فى كل سنة تمضى، وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصل لمن تقدم من ملوك النوبة، وأن يكون النصف من المتحصل للسلطان مخلصا من كل حق، والنصف الآخر أرصده لعمارة البلاد وحفظها من عدو يطرقها، وأن يكون علىّ كل سنة: من الأفيلة ثلاثة، ومن الزرافات ثلاث، ومن إنات الفهود خمس، ومن الصهب الجياد مائة، ومن الأبقار الجياد المنتخبة أربعمائة. وإننى أقرر على كل نفر من الرعية الذين تحت يدى فى البلاد من العقلاء البالغين دينارا عينا، وأن تفرد بلاد العلى والحيل خاصا للسلطان. وأنه مهما كان لداود ملك النوبة ولأخيه سنكوا ولأمه وأقاربه، ومن قتل من عسكره بسيوف العساكر المنصورة، أحمله إلى الباب العالى مع من يرصد لذلك. وأننى لا أترك شيئا منه قل ولا جل، ولا أخفيه ولا أمكن أحدا من إخفائه، ومتى خرجت عن جميع ما قررته أو شىء من هذا المذكور أعلاه كله كنت بريئا من الله تعالى، ومن المسيح، ومن السيدة الطاهرة، وأخسر دين النصرانية، وأصلى إلى غير الشرق، وأكفر بالصليب، وأعتقد ما تعقد اليهود.

وإنى لا أترك أحدا من العربان ببلاد النوبة. ومن وجدته منهم أرسلته إلى الباب السلطانى، ومهما سمعت من الأخبار السارة والنافعة طالعت به السلطان فى وقته وساعته، ولا أنفرد بشىء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة، وأننى ولّى من والى السلطان وعدو من عاداه، والله على ما نقول وكيل.» [ثم هذا عهد آخر صادر من أمير بطاعة مرمشكد وبطاعة بيبرس «1» .] «وحلّفت الرعية أيضا بتلك الجهات بأنهم يطيعون نائب السلطان، وهو الملك مرمشكد المقيم بدنقلة، وكل نائب يكون للسلطان أطيعه ولا أرى عليه برأيى، ولا أخبىّ عنه مصلحة، وكل ما أسمعه من الأخبار الجيدة والردية أطالع نائبه به. ومتى علمت على نائبه الملك مرمشكد أمرا يخالف المصلحة لا أطيعه فيه وأطالع السلطان به فى الوقت والساعة. وأننى لا أدخل فى حكم داود، ولا أكون معه، ولا أطالعه بخبر من الأخبار، ولا أرتضى به ملكا، ورضيت بأن أقوم بدينار عينا فى كل سنة خالية على» . وعاد العسكر وأحضر من النوبة ما نذكر، وهو ما وجد فى كنيسة سوس من الصليان الذهب وغيرها: أربعة آلاف وستمائة وأربعون دينارا ونصف، وأوانى فضيات ثمانية آلاف وستمائة وستون دينارا، والذى أحضر من الرقيق، سبعمائة رأس.

ذكر غزوات النوبة فى الإسلام

وأما الملك داود فإنه هرب إلى جهة الأبواب، فقاتله صاحبها الملك أدر، وقتل ولده، وأمسكه وسيره إلى السلطان. ذكر غزوات النوبة فى الإسلام أول ما غزيت النوبة فى سنة إحدى وثلاثين للهجرة النبوية، غزاها عبد الله ابن سعد فى خمسة آلاف فارس، وأصيب فى ذلك اليوم معاوية بن حديج فى عينه، وأصيب أبرهة الصباح فى عينه، وكانوا يسمون النوبة: رماة الحدق. وهادنهم عبد الله بن سعد بعد أن وصل دنقلة. وفى ذلك يقول الشاعر: لم تر عينى مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة ترى الحماة حولها مجدلة ... كأن أرواح الجميع مهملة وقال يزيد بن أبى حبيب: «ليست الموادعة بين أهل مصر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هى هدنة امان؛ نعطيهم شيئا من قمح وعدس، ويعطوننا رقيقا، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم» . وكان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قرر: فى كل سنة أربعمائة رأس من الرقيق، وزرافة واحدة. لأمير المؤمنين ثلاثمائة وستون رأسا، وللنائب بمصر أربعون رأسا. ويطلق لرسله، إذا وصلوا بالبقط تاما، ألف وثلاثمائة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمائة.

وقال البلاذرى فى كتاب الفتوحات: «إن المقرر على النوبة أربعمائة رأس، يأخذون بها طعاما؛ أى غلة» . وألزمهم المهدى العباسى بثلاثمائة وستين رأسا وزرافة. ثم غزبت فى زمن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولم تفتح وإنما كان قتال ونهب وسبى. وغزاها يزيد بن أبى حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة، على يد عبد الأعلى بن حميد. وغزاها أبو منصور تكين التركى هى وبرقة فى عام واحد، ولم تفتح النوبة. ثم غزاها كافور الإخشيدى، وكان أكثر جيشه السودان. فقال الشاعر: ولما غزا كافور دنقلة غدا ... بجيش لطول الأرض من مثله عرض غزا الأسود السودان فى رونق الضحى ... فلما التقى الجمعان أظلمت الأرض ثم غزاها ناصر الدولة بن حمدان، فكبسه السودان، ونهب جيشه، وأخذت أثقاله، وذلك فى سنة تسع وخمسين وأربعمائة فى أيام المستنصر العبيدى. ثم غزاها بعد ذلك شمس الدولة توران بن أيوب أخو الملك الناصر صلاح الدين يوسف فى سنة ثمان وستين وخمسمائة، ولم يصل إلا إلى أبريم. وكل هذه غزوات، وإنما الفتح هذا.

ذكر غزوة الروم وقتل التتار

ذكر غزوة الروم وقتل التتار «1» قد ذكرنا فى أخبار السلطان فى سنة خمس وسبعين وستمائة؛ طاعة أمراء الروم ووصولهم إلى خدمة السلطان، وإكرامه لهم وإحسانه إليهم وما عاملهم به. ولما وصل السلطان إلى الديار المصرية فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة، أقام بها إلى شهر رمضان منها ثم عزم على السفر. وجهز من وصل إليه من أمراء الروم بالخيول والخيام وغير ذلك، وتوجه من قلعة الجبل المحروسة، بعساكر الديار المصرية فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان من السنة. ورتب الأمير شمس الدين آقسنقر أستاد الدار فى النيابة عنه بقلعة الجبل «2» والصاحب بهاء الدين وجعلهما فى خدمة ولده الملك السعيد. واستصحب معه الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين وجعله وزير الصحبة، وهى أول سفرة سافرها صحبته، واستصحب أكثر كتاب الإنشاء، وفوض فى هذا اليوم نظر الجيوش للقاضى عز الدين إبراهيم بن الوزير الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، والشهادة به للقاضى شمس الدين الأرمنتى، واستصحبهما صحبته. ثم رحل يوم السبت ثانى عشرين الشهر وصحبته أمراء الروم، وسار فما مر بمملكة إلا استصحب عسكرها وخزائنها وأسلحتها، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها متوجها إلى حلب فى يوم السبت العشرين من الشهر، وكان وصوله إلى حلب فى يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة،

وخرج منها فى يوم الخميس ثانى الشهر إلى حيلّان فترك بها بعض الثقل، وتقدم إلى الأمير نور الدين على بن مجلى «1» نائب السلطة بحلب أن يتوجه إلى الساجور، ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب، لحفظ معابر الفرات، خشية أن يعبر منها أحد من التتار إلى الشام. ووصل إلى الأمير نور الدين، الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا. ولما اتصل خبر نزول هذا الجيش بالتتار المقدمين بالعراق جهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لينالوا من العسكر غرّة، فاتصل خبرهم بالأمير نور الدين [نائب حلب وهو على الفرات «2» ] فركب إليهم وقاتلهم وهزمهم، وأخذ منهم ألفا «3» ومائتى جمل. ورحل السلطان من حيلان يوم الجمعة ثالث الشهر إلى عين تاب، ثم إلى دلوك، ثم إلى مرج الديباج ثم إلى كينوك، ثم رحل منها إلى كراصو «4» ، ثم إلى اقجا دربند، فوصله يوم الثلاثاء سابع الشهر فقطعه فى نصف نهار، وبات فى وطأة هناك. وقدم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فى جماعة من العسكر جاليشا، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار مقدمهم كراى، فهزمهم وأسر منهم وقتل، وذلك فى يوم الخميس تاسع الشهر. ثم ورد الخبر على السلطان أن عسكر المغل ومقدمهم تتاون» وعسكر الروم ومقدمهم [معين الدين] البرواناه قد قربوا من العسكر، فرتب السلطان عساكره وطلعت العساكر على

جبال مشرفة على صحراه هونى «1» من بلد أبلستين، وكان العدو فى تلك الليلة قد بات على نهر جهان «2» ، وهو نهر جيحان، فأقبل المسلمون من علو الجبل، وترتبت المغل أحد عشر طلبا، كل طلب منها يزيد على ألف، وعزلوا عسكر الروم عنهم، وجعلوه طلبا بمفرده [لئلا يكون مخامرا عليهم «3» ] . وكان أبغا بن هولاكو قد انتخب هذا الجيش من عسكره، وكان فيه جماعة من أكابر مقدمى المغل. فوقف السلطان وتقدم إليهم جماعة من مماليكه وخواصه، فأخلدت فرقة منهم إلى الأرض وقاتلوا قتالا شديدا، وحملت فرقة «4» منهم من ميسرتهم واستدارت خلف الصناجق السلطانية، فحمل السلطان عليهم، فانجلت الحرب عن قتل التتار، وكان من بقى منهم كما قيل: فلزهم الطراد إلى قتال ... أحد سلاحهم فيه القذاره وكانت وقعة عظيمة مشهورة فثبت فيها المغل. واستشهد من المسلمين فى هذا اليوم شرف الدين قيران «5» العلائى أحد مقدمى الحلقة، وعز الدين أخو المحمدى.

ونزل السلطان فى المنزلة التى كان العدو نازلا بها، وأحضرت بين يديه الأسارى من المغل، فاستبقى السلطان بعض أكابرهم وقتل من بقى منهم، وأسر جماعة من أكابر أمراء الروم، ووصل جماعة منهم إلى الخدمة. وكان ممن أسر ووصل من الروم بكلاء «1» بن البرواناه ومعه ولد أخته، وولد خواجا يونس، والأمير نور الدين بن جاجا، والأمير قطب الدين أخو الأتابك، والأمير سراج الدين جاجا، وسيف الدين سنقرجاه الزوباشى، ونصرة الدين صاحب سيواس، والأمير كمال الدين، عارض الجيش بالروم، وحسام الدين بركاول، قريب البرواناه، وسيف الدين بن عليشير التركمانى، والأمير سيف الدين جاليش النائب بالروم، وهو أمير داد، ومعناه أمير العدل، وظهير الدين فتوح «2» مشرف الممالك، ومرتبته دون الوزارة، والأمير نظام الدين أوحد بن الأمير شرف الدين بن الخطير وإخوته، وقاضى القضاة حسام الدين قاضى الروم، ومظفر الدين بن جحاف، وأولاد الأمير صارم الدين بن الخطير، وجماعة من أصحابهم، وسيف الدين كجكنا «3» الجاشنكير، ونور الدين المنجنيقى، وأولاد رشيد الدين صاحب ملطية «4» كمال الدين وإخوته، وأمير على صاحب كركر، وأكثر هؤلاء حضروا بيوتهم وأولادهم، وأما البرواناه فأنه هرب.

قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: وأما البرواناه فأنه شمر الذيل وامتطى هربا أشهب الصبح وأحمر الشفق وأصفر الأصيل وأدهم الليل، ودخل قيسارية فى وقت السحر من يوم الأحد ثانى عشر الشهر، فأفهم سلطانها غياث الدين [كيكاوس بن كيخسرو «1» ] والصاحب فخر الدين وزيرها، والأتابك مجد الدين والأمير جلال الدين المستوفى، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والطغرائى وهو ولد أخى البرواناه: أن جيش الإسلام كسر بعض المغل، وأن بقية المغل انهزموا، ويخشى أن يدخل المغل قيسارية ويقتلون من بها حنقا على الإسلام، فأخذهم وأخذ زوجته بنت غياث الدين صاحب أرزن الروم، وتوجهوا كلهم إلى توقات. ولهذه كرحى خاتون [امرأة البرواناه] أربعمائة جارية استصحيتهن معها. وكانت أم هذه كرحى خاتون ملكة الكرج. وتوقات مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيسارية. وجرّد السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بجماعة لإدراك من انهزم من المغل، والتوجه أمامه إلى قيسارية، وكتب بتأمين أهلها. فمرّ بفرقة من التتار معهم البيوت، فأخذ عنهم جانبا. وحال بينهم الليل، فمر كل منهم فى جهة. ورحل السلطان يوم السبت حادى عشر الشهر من مكان المعركة ونزل قريبا من قرية رمّان، وهى قريب الكهف والرقيم حقيقة كما نقل، لا ما يقال إن الكهف والرقيم من عمل بيسان «2» والبلقاء.

وقرية رمّان هذه بيوتها مبنية حول سن جبل قائم كالهرم ويطوف بها جبال كأنها أسوار، ويخرج منها أنهار عليها قناطر لا تسع غير راكب. واشتدت الأمطار، ثم سار بكرة النهار إلى الليل، ونزل بوطأة من أعمال صاروس العتيق، وبقربها معدن الفضة. فأتى السلطان مخبر أن التتار فى فجوة هناك فركب بالعساكر فعاقته كثرة الأمطار فعاد وبات بتلك المنزلة. وأصبح فسلك جبالا وعرة، ومر على قرية أو ترال «1» ومنها إلى خان قريب من حصن سمندو، وكان السلطان قد سير كتابا إلى نائبها، فقبله وأذعن إلى النزول عنها إن أمره السلطان، فشكره وأحسن إليه، وكذلك متولى قلعة درندا، ووالى دوالوا، أجابوا كلهم إلى الطاعة. ثم نزل السلطان قرية قريبة من قيسارية شرقى جبل عسيب، وركب يوم الأربعاء، نصف ذى القعدة سنة خمس وسبعين وستمائة، والعساكر فى خدمته، وخرج أهل قيسارية، العلماء والأكابر وغيرهم حتى النساء والأطفال فتلقوا السلطان، وكان دهليز صاحب الروم وخيامه قد نصبت فى وطأة كينجسرو قريبا من المناظر التى لملوك الروم، فنزل السلطان به، وارتفعت أصوات العالم بالتهليل والتكبير، وضربت به نوبة آل سلجق على العادة، وحضر أصحاب الملاهى فردّوا، واعتمد السلطان على الأمير سيف الدين جاليش فى النيابة، وكان أولاد قرمان [أمراء التركمان «2» ] قد رهنوا أخاهم الصغير على بك بالروم، فخرج إلى السلطان فأكرمه، وطلب منه تواقيع وصناجق له ولأخوته فأعطاه وتوجه، وكتب السلطان إليهم فى الحضور إلى خدمته، وأكد فى ذلك.

فكان من خبرهم فى الوصول إلى بلاد الروم بعد رحيل السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: ثم ركب السلطان فى يوم الجمعة سابع عشر الشهر، وعلى رأسه جتر بنى سلجق ودخل قيسارية. وكانت دار السلطنة قد هيئت لنزوله، وتخت آل سلجق قد نصب لحلوله، فجلس فى مرتبة السلطنة بكرة النهار، وحضر القضاة والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية، وذوو المراتب على العادة السلجقية فى أيام الجمع، ووقف له أمير المحفل- وهو عندهم ذو حرمة ومكانه، وعليه أكبر ثوب وأكبر عمامة- فرتب المحفل، وقرأ القراء، ثم أنشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح فى السلطان. ومد السماط، فأكل من حضر وانصرفوا. وتهيأ السلطان لصلاة الجمعة وحضر إلى الجامع وصلى، وخطب الخطباء فى جوامع قيسارية باسمه، وهى سبعة «1» جوامع. ثم عاد إلى دار السلطنة وأحضر بين يديه دراهم عليها السكة الظاهرية. وظهر لمعين الدين سليمان البرواناه ولزوجته كرجى خاتون موجود عظيم «2» ، فحمل إلى السلطان وكذلك موجود من نزح؛ ففرق أكثره على أمرائه. وحكى الصاحب عز الدين بن شداد فى السيرة الظاهرية قال: حكى لى من أثق به أن البرواناه بعث إلى السلطان لما دخل قيسارية يهنئه بالجلوس على التخت، فكتب إليه يأمره بالوفود عليه ليوليه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوما، وكان مراده أن يصل إلى أبغا ويحثه على المسير [بنفسه]

ذكر رحيل السلطان عن قيسارية وهرب عز الدين أيبك الشيخى ولحاقة بأبغا وعود السلطان إلى ممالكه

والسلطان بالبلاد، فلم يدر ذلك فى حدس السلطان. فاجتمع تتاون «1» بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرفه قصد البرواناه فى طلبه الانتظار، وأن مقصده أن السلطان يتربص حتى يدركه أبغا فى البلاد، فكان ذلك سبب رحيل السلطان عن قيسارية. ذكر رحيل السلطان عن قيسارية وهرب عز الدين أيبك الشيخى ولحاقة بأبغا وعود السلطان إلى ممالكه كان رحيل السلطان من قيسارية فى يوم الاثنين العشرين من ذى القعدة، وقيل فى الثانى والعشرين منه، لقلة الأقوات، وقيل للسبب الذى تقدم ذكره، وجعل على يزكه الأمير عز الدين أيبك الشيخى، وكان السلطان قد ضربه لسبقه الناس وتقدمه، فحقد ذلك، وتسحب يومئذ والتحق بأبغا بن هولاكو. ونزل السلطان بقيرلو «2» فورد عليه فيها رسول البرواناه، ومعه رجل آخر اسمه ظهير الدين الترجمان، وهو يستوقف السلطان عن الحركة، وما كانوا علموا بقصد السلطان فى مسيره إلى أية جهة، وكان الخبر قد شاع أن حركة السلطان إلى سيواس. فأجاب السلطان البرواناه: «أن كتبك وكتب غيرك كانت تأتينى واشترطتم شروطا لم تفوا بها ولا وقفتم عندها، وقد عرفت الروم وطريقه، وما كان جلوسنا على التخت رغبة فيه إلا لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن شىء نريده بحول الله وقوته، ويكفينا أخذنا أمك وابنك وابن بنتك وما منحناه من النصر الوجيز، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز.»

ثم رحل، ونزل خان كيقباد، فلما نزل به بعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إلى قرية رمّانة فحرقها، وقتل من كان بها من الأرمن وسبى حريمهم، لأنهم كانوا قد أخفوا جماعة من المغل. ولما رحل السلطان من منزلة روزان كودلوا مرّ فى وطأة خلف حصن سمندو من طريق غير الطريق الذى كان توجه عليها إلى قيسارية، ويعرف هذا المكان بقزل صو، ومعناء النهر الأحمر، وهو بعيد المستقى، كثير الزلق والوحل، فوقف السلطان وجرد سيفه حتى بسطت جملة من اللبابيد الحمر تحت حوافر الخيل واخفاف الجمال، ووقف راجلا حتى عبر الناس أولا قأولا، ثم ركب وعبر ونزل فى واد فيه مرعى، ثم رحل إلى صحراء فراحا بالقرب من بازاريلوا. وهذا البازار هو الذى كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه كل شىء يجلب من الأقاليم. ثم رحل يوم السبت وسار إلى وطأة أبلستين ومر بمكان المعركه لمشاهدة رمم التتار، وحضر جماعة من أهل أبلستين، وسئلوا عن قتلى التتار، فقال رجل منهم: «عددت ستة آلاف وسبعمائة وسبعين من المغل خاصة فى المعركة غير من قتل خارجها» . ولما بلغ السلطان أقجا دربند بعث الأثقال والخزائن والصناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخزندار ليعبر بها الدربند، وتأخر السلطان ساقة العسكر يوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند، وحصل للناس مشقة، ولما خرجوا منه قطعوا النهر الأزرق، وبات. ثم رحل السلطان فنزل قريبا من كينوك، ثم نزل يوم الثلاثاء سادس ذى الحجة قريبا من حارم، ونزل بعساكره هناك وعيّد عيد الأضحى، ووصلت إليه رسل

ذكر ما اعتمده الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان أمير التركمان فى البلاد الرومية

الأمير شمس الدين محمد بن قرمان أمير التركمان وكتبه بما اعتمده بالروم بعد عود السلطان، وأنه حضر فى عشرين ألف فارس من التركمان وثلاثين ألف راجل متركشة إلى خدمة السلطان فلم يدركه. ذكر ما اعتمده الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان أمير التركمان فى البلاد الرومية «1» كان الأمير شمس الدين المذكور قد باين التتار ونابذهم، وخرج عن طاعتهم وطاعة الروم، وانحاز إلى السواحل. فلما بلغه خبر كسرة التتار ووصول السلطان إلى قيسارية جمع جموعا كثيرة من التركمان وقصد أقصرا، فلم ينل منها طائلا فرحل عنها وقصد قونية فى ثلاثة آلاف فارس ونازلها، فغلق أهلها أبوابها فى وجهه، فرفع على رأسه صناجق السلطان التى سيرها مع أخيه على بك، وبعث إليهم يعرفهم أن السلطان الملك الظاهر كسر التتار ودخل قيسارية وملكها، فقال أهل البلد: «أما الأبواب فنحن لا نفتحها، ولكن أحرقوها وأدخلوا فنحن لا نمنعكم» ، فأحرقوا باب الفاخرانى، وباب سوق الخيل ودخلوا قونية يوم عرفة، وهو يوم الخميس. وكان النائب بها إذ ذاك أمين الدين ميخائيل. فقصد من معه داره ودار غيره من الأمراء، والأسواق والخانات فنهبوها، ثم ظفروا بأمين الدين، فأخرجوه إلى ظاهر البلد وعذبوه إلى أن استأصلوا ماله ثم قتلوه وعلقوا رأسه داخل البلد، وامتنع أهل البلد من تسليمها، فاعملوا الحيلة، ورتبوا رجلا على أن يتوجه إلى قمين من أقمنة حمام عينوه له، فإذا رأى هناك شابا رمى نفسه عليه وقبلّ رجليه، فإذا قال له الشاب: «من أين تعرفنى؟» ، فيقول:

«ما أنت علاء الدين كيخسروا بن السلطان عز الدين كيقباذ؟ أنسيت تربيتى لك وحملك على كتفى؟» . وليكن ذلك بمشهد من العامة، فلما فعل ذلك وسمعت العامة مادار بين الرجل والشاب ازدحموا عليه، وإذا جماعة من التركمان كان قد رتب معهم أنهم إذا رأوا العامة قد أحدقوا به فيأخذونه «1» من بين أيديهم ويحملونه إلى الأمير شمس الدين محمد بك، ففعلوا ذلك، فلما رآه أقبل عليه وضمه إليه، وعقد له لواء السلطنة وحمل الصناجق على رأسه، وذلك فى الرابع عشرين ذى الحجة، فلما رأى أهل قونية ما فعلوه حملتهم المحبة فى آل سلجوق على متابعتهم، ثم نازلوا القلعة، فامتنع من فيها من تسليمها، فحاصروها، ثم تقرر بينهم الصلح على تسليمها ويعطى من فيها سبعون ألف درهم «2» ، فدخلوها وأجلسوا علاء الدين فيها على تخت الملك، ثم بلغ ابن قرمان والتركمان أن تاج الدين محمدا، ونصرة الدين محمود، ابنا الصاحب فخر الدين خواجا على، قد حشدا وقصداهم، فسار [ابن قرمان] إليهما وعلاء الدين معه، فالتقوا على آمد شهر، فكسرها وقتلهما، وقتل خواجا سعد الدين يونس بن سعد الدين المستوفى صاحب أنطاكية، وهو خال معين الدين البرواناه، وقتلوا جلال الدين خسرو بك بن شمس الدين يوناس بكلارتكسى «3» ، وأخذوا رءوسهم وعادوا بهم إلى قونية فى آخر ذى الحجة. واستمروا بقونية إلى أن دخلوا «4» سنة ست وسبعين وستمائة، فبلغهم

ذكر وصول أبغا إلى بلاد الروم ومشاهدته مكان الوقعة وما فعله بأهل الروم من القتل والنهب

أن أبغا وصل بعد خروج الملك الظاهر من الروم إلى مكان الوقعة، فرحلوا عن قونية إلى جبالهم. وكانت مدة مقامهم بقونية سبعة وثلاثين يوما. ذكر وصول أبغا إلى بلاد الروم ومشاهدته مكان «1» الوقعة وما فعله بأهل الروم من القتل والنهب كان البرواناه معين الدين لما تمت الهزيمة على التتار وعليه، قد كتب إلى أبغا يستنصر به ويستحثه على الوصول إلى بلاد الروم، فتوجه أبغا إلى الروم، ولما شارف البلاد خرج إليه البرواناه بمن معه، وتوجه فى خدمته بالعساكر إلى أن وصل إلى البلستين، ووقف على موضع المعركة، فتأسف على المغل وبكى، ثم قصد منزلة السلطان الملك الظاهر، فقاسها بعصا الدبوس فعلم عدة من كان نازلا بها من العساكر وأنكر على البرواناه كونه لم يعرفه جلية حال العسكر، فاعتذر بأنه «2» ما علم بذلك، وأن العسكر حضر بغتة، فلم يقبل عذره. وكان الأمير عز الدين أيبك الشيخ فى خدمة أبغا، فقال له: «أرنى مكان الميمنة والقلب والميسرة» فأقام «3» له فى كل منزلة رمحا، فلما رأى بعد ما بين الرماح قال: «ما هذا العسكر الذى حضر معى يكفى هؤلاء» ، وكان فى خدمته من عسكره ثلاثون «4» ألف، وكان قد سيرهم إلى الشام فأعادهم من كينوك، وتوجه إلى قيسارية وسأل أهلها فقال: «هل كان مع صاحب مصر جمال؟» ، فقالوا: «لم يكن معه

نعود إلى سياقة أخبار السلطان الملك الظاهر

إلا خيل وبغال» ، فقال: «هل نهب منكم شيئا؟» ، قالوا: «لا، إلا مشترى بالذهب» ، فقال: «منذكم فارقكم؟» قالوا: «منذ خمسة وعشرين يوما» ، فقال: «هم الآن عند جمالهم «1» » . ثم عزم على قتل من بقيسارية من المسلمين، فاجتمع إليه القضاة والفقهاء، وقالوا: «هؤلاء رعية ولا طاقة لهم بدفع عسكر إذا نزل عليهم، وهم مع الزمان عبيد من ملك» ، فلم يرجع إلى ذلك، وأمر بقتل جماعة من أهل البلد، وقتل قاضى القضاة جلال الدين حبيب، وأمر عسكره أن يبسط فى المملكة الرومية، فقتل من الرعايا ما يزيد على مائتى ألف، وقيل بلغت عدة من قتل من الرعايا والفلاحين وغيرهم خمسمائة الف من قيسارية إلى أرزن الروم [ولم يقتل أحدا من النصارى «2» ] ، ثم عاد أبغا إلى الأردو، وكان من خبر قتل البرواناه معين الدين ما قدمناه. نعود إلى سياقة أخبار السلطان الملك الظاهر قد قدمنا أن السلطان نزل بالقرب من حارم، وعيّد عيد الأضحى هناك، وحضر إلى خدمته أمراء بنى كلاب، ثم نزل السلطان بالقرب من أنطاكية فى مروجها ورحل إلى دمشق، فكان دخوله إليها فى خامس المحرم سنة ست وسبعين وستمائة وقيل فى سابعه. قال المؤرخ: كان السلطان لما توجه إلى الروم كلف أهل دمشق جباية مال يسبب إفامة الخيل «3» ، فحضر إليه الشيخ محيى الدين النواوى وكلمه فى ذلك

بكلام خشن، فلاطفه السلطان، وقال له: «يا سيدى: مد يدك أعاهدك أننى متى كسرت العدو فى هذه السفرة أبطل الجباية ويكون خاطرك معى» ، فعاهده على ذلك. فلما فتح البلاد وكتب إلى الشام بالبشارة، كتب إلى الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعى، شاد الدواوين بدمشق، كتابا مضمونه: أنه لا يحل ركابا إلا وقد استخرجت من أهل دمشق مائتى ألف درهم، ومن برّها ثلاثمائة ألف درهم، ومن قراها ثلاثمائة ألف درهم، ومن البلاد القبليه تكملة ألف ألف درهم، فتبدّل فرح أهل الشام لذلك حزنا، وتمنوا زوال الدولة، فما كملت خباية نصف المال حتى مات السلطان.

واستهلت سنة ست وسبعين وستمائة

واستهلت سنة ست وسبعين وستمائة ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى رحمه الله تعالى قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: ودخل السلطان دمشق فى خامس المحرم وقد رنّح النصر أعطافه «1» ، وروى من دماء الأعداء أسيافه، وقدامه مقدمو التتار قد ركبوا وهم فى القيود عوض شهب الجياد، وبعد أن كانوا مقترنين صاروا مقرنين فى الأصفاد. ونزل بقصره فى الميدان الأخضر، معتقدا أن الدنيا فى يده قد حصلت، والبلاد التى حلها ركابه عنه انفصلت، وأن سعده استخلص له الأيام وأصفاها، والممالك شرقا وغربا لو لم يكن بها غيره لكفاها، وإذا بالمنية قد أنشبت أظفارها، والأمنية وقد وضعت حوبها [و «2» ] أوزارها، والعافية وقد شمّرت الذيل، والصحة وقد قالت لطبيه: «أهلك والليل» ، ورماح الخط وقد قالت لأقلام الخط: «أصبت فى لبس الحداد من المداد» ، والقلوب وقد قالت عند شق الجيوب: «نحن أحق منك بهذا المراد» ، والحصون وقد قالت لقصره الأبلق: «ما كان بناؤك على هذه الصورة إلا فألا» بما تسود الجدران به عند الفجائع من السواد» .

قال: وكان ابتداء مرضه الذى اعتل به الوجود، وتباشرت به الأكفان واللحود: ليلة السبت خامس عشر المحرم. فانه ركب وقت العصر من يوم الجمعة رابع عشرة وكأنه مودع لأخدانه ورؤية موكبه وركوب حصانه، ونزل والتاث جسمه بعض التياث، وأصبح وليس عنده ذلك الانبعاث. فلما انقضت مدة أجله، وانطوت صحيفة عمله، قبض الله روحه الزكية، ورجعت إلى ربها راضية مرضية، وذلك بعد الزوال من يوم الخميس سابع عشرين المحرم سنة ست وسبعين وستمائة. وكأن نفوس العالم كانت نفسا، وأنزل الله السكينة فلا تسمع إلا همسا، واستصحبت مهابته السكون وخادعت العقول حتى أن ما كان «1» من وفاته كاد كل يحلف أنه ما يكون. وحمل فى محفة إلى قلعة دمشق فى تلك الليلة، وسكنت الشفاة والألسنة، وتناومت العقول من غير نوم ولا سنة. وجعل فى بعض القاعات بالقلعة على سرير يومأ إليه بالترحم والسلام، ولا يزوره غير الملائكة الكرام. قال المؤرخ: وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتكفينه المهتار شجاع الدين عنبر، والفقيه كمال الدين الإسكندرى المعروف بابن المنبجى، والأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، ثم جعل فى تابوت وعلق فى بيت من بيوت قاعة البحرة بقلعة دمشق. وكانت مدة مرضه، رحمه الله تعالى، ثلاثة عشر يوما، وهى مدة مرض الشهيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى.

مدة حكمه

وأول ما فتحه السلطان بنفسه: فيسارية الساحل، وآخر ما فتحه فيسارية الروم، واستمر بقلعة دمشق إلى أن ابتاع ولده السلطان الملك السعيد دار العقيقى بدمشق بستين ألف درهم، وحصل الشروع فى عمارتها ووضع الأساس فى يوم الأربعاء خامس جمادى الآخرة من السنة. وكانت النفقة على العمارة من ربع أملاكه. وحمل إليها ليلة الرغائب الخامس من شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، [و] بعد أن صلى عليه فى صحن جامع دمشق ليلا، أدخل من باب البريد وخرجوا به من باب النطاقين إلى تربته وتولى حمله الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بالشام والأمير عز الدين الداودار والطواشى صفى الدين جوهر الهندى، وألحده القاضى عز الدين الشافعى. ولما تمت له سنة من يوم وفاته عملت له الأعزية بالقرافتين «1» ، ومدت الأسمطة للقراء والفقراء وفرقت على الزوايا، وحضر الناس على اختلاف طبقاتهم. وقرىء له عدة ختمات، وعمل له بعد ذلك عدة أعزبة بمدرسة الشافعى، والجامع الطولونى، والجامع الظاهرى، والمدارس الظاهرية، والصالحية، ودار الحديث الكاملية، والخانقاه الصلاحية، والجامع الحاكمى، وعمل للتكاررة «2» خوان حضره جماعة من الفقراء والصالحين. مدة حكمه وكانت مدة ملكه، رحمه الله تعالى، سبع «3» عشرة سنة وشهرين واثنى عشرة يوما.

وكان له من الأولاد: السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد قاءان بركه، وأمه ابنة الأمير حسام الدين بركه خان بن دولة خان الخوارزمى «1» ، والملك المسعود نجم الدين الخضر، والملك العادل بدر الدين سلامش، وسبع ينات. وتزوج أيضا ابنة الأمير سيف الدين نوكبة «2» التتارى، وابنة الأمير سيف الدين كراى التتارى، وابنة الأمير سيف الدين تماجى «3» التتارى، وامرأة شهرزورية تزوجها لما قدم غزة وحالف الشهرزورية، ثم طلقها لما ملك الديار المصرية. نائبه: مملوكه الأمير بدر الدين بيليك الخزندار. وزراؤه: الصاحب زين الدين بن الزبير مدة يسيرة. ثم استوزر بعده الصاحب بهاء الدين على بن محمد المعروف بابن حنا. قضاته: وقد تقدم ذكر قضاته فى أخبار دولته. ***

ذكر أخبار السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه قاءان ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بييرس البندقدار الصالحى وهو الخامس من ملوك دولة الترك.

ذكر أخبار السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه قاءان «1» ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بييرس البندقدار الصالحى وهو الخامس من ملوك دولة الترك. ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، بعد وفاة والده السلطان الملك الظاهر، فى يوم الخميس سابع عشرين المحرم سنة ست وسبعين وستمائة، وكان ولى عهد أبيه، على ما قدمناه فى أخبار الدولة الظاهرية «2» ، فى يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة اثنتين وستين وستمائة، وجدّد له الحلف، فى يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين وستمائة. قال: ولما توفى السلطان بدمشق كان الملك السعيد بمصر، وكان الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة وأكابر الأمراء قد أخفوا موت السلطان «3» . وكتب الأمير بدر الدين بيليك الخزندار إلى الملك السعيد كتابا بخطه يخبره بوفاة السلطان، ويعلمه بما دبره من كتمان ذلك إلى أن يصل بالعساكر والخزائن إلى خدمته، وسأله كتمان الحال الى أن يصل اليه، وسير اليه المطالعة على يد الأمير بدر الدين الجو كان دار الحموى، والأمير علاء الدين أيدغمش الحكمى الجاشنكير، فلما وصلا بالمطالعة وأنهيا ما معهما من المشافهة خلع عليهما وأنعم على كل منهما بخمسة آلاف درهم، وأظهر أن ذلك بسبب بشارتهما بعود السلطان إلى دمشق. ثم ركب الأمراء فى بكرة يوم السبت تاسع عشرين الشهر على العادة إلى سوق الخيل بدمشق.

ثم رحلوا من دمشق فى صفر بالجيوش والعساكر، وبينهم محفة محمولة، وجماعة من المماليك السلطانية فى خدمتها يظهرون أن السلطان الملك الظاهر فيها وهو ضعيف، كل ذلك حفظا للمهابة، وما زال الأمر كذلك إلى أن وصلوا إلى الديار المصرية، وكان وصول المحفة والأمراء إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس خامس عشرين صفر سنة ست وسبعين وستمائة، وسلم الأمير بدر الدين الخزندار الخزائن والعساكر للسلطان الملك السعيد، وأظهروا عند ذلك وفاة السلطان وحلف الناس للملك السعيد، واستقر له الملك وعمره يومئذ تسع عشرة «1» سنة. وكتب [الملك السعيد] إلى دمشق وسائر الممالك الشامية يخبر «النواب» بوفاة السلطان وسلطنته، ويطلب منهم اليمين، فوصل الأمر «2» فى البريد بذلك إلى دمشق فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأول، فجمع النائب عن السلطنة بها وهو الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى، الأمراء والمقدمين، وقرىء عليهم كتاب السلطنة فحلفوا، وحلف جميع العسكر والقضاة والأعيان، ثم رسم لمتولى دمشق أن يحلف أهل دمشق، فحلف أهل كل حارة بحضور عدلين، ورسم لمتولى البريد بذلك، فحلف أهل القرى والضياع، ودامت مدة الحلف بدمشق أحد عشر يوما حتى كملت. ثم خلع على الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان والنظار وكتاب الإنشاء بدمشق فى سادس عشر الشهر، وخلع على الأعيان والأكابر بالطرحات، وما كان قبل ذلك يخلع بالطرحة، إلا على قاضى القضاة، وحلف أيضا صاحب حماة وأهل بلده، ونائب حلب وأمراؤها وجندها وأهلها، وسائر الممالك الشامية لم يختلف منهم أحد ولا توقف عن اليمين.

ذكر وفاة الأمير بدر الدين بيليك الخزندار

ذكر وفاة الأمير بدر الدين بيليك الخزندار كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بقلعة الجبل فى ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة، وذلك أنه لما وصل إلى خدمة السلطان الملك السعيد وقف وحلف الأمراء والخواص والأجناد وغيرهم للملك السعيد، فلما تكامل ذلك توجه إلى والدة السلطان زوجة مخدومه ليعزيها بالسلطان ويهنيها بسلطنة ابنها، فشكرت فعله وما اعتمده من حق ولدها من حفظ السلطنة عليه، ثم أخرجت له هنابا فيه مشروب، وقالت له: «أشرب هذا فأنك قد تعبت فى هذا اليوم وما أكلت شيئا.» فقال لها: «والله لى ثلاثة أيام ما آكل فى كل يوم نصف أوقية طعام خوفا على السلطان الملك السعيد، ولم أزل أدارى الأمراء منذ وفاة السلطان إلى أن كمل هذا الحلف المبارك» . وتناول الهناب وشرب منه جرعتين وأعاده فى الثالثة لكثرة إلحاحهم عليه، وتوجه إلى داره فحصل له قولنج، وانقطع وتزايد به الأمر، فمات، رحمه الله تعالى. وهذا الفصل الذى دبرته والدة الملك السعيد من سوء التدبير وقبح المكافأة، فأنه وقع الخيال عندها وعند ابنها منه، ولعل هذا الخيال كان غير صحيح: فإنه أحسن السياسة وأجمل التدبير ووفى لمخدومه، وكان رحمه الله تعالى، تربية السلطان، اشتراه وهو مفردى ورياه من صغره، وكان خزنداره، ثم أستاد داره فى الإمرة، ونائبه فى السلطنة وكانت مكانته عنده مكينة، يرجع إلى رأيه ويعتمد عليه فى سائر أحواله ويثق بنصحه، وتمكن فى الدولة الظاهرية تمكنا عظيما، وكان له بالديار المصرية إمرة مائة فارس وبالشام إمرة خمسين فارسا، وجعل له السلطان عند زواجه

ذكر القبض على من يذكر من الأمراء والإفراج عنهم ومن مات منهم

بابنه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها والشغر «1» وغير ذلك. ولما مات وقعت الأوهام فى نفوس الأمراء وتخيلوا، فإنهم علموا ما أسلفه المذكور من الخدمة للملك السعيد وحفظ الخزائن والعساكر، وأنه أدى الأمانة فى طاعته. واستناب السلطان بعد وفاته الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى الظاهرى أستاد الدار ونائب السلطنة بالديار المصرية فى غيبة السلطان، وأقر الصاحب بهاء الدين على وزارته. وركب «2» السلطان فى يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول بشعار السلطنة والأمراء فى خدمته، وتوجه صوب الجبل الأحمر، وذلك أول ركوبه، وخلع على الأمراء والأعيان. ذكر القبض على من يذكر من الأمراء والإفراج عنهم ومن مات منهم كان من سوء التدبير الذى اعتمده السلطان الملك السعيد: أنه قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى «3» الشمسى فى يوم الجمعة حادى عشرين شهر ربيع الأول، واعتقلهما بقلعة الجبل، وكانا من أكبر الأمراء، وأخصّهم بصحبة السلطان والده، فتغيرت لذلك قلوب الأمراء،

ثم اجتمع مماليكه ومماليك الأمير بدر الدين بيليك الخزندار، وحسنوا له القبض على نائبه الأمير شمس الدين آقسنقر [الفارقانى] واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقى، وأمسكوه وهو جالس عند باب «1» القلعة وسحبوه إلى الدور وضربوه ونتفوا لحيته، وذلك فى يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واعتقل فلم يلبث إلا قليلا ومات. ثم أفرج عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسرى «2» فى يوم السبت ثانى جمادى الأولى وخلع عليهما وأعادهما إلى ما كانا عليه. ثم قبض على خاله الأمير بدر الدين محمد بى بن الأمير حسام الدين بركه خان فى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة، واعتقله بقلعة الجبل، فغضبت أخته والدة السلطان لذلك، وأنكرته على ابنها، فأفرج عنه فى ليلة الثلاثاء خامس عشرين الشهر وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه. وشرع فى خلال ذلك فى تقديم مماليكه وترجيحهم وسماع آرائهم. قال: ولما صدرت منه هذه الأفعال اجتمع الأمراء وتشاوروا، وقصدوا أن يتوجهوا إلى الشام، ثم رجعوا عن ذلك وبعثوا إلى السلطان وقد اجتمعوا فى يوم خميس، وأمتلأت بهم القلعة، وأنكروا فعله، وحذروه عاقبة ما يطرق إليه، فلاطفهم وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءا، وتولى الأمير بدر الدين الأيدمرى اليمين، فسكنت خواطرهم، واستقر الحال مدة لطيفة. وكان السلطان لما قبض على الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى رتب فى النيابة بعده الأمير شمس الدين آقسنقر الألفى المظفرى، فلم يرضه الخاصكية لأنه غير

ظاهرى. واتفق أنه ولى خوشداشه الأمير علم الدين سنجر المظفرى، المعروف بأبى خرص؛ نيابة المملكة الصفدية، وزاده على إقطاع النيابة نواحى من الخاص السلطانى، وهى أريحا وكفرين ونمرين من الغور، فأوهموا السلطان منه وزعموا أنه يقصد إقامة المظفرية ولا تؤمن غائلته، فعزله عن قريب، وولى الأمير سيف الدين كوندك الساقى نيابة السلطنة [لأنه ربى معه فى المكتب «1» ] وقيل إن ولايته كانت فى سنة سبع وسبعين. ولما فوضث إليه النيابة أمر الوزير الصاحب بهاء الدين أن يجلس بين يديه وألا يوقع إلا بأمره. وتقدم من المماليك السعيدية الأمير حسام الدين لاجين «2» الزينى، وانضم إليه الخاصكية، وقويت شوكته وأخذ لخوشداشيته الإقطاعاث، ونافس النائب. فضم النائب إليه الأمراء الأكابر، ومال إليهم واستجلبهم، هذا كله فى سنة ست وسبعين وستمائة، وبعضه فى سنة سبع على ما قيل. وفى سنة ست وسبعين وستمائة أيضا فى يوم السبت سابع ذى القعدة: برز السلطان الملك السعيد بالعساكر إلى منزلة مسجد التبن «3» لقصد الشام، ثم انتقل بخواصه من هذه المنزلة فى يوم السبت حادى عشر الشهر ونزل بالميدان السعيدى وعادت العساكر إلى منازلهم وبطلت الحركة. وفيها: فى شهر رمضان طلعت سحابة عظيمة بصفد، «4» لمع منها برق عظيم خارق،

ذكر عزل قاضى القضاة محيى الدين عبد الله بن محمد بن عين الدولة وإضافة عمله إلى قاضى القضاة تقى الدين بن رزين

وسطح منها لسان كالنار، وسمع صوت رعد هائل، ووقع على منارة جامعها صاعقة شقت المنارة من رأسها إلى أسفلها شقا يدخل فيه الكف. وفيها: سأل قاضى القضاه صدر الدين سليمان [بن أبى العز «1» ] الحنفى أن يؤذن له فى الإقامة بدمشق مدرسا ومجاورا لتربة السلطان، فأذن له، فأقام بدمشق. وفوض قضاء الحنفية بالديار المصرية لنائبه القاضى معز الدين. ذكر عزل قاضى القضاة محيى الدين عبد الله بن محمد بن عين الدولة وإضافة عمله إلى قاضى القضاة تقى الدين بن رزين «2» وفى يوم الأربعاء ثامن عشر ذى القعدة من هذه السنة، عزل القاضى محيى الدين أبو الصلاح عبد الله بن قاضى القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة الصفراوى «3» عن القضاء بمصر والوجه القبلى. وسبب ذلك أنه كان قد حصل له فالج منذ خمس سنين، فأقعد وعجز عن الكتابة، وكان يعلّم عنه كاتب الحكم، فعزل الآن. وأضيفت ولايته إلى القاضى تقى الدين بن رزين، وعطل القاضى محيى الدين وانقطع بمنزله إلى أن مات، وكانت وفاته بمصر فى رابع شهر رجب، وقيل فى خامسه من سنة ثمان وسبعين وستمائة، رحمه الله تعالى. وفيها: فوض السلطان الملك السعيد قضاء القضاة بدمشق والشام أجمع من العريش إلى سلمية لقاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان الشافعى، وعزل القاضى عز الدين بن الصايغ، وتوجه القاضى شمس الدين إلى دمشق فى سابع

ذكر وفاة الشيخ خضر وشىء من أخباره

وعشرين ذى الحجة، فوصل إليها فى ثالث عشرين المحرم، وخرج الناس للفائه إلى غزة. ومنهم من وصل إلى الصالحية، وكانت الشفاعة قد قويت بولايته قبل وقوعها. وفيها: كانت وفاة قاضى القضاة الشيخ شمس الدين أبى عبد الله محمد بن الشيخ العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن على بن سرور المقدسى «1» الحنبلى، فى يوم السبت ثانى عشرين المحرم سنة ست وسبعين، ودفن يوم الأحد بتربة عمه الحافظ عبد الغنى. وكان مولده فى يوم الأحد رابع عشر صفر سنة ثلاث وستمائة بدمشق، ولما أفرج عنه بعد القبض عليه كما تقدم، لزم بيته بالمدرسة الصالحية وتوفر على اشتغال الطلبة إلى أن توفى. وكان كريما سمحا كثير العبادة والذكر، وولى أيضا مشيخة الخانقاه الصلاحية بالقاهرة، رحمه الله تعالى. ذكر وفاة الشيخ خضر وشىء من أخباره «2» وفى سابع المحرم سنة ست وسبعين وستمائة: كانت وفاة الشيخ خضر ابن أبى بكر بن موسى العدوى المهرانى شيخ الملك الظاهر فى معتقله بقلعة الجبل، ودفن بسفح المقطم. وقد حكى الشيخ شمس الدين محمد بن مجد الدين إبراهيم الجزرى فى تاريخه، «حوادث الزمان وأنبائه» ، مبدأ أمره، وكيف تنقلت به الحال، فقال: كان فى مبدأ أمره يخدم الأكابر ببلد الجزيرة، ثم استخدم لشيل زبائل دور

السلطنة والقلعة بجامكية وجراية. ثم ذكر عنه أنه أفسد بعض جوارى الدور، فرسم بخصيه، فهرب إلى حلب، وخدم بابا عند ابن قراطابا فأحبل جارية، فطلب فهرب إلى دمشق، والتجأ إلى الأمير ضياء الدين القيمرى، وأقام بمغارة فى زاويته بجيل المزة، فيقال إنه اجتمع بجماعة من الصالحين وبشروه بما يكون منه ومن السلطان الملك الظاهر. واتفق اجتماع الملك الظاهر به فى مدة مقامه بدمشق فى خدمة الملك الناصر فبشره بالملك. وكان الشيخ خضر قد احتوى على عقل الأمير سيف الدين قشتمر العجمى أحد الأمراء البحرية، فكان يخبره بسلطنة الملك الظاهر قبل وقوعها، ويخبره بأكثر ما وقع، ثم اجتمع به الأمير سيف الدين ايتامش «1» السغدى فأخيره أيضا بخبر الملك الظاهر، ثم كان من سلطنة الملك الظاهر ما قدمناه، وصار هو فى صحبة قشتمر العجمى، وخرج معه عند خروج السلطان إلى الشام بسبب الملك المغيث صاحب الكرك، فلما نزل السلطان على الطور سأل عنه الأمير سيف الدين قشتمر العجمى فأخبره أنه قد انقطع فى مغارة عند قبر أبى هريرة، رضى الله عنه، فتوجه السلطان إليه واجتمع به، فأخبره بوقائع كثيرة لم يخرم «2» ، فاغتبط به ولازمه، وبقى السلطان إذا حاصر بلدا من البلاد الساحلية والجبلية يخبره الشيخ بما يكون من أمره فيها، وبالوقت الذى يفتح فيه، فلا يخرم ذلك. ولما قصد السلطان أن يتوجه إلى الكرك فى سنة خمس وستين وستمائة استشاره فى ذلك فأشار عليه ألا يتوجه إليها فى هذه السفرة، وأن يتوجه إلى الديار المصرية فخالفه وتوجه إليها، فانكسرت فخذه ببركة زيزا قبل وصوله كما قدمنا ذكر ذلك. ولما رأى السلطان ذلك منه عظم عنده وبنى

له زاوية بظاهر القاهرة بالحسينية بجوار أرض الطبالة، ووقف عليها أحكارا بجملة كثيرة، وبالقدس زاوية، وبدمشق زاوية بالمزة، وببعلبك زاوية، وبحماة زاوية، ثم هدم كنيسة اليهود بدمشق، وهى الكنيسة العظمى عندهم، وجعلها زاوية كما تقدم، وهدم كنيسة النصارى بالقدس، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم كنيسة الروم بالإسكندرية، وهى كرسى كنائسهم يعقدون فيها البتركية، ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام فيها «1» ، وهو عندهم يحنا المعمدانى الذى عمد المسيح بن مريم، وجعلها مسجدا وبنى فيها المحاريب وسماها المدرسة الخضراء، وفتح لها شباكا إلى الطريق، ورتب فيها فقراء من جهته، وكذلك فى جميع زواياه: جعل بكل زاوية منها فقراء يقطعون المصانعات ويحمون أرباب الجرائم من اللصوص وغيرهم، ويتعاطون الفسق. قال: ولقد سأله مرة والدى إبراهيم «2» فقال: «يا أخبى، اشتهى أعرف كيف كان سبب وصلتك إلى هذه المنزلة؟» ، فقال له: «والله لا أقول لك حتى تقول لى الذى تعرف منى» ، فقال له: «أعرفك شيخ نحس، نفوك من الجزيرة ثم من حلب ومن دمشق، وما رأيتك إلا وقد صرت فى هذه المنزلة» ، فقال: «والله العظيم صدقت، وما صدقنى أحد فى الحديث إلا أنت يا أخى، لما هربت من الجزيرة طلعت إلى جبل الجودى، فبقيت احتطب فى كل يوم جرزة «3» حطب أبيعها بدرهم ونصف، فلما كان فى بعض الأيام إذا أنا بفقير عريان ليس عليه لباس، وقد أنبت الله له شعرا على جسده، يستر عورته،

فقال لى: «يا خضر، ايش تعمل؟» ، قلت: «أحتطب» فقال: «تعال غدا إلى هذا المكان وخذ منه جرزتين حطب» ، بع الواحدة لنفسك والأخرى اشترلى بثمنها موسى ومقصا ومشطا،» . فقلت: نعم. فلما كان الغد قصدت ذلك المكان فوجدت به جرزتين حطبا، فبعث إحداهما واشتريت له ما طلب، وبعث الأخرى لنفسى، قلما اجتمعت به قال لى: «اذهب إلى الشام، فسوف يكون لك «2» مع ملكه شأن عظيم» . فقدر الله تعالى أننى سكنت هذه المغارة بالمزة، فحصل لى اجتماع بالسلطان الملك الظاهر لما كان فى خدمة الملك الناصر، وفتح على بأن بشرته بالملك، فلما ملك كان سبب الوصلة بينى وبينه الأمير سيف الدين قشتمر العجمى. قال: «وكان ذلك الفقير قد أخبرنى بجميع ما يقع لى فى عمرى وبجميع ما يقع للسلطان واقعة بعد أخرى» . قال: قال والدى: وكان فى ذلك الوقت قد حصل لى وجع فى ظهرى، فقلت له: إن ظهرى يؤلمنى فمسح بيده على ظهرى، فسكن الوجع، فقال: «يا مجد الدين، سكن الوجع أم لا؟» . قال: فقلت: أما الوجع فقد سكن، وأما أننى اعتقد أنك رجل صالح فلا، وانما هذا من جملة السعادة التى حصلت لك. ثم كان من قبض السلطان عليه واعتقاله ما تقدم ذكره، ولم يزل فى اعتقاله إلى أن مات. قال: ولما عاد السلطان من غزاة الروم إلى دمشق كتب باطلاقه فورد البريد بعد وفاته. وكان واسع الصدر كريم النفس، يعطى الدراهم والذهب الكثير، ويصنع له الطعام فى قدور كبيرة مفرطة فى الكبر، وكانت أحواله غير متناسبة والأقوال

فيه مختلفة، فمن الناس من يثبت صلاحه؛ ومنهم من يرميه بالعظائم، وكان يكتب إلى صاحب حماة وغيره من الأمراء فى أوراقه إليهم: خضر نياك الحمارة، وكتب بذلك إلى قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ورقة، فأغضى عنها، ثم أخرى كذلك، فلما وصلت إليه الورقة الثالثة أحضر رسوله وقال له: «قل له، والله لئن وصل إلى ورقة منه بعد هذه فيها مثل هذا: أحضرته إلى مجلس الحكم وقابلته بما يستحقه بمقتضى ما كتب به خطه» ، فامتنع بعد ذلك من مكاتبته. ومات وله نيف وخمسون سنة، وكان ربع القامة، كث اللحية، فى لسانه عجمة، سامحه الله وإيانا. وفيها: كانت وفاة الأمير جمال الدين أقش المحمدى الصالحى «1» بالقاهرة فى ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة. وكان السلطان قد نقم عليه وحبسه مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى الإمرة، وكان رحمه الله تعالى عديم الشر. وفيها: توفى الأمير عز الدين أيبك الدمياطى الصالحى النجمى أحد الأمراء الأكابر المقدمين. وكان السلطان الملك الظاهر قد اعتقله كما تقدم ثم أفرج عنه، وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التى أنشأها بين القاهرة ومصر، المجاورة لحوض السبيل المعروف به، وقد ناف على سبعين سنة، وكان كريما جدا، له مروءة تامة، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى الأمير عز الدين أيدمر العلائى، وكان ينوب عن السلطنة بقلعة صفد، فجرى بينه وبين النواب مفاوضة أدت إلى أن طلب الدستور من

السلطان لينهى مصالح، فأذن له فحضر إلى الديار المصرية فأدركته منيته، فتوفى فى ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن فى يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى. وكان عفيفا أمينا محبا للعلماء والفقراء، وهو أخو الأمير علاء الدين أيدكن الصالحى العمادى، رحمه الله تعالى. وفيها: توفى الأمير شمس الدين بهادر المعروف بابن صاحب صهيون، وكان قد قدم إلى خدمة السلطان الملك الظاهر قبل وفاته بثلاث سنين، فأحسن إليه وأكرمه، وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد بتربته التى أنشأها خارج باب النصر، وقد ناف على أربعين سنة، رحمه الله تعالى. وفيها، كانت وفاة الملك القاهر بهاء الدين أبى محمد عبد الملك بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب، فجأة فى يوم السبت خامس عشر المحرم من غير مرض، بل كان راكبا بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألما فى فؤاده، فعاد إلى منزل «1» كريمته زوجة الملك الزاهد «2» مجير الدين داود بن صاحب حمص، فأدركته منيته، فمات عند دخوله إليها، وقيل إنه مات فى باب الدار قبل الدخول إليها، ودفن بسفح قاسيون. وكان مولده فى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى رجلا جيدا شجاعا بطلا مقداما، سليم الصدر حسن الأوصاف كريم الأخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، حسن الإعتقاد فى الفقراء والصالحين، وكان يلبس

ملابس العرب ويتزيا «1» بزيهم ويركب كمركبهم ويتخلق بأخلاقهم فى كثير من أفعاله، رحمه الله. وقد حكى الشيخ قطب الدين اليونينى «2» ، نفع الله به، فى تاريخه، فى سبب وفاته، قال: حكى لى تاج الدين نوح بن شيخ السلامية «3» حكاية غربية معناها: أن أن الأمير عز الدين أيدمر العلائى نائب السلطنة بقلعة صفد حدثه بها، قال: كان السلطان الملك الظاهر مولعا بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم، فأخبر أنه يموت بدمشق فى هذه السنة، سنة سبع وستين وستمائة، بالسم ملك «4» ، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. قال: وكان الملك الظاهر عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة أو بذكر جميل، ولما دخل «5» الملك القاهر إلى الروم صحبة السلطان ظهر يوم المصاف عن شجاعة، وظهرت نكايته فى العدو حتى تعجب من فعله من شاهده، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن السلطان حصل منه فى ذلك اليوم فتور على خلاف عادته، وظهر عليه الندم كونه تورط فى بلاد الروم- بكلمة الملك القاهر فى ذلك الوقت- بكلام فيه إشارة إلى الإنكار وتقبيح فعله، فأثر ذلك عنده أثرا آخر، فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر تأثر من ذلك أيضا، وتخيل فى ذهنه أنه إذا سمّه فمات هو الذى ذكره أرباب النجوم لأنه يطلق عليه اسم ملك وله ذكر، فأحضره

السلطان عنده لشرب القمز، وأعد له سما فى ورقة وجعلها إلى جانبه، من غير أن يطلع على ذلك أحدا، وللسلطان هنايات ثلاثة تختص به مع ثلاثة من سقاته، لا يشرب فيها غيره إلا من يكرمه وبناوله أحدها من يده، واتفق قيام الملك القاهر لقضاء الحاجة، فجعل السلطان ما فى الورقة فى هناب وأمسكه بيده، فلما عاد الملك القاهر ناوله اياه فقبل الارض وتناوله وشرب ما فيه. وقام الملك الظاهر لقضاء الحاجة فأخذ الساقى الهناب من يد الملك القاهر وملأه على العادة وهو لا يشعر بما وضعه السلطان فيه، فلما عاد السلطان تناول ذلك الهناب فشرب ما فيه وهو لا يظن أنه الذى جعل فيه ما جعل، فلما شريه أحس واستشعر وعلم أنه قد شرب من ذلك الهناب الذى فيه آثار السم وبقاياه وتخيل وامتد به المرض ومات كما تقدم. وأما الملك القاهر فمات من غد ذلك اليوم. وذكر الأمير عز الدين العلائى أنه بلغة ذلك من مطلع لا يشك فى أخباره، والله تعالى أعلم «1» . وفيها: قتل الأمير عز الدين أيبك الموصلى الظاهرى، كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله السلطان إلى نيابة السلطنة بحصن الأكراد وما معه، وكان ذا صرامة ونهضة وذكاء ومعرفة، وكان يتشيع، قتل غيلة ليلة الأربعاء سابع عشرين شهر رجب. وفيها: كانت وفاة الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع محيى الدين أبى زكريا يحيى بن شرف الدين بن مرى بن الحسن بن الحسين بن حرام بن محمد النواوى «2»

الشافعى. وكانت وفاته عند أبيه بنوى فى يوم الأربعاء خامس عشر شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ومولده بنوى فى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فيكون مدة عمره خمسا «1» وأربعين سنة تقريبا. وكان رحمه الله تعالى كثير الورع والزهد واسع العلم له مصنفات مشهورة مفيدة منها: كتاب الروضة فى الفقه؛ عليه تعتمد الشافعية وبه يحتجون غالبا، وشرح مسلم، ورياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وشرح التنبيه، ومات قبل أن يكمله. ولم يكن فى زمانه مثله فى ورعه وزهده، وكان لا يأكل إلا مما يأتيه من جهة أبيه من نوى، فكان يخبز له الخبز بها ويقمرّ ويرسل إليه فيأكل منه، وما كان يجمع بين إدامين، فيأكل إما الدبس أو الخل أو الزيت أو الزبيب، ويأكل اللحم فى كل شهر مرة. وكان يتولى دار الحديث الأشرفية، فيجمع المباشر للوقف جامكيته بها، ثم يستأذنه فيما يفعل بها إذا اجتمعت، فتارة يشترى بها ملكا ويوقفه على المكان، وتارة يشترى بها كتبا ويوقفها ويجعلها فى خزانة المدرسة المذكوره. وكان لا يقبل لأحد هدية، ولا يأكل لأحد من أهل دمشق طعاما ولا غيره، وكان رحمه الله تعالى يواجه السلطان الملك الظاهر بالإفكار عليه فى أفعاله، ويلاطفه السلطان ويحمل جفوة كلامه ويخاطبه يا سيدى، رحمه الله تعالى. وعاش والده الحاج شرف بعده إلى سنة إحدى وثمانين فمات فى سابع عشر صفر، وقيل فى سنة اثنتين وثمانين، ودفن بنوى، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة سبع وسبعين وستمائة

واستهلت سنة سبع وسبعين وستمائة ذكر توجه السلطان إلى الشام وإقامته بدمشق وتجريد العساكر «1» فى هذه السنة: توجه الملك السعيد إلى الشام وصحبته أخوه الملك المسعود نجم الدين خضر، ووالدته ابنة الأمير حسام الدين بركة خان، واستصحب الأمراء والعساكر. وكان رحيله من قلعة الجبل فى ذى القعدة، ووصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء خامس ذى الحجة من السنة. ولما حل ركابه بدمشق أمر بأبطال الجبايات والمظالم التى كانت حدثت فى الدولة الظاهرية، فاستبشر الناس بذلك. ولما استقر السلطان بدمشق جرد العساكر المصرية والشامية، فجرد الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحى فى عشرة آلاف، وأمره أن يتوجه إلى جهة سيس، وجرد الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى فى عشرة آلاف وأمره أن يتوجه إلى قلعة الروم، وأقام هو بدمشق فى مماليكه وخواصه، ونائبه الأمير سيف الدين كوندك. وأقام بدمشق من الأمراء الأكابر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبى، وكان السلطان قد أفرج عنه بعد وفاة والده الملك الظاهر وأحسن إليه.

[ذكر] أمر شاد الدواوين

قالوا: وأراد السلطان بتجريد الأمراء الأكابر وإبعادهم عنه أن يتمكن فى غيبتهم من التدبير عليهم، وعزم أنهم إذا عادوا قبض عليهم وأقطع أخبازهم لمماليكه، وظن أن ذلك يتم له، والمقادير بخلاف ظنه. فتوجه الأمراء إلى الغزاة [وفى نفوسهم من ذلك إحن «1» ] وكان من أمرهم عند عودهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. [ذكر] أمر شاد الدواوين وفى هذه السنة فى رابع عشرين ذى الحجة: حصل بين الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعى شاد الدواوين بدمشق، وبين نائب السلطنة بها، مفاوضة أدت إلى شكواه إلى السلطان، فانتصر الأمراء لنائب السلطنة، فرسم بتفويض شاد الدواوين بالشام إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، وكان من جملة الأمراء بحلب، وخلع عليه وأقطع خبز الأقرعى، ونقل الأقرعى إلى حلب على إقطاع الدوادارى. وفى هذه السنة، فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من ذى القعدة وهى سنة سبع وسبعين وستمائة: ولد مؤلّف هذا الكتاب وجامعه، فقير رحمة ربه «2» أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم بن عبادة «3» بن على

[ذكر] وفاة الأمير جمال الدين أقش النجيبى الصالحى

ابن طراد بن خطاب بن نصر بن إسماعيل بن إبراهيم بن جعفر بن هلال بن الحسين بن ليث بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق عبد الله ابن عتيق، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن صاحبه، وأبى أصحابه، وجد صاحبه، والخليفة من بعده، وهو ثانى اثنين ابن أبى قحافة عثمان، رضوان الله عليهم، بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، عرف مؤلفه بالنويرى، عفا الله عنه ولطف به، وكان مولده بمدينة أخميم من صعيد مصر فى التاريخ المذكور. وفى هذه السنة: كانت حوادث ووفاة جماعة من أرباب المناصب، وولاية غيرهم، نذكرها الآن فى هذا الموضع. ولا نشترط فى إيرادها الترتيب، بل نوردها بمقتضى المناصب، فمن ذلك: [ذكر] وفاة الأمير جمال الدين أقش النجيبى الصالحى كانت وفاته بالقاهرة فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر. وكان يلى أستاد دارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. وتولى أستاد دارية السلطان الملك الظاهر فى ابتداء سلطنته، ثم نقله إلى نيابة السلطنة بالشام كما تقدم. وكان رحمه الله تعالى، دينا كثير الإحسان إلى الرعية والرفق بهم. وكان يكره السعاية فى الناس، ومن سعى عنده بأحد أبعده، وكان يحب أهل الخير ويقربهم. وأنشأ بدمشق مدرسة للشافعية وخانقاه للصوفية على الميدان بالشّرف الأعلى، وخانا للسبيل بميدان الحصا. ووقف بالديار المصرية وقفا على المجاورين.

ذكر وفاة الصاحب بهاء الدين

ولم يرزق فى عصره ولدا. وكان عظيم الشكل والخلقة، كبير البطن، جهورى الصوت، أكولا، رحمه الله تعالى. ذكر وفاة الصاحب بهاء الدين وفى هذه السنة: كانت وفاة الصاحب الوزير بهاء الدين [أبو الحسن «1» ] على بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا، بمصر وقت آذان العصر من يوم الخميس سلخ ذى القعدة. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته بالقرافة. ومولده بمصر فى سنة ثلاث وستمائة، ومات وهو جد جد «2» . وكان فى ابتداء أمره فى دكان يبيع الخام، ثم تنقلت به الأحوال وباشر فى الديوان السلطانى حتى انتهى إلى هذه الغاية. وكان من رجال الدهر حزما وعزما وتدبيرا، وكتابة وتحصيلا للأموال، وقياما بمصالح الدولة، وكان شديد الغيرة على منصبه، فإذا تعرض أحد من المتعممين المباشرين إلى الاجتماع بالسلطان عمل على إتلاقه «3» ، وكذلك «4» من يجتمع بأكابر الأمراء من هذه الطائفة، ويحسن إلى من يتصل بخدمته وخدمة أولاده، وينتمى إليهم ويقدمهم، وكان حسن الظن بالفقراء والمشايخ كثير الإكرام لهم ولا يمل من حوائجهم، ويتشفع الناس عنده بهم فلا يردهم، وكان أمينا فى وزارته، ما تكلم عليه ولا على أولاده بخيانة وإنما كانوا كلهم يتجهون تجاه الغل «5» ويزرعون فاتسعت بذلك أحوالهم وكثرت أموالهم، وعمروا الأبنية العظيمة

والمساكن البديعة والمتنزهات، وعمر هو مدرسة بزقاق القناديل بمصر، ووقف عليها أوقافا، وكان كثير الصدقة، والتزم صوم الدهر فى وزارته. وكان يثيب الشعراء «1» على مدائحهم، وامتدحه الشيخ رشيد الدين الفارقى فقال:- وقايل فى الورى نبه لها عمرا ... فقلت إن علينا قد تنبه لى ما لى إذا كنت محتاجا إلى عمر ... من حاجة فليتم حسبى انتباه على وكان متمكنا من السلطان الملك الظاهر، يصرح باعتقاد بركته، حتى رام جماعة من الأمراء الأكابر خوشداشية السلطان أذاه عند السلطان وذكر معايبه فى أوقات، فكان السلطان إذا تنسم «2» ذلك منهم أو من أحدهم بادره السلطان بذكر محاسنه وأنه فى بركته، فيقف من يقصد أذاه عن ذلك. ولما مات وصل الخبر إلى السلطان وهو بمنزلة الكسوة، فأمر بايقاع الحوطة على الصاحب تاج الدين ولد ولده، وكان صحبته، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وأرسله إلى مصر، ورسم أن يستخرج من أخيه الصاحب زين الدين مائة ألف دينار، ومن الصاحب عز الدين بن الصاحب محيى الدين مائة ألف دينار. وفوض السلطان وزارته للصاحب برهان الدين الخضر السنجارى، وفوضت «3» وزارة الصحبة للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء فى هذا التاريخ، ودخل إلى دمشق متوليا.

[ذكر] وفاة مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم

[ذكر] وفاة مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم وفيها: توفى القاضى مجد الدين [أبو محمد «1» ] عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم قاضى الحنفية بدمشق، وكانت وفاته بدمشق فى يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الآخر، ومولده بحلب فى جمادى الأولى سنة أربع عشرة وستمائة. وكان رجلا دينا صالحا فاضلا لطيفا، وتولى تدريس المدرسة الظاهرية بالقاهرة كما تقدم، وخطابة الجامع الظاهرى بظاهر القاهرة، ثم نقل إلى قضاء دمشق كما تقدم. ولما مات فوض قضاء القضاة الحنفية بدمشق لقاضى القضاة الشيخ صدر الدين أبى الربيع سليمان بن أبى العز بن وهيب الحنفى، وكان قاضى القضاة الحنفية بالديار المصرية، وتوجه فى الصحبة الظاهرية إلى غزوة الروم، فلما عاد واتفقت وفاة السلطان سأل أن يكون مدرسا بدمشق ومجاورا لتربة السلطان، ففوض إليه تدريس المدرسة الظاهرية بدمشق، وكان ابتداء جلوس المدرسين بها فى ثالث صفر من هذه السنة، وولى تدريس الشافعية بها الشيخ رشيد الدين الفارقى، واستمر القاضى صدر الدين فى القضاء أربعة أشهر ومات. وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن بسفح قاسيون بتربته وكان له، رحمه الله، التصانيف المفيدة فى مذهبه، ولما مات فوض القضاء بعده بدمشق لقاضى القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان قاضى ملطية، وكان قد حضر إلى الشام صحبة السلطان الملك الظاهر، ففوض

[ذكر] وفاة الشيخ العارف نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر الشيبانى الحريرى

إليه القضاء بدمشق فى التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وسبعين وستمائة، وقيل فى شوال منها. وفيها: كانت وفاة الشيخ تاج الدين محمد بن على بن يوسف بن شاهانشاه ابن غسيان بن محمد بن جلب راغب المعروف بابن ميسر المصرى «1» ، وكان فاضلا جمع تاريخا لمصر، وقد نقلنا عنه مواضع فيما سلف من كتابنا هذا، وكانت وفاته بمصر فى يوم السبت ثانى عشر المحرم، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة بمصر، رحمه الله تعالى. [ذكر] وفاة الشيخ العارف نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر الشيبانى الحريرى «2» وفيها فى ليلة الأحد رابع عشر شهر ربيع الآخر: توفى الشيخ العارف المحقق نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر بن سوار بن اسرائيل الشيبانى الحريرى بدمشق، ودفن بقبة الشيخ أرسلان بمقبرة باب توما. ومولده فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستمائة بدمشق، وكان دينا صالحا كريما متواضعا فاضلا أديبا ناظما، وله ديوان شعر، وشعره كثير المعانى، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثمان وسبعين وستمائة

واستهلت سنة ثمان وسبعين وستمائة [استهلت] والسلطان الملك السعيد بدمشق، وفى خدمته من الأمراء من ذكر والعساكر مجردة كما تقدم. وفى هذه السنة فى ثامن المحرم: فوضت وزارة دمشق للصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسرانى الحلبى، وركب والرؤساء والأكابر فى خدمته وباشر من يومه. وفيها فى شهر ربيع الأول: وقع بين الأمراء الخاصكية وبين الأمير سيف الدين كوندك «1» نائب السلطنة فتنة، كان سببها أن السلطان الملك السعيد أكثر من الإنعام على الخاصكية وأوسع فى العطاء لهم، فاتفق أنه أنعم على بعضهم بألف دينار، فتوقف النائب فى إمضاء المرسوم، فاجتمع المنعم عليه ببقية خوشداشيته وعرفهم ذلك، فاجتمعوا وحضروا إلى الأمير سيف الدين كوندك واسمعوه ما يكره، ودخلوا إلى السلطان وصمموا على عزله، فأجابهم إلى ذلك. فخرجوا إليه ليوقعوا به ويقبضوا عليه أو يقتلوه. وكان ذلك بحضور الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فمنعهم من ذلك وأخذه وضمه إليه. فخرج منشور السلطان له فى اليوم الثانى بأمرة أربعين فارسا بحلب، فاستمر عند الأمير شمس الدين سنقر الأشقر سبعة أيام. ووردت الأخبار بعود الأمراء.

ذكر عود الأمراء من الغزاة وظهور الوحشة والمنافرة بينهم وبين السلطان الملك السعيد وتوجيههم إلى الديار المصرية

ذكر عود الأمراء من الغزاة وظهور الوحشة والمنافرة بينهم وبين السلطان الملك السعيد وتوجيههم إلى الديار المصرية قال: ولما عاد الأمراء من الغزاة وقصدوا العبور إلى دمشق، أرسل إليهم الأمير سيف الدين كوندك يخبرهم بجلية الخبر ويعلمهم بما تقرر سرا. ثم ركب وخرج إليهم وتلقاهم، واجتمع بالأمير سيف الدين قلاون الألفى، وبدر الدين بيسرى الشمسى، وتحدث معهما فأقاما بالمرج «1» بمن معهما من الأمراء ولم يعبرا [إلى] دمشق، وسيرا إلى السلطان يقولان له: «إن الأمير سيف الدين كوندك حضر إلينا وشكا من لاجين الزينى شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشف عنها، فيسيره السلطان إلينا لنسمع كل «2» منهما وننصف بينهما» . فلم يعبأ [السلطان] بقولهما، وكتب إلى الأمراء الظاهرية الذين معهما أن يفارقوهما ويعبروا إلى دمشق. فوقع القاصد بالكتب إلى الأمير سيف الدين كوندك فأحضره إلى الأمراء وأوقفهم على الكتب، فتحققوا سوء رأيه فيهم. ورحلوا من وقتهم من المرج ونزلوا بالجسورة «3» وأظهروا الأمور الدالة على الخلاف. وندم السلطان وبعث الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير شمس الدين سنقر التكريتى الظاهرى أستاد الدار إليهم، وتلطف بهم وقصد رجوعهم، فما وافقوا على الرجوع.

ذكر وصول السلطان إلى قلعة الجبل وما كان من أمره إلى أن انخلع من السلطنة

ثم خرجت إليهم» والدة السلطان إلى منزلة الكسوة، واجتمعت بالأمراء وسألتهم الرجوع فما رجعوا. وساروا إلى الديار المصرية، فوصلوا إليها ونزلوا تحت الجبل فى شهر ربيع الآخر، فاتصل بالأمراء المقيمين بالقلعة قدومهم، وكان بها الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى أمير جاندار، والأمير علاء الدين أقطوان الساقى، وسيف الدين بلبان الزريقى، فتقدموا إلى متولى القاهرة بغلق أبوابها فغلقت، وبنى خلف أكثرها الحيطان. فأرسلوا إلى الأمراء الذين بالقلعة فى فتح الأبواب ليعبر العسكر إلى بيوتهم، فنزل الأمير عز الدين الأفرم، والأمير علاء الدين أقطوان إلى الأمراء ليجتمعا بهم، فقبض عليهما الأمير سيف الدين كوندك، وأرسل الأمراء ففتحوا أبواب المدينة. ودخل الناس إلى بيوتهم بأثقالهم. ولما قبض على الأمير عز الدين الأفرم وعلاء الدين أقطوان نقلان إلى دار الأمير سيف الدين قلاون بالقاهرة. وأغلق الأمير سيف الدين بلبان الزريقى أبواب القلعة واستعد للحصار. ذكر وصول السلطان إلى قلعة الجبل وما كان من أمره إلى أن انخلع من السلطنة قال المؤرخ: ولما رأى السلطان توجه الأمراء إلى الديار المصرية وانفرادهم عنه، جمع من كان بدمشق من بقايا العسكر المصرى والعساكر الشامية، واستدعى العربان وأنفق «2» الأموال فيهم بدمشق، وسار إلى الديار المصرية. وكان رحيله من دمشق فى يوم الجمعة ثانى شهر ربيع الآخر، وسلم قلعة دمشق إلى الأمير

علم الدين سنجر الدوادارى وجعله نائبا إلى حين عود الأمير عز الدين أيدمر النائب، فلما وصل السلطان إلى غزة تسلل أكثر العربان وتفرقوا، ولم يصل إلى بلبيس ومعه من العسكر الشامى إلا اليسير. فأعطى من بقى منهم دستورا، فعادوا صحبة الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام، وكان وصولهم فى مستهل جمادى الأول. وكان الأمير سيف الدين قلاون لما عاد من غزاة سيس جرد من العسكر الشامى بحلب الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق الصالحى، والأمير عز الدين أزدمر العلائى، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزى، والأمير جمال الدين أقش الشمسى وغيرهم فى نحو ألفى فارس، فلما اتصل بهم خبر هذا الاختلاف رجعوا إلى دمشق فى شهر ربيع الآخر وقدموا عليهم الأمير جمال الدين أقش الشمسى. ووصل الأمير عز الدين أيدمر النائب بالشام إلى دمشق هو ومن معه فخرج الأمراء الذين وصلوا من حلب يتلقونه. فلما التقوه سبه الأمير ركن الدين الجالق والأمير عز الدين أزدمر العلائى وقالا له: «كيف فارقت السلطان» . فلما وصلوا إلى باب «1» الجابية أخذه الأمير جمال الدين أقش الشمسى إلى داره وقال له: «تكون بدارى إلى أن يرد مرسوم السلطان، ولا تكون سبب إقامة فتنة» . فتوجه معه إلى داره فأقام عنده إلى عشية النهار، وجاء الأمير ركن الدين الجالق وأزدمر العلائى إلى الأمير جمال الدين أقش الشمسى بعد صلاة العصر وأخذا الأمير عز الدين النائب من عنده وتوجها به إلى القلعة وسلماه إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى فتسلمه منهما وجعله بقاعة البحرة، ورسم عليه ومكنه من دخول الحمام. فجاء الأميران إلى القلعة فى يوم الاثنين بعد

العصر واجتمعا بالدوادارى وأنكرا عليه كونه مكنه من دخول الحمام، وقالوا: «تسلمه إلينا نتوجه به إلى الديار المصرية» ، فقال: «إنه ما جاءنى ولا جاءكم مرسوم بالقبض عليه. وقد قبضتم عليه ووصل إلى عندى، فكيف أسلمه إليكما وبأى عذر اعتذر إلى السلطان» . فأغلظوا له فى القول. فلما أنكر حالهم وثب من بينهما وأمر رجاله بالقلعة بغلق أبوابها. فوثب الأميران وجردا سيوفهما وخرجا على حمية، وأغلق الدوادارى باب قلعة دمشق. هذا ما كان بالشام. أما الملك السعيد فانه لم يبق معه من الأمراء الأكابر إلا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير علم الدين الحلبى، والبقية من المماليك السعيدية، كلاجين الزينى ومن يجرى مجراه، فلما وصل إلى قرب المطرية فارقه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وانفرد عنه وعن الأمراء. قال: ولما بلغ الأمراء أن السلطان يقصد طلوع القلعة من وراء الجبل الأحمر ركبوا ليمنعوه من الوصول إلى القلعة، فجاء سحاب أسود وأظلم الوقت حتى أن الإنسان لا يرى رفيقه الذى يسايره، فطلع السلطان إلى القلعة، وما رآوه. ولما استقر بها حاصره الأمراء وأحاطوا بالقلعة، واتفق أن لاجين الزينى أنكر على الأمير سيف الدين بلبان الزريقى وشتمه؛ فتغير خاطره ونزل من القلعة وانحاز إلى الأمراء؛ وتسلل المماليك من القلعة واحدا بعد واحد ونزلوا إلى الأمراء. وأشار الأمير علم الدين سنجر الحلبى على السلطان بالإفراج عن المعتقلين، فأفرج عن الأمراء الشهرزورية وغيرهم، واستشار السلطان الأمير المشار إليه فيما يفعل، فقال: «أرى أن آخذ المماليك السلطانية وأهجم بهم على الأمراء وافرق شملهم» . فلم

ثم ملك بعده أخوه السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش بن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى وهو السادس من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.

يوافقه على ذلك وتمادى الأمر أسبوعا، فأرسل السلطان إلى الأمراء وسألهم أن يكون الشام بكماله لهم، فأبوا ذلك إلا أن يخلع نفسه من الملك. فالتمس من الأمير سيف الدين قلاون والأمير بدر الدين بيسرى أن يعطوه قلعة الكرك، فأجاباه إلى ذلك. ونزل من القلعة بعد أن حلفوه ألا يتطرق إلى غيرها وأن لا يكاتب أحدا من النواب ولا يستميل أحدا من الجند. وحلفوا له أنهم لا يؤذونه فى نفسه ولا يغيرون عليه. وسفروه لوقته صحبة الأمير سيف الدين بيغان «1» الركنى وجماعة يوصلونه إلى الكرك. فأوصلوه إليها وتسلمها من الأمير علاء الدين أيدكين الفخرى النائب بها، وتسلم ما بها من الأموال والذخائر. وكان خروجه من السلطنة فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة. فكانت مدة سلطنته بعد وفاة والده سنتين وشهرين وأياما. ثم ملك بعده أخوه السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش «2» بن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى وهو السادس من ملوك دولة الترك بالديار المصرية. ملك بعد خلع أخيه السلطان الملك السعيد فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة. وذلك أنه لما سفّر الملك السعيد إلى الكرك عرضت السلطنة على الأمير سيف الدين قلاون فأبى ذلك، وقال: «لم أخلع الملك طمعا فى السلطنة إلا حفظا للنظام، وألفة لأكابر الأمراء أن يتقدم عليهم الأصاغر،

والأولى ألا تخرج السلطنة عن الذرية الظاهرية، فأقام بدر الدين سلامش هذا وله من العمر سبع سنين، وخطب له على المنابر، وضربت السكة باسمه، ودبر الأمر سيف الدين قلاون أتابكية الدولة. ولم يكن للملك العادل معه غير مجرد الاسم. وأقر الصاحب برهان الدين السنجارى «1» على الوزارة وعزل قاضى القضاة تقى الدين محمد بن الحسين بن زين على القضاء بالديار المصرية، وفوضه إلى القاضى صدر الدين عمر بن قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز وذلك فى جمادى الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة. وعزل القاضى شمس الدين بن شكر المالكى، والقاضى معز الدين الحنفى عن القضاء. ثم أعيدا بعد مدة يسيرة. وفوض قضاء الحنابلة للقاضى عز الدين المقدس الحنبلى. واستناب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بالشام وسيره إلى دمشق. وكان وصوله إليها فى يوم الأربعاء ثانى جمادى الآخرة. وحال وصوله طلب الأمير علم الدين سنجر الداوادارى نائب قلعة دمشق وأمره بتسليم القلعة للأمير سيف الدين الصالحى. حسب مارسم به، فتسلمها واستمر نائبا بها. وفى يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة أمر الأمير شمس الدين بالقبض على الصاحب فتح الدين ابن القيسرانى وإيقاع الحوطة على موجوده وسير إلى الأبواب السلطانية تحت الإحتياط. قال: وأخذ الأمير سيف الدين قلاون فى القبض على الأمراء الظاهرية «2»

وهو فى أثناء ذلك يدير الأحوال ويفرق الأموال ويوس الممالك ويمهد لنفسه المسالك. وأما الأمير بدر الدين بيسرى فإنه اشتغل بالشرب واللهو. فاجتمعت آراء الأمراء على استقلال الأمير سيف الدين قلاون بالسلطنة، فأجابهم إلى ذلك، وخلع الملك سلامش من السلطنة. فكان (كذا) مدة وقوع اسم السلطنة عليه مائة «1» يوم. وكان حسن الصورة، جميل الهيئة، كثير السكون والحياء والعقل والأدب والتأنى على صغر سنه. ***

نجز السفر الثامن والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكرى التميمى القرشى، عرف بالنويرى عفا الله عنه. ووافق الفراغ من كتابته فى يوم السبت المبارك التاسع والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية. وذلك بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى بالإسلام والسنة إلى يوم الدين. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول السفر التاسع والعشرين منه: ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفى الصالحى النجمى والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فهرس موضوعات الجزء الثلاثون

فهرس موضوعات الجزء الثلاثون من كتاب نهاية الأرب للنويري تقديم 5 سنة ثمان وخمسين وستمائة 13- 15 ذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى 13 سنة تسع وخمسين وستمائة 17- 51 ذكر تفويض الوزارة إلى الصاحب الوزير بهاء الدين على بن القاضى سديد الدين أبى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنا 18 ذكر القبض على جماعة من الأمراء المعزية 18 ذكر تفويض قضاء الفضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز 19 ذكر ما اعتمده السلطان فى ابتداء سلطنته ورتبه من المصالح وقرره من القربات والأوقاف والعمائر 23 ذكر بناء قلعة الجزيرة 23 ذكر وصول من يذكر من الملوك إلى خدمة السلطان، وما قرره لكل منهم وما عاملهم به من الإحسان 26

ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى أن قتل 28 ذكر استيلاء الأمير علم الدين سنجر الحلبى على دمشق وسلطنته بها، وأخذها منه وتقرير نواب السلطان بها 38 ذكر ما اتفق بحلب من أمر النيابة 39 ذكر وصول طائفة من التتار إلى البلاد الإسلامية، وما فعلوه بحلب وتقدمهم إلى حمص وقتالهم وانهزامهم، وما كان من خبر عودهم 40 ذكر الغلاء الكائن بحلب 43 ذكر اختلاف العزيزية والناصرية، ومفارقة الأمير شمس الدين أقش البرلى البلاد، وتولية الحلبى نيابة حلب وعزله، وعود البرلى إليها وخروجه منها، ونيابة البندقدار وعود البرلى إليها ثانية وخروجه 43 ذكر ما اتفق للسلطان بالشام فى مدة مقامه بدمشق 46 ذكر ركوب السلطان إلى الميدان بدمشق ولعبه بالكرة ومن كان فى خدمته من الملوك 46 ذكر الصلح مع ملوك الفرنج 47 ذكر الغارة على العرب والفرنج 48 ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية 49 ذكر أخذ الشوبك 49

سنة ستين وستمائة 53- 77 ذكر وصول الأمير شمس الدين سلار البغدادى وشىء من أخباره 54 ذكر عود رسل السلطان من جهة الأنيرو 56 ذكر عود رسل السلطان من جهة صاحب الروم ووصول رسله إلى السلطان، وما قرره السلطان من بلاده 56 ذكر عود رسل السلطان من جهة الأشكرى، وخبر مسجد القسطنطينية 58 ذكر حضور الأمير شمس الدين أقش البرلى العزيزى إلى الديار المصرية 59 ذكر القبض على علاء الدين طيبرس الوزيرى نائب السلطنة بالشام 60 ذكر وصول جماعة من التتار إلى خدمة السلطان 62 ذكر إنفاذ الرسل إلى الملك بركة 64 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير جمال الدين النجيبى الصالحى 65 ذكر وفاة شيخ الاسلام عز الدين أبى محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبى القاسم بن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى وشىء من أخباره 66 سنة إحدى وستين وستمائة 79- 91 ذكر البيعة للإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى 79 ذكر القبض على الملك المغيث صاحب الكرك واعتقاله 79 ذكر أخذ الكرك 82

ذكر القبض على الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير شمس الدين أقش البرلى، والأمير عز الدين الدمياطى وما نقل من الأسباب الموجبة لذلك 84 ذكر وصول رسل الملك بركة 87 ذكر توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية 88 ذكر وصول التتار المستأمنين 89 سنة اثنتين وستين وستمائة 93- 110 ذكر تفويض أمر جيش حماة إلى الطواشى شجاع الدين مرشد الحموى 93 ذكر عمارة المدرسة الظاهرية وترتيب الدروس 93 ذكر وفاة الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص والرحبة 94 ذكر جلوس السلطان بدار العدل وما رتبه عند غلو الأسعار 96 ذكر جلوسه بدار العدل وما قرره من مشاركة أمناء الحكم للأوصياء 98 ذكر وصول جماعة من عسكر شيراز 99 ذكر سلطنة الملك السعيد 100 ذكر ختان الملك السعيد ومن معه 103 ذكر خبر غازية الخناقة 103 ذكر وصول رسل الملك بركة 105 ذكر توجه السلطان إلى الإسكندرية وتقديم سيف الدين عطاء الله على عرب برقة 106

ذكر الواقعة الكائنة بين المسلمين والفرنج ببلاد الأندلس، وانتصار المسلمين 108 ذكر مقتل الزين الحافظى 109 سنة ثلاث وستين وستمائة 111- 126 ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر واتهام أهل الذمة، وما قرره عليهم من الأموال بسببه 114 ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام 117 ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع 123 ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الرومى وذنوبه السابقة 123 ذكر وفاة قاضى القضاة بدر الدين السنجارى وشىء من أخباره 124 سنة أربع وستين وستمائة 127- 131 ذكر عمارة جسر دامية 127 ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى 129 سنة خمس وستين وستمائة 133- 148 ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية وبناء الجامع الظاهرى 133 ذكر إقامة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة وشىء من أخباره 135 ذكر إنشاء القصر الأبلق بالميدان بظاهر دمشق 136

ذكر توجه السلطان إلى الشام وعمارة قلعة صفد 137 ذكر وفاة قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ونبدة من أخباره رحمه الله، ومن ولى قضاء الشافعية وغيره من مناصبه بعد وفاته 140 ذكر وصول الشريف بدر الدين مالك بن منيف وإعطائه نصف إمره المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام 146 ذكر تسمير من يذكر بالقاهرة 147 سنة ست وستين وستمائة 149- 156 ذكر أخذ الزكاة من عرب الحجاز 149 ذكر ظهور الماء بالقدس الشريف 149 ذكر خبر الحبيس النصرانى ومقتله 151 ذكر بناء القرية الظاهرية قرب العباسة 152 ذكر إيقاع الحوطة السلطانية على الأملاك والبساتين وما تقرر على أربابها من المال 152 ذكر وصول الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار. والصلح مع التكفور هيتوم صاحب سيس 153 سنة سبع وستين وستمائة 157- 167 ذكر تجديد الحلف للملك السعيد 157 ذكر توجه السلطان على خيل البريد إلى الديار متنكرا وعوده إلى مخبمه بخربة اللصوص ولم يعلم من به بتوجهه 161

ذكر وفاة الأمير عز الدين أيدمر الحلى الصالحى نائب السلطنة 165 ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الحجاز الشريف 166 سنة ثمان وستين وستمائة 169- 172 ذكر توجه السلطان إلى الشام جريدة 170 سنة تسع وستين وستمائة 173- 183 ذكر القبض على الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك والأمراء الشهر زورية 173 ذكر حادثة السيل بدمشق 176 ذكر سفر الشوانى الإسلامية إلى قبرس وكسرها وأسر من كان بها وخلاصهم 178 ذكر عود السلطان إلى قلعته ووصول رسل اليمن واهتمامه بأمر الشوانى، وما أنعم به من الخلع والخيول على الأمراء والأجناد 179 ذكر القبض على من يذكر من الأمراء 180 سنة سبعين وستمائة 185- 195 ذكر توجه السلطان إلى الكرك ثم إلى الشام وعزل الأمير جمال الدين النجيبى عن نيابة دمشق وتولية الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك نيابة السلطنة بالشام واستنابة الأمير علاء الدين أيدكن أستاد الدار بالكرك 185 ذكر عود السلطان من حلب ورجوعه إلى الديار المصرية وعوده إلى الشام 188

ذكر إيقاع الحوطة على القاضى شمس الدين الحنبلى واعتقاله 190 ذكر توجه السلطان إلى الصيد ثم إلى الشام 191 سنة إحدى وسبعين وستمائة 193- 203 ذكر توجه السلطان إلى الديار المصرية على خيل البريد وعوده إلى الشام 193 ذكر اعتقال الشيخ خضر والأسباب التى أوجبت ذلك 198 سنة اثنتين وسبعين وستمائة 203- 204 ذكر الطلسم الذى وجد بباب القصر بالقاهرة 203 ذكر توجه السلطان إلى الشام 205 ذكر وصول الملك شمس الدين بهادر صاحب شميصاط وشىء من أخباره 207 ذكر الظفر بملك الكرج 208 ذكر ختان الملك المسعود نجم الدين خضر ولد السلطان الملك الظاهر 210 ذكر نكتة غريبة 210 ذكر ورود كتاب متملك الحبشة 211 سنة ثلاث وسبعين وستمائة 215- 217 سنة أربع وسبعين وستمائة 219- 231 ذكر شنق الطواشى شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وغيره 220

ذكر متجددات اتفقت بعد وصول السلطان إلى الديار المصرية غير ما تقدم ذكره 221 ذكر توجه رسل السلطان إلى أشهيلية وما كان من خبرهم 222 ذكر اتصال الملك السعيد بابنة الأمير سيف الدين قلاون 223 ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده 227 سنة خمس وسبعين وستمائة 233- 237 ذكر وصول جماعة من أمراء الروم إلى خدمة السلطان وطاعتهم له 233 ذكر ظهور المسجد بجوار دير البغل، وإقامة شعائر الإسلام به 235 غزوات السلطان الملك الظاهر وفتوحاته وما استولى عليه من البلاد الإسلامية ذكر ما استولى عليه من القلاع والحصون والبلاد الإسلامية وأضافه إلى ممالكه 239 ذكر فتوح سواكن 239 ذكر فتوح خيبر 240 ذكر فتوح قرقيسيا 241 ذكر فتوح بلاطنس وخبرها 242 ذكر تسليم صهيون وبرزية 243 ذكر أخبار الإسماعيلية وابتداء أمرهم والإستيلاء على حصونهم 244

ذكر استيلاء السلطان على بلاد الإسماعيلية وشىء من أخبارها 247 ذكر فتوح العليقة والرصافة 249 ذكر فتوح بقية حصون الدعوة 250 ذكر أخبار هذه الحصون 252 ذكر غزوات السلطان وفتوحاته وما وقع من المصالحات والمهادنات 255 ذكر مسير السلطان إلى عكا 257 ذكر قصد متملك الأرمن حلب المحروسة 259 ذكرة محاصرة التتار البيرة وتجريد العساكر وانهزام العدو 262 ذكر الفتوحات بالبلاد الفرنجية فى هذه السفرة 265 ذكر فتوح قيسارية 266 ذكر التوجه إلى عثليث وأخذ حصن الملوحة وحيفا 267 ذكر فتوح أرسوف 268 ذكر ما ملكه السلطان لأمرائه من النواحى التى فتحها الله على يده 272 ذكر قصد البرنس صاحب طرابلس حمص وانهزامه 281 ذكر إغارة العساكر على طرابلس الشام وفتح قلعة حلبا وقلعة عرقا 282 ذكر إغارة العسكر على صور 284 ذكر فتوح صفد 285 ذكر غزوة سيس وأسر ملكها وقتل أخيه وعمه وأسر ولد عمه 290

ذكر قتلى أهل قارا وسبى ذراريهم 292 ذكر وقعة مع الفرنج كانت النصرة فيها للمسلمين 294 ذكر إغارة السلطان على عكا 295 ذكر الصلح مع بيت الإسبتار على حصنى الأكراد والمرقب 297 ذكر فتوح يافا 298 ذكر فتوح شقيف أرنون 301 ذكر توجه السلطان إلى طرابلس وإغارته عليها 304 ذكر فتوح أنطاكية 305 ذكر ملخص أخبار أنطاكية 311 ذكر ما أعتمده السلطان فى قسمة غنائم أنطاكية وإحراقه قلعتها. وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: دير كوش وشقيف كفر دنين وشقيف كفر تلميس 317 ذكر صلح القصير على المناصفة 319 ذكر فتوح حصن بغراس من الديوية 319 ذكر الإغارة على صور 320 ذكر الإغارة على بلاد كركر وأخذ قلعة شرموشاك 331 ذكر الإغارة على عكا 331 ذكر فتوح قلعة صافيتا 324

ذكر صلح أنطرطوس والمرقب 328 ذكر فتوح حصن عكار 329 ذكر صلح طرابلس 331 ذكر فتوح القرين 332 ذكر صلح صور وما تقرر من المناصفة 333 ذكر منازلة التتار البيرة وكسرهم على الفرات وقتل مقدمهم جنقر 333 ذكر فتوح كينوك 335 ذكر إغارة عيسى بن مهنا على الأبنار 336 ذكر الإغارة على مرعش 337 ذكر غزوة سيس 337 ذكر شىء من أخبار بلاد سيس وسبب استيلاء الأرمن عليها 340 ذكر منازلة حصن القصير وفتحه 341 ذكر وفاة الأبرنس صاحب طرابلس وما اتفق بعد وفاته 343 ذكر غزوة النوبة 344 ذكر غزوات النوبة فى الإسلام 348 ذكر غزوة الروم وقتل التتار 350 ذكر رحيل السلطان عن قيسارية وهرب عز الدين أيبك الشيخى ولحاقه بأبغا وعود السلطان إلى ممالكه 357

ذكر ما اعتمده الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان أمير التركمان فى البلاد الرومية 359 ذكر وصول أبغا إلى بلاد الروم ومشاهدته مكان الوقعة وما فعله بأهل الروم من القتل والنهب 361 العودة إلى سياقة أخبار السلطان الملك الظاهر 362 سنة ست وسبعين وستمائة 365- 384 ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بييرس الصالحى رحمه الله تعالى 365 مدة حكمه 367 ذكر أخبار السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه قاءان بن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدار الصالحى وهو الخامس من ملوك دولة الترك 369 ذكر وفاة بدر الدين بيليك الخزندار 371 ذكر القبض على من يذكر من الأمراء والإفراج عنهم ومن مات منهم 372 ذكر عزل قاضى القضاة محيى الدين عبد الله بن محمد بن عين الدولة وإضافة عمله إلى قاضى القضاة تقى الدين بن زين 375 ذكر وفاة الشيخ خضر وشىء من أخباره 376

سنة سبع وسبعين وستمائة 385- 391 ذكر توجه السلطان إلى الشام وإقامته بدمشق وتجريد العساكر 385 ذكر أمر شاد الدواوين 386 ذكر وفاة الأمير أقش النجيبى الصالحى 387 ذكر وفاة الصاحب بهاء الدين 388 ذكر وفاة مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب بهاء الدين عمر بن العديم 190 ذكر وفاة الشيخ العارف نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر الشيبانى الحريرى 391 سنة ثمان وسبعين وستمائة 393- 400 ذكر عود الأمراء من الغزاة وظهور الوحشة والمنافرة بينهم وبين السلطان الملك السعيد وتوجيههم إلى الديار المصرية 394 ذكر وصول السلطان إلى قلعة الجبل وما كان من أمره إلى أن أنخلع من السلطنة 395 فهرس موضوعات الكتاب 403 التعريف بمصطلحات المتن 417

الجزء الحادي والثلاثون

الجزء الحادي والثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم يسر مركز تحقيق التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب أن يقدم الجزء الحادى والثلاثين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى. وهذا الجزء يقابل الجزء التاسع والعشرين من مخطوطة كوير يللى المحفوظة بدار الكتب تحت رقم 549 معارف عامة. وبالمخطوط اضطراب فى ترتيب الصفحات مما أدى إلى اختلال السياق بين الصفحات 67، 87 وقد أجرى ترتيب صفحات المخطوط بما يتفق مع الترتيب الزمنى للأحداث «1» . وبالمخطوط أيضا الكثير من الأخطاء اللغوية وقد جرى تصويبها بالمتن مع الإشارة إليها بالهامش. ويشير النويرى إلى تاريخ تأليفه لهذا الجزء بقوله: «...... إلى حين وضعنا لهدا الجزء، وذلك فى سلخ شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة» «2» . كما يشير أيضا إلى ما اتخذه من نهج فى كتابته، بأن يورد أولا ما وقع من أحداث بالغة الأهمية فى داخل المملكة، ثم يذكر ما جرى من الغزوات والفتوحات، حسب ترتيبها الزمنى، ثم يشرح بعد ذلك حوادث السنين، وما وقع فيها من الولاية والعزل والأخبار والوفيات إلى انقضاء الدولة المنصورية «3» .

والنويرى فى كل ذلك لم يختلف عن ابن الفرات، إلا فى ترتيب الأحداث، أما المادة التاريخية فتكاد تكون متطابقة. والمعروف أن ابن الفرات عاش فى زمن لا حق لزمن النويرى ولعله نقل عنه، أو استخدم مصدرا رجع إليه النويرى ولم يشر إليه ابن الفرات، وسوف تجرى الإشارة إلى هذا التطابق فى مواضعه. وهذا الجزء مبدأ بذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى، وهو السابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية، وجلوسه على تخت السلطنة يقلعة الجبل فى يوم الأحد العشرين من شهر رجب الفرد سنة ثمان وسبعين وستمائة. وينتهى بذكر وصول رسل غازان ملك التتار إلى البلاد الشامية، وحضورهم بين يدى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلعة الجبل عشية نهار الثلاثاء سادس عشر ذى الحجة سنة سبعمائة، وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به. نسأل الله التوفيق والسداد مركز تحقيق التراث جمادى الآخر 1412 هـ ديسمير 1991 م

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية] [تتمة ذكر اخبار دولة الترك] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هو حسبى وكفى ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى وهو السابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية. وهو من خالصة القفجاق «1» ، من قبيلة برج أغلى «2» . وكان مملوك الأمير علاء الدين أقسنقر الساقى العادلى. اشتراه بألف دينار، فعرف بالألفى. وانفقت وفاة أستاذه «3» فى الأيام الصالحية، فى يوم الجمعة، الثامن والعشرين، من شهر رجب، سنة ثمان وسبعين وستمائة،

فارتجع إلى المماليك السلطانية «1» هو وجماعة من خشداشيته «2» ، فهم يعرفون بالعلائية. وكان السلطان الملك المنصور هذا، فى جملة البحرية الذين خرجوا من الديار المصرية، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى. ثم تنقلت به الحال إلى هذه الغاية. ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وما مع ذلك. وجلس على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، فى يوم الأحد، العشرين من شهر رجب الفرد، سنة ثمان وسبعين وستمائة. واستحلف «3» الأمراء والمقدمين، ومن جرت العادة باستحلافه. وخطب له على المنابر، وكتب إلى دمشق، وإلى سائر الممالك يخبرهم بذلك. فوصل البريد إلى دمشق فى الثامن والعشرين من الشهر. وساق

[بعض مماليك الملك المنصور «1» ] من باب الأسطبل السلطانى، بظاهر قلعة الجبل إلى دمشق، فى يومين وسبع ساعات. وحلف الناس له بالشام. وخطب له على منابر دمشق، فى يوم الجمعة ثانى شعبان. وكان من أول ما اعتمده السلطان عند جلوسه على تخت السلطنة، أنه أمر بإبطال زكاة الدولية «2» ، بالديار المصرية، وكانت قد اجحفت بالرعية. وأفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم «3» الصالحى، ورتبه فى نيابة السلطنة. فتولاها مدة يسيرة، ثم استعفى منها فأعفاه، وفوض نيابة السلطنة بعده، لمملوكه الأمير حسام الدين طرنطاى، وذلك فى يوم السبت الثالث والعشرين من شهر رمضان من السنة. وأقر الصاحب برهان الدين [السنجارى «4» ] على الوزارة، ورتب مملوكه الأمير علم الدين سنجر الشجاعى فى شد الدولة. وكان أول ركوب السلطان الملك المنصور بشعار السلطنة، فى يوم السبت

الثالث من شعبان. وكتب إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بركوبه. والكتاب بخط القاضى تاج الدين بن الأثير، جاء منه «1» : ولا زالت أيامه بمحابتها تنهى «2» ، وترى من النصر ما كانت تتمنى، وتتأمل آثارها فتملأها حسنا. وتشاهد من أماير الظفر ما يوسع على العباد أمنا. ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك، الذى أولى كلّا منّا منّا. المملوك يهدى من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه «3» ، وما استقر من عوارف الله لديه، وما حباه به من النعم، التى ملأت يديه، ما يستروح بنسيمه؛ ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، وتزداد «4» به مسرة نفسه «5» وابتهاجها،

وتزدان عقود السعود، وإنما يزين اللآلىء فى العقود ازدواجها، وتقوى به قوى العزائم، وتمثله الأعداء فى أفكارها، فتكاد تجر ذيول العزائم، وتبعت الآمال على تمسكها بالنصر، وتظهر منه المحاب التى «1» لو قصدت الأقلام لحصرها، لعجزت عن الحصر. وهو أن العلم الكريم، قد أحاط بالصورة التى استقرت، من دخول الناس فى طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المظمة. ولما كان يوم السبت، الثالث من شعبان المبارك، سنة ثمان وسبعين وستمائة، ركب المملوك بشعار السلطنة، وأبهة الملك؛ وسلك المجالس العالية، الأمراء والمقدمون والمفاردة «2» والعساكر المنصورة، من آداب الخدمة، وإخلاص النية، وحسن الطاعة كل «3» ما دلّ على انتظام الأمر واتساق عقد النصر. ولما قضينا من أمر الركوب وطرا «4» ، وأنجزنا للأولياء وعدا من السعادة منتظرا، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة، والأيدى بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا مجتمعة، والآمال قد توثفت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرفت من التأييد مطالع أنواره. وشرعنا من الآن فى أسباب الجهاد، وأخذنا فى كل ما يؤذن، إن شاء الله تعالى، بفتح ما بأيدى العدو من البلاد.

ذكر عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وتفويضها للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان وغير ذلك.

ولم يبق إلا أن تتثنى» الأعنة، وتسدد «2» الأسنة، ويظهر ما فى النفوس، من مضمرات المقاصد المستكنة. [ورسمنا «3» ] بأن تزين دمشق المحروسة، وتضرب البشائر فى البلاد، وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله تعالى، يجعل أوقاته بالتهانى مفتتحة، ويشكر مساعيه، التى ما زالت فى كل موقف ممتدحة، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده. ذكر عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وتفويضها للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان وغير ذلك. وفى هذه السنة، فى السادس والعشرين، من شهر رمضان، عزل السلطان، الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى عن الوزارة، ولزم مدرسة أخيه قاضى القضاة بدر الدين، بالقرافة الصغرى. واستوزر السلطان بعده، الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان. وفيها، فى شعبان، رسم السلطان باعفاء تقى الدين توبة «4» التكريتى بيع «5» الخزانة بدمشق، من هذه الوظيفة؛ وأن يسامح بما عليه من البواقى «6» . وفوض إليه

نظر الخزانة بدمشق فباشرها، واستمر إلى خامس شوال منها. ثم فوض إليه وزارة الشام، وخلع عليه خلع الوزراء. وفيها، فى أواخر شوال، حضر الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى، من دمشق، تحت الاحتياط، وجرد معه جماعة، فلما وصل إلى قلعة الجبل اعتقل [بها «1» ] . وفيها، فوض السلطان نيابة قلعة دمشق لمملوكه الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار، وهو المعروف بلاجين الصغير، فوصل إليها وسكنها، وذلك فى العشرين من ذى الحجة من هذه السنة، فتخيل منه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، نائب السلطنة بالشام. وكان من خروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق ما نذكره. وقد رأينا أن نذكر أخباره «2» ، وما كان من أخبار أولاد السلطان الملك الظاهر بالكرك فى هذا الموضع إلى آخر أخبارهم، ليكون ذلك سياقة. ثم نذكر الغزوات والفتوحات فى الأيام المنصورية بجملتها، على توال واتساق. بمقتضى ما يقدمه التاريخ. ثم نشرح بعد ذلك حوادث السنين، وما وقع فيها من الولاية والعزل والأخبار، والوفيات، إلى انقضاء الدولة، على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.

ذكر أخبار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وخروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق، وما كان من أمره إلى أن عاد للطاعة، ورجع إلى الخدمة السلطانية

ذكر أخبار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وخروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق، وما كان من أمره إلى أن عاد للطاعة، ورجع إلى الخدمة السلطانية قد قدمنا أن السلطان الملك المنصور، فى زمن أتابكيته، فى سلطنة الملك العادل [بدر الدين «1» ] سلامش. جهزه إلى الشام، نائبا عن السلطنة بدمشق، وكان قد نقل الأمير جمال الدين أفش الشمسى من دمشق إلى نيابة السلطنة بحلب. فلما ملك السلطان الملك المنصور، واستقر بالسلطنة، خطر ببال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أن يستبد بسلطنة الشام، ويصير الأمر على ما كان عليه فى أواخر الدولة الأيوبية. فجمع الأمراء الذين عنده، وأوهمهم أن الأخبار وصلت إليه، أن السلطان الملك المنصور قد قتل، وهو يشرب الخمر «2» . ودعاهم إلى طاعته، واستحلفهم لنفسه. فأجابوه «3» ، وحلفوا له، وتلقب بالملك الكامل، وركب بشعار السلطنة، [وأبهة الملك «4» ] ، بدمشق، وذلك فى الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة ثمان وسبعين وستمائة. وفى الوقت، قبض على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بقلعة دمشق، وعلى الصاحب

ذكر التقاء العسكر المصرى والعسكر الشامى، وانهزام عسكر الشام، وأسر من يذكر من أمرائه فى المرة الأولى.

تقى الدين توبة. وجهز الأمير سيف الدين بلبان الحبيشى «1» ، إلى سائر الممالك الشامية والقلاع، ليحلف من بها من النواب وغيرهم، واستوزر الصدر مجد الدين أبا الفدا إسماعيل بن كسيرات [الموصلى «2» ] ، وجعل وزير الصحبة الصدر عز الدين أحمد بن ميسّر [المصرى «3» ] ، وانتقل بأها من دار السعادة، التى يسكنها نواب السلطنة [بدمشق «4» ] ، إلى القلعة، وأمر عند انتقال أهله، بفلق باب النصر، وفتح باب سر القلعة، المقابل لدار السعادة، بجوار باب النصر، [ففعلوا ذلك «5» ] . فتطاير الناس له بأشياء، وقالوا: أغلق باب النصر، وانتقل من دار السعادة، وسكن القلعة، وولى وزارته ابن كسيرات، فهذا لا يتم أمره، وكان كذلك. ذكر التقاء العسكر المصرى والعسكر الشامى، وانهزام عسكر الشام، وأسر من يذكر من أمرائه فى المرة الأولى. كان السلطان الملك المنصور، قد جهز الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك [على سبيل الإرهاب «6» ] ، عند ما بلغه وفاة الملك السعيد، على ما نذكر ذلك، إن شاء الله. فبلغ الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أنه خرج من الديار

المصرية، فى طائفة من عساكرها، فظن أنه يقصده. فكتب إليه ينهاه عن التقدم، ويقول: «إننى مهدت الشام، وفتحت القلاع، وخدمت السلطان، وكان الاتفاق بينى وبينه، أن أكون حاكما على ما بين الفرات والعريش، فاستناب أقوش «1» الشمسى بحلب، وعلاء الدين الكبكى بصفد، وسيف الدين بلبان الطباخى بحصن الأكراد، وآخر الحال أنه يسيّر إلى من يقصد مسكى «2» » . واتبع سنقر الأشقر كتابه، بتجريد العساكر. فلما وصل الكتاب إلى الأمير عز الدين الأفرم، كتبت مطالعة «3» إلى السلطان، وجهّز الكتاب [الذى أرسله سنقر الأشقر «4» ] عطفها «5» . فكتب السلطان إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وكتب إليه أيضا الأمراء خوشداشيته، يقبحون عليه فعله، ويحضونه على الرجوع إلى الطاعة. وتوجه بالكتب الأمير سيف الدين بلبان الكريمى العلائى خوشداشة «6» ، فوصل إلى دمشق فى ثامن المحرم سنة تسع وسبعين وستمائة، فخرج إليه سنقر الأشقر، وتلقاه وأنزله عنده، بقلعة دمشق وأكرمه. ومع

ذلك، لم يصغ إلى قوله، ولا رجع إلى ما أشار به خوشداشيته. قال «1» : ولما وصل كتاب سنقر الأشقر إلى الأمير عز الدين الأفرم، رجع إلى غزة. وعاد الأمير بدر الدين الايدمرى من الشوبك، بعد أخذها، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فاجتمعا على غزة. وجمع سنقر الأشقر العساكر، من حلب وحماه وحمص. واستدعى على الكبكى من صفد، والعربان من البلاد، وجهّز جماعة من عسكر الشام، وقدم عليهم الأمير شمس الدين قراسنقر المعزى، فتوجه إلى غزة. والتقوا هم والعسكر المصرى. فانكسر عسكر الشام، وأسر جماعة من أعيان الأمراء، منهم بدر الدين كنجك «2» الخوارزمى، وبهاء الدين يحك الناصرى، وناصر الدين باشقرد الناصرى، وبدر الدين بيليك الحلبى، وعلم الدين سنجر التكريتى، [وسنجر البدرى «3» ] ، وسابق الدين سليمان صاحب صهبون، وسيّروا إلى السلطان، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، ولم يؤاخذهم. ذكر تجريد العساكر إلى دمشق، وحرب سنقر الأشقر وانهزامه، وإخلائه دمشق، ودخول العسكر المصرى «4» إليها قال: ولما وصل خبر الكسرة، إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، المنعوت بالملك الكامل، بدمشق، أخذ فى الأهتمام وجمع العساكر. وكتب نهاية الإرب ج 31- م 2

إلى الأمراء الذين بغزة، [من جهة الملك المنصور «1» ] ، يعدهم ويستميلهم، وعين لكل منهم قلعة. وعسكر بظاهر دمشق. فجرّد السلطان، الأمير علم الدين سنجر الحلبى، والأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، بالعساكر ومن معهما من مضافيهما. فاجتمعا بالأميرين عز الدين الأفرم، وبدر الدين الايدمرى ومن معهما. وساروا، والمقدم عليهم الأمير علم الدين سنجر الحلبى. وكان سنقر الأشقر، قد برز من قلعة دمشق، بعساكر الشام فى ثانى عشر صفر، سنة تسع وسبعين وستمائة، ونزل بالجسورة. ووصل العسكر المصرى إلى الكسوة. وترتبت الأطلاب وتقدمت. والتقى العسكران بالجسورة، فى خامس عشر الشهر. وعند اللقاء انهزم عسكر حماه والعسكر الحلبى. وانحاز جماعة من الشاميين إلى العسكر المصرى. وحمل [سنجر «2» ] الحلبى على سنقر الأشقر، فانهزم لوقته. وصحبه من الأمراء الأخصاء به، الأمير عز الدين ازدمر الحاج، والأمير علاء الدين الكبكى، والأمير شمس الدين قرا سنقر المعزى، والأمير سيف الدين بلبان الحبيشى «3» . وكان [سنقر الأشقر» ] ، من عشية يوم الجمعة، ثالث عشر صفر، قد جهز أولاده وحريمه وحواصله إلى صهيون. فلما انهزم توجه به العرب إلى الرحبة «5» ، وكان من خبره ما نذكره.

قال: ولما انهزم سنقر الأشقر غلقت أبواب المدينة «1» ، مخافة أن ينهبها العسكر المصرى. وامتنعت القلعة أيضا. ونزل الأمير علم الدين الحلبى بالقصر الأبلق، بالميدان الأخضر، وبات العسكر حوله إلى اليوم الثانى. فجاء الأمير سيف الدين الجو كندار «2» ، وهو نائب القلعة، من جهة الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، إلى الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصورى، والصاحب تقى الدين توبة، وهم فى الاعتقال بالقلعة، وحلّفهم أنهم لا يؤذونه إذا أخرجهم، ولا يؤذون أحدا من مستخدمى «3» القلعة، وأمنوا الناس. وكان الأمير علم الدين [الحلبى «4» ] قد نادى ظاهر دمشق بالأمان، ثم فتح الأمير حسام الدين لاجين [المنصورى «5» ] باب الفرج، ووقف عليه، ومنع العسكر المصرى من الدخول إلى المدينة خوفا أن يشعثوا «6» . ثم نودى بإطابة قلوب الناس، وأمر بالزينة ودق البشائر. وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبى، إلى السلطان بالنصر. وسير الأمراء الذين قبض عليهم، فأحسن إليهم، ولم يؤاخذهم. وتوجه بالبشائر إلى السلطان

ذكر توجه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون وتحصنه بقلعتها

الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، فأنعم السلطان عليه. وأمرّه بعشرة طواشية «1» . ثم كان من أمر دمشق وأخبار أهلها، وما استقر من أمر النيابة بها، ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى حوادث السنين. ذكر توجه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون وتحصنه بقلعتها قال: لما انهزم الأمير شمس الدين المشار إليه، من دمشق، كما تقدم توجه إلى الرحبة، ففارقه أكثر من كان معه، وامتنع الأمير موفق الدين خضر الرحبى، النائب بقلعة الرحبة، من تسليمها إليه. فعند ذلك كاتب أبغا بن هولاكو «2» ، ملك التتار، يعرفه بما وقع بين العساكر الإسلامية من الاختلاف، وحثه على قصد البلاد بجيوشه، ووعده الانحياز «3» إليه، والإعانة والمساعدة على ذلك وكتب إليه «4» ، الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، بمثل ذلك وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكان سنقر الأشقر، لما تغلب على الشام، كاتب نواب القلاع.

ذكر انتظام الصلح بين السلطان الملك المنصور، وبين سنقر الاشقر، وما استقر بينهما، وانتقاض ذلك، وأخذ صهيون منه

فمنهم من أطاعه، ومنهم من امتنع عليه. وكان ممن أطاعه، نائب صهيون وبرزية «1» وبلاطلس والشغر «2» وبكأس، وشيزر وعكار «3» وحمص. فلما انهزم [سنقر الأشقر «4» ] ، جرّد السلطان خلفه جيشا صحبة الأمير حسام الدين [ايتمش «5» ] بن أطلس خان. فبادر هو، وعيسى بن مهنا، بالهرب إلى صهيون، وذلك فى جمادى الأولى «6» من السنة المذكورة. وعاد ابن أطلس خان ومن معه، واستمر سنقر الأشقر بصهيون. ذكر انتظام الصلح بين السلطان الملك المنصور، وبين سنقر الاشقر، وما استقر بينهما، وانتقاض ذلك، وأخذ صهيون منه وفى سنة ثمانين وستمائة، انتظم الصلح بين السلطان الملك المنصور، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر. وذلك أن السلطان جرّد الأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدى «7» الشمسى إلى شيزر، فترددت الرسائل بين السلطان وبين سنقر الأشقر، وطلب منه تسليم شيزر، فطلب منه الشغر وبكأس،

وكانتا قد أخذنا منه، وطلب معهما [فامية «1» ] ؛ وكفر طاب [وأنطاكية «2» ] وبلادها، فأجيب إلى ذلك. وتقرر أن يقيم [شمس الدين سنقر الأشقر «3» ] ، على هذه البلاد، [وعلى ما بيده قبل ذلك من البلاد، وهى صهيون وبلاطلس واللاذقية «4» ] بستمائة «5» فارس، لنصرة الإسلام، وإن الأمراء الذين معه، إن أقاموا عنده، يكونون من أمرائه، وإن حضروا إلى السلطان يكونون آمنين، ولا يؤاخذون. وحضر عنده الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، بنسخة اليمين على ما تقرر، فحلف السلطان على ذلك. وكتب له تقليدا بالبلاد، وسأل [سنقر الأشقر «6» ] ، أن ينعت بلفظ الملك، فما أجاب السلطان إلى ذلك، ونعت بالإمرة. وسير السلطان، الأمير فخر الدين [أباز «7» ] المقرى [الحاجب «8» ] فحلّفه، وسير إليه السلطان من الأقمشة والأوانى والأنعام شيئا كثيرا. وانتظم الصلح والاتفاق.

وحضر مع السلطان فى مصاف «1» حمص، وعاد إلى صهيون على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ واستمر ذلك إلى سنة أربع وثمانين وستمائة. فلما حضر السلطان لحصار المرقب، وهى بالقرب من صهيون، لم يحضر الأمير شمس الدين إلى خدمة السلطان. فتنكر السلطان لذلك، وحنق [عليه «2» ] بسببه. وأرسل سنقر الأشقر ولده ناصر الدين صمغار إلى خدمة السلطان يتلافى ذلك، فمنعه السلطان من العود إلى والده. واستمر إلى سنة ست وثمانين وستمائة. فجرد السلطان نائبه [بالديار المصرية «3» ] ، الأمير حسام الدين طرنطاى، إلى صهيون، فى جماعة كثيرة من العساكر، فنازلها، وراسله فى تسليمها، وذكر له مواعيد السلطان له. فامتنع من ذلك، فضايقه، ونصب المجانيق حتى أشرف على أخذ حصن صهيون عنوة. فلما رأى [الأمير شمس الدين سنقر الأشقر «4» ] ذلك، أرسل فى طلب الأمان والأيمان. فحلف له الأمير حسام الدين طرنطاى، إن السلطان لا يضمر له سوءا. فنزل إلى الأمير حسام، وسلّم إليه الحصن. فأخبرنى «5» من ذكر أنه شهد كيف كان نزوله إليه، وما عامل كل منهما الآخر به،

ذكر خبر الملك السعيد وما كان من أمره بالكرك واستيلائه على الشوبك واستعادتها منه.

فقال: بينما الأمير حسام الدين جالس فى خيمته، إذ قيل له، هذا الأمير شمس الدين قد جاء. فوئب وأسرع المشى، وخرج إليه وتلقاه، فترجل الأمير شمس الدين. وخلع الأمير حسام الدين قباء كان عليه، وبسطه على الأرض، ليمشى الأمير شمس الدين عليه. فرفعه الأمير شمس الدين عن الأرض، وقبّله ولبسه. فأعظم الأمير حسام الدين طرنطاى ذلك، وعامل الأمير شمس الدين بأتّم الخدمة وغاية الأدب. ورتّب فى الحصن تائبا وواليا ورجّاله. وسار هو والأمير شمس الدين إلى الديار المصرية. فلما قرب من قلعة الجبل، ركب السلطان وولداه الملك الصالح علاء الدين على، والملك الأشرف صلاح الدين خليل، وأولاد الملك الظاهر، والعساكر. وتلقاه الأمير شمس الدين وتعانقا، وطلعا إلى القلعة، وحمل السلطان إليه الخلع والأقمشة والحوائص الذهب والتحف، وساق إليه الخيول، وأمّره بمائة فارس، وقدّمه على ألف. واستمر فى الخدمة السلطانية، من أكابر أمراء الدولة. فهذا ما اتفق له، فى خروجه وعوده على سبيل الاختصار. ثم كان من أخباره بعد ذلك، ما نذكره إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فلنذكر حال الملك السعيد وأخيه المسعود. ذكر خبر الملك السعيد وما كان من أمره بالكرك واستيلائه على الشوبك واستعادتها منه. قال المؤرخ «1» : لما توجه الملك السعيد إلى الكرك، كان السلطان الملك

ذكر وفاة الملك السعيد، وقيام أخيه الملك المسعود خضر مقامه بالكرك.

المنصور، قد شرط عليه، أنه لا يكاتب الأمراء، ولا يفسد العساكر، ولا يتطرق إلى غير الكرك. فلما استقر بها حركه مماليكه، وحسنوا له التطرق إلى الحصون وأخذها، أولا فأولا، فوافقهم على ذلك. وكاتب النواب وسير الأمير حسام الدين لاجين، رأس نوبة الجمدارية، إلى الشوبك، فتغلب عليها، وأقام بها. فكاتبه السلطان الملك المنصور، ونهاه فلم ينته، فجرد الأمير بدر الدين بيليك الايدمرى إلى الشوبك، فنزل عليها، وضايق أهلها، وتسلمها فى العاشر من ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة، ورتب بها نائبا وعاد عنها. ذكر وفاة الملك السعيد، وقيام أخيه الملك المسعود خضر مقامه بالكرك. قال «1» : وفى سنة ثمان وسبعين وستمائة، ركب الملك السعيد، إلى الميدان بالكرك، ولعب بالكرة، فتقنطر عن فرسه، فصدع وحمّ [أياما قلائل «2» ] ، فمات. وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، فى ثالث عشر ذى القعدة، من السنة. وعمل السلطان الملك المنصور له عزاء، بقلعة الجبل، فى الثانى والعشرين من الشهر. وحضره وعليه ثياب البياض، وحضر الأمراء والقضاة والعلماء، والوعاظ. ولما توفى صبّر، ووضع فى تابوت مدة، ثم حمل إلى التربة الظاهرية بدمشق، وذلك فى سنة ثمانين وستمائة، ووصلت والدته إليها فى ثامن

عشرين شهر ربيع الآخر، والسلطان الملك المنصور يوم ذاك بالشام. فادخل التربة الظاهرية ليلا فى تابوت، ولم يدخلوا به من باب المدينة، وإنما رفعوا تابوته من أعلا السور، ودلّوه من الجانب الآخر، ووضع فى قبره، وألحده القاضى عز الدين بن الصائغ، كما ألحد والده. وحضر السلطان الملك المنصور فى بكرة دفنه إلى التربة الظاهرية، ومعه القضاة والعلماء والقراء والوعاظ، وأظهر الحزن عليه، وذلك فى سلخ شهر ربيع الآخر «1» . ومولده بمنزلة العش «2» ، من ضواحى القاهرة، فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة. قال «3» : وكان الملك السعيد، لما استقر بالكرك، رتب فى النيابة بها الأمير علاء الدين ايدغدى الحرانى الظاهرى، لما فارقه الأمير علاء الدين الفخرى النائب بها إلى الديار المصرية. فلما مات اتفق [نائبه الأمير علاء الدين ايدغدى] الحرانى «4» ومن معه، وأقاموا أخاه خضرا مقامه، ولقب بالملك المسعود. فشرع المماليك، الذين حول الملك المسعود نجم الدين خضر، فى سوء التدبير، ففرقوا أموال الذخائر «5» ، وأرادوا أن يستجلبوا بها الناس، وانضم إليه كل من قطع رزقه. وتوجه منهم جماعة إلى الصلت فاستولوا عليها،

ذكر الصلح بين السلطان والملك المسعود وانتقاض ذلك وإخراجه من الكرك.

وأرسلوا إلى صرخد، وقصدوا الاستيلاء عليها، فعجزوا عن ذلك. وشرعوا فى استفساد الناس، وتسامع بهم العربان والطماعة، أنهم يبذلون الأموال، فقصدوهم من كل الجهات، وهم يبذلون الأموال لمن يقصدهم ويصل إليهم. فكان جماعة من العربان وغيرهم يقصدونهم من أطراف البلاد، ويجتمعون ويحضرون إلى الملك المسعود، ويبذلون له الطاعة، ويتقربون إليه بالنصيحة. فإذا وثق بهم، وأنفق فيهم الأموال، وحصلوا عليها، وبلغوا الغرض مما راموه تسللوا وفارقوه، وعادوا من حيث جاءوا وتفرقت جماعاتهم. وهو ومن عنده لا يرجعون عن بذل المال لمن يصل إليهم، إلى أن فنيت أكثر تلك الذخائر، التى كانت بالكرك، التى حصنها السلطان الملك الظاهر، وجعلها بهذا الحصن ذخيرة لأوقات الشدائد، فنفقوها فيما لا أجدى نفعا، بل جلب ضررا، وغلّت الخواطر. ثم كانبوا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر [نائب السلطنة بدمشق «1» ] فى الموافقة [معهم «2» ] . واتصل ذلك بالسلطان، فجرد الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك على سبيل الإرهاب. وكان بينه وبين الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ما قدمناه «3» ذكر الصلح بين السلطان والملك المسعود وانتقاض ذلك وإخراجه من الكرك. وفى سنة ثمانين وستمائة، وردت رسل الملك المسعود إلى السلطان فى طلب الصلح، والزيادة على الكرك، وأن يكون له ما كان للناصر داود، فلم يجبه

السلطان إلى ذلك، ولا إلى إقامته بالكرك بالأصالة. وترددت رسائله إلى السلطان، وسأل أن يقر بيده الكرك وأعمالها من حد الموجب «1» إلى الحسا «2» . فأجابهم السلطان، وحلف لهم، والتمسوا شروطا: منها تجهيز الإخوة الذكور والإناث، أولاد الملك الظاهر إلى الكرك، وردّ الأملاك الظاهرية عليهم، وتمّ الصلح وحلف السلطان عليه. وتوجه الأمير بدر الدين بيليك المحسنى السلاح دار، والقاضى تاج الدين ابن الأثير، إلى الكرك، وحلفا الملك المسعود. وكوتب من ديوان الإنشاء، كما يكانب صاحب حماه، واستمر الأمر على ذلك إلى سنة اثنتين وثمانين [وستمائة «3» ] ، فبلغ السلطان أنهم نقضوا ما كان قد تقرر. وحضر الأمير علاء الدين ايدغدى الحرانى، نائب الملك المسعود بالكرك، وأنهى إلى السلطان ما اعتمدوه، مما يغلّت الخواطر. فكتب السلطان إلى الملك المسعود ومن معه ينهاهم عن ذلك، فلم ينتهوا. فجرد إلى الكرك فى هذه السنة «4» الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، وأمره بمراسلتهم، فراسلهم، فلم يرجعوا عن اعتمادهم، فضايق الكرك، ورعت خيول العسكر تلك الزراعات كلها، ثم عاد عن الكرك. وتراخى الأمر، واستمر الملك المسعود بالكرك إلى سنة خمس وثمانين وستمائة. فجرد السلطان الملك المنصور، الأمير حسام الدين طرنطاى، نائب السلطنة،

بجيش كثيف، وأمره بمنازلة الكرك ومحاصرتها «1» فتوجه إليها، وأحضر آلات الحصار، من الحصون الإسلامية، وضايقها وقطع الميرة عنها. واستدعى بعض الرّجالة «2» ، وأحسن إليهم، فوافقوه «3» على الملك المسعود. فلما رأى الملك مسعود نجم الدين خضر، وأخوه بدر الدين سلامش الحال على ذلك، أرسل الملك المسعود إلى الأمير حسام الدين طرنطاى، فى طلب الأمان، فأمنّه عن السلطان. فقال لا بد من أمان السلطان وخاتمه. وفطالع الأمير حسام الدين السلطان بذلك، فأرسل السلطان بأمانه الأمير ركن الدين بيبرس الداوادار المنصورى، فاجتمع بهما، وأبلغهما أمان السلطان، فنزلا من قلعة الكرك، إلى الأمير حسام الدين طرنطاى، وذلك فى صفر سنة خمس وثمانين [وستمائة «4» ] . فرتب الأمير حسام الدين، عز الدين أيبك الموصلى المنصورى، فى نيابة السلطنة بالشوبك منذ استعيدت من الملك السعيد. ورحل الأمير حسام الدين طرنطاى، وولدا الملك الظاهر صحبته، فلما وصلوا إلى الديار المصرية، وقربوا من قلعة الجبل، ركب السلطان، وتلقاهما وأقبل عليهما، وطلعا إلى القلعة، وذلك فى يوم الثلاثاء ثانى عشر ربيع الأول. وأمّر كلا منهما [إمرة «5» ] مائة فارس. واستمرا يركبان معه فى الموكب والميدان، ونزّلهما «6» منزلة أولاده. ثم بلغه عنهما ما تنكر له، فقبض عليهما واعتقلهما، وبقيا فى الاعتقال فى أيام السلطان الملك الأشرف، فسيرهما إلى القسطنطينية.

ذكر الفتوحات والغزوات التى شهدها السلطان بنفسه، والتى ندب إليها عساكره المؤيدة

هذا ما كان من أخبار هؤلاء المناوئين فى الملك، فلنذكر الفتوحات والغزوات، ونوردها فى الترتيب، على حكم السنين، إن شاء الله تعالى. ذكر الفتوحات والغزوات التى شهدها السلطان بنفسه، والتى ندب إليها عساكره المؤيدة ذكر «1» عبور التتار إلى الشام، والمصاف الذى وقع بينهم وبين العساكر المنصورة، بحمص وانهزام التتار. قال المؤرخ «2» : وفى سنة ثمانين وستمائة، وردت الأخبار بدخول منكوتمر «3» ، إلى بلاد الروم، بعساكر المغل، وأنه نزل بين قيسارية وابلستين، فتوجه كشافة من عين تاب، فوقعوا بفرقة من التتار بالقرب من صحراء هوتى «4» ، الذى كسر الملك الظاهر التتار عليها. فظفروا منهم بإنسان يسمى حلتار بهادر «5» [أمير «6» ] آخور أبغا ابن هولاكو، كان قد توجه لكشف المروج، فأمسكوه وأحضروه إلى السلطان

إلى دمشق. فوانسه السلطان، وسأله عن الأخبار، فذكر أنهم فى عدد كثير يزيدون على ثمانين ألف فارس من المغل، وعزمهم أنهم يقصدون البلاد، قولا جزما، ويركبون من منزلتهم أول شهر رجب. ثم ورد الخبر فى جمادى الآخرة، أنهم ركبوا من منزلتهم، وأنهم يسيرون برفق، وأن فرقة منهم توجهت صحبة أبغا إلى الرحبة، ومعه صاحب ماردين، فسير السلطان كشافة إلى الرحبة، صحبة بجكا «1» العلائى. وركب السلطان من دمشق، ووصل العدو المخذول إلى صوب حارم. وراسل السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأشقر عدة مراسلات، إلى أن تقرر أنه ينزل من صهيون بمن معه للغزاة، بشرط أن يعود إليها، إذا انقضى المصاف. فنزل ووافى السلطان على حمص، هو ومن كان عنده من الأمراء، وهم ايتمش السعدى، وازدمر الحاج، وسنجر الداوادارى، وبجق البغدادى، وكراى، وشمس الدين الطنطاش وابنه، ومن معهم من الظاهرية. ففرح المسلمون بحضورهم، وكان ذلك قبل المصاف بيومين. ثم ورد الخبر أن منكوتمر على حماه بعساكر التتار، فى ثمانين ألف، منهم خمسون ألف من المغل، وبقيتهم مرتدة «2» وكرج وروم وأرمن «3» وفرنج، وأنه نفر

إليهم مملوك من مماليك الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الصالحى الجالق، ودلّهم على عورات المسلمين وأخبرهم بعددهم. ورحلوا ليلة الحميس عن حماه، ورتبوا جيشهم. فكان طرف ميمنتهم حماه، وطرف ميسرتهم [ «1» ] ، وساقوا طالبين اللقاء، والمقدم عليهم من قبل أبغا، منكوتمر [بن «2» ] هولاكو، أخو أبغا. ورتب السلطان الملك المنصور عساكره، وبات المسلمون على ظهور خيولهم. واتفق أن شخصا من عسكر التتار، دخل حماه، وقال للنائب بها: «اكتب الساعة إلى السلطان، على جناح طائر، وعرفه أن القوم ثمانون ألف مقاتل فى القلب، منهم أربعة وأربعون ألف من المغل وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدا، فتقوى ميسرة المسلمين، وتحترز على الصناجق» . فكتب النائب بذلك إلى السلطان. فلما قرأ الكتاب ركب عند إسفار الصباح، فى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، سنة ثمانين وستمائة، وهو يوم اللقاء. ورتب العساكر المنصورة الإسلامية، على ما نذكره، بمقتضى ما أورده الأمير ركن الدين بيبرس الداوادار المنصورى فى تاريخه «3» وهو:

الميمنة المنصورة «1» ، فيها الملك المنصور صاحب حماه، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى والأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدى «2» الشمسى ومضافوهم «3» ، والأمير حسام الدين لاجين نائب الشام والعسكر الشامى. وفى رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا وآل فضل وآل مرى، وعربان الشام، ومن انضم إليهم. الميسرة المباركة، فيها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الحلبى، والأمير بجكا العلائى، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى، والأمير سيف الدين خبرك «4» التترى، ومن معهم من المضافين. وفى رأس الميسرة التركمان بجموعهم وعسكر حصن الأكراد. ذكر الجاليش وهو مقدمة القلب «5» ، فيه الأمير حسام الدين طرنطاى، نائب السلطنة، ومن معه من مضافيه، والأمير ركن الدين اياجى «6» الحاجب، والأمير

بدر الدين بكتاش بن كرمون، ومن معهم من المماليك السلطانية. ووقف السلطان تحت الصناجق، وحوله مماليكه وألزامه وأرباب الوظائف. وأشرفت كراديس النتار. وكان الملتقى بوطأة حمص، بالقرب من مشهد خالد بن الوليد. فالتقى الجمعان، فى الساعة الرابعة، من نهار الخميس، وجاءت ميسرة العدو، تجاه الميمنة الإسلامية، وصدموا «1» الصدمة الأولى، فثبت المسلمون، وانكسرت ميسرة التتار كسرة تامة، وانتهت إلى القلب الذى للتتار، وبه منكوتمر. وأما الميسرة الإسلامية، فصدمتها ميمنة التتار، فلم تثبت لترادف كراديسهم. وساق التتار وراء المسلمين، حتى انتهوا إلى تحت حمص. ووقعوا فى السوقة والعوام، فقتلوا منهم خلقا كثيرا. ولم تعلم المسلمون ما تهيأ للميمنة من النصر، ولا علم التتار ما أصاب ميسرتهم. فاستقل بعض من انهزم إلى دمشق، وبعضهم إلى قرب صفد. ومنهم من وصل غزة. ولما رأى التتار، أنهم قد استظهروا، نزلوا «2» عن خيولهم فى المرج الذى عند حمص، وأكلوا الطعام، ونهبوا الأثقال «3» والوطاقات «4» ، والخزانة. وانتظروا

قدوم بقيتهم، فلما ابطأوا عنهم، أرسلوا من يكشف خبرهم، فعاد الكشافة وأخبروهم [أن «1» ] منكوتمر هرب، فركبوا خيولهم، وكروا راجعين. هذا والسلطان ثابت فى موقفه، فى نفر يسير من المماليك، والعساكر قد تفرقت، منهم من تبع التتار الذين انهزموا، ومنهم من استمر به الهرب. فلما رجعت ميمنة التتار، أمر السلطان أن تلف الصناجق، وتبطل الكوسات «2» ، فمروا ولم يقدموا عليه. وأخذوا على طريق الرستن، ليلحقوا بأصحابهم. [وعند ما تقدموه قليلا، ساق عليهم، فانهزموا لا يلوون على شىء. وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروب الشمس من يوم الخميس. ومرّ هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل، يريدون منكوتمر. وكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين وإلا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين، لما وجدوا فيهم قوة. ولكن الله نصر دينه، وهزم عدوه مع قوتهم وكثرتهم. وانجلت هذه الواقعة عن قتلى كثيرة من التتر لا يحصى عددهم] «3» . وكتبت البطائق بالنصر. وعاد السلطان من يومه إلى المنزلة، [بعد انفصال الحرب «4» ] . وكان قد فرق ما بالخزانة من الذهب، فى أوساط مماليكه، فسلم بجملته. وباب السلطان بالمنزلة ليلة الجمعة. فلما كان عند السحر، ثار صياح بالوطاقات، فظن الناس عود العدو، فركب السلطان ومعه من وكان بالوطاقات، فانكشف الخبر بعد

ساعة، أن جماعة من العسكر، الذين تبعوا التتار عند الهزيمة رجعوا. وقتل من التتار فى الهزيمة، أكثر من الذين قتلوا فى المصاف، واختفت منهم طائفة بجانب «1» الفرات. فأمر السلطان أن تضرم النيران بالأزوار «2» التى على الفرات، فأحرق أكثر من اختفى فيها. وهلكت فرقة منهم، كانوا سلكوادرب سلمية. ولما وصلت البطائق إلى الرحبة، بخبر النصر وهزيمة التتار، كان أبغا ملك التتار يحاصرها، فدقت البشائر، وأعلن الناس بالنصر، ففارقها أبغا وتوجه إلى بغداد. وعاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون. ورجع إلى الخدمة السلطانية ممن كان معه، ايتمش السعدى، وسنجر الداوادارى وكراى التتارى وولده، وتماجى «3» ، وجماعة من الأمراء الذين كانوا عنده. وعاد السلطان إلى دمشق، فكان وصوله إليها، فى يوم الجمعة ثانى عشر شهر رجب الفرد. وامتدحه الشعراء، وأكثروا المدائح والهناء بهذا النصر. وخرج السلطان من دمشق، عائدا إلى الديار المصرية، فى يوم الأحد ثانى شعبان. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم السبت الثانى والعشرين من الشهر، فزينت له المدينة. ودخل، وبين يديه الأسرى، وبعضهم يحمل صناجقهم المكسورة وطبولهم. وخلع السلطان على الأمراء والأكابر.

ذكر فتوح قلعة قطيبا

واستشهد فى هذه الواقعة من الأمراء من نذكر: منهم الأمير عز الدين ازدمر الحاج. وهو الذى جرح منكوتمر، وكان من أعيان الأمراء، وكانت نفسه تحدثه أنه يملك. والأمير بدر الدين بكتوت [الخازندار، والأمير سيف الدين بلبان الرومى الداوادار الظاهرى، والأمير شهاب الدين توتل «1» ] الشهرزورى، رحمهم الله تعالى. هذا ما كان من خبر هذه الواقعة. ذكر فتوح قلعة قطيبا «2» وهذه القلعة كانت فى الزمن الأول محسوبة فى جملة قلعة آمد، ثم صارت فى يد ملك الروم، وصارت فى يد العدو المخذول [من «3» ] التتار، وفيها نوابهم. وكانت مضرّة بقلعة كركر والثغور المجاورة لها، وما كان يمكن أخذها بحصار، فتلطف النواب، واستمالوا من كان بها. فلما كان فى سنة اثنتين وثمانين وستمائة. خلت هذه القلعة من الغلال. فجرد السلطان إليها رجالة كركر، فضايقوها. فسأل «4» أهلها مراحم «5» السلطان فأجيبوا إلى ملتمسهم. وتسلمها نواب السلطان، وأحضروا إليها جماعة من الرجالة من

ذكر فتوح ثعز الكختا

قلعة البيرة وعين تاب والروندان. وجعل فيها ما يحتاج إليه من الغلال والسلاح والعدد. وصارت من حصون الإسلام المنيعة. ذكر فتوح ثعز الكختا وفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة أيضا، فتحت قلعة الكختا. وهى من أمنع الحصون وأعلاها وأتقنها بنية «1» . فاجتهد السلطان فى تحصيلها وإضافتها إلى الحصون الإسلامية. ووعد من بها المواعيد الجميلة. فأجابوا بالسمع والطاعة. وقتلوا النائب بها، وهو الشجاع موسى. وراسلوا نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الحلبية، وبذلوا تسليم القلعة. فجهز إليهم الأمير جمال الدين الصرصرى «2» ، والأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، والأمير شمس الدين أقش الشمسى العينتابى، ومن معهم. فتسلموا الحصن، وحلفّوا من به للسلطان ولولده الملك الصالح، والبسوهم التشاريف، ثم جهزوا من كان بها، طائفة بعد أخرى إلى الأبواب الشريفة السلطانية. فأحسن السلطان إليهم، وأقطع منهم من يستحق الإقطاع، وجهزت إليها الزردخانات، وآلات الحصار، واستقرت فى جملة الحصون الإسلامية. وصارت هذه القلعة شجىّ فى حلق الأرمن، وحصل الاستظهار بها على الغارات. وذكر الإغارة على بلاد سيس وفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة أيضا، كتب السلطان إلى نائب السلطنة

ذكر فتوح حصن المرقب

بالمملكة الحلبية، أن يوجه من يغير «1» على بلاد سيس، بسبب ما كان الأرمن اعتمدوه، من إحراق جامع حلب، لما جاءوا صحبة التتار. وجرد السلطان عسكرا من الديار المصربة، ومن عسكر الشام لذلك. فتوجهوا وأغاروا، ووصلوا إلى مدينة أياس، فقتلوا من أهلها جماعة، ونهبوا وخربوا. فلما عادوا ووصلوا إلى باب اسكندرونه، أتاهم عسكر الأرمن فاقتتلوا. فانهزم الأرمن، وتبعهم العسكر إلى تل حمدون، واقتلعوا جماعة من خيالتهم، وعاد العسكر الإسلامى بالظفر والغنيمة. ذكر فتوح حصن المرقب وفى سنة أربع وثمانين وستمائة، توجه السلطان الملك المنصور إلى المرقب، ونازله فى أوائل شهر ربيع الأول. وذلك أن أهله فعلوا ما يوجب نقض الهدنة، التى كانت حصلت بينهم وبين السلطان، على ما نذكرها فى حوادث السنين، ولم يتفقوا عند شروطها. فحاصر السلطان الحصن، وعملت النقوب، وأشرفت الفرنج على أنه يفتح عنوة. فطلبوا الأمان، وسلموا الحصن. فتسلمه السلطان، وذلك فى الساعة الثامنة من نهار الجمعة سابع «2» عشر شهر ربيع الأول. وكان هذا الحصن لبيت الاسبتار، وجهز أهله إلى طرابلس. ذكر غزوتى النوبة الأولى والثانية كانت الغزوة الأولى فى سنة ست وثمانين وستمائة. وذلك أن السلطان الملك المنصور، جهز الأمير علم الدين سنجر المسرورى، المعروف بالخياط، متولى

القاهرة والأمير عز الدين الكورانى، وجماعة من أجناد الولايات، بالوجه القبلى والقراغلامية «1» . وجرد الأمير عز الدين أيدمر السيفى، السلاح دار، متولى الأعمال القوصية، بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية، المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليلم وهم: أولاد أبى بكر، وأولاد عمر، وأولاد شريف، وأولاد شيبان، وأولاد الكنز، وجماعة من العربان الريسية «2» وبنى هلال. فتوجه الأمير علم الدين الخياط بنصف الجيش من البر الغربى. وتوجه الأمير عز الدين ايدمر بالنصف الثانى من البر الشرقى، وهو الجانب الذى فيه مدينة دنقلة. وكان متملك النوبة فى ذلك الوقت اسمه سمامون «3» ، وكان ذادهاء ومكر وبأس، بالنسبة إلى أمثاله. فلما وصل الجيش إلى أطراف البلاد، أخلا سمامون البلاد، وأرسل إلى نائبه بجزائر ميكائيل وعمل «4» الدّر، وهو جريس «5» - ويسمى من يتولى هذه الولاية، عند النوبة، صاحب الجبل «6» - فأمره بإخلاء البلاد التى تحت يده أمام الجيش. فكانوا يرحلون أمام الجيش منزلة بمنزلة، إلى أن انتهوا إلى متملك النوبة بدنقلة.

ذكر تجريد الجيش فى المرة الثانية إلى النوبة

فأقام بها إلى حيث وصل الأمير عز الدين ومن معه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم سمامون، وقتل من أصحابه خلق كثير. واستشهد من المسلمين أناس قلائل. ولما انهزم [سمامون «1» ] ، تبعه الجيش إلى مسيرة «2» خمسة عشر يوما من دنقلة، فادركوا جريس، فأخذوه، وأخذوا ابن خاله متملك النوبة، وهو من أعيان أصحابه، وممن «3» يرجع إليه الملك. فرتب الأمير عز الدين، ابن أخت الملك ملكا، ورتب جريس فى النياية عنه، وجرد معهما جماعة من العسكر، وقدر «4» عليهما قطيعة، يحملونها إلى الأبواب السلطانية فى كل سنة. وعاد الجيش [بعد أن «5» ] غنموا غنائم كثيرة من الرقيق، والخيل، والجمال، والأبقار، والأكسية. ولما فارق الجيش النوبة وعاد، وتحقق سمامون عودهم، رجع إلى دنقلة، وقاتل من بها، وهزمهم واستعاد البلاد. فحضر الملك المستجد وجريس، ومن كان معهما من العسكر المجرد، إلى الأبواب السلطانية، وأنهوا ما اتفق من سمامون. فغضب السلطان لذلك، وجرد جيشا كثيفا. ذكر تجريد الجيش فى المرة الثانية إلى النوبة قال «6» : وجرد السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار إلى

النوبة، وصحبته من الأمراء، الأمير سيف الدين قبجق المنصورى، والأمير سيف الدين بكتمر الجو كندار، والأمير عز الدين أيدمر، متولى الأعمال القوصية. وجرد أيضا من أطلاب «1» الأمراء، من نذكر: طلب الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا، وطلب الأمير سيف الدين بهادر، رأس نوبة الجمدارية، وطلب الأمير علاء الدين الطيبرس، وطلب الأمير شمس الدين سنقر الطويل. وسار أجناد المراكز بالوجه القبلى، ونواب الولاة من العربان بالديار المصرية، من الوجهين القبلى والبحرى، وعدتهم أربعون ألف راجل. وجهز معهم متملك النوبة، ونائبه جريس. وكان توجه الجيش من الأبواب السلطانية، فى يوم الثلاثاء، [ثا «2» ] من شوال، سنة ثمان وثمانين. وصحب هذا الجيش من الحراريق والمراكب الكبار والصغار، لحمل الأذواد، والزردخاناة والأثقال، ما يزيد على خمسمائة مركب. ولما وصل العسكر إلى ثغر أسوان، مات متملك النوبة، فدفن بأسوان. وطالع الأمير عز الدين الأفرم [السلطان «3» ] بذلك. فأرسل إليه، من أولاد أخت الملك داود رجلا، كان بالأبواب السلطانية. ورسم له أن يملّكه

بالنوبة، فأدركهم على خيل البريد، قبل رحيل العسكر من أسوان. ولما وصل إليهم أنفسهم العسكر نصفين على العادة. فكان الأمير عز الدين الأفرم، والأمير سيف الدين قبجاق «1» ، ونصف العسكر ونصف العربان بالبر الغربى، والأمير عز الدين أيدمر، متولى الأعمال القوصية، والأمير سيف الدين بكتمر الجو كندار، ونصف العسكر ونصف العربان بالبر الشرقى. وتوجهوا ورسموا الجريس نائب النوبة أن يتقدمهم، منزلة بمنزلة، ومعه أولاد الكنز، أمراء أسوان، ليطمئنوا أهل البلاد ويؤمنوهم «2» ، ويجهزوا الإقامات للعسكر. فكان الجيش إذا وافى بلدا، خرج من بها من المشايخ وأعيانها، وقبلوا الأرض بين يدى الأمراء، وأخذوا أمانا واستقروا ببلدهم، وذلك من الدّو إلى جزائر ميكائيل، وهى البلاد التى كانت تحت يد جريس، صاحب الجبل «3» . وأما ما عدا ذلك من البلاد، التى لم يكن لجريس عليها ولاية، فإنها أخليت «4» ، طاعة لمتملك النوبة. فكان العسكر ينهب ما يجده بها، ويقتل من تخلف من أهلها بها، ويرعون «5» زروعهم، ويحرقون «6» سواقيهم ومساكنهم، إلى أن انتهوا إلى مدينة دنقلة. فوجدوا الملك قد أخلاها، وأجلى أهلها، ولم يجد الأمراء بها إلا شيخا كبيرا وعجوزا. فسألوهما عن أخبار الملك، فذكرا أنه توجه إلى جزيرة وسطى، فى بحر النيل، مسافتها من دنقلة خمسة عشر يوما. واتساع هذه الجزيرة

مسافة ثلاثة أيام طولا. فتبعهم الأمير عز الدين ومن معه إلى الجزيرة المذكورة ولم يصحبهم حراق ولا مركب، لتوعر البحر بالأحجار. فلما انتهوا إلى قبالة الجزيرة، شاهدوا بها عدة من مراكب النوبة، وجمعا كثيرا. فسألوهم عن الملك، فأخبروهم أنه بالجزيرة المذكورة، فعرضوا عليه الدخول فى الطاعة والحضور، وبذلوا له الأمان، فأبى ذلك. فأقام العسكر ثلاثة أيام، وأو هموه «1» أنهم أرسلوا يطلبون المراكب والحراريق، ويعدون إليه ويقاتلونه. فانهزم من الجزيرة إلى جهة الأبواب، وهى مسافة ثلاثة أيام من الجزيرة، وليست داخلة فى مملكته. ففارقه من كان معه من السواكرة «2» ، وهم الأمراء، وفارقه أيضا الأسقف والقسوس، ومعه الصليب الفضة، الذى يحمل على رأس الملك، وتاج المملكة، وطلبوا الأمان، ودخلوا تحت الطاعة. فأمنهم عز الدين المتولى، وخلع على أكابرهم، ورجعوا معه إلى دنقلة، وهم فى جمع كثير. ولما وصلوا إليها، عدّى الأمير عز الدين الأفرم، والأمير سيف الدين قبجاق، إلى البر الشرقى، دون من معهما من العساكر. واجتمع الأمراء بدنقلة، ولبست العساكر آلة الحرب، وطلّبوا من الجانبين وزينت الحراريق فى البحر. ولعب الزارقون بالنفط، ومدّ [الأمراء «3» ] الأخوان [السماط «4» ] فى كنيسة أسوس «5» ، وهى أكبر كنيسة بدنقلة. فلما أكلوا الطعام، ملّكوا الملك الواصل من الأبواب السلطانية. والبسوه التاج،

وحّلفوه للسلطان. وحّلفوا له أهل البلاد. وتقرر عليه البقط «1» المستقر أولا، والبقط هو المقرر. وجرّد عنده طائفة من العسكر «2» . وقدّم عليهم ركن الدين بيبرس العزى، أحد مماليك الأمير عز الدين متولى قوص. وعاد العسكر، وكان وصوله إلى القاهرة فى جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة، وكانت مدة غيبته منذ خرج من ثغر أسوان، إلى أن عاد إليه ستة أشهر، وعنموا غنائم كثيرة. فلما عاد العسكر عن دنقلة، حضر سمامون إليها ليلا، وصار يقف على باب كل سوكرى «3» بنفسه ويستدعيه. فإذا خرج ورآه، قبّل الأرض بين يديه وحلف له. فما طلع الفجر حتى ركب معه جميع العسكر النوبى. فزحف بهم على دار الملك، وقبض على الملك. وأرسل إلى ركن الدين بيبرس [العزى «4» ] . أن يتوجه إلى مخدومه، بحيث لا يلتقيان. «5» فتوجه ركن الدين، ومن معه إلى قوص. [واستقر «6» الملك] سمامون بد نقلة. وأخذ الملك

ذكر فتوح طرابلس الشام

الذى ملكّه العسكر، فعراه من ثيابه، وذبح ثورا، وقدّ جلده [سيورا «1» ] ، ولفّها عليه طريّة، وأقامه مع خشبة. فيبست عليه تلك السبور فمات. وقتل جريس أيضا. وكتب سمامون إلى السلطان الملك المنصور يستعطفه ويسأله الصفح عنه. والتزم «2» أن يقوم بالبقط «3» المقرر فى كل سنة، وزيادة عليه. وأرسل من الرقيق والتقادم عدة كثيرة، فوصل ذلك فى أواخر الدولة المنصورية. وحصل اشتغال السلطان بما هو أهم من النوبة. فاستقر سمامون بالنوبة إلى أيام العادلية الزيتية كتبغا، وكان من أمره، ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر فتوح طرابلس الشام كان فتح طرابلس، فى الساعة السابعة، فى يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وثمانين وستمائة، عنوة. وذلك أن السلطان الملك المنصور توجه إلى الشام، فى شهر المحرم من هذه السنة، وعزم على غزو طرابلس. لأن أهلها كانوا قد نقضوا قواعد الصلح، ونكثوا أسباب «4» الهدنة. فكتب

السلطان إلى النواب بالممالك الشامية، والحصون الإسلامية، بتجهيز الجيوش إليها، وإنفاذ المجانيق وآلات الحصار. ووصل السلطان إلى دمشق، بعساكر الديار المصرية، فى يوم الاثنين ثالث عشر صفر من هذه السنة. وتوجه منها فى العشرين من الشهر، ونازل طرابلس بالجيوش وحاصرها. ووالى الزحف والحصار والرمى بالمجانيق. وعملت النقوب، فنقبت «1» الأسوار، وافتتحت عنوة فى التاريخ المذكور. وكانت مدة المقام عليها، أربعة وثلاثين يوما. وكانت عدة المجانيق التى نصبت عليها، تسعة عشر منجنيقا، وهى فرنجية ستة، [و «2» ] قرابغا ثلاثة عشر. وعدة الحجارين والزراقين ألف وخمسمائة نفر. ولما فتحت المدينة، فرت طائفة من الفرنج إلى جزيرة تعرف بجزيرة «3» النخلة، حيال طرابلس فى البحر، لا يتوصل إليها إلا فى المراكب. فكان «4» من

السعادة الأزلية للمسلمين، أن البحر زجر وانطرد عن طرابلس فظهرت للناس المخائض. فعبر الفارس والراجل إلى هذه الجزيرة، وأسروا وقتلوا من فيها، وغنموا ما كان معهم. وكان جماعة من الفرنج قد ركبوا فى مركب وتوجهوا، فألقتهم الريح إلى الساحل، فأخذهم الغلمان والأوشاقية. وقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون غنائم كثيرة. وكان السلطان أمر بإبقاء المدينة، وإنزال الجيش بها. فأشير عليه أن هدمها أولى من بقائها، فأمر بهدمها فهدمت. وكان عرض سورها بمقدار ما يسوق عليه ثلاثة فرسان بالخيل. ووصل إلى الزرد خاناة السلطانية من الأسرى، ألف أسير ومائتا أسير. واستشهد عليها من المسلمين ممن يعرف، الأمير عز الدين معن «1» ، والأمير ركن الدين منكورس الفارقانى، ومن الحلقة. خمسة وخمسون نفرا، رحمهم الله تعالى. وحكى «2» الشيخ قطب الدين اليونينى فى تاريخه قال: ولما فتح السلطان طرابلس، تسلم أنفة «3» ، وأمر بإخراب حصنها، وكان حصنا منيعا. وأبقى على أخت البرنس صاحب طرابلس قريتين من قراها.

ذكر أخبار طرابلس الشام، منذ فتحها المسلمون فى خلاقة عثمان إلى وقتنا هذا

قال، وحضر إلى السلطان، وهو بظاهر طرابلس ولد سيركى صاحب جبيل «1» ، وكان صاحب طرابلس قتل أباه فى سنة إحدى وثمانين وستمائة. فخلع السلطان عليه، وأقر جبيل عليه، على سبيل الإقطاع، وأخذ منه معظم أموالها. وتسلم السلطان البترون «2» ، وجميع ما بتلك الخط من الحصون والمعاقل. ثم عاد السلطان بعد النصر إلى دمشق، وكان من خبره ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين. ذكر أخبار طرابلس الشام، منذ فتحها المسلمون فى خلاقة عثمان إلى وقتنا هذا وإنما ذكرناه فى هذا الموضع ملخصا مختصرا، لتكون أخبارها مجتمعة «3» ، فنقول وبالله التوفيق: كان ابتداء فتح طرابلس، أنه لما استخلف عثمان بن عفان

رضى الله عنه، وأقر معاوية بن أبى سفيان على الشام، وجه معاوية إلى طرابلس سفيان بن نجيب «1» الأزدى، وكانت إذ ذاك ثلاث «2» مدن مجتمعة، فبنى فى مرج على أميال منها حصنا، سمى بحصن سفيان. وقطع الميرة عن أهل طرابلس، وحاصرها. فلما اشتد الحصار على أهلها، اجتمعوا فى أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم، يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب ينهزمون فيها. فسير إليهم مراكب كثيرة، فركبوها ليلا وهربوا. فلما أصبح سفيان، وتقدم لقتالهم على عادته، وجد الحصن خاليا، فملكه، وكتب إلى معاوية بالفتح. فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الحصن الذى فيه المينا ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه. وكان معاوية يوجه فى كل سنة جماعة من الجند، يشحنها بهم، ويوليها نائبا. فإذا غلق «3» البحر، عاد الجند وبقى النائب فى جماعة يسيرة. فما برح أمرها كذلك، حتى ولى عبد الملك بن مروان. فقدم بطريق فى بطارقة الروم، ومعه خلق كثير. فسأل أن يعطى الأمان، على أن يقيم بها، ويؤدى الخراج، فأجيب إلى ذلك. فلم يلبث غير سنتين أو أكثر بأشهر، عند عود الجند منها، حتى أغلق بابها، وأسر من بقى بها من الجند، وعدة من اليهود، وتوجه هو وأصحابه إلى بلاد الروم. فقدر الله، عز وجل

أن ظفر به المسلمون بعد ذلك، فى البحر وهو متوجه فى مراكب كثيرة، فأسر وأحضر إلى عبد الملك، فقتله وصلبه. وقد قيل إنه إنما كان تغلبه عليها، وقتل من بها، بعد وفاة عبد الملك. ثم فتحها الوليد بن عبد الملك. ولم يزل فى طرابلس نواب الخلفاء، مدة أيام بنى أمية، وأيام بنى العباس، إلى أن استولى العبيديون ملوك مصر على دمشق، على ما قدمنا ذكر ذلك فى أخبارهم «1» . فأفردوا طرابلس عن دمشق، وكانت قبل ذلك مضافة إليها. وولوا عليها من جهتهم ويان «2» الخادم، ثم سند الدولة ثم أبا السعادة، ثم على بن عبد الرحمن بن حيدرة، ثم نزال «3» ، ثم مختر الدولة بن نزال «4» . [ثم تغلّب عليها قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار «5» ] . ولم يزل بها إلى أن توفى، فى سنة أربع وستين وأربعمائة. وكان ابن عمار هذا، رجلا عافلا، سديد الرأى. وكان شيعيا، من فقهائهم. وكانت له دار علم بطرابلس، فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفا. وهو الذى صنّف كتاب «ترويح الأرواح ومصباح السرور والأفراح» ، المنعوت بجراب الدولة «6» . ولما مات [أمين الدولة «7» ] ، كان بطرابلس، سديد الملك بن منقذ، هرب من محمود بن صالح. فساعد جلال الملك أبا الحسن على بن محمد بن عمار وعضده بمماليكه، وبمن كان معه من

أصحابه. فأخرجوا أخا أمين الدولة من طرابلس، وولى جلال الملك. فلم يزل متوليا عليها، حتى مات فى سلخ شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وملكها بعده أخوه فخر الملك عمار بن محمد [بن عمار «1» ] ، واستقر بها، إلى أن نازلها صنجيل، واسمه ميمنت «2» وهو ميمون. وصنجيل «3» اسم مدينة نسب إليها. فنزل صنجيل بجموعه على طرابلس، فى شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وابتنى عليها حصنا، يقاتل أهلها منه، ويعرف به إلى وقتنا هذا. فبعث فخر الملك الهدايا والتحف إلى الملوك واستنجدهم واستنصرهم، فلم ينجده أحد منهم. فلما أيس منهم، بذل لصنجيل فى رحيله عنه أموالا، وبعث إليه ميرة، فلم يجبه إلى ذلك. فلما ضاق ذرعا بالحصار، وعجز عن دفعه، خرج من طرابلس، بعد أن استناب بها ابن عمه، أبا المناقب، ورتب معه سعد الدولة فتيان ابن الأغر. وانفق «4» فى العسكر ستة شهور. وسار يقصد السلطان محمود بن ملكشاه السلجوقى. فجلس أبو المناقب فى بعض الأيام، وعنده وجوه طرابلس وأكابرها، فخلط فى كلامه. فنهاه سعد الدولة بلطف فجرد سيفه، وضرب سعد الدولة فقتله. وانهزم من كان فى المجلس. وقام أبو المناقب، وصعد على السور، وصفق بإبطيه، فأمسكه أهل البلد وحبسوه، ونادوا

بشعار الأفضل أمير الجيوش، [شريك الخليفة الفاطمى صاحب مصر «1» ] ، وذلك فى شهر رمضان سنة خمسمائة. ثم مات صنجيل فى ثامن وعشرين رمضان، وتولى مكانه مقدم اسمه السردانى «2» . ولما نادى أهل طرابلس بشعار الأفضل، [وبلغه ذلك «3» ] حضر إليهم جيشا فى البحر، وقدم عليهم تاج العجم. فلما وصل إلى طرابلس، أخذ جميع الأموال، وما يحفظ به البلد. وبلغ الأفضل أنه يقصد العصيان بطرابلس. فقبض على ما كان حصّله، وولّى بدر الدولة ابن أبى الطيب الدمشقى. فوصل إلى طرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم، من طول الحصار. ثم رأوا من خلفه «4» ، ما رغبهم عنه، ونفرهم منه، فعزموا على طرده. ثم رأوا إبقاءه، لأنهم لا ملجأ لهم إلا من جهة المصريين. ثم وصلت مراكب من مصر بالغلات والرجال، فقرر المذكور مع مقدم «5» الأسطول، القبض على أعيان البلد، وأصحاب فخر الملك بن عمار وحريمه. فأخذهم وسيّرهم فى البحر إلى مصر. وبعث معهم ما كان فى طرابلس من السلاح والذخائر، ما لم يكن عند أحد من الملوك مثله. وبعث مائة ألف دينار عينا. فلما وصلوا إلى مصر، اعتقل [الأفضل «6» ] أهل بنى عمار.

وأما فخر الملك بن عمار، فإنه وصل إلى بغداد، واجتمع بالسلطان محمود. وأقام ببغداد، فما تهيأ له منه ما طلبه، وبلغه رجوع أمر طرابلس إلى المصريين، وأن حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه نقل إلى مصر. فرجع إلى دمشق، فدخلها فى نصف المحرم، سنة اثنتين وخمسمائة، فاكرمه أتابك طغتكين «1» صاحب دمشق. فسأله أن يعينه على الدخول إلى جبله، فسير معه عسكرا فدخلها. وأما الفرنج، فإنهم لازموا الحصار، وضايقوا البلد حتى ملكوه، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا، وذلك فى يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة اثنتين وخمسمائة. وقد تقدم أن أخذها كان فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة ثلاث وخمسمائة، والله أعلم. وحكى» أن السبب فى أخذ طرابلس، أنه لما ضايقها الفرنج، كتب من بها إلى الديار المصرية، يستنجدون الخليفة، ويسألونه الميرة. وأقاموا ينتظرون ورود الجواب بالمدد والميرة. فبينما هم فى ذلك، إذا بمركب قد أقبل، فما شكوا أن فيه تجدة. فطلع منه رسول، وقال قد بلغ الخليفة، أن بطرابلس جارية حسنة الصورة، وأنها تصلح للخدمة. وقد أمرنا بإرسالها إليه، وأرسلوا إليه من حطب المشمش ما يصنع منع عبدان الملاهى. فعند ذلك آيسوا من نصره، وضعفت قواهم، وخارت نفوسهم وذلوا، وملكها الفرنج [فى التاريخ المذكور «3» ] . وكانت مدة الحصار سبع سنين وأربعة أشهر.

ولما ملكها السردانى، تحكم «1» فيها واستقل بملكها. فبينما هو كذلك، وإذا بمركب «2» قد وصل إليها، وفيه صبى ادّعى أنه ولد الملك صنجيل، واسمه تبران «3» ، ومعه مشايخ من أصحاب والده، يخدمونه ويدبرون أمره. فطلعوا إلى السردانى، وقالوا له هذا ولد صنجيل، وهو يريد تسليم «4» مدينة والده التى فتحها عسكره، فأنكر السردانى ذلك، وقام ورفس الصبى وأخرجه. فأخذه أصحابه، وجعلوا يطوفون به على الفرسان. فرحموه، وتذكروا أيمانهم لأبيه، وقالوا: إذا كان نهار الغد، ونحن عنده، فاحضروا وتحدثوا معه، ففعلوا. وتحدث الصبى ابن صنجيل، فصاح به السردانى، فقام الفرسان كلهم على السردانى، وأخرجوه من المملكة، وسلموها إلى الصبى [ابن صنجيل «5» ] . فأقام ملكا حتى قتله بزواج «6» ، وذلك فى يوم الأحد، لأربع خلون من شهر رجب، سنة إحدى

وثلاثين وخمسمائة. وقتل أكثر أصحابه، وأسر بطرس الأعور، واستخلف فى طرابلس ولد القومص بدران «1» ، فأسره أتابك زنكى، [لما كان فى صحبة متملك القدس فلك «2» بن فلك، وذلك بالقرب من قلعة بعرين، فطلع الملك وجماعة معه إلى قلعة بعرين، فحاصرهم زنكى «3» ] وضايقهم، فصالحه الملك على تسليم حصن بعرين، واستخلص القومص صاحب طرابلس وجميع الأسرى. وعاد القومص إلى طرابلس، وأقام حتى وثب عليه الإسماعيلية، فقتلوه. فتولى بعده ريمند «4» ، وهو صبى، وحضر الحرب مع الفرنج على حارم. فكسرهم الملك العادل نور الدين [محمود «5» ] الشهيد [ين زنكى] ، وقتل منهم «6» مقتلة عظيمة وأسر. وكان من أسر، القومص ريمند، وذلك فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبقى فى اعتقاله إلى أن ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. فأعتقه فى

تاسع عشرى «1» شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة «2» . وبقى الملك بيده، ويد أولاده من بعده، إلى أن فتحت هذا الفتح المبارك [سنة ثمان وثمانين وستمائة «3» ] فى الأيام المنصورية وهدمت المدينة «4» . واستقر العسكر على عادته بحصن الأكراد والنائب عن السلطنة الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى، وكان اليزك «5» ينزل إلى طرابلس، من حصن الأكراد. ثم عمرّ المسلمون مدينة مجاورة للنهر. واختلفوا «6» بها، وعمروا فيها حمامات وقياسر ومساجد ومدارس للعلم. وأجريت المياه فى دورها بقساطل «7» وعمرت دار السلطنة، ينزلها نائب السلطنة بالمملكة، وهى عالية مشرفة على المدينة. واستمر الأمير سيف الدين الطباخى فى النيابة، إلى أن نقل إلى حلب، فى الدولة الأشرفية، فى سنة إحدى وتسعين وستمائة. وولّاها [السلطان «8» ] الأمير سيف الدين طغريل الإيغانى، فأقام أياما، واستعفى فاعفاه السلطان الملك الأشرف. ورتب فى النيابة، الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، فبقى فى النيابة إلى الأيام العادلية الزينية كتبغا المنصورى، فعزله عنها فى سنة أربع وتسعين وستمائة. ودفن بتربته التى أنشأها، وهى بجوار حمامه بطرابلس

وفوّضت النيابة بها بعده إلى الأمير سيف الدين كرت الحاجب، فلم تطل أيامه إلى أن كان من دخول التتار البلاد، ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية، فشهد الوقعة وعدم، وربما استشهد رحمه الله تعالى. ثم فوضت النيابة بعد خروج التتار من الشام، إلى الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى، فتوجه إليها، وأقام بها، إلى سنة سبعمائة. واستعفى من النيابة فأعفى، واستقر فى جملة الأمراء بدمشق. وفوضت نيابة السلطنة إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى المنصورى، فاستمر بها إلى سنة تسع وسبعمائة «1» . وعمرّ بها حماما عظيما، أجمع التجار ومن يجوب البلاد، أنه ما عمرّ مثله فى بلد من البلدان، وعمّر قيسارية وطاحونا. وأنشأ مماليكه بها مساكن حسنة البناء، تجرى إليها المياه بالقنوات، وتجرى فى طباقها، وعمرّ أيضا بعض القلعة، وأقام أبراجا، وهذه القلعة مجاورة لدار السلطنة بطرابلس. وتمكنّ استدمر تمكنّا كثيرا، وتامّر عدّه من مماليكه، ثم نقل إلى حماه. وفوض السلطان الملك الناصر نيابة المملكة الطرابلسية وما معها إلى الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحاجب، كان المعروف بالحلبى فاقام بها إلى أن توفى فى ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة. وفوضت النيابة بها إلى الأمير جمال الدين أقش الأقرم، فأقام بها إلى مستهل المحرم سنة ثنتى عشرة وسبعمائة وفارقها، وتوجه إلى بلاد التتار، على ما نذكر ذلك، إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الناصرية.

وفوّضت النيابة بعده إلى الأمير سيف الدين كستاى الناصرى، فأقام بها، إلى أن توفى فى شهر رجب سنة ست عشرة وسبعمائة. وفوضت النيابة بعده إلى الأمير شهاب الدين قرطاى الصالحى، وهو النائب بها الآن، إلى حين وضعنا «1» لهذا الجزء، وذلك فى سلح شهر رجب، سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وسنذكر إن شاء الله تعالى، أخبار هؤلاء النواب فى موضعها من هذا الكتاب على ما سنقف عليه. وإنما أوردناها فى هذا الموضع، لتكون اخبار طرابلس سيافة، وإن كانت على سبيل الإجمال والاختصار. ولنرجع إلى سياقة أخبار الدولة المنصورية.

ذكر ما اتفق فى الدولة المنصورية على حكم السنين خلاف ما ذكرناه من إقامة النواب، ومهادنة الفرنج، والحوادث الغريبة، التى يتعين ايرادها والوفيات

ذكر ما اتفق فى الدولة المنصورية على حكم السنين خلاف ما ذكرناه من إقامة النواب، ومهادنة الفرنج، والحوادث الغريبة، التى يتعين ايرادها والوفيات سنة ثمان وسبعين وستمائة [678- 1279] قد قدمنا بعض حوادث هذه السنة، فى ابتداء الدولة المنصورية، وبقى منها تتمة نذكرها فى هذا الموضع. فى هذه السنة فوض السلطان الملك المنصور نيابة السلطنة، بحصن الأكراد، وما معه من الفتوحات، لمملوكه الأمير سيف الدين بلبان الطباخى. وفيها، فى ذى القعدة، فوّض نظر الدواوين بدمشق، للصدر «1» جمال الدين إبراهيم بن صصرى، وذلك بعد وفاة الناظر بها، القاضى علم الدين محمد بن العادلى. وكانت وفاته فى يوم الأربعاء خامس عشرين شوال. وتوفى أيضا قبله، أخوه القاضى تاج الدين ناظر حلب، بها فى حادى عشرين شهر رمضان.

وفى هذه السنة، توفى الأمير بدر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمى، خال الملك السعيد. وكانت وفاته بدمشق، فى تاسع شهر ربيع الأول. وصلى عليه الملك السعيد، بسوق الخيل، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى. وفيها، لما كان العسكر ببلاد سيس، فى الأيام السعيدية، توفى جماعة من الأمراء، أصحاب الطبلخانات، منهم سيف الدين البطاح، وعلم الدين بلبان المشرفى «1» ، وناصر الدين بلبان النوفلى، وسيف الدين جمق «2» ، وسيف الدين قلاحا الركنى، وجمال الدين أقش الشهابى وغيرهم، رحمهم الله تعالى. وفيها، فى يوم الأحد، ثامن شوال، توفى شيخ الشيوخ شرف الدين أبو بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين، أبى محمد عبد السلام، ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن على بن محمد حمويه بدمشق، ودفن بقاسيون، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة تسع وسبعين وستمائة [679 - 1280]

واستهلت سنة تسع وسبعين وستمائة [679- 1280] فى هذه السنة، فى يوم الاثنين خامس المحرم، توفى الأمير جمال الدين أقش الشمسى، نائب السلطنة بالمملكة الحلبية. وهو خوشداش «1» الأمير بدر الدين بيسرى، كلاهما كان مملوك الأمير شمس الدين صراسنقر الكاملى. ففوض بعد وفاته، نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، للأمير علم الدين سنجر الباشقردى. وفى هذه السنة، كان من خبر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وانهزامه من دمشق، وتوجهه إلى صهيون ما قدمناه. وكان بدمشق بعد مفارقته لها، أمور نذكرها فى هذا الموضع. ذكر ما تجدد بدمشق، بعد أن فارقها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. لما انهزم الأمير شمس الدين، المشار إليه، كما تقدم، دخل العسكر المصرى إلى دمشق. ونزل الأمير علم الدين سنجر الحلبى بالقصر الأبلق، بالميدان الأخضر. وكان هو المشار إليه فى الولاية والعزل، والعطاء والمنع وغير ذلك. فرسم بإيقاع الحوطة على مجد الدين إسماعيل بن كسيرات، وزير سنقر الأشقر، وجمال الدين بن صصرى ناظر الدواوين بدمشق، وأخذ خطوطهما بجملة.

ذكر تقويض نيابة السلطنة بالشام للأمير حسام الدين لاجين، وشد الدواوين للأمير بدر الدين بكتوت العلائى، والوزارة للصاحب تقى الدين توبة التكريتى.

رسم على قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان. وضرب زين الدين وكيل بيت المال، ومحيى الدين بن النحاس. ثم ورد بعد ذلك كتاب السلطان بأمان أهل دمشق. ذكر تقويض «1» نيابة السلطنة بالشام للأمير حسام الدين لاجين، وشدّ الدواوين للأمير بدر الدين بكتوت العلائى، والوزارة للصاحب تقى الدين توبة التكريتى. كان الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، قد وصل إلى دمشق، فى جملة الجيش المجرّد إليها، لدفع سنقر الأشقر عنها، صحبة الأمير علم الدين الحلبى. فلما استقر أمر دمشق للسلطان، تحدث فى نيابة السلطنة بدمشق. واستند فى ذلك، إلى أن السلطان الملك المنصور، لما جرده رسم له بها «2» مشافهة. إلا أنه كان فى نيابته يلزم الأدب مع الأمير علم الدين الحلبى. واستمر الأمر على ذلك، إلى حادى شهر ربيع الأول من هذه السنة. فلما كان فى هذا اليوم، ورد من الباب السلطانى، سبعة نفر على خيل البريد، ومعهم تقليد للأمير حسام الدين لاجين [الصغير «3» ] المنصورى، بنيابة السلطنة بالشام، وتقليد للأمير بدر الدين بكتوت العلائى، بشد الدواوين، وتقليد للصاحب تقى الدين توبة التكريتى بوزارة الشام، ولكل منهم تشريف «4» ، وتشريف «5» لصاحب حماه.

ذكر عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن القضاة بدمشق واعادته، وما اتفق فى هذه السنة الحادثه

فلما كان فى يوم الخميس، ثانى عشر الشهر، اجتمع سائر الأمراء بالميدان الأخضر. وليس الأمير حسام الدين لاجين تشريف النيابة، [ولبس «1» ] الأمير بدر الدين بكتوت تشريف الشد. وركب الأمير علم الدين الحلبى، والأمير عز الدين الأفرم، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، وسائر الأمراء والعساكر المصرية والشامية، وساقوا كلهم فى خدمة الأمير حسام الدين. فلما انتهوا إلى باب سر القلعة، ترجلوا بأجمعهم، وقبّل الأمير حسام الدين عتبة باب السر، ثلاث مرات. ثم تقدم الأمير علم الدين الحلبى، [والأمير «2» ] عز الدين الأفرم ليعضداه حتى يركب، ويمشيان فى خدمته، إلى دار السعادة. فسلك سبيل الأدب معهما، وامتنع من الركوب، واستمر ماشيا، والأمير علم الدين عن يمينه، والأمير عز الدين الأفرم عن يساره، وبقية الأمراء والعساكر، بين يديه، وكذلك القضاة والأعيان والأكابر. ولم يزل ماشيا، إلى أن دخل دار السعادة، وجلس بها فى رتبة النيابة، وقرىء تقليده. ثم خلع فى هذا النهار، بعد الظهر، على الصاحب تقى الدين توبة، وأعطى دواة الوزارة بالشام. ذكر عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن القضاة بدمشق واعادته، وما اتفق فى هذه السنة الحادثه كان السلطان الملك المنصور، قد رسم بشنق قاضى القضاة شمس الدين ابن خلكان لأنه بلغه أنه أفتى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، بجواز قتال

السلطان. فلما ورد كتاب السلطان بأمان أهل دمشق، قرىء بحضور القاضى شمس الدين. فقال الأمير علم الدين الحلبى: هذا كتاب أمان لمن سمعه، وقد سمعه القاضى، فهو آمن. ثم عزله فى حادى عشر صفر، وفوض القضاء لقاضى القضاة، نجم الدين ابن قاضى القضاة صدر الدين سنى الدولة. وكان ابن خلكان بالمدرسة العادلية، فطاليه القاضى نجم الدين بإخلاء مسكنها ليسكن فيه، وكرر عليه الطلب. وكان ابن سنى الدولة، قد أرسل إلى حلب، لاحضار أهله. فاتفق وصولهم إلى ظاهر دمشق، فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول. فخرج لتلقيهم، ورسم على القاضى شمس الدين بن خلكان، إلى أن ينتقل من المدرسة، وضيق عليه، وبقى فى شدة بسبب ذلك. وسئل ابن سنى الدولة، أن يمهل عليه أياما، إلى أن ينتقل إلى مكان آخر، فامتنع وشدّد فى ذلك، وصمم عليه. وبقى القاضى شمس الدين فى الترسيم، إلى الرابعة من النهار المذكور، وهو يجمع كتبه، ويعبّى قماشه للنقلة، ونقل بعضه. فبينما هو كذلك، وإذا بجماعة من الجاندارية حضروا فى طلبه، فظن أن ذلك بسبب خلو المكان فأراهم أنه يهتم «1» فى النقلة. فقالوا له، أنك لم تطلب لذلك، وإنما قد حضر بريدية من باب السلطان، فطلبت لذلك. وظن أن الطلب لأمر، هو أشد من النقلة. وخاف، وتوجه إلى نائب السلطنة. فإذا كتاب السلطان قد ورد، وهو ينكر ولاية ابن سنى الدولة القضاء وهو أطروش. ويقول «2» نحن بيننا وبين القاضى شمس الدين

ذكر إعادة الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة وعزله

معرفة، من الأيام الصالحية. وسيّر إليه تقليدا بالقضاء على عادته. فرجع إلى المدرسة قاضيا واستقر بها. وعدّت هذه الواقعة من الفرج بعد الشدة. ويقال إن ابن سنى الدوله كان قد أعطى الحلبى على ولايته القضاء ألف دينار، والله أعلم. ذكر إعادة الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة وعزله وفى هذه السنة، فى أواخر جمادى الآخرة، أعيد الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى إلى الوزارة، وعزل الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، فعاد إلى ديوان الإنشاء. وكتب من جملة الكتاب، وتصرف عن أمر صاحب الديوان. وولى الصاحب برهان الدين الوزارة، واستمر إلى أن عزل وقبض عليه، وعلى ولده وألزامه، فى شهر ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة. واعتقل إلى يوم عرفة من السنة، فأفرج عنه فى اليوم المذكور ولزم داره. وفيها، جرد السلطان، الأمير عز الدين أيبك الأفرم لحصار «1» شيزر، وبها الأمير عز الدين أيبك كرجى من قبل الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. فبينما هو يحاصرها، وردت الأخبار، أن التتار قد وصلوا على ثلاث فرق «2» : [فرقة «3» ] من جهة الروم، ومقدمتهم «4» صمغار «5» ، وتنجى «6» ، وطونجى «7» ، وفرقة من الشرق ومقدمتهم

ذكر تفويض السلطنة ولاية العهد للملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور

بيدو «1» بن طوغاى «2» بن هولاكو، وصحبته صاحب ماردين، والفرقة الثالثة فيها معظم العسكر، شرة «3» المغل صحبة منكوتمر بن هولاكو. فرحل الأمير عز الدين عن شيزر، وكتب السلطان إلى سنقر الأشقر يستميله، وذلك قبل أنتظام الصلح فجنح إلى السلم، ونزل من صهيون، على عزم إنجاد «4» المسلمين. وجفل عسكر حلب وحماه وحمص. ولم يحصل قتال التتار هذه السنة. ذكر «5» تفويض السلطنة ولاية العهد للملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور فى هذه السنة، فى شهر رجب «6» ، فوّض السلطان الملك المنصور ولاية عهده وكفالة السلطنة لولده السلطان الملك الصالح علاء الدين أبى الفتح على، وذلك عند ما عزم على التوجه للقاء التتار. وركب [الملك الصالح «7» ] بالقاهرة بشعار السلطنة، وخطب له على سائر المنابر بعد والده. وكتب تقليده بذلك، وهو من إنشاء المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر وبخطه، أجاد فيه وأبلغ، تركنا إيراده اختصارا «8»

ذكر توجه السلطان إلى غزة، وعوده إلى الديار المصرية

وفيها، فى شهر رمضان، عزل السلطان القاضى صدر الدين عمر ابن قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، عن القضاء بالديار المصرية. وكان قد سلك فى ولايتة، طريق الخير والصلاح والصلابة، وتحرى الحق والعدل فى أحكامه. ثم مات رحمه الله تعالى، فى عاشر المحرم سنة ثمانين وستمائة. ولما عزل، أعيد قاضى القضاة تقى الدين محمد بن الحسين بن رزين إلى القضاء بالديار المصرية «1» . ذكر توجه السلطان إلى غزة، وعوده إلى الديار المصرية وفى هذه السنة، توجه السلطان إلى الشام، وصحبته العساكر الإسلامية، لدفع التتار، فوصل إلى غزة. وكان التتار قد وصلوا «2» إلى عين تاب وبغراس والدر بساك، وتقدموا إلى حلب، فوجدوها خالية، وقد جفل العسكر وأهلها منها، فأحرقوها وذلك فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة. ولما بلغهم اهتمام السلطان وخروجه، تفرقوا إلى مشاتيهم. وعاد السلطان إلى الديار المصرية؛ لاستحقاق الربيع. وجرد الأمير بدر الدين بكتاش النجمى إلى حمص، والأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحى، إلى الساحل لحفظ البلاد من الفرنج. وفيها، كتب الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، نائب السلطنة الشريفة بحصن الأكراد؛ إلى السلطان يستأذن فى غزو الفرنج بالمرقب، لأنهم لما بلغهم

ذكر توجه السلطان إلى الشام.

قدوم التتار، قويت نفوسهم، وامتد طمعهم. فأذن السلطان له فى ذلك. فجمع جيوش الحصون، وأمر التركمان والرجالة، واستصحب المجانيق وآلات الحصار. وتقدم إلى حصن المرقب، ونزل بالقرب منه، فاختفى أهله، ولم يتحركوا فى مبدأ الحال. فقوى طمع العسكر فيهم، وتقدموا إلى جانب الحصن، فرشقهم الفرنج بالسهام والجروخ «1» من أعلا الحصن، وسهام المسلمين لا تصل «2» إليهم. فاضطرب العسكر، وأمرهم الطباخى أن يتأخروا عن الحصن، فظنوها هزيمة وولوا، فما أمكنه إلا أن يتبعهم. وخرج الفرنج فى أعقابهم ونالوا من المسلمين، وجرحوا منهم جماعة، ونهبوا وأسروا جماعة من الرجالة. وبلغ السلطان ذلك، فانكره وكبر لديه، وعزم على السفر. ذكر توجه السلطان إلى الشام. وفى سنة تسع وسبعين وستمائة أيضا، عاد السلطان إلى الشام. وكان خروجه من قلعة الجبل، فى مستهل ذى الحجة. ونزل بها ولده الملك الصالح، ورتب فى خدمته الامير علم الدين سنجر الشجاعى، لاستخراج الأموال، وغير ذلك. وفى هذه السنة، فى ذى الحجة، وصل الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا من العراق، إلى خدمة السلطان. وعاود الطاعة، وسأل الصفح، عن ما فرط من ذنبه، من إعانة سنقر الأشقر، وما كان عزم عليه من الانضمام إلى التتار، وكان اجتماعه بالسلطان بمنزلة الروحاء. ولما وصل إلى الخدمة، ركب السلطان إليه، وتلقاه وأكرمه، وبالغ فى إكرامه وأحسن إليه.

وفيها، فى يوم الأربعاء، وقت العصر، رابع عشر المحرم، توفى الشيخ نور الدين أبو الحسن على ابن الشيخ جلال الدين أبى العزائم همام ابن راجى الله سرابا بن أبى الفتوح ناصر بن داود الشافعى، إمام الجامع الصالحى بظاهر القاهرة، خارج باب زويلة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى. وولى الإمامة بالجامع الصالحى بعده، ولده الشيخ تاج الدين أبو محمد عبد الله محمد. وفيها، فى يوم الثلاثاء، ثانى عشر شوال، توفى الأديب جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن على المصرى، المعروف بالخرّاز الشاعر المشهور، مولده بمصر، سنة إحدى وستمائة. سمع أبا الفضل أحمد بن محمد الحباب، وروى وسمع من غيره. وكان أديبا فاضلا، جيد البديهة حلو المجون، حسن المحاضرة، كثير النادرة، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير سيف الدين أبو بكر، المعروف بابن اسباسلار، متولى مصر. وكان قد سمن، وأفرط به السمن، حتى منعه الأطباء من الرقاد على فرش وطى، ومن النوم إلا إغفاء، وقالوا إنه متى استغرق فى النوم مات. فكان كذلك إلى أن مات. وكانت وفاته فى شهر ربيع الآخر، ودفن بتربته بالقرافة. وله فى ولايته بمصر أخبار كثيرة مشهورة من المصريين، سامحه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير نور الدين على بن عمر الطورى. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم وفرسانهم. وله صيت عظيم عند الفرنج، ومعرفة بالبلاد الساحلية ومرابطة وآثار جميلة، ومواقف محمودة. وكان ممن جمع الله له، بين قوة البدن والقلب. كان يقاتل «1» بلتّ حديد، لا يستطيع الشباب حمله، ولازم المرابطة

ببلاد الساحل، فى وجه العدو سنين كثيرة. وكان كريما ديّنا، وتنقل فى الولايات بالشام. وكان محترما فى الدول، مكرما عند الملوك، يعرفون قدره، وحضر المصاف الكائن بين عسكر مصر وسنقر الأشقر، فجرح ووقع تحت حوافر الخيل. ومات فى أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول، بجبل الصالحية وقد ناف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثمانين وستمائة [680 - 1281]

واستهلت سنة ثمانين وستمائة [680- 1281] ذكر ما تقرر من المهادنات مع الفرنج وبيت الاسبتار «1» فى هذه السنة، وصل إلى السلطان، وهو بمنزلة الروحاء، وصل الفرنج يسألون تقرير الهدنة، والزيادة على الهدنة الظاهرية. وما زالوا يترددون إلى أن تقررت الهدنة، بين السلطان وولده معا، ومع مقدم «2» بيت الاسبتار،

وجميع الإخوة الاسبتارية، [بعكا «1» ] ، لمدة عشر سنين كوامل متتابعات، وعشرة شهور، وعشرة أيام، وعشرة ساعات، أول ذلك يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة ثمانين وستمائة، الموافق للثالث من شهر أيار، سنة ألف وخمسمائة واثنتين وتسعين للإسكندر بن فيلبس «2» اليونانى، [وذلك «3» ] على جميع بلاد السلطان، وما اشتملت عليه من الأفاليم والممالك والقلاع والحصون، والمدن والبلاد والقرى، والمزارع والأراضى، والموانى والبحور، والمراسى والثغور، وسائر البلاد من الفرات إلى النوبة، وعلى التجار المسافرين فى البر والبحر، والسهل والجبل، فى الليل والنهار، وعلى قلعة المرقب، والربض المرقبى بحقوقه وحدوده. وتقررت الهدنة مع متملك طرابلس، بيمند «4» بن بيمند، لمدة عشر «5» سنين كوامل متواليات، أولها يوم السبت السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، الموافق للخامس من تموز سنة ألف وخمسمائة واثنتين وتسعين، للإسكندر. وذلك على بلاد السلطان الملك المنصور والملك الصالح ولده، قريبها وبعيدها، صهلها وجبلها، غورها ونجدها، قديمها ومستجدها، وما هو مجاور

لطرابلس ومحادد لها، من المملكة البعلبكية، وجبالها وقراها الدخلية «1» والجبلية، وجبال الضنيين والقصبين «2» ، وما هو من حقوق ذلك، وعلى الفتوحات المستجدة: وهى حصن الأكراد وافليس والقليعات وصافيتا، وميعار، واطليعا، وحصن عكار ومرقية «3» ، ومدينتها وبلادها، ومناصفاتها، وهى «4» بلاد اللكمة، وجميع بلاد هذه الجهات التى ذكرناها، ومناصفات المرقب التى دخلت فى الصلح مع بيت الاسبتار وبلده ومدينته، وما هو محسوب منها ومعروف بها من حصون وقرى، وبلاد الست وبلاطنس وبلادها، وقرقص «5» وبلادها، وجبلة ولاذقية وأنطاكية والسويدية وبلاد ذلك، وحصن بغراس، وحصن دير كوش وصهيون وبرزية، وحصون «6» الدعوة، وغير ذلك من سائر الممالك الإسلامية، وما سيفتحه الله تعالى، على يد السلطان ويد ولده، وعلى الموانى والسواحل والأبراج وغير ذلك؛ وعلى بلاد الإبرنس «7» ، وعلى طرابلس وما هو

داخل فيها، وأنفه واليترون وجبيل وبلاد ذلك، وعرقا وبلادها المعينّة فى الهدنة، وعدتها إحدى وخمسون ناحية، وما هو للخيّالة والكنائس وعدّتها أحد وعشرون بلدا، وما هو للفارس روجاردلا «1» لولاى، من قبلى طرابلس، يكون مناصفة، وعلى أن يستقر برج اللاذقية وميناؤها فى استخراج الحقوق والجنايات «2» والغلات وغيرها مناصفة، ويستقر مقامهم باللاذقية على حكم شروط الهدنة الظاهرية «3» ، وعلى أن يكون على جسر أرتوسية «4» ، من غلمان السلطان ليحفظ الحقوق، ستة عشر نفرا وهم: المشد والشاهد والكاتب وثلاثة «5» غلمان لهم، وعشرة رجّالة فى خدمة المشد، ويكون لهم فى الجسر بيوت يسكنونها، ولا يحصل منهم أذية لرعية الإبرنس، وإنما يمنعون «6» ما يجب منعه من الممنوعات، ولا يمنعون «7» ما يكون من عرقا، من الغلات الصيفية والشتوية وغيرها، لا يعارضهم المشد فيه. وما عدا ذلك مما يعبر «8» من بلاد السلطان، يؤخذ عليه الحقوق. ولا يدخل إلى طرابلس غلة محمية للإبرنس ولا غيره، إلا [و] يؤخذ الموجب عليها؛

ذكر حادثة الأمير سيف الدين كوندك ومن معه، والقبض عليه

وعلى أن البرنس لا يستجد خارج ما وقعت الهدنة عليه، بناء يدفع ولا يمنع، وكذلك السلطان لا يستجد بناء قلعة ينشئها من الأصل فى البلاد، التى وقعت الهدنة عليها، وعلى الشوانى من الجهتين أن تكون آمنة، كل طائفة من الأخرى. ولا ينقض ذلك بموت أحدهما. ولا بتغييره، وأن لا يحسّن لأحد من أعداء مولانا السلطان، ولا يتفق عليه، برمز ولا خط، ولا مراسلة ولا مكاتبة ولا مشافهة. وتقررت الحال على ذلك وعادت الرسل، وتوجه الأمير فخر الدين أياز الحاجب ليحلف الفرنج ومقدم بيت الاسبتار. على ما انعقد عليه الصلح، فخلفهم. ذكر حادثة «1» الأمير سيف الدين كوندك ومن معه، والقبض عليه وفى هذه السنة، بلغ السلطان وهو بمنزلة الروحاء، أن الأمير سيف الدين كوندك وجماعة من الأمراء الظاهرية، قد توافقوا على الغدر به. ووصلت إلى السلطان كتب المناصحين من عكا يقولون له احترز على نفسك، فإن عندك جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتلك، وكاتبوا الفرنج، وقالوا لهم لا تصالحوا فالأمر لا يبطىء. وعزم كوندك ومن معه، أن يهجموا بالليل على السلطان فى الدهليز ويغتالونه. ووافقهم جماعة من الظاهرية الجوانية «2» . فاحترز السلطان

ورحل «1» من الروحاء. وتقدم وتلاطف الأمر، حتى اجتمع «2» الأمراء عنده بحمرة «3» بيسان، فوبخ كوندك ومن معه، وذكر لهم ما اعتمدوه من مكاتبة الفرنج فاعترفوا بذلك، وقرّوا به. وسألوه العفو. فأمر السلطان بالقبض عليهم، فقبض [على] «4» كوندك «5» وايدعمش الحكيمى وبيبرس الرشيدى، وساطلمش السلاح دار الظاهرى فى الدهليز، وأمر السلطان بإعدامهم. وسير إلى الخيام فأمسك من كان قد وافقهم من [الأمراء] «6» البرانيين والمماليك الجوانية، وكانوا ثلاثة وثلاثين نفرا، وخاف جماعة فهربوا، فساق العسكر خلفهم. فأحضر بعضهم من جبال بعلبك، وبعضهم من ناحية صرخد. وفيها، هرب الأمير سيف الدين أينمش «7» السعدى. وسيف الدين بلبان

الهارونى «1» ، وجماعة من البحرية الظاهرية. والتتار الوافدية «2» ، يقال كانوا نحو ثلاثمائة فارس. وتوجهوا إلى صهيون، ولحقوا بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وذلك قبل انتظام الصلح الذى قدمناه. وجرد السلطان خلفهم، الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، والأمير ركن الدين بيبرس طقصوا «3» وجماعتهم فلم بدر كوهم. ورحل السلطان إلى دمشق، وكان وصوله إليها فى يوم السبت العشرين من المحرم، وهو أول دخوله إليها. وكان من انتظام الصلح بين السلطان والأمير شمس الدين ستقر الأشقر والملك المسعود ما قدمناه» . وكانت الوقعة مع التتار على حمص، وقد تقدم ذكرها فى الغزوات «5» . وفى هذه السنة، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، والسلطان بدمشق، فوّض السلطان قضاء القضاة بدمشق، على مذهب الإمام الشافعى، لقاضى القضاة عز الدين بن الصائغ، وعزل القاضى شمس الدين أحمد ابن خلكان. وفوّض أيضا قضاء الحنابلة بدمشق للقاضى نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن الحنبلى. وكان القضاء على مذهب أحمد، قد

شغر «1» ، منذ عزل الشيخ شمس الدين نفسه من القضاء، وتوجه إلى الحجاز، فى سنة ثمان وسبعين وستمائة، ففوضه السلطان الآن لولده المذكور، بإشارة والده وخلع على القاضيين، واشترط القاضى عز الدين شروطا، فأجيب إليها. وفيها، فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأول، دارت الجهة المفردة «2» بدمشق وأعمالها وضمنت. فقيل «3» إنها ضمنت فى كل سنة بسبعمائة ألف درهم. ثم تزايد فيها الضمان حتى بلغت ألفى ألف درهم فى كل سنة. فلما كان فى يوم الأحد، الخامس والعشرين من الشهر، خرج مرسوم السلطان بإراقة الخمور وإبطال [هذه] الجهة [الخبيثة] فبطل ذلك ولله الحمد «4» . وفيها، فى شعبان، فوض السلطان شاد الدواوين بالشام، للأمير علم الدين سنجر الدوادارى و [فوض «5» ] نظر النظار للقاضى تاج الدين عبد الرحمن بن الشيرازى.

وفى هذه السنة، وصلت رسل الملك المظفر يوسف بن عمر، صاحب اليمن إلى السلطان بالهدايا والتحف. وكان من جملة سؤال صاحب اليمن أن يرسل السلطان إليه قميص أمان «1» ، ويكتب عليه هو وابنه الملك الصالح، فأجابه السلطان إلى ذلك. وجهّز له هدايا وتحفا وقطعة زمرد وخيلا من خيل التتار الأكاديش «2» ، وشيئا من عددهم «3» . وفيها، فى شهر رمضان، قبض السلطان على الأمير ركن الدين أياجى «4» الحاجب. وفى ذى القعدة، قبض على الأمير سيف الدين أيتمش «5» السعدى، وجماعة من الأمراء، وقبض بدمشق على الأمير سيف الدين بلبان الهارونى،

ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين رزين، وولاية القاضى وجيه الدين، واستعفائه من قضاء القاهرة، وولاية القاضى شهاب الدين الخويى.

وسنقر الكردى وغيرهم. وكان أيتمش والهارونى، قد عادا إلى الخدمة من جهة سنقر الأشقر بعد المصاف، كما تقدم ذكر ذلك «1» . وفيها، رسم السلطان بإبطال زكاة الدولبة «2» ، والزكاوات المقررة بالديار المصرية. وكان الناس يجدون مشقة كبيرة لذلك، لأن المال كان ينفد والزكاة باقية، وإذا مات رجل طولب ورثته بالزكاة المقررة عليه. ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين رزين، وولاية القاضى وجيه الدين، واستعفائه من قضاء القاهرة، وولاية القاضى شهاب الدين الخويى «3» . وفى هذه السنة، فى ليلة الأحد ثالث شهر رجب، كانت وفاة قاضى القضاة، تقى الدين أبى عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى بن عيسى، ابن موسى بن نصر الله بن هبة الله العامرى الشافعى، ودفن بالقرافة. ومولده فى يوم الثلاثاء، ثالث شعبان سنة ثلاث وستمائة بحماه، رحمه الله تعالى. وفضائله وعلومه مشهورة، وسماعاته عالية. ولما مات، فوّض السلطان قضاء

القضاة بالديار المصرية، للقاضى وجيه الدين عبد الوهاب بن حسين البهنسى المهلبى، فى سلخ شعبان، فولى ذلك إلى آخر جمادى الآخرة، سنة إحدى وثمانين [وستمائة «1» ] . ثم استعفى من قضاء القاهرة والوجه البحرى، وذكر أنه يضعف عن الجمع بين قضاء المدينتين والوجهين. فأعفى من قضاء القاهرة والوجه البحرى، وفوض السلطان ذلك إلى القاضى شهاب الدين الخويى «2» ، وكان يلى قضاء الغربية. فنقل إلى قضاء «3» القضاة بالقاهرة والوجه البحرى. واستمر إلى أن نقل إلى الشام، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وفيها، توفى قاضى القضاة، نفيس الدين أبو البركات محمد، ابن القاضى المخلص، ضياء الدين هبة الله ابن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر المالكى، قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية، فى يوم الجمعة مستهل ذى الحجة، ومولده فى سنة خمس وستمائة. وولّى القضاء من بعده للقاضى تقى الدين أبى على الحسين، فى سنة تسع وستين وستمائة. ولما مات، فوّض السلطان القضاء بعده، للقاضى تقى الدين أبى علّى الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبى الفضائل عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام مفتى «4» الفرق جلال الدين أبى محمد عبد الله ابن شاس الجذامى السعدى المالكى.

وفيها، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو بكر محمد ابن قاضى القضاة صدر الدين أبو العباس أحمد ابن قاضى القضاة شمس الدين أبى البركات «1» يحيى ابن هبة الله، المعروف بابن سنى الدولة. وكانت وفاته بدمشق، فى ثامن المحرم، ودفن بتربة جده، بقاسيون، رحمه الله تعالى. وفيها، فى ثالث عشر شهر ربيع الآخر تو، فى الشيخ الصالح مجد الدين عبد العزيز ابن الحسين بن إبراهيم الخليلى الدارى بدمشق، ودفن بقاسيون «2» . وهو والد الصاحب الوزير فخر الدين عمر الخليلى. وفيها، فى سحر يوم الجمعة، ثامن ذى الحجة، توفى الشيخ الإمام، بقية العلماء، علم الدين أبو الحسن محمد ابن الإمام أبى على الحسين بن عتيق بن عبد الله بن رشيق الربعى المالكى الفقيه، شيخ مشايخنا. ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهودة. ومولده فى يوم الأحد، العشرين من شهر رجب، سنة «3» خمس وتسعين وخمسمائة بمصر، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير بهاء الدين ابن الأمير حسام الدين بيجار «4» ، وكان من أعيان الأمراء وأكابرهم. وكانت وفاته بغزة، وهو منصرف إلى الديار المصرية،

فى رابع عشر شعبان، وهو فى عشر السبعين تقريبا، ووالده الأمير حسام الدين البايبرتى «1» باق، وقد كف بصره. وفيها، توفى الأمير شمس الدين سنقر الألفى. وهو الذى ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية، بعد الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقانى كما تقدم. وكانت وفاته فى معتقله بثغر الإسكندرية، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير نور الدين أحمد، ويدعى رباله، ابن الملك الظاهر على ابن الملك العزيز محمد، ابن الملك الظاهر غياث الدين غازى ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وأمه زوجة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى المعروفة، بوجه القمر. وكانت وفاته بالقاهرة، فى شوال، و [كان «2» ] عمره يؤمئذ ستا وعشرين سنة. وكان بديع الحسن، تام الخلقة، عنده شجاعة وكرم وسكون، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى موفق الدين خضر بن محاسن الرحبى، النائب بالرحبة. وكان يعد من رجال الدهر شجاعة وإقداما وحزما، وتدبيرا ومكرا، وحيلا ومداراة وسياسة. وكان فى بدايته جماسا «3» بالرحبة، لإنسان من أهلها، فمات، فتزوج بامرأته، وحاز موجوده، فصلحت حاله. وخدم من جملة قراغلامية «4» الرحبة لما كانت الرحبة للملك الأشرف، صاحب حمص. وخدم النواب بالرحبة،

وتنقلت به الأحوال، وترقى إلى أن ولى نيابة السلطنة بالرحبة. وكانوا بعد ذلك يسمونه الموفق صاحب الرحبة. فلما كان فى هذه السنة، حضر إلى دمشق، يتقاضى مواعيد كانت سبقت له من السلطان بالإمرة، فمات بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير، وعمره نحو سبعين سنة، رحمه الله.

واستهلت سنة إحدى وثمانين وستمائة [681 - 1282]

واستهلت سنة إحدى وثمانين وستمائة [681- 1282] ذكر تفويض نياية السلطنة بحلب للأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى فى هذه السنة، فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، إلى الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصورى. فاستأذن السلطان فى عمارة جامع مدينة حلب وقلعتها، وكان التتار قد أخربوهما «1» فأذن له فى ذلك، فعمّر هما «2» أحسن ما كانا. وفيها، فى حادى شهر ربيع الآخر، فوّض السلطان الوزارة للقاضى الصاحب نجم الدين حمزة بن محمد الأصفونى، وكان قبل ذلك يلى نظر الدواوين. وكان فى ابتداء ترقيه يلى نصف مشارفة الأصل «3» ، بالأعمال القوصية. ثم ولى فى الدولة الظاهرية، نظر الأعمال القوصية، ثم وضع إلى نظر الأعمال الأخميمية. ثم تنقلّ فولى نظر النظار بالديار المصرية، ثم الوزارة. ولم تطل مدة وزارته، فإنه مات بعد سنة من يوم وزارته، رحمه الله تعالى. وفوضت الوزاره بعده، للأمير علم الدين سنجر الشجاعى المنصورى.

وفيها، وفد إلى خدمة السلطان، شخص من أولاد الأويراتية «1» ، يسمى الشيخ على. كان قد دخل فى دين الإسلام، وخدم المشايخ، وعانى أسباب الرياضة والانقطاع. فظهرت له كرامة من كرامات الفقراء، فتبعه جماعة من أولاد المغل. فخرج بهم من تلك البلاد إلى الشام، ثم إلى الديار المصرية. ومثلوا بين يدى السلطان، فأحسن إليهم، منهم الأقوش وتمر وعمر، ثلاثة إخوة، وجويان «2» وجماعة، رتب السلطان بعضهم فى جملة الخاصكية، وتنقلوا إلى الإمرة. ثم ظهر من الشيخ على أمور أنكرت عليه فسجن، ثم سجن الأقوش، ومات نمر وعمر فى الخدمة. وفى هذه السنة، فى صفر، قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى وغيرهما، واعتقلوا. واستمر الأمير بدر الدين بيسرى فى الاعتقال إلى الدولة الأشرفيه، فأفرج عنه، على ما نذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها، فى يوم عرفة، قبض بدمشق على الأمير عز الدين أيبك كرجى، والأمير علم الدين الروباسى «3» ، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيدمر

ذكر وصول رسل أحمد سلطان، وهو توكدار ابن هولاكو، ملك التتار.

الظاهرى. نائب السلطنة، والده بدمشق كان «1» ، وعلى زين الدين ابن الشيخ عدى «2» ، واعتقلوا. وفيها، فى حادى عشرين، شهر رمضان احترق سوق اللبادين وسوق جيرون بدمشق، إلى حيطان الجامع. واتصل الحريق إلى حمام الصحن، ودار الخشب. وكان ابتداء الحريق من وقت المغرب، واستمر ثلاثة أيام، وركب بسببه نائب السلطنة وسائر الأمراء، والعسكر، والحجارين والنجارين، حتى «3» خرّبوا قدام النار فانقطعت. واحترق سوق الكتبيين، فكان ما احترق فيه لشمس الدين إبراهيم الجزرى الكتبى، خمسة عشر ألف مجلد، غير الكراريس والأوراق. وكان سبب هذا الحريق، أن بعض الذهبيين «4» غسل ثوبه ونشره، وجعل تحته مجمرة نار وتركها، وتوجه للفطور، فتعلقت النار بالثوب، واتصلت ببارية «5» كانت معلقة، ومنها إلى السقف. وسلم أربعة دكاكين من ناحية درج اللّبادين. ذكر وصول رسل أحمد سلطان، وهو توكدار ابن هولاكو، ملك التتار. وفى هذه السنة، وصل رسل أحمد سلطان بن هولاكو، وهو الذى ملك بعد أبغا، وهم قطب الدين محمود الشيرازى، قاضى سيواس، والأمير بهاء الدين

أتابك السلطان مسعود صاحب الروم، والصاحب شمس الدين محمد ابن الصاحب، وهو من أصحاب صاحب ماردين. وعند ورود الخبر بوصولهم إلى البيرة، أمر السلطان، الاحتراز عليهم، بحيث لا يشاهدهم أحد. فساروا بهم فى الليل، إلى أن حضروا بين يدى السلطان. واحضروا كتابا من أحمد سلطان، يتضمن أنه قد ملك التتار، وهو مسلم. وقد أمر ببناء المسجد والمدارس والأوقاف، وأمر بتجهيز الحاج، إلى غير ذلك من أنواع وجوه البر والقربات. وطلب اجتماع الكلمة، وإخماد نار الفتن والحروب. وذكر أن أصحابه وجدوا جاسوسا فى زى الفقراء فمسكوه، وإن عادة مثله القتل. وجهزه إلى الأبواب السلطانية. وقال إنه لا حاجة إلى الجواسيس ولا غيرهم، بعد الاتفاق واجتماع الكلمة، إلى غير ذلك مما فيه استجلاب خاطر السلطان. وظهرت رغبته فى الصلح، وأنه كتب من واسط، فى جمادى الأولى. فاجابه السلطان جوابا حسنا، يتضمن تهنئته بالإسلام، وأجابه إلى ما طلب من الصلح، وأعاد رسله مكرّمين. فوصلوا إلى حلب فى سادس شوال، وتوجهوا إلى بلادهم «1» . وفيها، بنى السلطان ببنت «2» سكتاى بن قراحين بن جنغان نوين. وكان سكتاى هذا، قد ورد إلى الديار المصرية، هو وقرمشى، فى سنة أربع وسبعين وستمائة، صحبة بيجار «3» الرومى، فى الدولة الظاهرية. وهذه هى والدة السلطان الملك الناصر.

ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه.

وفيها، تزوج الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور بمنكيك «1» ، ابنة الأمير سيف الدين نوكية بن شان «2» قطعان. وكان نوكيه إذ ذاك معتقلا بثغر الإسكندرية. فرسم السلطان بالإفراج عنه، وأحضره إلى الأبواب العالية، وشمله الإنعام. وتقرر العقد على خمسة آلاف دينار عينا، قدّم منها ألفا دينار. وفيها، استقرت الهدنة بين السلطان والمقدم افرير كليام ديباجوك «3» ، مقدم بيت الديوية بعكا والساحل وديوية «4» انطرطوس «5» ، لمدة عشر سنين، أولها خامس المحرم، سنة إحدى وثمانين وستمائة. ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه. وفيها، بلغ السلطان الملك المنصور، أن ملكا من ملوك الكرج، خرج من بلاده، لزيارة القدس الشريف، ويعود خفية، واسمه توما سوطياس «6» كليارى. ووضعت له صفته، ومعه رفيق يسمى طيبغا بن انكوار، وأنهما ركبا المراكب من ساحل

بوط «1» ، فحفظت عليه الطرقات من كل جهة، فلم يصل إلى موضع إلا وخبره قد سبق إلى السلطان. فلما وصل إلى القدس الشريف، أمسك هو وترجمانه «2» ، وأحضرا «3» إلى الديار المصرية، واعتقلا بها. وفى هذه السنة، ولى القاضى بدر الدين محمد ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن جماعة الكنانى الشافعى، تدريس المدرسة القيمرية. وذكر الدرس بها، فى تاسع عشر شوال. وحضر دروسه القضاة والعلماء. وفيها، فى يوم الثلاثاء، ثامن شهر رجب، كانت وفاة الشيخ الإمام العالم الزاهد، زين الدين أبى محمد عبد السلام بن على بن عمر الزاووى المالكى، بدمشق. ومولده بظاهر بجايه فى سنة تسع أو ثمان وثمانين وخمسمائة. ووصل إلى دمشق فى سنة ست عشرة وستمائة، وأقام بها إلى حين وفاته. وولى القضاء فى الدولة الظاهرية، بعد امتناع منه، كما تقدم. ولم يأخذ عنه جامكية، ولا لبس تشريفا. ثم عزل نفسه، فى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وحلف ألا بلى القضاء بعدها. فأقر السلطان نائبه وصهره القاضى جمال الدين يوسف، وقد تقدم ذكر ذلك فى مواضعه. وكان رحمه الله تعالى، كثير التواضع، يشترى حاجته وبحملها «4» بنفسه.

وفيها، فى يوم الأحد سادس عشرين شعبان، توفى الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام، عز الدين أبى محمد عبد العزيز بن عبد السلام، ودفن بتربة والده بالقرافة. ومولده بدمشق، فى سنة خمس وستمائة، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الملك الظاهر شادى ابن الملك الناصر داود ابن الملك المعظم سيف الدين عيسى ابن السلطان الملك العادل، سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب. وكانت وفاته بالغور، فى السابع والعشرين من شهر رمضان. ونقل إلى البيت المقدس، فدفن به. ومولده بقلعة دمشق، بعد صلاة الجمعة، سابع عشر ذى الحجة، سنة خمس وعشرين وستمائة. وفيها، توفى القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن خلكان البرمكى. الشافعى الاربلى. وكان وفاته بالمدرسة النجيبية بدمشق، فى عشية يوم السبت سادس عشر شهر رجب. ومولده بمدينة إربل، فى يوم الخميس بعد صلاة العصر، حادى عشر، شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستمائة. وقد تقدم ذكر ولايته «1» القضاء بالشام. وكان رجلا عالما، وحاكما عادلا، وأديبا بارعا، ومؤرخا جامعا، وكريما سمحا، جوادا مداريا. يحب الرفق بالناس، وكان طاهر المجلس، لا يغتاب أحد أحدا فى مجلسه. وله مناقب مشهورة، وحكايات مذكوره، تدل على حسناته وستره، رحمه الله تعالى «2» .

وفيها، توفى الشيخ الصالح، أبو الفدا إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين البعلبكى بها، فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من صفر. ومولده سنة أربع وستمائة. سمع صحيح البخارى، على ابن الزبيدى واسمعه، رحمه الله تعالى «1» . وفيها، كانت وفاة السديد هبة الله النصرانى القبطى المعروف بالماعز، ستوفى الصحبة بالديار المصرية. وكان قد تمكن فى هذه الوظيفة عند الملك الظاهر، وتقدم على أبناء جنسه. وله معرفة تامة بالديار المصرية والبلاد الشامية، لم يشاركه أحد فى زمانه من أبناء جنسه كلّهم، قد أقر له بالفضل فى صناعته، وكان متعففا عن الأموال، وعنده ستر على الكتاب والمتصرفين. ولما مات، رتب السلطان فى وظيفته، ولده الأسعد جرجس. وتمكن الأسعد فى الدولة المنصورية تمكنا كثيرا، ما سمع بمثله لمثله.

واستهلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة [682 - 1283/ 1284]

واستهلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة [682- 1283/1284] فى هذه السنة، توجه السلطان إلى البحيرة، لحفر الخليج المعروف بالطيرية «1» . وتوجه صاحب حماه فى خدمته، وكان قد وصل إلى الأبواب السلطانية فى هذه السنة. فحفر هذا الحليج، وكان طوله ستة آلاف [و «2» ] ستمائة قصبة، وعرضه ثلاث قصبات، وعمقه أربع قصبات، بالقصبة الحاكمية «3» . وكان نجازه فى عشرة أيام، وروى بسببه من أعمال البحيرة «4» ، ما لم يكن يروى قبله، فى سنة من السنين. وفيها، فى عاشر شهر ربيع الأول، فوّض السلطان إلى الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى، النظر والتدريس، بمدرسة الإمام الشافعى [بالقرامة «5» ] ، بالجامكية «6» والجراية «7» . والرسم الشاهد به، كتاب الوقف الصلاحى، يوسف

ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده

ابن أيوب، رحمه الله تعالى، وهو عن [معلوم «1» ] التدريس، فى كل شهر أربعون دينارا معاملة، صرف [كل «2» ] دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم وعن النظر عشرة دنانير [والجراية «3» ] ، والرسوم فى كل يوم، من الخبز ستون «4» رطل، بالرطل المصرى، وراويتان «5» من الماء الحلو. وكانت هذه المدرسة، خلت من مدرس، من ثلاثين سنة، وأكتفى فيها بالمعيدين «6» ، وهم عشرة. واستمر الحال على ذلك، إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة. فولى تدريسها قاضى القضاة تقى الدين بن رزين، عند عزله من القضاء وقرر له نصف المعلوم. ثم انتقلت بعد وفاته إلى غيره بربع المعلوم، وبقى الأمر على ذلك إلى الآن «7» ، ففوضت إليه بتوقيع شريف سلطانى منصورى. ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده وفى هذه السنة توجه السلطان إلى الشام، فى النصف من جمادى الأولى، ووصل إلى غزة، فى سابع جمادى الآخرة. وأقام بها أياما، ثم رحل «8» إلى دمشق. فدخلها فى ثامن شهر رجب، ونزل بالقلعة.

ذكر عزل قاضى القضاة عز الدين ابن الصائغ الشافعى عن القضاء، وتولية قاضى القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكى

ذكر عزل قاضى القضاة عز الدين ابن الصائغ الشافعى عن القضاء، وتولية قاضى القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكى كان سبب عزل قاضى القضاة عز الدين ابن الصائغ عن القضاء بدمشق، أن تاج الدين بن السنجارى قاضى [قضاة «1» ] حلب، أثبت «2» محضرا، أن الطواشى ريحان الخليفتى، أودع شرف الدين بن الإسكاف، ثمانية آلاف دينار، وأن ذلك انتقل إلى يد القاضى عز الدين المذكور بحكم الوصية. فطلب القاضى عز الدين، فى يوم الجمعة حادى عشرين شهر رجب، وكان قد حضر إلى الجامع الأموى، لسماع خطبة القاضى جمال الدين بن عبد الكافى، وكان قد ولى الخطابة والإمامة بدمشق. فتوجه من الجامع إلى القلعة، «3» وحضر إلى الأمير بدر الدين الأقرعى مشد الصحبة، والقاضى شهاب الدين بن الواسطى، الناظر بالصحبة. فرسم المشدّ على القاضى بمسجد الحبالة «4» ، ولم يصلّ الجمعة. ثم شدد عليه الأمر، وعزل عن القضاء فى يوم الأحد ثالث عشرين الشهر. وفوّض القضاء للقاضى بهاء الدين يوسف ابن القاضى محيى الدين بن الزكى. ومنع الناس عن الدخول على القاضى عز الدين والاجتماع به، إلا من لا بد منه. ثم ادعى

عليه أن عنده حياصة «1» وعصابة «2» ، القيمة «3» عنهما خمسة وعشرون «4» ألف دينار، وأنهما كانا عند عماد الدين ابن الشيخ محيى الدين بن العربى «5» ، للملك الصالح إسماعيل بن أسد الدين شيركوه، وانتقل ذلك إلى عماد الدين ابن الصائغ، ومنه إلى أخيه القاضى عز الدين. ثم ادعى عليه، أن الأمير ناصر الدين ابن الأمير عز الدين أيدمر، نائب السلطنة، والده، كان أودع عنده جملة كثيرة، واشتد عليه الأمّر، ووكل الملك الزاهر «6» فى مطالبته، فظهر الأمر بخلاف ذلك. وهو أن القاضى عز الدين أثبت عداوة تاج الدين السنجارى، الحاكم [بحلب «7» ] ، وعجز الخصم عن تحقيق حال العصابة والحياصة، وما فيهما من اللؤلؤ والبلخش «8» . وظهرت براءته من الوديعة بأمور يطول شرحها. وانتصر له الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة بالشام. واستمال حسام الدين طرنطاى، فخاطبا السلطان فى أمره فأفرج عنه، فى ثامن عشرين شعبان من السنة، واستمر معزولا إلى

ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن ومن معه من جهة احمد سلطان، ووفاة مرسلهم، وما كان من خبرهم

أن مات، وكانت وفاته بحميص، ظاهر دمشق، فى عشية يوم الأحد، تاسع شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وقد بقى من النهار ساعة. ودفن فى يوم الاثنين بتربته بقاسيون، رحمه الله تعالى. وأما السلطان، فإنه أقام بدمشق، إلى أن رتب أحوالها، وقدر مصالحها ثم عاد إلى الديار المصرية، وكان استقلال ركابه من دمشق، فى يوم الأربعاء ثانى شهر رمضان، ووصل إلى قلعة الجبل، فى الخامس والعشرين من الشهر. وفيها، وصلت رسل عكا، وتقررت الهدنة مع الديوية والاسبتار والملك [المنصور «1» ] لعشر سنين، وعشرة شهور، وعشرة أيام، وعشر ساعات. أولها خامس شهر ربيع الأول منها. وفيها، تزوج السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور باردكين ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وهى أخت زوجة أخيه الملك الصالح. ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن ومن معه من جهة احمد سلطان، ووفاة مرسلهم، وما كان من خبرهم وفى هذه السنة، وصل الشيخ عبد الرحمن، من جهة أحمد سلطان ملك التتار، وصحبته صمد «2» اغوا، والأمير شمس الدين محمد بن التيتى «3» ، المعروف بابن الصاحب وزير صاحب ماردين، وجماعة فى صحبتهم نحو مائة وخمسين نفرا.

وكان هذا الشيخ قدوة أحمد سلطان ملك التتار. وهو الذى استسلمه، وقرر قواعد الصلح بينه وبين السلطان، وبلغ منه مبلغا عظيما، إلى أن كان يقف بين يديه، وظهرت منه أمور للمغل استمالهم بها. وتحدث فى سائر الأوقاف وعظم ذكره ببلاد الشرق. وركب بالجتر «1» والسلاح دارية والجمدارية. وظن أنه إذا حضر إلى السلطان تمكن منه، ويتم له فى هذه المملكة، ماتم له بالعراق. فلما وصل إلى البيرة، تلقاه الأمير جمال الدين أقش الفارسى، أحد الأمراء بحلب، ومنعه من حمل الجتر والسلاح ونكب به عن الطريق المسلوك، إلى أن أدخله إلى حلب، ثم إلى دمشق. كان وصوله إلى دمشق، فى ليلة الثلاثاء، ثانى عشر ذى الحجة، ولم يتمكن أحد من الناس أن يراه ولا يكلمه. ولما وصل إلى دمشق، أنزل فى قلعتها بقاعة رضوان، إلى أن وصل السلطان إلى دمشق. ويقال إنه رتب للشيخ ولمن معه، فى كل يوم ألف درهم نفقة وأطعمة وحلوى، وغير ذلك بألف درهم أخرى. واستقر بالقلعة، إلى أن وصل السلطان إلى دمشق، فى جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، فاستدعاهم ليلا. ووقف بين يدى السلطان ألف مملوك وخمسمائة. مملوك، عليهم الأقبية الأطلس الأحمر، بالطرز «2» ، والكلوتات «3» الزركش. ووفد بين يديه ألف شمعة وخمسمائة

شمعة، وحضر الشيخ عبد الرحمن والأمير صمد اغوا وشمس الدين ابن الصاحب، وأدوا الرسالة فسمعها السلطان، وأعادهم إلى مكانهم، ثم استحضرهم مرة ثانية وثالثة، حتى استوعب ما عندهم من الأخبار، وما وردوا به من الرسالة. ثم أعلمهم السلطان فى المرة الثالثة، أن مرسلهم قد قتل، وجلس على تخت المملكة أرغون بن أبغا. وكانت القصاد قد وصلت بهذا الخبر. ونقلوا من قاعة رضوان، إلى بعض قاعات القلعة، ورتب لهم بقدر الكفاية. ثم سيّر إليهم الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، استاذ الدار، وقال: قد رسم السلطان بانتقالكم إلى غير هذا المكان، فليجمع كل واحد منكم قماشه، ففعلوا ذلك. فلما صاروا فى دهليز الدار فتشوا، فأخذ منهم جملة كثيرة من اللؤلؤ وغيره. ويقال إنه كان بيد الشيخ عبد الرحمن سبحة لؤلؤ، قيمتها تزيد على مائة ألف درهم، فأخذت فى جملة ما أخذ، واعتقلوا. فمات الشيخ عبد الرحمن، فى ثامن عشرين شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين بقلعة دمشق، ودفن بمقابر الصوفية. وهذا الشيخ المذكور، هو تلميذ شيخ الإسلام موفق الدين الكواشى، ثم رباه الشيخ المشار إليه، واشتغل عليه وخدمه. وقيل إنه علم منه الاسم الأعظم، ويقال إن الشيخ أعطاه كتابا فى علم السيمياء «1» . وقال له توجه بهذا إلى النهر واغسله،

فأخذه وأخفاه. ومعاد إلى الشيخ، وأخبره أنه غسله. ثم اشتغل بهذا العلم، وتوجه إلى التتار، واجتمع بالخوانين وأراهم من هذا العلم، ما اقتضى تمسكهم به، وحظى عند والدة السلطان أحمد، فى صغر أحمد، وتألّف به فلما ملك التتار، حكّمه فى سائر ممالكه. ورسم له أن يركب بالجتر، فركب به، ثم جهزه فى هذه الرسالة فمات. وبقى أصحابه فى الاعتقال مدة، وضيّق عليهم. ثم كتب الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، إلى السلطان بسببهم، فرسم بإطلاقهم. واستمر الأمير شمس الدين فى الاعتقال، ونقل إلى قلعة الجبل، واعتقل بها مدة طويلة. ثم أفرج عنه بعد ذلك، وولى نيابة دار العدل بالديار المصرية. وفى سنة اثنتين وثمانين أيضا، وصل من جهة تدان منكو «1» ، الجالس على كرسى الملك، ببيت بركة، نفران من فقهاء القفجاق، وهما مجد الدين أطا ونور الدين وأحضرا على أيديهما كتابا من جهته بالخط المغلى، فقرئ فكان مضمونه، أنه دخل فى دين الإسلام، وأنه أقام شرائع الملة المحمدية، وأوصى على الفقيهين «2» الواصلين بكتابه، وأن يساعدا «3» على الحج المبرور. وذكرا من ألسنتهما مشافهة، أن الملك سأل السلطان، أن ينعته نعتا، يتسمى به من أسماء المسلمين،

ويرسل إليه علما خليفتيا، وعلما سلطانيا، يقاتل بهما أعداء الدين. فجهز السلطان الفقيهين «1» إلى الحجاز ولما عادا جهزهما «2» إلى مقصد هما» . وفيها، أمسك تبرك «4» ، كان بالحدث من جبال طرابلس. وكانت شوكته قد قويت، وانضم إليه جماعة كثيرة من أهل تلك الجبال، وتحصن بالحدث. فقصده التركمان، وتحيلوا عليه، حتى تمكنوا منه وأسروه وأحضروه «5» ، وكفى الله المسلمين شره. وفيها، خرج صاحب «6» قبرص غازيا، لقصد الساحل، فرمته الريح إلى جهة بيروت، فخرج منها، وقصد الإغارة على تلك الجهات. فكمن له أهل جبل الخروب، وخرجوا عليه، فقتلوا وأسروا من جماعته ثمانين رجلا، وأخذوا له شيئا كثيرا من المال والخيل والبغال، وركب فى البحر، وتوجه إلى صور، ولم يلبث أن هلك. وفيها، وصل إلى السلطان رسول أبونكيا «7» ، ملك سيلان، وأحضر كتابا

فى حق من ذهب. وقال الرسول، وهو الحاج أبو عثمان، هذا الكتاب بخط الملك، فلم يوجد من يقرأه. فسألوا عن مضمونه. فقال مضمونه. إن سيلان مصر، ومصر سيلان، وأنه قد ترك صحبة صاحب اليمن، فى محبة السلطان. وقال أريد رسولا من جهة السلطان، يحضره رسولى، ورسولا «1» يقيم «2» فى عدن. والجواهر واليواقيت واللؤلؤ عندى كثير، والمراكب والقماش وغيره عندى. والبقم والقرفة وجميع ما يجلبه الكارم «3» [عندى «4» ] . والرماح الكثيرة «5» عندى. وعندى الفيلة «6» . ولو طلب السلطان كل سنة عشرين مركبا، سيرتها إليه وأطلق

ذكر عمارة التربة المنصورية والمدرسة والبيمارستان ومكتب السبيل

تجار السلطان. وأنا لى سبع «1» وعشرون قلعة، [وفيها معادن «2» :] جواهر ويواقيت. والمغاص «3» ، وكل ما يحصل منها فهولى. فاكرم السلطان هذا الرسول، وكتب جوابه وجهزه. وفيها، نجزت عمارة تربة، كان السلطان قد رسم [لشاد الأمير علم الدين سنجر الشجاعى «4» ] بعمارتها لوالده وولده الملك الصالح، بالقرب من مشهد السيدة نفيسة وعمرت. ونزل السلطان وولده إليها، وتصدقا، ورتبا وقوفها. ورسم السلطان بعمل تربة ومدرسة وبيمارستان بالقاهرة. ذكر عمارة التربة المنصورية والمدرسة والبيمارستان ومكتب السبيل قال «5» ، ولما رأى السلطان الملك المنصور التربة الصالحية، أمر بانشاء تربة

[له «1» ] ، ومدرسة وبيمارستان ومكتب سبيل. فاشتريت الدار القطبية «2» ، وما يجاورها- وهى بين القصرين- من خالص مال السلطان، وعوض مكان الدار القطبية «3» بالقصر المعروف بقصر الزمرد. وكان انتقال الدار القطبية «4» منها إلى قصر الزمرد، ثانى عشر ربيع الأول من السنة «5» . ورتب الأمير علم الدين الشجاعى مشدا على العمارة، قاظهر من الاهتمام بالعمارة والاحتفال، ما لم يسمع بمثله. فعمرت فى أيسر مدة، ونجزت العمارة فى شهور سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وإذا شاهد الرائى هذه العمارة العظيمة، وسمع أنها عمرت فى هذه المدة القريبة، ربما أنكر «6» ذلك. ولما كملت العمارة، وقف السلطان من أملاكه القياسرو والرباع «7» ، والحوانيث والحمامات، والفنادق والأحكار وغير ذلك «8» ، من الضياع بالشام، ما يحصل من أجر ذلك وريعه وغلاته، فى كل شهر جملة كثيرة. وجعل أكثر ذلك على البيمارستان ثم [التربة بالقبة «9» ] . ورتب وقف المدرسة، إلا أنه يقصر عن كفايتها. ورتب لمكتب السبيل، من الوقف بالشام ما يكفيه. ولما تكامل ذلك، ركب السلطان وشاهده، وجلس بالبيمارستان ومعه الأمراء، والقضاة والعلماء. فأخبرنى بعض من شهد السلطان، وشهد عليه،

عليه، أنه استدعى قدحا من الشراب فشربه. وقال قد وقفت هذا على مثلى، فمن دونى. وأوقفه السلطان على الملك والمملوك، [والجندى والأمير والوزير «1» ] والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وجعل لمن يخرج منه، من المرضى، عند برئه كسوة. ومن مات جهّزه، وكفن ودفن. ورتب فيه الحكما، الطبائعية «2» والكحالين والجرائحية والمجبرين، لمعالجة الرمدى والمرضى والمجرحين والمكسورين من الرجال والنساء. ورتب «3» به الفراشين والفراشات، والقومة، لخدمة المرضى، وإصلاح أما كنهم وتنظيفها، وغسل ثيابهم، وخدمتهم فى الحمام. وقرر لهم على ذلك، الجامكيات الوافرة. وعملت النخوت والفرش والطراريح والأنطاع والمخدات واللحف والملاوات لكل مريض فرش كامل. وأفرد لكل طائفة من المرضى أمكنة تختص بهم. فجعلت الأواوين الأربعة المتقابلة للمرضى بالحميات «4» وغيرها، وجعلت قاعة للرمدى، وقاعة للجرحاء، وقاعة لمن أفرط به الاصهال، وقاعة للنساء، ومكان حسن للمرورين «5» من الرجال ومثله للنساء، والمياه تجرى فى أكثر هذه الأماكن. وأفردت أماكن. لطبخ الطعام، والأشربة والأدوية، والمعاجين وتركيب الأكحال، والشيافات «6» ،

والسفوفات، وعمل المراهم والأدهان، وتركيب الترياقات «1» ، وأماكن لحواصل العقاقير، وغيرها من هذه الأصناف المذكورة. ومكان يفرّق منه الشراب. وغير ذلك من جميع ما يحتاج إليه. ورتب فيه مكان يجلس فيه رئيس الأطباء، لإلقاء درس طب، ينتفع به الطلبة، ولم يحصر «2» السلطان، أثابه الله، هذا المكان المبارك بعده فى المرضى، يقف عندها المباشر، ويمنع من عداها، بل جعله سبيلا، لكل من يصل إليه، فى سائر الأوقات، من غنى وفقير. ولم يقتصر أيضا فيه، على من يقيم به للمرضى، بل يرتب لمن يطلب، وهو فى منزله ما يحتاج إليه، من الأشربة والأغذية والأدوية، حتى أن هؤلاء زادوا فى وقت من الأوقات، على ماتبين، غير من هو مقيم بالبيمارستان. ولقد باشرته «3» فى شوال سنة ثلاث وسبعمائة، وإلى آخر رمضان سنة سبع وسبعمائة. فكان يصرف منه، فى بعض الأيام، من الشراب المطبوخ خاصة، ما يزيد على خمسة قناطير بالمصرى، فى اليوم الواحد، للمرتبين والطوارى، غير السكر والمطابيخ من الأدوية وغير ذلك من الأغذية والأدهان والترياقات وغيرها ورتب فى البيمارستان من المباشرين والأمناء، من يقوم بوظائفه، واتباع ما يحتاج إليه من الأصناف، وضبط ما يدخل إلى المكان، وما يخرج منه خاصة، من غير أن يكون لهم تعلق فى استخراج الأموال. وإنما يبتاعون الأصناف، ويحيلون بثمنها على ديوان صندوق المستخرج، ويكتبون فى كل شهر، عمل استحقاق «4»

لسائر أرباب الجامكيات والجرايات من سائر أرباب الوظائف والمباشرين، يكتبه «1» العامل، ويكتب عليه الشهور. ويأمر الناظر بصرفه، ويخلد [فى «2» ] ديوان الصندوق «3» ويصرف على حكمه. وهذه الطائفة من المباشرين بالبيمارستان، هم مباشر والإدارة. وأما مباشرو «4» الصندوق والرباع، فإليهم يرجع تحرير جهات الأوقاف، فى الخلق والسكون والمعطل، واستخراج الأموال، ومحاسبات المستأجرين وصرف الأموال، بمقضى حوالة مباشرى الإدارة، ومباشرة العمارة، وعمل الاستحقاق لا يتصرفون فى غير ذلك، كما لا يتصرف مباشر والإدارة، فى صرف الأموال، إلا حوالة «5» بأوراقهم. وأما العمارة، فلها مباشرون ينفردون بها، من ابتياع الأصناف، واستعمال الصناع «6» ، ومرمّة «7» الأوقاف، وغير ذلك مما يدخل فى وظيفتهم، كما يفعل فى الإدارة، وينقل عليهم من الصندوق من المال، ما يصرفونه لأرباب الأجر

خاصة. ويكتبون فى كل شهر، عمل استحقاق، بثمن الأصناف وأرباب الأجر، ويخصمونه بما أحالوا به على الصندوق، وما وصل إليهم من المال ويسوقونه إلى فائض أو متأخر. وترفع كل طائفة من هؤلاء المباشرين حسباناتهم، مباومة ومشاهرة ومساناة إلى الناظر «1» والمستوفى «2» . هذا ما يتعلق بالمارستان. وأما القبة المباركة المنصورة، وهى التربة «3» ، فإنه رتّب فيها خمسون مقرئا، يقرأون كتاب الله تعالى، ليلا ونهارا بالنوب. وجعل لكل منهم، فى كل شهر عشرون درهما. ورتب بها إمام، على مذهب الإمام أبى حنيفة، رحمه الله تعالى، وله فى كل شهر ثمانون درهما من أصل الوقف، وفى كل سنة فى ليلة ختم صلاة قيام رمضان، خلعة من خزانة السلطان، كاملة مسنجبة «4» مقتدرة «5» ورتّب بها ريس ومؤذنون «6» ، يعلنون «7» الأذان، بالمأذنة الكبرى، ويقيمون

الصلاة، ويبلغون خلف الإمام. وهم سبعة نفر. الرئيس، وله فى كل شهر أربعون درهما، والمؤذنون ستة، لكل منهم فى كل شهر ستون درهما. ورتب بها درس تفسير لكتاب الله تعالى، فيه مدرس «1» يلقيه، رتب له فى كل شهر [مائة درهم، وثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم، ومعيد «2» له] فى كل شهر أربعون درهما، وطلبة عدتهم ثلاثون [نفرا «3» ] ، لهم فى كل شهر ثلاثمائة درهم، ودرس حديث يذكر فيه حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، له مدرس ومعيد وطلبة، لهم فى كل شهر نظير ما لمدرس التفسير ومعيده وطلبته، وزيادة على ذلك قارىء، يقرأ الحديث، بين يدى المدرس، فى أوقات الدروس، ويقرأ ميعادا «4» للعوام بين يديه أيضا، فى صبيحة كل يوم أربعاء، رتب له فى كل شهر ثلاثون درهما. ورتّب لخازن كتبها فى كل شهر أربعون درهما، ولخزانة كتبها من الخستمات الشريفة، والربعات المنسوبة الخط، وكتب التفسير والحديث والفقه واللغة، والطب والأدبيات، ودواوين الشعر شىء كثير «5» . ورتب بها [ا «6» ] لخدام أزمة، يقيمون بالقبة، لحفظ حواصلها، ومنع من يعبر إليها فى غير أوقات الصلوات، وهم ستة، لكل منهم فى كل شهر خمسون درهما، وغير هؤلاء من القومة والفراشين والبوابين.

وأما المدرسة المباركة المنصورية، فإنه رتب بها إماما شافعى المذهب، له فى كل شهر ثمانون درهما، وريسا «1» ومؤذنين «2» ، يعلنون بالأذان بالمئذنة الكبرى المذكورة، هم ومؤذنو القبة بالنوبة «3» ، وهم ريس وأربعة مؤذنين «4» ، لهم فى كل شهر نظير ما لمؤذنى القبة. ورتّب بها متصدر لإقراء كتاب الله، عز وجل، ورتب له فى كل شهر أربعون درهما. ورتب بها دروس للمذاهب الأربعة، الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، لكل طائفة مدرس، له فى كل شهر مائتا درهم، وثلاثة معيدين لكل منهم خمسة وسبعون درهما، وغير هؤلاء من القومة والفراشين وبواب «5» . وأما مكتب السبيل، فإنه رتّب فيه فقيهان يعلمان [ستين «6» ] صغيرا من أيتام المسلمين، كتاب الله تعالى. ورتب لهما جامكية فى كل شهر، وجراية فى كل يوم، وهى لكل منهما فى كل شهر ثلاثون درهما، وفى كل يوم من الخبز ثلاثة أرطال، وكسوة فى الشتاء، وكسوة فى الصيف. ورتّب للأيتام، لكل منهم، فى كل يوم رطلان خبزا، وكسوة فى الشتاء، وكسوة فى الصيف. وتنوّع

ولنرجع إلى بقية حوادث سنين اثنتين وثمانين وستمائة.

السلطان، أجزل الله ثوابه، فى وجوه البر والقربات. وهذه الجهات المباركة المبرورة باقية مستمرة، يزيد وقفها وينمو، بحسن «1» نية واقفها. قدّس الله روحه، ونور ضريحه. ولنرجع إلى بقية حوادث سنين اثنتين وثمانين وستمائة. وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام، عماد الدين أبو الفضل محمد ابن قاضى القضاة، شمس الدين أبى نصر محمد بن هبة الله الشيرازى، ببستانه «2» بالمزه، فى فى يوم الاثنين، سابع عشر صفر. وصلى عليه بعد صلاة العصر، بجامع الجبل، ودفن بتربة فيها قبر أخيه علاء الدين. رحمهما الله تعالى. وكان شيخ الكتابة، أتقن الخط المنسوب، وبلغ فيه مبلغا عظيما، حتى يقال إنه أتقن قلم «3» المحقق، وكتبه أجود من شيخ الصناعة ابن البواب «4» .

وفيها، توفى الصاحب مجد الدين أبو الفدا إسماعيل بن إبراهيم بن أبى القاسم ابن أبى طالب بن كسيرات الموصلى. وكانت وفاته فى سابع عشرين شهر رمضان، بداره بجبل الصالحية. وكان رحمه الله كثير المروءة، واسع الصدر، كثير الهيبة والوقار، جميل الصورة، حسن المنظر والشكل، كثير التعصب لمن يقصده، محافظا على مودّة أصحابه وقضاء حوائجهم، كثير التفقد لهم، وأصله من الموصل، من بيت الوزارة. كان والده، وزير الملك المنصور عماد الدين زنكى ابن الملك العادل نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر. ثم باشر نظر الخزانة، للملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ [صاحب الموصل «1» ] ثم نقله إلى نظر الجزيرة العمرية «2» ، لما فتحها. ووصل إلى الشام صحبة الملك المجاهد سيف الدين اسحاق، لما وصل فى الدولة الظاهرية. وسكن دمشق، وولى نظر البر بها «3» . ثم نقل إلى نظر نابلس، ثم أعيد إلى دمشق فباشر نظر الزكاة بها. ثم انتقل إلى صحابة الديوان بالشام، إلى أن ملك سنقر الأشقر دمشق، فاستوزره كما تقدم. وتعطل «4» بعد ذلك عن المباشرة، وسكن داره التى أنشأها بجبل قاسيون، جوار البيمارستان، فكان بها إلى أن مات.

قال شمس الدين الجزرى «1» : قلت له يوما- وقد أضرته «2» البطالة- يا مولانا لو ذكرت واحدا من أصحابك الأمراء، حتى يذكر بك السلطان، أو نائب السلطنة، فكاتب فى أمرك فإن لك خدما «3» وتفضلا «4» على الناس، فنظر إلى وأنشد: لذّ خمولى وحلا مره ... وصاننى عن كل مخلوق نفسى معشوقى ولى غيرة ... تمنعنى عن بذل معشوقى «5» وفيها، فى يوم الخميس عاشر شهر رمضان، توفى الملك العادل سيف الدين أبو بكر ابن الملك الناصر صلاح الدين داود، ابن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وكانت وفاته بدمشق، وصلى عليه بعد صلاة الجمعة، ودفن بالتربة المعظمية. وكان رحمه الله تعالى، قد جمع بين الرئاسة والفضيلة، والعقل الوافر، والخصال الجميلة. وكان مجانب الناس، محبوب الصورة، رحمه الله تعالى. وفيها، فى سادس عشرين شعبان، توفى القاضى عز الدين إبراهيم ابن الصاحب الوزير الأعز، فخر الدين أبى الفوارس مقدام ابن القاضى كمال الدين أبى السعادات، أحمد بن شكر [المصرى «6» ] . وكان قد ولى نظر الجيوش، بالديار المصرية، فى شهر رمضان، سنة خمس وسبعين وستمائة، كما تقدم، رحمه الله تعالى.

وفيها، توفى الشيخ الإمام العّلامة، العابد الزاهد، شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام، أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسى، شيخ الحنابلة بالشام. وكان قد ولى قضاء القضاة على كره منه، فى سنة أربع وستين كما تقدم. ثم ترك الحكم، وتوفر على العبادة والتدريس، وأشغال الطلبة، والتصنيف. ويقال إنه قطب بالشام. واستدل على ذلك بحرائى «1» توافقت عليها، جماعة تعرفه «2» ، فى سنة سبع وسبعين وستمائة أنه قطب، وكان أوحد زمانه. وكانت وفاته فى يوم الاثنين، سلخ ربيع الآخر منها. ودفن بقاسيون، بتربة والده، قدس الله روحه. ومولده فى السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ولما مات رثاه المولى الفاضل شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء بقصيدة أولها. ما للوجود وقد علاه ظلام ... أعراه «3» خطب أم عداه مرام أم قد أصيب بشمسه فغدا وقد ... لبست عليه حدادها الأيام جاء منها: لكم الكرامات الجليلات التى ... لا تستطيع حجودها الأقوام وهى قصيدة تزيد على ستين بيتا، ورثاه جماعة، رحمه الله تعالى.

وفيها، توفى الأمير علاء الدين كندغدى «1» المشرقى الظاهرى، المعروف بأمير مجلس. كان من أعيان الأمراء بالديار المصرية. وظهر قبل وفاته بمدة يسيرة، أنه باق على الرق. فاشتراه السلطان الملك المنصور بجملة وأعتقه، وقربه لديه. وكان شجاعا بطلا مقداما. وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم الجمعة مستهل صفر. ودفن بمقابر باب النصر، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير شهاب الدين أحمد بن حجى بن يزيد البرمكى، أمير آل مرى «2» ، وكانت وفاته ببصرى. وكانت غاراته تنتهى إلى أقصى نجد والحجاز. وأكثرهم يؤدون «3» إليه إتاوة فى كل سنة، فمن قطعها منهم أغار عليه. وكان يدعى أنه من نسل جعفر البرمكى، من العباسة أخت الرشيد. ويقول إنه تزوجها ورزق منها أولادا. ولما جرى على البرامكة ما جرى، هرب أولاده منها إلى البادية، فأحدهم جده، والله أعلم. وكان يقول للقاضى شمس الدين بن خلكان [البرمكى «4» ] ، أنت ابن عمى. وكانت بينهما مهاداة. وانتفع ابن خلكان به وباعتنائه، عند السلطان. وفيها، فى سابع عشرين المحرم، كانت وفاة القاضى شمس الدين عيسى ابن الصاحب برهان الدين الخضر «5» السنجارى. كان ينوب عن والده فى الوزارة

الأولى، فى سنة ثمان وسبعين وستمائة. وولى نظر الأحباس، ونظر خانقاه سعيد السعداء. ثم ولى بعد ذلك تدريس المدرسة الصلاحية المعروفة بزين التجار «1» ، ثم قبض عليه مع والده، بعد انفصاله من الوزارة الثانية، كما تقدم. فلما أفرج «2» عنه سكن المدرسة المعزية بمصر، وكان بها إلى أن توفى. وكان حسن الصورة والشكل، رحمه الله تعالى. وفيها، فى سادس عشر شوال، توفيت زوجة السلطان الملك المنصور، والدة ولده، الملك الصالح علاء الدين على، رحمهما الله تعالى. وفيها، فى يوم الأحد، ثانى عشر جمادى الأولى، توفى الشيخ ظهير الدين جعفر بن يحيى بن جعفر القرشى التزمنتى الشافعى، مدرس المدرسة القطبية بالقاهرة، وأحد المعيدين بمدرسة الشافعى، رحمه الله تعالى. وفيها، فى يوم السبت، ثانى عشرين شهر رجب، توفى الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار، أحد الأمراء بالديار المصرية. وكانت وفاته بدمشق لما كان السلطان بها. ودفن بظاهرها، عند قباب التركمان، بميدان الحصار «3» : رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة [683 - 1284]

واستهلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة [683- 1284] ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده فى هذه السنة، توجه السلطان الملك المنصور إلى الشام، وكان وصوله إلى دمشق، فى يوم السبت ثانى عشر جمادى الآخرة، ونزل بقلعتها. وكان جل توجهه إلى الشام، بسبب رسل السلطان أحمد، فاستحضرهم وسمع رسالتهم، كما قدمنا «1» ذكر ذلك. وأقام السلطان بدمشق، إلى أن رتب أحوالها. وعزل الأمير علم الدين سنجر الداوادارى، من وظيفته شاد الدواوين بدمشق، وأضاف هذه الوظيفة إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وكان استاذ دار السلطنة بالشام. فاجتمع له شاد الدواوين واستاذ الدارية. ونقل أيضا الأمير ناصر الدين الحرانى، من ولاية مدينة دمشق إلى نيابة السلطنة بحمص، وأضاف ولاية مدينة دمشق، إلى الأمير سيف الدين طوغان، متولى «2» البر. ثم عزم على الرحيل، والعود إلى مقر ملكه، فبرز الأمراء أثقالهم إلى ظاهر قلعة دمشق، فكانت حادثة السيل. ذكر حادثة السيل بدمشق وفى يوم الأربعاء، العشرين من شعبان، سنة ثلاث وثمانين وستمائة، الموافق لأول تشرين الثانى، وهو خامس هاتور، أمطرت السماء، فى أول

ذكر وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشىء من أخباره، وأمر ولده الأمير حسام الدين مهنا

الليل، وتوالى المطر وهطل وكثر، واشتد صوت الرعد، وتوالى البرق طول الليل إلى أول النهار. ثم أقبل السيل وارتفع، حتى بلغ إلى حد السبل الذى ذكرناه فى سنة تسعة وستين وستمائة «1» . وحمل جميع أثقال من برز ثقله من الأمراء المصريين والجند، وحمل الخيل والجمال والصناديق وغير ذلك. فيقال إنه عدم للأمير بدر الدين بكتاش النجمى، ما تزيد قيمته على أربعمائة ألف درهم وخمسين درهم، وصدم السيل باب الفراديس، فكسر أقفاله، وما خلفه من المتاريس، ودخل الماء إلى المدرسة المقدمية، وبقى كذلك حتى ارتفع النهار. ثم جف «2» الماء فى يومى الأربعاء والخميس. ثم جاء مطر شديد، وهو دون المطر الأول، فهدم عدة مساكن، فى جبل قاسيون، وبظاهر دمشق وحواضرها «3» . ثم انحط الماء، وتوجه السلطان بعد أن نضب الماء، إلى الديار المصرية، واستقل ركابه من دمشق، فى يوم السبت الثالث والعشرين من شعبان، ووصل إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رمضان من السنة. ذكر وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشىء من أخباره، وأمر ولده الأمير حسام الدين مهنا فى هذه السنة، كانت وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع بن حذيفة أمير العرب. وصلّى عليه بدمشق صلاة الغائب، فى يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول. وقد ذكرنا ابتداء إمرته، فى إبتداء الدولة الظاهرية. وكان رحمه الله رجلا دينا خيرا، انتفع الإسلام به، فى مواطن كثيرة، وصلحت العربان

ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماه وولاية ولده الملك المظفر

فى أيامه، وقل فسادهم، بل كاد «1» يعدم، مع لينه وحسن سياسته. وكانت الإمرة قبله لابن عمه الأمير على بن حذيفة. وكان كثير السفك للدماء، ويقتل مفسدى «2» العرب، بأنواع القتل، فكانت له قدر كبيرة منصوبة، لا تزال على النار مملوءة ماء، والنار توقد تحتها، فمنى وقع له مفسد من العرب ألقاه فيها حيّا، قيسقط لحمه لوقته. وقتل خلقا كثيرا بذلك وبغيره من أنواع العذاب. هذا والفساد فى أيامه مستمر، وأمر العرب لا يزداد إلا شدة. فلما ولى الأمير شرف الدين عيسى بعد وفاته، أنزل القدر وامتنع من سفك دم إلا بحكم الله. فعلم الله صدق نيته، وأصلح له من أمر العرب ما فسد فى أيام غيره، وصلحت سيرتهم فى أيامه، وانحسمت مادة أذاهم للقفول «3» وغيرها، منّا من الله تعالى. ولما مات رحمه الله تعالى، فوض السلطان إمرة العرب بعده، لولده الأمير حسام الدين مهنا. وزاده السلطان إقطاعا، وبسط يده، فسلك سبيل والده فى الخير والإحسان. وأطاعه العرب كافة، وعظم شأنه عند الملوك وغيرهم. وهو على ذلك إلى وقتا هذا، الذى وضعنا فيه هذا الكتاب «4» . ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماه وولاية ولده الملك المظفر فى حادى عشر شوال من هذه السنة، توفى الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن الملك المظفر، تقى الدين محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك

المظفر تقى الدين عمر ابن شاهانشاه بن أيوب، صاحب حماه، رحمه الله تعالى. ومولده فى الساعة الخامسة، من يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فتكون مده حياته، إحدى وخمسين سنة، وستة أشهر، وأربعة عشر يوما. وملك حماه يوم السبت ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذى توفى فيه والده، فتكون مدة مملكته بحماه، إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام. ولما ورد الحبر بوفاته، رسم السلطان الملك المنصور، بتفويض ملك حماه، لولده الملك المظفر تقى الدين محمود، وأجراه مجرى والده فى التشاريف والمكاتبات. وجهّز إليه التشريف والتقليد، صحبة الأمير جمال الدين أقوش الموصلى الحاجب، وجهّز معه عدة تشاريف لعمه الملك الأفضل، وابن عمه الأمير عماد الدين، وجماعة من أهل بيته وأمرائه. وفيها، فى نصف ذى الحجة، توجه السلطان إلى الشام. وفيها، فى ثالث شهر رمضان، توفى الملك السعيد فتح الدين عبد الملك، ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمه الله تعالى. ودفن بتربة جدته، والدة السلطان الملك الصالح، داخل دمشق. وفيها، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو محمد عبد الرحيم ابن قاضى القضاة شمس الدين أبو الظاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد البارزى، الجهنى الشافعى، الحموى، قاضى حماه. وكانت وفاته ليلة الخميس عاشر ذى القعدة، سنة ثلاث وثمانين وستمائة. ومولده

يوم الأربعاء، السادس والعشرين، من المحرم سنة ثمان وستمائة بحماه. وتوفى بطريق الحجاز، وحمله أولاده إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفن بالبقيع. وكان رحمه الله تعالى، ممن صنّف التصانيف المفيدة، وسمع وحدّث، وولى قضاء حماه، بعد أبيه مدة طويلة. ثم عزل مدة يسيرة. وله نظم حسن ومشاركة فى العلوم الكلامية والحكمية، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى قاضى القضاة جمال الدين أبو يعقوب يوسف بن أبى محمد عبد الله بن عمر الزواوى، قاضى المالكية بدمشق. وكانت وفاته بطريق الحجاز، قبل الحج بالقرب من تبوك، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى القاضى ناصر الدين أبو العباس أحمد بن أبى المعالى، محمد ابن منصور بن أبى بكر قاسم بن مختار الجذامى «1» الجروى «2» المالكى الإسكندرى المعروف بابن المنير. وكانت وفاته بالإسكندرية، فى ليلة الخميس، مستهل شهر ربيع الأول. ودفن بتربة والده، عند الجامع الغربى. ومولده بالإسكندرية، فى ثالث ذى القعدة، سنة عشرين وستمائة. وكان فاضلا عالما، وله اليد الطولى فى علم العربية والأدب، جيد النظم. باشر بالثغر عدة جهات. ثم ولى القضاء بالثغر، وولى الخطابة مدة يسيرة. ثم نكب فى سنة ثمانين وستمائة. وهجم داره، ويقال إن الذين هجموا الدار، أدخلوا معهم قنانى خمر، تحت ثيابهم، وادعوا أنها وجدت عنده، فعزل عن مناصبه. ثم توجه إلى باب

السلطان. وسعى فيمن سعى به، فنال بعضهم. وأعيدت إليه مناصبه، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير شمس الدين محمد ابن الأمير بدر الدين أبى المفاخر باخل ابن عبد الله بن أحمد الهكارى، متولى ثغر الإسكندرية. وكانت وفاته بالثغر، فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب. ودفن يوم الأحد، عند رباطه خارج باب رشيد، رحمه الله تعالى «1» . وفيها، فى ليلة الجمعة، ثالث عشرين ذى الحجة، توفى الشيخ الصالح العارف القدوة، أبو القاسم، وينعت وقار الدين، بن أحمد بن الرحمن المراغى. والمراغة التى ينسب إليها، [بلدة «2» ] معروفة باقليم «3» إخميم، من البر «4» الغربى. ودفن بالقرافة، بزاويته المشهورة، فى يوم الجمعة، بعد الصلاة، رحمه الله وابّانا.

واستهلت سنة أربع وثمانين وستمائة [684 - 1285]

واستهلت سنة أربع وثمانين وستمائة [684- 1285] والسلطان الملك المنصور متوجه إلى الشام. فوصل إلى دمشق فى يوم السبت، ثانى عشر المحرم. وتوجه إلى المرقب، وأفتتح الحصن على ما تقدم ذكره. ذكر مولد السلطان الملك الناصر كان مولده المبارك الميمون، بقلعة الجبل، فى يوم السبت الخامس عشر من شهر المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة، الموافق للثامن والعشرين من برمهات من شهور القبط. وطالع الوقت السرطان. فوردت البشائر على والده «1» السلطان بمولده، وهو بمنزلة «2» خربة اللصوص، قبل وصوله إلى دمشق. فاستبشر السلطان بمولده، وتيمن به، وبلغ مقصوده، من فتح المرقب. وفيها، بعد عود السلطان من فتح المرقب، دخل إلى الخزانة بدمشق، فى يوم الخميس سابع جمادى الأولى. وولى القاضى محيى الدين بن النحاس الوزارة بدمشق، عوضا عن الصاحب تقى الدين [توبة التكريتى «3» ] . وكان

محيى الدين إذ ذاك، ناظر الخزانة. فخلع عليه خلعة الوزارة، وكانت الخلعة جبة عتابى «1» حمراء، وفوقها فرجية زرقاء، مسنجبة «2» مقتدرة وطرحة «3» . وعزل الأمير سيف الدين طوفان، عن ولاية مدينة دمشق، وأقره على ولاية «4» البر خاصة. وولى مدينة دمشق الأمير عز الدين محمد بن أبى الهيجا، فى يوم الجمعة، خامس عشر جمادى الأولى. ثم توجه إلى الديار المصرية، فى بكرة نهار الاثنين، ثامن عشر الشهر. ووصل إلى قلعة الجبل، فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين شعبان. وكان قد أقام مدة بتل العجول. وفيها، وصلت رسل ملوك الفرنج، وأحضروا بين يدى السلطان، فى يوم الثلاثاء سابع شهر رمضان. وقدّموا ما معهم من التقادم، وهى: ما هو من جهة الأنبرور «5» ، ما حمله اثنان وثلاثون جملا «6» ، سنجاب وسمور أربعة عشر، [و] سقلاط خمسة، [و] أطلس وبندقى ثلاثة عشر. وما هو من جهة الجنوية، سار سينا «7» حملان «8» ، [و] سناقر ستة، [و] كلب أبلق، ذكر أنه

أكبر من الأسد. وما هو من جهة الأشكرى «1» ، حمل أطلس، وأربعة أحمال بسط. فقبلت تقادمهم، وأجروا على عاداتهم فى الإحسان والصلة. وفيها، وصل رسول صاحب اليمن، وصحبته الهدايا والتقادم، وأحضر إلى بين يدى السلطان، فى يوم السبت مستهل ذى القعدة، وأحضر من الهدية على ما نقل، ما هو «2» : خدام «3» أزمة ثلاثة عشر، خيل فحول عشرة، فيل واحد، كركدن واحد، نعاج يمنية ثمانية، طيور ببغاء ثمانية «4» ، قطع عود كبار ثلاثة، حملت كل قطعة منها على رجلين، رماح قنا أربعون حمل جمل. ومن أصناف البهار ما حمل على سبعين جملا، ومن القماش ما حمل على مائة قفص، ومن تحف اليمن ما حمل على مائة طبق نحاس، فقبل ذلك [منه «5» ] ، وأنعم على رسله وعليه على العادة. وفيها، فى سادس ذى الحجة، وقع الحريق بقلعة الجبل المحروسة، فاحترقت الخزانة السلطانية والقاعة الصالحية.

وفيها، فى سلخ شهر رمضان، كانت وفاة الأمير سيف الدين أيتمش «1» السعدى فى محبسه. وفيها، كانت وفاة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارى الصالحى، بالقاهرة، ودفن بتربته بالشارع الأعظم. وفيها، فى يوم الأربعاء، سابع عشر صفر، توفى الصاحب المشير عز الدين محمد بن على بن إبراهيم بن شداد الأنصارى الحلبى، بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم. وكان فاضلا دينا، رئيسا مؤرخا، معظّما عند الأمراء الأكابر محبوبا إليهم. ولازم الصاحب بهاء الدين مدة حياته. وكان الأمراء الأكابر يحملون إليه فى كل سنة دراهم وغلة وكسوة وغير ذلك، رحمه الله تعالى «2» . وفيها، فى منتصف شعبان توفى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير افتخار الدين أباز «3» بن عبد الله الحرانى، بمدينة حمص، وهو يومئذ نائب السلطنة بها، وحمل إلى دمشق، ودفن بقاسيون، فى يوم الخميس سابع عشر الشهر «4» . وفيها، فى يوم الأربعاء، سلخ شعبان، توفى الطواشى شبل «5» الدولة كافور الصفوى الخزندار بقلعة دمشق. ودفن يوم الخميس مستهل شهر رمضان، بتربته بسفح قاسيون. كان رجلا صالحا، كثير الصدقة والمعروف والإحسان، رحمه الله تعالى، والحمد لله وحده «6»

واستهلت سنة خمس وثمانين وستمائة [685 - 1286]

واستهلت سنة خمس وثمانين وستمائة [685- 1286] فى هذه السنة، أعيد الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، إلى شد الشام، عوضا عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. وباشر الديوان فى بكرة يوم الاثنين خامس عشر المحرم. وفيها، فى سلخ ربيع الآخر، وصل تقى الدين توبة التكريتى من الديار المصرية إلى دمشق. وقد أعيد إلى الوزارة بالشام، عوضا عن الصاحب محيى الدين بن النحاس. ذكر حادثة غريبة اتفقت بحمص وفى هذه السنة، فى سابع عشر صفر، ورد إلى الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام، كتاب من الأمير بدر الدين بكتوت العلائى وكان مجردا بحمص، وصحبته من عسكر دمشق ألفا «1» فارس، من مستهل هذه السنة، مضمونه بعد البسملة: يقبل الأرض وينهى أنه لما كان فى يوم الخميس رابع عشر صفر، وقت العصر، حصل بالغسولة «2» إلى جهة عيون القصب، غمامة سوداء إلى الغاية،

وأرعدت رعدا كثيرا زائدا. وظهر من الغمامة شبه دخان أسود، من السماء متصل بالأرض، وصور من الدخان، صورة أصلة «1» هائلة، مقدار العمود الكبير، الذى لا يحضنه جماعة من الرجال، وهى متصلة بعنان السماء، تلعب بذنبها فيتصل بالأرض، شبه الزوبعة الهائلة. وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها فى الهواء، كرمية سهم نشاب وأكثر. وصار وقعها «2» ، وتلاطم الحجارة بعضها ببعض «3» ، يسمع له صوت هائل، من المكان البعيد. وما برح ذلك مستمرا فى قوته، واتصل بأطراف العسكر المنصور. وما صادف شيئا إلا رفعه فى الهواء، كرمية نشاب وأكثر. وما صادف شيئا من الأشياء، من السروج والجواشن «4» ، والعدد والسيوف، والتراكيش «5» والقسى، والقماش والشاشات «6» . والكلوتات «7» ، والنحاس، والأسطال، إلا صار طائرا فى الهواء كشبه الطيور.

ومن جملة ذلك، أنه كان فى اسطبل المملوك، خرج آدم ملآن تطابيق «1» بيطارية حمله فى الهوا والجو، كرمية نشاب. ودفع من جملة ما دفعه، عدة من الجمال بأحمالها، قدر رمح وأكثر. وحمل جماعة من الجند والغلمان، وأهلك شيئا كثيرا من السروج، التى صدفها «2» ، والرماح، وطحن ذلك، إلى أن بقى لا ينتفع به. وأتلف شيئا كثيرا مما صادفه فى طريقه، وأضاع «3» أشياء كثيرة من العدد والقماش، لمقدار مائتى نفر من الجند وأصحاب الأمراء، إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش «4» . وغابت تلك الحية عن العين، فى عنان السماء، فتوجهت فى البرية، صوب الشرق. والذى عدم من قماش الجند، منه ما راح فى الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند، مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار فى المعسكر المنصور، واستعاد «5» كثيرا مما عدم، وبعد هذا، عدم ما تقدم ذكره. وهذه الوقعة ما سمع بمثلها أبدا، ثم وقع بعد «6» هذا يسير من مطر. ثم إن اللواحيق «7» الكبار، حملها الهواء وهى منصوبة، وصارت مرتفعة فى الجو، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ذكر توجه السلطان إلى الكرك وما رتبه من أمر النيابة وعوده

وفى هذه السنة، فى جمادى الأولى، أفرج السلطان عن الأمير شمس الدين قطلبجا أخى الرومى. وفيها، رسم السلطان بهدم القبة الظاهرية، التى بقلعة الجبل بالرحبة. فحصل الشروع فى هدمها، فى يوم الأحد، عاشر شهر رجب. وأمر ببناء قبة فى مكانها، فعمرت، وكان الفراغ منها فى شوال [من هذه السنة «1» ] . ذكر توجه السلطان إلى الكرك وما رتبه من أمر النيابة وعوده فى هذه السنة، فى يوم الخميس، سابع شهر رجب، توجه السلطان إلى غزة، ثم توجه من بعدها جريدة «2» إلى الكرك، فوصل إليها فى شعبان، وصعد إلى قلعتها، ورتب أحوالها. ورسم بتنظيف البركة التى فيها من الطين، فنظفت. وعمل فيها جميع من كان فى خدمة السلطان، من المماليك والحاشية مدة سبعة أيام. واستناب بها الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى. ونقل الأمير عز الدين الموصلى منها إلى نيابة السلطنة بغزة، وتقدمة العسكر بها. ولم يطل مقامه بها، فإنه نقل منها إلى نيابة قلعة صفد. وعاد السلطان من الكرك، ونزل بغابة أرسوف، فأقام بها إلى أن وقع الشتاء، وأمن حركة العدو، وعاد إلى الديار المصرية. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم الاثنين رابع عشر شوال منها.

ذكر وفاة قاضى القضاة وجيه الدين، وتفويض القضاء بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة، تقى الدين ابن بنت الأعز

وفيها، فى شوال، أفرج عن الأمير بدر الدين بكتوت الشمسى، والامير جمال الدين أقوش الفارسى. ذكر وفاة قاضى القضاة وجيه الدين، وتفويض القضاء بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة، تقى الدين ابن بنت الأعز فى هذه السنة، فى يوم الأربعاء، مستهل جمادى الأولى «1» ، كانت وفاة قاضى القضاة وجيه الدين عبد الوهاب ابن القاضى سديد الدين الحسين المهلبى، المعروف بالبهنسى، قاضى القضاة بمصر والوجه القبلى. وولى بعده، قاضى القضاة، تقى الدين بن عبد الرحمن ابن بنت الأعز، فى يوم الأربعاء خامس عشر الشهر. وكان قاضى القضاة بالقاهرة والوجه البحرى القاضى شهاب الدين الخويى «2» . ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين بن شاس المالكى وتفويض القضاء لقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى وفى هذه السنة، فى ذى القعدة، كانت وفاة قاضى القضاة تقى الدين الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبى الفضل عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام مفتى الفرق جلال الدين أبى محمد عبد الله بن شاس الجذامى السعدى المالكى، قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية. وفوض السلطان القضاء بعده، على مذهب الإمام مالك بن أنس، لقاضى القضاة زين الدين أبى الحسن على ابن الشيخ

ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى وشىء من أخباره

رضى الدين أبى القاسم مخلوف ابن الشيخ تاج الدين أبى المعالى ناهض النويرى المالكى، وهو يومئذ ناظر الخزانة السلطانية. وكان فى ابتداء ترقيه بلى أمانة الحكم العزيز بالقاهرة. فاتفق أن السلطان الملك المنصور، فى حال إمرته، ابتاع منه، من تركة بعض الأمراء، عدة بجملة، كانت الغبطة فيها للأيتام. فطالبه القاضى زين الدين بالمال، فتوقف عن أدائه، وقصد ردما ابتاعه. وتحدث فى ذلك مع القاضى زين الدين فامتنع عن رده. واقتضى الحال ان شكاه للملك الظاهر، والزم بالقيام بالثمن. فبقى ذلك فى خاطر السلطان. فلما ملك، انتفع بذلك عنده غاية النفع، ورتبه فى الخزانة، ووثق به، وتمكن عنده تمكنا عظيما. ثم فوض إليه القضاء، وأقره «1» معه على الخزانة. واستمر فى القضاء إلى أن توفى، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية. ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى وشىء من أخباره وفى هذه السنة، فى يوم الاثنين، حادى عشر ذى الحجة، توفى بدمشق قاضى القضاة بهاء الدين أبو الفضل يوسف، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى الفضل يحيى، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى المعالى محمد، ابن قاضى القضاة، ركن الدين أبى الحسن على ابن قاضى القضاة، مجد الدين أبى المعالى محمد ابن قاضى القضاة ركن الدين أبى الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثمانى الأموى القرشى، المعروف بابن الزكى، قاضى قضاة الشافعية بدمشق. اجتمع فيه وله ما لم يجتمع فى غيره، ولا له. كان من أحسن الناس صورة،

وأكملهم قواما، وهيئة وهيبة. وكان من العلماء الفضلاء فى المذهب وعلم الأصولين «1» والعربية، والمنطق، وعلم الكلام، والحساب، والفرائض، والنظم، وعلم البيان، وحل «2» المترجم، والكتابة الجيدة الحسنة، مع الذكاء المفرط. وكان له دنيا عريضة من المال والعقار. وكانت داره بباب البريد، من أحسن الدور بدمشق وبستانه بالسهم الأعلى من أصح الغوطة وأطيبها هواء. وضيعته الملك قرية الميدانية، من غوطة دمشق. [وكانت «3» ] زوجته من أحسن النساء صورة و [كان «4» ] أولاده تامّين الصورة. وجمع له من المدارس بدمشق أجلها، وهى العزيزية والتقوية والفلكية والعادلية والمجاهدية والكلّامسة وغيرها. وأنظار أوقاف كثيرة، وقضاء قضاة دمشق وسائر أوقافها. فلما كمل له ذلك. أتاه الموت الذى لا حيلة فيه ولا دافع له، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأديب الفاضل، الشاعر المجيد، شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن يوسف بن أحمد الأنصارى اليمنى المحتد «5» المصرى الدار والمولد، الشافعى الصوفى، المعروف بابن الخيمى، الشاعر المشهور، المبرز على نظرائه. وكانت وفاته بالقاهرة المعزية، بمشهد الحسين، فى التاسع والعشرين من شهر رجب الفرد، سنة خمس وثمانين وستمائة. ومولده تخمينا «6» فى سنة اثنتين

وستمائة. روى عن ابن باقا، وسمع من ابن البنا وغيره، وحدّث. وكان يعانى الخدم الديوانية، وله نظم كثير جيد. فمنه قصيدته المشهورة البائية، التى ادعاها الشيخ نجم الدين بن اسرائيل. وقد رأينا أن نذكر هذه القصيدة، وما وقع فى أمرها، وما قيل فى وزنها ورويها، وكيف حكم بها للمذكور. وأول «1» القصيدة: يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب ... إليك آل التقصى وأنتهى الطلب وما طمحت لمرأى «2» أو لمستمع ... إلا لمعنى إلى علياك ينتسب وما أرانى «3» أهلا أن تواصلنى ... حسبى علوا، بأنى فيك مكتيب لكن ينازع شوقى تارة أدبى ... فأطلب الوصل، لما يضعف الأدب ولست أبرح فى الحالين ذا قلق ... باد وشوق له فى أضلعى لهب وناظر كلما كفكفت أدمعه ... صونا لحبك يعصينى وينسكب ويدعى فى الهوى دمعى مقاسمتى ... وجدى وحزنى ونجوى وهو مختضب «4» كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال «5» فى ليله للنجم يرتقب يا صاحبى قد عدمت المسعدين فما ... عدنى على وصبى لا مسّك الوصب

بالله إن جزت «1» كثبانا بذى سلم ... قف بى عليها، وقل لى هذه الكتب ليقضى الخد فى أجراعها وطرا ... من تربها وأؤدى بعض ما يجب ومل إلى البان من شرقى كاظمة ... فلى إلى البان من شرقيها طرب وخذ يمينا لمغنى «2» تهتدى بشذا ... نسيمه «3» الرطب إن ضلت بك النجب حيث الهضاب «4» وبطحاها يروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب اكرم به منزلا تحميه هيئته ... عنى وأنواره لا السمر والقضب دعنى أعلل نفسا عزّ مطلبها في ... هـ، وقلبا لعذر «5» ليس ينقلب ففيه عاهدت قدما حب من حسنت ... به الملاحة واعتزت به الرتب دان وأدنى وعز الحسن يحجبه ... عنى وذلى والإجلال والرهب أحيا إذا مت من شوق لرؤيته ... لأننى لهواه فيه منتسب ولست أعجب من حبى «6» وصحته ... من صحتى إنما سقمى هو العجب يا لهف نفسى «7» لو يحدى تلهفها ... عونا ووا حربا «8» ، لو ينفع الحرب

يمضى الزمان وأشواقى مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب هبت لنا نسمات من ديارهم ... لم يبق فى الركب من لا هزه الطرب كدنا نطير سرورا من تذكرهم ... حتى لقد رقصت من تحتنا النجب يا بارقا بأعالى «1» الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فانك الشنب «2» أما خفوق «3» فؤادى فهو عن سبب ... وعن خفوقك «4» قل لى ما هو السبب ويا نسيما سرى من جو كاظمة ... بالله قل لى كيف البان والعذب وكيف جيرة ذاك الحى هل حفظوا ... عهدا أراعيه إن شطوا وإن قربوا أم ضيعوا ومرادى منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا إن كان يرضيهم ابعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب والهجر إن كان يرضيهم بلا سبب ... فإنه من قبيل الوصل محتسب ولما بلغت هذه القصيدة نجم الدين محمد بن إسرائيل، ادعاها لنفسه. فاجتمع هو وابن الخيمى بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث فى ذلك، فأصر ابن إسرائيل على أنهاله. فتحا كما إلى الشيخ شرف الدين عمر ابن الفارض، رحمه الله، وكان يومئذ هو المشار إليه فى معرفة الأدب ونقد الشعر. فأشار أن ينظم كل واحد منهما أبياتا على الوزن والروى فنظم ابن الخيمى:

لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا علىّ، ولما أن جنوا عتبوا يا قوم «1» هم أخذوا قلبى فلم سخطوا ... وانهم غصبوا عيشى هام غضبوا هم العريب بنجد مذ عرفتهم ... لم يبق لى معهم مال ولا نسب شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب فما ألموابحى «2» أو ألم «3» بهم ... إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا عهدت فى دمن «4» البطحاء عهد هوى ... إليهم وتمادت «5» بيننا حقب فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيرى ذاك العهد قد نسبوا من منصفى من لطيف فيهم غنج ... لدن القوام لاسرائيل ينتسب «6» مبدل القول ظلما لا يفى بموا ... عيد الوصال ومنه الذنب والغضب فى لثغة الراء منه صدق نسبته ... والمّن منه برور الوعد والكذب موحد فيرى كل الوجود له ... ملكا ويبطل ما يقضى به النسب فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهى فى المليح المطلق العجب بدر ولكن هلالا لاح اذهو ... بالوردىّ «7» من شفق الخدين منتقب فى كاس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياه بها حبب

فلفظه أبدا سكران «1» يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينسى له الأدب تجنى «2» لواحظه فينا ومنطقه ... جنايه يجتنى من مرّها الضرب قد أظهر السحر «3» فى أجفانه سقما ... البرء منه إذا ما شاء والعطب حلو الأحاديث وألفاظ ساحرها ... تلقى «4» إذا نطق الألواح والكتب لم يبق منطقه قولا يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب فداؤه «5» ما جرى فى الدمع من مهج «6» ... وما جرى فى سبيل الحب محتسب ويح المتيم شام بارق من أضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب واسكن البرق من وجد ومن كلف ... فى قلبه فهو فى أحشائه لهب فكلما لاح منه بارق بعثت ... قطر المدامع من أجفانه سحب وما أعادت نسيمات الغوير له ... أخبار ذى الأثل إلا هزهّ الطرب واها له أعرض الأحباب عنه وما ... أجدت وسائله الحسنى ولا القرب ونظم الشيخ نجم الدين محمد بن اسرائيل [رحمه الله تعالى «7» ] . لم يقض من حبكم بعض الذى يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب

ولى، وفىّ لرسم الدار بعدكم ... دمع متى جاد ضنت «1» بالحيا السحب أحبابنا والمنى تدنى مزاركم «2» ... وربما حال من دون المنى الأدب «3» ما رابكم من حياتى بعد بعدكم ... وليس لى فى حياة بعدكم أدب قاطعتمونى فأحزانى مواصلة ... وحلتم «4» فحلالى فيكم التعب [رحتم بقلبى وما كادت لتسلبه ... لولا قدودكم الخطّية السلب «5» ] يا بارقا ببراق «6» الحزن لاح لنا ... أأنت أم أسلمت أقمارها النقب ويا نسيما سرى والعطر يصحبه ... أجزت «7» حين مشين الخرد «8» العرب أقسمت بالمقسمات الزّهر يحجبها» سمر العوالى والهندية القضب لكدت تشبه يرقا من ثغورهم ... مادر «10» دمعى لولا الظلم والشنب وجيرة جار فينا حكم معتدل ... منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا

ما حيلتى قربونى من محبتهم ... وحال دونهم التقريب والخبب «1» وعرضتا على الشيخ شرف الدين بن الفارض. فأنشد مخاطبا لابن اسرائيل عجز بيت من أبيات ابن الخيمى: لقد حكيت ولكن فاتك الشنب وحكم بالقصيدة لابن الخيمى. واستحسن بعض من حضر المجلس من الأدباء أبيات ابن اسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه الأبيات، ما الحامل له على ادعاء ما ليس له؟. فقال ابن الخيمى: هذه سرقة عادة، لا سرقة حاجة. وانفصل المجلس. وفارق الشيخ نجم الدين بن إسرائيل من وقته الديار المصرية، وتوجه إلى الشام. ولما بلغت هذه الواقعة القاضى شمس الدين أحمد بن خلكان وهو إذ ذاك يتولى نيابة الحكم بالقاهرة، خلافة عن قاضى القضاة بدر الدين السنجارى، رحمهما الله تعالى، أرسل إلى الشيخ شهاب الدين ابن الخيمى، يطلب منه الأبيات التى نظمها، وادعاها ابن اسرائيل، فذيلها بأبيات وهى: إن كان يرضيهم إبعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب والهجر إن كان يرضيهم بلا صبب ... فإنه من لذيذ الوصل محتسب وإن هم احتجبوا عنى فإن لهم ... فى القلب مشهور حسن ليس يحتجب

قد نزه «1» اللطف والإشراق بهجته ... عن أن تمنعها «2» الأصتار والحجب لا ينتهى نظرى منهم إلى رتب ... فى الحسن إلا ولاحت فوقها رتب وكلما لاح معنى من جمالهم ... لبّاه شوق إلى معناه منتسب أظل «3» دهرى ولى من حبهم طرب ... ومن أليم اشتياقى نحوهم حرب فالقلب يا صاح منى بين ذاك وذا ... قلب لمعروف شمس الدين منتهت إن الحديث شجون فاستمع عجبا ... حديث ذا الحبر «4» حسنا كله عجب وشرع فى مدحه وذكر أوصافه. إلى نهاية سبعة وثلاثين بيتا، تركنا ايراد بقيتها اختصارا «5» . وشعره، رحمه الله تعالى، كثير جيد مشهور. فلنرجع إلى سياق أخبار الدولة المنصورية.

واستهلت سنة ست وثمانين وستمائة [686 - 1287]

واستهلت سنة ست وثمانين وستمائة [686- 1287] فى هذه السنة، تسلم الأمير حسام الدين طرنطاى صهيون، وعاود الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الطاعة «1» . وقد تقدم ذكر ذلك. وفيها، كانت غزوة النوبة الأولى. وقد تقدم ذكرها. ذكر تفويض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى برهان الدين السنجارى، ونقلة القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام ووفاة السنجارى، وإضافة قضاء القاهرة للقاضى تقى الدين ابن بنت الأعز كان سبب هذه الولايات ما قدمناه، من وفاة قاضى القضاة بدمشق، بهاء الدين بن الزكى، فى حادى عشر ذى الحجة، سنة خمس وثمانين. فلما اتصل خبر وفاته بالسلطان، رسم بتعيين قاض للشام. فعين قاضى القضاة شهاب الدين الخويى «2» لذلك، فيما بلغنى، القاضى شرف الدين إبراهيم «3» بن عتيق، وكان إذ

ذاك ينوب عنه، وأحضره لذلك. وسعى قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز، أن ينقل القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام، ويستقل هو بقضاء المدينتين والعملين، فنتج سعيه الآن فى أخذ الطرفين. وذلك أن القاضى شهاب الدين الخويى، طلع فى يوم الأحد، خامس عشر المحرم، من هذه السنة، إلى قلعة الجبل، وصحبته القاضى شرف الدين بن عتيق، الذى عينه لقضاء الشام. وحضر قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز المجلس، وطلب [السلطان] «1» قاضى القضاة برهان الدين الخضر السنجارى، فخلع عليه، وقوض له قضاء القاهرة والوجه البحرى ونقل القاضى شهاب الدين الخويى إلى قضاء الشام، فتوجه إلى دمشق، فى ثالث عشر صفر، ووصل إليها فى يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الأول. وأما القاضى برهان الدين، فإنه جلس للحكم بالقاهرة بالمدرسة المنصورية. وتقدم فى الجلوس بدار العدل، على قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز، فتألم لذلك، وندم على سعيه فى نقلة القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام، وسعى أن يتوفر من حضور دار العدل. فبينما هو فى ذلك، توفى قاضى القضاة برهان الدين السنجارى. وكانت وفاته فى تاسع صفر من السنة، بالمدرسة المعزّية بمصر، ودفن بتربة أخيه بدر الدين بالقرافة. فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوما، ومولده فى سنة ست عشرة وستمائة. ولما مات، فوض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى لقاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز. وخلع عليه، وجمع له القضاء بالمدينتين والعملين. وبلغنى أنه صلى على القاضى برهان الدين، وعليه خلعة القضاء «2» .

ذكر خبر واقعة ناصر الدين بن المقدسى واعيان دمشق، ومصادرة أكابر دمشق، وتوكيل ناصر الدين بن المقدسى عن السلطان

ذكر خبر واقعة ناصر الدين بن المقدسى واعيان دمشق، ومصادرة أكابر دمشق، وتوكيل ناصر الدين بن المقدسى عن السلطان وفى هذه السنة، وصل ناصر الدين محمد ابن الشيخ عبد الرحمن المقدسى، إلى الأبواب السلطانية. وكان قد حضر، ليرفع «1» على قاضى القضاة بهاء الدين ابن الزكى أمورا. فاتفقت وفاة قاضى القضاة كما تقدم، فبطل عليه ما دبره من أمره، فعدل عن ذلك إلى غيره. واجتمع بالأمير علم الدين [سنجر «2» ] الشجاعى، وزير الدولة، وتحدث معه فى أمر بنت «3» الملك الأشرف موسى ابن السلطان الملك العادل، وأنها أباعث أملاكها بدمشق، وأنه ثبت أنّها حالة البيع كانت سفيهة، وقد حجر عليها عمها الملك الصالح، عماد الدين إسماعيل، ويستعيد الاملاك ممن ابتاعها، ويرجع عليهم بما تسلموه من الريع، فى المدة الماضية، ويشترى هذه الأملاك للخاص «4» السلطانى، فأجابه إلى ذلك. وكتب يطلب سيف الدين أحمد السامرى من دمشق، وكان قد ابتاع منها

حرزما «1» . فحضر فى شهر رمضان، والسلطان إذ ذاك بغزة، فسيره إلى الديار المصرية. فطلب منه ابتياع حرزما، فادعى أنه وقفها من مدة. فعند ذلك، سطر محضر، يتضمن ابنة الملك الأشرف، كانت فى مدة كذا وكذا سفيهة، وذلك فى زمن البيع. ولم تزل مستمرة السفه، إلى تاريخ كذا وكذا. ثم صلحت واستحقت رفع الحجر عنها من مدة كذا وكذا. ولفّق بينة شهدت بذلك، وثبت على أخذ قضاء القضاة بالديار المصرية، وقد شاهدت «2» أنا هذا المحضر. ولما ثبت ذلك فى وجه سيف الدين السامرى، بطل البيع من أصله. ثم طولب «3» بما تحصل «4» له من الريع، لمدة عشرين سنة، وكان مائتى ألف درهم وعشرة آلاف درهم، بعد الاعتداد له، بنظير الثمن الذى دفعه. فاشترى منه سبعة عشر مهما، من قرية الزنبقية، بسبعين ألف درهم، وحمل مائة ألف وأربعين ألف درهم. وقوض السلطان وكالته، لناصر الدين المقدسى المذكور، فشرع فى أذى أهل دمشق وأعيانها، فطلب جماعة منهم، فى سنة سبع وثمانين، وهم الصدر عز الدين حمزة بن القلانسى، والصدر نصير الدين بن سويد، وشمس الدين ولد جمال الدين بن يمن، وجمال الدين بن صصرى. وطلب أيضا قاضى القضاة حسام الدين الحنفى، والصاحب تقى الدين توبة، وشمس الدين ابن غانم، فصودر هؤلاء. فأخذ من الصدر عز الدين بن القلانسى، فيما قيل،

مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم، ومن جمال الدين بن صصرى، ثلاثمائة ألف درهم، قيمة ملك ودراهم. وحمل [من «1» ] نصير الدين ثلاثون ألف درهم، ومن ابن يمن، عن قيمة أملاك، مائة ألف درهم وتسعون «2» ألف درهم، ومن شمس الدين بن غانم خمسة آلاف درهم؛ ومن قاضى القضاة حسام الدين ثلاثة آلاف درهم. واعتذر أكابر الدماشقة، أنهم حضروا على خيل البريد، وأن أموالهم وموجودهم بدمشق، وسألوا أن يقرر عليهم ما يحملونه. فطلب الأمير علم الدين [سنجر الشجاعى وزير الديار المصرية «3» ] ، جماعة من تجار الكارم «4» ، وأمرهم أن يقرضوا الدماشقة مالا يحملونه، ففعلوا ذلك. وكتب عليهم الحجج، وأعيدوا إلى دمشق، وقاموا بالمبلغ لأربابه. وإنما فعل الأمير علم الدين الشجاعى ذلك، خشية أنهم إذا توجهوا إلى دمشق، استشفعوا فيسامحوا. فأراد أن يكون ذلك فى ذمتهم، لغير بيت المال. ثم عاد الدماشقة إلى دمشق، وولى جمال الدين بن صصرى نظر الدواوين بدمشق، وذلك فى سنة سبع وثمانين وستمائة.

وفى سنة ست وثمانين وستمائة أيضا، توجه السلطان إلى جهة الشام، واستقل ركابه من قلعة الجبل، فى يوم الخميس سابع عشرين شهر رجب، ووصل إلى غزة، وأقام بتل العجول، ثم عاد إلى قلعة الجبل. وكان وصوله إليها، فى يوم الاثنين ثالث عشرين، شوال من السنة. وفيها، فى تاسع عشر محرم، كانت وفاة علاء الدين ابن الملك الناصر، صاحب الشام، الذى كان فى الاعتقال. وكان قد اعتقل، فى أوائل الدولة المنصورية، فى سابع عشر رمضان، سنة ثمان وسبعين وستمائة. وكان قد حصل له مرض المالنخوليا. فلما اشتد به، قتل نفسه. ومولده فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة. وفيها، فى ليلة السبت، الثامن والعشرين، من شهر المحرم، توفى الشيخ الإمام، قطب الدين أبو بكر، محمد بن أحمد بن على بن الحسين بن عبد الله ابن أحمد بن ميمون القيسى الشاطبى، المعروف بابن القسطلانى، بالمدرسة الكاملية، دار الحديث بالقاهرة، وهو مدرسها، ودفن من الغد، بالقرافة الصغرى. وكانت جنازته مشهورة، رحمه الله تعالى «1» . وفيها، كانت وفاة الأمير سيف الدين قجقار «2» المنصورى، نائب السلطنة بالمملكة الصفدية. وكان السلطان قد رباه فى صغره، كالولد، رحمه الله تعالى.

وفيها، كانت وفاة الأمير علم الدين سنجر الباشقردى الصالحى بالقاهرة، فى ليلة الثلاثاء، تاسع عشر، شهر رمضان، ودفن بالقرافة. وكان من أكابر الأمراء المقدمين بالديار المصرية. وتولى نيابة السلطنة بحلب «1» كما تقدم، وعزل بالأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى.

واستهلت سنة سبع وثمانين وستمائة [687 - 1288]

واستهلت سنة سبع وثمانين وستمائة [687- 1288] ذكر عزل الأمير علم الدين سنجر الشجاعى عن الوزارة ومصادرته، وتفويض الوزارة لقاضى القضاة، تقى الدين ثم إلى الأمير بدر الدين بيدرا وفى هذه السنة، فى يوم الخميس، ثانى عشر شهر ربيع الأول، عزل السلطان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، عن الوزارة، وصادره وأخذ أمواله. وكان سبب ذلك، أن النجيب المعروف بكاتب بكجرى، أحد مستوفى «1» الدولة، برزله، وانتدب لمرافعته، بموافقة تقى الدين بن الجوجرى، ناظر «2» الدواوين ومباطنته «3» له، وحاققه «4» بين يدى السلطان. وكان من جملة ما حاققه «5» عليه، وأغرى السلطان به، أنه قال للسلطان بحضوره، إنه أباع جملة من الرماح والسلاح، الذى كان فى الذخائر السلطانية للفرنج. فاعترف الأمير علم الدين بذلك. وقال نعم أنا بعته بالغبطة «6» الوافرة، والمصلحة الظاهرة. فالغبطة أنى

أبعتهم من الرماح والسلاح، ما عتق وفسد، وقلّ الانتفاع به، وبعته بأضعاف قيمته. والمصلحة، ليعلم الفرنج أنا نبيعهم السلاح هوانا بهم، واستحقارا لأمرهم، وعدم مبالاة بهم. فكاد السلطان يصغى إلى ذلك. فأجابه النجيب عن ذلك، بأن قال له يا مكثل «1» ، الذى خفى عنك أعظم مما لمحت هذا الكلام، الذى صورته أنت بخاطرك، وأعددته جوابا. وإنما الفرنج والأعداء لا يحملون بيع السلاح لهم، على ما ظننت أنت وزعمت. وإنما الذى يشيعونه بينهم وينقله الأعداء إلى أمثالهم، أن يقولوا، قد احتاج صاحب مصر، حتى باع سلاحه لأعدائه، أو ما هذا معناه من الكلام. فعند ذلك أحتد السلطان عليه، غاية الاحتداد، وأشتد غضبه، وأمر بمصادرة الأمير علم الدين، على جملة كثيرة من الذهب، والزمه أن لا يبيع فيما طلب منه، شيئا من خيله وسلاحه ولا [من «2» ] عدة الإمرة ورختها «3» ، وأنه لا يحمل المطلوب منه إلا عينا، قفعل ذلك. وبلغ السلطان، أن الأمير علم الدين، قد ظلم الناس وصادرهم، وأن فى اعتقاله جماعة كثيرة، قد مرّ عليهم شهور وسنون، وباعوا موجودهم، وصرفوه فى أجرة المترسمين «4» عليهم.

واحتاج بعضهم إلى أن استعطى من الناس بالأوراق «1» . فرسم السلطان للأمير بهاء الدين بعدى «2» الدوادار، أن يكشف أمر المصادرين، ويطالع السلطان به. فخرج إليهم وسألهم، فذكروا ما هم فيه من الضرورة والفاقة، فأعلم السلطان بخبرهم. فرسم «3» للأمير حسام الدين طرنطاى بالكشف عنهم، فأفرج عن جميعهم. ثم أفرج عن الأمير علم الدين فى يوم الأربعاء، تاسع شهر ربيع الآخر من السنة. ولما عزل السلطان الأمير علم الدين عن الوزارة، فوضها «4» السلطان للأمير بدر الدين بيدرا، فى يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأول فى السنة. ثم فوضت الوزارة لقاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، فى يوم الخميس التاسع عشر من شهر ربيع الآخر، مضافة إلى ما بيده من قضاء القضاة، ونظر الخزائن. ولم يترك نظر الخزانة، فربما جلس فى اليوم الواحد فى دست الوزارة، ومجلس الحكم، وديوان الخزانة. واستمر على ذلك مدة يسيرة، ولم يوف منصب الوزارة حقه العادى، لتمسكه بظاهر الشرع الشريف. ثم توفر من الوزارة، وفوضت للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى، وكان أمير مجلس السلطان، ثم نقل إلى الاستادارية، ثم إلى الوزارة، واستقر كذلك إلى آخر الدولة المنصورية.

وفيها، فى ليلة يسفر «1» صباحها عن يوم الاثنين سادس عشر ربيع الأول، وقع الحريق، فى خزائن السلاح والمشهد الحسينى بالقاهرة، ثم طفىء. وفيها، بنى السلطان الملك المنصور بابنة «2» الأمير شمس الدين سنقر التكريتى «3» الظاهرى، وأفرج عن والدها من الاعتقال، وأمرّه بالشام. ثم فارقها السلطان، فقيل فى سبب فراقه لها، إن والدها زوج أختها من أحد مماليكه، فكره السلطان، وأنف منه، وفارقها بسببه. وقيل، بل تعاطت نوعا من الكبر وأقامت لها من الجوارى سلاح دارية وجمدارية وسقاة «4» وغيرهن، مما يتعلق «5» بالسلطنة، ففارقها السلطان لذلك. ولما انقضت عدّتها، أمر السلطان أن تزوج لأردى أولاد الأمراء سيرة، نكاية لها. فكشف عن سير أولاد الأمراء ممن اشتهر بسوء السيرة، فوقع الأتفاق على جمال الدين يوسف بن سنقر الألفى، فزوجت منه. وفى هذه السنة، ولى القاضى بدر الدين محمد ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن جماعة الشافعى الكنانى، قضاء القدس الشريف، والخطابة [به «6» ] . وتوجه من دمشق، فى رابع شوال، ووصل إلى القدس فى يوم الاثنين حادى عشر الشهر. وولى الخطابة بالقدس، بعد وفاة الشيخ قطب الدين أبى الذكاء عبد المنعم

ذكر توجه ناصر الدين بن المقدسى [إلى دمشق] ، وما فوض إليه من مناصبها، وما اعتمده

ابن يحيى بن إبراهيم القرشى. وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، بالقدس الشريف فى يوم الجمعة، سابع عشر شهر رمضان، من هذه السنة «1» . وولى بعد القاضى بدر الدين، تدريس المدرسة القيمرية، القاضى علاء الدين أحمد ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز. وجلس لإلقاء الدرس بها، فى يوم الأحد تاسع عشر شوال. وفيها، فى شهر رمضان، فوضى نظر الحسبة بدمشق للصدر شمس الدين ابن السلعوس. ووصل توقيعه بذلك من الأبواب السلطانية، عوضا عن شرف الدين أحمد بن عز الدين عيسى بن الشيرحى «2» . وكان ابن الشيرحى قدوليها، فى جمادى الآخرة من السنة. وفيها، فوض قضاء المالكية بدمشق، لقاضى القضاة جمال الدين الزواوى «3» ذكر توجه ناصر الدين بن المقدسى [إلى دمشق «4» ] ، وما فوض إليه من مناصبها، وما اعتمده فى هذه السنة، توجه ناصر الدين بن المقدسى، من الأبواب السلطانية، إلى دمشق. وقد فوض له السلطان الملك المنصور وكالته «5» ، ونظر الأوقاف

بدمشق والشام أجمع. ومن جملة ذلك، نظر الجامع الأموى، والبيمارستانات الثلاثة، ونظر الأشراف والأسرى، والأيتام والصدقات، والأسوار والخوانق والربط وغير ذلك. وحضر صحبته مشدان، من الأبواب السلطانية، وهما بدر الدين القشتمرى، وصارم الدين الأيدمرى. فتردد الناس إلى خدمته، وخافوا شره. ولزم أرباب السعايات والمرافعات بابه. وشرع يتتبع الناس فيما ابتاعوه من الأملاك، وقصد إثبات سفه من أباع، وأن يسلك فى ذلك، الطريق الذى سلكه فى أمر ابنة الملك الأشرف «1» . فامتنع القضاة بدمشق، من موافقته على ذلك، وعضدهم الأمير حسام الدين نائب السلطنة. فمنع ناصر الدين القضاة الجامكية المرتبة لهم على مصالح الجامع الأموى. فلم يردهم ذلك إلا امتناعا من موافقته على أغراضه. وشرع فى عمارة الأملاك السلطانية، واستجد حوانيتا على جسر باب الفراديس من الجانبين. وأصلح الجسر، قبل عمارة الحوانيت. ثم أصلح باب الجابية «2» الشمالى، وكان مستقلا فهدمه وعمره. ولم يكن له حسنة، غير إصلاح هذين الجسرين والباب، ومساطب الشهود بباب الجامع «3» . وفى هذه السنة، فى شهر رمضان المعظم، كبس بدر بن النفيس «4» النصرانى الكاتب بدمشق، وعنده إمرأة مسلمة، وهم يشربون الخمر. فطولع الأمير حسام الدين نائب السلطنة بدمشق بذلك. فأمر أن يحرق النصرانى، فبذل فى نفسه جملة من المال، وسأل مخدومه الأمير سيف الدين كجكن فى أمره،

ذكر وفاة الملك الصالح وتفويض ولاية العهد إلى الملك الأشرف

فلم يجب نائب السلطنة إلى إبقائه. وأضرمت له نار بسوق الخيل، وألقى فيها. وأما المرأة، فقطع بعض أنفها، وشفع فيها فأطلقت. وفى هذه السنة، فى مستهل رجب، توفيت الست «1» غازية خاتون زوجة الملك السعيد، ودفنت عند والدتها، بالقبة الصالحية، بجوار مشهد السيدة نفيسة، بظاهر القاهرة. ذكر وفاة الملك الصالح وتفويض ولاية العهد إلى الملك الأشرف فى هذه السنة، فى يوم الجمعة رابع شعبان، توفى الملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور، وكانت علته «2» دوسنطاريا كبدية. وصلى عليه بالقلعة، قاضى القضاة، تقى الدين ابن بنت الأعز، وصلّى خلفه والده السلطان الملك المنصور، وأخوه الملك الأشرف، وصلى عليه خارج القلعة، قاضى القضاة معز الدين الحنفى. ودفن بتربته المجاورة لمشهد السيدة نفيسة. وحصل لوالده السلطان عليه من الآلم، مالا مزيد عليه. وخلف ولدا واحدا، من زوجته منكبك ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وهو الأمير مظفر الدين موسى، وله أخبار، ترد إن شاء الله تعالى «3» .

ولما مات الملك الصالح، فوض السلطان ولاية «1» العهد بعده، لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل. وركب بشعار السلطنة، فى حادى عشر شعبان من قلعة الجبل، إلى باب النصر. وشق المدينة، وخرج من باب زويلة، وعاد إلى القلعة، والأمراء فى خدمته. وكتب بذلك إلى الشام، وسائر البلاد، وخطب له بولاية العهد، بعد أبيه على عادة أخيه الملك الصالح. وكتب تقليده فتوقف السلطان على الكتابة عليه. وسنذكر ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الملك الأشرف «2» . وفى هذه السنة، توفى الأمير بدر الدين الأيدمرى الصالحى، فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين، خامس المحرم. وتوفى الأمير فخر الدين اياز «3» ، المعروف بالمعزى «4» الحاجب، فى ليلة يسفر صباحها، عن يوم الجمعة، العشرين من شهر ربيع الأول، وذلك عقيب عوده من الحجاز. وكان رحمه الله تعالى، من حسنات الدهر. وكانت الملوك تعتمد عليه فى المهمات الجليلة. وتوفى الأمير سيف الدين بلبان العلائى الصالحى النجمى، المعروف بقول الله كريم الدين، رحمه الله تعالى، فى يوم الثلاثاء سادس عشرين جمادى الآخرة منها، ودفن بتربته بالقرافة الصغرى. وهو خوشداش السلطان الملك المنصور، وسنقر الأشقر

وغيرهما، كانوا كلهم مماليك الأمير علاء الدين أقسنقر الساقى العادلى. وكان السلطان يرعى له حق الخوشداشية ويكرمه. ويزوره إذا مرض فى منزله، رحمه الله تعالى «1» . وفيها، توفى القاضى الخطيب، فخر الدين عبد العزيز ابن قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن بن السكرى. وكانت وفاته بالمدرسة المعروفة بمنازل العز بمصر، فى رابع عشرين شوال. ومولده فى سنة أربع وستمائة؛ رحمه «2» الله تعالى.

واستهلت سنة ثمان وثمانين وستمائة [688 - 1289]

واستهلت سنة ثمان وثمانين وستمائة [688- 1289] فى هذه السنة، فى المحرم، توجه السلطان إلى الشام، وافتتح طرابلس، وقد ذكرنا ذلك فى الفتوحات. ولما افتتح السلطان طرابلس، جهّز الأمير حسام الدين طرنطاى، إلى المملكة الحلبية، بطائفة من العسكر. وكان قد وصل إلى «1» [السلطان «2» ] ، وهو بطرابلس، رسل صاحب سيس، يسألون مراحم «3» السلطان، ويطلبون مراضيه. فطلب منهم السلطان تسليم مرعش، وبهسنا والقيام بالقطيعة «4» على العادة، وخلع عليهم وأعادهم. ورحل عن طرابلس ونزل على حمص، وأقام بها أيّاما. فعادت رسل سيس بهدية كثيرة، واعتذارات عن تسليم مرعش وبهسنا، وبذل جملة كثيرة من المال فى كل سنة. فرحل السلطان عن حمص، ودخل إلى دمشق، فى يوم الاثنين خامس جمادى الأولى. ذكر ما اتفق بدمشق من المصادرات كان السلطان قد استصحب [معه «5» ] فى هذه السفرة، الأمير علم الدين

سنجر الشجاعى، بعد عزله من الوزارة. فلما عاد إلى دمشق من طرابلس، أمره أن يتحدث فى تحصيل الأموال بدمشق، ومكّنه من ذلك، فأوقع الحوطة، على الصاحب تقى الدين توبة. فوجد له أخشابا «1» كثيرة وبضائع وسكّرا، فطرح ذلك على أهل دمشق، بأضعاف قيمته. فكان يحفظ لمن يطرح عليه منه الربع فمادونه. فحصل من ذلك تقدير خمسمائة ألف درهم. وكان غرضه بذلك، أن يطلع السلطان، على أن تقى الدين توبة قد حصل الأموال الكثيرة، لعداوة كانت بينهما. ثم شرع فى مصادرات الناس، فهرب أكثر الدماشقة إلى القرى والضياع، واختفوا منه. وطلب نجم الدين عباس الجوهرى، بسبب ضيعة كان قد اشتراها من ابنة الملك الأشرف، بالبقاع العزيز، فطولب بما أخذه من ريعها، فكان خمسمائة ألف درهم، فحمل جوهرا، قوّم له، بثمانين ألف درهم. فشدّد عليه الطلب، فجاء إلى مدرسته التى أنشأها بدمشق، وحفر فى دهليزها، وأخرج خونجاه «2» ذهب، مرصعة بالجوهر، وعليها فرقة «3» مرصعة، فقوم ذلك بأربعمائة ألف درهم، وسبك الذهب، وكان سبعة آلاف دينار، ونقل الجوهر إلى الخزانة. وأظهر السلطان للأمراء، أن إقامته بدمشق، لانتظار الأمير حسام الدين طرنطاى، فوصل فى سابع عشر شهر رجب. وتلقاه السلطان بالعساكر، وأقام بدمشق، إلى يوم الخميس ثانى شعبان. فتوجه فى هذا اليوم إلى الديار المصرية،

بعد أن حصل الإحجاف بأهل دمشق، واستصحب تقى الدين توبة مقيّدا. فلما وصل إلى حمراء بيسان «1» ، مرّ عليه الأمير حسام الدين طرنطاى، والأمير زين الدين كتبغا، وهو بالزردخاناة، فسبهما أقبح سب، وكانت هذه عادته، وذكر ما فعل به، وهما يضحكان من سبه لهما. فتوجها إلى السلطان، وسألاه فى أمره، وضمناه فأفرج عنه. وأخذاه عندهما. فتألم الأمير علم الدين الشجاعى لذلك ألما شديدا. وكان قد كتب إلى نابلس والقدس وبلد الخليل والبلاد الساحلية، يطلب الولاة والمباشرين، وأن يجهزوا إلى غزة. فلما حصل الإفراج عن تقى الدين توبة، غضب الشجاعى وأظهر حردا. وامتنع من الحديث [فى المصادرين «2» ] ، فكان ذلك من الألطاف بمن طلب. ووصل السلطان إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء. وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء [ثا «3» ] من عشرى «4» شعبان، وقت الظهر توفى بدمشق الملك المنصور شهاب الدين محمود ابن الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل. وفيها، كانت وفاة الأمير علاء الدين الكبكى بالقدس الشريف، فى شهر رمضان، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة تسع وثمانين وستمائة [689 - 1290]

واستهلت سنة تسع وثمانين وستمائة [689- 1290] فى هذه السنة، فى أولها توجه الأمير حسام الدين طرنطاى، ومعه جماعة من الأمراء والعساكر، إلى الوجه القبلى. فوصل إلى منزلة طوخ دمنوا «1» ، قبالة مدينة قوص. وتصيّد فى هذه السفرة، ومهد البلاد، وقتل جمامة من العربان، وحرق بعضهم بالنار، وأخذ خيولهم وسلاحهم ورهائن أكابرهم، وعاد إلى قلعة الجبل. وفيها، فى شهر ربيع الأول، استدعى السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، من دمشق، على خيل البريد. فلما وصل إلى بابه أكرمه، وقال له: اعلم أننى ما اشترتيك، وأمرتك، ووليتك شاد الدواوين بالشام، إلّا ظنا منى، أنك تنصحنى وتحصل أموالى، وتنهض فى مصالح دولتى، فالتزم بتحصيل الأموال. فخلع عليه، وفوّض له، مضافا إلى شدّ الشام، الحصون بسائر الممالك الشامية والساحل، وديوان الجيش. فعاد إلى الشام، وكان وصوله

ذكر ايقاع الحوطة على ناصر الدين المقدسى وشنقه

إلى دمشق، فى يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الآخر، وتعاظم فى نفسه وكثر تجبرّه «1» . وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين جرمك «2» الناصرى، وذلك فى جمادى الأولى. وفيها، جهز السلطان الأمير سيف الدين التقوى، إلى طرابلس، واستخدم معه ستمائة فارس بطرابلس. وهو أول جيش استخدم بها. وكان الجيش قبل ذلك بالحصون. ذكر ايقاع الحوطة على ناصر الدين المقدسى وشنقه وفى هذه السنة، فى جمادى الآخرة، برز أمر السلطان بالكشف على ناصر الدين بن المقدسى وكيله بالشام. فورد المرسوم إلى دمشق، فى ثانى عشرين الشهر، فكشف عليه، فظهرت له مخازى كثيرة. وسر الناس بذلك، فرسم عليه، وطولع السلطان بما ظهر عليه. فورد الجواب، فى يوم الجمعة، تاسع عشر شهر رجب، أن يستخرج منه، ما التمسه، فطولب بذلك، وضرب بالمقارع، فى يوم ورود المرسوم. وشرع فى بيع موجوده، وحمل ثمنه، واستمر كذلك، وهو بالمدرسة العذراوية فى الترسيم، إلى يوم الخميس ثانى شعبان. فورد المرسوم السلطانى، يطلبه إلى الأبواب السلطانية. فلما اجتمع الناس، بكرة نهار الجمعة،

دخلوا عليه، فوجدوه قد شنق. فحضر أولياء الأمر والقضاة والشهود، وشاهده على تلك الصورة، وكتبوا محضرا بذلك. ودفن، واستراح الناس من شره. وفى هذه السنة، رسم السلطان لنائب السلطنة «1» بالشام، والأمير شمس الدين الأعسر، لعمل مجانيق، وتجهيز زرد خاناة، لحصار عكا. فتوجه الأمير شمس الدين الأعسر، إلى وادى مريين «2» ، وهو بين جبال عكار وبعلبك، وفيه من الأخشاب وأعواد المجانيق، أشياء كثيرة «3» لا يمكن أن يوجد مثلها فى غيره. وأخبرنى «4» جماعة أثق بأخبارهم، فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وأنا يوم ذاك، بالقرب من هذا الوادى، أن به عودا قائما طوله أحد وعشرون ذراعا، بذراع العمل، ودوره كذلك، وأنهم حققوا ذلك، بأن صعد رجل إلى أعلاه، ودلّى حبلا إلى الأرض، من أعلاه، وأداروا الحبل عليه، فجاء سواء، لا يزيد ولا ينقص. فتوجه الأمير شمس الدين إلى هذا الوادى، وقرر على ضياع المرج «5» والغوطة بدمشق مال، من ألفى درهم إلى خمسمائة درهم، كلّ ضيعة بحسب متحصلها، لأجرة جر أعواد المجانيق، وكذلك ضياع بعلبك والبقاع. وجى «6» المال، ونال أهل بعلبك والبقاع شدة عظيمة، بسبب ذلك. وبينا الأمير شمس الدين بالوادى

المذكور، وهو مهتم فى قطع الأعواد وجرها، سقط عليه ثلج عظيم، فركب خيله، وخرج منه. وأعجله كثرة الثلج وترادفه، عن نقل أثقاله وخيامه، فتركها ونجا «1» بنفسه، ولم يلو على شىء. ولو تأخر بسببها، واشتغل بحملها هلك هو ومن معه، وارتدمت أثقاله بالثلوج، وبقيت تحتها إلى فصل الصيف، وتلف أكثرها «2» . وفى هذه السنة أيضا، فوض السلطان تقدمة العسكر بغزة والأعمال الساحلية، إلى الأمير عز الدين أيبك الموصلى، عوضا عن الأمير شمس الدين أقسنقر كرتيه. فتوجه إليها من دمشق، فى رابع شهر رجب. وفيها، فى شعبان، اشتد الحر بحماه، حتى شوى اللحم على بلاط الجامع، على ما حكاه الشيخ شمس الدين الجزرى «3» فى تاريخه. ووقعت نار فى دار صاحب حماه فاحترقت، وأرسل الله ريحا واشتدت، فقويت النار واستمرت يومين وبعض الثالث، وما قدر أحد أن يتقدم إليها، فاحترقت الدار بما فيها، وكان صاحب حماه فى الصيد.

ذكر وفاة قاضى القضاة نجم الدين المقدسى الحنبلى وتفويض القضاء بدمشق بعده للشيخ شرف الدين المقدسى

وفيها، فى شعبان، خرج مرسوم السلطان إلى الشام، أن لا يستخدم أحد من أهل الذمة، اليهود والنصارى، فى المباشرات الديوانية «1» ، فصرفوا منها. وورد مثال «2» بالإفراج عن المعتقلين. وفيها، ثار «3» جماعة من الفرنج بعكا، فقتلوا جماعة من تجار المسلمين بها، كانوا قدموا للمتجر، تمسكا بالهدنة، وذلك فى شعبان. فادعى أهل عكا، أن ذلك إنما فعله الفرنج الغرب، وأنه ليس برضاهم. فكان ذلك من أكبر الأسباب التى أوجبت أخذ عكا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» . ذكر وفاة قاضى القضاة نجم الدين المقدسى الحنبلى وتفويض القضاء بدمشق بعده للشيخ شرف الدين المقدسى وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء، ثانى عشر جمادى الأولى، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد ابن قاضى القضاة شمس الدين أبى محمد عبد الرحمن المقدسى، قاضى الحنابلة بدمشق. فعين [الأمير حسام الدين لاجين «5» ] نائب السلطنة ثلاثة، وكتب فى حقهم إلى السلطان، وهم الشيخ زين

الدين بن المنجا «1» ، والشيخ تقى الدين سليمان، والشيخ شرف الدين الحسن. فورد المثال السلطانى، فى غرة جمادى الآخرة، لنائب السلطنة، أن يفوض القضاء بدمشق للقاضى شرف الدين الحسن ابن الخطيب شرف الدين أبى العباس أحمد بن أبى عمر بن قدامه المقدسى. ففوض إليه نائب السلطنة القضاء، حسب الأمر السلطانى. وكتب تقليده عن نائب السلطنة، وخلع عليه فى يوم الاثنين تاسع الشهر. وجلس بجامع دمشق، وحكم بين الناس، على عادة القضاة قبله. وفيها، توفى الشيخ الإمام العالم، رشيد الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل ابن مسعود الفارقى الشافعى. وكانت وفاته بالمدرسة الظاهرية بدمشق، فى يوم الأربعاء، رابع شهر المحرم، ودفن بمقابر الصوفية. ويقال إنه وجد مخنوقا «2» ، وكان من العلم والفضيلة بالمكان المشهور، وشهرته بذلك تغنى عن «3» وصف محاسنه، رحمه الله تعالى. وفيها، فى ليلة الأحد الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، توفى الطواشى شرف الدين مختص «4» الظاهرى، مقدم المماليك السلطانية، فى الدولة الظاهرية والسعيدية والمنصورية، ودفن من الغد بالقرافة. وكان مهيبا سلطا على المماليك السلطانية، مبسوط اليد فيهم، ذا حرمة وافرة، رحمه الله تعالى.

ذكر وفاة السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون، رحمه الله

ذكر وفاة السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون، رحمه الله كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بمنزلة مسجد تبر «1» ، وهى المنزلة الأولى، وذلك فى العشر الأخير من شوال، فعلمت به علته إلى أن مات، رحمه الله تعالى، وحمل إلى قلعة الجبل ليلا، واستمر بها إلى آخر يوم الخميس غرة المحرم سنة تسعين وستمائة «2» . ففى هذا اليوم [قال] «3» : أرسل السلطان الملك الأشرف، إلى التربة المنصورية بالقاهرة جملة يصدق بها. فلما كان فى ليلة الجمعة المسفرة عن ثانى المحرم، نقل رحمه الله تعالى، من القلعة إلى تربته التى أنشأها بالقاهرة وأدخل من باب البرقية، وصلّى عليه بالجامع الازهر، ثم حمل منه إلى التربة. ونزل قبره الأمير بدر الدين بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى. وفرق فى صبيحة ذلك اليوم، جملة من الذهب على القراء. وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنه وشهرين وأربعة عشر يوما.

ذكر تسمية نواب السلطان الملك المنصور ووزرائه

وخلّف من الورثة؛ أولاده الخمسة، وهم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل، وهو الذى ملك بعده، والسلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد، وهو سلطان هذا العصر «1» ، والأمير أحمد- مات فى سلطنة أخيه الملك الأشرف- وابنتان، وهما دار مختار الجوهرى، واسمها التطمش، ودار عنبر الكمالى، وزوجته والدة السلطان الملك الناصر. ذكر تسمية نواب السلطان الملك المنصور ووزرائه ناب عن السلطان الملك المنصور، رحمه الله تعالى، بأبوابه الشريفة فى أول سلطنته، الأمير عز الدين ايبك الأفرم الصالحى، ثم استعفى كما تقدم. واستقر فى نيابة السلطنة، الأمير حسام الدين طرنطاى المنصورى، واستمر إلى أن كانت وفاة السلطان. وناب عن السلطان بدمشق، بعد استعادتها من الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصورى، المعروف بالصغير. وناب عن السلطنة بالمملكة الحلبية فى ابتداء الدولة، الأمير جمال الدين أقش الشمسى، إلى أن مات، ثم الأمير علم الدين سنجر الباشقردى إلى أن عزل، وولى الأمير شمس الدين قراسنقر الجو «2» كان دار المنصورى إلى آخر الدولة. وناب عن السلطنة بحصن الأكراد، الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى، وبالكرك الأمير عز الدين أيبك

الموصلى، ثم الأمير ركن الدين بيبرس الداوادارى «1» المنصورى. وناب عن السلطنة بالمملكة الصفدية فى ابتداء الدولة، الأمير علاء الدين الكبكى وغيره، وتقدم ذكرهم. وناب عن السلطنة بغزة وحمص، جماعة قد تقدم ذكرهم. وأما الوزراء، فوزر للسلطان، رحمه الله تعالى، سنة [نفر «2» ] ، أربعة من [أرباب «3» ] الأقلام، وهم الصاحب برهان الدين الخضر «4» السنجارى مرة بعد أخرى، والصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، والصاحب نجم الدين «5» حمزة بن محمد الأصفونى، وقاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وقد تقدم ذكر ولايتهم فى أثناء أخبار الدولة. ومن الأمراء [اثنان «6» ] الأمير علم الدين سنجرى الشجاعى، كان يتولى شد الدولة المنصورية وتدبيرها. فإذ شغرت «7» الوزارة من متعمم، جلس مكان الوزير، وكتب على عادة الوزراء، وولّى وعزل، واستخدم وصرف. ثم استقل بالوزارة، بعد وفاة الصاحب نجم الدين حمزة بن الأصفونى «8» . وكان فى وزارته وشده، كثير العسف والمصادرات، محصلا للأموال من وجوهها وغير وجوهها

شديدا على المباشرين. قد أوقع الرعب فى قلوبهم، حتى كرهه الخاص والعام، وتمنوا زوالى الدولة بسببه، واستمر فى الوزارة إلى أن عزل كما تقدم. وولى الأمير بدر الدين بيدرا المنصورى إلى آخر الدولة. وولى القضاء فى الأيام المنصورية، بالديار المصرية والشامية، جماعة قد تقدم ذكرهم «1» . وملك السلطان الملك المنصور، من المماليك الأتراك والمغل وغيرهم، ما لم يملكه ملك بالديار المصرية فى الإسلام قبله. فيقال إن عدتهم بلغت اثنى عشر ألفا، وتأمّر منهم فى الأيام المنصورية جماعة كثيرة. ومنهم من ناب عن السلطنة الشريفة فى الممالك الشامية والديار المصرية. ومنهم من استقل بالسلطنة وخطب له على المنابر، وضربت السكة باسمه، على ما نذكر ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى. وبقايا المماليك المنصورية إلى الآن، هم أعيان الأمراء فى وقتنا هذا «2» . ولما مات الملك المنصور، ملك بعده ولده الملك الأشرف.

ذكر أخبار السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحى وهو الثامن من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.

ذكر أخبار السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحى وهو الثامن من ملوك دولة الترك بالديار المصرية. ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وما أضيف إلى ذلك من الممالك الإسلامية والأقطار الحجازية، بعد وفاة والده السلطان الملك المنصور رحمه الله تعالى. وكان جلوسه على تخت السلطنة بقلعة الجبل المحروسة. فى يوم الأحد المبارك السابع من ذى القعدة، سنة تسع وثمانين وستمائة، ولم يختلف عليه اثنان. لأن الأمراء، أرباب الحل والعقد، ونواب السلطنة بسائر الممالك، مصرا وشاما، مماليك والده، ومن عداهم من الأمراء الصالحية، لم يظهر منهم إلا الموافقة والطاعة والانقياد، والمبادرة إلى الحلف. وقد تقدم «1» أن السلطان الملك المنصور كان قد جعل له ولاية العهد من بعده، بعد وفاة أخيه الملك الصالح علاء الدين على، وركّبه بشعار السلطنة، وتأخرت كتابة تقليده، وطلب ذلك مرة أخرى، والسلطان يتوقف فى الإذن بكتابة التقليد. ثم تحدث مع السلطان الملك المنصور فرسم بكتابته، فكتب- وقد شرحنا مضمونه فى الجزء الثامن من كتابنا هذا «2» - فلما قدم إلى السلطان، ليكتب عليه، توقف وأعاده «3» إلى القاضى فتح الدين ابن عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء، ولم يكتب عليه. فأرسل الملك الأشرف إلى القاضى فتح الدين، يطلب التقليد، فاعتذر أنه

لم يقدمه للعلامة. وقدّمه ثانيا إلى السلطان، فردّه. وقال يا فتح الدين: أنا ما أولى خليلا على المسلمين. ثم أرسل الملك الأشرف يطلبه، فخشى [فتح الدين «1» ] أن يقول إن السلطان امتنع من الكتابة عليه؛ واعتذر أيضا. وخاطب السلطان فى معناه، وقدمه إليه، فرماه به. وقال: قد قلت لك أننى ما أولى خليلا على المسلمين. فأخذ التقليد بغير علامة، وخرج. واتفق فى خلال ذلك، خروج السلطان ووفاته. فلما تسلطن الملك الأشرف، طلب فتح الدين بن عبد الظاهر، وقال له: أبن تقليدى. فأقام وأحضره إليه، وهو بغير علامة السلطان، واعتذر أن السلطان الملك المنصور، شغلته الحركة والفكرة فى أمر العدو عن الكتابة عليه. فقال له السلطان الملك الأشرف: يا فتح الدين، إن السلطان امتنع أن يعطينى، فأعطانى الله. ورمى له التقليد، فكان عنده بغير علامة. ثم عند ابنه المرحوم علاء الدين، إلى أن مات رحمه الله تعالى «2» . قال بعض الشعراء يمدحه: فداك «3» يا عادل يا منصف ... أرجى من الغيث الذى يوصف أغنى عباد الله عن نيلهم ... فجودك البحر الذى يعرف أطاعك الناس اختيارا وما ... أذلهم رمح ولا مرهف

كم ملكت مصر ملوك وكم ... جادوا وما جادوا ولا أسرفوا «1» حتى أتى المنصور أنسى الورى ... بفعله سائر ما أسلفوا ما قدموا مثل تقاه «2» ولا ... مثل الذى خلفه خلفوا فته «3» على الأملاك فخرا بما ... نلت فأنت الملك الأشرف قال «4» ، وخلع الملك الأشرف على سائر الأمراء وأرباب المناصب. ثم ركب بشعار السلطنة، فى يوم الجمعة بعد الصلاة، الثانى عشر من الشهر. وسيّر بالميدان الأسود؛ والأمراء والعساكر فى خدمته. وطلع إلى قلعة الجبل، قبل أذان العصر. ويقال إن الأمير حسام الدين طرنطاى، كان قد قصد اغتيال الملك الأشرف، فى يوم ركوبه، وأنه عزم على قتله عند ابتداء التسيير، إذا قرب من باب الإصطبل، وأن السلطان شعر بذلك. فلما سيّر السلطان أربعة ميادين «5» ، والأمير حسام الدين ومن وافقه عند باب سارية. فلما انتهى السلطان إلى رأس الميدان، وقرب من باب الإصطبل، وفى ظن الناس أنه يعطف إلى جهة باب سارية. ليكمل التسيير على العادة، عطف إلى جهة القلعة، وأسرع وعبر من

ذكر القبص على الأمير حسام الدين طرنطاى وقتله وعلى الأمير زين الدين كتبغا واعتقاله

باب الإسطبل «1» . ولما عطف، ساق الأمير حسام الدين ومن معه. ملء «2» الفروج، ليدركه «3» . فما وصل إلى باب الإسطبل. إلا والسلطان قد دخل منه، وحف به مماليكه وخواصه، فبطل على طرنطاى ما دبره. وبادر السلطان بالقبض عليه. ذكر القبص على الأمير حسام الدين طرنطاى وقتله وعلى الأمير زين الدين كتبغا واعتقاله لما استقل السلطان الملك الأشرف فى السلطنة، وقف الأمير حسام الدين طرنطاى؛ بين يديه فى نيابة السلطنة، على عادته مع السلطان الملك المنصور أبيه «4» . وكان الملك الأشرف يكره الأمير حسام الدين طرنطاى أشد الكراهية لأمور: منها ما كان يعامله به من الاطراح لجانبه، والغض منه، واهنة «5» نوابه، وأذى من ينسب إليه. ومنها ترجيح جانب أخيه، الملك الصالح على جانبه، والميل إليه. ولما مات الملك الصالح، وأنتقلت ولاية العهد بعده، إلى الملك الأشرف مال إليه من كان يميل عنه، وتقرب إلى خاطره من كان يجفوه «6» . ولم يزد ذلك

الأمير حسام الدين إلا تماديا فى الإعراض عنه، وجريا على عادته، فى أذى من ينتسب إليه. وأغرى السلطان الملك المنصور، بناظر الديوان الأشرفى، شمس الدين محمد بن للسلعوس، حتى ضربه وصرفه على ما نذكر ذلك، وعامله بمثل هذه المعاملة، والملك الأشرف لا يستطيع دفع ذلك، لتمكن الأمير حسام الدين، من السلطان الملك المنصور، ويكتم ما عنده منه، ويصبر «1» من ذلك، على ما لا يصبر «2» مثله على مثله. فلما ملك السلطان الملك الأشرف، تحقق الأمير حسام الدين أنه يحقد عليه أفعاله، وأن خاطره لا يصفوله. فشرع فى إفساد نظامه سرّا، وإخراج الأمر عنه. وتحقق السلطان ذلك، ووشى به بعض من باطنه. فلما نزل السلطان من الركوب فى يوم الجمعة، الثانى عشر من ذى القعدة، استدعاه فدخل عليه، وهو يظن أن أحدا لا يجسر أن يقدم عليه، لمهابته فى القلوب، ومكانته من الدولة، وظن أن السلطان لا يبادره بالقبض عليه. ولما استدعاه [السلطان «3» ] ، نهاه الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، عن الدخول على السلطان وحذّره، وقال له: والله أخاف عليك منه، فلا تدخل عليه، إلا فى عصبة وجماعة، تعلم أنهم يمانعون عنك أن لو وقع أمر. وقال له:- فيما حكى لى «4» - والله لو كنت نائما، ما جسر «5» خليل ينبهنى. وقام ودخل على السلطان، فحمل زين الدين كتبغا

الإشفاق عليه، أن دخل معه. فلما صار طرنطاى بين يدى السلطان، وكان قد قرر مع الأمراء الخاصكية «1» القبض عليه، فبادروا إلى ذلك، وقبضوا على يديه، وأخذوا سيفه. فصرخ كتبغا، وجعل يقول: «إيش عمل، إيش عمل» ، يكرر ذلك. فأمر السلطان بالقبض على كتبغا، فقبض عليه واعتقل، ثم أفرج عنه بعد ذلك. وأما طرنطاى، فإنه لما قبض عليه، أمر بقتله، فقتل. وقيل إنه عوقب بين يدى السلطان حتى مات. وقيل كانت وفاته فى ثامن عشر ذى القعدة، وبقى ثمانية أيام، بعد وفاته. ثم أخرج من القلعة، ليلة الجمعة سادس عشرين الشهر، وقد لفّ فى حصير، وحمل على جنوية «2» ، إلى زاوية الشيخ أبى السعود. فغسله الشيخ عمر السعودى، وكفنه ودفنه، خارج الزاوية. وبقى كذلك، إلى أن ملك الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، فأمر بنقله إلى تربته التى أنشأها بالقاهرة، بمدرسته التى بجوار داره بخط المسطاح «3» .

ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى

ولما قبض السلطان عليه، ندب الأمير علم الدين سنجر الشجاعى لإيقاع الحوطة على «1» موجوده، واستصفاء أمواله، لما كان بينهما من العداوة. فنزل الشجاعى إلى دار طرنطاى التى بالقاهرة، وحمل ما فى خزانته وذخائره. وطلب ودائعه، ونبش مواضع من داره، وشعثها. وحمل من أمواله إلى الخزائن وبيت المال جملة عظيمة، يقال إن جملة ما حمل من ماله، ستمائة ألف دينار عينا، ومن الدراهم سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل بالمصرى، ومن العدد والأقمشة والخيول والمماليك ما لا يحصر قيمته كثرة. ويقال إنه كان قد جمع ذلك وادخّره، لطلب السلطنة لنفسه، فلم ينل ما تمناه «2» . ووقف الأمير علم الدين الشجاعى، بعد القبض على طرنطاى، أياما قلائل، من غير أن يخلع عليه خلع النواب، ولا كتب تقليده، ولم يشتهر ذلك. ثم فوضت النيابة، للأمير بدر الدين بيدرا. ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى لما قبض على الأمير حسام الدين طرنطاى كما تقدم، قام الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، بوظيفة النيابة أياما قلائل، كما ذكرناه. ثم فوض السلطان النيابة عن السلطنة، للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى. وخلع عليه، على عادة نواب السلطنة، وأجرى عليه، ما كان جاريا على الأمير حسام الدين طرنطاى، من الإقطاعات وغيرها.

وفى هذه السنة، رسم السلطان بطلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، شاد الدواوين بالشام، فوصل البريد إلى دمشق يطلبه، فى رابع ذى الحجة منها، فتوجه إلى الأبواب السلطانية، فى ثامن الشهر. ولما وصل إلى بين يدى السلطان، ضربه مرة بعد أخرى، وبقى فى الترسيم، إلى أن حضر الصاحب شمس الدين [بن السلعوس «1» ] فسلّمه إليه. وولّى شاد الدواوين بدمشق، الأمير سيف الدين طوغان المنصورى. وأعاد السلطان الصاحب تقى الدين توبة التكريتى إلى وزارة الشام، فوصل إلى دمشق، فى خامس المحرم، سنة تسعين وستمائة. وأوقع الحوطة على موجود الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. حسب المرسوم السلطانى. وفيها، رسم السلطان الملك الأشرف، باحضار الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، من حمص إلى الباب السلطانى، فى ذى الحجة، فحضر. وفيها، فى ذى الحجة، رسم السلطان بتجديد تقليد الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام، فكتب. وزاده السلطان على إقطاعه المستقر، إلى آخر الأيام المنصورية، خرستا «2» ، وجهز ذلك على يد مملوكه شمس الدين أقسنقر الحسامى. وأعطى أقسنقر إمرة عشرة طواشية «3» . فوصل إلى دمشق فى ثامن عشر ذى الحجة من السنة.

وفيها، فى الخامس والعشرين من ذى الحجة، كان وفاة الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى. وكان ديّنا كثير الصدقه والمعروف، قليل الأذى، وخلّف أموالا عريضة، فأوصى بثلاثمائة ألف درهم من ماله، تنفق فى العساكر وأوقف مدرسة بمصر، على طائفة الشافعية والمالكية. وأوقف خانا بظاهر دمشق، على الصدقات، ريعه فى كل شهر تقدير خمسمائة درهم، وله أثار حسنة، رحمه الله تعالى «1» .

واستهلت سنة تسعين [وستمائة] [690 - 1391]

واستهلت سنة تسعين [وستمائة «1» ] [690- 1391] فى هذه السنة، فى سادس المحرم، أفرج السلطان عن الملك فخر الدين عثمان ابن الملك «2» المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل، سيف الدين أبى بكر، ابن الملك الكامل ابن الملك العادل صاحب الكرك والده. وكان قد اعتقل فى الدولة الظاهرية، فى رابع عشر، شهر ربيع الأول، سنه تسع وستين وستمائة، كما قدمنا ذكر ذلك «3» . وكانت مدة اعتقاله عشرين سنة، وتسعه أشهر، واثنين وعشرين يوما. ولما أفرج السلطان عنه، رتّب له راتبا جيدا. ولزم داره، واشتغل بالمطالعة والنسخ، وانقطع عن السعى، إلا للجمعة أو الحمام، أو ضرورة لابد منها «4» . ذكر تفويض الوزارة للصاحب شمس الدين ابن السلعوس وشىء من أخباره كان الصاحب شمس الدين محمد بن فخر الدين عثمان بن أبى الرجا، بن

السلعوس قد توجه إلى الحجاز الشريف، قبيل وفاة السلطان الملك المنصور. فاتفقت وفاة السلطان وسلطنة الملك الأشرف فى غيبته. فكتب السلطان إليه كتابا يعلمه أنه قد ملك، ويستحثه على سرعة الوصول إليه. فوصل إليه كتاب السلطان، وهو فى أثناء الطريق، وقد عاد من الحجاز الشريف. فاجتمع من كان بالركب، من الأعيان والكتاب، وانضموا إليه، وركبوا فى خدمته، وسايروه وعاملوه من الآداب بما يعامل به الوزراء وعظموه، فكان كذلك، إلى أن وصل إلى باب السلطان. وكان وصوله، فى يوم الثلاثاء، العشرين من المحرم سنة تسعين وستمائة. فاجتمع بالسلطان، ففوض إليه السلطان الوزارة، فى يوم الخميس، الثانى والعشرين من الشهر، وخلع عليه. وكان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى يتحدث فى الوزارة فى هذه المدة، قبل وصوله، من غير تقليد ولا تشريف. وكان شمس الدين [بن السلعوس «1» ] هذا، تاجرا من أهل دمشق، ولم يكن من التجار المياسير. ولكنه كان يأخذ نفسه بالحشمة والوئاسة، حتى كان التجار فيما بينهم ينعتونه بالصاحب «2» استهزاء به. ثم تعلق بالخدم، وانتمى «3» إلى تقى الدين توبة التكريتى وزير دمشق، فى الدولة المنصورية، فاستخدمه فى بعض الجهات. وتنقل إلى أن ولى نظر الحسبة بدمشق، فى شهر رمضان، سنة سبع وثمانين وستمائة كما تقدم «4» . ثم ولى نظر ديوان الملك الأشرف بالشام.

فأظهر الأجتهاد، واستأجر للملك الأشرف ضياعا بالشام، وعمل له متجرا، وحصل من ذلك أموالا، فتقدم عند الملك الأشرف، ومال إليه. وحضر إلى باب الملك «1» الأشرف، فى صفر، سنة ثمان وثمانين وستمائة. واستناب عنه فى نظر الحسبة [بدمشق «2» ] والديوان الأشرفى، القاضى تاج الدين أحمد ابن القاضى عماد الدين محمد بن الشيرازى. ولما حضر إلى باب الملك الأشرف «3» ، نقله إلى نظر ديوانه نيابة، عوضا عن تاج الدين بن الأعمى. وخلع عليه خلع الوزارة. واستمر فى نظر ديوان الملك الأشرف ووكالته، إلى جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة. فاتفق أن الملك الأشرف، خلع عليه خلعة سنية تشبه خلع الوزراء. فرآه السلطان الملك المنصور، وعليه تلك الخلعة، فأنكر هيئته، وسأل الأمير حسام الدين طرنطاى عنه. فقال هذا وزير الملك الأشرف، وذكر مساوئه «4» للسلطان. فغضب السلطان الملك المنصور لذلك «5» ، وأنكره. وأمر باحضاره، فأحضر بين يديه، فأنكر عليه كونه خدم ولده، بغير أمره، ولا أمر نائبه، ولا وزيره. وأمر السلطان بنزع الخلعة، التى ألبسها، فنزعت. وسلمه إلى شاد الدواوين [يومئذ «6» ] ، وهو الأمير زين الدين أحمد الصوابى، وأمر بمصادرته، والإخراق

به، وضربه. وأرسل إليه الأمير حسام الدين طرنطاى، أن يوقع به الأهنة والإخراق، ويبادر بضربه. وأرسل إليه الملك الأشرف، إلى «1» [مشد الدواوين «2» ] ، يستوقفه عند «3» ذلك، ويتوعده إن ناله منه سوء «4» . فخاف للشد المذكور غائلة الملك «5» الأشرف، وتوقف عن الإخراق به. ورسم عليه فى قاعة، كان المشد يجلس فيها، فى وقت استراحته. ثم تلطف الملك الأشرف فى أمره، مع الأمير حسام الدين طرنطاى، وراسله «6» بسببه. وتكررت رسائله إليه، وإلى غيره فى معناه، حتى حصلت الشفاعة [فيه «7» ] عند السلطان، فأطلقه. وأمر السلطان بصرفه، فصرف، ولزم داره. وكانت هذه الواقعة من أضرر شىء على الأمير حسام الدين طرنطاى، ومن أكبر أسباب القبض عليه وقتله. واستمر الصاحب شمس الدين بداره إلى زمن الحج، فتوجه إلى الحجاز الشريف. واتفقت وفاة السلطان الملك المنصور، وسلطنة الملك الأشرف، كما تقدم، فكتب إليه يعلمه بذلك. ويقال إن السلطان كتب بخطه إليه، بين سطور الكتاب، يا شقير، يا وجه الخير، عجل بالسير، فقد ملكنا. ويقال إنه لما حملت إلى السلطان الملك الأشرف، أموال طرنطاى، ووضعت بين يديه، جعل يقلبها ويقول:

من عاش بعد عدوه ... يوما فقد بلغ المنى ثم يقول أين أنت يا ابن السلعوس. فلما وصل [ابن السلعوس] «1» إلى السلطان، فوض إليه الوزارة، ومكّنه من الدولة تمكينا عظيما، ما تمكن وزير قبله مثله فى دولة الترك. وجرّد فى خدمته جماعة من المماليك السلطانية، يركبون فى خدمته، ويترجلون فى ركابه، ويقفون بين يديه، ويمتثلون أوامره. فعظم بذلك شأنه، وتعاظم فى نفسه واستخف بالناس. وتعدى أطوار الوزراء، حتى كان أكابر الأمراء يدخلون إلى مجلسه، فلا يستكمل «2» لهم القيام. ومنهم من لا يلتفت إليه. وكان فى بعض الأوقات يستدعى أمير جاندار «3» وأستاذ الدار، على كبر مناصبهما. فكان إذا استدعى أحدا منها «4» ، يقول اطلبوا فلانا أمير جاندار، وفلانا «5» أستاذ للدار، يسمى كل واحد منهما باسمه، دون نعته. ثم ترفّع عن هذه الرتبة إلى الاستخفاف بنائب السلطنة [الأمير بيدرا «6» ] ، وعدم الالتفات إلى جهته ومشاركته فى بعض وظيفته، والاستبداد عنه، ومعارضته فيما يقصد فعله، وتعطيل ما يؤثره. هذا، والأمير بدر الدين بيدرا يصبر على جفاه، ولا يمكنه. مفاجأته لما يشاهده من ميل

السلطان إليه. حتى أخبرنى «1» شهاب الدين بن عبادة: قال: رأيت الصاحب شمس الدين فى بعض أيام المواكب، قد قام من مجلس الوزارة، يقصد الدخول إلى الخزانة، فصادف ذلك خروج الأمراء من الخدمة، هم ونائب السلطنة. فكان الأمراء الأكابر يبادرون إلى خدمته ومنهم من يقبل يديه، وكلهم يخلى له الطريق، ويومىء بالرجوع بين يديه، فيشير إليه بالانصراف. فلما وطىء عتبة «2» باب القلة برجله، توافى «3» هناك، هو والأمير بدر الدين، نائب السلطنة. فسلّم كل منهما على الآخر، وأومأ له بالخدمة، إلا أن النائب خدم الوزير، أكثر من خدمة الوزير له. قال: لقد رأيته، وقد رجع مع الصاحب، ولم يسامته فى مشيه، بل كان النائب يتقدمه يسيرا، ويميل بوجهه إلى جهة الصاحب ويحدثه. فكانا كذلك إلى أن وصلا إلى المصطبة، التى يجلس عليها أستاذ الدار وناظر البيوت، وهى من داخل الباب الثانى، من باب القلة لجهة الخزانة، على باب الفراش خاناه قديما. وهذا الموضع «4» الآن «5» ، هو أحد أبواب «6» الجامع الذى عمر فى أيام السلطان الملك الناصر. وسنذكر إن شاء الله تعالى، خبر هذا الجامع فى

الأيام الناصرية. قال «1» : فلما أنتهيا إلى ذلك المكان، مسك الصاحب بدر الدين بيدرا، نائب السلطنة، وأشار إليه بالرجوع. قال: وسمعت الصاحب يقول له: «بسم الله يا أمير بدر الدين» ، لم يزده على ذلك، وهذا أمر لم يسمع بمثله «2» . والذى شاهدته أنا، غير مرة ولا مرّتين، أن الصاحب كان إذا أراد الركوب إلى القلعة، اجتمع ببابه «3» نظار النظار وشاد الدواوين ووالى القاهرة ووالى مصر، ومستوفى «4» الدولة، ونظار الجهات، ومشدى «5» المعاملات؛ وغير هؤلاء من الأعيان. ثم يحضر قضاة القضاء الأربعة ومن يتبعهم. فإذا اجتمع هؤلاء كلهم ببابه، عرّفه حجّابه أن الموكب قد كمل. وكان كمال الموكب عندهم، حضور قضاة القضاة الأربعة، فيخرج عند ذلك، ويركب ويسوق الناس بين يديه على طبقاتهم. فيكون أقرب الناس إليه، قاضى القضاة الشافعية، وقاضى القضاة المالكية «6» ، يكونان أمامه. وأمامهما قاضيا القضاة الحنفية والحنبلية «7» ؛ ثم نظار النظار والأعيان، ومستوفى «8» الدولة، ونظار الجهات على قدر مراتبهم. ويستمر القضاة معه، إلى أن يستقر فى المجلس. فينصرفون ثم يعودون عشية النهار إلى القلعة، ويركبون فى موكبه بين يديه إلى أن يصل إلى داره؛ حتى إنه تأخر ليلة بالقلعة إلى قرب

ذكر القبض والإفراج على من نذكر من الأمراء، وعنه

العشاء الآخرة، وغلق باب القلعة. وانقلب موكب الصاحب، إلى جهة باب السلطان، وجاء القضاة ووقفوا على بغالهم، بظاهر باب الإسطبل السلطانى، ولم ينصرفوا حتى خرج وركب، وساقوا فى خدمته، إلى داره على عادتهم، لم يخلوا بها. وكان لا ينتصب قائما ليعض أكابرهم، ولم ينتظم هذا لوزير قبله. ولما عظم موكبه، وبقى الأكابر، يزدحمون فى شوارع القاهرة، ويضيق بهم لكثرة من معه، ويزدحم الغلمان، انتقل إلى القرافة، وسكنها بسبب ذلك «1» . ثم كان من أمره ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى موضعه. ذكر القبض والإفراج على من نذكر من الأمراء، وعنه «2» وفى يوم الجمعة، سابع صفر، أمر السلطان بالقبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصرى، وعدّد لهما ذنوبا كثيرة. وكان مما عدّه على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أن قال هذا ما أحسن إليه أحد، إحسان طرنطاى، فإنه ما زال يدافع عنه السلطان [المنصور «3» ] ويمنعه من القبض عليه، إذا أراده. ويقول له، والله لا يقبض عليه، حتى يقبض على قبله. ووفى له طرنطاى بما عاهده عليه، بصهيون، لما استنزله منها. ولم يرع له حق هذا الإحسان العظيم والذب عنه. وكان [هو «4» ] أكبر أسباب القبض عليه، فإنه أفشى سره.

ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا

وأفرج السلطان فى هذا اليوم، عن الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، وأعاد عليه إمرته، وأنعم عليه إنعاما كثيرا. وكان قد قبض عليه، كما تقدم لما همّ بالمدافعة عن طرنطاى. ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا قد ذكرنا أن السلطان الملك المنصور، والد السلطان، كان قد أهمه أمر عكا وتجهز لغزوها. وخرج لذلك، وعاجلته المنية، دون الأمنية. فلما استقر أمر السلطان الملك الأشرف، وخلا وجهه، ممن كان يقصد مناوأته، صرف اهتمامه إلى عكا وغزوها. وندب العساكر من الديار المصرية، وسائر الممالك والحصون. وأمر نواب السلطنة بالممالك الشامية والساحلية، ونواب القلاع والحصون، بتجهيز الزردخانات وأعواد المجانيق والحجارين وغيرهم. وندب الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار لذلك. فتوجه من الباب السلطانى، ووصل إلى دمشق، فى سلخ صفر. فجهزت أعواد المجانيق من دمشق، وبرزت إلى ظاهرها فى مستهل شهر ربيع الأول، وتكامل ذلك، فى يوم الخميس ثانى عشر الشهر. وتوجه بها الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد الأمراء بالشام، ثم فرقت على الأمراء مقدمى «1» الألوف، فتوجه كل أمير ومضافوه «2» منها، بما أمر بنقله. ثم توجه الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة بالشام، فى آخر الجيش «3» ، ببقية العسكر، فى يوم الجمعة، العشرين من شهر ربيع الأول. وندب

السلطان أيضا، الأمير سيف الدين طغريل الايقانى «1» إلى الحصون والممالك يستنجدهم «2» على سرعة تجهيز المجانيق والآلات، فبادر النواب إلى ذلك. ووصل الملك المظفر صاحب حماه إلى دمشق، فى ثالث عشرين شهر ربيع الأول، بعسكر حماه، وصحبته مجانيق وزردخانات «3» ، ووصل الأمير سيف الدين

بلبان الطباخى، نائب السلطنة بالفتوحات، بعساكر الحصون وطرابلس وما معها، بالمجانيق والزردخانات، فى رابع عشرين الشهر. ووصل سائر النواب، وتوجهوا إلى عكا. هذا ما كان من أمر نواب الممالك الشامية وعساكرها «1» . وأما السلطان الملك الأشرف، فإنه لما عزم على التوجه إلى عكا، أمر بجمع «2» القراء والعلماء والقضاة والأعيان، بتربة والده السلطان الملك المنصور. فاجتمعوا فى ليلة الجمعة، الثامن والعشرين من صفر، وبانوا بالقبة المنصورية، يقرأون القرآن. وحضر السلطان إلى التربة فى بكرة النهار، وتصدق بجملة من المال والكساوى، ثم عاد إلى قلعة الجبل. واستقل ركابه منها، فى ثالث شهر ربيع الأول. وجهز السلطان آدره العالية «3» إلى دمشق، فوصلوا إلى قلعتها، فى يوم الاثنين، سابع شهر ربيع الآخر. ووصل السلطان إلى المنزلة بعكا، فى يوم الخميس، ثالث شهر ربيع الآخر. ووصلت المجانيق إلى عكا فى اليوم الثانى،

من وصلوه، وهى اثنان وتسعون منجنيقا، [ما بين افرنجى وقرابغا وشيطانى «1» ] ، فنصبت وتكامل نصبها فى أربعة أيام، وأقيمت الستائر. وكان الفرنج، لما بلغهم اهتمام السلطان وعزمه، كاتبوا ملوك البحر، وسألوهم إنجادهم، فأتوهم من كل مكان. واجتمع بعكا منهم جموع كثيرة، فقويت نفوسهم، ولم يغلقوا أبواب البلد. واستمر الحصار وعملت النقوب، إلى السادس عشر من جمادى الأولى «2» . فلما كان فى يوم الجمعة السابع عشر من الشهر، أمر السلطان أن تضرب الكوسات جملة واحدة، وكانت [على «3» ] ثلاثمائة جمل. فلما ضربت، هال أهل عكا ما سمعوه منها. وزحف السلطان بالعساكر، قبل طلوع الشمس من هذا اليوم. فما ارتفعت الشمس: إلا والصناجق السلطانية على أسوارها. ولما أشرف المسلمون على فتح عكا، وتحقق من بها ذلك، خرجت طائفة منهم، نحو عشرة آلاف رجل مستأمنين، فرّقهم السلطان على الأمراء، فقتلوا عن آخرهم. وأرسل السلطان جماعة من الأسرى، إلى الحصون الإسلامية.

وكانت مدة الحصار على عكاء منذحل ركاب السلطان، إلى أن فتحت، أربعة وأربعين يوما. واستشهد من الأمراه على حصارها، الأمير علاء الدين كشتغدى «1» الشمسى، ونقل إلى جلجولية «2» ودفن بها، والأمير عز الدين أيبك المعزى «3» ، نقيب «4» العساكر، والأمير جمال الدين آقش الغتمى «5» ، والأمير بدر الدين بيليك المسعودى، والأمير شرف الدين قيران السكرى، وأربعة من مقدمى «6» الحلقة، وجماعة يسيرة من العسكر. وكانت عكا بيد الفرنج، منذ استرجعوها من السلطان، الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فى سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وإلى هذا التاريخ، مائة سنة وثلاث سنين، وأمر السلطان الآن بإخرابها، فخربت «7» . وفتح الله تعالى على يد السلطان، فى بقية الشهر، من المدن المشهورة الساحلية، صور، وصيدا، وحيفا، وعثليث، بغير قتال. وذلك أن الله تعالى،

أوقع فى قلوب أهلها الرعب، لما فتحت عكا، وعلموا أنهم لا يقدرون على حفظها، ففارقوها ونجوا بأنفسهم. فملكها السلطان، فأمر بهدمها جميعها فهدمت. ثم فتجت صيدا وبيروت، على يد الأمير علم الدين الشجاعى، على ما نذكره «1» إن شاء الله تعالى. وأكثر الشعراء ذكر هذا الفتح. فكان ممن «2» امتدح السلطان، وذكر هذا الفتح من الشعراء، الشيخ الفاضل بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنيجى «3» التاجر المقيم بالقاهرة، فقال: بلغت فى الملك أقصى غاية الأمل ... وفتّ شأو ملوك الأعصر الأول وحزت رق العلى بالجد مجتهدا ... وجزت غاياتها سيقا على مهل ونلت بالحول دون الناس منفردا ... ما لم ينله ملوك الأرض بالحيل فطل بدولتك الميمون طائرها ... فإنها غرة فى أوجه الدول واسعد بهمتك العليا التى وصلت ... لك السعود بحبل غير منفصل فأنت للدين والدنيا صلاحهما ... وفيهما حمل ضيم غير محتمل فكم بلغت مرادا بت «4» تأمله ... بعزمك الباتر العارى من الفلل

وكم فتحت حصونا طالما رجعت ... لليأس «1» عنها الملوك الصيد فى خجل «2» حررت «3» من عكة الغراء ما عجزت ... عنه الملوك بعزم غير منتثل عقيلة المدن أمست من حصانتها ... وصونها من ليالى الدهر فى عقل وقد دعتها ملوك الأرض راغبة ... وعطفها عنهم بالتيه فى شغل صدت عن الصيد لا تلوى فلم تطل ... الأوهام منها إلى وصل ولم تصل أم لهم «4» برّة كم رام خطبتها ... بعل «5» سواك، فلم تذعن ولم تنل حتى أمرك فأمست وهى طائعة ... بعد الإباء لأمر منك ممتثل مازال غيرك فيها طامعا وعلى ... يديك، قد كان هذا الفتح فى الأزل فتحا «6» تطاول عن نثر «7» يحوط به ... وصفا، وعن نظم شعر محمد الطّول قصدتها فأصيبت بعد ما فجعت ... فى أهلها من أسود الغيل بالغيل فى جحفل لجب «8» كالليل انجمه ... تبدو لرائيه من قضب ومن أسل تمم المهامه من وعر «9» ومن أكم ... وطبّق الأرض من سهل ومن جبل

تخالهم وجياد الخيل تحتهم ... لليأس «1» فى الروع آسادا على قلل «2» لا تنظر العين منهم إن هم لبسوا ... لا مات حربهم يوما، سوى المقل صدمتها بجيوش لو صدمت بها ... صم الجبال، أزالتها ولم تزل فأصبحت بعد عز الملك خاضعة ... من ذلة الملك طول الدهر فى سمل أمست خرابا وأضحى أهلها ومما ... وسطرتها يد الأيام فى المثل فسلب «3» بزتها «4» عنها وقد عطلت ... ألذ للطرف من حلى ومن حلل ومحو أثارها منها وقد خربت ... أشبى إلى التفس من زوض الربى «5» الخضل بالأشرف السيد السلطان «6» زال عنا ... التثليث وابتهج التوحيد بالجدل تدبير «7» ذى حكم «8» فى عز منتقم ... وعمر مقتبل فى رأى مكتهل راحت وقد سلبت أرواحهم بشبا ... الهندى أموالهم من «9» جملة النفل هدمت ما شيدوا، فرقت ما جمعوا ... نقضت ما ابرموه غير محتفل وعند ما أصبحت قفرا بلادهم ... من السواحل بعد الأهل فى العطل «10»

رحلت عنها، ولكن كم أقمت بها ... من خوف بأسك جيشا غير مرتحل لازلت ذا رتب فى المجد سامية ... وسؤدد بنواصى الشهب متصل وقال المولى شهاب الدين أبو الثنا محمود الحلبى كاتب الانشاء، لما عاين النيران فى جوانب عكا. وقد تساقطت أركانها، وتهدمت جدرانها. مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار فى وسطها وار «1» وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد للنار وقال أيضا: الحمد لله زالت دولة الصّلب ... وعزبا لترك دين المصطفى العربى هذا الذى كانت الأمال لو طلبت ... رؤياه فى النوم لا ستحيت من الطلب ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... فى البحر للشرك عتد البر من أرب عقيلة ذهبت أيدى الخطوب بها ... دهرا وشدت عليها كف مغتصب لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت ... فى البر والبحر ما ينجى سوى الهرب كانت تخيلها آمالنا فترى ... إن التفكر فيها أعجب العجب أم الحروب فكم [قد «2» ] أنشأت فتنا ... شاب الوليد بها هولا ولم تشب سوران بر وبحر حول ساحتها ... دارا، وأدناهما أتأى «3» من القطب خرقاء «4» أمنع سوريها وأحصنه ... غلب الكماة، وأقواه على النوب

مصفح مصفاح، حولها شرف ... من الرماح وأبراج من اليلب «1» مثل الغمامة «2» تهدى من صواعقها ... بالنبل أضعاف ما تهدى «3» من السحب كأنما كل برج حوله فلك ... من المجانيق يرمى الأرض بالشهب ففاجأتها جنود الله يقدمها ... غضبان «4» لله لا للملك والنشب ليث أبى أن يرد الوجه عن أمم ... يدعون رب الورى سبحانه بأب كم رامها ورماها قبله ملك ... جم الجيوش فلم يظفر ولم يصب لم يلهه ملكه، بل فى أوائله ... قال الذى لم ينله الناس فى الحقب لم ترض همته إلا التى قعدت ... للعجز عنها ملوك العجم والعرب فأصبحت وهى فى بحرين مائلة ... ما بين مضطرم نارا «5» ومضطرب جيش من الترك ترك الحرب عندهم ... عار، وراحتهم ضرب من الوصب خاضوا إليها الردى والبحر فاشتبه ال ... أمران واختلفا فى الحال والسبب تسنموها فلم يترك «6» ثباتهم «7» ... فى ذلك الأفق برجا غير منقلب تسلموها فلم تخل الرقاب بها ... من فتك منتقم أو كف منتهب

أتوا حماها فلم تدقع وقد وثبوا ... عنها مجانيقهم شيئا «1» ولم يثب يا يوم عكا لقد انسيت ما سبقت ... من «2» الفتوح وما قد خطّ فى الكتب لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما ... عسى يقوم به ذو الشّعر والخطب كانت تمنى بك الأيام عن أمم ... والحمد لله شاهدناك عن كتب أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم «3» ... لله أى رضى فى ذلك الغضب وأطلع الله جيش النصر فابتدرت ... طلائع الفتح بين السمر والقضب وأشرف المصطفى الهادى البشير على ... ما أسلف «4» الأشرف السلطان من قرب فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت ... ببشره «5» الكعبة الغراء فى الحجب وسار فى الأرض مسرى الريح سمعته ... فالبر فى طرب والبحر فى حرب وخاضت البيض فى بحر الدماء فما ... أبدت من البيض إلا ساق مختضب وغاص «6» زرق الفنا «7» فى زرق أعينهم ... كأنها شطن يهوى «8» إلى قلب توقدت وهى تروى فى نحو رهم ... فزادها الرى فى الإشراق واللهب «9»

أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم ... فراح كالراح «1» إذ غرقاه كالحبب «2» وذاب من حرّها عنهم حديدهم ... فقيدتهم «3» به ذعرا يد الرهب «4» تحكمت فسطت فيهم قواضيها ... قتلا وعفت لحاويها عن السلب كم أبرزت بطلا كالطود قد بطلت ... حواسه فغدا كالمنزل الخرب كأنه وسنان الرمح يطلبه ... برج هوى ووراه كوكب الذنب بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك الممالك واستعلت على الوثب ما بعد عكا، وقد لانت عربكتها ... لديك شىء تلاقيه «5» على تعب فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها ... مدت إليك نواصيها بلا نصب كم قد دعت، وهى فى أسر العدا زمنا ... صيد الملوك فلم تسمع «6» ولم تجب «7» لبيتها «8» يا صلاح الدين معتقدا ... بأن ظنّ صلاح الدين لم يخب أسلت فيها كما سالت دماؤهم ... من قبل إحرازها بحرا من الذهب أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت ... منه لعمر «9» طواه الله فى الكتب

وجئتها بجيوش كالسيول على ... أمثالها «1» بين أجام من القضب «2» وحطتها «3» بالمجانيق «4» التى وقفت ... أمام أسوارها فى جحفل لجب مرفوعة نصبوا أضعافها قبلت «5» ... للجزم والكسر منها كل منتصب ورضتها بنقوب ذللت شمما ... منها وأبدت محياها بلا نقب وبعد صبحتها بالزحف فاضطربت ... رعبا وأهوت بخديها «6» إلى الترب وغنت «7» البيض فى الأعناق فار تقصت «8» ... أجسادها لعبا منها مع اللعب وخلّقت بالدم الأسوار فابتهت ... طيبا ولولا دماء القوم لم تطب «9» وأبرزت كل خود «10» كاعب نثرت «11» ... لها الرؤوس وقد زفت بلا طرب باتت «12» وقد جاورتنا ناشزا وغدت ... طوع الهوى فى يدى جيرانها الجنب ظنوا بروج البيوت الشم تعقلهم «13» ... فاستعقلتهم ولم تطلق ولم تهب

فأحرزتهم ولكن للسيوف لكى ... لا يلتجى أحد منهم إلى هرب وجالت «1» النار فى أرجائها وعلت ... فاطفأت ما بصدر الدين من كرب أضحت أبا لهب تلك البروج وقد ... كانت بتعليقها حمالة الحطب وأفلت «2» البحر منهم من يخبر من ... يلقاه من قومه بالويل والحرب وتمت النعمة العظمى وقد ملكت ... بفتح صور بلا حصر ولا نصب أختان فى أن كلا منهما جمعت ... صليبة الكفر لا أختان فى النسب لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب إن لم يكن ثمّ كون البحر منصبغا ... بها إليها والألسن اللهب «3» فالله أعطاك ملك البر وأبتدأت ... لك السعادة ملك البحر فارتقب من كان مبدأه «4» عكا وصور معا ... فالصين أدنى إلى كفيه من حلب «5» علا بك الملك حتى إن قبته ... على الثريا غدت ممدودة الطنب فلا برحت عزيز النصر مبتهجا ... بكل فتح قريب المنح مقترب وعمل الشعراء فى هذا الفتح قصائد كثيرة، اقتصرنا «6» منها، على ما أوردناه، فلنذكر خلاف ذلك.

ذكر القبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام

ذكر القبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام وفى هذه السنة، والسلطان على حصار عكا، قبض على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام. وسبب ذلك، أن الأمير علم الدين سنجر الحموى المعروف بأبى خرص «1» ، سعى إلى السلطان به، ثم أوهم الأمير حسام الدين المذكور من السلطان، وقال إنه قد عزم على القبض عليك، فحمله الخوف على أنه ركب من الوطاق «2» بعكا ليلا، وقصد الهرب. فركب الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، وساق خلفه. فأدركه، وقال له، بالله لا تكن سبب هلاك هذا الجيش، فإن هذا البلد قد أشرف [الناس «3» ] على فتحه. ومن علم الفرنج بهروبك، قويت نفوسهم، وركب العسكر خلفك، وانصرفت عزائم السلطان عن حصار عكا إليك. فوافقه، ورجع إلى خيمته، وظن أن ذلك يستتر، ولا يشعر السلطان به. وكان [ذلك «4» ] ، فى ثامن جمادى «5» الأولى. فلما كان فى اليوم الثانى من هذه الحادثة، خلع السلطان عليه، وطيّب قلبه، ثم قبض عليه

ذكر رحيل السلطان عن عكا ودخوله إلى دمشق وما قرره من أمر النيابة بها، وبالكرك وغير ذلك

فى اليوم الثالث، وجهّزه إلى قلعة صفد، تحت الاحتياط، ثم جهّز منها إلى قلعة الجبل. ذكر رحيل السلطان عن عكا ودخوله إلى دمشق وما قرره من أمر النيابة بها، وبالكرك وغير ذلك ولما قضى السلطان الوطر من فتح عكا وما يليها، عاد إلى دمشق. فكان وصوله إليها، فى الساعة الثالثة من يوم الاثنين، ثانى عشر جمادى الآخرة، ودخل دخولا ما دخله ملك قبله. وزينت البلد أحسن زينة، ونزل بالقلعة. وفى يوم دخوله إلى دمشق، فوض نيابة السلطنة بالشام [إلى «1» ] الأمير علم الدين سنجر الشجاعى المنصورى. ورتب الأمير جمال الدين أقش الأشرفى فى نيابة الكرك، عوضا عن الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارى المنصورى، بحكم استعفائه من النيابة بها. وأقره السلطان فى جملة الأمراء بالديار المصرية «2» . وفى هذا اليوم، قبض السلطان على الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى النائب بقلعة دمشق. وسبب ذلك، أنه وقف بين يدى السلطان، وكان الأمير شرف الدين [بن «3» ] الخطير الرومى، يكثر من البسط بين يدى السلطان على الأمراء وغيرهم. ويقصد بذلك أن يشرح خاطر السلطان ويضحكه. وكان السلطان فى بعض الأوقات، ينظر إليه نظرا يفهم منه مراد السلطان فى البسط على من يشير إليه. فنظر إليه السلطان وأومأ إليه أن يبسط على أرجواش. فنظر ابن الخطير

إلى علم الدين أرجواش، وكان لا يعرف البسط ولا يعانيه، ولا يزال فى تصميم. فقال «1» ابن الخطير للسلطان: كان لوالد المملوك بالروم، حمار أشهب أعور، أشبه شىء بهذا الأمير علم الدين، فضحك السلطان، وغضب أرجواش، وقال هذه صبيانية، فاشتد غضب السلطان لذلك، وأمر بالقبض عليه. وضرب بين يدى السلطان ضربا كثيرا مؤلما. ثم أمر أن يقيد ويلبس عباءة، ويستعمل مع الأسرى، قفعل به ذلك. ثم رسم بحمله على خيل البريد، إلى الديار المصرية مقيدا. فتوجه البريدية به، وحصلت الشفاعة فيه، فردّ من أثناء الطريق. ثم أفرج السلطان عنه، بعد أن أوقع الحوطة على موجوده، وكان يحتوى على جملة كثيرة من الأموال والعدد. وأعاده السلطان إلى نيابة القلعة، فى شهر رمضان، فاستمر بها إلى أن مات. وفى يوم الأحد، ثامن عشر جمادى الآخرة، رتب السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، فى شد الشام على عادته، وكان قد أفرج عنه قبل ذلك. ونقل الأمير سيف الدين طوغان، من الشد إلى ولاية البر، على عادته الأولى «2» . وفيها، فى يوم الأربعاء، ثانى عشر شهر رجب، ولى القاضى محيى الدين ابن النحاس نظر الشام، عوضا عن تقى الدين توبة، وبطل اسم الوزارة بدمشق. وولى شرف الدين أحمد بن عز الدين عيسى بن الشيرجى، نظر الحسبة، عوضا عن تاج الدين بن الشيرازى، فى ثانى عشر الشهر «3» .

ذكر فتوح برج صيدا

ذكر فتوح برج صيدا كان قد بقى بصيدا برج عاص «1» ، فندب السلطان لحصاره، الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، فتوجه لذلك، فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب. ووصل إلى صيدا وحاصر البرج، وافتتحه فى يوم السبت، خامس عشر الشهر. وعاد الأمير علم الدين إلى دمشق، بعد فتحه، على خيل البريد، فوصل إليها عند رحيل السلطان إلى الديار المصرية، وذلك فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم الاثنين تاسع شعبان، ودخل من باب النصر وخرج من باب زويلة «2» . ذكر فتح بيروت لما توجه السلطان إلى الديار المصرية، أمر الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، أن يتوجه إليها، فتوجه وأفتتحها فى يوم الأحد ثالث عشرين شهر رجب. وذلك أن الأمير علم الدين سنجر وصل إليها، وكانت داخلة فى الطاعة، فتلقاه أهلها وأنزلوه بقلعتها. فأمرهم أن ينقلوا أولادهم وحريمهم وأثقالهم إلى قلعتها، ففعلوا ذلك، وظنوه شفقة عليهم. فلما صاروا بالقلعة، قبض على الرجال، وقيدهم وألقاهم فى الخندق، وملك البلد. وعاد الأمير علم الدين إلى دمشق، فوصل إليها، فى يوم الجمعة سابع عشرين شهر رمضان من السنة. ولم يبق بالساحل أجمع، من الفرنج أحد، وخلا الساحل بجملته منهم. ولم يتأخر بالبلاد

[الشامية «1» ] غير فلاحيها النصارى، وهم داخلون فى الذمة، يؤدون الجزية. ولما فتح السلطان هذا الفتح «2» ، أوقف منه ضياعا على تربة والده السلطان الملك المنصور، وهى: الكابرة من عكا، وتل «3» المفتوح منها، وكردانه «4» وضواحيها «5» منها. ومن ساحل صور معركه، وصريفين «6» . وأوقف على تربته ضياعا، وهى قرية «7» الفرج من عكا، وقرية شفر عمر منها: وقرية الحمراء «8» منها، وقربة طبرنية «9» من ساحل صور.

ذكر إنفاذ ولدى السلطان الملك الظاهر ووالدتهما إلى بلاد الأشكرى

ذكر إنفاذ ولدى السلطان الملك الظاهر ووالدتهما إلى بلاد الأشكرى «1» وفى هذه السنة، أمر السلطان، بإخراج ولدى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وهما الملك المسعود نجم الدين خضر، والملك العادل بدر الدين سلامش، من الاعتقال «2» ، وجهزهما ووالدتهما إلى ثغر الإسكندرية، صحبة الأمير عز الدين أيبك الموصلى، استاذ الدار العالية. فتوجه بهم، وسفّرهم منها فى البحر المالح، إلى القسطنطينية. فلما وصلاها، أحسن الأشكرى إليهما، وأجرى عليهما ما يقوم بهما وبمن معهما. فاتفقت وفاة الملك العادل بدر الدين سلامش هنا، فصبّرته والدته بالصبرة «3» ، وجعلته فى تابوت، ولم تدفنه، إلى أن عادت به إلى الديار المصرية، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» . ذكر الإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره من الأمراء وفى هذه السنة، فى يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، أمر السلطان بالإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى. وكان السلطان الملك

المنصور، قد اعتقله فى أوائل دولته، كما تقدم ذكر ذلك «1» ، فأفرج السلطان عنه الآن. وكتب له إفراج شريف سلطانى، ونسخته بعد البسملة «2» : «الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، وعواطفه التى أضحت بها بدور الإسلام بازغة غير آفلة، ومواهبه التى تجول وتجود وتحيى رميم الآمال [فى يومها «3» ] بعد رمسها بأمسها، فى أضيق اللحود «4» ، ويقرّ لها بالفضل كل جحود» . «أحمده حمدا يعيد سالف النعم، ويفيد آنف الكرم الذى خص وعم. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نؤدى «5» حقوقها ونجتنب «6» عقوقها. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بمكارم الأخلاق، والموصوف بالعلم والحلم على الإطلاق، صلاة لا تزال عقودها حسنة الانساق، ونسلم تسليما كثيرا» . «وبعد، فإن أحق من عومل بالجميل، وبلغ من مكارم هذه الدولة القاهرة، الرجا والتأميل، من إذا ذكرت أبطال الإسلام، كان أول مذكور. وإذا وصفت الشجعان، كان إمام صف كل شجاع مشهور. وإذا تزينت سماء الملك بالنجم، كان بدرها المنير. وإذا اجتمع ذوو الآراء على امتثال أمر، كان

خير مشير، وإذا عدت أوصاف أولى الأمر كان أكبر أمير. كم تجمّلت «1» المواكب بحلوله «2» بأعلى قدر، وتزينت «3» المراتب منه بأبهى بدر. وهو المقر الأشرف العالى المولوى الأميرى» الكبيرى- وذكر القابه، [فقال «5» ]- البدرى بيسرى الشمسى الصالحى النجمى الملكى الأشرفى. فهو الموصوف بهذه الأوصاف والمدح «6» ، [و «7» ] المعروف بهذه المكارم والمنح» . «فلذلك، اقتضى حسن الرأى الشريف العالى المولوى السلطانى الملكى «8» الأشرفى الصلاحى، لا زالت الكرب فى أيامه تكشف، والبدور تكتمى «9» فى دولته الغراء، إشراقا «10» ولا تخسف، أن يفرج عنه فى هذه الساعة، من غير تأخير، ويمثل بين يدى المقام الأعظم السلطانى بلا استئذان نائب ولا وزير، إن شاء الله تعالى» . وجعل هذا الإفراج فى كيس أطلس أصفر، وختم عليه بخاتم السلطان،

وتوجه به إلى باب الجب «1» ، الأمير بدر الدين بيدرا، والأمير زين الدين كتبغا، وجماعة من أكابر الأمراء. وأخرج الأمير بدر الدين من الجب، وقرىء عليه هذا الإفراج، ورسم بكسر قيده، واحضر له التشريف السلطانى. فقال [بيسرى] : لا يفك القيد من رجلى، ولا أليس التشريف، إلا بعد أن أتمثل بين يدى السلطان، وصمم على ذلك. فأعلم السلطان بذلك، فرسم بفك قيده، وأن يحضر إلى بين يدى السلطان بملبوسه. الذى كان عليه فى الجب. فحضر إلى بين يدى السلطان، فانتصب له قائما. وتلقاه وأكرمه، وألبسه التشريف، وأجلسه إلى جانبه، وأنعم عليه بالأموال والأقمشة، وأمرّه لوقته، بمائة فارس، وأقطعه إقطاعا وافرا، من جملته منية بنى «2» حصيب، دريستا «3» ، بالجوالى والمواريث «4» الحشرية، وقرّبه السلطان لديه، وأدناه إليه. وكان يخلو به ويؤانسه ويبرّه، ويضاعف له الإنعام، حتى أن الأمير بدر الدين بيسرى، انتسب إلى الأشرفيه.

ذكر عزل قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز عن القضاء ومصادرته

وكان فيما مضى من عمره فى الأيام الظاهرية وغيرها، يكتب بيسرى الشمسى، فصار «1» يكتب بيسرى الأشرفى. وفيها، فى يوم الجمعة رابع شهر رمضان، أفرج السلطان عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير حسام الدين لاجين المنصورى، والأمير ركن الدين بيبرس صقصوا «2» ، والأمير شمس الدين سنقر الطويل، من الأعتقال، وأمرهم على عادتهم «3» . وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، فقبض عليه من دمشق، وجهز إلى الأبواب السلطانية مقيدا. وكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس، سابع عشر شهر رمضان. ذكر عزل قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز عن القضاء ومصادرته وفى هذه السنة، عزل السلطان قاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة، تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز. من منصب القضاء، بالديار المصرية، لأمور، منها ما كان فى نفس الصاحب شمس الدين الوزير منه، [ومنها أنه «4» ] كان فى الدولة المنصورية، يراعى خاطر الملك الصالح،

ويقدّمه على الملك الأشرف. فذكّر الوزير السلطان بذلك، فعزله وانتدب لمرافعته «1» جماعة، وشهد عليه آخرون بأمور برأه الله منها. وأوغلوا فى الكلام عليه، ورموه بالعظائم. وكان محاشا منها «2» . فرسّم عليه، وصودر، ونكل به. وكان قصد الوزير الإخراق به، بالضرب، فحماه الله تعالى منه، ثم تشفع «3» فيه الأمير بدر الدين بيدرا، نائب السلطنة، مع ما كان بينهما من الشحناء، فأفرج السلطان عنه. وكان سبب هذه الشفاعة، أن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، كان له اعتناء بقاضى القضاة تقى الدين، فلما امتحن بهذه المحنة، ورسم بمصادرته، ضمّه إليه، وعزم على سؤال السلطان فى أمره، والشفاعة فيه. وكان السلطان قد قبض على الأمير سنجر الحموى، المعروف بأبى خرص «4» ، وكان للأمير بدر الدين بيدرا به اعتناء، فتحدث مع الأمير بدر الدين أمير سلاح، أن يشفع فيه، فاعتذر عن ذلك، أنه يقصد أن يشفع فى قاضى القضاة ولا يمكنه أن يشفع فى اثنين فى وقت واحد. فاتفقا أن [الأمير] يشفع «5» فى قاضى القضاة. وأمير سلاح يشفع فى أبى خرص. فشفعا فيهما. فأفرج عنهما «6» .

ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى

ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى لما عزل السلطان؛ قاضى القضاة تقى الدين عن القضاء، أشار الصاحب شمس الدين ابن السلعوس الوزير، بتفويض القضاء، للقاضى بدر الدين أبى عبد الله محمد ابن الشيخ برهان الدين أبى إسحاق إبراهيم بن أبى الفضل سعد الله ابن جماعة بن على بن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكنانى الشافعى الحموى. وكان يتولى قضاء القدس الشريف والخطابة كما قدمنا. فاستدعاء الصاحب شمس الدين، فى يوم الأربعاء، تاسع شهر رمضان، فتوجه البريد إليه. وكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الاثنين، رابع عشر شهر رمضان، سنة تسعين وستمائة. وكانت ولايته من قبل السلطان الملك الأشرف، فى يوم الخميس، سابع عشر الشهر. وفوّض إليه مع القضاء، وتدريس المدرسة الصالحية، خطابة جامع الأزهر، وغير ذلك. وهذه ولاية قاضى القضاة بدر الدين الأولى «1» . وفى هذه السنة، فى شوال، أمر السلطان بإخراج الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد، وأن يخطب للناس «2» بجامع القلعة، ويذكر السلطان فى خطبته. فخطب فى رابع عشرين شوال. وعليه شعار بنى العباس، وهو متقلد سيفا. فلما فرغ من الخطبة. لم يصلّ بالناس. وقدم قاضى القضاة بدر الدين، فصلى بهم صلاة الجماعة. واستمر يخطب بالقلعة، واستناب عنه بجامع الأزهر القاضى صدر الدين عبد البر ابن قاضى القضاة تقى الدين بن رزين.

ذكر متجددات كانت بدمشق

وفيها، فى ليلة الإثنين، رابع ذى القعدة أمر السلطان باجتماع القضاة والفقهاء والأعيان والقراء، بتربة والده السلطان الملك المنصور، فاجتمعوا. وبات نائب السلطنة والوزير بالقبة المنصورية فى تلك الليلة. فلما كان وقت السحر، من يوم الجمعة، وحضر السلطان والخليفة إلى التربة، والخليفة لابس السواد، وخطب الخليفة خطبة بليغة. حرض فيها على أخذ العراق، وكان يوما مشهودا. وتصدق السلطان بصدقات وافرة، وعاد هو والخليفة إلى قلعة الجبل «1» . وكتب السلطان إلى دمشق أن يعمل مهم «2» ، مثل ما عمل بالقبة المنصورية. فاهتم «3» الأمير علم الدين الشجاعى نائب السلطنة بدمشق بذلك. وجمع الناس له فى ليلة الإثنين، حادى عشر الشهر، بالميدان الأخضر، أمام القصر الأبلق. واجتمع الناس لتلاوة القرآن، من ظهر يوم الأحد إلى نصف الليل، من ليلة الإثنين. ثم تكلم الوعاظ، وانصرف الناس فى بكرة النهار «4» . ذكر متجددات كانت بدمشق فى هذه السنة، فى شوال شرع الأمير علم الدين الشجاعى، نائب السلطنة بدمشق، فى عمارة آدر «5» بقلعتها اقترحها السلطان عليه. واهتم بذلك، وطلب الرخام

من سائر الجهات. وكملت عمارة ذلك، فى آخر سنة إحدى وتسعين. وفيها، فى تاسع شوال، أمر السلطان الملك الأشرف بالقبض على الأمير سيف الدين قرارسلان «1» ، وجمال الدين أقوش الأفرم المنصوريين، فقبض عليهما الأمير علم الدين الشجاعى واعتقلهما بالقلعة. وأقطع السلطان إقطاعيهما «2» للأميرين عز الدين أزدمر العلائى، وشمس الدين سنقر المسّاح. وفيها، فى ثانى شوال، أمر الأمير علم الدين الشجاعى، بإخراب ما على جسر الزلابية بدمشق، من الحوانيت، وبإخراب جميع ما هو مبنى على نهر بانياس «3» ونهر المجدول من تحت القلعة، إلى باب الميدان الأخضر، وإلى الخانقاه، فأخربت المسايح «4» ودار الصناعة، وبيوت ومساكن وخانات ودار الضيافة، وحمام كان بنى للملك السعيد، والمسايح «5» التى على نهر بردى، والسقاية التى تعرف بالعجمى، وسقاية أرجواش، ولم يبق غير المساجد «6» . وفيها، فى يوم الخميس، ثالث عشر ذى الحجة، زاد الأمير علم الدين [الشجاعى] فى الميدان الأخضر الصغير، الذى فيه القصر الأبلق، مقدار سدسه من جهة الشمال إلى قريب النهر، حتى صار بين حائط الميدان والنهر مقدار ذراع ونصف ذراع بالعمل «7» . وقسم الحيطان على الأمراء والأجناد وبعض

عوام البلد. وعمل هو بنفسه ومماليكه، فلم يوفر أحد نفسه من العمل، فكانت عمارة ذلك فى يومين «1» . وفيها، فى العشر الآخر «2» من ذى الحجة، قبّض على الشيخ سيف الدين الرجيحى «3» وهو من ذرية الشيخ يونس. وجهز من دمشق إلى الباب السلطانى، على خيل البريد. وفى هذه السنة، فى أوائلها، كملت عمارة قلعة حلب. وكان الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى، نائب السلطنة بحلب، قد شرع فى عمارتها فى الأيام المنصورية، فكملت الآن، وكتب عليها اسم السلطان الملك الأشرف. وكان هولاكو قد خرّبها كما تقدم «4» ذكر ذلك. وفيها، فى يوم الخميس، ثالث عشر رجب، كانت وفاة الأمير بهاء الدين يمك «5» الناصرى، مقدم الميسرة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، بمقبرة الرباط الناصرى. وكان رجلا عاقلا قليل الاجتماع بالناس «6» .

وفيها، كانت وفاة الأمير سابق الدين لاجين العمادى، رحمه الله تعالى. كان يتولى الأعمال القوصية قديما، فى «1» الدولة المعزية، إلى أوائل الظاهرية. وعّمر بمدينة قوص مدرسة معروفة به. ثم ولى فى الدولة الظاهرية الأعمال الشرقية. وكانت وفاته بالقاهرة، فى العشر الآخر «2» من شهر رمضان منها، وذلك بعد عزله من الأعمال الشرقية، وعمر نحو اثنتين وثمانين سنة. وكان دينّا خيرا، كثير الصدقة والإحسان، أمينا عفيفا، ما سمع عنه، أنه ارتكب معصية قط، ولا شرب خمرا، ولا ارتشى، ولا أتى مكروها. وكان محترما عند الملوك. وأصله مملوك الصاحب عماد الدين، وزير صاحب الجزيرة. ثم أنتقل مع أستاذه فى أواخر الدولة الكاملية، وتقدم فى الدولة الصالحية وما بعدها، وولى الولايات. وكانت الولايات يومذاك لا يصل إليها إلا أكابر الأمراء وتقاتهم، رحمه الله «3» تعالى. وفيها، فى العشرين الأخر، من شهر رمضان، توفى الأمير علاء الدين أيدكين الصالحى، نائب السلطنة بصفد بها، رحمه الله «4» تعالى. وفيها، كانت وفاة الأمير سيف الدين قطز المنصورى. وكان من أكابر المماليك المنصورية، وأكابر الأمراء. وكانت وفاته بحمص. وكان مجردا بها، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة إحدى وتسعين وستمائة [691 - 1291/ 1292]

واستهلت سنة إحدى وتسعين وستمائة [691- 1291/1292] فى هذه السنة، فى يوم الجمعة، رابع عشر صفر، وقع بقلعة الجبل حريق عظيم فى بعض الخزائن، وأتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب «1» . وفيها، فى يوم الخميس، حادى عشر شهر ربيع الأول، أمر السلطان أن يجمع القراء والعلماء والأكابر، بالقبة المنصورية، لقراءة ختمة شريفة، فاجتمع الناس لذلك. ونزل السلطان من الغد، لزيارة قبر والده، وتصدق بأموال جزيلة. وفيها، فى تاسع عشرين شهر ربيع الأول، فى يوم الجمعة، خطب الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد، بجامع قلعة الجبل، خطبة بليغة، حث فيها على الجهاد، وأمر بالنفير، وصلّى بالناس الجمعة. ذكر توجه السلطان إلى الشام «2» وفى هذه السنة، فى الساعة الثامنة من يوم السبت، ثامن شهر ربيع الآخر استقل ركاب السلطان إلى جهة الشام، بجميع العساكر. فوصل إلى دمشق، فى يوم السبت سادس جمادى الأولى، وأمر بالنفقة على جميع العساكر فى ثامن

ذكر فتوح قلعة الروم وتسميتها قلعة المسلمين

الشهر، ووصل صاحب حماه لتلقى السلطان «1» . ثم عرض السلطان الجيوش، وقدمهم «2» أمام ركابه إلى جهة حلب، وتوجه هو من دمشق فى الساعة الخامسة من يوم الاثنين، سادس عشر جمادى الأولى، ووصل إلى حلب فى ثامن عشرين الشهر «3» . ذكر فتوح قلعة الروم وتسميتها قلعة المسلمين «4» كان فتوح هذه القلعة، فى يوم السبت، حادى عشر رجب، سنة إحدى وتسعين وستمائة. وذلك أن السلطان رحل من حلب بسائر العساكر المصرية والشامية، فى رابع جمادى الآخرة، ونزل على قلعة الروم، يوم الثلاثاء ثامن الشهر وحاصرها وضايقها، ونصب عليها عشرين منجنيقا، خمسة منها إفرنجية، وخمسة عشر قرابغا وشيطانية «5» . ورمى بالمجانيق، وعملت النقوب، فيسّر الله فتحها. وكانت مدة المقام عليها، إلى أن فتحت، ثلاثة وثلاثين يوما. وكان للأمير علم الدين الشجاعى فى فتحها النصيب الأوفى، فإنه تحيلّ فى عمل سلسلة بالقرب من شراريف القلعة، [وأوثق طرفها بالأرض، فتمسك الجند بها، وطلعوا إلى القلعة] «6» . وكان ممن طلع إلى القلعة، سيف الدين أقجبا، أحد مماليك

الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، ولم يكن من أعيان مماليكه، بل كان فى خدمة ولده صلاح الدين خليل. فتحيل وطلع إلى سور القلعة، وقاتل قتالا شديدا، وجرح ثم رجع، والسلطان ينظر إليه. فسأل عنه، فعرف به، فأرسل إليه خلعة، وأنعم عليه بمال، ووعده بإقطاع، وأمر أستاذه الأمير بدر الدين، أن يذكر السلطان به، إذا عاد إلى حلب، فلم يفعل. ثم صار بعد ذلك، من جملة مقدمى الحلقة. وتأمّر بعد ذلك، فى سنة تسع عشرة وسبعمائة بطبلخاناة، وتولى عمل الفيوم من الديار المصرية. وفتحت القلعة عنوة «1» ، وقتل من كان بها من المقاتلة، وسبيت النساء والذرية، ووجد فيها بطرك الأرمن، فأخذ أسيرا. ومحا السلطان عن هذه القلعة، تسميتها بالروم، وسماها قلعة المسلمين. ووصل إلى الزرد خاناة السلطانية، من الأسرى ألف أسير ومائتا أسير. واستشهد عليها من الأمراء: الأمير شرف الدين بن الخطير، وشهاب الدين بن ركن الدين أمير جاندار. ورتب السلطان الأمير علم الدين الشجاعى لعمارة القلعة، وأمره بإخراب ربضها وابعاده عنها. فتأخر لذلك، وصحبته عسكر الشام «2» . ولماتم هذا الفتح، أنشئت كتب البشائر إلى الممالك. وكان مما كتب إلى دمشق، كتاب عن السلطان إلى قاضى القضاة شهاب الدين الخويى «3» ونسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، أخوه خليل بن قلاوون. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامى، القاضى الأجل،- وذكر القابه ونعوته- خصه الله بأنواع التهانى، وأتحفه بالمسرات التى تعوّذ بالسبع المثانى. وأورد على سمعه، من بشائر نصرنا وظفرنا، ما يستوعب فى وصفه ومدحه الألفاظ والمعانى. نبشره «1» بفتح ما سطرت الأقلام إلى الأقاليم أعظم من بشائره، ولا نشرت برد المسرات، بأحسن من إشارته وأشائره. ولا تفوهت ألسنة خطباء هذا العصر على المنابر، بأفصح من معانيه، فى سالف الدهر وغابره، وهو البشرى بفتح قلعة الروم، والهنا لكل من رام بالإسلام نصرا ببلوغ مارام وما يروم. [ونقصّ «2» ] أحسن قصص هذا الفتح المبين، والمنح الذى تباشر به سائر المؤمنين، ونساوى فى الإعلان والإعلام به كل من قرّ عينا من الأبعدين والأفربين. ونخضّ بمصرى مبشراته الحكام ليعمّوا بنشرها عامة الناس. ونفرض لكل ذى مرتبة عليه منه نصيبا يجمع من الابتهاج والأنواع والأجناس. وذلك أنا ركبنا لغزوها، من مصر، وقد كان من قبلنا من الملوك، يستبعد مداها، ويناديها فلا يجيب إلا بالصد والإعراض صداها، ويسائل عن جبالها «3» ؛ فتحيل فى الجواب على النسور المهومة، ويستشير «4» أولى الرأى فى حصرها، فلا يسمع إلا الأقوال المثلوبة والأراء

المتلومة، ومازلنا نصل السرى «1» ، ونرسل الأعنة إلى نحوها، فتمدّ الجياد أعناقها إليها مدا، ينقطع بين قوتها وقوته السير. واستقبلنا من جبالها «2» كل صعب المرتقى، وعر «3» المنتقى، شاهق لا يلقى «4» به مسلك ولا يلتقى. فما زالت العزائم الشريفة تسهل «5» حزونه، والشكائم تفجر «6» بوقع السنابك على حجارته «7» عيونه «8» ، والجياد المطهمة ترتقى، مع امتطاء متونها بدروع الحديد متونه. فلما أشرف عليها منا أشرف سلطان، جعل جبلها دكا، وحاصرناها حصارا ألحقها بعكا وأخواتها، وإن كانت أحصن من عكا. ونصبنا عليها عدة مجانيق تنقض حجارتها انقضاض النسور، وتقبض «9» الأرواح من الأجسام وإن ضرب بينها وبينهم بسور، وتفترس أبراجها بصقور صخور افتراس الأسد الهصور. هذا والبقوب تسرى فى بدناتها سريان الخيال، وإن كانت جفونها المسهدة، وعمدها الممددة وحفظنها المجندة، ورواسيها على جبل الفرات موطدة. وقد خندقوا عليها خندقا

جرت فيه الفرات من جانت ونهر مرزبان من جانب، ووضعها واضعها على رأس جبل يزاحم الجوزاء بالمناكب، وسفح صرحها الممدد فكأنه عرش لها على الماء وإذا رمقها طرف رائيها اشتبهت عليه بأنجم السماء. وما زالت المضايقة تقص «1» من حبلها «2» أطرافه، وتستدر «3» بحلبها «4» أخلافه، وتقطع بمسائل جلاد معاولها وجدالها خلافه. وتورد عليها من سهامها كل إيراد لا يجاوب إلا بالتسليم، وتقضى عليها بكل حكم لا تقابل توبته إلا بالتحكيم. ولما أذن الله بالفتح الذى أغلق على الأرمن والتتار أبواب الصواب، والمنح الذى أضفى «5» على أهل الإيمان من المجاهدين أثواب. الثواب. فتحت هذه القلعة بقوة الله ونصره، فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب الفرد. فسبحان من صهل صعبها، وعجل كسبها، وأمكن منها ومن أهلها، وجمع شمل الممالك الإسلامية بشملها. فالمجلس السامى يأخذ خطه من هذه البشرى، التى بشرت بها ملائكة السماء، ملك البسيطة وسلطان الأرض. وتكاثر على شكرها كل من أرضى الله طاعة وأغضب من لم يرض، من ذوى الإلحاد «6» ، وممن حاد الله [و] حاد،

وممن ينتظر من هذا الإيعاز «1» إنجاز الإيعاد، فلا ينجيه الإمضاء «2» هربا ولا الإبعاد. فإنه بفتح «3» هذه القلعة وتوقلها «4» ، وحيازة ثغرها ومعقلها، تحقق من بسيحون وجيحون، أنهم بعد فتح باب الفرات، بكسر أقفال هذه القلعة لا يرجونّ أنهم ينجون «5» . وما يكون بعد هذا الفتح، إن شاء الله إلا فتح المشرق والروم والعراق، وملك البلاد من مغرب الشمس إلى مطلع الإشراق. والله تعالى يمدنا من دعواته الصالحه، بما تعدو به عقود الآمال حسنة الانساق، إن شاء الله. كتب يوم الفتح المبارك سنة إحدى وتسعين وستمائة، حسب المرسوم الشريف «6» . وكتب عن الأمير علم الدين الشجاعى، نائب السلطنة بدمشق، إلى قاضى القضاة، شهاب الدين الخويى «7» أيضا. وهو من إنشاء الفاضل شرف الدين القدسى، ما مثاله بعد البسملة:

ضاعف الله مسار الجناب العالى المولوى الفضائى الشهابى- وذكر القابه ونعوته- ولا زالت وفود البشائر إليه تنرى، وعقود النهانى تنص «1» إليه نظما ونثرا. وفواتح الفتح تتلى عليه لكل آية نصر يسجد لها القلم فى الطرس شكرا، وتشتمل على أسرار الظفر فيأنى الإسماع من غرابتها بما لم يحط به خبرا «2» . وتتحفه «3» بظهور أثر المساهمة فتهدى إليه سرورا وأجرا. المملوك يستفتح من حمد الله على ما منح من آلائه، وفتح على أوليائه، ووهب «4» من الإعداء على أعدائه، ويسرّ من الظفر الذى أيد فيه بنصره وأمدّ بملائكة سمائه، ما يستديم الإنجاد بحوله، ويستزيد به الأمداد من فضله وطوله. ويوالى «5» من الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما يستدر «6» به أخلاف الفتوح، ويسترهف بيمنه الصوارم التى هى على من كفر بالله ورسوله دعوة نوح. ويهدى من البشائر ما تختال به أعطاف المنابر سرورا، ويتعطر بذكره أفواه المحابر حبورا، وترشف «7» الأسماع موارد وارده، فيستحيل فى قلوب الأعداء

نارا وفى قلوب الأولياء نورا. ويبادر مساهمة الحاضر فى استماعه كل باد «1» فينقلب إلى أهله مسرورا. وينهى أنه أصدرها والنصر قد خفقت بنوده، وصدقت وعوده، وسار بمختلفات البشائر فى كل قطر بريده. والأعلام الشريفة السلطانية، قد امتطت من قلعة الروم صهوة لم تذلّ لراكب. وحلت من قنتها «2» وفلتها بين الذروة والغارب. وأراقت أسنتها من دمائهم ما ترك الفرات «3» لا يحل «4» لشارب. ومدّ الأيمان بها أطنابه، وأعجلت السيوف المنصورة الشرك أن يضم للرحلة أثوابه. واستقرت بها قدم الإسلام ثابتة إلى الأبد، وقتّلت بأرجائها، سيوف أهل الجمعة، حتى رق أهل السبت لأهل «5» الأحد. وأذهب الله عنها التثليث حتى كاد حكم الثلاثة أن يسقط من العدد، وتبرأ منهم من كان يغرهم بامداده، حتى الفرات لمجاورتهم، ودّت النقص خوفا أن يطلق على زيادتها اسم المدد. ونطق بها الأذان فخرس «6» الجرس. وعلت بها كلمة الإيمان، فأضحت لها بعد الإبتذال آية الحرس. وأسمعت دعوة الحق ما حولها من الجبال فسمعت وهى الصم، ولبت الداعى بلسان الصدى الناطق عن شوامخها الشم.

وكانت هذه القلعة المذكورة للثغور الإسلامية بمنزلة الشجى فى الحلق «1» ، والغلة فى الصدر، والخسوف الطارئ على طلعة البدر. لا تخلو من غل تضمره، فى لين تظهره، وغدر تستره، فى عذر تورده وتصدره. وقد سكن أهلها إلى مخادعة الجار، وموادعة التتار، وممالاتهم على الإسلام بالنفس والمال، ومساواتهم لهم حتى فى الزى والحال. يمدونهم بالهدايا والألطاف، ويدلونهم على عورات الأطراف. وهم يتقون بمسالمة الأيام، ويدعون أن قلعتهم لم تزل من الحوادث فى زمام، ويغترون بها. ولولا السطوات الشريفة، لحق بمثلها أن يغتر. ويسكنون إلى حصانتها كلما أو مض فى حلك «2» السحب برق ثغرها المفتر. وهو حصن صاعد منحدر، بارزه مستدير، لا يطأ إليه السالك إلا على المحاجر، ولا تنظره العيون حتى تبلغ «3» القلوب الحناجر، كأنه فى ضمائر الجبال حب يقتل وهو كامن، ويجرف الظاهر وهو باطن. قد أرخت عليه الجبال الشواهق ذوائبها، ومدت عليه الغمائم أطنابها ومضاربها. وقد تنافست فيه الرواسى الرواسخ فأخفاه بعضها عن بعض وتقاسمته العناصر فهو للنكاية والرفعة والثبات ومجاورة الفرات مشترك بين النار والهواء والماء والأرض. وقد امتدت الفرات من شرقيها كالسيف فى كف طالب ثأر، واكتنفها من جهة الغرب نهر آخر استدار نحوها كالسور وانعطف معها كالسوار. وفى قنة «4» قلتها جبل يرد الطرف وهو كليل،

ويصل «1» النظر إلى تخيل «2» هضابه فلا يهتدى إلى تصورها بغير دليل، وكذلك من شرقها وغربها، فلا تنظرها الشمس وقت الشروق «3» ، ولا يشاهدها [القمر] وقت الأصيل. وحولها من الأودية خنادق لا يعرف فيها الهلال إلا بوصفه، ولا الشهر إلا بنصفه. وأما الطريق إليها فيزل «4» الذرّ عن متنها. ويكل طرف الطرف عن سلوك سهلها فضلا عن حزنها. «5» وبها من الأرمن عصب جمعهم التكفور «6» ، ومن التتار فرق زيادتهم للتغوير «7» ، قد بذلوا دونها النفوس، وتدرعوا للذب عنها لبوس.

وأقدموا على شرب كأس الحمام، خوفا أن يكفرهم التكفور؛ ويحرمهم خليفتهم الحاكم بها، كتبغا نميكوس «1» . وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم، وفسح فى ميدان الضلالة آمالهم، فلما تراءت الفئنان، نكص على عقبية، وترك «2» كلا منهما «3» يعض من الندم يديه. وحين أمر مولانا السلطان، خلّد الله سلطانه، الجيوش المنصورة بالنزول عليها، والهجوم من خلفها ومن بين يديها، ذللت مواطىء جيادها صهوات تلك الجبال. وأحاطت بها من كل جانب إحاطة الهلال بالهلال. وسلكوا إليها تلك المخارم «4» ، وقد تقدمهم «5» الرعب هاديا وأقدموا على [قطع] «6» تلك المسالك والمهالك، بالأموال والأنفس، ثقة بأنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا. فلم يكن بأسرع من أن طار إليهم الحمام، فى أجنحة السهام. وخضّبت «7» الأحجار تلك الغاده العذراء «8» للضرورة،

وللضرورات أحكام. وأزالت «1» النقابة عنها نقاب احتشامها. ودبّت فى مفاصلها دبييب السقم فى عظامها، مع أنها مستقرة على الصخر الذى لا مجال فيه للحديد، ولكن الله أعز بالنصر سلطاننا فجاءت أسباب الفتح على ما يريد. وأقيمت المجانيق المنصورة أمامها فأيقنوا بالعذاب الأليم، وشاموا بروق الموت من عواصف أحجارها التى ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وساهموها صلاة الخوف، فلسهامهم الركوع، ولبروجهم السجود، ولقلعتهم التسليم. ولم تزل تشن عليهم غارة بعد غارة، وتسقيهم على الظمأ صوب «2» أحجارها، وإن من الحجارة، وهى مع ذلك تظهر الجلد والجد، وتغضب غضب الأسير، على القد. وتخفى ما تكابد من الألم، وتشكو بلسان الحال شكوى الجريح إلى العقبان والرخم، إلى أن جاءت «3» من الأنجاد «4» ما كانوا يأملون. وسطت مجانيقنا «5» على مجانيقهم فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون. وكلما سقطت أسوارها، وتهتكت بيد النقوب «6» أستارها، وتوهم الناظر أنها هانت، رآها المباشر فى تلك الحالة

أشد ما كانت، وثبتت على الرمى والارتماء، وعزّت «1» على من اتخذ نفقا فى الأرض أو سلّما فى السماء، واستغنت بمكان السور، وانفضت أحجارها على أسوار الحرب انقضاض النسور. وكان الفتح المبارك فى صباح يوم السبت، حادى عشر رجب الفرد، سنة إحدى وتسعين وستمائة بالسيف عنوة. فشفت «2» الصوارم من أرجاس الكفر العلل «3» بقمع «4» العدى وكبتها. وسطا خميس الأمة يوم السبت، على [أهل] «5» يوم الأحد، فبارك الله لخميس الأمة فى سبتها. فليأخذ [القاضى] «6» من هذه البشرى، التى أصبح الدين بها عالى المنار، بادى الأنوار. ضارب مضارب دعوته على الأقطار، ذاكرا بموالاة «7» القتوح أيام الصدر الأول من المهاجرين والأنصار. وليشعها على رءوس الإشهاد

ويجعلها فى صحف الفتوح السالفة بمنزلة المعنى فى القرينة والمثل فى الاستشهاد. ويمدّ الجيش بهمته التى ترهف الهمم، وأدعيته التى تساعد الساعد وتؤيد اليد وتقدم القدم. ويشارك بذلك فى الجهاد حتى يكون فى نكاية الأعداء على البعد كسهم أصاب ورامية بذى سلم. ويستقبل من البشائر بعدها ما تكون له هذه بمنزلة العنوان فى الكتاب، والأحاد فى الحساب، وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأول قبل طلوع طلعة الشمس. والله تعالى يجعل شهاب فضله لامعا، ونور علمه فى الأفاق ساطعا، ويتحفه من مفرقات «1» التهانى بكل ما يغدو «2» لشمل المسرات جامعا، إن شاء الله تعالى. كتب فى يوم الفتح المذكور «3» . وكتب غير ذلك من كتب البشائر، اقتصرنا منها على ما أوردناه «4» . ثم رحل السلطان من قلعة الروم إلى حلب، فأقام بها بقية شهر رجب، ونصف شعبان. وعزل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى عن نيابتها. ورتب بها الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى. وجعل الأمير عز الدين أيبك الموصل شاد الدواوين.

ذكر توجه الأمير بدر الدين بيدرا وبعض العساكر إلى جبال الكسروان واضطراب العسكر

وقيل إنه ولاه قلعة الروم «1» وما جمع إليها، فامتنع من قبول هذه الولاية. فغضب السلطان وأمر بالقبض عليه، وفوض ذلك إلى الأمير جمال الدين أقش الفارسى فبقى بها أياما وتوفى، فأعاد السلطان الأمير عز الدين الموصلى. ورحل السلطان عن حلب إلى دمشق، فكان وصوله إليها، فى يوم الثلاثاء العشرين من شعبان فأقام بها بقية شعبان وشهر رمضان وبعض شوال. وفيها، حصل لجمال العسكر مرض، سلّت منه حتى جانت الوطاقات منها. ولم يجد الأمراء من الجمال ما يحملون عليه أثقالهم، فحملوها على البغال والأكاديش. ذكر توجه الأمير بدر الدين بيدرا وبعض العساكر إلى جبال الكسروان واضطراب العسكر وفى هذه السنة، فى شعبان توجه الأمير بدر الدين بيدرا بمعظم العساكر المصرية، وصحبته من الأمراء الأكابر، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، والأمير بدر الدين بكتوت الأتابكى، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى وغيرهم، وقصد جبال الكسروان. وأتاهم من جهة الساحل، الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا؛ والأمير عز الدين أيبك الحموى وغيرهما. والتقوا بالجبل» وحضر [إلى] «2» الأمير بدر الدين بيدرا من أثنى «3» عزمه. وكسر حدته. فحصل الفتور فى أمرهم، حتى تمكنوا من بعض

العسكر، فى تلك الأوعار، ومضايق الجبال، فنالوا منهم. وعاد العسكر شبه المنهزم، وطمع أهل تلك الجبال، فاضطر الأمير بدر الدين إلى إطابة قلوبهم والإحسان إليهم. وخلع على جماعة من أكابرهم، فاشتطوا فى الطلب، فأجابهم إلى ما التمسوه، من الإفراج عن جماعة منهم، كانوا قد اعتقلوا بدمشق، لذنوب وجرائم صدرت منهم. وحصل للكسروان من القتل والنهب والظفر، ما لم يكن فى حسابهم. وحصل للأمراء والعسكر من الألم لذلك، ما أوجب تصريح بعضهم بسوء تدبير الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، ونسبوه إلى أنه إنما أهمل أمرهم، وفتر عن قتالهم، حتى تمكنوا مما تمكنوا منه لطمعه، وأنه تبرطل منهم وأخذ جملة كثيرة، ولهج الناس بذلك. وتوجه الأمير بدر الدين بيدرا بالعساكر إلى دمشق. فتلقاه الملك الأشرف، وأقبل عليه وترجل لترجله عند السلام [عليه] «1» . فلما خلا به، أنكر عليه سوء اعتماده وتفريطه فى العسكر، فمرض لذلك، حتى أشاع «2» الناس أنه سقى. ثم عوفى فى العشر الأوسط من شهر رمضان، فتصدق السلطان بجملة كثيرة، شكرا لله تعالى على عافيته، وأطلق جماعة كثيرة ممن كان فى السجون. وتصدق هو أيضا بجملة، ونزل عن كثير مما كان قد اغتصبه من أملاك الناس، بالإيجار «3» الذى هو على غير الوجه الشرعى. وجمع العلماء والقضاة والقراء والمشايخ، فى العاشر من شهر رمضان، بالجامع بدمشق لقراءة ختمة. وأشعل «4» الجامع فى هذه الليلة، كما

ذكر هرب الأمير حسام الدين لاجين والقبض عليه واعتقاله، والقبض على طقصوا

يشعل «1» فى نصف شعبان. ذكر هرب الأمير حسام الدين لاجين والقبض عليه واعتقاله، والقبض على طقصوا «2» وفى هذه السنة، فى ليلة عيد الفطر، هرب الأمير حسام الدين لاجين من داره بدمشق. فنودى عليه، من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق. وركب السلطان فى خاصكيته وجماعة من الأمراء. وترك سماط العيد، وساق فى طلبه، وعاد بعد العصر، ولم يظفر به. «3» واتفق أنه التجأ إلى طائعة من العرب كان يثق بصحبتهم. فقبضوا عليه وجىء به إلى السلطان فاعتقله. وقبض أيضا على الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا، وجهز إلى قلعة الجبل. وكان السبب فى القبض على طقصوا، أنه كان قد تكلم على الأمير بدر الدين بيدرا. وقال إنه ارتشى من الكسروان. فوجد بيدرا عليه، وأسرها فى نفسه، وتربص به الدوائر. فلما قبض على الأمير حسام الدين لاجين، خاطب بيدرا السلطان فى القبض على طقصوا، لأن لاجين كان قد تزوج ابنته، فقبض عليه. ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام والفتوحات وعود السلطان إلى الديار المصرية وفى هذه السنة، فوض السلطان نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير عز الدين أيبك

ذكر عدة حوادث كانت فى خلال فتح قلعة الروم وقبله وبعده

الحموى الظاهرى، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الشجاعى. وفوّض نيابة السلطنة بالفتوحات «1» للأمير سيف الدين طغريل الإيغانى «2» ، عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، بحكم انتقاله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية كما تقدم «3» . ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل. وكان رحيله من دمشق، فى الثلث الآخر من ليلة الثلاثاء عاشر شوال. وكان قد رسم لأهل الأسواق بدمشق أن يخرج كل واحد منهم، وبيده شمعة يوقدها، عند ركوب السلطان، فخرجوا بأجمعهم. ورتبوا من باب النصر [أحد أبواب دمشق] «4» ، إلى مسجد القدم. ولما ركب السلطان، اشتعلت تلك الشموع، وساق وهى كذلك إلى نهاية ذلك الجمع. وكان وصول السلطان إلى قلعة الجبل، فى يوم الأربعاء ثانى ذى القعدة. ذكر عدة حوادث كانت فى خلال فتح قلعة الروم وقبله وبعده فى هذه السنة، فى أو آخر شهر ربيع الآخر، ورد البريد من الرحبة إلى دمشق، يخبر أن طائفة من التتار، أغادوا على ظاهر الرحبة، واستاقوا مواشى كثيرة. فجرد نائب السلطنة إليها جماعة من عسكر دمشق، فى ثامن عشرين الشهر «5»

وفيها، فى العشر الأوسط من جمادى الأولى، تزوج الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، بابنة الصاحب شمس الدين بن السلعوس، على صداق مبلغه ألف دينار وخمسمائة دينار عينا، عجّل من ذلك خمسمائة دينار. وفيها، بعد أن توجه السلطان إلى قلعة الروم بأيام يسيرة، تسوّر عبد أسود إلى أسطحة أدر الحرم السلطانية بقلعة دمشق. فأمسك وقررّ، فذكر أن أحد المؤذنين بجامع القلعة نصب له سلّما، وأصعده إلى هناك. فطولع السلطان بذلك، فورد المرسوم بقطع أطرافهما وتسميرهما، ففعل ذلك بهما «1» . وفيها، فى شعبان طلّق الملك المظفر، صاحب حماه، زوجته، وهى ابنة خاله الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ابن الملك العزيز محمد، ابن الملك الظاهر غازى، ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعاب الناس عليه ذلك، واستقبحوه [منه] «2» . وتوجهت هى من حماه إلى الديار المصرية، فتوفيت بعد وصولها إليها بعشرين يوما. وفيها، بعد أن توجه السلطان من دمشق إلى الديار المصرية، استعفى القاضى محيى الدين بن النحاس، من مباشرة نظر الدواوين بالشام، فأعفى من ذلك. ورتب فى نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين بن هلال. ورتب فى نظر الدواوين جمال الدين إبراهيم بن صصرى. وفيها، أفرج السلطان عن الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، بعد عوده من قلعة الروم، وأمر بإحضاره من الديار المصرية إلى دمشق، فأحضر. فخلع عليه السلطان، واستصحبه معه إلى الديار المصرية وأمرّه.

ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وجرمك الناصرى ووفاتهما، ووفاة طقصوا والإفراح عن الأمير حسام الدين لاجين

وفيها، رتب السلطان الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصورى، فى تقدمة المماليك السلطانية «1» . ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وجرمك الناصرى ووفاتهما، ووفاة طقصوا والإفراح عن الأمير حسام الدين لاجين وفى هذه السنة، لما عاد السلطان إلى الديار المصرية، قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصرى. وأمر باعدامهما، وإعدام طقصوا ولاجين. فكان الذى تولى خلق لاجين، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، فتلطف به، وانتظر أن تقع به شفاعه. فشفع فيه الأمير بدر الدين بيدرا، فأمر السلطان بالإفراج عنه، وهو يظن أنه قدمات «2» . فسلّمه الله تعالى، لما كان له فى طى الغيب ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى «3» . وقيل إن السلطان قبض على سنقر الأشقر من دمشق. وفيها، فى منتصف شهر رمضان، توفى القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بسفح قاسيون. ومولده فى أحد الربيعين «4» ، سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وكان قد تمكّن فى الدولة المنصورية، والدولة

الأشرفية تمكنا كثيرا، وتقدم على أبيه وغيره. ولما اعتلّ، رحمه الله، كتب إلى أبيه: إن شئت تنظرنى وتنظر حالتى ... قابل إذا هب النسيم قبولا لتراه مثلى رقة ولطافة «1» ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا وهو الرسول إليك منى ليتنى ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا ولما مات، أجرى السلطان الملك الأشرف جامكيته وجرايته وراتبه، على ولده القاضى، علاء «2» الدين على، واستقر فى جملة كتاب الإنشاء. وولىّ صحابة ديوان الإنشاء، بعد وفاة القاضى فتح الدين، القاضى تاج الدين أبو الظاهر أحمد ابن القاضى شرف الدين أبى البركات سعيد بن اشمس لدين أبى جعفر محمد ابن الأثير الحلبى التنوخى، فلم يلبث إلا شهرا أو قريبا من شهر، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وكانت وفاته، يوم الخميس تاسع عشر شوال من هذه السنة، بظاهر غزة، ودفن هناك رحمه الله تعالى. وولى بعده صحابة ديوان الإنشاء، ولده القاضى عماد الدين إسماعيل، واستمر إلى آخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة «3» وفيها، فى يوم السبت العشرين من شوال، توفى الأمير سابق الدين الميدانى بدمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة [692 - 1292/ 1293]

واستهلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة [692- 1292/1293] فى هذه السنة، فى أولها فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والحصون، إلى الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، عوضا عن الأمير سيف الدين طغربل الإيغانى «1» ، بحكم استعفائه من النيابة، وسؤاله. فوصل إلى دمشق فى سابع عشرين المحرم، وصحبته خمسة أمراء بطبلخاة، وتوجه إلى جهته. وفيها، فى صفر، حصل ببلاد غزة والرملة ولد «2» والكرك «3» ، زلزلة عظيمة، كان معظمها بالكرك، فإنها هدمت ثلاثة أبراج من قلعتها. فندب الأمير علاء الدين أيدغدى الشجاعى من دمشق، وصحبته الصناع لعمارة ما انهدم بالكرك. وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير عز الدين أزدمر العلائى، أحد الأمراء بدمشق: فقبض عليه، وجهز إلى الأبواب السلطانية فى غرة شهر ربيع الأول «4»

ذكر توجه السلطان إلى الصعيد

ذكر توجه السلطان إلى الصعيد وفى هذه السنة، توجه السلطان إلى جهة الصعيد للصيد، واستصحب معه الصاحب شمس الدين [بن السلعوس] «1» ، وترك الأمير بدر الدين بيدرا بقلعة الجبل. وانتهى السلطان إلى مدينة قوص، وتصيد بها. وأمر الحجاب والنقباء أن ينادوا «2» فى العسكران يتجهزوا لغزو اليمن. ثم عاد السلطان إلى قلعة الجبل. ولما كشف الصاحب شمس الدين [بن السلعوس] «3» الوجه القبلى فى هذه السفرة، وجدت الجهات الجارية فى ديوان الأمير بدر الدين بيدرا من الافطاعات والمشتروات «4» والحمايات «5» ، أكثر مما هو جار فى الخاص السلطانى. ووجد الشون «6» السلطانية «7» بنواحى الوجه القبلى، خالية من الغلال والحواصل، وشون الأمير بدر الدين بيدرا مملوءة. فأنهى ذلك إلى السلطان وأطلعه عليه، فتغير السلطان على بيدرا. واتصل هذا الخبربه، فقصد تلافيه. وجهز للسلطان تقدمة عظيمة، كان من جملتها، خيمة أطلس معدنى أحمر، بأطناب ابريسم «8»

ذكر توجه السلطان إلى الشام وأخذ بهسنا من الأرمن، وإضافتها إلى الممالك الإسلامية

بأعمدة صندل، محلاة ومفصلة «1» بالفضة المذهبة، وبسطها «2» ببسط الحرير، وما يناسب هذه الخيمة من التقادم. وضرب هذه الخيمة بالعدوية «3» ، فنزل السلطان بها ساعة من نهار، وما أظهر البشاشة للتقدمة «4» ، ولا استحسنها مع عظمها. ثم ركب وطلع إلى قلعة الجبل، وارتجع بعض جهات بيدرا للخاص [السلطانى] «5» ذكر توجه السلطان إلى الشام وأخذ بهسنا من الأرمن، وإضافتها الى الممالك الإسلامية وفى هذه السنة، بعد عود السلطان من جهة الصعيد، تجهز بعساكره إلى إلى الشام. وأمر الأمير بدر الدين بيدرا، أن يتوجه بالعساكر إلى دمشق على الطريق الجادة «6» . وتوجه الصاحب بالخزانة إليها، وركب السلطان على الهجن، وفى خدمته جماعة من الأمراء والخاصكية. وتوجه إلى الكرك وشاهد حصنها ورتب أموالها، وتوجه منها إلى دمشق. فكان وصوله إليها، فى تاسع جمادى الآخرة. ووصل نائب السلطنة والصاحب قبله بثلاثة أيام. ولما حلّ ركابه بدمشق، أمر بتجهيز العساكر إلى بلاد سيس، فوصل رسل صاحب سيس، يسألون مراحم السلطان وعواطفه، ويبذلون له الرغائب.

ذكر القبض على الأمير حسام الدين مهنا ابن عيسى وأخوته

فاتفق الحال على أن يسلموا لنواب السلطان بهسنا ومرعش وتل حمدون. فأعاد السلطان رسله، وصحبتهم الأمير سيف الدين طوغان والى بر دمشق، فتسلمها وبلادها. ووصل البريد بذلك فى العشر الأول من شهر رجب. ودقت البشائر لذلك. ورتب السلطان فى نيابة السلطنة ببهسنا «1» ، الأمير بدر الدين بكتاش المنصورى، وعين لها قاضيا خطيبا. واستخدم بها رجالا وحفظة. ثم وصل الأمير سيف الدين طوغان، وصحبته رسل سيس، بالحمل والتقادم. وكان وصولهم إلى دمشق، فى ثامن عشرين شهر رجب بعد عود السلطان، فتوجهوا إلى الديار المصرية. وهذه بهسنا من أعظم القلاع وأحصنها، ولها ضياع كثيرة. وهى فى فم الدربند «2» ، وكانت بيد ملوك الإسلام بحلب، إلى أن ملك هولاكو حلب. وكان النائب بها من جهة الملك الناصر، الأمير سيف الدين العقرب، فأباعها لصاحب سيس، بمائة ألف درهم، أعطاه منها ستين ألف درهم، وتسلمها الأرمن [أهل سيس] «3» ، وبقيت فى أيديهم إلى الآن «4» . ذكر القبض على الأمير حسام الدين مهنا ابن عيسى وأخوته وفى هذه السنة، فى ثانى «5» من شهر رجب، توجه السلطان من دمشق إلى

ذكر هدم قلعة الشوبك

حمص، بجماعة من العساكر، وأعاد ضعفة العساكر إلى الديار المصرية. ثم توجه السلطان من حمص إلى سلمية، فى ضيافة الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى. فلما قدّم للسلطان ضيافته، أمر بالقبض عليه، وعلى إخوته فقبض عليهم «1» ، وهو على الطعام، وجهّزه تحت الاحتياط، صحبة الأمير حسام الدين لاجين، فوصل به إلى دمشق، فى يوم الأحد سابع شهر رجب. ووصل السلطان إلى دمشق، فى بقية النهار. وجعل السلطان إمرة العرب، بعد القبض على مهنا، لابن عمه الأمير محمد بن أبى بكر على بن حذيفة «2» . ثم أمر السلطان الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، أن يتوجه بالعساكر إلى الديار المصرية، هو والصاحب شمس الدين والخزانة، كما حضرا [من حمص] «3» . فتوجها من دمشق فى يوم الخميس حادى عشرة شهر رجب. وتوجه السلطان بعدهما، ببعض الأمراء والخاصكية. وركب من دمشق فى الساعة السابعة من يوم السبت ثالث عشر الشهر. وأراد بذلك الانفراد بنفسه وخواصه، والأنفراد بهم «4» فى الصيد، وأن لا يشتغل بالعساكر. ووصل إلى غزة، فى بكرة يوم الأربعاء سابع عشر الشهر. ووصل إلى القاهرة فى الثامن والعشرين من شهر رجب «5» . ذكر هدم قلعة الشوبك وفى هذه السنة، فى شهر رجب، أمر السلطان الأمير عز الدين أيبك

ذكر حادثة السيل ببعلبك

الأفرم، أمير جاندار أن يتوجه إلى قلعة الشوبك ويهدمها، وذلك عند توجه السلطان من دمشق إلى حمص. فراجعه فى ذلك، وبيّن له فساد هذا الرأى، فانتهره، فتوجه إليها وهدمها، وأبقى القلة. وكان هدمها من الخطأ، وسوء التدبير، فإن الفلاع والحصون معاقل الإسلام، وذخائر المسلمين، وإليها يلجأون فى أوقات الشدائد والحصارات، ومنازلة الأعداء، وهو أمر لا يؤمن «1» . [وبعد عود السلطان إلى الديار المصرية] «2» ، رسم السلطان للأمير سيف الدين طوغان، أن يتوجه إلى نيابة السلطنة، بقلعة المسلمين «3» ، عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى. وولى الأمير سيف الدين استدمر «4» كرجى بر «5» دمشق، عوضا عن طوغان. ذكر حادثة السيل ببعلبك وفى هذه السنة، فى رجب، وصل كتاب النائب ببعلبك، يخبر أنه وقع على مدينة بعلبك، أمطار وثلوج كثيرة جدا، وأن المطر كان ينزل [وكانه] «6» قد جبل بطين، وأن السيل وصل إلى باب بعلبك، المسمى بباب دمشق،

ذكر ختان الملك الناصر، وما حصل من الأهتمام بذلك

وعلا حتى وصل إلى شرفات السور. ثم انحدر بعد ذلك، واقتلع كروما كثيرة، ونقل أحجارا وصخورا، وطم أكثر الطرقات، وأنه أحصى ما أفسد ببعلبك، وكانت قيمته تزيد على مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار. وفيها، أمر السلطان، بالقبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار، فقبض عليه فى شوال، ووقعت الحوطة على موجوده وحواصله بالديار المصرية والشام. ذكر ختان الملك الناصر، وما حصل من الأهتمام بذلك وفى هذه السنة، أمر السلطان بالأهتمام، لختان أخيه الملك الناصر، ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور، وأن ينصب القبق «1» تحت قلعة الجبل مما يلى باب النصر. فنصب فى العشرين من ذى الحجة، ورماه الأمراء والأكابر ومن له ولمثله عادة بذلك. وفرّق السلطان الأموال على من أصابه. وكان ممن

أصابه الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى. فرماه ما لم يرمه «1» غيره قبله. وذلك أنه كان قد اقترح سرجا وطىء الرادفة «2» جدا. فلما رآه السلطان، قال له قد كبرت يا أمير بدر الدين، فاقترحت هذا السرج. ليسهل عليك الركوب. فقال: إن كان المملوك قد كبر، فقد رزقت ستة أولاد، وهم فى خدمة السلطان ولم أكن أفترح «3» هذا السرج إلا لأجل القبق، ثم ساق الأمير بدر الدين نحو صارى القبق. والعادة جارية أن الرامى لا يرميه إلا إذا صار بجانب الصارى، فساق إلى أن تعدى الصارى، فما شك الناس أنه فاته الرمى. ثم استلقى على ظهر فرسه، حتى صار رأسه على كفل الفرس، فرماه وهو كذلك، بعد أن تعداه، فأصاب القرعة وكسرها. فصرخ الناس لذلك واستعظموه. وظهرت للسلطان فائدة السرج، فأمر أن ينعم عليه بما بقى فى ذلك الوقت، من المال المرصد للإنعام فأعطيه، وكان خمسة وثلاثين ألف درهم. وخلع عليه، وعظم فى صدور الناس، زيادة عما عندهم من تعظيمه. وعلموا عجزهم عن الإتيان بما أتى به، وفعل ما فعله «4» ثم كان الختان المبارك، فى يوم الاثنين، الثانى والعشرين من ذى الحجة. ونثر الأمراء الذهب الكثير فى الطشوت حتى امتلأت «5» .

وفيها، فى ليلة الثلاثاء حادى عشر صفر، توفى الأمير الصالح شمس الدين أبو البيان، نبا ابن الأمير نور الدين أبى الحسن على ابن الأمير شجاع الدين هاشم ابن حسن بن حسين، أمير جاندار المعروف بابن المحفدار «1» ، بداره بالروضة، قبالة مصر، بعد أن صلى العشاء الآخرة، بسورة «2» (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) فلما فرغ من الصلاة، سجد سجدة، فمات فى سجدته، وكانت عادته أن بسجد عقيب صلاته، ويدعو الله فى سجوده. ودفن من الغد فى القرافة بتربته، بقرب تربة الإمام الشافعى. وكان رحمه لله تعالى، دينا حسن السيرة والوساطة، احتوى «3» على أوصاف جميلة، يثق الملوك به ويعلمون خيره، وديانته، رحمه الله تعالى. وفيها، فى ليلة الأربعاء، ثانى عشر جمادى الآخرة، توفى الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، ابن الملك القاهر ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى بن مروان، ببستانه المعروف ببستان سامه «4» ، بالسهم، ظاهر دمشق. وصلى عليه ظهر يوم الأربعاء بالجامع المظفرى، ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى «5» . ذكر وفاته «6» الشيخ شمس الدين الجزرى «7»

وفيها، توفى القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، كانت وفاته بالقاهرة فى يوم الأربعاء ثالث رجب الفرد، ودفن بالقرافة، رحمه الله تعالى. وفضائلة وشهرته بالرئاسة والآداب «1» ، تغنى عن شرح، وقد قدمنا من كلامه فى كتابنا هذا، ما يقف عليه فى مواضعه، وله شعر رقيق. فمن شعره قوله: ما غبت عنك لجفوة وملال ... يوما ولا خطر السلّو ببالى يا مانعى طيب المنام وما نحى ... ثوب السقام وتاركى كالال عن من أخذت جواز منعى ريقك ال ... عسول يا ذا المعطف العسال عن ثغرك النظام «2» أم عن شعرك ال ... - فحام أم عن جفنك الغزالّى فأجابنى أنا مالك شرع الهوى ... والحسن أضحى شافعى وجمالى وشقائق النعمان أينغ نبتها ... فى وجنتى وحماه رشق نبالى والصبر أحمد للمحبّ إذا ابتلا ... هـ الحب فى شرع الهوى بسؤال وعلى أسارى الحبّ فى حكم الهوى ... بين الأنام عرفت بالقفّال «3» وتفقّه العشاق فّى فكّل من ... نقل «4» الصحيح أجزته «5» بوصالى «6»

وفيها، فى يوم الحميس، سابع عشر شعبان، كانت وفاة قاضى القضاة معز «1» الدين النعمان بن الحسن بن يوسف، قاضى الحنفية بالديار المصرية، ودفن يوم الجمعة بالقرافة. وولى قضاء الحنفية بعده، قاضى القضاة شمس الدين أحمد السروجى الحنفى. وفيها، كانت وفاة الملك الأفضل نور الدين على ابن الملك المظفر محمود، وهو عم الملك المظفر ابن الملك المنصور صاحب حماه. وقد تقدم ذكر نسبه فى مواضع من كتابنا هذا «2» . وتوفى بدمشق فى يوم الاثنين، مستهل ذى الحجة. وصلّى عليه بجامعها، فى الثالثة من النهار، ونقل لوقته إلى حماه، فدفن بها، رحمه الله. وهو والد الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماه فى وقتنا هذا «3» . وفيها، كانت وفاة الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ابن الملك المسعود صلاح الدين أقسيس «4» ، ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد، ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب؛ قبل العصر من يوم الخميس، خامس شهر رجب من السنة. ومولده بالكرك، بعد العشاء الآخرة، من ليلة الأربعاء سادس عشر شوال، سنة تسع وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة [693 - 1293/ 1294]

واستهلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة [693- 1293/1294] ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمهما الله تعالى كان مقتله رحمه الله، فى يوم السبت ثانى عشر المحرم، سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وذلك أنه توجه إلى الصيد بجهة البحيرة. وركب من قلعة الجبل فى ثالث المحرم، وعزم على قصد الحمامات الغربية. وتوجه الصاحب شمس الدين [ابن السلعوس] «1» إلى ثغر الإسكندرية، لتحصيل الأموال، وتجهيز تعابى «2» الأقمشة. فوجد نواب الأمير بدر الدين بيدرا بالثغر قد استولوا على المتاجر والاستعمالات «3» وغير ذلك. فكاتب السلطان بذلك، وعرفه أنه لم يجد بالثغر

ما يكفى الإطلاقات «1» ، على جارى العادة. فغضب السلطان لذلك غضبا شديدا، واستدعى بيدرا بحضور الأمراء، وأغلظ له فى القول، وشتمه وتوعده. فتلطف بيدرا فى الجواب حتى خرج من بين يدى السلطان، وجمع أعيان الأمراء من خوشداشيته، وهم الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريان وغيرهما. فاتفقوا على الوثوب به. وكان السلطان قد أعطى الأمراء الأكابر دستورا، أن يتوجهوا إلى إقطاعاتهم، وانفرد هو بخاصكيته. وفى أثناء ذلك، ركب السلطان فى نفر يسير من مماليكه للصيد بقرب الدهليز، بمنزلة تروجة «2» . فانتهز بيدرا الفرصة، وركب وصحبته لاجين وقراسنقر وبهادر، رأس نوبة، وأقسنقر الحسامى، وتوغيره «3» ، ومحمد خواجا، وطرنطاى الساقى، والطنبغا، رأس نوبة، ومن انضم إليهم. وتوجهوا نحو السلطان، وكان بينهم وبينه مخاضة، فخاضوها وقدموا عليه. فقيل إن بيدرا ضربه بالسيف، فالتقاه بيده، فلم يعمل عملا طائلا. فسبّه لاجين، وضربه بالسيف ضربة هدلت كتفه، وأخذته السيوف حتى قتل، فى التاريخ الذى ذكرناه.

وحكى عن شهاب الدين أحمد بن الأشل، أمير شكار، فى كيفية مقتل السلطان. قال: لما رحل «1» الدهايز والعسكر، جاء الخبر إلى السلطان أن بنزوجة طيرا كثيرا، فساق، وأمرنى أن أسوق فى خدمته، فسقت معه. وقال لى: عجّل بنا، حتى نسبق الخاصكية. فسقنا فرأينا طيرا كثيرا، فصرع منه بالبندق. ثم التفت إلىّ، وقال لى: أنا جيعان، فهل معك ما آكل. فقلت: والله ما معى غير رغيف واحد وفروج فى صواقى «2» ، ادخرته لنفسى. فقال: ناولنيه، فتاولته له، فأكله جميعه. ثم قال لى: امسك فرسى، حتى أنزل أبول. وكنت كثير البسط معه. فقلت: ما فيها حيلة، السلطان راكب حصان، وأنا راكب حجر «3» ، وما يتفقان. فقال لى: انزل أنت، واركب خلفى حتى أنزل أنا. قال: فنزلت وناولته عنان فرسى، فامسكه. وركبت خلفه. ثم نزل وقعد على عجزه وبال، وبقى يعبث بذكره، ويمازحنى. ثم قام، وركب حصانه، ومسك فرسى حتى ركبت. فينما أنا وهو نتحدث، وإذا بغيار عظيم قد ثار نحونا. فقال لى السلطان: اكشف لى خبر هذا الغيار، ما هو. قال: فسقت وإذا أنا بالأمير بدر الدين بيدرا والأمراء معه. قسألتهم عن سبب مجيئهم. فلم يكلمونى ولا التفتوا إلىّ، وساقوا على حالهم، حتى قربوا من السلطان. فابتدره الأمير بدر الدين بيدرا، وضربه بالسيف. فقطع يده. ثم ضربه لاجين على كتفه فحله، وسقط إلى الأرض. وجاء بهادر، رأس نوبة، فوضع السيف

فى دبره، [وأتكأ عليه] «1» حتى أطلعه من حلقه، واشترك من ذكرنا من الأمراء فى قتله «2» . وهذه الحكاية تدل على أن السلطان، كان قد انفرد عن مماليكه، ولم يكن معه غير شهاب الدين أمير شكار، الحاكى. وبقى الملك الأشرف ملقى فى المكان، الذى قتل فيه يومين. ثم جاء [الأمير عز الدين ايدمر العجمى] «3» متولى تروجة وأهلها إليه، وحملوه إليها فى تابوت. وغسلوه فى الحمام وكفنوه، وجعلوه فى تابوت، ووضعوه فى بيت المال، فى دار الولاية بنزوجة، إلى أن حضر من القاهرة الأمير سيف الدين كوجبا «4» الناصرى. فنقله فى تابوته إلى تربته، التى أنشأها بظاهر القاهرة، بجوار مشهد السيدة نفيسة، ودفن بها فى سحر يوم الخميس «5» الثانى والعشرين من صفر، من هذه السنة. وكانت مدة سلطنته، ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام. وكان رحمه الله تعالى، ملكا شجاعا كريما، خفيف الركاب، مظفرا فى حروبه. ولم يخلف ولدا ذكراه وإنما مات عن بنتين، وزوجته أردكين «6» أمهما

ذكر خبر الأمير بدر الدين بيدرا ومن معه من الأمراء الذين وافقوه، وما كان منهم، ومقتل بيدرا.

ابنة الأمير سيف الدين نوكيه. وورثه معهن «1» أخواه السلطان الملك الناصر، ودار مختار الجوهرى. ذكر خبر الأمير بدر الدين بيدرا ومن معه من الأمراء الذين وافقوه، وما كان منهم، ومقتل بيدرا. قال: «2» ولما قتل السلطان الملك الأشرف، عاد الأمير بدر الدين بيدرا، ومن معه من الأمراء إلى الوطاق. فتقرر بينهم أن السلطنة تكون لبيدرا، ولقب الملك القاهر، وقيل «3» الملك الأوحد. ثم ركبوا وقبضوا على الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أمير جاندار، وقصدوا قتلهما. فشفع فيهما بعض الأمراء. وكان بالدهليز السلطانى من الأمراء: الأمير سيف الدين برلغى «4» ، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى، وجماعة من المماليك السلطانية. فركبوا فى آثار بيدرا ومن معه. وكان الأمير زين الدين كتبغا المنصورى فى الصيد، فبلغه الخبر، فلحق بهم. وجدوا فى طلب بيدرا ومن معه «5»

فلحقوه على الطرابة «1» . فلما التقى الجمعان، أطلق بيدرا الأميرين «2» اللذين «3» كان قد قبض عليهما، ليكونا عونا له، فكانا عونا عليه. وتقدم الأمراء، وحملوا على بيدرا حملة منكرة، فاتهزم هو ومن معه، فأدركوه فقتل. وهرب لاجين وقراسنقر، قد خلا «4» القاهرة واختفيا بها «5» ، ثم ظهرا «6» بعد ذلك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحكى الأمير سيف الدين أبو بكر بن الجمقدار «7» ، نائب أمير جاندار. قال: ارسلنى السلطان أول النهار، إلى الأمير بدر الدين بيدرا، ان يتوجه فى تلك الساعة، بالعسكر، ويسوق تحت الصناجق، فأتيته فأخبرته بما أمر به السلطان، فنفر فى [وجهى] «8» ، وقال

السمع والطاعة. ثم قال: لم «1» يستعجلنى «2» ؟. ورأيت فى وجهه أثر الغيظ والغضب، وما لم أعهده منه. ثم تركته، وتوجهت إلى الزرد خاناة وحملتها، وحملت ثقلى. وتوجهت أنا ورفيقى الأمير صارم الدين [الفخرى] «3» والأمير ركن الدين [بيبرس] «4» أمير جاندار. فبينما نحن سائرون «5» عند الماء، إذ نحن بنجاب سائق، فأخبرنا بمقتل السلطان. فتحيرنا «6» فى أمرنا، وإذا بالصناجق السلطانية قد لاحت وقربت. والأمير بدر الدين [بيدرا] «7» تحتها، والأمراء محدقون به. فتقدمتا وسلمتا عليه. فقال له الأمير ركن الدين بيبرس، أمير جاندار، ياخوند، هذا الذى فعلته كان بمشورة الأمراء. فقال: نعم، أما قتلته بمشورتهم وحضورهم، وهاكلهم حاضرون. وكان من جملة من معه، الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير بدر الدين بيسرى، وأكثر الأمراء سائقون معه. ثم شرع يعدد مساوئ السلطان [الأشرف] «8» ومخازيه، واستهتاره بالأمراء، ومماليك أبيه، وإهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس. قال: ثم سألنا، هل رأيتم الأمير زين «9» الدين كتبغا؟. قلنا: لا. فقال له بعض الأمراء:

يا خوند، هل كان عنده علم من هذا الأمر الذى وقع؟ فقال: نعم، وهو أول من أشار به. فلما كان فى اليوم الثانى، إذا نحن بالأمير زين الدين كتبغا، قد جاء فى طلب كبير «1» ، فيه من المماليك السلطانية نحو ألفى فارس؛ وجماعة من العسكر والحلقة، والأمير حسام الدين أستاذ الدار؛ فالتقوه بالطرانة فى يوم الأحد أول النهار. ففوّق الأمير زين الدين كتبغا نحو بيدرا سهما، وقال له يا بيدرا، أين السلطان. ثم رماه به، ورمى جميع من معه. فقتل بيدرا، وتفرق جمعه. وكانت الإشارة أن أصحاب كتبغا، شدوا مناديلهم من رقابهم إلى تحت أباطهم، ليعرفوا من غيرهم. ثم حمل رأس بيدرا إلى القاهرة، وطيف به «2» . هذا ما كان من خبر مقتل بيدرا. ولما قتل السلطان، كان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى نائب السلطنة، بقلعة الجبل، فاحترز على المعادى، وأمر أهلها أن لا يعدّوا بأحد من الجند من بر الجيزة إلى ساحل مصر «3» . ثم حضر الأمراء الذين قتلوا بيدرا، وهم الأمير زين الدين كتبغا، والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغى، والأمراء الخاصكية، وهم الأمير سيف الدين طغجى، والأمير عز الدين «4» طقطاى، والأمير سيف الدين قطبية، وغيرهم من المماليك السلطانية. فراسلوا الأمير علم الدين [سنجر] «5»

ذكر أخبار السلطان الملك الناصر، ناصر الدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى. وهو التاسع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.

الشجاعى فى طلب المعادى، فأرسلها إليهم، فعدّوا بجملتهم، وطلعوا إلى القلعة. واجتمعوا وانفقوا كلهم مع الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، على أن تكون السلطنة، للسلطان ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور. فنصبوه فى السلطنة، وكان ما نذكره. ذكر أخبار السلطان الملك الناصر، ناصر الدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى. وهو التاسع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية. وأمّه أشلون خاتون ابنة سكناى بن قراجين «1» بن جنكاى «2» نوين، ملك الديار المصرية والممالك الشامية والساحلية والحلبية والفراتية، وغير ذلك مما هو مضاف إلى هذه الممالك من القلاع والحصون والثغور والأعمال. وجلس على تخت السلطنة بالديار المصرية، بقلعة الجبل، بعد مقتل أخيه، السلطان الملك الأشرف، صلاح الدين خليل، وذلك فى رابع عشر المحرم، سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره يومذاك تسع سنين سواء، فإن مولده فى يوم السبت، خامس عشر المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة كما تقدم، وذلك باتفاق الأمراء المنصورية، ومن بقى من الأمراء الصالحية النجمية وغيرهم، وإجماعهم على سلطنته «3»

واستقر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، نائب السلطنة الشريفة، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى وزير الدولة ومدبّرها، والأمير ركن الدين بيبرس المنصورى الدوادار، وأعطى إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء فى المكاتبات والأجوبة والبريد. وحصلت النفقة فى العساكر، واستحلفوا للسلطان «1» الملك الناصر، فحلفوا بأجمعهم. هذا ما كان بالديار المصرية ومقر السلطنة. وأما الشام، فإنه كتب عن السلطان الملك الأشرف كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق، وجهز مع الأمير سيف الدين ساطلمش، وسيف الدين بهادر التتارى. فوصلا به إلى دمشق، فى يوم الجمعة رابع عشرين المحرم من هذه السنة. ومضمونه: أنا قد استنبنا أخانا «2» ، الملك الناصر، ناصر الدين محمدا، وجعلناه ولى عهدنا، حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدّو، يكون لنا من يخلفنا. ورسم فيه، أن يحلف الناس له، ويقرن اسمه باسم السلطان فى الحطبة. فجمع نائب السلطنة الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان، وحلفوا على «3» ذلك. وخطب له فى يوم الجمعة هذا بولاية العهد، بعد الملك الأشرف. وكان ذلك بتدبير الأمير علم الدين الشجاعى. واستمر الحال على ذلك، والخطبة للملك الأشرف، [ثم] «4» من بعده لأخيه الملك الناصر، بولاية العهد، إلى حادى عشر

ذكر خبر الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل السلطان الملك الأشرف

شهر ربيع الأول فورد المثال السلطانى الناصرى بالخطبة له استقلالا بالسلطنة. فخطب له فى دمشق، فى يوم الجمعة، الحادى عشر، من الشهر المذكور. وورد البريد إلى الشام، بإيقاع الحوطة على موجود الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير بدر الدين بيدرا وغيرهم من الأمراء [أصحاب بيدرا] «1» فى اليوم الثامن من ورود المرسوم الأول بالخطبة للسلطان بولاية العهد، فوقعت الحوطة على موجودهم وحواصلهم. ذكر خبر الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل السلطان الملك الأشرف لما استقر الحال فى سلطنة السلطان الملك الناصر، أمر بطلب الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل أخيه الملك الأشرف. فأول من وجد منهم، الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، والأمير جمال الدين آقش الموصلى الحاجب، فضربت رقبتاهما «2» وأحرقت جثتاهما بالمجاير «3» . ثم حصل الظفر بعد هما بسبعة من الأمراء وهم: طرنطاى الساقى، و [سيف الدين] «4» الناق [الساقى] «5» الحسامى [ويقال له عناق «6» ] السلاح دار، و [سيف الدين «7» ] اروس [الحسامى] «8» السلاح دار،

ذكر أخبار الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس الوزير وما كان من امره، منذ فارق السلطان الملك الأشرف إلى أن مات

و [شمس الدين «1» ] أقسنقر الحسامى، و [علاء الدين «2» ] الطنبغا الجمدار، [وناصر الدين «3» ] محمد خواجا، فاعتقلوا بخزانة البنود «4» . وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، يتوجه إليهم ويعاقبهم، ويقررهم على من باطنهم. واستمر ذلك إلى يوم الاثنين خامس صفر. ثم قطعت أيديهم وأرجلهم، وسمروا على الجمال، وطيف بهم، وأيديهم فى أعناقهم، وماتوا شرميتة. ثم وجدوا بعد قجقر الساقى، فشنق فى سوق الخيل. وأما الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، فإنهما هربا واختفيا. وكان من أمرهما، ما نذكره إن شاء الله تعالى. هذا ما كان من أمر هؤلاء. ذكر أخبار الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس الوزير وما كان من امره، منذ فارق السلطان الملك الأشرف إلى أن مات كان الصاحب شمس الدين المذكور، قد توجه إلى تغر الإسكندرية كما ذكرنا، وطالع السلطان فى حق الأمير بدر الدين بيدرا، بما أوجب هذه الفتنة العظيمة. ولما وصل الصاحب «5» إلى الإسكندرية، ضيق على أهل الثغر، وشدّد

عليهم الطلب. وعزم على مصادرة أعيانهم، وذوى الأموال منهم. وأمر بإيجاد مقارع لعقوبة أهل الثغر. فبقى الناس من ذلك فى شدة عظيمة، لا يرجون خلاصا إلا ببذل الأموال والأبشار؛ وأهان متولى الثغر. فبينما الناس على مثل ذلك، إذ وقعت يطاقه لمتولى الثغر، فى عشية النهار، تنضمن خبر مقتل السلطان. فكتمها المتولى عن الصاحب وغيره، وصبر إلى أن دخل الليل، وجاء إلى باب الصاحب، واستأذن عليه، فأذن له. فوقف بين يديه على عادته. فقال له الصاحب: ما الذى جاء بك فى هذا الوقت، هل ظهرت لك مصلحة يعود نفعها؟ فقال: يا مولانا، لم يخف عن علمك أن أهل هذا الثغر غزاة مرابطون، وما قصد أحد أذاهم، فتم له مقصوده، والذى يراه المملوك، أن يحسن مولانا إليهم، ويطيب خواطرهم، ويفرج عنهم- هذا اللفظ أو معناه «1» - فسبه الصاحب أقبح سب. وهم أن يوقع به، والوالى لا يزيده أن يقول: مولانا يروض نفسه، فلا فائدة فى هذا الحرج. والصاحب يزيد فى سبه، والإغلاظ له، ويتعجب من إقدامه على مخاطبته بمثل هذه الألفاظ. فلما أفرط [الصاحب] «2» فى سبه، وزاد به الحرج، تقدم إليه بالبطاقة. وقال يقف مولانا على هذه. فلما قرأها، سقط فى يده، وخاطبه بياخوند. فقال له المتولى: ما الذى تختار. فقال: الخروج من هذه الساعة. فلم يؤاخذه المتولى، بما صدر منه فى حقه وفتح له باب المدينة، وأخرجه وعرض عليه أن يجهز معه من يوصله القاهرة فامتنع. وخرج من الثغر فى ليلته. ولو أصبح به لقتله أهله.

واستمر به السير إلى أن وصل إلى القاهرة ليلا. فبات بزاوية «1» الشيخ جمال الدين ابن الظاهرى، ولم ينم فى معظم الليل. وركب بكرة النهار من الزاوية، وجاء إلى داره، وهو على حاله وهيئته. وحضر للسلام عليه القضاة وأعيان الدولة ونظارها. فعاملهم بما كان يعاملهم به من الكبر، وعدم القيام لأكابرهم. ثم استشار بعض الناس فيما يفعل. فأشار بعضهم عليه، بالاختفاء إلى أن تسكن هذه الفتنة، وتستقر القاعدة، فقال هذا لا نفعله ولا نرضاه لعامل من عمالنا. فكيف نختاره لأنفسنا. واستمر على ذلك خمسة أيام. وكانت رسالة دور السلطان الملك الأشرف قد خرجت إلى الأمير زين الدين كتبغا، مضمونها الشفاعة فى أمره، وأنه لا يؤذى. وذكروه بمحبة السلطان له. وأنهم إنما قاموا فى طلب ثأر السلطان، وقتل أعدائه. و [أما] «2» هذا فهو أخلص أولياء السلطان بخدمته، وأدومهم على طاعته- هذا اللفظ أو معناه-. فسكن أمره فى هذه الأيام الخمسة الماضية. فغضب الأمير علم الدين الشجاعى، واجتمع بالأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة وغيره من أكابر الأمراء. وقال: هذا الصاحب هو الذى أوقع بين السلطان ومماليكه وأمرائه ونائبه. وإنما قتل السلطان بسبب هذا، فاتبّع رأيه فيه.

ذكر الخلف الواقع بين الأميرين علم الدين سنجر الشجاعى وزين الدين كتبغا، ومقتل الشجاعى.

فلما كان فى اليوم السادس، وهو اليوم الثانى والعشرين من المحرم، طلع [الصاحب شمس الدين بن السلعوس «1» ] إلى قلعة الجبل، فحضر إلى الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، فسلّمه للأمير علم الدين الشجاعى، فسلّمه الشجاعى للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، وكان من أعدائه، ليطالبه بالأموال فضربه ضربا شديدا. فأنكر عليه الأمير علم الدين. ثم سيّره إلى الأمير بدر الدين المسعودى، شاد الدواوين، وهو نشو ابن السلعوس، فإنه كان قد طلب من دمشق للمصادرة، لما قتل مخدومه الأمير حسام الدين طرنطاى، وكان يتولى ديوانه بالشام. فأحسن الصاحب إليه، وأفرج عنه، وولاه شد الدواوين بالديار المصرية. فلما سلّم إليه، عاقبه واستصفى أمواله. وكان يجلس لمصادرته وعقوبته فى المدرسة الصاحبية «2» التى بسوبقة الصاحب بالقاهرة. ولم يزل يعاقبه إلى أن مات تحت الضرب، وقيل إنه ضرب بعد موته، ثلاثة عشر مقرعة، ولم يعلم أنه مات. وكانت وفاته فى يوم السبت عاشر صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، ودفن بالقرافة «3» . ذكر الخلف الواقع بين الأميرين علم الدين سنجر الشجاعى وزين الدين كتبغا، ومقتل الشجاعى. كان الأمير علم الدين الشجاعى قد استمر فى الوزارة وتدبير الدولة، وأحكم

أمرها، وهابه الناس. فلما كان فى يوم الخميس، ثانى عشرين صفر، من هذه السنة، اجتمع الأمراء بمساطب باب القلعة على العادة، ينتظرون فتح باب القلعة، ليزكبوا فى خدمة الأمير زين الدين كتبغا، نائب السلطنة. فلم يشعروا إلا وقد خرجت رسالة على لسان الأمير جاندار، يطلب جماعة من الأمراء، وهم سيف الدين قبجاق، وبدر الدين عبد الله السلاح دار، وسيف الدين قبلاى «1» ، وركن الدين عمر [السلاح دار] «2» أخوتمر، وسيف الدين كرجى، وسيف الدين طرقجى، فدخلوا إلى الخدمة السلطانية. وقام الأمراء للركوب، فبينما هم يسيرون تحت القلعة، بالميدان الأسود، جاء اثنان من ألزام الأمير علم الدين الشجاعى، وهما الأمير سيف الدين قنغر «3» ، وولده حاروشى «4» . فأخبرا الأمير زين الدين كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا اعتقلوا، وأن الشجاعى قد دبّر الحيلة عليك وعلى الأمراء، إذا طلعتم إلى القلعة، ودخلتم إلى الخوان أن يقبض عليكم. فعرّف كتبغا الأمراء الذين معه فى المواكب الصورة. فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة، وتوهموا أن الشجاعى اتفق مع الأمراء المنصورية والأمراء البرجية، والمماليك السلطانية. وكان بالموكب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير سيف الدين برلغى، أمير مجلس، فأمسكوهما فى الموكب، وأرسلوهما إلى ثغر الإسكندرية.

وأخبرنى الأمير ركن الدين «1» بيبرس، فى ليلة الثامن من شوال سنة سبع وسبعمائة، أنه ضرب على رأسه بدبوس، وأرانى «2» أثر الضربة. وكان قد ذكر لى ذلك، فى أثناء ذكره لسالف خدمة السلطان، وما لقيه وقاساه. ولما مسكا، حصلت مفاوضة بين الأمير علم الدين سنجر البندقدارى، وبين الأمير زين الدين كتبغا. فقال البندقدارى له: أين لاجين، أحضره. فقال: ما هو عندى. فقال: بل هو عندك. فجرد البندقدارى سيفه ليضرب به كتبغا، فضربه بدر الدين بكتوت الأزرق، مملوك كتبغا بسيفه، حل كتفه ثم ألقوه عن فرسه، وذبح يسوق الخيل. وتوجه الأمير زين الدين كتبغا ومن معه من الأمراء، إلى الباب المحروق وخرجوا منه ونزلوا بظاهر السور، وأمروا مماليكهم وألزامهم وأجنادهم أن يلبسوا عددهم. وأرسل الأمير زين الدين كتبغا نقباء «3» الحلقة، وطلب المقدمين فحضروا إليه، وراسل السلطان [الملك «4» الناصر] ، فى طلب الأمير علم الدين الشجاعى. وقال إن هذا قد انفرد برأيه فى القبض على الأمراء. وبلغنا عنه ما أنكرناه، ونختار حضوره ليحاقق عما نقل عنه. فامتنع عن الحضور. ثم

طلع السلطان على البرج الأحمر، وتراءى للأمراء، فنزلوا وقيلوا الأرض من مواقفهم «1» . وقالوا نحن مماليك السلطان، ولم نخلع يدا عن طاعة، وليس قصدنا إلا حفظ نظام الدولة، واتفاق الكلمة، وإزالة أسباب المضار والفساد عن المملكة. واستمر الحصار سبعة أيام، وكان الشجاعى ينزل إليهم، ويناوشهم القتال، ومعه طائفة من الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بكتمر، السلاح دار، وسيف الدين طفجى «2» ، وجماعة من المماليك السلطانية. ثم فارقة الأمراء والمماليك، فكانوا يتسللون عشرة عشرة. فلما رأى حاله انتهت إلى هذه الغاية، قال إن كنت أنا الغريم، فأنا أتوجه إلى الحبس طوعا منى، وأبرأ إلى الأمراء مما نقل إليهم عنى. وحضر إلى باب الستارة السلطانية، وحلّ سيفه بيده، وذهب نحو البرج. وتوجه معه الأمير سيف الدين الأقوش، والأمير سيف الدين صمغار، ليحبساه بالبرج الجوانى، فوثب عليه مملوك الأقوش، فقتله وحز رأسه. وأنزلوه إلى الأمير زين الدين كتبغا، وقد لفّ فى بقجة. فأمر بأن يطاف برأسه القاهرة ومصر، وظواهر هما. فطاف به المشاعلية على رمح، واشهروا «3» قتله. ثم طلع الأمير زين الدين كتبغا والأمراء إلى القلعة، فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر، وأفرج عن الأمراء الذين اعتقلوا. وجددت الأيمان، وأنزل من كان بالأبراج والطباق، من المماليك السلطانية، الذين اتهموا بهذه الفتنة. فأسكنت طائفة

ذكر عدة حوادث كانت فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة خلاف ما قدمناه، من ولاية وعزل وغير ذلك، والوفيات

منهم فى مناظر الكبش، وطائفة فى دار الوزارة، وطائفة فى الميدان الصالحى والميدان الظاهرى. واعتقل منهم جماعة. وكان من خبرهم، بعد ذلك، ما نذكره فى سنة أربع وتسعين وستمائة. ذكر عدة حوادث كانت فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة خلاف ما قدمناه، من ولاية وعزل وغير ذلك، والوفيات فى هذه السنة، فى تاسع عشر صفر، عزل قاضى القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة الشافعى عن القضاء بالديار المصرية. وأعيد قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز إلى القضاء. واستقر قاضى القضاة بدر الدين فى تدريس مدرسة الشافعى ومشهد الحسين. فلم يزل كذلك، إلى أن توفى قاضى القضاة، شهاب الدين محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر الخويى «1» قاضى القضاة الشافعى بدمشق. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الخميس، خامس عشر، شهر رمضان من هذه السنة. ومولده فى رابع عشرين شوال، سنة ست وعشرين وستمائة، وقيل فى رجب من السنة. ففوض [الملك الناصر محمد بن «2» قلاوون] ، القضاء بعد وفاته لقاضى القضاة، بدر الدين بن جماعة، فتوجه إلى الشام. وكان وصوله إلى دمشق فى رابع عشر ذى الحجة من السنة. وفيها، فى تاسع عشرين صفر فوضت الوزارة للصاحب الوزير تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على، المعروف

بابن حنا. وفوضت وزارة الصحبة، لابن عمه الصاحب عز الدين ابن الصاحب محيى الدين ابن الصاحب بهاء الدين، وكانا يجلسان جميعا فى شباك الوزارة، ويوقع الصاحب تاج الدين «1» . وفيها، فى سلخ صفر. أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى. وكان الملك الأشرف قد اعتقله، فى يوم السبت ثانى شوال، سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وفيها، فى يوم عيد الفطر، ظهر الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريان، من الاستتار «2» ، وكانا عند هربهما، أطلعا الأمير سيف الدين بتخاص الزينى، مملوك كتبغا على حالهما. فأعلم أستاذه بهما، ونلطف فى أمرهما. فتحدث الأمير زين الدين كتبغا مع السلطان، فعفا عنهما، وأمّرهما كما كانا أول مرة. وتلطّف كتبغا فى إظهار لاجين تلطفّا حسنا. وهو أنه تحدث مع الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح فى إحضاره. فركب معه، ووقف تحت قلعة الجبل، ولم يزل إلى أن أذن له، وأصلح بينه وبين الأمراء والمماليك السلطانية، وزال ما بينهم من الوحشة. وكان كتبغا فى أمر لاجين، كالباحث عن حتفه «3» بظفه «4» . فإنه فعل معه، ما نذكره إن شاء الله تعالى «5» .

وفى هذه السنة، قصر النيل فلم يوف، وانتهت زيادته إلى خمسة عشر ذراعا، وثلث ذراع. فارتفعت بسبب ذلك الأسعار. وكان من الغلاء ما نذكره بعد «1» . وفى هذه السنة، فى رابع عشرين ربيع الأول، كانت وفاة الملك شهاب الدين «2» غازى ابن الملك المعز مجير الدين يعقوب ابن السلطان الملك العادل سيف الدين ابى بكر محمد بن أيوب، بداره بالخور بدمشق، ودفن بتربتهم بقاسيون، رحمهم الله تعالى. وفيها، كانت وفاة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الأسعردى. وقد قدمنا ذكر وزارته مرة بعد أخرى. وكان إذ عزل عن الوزارة، أخذ دواته وعاد إلى ديوان الإنشاء، وكتب من جملة الكتاب. وأصله من المعدن «3» ، من أعمال أسعرد «4» . فلما فتح الملك الكامل آمد، كان ابن لقمان يكتب على عرصة الغلة، وينوب عن ناظر البيوت بها. وكان بهاء الدين زهير، صاحب ديوان الإنشاء للملك الكامل، وبعده للملك الصالح، وهو يومئذ وزير الصحبة. فكانوا يستدعون من صاحب أسعرد أصنافا، فتأتى الرسائل بالأصناف بخط ابن لقمان،

فتعرض على بهاء الدين زهير، فيعجبه خطه وعبارته. فطلبه فحضر إلى خدمته، وتحدث معبه، فأعجبه كلامه، وسأله عن جامكيته. فقال دون دينارين فى الجهتين، فعرض عليه أن يسافر صحبته [إلى الديار المصرية «1» ] ، فأجاب إلى ذلك. وسربه، فاستصحبه معه، وناب عنه بديوان الإنشاء إلى الأيام الصالحية. ثم استقل بعد ذلك بصحابة ديوان الإنشاء، ووزر كما تقدم. ولما انفصل من الوزارة [قال] «2» : جاءت فما كثّرت، وراحت فما أثّرت. وله نظم حسن، وقد قدمنا ذكر شىء من كلامه، رحمه الله تعالى «3» . وفيها، فى يوم الخميس، منتصف جمادى الآخرة، توفى الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، وكانت وفاته بالقاهرة. وقد عظم شأنه، وسمت همته، حتى تعرض لطلب بعض الأكابر الأمراء الخاصكية الأشرفية، مقدمى «4» الألوف. فيقال أنه سقى سما فمات، سامحه الله تعالى. وفيها، فى يوم الخميس، خامس شعبان، توفى الملك الحافظ غياث الدين أبو عبد الله محمد ابن الملك السعيد معين الدين بن شاهانشاه ابن الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهانشاه بن أيوب، وصلّى عليه بعد صلاة الجمعة بجامع دمشق، ودفن بتربة ابن المقدم، بمقبرة باب الفراديس، رحمه الله «5» .

واستهلت سنة أربع وتسعين وستمائة [694 - 1294/ 1295]

واستهلت سنة أربع وتسعين وستمائة [694- 1294/1295] ذكر الفتنة التى قصد المماليك السلطانية إثارتها لما كان فى ليلة العاشر من المحرم، من هذه السنة، تجمعت المماليك السلطانية، الذين فى الكبش، ومناظر الموادين «1» ، وحرقوا باب السعادة، ودخلو منه إلى المدينة. وطلبوا خوشداشيتهم المعتقلين [بها] «2» ، الذين بدار الوزارة، للركوب معهم، فما أجابوهم لذلك. فكسروا خزانة البنود، وأخرجوا من كان بها من خوشداشيتهم، ونهبوا الإسطبلات التى تحت القلعة. وركبوا الخيول، وداروا عليها تحت القلعة، من جهة سوق الخيل، طول الليل. فلما كان من الغد، ركب الأمراء الذين فى القلعة وقصدوهم، وتصافّوا واقتتلوا يسيرا. ثم جاء الأمير سيف الدين الحاج بهادر، السلاح دار، الحلبى، وهو يومئذ أمير حاجب، فهزمهم فتفرّقوا فى ضواحى القاهرة وشوارعها، فأخذوا وجئ بهم. وجلس الأمير زين «3» الدين كتبغا بباب القلعة، وضربت رقاب بعضهم بين يديه، وفرق بعضهم على الأمراء، وغرّق بعضهم سرا. وكانت هذه الحادثة سببا لحركة الأمير زين الدين وركوبه فى السلطنة.

ذكر سلطنة السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وهو العاشر من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.

ذكر سلطنة السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وهو العاشر من ملوك دولة الترك بالديار المصرية. كان جلوسه على تخت السلطنة فى يوم الأربعاء «1» ، حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان سبب ذلك، أنه لما ملك السلطان الملك الناصر، واستقر هو فى نيابة السلطنة كما تقدم، شرع يمهد القواعد لنفسه فى مدة نيابته، ويقرر «2» الأحوال، ويستميل الأمراء. فلما كان فى أول هذه السنة، انقطع فى دار النيابة، بقلعة الجبل، وادّعى الضعف. وإنما كان انقطاعه لتقرير أمر السلطنة له. وركب السلطان الملك الناصر، رجاء إلى دار النيابة للسلام عليه وعيادته فلما اتفقت فتنة المماليك المتقدمة، جلس [الأمير زين الدين كتبغا «3» ] فى اليوم الثانى منها، بدار النيابة. وجمع الأمراء، وذكر لهم أن ناموس السلطنة، وحرمة المملكة، لا يتم لصغر سن السلطان الملك الناصر. فاجتمعت آراء الأمراء على إقامة الأمير زين الدين كتبغا فى السلطنة. وحلفوا له، وقدم له فرس النوبة بالرقبة الملوكية، وعليها ألقابه. وركب من دار النيابة، قبل أذان العصر، من هذا اليوم. ودخل من باب القلعة «4» إلى الأدر السلطانية، والأمراء مشاة فى خدمته. ودخل على تخت السلطنة، ونلقب بالملك العادل. وحجب السلطان الملك الناصر، وجعله فى بعض القاعات هو وأمه. وعامله بما لا يليق أن يعامله

به. فكانت مدة سلطنة السلطان الملك الناصر هذه- وهى السلطنة الأولى- سنة واحدة إلا ثلاثة أيام. ولم يكن له فى هذه المدة من الأمر شىء. وإنما جرى عليه أمر السلطنة، وخطب باسمه على المنابر، وضربت السكة باسمه. وأما غير ذلك من الأمر والنهى، والولاية والعزل، والإطلاق والمنع، والتأمير وإعطاء الإقطاعات، وغير ذلك من الأوامر، فللأمير زين الدين كتبغا النائب، الملقب الآن بالملك العادل «1» . وفى يوم الخميس ثانى عشر المحرم، مد [الملك العادل زين الدين كتبغا «2» ] سماطا عظيما، وجلس على عادة الملوك. ودخل الأمراء إليه، وقبلوا يده، وهنوه بالسلطنة وخلع على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، وفوض إليه نيابة السلطنة، وجعل الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى، أمير جاندار، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى، أمير حاجب. وأمر أن تجهّز الخلع لسائر الأمراء والمقدمين، وللوزيرين الصاحب تاج الدين وابن عمه عز الدين، وقضاة القضاة وأرباب المناصب، ومن جرت عادتهم بالخلع، والمماليك السلطانية الذين كانوا بدار الوزارة، كونهم لم يوافقوا خوشداشيتهم، على إقامة الفتنة. وركب الناس بالتشاريف، فى يوم الخميس، تاسع عشر المحرم. ولما جلس على تخت السلطنة، كتب إلى نائب السلطنة بدمشق، وسائر النواب بالممالك

الشامية والأعمال، يخبرهم بخبر سلطنته، ويطلب منهم بذل اليمين. وكل أجاب بالسمع والطاعة، وبادر إلى الحلف، وما اختلف عليه اثنان. ومن غريب ما حكى فى أمر الملك العادل هذا، أن هولاكو لما استولى على حلب، وملك الشام أجمع، كما تقدم، وعزم على تجريد العساكر إلى الديار المصرية، أحضر نصير الدين «1» الطوسى، وقال له: تكتب أسماء مقدمى عساكرى، وتنظر أيهم يملك مصر، ويجلس على تخت السلطنة بها. فكتب أسماءهم، وحسب ودقق النظر، فما ظهر له، أنه يملك الديار المصرية إلا كتبغا، فذكر ذلك لهولاكو. وكان كتبغا نوين صهر هولاكو، فقدّمه على العساكر وسيّره، فقتل فى وقعة عين جالوت، كما تقدم. وكان كتبغا هذا، فى عسكر كتبغا نوين، فسبى وهو شاب. ولعله كان فى سن بلوغ الحلم أو نحوه. وأخّر الله السلطنة بالديار المصرية لهذا الاسم. وكان بين الحادثين ست وثلاثون «2» سنة. ولما ملك [كتبغا] «3» ، شرع فى تأمير مماليكه وتقدمتهم. فكان أول من أمر

ذكر تفويض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى

منهم أربعة، وهم سيف الدين بتخاص «1» ، وجعله أستاذ الدار، وسيف الدين أغرلو «2» وبدر الدين بكتوت الأزرق، وسيف الدين فطلوبك «3» . وركب هؤلاء بالإمرة فى يوم واحد. وركب هو بشعار السلطنة على عادة الملوك فى يوم الأربعاء، مستهل شهر ربيع الأول. وأقر نواب السلطنة على حالهم فى الأيام الناصرية وفوّض الوزارة بدمشق للصاحب تقى الدين توبة التكريتى على عادته، فى الأيام المنصورية. وكان وصوله إلى دمشق، لمباشرة هذه الوظيفة، فى سادس عشر صفر. وكتب السلطان له نوقيعا، برد ما أخذ منه، فى «4» الدولة الأشرفية. ذكر تفويض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى وفى يوم الثلاثاء، خامس عشرين جمادى الأولى «5» من هذه السنة، عزل السلطان الصاحب تاج الدين، وفوض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلى. وكان هذا الصاحب فخر الدين قد ولى نظر ديوان الملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور. فلما مرض

واشتد به الوجع، دخل الصاحب فخر الدين عليه وبكى، وأظهر الألم الشديد وقال أخشى إن قدر الله تعالى أمرا محتوما، والعياذ بالله، أن أوذى، ويتمكن منى الأمير علم الدين الشجاعى. وطلب الملك الصالح والده السلطان الملك المنصور وأوصاه أن لا يتعرض إليه. ولا إلى أحد من ديوانه بأذية «1» ، وأن لا يمكن الأمير علم الدين الشجاعى منهم. فلما مات الملك «2» الصالح، أحسن السلطان [المنصور] «3» إليه، وولاه نظر النظار بالديار المصرية، ونظر الصحبة، ثم عزل فى الدولة الأشرفية. وباشر نظر ديوان الملك العادل، فى مدة نيابته عن السلطنة، وفوض إليه نظر الدواوين، ثم الوزارة «4» . وفى هذه السنة، قصر النيل ولم يوف، فحصل الغلاء واشتد البلاء بالديار المصرية. وتوقف الغيث بالشام، فاستسقى الناس، مرة بعد أخرى. وأجدبت برقة وأعمالها، وبلاد المغرب ونواحيها. وعمّ الغلاء أكثر البلاد والممالك، شرقا وغربا وحجازا. واختصت مصر من ذلك البلاء العظيم. وبلغ سعر القمح عن كل أردب مائة درهم وخمسين درهما، والشعير مائة درهم. واستمر إلى سنة خمس وتسعين وستمائة «5» .

ذكر القبض على الأمير عز الدين ايبك الخزندار نائب السلطنة بالفتوحات، وولاية الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى

وفيها، فوض السلطان قضاء العساكر بالشام، للقاضى نجم الدين محمد بن صصرى وكان بالديار المصرية. فعاد إلى دمشق متوليا هذه الوظيفة، وكان وصوله إليها فى يوم الثلاثاء سادس عشرين «1» شهر رمضان. وفيها، فوض السلطان الملك العادل، الخطابة والإمامة، بالجامع الأموى بدمشق، لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من القضاء والتدريس. فصلّى بالناس صلاة الظهر، من يوم الخميس الخامس من شوال، وخطب يوم الجمعة السادس من الشهر، واجتمع له القضاء والخطابة، ولم يجتمع ذلك لقاضى قبله بدمشق، فيما عرفناه. ونقل إلينا «2» . ذكر القبض على الأمير عز الدين ايبك الخزندار نائب السلطنة بالفتوحات، وولاية الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى وفى هذه السنة، رسم السلطان الملك العادل، بالقبض على خوشداشه، الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، نائب السلطنة، بالفتوحات الطرابلسية. وندب لذلك أمير بن، فتوجها إلى دمشق على خيل البريد، فوصلا إليها، فى تاسع عشرين شوال. وجرد من دمشق الأمير عز الدين أيبك كرجى، والأمير سيف الدين استدمر كرجى «3» بسبب ذلك. فلما توجهوا إليه، لم يمتنع عليهم، وقال: قد كنت عزمت على مفارقة هذه المملكة. والتوجه إلى باب «4»

السلطان، فقبض عليه. وكان وصوله إلى الأبواب السلطانية، فى يوم الخميس حادى عشرين ذى القعدة من السنة، فاعتقل. واستمر فى الاعتقال، إلى يوم الخميس رابع عشرين صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولما قبض عليه، فوضت نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات، للامير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى «1» . وفيها أيضا، رسم بالحوطة على القاضى مجد الدين يوسف بن القباقبى ناظر المملكة الطرابلسية. وندب الأمير شمس الدين الأعسر لذلك. فتوجه إلى طرابلس، فى العشر الأوسط، من شوال، وأوقع الحوطة على موجوده. فيقال إنه وجد فى جشاره «2» ، ما ينيف على سبعين رأس بغالا واكاديش جياد. وجهز إلى الديار المصرية، فتكمل حمله، فيما أدعاه ألف ألف درهم. ثم أعيد بعد ذلك إلى نظر المملكة الطرابلسية، وكأنه لم يصادر. فبلغنى «3» أنه جلس ليلة، وهو يضحك مع أصحابه بطرابلس. فقال له بعضهم: أخذ منك ألف ألف درهم، وأنت تضحك. فقال: والله أقدر أنفق فى جيش مصر- وأرى أن هذا الكلام «4» ، إن كان قاله، فهو من التغالى فى القول- والله أعلم.

ذكر وفاة الملك المظفر يوسف بن عمر صاحب اليمن

ذكر وفاة الملك المظفر يوسف بن عمر صاحب اليمن وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك المظفر شمس الدين أبى المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول، صاحب اليمن، فى شهر رمضان، بقلعة تعز. وكان جوادا شهما، عفيفا عن أموال الرعايا، قليل التطلع إلى ما بأيديهم، حسن السيرة فيهم، يمنع أصحابه من التطرق إلى ظلم أحد. وكانت مدة ملكه، بالبلاد اليمانية، نحو «1» خمس وأربعين سنة. وكان للملك المظفر من الأولاد خمسة، وهم الملك الأشرف ممهد الدين عمر، والملك المؤيد هزبر الدين داود، والواثق إبراهيم، والملك المسعود تاج الدين حسن، والملك المنصور زين الدين أيوب. وللملك المسعود هذا ولد اسمه أسد الإسلام محمد. وللملك المنصور ولد اسمه مأمور «2» الدين عيسى. ولما مات الملك المظفر هذا، ملك بعده ولده الملك الأشرف ممهد الدين عمر، وهو ولى عهده. فلما ملك نازعه أخوه الملك المؤيد هزير الدين داود فى الملك. وكان المؤيد يوم ذاك ببلاد الشحر، فجمع جمعا من الجحافل، وتوجه إلى ثغر عدن، وحاصر الثغر ثلاثة عشر يوما. وكان متوليه الأمير سيف الدين بن برطاس، فملك المؤيد الثغر، واستولى على ما به. فاقترض أموال التجار وأموال الأيتام التى بمودع الحكم. وتوجه من ثغر عدن نحو تعز. فجرد الملك الأشرف لقتاله الشريف على بن عبد الله، بجماعة من الجيش، وولده جلال الدين بن الأشرف. فتوجهوا والتقوا، فيما بين تعز وعدن، بمكان يسمى الدعيس. واقتتلوا فخذل الجحافل المؤيد، وتفرقوا عنه، وبقى فى نفر يسير. فتقدم إليه جلال الدين ابن أخيه، وأشار عليه بالدخول

فى الطاعة، وحذر عاقبة المخالفة. وقال له: الملك الأشرف أخوك، ولا يقتلك، وأنت بينك وبين الأشراف حرب قبل هذا الوقت، فإن ظفروا بك قتلوك. وأشار عليه بعض أصحابه بمثل ذلك، فرجع إلى قولهم، ورجع إلى الطاعة. فأراد جلال الدين أن يتوجه به إلى والده [الملك الأشرف «1» ] على حاله. فامتنع عليه الشريف على بن عبد الله، وقال: إن أمر هذا الجيش إلىّ. وقيّد المؤيد، وحمله إلى قلعة تعز، فاعتقله بها إلى أن مات الملك الأشرف. وكانت وفاته فى سنة ست وتسعين وستمائة. فأخرج من الاعتقال ليلا، قبل دفن أخيه، فأمر بدفنه. وأصبح الحراس بالقلعة، فدعوا للملك المؤيد، وترحّموا على الملك الأشرف وكان ملك المؤيد باتفاق عمته الشمسية، وقيامها فى أمره. واستمر فى الملك إلى أن مات، فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فى موضعه. وفيها، فى يوم السبت، رابع شهر ربيع الأول، توفى الأمير بدر الدين بكتوت الأفرعى بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير. وفيها، كانت وفاة الصاحب عز الدين ابن الصاحب محيى الدين أحمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد، رحمهم الله تعالى. وفيها، فى شهر رجب توفى بالقاهرة، الأمير بدر الدين بكتوت الفارسى الأتابكى، رحمه الله تعالى.

وفيها، فى وقت السحر، من يوم السبت عاشر شعبان، توفيت ملكة خاتون، ابنة الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وهى زوجة الملك المنصور ابن الملك الصالح إسماعيل وأم ولديه. وهى التى كان ناصر الدين بن المقدسى أثبت سفهها فى الدولة المنصورية، واستعاد أملاكها من سيف الدين المسامرى وغيره، كما تقدم ذكر ذلك، رحمهما الله تعالى.

واستهلت سنة خمس وتسعين وستمائة [695 - 1295/ 1296]

واستهلت سنة خمس وتسعين وستمائة [695- 1295/1296] فى هذه السنة، اشتد الغلاء بالديار المصرية، وكثر الوباء وانتهى سعر القمح إلى مائة درهم وسبعة وستين درهما، عن كل أردب، وقيل إنه بلغ مائة وثمانين. وأعقب ذلك وباء عظيم. وغلت الأسعار فى سائر الأصناف. وبلغ ثمن الفروج عشرين درهما. وسمعت أن بعض الناس اشترى فراريج لمريض عنده، فوزن لحمها، فكان بوزن «1» الدراهم التى اشتراها بها. فتقوّم عليه لحمم الفراريج، الدرهم بدرهم فضة. وبيعت البطيخة، الرطل بأربعة دراهم نقرة. وابيعت السفر جلة، بثلاثين درهما، هذا بالقاهرة ومصر. وأما الصعيد الأعلى، وهو عمل فوص وما يجاوره، فإن القمح لم يزد ثمنه، على خمسة وتسعين درهما الأردب. وأعقب هذا الغلاء بالقاهرة فناء عظيم. كان يحصر من يخرج من باب المدينة من الأموات فى اليوم الواحد، فيزيد على سبعمائة أو نحوها، هذا من داخل المدينة، من أحد الأبواب. والقاهرة بالنسبة إلى ظواهرها، كالشارع «2» الأعظم، والحسينية والأحكار، جزء لطيف. وعجز الناس عن دفن الأموات أفرادا، فكانوا يحفرون الحفرة الكبيرة، ويرص «3» فيها الأموات، من الرجال والنساء، ويجعل الأطفال بين أرجلهم، ويردم عليهم. وبعض الأموات

لم يجدوا من يواريهم فى قبورهم، فأكلتهم الكلاب، وأكل الأحياء الكلاب. وكان الفناء أيضا بالأعمال البرانية [عن القاهرة ومصر «1» ] ، حتى خلت بعض القرى وأطراف المدينة، لفناء أهلها بالموت. ثم انحطت الأسعار بالديار المصرية فى شهر رجب، ونزل سعر القمح إلى خمسة وثلاثين درهما الأردب، والشعير بخمسة وعشرين [درهما الأردب «2» ] وكان أكبر أسباب هذا الغلاء وتزايده بالديار المصرية، خلو الأهراء «3» السلطانية من الغلال، وذلك أن السلطان الملك الأشرف، كان قد فرّق الغلال، وأخلى الأهراء منها بالإطلاقات للأمراء وغيرهم، حتى نفد ما فى الأهراء. وقصر النيل بعد ذلك، فاحتاج وزير الدولة إلى مشترى الغلال للمؤونة والعليق، فتزايدت الأسعار بسبب ذلك. وفيها أيضا، قلّ المطر بدمشق وبلاد حوران، وجفّ الماء حتى شق ذلك على المسافرين. فكان المسافر يسقى دابته بدرهم، ويشرب بربع درهم. فلما اشتد ذلك على الناس، أشار قاضى القضاة، بدر الدين محمد بن جماعة، بقراءة صحيح البخارى بدمشق. وتقرر الاجتماع لسماعه بالجامع الأموى، تحت النسر فى سابع «4» صفر. وطلب الشيخ شرف الدين الغزارى لقراءته. فأنزل الله تعالى

ذكر حادثة عجيبة بالشام

الغيث فى تلك الليلة قبل الشروع فى القراءة. ثم قرىء الصحيح، ووقع المطرفى آخر يوم من كانون الأول، واستمر يومين وبعض ليلة، فاستبشر الناس بذلك وترادف نحو جمعه. ثم جاء بعد ذلك ثلج كثير، فى مستهل شهر ربيع الأول. ثم ارتفع السعر، وبلغ [سعر] «1» القمح، عن كل غرارة مائة درهم، وخمسة وستين درهما. [واشتد الغلاء بالحجاز «2» ] أيضا فأبيعت غرارة الشعير بالمدينة، بسبعمائة درهم، وغرارة القمح بألف [درهم] «3» . وأبيعت بمكة، شرفها الله تعالى، بألف درهم ومائة درهم. ثم جاء المطر بدمشق فى ثانى جمادى الآخرة. ذكر حادثة عجيبة بالشام وفى هذه السنة، فى العشر الأول من المحرم، استفاض بدمشق وشاع، وكثر الحديث عن قاضى جبة أعسال «4» ، من قرى دمشق، أنه تكلم ثور بقرية من قرى جبة أعسال. وهو أن الثور خرج ليشرب من ماء هناك، ومعه صبى فلما فرغ من شربه، حمد الله، فتعجب الصبى. وحكى ذلك لمالك الثور، فشك فى قوله. وخرج فى اليوم الثانى بنفسه، فلما شرب الثور، حمد الله. وحضر فى اليوم الثالث جماعة، وسمعوه يحمد الله، بعد شربه. فكلّمه بعضهم، فقال الثور: إن الله كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدباء ولكن بشفاعة النبى، صلى الله عليه وسلم، أبدلها الله بالخصب. وذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم،

ذكر وفود الأويرانية من بلاد التتار

أمره بتبليغ ذلك، وأنه قال له يا رسول الله، ما علامة صدقى عندهم. قال: «إنك تموت عقيب الأخبار» .- قال الحاكى لذلك- ثم تقدم الثور إلى مكان مرتفع فسقط ميتا. فأخذ أهل القرية من شعره للتبرك، وكفن ودفن. حكى هذه الحادثة، شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزرى فى تاريخه حوادث الزمان «1» ، والله علم. وفيها، فى العشر الأوسط، من شهر ربيع الآخر، قتل بدمشق جماعة بالليل فى الدروب. ومعظم من قتل، من حراس الدروب، واستمر ذلك عدة ليال. وفى كل يوم يوجد قتيل واثنان. ولم يعدم لأحد شىء «2» ، مع ذلك، ولا سرق منزل. فاحترز متولى المدينة فى ذلك. وبقى يركب طول الليل، فى جماعة كثيرة، ويطوف البلد، والأمر يتزايد. فلما كان فى العشر الأوسط، من جمادى الأولى، ميسك فقير مولّه، فاعترف أنه هو الذى قتل الحراس، فسمر وبقى يومين، ثم خنق فى اليوم الثالث. ذكر وفود الأويرانية من بلاد التتار فى هذه السنة، وردت طائفة من التتار، تسمى الأويرانية، ومقدمهم

طرغاى، ووصلوا إلى الشام. وكانوا على ما قيل، ثمانية عشر ألف بيت «1» . وكان السبب فى هربهم «2» من بلادهم، أن طرغاى، هذا المذكور، كان متفقا مع بيدو ابن طرغاى على قتل كيختو. فلما صار الملك إلى غازان، خافه طرغاى على نفسه، أن يقتله بعمه كيخنو. وكان مقيما بتمانه «3» [بين بغداد والموصل «4» ] . وكان اشتبغا مقيما بتمانه بديار بكر. فأرسل غازان بولاى ومعه تمان «5» إلى ديار بكر، عوضا عن اشتبغا، وأوصاه بحفظ الطرقات على طرغاى، وأن يساعد من يندب لقتله، ثم جهز غازان أميرا يسمى قطغوا فى ثمانين فارسا للقبض على طرغاى ومن معه، من أكابر قبيلة أو يرات. فاتفق طرغاى، ومن معه من ألأمراء، وهم ألوص وككباى «6» ، وقتلوا قطغوا ومن معه. وغيروا الفرات «7» إلى جهة الشام، فتبعهم بولاى يتمانه، فقاتلوه وهزموه، وقتلوا أكثر من معه. ولما وردت مطالعات نواب الشام إلى السلطان الملك العادل بوصولهم، اهتم بأمرهم. وكتب إلى [نائب السلطنة بدمشق «8» ] ، أن يتوجه الأمير علم الدين

سنجر الدوادارى، بجماعة إلى الرحبة لتلقبهم «1» . فتوجه من دمشق فى غرة شهر ربيع الأول. ثم توجه بعده، الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، شاد الدواوين بالشام، ليلقاهم أيضا. وجهّز السلطان أيضا، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، من الديار المصرية إلى دمشق، بسبب ذلك، فوصل إليها فى ثانى عشرين شهر ربيع الأول. ثم أردفه بالأمير سيف الدين بهادر الحاج الحلبى الحاجب، فأقاما بدمشق، إلى أن وصل أعيان الأويرانية إلى دمشق، صحبة الأمير شمس الدين الأعسر. وكان وصولهم فى يوم الاثنين، ثالث عشرين شهر ربيع الأول، وعدتهم مائة وثلاثة عشر نفرا، والمقدم عليهم طرغاى، ومن أكابرهم الوص وككباى. فتلقاهم نائب السلطنة والأمراء، واحتفل بقدومهم «2» احتفالا كبيرا. ثم توجه بهم الأمير شمس الدين قراسنقر، إلى الديار المصرية فى يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول. وتوجه بعده الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحاجب، على خيل البريد إلى الأبواب السلطانية، فى حادى عشر الشهر. ولما وصلوا إلى باب السلطان بالغ فى إكرامهم، وأحسن إليهم، وخلع عليهم، وأمّرهم بالطبلخاناة. وهم على دين الكفرة، ويأكلون فى شهر رمضان، ولا يذبحون الخيل ذبيحة ولا نحرا، بل يربطون الفرس، ويضربونه على وجهه حتى يموت، فيأكلونه بعد ذلك. وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلة، فأنفت نفوس الأمراء من ذلك وكرهوه، حتى أوجب ذلك خلع السلطان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد.

وأما بقية الأويرانية، فإن السلطان كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى أن يتوجه بهم إلى الساحل فينزلهم به، فتوجه بهم. ولما مرّوا بدمشق، أنزلهم بالمرج، ولم يمكّن أحدا منهم من دخول المدينة. ورسم بإخراج الأسواق إليهم للبيع والشراء بالمرج، إلى الكسوة والصنمين «1» . وفعل ذلك فى كل منزلة إلى أن وصل بهم إلى أراضى عثليث، وامتدوا «2» فى بلاد الساحل. ورسم «3» السلطان باقامة الأمير علم الدين [سنجر] «4» الدوادارى معهم، إلى أن يحضر السلطان إلى الشام، ومات منهم خلق كثير. وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكانوا من أجمل الناس، وتزوج الجند وغيرهم من بناتهم. ثم انغمس من بقى منهم فى العساكر، وتفرقوا فى الممالك الإسلامية، ودخلوا فى دين الإسلام. وبقاياهم فى الخدمة إلى وقتنا هذا «5» . ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد. وفى هذه السنة، فى يوم الخميس، سادس عشر جمادى الأولى، توفى

قاضى القضاة، تقى الدين أبو القاسم عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب بن بنت الأعز، قاضى القضاة الشافعى، بالديار المصرية، ودفن بالقرافة، فى تربة والده، رحمهما الله. وفى يوم وفاته، توفى كاتبه نور الدين بن السوسى، وكان خصيصا به. وحملت جنازتاهما «1» معا. وقد قدمنا من ذكر أخبار قاضى القضاة تقى الدين هذا وولاياته القضاء والوزارة ونظر الخزائن، ما نستغنى الآن عن إعادته، رحمه الله تعالى. ولما مات، فوّض السلطان قضاء القضاة بالديار المصرية، لشيخنا «2» الإمام العلامة، تقى الدين بقية المجتهدين أبى الفتح محمد ابن شيخ الإسلام مجد الدين على بن وهب بن مطيع القشيرى، المعروف بابن دقيق العيد. وكانت ولايته فى يوم السبت ثامن عشر الشهر المذكور. ولما ولى القضاء كان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال «3» البرانية. وكان يذكرهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات، من عواقب الغفلة والإهمال. فكان مما كتب به، إلى بعض نوابه، فى سنة سبع وتسعين. وقيل إنه كتب إلى جميع النواب مثل ذلك. وكان مضمون كتابه الذى نقلت «4» نسخته هذه: بسم الله الرحمن الرحيم، الفقير إلى الله تعالى، محمد بن على. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ

عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) «1» . هذه المكاتبة إلى، فلان، وفقه الله لقبول النصيحة، وأتاه لما يقربه قصدا صالحا، ونية صحيحة. أصدرناها إليه، بعد حمد الله الذى (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) «2» ، ويمهل حتى ينتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكّره بأيام الله، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) «3» . وتحذره «4» صفقة من باع الآخرة بالدنيا، فما أحد سواه مغبون. عسى أن يرشده بهذا التذكار وينفعه وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار، فإنى أخاف أن يتردى، فيجز من ولاه، والعياذ بالله، معه. والمقتضى لإصدارها ما لمحناه «5» من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يحب الرب على المربوب، ومن أنسهم بهذه الدار وهم يزعجون عنها، ومن علمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود، وهم لا يتحققون «6» منها، ولا سيما القضاة الذين يحملون عبء «7» الأمانة، على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم «8» نحيفة. والله إن الأمر العظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا

أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة، اللهم [إلا] «1» رجلا «2» نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فغاية مطلبه «3» الحياة والمنزلة فى قلوب الناس وتحسين الزى «4» والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر «5» خيبة حاله، ولا ركاكة مقصده، فهذا لا كلام معه، فإنك لا تسمع الموتى، وما أنت بمسمع من فى القبور. فاتق الله الذى يراك حين تقوم؛ واقصر أملك عليه، فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر، إلا كما قال حبيب العجمى، وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق فقال قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفى عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا، أن تقضى من معرفته الوطر. فتأمل [من] «6» كلام النبوة القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقا عليه: لا تأمرن على اثنين، ولا تليّن مال اليتيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم «7» . وما أنا والسير فى متلف ... يبرح بالذّكر الضابط هيهات جف القلم، ونفذ أمر الله، ولا راد لما حكم. ومن هناك شمّ الناس فى الصّديق رضى الله عنه، راتحة الكبد المشوى. وقال الفاروق: ليت أم عمر

لم تلده. واستسلم عثمان وقال من أغمد سيفه، فهو حر. وقال علىّ:- والخزائن بين يديه مملوءة- من يشترى منى سيفى هذا، ولو وجدت ما اشترى به رداء ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز، فمات من خشية العرض. وعلق بعص السلف فى بيته سوطا، مؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدى؟ أو وضح إنا نحن المقربون وهم البعداء؟ وهذه أحوال لا توجد فى كتاب السلم ولا الإجارة «1» ولا الجنايات. نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمى عينك الهجوع. ومما يعينك على الأمر الذى دعوت إليه، ويزوّدك فى سيرك إلى الغرض «2» عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالفكر والتدبير، وأناة تجعلها معدة لجلاء قلبك. فإنه [إن] «3» استحكم صدأه، صعب تلا فيه «4» . واعرض عنه من هو أعلم بما فيه، واجعل أكثر همومك لاستعداد المعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد. فإنه يقول (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) «5» .

ومهما وجدت من همتك قصورا، واستشعرت من نفسك عما بدا إليها نفورا، فاجأر إليه وقف ببابه واطلب منه، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا تعزب «1» عن علمه «2» خفايا الضمائر، ألا يعلم من خلق وهذه نصيحتى إليك، وحجتى بين «3» يدى الله، إن فرّطت، عليك، اسأل الله لى ولك، قلبا واعيا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة، بمنّه وكرمه. وفى هذه السنة، عزل القاضى جمال الدين بن الشريشى نفسه من نيابة الحكم بدمشق، عن قاضى القضاة بدر الدين [بن جماعة «4» ] ، وذلك فى الجمعة، رابع عشرين شهر رجب. فوقع اختيار قاضى القضاة، بدر الدين [بن جماعة «5» ] فى النيابة عنه، على القاضى جمال الدين سليمان بن عمر بن سالم الأذرعى «6» ، المعروف بالزرعى قاضى زرع «7» . فاحضره منها واستنابه بدمشق، وذلك فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال من السنة. وفيها، قدمت والدة الملك العادل بدر الدين سلامش ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس من بلاد الأشكرى «8» ، إلى دمشق. وكان وصولها

ذكر توجه السلطان الملك العادل وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى وغير ذلك

فى حادى عشر رمضان. ونزلت بدار الحديث الظاهرية بدمشق. وأرسل إليها نائب السلطنة الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى، التحف والهدايا والألطاف، وخدمها أتم خدمة. ثم توجهت من دمشق إلى القاهرة فى عشية الجمعة، ثامن عشر رمضان. ذكر توجه السلطان الملك العادل وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا «1» العادلى وغير ذلك وفى هذه السنة، توجه السلطان الملك العادل إلى الشام بجميع العساكر. وكان استقلال ركابه من قلعة الجبل، فى يوم السبت سابع عشر شوال، بعد الزوال. ووصل إلى دمشق فى الساعة الخامسة من يوم السبت، خامس عشر ذى القعدة، والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «2» على رأسه. وحضر فى خدمته نائب السلطنة، الأمير حسام الدين لاجين، والصاحب فخر الدين بن الخليلى ونزل

الوزير بدار الملك الزاهر. وفى يوم وصوله إلى دمشق، توجه إلى زيارة قبر والده، الشيخ مجد الدين بجبل الصالحية. فلقيه القاضى تقى الدين سليمان الحنبلى، وسلّم عليه، فعرّف به. فأمر أن يركب بغلته الجنيب، فركبها، وحضر معه إلى تربة والده. فلما فرغ من القراءة، ولّاه الصاحب قضاء القضاة على مذهبه، فقبل. وخلع عليه فى بكرة النهار، وعلى بقية القضاة. وكان قاضى الحنابلة قبله، القاضى شرف الدين الحسن ابن الشيخ شرف الدين عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسى قد توفى، وكانت وفاته فى أول ليلة الخميس، الثانى والعشرين من شوال، ودفن ضحى يوم الخميس، رحمه الله تعالى «1» . ولما استقر السلطان بدمشق، خلع على الأمراء والمقدمين، وعلى الصاحب تقى الدين توبة، والشيخ نجم الدين بن أبى الطيب، وولّاه وكالة بيت المال، وعلى شهاب الدين الحنفى. ثم شرع الصاحب فخر الدين فى مصادرات الولاة والمباشرين. ورسّم على الأمير شمس الدين الأعسر شاد الدواوين [بدمشق «2» ] ، وعلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «3» والى البر، وعزله عن ولاية البر. وولّى الأمير علاء الدين ابن الجاكى عوضه، وطلب منهما الأموال، ورسّم على سائر المباشرين، وطلب من كل منهم جامكية سنة. واستخرج من شهاب الدين بن السلعوس ثمانين ألف درهم، وكان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر باقيا على ولايته، وهو الذى تولّى

المستخرج من المصادرين، استدمر وغيره. وهو مع ذلك يحمل ما تقرر عليه من الأموال «1» . وفى يوم الاثنين رابع عشر ذى القعدة، وصل الملك المظفر صاحب حماه إلى خدمة السلطان بدمشق، فتلقاه السلطان وأكرمه. ثم جرد السلطان جماعة من العسكر المصرى، وعسكر دمشق إلى جهة حلب «2» . وفى يوم الجمعة، ثامن عشرين ذى القعدة، حضر السلطان إلى جامع بنى أمية وصلى به الجمعة. وخلع على الخطيب قاضى القضاة بدر الدين [بن جمامة «3» ] ، وزار مصحف عثمان. وفى يوم الاثنين مستهل ذى الحجة، حضر الأمير عز الدين الحموى الظاهرى، نائب السلطنة بدمشق، إلى خدمة السلطان. فأنكر عليه سوء اعتماده، وطمع نفسه، وما بلغه عنه من بسط يده فى أخذ المصانعات «4» . وأخذ السلطان خيوله المسوّمة وأمواله وأقمشته، ثم عزله عن النيابة، وفوضها لمملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى، وباشر النيابة من يومه. ثم خلع بعد ذلك على الأمير عز الدين الحموى، وأنعم عليه بإقطاع أغرلوا بالديار المصرية. وانتقل الحموى عند عزله من دار السعادة، ونزل بداره المعروفة بالجيشى التى بالقصاعين.

وفيها، فى ثامن ذى الحجة، فوض السلطان وزارة الشام، لوكيله شهاب الدين الحنفى، عوضا عن تقى الدين توبة، وكان قبل ذلك يلى الحسبة بدمشق. وخلع عليه خلعة الوزارة فى يوم عيد الأضحى. ثم توجه السلطان فى ثامن [عشر] «1» ذى الحجة، إلى جهة حمص، وتصيّد فى تلك الجهة. ودخل حمص فى تاسع عشر ذى الحجة، وحضر إليه نائب السلطنة بحلب، وبقية النواب. وانسلخت السنة، والسلطان بمخيمه على جوسيه «2» ، وهى قرية من قرى حمص، كان قد اشتراها. وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى، أمير جاندار. وكانت وفاته بمصر، فى يوم الأربعاء، السادس والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ودفن بتربته بالرصد وكان رحمه الله تعالى، كثير الخير والإحسان إلى خلق الله تعالى. وعمّر المدارس والمساجد والجوامع، وله بإسنا من عمل قوص، مدرسة موقوفة على طائفة الشافعية. وبقوص مدرسة على ساحل البحر كذلك، وبجوار المدرسة مسجد له، يجتمع فيه الفقراء الأعجام القرندلية «3» فى شهر رمضان من كل سنة، ويذبح لهم فى كل يوم رأس غنم،

وما يحتاجون إليه من التوابل «1» والخبز. وله بمصر مدرسة، وبكرسى الجسر جامع، وبالرصد جامع، وغير ذلك من الأماكن الشريفة المبرورة. ووقف عليها الأوقاف المبرورة الوافرة، رحمه الله تعالى. وتوفى أيضا بالديار المصرية جماعة من الأمراء، منهم الأمير بدر الدين بيليك الحسنى أبو شامة، وهو الذى كان يندب إلى الكشف بالوجه القبلى بالديار المصرية، فى الدولة المنصورية، وما بعدها، رحمه الله تعالى «2» .

واستهلت سنة ست وتسعين وستمائة [696 - 1296/ 1297]

واستهلت سنة ست وتسعين وستمائة [696- 1296/1297] والسلطان الملك العادل بمخيمه على جوسيه. ثم رحل منها وعاد إلى دمشق، فدخلها فى يوم الأربعاء ثانى المحرم. وفى يوم الجمعة، حضر السلطان إلى الجامع، وصلى بالمقصورة، وأخذ من الناس قصصهم. ورأى شخصا بيده قصة، فتقدم إليه بنفسه خطوات، وأخذ القصة منه «1» . وفيها، أمّر السلطان الملك العادل، الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك السعيد ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل سيف الدين بن أبى بكر محمد بن أيوب، وجعله من أمراء الطبلخاناة بدمشق، وذلك فى يوم الخميس سابع عشر المحرم. وفيها، فى يوم الاثنين، حادى عشرين المحرم، قبض على الأمير سيف الدين استدمر كرجى «2» ، واعتقل بالقلعة، وعزل الأمير سيف الدين سنقر الأعسر، عن وظيفة الشد، وولى عوضه الأمير فتح الدين بن صبره. ذكر عود السلطان الملك العادل إلى الديار المصرية وخلعه من السلطنة ورجوعه إلى دمشق وفى بكرة نهار الثلاثاء، الثانى والعشرين من المحرم، توجه السلطان بعساكره

نحو الديار المصرية، وقد أجمع أكابر الأمراء على خلعه. فلما انتهوا إلى منزلة «1» العوجا، جلس السلطان فى الدهليز، وحضر الأمراء إلى الخدمة، وطلب الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى طلبا مزعجا. وكان قد توجه إلى الزيارة، فلما حضر، لم يقم له على عادته. ويقال إنه كلمة بكلام غليظ، ونسبه إلى أنه كاتب التنار، وحصل بينهما مفاوضة، ثم نهض السلطان من المجلس. وقام الأمراء، واجتمعوا فى خيمة الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة، وتكلموا فيما وقع. فسأل الأمير بدر الدين بيسرى، الأمير حسام الدين عن موجب إغلاظ السلطان له. فقال: إن مماليكه قد كتبوا عنك كتبا إلى التتار، وأحضروها إليه، ونسبوك إلى أنك كتبتها، ونيته إذا وصل إلى قلعة الجبل، أن يقبض على وعليك، وعلى أكابر الأمراء، ويقدم مماليكه. فأجمعوا عند ذلك على «2» خلعه. وركب الأمير حسام الدين لاجين، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى الحاجب ومن انضم إليهم. واستصحبوا معهم حمل نقّارات «3» ، وساقوا إلى باب الدهليز. وحركت النقارات حربيا، وذلك فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة. فلما مروا بخيمة بكتوت الأزرق العادلى

ذكر سلطنة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى وهو السلطان الحادى عشر من ملوك الترك، بالديار المصرية.

قتلوه. وركب بتخاص «1» العادلى، وتوجه إلى باب الدهليز فقتلوه أيضا. ولما شاهد الملك العادل ذلك، خرج من ظهر الدهليز، وركب فرس النوبة، وعبر على القنطرة التى على ماء العوجا، وساق ركضا، وأدركه خمسة أو ستة من مماليكه. واستقر به السير إلى دمشق. ودخل قلعتها، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى «2» . ذكر سلطنة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى وهو السلطان الحادى عشر من ملوك الترك، بالديار المصرية. وهو من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. اشتراه فى زمن إمرته «3» مرتين. وكان من مماليك الملك المنصور نور الدين على ابن الملك المعز [أيبك «4» ] ، فلما سفّر إلى بلاد الأشكرى، تأخر بالقاهرة، فاشتراه السلطان الملك المنصور، فى أيام إمرته بسبعمائة وخمسين درهما. ثم تبيّن له بعد ذلك أنه من مماليك الملك المنصور ابن الملك المعز، وقيل له إنه غائب ولا يصح بيعه إلا من حاكم [شرعى] «5» ، فاشتراه ثانيا من قاضى القضاة، تاج الدين بن بنت الأعز،

بما يزيد عن ألف درهم. وباعه على الغائب، بالغبطة له. وقد شاهدت أنا عهديته «1» فى جملة عهد المماليك المنصورية السيفية، وشدّ عنى تحقيق الثمن الثانى، إلا أنه يزيد على ألف درهم. ولعل ذلك ألف وخمسون درهما. وكان يوم ذاك يدعى شقير. كذا رأيت عهديته (لاجين المدعو شفير) ، وكان فى البيت المنصورى يعرف بلاجين الصغير. وتأمر وناب عن السلطنة بدمشق، وهو لا يعرف بين الناس إلا بلاجين الصغير «2» . وسألت بعض أكابر الأمراء من المماليك المنصورية، الذين كانوا فى خدمة السلطان، فى زمن إمرته، عن لاجين الكبير، الذى ميّز هذا بالصغير بسببه، فما عرفوه. ولعل هذه الشهرة وقعت عليه وقوع اللقب، والله أعلم. وتنقل لاجين هذا فى خدمة السلطان الملك المنصور، من وظيفة الأوشاقية إلى السلاح دارية. ولما قبض عليه السلطان الملك الأشرف، بعد عزله من نيابة الشام، ثم أفرج عنه وجعله سلاح دارا كما كان، فى خدمة أبيه السلطان الملك المنصور، قبل أن يستنيبه بدمشق. وقد تقدم من أخباره وتنقلاته، ما نستغنى الآن عن إعادته «3» . ملك بمنزلة العوجاء من بلاد الساحل. وذلك أنه لما هرب الملك العادل كتبغا من الدهليز، وتوجه إلى نحو دمشق، فى الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة، اجتمع الأمراء وتشاوروا فمن ينصب فى السلطنة.

فاتفقوا على إقامته فى السلطنة، وتلقب بالملك المنصور. وشرط الأمراء عليه شروطا فقبلها والتزمها. منها أن يكون معهم كأحدهم، وأن لا ينفرد برأى دونهم، وأن لا يبسط أيدى مماليكه فيهم، ولا يقدمهم عليهم، وحلّفوه على ذلك، فحلف عليه. فقال له الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى:- وكان من جملة الأمراء المشار إليهم- نخشى أنك إذا جلست فى المنصب، تنسى هذا الذى تقرر بيننا وبينك، وتقدم مماليك، وتخوّل «1» منكوتمر. فكرر الحلف أنه لا يفعل [ذلك] «2» ، ولا يخرج عمّا التزمه. فعند ذلك، حلفوا له وركب بشعار السلطنة، وتوجه بالعساكر نحو الديار المصرية. ولما وصل إلى غزة، حمل الأمير بدر الدين بيسرى الجتر على رأسه. ثم رحل منها، وكان وصوله إلى قلعة الجبل، وجلوسه على تخت السلطنة، فى يوم الجمعة عاشر صفر، سنة ست وتسعين وستمائة. ثم ركب بشعار السلطنة، وشقّ المدينة فى يوم الخميس سادس عشر صفر «3» . ورتب فى نيابة السلطنة [بالديار المصرية «4» ] مقر ملكه، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، وجعل الأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار أمير جاندار، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى حاجبا. واستمر الصاحب فخر الدين بن الخليلى فى الوزارة برهة،

ذكر أخبار الملك العادل وما اعتمده بدمشق وما كان من أمره إلى أن انتقل إلى صرخد

ثم عزله على ما نذكره إن شاء الله. وفوض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى. هذا ما كان بالديار المصرية، فلنذكر أخبار الملك العادل [كتبغا «1» ] ذكر أخبار الملك العادل وما اعتمده بدمشق «2» وما كان من أمره إلى أن انتقل إلى صرخد لما فارق الملك العادل الدهليز والأمراء، توجه إلى دمشق. وقدم قبله أحد مماليكه ليعلم مملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا نائب السلطنة بدمشق ما تجدد، ويخبره بوصول السلطان. فوصل [أمير شكار «3» ] فى بكرة نهار الأربعاء، سلخ المحرم. فجمع [نائب السلطنة بدمشق «4» ] الأمراء، وركب جماعة من العسكر، وأمرهم بالوقوف خارج باب النصر. ثم وصل الملك العادل إلى دمشق، فى وقت العصر من اليوم المذكور، ومعه أربعة أو خمسة من مماليكه. ودخل إلى القلعة، واستقر بها، وحضر إلى خدمته الأمراء، وخلع على جماعة. وأمر بإيقاع الحوطة على حواصل الأمير حسام الدين لاجين ونوابه «5» . ثم وصل الأمير زين الدين غلبك العادلى «6» فى

يوم الخميس، مستهل صفر، بجماعة يسيرة من المماليك العادلية. وجلس شهاب الدين الحنفى وزير الملك العادل فى الوزارة بالقلعة. ورتب أحوال السلطنة. وأمرّ العادل جماعة من دمشق، ووضع بعض «1» المكوس، وقرىء بذلك توقيع فى يوم الجمعة سادس عشر صفر. وفى يوم السبت رابع عشرين الشهر، وصل الأمير سيف الدين كجكن وجماعة من الأمراء، كانوا معه بالرحبة مجردين، فلم يدخلوا دمشق، وتوجهوا إلى جهة ميدان الحصا. وأعلن باسم السلطان الملك المنصور [حسام الدين لاجين «2» ] ، وخرج إليه الأمراء بدمشق، طائفة بعد طائفة. فلما علم الملك العادل بذلك، وتحقق انحلال أمره، وتخاذل الناس عنه، وثبات قدم الملك المنصور فى السلطنة، وانضمام الناس إليه، أذعن إلى الطاعة، والدخول فيما دخل الناس فيه. وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور، هو خوشداشى، وأنا فى خدمته وطاعته، وأنا أكون فى بعض القاعات بالقلعة إلى أن يكاتب السلطان، ويرد جوابه بما يقتضيه رأيه فى أمرى. فعند ذلك اجتمع الأمراء بباب الميدان، وحلفوا بأجمعهم للسلطان الملك المنصور، وكتبوا إليه بذلك. وتوجه البريد إليه بالخبر، ودخل الأمير سيف الدين جاغان إلى القلعة ورتب من يحفظ الملك العادل بها، إلى أن يرد جواب السلطان [المنصور «3» ] فى أمره، وغلقت أبواب دمشق، فى يوم السبت خلا باب النصر. وركب عسكر دمشق بالسلاح، وأحاطوا بالقلعة حفظا لها، وخوفا أن يخرج الملك العادل منها،

ويقصد جهة أخرى قبل ورود جواب السلطان فى أمره «1» . ثم دقت البشائر فى وقت العصر من يوم السبت المذكور، وأعلن باسم السلطان الملك المنصور. وقرأ المؤذنون فى ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر بالمأذن (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) «2» إلى آخر الآية. ودعوا للملك المنصور، ودعا له قارىء المصحف، بعد صلاة الصبح وضربت البشائر على أبواب الأمراء، وأظهروا الفرح والسرور بسلطنته، وفتحت أبواب البلد وزينت، وفتح «3» الناس حوانيتهم. وفى يوم الأحد المذكور، اجتمع القضاة بدار السعادة، وحضر الأمراء والعساكر، وحلفوا للملك المنصور. وتولى النحليف القاضى شمس الدين بن غانم، بحضور الأمير سيف الدين أغرلوا، نائب السلطنة، وحلف هو أيضا، وأظهر السرور بسلطنة الملك المنصور. وقال: السلطان، أعز الله تعالى نصره، هو الذى عيننى لنيابة السلطنة، وأستاذى كان قد استصغرنى، فأشاد هو بى، فأنا نائب السلطان الملك المنصور. ثم توجه هو والأمير سيف الدين جاعان إلى الأبواب السلطانية «4» . وخطب للملك المنصور حسام الدين لاجين، بجوامع دمشق، فى يوم الجمعة، مستهل شهر ربيع الأول، سنة ست وتسعين وستمائة. وكان الأمير شمس الذى سنقر الأعسر، قد حضر من جهة السلطان الملك المنصور إلى ظاهر

دمشق، فى ليلة الأحد رابع صفر. وأرسل إلى الأمراء كتبا كانت معه، وحلف جماعة منهم. وتوجه إلى قارا «1» فى ليلته، وكان بها جماعة من الأمراء المجردين، فاجتمع بهم، وقرّر الأمر معهم، وكتب إلى السلطان بذلك. ثم رجع وأقام بلد بجماعته، حفظا للبلاد بتلك الجهة «2» . فلما بلغه «3» استقرار الأمور بدمشق، توجه إليها، ودخلها فى يوم الخميس، سابع عشرين صفر. فتلقاه الناس، واشتعلت الشموع لمقدمه نهارا، وحضر الأكابر والأعيان إلى خدمته. ونودى بدمشق، من له مظلمة، فليحضر إلى دار الأمير شمس الدين [سنقر الأعسر «4» ] . ثم وصل الأمير حسام الدين أستاذ الدار إلى دمشق، بجماعة من العسكر. وجمع الأمراء بدار السعادة، بحضور القضاة. وقرئ عليهم كتاب السلطان، يتضمن استقراره فى الملك، وجلوسه على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، واجتماع الكلمة عليه، وركوبه بالخلع الخليفية، والتقليد من أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله، أبى العباس أحمد «5» . ثم وصل الأمير سيف الدين جاغان الحسامى، من الأبواب السلطانية، فى عشية يوم الاثنين، حادى عشر شهر ربيع الأول. ودخل فى بكرة نهار الثلاثاء،

إلى قلعة دمشق، هو والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير سيف الدين كجكن، وقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، واجتمعوا بالملك العادل. فحلف للسلطان الملك المنصور يمينا مستوفاة مغلظة، أنه فى طاعة السلطان الملك المنصور وموافقته، وإخلاص النية له، وأنه رضى بالمكان الذى عينه له، وهو قلعة صرخد، وأنه لا يكاتب ولا يستفسد أحدا، إلى غير ذلك، مما اشترط عليه. ثم وصل الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، نائب السلطنة بالشام، إلى دمشق فى يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول، ونزل بدار السعادة، على عادة النواب «1» . وخرج الملك العادل، من قلعة دمشق، وتوجه إلى صرخد، فى ليلة الثلاثاء تاسع عشر، شهر ربيع الأول. وتوجه معه مماليكه، وجرد معه جماعة من العسكر الشامى، إلى أن وصل إلى قلعة صرخد. فكانت مدة سلطنة الملك العادل، منذ جلس على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة، وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجا، وتوجه إلى دمشق، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة، سنتين وسبعة عشر يوما، وإلى أن خلع نفسه من السلطنة بدمشق، فى يوم السبت رابع عشرين صفر، شهرا واحدا، وأحد عشر يوما «2» . ولما وصل الأمير سيف الدين جاغان إلى دمشق، أحضر على يديه توقيعا

ذكر الإفراج عن جماعة من الأمراء

للصاحب تقى الدين توبة، بوزارة دمشق على عادته، وتوقيعا للقاضى أمين الدين بن حلال، بنظر الخزانة، عوضا عن تقى الدين توبة، وتوقيعا للشيخ أمين الدين العجمى بنظر الحسبة بدمشق. فباشر كل منهم ما فوض إليه. ثم خلع على الأمراء والمقدمين، والقضاة، وأعيان الدولة بدمشق، فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الآخر. فيقال إن عدة التشاريف التى فرقت ستمائة تشريف «1» . ذكر الإفراج عن جماعة من الأمراء وفى هذه السنة، أفرج السلطان الملك المنصور عن جماعة من الأمراء المعتقلين، وهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغى الأشرفى، والأمير شمس الدين الركن السلاح دار، وغيرهم من المماليك السلطانية. وأعطى الأمير ركن الدين بيبرس [الجاشنكير «2» ] إمرة بالديار المصرية، والأمير سيف الدين برلغى إقطاعا بدمشق، فتوجه إليها. وفيها، أمّر السلطان الملك المنصور جماعة من مماليكه، وهم الأمير سيف الدين منكوتمر، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، والأمير سيف الدين بيدوا «3» ، والأمير سيف الدين جاغان، والأمير سيف الدين بهادر المعزى. ذكر تجديد عمارة الجامع الطولونى وترتيب الدروس به، والوقف على ذلك وفى هذه السنة، أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين بتجديد

عمارة الجامع الطولونى. وندب لذلك الأمير علم الدين سنجر الدوادارى. وأقر لعمارته من خالص ماله، عشرين ألف دينار عينا. فاهتم الأمير علم الدين، المشار إليه، بعمارته وعمارة أوقافه. وابتاع السلطان من بيت المال منية أندونه «1» ، من الأعمال الجيزية، ووقفها على المدرسين والمشتغلين وأرباب الوظائف بالجامع. ورتب فيه درسا لتفسير كتاب الله العزيز، ودرسا لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودروسا للفقه على المذاهب الأربعة. وجعل لهذه الدروس مدرسا لكل طائفة، ومعيدين وطلبة. ورتب دروسا للطب «2» ، وميعادا «3» للرقائق «4» ، وشيخا للسبحة، ومكتب سبيل، وغير ذلك من أنواع البر. ورتب لهم الجامكيات المتوفرة، واستمر ذلك إلى الآن «5» . وفى هذه السنة، نقل السلطان، الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس «6» أحمد

ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر

العباس أمير المؤمنين، من البرج الذى كان يسكنه بقلعة الجبل إلى مناظر الكبش. وأجرى عليه وعلى أولاده الأرزاق الواسعة، ووصله بالصلات الجزيلة، وصار يركب معه فى الموكب. والتمس الخليفة من السلطان الإذن فى الحج، فأذن له فى سنة سبع وتسعين وستمائة، وجهزه بما يحتاج إليه «1» . ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر . وفى هذه السنة، حضر إلى الأبواب السلطانية جماعة من قضاة القضاة والأعيان بدمشق، منهم قاضى القضاة حسام الدين الحنفى الرومى، وقاضى القضاة جمال الدين المالكى، والقاضى إمام الدين القزوينى، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى وغيرهم. فلما وصلوا، أكرمهم السلطان، وأحسن إليهم، وخلع عليهم. وفوض إلى قاضى القضاة حسام الدين الحنفى قضاء القضاة بالديار المصرية، وعامله بمالم يعامل به أحدا من الإكرام، والتقريب والبر والتشاريف. وأقر ولده القاضى جلال الدين على قضاء الشام. وفوض إلى القاضى إمام الدين القزوينى الشافعى، قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام الشافعى. وكتب تقليده فى رابع جمادى الأولى، عوضا عن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. واستقر بيد القاضى بدر الدين الخطابة بالجامع الأموى بدمشق، وتدريس المدرسة القيمرية، وأعيد القاضى جمال الدين الزواوى المالكى إلى دمشق على عادته، وخلع عليهما، فكان وصولهما إلى دمشق فى ثامن شهر رجب. وجلس القاضى إمام الدين للحكم بالمدرسة العادلية، وامتدحه الشعراء. فكان ممن امتدحه الشيخ كمال الدين بن الزملكانى بقصيدته التى أولها:

ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر.

تبدّلت الأيام من عسرها يسرا ... فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى «1» وأما الرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى، فإنه تأخر بالديار المصرية مدة، ثم عاد إلى دمشق، فوصلها فى الخامس والعشرين من شهر رمضان. وقد خلع عليه خلع الوزراء، تشريفا كاملا بطرحة ومنديل هنكرى «2» مزركش، وخلع على ولديه. واستعاد [له] «3» من ورثة السلطان الملك المنصور، ما كان قد صودر به، وأخذ منه فى «4» الأيام المنصورية. وأثبت ذلك فى وجه وكيل الورثة المنصورية، وتعويض عنها أملاكا، من الأملاك المنصورية. فذكر أن قيمتها أضعاف ما أخذ منه، منها حصة بقرية الرمثا «5» وغير ذلك. وفيها، ولى الأمير سيف الدين جاغان الحسامى شد الشام، وباشر ذلك فى يوم الاثنين العشرين من شهر رجب، عوضا عن الأمير فتح الدين بن صبره «6» . ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر. وفى هذه السنة، تقدم أمر السلطان بطلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورى، من دمشق، على خيل البريد. فركب منها فى سابع عشر جمادى الآخره. ووصل إلى الأبواب السلطانية فى الشهر المذكور، فأكرمه السلطان

ذكر القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة، وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمر.

وأحسن إليه، وشرّفه وأمّره بالديار المصرية. ثم فوض إليه الوزارة، وتدبير الدولة، بالديار المصرية والممالك الشامية «1» . وكان جلوسه فى دست الوزارة، فى السادس والعشرين، من شهر رجب. وعزل الصاحب فخر الدين بن الخليلى، وسلّم إليه، ليستخرج منه «2» مالا. واستمر فى الوزارة إلى يوم السبت ثالث عشرين ذى الحجة، فقبض عليه لأمور أنكرها السلطان، وظهرت له منه. ذكر القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة، وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمر. وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء منتصف ذى القعدة، قبض السلطان على نائبه وخوشداشه، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى واعتقله. وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده وحواصله، بالديار المصرية والبلاد الشامية. وفوّض السلطان، بعد القبض عليه، نيابة السلطنة بمقر ملكه، لمملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامى «3» . وفى هذه السنة، بعد القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، ركب السلطان الملك المنصور إلى الميدان، للعب بالكرة، فتقنطر به فرسه، فسقط إلى الأرض، وانكسر أحد جانبى يديه وبعض أضلاعه. ووجد شدّة

عظيمة لذلك. واحتاج الجبرون إلى كسر عظم الجانب الآخر من يده، لأجل صحة الجبر، فإنه لا «1» يجبر أحد الجانبين، وإن انجبر قصر عن الجانب الآخر، فنعذّر «2» الانتفاع باليد، واضطرّ إلى ذلك، وتوقف عن الإجابة إليه. فدخل عليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر- وكان ذلك قبل القبض عليه- وقال له: أنا حصل لى مثل هذا، فلما احتجت إلى كسر النصف الآخر، ضربته بدقماق حديد «3» ، فانكسر ثم جبر. وكلّمه فى ذلك بكلام فيه غلظ واستخفاف. ولم يسلك ما جرت العادة به من الآداب الملوكية. فكان هذا من أسباب القبض عليه كما تقدم. واستمر السلطان على الانقطاع لهذه الحادثة، إلى أن كملت صحته، وصح ما جبر من يده وجسده. ثم ركب فى حادى عشر صفر، سنة سبع وتسعين وستمائة فاستبشر الناس بذلك، ودقّت له البشائر بمصر والشام. وفى سنة ست وتسعين وستمائة، فى الحادى والعشرين من شهر ربيع الأول كانت وفاة الشيخ الإمام، السيد الشريف ضياء الدين مفتى المسلمين، أبى الفضل جعفر ابن الشيخ العارف القطب اتفاقا، عبد الرحيم بن أحمد بن مجنون الحسينى الشافعى، رحمه الله. وكان قد ولى وكالة بيت المال، فى أول الدولة المنصورية، مدة لطيفة، ثم عزل نفسه.

وفيها، فى ليلة الثلاثاء، سادس عشرين ربيع الأول، توفى الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ محمد بن عبد الله الظاهرى، وولده محمد، عتيق السلطان الملك الظاهر غازى. ودفن بتربته بمقبرة باب النصر، ظاهر القاهرة، رحمه الله تعالى. وفيها، فى يوم الاثنين ثامن عشر شعبان، توفى الصدر سيف الدين أحمد ابن محمد بن جعفر الساوى بدمشق، ودفن بداره، جوار المدرسة الكروسية، داخل دمشق. وكان كبير المحل فى النفوس، مشهور المكانة عند الخليفة المستعصم بالله وغيره. وقد تقدم ذكره فى الدولة المنصورية. وكان حسن الشعر إلا أنه كان كثير الهجاء. وأهاجيه مشهورة، منها الأرجوزة التى عملها فى مباشرى «1» الدولة المنصورية الناصرية بدمشق، وهى مشهورة. وفيها، فى ليلة الخميس الثالث والعشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الأمير عز الدين أزدمر العلائى، أحد الأمراء بدمشق. وهو أخو الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى، رحمهما الله تعالى. وفيها، كانت وفاة الصاحب محيى الدين أبى عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن النحاس الأسدى. وكانت وفاته ببستانه بالمزة، فى سلخ ذى الحجة ودفن فى مستهل المحرم. ولى الوزارة بالشام مرارا. ولما توفى، كان مدرسا بالمدرسة الريحانية والظاهرية وناظر الخزانة، رحمه الله تعالى.

واستهلت سنة سبع وتسعين وستمائة [697 - 1297/ 1298]

واستهلت سنة سبع وتسعين وستمائة [697- 1297/1298] ذكر وصول الملك المسعود نجم الدين خضر ومن معه من القسطنطينية إلى الديار المصرية «1» كان السلطان قد كتب إلى الأشكرى، صاحب القسطنطينية، فى سنة ست وتسعين وستمائة، إذ تجهّزوا أولاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية مكرمين، هم ومن معهم. فجهز إليه الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته. وأحضر الملك العادل سلامش فى تابوت مصبرا، وكان قد مات بالقسطنطينية. وكان وصولهم فى هذه السنة، فأكرمهم السلطان، وأحسن إليهم. وكان قد تزوج إحدى بنات الملك الظاهر، فلذلك كتب بإحضارهم، ودفن الملك العادل بدر الدين سلامش. ثم استأذن الملك المسعود السلطان فى الحج، فأذن له، فحج فى هذه السنة. وجهزه السلطان بما يحتاج إليه. ولما عاد، سكن القاهرة المعزية. وفى هذه السنة، كتب تقليد الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، بنيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وجهزّ إليه إلى دمشق، فوصل إليه فى يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول، يزينه التشريف السلطانى والسيف والحياصه والفرس. ويقال إنه تولى نيابة دمشق فى هذه المدة الماضية بغير تقليد، فوصل

ذكر توجه الملك السلطان الناصر إلى الكرك وإقامته بها

إليه الآن، فجدّد الحلف للسلطان بحضور القضاة والأمراء. وركب بكرة نهار الخميس، وعليه التشريف، وقبّل عتبة باب السر بقلعة دمشق على العادة. ذكر توجه الملك السلطان الناصر إلى الكرك وإقامته بها وفى هذه السنة، جهز السلطان الملك المنصور حسام الدين [الملك السلطان الناصر «1» ] إلى الكرك، فتوجه إليها، وتوجه فى خدمته الأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، فوصل إليها فى رابع شهر ربيع الأول. فأخبرنى قاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى، عن خبر إرساله إلى الكرك. قال: طلبنى الملك المنصور حسام الدين، وقال لى: «إعلم أن السلطان الملك الناصر ابن أستاذى، وأنا والله فى السلطنة مقام النائب عنه. ولو علمت أنه الآن يستقل بأعباء السلطنة ولا تنخرم هذه القاعدة، ويضطرب الأمر، أقمته وقمت بين يديه. وقد خشيت عليه فى هذا الوقت، وترجح عندى إرساله إلى قلعة الكرك. فيكون بها إلى أن يشتد عضده، ويكون من الله الخير. والله ما أقصد بإرساله إليها إبعاده، ولكن حفظه، [وأما «2» ] السلطنة فهى له» . وأمثال هذا الكلام. قال: فشكرته على ذلك، ودعوت له. ولعل السلطان الملك المنصور، إنما قال هذا القول تطبيبا لقلب قاضى القضاة، لا حقيقة، وكان فى طى الغيب كذلك. ولما توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك، توجه فى خدمته جماعة من مماليكه ومماليك أبيه السلطان الملك المنصور، منهم الأمير سيف الدين بهادر الحموى المنصورى وهو أكبرهم سنا. وهو القائم فى خدمته مقام اللالا، والأمير

ذكر القبض على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره

سيف الدين أرغون المنصورى الناصرى الدوادار، وكان قد تربى فى خدمة السلطان من صفره، وسيف الدين طيدمر جوباش «1» ، رأس نوبة الجمدارية وغيرهم. وكان النائب بالكرك يوم ذاك، الأمير جمال الدين أقش الأشرفى المنصورى وكان فى خدمة السلطان الملك الناصر بالكرك، وهو باق على نيابته بها. ذكر القبض على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره وفى هذه السنة، فى سادس شهر ربيع الآخر، قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى. واعتقله بالقاعة الصالحية، بقلعة الجبل. وكان مكرما فى اعتقاله، وأحضر إليه زوجته المنصورية، والدة أحمد ابن السلطان الملك المنصور. وكان سبب ذلك أن السلطان ندبه فى هذه السنة لكشف جسور الجيزية واتقانها. وهذه الوظيفة بالنسبة له إطراح «2» كثير له ولعظامته «3» ، وإن كانت كثيرة فى حق غيره. فتوجه إلى الجيزية بسائر مماليكه وألزامه. فاجتمع معه جمع كثير، يقال إنهم كانوا نحو سبعمائة. وكان يحضر إلى الخدمة فى يومى الاثنين والخميس، ويعود إلى مخيمه. فلما تكامل اتقان الجسور، استأذن فى عمل ضيافة للسلطان هناك. فأذن له واهتم لها اهتماما كثيرا. وحصل بسببها جملة من الأغنام والأصناف وغير ذلك. وقرر مع السلطان أنه يحضر هذه الضيافة. فأوهم نائبه الأمير سيف الدين «4» منكوتمر، السلطان من خروجه وحذره منه.

وأحضر بهاء الدين أرسلان، أستاذ دار الأمير بدر الدين بيسرى، وهو ابن مملوكه بدر الدين بيليك، أمير مجلس. وكان قد ربى أرسلان هذا كالولد. فلما كبر قدّمه على جماعة من أكابر مماليكه الذين كانوا فى منزلة أبيه، وجعله أستاذ داره، وأحسن إليه إحسانا كثيرا، فخدمه الأمير سيف الدين منكوتمر ولاطفه ووعده بإمرة طبلخاناة، إن هو أنهى إلى السلطان، أن مخدومه الأمير بدر الدين بيسرى يقصد اغتياله. فأطمعت أرسلان نفسه، بما وعده منكوتمر، ووافقه على ما قصده. وحضر إلى السلطان وأوهمه من أستاذه أنه إن حضر ضيافته قبض عليه وقتله. ثم عّضد ذلك أن الأمير بدر الدين بيسرى، أرسل إلى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطانى، لينصب فى مكان المهم، ولم يشعر بما وقع. فرسم بتسليم الدهليز لمماليك الأمير بدر الدين بيسرى، وأن يتوجه مقدم الفراشين السلطانية ومن معه لنصبه، ولم يطلع السلطان على ذلك. فلما حمل الدهليز السلطانى على الجمال، ومرّبه المماليك والغلمان، تحت القلعة ليتوجهوا به إلى الجيزية، رآه السلطان من القلعة. فأرسل إلى الأمير سيف الدين منكوتمر، وسأله عن أمره، فأنكر أن يكون اطلع على شىء من حاله. وقال إن مماليك بيسرى أخذوه من الفراش خاناة السلطانية من غير استئذدان. ثم قال للسلطان، هذا مما يحقق صدق ما نقل عنه، وأغراه به. فأمر السلطان بإعادة الدهليز إلى الفراش خاناة «1» . وكان الحامل للأمير سيف الدين منكوتمر على ذلك أن أستاذه الملك المنصور حسام الدين، كان قد عزم على أن يجعله ولىّ عهده بعده، كما فعل السلطان الملك المنصوره والملك الظاهر بأولادهما، ويقرن اسمه مع اسمه فى الخطبة، لأن لاجين لم يكن له ولد ذكر. فتحدث فى ذلك مع الأمير بدر الدين بيسرى، فأنكره غاية

الإنكار، وأجاب عنه بأقبح جواب، وردّه بأشنع ردّ. فكان مما حكى أنه قال للسلطان: أعلم أن مملوكك هذا الذى أشرت إليه، لا يصلح للجندية، وقد أمرّته وقدمته، فصبر الناس لك على هذا. وجعلته نائب السلطنة، ومشيّت الأمراء والجيوش فى خدمته، فأجابوا إلى ذلك، طاعة لك، وطلبا لرضاك، مع ما تقدم من أيمانك عند السلطنة، أنّك لا تقدم مماليكك على الأمراء، ولا تمكنهم منهم. ثم لم تقنع له بما خوّلته فيه، ومكنته منه، ورفعته من قدره، حتى نقصد أن تجعله سلطانا مثلك، هذا لا يوافقك الناس عليه أبدا. وحذره من ذلك غاية التحذير، ونهاه عنه، وعن الحديث فيه مع غيره. ولعمرى لقد بالغ فى النصحية «1» له. فأعلم السلطان منكوتمر، بما دار بينه وبين الأمير بدر الدين بيسرى فى أمره، وبما أجاب به فى معناه. فرأى منكوتمر أنه منعه ملكا عظيما، وسلبه أمرا جسيما. وعلم أنه لا يتم له هذا الأمر، الذى أشار به السلطان، ولا يتمكن منه، مع بقاء بيسرى وأمثاله من الأمراء. فشرع فى التدبير عليهم، وأغرى مخدومه بهم. وابتدأ بالتدبير على بيسرى. وعلم أنه إن ينقل «2» عنه أمرا، ربما أن السلطان لا يتلقاه بقبول، فأخذه من مأمنه. وتحيّل على أستاذ داره أرسلان، حتى أنهى عنه ما أنهاه. ثم عضد ذلك بواقعة الدهليز، فتحقق ما نقل عنه. ولما وقع ذلك، أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر، فراسلوا الأمير بدر الدين بيسرى، وأعلموه، بما اطلعوا عليه وكان ممن راسله فى ذلك، الأمير سيف الدين طقجى الأشرفى وغيره من الأمراء، وحذروه من السلطان، وحلفوا له على الموافقة والمعاضدة. فلم يرجع إلى قولهم، ولا أصغى

إليهم. ثم أرسل إليه سيف الدين أرغون، أحد مماليك الملك المنصور، وخاصكيته وأقربهم عنده، يخبره أن السلطان قد عزم على القبض عليه، ويحذره من الحضور إلى الخدمة، وإنه إن حضر يكون فى أهبة واستعداد. وكان الحامل لأرغون على ذلك، أن أستاذه أمرّ غيره من مماليكه، ولم يؤمره بطبلخاناة مع اختصاصه به، وانما أعطاه إمرة عشرة «1» ، فوجد فى نفسه. ومن العجب أن كل واحد، من السلطان وبيسرى، أتى فى هذا الأمر من مأمنه، وأذاع سره أخص الناس به، فإن أرسلان كان من بيسرى بالمكان الذى ذكرناه، كأعز أولاده عنده، وأرغون هذا كان من أخص المماليك المنصورية الحسامية، حتى لقد بلغنى أنه أعطاه فى يوم واحد، سبعين فرسا، وغير ذلك. فحمل أرسلان الطمع بالإمرة، و [حمل] «2» أرغون الغيرة من تقديم أمثاله عليه. ففعلا ما فعلا، ونقلا ما نقلا. وحضر الأمير بدر الدين بيسرى إلى الخدمة، فى يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الآخر. فأخبرنى ركن الدين بيبرس الجمدار، أحد المماليك «3» البدرية، الذين كانوا معه، يوم القبض عليه، أنه لما عبر إلى الخدمة، تلقاه السلطان قائما على عادته. وجلس إلى جانبه، وبالغ السلطان فى إكرامه. ولما قدم السماط، امتنع الأمير بدر الدين من الأكل، واعتذر بالصوم. فأمر

السلطان برفع مجمع من الطعام لفطوره، فرفع له. وبقى السلطان يحادثه سرا، ويؤانسه ويشغله عن القيام، إلى أن رفع السماط. وخرج الأمراء، وقام الأمير بدر الدين معهم على عادته. فلما انتهى إلى بعض الإيوان، استدعاء السلطان، فعاد إليه. فقام له أيضا وجلس معه، وحدّثه طويلا. والحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج «1» . ثم قام [بيسرى] «2» ، فاستدعاه [السلطان] «3» أيضا، فعاد إليه. وقام السلطان له، وجلس معه وتحدثا. قال الحاكى لى: ورأيت السلطان قد ناوله شيئا من جيبه، ما أعلم ما هو، فتناوله الأمير بدر الدين، ووضعه فى جيبه، وقبّل يد السلطان وفارقه. وقد خلى المجلس والدهاليز إلا من المماليك السلطانية. فلما خرج، أتاه الأمير سيف الدين طقجى، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير الحسامى، وعدلا به إلى جهة أخرى. وقبض ايدغدى شقير على سيفه، وأخذه من وسطه، ونظر إليه طقجى وبكى عند القبض عليه. وتوجها به إلى المكان الذى جهز لاعتقاله به. ولم يزل الأمير بدر الدين معتقلا إلى أن مات، فى الدولة الناصرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» . وقبض السلطان أيضا على الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى الحاجب، ونقل الأمير سيف الدين كرد أمير آخور إلى الحجبة «5» . وقبض على الأمير شمس

ذكر إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى إلى الوزارة

سنقر شاه «1» الظاهرى. وقبض أيضا فى أواخر السنة على الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى. [وفى جمادى الأولى «2» ] ، أمر السلطان بمصادرة القاضى بهاء الدين بن الحلى ناظر الجيوش المنصورة، وأخذ خطه بألف ألف درهم، وعزله عن الوظيفة «3» . أو حضر عماد الدين بن المنذر، ناظر جيش الشام، فولّاه النظر. وكان قد جلس فى نظر الجيش، فيما بين عزل بهاء الدين وحضور ابن المنذر، القاضى أمين الدين المعروف بابن الرقاقى. فلما وصل ابن المنذر، فوض إليه النظر. ومرض أمين الدولة، وانقطع فى داره لما حصل له من الألم «4» . وفى هذه السنة، أقيمت الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون، ولم تكن قبل ذلك، وخطب بها مدرسها شمس الدين بن الشرف بن العز الحنفى، فى يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، باتفاق الملك الأوحد ناظر المدرسة «5» . ذكر إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى إلى الوزارة وفى هذه السنة، فى جمادى الأولى، رسم السلطان بإعادة الصاحب الوزير فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلى إلى الوزارة فعاد،

ذكر تجريد العساكر إلى سيس وما فتح من قلاعها

وصادر ألزام الأمير شمس الدين [سنقر] «1» الأعسر «2» . ذكر تجريد العساكر إلى سيس وما فتح من قلاعها وفى هذه السنة، جرّد السلطان الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى الصالحى أمير سلاح، والأمير حسام الدين لاجين الرومى، أستاذ الدار، والأمير شمس الدين آقسنقر كرتاى «3» ، ومن معهم من مضافيهم. وأمرهم أن يتوجهوا إلى بلاد سيس. فتوجهوا من القاهرة، فى جمادى الأولى، والمقدم على الجيش أجمع الأمير بدر الدين [بكتاش] «4» أمير سلاح. وكان وصولهم إلى دمشق فى يوم الخميس، خامس جمادى الآخرة، وتوجهوا منها فى ثامن الشهر. وجرّد، معهم من عسكر دمشق، الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصورى ومضافيهم «5» . وجرد العسكر الصفدى، ومقدمه الأمير علم الدين [ايدغدى «6» ] الإلدكزىّ «7» . وجرّد جماعة من العسكر الطرابلسى، والملك المظفر صاحب حماه بعسكرها.

ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله إلى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأل مراحمه، فلم تجد «1» رسالته نفعا. ووصلت هذه العساكر إلى حلب. وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدرادارى، أحد مقدمى العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعا، وأدرك الجيش بحلب. وجرد من العسكر الحلبى الأمير علم الدين المعروف بالزغلى و [الأمير علم الدين سنجر الحلبى «2» ] ، ومضافيهما. وتوجهت هذه الجيوش بجملتها إلى بلاد سيس. فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين. فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدى من عقبة بفراس إلى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون. وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدوادارى، والأمير شمس الدين آفسنقر كرتاى «3» ، وبقية الجيش من عقبة المريت «4» . وصار نهر «5» جهان بين الفريقين وكان دخولهم إلى در بند سيس، فى يوم الخميس، رابع شهر رجب.

ولما صاروا ببلاد سيس، اختلف الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير علم الدين الدوادارى، فأشار أمير سلاح بالحصار ومنازلة القلاع. وأشار الدوادارى بالإغارة والإفتصار عليها. وقال أنا المقدم على هذه الجيوش كلها، وأنا آخركم عهدا بالسلطان، وإنما رسم السلطان بالإغارة. فاضطر أمير سلاح ومن معه، لموافقة الدوادارى، وقطعوا جهات من مخاضة العمودين، وتوجهوا للإغارة. فتوجه صاحب حماه والدوادارى، ومن معهما إلى سيس نفسها. وتوجه أمير سلاح ومن معه إلى تاورزه «1» ، وأقاموا عليها يوما وليلة. ورحلوا إلى أذنة، واجتمعت الطائفتان «2» بها، بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن، واستاقوا ما مرّوا به من الأبقار والجواميس. وعادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الإغارة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، حتى نصبوا جسرا مرت العساكر عليه، ورجعوا إلى بغراس، ثم إلى مرج أنطاكية. وأقاموا ثلاثة أيام، ورحلوا إلى جسر الحديد بأرض الروج «3» ، عازمين على العود إلى الديار المصرية، بالعساكر «4» المصرية إلى مستقرها. وكان الأمير بدر الدين أمير سلاح، لما نازعه الدوادارى فى التقدمة، ومنعه من الحصار، وصمم على الأقتصار على الإغارة، قد كتب إلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، نائب السلطنة بالمملكة الحلبية، يعلمه بما وقع والتمس منه مطالعة السلطان بذلك. فطالع بصورة الحال، فورد الجواب من السلطان، والعساكر

بالروج، يتضمن الإنكار على الأمير علم الدين الدوادارى، كونه ادّعى التقدمة على الأمير بدر الدين أمير سلاح، واقتصر على الإغارة، وأن الدوادارى إنما خرج مقدما على مضافيه خاصة، وإن التقدمة على سائر الجيوش للأمير بدر الدين أمير سلاح. ورسم السلطان أن العساكر لا تعود، إلا بعد فتح تل حمدون. وإن عادت قبل فتحها، فلا إقطاع لهم بالديار المصرية؛ إلى غير ذلك من الحث على فتحها. فعند ذلك، عطفت العساكر من الروج إلى جهة حلب، ووصلوا إليها، وأقاموا بها ثمانية أيام، وتجهّزوا منها بما يحتاجون إليه. ودخلوا إلى بلاد سيس بأثقالهم، وعبروا بجملتهم من عقبة بغراس. وجرّد الأمير بدر الدين [بكتاش] «1» أمير سلاح، الأميرين سيف الدين كجكن، وبهاء الدين قرا أرسلان، إلى إياس، فأكمن لهم الأرمن فى البساتين، فلم تتمكن العسكر من قتالهم، ورحلوا شبه المنهزمين، فأنكر أمير سلاح عليهم وسبّهم، فاعتذروا بضيق المسلك والتفاف الأشجار، وعدم التمكن من العدو. ثم رحل بجميع الجيش، ونزل على تل حمدون، فوجدها خالية، وقد أنتقل من بها من الأرمن إلى قلعة نجيمة، فتسلمها، فى سابع شهر رمضان، وسلمها للأمير علم الدين الشيبانى، النائب ببغراس. ولما دخل الجيش إلى بلاد سيس، جرّد الأمير سيف الدين الطباخى، نائب السلطنة بحلب، طائفة من عسكرها، ومن انضم إليهم من التركمان وغيرهم، ففتحوا قلعة مرعش، فى عاشر شهر رمضان أيضا. ثم جاء الخبر إلى العسكر أن واديا تحت قلعة نجيمة وحموّص «2» قد امتلأ بالأرمن، وأن المقاتلة من قلعة

نجمية يحمونهم. فندب إليه طائفة من العسكر، فرجعوا ولم يبلغوا غرضا. ثم [سيّر] «1» طائفة ثانية، فرجعوا كذلك «2» . فرحل الأمراء بجملتهم فى نفر من أعيان الجيش وأقويائه، وقاتلوا أهل نجيمة، حتى ردوهم إلى القلعة. ثم تقدم الجيش إلى الوادى، وقتلوا من به من الأرمن، وأسروا ونهبوا، ونازلوا قلعة نجيمة، ليلة واحدة. ثم خرج العسكر إلى الوطاة «3» ، وبقى صاحب حماه وأمير سلاح، فى مقابلة من بالقلعة، حتى خرج العسكر، خشية أن يخرج أهل نجيمة، فينالوا من أطراف العسكر. ثم خرجوا بجملتهم واجتمعوا بالوطاة. فوصل البريد بكتب السلطان، يتضمن أنه بلغه أن تل حمدون أخليت، وأنها أخذت بغير قتال ولا حصار، وانتقل من بها إلى قلعة نجيمة. وأمر بمنازلة قلعة نجيمة وحصارها، إلى أن تفتح، فعادت العساكر إليها وحاصروها. واختلف أمير سلاح والدوادارى أيضا، فقال الدوادارى: إن هذا الجيش بجملته إذا نازل هذه القلعة، لا يظهر من اجتهد وقاتل، ممن تخاذل وعجز. والقتال عليها إنما هو من وجه واحد. والرأى أن يتقدم فى كل يوم مقدم ألف، ويزحف بجماعته ليظهر فعله، واستقل القلعة واستصغرها وحقّر أمرها. وكان فى جملة كلامه أن قال: أنا آخذ هذه القلعة فى حجرى. فاتفق الأمر على أن يتقدم الدوادارى بألفه، للزحف فى أول يوم. فزحف بمن معه حتى لا حف «4» السور. فأصابه حجر منجنيق فى مشط رجله، فقطعه وسقط إلى الأرض. فتبادر الأرمن بالنزول إليه،

وكادوا يأسرونه. فحمل أمير سلاح بجماعته، حتى حجزهم عنه. وأخرج الدوادارى على جنوية «1» ، وحمل إلى وطاقه «2» . وعادوا إلى حلب، ثم توجه منها إلى الديار المصرية. وقد سكنت نفسه، ونقصت حرمته عما كانت عليه، وكان قبل ذلك له حرمة وافرة وقتل الأمير علم الدين سنجر طقصبا الناصرى، على هذه القلعة. وزحف الأمير شمس الدين آقسنقر كرتاى «3» فى اليوم الثانى، وانتهى إلى سور القلعة ونقيه، وخلّص منه ثلاثة أحجار. واستشهد من مماليكه وأجناده أحد عشر رجلا، ونفران من الحجارين. ثم زحف أمير سلاح، وصاحب حماه، وبقية الجيش. ورتّبهم أمير سلاح طوائف، طائفة تتلو أخرى. وقرر معهم، أن يردف بعضهم بعضا. وتقدموا بالجنويات، حتى وصلوا إلى السور، وأخذوا مواضع النقوب «4» ، وأقاموا الستائر «5» . ولازموا الحصار عليها واحدا وأربعين يوما. وقد اجتمع بها جمع كثير من الفلاحين والنساء والصبيان من أهل القرى المجاورة لها، فقلّت المياه بالقلعة. فاضطر الأرمن إلى إخراجهم منها، فأخرجوهم فى ثلاث دفعات. فأخرجوا فى المرة الأولى مائتى رجل، وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبيا. فقتل العسكر الرجال، وتفرّقوا النساء والصبيان. ثم أخرجوا فى المرة الثانية مائة وخمسين

رجلا، ومائتى امرأة، وخمسة وسبعين صبيا، ففعلوا بهم كذلك. ثم أخرجوا جماعة أحرى فى المرة الثالثة. ولم يتأخر بالقلعة الا المقاتلة، وقلّت عندهم المياه، حتى اقتتلوا بالسيف على الماء، فسألوا الأمان فأعطوه، وسلموا القلعة فى ذى القعدة من السنة. وخرجوا منها، وتوجهوا إلى مأمنهم «1» . وفى أثناء هذا الحصار، وصلت إلى العسكر مفاتيح النقير «2» وحجر شغلان وسرقند كار وزنجفره وحموّص «3» ، وتتمة أحد عشر حصنا من حصون الأرمن. وسلم الأمير بدر الدين أمير سلاح هذه «4» الفتوح إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «5» أحد الأمراء بدمشق، وجعله نائبا بها. فلم يزل [استدمر «6» ] بهذه الحصون، إلى أن بلغه حركة التتار وقربهم، فأباع ما بها من الحواصل وتركها خالية، فاستولى الأرمن عليها. ولما تكامل هذا الفتح، عادت العساكر إلى حلب، ونزلوا بها، ليريحوا خيولهم. وترادف عليهم الأمطار وتزايدت، حتى سكنوا الخانات والدور. ثم أردفهم السلطان بتجريدة أخرى، من الديار المصرية، صحبة الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير سيف الدين طقطاى، والأمير مبارز الدين أوليا

ذكر حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل

ابن قرمان، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير الحسامى. فوصلوا إلى دمشق، فى ذى القعدة، وتوجهوا إلى حلب، وأقاموا بها مع العسكر. وجهز صاحب سيس رسلا إلى الأبواب السلطانية يسأل عواطف السلطان ومراحمه «1» . واستمر العسكر بحلب ينتظرون ما يرد عليهم، من أبواب السلطان. فأقاموا عليها شهورا، إلا الأمير حسام الدين أستاذ الدار، فإنه توجه إلى الأبواب السلطانية، على خيل البريد. وكان عود هذا العسكر إلى الديار المصرية، ووصوله إلى القاهرة، فى منتصف شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة، بعد مقتل السلطان بثلاثة أيام على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل وفى سنة سبع وتسعين وستمائة، فى العشر الأول، من جمادى الأولى «2» ، ورد على السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، مطالعة مضمونها: أن شخصا بقرية جينين «3» ، من الساحل الشامى، كانت له زوجة، فتوفيت إلى رحمة الله تعالى. فحملت بعد تغسيلها وتكفينها ودفنت. فلما عاد زوجها من المقبرة، تذكر أن منديله وقع فى القبر، وفيه جملة من الدراهم. فأتى إلى فقيه فى القرية، فاستفناء ف نبش القبر. فقال له فى ذلك يجوز نبشه وأخذ المال منه. ثم تداخل الفقيه المفتى فى ذلك شىء فى نفسه. فقام وحضر معه إلى القبر، فنبش الزوج القبر ليأخذ المال، والفقيه على جانب القبر. فوجد الزوج زوجته مقعدة «4»

ذكر روك الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة

مكتوفة بشعرها، ورجليها مكتوفتين بشعرها، [فحاول حل كتافها «1» ] ، فلم ينحل له ذلك، فأمعن فى ذلك، فخف به وبزوجته. ولم يوجد أو لم يعلم للخسف منتهى. وأما الفقيه فإنه أقام مغشيا عليه يوما وليلة أو ليلتين.- نسأل الله أن يسترنا ولا يفضحنا، وأن لا يؤاخذنا بسوء أفعالنا-. ولما وردت المطالعة على السلطان بهذه الحادثة، عرضها على شيخنا قاضى القضاة تقى الدين ابن دقيق العبد وغيره. وكتب يستعلم عن سيرة هذه المرأة والزوج المخسوف بهما، فما علمت ما ورد عليه من الجواب فى ذلك «2» . ذكر روك «3» الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة وفى سنة سبع وتسعين وستمائة أيضا، رسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، بروك الإقطاعات والمعاملات والنواحى والجهات بالديار

المصرية. وندب لذلك من الأمراء، الأمير بدر الدين بيليك «1» الفارسى الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، المعروف بالبريدى. وتوجه الكشاف إلى الأقاليم البرانية، بالوجهين القبلى والبحرى، ومسحوا البلاد مساحة روك، وحرروا الجهات وعادوا. وانتصب لهذا جماعة من الكتاب، كان المشار إليه فيهم، تاج الدين عبد الرحمن المعروف بالطويل، وهو أحد مستوفيى «2» الدولة، من مسالمة «3» القبط، وممن يشار إليه فى معرفة صناعة الكتابة، ويعتمد على قوله، ويرجع إليه فيها، فرتب ذلك على حسب ما اقتضاه رأى السلطان فى تقريره. واستقرّ فى الخاص السلطانى الأعمال الجيزية والأطفيحية وثغر الإسكندرية وثغر دمياط ومنفلوط وكفورها، وهو، والكوم الأحمر من الأعمال القوصية، وفى كل إقليم بلاد. وتقرر إقطاع نيابة السلطنة من أعظم الإقطاعات وأكثرها متحصلا. فكان من جملته بالأعمال القوصية، مرج بنى هميم وكفورها، وسمهود وكفورها، ودواليبها ومعاصرها، وحرجة «4» مدينة قوص وأدفو. وهذه النواحى يزيد متحصلها

من الغلال خاصة، على مائة ألف وعشرة آلاف أردب، خارجا عن الأموال والقنود «1» والأعسال والتمر والأحطاب وغير ذلك. وفى كل إقليم من الديار المصرية نواحى ومعاصر، فكان فى خاصه سبع «2» وعشرون «3» معصرة، لاعتصار قصب السكر. وكان نجاز الروك فى ذى الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة. واستقبل به سنة ثمان وتسعين الهلالية «4» . وحوّلت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين إلى سنة سبع وتسعين. وهذا التحويل جرت به العادة، بعد انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، تحوّل سنة، وهو التفاوت فيما بين السنة الشمسية والقمرية. فيجمع من ذلك فى طول السنة، ما ينغمس به سنة. وهو حجة ديوان الجيش فى اقتطاع التفاوت الجيشى. وقيل إن قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) «5» ، إن التسعة هى هذا التفاوت «6» ، ما بين السنتين، والله تعالى أعلم. وهذا التحويل لا ينقص بسببه شىء من الأموال البتة، وإنما هو تحويل بالأقلام خاصة «7» .

ولما نجز هذا الروك، أقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربسته «1» ، لم يستثن منها غير الجوالى «2» والمواريت الحشرية «3» ، فإن ذلك جعل فى جملة الخاص السلطانى. واستثنيت الرزق الأحباسية «4» المرصدة لمصالح الجوامع والمساجد، والربط والزوايا، والخطباء والفقراء. واستقرت فى سائر البلاد على ما يشهد به ديوان الأحباس. وما عدا ذلك من سائر الأموال وغيرها، دخل فى الإقطاع. وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير عز الدين الجناجى، نائب السلطنة ومقدم العسكر بغزة. وكان قبل وفاته قد أودع عند فخر الدين الاعزازى التاجر بقيسارية الشرب بدمشق صندوقا، ولم يطلع على ذلك إلا خزنداره. وكان الصندوق المودع عنده قبل ذلك وديعه، عند بعض أصحاب الأمير المذكور، فأخذ منه، ثم أودعه عند فخر الدين. واتفقت وفاة خزندار الأمير، وهو الذى اطلع على الوديعة قبل وفاة مخدومه بأيام. ثم مات الأمير، فلما اتصلت وفاته بفخر الدين الاعزازى، اجتمع بقاضى القضاة إمام الدين الشافعى بدمشق، وعرفه خبر الوديعة. فأمره بالتأنى فى أمرها؛ حتى تثبت وفاة المذكور، ويتحقق أمر ورثته، ففعل ذلك. وفى أثناء ذلك، طلب الأمير سيف الدين جاغان؛

شاد الدواوين بالشام، الوديع الأول وطالبه بما عنده من الوديعة. فادعى أن الجناجى استعاد ذلك منه، فلم يصدقه، وقصد ضربه وعقوبته، بسبب ذلك. فأتاه فخر الدين المذكور واعترف أن الوديعة عنده، وأحضر الصندوق إلى الديوان السلطانى. وفتح واعتبر ما فيه، فكان فيه من الذهب اثنان وثلاثون «1» ألف دينار، ومائتا «2» دينار، وأربعة «3» وثلاثون دينارا، وحوائص ذهب، وطرز زركش بتتمة خمسين ألف دينار، هكذا نقل إلىّ ثقة. وفيها، توفى الأمير سيف الدين بلبان الفاخرى، أمير نقباء العساكر المنصورة بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته فى رابع عشر ربيع الآخر. وأعطى إقطاعه سيف الدين بكتمر الحسامى الطرنطاى أمير آخور. وكان السلطان، قبل ذلك أمرّه بعشرة طواشية، فنقله الآن إلى إمرة الطبلخاناة. ثم تنقّل بعد ذلك فى المناصب والنيابات عن السلطنة والوزارة وغير ذلك، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه. وفيها، فى يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، كانت وفاة الأمير سعد الدين كوجا الناصرى. وكان يتولى نيابة دار العدل، وتولى تغر الإسكندرية وكان بيده إمرة عشرة طواشية.

وفيها، توفيت الخاتون الجليلة الكبرى، نسب خاتون، ابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر أيوب، فى العشر الأوسط فى، شهر ربيع الأول. ودفنت عند والدها بقاسيون، رحمهما الله تعالى.

واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698 - 1298/ 1299]

واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698- 1298/1299] فى هذه السنة، فى أولها جهز السلطان الأمير جمال الدين أقش الأفرم، والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى «1» إلى الشام، وأمرهما أن يتوجها إلى دمشق، ويخرجا نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجاق «2» وبقية العسكر إلى البلاد الحلبية. فوصلا إلى دمشق على خيل البريد، فى يوم الأربعاء سابع المحرم. فتجهز الأمير سيف الدين قبجاق نائب السلطنة، وخرج بسائر عساكر دمشق حتى بحرية القلعة، وجماعة الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب القلعة، وتأخر بدمشق الأمير سيف الدين جاغان. وكان خروج نائب السلطنة من دمشق، فى عشية الأربعاء، رابع عشر المحرم، وبات بالميدان الأخضر. وركب فى بكرة النهار؛ وتوجه بالعساكر إلى جهة حمص. وكان سبب هذه الحركة ظاهرا، أن السلطان بلغه أن التتار قد عزموا على الدخول إلى البلاد الإسلامية بالشام. وعلم الأمير سيف الدين قبجاق، أن الأمر ليس كذلك. فإن القصاد قبل ذلك بيسير، حضروا إليه من بلاد الشرق، وأعلموه أن التتار كانوا قد تجهزوا وعزموا على الحضور إلى الشام. فلما كانوا باثناء الطريق، وقعت عليهم صواعق كثيرة، وأهلكت منهم خلقا كثيرا، فتفرقوا فى مشاتيهم، ولم يرد خلاف ذلك.

ذكر مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء الخدمة السلطانية، ولحاقهم بقازان ملك التتار

والقصاد لاتصل إلى الباب السلطانى بالديار المصرية، إلا بعد الإجتماع بنائب السلطنة بدمشق، فاستشعر الأمير سيف الدين قبجاق السوء، وعلم أن هذه الحركة إنما هى تدبير «1» عليه، وعلى غيره من الأمراء. فأوجب ذلك توجههم إلى التتار. ذكر مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء الخدمة السلطانية، ولحاقهم بقازان ملك التتار وفى هذه السنة، فى شهر ربيع الآخر، توجه الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أحد مقدمى الجيوش المنصورة المصرية، والأمير فارس البكى الساقى، نائب السلطنة بالمملكه الصفدية، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار [الصالحى «2» ] ، إلى بلاد التتار، والتحقوا بملكها قازان محمود. وسبب ذلك أن الأمير سيف الدين منكوتمر، نائب السلطنة، ثقلت عليه وطأة الأمراء الأكابر. وقصد القبض عليهم أولا، وإقامة خوشداشيته ليصفو له الوقت، ويخلص له الأمر، ويتمكن السلطان بما قصده من تفويض ولاية العهد بعده له. فحسّن للسلطان القبض على من تقدم ذكرهم، فقبض عليهم. ثم شرع فى التدبير على من بالشام من الأمراء والنواب، الذين يعلم منهم الممالاة «3» والمناوأة. فجهز الأمير علاء الدين ايدغدى «4» شقير إلى حلب، كما تقدم، وأردفه بالأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى، وعلى يده كتاب إلى نائب السلطنة

بالمملكة الحلبية، بالقبض على الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، [وعلى «1» ] الأمير فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين طقطاى، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار. ومن يعذر عليه القبض عليه، يتحيّل فى سقيه. فسقى الأمير سيف الدين طقطاى فمات بحلب، فى أول شهر ربيع الأول. واتصل الخبر ببقية الأمراء، فاحتاطوا لأنفسهم، واحترزوا فى مأكلهم ومشربهم وملبسهم. وأعمل الأمير سيف الدين الطباخى الحيلة فى القبض عليهم، وذلك بعد خروجهم من سيس. فجهز سماطا، واحتفل به، وتحدث مع الأمراء أن يتوجهوا معه، ويحضروا السماط، فامتنعوا من ذلك، واعتذروا له، وتوجهوا إلى خيامهم. فلم تجمع «2» هذه المكيدة. وكان السلطان قد كتب إلى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أن يجهز طلبه وأثقاله إلى المملكة الطرابلسية، ويكون نائبا عن السلطنة بها، وذلك بعد وفاة الأمير عز الدين أيبك الموصلى. وأن يحضر هو بنفسه إلى الأبواب السلطانية، على خيل البريد، ليوصيه السلطان مشافهة. فأظهر البشر لذلك، وعلم أنه خديعة. ولما كان فى مساء النهار، الذى عمل الطباخى فيه السماط، اجتمع الأمير سيف الدين الطباخى النائب بحلب، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، وأرسلوا إلى الأمير بكتمر السلاح دار والبكى ومن معهما، يطلبونهم للحضور لمشورة. وأن سبب هذا الاجتماع، أن بطاقة وردت فى البيرة فى أواخر النهار، تتضمن أن التتار أغاروا على ما حول البيرة، فأجابوا بالأمتثال، وأنهم يحضرون إلى الخدمة فى إثره. فعاد، وركبوا فى الوقت على حميّة.

فأما بزلار فإنه ساق هو وخمسة نفر، وعبر الفرات إلى رأس العين وانتهى إلى سنجار فتوفى بها. وأما الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الذين البكى، والأمير سيف الدين عزار، فإنهم توجهوا إلى حمص، واجتمعوا بالأمير سيف الدين قبجاق، وأطلعوه على جلية الحال، وحلفوه لأنفسهم، وحلفوا له. وكتب إلى السلطان يعلمه بما وقع من الاختلاف، وبوصول الأمراء إليه، ويسأل لهم الأمان» وأن يطيب السلطان خواطرهم. وسيّر بذلك الأمير سيف الدين بلغاق «1» ابن الأمير سيف الدين كونجك الخوارزمى على خيل البريد. فوصل إلى دمشق، فى يوم السبت خامس شهر ربيع الآخر، وتوجه منها إلى باب السلطان. وكتب الأمير سيف الدين قبجاق إلى الأمير سيف الدين جاغان، وهو بدمشق، يطلب منه أن يرسل إليه مالا وخلعا من الخزانة، لينفق المال على الأمراء، ويخلع عليهم، ويطيب خواطرهم. فلم يجب إلى ذلك. وكتب إليه يلومه على إغفاله أمر الأمراء، الذين وصلوا إليه، وهم طلبة السلطان، وكونه تمكن من القبض عليهم، ولم يفعل. وكتب إليه الأميران سيف الدين كجكن، وعلاء الدين ايدغدى شقير، وهما يلومانه وينكران عليه كونه أقر هؤلاء الأمراء عنده، مع تمكنه من القبض عليهم، وقد علم خروجهم على الطاعة وأغلظا له فى القول، وتواعداه، أنه متى لم يقبض عليهم، حضروا إليه، وقبضوا عليه وعليهم، وكاشفاه فى القول مكشفة ظاهرة. فتسلّل «2» عن الأمير

سيف الدين قبجاق من معه من العسكر الشامى: وعادوا إلى دمشق، أولا فأولا. فكتب إلى جاغان فى ذلك، وأن يردّهم إليه، فلم يفعل. وشكر [جاغان «1» ] من حضر. فرأى الأمير سيف الدين قبجاق أن أمره قد انتقص، وبلغه أن العسكر المجرد بحلب قد توجه نحوه. فركب فى ليلة الثلاثاء، ثامن شهر ربيع الآخر من حمص، هو والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين عزار، وقبضوا على الأمير علاء الدين أقطوان النائب بحمص، واستصحبوه معهم إلى القريتين، ثم أخذوا فرسه وأطلقوه. وتوجهوا فى جماعة، يقال إن عدة من صحبهم من ألزامهم ومماليكهم خمسمائة فارس. وتوجهوا لا يلوون على شىء، وتعقبهم الأمير سيف الدين كجكن والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، فى طائفة من العسكر إلى الفرات، فما أدركوهم، ووجدوا بعض أثقالهم فأخذوها «2» . ثم ورد عليهم الخبر بقتل السلطان، فانحلت عزائمهم، وتفلّلت أراؤهم. وساق سيف الدين بلبان القصاص البريدى إلى رأس عين، ولحق الأمير سيف الدين قبجاق بها. وأعلمه بمقتل السلطان، وسأله الرجوع بمن معه. وحلف له على صحة ما أخبره به، فظن أن ذلك مكيدة. ثم تحقق الحال بعد ذلك وقد تورط، وصار فى بلاد العدو، فلم يمكنه الرجوع. ولما وصل الأمراء إلى رأس عين، بلغ مقدم التتار بتلك الجهة خبر وصولهم، فخافهم. ثم تحقق أنهم حضروا إلى خدمة الملك قازان، فحضر إليهم وأكرمهم،

وخدمهم صاحب ماردين، وقدّم لهم أشياء كثيرة. وقصد بولاى مقدم التتار، بتلك الناحية، أن الأمراء يتوجهون «1» إلى جهة فازان على خيل البريد. ويتأخر من معهم من أتباعهم وألزامهم عن الوصول إلى البلاد، حتى يرد المرسوم. فامتنع قبجاق من ذلك، وأبى إلا الدخول بالطّلب «2» والجماعة الذين معه، فامتنع التتار عليه. فيقال إنه أخرج إليهم كتاب الملك قازان إليه، وهو فى بالشت «3» ذهب. فعند ذلك خضعوا له، ومكّنوه مما أراد، من الدخول بالطّلب. وتوجهوا كذلك، ودخلوا إلى الموصل بطلبين «4» ، والتقاهم أهل البلد. وتوجهوا من الموصل، وانتهوا إلى بغداد. فخرج إليهم عسكر المغل والخواتين والتقوهم. ثم توجهوا إلى قازان، وهو يومئذ بأرض السيب «5» من أعمال واسط. فأكرمهم وأحسن إليهم، وأوجب ذلك وصول قازان بجيوشه إلى الشام على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر

ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر كان مقتلهما فى ليلة يسفر «1» صباحها عن يوم الجمعة، الحادى عشر من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة. وسبب ذلك، أن السلطان كان قد فوض الأمور إلى مملوكه نائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، وقصد التخلى والراحة والدعة، وعزم على أنه إذا خلى وجهه من الأمراء، وقبض على من يخشى غائلته منهم، فوّض إليه أمر السلطنة، واحتجب هو، على قاعدة الخلفاء. وإنما كان يمنعه من ذلك، وجود أكابر الأمراء، الذين لا يوافقونه «2» على الرأى هذا. فلما قبض على من ذكرنا من أكابر الأمراء، وأبعد من بقى منهم بالتجريد إلى جهة الشام، استخف حينئذ منكوتمر، بمن بقى منهم، واستبد بالأمر. وآخر ذلك، أن السلطان رسم له أنه إذا كتب مرسوم سلطانى بإنعام أو غيره، بغير إشارته، يقطعه بعد العلامة السلطانية. فثقلت وطأته على الناس، وأنفت نفوس الأمراء من ذلك، وكرهوا بقاء الدولة، وأحبوا زوالها بسببه، مع إحسان السلطان إلى كثير منهم «3» . وكان الأمير سيف الدين كرجى، أحد الأمراء المماليك السلطانية، قد اختص بخدمة السلطان، وتقدم عنده، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، على ما كان عليه الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، فى الدولة الأشرفية. فبقى كرجى هو الساعى فى مصالح المماليك

السلطانية والمتلقى لمصالحهم، فانضموا إليه ودخلوا تحت طاعته، وقويت شوكته بهم، وشوكتهم به. فثقل ذلك على منكوتمر، وعمل على إبعاده. وحسّن إلى السلطان أن يبعثه إلى نيابة السلطنة بالفتوحات ببلاد سيس «1» . وكان قد تقدم من الأمراء، قبل كرجى، الأمير سيف الدين تمربغا، فعمل عليه منكوتمر وأبعده وأخرجه إلى الكرك. ثم نقله من الكرك إلى طرابلس، فى جملة الأمراء، فمات بها. فلما اتصل الخبر بكرجى، حضر إلى بين يدى السلطان، وتضرر واستعفى من هذه الولاية فأعفاه السلطان، وشرع فى العمل على منكوتمر. وأتفق أن الأمير سيف الدين طقطاى، أحد الأمراء الخاصكية، وهو نسيب الأمير سيف الدين طقجى، خاطب منكوتمر فى أمر فأغلظه فى القول، وسبّه، فشكا ذلك إلى الأمير سيف الدين طقجى «2» ، فأسّرها فى نفسه. واجتمع هؤلاء الأمراء، وتشاكوا فيما بينهم، وذكروا سوء سيرة منكوتمر فيهم، وقبح فعله واستخفافه بهم، وعلموا أنهم لا يتمكنون «3» منه، مع بقاء السلطان مخدومه، فاجتمع رأيهم على اغتيال السلطان. فلما كان فى هذه الليلة المذكورة، جلس السلطان يلعب الشطرنج مع إمامه [نجم الدين] بن «4» بن العسال، وكان قد تقدم عنده، وعنده قاضى القضاة

حسام الدين الحنفى «1» ، وكانت له عادة بالمبيت عند السلطان فى بعض الليالى. فدخل عليه كرجى على عادته، فسأله السلطان عما فعل. فقال: قد أغلقت على الصبيان فى أماكن مبيتهم، وكان قد رتب بعضهم فى أماكن من الدهاليز. فشكره السلطان، وأثنى عليه. وذكر للقاضى حسام الدين خدمته للسلطان، وملازمته الخدمة. فقبّل كرجى الأرض، ثم تقدم لإصلاح الشمعة التى بين يدى السلطان، فأصلحها وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاة «2» السلطان. وكان سلاح دار النوبة قد وافقه وباطنه على قتل السلطان. ثم قال كرجى للسلطان: ما يصلى مولانا السلطان العشاء، فقال نعم، وقام للصلاة. فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة. فعند ذلك، جرد كرجى سيفه، وضرب السلطان به على كتفه، فأراد السلطان أخذ النمجاه فلم يجدها. فقبض على كرجى، ورماه تحته، فضربه السلاح دار بالنمجاه على رجله، فقطعها. فانقلب [السلطان] «3» على ظهره، وأخذته السيوف، حتى قتل. وهرب ابن العسال الإمام إلى خزانة، وصرخ قاضى القضاة حسام الدين عند ضرب السلطان، لا يحل [هذا لكم «4» ] ، فهم كرجى بقتله. ثم تركه، وأغلق كرجى الباب عليه، وعلى السلطان.

ثم خرج [كرجى] «1» . إلى الأمير سيف الدين طقجى، وقد استعد هو أيضا، وهو ينتظر ما يفعله كرجى، فأعلمه بقتل السلطان. ثم توجهوا إلى دار النيابة، وقد أغلقت. فطرق كرجى الباب، واستدعى الأمير سيف الدين منكوتمر برسالة السلطان، فأنكر حاله، واستشعر السوء، وامتنع من الإجابة. ثم قال له: كأنكم فتلتم السلطان، فقال: نعم قتلناه، وسبّه. فعند ذلك ذلّ منكوتمر، وضعفت نفسه، واستجار بالأمير سيف الدين طقجى، فأجاره وحلف له أنه لا يؤذيه، ولا يمكن من أذاه، فاطمأن ليمينه وخرج إليهم. فأرسلوه إلى الجب، وأنزلوه إليه، فلما رآه الأمراء، قاموا إليه، وظنوا أن السلطان نقم عليه، وسألوه عن الخبر. فأخبرهم بقتل السلطان، فسبوه، وذكّروه بسوء فعله، وقصدوا قتله، ثم تركوه. ثم رجع كرجى بعد اعتقال منكوتمر إلى مجلسه. وقال لطقجى: نحن ما قتلنا السلطان لإساءة صدرت منه إلينا، وإنما قتلناه بسبب منكوتمر، ولا يمكن ابقاءه. ثم قام، وتوجه إلى الجب، وأخرجه وذبحه من قفاه على باب الجب «2» . فكانت مدة سلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين، منذ فارق الملك العادل الدهليز، وحلف الأمراء له بمنزلة العوجا، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، وإلى أن قتل فى هذه الليلة، سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ومنذ خلع الملك العادل نفسه بدمشق، وحلف له، واجتمعت الكلمة عليه بمصر والشام، فى يوم السبت رابع عشرين صفر من السنة

المذكورة إلى هذا التاريخ الذى قتل فيه، سنتين وشهرين إلا ثلاثة عشر يوما. ودفن بتربته بالقرافة، ودفن نائبه منكوتمر بالتربة أيضا. وكان رحمه الله تعالى ملكا عادلا، يحب العدل ويعتمده، ويرجع إلى الخير ويميل إليه، ويقرب أهله. وكان حسن العشرة، يجتمع بجماعة من المتعممين والعوام، ويأكل طعامهم. وكان أكولا، ولم يكن فى دولته وأيامه ما يعاب وينكر، إلا انقياده إلى مملوكه نائبه منكوتمر، والرجوع إلى رأيه، وموافقته على مقاصده حتى كان عاقبة ذلك قتلهما. واثرت موافقته له، من الفساد على العباد والبلاد وسفك دماء المسلمين، ما لم يستدرك. وذلك أن الأمراء الذين فارقوا الشام، وتوجهوا إلى التتار خوفا منه، أوجب توجههم إلى قازان، وصوله إلى الشام وخراب البلاد، وسفك الدماء، على ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله تعالى. وبلغنى أن الملك المنصور هذا مازال يستشعر القتل، منذ قتل السلطان الملك الأشرف، وأنه فى يوم الخميس بعد العصر، العاشر من شهر ربيع الآخر، وهو اليوم الذى قتل فيه عشيته، أحضر إليه ندب نشاب «1» ميدانى، من السلاح خاناة السلطانية. فجعل يقلبه فردة فردة، ويقتل كل فردة منها، ويقول عند قتلها، من قتل قتل، وكرر هذا القول مرارا. فقتل بعد أربع ساعات من كلامه أو نحوها. وأجرى الله هذا الكلام على لسانه، والنفوس حساسة فى بعض الأحيان.

وحكى لى بعض من أثق به، عن الأمير بدر الدين بكتوت العلائى حكاية عجيبة تتعلق به، وبالسلطان الملك الأشرف، أحبيت ذكرها فى هذا الموضع، فالشىء بالشىء يذكر. قال بكتوت العلائى: كنت فى خدمة السلطان الملك الأشرف فى الصيد، وأنا يومئذ والأمير حسام الدين لاجين سلاح دارية، نحمل السلاح خلف السلطان. فاجتمعنا بحلقة صيد، وكانت النوبة فى حمل السلاح «1» خلف السلطان للأمير حسام الدين. وقد تقدمت إليه أنا، فى مكان من الحلقة، وإذ أنا بلاجين قد أدركنى، وأعطانى سلاح السلطان. وقال: خذ السلاح، وتوجه إلى السلطان، فإنه قد رسم بذلك. فأخذت السلاح، وتوجهت إلى خدمة السلطان. وساق لاجين فى مكانى الذى كنت به من الحلقة. فلما انتهيت إلى السلطان، وجدته وهو على فرسه، وقد جعل طرف عصا المقرعة على رأس النمازين «2» ، والطرف بجهته، وكأنه فى «3» غيبة من حسه. فلما جئت قال لى: يا بكتوت والله، التفت إلى ورائى، فرأيت لاجين خلفى، وهو حامل سلاحى، والسيف فى يدّه. فخّيل إلىّ أنه يريد أن يضر بنى به، فنظرت إليه، وقلت له يا أشقر «4» ، أعط السلاح لبكتوت يحمله، وتوجه أنت مكانه. قال بكتوت العلائى: فقلت للسلطان، أعيذ مولانا السلطان بالله، أن يخطر هذا بباله، ولاجين أقل من هذا، وأضعف نفسا أن يخطر هذا بباله، فضلا [عن] «5» أن يقدم عليه، وهو

ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر

مملوك السلطان، ومملوك السلطان الشهيد، وتربية بيته الشريف. هذا معنى كلامه. قال: وشرعت أصرفه عن هذا. فقال لى: والله ما عرفتك إلا ما خطر لى وتصورته. قال بكتوت العلائى: فخشيت على لاجين، كون هذا السلطان يتخيل هذا الأمر فيه، وينكفه عنه. وأردت أن أنصحه، فاجتمعت به فى تلك الليلة فى خلوة. وقلت له: بالله عليك، تجنب هذا السلطان، ولا تكثر من حمل السلاح، ولا تنفرد معه. فسألنى عن موجب هذا الكلام. فأخبرته بما ذكره السلطان لى، وبما أجبته. فشرع يضحك ضحكا كثيرا ويتعجب. فقال، ما ضحكى إلا من إحساسه، والله لما نظر إلىّ، وقال لى يا اشقر «1» كنت قد عزمت على تجريد سيفه وقتله به. قال بكتوت العلائى: فعجبت من ذلك غاية العجب. ولنرجع إلى سياقة الأخبار بعد مقتلهما، إن شاء الله تعالى. ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر لما قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين، ونائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، كان بالقلعة من الأمراء، غير طقجى وكرجى، الأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير [وسيف الدين سلار الأستادار «2» ] ، والأمير حسام الدين لاجين الرومى أستاذ الدار، وكان قد وصل

على خيل البريد من حلب، بعد خروجه من بلاد سيس، والأمير جمال الدين آقش الأفرم، وكان قد عاد من دمشق، بعد إخراج نائبها والعسكر منها إلى حمص، كما تقدم، والأمير بدر الدين عبد الله السلاح دار، والأمير سيف الدين كرد «1» الحاجب، هؤلاء الأمراء المشار إليهم. فاجتمعوا، واتفقت آراؤهم على مكاتبة السلطان الملك الناصر وإحضاره من الكرك، وإعادة السلطنة إليه، وأن يكون الأمير سيف الدين طقجى الأشرفى نائب السلطنة، وانفصل الحال على ذلك. ثم سمت بالأمير سيف الدين طقجى نفسه، إلى طلب السلطنة لنفسه، وتقرير النيابة لكرجى. وتأخر الإرسال إلى السلطان الملك الناصر. وركب الأمير سيف الدين طقجى فى يوم السبت حادى عشر «2» ، شهر ربيع الآخر، فى موكب النيابة، والأمراء فى خدمته. وعاد إلى القلاعة، وجلس. ومدّ السلطان السماط، وقد تفوه الناس له بالسلطنة، ولكرجى بالنيابة «3» . حكى تاج الدين عبد الرحمن الطويل، مستوفى الدّولة، قال: طلبنى الأمير سيف الدين طقجى، وسألنى عن إقطاع نيابة السلطنة، فذكرت له بلاده

ذكر مقتل سيف الدين طقجى وسيف الدين كرجى

وعبرها «1» ومتحصلاتها، وما انعقدت عليه جملة ذلك، فاستكثره، وقال هذا كثير، وأنا لا أعطيه لنائب. ورسم أن يوفّر منه جملة، تستقر فى الخاص. ولم يبرز المرسوم بذلك. ثم خرجت من عنده، فطلبنى كرجى، وسألنى عن إقطاع النيابة، كما سألنى طقجى، فأخبرته بذلك. فاستقلّه، وقال أنا ما يكفينى هذا، ولا أرضى به. وشرع يسأل عن بلاد يطلبها زيادة على إقطاع منكوتمر. قال: فعجبت من ذلك، كونهما جعلا فكرتهما وحديثهما فى هذا الأمر، قبل وقوع سلطنة هذا، ونيابة هذا «2» . ذكر مقتل سيف الدين طقجى «3» وسيف الدين كرجى كان مقتلهما فى يوم الإثنين، رابع عشر شهر ربيع الآخر، من السنة المذكورة. وذلك أن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، وصل من غزاة سيس، فى هذا اليوم، هو ومعه. وقد اتصل به خبر مقتل السلطان فاتفق الأمراء الأكابر على الخروج لتلقيه. وعرضوا ذلك على الأمير سيف الدين طقجى، وأشاروا أن يركب معهم. فامتنع من ذلك، وأظهر عظمة وكبرا. فقالوا له إن عادة الملوك تتلّقى أكابر الأمراء، إذا قدموا من الغزاة، سيّما مثل هذا الأمير الكبير، الذى هو بقية الأمراء الصالحية. وقد طالت غيبته، وفتح هذه الفتوح. ولا طفوه، إلى أن ركب معهم، وخرج للقائه. فلما التقوا،

سلّموا عليه، وسلّم عليهم. ثم قال الأمير بدر الدين [بكتاش] «1» ، أمير سلاح، للأمراء: «أنا عادتى إذا قدمت من الغزاة، يتلقانى السلطان. وكيف ما أجرانى على عادتى» . وكان قد علم بمقتل السلطان. وإنما أراد بذلك فتح باب للحديث. فقال له طقجى:- وهو إلى جانبه- «السلطان قتل» . فقال: «ومن قتله» . قال بعض الأمراء: «قتله كرجى، وهذا» . - وأشار إلى طقجى- فقال: «لا بد من قتل قاتله» . ونفر فى طقجى، وقال له: «لا تسوق إلى جانبى» . فرفس طقجى فرسه، وبرز عنه. فحمل عليه أحد المماليك السلطانية، فضربه بسيفه، فقتل. واتصل خبر مقتله بكرجى، وكان قد تأخر فى طائفة من المماليك السلطانية، تحت القلعة. فهرب وقصد جهة القرافة فأدركوه عند قبور أهل الذمة، ببساتين الوزير، فقتل هناك، ولقى عاقبة بغيه «2» . قضى الله أن البغى يصرع أهله ... وأن على الباغى تدور الدوائر ولما قتل الأمير سيف الدين طقجى، توجه الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح إلى «3» داره بالقاهرة «4» ، واستقر بها. وكانت غيبته فى غزوة سيس هذه، أحد عشر شهرا وأياما. وحضر إليه بعض الأمراء الأكابر، واستشاره فى أمر السلطنة. فأشار بإعادة السلطان الناصر، ووافق رأيه رأيهم واتفقت الأراء على أن ترجع الحقوق إلى نصلبها، وتقرّ السلطنة الشريفة بيد

من هو أحق وأولى بها، وتعود السلطنة إلى من نشأ فى حجرها وليدا، وتخول من منصبها الشريف طارفا وتليدا. وندبوا الأمير سيف الدين آل «1» ملك الجوكندار «2» ، والأمير علم الدين سنجر الجاولى، فتوجها إلى خدمة السلطان الملك الناصر بالكرك، على خيل البريد، لإحضاره. وطالعه الأمراء بما وقع، وما اجتمعت الأراء عليه. وبقى الأمر بالديار المصرية مشتركا، يعد مقتل طقجى، بين الأمراء، إلى أن وصل السلطان الملك الناصر من الكرك. وكانت الكتب تصدر، وعليها خط ستة من الأمراء وهم: الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير جمال الدين آقش الأفرم، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير سيف الدين كرد «3» الحاجب. وصدرت الكتب فى بعض الأوفات، وعليها خط ثمانية، خط هؤلاء الستة والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير بدر الدين «4» عبد الله السلاح دار.

وجلس الأمير عز الدين أيبك الخزندار، فى ابتداء الأمر فى مرتبة النيابة. فإن الأمراء دعوا له حق النقدمة فى خدمة البيت المنصورى. وكان له رأى فاسد فى مملوك، كان عند الأمير سيف الدين طقجى، اسمه تستاى «1» ، فطلبه وهو فى المجلس بالدركاه، بباب القلعة، وألحّ فى طلبه فأحضر إليه. فلما رآه، لم يتمالك عند رؤيته، أن لف شعره على يده، وقام من الدركاه، وخدم الأمراء، وتوجه بالصبى إلى داره. وكان غرضه من المناصب والتقدم فى الدولة، تحصيل هذا المملوك، فاشتغل به عما سواه، وفارق المجلس، وقد ظفر بما تمناه، فعلم الأمراء عند ذلك، سوء تدبيره، وقلة دينه، وأنه لا يعتمد عليه فى شىء، ولا يصلح للتقدم، وأنه لم يكن فيه من الصبر، عن غرضه الفاسد، التأنى بعض ساعة، حتى ينقضى ذلك المجلس، ويتفرق ذلك الجمع الكثير، وشاهدوا فعله بحضرتهم، وعدم تحاشيه منهم. فتقدم الأمير سيف الدين سلار عند ذلك وصار يجلس فى مرتبة النيابة، إلى أن حضر السلطان الناصر من الكرك. هذا ملخص ما كان بالديار المصرية. وأما دمشق وما اتفق بها، بعد توجه الأمير سيف قبجاق، نائب السلطنة بها، منها: فإن الأمير سيف الدين بلغاق «2» الخوارزمى، لما توجه إلى الديار المصرية، من جهة الأمير سيف الدين قبجاق- كما قدمنا ذكر ذلك- وصل إلى القاهرة، فى يوم السبت ثانى عشر، شهر ربيع الآخر، بعد مقتل الملك المنصور [لاجين «3» ] ،

فاجتمع بالأمير سيف الدين طقجى، وهو صاحب الأمر يومئذ، وأوصله ما كان على يده من المطالعات من جهة الأمير سيف الدين قبجاق، فقرئت عليه. وقال نكتب بإطابة قلبه، وقلوب الأمراء. ثم كان من قتل طقجى ما قدمناه. فكتب الأمراء الثمانية على يده إلى الأمراء بدمشق، بما وقع من قتل السلطان ونائبه منكوتمر، وطقجى وكرجى. وأن الحال قد استقر على عود الدولة الناصرية، وإطابة قلوب الأمراء. فوصل إلى دمشق فى يوم السبت، تاسع عشر الشهر، وكان المتحدث بها يومئذ الأمير سيف الدين جاغان والحسامى. فقبض الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصورى السيفى على جاغان وحسام الدين لاجين الحسامى، وكان قد ولى برّ دمشق، فى أوائل سنة ثمان وتسعين وستمائة، واعتقلهما بقلعة دمشق. وأوقع الحوطة على نواب الأمراء الأربعة المقتولين، وحواصلهم بدمشق. وجمع الأمراء بدمشق، وحلّفهم للسلطان الملك الناصر، وتحدّث بدمشق حديث نواب السلطنة. ولم تطل مدته، فإنه مات فى ثانى جمادى الأولى «1» ، فيقال إنه سقى. ثم وردت كتب الأمراء، مدبرى «2» الدولة بالديار المصرية إلى دمشق، فى يوم السبت، رابع جمادى الأولى «3» ، وهى مؤرخة بالسادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، أن يستقر الأمير سيف الدين قطلبك «4» المنصورى السيفى، فى وظيفة الشد بالشام، عوضا عن جاغان. فباشر فى يوم الاثنين بعد العصر، وكان الملك المنصور لاجين قد جهّزه إلى حلب، يتحدث فى الأموال والحصون، ويشارك

ذكر عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى السلطنة ثانيا

الأمير سيف الدين الطباخى فى الأمر، فوصل إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق. واتفق قتل السلطان وهو بدمشق، فلم يمكنه التوجه إلى حلب وأقام بالميدان. فلما ورد هذا الكتاب، انتقل من القصر، وسكن دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وتحدث فى الأموال وغيرها. وبقى هو المشار إليه، إلى أن وصل إلى نائب السلطنة بدمشق. ذكر عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى السلطنة ثانيا قد ذكرنا أن الأمراء أرسلوا إلى خدمة السلطان الأمير بن سيف الدين آل «1» ملك الجوكندار «2» ، وعلم الدين سنجر الجاولى، فتوجها إلى السلطان، فوجداه يتصيد بجهة بحور الكرك. فلما شاهداه ترجلا، وقبلّا الأرض بين يديه، وقدّما إليه مطالعات «3» الأمراء، وأعلماه بهذه الحوادث. فركب من وقته وعاد إلى الكرك، وتجهز منها، وركب إلى الديار المصرية. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم السبت الرابع من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة. وجلس على تخت «4» السلطنة، فى يوم الاثنين سادس الشهر

المذكور، فكأنه المعنّى بقول القائل: قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به ما كنت إلا السيف سلته بد ... ثم أعادته إلى قرابه وركب فى ثانى عشر الشهر بشعار السلطنة. ولما جلس، استشار الأمراء الأكابر، فيمن يرتبه فى النيابة والوظائف. فوقع الأتفاق على أن يكون الأمير سيف الدين سلار المنصورى الصالحى نائب السلطنة بالأبواب الشريفة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار العالية، والأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصورى أمير جاندار، والأمير جمال الدين أقش الدوادارى الأفرم الحاجب، نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين «1» كرد الحاجب، نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية وما معها، عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى، وكان قد توفى إلى رحمة الله تعالى، فى صفر من هذه السنة. وأحضر الأمير سيف الدين قطلبك «2» المنصورى من الشام، ورتّب أمير حاجب بالأبواب السلطانية. وأقر السلطان الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليلى على وزارته. وخلع السلطان على الأمراء والأعيان، على جارى العادة. وتوجه الأمير جمال الدين آقش الأفرم إلى دمشق، على خيل البريد، فكان وصوله إليها، فى يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى. وأفرج عن الأمير سيف الدين جاغان الحسامى، فى يوم الأربعاء، تاسع عشرين الشهر، حسبما رسم به من الأبواب السلطانية. فتوجه إلى الديار المصرية، فوجد البريد وهو فى أثناء الطريق، بإعادته إلى الأمرة بدمشق، فعاد واستقر.

ذكر الإفراج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتفويض الوزارة إليه

وفى يوم الخميس حادى عشر جمادى الآخرة، خلع على الأمراء والأعيان بدمشق، ولبسوا تشاريف السلطان. ووصل طلب نائب السلطنة، الأمير جمال الدين فى هذا اليوم، فتلقاه والأمراء فى خدمته، وعليه التشاريف، ودخل دخولا حسنا. وفيها، فى شهر رجب، توجه الأمير سيف الدين كرد «1» الحاجب، لنيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية. وفيها، رسم السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين كجكن، أحد الأمراء الأكابر المقدمين بدمشق. فقبض عليه فى يوم الجمعة، ثانى عشرين شهر رجب، واعتقل بقلعة دمشق. ثم جهّز إلى الأبواب السلطانية مقيدا، ثانى شهر رمضان، هو وحمدان وأخوه، ولدا صلغاى. وجرد معهم مائة فارس من عسكر الشام. فوصلوا بهم إلى الأبواب السلطانية «2» . ذكر الإفراج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتفويض الوزارة إليه وفى هذه السنة، فى شهر رمضان، أفرج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر العزّى المنصورى، وفوض إليه وزارة المملكة الشريفة، وتدبير الدولة بالديار المصرية، وعزل الصاحب فخر الدين الخليلى «3»

ذكر وفود سلامش بن أفال بن بيجو وأخيه قطقطوا ومن معهما، وعود سلامش وقتله

ذكر وفود سلامش بن أفال بن بيجو «1» وأخيه قطقطوا ومن معهما، وعود سلامش وقتله كان سلامش هذا، قد جهزه قازان «2» ملك التتار إلى بلاد الروم، مقدما على تمان «3» ، وقيل بل كان معه خمسة وعشرون «4» ألف فارس. وأمره قازان أن يأخذ عساكر الروم، ويتوجه إلى الشام من جهة سيس، وأن قازان يحضر بنفسه، ببقية جيوشه من جهة الفرات، وأن يكون اجتماعهم على حلب، ثم يعبرون «5» بجملتهم إلى الشام. فلما وصل سلامش إلى بلاد الروم، خلع طاعة قازان، وحدثته نفسه بالملك، وكاتب ابن قرمان أمير التركمان، فأطاعه وانضم إليه فى عشرة آلاف فارس. وكتب إلى السلطان [المنصور لاجين «6» ] ، يستنجده على قازان. ووصل برسالته وكتبه إلى الأبواب السلطانية، مخلص الدين الرومى. فكتب السلطان إلى دمشق بتجهيز العساكر لنصرته وإنجاده.

ولما اتصل بقازان خبر خروجه عن الطاعة، انثنى عزمه عن قصد الشام، فى هذه السنة. وجرد العساكر إلى سلامش فى أوائل جمادى الآخرة، وكانوا خمسة وثلاثين ألفا، مع ثلاثة «1» مقدمين، ومرجعهم إلى بولاى «2» . فتوجهوا إلى سلامش، وكان قد جمع نحو ستين ألف فارس. وهو يحاصر سيواس، فإنها كانت قد عصت عليه. فأتته العساكر فى شهر رجب، والتقوا، ففارقه من كان معه من عسكر التتار، والتحقوا ببولاى، وكذلك عسكر الروم، ولحق التركمان بالجبال. وبقى سلامش فى دون خمسمائة فارس، ففر من سيواس إلى بلاد سيس، ووصل إلى بهسنا «3» فى أواخر شهر رجب «4» ، ثم وصل إلى دمشق فى يوم الخميس، ثانى عشر شعبان، وصحبته الأمير بدر «5» الدين الذردكاش نائب بهسنا «6» ، فتلقته عساكر دمشق بأحسن زى صحبة نائب السلطنة بدمشق. ثم توجه سلامش إلى الأبواب السلطانية، فى يوم الأحد خامس عشر شعبان، على خيل البريد، فوصل إلى الأبواب السلطانية، وهو وأخوه قطقطوا،

فأكرمهما السلطان والأمراء، وأحسنوا إليهما. وخيّر [سلامش «1» ] بين المقام بالديار المصرية أو العود. فسأل أن يجرد السلطان معه جيشا، ليتوجه إلى بلاد التتار، ويأخذ عياله «2» ؛ ويرجع إلى خدمة السلطان. فجهزه السلطان إلى حلب. ورسم أن يجرد معه الأمير سيف الدين بكتمر الجلمى «3» ، وأعانه «4» . فوصل إلى دمشق فى الحادى والعشرين من شهر رمضان. وتوجه فى الثالث والعشرين من الشهر، صحبة الأمير بدر الدين الذردكاش. ولما وصل إلى حلب، جرد معه الأمير سيف الدين بكتمر الجلمى حسب المرسوم. فساروا إلى بلاد سيس، فشعر بهم صاحبها والتتار الذين بتلك الأعمال. فأخذوا عليهم الطرق والمضايق، والتقوا واقتتلوا، فقتل الجلمى، ولجأ «5» سلامش إلى بعض القلاع. فأرسل قازان فى طلبه، واستنزله فحمل إليه فقتله. واستقر قطقطو «6» ومخلص الدين الرومى فى الخدمة الشريفة السلطانية بالديار المصرية. فأنعم السلطان على قطقطو بإقطاع، وعلى مخلص الدين براتب.

ذكر وصول مراكب الفرنج إلى ساحل الشام وتكسير بعضها، ورجوع ما سلم منها

وفى هذه السنة، فى شهر رمضان، وصل رسول صاحب سيس ورسول صاحب القسطنطينية بتحف وهدايا، وتقادم للسلطان. فوصلوا إلى دمشق فى رابع الشهر، وتوجهوا منها إلى الأبواب السلطانية، فى سادسه «1» . ويقال إن مضمون رسالة صاحب القسطنطينية، الشفاعة فى صاحب سيس، والله أعلم. ذكر وصول مراكب الفرنج إلى ساحل الشام وتكسير بعضها «2» ، ورجوع ما «3» سلم منها «4» وفى هذه السنة، فى العشر الأخر من شعبان، وصل إلى بيروت مراكب كثيرة. وبطش «5» للفرنج فيها جماعة كثيرة من المقاتلة، يقال إن البطش كانت ثلاثين بطشة، فى كل بطشة منها، نحو سبعمائة. وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر، وتحصل إغارتهم على بلاد الساحل. فلما قربوا من البر، أرسل الله عز وجل عليهم ريحا مختلفة. فغرقت بعض هذه المراكب، وتكسر بعضها. ورجع من سلم منهم على أسوأ حال، وكفى الله تعالى شرهم. وحكى عن

الرئيس ببيروت، أنه قال: والله لى خمسون «1» سنة، ألازم هذا البحر، فما رأيت مثل هذه الريح، التى خرجت على هذه المراكب، وليست من الرياح المعروفة عندنا «2» . وفى هذه السنة، عزل قاضى القضاة حسام الدين الرومى الحنفى عن القضاء بالديار المصرية، وأعيد إلى القضاء بدمشق عوضا عن ولده القاضى جلال الدين. وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الخميس، سادس ذى الحجة. ولما عزل فوض القضاء بالديار المصرية، على مذهب الإمام أبى حنيفة، للقاضى شمس الدين أحمد السروجى الحنفى، على عادته. وفيها، كانت وفاة الأمير الزاهد بدر الدين الصوابى فجأة فى ليلة الخميس، تاسع جمادى الأولى، ودفن بسفح قاسيون بكرة النهار. وكان أميرا دينا صالحا، خيرا كثير البر والصدقة. وروى الحديث النبوى، وكان له فى الإمرة نحو أربعين سنة. وكان من مقدمى الألوف وأمراء المائة بالشام، رحمه الله تعالى. وفيها، كانت وفاة بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى، الأمير الكبير المشهور فى معتقله، بالفاعة الصالحية، بقلعة الجبل المحروسة، وأخرج ودفن بتربته. وكان الملك الناصر، لما عاد الى الملك، رسم بالإفراج عنه. فوقف الأمراء فى ذلك، وحسّنوا للسلطان «3» إبقاءه على ما هو عليه. فرجع إلى رأيهم وأبقاه «4» ، فمات بعد ذلك بمدة يسيرة. وكان رحمه الله تعالى، كريم النفس، عالى الهمة، يعطى الكثير ويستقّله، وكان عليه فى أيام إمرته لجماعة كثيرة من

مماليكه وأولادهم، وخدامه، الرواتب الوافرة من اللحم والتوابل والجرايات والعليق. فرتب لبعضهم فى كل يوم سبعين رطلا من اللحم بالمصرى، وما يحتاج إليه من التوابل والخضراوات والحطب، وسبعين عليقة، ولأقلهم خمسة أرطال، وخمس علائق، ولبعضهم عشرين رطلا وعشرين عليقة، هذا زيادة من جهته على ما لهم من الإقطاعات السلطانية. وبلغ ما يحتاج إليه فى كل يوم بسماطه ودوره المرتب عليه فيما بلغنى، ثلاثة آلاف رطل لحم، وثلاث «1» آلاف عليقة. وكان ينعم بألف دينار عينا، وبألف أردب غلة، وبألف قنطار من العسل. ويتصدق على الفقراء بألف درهم وخمسمائة درهم. ولا يعطى أقل من ذلك إلا فى النادر عند التعذر. ولا يفعل ذلك عن امتلاء «2» ولا سعة. ما زال عليه لأرباب الديوان أربعمائة ألف درهم، وأكثر من ذلك. وإذا وفى دينا، اقترض خلافه، يتكرم بذلك. ولا يتجاسر أحد من مماليكه وألزامه أن يعدله عن ذلك، ولا يشافهه فى الإمساك عنه، والاختصار منه. وإن كلمه أحد منهم، أنكر عليه، وربما ضربه وأهانه، وعزله عن وظيفته، وإن كان أستاذ دار أو مباشرا عنده. وكانت مكارمه كثيرة مشهورة وعطاياه وصلاته وافره مذكورة، ما رأى أهل عصره من أمثاله فى المكارم والعطايا والإنفاق والهبات والصلات مثله، رحمه الله تعالى، ومات وعليه من الديوان، ما يزيد على أربعمائة ألف درهم، ورتب بعده من موجوده وأملاكه، رحمه الله تعالى «3»

ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماه

ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماه وفى يوم الخميس، الحادى والعشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، بها. ودفن ليلة الجمعة، آخر الليل عنده أبيه رحمهما الله تعالى. ومولده فى الساعة العاشرة، من ليلة الأحد، خامس عشر المحرم، سنة سبع وخمسين وستمائة. وأمه عائشة خاتون بنت الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازى ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب. فيكون عمره، رحمه الله تعالى، إحدى وأربعين سنة وعشر أشهر وسبعة أيام، ومدة ملكه بحماه خمس عشرة سنة «1» وشهرا واحدا ويوما واحدا، رحمه الله تعالى. وانقطع ملك حماه بعده من البيت الأيوبى سنين «2» ، إلى أن أعاده السلطان الملك الناصر فى سلطنته الثالثة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه. ولما مات، فوضت نيابة السلطنة بحماه إلى الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، كما تقدم، وتداولها جماعة من النواب يأتى ذكرهم، إن شاء الله تعالى، فى مواضعه. وفيها، توفى الملك الأوحد نجم الدين يوسف ابن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمهم الله تعالى، فى ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذى الحجة بالقدس الشريف، ودفن من الغد برباطه عند باب خطّه شمالى الحرم، وكان

ذكر توجه السلطان إلى الشام

من المشهورين بالجلالة والتقدم فى المجالس، وعند الملوك، وكان كثير الإحسان إلى الضعفاء، رحمه الله تعالى «1» . وفيها، توفى نجم الدين أيوب ابن الملك الأفضل على ابن الملك الناصر داود بدمشق، وصلى عليه يوم الجمعة، رابع عشر ذى الحجة، رحمه الله تعالى. وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام حجة العرب بهاء الدين أبى عبد الله محمد بن إبراهيم ابن محمد بن نصر بن النحاس الحلبى النحوى بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى، فى الثالثة من النهار. وأخرج من الغد، ودفن بالقرافة، ومولده بحلب، فى يوم الأربعاء، سلخ جمادى الآخرة، سنة سبع وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى «2» . وفيها، توفى تقى الدين توبة بن على بن مهاجر التكريتى، فى ليلة الخميس، ثانى جمادى الآخرة بدمشق. ودفن بتربته بسفح قاسيون رحمه الله تعالى «3» . وفيها، كانت وفاة الأمير جمال الدين آفش المغيثى، متولى البيرة، وكان له بها نحو أربعين سنة «4» . ذكر توجه السلطان إلى الشام وفى هذه السنة، تواترت الأخبار بحركة التتار، فندب السلطان الجيوش المصرية وجردها. وكان قد جرد فى جمادى الآخرة، الأمير سيف الدين بلبان

الجيشى ومضافيه، والأمير بدر الدين عبد الله السلاح دار ومضافيه، والأمير جمال الدين آقش الموصلى المعروف قتال السبع، والأمير مبارز الدين الرومى أمير شكار ومضافيه، فوصلوا إلى دمشق، فى سابع شهر رجب. فلما قويت الأجناد الآن، جرّد الأمير سيف الدين قطابك الحاجب ومضافيه، والأمير سيف الدين نوكيه التتارى ومضافيه، فوصلوا إلى دمشق فى يوم الاثنين رابع عشرين ذى الحجة. ثم توجه السلطان بعد ذلك، بالعساكر المنصورة. فاستقل ركابه الشريف من قلعة الجبل فى الرابع والعشرين من ذى الحجة. واستناب فى غيبته بقلعة الجبل المحروسة، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارى المنصورى.

واستهلت سنة تسع وتسعين وستمائة [699 - 1299/ 1300]

واستهلت سنة تسع وتسعين وستمائة [699- 1299/1300] والسلطان الملك الناصر متوجه «1» بالجيوش إلى الشام، فوصل إلى غزة فى المحرم. ونزل بتل العجول. ذكر الفتنة التى أثارها الأويرانية بهذه المدينة «2» لما حل ركاب السلطان بمنزلة تل العجول، اتفق جماعة من الأويرانية، الذين وفدوا إلى الديار المصرية، فى الأيام العادلية الزينية، مع الأمير سيف الدين برلطاى «3» ، أحد الأمراء المماليك السلطانية الذين كانوا بدار الوزارة، على إثارة فتنة. فبينما الأمراء فى الموكب، لم يشعروا إلا وقد شهر برلطاى سيفه، وحمل نفسه، وكرّ صوب الدهليز المنصور السلطانى، فأمسك. وسيره السلطان إلى الأمراء، فقتل لوقته. وقبض على جماعة من المماليك السلطانية، وسيروا إلى قلعة الكرك، واعتقلوا بها. وقبض على جماعة من الأويرانية، فشنقوا بظاهر غزة. وكان من أنهم بمباطنتهم قطلو برس «4» العادلى، فطلب فلم يوجد. واختفى مدة، ثم حصل الظفر به، بعد ذلك، فشنق بسوق الخيل تحت القلعة.

ذكر وقعة غازان ملك التتار بمجمع المروج ببلاد حمص

وأقام السلطان [الناصر» ] بهذه المنزلة مدة، ثم رحل منها، وتوجه نحو دمشق، فوصل إليها فى يوم الجمعة، ثامن شهر ربيع الأول، ونزل بقلعتها. وهذه السفرة، هى أول وصول السلطان الملك الناصر إلى دمشق، وحال وصوله، أمر بخروج العسكر الشامى، فخرج من دمشق، وتلته العساكر المصرية. ثم توجه السلطان فى أعقابهم، إلى جهة حمص، لقتال التتر، ودفعهم عن الشام، وكان رحيله من دمشق، فى وقت الزوال، من يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الأول «2» . ذكر وقعة غازان «3» ملك التتار بمجمع المروج «4» ببلاد حمص كانت هذه الوقعة فى يوم الأربعاء، الثامن والعشرين، من شهر ربيع الأول، سنة تسع وتسعين وستمائة. وذلك أن السلطان الملك الناصر، لما رحل من دمشق، إلى جهة حمص، تواترت الأخبار بوصول التتار «5» إلى وادى الخزندار. فسار السلطان إليهم، وحثّ السير. فقطع ثلاث مراحل، فى مرحلة واحدة، فأشرف على مجمع المروج، وقد تعبت خيول العساكر الإسلامية، وركب غازان فى جيوش التتار، ومن أنضم إليها من الكرج والأرمن وغيرهم، ومعه الأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس

ذكر تسمية من استشهد وفقد، فى هذه الوقعة من المشهورين

فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين عزاز «1» . والتقى الجمعان فى الخامسة من النهار المذكور. فحملت الميسرة الإسلامية على ميمنة التتار، فهزمتها أقبح هزيمة، وقتل من التتار خلق كثير. فلما عاين غازان انهزام ميمنته، اعتزل فى نحو ثلاثين فارسا، وعزم على الفرار. فمنعه الأمير سيف الدين قبجاق، وثبته ومناه بالظفر «2» . وكان قصده بذلك، فيما قال بعد عوده، القبض على غازان عند استمرار الهزيمة بجيوشه. ثم ركبت فرقة من التتار، كانت لم تشهد الحرب، واجتمعوا كراديس «3» ، وحملوا حملة منكرة. وقصدوا قلب العساكر الإسلامية، وضعفت الميمنة الإسلامية، عن لقاء ميسرتهم. فكان من الهزيمة ما كان، وذلك بعد العصر من اليوم المذكور. ذكر تسمية من استشهد وفقد، فى هذه الوقعة من المشهورين كان من استشهد وفقد من الأمراء والمشهورين، فى هذه الوقعة، الأمير سيف الدين كرد، نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيدمر الحلبى، أحد الأمراء بالديار المصرية، والأمير سيف الدين بلبان التقوى، من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس الغتمى «4» ، النائب بحصن المرقب، والأمير صارم الدين أزبك، النائب بقلعة

بلاطنس، والأمير بدر الدين بيلبك المنصورى المعروف بالطيار، من أمراء دمشق، قتل فى عوده بعد الوقعة، والأمير سيف الدين نوكيه «1» التتارى، والأمير جمال الدين أقش كرجى الحاجب، والأمير جمال الدين أقش المطروحى، حاجب الشام «2» فقدوا نحو ألف فارس من الحلقة والمماليك السلطانية وأجناد الأمراء ومماليكهم. وهؤلاء الأمراء، منهم من استشهد فى المعركة، ومنهم من أصابته جراحة، فمات بعد انفصال الوقعة فيعد شهيدا «3» ، ومنهم من عدم ولم تتحقق وفاته. وعدم قاضى القضاة حسام الدين الحنفى الرومى، والقاضى عماد الدين إسماعيل ابن الأثير «4» الموقع. وقتل من التتار فيما قيل نحو أربعة عشر ألف «5» . ولما تمت الهزيمة، وشاهد غازان من قتل أصحابه وكثرتهم، وقلة من قتل من العساكر الإسلامية، بالنسبة إلى من قتل من التتار، ظن أن هذه الهزيمة مكيدة، واستجرار «6» لعساكره، فتوقف عن اتباع العساكر الإسلامية، حتى تبين له صحة الهزيمة. ثم سار من مكان الوقعة إلى حمص، وبها الخزائن السلطانية،

فسلمها متوليها محمد بن الصارم، من غير ممانعة. ولا مدافعة «1» . ثم رحل عنها إلى جهة دمشق ونزل بالغوطة «2» . ذكر ما اتفق بدمشق بعد الوقعة ومفارقة العساكر الإسلامية فى مدة استيلاء التتار عليها، إلى أن فارقوا البلاد، وعادوا إلى الشرق كانت «3» الأخبار وصلت إليهم بانهزام الجيوش الإسلامية، وتحققوا فى يوم السبت، مستهل شهر ربيع الآخر. فتوجه من أمكنه السفر إلى الديار المصرية فى هذا اليوم فكان ممن توجه قاضى القضاة إمام الدين الشافعى، وقاضى القضاة جمال الدين الزواوى المالكى، وابن الشيرازى، ومتولى مدينة دمشق، ومتولى برّها، ومحتسب المدينة، وجماعة كبيرة من أهل البلد، ممن قدر على الانتزاح. وفى ليلة الأحد، أحرق المعتقلون بسجن باب الصغير بابه، وخرجوا منه، وكانوا نحو مائة وخمسين. وتوجهوا إلى باب الجابية، وكسروا الأقفال، وخرجوا منه وبقى البلد لا حامى له، ولا ممانع عنه. فاجتمع أكابر دمشق، فى يوم الأحد الثانى من الشهر، بمشهد علىّ بالجامع الأموى. وانفقوا على أن يتوجهوا إلى الملك غازان، ويسألوا «4» الأمان لأهل البلد. فتوجه قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، وهو الخطيب يومئذ، والشيخ تقى الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقى، والقاضى نجم الدين بن صصرى، والقاضى

شمس الدين الحريرى، والقاضى جلال الدين ابن القاضى حسام الدين، وفخر الدين ابن الشيرجى، وعز الدين بن الزكى، ووجيه الدين بن منجا، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى، وابن عمه الصدر شرف الدين، وأمين الدين بن شقير الحرانى، والشريف زين الدين بن عدنان، ونجم الدين بن أبى الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشريف الدين بن الشيرجى، وشهاب الدين الحنفى، والشيخ محمد ابن قوام البالنى، وجلال الدين أخو القاضى إمام الدين، وجماعة كبيرة من القراء والفقهاء والعدول. وتوجهوا بعد صلاة الظهر، من يوم الاثنين، ثالث الشهر، واجتمعوا بالملك غازان، وهو عند النبك «1» ، وهو سائر. ونزلوا عن مراكيبهم. وقبلّ بعضهم الأرض، فوقف غازان بفرسه لهم. وترجل جماعة من التتار عن خيولهم. وتكلم الترجمان بينهم وبين الملك غازان، وسألوا الأمان لأهل دمشق. وكان المخاطب له عن أهل دمشق، فخر الدين بن الشيرجى. فقال غازان: الذى حضرتم بسببه «2» من الأمان قد أرسلناه قبل وصولكم. وقدّموا ما كان معهم من المأكول، فلم يكن له وقع عندهم. وأذن لهم فى الرجوع إلى دمشق، فرجعوا. وكان وصولهم بعد صلاة العصر، من يوم الجمعة، سابع الشهر. ولم يخطب فى هذه الجمعة لسلطان «3» . وكان قد وصل إلى دمشق، فى يوم الخميس، سادس «4» الشهر أربعة من التتار،

من جهة غازان، ومعهم الشريف القمّى «1» . وكان قد توجه قبل توجه الجماعة، هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان. فعاد وبيده أمان لأهل دمشق. ثم وصل بعد صلاة الجمعة، الأمير إسماعيل وجماعة من التتار. فنزلوا بالبستان الظاهرى، بطريق القابون. ثم ركب [الأمير] إسماعيل فى يوم السبت، ودخل إلى دمشق، وجاء إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموى، لقراءة «2» الفرمان «3» . وقرأه «4» أحد العجم الواصلين صحبة الأمير إسماعيل، وبلّغ عنه المجاهد المؤذن، ومضمونه:- بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومان «5» والألوف والمائة، وعموم عساكرنا المنصورة، من المغول والتازيك «6» والكرج «7» وغيرهم، ممن هو داخل تحت زبقة

طاعتنا. إن الله لما نوّر قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبى، عليه أفضل الصلاة والسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . ولما أن سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولى، سعى فى الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومدّ الأيدى العارية، إلى حرمهم وأموالهم، والتخطى عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والإعساف، حملتنا الحمية الدينية، والحفيظة الإسلامية، على أن توجهنا إلى تلك البلاد، لإزالة هذا العدوان، وإماطة هذا الطغيان، مستصحبين الجم الغفير من العساكر. ونذرنا على أنفسنا، إن وفقنا الله تعالى بفتح تلك البلاد، أزلنا العدوان والفساد، وبسطنا العدل والإحسان فى كافة العباد، ممتثلا للأمر الإلهى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «2» . وإجابة لما ندب إليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الدين، يعدلون فى حكهم وأهليهم وما ولوا» . وحيث كانت طويتنا

مشتملة على هذه المقاصد الحميدة والنذور «1» الأكيدة. منّ الله علينا بتبلّج «2» تباشير النصر المبين، والفتح المستبين. وأتمّ علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، وفوّقناهم أيدى سبا، ومزقناهم كل ممزق، حتى جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فى زمرة من حبّب إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكّره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة. فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثفة، والنذور المؤكدة. فصدرت مراسيمنا العالية، أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طباقاتها لدمشق وأعمالها، وسائر البلاد الإسلامية الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدّى عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ولا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه، حتى يشتغلوا بصدور مشروحة، وآمال «3» مفسوحة بعمارة البلاد، وبما هو كل واحد بصدده من تجارة وزراعة وغير ذلك. وكان هذا الهرج العظيم، وكثرة العساكر، فتعرّض «4» بعض نفر يسير من السلاحية وغيرهم، إلى نهب بعض الرعايا وأسرهم،

فقتلناهم ليعتبر الباقون، ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر، وغير ذلك من الفساد. وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البته، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان، على اختلاف أديانهم، من اليهود والنصارى والصائبة. فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم، من الوظائف الشرعية، لقول علىّ عليه السّلام: «إنما يبذلون الجزية، لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» . والسلاطين موصّون على أهل الذمة الطيعين «1» ، كما هم «2» موصون على المسلمين، فإنهم من جملة الرعايا. قال صلى الله عليه وسلم: «الإمام الذى على الناس، راع عليهم وكل راع مسئول عن رعيته» . فسبيل «3» القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر والمشاهير وعامة الرعايا، الاستبشار بهذا النصر الهنى والفتح السنى، وأخذ الحظ الوافر من السرور، والنصيب الأكبر من البهجة والحبور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة، والمملكة الظاهرة، أناء الليل وأطراف النهار. وكتب فى خامس ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة. ولما قرىء هذا الفرمان، حصل للناس بعض الطمأنينة، وجلس التتار بالمقصورة إلى أن صلوا العصر، وعادوا إلى منزلتهم بالبستان الظاهرى. وأغلق الأمير علم الدين سنجر أرجواش أبواب قلعة دمشق، وامتنع بها فى أول هذه الحادثة.

واجتمع أهل دمشق فى يوم الأحد تاسع الشهر بالقيمرية، واهتموا فى تحصيل الخيل والبغال والأموال، ليرضوا بها التتار، ونزل غازان ملك التتار بالغوطة، فى يوم الاثنين العاشر من الشهر، وأحدقت الجيوش بالغوطة، وقتلوا طائفة من أهل القرى. ووصل الأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، وغيرهما فى هذا اليوم، ونزلوا بالميدان. ولما مروا بالقلعة، خاطبوا الأمير علم الدين سنجر أرجواش، نائب القلعة، وأشاروا عليه بتسليمها، فسبهم أقبح «1» سب. وفى بكرة نهار الثلاثاء، حادى عشر الشهر، ورد مثال الأمير إسماعيل نائب التتار، يأمر العلماء والمشايخ والرؤساء، أن يتوجهوا إلى القلعة، ويتحدثوا مع نائبها فى تسليمها، وأنه متى امتنع من ذلك، دخل الجيش البلد ونهبها، وسفكت الدماء. فاجتمع جماعة كثيرة إلى باب القلعة، وسألوا الأمير علم الدين [سنجر أرجواش «2» ] ، أن يرسل إليهم رسولا، فامتنع وسبهم أقبح سب. وقال: قد وردت علّى بطاقة من السلطان، أنه جمع الجيوش بغزة، وكسر الطائفة التى اتبعتهم من التتار، والسلطان يصل عن قريب بعساكره «3» . ثم دخل قبجاق دمشق فى يوم الأربعاء، ثانى عشر الشهر، وجلس بالمدرسة العزيزية، وأمر العلماء والأكابر بمراجعة أرجوش فى تسليم القلعة، فتوجهوا

إليه، فلم يسمع كلامهم. وكتب فى هذا اليوم بالعزيزية فرامانات من شيخ الشيوخ [نظام الدين محمود بن على الشيبانى «1» ] ، ومقدم من مقدمى التتار، ذكر أنه رضيع الملك غازان، ومن قبجاق، فسلم تجد نفعا. وفى يوم الجمعة رابع عشر الشهر [ربيع الآخر «2» ] خطب لغازان على منبر دمشق، بما رسم لهم به من الألقاب والنعوت وهى «مولانا السلطان، الملك الأعظم، سلطان الإسلام والمسلمين، مظفر الدنيا والدين، محمود غازان» . وصلى بالمقصورة جماعة من المغل. وحضر إلى المقصورة، عقيب الصلاة الأمير سيف الدين قبجاق، وصعد هو والأمير إسماعيل، إلى سدّة المؤذنين. واجتمع جمع كثير من عامة الناس تحت النصر «3» . وقرئ عليهم تقليد بتولية الأمير سيف الدين قبجاق الشام أجمع، وعيّن فيه مدينة دمشق وحلب وحماه وحمص وغير ذلك، من الأعمال والجهات. وجعل إليه، أن يولى القضاة، والحكماء والخطباء، وغيرهم. ونثر على الناس الذهب والدراهم، فاستبشر الناس بولاية قبجاق، ظنا منهم أنه يرفق بهم. وحضر فى هذا اليوم شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيبانى، إلى المدرسة العادلية. وأحضرت إليه ضيافة، وأظهر العتب «4» على أهل البلد، كونهم لم يترددوا إليه. وذكر أنه يصلح أمرهم، ويتفق معهم، على ما يفعل، فى أمر القلعة. فقال بعض من حضر [إن] «5» الأمير سيف الدين قبجاق يخبر أمر «6»

متولى القلعة. فقال [شيخ الشيوخ «1» ] : «خمسمائة من قبجاق ما يكونون فى خانمى» ، وعظّم نفسه تعظيما كثيرا. وفى يوم السبت خامس عشر الشهر. ابتدئ بنهب جبل الصالحية، وما به من الندب والمدارس وغيرها. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية إلى شيخ الشيوخ، فركب إليهم فى يوم الثلاثاء. فلما وصل إلى جبل الصالحية، هرب من به من التتار، ودخل أهل الجبل إلى دمشق عرايا فى أسو أحال «2» . وتوجه التتار إلى قرية المّزة «3» ، فنهبوها وسبوا أهلها. وتوجهوا إلى داريا «4» ، وفعلوا كذلك، وقتلوا جماعة من أهلها، وقتل أهلها جماعة من التتار. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية. يوم الخميس إلى الملك غازان، وهو بتل رأهط «5» ، فدخل عليه ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكّن «6» من ذلك. وقيل له: إن شكوت إليه أمرا، يقتل «7» بعض المغل. فيكون ذلك سبب الإختلاف، وتدور الدائرة على أهل دمشق. فعدل الشيخ عن الشكوى إلى الدعاء، وفارقه واجتمع بالوزير [ين] سعد الدين، ورشيد الدين، وتحدث معهما. فذكر «8» أن

جماعة من المقدمين الأكابر، لم يصل إليهم من مال دمشق شىء، ولا بد من إرضائهم. وأمر الوزير بإطلاق الأسرى. ثم اشتد الأمر على أهل دمشق، فى طلب الأموال وحصار القلعة. وجاء منجنيقى، فالتزم بأخذ القلعة. وقرر أن يكون نصب المجانيق عليها بالجامع الأموى. فأجمع أرجواش رأيه، أنه متى نصب المجانيق بالجامع، رمى عليها بمجانيق القلعة. وكان ذلك يؤدى إلى هدم الجامع. فانتدب رجال من أهل القلعة، بعد أن تهيأت أعواد المجانيق، ولم يبق إلا نصبها. وخرجوا بالحمية الإيمانية، وهجموا الجامع، ومعهم المناشير، فأفسدوا ما تهيأ من أعواد المجانيق. ثم جددوا غيرها، واحترزوا عليها. وحضر جماعة من المغل يبيتون بالجامع. فيقال إنهم انتهكوا حرمته، وارتكبوا فيه المحارم، من شرب الحمور والزنا، وطرح القاذورات والنجاسات، وقلّ حضور الناس فيه، حتى أنه لم تقم فيه صلاة العشاء الآخرة، فى بعض الليالى. ونهب التتار سوق باب البريد. وتحول الناس من حول الجامع، وزهدوا فى قربه لمجاورة التتار. فانتدب رجل من أهل القلعة. وبذل نفسه، والتزم بقتل المنجنيقى. وخرج إلى الجامع، والمنجنيقى بين المغل، وهو فى ترتيب العمل. فتقدم إليه، وضربه بسكّين فقتله. وهجم رجال القلعة، فتفرق المغل عن القاتل، وحماه أصحابه، فلجأ «1» إلى القلعة، وبطل على التتار ما دبروه من عمل المجانيق. واضطر أرجواش إلى هدم ما حول القلعة، من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة، وطواحين باب

الفرج، وغير ذلك. كل ذلك احترازا على حفظ القلعة، وأن يتطرّق العدوّ إليها. وحصل من إفساد التتار والأرمن وإخرابهم الأماكن، بإفسادهم الصالحية، وحرق «1» جامع التوبة «2» بالعقيبة «3» وغير ذلك، ما بقيت آثاره، بعد ذهاب العدو زمنا طويلا. ثم أعاد المسلمون ذلك، والحمد لله تعالى، إلى أحسن ما كان. واشتد الأمر على أهل دمشق فى طلب الأموال، فى أواخر شهر ربيع الآخر؛ وأوائل جمادى الأول، وطلب من البلد ما لا يتحمله أهله. وتولى استخراج الأموال، والمطالبة بها من أهل دمشق، صفى الدين السنجارى، وولد الشيخ محمد ابن الشيخ على الحريرى. وغلت الأسعار بدمشق هذه المدة «4» . ثم رجع غازان إلى بلاد الشرق، فى يوم الجمعة، ثانى عشر جمادى الأولى ونزل قطلو «5» شاه نائبه بدمشق وجماعة كثيرة من التتار معه، وجعل نيابة الشام إلى الأمير سيف الدين قبجاق، ونيابة حلب وحمص إلى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، ونيابة صفد وطرابلس والسواحل إلى الأمير فارس الدين البكى ولما توجه غازان، استصحب الوزير معه، من أكابر دمشق بدر الدين

ابن فضل الله، وعلاء الدين على ابن الصدر شرف الدين محمد بن القلانسى، وشرف الدين بن الأثير. وفى يوم السبت ثالث عشر «1» جمادى الأولى، رسم التتار بإخلاء المدرسة العادلية، ووقف جماعة منهم على بابها يفتشون من يخرج منها، ويأخذون ما أحبوا من أمتعتهم، وعجز أهلها عن نقل أكثر أثاثهم. ودخل التتار إليها، عقيب خروجهم منها، وكسروا أبواب البيوت، ونهبوا ما بها، وأخلى التتار ما حول القلعة، وطلعوا إلى الأسطحة، ورموا منها النشاب على الفلعة. فعند ذلك، أمر أرجواش بإحراق ذلك كما تقدم. وكان إحراق المدرسة العادلية فى الحادى والعشرين من جمادى الأولى. وفى يوم الجمعة تاسع عشر الشهر، قرىء «2» على سدة الجامع كتابان: أحدهما يتضمن تولية الأمير سيف الدين قبجاق النيابة بالشام «3» ، والثانى يتضمن تولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين شد الشام. وتضمن أحد الكتابين أن يصرف ما كان لخزائن السلاح، من مال الجامع فى مصالح السبيل إلى الحجاز الشريف. ويتضمن أيضا أن غازان يعود إلى الشام فى فصل الخريف «4» ، ويتوجه إلى الديار المصرية، وأنه توجه [إلى البلاد «5» ] ونزل نائبه قطلوشاه فى ستين ألف فارس لحماية الشام، إلى غير ذلك مما تضمنه.

واستمر قطلوشاه بعد توجه غازان أياما يحاصر القلعة، فلم يتهيأ له منها ما يريد، فجمع له قبجاق مالا من أهل البلد، فأخذه وعاد إلى بلاد الشرق. وكان رحيله فى يوم الثلاثاء «1» الثالث والعشرين من جمادى الأولى. وتوجه الأمير سيف الدين قبجاق لوداعه. وعاد فى يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر، ودخل إلى دمشق، من باب شرقى، وشق البلد، وخرج من باب الجابية، وكانا مغلقين فى مدة مقام التتار، ففتحا له الآن، ونزل بالقصر الأبلق. وعاد الأمير يحيى بن جلال الدين والصفى السنجارى بجماعة من التتار، وشقوا البلد، وتوجهوا إلى القصر أيضا. ثم نودى فى البلد، فى يوم الجمعة، أن يتوجه الناس إلى ضياعهم وقراهم. وكان قد نودى فى أول هذا النهار، أن لا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة «2» ، وأن لا يخاطر بنفسه، ولا يغرر بنفسه. وفى تاسع عشر جمادى الأولى، دخل الأمير سيف الدين قبجاق، ومن معه إلى المدينة، ونزلوا بدار الأمير سيف الدين بهادر آص، وما يجاورها من الأدر، بقرب مأذنه فيروز. وفى يوم الثلاثاء، مستهل جمادى الآخرة، وثانيه، نودى فى دمشق بأمر الأمير سيف الدين قبجاق أن يخرج الناس إلى «3» أما كنهم. وانضم إلى قبجاق

جماعة من الجند فى أول هذا الشهر، يركبون فى خدمته، ويترجلون فى ركابه، وفتحت أبواب البلد، إلا ما بجوار القلعة منها. وفى يوم الجمعة رابع الشهر، ضربت البشائر بالقلعة. وفى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة، أمر الأمير سيف الدين قبجاق، أستاذ داره علاء الدين، وطاجار، وركبا بالشرابيش «1» والطبلخاناة «2» . ثم أمّر ثلاثة فى العشر الأوسط من الشهر، وركبوا بالشرابيش والطبلخاناة. وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جراده، فأظهرت الخمور والفواحش، وضمنت فى كل يوم ألف درهم «3» ، واستمر الحال على على ذلك بقية جمادى الآخرة وبعض شهر رجب. وكان غازان قد جرد من عسكره عشرين ألف فارس، صحبة بولاى «4» ، وأشبقا «5» وحجك «6» وهو لاجو، فنزلوا بالأغوار. وشنوا الغارات ونهبوا، ووصلت غاراتهم إلى بلد القدس والخليل، ودخلوا إلى غزة، وقتلوا بجامعها خمسة عشر نفرا من

ذكر ما اعتمده السلطان الملك الناصر عند عوده إلى الديار المصرية من الاهتمام بأمر الجيوش والعساكر

المسلمين «1» ، ثم رجعت هذه العساكر إلى دمشق، وعادت إلى بلاد الشرق، فى ثانى شهر رجب، واستصحبوا معهم أمين الدين بن شقير الحرّانى. وعاد التتار بجملتهم فى ثامن شهر رجب، لما بلغهم اهتمام السلطان، وخروج العساكر. ولم يفتح غازان شيئا من القلاع الشامية، بل امتنعت بجملتها، اقتداء بقلعة دمشق. وتمسك نواب القلاع من تسليمها، واعتذروا أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بعد تسليم قلعة دمشق، فسلمت القلاع بجملتها. ثم توجه الأمير سيف الدين قبجاق والأمراء إلى خدمة السلطان الملك الناصر على ما نذكره. ولما توجه قبجاق من دمشق، دبّر أمر البلد الأمير علم الدين أرجواش. وأعيدت الخطبة بدمشق، باسم السلطان فى يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب. وكانت انقطعت من سابع شهر ربيع الآخر، فانقطعت مائة يوم. وفى هذا اليوم أبطل ما كان جدّد من المنكرات، وأغلقت الخمارات، وأريق ما فيها، وكسرت المواعين، وشقت «2» الظروف. وتولى ذلك الشيخ تقى الدين بن تيمية وأصحابه. هذا ما كان بدمشق، فلنذكر ما اعتمده السلطان عند عوده. ذكر ما اعتمده السلطان الملك الناصر عند عوده إلى الديار المصرية من الاهتمام بأمر الجيوش والعساكر لما كان من أمر هذه الحادثة ما قدمناه، رجع السلطان من مكان الوقعة

إلى الديار المصرية. وتفرقت العساكر، فأخذت كل فرقة طريقا. وكان وصول السلطان إلى قلعة الجبل، فى يوم الأربعاء، ثانى عشر شهر ربيع الآخر ولم يصحبه فى هذه السفرة إلا بعض خواصه، والأمير سيف الدين بكتمر الحسامى أمير أخور، والأمير زين الدين قراجا، فى نفر يسير. وخدم الأمير سيف الدين بكتمر، المشار إليه، السلطان فى هذه السفرة أتم خدمة. فكان يركبه وينزله، ويشد خيله، ويشترى لها العليق، ويسقيها، إلى غير ذلك من أنواع الخدمة «1» . ثم ترادفت الجيوش إلى الديار المصرية متفرقة. ووصل النواب بالممالك الشامية. وكان فيمن وصل الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى. فمشى فى خدمة نائب السلطنة الأمير سيف الدين سلار، وجلس بين يديه، وكان يرمّل علامته إذا كتب. ووصلت العساكر، وعدمت خيولهم وأقمشتهم وأموالهم، وأثقالهم وأسلحتهم. فجرد السلطان الأهتمام، وأخرج الأموال الكثيرة، وأنفق فى الجيوش، ووسع عليهم، وسلّم إلى كل نائب من نواب الشام نفقة عسكره. فسلم إلى الأمير جمال الدين أقش الأفرم نفقة عسكر الشام، وإلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى نفقة عسكر حلب، وإلى الأمير سيف الدين كراى المنصورى نفقة عسكر صفد. وسلّم نفقة عسكر طرابلس «2» إلى الأمير شرف الدين قيران الدوادارى، ثم إلى الأمير سيف الدين قطلبك. وكانت النفقة فى الجيوش ذهبا. ورخص سعر الذهب بالديار المصرية، حتى بلغ صرف الدينار سبعة عشر درهما وارتفعت أسعار العدد والسلاح والأقمشة والدواب. ومع ذلك فلم تمض الأيام

ذكر توجه السلطان بالعساكر إلى جهة الشام، ووصوله إلى منزلة الصالحية وإرسال الجيوش إلى دمشق والممالك الشامية، وعود الأمراء إلى الخدمة السلطانية ورجوع السلطان إلى قلعة الجبل، وما تقرر من أمر النواب

القلائل على العسكر، حتى كملت عدتهم وخيولهم، وجميع ما يحتاجون إليه من الأسلحة والأقمشة «1» . وجهّز السلطان إلى نواب الحصون بالشام أجمع القصاد بالملطفات يعلمهم ما هو عليه، من الاهتمام وصرعة حركة ركابه، ويحثهم على حفظ الحصون. فوصلت القصّاد إليهم، فامتثلوا ذلك، وحفظوا الحصون، فحفظت وسلمت، ولله الحمد والمنة. وأحسن السلطان إلى نواب الحصون، وكافأهم على اهتمامهم بها وحفظها. ولما تكامل ما تحتاجه العساكر، توجه السلطان بهم، لقصد الشام. ذكر توجه السلطان بالعساكر إلى جهة الشام، ووصوله إلى منزلة الصالحية وإرسال الجيوش إلى دمشق والممالك الشامية، وعود الأمراء إلى الخدمة السلطانية ورجوع السلطان إلى قلعة الجبل، وما تقرر من أمر النواب وفى تاسع شهر رجب، من هذه السنة، توجه السلطان بجميع العساكر

والنواب إلى الشام، لدفع التتار. فاتصل به عود التتار ومفارقتهم الشام، فأقام بالصالحية. وتوجه نائبه الأمير سيف الدين سلار، وأستاذ داره الأمير ركن الدين بيبرس إلى الشام، وصحبتهما سائر النواب والأمراء. ورحلوا من الصالحية فى الثانى العشرين من هذا الشهر. وكانت الملطفات «1» قد سيرت إلى الأمراء: سيف الدين قبجاق، وسيف الدين بكتمر، وفارس الدين البكى، بالحضور إلى الخدمة السلطانية، ومراجعة الطاعة، واستدراك ما فرط، فأجابوا بالسمع والطاعة. وبادروا بالحضور إلى الخدمة الشريفة السلطانية، واجتمعوا بالأمراء بمنزلة سكرير «2» . وتوجهوا إلى خدمة السلطان، وهو مقيم بمنزلة الصالحية، وذلك فى العاشر من شعبان. فركب السلطان وتلقاهم وأكرمهم وأحسن إليهم، وعاد وهم فى خدمته إلى قلعة الجبل. وكان وصوله إليها فى رابع عشر شعبان، وأسكن الأمراء المذكورين بالقلعة، وأجرى عليهم الإقامات، وشملهم بالإنعام «3» . وأما الأمير سيف الدين سلار والعساكر، فإنهم توجهوا إلى دمشق. وكان وصول الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بدمشق إليها بالعسكر «4» الشامى، فى يوم السبت عاشر شعبان.

وفى يوم الأحد وصل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة بحلب بعساكرها، وكان قد فوض إليه نيابتها، والأمير سيف الدين قطلبك نائب الفتوحات الطرابلسية جميعا «1» . وفى يوم الاثنين، ثانى عشر الشهر، وصلت ميسرة الجيوش المصرية، ومقدمها الأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار. وفى يوم الأربعاء، رابع عشر الشهر، وصل قلب الجيش، وفيه الأمير سيف الدين سلار، نائب السلطنة الشريفة. والمماليك السلطانية، والعادل زين الدين كتبغا المنصورى فى خدمته. ونزلت العساكر بالمرج «2» . وقرر الأمير سيف الدين سلار النواب بالممالك على ما رسم به السلطان له عند سفره. فأقر الأمير جمال الدين أقش الأفرم على عادته بدمشق. وفوض إلى الأمير زين الدين كتبغا الملقب- كان- بالملك العادل، نيابة السلطنة بالمملكة الحموية «3» ، عوضا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى المذكور، وذلك بحكم أن الأمير سيف الدين بلبان الطباخى استعفى من النيابة بحلب واستقر فى جملة الأمراء المقدمين بالديار المصرية، على اقطاع الأمير شمس الدين آقسنقر كرتيه «4» ، بحكم وفاته. وفوض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات إلى الأمير سيف الدين قطلوبك «5» المنصورى. وأعاد الأمير سيف الدين كراى المنصورى إلى نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية على عادته.

وفّوض قضاء القضاة الشافعية بدمشق لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الحموى، فى خامس شهر شعبان، بحكم وفاة القاضى إمام الدين عمر ابن القاضى سعد الدين بن الكرجى القزوينى القونوى. وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء خامس عشرين، شهر ربيع الآخر، ودفن بالقرافة. وفوّض قضاء القضاة الحنفية، لقاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الشيخ صفى الدين الحريرى، فى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من الشهر. وفوّض شاد الدواوين بالشام، إلى الأمير سيف الدين أقجبا المنصورى. وولى بر دمشق للأمير عز الدين أيبك التجيبى. وفوّض حسبة دمشق لأمين الدين الرومى، إمام المنصور لاجين «1» . وأقام الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس بدمشق، إلى أن استقرت أحوالها، وترتبت وظائفها. ثم رجعا إلى الديار المصرية. وكان رحيلهما من دمشق بالجيوش المصرية المنصورة، فى يوم السبت ثامن شهر رمضان. ووصلا إلى خدمة السلطان بقلعة الجبل، فى يوم الثلاثاء، ثالث شوال. ولما وصلا، فوّض إلى الأمير سيف الدين قبجاق نيابة السلطنة بالشوبك. وأعطى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، بالديار المصرية، والأمير فارس الدين البكى الساقى، إمرة بدمشق. واستقرت الحال على ذلك.

ذكر ما اعتمده الأمير جمال الدين [أقش] نائب السلطنة بدمشق، بعد عود العساكر المصرية

ذكر ما اعتمده الأمير جمال الدين [أقش «1» ] نائب السلطنة بدمشق، بعد عود العساكر المصرية . لما عاد الأمير سيف الدين سلار والعساكر المصرية من دمشق، وخلاوجه الأمير جمال الدين أقش الأقرم، نائب السلطنة بالشام، تتبع من أذى المسلمين عند التتار، وتجاهر بذلك. فعامل كلا «2» منهم بما نذكره، مما أدى إليه اجتهاده، واقتضاه رأيه وتدبيره. فكحّل الحاج مندوبه «3» ، وسمر الشريف «4» القمى، وابن العونى «5» البرددار، وابن خطلبشا «6» المزى، وحملهم على الجمال، ثم أطلق ابن العونى، بعد ثلاثة أيام. وشنق كانب مسطبة الولاية بدمشق، وإبراهيم مؤذن بيت لهيا «7» ، ورجلا من اليهود. وقطع لسان ابن طاعن، وقطع يد ورجل أحد من أمّرهم «8» قبجاق، فمات بعد ثلاثة أيام. وكحّل الشجاع همام، فمات بعد ليلة. ثم توجه فى العشرين من شوال إلى جبال الكسر وان والدرزية «9» ، وقصد

استئصال شأفتهم، لما عاملوا به العساكر الإسلامية، عند هزيمتها، من السلب والأذى. فالتزموا برد ما أخذوه من أقمشة العسكر، وحمل ما ترد عليهم، وعاد إلى دمشق، فى يوم الأحد ثالث ذى القعدة من السنة. وألزم أهل دمشق أرباب الحوانيت بتعليق الأسلحة فى حوانيتهم، وأمروا برماية النشاب، ونودى بذلك. وحضرت رسالة قاضى القضاة بذلك إلى فقهاء المدارس. وعرض عوام البلد فى الحادى والعشرين من القعدة، فحضروا بالسلاح. وقدم على أهل كل سوق رجلا منهم. ثم عرض السادة الأشراف، فى يوم الخميس رابع عشرين الشهر، بالعدّة الكاملة، مع نقيبهم نظام الملك. وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير الطواشى حسام الدين جلال المغيثى الجلالى، نسبة إلى الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكانت وفاته فى تاسع شهر ربيع الآخر، بمنزلة السوادة «1» ، وحمل إلى قطيا «2» ، ودفن بها. وكان قد مرض بدمشق، فأعيد، ولم يشهد الوقعة. وكان رحمه الله تعالى دينا خيرا.

وفيها، توفى القاضى علاء الدين أحمد ابن قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن خلف بن بدر العلائى. وكانت وفاته............... ... «1» وصليت عليه فيمن صلى، وكانت جنازته مشهودة، ودفن بتربتهم بالقرافة رحمه الله تعالى. وفيها، توفى الأمير سيف الدين جاغان الحسامى بأرض البلقاء من الشام. وفيها، توفى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى بحصن الأكراد، فى ثالث شهر رجب وكان قد انصرف من الوقعة، والتحق بحصن الأكراد، فمات به، رحمه الله تعالى. وفيها، توفى والدى، رحمه الله تعالى، تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب ابن أبى عبد الله، محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكرى، النيمى القرشى المعروف بالنويرى. وقد تقدم ذكر باقى نسبه، عند ذكر مولدى فى سنة سبع وسبعين وستمائة «2» . وكانت وفاته رحمه الله، قبل أذان المغرب، من يوم الخميس الثانى والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وتسعين وستمائة، بالمدرسة الصالحية النجمية، بقاعة التدريس المالكية. وكان ابتداء مرضه، فى يوم الأربعاء، الرابع عشر من الشهر. ومولده بمصر بالمدرسة المعروفة بمنازل العز سنة ثمان عشرة وستمائة. ومات رحمه الله تعالى، ولم تفته صلاة. ولقد توضأ لصلاة

العصر، من يوم وفاته أربع مرات، وكان به ذرب، ثم صلى صلاة العصر جالسا. ومات قبل أذان المغرب من يومه. وكان آخر كلامه، بعد أن دعا الله تعالى لى بخير، التلفظ بالشهادتين. ثم قبض رحمه الله تعالى، ودفن من الغد، فى يوم الجمعة الثالثة من النهار، بتربة قاضى القضاة زين الدين المالكى، بالقرافة، رحمه الله تعالى وإيانا.

واستهلت سنة سبعمائة يوم الجمعة [700 - 1300/ 1301]

واستهلت سنة سبعمائة يوم الجمعة [700- 1300/1301] والسلطان الملك الناصر بقلعة الجبل، ومدبر «1» والدولة، ونواب المملكة من ذكرناهم. ذكر جباية المقرر على أرباب الأملاك والأموال بالديار المصرية والشام وفى هذه السنة، فى أولها قرر ناصر الدين محمد [بن «2» ] الشيخى، أحد الأمراء بالديار المصرية، ومتولى القاهرة، أن يستخرج من أرباب العقارات والأموال مالا «3» سماه مقرر الخيالة «4» ، وانتصب لإستخراج ذلك بدار العدل، تحت قلعة الجبل. وأحضر أرباب الأموال والأملاك، وقرر على كل منهم بحسب قدرته، واستخرج من ذلك تقدير مائة ألف دينار «5» . وتعدّى ضرره إلى سائر الناس، حتى أراد [أن «6» ]

يستخرج من العدول «1» الجالسين بسوق الوراقين، من كل عدل عشرين دينارا، ومن كل «2» عاقد أربعين دينارا. فنهض قاضى القضاة زين الدين المالكى فى ذلك، وتحدث مع الأمراء فى ذلك. وذكر ضرورة العدول وفاقتهم واحتياجهم، وأن جلوسهم فى سوق الوزاقين، لتحصيل أقواتهم، ولو قدروا على القوت ما جلسوا، وقام فى ذلك أتمّ قيام، حتى اندفعت عنهم هذه المظلمة، وأعفوا «3» منها. واستخرج من سائر الأعمال والبلاد والقرى بالديار المصرية أموال، قررت على كل بلد من البلاد المقطعة، واستخرجت الأموال من الرعايا والفلاحين. وأما دمشق، فإنه رسم باستخراج أجرة أربعة أشهر من أرباب الأملاك والأوقاف التى بدمشق وظاهرها، ومن الضياع، التى ضمانها أكثر من أمدائها ثلث ضمانها. وإن كانت أمداؤها أكثر من ضمانها، استخرج عن كل مدى، ستة دراهم وثلثا درهم- والمدى أربعون ذراعا فى مثلها، يكون تكسيره ألف ذراع وستمائة ذراع، بذراع العمل «4» - فنال الناس من ذلك شدة. وكان المال المطلوب، عن ما تحصل فى سنة تسع وتسعين وستمائة. وفيها، فى المحرم، كثرت الأراجيف بحركة التتار، فجفل أهل الشام أجمع، منهم من التجأ إلى الحصون، وأكثرهم وصلوا إلى الديار المصرية، حتى امتلأت

ذكر توجه السلطان الملك الناصر بالعساكر إلى الشام وعوده

القاهرة ومصر منهم. وكان سعر القمح، قبل وصول هذه الجفول، عن كل أردب عشرين درهما. فنزل إلى خمسة عشر درهما، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «1» . ذكر توجه السلطان الملك الناصر بالعساكر إلى الشام وعوده لما كثرت الأراجيف وقويت الثناعة، بقرب التتار، توجه السلطان بالعساكر إلى الشام. واستقل ركابه من منزلة. مسجد التبن «2» ، وهى المنزلة الأولى من قلعة الجبل، فى يوم السبت ثالث عشر صفر، ووصل إلى غزة، ونزل بمنزلة بدعرش «3» ، وأقام بها. وتوالت الأمطار وكثرت، واشتد البرد، وانقطعت الأجلاب عن العسكر، حتى عدمت الأقوات. واستمر السلطان بهذه المنزلة إلى سلخ شهر ربيع الأخر. ثم عاد إلى القاهرة، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الاثنين، حادى عشر جمادى الأولى، بعد أن جرد من منزلته بدعرش «4» ، الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار ومضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزورى

ذكر وصول غازان إلى الشام وعوده وما فعلته جيوشه

ومضافيه. فتوجهوا إلى دمشق بألفى فارس، فوصلوا إليها، فى سابع جمادى الأولى «1» . ولما ظهر بدمشق عود السلطان إلى الديار المصرية؛ خرج من بقى من الدماشقة إلى الديار المصرية. وذلك أن متولى دمشق، كان يمر بالأسواق فيقول للناس: ما يجلسكم هاهنا، وأى شىء تنتظرون، وأشباه هذا الكلام «2» . ثم نودى بدمشق فى تاسع جمادى الأولى، من أقام، فدمه فى عنقه، ومن عجز عن السفر فليتحصن بالقلعة «3» . وفى مدة مقام السلطان بمنزلة بدعرش، توفى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى. واستعفى الأمير سيف الدين كراى المنصورى «4» من نيابة السلطنة بصفد، فادفى منها؛ وأقطع إقطاع الأمير سيف الدين الطباخى بالديار المصرية. وفوضت نيابة المملكة الصفدية إلى الأمير سيف الدين بتخاص «5» المنصورى، أحد أمراء الشام. ذكر وصول غازان إلى الشام وعوده وما فعلته جيوشه كان من خبر غازان فى هذه السنة، أنه وصل بجيوشه إلى بلاد حلب،

ونزل بقرون حماه إلى بلاد سرمين. وبعث معظم جيوشه إلى جبال أنطاكية وجبال السماق «1» . فنهبوا من الدواب والأغنام والأبقار شيئا كثيرا. وسبوا من النساء والصبيان وأسروا من الرجال خلفا كثيرا. وكانوا فى سنة تسع وتسعين وستمائة لم يصلوا إلى هذه الجهة، فظن الناس أنهم لا يقصدونها «2» فى هذه السنة. فاجتمع بها خلق كثير، فقتلوا وأسروا وسبوا. ورخصت الأسرى من المسلمين، حتى أبيع الأسير والأسيرة بعشرة دراهم. واشترى الأرمن منهم خلقا كثيرا، وسيروا فى المركب إلى بلاد الفرنج. وأرسل الله تعالى على غازان وجيوشه أمطارا كثيرة وثلوجا، حتى هلك كثير منهم. فرجع بعساكره إلى بلاد الشرق، وقد نفق من خيولهم ما لا تحصى كثرة، فرجعوا شبه المكسورين. وعجزت كل طائفة من المسلمين والتتار، عن ملافاة الأخرى. وكان رجوعهم فى جمادى» الآخرة. وغلت الأسعار فى هذه السنة بدمشق، فابيعت غرارة القمح بثلاثمائة درهم، ورطل اللحم بتسعة دراهم، ثم رخصت الأسعار «4» . وفيها، استعفى الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى من نيابة المملكة الطرابلسية، فأعفى. وفوضت النيابة بها إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «5» .

ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه

وفيها، فنيت الأبقار بالديار المصرية فناء، لم يسمع بمثله. وحكى لى أن بعض مشايخ البلاد بأشموم طناح، كان يملك ألف رأس وأحد وعشرين رأسا من بقر الخيس «1» ، فمات منها ألف رأس وثلاثة وعوس، وبقى له ثمانية عشر رأسا، وغلت الأبقار بعد هذا الفناء، حتى كادت تعدم. وبيع الثور منها بألف درهم وما يقارب هذا الثمن. واستعمل الناس فى السواقى بالديار المصرية لإدارتها، الخيل والجمال والحمير «2» . ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه فى هذه السنة، وصل وزير بلاد المغرب «3» إلى الديار المصرية، بسبب الحج. وتكلم مع الأمراء فى أمر أهل الذمة، وذكر ما هم فيه من الذل والصغار ببلاد المغرب، وأنهم لا يمكنونهم «4» من ركوب الخيل والبغال، ولا يستخدمونهم «5» فى المناصب، وذكر أشياء كثيرة من هذا القول. فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، وندب لذلك قاضى القضاة شمس الدين السروجى الحنفى، فجلس بالمدرسة الصالحية. وحضر القاضى مجد الدين بن الخشاب، وكيل بيت المال، وجماعة من الفقهاء، وأحضر بطرك النصارى «6» وجماعة من أساقفتهم، وأكابر قسيسيهم، وأعيان ملتهم

وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه فى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من عقد الذمة. فلم يأتوا عن ذلك بجواب. وبحث الفقهاء فى ذلك، فاقتضت المباحث الشريفة بين العلماء، أن يميز النصارى بلبس العمائم الزرق غير الشعرى «1» ، واليهود بلبس العمائم الصفر. وتميز نساء أهل كل ملة كذلك بعلامة تظهر. ولا يركبون «2» الخيول ولا يحملون «3» سلاحا، ويركبون الخيول الحمر بالأكف «4» عرضا من غير تربين لها ولا قيمة، ويتجنبون «5» أوساط الطرق للمسلمين فى مجالسهم «6» عن مراتبهم، ولا يرفعون «7» أصواتهم على أصوات المسلمين. ولا يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، ولا يظهرون «8» شعانيهم «9» ، ولا يضربون «10» بالنواقيس. ولا ينّصرون مسلما ولا يهودونه. ولا يشترون من

الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم، ولا من «1» جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يميز نفسه بعلامة عن المسلمين، بجرس فى حلقه. ولا ينقشون «2» فصوص خواتيمهم بالعربية «3» ، ولا يعلمون «4» أولادهم القرآن، ولا يستخدمون «5» فى أعمالهم الشافة مسلما، ولا يرفعون «6» النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل. وقال بطرك النصارى بحضرة جماعة العدول: «حرّمت على أهل ملتى وأصحابى مخالفه ذلك، والعدول عنه» . وقال رئيس اليهود وديانهم: «أوقعت الكلمة على أهل ملتى وطائفتى فى مخالفة ذلك، والخروج عنه «7» » . ونظمت المكاتيب بذلك، ورسم بحمل الأمراء «8» على حكمها. وكتب إلى سائر أعمال الديار المصرية بإجرائهم على ذلك. وكتب إلى [أمراء «9» ] الشام بذلك، فالتزموا به فى شعبان من السنة. وتقرر بدمشق أن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة العمائم الحمر. واستقر ذلك فى سائر المملكة. إلا بالكرك، فإن النائب بها الأمير جمال الدين آقش الأشرفى، رأى إبقاءهم على حالتهم. واعتذر أن أهل

الكرك نصارى، وأن المسلمين بها قليل، وأن هذا القدر «1» يؤدى إلى ظهور كثرتهم للغريب، وما أشبه هذه الأعذار. فاستقر ذلك بالكرك والشوبك إلى الآن «2» . وأخبرنى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى فى سنة إحدى وسبعمائة وهو يؤمئذ أستاذ الدار السلطانية وشاد الدواوين بدمشق، قال: ركبت فى الموكب مع الأمير جمال الدين آقش الأفرم، نائب السلطنة بها، فمر بنا طائفة من أهل الذمة، بالأقمشة النفيسة والعمائم اللانس «3» . قال: فشق ذلك علىّ كونهم لم يتميزوا بعلامة. فذكرت ذلك لنائب السلطان، وقررت معه أن يأمر بتغيير هيأتهم، وأن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة «4» العمائم الحمر. وتقرر أن يطالع فى ذلك، فورد مثال السلطان بذلك، قبل وصول المطالعة إليه، ووافق تاريخ تلبيسهم بالديار المصرية، التاريخ الذى حدثت نائب السلطان فيه بسببه. ولما منعوا من الاستخدام بالديار المصرية، أسلم جماعة كثيرة من أعيانهم، لأجل مناصبهم. فاستمروا بعد إسلامهم على ما كانوا عليه «5» .

وقد وقفت على كتاب «الدر الثمين فى مناقب المسلمين ومثالب المشركين» ، تصنيف محمد بن عبد الرحمن بن محمد الكاتب «1» . وهو كتاب خدم به السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى «2» . وقد رأيت أن أذكر منه نبذة فى هذا الموضع، لتعلفه به، فالشىء بالشىء يذكر. جاء «3» فى الكتاب المذكور، فى صدره، بعد تفويض السلطان الملك الناصر المشار إليه. نثرا، والاستشهاد بأبيات من الشعر فى معناه. ثم قال: وكان مولانا الملك الناصر، خلد الله ملكه، وأبقى دولته، لما ملكه الله الديار المصرية والشامية وما قاربها. ووعده على لسان عدله، أن يفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها. انتصر لله، وتعصب لدينه، واجتهد فى رضاه، والعمل بحكم كتابه، وسنة نبيه، ولحقته الحميّة الإسلامية، وسار السيرة العمرية. وأمر بصرف الذمة وأن لا يتصرفوا ما بقيت هذه الأمة. وسطرها الكاتبان «4» فى صحائف حسناته. وأثبتها المؤرخون فى محاسن سيرته، ونظمها الشعراء فى مدائح عقد مدائحه. وشغله النظر فى مصالح الإسلام، عن تميم هذا الاهتمام، والأعمال بخواتيمها.

ونرجو من الله، أن يبادر بتكميلها وتتميمها. ولقد قيل إن الشريف مسعود بن المحسن المعروف بالبياضى، رؤى فى المنام بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك. قال: غفر لى بأبيات قلتها، وكتبت بها إلى الراضى وهى: يا ابن الخلائف من قريش والاؤلى ... طهرت أصولهم من الأدناس قلدت أمر المسلمين عدوهم ... ما هكذا فعلت بنو العباس حاشاك من قول الرعية أنه ... ناس لقاء الله أو متناسى ما العذر إن قالوا غدا هذا الذى ... ولّى اليهود على رقاب الناس أتقول كانوا وفّروا أموالهم ... قبيوتهم قفر بلا آساس لا تذكرن إحصاءهم ما وفّروا ... ظلما وتنسى محصى الأنفاس وخف القضاء غدا إذا وافيت ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاس فى موقف ما فيه إلا شاخص ... أو مهطع أو مقنع للراس أعضاؤهم فيه الشهود وسحتهم ... نار وخازنهم شديد الباس إن عطل اليوم الديون مع الغنى ... فغدا يؤديها مع الإنلاس. لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الم ... تصرّفين الحذّق الأكياس ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا ... فافعل وعّد القوم فى الأرماس، ثم قال المصنف محمد بن عبد الرحمن: قرأت أن النصيحة من الدين. وقرأت: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «1» . ثم ذكر ما ورد فى كتاب الله تعالى

من التحذير، فبدأ بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «1» وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ «2» وقوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «3» . ثم ذكر نسخة كتاب كتب إلى عمر بن الخطاب، عن أهل الذمة، فقال: قال عبد الرحمن بن عثمان: كتبنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى نصارى أهل الشام ومصر ما نسخته: «هذا كتاب لعبد الله عمر، أمير المؤمنين، من نصارى أهل الشام ومصر. لما قدمتم علينا، سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا، وأهل ملّتنا. وشرطنا على أنفسنا، أن لا نحدث فى مدائننا، ولا فيما حولها، ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية «4» ، ولا صومعة لراهب «5» . ولا نجدد «6» ما خرب منها، ولا ما كان فى خطط

المسلمين، وأن نوسع «1» للمارة ولبنى السبيل. وأن تنزل «2» من مربّنا من المسلمين ثلاث ليال، نطعمهم. ولا نأوى فى كنائسنا ولا فى منازلنا جاسوسا، ولا نكتم عينا على المسلمين. «3» ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدا. ولا نمنع أحدا من ذوى قرابتنا الدخول فى دين الإسلام، إن «4» أراد. وأن نوقّر المسلمين، ونقوم لهم فى مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس. ولا نتشبه بهم فى شىء من ملابصهم، فى قلنسوة، ولا عمامة ولا نعلين، ولا فرق شعر. ولا نتسمى بأسمائهم، ولا نتكنى بكناهم. ولا نركب بالسروج «5» ، ولا نتقلد السيوف «6» ، ولا نتخد شيئا من السلاح ولا نحمله. ولا ننقش على خواتمنا «7» بالعربية. وأن «8» نجز مقادم رؤوسنا. ونلزم زيّنا حيث كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر صلياننا، ولا نفتح كتبنا «9» فى طرق «10» المسلمين ولا أسواقهم. ولا نضرب بنواقيسنا، فى كنائسنا، فى شىء من حضرة المسلمين. ولا نخرج [فى «11» ] شعانيننا، ولا طاغوتنا. ولا نرفع

أصواتنا مع موتانا. ولا نوقد النيران فى طرق المسلمين ولا أسواقهم. ولا نجاورهم بموتانا. ولا نتخذ «1» من «2» الرقيق، من جرت عليه سهام المسلمين. ولا نطلع [عليهم] «3» فى منازلهم، ولا تعلو منازلنا منازلهم. فلما أتيت أمير المؤمنين عمر بالكتاب زاد فيه: «ولا نضرب أحدا من المسلمين» . شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا فى شىء مما اشترطناه لكم علينا، وضمناه عن أنفسنا، وأهل ملتنا، فلا دية لنا عليكم، وقد حل بنا ما حل بغيرنا، من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضى الله عنه: امض ما سألوه، والحق فيه حرفين، اشترطهما «4» عليهم، مع ما شرطوه، أنه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده «5» . قال عبد الرحمن بن عثمان: وأجمع العلماء بعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، على أنه متى نقض الذمى عهده، بمخالفة شرط من هذه الشروط

المأخوذة عليهم، فالإمام مخيّر فيه بين القتل والأسر. ويلزمهم مع ذلك أن يتميزوا عن المسلمين فى اللباس والزى، ولا يتشبهون بهم «1» فى أمر من أمور زيهم. ويشدّون الزنانير «2» فى أوساطهم. ويكون فى رقابهم خواتم رصاص أو نحاس أو جرس، يدخل معهم فى الحمام. وليس لهم أن يلبسوا العمائم والطيلسان. وأما المرأة فتشد الزنار من تحت الإزار، وقيل من فوق الإزار وهو الأولى. ويكون فى عنقها خاتم رصاص، يدخل معها الحمام. ويكون أحد خفيها أسود، ليبقى مشتهرا ظاهرا، والآخر أبيض. ويركبون الحمير بالأكف، ولا يركبون بالسروج. ولا يتصدرون فى المجالس ولا يبدأون بالسلام. ويلجأون إلى أضيق الطرق. ويمنعون أن يعلو بناؤهم على ابنية المسلمين، وتجوز المساواة، وقيل لا تجوز، بل يمنعون. ويجعل الإمام عليهم رجلا يكتب أسماءهم وحلاهم، ويستوفى عليهم ما يؤخذون «3» به من هذه الشرائط. وإن زنى منهم أحد بمسلمة، أو أصابها بنكاح، برئت منه الذمة. وقال أبو هريرة: أمر أمير المؤمنين عمر بن خطاب، رضى الله عنه،

ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به

بهدم «1» كل كنيسة استجّدت بعد الهجرة، ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام، وسيّر عروة بن محمد، فهدم الكنائس بصنعاء. وصانع القبط على كنائسهم بمصر، وهدم بعضها، ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. هذا آخر ما لخصناه من الكتاب المذكور «2» . فلنزجع إلى تتمة حوادث سنة سبعمائة. ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به وفى هذه السنة، فى ذى القعدة، وصل رسل غازان إلى البلاد الشامية «3» ، وهم الأمير ناصر الدين على خواجا، والقاضى كمال الدين موسى بن يونس، ورفيقهما. فوصل البربد من حلب بوصولهم. فرسم بتوجه الأمير سيف الدين كراى المنصورى لإحضارهم. فتوجه على خيل البريد فأحضرهم إلى الأبواب السلطانية. وكان وصولهم إلى قلعة الجبل، فى ليلة الاثنين، خامس عشر ذى الحجة. وأحضروا بين يدى السلطان، فى عشية نهار الثلاثاء. فخطب كمال الدين خطبة فى معنى الصلح، واتفاق الكلمة، ورغب فيه. ثم أخرج كتابا نسخته «4» : بسم الله الرحمن الرحيم. بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية فرمان السلطان محمود غازان.

ليعلم السلطان الملك المعظم الناصر، أنه فى العام الماضى، بعض عساكرهم «1» المفسدة، دخلوا أطراف بلادنا، وأفسدوا فيها، لعناد الله وعنادنا، كماردين ونواحيها، وجاهدوا الله بالمعاصى فيمن ظفروا به من أهلها، وأقدموا على أمور بديعة، وارتكبوا آثما شنيعة، من محاربة الله وخرق ناموس الشريعة. فأنفنا من تهجمهم «2» ، وغرنا من تقحمهم «3» . وأخذتنا الحمية الإسلامية، فحدتنا «4» على دخول بلادهم، ومقاتلتهم على فسادهم. فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجهنا بمن اتفق منهم أنه حاضر. وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، صلكنا سنن سيد المرسلين، واقتفينا آثار المتقدمين «5» . واقتدينا بقول الله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) «6» . وأنفذنا صحبة يعقوب السكرجى، جماعة من القضاة والأئمة والثقات. وقلنا: (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) «7» . فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليهم وعلى المسلمين بالأضرار، وأهنتموهم وسجنتموهم. وخالفتم سنن الملوك فى حسن السلوك. فصبرنا «8» على تماديكم فى غيّكم، وخلودكم إلى بغيكم، إلى أن نصرنا الله، وأراكم فى أنفسكم قضاه. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ

اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ) «1» . وظننا أنهم حيث تحققوا كنه الحال، وآل بهم الأمر إلى ما آل، أنهم ربما تداركوا الفارط فى أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، وأوجه «2» إلينا وجه عذرهم، وأنهم ربما سيروا إلينا حال دخولهم إلى الديار المصرية، رسلا لإصلاح تلك القضية. فبقينا بدمشق غير متحثحثين، وتثبطنا تثبط المتملكين المتمكنين. فصدهم عن السعى فى صلاح حالهم التوانى، وعلّلوا نفوسهم عن اليقين بالأمانى. ثم بلغنا، بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم القوا فى قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلقوننا «3» على حلب أو الفرات. وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه. فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم. ووصلنا الفرات مرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا ولعلهم وعساهم «4» . فما طلع لهم بارق، ولا ذرّ شارق. فتقدمنا «5» إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطئهم غاية العجب. فبلغنا رجوعهم «6» بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب. وفكرنا فى أنه متى تقدمنا بعساكرنا الباهرة وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وباقامتهم فيها فسدت أمورها. وعم الضرر العباد، والخراب البلاد. فعدنا بقيا عليها، ونظرة لطف من الله إليها.

وها نحن الآن [أيضا «1» ] مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون «2» غرار «3» عزماتنا المشهورة، ومشتغلون بصنع المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «4» . وقد سيرنا حاملى هذا الفرمان: الأمير الكبير ناصر الدين على خواجه، والإمام العالم ملك القضاة، كمال الدين موسى بن يونس. وقد حملنا هما كلاما يشافهاهم «5» به. فليثقوا «6» بما تقدمنا به إليهما. فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) «7» . فيعدوا «8» لنا الهدايا والتحف. فما بعد الإنذار من عاذر. وإن لم يتداركوا الأمر، فدماء المسلمين وأموالهم مطلوله «9» بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول «10» تقصيرهم.

قليمعن السلطان لرعيته النظر فى أمره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ولاه الله أمرا من أمور هذه الأمة، واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم. احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره» . وقد أعذر من أنذر، وانصف من حذّر. والسلام على من اتبع الهدى. كتب فى العشر الأوسط من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا [محمد «1» ] المصطفى وآله الطاهرين «2» . فقرئ كتابه، ورسم بإنشاء جوابه، فكتب. وهو من إنشاء المولى القاضى علاء الدين على ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن القاضى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر. وأعاد السلطان رسله، من غير أن تصحبّهم رسولا، بل استحضرهم بمنزلة الصالحية، وأنعم عليهم وجهزهم، فتوجهوا فى سنة إحدى وسبعمائة. ونسخة الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية. أما بعد حمد الله، الذى جعلنا من السابقين الأوّلين، الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين، بإحسان إلى يوم الدين. والصلاة على سيدنا محمد والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان فى كتابه

المكنون: فقال سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) «1» بإقبال دولة السلطان الملك الناصر. كلام محمد بن قلاوون: «ليعلم «2» السلطان المعظم، محمود غازان، أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام. ورعينا له حق القصد، فتلقيناه منّا بسلام. وتأملناه تأمّل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه. فألفيناه قد تضمن مؤاخذت «3» بأمور، هم بالمؤاخذه عليها أحرى، معتذرا فى التعدى بما جعله ذنوبا لبعض، طالب بها الكل. والله تعالى يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) * «4» . أما حديث إغارة من أغار على ماردين من رجّاله بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من [الإقدام على «5» ] الأمور البديعة والآثام «6» الشنيعة، وقولهم: إنهم أنفوا من تهجمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحميّة ركوبهم فى مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التى أقاموها عذرا فى العدوان، وجعلوها سببا إلى ما ارتكبوه من طغيان. والجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنه [و «7» ] الموادعة، ما يكف يدها الممتدة، ولا يفتر هممها المستعدّة، وقد

كان أباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والشقاق «1» ، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق. ولم يزل ملك ماردين ورعيته «2» منقذين «3» ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد عنهم، متولين كبر مكرهم، والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) «4» . «وحيث جعلتم هذا ذنبا، موجّبا للحميّة الجاهلية، وحاملا على الانتصار، الذى زعمتم أن همتكم به مليّة، فقد كان [هذا «5» ] القصد، الذى ادعيتموه «6» ، يتم «7» بالانتقام من أهل تلك الأطراف، التى أوجب ذلك فعلها، والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار اتباعا لقوله تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) «8» ، لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملّفقة، على اختلاف الأديان وتطأوا «9» البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهكوا حرمة البيت المقدس، الذى هو ثانى بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وإن احتججتم أن زمام الغارة «10» بيدنا «11» ، وسبب تعدّيهم من سنّتنا. فقد أو ضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة، أوجب سلوك هذه المسالك» .

وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين واقتفاء آثار المتقدّمين، فى انفاذ الرسل أولا، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات «1» المسطورة. والجواب عن ذلك أن هؤلاء الرسل ما وصلوا إلينا [إلا «2» ] وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام السّهام، وشارف القوم القوم. ولم يبق للقاء إلا يوم أو بعض يوم، وأشرعت «3» الأسنّة من الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأى العين. وما نحن ممن لاحت «4» له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولهى، ولا ممن يسالم فيقابل «5» ذلك بجفوة النفار «6» ، والله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «7» . كيف والكتاب بعنوانه. وأمير المؤمنين على بن أبى طالب، رضى الله عنه، يقول: «ما أضمر إنسان شيئا إلا ظهر، فى صفحات وجهه وفلتات لسانه» . ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة فى أغمادها، والأسنة «8» مستكنّة فى أعوادها، والسهام غير مفوفة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم وأعدنا جوابهم.

وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم «1» ، وأبدوه من غليظ كلمهم فى قولهم: فصبرنا على تماديكم فى غيكم، وإخلادكم إلى بغيكم. فأىّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحه، قبل إرسال رسل المصالحه، وجاس خلال الديار قبل ما زعمه من الإنذار والأعذار؟ وإذا فمكروا فى هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا «2» العذر فى تأخير «3» الجواب، وما يتذكر «4» إلا أولوا الألباب. وأما ما تحججوا «5» به «6» مما اعتقدوه من نصره، وظنّوه من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب [فى] «7» كل كرة الكرة. فلو تأملوا ما ظنوه ربحا، لوجدوه هو الخسران المبين. ولو أنعموا النظر فى ذلك، لما كانوا به مفتخرين، ولتحقّقوا أن الذى اتفق لهم، كان غرما «8» لا غنما، وتدبروا معنى قوله تعالى، (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «9» . ولم يخف عنهم من أبلته «10» السيوف الإسلامية منهم. وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا، التى لو كانت مجتمعه عند اللقاء، ما ظهر خبر عنهم.

فإنا كنا فى مفتتح ملكنا، ومبتدإ أمرنا، حللنا بالشام للنظر فى أمور البلاد والعباد. فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا «1» نقدّ أديم الأرض سيرا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررا وضيرا، ونؤدى من الجهاد السنة والفرض ونعمل بقوله تعالى: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) «2» فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقا بقوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) «3» وإلا فأكابركم «4» يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية، التى كم وطئت موطئا يغيظ الكفار. فكتب لها [به «5» ] عمل صالح، وسارت فى سبيل الله، ففتح الله عليها أبواب المناجح. وتعددت أيام نصرتها «6» ، التى لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم [على «7» ] أن تنكروها، وفى تعب من يجحد ضوء الشمس. وما زال الله لنا نعم المولى ونعم النصير. وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ الاستظهار، ولا ينهتك مثل خبير. وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجرى المواقف التى هى بتقدير الله؛ فلا فخر فيها للغالب، ولا عار على المغلوب. وكم من ملك استظهر عليه،

ثم نصر «1» ، وعاوده التأييد. فجبر بعد ما كسر، خصوصا ملوك هذا الدين، فإن الله تكفل لهم بحسن العقبى. فقال سبحانه: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) * «2» . وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، فى كوننا لم نسيّر إليهم رسولا، عندما حلوا «3» بدمشق فنحن عند ما وصلنا إلى الديار المصرية، لم نزد على أن اعتددنا «4» وجمعنا جيوشنا من كل مكان. وبذلنا فى الاستعداد غاية الجهد والإمكان وأنفقنا جزيل الأموال فى العساكر والجحافل. ووثقنا بحسن الخلف، لقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) «5» . ولمّا خرجنا من الديار المصرية، وبلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، توقفنا «6» عن المسير، توقف من أغنى رعبه عن حث الركاب، وتثبتتا تثبت الراسيات (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) «7» وبعثنا طائفة من العساكر لمقاتلة من أقام بالبلاد، فما لاح لنا منهم بارق ولا ظهر. وتقدمت فتخطفت من حمله على التأخر الغرر؛ ووصلت الفرات فما وقفت للقوم على أثر.

وأما قولهم: أننا ألقينا فى قلوب العساكر والعوام، أنهم فيما بعد يلتقوننا «1» على حلب أو الفرات، وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا «2» إلى الفرات وإلى حلب، مرتقبين وصولنا. فالجواب عن ذلك، أنه من حين بلغنا حركتهم، جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا «3» ، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة عل كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل منازع ومسلم، طائعين لله ولرسوله فى أداء فرض «4» الجهاد، باذلين فى القيام بما أمرنا الله تعالى غاية الاجتهاد، عالمين أنه لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمشايعته. ومن والاه «5» فقد حفظه الله وتولاه. ومن عانده أو عاند من أقامه، فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية، تقدمت عساكرنا إلى «6» السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله تعالى فى النصر الرجاء والأمل. ووصلت أوائلها إلى أطراف حماه وتلك النواحى «7» ، فلم يقدم أحد منهم عليها. ولا جسر أن يمد [حتى «8» ] ولا الطرف إليها. فلم نزل مقيمين، حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد. فعدنا لاستعداد جيوشنا التى لم تزل تندفع فى

ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله إلى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأل مراحمه، فلم تجد «1» رسالته نفعا. ووصلت هذه العساكر إلى حلب. وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد مقدمى العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعا، وأدرك الجيش بحلب. وجرد من العسكر الحلبى الأمير علم الدين المعروف بالزغلى و [الأمير علم الدين سنجر الحلبى «2» ] ، ومضافيهما. وتوجهت هذه الجيوش بجملتها إلى بلاد سيس. فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين. فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدى من عقبة بغراس إلى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون. وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدوادارى، والأمير شمس الدين آفسنقر كرتاى «3» ، وبقية الجيش من عقبة المريت «4» . وصار نهر «5» جهان بين الفريقين وكان دخولهم إلى دربند سيس، فى يوم الخميس، رابع شهر رجب.

إلى أحد من المسلمين يد أضراره. هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام. وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا به عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه «1» من الاهتمام بجمع عساكرهم، وتهيئة المجانيق، إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) «2» . وأما قولهم: وإلا فدماء المسلمين مطلوله، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن [لا «3» ] يصدر إليهم عن ذلك جواب، ومن قصد «4» الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول، الذى عليه فيه من جهة الله، ومن جهة رسوله أى جناح؟. وكيف يضمر هذه النية، ويتبجح بهذه الطوية؟ ولم يخف مواقع الزلل [من «5» ] هذا القول وخلله، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول «نية المرء أبلغ من عمله» . وبأى طريق تهدر دماء المسلمين، التى من تعرض إليها، يكون الله له فى الدنيا والآخرة مطالبا وغريما، ومؤاخذا بقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) «6» . وإذا كان الأمر كذلك، فالبشرى لأهل الإسلام، بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الاستعداد، وجمع العساكر التى يكون لها الملائكة الكرام،

إن شاء الله تعالى من أنجاد، والاستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العدد، المتكأثرة المدد، الموعودة بالنصر، الذى يحفها فى الظعن والإفامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة» . المبلغة فى نصر دين الله آمالا، المستعدة لإجابة داعى الله إذا قال: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) «1» . وأما رسلهم، وهم [فلان وفلان «2» ] ، فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، وأكرمنا وفادتهم، وغزرنا لأجل مرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم هذا، مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم. وأنهم ما دفعوا لأفواه الخطوب إلا لما ارتكبوه من ذنوب. وما كان ينبغى أن يرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله. ولا ينتدب لهذا الأمر المهم إلا من يجمع على فصل خطابه وفضله. وأماما بالتسموه من الهدايا والتّحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة، لعوضناهم بأحسن منها. ولو أتحفونا بتحفة لقابلناهم «3» بأجمل عوض عنها. وقد كان عمّهم الملك احمد «4» ، راسل والدنا السلطان الشهيد وناجاه «5» بالهدايا [والتحف «6» ] من مكان بعيد. وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها، بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.

والآن، فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الأنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم، جنحنا لها، وإذا دخل فى الملّة المحمدية، ممتثلا ما أمر الله به، مجتنبا ما عنه نهى، وانضم «1» فى سلك الإيمان، وتمسك بموجباته، تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنانّ، وتجنّب التشبه بمن قال الله عز وجل فى حقهم: (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) «2» . وطابق فعله قوله: ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولا من جهته يرتّل آيات الصلح ترتيلا؛ ويروق خطابه وجوابه، حتى يتلو كل أحد عند عوده (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) «3» . صارت حجّتنا وحجّته المركبة «4» على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك فى سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب «5» الكافرين هوانا؛ والمشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) «6» . وينتظم إن شاء الله تعالى شمل الصلح، أحسن انتظام. ويحصل التمسك من الموادعة والمصافاة «7» بعروة ولا انفصال لها ولا انفصام. وتستقر قواعد الصلح، على ما يرضى الله ورسوله علية أفضل الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى.

كتب فى ثامن وعشرين المحرم سنة إحدى وسبعمائة «1» . وفى سنة سبعمائة، ولى الأمير الدين البكى الساقى نيابة السلطنة بحمص. وفيها، توجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير الدولة ومدبّرها، إلى الممالك الشامية لكشفها، ووصل إلى المملكة الحلبية، وعاد إلى الديار المصرية، فى سنة إحدى وسبعمائة، وعزل عن الوزارة فى غيبته «2» . وفيها، توجه الأمير سيف الدين بكتمر الجو كان دار، أمير جاندار؛ إلى الحجاز الشريف؛ وتصدق بصدقات عظيمة. فيقال إنه أنفق فى هذه السفرة خمسة وثمانين ألف دينار عينا. «3» وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى؛ وهو الذى ناب عن السلطنة بالشام، فى الدولة الظاهرية والسعيدية. وكانت وفاته برباطه بجبل الصالحية، فى يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الأول ودفن هناك رحمه الله تعالى «4» . وفيها، توفى الشيخ زين الدين عبد الرحمن ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، أخو قاضى القضاة بدر الدين. وكانت وفاته بحماه فى سابع

واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698 - 1298/ 1299]

واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698- 1298/1299] فى هذه السنة، فى أولها جهز السلطان الأمير جمال الدين أقش الأفرم، والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى «1» إلى الشام، وأمرهما أن يتوجها إلى دمشق، ويخرجا نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجاق «2» وبقية العسكر إلى البلاد الحلبية. فوصلا إلى دمشق على خيل البريد، فى يوم الأربعاء سابع المحرم. فتجهز الأمير سيف الدين قيجاق نائب السلطنة، وخرج بسائر عساكر دمشق حتى يخربة القلعة، وجماعة الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب القلعة، وتأخر بدمشق الأمير سيف الدين جاغان. وكان خروج نائب السلطنة من دمشق، فى عشية الأربعاء، رابع عشر المحرم، وبات بالميدان الأخضر. وركب فى بكرة النهار؛ وتوجه بالعساكر إلى جهة حمص. وكان سبب هذه الحركة ظاهرا، أن السلطان بلغه أن التتار قد عزموا على الدخول إلى البلاد الإسلامية بالشام. وعلم الأمير سيف الدين قبجاق، أن الأمر ليس كذلك. فإن القصاد قبل ذلك بيسير، حضروا إليه من بلاد الشرق، وأعلموه أن التتار كانوا قد تجهزوا وعزموا على الحضور إلى الشام. فلما كانوا باثناء الطريق، وقعت عليهم صواعق كثيرة، وأهلكت منهم خلفا كثيرا، فتفرقوا فى مشانيهم، ولم يرد خلاف ذلك.

كمل الجزء التاسع والعشرون من كتاب نهاية الآرب فى فنون الأدب وافق الفراغ من كتابته، فى يوم الاثنين السادس من شهر رمضان سنة ست وستين «1» وستمائة» على يد الفقير إلى الله تعالى عبد المنعم بن شرف الدين السنبلاوينى. يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول السفر الموفى ثلاثين واستهلت سنة إحدى وستعمائة للهجرة النبوية والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل

فهرس موضوعات الجزء الحادي والثلاثون

فهرس موضوعات الجزء الحادي والثلاثون من كتاب نهاية الأرب للنويري تقديم 5 ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى 7 ذكر عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وتفويضها للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وغير ذلك 12 ذكر أخبار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وخروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق، وما كان من أمره إلى أن عاد للطاعة، ورجع إلى الخدمة السلطانية 14 ذكر التقاء العسكر المصرى والعسكر الشامى وانهزام عسكر الشام، وأسر من يذكر من أمرائه فى المرة الأولى 15 ذكر تجريد العساكر إلى دمشق، وحرب سنقر الأشقر وانهزامه، إخلائه دمشق، ودخول العسكر المصرى إليها 17 ذكر توجه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون وتحصنه بقلعتها 20

ذكر انتظام الصلح بين السلطان الملك المنصور وبين سنقر الأشقر، وما استقر بينهما وانتقاض ذلك وأخذ صهيون منه 21 ذكر خبر الملك السعيد وما كان من أمره بالكرك واستيلائه على الشوبك واستعادتها منه 24 ذكر وفاة الملك السعيد، وقيام أخيه الملك المسعود خضر مقامه بالكرك 25 ذكر الصلح بين السلطان المسعود وانتقاض ذلك، وإخراجه من الكرك 27 ذكر الفتوحات والغزوات التى شهدها السلطان بنفسه والتى ندب إليها عساكره المؤيده ذكر عبور التتار إلى الشام، والمصاف الذى وقع بينهم وبين العساكر المنصورة بمحص وانهزام التتار 30 ذكر الميمنة المنصورة 33 ذكر الجاليش؛ وهو مقدمة القلب 33 ذكر فتوح قلعة قطبيا 37 ذكر فتوح ثغر الكختا 38 ذكر الإغارة على بلاد سيس 38

ذكر فتوح حصن المرقب 39 ذكر غزوتى النوبة الأولى والثانية 39 ذكر تجريد الجيش فى المرة الثانية إلى النوبة 41 ذكر فتوح طرابلس الشام 46 ذكر أخبار طرابلس الشام، منذ فتحها المسلمون فى خلافة عثمان إلى وقتنا هذا 49 ذكر ما اتفق فى الدولة المنصورية على حكم السنين خلاف ما ذكرناه من إقامة النواب، ومهادنة الفرنج، والحوادث الغريبة، التى يتعين إيرادها، والوفيات سنة ثمان وسعبين وستمائة 61 سنة تسع وسبعين وستمائة 64- 72 ذكر ما تجدد بدمشق بعد أن فارقها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر 64 ذكر عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن القضاة بدمشق، واعادته، وما اتفق فى هذه السنة الحادثه 65 ذكر تفويض السلطنة ولاية العهد للملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور 68 ذكر توجه السلطان إلى غزة، وعوده إلى الديار المصرية 69 ذكر توجه السلطان إلى الشام 70

سنة ثمانين وستمائة 73- 86 ذكر ما تقرر من المهادنات مع الفرنج وبيت الاسبتار 73 ذكر حادثة الأمير سيف الدين كوندك ومن معه، والقبض عليه 77 ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين رزين، وولاية القاضى وجيه الدين، واستعفائه من قضاء القاهرة، وولاية القاضى شهاب الدين الخوبى 82 سنة إحدى وثمانين وستمائة 87- 94 ذكر تفويض نيابة السلطنة بحلب للأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى 87 ذكر وصول رسل أحمد سلطان، وهو توكدار بن هولاكو، ملك التتار 89 ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه 91 سنة اثنتين وثمانين وستمائة 95- 118 ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده 96 ذكر عزل قاضى القضاة عز الدين بن الصائغ الشافعى عن القضاء، وتولية قاضى القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكى 97 ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن ومن معه من جهة أحمد سلطان، ووفاة مرسلهم، وما كان من خبرهم 99

ذكر عمارة التوبة المنصورية والبيمارستان ومكتب السبيل 105 العودة إلى بقية حوادث سنة اثنتين وثمانين وستمائة 113 سنة ثلاث وثمانين وستمائة 119- 124 ذكر توجه السلطان إلى الشام 119 ذكر حادثة السيل بدمشق 119 ذكر وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشىء من أخباره، وأمر ولده الأمير حسام الدين مهنا 120 ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماه وولاية ولده الملك المظفر 121 سنة أربع وثمانين وستمائة 125- 128 ذكر مولد السلطان الملك الناصر 125 سنة خمس وثمانين وستمائة 129- 143 ذكر حادثة غريبة اتفقت بحمص 129 ذكر توجه السلطان إلى الكرك وما رتبه من أمر النيابة وعوده 132 ذكر وفاة القضاة وجيه الدين، وتفويض القضاة بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة تقى الدين بن بنت الأعز 133 ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين بن شاس المالكى، وتفويض القضاة لقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى 133 ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى، وشىء من أخباره 134

سنة ست وثمانين وستمائة 145- 151 ذكر تفويض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى برهان الدين السنجارى، ونقلة شهاب الدين الخوبى إلى الشام، ووفاة السنجارى، وإضافة قضاء القاهرة للقاضى تقى الدين بن بنت الأعز 145 ذكر خبر واقعة ناصر الدين بن المقدس وأعيان دمشق، ومصادرة أكابر دمشق، وتوكيل ناصر الدين بن المقدسى عن السلطان 147 سنة سبع وثمانين وستمائة 153- 161 ذكر عزل الأمير علم الدين سنجر الشجاعى عن الوزارة ومصادرته، وتفويض الوزارة لقاضى القضاة تقى الدين، ثم إلى الأمير بدر الدين بيدرا 153 ذكر توجه ناصر الدين بن المقدسى إلى دمشق وما فوض إليه من مناصبها، وما اعتمده 157 ذكر وفاة الملك الصالح وتفويض ولاية العهد إلى الملك الأشرف 159 سنة ثمانين وثمانين وستمائة 163- 165 ذكر ما اتفق بدمشق من المصادرات 163 سنة تسع وثمانين وستمائة 167- 185 ذكر إبقاع الحوطة على ناصر الدين المقدسى وشنقه 168

ذكر وفاة قاضى القضاة نجم الدين المقدسى الحنبلى وتفويض القضاء بدمشق بعده للشيخ شرف الدين المقدسى 171 ذكر تسمية نواب السلطان الملك المنصور ووزرائه 174 ذكر أخبار السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحى 177 ذكر القبض على الأمير حسام الدين طرنطاى وقتله، وعلى الأمير زين الدين كتبغا واعتقاله 180 ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى 183 سنة تسعين وستمائة 187- 224 ذكر تفويض الوزارة للصاحب شمس بن السلعوس وشىء من أخباره 187 ذكر القبض والإفراج على من نذكر من الأمراء 194 ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا 195 ذكر القبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام 209 ذكر رحيل السلطان عن عكا ودخوله دمشق، وما قرره من أمر النيابة بها، وبالكرك وغير ذلك 210 ذكر فتوح برج صيدا 212 ذكر فتح بيروت 212

ذكر إنفاذ ولدى السلطان الملك الظاهر ووالدتهما إلى بلاد الأشكرى 214 ذكر الإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، وغيره من الأمراء 214 ذكر عزل قاضى القضاة تقى الدين بن بنت الأعز عن القضاء ومصادرته 218 ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة الشافعى 220 ذكر متجدات كانت بدمشق 221 سنة إحدى وتسعين وستمائة 225- 246 ذكر توجه السلطان إلى الشام 225 ذكر فتوح قلعة الروم وتسميتها قلعة المسلمين 226 ذكر توجه الأمير بدر الدين بيدرا وبعض العساكر إلى جبال الكسروان واضطراب العسكر 240 ذكر هرب الأمير حسام الدين لاجين والقبض عليه واعتقاله، والقبض على طقصوا 242 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام والفتوحات، وعود السلطان إلى الديار المصرية 242 ذكر عدة حوادث كانت فى خلال فتح قلعة الروم وقبله وبعده 243

ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وجرمك الناصرى ووفاتهما، ووفاة طقصوا، والإفراج عن الأمير حسام الدين لاجين 245 سنة اثنتين وتسعين وستمائة 247- 257 ذكر توجه السلطان إلى الصيد 248 ذكر توجه السلطان إلى الشام وأخذ بهسنا من الأرمن وإضافتها إلى الممالك الإسلامية 249 ذكر القبض على الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى وأخوته 250 ذكر هدم قلعة الشوبك 251 ذكر حادثة السيل بيعليك 252 ذكر ختان الملك الناصر، وما حصل من الاهتمام بذلك 253 سنة ثلاث وتسعين وستمائة 259- 280 ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمهما الله 259 ذكر خبر الأمير بدر الدين بيدرا ومن معه من الأمراء الذين وافقوه وما كان منهم، ومقتل بيدرا 263 ذكر أخبار السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى 267 ذكر خبر الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل السلطان الملك الأشرف 269

ذكر أخبار الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس الوزير، وما كان من أمره منذ فارق السلطان الملك الأشرف إلى أن مات 270 ذكر الخلف الواقع بين الأميرين علم الدين سنجر الشجاعى وزين الدين كتبغا ومقتل الشجاعى 273 ذكر عدة حوادث كانت فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، خلاف ما قدمناه، من ولاية وعزل وغير ذلك والوفيات 277 سنة أربع وتسعين وستمائة 281- 291 ذكر الفتنة التى قصد المماليك السلطانية إثارتها 281 ذكر سلطنة السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وهو العاشر من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 282 ذكر تفويض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى 285 ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك الخزندار نائب السلطنة بالفتوحات، وولاية الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى 287 ذكر وفاة الملك المظفر يوسف بن عمر صاحب اليمن 289 سنة خمس وتسعين وستمائة 293- 309 ذكر حادثة عجيبة بالشام 295 ذكر وفود الأويراتية من بلاد التتار 296 ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز، وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد 299

ذكر توجه السلطان الملك العادل، وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى، وغير ذلك 305 سنة ست وتسعين وستمائة 311- 327 ذكر عود السلطان الملك العادل إلى الديار المصرية وخلعه من السلطنة ورجوعه إلى دمشق 311 ذكر سلطنة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى 313 ذكر أخبار الملك العادل وما اعتمده بدمشق، وما كان من أمره إلى أن انتقل إلى صرخد 316 ذكر الإفراج عن جماعة من الأمراء 321 ذكر تجديد عمارة الجامع الطولونى، وترتيب الدروس به، والوقف على ذلك 321 ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر 323 ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر 324 ذكر القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة، وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمر 325

سنة سبع وتسعين وستمائة 329- 350 ذكر وصول الملك المسعود نجم الدين خضر ومن معه، من القسطنطينية إلى الديار المصرية 329 ذكر توجه الملك السلطان الناصر إلى الكرك وإقامته بها 330 ذكر القبض على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره 331 ذكر إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى إلى الوزارة 336 ذكر تجريد العساكر إلى سيس وما فتح من قلاعها 337 ذكر حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل 344 ذكر روك الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة 345 سنة ثمان وتسعين وستمائة 351- 381 ذكر مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء الخدمة السلطانية ولحاقهم بقازان ملك التتار 352 ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر 357 ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر 363 ذكر مقتل سيف الدين طقجى وسيف الدين كرجى 365

ذكر عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى السلطنة ثانيا 370 ذكر الإفراج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتفويض الوزارة إليه 372 ذكر وفود سلامش بن أفال بن بيجو وأخيه قطقطوا ومن معهما، وعود سلامش وقتله 373 ذكر وصول مراكب الفرنج إلى ساحل الشام وتكسير بعضها، ورجوع ما سلم منها 376 ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماه 379 ذكر توجه السلطان إلى الشام 380 سنة تسع وتسعين وستمائة 383- 410 ذكر الفتنة التى أثارها الأويرانية بهذه المدينة (تل العجول) 383 ذكر وقعة غازان ملك التتار بجمع المروج ببلاد حمص 384 ذكر تسمية من استشهد وفقد فى هذه الوقعة من المشهورين 385 ذكر ما اتفق بدمشق بعد الوقعة ومفارقة العساكر الإسلامية فى مدة استيلاء التتار عليها، إلى أن فارقوا البلاد وعادوا إلى الشرق 387 ذكر ما اعتمده السلطان الملك الناصر عند عوده إلى الديار المصرية من الاهتمام بأمر الجيوش والعساكر 401 ذكر توجه السلطان بالعساكر إلى جهة الشام ووصوله إلى منزلة الصالحية وإرسال الجيوش إلى دمشق والممالك الشامية، وعود الأمراء

إلى الخدمة السلطانية، ورجوع السلطان إلى قلعة الجبل، وما تقرر من أمر النواب 403 ذكر ما اعتمده الأمير جمال الدين أقش نائب السلطنة بدمشق، بعد عود العساكر المصرية 407 سنة سبعمائة 411- 443 ذكر جباية المقرر على أرباب الأملاك والأموال بالديار المصرية والشام 411 ذكر توجه السلطان الملك الناصر بالعساكر إلى الشام وعوده 412 ذكر وصول غازان إلى الشام وعوده، وما فعلته جيوشه 413 ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه 641 ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من من المكاتبة وما أجيبوا به 426

الجزء الثاني والثلاثون

الجزء الثاني والثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد، فهذا هو الجزء الثانى والثلاثون من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة من الهجرة. وهو يؤرخ للحقبة الزمنية التى تبدأ من سنة إحدى وسبعمائة وتنتهى بنهاية سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. وفيها تقع أحداث دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية اعتبارا من السنة الرابعة من ولايته إلى منتصف شوال من سنة ثمان وسبعمائة، وأحداث دولة الملك المظفر بيبرس المنصورى الجاشنكير، والتى انتهت فى رمضان سنة تسع وسبعمائة. ثم دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة حتى نهاية السنة الحادية عشرة من ولايته وهى سنة عشرين وسبعمائة هذا فضلا عن الأحداث والحروب التى وقعت بين مملكة غرناطة الإسلامية بالأندلس، ومملكة قشتالة المسيحية فى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية. وكذلك أخبار إمارة الأشراف الحسنيين أولاد أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة الحسنى وهم عز الدين حميضة، وأسد الدين رميثة، وعماد الدين أبو اليث، وسيف الدين عطيفة، والنزاع الذى وقع بينهم على تولى إمارة مكة. وموقف السلطنة فى مصر منهم، وتدخلها فى النزاع لضمان استتباب الأمن بمكة وبخاصة فى مواسم الحج وحماية للمجاورين من ظلم الأمراء وأتباعهم.

وترجع أهمية هذا الجزء إلى أن النويرى عايش كل الأحداث التى وقعت فى هذه الحقبة إما من مشاهدة، أو سماع ممن شهدها أو نقل عن رسائل ممن شهدها، ويسر له ذلك ما كان يتولاه من أعمال تجعله قريبا من صناع القرار ومدبرى تلك الأحداث. من ذلك أنه يقول فى أخبار سنة 107 هـ: رسم بتوجهى إلى دمشق المحروسة، لمباشرة الأملاك السلطانية بالشام، وتوجهت إلى دمشق فى جمادى الآخرة، وفيه وصلت إلى دمشق- وهو أول دخولى إليها. ويقول فى أخبار حرب التتار سنة 702 هـ وفى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان اختبط الناس بدمشق. وجفلوا من الحواضر والقرى، وخرج أكابر أهل دمشق وأعيانها فى هذا اليوم منها. فمنهم من التحق بالحصون، ومنهم من توجه نحو الديار المصرية، وكنت يوم ذاك بدمشق، فخرجت منها بعد أن أعددت لأمة الحرب، والتحقت بالعسكر بعد الغروب إلى منزلة العسكر بميدان الحصا، فوجدتهم قد توجهوا إلى مرج الصفر، فلحقته الجيوش فى يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر- وهو سلخه- وأقمنا بالمرج يوم الخميس ويوم الجمعة. ثم يسوق أخبار الحرب إلى أن انتهت بنصر جيوش السلطان على التتار. ويقول فى أخبار سنة 703 هـ وقع فناء عظيم فى الخيول بالشام حتى كاد أن يأتى عليها، ونفقت أكثر خيول الناس، وكنت أملك عشرة أرؤس من الخيول الجياد أو أكثر، فنفقت كلها، واحتجت إلى ابتياع ما أركبه. ثم أخذ فى الحديث عن غلاء أسعار الخيل بعد أن كانت تدنت بعد الانتصار على التتار وأخذ خيولهم وأسلحتهم. وفى هذه السنة يقول أيضا وفيها فى شهر رمضان توجهت من دمشق إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية مفارقا لمباشرة أملاك الخاص الشريف، وكان وصولى إلى القاهرة فى يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان بعد الظهر، وباشرت ديوان الخاص، والبيمارستان المنصورى وما معه من الأوقاف المنصورية فى بقية اليوم الذى وصلت فيه، ورفع إلىّ حساب المياومة قبل غروب الشمس.

وفى أخبار سنة 709 هـ- بعد أن غادر الناصر محمد بن قلاوون قلعة القاهرة، وتوجه إلى قلعة الكرك ونزل بها هو وخواصه، وكتب إلى الأمراء بالقاهرة أنه تخلّى عن الملك- يقول النويرى: وفى أوائل شهر ربيع الآخر توجهت من القاهرة إلى الكرك، والتحقت بالأبواب السلطانية إلى أن عاد الركاب الشريف السلطانى الملكى الناصرى، وعدت إلى القاهرة في سلخ رمضان. وفى أخبار سنة 710 هـ يقول: وفى هذه السنة رسم لى أن أتوجه إلى المملكة الطرابلسية صاحب الديوان بها، وكتب توقيعى، وهو من إنشاء شهاب الدين محمود الحلبى، بخط ولده، القاضى جمال الدين إبراهيم، وهو مؤرخ فى الخامس عشر من المحرم، وتوجهت فى مستهل صفر، ووصلت إلى طرابلس، وباشرت الوظيفة، ثم انتقلت إلى نظر الجيوش بها في مستهل شوال من السنة. وفى أخبار سنة 712 هـ يقول: وفى هذه السنة حصل انفصالى من نظر الجيش بالمملكة الطرابلسية فى منتصف جمادى الأولى، وتوجهت إلى الديار المصرية، فكان وصولى إلى القاهرة فى العشرين من شهر رجب من السنة. ثم إنه يتابع أخبار مواقف الإمام ابن تيمية منذ الخلاف الذى حصل بينه وبين الصوفية، أو بينه وبين قاضى قضاة المالكية وغيره، والطعن فى رأى ابن تيمية وفتاويه فى مسألة الطلاق، وقوله فى كلام الله تعالى وقدمه وهل هو بصوت أو بلا صوت. واستوائه تعالى على العرش، ومحاققته، والتحامل عليه، ومنعه من الفتوى فى موضوع الطلاق، وترحيله إلى القاهرة وسجنه إلخ. كما يتابع أحداث النصيرية وآراءهم، وموقف السلطان منهم ومراسيمه فى شأنهم والقضاء عليهم وفتوى الإمام ابن تيمية بخروجهم من ملة الإسلام. وفى عرض المؤلف للأحداث فى الأندلس سنة 719 هـ والحرب بين المسلمين والمسيحيين، وانتصار الجيوش الإسلامية فى وقائع متتالية يحرص النويرى على توثيق الأخبار حين يقول: كانت هذه الوقعة المباركة التى أجلت

عن الظفر والغنيمة فى شهر ربيع الأول من سنة تسع عشرة وسبعمائة، ووصل الخبر بها إلى الديار المصرية فى سنة عشرين وسبعمائة، واجتمع بى من حضر هذه الوقعة، وقص على نبأها. وعلقت ذلك منه ثم فقدته، ورأيت هذه الوقعة قد ذكرها الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن يحيى بن ربيع المالقى، وملخص ما نقله عنه ... وبعد سرده للملخص يقول: وقد ورد كتاب إلى الديار المصرية من أغرناطة من جهة الشيخ حسين بن عبد السلام تضمن من خبر هذه الغزاة. وسرد ما جاء بكتابه. ومن هذه النقول يتضح حرص المؤلف على متابعة الأخبار التى عايشها بما يضفى أهمية كبيرة على تاريخ النويرى لتلك الحقبة ويجعل منه المصدر الموثوق به لدى المؤرخين فاعتمدوا على النقل منه- ليس من أرخوا لمصر والشام فقط ولكن من أرخوا للحجاز أيضا، وقد عايشت تاريخ مكة فى كتاب «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» للنجم عمر بن فهد المتوفى سنة 885 هـ، وكتاب «غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام» للعز عبد العزيز بن عمر بن فهد المتوفى سنة 922 هـ ورأيت مدى اعتمادهما على النقل من نهاية الأرب فيما يتصل بإمارة مكة المكرمة وعلاقتها بالسلطنة فى مصر. كما رأيت تقى الدين محمد ابن أحمد بن على الفاسى المتوفى سنة 832 هـ يعتمد عليه فى كتابيه «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» و «العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين» وهذا الجزء من كتاب نهاية الأرب يعتبر النص الأول الذى قمت بتحقيقه، وكان تقرير أستاذنا الكبير المرحوم الدكتور عبد العزيز الأهوانى- الذى كان لى شرف أن يراجع عملى فيه- دافعا قويا لى على مواصلة الاشتغال بتحقيق التراث التاريخى؛ ذلك لأنه أثنى على جهدى بقوله: إنه جهد باحث واعد فى تحقيق النصوص. وكان رحمه الله صاحب مدرسة فى التحقيق؛ كان لا يرضى أن يتجرأ محقق على انتقاص جهد الأساتذة الذين سبقوه فى هذا الميدان، وعاهدنى ألا أعرّض بخطأ أحد مهما كبر هذا الخطأ أو صغر، وقال: يكفيك أنك عرفت الصواب.

ومضيت فى التحقيق لكتب التاريخ، وكنت أقدم له كل نص يطبع، وكان يذكرنى بما قاله فى تقريره عنى وعن جهدى. وقد اختاره الله إلى جواره فى 13 مارس سنة 1979 م، وبفقده فقدنا عالما جليلا، يسابق أدبه علمه. كان أستاذا للأدب العربى بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم وكيلا لوزارة الثقافة، ثم رئيسا للهيئة المصرية العامة للفنون، وكنت من الذين يتمتعون بعطفه ورعايته وما أكثر مريديه الذين شاركونى فى هذا العطف وتلك الرعاية. فجزاه الله أجر ما قدم من فضل لأبنائه والعاملين معه وأسكنه فسيح جناته. وقد تم تحقيق هذا الجزء فى سنة 1962 م وسلم للمؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، لدفعه إلى المطبعة. ولكنه بقى فى مخازن المؤسسة حتى سنة 1992 م. وعنّ لى أن أعود إليه مرة أخرى قبل دفعه للمطبعة- وبعد أن حققت منفردا ستة عشر مجلدا من التراث التاريخى وأربعة مجلدات بالاشتراك مع أساتذة أفاضل. وطلبت ذلك من مركز تحقيق التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وتفضل المركز فوافق. وقد أضفت إلى جهدى فى التحقيق السابق كثيرا، وأعدت ضبط ما كنت ضبطته بالشكل لأن طول المدة أتى على الضبط ومحاه كله تقريبا. أما ما أضفته فأغلبه فى أخبار إمارة مكة، وأزمة الإمام ابن تيمية، وأخبار النصيرية، وتراجم بعض الأعلام. وقد حظى هذا الجزء بما لم يحظ به غيره من الأجزاء إذ تفضل أستاذنا الجليل الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور بمراجعته- بعد إضافاتى الجديدة، وأضفى عليه من علمه وفضله ونظراته الثاقبة، فجزاه الله عنى خير الجزاء، ومد فى عمره حتى ينعم الكثير من أبنائه بأستاذيته الكريمة.

وقد اعتمدت فى تحقيق هذا الجزء على مصورات ثلاث: إحداها: مصورة مخطوطة «كوبريلى» ورقمها فى دار الكتب المصرية هو 549 معارف عامة وقد رمزت إليها بحرف «ك» وتقع هذه المصورة فى 142 لوحة، وقد تبين أنه يسقط منها ما يوازى 55 صفحة من المنسوخة عنها استكملتها من مصورة أخرى، وهى مكتوبة بخط نسخى جميل غير أنها كثيرة البياض فى صفحاتها الأخيرة وأكثر البياض عناوين، ولعلها كانت فى الأصل مكتوبة بقلم أحمر ولم تظهر فى التصوير، وقد ملأت هذا البياض من النسختين الأخريين. والثانية: هى المصورة عن مخطوطة «أيا صوفيا» ورقمها فى دار الكتب المصرية 551 معارف عامة. وقد رمزت إليها بالحرف «ص» ويرجح أن هذه النسخة بخط المؤلف، وتقع فى 241 لوحة مقسمة على ثلاثة أقسام، كل قسم فى مجلد، ويصل ترقيم اللوحات فى الأقسام الثلاثة إلى رقم 482، وهذه النسخة مصدرة بوقفية ومنهية بخاتمة، وتعتبر أتم النسخ الثلاث، وخطها نسخى معتاد، وقد استكملت الساقط فى «ك» منها. والثالثة مصورة عن مخطوطة «الفاتيكان» ورقمها فى دار الكتب المصرية 592 معارف عامة وقد رمزت إليها بالحرف «ف» وهى تنقص مقدار 89 صفحة من المنسوخة، ويشتمل الساقط على بعض أحداث سنة 701، 702 وبينها وبين مخطوطة كوبريلى شبه كبير. لكنها تتميز بضبط بعض الكلمات بالشكل وخصوصا أسماء الأعلام. وقد تم مقابلة المنسوخة على المصورات الثلاث، وعلقت على مواطن الاختلاف فى العبارة أو الفروق فى بعض الكلمات. مع إثبات الراجح فى متن المنسوخة قمت بضبط الألفاظ التى تحتاج إلى الضبط بالشكل، وخصوصا الأعلام، والمصطلحات الحضارية كالوظائف والآلات والصنائع والألفاظ

المقحمة على اللغة العربية من الفارسية والتركية. وصوبت لغة الكتاب من حيث قواعد الإعراب. وسلامة الرسم الإملائى: ووضعت علامات الترقيم المتعارف عليها فى أماكن الحاجة إليها من أسلوب الكتاب. وقابلت أحداث الجزء على التواريخ وغيرها من الفنون التى عالجت التأريخ لهذه الحقبة الزمنية، ووثقت الأحداث بما جاء فى تلك المراجع، وأثبت ما يكون من خلاف بينها في التعليقات على النص، وسيضمّن فهرس المراجع أسماء الكتب التى استعنت بها. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل، تحريرا فى 12 من رمضان سنة 1412 (16 مارس سنة 1992 م) المحقق فهيم محمد علوي شلتوت ولا يفوتنى أن أذكر ما قام به الأستاذ عز الدين محمد أبو الحسن والسيدة أسما محمود محمد من التصحيح الطباعى لهذا الجزء ومتابعته فى المطبعة من حيث سلامة التجارب بحيث أصبح هذا الجزء فى مستوى الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب فلهما الشكر على ما قاما به. فهيم محمد علوي شلتوت

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية] [ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر] واستهلت سنة إحدى وسبعمائة للهجرة النبوية بيوم الأربعاء فى هذه السنة فى يوم الجمعة عاشر شهر [1] المحرم- فوّضت الوزارة وتدبير الدولة الشريفة الناصرية إلى الأمير عز الدين أيبك البغداديّ المنصورى [2] ، وجلس فى يوم السبت على قاعدة الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورى [3] . وكان الأمير شمس الدين قد توجه لكشف الممالك الشامية- كما تقدم- فعاد بعد عزله، واستقر فى جملة الأمراء المقدمين. وفيها- فى العشرين من المحرم- توجّه السلطان إلى الصيد بجهة العباسة [4] ، وفى خدمته جماعة من الأمراء، وتصيّد بالبرية [5] ، وضرب الدّهليز فى منزلة الصالحية [6] ، ووصل السلطان إلى الدهليز بهذه المنزلة فى الثامن والعشرين من الشهر، وخلع على كلّ من كان فى خدمته من الأمراء، وأحضر السلطان رسل غازان [7] ليلا وخلع عليهم، وأمر بعودهم. وقد تقدم ذكر ما تضمنه الجواب السلطانى إلى غازان فى سنة سبعمائة عند ذكر كتابه، وعاد

_ [1] هذا اللفظ إضافة من ص. [2] هو عز الدين أيبك البغدادى المنصورى أحد الأمراء البرجية، وهو الرابع من الوزراء الأمراء بالديار المصرية. وأنظر النجوم الزاهرة 8: 140، 141 وحسن المحاضرة 2: 223، ابن حجر: الدرر الكامنة ج، ص 422 ترجمة 1105. [3] هو سنقر المنصورى الأعسر، شمس الدين، أحد الأمراء الكبار، وكان مملوكا لعز الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام، توفى سنة 709 هـ الدرر الكامنة 2: 273 والنجوم الزاهرة 8: 278 والدليل الشافى 1: 327. [4] العباسة: قرية بنيت بأمر العباسة أخت أحمد بن طولون سنة 282 هـ فنسبت إليها ولا تزال موجودة إلى اليوم، وهى إحدى قرى مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية. (خطط المقريزى، المسماة بالمواعظ والاعتبار 1: 232، ومعجم البلدان لياقوت 3: 599) . [5] المراد هنا أرض الصحراء الشرقية- شرقى الدلتا-، وهى الجهات المتاخمة لبلاد مركزى الزقازيق وفاقوس، حيث توجد مناطق الصيد، وانظر النجوم الزاهرة 8: 142 تعليق 2. [6] الصالحية: مدينة بناها السلطان الملك الصالح أيوب بأول الرعل، وجعلها سوقا جامعا ليكون مركزا لعساكره عند خروجهم من الرمل. (السلوك للمقريزى 1: 33، محمد رمزى: القاموس الجغرافى ق 2 ج 1 ص 112. [7] هو ملك التتار ويقال قازان، ويسمى محمودا، وقد أسلم. وانتصر على جيوش الناصر محمد بن قلاوون سنة 699 هـ، ومات سنة 703 هـ بعد هزيمة جيوشه فى وقعة شقحب سنة 1702 هـ أمام جيوش الناصر محمد ابن قلاوون ويقال إنه مات حزنا قهرا بسبب هزيمة جيشه أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر، ج 3، ص 212- 214 ترجمة 514.

السلطان من الصالحية إلى بركة الجب [1] فى ثالث صفر والتقى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكان [2] دار وأمير جاندار عند عوده من الحجاز الشريف، ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل. وفى هذه السنة توجه الأمير سيف الدين أسندمر كرجى [3] إلى نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات، عوضا عن الأمير سيف الدين قطلوبك بحكم استعفائه من النيابة، وقد تقدم ذكر ذلك فى سنة سبعمائة، وكان عود الأمير سيف الدين قطلوبك إلى دمشق فى أوائل هذه السنة، وتوجه الأمير سيف الدين أسندمر من دمشق إليها فى يوم السبت حادى عشر المحرم. وفيها فى شهر المحرم أيضا فوض شادّ الدواوين [4] والأستاداريّة [5] بالشام إلى الأمير سيف الدين بلبان الجوكاندار المنصورى عوضا عن الأمير سيف الدين أقجبا الناصرى، ونقل أقجبا إلى نيابة السلطنة، وتقدمة العسكر بغزة عوضا عن الأمير ركن الدين بيبرس [6] الموفّقىّ واستقر الموفقى [7] فى جملة الأمراء المقدمين بدمشق. وفيها رمى فتح الدين أحمد بن البققى [8] الحموى بالزندقة، واعتقل بسجن الحكم، ونهضت البيّنة عليه، وسطّر محضر بما صدر منه من الألفاظ التى لا تصدر مع من شم رائحة الإيمان، ولا تخطر بباله، وشهد عليه جماعة من

_ [1] بركة الجب: اسمها القديم بركة عميرة كما جاء فى كتاب البلدان لليعقوبى. ذكر المقريزى فى المواعظ 1: 489- أنها متنزه شمال شرقى القاهرة وكان يخرج إليه صلاح الدين ويقيم به أياما للصيد، وفعل ذلك الملوك قبله وبعده وقد تغير اسمها فى القرن الثامن الهجرى إلى بركة الحاج أو الحجاج؛ لأنهم كانوا ينزلون بها فى سفرهم من القاهرة وعودتهم إليها. وتعتبر أول منازل الحاج من القاهرة- أنظر (محمد رمزى القاموس الجغرافى، ق 2، ج 1، ص 31) . [2] الجوكان دار: لفظ فارسى مركب من كلمتين: جوكان وهو المحجن الذى تضرب به الكرة، ويعبر عنه بالصولجان أيضا. والثائية دار ومعناها ممسك والمعنى الجملى ممسك الصولجان أو صاحب الصولجان. (القلقشندى: صبح الأهشى 5: 458، السبكى (عبد الوهاب بن على) : معيد النعم ص 35) . [3] له ترجمة فى الدرر الكامنة 1: 414، والوافى بالوفيات 9: 248، والدليل الشافى 1: 132، وشذرات الذهب 6: 25. [4] شاد الدواوين، ويقال للوظيفة شد الدواوين: ويكون صاحبها رفيقا للوزير متحدثا فى استخلاص الأموال وما فى معنى ذلك، وعادتها إمرة عشرة (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 22، 28، 186. [5] الأستادارية: وظيفة موضوعها التحدث فى أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان وله تصرف تام فى استدعاء ما يحتاجه كل من فى بيت السلطان من النفقات والكساوى (القلقشدى: صبح الأهشى، ج 4 ص 20) . وانظر معيد النعم ص 26 وهامشها. [6] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 43، والنجوم الزاهرة 8: 216. [7] ما بين القوسين إضافة من ص. [8] فى الأصول «البقى» وفى شذرات الذهب 6: 1 «الثقفى» والمثبت من السلوك 1: 923، والدليل الشافى 1: 87 وفيه «أحمد بن محمد البقى، فتح الدين بباء موحدة وبعدها قافان» .

الشهود، تزيد عدتهم على ثلاثين نفرا، وثبت مضمون المحضر على قاضى القضاة زين الدين المالكى، فلما تكامل ذلك عنده أعذر إليه، فلما انقضت مدة الاعتذار حكم قاضى القضاة بإراقة دمه فى عشيّة نهار الأحد الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وجلس قاضى القضاة فى بكرة نهار الاثنين الرابع والعشرين من الشهر بالمدرسة الصّالحية [1] النجمية بين القصرين بالشّبّاك الكبير الأوسط، وحضر المجلس قاضى القضاة شمس الدين الحنفى وجماعة من الأعيان والعدول، وأحضر الفتح بن البققى من الاعتقال، وهو يستغيث ويعلن بالشهادتين. فقال له قاضى القضاة شمس الدين الحنفى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [2] وقال قاضى القضاة زين الدين له: إسلامك لا يفيدك عندى. ثم أمر بضرب عنقه، فتقدم إليه علاء الدين آقبرص الموصلى وضرب ضربتين فى عنقه بالسيف؛ ضربة بعد أخرى ولم يخلّص رقبته، ثم قطعها رجل من الضوية [3] بسكين فأبان رأسه عن بدنه ورفع رأسه على عصا من عصى النادشتية [4] ، وسحب بدنه إلى باب زويلة فصلب هناك، ثم دفن. وقال علاء الدين أقبرص الموصلى، وحلف بالله أنه رافق ابن البققى فى سفرة سافرها من حماة، وأنه سمع منه ألفاظا من الزندقة حتى همّ مرارا أن يضرب عنقه، ثم قدر الله قتله بسيف الشرع بيده، وما اختلف أحد فى فساد عقيدته. وفى هذه السنة فى شهر المحرم سقط برد ما بين حماه وحصن الأكراد، وفى بعضه صور تشبه صور بنى آدم من الذكور والإناث. وصور قرود وغيرها، وطولع السلطان بذلك.

_ [1] المدرسة الصالحية النجمية: أنشأها الملك الصالح نجم الدين فى سنة 639 هـ وكان مكانها بين القصرين بشارع القاهرة الأعظم (المعز لدين الله الفاطمى حاليا، (المقريزى: كتاب المواعظ، ج 2، ص 374- 375) . [2] سورة يونس آية 91. [3] الضوية: هم الأشخاص المكلفون بأعمال الإضاءة، ويقال لهم أرباب الضوء، والمشاعلية. (زيادة: حاشية 2 فى كتاب السلوك 1: 525) ويفهم من عبارة معيد النعم ص 143: أنهم كانوا يكلفون يتنفيذ الإعدام، وأن عليهم أن يحسنوا القتلة، وهذا يفسر قيام أحدهم بالإجهاز على ابن البققى. [4] عصا النادشتية أو النارشتية: فى السلوك 1: 925 «أن رأس البققى رفع على رمح» ولعل هذا يفسر هذه العصا، ولم أعثر على تعريف بها فى دوزى ولا فى المعجم الفارسى.

ذكر توجه العساكر إلى الصعيد للإيقاع بالعربان

ذكر توجه العساكر إلى الصعيد للإيقاع بالعربان كانت عرب الوجه القبلى بالديار المصرية قد كثر فسادهم، وامتدت أيديهم، وقطعوا الطريق على المسافرين، واشتد طمعهم إثر وقعة غازان، فتوجه الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجماعة كثيرة من الأمراء بسبب ذلك فى أوائل جمادى الآخرة، وانقسم العسكر على ثلاث فرق، فرقة فى البر الشرقى، وفرقة فى البر الغربى، وفرقة سلكت الحواجر [1] من البر الغربى مما يلى الواحات، وضربوا على الوجه القبلى حلقة كحلقة الصيد، وبقى العرب فى وسطها، وأخذهم السيف من كل مكان، فتمهدت البلاد واطمأنت الرعايا، وزال الخوف وظهر الأمن بعد أن كان العرب قد كادوا يتجاهرون بالعصيان، وحمل من موجودهم وسيق خمسة آلاف فرس وعشرون ألف جمل ومائة ألف رأس من الغنم، وعدة كثيرة من الأبقار والجواميس والحمر، ومن السيوف والرماح عدة كثيرة، وعاد العسكر فى أواخر شعبان من السنة. وفى هذه السنة رسم بتوجهى إلى دمشق المحروسة لمباشرة الأملاك السلطانية بالشام، وكتب توقيعى [2] بذلك فى ثانى عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، وهو من إنشاء المولى الفاضل العابد الصالح بهاء الدين ابن سلامة [3] كاتب الدرج الشريف [4] وخطّه، وشمل الخط

_ [1] فى الأصول «الهواجر» والمثبت من النجوم الزاهرة والسلوك. والحواجر هى الطرق الواقعة على الجانب الغربى لوادى النيل، فى الحد الفاصل بين الأراضى الزراعية والصحراء بالوجه القبلى والفيوم وإقليم البحيرة (النجوم الزاهرة 8: 151 وهامشها، السلوك 1: 920 وهامشها) . [2] الأصل فى هذا المصطلح التوقيع على حواشى القصصى بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو غيرهم بما يعتمد فى القضية التى رفعت القصة بسببها؛ ثم أطلق المصطلح على كتابه الإنشاء بوجه عام (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 1، ص 52) . [3] هو أحمد ابن أبى الفتح محمود بن أبى الوحش أسد بن سلامة بن فتيان المعروف بالقطار، كمال الدين، وليس بهاء الدين، أحد كتاب الدرج بدمشق توفى فى ذى القعدة سنة 702 (النجوم الزاهرة 8: 203 وهامشها) . [4] كاتب الدرج الشريف: هو صاحب ديوان الإنشاء، وقد سمى بكاتب الدرج فى دولتى المماليك البحرية والبرجية سنة 647- 922 هـ. (السلوك 1: 246 هامش الدكتور زيادة) .

السلطانى الملكى الناصرى، وتوجهت إلى دمشق فى جمادى الآخرة، وفيه وصلت إلى دمشق وباشرت ما رسم لى بها، وهو أول دخولى إليها. وفيها فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين جمادى الأولى وصل إلى دمشق الصدر علاء الدين بن الصدر شرف الدين محمد بن القلانسى من بلاد التتار بغتة، ووصل قبله رفيقه شرف الدين بن الأثير، وقد ذكرنا أن التتار لما دخلوا الشام استصحبهما الوزير معه، ثم هربا وسلما بعد مشقة عظيمة كثيرة، وتوجّها إلى الديار المصرية فى شهر رجب، وعادا وقد كتب فى ديوان الإنشاء بدمشق. وفى هذه السنة فى رابع صفر توفّى السيد الشريف نجم الدين [1] أبو نمىّ، وأبو مهدى محمد بن أبى سعد الحسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن على بن أبى طالب، أمير مكة شرفها الله تعالى، ولى الإمارة بها نحوا من أربعين سنة، وخلف من الأولاد واحدا وعشرين ذكرا، واثنتى عشرة بنتا، وأربع نسوة، ولما مات وثب ولداه أسد الدين رميثة [2] وعز الدين حميضة [3] على أخويهما عطيفة [4] وأبى الغيث [5] واعتقلاهما، واستقلا بالأمر دونهما، واتفق فى هذه السنة أن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير توجّه إلى الحجاز هو وثلاثون أميرا، فجاء هؤلاء وشكيا من أخويهما، فأمسك حميضة ورميثه واعتقلهما لما صدر منهما من ذلك وغيره، ورتّب عطيفة وأبا الغيث فى الإمرة بمكة، وأحضر حميضة ورميثة صحبته إلى الأبواب السلطانية، فاعتقلا مدة ثم أفرج عنهما. وفيها توفى الشيخ الأصيل شيخ الشيوخ فخر الدين يوسف [6] بن شيخ الشيوخ شرف الدين أبى بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين أبى محمد

_ [1] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 1: 456، وغاية المرام بأخيار سلطنة البلد الحرام 2: 9. [2] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 4: 403، وغاية المرام 2: 78- 111، وقد توفى سنة 746 هـ. [3] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 4: 232، وغاية المرام 2: 53- 78، وإتحاف الورى بأخبار أم القرى 2: 168، ومات قتيلا سنة 720. [4] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 6: 95، وغاية المرام 2: 113- 129، وقد توفى بمصر سنة 743. [5] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 8: 79، وغاية المرام 2: 111- 113، وقد مات قتيلا فى سنة 714 هـ. [6] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 4: 482، وقد ذكره النعيمى فى الدارس فى تاريخ المدارس 2: 156، وابن كثير فى البداية والنهاية 14: 17.

عبد الله ابن شيخ الشيوخ عماد الدين أبى حفص عمر بن على بن محمد بن حمّوية الجوينىّ فى يوم الاثنين سابع عشرين شهر ربيع الأول بالخانقاه السميساطية [1] بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وولى مشيخة الشيوخ بعده قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة [2] ، وذلك باتفاق من الصوفية وسؤالهم، فاجتمع له بدمشق قضاة القضاة، وخطابة الجامع الأموى، ومشيخة الشيوخ وغير ذلك من الأنظار والتدريس. وفيها كانت وفاة الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى فى ثامن عشر جمادى الأولى، وبويع ولده المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار الخلفاء العباسيين. وفيها توفى الأمير علاء الدين مغلطاى التقوىّ المنصورىّ أحد الأمراء بدمشق فى رابع وعشرين شهر رجب، وأقطع خبره للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى أمير آخور [3] ، وكان أخرج من الديار المصرية فى هذه السنة لقربه من السلطان وخدمته له وتمكنه منه، فعزل من وظيفة أمير آخورية، ووليها الأمير علم الدين سنجر [4] الصالحى، ووصل الأمير سيف الدين بكتمر إلى دمشق بغير إقطاع، فلما مات التقوى أنعم عليه بإقطاعه، ثم كان من أمره وتنقّله ما نذكره. وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام الشهيد شرف الدين أبى الحسين على بن الشيخ الحسن الإمام العلامة الحافظ تقى الدين أبى عبد الله محمد بن اليونينىّ [5] الحنبلى ببعلبك فى يوم الخميس حادى عشر شهر رمضان فى

_ [1] الخانقاه السميساطية- نسبة إلى أبى القاسم على بن محمد السميساطى السلمى المعروف بالحبيش المتوفى بدمشق سنة 453 هـ وكان قد اشترى مكان هذه الخانقاه وبناها، (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 151 وما بعدها، ياقوت: معجم البلدان مادة سميساط) . [2] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 248، والوافى بالوفيات 2: 18، والدليل الشافى 2: 578 والبداية والنهاية 14: 163، وشذرات الذهب 6: 105، والنجوم الزاهرة 9: 298، وقد توفى سنة 733 هـ. [3] أمير آخور: اسم فارسى لوظيفة يتولى صاحبها أمر الأشراف على اسطبل السلطان أو الأمير ورعاية ما فيه من خيل وحيوانات (كتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 438، حاشية 3 للدكتور زيادة) . [4] هو علم الدين سنجر بن عبد الله المعروف بأرجواش المنصورى نائب قلعة دمشق، وسترد وفاته فى هذه السنة (النجوم الزاهرة 8: 198. [5] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 98، والبداية والنهاية 14: 20، والنجوم الزاهرة 8: 198، والدليل الشافى 1: 476.

الساعة الثامنة من النهار شهيدا. وسبب ذلك أنه دخل فى يوم الجمعة خامس الشهر إلى خزانة الكتب التى بمسجد الحنابلة ببعلبك ليعزل كتبه من كتب الوقف وعنده خادمه الشجاع، فدخل عليه فقير اسمه موسى غير معروف بالبلد- قيل إنه مصرى- فضربه بعصا على رأسه عدّة ضربات، ثم أخرج سكينا صغيرة فجرحه فى رأسه، فاتقى بيده، فجرحه فى يده، ثم مسك ذلك الرجل وحمل إلى متولى بعلبك فضرب، فصار يظهر منه الاختلال فى الكلام، فحبس. وأما الشيخ فحمل إلى داره، وتحدّث معه أصحابه على عادته، وأتمّ صوم يومه ثم حمّ واشتد به المرض فمات فى التاريخ المذكور، وجاوز الثمانين سنة- رحمه الله تعالى- روى عن جماعة منهم ابن الزّبيدى، واليها عبد الرحمن وابن الّلتّى، والإربلى، وجعفر الهمذانى، وابن رواحة، وابن الجمّيزىّ وغيرهم واجتهد فى خدمة الحديث النبوىّ وأسمعه كثيرا، واعتنى بصحيح البخارى من سائر طرقه، وحرّر نسخته تحريرا شافيا، وجعل لكل طريق إشارة، وكتب عليه حواشى صحيحة، وقد نقلت صحيح البخارى من أصله مرارا سبعة، وحرّرته كما حرّره وقابلت بأصله وهو أصل سماعى على الحجّار ووزيرة [1] . وفى هذه السنة توفى الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى نائب السلطنة بقلعة دمشق، وكانت وفاته فى ليلة السبت ثانى عشرين ذى الحجة ودفن بسفح قاسيون وكانت له آثار جميلة فى حفظ قلعة دمشق لمّا ملك التتار دمشق، وبسبب حفظها حفظت سائر القلاع بالممالك الشاميّة، وخلّف من الورثة أربع بنات وابن معتقه السلطان [2] الملك الناصر، وترك دنيا عريضة، ولما مرض أحضر قاضى القضاة بدر الدين وجماعة من أكابر العدول، وأشهدهم على نفسه أن مجموع ما يخلفه من الذّهب أربعة عشر ألف دينار ومائتى دينار وستة

_ [1] وزيرة هى أم محمد ست الوزراء ابنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية وتعرف بالوزيرة، وسترد ترجمتها فى وفيات سنة 716 هـ. [2] أى والسلطان الملك الناصر ابن معتق الأمير علم الدين سنجر وهو السلطان المنصور قلاوون.

واستهلت سنة اثنتين وسبعمائة

وستين دينارا مصرية. وأربعين ألف درهم وحوايص [1] ذهب وكلوتات [2] زركش منحوا ألفى دينار، ووقع الإشهاد عليه فى سابع عشر ذى الحجة وأعتق مماليكه، وأوصى بحجة وصدقة وفكّ الحجر عن بناته، وأسند وصيّته إلى خوشداشه [3] الأمير سيف الدين بليان الجوكندار. ولما مات كنت ممن حضر تركته، واحتوت على أشياء كثيرة، كان فيها من القسىّ الحلق ما يزيد على ستمائة قوس، وكثير من الأقمشة والعدد والسلاح والأصناف فبيعت الأصناف وقسّمت بالفريضة الشرعية، وأمضى السلطان وصيّته- أثابه الله تعالى. واستهلت سنة اثنتين وسبعمائة فى هذه السنة وصل رسل غازان ملك التتار إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل فى ليلة ثانى المحرم، فقرئت كتبهم، وسمعت مشافهتهم، وكتب الجواب السلطانى إلى مرسلهم، وأمر السلطان بعودهم فعادوا من الديار المصرية وجهّز السلطان إلى جهته الأمير حسام الدين أزدمر المجيرىّ [4] ، والقاضى عماد الدين بن السكّرىّ [5] فوصلوا إلى دمشق فى ليلة الجمعة رابع عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان خروجهم من القاهرة فى عاشر الشهر، وأقاموا بدمشق ثلاثة أيام، وتوجهوا واجتمعوا بغازان، ومنعهم من العود بسبب الوقعة الكائنة التى نذكرها إن شاء الله تعالى، واستمروا ببلاد التتار إلى أن هلك غازان وعادوا فى أيّام خربندا. [6]

_ [1] الحوائص- جمع حياصه وهى حزام كان يسمى منطقة ثم أطلق عليه اسم حياصة، وكانت تصنع من معدن ثمين كالفضة، وأثمنها ما كان يصنع من الذهب، وقد تحلى بالجواهر (الملابس المملوكية ترجمة الأستاذ صالح الشينى صLSuPP.Dict.Ar.LDozy:.103،49،47 [2] الكلوتات- جمع كلوتة وهى غطاء للرأس تشبه الطاقية. وانظر أصلها وتاريخها وتطورها فى خطط المقريزى 2: 98، وصبح الأعشى 4: 5، 6، الملابس المملوكية ص 31، 42، 51، 52- 55. [3] خوشداش، وخشداش: معرب اللفظ الفارسى «جوجاناش» أى الزميل فى الخدمة، والخشداشية هى رابطة الزمالة بين الأمراء الذى أنشئوا مماليك عند أستاذ أو سيد واحد وربطتهم رابطة الزمالة القديمة (النجوم الزاهرة 7: 330 هامش، والسلوك 1: 388، 389 حاشية للدكتور زيادة) . [4] هو الأمير حسام الدين أزدمر المجيرى نسبة إلى مجير الدين، وهو التاجر الذى اشتراه (كنز الدرر لابن أيبك الدوادارى 9: 71، الدرر الكامنة لابن حجر، ج 1 ص 355) . [5] هو عماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن، المعروف بالسكرى، توفى سنة 713 هـ (النجوم الزاهرة 9: 225، وشذرات الذهب 6: 32) . [6] خربندا: هو اسم ملك التتار قبل أن يسلم فلما أسلم صار الاسم خدابندا وتسمى بمحمد وسترد وفاته فى سنة 716 من هذا الجزء، وانظر ترجمته فى النجوم الزاهرة 9: 238.

ذكر فتح جزيرة أرواد [1]

ذكر فتح جزيرة أرواد [1] وفى المحرم من هذه السنة جهزت الشوانى [2] من مصر إلى جزيرة أرواد وهى جزيرة تقابل مدينة انطرسوس، وكان قد اجتمع بها جمع كثير من الفرنج وسكنوها وأحاطوا بها سورا وحصنوها، وبقيت مضرّة على أهل ساحل طرابلس فجهّزت الشّوانى لقصدها صحبة الأمير سيف الدين كهرداش الناصرى، وجرّد من كل أمير جندى، ورسم لكل أمير أن يجهز جنديّة بما يحتاج إليه، فكان ممن جهّز من أصحابه الأمير جمال الدين آقش العلائى فامتنع من تجهيز جنديّة، فشكاه الجندى إلى الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة، فأرسل إليه نقيبا يأمره بتجهيزه، فشتم الجندىّ وضربه، فعاد إلى نائب السلطنة وأخبره، فغضب وطلب آقش وألزمه بالسّفر عوضا عن الجندىّ، فتوجه وسلّم إليه شانى وركب فيه، ولعبت الشوانى فانقلب الشينى الذى فيه آقش فغرق، ومرّ الشانى على الصنّاعة وهو مقلوب؛ فتطيّر الناس بذلك وظنّوا أن هذه الشوانى لا تفتح شيئا، فقال بعض أهل [3] الدين والخير: هذا أوّل الفتح بغرق آقش، وكان آقش هذا ظالما عسوفا قبيح السيرة، فكان ذلك أوّل الفتوح كما قال، وأصلح الشانى وتوجّهت الشّوانى إلى الجزيرة، وجهّز الأمير سيف الدين أسندمر الكرجى نائب السلطنة بالفتوحات مركبا فيه جماعة من الجند، وتوجّه هو بالعسكر الطرابلسىّ. ونزل قبالة الجزيرة بالبر الشرقى، وتوجهت الشوانى بالعسكر إليها، ففتحت فى يوم الأربعاء ثانى صفر، وقتل من كان بها من الفرنج، وأسر من بقى، وكان القتلى نحو ألفين، والأسرى نحو خمسمائة، وغنم العسكر جميع ما بالجزيرة، وجهّزت الأسرى إلى الأبواب السلطانية صحبة الأمير فلان الدين فلان الإبراهيمى [4] من أمراء طرابلس، فوصلوا إلى دمشق فى يوم الإثنين حادى عشرين صفر، وفرق بعضهم فى القلاع بالشام.

_ [1] جزيرة أرواد: جزيرة صغيرة فى الجهة الشمالية من طرابلس الشام على بعد خمسين ك م، وطولها 800 متر، وعرضها 500 متر، وهى فى الجانب الغربى من انطرطوس على بعد ثلاثة كيلو مترات. وانظر ياقوت: معجم البلدان، النجوم الزاهرة 8: 11 هامش، 154- 157. [2] الشوانى- جمع شينى أو شانى: وهو نوع من السفن الحربية الكبيرة، وكانت من أهم القطع التى يتألف منها الأسطول الإسلامى 1: 56 هامش الدكتور زيادة درويش النخيلى: السفن الإسلامية على حروف المعجم، ص 83) . [3] كذا فى ك، وفى ص، ف «أهل الخير والدين» . [4] كذا فى ك، وفى ص، بياض مكان كلمتى «فلان» ولعله الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمى؛ لأنه ليس من بين الأمراء فى تلك الحقبة من يسمى بالإبراهيمى غيره.

ذكر وفاة قاضى القضاة [1] تقى الدين ابن دقيق العيد وتفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة.

ذكر وفاة قاضى القضاة [1] تقى الدين ابن دقيق العيد وتفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة. وفى يوم الجمعة حادى عشر صفر توفى شيخنا قاضى القضاة تقى الدين بقية المجتهدين أبو الفتح محمد بن الشيخ الزاهد العالم مجد الدين أبى الحسن على بن وهب بن مطيع ابن أبى الطاعة القشيرى المعروف بابن دقيق العيد، والذى جرى عليه هذا اللقب هو وهب جده، وذلك أنه لبس فى يوم عيد ثيابا بيضا، فرآه جماعة من أهل الريف، فقال قائل منهم: كأن ثيابه دقيق العيد، فلزمه هذا اللقب واشتهر به وكانت وفاته ببستان بظاهر القاهرة بقرب باب اللوق بعد صلاة الجمعة، وحمل يوم السبت وصلى عليه تحت القلعة وكانت جنازته مشهودة، ودفن بتربته بالقرافة، ومولده يوم السبت خامس عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بساحل ينبع من أرض الحجاز، ونشأ بمدينة قوص، وتفقّه بها على أبيه وبرع، وكان من أجل من [2] رأينا ديانة وعلما وورعا وتقشّفا، وكان شديد الاحتراس من النجاسة حتى أفرط به ذلك وانتقل من مدينة قوص إلى القاهرة، وله رحلة إلى دمشق بعد سنة ستين وستمائة، وولى مشيخة دار الحديث الكاملية [3] بالقاهرة، وولى غير ذلك. ثم فوض إليه قضاء القضاة كما تقدم فوليه، ثم عزل نفسه فسئل العود، فامتنع من القبول، وحضر إليه أكابر الأمراء بسبب ذلك وهو يمتنع، فتحيّل بعض أولاده عليه بأن قال له: إنه قد عيّن للقضاء عز الدين بن [4] مسكين إن أصررت على الامتناع، فقال: الآن

_ [1] فى (ك) «القاضى» والمثبت من ص، وف. وانظر الوافى بالوفيات 4: 193، وفوات الوفيات 3: 442، والدرر الكامنة 4: 210، وشذرات الذهب 6: 5، والنجوم الزاهرة 8: 206. [2] فى ك «ما رأينا» والمثبت من ص، وف. [3] دار الحديث الكاملية: أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب سنة 622 هـ، وهى ثانى دار أنشئت للحديث، وأول دار للحديث على وجه الأرض بناها الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكى بدمشق. ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبوى، وكانت بخط بين القصرين من القاهرة. (خطط المقريزى 2: 375) . [4] إضافة من ص، وف.

ففوض قضاء القضاة بالشام لقاضى القضاة

وجب علىّ قبول الولاية. فقبلها وعاد، وهو الذى نقل خلع القضاة من الحرير إلى الصوف، وكان يخلع على القضاة قبله الحرير الكنجى والصمت [1] وله رحمه الله تعالى فضائل كبيرة، ومناقب جمة مشهورة شهدها وعلمها من رآه. وهى أشهر من أن يأتى عليها، وأكثر من أن نسردها [2] . ولما توفى اجتمعت الآراء على ولاية قاضى القضاة بدر الدين محمد بن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن جماعة الشافعى، وهو يومئذ قاضى القضاة بالشام، وخطيب الجامع الأموى، وشيخ الشيوخ، فبرزت المراسيم بطلبه، وتوجّه البريد لإحضاره، فوصل البريد إلى دمشق فى يوم الخميس سابع عشر صفر وتوجّه قاضى القضاة بدر الدين إلى الديار المصرية فى يوم السبت تاسع عشر الشهر على خيل البريد، ووصل إلى القاهرة فى يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول، وخلع عليه على عادة الشيخ تقى الدين، وفوض إليه القضاء بالديار المصرية، وجلس للحكم فى يوم السبت رابع الشهر [3] وأنعم عليه ببغلة من الإسطبلات السلطانية، وفرقت جهاته بدمشق. ففوض قضاء القضاة بالشام لقاضى القضاة نجم الدين أبى العباس أحمد بن صصرى [4] وكتب تقليده فى عاشر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعمائة، وقرئ تقليده فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من الشهر بمقصورة الخطابة بجامع دمشق بحضور نائب السلطنة الشريفة، ثم [5] جلس فى الشباك الشمالى بالجامع وقرئ ثانيا.

_ [1] الصمت: نوع من الثياب الحريرية به، ليس لها بطانة طيلسان، أو ثياب قطنية، أو صوفية ولكن بغير حشو (السلوك 1: 847 هامش) . [2] فى ك، وص «يسيرها» والمثبت من ف. [3] ما بين القوسين من ص. [4] هو أحمد بن محمد بن سالم بن أبى المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن الربعى ابن صصرى نجم الدين الدمشقى. توفى سنة 723 هـ (فوات الوفيات 1: 125، ودول الإسلام الذهبى 2: 230، والدرر الكامنة 1: 280، وطبقات الشافعية للسبكى 9: 20، وشذرات الذهب 6: 58، والنجوم الزاهرة 9: 258 وكذلك اختلف فى صصرى فضبطها محقق النجوم الزاهرة بفتح الصاد الأولى، وضم الصاد الثانية، وتشديد الراء مع فتحها ج 8 ص 123 س 8. كما ضبطها بفتح الصاد الأولى، وإسكان الصاد الثانية. وفتح الراء ج 9 ص 258 س 11. كذلك اختلف الضبط فى السلوك ج 1 ص 929 س 11، ج 2 ص 18 س 15. وضبطها محقق كنز الدرر فى جميع المواضع بإسكان الصاد الثانية دون ضبط بقية الحروف. [5] بياض فى ك، والمنيت من ص، وف.

وولى الخطابة والإمامة لجامع دمشق الشيخ نجم الدين عبد الله بن مروان الشافعى الفارقى [1] ، وخطب فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من الشهر المذكور. وولى مشيخة الشيوخ القاضى جمال الدين الزّرعى [2] ولم تتم الولاية، ثم ولى ذلك الخطيب ناصر الدين أحمد بن الشيخ بدر الدين يحيى بن [3] شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام فى يوم السبت ثالث شعبان، ثم اجتمع الصوفية فى يوم الجمعة سادس شوال، وحضروا إلى نائب السلطنة فى الشباك بالجامع، وسألوا أن يولى عليهم الشيخ صفى الدين محمد الأرموى المعروف بالهندى [4] ، فأجيبوا إلى ذلك وولى عليهم فى التاريخ المذكور. وفى هذه السنة ولى الأمير ركن الدين بيبرس التّلاوىّ [5] شاد الشام وأستاذ داريّه عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار، وخلع عليه فى يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى، ونقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى إلى نيابة السلطنة بقلعة دمشق، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر أرجواش، وكان بالقلعة فى هذه المدة الأمير سيف الدين بلبان السنجرى، فخرج منها، وانتقل إليها الأمير سيف الدين الجوكندار فى الخامس والعشرين من الشهر. وفيها فى جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطان بالشام كتاب كتب على لسان قطز أحد مماليك الأمير سيف الدين قبجق مضمونه فضول نصيحة، منها:

_ [1] هو عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروز بن الحسن الفارقى، المتوفى سنة 703 هـ (الدرر الكامنة) 2: 304، والبداية والنهاية 14: 30، وذيول العبر ص 25، وطبقات الشافعية 6: 107، مرآة الجنان 4: 239) وشذرات الذهب 6، 8 وفيها جميعها زين الدين. وليس كمال الدين. [2] هو سليمان بن عمر بن عثمان الزرعى، توفى سنة 734 هـ (طبقات الشافعية 6: 105، والدرر الكامنة 2: 159، ودول الإسلام 1832، والبداية والنهاية 14: 167 ورفع الإصر 2: 250، والدليل الشافى: 1: 320، والنجوم الزاهرة 9: 304، وشذرات الذهب 6: 107) . [3] فى الأصول «ناصر الدين أحمد بن الشيخ فلان الدين شيخ الإسلام» والمثبت عن البداية والنهاية 14: 56، وفيه مات يوم الأربعاء النصف من المحرم سنة 709 هـ. [4] هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى، صفى الدين أبو عبد الله، توفى سنة 715 (شذرات الذهب 6: 37. والبداية والنهاية 14: 74 وذيول العبر ص 83 والدرر الكامنة 4: 14، ودول الإسلام 2: 169، وطبقات الشافعية 5: 240) . [5] من هنا إلى قوله «يشبه بطن الشعبان» سقط فى ص.

وفى هذه السنة ظهر بنيل مصر دابة عجيبة

أن الشيخ تقى الدين بن تيمية [1] وقاضى القضاة شمس الدين بن الحريرى [2] يكاتبان مخدومه، ويؤثران أن يكون نائب السلطنة بالشام، وأن القاضى كمال الدين العطار، وكمال الدين بن الزملكانى كاتب الإنشاء يطالعانه بالأخبار، وأن جماعة من الأمراء فى هذا الأمر، حتى ذكر جماعة من مماليك نائب السلطنة وخواصه. فلما قرأ الكتاب استراب به، وأطلع عليه بعض الكتّاب، وأمره بالفكرة فيمن اختلقه، فوقع الحدس على فقير يعرف باليعفورى كان ينسب إلى فضول وتزوير، فمسك فوجد معه منشورة بالكتاب، فضرب فأقرّ على إنسان يعرف بأحمد القبّارى، فأخذ وضرب فاعترف على جماعة، وأنّ الذى كتب الكتاب التاج بن المناديلىّ الناسخ، فلما كان فى يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة جرّسوا الثلاثة بدمشق، ثم أخرجوا إلى سوق الخيل، فأمر نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقش الأفرم أن يوسّط القبارىّ واليعفورىّ فوسّطا، وقطعت يد ابن المناديلى الناسخ. وفى هذه السنة ظهر بنيل مصر دابة عجيبة وهى التى تسمى فرس البحر، وكانت تطلع إلى البرّ وترعى البرسيم ثم تعود إلى البحر، فلما كان فى يوم الخميس رابع جمادى الآخرة صيدت ببلاد المنوفية. وصفتها أن لونها لون الجاموس، وهى بغير شعر، ولها آذان كآذان الجمل، وفرج مثل فرج الناقة تغطيه بذنب طوله شبر ونصف، طرفه كذنب

_ [1] هو شيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة 728 هـ وانظر دول الإسلام 2: 180، والوافى بالوفيات 7: 15، والبداية والنهاية 14: 135، وذيل طبقات الحنابلة 2: 387، والدرر الكامنة 1: 154، وفوات الوفيات: 1: 35، وشذرات الذهب 6: 180، والنجوم الزاهرة 9: 271. [2] هو قاضى القضاة شمس الدين محمد بن عثمان بن أبى الحسن بن عبد الوهاب الأنصارى الحنفى المعروف بابن الحريرى المتوفى سنة 728 هـ وانظر الوافى بالوفيات 4: 90، وذيول العبر ص 157، والدرر الكامنة 4: 158. والدليل الشافى 2: 653، وحسن المحاضرة 1: 468. وشذرات الذهب 6: 88.

ذكر وصول غازان ملك التتار إلى الرحبة [6]

السمك، ورقبتها فى غلظ التليس المحشو، وفمها وشفتاها كالكربال [1] ، ولها أربعة أنياب طول كل ناب دون شبر فى عرض أصبعين، وفى فمها ثمانية وأربعون ضرسا ونابا وسنا مثل بيادق الشطرنج، وطول بدنها من بطنها إلى الأرض نحو الذراع، ومن ركبتها إلى حافرها يشبه بطن الثعبان [2] أصفر مجعد، ودور حافرها مثل الأسكرجة [3] بأربع أظفار كأظافير الجمل وعرض ظهرها تقريبا تقدير ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، ووجد فى بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر زفر كزفرة السمك وغلظ جلدها أربع أصابع ما تعمل فيه السيوف، ولما صيدت سلخ جلدها [4] وحمل إلىّ بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وتبدّل على حمله لثقله خمسة أجمال، فلا يستطيع الجمل أن يحمله أكثر من ساعة، ولما صار [5] بين يدى السلطان حشى تبنا، وأقيم بين يديه، وهذا الحيوان لم يعهد ببحر النيل بمصر وإنما هو موجود ببلاد النّوبة، وأهل النوبة يتخذون من جلدة سياطا، يسوقون بها الجمال، وهى سياط سود إذا دهنت بالزّيت لا تكاد تنقطع والله أعلم. ذكر وصول غازان ملك التتار إلى الرحبة [6] ومحاصرتها، وانصرافه عنها، وتجريد عساكره إلى الشام، ووقعة عرض [7] . فى هذه السنة تواترت الأخبار بحركة التتار، فأخذ السلطان فى الاستعداد والتأهّب للقائهم، ورسم للأمراء أن يستخدم كل أمير نظير الرّبع من عدّته من ماله، ووصل غازان إلى الرّحبة بجيوشه، ونازلها بنفسه وعساكره، وكان النائب

_ [1] الكربال: فى اللغة الفارسية يعنى القوس الذى يندف به القطن (المنجد) . [2] إلى هنا ينتهى السقط فى نسخة ص. [3] الأسكرجة: إناء صغير توضع فيه الكوامخ ونحوها من المشهيات على المائدة (المعجم الوسيط) . [4] ما بين القوسين من ص، وف. [5] فى ك «ساد» خطأ من الناسخ. [6] الرحبة: بلدة صغيرة ولها قلعة على تل تراب، وهى إحدى الثغور الإسلامية بين حلب ودمشق (معجم البلدان 4: 764) . [7] عرض: بلد فى برية الشام من أعمال حلب بين تدمر والرصافة (النجوم الزاهرة 8: 158 هامش) .

بها الأمير علم الدين سنجر الغتمى، فخرج إليه بالإقامات، وقال له: هذا المكان قريب المأخذ، والملك يقصد المدن الكبار، فإذا ملكت البلاد التى هى أمامك فنحن لا نمتنع عليك. فأخذ ولده ومملوكه رهنا على الوفاء بذلك؛ فرحل عنها، ثم عاد إليها وجرّد نائبه قطلو شاه فى اثنى عشر تمانا [1] ، وأمره بقصد الشام، وعاد غازان إلى بلاد الشّرق. وأما العسكر الشامى فإن عسكر حلب جمعه الأمير شمس الدين قراسنقر [2] ، والعسكر الحموىّ مع الأمير زين الدين كتبغا الملقّب بالعادل وعسكر الساحل مع الأمير سيف الدين أسند مركرجى، وجماعة من عسكر دمشق مع الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين أنص [3] الجمدار ونزلت هذه العساكر بالقرب من حماه، وجاءت طائفة من التتار للإغارة فوصلوا إلى القريتين [4] وبها جمع من التركمان بحريمهم وأولادهم وأغنامهم فأوقع التتار بهم ونهبوهم، واتصل خبرهم بالأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة بالشام؛ فجرد طائفة من عسكر الشام صحبة الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى، وركب معه الأمير ثابت بن يزيد، وتوجّهوا جرائد إلى القريتين فوجدوا التتار قد فارقوها، فعادوا ولم يظفروا بهم، واتّصل خبر هذه الطائفة من التتار بالأمراء المقيمين على حماه؛ فانتدب لذلك الأمير سيف الدين أسند مركرجى نائب السلطنة بالفتوحات، وانتدب معه من عسكر حلب الأمير سيف الدين كجكن، ومن عسكر الشام الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف

_ [1] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 933 هامش للدكتور زيادة «تومان، والجمع توامين. وهى الفرقة التى يبلغ عدد أفرادها عشرة آلاف جندى» والرسم عشرة آلاف جندى الزاهرة 8: 138 «طومان» وعرفه المحقق بأنه مقدم عشرة آلاف جندى. [2] ومعناه السنقر الأسود وقد تسمى به بعض الأمراء أخذا من اسم الطائر المسمى بالسنقر والذى كان يستعمله ملوك الشرق فى الصيد (الخطط التوفيقية 10: 78) . [3] كذا فى الأصول، وقد رسمه النجوم الزاهرة «أنس» . [4] القريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص فى طريق البرية، وتدعى «حوادين» وبينها وبين تدمر مرحلتان (معجم البلدان 3: 78) .

ذكر توجه السلطان الملك الناصر من الديار المصرية

الدين أنص الجمدار [1] والأمير سيف الدين أغرلو [2] من عسكر حماه، ومن انضم إليهم، وتوجّهوا فى ألف فارس وخمسمائة فارس لا يزيد على ذلك وساقوا فى البريّة إلى مكان يسمى عرض لقصد هذه الطائفة من التتار، فتوافوا بها- وعدة التتار عشرة آلاف من المغل [3]- فلما شاهدهم التتار أطلقوا من كان معهم من التركمان وحريمهم ومواشيهم؛ ليشغلوا العسكر بهم، فلم يعرّج العسكر عليهم، وحملوا على التتار حملة رجل واحد، واقتتلوا أشد قتال فنصر الله جيش الإسلام، وقتلوا من التتار خلقا كثيرا، وفرّ من بقى منهم، وذلك فى عاشر شعبان من هذه السنة، وكانت هذه الوقعة مقدمة النصر، واستشهد فى هذه الوقعة الأمير سيف الدين أنص الجمدار، ومن أمراء دمشق. وحضر إلى دمشق جماعة أسروا من أعيان التتار فى يوم الخميس منتصف شعبان. هذا ما كان بالشام. ذكر توجه السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بالجيوش الإسلامية إلى الشام، والوقعة بمرج الصّفرّ [4] ، وانهزام التتار. قد ذكرنا اهتمام السلطان واحتفاله وما رسم به من الاستخدام، ثم جرّد العساكر من مدنه [5] يتلو بعضها بعضا، فوصلوا إلى دمشق. فأوّل من وصل منهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين الرّومىّ والأمير سيف الدين كراى المنصورىّ، والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار ومضافيهم فى يوم الأحد ثامن عشر شعبان. ثم وصل الأمير بدر الدين بكتاش

_ [1] الجمدار: هو الذى يتولى إلباس السلطان أو الأمير ثيابه، مركب من كلمتين فارسيتين «جاما» بمعنى الثوب، و «دار» بمعنى ممسك، وأكثر ما يكون الجمدارية من الصبيان الملاح المرد، ويتحلون بالملابس المزركشة أكثر مما تتحلى النساء (معيد النعم ص 35) . [2] كذا فى الأصول وفى السلوك 1: 931، 932 «غزلوا» و «أغرلوا» فى النجوم الزاهرة 8: 158 «أغزلو العادلى» . [3] المغل: هم المغول وهم التتار (النجوم الزاهرة 8: 317 هامش) . [4] مرج الصفر: ضبطها محقق السلوك 1: 60 بتشديد الصاد وضمها وفتح الفاء، وهو أحد المروج الواقعة حول مدينة دمشق. وانظر معجم البلدان 4: 488. [5] فى الأصول «من مدينة» والمثبت يقتضيه السياق.

الفخرىّ أمير سلاح، والأمير سيف الدين بكتمر السّلاح دار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، والأمير بهاء الدين يعقوبا، ومضافيهم، واستقلّ ركاب السلطان من قلعة الجبل فى ثالث شعبان. وأما التتار الذين سلموا من وقعة عرض فإنهم التحقوا بقطلو شاه وأخبروه أن السلطان لم يخرج من الديار المصرية، وأنه ليس بالشام غير العسكر الشامى؛ فأقبل قطلو شاه بعسكر التتار. فتأخّرت الجيوش التى بحماه، ونزلوا بالمرج بدمشق، ثم اجتمع الأمراء الذين بدمشق من العساكر المصرية والشامية، واتفقوا على أن يتأخروا عن دمشق إلى نهر الصّفّر ويقيموا به إلى أن يصل السلطان بعساكر الديار المصرية، بعد أن كانوا اتفقوا على لقاء العدوّ التتار إن تأخّر السلطان، ونقلوا حريمهم إلى قلعة دمشق، ثم لم يروا ذلك ووصل الجيش الذى كان بالمرج، ونزلوا بأجمعهم بميدان الحصا [1] فى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان، واختبط الناس بدمشق وجفلوا من الحواضر والقرى إليها، وخرج أكابر أهل دمشق وأعيانها فى هذا اليوم منها فمنهم من التحق بالحصون، ومنهم من توجّه إلى نحو الديار المصرية، وكنت يوم ذاك بدمشق فخرجت منها بعد أن أعددت لأمة الحرب، والتحقت بالعسكر ووجدت الجفّال قد ازدحموا بالأبواب زحاما شديدا، وذهلوا عن أموالهم وأولادهم، ووصلت بعد المغرب إلى منزلة العسكر بميدان الحصا، فوجدتهم قد توجّهوا إلى مرج الصّفّر، فلحقت الجيوش فى يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر- وهو سلخه، وأقمنا بالمرج يوم الخميس والجمعة. فلما كان فى ليلة السبت المسفرة عن ثانى شهر رمضان دارت النّقباء على العساكر، وأخبروهم أن العدوّ قد قرب منهم، وأن يكونوا على أهبة واستعداد فى تلك الليلة، وأنه متى دهمهم العدوّ يركبوا خيولهم، ويكون الاجتماع عند قرية المجّة بقرب خربة [2] اللصوص فبتنا فى تلك الليلة وليس

_ [1] هو أحد ميادين دمشق القديمة (النجوم الزاهرة 7: 75) . [2] خربة اللصوص: تقع على الطريق بين دمشق وبيسان (السلوك 1: 281 هامش) .

ذكر خبر المصاف وهزيمة التتار

منا إلا من لبس لأمة حربه، وأمسك عنان فرسه فى يده، وتساوى فى ذلك الأمير والمأمور، وكنت قد رافقت الأمير علاء الدين مغلطاى البيسرىّ أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، لصحبة كانت بينى وبينه، فلم نزل على ذلك وأعنة خيلنا بأيدينا حتى طلع الفجر فصلّينا وركبنا، واصطفّت العساكر إلى أن طلعت الشمس وارتفع النهار فى يوم السبت المذكور، ثم أرسل الله مطرا شديدا نحو ساعتين ثم ظهرت الشمس، ولم نزل على خيولنا إلى وقت الزّوال، وأقبل التتار كقطع اللّيل المظلم، وكان وصولهم ووصول السلطان بالعساكر المصرية فى ساعة واحدة. ذكر خبر المصاف وهزيمة التتار كان المصاف المبارك فى يوم السبت ثانى شهر رمضان المعظّم سنة اثنتين وسبعمائة، وهزيمة التتار فى يوم الأحد بعد الظهر، وذلك أن السلطان الملك الناصر- قرن الله مساعيه بالظفر، وحكمّ مرهفاته فى رقاب من طغى وكفر- حال وصوله إلى مرج الصّفّر بالقرب من شقحب [1] تولى [2] ترتيب عساكره فوقف- خلّد الله سلطانه- فى القلب وبإزائه الخليفة أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، وفى خدمته الأمير سيف الدين سلّار نائبه، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورىّ والأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جندار [3] ، والأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام، ومضافيهم، والمماليك السلطانية [4] هؤلاء فى القلب.

_ [1] شقحب- ويقال تل شقحب: وهى قرية فى الشمال الغربى من غباغب. وهذه قرية فى أول أعمال حوران من نواحى دمشق، وبينهما ستة فراسخ (معجم البلدان 3: 871، وهامش النجوم الزاهرة 8: 159) . [2] زيادة يقتضيها السياق. [3] أمير جاندار: لفظ مركب من كلمتين «جان» بمعنى روح أو نفس، و «دار» بمعنى ممسك. والمعنى الجملى حارس وحافظ السلطان أو الأمير- أو الحارس الخاص- ويتولى الاستئذان لدخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان. (صبح الأعشى 4: 20) . [4] المماليك السلطانية: فرقة من المماليك التى اشتراها السلطان أو جلبت إليه أو آلت إليه من مماليك من سبعة فى السلطنة ومرتبات هذه الفرقة من ديوان المفرد (السلوك 1: 22 هامش الدكتور زيادة) .

ووقف فى الميمنة الأمير حسام الدين لاجين الرّومى أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقش الموصلىّ أمير علم [1] المعروف بقتّال السّبع، والأمير جمال الدين يعقوب الشّهرزورىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان ومضافيهم، وفى جناح الميمنة الأمير سيف الدين قبجاق، والعربان أجمع- والله أعلم. ووقف فى الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى نائب السلطنة بالمملكة الحلبيّة، والأمير سيف الدين أسند مركرجى نائب السلطنة بالفتوحات، والأمير سيف الدين بتخاص [2] نائب المملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بكتمر السّلاح دار، والأمير سيف الدين طغريل الإيغانى [3] والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، والأمير ركن الدين بيبرس الموفقى، وغيره من مقدمى أمراء الشام، وكنت فى الميسرة. وأما غير هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمراء مقدمى الألوف من العساكر المصرية وغيرها فلم أتحقق مواقفهم [4] فأذكرها. وأقبل التتار وفيهم من مقدمى التمانات قطلوشاه، وقرمشىّ [5] بن الناق، وسوتاى، وجوبان بن تداون، وأقطاجى، وبولاى [6] ، وطوغان، وسياومى بن قطلوشاه، وطغريل بن أجاى، وأبشقا، وأولاجقان، وألكان، وطيطق، وهم فى مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم. ولما جاوزوا منزلة الكسوة [7] طلّبوا تحت الجبل المسمى كنف المصرى، وحملوا على الميمنة فصدموها بمعظم جموعهم؛ فاضطربت وقاتل من بها قتالا شديدا، فاستشهد

_ [1] أمير علم: هو الذى يتولى أمر الإعلام والسناجق والرايات السلطانية ويشترط فيه الدراية بنوع الإعلام اللازمة لكل موكب من المواكب السلطانية- انظر (القلقشندى: صبح الأعشى ج 4 ص 8، ج 5 ص 456- 458) . [2] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 932 «بد خاص» . [3] فى الأصول بدون نقط، والمثبت من السلوك 1: 932، والنجوم الزاهرة 8: 159، وجاء فى هامش النجوم «ورد فى الدرر الكامنة» طغريل الإتقانى وكان من مماليك إتقان الملقب «سم الموت» . [4] فى ك «موافقتهم» والمثبت من ص، وف. [5] كذا فى الأصول، وفى النجوم الزاهرة والسلوك 1: 933 «قرمجى» . [6] فى الأصول «مولاى» والمثبت من المرجعين السابقين. [7] منزلة الكسوة: منزلة وضيعة يمر بها نهر الأعرج، وبينها وبين النهر اثنا عشر ميلا، وهى أول منزلة للقوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر (النجوم الزاهرة 8: 124 هامش) .

الأمير حسام الدين الرّومىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافرى، والأمير جمال الدين أقش الشمسى الحاجب، والأمير عز الدين أيدمر النقيب، والأمير عز الدين أيدمر الرّفّا، والأمير عز الدين أيدمر [1] الشمسى القشاش، والأمير علاء الدين على بن داود التركمانى والأمير حسام الدين على بن باخل، ونحو ألف فارس من مماليك الأمراء وأجنادهم، وانهزم بعض الأمراء، فكان منهم: الأمير سيف الدين برلغى الأشرفى. فأردف السلطان الميمنة بالقلب حتى ردّ التتار. وأما الميسرة فقاتلها بولاى فى حماية من التتار، فلم تكن لهم طاقة بملاقاة من فيها من الجيوش؛ فهرب بولاى فى هذا اليوم بعد العصر فى نحو عشرين ألف فارس من غير طائل قتال، وتبعهم بعض الجيش الإسلامى وعادوا، ثم حجز الليل بين الفريقين، فلجأ التتار إلى الجبل، وأضرموا النيران، وأحاطت بهم العساكر الإسلامية طول الليل. فلما أسفر الصباح عن يوم الأحد ثالث شهر رمضان تقدّمت العساكر الإسلامية إلى الجبل، وضايقوهم أشدّ المضايقة، فكان ينزل من شجعانهم طائفة وتتقدّم إلى طلب [2] من أطلاب العساكر وتقاتل فيردها من يقابلها أقبح ردّ. وكان هذا اليوم بالحصار أشبه منه بالمصافّ، واستمر الحال على ذلك إلى وقت الظهر ففرّج لهم الأمير سيف الدين استدمر كرجى فرجة من رأس الميسرة، فلمّا رأوها بادروا بالفرار، وخرجوا على فرقتين، فالفرقة الأولى فيها جوبان فى نحو ثلاثين ألف فارس حتى أبعد. ثم تلاه قطلوشاه فى نحوها، وبقى منهم فرقة ثالثة فيها طيطق [3] فى زهاء عشرين ألف فارس، فلما فرّوا حملت العساكر عليهم وأبادوهم قتلا وأسرا، وتبعتهم العساكر بقيّة النهار إلى الليل.

_ [1] هذا اللفظ من ص. [2] الطلب لفظ كردى: كان يطلق على الأمير يقود مائتى فارس فى ميدان القتال، ويطلق أيضا على قائد المائة أو السبعين، وأول ما استعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام السلطان صلاح الدين الأيوبى. ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة أو الفرقة من الجيش. (السلوك 1: 248 حاشية للدكتور زيادة، والنجوم الزاهرة 7: 391 هامش) . [3] فى ك «طيطلق» والمثبت من ص، وف.

ولما كان فى يوم الإثنين رابع شهر رمضان جرّد السلطان الأمير سيف الدين سلّار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، وغيرهم من العساكر يقفّون آثارهم. ثم ركب السلطان فى يوم الإثنين من مكان الوقعة وبات بالكسوة ودخل إلى دمشق فى بكرة نهار الثلاثاء خامس الشهر، هو والخليفة، ونزل بالقصر الأبلق [1] ، ثم بالقلعة، ونزل الخليفة بالتّربة الناصرية [2] ، وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شوّال، ورحل من دمشق فى يوم الثلاثاء الثالث من شوال ووصل إلى القاهرة، ودخل فى الثالث والعشرين منه، وشقّ المدينة، ونزل بالمدرسة المنصورية؛ لزيارة قبر والده السلطان الملك المنصور، ثم ركب وطلع إلى قلعة الجبل، واحتفل الناس لمقدمه احتفالا عظيما، وزيّنت القاهرة بزينة لم يشاهد مثلها فيما مضى، واستمرت الزينة بها بعد وصول الأمير بدر الدين بكتوت الفتّاح بكتاب البشارة، فى يوم الأحد عاشر شهر رمضان، إلى أن قدم السلطان بعد ذلك بأيّام. وقد ذكر الناس هذه الغزوة نظما ونثرا، ووقفت ممّا عمل فيها على أشياء كثيرة، وقد رأيت أن أورد من ذلك ما نقف عليه من النظم والنثر، فكان ممن عمل فى ذلك القاضى الرئيس الفاضل علاء الدين على بن عبد الظاهر [3] صنّف فى خبر هذه الوقعة جزءا سماه الرّوض الزاهر فى غزوة الملك النّاصر [4] ابتدأه بأن قال: الحمد لله الذى أيّد الدين المحمدى بناصره، وحمى حماه بمن مضى هو وسلفه بأداء فرض الجهاد فى أوّل الزمان وآخره، وجعل من الذرّيّة المنصورية من يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويسهر فى سبيل الله فيمنع طرف السيف أن يغفى [5] فى إغماده، ويقدم يوم الوغى والموت من بعوثه للعدى

_ [1] القصر الأبلق: هو قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى أنشأه بظاهر غربى دمشق بين المبدأتين الأخضريين، وسمى بذلك لأن بناءه كان بحجارة مختلفة الألوان. وأنظر البداية والنهاية 13: 274، والدارس فى تاريخ المدارس 1: 350. [2] التربة الناصرية: أنشأها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن غازى بن أيوب بجبل قاسيون على نهر يزيد وبجوارها خانقاه له أيضا (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 178. [3] هو علاء الدين على بن محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر، توفى بمصر سنة 717 هـ (ذيول العبر ص 94، الدرر الكامنة 3: 109، حسن المحاضرة 1: 571، شذرات الذهب 6: 246. [4] هذا الجزء ورد بنصه فى ملحقات السلوك 1: 1027 ملحق 16، وقد أشار الدكتور زيادة إلى نقله من نهاية الأرب للنويرى. [5] يغطى: من أغفى بمعنى أخذه النوم أو النعاس (القاموس المحيط) .

وأجناده نحمده على ما وهبنا من نصره، ونشكره على نعمه التى خوّلنا منها بأسا أذاق العدوّ وبال أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع منار هذا الدين، وتضاعف أجر المجاهدين الذين [10] أضحوا فى درج المتقين مرتقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه وضروع الكفر حوافل، وربوع البغّى أواهل. فلم يزل يجرّد الصّفاح من مقرّها، ويطلق جياد الغرم فى مجراها وصعاد الحزم فى بحرها، إلى أن أخمد نار الشرك والنفاق، وظهرت معجزاته بإطفاء نار فارس بالعراق، صلى الله عليه وعلى آله الذين جرّدوا بين يديه سيوف الحتوف، فاستغلقت الأعمار، وهاجروا إليه ونصروه فسموا المهاجرين والأنصار، وبعد: فإن الوقائع التى عظمت آثارها فى الآفاق، وحفظت بها دماء المسلمين من أن تراق، وبقى بها الملك والممالك، وأشرق بها سواد الخطب الحالك، وسطّرها الله تعالى فى صحائف مولانا السلطان الملك الناصر، وآتاه فيها من الملك ما لم يبلغه أحد، فأورثه به ظفرا مخلّدا لا يفنى وإن طال المدار والأمد، وأشبه فى ثباته ووثباته بها أباه رضىّ الله عنه، والشبل فى المخبر مثل الأسد، واستقر بها الملك فى مهاد السكون بعد القلق، وتبدلّت بها الملة الإسلامية الأمن بعد الفرق، وأضحى بها وجه الإسلام سافرا بعد تقطيبه، وطلع بها بدر السرور كاملا بعد مغيبه، وعمّت الأيام إحسانا من الملك وحسنى وعلّم المؤمنين بها تحقيق قوله عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [1] حقها [2] أن يسطر فيها ما يعمر ربوع السرور ويؤنس معاهده، ويقف عليه الغائب فيكون كمن شاهده ويذيع أنباء هذه النّصرة فى الأقطار، ويتحقق أهل الإسلام أن لهم ملكا يناضل عن دين الله بالسّمر الطّوال والبيض القصار، وسلطانا ما أغمد سيفه فى جفنه إلا ليستجم لأخذ الثأر ممّن ثار.

_ [1] سورة النور آية 55. [2] زيادة يقتضيها السياق.

ولما كانت هذه الغزاة المبرورة، والحركات التى عدت حسناتها فى صحائف القبول مسطورة، والسّفرة التى أسفرت بحمد الله عن الغنيمة والسلامة، وأعلمت الأمة بركة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتّى ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم القيامة» . وكنت ممن شملته نفحات الرحمة فيها، وهبّت عليه رياح النّصر التى كانت ترجّيها [1] ، وشاهدت صدق العزائم الملكية الناصرية، التى طلعت فى سماء النّقع نجوما وقّادة، وشهدت فى محضر الغزو على إقرار العدى بالعجز، وكيف لا وذاك الموطن محلّ الشهادة، ورأيت كيف أثبت السيف لنا الحقّ لأنه القاضى فى ذلك المجال، وكيف نفذت السهام لأجل تصميمه فى الحكم، فلم تمهل حتى أخذت دين الآجال وهو حالّ، وقد أحببت أن أذكر من أمرها ملحة تنشرح منها [2] الصدور، وآتى بلمعة تعرب عن ذلك النور، وها أنا أذكر نبأ السفر من افتتاحه، وأشرح حديث هذه الغزاة من وقت صباحه، فأقول: ركب مولانا السلطان الملك [3] الناصر خلد الله ملكه- بنيّة صالحة أخلصها فى سبيل ربّه، وعزيمة ناجحة ماثلت فى المضاء سمر عواليه وبيض قضبه، من قلعة مصر التى هى كنانة الله فى أرضه، بجيوشه التى نهضت بسنن الجهاد وفرضه، تقدمها أمراؤه الذين كأنهم ليوث غاب، أو غيوث سحاب، أو بدور ليال، أو عقود لآل [4] معتضدا [5] ببضعة من الرسول، منتصرا بابن عمه، الذى لا يسمو أحد من غير أهل بيته لشرفه، ولا يطول، ملتمسا بركة هذا البيت الشريف الذى طالما كانت الملائكة من نجده وجنده، مسترسلا بيمنة الإيمان سحب كرمه، مستدعيا صادق وعده. وسار على اسم الله تعالى بالجاريات الجياد، التى تعدو فى سبيل الله النجاد، وتعلو الهضاب، وسرى يقطع المنازل، ويطوى المراحل طىّ السّجلّ للكتاب، والجيوش المنصورة قد أرهفت

_ [1] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 1028 «تزجيها» . [2] وفى ص «ينشرح بها» . [3] الإضافة من السلوك 1: 1029. [4] أى لآلىء. [5] فى الأصول «مقتصدا» والمثبت من السلوك 1: 1029.

حدّ سيوفها وأشرعت أسنة حتوفها، وهى تسير كالجبال، وتبعث كالصدى [1] ما يرهب من طيف الخيال. فبينما الركاب قد استقلت فى السّرى، ورقمت [2] فى البيداء من أعناق جيادها سطور من قرأها استغنى بحسنها عن القرى، إذا بالبشير قد وفد ونجم المسرّة قد وقد، وأخبر بأن جمعا من التتار قصدوا القريتين للإغارة، ما علموا أن ذلك مبدأ خمولهم الذى فتح الله به للإسلام باب الهناء والبشارة، وغرتهم الآمال، وساقتهم الحتوف للآجال، فنهض بعض العساكر المؤيدة، فأخدتهم أخذ القرى وهى ظالمة، وأعلمتهم أن السيوف الإسلامية ما تترك لهم بعد هذا العام- بقولة يدا [3] فى الحرب مبسوطة، ولا رجلا فى المواقف قائمة، وأرى الله العدوّ مصارع بغيه، وعاقبة استحواذه، وتلا لسان الوعد الصادق على حزب الإيمان وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [4] ، ووصل مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- غزّة، والإسلام بحمد الله قد زاد قوة وعزّة، ثم رحل بحمد الله- بعزم لا يفتر عن المسير، وجيش أقسم النصر أن لا يفارقه وأن يصير معه حيث يصير، إلى أن وصلوا يوم السبت الثانى من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعمائة، وهو أوّل أيام السعود، واليوم الذى جمع فيه الناس ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [5] إلى مرج الصّفّر الذى هو موطن الظّفر، ومكان النصر الذى يحدّث عنه السّمار بأطيب سمر. والسلطان بين عساكره كالبدر بين النجوم، والملائكة الكرام تحمى الجيوش المؤيدة بإذن الله، وطيور النصر عليها تحوم، وهو- خلّد الله ملكه- قد بايع الله على نصرة هذه الملّة التى لا يحيد عن نصرها ولا يريم، وعاهده على بذل الهمم التى انتظمت فى سبيل الله كالعقد النّظيم، وخضع لله فى طلب النصر

_ [1] فى الأصول «كالعدى» والمثبت من المرجع السابق. [2] فى الأصول «ورقت» والمثبت من السلوك 1: 1029. [3] هنا انقطع الكلام فى ك بما يعادل منتصف صفحة 33 من ص إلى أول صفحة 63 وقد أكملت النص منها. [4] سورة الفتح آية 20. [5] سورة هود آية 103.

وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [1] ، وقال: رب قد بذلت نفسى فى سبيلك فتقبّلها بقبول حسن، ونويت المصابرة فى نصرة دينك، وأرجو أن أشفع النّيّة بعمل يغدو لسان السّنان فى وصفه ذا لسن، وتلا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [2] واهزم عدونّا فقد بايعناك على المصابرة وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . [3] ، وابتهل إلى الله فى طلب التأييد، وتضرّع إليه فى ذلك الموقف الذى ما رآه إلّا من هو فى الآخرة شهيد، وفى الدنيا سعيد، هذا والسيوف قد فارقت الأغماد، وأقسمت أنها لا تقرّ إلا فى الرؤوس، والأسنة قد أشرعت وآلت أنها لا تروى ظمأها إلا من دماء النفوس، والسهام قد التزمت أنها لا تتخذ كنائنها إلّا من النّحور، ولا تتعوّض عن حنايا القسىّ إلا بحنايا الأضالع أو لترفّعها لا تحلّ إلّا فى الصدور، والدروع قد لزمت الأبطال قائلة: لا أفارق الأبدان حتى تتلى سورة الفتح المبين، والجياد حرّمت وطء الأرض وقالت لفرسانها: لا أطا إلّا جثث القتلى، ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرا من حديد، ولا تشاهد إلا لمع أسّنّة أو بروق سيوف تصيد الصيد [4] ، والسلطان قد أرهف ظباه [5] ليسعّر بها فى قلوب العدى جمرا. وآلى أنه لا يورد سيوفه الطلى بيضا إلا ويصدرها حمرا، والإسلام كأنه بنيان مرصوص، ونبأ النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص، والنفوس قد أرخصت فى سبيل الله، وإن كانت فى الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعدّ لها الدّرك الأسفل من النار، وأرواح المؤمنين فى جنة عالية. ولما كان بعد الظهر أقدم العدو- خذله الله- بعزائم كالسيوف الحداد وجاء على قرب من مقدمنا، فكان هو والخذلان على موافاة، وجئنا نحن والنصر على ميعاد؛ وأتى كقطع الليل المظلم بهمم لا تكاد لولا دفع الله عن بزاتها

_ [1] سورة آل عمران آية 126. [2] سورة البقرة آية 250. [3] سورة البقرة آية 249. [4] الصيد: جمع أصيد، والمراد به البطل الشجاع (لسان العرب) . [5] الظبا: حد السيف (محيط المحيط)

تحجم [1] ، معتقدا أن الله قد بسط يده فى البلاد- ويأبى الله إلا أن يقبضها- متخيّلا أنّ هذه الكرّة مثل تلك- ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوّضها- متوهما أن جيشه الغالب، وعزمه القاهر، متحققا أنه منصور وكيف ذاك ومعنا الناصر!! والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها [2] فى الحرب نكول ولا تقصير، فكان جمعنا ولله الحمد جمع سلامة وجمعهم جمع تكسير؛ وحمى الوطيس، وحمل فى يوم السبت الخميس [3] على الخميس، ودارت رحا الحرب الزّبون [4] ، وغنّت السيوف بشرب الكماة كأس المنون، والسلطان قد ثبت فى موقف المنايا، حتى كأنه فى جفن الرّدى وهو نائم، ورأى الأبطال من أوليائه جرحى فى سبيل الله والأعداء مهزومين [5] . والوجه منه وضّاح والثغر باسم، وقابل العدوّ بصدره وقاتل حتى أفنى حديد بيضه وسمره، وخاطر بنفسه والموت أقرب إليه من حبل الوريد. ونكّب عن ذكر العواقب جانبا، ولم يستصحب إلا سيفه المبيد، واشتد أزرا بامرائه الذين رأوا الحياة فى هذا اليوم مغرما، وعدوّا الممات فيه مغنما وقالوا: لا حياة إلا بنصر الإسلام، ولا استقرار حتى تطأ بين يدى السلطان سنابك الخيول هذه الهام، وما أعددنا العزائم [35] إلا لهذا الموقف، ولا أحددنا الصوارم وخبأناها إلا لنبذلها فى السفك فنسرف [6] ، وهم بين يدى سلطانهم يحثّون جيوشهم على المصابرة، ويقولون: هذا يوم تصيبنا فيه إحدى الحسنيين: فإما سعادة الدنيا وإما جنة الآخرة، وقالت الملائكة للجيوش المنصورة: يا خيل الله اركبى ويا يد النصر اكتبى، وقامت الحرب على ساق وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [7] ، وأتى العدوّ جملة واحدة، وحمل حملة أمست بالنفوس جائدة، ونكب عن الميسرة وقصد الميمنة

_ [1] كذا فى ف وفى ص «برأتها» . [2] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1031 «لم ييئسها» . [3] الخميس: الجيش (المعجم الوسيط) . [4] الحرب الزبون: الشديدة (المعجم الوسيط) . [5] كذا فى ف. وغير واضحة فى ص. وفى السلوك 1: 1031 «مهزومة» . [6] كذا فى السلوك 1: 1031. وغير منقوطة فى ص، وف. [7] سورة القيامة الآيتان 29 و 30.

والقلب، وهاله جمع الإسلام فأراد أن يخلص بانحيازه من شدة ذلك الكرب، واستمرت المناضلة تمتد بين الفريقين وتنتشر، والمؤمنون قد وفّوا بما عاهدوا الله عليه. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [1] ، ومولانا السلطان يردف مواكبه بحملاته، ويقدم فتخشى الأعداء مواقع مهابته وترجو الأولياء منافع هباته، ويرى غمرات الموت ثمّ يزورها، ويمر فى مجال المنايا فيحلوله مريرها ومزورها [2] ، ويقاسم سيوف العدى شرّ قسمة، فعلى عاتقه غواشيها [3] وفى صدورهم صدورها. ولما كان وقت المغرب لجأوا- خذلهم الله [36]- إلى هضاب اعتقدوا أن فيها النجاة، وقالوا: نأوى إلى جبل يعصمنا من الموت ونسوا أنه لا عاصم اليوم من أمر الله. راموا النجاة وكيف تنجو عصبة مطلوبة بالله والسلطان؟ وحصرتهم العساكر الإسلامية بعزائم كالشهاب أو النار [4] ، ودارت عليهم كالسّوّار والسّوار [5] ، وصيّرتهم بقدرة الله فى ربقة الإسار، وقاتلتهم الجيوش المنصورة غير مستجنّة بقرى محصّنة ولا من وراء جدار، تتلظى كبودهم عطشا وجوعا، ويكادون من شدة الهجير يشربون من سيل قتلاهم نجيعا [6] ، ويودّون لو كانوا أولى أجنحة، ويندمون حين رأوا صفقتهم خاسرة وكان ظنهم أنها تكون مربحة، ويأسفون على فوات النجاة، ويتحيّرون عند مواقعة الجيوش المؤيدة حيث رأوا ما شملها من نصر، ويتضرّمون بنار الخيبة على حركتهم التى أدبرت لهم مآبا، وينظرون فيما أسلفوه من ذنوب ولسان الانتقام يتلو عليهم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [7] .

_ [1] سورة الأحزاب آية 23. [2] كذا فى الأصل. [3] غواشيها:/ جمع غاشية وهى غلاف السيف (لسان العرب) . [4] فى ص، وف «النهار» والمثبت من السلوك 1: 1032. [5] السوار- بكسر السين وضمها مع التشديد: حلية للمرأة. وبفتح السين مع التشديد والواو هو من الكلاب الذى يأخذ بالرأس، وأيضا الرجل يواثب نديمه إذا شرب، وهو سوار أى وثاب معربد (لسان العرب) . [6] النجيع: هو الدم، وقيل دم الجوف خاصة، وقيل هو الطرى منه أو المصبوب (لسان العرب) . [7] سورة النبأ آية 40.

ودخلت ليلة الأحد وهم فى حصرهم وقد أوقعهم الله فى حبائل مكرهم، وأراهم من الحصر والضيق ما لا رأوه مدّة عمرهم، وأيقنوا بالهلاك [37] ، وتحققوا أن لا خلاص لهم من تلك الأشراك، ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة مظهرين، ولو علموا سوء صباحهم كفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى فى حقهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [1] وأصبح الإسلام يوم الأحد فى قوته المنيعة، وأرواح العدى فى أجسادهم وديعة، ومولانا السلطان يصطبح من دمائهم كما اغتبق، ويريهم عزما ينثر عقد اجتماعهم الذى انتظم واتّسق، ويفهمهم أنّه لا مردّ له عن مراد الصّوارم، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم، وأمراؤه- أعزّ الله نصرهم بين يديه- أولو همم فى الحرب وأولو عزائم، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [2] يعدّون المصابرة فى طاعة الله وطاعة سلطانهم غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار؛ ويمتازون بأنّ منهم من هاجر إليه، ومنهم من نصره، فعدّوا- حقا- كونهم مع محمد تابعى المهاجرين والأنصار، وزحف السلطان وبين يديه أمراؤه وعساكره المؤيدة فضيقوا عليهم الخناق، وأحدقوا بهم إحداق الهدب بالأحداق، وراسلوهم بالسهام، وشافهوهم بالكلام لا الكلام، ورفعوا من راياتهم [38] المنصورة ما طاول المنشآت فى البحر كالأعلام، وحمل بها الأبطال، فكلما رآها العدى تهتزّ بتحريك نسيم النّصر سكنوا خوف الحمام، ثم فرّجوا لهم عن فرجة من جانب الجبل ظنّوها فرجا، وخيّل لهم أنّه من سلك تلك الفرجة سلك طريقا مستقيما، وما دروا أنه سلك طريقا عوجا، واستترت لهم الجيوش المنصورة إلى الوطاة لتمكّن سيوفها من سفكهم، ويقرب مدى هلكهم، وتسلمهم إلى الحمام الذى لا ينجى منه خيل ولا جبل، وتملأ الوطاة من دمائهم، فتساوى السهل من قتلاهم بالجبل، وحلّ الحمام بساحتهم، وامتدت الأيدى لاستباحتهم، وضاقت عليهم المسالك، وغلبوا هنالك، وأنزل الله نصره على المؤمنين وأيدهم بجنود لم يروها، واشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنة- فيا طيب ما شروها، وفرّت من العدو فرقة،

_ [1] سورة الصافات آية 177. [2] سورة المائدة آية 54.

وضلّت فى حالة الحرب عن السيف فأدركهم العزم الماضى الغرار [1] وتلا عليهم لسان الحق قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ [2] وما انقضى ظهر يوم الأحد إلا والنصر قد خفقت بنوده، والحق- سبحانه وتعالى- قد صدقت وعوده، وطائر الظفر قد رفرف بجناحه وطار باليمن والسرور [39] ونسيم الريح قد تحمّلت رسالة التأييد، فصارت إلى الإسلام بالصّبا وإلى العدوّ بالدّبور والألطاف- ولله الحمد- قد زادت للإسلام قوّة وتمكينا، ولسان النصر يتلو على السلطان إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [3] والسيف قد طهّر ديار الإسلام من تلك الأدناس ومولانا السلطان يتلو ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ [4] ، وأمست الوحوش تنوش أشلاءهم، والحوائم ترد دماءهم، والعساكر فى أعقابهم تقتل وتأسر، وتبدى فى استئصالهم [5] كل عزيمة وتظهر، وتنظم أسنتها برؤوس القتلى، وتعقد لها على عقائل النصر فتزفّ لديها وتجلى، إلى أن ناحتهم بالخيف [6] من مكان قريب، وبسطت فيهم السيف فسأل الأسر أن يسمح له بحظّ فأعطى أيسر نصيب، وملئت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثا فى الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار. ثم رحل السلطان يوم الإثنين الرابع من شهر رمضان المعظم إلى منزلة الكسوة من مكان النصر، وبقاعه تنبئ [7] على معاليه، وتشهد بمضاء قواضبه ونفوذ عواليه، ودمشق قد أخذت زخرفها وازّيّنت، وتبرّجت محاسنها للنواظر، وما باتت بل تبيتت، وكادت جددها تسعى للقائه، لتؤدّي السّنّة من خدمته والفرض، غير أنها استنابت الأنهار فسعت وقبّلت بين يدى جواده الأرض.

_ [1] الغرار: حد السيف (المعجم الوسيط) . [2] بياض فى ص، وف. المثبت يقتضيه المعنى والسياق الذى التزمه المؤلف. والآية رقم 16 من سورة الأحزاب. [3] سورة الفتح آية 1. [4] سورة يوسف آية 38. [5] فى ص، وف «إيصالهم» والمثبت يقتضيه السياق. [6] الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن الوادى ومجرى السيل (لسان العرب) . [7] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «تثنى» .

ثم رحل فى يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان، ودخلها فى هذا اليوم والملائكة تحيّيه عن ربّه بتحيّة وإكرام، وتتلو عليه وعلى جيوشه ادْخُلُوها بِسَلامٍ [1] * فى موكب كأنه نظام الدّرر، أو روضة كلها زهر، بل هو- حقا- هالة القمر، والدنيا قد تاهت به عجبا، والناس يدعون لسلطان قد شغفوا بدولته حبّا، ويتعجبون من نضارة ملكه الذى سرّ النواظر، ويرون أولياءه فى فلك إنعامه، فيقولون: أبدّلت الأرض غير الأرض أو صارت سماء وإلا فما هذا القمر حوله النجوم الزواهر! وعادت المآتم بدمشق أفراحا وأعراسا، وربوع الهناء قد عوّضها أمن مقدمه عن الوحشة إيناسا، والقلعة بآلات حصارها مزينة قائلة: كيف يستباح حماى وأنا بهذا السلطان محصّنة، وبشهادته [2] محصنة. هذا والأنهار تساير ركابه وقد صبغت من دماء العدى بأحمر قان، والأشجار تميل طربا بالهناء كما يميل النشوان بين الأغانى، والحمام يطرب بحسن الألحان والتغريد، وقد أقسمت لا تنوح، وكيف تنوح وقد خضّبت كفّها وطوّقت الجيد، والناس يقولون: أيا عجبا فى أوّل رمضان يكون عيد، وفى آخره عيد؟! والعزائم للعدى تردى، وبنصر الله ترتدى، وتهتز [3] بردى تقول عند تغريد الحمامة: «يا برد ذاك الذى قالت على كبدى» والأقاليم قد تاهت بسلطانها بهجة وسرورا، وهام الجوزاء تودّ لو كانت منبرا وسريرا، والرعايا تقول: هذا الملك الذى حمى الله بعزائمه الدّيار، وأدار العدى إلى دار البوار، ووقف لا يبتغى إلا وجه ربه، وقابل اليوم بنفسه وبكتائبه، وناضل الأمس بكتبه، والله لدعائهم سامع ومجيب، ومكافئه بكل فتح مبين ونصر قريب.

_ [1] سورة الحجر آية 46. [2] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «بسعادته» . [3] فى ص، وف، والسلوك 1: 1034 «ونهر» .

ووصل الميدان الأخضر وقد أذاق العدوّ الأزرق الموت الأحمر، فى يوم السعد الأبيض، بعلم النصر الأصفر- إلى القصر الأبلق، وقد طلع شمسا فى سماء الملك أنار به أفق الآفاق وأشرق، ففخر القصر بحلوله فيه، وقال: هذا اليوم الذى كنت أرتجيه، وهذا الوقت الذى ما برحت تبشّرنى به [43] نسمات البكر والأصائل. لأنها تمرّ لطيفة، فأعلم أن معها منه- خلّد الله ملكه- رسائل، وهذا الملك الذى أعرف فيه من الله شمائل؛ فغبطته القلعة المنصورة، وسألته [1] أن لا تبقى بغير الجسد محسورة [2] ، وفاخرت القصر بمالها من محاسن، وما شرفت به من إشراف على أنضر الأماكن، وامتازت به من حصانتها الذى ما امتطى سواه ذروتها، ولا علا غيره- خلّد الله ملكه- صهوتها، فأراد أن يعظم لقلعته الشأن- فحلّ بها مرة ثم بتلك أخرى، وطاب بحلوله الواديان. ثم أذهب عن أوليائه وجيوشه مشقة التعب، ببذل الذهب، وأنسى بمكارمه حاتم طيئ، فلو عاش لا ستجدى ممّا وهب، وأمر بعود نوّاب ممالكه إلى أماكنهم المحروسة، وقال: قد خلت ربوعكم هذه المدّة. وحيث حللنا بالبلاد نبتغى أن تكون مأنوسة، فتضاعف الشكر على إتمام هذه النعمة، وابتهلت الألسن بالمحامد، وكيف لا وقد طلع صبح النصر فجلّى ليل تلك الغمة، وشكر الناس منّة الله التى أعادت إليهم بالأمن الوسن [3] ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [4] وأقام بدمشق [44] المحروسة يتبوّأ منها أحسن الغرفات، واستقر من بقاعها [5] فى جنّات، فحييت به بعد الممات، وعادت بمقدمه إلى جسدها الروح بعد المفارقة، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها الرائقة، وهو يحمى حماها، ويحلى مواطن ملكها الزواهر رباها، ويزيّنها بمواكبه التى ماثلت الكواكب فى سنائها وسناها، وتطأ سنابك جياده أرضها فيدانى الثريا فى الافتخار ثراها، إلى أن قضى شهر صيامه

_ [1] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1035 «وسألت» . [2] فى ص وف «محصورة» ونقل الصواب ما أثبته. [3] الوسن: الحاجة والوطر، النوم والنعاس (لسان العرب) . [4] سورة فاطر آية 34. [5] كذا فى ص، وف. فى السلوك 1: 1035 «ويستقر من بقعتها» .

المقبول. وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك آماله فى عز مستمر ونصر موصول، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج البحر، وتعدّدت لدولته المسرّات فى هذا الشهر الميمون، فآخره عيد فطر، وأوّله عيد نحر. ثم رحل عن دمشق فى يوم الثلاثاء ثالث شوال، ويعزّ عليها أن تفارقه. أو تبعد عن محيّاه الذى أنار مغارب الملك ومشارقه، أو يسيّر عنها عزمه الذى إن غاب أغنت مهابته، أو حضر أرهف على العدو بوارقه، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه، وأوراق روحها تودّ لو كانت مكان أعلامه وخوافقه، وزهرها يتمنى لو كان وشيا [45] لحلل [1] جياده، وأرضها النضرة تكاد تنطوى بين يديه لتكون مراكز السعادة [2] ، وقصرها الأبلق يتوسّل إليه فى أن يتخذه بدل خيامه، وستائره ليسر مسكنه [3] فيه ومقامه، ومصر تبعث إليه مع النسيم رسائل، وتبذل له فى تعجيل عوده وسائل [4] ، وكرسىّ سلطنتها يودّ لو سعى من شوق إليه، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التى أتمّها الله عليه، فلبّى دعوتها ولم يطل جفوتها، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضّياء والنور، ووطئ بمواكبه الأرض فظهرت بها من مواطئ جياده أهلّة، ومن آثار أخفاف مطيّه بدور، ووصل ديار مصر المحروسة وقد زفّت عروسا تجلى فى أبهى الحلل، وجمعت أنواع المحاسن، فلا يقال لشىء منها كمل لو أنّ ذا كمل، وفضح الدجى إشراقها، وبهر العيون جمالها، فإلى أقصى حدائق حسنها. رنت أحداقها، وسبت النفوس منازلها، وكيف لا، وهى المنازل التى لم نزل نشتاقها، وشغلت القلوب أبياتها، وكيف لا وقد زانها ترصيعها وطباقها، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام محاقها، وأمست روضة أثمرت اللآلى والدرر، وفلكا زها بالمشرقات فيه، [46] وكيف لا وفى كل ناحية من وجهها قمر. وحلّ- خلّد الله ملكه- بظاهر القاهرة فكادت تسير لخدمته بأهلها وجدرانها، غير أنّه أثقلها الحلى فأخّرها لتبدو إليه فى أوانها المراد، وما أحسن الأشياء فى أوانها، وهمّ نيلها أن يجرى فى طريقه لكنه أخّره النقص

_ [1] فى ص، وف «لحلك» ولعل الصواب ما أثبته. [2] كذا فى ص، وف. ولعلها «الصعاده» . [3] فى ص، وف «ممكنه» ولعل الصواب ما أثبته. [4] فى ص، وف «رتائل» والمثبت من السلوك 1: 1035.

والتقصير، واستحيا أن يقابله وهو دون غاية التمام، أو يسير من مواكب أمواجه فى عدد يسير، وخشى أن يتخلّل السبل بين يديه فيحصل فى ريها الخلل، أو تظهر عليه- كونه فى زمن توحمه- حمرة الخجل، وكأنّ عمود مقياسه قد آلى أن لا يضع أصابعه فى اليّمّ إلا بإذن سلطانه، ولا يلبس ثوب خلوق إلّا ما يزره عليه ببنانه، ولا يأتى بزيادة إلا بعد مقدمه، وكيف لا ومدده من إحسانه؟! وركب سحر الإثنين الثالث والعشرين من شوال سنة اثنتين وسبعمائة من ظاهر القاهرة فى موكب حفّ به الظّفر، وأضحى حديثا للأنام وذكرى للبشر، وسيفه المنصور قد أذهب عن الملّة الإسلامية ليل الخطب ومحا، والأمة يترقبون طلوع فجر بدره، ولسان المسرّة يتلو عليهم مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [1] ودخل البلد وقد تزايدت بمقدمه سرورا [47] وبشرا، وأنشدته:- أنت غيث إذا وردت إلى الش ... ام ونيل إذا تيمّمت [2] مصرا أطلع الشرق من جبينك شمسا ... ليس تخفى ومن محياك بدرا كان أمر التتار مستصعب الح ... ال فصيّرت عسر ذلك يسرا وفتحت له أبواب نصرها التى يفضى منها إلى نعمة ونعيم، وشاهدته [3] عيون أهلها. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [4] والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين، والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [5] وقد

_ [1] سورة طه آية 59. [2] فى ص، وف، والسلوك 1: 1036 «يممت» والوزن يقتضى ما أثبته. [3] فى ص، وف والسلوك 1: 1036 «وشاهدت» . [4] سورة يوسف آية 31. [5] سورة يوسف آية 99.

أظلتّه سماء أديمها الحرير، ونجومها الذهب، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون، وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون، وكوفئت عن وطء الأحجار بالأمس فى سبيل الله بوطء الديباج فى هذا اليوم، وكادت الأيدى تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذى حملت إليه أكرم قوم، فرأى فيها جنّة أوردت من مناهلها كوثرا، وكان قد أنهى بين يديه حديث زينتها [1] فوجد خبرها يجاوز خبرا، ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السّرى، وتبرّجت عقائلها نزها للنواظر [48] ، وتظهر كلّ واحدة منهن فى وشى أبهى من الزواهر، ولبست جدرانها حلل السرور النّضرة، وأبرزت بعولتهن ما فى ذخائرهم ولم يسألوا نظرة إلى ميسرة- وما ثنت [2] أعطافها- كما أمست وجوه التهانى بها ضاحكة مستبشرة، ولمّا مر بسبلها حلا له ذلك النّور، ولمّا سلك بين قصريها تحقق الناس أن أيامه زادت على أيام الخلفاء؛ فإنها أنشأت قصرين وهذا أنشأ لها قصورا ما بها من قصور، فمن بروج تمنّت البدور لو كانت لها منازل، ومن قلاع لو تحصّن بها جان لما دارت عليه دوائر الدهر الغوائل، ومن قباب علت وليس لها غير الهمم من عمد، وضربت على السماحة والنّدى فما عدم مشيّدها حسن البناء ولا فقد، ومن عقود عقد لها على عرائس السعود، وتمكّنت فى الصّعود، ومن حلى لو ظفر بها الحسن بن سهل لاتخذ منها لجهاز ابنته على المأمون ما لا ألف مثله فى زمنه ولا عهد، ولو [3] رآه ابن طولون لاعتضد به فى إهداء عقيلته للمعتضد، ومن أواوين تزرى بإيوان كسرى الذى [4] تعظّم بناؤه وتحمّد، ويستصغر فى عين من رأى إيوانا واحدا من هذه، وكيف لا وذاك هدم فى زمن [49] محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا عمّر لنصرة محمد، وذاك أهلك بانيه وزجر، وهذا أيّد بانيه ونصر، ومن سواق

_ [1] فى ص، السلوك 1: 1037 «رتبتها» والمثبت من ف. [2] كذا فى ص، وفى السلوك 1037 «وماست» . [3] فى ص، وف «ولا رآه» والمثبت يقتضيه السياق. [4] فى ص، ف «التى» .

جوار وجوار سواق، وآلات تبهر عند رؤية حدائقها الأحداق، ومن عروش وأشجار، ورياض نضرة تبهت الأبصار، قد أخذت من كل المحاسن بشطر، وحلت مذاقا. وكيف لا وقد سقيت بالقطر؟! ومن سفائن قد ترفعت حتى مرت فى الجوّ من بحر النسيم فى لجج، ومن عجائب إذا حدّث المرء عنها قيل له: حدّث عن البحر ولا حرج، ومن شخوص بالألحاظ تغازل، ودمى تسحر العقول بسحر بابل، وصور يخيّل للرائى أنها تنطق، وأشكال وضعت صفة للحرب التى أضحت رايتها فى الآفاق تخفق، ومن هيبة للعدى التى أبادتها الأبطال، وأعدمت حقيقتها فلم يبق منها إلا مثال يبزر فى خيال، ومن جتور [1] ظهرت بها آية ملكه لمّا مرّت بنفسها على رأسه الكريم مر السحاب، وسارت بين السماء والأرض فلم تحتج مع سعادته إلى عمد ولا إلى أطناب، ومن فوسان جمّلّت [2] الجيوش المنصورة حيث لبست لأمة حربها، وأعتقلت رماحها وبارزت الأقران [50] فكان النصر من حزبها. ومن أنواع احتفال يعجز عن وصفها البديع الفطن ولولا خوف الإطالة [3] لقلت ومن ومن إلى أن تنفد كلمة ومن. والأمة يبذلون فى خدمته الجمل والتفاصيل، ويصنعون له ما يريد من النّزه، ويعملون ما شاءوا من تماثيل، والأسارى قد جعلوا بين يديه مقرنين فى الأصفاد، يشاهدون مدينة ماثلت إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [4] وهو- خلدّ الله سلطانه- يسير الهوينا، وينظر بعين حبره هذا المحفل، ويقبل، وأسراؤه بين يديه كالليث أقبل للفريسة ينقل [5] ، وهم

_ [1] جتور- جمع جتر وهو مظلة أو قبة من حرير تحمل على رأس السلطان فى موكب الصيد (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 7- 8) . [2] فى ص، وف «خلت» ولعل الصواب ما أثبته. [3] سقط فى ص، وف. والإضافة عن السلوك 1: 1038) . [4] سورة الفجر الآيتان 7، 8. [5] كذا فى ص، وف. والمعنى غير مفهوم.

يشكرون حلمه [1] على السلامة من ريب المنون والأفواه تنطق بشكر الله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [2] وقد بهتوا لما رأوه من نعم الله التى تنوّعت له- خلد الله ملكه- حتى أتت كلّ نعمة فى وقتها، وعظمت فى عيونهم آيات الله سبحانه، ولسان الأقدار يتلو وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [3] فلما نظروا بالأمس فى إنجاد الملائكة للعساكر المنصورة آية كبرى، شاهدوا اليوم من سعادة هذا الملك الذى بنت له الأقدار بين السماء والأرض [51] مدينة فقالوا: هذه آية أخرى، واستقلّوا ما مرّوا به من المدائن والأمصار، وغدوا وعيونهم فى جنة وقلوبهم فى نار، واستصغروا ملكهم المخذول وملكه، وقالوا: غير عجيب لمن أقدم على هذا الملك أن يبدد جمعه، ويفرط سلكه، وتحققوا أنه من أوتى هذا السعد لا يؤخّر- إن شاء الله- إمساك كبيرهم وهلكه، ونودوا أن شاطروه فى السلاسل والقيود، والسيف يقول: ليس الأمر لمن يسمى- خديعة- محمودا، محمود ووصل مولانا السلطان تربة والده السلطان الشهيد- قدس الله روحه- وأمراؤه قد بذلوا فى محبته نفائس النفوس، وجزيل الأموال، وأخاير الذخائر، وركبوا بالأمس للمناضلة عن دولته فى سبيل الله، وقد بلغت القلوب الحناجر، وترجّلوا اليوم فى خدمته تعظيما لشعائر سلطنته، وطلعوا فى سماء المعالى كالنجوم الزواهر، وصعد- خلد الله ملكه- تربة والده- رضى الله عنه- وأنوار النصر على أعطاف مجده لائحة، ودخلها فلولا خرق العوائد لنهض من ضريحه وصافحه، وشكر مساعيه التى اتصّلت بها أعماله، وكيف لا وهى أعمال صالحة [52] ، وقصّ مولانا السلطان- خلد الله ملكه- عند قبره المبارك من غزوته أحسن القصص، وأسهم من بركة جهاده أوفر الحصص، فلو استطاع- رحمه الله- أن ينطق لقال: هذا الولد البار، والملك الذى خلفنى وزاد فى نصرة الإسلام وكسر التّتار،

_ [1] كذا فى ص، ف. [2] سورة غافر آية 71. [3] سورة الزخرف آية 48.

ولو تمكّن- رضى الله عنه- لأخبره بما وجده من ثواب الجهاد فى جنات وعيون، وبشره بما أعدّه الله لمن فقد من المجاهدين فى هذه الغزاة المبرورة بين يديه، وتلا عليه وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [1] ولأثنى على امرائه الذين فعلوا من المصابرة والمحافظة ما أوجبه حسن التهذيب منه- رحمه الله- وجميل التربية، وشكر عزائمهم التى ما ناداها أهل مملكة لكشف خطب إلا أجابوهم بمواقع التّلبية، واعتدّ بطاعتهم للميّت والحىّ، وموالاتهم التى ذاعت فى كل ناد وحىّ، والقرّاء حول ضريحه يتلون آيات الله التى كان- رضى الله عنه- بها عاملا، ولم يزل ربع تقواه بها آهلا، فشمل مولانا السلطان- خلد الله ملكه- الأنام بالصدقات المتوفرة، [53] وسمح من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرة، وازدحمت الأمانى على سيبه كما ازدحمت الأعادى على سيفه، فكان كما قيل: (قدّاح زند المجد لا تنفكّ من ... نار الوغى إلّا إلى نار [2] القرى) وركب من التّربة الشريفة والرعايا يدعون بدوام دولته التى أضحت قواعد الأمن بها متينة، ويرتعون بالمدينة فى لهو ولعب وزينة. وسار جواده بين حلىّ وحلل، فاستوقف الأبصار، فى مسلك حفّت به غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الأنهار. وعاد إلى قلعته ظافرا عود الحلى إلى العاطل، وغدت ربوعه الموحشة لبعده بقربه أواهل، وطلعها فى أيمن طالع لا يحتاج معه إلى اختبار ولا رصد، وحلّت شمس ملكه فى برجها وكيف لا وهو فى برج الأسد، فالله تعالى يمتع الدنيا بملك حمى شاما ومصرا، وأذاق التتار بعزائمه مصائب تترى.

_ [1] سورة آل عمران آية 169. [2] البيت من مقصورة ابن دريد.

وحسبنا الله ونعم الوكيل

وحسبنا الله ونعم الوكيل ولما صنّف المولى علاء الدين هذه الغزاة، وعرضت [54] على المسامع الشريفة السلطانية شمله الأنعام والتشريف السلطانى، ووفر حظّه من ذلك، وقد سمعت هذه الغزوة من لفظه، ونقلتها من خطه، وقد أتى فيما أورده بالواقعة المشاهدة، ووفّى بقوله: إن الغائب إذا وقف على خبره يكون كمن شاهده. وقد وقفت أيضا على جملة مما صنّفه الفضلاء فى خبر هذه الغزاة، وهذا الذى أوردته أتمّها وأكملها وأكثرها استيعابا للواقعة من ابتدائها إلى انتهائها. فلذلك اقتصرت على إيرادها دون ما سواه. وعمل أيضا الشعراء قصائد كثيرة يطول الشرح بإيرادها، وها نحن نذكر منها قصيدة نظمها القاضى الفاضل جمال الدين أبو بكر عبد القاهر بن الشيخ نجم الدين أبى عبد الله بن محمد بن عبد الواحد بن محمد التبريزى الشافعى قاضى عجلون وخطيبها وهى [1] :

_ [1] روجعت القصيدة على النص الوارد فى كتاب «كنز الدرر وجامع الغرر» لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى بتحقيق هانس روبرت هويمر ج 9 طبعة الخانجى (ص 93- 100) .

الله أكبر جاء النّصر والظّفر ... والحمد لله، هذا كنت أنتظر وأبرز القدر المحتوم بارئه ... سبحانه بيديه النفع والضرر وهوّن الصّعب بالفتح المبين لكم ... ربّ يهون عليه المقفل العسر ولم تزل شرعة الإسلام ظاهرة ... أجزم به فبهذا صحّح الخبر أين النجوم وتأثير القران وما ... تخرّصوا فيه من إفك وما زجروا قد دبّر الله أمرا غير أمرهم ... وخاب ما زخرفوا فينا وما هجروا وأقبل العسكر المنصور يقدمه ... من الملائك جند ليس تنحصر وقد أحفّوا به والأرض من زجل [1] ... ترتجّ إن سبّحوا لله أو ذكروا كنانة الله مصر جندها ثبتت ... لا ريب فيه وجند الله تنتصر ثاروا سراعا إلى إدراك ثأرهم ... وهجّروا فى طلاب المجد وابتكروا وأسهروا أعينا فى الله ما رقدت ... أكرم بقوم إذا نام الورى سهروا لله كم ديّنوا فى نصر دينهموا ... وأنفقوا فى سبيل الله ما ادّخروا صانوا الجياد وسنّوا كلّ ذى شطب [2] ... وجدّدت للقسىّ النّبل والوتر حماهم الله كم حاموا وكم منعوا ... وكم أغاثوا وكم آووا وكم نصروا وخلّفوا خلفهم لذّات أنفسهم ... وهاجروا ولذيذ العيش قد هجروا وأوجفوا نفرا بالخيل ملجمة ... وبالركاب وما [3] ملّوا ولا فتروا حتى أتوا جلّقا [4] فى يوم ملحمة ... فيه الأسود أسود الغاب تهتصر

_ [1] فى ص، وف «رجل» والمثبت من المرجع السابق. [2] ذو شطب: يعنى السيف. (لسان العرب) . [3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «ولا» . [4] جلق: لفظ أعجمى، يطلق على كورة الغوطة كلها، وقيل يطلق على دمشق، وقيل موضع بقرية من قرى دمشق (معجم البلدان 6: 154) .

لها السّنابك فى الميدان قد حنيت ... صوالجا [1] ولها روس [2] العدا أكر [3] والجوّ أغبر والتاتار [4] زاحفة ... مثل الجراد على الدنيا قد انتشروا وددت لو كنت بين الصف منجدلا ... قد ارتوت من دمى الخطية السّمر وكوثر الحرب قد راقت مشاربه ... تحت العجاجة والأبطال تعتكر [56] [5] والسيف ينشى بديعا من فواتره ... والرّمح ينظم والهامات تنتثر والنّبل يخقط والأقلام كاتبة ... والضرب يعرب والأبدان تستطر حتى إذا عبّ مثل البحر جحفلنا ... ومدّ فيضا على أعدائنا جزروا أصلوهم جاحما يشوى الوجوه وقد ... حمى الوطيس ونار الحرب تستعر وأحرقتهم سراعا كلّ صاعقة ... من السيوف بنيران لها شرر لاذوا بشمّ شماريخ الجبال فما ... حمتهم قلل منها ولا مغر [6] ومزّقوا شردا [7] بين الزحام فكم ... شلو تنازع فيه الذئب النّمر أين المفر وقد حام الحمام بهم ... هيهات لا ملجأ يرجى ولا وزر نادى بهم صارخ أغرى الفناء بهم ... فإن سألت فلا خبر ولا خبر كم قد سهرتم دجى من خوفهم حذرا ... والآن ناموا فلا خوف ولا حذر قولوا لغازان يا ذا ما لعلّك أن ... تروع من مخلب الرّئبال يا بقر

_ [1] الصوالج:/ جمع صولج وهو مضرب تضرب به الكرة، ويقال صلج الكرة إذا ضربها (محيط المحيط) . [2] أى رءوس وخففت للوزن. [3] الأكر- جمع أكرة، وهى لغة فى الكرة، وتعرف اليوم باسم بولو وشغف بهذه اللعبة معظم سلاطين المماليك وأمرائهم (كتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 444، حاسية 1 للدكتور زيادة) . [4] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «والأتراك. [5] تعتكر: تختلط وتتشاجر (محيط المحيط) . [6] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «صور» . ولعل الشاعر جمع مغارة على مغر. [7] شرد: جمع شارد (لسان العرب) .

تلك الجموع التى وافى يدلّ بها ... تالله ما بلغوا سؤلا ولا نصروا جاءوا وقد حفروا من مكرهم قلبا [1] ... ألقاهم الله قسرا فى الذى حفروا وسكّروا فى أراضينا مباذرة ... والآن قد حصدوا أضعاف ما بذروا وافى بهم أجل يمشى على مهل ... حتّى محاهم فلا عين ولا أثر لم ينفروا خيفة من كل قسورة ... وفرّ جمعهم إلّا وهم حمر أموا الفرات وقد راموا النجاة فكم ... حلّت بهم عبر فيها وما اعتبروا مرائر القوم من خوف قد انفطرت ... والكلّ من قبل عيد الفطر قد نحروا [57] جميعهم قتّلوا صبرا [2] وأعظمهم ... جميعها بضواحى جلّق صبروا لم يقبروا فى نواويس [3] ولا جدث ... وإنما فى بطون الوحّش قد قبروا والطير ترعى نهارا لحمهم فإذا ... ما الليل جنّ ففى أقحافهم تكر فخذ عزاءك فيهم إنّهم أمم ... هم اللّعاوس [4] إن قلّوا وإن كثروا كم كابروا الحسّ فى قصد الشّام وكم ... قد جرّبوا حظّهم بالشام واختبروا فقاتلوهم جميعا إنّهم تتر ... كم أرسلوا رسلهم تترى وكم مكروا هبّوا إلى سيس من أحلام رقدتكم ... وسارعوا فى طلاب الثّأر وابتدروا بكلّ غيران أخذ الرّوح همّته ... فى غير نفس المردّى ما له وطر أيرقد اللّيل فى أمن وفى دعة ... عن كيد قوم لهم فى شأنكم سهر

_ [1] القلب:/ جمع قليب للبئر أو البئر القديمة، أو للحفرة (محيط المحيط) . [2] قتلوا صبرا أمسكوا ونصبوا للقتل، يقال للرجل يقدم فيضرب عنقه قتل صبرا (لسان العرب) . [3] النواويس: جمع ناووس. وهو صندوق من خشب أو نحوه، تضع فيه النصارى جثة الميت. كذلك يقال لمقبرة النصار ناووس (المعجم الوسيط) . [4] اللعاوس: جمع اللعوس، وهو الأكول الحريص، ومنه قيل للذئب لعوس (لسان العرب) .

إن تتركوهم فإنّ القوم ما تركوا ... يوما عليكم ولا أبقوا ولم يذروا أما رأيتم وعاينتم وقد فعلوا ... فى الصّالحيّة ما لا تفعل التّتر اشفوا صدوركم إن كنتم غيرّا ... على نسائكم يا قوم وادّكروا [1] كم من عجوز ومن شيخ ومكتهل ... ومن فتاة نماها الحسن والخفر بيضاء خرعوبة [2] بكر محجّبة ... لا الشمس تنظرها صونا ولا القمر وذات بعل مخبّاة مخدّرة ... من دونها تضرب الأستار قد أسروا ومطفل أثكلوا وجدا بمخولها [3] ... وحامل أجهضت خوفا وقد ذكروا ومربع أقفروا من بعد ساكنه ... وعقد شمل نظيم جامع نثروا [58] وكم أراقوا وكم ساقوا وكم هتكوا ... وكم تملّوا بما نالوا وكم فجروا وحرّقوا فى نواحيها فواحربا ... وخرّبوا الشامخ العالى وكم دثروا وجامع التوبة [4] المحروق مهجته ... يشير لا توبة للقوم إن ظفروا إشارة تترك الأنفاس صاعدة ... لها الدّموع من الآماق تنحدر لهم حزازات فى قلبى مخبّاة ... تكاد من حرّها الأكباد تنفطر فما يثبّطكم [5] عن أخذ ثأركم ... هبّوا سراعا وخافوا اللّوم يا غير وفّوهم الحرب إنصافا ومعدلة ... وحرّروا نوب الأيّام واعتبروا

_ [1] ادّكروا: أى تذكروا واتعظوا (لسان العرب) . [2] الخرعوبة: الشابة الحسنة الخلق، الرخصة البيضاء الجسيمة (محيط المحيط) . [3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «بواحدها» . [4] جامع التوبة: ويقع بالعقيبة، أنشأه الملك الأشرف أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر ابن أيوب فى سنة 632 هـ، وكان يعرف قديما بخان الزنجارى، وكان به كل مكروه من القيان وغيره (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 426) . [5] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «فما قعادكم عن أخذ ثأركم» .

لا يظلمن بعضكم بعضا بخردلة ... ولا يدع عنده حقّا ولا يذر وسارعوا واقتلوهم إنّهم قتلوا ... وبادروا وأسروهم مثلما أسروا جوسوا [1] ديارهم واسبوا حريمهم ... وأوقروا ضعف ما أوعوا وما وقروا سجلا [2] بسجل فإنّ الدّهر ذو نوب ... من ذا يغالب ما يأتى به القدر بزّوهم [3] الملك قهرا عن جواركم ... وخرّبوا كلّ ما شادوا وما عمروا فما [4] يفكر فى أدبار عاقبة ... ويحزم الأمر إلّا من له نظر ولا يعاف شراب الذّل عن ظمأ ... ويومق [5] العزّ إلّا من له خطر فمهّدوا بالظّبا مجرى سوابقكم ... ما يرفع الذّكر إلا الصّارم الذكر وخلّدوا فى المعالى ما نعنعنه [6] ... عنكم وتروى به الأخبار والسّير فكلّ ذنب جناه الدهر معتمدا ... فى جنب ما أبقت الأيّام مغتفر [59] يا أهل جلّق أمنا فى مساكنكم ... وعاملوا الله ربّ العرش وانزجروا صوموا وصلّوا وزكّوا وارحموا وصلوا ... وابغوا النّجاة وحجّوا البيت واعتمروا ذروا [7] التّكاثر فالدّنيا لمن زويت ... فى جنب ما وعد الرّحمن تحتقر فالوقت أقرب والأنفاس سائرة ... والعمر [8] منصرم والمرء محتضر ولا تخافوا من التاتار مجلبة ... من بعد ما ارتفع التدليس والغرر [9]

_ [1] كذا فى ص، وف وفى كنز الدرر «وخربوا دارهم إلخ» . [2] سجلا بسجل: أى نصيبا بنصيب، ومنه الحرب سجال (لسان العرب) . [3] بزوهم: يقال بز الشئ إذا انتزعه وغصبه وسلبه (لسان العرب) . [4] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «فما يفكر فى الأدبار عاقبة) . [5] يومق: يرغب، يحب، يود (لسان العرب) . [6] نعنعنه: عنعن الراوى قال فى روايته عن فلن عن فلان إلخ. (المعجم الوسيط) . [7] كذا فى ص، وفى كنز الدرر «دعوا التكاثر» . [8] كذا فى ص، وف كنز الدرر «والعيش منصرم والعمر مختصر» . [9] الغرر: يعنى المخادعة «لسان العرب» .

لم يطلبوا جلّقا بغيا بظلمهم ... إلا وردّوا على الأعقاب وانكسروا حاشا دمشق من الأسواء [1] تطرقها ... أو أن تغيّرها عن وصفها الغير ملائك الله تحميها وتحرسها ... تعاقبا ولها من ربّها خفر وفى جوار خليل الله ما برحت ... وحضرة القدس قل لى: كيف تحتقر بالله عدوى [2] على من رامها بأذى ... وبالخليفة والسلطان أنتصر هما ملاذكم فى كلّ نائبة ... بالرّوح أفديهما والسمع والبصر إذا [3] تأمّلت فحوى سر حكمهما ... لم تدر أيّهما فى عدله عمر ولو رأيتهما يوما لخالك أن ... موسى بن عمران قد وافاك والخضر هما رضيعا لبان عفّة وتقى ... وحسن ذكر شذاه فائح عطر فذا [4] مليك لكم طابت أرومته ... وذا أمير بأمر الله يأتمر أبو الربيع سليمان الذى شهدت ... بفضله المستفاض [5] البدو والحضر وزمزم والصّفا والمأزمان [6] معا ... والبيت يعرفه والحجر والحجر [60] خليفة الله فى الدنيا وطاعته ... فرض عليكم وهذا القول مختصر ما زال مستكفيا بالله معتصما ... مستنصرا مستعينا وهو منتصر لولاه فى الأرض قد مادت جوانبها ... وما سقاها إذا غيث ولا مطر

_ [1] الأسواء- جمع السوء: وهو القبيح (المعجم الوسيط) . [2] بالله عدوى: أى بالله مسعاى. [3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «لما تألمت» . [4] كذا فى ص، وف. كنز الدرر «فذاك ملك» . [5] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «المستقام» . [6] المأزمان: تثنية مأزم. وهو مكان بمكة بين المشعر الحرام وعرفه، وقيل هما جبلا مكة (معجم البلدان) ويقول البلازرى فى معالم مكة ص 241 هو طريق ضيق بين الجيلين يأتى من المزدلفة من جهة عرفة، يدفع الحاج من عرفة إلى المزدلفة إلا منه.

خليفة من بنى العباس باقية ... به إلى الله نستسقى فنمتطر ضاهت يداه عهاد [1] الغيث فانهملت ... والغيث مندفق الشؤبوب [2] منهمر لو مسّ عودا يبيسا بطن راحته ... أعاده وهو رطب يانع خضر ماذا أقول بمدحيه وقد تليت ... فى مدح آبائه الآيات والسّور جاءت بنعتهم التوراة معربة ... ومحكم الذّكر والإنجيل والزّبر به إلى الله ضجّوا فى حوائجكم ... وبعده بالمليك الناصر انتصروا ملك أعيد به عصر الشّباب لكم ... مسترغدا [3] صافيا واستؤنف العمر ترى الملوك صفوفا حوله زمرا ... من فرط هيبته لا يرجع البصر تذلّ أعناقهم صغرى لطاعته ... وليس يعصونه أمرا إذا أمروا صونوا جيادكم اللّاتى بكم لجبت [4] ... فى بارق الحرب والرمضاء تستعر إنّا لنرجوه من بغداد ينهلها ... بماء دجلة يرويها فتصطدر ويجمع الشمل فى دار السّلام بمن ... يودّها ويؤدون الذى نذروا يؤمّها وإمام المسلمين معا ... ثقوا بقولى فهذا منه منتظر فالشام وافاه مع بغداد فى قرن [5] ... ومصر فى ملكه والبرّ والبحر [61] والعرب والعجم فى ميمون قبضته ... ومن سطى بأسه قد حارت التتر تنشّروا فى الفلا سود الوجوه وقد ... طوى بأبيضه البتّار ما نشروا

_ [1] عهاد الغيث: المطر الأول (لسان العرب) . [2] الشؤبوب: الدفعة من المطر (لسان العرب) . [3] كذا فى ص، وفى. وفى كنز الدرر «مستوردا صافيا واستوفق العمر» . [4] فى ص، وف «هميت» ولعل الصواب ما أثبته. واللجب صهيل الخيل. [5] فى قرن: أى مجتمعة من قرى ى ى ى ى ى ى بالشئ إذا ضمهما بحبل ونحوه (لسان العرب) .

فدام للدّين والدنيا يسوسهما ... فكنّ فيه له حزر ومستتر وعمره الجمّ أعياد مجدّدة ... وأشهر بعزيز النصر تشتهر على الدّوام ولا زالت مدائحه ... تفشى وغرّ القوافى فيه تبتكر وافاكم بعزيز النّصر فى نفر ... وقاهم الله. ما أو فاهم نفر قد [1] أيقنوا أنهم جادوا بأنفسهم ... من أجل ذا ظهر الإسلام مذ ظهروا كم فرّجوا مأزقا ضنكا بمعترك ... وكابدوا فى مجال الموت واصطبروا فبيّض الله منهم أوجها كرمت ... فإنّهم بالأيادى البيض قد غمروا وحاطهم أين ما كانوا ولا برحوا ... فى ذمّة الله إن غابوا وإن حضروا هذا ما كان من خبر هذه الغزوة المباركة ونبذة مما قيل فيها، فلنرجع إلى سياق حوادث سنة اثنتين وما وقع فيها خلاف ما قدمناه. وفى سنة اثنتين وسبعمائة صام الحنابلة من أول شهر رمضان على عادتهم فى الاحتياط، واستكمل الشافعية والمالكية عدّة شعبان [62] ، فلما مضى ثلاثون يوما من صوم الحنابلة لم ير الهلال فأفطروا تكملة للعدّة من يوم صيامهم، وأقاموا الخطبة، وصلّوا صلاة العيد، وصام من عداهم من الشافعية وغيرهم ذلك اليوم الذى عيّد فيه الحنابلة وعيّدوا فى اليوم الثانى. وأقاموا الخطبة، فحصل الإنكار الشديد من نائب السّلطنة فى الشام على متوّلّى نابلس، وهو يومئذ: بدر الدين الصّوابى؛ كونه مكّن من ذلك ولم يجمع الناس على يوم واحد، ولم يسمع بمثل هذه الوقائع فى بلد واحد. وأما البلاد المتباعدة فقد تختلف مطالعها. ومن غريب ما وقع فى شهر رمضان ما حكاه ناصر الدين محمد بن عليا بن محمود ابن سليمة الأغرناطى: أنّ أهل أغرناطة [2] صاموا فى بعض السنين

_ [1] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «قد أبطنوا» . [2] أغرناطة: هى غرناطة من أشهر مدن الأندلس وكانت مركزا حضاريا فى عهد حكامها وأعظمها وأحسنها وأحصنها، تقع فى كورة البيرة، ومن أهم أثارها العربية قصر الحمراء الذى يعد رائعة الأندلس (ياقوت: معجم البلدان) .

ذكر حدوث الزلزلة

شهر رمضان ستة وعشرين يوما. وذلك أنّ الغيوم تراكمت عندهم عدّة شهور قبل شهر رمضان. فاستكملوا عدتها وصاموا شهر رمضان بعد استكمال شعبان وما قبله. ومن عادة أغرناطة أنّ أهلها يحتفلون فى ليلة السابع والعشرين [1] من شهر رمضان، يوقدون المآذن كما تفعل أهل مصر والشام فى نصف شعبان، فلما صعدوا ليوقدوا المآذن- على عادتهم- أقلعت الغيوم فرأوا الهلال وهو هلال شوال؛ فأفطر الناس وعيّدوا، وقضوا صيام أربعة أيام، وهذا أيضا غريب. ومن غريب الاتفاق فى رؤية الهلال أن الناس بدمشق طلعوا إلى المئذنة لارتقاب هلال رمضان، والحاكم يومئذ بالشام قاضى القضاة شهاب الدين الحموى، وكانت الغيوم قد عمّت السماء، فطلع الناس للعادة مع تحقيقهم أنهم لا يرون شيئا، فاتفق عند ارتقابهم مطلع الهلال انفراج دائرة من الغيم ظهر من تحتها الهلال، فلما عاينه الناس التأم الغيم لوقته، وصام الناس عن رؤية ويقين، وما علمت كان هذا فى أى سنة وإنما نقله لى ثقة أرجع إلى نقله. ذكر حدوث الزلزلة وفى يوم الخميس الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند طلوع الشمس، حدثت زلزلة عظيمة بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية كلها، ودمشق والشام أجمع والسّواحل والجبال الشامية، وكان معظمها بالديار المصرية، فهدمت منائر كثيرة، منها: منائر الجامع الحاكمى وشعّثته، وهدمت بعض جدرانه، وتشقّقت مئذنة المدرسة المنصورية على عظمها، وإتقان بنائها، حتى دعت الضرورة إلى هدمها وإعادتها، وهدمت منارة الجامع الظافرى بالقاهرة [2] ومنارة الجامع الصالحى وغير ذلك، وشعثت جدر جامع عمرو بن العاص بمصر، وانهدم بسببها كثير من العمائر، وأقامت مقدار مضى خمس درج، وكانت مزعجة، وأثرّت بالإسكندرية أثرا عظيما هدمت أكثر المنارات وبعض الأسواق وغرق جماعة كثيرة عند مده وعوده وعدم قماش التجار وجزر

_ [1] هنا ينتهى السقط فى ك. [2] هذا اللفظ من ص.

البحر الملح حال الزلزلة، وانطرد عن مكانه. ثم مدّ حتى دخل الصناعة، ووصل إلى الأسوار الذى كان عند القصارين بجملته، وأثرّت هذه الزلزلة بصفّد أثرا عظيما، وسقط جانب من قلعتها، وانطرد البحر بعكّا حتى انكشف ما بين عكّا وبرج الذّبّان [1] الذى بالبحر [2] ومسافته بعيدة، وظهر أنه كان [3] بساحلها أشياء مما ألقاه أهل عكّا فى البحر لما حاصرها المسلمون، فتبادر من كان هناك بالنزول لأخذ ما ظهر لهم، فجاء الماء أمثال الجبال فغرقوا، ووصل فى مدّه إلى قرب تل الفضول، وخربت دمنهور الوحش- وهذه مدينة أعمال البحيرة- خرابا شنيعا؛ وأبيارا [4] ، وغير ذلك من البلاد، ولعظم هذه الزلزلة بالديار المصرية أرّخ كثير من العوامّ بها فهم يذكرونها إلى وقتنا هذا. ولمّا أثّرت هذه الزلزلة بالجوامع ما أثّرت، اهتمّ الأمراء بالديار المصرية بها، فعمرّ الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة ما تشعّث بجامع عمرو بن العاص بمصر، وعمّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، جامع الحاكم بالقاهرة، وجدد مآذنه وسقوفه، وبيّضه وبلّطه، وأصلحه إصلاحا جيّدا حتى عاد أحسن مما كان، ووقف عليه أوقافا متوفرة، ورتّب فيه من الدروس ووجوه البرّ والخير ما نذكره إن شاء الله تعالى فى سنة ثلاث وسبعمائة. وأعيدت المئذنة المنصورية من مال الوقف ليصرفه، وصرف فى عمارتها فى نصفها الذى هدم وهو من سطح القبّة إلى انتهائها ما عدا ما يقارب تسعين ألف درهم، خارجا عمّا استعمل من أحجارها المنقوضة منها، وعن تفاوت أجر الأسرى وما حمل على ذوات [5] مرمات الوقف.

_ [1] برج الذبان: برج فى وسط البحر مبنى على الصخر على جانبى ميناء يحرص به ومتى عبره الراكب أمن غائلة العدو (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 217) . [2] فى ص، وف «فى البحر» . [3] كذا فى ك، وف. وعبارة ص «وظهر لبعض من كان- إلخ» . [4] أبيار: هى بلدة من بلاد محافظة الغربية، وتقع على بحر سيف شرقى كفر الزيات (على مبارك: الخطط التوفيقية 8: 28، محمد رمزى: القاموس الجغرافى، ج 2، ق 2، ص 119) . [5] فى ك «دواب» والمثبت من ص، وف.

ذكر وفاة الأمير زين الدين كتبغا المنصورى وهو الملك العادل [4]

وندب لعمارتها الأمير سيف الدين كهرداش الناصرى، وعادت أحسن ما كانت، وعمّر ما تشعّث من الجامع الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وعمّر الجامع الصّالحى الذى هو خارج باب زويلة، والجامع الظافرى من الأبواب السلطانية، وعمرت سائر الأماكن والمساجد [12] التى تهدمت بالقاهرة ومصر حتى عادت أحسن مما كانت والحمد لله وحده [1] . وفى هذه السنة توفّى فارس الدين ألبكى الساقى المنصورى [2] ، نائب السّلطنة بحمص، فى يوم الثلاثاء ثامن ذى القعدة بها، وفوضّت نيابة السّلطنة بحمص بعده إلى الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى نقل إليها من صرخد. وتوفّى الأمير سيف الدين سنقر العين تابى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق فى ليلة الجمعة ثامن عشر ذى القعدة، ودفق بسفح قاسيون رحمه الله، وتوفّى بدمشق الشيخ الفاضل كمال الدين أبو العباس أحمد بن أبى الفتح محمود الشّيبانى المعروف بابن العطار [3] ، أحد أعيان كتّاب الدّرج بدمشق، وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من ذى القعدة، وصلّى عليه بالجامع، الرابعة من النهار، ودفن بتربته بقاسيون، وكان رحمه الله تعالى فاضلا ديّنا خيّرا، سمع الكثير من الحديث النبوى، وله نظم ونثر. ذكر وفاة الأمير زين الدين كتبغا المنصورى وهو الملك العادل [4] كانت وفاته يوم الجمعة- رحمه الله تعالى- وهو يوم عيد الأضحى من سنة اثنتين وسبعمائة بحماه، ونقل منها ودفن بتربته بجبل الصالحية بدمشق،

_ [1] فى ص «والحمد لله تعالى» . [2] هو ألبكى بن عبد الله الظاهرى- الأمير فارس الدين (الوافى بالوفيات 9: 351، والدرر الكامنة 1: 432، والنجوم الزاهرة 8: 96، والدليل الشافى 1: 147) . [3] وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 8: 167، والبداية والنهاية 14: 27، والنجوم الزاهرة 8: 203، والدليل الشافى 1: 88. [4] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 27، والدرر الكامنة 3: 348، والنجوم الزاهرة 8: 55- 70، والدليل الشافى 2: 553، وشذرات الذهب 6: 5.

واستهلت سنة ثلاث وسبعمائة.

وقد قدّمنا من أخباره وتنقلاته وتقلب الأيام به من الأسر فى حال شبيبته والمبيع، ثم الإمرة ونيابة السلطنة، ثم السّلطنة والخلع، والإمرة والنّيابة عن السّلطنة بحماه ما يستغنى عن إعادته. ولمّا مات فوّضت نيابة السّلطنة بحماه بعده إلى الأمير سيف الدين فبجاق المنصورى، نقل إليها من نيابة الشوبك- والله أعلم. واستهلت سنة ثلاث وسبعمائة. ذكر الجلوس بالمدرسة الناصرية [1] والقبة وأوقاف ذلك وشروطه فى هذه السنة فى أوّلها فتحت المدرسة المباركة النّاصرية، والقبّة الشريفة، وانتصب المدرسون والفقهاء بالمدرسة، والقراء بالقبّة، وجلس شيخ الحديث برواق القبة- وفوّض التدريس بالمدرسة لمن نذكرهم، وهم: قاضى القضاة زين الدين على المالكى [2] ، والطائفة المالكية جلسوا فى الايوان القبلى بالمدرسة بمقتضى شرط الواقف لهم، وقاضى القضاة شمس الدّين أحمد السروجى [3] الحنفى، والطائفة الحنفية جلسوا فى الإيوان الغربى، وقاضى القضاة شرف الدين عبد الغنى الحرانى الحنبلى [4] ، والطائفة الحنابلة بالايوان الشرقى وكان جلوسهما بهذين الإيوانين بخلاف شرط الواقف، فإنه جعل الإيوان

_ [1] المدرسة الناصرية: نسبة إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان أصلها دارا عرفت بالأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، واشتراها الملك العادل كتبغا وشرع فى بنائها مدرسة ولكنه خلع قبل أن يتمها واشتراها الناصر محمد وأتمها، وعمل لها الأوقاف الجليلة. ومكانها حاليا بشارع المعز لدين الله الفاطمى بجوار مسجد ومستشفى قلاوون (المقريزى. المواعظ، ج 2، ص 382، الخطط التوفيقية، والسلوك 1: 951) . [2] هو على بن مخلوف بن ناهض النويرى، زين الدين. توفى سنة 713 هـ على الخلاف، وانظر الدرر الكامنة 3: 202، والدليل الشافى 1: 484، وحسن المحاضرة: 1: 458 وشذرات الذهب 6: 49. [3] هو أحمد بن إبراهيم بن عبد الغنى الحنفى، شمس الدين أبو العباس السروجى المتوفى سنة 710. (انظر البداية والنهاية 14: 60، والدرر الكامنة 1: 91، والطبقات السنية 1: 300، والدليل الشافى 1: 234) . [4] هو عبد الغنى بن يحيى بن محمد بن أبى بكر بن عبد الله بن نصر بن محمد بن أبى بكر الحرانى الحنبلى، المتوفى سنة 709 هـ (انظر البداية والنهاية 14: 56، والدرر الكامنة 2: 498، وحسن المحاضرة 6: 481، 2: 191، والنجوم الزاهرة 8: 278، والدليل الشافى 1: 421) .

الشرقى للحنفية، والإيوان الغربى للحنابلة، فجلسا على عكس الشرط، ولعل ذلك عن غير قصد، ثم انتقض ذلك على ما نذكره. وجلست كل طائفة منها فى المكان المعيّن لها بشرط الواقف، وجلس القاضى صدر الدّين محمّد بن الشيخ زين الدين المعروف بابن المرحّل [1] ، والطائفة الشّافعية بالإيوان البحرى، وحضر درسه الأمير عز الدين أيبك البغدادى وزير الدّولة ومدبّرها. وهذه المدرسة والقبة كان أنشأهما الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى فى أيام سلطنته، واشترى أرضهما، وكانت دارا تعرف بالرشيدى، وحمّاما ومساكن، [13] فابتاع ذلك وهدمه، وأنشأقبّة ومدرسة. وكملت عمارة القبة، وبنى من المدرسة إيوانها القبلىّ وبعض ما يليه، ثم خلع الملك العادل من السلطنة- كما تقدم- فغلّقت المدرسة وبطلت عمارتها، فلما عاد السلطان الملك النّاصر إلى السلطنة ثانيا فى سنة ثمان وتسعين وستمائة. حسّن له قاضى القضاة زين الدين المالكى ابتياعها وتكملة عمارتها وإتقانها، فابتاعها وعوّض الملك العادل، عن ثمنها حصصا من ضياع من أملاكه بدمشق، وحصل الشروع فى عمارتها، وعيّن لها من الأملاك السلطانية ما يوقف عليها، وكان المعيّن لذلك قاضى القضاة زين الدين المالكى، وهو يومئذ ناظر الأملاك السلطانية التى ورثها السلطان عن والده وإخوته، والمبتاعة من أجر أملاكه، وكانت أجرتها فى كل شهر بالقاهرة وظواهرها خاصة تزيد على ثمانية عشر ألف درهم. ولما عزم السلطان على الحركة إلى الشام للقاء غازان وحزبه عند طروقه الشام وقف القبّة والمدرسة، ووقف على مصالحهما من أملاكه [2] ما يذكر،

_ [1] هو محمد بن عمر بن مكى بن عبد الصمد صدر الدين ابن المرحل، المتوفى سنة 716 هـ (انظر الوافى بالوفيات 4: 264، وفوات الوفيات 4: 13، والدرر الكامنة 4: 234، والبداية والنهاية 14: 80، وطبقات الشافعية 9: 53، والنجوم الزاهرة 9: 233، وذيول العبر ص 90، والدليل الشافى 2: 668، وحسن المحاضرة 1: 419. [2] «ومن أملاكه» ساقطة من ك، والمثبت من ص، وف.

وذلك فى الثانى والعشرين من ذى الحجة سنة ثمان وتسعين وستمائة قبل استقلال ركابه الشريف إلى الشام بيومين، وكان قاضى القضاة زين الدين قد رتّب كتاب وقف [1] ، جعل النظر فيه على الوقف، والمدرسة والقبّة لنفسه أيام حياته، ثم من بعده للأرشد فالأرشد من أولاده وأولادهم وذريّتهم، ثم من بعدهم لقاضى القضاة المالكى، وشرط أيضا التدريس فى إيوان المالكية لنفسه ولأولاده من بعده، وكتب الكتاب ووقع الإشهاد على السلطان فيه بذلك، فضاق شهاب الدين أحمد بن عبادة من ذلك، وكان قاضى القضاة زين الدين قد استخدمه مشارفا بالديوان الناصرى، وتقدم عند السلطان، وأوضح للسلطان أمر الوقف وبيّنه له، وقال: إن قاضى القضاة إنّما جعل هذا لنفسه ولأولاده وذرّيّته ولم يجعل للسلطان ولا لعتقائه فى ذلك شيئا، وحسّن للسلطان تغيير كتاب الوقف، وأن يجعل النظر فيه لعتيقه الطواشى شجاع الدين عنبر اللّالا ومن بعده للأمثل فالأمثل من عتقاء الواقف، ثم عتقاء والده؛ ففعل ذلك، وجعل له أن يتناول من ريع الوقف المذكور فى كل شهر ثلاثمائة درهم نقرة [2] مدة حياته. وجعل لمن يؤول النظر إليه بعده فى كل شهر مائتى درهم، وأبطل الكتاب الأوّل وثبّت الكتاب الثانى. وسألت شهاب الدين بن عبادة عن السبب الحامل له على إخراج النظر عن قاضى القضاة ونقله إلى غيره. فقال: إنه جعل النّظر والتّدريس لنفسه ولأولاده من بعده، وما جعل لى منه نصيبا، ولا ذكر لى وظيفة، وكنت طلبت منه أن يجعلنى مشارفا بشرط الواقف فشحّ علىّ بذلك، فأخرجت النّظر عنه وعن ذرّيته. وقد رأيت أن أذكر ملخّص ما تضمّنه كتاب وقف القبّة والمدرسة، وما رتب فيهما فيه من أرباب الوظائف، وما شرط لهم من المعلوم، وما شرط

_ [1] كذا فى ص، وف وفى ك «وقفه» . [2] الدراهم النقرة: الأصل فيها أن يكون ثلثاها من فضة، وثلثها من نحاس، وتضرب بدور الضرب وتطبع بالسكة السلطانية، وتكون منها دراهم صحاح، وفراضات مكسرة، والعبرة فى وزنها بالدراهم، وهو معتبر بأربعة وعشرين قيراطا وقدر بست عشرة حبة من حب الخروب، فتكون كل خروبتين ثمن درهم، وهى أربع حبات من حب البر المعتدل (صبح الأعشى 3: 443) .

عليهم، والجهات الموقوفة على ذلك، وما يتحصل من أجورها فى كل شهر وألخص المقاصد فيه مع عدم الإخلال بها، ولا أحذف منها إلّا حشو الكتاب الذى لا يخل حذفه بالمعنى، وأورد ذلك بمقتضى كتاب الوقف وارتفاع الجهات الموقوفة بمقتضى حساب المباشرين، والذى حملنى على ذلك وأوجب لى إيراده فى هذا الكتاب مع ما فيه من الإطالة والخروج عن القاعدة التاريخية ما وقع فى مثل ذلك من إخفاء كتب الأوقاف إذا تطاول عليها المدد، وبعد العهد بالأوقاف والشروط، وتداولها النّظّار والمباشرون واستولوا على الأوقاف وغيّروا المصارف عن شروط الواقفين، ونسبوها إلى العادة، فيخرج عن شرط الواقف إلى رأى المباشرين [1] ، وعادة الصرف. ثم بعثنى على ذلك وأكّده عندى ما وقع فى هذه المدرسة المباركة فى ابتداء أمرها مع بقاء واقفها- خلد الله سلطانه- وتوفر الداعى على ملاحظتها، ونصب [2] قضاة القضاة وأعيان العلماء ونبلاء الفقهاء فى دروسها، ومع ذلك كلّه حصل الخروج فيها عن شرط واقفها فى كثير من أحوالها، واختصر المرتب عن شرط الواقف مع توفّر المال وزيادته عن كفاية الشروط، وإنما ظهر ذلك عند وفاة ناظرها الطواشى شجاع الدين فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وظهور كتاب الوقف، ولعلّ الناظر المذكور لم يفعل ذلك عن علم واطلاع على الشّروط، وإنما فعله عن اغفال وإهمال وجهل وعدم احتفال بإمعان النظر فيما أسند إليه، واعتمد فيه عليه [14] ، فلما أسند النّظر إلى أهله، وانتهى إلى من يتحرىّ الصّواب فى قوله وفعله، أجرى الأمور فيها على شرط واقفها، وصرف أموالها فى وجوه مصارفها، وما عدل عن شرط الواقف ولا خرج، ولا اعتمد ما يترتب عليه فيه أدنى حرج [3] ، والذى تضمنه كتاب الوقف الثانى الصادر عن مولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين أبى المعالى محمد بن السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحى- خلد الله تعالى سلطانه، وأفاض على الكافة عدله وإحسانه- أنه وقف جميع المكان أرضا وبناء، وما هو من حقوقه،

_ [1] فى ص «المباشر» . [2] ما بين الرقمين بياض ك. وما أثبته من ص، وف والسلوك 1: 1042. [3] فى ك، وف «إذا خرج» والتصويب من ص.

أما القبة فإنه وقفها للقراء بها، وشيخ الحديث

والساحة التى هى أمام المكان المذكور التى هى من حقوقه، وذلك بعد أن كملت عمارة القبة، وقبل أن تكمل عمارة المدرسة، وشرط تكملة عمارتها وإنشاء المئذنة، فقال بعد الوصف لها والتحديد ما معناه [1] بعد ذكر ألفاظه وتحرير مقاصده: أمّا القبّة فإنه وقفها للقرّاء بها، وشيخ الحديث والإمام والمؤذنين والقومة والفراشين والخدّام والمترددين والمجتازين [2] لها للصلوات وأداء الفرائض والواجبات، وسماع [3] القرآن العظيم وحديث النبى- صلى الله عليه وسلم- خلا موضع الضّريح الذى بوسط القبة فإنّه مرصد للدّفن، وخلّى بينهم وبين القبّة المذكورة، وأذن لهم فى الدخول إليها والصلاة فيها على العادة فى مثل ذلك، فصار لا حقّ له فيها إلا كسائر الناس أجمعين، وجعل للناظر أن يرتّب بالقبة المذكورة إماما يؤمّ بالمسلمين فى الصلوات الخمس، ويفعل ما يفعله الأئمة على ما يراه الناظر من المذاهب، ويؤدى إليه اجتهاده، ويصرف له فى كل شهر- بالهلال- ثمانين درهما أو ما يقوم مقامها، ويرتّب فيها شيخا لإقراء الحديث النّبوى ينتصب فى المكان الذى يعيّنه الناظر منها فى الوقت الذى يجعله له لمن يقصده، ويشغل عليه به، أو لسماع الحديث وتصحيحه، ويصرف له من ريع الوقف فى كل شهر ثلاثين درهما نقرة ويرتب بها من القراء الحافظين لكتاب الله العزيز خمسة وعشرين نفرا على ما يراه فى ترتيبهم فى النوبة، يقرءون ما تيسر لهم قراءته ليلا ونهارا فى الوقت الذى يعيّنه لهم ويدعون عقيب قراءتهم للواقف ووالديه بالرحمة والرضوان وجميع المسلمين، ويصرف لهم فى كل شهر خمسمائة درهم بينهم على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويرتّب بالقبة والمدرسة من المؤذنين ثمانية نفر يجعل من العدد رئيسين [4] عارفين بالأوقاف يعلنون بالأذان الشرعى فى المئذنة التى تنشأ على الباب ليلا ونهارا وإقامة الصلوات والتسبيح، والتذكار فى الأسحار

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «مع ذكر بعض ألفاظه» . [2] فى ك «والمجتازين» والمثبت من ص، وف، والسلوك 1: 1043. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «واستماع» . [4] فى ك «رقيبين» والمثبت من ص، والسلوك 1: 1044.

على ما يراه الناظر متناوبين أو مجتمعين، وعلى ما يراه من ترتيبهم فى القبة والمدرسة، ويصرف لهم فى كل شهر مائتى درهم وثلاثين درهما نقرة يصرف للرئيسين فى كل شهر ثمانين درهما على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويصرف للستّة الباقين فى كل شهر مائة درهم وخمسين درهما على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويرتب بالقبة من القومة اثنين يقومان بخدمة القبة المذكورة والإيوان والساحة التى من حقوقها، ووقود مصابيحها، والكنس والتنظيف والغسل للصحن المرخم، ودائره والسقاية التى للقبّة وإماطة الأذى عن ظاهرها كعادة القومة فى مثل ذلك. ويصرف لهما فى كل شهر ثمانية وخمسين درهما نقرة أو ما يقوم مقامها على ما يراه من التسوية والتفضيل. ويرتب بها ثلاثة من الفراشين الذين خبروا الخدمة، يقومون بفرش القبّة المذكورة، ورفع فرشها فى الأوقات المعهود ذلك فيها، ويفعلون ما يفعله مثلهم فى مثل ذلك، ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم وواحدا [1] وستين درهما نقرة، من ذلك ما يصرف للحاج صبيح القطبى أحد الفراشين مائة درهم نقرة فى كل شهر، أو ما يقوم مقامها من النقود مادام حيّا مباشرا، وباقيها لرفيقيه [2] بينهما على ما يراه الناظر من التسوية والتفضيل. فإن توفّى صبيح المذكور، أو تعذر مباشرته بسبب من الأسباب وزال استحقاقه عوّض الناظر مكانه غيره من شاء [3] ، ويصرف له أسوة برفيقيه [15] والباقى منه يعود فى مصالح الوقف. ويرتب بها أربعة من الخدام من عتقاء الواقف، فإن لم يوجد من عتقائه فمن عتقاء والده. ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم وستين درهما على ما يراه الناظر من التسوية والتفضيل، فإن لم يوجد من عتقائه ولا عتقاء والده وتعذرت مباشرة الخدام بوجه من وجوه التّعذّرات رجع ما كان يصرف لهم على المصالح المذكورة.

_ [1] فى الأصول «وأحد» . [2] فى ك «لرفيقه» والتصويب من ص، والسلوك 1: 1044. [3] فى ك «ما» والمثبت من ص، والسلوك 1: 1044.

ويرتب بها بوّابا حافظا لها يحتاط فى الداخلين والخارجين، ويمنع المرتبات بهم، ومن يكثر الدخول لغير حاجة، ولا يترك الباب [1] إلا لعذر ويستخلف مكانه زمان [2] غيبته، ويصرف له فى كل شهر عشرين درهما أو ما يقوم مقامها. ويصرف فى ثمن زيت يستصبح به بالقبة المذكورة وما حوته من الأماكن ما يراه، وفى ثمن حصر من العبادانى الأحمر أو الأبيض بحسب ما يراه، وفيما يحتاج إليه من القناديل والبصّاقات والسلاسل والأباريق والكيزان، وجميع ما يحتاج إليه ما يراه. وأما الموضع الذى فيه الأواوين الأربعة وما به من البيوت السفلية والعلوية والقاعة المجاورة للإيوان القبلى وما حواه من الأبنية فإنه وقف ذلك على المدرسين بها، والمعيدين والفقهاء المتفقهين بها المشتغلين بالعلم الشريف على مذاهب الأئمة الأربعة، وعلى الإمام والمؤذنين والقومة والبوّاب بهذه المدرسة وغير ذلك، يسكن بها المدرسون والمعيدون والفقهاء والأئمة فى بيوتها للاشتغال بالعلم الشريف، ويؤدى كل واحد منهم ما يلزمه بهذه المدرسة على العادة فى مثلها وعلى المترددين بهذه المدرسة، والمجتازين للصلوات وأداء الفرائض، وخلّى بين المسلمين وبينها تخلية شرعية، وأذن لهم فى الصلاة فيها، وصار حكمها حكم سائر المدارس. وجعل للناظر أن يرتب بالمدرسة المذكورة فى كل من أواوينها الأربعة مدرسيها على المذاهب الأربعة، ينتصب المدرس المالكى المذهب بالإيوان القبلى، والمعيدون المالكية والطلبة المالكية فى الوقت الذى يعين فيه، وهو ما بين طلوع الشمس إلى زوالها، أى وقت رآه المدرس من ذلك لإلقاء فروع مذهبه، وما تيسر له من إلقائه من تفسير وأصول وغير ذلك، بحيث يلازم الجلوس على العادة فى الوقت المعيّن بعد أن يتيمّن كلّ واحد من المدرسين هو وجماعته بقراءة ما تيسّر من القرآن الحكيم، إمّا من ربعة [3] أو من

_ [1] كذا فى ص، وف. وفى ك «البيات» . [2] فى ص «زمن» . [3] الربعة: تطلق على المصحف المجزء إلى أجزاء كل جزء فى تجليدة خاصة مستقلة عن غيرها.

صدورهم، ويدعون عقيب ذلك للواقف، وسائر المدرسين. ويعيّن من المعيدين المالكية ما يراه الناظر من العدد. وكذلك ينتصب المدرس الشافعى المذهب بالإيوان البحرى كما حكى بأعاليه هو ومن يعيّنه الناظر من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور. وكذلك ينتّصب المدرّس الحنفى المذهب ومن معه من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور فى الإيوان الشرقى وكذلك ينتصب المدرس الحنبلى المذهب ومن معه من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور بالإيوان الغربى، ويعين الناظر لكل مدرس منهم من المعيدين والطلبة ما يراه من العدد. وينتصب كل معيد ممن عيّن فى جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج [1] الشرح درسه ويصحح له مستقبله [2] ، ويرغّب الطلبة فى الاشتغال، ولا يمنع فقيها أو مستفيدا ما يطلب من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة فى غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما [3] يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث فى كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس فى طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء. ويصرف لكل واحد من المدرسين ولمعيديه وطلبته، والداعى عنده والنقيب، فى كل شهر من شهور الأهلة ألف درهم نقرة، من ذلك ما يختص به المدرس عن التدريس مائتا درهم، والمعيدين والطلبة والداعى والنقيب ما يراه من التسوية والتفضيل. ويرتب بالمدرسة المذكورة بالإيوان القبلى بها إماما [16] يؤم بالمسلمين فى الصلوات الخمس على أى مذهب كان من المذاهب الأربعة، يقوم بوظيفة الإمامة كجارى عادة المدارس، ويصرف له فى كل شهر ثمانين درهما.

_ [1] فى ص «لن يحتاج» . [2] مستقبله: أى ما سيتولى المدرس قراءته وشرحه بعد. [3] فى ك «ما يختاره» والتصويب من ص.

ويرتّب من المؤذنين الثمانية المشار إليهم من يختاره كما بين فيه، ويرتب بها أربعة من القومة العارفين بما يلزمهم، من ذلك يقومون بخدمة المدرسة، ووقود مصابيحها، وكنسها وتنظيفها، وتنظيف فسقيتها ودائرها، وتنظيف السقاية وغسل ما بظاهرها من الأوساخ كجارى عادة القومة فى مثلها، ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم بينهم على ما يراه من التسوية والتفضيل. ويرتب بها شاهدا لخزانة الكتب يحفظ ما فيها [1] من الكتب، ويضبط ما يؤخذ منها للاشتغال بها، بحيث لا تخرج الكتب من المدرسة، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما أو ما يقوم مقامها من النقود. ويرتب بالمدرسة بوابا بالباب الكبير الجامع للقبة والمدرسة حافظا محتاطا فى أمور المدرسة والقبة من الداخلين إليها والخارجين، مانعا من يرتاب به، ومن يكثر الدخول لغير حاجة، ويلازم حفظ الباب ليلا ونهارا، وفتحه وغلقه فى الأوقات المعهود ذلك فيها، ولا ينفصل عن الباب إلا بعذر، فإن اتفق له عذر استخلف فى موضعه من يختاره عنه حين غيبته، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما نقرة [2] وما يقوم مقامها من النقود ويرتب سوّاقا لإدارة الساقية، وإجراء الماء من البئر إلى الصحن أمام إيوان القبة، وإلى الفسقية التى بوسط المدرسة، وإلى الميضأة التى بالمدرسة، ويفعل ما جرت العادة فى مثل ذلك، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما، ويصرف فى ثمن ثور لإدارة الساقية المذكورة ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده، ويصرف فى ثمن ما تحتاج إليه الساقية من الخشب والآلات والنّجر والحديد ما يراه. ويصرف فى ثمن زيت الزّيتون أو ما يقوم مقامه مما يستصبح به فى المدرسة المذكورة، والأواوين الأربعة والمطلع ولسكن الطلبة والميضأة ما يراه ويؤدى إليه اجتهاده.

_ [1] فى ص «ما بها» . [2] هذا اللفظ من ص.

ويصرف فيما تحتاج إليه المدرسة المذكورة من الحصر والقناديل والبصاقات الزّجاج والأطباق النحاس والسلاسل والأباريق والجرار وجميع ما يحتاج إليه بالمدرسة المذكورة ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده. ويصرف الناظر فى كل سنة فى ملء الصهريج من بحر النيل المبارك ثمن ستمائة راوية ما يراه ويؤدى إليه اجتهاده. وجعل الواقف أعز الله نصره النظر فى هذا الوقف لعتيقه الطواشى شجاع الدّين عنبر بن عبد الله الحرّ الّلالا [1] أيام حياته، ثم من بعده يكون النظر للأمثل فالأمثل من عتقاء الواقف فإن استوى اثنان فأكثر قدّم الأكبر سنا مع ظهور الأهلية لذلك، فإن استووا أقرع بينهم ثم بعدهم يكون النظر لعتقاء والد الواقف للمذكور الأمثل فالأمثل صح منهم فإن استوى اثنان فأكثر قدّم الأكبر سنّا مع ظهور [2] أهليته لذلك، فإن استووا أقرع بينهم، فإن انقرض عتقاؤه وعتقاء والده أو تعذر نظر أحد منهم كان النظر فى ذلك والولاية عليه لحاكم المسلمين، فإن عاد إمكان نظر من تعذّر نظره عاد النظر إليه، فإن تعذر أيضا كان لحاكم المسلمين يجرى الحال فى ذلك أبد الآبدين. وفى ظهر كتاب الوقف المذكور إسجال على قاضى القضاة شمس الدين أحمد السّروجى الحنفى، يتضمّن أن الحاكم الآيل النظر إليه يكون مالكّى المذهب. وشرط الواقف أن لكل من له وظيفة فى هذا الوقف المذكور أن يستنيب عنه عند ضرورة لسفر أو مرض، وأن لكلّ من المدرسين والطلبة والمعيدين البطالة المعروفة فى رجب وشعبان ورمضان وعشر ذى الحجة من كل سنة على جارى العادة فى مثل ذلك، وأن من شرط هذا الواقف أن يتعاهد إثباته عند الحكام، ويحفظ بتواتر الشهادات، كل ذلك بعد البدأة بعمادة الوقف ومرمّته وصلاحه وإصلاحه [3] وما فيه الإفضاء إلى بقاء عينه، ودوام منفعته، ونموّ غلّته، وما فضل بعد ذلك يصرف فى المصارف المعينة فيه على أنّ الناظر فيه يؤجّره وما شاء منه مدة سنة فمادونها بأجرة المثل فما فوقها،

_ [1] اللالا: أى المربى. [2] فى ك «من ظهور» وما أثبته من ص. [3] فى ص «وإصلاحه وصلاحه» بالتقديم والتأخير.

ولا يزيد على السنة إلّا لمصلحة ظاهرة للوقف، أو ضرورة لابد منها، ويؤجره إذ ذاك مدة تفى أجرتها بالضرورة، ويسلك فى ذلك الاستغلال الشرعى بحيث لا يفّرّط ولا يفرط، ولا يعدل عن السنن المتوسطة، ومهما حصل من ريع الوقف وهو ما ذكره ووصفه وحدّده. ونحن الآن نذكر الوقف المذكور على القبة والمدرسة بمقتضى كتاب الوقف، ونذكر أجرة كل مكان منه بمقتضى حساب المباشرين، ثم نذكر ما تجدّد من الأماكن الجارية [17] فى الوقف المذكور بعد صدور كتاب الوقف المشروح على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى. والأماكن الموقوفة بمقتضى الكتاب منها ما هو بالقاهرة المحروسة: قيسارية أمير [1] . على بخط الشرابشيين [2] ظاهرها وباطنها، سفلها وعلوها ونربيعيتها، وسائر حقوقها وأجرة هذه القيسارية فى كل شهر على [3] ما استقر إلى آخر ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة ألف درهم وستمائة درهم وتسعة وخمسون درهما، والقاعة المجاورة للقيسارية المذكورة يتوصل إليها من الزقاق الشارع بدرب قيطون على يسرة السالك فيه إلى أقصاه، وأجرتها فى كل شهر ثمانية وأربعون درهما. وجميع الرّبع المعروف بالدّهيشة [4] بخط باب زويلة [5] . فيما بين البابين

_ [1] قيسارية أمير على: وكانت تقع بشارع القاهرة الأعظم، وكان يسمى قصبة القاهرة- حاليا يسمى شارع المعز لدين الله الفاطمى- بجوار قيسارية جهاركس، ويفصل بينهما درب قيطون عرفت بالأمير على بن عبد الملك المنصور قلاوون (الخطط للمقريزى 3: 140) . [2] خط الشرابشيين: كان فى الشارع الأعظم فى المسافة المحصورة حاليا بين شارع الأزهر وبين عطفة البارودية، وكان تباع فيه الشرابيش وهى لباس الرأس، وأخذ منها لفظ الطربوش المعروف (الخطط للمقريزى 2: 99) . [3] هذا الدرب يعرف حاليا بحارة البارودية (النجوم الزاهرة 8: 209، 9: 214) . [4] ربع الدهيشة: هذا الربع ضمن أعيان وقف رضوان بك الغفارى تجاه جامع الصالح طلائع بن رزيق فى أول قصبة رضوان على اليمين من باب زويلة. وقد أنشئ على جزء من أرضه زاوية الدهيشة نقلا من مكانها الأصلى، لأنها كانت تزاحم الطريق العام أمام باب زويلة ونقلت بمعرفة مصلحتى التنظيم والآثار سنة 1342 هـ (خطط المقريزى 2: 212، وهامش النجوم الزاهرة 8: 210) . [5] باب زويلة: بناه بدر الجمالى وزير الخليفة المستنصر الفاطمى سنة 484 هـ ورفع أبراجه، ولما أنشأ الملك المؤيد شيخ المحمودى، مسجده داخل باب زويله هدم الأبراج وأقام على أساسها مئذنتى مسجده، ولا يزال باب زويله موجودا إلى اليوم على رأس شارع المعز لدين الله الفاطمى الذى يوصل بين هذا الباب وباب الفتوح. والعامة يسمونه «بوابة المتولى» لأن متولى الحسبة فى الزمن الماضى كان يجلس بهذا الباب لتحصيل العوائد والرسوم من أصحاب الأملاك ومن التجار، وللنظر فيما يعرض عليه يوميا من قضايا المخالفات والفصل فيها (هامش النجوم الزاهرة 8: 47) .

يعرف سفلها بسكن المجبرين والحريريين، يشتمل على ستة حوانيت ومقاعد فيما بين ذلك، وستة طباق علوية وأجرة ذلك فى كل شهر مائتا درهم وثمانية وستون درهما. وجميع الحوانيت الثلاثة المتجاورة بخط باب الزهومة [1] ويعرف بسكن العطارين، والسيوفى، ويعلو الحوانيت طبقة ليست من الوقف، وإنما هى من حقوق المسجد المجاور للحوانيت وأجرة هذه الحوانيت فى كل شهر خمسة وسبعون درهما. وجميع المسمط [2] والحوانيت التى بظاهره وعدتها سبعة وذلك بالقاهرة بخط باب الخوخة [3] ، وأجرة ذلك فى كل شهر خمسمائة درهم وخمسة وعشرون درهما. وجميع الحمام المعروفة بالفخرية [4] بالقاهرة المحروسة وتجاور المدرسة السيفية [5] والدار الكبرى المعروفة بالسلطان الملك المنصور، والد الواقف، ويعرف قديما بالسيفى وأجرتها فى كل شهر أربعمائة درهم وتسعون درهما. وجميع الحمامين المعروفين بالشيخ خضر بظاهر القاهرة بخط بستان ابن صيرم [6] والجامع الظاهرى، إحداهما لدخول الرجال، والأخرى للنساء وأجرتهما فى كل شهر ألف درهم وخمسمائة درهم وخمسون درهما.

_ [1] خط باب الزهومة: عرف هذا الخط بذلك وكان هذا الباب فى آخر ركن القصر الكبير الشرقى، الذى كان يعرف بالقصر المعزى نسبه للمعز لدين الله الفاطمى. وسمى بذلك لأن اللحوم وحوائج الطعام كانت تدخل مطبخ القصر منه والزهومة معناها الزفر. (الخطط للمقريزى 2: 215، 297) . [2] فى ك «الخط» التصويب من ص. [3] باب الخوخة- هو أحد أبواب القاهرة مما يلى الخليج فى حد القاهرة البحرى يسلك إليه من سويقة الصاحب ومن سويقة المسعودى، وكان يعرف أولا بخوخة ميمون دبة، ويخرج منه إلى الخليج الكبير (خطط المقريزى 3: 72) . [4] حمام الفخرية- بناه الأمير فخر الدين عبد الغنى بن عبد الرزاق بن أبى الفرج الأرمنى، وعرف بحمام الكلاب، ثم عرف بحمام البنات لأنه يجاور جامع البنات بشارع جامع البنات بالقاهرة، حاليا «بور سعيد» وقد هدم هذا الباب ودخل فى سراى أم حسين. بك، وهدمت هذه وأقيم محلها محال تجارية (هامش النجوم الزاهرة 8: 211) . [5] المدرسة السيفية: كانت تقع فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين، وموضعها من جملة دار الديباج، وكانت دارا، فسكنها شيخ الشيوخ صدر الدين بن محمد بن حمويه، وبنيت فى وزارة صفى الدين عبد الله ابن على بن شكران سيف الإسلام، واسمه طغتكين بن أيوب ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز ابن نجم الدين أيوب بن شادى (خطط المقريزى 4: 200. [6] خط بستان ابن صيرم: يقع خارج باب الفتوح مما يلى الخليج وزقاق الكحل، وكان من جملة حارة البيارة فأنشأ زمام القصر المختار الصقلبى بستانا، وبنى فيه منظرة عظيمة، فلما زالت الدولة الفاطمية استولى عليه الأمير جمال الدين سوينج بن صيرم، أحد أمراء الملك الكامل فعرف به، ثم اختط وصار من أجل الأخطاط يسكنه الأمراء والأعيان من الجند (الخطط للمقريزى 3: 57) .

وجميع خان الطّعم [1] بظاهر دمشق المحروسة، وهو مشهور معروف، وقد وصفه وحدده هكذا «تضمن كتاب الوقف جميع الخان المذكور» وليس كذلك؛ فإن الخان المذكور من جملة الأملاك الموروثة عن السلطان الشهيد الملك المنصور والد السلطان الواقف- قدس الله روحه- والذى كمل للسلطان الملك الناصر- خلد الله ملكه- من الأملاك المخلفة عن والده السلطان الملك المنصور مما جرّه إليه الإرث عن والده السلطان المشار إليه وأخيه الأمير أحمد وأخته جهة عنبر الكمالى، وأخيه الملك الأشرف، وبنات أخيه الملك الأشرف، وأخته داره مختار الجوهرى، وما خصه من نصيب والدته الذى وهبته له ولأخيه الملك الأشرف ولأخته: داره مختار الجوهرى المذكورة، وذلك إلى حين صدور هذا الوقف سبعة عشر سهما ونصف سهم وثمن سهم وسدس عشر سهم وسدس ثمن عشر سهم- هذا الذى لا خلاف فيه ولا نزاع- وهذه الحصة المذكورة هى التى استقرّت فى الوقف من هذا الخان، وإطلاق الكاتب فى كتاب الوقف جميع الخان غلط وغفلة ممن أملاه، أو ذهول ممن عيّن ذلك من المباشرين. وأجرة هذا الخان بجملته فى كل سنة على ما استقر إلى آخر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة تزيد على سبعين ألف درهم، يخص الوقف منها ما يزيد على خمسة وأربعين ألف درهم، ثم تجدد بعد كتاب الوقف المشروح فى الوقف المذكور زيادات منها المقاعد التى أنشئت بالساحة بباب المدرسة، وعدتها ثمانية، ومسطبة ومخزن، أجرتها فى كل شهر مائة درهم وأربعون درهما، ومنها ما اشترى من فائض ريع الوقف وألحق به، وهو نصف وربع وثمن طاحون بمصر. وأجرة ذلك فى كل شهر سبعة وثمانون درهما، وإسطبل وطبقة بخان السبيل [2] أجرة ذلك فى كل سنة ستة عشر درهما.

_ [1] خان الطعم: جاء فى صبح الأعشى 4: 187 «هذا الخان يعرف بدار الطعم، وكانت بدمشق بمثابة الوكالة بالديار المصرية وكان لها حشد يوليه نائب دمشق من بين أمراء العشرات أو مقدمى الحلقة أو الأجناد» وانظر السلوك 1: 768 هامش الدكتور زيادة. [2] خان السبيل: كان خارج باب الفتوح، بناه الأمير بهاء الدين أبو سعيد قراقوش ابن عبد الله الأسدى، خادم أسد الدين شيركوه، وبه بئر ساقية وحوض. (خطط المقريزى 3: 150) .

وجعل الواقف- خلّد الله سلطانه- للناظر فى الوقف المذكور أن يصرف لمباشرى الوقف واستخراجه وصرفه فى مصارفه، ولمباشرى العمارة بالمدرسة والأوقاف، والجابى، والمعمار وغير ذلك ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده. من عدد المباشرين وتسويتهم وتفضيلهم، وجعل للناظر أيضا أن يصرف من ريع الوقف إذا فضل عن المرتب المعين فيه فى ليالى الجمع والأعياد والمواسم وشهر رمضان ما يراه من التوسعة عليهم، فإن تعذّر الصرف لجهة من الجهات عاد الصرف [18] إلى باقيها، فإن تعذّر صرف ذلك للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا، فإن زال التعذر عاد على الحكم المذكور، فإن تعذر أيضا كان على الفقراء والمساكين كما تقدم، يصرفه الناظر فيهم على ما يراه من مساواة وتفضيل، وعلى ما يرى صرفه من نقد أو ثوب أو كسوة. أو غير ذلك مما يراه ويؤدى إليه إجتهاده. ولما تم هذا الوقف وكملت عمارة المدرسة، وجلس المدرسون والمعيدون والفقهاء بالمدرسة، وانتصب كل من ذكر فى هذا الوقف وظيفته صرف الناظر للمدرسين خاصة معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، وصرف للمعيدين والفقهاء بكل إيوان من الأواوين الأربعة على مذهبه من جملة ما شرط لهم فى كتاب الوقف. وهو ثمانمائة درهم فى كل شهر ثلاثمائة وخمسون درهما صرف منها لمعيدين لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، وصرف للطلبة والنقيب والداعى فى كل شهر مائتى درهم وسبعين درهما، وقطع من هذا المرتب المصروف [1] لهم فى كل [2] سنة ثلاثة شهور. واستمر ذلك مدة طويلة. واتفق فى غضون ذلك أن باشرت ديوان الخاص السلطانى بالأبواب الشريفة وغيرها، وسكنت بالمدرسة الناصرية، وآطّلعت على متحصل جهات الوقف بالقاهرة وغيرها، ونظرت فى ذلك، فرأيته يفيض على المصروف فى كل

_ [1] فى ك «المعروف» . [2] هذا اللفظ من ص.

سنة جملة كثيرة، فقمت فى ذلك قياما أدى إلى أن صرف لهم ذلك مكملا من غير اقتطاع ثلاثة شهور، واستمر الأمر على ذلك إلى أن توفّى الطواشى شجاع الدين ناظر الوقف فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وفوض الأمر إلى الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة، فأظهر كتاب الوقف وأذاعه، وحمل الأمر على حكمه على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى- فى موضعه. ونقل السلطان إلى القبة المباركة ما تحتاج إليه من البسط والشمعدانات الكفت [1] ، والأطباق النحاس، وغير ذلك من الآلات مما جعله فى حاصلها، ونقل والدته من مدفنها بالتربة المجاورة لمشهد السيدة نفيسة إلى مدفن هذه القبة، وذلك فى سنة ثلاث وسبعمائة، وهى أول من دفن بمشهد القبة، ثم دفن بعد ذلك ابنة له توفيت صغيرة- رحمها الله تعالى- وقد أخذ هذا الفصل حدّه من الإطالة، فلنذكر خلاف ذلك من الحوادث، والله أعلم. وفى سنة ثلاث وسبعمائة أفرج عن الأميرين السيدين الشريفين عزّ الدين حميضة وأسد الدين رميثة ولدى الأمير نجم الدين أبى نمىّ وأعيدا إلى مكة- شرفها الله تعالى. وفيها فوّضت نيابة السّلطنة يحمص إلى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى، نقل من نيابة قلعة دمشق إليها عوضا عن عز الدين أيبك الحموى الظاهرى بحكم وفاته، وكانت وفاته فى يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وتوجّه الأمير سيف الدين إليها فى ثامن [2] عشر جمادى الأولى وجعل نائب قلعة دمشق الأمير سيف الدين بهادر السنجرى.

_ [1] الشمعدان الكفت: المصنوع من النحاس ومشغول بزخارف من سلوك الفضة أو الذهب، وانظر خطط المقريزى 2: 105. [2] كذا فى ك، وف. وفى ص «ثانى عشر» .

ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس [1]

ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس [1] وفى هذه السنة جرّدت العساكر إلى بلاد سيس؛ وكان سبب ذلك أنّ طائفة من العسكر الحلبى دخلت إلى بلاد الأرمن للإغارة، فلما رجعوا كبسهم التّتار ببلاد سيس، وسلموا؛ فرسم بتجريد العساكر إليها، وجرّد من الديار المصرية فى شعبان الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، وهو المقدّم على الجيش، والأمير شمس الدين سنقر جاه المنصورى، والأمير علم الدين سنجر الصوابى ومضافيهم، فوصلوا إلى دمشق ودخلوا إليها فى ثلاثة أيام، أولها يوم السبت ثانى عشر شهر رمضان، وآخرها يوم الاثنين رابع عشره، وجرّد من دمشق الأمير سيف الدين بهادر آص ومن تبعه فى ألفى فارس، وتوجهوا بجملتهم فى يوم الخميس سابع عشر رمضان، وجرّد [19] الأمير سيف الدين قبجق بعسكر حماه، والأمير سيف الدين أسندمر كرجى بعسكر الفتوحات، والأمير سيف الدين بلبان الجوكندار بعسكر حمص، والعسكر الحلبى صحبة الأمير شمس الدين قراسنقر. ولما وصل العسكر إلى حلب حصل للأمير فخر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح مقدم العسكر المصرى مرض منعه من الدخول إلى سيس؛ فأقام بحلب، وتوجّهت العساكر، وافترقوا فرقتين؛ فتوجّه الأمير سيف الدين فبجق بنصف العسكر من جهة قلعة [2] الرّوم إلى صوب ملطية [3] ، والفرقة الأخرى إلى دربند [4] فأغاروا ونهبوا وقتلوا وأسروا من ظفروا به، ثم رجعوا ونازلوا تل

_ [1] بلاد سيس: دسيس هى عاصمة أرمينيات الصغرى، وكانت مدينة كبيرة ذات أسوار على جبل مستطيل، ولها بساتين ونهر صغير، وهى الآن بلدة فى جنوب شرق آسيا الصغرى- وأرمينية الصغرى تشمل إقليم قيليقية (هامش النجوم الزاهرة 7: 139، والمنجد فى الأعلام 37) . [2] قلعة الروم: قلعة حصينة فى غربى الفرات مقابل البيرة، وبينها وبين سميساط كان معظم سكانها من الأرمن مع أنها وسط بلاد المسلمين، فتحها الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، وسماها قلعة المسلمين (ياقوت: معجم البلدان، صبح الأعشى 1194، 120. [3] ملطية: مدينة شمالى حلب، وأعالى نهر الفرات، من بلاد الثغور، وعدها ابن حوقل من جملة بلاد الشام، وعدها أبو الفدا إسماعيل من بلاد الروم. وعمرها أبو جعفر المنصور ثانى خلفاء بنى العباس، وجعل عليها سورا محكما، وهى مدينة ذات فواكه وأشجار وأنهار، فتحها محمد الناصر يوم الأحد الحادى والعشرين من المحرم سنة 715 هـ (معجم البلدان 4: 633- 635، وهامش النجوم الزاهرة 9: 172) . [4] الدربند: قرية على فم الطريق الجبلى بين نهر كوكو وأبلستين، وتطلق على المضايق والطرقات والمعابر الواقفة شمال البيرة والنهر الأزرق (معجم البلدان 2: 564، وصبح الأعشى 4: 364) .

حمدون [1] وحاصروها، واستولوا عليها فى يوم الخميس ثالث عشر ذى القعدة، وملكت بالأمان، وكان قد اجتمع بها جماعة من أصحاب القلاع المجاورة لها، وسبب اجتماعهم بها أنّ صاحب سيس أرسل إليهم أن يجتمعوا بتلّ حمدون، ويقبضوا منها نفقة ويعودوا إلى قلاعهم ويحفظوها، ويقول لهم: إن هذه العساكر إنما دخلت للإغارة والعود. فاجتمعوا بتل حمدون لقبض النفقة، وجاء العسكر إليها وحاصرهم بها، فسألوا الأمان، فلما أطلقوا وصل رسول صاحب سيس إلى العسكر يقول: هؤلاء الذين بتّلّ حمدون هم ملّاك القلاع، فإن قبضتم عليهم وأردتم المال بذلوه لكم أو القلاع سلّموها إليكم. وشكا منهم أنهم لا يرجعون إليه ولا يسمعون منه ويخالفونه إذا قصد بذل الطاعة للسلطان، أو إرسال الحمول، ويقولون: إذا حضر العسكر خلّ بيننا وبينه. فعند ذلك أرسل الأمراء من أدركهم قبل وصولهم إلى مأمنهم، وقبضوا عليهم وقتل بقيتهم، وكان الذين قبض عليهم ثمانية من أصحاب القلاع المشار إليهم، منهم أمير اسمه السرمساق صاحب قلعة بخيمة، وبقيتهم لكل منهم قلعة. فلما تحقق السرمساق أن صاحب سيس عمل عليهم أسلم وتلفّظ بالشهادتين المعظمتين، وقال: أنا لى أخ فى خدمة السلطان، وأنا أسلّم قلاعى وألتزم للسلطان بفتح بلاد سيس بألفى فارس من نهر جهان [2] إلى بلاد [3] قرمان، فعاد العسكر به وببقية الواصلين، وكان وصولهم إلى دمشق فى الحادى والعشرين من ذى الحجة، ورحل العسكر المصرى منها فى تاسع عشرين الشهر، ووصلوا إلى الأبواب السّلطانية فى المحرم سنة أربع وسبعمائة. وفى يوم الإثنين تاسع عشر شوال سنة ثلاث وسبعمائة فوضت الوزارة بالديار المصرية للأمير ناصر الدين محمد الشيخى، نقل من ولاية الجيزية إليها عوضا عن الأمير عز الدين أيبك البغدادى، فأحدث الشيخّى مظالم كثيرة، ولم تطل أيامه.

_ [1] تل حمدون: بلدة من بلاد الروم تتاخم الشام (معجم البلدان 4: 633) . [2] نهر جهان: هو نهر جيحان، وهو نهر المصيصة بالثغر الشامى، ومنيعه من بلاد الروم، ويمر حتى يصب فى مدينة تعر بكفر بيا بإزاء المصيصة (هامش النجوم الزاهرة 7: 168) . [3] بلاد قرمان: هى دولة بآسيا الصغرى، نشأت أواسط القرن السابع الهجرى. (السلوك 1: 630 هامش) .

وفى هذه السنة وصل إلى الخدمة السلطانية من بلاد الشرق الأمير بدر الدين جنكلى [1] بن شمس الدين المعروف بالبابا، وهو أحد مقدمى جيوش التتار، ووصل معه أحد عشر نفرا من ألزامه، منهم أخوه نيروز، ووصل الأمير بدر الدين بأهله، وكان مقامه ببلاد [2] آمد وكانت مكاتباته ترد على السلطان ببذل النصيحة للإسلام من مدة طويلة، ثم فارق الآن التتار وجاء، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الثلاثاء حادى عشر ذى القعدة، ثم توجه منها بمن معه ووصلوا إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل، وأحسن السلطان إليهم، وشملهم بالخلع والإنعام، وأمّر الأمير بدر الدين جنكلى بطبلخاناه، واستمر من جملة الأمراء، وظهر للسلطان من أدبه وعقله وجميل نيته وحسن طاعته وصدق إخلاصه فى الموالاة [3] والمصافاة، وعدم اجتماعه واختلاطه بمن يرتاب منه من أهل الأهواء والفتن، وغير ذلك من الأوصاف الجميلة ما أوجب ترقّيه وانتقاله إلى إمرة المائة، وتقدّمة الألف، ثم إلى رتبة الخصوصية والتقريب والدنو، والجلوس فى مجلس السلطان بالقرب منه، واستشارته والرجوع إلى كثير من آرائه، وهو كذلك إلى الآن. وفيها أيضا وصل إلى الأبواب السلطانية رسول من جهة الرندراكون [4] البرشنونى صاحب برشنونة يشفع فى النصارى بالديار المصرية [20] أن تفتح كنائسهم على عادتهم، فقبلت شفاعته، ورسم أن يفتح للطائفة اليعاقبة [5] من

_ [1] كذا فى الأصول: والدليل الشافى 1: 251، والدرر الكامنة 2: 76. وذيول العبر ص 253، والنجوم الزاهرة 10: 143 وقد توفى سنة 746. والرسم فى السلوك 1: 95 «جنغلى» . [2] بلاد آمد: وآمد بلد قديم حصين، مبنى بالحجارة على نشز دجلة وهو محيط بأكثر البلد فى استدارة كالهلال، ويعتبر أعظم مدن ديار بكر (معجم البلدان) . [3] فى ك «الولاة» والتصويب من ص. [4] الرندراكون: جاء فى هامش السلوك 1: 950 «وهذا اللفظ المركب هو Barcelona LAragon ElReyde أى ملك أراجون وبرسنونة هى برشلونة. [5] اليعاقبة: نسبة إلى يعقوب البراذعى الذى تزعم فى القرن السادس للميلاد مذهبا فى الكنيسة الشرقية ينادى بأن للمسيح طبيعة واحدة تجمع بين صفاته جميعا. وقد تعرضت هذه الفرقة لاضطهاد شديد من جانب امبراطور الروم جستنيان. (سعيد عاشور: أوربا القصور الوسطى (خطط المقريزى 2: 481 وما بعدها) .

النصارى كنيسة بحارة زويلة، وللملكيين [1] كنيسة بخط البندقانيين [2] ، وكتب جوابه وأعيد رسوله وسفر إليه من الأبواب السلطانية مع فخر الدين عثمان الأفرمى فتوجها من الأبواب السلطانية إلى ثغر الإسكندرية، وتجهزا منها وركبا فى المركب فى سنة أربع وسبعمائة، فلما عزما على الإقلاع تفاوضا مفاوضة أدّت إلى أنّ رسول البرشنونى طرح فخر الدين عثمان من المركب إلى القارب الذى خرج يشيعهم من الميناء هو وغلمانه، ولم يعطه شيئا مما كان معه، وأقلع من فوره، وعاد فخر الدين المذكور إلى الأبواب السلطانية فى سنة أربع وسبعمائة. والله أعلم. وفى سنة ثلاث أيضا وقع فناء عظيم فى الخيول بالشام. حتى كاد يأتى عليها، ونفقت أكثر خيول الناس، وكنت يومئذ بدمشق، وكنت أملك عشرة أرؤس من الخيل الجياد أو أكثر، فنفقت بجملتها، واحتجت إلى ابتياع ما أركبه، وكانت الخيل قبل ذلك قد كثرت بالشام وهانت، وقلّت أثمانها، لما هرب التتار من مرج الصفر، حتى أبيع الإكديش [3] من خيل التتار فى موضع الوقعة بخمسة دراهم، ثم تزايد ثمنها، ثم أبيع الفرس منها بدمشق بثلاثين درهما، فلما فنيت الآن وارتفع الفناء غلت أثمانها بدمشق لقلتها. وفيها فى شهر رمضان توجّهت من دمشق إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية مفارقا لمباشرة أملاك الخاص الشريف، وكان وصولى إلى القاهرة فى يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان بعد الظهر، وباشرت ديوان الخاصّ والبيمارستان المنصورى، وما معه من الأوقاف المنصورية فى بقية اليوم الذى وصلت فيه، ورفع إلىّ حساب المياومة قبل غروب الشمس من اليوم المذكور.

_ [1] الملكيون، أو الملكية، أو الملكانية: هى الفرقة الثانية من المسيحيين الشرقيين الذين عارضوا مذهب الصبغة الواحدة وقالوا بأن للمسيح طبيعين (سعيد عاشور- أوربا العصور الوسطى (خطط المقريزى 2: 481 وما بعدها، وصبح الأعشى 13: 275 وما بعدها) . [2] خط البندقانيين: من أكبر أخطاط القاهرة حيث يشمل المنطقة التى يخترقها اليوم سوق السمك القديم، وسوق الصيارف الكبير، وحارة السبع قاعات البحرية والقبلية، وما بين ذلك من شارع السكة الجديدة امتداد شارع الموسكى (هامش النجوم الزاهرة 4: 52) . [3] الإكديش: نوع من الأفراس غير الجياد (فهرس كنز الدرر ج 9 والمنجد- كدش) .

ذكر وفاة الشيخ زين الدين الفارقى وما اتفق بسبب مناصبه بدمشق.

وفيها توجّه الأمير سيف الدين سلّار نائب السّلطنة إلى الحجاز الشريف، وتصدّق صدقات كثيرة بمكة والمدينة، سدّ بها حاجة ذوى الحاجات، ووسّع على المجاورين والمقيمين. وفيها فى أواخر شهر رمضان ولد لمولانا السلطان الملك الناصر ولد من زوجته أردكين آبنة الأمير سيف الدين نوكيه، سمّاه عليّا، ونعت علاء الدين، ثم لقّب بعد بالملك المنصور. وفى هذه السّنة كانت وفاة الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار الظاهرى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بالديار المصرية، وهو أحد من كان توجّه إلى غازان ملك التتار وعاد كما تقدم ذكر ذلك. ذكر وفاة الشيخ زين الدين الفارقى وما اتفق بسبب مناصبه بدمشق. وفى هذه السّنة فى يوم الجمعة تاسع عشر صفر توفى الشيخ الإمام العالم زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله الفارقى [1] الشافعى الخطيب بدمشق بقاعة الخطابة بالجامع الأموى، وجهّز وصلّى عليه فى بكرة نهار السّبت فى ثلاثة أماكن، فصلّى عليه بجامع دمشق قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى الشافعى، وصلّى عليه بسوق الخيل قاضى القضاة شمس الدين الحنفى، وصلّى عليه بباب جامع الجبل قاضى القضاة تقى الدين الحنبلى، ودفن بتربة أهله، وكانت جنازته مشهورة. ومولده فى المحرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان بيده من المناصب خطابة الجامع الأموى، وتدريس دار الحديث [2] الأشرفية، ولى مشيختها سبعة وعشرين سنة، وتدريس المدرسة [3]

_ [1] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 30، والدرر الكامنة 2: 304، وطبقات الشافعية 6: 107 وشذرات الذهب 6: 4، وذيول العبر ص 25. [2] دار الحديث الأشرفية: بجوار باب قلعة دمشق الشرقى، غربى العصرونية وشمالى القيمازية، وكانت دارا للأمير قايماز النجمى فبناها الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل أبى بكر بن أيوب بعد أن اشتراها، وكان افتتاحها فى ليلة النصف من شعبان سنة 630 هـ، وعين الشيخ تقى الدين بن الصلاح شيخا لها. (الدارس فى تاريخ المدارس: 1: 19) . [3] المدرسة الشامية البرانية: من مدارس الشافعية بدمشق بمحلة العقيبة أنشأتها ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شادى، والدة الملك إسماعيل، المتوفاه سنة 616 هـ وتعرف بالحسامية لأن ابنها حسام الدين دفن فيها، كما أنها دفنت فيها أيضا، وهى الآن مدرسة ابتدائية للأيتام (خطط الشام لكرد على 6: 281) .

الشامية البرانية، ولما مات- رحمه الله تعالى- كان نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقش الأفرم بالضّفة القبلية، فوصل إلى دمشق فى شهر ربيع الأوّل، فتكلم الناس معه فى مناصب الشيخ زين الدين المشار إليه، فعيّن الخطابة للشيخ شرف الدين الفزارى، [21] وتدريس المدرسة الشامية البرانية، ودار الحديث الأشرفية للشيخ كمال الدين الشريشى بحكم أن تؤخذ منه المدرسة الناصرية بدمشق فيليها الشيخ كمال الدين بن الزّملكانى [1] ، واستقر ذلك. ولما اتصل خبر وفاته بالأبواب السلطانية سعى الشيخ صدر الدين محمد ابن الوكيل المعروف بابن المرحل فى مناصبه بالشام، وأن يعاد إليه معها ما كان بيده قبل انتقاله إلى الديار المصرية، وهو تدريس المدرسة [2] الشامية الجوانية، والمدرسة العذراوية [3] فأجيب إلى ذلك، وكتب توقيعه به. وولى بعده تدريس المدرسة الناصرية بالقاهرة القاضى مجد الدين عيسى ابن الخشاب، وكان تدريسها قد عيّن له قبل تكملة عمارتها، ثم وليه الشيخ صدر الدين كما تقدم، فوليه القاضى مجد الدين بعده، وجهز توقيع الشيخ صدر الدين صحبة البريد إلى دمشق فزين مكاتبات من اعتنى به من الأمراء إلى نائب السلطنة بإمضائه، فوصل البريد بذلك إلى دمشق فى يوم الاثنين منتصف شهر ربيع الأول، فكتب نائب السلطنة عليه، وبطل ما كان قد تقرّر من الولايات لمن ذكرنا، ثم وصل الشيخ صدر الدين فى يوم الاثنين الثانى والعشرين من الشهر إلى دمشق على خيل البريد، وعلى يده أمثلة سلطانية، فاجتمع بنائب السلطنة، وأمضى ولايته، وركب من غده وجاء إلى الجامع الأموى بعد الظهر،

_ [1] هو جمال الإسلام كمال الدين أبو المعالى محمد بن على بن عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكانى الشافعى، توفى بمدينة بلبيس فى سادس عشر رمضان سنة 727 هـ وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 4: 214، والبداية والنهاية 14: 131، والدرر الكامنة 4: 192، وطبقات الشافعية 9: 190، وشذرات الذهب 6: 78، والنجوم الزاهرة 9: 270. [2] المدرسة الشامية الجوانية: وتقع قبلى البيمارستان النورى، من إنشاء ست الشام زمردة خاتون بنت أيوب، وقد خربت ولم يبق منها سوى بابها وواجهتها الحجرية، واتخذت دارا (خطط الشام 6: 81، 82) . [3] المدرسة العذراوية: بحارة الغرباء داخل باب النصر المسمى الآن بباب دار السعادة بدمشق. وهى وقف على الشافعية والحنفية، أنشأتها الست عذراء بنت نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخى صلاح الدين الأيوبى فى شهور سنة 580 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 373) .

ودخل دار الخطابة وصلّى بالناس صلاة العصر بالجامع [1] فتألم الناس لذلك تألما [2] شديدا لاجتماعهم [3] على الشيخ شرف الدين الفزارى، واتفق الأعيان على أنهم لا يصلّون خلفه، واجتمع جماعة كثيرة [4] فى يوم الأربعاء رابع عشرين الشهر مع الشيخ تقى الدين ابن تيمية وتوجهوا إلى نائب السلطنة، وتحدّثوا معه فى المطالعة إلى الأبواب السلطانية فى أمر صدر الدين وأن لا يخطب إلا بعد ورود الجواب، وثلبوه بأمور كثيرة، فأجاب نائب السلطنة سؤالهم، ومنع صدر الدين من الخطابة والإمامة حتى يرد جواب السلطان، وطالع فى أمره، وذكر ما قاله العلماء والأكابر وما صمّموا عليه من الامتناع عن الصلاة خلفه، وما شرطه الواقفان لدار الحديث الأشرفية، والشامية البرانية فى أمر التدريس، واستنيب فى الإمامة الشيخ أبو بكر الجزرى، وفى الخطابة الشيخ تاج الدين الجعبرى، وأمضى نائب السلطنة ولاية صدر الدين فيما عدا ذلك من المدارس، فجلس فى بكرة نهار الأحد الثامن والعشرين من الشهر، وألقى الدروس بالمدارس، وهى الشامية البرانية، والجوانية، ودار الحديث الأشرفية، والمدرسة العذراوية، وكانت مع جلال الدين القزوينى، والشامية الجوانية مع كمال الدين بن [5] الزملكانى، واستمر الحال على ذلك إلى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر، فعاد البريد بالأجوبة أن يولّى الخطابة والإمامة بدمشق من يتّفق المسلمون عليه ويرضونه، وأن يسلك فى أمر الشامية ودار الحديث ما شرط واقفاها، فتولىّ تدريس الشامية البرانية الشيخ كمال الدين ابن [5] الزملكانى، وذكر الدرس فى مستهل جمادى الأولى، وفوّضت الخطابة للشيخ شرف الدين الفزارى، وخطب فى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه فى يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة.

_ [1] هذا اللفظ من ص. [2] فى ص «ألما شديدا» . [3] فى ص «لإجماعهم» . [4] فى ص «كبيرة» . [5] هذا اللفظ من ص.

وفيها فى ليلة الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر توفى الصدر فتح الدين عبد الله ابن الصاحب معين الدين محمد بن أحمد بن أحمد بن خالد القيصرانى [1] بالقاهرة- رحمه الله تعالى. وفيها فى يوم الاثنين تاسع شهر رجب الفرد الفرد توفى الأمير ركن الدين بيبرس التلاوى [2] أستاذ الدار العالية، وشاد الدواوين المعمورة بالشام، وكان ظالما عسوفا متكبّرا، فابتلاه الله تعالى- بالأمراض الشديدة، وكانت مدّة ولايته الوظيفة ثلاثة عشر شهرا وتسعة عشر يوما، مرض منها سبعة أشهر وأياما، ولما مات ولى شدا الشام بعده الأمير شرف الدين قيران الدوادارى، فى يوم الخميس حادى عشر شعبان، نقل من شدّ طرابلس إلى دمشق. وفى هذه السنة توفى الشيخ الصالح العارف القدوة السيد الشريف أبو فارس عبد العزيز عبد الغنى بن سرور بن سلامة بن بركات بن داود بن أحمد ابن يحيى بن زكريا بن القاسم بن أبى عبد الله بن إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم، وهو المعروف بالمنوفى [3] وكانت وفاته بمصر فى ليلة الاثنين خامس عشر ذى الحجة، ودفن بكرة النهار بالقرافة، وكان من الصلحاء المعمرين، [22] مات عن مائة وعشرين سنة، وهو من أصحاب الشيخ أبى الحجاج الأقصرى، وله- رحمه الله تعالى- نظم حسن اجتمعت به فى سنة ست وتسعين وستمائة بمدينة قوص، وكان قد توجّه لزيارة شيخه الشيخ أبى الحجاج، ومرض بمدينة الأقصرين [4] فى هذه السفرة، فرآه القاضى جمال الدين يحيى بن يحيى الأرمنتى [5] أحد السعداء فى الصعيد فوجده قد أغمى عليه، فلما أفاق قال له جمال الدين: كيف تجدك؟ فأنشده: هذى الجفون وإنما أين الكرى ... منها وهذا الجسم أين الرّوح ومتّع- رحمه الله تعالى مع طول عمره- بعقله وحواسه.

_ [1] القيصرانى: كذا ص ك، وفى ص، والسلوك، والنجوم الزاهرة «القيسرانى» وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 31، والدرر الكامنة 2: 389، وشذرات الذهب 6: 9، والنجوم الزاهرة 8: 213، والدليل الشافى 1: 390، وحسن المحاضرة 1: 387. [2] فى الأصول «البلاوى» والمثبت من النجوم الزاهرة 8: 212، والدرر الكامنة 1: 508 وفيه «بيبرس التلاوى بكسر المثناة وتخفيف اللام، شاد الدواوين بدمشق، كان عسوفا، مات فى رجب سنة 703 هـ» . [3] ترجم له فى الدرر الكامنة 2: 373، والسلوك 1: 957، والنجوم الزاهرة 8: 214، والدليل الشافي 1: 415. [4] الأقصرين: كذا فى الأصول، والمراد الأقصر وهى مدينة سياحية بها كثير من الآثار الفرعونية، وتقع الضفة الشرقية للنيل وهى إحدى مدن محافظة قنا بصعيد مصر. [5] فى ك «الأرمينى» والتصويب من ص.

واستهلت سنة أربع وسبعمائة

واستهلت سنة أربع وسبعمائة فى هذه السنة عزل الأمير سيف الدين بنخاص من نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية، وأحضر إلى الأبواب السلطانية، واستقر فى جملة الأمراء مقدمى الألوف، وفوّضت نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية للأمير شمس الدين سنقرجاه المنصورى، فتوجّه إليها، وكان من الأمراء مقدمى الألوف بالديار المصرية. ذكر عمارة الجامع الحاكمى بالقاهرة وما رتّب فيه من الدروس والطوائف. قد قدمنا أن الجامع الحاكمى بالقاهرة تداعت أركانه وسقط بنيانه، وأن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار العالية انتدب لعمارته، فحصل الشروع فيها فى أوائل سنة ثلاث وسبعمائة، ووقع الاهتمام بأمر العمارة حتى عاد أحسن ما كان، وانصرف عليه جملة كثيرة، وتكاملت عمارته فى هذه السنة، ووقف الأمير ركن الدين من أملاكه على مصالحه- التى تذكر- أملاكا يتحصل من ريعها جملة فى كل شهر، ورتّب به من الدروس والتصدرات وغير ذلك من جهات البرّ ما نذكره، وقدّر لهم من المعلوم، وهو: دروس الفقه على المذاهب الأربعة: الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنابلة، وولّى تدريس ذلك قضاة القضاة الأربعة وهم: قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى [1] ، وقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف [2] المالكى، وقاضى القضاة شمس الدين أحمد السروجى [3] الحنفى، وقاضى القضاة شرف الدين عبد الغنى الحرّانى الحنبلى [4] ، ورتّب لكل واحد منهم عن وظيفة التدريس فى كل شهر مائة درهم وثلاثين درهما نقرة، وجعل لكلّ درس معيدين، ورتّب لكل واحد منهما فى كل شهر خمسين درهما، ورتّب للطلبة لكل مذهب فى كل شهر ثلاثمائة نقرة، ورتّب درس حديث فرض تدريسه للشيخ سعد الدين مسعود [5] الحارثى وجعل له ولمعيدين ولطلبة نظير ما لطائفة من الطوائف المذكورة. ورتب فيه ميعادا للعامة جعل شيخه القاضى مجد الدين بن الخشاب، ورتب له

_ [1] انظر مراجع ترجمته فى ص 7. [2] انظر مراجع ترجمته فى ص 90. [3] انظر مراجع ترجمته فى ص 91. [4] انظر مراجع ترجمته فى ص 91. [5] هو سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثى الحنبلى توفى سنة 711 هـ، وأنظر البداية والنهاية 14: 64، وذيول العبر ص 64، والسلوك 2: 113، وحسن المحاضرة 1: 358، وشذرات الذهب 6: 28.

فى كل شهر مائة وثلاثين درهما. ورتّب متصدرين [1] لأقراء القرآن، لكل منهما ستون درهما. ورتّب متصدرين [1] لإلقاء العلوم وهما الشيخ علاء الدين القونوى [2] والشيخ زين الدين بن الكتانى [3] ورتّب لكل منهما فى كل شهر ستين درهما. ورتّب متصدرين لإلقاء النحو، وهما الشيخ أثير الدين [4] أبو حيّان، وتاج الدين محمد البار نبارى [5] . رتّب لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، ورتّب ملقّنين للقرآن العظيم، رتّب لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، ورتّب لعشرين متلقّن لكل واحد منهم فى كل شهر عشرة دراهم. ورتّب عشرين مقرئا يتلون كتاب الله تعالى عقب صلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب، ورتّب لكل واحد منهم عشرة دراهم. ورتّب ثلاثة أئمة على ثلاثة مذاهب: مالك بن أنس، وأبى حنيفة، وأحمد ابن حنبل، [23] يصلون بالجامع، ورتّب لكل واحد منهم فى كل شهر ثلاثين درهما.

_ [1] فى ك «مصدرين» والمثبت من ص. [2] فى ك «مصدرين» والمثبت من ص. [3] هو علاء الدين بن إسماعيل بن يوسف القونوى الفقيه الشافعى ينسب إلى قونية من بلاد الروم، توفى سنة 729. وأنظر البداية والنهاية 4: 147، وذيول العبر ص 162، والدرر الكامنة 3: 24، والدليل الشافى 1: 451، وطبقات الشافعية 6: 144، وشذرات الذهب 6: 91، والنجوم الزاهرة 9: 279، ودول الإسلام 2: 181. [4] هو عمر بن الجمال أبى الحزم بن عبد الرحمن بن يونس، الشيخ زين الدين المعروف بابن الكتانى الدمشقى الشافعى، توفى فى رمضان سنة 738 هـ، وأنظر ذيول العبر ص 203، والبداية والنهاية 14: 183، والسلوك 212: 456، وشذرات الذهب 6: 117، وطبقات الشافعية 6: 245، والدرر الكامنة 3: 161 [5] هو أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حيان الغرناطى المغربى المالكى ثم الشافعى، توفى فى صفر سنة 745 هـ، وأنظر الوافى بالوفيات 5: 267، وفوات الوفيات 4: 71، والنجوم الزاهرة 10: 111، وشذرات الذهب 6: 145. [6] هو تاج الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم البارنبارى، توفى سنة 747 هـ وقيل سنة 756، وأنظر الوافى بالوفيات: 1: 249، والدرر الكامنة 4: 315، والسلوك 2: 673، والدليل الشافى 2: 695، والنجوم الزاهرة 10: 320.

ورتّب فقيهين يعلمان عدّة من الصبيان الأيتام، ورتّب لهما فى كل شهر خمسين درهما. ولعدة من الصّبيان ما يكفيهم على العادة. وأنشأ بالجامع خزانة كتب، وقف بها نحو خمسمائة مجلّد من كتب العلوم، والآداب، والتواريخ وغير ذلك، وختمات شريفة، وربعات، وغير ذلك، ورتّب لشاهدها فى كل شهر ثلاثين درهما، واستنسخ ختمة شريفة سبعة أجزاء، فى ورق بغدادى كامل كتبت بالذهب المحلول، بخط شرف الدين بن [1] الوحيد، حلّ له جملة من الذهب، وصرف عليها جملة فى أجرة كاتب وترميل [2] ، وتذهيب آيات وأعشار وسور وفواتح وتجليد، ووقفها بالجامع يقرأ منها فى كل جمعة قبل الخطبة، ورتّب للقارئ فى كل شهر معلوما. ورتّب غير ذلك من وجوه البر والقربات، وجلس المدرسون المذكورون وغيرهم من أرباب الوظائف بالجامع الحاكمى المذكور فى أول شهر ربيع الأول من هذه السنة- أثابه الله تعالى- وكان الذي حسّن له ترتيب ذلك وحثّه عليه الشيخ العارف نصر المنبجى [3] نفع الله به- وكان الأمير ركن الدين لا يخرج عن إشارته. وفى هذه السنة عاد الأمير سيف الدين قطايا بن يوسف [4] أمير بنى كلاب، وسلطان، وجماعة من مشايخهم إلى الخدمة السلطانية. وكان قد خرج عن الطاعة من مدة طويلة، وتوجّه إلى بلاد الشرق، ولحق بالتتار، فعاد الآن بمن معه، فأحسن السلطان إليهم، وشملهم بالإنعام والإقطاعات، وفرقهم فى بلاد الشام وعفا عن ذنوبهم السالفة، ولم يؤاخذهم.

_ [1] هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف بن الوحيد الزرعى، توفى سنة 711 هـ. وانظر الوافى بالوفيات 3: 150، وفوات الوفيات 3: 390، والدرر الكامنة 4: 73، والسلوك 2: 113، والدليل الشافى 2: 627. [2] الترميل: مأخوذ من المرملة وهى إناء يوضع فيه نوع من الرمل لتجفيف الكتابة (دوزى 1: 509) . [3] هو أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجى، الحنفى، توفى سنة 719 هـ، وكان محدثا فقيها عارفا بالقراءات، وانظر غاية النهاية 2: 335، والدرر الكامنة 4: 392، والدليل الشافى 2: 833، وشذرات الذهب 6: 136. [4] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2: 3 «سيف الدين قطايا بن سيفر. أو بن سعيد» كما جاء بهامشه.

وفيها فى شهر ربيع الأول وصل رسل [1] الملك طقطاى صاحب صراى [2] وبلاد القبجاق [3] ، فأكرمهم السلطان وأحسن إليهم، وأنزلهم بمناظر الكبش، وأعادهم إلى مرسلهم صحبة رسوله إليه وهو الأمير سيف الدين بلبان الصّرخدى [4] وذلك فى شهر رجب. وفيها فى جمادى الأولى وفد إلى الأبواب السلطانية جماعة من التتار نحو مائتى فارس بنسائهم وأولادهم، وكان وصولهم إلى دمشق فى تاسع الشهر، وقيل: إن منهم أربعة من سلاح سارية الملك غازان. وفيها عاد القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله العمرى [5] من بلاد التتار، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الأربعاء الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وكان ممن استصحبه وزير غازان معه إلى بلاد الشرق فى سنة تسع وتسعين وستمائة فعاد الآن. وفيها فى شهر رمضان عاد رسل السلطان الذين كانوا توجهوا إلى غازان، وهما: الأمير حسام الدين أزدمر المجيرى [6] ، والقاضى عماد الدين بن السكرى وصحبتهما رسول خربندا ملك التتار [7] القائم بعد أخيه غازان، وكان وصولهم إلى دمشق فى يوم الأحد رابع عشرين شعبان، فتلقاهم نائب السلطنة بالشام وسائر الجيش بظاهر دمشق بأحسن زينة وأفخر ملبوس. ثم توجهوا إلى الأبواب

_ [1] فى الأصول «رسول» والمثبت يقتضيه السياق. [2] صراى: مدينة عظيمة. وهى عاصمة بلاد التتار الشمالية، تقع غربى بحر الخزر وشماليه على نحو مسيرة يومين، على شط نهر الأثل (الفولجا) من الجانب الشمالى الشرقى، وهى فرصة عظيمة للتجار ورقيق الترك (السلوك 1: 395) (أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 216- 217) . [3] بلاد القبجاق. وترسم القفجاق، والقيثاق. وهى عبارة عن الإمبراطورية التترية التى قسمها جنكيزخان بين أبنائه الأربعة، وأطلق على القسم الشرقى منها اسم القبشاق الشرقى، والقسم الغربى منها القيشاق الغربى (السلوك 1: 394، 395 هامش) . [4] هو الأمير سيف الدين بلبان الصرخدى الظاهرى، توفى سنة 730 هـ (السلوك 2: 326) . [5] هو أول بدر الدين من بنى فضل محمد بن فضل الله بن مجلس العمرى الدمشقى ذكر فى وفيات سنة 706 هـ، وأنظر الوافى بالوفيات 4: 328، والدرر الكامنة 4: 254، والنجوم الزاهرة 8: 224. [6] فى الأصول «المحمدى» والمثبت من السلوك 1: 916، 927، 2: 16. [7] هذا اللفظ من ص، وف.

السلطانية فى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من الشهر، وكان مضمون رسالتهم- فيما بلغنى- طلب الصلح والموادعة، وكفّ الغارات من الجهتين، وانتظام الصلح، واجتماع كلمة الاتفاق. فأحسن السلطان إلى رسله وأكرمهم، وأعادهم صحبة رسوله علاء الدين على بن الأمير سيف الدين بلبان القليجى أحد مقدمى الحلقة المنصورة، والقاضى سليمان المالكى الشبرايريقى، وشيرايريق قرية من قرى الغربية بالديار المصرية، وهو أحد نوّاب الحكم، وتوجهوا فى ذى القعدة وعادوا فى شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة، ومعهم رسل الملك خربندا. وفيها عزل الأمير ناصر الدين محمد الشيخى [1] عن الوزارة فى أواخر شعبان، ورسم بمصادرته، وصودر وضرب بالمقارع بين يدى عز الدين أيبك الشجاعى شاد الدواوين [2] إلى أن مات، وكان قد أحدث مظالم كثيرة وقصد تجديد ما هو أشنع منها وأفحش من المكوس المنكرة والحوادث التى ما سمع بمثلها، [24] فما أمهله القدر، وأخذه الله تعالى شر إخذة، وأراح الناس من شره. وكان ناصر الدين فى ابتداء أمره يخيط الأقباع بالقاهرة فى كل يوم بنصف درهم، ثم خدم الأمير شمس الدين بن التيتى [3] وحضر معه من بلاد التتار فى الدولة المنصورية، ثم توصّل وخدم جنديا من الحلقة فأعطى إقطاعا بساحل الغلّة، فبذل فى شد الجهة بذلا ووليها، فظهر منه اجتهاد، ثم نقل إلى شدّ الدواوين مدة، ثم نقل إلى ولاية القاهرة، وتأمّر بطبلخاناه، ثم ولى الجيزية، ومنها إلى الوزارة.

_ [1] هو محمد ويقال: ذبيان وفى الدرر الكامنة 2: 195، والدليل الشافى 1: 301 «ذبيان بن عبد الله المادى الشيخى، ناصر الدين. توفى سنة 704 وأنظر النجوم الزاهرة 8: 214. [2] شاد الدواوين: هو متولى التفتيش على الدواوين، والشاد هو متولى الوظيفة المخصصة بالكلمة المضافة إليه، وكان عمل شاد الدواوين بمصر فى أيام الأيوبيين والمماليك هو معاونة الوزير فى مراقبة الحسابات ومراجعتها. (السلوك 1: 105 حاشية للدكتور زيادة) . [3] ما بين الحاصرتين ساقط من ك. وهو الأمير شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبى سعيد بن التيتى الآمدى (السلوك 2: 13) وفى شذرات الذهب 6: 11 «هو الأمير الكبير الأديب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أبى سعد بن على بن المنصور بن محمد بن الحسين الشيبانى الآمدى- توفى سنة 704 هـ» .

ولما عزل فوضت الوزارة إلى القاضى سعد الدين بن عطايا [1] ، وكان يلى نظر البيوت السلطانية [2] فنقل إلى الوزارة، وخلع عليه فى يوم الأربعاء ثانى عشر شهر رمضان، وكان الذى اعتنى بأمره وعيّنه لهذا المنصب الأمير علم الدين سنجر، الجاولى [3] أستاذ الدار العالية. ولقد شاهدت الصاحب سعد الدين هذا قبل وزارته بثلاثة أيام وهو قائم بين يدى الأمير علم الدين المذكور وهو يقرأ عليه ورقة حساب لعلها تتعلق بديوان البيوت، فلما ولى الوزارة حضر الأمير علم الدين معه إلى مجلس الوزارة، وجلس بين يديه ووقّع الصاحب، وكتب بالامتثال فرمّل على خطه فيما بلغنى. وفى هذه السنة وصل رسول من جهة أبى يعقوب [4] المرينى صاحب بلاد المغرب: وهو علاء الدين الشهرزورى [5] وأصله من أولاد الشهرزورية الذين نفوا فى الدولة الظاهرية، وحضر صحبته هدايا جليلة كثيرة، كثير من الخيل والبغال بالسروج، وجملة من القماش والذهب على سبيل الهدية والأمداد، فقبلت هديّته، وأنعم على رسول له. فى سنة خمس، وأعيد إلى مرسله على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

_ [1] هو سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا، توفى سنة 730 هـ (السلوك 2: 327) . [2] هى وظيفة من الوظائف الديوانية التى يتولاها عادة أرباب القلم، وعمل شاغلها مشاركة الاستدار فى إدارة بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه، والحاشية والغلمان (صبح الأعشى 4: 20، 31) . [3] هو علم الدين سنجر بن عبد الله الجاولى أبو سعيد. من أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون. توفى سنة 745 هـ. (الدرر الكامنة 2: 226، والنجوم الزاهرة 8: 155 هامش، والدليل الشافى 1: 324، وشذرات الذهب 6: 142) . [4] هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق محبوب أبى بكر المرينى، ملك المغرب. توفى سنة 706. وأنظر الدرر الكامنة 4: 480، والنجوم الزاهرة 8: 225، والسلوك 2/1: 23، والدليل الشافى 2: 808 هـ وشذرات الذهب 6: 13. [5] الشهرزورى: نسبة إلى شهرزور إحدى جهات كردستان، وتوجد بها مدينة تسمى شهرزور. وانظر صبح الأعشى 4: 373.

ذكر ما وقع فى هذه السنة بدمشق من الحوادث والولايات

وفيها وصل متملّك [1] دنقلة وبلاد النوبة إلى الأبواب السلطانية، وأحضر صحبته التّقدمة الجارى بها العادة، والبقط [2] من الرّقيق والهجن والثمار والسنباذج [3] وغير ذلك، وسأل السلطان معه عسكرا لينهض به على أعدائه الذين يؤخرون مطيعه؛ فجرّد معه الأمير سيف الدين طقصبا فى طائفة من العسكر فتوجّه بهم وأغار وأوغل فى بلاد النّوبة وعاد. ذكر ما وقع فى هذه السنة بدمشق من الحوادث والولايات كان مما وقع فى هذه السنة بدمشق أن نائب السلطنة بها الأمير جمال الدين آقش [4] الأفرم أمر بعقد مجلس لنجم الدين أبى بكر ابن القاضى بهاء الدين خلّكان، وسماع ما يدّعيه، وكان قد تكرر منه أنه حكيم الزمان، وأنه يخاطب بكلام يشبه الوحي بزعمه، وذكر ألفاظا يدّعى أنه خوطب بها وهى: يا أيها الحكيم افعل كذا، وأشباه ذلك، وادعى أنّه قد آطلع على علوم كثيرة؛ منها: عمل طبل إذا ضرب به انهزم جيش العدوّ، وعمل طلسم إذا كان مع الملك وأحضر إلى مجلسه السّم حصل للملك أعراض، يعلم ذلك منها، وأشباه هذا من الأعمال، فأحضر بين يدى نائب السلطنة وحضر المجلس الشيخ صدر الدين ابن الوكيل [5] والشيخ كمال الدين بن الزملكانى [6] خاصّة، وطولب بإقامة البرهان على صّحة دعواه، فلم يأت بما يدل على ذلك، فاعتذر عنه عند

_ [1] سماه المقريزى فى السلوك 2/1: 7 «أياى» ويذكر القلقشندى فى صبح الأعشى 5: 276 «أن ملك النوبة فى أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون رجل اسمه أمى. وقد توفى سنة 716 هـ. [2] البقط: هو ما يقبض من سبى النوبة فى كل عام، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم. وقد تقرر هذا البقط على النوبة فى عهد إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبى السرح بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين- وقيل سنة إحدى وعشرين من الهجرة. وكان البقط فى عهد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى سنة 674 هـ فى كل سنة ثلاثة أفيال، وثلاث زرافات، وخمسة فهود من إناثها، ومائة نجيب إصهيب وأربعمائة رأس من البقر المنتجة مع البقط القديم وهو أربعمائة رأس من الرقيق فى كل سنة وزرافة، على أن يدفع مقابل ذلك ألف إردب من القمح وثلاثمائة إردب. (خطط المقريزى 3: 352 وما بعدها ط بيروت) . [3] السنباذج: هو مادة حجرية للجلاء. واللفظ فى السلوك 2/1: 8 وهامشها بدال غير منقوطة بدل الذال. [4] وترسم «آقوش» كما فى النجوم الزاهرة 8: 105. [5] لفظ «ابن» سقط من ك. وهو صدر الدين محمد بن عمر بن مكى بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل وبابن الوكيل- توفى سنة 716 هـ (السلوك 2/1: 65، 74، 167، وشذرات الذهب 6: 40، والنجوم الزاهرة 9: 233) . [6] هو كمال الدين محمد بن علاء الدين على بن كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الزملكانى الشافعى. توفى سنة 727 هـ (البداية والنهاية 14: 131، والوافى بالوفيات 4: 214، والدرر الكامنة 4: 192، وطبقات الشافعية للسبكى 9: 190، والنجوم الزاهرة 9: 270، والسلوك 2/1: 290، وذيول العبر ص 154 وشذرات الذهب 6: 78) .

نائب السلطنة أنّه من بيت رياسة، ورجل فقير، وأنه قليل الاجتماع بالناس، وأن هذا الذى يعرض له نوع من الوسواس، وتاب هو إلى الله تعالى مما كان يدّعيه، واستمر مدّة ثم عاد إلى ما كان عليه من الدعوى فعقد له مجلس فى ثالث شهر رمضان سنة سبع وسبعمائة بدمشق أيضا [25] بحضور نائب السلطنة المشار إليه وقضاة القضاة والعلماء، وحصل البحث فى أمره فأفتى بعض العلماء بقتله، وأفتى بعضهم باستتابته وتعذيره، فجدّد عليه مكتوب بالتوبة عن الكلام فى المغيّبات، واعتنى به الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب كما أخبرنى فأقامه من المجلس وقال: هذا رجل مجنون وأرسله إلى البيمارستان [1] النورى، فأقام به مدة ثم خرج منه، ثم عاد إلى ما كان عليه، وهذا المذكور مستمر على دعواه لا يرجع عنها إلى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وهو بالقاهرة لا يزال يذكر هذا القول ويلهج به ويدّعيه وحضر إلىّ مرارّا ونهيته عنه فلم ينته ولا يرجع، ويقول: إنه حكيم الزمان، وإنه يخاطب بما صورته بيأيها الحكيم، ويذكر السلطان الملك الناصر ويقول: إنّه أرسل إليه، وإنه إذا اجتمع به له من الأوفاق والطلمسات أشياء كثيرة ذكرها لي يطول شرحها، وهو يتردّد إلى قاضى القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعى، ويعرض عليه أقواله، ويسأله الحديث له مع السلطان، فيصرفه عن ذلك، ويصرف له من الصدقات الحكمية ما يرتفق به. ولما تكرر هذا القول منه وشاع وذاع عنه اتّصل بالأمير سيف الدين ألجاى الدوادار الناصرى فى سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وأحضره وطالبه بإقامة البرهان على صحة ما يدّعيه فذكر أن الذى يذكره إنما يظهر ويفيد بين يدي السلطان، فقال له: انا أجمع بينك وبين السلطان، فقال نجم الدين: إنما أمرت أن يتحدّث لى مع السلطان قضاة القضاة، ولم أومر بك، فقال، أنا أدع القضاة، يتكلّمون مع السلطان فى أمرك، وحصره وضايقه بكل طريق وأقام

_ [1] البيمارستان النورى: بدمشق وينسب إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آقسنقر. أنشأه ضمن ما أنشأ من مدارس ودور العدل والخوانق والبيمارستانات والخانات سنة 563 هـ وبناه بمال افتدى به ملك الفرنج نفسه من الأسر ابن الأثير: التاريخ الباهرى الدولة الأتابكية، ص 170- 171 والنويرى: نهاية الأرب ج 27، ص 167، أبو شامة: كتاب الروضتين ج 1 ق 1 ص 21.

عنده بمنزله بالقلعة أياما ثم عرض عليه التوبة والرجوع عن هذه الأقوال فتاب ورجع عنها بحضوره، وأخذ منه كتابا كان يدّعى أنّه جميعه ممّا خوطب وأطلقه ثم اجتمع بى بعد ذلك فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة وهو باق على دعواه مصّر على مقالته- عافاه الله تعالى- وهذا الرجل كان قبل هذه الدعوى ينوب عن القضاة بالشام، وناب عن القاضى بدر الدين بن جماعة فى بعض الأعمال، فلما غلب عليه هذا الحال ترك الولايات الحكمية وأخذ فى هذا النوع. وفى هذه السنة رسم للأمير ركن الدين بيبرس العلائى أحد الأمراء بالشام أن يكون حاجيا بدمشق رفيقا للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى، فامتنع من ذلك، وسأل الإعفاء، ثم أجاب ولبس التشريف السلطانى ووقف فى الخدمة وآستمر فى الحجبة هو والأمير سيف الدين بكتمر وذلك فى منتصف جمادى الآخرة، وكانا حاجبين كبيرين. وفيها فى يوم الإثنين سادس عشرين شهر رجب توجه الشيخ تقى الدين ابن تيمية وجماعة إلى مسجد التاريخ [1] ظاهر دمشق، وأحضر جماعة من الحجّارين وقطع صخرة هناك كان الناس يزورونها وينذرون لها، وكان للناس فيها أقاويل، فأزالها. وفى يوم الثلاثاء خامس عشرين شهر رمضان ضرب عنق الكمال الأحدب رئيس قلعة جديا من غوطة دمشق، وسبب ذلك أنه حضر إلى قاضى القضاة جمال الدين المالكى مستفتيا [2] وهو لا [3] يعلم أنه قاضى القضاة فاستفتاه فى رجل خاصم رجلا فقال أحدهما للآخر: تكذب ولو كنت رسول الله فسأله القاضى، من قال هذا؟ قال: أنا. فأشهد عليه من حضر مجلسه وذلك فى يوم الإثنين رابع عشرين الشهر، وحكم فى يوم الثلاثاء بإراقة دمه فى دار العدل، فضربت عنقه بسوق الخيل، ثم غسّل وكفّن وصلّى عليه ودفن.

_ [1] مسجد التاريخ، ويسمى مسجد الحجر؛ بحيث يوجد به حجر قيل عليه أثر قدم النبى صلى الله عليه وسلم. ويقع بظاهر دمشق قبلى مسجد المصلى، وفيه بئر وساقية، وله منارة (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 361) . [2] فى ك «مستغيثا» والمثبت من ص، وف. [3] «لا» ساقطة من ك.

وفيها فى يوم الجمعة سادس عشرين من شوال حكم قاضى القضاة جمال الدين المالكى بدمشق بإراقة دم أبى السرور السامرى كاتب الأمير سيف الدين أسندمر كرجى نائب السلطنة بالفتوحات، وأن ماله فيئ للمسلمين، وأشهد على نفسه بذلك بعد أن شهد عنده على المذكور بما يقتضى الحكم عليه بذلك من العظائم، وكان هذا الكاتب المذكور قد تمكّن من الأمير سيف الدين أسندمر بطرابلس تمكنا عظيما، فكان يركب معه فى الموكب الخيل المسوّمة [26] بالسروج المذهبة، والكتابيش [1] الحرير، ويسايره فى المواكب، وإذا قرب من دار السلطنة وترجّل الأمراء فى الخدمة تقدّم هو بفرسه والأمراء وغيرهم مشاة، وهو مستمر الركوب إلى باب دار السلطنة، وقصد الأمير سيف الدين بالوج [2] الحسامى أحد [3] الأمراء بطرابلس قتله ورتّب له من يقتله، فضربه بالسيف بعد المغرب فوقعت عمامته، فظن الضارب أنه ضرب عنقه، وجرى فذلك أمور يطول شرحها أوجبت اعتقال بالوج. ولما اتّصل خبره بالأبواب السلطانية رسم بطلبه فأخفاه مخدومه وادّعى هربه، وخشى أنه إن أرسله تكلّم عليه بما يؤذيه، فاقتضى رأيه أنه جهّزه إلى دمشق مختفيا صحبه عزّ الدين أيدمر أحد مماليكه، وأمره أنه إذا قرب من دمشق يقتله ليلا، ففعل ذلك ووجد مقتولا، وعرف بأثر كان فى جسده. وفيها فى يوم الخميس ثانى ذى القعدة بعد العصر حكم قاضى القضاة جمال الدين المالكى أيضا بإراقة دم شمس الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الباجريقى [4] وعدم قبول توبته، وكان قد شهد عليه بأمور توجب ذلك، وكان الذين شهدوا عليه الشيخ مجد الدين التونسى، وعماد الدين محمد

_ [1] كتابيش- جمع كتبوش- وهو البرذعة تجعل تحت السرج (محيط المحيط) ويقال هو الغاشية المطرزة توضع فوق البرذعة (هامش الدكتور زيادة على السلوك 1: 452) . [2] فى ك، ص فى هذا الموضع «فالوج» وفى مواضع أخرى «وهو ما أقره السلوك 2/1: 423. [3] هذا اللفظ ساقط من ك. [4] الضبط بالشكل عن السلوك 2/1: 4. والباجريقى نسبة إلى باجريق بالعراق الأعلى بين البلقاء ونصيبين. وله ترجمة فى الدرر الكامنة 4: 12 وقد توفى سنة 724 هـ وأنظر شذرات الذهب 6: 64.

وفى هذه السنة توفى السيد الشريف

ابن القاضى شرف الدين بن مزهر، والشيخ أبو بكر ابن شرف الصالحى، وجلال الدين ابن البخارى خطيب [1] الزنجيلية ومحيى الدين محمد الرفاعى، وإبراهيم ابن إسماعيل اللبنانى [2] فهرب المذكور خوفا من القتل، فلما كان فى السابع عشر من رمضان سنة ست وسبعمائة نهضت بينه عند القاضى تقي الدين سليمان الحنبلى أن بين شمس الدين المذكور وبين من شهد عليه عداوة توجب إسقاط شهادتهم فى حقه، وشهد بذلك الشيخ ناصر الدين ابن عبد السلام، والشريفان زين الدين ابن عدلان، وأخوه وقطب الدين بن شيخ السلامية، وشهاب الدين الرومى، وشرف الدين قيران الشمس وغيرهم، قريبا من عشرين شاهدا، فحكم القاضى تقي الدين عند ذلك بحقن دمه وإبطال ما حكم به فى حقه، ونفّذ حكمه القاضى شمس الدين الأذرعى الحنفى، فأنكر المالكي ذلك وأشهد على نفسه أنّه باق على حكمه بإراقة دمه، ولم يظهر ابن الباجريقىّ بسبب هذا الاختلاف. وفى هذه السنة توفى السيد الشريف عز الدين جمّاز [3] بن شيحة أمير المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان، قد أضر فى آخر عمره، وأقام بإمرة المدينة بعده ولده الأمير ناصر الدين منصور وتوفى الصاحب أمين الدين أحمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف جدّه بابن حنّا، وكانت وفاته فى ليلة الخميس ثامن صفر، وكان فقيها شافعيا ديّنا خيّرا كثير البر والصّدقة والمعروف والإيتار مع تخلّيه عن المناصب، ودفن فى قبر كان قد حفره لنفسه بقرب الشيخ ابن أبى حمزة- رحمهما الله تعالى [4] وتوفّى بدمشق فى يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادى الآخرة الأمير ركن الدين بيبرس الموفقى المنصورى [5] ، أحد الأمراء مقدمى الألوف بدمشق، وظهر بعد وفاته أنّ مماليكه خنقوه وهو سكران، ولم يخلف وارثا غير من يرثه

_ [1] الزنجيلية: إحدى مدارس الحنفية- ويقال الزنجارية- وتقع خارج باب توما بدمشق وباب السعادة تجاه دار الأصعمة، وتنسب إلى الأمير عز الدين أبى عمرو عثمان بن الزنجبيلى صاحب اليمن بناها سنة 626 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 526) . [2] فى ك «اللبانى» والمثبت من ص، وف. [3] فى الأصول «حماد» والمثبت من العقد الثمين 3: 436، والتحفة اللطيفة فى تاريخ المدينة الشريفة للسخاوى 1: 423، والنجوم الزاهرة 8: 58، والدليل الشافى 1: 250. [4] انظر النجوم الزاهرة 8: 215، وفيه «زين الدين» . [5] انظر الدرر الكامنة 2: 43، والنجوم الزاهرة 8: 216، والدليل الشافى 1: 205.

بالولاية، فادعى أولاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر أنّه مملوك أبيهم باق على رقّه وأن عتق السلطان الملك المنصور له لم يصادف محلّا، فطولبوا بالإثبات فعجزوا عنه، وشهد الأمير شجاع الدين نقيب العساكر بدمشق أن ركن الدين المذكور كان مملوك الموفق نائب الرّحبة وأنّه جهزّه فى جملة تقدمة إلى السلطان الملك المنصور فى ابتداء سلطنته، فوصل إلى دمشق وقد استولى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر عليها فوضع يده على التقدمة وأخذ بيبرس هذا فى جملة ما أخذ، فلما أخرج الأمير شمس الدين من دمشق استعيد بيبرس هذا، وأحضر إلى السلطان، وقال الموفق إنه إنما سيّره السلطان الملك المنصور فورثه السلطان الملك الناصر بالولاء الشرعى، ودفع أولاد سنقر الأشقر عن ميراثه. وتوفى الأمير شمس الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبى سعد [1] الآمدى المعروف بابن التيتى فى أحد الجمادين وكان رجلا فاضلا سمع الحديث وأسمعه، وولى نيابة [27] دار العدل مدة فى الدولة المنصورية الحسامية، وفيها قتل الأمير سيف الدين بهادر شمس المنصورى [2] أحد الأمراء بدمشق، وكان قد توجه فى خدمة نائب السلطنة إلى الصيد بالمرج فكبسهم طائفة من عرب غزنة، ولم يعلموا أن نائب السلطنة بالعسكر، فركب بهادر سمز هذا وحمل، على العرب وجعل يرميهم بالنّشّاب ويقول أنا بهادر دمشق، فرماه بعض العرب بحربة وقال: خذها وأنا عصفور بن عصفور فقتله، وحمل إلى تربة قبر ابن الست [3] فدفن هناك، وقتل أكثر العرب، ولم ينج منهم الّا من أسرع به فرسه، ولما مات ورثه أخوه بهادر الجمالى مملوك نائب السلطنة أثبت أخوّته، ولم يحصل له من ميراثه إلّا نحو عشرين ألف درهم، فإنه ظهر عليه من الديون ما يقارب ثلاثمائة ألف درهم، فبيع موجوده ووفّيت ديونه وتسلم أخوه ما بقى.

_ [1] كذا فى الأصول. وفى النجوم الزاهرة 8: 217 «أبى سعيد» كذلك فى السلوك 2: 13. وفى شذرات الذهب 6: 11 «أبى سعد» . [2] هو الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المنصورى، المعروف بسمز؛ أى السمين (الدرر الكامنة 2: 31، والبداية والنهاية 14: 34، والدليل الشافى 1: 201، والنجوم الزاهرة 8: 217) . [3] فى ص، وفى ف «قبر الست» ، ولعلها ست الشام صاحبة المدرسة الشالية البرانية (خطط الشام 6: 281) .

واستهلت سنة خمس وسبعمائة

واستهلت سنة خمس وسبعمائة فى هذه السنة عاد علاء الدين أيدغدى رسول المرينى ملك المغرب والحجاز [1] الشريف، وكتب جوابه وجهّز إلى مرسله، وأرسل معه الأمير علاء الدين أيدغدى التليلى والأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمىّ، وجهز معهما إلى الملك ما يليق به من الهدايا النّفيسة، وجهّز له خمسة عشر مملوكا من التتار الذين أسروا فى وقعة مرج الصّفّر وخمسة مماليك أتراكا وفيها وصل رسول الملك المؤيد هزبر الدين داود [2] وصاحب اليمن ومعه الهدايا والتقادم من البهار والقتا والأقمشة والتحف، وغير ذلك، فعرضت هديّته وقوبلت بما جرت العادة به من هديتهم فكانت أقلّ منها، فصدرت إليه الأمثلة السلطانية بالإنكار والتهديد والإغلاظ له فى القول [3] وأرسلت فعاد الرسول بغير جواب فأوجب ذلك ما نذكره من الاهتمام بقصد اليمن وإرسال الرسل والله أعلم. ذكر الإغارة على بلاد سيس [4] وأسر الأمراء وفى هذه السنة فى شهر المحرم أغارت العساكر الحلبية على بلاد سيس وكان الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى قد جرّد طائفة من العسكر الحلبى فى ذى الحجة سنة أربع وسبعمائة، وقدم عليهم مملوكه الأمير سيف الدين قشتمر، وكان ولد قطلوشاه بأطراف الروم فى ثلاثة آلاف فارس فأرسل إليهم صاحب سيس، وبذل لهم مالا جزيلا يقال إنه بذل لكل واحد سبعمائة درهم وكان عنده جمع من الفرنج فاجتمعوا هم والتتار فى ستة آلاف فارس، فلما كان فى مستهلّ هذه السنة بلغ العسكر الحلبى اجتماعهم، فذكر الأمراء ذلك لمقدمهم الأمير سيف الدين قشتمر وأشاروا عليه أنهم يرحلون بالغنائم قبل أن يلحقهم

_ [1] هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المرينى. وانظر وفاته فى هذه السنة. وانظر فى النجوم الزاهرة 8: 215. [2] هو الملك هزبر الدين داود بن يوسف بن عمر بن رسول التركمانى فى الأصل، ولى اليمن بعد أخيه الملك الأشرف فى المحرم سنة 696 هـ وتوفى سنة 721 هـ (فوات الوفيات 1: 428، والدرر الكامنة 2: 190، والدليل الشافى 1: 297، وشذرات الذهب 6: 55. [3] وقد جاء فى النجوم الزاهرة 8: 217 «أن هذه الهدية قوبلت بالإنكار الشديد» . [4] سيس: عاصمة أرمينية الصغرى، وموقعها بين أنطاكية وطربوس، وتقع فى جنوب تركيا الآسيوية (معجم البلدان 3: 217، والمنجد فى الأعلام 377) .

العدو، فلم يرجع إلى رأيهم وقال: أنا بمفردى [1] ألتقى [2] هذا الجمع فراجعوه فلم يرجع، ففارقه بعض الأمراء فى نحو ربع [3] العسكر، وساق تلك الليلة جميعها ونجا بمن معه، وبقى بقية العسكر فجاءهم التتار ومن انضم إليهم من الأرمن، فانهزم من بقى من العسكر الحلبى من غير قتال، فأسر التتار منهم وقتلوا، وأسروا من الأمراء بحلب فتح الدين صبّرة المهمندار، وشمس الدين آقسنقر الفارسى، وسيف الدين قشتمر النّجيبى، وسيف الدين قشتمر المظفرىّ فى جماعة من العسكر وأرسلوا إلى الأردو [4] وسلم الأمير سيف الدين قشتمر الشّمسىّ مقدم الجيش فى جماعة، ووصلوا إلى حلب. ولما وقع ذلك ندم صاحب سيس وخشى غائلة العساكر، وكتب إلى الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة بحلب يبذل له الطاعة والأموال، ويسأل الصفح عن ذنبه، وأنه يقوم بالقطيعة المقررة عليه، فطالع قراسنقر الأبواب السلطانية فى ذلك فأجيب سؤاله [28] . وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل ملك الكرج [5] وكان وصولهم من جهة القسطنطينيّة، وجهزهم الأشكرى صحبة رسله، فوصلوا إلى الأبواب السلطانية، وكان مضمون رسالتهم سؤال السلطان أن تعاد عليهم كنيسة معروفة بهم بالقدس تسمى المصالبة [6] كانت قد أخذت منهم فأعيدت إليهم وفيها وصل إلى الأبواب السلطانية من بلاد التتار سيف الدين حنا وفخر الدين داود إخوة، الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة الشريفة، ووصلت والدته أيضا معهما فأنعم السلطان عليهما وأمرهما طبلخانات.

_ [1] فى ص «بمنفردى» . [2] كذا فى الأصول، والمعنى ألتقى هذا الجمع بمفردى. [3] يقول ابن أيبك الروادارى فى كنز الدرر 9: 132 «أن الذى فارقه هو ابن حاجا فى أكثر من ثلث العسكر» . [4] الأردو: لفظ مغولى معناه المعسكر. وقد استعمل فى المراجع العربية والفارسية للدلالة على معسكر رئيس المغول (ابن أبى الفضائل- النهج السديد 116، 117، 240، 273) . [5] الكرج: جيل من الناس يدينون بالنصرانية، كانوا يسكنون فى جبال القيق، وبلد السرير، تقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب إليهم، وهى جورجيا من جمهوريات الاتحاد السوفييتى حاليا (النجوم الزاهرة 7: 163، والمنجد فى الأعلام 424) . [6] كذا فى ك وف. وفى ص. والسلوك 2/1: 17 «المصلبة» .

ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان [1] وإبادة من بها وتمهيدها

ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان [1] وإبادة من بها وتمهيدها كان أهل جبال الكسروان قد كثروا وطغوا واشتدت شوكتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر الناصرى [2] عند انهزامه فى سنة تسع وتسعين وستمائة، وتراخى الأمر وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طغيانهم وأظهروا الخروج من الطاعة، واغترّوا بجبالهم المنيعة، وجموعهم الكثيرة، وأنه لا يمكن الوصول إليهم، فجهّز إليهم الشريف زين الدين بن عدنان، ثم توجّه بعده فى ذى الحجة سنة أربع وسبعمائة الشيخ تقى الدين ابن تيمية، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، وتحدثا معهم فى الرجوع إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهة ومملكة من الممالك الشامية، وتوجّه نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من دمشق بسائر الجيوش فى يوم الإثنين ثانى المحرم وجمع جمعا كثيرا من الرجال فيقال إنه اجتمع من الرجالة نحو خمسين ألفا وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين [3] والجرديين وتوجه الأمير سيف الدين أسندمر بعسكر الفتوحات من الجهة التى تلى بلاد طرابلس، وكان قد نسب إلى مباطنتهم، فكتب إليه فى ذلك، فجرّد العزم وأراد أن يفعل فى هذا الأمر ما يمحو عنه أثر هذه الشناعة التى وقعت وطلع إلى جبل الكسروان [4] من أصعب مسالكه واجتمعت عليهم العساكر فقتل منهم خلق كثير، وتبدد شملهم وتمزقوا فى البلاد، واستخدم الأمير سيف الدين أسندمر جماعة منهم بطرابلس بجامكية وجراية من الأموال الديوانية، وسمّاهم رجال الكسروان [4] وأقاموا على ذلك سنين وأقطع بعضهم أخبارا من حلقة طرابلس، وتفرق بقيتهم فى البلاد واضمحل أمرهم وخمل ذكرهم، وعاد نائب السلطنة إلى

_ [1] فى ك «الكيروان» والتصويب من ص والسلوك 2/1: 15، وهى جبال تتصل بسلسلة جبال لبنان ويسكنها الدروز (السلوك 1/2: 902 حاشية للدكتور زيادة) . [2] فى الأصول «المنصورى» والصواب ما أثبته لأن هذا العسكر هو عسكر الناصر محمد بن قلاوون فى سلطنته الأولى. [3] فى ك «الكيروانيين» والتصويب من ص والسلوك 2/1: 15. [4] فى ك «الكيروان» .

دمشق فى رابع عشر صفر من السنة وأقطع جبال الكسروانيين والجرديين لجماعة من الأمراء التركمان وغيرهم منهم: الأمير علاء الدين بن معبد البعلبكى وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر الحسامى، وأعطوا الطبلخانات وتوجّهوا لعمارة إقطاعهم وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت. وفى هذه السنة فى شهر ربيع الأول نقل الأمير. سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب من الحجبة بدمشق إلى شد الدواوين وأستاذ الدارية بالشام فامتنع من ذلك ثم الزم فاشترط شروطا فطولع بها فأجيب إليها وباشر الوظيفة، وأوقعت الحوطة على الأمير شرف الدين قيران المشد وفيها أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى وأنعم عليه بإمرة بدمشق، وتوجه إليها وكان فى الاعتقال من الأيام المنصورية الحسامية والله أعلم [29] . وفى هذه السنة كانت بدمشق فتنة بين جماعة من الفقراء الأحمدية والشيخ تقى الدين بن تيمية وذلك أنهم اجتمعوا فى يوم السبت تاسع جمادى الأولى عند نائب السلطنة وحضر الشيخ تقى الدين فطلبوا منه أن يسلم إليهم حالهم وأن تقى الدين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم وأرادوا أن يظهروا شيئا مما يفعلونه فقال لهم الشيخ: إن اتّباع الشريعة لا يسع الخروج عنه، ولا يقرّ أحد على خلافه، وهذه البدع التى تفعلونها من دخول النار وإخراج الزبد من الحلق لها [1] حيل ذكرها وقال: من أراد منكم دخول النار فليغسل جسده فى الحمام ثم يدلكه بالخل ثم يدخل بعد ذلك فإن قدر على الدخول دخلت معه ولو دخل بعد ذلك لم يرجع إليه بل هو فعل من أفعال الدجال فانكسرت حدّتهم وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من أعناقهم، وعلى أن من خرج منهم عن الكتاب والسنة قوبل بما يستحقه وضبط المجلس المذكور وما وقع فيه وما التزم الفقراء الأحمدية الرفاعية به [2] ، وصنف الشبخ جزءا يتعلق بهذه الطائفة وأفعالهم.

_ [1] فى ك «من الحلو» والمثبت من ص، وف. [2] سقط هذا اللفظ من ك.

ذكر حادثة الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية

ذكر حادثة الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية وما اتفق لطائفة الحنابلة، واعتقال تقى الدين وما كان من خبره إلى أن أفرج عنه أخيرا كانت هذه الحادثة التى نذكرها فى سنة خمس وسبعمائة وانتهت فى أواخر سنة تسع وسبعمائة وكان لوقوعها أسباب وموجبات ووقائع اتفقت بالقاهرة ودمشق وقد رأينا أن نذكر هذه الواقعة ونشرح أسبابها من ابتداء وقوعها إلى انتهائها ولا نقطعها بغيرها وإن خرجت سنة ودخلت أخرى السبب المحرك لهذه الواقعة الموجب لطلب الشيخ تقى الدين المذكور إلى الديار المصرية فقد أطلعت عليه من ابتدائه وهو أن بعض الطلبة واسمه عبد الرحمن العينوسى [1] سكن بالمدرسة الناصرية التى تقدم ذكرها بالقاهرة وكنت بها وبها قاضى القضاة زين الدين المالكى وغيره، فاتفق اجتماعى أنا والقاضى شمس الدين محمد بن عدلان الكنانى القرشى الشافعى بمنزلى بالمدرسة المذكورية فى بعض الليالى وهو أيضا ساكن بالمدرسة ومعيد بها فحضر عبد الرحمن المذكور إلينا ومعه فتيا وقد أجاب الشيخ تقى الدين عنها فأخرجها من يده وشرع يذكر الشيخ تقى الدين وبسط عبارته وعلمه وقال هذه من جملة فتاويه ولم يرد فيما ظهر أذاه وإنما قصد والله أعلم نشر فضيلته فتناولها القاضى شمس الدين ابن عدلان منه وقرأها فإذا مضمونها. بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضى الله عنهم أجمعين أن يبينوا ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلما بأوضح عبارة وأبينها من أن ما فى المصاحف هو كلام الله القديم أم هو [2] عبارة عنه لا نفسه وأنه هو حادث أو قديم وأن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [3] هو استواء حقيقة أم لا؟ وأن كلام الله عز وجل بحرف وصوت أم كلامه صفة قائمة لا تفارق وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول [4] شيئا منه ويقول أو من به كما أنزل هل يكفيه ذلك فى الاعتقاد أم يجب عليه التأويل وأن السائل رجل متحير لا يعرف شيئا وسؤاله بجواب ليّن ليقلد قائله افتونا مأجورين رحمكم الله.

_ [1] وفى ص «العنوسى» . [2] سقط هذا اللفظ من ك. [3] سورة طه آية 5. [4] فى ك «يتناول» والمثبت من ص، وف.

فأجاب الشيخ تقى الدين ما صورته: الحمد لله رب العالمين الذى يجب على الإنسان اعتقاده فى ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم وهو أن القرآن الذى أنزله الله على محمد عبده ورسوله كلام الله وأنه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه قرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وأنه قرآن مجيد [30] فى لوح محفوظ وأنه فى أم الكتاب لدى الله تعالى حفيظ وأنه فى الصدور كما قال النبى- صلى الله عليه وسلم- «استذكروا القرآن فهو أشد تفلتا من صدور الرجال من النعم من عقلها» وقال: «الجوف الذى ليس فيه شئ من القرآن كالبيت الخرب» أن ما [1] بين لوحى المصحف الذى كتبه الصحابة كلام الله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» فهذه الجملة [2] تكفى المسلم فى هذا الباب وما تفصيل ما وقع فى ذلك من النزاع فكثير منه [3] يكون كلام [4] الاطلاقين خطأ ويكون الحق فى التفصيل ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حق صاحبه وهذا من التفرق والاختلاف الذى ذمه الله ونهى عنه: فقال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [5] قال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [6] وقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [7] وقال: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [8] فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه الراشدين والسابقين [9] من الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فإن مواقع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن

_ [1] فى ك «انما» . [2] فى ك «الحكمة» والمنبت من ص، وف. [3] ما بين القوسين ساقط من ك. [4] فى ك «كلام» والمثبت من ص، وف. [5] سورة البقرة آية 176. [6] سورة آل عمران آية 105. [7] سورة آل عمران آية 103. [8] سورة البقرة آية 213. [9] عبارة ص «السابقين الراشدين» .

اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول من جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذى اتفق عليه العقل [1] والسمع وبيان ما يدخل فى هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط فى مواضع متعددة ولكن نذكر هنا جملة مختصرة بحسب حال السائل، والواجب أمر العامة بالحمل على الثابت [2] بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض فى التفصيل الذى يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله، والتفصيل المختصر [3] فنقول: من اعتقد أن المداد الذى فى المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهذا ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين وسائر علماء المسلمين ولم يقل أحد قط [4] من علماء المسلمين إن ذلك [5] قديم لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم [6] ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد ونحوهم فهو مخطئ فى هذا النقل أو متعمد الكذب بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أئمة أصحابه تبديع [7] من قال لفظى بالقرآن غير مخلوق كما جهموا من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروزى أخص أصحاب الإمام أحمد به فى ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال فى كتاب السنة الذى جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من السنة فى أبواب الاعتقاد وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظى بالقرآن غير مخلوق فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارا شديدا وبدع من قال ذلك وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك فكيف من يزعم أن صوت العبد قديم وأقبح من ذلك من يحكى عن بعض العلماء أنّ المداد الذى فى المصحف قديم، وجميع أئمّه أصحاب الإمام أحمد وغيره أنكروا ذلك، وما علمت أنّ عالما نقل ذلك إلّا

_ [1] فى ك «بالقول» والمثبت من ص، ف. [2] كذا عبارة ص، وف «بالجمل الثابتة» . [3] فى ص «المختص» والمثبت من ص، وف. [4] وفى ص «ولم يقل قط أحد» . [5] فى ك «فى» والمثبت من ص، وف. [6] كذا فى ك، وف. وفى ص «أصحاب الإمام أحمد ونحوهم» . [7] أى نسبتهم إلى البدعة.

ما بلغنا عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم وقد ميزّ الله- تعالى- فى كتابه بين الكلام والمداد، فقال: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [1] فهذا خطأ من هذا الجانب، وكذلك من زعم أنّ القرآن محفوظ فى الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه متلو بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب فى المصحف، كما أنّ الله مكتوب فى المصحف، وجعل ثبوت القرآن فى الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات [2] الله فى هذه المواضع، فهذا أيضا مخطئ فى ذلك، فإنّ الفرق بين ثبوت الأعيان فى المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بيّن واضح، فإن الأعيان لها أربع مراتب: مرتبه فى الأعيان، ومرتبه [31] فى الأذهان، ومرتبة فى اللسان، ومرتبة فى البيان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ، فإذا قيل: إن العين فى الكتاب كما فى قوله: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [3] فقد علم أن الذى فى الزبر إنما هو الخط المطابق للفظ المطابق للعلم فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهى اللفظ والخط وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة غيرهما بل نفس الكلام يجعل فى الكتاب، وإن كان بين [4] الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من [5] غير وجه آخر الا إذا أريد أن الذى فى المصحف هو ذكره والخبر عنه، مثل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [6] إلى قوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [7] فالذى فى زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد. إن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ولكن فى زبر الأولين صح ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد وخبره، كما أن أفعال العباد فى الزبر كما قال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [8] فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء

_ [1] سورة الكهف آية 109. [2] فى ك «كتاب» والمثبت من ص، وف. [3] سورة القمر آية 52. [4] فى ك، وفى «من» والمثبت من ص. [5] فى ك «عن» والمثبت من ص، وف. [6] سورة الشعراء، الآيات 191- 192. [7] سورة الشعراء 196- 197. [8] سورة القمر آية 52.

فى الزبر وبين كون الكلام نفسه فى الزبر، كما قال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [1] وقال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [2] فمن قال: إنّ المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال: ليس فى المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذى هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن فى المصحف، كما أنّ سائر الكلام فى الأوراق كما عليه الأمة مجتمعة، وكما هو فى نظر المسلمين، فإنّ كلّ مرتبة لها [3] حكم يخصها، وليس وجود الكلام من الكتاب لوجود الصفة بالموصوف، مثل العلم والحياة بمحلها حتى يقال: إنّ صفة الله حلت بغيره أو فارقته، ولا وجوده فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على البارى تعالى، حتى يقال: ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله، بل هو قسم آخر ومن لم يعط كل مرتبة فيما يستعمل فيها أداء الطرق حقها فيفرق بين وجود الجسم فى الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، والصورة بالمرآة ويفرق بين رؤية الشئ بالعين يقظة ورؤيته بالقلب يقظة ومناما، ونحو ذلك، وإلا اضطرب عليه الأمر [4] ولذلك سؤال السائل عما فى المصحف، هل هم حادث أو قديم، سؤال مجمل. فإنّ لفظ القديم أولا مأثور عن السلف [ليس] [5] وأما الذى اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلى وحيث كتب وهو قرآن واحد وكلام وإن تنوعت الصور التى يتلى بها، وتكتب من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام كلام من قاله مبتدءا، لا كلام من بلغه مؤديا، فإذا سمعنا محدثا يحدث بقول النبى- صلى الله عليه وسلم- «إنما الأعمال بالنيات» قلنا هذا كلام رسول الله لفظه ومعانيه، مع أن علمنا أن الصوت صوت المبلغ لا صوت رسول الله وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر ونحن إذا قلنا هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ من قرأه فى المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع

_ [1] سورة الواقعة الآيتان 77، 78. [2] سورة البينة الآيتان 2، 3. [3] فى ك «بها» والمثبت من ص، وف. [4] فى ص «الأمور» . [5] ما بين الحاصرتين ساقط فى الأصول، وبه يستقيم السياق. والمعنى.

النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومداد الكاتب، فمن قال: صوت القارئ ومداد [1] الكاتب كلام الله الذى ليس بمخلوق فقد أخطأ، وهذا الفرق الذى بينه الإمام [أحمد] [2] لمن سأله وقد قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [3] فقال: هذا كلام الله غير مخلوق؟ فقال نعم فنقل السائل عنه أنه قال: لفظى بالقرآن غير مخلوق قد عابه أحمد وزبره زبرا [4] شديدا وطلب عقوبته وتعذيره [5] وقال: أنا قلت لك لفظى بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا ولكن قلت لى لما قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: فلم تنقل عنى ما لم أقله بين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما يسمعه من المبلغين والمؤذنين هذا كلام الله، فالإشارة إلى الحقيقة التى تكلم بها الله وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته فإذا أشار إلى شئ من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله وقال هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ، فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، والقرآن فى المصاحف كما أن سائر الكلام فى المصحف ولا يقال إن شيئا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومداد فى العالم فهو مخلوق، ويقال أيضا: القرآن الذى فى المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذى يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق. وتبيين هذا الجواب عن المسألة الثانية [32] وهو قوله: أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا فإن [6] إطلاق الجواب فى هذه المسألة نفيا وإثباتا خطأ، وهى من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة لما قال قوم من متكلمة الصفاتية: إنّ كلام الله الذى أنزله على أنبيائه كالتوراة، والإنجيل والقرآن، والذى لم ينزله، والكلمات التى [7] كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره، ونهيه وخبره ليس إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرية [8] كانت

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «المتكلم» . [2] هكذا اللفظ ساقط فى ك. [3] سورة الإخلاص آية 1. [4] زبره بمعنى عزره (محيط المحيط) . [5] فى ك «تقريره» والمثبت من ص. [6] فى ك «فشأن» والمثبت من ص، وف. [7] فى ك «الذى» والمثبت من ص، وف. [8] فى ك «بالعربية» والمثبت من ص، وف.

التوراة، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وأن الأمر [1] ، والنهى والخبر صفات لها لا أقسام لها وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله تعالى ولم يتكلم بها وليست كلامه؛ إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم، والصواب الذى عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخارى صاحب الصحيح فى كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله تعالى: حروفه ومعانيه ليس شيئا من ذلك كلاما لغيره ولكن أنزله على رسله وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعانى فقط بل مجموعهما كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك هو أصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره فإن الله ليس كمثله شئ لا فى ذاته ولا فى صفاته، ولا فى أفعاله، وكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد فى أسمائه وآياته، ومن حجد ما وصف به نفسه فقد ألحد فى أسمائه وآياته وقد بينت فى الجواب المبسوط مراتب مذاهب أهل الأرض فى ذلك وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا فى نفس الأنبياء تفيض عليهم المعانى من العقل الفعال فتصير فى نفوسهم حروفا كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث فى نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول [2] فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول لكنه كلام شريف صادر عن نفس

_ [1] فى ص «الأمور» . [2] فى ك «قوله» والمثبت من ص، وف. وانظر خبر الوليد المغيرة المخزومى فى تفسير القرآن العظيم لابن كثير، سورة المدثر من أولها إلى قوله تعالى إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، ج 4: 469- 472.

صافية، وهؤلاء هم الصابئة [1] فنفرت منهم الجهمية [2] فقالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه من الهواء أو غيره فأخذ بعض ذلك قوم من متكلمة الصفات [3] فقالوا: بل نصفه، وهو المعنى [4] كلام الله ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال: إنه قديم لم يزل لا متعلق المشيئة؟ أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء على قولين مشهورين فى ذلك وفى السمع والبصر ونحوهما ذكرهما الحارث المحاسبى عن أهل السنة، وذكرهما أبو بكر عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة فى جنس هذا الباب وليس هذا موضع بسط ذلك الفصل. وأما سؤاله عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [5] فهو حق أخبر الله به، وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبى عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور فى سماء تظله أو أنه محصور فى شئ من مخلوقاته، أو أنه تحيط به جهة من جهات مصنوعاته فهو مخطئ ضال ومن قال إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ما هنا لك إلا العدم المحض والنفى الصرف فهو معطل جاحد

_ [1] الصابئة: قوم دينهم التعصب للروحانيات: أى الملائكة. وضد الحلفاء الذين دعوتهم الفطرة، ومؤدى مذهبهم: أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالوسطاء المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة، وقالوا إن الأنبياء أمثالنا فى النوع، وأشكالنا فى القدرة، وأناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأية مزية لهم لزم متابعتهم إلخ. (دائرة المعارف لمحمد فريد وجدى مجلد «5» مادة صبأ) . [2] الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان. قالوا: لا قدرة للعبد أصلا- لا مؤثرة ولا كاسبة- بل هو بمنزلة الجمادات. والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقى موجود سوى الله تعالى (التعريفات للشريف الجرجانى ص 55 ط مطبعة الاتحاد) . [3] متكلمة الصفات: جماعة كبيرة كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام، والجلال والإكرام إلخ. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف تثبتها سمى السلف صفاتية، والمعتزلة معطلة. (دائرة المعارف لفريد وجدى المجلد «5» . [4] فى الأصول «بمعنى» والمثبت «يقتضيه السياق. [5] سورة طه آية 5.

لرب العالمين مضاه [1] لفرعون الذى قال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [2] بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته على عرشه بأين من مخلوقاته ليس فى ذاته شئ من مخلوقاته [33] ولا فى مخلوقاته [3] شئ من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفى أن يكون الله فوق السموات فهو جهمى ضال مضل. وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين ولفظ الظاهر فى عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه علي الظاهر الذى هو فى خصائص المخلوقين حتى يشبه الله بخلقه فهذا ضلال بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شئ لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله بل قد قال ابن عباس رضى الله عنهما [4] ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء يعنى أن موعود الله فى الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن يخالف حقا بقية حقائق هذه الأمور الموجودة فى الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا تدركه العباد؛ إذ ليست حقيقته كحقيقة شئ منها وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر [الذى هو الظاهر] [5] فى عرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد فى أسماء الله تعالى ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجرى ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة فهذا مصيب فى ذلك وهو الحق وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها والله أعلم.

_ [1] هذا اللفظ ساقط من ك. [2] سورة غافر الآيتان 36، 37. [3] عبارة الأصول «ليس فى ذاته شئ من مخلوقاته شئ من ذاته» والمثبت يستقيم معه الرأى» . [4] الترضية ساقطة من ك. [5] ما بين القوسين ساقط من ك.

فلما وقف القاضى شمس الدين بن عدلان على هذه الفتيا أنكر منها مواضع وعرضها على القاضى زين الدين المالكى فقال قاضى القضاة أحتاج أن يثبت عندى أن هذا خط تقى الدين المذكور فإذا ثبت ذلك رتبت عليه مقتضاه، وانفصل المجلس فى تلك الليلة على هذا، ثم شهد جماعة عند قاضى القضاة أن الجواب المذكور بخط تقى الدين المذكور فثبت ذلك عنده وأشهد على نفسه به فى شعبان من السنة واجتمع قاضى القضاة زين الدين بالأمراء وعرفهم ما أنكره من فتياه فرسم بطلبه إلى الأبواب السلطانية وتوجه البريد بذلك فتوقف نائب السلطنة بالشام الأمير جمال الدين فى إرساله واتفق وصول الأمير سيف الدين الطنقش الجمالى أستاذ دار نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب السلطانية فى الشهر المذكور فى بعض المهمات وملك السلطان مخدومه من أملاكه بالشام أماكن أحتاج إلى إثباتها على قاضى القضاة زين الدين المالكى فاجتمع بى بسبب ذلك فدخلت على قاضى القضاة وعرفته مكانة سيف الدين المذكور ومنزلته من أرباب الدولة، ومحل مخدومه والتمست منه الإذن له فى الدخول وإكرامه إذا دخل عليه فأذن له فى الدخول فلما دخل عليه اطرحه ولم يكترت لدخوله وكلمه بكلام غليظ فكان مما قال له عند دخوله عليه: أنت أستاذ دار جمال الدين؟ قال: نعم: قال: لا بيّض الله وجهه. وحمله رسالة لمخدومه فقال: قل له عنى أنت تعرف كيف كنت، وأننى اشتريتك للسلطان الملك المنصور وكنت على حال من الضرورة فى جنديتك وإمرتك ثم خوّلك الله تعالى من نعمه وأفاض عليك منها ما أنت عليه الآن وألحقك بأكابر الملوك ونعتّ بملك الأمراء، ثم أنت تدافع عن رجل طلبته لقيام حق من حقوق الله عليه، والله لئن لم ترسله ليعجلن الله تعالى [1] هلاكك إلى غير ذلك مما قاله فى وقت خروجه فالتزم الأمير سيف الدين الطنقش أنه عند وصوله إلى دمشق لا يبيت ابن تيمية بها، ويرسله إليه، ثم لم يقنع قاضى القضاة بذلك إلى أن اجتمع بالأمراء، وجدد معهم الحديث فى أمر تقى الدين فاقتضى ذلك إرسال الأمير حسام الدين لاجين العمرى أحد الحجاب بالأبواب السلطانية إلى دمشق بمثال شريف سلطانى بطلبه فتوجه ووصل إليها فى خامس شهر رمضان.

_ [1] ما بين القوسين ساقط من ك.

هذا هو السبب الموجب لطلبه وانحمال [1] قاضى القضاة زين الدين المالكى عليه نقلته عن مشاهدة واطلاع واتفق [2] فى هذه المدة له وقائع بدمشق نحن نوردها ملخصة بمقتضى ما أورده الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم [3] الجذرى [34] فى تاريخه ليجمع بين أطراف هذه الحادثة وأسبابها بمصر والشام وهو أنه لما كان فى يوم الإثنين ثامن شهر رجب عقد مجلس بين يدى نائب السلطنة بدمشق حضره القضاة والعلماء والشيخ تقى الدين المذكور وسئل عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضر عقيدته الواسطية [4] وقرئت فى المجلس وحصل البحث فى مواضيع منها وأخرت مواضيع إلى مجلس آخر ثم اجتمعوا فى يوم الجمعة ثانى عشر الشهر وحصل البحث وسئل عن مواضيع خارجة عن العقيدة وندب للكلام معه الشيخ صفي الدين الهندى [5] ثم عدل عنه إلى الشيخ كمال الدين بن الزملكانى [6] فبحث معه من غير مسامحة فأشهد الشيخ تقى الدين على نفسه من حضر المجلس أنه شافعى المذهب يعتقد ما يعتقد الإمام الشافعى فحصل الرضى منه وعنه بهذا القول وانفصل المجلس ثم حصل بعد ذلك من بعض أصحاب الشيخ تقى الدين كلام وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا فأحضر الشيخ [7] كمال الدين القزوينى نائب قاضى القضاة نجم [8] الدين أحدهم إلى المدرسة العادلية وعزره وفعل قاضى القضاة الحنفى مثل ذلك باثنين من أصحابه فلما كان يوم الإثنين ثانى عشرين الشهر قرأ الشيخ جمال الدين المزى [9] فصلا فى الرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد من كتاب

_ [1] فى ك «وأعمال» والمثبت من ص، وف. [2] هذا اللفظ ساقط من ك. [3] وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 3: 22، والبداية والنهاية 14: 186، والسلوك للمقريزى 2/2: 471، والدرر الكامنة 3: 301، وشذرات الذهب 6: 124. وقد توفى سنة 739 هـ. [4] الواسطية رسالة لابن تيمية نشرت فى كتاب طبع عدة مرات وآخرها نشرا كانت سنة 1380 هـ (1961 م) طبع بمطبعة المدنى بالقاهرة. [5] هو صفى الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى توفى سنة 715 هـ (البداية والنهاية 14: 74، وشذرات الذهب 6: 37) . [6] هو كمال الدين محمد بن على بن عبد الواحد بن الزملكانى، توفى سنة 727 هـ (البداية والنهاية 14: 131، وشذرات الذهب 6: 78) . [7] فى ك «كمال الدين» والمثبت من ص، والسلوك للمقريزى 2/1: 14- وهو محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزوينى. توفى سنة 739 هـ (البداية والنهاية 14: 185، وشذرات الذهب 6: 123. [8] المقصود هو نجم الدين ابن صصرى أحمد بن محمد بن صصرى، توفى سنة 723 هـ. [9] هو يوسف بن عبد الرحمن المزى الشافعى، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج، توفى سنة 742 هـ والبداية والنهاية 14: 191، وشذرات الذهب 6: 136.

البخارى وكان ذلك بالجامع الأموى تحت النسر [1] فى المجلس العام المعقود لقراءة صحيح البخارى فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقال نحن قصدنا بهذا التكفير فبلغ ما قاله قاضى القضاة نجم الدين الشافعى فأحضره ورسم باعتقاله فبلغ ابن تيمية الخبر فقام حافيا وتبعه أصحابه وأخرجه من الحبس فغضب القاضى [2] وتوجه إلى نائب السلطنة واجتمع هو وتقى الدين فاشتط تقى الدين عليه وذكر نائبه جلال الدين وأنه آذى أصحابه فرسم نائب السلطان بإشهار النداء فى البلد بالكف عن العقائد والخوض فيها، ومن تكلم فى ذلك سفك دمه ونهب ماله. وأراد بذلك تسكين هذه الفتنة ثم عقد مجلس فى ثانى يوم الثلاثاء سلخ رجب بالقصر الأبلق بحضور نائب السلطنة والقضاة والفقهاء وحصل البحث فى أمر العقيدة وطال البحث فوقع من الشيخ صدر الدين كلام فى معنى الحروف فأنكره الشيخ كمال الدين بن [3] الزملكانى فأنكر صدر الدين القول، فقال كمال الدين لقاضى القضاة نجم الدين بن صصرى: ما سمعت ما قال؟ فتغافل عن إجابته لتنكسر الفتنة فقال ابن الزملكانى ما جرى على الشافعية قليل إذ [4] صرت رئيسهم يريد بذلك ابن الوكيل فيما يزعم فظن قاضى القضاة أنه أراده بكلامه فأشهد عليه أنه عزل نفسه عن القضاء وقام من المجلس فرسم نائب السلطنة بعوده فأدركه الأمير ركن الدين بيبرس العلائى الحاجب وغيره من الأمراء وأعادوه إلى المجلس، وجرى كلام كثير ثم ولاه نائب السلطنة القضاء وحكم قاضى القضاة الحنفى بصحة ولايته ونفذها المالكى فلما وصل إلى داره انقطع عن الحكم وطالع نائب السلطنة فى أمره فعاد الجواب السلطانى باستمراره فى القضاة فى ثامن عشرين شعبان. ثم وصل الأمير حسام الدين لاجين العمرى فى خامس شهر رمضان بطلب قاضى القضاة نجم الدين وتقى الدين بن تيمية وتضمن المثال السلطانى بأن [5] يطالع بما وقع من أمر تقى الدين المذكور فى سنة ثمان وتسعين وستمائة بسبب عقيدته وأن تكتب صورة العقيدتين الأولى والثانية فأراد نائب السلطنة

_ [1] المراد قبة النسر بالمسجد الأموى، وانظر فيها الدارس فى تاريخ المدارس. [2] أى نجم الدين بن صصرى. [3] هذا اللفظ ساقط من ك. [4] فى ك «إذا» والمثبت من ص، وف. [5] كذا فى ك، وف. وفى ص «أن يطالع» .

أن يدافع عنه ويكتب فى حقه فوصل مملوكه سيف الدين الطنقش من الديار المصرية وأخبر باشتداد الحال عليه وقيام الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وذكر له كلام قاضى القضاة زين الدين فعند ذلك أمر بإرساله وإرسال قاضى القضاة نجم الدين فتوجها فى يوم الإثنين ثانى عشر شهر رمضان فتوجه القاضى نجم الدين فى الخامسة من النهار وتوجه تقى الدين فى التاسعة وصحبته جماعة من أصحابه منهم تقى الدين بن سنقر [1] وزين الدين بن زين الدين بن منجا وشمس الدين التدمرى وفخر الدين وعلاء الدين أولاد شرف الدين الصايغ وابن بحبح وشرف الدين عبد الله أخو الشيخ وكان وصولهم إلى القاهرة فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر رمضان وعقد مجلس بدار النيابة بقلعة الجبل وحضره الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من الأمراء والقضاة والعلماء وذلك بعد صلاة الجمعة الثالث والعشرين من الشهر [35] فادعى القاضي شمس الدين محمد بن عدلان [2] دعوى شرعية على تقى الدين فى عقيدته عند قاضى القضاة زين الدين [3] فى المجلس وطالبه بالجواب فنهض تقى الدين قائما وقال: الحمد لله وأراد أن يذكر خطبة ووعظا، ويذكر عقيدته فى أثناء ذلك فقيل له أجب عما أدعى عليك به ودع هذا فلا حاجه لنا بما تقول فأراد أن يعيد القول فى الخطبة فمنع وطولب بالجواب فقال: عند من الدعوى علىّ؟ فقيل عند قاضى القضاة زين الدين المالكى فقال هو عدوى وعدو مذهبى فلم يرجع إلى قوله ولما لم يأت بجواب أمر قاضى القضاة زين الدين باعتقاله على رد الجواب فأقيم من المجلس واعتقل هو وأخواه شرف الدين عبد الله وعبد الرحمن وحبسوا فى برج فتردد إليه بعض الناس فاتصل ذلك بقاضى القضاة زين الدين فأمر بالتضييق عليه، فنقل إلى الجب فى ليلة عيد الفطر وكتب مثال شريف سلطانى وسير إلى دمشق فى أمر تقى الدين والحنابلة ونسخته [4] .

_ [1] كذا فى ك. وفى ص، والسلوك 2/1/11 «ابن شقير» . [2] أنظر ترجمته فى النجوم الزاهرة 9: 262، وذيول العبر ص 270، وشذرات الذهب 6: 164، والدرر الكامنة 3: 333. وقد توفى فى سنة 749 هـ. [3] هو زين الدين على بن مخلوف بن ناهض النويرى قاضى الملكية بمصر، توفى سنة 718 هـ. «البداية والنهاية 14: 90، وشذرات الذهب 6: 49، والدرر الكامنة 3: 127، والسلوك للمقريزى 2/1: 179) . [4] ورد نص هذا المثال السلطانى فى كتاب كنز الدرر وجامع الغرر ص 9: 140 وما بعدها وقد راجعت عليه النص المخطوط.

(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذى تنزه عن التشبيه والتنظير، وتعالى عن المثيل فقال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [1] نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع فى أيامنا أسباب الشك والارتياب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير وينزه خالقه عن التحييز فى جهة لقوله عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [2] ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى نهج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر فى آلآء الله، ونهى عن التفكر فى ذاته- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع، وبعد: فإن العقيدة الشرعية [3] وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية هى الأساس الذى يبنى عليه، والموئل الذى يرجع كل أحد إليه، والطريق الذى من سلكها فقد فاز فوزا عظيما ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف وتزان قواعد الأمة بالائتلاف وتغمد [4] بواتر البدع ويفرق من فرقها ما اجتمع، وكان التقى ابن تيمية فى هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه وتحدث فى مسائل الذات والصفات ونص فى كلامه على أمور منكرات وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون وفاه بما تجنبه السلف الصالحون وأتى فى ذلك بما أنكره أئمة الإسلام واتفق [5] على خلافه إجماع العلماء والحكام وشهر من فتاويه فى البلاد ما استخف به عقول العوام وخالف فى ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره وبعث رسائله إلى كل مكان وسمى فتاويه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

_ [1] سورة الشورى آية 11. [2] سورة الحديد آية 4. [3] فى ك «العقد» والمثبت من ص، وف. [4] فى الأصول «وتحمد» ولعل الصواب ما أثبته. [5] كذا فى ك، وف. وفى ص «أئمة السلف وانعقد» .

ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه مريدوه من هذه المسائل وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه حتى اتصل بنا أنهم صرحوا فى حق الله بالحرف والصوت والتجسيم قمنا فى الله تعالى مشفقين [1] من هذا النبأ العظيم وأنكرنا هذه البدعة وأنفنا [2] أن يشيع [3] عمن تضمه ممالكنا هذه السمعة وكرهنا ما فاه به المبطلون وتلونا قوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* [4] فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [5] وتقدمت مراسمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى بابنا عندما سادت فتاويه شاما ومصر وصرّح فيها بألفاظ وضعها ذوقهم إلا وتلا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [6] ولما وصل إلينا أمرنا بجمع أولى الحل والعقد وذوى التحقيق والنقد وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام وعلماء الدين وفقهاء المسلمين وعقد له مجلس شرع فى ملأ من الأئمة وجمع فثبت عند ذلك عليه جميع ما نسبه إليه [36] بمقتضى خط يده الدال على منكر معتقده وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه تالين سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [7] وبلغنا أنه كان استتيب فيما تقدم وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم ثم عاد بعد منعه ولم تدخل تلك النواهى فى سمعه ولما ثبت ذلك فى مجلس الحكم العزيز المالكى حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور ويمنع من التصرف والظهور ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به فى اعتقاد مثل هذا أو يغدو له فى هذا القول متبعا ولهذه الألفاظ مستمعا أو يسرى فى التجسيم مسراه أو أن يفوه بجهة العلو مخصصا أحد كما فاه أو يتحدث إنسان فى صوت أو حرف أو يوسع القول فى ذات أو وصف أو ينطق

_ [1] فى كنز الدرر 9: 140 «مستعظمين لهذا النبأ. [2] فى ك «وقرنا» وفى فرص، وف «وغرنا» والمثبت من كنز الدرر 9: 140. [3] كذا فى الأصول. وفى كنز الدرر 9: 140 «أن تسمع» . [4] سورة المؤمنون آية 91، وسورة الصافات آية 159. [5] سورة الأنعام آية 103. [6] سورة الكهف آية 74. [7] سورة الزخرف آية 19.

بتجسيم أو يحيد عن طريق الحق المستقيم أو يخرج عن آراء الأئمة أو ينفرد عن علماء الأمة أو يحيز الله فى جهة أو يتعرض إلى حيث أو كيف فليس لمن يعتقد هذا المجموع [1] عندنا إلا السيف فليقف كل أحد عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة أو الخروج من هذه المشتبهات الشديدة ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسك بمذهب أهل الإيمان الحميدة فإنه من خرج عن أمر الله تعالى فقد ضل سواء السبيل وليس له غير السجن الطويل من مستقر ولا مقيل. رسمنا بأن ينادى فى دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك الجهات بالنهى الشديد والتخويف والتهديد لمن يتبع ابن تيمية فى الأمر الذى أو ضحناه ومن تبعه فيه تركناه فى مثل مكانه وأحللناه ووضعناه من عيون الأمم كما وضعناه ومن أصر على الدفاع وأبى إلا الامتناع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم وأن لا يكون لهم فى بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا رتبة ولا إقامة فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد وأبطلنا عقيدته التى أضل بها كثيرا من العباد أو كاد ولتكتب المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير إلينا بعد إثباتها على قضاة الممالك وقد أعذرنا وحذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر ليكون أبلغ واعظ وزاجر وأحمد ناه وآمر والاعتماد على الخط الشريف أعلاه وكتب فى ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة. ولما وصل هذا المثال الى دمشق قرئ على المنابر كما رسم فيه وأشهر وأعلن [2] وأما قاضى القضاة نجم الدين ابن صصرى فإنه عومل بالإكرام وخلع عليه ونزل بدار الحديث الكاملية بقاعة التدريس بها وأذن له السلطان أن يحكم بالقاهرة فأثبت مكاتيب كثيرة وجلس كتاب الحكم بين يديه، وخرجت إسجالاته وشهدت عليه في بعضها، ثم عاد إلى دمشق على خيل البريد، وكان وصوله إليها فى يوم الجمعة سادس ذى القعدة وفى أثناء هذه الحادثة فى غضون هذه

_ [1] لعل المقصود: المجموع من آراء ابن تيمية ومن شايعه. [2] فى ص «وأعلى به» .

المدة كان للحنابلة فى القاهرة مع قاضى القضاة زين الدين المالكى وقائع أهين فيها بعض أعيانهم واعتقل وعزر بعضهم. وكان ممن تعصب لتقى الدين ابن تيمية فى هذه الواقعة بالشام قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الحريرى الحنفى وأثبت محضرا له مما هو عليه من الخير وكتب فى أعلاه بخطه ثلاثة عشر سطرا يقول فى جملتها إنه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى الناس مثله وأرانى قاضى القضاة زين الدين المالكى هذا المحضر وغضب منه وسعى فى عزل قاضى القضاة الحنفية بدمشق شمس الدين ابن الحريرى [1] فعزل وفوض قضاء القضاة الحنفية بدمشق بعده لقاضى القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم الأذرعى الحنفى [2] مدرس المدرسة الشبلية فوصل تقليده إلى دمشق فى ثانى ذى القعدة [3] . وأما تقى الدين فإنه استمر فى الجب بقلعه الجبل إلى أن وصل الأمير حسام الدين مهنا إلى [4] الأبواب السلطانية فى شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة فسأل السلطان في أمره وشفع فيه فأمر بإخراجه فأخرج فى يوم الجمعة [37] الثالث والعشرين من الشهر وأحضر [5] إلى دار النيابة بقلعة الجبل وحصل بحث مع بعض الفقهاء ثم اجتمع جماعة من أعيان العلماء ولم تحضره القضاة وذلك لمرض قاضى القضاة زين الدين المالكى ولم يحضر غيره من القضاة، وحصل البحث وكتب خطه ووقع الإشهاد عليه وكتب بصورة المجلس مكتوب مضمونه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* شهد من يضع خطه

_ [1] هو محمد بن عثمان بن عبد الوهاب الأنصارى. شمس الدين ابن الحريرى، توفى سنة 728 هـ والوافى بالوفيات 4: 90، والبداية والنهاية 14: 142، والدرر الكامنة 4: 158، وشذرات الذهب 6: 88) . [2] هو محمد بن ابراهيم بن داوود بن حازم الأذرعى ثم الدمشقى، توفى سنة 712 هـ (البداية والنهاية 14: 168، والجواهر المضيئة 2: 2، والدرر الكامنة 3: 246، والنجوم الزاهرة 9: 223، والدارس فى تاريخ المدارس 1: 528، والدليل الشافى 2: 575) . [3] وفى ص «ثانى عشر ذى القعدة» . [4] . هو حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل، توفى سنة 735 هـ (البداية والنهاية 14: 172، والدرر الكامنة 5: 138، وذيول العبر ص 187، والسلوك 2/2: 389، والدليل الشافى 2: 747، وشذرات الذهب 6: 112) . [5] فى ك «فأحضر» والمثبت من ص، وف.

آخره أنه لما عقد مجلس لتقى الدين أحمد بن تيمية الحرانى الحنبلى بحضرة المقر الأشرف العالى المولوى الأميرى الكبيرى العالمى العادلى السيفى ملك الأمراء سلار الملكى الناصرى نائب السلطة المعظمة أسبغ الله ظله، وحضر فيه جماعة من السادة العلماء الفضلاء أهل الفتيا بالديار المصرية بسبب ما نقل عنه ووجد بخطه الذى عرف به قبل ذلك من الأمور المتعلقة باعتقاده أن الله تعالى يتكلم بصوت وأن الاستواء على حقيقته وغير ذلك مما هو مخالف لأهل الحق، انتهى المجلس بعد أن جرت فيه مباحث معه ليرجع عن اعتقاده فى [1] ذلك إلى أن قال بحضرة شهود: أنا أشعرى ورفع كتاب الأشعرية على رأسه وأشهد عليه بما كتب به خطا وصورته: الحمد لله الذى أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، كتبه أحمد بن تيمية والذى أعتقده من قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [2] أنه على ما قاله الجماعة أنه ليس على حقيقته وظاهره ولا أعلم كنه المراد منه بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. كتبه أحمد بن تيمية، والقول فى النزول كالقول فى الاستواء أقول فيه ما أقول فيه ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى وليس على حقيقته وظاهره كتبه أحمد بن تيمية وذلك فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة. هذا صورة ما كتب به خطه وأشهد عليه أيضا أنه تاب إلى الله تعالى مما ينافى [3] هذا الاعتقاد فى المسائل الأربع المذكورة بخطه وتلفظ بالشهادتين المعظمتين وأشهد عليه أيضا بالطواعية والاختيار فى ذلك ووقع ذلك كله بقلعه الجبل المحروسة من الديار المصرية حرسها الله تعالى بتاريخ يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه فى هذا المحضر جماعة من الأعيان المقنتين والعدول، وأفرج عنه واستقر

_ [1] فى ك «وذلك» والمثبت من ص، وف. [2] سورة طه آية 5. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «عند ما» .

بالقاهرة بدار شقير ثم عقد له مجلس ثالث بالمدرسة الصالحية [1] بالقاهرة فى يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر وكتب بخطه نحو ما تقدم ووقع الإشهاد فيه عليه أيضا وسكن الحال مدة ثم اجتمع جماعة من المشايخ والصوفية مع الشيخ تاج الدين بن عطاء الله [2] فى نحو خمسمائة نفر وتبعهم جمع كثير من العوام وطلعوا إلى قلعة الجبل فى العشر الأوسط من شوال من السنة واجتمع الشيخ المذكور وأعيان المشايخ بنائب السلطان وقالوا إن تقى الدين يتكلم فى حق مشايخ الطريقة وإنه يقول: لا يستغاث بالنبى صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إلى قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعى واقتضى الحال أن رسم بتسفيره إلى الشام على خيل البريد فتوجه وكان قاضى القضاة زين الدين المالكى فى ذلك الوقت فى حال شديدة من المرض وقد أشرف على الموت، فبلغه ذلك عقيب أفاقة من غشى كان قد حصل له فأرسل إلى الأمير سيف الدين سلار وسأله فى رده فأمر برده إلى القاهرة فتوجه البريد وأعاده من [3] مدينة بلبيس فوصل وقاضى القضاة زين الدين مغلوب بالمرض فأرسل إلى نائبه القاضى نور الدين الزواوى فحضر به إلى مجلس قاضى القضاة بدر الدين وحررت الدعوى عليه فى أمر اعتقاده وما وقع منه فشهد عليه الشيخ شرف الدين بن الصابونى، وقيل إن الشيخ علاء الدين القونوى يشهد عليه فاعتقل بسجن الحاكم [4] بحارة الديلم [5] وذلك فى ثامن عشر شوال سنة سبع وسبعمائة واستمر به إلى سلخ صفر سنة تسع وسبعمائه فأنهى عنه أن جماعة

_ [1] هى إحدى المدارس الصالحية بين القصرين، عمرها السلطان الملك الصالح نجم الدين سنة 639 هـ ضمن المدارس التى عمرها بواسطة الأسرى الفرنج الذين أسرهم فى حربه مع الصالح إسماعيل والفرنج سنة 638. (السلوك 1: 305- 308) . [2] هو تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندرى المالكى الصوفى، توفى سنة 709 هـ (الدرر الكامنة 1: 142، والنجوم الزاهرة 81: 280، وذيول العبر ص 48، وشذرات الذهب 6: 19) . [3] فى ك «فى» والمثبت من ص، وف. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «الحكم» . [5] حارة الديلم: عرفت بذلك لنزول الديلم بها. والديلم طائفة من الترك الواصلين مع هفتكين الشرابى حين قدومه إلى مصر، ومعه أولاد مولاه معز الدولة البويهى، وجماعة من الديلم والأتراك فى سنة 368 هـ، وسكنوا تلك الحارة فعرفت بهم، وكانت تجاه الجامع الأزهر، وعرفت بدرب الأتراك وتقع فى المنطقة التى تشمل عدة طرق منها شارع حوش قدم، وحارة حوش قدم، وحارة الحمام، وعطفة السباعى، وشارع الكحكيين وغيرها بقسم الدرب الأحمر (النجوم الزاهرة 9: 64 هامش خطط المقريزى، ج 1 بولاق) .

وفيها فى العشر الأوسط من ذى الحجة

يحضرون إليه بالسجن وأنه يعظهم ويتكلم فى أثناء وعظه بما يشبه ما تقدم من كلامه، فأمر بنقله إلى ثغر الإسكندرية واعتقاله هناك فجهز إلى الثغر فى هذا التاريخ وحبس ببرج شرقى واستمر به إلى أن عادت الدولة الناصرية ثالثا فتحدث مع السلطان فى يوم السبت ثامن عشر شوال سنة تسع وسبعمائة فأكرمه السلطان وجمع القضاة وأصلح بينه وبين قاضى القضاة زين الدين المالكى فأشرط عليه قاضى القضاة أن يتوب عما تقدم الكلام فيه [38] ويتوب عنه ولا يعود إليه فقال السلطان: قد تاب وانفصل المجلس على خير وسكن الشيخ تقى الدين بالقاهرة ببعض القاعات وتردد الناس إليه واستمر إلى أن توجه السلطان إلى الشام فى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة، فتوجه بنية الغزاة، وأقام بدمشق إلى أن سطرنا هذه الأحرف فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وكان له فى غضون هذه المدة بدمشق وقائع نذكرها [1] فى مواضعها إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى تتمة سياقة الحوادث فى سنة خمس وسبعمائة. وفيها فى العشر الأوسط من ذى الحجة وفر الأمير بدر الدين بكتاش البدرى الصالحى النجمى أمير سلاح من الخدمة، وقطع خبره وجعل له مرتب فى كل شهر وأقر مماليكه وأجناده على إقطاعاتهم، الشاهد بها مدرج [2] عرضه إلى آخر وقت وجعلوا فى جملة رجال الحلقة المنصورة، وأضيفوا إلى مقدمين من أعيانهم وارتجع خاصة إلى الخاص السلطانى، ورسم بمسامحته بما يلزمه من التفاوت فيما بين السنة الشمسية والقمرية وكان جملة كثيرة لو طولب لها استغرقت أمواله وموجوده ولم يف بها، وكا ولده الأمير ناصر الدين محمد قد علم عجز والده عن الخدمة وضعف نظره وتحقق من حال الأمراء أنهم عزموا على قطع خبزه فسعى هو معهم فى ذلك وذكر عجز والده فأجيب إلى ملتمسه وتألم [3] الأمير بدر الدين المذكور لذلك ألما [4] شديدا وسب ولده الأمير ناصر الدين والذى حضر بالرسالة أيضا، وهو

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «وقائع تذكر فى موضعها» . [2] المدرج، والدرج: الكتاب أو المرسوم الخاص بإقطاعهم، ومن شأنه أن يكتب على ورق خاص. وانظر صبح الأعشى 1: 138. [3] فى ك «ما التمسه» والمثبت من ص، وف. [4] فى ك «تألما» والمثبت من ص، وف.

الأمير بدر الدين الوزيرى الحاجب وأرسل إلى الأمراء يقول: إننى لم أتاخر عن الخدمة ولا انقطعت عن مهمّ من مهمات السلطان وما زلت أتوجه إلى الغزوات والشباب من الأمراء موفرون من ذلك فأمسكوا عن جوابه ولم تطل مدة حياته بعد قطع خبزه فإنه مات فى حادى عشرين ربيع الآخر سنة ست وسبعمائة ودفن بتربته خارج باب النصر [1] رحمه الله تعالى. وفى سنة خمس وسبعمائة أيضا توفى الملك الأوحد تقى الدين شادى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن ناصر الدين محمد ابن أسد الدين شيركوه ابن شادى بن مروان فى يوم الأربعاء ثانى [2] صفر بجبال الجرديين [3] وحمل إلى قاسيون فدفن بتربة والده، وكان من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق رحمه الله تعالى. وتوفى شيخنا الإمام الحافظ شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن الحسن بن العفيف بن شرف بن الخضر الدمياطى [4] وكانت وفاته بالقاهرة المحروسة فى يوم الأحد خامس عشر ذى القعدة سنة خمس وسبعمائة من غير مرض وذلك أنه حضر الميعاد بالقبة المنصورية على عادته ثم قام بعد الميعاد ومشى إلى منزله بالمدرسة الظاهرية فمات من ساعته- رحمه الله تعالى- ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته مشهودة وهو آخر من بقى من الحفّاظ ويقال: إنه ما رأى مثل نفسه [5] فى فنه وشهرته ومشايخه، ورحلته أشهر [6] من أن يأتى عليها وشرح ذلك يطول وفيما أشرت [7] إليه كفاية.

_ [1] وانظر ترجمة بدر الدين بكتاش فى الدرر الكامنة 2: 14، والنجوم 8: 224. [2] وانظر البداية والنهاية 14: 39، والدرر الكامنة 2: 281، والدليل الشافى 1: 339، والنجوم الزاهرة 8: 219. [3] جبال الجرديين: وفى السلوك 2/1: 14، وكنز الدرر 9: 131 «أهل جبال كسروان وكسروان حاليا إحدى مقاطعات لبنان، ويقال: فضاء فى جبل لبنان، وكانت من مراكز الشبعة (المنجد الأعلام ص 589) . [4] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 40، وفوات الوفيات 2: 409، وطبقات الشافعية 6: 132 وشذرات الذهب 6: 12، وذيول العبر ص 33. [5] كذا فى ص، وك. وفى ف «مثل تفنينه فى فنه» . [6] هذا اللفظ سقط من ك. [7] فى ص «أشرنا» .

واستهلت سنة ست وسبعمائة

واستهلت سنة ست وسبعمائة فى هذه السنة فى شهر المحرم عزل الأمير علم الدين سنجر الجاولى [1] أستاذ الدار من وظيفته وقطع خبزه وسفره إلى دمشق بغير إقطاع وذلك لتغير حصل من الأمير ركن [2] الدين عليه ثم أنعم عليه بعد وصوله إلى دمشق بإمرة طبلخاناه [39] . وفيها عزل الصاحب سعد الدين عطايا [3] من الوزارة فى الشهر المذكور وصودر على مائة ألف درهم خرجت فى ديوان البيوت السلطانية فى مدة نظره، فحمل من ذلك الى بيت المال ثمانين ألف درهم وسومح بما بقى وأفرج عنه ولزم داره ولما عزل فوضت الوزارة لتاج الدين بن سعيد الدولة الناظر وألبس التشريف السلطانى على كره منه وجلس فى المجلس إلى آخر النهار وقام وتوجه إلى بيته بعد العصر ومنع من لهم عادة بالركوب فى خدمة الوزير من الركوب معه ولما وصل إلى داره حضر قضاة القضاة للسلام عليه وتهنئته بالوزارة فلم يأذن لهم فى الدخول، وخرج غلامه إليهم وإلى من حضر ببابه فقال: من كان له حاجة فليطلع إلى القلعة. فانصرفوا من غير اجتماع به، وهرب هو في تلك الليلة واختفى وأعاد خلعة الوزارة واستمر فى اختفائه إلى أن رسم بإعفائه واستقراره على عادته وكان الحامل له على ذلك والذى أوجب له كراهة الوزارة أنه توهم من الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة كراهة ذلك فخاف عاقبته وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار شديد الاعتناء به وفوضت الوزارة بعد ذلك للصاحب ضياء الدين أبى بكر بن عبد الله النشائى، وكان أحد [4] النظار فلم يكن له الوزارة إلا مجرد التسمية والمعلوم [5] وما عدا ذلك من الأمر والنهى والاستخدام والعزل فهو لتاج الدين بن سعيد الدولة لا يخرج عن إشارته ورضى بذلك.

_ [1] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 226، والدليل الشافعى 1: 324، والنجوم الزاهرة 10: 109. [2] هو الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير البرجى، كان من مماليك المنصور قلاوون، وترقى حتى تولى السلطنة سنة 708 هـ ولقب بالملك المظفر حين تولى عن الملك الناصر محمد بن قلاوون. وقتل سنة 709 هـ وسيرد ذلك كله فى هذا الجزء- انظر كذلك ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر ج 1 ص 502- 507 ترجمة رقم 1373. [3] هو سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء الله الشهير بابن عطايا (حسن المحاضرة للسيوطى 2: 223) . [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «أحد نظار النظار» . [5] فى ك «العلوم» والمثبت من ص، ولعل المقصود به راتب الوظيفة.

وفى هذه السنة عادت رسل السلطان

وفى هذه السنة عادت رسل السلطان الملك الناصر من عند الملك طقطاى [1] ملك التتار بالبلاد الشمالية: وهم الأمير سيف الدين بلبان الصرخدى، وسيف الدين بلبان الحكيمى وفخر الدين أمير آخور الشمسى وصحبتهم رسول من الملك طقطاى واسمه نامون فبولغ فى إكرامه وأعيد بالجواب وسفر مع الأمير بدر الدين بكتمش الخزندارى وفخر الدين محمود أمير آخور الشمسى وفيها في شهر ربيع الأول وصلت رسل صاحب سيس بالقطيعة المقررة عليه، وأطلق من أسرى المسلمين مائتين وسبعين أسيرا وأوصلهم إلى مدينة حلب. وفى هذه السنة كتب تقليد شريف سلطانى لقاضى القضاة شمس الدين الحنفى الأذرعى [2] بدمشق وتوجه به البريد فوصل الى دمشق فى يوم العشرين من شهر ربيع الآخر فظن البريدى أن التقليد [3] للقاضى شمس الدين محمد بن الحريرى المعزول فتوجه به إليه إلى المدرسة الظاهريه، وشاع ذلك وحضر الناس لتهنئته بالعود واتصل ذلك بالقاضى شمس الدين الأذرعى وهو بمجلس حكمه ففارقه جميع من كان فى المجلس من الشهود وغيرهم والمتحاكمون والوكلاء والرسل ولم يبق عنده غير نقيبه، وتوجهوا كلهم إلى القاضى شمس الدين بن الحريرى فلما اجتمع الناس عنده أمر الشيخ علم الدين البرزالى بقراءة التقليد على من حضر من الناس فقرأه رافعا به صوته فلما انتهى إلى ذكر الاسم والنسب سكت فقال له النقيب اذكر ألقاب سيدنا قاضى القضاة ونعوته وقال له القاضى شمس الدين: اقرأ فقال: يا مولانا ما هو لك، هو للأذرعى وطواه وتفرق ذلك الجمع وأخذه البريدى وتوجه به إلى القاضى شمس الدين الأذرعى وهو بمجلس الحكم لم يقم منه وعاد إلى مجلسه من كان قد فارقه وغيرهم وحصل له جبر بعد كسر وخجل القاضى [40] شمس الدين بن الحريرى من الناس للمبادرة بقراءة التقليد قبل تحقيق الحال فيه.

_ [1] فى الأصول «طقطا» والتصويب من النجوم الزاهرة 9: 226، وفيه توفى سنة 713 هـ. [2] مرت مراجعته ... [3] كذا فى ك، وفى ص «التقلد» .

ذكر حادثه غريبة

ذكر حادثه غريبة وفى هذه السنة وردت مطالعة نائب السلطان بحماة تتضمن أن [1] أراضى بارين [2] من بلد حماه جبلين بينهما واد يجرى الماء فيه وانتقل [3] نصف الجبل الواحد من موضعه إلى الجبل الآخر والتصق ولم يسقط فى الوادى الذى بينهما شئ من حجارته وأن النائب بحماة كشفه بالقاضى ببارين وعمل به محضرا وطول النصف الذي انتقل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع وعرضه خمسة وخمسون ذراعا ومسافة الوادى الذى بين الجبلين مائة ذراع وقرئت المطالعة بمحضر نسخته بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لما اشتهر فى البلاد وانتشر فى الحاضر والباد أن يعمل حصن الأكراد جبلا بوادى بارين قد أفضى بعضه الى التحويل ولم يكن ذلك فى القدرة الإلهية بمستحيل واتصل ذلك بالمسامع الشريفة المولوية السيفية كافل الممالك الشريفة الحموية شنفها الله تعالى بما تحب أن تسمع وطوقها بلطائف الخير أجمع فأحب- أعلى الله له شأنا وملا قلبه نورا وإيمانا- أن يعلم حقيقة ذلك إيقانا وأن يكشف كنهه وضوحا وبيانا انتدب لتحقيق هذه الصورة الجناب العالى الحسامى نقيب العساكر المنصورة وعلى يده المرسوم الكريم إلى المجلس العالى الشهابى متولى بارين المعمورة أن يخرجا والحاكم الذى سيضع خطه أعلاه ومعهم [4] من الشهود من سيرقم شهادته أدناه وأن ينتهوا إلى الوادى المشار إليه ويشاهدوا هذا الجبل ويقفوا عليه وأن يحققوا فى ذلك قصة الحال أحق ما قيل عنه أو محال؟ فبادروا الى امتثال [5] ما رسم لهم به مسرعين وخرجوا نحو الجبل مهرعين، وحضروا جميعا بقرية بقعبرا وسألوا أهلها ما حدث على الجبل وطرأ فإذا برجلين قد دخلا فى واد بين جبلين وقالا [6] هذا الجبل الذى نزل به ما نزل وفى قعر الوادى الماء

_ [1] فى ك «بأن بأرضى» . [2] بارين أو بعدين: بلدة صغيرة بها قلعة وعيون وبساتين وصفها ياقوت بأنها مدينة حسنة بين حلب وحماة من جهة الغرب (معجم البلدان) . [3] فى ص «فانتقل» . [4] فى ك «ومعه» والمثبت من ص، وف. [5] هذا اللفظ ساقط من ك. [6] فى ك «وقال» المثبت من ص، وف.

يترقرق ويسيل ويتدفق ووقفوا عند عرقوب فى الجبل القبلى ناتئ مستعل صفته بين الانضمام والانسطاح وقد تحلق على صفحة الجبل المقابل له وطاح ولم يقع منه فى قعر المسيل الا النزر القليل مع أن أصله تراب أن هذا الشئ عجاب وبقى ما انسلخ منه متقعرا فى الجبل كهيئة محراب [1] وسفل الوادى على حاله لم يتغير والماء جار على العادة فيه يتكسر ويتحدر لم يحصل له سدة ولا احتقان ولا انتقل جريانه من مكان إلى مكان على أن ما انقلع منه طولا عشرة أذرع ومائة جملة وتفصيلا، وعرضا نصف ذلك قليلا، وعفا مثل نصف العرض تقريبا ومدي الحذف [2] كالطول أو يكون منه قريبا، وذكر من حضر من أهل المكان أن وقوع ذلك فى أواخر رجب وأوائل شعبان ومن وقف على أثر هذا المكان ورآه وعلم من هذا الكتاب فحواه وضع به خطه أدناه وكان ذلك فى نهار الخميس ثامن عشرين شعبان سنة ست وسبعمائة وبذيل المحضر خط شهود وما علاه خط الحاكم ببارين ومثاله: الحمد لله حمدا يرضاه وقفت على الوادى المذكور وشاهدت العرقوب الذى انقلع ونقل ترابه وفيه نبات وحجارة على صفحة الجبل الذى قابله والتأم فى ذرعه [3] وعدم وقع التراب فى مسيل الماء كما شرح فيه، كتبه أبو بكر بن نصر الهاشمى المعاد [4] الشافعى العباسى الحاكم ببارين- عفا الله عنه وفيها فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من شوال خطب بالجامع الجديد الغربى بسفح جبل قاسيون الذى أنشأه الأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة الشريفة بالشام مقابل الرباط الناصرى وخطب فيه القاضى شمس الدين بن المعز الحنفى. وفى هذه السنة ولى قاضى القضاة صدر الدين أبو الحسن على بن الشيخ صفى [41] الدين أبى القاسم بن محمد الحنفى البصروى [5] القضاء بدمشق عوضا عن القاضى شمس الدين الأذرعى الحنفى، وكان وصوله إلى دمشق فى تاسع عشرين ذى القعدة.

_ [1] فى ك «المحراب» والمثبت من ص، وف. [2] عبارة الأصول «مثل نصفه العرض بقربها ومعا للحذف» وليس لها بهذا الشكل أى معنى. ولعل الصواب ما أثبته. [3] ذرعه: أى فى قياسه على رواية ص- أو فى جانبه- على رواية ك. [4] كذا فى الأصول، ولعل المراد أن نسبه يعود إلى بنى هاشم. [5] هو قاضى القضاة صدر الدين على بن محمد بن عثمان البصراوى، توفى سنة 727 هـ (شذرات الذهب لابن العماد الحنبلى 6: 78، والنجوم الزاهرة 9: 268) .

وفيها فى يوم الثلاثاء ثامن عشر ذى الحجة أعيد الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى إلى الحجبة بالشام وولى وظيفة الشد بدمشق الأمير جمال الدين آقصى الرستمى نقل من ولاية الولاة بالضفة القبلية إلى هذه الوظيفة ببذل وهو ثمانمائه ألف درهم فى أربع سنين واشترط أنه لا يحدث حادثا ولا يجدد رسما وباشر الوظيفة في يوم الخميس العشرين من الشهر وحضر الأمير سيف الدين بكتمر معه إلى الديوان حتى رتبه فى الوظيفة وتوجه الأمير عز الدين حسين بن صبرة إلى الضفة القبلية والى الولاة وكان خروجه لذلك فى ثامن المحرم سنة سبع وسبعمائة. وفى سنة ست وسبعمائة أيضا فى تاسع جمادى الأولى ورد إلى دمشق فقير أعجمى اسمه براق فى جمع كثير من الفقراء، وشعارهم أنهم يحلقون لحاهم ويبقون شواربهم ويلبسون على رءوسهم كلاوت من اللباد الأبيض يتعممون فوقها وفوق الكلاوت قرون ومعهم أجراس فأنزلهم نائب السلطنة بالمنيبع [1] ورتب لهم راتبا كثيرا ثم توجه براق ومن معه إلى القدس وقصد دخول الديار المصرية فلم يؤذن له فى ذلك فرجع، ومن سنة هؤلاء أنه [2] من تأخر منهم عن صلاة فى وقتها ضرب أربعين سوطا وفيها توفى الطواشى عز الدين دينار الغزنوى [3] الخزندار الظاهرى الدوادار الناصرى، كان دوادار السلطان الملك الناصر، وناظر الأوقاف الظاهرية، وكانت وفاته فى يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأول، وكان ديّنا خيّرا، كثير المطالعة، لين الجانب، يحب أهل الخير ويكرمهم- رحمه الله تعالى-[4] . وفيها توفى الأمير عز الدين أيبك الطويل الخازندار المنصورى بدمشق فى حادى عشر شهر ربيع الأول، ودفن بقاسيون وكان مشكور السيرة والديّانة- رحمه الله تعالى-.

_ [1] المنيبع: محلة غربى دمشق، ومن متنزهاتها (ذيول العبر ص 24 هامش) . [2] فى ك «أنهم» والمثبت من ص، وف. [3] كذا فى الأصول. وفى النجوم الزاهرة 8: 225 وفهارس هذا الجزء «الطواشى عز الدين العزيزى الخازندار الظاهرى. [4] هذا اللفظ ساقط من ك، والمثبت من ص، وف.

وفيها فى ذى الحجة توفى الأمير سيف الدين بلبان الجوكان [1] دار المنصورى نائب السلطنة بحمص- رحمه الله تعالى- وهو من المماليك السلطانية فى زمن إمرة السّلطان الملك المنصور، وكان رجلا جيّدا أمينا ثقة ما رأيت فى أبناء جنسه ممن اختبرته فى الأمانة والعفة مثله، رافقته مدّة فى ديوان الخاص بدمشق واطّلعت منه على أمانة غزيرة، ونزاهة وافرة ومعرفة تامة وكان يوم ذاك ينوب عن السلطنة بقلعة دمشق وفوض إليه السلطان شد ديوان أملاكه بالشام، وكتبت يومئذ مباشرها، وذلك فى شوال سنة اثنتين وسبعمائة إلى أن نقل إلى نيابة السلطنة بحمص فاطلعت من أمانته ونزاهته ومعرفته على ما أشرت إليه، وكان قد اشتهر عنه فى مباشرة شدّ الدواوين عدم المعرفة والغفلة والبلادة، فلما رافقته ظهر لى منه معرفة تامة، وخبرة واطلاع ينافى ما كان قد اشتهر عنه، فسايرته يوما وانفردت بمسايرته، وجرى بنا الحديث فسألته عن ذلك، وعرّفته ما ظهر لى منه وما كان قد اشتهر عنه، فتبسّم وقال: والله ما لمح أحد من أمرى ما لمحته، وما سألنى أحد عنه قبلك، وأنا أخبرك عن ذلك، وهو أننى والله ما ولّيت للسلطان ولاية قطّ وأنا راض بها، وشرع يذكر لى ولايته وتنقلاته من الجندية وما بعدها، ثم قال: ولما نقلت من نيابة قلعة صفد إلى دمشق ووليت شاد الدواوين وأستاذ دارية كرهت ذلك أشدّ كراهة واستعفيت منه فلم أعف، والله كان إذا أحضرت إلىّ النفقة المقررة لى على بيت المال عن وظيفة الشد. وهى فى كل يوم خمسة وسبعون درهما- ووضعت بين يدى يخيّل لى أنها عقارب تلدغنى ولقد والله كنت أعرض على نفسى أنواع البلاء والعاهات، وولاية الشد [42] فيسهل على أن ابتلى ببعض العاهات ولا أكون مشدّا، إلا العمى فإنى كنت أستصعبه وأختار الشد عليه، وأما لو خيرت أن يبطل إحدى يدى أو رجلىّ أو عينىّ تزول إحدهما وأبصر بالأخرى وأعفى من الشد لا خترت ذلك، ورضيته على الشد فقصدت إظهار عدم المعرفة والتغافل عن المهمات والمصالح حتى شاع ذلك عنى واتصل بأبواب السلطنة ورجوت بذلك الخلاص من وظيفة الشد، فلم يجد ذلك لى نفعا ولا عزلت، ففكرت بعض

_ [1] كذا رسم الكلمة من الأصول. وترسم أيضا «الجوكندار» وانظر الدليل الشافى 1: 198.

الليالى فى أمر أفعله يكون سبب خلاصى، فألهمنى الله تعالى أنه لا يخلصنى من الشد إلا أن أردّهم عن المظالم، وألّا أوافق على فعلها، واتّفق فى غضون ذلك أنّ القاضى شرف الدين بن مزهر [1] ناظر الدواوين حضر إلىّ وقد عين أسماء جماعه من الولاة والمباشرين بالأعمال البرانية أن يستخرج منهم مبلغ ثمانين ألف درهم لبيت المال، فلم أوافقه على ذلك، ورددته عنه، وقبحت عليه فعله، ففارقنى واجتمع بنائب السلطنة الأمير جمال الدين، وشكا إليه ذلك، وكتب تذكرة، وعلم نائب السلطنة عليها وسلمها إلىّ فى المجلس وقال لى استخرج مبلغها من هؤلاء. فقلت والله لا أفعل هذا أبدا ولا أوافق عليه، وإنما أنا أطلب هؤلاء الذين عينوا فى هذه التذكرة، ويحاققهم هذا الناظر وجماعة المستوفيين، فمن ظهرت خيانته استعدت منه ما التمسه، وأدّبته أدبا شافيا، ومن ظهرت أمانته خلعت عليه وأحسنت إليه وأعدته إلى جهته، أو نقلته إلى أجود منها، وأما خلاف هذا فلا أفعل. فطالع شرف الدين بن مزهر الأبواب السلطانية بذلك، فوصلت تذكرة سلطانية من الديار المصرية باستخراج المال المذكور عن ممّن عيّن، ووصل إلى قرينها [2] كتاب السلطان باعتماد ما تضمنه، واستخراج المال وحمله، فامتنعت من ذلك وصممت على أن لا أتحدث فيه أبدا ولا أوافق عليه إلا بعد المحاققة. فلما علموا منى معارضتهم ودفعهم عما يقصدونه من المظالم صرفت من الشّدّ، وأفادنى هذا الرأى. فلما ولّيت ديوان الخاص هذا. وهو أملاك ومواريث شرع ليس فيه مظلمة ولا مكس انبعثت لمباشرته، وطابت نفسى بالحديث فيه، وأظهرت ما أعرفه فهذا هو السبب. واستكتمنى- رحمه الله تعالى- ذلك، فكتمته مدّة حياته، ثم ذكرته بعد وفاته. وكان رحمه الله حسن الرّفقة لا ينفرد برأى، ولا يستقل بأمر قبل أن يعرضه على رفقته، ولقد كانت تأتيه كتب السلطان له فيما يتعلق بديوان الخاص فلا يفتحها حتى أحضر ويخرجها إلىّ مختومة فأقرأها عليه- وكان يحسن القراءة- ثم اتّفق معه على الجواب عنها وأكتبه عنه ويكتب عليه،

_ [1] هو شرف الدين يعقوب بن فخر الدين مظفر بن أحمد بن مزهر الحلبى، توفى سنة 714 هـ (البداية والنهاية 14: 146، والدرر الكامنة 5: 209- وفيها توفى سنة 729 هـ والسلوك 2/1: 141، والدليل الشافى 2: 791- توفى سنة 714 هـ) . [2] فى ك «فرسها» والمثبت من ص، وف.

واستهلت سنة سبع وسبع مائة.

وكان يخصنى بذلك دون بقية الرفقة- هذا إذا كنت بدمشق- وأما إن توجّهت لكشف جهة أو قسمتها فإنه يكتب الجواب إلى من يراه ولمامات ولى بعد وفاته نيابة السلطنة بحمص الأمير سيف الدين بكتمر الساقى المنصورى وتوجه إليه فى المحرم سنة سبع وسبعمائة واستهلت سنة سبع وسبع مائة. ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الناصر والأمراء فى هذه السنة فى أول المحرم ظهرت الوحشة بين السلطان والأمير سيف الدين سلّار، والأمير ركن الدين بيبرس، وكان السلطان قد امتنع [1] من العلامة أياما، وظنّ الناس أن ذلك لمرض اعتراه ثم عبرا له فى ثالث الشهر فتنكر لهما وسبهما، فاستعطفاه وألانا له وقالا: نحن مماليك السلطان ومماليك والده السلطان الشهيد وبناة دولته إلى غير ذلك مما استعطفاه، فخلع عليهما وعلى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جندار. وخرجا من عنده فلما صار بظاهر باب القلعة [2] قويت نفوسهما، وشرعا فى إظهار ما عندهما، وتركا باب القلعة فى تلك الليلة مفتوح الأقفال، ورسما بأن تركب جماعة من العسكر تحت القلعة، فركب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر فى جماعة من مماليكه بعد العشاء الآخرة مظهرين السلاح وشقّ المدينة وخرج من باب زويلة إلى تحت القلعة، وكان قبل ذلك قد انقطع فى داره، وادّعى المرض، فلما كانت [43] هذه الفتنة كان أوّل من ركب وكان ممن ركب أيضا أخوه الأمير سيف الدين سلار فخرج لهم بعض المماليك السلطانية الأوشاقية [3] من الإسطبل، فراشقهم [4] بالسهام ورمى الأمير سيف الدين سموك [5] أخو سلار بسهم فوصل إلى الشباك الذى يجلس فيه السلطان، فشق ذلك على السلطان وكبر لديه،

_ [1] فى ك، وف «أمنع» والمثبت عن ص. [2] فى ص «القلة» وهو أيضا أحد أبواب القلعة، والمثبت من ك. [3] الأوشاقية ومفردها أوشاقى، وهم فرقة من خدم السلطان يتولون ركوب الخيل للتسيير والرياضة (صبح الأعشى 5: 454) . [4] فى ص «فراسلهم» . [5] ف ك، وص «سمول» ثم تعود ص فترسمه «سموك» والتصويب من ص فى بعض المواضع، والنجوم الزاهرة 8: 172.

وبات الأمراء الأكابر فى تلك الليلة على مساطب الدّركاه بباب القلعة متلازمين، ولما فتح باب القلعة وقف أمامه مماليك الأمراء الأكابر وهم مكيّزون [1] سهامهم فى قسيّهم، وظنوا أن المماليك السلطانية يخرجون عليهم إذا فتح الباب، فلم يقع ذلك فصرف الأمراء أكثر مماليكهم، وجلس الأمراء بالدّركاه بباب القلعة [2] وترددت الرسائل بينهم وبين السلطان على لسان الأمير جمال الدين أقش الموصلى والأمير سيف الدين كراي، والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزورى [3] ، وسألوا رضا السلطان والتمسوا [4] منه تسليم بعض الخاصكية [5] الذين نسبوهم إلى تغيير خاطر السلطان، فما وسع السلطان إلا إخماد هذه الفتنة الثائرة فسيّرهم إليهم بعد مراجعات وأيمان أنهم لا ينالهم من الأمر أذى وهم سيف الدين بيبغا التركمانى، وكان من أخص الناس بالسلطان وأقربهم عنده وسيف الدين خاص ترك وسيف الدين بيتمر الحاج فأنزلهم الأمراء لوقتهم من القلعة وتوجهوا إلى جهة القدس ثم دخل الأمراء إلى الخدمة على عادتهم، ولما اتصل خبر هذه الحادثة بالأمير جمال الدين أقش الأفرم كتب إلى الأمراء يلومهم ويعنّفهم على ما وقع من إخراج هؤلاء المماليك ويلتمس إعادتهم، ويقسم أنهم متى لم يعادوا إلى خدمة السلطان حضر هو بهم، وكتب إلى السلطان مطالعة يقول: إن المملوك بلغه أن الخواطر الشريفة تغيّرت على فلان وفلان والمملوك يسأل عود العواطف الشريفة عليهم، وشمولهم بالمراحم السلطانية وإعادتهم إلى الخدمة أو نحو هذا ولما وصل كتاب نائب الشام إلى الأمراء بذلك سألوا السلطان فى إعادة المماليك المذكورين فرسم بإعادتهم

_ [1] كذا فى الأصول. والسياق يقتضى أن يكون معناها: معدون ومهيئون. [2] فى ص «القلة» . [3] هو يعقوب الشهرزورى نسبة إلى إقليم شهرزور ماربل وهمذان اشتهر منه جمع من الأئمة والعلماء، شهد مع المظفر قطز وقعة عين جالوت ضد التتار، ومعه جمع كثير من الشهرزورية، ومات فى أواخر سنة 707 هـ (الدرر الكامنة 4: 436) . [4] فى ك «وسألوا» والمثبت من ص، وف. [5] الخاصكية: جماعة من حاشية السلطان يأتون فى الترتيب بعد الأمراء المقدمين تمتعوا بمكانة كبيرة وخصصت لهم الأرزاق الواسعة، ومنهم كان الحرس الخاص بالسلطان (السلوك 1/2: 644 هامش الدكتور زيادة، خليل بن هاشم: زبدة كشف الممالك ص 115- 116) .

فعادوا، ولم يسكن الأمير سيف الدين بيبغا بالقلعة وإنما سكن بداره بسويقة [1] العزى وما لبث أن مرض ومات فى هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وفيها فى يوم الإثنين خامس عشر محرم بعد إخراج المماليك السلطانية رسم بإخراج الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جنذار فأخرج من ساعته، وقطع خبره، وبات فى تلك الليلة بظاهر القلعة، ورحل فى يوم الثلاثاء، وولى وظيفة الأمير جاندارية بعده الأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار، المعروف بالفتاح، وتوجه الأمير سيف بكتمر إلى الشام بغير إقطاع، فلما وصل إلى غزة عيّنت له الصّبيبة [2] فتوجه إليها واسترخمها وكره المقام بها، فكتب إلى الأبواب السلطانية وإلى الأمراء شكا من وخمها، وسأل نقلته إلى غيرها فعين له صرخد، [3] ثم اتفقت وفاة الأمير شمس الدين سنقرجاه المنصورى نائب السلطنة بصفد فى شعبان فكتب منشورة بإقطاعه وتقليده بنيابة السلطنة بها، فتوجّه إليها، ثم كان من خبره ما نذكره وفيها وصل الأمير فتح الدين بن صبرة من أسر التتار، وقد تقدم ذكر أسره فى بلاد سيس. وفى هذه السنة طلع النيل بالديار المصرية طلوعا عاما وروى البلاد وزرع وطلع الزرع طلوعا حسنا، فلما كان فى شوال الموافق لبرمهات- وهو وقت كمال الغلال- هبّت ريح جفّفت الزّرع قبل أن يشتد فهاف جميع ما مرت عليه تلك الريح، وهو أكثر الزّرع حتى ترك أكثره بغير حصاد وارتفعت أسعار الغلال بسبب ذلك فبلغ سعر القمح كل أردب تسعين درهما وفيها جرّد جماعة من العسكر الشامى إلى الرحبة فتوجه الأمير علاء الدين أيدغدى شقير فى طائفة من العسكر فى ثانى جمادى الأولى، ثم تلاه الأمير سيف الدين قطلوبك

_ [1] سويقة العزى: عرفت بالأمير عز الدين أيبك العزى نقيب الجيوش، كانت تقع خارج باب زويلة قرب قلعة الجبل، ومكانها حاليا الجزء الجنوبى من شارع سوق السلاح. بين شارع الغندور والقلعة. وقد اختفى اسمها من جداول الطرق بالقاهرة (المقريزى: المواعظ، ج 2 ص 106- بولاق (النجوم الزاهرة 8: 204 هامش) . [2] الصبيبة: اسم لمكان به قلعة بانياس، وهو من الحصون المنيعة (النجوم الزاهرة 6: 356 هامش) . [3] صرخد: بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق، وهى قلعة حصينة وولاية واسعة (معجم البلدان، وصبح الأعشى 4: 107) .

ذكر الاهتمام بقصد اليمن والاحتفال لذلك وتعيين العساكر المجردة إليه وتأخير ذلك وإرسال الرسل

المنصورى فى رابع عشر الشهر وتوجه الأمير سيف الدين بهادر آحى فى التاريخ المذكور. وفيها فى يوم الإثنين العشرين من شهر رجب توجه الأمير جمال الدين نائب السلطنة بالشام إلى القدس الشريف لقصد الزيارة وتوجّه معه جماعة من أعيان دمشق [44] وعاد إلى دمشق فى تاسع شعبان. وفيها توجه ركب من الديار المصرية إلى الحجاز الشريف فى السابع والعشرين من شهر رجب صحبة الأمير ركن الدين الكوندكي وجماعة المشار إليه منهم الشيخ نجم الدين بن عبّود ونجم الدين بن الرفعه [1] وغيرهم ووصلوا إلى مكة فى سادس شهر رمضان. ذكر الاهتمام بقصد اليمن والاحتفال لذلك وتعيين العساكر المجردة إليه وتأخير ذلك وإرسال الرسل وفى هذه السنة حصل عزم الأمراء ولاة الأمر على قصد اليمن وتجريد العساكر وتقرر أن يتوجه الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة بالجيوش، وعيّن من يتوجه معه، وعرض رجال الحلقة واحتفل لذلك احتفالا عظيما، ورسم لكل أمير مقدم ألف ومضافيه أن ينشئوا مركبا كبيرا وفلوه [2] برسم حمل الأزواد وحصل الشروع فى ذلك وندب الأمير عز الدين أيبك الشجاعى شاد الدواوين لعمل المراكب فتوجّه إلى الوجه القبلى، وقطع الأخشاب لذلك، وكان سبب هذا العزم ما حصل للملك المؤيد هزبر الدين داود [3] صاحب اليمن من اختصار الهدايا، وإعادة الرسول المتوجه إليه من الأبواب السلطانية بغير جواب، ولما حصل هذا العزم سأل أعيان الكارم [4] مراحم السلطان فى الإمهال [5] إلى أن يتوجه إليه الرسل من الأبواب السلطانية ويعود جوابه، ودخل فى هذا السؤال جماعة من المشايخ فأجيبوا إلى ذلك، وكتب لصاحب

_ [1] فى الأصول «نجم الدين رفعة» وهو نجم الدين ابن الرفعة، أحمد بن محمد بن مرتفع توفى سنة 710 هـ (ذيول العبر ص 54، والبداية والنهاية 14: 60، وشذرات الذهب 6: 22) . [2] الفلوة: عبارة عن قباسة لحمل الأزواد وغيرها مما يحتاجه الجيش. [3] هو المؤيد هزبر الدين داوود ابن الملك المظفر يوسف بن عمر التركمانى، ولى ملك اليمن بضعا وعشرين سنة، وتوفى سنة 721 هـ. (شذرات الذهب 6: 55، والدرر الكامنة، 2: 190، الدليل الشافى 1: 297) . [4] فى ك «الكلام» والتصويب من ص، وف. وأعيان الكارم: هم أعيان تجار الكارم، وهم تجار البهار والأفاويه الواردة من الهند عن طريق اليمن (السلوك 1/2: 899 هامش الدكتور زيادة. [5] فى ك «الامتهال» والمثبت من ص، وف.

اليمن عن الخليفة المستكفى بالله أمير المؤمنين العباسى والسلطان، وتوجه القاضى شمس الدين محمد بن عدلان الشافعى أحد المفتيين بالقاهرة، وشمس الدين سنقر السعيدى أحد مقدمى الحلقة المنصورة، فتوجها وحملا مشافهة إليه، وتأخر تجهيز العسكر. وفيها نزل الأمير سيف الدين كراي المنصورى عن إقطاعه بالديار المصرية، وكان إقطاع إمرة مائة فارس، وذلك أنه توجه للصعيد لكشف إقطاعه، وانتهى إلى مدينة إسنا من الأعمال القوصية- وهى من جملة إقطاعه وتجهز منها، وحمل ما يحتاج إليه من الروايا والقرب وغير ذلك، وتوجه هو ومن معه فى البرية لقصد بلاد التاكة [1] فوردت مطالعة متولّى الأعمال القوصية بذلك، فقطع خبره، وأنعم به على الأمير سيف الدين بتخاص، وكان إخراج الإقطاع هو غرض الأمير سيف الدين كراى، ثم رجع الى الأبواب السلطانية بعد أن أوغل فى البرية، وسأل الإعفاء من الإمرة والخدمة، وأن يتوجه إلى القدس الشريف ويقيم هناك- وما علم موجب ذلك- فأذن له فتوجه بحريمه ومماليكه وأقام بالقدس. وفيها اهتم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار [2] بعمارة دار الوزارة خانقاه ورباطا وتربة لدفنه- اهتماما عظيما، فعمر ذلك عمارة متقنة وحصّل الرخام من كل جهة، ودلّه الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح. على أن بظاهر دورهم بالقصر فساقى من الرخّام الأبيض مدفونة تحت الرّدم، وأخرج منه فسقيتان من الرخام على غاية الكبر والحسن وإتقان الصنعة، وكل منهما قطعة واحدة، وهى طويلة عميقة متسعة الجوف والوسط، ثم تنخرط من طرفها إلى أن ترقّ فيكون طرفها كالمجراة، فأخرجتا [3] وعمل لإخراجهما آلات معينة على ذلك، وحصل التعب فى جرّهما، ثم نشرتا [4] ألواحا وفرش بهما أرض المكان ووقف الأمير ركن الدين على هذا المكان أوقافا متوفرة جليلة المقدار، وعيّن فى هذا الوقف عدّة كثيرة من الفقراء الصوفية، والجند البطالين وغيرهم، ورتّب أن يكون بالمكان شيخين [5] أحدهما بالخانقاه والآخر بالرباط وأئمة ومؤذنين ومقرئين وغير ذلك، وكملت

_ [1] بلاد التاكة: يراد بها بلاد السودان كما جاء فى السلوك 2/1: 37. [2] عبارة «أستاذ الدار» ساقطة من ك. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «لجرهما» . [4] فى ك، وف «نشرت» والمثبت من ص. [5] فى ك، وف «شخصين» والمثبت من ص.

ذكر وفاة الأمير سيف الدين بيبغا المعروف

عمارتها [45] والأوقاف عليها فى سلطنته، وخلع ومات قبل فتحها؛ فأغلقت مدة ثم أمر السلطان الملك الناصر بفتحها ففتحت، ورتب فيها جماعة من الصوفية وغيرهم بالخانقاه والرباط، وأما القبة التى بها المدفن فإنها مغلقة على ما هى عليه لم تفتح إلى أواخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة ولم تستقر جملة الأوقاف على هذا المكان؛ فإن منها ما حلّ ورجع إلى بيت المال، واستقر بعضها فصرف لمن استقر بها من الصوفية وغيرهم. ذكر وفاة الأمير سيف الدين بيبغا المعروف بالتركمانى وأنشأ تربته وما وقف عليها وفى هذه السنة فى العشر الأخير من شعبان توفى الأمير سيف الدين بيبغا الناصرى المعروف بالتركمانى أحد أمراء العشرات بالديار المصرية، وهو من أكابر أخصّاء المماليك السلطانية وأحد من أخرج فى هذه السنة إلى الشام وأعيد، وكان متمكنا عند السلطان خصّيصا بخدمته، لا يتقدم عليه غيره فى وقته، وكان السلطان قد ملّكة جملة من أملاكه بالقاهرة من ذلك [1] تربيعة الجمالون بخط الشرابشين وأجرتها فى كل شهر ألف درهم ومائة درهم واشتريت هذه التربيعة للسلطان بمائتى ألف درهم وأربعين ألف درهم، وحمامى [2] ابن سويد، وقيسارية أخرى وغير ذلك وأنعم عليه بجملة كثيرة من الأموال، والحوايص الذهب والجواهر مما لا يدخل تحت الإحصاء. ولما مات كنت يومئذ فى خدمة السلطان فأمرنى والأمير عزّ الدين الحاج أزدمر رأس نوبة الجمدارية بإيقاع الحوطة على موجوده ففعلت وحرّرت ذلك وعرضت الأوراق على مولانا السلطان وحملت من موجوده وذخائره إلى السلطان ما أمر [3] بحمله ثم أمر لى ببقيّة بيع الموجود أو أن أعمر به تربة

_ [1] فى ك «بتربيعة» والمثبت من ص. وهذه التربيعة كانت تعرف بسوق الجمالون، ومكانها حاليا حارة الجمالون المتفرعة من شارع المعز لدين الله الفاطمى، بجوار جامع الغورى (النجوم الزاهرة 8: 209 هامش) . [2] حماما ابن سويد: ذكر المقريزى فى خططه (3: 134) «أنهما يقعان بآخر سويقة أمير الجيوش، وقد عرفتا بالأمير عز الدين معالى بن سويد، وقد خربت إحداهما، ويقال إنها غارت فى الأرض وهلك جماعة فيها، وبقيت الأخرى. [3] فى ك «ما أثر بحمله» والمثبت من ص وف.

وفى هذه السنة فى ليلة يسفر صباحها

بالقرافة، وقبة على قبره فبادرت إلى امتثال أمره، وشرعت فى ذلك، وجمعت جماعة من المهندسين والصنّاع لقسمة [1] التربة ووضع الأساس، وحضر السلطان إلى التربة بالقرافة، ونزل عن فرسه، ووقف وقسم التربة وخطّها بعصا فى يده ورتبها على حسب ما اقتضاه رأيه الشريف ثم رسم إلى أن أوقف عنه على هذه التربة من الأملاك المذكورة آنفا التى ورثها عن بيبغا، وهى مما كان قد وهبه له، فوقفت تربيعة الجملون وغيرها على مصالح تربة سيف الدين بيبغا بطريق الوكالة عن السلطان، وذلك بمجلسه بحضور قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعى وجماعة من العدول، ولما شرعت فى ترتيب الوقف سألت السلطان- خلّد الله ملكه- أن أرتبه وأوقفه على أيسر الوجوه وأهنئها، وأطيبها فأذن لى فى ذلك، فشرطت فى الوقف أن من مرض من أهل الوقف من إمام ومؤذن ومقرئين وغيرهم أورمد يصرف له معلومه الشاهد به كتاب الوقف بجملته ويستناب عنه فى مدّة مرضه أو رمده من يقوم بوظيفته بنظير نصف معلومه من مال الواقف، وأنّ من حجّ من أهل الوقف يجعل له معلوم أربعة أشهر، ويستناب عنه بنظير نصف معلومه فى مال الوقف، وغير ذلك من التيسيرات، وعرضت، ذلك على السلطان- خلد الله ملكه- فأمر لى بإمضائه، فوقفته على هذا الحكم، وهو باق على ذلك والحمد لله تعالى- والوقف ينمو ويزيد إلى وقتنا هذا. وفى هذه السنة فى ليلة يسفر صباحها عن يوم السبت خامس جمادى الآخرة وقت السحر توفى الصاحب الوزير تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف جده بابن حنا [2] بداره ببركة الحبش، ودفن بتربته بالقرافة- رحمه الله تعالى- ومولده فى التاسع من شعبان سنة أربعين وستمائة.

_ [1] فى ك، وف «بقسم» والمثبت من ص. [2] له ترجمة فى الوافى بالوفيات 1: 217، وذيول العبر ص 38، والسلوك 2/41، وشذرات الذهب 6: 14، والنجوم الزاهرة 8: 228.

وتوفى فى دمشق [46] الأمير علاء الدين مغلطاى

وتوفى فى دمشق [46] الأمير علاء الدين مغلطاى البيسرى [1] أحد الأمراء الأعيان بها، فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين ثانى جمادى الأولى، ودفن فى يوم الإثنين بقاسيون، وكان رحمه الله تعالى من أحسن الناس عشرة، وأكملهم مروءة وأوفاهم بحقوق أصحابه كان لا يدّخر عن صاحبه أو قاصده مالا ولا جاها، صحبته مدّة فلم أر أحسن من صحبته ولا مودته، وكان لنا بهذا البيت البيسرى خدمة قديمة، ثم صحبة أكيدة، وتجددت بعد ذلك بينى وبينه بدمشق عند مقدمى إليها فى جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعمائة إلى أن عدت إلى الديار المصرية فى رمضان سنة ثلاث وسبعمائة، وكان- رحمه الله تعالى- من أشجع الأمراء، وهو ذو فهم بالحروب والوقائع وترتيب الجيوش، وممن يرجع إليه فى ترتيب المحافل والمهمات، وعرض التقادم وغير ذلك من أحوال الملوك، وكان أيضا قد انفرد فى معرفة طير الجارح وتدريبه والاصطياد به وجيّده ورديئه، ومداواة سقيمه وغير ذلك من أحواله، وكان أصله من مماليك زين الدين الحافظى وزير الملك الناصر صاحب الشام اشتراه الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى بعد هروب الزين الحافظى بما ينيف عن أربعين ألف درهم ويقارب الخمسين ألفا وحرص الملك الظاهر ركن الدين على تملّكه فما قدر على ذلك، واجتهد بكل طريق فلم يتهيّا له حتى عزم فى أواخر أمره على القبض على الأمير بدر الدين بيبرس أستاذه ليتمكن من أخذه فمات الملك الظاهر قبل ذلك، ولما اعتقل مخدومه الأمير بدر الدين بيسرى فى أوائل الدولة المنصورية ضبط موجوده وخدم أولاده وربّاهم وحفظهم وكانوا ستة، وانفق عليهم أمواله، ولازم باب أستاذه فى مدة اعتقاله، ورغب السلطان الملك المنصور فى استخدامه ورتبه فى جمداريته، ووعده بالإمرة، وأسكنه بالقلعة فاستعفى من ذلك وكره مفارقة باب أستاذه والاشتغال عن حفظ أولاده، ولم يزل يتنصل من الخدمة حتى أعفى منها، وكان إقطاعه فى جنديته أمير من خاص جماعة من الأمراء، قال لى يوما بدمشق وهو أمير تسعة وستين فارسا: وددت أن إقطاعى الآن وإقطاع أصحابى نظير إقطاعى فى الجندية فسألته عن متحصل إقطاع جنديته، فأخبرنى أنه كان يحصل له منه لخاصة

_ [1] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 4: 355.

وتوفى الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجمدار

ولأربعة أتباع فى كل سنة مائة ألف درهم وخمسة الآف درهم وخمسة الآف إردب غلة ومات- رحمه الله تعالى- وعليه جملة من الديون، صرفها فى المكارم ومحاسنه- رحمه الله- كثيرة. وتوفى الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجمدار الصالحى النجمى المعروف بالجالق [1] أحد الأمراء الأعيان مقدمى الألوف بدمشق وكانت وفاته بظاهر الرّملة [2] فى العشر الأوسط من جمادى الأولى فى خامس عشر الشهر، وقيل فى تاسع عشرة، ونقل إلى القدس فدفن هناك، وكان- رحمه الله تعالى- أميرا خيّرا ديّنا، كثير البرّ، كان يرصد من ماله جملة يقرضها للجند عند تجريدهم، ويصبر عليهم بذلك إلى أن يتيسّر لهم إعادته، وعدم له جملة كثيرة من أمواله بسبب ذلك، ولا يردّه ذلك عن هذه الحسنة رحمه الله تعالى. وفيها- فى ثانى جمادى الآخر- كانت وفاة الشيخ الصالح العابد عمر السعودى [3] بزاويته بالقرافة، ودفن بها- رحمه الله تعالى وفيها توفي الشيخ القاضى شرف الدين محمد بن القاضى فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد القيسرانى [4] الحلبى، أحد أعيان كتّاب [5] الدرّج بالباب الشريف السلطانى، وكانت وفاته بعد العصر من يوم الجمعة، ودفن يوم السبت بالقرافة الصغرى، وكان- رحمه الله تعالى- رجلا جيّدا خيّرا ديّنا متواضعا فاضلا أمينا، لا يغتاب أحدا من الناس، ويكره الغيبة من غيره، ولا يسمعها، [47] وسمع الحديث النبوى الكثير، وكان متمكنا من صناعة الإنشاء، طاهر اللسان والقلم كثير الأدب غزير المروءة- رحمه الله تعالى.

_ [1] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة (2: 41) ، والبداية والنهاية (14: 47) ، وذيول العبر ص 31، والدليل الشافى 1: 204، والنجوم الزاهرة 8: 227. ومعنى الجالق فى اللغة التركية: الفرس الحاد المزاج الكثير اللعب. [2] الرملة: مدينة بفلسطين شمالى شرق القدس، أسسها سليمان بن عبد الملك سنة 716 م استولى عليها الصليبيون سنة 492 هـ واستردها صلاح الدين منهم وخربها سنة 583 هـ خوفا من استيلائهم عليها مرة أخرى (ياقوت: معجم البلدان) . (ياقوت: معجم البلدان) . [3] أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 275. وفى السلوك 2/1: 41. [4] والرسم فى ك «القيصرانى» . [5] فى ك «نياب الدرج» والمثبت من ص، والسلوك 2/1: 42.

وتوفى بدمشق أيضا الأمير فارس [2] الدين

وفيها فى يوم السبت خامس عشر رجب توفى الشيخ تقى الدين الرجيحى [1] بن سابق بن هلال بن يونس: شيخ الفقراء اليونسية بدمشق، وصلى عليه بجامعها، وأعيد إلى داره فدفن بها، وجلس مكانه فى مشيخة اليونسية ولده الشيخ حسام الدين فضل. وفيها فى يوم السبت تاسع عشرين شهر رجب الفرد توفى الأمير على ابن الملك القاهر عبد الملك بن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون- رحمه الله تعالى. وتوفى بدمشق أيضا الأمير فارس [2] الدين الردّادى أحد الأمراء بها فى ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم وتوفى بها الأمير سيف الدين كاوركا [3] المنصورى، وهى من المماليك المنصورية فى زمن الإمرّة، وكانت وفاته فى الخامس عشر من ذى القعدة. وتوفى الأمير بهاء الدين أسلم بن دمرداش أحد الأمراء بدمشق فى يوم الجمعة رابع ذى القعدة وتوفى بالكرك الطواشى شمس الدين صواب السهيلى [4] الخازندار، وقد قارب المائة سنة، وكان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس قد سلّم إليه قلعة الكرك كما تقدم واستمر بها إلى سنة إحدى وثمانين وستمائة فى أيام الملك المسعود [5] نجم الدين خضر بن الملك الظاهر فتوجه إلى الحجاز الشريف فى جملة الركب الشامى فلما وصل إلى تبوك لحقه الأمير عبيّة أمير بنى عقبة فى نحو مائتى فارس، فقبض عليه وحمله إلى الأبواب السلطانية المنصورية، فلما ملك السلطان الملك المنصور قلعة الكرك أعاده إليها وثوقا بأمانته وديانته، فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى.

_ [1] وفى الدارس فى تاريخ المدارس 2: 216 سيف الدين الرجيحى بن سابق بن هلال بن يونس توفى سنة 706 هـ، وكذا فى البداية والنهاية 14: 44. [2] وأنظر ترجمته فى النجوم الزاهرة 8: 225، والدليل الشافى 1: 134، وفيهما سيف الدين بن أسلم بن عبد الله الردادى. [3] كذا فى الأصول. وفى الدرر الكامنة 3: 230 «كاوزكا» أحد الأمراء الكبار بدمشق. وعلق عليه محقق الدرر بأنه كاوركا كما فى أصول نهاية الأرب. [4] الدرر الكامنة 2: 307، والدليل الشافى 1: 356. [5] فى ك «المنصور» والمثبت من ص. وانظر الدرر الكامنة 2: 172، والدليل الشافى 1: 288.

واستهلت سنة ثمان وسبعمائة

وتوفى فى ليلة الإثنين حادى عشر شعبان القاضى جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم بن على بن سالم الشافعى المعروف بابن السقطى [1] خليفة الحّكم العزيز بالقاهرة، ودفن من الغد بالقرافة وولى نيابة الحكم بالقاهرة نحو أربعين سنة وكان دربا بالأحكام الشرعية، وترك النيابة عن الحكم فى آخر عمره، ومولده فى سنة ثمان وعشرين وستمائة- رحمه الله تعالى-. وتوفى الأمير بهاء الدين يعقوبا بن نور الدين بدر الشّهرزورىّ أحد الأمراء مقدمى الألوف بالديار المصرية قديم الإمرة- وكانت وفاته فى ليلة تسفر عن سابع عشر ذى الحجة. وتوفى الأمير الطواشى شهاب الدين فاخر المنصورى، مقدم المماليك السلطانية، وأحد الأمراء أصحاب الطبلخاناه، بالديار المصرية فى سابع عشر ذى الحجة وكان- رحمه الله تعالى- ذامهابة وسطوة على المماليك السّلطانيّة يحترمه كبيرهم ويخافه صغيرهم [2] وكان كريم النفس- رحمه الله تعالى-. واستهلت سنة ثمان وسبعمائة فى هذه السنة فى مستهل شهر ربيع الأول أخرج الأمير نجم الدّين خضر الملقب بالملك المسعود ابن الملك الظّاهر ركن الدّين بيبرس من البرج بقلعة الجبل، وسكن مصر على شاطئ النيل بدار الأمير عزّ الدّين، ايبك الأفرم وكانت اشتريت له، ولم تطّل مدّته فإنه توفى خامس شهر رجب بالقاهرة بدار الحلبى. وتوفى ولده قبل وفاته بيوم، وخلّف ولدّا ذكرا وابنة، رحمه الله تعالى. وفيها فى ثالث شهر ربيع الآخر فوضت الخطابة بجامع قلعة الجبل لقاضى القضاة بدر الدّين محمّد بن جماعة عوضا عن الشّيخ شمس الدّين محمّد الجزرى. وفيها وصلت رسل صاحب سيس بالقطيعة المقررة عليه وهديته، ووصل فى جملة ذلك طشت وإبربق ذهب مرصع بالجوهر.

_ [1] وانظر ذيول العبر ص 39، والدرر الكامنة 4: 18، والسلوك 2/1: 42، وشذرات الذهب 6: 16. [2] فى ك «يحترمه صغيرهم، ويخافه كبيرهم» والمثبت من ص. وفى الدرر الكامنة 3: 299 توفى سنة 704 هـ. وفى الدليل الشافى 2: 519. وفيه توفى سنة 706 هـ.

ذكر توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك

وفيها فى جمادى الآخرة وصلت طائفة من التّتار الذين هم شرقى الفرات إلى بلد كركر، وأغاروا عليها، [48] وكان هناك سيف الدين بتخاص أحد مماليك الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة بحلب، فتوجّه بجماعة من الرجالة وكبس التتار، وأوقع بهم واستظهر عليهم، وأسر بعضهم وحضر إلى الأبواب السلطانية فأنعم عليه. ذكر توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك وإقامته بها وفى هذه السنة أظهر السلطان أنه قد عزم على الحجاز الشريف وأشاع ذلك وأذاعه، وأظهر الاهتمام به وأمر بجهازه: وتجهز معه جماعة من مماليكه الذين اختارهم، وبرز من قلعة الجبل المحروسة فى يوم السبت الرابع والعشرين من شهر رمضان، وركب الأمراء فى خدمته لوداعه فأعاد الأمير سيف الدين سلّار وركن الدّين بيبرس إلى قلعة الجبل، واستقل ركابه، وعيّد عيد الفطر بالصالحية [1] ثم سار ووصل إلى قلعة الكرك فى يوم الأحد العاشر من شوال منها ولما صعد إلى الكرك تقدمت الأثقال والبيوتات السلطانية، ومرت على الجسر الخشب المنصوب على الخندق بباب القلعة، ثم مر السلطان على الجسر المذكور وحوله مماليكه، الخاصكية وأرباب الوظائف، وازدحموا على الجسر فضعف عن حملهم فتكسرت أخشابه، وقد صارت [2] يدا فرس السلطان داخل باب القلعة وأطراف حوافر رجليه على الجسر فوثب الفرس به فصادر داخل القلعة، فسلم وانكسر الجسر بمن كان عليه من الخاصكية فسقطوا إلى أسفل الخندق، وهو من أعمق الخنادق وأبعدها، فسقط بعضهم على بعض فسلموا كلهم إلا اثنين منهم أحدهما الأمير عز الدين أزدمر الحاج رأس نوبة الجمدارية فإنه انقطع نخاعه، وبطل نصفه مما يلى رجليه، وعاش كذلك إلى أن مات فى سنة عشر وسبعمائة بعد عود السلطان إلى الديار المصرية.

_ [1] الصالحية قرية من قرى الشرقية مركز فاقوس، وأنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب 644 هـ على بداية الطريق من مصر إلى الشام لتكون منزلة للعساكر (محمد رمزى: القاموس الجغرافى، ق 2 ج 1، ص 112) . [2] فى ك «سارت» والمثبت من ص.

ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس

ولما استقر السلطان بقلعة الكرك طلب ورقة بالحاصل بخزانتها من الأموال، فكتبت له ورقة بمبلغ مائتى ألف درهم، وكان الحاصل أضعاف ذلك مرارا وإنما كتبت بأمر النائب بها خشية أن السلطان يأخذ ما بها من المال بجملته. فلما أخذ الورقة أظهر ما كان قد أضمره وأخرج النائب بالكرك وهو جمال الدين آقش الأشرفى، وجماعة من البحرية، وجماعة من الرّجّالة، واستقر بها بمماليكه الذين رضيهم، وأعد ما كان قد استصحبه من شعار السلطنة والبيوتات إلى الديار المصرية، والممالك الشامية يعلمهم أنه قد استقرّ بالكرك، ونزل عن السلطنة أو أن يدبّر والأمر على ما يختارونه، وإنما فعل ذلك لما حصل له من الأمير بن سيف الدين سلّار وركن الدين بيبرس من المضايقة والحجر والاستبداد بالأمر دونه ففعل ذلك وتحقق أنهما لا يتفقان بعده، وأن الأمر يؤول إليه كما يختار، فوردت مكاتباته إلى الأمراء بقلعة الجبل فى يوم الجمعة الثانى والعشرين من شوال من هذه السنة. ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس العثمانى المنصورى لما وصلت كتب السلطان الملك الناصر إلى الأمير سيف الدين سلّار والأمراء بما قدمناه اجتمعوا فى يوم السبت الثالث والعشرين من شوال بدار النيابة، وتشاوروا فيمن ينصب فى السلطنة فمال جماعة إلى الأمير سيف الدين سلّار النائب فقال لمن اختاره أنتم رضيتم بى أن أكون عليكم سلطانا، وأنا قد رضيت لى ولكم هذا وأشار إلى الأمير ركن الدين بيبرس العثمانى أستاذ الدار، وكان ذلك رأى جماعة الأمراء [1] البرجية خواشداشيته، فوافق قوله رأيهم، فاجتمعت الكلمة بالديار المصرية عليه وإنما صرفها الأمير سيف الدين سلّار عن نفسه إليه لعلمه بعاقبة الأمر وأن ذلك لا يتم له، فعند ذلك حلف له الأمراء، وركب من دار النيابة بعد العصر من اليوم المذكور ودخل إلى دور السلطنة داخل باب القلعة والأمراء مشاة فى خدمته إلى

_ [1] الأمراء البرجية: ذكر المقريزى فى السلوك 1/2: 756 «أن السلطان المنصور قلاوون كان قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة من الآص: وهى الجزء الجنوبى من شبه جزيرة القرم، وبها سوق للرقيق، والجركس جعلهم فى أبراج القلعة، وسماهم بالبرجية، وانظر هامش الدكتور زيادة.

أن استقر على تخت السلطنة ولقّب بالملك المظفر، وزفّت البشائر، وكتب بذلك إلى سائر الممالك [49] الإسلامية وتوجه إلى الشام الأمير عزّ الدّين أبيك البغدادى والأمير سيف الدين ساطى فوصلا إلى دمشق على خيل البريد فى مستهل ذى القعدة، وخطب له بالقاهرة فى يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوال سنة ثمانى وسبعمائة وحضر الخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان وقلده السلطنة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وكتب عهده بذلك وقد تقدم ذكر هذا العهد وما اشتمل عليه فيما سلف من كتابنا هذا فى الجزء الثامن منه فى ترجمة القاضى علاء الدين بن عبد الظاهر وركب الملك المظفر فى يوم السبت السابع من ذى القعدة بشعار السلطنة وعليه خلعة الخليفة، وهى خلعة سوداء بطرحة وتقلّد سيفين على العادة، وسيّر فى الميدان الأسود [1] وخلع على الأمير سيف الدين سلّار وأقرّه على نيابة السلطنة وأقر سائر النواب بالممالك الشامية، ولم يغيّر منهم إلا الأمير ركن الدّين بيبرس العلائى النائب بغزة فإنه أعاده إلى الإمرة بدمشق وولّى نيابة غزة الأمير سيف الدين بلبان البدرى وذلك فى المحرم سنة تسع وسبعمائة. ولما وصل كتاب الملك المظفر إلى دمشق صحبة من ذكرنا توقّف الأمير جمال آقش الأفرم نائب السلطنة بالشام عن الحلف إلا بعد أن يثبت على حاكم من حكام المسلمين أن السلطان الملك الناصر نزل عن السلطنة، وخلع نفسه، فأحضر كتاب السلطان الملك الناصر الذى قد كان وصل إليه وشهد جماعة من الموقعين أن الكتاب بخط القاضى علاء الدين بن الأثير كاتب السلطان وأن الخط الذى أعلاه خط السلطان الملك الناصر، فثبت ذلك لذلك وعمل بمقتضاه، وحلف الأمير جمال الدين نائب السلطنة بالشام ومن عنده من الأمراء وغيرهم، وكذلك سائر النواب بسائر الممالك وأقر الملك المظفر الصاحب [2] ضياء الدين النّشائى على وزارته على عادته- وليس له من الأمر شئ وإنما الأمر لتاج الدين بن سعيد الدولة وزاده بسطة وتمكينا، وكان الملك المظفر لا يكتب على تقليد أو توقيع أو كتاب إلا بعد أن يكتب تاج الدين عليه

_ [1] الميدان الأسود: ويقال له ميدان العيد، والميدان الأخضر، وميدان السباق، وميدان الملك الظاهر بيبرس البند قدارى، ومكانه حاليا الأرض المشغولة بترب جبانة باب الوزير (هامش النجوم الزاهرة 7: 165) . [2] مكان هذا اللفظ بياض فى ك. والمثبت من ص، وف.

ما مثاله يحتاج إلى الخط الشريف ورسم للدوادارية أن لا يقدموا له ما يعلم عليه إلا بعد خط تاج الدين صح المذكور، وتطاول إلى أن قصد أن يقف على أجوبة البريد إلى النواب وغيرهم ويكتب عليها فقام القاضى شرف الدين بن فضل الله صاحب الديوان فى ذلك وعرّف السلطان ما يترتب على ذلك من المفسدة، من إذاعة أسرار السلطنة وإفشائها، فاستقر الأمر أنه يكتب على ما يتعلق بالأموال والإقطاعات دون ما هو متعلق بسرّ الدولة وكتب الملك المظفر للسّلطان الملك الناصر تقليدا بالكرك، ومنشورا بإقطاع مائة فارس، ثم أبطل المنشور الأول، وكتب منشورا ثانيا بريع [1] المغل ولخاصه ولمائة طواشى وقال فيه بعد إبطال ما كتب به أولا وسيّر المنشور إلى دمشق وكتب عليه النائب ونزل فى الدواوين وكتب عليها الكتّاب ثم لم يلبث [2] الملك المظفر أن كتب إلى الملك الناصر يطلب منه ما عنده من الأموال الحاصلة بالقلعة، ويطلب إعادة المماليك السلطانية الذين استقروا عنده، وكان عدة من استقر فى خدمة السلطان نحو مائتى مملوك، وطلب أيضا الخيول التى للسلطان معه، وقال إن القلاع لا تحتاج إلى كثرة الخيول ولا الأموال، فأرسل إليه السلطان الملك الناصر مائتى ألف درهم فأعاد الجواب بتجديد طلب [3] الأموال، فكتب اليه: إن خط نائبكم عندى أنه لم يكن بخزانة الكرك غير مائتى ألف درهم وقد أرسلتها، ولم يرسل غيرها، وأهان رسول الملك المظفر وهو الأمير علاء الدين مغلطاى أبتغلى [4] وأمر بإخراجه ماشيا من قلعة الكرك إلى الغور وتحقق الملك الناصر سوء رأى الملك المظفر، وأنه لا يبقى عليه، فشرع عند ذلك فى التدبير، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.

_ [1] فى ص «بريع» . [2] فى ك «يكتب» والمثبت من ص، وف. [3] فى ك «بطلب تجديد» والمثبت من ص. [4] وهذا اللفظ مجرد من النقط فى ك.

وفى هذه السنة فى ليلة السبت ثانى المحرم

وفى هذه السنة فى ليلة السبت ثانى المحرم توفى الشيخ الصالح أحمد بن أبى القاسم المراغى بمصر ودفن من الغد بالقرافة رحمه الله تعالى. وفيها توفى القاضى برهان الدين ابراهيم بن أحمد بن ظافر البرلسى، ناظر بيت المال فى خامس صفر، وكان من الفقهاء الفضلاء [50] المالكية ممّن عين لقضاء القضاة، وكان طاهر اللسان عفيف البد كثير المروءة- رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة الثلاثاء تاسع عشر شوال توفى عز الدين أيدمر الرشيدى أستاذ دار الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة، وكان رجلا عاقلا مثريا اتّسعت أمواله، وعرض جاهه، وعلا محله، وكان قد مرض وطال مرضه وحصل له مالينخوليا- ثم مات [1] رحمه الله تعالى. وفيها توفى الشيخ المحدث شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن سامة [2] الطائى بمصر فى يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذى القعدة وصلى عليه بجامع عمرو بن العاص ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الإمام الشافعى وكان مشهورا بقراءة الحديث والاشتغال به والرحلة إليه ومولده فى سنة اثنتين وستين وستمائة رحمه الله تعالى [3] واستهلت سنة تسع وسبعمائة فى هذه السنة وصل الأمير علاء الدين أيدغدى [4] التليلى، والأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى من بلاد المغرب، ووصل معهما الشيخ أبو يحيى زكريا الّلحيانى نائب تونس بطرابلس المغرب لقصد الحج وعاد الأميران

_ [1] فى ك «ومات» والمثبت من ص، وف. [2] فى ك «شامة» والمثبت من ص، وف. والدرر الكامنة 3/497، وذيول العبر 43، والدليل الشافى 2: 633، وشذرات الذهب 6: 17. [3] جملة الترجمة ساقطة من ك. [4] أيدغدى: كذا الضبط فى النجوم الزاهرة. وفى السلوك 2/1: 51 سطر 17 ضبط بفتح الدال الأولى.

ذكر ما كان من أمر النيل فى هذه السنة

المذكوران وقد نهبت العربان ببلاد المغرب ما كان قد أرسل معهما من الهدية وغيرها وكان فى جملة الهدية من الخيل والبغال والجمال سبعمائة رأس. وفيها أيضا عاد القاضى شمس الدين محمد بن عدلان الذى كان قد جهز إلى اليمن فى الرسالة فى الدولة الناصرية، ومات رفيقه شمس الدين سنقر السعيدى ببلاد اليمن، بعد انفصالهما من الملك المؤيد صاحب اليمن. وفيها فى أوائل شهر ربيع الآخر توجّهت من القاهرة إلى الكرك والتحقت بالأبواب السلطانية إلى أن عاد الركاب الشريف السلطانى الملكى الناصرى، وعدت إلى القاهرة فى سلخ رمضان. ذكر ما كان من أمر النيل فى هذه السنة كان من خبر النيل فى هذه السنة أن زيادته بمقياس مصر انتهت إلى العشرين من شهر ربيع الأول وهو الموافق للثالث من أيام النسئ إلى أربعة عشر ذراعا ونصف فغلت الأسعار بسبب ذلك وانتهى سعر القمح إلى خمسين درهما ثمن كل إردب واستسقى الناس بالمصلّى بالقرافة الكبرى، وكسر خليج مصر فى التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول بغير وفاء وأيس الناس من زيادة النيل فى هذه السنة، وفات وقته المعتاد، ثم أخذ فى الزيادة فانتهت زيادته الى ستة عشر ذراعا وإصبعين، وذلك إلى آخر الثالث والعشرين من بابه، وزرع الناس على هذه الزيادة. وفى هذه السنة فى ثالث عشر شهر ربيع الآخر فوّض قضاء القضاة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للشيخ سعد الدين مسعود [1] بن أحمد بن مسعود ابن زيد الحارثى، وخلع عليه يوم الأربعاء، وحكم فى يوم الخميس خامس الشهر، وذلك بحكم وفاة القاضى شرف الدين عبد الغنى بن يحيى بن محمد بن عبد الله الحرانى [2] وكانت وفاته فى ليلة الجمعة رابع عشر شهر ربيع الأول ودفن من الغد بالقرافة ومولده بحران سنة خمس وأربعين وستمائة رحمه الله

_ [1] الإضافة من السلوك 2/1: 54. [2] وأنظر الدرر الكامنة 2: 498، والبداية والنهاية 14: 57.

ذكر اضطراب أمر الملك المظفر ركن الدين

تعالى، وكان فى مبدأ أمره شافعىّ المذهب إلى آخر الأيام الأشرفية بالحسامية [1] الصلاحية وبعدها، ثم قلّد الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بعد ذلك واستقل وولى القضاء. ذكر اضطراب أمر الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير وما كان من أخباره إلى أن خلع نفسه وفارق قلعة الجبل. كان ابتداء اضطراب أمر دولته أنه خرج من القاهرة الأمير سيف الدين أبغية قبجق [2] والأمير علاء الدين مغلطاى القازانى، [51] والأمير سيف الدين طقطاى [3] أمير مجلس، وجماعة من المماليك [4] السلطانية فارين إلى خدمة السلطان الملك الناصر، وكان خروجهم من القاهرة بعد أذان المغرب من ليلة يسفر صباحها عن يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة ووصولهم إلى خدمة السلطان الملك الناصر إلى الكرك، وطلوعهم إلى قلعتها فى بكرة نهار الأربعاء الثامن والعشرين منه، فأحسن الملك الناصر إليهم، وخلع عليهم، ولما توّجوا أتّهم بعض المماليك السلطانية بمواطأتهم فأمسك منهم نحو ثلاثمائة نفر، وقطعت أخبازهم وأخباز المتسحبين وجرد الأمير سيف الدين برلغى مقدما وصحبته الأمير جمال الدين آقش الأشرفى، والأمير عز الدين أيبك البغدادى والأمير شمس الدين الدكن ومن معهم من مضافيهم، فبرزوا فى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر رجب وخيموا بمسجد التين [5] ، ثم عادوا بعد أربعة أيام وكان سبب عودهم أن

_ [1] هذا اللفظ ساقط من ك. والحسامية والصالحية من مدارس دمشق، وانظر فهارس الدارس فى تاريخ المدارس. [2] فى السلوك 2/1: 59 «سيف الدين نوغاى القبجاقى. وفى النجوم الزاهرة 8: 248، 255 «نوغاى ونوغيه» . [3] كذا فى الأصول. ورسمها النجوم الزاهرة «تقطاى» وضبطت بضم التاء وسكون القاف. [4] وفى السلوك 2/1: 59 «أنها كانت سنين مملوكا» . [5] مسجد التين: أنشئ سنة 145 هـ وعرف بمسجد الجميزة. وفى زمن الدولة الإخشيدية عمره الأمير تبر أحد الأمراء الأكابر فى أيام كافور الإخشيدى فعرف بمسجد تبر، وتسميه العامة مسجد التين. وهذا المسجد لا يزال قائما إلى أيامنا باسم زاوية الشيخ محمد التبرى فى وسط أرض زراعية تابعة لسراى القبة. وفى الشمال الغربى من محطة حمامات القبة (هامش المرحوم محمد رمزى بك على النجوم الزاهرة 7: 196) .

الأمير جمال الدين نائب السلطنة بالشام ورد كتابه على يد أستاذ داره سيف الدين الطنقش يتضمن أن الملك الناصر وصل إلى البرج الأبيض [1] قاصدا دمشق، ورجع إلى الكرك، ثم وصلت كتبه بعد ذلك تتضمن أن الأمراء بالشام مالوا إلى الملك الناصر وأنه يخشى من انتقاض الأمر فعند ذلك شرع الملك المظفر فى النفقة العامة على سائر الجيش، وكملت فى سبعة أيام، وكان الجند يأخذون النفقة ويقول بعضهم لبعض: ادعوا للملك الناصر، وأمر الملك المظفر جماعة من مماليكه، فركب منهم من أمراء الطبلخانات سبعة عشر، ومن أمراء العرب ثلاثة عشر وذلك فى مستهل شهر رمضان من السنة. وفى هذا التاريخ خرج الأمير سيف الدين برلغى [2] مجّردا فى أربعة آلاف فارس، ثم أردفه بالأمير سيف الدين طغريل الإيغانى فى أربعة آلاف أخر فمرض طغريل فرجع ومات فى عاشر شهر رمضان، وتوفى الأمير عز الدين أيبك الخزندار قبله فى سابع الشهر. ولما خرج هذا العسكر أرسل الملك [3] المظفر للأمراء نقودا ذهبا غير النفقة الأولى فيقال: إن الذى وصل إلى الأمير سيف الدين برلغى فى هذه الحركة ستون ألف دينار عينا. وفى يوم الجمعة الثانى عشر من شهر رمضان خرجت جماعة من المماليك السلطانية على الهجن، وقصدوا اللحاق بالسلطان الملك الناصر، فجرّد الملك المظفر فى آثارهم فأدركوهم وقد وردوا الماء بمراكع موسى واقتتلوا فجرح الأمير سيف الدين سموك [4] أخو سلّار، وصارم الدين الجرمكى، وقتل من الفريقين ونجا المماليك السلطانية، والتحقوا بالسلطان الملك الناصر، فجرد الملك المظفر جماعة من الأمراء لحفظ الطرقات، من جملتهم الأمير جمال الدين آقش الرومى الحسامى، فساق فى إثر هذه الطائفة من المماليك فلم

_ [1] البرج الأبيض: قيل هو من أعمال البلقاء، وقيل بالقرب من طفس» وقيل هو مركز من مراكز الطريق البريدى بين غزة ودمشق. (صبح الأعشى 14: 380. وانظر هامش الدكتور زيادة على السلوك 2/1: 59) . [2] برلغى: ضبطه محقق النجوم الزاهرة بضم الباء والراء وسكون وكسر الغين، وضبطه محقق السلوك 2/1: 25 يفتح الباء وضم الراء وسكون اللام. [3] عبارة ص «أرسل إلى الملك المظفر» ولا تستقيم مع السياق. [4] والرسم فى النجوم الزاهرة 7: 709 «سمك» .

ذكر خلع الملك المظفر ركن الدين بيبرس

يدركهم، فلما رجع نزل ليستريح ويريح، فوثب عليه من مماليكه فقتلوه، وتوجهوا برأسه إلى الملك الناصر وحملت جثته إلى القاهرة، وفى أثناء هذه المدة تجمع خلق كثير من الغوغاء والعامة والسوقة [1] وجاءوا تحت القلعة، وأعلنوا بسبّ الملك المظفر فأمسك بعضهم وضرب وطيف به فلم يرتدعوا، ثم جلس المظفر فى يوم الخميس الحادى عشر من شهر رمضان جلوسا عاما وأحضر الخليفة المستكفى بالله أبا الربيع سليمان، وجدّد البيعة لنفسه والتولية بحضور الحكام والأمراء وكتب كتابا بتجديد البيعة، ورسم بقراءته على المنابر، فلما شرع القارئ له فى قراءته استغاثت العامة من كل جانب ليس لنا سلطان إلّا الملك الناصر، وهموا برجم الخطباء وأخرت قراءة كتاب البيعة وكتب إلى الأمير سيف الدين برلغى ومن معه من الأمراء والمقدمين وغيرهم أن يجددوا الحلف للسلطان، فاجتمعوا بجملتهم وقرئ عليهم كتاب الخليفة، ونسخة البيعة الثانية، وطلب منهم أن يجدّدوا الحلف فامتنع بعضهم وقال بعضهم قد حلفنا وإن كنا لا نفى باليمين الأولى فلا نفى بالثانية، وانفصلوا من المجلس على غير حلف فلما تفرقوا ركب بعض الأمراء وتوجه نحو الشام للقاء السلطان الملك الناصر خدمة، ودخولا فى طاعته وأنقل [2] الجيش المجرد، فعلم برلغى أن النظام قد انحل وأتاه خبر مقتل آقش الرومى، فعند ذلك ركب وتوجه إلى خدمة السلطان الملك الناصر هو وسائر الأمراء المجردين ورجع بعض الحلقة إلى القاهرة وكان السلطان قد أنفق جملة كثيرة من الأموال، وفرق خيولا كثيرة، وعزم على الخروج بنفسه [52] لحرب السلطان الملك الناصر ودفعه فلما بلغه أن برلغى ومن معه توجهوا إلى السلطان الملك الناصر فت ذلك فى عضده وسقط فى يده وعلم أنه لا بقاء لملكه. ذكر خلع الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير نفسه من السلطنة، ومراسلته الملك الناصر وخروجه من القلعة وتوجهه نحو الصعيد.

_ [1] فى ك «العومة» والمثبت من ص، وف. [2] فى ص «ونقل» .

ولما كان فى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان اجتمع الأمير سيف الدين سلّار والأمير بدر الدين بكتوب الفتّاح أمير جندار، والأمير سيف الدين قجماز [1] بتخاص بالملك المظفر وقالوا له: إنا قد رأينا من المصلحة أن نراسل الملك الناصر وتسأله قلعة تكون بها أنت ومن معك من مماليك وألزامك فوافقهم على ذلك وتقرر أن يتوجه بالرسالة الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى فتوجه ضحى يوم الثلاثاء وكان مضمون سؤاله أن ينعم عليه بأحد ثلاث جهات إما الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها أو صهيون ومضافاتها ونزل عن الملك وخلع نفسه من السلطة، ثم اضطرب أمره فى عشية النهار اضطرابا شديدا، فدخل إلى الخزائن واستصحب معه جملة من الأموال والذخائر، وخرج من القلعة وصحبته مماليكه وهم نحو سبعمائة مملوك، وصحبته من الأمراء الأمير بدر الدين بكتوت الفتاح أمير جندار، والأمير عز الدين أيدمر الخطيرى أستاذ دار والأمير سيف الدين قجماز بتخاص ومماليكهم، وأخذ الخيول الجياد من الاستطبلات السلطانية، وشعر العوام بخروجه فتجمعوا وسبّوه وتبعوه فقيل إنه شغلهم بدراهم نثرها عليهم فاشتغلوا بجمعها، وتوجه بمن معه إلى إطفيح [2] ثم منها إلى الصعيد: ولما فارق القلعة خرج من بقى من الأمراء والعساكر لتلقى السلطان الملك الناصر، واستقر الأمير سيف الدين سلّار بالقلعة يحفظها للسلطان وأفرج عن المعتقلين من المماليك السلطانية، وطالع السلطان الملك الناصر بما اتفق، وأعلن باسم السلطان والدعاء له على أسوار قلعة الجبل فى صبحة نهار الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان، وخطب له يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وانتهت أيام سلطنة الملك المظفر، وكان مدة جريان اسم السلطنة عليه عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما.

_ [1] كذا فى الأصول. وفى النجوم الزاهرة 5: 261، وهامش 8: 251 «قحماش بجاس» ، وفى السلوك 2/1: 64 «بشاش» وفى 2/1: 371 «بشاش» . [2] إطفيح: كانت عاصمة الأعمال الإطفيحية التى تمتد شرقى النيل مما يلى أعمال الجيزة، وتنحصر بينه وبين جبل المقطم، وهى الآن تتبع مركز الصف بمحافظة الجيزة (صبح الأعشى 3: 380، 384، 396، 402) .

ذكر سلطنة السلطان الملك الناصر

ذكر سلطنة السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبى الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحى وعود دولته ثالثا ولنبدأ بسياقة أخباره منذ وصل إلى الكرك إلى أن ملك الممالك الشامية، ثم الديار المصرية. قد قدمنا آنفا وصول السلطان الملك الناصر إلى الكرك واستقراره بقلعتها وإخراجه الأمير جمال الدين آقش الأشرفى النائب بها، وجماعة من البحرية [1] وبعض الرجال فيها ولما استقر بها اعتبر ما بها من الأموال والذخائر فوجد بها فيما بلغنى سبعة وعشرين ألف دينار عينا، وألف ألف درهم وسبعمائة ألف درهم، فاحترز على ذلك وادخره ولم يصرف منه شيئا فى النفقات وغيرها بل جعله ذخيره لمهماته، واقتصر فى النفقات، وكلف الدولة وأقام المملكة على ما يتحصل من الكرك وأعمالها خاصة وسيّر إلى الديار المصرية من جملة الحاصل ما تقدم ذكره وهو مائتا ألف درهم وكان السلطان قد جّهز زوجته أم ولده وولده وحريمه إلي الحجاز الشريف صحبة الركب، فلما استقر بالكرك أرسل الأمير سيف الدين كستاى فى جماعة من المماليك السلطانية إلى عقبة [2] أيلة فأحضرهم إلى الكرك وأمر السلطان بالخطبة للملك المظفر بجامعى مدينة الكرك [53] وقلعتها فخطب له، وأمر الحراس بذكره فى الصباح فكانوا يفعلون ذلك وهو يسمعهم، وانتهت حاله فى الأدب معه إلى أن كان يكتب فى الكتب الصادرة عنه بعد البسملة الملكى المظفرى، وسلك معه من التواضع والأدب ما لا يزيد عليه نواب السلطنة، وقصد بذلك أن تكون الأحوال ساكنة، والأمر ماشيا على سداد وانتظام واتفاق هذا والمظفر من جملة مماليك والده وليس من أكابرهم وتنازل معه إلي هذه الغاية وسلك معه مسلك النواب لا الملوك، فلم يرض المظفر منه بذلك، ولا قنع به بل شرع فى الغض من عالى

_ [1] البحرية: هم المماليك الأتراك الذين اشتراهم السلطان الصالح نجم الدين أيوب وأسكنهم جزيرة الروضة حتى انتزعوا الحكم من سادتهم بنى أيوب وأقاموا دولة من سنة 648 هـ، وكانت شجرة الدر أول من ملك مصر. هذه الدولة. انظر المقريزى: كتاب السلوك، ج 1 ص 361. [2] عقبة أيلة: العقبة تطلق على الجبل الذى يتعرض الطريق فيضطر سالكه إلى صعود الجبل ثم ينحدر عنه، وأيلة مدينة صغيرة عامرة لليهود الذين حرم الله عليهم السمك فى يوم السبت فخالفوه (النجوم الزاهرة 3: 85، 101) .

رتبته والتضييق عليه، فكان أول ما بدأ به أن كتب إليه يطلب منه الأموال الحاصله بالكراك، والمماليك والخيول التى عنده كما تقدم ذكره، ثم أعاد المكاتبات ثانيا بتجديد الطلب من غير تحاش ولا حياء منه، ولا مراعاة لإحسانه وسالف عتق أبيه، ولا حفظ لحق ولا ذمام فعند ذلك تحقق السلطان سوء رأى المظفر فيه، وآيس من خير يحصل له من جهته، وتوقع منه الشر، فأخذ عند ذلك فى استئناف ما فرط وراسل من يثق بمودته ومحافظته وموالاته من الأمراء وكاتب الأمير حسام الدين مهنا، وأمراء العرب، ووردت عليه أجوبتهم وترددت قصّادهم، ولم يزل الأمر على ذلك سرا إلى أن التحق بخدمة السلطان والأمراء الثلاثة الذين خرجوا من الديار المصرية كما تقدم، ووصلوا إلى خدمته وهم، الأمير سيف الدين أبغية قبجق فى ثمانية وعشرين نفرا من مماليكه والأمير علاء الدين مغلطاى القازانى فى ثلاثة عشر نفرا، والأمير سيف الدين طقطاي أمير مجلس فى اثنى عشر نفرا ومن الماليك السلطانية نحو أربعين فارسا، وكان عدة جمعهم يقارب التسعين نفرا، وكان وصول أوائلهم إلى الكرك يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة، ووصلوا والسلطان بالصيد فى برية الكرك، فركب إليه الأمير سيف الدين أيتمس المحمدى أحد مماليكه من القلعة وتوجه إليه وهو يتصيد، وعرفه خبر من وصل فعاد السلطان من الصيد ووصل إلى الكرك فى نصف الليل ففتح له الأمير سيف الدين أرغون نائبه بالقلعة والمدينة وطلع إلى القلعة وأذن فى دخول من وصل إليه ممن ذكرنا فدخلوا إلى الكرك فى بكرة نهار الأربعاء الثانى والعشرين من الشهر، ومثلوا بين يدى السلطان، فأحسن إليهم وخلع عليهم، وكانوا لما خرجوا من القاهرة وجدوا تقدمة الأمير سيف الدين طوغان نائب السلطنة بقلعة البيرة [1] قد وصلت من جهته إلى الملك المظفر، فأخذوها بجملتها، وأحضروها إلى السلطان ودخلوا إلى قطيا [2] وأخذوا ما بها من المال الحاصل وأحضروه فأنعم السلطان عليهم به وأحضروا معهم أيضا خيل البريد

_ [1] قلعة البيرة: بلد قريب من سميساط بين حلب وثغور الروم، وهى قلعة حصينة مرتفعة على شاطئ الفرات (ياقوت: معجم البلدان، النجوم الزاهرة 85: 117 هامش) . [2] قطيا: قرية مصرية كانت بين القنطرة والعريش، وقد اندثرت ولم يبق منها إلا أطلال (النجوم الزاهرة: 7: 77، 8: 253 هامش) .

التى وجدوها بما مرّوا عليه من المراكز، وكان خروجهم من القاهرة باتفاق من الأمير سيف الدين سلّار ومباطنه، فعند ذلك أظهر السلطان من أمره ما كان يبطنه، وأعلن بما كان يسرّه وخرج بما كان يخفيه ويضمره، وأمر بالخطبة لنفسه فخطب له بجامعى القلعة والمدينة فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر، وأنفق فيمن وصل إلى خدمته وتجهز للمسير وأجمع على قصد دمشق واستقل ركابه العالى من قلعة الكرك بمن عنده من مماليكه، ومن وصل إلى خدمته فى الساعة الثالثة من يوم الإثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وترك بقلعة الكرك نائبه الأمير سيف الدين أرغون فى طائفة من المماليك السلطانية حتى انتهى إلى منزله الخمان [1] بالقرب من أذرعات، وكان قد كاتب الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة بحلب وغيره من النواب فلما وصل إلى هذه المنزلة وركب منها لقصد دمشق ورد عليه مملوك الأمير شمس الدين قراسنقر المذكور بأجوبة مخدومه تتضمن وفاة ولده [2] الأمير ناصر الدين محمد وأنه لا يمكنه اللحاق بالسلطان فى هذا الوقت ويقول: إن كان السلطان قد خرج من الكرك فيعود إليها ويظهر أنه إنما خرج للصيد ونحو هذا من الكلام المخذل له عن القصد ولم يكن قراسنقر كتب ذلك وإنما كتب ببذل الطاعة والنصيحة والموافقة فلما وصل مملوكه إلى دمشق ظفر به الأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة بالشام، فتحيل عليه وبذل له ذهبا وأخذ منه الكتب وغير [3] ما تضمنته إلى هذا القول، فلما وصل كتاب قراسنقر إلى السلطان بذلك عاد إلى الكرك، وكان قد التحق بركابه فى هذه السفرة من الأمراء بدمشق الأمير ركن الدين بيبرس الشرفى المعروف بالمجنون، والأمير ركن الدين بيبرس العلمى، وغيرهما من أمراء العشرات والجند، فعاد السلطان بهم جميعا إلى الكرك وكان وصوله إليها فى الساعة السابعة من يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رجب فأسكن الأمراء الذين معه بالكرك، ووصلهم بصلات وأنعم عليهم، وشرع فى إعمال الفكرة وتجهز لقصد دمشق ثانيا فلما بلغ

_ [1] الخمان: فى ك، وص «الحمان» والمثبت من ف: والخمان بفتح أوله وتشديد الميم من نواحى البثنية من أرض الشام (معجم البلدان 2: 444 تحقيق فريد الجندى ط دار كلمات العلمين ببيروت. [2] هذا اللفظ سقط من ك. [3] فى الأصول «وغيرها» والسياق يقتضى ما أثبته.

وكان أيضا قد وصل إلى السلطان كتابه

المظفر عوده إلى الكرك ظنّ أن ذلك عن عجز وخور، فكتب إليه كتبا وسيرها صحبة الأمير علاء الدين مغلطاي ابتغلى يتضمن الإنكار، والوعيد وأنه لابد أن يفعل معه ما فعل بابن الملك المعز أولاد الملك الظاهر، ولم يراقب الله تعالى فى مقالته، ولا خشى غيرة الله تعالى [1] فلما وصل كتابه بذلك حملت السلطان أنفة الملك على أن ضرب مغلطاى أبتغلى ضربا وجيعا واعتقله. وكان أيضا قد وصل إلى السلطان كتابه عند وصول الأمراء والمماليك السلطانية إلى الكرك على يد بينجار [2] يتضمن أن طائفة هربوا من القاهرة خشية من القبض عليهم، وتوجهوا نحو الشام وربما يقصدون الكرك فإن وصلوا إليه، لا يقربوا، ولا يرجع إليهم ويقبض عليهم ويعيدهم فاعتقل السلطان قاصده الأول أيضا، وترادفت المكاتبات والرسل إلى السلطان الملك الناصر من جهة النواب والأمراء تتضمن أنهم على الطاعة والموالاة وبذل النفوس والأموال بين يديه، ولم يبق من النواب ما لم ترد مطالعته بالانقياد والطاعة إلّا الأمير جمال الدين الأفرم فإنه أظهر المخالفة، وأصرّ على الامتناع، وكان قد جرد الأمير سيف الدين قطلوبك وأردفه بالأمير سيف الدين الحاج بهادر فى أربعمائة فارس وأمرهم أن يكونوا بأذرعات يمنعان السلطان الملك الناصر إن قصد دمشق ويكونا بمن معهما يزكا على [3] تلك الجهة. فلما كان فى يوم الثلاثاء حادى عشر شعبان استقل ركاب السلطان من الكرك وفى خدمته من التحق به من الأمراء والمماليك السلطانية، وترك الأمير سيف الدين أرغون فى طائفة بقلعة الكرك. فلما وصل السلطان إلى بركة زيزا [4] وهى المنزلة الثالثة من الكرك إلى جهة دمشق وصل إلى خدمته الأميران سيف الدين بهادر وسيف الدين قطلوبك ومن معهما، وقبّلا الأرض بين يديه، وبذلا الطاعة والمناصحة والمؤازرة، فسار بهم إلى أذرعات [5] ورسم بجميع خيل البريد وسياقتها من المراكز إلى دمشق

_ [1] وفى ص «غيرة الله عز وجل» . [2] مكان هذه الكلمة بياض فى ك، والمثبت من ص، وف. [3] اليزك: لفظ فارسى معناه الطلائع (السلوك 1: 105 هامش 3) . [4] زيزا: قرية كبيرة من قرى البلقاء يطؤها الحجاج ويقام بها سوق لهم، وفيها بركة عظيمة (النجوم الزاهرة 5: 53 هامش) . [5] أذرعات: من أعمال البلقاء فى أطراف الشام (معجم البلدان 1: 175) .

وكان كتاب الملك المظفر قد وصل إلى سائر

فجمعت من بيسان [1] من الغور وما بعدها من المراكز إلى دمشق، وقصد بذلك تعذر وصول البريد من الديار المصرية إلى الشام وترادفت الأمراء من دمشق إلى خدمته أولا فأولا، ولما شاهد الأمير جمال الدين نائب السلطنة بالشام ذلك من حال الأمراء، ولم يكن قد قدّم من الخدمة ما يقضى اللحاق بخدمة السلطان والانضمام إلى، ثم أجمع أمره على مفارقة دمشق، وتوجّه بعض مماليكه إلى شقيف أرنون [2] وكان خروجه من دمشق فى ليلة الأحد سادس عشر شعبان، وصحبه الأمير علاء الدين بن صبح مقدم الجبلي، والتحق بركاب السلطان جماعة من مماليكه، واستمر السلطان على المسير إلى أن وصل إلى دمشق فى الساعة السابعة من يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان ونزل، بالقصر الأبلق وانتظم له الأمر واستوثق. وكان كتاب الملك المظفر قد وصل إلى سائر النواب والأمراء بالممالك الشامية: أنه متي استدعاهم الأمير جمال الدين نائب السلطنة بالشام لا يتأخرون عن خدمته، فأوّل من استدعى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بالشام بالمملكة الصفدية فحضر بعسكر صفد فلما وصل السلطان تلقاه بالطاعة وحلف له، ثم أرسل السلطان الأمير جمال الدين آقش الأفرم فى العود، [55] وبذل له الزمان، ووعده بمضاعفة الإحسان والعفو عما سلف من ذنبه فحضر إلى الخدمة السلطانية فى يوم السبت ثانى عشرين شعبان وهو مشدود الوسط بمنديل فتلقّاه السلطان، وترجل لترجله وأحسن إليه وخلع إليه، وتحدث معه فى النيابة على عادته، ثم ترادف وصول نوّاب السلطنة بالممالك الإسلامية وعساكرها، فوصل الأمير سيف الدين تمر الساقى بعسكر حمص ثم وصل الأمير سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحماة، والأمير سيف الدين أسندمر نائب السلطنة بالفتوحات وعساكرهما فى يوم

_ [1] بيسان: مدينة بين حوران وفلسطين (معجم البلدان 1: 788) . [2] شقيف أرنون: عمرها السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارى سنة 662 هـ وكانت قد خربت فى سنة 658 وهو قلعة حصينة قرب بانياس، وحاليا تقع فى جنوب لبنان، ويقال قلعة الشقيق ومعجم البلدان 3: 403 تحقيق فريد الجندى، والمنجد فى الأعلام ص 37) .

الإثنين رابع عشرين الشهر فركب السلطان وتلقاهما، وعاملهما بما عامل به الأمير جمال الدين الأفرم، ثم وصل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة بحلب فى يوم الجمعة ثامن عشرين الشهر، فتلقاه السلطان كما تقدم، ووصل العسكر الحلبى فى بكره نهار السبت بأحسن زى وأفخر ملبوس وأكمل عدة، وقدم سائر النواب من الأموال والمماليك والخيول والأقمشة والتحف وغير ذلك ما يخرج عن الإحصاء، وظهر من حسن إخلاصهم ما لا يزيد عليه، وخطب للسلطان الملك الناصر على منابر دمشق فى يوم الجمعة ثامن عشرين شعبان، وأقيمت الجمعة بالميدان، وحمل إليه منبر وصناجق وخطب خطيب الجامع واستناب عنه، وصلى السلطان الجمعة بالميدان، والقضاة والنواب والأمراء وكذلك أيضا فى الآتية [1] فى خامس شهر رمضان وأعاد السلطان قاضى القضاة تقى الدين سليمان الحنبلى [2] ، وكان قد عزل فى أيام المظفر- فأعاده السلطان فى يوم الإثنين رابع عشرين شعبان وخلع عليه فى يوم الأربعاء، وحكم فى يوم الخميس. ولما تكامل وصول النواب والعساكر أمر السلطان بالنفقة فى سائر الجيوش، وابتدى بها فى يوم الإثنين مستهل شهر رمضان وجرّدت العساكر أولا فأولا، فجرد السلطان الأمير سيف الدين اسندمر والأمير سيف الدين تمر الساقى وأمرهما أن يتقدما إلى غزة بمن معهما، فتوجها، واستدعى السلطان الأمير سيف الدين كراى المنصورى- وكان بالقدس كما تقدم ذكر ذلك- فوصل إلى دمشق مسرعا بهمة عالية، ورغبة فى الخدمة ظاهرة، فرسم السلطان له ولمن معه من مماليكه بالنفقة، فامتنع من قبولها وسأله أن يؤذن له فى النفقة من ماله على جماعة من العسكر فشكر له ذلك، وخلع عليه وسأل أن يتقدم إلى غزة فأذن له بالتقدم بمن معه، وجمع طائفة من العرب ونفق فيهم من ماله ووصل إلى الخدمة السلطانية فى ثامن شهر رمضان من الديار المصرية أربعة من المماليك السلطانية، وأنهوا له الأحوال على جليتّها وأن جماعة من الأمراء المصريين

_ [1] أى فى الجمعة المقبلة. [2] هى تقى الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسى الحنبلى المتوفى سنة 715 هـ (البداية والنهاية 14: 75، والنجوم الزاهرة 9: 231، والدرر الكامنة 2: 146، وطبقات الحنابلة 2: 264، وشذرات الذهب 6: 35) .

ولما استقل ركاب السلطان بغزة

يترقبون قرب ركاب السلطان ليحضروا إلى الخدمة وأنهم على وجل أن يعلم بحقيقة حالهم فيقبض عليهم فبرز السلطان بالعساكر والنواب من دمشق فى بكرة نهار الثلاثاء تاسع عشر رمضان، وصحبه قاضيا القضاة نجم الدين الشافعى وصدر الدين الحنفى، والخطيب جلال الدين، وكاتب [1] الدرج وجماعة من الأعيان. ووصل إلى الخدمة الشريفة بين منزلتى إربد والقصير قبل وصوله الى العقبة جماعة من المماليك السلطانية، وهم يستحثون ركاب السلطان، فساق فى هذا اليوم منزلتين فى منزلة، ثم ترادف وصول المماليك وبعض الأمراء إلى أن حلّ ركاب السلطان بغزة فى يوم الخميس ثامن عشر الشهر، وكانت المياه بها قليلة والعساكر ومن انضم إليها قد طبقت الأرض، وشق على الناس قلة المياه، وازدحموا عليها، فأرسل الله تعالى سحابة فى بقية ذلك اليوم فأمطرت مطرا كثيرا غزيرا إلى أن جرت منه الغدران، واجتمع منه ببركة بغزّة ما شاهدت فى اليوم الثانى منه الخيل تسبح فى البركة، فحصل للعسكر بذلك غاية الرفق. ولما استقل ركاب السلطان بغزة وصل إلى باب الدّهليز الشريف الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار والأمير سيف الدين بهادر آص وكان بهادر آص قد توجّه إلى الملك المظفر فى شهر رجب وتأخر عوده فعاد الآن فى ليلة السبت العشرين من الشهر [56] ، وكان وصول الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار بمطالعة المظفر يسأل قلعة كما تقدم، ثم وصل الخبر بعودته. وفى يوم السبت العشرين من الشهر وصل إلى الخدمة السلطانية الأمراء الذين كانوا جرّدوا من الديار المصرية، وهم الأمير سيف الدين برلغى، والأمير جمال الدين أقش الأشرفى والأمير عز الدين أيبك البغدادى، والأمير شمس الدين الركن وغيرهم من الأمراء فتلقاهم السلطان وأحسن إليهم، وخلع عليهم.

_ [1] فى ص «كتاب» .

واستقل ركاب السلطان بسائر العساكر من غزة فى يوم الإثنين الثانى والعشرين من شهر رمضان ثم ترادف الأمراء بعد ذلك فى طول منازل الرمل يصل منهم فى كل منزلة جماعة، والسلطان يشمل من وصل إليه منهم بخلعه وإنعامه، وجهز الأمير سيف الدين سلار إلى السلطان الكوسات [1] والعصائب [2] ، وكان وصولها بمنزلة السعيدية [3] ثم وصل السلطان إلى بركة [4] الجب فى يوم الثلاثاء سلخ شهر رمضان وتلقاه الأمير سيف الدين سلّار وبات السلطان بهذه المنزلة وعيّد بها عيد الفطر، وركب منها ووصل إلى قلعة الجبل فى التاسعة من يوم الأربعاء، وهو يوم العيد وبات بالإسطبل ثم أصبح وصعد إلى القلعة وجلس على تخت السلطنة بقلعة الجبل فى يوم الخميس ثانى شوال، وسأل الأمير سيف الدين سلّار دستورا فى التوجه إلى الشّوبك وكانت جارية فى إقطاعه- فأجيب إلى ذلك وخلع عليه خلعة العزل من النيابة وأنعم عليه بحياصة [5] من الذهب مجوهرة وكان توجهه إلى الشوبك فى يوم جمعة ثالث شوال، وودعه الأمراء فكانت مدة نيابته عن السلطان منذ فوضها السلطان إليه فى يوم الإثنين سادس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة وإلى أن عزل إحدى عشرة سنة وأربعة أشهر وستة وعشرين يوما ورسم بإقامة ولده علاء الدين أميرا على الأبواب السلطانية، وأنعم عليه بأمره عشرة طواشية. وفى يوم الخميس سادس عشر شوال جلس السلطان بالإيوان الكبير بقلعة الجبل وحضر الأمراء إلى الخدمة على العادة، فأمر بالقبض على اثنين وعشرين أميرا من جملتهم عز الدين أيبك البغدادى، وسيف الدين بتاكز [6] وغيرهم واعتقلوا.

_ [1] الكوسات: (فارسية معربة) وهى صنوجات من نحاس تشبه الترس الصغير يدق بإحداهما على الأخرى بإيقاع مخصوص، وهى من رسوم الملك وآلاته فى العصور الوسطى (صبح الأعشى 4: 9، 13) . [2] العصائب: جمع عصابة، وهى راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه (صبح الأعشى 4: 8) . [3] منزلة السعيدية: كانت تقع فيما بين بلبيس والصالحية، وعلى مسافة ثلاث مراحل من الفسطاط (معجم البلدان 2: 445) . [4] بركة الجب: عرفت قديما ببركة الحاج وبركة جب عميرة- نسبة إلى عميرة بن جزء التجيبى صاحب الجب المعروف باسمه فى الموضع الذى يبرز إليه الحجاج عند خروجهم من مصر إلى مكة. وتعرف حاليا باسم البركة وهى قرية من قرى مركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية شرقى محطة المرج (خطط المقريزى 1: 489، والنجوم الزاهرة 5: 18 هامش- وانظر ما سبق ص 1) . [5] الحوائص: جمع حياصة: وهى المنطقة أو الحزام، وتصنع من معدن ثمين أو فضة مذهبة. أو من الذهب الخالص وقد ترصع بالجواهر، وهى جزء من ثياب التشريف، والسلطان وحده هو الذى يمنحها. وانظرLDict.VetArabe (.) Dozy: [6] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 62، 71، 76 «تناكر» وفى النجوم الزاهرة 9: 13 «باكير» .

ذكر استعادة ما أخذه الملك المظفر بيبرس

ذكر استعادة ما أخذه الملك المظفر بيبرس من أموال الخزائن وعود الأمراء الذين توجهوا صحبته والقبض عليهم. ولما استقر [السلطان الناصر] [1] بقلعة الجبل أرسل الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى والأمير سيف الدين بهادر آص إلى المظفر ركن الدين بيبرس فتوجها إلى الأعمال الإخميمية من الصعيد وحلفاه للسلطان واستعادا ما اعترف أنه التمسه من أموال الخزائن وتسلمها الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار وحضر بها فى البحر، وسافر المظفر بيبرس ومن معه والأمير سيف الدين بهادر آص فى البر الشرقى ليتوجه إلى صهيون [2] فلما وصل إلى إطفيح فارقه الأمراء الذين كانوا معه وهم الأمير بدر الدين بكتوت المفتاح والأمير عز الدين الخطيرى والأمير سيف الدين قجماز بجاص وحضروا إلى الأبواب السلطانية وصحبتهم من مماليك المذكور نحو ثلاثمائة مملوك والخيل التى كان قد أخذها من الإسطبلات السلطانية، فخلع السلطان على الأمراء الثلاثة، وأمر بسياقة الخيل والبغال إلى الإسطبلات، وفرق أكثر المماليك على الأمراء، وأقر بعضهم فى الخدمة السلطانية، ثم أمر بالقبض على الأمراء الثلاثة واعتقلهم. ذكر ما رتبه السلطان [57] وقرره من النواب والوزارة وأرباب الوظائف بأبوابه وممالكه الشريفة [3] لما عزل الأمير سيف الدين سلار وتوجه إلى الشّوبك جلس الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى فى مرتبة النيابة من غير تقليد ولا تفويض، ثم رسم له بنيابة السلطنة بالشام عوضا عن الأمير جمال الدين الأفرم، ونقل الأمير جمال الدين المذكور إلى صرخد وأنعم عليه بمائة فارس، وفوّض السلطان نيابة السلطنة بمقر مملكته وكرسى سلطنته للأمير سيف الدي بكتمر الجوكندار وأمير جنداركان [4] وفوض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز بن الخليلى [5] وذلك فى الثانى

_ [1] الإضافة للتوضيح. [2] صهيون: حصن من أعمال حمص قرب ساحل البحر (معجم البلدان 3: 438) . [3] كذا فى ك وف، وفى ص «بأبوابه الشريفة والممالك الشريفة» . [4] أمير جنداركان: كثيرا ما يورد المؤلف لفظ كان عقب الوظيفة، وذلك للدلالة على أنها كانت وظيفة المذكور قبل آخر وظيفة تولاها. [5] وكذا فى النجوم الزاهرة 9: 220، وفى حسن المحاضرة 2: 223 «فخر الدين عثمان بن مجد الدين عبد العزيز بن الخليل.

والعشرين من شوال وعوّق النشائى [1] عوضا عن الصاحب ضياء الدين النشائى بالقلعة أيّاما [1] ، ثم أفرج عنه من غير مصادرة، وفوضت نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية للأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، ونيابة السلطنة الحموية للأمير سيف الدين أسند مركرجى، ونيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات للأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى، ونيابة السلطنة بالمملكة الصّفديّة للأمير سيف الدين قطلوبك المنصورى، وعيّن للأمير سيف الدين أبغية قبجق إقطاع الأمير سيف الدين قطلوبك بدمشق، واقتطع ما كان فيه من الزيادات وأقرّ السلطان الأمير شمس الدين سنقر الكمال فى الحجبة على عادته، والأمير سيف الدين بلبان المحمدّى المعروف طرناه أمير جندار، والأمير حسام الدين قر الاجين أمير مجلس إستاد دار العالية، والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورى فى نيابة دار العدل الشريفة، ونظر الأحباس والأوقاف بالديار المصرية والبلاد الشامية. وفى يوم الأربعاء الخامس عشر من شوال أفرج السلطان عن جماعة من الأمراء الذين اعتقلوا فى الأيام الزينية [2] كتبغا وهم: الأمير علاء الدين الشيخ على، وسيف الدين جاورشى [3] قنقز وموسى وغازى ملك أخوا حمدان [4] ابن صلغاى، أخوا حمدان وناصر الدين منكلى التتارى، وسيف الدين منكجار وغيرهم، وأنعم عليهم بالإقطاعات بالشام، وأفرج عن الشيخ تقى الدين بن تيمية وقد تقدم ذكر ذلك. وفى الشهر المذكور أيضا حضر ناصر الدين محمد بن الأمير جمال الدين آقش الرومى الحسامى مطالبا بدم أبيه فأمر السلطان بالقصاص ممّن قتله فقتلوا- وكانوا سبعة-.

_ [1- 1] ما بين الرقمين إضافة من ص. [2] أى أيام الملك العادل زين كتبغا بن عبد الله المنصورى. [3] كذا فى ك، وف، والنجوم الزاهرة 9: 15. وفى ص «جاوتشى بن قنفر» . [4] فى ك، وف «عمدان» والمثبت من ص، والنجوم الزاهرة 9: 15، والسلوك 2/1: 78.

ذكر القبض على المظفر ركن الدين بيبرس

وفى نفس الشهر أمّر السلطان جماعة من مماليكه وغيرهم منهم من المماليك السلطانية الأمير سيف الدين تنكز، والأمير سيف الدين طغاي والأمير سيف الدين خاص ترك، والأمير عز الدين أيدمر الخازن، ثم أمّر طائفة أخرى بعد هذه منهم: الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، ولم يؤخره عن هؤلاء إلا أنه كان قد تأخر بالكرك حتى أحضر أدر [1] السلطان وولده الملك المنصور علاء الدين على. ذكر القبض على المظفر ركن الدين بيبرس وقتله لما فارقه الأمراء والمماليك من إطفيح كما تقدم توجّه وصحبته الأمير سيف الدين بهادر آص، وعز الدين أيدمر الشجاعى إلى قصد صهيون، وساروا على الطريق البرية [2] فلما انتهى إلى شرقى غزة على أميال منها اعترضه [3] الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة بالشام ومن معه من الأمراء، وقبضوا عليه وعلى من معه من المماليك من غير ممانعة ولا مدافعة، وعاد به الأمير شمس الدين المذكور بشرذمة يسيرة من مماليكه، وهو على بغل مشدود الوسط بمنديل، ووصل به إلى منزلة الخطارة- وهى على مسافة يومين من القاهرة- فوافاه لها الأمير سيف الدين أسندمر كرجى نائب السلطنة بحماة [58] وقد جرّد من الباب الشريف فى جماعة من المماليك السلطانية- فتسلمهّ بهذه المنزلة من الأمير شمس الدين، وعادبه إلى القاهرة، ووصل إلى قلعة الجبل سحر يوم الخميس رابع عشر ذى القعدة سنة تسع وسبعمائة، وأدخل من باب الإسطبل السلطانى، ومثل بين يدى السلطان فى مجلس خلوة حضره الأمراء الخاصكية، ويقال إن السلطان وبّخه وأنكر عليه تجرّيه وتطاوله إلى ما لا يستحقه من الملك وآخر الأمر أن السلطان سأله [4] عن مغلطاي السّويدى أحد رجّاله الحلقة، وكان قد حضر بين يدى نائب السلطنة الأمير سيف الدين سلّار وتضرر من ضعف إقطاعه فعارضه بيبرس فى حال إمرته، فقال له السّويدى: أنت قد وسّع الله عليك أو أعطاك ما أعطاك، وأنا

_ [1] آدر، وأدر والسلطان: أى حريمه وجواريه. [2] فى الأصول «البدرية» ولعل الصواب ما أثبته. وقد مضى أنه سار ومن معه على طريق البر الشرقى للنيل. [3] فى ك «أعرضه» والمثبت من ص، وف. [4] فى ك «يسأله» والمثبت من ص، وف.

وفى هذه السنة أمر السلطان بالقبض

رجل جندىّ أشكو لنائب السلطان ضعف إقطاعى، فما يحل لك أن تتعصّب عليّ فغضب منه وأحضره إلى داره وضربه بالدبابيس ضربا مؤلما فمات ويقال إن بيبرس أعترف بذلك، فأمر السلطان بقتله قودا بمغلطاي السّويدى، فقتل خنقا فى بقية يوم الخميس المذكور، ودفن ليلة الجمعة منتصف ذى القعدة، وأخرج من باب السّرّ من جهة القرافة وعفّى أثر قبره، ثم أمر السلطان فى سابع وعشرين الشهر بنقله إلى تربته التى بالقرافة، فنقل إليها ودفن بها ليلا، ثم أمر السلطان بنقل الأمراء الذين قبض عليهم من قلعة الجبل إلى ثغر الإسكندرية، فتوجه بهم الأمير ناصر الدين بن أمير سلاح. وفى هذه السنة أمر السلطان بالقبض على الأمير علاء الدين مغلطاي القازانى أحد من توجه إليه إلى الكرك، وسبب ذلك أنه شرع يدل بخدمته، وأنعم السلطان عليه بإقطاع بالديار المصرية فرده فإعطاه غيره فرد الثانى والثالث فنقم السلطان عليه ذلك، وأمر باعتقاله له بالزردخاناه [1] ثم نقله إلى البرّج فى عشية النهار إلى الجب، ثم إلى الإسكندرية، وبلغه أيضا عن الأميرين سيف الدين أبغيه قبجق وركن الدين بيبرس العلمى بدمشق أنهما تطاولا على الرعيّة ومد أيديهما إلى الظلمّ فأمر بالقبض عليهما: فقبض علي أبغية فى يوم الأحد ثالث عشرين ذى الحجة وقبض على بيبرس العلمى فى يوم الإثنين رابع عشرين الشهر، واعتقلا بقلعة دمشق، فمات أبغية فى معتقله فى جمادى الآخرة سنة عشر وسبعمائة. وفيها فى العشر الآخر من ذى الحجة رسم السلطان للأمير سيف الدين سلّار بأمرة مائة طواشى وعيّن لخاصة وأصحابه من بلاد الكرك أجود ضياعها مضافا إلى الشّوبك، فنظر إلى ذلك مع كثرته فوجده يسيرا بالنسبة إلى ما كان بيده بالديار المصرية.

_ [1] الزردخاناه: هى دار السلاح، وقد تطلق على السلاح نفسه، ومن معناها أيضا السجن المخصص للمجرمين من الأمراء وأصحاب الرتب (السلوك 1/1: 306 هامش الدكتور زيادة.

وفى هذه السنة توفى القاضى عز الدين بن عبد العزيز ولد القاضى شرف الدين بن محمد بن القيسرانى [1] أحد أعيان كتاب الدرج الشريف وفضلائهم، والمدرس بالمدرسة الفخريّة، وكانت وفاته فى يوم الخميس عاشر صفر، ودفن بكرة نهار الجمعة بالقرافة رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورى [2] بداره بالقاهرة فى شهر ربيع الأول، ودفن بتربته التى أنشأها خارج باب النصر، وكان من الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بالديار المصرية. وتوفى الشيخ العارف العالم تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله بن عبد الرحمن بن محمد بن الحسن الجذامى الإسكندري [3] فى ليلة السبت حادى عشر جمادى الآخرة، وكان من الصلحاء، يتكلم على كرسيّ ويعظ الناس، وله معرفة بكلام الصوفية وأرباب الطريق والسلف، وله كلام حسن مفيد فى هذا الشأن- رحمه الله تعالى-. وتوفى القاضى نبيه الدين حسن بن بدر الدين نصر بن الحسن الإسعردى [4] [59] بالقاهرة فى مستهل جمادى الآخرة، وكان قد ترشّح للمناصب العالية- رحمه الله تعالى-. وتوفى الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى فى سابع شهر رمضان وكان من أكابر أمراء الديار المصرية مقدمى الألوف ومن المماليك المنصورية فى زمن الإمرة. وتوفى الأمير سيف الدين طغريل [5] الإيغانى فى عاشر الشهر وقد تقدم ذكر ذلك.

_ [1] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 492، والنجوم الزاهرة 8: 280، والدليل الشافى 1: 416. [2] له ترجمة فى البداية والنهاية 14: 57، وذيول العبر ص 48، والدرر الكامنة، 2: 177، والنجوم الزاهرة 8: 278، والدليل الشافى 1: 327. [3] له ترجمة فى ذيول العبر ص 48، والنجوم الزاهرة 9: 280، وطبقات الشافعية 5: 176، والدرر الكامنة 1: 142. [4] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 47، وذيول العبر ص 49، وشذرات الذهب 6: 20. [5] هذا اللفظ من ص، وف. وهو سيف الدين طغريل بن عبد الله الإيغانى. (النجوم الزاهرة 8: 279) .

واستهلت سنة عشر وسبعمائة

وتوفى من الأمراء بدمشق الأمير شرف الدين قيران الدوادارى المنصورى المشد- كان- بدمشق فى يوم الجمعة سابع عشرين شهر ربيع الآخر ودفن يقاسيون وكان بعد انفصاله من شد الشام ونكبته قد أمّر بحلب، ثم قطع خبزه، وحضر ليتوجه إلى الأبواب السلطانية فأدركته منيته، فمات رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير سيف الدين بلغاق ابن الأمير بدر الدين كونجك الخوارزمى فى سابع جمادى الأولى بقرية المغاربة من عمل بيروت الجارية فى أوقاف القدس، وحمل إلى قاسيون فدفن به، وكان أميرا صالحا جيدا سمع الحديث وولى آخر عمره نظر أوقاف القدس والخليل- رحمه الله تعالى. وتوفى أيضا الأمير علاء الدين أقطوان الدوادارى [1] بدمشق. واستهلت سنة عشر وسبعمائة فى هذه السنة فى المحرم ولى الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب نيابة السلطنة وتقدمة العسكر بغزة، عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان البدرى، وتوجّه إلى دمشق فى رابع عشرين الشهر، واجتمع بنائب السلطنة، وتوجه إلى غزة فى يوم الجمعة سابع عشرين الشهر. وفيها فوّضت وزارة دمشق لنجم الدين البصروى [2] على عادة تقى الدين توبة التكريتى [3] فوصل إلى دمشق سابع صفر. وفى هذه السنة رسم لى أن أتوجه إلى المملكة الطرابلسية صاحب الديوان بها وكتب توقيعى بذلك وهو من إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبى، وبخط ولده القاضى جمال الدين إبراهيم، وهو مؤرخ فى الخامس عشر من المحرم، وتوجهت فى مستهل صفر، ووصلت إلى طرابلس وباشرت الوظيفة ثم انتقلت [4] إلى نظر الجيوش [5] بها فى مستهل شوال من السنة عوضا عن

_ [1] فى ك «الدوادارى» والمثبت من ص وف والسلوك 2/1: 85. وهو أقطوان الدوادارى. له ترجمة فى الدرر الكامنة 1: 394. [2] فى ك وف «القصروى» المثبت من ص، والسلوك 2/1: 90، وفى البداية والنهاية 14: 58 «النجم محمد بن عثمان البصراوى. [3] هو الصاحب تقى الدين توبة بن على بن مهاجر بن شجاع الدين بن توبة الربعى التكريتى توفى سنة 699 هـ عن نحو ثمانين سنة، وولى وزارة دمشق سبع مرات (السلوك 1/2: 881، والنجوم الزاهرة 8: 188، والدليل الشافى 1: 229، وفوات الوفيات 1: 261، وشذرات الذهب 5: 451) . [4] فى ص «تنقلت» . [5] فى ص «الجيش» .

ذكر الاستبدال بقاضى القضاة الشافعى والحنفى بالديار المصرية

نجم الدين القصير، واتّفقت وفاته فى سابع شوال قبل وصول توقيعى بذلك فباشرت فى أول هذه السنة عوضا عن التاج الطويل، وفى آخرها عوضا عن النجم القصير. ذكر الاستبدال بقاضى القضاة الشافعى والحنفى بالديار المصرية وفى هذه السنة فى يوم السبت التاسع والعشرين من صفر عزل قاضى القضاة بدر [1] الدين ابن جماعة عن القضاء بالديار المصرية وفوض ذلك إلى نائبه القاضى جمال الدين سليمان بن عمر بن سالم الأذرعى المعروف بالذرعى [2] وخلع عليه واستقلّ بالقضاة، وطلب قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الشيخ صفى الدين الحريرى الحنفى من دمشق إلى الديار المصرية لولاية قضاء القضاة على مذهب أبى حنيفه فوصل البريد بطلبه إلى دمشق فركب منها فى العشرين من شهر ربيع الأول، ووصل القاهرة، وفوض إليه قضاء القضاة الحنفية فى رابع شهر ربيع الآخر عوضا عن القاضى شمس الدين أحمد السّروجى وخلع عليه ولم تطل مدة القاضى شمس الدين السّروجى بعد العزل فإنه مات فى هذه السنة على ما يذكر إن شاء الله تعالى. وفيها بلغ السلطان عن إخوة الأمير سيف الدين سلّار ما أوجب القبض عليهم واعتقالهم وكتب إلى أخيهم [60] يعرفه ذلك وقبض [3] أيضا على جماعة من الأمراء بالديار المصرية، وكتب إلى الشام بالقبض على جماعة من أمراء دمشق فى شهر ربيع الأول؛ فقبض على سبعة منهم الأمير علاء الدين أقطوان الأشرفى، والأمير سيف الدين الأقوش، والأمير علاء الدين الشيخ على التتارى وغيرهم وكتب إلى طرابلس بالقبض على الأمير حسام الدين طرنطاى المحمدى، وناصر الدين منكلى، وسيف الدين منكجار [4] ومرسى وغازى أولاد صلغاى.

_ [1] فى الأصول «عز الدين» والمثبت من النجوم الزاهرة 9: 9، 298. وهو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة قاضى القضاة بدر الدين الكنانى الحموى الشافعى، توفى فى سنة 733 هـ (الوافى بالوفيات 2: 18، والدرر الكامنة 3: 367، والبداية والنهاية 14: 163، والدليل الشافى 2: 578، وطبقات الشافعية 5: 230، ودول الإسلام 2: 183، وشذرات الذهب 6: 105) . [2] انظر ترجمته فى دول الإسلام 2: 183، والبداية والنهاية 14: 167، والدرر الكامنة 2: 159، وطبقات الشافعية 6: 15. [3] فى ك «فقبض» والمثبت من ص، وف. [4] فى ك «منكهاى» والمثبت من ص، وف.

ذكر القبض على الأمير سيف الدين سلار ووفاته رحمه الله تعالى

ذكر القبض على الأمير سيف الدين سلار ووفاته رحمه الله تعالى وفى هذه السنة قبض على الأمير سيف الدين سلّار المنصورى الصالحى العلائى وسبب ذلك أن السلطان اتصل به أنه كاتب جماعة من الأمراء، وشرع فى استفسادهم وإثارة فتنة، فبادر السلطان بالقبض على من ذكرنا من الأمراء ممن اتهم بمباطنته، وكتب إلى الأمير سيف الدين سلّار المذكور يستدعيه إلى الأبواب السلطانية، وجهز إليه الأمير ناصر الدين محمد بن أمير سلاح، فتوقّف واعتذر عن الحضور، فأرسل إليه الأمير علم الدين سنجر الجاولى، ثم الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورى، فحضر وكان حضوره فى سلخ شهر ربيع الآخر تحت الطاعة، وحال وصوله اعتقل واسترجع السلطان قرية المعيصرة والإسطبل من قرى المرج بدمشق، وكان السلطان قد ملّكه من هذه القرية الذى انتقل إليه من ميراث الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى وزوجته الأشرفيه، وهو الربع والسدس في سنة ثلاث وسبعمائة، ثم ابتاع سلّار من الورثة ما بقى منها، فاسترجعها السلطان منه الآن بمكتوب شرعى، ولم تطل مدة اعتقال سلّار فإنه توفى إلى- رحمة الله تعالى- فى رابع عشرين جمادى الأولى من السنة، ودفن فى الخامس والعشرين من الشهر بتربته التى أنشأها بجوار الكبش بظاهر القاهرة، ووقعت الحوطة على موجوده وأمواله وحواصله وذخائره، ووصل طلبه [1] من الشّوبك [2] فقرّقت مماليكه على الأمراء ثم ماتت والدته بعده بأيام يسيرة ودفنت عنده. وسلّار هذا- رحمه الله تعالى- كان من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون فى أيام إمرته، وهو من كسب التتار فى وقعة ابلستين [3] فى أواخر الدولة الظاهرية، وأعطاه السلطان لولده الملك الصالح علاء الدين،

_ [1] الطلب: الضبط بالشكل من السلوك 2/1: 88. والطلب هو الفرقة من المماليك أو العسكر والحرس الخاص بالأمير (النجوم الزاهرة 14: 13 هامش) . [2] الشوبك: قلعة حصينة فى أطراف الشام بين عمان والكرك وأيلة والقلزم. قرب الكرك (معجم البلدان 3: 332) . [3] أبلستين: مدينة مشهورة ببلاد الروم، وسلطانها من ولد قليج أرسلان السلجوقى، قريبة أبسس مدينة أصحاب الكهف (معجم البلدان 1: 93) .

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية

فاختص به وخدمه وتقدم عنده، أخبرنى الأمير بدر الدين بكتوب الشرفى المنصورى، وكان من الدّواداريّة المنصورية- قال: توجه الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور إلى الصيد فأرسل إلى السلطان من صيده خمسين حملا، وأرسل إلى الأمير حسام الدين طرنّطاى خمسة أحمال، وأرسل إلى غيره وأرسل بذلك الأمير سيف الدين سلّار قال ففرح السلطان بذلك فرحا شديدا، وحضر الأمير حسام طرنطاى إلى خدمة السلطان والصيد بين يديه، فأراه ذلك وقال له أى شئ تنعم به على سلّار، فقال له طرنطاى، سلّار مملوك مولانا السلطان ومملوك ولده الملك الصالح، والسلطان الملك الصالح يحبّ أن يفرح بمملوكه أمير عشرة، قال فنظر إليه السلطان وقال: يا طرنطاى، والله إن دولة يكون فيها سلّار أمير عشرة دولة كذا وأمر له بخمسة آلآف درهم إنعاما ولم يسمح له بإمرة عشرة، ثم أمّر بعد ذلك، وبلغ فى نيابته من التمكن ونفاذ الكلمة والاستقلال بالأمر وكثرة الإقطاعات، وسعة الأموال والمتاجر وغير ذلك ما لم يبلغه نائب سلطنة قبله، وكان يعد من الشجعان، ومن عقلاء الناس- رحمه الله تعالى. ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية للأمير جمال الدين الأفرم [61] فى هذه السنة فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكه الطرابلسية والفتوحات للأمير جمال الدين آقش الأفرم وسبب ذلك أن الأمير سيف الدين بهادر الحلبى الحاج- نائب السلطنة بها- توفى إلى رحمة الله تعالى فى يوم الأحد- العاشرة من النهار- ثامن عشر ربيع الآخر بطرابلس، ودفن بها، وطولع السلطان بذلك، فرسم للأمير جمال الدين المذكور أن يتوجه إليها من صرخد، فاستعفى من ذلك، فرسم بعود الأمير سيف الدين أسندمر كرجى إليها، فاستعفى أيضا، وصمم أن لا يعود إلى طرابلس، فرسم ثانيا للأمير جمال الدين أن يتوجه إليها وكتب تقليده بالنيابة ومنشوره بالإقطاع، وتوجّه إليه بذلك من الأبواب السلطانية الأمير ركن الدين بيبرس الأوحدى، فنقله من صرخد إلى طرابلس، وكان وصوله إليها فى نصف شهر رجب سنة عشر وسبعمائة.

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحموية للأمير عماد الدين إسماعيل وانتقال الأمير سيف الدين أسدمر إلى حلب.

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحموية للأمير عماد الدين إسماعيل وانتقال الأمير سيف الدين أسدمر إلى حلب. وفى هذه السنة وصل الأمير حسام الدين مهنّا [1] إلى الأبواب السلطانية فعامله السلطان بالإحسان والقبول على عادته فشكا من الأمير سيف الدين أسندمر كرجى نائب السلطنة بحماة أو ذكر سوء اعتماده، ففوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الحموية للأمير عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل على، ورسم بانتقال الأمير سيف الدين أسندمر إلى طرابلس، فتوقف عن العود إليها، ووصل الأمير عماد الدين إلى مدينة حماة ونزل بظاهرها فى أواخر جمادى الآخرة، وما أمكنه الدخول إليها، والأمير سيف الدين أسندمر بها، واتفقت وفاة الأمير سيف الدين قبجق المنصورى نائب بالمملكة الحلبية، فتوجه أسندمر من حماة إلى جهة حلب، وكتب إلى السلطان يقول: إن المواعيد الشريفة تقدمت للملوك أنه متى شغرت نيابة حلب تكون للمملوك، وقد شغرت الآن وتوجّه المملوك إليها حسب المواعيد الشريفة فأجابه السلطان إلى ذلك وأدركه تقليد النيابة ومنشور الإقطاع قبل دخوله إلى حلب، واستقر بها الأمير عماد الدين بحماة. وفى شهر ربيع الأول قبض على الأمير فخر الدين إياز نائب السلطنة بقلعة المسلمين [2] ، وأوقعت الحوطة على موجوده، ووصل إلى دمشق فى أواخر الشهر، ونسب إلى أنه كان يظهر الطاعة ويضمر العصيان ثم فوض إليه شاد الدواوين بدمشق عوضا عن الأمير سيف الدين كتبغا المنصورى رأس نوبه، ووصل إلى دمشق فى يوم الإثنين رابع عشر رمضان، وباشر فى يوم الخميس سابع عشر الشهر، وكان كتبغا قد ولى شاد الشام فى الثالث والعشرين من شوال سنة تسع وسبعمائة، عوضا عن الأمير سيف الدين أقجبا المنصورى.

_ [1] هو الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل والعرب بالشام، توفى 735 هـ، وانظر البداية والنهاية 14: 172، والدرر الكامنة 5: 138، والسلوك 2/1: 389. [2] قلعة المسلمين: تقع غربى الفرات مقابل البيرة، وتتوسط بينها وبين سميساط، وكانت تسمى قلعة الروم، فلما فتحها الأشرف خليل بن قلاوون سماها قلعة المسلمين (معجم البلدان 4: 164، وصبح الأعشى 4: 119) .

ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب

ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب فى هذه السنة استدعى الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى من نيابة السلطنة بغزة إلى الأبواب الشريفة، وفوّضت إليه الوزارة وتدبير الدولة [62] فى حادى عشر رمضان، وعزل الصاحب فخر الدين عمر الخليلى من الوزارة، وولى نيابة [1] غزة الأمير سيف الدين قطلقتمر [2] وفيها وصلت رسل الأشكرى وصحبتهم رسل الكرج [3] إلى الأبواب السلطانية يسألون إعادة كنيسة المصلبية بالقدس الشريف إليهم وكان الشيخ خضر قد انتزعها فى الدولة الظاهرية وجعلها زاوية- كما تقدم- فأعيدت إليه بمقتضى فتاوى العلماء أنه لا يجوز اغتصابها ... وسأل الأشكرى إجراء أهل الذمة بالديار المصرية على عادتهم، وفتح كنائسهم، فأجيب إلى ذلك وفتحت لهم كنيستان للملكية واليعاقبة، وكنيسة لليهود بمصر، ورسم لهم بالاستواء، فى الركوب وكانوا قبل ذلك يركبون عرضا من جهة واحدة. ذكر تفويض الوزارة بدمشق للرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى وفى ذى القعدة من سنة عشر وسبعمائة وصل تقليد الوزارة بدمشق للرئيس عز الدين بن القلانسى فتوقف عن القبول واستعفى فألزم بالمباشرة، ولبس التشريف فى يوم الخميس ثالث ذى القعدة وركب من داره وشاد الدواوين فى خدمته، وأرباب الدولة وتوجه إلى نائب السلطنة وباشر وجلس بالدار الحسامية المشرفة على الديوان.

_ [1] فى ك «نائب» والمثبت من ص، وف. [2] فى الأصول «قلقطمر» والمثبت من السلوك 2/1: 89، 101، والنجوم الزاهرة 9: 24، ويرسم قطلوقتمر. وتوفى سنة بضع عشرة وسبعمائة. [3] الكرج- بضم فسكون: جيل من الناس، يدينون بالنصرانية، كانوا يسكنون جبال القبق وبلد السرير، فقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس ولهم ولاية تنسب إليهم (معجم البلدان 4: 251.

ذكر القبض على الأمير سيف الدين أسندمر

ذكر القبض على الأمير سيف الدين أسندمر كرجى وتفويض نيابة السلطنة بحلب للأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى وتفويض نيابة السلطنة بالشام للأمير سيف الدين كراى. وفى هذه السنة اتصل بالسلطان عن الأمير سيف الدين أسندمر نائب السلطنة بحلب أشياء لا يمكن الإقرار [1] عليها من الظلم والعسف وأخذ الأموال وأضاف إليها ما اعتمده بحماة، فجرّد السلطان من الديار المصرية الأمير سيف الدين كراى المنصورى والأمير شمس الدين سنقر الكمالى الحاجب، والأمير سيف الدين باينجار [2] والأمير عز الدين أيبك الرّومى ومضافيهم، وجعل التقدمة على الجيش للأمير سيف الدين كراى المذكور، وتوجهوا ووصلوا إلى دمشق فى يوم الأحد ثالث عشر ذى القعدة، ونزلوا بمنزلة [3] القابون، وجرّد من دمشق جماعة والمقدم عليهم الأمير سيف الدين بهادر آص، وتوجهوا بجملتهم وجرّد جماعة من الجيش الطرابلسى واجتمعوا بجملتهم على حمص ووقعت الشائعة أن قصد العسكر الدخول إلى بلاد الأرمن، ثم ركب هذا الجيش من حمص فى ليلة عيد النحر قبل غروب الشمس، فساقوا طول الليل ونهار العيد بجملته، وثلث الليلة المستقبلة، فوصلوا إلى حلب وقد تقطعت أكثر الجيوش لشدة السوق، ووصلوا والأمير سيف الدين أسندمر بدار السلطنة، فأحاطوا بها، وكان الخبر قد وصل إليه فأغلق باب الدار، وكان بالقرب من دار السلطنة أخشاب وعجل قد هيئت لجرّ أعواد المجانيق إلى سيس، فأمر الأمير سيف الدين كراى بجرها إلى رحبة باب الدار وتوعير الطريق بها خوفا من أن يركب ويهجم على العسكر، واستمرت العساكر تتواصل فى طول تلك الليلة، ثم أرسل إليه ناصر الدين أمير سلاح فدخل عليه واجتمع به، ودخل إليه أيضا غيره من الأمراء، ثم خرج هو فى بكرة نهار السبت حادى عشر ذى الحجة، ونقل إلى

_ [1] فى ك «الاحتراز» والمثبت من ص، وف. [2] كذا الرسم فى الأصول «باينجار» النجوم الزاهرة 9: 27، والسلوك 2/1: 95 «ببنجار» وقد توفى فى سنة 731 هـ. [3] منزلة القابون: قابون مرضع بينه وبين دمشق ميل واحد فى طريق القاصد إلى العراق، فى وسط البساتين (معجم البلدان 4: 290) .

قلعة حلب وقد أوقعت الحوطة على موجوده، ثم جهز إلى الأبواب السلطانية صحبه جماعة من الأمراء منهم الأمير سيف الدين منكوتمر الطباخى، فوصلوا به فاعتقل بقلعة الجبل، ثم نقل إلى الإسكندرية، ثم إلى قلعة الكرك ومات بها. وفيها أيضا بعد القبض على أسندمر قبض على الأمير سيف الدين طوغان نائب قلعة [1] البيرة [63] وكان القبض عليه باتفاق من رجّالة القلعة. وذلك أن الأمراء كتبوا إليه أن بعض مماليك أسندمر قد هربوا فركّب مماليكك ومن تثق به خلفهم إلى أن تعيدهم، ففعل ذلك، وبقى بالقلعة وحده، فقبض عليه رجال القلعة واعتقلوه إلى أن حضر من العسكر من تسلّمه وسيّر إلى الأبواب السلطانية تحت الاحتياط. ولما قبض على الأمير سيف الدين أسندمر رسم بنقل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى من نيابة السلطنة بالشام إلى حلب بسؤاله لذلك، وتوجّه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصرى إلى الشام بتقليدين أحدهما للأمير شمس الدين قراسنقر بنيابة السلطنة بحلب، والثانى للأمير سيف الدين كراي المنصورى بنيابة السلطنة بدمشق، فوصل إلى دمشق فى يوم السبت خامس عشر ذى الحجة، فتجهز الأمير شمس الدين للسفر، فلما كان فى يوم الثلاثاء ورد عليه كتاب من أحد مماليكه بحلب يذكر أن الأمير شمس الدين سنقر الكمالى تحدث فى نيابة السلطنة بحلب، فخشى قراسنقر أن يكون الغرض القبض عليه فشاع أنه فرّق ما فى خزانته من الذهب على مماليكه، وعزم على الهرب، ونقل حريمه من القصر إلى داره التى بدمشق داخل باب الفراديس، واتصل هذا الخبر بالأمراء فركب الأمير ركن الدين بيبرس العلائى وجماعة من العسكر وأحاطوا بالقصر الأبلق فى ليلة الأربعاء فلما أصبح اجتمع هو والعلائى وسأله عن السبب الحامل له على ما فعل، فذكر ما بلغه عنه، ثم توجّه الأمير شمس الدين إلى حلب من دمشق فى يوم الأحد ثالث محرم سنة إحدى عشرة وسبعمائة وتوجه الأمير سيف الدين أرغون إلى حلب لإحضار الأمير سيف الدين كراى إلى دمشق، فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة على ما نذكره.

_ [1] سبق التعليق عليها.

ذكر حادثة الأميرين مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح. وسيف الدين بتخاص والقبض عليهما

ذكر حادثة الأميرين مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح. وسيف الدين بتخاص والقبض عليهما كان القبض على الأمير سيف الدين بتخاص فى سلخ ذى الحجة سنة عشر وسبعمائة، وسبب ذلك أن السلطان بلغه أن المذكور حسّن للأمير مظفر الدين موسى ابن أخيه السلطان الملك الصالح الخروج على عمه السلطان الملك الناصر، وطلب الملك لنفسه، واتفقا على ذلك وعزما على إثارة فتنة، واعتضد بمماليك بيبرس المنعوت بالمظفر، وكانوا قد تفرقوا عند الأمراء، فقرر معهم أن كل مملوك يثب على أميره فيقتله ثم يتجمعون على الأمير مظفر الدين وبتخاص، وتثور الفتنة. فلما تحقق السلطان ذلك جلس فى ليلة الخميس سلخ ذى الحجة، وطلب الأمير سيف الدين بتخاص. وكان يسكن بقلعة الجبل بدار العدل الكاملية. فعلم المراد بطلبه وتحقق أن السلطان بلغه ما اتفقا عليه فأغلق داره وامتنع من الإجابة؛ ووقف مماليكه بأعلى الدار وبأيديهم قسيهم للممانعة عنه، وترددت الرسائل من السلطان فى طلبه وهو لا يجيب إلى الحضور، وقصد خلع الشباك الكبير الذى بالدار المطل على دركات القلعة والخروج منه، فأرسل السلطان جماعة من المماليك الأوشاقية وغيرهم، فوقفوا تحت الشباك، فتعذر عليه ما دبّره وحضر إليه الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى وعنّفه ولامه على ما فعله، وقال له إن السلطان فى هذا الوقت قد طلب سائر الأمراء وطلّبت من جملتهم، فلا تجعل لك ذنبا. وكان قد لبس عدة الحرب فنزعها وخرج وحضر بين يدى السلطان، فأمر بالقبض عليه واعتقاله، وطلب السلطان الأمير مظفّر الدين موسى ابن أخيه الملك الصالح، فهرب من داره بالقاهرة، فرسم السلطان بهدم الأماكن التى يظّن أنه اختفى بهاء وندب لذلك الأمير علاء الدين أيدغدى شقير [1] وغيره، فهدموا بعض الأماكن واشتد الأمر يومى الخميس والجمعة مستهل محرم سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى بعد الصلاة، فحضر بعض فقهاء المكاتب وذكر أنه أختفى عند سيف الدين بلبان

_ [1] هو الأمير علاء الدين أيدغدى المنكوغرى، المعروف بشقير، وكان من مماليك لاجين، وقتل سنة 715 هـ (الدرر الكامنة 1: 425) .

وفى سنة عشر وسبعمائة

أستاذ دار قطز بن الفارقانية فى حارة [1] الوزيرية، فقبض عليه [46] وأحضر إلى السلطان، فأمر أن يسمر الذى أخفاه، فسمر وطيف به على جمل، ثم شفع فيه فأطلق، وأحضر السلطان الأمير موسى وبتخاص [وقررهما] [2] فأقر كل منهما على الآخر فعرف الأمير [3] موسى ببعض قاعات القلعة، ثم أخرج منها فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وأشيع أنه جهز إلى اليمن، ثم أظهر السلطان موته فى العشر الأول من صفر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وأمر بعمل عزائه فعملته أمّه منكبك ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وثبتت وفاته على الحكام، وكان ممن شهد بوفاته الطواشى شجاع الدين عنبر الّلالا، ولما قبض السلطان عليهما أمر بالقبض على جماعة من المماليك الركنية وقطع يد أحدهم، وكان للأمير سيف الدين بتخاص؛ لأنه رمى فردة نشاب عند طلب بتخاص، ثم شفع فى بقيتهم. وفى سنة عشر وسبعمائة توفى قاضى القضاة شمس [4] الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغنى السّروجى الحنفى معزولا عن القضاء وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن بالقرافة الصّغرى، بقرب تربة الإمام الشافعى، ومولده سنة سبع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى عز الدين الحسن بن الحارث ابن مسكين [5] الشافعى، بداره بمصر فى ليلة السبت ثامن جمادى الأولى، ودفن من الغد بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، عين لقضاه القضاة ولم يل.

_ [1] حارة الوزيرية: كانت فى المنطقة التى تحد من الشمال حاليا بعطفة الصاوى، ومن الغرب بشارع درب سعادة، ومن الجنوب بالجزء الغربى من سكة النبوية، ومن الشرق بالجزء الغربى من حارة الجودرية (النجوم الزاهرة 4: 51 هامش) . [2] كلمة «قررها» ساقطة من ك، وف. [3] كذا فى ك. وفى ص الكلمة غير منقوطة. وفى السلوك 2/1: 922، والنجوم الزاهرة 9: 26 «فحمل إلى القلعة وسجن بها» . [4] ترجم له النجوم الزاهرة 9: 212، والدرر الكامنة 1: 96، والطبقات السنية للتميمى 1: 300، والبداية والنهاية 14: 60، وذيول العبر ص 53، والدليل الشافى 1: 34. [5] هو عز الدين الحسن بن الحارث بن الحسين بن يحيى بن خليفة بن نجا بن حسن بن محمد بن ولد الحارث ابن مسكين (السلوك 2/1: 95، وحسن المحاضرة 1: 422.

وتوفى القاضى شهاب الدين أحمد بن علاء الدين بن عبادة وكيل الخواص الشريفة، وكانت وفاته بباب داره بالقاهرة، فى ليلة الأحد سادس عشر جمادى الأولى ودفن من الغد بتربته بالقرافة، وولى وكالة الخواصّ بعده، القاضى كريم الدين عبد الكريم [1] ، وهو الذى كان ناظر ديوان بيبرس الجاشنكير المنعوت بالمظفر، وكان السلطان شديد الكراهية له، وصمم على قتله، ثم انتقل من هذه الرتبة إلى منزلة الخصوصية والتمكن من الدولة وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وتوفى القاضى أمين الدين أبو بكر ابن وجيه الدين عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الوقاقى ناظر الدواوين بالديار المصرية فى ليلة الأحد الثالث والعشرين من جمادى الأولى، ودفن بتربته بالقرافة، وكان رحمه الله تعالى جيدا خيّرا كثير المروءة والإحسان إلى خلق الله تعالى. وتوفى فى ثالث عشرين [2] جمادى الأولى الأمير خضر ابن الخليفة [3] المستكفى بالله أبى الربيع سليمان، ودفن بتربته بجوار مشهد السيدة نفيسة. وتوفى القاضى بدر الدين أبو البركات عبد اللطيف ابن قاضى القضاء تقى الدين محمد بن الحسين بن رزين الحموى [4] بالقاهرة فى يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الآخر، ودفن من يومه عند والده بالقرافة، وكان قاضى العساكر المنصورة، ومولده بدمشق فى تسع وأربعين وستمائة. وتوفى الأمير سيف الدين برلغى الأشرفى [5] فى ليلة الأربعاء ثانى شهر رجب ودفن، وذلك بعد القبض عليه واعتقاله، رحمه الله وتوفي الملك المنصور علاء الدين على ابن الملك الناصر فى ليلة الجمعة المسفرة عن حادى عشر رجب بقلعة الجبل، ودفن من الغد بتربته بالقبة الناصرية بالقاهرة، وكان

_ [1] هو كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله بن السديد المصرى، كريم الدين الكبير ناظر الخواص. قتله السلطان الناصر محمد بن قلاوون فى سنة 724 هـ (الدرر الكامنة 3: 15، والنجوم الزاهرة 9: 75، والدليل الشافى 1: 426، وشذرات الذهب 6: 63) . [2] فى ك، وف «ثالث عشر» . [3] هو الأمير خضر بن سليمان بن أحمد العباسى. كان ولى عهد والده المستكفى بن الحاكم. ومات وهو شاب فى جمادى الآخرة بخلاف ما ورد هنا. الدرر الكامنة 2: 84) . [4] ترجم له شذرات الذهب 26 فى وفيات الأعيان سنة 711 هـ وقال: وفيها أو فى التى قبلها جزم به غير واحد. [5] ترجم له النجوم الزاهرة 9: 216، والدرر الكامنة 2: 9، والدليل الشافى 1: 190.

السلطان والده فى الصيد، فنزل نائب السلطنة الأمير سيف الدين بكتمر والأمراء مشاة أمام تابوته إلى أن دفن، وكان عمره ست سنين وشهورا، ولما مات وقفت والدته أردكين ابنة الأمير سيف الدين نوكيه ما خصها بالإرث الشرعى عن زوجها الملك الأشرف وابنتها منه من خان دار [1] الطعم بدمشق وهو ثلاثة أسهم وثلث سهم وربع سهم وثمن سهم وسدس عشر سهم، وشرطت أن يرصد ما يتحصّل من ريع هذه الحصة المذكورة لثمن خبز ويفرق على أهل المكان من القراء والمؤذنين والقومة وغيرهم. وتوفى القاضى بهاء الدين عبد الرحمن ابن القاضى الخطيب [56] عماد الدين على بن عبد العزيز بن السّكرى بمصر عشية الجمعة حادى عشر شهر [2] رجب، ودفن بالقرافة فى حياة والده رحمه الله تعالى. وتوفي الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد ابن الرّفعة [3] بمصر فى ليلة الجمعة ثامن عشر شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة، وكان رحمه الله تعالى من فضلاء الشافعية وأكابر المفتين، وصنف كتابا فى الفقة على مذهب الأمام [4] الشافعى فى نحو عشرين مجلدا. وتوفى الأمير جمال الدين آقش الموصلى [5] المعروف بقتال السبع، أمير علم أحد الأمراء مقدمى الألوف بالديار المصرية، فى ليلة السبت تاسع عشر شهر رجب رحمه الله تعالى. وتوفي الشيخ العارف كريم الدين أبو القاسم عبد الكريم بن الحسين [6] الطبرى شيخ الشيوخ بخانقاة [7] الملك الناصر صلاح الدين فى ليلة السبت سابع شوال رحمه الله تعالى.

_ [1] فى الأصول «العظم» وانظر صبح الأعشى 4: 187. [2] هذا اللفظ من ص. [3] وانظر البداية والنهاية 14: 60، والدرر الكامنة 1: 284، وذيول العبر ص 54، والوافى بالوفيات 7: 395، وطبقات الشافعية 9: 24، والنجوم الزاهرة 9: 213، وشذرات الذهب 6: 22، وحسن المحاضرة. [4] هذا اللفظ من ص، وف. [5] هو جمال الدين آقوش المنصورى الموصلى المعروف بقتال السبع (الوافى بالوفيات 9: 351، والدرر الكامنة 1: 432، والنجوم الزاهرة 9: 216، والدليل الشافى 1: 145) . [6] فى الأصول «الحسن» والمثبت من الدرر الكامنة 2: 397، والسلوك 2/1: 95، والدليل الشافى 1: 425. [7] الخانكاه الصلاحية أو خانكاه سعيد السعداء، وهى خانقاه الملك الناصر صلاح الدين وهى أول خانقاه عملت بالديار المصرية سنة 569 برسم الفقراء الصوفية الوافدين من البلاد الشاسعة، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ. (المقريزى المواعظ، ج 2، ص 415- بولاق) .

واستهلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة

وتوفى الأمير الطواشى شهاب الدين مرشد الخزندار المنصورى بداره بالقاهرة فى ليلة الخميس ثالث ذى القعدة، ودفن من الغد بالقرافة، وكان من الخدام المنصورية فى زمن إمرة السلطان الملك المنصور، وكان رجلا جيّدا خيّرا. رحمه الله تعالى. وتوفى الشيخ المسند بهاء الدين أبو الحسن على بن الفقية عيسى بن سليمان بن رمضان الثعلبى [1] المعروف بابن القيم بمنزله بالقاهرة، فى يوم السبت سادس عشرين ذى القعدة، ودفن من الغد بالقرافة، وكان قد انفرد بالرواية عن الشيخ نجم الدين الفارسى سمع عليه فى سنة عشرين وستمائة وروى عن ابن باقا [2] وسبط السّلفى، ومولده فى سنة ثلاث عشرة وستمائة، ومات وقوّته جيّدة، وحواسّه صحيحة رحمه الله تعالى. وتوفى من الأمراء بدمشق الأمير سيف الدين قشتمر الشمسى مملوك الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، كان من الأمراء بدمشق، وتقدم على الجيوش بحلب، وكانت وفاته فى عشية الجمعة رابع عشرين شهر ربيع الأول رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير سيف الدين أقجبا المنصورى بدمشق، فى ليلة الإثنين تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد بتربته خارج باب الجابية [3] ، وكان أميرا كبيرا خيّرا أمينا، ولى نيابة السلطنة بدمشق، وتقدمة العسكر بغزة، وولى شاد الدواوين وأستاذ الدوادارية بدمشق رحمه الله تعالى. واستهلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة فى هذه السنة عادت رسل السلطان الملك الناصر من جهة الملك طقطاى فأسرهم الإفرنج هم درسل الملك طقطاى إلى السلطان، وكانوا هم وأتباعهم وغلمانهم نحو ستين نفرا، وذلك فى شهر ربيع الأول ومرّوا بهم على البلاد الساحلية، وقصدوا بيعهم ووصلوا بهم إلى طرابلس الشام، وعرضوا بيعهم بها

_ [1] فى الأصول «البعلى» والمثبت من الدرر الكامنة 3: 91، وذيول العبر ص 56، ودول الإسلام 2: 164، والسلوك 2/1: 96، وشذرات الذهب 6: 23. [2] فى الأصول «وافا» والمثبت من المراجع السابقة. [3] باب الجابية: هو الباب السابع من أبواب دمشق، وينسب إلى قرية الجابية، وكانت فى الجاهلية مدينة عظيمة (النجوم الزاهرة 7: 287 هامش) .

ذكر انتقال الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى

واشتطوا فى الثمن، وطلبوا ستين ألف دينار عينا ثم توجهوا بهم إلى أياس [1] وعرضوهم على صاحب سيس بهذا الثمن، فامتنع أن يبتاعهم فتوجهوا بهم إلى جزيره [2] المصطكى، فعند ذلك أمر السلطان بالقبض على تجار الفرنج الذين بثغر الإسكندرية والاحتياط على أموالهم، والتزم أنه لا يطلقهم ولا يفرج عن أموالهم إلا بعد حضور رسله، فخرج سكران الجنوى التاجر إلى المصطكى وخلصهم وأرسلهم إلى الديار المصرية وكان مثولهم بين يدى السلطان فى سادس عشر ربيع الأول سنة ثنتى عشرة وسبعمائة. ذكر انتقال الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى من الوزارة إلى الحجبة وتفويض الوزارة للصاحب أمين الدين عبد الله. فى هذه السنة فى مستهل ربيع الآخر نقل الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى من الوزارة، وتدبير الدولة إلى الحجبة، ورسم للأمير [66] شمس الدين سنقر الكمالى أمير حاجب بالجلوس، فجلس فى رأس الميمنة، وفوض السلطان الوزارة للصاحب [3] أمين الدين عبد الله بن الغنام وخلع عليه فى سادس الشهر وكان قبل ذلك قد ولى نظر النظار فى وزارة الأمير سيف الدين بكتمر. وفى الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر أعيد قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى إلى قضاء القضاة بالديار المصرية واستقر القاضى جمال الدين الأذرعى قاضى العسكر، وجلس بين قاضى القضاة شمس الدين الحنفى، وقاضى القضاة تقى الدين الحنبلى. وفيها فى مستهل جمادى الأولى فوض السلطان نيابة السلطنة بغزة وتقدمة العسكر بها للأمير علم الدين سنجر الجاولى وقبض على نائب السلطنة بها للأمير [4] سيف الدين قطلقتمر ولبس الأمير علم الدين فى التّشريف ثالث الشهر.

_ [1] أياس: ثغر بأرمينية الصغرى على شاطئ البحر الأبيض المتوسط قرب طرابلس الشام (السلوك 1/2: 618 هامش) . [2] جزيرة المصطكى: إحدى جزر الأرخبيل اليونانى، وقد عرفت بهذا الاسم عند جغرافيى العرب لشهرتها بذلك الصمغ (صبح الأعشى 5: 372، وتعليق الدكتور زيادة على هذه الجزيرة وصلتها بملوك مصر (السلوك 2: 101) . [3] هو الوزير أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرياسة بن الغنام، (الدرر الكامنة 2: 251، والنجوم الزاهرة 9: 325، والدليل الشافى 1: 384) . [4] هو قطلقتمر صهر الجالق، ولى نيابة غزة قبل الجالق (الدرر الكامنة 3: 221) .

ذكر القبض على الأمير سيف الدين بكتمر

ذكر القبض على الأمير سيف الدين بكتمر نائب السلطنة وإلزامه، وتفويض نيابة السلطنة للأمير ركن الدين بيبرس الدوادار. وفى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأول أمر السلطان بالقبض على نائبه الأمير سيف الدين بكتمر وعلى إلزامه فقبض عليه وعلى صهره الأمير سيف الدين بكتمر [1] وصهره الثانى علاء الدين أيدغدى العثمانى، والأمير سيف الدين منكوتمر الطباخى والأمير بدر الدين بكمش [2] الساقى وعز الدين أيدمر الشمسى المعروف بالصفدى، وذلك بعد صلاة الجمعة، وقبض فى يوم السبت على الأمير عز الدين أيدمر الشيخى واعتقلوا كلهم. وكان سبب ذلك أنه اتصل بالسلطان أنه شرع فى التدبير عليه وطلب الأمر لنفسه، وأن هؤلاء ممن باطنه فقبض عليهم، وقتل [3] منكوتمر الطباخى لوقته، لأنه فاجأ بالإقرار، وتكلم بكلام قوى فيما قيل، ولما قبض السلطان على الأمير سيف الدين بكتمر فوّض نيابة السلطنة للأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري. ذكر جلوس السلطان بدار العدل وفى هذه السنة فى يوم الإثنين العشرين من جمادى الأولى- جلس السلطان بدار العدل الشريف، وجلس معه قضاة القضاء الأربعة بعد أن نودي فى المدينتين. أنه من كانت له مظلمة فليحضر إلى دار العدل، ويرفع قصته ويشكو حاله. فحضر الناس وقرئت قصصهم بين يدي السلطان، وكان جلوسه بالإيوان الذي جدّده فى موضع الإيوان الكبير المنصورى، واستمر الملك يجلس بدار العدل فى كل يوم اثنين إلى هذا الوقت فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وفى جمادى الآخرة عزل السلطان قاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى [4] عن القضاء، بسبب مكتوب أثبته فأراد السلطان أن يرجع عن إثباته فأبى [67] قاضى القضاة وطعن السلطان فيمن شهد عند قاضى القضاة من الخدام، فلم يرجع قاضى القضاة، وصمم على حكمه، فقال له السلطان: قد

_ [1] وقد توفى سنة 718 هـ (النجوم الزاهرة 9: 241) . [2] كذا فى ك 2 وف. وفى ص «بكتمش» . [3] فى ك «وفصل» والمثبت من ص، وف. [4] سبق ذكر مراجع ترجمته فى ص.

ذكر عدة حوادث بالشام فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة

أعزلتك. فقال: قد راحنى الله، وقام من المجلس ولم يول غيره، وسعى من له تشوّف [1] إلى القضاء، فلما اتصل خبر سعيهم بالسلطان، أعاد قاضى القضاة زين الدين، وخلع عليه فى يوم الأحد سادس شهر رجب من السنة. ذكر عدة حوادث بالشام فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة فى هذه السنة فى ثالث المحرم توجه الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى من دمشق إلى نيابة السلطنة بحلب كما تقدم، ولما توجه رسم للأمير سيف الدين بهادر السّنجرى نائب السلطنة بقلعة دمشق بتنفيذ الأمور إلى أن يصل نائب السلطنة، فجلس بالقلعة، وحضر إليه الصاحب عز الدين وغيره، واستخدم الصاحب المذكور جماعة من المباشرين فى هذه المدة، فتغيّر الأمير سيف الدين كراي عليه عند وصوله بسبب ذلك، ثم وصل نائب السلطنة الأمير سيف الدين كراى إلى دمشق فى يوم الخميس العشرين من المحرم، ونزل بدار الأمير علم الدين سنجر الجاولى المشرفة على الميدان، ونصب بالميدان خيمة، ولبس تشريف النيابة فى يوم الإثنين خامس عشرين الشهر، وفرىء تقليده بالميدان بحضرة الأمراء، ثم قرئ ثانيا فى يوم الجمعة سلخ الشهر بالجامع، ثم توجه الأمير سيف الدين أرغون إلى الأبواب السلطانية فى مستهل صفر، وكان لما عاد من حلب عرّج إلى طربلس، واجتمع بالأمير جمال الدين الأفرم نائب السلطنة بها، وأحضر إليه أمثلة السلطان تتضمن ذكر السبب الموجب القبض على أسندمر، ويطّيب قلبه. ولما حضر تلقّاه نائب السلطنة والأمراء، وبات ليلة واحدة، وركب من الغد فى الموكب، وجلس بدار العدل مع نائب السلطنة، ثم توجه فى بقية يومه، وركب نائب السلطنة والأمراء لوداعه، وسكن خاطر الأمير جمال الدين الأفرم بعد قلق كثير. وفى يوم الخميس ثالث عشر صفر وصل الأمير سيف الدين طوغان المنصورى من الأبواب السلطانية إلى دمشق متوليا وظيفه الشاد بها عوضا عن الأمير فخر الدين إياز وقبض على إياز فى يوم الثلاثاء من عشر الشهر،

_ [1] فى ك «شرف» . وفى ص «شوق» والمثبت من ف.

ذكر عزل الصاحب عز الدين بن القلانسى عن وزارة الشام وانتداب أعدائه لمرافعته وخلاصه

وقّرر عليه ثلاثمائة ألف درهم يحملها إلى بيت المال، وسلمه إلى الأمير سيف الدين طوغان يستخرج منه ذلك. وفى شهر ربيع الآخر رسم للأمير ركن الدين العلائى أن يكون نائب السلطنة بحمص، فتوجه لذلك. ذكر عزل الصاحب عز الدين بن القلانسى عن وزارة الشام وانتداب أعدائه لمرافعته وخلاصه وفى الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر أوقع نائب السلطنة بدمشق الأمير سيف الدين كراى الحوطة على الصاحب عز الدين حمزة بن القلانسى، ورسم عليه بالدار الحسامية، ومنع الناس من الاجتماع به، وأمر بالكشف عليه ومحاققته على مباشرته [1] ، وهل تعرض للأموال؟ فما وجد فى مباشرته ما يشينه، فعدل عن ذلك إلى مطالبته بما انساق من البواقى [2] على ضمان الجهات فى مدة مباشرته: وهو أربعون ألف درهم، فحملها إلى بيت المال. ولما ظهر انحمال نائب السلطنة عليه انتدب لمرافعته نجم الدين عبد الرزاق بن الشهاب الدّنيسرى [3] ، وكتب محضرا يتضمن أنه لما اشترى من وكيل السلطان الحصة من الرمثاء والفضالية، والتوجه [4] كانت القيمة عن ذلك مائتى ألف درهم وأربعين ألف درهم [68] وأنه ابتاع ذلك بمائة ألف وخمسين درهما، وشهد فى المحضر جمال الدين ابن شمس الدين ابن الشيخ صدر الدين سليمان الحنفى، وشرف الدين، وبهاء الدين أولاد عز الدين بن الشّيرجى، وشمس الدين ابن أفتكين. وقام فى ذلك الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك السعيد ابن الملك الصالح إسماعيل [5] وحضر من حماة وهو الذى كان توكّل عن السلطان فى بيع الحصص المذكورة للرئيس عز الدين، فأحضر

_ [1] فى ص «مباشريه» . [2] البواقى: لفظ اصطلاحى، كان يطلق على ما يتأخر كل سنة عند الضمان والمتقبلين من مال الخراج، وكذلك ما يتأخر منه (خطط المقريزى 1: 82) . [3] فى ك «الدنيشرى» والمثبت من ص، وف. [4] الرمثاء والفضالية والتوجه: كذا فى الأصول. ولعلها أسماء قرى أو ما أشبه ذلك ولم يتيسر لى التعريف به فى المراجع المختصة. وهى كذلك فى البداية والنهاية 14: 61. [5] هذا اللفظ سقط من ك.

ذكر طلب أعيان دمشق وما قرر عليهم من استخدام الخيالة وما وقع بسبب ذلك من الفتن [5]

محضرا يتضمن أنه عزل نفسه قبل البيع من الوكالة السلطانية بخمسة عشر يوما، وثبت ذلك على القاضى نجم الدين الدمشقى، وأشهد عليه فى مستهل جمادى الأولى ببطلان البيع، لأنه بدون القيمة، ولعزل الوكيل [البائع] [1] نفسه قبل صدور المعاقدة، ولوجود ما يوفىّ منه الدين [غير العقار] [2] ثم نفّذه القضاة فى يوم الجمعة ثالث جمادى الآولى، وأحضر الرئيس عز الدين فى يوم الإثنين سادس الشهر فى مجلس نائب السلطنة، وادعّى عليه بما تحصّل من ريع الملك المذكور منذ تسلمّه، واعتقل بدار السعادة، واستمر بها إلى أن وصل الأمير سيف الدين أرغون وقبض على نائب السلطنة فى ثالث عشر الشهر، فأفرج عنه، ثم وصل تقليده باستمراره على وكالة الخواص الشريفة فى حادى عشرين جمادى الآخرة، وتوجه إلى الأبواب السلطانية فى يوم السبت رابع عشرين الشهر، فشمله الإنعام السلطانى بالتشريف، والإشهاد بإمضاء البيع، والمسامحة بالريع فى المدة الماضية، وعاد إلى دمشق فى يوم الثلاثاء ثانى شعبان من السنة، ثم أثبت على قاضى القضاة تقى الدين الحنبلى [3] مكتوب بعداوة القاضى نجم الدين الدمشقى له، وإبطال ما حكم به عليه، ورسم السلطان أن يعاد إليه ما كان حمّله منسوبا إلى البواقى، فأعيد إليه كملا [4] . ذكر طلب أعيان دمشق وما قرر عليهم من استخدام الخيالة وما وقع بسبب ذلك من الفتن [5] كان سبب هذا الطلب أن الشناعة قويت بحركة العدو المخذول التتار فورد المرسوم السلطانى فى عاشر شهر ربيع الآخر أن يستخدم الأمراء بدمشق على خواصهم نظير عدتهم من الجند، وأن يكونوا على أهبة متى طلبوا، وأن يستخرج من أهل الشام خيل الحجر [6] المقررة قديما فلما كان فى يوم الأربعاء

_ [1] هذا اللفظ سقط من ك. [2] عبارة «غير العقاد» ساقطة من ك. [3] فى ك، وص «الحلبى» ؛ والمثبت من ف فى البداية والنهاية 14: 62. [4] كذا فى ك، وص. وفى ف «جملة» . [5] فى الأصول «الدين» والمثبت يستقيم به السياق. [6] كذا فى الأصول. وجاء فى السلوك 2/1: 104 «وفيها قرر على أملاك دمشق وأوقافها ألف وخمسمائة فارس، وهى التى كانت تسمى مقرر الخياله» ولم يشر السلوك «إلى خيل الحجر» هذه كذلك لم يشر إليها البداية والنهاية 14: 62.

مستهل جمادى الأولى طلب أكابر دمشق وقرر عليهم استخدام ألف وخمسمائة فارس، وكانت العادة المقررة مائتى فارس، فاجتمع الأعيان لتقرير ذلك على الناس، فقرروا استخدام ثمانمائة فارس على نحو ثلاثمائة إنسان، وعجزوا. فسألوا أن يقرروا على أهل الأسواق وخواص البلد، فأجيبوا إلى ذلك، وجلسوا فى خامس الشهر بالمدرسة القليجية لتقرير [1] ذلك، فغلّقت أسواق البلد يومين، وتعطّلت جهات الهلال بسبب ذلك، ثم فتحت الأسواق وحصل الشروع فى تسقيع الأملاك، والأوقاف، وتحقيق أمرها والمطالبة من نسبتها، فضج الناس لذلك، واجتمعوا بالقضاة والخطيب، وتواعدوا كلهم على الاجتماع بنائب السلطنة فلما كان فى يوم الإثنين ثالث عشر جمادى الأولى أخرج الخطيب جلال الدين القزوينى المصحف الكريم العثمانى ونعل [2] النبى صلى الله عليه وسلم، وصحبه العلماء والفقهاء والقراء والمؤذنون وعامة الناس وحملت صناجق الجامع، وخرجوا بجملتهم من باب الفرج إلى سوق الخيل، وكان قد تقدمهم [3] العميان واستغاثوا وشكوا أنه قرر على الأوقاف التى عليهم أجرة أربعة شهور. فصرفهم الحاجب وقال قد أعفيتم من الطلب، ثم تلاهم الجذماء وشكوا مثل ذلك، فقيل لهم مثل ذلك، ثم جاء صبيان مكاتب السبيل الأيتام، وهم يرفعون أصواتهم بالتهليل، فبكى الأمراء ومن حضر الموكب من الناس. ثم جاء الجمع الكثير ونقدموا الخطيب إلى الموكب، وهم يستغيثون، فضربهم النقباء بأمر نائب السلطنة [4] وسقط المصحف الكريم والنعل المكرم النبوى إلى الأرض، والصناجق، ثم رفعت وأعيدت إلى البلد، ورسم أن يتوجه الخطيب إلى القصر فتوجه. فلما حضر إلى نائب السلطنة لكمه بيده ثلاث لكمات، وسبّ قاضى القضاة نجم الدين كونه ما أنهى إليه هذه الصورة قبل وقوعها، ثم توجها إلى بيوتهما [69] ، ومدّ السماط على العادة فما تقدم إليه أحد من الأمراء

_ [1] المدرسة القليجية: مدرسة بدمشق تنسب إلى الأمير سيف الدين على بن قلج النورى عمرها سنة 645 هـ، وكانت قبلى الجامع الأموى، وشمالى الصدرية (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 569، 570) . [2] كذا فى الأصول. وفى البداية والنهاية 14: 62 «والأثر النبوى» . [3] فى ك «تقدم» والمثبت من ص، وف. [4] فى ك «السلطان» والمثبت من ص، وف.

ذكر القبض على الأمير سيف الدين كراى

ولا نائب السلطنة ولا حاشيته، ثم تفرق الناس وطلب نائب السلطنة الخطيب جلال الدين، والشيخ مجد الدين التّونسى فضرب التونسى بين يديه تسعين عصاه ضربا وجيعا، ورسم عليه وعلى الخطيب، ثم ضمّن عليهما، وأفرج عنهما، ثم تقرر الحال فى يوم الجمعة سابع عشر الشهر على استخدام أربعمائة فارس، وأن يؤخر استخراج المال إلى أن يحل ركاب السلطان بالشام، وسكن الحال بعض السكون، وتوقع الناس لنائب السلطنة حلول النقمة لما أمر بضرب العوام وحملة المصحف والنعل النبوى، وكان الأمر كما توقعوه. ذكر القبض على الأمير سيف الدين كراى نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين قطلوبك نائب السلطنة بالمملكة الصفدية. كان القبض على الأمير سيف الدين كراى فى يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وذلك أن الأمير سيف الدين أرغون الدّوادار الناصري وصل على خيل البريد فى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من الشهر، ووصل أيضا فى هذا اليوم مملوك نائب السلطنة من الأبواب السلطانية بأجوبة تقادمه، وأحضر لمخدومة تشريفا وحياصة وسيفا، وكان على يد الأمير سيف الدين أرغون عدّة كتب من السلطان إلى الأمراء بالقبض على الأمير سيف الدين كراى. فلما وصل وجد الأمير سيف الدين كجكن [1] بظاهر دمشق وصحبته رسل التتار يتوجه بهم إلى الأبواب السلطانية، فاجتمع به وأوصله كتاب السلطان إليه، والكتب لبقية الأمراء، وردّه إلى دمشق، ففرق كجكن الكتب السلطانية على أربابها من أعيان الأمراء الأمير سيف الدين بهادر آص وغيره فى ليلة الخميس، وقرّر معهم الحال، وركب الأمير سيف الدين كراى فى يوم الخميس بالتشريف السلطانى، وقبّل عتبة باب السر [2] على العادة، ورجع من الموكب، ومد السماط، وكان قد احتفل به بسبب التشريف، وحضور رسل التتار، فلما رفع السماط رسم للرسل بالانصراف فانصرفوا، ونهض الأمير سيف الدين أرغون والأمراء، وأحدقوا بنائب السلطنة

_ [1] فى ك «كجكين» والمثبت من ص. وهو سيف الدين كجكن بن عبد الله المنصورى، توفى سنة 739 هـ (النجوم الزاهرة 8: 65 هامش) . [2] باب السر: هو أحد أبواب قلعة دمشق، وانظر الدارس فى تاريخ المدارس 2: 54.

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام

وأخرج مثال [1] السلطان فقرئ عليه فإذا هو يتضمن القبض عليه، فأجاب بالسمع والطاعة، وقلع شاش التشريف والكلوته وضرب بهما الأرض، ولبس تخفيفة [2] ونزع التشريف، وقيد فى المجلس، وحمل على بغل وسلّم للأمير سيف الدين أغرلو وركن الدين بيبرس الشرفى المعروف بالمجنون، فتوجها به من ساعته إلى جهة الكرك، واعتقل بها، ورسم للأمير سيف الدين بهادور آص أن يتحدث فى النيابة إلى أن يصل نائب السلطنة. وقبض على الأمير سيف الدين قطلوبك نائب السلطنة بالمملكة الصفدية فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر، ونقل إلى الكرك أيضا، وما علم الناس ذنبا للأمير سيف الدين كراى فيما سلف وقيل إن القبض عليه إنما وقع خوفا من تغيره بسبب القبض على خوشداشه الأمير سيف الدين بكتمر النائب، ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام للأمير جمال الدين آقش الأشرفى المنصورى، ونيابة السلطنة بالمملكة الصفدية للأمير سيف الدين بهادر آص. لما قبض على الأميرين التائبين سيف الدين كراي وسيف الدين قطلوبك فوّض السلطان نيابة السلطنة بالشام للأمير جمال الدين آقش الأشرفى المنصوري، وتوجه إلى دمشق، وكان وصوله إليها فى يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة، ووصل معه لتقريره فى النيابة الأمير عز الدين أيدمر الخطيرىّ، وأحضر على يده مثالا شريفا بالمسامحة بالبواقى، وأبطال ما كان قد قرر على الرعايا، والأحسان إليهم، [70] فقرى فى يوم الجمعة سادس عشر الشهر بالجامع بدمشق، فاطمأن الناس وتضاعفت أدعيتهم للسلطان، ثم خلع على الأمير سيف الدين بهادر آص بنيابة المملكة الصفدية فى يوم الإثنين تاسع عشر الشهر، وتوجه إليها يوم الثلاثاء العشرين من الشهر.

_ [1] المثال: هو الوثيقة المكتوبة والمكتوب أو المرسوم الصادر عن السلطان إيذانا بإعطاء أحد المماليك إقطاعا من الإقطاعات، أو وظيفة من الوظائف، أو القبض عليه مثلا، أو عزله عن الوظيفة، وكان المثال يخرج من ديوان الجيش، ويقدم للسلطان أثناء جلوسه بدار العدل لتوقيعه فإذا وقعه صدر (صبح الأعشى 13: 152) . [2] التخفيفة: هى العمامة الصغيرة (الملابس المملوكية لماير ترجمة الأستاذ صالح الشيتى ص 214 من الفهرس) ويشير الدكتور زيادة فى هامش السلوك 2/1: 105- إلى ما ذكره ابن أبى الفضائل فى النهج السديد: أن كراى خلع التشريف، وتعمم بتخفيفة؛ إشارة إلى أنه صار من المغضوب عليهم.

وفى يوم السبت ثامن شهر رجب قبض بدمشق- على السماط- على الأميرين بدر الدين بكتوت الشّجاعى، وسيف الدين جقّار [1] ، وكانا من أمراء طرابلس، فرسم بنقلهما إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين بهادر آص، فقبض عليهما الآن [2] واعتقلا بقلعة دمشق، ثم سفّر إلى الكرك فى ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان من السنة. وفى ثامن شهر رمضان وصل إلى دمشق بتقليد للأمير بدر الدين بكتوت القرمانى بولاية شاد دمشق، وأستاذ دارية عوضا عن الأمير سيف الدين طوغان، ورسم للأمير زين الدين كتبغا المنصوري رأس نوبة أن يكون حاجبا بالشام عوضا عن الأمير سيف الدين قطلو بك الجاشنكير، وخلع عليهما. وفى ثامن عشر شهر رمضان ورد المرسوم السلطانى إلى دمشق بولاية الأمير سيف الدين بلبان البدرى نيابة قلعة دمشق، عوضا عن الأمير سيف الدين بهادر السنجرى، وكان المرسوم على يد الأمير عز الدين أيدمر الخازن، وتوجّه هو إلى نيابة السلطنة بقلعة المسلمين، وتوجه السنجرى إلى الأبواب السلطانية بالهدايا والتقادم، فرسم له بنيابة قلعة البيرة، وعاد وتوجه من دمشق إليها بعد عوده فى ثانى شوال من السنة. وفيها وصلت رسل متملّك اليمن إلى الأبواب السلطانية بالهدايا والتقادم، فقدمت هديتهم وقبلت فى ثالث ذى الحجة وخلع عليهم فى سابع المحرم. وفيها فى ذى الحجة فوّض السلطان صحابة ديوان الإنشاء للقاضى علاء الدين على ابن القاضى تاج الدين أبى الظاهر أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبى [3] عوضا عن القاضى شرف الدين بن فضل الله العمرى، وتوجّه شرف الدين إلى دمشق بمعلومه عوضا عن أخيه الصدر محيى الدين، واستقر محيى الدين فى جملة كتّاب الإنشاء بدمشق بمعلومه، وسبب نقل المذكور إلى دمشق ثقل سمعه وشيخوخته،

_ [1] كذا فى الأصول، وفى السلوك 2/1: 105 «جنقار» وانظر ترجمته فى الدرر الكامنة 1: 498. [2] هذا اللفظ سقط من ك. [3] انظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 63، والدرر الكامنة 3: 82، والدليل الشافى 1: 447.

ذكر مفارقة الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى

ذكر مفارقة الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى المملكة الحلبية، وخروجه عن الطاعة، ولحاق الأمير جمال الدين آقش الأفرم ومن انضم إليه من الأمراء به، وتجريد العساكر إليهم، وما كان من خبرهم إلى أن توجّهوا للعراق. كانت هذه الحوادث فى سنة إحدى عشرة وبعض شهور سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وقد رأينا أن نسردها بجملتها فى هذا الموضوع إلى نهايتها لتعلق بعضها ببعض، وذلك أن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى كتب إلى السلطان فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة يسأل دستورا إلى الحجاز الشريف، وأرسل فى ذلك مملوكه علاء الدين مغلطاي، فأذن له فى ذلك، وأنعم عليه بألفى دينار عينا، فتوجه من حلب وفوض السلطان نيابة حلب فى غيبته إلى الأمير شهاب الدين قرطاى الحاجب، فلما وصل الأمير شمس الدين إلى أطراف بلاد البلقاء [1] بلغه أن السلطان قد جرد جماعة من مماليكه جرائد بالخيل والهجن، فخشى أن يكونوا جرّدوا لقصده والقبض عليه، فرجع إلى حلب وقصد الدخول إليها، فاجتمع الأمراء مع الأمير شهاب الدين قرطاى ومنعوه من ذلك، وأرسل إليه الأمير شهاب الدين يقول إنك توجّهت إلى الحجاز بدستور سلطانى، ونحن فلا نمكنك من العبور إلا بعد عودك من الحج وبمرسوم سلطانى. فطلب موجوده الذى بحلب فمنع من ذلك، فجاء الأمير حسام الدين مهنا وأرسل إلى الأمراء فى تمكنه من موجوده، وحلف أنهم متى استمروا على منعه منه هجم بمجموعة حلب ونهبها، فمكنوه من أخذ موجوده وانصرف عن حلب، وقصد جهة البرية. ثم جهز ولده الأمير عز الدين فرج ونائبه [71] عبدون إلى الديار المصرية، وجهز مع ولده جملة من أمواله، فوصل إلى القاهرة فى أواخر ذى الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وما علم مراده بذلك ولما وصل ولده عز الدين أحسن السلطان

_ [1] البلقاء: إحدى كور الشراة، وقاعدتها حيان، وهى بلدة صغيرة لها واد به أشجار وبساتين وزروع، ويتصل هذا الوادى بغور دمشق. والبلقاء على مرحلة من أريحا التى تقع غربها، وتكون بين دمشق ووادى القرى (صبح الأعشى 4: 106، ومعجم البلدان: 579 تحقيق فريد الجندى ط بيروت) .

إليه وأنعم عليه بإمرة عشرة طواشية، واستقر بالقاهرة بدار أبيه مع أخيه الأمير علاء الدين على- وهو أحد أمراء الطبلخاناه بالقاهرة- وبعد أن أرسل قراسنقر ولده المذكور وأمواله ونائبه أظهر العصيان وتجاهر به، وخلع الطاعة وكاتب الأمراء، وراسل الأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، وبذل له الطاعة، وأن يكون هو صاحب الأمر دون قراسنقر، وبذل له المال مع ذلك ليعينه به، فأرسل إليه [1] مرة ثلاثة الآف دينار عينا، ومرة أخرى، ومرة ثالثة فوافقه على ذلك وباطنه وكتب إلى السلطان [بخبره] [2] بما كاتبه به قراسنقر ومهنّا، وبقى ذلك فى يسّر حسوا فى ارتغاء [3] ، واستمر الأمير جمال الدين يدافع الأيام، ويقدم رجلا ويؤخر أخرى، ويكاتب السلطان ويرد عليه الأجوبة فى بقية سنة إحدى عشرة وسبعمائة وكنت يوم ذاك- ناظر الجيش الطرابلسى وكان لى عليه إدلال كثير، فشرع يكتم ذلك عنىّ وعن غيرى إلا من علم أنّه يوافقه على رأيه ويباطنه على مقصده، وظهر لى من صفحات وجهه وحركاته واضطراب أمره وشلش [4] بعض مماليكه ما دلّنى على مراده، فدخلت عليه فى أثناء ذى الحجة وهو بطرابلس، وكاشفته، وتحدثت معه وحذرته عاقبة هذا الأمر، وبذلت له النصيحة فكاد يكشف لى عن باطنه ويخبرنى بما أضمره وعزم عليه، فلحظت بعض أكابر مماليكه وهو يغمزه ويشير إليه أن لا يفعل، فعدل عما أراد أن يخبرنى به، ثم قال لى أنا أتحقق محبتك ونصحك [5] ، وأنه ما حملك على أن ذكرت ما ذكرت إلا الشفقة على. وجزانى خيرا، ثم قال لى. هذا الأمر الذى لحظته وظننته قد طالعت السلطان مما وقع فيه، وأرسلت إليه ما ورد علىّ من كتب قرا سنقر والعرب، وهذا الذى يظهر لك أننى أفعله هو عن أمر السلطان، وسوف يظهر لك. فما شككت فى قوله، واستكتمنى هذا الأمر فكتمته، ثم ظهر أن الأمر فى باطنه بخلاف ما أظهر لى.

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «وأرسل إليه من ماله» . [2] هذا اللفظ من ص. [3] يسرحوا فى ارتغاء: مثل يضرب لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجر النفع إلى نفسه. يعنى من يظهر أمرا وهو يريد غيره، أو يضرب لمن يظهر طلب القليل وهو يسر أخذ الكثير (مجمع الأمثال 2: 417 برقم 4680، ولسان العرب 19: 46 ط. بولاق) . [4] الشلش: كلمة يستعملها أهل شبه الجزيرة العربى تعنى كثرة الحركة والشغب والصياح، ولم ترد فى قواميس اللغة. [5] فى ك «نصيحتك» والمثبت من ص.

ولما اتصل بالأبواب السلطانية أظهر قراسنقر العصيان

ولما اتصل بالأبواب السلطانية أظهر قراسنقر العصيان جهز [1] السلطان الأمير حسام الدين قرا لاچين أستاذ الدار والأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصرى، والأمير سيف الدين أيدمر الخطيرى، والأمير حسام الدين لاچين الجاشنكير المعروف بالزيرباج ومضافيهم، فوصلوا إلى دمشق فى العشرين من ذى القعدة، وجرّد معهم من دمشق جماعة من عسكرها، وتوجّهوا إلى حمص ثم إلى حلب لتمهيد البلاد ومنع قراسنقر إن قصد الهجوم على المملكة الحلبيّة، ثم أردف السلطان هذه العساكر المذكورة بالأمير سيف الدين قلىّ السلاحدار، والأمير بدر الدين جنكلى بن البابا، ومضا فيهما فوصلوا إلى حمص فى ذى الحجة، ونزلوا بمرجها، فقلق الأمير جمال الدين الأفرم [2] غاية القلق، وارتاع لنزولهم بالقرب منه، وخشى أن يقبض عليه، وكان قد حذر منذ قبض على الأمير سيف الدين كراى، والأمير سيف الدين قطلوبك، ورأى أن السلطان قد قبض على من لم يسلف ذنبا ولا وقع منه مخالفة فيما مضى- وإنما مسكا احتياطا لما تقدم من القبض على خوشداشيتهما، فكيف يكون حال من له ذنوب قديمة، ومخالفة فى ابتداء الأمر. فبقى ولا يزال فى الصيد وهو يتنقل فى المملكة الطرابلسية، فتارة يكون بالجون وتارة يكون باللاذقية وجبلة [3] ، ومرة بالجبال. فلما كان فى مستهل محرم سنة ثنتى عشرة وسبعمائة ركب من طرابلس [72] وتوجه إلى الصيد بمرج جبلة على عادته، ونزل على رأس العين [4] بالقرب من مدينة طرابلس مما يلى الجبل، فوصل إليه مملوكه مغلطاى الحلبى على خيل البريد بأجوبة السلطان يتضمن. أنه أنعم عليه بنيابة

_ [1] فى الأصول «أظهر» ولعل الصواب، ما ذكرته، والمراد أخرج أو جرد. [2] هذا اللفظ سقط من ك. [3] جبلة قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب قرب اللاذقية، بناها معاوية بن أبى سفيان، وكانت حصنا للروم جلوا عنها عند فتح المسلمين حمص وشحنها بالرجال وبنى معاوية بجبلة حصنا خارجا من الحصن الرومى القديم. (انظر معجم البلدان لياقوت الحموى) . [4] رأس العين: مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيس وهى إلى دنيس أقرب، بها عيون كثيرة عجيبة صافية تجتمع كلها فى موضوع فتصب فى نهر الخابور (وانظر معجم البلدان 3: 15 تحقيق فريد الجندى، وهامش النجوم الزاهرة 3: 282.

السلطنة بالمملكة الحلبيّة، ولم يحضر تقليدا ولا تشريفا، وذكر أن السلطان شافهه بطلبه إلى الأبواب الشريفة ليجدّد عهدا برؤية السلطان، ويلبس التشريف، ويأخذ التقليد، ويتوجه إلى حلب وشافهه عن الأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامى بكلام ردىء، وهو أنه أخبر عنه أنه قال له: قل له إياك أن تتأخر عن الحضور، فوالله لو اختار السلطان القبض عليك أرسل إليك من قدر [1] وقبض عليك. فارتاع لهذه المشافهة، وخشى عاقبة حضوره، وركب من رأس العين إلى مرج جبل على مرحلتين من طرابلس، فلما استقر بالمرج جاءه الأمير عز الدين أيدمر الزّردكاش المنصورى أحد الأمراء مقدمى الألوف، وكان الأفرم زوج ابنته والأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخاناه وبدر الدين بيسرى الحسامى أحد أمراء العشرات، وكلهم من أمراء دمشق، وكانوا قد خرجوا عقيب المواكب من دمشق فى نيابة الأمير جمال الدين آقش الأشرفى، ولم يجرد خلفهم من يدركهم، وحال وصولهم إليه ذكروا أن الكلمة اجتمعت عليه فركب من المرج لوقته، واستصحب معه من كان فى صحبته من أمراء طرابلس وهم علاء الدين مغلطاى الشيخى، وسيف الدين قطليجا [2] الجاشنكير من أمراء الطبلخاناه، من أمراء العشرات ستة وهم: علاء الدين أيدغدى التّقوى، وركن الدين بيبرس بن عبد الله، وعز الدين حسن بن يوسف السّيفى الحاجب، وناصر الدين محمد الفارقى، وشمس الدين طشلق [3] الشيوخى، وعلاء الدين مغلطاى الجمالى ومن أمراء التركمان [4] أصحاب الطبلخاناه خمسة وهم: علاء الدين على بن الدربساكى مقدم التركمان وعلاء الدين [5] على بن إلياس الفتقى، وحسام الدين حسن بن أسيجا وسيف الدين أبو بكر بن الحاج طوغان، وسيف [6] الدين بن إليا، ومن أمراء العشرات منهم صارم الدين صاروجا بن ناصى وتوجه من مرج الجبل إلى مرج الأسل، وحكى أنه تلقّب بالملك الرحيم، وكتب لوقته كتبا إلى الأمراء بطرابلس يتضمن: وصل إلى مخيمنا الكريم

_ [1] فى ك «أرسل إليك مرقدا وقبض عليك» وفى ص «أرسل إليك مرقدا وأقبض عليك» . وعبارة ف مضطرية. ولعل الصواب ما أثبته. [2] فى ك، وفى «قصليخا» والمثبت من ص والسلوك والنجوم الزاهرة. [3] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 22، 23 «الطشلاقى» . [4] (5 ما بين الرقمين من ص. [6] كذا فى ك، وف. وفى ص «سيف الدين من إليا» .

ولما وصلت كتبه إلى الأمراء كنت يومئذ بطرابلس

المقر العالى الأميرى. الغرّى الزردكاش، والجناب العالى الأمير السيفى بلبان الدمشقى، والمجلس العالى الأميرى البدرى البيسرى الحسامى، وقد اجتمعت الكلمة علينا ولم يبق إلا الركوب. ويقول فى كتابه لكل منهم فمن قدم [1] خيّره الله تعالى ويعجل بسرعة الحضور، ليكون [2] من السابقين الأولين، ويحصل له فضيلة السبق، ويعلم أنا لم نطلبه لحاجة بنا إليه. وإنما عرفناه بما حدده الله لنا لئلا يتأخر ويعتذر حيث لا ينفعه العذر. إلى غير ذلك، وتضمن كتابه للأمير شمس الدين سنقر الرّومى [3] . وقد حقق الله تعالى [4] مناماتك التى كنت تراها وتخبرنا بها، ونحو هذا من الكلام. ولما وصلت كتبه إلى الأمراء كنت يومئذ بطرابلس لم أتوجه فى صحبته، وكان قد كتب إلىّ يطلبنى وهو بمرج الجبل، فاعتذرت ولم أتوجّه إليه- لطفا من الله بى- فقمت حين وصلت كتبه واجتمعت بأعيان الأمراء ونهيتهم عن الدخول فى الأمر، وعرفتهم سوء عاقبة الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة، وجدّدت على أكثرهم الأيمان للسلطان الملك الناصر فحلفوا، واجتمع جماعة منهم عند الأمير شمس الدين سنقر الرومى. فتأخروا عن اللحاق به [5] ولم يتوجه من طرابلس إليه غير علاء الدين أيدغدى الأتقوى أحد أمراء العشرات فإنه هرب إليه ولم يشعر به، وكنت قد حذرته هذا الأمر قبل ذلك بيوم أو يومين، وحلفته فحلف، وتوثقت منه أنه لا يفارق الطاعة والجماعة فلذلك أهملته عند وصول المكاتبات إلى الأمراء، وانتظر الأمير جمال الدين وصول العسكر الطرابلسى إليه وهو بمرج الأسل ليكبس بهم العسكر المصرى الذى بحمص، فلم يلتحق به غير أيدغدى الأتقوى المذكور، فلما أيس منه

_ [1] فى ك «متقدم» والمثبت من ص. [2] فى ك «لتكون» . [3] فى ص وف «النورى» وهو سنقر الرومى المستأمن قدم فى زمن الناصر رسولا فأسلم وأقام بالقاهرة، ومات فى الطاعون عام 749 هـ (الدرر الكامنة 2: 176) . [4] لفظ «تعالى» سقط فى ك. [5] لفظ «به» سقط من ك.

ركب من مرج الأسل، ونزل إلى منزل القصب بالقرب من حمص ومرّ [1] على جانب خيام [2] العسكر المصرى، وقصد جهة البرية، فركب بكتمر خلفه الأمير سيف الدين [73] وبكتمر [3] الجمدار الناصرى فى شرذمة يسيرة، وتتبعه فلحق أثقاله فأخذها ورجع، واستمر السير بالأفرم ومن معه حتى دخل البرية. ولما بلغ الأمير شمس الدين قراسنقر دخوله إلى البرية خلفه ظن أن ذلك مكيدة عليه، وتقدم فى البرية، وبقى الأفرم إذا نزل منزلة وجد قراسنقر قد رحل عنها، فاستمر كذلك أياما، ثم أرسل إليه من أدركه وأعلمه أنه [4] إنما جاء فى ميعاده، فأرسل إليه يقول، إن كان الأمر كذلك فتحضر إلى عندى بمملوكين، وتؤخر هذا الجمع حتى نجتمع. فركب إليه على الهجن هو ومملو كان من مماليكه، وأدركه واجتمعا. فلما تحقق قراسنقر أنه حضر لموافقته اطمأن إليه، وتربّص حتى التحق به بقية أصحاب الأفرم، فاختار الأفرم ممن معه ومع قراسنقر أربعمائة فارس، وأمرهم أن يتوجهوا ويكبسوا الأمير سيف الدين أرغن الناصرى ليلا فى خيامه ويقتلوه، وكان الأمير سيف الدين أرغن بقرب حلب- وقال: إنه إذا قتل هذا احتاج من معه إلى الانضمام إلينا خوفا من السلطان كون مملوكه قتل بينهم، وتمّ لنا الأمر بهذا ولا يختلف علينا أحد بالشام، فتوجّه أولئك غير بعيد ثم ردّهم قراسنقر وجهّز الأفرم لمضاء [5] هذا الأمر [6] فلم يوافق عليه، ثم قال له قراسنقر، إن هذا الجمع الذى معك لا نقدر أن نملك بهم البلاد، ولا نلقى [7] بهم الجيوش، وهؤلاء يضيقون علينا، ويأكلون ما معنا، ولا يحصل لنا بهم انتقاع، والمصلحة تقتضى أن نردهم. فأعمل الأفرم الحيلة وجردهم على أن

_ [1] فى ك، وف «وهو على» والمثبت من ص. [2] هذا اللفظ لم يرد فى ك. [3] فى ك «وكتمر» وفى ص «أركتمر» والمثبت من النجوم الزاهرة 9: 300، والدرر الكامنة 2: 19، وشذرات الذهب 6: 104. [4] لفظ «أنه» سقط من ك. [5] هذا اللفظ سقط من ك. [6] فى ص «هذا الرأى» . [7] فى ك وص «تلتقى» .

يكونوا يزكا فى مكان عيّنه لهم، وقال، لا تفارقوا هذا المكان حتى نأتيكم [1] بما تعتمدونه، وركب هو وقراسنقر ومماليكها والأمراء الثلاثة الذين وصلوا من دمشق ومغلطاى الشيخى [وقطليجا الجاشنكير] [2] وتوجهوا هم والأمير حسام الدين مهنا إلى الرحبة، وعاد بقية الأمراء العشرات، وأمراء التركمان الى طرابلس ثم [3] فارق الأمير جمال الدين الأفرم جماعة من أعيان مماليكه وعادوا إلى طرابلس [4] وتبع العسكر الناصرى الأفرم وقراسنقر ومن معهما إلى الرهبة ففاتوا ولزموا البرية، ثم كتب الأفرم وقراسنقر إلى خربندا ملك التتار يستأذناه فى الوصول إليه بمن معهما، وسيّرا بذلك بدر الدين بيسرى [5] الحسامى، فتوجّه إليه وعاد بجوابه إليها وخلعه عليهما، فتوجها إليه وصحبتهما بعض مماليكهما والأمير عز الدين الزردكاش والأمير بلبان الدمشقى وبيسرى الحسامى [6] ورجع بقية الأمراء الذين كانوا مع الأفرم. فأما أمراء التركمان وأمراء العشرات الذين ليسوا من مماليك السلطان وهم. حسن السيفى، ومحمد الفارقى وطشلق الشويخى، فاستمروا فى الخدمة بطرابلس على عادتهم، وقبض على أمراء التركمان ثم أفرج عنهم واستمروا فى الخدمة. وأما بيبرس بن عبد الله، وأيدغدى الأتقوى فورد المرسوم بالقبض عليهما، فقبض عليهما وسيّرا إلى الأبواب السلطانية، فماتا فى محبسهما، واما قطليجا [7] الجاشنكير فإنّه غيّر هيأته واختفى إلى أن وصل إلى الأبواب السلطانية، فما شعر السلطان به إلا وهو قائم بين يديه فى الإيوان، فأمر باعتقاله، ثم نقل إلى ثغر الإسكندرية، وقيل إنه مات.

_ [1] فى ك «ونرسل» والمثبت من ص. [2] هذان اللفظان سقطا من ك. [3] ما بين الرقمين من ص، وف. [4] ما بين الرقمين من ص، وف. [5] فى ك «بيبرس» والمثبت من ص، وف. [6] فى ك «بيبرس» والمثبت من ص، وف. [7] فى ك «قلطيشا» والمثبت من ص.

وأما علاء الدين مغلطاى الشّيخى فإنه توجّه إلى الأمير فضل بن عيسى ودخل إليه، فحضر به إلى الأبواب السلطانية وشفع فيه، فأمر السلطان بإرساله إلى مدينة قوص، ثم إلى ثغر أسوان، ورتب له كل يوم أربعة دراهم، فأقام هناك مدة، ثم طلب إلى الأبواب السلطانية، ورتّب فى جملة المماليك أرباب الجامكيات [1] ثم أنعم عليه بإقطاع، وجعل من جملة مقدمى الحلقة، هذا ما كان من أمر هؤلاء.

_ [1] الجامكية: فارسية معناها الراتب أو المربوط الشهرى أو السنوى وقد يعنى الرواتب بعامة (صبح الأعشى 3: 457) .

وأما الأمراء الذين توجهوا إلى خربندا

وأما الأمراء الذين توجهوا إلى خربندا فإنه أكرمهم وأقاموا فى خدمته مدة [74] ، فأعطى الأمير جمال الدين الأفرم همذان، فتوجّه إليها ومات بها ودفن بها. وبلغنا أنه عمّر له تربة، ووقف عليها فى كل سنة جملة من أموال همذان. ومات الزّردكاش، وبيسرى الحسامى فيما بلغنا واستمر قراسنقر عند التتار إلى أن مات فى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. نعود إلى سياقة الأخبار فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة فيها كانت وفاة القاضى مجد الدين أبى الرّوح عيسى بن عمر بن عبد المحسن بن الخشاب المخزومى الشافعى [1] بالقاهرة، فى يوم الإثنين ثامن شهر ربيع الأول، ودفن بتربته بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، ومن رجال الدهر دهاء، وولى المناصب الجليلة: وكالة بيت المال سنين كثيرة، وولى نظر الحسبة بالقاهرة، ودرس بأجلّ المدارس، وعين [2] للقضاء مرار وحرص على ذلك فلم ينله، وفرقت مناصبه بعده، فولى القاضى بدر الدين محمد بن جماعة تدريس الناصرية، وولى ولده صدر الدين أحمد وكالة بيت المال، وولى الصاحب ضياء الدين النشائى تدريس زاوية الشافعى بمصر. وتوفى القاضى جمال الدين أبو الفضل محمد بن الشيخ الإمام جلال الدين أبى العز المكرم بن على بن [3] أحمد بن أبى القاسم الأنصارى الخزرجى الأفريقى الأصل من ولد رويفع [4] بن ثابت [الأنصارى] رضى الله عنه، وكانت وفاته بالقاهرة فى حادى عشر شعبان، ودفن بالقرافة، ومولده بالقاهرة فى يوم

_ [1] له ترجمة فى الدرر الكامنة 3: 206. [2] كذا فى الأصول، والمراد ورشح للقضاء. [3] لفظ «ابن» سقط من ك. [4] فى الأصول «رفيع» والمثبت من الدرر الكامنة 4: 262. وانظر الوافى بالوفيات 5: 54، وفوات الوفيات 4: 39، وشذرات الذهب 6: 26، والدليل الشافى 2: 706 والاضافة عنها وهو صاحب لسان العرب.

وتوفى تاج الدين عبد الرحمن المعروف بالطويل [3]

الإثنين الثالث والعشرين من محرم سنة ثلاثين وستمائة، وكان من أعيان كتاب الإنشاء وفضلائهم، روى الحديث النبوى، وكان عالى السّند [1] رحمه الله تعالى، وله شعر وقصائد. وتوفى الصاحب الوزير فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز ابن الحسن الخليلى التيمى الدّارمى [2] وكانت وفاته فى يوم عيد الفطر، معزولا عن الوزارة- ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده فى سنة أربعين وستمائة، وقد تقدم ذكر مناصبه وولايته الوزارة، رحمه الله تعالى. وتوفى الحكيم الفاضل الرئيس شرف الدين عبد الله بن شهاب الدين أحمد بن محيى الدين رشيد ابن الشيخ جمال الدين أبى عمر وعثمان بن أبى الحوافر فى ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شوال، ودفن من الغد بالقرافة، وكان رحمه الله تعالى من أجود الناس صحبة، وأكثرهم مروءة، وأحسنهم أخلاقا وأصحهم عقيدة- رحمه الله تعالى وتوفى تاج الدين عبد الرحمن المعروف بالطويل [3] ناظر النظار بالديار المصرية، وكانت وفاته فى ليلة السبت الثانى والعشرين من ذى القعدة، وهو من مسالمة [4] القبط، وكان علم صناعة الكتابه الديوانية انتهى إليه فى زمانه. وتوفى القاضى محيى الدين قاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف [5] المالكى ليلة الخميس حادى عشر ذى الحجة، وكان رحمه الله تعالى ينوب عن والده فى القضاء فى حياته، ورسم باستقلاله بعد وفاته، فمات قبل والده [6]- أصيب- وكان يعد من نجباء الأبناء رحمه الله تعالى.

_ [1] فى ك «النسب» والمثبت من ص. [2] له ترجمة فى ذيول العبر ص 58، والسلوك 2/1: 113، والدليل الشافى 1: 500، وشذرات الذهب 6: 28. [3] له ترجمة فى السلوك 2/1: 114. [4] مسالمة القبط: هم الذين دخلوا الإسلام من أهل الذمة فأطلق عليهم اسم المسالمة. [5] له ترجمة فى الدرر الكامنة 4: 90. [6] فى ك، وف «أصبت» والمثبت من ص. ولا دلالة لها فى السياق.

واستهلت سنة ثنتى عشرة وسبعمائة

وتوفى قاضى القضاة الشيخ الأمام الحافظ سعد الدين أبو محمد مسعود ابن محمد بن مسعود بن زيد الحارثى الحنبلى [1] بالمدرسة الصالحية بالقاهرة، فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ذى الحجة، ودفن من يومه بالقرافة رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير بدر الدين بكتوت أمير شكار [2] متولى ثغر الإسكندرية- كان- فى ثامن عشرين شهر رجب، وكانت وفاته بالقاهرة بعد أن نكب وصودر. وتوفى فى التاريخ المذكور الشيخ الصالح محمد العريان رحمه الله تعالى. وتوفى بدمشق الأمير شجاع الدين يوسف نقيب نقباء العساكر المنصورة بالشام [75] ، فى يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى، بمولده فيما قيل وفى ثلاثة عشرة وستمائة، ولى نقابة العساكر بدمشق فى الأيام الناصرية إلى أن توفى، وكان عدلا مقبول القول عند قضاة القضاة- رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير شمس الدين سنقر [3] جاه الظاهرى بدمشق فى يوم الإثنين ثامن ذى الحجة، ودفن بكرة الثلاثاء بمقابر الصوفية- رحمه الله تعالى. واستهلت سنة ثنتى عشرة وسبعمائة فى هذه السنة كملت عمارة الجامع [4] الناصرى بساحل مصر فى صفر، وكان موضعه بشونة التبن، وكان الابتداء بعمارته فى بعض شهور سنة إحدى

_ [1] انظر البداية والنهاية 14: 64، والسلوك 2/1/113، وشذرات الذهب 6: 28. [2] أمير شكار: هو الذى يقوم برعاية الجوارح السلطانية من طيور وغيرها وكذلك كل ما يتعلق بالصيد وحيواناته (القلقشندى: صبح الأعشى ج 4 ص 22، ج 5 ص 461. وانظر ترجمة الأمير بكتوت فى الدرر الكامنة 1: 489، والنجوم الزاهرة 9: 217) . [3] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 174. [4] وأنظر وصف هذا المسجد فى السلوك 2/115، وخطط المقريزى 2: 403، والنجوم الزاهرة 9: 33 هامش المرحوم محمد رمزى بك.

ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية

عشرة وسبعمائة، وولى خطابته قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعى، ورسم أن يبنى فى سطح الجامع المذكور بيوتا لشيخ وجماعة من الصوفية، وطهارة [1] ومزملة، وبنى فى أسفله مزملة، ولما كملت عمارته حضر إليه السلطان وشاهده، ووقف على مصالحه مواضع من أملاكه، منها قيسارية [2] العنبر بالقاهرة، وحمام [3] ابن سويد، وأنشا ربعا بجواره، ووقفه عليه، وعمّر بظاهره طهارة للسبيل، وبها فسقية، وساقية ورتب السلطان بالجامع إماما ومؤذنين وقومة وشيخهم وشحنة [4] وبوابا، وجعل لكل منهم جامكية وجراية، ورتب بالخانقاه الشيخ قوام الدين الشيرازى شيخا للصوفية، وثمانين صوفيا أربعين مجردا بسطح الجامع فى البيوت التى عمّرت لهم وأربعين متأهلين، ورتّب لكل صوفى منهم فى كل شهر خمسة عشر درهما، وفى كل يوم ثلاثة أرطال من الخبز العلامة، وللمجردين خاصة فى كل يوم ثلث رطل لحم مطبوخ، وزبدية مرق، ورتب للشيخ مثل ما رتب للصوفيين منهم، وأفرد للصوفية مقصورة بالجامع بحائطه الغربى. وهو البحرى، يجتمعون فيها لصلاة العصر فى كل يوم، ويقرءون القرآن بعد الصلاة، ويدعون للواقف، وينصرفون ويحضرون أيضا لصلاة الجمعة، وليس بشرط. ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية والمملكة الطرابلسية للأميرين سيف الدين سودى [5] الجمدار، وسيف الدين تمر الساقى [6] .

_ [1] المزملة: مكان لتبريد الماء توضع فيه الأزيار وما أشبه ذلك. [2] قيسارية العنبر: كانت بشارع القاهرة الأعظم، وكان سجنا فعمرها الملك المنصور قلاوون (خطط المقريزى 2: 89) . [3] فى الأصول «حمامى» والمثبت من المرجع السابق، والسلوك 2/1: 115 هامش الدكتور زيادة. [4] الشحنة: من يقوم بحراسة المكان. [5] أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة 2: 179. [6] أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة 1/2: 519.

وفى هذه السنة فوّض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية للأمير سيف الدين سودى الجمدار فى صفر، وتوجه إليها من الديار المصرية، ووصل إلى دمشق فى ثامن شهر ربيع الأول. وفوّض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية للأمير سيف الدين تمر الساقى، فوصل إلى دمشق فى ثامن عشرين شهر ربيع الأول بطلبه [1] وجماعته، ووصل إلى طرابلس فى العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر. وكان سبب تأخره هذه المدة توجّهه إلى حمص للقبض على نائبها على ما نذكره. وفيها: فى عاشر ربيع الأول أمر السلطان بالقبض على القاضى فخر الدين ناظر الجيوش، وكان قد تقدّم عنده وعظم شأنه، وارتفع محله وعلت كلمته، فحسد على ذلك، ونقل إلى السلطان عنه ما غيّر خاطره عليه، فأمر بالقبض عليه ومصادرته، فأخذ من أمواله- فيما قيل- أربعمائة ألف درهم، وفوّض نظر الجيوش للقاضى قطب الدين ابن شيخ السلامية ناظر جيش الشام نقله إلى الديار المصرية، فلم يقم مقام القاضى فخر الدين، ولا نهض بسد الوظيفة وتصحّفت عليه أسماء البلاد، ثم أفرج السلطان عن القاضى فخر الدين فى خامس عشر شهر ربيع الآخر، واستقر صاحب ديوان الجيوش مدّة، ثم شركه فى النظر، فصارا ناظرين بغير صاحب ديوان، ثم أعاده إلى النظر مستقلا به منفردا، وأعاد قطب الدين إلى الشام على عادته، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها [76] فى عاشر شهر ربيع الأول فوّض قضاء القضاة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للقاضى تقى الدين أحمد بن قاضى القضاة عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسى.

_ [1] الطلب: الفرقة من المماليك أو العسكر الخاصة بالأمير وتكون كالحرس الخاص له (النجوم الزاهرة 12: 186، 13: 55) .

ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس العلائى نائب السلطنة بحمص ومن يذكر من الأمراء بدمشق

ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس العلائى نائب السلطنة بحمص ومن يذكر من الأمراء بدمشق كان الأمير ركن الدين بيبرس العلائى المذكور فى هذه السنة قد طالع الأبواب السلطانية وسأل دستورا فى الحضور إلى الأبواب، فأذن له، فحضر على خيل البريد فى العشر الأخر من صفر وشمله الإنعام السلطانى بالتشريف، وعاد إلى نيابته فى العشر الأول من شهر ربيع الأول، ثم تحقق السلطان منه سوء طويّته وخبث نيته وأنه كان قد باطن الأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير جمال الدين الأفرم، وأنه كان يظهر خلاف ما يبطن. فكتب السلطان إلى الأمير سيف الدين تمر الساقى قبل وصوله إلى طرابلس أن يتوجه إلى حمص ويقبض عليه، وكتب بمثل ذلك إلى الأمير بدر الدين بكتوب القرمانى أحد الأمراء بدمشق، وكان مجردا بجهة حمص، فتوجّها إليه وقبضا عليه فى بكرة نهار الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر، وتوجّها به إلى دمشق، ورسم عليه الأمير سيف الدين كجكن، وقبض على جماعة من الأمراء بدمشق، وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الشّرفى المعروف بالمجنون، والأمير علم الدين سنجر البروانى [1] ، والأمير سيف الدين طوغان المنصورى، والأمير ركن الدين بيبرس التاجى، وذلك فى يوم الإثنين عاشر شهر ربيع الآخر، وصل فى هذا اليوم إلى دمشق الأمير ركن الدين بيبرس العلائى، وحال وصوله قبض [2] عليه الأمير سيف الدين كجكن، وهو المرسم عليه، وسيّروا فى ليلة الأربعاء ثانى عشر الشهر إلى قلعة الكرك، واعتقلوا بها وفيها فى سادس شهر ربيع الآخر.

_ [1] فى ك «البراوى» والمثبت من ص، والنجوم الزاهرة 8: 180. [2] فى الأصول «على» والسياق يقتضى ما أثبته.

ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار

ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى نائب السلطنة بالباب الشريف، والآمير جمال الدين آقش الأشرفى نائب السلطنة بالشام وغيرهما من الأمراء بالديار المصرية. وفى هذه السنة استدعى السلطان الأمير جمال الدين آقش الأفرمى نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب العالية، فحضر على خيل البريد، وكان ركوبه من دمشق فى ثانى شهر ربيع الأول، ووصل إلى الأبواب السلطانية يوم السبت تاسع الشهر، ولما وصلا إلى الأبواب السلطانية أكرمه السلطان وأحسن إليه وشمله بالإنعام، واستقر عوده إلى نيابة السلطنة بالشام. فأنهى إلى السلطان عنه أنه كان ممن باطن الأمراء [المنسحبين] [1] الثلاثة الذين لحقوا بالأمير جمال الدين الأفرم، وأنه كان يقدر على التجريد خلفهم والقبض عليهم وما فعل، وإنما كان امتنع من التجريد خلفهم [2] أنه توهم من كثير من الأمراء بدمشق مباطنة الأمراء المخالفين فخشى إن هو جرّد من يردّ هؤلاء أن يلتحق بهم فيضطرب الأمر وتعم المفسدة، فاقتصر على حفظ من بقى عنده، وترك الإرسال خلفهم [3] ، لهذا الأمر وبلغهم وبلغ السلطان أيضا عن جماعة من الأمراء مثل ذلك، فأمر بالقبض عليهم، وهم: هذا المقدم الذكر والأمير شمس الدين سنقر الكمالى الحاجب- كان- والأمير علاء الدين مغلطاى المسعودى، والأمير شمس الدين الدكن الأشرفى والأمير حسام الدين لاچين الجاشنكير، والأمير سيف الدين باينجار وكل هؤلاء من مقدمى الألوف بالديار المصرية، وقبض أيضا على الأمير حسام الدين لاچين العمرى، وذلك فى يوم الإثنين ثالث شهر ربيع الآخر من السنة، وشغرت نيابة السلطنة بالباب السلطانى بقية الشهر والله أعلم.

_ [1] هذا اللفظ من ص. [2- 3] ما بين الرقمين من ص.

ذكر تفويض [77] نيابة السلطنة بالشام

ذكر تفويض [77] نيابة السلطنة بالشام للأمير سيف الدين تنكز [1] وفى هذه السنة بعد القبض على الأمير جمال الدين فوض السلطان نيابة السلطنة بالشام للأمير سيف الدين تنكز وتوجه إلى دمشق على خيل البريد، فكان وصوله إلى دمشق فى الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر، ووصل معه جماعة من المماليك السلطانية على أخبار الأمراء المعتقلين منهم الأمير سيف الدين الحاج أرقطاى الجمدار [2] . وفيها أمر السلطان بعرض أجناد الحلقة بالديار المصرية، وانتصب لذلك بنفسه وأعرضوا بين يديه، وابتدىء بالعرض فى خامس عشر شهر ربيع الآخر وكمل فى مستهل جمادى الآخرة، وأبقى منهم من صلح للخدمة على إقطاعه، وقطع من ظهر عجزه، ورتب للمشايخ العاجزين عن الخدمة الرواتب ذكر تفويض السلطنة بالباب الشريف للأمير سيف الدين أرغن وفى هذه السنة فى يوم الإثنين مستهل جمادى الأولى فوض السلطان نيابة السلطنة بأبوابه الشريفة لمملوكه وعتيقه وغذىّ نعمته، ومن نشأ من صغره فى خدمته، وقرأ القرآن معه، الأمير سيف الدين أرغن الدوادار، وهو من المماليك المنصورية السيفية وكان السلطان الملك المنصور قد ابتاعه هو وأمه، وخصّه بخدمة السلطان الملك الناصر ولده من صغره وحال طفولتيه، فنشأ معه ولم يفارق خدمته فى وقت من الأوقات، وتوجّه فى خدمته إلى الكرك فى السفرتين، ففوض السلطان إليه نيابة السلطنة الآن، وهو أعرف الناس بخلق السلطان، وأكثرهم سياسة وسكونا وديانة وخيرا وعفة وطهارة، واشتغل بالعلوم الشرعية، وسمع الحديث وكتب صحيح البخارى بيده، وحصل الكتب النفسية، وهو مستمر فى نيابة السلطنة إلى وقتنا هذا فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وجرت أحوال الدولة فى مدة أيام نيابته على أحسن سداد وأكمل نظام.

_ [1] فى ك «تنكيز» والمثبت من ص، والدرر الكامنة 1: 521. [2] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 1: 354.

وفى جمادى الأولى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة أيضا

وفى جمادى الأولى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة أيضا فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية للأمير سيف الدين بلبان [1] ظرنا أمير جاندار ورسم بعود الأمير سيف الدين بهادر آص إلى دمشق أميرا على عادته فكان وصوله إلى دمشق فى تاسع عشر الشهر. وفى يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى ولى نيابة قلعة دمشق الأمير عز الدين أيبك الجمالى عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان البدرى. ثم رسم فى شهر رمضان من السنة أن يكون الأمير سيف الدين بهادر الشمسى فى القلعة شريكا للأمير عز الدين الجمالى، فدخلها فى سادس عشر شهر رمضان. وفى هذه السنة حصل انفصالى [2] من نظر الجيش بالمملكة الطرابلسية فى منتصف جمادى الأولى، فتوجهت إلى الديار المصرية، فكان وصولى القاهرة فى العشرين من شهر رجب من السنة. وفى شهر رجب فى أواخره وصلت رسل الأشكرى، ومثلوا بين يدى السلطان فى عاشر شعبان بقلعة الجبل، وقدموا ما معهم من الأقمشة والسكلاط [3] والطيور الجوارح ذكر عرض العساكر [78] والنفقة فيها وتجريدها وتوجه السلطان إلى الشام. كان السلطان قد توجه إلى الصيد فى شهر رجب، وأقام بمنزلة الأهرام، وكثر الإرجاف وتواترت الأخبار بوصول خربندا ملك التتار بجيوشه وقصده الشام، فعاد السلطان إلى قلعة الجبل وجرد الاهتمام ونفق فى عامة العساكر، واستخدم جماعة، وأقطعهم ساحل الغلة [4] فى شعبان، وأمر الأمراء والمقدمين

_ [1] هو الأمير سيف الدين بلبان طرثا بن عبد الله المسعودى القرانى، ويسمى عبد اللطيف، ويقال له البيسرى نسبة لبيسرى مات سنة 736 (الدرر الكامنة 1: 492، والنجوم الزاهرة 9: 304 وفيه مات سنة 734 هـ وكذلك فى الدليل الشافى 1: 198) . [2] أى انفصال المؤلف من نظر الجيش بالمملكة الطرابلسية. وفى ك «الانفصال» والمثبت من ص، وف. [3] السكلاط: كذا فى ك. وفى ص السقلاط. وفى معجم دوزى (تكملة المعجمات العربية 1: 663 «سقلاط، وسقلاطون نوع من القماش الحريرى المطرز بالذهب وكان يصنع فى بغداد، وقد انتشر هذا اللفظ فى اللغات فى الأوربية فى العصر الوسيط» . [4] ساحل الغلة: هو ساحل مصر ببولاق (السلوك 2/1: 14) .

ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف

بالعرض فى سوق الخيل والخروج إلى الشام فابتدأ الجيش بالعرض والخروج فى حادى عشر رمضان، واستمر ذلك إلى يوم الثلاثاء ثانى شوال، فركب السلطان فى هذا اليوم من قلعة الجبل وتوجّه لقصد الشام ولقاء العدوّ ودفعه. فلما وصل إلى منزلة السعيدية وهى على مسافة يومين من القاهرة وردت مطالعة الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام قرين مطالعة نائب الرحبة يخبر أن جيش التتار كان قد نازل الرّحبة فى ثانى عشرين شعبان، وأنه فى يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رمضان عاد التتار إلى بلاد الشرق، وما علم سبب عودهم وأن النائب بالرحبة ركب فى آثارهم، وحمل إلى القلعة ما كانوا قد أعدّوه [1] من آلات الحصار، وما تركوه من أثقالهم وخيلهم، وكانوا قد حاصروا الرحبة وأشرفوا على أخذها، فاستمر السلطان على المسير، ووصل إليها فى يوم الثلاثاء سادس عشر شوال. ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف لما وصل السلطان إلى دمشق وتعذّر عليه الغزو، لعود التتار. صرف ذلك إلى الحج وقضاء الفرض الواجب عليه حين أمكنه، فأقام بدمشق أياما وجرد عساكره إلى الجهات بالشام صوب [2] حلب وحمص وحصن الأكراد وغيرهما أرغون نائب السلطنة ونزل الأمير سيف الدين أرغون [3] نائب السلطنة بدمشق، والصاحب أمين الدين لتحصيل الأموال وتقرير المصالح، وتوجّه السلطان بجماعة من مماليكه وأمرائه، وانتقل ركابه الشريف من دمشق فى يوم السبت ثانى ذى القعدة، ووصل إلى الكرك، ومنها إلى المدينة النبوية فزار ثم توجّه إلى مكه- شرفها الله تعالى- يقضى فرض الحج ومناسكه، وتصدق وعاد إلى المدينة النبوية، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا، وعاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.

_ [1] فى ك «ما كان وراء عدوه» والمثبت من ص. [2] فى ك «ناحية» والمثبت من ص، وف. [3] كذا فى ص «أرغون نائب السلطنة وفى ك، وف «أرغون ونائب بواو العطف وهو خطأ لأن أرغون نائب السلطنة فى مصر تركه السلطان بدمشق وسافر للحج (النجوم الزاهرة 9: 35) . ويلاحظ أنه سبق فى الأصول رسم أرغون: أرغن.

وفى هذه السنة توفى الشيخ تاج الدين عبد الرحيم

وفى ذى الحجة ورد البريد من دمشق بإيقاع الحوطة على دار الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، وحمل ما يوجد بها من خزائنه، فوقعت الحوطة عليها وأخذ منها صناديق كانت وصلت مع ولده عز الدين فرج، فوجد فى أحدها فيما قيل اثنان وثلاثون ألف دينار عينا، وفى بعضها مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم، وعدة سروج مسقطة محلاة بالذهب والفضة وغير ذلك فحمل إلى بيت المال. وفى هذه السنة توفى الشيخ تاج الدين عبد الرحيم ابن تقى الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيى بن السنهورى أحد النظار بالديار المصرية- كان- وكانت وفاته بمصر فى سابع عشر ربيع الآخر، وكان من الأمراء الأخيار، والكتاب المشهورين، الذين يرجع الكتّاب إلى قولهم، وتنقّل من المباشرات فى عمره إلى أن انتهى إلى نظر النظار، وعين للوزارة مرارا فكرهها، وكان الوزراء يرجعون إلى قوله، ولا يخرجون عن رأيه فى جليل الأمر ولا حقيره، ثم عطّل قبل وفاته عن المباشرة [79] ، وتجاوز المائة سنة أخبرنى والدى- رحمه الله- غير مرّة أنه أسن منه بخمس عشرة سنة، وكان مولد والدى فى سنة ثمانى عشرة وستمائة فعلى هذا يكون عمره مائة سنة وتسع سنين تقريبا رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى شهاب الدين غازى بن أحمد بن [1] الواسطى ناظر حلب بها فى ثامن عشر ربيع الآخر، وكان يتنقل فى المناصب الجليلة، ولى نظر الدواوين بالديار المصرية، ونظر الصحبة [2] ، ونظر دمشق وحلب وطرابلس، وكتب بديوان الإنشاء مدة- رحمه الله تعالى-. وتوفى القاضى تاج الدين أحمد ابن القاضى عماد الدين محمد بن هبة الله الشيرازى [3] الدمشقى ببستانه [4] بالمزة فى رابع عشر رجب، ودفن بقاسيون- رحمه الله- وكان من أعيان أهل دمشق، وولى نظر الدواوين بها وغير ذلك.

_ [1] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 294، والدليل الشافى 2: 517. [2] نظر الصحبة: صاحب هذه الوظيفة وزير متنقل يرافق السلطان فى أسفاره وحروبه فيقوم بوظيفة الوزير، ويصرف شئونها معه ليتسنى للوزير الأصلى أن يقيم بالقاهرة (السلوك 1/2: 627 هامش الدكتور زيادة) . [3] وانظر ترجمته فى ذيول العبر ص 68، والسلوك 2/1: 120، وشذرات الذهب 6: 30. [4] المزة: قرية كبيرة تمتاز فى أعلى الغوطة فى سفح الجبل من أعلى دمشق، وبينهما نصف فرسخ (النجوم الزاهرة 8: 112 هامش) .

وتوفى القاضى نور الدين أحمد بن الشيخ

وتوفى الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب [1] بالقاهرة بعد العصر من يوم الإثنين ثانى عشر رجب. وتوفيت زوجته وهى ابنة عمة الملك المغيث ابن الملك المعظم وقت عشاء الآخرة، وخرجت جنازتهما جميعا فى يوم الإثنين، وكان قد حج وزار البيت المقدس، وتوجه إلى دمشق ثم عاد إلى القاهرة، فأقام نحو خمسة أيام ومات- رحمه الله تعالى- وكان من خيار المسلمين محترما مبجلا معظما فى صدور الناس، متواضعا فى نفسه، له فضيلة تامة، وروى الحديث، ومولده فى ليلة السبت عاشر جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وستمائة بقلعة الكرك وتوفى القاضى نور الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحيم، بن عز الدين بن عبد الله بن رواحة الحموى الأنصارى كان رأس كتاب الدرج بطرابلس، فلما هرب الأمير جمال الدين الأفرم فى هذه السنة استصحبه معه، ثم رجع من البرية ووصل إلى طرابلس ومرض، فلما وصل الأمير سيف الدين تمر الساقى إلى نيابة طرابلس عزله، فتوجه إلى حماة فمات بها فى سادس عشر شعبان- رحمه الله تعالى- وكان رجلا صالحا جيدا أمينا طاهر القلم، رافقته مدة فى السفر والحضر، فلم أر منه إلا خيرا وعفة وأمانة ونزاهة رحمه الله تعالى. وتوفى فى يوم الإثنين خامس عشرين شعبان بالقاهرة شرف الدين محمد ابن خليل المقدسى [2] الكاتب المنشىء، كان كاتبا فاضلا متمكنا من صناعة الإنشاء، حسن النظم جيدّ النثر، لكنه كان كثير الهجاء- سامحه الله تعالى وإيانا. وتوفى الأمير سيف الدين قطلوبك الشيّخى [3] المنصورى أحد الأمراء بدمشق فى خامس عشر شهر ربيع الآخر، وهذه النسبة إلى الشيخ عمر بن الشيخ جاه.

_ [1] وانظر البداية والنهاية 14: 268، وشذرات الذهب 6: 31، والنجوم الزاهرة 9: 224. [2] النجوم الزاهرة 9: 223، والدليل الشافى 2: 709، والوافى بالوفيات 5: 93. وفوات الوفيات 4: 42، والدرر الكامنة 5: 39، وشذرات الذهب 6: 32. [3] انظر البداية والنهاية 14: 68، والنجوم الزاهرة 9: 224.

واستهلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة

وتوفى الآمير علاء الدين مغلطاى البهائى [1] أحد الأمراء بطرابلس فى حادى عشر شهر ربيع الآخر، وكان قد رسم بالقبض عليه، فوصل البريد بذلك بعد وفاته بيوم أو يومين رحمه الله تعالى. واستهلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة والسلطان الملك الناصر- خلّد الله سلطانه- ببرية الحجاز عائدا. ففى يوم السبت مستهل محرم وصل إلى دمشق الأمير سيف الدين قجليس السلاح دار الناصرى، وبشّر بعافية السلطان وعوده من الحجاز بعد أن قضى فريضة الله فى الحج، وأخبر أنه فارقه من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- ثم وصل البريد [80] بعد ذلك وأخبر أن السلطان وصل إلى الكرك فى ثانى محرم، ثم وصل السلطان إلى دمشق فى يوم الثلاثاء حادى عشر المحرم ونزل بالقصر الأبلق، وصلى الجمعة فى رابع عشر بجامع دمشق، وكذلك الجمعة التى تليها ولعب بالكرة بالميدان الأخضر فى يوم السبت خامس عشر المحرم، وفوّض نظر الدواوين بالشام لشمس الدين عبد الله ابن غبريال، فى سادس عشر الشهر، وكان قبل ذلك يلى نظر البيوت السلطانية، وتوجّه فى خدمة السلطان إلى الحجاز [2] فرأى منه نهضة وكفاية فنقله إلى نظر دمشق، وولى فخر الدين أياز [3] الشمسى شدّ الدواوين بالشام نقله من شدّ مصر إليها، عوضا عن الأمير بدر الدين القرمانى، وولى القرمانى نيابة الرحبة عوضا عن الأمير بدر الدين [4] موسى الأزكشى، ثم توجه السلطان إلى الديار المصرية، وكان استقلال ركابه من دمشق فى بكرة نهار الخميس سابع عشرين المحرم، وكان وصوله إلى قلعة الجبل فى الساعة الثالثة من يوم الجمعة ثانى صفر.

_ [1] له ترجمة فى النجوم الزاهرة 9: 224. [2] عبارة «إلى الحجاز» سقطت من ك. [3] إياز- وبرسم أيضا «إياس» وانظر ترجمته فى الدرر الكامنة 1: 420. [4] هو موسى بن أبى بكر الأزكشى، الأمير بدر الدين نائب الرحبة كانت له اليد البيضاء فى قتال التتار، ومات بدمشق سنة 715 هـ (الدرر الكامنة 4: 384) .

وفى هذه السنة كملت عمارة الميدان

وفى هذه السنة كملت عمارة الميدان الذى أمر السلطان بإنشائه تحت قلعة الجبل من الجانب الغربى مما يلى سوق الخيل، وكان الشروع في عمارته فى جمادى الأولى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة، وأدخل فيه بعض السور ما يلى باب القرافة إلى جهة القلعة، وجعل الحائط الدائر على هذا الميدان من جهات ثلاث سورا، وردم قرار الميدان بالطين الأبليز، وأمر السلطان بسد باب [1] سارية، وفتح باب إلى جانبه، ثم أمر فى هذه السنة بإدارة السواقى على البئر التى كانت عمرت فى الدولة الأشرفية الصالحية خارج باب القنطرة [2] بمصر بشادّ الأمير عز الدين الأفرم، فركبّ على فوهتها أربع محال وعمل لها أربع مجارى على السور يجرى الماء فيها إلى حفرة ثانية على شكل بئر فى أثناء الطريق، يتحصل الماء الجارى من البئر الأولى فيها. وركّب عليها ثلاث محال، ويجرى الماء إلى بئر ثالثة تحت القلعة، ولم يزل ينقله إلى أن [3] جرى الماء العذب من بحر النيل أعلى [4] إلى قلعة الجبل وقسم على أماكن وقاعات بها، ذكر تفويض نيابة دار العدل وشد الأوقاف للأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى وفى هذه السنة فى يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع الأول فوّض السلطان نيابه دار العدل الشريفة وشدّ الأوقاف بالديار المصرية للأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى، أحد الحجاب، وكانت وظيفة نيابة دار العدل قد

_ [1] باب سارية: أحد أبواب القرافة الموصل لقبر سارية، وهو من مزارات القاهرة ومشاهدها، وصاحبه سارية ابن أبى زنيم البيسانى، وهو الذى ناداه الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من فوق المنبر: يأساريه الجبل. ويسمى هذا الميدان بميدان القلعة والميدان الأسود أو قراميدان «انظر خطط المقريزى. معجم وهامش المرحوم محمد رمزى بك على النجوم الزاهرة 9: 179. [2] باب القنطرة: هو أحد أبواب القاهرة، سمى بذلك من أجل القنطرة التى بناها جوهر القائد على الخليج الكبير سنة 362 هـ. ويقول على باشا مبارك: وهى لا تزال موجودة إلى الآن، والباب هدمه محافظ القاهرة قاسم باشا. وكان بقرب قراقول باب الشعرية (الخطط التوفيقية 3: 2) . [3] إضافة يقتضيها السياق. [4] هذا اللفظ سقط من ك.

ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة وترتيب الأمير بدر الدين بن التركمانى فى الشد

توفّرت منذ نقل الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار منها إلى نيابة السلطنة، وخلع عليه، وبسطت يده فأساء التصرف، ووسع الطلب، وضيّق على الناس، وتعرض إلى العدول والأئمة وغيرهم، فلم تطل أيام ولايته، فإن السلطان اتصل به لسوء فعله فعزله، وأقره على وظيفة دار الحجبة خاصة على عادته الأولى، ولم تكن خرجت عنه، ثم أخرجه السلطان إلى الشام بعد ذلك فمات بدمشق. ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة وترتيب الأمير بدر الدين بن التركمانى فى الشد وفى هذه السنة فى مستهل جمادى الآخرة عزل الصاحب أمين عبد الله من الوزارة، وصودر وحمل من أمواله ثلاثمائة ألف درهم، ثم أفرج عنه، ورتّب فى شادّ الدواوين الأمير بدر الدين محمد بن الأمير فخر الدين التركمانى، وكان قبل ذلك يلى الأعمال الجبرية [81] وألزم الصاحب أمين الدين داره إلى التاسع والعشرين من ذى الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة، فطلب فى هذا اليوم ورتّب ناظر النّظار والصحبة عوضا عن الصاحب ضياء الدين أبى بكر النشائى، ونقل النشائى إلى نظر الخزانة عن سعد الدين الأقفاصى بحكم وفاته. ذكر روك [1] الإقطاعات بالشام وفى هذه السنة رسم بكشف البلاد الشامية والقرى والضياع والنواحى والجهات بدمشق وأعمالها، وحمص وبعلبك وغزّة، والمملكة الصفدية، وانتصب لذلك بدمشق وأعمالها القاضى معين الدين بن هبة الله بن حشيش [2] ناظر الجيوش بالشام، فكان يتلقّى ما يرد من الكشوف ويحررها، وانتصب معه جماعة من الكتاب، ثم وصل إلى الأبواب السلطانية فى شهر رمضان بعد إنجاز العمل بدمشق، ووصل القاضى شمس الدين عبد الله ناظر الشام، ورسم

_ [1] الروك: معناه مسح وقياس الأرض الزراعية، وهى العملية التى يطلق عليها اليوم فك الزمام، وذلك لتقدير الخراج المستحق عليها لبيت المال، (المقريزى الخطط، ج 1 ص 80- 87- بولاق، وكذلك السلوك 2/1: 146 هامش الدكتور زيادة) . [2] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 5: 177، والسلوك 2/2: 315، والنجوم الزاهرة 9: 280، وشذرات الذهب 6: 92. وقد توفى سنة 729 هـ.

ذكر تجريد جماعة من الأمراء إلى مكة

للأمير علم الدين سنجر الجاولى نائب السلطنة بغّزة أن يحضر ذلك، فوصل أيضا فانتصب مباشر والجيوش بالديار المصرية: القاضى فخر الدين، وقطب الدين ابن شيخ السلامية، وجماعة من الكتاب لتحرير الرّوك وقسمة الإقطاعات، وكان جلوسهم لهذا العمل داخل باب القلعة والرحبة فى مكان أفرد لجلوسهم. فلما انتهى العمل حوّلت سنة ثنتى عشرة وسبعمائة الخراجية إلى سنة ثلاث عشرة بحكم دوران السنين وكتبت الأمثلة بالإقطاعات، ثم رسم أن يستمر القاضى فخر الدين محمد فى نظر الجيوش بمفرده على عادته، ورتّب القاضى معين الدين هبة الله بن حشيش صاحب ديوان الجيوش، وأعيد القاضى قطب الدين بن شيخ السلامية إلى نظر جيش الشام على عادته الأولى، وذلك فى ذى الحجة، وخلع على كل منهم. وتوجه قطب الدين إلى دمشق وصحبته الأمثلة، فكان وصوله إليها فى سادس عشرين ذى الحجة وقرنت الأمثلة، وحصل فى تفريقها اختلاف واضطراب، فاعتذر قطب الدين أنّ الرّوك إنما رتبه معين الدين فاقتضى ذلك توجهه إلى دمشق، فتوجه فى سنة أربع عشرة وسبعمائة على خيل البريد، وفرقت الأمثلة بحضوره على ما استقر بالأبواب السلطانية، ثم عاد إلى الديار المصرية. ذكر تجريد جماعة من الأمراء إلى مكة وفى هذه السنة جرد السلطان جماعة من الأمراء إلى مكة- شرفها الله تعالى- وهم سيف الدين طقصبا [1] الناصرى وهو المقدم على الجيش، وسيف الدين يلوا [2] ، وصارم الدين [3] صاروجا الحسامى، وعلاء الدين أيدغدى الخوارزمى، وتوجهوا فى شوال فى جملة الركب، وجرّد من دمشق الأمير سيف الدين بلبان التترى، وسبب ذلك ما اتصل بالسلطان من شكوى المجاورين والحجاج من أميرى مكة حميضة ورميثة ولدى الشريف أبى نمى، فندب

_ [1] طقصبا: الضبط بالشكل من السلوك 2/1: 128 والنجوم الزاهرة 8: 152. [2] فى ك، ود «يلو» والمثبت من ص، والنجوم الزاهرة «وفهارس ج 8، ج 9. وفى السلوك 2/1: 128 «سيف الدين بيدوا» . [3] هو صاروجا بن عبد الله المظفرى قائد الجيش، أحد الأمراء الناصرية. وانظر السلوك 4/2: 277، والدليل الشافى 1: 349، والدرر الكامنة 2: 198.

السلطان هذا الجيش وجهّز أخاهما الأمير أبا الغيث بن أبى نمىّ، فلما وصل العسكر إلى مكة فارقها حميضة وأقام الجيش بمكة بعد عود الحاج نحو شهرين فقصّر أبو الغيث فى حقهم، وضاق منهم ثم كتب خطه باستغنائه عنهم فعادوا، وكان وصولهم إلى الأبواب السلطانية فى أواخر شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبعمائه، ولما علم حميضة بمفارقة الجيش مكة عاد إليها بجمع، وقاتل أخاه أبا الغيث، ففارق أبو الغيث مكة والتحق بأخواله من هذيل بوادى نخلة وأرسل حميضة إلى السلطان رسولا وخيلا للتقدمة، فاعتقل السلطان رسوله [1] . وفى يوم الإثنين لست بقين من شّوال أمر السلطان بالقبض على الأمير عز الدين أيبك الرومى، واعتقاله فاعتقل. وفيها فى يوم السبت سادس عشرين ذى الحجة وصل إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل رسل الملك أزبك [2] الجالس على كرسى الملكة بصراى [3] وما معها وهى مملكة بيت بركة، ومعهم رسل الأشكرى [4] [82] على العادة، فأنزل رسل الملك أزبك بمناظر الكبش، وشملهم الإحسان السلطانى. وفيها فى ذى الحجة تسحّب جماعة من الجند البطالين يقال إن عدتهم نحو مائتى فارس، وتوجهوا إلى بلاد المغرب، وتقدم عليهم ابن المحسنى [5] فرسم السلطان للأمير حسام الدين القليجى أن يتوجه خلفهم، فسارفى آثارهم وجدّ السير فلم يدرك منهم إلا رجلا واحدا كان قد ضل عن الطريق فأحضره فى المحرم سنة أربع عشرة فاعتقل.

_ [1] وانظر هذا الخبر فى إتحاف الورى بأخبار أم القرى 3: 150. [2] تولى أزيك خان هذا سنة 712 هـ وامتد حكمه حتى سنة 741 هـ. وكان عدة رسله مائة وأربعة وسبعين نفرا (النهج السديد لأبى الفضائل 3: 238) . [3] صراى: مدينة عظيمة، وهى كرسى ملك التتار، صاحب البلاد الشمالية. وتقع غربى بحر الخرز وشماله على مسيرة يومين على شط نهر الأثل من الجانب الشمالى الشرقى، وهى فرصة عظيمة للتجار ورقيق الترك (هامش النجوم الزاهرة 9: 226) . [4] الأشكرى: لقب اختص به العرب أباطرة الدولة البيزنطية، وكان الإمبراطور فى تلك السنة «أندرنيق الثانى» (السلوك 2/1: 132 هامش الدكتور زيادة) . [5] هو علاء الدين على ابن الأمير بدر الدين بن المحسنى (السلوك 2/1: 132) .

وفى هذه السنة رسم السلطان أن يساق الماء

وفى هذه السنة فى ذى الحجة أنشا السلطان بقلعة الجبل القصر [1] الأبلق، وهو مطل على الميدان الجديد وسوق الخيل، ولما كملت عمارته عمل السلطان وليمة عظيمة، وجلس فيه وأحضر الأمراء وأنعم عليهم بمبلغ جملته ألف ألف درهم وأربعمائة ألف درهم وذلك فى يوم الإثنين سابع عشر شهر رجب سنة أربع عشرة وسبعمائة وفى هذه السنة رسم السلطان أن يساق الماء من عين بلد الخليل إلى القدس الشريف، فتولى ذلك الأمير علم الدين سنجر الجاولى، ووصل الماء إلى القدس، وارتفق الناس به. وفى سنة ثلاث عشرة أيضا توفى القاضى عماد الدين أبو الحسن على ابن القاضى فخر الدين بن عبد العزيز ابن قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحيم [2] بن السكرى، وكانت وفاته بالمدرسة المعروفة بمنازل العزّ فى سحر يوم الجمعة سادس عشرين صفر ودفن بالقرافة، ومولده فى الخامس والعشرين من محرم سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهو الذى كان قد توجّه فى الرسالة إلى غازان، وكان يلى تدريس مدرسة منازل العزّ هو وأبوه وجده، وتدريس المشهد الحسينى بالقاهرة، وخطابة الجامع الحاكمى، فولى ولده القاضى تاج الدين التدريس بمنازل العز والخطابة وولى تدريس المشهد الحسينى صدر الدين محمد بن المرحّل. وتوفى الخطيب قطب الدين يوسف ابن الخطيب أصيل الدين محمد بن إبراهيم بن عمر بن على العوفى الأسعردى [3] ، خطيب الجامع الصالحى خارج باب زويلة فى ليلة السبت العشرين من شهر رجب فجأة ودفن بسفح المقطم وولى الخطابة بعده الشيخ زين الدين عمرو بن مؤنس الكتانى [4] الشافعى.

_ [1] وفى النجوم الزاهرة 9: 36 «وقصد أن يحاكى به قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى الذى بظاهر دمشق، ويقول المرحوم محمد رمزى بك فى تعليقه «وبالبحث تبين أن هذا القصر قد اندثر، وكان قائما فى الجهة الغريبة من القلعة. [2] كذا فى الأصول. وفى السلوك 4/1: 133، والنجوم الزاهرة 9: 225، وشذرات الذهب 6: 32 «عماد الدين عبد الرحمن» . [3] السلوك 2/1: 133، والدرر الكامنة 5: 243، والدليل الشافى 2: 807. [4] ترجم له شذرات الذهب 6: 117.

وتوفى الشيخ تاج الدين محمد بن على بن همام بن راجى الله بن أبى الفتوح ناصر بن داود بن عبد الله بن أبى الحسن العسقلانى [1] الشافعى الإمام بالجامع الصالحى، وكانت وفاته بمسكنه بالجامع فى ليلة السبت الحادى عشر من شعبان- رحمه الله تعالى- ومولده فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وستمائة، وولى الإمامة بعده بالجامع ولده القاضى تقى الدين محمد. وتوفى عز الدين بن عبد العزيز بن منصور الكولمى التاجر الكارمى بثغر الإسكندرية فى شهر رمضان، وكان والده من يهود حلب يعرف بالحموى، وأسلم والده فى أول الدولة الظاهرية هو وأخواه [2] وتوفى أول الدولة المنصورية فجمع عز الدين هذا ما يملكه وتوجّه إلى بغداد ويقال إن جملة ما توجه [3] خمسة عشر ألف درهم أو دونها، وانحدر من بغداد إلى البصرة، ثم توجه إلى كبش [4] وركب منها فى الزو [5] إلى بلاد الصين فدخل الصين وخرج منه خمس مرات ودخل إلى الهند، وكان يحكى عجائب كثيرة يذكر أنه شاهدها، لا يقبل بعضها العقل، والقدوة صالحة أغضينا عن ذكرها، وما كان يتّهم بكذب، ثم عاد من الهند إلى عدن من بلاد اليمن فى الزّو الهندى، وأخذ صاحب اليمن جملة من ماله، وما أحضر من تحف الصين، والصينى زيادة على ما جرت عادتهم بأخذه، ثم وصل إلى الديار المصرية أرى فى سنة أربع وسبعمائة ومعه [6] ما قيمته أربعمائة ألف دينار عينا، ولما مات خلّف تركة جليلة، وكان كثير الصدقة والمعروف والبر رحمه الله تعالى.

_ [1] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 383، وذيول العبر ص 75، والنجوم الزاهرة 9: 225. [2] فى الأصول «وأخويه» وصوب نحويا، وربما تكون «إخوته» وترجم له النجوم الزاهرة 9: 229. [3] كلمة «توجه» بياض فى ك، والمثبت من ص، وف. [4] كبش: قال ياقوت: هو تعجيم قيس، جزيرة فى وسط البحر تعد من أعمال فارس لأن أهلها فرس، وقد ذكرتها فى قيس، وتعد من أعمال عمان (معجم البلدان 4: 565) . [5] الزو: اسم لنوع من الفن (تكملة المعجمات العربية لدوزى) وجاء فى السلوك 2/1: 133 هامش الدكتور زيادة «أنه ركب فى الزو الهندى» . [6] كذا فى ك. وفى ص «ونفذ ما قيمته أربعة إلخ.

واستهلت سنة أربع [83] عشرة وسبعمائة

وتوفى الأمير جمال الدين آقش الكنجى النائب بحصن مصياف [1] به يوم الأحد ثامن عشر ذى [2] القعدة، وكان قد بلغ تسعين سنة، وولى نيابة الحصن سنين كثيرة، وكان أهل الحصن الفداوية [3] يحبونه ويجيبون إلى ما أمرهم به من بذل نفوسهم وهو يكرمهم ويبرهم ويحسن إليهم رحمه الله تعالى. واستهلت سنة أربع [83] عشرة وسبعمائة فى أول هذه السنة- فى يوم الأربعاء مستهل محرم الموافق الحادى والعشرين من برمودة القبطى- تغيّر نهر النيل بمصر تغيّرا ظاهرا مائلا إلى الخضرة، وتغير طعمه وريحه حتى شرب كثير من الناس من الآبار العذبة والصهاريج التى يخزن بها الماء والعادة أن يكون ماء النيل فى هذا الفصل فى غاية الصفاء، وما علم سبب تغيّره، ثم عاد إلى صفوه بعد ذلك. ذكر واقعة الشيخ نور الدين على البكرى [4] . وغضب السلطان عليه وخلاصه كان سبب ذلك أن الشيخ نور الدين المذكور انتصب بمصر للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حسبة من غير ولاية سلطانية ولا إذن حكمى، ورأى أن ذلك قد تعيّن عليه، وهو من أعيان الفضلاء وأكابر المفيدين، واجتمع معه جماعة من البكريّين وغيرهم يأتمرون [5] بأمره، فاتصل به فى شهر المحرم من السنة أن النصارى بمصر اجتمعوا فى كنيسة من كنائسهم لعيد لهم، وأنهم استعاروا من الجامع العمرى بمصر قناديل وبصّاقات وأطباق وأشعلوها فى

_ [1] مصياف- فى الأصول «ميصاف» والمثبت من ص، والسلوك 2/1: 207، ومعجم البلدان 5: 168، وفيها أنها مصياب وهى حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل الشامى قرب طرابلس، وبعضهم يقول: مصياف. [2] لفظ «ذى» سقط من ك والإثبات من ص، وف. [3] الفداوية: جماعة تكلف بالقتل والاغتيال، ولا يمكن أن يعترف أحدهم- فى حال القبض عليه- باسم شركائه. وانظر قصة إرسال الملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاثين فداويا من أهل قلعة مصياف لقتل الأمير قراسنقر بتبريز من بلاد المغول- فى السلوك 2/1: 207، 209. [4] هو على بن يعقوب بن جبريل البكرى، توفى سنة 724. وانظر البداية والنهاية 14: 144، والدرر الكامنة 3: 214، وطبقات الشافعية 6: 242، وشذرات الذهب 6: 64. [5] فى ك «يأمرون» والمثبت من ص.

الكنيسة، فما صبر على ذلك، وجاء إلى الكنيسة ودخلها بمن معه وأخذ ما استعاروه من قناديل الجامع وما عونه، وأعاد ذلك إلى الجامع، وأحضر مباشر الجامع وأنكر عليه إقدامه على عارية ذلك للنصارى، فاعتذر أن الخطيب [1] هو الذى أمر بذلك، فطلبه الشيخ وأنكر عليه، وكلمّه بكلام غليظ فانضم [2] للخطيب القاضى فخر الدين ناظر الجيش، وأنهى إلى السلطان ما فعل الشيخ بالخطيب، وعرّفه أن الخطيب رجل صالح من بيت كبير، وأن مثله لا يعامل بمثل هذه المعاملة، وأنهى إلى السلطان أن الشيخ نور الدين فيه جرأة عظيمة واطّراح للدولة وغضّ منها، إلى غير ذلك من الإغراء، وطلع الشيخ نور الدين إلى قلعة الجبل فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر محرم، واجتمع بنائب السلطنة وبات عنده ليلة السبت، واجتمع أيضا بالأمير ركن الدين بيبرس الأحمدى أمير جاندار وقصد الاجتماع بالسلطان [وكان] [3] طلب فى بكرة نهار الخميس الثالث والعشرين من محرم إلى مجلس السلطان، وأحضر قضاة القضاة والعلماء، فحصل للشيخ قوّة نفس، وكلمّ السلطان بما لا يليق أن يكلّم به الملوك عرفا، فكان مما قال له: أنت ولّيت القبط والمسالمة وحكّمتهم فى دولتك وأموال المسلمين، وأضعت أموال بيت المال فى العمائر والإطلاقات التى لا تجوز، إلى غير ذلك من الكلام الخشن الذى لا تصبر الملوك على مثله، فغضب السلطان لذلك غضبا شديدا، وانزعج له انزعاجا عظيما، وظهر منه اضطراب وألفاظ دلت على أنه نقل إليه عن الشيخ ما أوجب انحماله، فكان فيما قال السلطان- فيما بلغنى- إما أنا وإما هذا؟ وقال أما أنا ما أخذت الملك بخلافة وإنما أخذته بسيفى إلى غير ذلك من الكلام الدال على شدة الحرج، وقال السلطان للقضاة، ما الذى يلزم هذا على تجرئه على ما قال؟ فقال قاضى القضاة زين الدين المالكى: هذا لا يلزمه عندى شىء. وقال قاضى القضاة بدر الدين الشافعى يلزمه التعزير بحسب رأى الإمام. فقال الشيخ [4] لقاضى القضاة بدر الدين كيف تقول هذا القول؟ وقد صحّ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أفضل الجهاد كلمة صدق عند سلطان جائر» ورفع بها صوته، وأشار بيده إلى جهة السلطان،

_ [1] ذكر المقريزى فى السلوك 2/1: 135- أن القسطلانى كان خطيب المسجد. [2] كذا فى ك، وف. وفى ص «فانتصر» . [3] إضافة يقتضيها السياق. [4] أى الشيخ نور الدين على البكرى.

بها صوته، وأشار بيده إلى جهة السلطان، فعند ذلك اشتد غضب السلطان، ورسم بقطع لسانه، وما تجاسر أحد أن يشفع فيه إلا [1] الأمير سيف الدين طوغاى، فإنه بالغ فى أمره حتى نزل وانفصل المجلس، ورسم عليه، ثم طلب مرّة ثانية قبل العصر من اليوم إلى مجلس السلطان، فكان المجلس فيما بلغنى أشد من الأول، حتى همّ السلطان بقتله فتقدم إليه الأمير سيف الدين طغاى أيضا [84] وقال: والله لأقتل السلطان هذا أبدا ويكون الصديّق جدّه خصم السلطان عند الله يوم القيامة. فاستكان السلطان لمّا سمع هذا الكلام وأطلقه. وهذا يدل على حلم السلطان وخيره، ولولا ذلك لما أبقاه لما خاطبه به. وكان القاضى كريم الدين وكيل الخاص الشريف أيضا قد اعتنى به عند السلطان موافقة للأمير سيف الدين طغاى، وخرج هو والشيخ من مجلس السلطان بعد العصر من اليوم المذكور، فشرع بعض الجماعة يقول للشيخ وهو إلى جانب القاضى كريم الدين: ما فعله القاضى كريم الدين فى أمره من الاعتناء به وتسكين حرج السلطان فقال: نعم هو كان من خيار الظلمة، وكريم الدين يسمع ذلك فما أجابه عنه بشىء، واجتمع تحت القلعة خلق كثير من العوام حتى امتلأت بهم تلك الجهة، وهم يظهرون الفرح بسلامة الشيخ نور الدين، فأشار كريم الدين ألا يتوجّه الشيخ إلى مصر بهذا الجمع خشية أن يشاهد السلطان ذلك فيخرج بسببه. فصرفهم وتوجّه من جهة أخرى، وانقطع بمنزله، ولم ينقطع الناس وبعض الأمراء عن التردد إليه وسلامته من هذه الواقعة دلّت على أن قيامه كان لله تعالى. وفيها فى صفر أمر السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين بلبان الشمسى أمير الحاج واعتقاله، لسوء اعتماده على الحجّاج وكان ساق سوقا مزعجا، ووصل إلى القاهرة بالمحمل قبل الوقت المعتاد بأيام فهلك كثير من المشاة بسبب ذلك فرسم السلطان أن يتوجه جماعة على الهجن بالماء والزاد بسبب من انقطع- والله أعلم.

_ [1] لفظ «إلا» سقط من ك، والمثبت من ص، وف.

ذكر وفاة الأمير سيف الدين سودى [6] نائب السلطنة بحلب وتفويض نيابة السلطنة بها للأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب

وفى هذه السنة أمر السطان بمسامحة البلاد الشامية بحملة كثيرة من البواقى [1] لاستقبال سنة ثمان وتسعين وستمائة وإلى آخر ثلاث عشرة وسبعمائة وقرىء كتاب المسامحة بجامع دمشق فى يوم الجمعة عاشر المحرم بحضور نائب السلطنة بدمشق، ثم قرىء فى يوم الجمعة التى تليها بالجامع بدمشق مثال بإطلاق ضمان [2] السجون وأن لا يؤخذ ممن يسجن أكثر من نصف درهم يكون أجرة السجانين، وكان قبل ذلك يؤخذ من المسجون ستة دراهم فما دونها، وتضمن المثال أيضا إعفاء الفلاحين من السّخر ومقرّر [3] القصب، وكان جملة، فتضاعفت الأدعية بسبب ذلك للسلطان، ثم قرىء مثال ثالث فى مستهل صفر بإطلاق ضمان القّواسين ونقابة الشّد والولاية [4] ، وفى شهر ربيع الأول وصلت الأخبار بإغارة طائفة من العسكر الحلبى على دنيسر [5] ، وقتل جماعة بها وأسر جماعة، ووصل بعض الأسرى إلى دمشق فى شهر ربيع الآخر. ذكر وفاة الأمير سيف الدين سودى [6] نائب السلطنة بحلب وتفويض نيابة السلطنة بها للأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب وفى يوم السبت الثانى والعشرين من شهر رجب ورد الخبر إلى الأبواب السلطانية بوفاة الأمير سيف الدين سودى الجمدار نائب السلطنة بالمملكة الحلبية، وكانت وفاته بعد العصر من يوم السبت منتصف الشهر، ففّوض السلطان للأمير علاء الدين الطّنبغا الصالحى أحد الحجاب نيابة السلطنة بها فى هذا اليوم، وتوجّه على خيل البريد فى يوم الأحد الثالث والعشرين من الشهر.

_ [1] البواقى: انظر ما مضى ص 281 تعليق رقم 2. [2] فى ك «المسجون» والمثبت من ص وضمان السجون هو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم، سوى ما يكون قد غرمه، وعليه ضامن يضمن فى ذلك (خطط المقريزى 2: 26، والسلوك 2/1: 151 وفى النجوم الزاهرة 9: 46 «الضمان على كل من يسجن ولو لحظة مائة درهم» . [3] مقرر القصب: هو ما يجبى من زراع القصب، وأرباب المعاصر ورجال المعصرة فيحصل من ذلك شىء كثير (النجوم الزاهرة 9: 47) . [4] أى المكس الذى يسمى بشد الزعماء، والمكس الذى يعرف باسم رسوم الولاية (السلوك 2/1: 137 هامش الدكتور زيادة) . [5] دنيسر: بلدة عظيمة مشهورة من نواحى الجزيرة قرب ماردين بينهما فرسخان، ولها اسم آخر يقال لها قوج (معجم البلدان 2: 544، وانظر الروض المعطار ص 250 ورسمها دنيصر) . [6] انظر النجوم الزاهرة 9: 229، والبداية والنهاية 14: 71، والدرر الكامنة 2: 79 والسلوك 2/1: 140.

ذكر عزل الأمير [85] سيف الدين بلبان طرناه

وورد الخبر أيضا بوفاة بهاء الدين أبى سوادة [1] كاتب الدرج بحلب، وكانت وفاته فى ضحى منتصف شهر رجب، فرتبّ وظيفته فى القاضى عماد الدين إسماعيل بن القاضى المرحوم شرف الدين بن القصيرانى [2] ، وتوجه إلى حلب بعد أن سأل [3] واستعفى من الوظيفة، ثم لما عزل سعى فى الاستمرار فلم يجب. ذكر عزل الأمير [85] سيف الدين بلبان طرناه نائب السلطنة بالمملكة الصفدية، والقبض عليه، وتفويض النيابة للأمير سيف الدين بلبان البدرى. وفى شوال من هذه السنة تكررت مطالعات الأمير سيف الدين طرناه نائب السلطنة بالمملكة الصفدية يسأل الإقالة، ثم أنهى عنه أنه قال والله لئن لم يقلنى السلطان من النيابة بصفد حلقت رأسى ولحيتى وتركت الإمارة. وكان سبب ذلك أن المملكة رجع أكثرها إلى دمشق عند الرّوك، وصارت مراسيم السلطنة بدمشق والمشد ترد إلى صفد، فضاق من ذلك. ضيقا كثيرا واستعفى، فبرز المرسوم بعزله، وأن يتوجّه إلى دمشق من جملة الأمراء على إقطاع الأمير سيف الدين بلبان البدرى، وأن يتوجّه البدرى إلى نيابة السلطنة بصفد، فتوجّه إلى دمشق، وكان وصوله فى يوم الخميس حادى عشرين ذى القعدة، فقبض عليه حال وصوله واعتقل، ثم نقل إلى قلعة الجبل فاعتقل بها، وتوجه الأمير سيف الدين بلبان البدرى من دمشق إلى صفد فى يوم الجمعة ثانى عشرين ذى القعدة. وفى يوم الجمعة سلخ ذى القعدة ثار بالقاهرة رجل اسمه على بن السابق، من سكان الحسينية، [4] فركب فرسا، وجرّد سيفا، وشقّ المدينة [5] وصار يضرب بالسيف من يظفر به من اليهود والنصارى، فجرح ثلاثة، منهم من قطع يده، ومنهم من ضربه فى وجهه، ثم قبض عليه خارج باب [6] زويلة مما يلى جهة القلعة، وسئل عن سبب فعله فقال قمت لأنصر دين الله وأقتل أهل الذمة فأمر السلطان بقتله؟ فضربت عنقه.

_ [1] هو بهاء الدين على بن أبى سوادة الحلبى (النجوم الزاهرة) 9: 228. [2] كذا فى ك. وفى ص، والنجوم الزاهرة 9: 311 والدرر الكامنة 1: 404 وشذرات الذهب 6: 113 «القيسرانى» بالسين. وقد توفى سنة 736 هـ. [3] فى ك «سل» وفى ف «سئل» والمثبت من ص. [4- 5] ما بين الرقمين ساقط من ك، والمثبت من ص، وف. [6] كذا فى ك. وفى ص، وف «بابى» .

وفى يوم الجمعة تاسع عشرين شهر رجب قتل بدمشق موسى بن سمعان النصرانى الكركى، كاتب الأمير سيف الدين قطلوبك الجاشنكير لتجرئه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان قد استمال رجلا من ضعفة العقول والقلوب من المسلمين ونصّره وكواه على يده مثال صليب، فحكم قاضى القضاة جمال الدين المالكى بقتله فقتل. وفى ذى الحجة من هذه السنة تسحّب جماعة من الجند البطالين إلى بلاد الغرب، لم نحرر عدّتهم. وفيه منها جردت العساكر إلى ملطية، وكان من فتحها ما نذكره إن شاء الله تعالى فى سنة خمس عشرة وسبعمائة. وفى هذه السنة فى ليلة الثلاثاء سادس عشر صفر توفى الشيخ الصالح شرف الدين أبو الهدى أحمد ابن الشيخ الإمام قطب الدين أبى بكر محمد بن أحمد بن على بن محمد بن الحسن بن القسطلانى [1] المالكى وكانت وفاته بزاويته [2] بالكؤكؤة من القاهرة، ودفن من الغد بالقرافة، ومولده بمكة فى جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة- رحمه الله تعالى. وتوفى الشيخ الصالح المعمّر محمد حيّاك الله بسلام بن محمود بن الحسين ابن الحسن الموصلى [3] بزاويته بسويقة [4] الريش ظاهر القاهرة فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأول ودفن بكرة نهار الجمعة بالقرافة بقرب مدفن الشيخ محمد ابن أبى حمزة، وكان من الصلحاء الأخيار المعمّرين، عمّر نحو مائة وستين سنة فإنه سئل عن مولده فذكر أنه وصل إلى القاهرة فى أوائل الدولة المعزيّة [5] وله يومئذ خمس وثمانون سنة، وكان مع ذلك حاضر الحس جيد القوة، وله شعر حسن.

_ [1] له ترجمة فى العقد الثمين 3: 146، والدرر الكامنة 1: 259. [2] لفظ «بزاويته» سقط من ك. وإثباته من ص، وف. [3] له ترجمة فى النجوم الزاهرة 9: 227، وشذرات الذهب 6: 35. [4] سويقة الريش: من الحكر بالبر الغربى للنيل، ومكانها اليوم القسم الشرقى من سكة المناصرة الذى يتوسطه زاوية المصلية. وهى زاوية الشيخ محمد حباك الله الموصلى وهى لا تزال موجودة حتى اليوم بسكة المناصرة (النجوم الزاهرة 9: 201 هامش المرحوم محمد رمزى بك) . [5] أى دولة المعز أيبك التركمانى الصالحى الذى تولى السلطنة آخر ربيع الأول سنة 648 هـ، وقتل فى ربيع الأول سنة 655 هـ، وكان أول سلاطين الدولة التركية التى قامت بعد الدولة الأيوبية فى مصر.

وفيها توفى الأمير عماد الدين إسماعيل ابن الملك المغيث شهاب الدين عبد العزيز ابن الملك المعظم شرف الدين [86] عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى أحمد بن [1] أيوب وكانت وفاته [2] بحماة [3] فى ثامن عشر شهر ربيع الآخر، سمع الحديث من خطيب مردا [4] وغيره، وحدّث رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير فخر الدين أقجبا الظاهرى [5] ، أحد الأمراء بدمشق، فى ليلة الإثنين العشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بقاسيون، وكان رجلا جيّدا ملازما للصلوات الخمس بجامع دمشق، ثابت العدالة قديم الهجرة فى الإمرة رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير سيف الدين ملكتمر الناصرى [6] المعروف بالدم الأسود أحد الأمراء بدمشق بها فى يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة وكان ينسب إليه ظلم فاحش فى جهات إقطاعه. وتوفى القاضى شرف الدين يعقوب بن مجد الدين مظفر ابن شرف الدين أحمد مزهر [7] بحلب وهو ناظرها فى الثامن والعشرين من شعبان، ومولده فى سنة ثمان وعشرين وستمائة وتنقّل فى الأنظار الكبار فلم تبق مملكة بالشام إلا باشرها وعاد إليها، رافقته بطرابلس مدة، وكان من أرباب المروءات، إذا سئل أجاب، وإذا عوند نفر، وكان أجود ما يكون إذا باشر، وإذا عطّل عن المباشرة أكثر القول فى المباشرين والأكابر رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير سيف الدين كهرداش الزرّاف [8] أحد الأمراء بدمشق في ليلة الإثنين سلخ شعبان- رحمه الله تعالى- حكى الشيخ شمس الدين الجزرى عنه أنه كان قد حجّ فى صحبة السلطان فى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة، فلما

_ [1] له ترجمة فى السلوك 2/1: 141. [2] لفظ «وفاته» سقط من ك. [3] فى الأصول «بحمله» والتصويب من السلوك 2/1: 141. [4] مردا: قرية قرب نابلس، لا يتلفظ بها إلا بالقصر (معجم البلدان 5: 122) . [5] له ترجمة فى النجوم الزاهرة 9: 228. [6] الدرر الكامنة 5: 128، والدليل الشافى 2: 742، والنجوم الزاهرة 9: 229. [7] له ترجمة فى الدرر الكامنة 4: 436، وذيول العبر ص 78، والسلوك 2/1: 141، والنجوم الزاهرة 9: 223. [8] فى ك «كفرداش» والمثبت من ص، وف، والدرر الكامنة 3: 269، والسلوك 2/1: 141، والنجوم الزاهرة 9: 228، والدليل الشافى 2: 562.

واستهلت سنة خمس عشرة وسبعمائة. ذكر إرسال العسكر إلى ملطية صحبة الأمير سيف الدين تنكر وفتحها

وصل إلى المدينة النبويّة عاهد الله تعالى أنه لا يشرب الخمر أبدا، ولا يرتكب محرّما، وعقد التوبة، وحلف على ذلك، وغلظ اليمين. فلما عاد إلى دمشق لم يلبث أن نقض التوبة حال وصوله، وفعل ما حلف أنه لا يفعله، فأصابه فالج وبطل نصفه، وعولج بالأدوية فلم ينجح، ومات ولم يصح. قال وربما كان ركب فى بعض الأحيان مع مرضه- سامحه الله تعالى وإيانا. وتوفى القاضى صدر الدين أحمد بن القاضى مجد الدين عيسى بن الخشاب، وكيل بيت المال بالديار المصرية، وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم الإثنين تاسع شعبان رحمه الله تعالى. وتوفى الشيخ العالم علاء الدين أبو الحسن على بن محمد خطاب الباجى [1] الشافعى بالقاهرة فى يوم الأربعاء سادس ذى القعدة، ودفن من يومه بالقرافة، وكان رجلا عالما فاضلا يرجع الناس إلى فتاويه، ويعتمدون على نقله رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى سعد الدين محمد بن فخر الدين عبد المجيد ابن صفى الدين عبد الله الأقفهسى [2] ناظر الخزانة فجاءة فى ليلة الجمعة ثامن عشرين ذى الحجة بعد أن باشر بقلعة الجبل وظيفته إلى آخر نهار الخميس ونزل إلى بيته. فمات رحمه الله تعالى. ونقل الصاحب ضياء الدين النشائى من نظر الدواوين إلى نظر الخزانة فى يوم السبت سلخ ذى الحجة. واستهلت سنة خمس عشرة وسبعمائة. ذكر إرسال العسكر إلى ملطيّة صحبة الأمير سيف الدين تنكر وفتحها كان السلطان فى ذى الحجة سنة أربع عشرة قد أمر بتجريد جماعة من الجيوش المنصورة المصرية وهم، الأمير سيف الدين بكتمر الأبو بكرى، والأمير سيف الدين قلىّ، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، والأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى، والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب الناصرى، والأمير سيف

_ [1] له ترجمة فى ذيول العبر ص 80، والدرر الكامنة 3: 101، والسلوك 2/1: 141، وشذرات الذهب 6: 34، وهى ترجمة وافية. [2] له ترجمة فى السلوك 2/1: 142.

الدين أركتمر الجمدار، ومضافيهم، وكتب إلى الشام أن يتوجّه الأمير سيف الدين تنكز بعساكر الشام، ويتقدم على سائر الجيوش، فندب الجيوش الشامية وأمرهم بالخروج، فتوجهت ميسرة العسكر الشامى فى السابع والعشرين من ذى الحجة، والميمنة فى يوم الجمعة الثامن والعشرين، ووصل العسكر المصرى [87] فى يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر إلى دمشق، وتوجه الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام فى يوم الإثنين مستهل محرم من هذه السنة ببقية العسكر، واستصحب معه قاضى القضاة نجم الدين صصرى، وشرف الدين بن فضل الله، وجماعة من الموقعين، وجردت العساكر الصفدية والطرابلسية والحمصية، وصاحب حماة وعسكرها، وركب الأمير سيف الدين تنكز بالكوسات والعصائب على عادة الملوك، ووصل إلى حلب فى يوم الجمعة ثانى عشر محرم، وترجّل فى خدمته الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماة فمن دونه من سائر النواب والأمراء مقدمى الجيوش وغيرهم، ورحل منها فى يوم السبت ثالث عشر، فلما وصل عينتاب [1] أقام قاضى القضاة نجم الدين بها، وتوجّهت العساكر إلى ملطية فى بكرة الأحد الحادى والعشرين من المحرم، وتقدمهم الجاليش [2] وهو الأمير سيف الدين أركتمر ومن معه، وحاصر ملطية، فتحصن أهلها وضايقها ثلاثة أيام. فلما وصلت العساكر صحبة الأمير سيف الدين تنكز خرج متولىّ [3] ملطية وقاضيها وسألوا الأمان فأمنوا وفى خلال ذلك فتح الأمير سيف الدين أركتمر [4] البلد مما يليه عنوة فسير إليه الأمير سيف الدين تنكز يأمره بكف أصحابه عن النّهب، وقال إن البلد قد فتح بالأمان. فأجاب إننى فتحته بالسيف وحاصرته ثلاثة أيام، وقاتلنى أهله قبل وصول العسكر، ومكّن من معه من الدخول والنّهب، ومنعهم من الازدحام على الباب، فكان يمكنهم من الدخول مرة بعد أخرى حتى دخلوا البلد، فنهبوا وقتل خلق كثير من الأرمن والنصارى، وأسروا خلقا كثيرا منهم حتى تعدّى ذلك

_ [1] عينتاب- وترسم عين تاب: وهى قلعة حصينة ورستاق، بين حلب وأنطاكية، وكانت تسمى دلوك، وكانت على أيام ياقوت من أعمال حلب (معجم البلدان 4: 199) . [2] الجاليش: هو مقدمة الجيش (فهرس السلوك 1: 1164) . [3] وسيأتى أن أسمه ميزامير وكذا فى السلوك 2/1: 143. [4] تعدد رسم هذا العلم فى النسخ فهو: وكتمر، وأركتمر، وأروكتمر.

إلى جماعة من المسلمين، واختفى أكثر الأرمن بالمقابر، وخرّب قطعة من البلد، ورمى النار فيه، ورجع الجيش عنها فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من المحرم إلى عينتاب، ثم إلى مرج دابق. ولما فتحت ملطية جهّز الأمير سيف الدين قجليس السلاح دار إلى الأبواب السلطانية على خيل البريد بالبشارة، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس الثالث من صفر، وذكر أنه وجد بملطية عند الاستيلاء عليها تسعة عشر ألف نول ينسج الصوف، ونقل أهلها إلى حلب، ولما عادت العساكر عن ملطية نزل بها نائب السلطنة الأمير بدر الدين موسى الأزكشى فى طائفة من العسكر، وبعد توجّه العسكر منها بثلاثة أيام ظهر من كان قد اختفى بها من الأرمن وغيرهم، فوصل إليها أهل كختا [1] وكركر [2] فأحاطوا بها وقتلوا ثلاثمائة من الأرمن، وأسروا مائة أسير وغنموا جملة كثيرة من الأقمشة والأمتعة، ونقلوا جملة من الغلال والحبوب وجهّز إلى الأبواب السلطانية نائب ملطية وهو بدر الدين ميزامير بن الأمير نور الدين وولده وصهره فى نحو ثلاثين نفرا، فوصلوا فى [3] صفر ثم وصل قاضى ملطية وحريم نائبها وجماعة منهم فى نحو مائة وخمسين نفرا إلى دمشق فى نصف صفر، ورسم لقاضيها بالإقامة بدمشق، وأحسن السلطان إلى نائب ملطية وولده وصهره، وجعل لكل منهم إقطاعات وعدّة، واستمرت الجيوش مقيمة ببلاد حلب إلى شهر ربيع الأول، فرحلت يوم الخميس ثامن الشهر، ووصل نائب السلطنة إلى دمشق فى يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول، ثم وصلت بقية العساكر إلى الديار المصرية، ودخلوا القاهرة فى يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر، وشملهم السلطان بالإنعام والتشريف.

_ [1] كختا: قلعة قديمة على نهر كختاصو، وتقع على ما يقرب من أربعين ميلا من ملطية من الجنوب الشرقى (السلوك 1: 579 هامش) . [2] كركر: حصن قرب ملطية بينها وبين آمد (معجم البلدان 4: 514) . [3] فى ك «إلى صفر» والمثبت من ص، وف. وفى البداية والنهاية 14: 73 «وفى أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان» .

وأما ملطية فإنه بعد أن عادت العساكر منها

وأما ملطية فإنه بعد أن عادت العساكر منها وصل إليها جوبان نآئب خربندا ملك التتار، وكان خربندا قد أعطاها له فآمن من بقى بها من المسلمين، وسدّ ستّة من أبوابها، وترك بابا واحد، وجرّد بها ألفى فارس يحمونها، وأمرهم بعمارة ما خرب منها. وفيها بعد عود العسكر من ملطية أغارت طائفة من العسكر الحلبى على بلادسيس [1] مرّة بعد أخرى، وغنموا وقتلوا وسبوا. ذكر القبض على من يذكر [88] من الأمراء بالديار بالمصرية وفى يوم الخميس مستهل شهر ربيع الأول أمر السلطان بالقبض على الأميرين سيف الدين بكتمر الحسامى أمير حاجب، وعلاء الدين أيدغدى شقير الحسامى وهما من أمراء المائة مقدمى الألوف، وطلب الأمير سيف الدين بكتمر بعد نزوله من الخدمة. ووصوله إلى داره وطلع إلى دار النيابة فقبض عليه بين يدى نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغن، وقبض على أيدغدى شقير بداره بالقلعة واعتقلا، فأما أيدغدى شقير فكان آخر العهد به، واستمر سيف الدين بكتمر فى الاعتقال إلى يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة ست عشرة وسبعمائة فأفرج عنه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفى يوم السبت العاشر من الشهر المذكور قبض أيضا على الأمير سيف الدين بهادر الحسامى المعروف بالمعزى [2] وهو أيضا من أمراء المائة، واعتقل بها وإنما أخّر عمن قبض عليه قبله لأنه كان قد توجّه لكشف الصعيد الأعلى، وحفر ترعه وإتقان جسوره، فوصل إلى مدينة إسنا من الأعمال القوصية، فلما عاد ومثل بين يدى السلطان

_ [1] كذا فى الأصول، وفى البداية والنهاية 14: 74 «أغاروا على بلاد آمد» . وسيس، وسيسية هى بلد يعد من أعظم مدن الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس (معجم البلدان 3: 338) . [2] فى الأصول «المغربى» والمثبت من الدرر الكامنة 2: 29، والسلوك 2/1: 144، والنجوم الزاهرة 9: 229، والدليل الشافى 1: 200.

ذكر القبض على الأميرين سيف الدين تمر الساقى [5]

وأنهى ما اعتمده وخرج من بين يدى السلطان وقبض عليه واعتقل، وكان السبب فى القبض عليهم أن السلطان كان قبل ذلك بأيام قد قبض على سيف الدين جاولجين الخازن أحد المماليك الخاصكية لأمر أنكره منه وعذّبه عذابا شديدا فأقر على هؤلاء وغيرهم، فلما أيس من [1] الحياة أبرأ الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وقال للسلطان إنما ذكرته من ألم الضرب والعقوبة، وهو برىء مما قلته، فلا ألقى الله تعالى بذنبه، وأما من عداه ممن ذكرته فلم أقل عنهم إلا الحق، ومات رحمه الله تعالى، وتكلم على الأمير [2] سيف الدين طغاى فى جملة من تكلم عليه، فأثر كلامه فيه بعد ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأراد السلطان الإفراج عن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إثر القبض عليه فلم تقتض سياسة السلطنة ذلك، لكنه كان موسّعا عليه فى اعتقاله ورتب له فى كل يوم من اللحم خمسة وأربعون رطلا يطبخ له من أفخر الأطعمة ودجاج وحلوى وأقسماء [3] وفاكهة وغير ذلك، ووهبه السلطان نجارية جميلة من جواريه فى معتقله، فاحتملت منه وولدت له ولده محمدا ولم يمنع [4] فى معتقله غير ركوب الخيل والاجتماع بالناس، وأخبرنى أنه كان يكاتب السلطان فى اعتقاله ويرد عليه الجواب بالخير. ذكر القبض على الأميرين سيف الدين تمر الساقى [5] نائب السلطنة الطرابلسية، وسيف الدين بهادر آص [6] أحد الأمراء بدمشق وتفويض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية للأمير سيف الدين كستاى [7] .

_ [1] فى ك «أيس الحياة» والمثبت من ص. [2] لفظ «الأمير» سقط من ك، وف. [3] الأقسماء: شراب معمول من السكر والأفاوية المطيبة بماء الورد المبردة (السلوك 1: 319 هامش الدكتور زيادة) . [4] فى ك «فلم» والمثبت من ص، وف. [5] هو الأمير سيف الدين تمر بن عبد الله الساقى الناصرى أحد أمراء الألوف، ومن أكابر الأمراء وأعيان الخاصكية للناصر محمد بن قلاوون، توفى سنة 742 هـ (النجوم الزاهرة 10: 77 وهامشه) . [6] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 29، والنجوم الزاهرة 9: 281. وتوفى سنة 730 هـ. [7] فاك «كيتاى» والمثبت من ص، وف. وهو كستاى بن عبد الله الناصرى المتوفى سنة 715 هـ كما فى الدرر الكامنة 2: 29، وفى سنة 716 هـ كما فى النجوم الزاهرة 9: 37 هامش، والدليل الشافى 2: 558.

وفى مستهل شهر ربيع الآخر رسم السلطان بالإفراج

وفى العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر جهّز السلطان الأمير سيف الدين قجليس السلاح دار على خيل البريد، فوصل إلى دمشق فى يوم الخميس رابع عشر الشهر، وتوجّه إلى طرابلس، وكان الأمير سيف الدين تمر النائب بها قد خرج إلى الصيد، فوصل إليه وهو بمخيمه وكان قد أرسل إلى الأمير شهاب الدين قرطاى النائب بحمص أن يوافيه بعسكر حمص فى وقت السّحر إلى منزلة تمر الساقى. فلما وصل الأمير سيف الدين قجليس إليه أظهر أنه حضر لكشف القلاع، وشكا من التعب [89] فأنزله فى خيمة وأرسل إليه بعض مماليكه ليخدموه، وأمرهم أن يحفظوا ما يقول، وكان قد خشى من حضوره، وأدرك قجليس ذلك، فشرع يسأل المماليك عن القلاع والحصون ونوابها، وما يحصل له من جهتهم، لا يزيدهم على هذا فتوجهوا إلى مخدومهم وأعلموه بمقاله، فما شكّ فى ذلك، وطابت نفسه، واطمأن ونام. بخيمته، فما طلع الفجر إلا والأمير شهاب الدين قرطاى النائب بحمص والعسكر قد وافاه بالمنزلة، وأحاطوا بخيمته فقبضوا عليه، ورجع به الأمير سيف الدين قجليس إلى الأبواب السلطانية، فوصل إلى دمشق عائدا فى بكرة الإثنين ثامن عشر الشهر، وقبض على الأمير سيف الدين بهادر آص فى هذا اليوم، واعتقل بالكرك، وتمر الساقى بقلعة الجبل، وفوّض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية إلى الأمير سيف الدين كستاى أمير سلاح، فاستعفى من النيابة، فلم يعف، فتوجه على كره منه، ووصل إلى دمشق فى ثانى عشر جمادى الأولى يطلبه، وتوجّه إلى طرابلس. وفى مستهل شهر ربيع الآخر رسم السلطان بالإفراج عن الأمير سيف الدين قجماز بتخاص، وفخر الدين داود، وحسام الدين جيا أخوىّ سلّار وأنعم على الأمير سيف الدين قجماز. بتخاص ذلك بإمرة طبلخاناه. وفى يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الأولى وصلت رسل صاحب اليمن الملك المؤيد هزبر الدين داود بالتقادم والتحف والهدايا والخيول وغير ذلك، فقبلت هديته، وأنعم على رسله وعليه، وكتب جوابه وجهز رسوله بما جرت العادة به من الإنعام والهديا، والله أعلم.

ذكر وصول السيد الشريف أسد الدين رميثة إلى الأبواب السلطانية وتجريد العسكر معه إلى الحجاز الشريف

ذكر وصول السيد الشريف أسد الدين رميثة إلى الأبواب السلطانية وتجريد العسكر معه إلى الحجاز الشريف وفى [1] هذه السنة فى ثالث جمادى الآخرة- وصل الأمير السيد الشريف أسد الدين أبو عرادة رميثة بن أبى نمى من الحجاز الشريف إلى الأبواب السلطانية، وأظهر التوبة والتنصل والاعتذار من سالف ذنوبه، وأنهى أنه استأنف الطاعة وسأل العفو عنه، وإنجاده على أخيه عز الدين حميضة، فقبل السلطان عذره وعفا عن ذنبه وجرد طائفة من العسكر مقدمهم الأمير سيف الدين دمرخان ابن قرمان [2] ، والأمير سيف الدين طيدمر الجمدار، فتوجها هما والأمير أسد الدين رميثة إلى الحجاز الشريف فى ثانى شعبان، ورحلوا من بركة الجبّ فى رابعه، فلما وصلوا إلى مكة- شرّفها الله تعالى- فارقها حميضة، فقصدوه وكبسوا أصحابه وهم على غرة فقتلوا منهم ونهبوا، وفر هو فى نفريسير من أصحابه إلى العراق، والتحق بخربندا ملك التتار واستنصر به، فمات خربندا قبل إعانته. ذكر الإفراج عن الأمير جمال الدين آقش الأفرمى وفى يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رجب رسم السلطان بالإفراج عن الأمير جمال الدين آقش الأشرفى المنصورى فأفرج عنه، وخلع عليه على عادة نواب السلطنة تشريفا أطلس أحمر معدنيا بطرززركش، وقباء أطلس أصفر وشاش رقم وكلوتة زركش، وحياصة ذهبا، ونزل إلى داره بالقاهرة واتفقت وفاة الأمير حسام الدين قرالاجين المنصورى أستاذ الدار فى يوم الثلاثاء الثانى عشر من شعبان، فأنعم السلطان عليه بإقطاعه، ووفّرت وظيفة أستاذ الدارية بعد وفاة قرا لاجين، وقام بالوظيفة الأمير سيف الدين [90] بكتمر أحد نواب أستاذ الدارية، ونقصت هذه الرتبة عما كانت عليه بعد أن كانت عظمت إلى الغاية التى تقدم ذكرها.

_ [1] لفظ «فى» ساقط من ك. [2] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 102. وانظر خبر قدوم أسد الدين رميثة إلى الأبواب السلطانية بالقاهرة فى إتحاف الورى 3: 153، وغاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 2: 83.

وفى أول شعبان من هذه السنة توجهت

وفى أول شعبان من هذه السنة توجّهت طائفة من العسكر الحلبى، والأمير ناصر الدين العين تابى [1] عليهم إلى حصار قلعة أرفقين وهى قلعة من أعمال آمد، فتسلموها من غير قتال، وقتل أخو مندو [2] وقطع رأسه وعلق على باب القلعة، وكان الغرض من هذه الإغارة القبض على مندو فلم يوجد هناك، وأغار العسكر على عدة ضياع للأكراد والأرض، ويقال إن الخمس بلغ خمسة الآف رأس غنم وخمسا وعشرين جارية. وفيها فى شعبان وصل إلى الإسطبلات السلطانية مهرة تعرف ببنت الكركا [3] كان السلطان قد طلبها من العرب، وبذل فى ثمنها مائتى ألف وسبعين درهم وضيعة من بلاد حماه قيل إنها تقّومت على السلطان بستمائة ألف درهم، وفى هذه السنة فى ثالث شوال ضربت عنق رجل بدمشق اسمه أحمد الرّويس الأقباعى، وسبب ذلك أنه شهد عليه فى شهر رمضان بارتكاب أمور من العظائم من ترك الواجبات، واستحلال المحرمات، والتهاون بالشريعة والغض من منصب النبوة، وثبت ذلك على قاضى القضاة المالكى، وأعذر إليه فلم يأت يدافع، عن نفسه فحكم بهدر دمه فقتل [4] . وفيها فى ثالث شعبان توجّه السلطان إلى الصيد بجهة الصعيد، ووقعت النار فى غيبته فى سابع شهر رمضان فى البرج المنصورى، وطباق السلحدارية بقلعة الجبل، واستمرت طول الليل، ثم أطفئت. وفيها فى العشر الآخر من شهر رمضان عادت رسل السلطان من جهة الملك أزبك فتوجه رسل السلطان إليه وهم الأمير سيف الدين أرج، وحسام

_ [1] لفظ «العين تابى» إضافة من ص. ولم أعثر له على ترجمة فيما تيسر من المراجع. [2] مندو: كذا بدون ألف بعد الواو ترى هنا وفى بقية المواضع فى نسخة ك. أما فى ص فرسمها «مندوا» بألف آخر الكلمة. [3] وانظر السلوك 2/1: 148، وفى النجوم الزاهرة 9: 167 «بنت الكرماء» . [4] عبارة «ولا غيرهم» لم ترد فى ك.

ذكر ما أمر السلطان بإبطاله من المكوس والمظالم وما أسقطه من أرباب الوظائف

الدين حسين بن صارو، وصحبتهم رسل الملك أزبك فتوجّه رسل السلطان إليه إلى الصعيد، ومثلوا بين يديه، وأعاد [1] السلطان إلى قلعة الجبل بعد أن قضى من الصيد وطرا، وكان وصوله فى ثامن عشرين شوّال، واستحضر رسل الملك أزبك، ورسل الاشكرىّ، ورسل صاحب ماردين، وصاحب ماردين، وسمع رسائلهم وأعادهم وسيّر إلى الملك أزبك من جهته الأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى، وحسين ابن صارو، وأرسل صحبتهما الهدايا والتحف. وفى ذى القعدة وردت الأخبار إلى الأبواب السلطانية أن طائفة من العسكر الحلبى توجّهوا وفتحوا قلعة بقرب ملطية تسمى درنده [2] ، وكان فيها نحو ألف رجل من الأرمن، فقتلوا بجملتهم، وأخربت القلعة وغنم المسلمون ما فيها من الأموال، وسبوا النساء والصبيان. وفى أواخر ذى القعدة أغار سليمان بن مهنا بن عيسى وجماعته من العرب والتتار تزيد عدتهم على ألف فارس على جماعة من التركمان والقريتين [3] وذلك بغير رضا من أبيه. وفى ثامن ذى الحجة ولد لمولانا السلطان الملك الناصر- أعز الله أنصاره- ولد مبارك لم يعلم اسمه، وزفت البشائر لمولده والله أعلم. ذكر ما أمر السلطان بإبطاله من المكوس والمظالم وما أسقطه من أرباب الوظائف وفى شعبان سنة خمس عشرة وسبعمائة ندب السلطان أعيان الأمراء لقياس الديار [4] المصرية وجهز إلى كل عمل أميرا من المقدمين ولبعض الأعمال أمراء

_ [1] فى ك «وأعاده» والمثبت من ص، وف. [2] درنده: مدينة فى جهة الغرب من ملطية، وبينها وبين حلب عشرة أيام، وهى قريبة من قيسارية (النجوم الزاهرة 7: 172 هامش) . [3] القريتين: بلدة كبيرة من أعمال حمص، وتدعى «حوارين» وبينها وبين تدمر مرحلتان (معجم البلدان 3: 78) . [4] جاء فى كتاب «مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن» للأمير عمر طوسون ص 214- 268: والمعروف حتى الآن من حوادث الروك بمصر فى العصور الوسطى سبعة، أولها: حوالى سنة 97 هـ (715 م) على يد ابن رفاعة والى مصر فى عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك الأموى. وثانيها: سنة 125 هـ (743 م) على يد الحبحاب عامل الخراج فى مصر فى زمن الخليفة هشام بن عبد الملك وثالثهما: حوالى سنة 253 هـ (867 م) وقد تم فى أيام ابن المدبر عامل الخراج بمصر فى خلافة المعتز بالله العباسى ورابعها: الروك الأفضلى سنة 501 هـ- نسبة إلى الأفضل ابن أمير الجيوش فى عهد الخليفة الآمر الفاطمى، وخامسها: الروك الصلاحى نسبة إلى السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبى، وقد تم سنة 572 هـ (1176) وسادسها: الروك الحسامى سنة 689 هـ (1290 م) وقد قام على عمله السلطان الملك المنصور لاجين المملوكى، تنسب إليه. وسابعها: الروك الناصرى. المذكور هنا.

ورسم أن لا يستخرج على هذا القياس أجرة من الفلاحين ولا غيرهم [1] ورسم لسائر الأمراء أن يكون عودهم إلى قلعة الجبل بعد ما توجهوا بسببه فى نصف شوال [91] وتوجه مع كل أمير [2] مستوف من مستوفيّى [2] الدولة وتوجه السلطان إلى الصعيد الأعلى ورتب الأمراء والكتاب فى أعمال الوجه القبلى فى مسيرة وأظهر الاحتفال بذلك والاهتمام به فانتهت مساحة الديار المصرية أجمع وتحرير نواحيها فى نحو أربعين يوما فإن الشروع فى ذلك حصل فى مستهل شهر رمضان والعود إلى أبواب السلطان والوصول إلى قلعة الجبل فى نصف شوال وأعان على سرعة ذلك تقسيم البلاد شققا، ولما تكامل هذا الكشف أمر السلطان القاضى فخر الدين ناظر الجيوش ومن عنده من المباشرين ونظار النظار والمستوفين بالانتصاب لتحرير ذلك ورتبه على ما اقتضاه رأيه الشريف وهم بين يديه فانتهى العمل وكتابة الأمثلة فى ذى الحجة من السنة فعند ذلك جلس السلطان لتفرقة الأمثلة بين يديه وجعل لكل أمير بلادا معينة وأضاف إليه جميع ما فى بلاده من الجيوش السلطانية والجوالى [3] وغير ذلك فصارت البلاد لمقطعيها دربستا [4] وكذلك جهات الحلقة وأفرد لخاصّيه بلادا ولحاشيته بلادا مقررة مرصدة لجامكياتهم، ولجامكيات نظار الدولة ومباشرى [5] الباب جهات مقررة لهم وكذلك أرباب الرواتب وجعلت سائر المعاملات بمصر والقاهرة فى جملة الخاصة وكان هذا برأى تقى [6] الدين ناظر النظار المعروف بكاتب برلغى وترتيبه فأخرج عن الخاص الجوالى التى ما زال الملوك يجعلونها مرصدة لمأكلهم لتحقق حلها، وجعلها فى الأقطاع وأرصد لراتب السماط السلطانى ونفقات البيوتات ودار

_ [1] عبارة «ولا غيرهم» لم ترد فى ك. [2]- 2 فى الأصول «مستوفى من مستوفيين» . [3] الجوالى: ومفردها جالية، وهى ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة عليهم كل سنة (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 3، ص 462) . [4] دربستا، أو دربسته: لفظ فارسى معناه: كاملا. أى أن جميع البلاد المقطعة بجملتها لا يستثنى منها شئ (صبح الأعشى 13: 156) . [5] فى الأصول «ومباشرين الباب جهاتا» . [6] أى تقى الدين الأسعد بن أمين الملك (السلوك 2/1: 149) .

الطراز ومشترى الخزانة جهات المكس التى ما زال الملوك يحذرونها وأكثر المقطعين يتنزهون عنها ويستعفون من أخذها والذى تحققته من أمره وغرضه فى هذا الترتيب أنه من مسالمة القبط ممن أكره على الإسلام فأظهره وجرت عليه أحكامه وكان ميله ورغبته واحتفاله بالنصارى، فأراد تخفيف الجالية عنهم فجعلها فى جملة الأقطاع فانتقل كثير من النصارى من بلد إلى آخر فتعذر على مقطع بلده الذى انتقل منه طلبه من البلد الذى انتقل إليه وإذا طالبه مباشرو البلد الذى انتقل إليها اعتذر أنه ليس من أهل بلدهم وأنه ناقله إليه فضاعت الجوالى بسبب ذلك واحتاج مقطعو كل جهة إلى مصالحة من بها من النصارى النوافل على بعض الجوالى فأخبرنى بعض العدول الثقات شهود دواوين الأمراء أنهم يستأدون [1] من النصرانى [2] أربعة دراهم ونحوها، وكانت قبل ذلك ستة وخمسين درهما ولما كانت الجوالى جارية فى الخاص السلطانى كانت [3] الحشار تسافر إلى سائر البلاد ويستأدونها منسوبة إلى جهاتها، وإذا وجد نصرانى فى ثغر دمياط وهو من أهل أسوان أو من أهل حلب أو عكس ذلك أخذت منه الجزية فى البلد الذى يوجد به، ويكتب المباشرون بها له وصلا فيعتد له ببلده ويأخذ [4] من كل بلدة منسوبة إلى جهتها، فانفرط ذلك النظام، وهى الآن على تقريره، ولعمرى لو ملك هذا التقى المسلمانى البلاد وعليه جريان اسم الإسلام ما تمكن أن يحسن إلى النصارى، ويخفف عنهم بأكثر من هذا. وأبطل السلطان فى هذه السنة عند عدم الروك جملة عظيمة من الأموال المنسوبة إلى المكوس [5] والمظالم، منها سواحل الغلال وكان يتحصل منها بساحلى مصر والقاهرة نحو أربعة آلاف درهم نقرة وأبطل نصف السمسرة [6] ورسوم

_ [1] فى ك «يتأدون» والمثبت من ص، وف. [2] فى ك «النصارى» والمثبت من ص، وف. [3] الحشار: جمع حاشر وهو جامع الضرائب. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «وتحمل» . [5] وانظر خطط المقريزى 1: 88- 90 فقد عقد فصلا عن هذه الضرائب. [6] السمسرة: هى ما أحدثه ابن الشيخى فى وزارته. وهو أن من باع شيئا فإن دلالته على كل مائة درهم درهمان. يؤخذ منها واحد للسلطان والثانى للدلال. فصار الدلال، يحسب ويخلص درهمه قبل درهم السلطان (السلوك 2/1: 151، والنجوم الزاهرة 9: 45) .

الولاية [1] ونوابهم والمقدمين وتقرير الحوايص [2] والنعال وحق السجون [3] وطرح الفراريج [4] ، ومقرر الفرسان [5] ورسوم الأفراح [6] ، وثمن العبى [7] التى كانت تستأدى من البلاد، ومقرر الأتبان [8] التى كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن وحماية المراكب [9] وزكاة الرجالة بالديار المصرية، وغير ذلك من المظالم سطر الله هذه الحسنات فى صحيفته ورسم بالمسامحة بالبواقى الديوانية والإقطاعية إلى آخر مغل سنة أربع عشرة وسبعمائة، ورسم بإسقاط وظيفتى النظر والاستيفاء من سائر أعمال الديار المصرية، ورسم أن يستخدم فى كل بلد من بلاد الخاص شاهد وعامل، ورتب بالقاهرة ناظر الجهات الهلالية ولمصر ناظرا، ثم استخدم فى بعض الأعمال النظار، وجعل هذا الروك الهلالى لاستقبال صفر

_ [1] هى رسوم يجبيها الولاة والمقدمون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف والفساد، وهتك الحرم، وهجم البيوت وما لا يوصف (السلوك 2/1: 151، والنجوم الزاهرة 9: 46) . [2] وهى تجبى من سائر أنحاء مصر، فكان على كل من المقدمين والولاة مقررا يحمل فى كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن الحياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن النعل خمسمائة درهم. وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم (السلوك 2/1: 151، والنجوم الزاهرة 9: 46) . [3] حق السجون: ضريبة فرضت على كل من سجن ولو للحظة واحدة مقدارها مائة درهم سوى ما يغرمه، وكان على هذه الجهة عدة مقطعين، ولها ضامن يجبى ذلك من سائر السجون، فأبطل ذلك كله (النجوم الزاهرة 9: 46) . [4] وكان لها ضمان فى سائر نواحى الإقليم، فتطرح الفراريج على الناس فى النواحى، وكان فيها من الظلم والفساد والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشترى فروجا مما فوقه إلا من الضامن (السلوك 2/1: 151، والنجوم الزاهرة 9: 46) . [5] وهو شئ يستهديه الولاة والمقدمين من سائر الأقاليم، فيجئ من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظلم (السلوك 2/1: 151، والنجوم الزاهرة 9: 47) . [6] وهى تجبى من سائر البلاد، وهى جهة بذاتها لا يعرف لها أصل (السلوك 2/1521، والنجوم الزاهرة 9: 47) . [7] العبى: جمع عامى لعباءة التى تجمع على عباءات (محيط المحيط) وثمن العبى كان مقررا على الجبى برسم ثمن العيى وثمن ركوة السواس- والركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء و (النجوم الزاهرة 9: 48، والسلوك 2/1: 152) . [8] لعله ما أشار إليه المقريزى فى الخطط 2: 94- 108 عند حديثه عن موظف الأتبان حيث قال. وكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام: قسم للديوان، وقسم للمقطع، وقسم للفلاح. فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم، ويؤخذ فى التبن كل مائة حمل أربعة دنانير وثلث دينار، فيحصل من ذلك مال كثير، وقد بطل هذا أيضا. [9] وهى تجبى من سائر المراكب التى فى النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، وتجبى من المسافرين فى المراكب، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء (السلوك 2: 152) .

وفى سنة خمس عشرة وسبعمائة توفى الشيخ العالم

سنة ست عشرة وسبعمائة والخراجى لاستقبال [1] مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة ورسم بإسقاط متوفر الجراريف [2] السلطانية، وأن يرصد جميعها لعمل الجسور، وكان يتوفر منها [92] بعد عمل الجسور أموال جليلة كثيرة. وفى سنة خمس عشرة وسبعمائة توفى الشيخ العالم القاضى شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبى القاسم بن عبد السلام بن جميل العونسى [3] المالكى بالقاهرة، فى ليلة الإثنين الحادى والعشرين من صفر، ودفن بالقرافة، ومولده فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان قد ولى قضاء الاسكندرية، وكان قبل ذلك ينوب عن الحكم بالحسينية عن قاضى القضاة زين الدين المالكى، وهو أول من درس من المالكية بالمدرسة المنكوتمرية [4] بالقاهرة، وكان من علماء مذهبه ومن الفضلاء المشهورين رحمه الله تعالى وإيانا. وتوفى الصدر الرئيس شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن العدل الرئيس جمال الدين أبى الفضل محمد ابن أبى الفتح نصر الله ابن المظفرى أسعد بن حمزة بن أسعد بن على بن محمد التميمى الدمشقى بن القلانسى [5] ، وكانت وفاته بداره بدمشق، فى ليلة السبت الثانى عشر من صفر، ودفن من الغد بقاسيون بمقبرة بنى صصرى، ومولده بدمشق فى السابع والعشرين من شعبان سنة ست وأربعين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى من أكابر أعيان دمشق، رافقته مدة تزيد على سنتين ونصف فى ديوان الخاص الناصرى بدمشق، وكان حسن العشرة والرفقة، كثير الاحتمال والإغضاء والحياء والسكون، ولما انفصلت عن المباشرة، وعدت إلى الديار المصرية. ما زالت كتبه ترد تدل على استمرار مودته، وجميل تعهده، وتصل إلى هداياه، وهو ممن سعد فى أولاده، فإنهم من نجباء الأبناء ورؤساء الشام أبقاهم الله تعالى ورحم والدهم.

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «ثلث مغل» . [2] هو ما يجبى من سائر النواحى، فيحمل ذلك مهندسو البلاد إلى بيت المال بإعانة الولاة لهم فى تحصيل ذلك، وأما كلمة الجراريف فمفردها جاروف، وهو يستعمل فى كسح ورفع الأتربة والطين فى إنشاء الجسور والترع وغيرها (النجوم الزاهرة 9: 48 هامش، والسلوك 2: 152) . [3] انظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 4: 149، وذيول العبر ص 84، والدرر الكامنة 4: 149، والسلوك 2/1: 158، وشذرات الذهب 6: 37. [4] المدرسة المنكوتمرية: أنشأها الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامى نائب السلطنة بديار مصر فى سنة 678 هـ، وعمل بها درسا للمالكية وآخر للحنفية، وجعل فيها خزانة كتب، وأوقف عليها وقفا بالشام، وكانت من المدارس الحسنة (خطط المقريزى 4: 230) . [5] وانظر البداية والنهاية 14: 74.

وتوفى الشيخ العالم صفى الدين محمد

وتوفى الشيخ العالم صفى الدين محمد ابن عبد الرحيم بن محمد الأرموى، المعروف بالهندى الشافعى، بمنزله بالمدرسة الظاهرية بدمشق فى ليلة الثلاثاء ثالث [1] عشرين صفر، ودفن من الغد بمقابر الصوفية، ومولده فى ليلة الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وستمائة وكان رجلا فاضلا، وله تصانيف مفيدة فى الأصول، رحمه الله. تعالى. وتوفى الأمير عز الدين الحسين بن عمرو بن محمد بن صبرة بطرابلس، وكان قد نقل إليها من دمشق، وكانت وفاته فى يوم الإثنين تاسع عشر شهر رجب، وكان قبل ذلك ولى حجبة الشام مدة، وكان حسن العشرة كثير البسط رحمه الله وتوفى الأمير بدر الدين موسى ابن الأمير سيف الدين أبى بكر محمد الأزكشى، بداره بميدان الحصى ظاهر دمشق، فى يوم الجمعة ثامن شعبان، ودفن عند القبيبات، وكان أميرا شهما شجاعا مقداماء أظهر فى مصاف مرج الصفر عن شهامة وفروسية وإقدام، وكان يومئذ من مقدمى الحلقة المنصورة الشامية فلما شاهد السلطان فعله أمّره بطبلخاناه، وولاه نيابة قلعة الرحبة رحمه الله تعالى [2] . وتوفى قاضى القضاة تقى الدين أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبى عمر محمد بن أحمد بن قدامة [3] المقدسى قاضى الحنابلة بدمشق فى ليلة الإثنين الحادى والعشرين من ذى القعدة بعد صلاة المغرب بمنزله بقاسيون، ودفن بكرة الإثنين بتربة جده، ومولده فى نصف شهر رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى حسن الأخلاق، غزير الفضيلة، سمع الحديث وأسمعه.

_ [1] كذا فى الأصول، وفى البداية والنهاية 14: 75، والسلوك 2/1: 158 «توفى فى تاسع عشرين صفر» وأنظر ذيول العبر ص 83، والدرر الكامنة 4: 14، ودول الإسلام 2: 169، وطبقات الشافعية 5: 240. [2] سقطت هذه الترجمة من ك، وإثباتها عن ص، وف. وأنظر النجوم الزاهرة 9: 232. [3] له ترجمة فى ذيول العبر ص 85، والبداية والنهاية 14: 75، والنجوم الزاهرة 9: 231، وشذرات الذهب 6: 35.

واستهلت سنة [93] ست عشرة وسبعمائة بيوم الجمعة

واستهلت سنة [93] ست عشرة وسبعمائة بيوم الجمعة فى هذه السنة فى يوم السبت الثالث والعشرين من المحرم الموافق للثانى والعشرين من برمودة من شهور القبط بعد العصر سمع بالقاهرة هدّة عظيمة تشبه الصاعقة ورعد وبرق، ووقع مطر كثير وبرد على قلعة الجبل والقاهرة وضواحيها ولم يكن مثل ذلك بمصر، وقع مطر كثير بمدينة بلبيس حتى خرّب كثيرا من البنيان بها، وكان ذلك كلّه فى مضىّ ساعة ونصف ساعة. وفى هذه السنة فوّض قضاة القضاء الحنابلة بدمشق إلى شمس الدين أبى عبد الله محمد ابن الشيخ الصالح محمد بن مسلم بن مالك ابن مزروع [1] الحنبلى أعاد الله من بركته ووصل إليه بتقليد القضاء من الأبواب السلطانية فى يوم السبت ثامن صفر، وقرئ بجامع دمشق بحضور القضاة والأعيان، وخرج القاضى شمس الدين المذكور من الجامع ماشيا إلى دار السعادة، فسلم على نائب السلطنة ثم نزع الخلعة السلطانية وتوجّه إلى جبل الصالحية، وجلس للحكم فى سابع عشر صفر وما غير هيئته ولا عادته فى مشيه وحمل حاجته، ويجلس للحكم على مئزر غير مبسوط، بل يضعه [2] بيده ويجلس عليه، ويكتب فى محبرة زجاج، ويحمل نعله بيده فيضعه على مكان، وإذا قام من مجلس الحكم حمله بيده أيضا حتى يصل إلى آخر الإيوان فيلقيه ويلبسه، هكذا أخبرنى من أثق بأخباره، واستمر على ذلك، وهذه عادة السلف. ذكر حادثة السيول والأمطار [3] ببلاد الشام وما أثر [4] ما وقع من العجائب التى لم تعهد وفى هذه السنة فى أوائل صفر وقع بالشام مطر عظيم على جبال قارا [5] وبعلبك، وعلى مدينة حمص والمناصفات، وامتد إلى بلاد حماه، وحلب، وسقط مع المطر برد كبار، البردة منها قدر النارنجة وأكثر منها وأصغر، ووزن بعضها بعد يومين أو ثلاثة فكان وزن البردة ثلاث أواقى [6] بالشامى، وجرى من ذلك

_ [1] انظر ترجمته فى ذيول العبر ص 141، 149، والبداية والنهاية 14: 126، والدرر الكامنة 4: 258، وشذرات الذهب 6: 73، وقد توفى فى سنة 726 هـ. [2] كذا فى ك، وف. وفى ص «بل نصفه فى يده» . [3] فى ص «ذكر حادثة الأمطار والسيول» بالتقديم والتأخير. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «وما أمل» . [5] جبال قارا وبعلبك تقع فى الطريق بين حمص ودمشق (معجم البلدان) . [6] كذا فى الأصول.

المطر سيل عظيم من سائر تلك الجبال، وملأ الأودية وتحامل وجاء على جوسية [1] إلى قرية الناعمة وقدس، وانصب فى بحرة حمص ففاضت منه، ومرّ السيل بقرية جسمل، وهى بالقرب من الناعمة، فاقتلعها بجميع ما فيها من الغلال والحواصل، وأهلك أهل القرية، ولم يسلم منهم إلا خمسة أنفس: ثلاثة رجال وصبى وصبيّة وكانت سلامتهم من الغرائب، وذلك أنهم وجدوا ثورا عائما فى السيل فتعلق رجلان بقرنيه، وركب الصبى والصبية على ظهره، ثم أدركه رجل ثالث فتعلق بذنبه، وحملهم الثور وهو عائم إلى أن انتهوا إلى أرض جلدة مرتفعة، فوقفوا عليها وسلموا، وحمل هذا السيل عدّة كثيرة من خركاهات [2] التركمان، وبيوت العرب والأكراد الذين بتلك الأرض، فاحتملهم وأهلكهم، وأهلك مواشيهم، وألقاهم ببحرة حمص، وعلق خلق كثير من الغرقاء والدواب بأشجار جوسيّة لمّا مرّ بهم السيل عليها. وأما البرد الذى سقط فإن معظمه وقع فى واد بين جبلين فملأه، وبقى كذلك مدة، وخرج إليه الولاة والقضاة من حمص وبعلبك وشاهدوه، هكذا نقل الأمير جلال الدين الصّفدى أحد الأمراء البريدية بالديار المصرية، وكان قد توجّه إلى الشام فى بعض المهمات السلطانية، وهو ثقة فيما ينقله. وأخبرنى الأمير العدل علاء الدين أيدغدى الشهرزورى [94] أستاذ دار الأمير شمس الدين قراسنقر المصرى- وهو عدل ثقة فى أجناده- أن كتاب والده شهاب الدين أحمد وصل إليه من حلب أنه وقع إليه فى التاريخ المذكور مطر عظيم على مدينة غرار، وهو المطر الذى تقدم ذكره، وأنه سقط مع المطر سمك كبار وصغار، وجمع منه شىء كثير وأكل، وأن المطر الذى وقع فى التاريخ على بلد [3] سرمين [4] وحارم سقط فيه ضفادع فيها [5] الرّوح باقية، وأنه شاهد ذلك.

_ [1] جوسية: قرية من قرى حمص على ستة فراسخ من دمشق، وفيها عيون تسقى أكثر بساتينها (معجم البلدان 2: 154، والنجوم الزاهرة 8: 61 هامش) . [2] خركاهات: جمع خركاه، واللفظ فارسى معناه الخيمة الكبيرة، أو البيت من الخشب يصنع على هيئة مخصوصة، ويغشى بالجوخ ونحوه يحمل فى السفر ليكون فى الخيمة للمبيت فى الشتاء (صبح الأعشى 2: 138) . [3] هذا اللفظ من ص. [4] سرمين: بلد جنوب حلب على مسيرة يوم منها، وتقع فى نصف الطريق بين المعرة وحلب، وهى مدينة غير مسورة بها أسواق ومسجد جامع، ويشرب أهلها من الماء المجمع فى الصهاريج من الأمطار، وهى كثيرة الخصب، وبها كثير من شجر الزيتون والتين. (صبح الأعشى 4: 126) . [5] فى الأصول «فيهم» .

ذكر تفويض إمرة العرب بالشام للأمير شجاع الدين فضل

ذكر تفويض إمرة العرب بالشام للأمير شجاع الدين فضل وانفصال الأمير حسام الدين مهنّا، ودخوله إلى بلاد التتار، وعوده وإعادة الإمرة إليه. وفى شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وسبعمائة فوض السلطان الملك الناصر إمرة العرب بالشام للأمير شجاع الدين فضل ابن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا، وخلع عليه تشريفا أطلس معدنيا [1] بطرد [2] وحش، على عادة أخيه مهنا، وأقطعه خبز مهنّا، وعاد إلى الشام، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وأقام بدمشق إلى يوم الخميس غرة جمادى الأولى، وتوجّه إلى بلاده. وسبب ذلك أن الأمير حسام الدين مهنّا كان قد امتنع من الحضور إلى الأبواب السلطانية منذ أعان الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى ووافقه كما تقدم، وعلم أنه أسلف ذنبا كبيرا، وجرما عظيما لا يتجاوز الملوك عن مثله، فخاف على نفسه إن هو حضر أن يقابل على ذلك بالقتل وإن شمله الإحسان فالاعتقال، واجتهد السلطان فى ملاطفته، والإحسان إليه وتأمينه، وزيادة فى الإقطاعات، وشموله بالإنعام، ووسّع على أولاده وأهله وألزامه فى الإنعامات والإطلاقات والزيادات، وفعل فى ذلك ما لم يفعله ملك قبله مع أمثالهم، وراسله مرارا فلم يزدد إلا تماديا على إصراره، فلما آيس منه جعل الإمرة لأخيه الأمير شجاع الدين هذا، وتوجّه الأمير حسام الدين مهنّا إلى العراق، وتلقّى من جهة التتار وأكرم غاية الإكرام ببغداد، ثم توجه إلى الأردو [3] واجتمع بالملك خربندا فأكرمه وأحسن إليه وأقطعه، وخيّره فى المقام ببلاده أو العود، فاختار العود إلى الشام لإصلاح ذات البين، وعاد واجتاز الفرات فى شهر رمضان،

_ [1] فى الأصول «معدنى» . [2] طرد وحش: نوع من القماش الحرير المنقوش بمناظر الصيد والطرد (السلوك 1/2: 788 هامش الدكتور زيادة، وفى الملابس المملوكية ... 106 «يعمل فى الأسكندرية والقاهرة ودمشق، وهو مجوخ جاخات ومزين بأشرطة كتابة بألقاب السلطان، وجاخات طرد وجيش وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب، يفصل بينها نقوش، وطرازه يكون من القصب. [3] هذا اللفظ من ص، وف. وانظر التعليق ص 145.

ذكر وفاة الأمير سيف الدين كستاى [3]

ونزل بالقرب من أخيه فضل، ووصل أخوه الأمير شمس الدين محمد بن عيسى إلى الأبواب السلطانية فى سنة سبع عشرة، وأخبره بمراجعة الأمير حسام الدين أخيه الطاعة، فأنعم عليه بجملة عظيمة من الأموال، وكذلك على أخيه الأمير حسام الدين مهنّا، وكتب تقليده بالإمرة على عادته، وجهّز إليه وقرينه [1] الخلع، وذلك فى أوائل شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفى يوم الإثنين السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة ست عشرة- ولى قاضى القضاة نجم الدين أحمد بن صصرى مشيخة الشيوخ بدمشق، وجلس بالخانقاه السميساطية، وقرئ تقليده، وكانت ولايته بسؤال الصوفية لذلك، وذلك بعد وفاة شيخ الشيوخ السيد الشريف شهاب الدين أبى القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الكاشغرىّ، وكانت وفاته فى يوم الإثنين تاسع عشر الشهر المذكور- رحمه الله تعالى [2] . ذكر وفاة الأمير سيف الدين كستاى [3] نائب السلطنة بالفتوحات، وتفويض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية وحمص والكرك لمن يذكر. كانت وفاة الأمير سيف الدين كستاى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية فى ليلة الأربعاء تاسع عشرين جمادى الآخرة بطرابلس، ودفن بها، وكانت مدّة مرضه نحو عشرين يوما، وكان قبل ذلك قد توجّه من طرابلس [95] لكشف المملكة الطرابلسية وما هو مضاف إليها من الحصون، وأظهر النّزاهة عن قبول تقادم النواب، فكان من قدّم له شيئا من الخيل والقماش عرضه وأمر بكتابته، وأعاده على من قدّمه، ولما سمع نوّاب الحصون بذلك أكثروا فى التقادم، وأرادوا بذلك التجمل عنده، وعلموا أن ذلك يعود إليهم، وكان من عزم على تقدمة شىء ضاعفه، واستعار بعضهم من بعض، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن وصل إلى ثغر لاذقية، وهو آخر العمل، فقدم له الأمير بدر الدين بكتوت

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «وقرنتك» . [2] وانظر البداية والنهاية 14: 76. [3] له ترجمة فى الدرر الكامنة 3: 353، والدليل الشافى 2: 558، والنجوم الزاهرة 9: 237.

ذكر تجريد العسكر إلى النوبة وملك عبد الله برشنبوا [4] النوبة، ومقتله.

التاجى مقدم العسكر بالثغر تقدمة جليلة من الأقمشة والبخاتى وغير ذلك، وتجمل وظن أن ذلك يعاد إليه كما أعيد على غيره، فقبل جميع ذلك وقال: أنت خوشداشى ولا يليق أن أرد عليك، ولما عاد من لاذقية مر على واد هناك به عدة من البخاتى للأمير بدر الدين بكتوت التاجى المذكور، فانتقى ثلاثين بختيا من خيارها، وأرسل إليه يقول: إننى مررت على جمالك وأخذت [1] منها خمسة قطر لضرورة التقدمة للسلطان [2] ، فأرسل ولدك لتقرير ثمنها وقبضه. ثم كتب إلى سائر من كان قد قدم له تقدمه يطلبها بجملتها، وكان من استعار من النواب قماشا من صاحبه قد أعاده عليه، فاضطروا إلى إرسال قصادهم إلى حماه وغيرها، لابتياع عوض ما كانوا استعاروه وكملوا تقادمهم وأرسلوها إليه، وحصل لهم الضرر بذلك، ولم تطل مدته بعد ذلك ووعد الجميع فى تركته، وكانت تركه طائلة، وورثه أخواه الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، وسيف الدين أولاق وزوجته، ولم يتعرض السلطان من تركته إلى شىء. ولما مات فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات للأمير شهاب الدين قرطاى الصالحى العلائى. نقله من نيابة حمص إليها، وفوض نيابة السلطنة بحمص للأمير سيف الدين أرقطاى [3] الجمدار أحد مقدمى الألوف بدمشق، فتوجه إليها فى يوم الأحد السابع من شهر رجب، واستناب بالكرك الأمير سيف الدين طقطاى الناصرى، أحد الأمراء بدمشق، فتوجه فى شهر رجب، ونقل الأمير سيف الدين بيبغا الأشرفى من نيابة الكرك إلى الإمرة بدمشق، وجعله من أمراء المائة مقدمى الألوف بها. ذكر تجريد العسكر إلى النوبة وملك عبد الله برشنبوا [4] النوبة، ومقتله. وفى شهر رجب الفرد سنة ست عشرة وسبعمائة رسم بتجريد طائفة من الأمراء إلى بلاد النوبة، وهم: الأمير عز الدين أيبك الجهاد كسى عبد الملك، وهو المقدم على العسكر، والأمير صلاح الدين طرخان ابن الأمير المرحوم بدر الدين بيسرى، والأمير علاء الدين على الساقى، والأمير سيف الدين قيران

_ [1] فى ص «وقد أخذت» . [2] فى ص «التقدمة السلطانية» . [3] فى ك «أقطاى» والمثبت من ص، وف. [4] برشنبوا: رسمت فى الأصول تارة بألف فى آخر الكلمة وتارة بدونها.

الحسامى، كل أمير منهم بنصف عدته، ورسم أن يكون سفرهم فى العشرة الآخرة من شعبان، فبرزوا من القاهرة مطلبين فى يوم الإثنين الثالث والعشرين من شعبان من السنة، وصحبتهم سيف الدين عبد الله برشنبوا النوبى، وهو ابن أخت داود ملك النوبة، وكان قد ربّى فى البيت السلطانى من جملة المماليك السلطانية، فرأى السلطان أن يقدمه فى ذلك الوقت على أهل بلاده ويملكه عليهم، واتصل خبر هذه الحادثة بالملك كرنبس [1] متملك النوبة، فأرسل ابن أخته [2] كنز الدولة ابن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز إلى الأبواب السلطانية، وسأل شموله بالإنعام السلطانى فى توليته الملك، وقال: إذا كان يقصد مولانا السلطان بأن يولى البلاد لمسلم، فهذا مسلم وهو ابن أختى والملك ينتقل إليه بعدى، فوصل كنز الدولة إلى الأبواب السلطانية فلم يجب إلى ما طلب، ورسم السلطان بمنعه من العود إلى بلاده، فأقام بالأبواب السلطانية، [96] وتوجه العسكر وصحبته عبد الله برشنبوا، فلما وصلوا إلى دنقلة فارقها متملكها كرنبس [3] وأخوه إبرام، وتوجها إلى جهة الأبواب، واستجار كرنبس [3] متملكها فقبض عليه، وتركه فى جزيرة، وكتب إلى مقدم العسكر فخبره أنه قبض عليه وعلى أخيه واحترز عليها، وسأل أن يسير إليه من يتسلمهما فسير إليه جماعة من رجال الحلقة، فتسلموهما وأحضروا إلى الأبواب السلطانية تحت الاحتياط، واعتقلا، وملك عبد الله برشنبوا دنقلة، واستقر ملكه، وعاد العسكر إلى القاهرة. فكان وصوله فى جمادى الأولى سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولما وصل متملك النوبة وأخوه إلى الأبواب السلطانية سأل كنز الدولة الإذن له فى العود إلى ثغر أسوان، وأنهى أن له بالثغر سواقى وعليه خراجا للديوان السلطانى، فرسم بعوده إلى بلده، فتوجه إلى الثغر ثم توجه منه إلى جهة دنقلة، وكان عبد الله برشنبوا لما ملك غيّر قواعد البلاد، وتعاطى نوعا من الكبر لم تجر عادة ملك النوبة بمثله، وعامل أهل البلاد بغلظة وشدة، فكرهوا ولايته. فلما قصدهم كنز الدولة ووصل إلى بلد الدو-

_ [1] فى ص بدون نقط. وفى ك «كربيس» والمثبت من السلوك. [2] فى ك «ابن أخيه» والمثبت من ص، وف. [3] فى ك «كربيس» وفى ص «كرنيس» والمثبت من السلوك 2/1: 162.

ذكر تجريد العسكر إلى العرب ببرية عيذاب [4] ودخوله إلى بلاد هلنكة [5] وغيرها وعوده

وهى أول بلاد النوبة- استقبله أهل البلاد بالطاعة وحيوّه بتحية الملك، وهى قولهم: موشاى موشاى، وهذه [1] لفظة لا يخاطب بها غير الملك، وانضموا إليه ودخلوا تحت طاعته، فتقدم إلى دنقلة، فخرج إليه برشنبوا والتقوا، فقتل برشنبوا، وملك كنز الدولة بلاد النوبة إلا أنه لم يضع تاج الملك [2] على رأسه رعاية لحق أخواله، وتعظيما لهم، وحفظا لحرمتهم. ووصل الخبر إلى الأبواب السلطانية بقتل برشنبوا فى شوال سنة سبع عشرة وسبعمائة، فعند ذلك رسم السلطان بالإفراج عن إبرام أخى كرنبس وأرسله إلى النوبة، وأمره أن يحتال فى القبض على ابن أخته [3] كنز الدولة وإرساله إلى الأبواب السلطانية، ووعده أنه إذا فعل ذلك أفرج عن أخيه كرنبس وملكه وأرسله، وتوجه إبرام إلى دنقلة فاستقبله ابن أخته كنز الدولة بالطاعة، وسلم إليه الملك، وصار فى خدمته، وخرجا لتمهيد البلاد مما يلى ثغر أسوان، فلما قرب إلى الدو قبض إبرام على الكنز الدولة وقيده، وعزم على إرساله، فمرض إبرام وهلك بعد ثلاثة أيام من حين القبض على ابن أخته، فاجتمع أهل النوبة على كنز الدولة وملكوه عليهم، فملك البلاد حينئذ ولبس تاج الملك، واستقل بالمملكة، وضم إليه العرب واستعان بهم على من ناوأه، وكان من خبره بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى فى مواضعه على ما نقف عليه. ذكر تجريد العسكر إلى العرب ببرية عيذاب [4] ودخوله إلى بلاد هلنكة [5] وغيرها وعوده وفى سنة ست عشرة وسبعمائة أمر السلطان بتجريد جماعة من العسكر إلى جهة الصعيد، وأن يتوجهوا خلف العرب حيث كانوا من البرّيّة. فجرد الأمير علاء الدين مغلطاى أمير مجلس وهو المقدم على الجيش، وهو من جملة

_ [1] فى ك «فهذه» والمثبت من ص، وف. [2] فى ك «الدولة» والمثبت من ص، وف. [3] فى ك «ابن أخيه» والمثبت من ص، وف، ويقتضيه السياق. [4] عيذاب: ميناء شهير على الساحل الغربى لبحر القلزم (البحر الأحمرفى صحراء لا عمارة فيها، تأتى إليها سفن اليمن والحبشة والهند، وكانت فى الزمن الماضى طريق الحاج المصرى، يقصدها الحجاج عن طريق قوص، ويركبون البحر منها إلى جدة، وقد ظلت كذلك مائتى سنة، ثم بطل استعمال هذا الطريق سنة 766 هـ، وهذه الميناء اندثرت منذ القرن العاشر الهجرى (النجوم الزاهرة 7: 69 هامش) . [5] كذا فى الأصول، والسلوك 2/1: 162 الهلبكسة «وفى تعليق الدكتور زيادة «وفى ب «الكيكة» من الحبشة.

فلما وصل إلى الأبواب السلطانية

مقدّمى الألوف، والأمير عز الدين أيدمر الدّوادار، والأمير علم الدين سنجر الدّميثرى، والأمير علاء الدين على ابن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، والأمير سيف الدين بهادر التّقوى، والأمير سيف الدين الدمياطى، والأمير صارم الدين الجرمكى، والأمير سيف الدين طقصبا متولى الأعمال القوصيّة والإخميمية، وسبعة من مقدمى الحلقة المنصورة، وتوجهوا فى نحو خمسمائة فارس، وكان رحيلهم من القاهرة فى يوم الأربعاء العشرين من شوال من السنة، وكان سبب ذلك أن العربان ببرّيّة عيذاب قطعوا الطّريق على رسول اليمن الواصل إلى الأبواب السلطانية، وأخذوا ما كان معه من التقادم ومن رافقه من غلمان التّجّار، والذى حملهم على ذلك أن الأمير سيف الدين طقصبا [1] متولى الأعمال القوصيّة اعتقل فيّاضا أمير هذه الطائفة من العرب، فحملت أصحابه الحميّة على فعل ذلك، فلما اتصل فعلهم بالأبواب السلطانية جرّد هذا العسكر فى طلبهم، ورسم أن يتوجهوا إلى مدينة قوص [97] ويتوجهوا منها إلى البريّة ويتبعوا العرب حيث كانوا، فأخبرنى الأمير عز الدين الدّوادار أحد الأمراء الذين توجّهوا- وهو الثقة فى أخباره- أنهم توجّهوا فى التاريخ المذكور حتى انتهوا إلى مدينة قوص، فأقاموا بظاهرها خمسة وخمسين يوما، وفى مدة مقامهم توجّه متولى الأعمال، والأمير صارم الدين الجرمكى إلى البرّيّة ليجتمعا بالعربان فى ردّ ما أخذوه من الأموال، ومراجعة الطاعة، فاجتمعا بهم ولم تتهيأ الموافقة على ما أرادوا ولما توجّها طولع السلطان بتوجههما [2] وأنّ العسكر تأخّر لقلة الظّهر [3] وسعة البرية، وقلّة الماء، وجهز بذلك الأمير بدر الدين بكتمش [4] الحسامى أحد مقدمى الحلقة المنصورة. فلما وصل إلى الأبواب السلطانية حصل من السلطان الإنكار الشديد بسبب تأخّر العسكر عن دخول البرّيّة، فعندها توجّه العسكر من مدينة قوص فى العشر الأول من المحرم سنة سبع عشرة ودخلوا إلى البرية فانتهوا إلى ثغر عيذاب فى خمسة عشر يوما، واجتمع

_ [1] فى ك «طقصنا» والتصويب مما سبق. [2] فى ك «بتوجيههما» والمثبت من ص، وف. [3] أى ما يركب من الداوب والإبل. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «بكمش» ولم أعثر بين أمراء حسام الدين لاجين، ولا أمراء الناصر محمد بن قلاوون على هذا الاسم.

العسكر بالأميرين سيف الدين طقصبا، وصارم الدين الجرمكى بعيذاب، وأقاموا بها اثنى عشر يوما، وكان متولى الأعمال قد استصحب معه فيّاضا أمير العرب الذى كانت الفتنة بسبب اعتقاله، ثم رحل الجيش من ثغر عيذاب، وساروا حتى انتهوا إلى سواكن [1] فى اثنى عشر يوما يسلكون رءوس الجبال والأوعار، وحصل لهم ضرر كثير بسبب المياه وقلّتها حتى كادوا يهلكون فى ماء منها [2] يقال له دنكنام، فإن العربان كانوا قد غوّروا المياه أمام العسكر، فأقام الجيش أربعة أيام، ووصل إلى ذلك الماء فى اليوم الخامس، فوجدوا جفارا [3] واحدا وهو متغيّر اللون والطعم والريح، فبينما هم كذلك إذ قدمت كشّافة العسكر وكانوا قد قدّموا من يستقرئ لهم خبر تلك الجبال علّهم [4] يجدون ماء، فأخبروهم أنهم وجدوا مياه [4] الأمطار بتلك الجبال فرحلوا من هناك وقت المغرب، وانتهوا إلى مياه قد اجتمعت من الأمطار، فأقاموا بها بقية تلك الليلة إلى نصف النهار من اليوم الثانى، وحملوا منها وارتحلوا حتى انتهوا إلى سواكن، فخرج إليهم متملكها بالطاعة والانقياد إلى أوامر السلطان، وقرّر على نفسه قطيعة يحملها إلى الأبواب السلطانية فى كل سنة، وهى من الرقيق ثمانون رأسا، ومن الجمال: ثلاثمائة رأس، ومن العاج: ثلاثون قنطارا، واستقر بسواكن نيابة عن السلطنة، وأقام العسكر بسواكن ستة أيام، واستصحب معه أولاد مهنّا، وكان فضل أحد مقدّمى العرّبان قد التحق بالعسكر فيما بين سواكن وعيذاب وصحبهم، وتوجّه الجيش خلف العربان ودخلوا البرية يتبعون آثارهم، فساروا سبعة عشر يوما، وفى أثناء مسيرهم ظفروا بطوائف من السودان بقرب المياه فى أودية هناك، فقتل العسكر منهم، وأسر وسبى وغنم من مواشيهم من الأبقار والأغنام ما ارتفق به الجند، وأنتهوا إلى وادى إيتريب [5] فى اليوم السابع عشر، فأقاموا بها يومين، ولم يجدوا من سواكن إلى هذا الوادى غير ماء واحد، وكان شربهم من مياه الأمطار، وأمطرت البرّيّة فى غير الوقت المعتاد، لطفا من الله تعالى بعباده وإبقاء عليهم.

_ [1] سواكن: ميناء على البحر الأحمر تربطها بعطبرة حاليا سكة حديديه، كما تربطها ببربر وكسلا طرق تجارية، ولكن وجود بور سودان بالقرب منها قلل من شأنها (النجوم الزاهرة 7: 139 هامش) . [2] فى ك «مأمنها» والمثبت من ص، وف. [3] الجفار: البئر. [4- 4] ما بين الرقمين من ص، وف. [5] كذا فى ك، وف. وفى ص «أبيزيب» .

ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى أرنيباب [1] وهو جبل صغير على شاطئ نهر أتبرا [2] وهو فرع من فروع نيل مصر يخرج من بلاد الحبشة، فأقاموا عليه يوما واحدا، ثم توجهوا يتبعون آثار الغرماء [3] وهم يسيرون على شاطئ ذلك النهر ثلاثة أيام والنهر على يمين العسكر، ثم فوّزوا ودخلوا البريّة إلى أرض التاله [4] فانتهوا فى اليوم الثالث من يوم دخولهم المفازة إلى جبل كشلاب [5] وهو جبل أقرع ليس فى تلك البرية غيره، وجبل ألوس وبين الجبلين واد، وهذا الجبل هو حد بلاد التاله من الحبشة، [98] فلما وصلوا إليه وقد قربوا من الماء، وهم فى أرض صفراء التربة تشبه أرض بيسان من غور الشام، وهى كثيرة الأشجار من السنط وأم غيلان وشجر الإهليلج [6] والأبنوس والبقس [7] والحمر [8] وهو الذى يطرح التمرهندى، إذ طلع عليهم غبار أمامهم، فندبوا من يكشف الخبر، فعاد الكشافة وأخبروهم أن طائفة من السّودان تسمى هلنكة قد اجتمعوا لقتال العسكر، وهم خلق كثير، فتقدم العسكر إليهم وقد عبؤوا أطلابهم، ولبسوا لأمة حربهم، واجتمع العسكر فى أرض خالية من الأشجار، وهى من طرق السيول [9] وقد صارت مثل البركة ولها فجّة يدخل العسكر منها، فتبعهم الأثقال فسدّت جمال أثقالهم تلك الفجة، وهلنكة من أعلا البركة [10] وبأيدى هلنكة الحراب والمزاريق والسيوف، ومع بعضهم النبل، فوقف العسكر وأرسل إليهم: إنّا لم نأت لقتالكم وإنما جئنا فى طلب طائفة من العرب أفسدوا وعصوا وقطعوا السبيل، وأمّنوهم، فردّوا الأمان وأبوا إلا القتال، فقاتلهم

_ [1] فى ك، وف «أزبيناب» والمثبت من ص. [2] نهر أبترا: لعله نهر عطبرا والوصف ينطبق عليه. [3] كذا فى ص، وف. وفى ك «القرمان» ولعلها العربان. [4] كذا فى ص. وفى ك، وف بدون نقط. [5] فى ك «جبل كسلان» والمثبت من ص، وف. [6] الإهليلج: جاء فى قاموس النباتات لحسن البابلى ص 19 «إهليلج كابلى: شجرة مسحوق ثمارها تدخن فى حالة مرض الربو» ويقال هو شجر شانك (محيط المحيط) والمنجد فى اللغة. [7] البقس: يقال هو شجر حرجى، أوراقه بيضاوية الشكل ينبت فى المناطق الكلسية، ومنه ما يزرع للزينة فى الحدائق على جنب الممرات، وخشبه ثمين. والكلمة يونانية (المنجد) . [8] الحمر: كذا فى ص. وفى ك «الحمس» والمثبت صوبه ابن ميمون فى شرح أسماء العقار رقم 381، وهو شجر من فصيله القرنيات (معجم الألفاظ الزراعية) . [9] فى ك «طريق السيل» والمثبت من ص، وف. [10] ما بين الرقمين 9، 10 من ص.

العسكر ورموهم رشقا واحدا واحدا بالسهام، فقتل من هلنكة أربعمائة وستون نفرا، وجرح منهم خلق كثير، ولم يتمكن العسكر من أسرهم فإنهم كانوا يرون القتل أحب إليهم من الأسر، وقتل منهم اثنان من ملوكهم على ما حكاه من اجتمع بهم من غلمان العسكر، وكان سبب اجتماعهم بهم وسلامتهم منهم أنهم كانوا انقطعوا وراء العسكر وناموا، فلحقهم كشافة هلنكة فمسكوهم وأتوا بهم إلى أكابرهم، فسألوهم من أين أنتم؟ وكان فيهم من يعرف لغة القوم، فقالوا: نحن تجار أغار علينا هذا العسكر ونهبونا، وأخذوا أموالنا وأسرونا. فلما قاتلتموهم [1] هربنا منهم، فرقّوا لهم وأطلقوهم، وذكروا لهم عدة من قتل منهم. ولما انهزمت هذه الطائفة من هلنكة تحصنوا بالأشجار وتركوا أحمالهم فأخذ العسكر منها [2] ما قدروا على حمله من الذرة- وليس لهم طعام غيرها- وحملوا حاجتهم من الماء ورجعوا من هناك من يومهم على آثارهم، وذلك فى سادس شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة، وعادوا حتى انتهوا إلى أرنيباب، ولم يمكنهم الرجوع على الطريق الذى دخلوا منه لقلة المياه والأقوات والعلوفات، فعدلوا إلى جهة الأبواب من بلاد النوبة، وأخذوا على نهر أتبرا فساروا على شاطئه عشرين يوما، وكانت دوابهم ترعى من الحلفاء [3] ، ثم انتهوا إلى قبالة الأبواب فأقاموا هناك يوما وتوجه [4] سيف الدين أبو بكر بن والى الليل فى الرسلية [5] من جهة متولى الأعمال القوصية الأمير سيف الدين طقصبا إلى متملك الأبواب، فخاف ولم يأت إلى العسكر، وأرسل إليهم بمائتى رأس بقر وأغنام وذرة، ونهب العسكر ما وجدوه بتلك الجهة من الذرة، وتوجهوا إلى مدينة دنقلة فى سبعة عشر يوما فى أرض كثيرة الأشجار والأفيلة والقرود والنسانيس والوحش الذى يسمى المرعفيف [6] ، فأقاموا ثلاثة أيام- وملكها عبد الله برشنبوا كما تقدم- وأضاف العسكر وزودّهم، وتوجهوا إلى ثغر أسوان ثم إلى مدينة قوصى، وأقاموا بها خمسة عشر يوما، وحصل للعسكر فى هذه

_ [1] فى ك «قاتلوهم» والمثبت من ص، ويستقيم به السياق. [2] فى ك، وف «فيها» والمثبت من ص. [3] الحلفائى والحلفة، فى الأصول «الحلف» والحلفاء، نبات أطرافه محددة كأنها سعف النخيل والخوص ينبت فى مغايض المياه (المنجد) . [4] فى الأصول «وتؤخر» ولعل الصواب ما أثبته. [5] الرسلية: قافلة البريد. [6] كذا فى الأصول، ولم اهتد إلى التعريف به.

ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب وإرساله إلى نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الصفدية

السفرة مشقة كثيرة وكلفة عظيمة، حتى أبيعت تطبيقة النعال بينهم بخمسين درهما، وأبيع رطل البقسماط [1] بدرهم ونصف إذا وجد، ونفق أكثر خيل العسكر وجمالهم، ورجع أكثرهم إلى ساحل مصر فى المراكب لأمور، منها: عدم الظهر، ومنها أن النيل كان قد عمّ البلاد، وقطع الطرق إلا الجبال، وكان وصول العسكر إلى القاهرة المحروسة فى يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب وإرساله إلى نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الصفدية وفى يوم الخميس الرابع عشر من شوال رسم السلطان بالإفراج عن الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب- كان- وخلع عليه تشريفا كاملا طرد [2] وحش مذهب، وقباء، وكلّوته زركش، وشاش رقم، وحياصة ذهب، ورسم له نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية والفتوحات الأشرفية، وخلع عليه تشريفا ثانيا كاملا وسيفا وحياصة، وأنعم عليه بمائتى ألف درهم، [99] وتوجّه على خيل البريد فى يوم الإثنين الخامس والعشرين من الشهر إلى دمشق، وكان نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز قد توجّه لزيارة القدس والخليل، وطلب الصيد بجهة الساحل، فاجتمع به ووصل معه إلى دمشق، وتوجّه منها إلى صفد فى عاشر ذى القعدة. وفى هذه السنة توجه الأمير سيف الدين أرغن نائب السلطنة الشريفة إلى الحجاز الشريف بعد سفر المحمل بأيام.

_ [1] البقسمات: كلمة فارسية تعنى نوعا من الكعك المجفف، واللفظ مستعمل بين الكافة فى مصر. [2] وانظر ص 366 تعليق رقم (2) .

وفى يوم السبت العشرين من ذى الحجة منها وردت مطالعة الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب السلطنة بالمملكة الحلبية إلى الأبواب السلطانية يتضمن أن جماعة من التتار المغول نحو ألف فارس أغاروا على أطراف البلاد الحلبية، وانتهوا إلى قرب قلعة كختا [1] فنزل إليهم من القلعة نحو مائتى فارس ومن انضم إليهم من التركمان، واقتتلوا يوما كاملا حتى حجز بينهما الليل، ثم باكروا القتال واقتتلوا حتى أشرف التتار على أخذهم، وأنهم لما تحققوا الموت صدقوا فى القتال وحملوا حملة رجل واحد فكانت الهزيمة على التتار، فقتل أكثرهم وأسر منهم ستة وخمسون فارسا من أعيانهم، فمنهم: ثلاثة من مقدمى الألوف، واسترجع العسكر ما كانوا نهبوه من أطراف البلاد، وغنموا ما كان معهم من الخيل والعدة، فرسم السلطان بالإنعام والزيادة لهذه الطائفة المجاهدة، وكتب إلى نائب السلطنة بحلب بحمل الأسرى ورءوس القتلى إلى الديار المصرية، وأن يؤدى خمس الغنيمة فى المجاهدين، فوصلت الأسرى فى صفر سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفى ذى الحجة من هذه السنة وردت الأخبار إلى الأبواب السلطانية بوفاة خربندا ملك التتار، وذكر أنه توفى فى سادس شوال من السنة، وأنه كان قد أمر بإشهار النداء أن لا يذكر أبو بكر وعمّر رضى الله عنهما، وكان ذلك فى يوم سبت فمات قبل أسبوع، وذكر أنه كان قد عزم على تجهيز ثلاثة آلاف فارس مع حميضة بن أبى نمىّ إلى المدينة النبوية، لنقل أبى بكر وعمر من مدفنهما، فعجّل الله هلكه، وهذه عادة الله تعالى فيمن طغى وتجبّر.

_ [1] انظر ص 345 تعليق رقم (2) .

وفى هذه السنة فى مستهل شهر رجب توفّى القاضى عز الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن أحمد بن ميسّر المصرى [1] بدمشق، ودفن بقاسيون، ومولده بمصر فى ليلة يسفر صباحها عن الحادى والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان رجلا ساكنا، ولى المناصب الجليلة: نظر الدواوين بالشام، ونظر المملكة الطرابلسية، ونظر النّظّار بالديار المصرية، وغير ذلك، وكان سيّئ التدبير ردئ التصرف فى حق نفسه، لا يزال يزرع الأقصاب لنفسه بالديار المصرية، ويدولب المعاصر وهو يغرم ولا يستفيد، ويقترض الأموال ويعيد الدّولبة ويغرم، ولم يزل على ذلك إلى أن مات وعليه جملة كثيرة من الديون الشرعية أصلها من المتاجر والدّواليب، ولو اقتصر على معلوم مباشراته كان يزيد على كفايته- رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة الخميس عاشر شعبان توفى الطواشى الأمير ظهير الدين مختار المنصورى المعروف بالبلبيسى [2] أحد الأمراء والخزندار بدمشق، وكان شهما شجاعا زكيا ديّنا خبيرا [3] رماحا كريما، حسن الشكل واللباس، يتلو القرآن بصوت حسن، وفرق أمواله وجواريه وخيوله وعدده على عتقائه قبل وفاته، ووقف أملاكه على تربته وعتقائه، وقد رافقته بدمشق فى ديوانه الخاص، فكان حسن الرّفقة- رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى [4] أحد الأمراء المقدمين بدمشق فى يوم الأربعاء سادس عشر شعبان، [100] ودفن برأس ميدان الحصى- رحمه الله تعالى-.

_ [1] وانظر البداية والنهاية 14: 77، وفيه «ابن مبشر- بدلا بن ميسر» . [2] انظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 78، والدرر الكامنة 4: 344، والنجوم الزاهرة 9: 237، والدليل الشافى 2: 730. [3] فى الأصول كلمات لا معنى لها. والمثبت من البداية والنهاية 14: 79، والنجوم الزاهرة 9: 237. [4] له ترجمة فى البداية والنهاية 14: 79.

وتوفيت شيختنا أم محمد وزيرة [1] ابنة الشيخ عمر بن أسعد بن منجّا الشّوخيّة بدمشق فى الليلة المسفرة عن ثامن عشر شعبان سنة عشر وسبعمائة، ومولدها فى سنة أربع وعشرين وستمائة- كذا نقلته من خط الشيخ علم [2] الدين البرزالى. وقال الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه سنة ثلاث وعشرين، روت صحيح البخارى عن ابن الزبيدى، وسمعته عليها بالقاهرة فى جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، وسمع عليها وعلى الحجّار فى هذه السنة بقلعة الجبل والقاهرة وظاهرها ومصر خمس مرات، أوّلها بقلعة الجبل بدار النيابة بالطبقة الحسامية فى السادس والعشرين من صفر، وآخرها بالقلعة فى أواخر جمادى الآخرة وأوائل شهر رجب- رحمها الله تعالى. وفى هذه السنة- فى يوم الثلاثاء رابع عشر شعبان- توفى القاضى جمال الدين أبو محمد عبد الله ابن شيخنا قاضى القضاة بدر الدين أبى عبد الله [3] محمد ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعه الكنانى الشافعى، وكانت وفاته بجامع الأقمر [4] عند آذان العصر ودفن من الغد بتربة والده بالقرافة الصغرى بخط الخندق، وكان رحمه الله تعالى شابا حسن الصورة والعشرة كريما كثير التردد إلى الناس والاستمالة لخواطرهم، وكان يدأب فى

_ [1] كذا فى الأصول. وفى البداية والنهاية 14: 79 «ست الوزراء» وكذا فى شذرات الذهب 6: 40، وذيول العبر ص 88، وفى السلوك 2/1: 169 «ست الوزراء أم محمد وزيرة، وفى النجوم الزاهرة 9: 237 «أم محمد ست الوزراء المعروفة بالوزيرة» . [2] هو أبو محمد القاسم بن محمد بن البرزالى، علم الدين المتوفى سنة 739 هـ وانظر البداية والنهاية 14: 185، وطبقات الشافعية 6: 246، وشذرات الذهب 6: 132، وذيول العبر ص 209، والدرر الكامنة 3: 237، والنجوم الزاهرة 9: 913. [3] ما بين القوسين إضافة من ص. [4] جامع الأقمر: هو الذى يسمى حاليا جامع الفاكهيبن، عمره الخليفة الظافر بنصر الله إسماعيل ابن الخليفة الحافظ لدين الله الفاطمى سنة 548 هـ. وهو موجود إلى اليوم باسم جامع الفاكهانى بشارع العقاد بن عند تلاقيه بشارع الشوايبن، ويقال إنه عرف بذلك لأن سوق الفاكهة كان فى ذلك الوقت بالقرب منه (النجوم الزاهرة 5: 290 هامش) .

نسج المودة بين والده والأكابر، ويجتهد فى قضاء حوائج الناس، وكان يتصدق على الفقراء- رحمه الله تعالى-[1] وأصيب والده فيه فصبر صبرا جميلا [1] . وتوفى الصاحب ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشّائى [2] فى الليلة المسفرة عن تاسع شهر رمضان بالقاهرة بحارة الجودرية [3] ، وهو يومئذ ناظر الخزانة، ودفن بالقرافة- رحمه الله تعالى. ولما مات ولى نظر الخزانة بعده قاضى القضاة تقى الدين أحمد ابن قاضى القضاة عز الدين الحنبلى. وتوفى القاضى محب الدين على ابن شيخنا الإمام العالم العلامة تقى الدين محمد بن وهب بن على القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد [4] ، وكانت وفاته فى ليلة يسفر صباحها عن العشرين من شهر رمضان، ودفن بالقرافة فى تربة والده- رحمهما الله تعالى- وكان قد انقطع بعد وفاة والده انقطاعا حسنا، وأكبّ على الاشتغال بالعلم الشريف، وكان يدرس بالمدرسة الكهارية [5] ، ومولده بمدينة قوص فى ثانى صفر سنة سبع [6] وخمسين وستمائة. وفيها فى عاشر ذى القعدة توفى الشيخ الكاتب المجيد المحمود نجم الدّين موسى بن علىّ بن محمد الحلبى ثم الدمشقى المعروف بابن البصيص [7] ، ودفن بمقابر باب الصغير [8] ، ومولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكان شيخ الكتابة بدمشق، كتب وهو صغير، يقال: إنه كتب نحو خمسين سنة [9] رحمه الله تعالى.

_ [1- 1] ما بين الرقمين إضافة من ص. [2] البداية والنهاية 14: 79، والسلوك 2/1: 170. [3] المدرسة الكهارية: تنسب إلى درب الكهارية الواقع بجوار حارة الجودرية، ومكانها اليوم الجامع المعروف بجامع الجودرى بشارع الجودرية، ومكتوب على اللوح الرخام المثبت بأعلى باب هذا الجامع أن الذى أنشأ مدرسة هو الملك السعيد محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس فى سنة 677 هـ. (النجوم الزاهرة 9: 67 هامش) . [3] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 170 «سنة تسع وسبعين» . [4] وانظر البداية والنهاية 14: 79، والدرر الكامنة 4: 376، وذيول العبر ص 89، والنجوم الزاهرة 9: 232. [5] باب الصغير: أحد أبواب دمشق، فى قبليه مقبرة بها دفن كثير من الصحابة والتابعين (النجوم الزاهرة 3: 289 هامش) . [6] فى ك «خمس وستين» والمثبت من ص، وف. [7] وانظر البداية والنهاية 14: 80، والوافى بالوفيات 4: 264، والدرر الكامنة 4: 115، وذيول العبر ص 90، ودول الإسلام 2: 170، وطبقات الشافعية 6: 23، وشذرات الذهب 6: 40، والدليل الشافى 2: 668. [8] ما بين القوسين إضافة من ص. [9] ما بين القوسين إضافة من ص. وللجزرى هذا كتاب كبير اسمه «جواهر السلوك فى الخلفاء والملوك» مخطوط بدار الكتب المصرية. وانظر فهرس الكتب العربية بالدار 5: 80.

واستهلت سنة سبع عشرة وسبعمائة بالأربعاء

وتوفى الشيخ صدر الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ زين الدين عمر بن مكى بن عبد الصمد العثمانى الشافعى المعروف بابن المرحّل وابن الوكيل وابن الخطيب [1] ، وكانت وفاته فى بكرة نهار الأربعاء الرابع والعشرين من ذى الحجة بالقاهرة، ودفن بالقرافة بتربة القاضى فخر الدين محمد ناظر الجيوش المنصورة، ومولده بثغر دمياط فى تاسع عشرين شوال سنة خمس وستين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى عالما فاضلا كريما حسن الأخلاق والعشرة [2] رقيق الشعر [2] جيد البديهة- رحمه الله تعالى. واستهلت سنة سبع عشرة وسبعمائة بالأربعاء فى هذه السنة [101] فى صفر حصل الشروع فى إنشاء جامع بظاهر مدينة دمشق خارج باب النصر، أمر بإنشائه الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام، وحضر القضاة والموقتون لتحرير سمت القبلة به، وتكرروا مرارا حتى وضعوا محرابه وضعا صحيحا، وذلك فى الخامس والعشرين من الشهر. ذكر حادثه السيل ببعلبك وفى هذه السنة فى العشر الأول من شهر ربيع الأول ورد إلى الأبواب السلطانية مطالعة نائب السلطنة بدمشق تتضمن: أنه لما كان فى يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر جاءت سيول عظيمة إلى مدينة بعلبك، فهدمت أسوارها ودور المدينة، وأحصى من دفن إلى يوم تسطير مطالعة نائب بعلبك إلى نائب السلطنة بالشام فكانوا ألفا وخمسمائة نفر- خارجا من هو تحت الردم. وحكى الشيخ [3] شمس الدين [3] محمد إبراهيم الجزرى فى تاريخه: أن هذه الحادثة لما وقعت جهّز نائب السلطنة بدمشق الشيخ جمال الدين بن الشّريشى وكيل بيت المال إلى بعلبك لكشفها وإيقاع الحوطة على موجود

_ [1] وانظر الربداية والنهاية 14: 80، والوافى بالوفيات 4: 264، والدرر الكامنة 4: 115، وذيول العبر ص 90، ودول الإسلام 2: 170، وطبقات الشافعية 6: 23، وشذرات الذهب 6: 40، والدليل الشافى 2: 668. [2- 2] ما بين القوسين إضافة من ص. [3- 3] ما بين القوسين إضافة من ص. وللجزرى هذا كتاب كبير اسمه «جواهر السلوك فى الخلفاء والملوك» مخطوط بدار الكتب المصرية. وانظر فهرس الكتب العربية بالدار 5: 80.

من هلك بسبب السيل ولا وارث له غير بيت المال، وأن الشيخ توجّه لذلك وعاد فى شهر ربيع الأول، وأحضر أوراقا بصورة الكشف، قال: وقفت عليها ونقلها [1] فى تاريخه، وملخصها: أن الذى هدمه السيل الواقع بمدينة بعلبك فى التاريخ المذكور، وسعته من الجامع والمساجد والسور والدور والحوانيت والحمامات والطواحين والاصطبلات، وما عدم فيه من الرجال والنساء والأطفال والخيول والدواب وغير ذلك، وخصّ بيت المال منه نصيب، وذلك مما أمكن ضبطه من المعروفين، خارجا عن الغرباء الذين كانوا بالجامع والمساجد والطرقات ولم يعرفوا، وذلك خارجا عن الكروم والبساتين ظاهر المدينة، ما عدّته من الرجال والنساء والأطفال: مائة وسبعة وأربعون [2] نفرا، وبيوت ثمانمائة وخمسة وسبعون [3] بيتا «خرابا» أربعمائة وواحد وثمانون، ومشعثة: أربعمائة وأربعة عشر بيتا، حوانيت: مائة وواحد وثلاثون حانوت خراب: أربعة وخمسون، ومشعثة: سبعة وسبعون. بساتين داخل البلد: أربعة وأربعون، الجامع المعمور والمدارس والمساجد: ثلاثة عشر عددا أفدنه سبعة عشر دمن [4] خراب: اثنتان، قنى السيل أربعة، طواحين: إحدى عشرة: خراب: اثنتان ومشعثة: تسع، المدبغة: مشعثة، خيل: أربعة وبغال: إثنان ودواب: خمسة وباقر [5] رأس واحد، وذكر فى الأوراق تفصيل ذلك بحاراته وبقاعه، وهدم من السور برجا كاملا ذرعه ثلاثة عشر ذراعا فى السّفل وارتفاعه ثمانية وثلاثون ذراعا وبعض بدنتين [6] ، وذكر أشياء كثيرة من هذا النوع، وهذا لا ينافى ما تضمنته المطالعة الواردة إلى الأبواب السلطانية، فإن الأوراق إنما اشتملت على من لبيت المال نصيب فى ميراثه، والمطالعة شاملة [7] .

_ [1] كذا فى ص، وف. وفى ك «نقلتها» . [2] والذى فى السلوك 2/1: 171 «أن الذين ماتوا بلغ عددهم ألف وخمسمائه إنسان سوى من مات تحت الردم «وانظر البداية والنهاية 14: 81. [3] وفى المرجع السابق «وتسعون» . [4] كذا فى ص، وف. وف ك «ومن» . [5] الباقر: هو جماعة البقر. [6] البدنة: من اصطلاحات البناء للأسوار. وتعنى كتف الجدار أو دعاماته. [7] وانظر البداية والنهاية 14: 81.

ذكر حادثة الهواء بالبلاد الحلبية وما حصل بسببه

ذكر حادثة الهواء بالبلاد الحلبية وما حصل بسببه وفى يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الأول فى الساعة الثامنة من النهار ثار بمدينة حلب هواء عظيم مزعج أثار غبارا عظيما، واقترن ببرق مترادف ورعد قوى، وأظلم الجوّ حتى لا يبصر الإنسان رفيقه إلى جانبه، ولا يستطيع أن يفتح عينه، حتى تيقّن الناس الهلاك، ثم وقع مطر عظيم وبرد مع وجود الهواء، وامتدّ الهواء والمطر على إقليم جبل سمعان غربى مدينة حلب، فاقتلع أشجارا كثيرة [1] رومانيّة من البلّوط والزيتون والكروم، وكان يقتلع الشجرة العظيمة من الأرض بعروقها، وأهلك [102] من [2] مرّ عليه من [2] المسافرين، وما مرّ على بلد إلا خرّبه خرابا فاحشا، فأخرب عشر قرى [3] وهى: تذبل، وكفر عمه [4] وكفر جور، وبالا، وأم تحنين، والربيعية، ومعاد، وعين جارا، وبراطون [4] والأبزمو وأهلك من بهذه القرى من الناس والدواب والوحش والطير، واجتمع من المطر سيل عظيم مرّ على وادى العسل وهو واد كبير فيه الدّرب السلطانى، يسلكه المارون من مدينة حلب إلى جميع إقليم جبل سمعان، وإلى أعمال حارم وغيرها، فامتلأ وغرّق ما مرّ عليه من الناس والدواب، وامتنع من سلوكه مدة، وخرج من الهواء المذكور عمود يرمى بشرر من نار، وجاء إلى كنيسة الربيعية، وهى كنيسة قديمة رومانية مبنية بحجارة هرقلية كل حجر منها لا يشيله عشرة من العتالين، محكمة البناء، ودخل العمود إلى هذه الكنيسة واقتلعها من أساسها وحملها فى الجو صعدا مقدار رمية نشاب وأكثر، وهى بحالها لم يتغير حجر عن حجر، وشاهدها على ذلك من سلم من الناس ممن كان خارجا عن هذا العمود من الهواء، وجعلوا يستغيثون ويجأرون إلى الله تعالى، ويسبحونه ويستغفرونه، ولما انتهت الكنيسة فى العلو إلى هذه الغاية انتقضت أحجارها وتساقطت إلى الأرض، فمن الحجارة ما غاص فى الأرض وغاب، ومنها ما غاص نصفه وأقل من ذلك وأكثر، وبقى مكان أساس الكنيسة شبه الخنادق.

_ [1] كذا فى ك. وفى ص، وف «كبيرة» . [2- 2] ما بين الرقمين إضافة من ص، وف. [3] فى الأصول «قرايا» ويقال إن قرايا جمع لقرية النمل. [4- 4] ما بين الرقمين إضافة من ص.

أخبرنى بذلك الأمير علاء الدين أيد غدى الشهرزورى المتقدم ذكره عن كتاب شهاب الدين أحمد ولده إليه، قال: ولما وصل إلى كتابه بذلك أعدت جوابه أسأله عن تحقيق هذا الأمر، فكتب إلى: هذا أمر محقق وإن نائب السلطنة جهّز جماعة لكشف [1] هذه الحادثة، وكان هو ممن ندب لكشف [1] ذلك، وقد بلغتنى هذه الواقعة من غير الأمير علاء الدين المذكور، واشتهرت، وآيات الله تعالى ومعجزاته كثيرة، نعوذ بالله تعالى من سخطه، ونسأله رضاه وعفوه ومغفرته. وفى هذه السنة فى شهر ربيع الأول أيضا ورد كتاب الأمير أسد الدين رميثه أمير مكة إلى الأبواب السلطانية يتضمن: أن أخاه عز الدين حميضة قدم من بلاد العراق، وكان قد تسحّب إليها والتحق بخربندا كما تقدم، وأنه وصل الآن على فرس واحد ومعه اثنان من أعيان التتار، وهما: درقندى- وقيل فيه دلقندى [2]- وملك شاه ومعهم ثلاث وعشرون راحلة، وأنه كتب إلى أخيه رميثة يستأذنه فى دخول مكة؛ فمنعه إلا بعد إذن السلطان. فكتب السلطان إلى حميضة أنه إن حضر إلى الديار المصرية على عزم الإقامة بها فله الأمان ويسامحه بذنوبه السالفه، وأما الحجاز فلا يقيم فيه، وكتب إلى درقندى وملكشاه بالأمان، وأن يحضرا، وأخبر من وصل أنهم لقوا فى طريقهم شدة من العراق إلى الحجاز، وأن العربان نهبوهم، فنهب لدرقندى أموال جمة وأنه وصل على فرس واحد مسافة عشرين ليلة، وقد حكى عن الأمير محمد بن عيسى أخى مهنّا أن الملك خربندا كان قد جهّز دلقندى المذكور فى جمع كثير مع عز الدين حميضة قبل وفاته إلى الحجاز لنقل الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما من جوار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن الأمير محمد المذكور جمع من العربان نحو أربعة آلاف فارس وقصد المقدم المذكور وقاتله ونهبه، وكسب العرب منه جملة عظيمة من الذهب والدارهم، حتى إن فيهم جماعة حصل للواحد منهم نحو ألف دينار غير الدواب والسلاح وغير ذلك، وأخذوا الفئوس والمجارف التى كانوا قد هيئوها لنبش قبر [3] [الشيخين] أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وكان ذلك فى الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة،

_ [1- 1] ما بين الرقمين إضافة من ص. [2] فى ك «وقفدى» والمثبت من ص، وف. وفى إتحاف الورى 3: 155 «درقندى وقيل دقلندى» [3] ما بين الحاصرتين يقتضيه السياق.

ذكر توجه السلطان إلى الشام، ووصوله إلى الكرك، وإفراجه عمن يذكر من الأمراء، وعوده

ولما ورد كتاب الأمير أسد الدين رميثة إلى السلطان بما تقدم ندب السلطان إلى مكة- شرفها الله تعالى- الأميرين سيف [1] الدين أيتمش المحمدى، وسيف الدين بهادر السّعيدىّ [2] أمير علم، وأمرهما أن يستصحب كلّ واحد منهما عشرة من عدته وجرّد معهما من كل أمير مائة جنديّين، ومن كل أمير طبلخاناه جنديا واحدا، وتوجّها إلى مكة لإحضار حميضة ومن حضر من التتار، فتوجها فى يوم السبت [103] سادس عشر ربيع الأول بمن معهما، ووصلا إلى مكة وأرسلا إلى حميضة فى معاودة الطاعة، وأن يتوجّه معهما إلى الأبواب السلطانية، فاعتذر أنه ليس معه من المال ما ينفقه على نفسه ومن معه فى سفره، وطلب منهما ما يستعين به على ذلك، فلما قبض المال تغيّب، وعادا إلى القاهرة فوصلا فى يوم الأحد السادس والعشرين من جمادى الآخرة من السنة. وفى هذه السنة فوّض قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام مالك بن أنس للقاضى فخر الدين أحمد ابن القاضى تاج الدين سلامة بن سلامة الإسكندرىّ المالكى، فى الثالثة والعشرين من شهر ربيع الآخر، عوضا عن قاضى القضاة جمال الدين الزواوى، وكان قد عجز عن القضاء، واشتدت به الرعشة، وثقل لسانه، فعزل بسبب ذلك، وتوجّه القاضى فخر الدين إلى دمشق، فوصل إليها فى السابع والعشرين من جمادى الأولى، ولم تطل مدّة القاضى جمال الدين بعد وصوله، فإنه مات فى تاسع جمادى الآخرة على ما نذكر إن شاء الله تعالى. ذكر توجه السلطان إلى الشام، ووصوله إلى الكرك، وإفراجه عمن يذكر من الأمراء، وعوده وفى يوم الخميس رابع جمادى الأولى من السنة توجّه السلطان إلى جهة الشام، وكان قد كتم مقصدة عن سائر الناس حتى عن خواصه، وأظهر أن مقصده بسبب الصيد واستكثر من الروايا فكان معه لخاصّه ما يزيد على ألف راوية، وحمل الأمراء كل أمير بحسب حاجته من ثمانين راوية إلى عشرين،

_ [1] فى ك «الأمير» والمثبت من ص، وف. [2] وفى إتحاف الورى بأخبار أم القرى 3: 157 «السعدى» .

ذكر خبر النيل المبارك فى هذه السنة

وكذلك من معه من مقدمى الحلقة المنصورة، وصحبته جماعة من الأمراء والمقدمين، وتوجّه فوصل إلى غزة فى الثامن عشر من الشهر، وتوجّه إلى زيارة القدس والخليل عليه السلام، ثم إلى الكرك، وحضر إلى خدمته بالكرك الأمير سيف الدين تنكر نائب السلطنة بالشام، ثم توجّه السلطان من الكرك إلى الشّوبك وتصيّد هناك، وأفرج فى هذه السّفرة عن الأميرين [1] ركن الدين بيبرس الدّوادار، وسيف الدين بهادر آص المنصوريين فى يوم الخميس ثانى جمادى الآخرة، وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى الساعة الأولى من نهار الأربعاء خامس عشر جمادى الآخرة من السنة، ووصل الأميران إلى قلعة الجبل، فخلع السلطان عليهما، وأمّر كلّ واحد منهما وقدّمه على ألف على [2] عاداته. واستقر الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار بالديار المصرية، وجلس رأس الميسرة، وأعيد الأمير سيف الدين بهادر آص إلى دمشق على عادته، فكان وصوله إليها فى يوم الإثنين رابع شهر رجب. ذكر خبر النيل المبارك فى هذه السنة وإنما خصصنا هذه السنة بذكره لأنه وقع فيه من الغرائب فى أمره ما لم تجر بمثله عادة، وذلك أن النيل المبارك وفّى بمقياس مصر فى يوم السبت الثالث عشر من جمادى الأولى الموافق التاسع عشرين أبيب ستّة عشر ذراعا، وحصل التخليق وكسر سدّ [3] الخليج فى هذا اليوم، وما وقع مثل ذلك فى هذا العصر؛ فإن العادة فى غالب السنين أن يكون الوفاء فى الآخر من مسرى وفى الأوسط منه، وربما تأخّر عن ذلك فيكون فى أيام النسىء وأوائل توت، ثم زاد بعد ذلك وأخذ فى النقص والزيادة، فكانت زيادته إلى آخر مسرى ذراعا واحدا، [104] ثم وقف مدة وزاد أخرى، فبلغت زيادته إلى آخر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة الموافق لتاسع توت سبعة عشر ذراعا وتسع أصابع، وزاد فى يوم الأربعاء عاشر توت خمس أصابع، وفى بكرة الخميس الذى يليه تسع أصابع، وفى يوم الجمعة ثانى عشر توت خمس أصابع، وفى

_ [1] فى ك «الأمير» والمثبت من ص، وف. [2] هذا اللفظ من ص. [3] هذا اللفظ من ص، وف.

ذكر إفراد مصر عن قاضى الحنفية [3]

يوم السبت والأحد أربع أصابع فى كل يوم أصبعين؛ فكملت زيادته بمقياس مصر ثمانية عشر ذراعا وست أصابع، ولما غلق الذراع الثامن عشر غرّق كثيرا من الأدر [1] المجاورة له بساحل مصر والروضة، وغرّق الأقصاب والبساتين، وقطع الطريق فيما بين القاهرة ومصر فى عدة مواضع، فأمر السلطان بقطع الخلجان التى عادتها تكسر فى عيد الصّليب، مثل بحر أبى الرّجا [2] والكينونة وغيرها، وذلك قبل الوقت المعتاد، والعادة جارية أن هذه الخلجان إذا قطعت ينقص بحر النيل بسبب قطعها نحو ثلثى ذراع؛ لما ينصب فيها منه، فلم يضطرب النيل لقطعها ولا توقّف، بل زاد ما ذكرناه، ولعله لو لم تقطع هذه الخلجان العظيمة كان بلغ فى الزيادة إلى أكثر مما انتهى إليه، وعم فساده، ثم ثبت النيل بعد ذلك على البلاد ثبوتا حسنا إلى حد الاستغناء عنه، فأخذ فى النقص، فكان ينقص قليلا، ثم يثبت مدة، ثم ينقص، حتى أخذت الأراضى حاجتها من الرى وهبط والحمد لله. ذكر إفراد مصر عن قاضى الحنفية [3] وفى يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رجب فوّض قضاء القضاة الحنفية بمصر للقاضى سراج الدين عمر ابن شهاب الدين محمود، وخلع عليه بطرحه على عادة القضاة، وجلس بجامع مصر، وحكم فى هذا اليوم، واختزل ذلك من ولاية قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرى الحنفى، واستقر بالقاهرة خاصة، وصار القضاة الأصول خمسة، وهم: قاضى القضاة بدر الدين الشافعى، وقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف، وقاضيا القضاة الحنفيان المذكوران، وقاضى القضاة تقى الدين أحمد الحنبلى، وكان السبب فى ولاية سراج الدين المذكور القضاء أن قاضى القضاة شمس الدين الحنفى المذكور

_ [1] الأدر: كذا وردت فى الأصول، والمراد جمع دار. وفى المراجع اللغوية: أن دار تجمع على دور، وديار، وأدؤر: وأدوره، وأدوار، ودوران وديران. [2] كذا فى الأصول. ولعل المقصود بحر أبى المنجا. وقد حفر سنة 506 هـ فى عهد الخليفة الآمر الفاطمى، وكلّف بحفره أبو المنجا بن أشعيا اليهودى، ويخرج هذا البحر من النيل قرب شبرا (خطط المقريزى 1: 171، 487. [3] موضع هذا العنوان بياض في ك، والمثبت من ص، وف.

ذكر [5] عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك [5] ووصول رسله

طلب منه أن يحكم بتعويض الورثة الظاهرية [1] عن قرار إسطبل الأمير سيف الدين بكتمر السّاقى المطلّ على بركة الفيل بظاهر القاهرة. ويمكّن هو قرار إسطبله. فامتنع من ذلك، ووافق سراج الدين على الحكم بصحة ذلك إن هو ولّى، فولّى لذلك، ولم تطل مدته فى القضاء فإنه توفى إلى رحمة الله تعالى فى الثالث والعشرين من شهر رمضان من السنة، وأعيد قاضى القضاة شمس الدين بن الحريرى إلى ولاية القضاء بمصر على عادته، وخلع عليه، ونفعه الامتناع من الحكم بما فيه شبهة وما ضرّه العزل- وجزاه الله خيرا. [2] وفى هذه السنة فى أواخر شعبان [2] قطع جماعة من التتار الفرات إلى جهة الشام، ووصل إلى دمشق فى سادس شهر رمضان مقدّم ألف من التتار اسمه طاطى [3] ، كان منشؤه من العراق وديار بكر بمكان يعرف بقفر ابن زغل [4] ووصل صحبته نحو مائة فارس بنسائهم وأولادهم، ثم تجهزوا من دمشق فى الشهر المذكور فوصلوا إلى القاهرة فى شوال من السنة. ذكر [5] عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك [5] ووصول رسله وفى شهر رمضان من هذه السنة عادت رسل السلطان من جهة الملك أزبك، وهم الأمير [105] علاء الدين أيدغدى الخوارزمى ومن معه، وصحبهم رسل الملك أزبك، فمثلوا بين يدى السلطان فى يوم الخميس رابع الشهر، وكان السلطان قد خطب إلى الملك أزبك امرأة من بنات الملوك من البيت الجنكزخانى، وبعث مع رسله هدية طائلة جليلة المقدار، فلما جاءت الرسل اشتطوا فى المهر فطلبوا مائة طمان من الذهب، والطمان عشرة آلاف دينار،

_ [1] والخبر فى السلوك 2/1: 173. [2]- 2 ما بين الرقمين يقابله بياض فى ك. والمثبت من ص، وف. [3] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 174 «طاطاى» . [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «زغلى» . [5- 5] ما بين الرقمين يقابله بياض فى ك. والمثبت من ص، وف.

ذكر روك المملكة الطرابلسية وما يتصل بذلك [1] من إبطال الجهات المنكرة بها وأخبار النصيرية [2]

فيكون جملة ذلك ألف ألف دينار، وألف ألف فرس، وألف عدة كاملة للحرب، وغير ذلك، واشترطوا أن يحضر لتسليمها جماعة من الأمراء الأكابر ونسائهم، وغير ذلك من الشروط التى لا يمكن الإجابة إليها، فنزل السلطان عن هذه الخطبة وعدل عنها إلى ما جرت العادة به من المكاتبات بينه وبين الملك أزبك، ثم كان من خبر إرسال المخطوبة من غير استدعاء من السلطان والصلة بما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر روك المملكة الطرابلسية وما يتصل بذلك [1] من إبطال الجهات المنكرة بها وأخبار النصيرية [2] وفى سنة سبع عشرة وسبعمائة رسم السلطان بروك المملكة الطرابلسية وما أضيف إليها من الأعمال والقلاع والحصون والثغور، فكشفت النواحى، ونصب لتحريك ذلك وإتقانه القاضى شرف الدين يعقوب ناظر المملكة الحلبية، فحضر إلى طرابلس حسب الأمر الشريف، وانتصب لتحرير ذلك، وفى خدمته جماعة من الكتاب، ولم يعتمد فيه على ناظر المملكة الطرابلسية شرف الدين يعقوب الحموى، ولما تكامل ذلك حضر القاضى شرف الدين يعقوب ناظر المملكة الحلبية ومعه المكتوب إلى الأبواب السلطانية، وجلس القاضى فخر الدين ناظر الجيوش ومن معه من المباشرين، وانتصبوا لقسمة الإقطاعات وتقرير الخواص، وأفراد جهات القلاع والحصون، وكلت المملكة، فكمل ذلك فى شهر رمضان [3] من السنة واستقر لاستقبال شهر رمضان فى الهلالى والخراجى لاستقبال فعل [3] سنة سبع عشرة وسبعمائة وتوفر بسبب هذا الرّوك ما أقيم عليه ستّة أمراء أصحاب طبلخاناه وثلاثة أمراء أصحاب عشرات، وخمسون نفرا من البحرية والحلقة، ورسم بإبطال جهة الأفراج والسجون، وغير ذلك بالمملكة الطرابلسية فأبطلت، وجملة ذلك نحو مائة ألف درهم وعشرة آلاف درهم فى كل

_ [1] هذا العنوان مكانه بياض فى ك، والمثبت من ص، وف هذا الروك فى 717 هـ. [2] فى ك «النصرية» والمثبت من ص، وف. [3- 3] ما بين الرقمين إضافة من ص، وف وانظر السلوك 2/1: 177.

سنة، رسم أن يبنى بقرى النصيرية فى كل قرية مسجد ويفرد من أراضى القرية رزقة [1] برسم المسجد، وتمنع النصيرية من الخطاب ومعناه أن الصبى إذا بلغ الحلم وأنس منه الرشد يتطاول إلى المخاطبة ويتوسل إلى أبيه وقرائبه [2] فى ذلك مدة، فيجمعون له مجتمعا [3] ، يجتمع فيه أربعون من أكابرهم، ويذبح هو أووليه رأس بقر وثلاثة أرؤس من الغنم، ويفتح لهم خابيه من الخمر فيأكلون ويشربون، فإذا خالطهم الشراب أخذ كل واحد منهم يحكى حكاية عمن خوطب، وباح بما خوطب به أنه قطعت يده، أو عمى أو سقط من شاهق فمات أو ابتلى بعاهة، كل ذلك تحريض للمخاطب على كتمان ما يودع إليه من الذهب. فإذا استوثق منه تقدّم إليه المعلم فحلّفه أربعين يمينا على كتمان ما يوجب إليه، ثم يوضح له الخطاب وكيفيته على ما نقل بإلهيّة [4] على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وأن محمدا بن عبد الله كان حجابا عليه بواسطة جبريل، ويسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيد صندل [5] ويرفع عن المخاطب التكليف وعرّفه [6] أن لا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج إلا إلى مكان يزعمون أن فيه ضريح على بن أبى طالب رضى الله عنه، وأن الروح الإلهى الذى كان فيه ينتقل فى واحد واحد [7] وأنه الآن فى هذا العصر فى رجل يسميه المخاطبه ويعرفه بأن يقف عند ما يأمره به وينهاه عنه، ويحل له ويحرم عليه، ثم يعرفه أن لا غسل من جنابة، ويأخذ عليه العهد أن لا ينصح مسلما فى أكل ولا شرب ولا يسايره ولا يعامله، ويعرفه أن مال المسلمين فئ له إن استطاع ولهم سلام بينهم يعرف بعضهم بعضا به عند المصافحة والمكالمة له. وأخبرنى من أثق به فى هذه السنة، أن الذى تزعم النصيرية أن الروح الإلهّى حلّ به رجل اسمه شرف، وهو رئيس قرية سلغنو [8] من عمل صهيون.

_ [1] الرزقة: هو إيراد وغلة الأرض وتوزع شاهرة للإنفاق منها على مصالح المسجد وكافة شئونه- وانظر السلوك 2/1: 178 فقد أشار اختصار ذلك. [2] كذا فى الأصول. والمراد أقاربه. أما قرائب فجمع قريبة. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «تجمعا» . [4] فى ك «بإله» وفى ص «تأهه» . [5] هذا اللفظ زيادة من ص. [6] فى ك «وعزمه» والمثبت من ص، وف. وفى السلوك 2/2: 936 «ويعرفه» . [7] هذا اللفظ من ص. [8] كذا فى الأصول، والسلوك 2: 936. ولم ترد فى معجم البلدان.

ومن ظريف ما بلغنى عن شرف هذا أن بعض أهل تلك الناحية مرض فجاءه ولد المريض وسأله أن يعافى أباه فوعده بذلك، وأن أباه لا يموت فى هذه المرضة فاشتد به الوجع [106] فعاوده فأجابه بمثل ذلك، ثم مات المريض، فجاءه ابنه وقال له: لا أدعك حتى تعيده حيّا كما وعدتنى فقال له شرف: دع هذا فإن الدولة ظالمة ولا تفتح هذا الباب فإنه يؤدى إلى إلزامنا بإحياء من أرادوا إحياءه ممن يموت. وأخبرنى المخبر أنّ شرفا هذا المذكور فيه كرم نفس وخدمة لمن يرد عليه من الأضياف وغيرهم. ولما رسم بإبطال ما ذكرناه وبناء المساجد بقرى النّصيريّة كتب مرسوم شريف سلطانى من إنشاء القاضى كمال الدين بن الأمير مضمونه. بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله الذى جعل الدين المحمدىّ فى أيامنا الشريفة قائما على أثبت عماد واصطفانا لإشادة أركانه وتنفيذ أحكامه من بين العباد، وسهل علينا من إظهار شعائره ما رام من كان قبلنا تسهيله فكان عليه صعب الانقياد، وادّخر لنا من أجور نصره أجلّ ما يدّخر ليوم يفتقر فيه لصالح الاستعداد، نحمده على نعم بلغت من إقامة منار الحق المراد، وأخمدت نار الباطل بمظافرتنا ولولاها لكانت شديدة الاتقاد [1] ونكّست رءوس الفحشاء فعادت على استحياء إلى مستسنّها أقبح معاد. ونشكره على أن سطّر فى صحائفنا من غرر السّير ما تبقى بهجته ليوم المعاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يجدها العبد يوم يقوم الأشهاد، وتسرى أنوار هديها فى البرايا فلا تزال آخذه فى الازدياد ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه الله بالإنذار ليوم التناد والإعذار إلى من قامت عليه الحجة بشهادة الملكين فأوضح له سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- الذين منهم من ردّ أهل الرّدّة إلى الدين القويم أحسن ترداد [2] ومنهم من عم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سائر العباد والبلاد، ومنهم من بذل ماله للمجاهدين ونفسه فى الجهاد، ومنهم من دافع عن الحق فلا برح فى جدال عنه وفى جلاد صلاة تهدى إلى السداد ويقوّم المعوج وتثقف [3] المياد، وسلم تسليما كثيرا وبعد

_ [1] فى الأصول «الانقياد» والمثبت من المرجع السابق 2: 937. [2] فى الأصول «رداد» . [3] فى الأصول «ويقف المناد» والمثبت من السلوك 2: 937 ملحق.

فإن الله تعالى منذ ملكنا أمور خلقه، وبسط قدرتنا فى التصرف فى عباده، والمطالبة بحقه، وفوّض إلينا القيام بنصرة دينه، وفهّمنا أنه تعالى قبض قبل خلق الخلائق قبضتين فرغبنا أن نكون من قبضة يمينه، وألقى إلينا مقاليد المماليك، وأقام [1] الحجة علينا بتمكين البسطة [1] وعدم التشاقق فى ذلك ومهّد لنا من الخير ما على غيرنا توعّر، وأعد [2] لنا من النصر ما أجرانا فيه على عوائد لطفه، لا عن مرح فى الأرض ولا عن خدّ مصعر وألهمنا إعلاء كلمة الإسلام، وإعزاز الحلال وإذلال الحرام، وأن تكون كلمة الله هى العليا وأن لا نختار علي الدار الآخرة دار الدنيا، وأن ندور مع الحقّ حيث دار، ونرغب عن هذه الدار بما أعدّه الله من جنّاته فى تلك الدار، فلم نزل [3] نقيم للدين شعارا ونعفى المنكر [4] ونعلن فى النصيحة لله ورسوله ونسرّ إسرارا، ونتتبع أثر منكر نعفّيه، وممطول بحقه نوفّيه ومعلم قربه نشيّده [5] ومخذولا استظهر عليه الباطل نؤيّده، وذا كربة نفرّجها وغريبة فحشاء استطردت بين أدواء الحيل نخرجها وميتة سيئة تستعظم النفوس زوالها فنجعلها هباء منثورا، وجملة عظيمة أسست على غير التقوى مبانيها فيحطمها كرمنا إذا الجزاء عنها كان موفورا. فآستقصينا ذلك فى ممالكنا الشريفة مملكة مملكة واستطردنا فى إبطال كل فاحشة موبقة مهلكة، فعفّينا من ذلك بالديار المصرية ما شاع خبره، وظهر بين الأنام أثره، وطبّقت محاسنه الآفاق ولهجت به ألسنة الرعايا والرفاق، من مكوس أبطلناها، وجهات سوء عطّلناها، ومظالم رددناها إلى أهلها، وظلمة زجرناها عن ظلمها وغيها وبواق تسامحنا بها وسمحنا وطلبات خففنا عن العباد بتركها وأرحنا، ومعروفا أقمنا دعائمه وبيوتا لله عزّ وجلّ آثرنا منها كل نائية، ثم بثثنا ذلك فى سائر الممالك الشامية المحروسة، وجنينا ثمرات النصر من شجرات العدل التى هى بيد يقظتنا مغروسة» .

_ [1- 1] ما بين الرقمين مضطرب فى الأصول. والمثبت من السلوك 2/938 ملحق. [2] كذا فى ك، وف. وفى ص «وأعز» . [3] فى الأصول فلم يزل يقيم» والمثبت يستقيم مع السياق. [4] فى ك «ونصفى» والمثبت من ص، وف. [5] وفى السلوك 2: 938- ملحق «ويعلم حق قرية يشيده» .

ولما اتصل بعلومنا الشريفة أن بالمملكة الطرابلسية آثار سوء ليست فى غيرها ومواطن [107] فسق لا يقدر غيرنا على دفع ضررها وضيرها، ومظان آثام يجد الشيطان فيها مجالا فسيحا، وقوى لا يوجد بها من [1] كان إسلامه مقبولا ولا من كان دينه [1] صحيحا، وخمورا يتظاهر بها، ويتّصل سبب الكبائر بسببها، وتشاع فى الخلائق تجاهرا وتشاع على رءوس الأشهاد فلا يوجد لهذا المنكر منكرا، ويحتج فى ذلك [2] بمقررات سحت لا تجدى نفعا، وتبقى بين يدي آخذها كأنها حية تسعى [2] . ومما أنهى إلينا أن بها حانة عبّر عنها بالأفراح قد تطاير شررها، وتفاقم ضررها، وجوهر فيها بالمعاصى وآذنت- لولا حلم الله وإمهاله- بزلزلة الصياصى [3] وغدت لأولى الأهوية [4] مجمعا، ولذوى الفساد مربعا ومرتعا، يتظاهر فيها بما أمر بستره من القاذورات، ويؤتى ما يجب تجنبه من المحذورات، ويسترسل فى الانشراح فيها إلى ما يؤدى إلى غضب الجبار وتتهافت النفوس بها كالفراش على الاقتحام فى النار. ومنها أن السجون إذا سجن بها أحد يجمع عليه بين السجن وبين الطلب وإذا أفرج عنه ولو فى يومه- انقلب إلى أهله من الخسارة أسوأ [5] منقلب، فهو لا يجد سرورا بفرجه ولا يحمد [6] عقبى مخرجه. ومنها أن بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكانها يعرفون بالنّصيريّة لم يلج الإسلام لهم قلبا ولا خالط لهم لبّا، ولا أظهروا له بينهم [7] شعارا، ولا أقاموا له منارا، بل يخالفون أحكامه، ويجهلون حلاله وحرامه، ويخلطون ذبائحهم بذبائح المسلمين، ومقابرهم بمقابر أهل الدين، وكل ذلك

_ [1- 1] ما بين الحاصرتين من ملحق السلوك 2: 939. [2- 2] ما بين الحاصرتين من ملحق السلوك 2: 939. [3] الصياصى: الحصون وكل ما يمتنع به (محيط المحيط) . [4] المراد: أولى الأهواء. [5] كذا فى ك، وف. وفى ص «سوء» . [6] فى ك «لا يجد» والمثبت من ص، وف. [7] فى الأصول «لهم بينه شعارا» والمثبت من ملحق السلوك 2: 939.

فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوى

مما يجب ردعهم عنه شرعا، ورجوعهم فيه إلى سواء السبيل أصلا وفرعا، فعند ذلك رغبنا أن نفعل فى هذه الأمور ما يبقى ذكره مفخرة على ممرّ الأيام وتدوم بهجته بدوام دولة الإسلام ونمحو منه فى أيامنا الشريفة ما كان على غيرها عارا، ونسترجع للحق من الباطل ثوبا طالما كان لديه معارا ونثبت فى سيرة [1] دولتنا الشريفة عوارف لا تزال مع الزمن تذكر ونتلو على الأسماع قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [2] .) فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوى السلطانى الملكى الناصرى- لا زال بالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا وزاجرا، والامتثال لأوامر الله مسارعا ومبادرا- وأن يبطل من المعاملات بالمملكة الطرابلسية ما يأتى ذكره، وهو جهات الأفراح المحذورة بالفتوحات خارجا عما لعله يستقر من ضمان الفرح الخيّر [3] وتقديرها سبعون ألف درهم، السجون بالمملكة الطرابلسية خارجا عن سجن طرابلس بحكم أنه أبطل بمرسوم شريف متقدم التاريخ، وتقديرها عشرة آلاف درهم سخر [4] الأقصاب المحدث ما بين أقصاب الديوان المعمور التى كان فلاحو الكورة [5] بطرابلس يعملون بها، ثم أعفوا عن العمل، وقرر عليهم فى السنة تقدير ألفى درهم أقصابا؛ أقصاب الأمراء بحكم أن بعض الأمراء كانت لهم جهات تزرع الأقصاب، وقدروا على بقية فلاحيهم العمل بها أو القيام بنظير أجرة العمل، وتقدير ذلك، ثلاثة آلاف درهم، عفاية النيابة بكورة طرابلس وأنفه [6] البثرون [7] وما معه

_ [1] فى ك «فى سبق» والمثبت من ص، وف. [2] سورة النحل آية 90. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «الحر» . [4] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 151 «مقرر الأقصاب» . [5] الكورة: كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها تلك الكورة (معجم البلدان 1: 54 بتحقيق فريد الجندى) . [6] أنفه: بليدة على ساحل بحر الشام شرقى جبل صهيون بينهما ثمانية فراسخ (المرجع السابق 1: 322) وفى تقويم البلدان 29 «أنفه الشام: قبلها جبيل وبعدها طرابلس على ساحل الشام. [7] البثرون: حصن بين جبيل وأنفة على ساحل الشام (معجم البلدان 1: 402) .

بحكم أن المذكورين كانوا يبيتون على المراكز بالبحر، فلما سدّت المراكز بالعساكر المنصورة قرر علي كل نفر فى السنة ستة دراهم، وتقدير ذلك عشرة آلاف درهم حق الديوان بصهيون [1] وبلاطنس [2] عمن كان يعانى حصيها [3] وتقدير متحصل ذلك ثلاثة الآف درهم. هبة البيادر بنواحى الكهف، مستجدة مما كان يستأدى عن كل فدان ثلاثة دراهم، وتقدير متحصله ألف درهم ضمان المستغل بطرابلس مما كان أولا بديوان النيابة بالفتوحات ثم استقر فى الديوان المعمور [108] فى شهور سنة ست عشرة وسبعمائة وتقديره أربعة الآف درهم. ما استجد فى إقطاعات بعض الأمراء على الفلاحين مما لم تجربه عادة من حقّ حشيش وملح وضيافة، وتقديره ستة آلاف درهم فليبطل ذلك على مرّ الأزمنة والدهور إبطالا باقيا إلى يوم النشور، لا يطلب ولا يستأدى ولا يبلغ الشيطان فى بقائه مرارا وليقرأ مرسومنا هذه على المنابر ويشاع ويستجلب لنا به الأدعية الصالحة فإنها نعم المتاع. وأما النصيرية فليعمّ فى بلادهم بكل قرية مسجد وليطلق له من أرض القرية المذكورة قطعة أرض تقوم به، وبمن يكون فيه للقيام بمصالحه على حسب الكفاية، بحيث يستنيب الجناب العالى الأميرى الكبيرى العالمى العادلى الزعيمى الكافلى الممهدى المشيّدى الذخرى الشهابى نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية والحصون المحروسة ضاعف الله نعمته- من جهته من يثق إليه لأفراد الأراضى المذكورة، وتحديدها وتسليمها لأئمة المساجد المذكورة، وفصلها عن أراضى المقطعين، ويعمل بذلك أوراق ويخلّد بالديوان المعمور حتى لا يبقى لأحد من المقطعين فيها كلام، وينادى فى

_ [1] صهيون: حصن حصين من أعمال سواحل بحر الشام من أعمال حمص لكنه ليس بمشرف على البحر. وانظر معجم البلدان 3: 496. [2] بلاطنس: حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب (معجم البلدان 1: 566) . [3] أى إحصاؤها.

المقطعين وأهل البلاد المذكورة بصورة ما رسمنا به فذلك وكذلك رسمنا أيضا بمنع النصيرية المذكورين من الخطاب وأن لا يمكنوا بعد ورود [1] مرسومنا هذا من الخطاب جملة كافة [2] وتؤخذ الشهادة على أكابرهم، ومشايخ قراهم بأن لا يعود أحد إلى التظاهر بالخطاب، ومن تظاهر به [3] قوتل أشد مقاتلة فلتعتمد مراسمنا الشريفة ولا يعدل عن شئ منها، ولتجر المملكة الطرابلسية مجرى بقيّة الممالك المحروسة فى عدم التظاهر بالمنكرات وتعقبه آثار الفواحش وإقامة شعائر الدين القويم فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [4] والاعتماد على الخط الشريف أعلاه إن شاء الله عز وجل. كتب فى السابع من شوال سنة سبع عشرة وسبعمائة حسب المرسوم الشريف والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. هذا ما تضمنه المرسوم السلطانى ومنه نقلت وقد كانت كتبت فتيا فى أمر النصيرية وتضمنت اعتقادهم وما هم عليه، وأجاب عن ذلك الشيخ تقى الدين ابن تيمية، وقد رأينا أن نذكر نص الفتيا والجواب فى هذا الموضع، لما فى ذلك بيان ما تعتقده هذه الطائفة الملعونة، والذى كتب هذه الفتيا التى تذكر، شهاب الدين أحمد بن محمود بن مرى الشافعى ونسختها بعد البسملة. ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضى الله عنهم أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين وإخماد [5] شغب المبطلين، فى النصيرية القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح، وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور، والجنة والنار فى غير الحياة الدنيا وبأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء [6] وهى: على، وحسن، وحسين، ومحسن، وفاطمة، فذكر هذه الأسماء الخمسة

_ [1] هذا اللفظ من ص. [2] فى الأصول «كافية» والمراد جملة كلهم لا يستثنى منهم أحد. [3] هذا اللفظ من ص. [4] سورة البقرة آية 181. [5] فى الأصول «وإخمال» والمثبت من مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 35: 145. [6] فى الأصول «أشياء» والمثبت عن المرجع السابق.

على رأيهم يجزيهم عن الغسّل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها وبأن الصيام عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم فى كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إيرادهم [1] وبأن إلههم الذى خلق السموات والأرض هو، علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فهو عندهم إله فى السماء والإمام فى الأرض، وكانت الحكمة [109] فى ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أنه يؤنس خلقه وعبيده وليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه. وبأن النصيرى عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم، ويزوّجونه من نسائهم حتى يخاطبه معلمه. وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلّفوه على كتمان دينه ومعرفة شيخه [2] وأكابر أهل مذهبه وعلى أن لا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربّه وإمامه بظهوره فى أكواره [3] وأدواره فيعرف انتقال الاسم والمعنى فى كل حين وزمان فالاسم عندهم فى أول الناس آدم، والمعنى شيث [4] والاسم هو يعقوب والمعنى يوسف، ويستدلون على هذه الصورة- كما يزعمون- بما فى القرآن العزيز حكاية عن يعقوب ويوسف عليهما السلام، فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن يتعدى منزلته فقال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [5] وأما يوسف فإنه كان المعنى المطلوب، فقال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [6] فلم يعلّق الأمر بغيره لأنه علم أنه هو الإله المتصرف، ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون يوشع [7] ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره. وهل ترد الشمس إلا لربها؟! ويجعلون سليمان هو الاسم

_ [1] كذا فى الأصول. وفى المرجع السابق «إبرازهم» . [2] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى «مشائخه» . [3] أكواره وأدواره: أى طبائعه وسجاياه وأطواره. وفى مجمع الفتاوى «أنواره» . [4] شيث: هو ثالث أولاد آدم عليه السلام. ووصيه. وانظر فى عرائس المجالس: قصة هابيل وقابيل: وذكر إدريس عليه السلام ص 47- 49. [5] سورة يوسف آية 98. [6] سورة يوسف آية 92. [7] هو يوشع بن نون صاحب موسى أو فتاه كما ورد فى قصته من سورة الشعراء آية رقم 63- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3: 349- وانظر فى رد الشمس له البداية والنهاية 6: 318.

وآصف [1] هو المعنى ويقولون سليمان عجز عن إحضار عريش بلقيس، وقدر عليه آصف؛ لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعنى القادر المقتدر، وقد قال قائلهم: هابيل سام يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر. ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: محمد هو الاسم وعلى هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب فى كل زمان إلى وقتنا هذا. فمن حقيقة الخطاب والدين عندهم أن يعلم أنّ عليا هو الرّبّ وأن محمدا هو الحجاب، وأن سليمان [2] هو الباب وأنشدنا بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه فى شهور سنة سبعمائة فقال: أشهد أن لا إله إلا ... حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا ... محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا ... سليمان [2] ذو القوة المتين ويقولون إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والإثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة [3] من كتبهم الخبيثة فإنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب فى كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار، ويقولون إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ويليه [4] فى رتبة الإبليسية أبو بكر ثم عثمان رضى الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبتهم على أقوال الملحدين، وانتحال أنواع الغالين [5] والمفسدين فلا يزالون موجودين فى كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب. ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة.

_ [1] هو آصف بن برحيا بن أشعيا بن ملكيا وكان صدّيقا يعلم اسم الله الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وانظر عرائس المجالس ص 318، 319. [2- 2] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى 35: 147 «سلمان» . [3] فى الأصول «ومعلومهم» والمثبت من المرجع السابق. [4] فى الأصول «وثلاثة» وفى السلوك- ملحق الدكتور زيادة 2: 943 «وثلثه» والمثبت من مجموع الفتاوى 35: 147. [5] كذا فى الأصول، وملحق السلوك 2: 943. وفى مجموع الفتاوى 35: 147 «الضالين» .

وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام، فهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كلّ من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في هذا الزمان، لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الفرنج [المخزولين] [1] على البلاد الساحلية، فلما صارت بلاد الإسلام [2] انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جدا. فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوّج منهم أو يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من أنفحة ذبيحتهم؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟ وهل يجوز استخدامهم فى ثغور المسلمين وتسليمها إليهم، أم يجب على ولى الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من المسلمين الكفاة [3] ؟ وهل يأثم إذا أخر طردهم؟ أم يجوز له التمهل [مع أن فى عزمه ذلك] [4] وإذا استخدمهم وقطعهم، أولم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم؟ وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى فأخره ولى الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك، هل يجوز له فعل هذه الصور؟ أم يجب عليه؟ [5] وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم فئ حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم ولى الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وتحذير أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأمرهم [6] بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل- وهم الذين [7] يلونه من الكفار هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدىّ والترصد لقتال التتار فى بلادهم وهدم بلاد سيس، وديار الفرنج على أهلها أم هذا أفضل؟ وهل يعدّ مجاهد النّصيريّة المذكورين مرابطا؟ [110] ويكون أجره كأجر المرابط فى الثغور

_ [1] إضافة من المرجع السابق. [2] عبارة المرجع السابق «فلما جاءت أيام الإسلام» . [3] فى السلوك ملحق الدكتور زيادة 2: 943 «الأكفاء» . [4] ما بين الحاصرتين من مجموع الفتاوى 35: 148. [5] إضافة عن المرجع السابق. [6] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى 35: 148 «وألزامهم» . [7] إضافة عن المرجع السابق.

على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكثر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهّر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم، وإظهار الإسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدى بعضهم إلى الإسلام، وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم ناسا مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال؟ وما قدر أجر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه، والمرابط له والعازم عليه؟ وليبسطوا القول فى ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شئ قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فآجاب الشيخ تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحّرانى عن هذه الفتيا. الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين، مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم فى الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا بنهى، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين [1] قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفه، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند [علماء] [2] المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها يدّعون أنها علم الباطن، من جنس ما ذكره السائل ومن غير هذا الجنس، وأنهم ليس لهم حدّ محدود مما يدّعونه من الإلحاد فى أسماء الله وآياته وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائح الإسلام بكل طريق، مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكره السائل؛ من جنس قولهم: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، و «الصيام المفروض» كتم أسرارهم، و «حج البيت العتيق» زيارة شيوخهم وإن [3] «يدا أبى لهب» هما أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وإن النبأ العظيم والإمام المبين على بن أبى طالب رضى الله عنه، ولهم فى معاداة

_ [1] فى ك «المسلمين» والمثبت من ص، وف، ومجموع الفتاوى. [2] إضافة من مجموع الفتاوى 35: 149. [3] «إن يدا أبى لهب» برفع يدى على الحكاية. أى حكاية وما ورد فى القرآن.

الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين، كما قتلوا مرّة الحجّاج وألقوهم فى بئر زمزم وأخذوا مرّة الحجر الأسود فبقى عندهم مدّة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى [1] وصنفوا كتبا كثيرة بها ما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا فى كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة، والإلحاد الذى هم فيه أكبر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام، وما ذكره السائل فى وصفهم قليل من الكثير الذى يعرفه العلماء فى وصفهم. ومن المعلوم عندهم أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدوّ للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم [2] فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى؛ بل ومن أعظم المصائب عندهم [2] انتصار المسلمين على التتار ومن أعظم أعيادهم إذا استولى- والعياذ بالله تعالى- النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدى المسلمين حتى جزيرة قبرص يسّر الله فتحها من حين فتحها المسلمون فى ولاة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، فتحها معاوية بن أبى سفيان، ولم تزل تحت حكم المسلمين إلى أثناء المائة الرابعة فإن هؤلاء المحاربين لله ورسوله كثروا بالسواحل وغيرها، فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب فى ذلك. ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين فى سبيل الله تعالى؛ كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر، فإنهم [3] كانوا مستولين عليها نحو مائتى سنة، واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية.

_ [1] إضافة من مجموع الفتاوى 35: 150. [2- 2] ما بين الرقمين إضافة من الفتاوى 35: 151. [3] الضمير هنا يعود على الفاطميين ودولتهم فى مصر (السلوك- هامش الدكتور زيادة 2/946) .

ثم إن التتار ما دخلوا ديار الإسلام، وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك الأمصار [1] الا بمعاونتهم ومؤازرتهم، فإن منجّم هولاكو الذى كان وزيره وهو النّصير الطّوسى [2] كان وزيرا لهم بالموت [3] وهو الذى أمرهم بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء ولهم [4] ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون [111] الملاحدة، وتارة يسمون القرامطة [5] وتارة يسمون الباطنيّة، وتارة يسمون الإسماعيلية وتارة يسمون النّصيريّة، وتارة يسمون الخرمية [6] وتارة يسمون المحمرة [7] ، وهذه الأسماء منها ما يعمّهم ومنها ما يخصّ بعض أصنافهم كما أن الإسلام والإيمان يعمّ المسلمين، ولبعضهم اسم يخصّه، إما لنسب، وإمّا لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك. وشرح مقاصدهم يطول كما قال بعض العلماء فيهم ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض، وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبىّ من الأنبياء والمرسلين، لا نوح ولا إبراهيم ولا موسى، ولا عيسى، ولا محمد صلوات الله عليهم، ولا بشئ من الكتب [8] المنزلة؛ لا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن، ولا يقرّون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجرى الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار.

_ [1] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى 35: 151 «ملوك المسلمين» . [2] هو المولى نصير الدين محمد بن محمد بن حسن الطوسى. وكان وزير الإسماعيلية بقلعة الموت، واتصل بهولاكو ودخل معه بغداد كمستشار له. توفى سنة 672 هـ (البداية والنهاية 13: 267، وشذرات الذهب 5: 339. [3] الموت: قلعة حصينة فى جبال البرز شمال غربى قزوين، اتخذها الإسماعيلية حصنا لهم بقيادة الحسن الصباح المتوفى سنة 518 هـ (1124 م) وكانت مركز قيادة لهذه الجماعة (انظر، طه أحمد شرف: دولة النزارية، ص) Browne.Lit.Hist.OfPersia ,Vol.2 ,P 206 ((80 هذا واللفظ مضاف من شذرات الذهب 5: 339. [4] فى ك «وله» والمثبت من ص، ومجموع الفتاوى 35: 152. [5] القرامطة: أتباع حمدان قرمط، وحركتهم دينية سياسية اجتماعية، استولوا على كثير من البلاد، واستولوا على مكة المكرمة، وأخذوا الحجر الأسود، وقتلوا كثيرا من المسلمين فى المسجد الحرام، وكانوا بقيادة أبى طاهر سليمان بن أبى ربيعة الحسن القرمطى وكان ذلك فى سنة 317 هـ وأعيد الحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة فى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة 339 هـ. بتوجيه من الخليفة الفاطمى المنصور إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبى القاسم محمد بن عبد الله المهدى. (ابن الأثير: الكامل، حوادث 317 وما بعدها، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 91) . [6] الخرمية: أتباع بابك الخرمى، وهى طائفة نشأت فى خراسان، واشتد نفوذها بعد مقتل أبى مسلم الخراسانى، فثارت على الدولة العباسية، وقتل زعيمها فى عهد المعتصم العباسى (البلخى: كتاب البدء والتاريخ، ج 5 ص 134، ج 6 ص 115. [7] المحمرة: طائفة من الشيعة تميزت بالملابس الحمراء، فقيل المحمرة. [8] فى ص، ومجموع الفتاوى 35: 152 «كتب الله» .

وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين والإلهيين، وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النّور [1] ويضمون إلى ذلك الرفض، ويحتجون لذلك من كلام النبوات، إما بقول مكذوب ينقلونه؛ كما ينقلون [2] عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول ما خلق الله العقل . والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، ولفظه أن الله لما خلق العقل قال، له أقبل فقال، له أدبر. فأدبر، فيحرفون لفظه ويقولون أول ما خلق الله العقل ليوافق قول المتفلسفة اتباع أرسطو فى أن [3] أول الصادرات [4] عن واجب الوجود هو العقل، وإمّا بلفظ أنابت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم، فإنهم من أئمتهم، وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين، وراج عليهم حتى صار ذلك فى كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم إظهار دعوتهم الملعونة التى يسمونها [5] الدعوة الهادية. وهى درجات متعددة، ويسمون النهاية البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى، والاستهزاء به وبمن يقّر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله فى أسفل رجله، وفيه أيضا جحد شرايعة ودينه وما جاء به الأنبياء، ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من أحسن فى طلبها ومنهم من أساء فى طلبها حتى قتل. ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول، ويجعلون المسيح من القسم الثانى، وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة، والصوم والحج وتحليل نكاح ذوى المحارم وسائر الفواحش ما يطول شرحه. ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا، وهم إذا كانوا فى بلاد المسلمين التى يكون [6] فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم.

_ [1] فى الأصول «التورية» وفى السلوك- ملحق- «التوراة» والمثبت من مجموع الفتاوى 35: 153. [2] فى ك «يتلقونه كما يتلقون، والمثبت من ص، وف، والمرجع السابق. [3] لفظ «أن» من ص، والسلوك- ملحق- 2: 947. ومجموع الفتاوى 35: 153. [4] فى ك «المصادرات» والمثبت من ص والمرجعين السابقين. [5] ما بين الحاصرتين إضافة من مجموع الفتاوى 35: 153. [6] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى 35: 154 «يكثر فيها» .

وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا يجوز مناكحتهم ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم. وأما الجبن المعمول بأنفحتهم ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر أنفحة الميتة، وكأنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج، الذين يقال عنهم إنهم لا يذكون الذبائح، فذهب أبو حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايتين أنه يحل هذا الجبن، لأن أنفحة الميتة طاهرة على هذا القول، لأن الأنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس فى الباطن لا ينجس، ومذهب مالك والشافعى، وأحمد فى الرواية الأخرى: أن هذا الجبن نجس؛ لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة، لأن لبن أنفحتها عندهم نجس، ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة. وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم إنما أكلوا جبن المجوس وأصحاب القول الثانى نقلوا أنهم إنما أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى فهذه مسألة اجتهاد للمقلد أن يقلد من يفتى بأحد القولين. وأما أوانيهم وملابسهم فكأوانى المجوس وملابس المجوس على ما عرف من مذاهب الأئمة والصحيح فى ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها فإن ذبائحهم ميتة فلا بد أن يصيب أوانيهم [112] المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فيتنجس بذلك. فأما الآنية التى لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التى لا يضعون فيها طبيخهم أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، (وقد توضأ عمر بن الخطاب) [1] رضى الله عنه من جرة نصرانية فما شك فى نجاسته ولم يحكم بنجاسته بالشك ولا يجوز دفنهم بين [2] مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم؛ فإن الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين كعبد الله بن أبىّ ونحوه وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام، والجهاد مع المسلمين ولا يظهرون مقالة تخالف دين المسلمين، لكن يسرون ذلك فقال الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ [3] فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد؟

_ [1] الإضافة من مجموع الفتاوى 35: 154. [2] كذا فى الأصول. وفى مجموع الفتاوى «فى» . [3] سورة التوبة الآية 84.

وأما استخدام مثل هؤلاء فى ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعى الغنم فإنهم من أغش [1] الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذى يكون فى العسكر، فإن المخامر قد يكون له غرض، إما مع أمير العسكر وإما مع العدو وهؤلاء لهم غرض مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولى الأمر وإخراجهم عن طاعته. ويجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المعاملة، ولا يتركون فى ثغر ولا فى غير ثغر، وضررهم فى الثغور أشدّ. وأن يستخدموا بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النّصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولّى الأمر لا يستخدم من يغشّه وإن كان مسلما، فكيف يستخدم من يغشه ويغش المسلمين كلهم؟! ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، بل أى وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك. وإما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وأما أجرة المثل، لأنهم عوقدوا على ذلك، فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى، وإن كان فاسدا وجب أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجازة فهو من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد فلا يستحقون الا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شئ لهم، لكن دماؤهم [2] مباحة وكذلك أموالهم إذا لم يكن لهم ورثة من المسلمين وإن كان لهم ورثة من المسلمين فقد يقال إنهم بمنزلة المرتدين، والمرتد هل يكون ماله لورثته المسلمين؟ فيه نزاع مشهور. وقد يقال إنهم بمنزلة المنافقين، والمنافقون يرثهم ورثتهم المسلمون فى أصح القولين لكن هؤلاء المسئول عنهم لا يكاد يكون لهم وارث من المسلمين [2] وإذا أظهروا التوبة ففى قبولها منهم نزاع بين العلماء فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم.

_ [1] فى ك «أغر» والمثبت من ص، وملحق السلوك 2: 949، ومجموع الفتاوى 35: 155. [2- 2] ما بين الرقمين سقط من مجموع الفتاوى 35: 157.

ومن لم يقبلها لم تنقل إلى [1] ورثتهم من [2] جنسهم، فإن مالهم يكون فيأ لبيت المال، لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة إذ أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف ومن قد لا يعرف. فالطريق فى ذلك أن يحتاط فى أمرهم، ولا يتركون مجتمعين، ولا يمكّنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون بشرايع الإسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن ويترك بينهم من يعلّمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلّميهم، فإن أبا بكر الصديق رضى الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الرّدّة وجاءوا إليه قال لهم الصديق. اختاروا منّى إما الحرب المجلية وأما السلم المخزية؟ قالوا يا خليفة رسول الله هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السلم المخزية؟ قال تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ونغنم [3] ما أصبنا من أموالكم وتردّون ما أصبتم من أموالنا، وننزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتبعون أذناب الإبل، حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا يعذرونكم به فوافقه الصحابه فى ذلك إلا في تضمين قتلى المسلمين، فإن عمر بن الخطاب رضى الله قال: هؤلاء قتلوا فى سبيل الله وأجورهم على الله؛ يعنى هم شهداء فلادية لهم فاتفقوا على قول عمر فى ذلك. وهذا الذى اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، الذى تنازعوا فيه تنازع [113] فيه العلماء فذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن كما اتفقوا عليه آخر، وهو مذهب أبى حنيفه وأحمد فى إحدى الروايتين، ومذهب الشافعى وأحمد فى الرواية الأخرى: هو القول الأول. فهذا الذى فعله الصحابة، فأولئك المرتدين [4] بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع من أن يكون من أهل الخيل

_ [1] ما بين الحاصرتين من مجموع الفتاوى 35: 157. [2] فى الأصول «فمن» والمثبت من ملحق السلوك 2: 949، ومجموع الفتاوى 35: 157. [3] كذا فى الأصول. وفى المرجع السابق «ونقسم» . [4] فى ك «فأولئك المرتدون» والمثبت من ص، وف. وفى مجموع الفتاوى 35: 158 «بعد ردتهم» .

والسلاح والدروع التى يلبسها المقاتلة، فلا يترك فى الجند [1] كما لا يتّرك فى الجند [1] من يكون يهوديا ولا نصرانيا، [2] ويلزمون بشرائع [2] الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر، من كان من أئمة ضلّالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسيّر إلى بلاد المسلمين الذين ليس لهم بها ظهور فإما أن يهديه الله تعالى وإما أن يموت على نفاقه من غير مضرة المسلمين [3] . ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب فإن هؤلاء [4] من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء [4] حفظ لما فتح من بلاد الإسلام، وينبغى أن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح. وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم فى الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب. ويجب على كل مسلم أن يقوم فى ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم فى الجند والمستخدمين ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله تعالى، وقد قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ* [5] وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين،

_ [1- 1] ما بين الرقمين من ص، وف. [2- 2] ما بين الرقمين من ص، ومجموع الفتاوى 35: 158. [3] فى ك «المسلمين» والمثبت من ص، وف، ومجموع الفتاوى 35: 158. [4- 4] ما بين الرقمين من ص، ومجموع الفتاوى 35: 158. [5] سورة التحريم الآية 9.

والمعاون على كفّ شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم كما قال الله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [1] قال أبو هريرة رضى الله عنه: كنتم خير الناس للناس؛ تأتون بهم فى القيود والسلاسل حتى تدخلوهم فى الإسلام. فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله منهم سعد فى الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كفّ ضرره عن غيره. ومعلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو أفضل الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله تعالى» وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن فى الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض أعدها الله تعالى للمجاهدين فى سبيله» [2] وقال صلى الله عليه وسلم، «رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مجاهدا وجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتن» [3] والجهاد أفضل من الحج والعمرة كما قال تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [4] [والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين] [5] .

_ [1] سورة آل عمران الآية 110. [2] التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح 2: 17. [3] فى الأصول «الفتان» والمثبت من ملحق السلوك 2: 951. وفى مجموع الفتاوى 35: 160 «وأمن الفتنة» . [4] سورة التوبة الآيات 19- 22. [5] ما بين الحاصرتين من مجموع الفتاوى 35: 160.

ذكر ظهور رجل ادعى أنه محمد بن الحسن المهدى وقتله

ذكر ظهور رجل ادعى أنه محمد بن الحسن المهدى وقتله وفى سابع عشر ذى الحجة سنة سبع عشرة وسبعمائة ظهر رجل من أرض قرطياؤس من عمل جبلة فادعى أنه محمد بن الحسن المهدى، وقال للناس إنه [1] بينما هو يحرث إذ جاءه طائر أبيض فنقب جنبه وأخرج روحه منه، [114] ونقل إليه روح محمد بن الحسن. وصدقوه فيما ادعاه ودعاهم إلى طاعته فاجتمع عليه طائفة من النصيرية تقدير خمسة الآف رجل وأمرهم بالسجود له ففعلوا وأحل لهم شرب الخمر وترك الصلاة وأعلن هو وأصحابه بقولهم لا إله إلا على، ولا حجاب إلا محمد ورفع راية حمراء وشمعة كبيرة توقد بالنهار يحملها شاب أمرد ادعى أنه إبراهيم بن أدهم وأنه أجباه [2] وسمى [أخاه المقداد بن الأسود الكندى] [3] وأباه سلمان الفارسى وسمى آخر جبريل وكان يقول له، اطلع إليه فقل له كذا وكذا يشير إلى البارى جلّ وعلا وهو يزعمه على بن أبى طالب فيخرج ذلك المسمى جبريل عنه، ويغيب قليلا ثم يعود فيقول رأيتك أنت ثم جمع هذا الدعى أصحابه ودخل بهم مدينة جبلة فى يوم الجمعة بعد الصلاة الثانى والعشرين من الشهر، وفرق عليهم جماعته ثلاث فرق عليها، فرقة أتت من قبلى البلد مما يلى الشرق فخرج عليهم العسكر المقيم بجبلة فكسرهم وقتل منهم مائة وأربعة وعشرين نفرا واستشهد من المسلمين نفر يسير، وانهزمت هذه الفرقة الثانية التى أتت من قبلى البلد مما يلى الغرب على جانب البحر والفرقة الثالثة أتت من شرقى البلد لجهة الشمال، وكثروا على أهل البلد وكسروهم وهجموا على البلد ونهبوا الأموال وسبوا الحريم والأولاد وقتلوا جماعة من رءوس المسلمين بجبلة وأعلنوا بقول لا إله إلا علىّ ولا حجاب إلا محمد ولا باب الا سلمان وبسب أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ولعن هذه الطائفة، وجمع هذا الخارجىّ ما انتهبه أصحابه من جبلة [وقسّمه على أصحابه بقرية] [4] وجاء الأمير بدر الدين التاجى مقدم العسكر باللاذقية إلى

_ [1] هذا اللفظ من ص. [2] فى الأصول «أخاه» والمثبت عن ملحق السلوك 2: 951. [3] ما بين الحاصرتين إضافة يقتضيها السياق. [4] ما بين الحاصرتين مكان كلمة مطموسة، وهى اسم لقرية.

وفى هذه السنة فى يوم الخميس التاسع

جبلة فى آخر هذا اليوم وحماها ومنع الخارجىّ من العود إليها، وكان مما قاله الخارجّى الدعى لأصحابه إنه لا حاجة لكم إلى القتال بالسيوف ولا السلاح وإن الرجل منهم يشير إلى عدوّه بقضيب ريحان فينقطع هو وفرسه، فاتصل ذلك بالأمير شهاب الدين قرطاى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية فجرد إلى هذه الطائفة المارقة من العسكر الطرابلسىّ الأمير بدر الدين بيليك العثمانى المنصورى والأمير شرف الدين عيسى البرطاسى والأمير علاء الدين على بن الدربساك التركمانى فى ألف فارس، والتقوا بقرية من عمل جبلة بالجبل فاقتتلوا ساعة من النهار فانجلت الحرب عن قتل الدّعيّ ونحو ستمائة رجل من أصحابه وتفرق بقية ذلك الجمع، ثم استأمنوا فأمّنوا، وعادوا إلى أماكنهم واستمروا على عمل فلاحتهم وطفيت هذه الثائرة وكان بين خروج هذا الدعىّ وقتله خمسة أيام والله أعلم. وفى هذه السنة فى يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة توفى بدمشق قاضى القضاة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ أبى الربيع سليمان بن سومى الزواوى المالكى [1] وصلى عليه بعد صلاة الجمعة ودفن بمقبرة باب الصغير، ومولده فى سنة ست وعشرين وستمائة وقدم ثغر الإسكندرية فى سنة خمس وأربعين وستمائة قبل احتلامه كما حكى عن نفسه قال: ثم بلغنى وفاة أبى فى سنة سبع وأربعين فلم أعد إلى المغرب [2] واشتغل بالعلم وولى المناصب بالديار المصرية ثم ولى قضاء دمشق كما تقدم فى عاشر جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وستمائة، وحصل له ارتعاش من سنين كثيرة، ثم ثقل لسانه آخر عمره فعزل عن القضاء كما تقدم ومات عقيب عزله- رحمه الله تعالى. وفيها فى يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان توفى القاضى عماد الدين محمد بن القاضى صفى الدين محمد بن شرف الدين يعقوب النويرى وهو ابن

_ [1] هو قاضى القضاة جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبى الربيع سليمان بن سومى الزواوى المالكى. وجاء فى النجوم الزاهرة، والسلوك، وعقد الجمان «ابن سويد» وفى الدرر الكامنة وشذرات الذهب 6: 45 «سومر» وانظر هامش النجوم الزاهرة 9: 239. [2] كذا فى ص. وفى ك وف «الغرب» .

وتوفى القاضى الرئيس الفاضل شرف الدين

خال والدى [115] رحمهما الله وكانت وفاته بطرابلس، وهو يومئذ صاحب الديوان بها وولى قبل ذلك عدة أنظار منها: المملكة الصّفدية مرارا، ونظر المملكة الحموية، ونظر الكرك، وكان كريما شجاعا خيّرا اشتهر بالمكارم وبذل المال والإحسان إلى وليّه وعدوّه، فكان يستديم مودة صديقه ويستجلب خاطر عدوه ويستزيل ما عنده بمكارمه، وكان لا يدخر شيئا رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى الرئيس الفاضل شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب بن الصاحب جمال الدين فضل الله بن المجلى القرشى العدوى [1] العمرى نسبه متصل بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه متولى ديوان الإنشاء بدمشق وكان قبل ذلك يلى صحابة ديوان الإنشاء بالديار المصرية ثم نقل إلى دمشق وكانت وفاته بها فى يوم الثلاثاء الثانى [2] من شهر رمضان، ودفن بقاسيون ومولده فى سابع ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بدمشق وكان رجلا فاضلا أمينا على أسرار الدولة حافظا لها، يكتمها حتى عن أهله وأخصائه لا يتفوه بسر من أسرارها ولا يشير إليه. وولى ديوان المكاتبات بدمشق بعده القاضى الفاضل شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبى، وكان أحد كتاب الدّرج الشريف بالأبواب السلطانية فى ديوان البريد، ووصل إلى دمشق فى ثامن عشرين شوال وباشر الوظيفة. وتوفى فى آخر الليلة المسفر صباحها عن يوم الخميس رابع شهر رمضان القاضى [3] الرئيس الفاضل علاء الدين أبو الحسن على ابن القاضى الرئيس فتح الدين محمد بن القاضى الفاضل محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن على بن نجدة

_ [1] هو الرئيس شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب ابن جمال الدين فضل الله بن المجلى القرشى العدوى العمرى. هكذا فى النجوم الزاهرة 9: 240. [2] فى السلوك 2/1: 179 «ثالث رمضان» وانظر فوات الوفيات 2: 421، والدرر الكامنة 3: 42، والبداية والنهاية 14: 85، والدليل الشافى 1: 433. [3] هذا اللفظ من ص، وف، وشذرات الذهب 6: 46. ذيول العبر 94، والدرر الكامنة 3: 183.

السّعدى أحد أعيان كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب السلطانية، وأحد من يجلس بين يدى السلطان ويوقع نقله فى دار العدل الشريف ويوقع بين يدى نائب السلطنة الشريفة وكانت وفاته بداره بالقاهرة بدرب [1] شمس الدولة، ودفن بعد الظهر بتربتهم بالقرافة بجوار جامع أبيه، وكان- رحمه الله تعالى- حسن الإنشاء لم يرث ذلك عن كلالة، غزير المروءة، ظاهر الرئاسة أبّى النفس حسن الأخلاق والصحبة وقد ذكرنا من كلامه فى السفر الثامن من كتابنا هذا ما هو مترجم باسمه هناك وذكرت من أوصافه ما استغنى به عن إعادته، ولما مات نتجت قريحتى بأبيات رثيته بها، لولا التزامى أن لا أدوّن شعرا إلىّ لأوردتها، ورثاه القاضى شهاب الدين محمود الحلبى المذكور آنفا بقصيدة أولها. الله أكبر أىّ ظلّ زالا ... عن آمليه وأىّ طود مالا جاء منها أنعى إلى الناس المكارم والندا ... والجود والإحسان والإفضالا أنعى علاء الدين صدر زمانه ... خلقا وخلقا بارعا وجلالا ومهذبا ملأ القلوب مهابة ... والسمع فضلا والألف نوالا وتوفى الأمير بهاء الدين [2] آرسلان الدوادار فى الثالث والعشرين [116] من شهر رمضان وكان هو والقاضى علاء الدين المذكور صديقين، ومرضا فى وقت واحد بعلة واحدة وخلف بهاء الدين المذكور تركة طائلة استكثرها السلطان على مثله مع قرب مدته فى الوظيفة والإمرة رحمه الله تعالى. وتوفى الصدر الرئيس شرف الدين محمد ابن القاضى الرئيس جمال الدين إبراهيم بن الصدر شرف الدين عبد الرحمن ابن أمين الدين سالم بن الحافظ بهاء الدين أبى المواهب الحسن بن عبد الله بن محفوظ بن صصرى البعلى

_ [1] درب شمس الدولة: كان يعرف قديما بحارة الأمراء، وعند مجىء صلاح الدين إلى مصر أسكن فى هذا المكان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، فعرف به، وسمى بدرب شمس الدولة ولا زال كذلك حتى اليوم (خطط المقريزى 3: 59) . [2] فى ك «سلار» والمثبت من ص، وف، والوافى بالوفيات 8: 346، والدرر الكامنة 1: 372، والسلوك للمقريزى 2/1: 179، والدليل الشافى 1: 105، والنجوم الزاهرة 9: 241.

واستهلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة بيوم الأحد الموافق لتاسع برمهات

الدمشقى [1] ، وكانت وفاته فى يوم الجمعه السابع من ذى الحجة حاجا ملبيا محرما بظاهر مكة، ودفن ضحى يوم السبت يوم التروية بمقبرة الحجون على باب مكة- شرفها الله تعالى- وكان قد مرض ببدر، واستمر مريضا سبعة أيام، ومات وله خمس وثلاثون سنة وكان رحمه الله تعالى كثير المكارم والإنفاق والبر والعطاء أنفق أموالا كثيرة وبذل [2] جملة عظيمة فى المكارم، وكنت إذا قدمت دمشق استحى من كثرة تفضّله وخدمته، وأتجنب النزول عنده فيحضر إلىّ ويحلف علىّ وينقلنى إلى داره، ولا يزال يعاملنى بأنواع البر والإكرام والأدب والخدمة حتى انفصل عن دمشق فإذا فارقتها وتوجهت ركب معى وودعنى إلى ظاهر البلد حتى يبعد وارده وهو يأبى ذلك حتى أحلف عليه فيرجع وختم الله له بخير كثير بوفاته فى هذا المكان الشريف على هذه الحال- رحمه الله تعالى-. وتوفى الشيخ الفاضل (الأديب الكاتب) [3] شرف الدين محمد أحمد بن يعقوب بن إبراهيم الطيبى الأسدى [4] أحد كتاب الدرج بطرابلس فى السادس والعشرين من شهر رمضان وكان رجلا فاضلا أديبا شاعرا، وكان فى لسانه عجمة، وفى قلمه فصاحة رحمه الله تعالى. واستهلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة بيوم الأحد الموافق لتاسع برمهات فى هذه السنة فى أوائل صفر توجه القاضى كريم الدين [5] ناظر الخواص الشريفة السلطانية ووكيلها إلى الشام، فكان وصوله إلى دمشق فى يوم الإثنين سابع الشهر وتلقاه نائب السلطنة وأنزله عنده بدار السعادة، وأحضر من جهته إلى نائب السلطنة هدية جليلة المقدار تساوى جملة عظيمة وأحضر معه كتابا ببرود ليوقفها [6] على مصالح الجامع الذى عمره نائب السلطنة بالشام الأمير

_ [1] وانظر البداية والنهاية 14: 86، والعقد الثمين 1: 398، وإتحاف الورى 3: 159. [2] فى ك «ويزكى» والمثبت من ص، ف. [3] ما بين القوسين إضافة من ص، وف. [4] أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة 1: 336، والنجوم الزاهرة 9: 240. [5] أنظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 116، وشذرات الذهب 6: 63. [6] كذا بالأصول، ولعله يقصد جمع بردة وهى كساء من الصوف.

ذكر إرسال الصاحب أمين الدين إلى نظر المملكة الطرابلسية

سيف الدين تنكز وورد مثال السلطان إلى نائبه بقبول هديته بجملتها فقبلها وجهز له تقدمة لها قيمة كثيرة فلم يقبل كريم الدين منها غير إكديش [1] واحد وأعاد بقيتها وأقام بدمشق أربعة أيام وأمر بإنشاء جامع ينفق على عمارته من ماله- وهو بالقبيبات [2]- فحصل الشروع فى عمارته وعاد إلى الديار المصرية، وحدث فى غيبته بالأبواب السلطانية حوادث كانت من تقريراته، خرج إلى دمشق قبل إبرازها فنفدت فى غيبته، منها: إرسال الصاحب أمين الدين إلى طرابلس، وعزل الأمير بدر الدين محمد بن التركمانى عن شاد الدولة، وأعظم من ذلك إخراج الأمير سيف الدين طغاى إلى صفد سنذكر هذه الوقائع مفصلة [117] . ذكر إرسال الصاحب أمين الدين إلى نظر المملكة الطرابلسية وفى يوم الإثنين خامس عشر صفر من هذه السنة رسم السلطان بتفويض نظر المملكة الطرابلسية وما هو مضاف إليها إلى الصاحب أمين الدين عبد الله [3] وكان قد عزل فى شهور سنة سبع عشرة عن نظر الدواوين والصحبة ولزم داره إلى هذا التاريخ، فرسم له بهذه الوظيفة فاستعفى فلم يعف ورسم أن يتوجه على خيل البريد وخلع عليه تشريف كنجى [4] وأنعم عليه بدواة ومرملة [5] ولم يجر بمثل ذلك عادة لناظر هذه المملكة وزيد فى معلومها فاستقر له فى كل شهر نظير ما كان له فى نظر النظار بالديار المصرية، وتوجه فى يوم الثلاثاء سادس عشر صفر ووصل إلى دمشق فى يوم الخميس ثانى شهر ربيع الأول وتوجه منها إلى طرابلس.

_ [1] الإكديش: وجمعها أكاديش، الحصان الخليط غير الأصيل. [2] القبيبات: محلة جليلة بظاهر دمشق. (النجوم الزاهرة 9: 372 هامش) . [3] المراد أمين الدين عبد الله بن الغنام، وانظر ترجمته فى الدرر الكامنة 2: 357، والدليل الشافى 1: 384. [4] أى مصنوع من قماش منسوج من قطن وحرير كان يصنع أولا فى كنجة من أعمال إيران، ثم انتقلت صناعته إلى عدة جهات (السلوك 1/2: 847 هامش الدكتور زيادة) . [5] المرملة إناء صغير يوضع به رمل ناعم يوضع منه على الكتابة فيجففها.

ذكر عزل الأمير بدر الدين محمد بن التركمانى عن وظيفة الشاد بالديار المصرية

ذكر عزل الأمير بدر الدين محمد بن التركمانى عن وظيفة الشاد بالديار المصرية وفى يوم الإثنين الثانى والعشرين من صفر عزل الأمير بدر الدين محمد ابن التركمانى عن وظيفة شاد الدواوين بالديار المصرية، وذلك بسؤاله وسعيه واستقر فى جملة الأمراء على عادته ولم يتعرض إليه بطلب مال ولا غيره واستقر القاضى كريم الدين فى النظر وغير ذلك. ذكر إرسال الأمير سيف الدين طغاى نيابة السلطنة بالملكة الصفدية، والقبض عليه ووفاته كان الأمير سيف الدين طغاى [1] الحسامى الناصرى قد تمكن فى هذه الدولة الناصرية تمكنا عظيما وعظم شأنه، وترشح للأمير الكبير، وكثرت أتباعه وعظّمه الأمراء وغيرهم وبلغ من تمكنه أن السلطان أنعم عليه بدار أبيه السلطان الملك المنصور بالقاهرة، وأنعم عليه بغيرها، وميز أقطاعه، فكان من جملته منية [2] بنى خصيب وغيرها ورتب له على الحوائج خاناه والمطبخ فى كل يوم ما يصرف عليه نحو ثلاثمائة درهم، إلى غير ذلك، وارتفع بعد ذلك عن هذه الرتبة إلى أن حكى أن السلطان فى مرضه فى شهور سنة سبع عشرة أوصى أن يكون الأمر له من بعده وأن [3] لا يختلف الناس عليه، وكان حسن الوساطة عند السلطان، لا يتكلم إلا بخير، ويحسن إلى من يعرفه ومن لا يعرفه، فاجتمعت عليه قلوب الناس ومالوا إليه، وكان قد تكلم عليه جاولجين [4] الخازن فى جملة من كلمه [5] كما تقدم فقبض السلطان على من سواه من الأمراء وأرجأ أمر الأمير سيف الدين هذا، فلما كان يوم الثلاثاء الثالث

_ [1] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 2: 322، والدليل الشافى 1: 364. [2] منية بنى خصيب: هى منية ابن خصيب، وهى مدينة المنيا عاصمة محافظة المنيا بصعيد مصر (النجوم الزاهرة 6: 383 هامش) . [3] فى ك «فإن» والمثبت» من ص، وف. [4] فى ك «جاوطين، والمثبت من ص، وف. [5] كذا فى ص، وف، وفى ك «ثلاثمائة» .

والعشرين من صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة دخل إلى الخدمة السلطانية على عادته، فرسم السلطان له أن يتوجه إلى نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية فلم يمتنع ولا استعفى ولا توقف، بل بادر بتقبيل الأرض بين يدى السلطان ولبس التشريف، وأخرجه السلطان من ساعته، فتوجه وقد ذرفت عيون الأمراء والمماليك السلطانية بالبكاء لخروجه، وتألم السلطان لذلك تألّما شديدا؛ لما فقده من حسن وساطته وجميل اعتنائه، ووصل إلى صفد فى يوم الخميس تاسع عشر شهر ربيع الأول، وأحضر الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب النائب بصفد إلى الأبواب السلطانية، واستمر فى جملة الأمراء مقدمى الألوف، ورسم له بالجلوس فى مجلس السلطان، وأقام الأمير سيف الدين طغاى بصفد إلى جمادى الأولى فأرسل السلطان إليه الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالى المعروف بخرز [1] على خيل البريد وأصحبه تقليدا [118] له بنيابة السلطنة بالكرك وتشريفا وأراد بذلك إخراجه من المملكة الصفدية والقبض عليه، فوصل إلى صفد فى ثامن الشهر فعلم المراد منه فلم يمتنع ولا أحوج إلى إمضاء هذا التدبير، وجاء تحت الطاعة إلى الأبواب السلطانية على خيل البريد، ولما وصل إلى مدينة بلبيس خرج إليه الأمير سيف الدين قجليس وقيده بأمر السلطان، ونقله إلى قلعة الجبل فكان وصوله إليها فى رابع عشر الشهر، فاعتقل بها أياما ثم رسم بنقله إلى ثغر الإسكندرية فنقل إليه وكان آخر العهد به، فلما كان فى مستهل شعبان أمر (السلطان) [2] عائلته بعمل عزائه رحمه الله تعالى. ولما أخرج من صفد نقل الأمير سيف الدين أرقطاى الناصرى من نيابة السلطنة بحمص إلى نيابة المملكة الصفدية فتوجّه إليها، وولى نيابة السلطنة بحمص الأمير بدر الدين بكتوت القرمانى، ونقل الأمير عز الدين أيبك الجمالى من نيابة قلعة دمشق إلى نيابة الكرك، واستقر بقلعة دمشق الأمير سيف الدين بهادر الشمسى، وذلك كله فى جمادى الأولى من هذه السنة.

_ [1] هو الأمير علاء الدين مغلطاى بن عبد الله الجمالى، المعروف بخرز، ومعناه: ديك. ورسمه فى المنهل الصافى «كرز، وتوفى سنة 732، وانظر النجوم الزاهرة 9: 291 وهامش» . [2] ما بين القوسين من ص، وف.

ذكر إنشاء الجامع بقلعة الجبل

ثم ولى نيابة السلطنة بقلعة دمشق الأمير علم الدين سنجر الدميثرى [1] وتوجه إلى دمشق على خيل البريد فى عشية يوم الإثنين العشرين من ذى الحجة وخلع عليه بكرة الثلاثاء، وجلس بالقلعة على عادة النواب، والله أعلم. ذكر إنشاء الجامع بقلعة الجبل وفى صفر من هذه السنة رسم السلطان بتوسعة الجامع بقلعة الجبل، وأمر بهدم بعض مساكن الأمراء التى كانت تلى الحائط القبلى من الجامع الأول فهدمت، وهدم الفراش خاناه، والحوائج خاناه، والمطبخ والطشتخاناه وأضاف ذلك كله إلى الجامع، وحصل الشروع فى بنائه فى الشهر المذكور، وتكملت رواقاته القبلية فى شهر رجب من السنة، وصلى فيه ورخّم صدره وجلس السلطان بالجامع فى شعبان، وعرض سائر المؤذنين بالقاهرة ومصر بين يديه واستنطق كل واحد منهم وسمع صوته، واختار للجامع منهم ثمانية عشر مؤذنا وثلاثة رؤساء وجعلهم ثلاث نوب ورتّب فيه أرباب وظائف، ووقف عليه أوقافا أثابه الله تعالى. ذكر وثوب الأمير عز الدين حميضة بن أبى [2] نمى بمكة شرفها الله تعالى وإخراج أخيه الأمير أسد الدين رميثة منها وفى صفر من هذه السنة وردت الأخبار من مكة شرفها الله تعالى أن الأمير عز الدين حميضة ابن أبى نمىّ بعد عود الحاج من مكة وثب على الأمير أسد الدين رميثة [3] بموافقة العبيد، وأخرجه من مكة، فتوجه رميثة إلى نخلة وهى التى كان حميضة بها، واستولى حميضة على مكة شرفها الله تعالى وقيل إنه قطع الخطبة السلطانية، وخطب لملك العراقيين، وهو أبو سعيد ابن خربند ابن أرغون بن أبغا بن هولاكو، فلما اتصل ذلك بالسلطان أمر بتجريد جماعة من

_ [1] فى ك «الدمترى» والمثبت من ص، وف. [2] وانظر ترجمة الأمير عز الدين حميضة فى العقد الثمين 4: 232، وغاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 2: 53 برقم 179. [3] وانظر ترجمة الأمير أسد الدين رميثة فى العقد الثمين 4: 403، وغاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 2: 78 برقم 180.

ذكر حادثة الريح بالجون من طرابلس

أقوياء العسكر فجرد الأمير صارم الدين الجرمكى والأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمى وجماعة من الحلقة وأجناد الأمراء من كل أمير مائة فارس [1] ومن كل أمير طبلخاناه جندى وأمرهم بالمسير إلى مكة وأن لا يعود إلى الديار المصرية حتى يظفروا بحميضة فتوجهوا فى العشر الأواخر من شهر ربيع الأول من هذه السنة، ثم جرد السلطان صحبة الركب الأمير بدر الدين محمد بن التركمانى إلى مكة فى جماعة مددا لهؤلاء فتوجه وأقام بمكة وقبض على الأمير أسد الدين رميثة وجهزه إلى الأبواب السلطانية، وعاد هؤلاء وكان من أمرهم ما نذكره. وأقام الأمير بدر الدين بن التركماني بمكة- شرفها الله تعالى- إلى أن وصل الأمير عطيفة أميرا على الحجاز الشريف واستقر فى الإمرة فعاد وكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الجمعة [119] الرابع والعشرين من شهر رجب سنة تسع عشرة. ذكر حادثة الريح بالجون من طرابلس وفى يوم الأربعاء ثانى صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة ثارث ريح شديدة وقت صلاة الظهر بأرض الجون من بلاد طرابلس ومرت على بيوت الأمير علاء الدين على بن الدربساكى مقدم أمراء التركمان بالجون بين قريتى الوكيل والمعيصرة، وكان خروجها من جهة البحر، فكسرت أخشاب بيوته ثم تقدمت إلى بيوت الأمير علاء الدين طوالى [2] بن أليكى فلما انتهت إليه تكونت عمودا أغبر متصلا بالسحاب على صورة تنين وبقى ذلك العمود على بيوته ساعة يمر عليها يمينا وشمالا ثم يعود فما ترك ذلك العمود فى البيوت شيئا ولا منها إلا أهلكه واحتمله، فحكى عن طوالى أنه لما عاين ذلك قال: يا رب قد أخذت جميع الرزق، وتركت العيال بغير رزق فأى شى تركت لهم حتى أطعمهم؟ فعاد ذلك العمود من الريح بعد خروجه عنه إلى بيوته فأهلكه وأهلك زوجته وابنته وابنتى ابنته وجاريته وأحد عشر نفسا، وجرح [3] ثلاثة أنفس من ملاقاة الأخشاب والحجارة عند هبوب تلك الريح وحملت الريح جملين ورفعتهما فى الجو مقدار عشرة أرماح وتقطع القماش والأثاث وحملته الريح حتى غاب عن

_ [1] كذا فى الأصول. وفى إتحاف الورى 3: 159، وغاية المرام 2: 65 «من كل أمير مائة فارسين» . [2] كذا فى ص، وف. وفى ك والسلوك 2/1: 180 «طوالى» . [3] فى الأصول «خرج» ولعل الصواب ما أثبته.

ذكر هدم الكنيسة [2] بحارة الروم

العين وطويت القدور النحاس والصاجات الحديد فصار بعضها على بعض، وحملت الريح جارية طوالى من مكان إلى مكان آخر مسافة وكان إلى جانب بيوت طوالى بيوت عرب فاحتملت الريح لهم أربعة أجمال وارتفعت فى الجو وعادت قطعا، وهلك دواب كثيرة، ووقع بعد ذلك برد ومطر [1] زنة القطعة من البرد ثلاث أواق ودونها ورسم نائب السلطنة بكشف هذه الحادثة، وندب من جهته من توجه لكشفها فكشفت ونظم بصورة الحال محضرا وقع الأشهاد فيه على من شاهده وجهزت نسخة المحضر إلى الأبواب السلطانية وغيرها. ذكر هدم الكنيسة [2] بحارة الروم وفى يوم الاثنين الخامس من شهر ربيع الآخر أمر السلطان بهدم الكنيسة المعروفة بكنيسة بربارة بحارة الروم بالقاهرة، وكان سبب ذلك أن النصارى أنهوا أنه قد استهدم بعضها وسألوا تمكينهم من [3] إعادته واعتنى لهم [4] من اعتنى ممن كان منهم فرسم لهم بذلك فلم يقتصروا على إعادة ما رسم لهم بإعادته بل تحيلوا وتمحلوا وعمروها ظاهرا بالأسرى [5] والآلات العظيمة والمشدين من جنس المسلمين [6] تجاهر النصارى بذلك ولا يكتمونه ولا يتحاشون من فعله فانتدب المسلمون لذلك ورفعوا قصصا للسلطان وأنهوا فيها صورة الحال فأمر بهدمها فهدمها العوام [7] فى ساعة واحدة وبنوا بصدرها محرابا وعلقوا فيه قنديلا وأقاموا شعار الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح وقراءة القرآن، ثم رسم بعد ذلك بمنع المسلمين من الصلاة فيها وسد بابها فى بقية الشهر، وجعلت مزبلة ألقى السكان من المسلمين الذين حولها زبائل بيوتهم فيها، فلما كان فى سلخ جمادى الأولى من السنة رسم [8] بإعادة ماهدمه المسلمون فيها بالقصب دون البناء وسد بابها وعطلت.

_ [1] فى ص، وف «مطر وبرد» بالتقديم والتأخير. [2] انظر السلوك 2/1: 182. [3] فى ص «على» . [4] فى ص، وف «بهم» . [5] لم يشر المقريزى إلى استخدام الأسرى ولا أحب أن الأسرى كانوا يستخدمون فى بناء الكنائس. [6] كذا فى ك. وفى ص، وف «جند» . [7] يقول المقريزى فى السلوك 2/1: 182 «إن السلطان رسم لمتولى القاهرة علم الدين سنجر الخازندار بخراب ما جدد فيها من البناء، فنزل إليها علم الدين واجتمع إليه من الناس عدد لا يحصيه إلا الله وهدم ما جدد فيها. [8] ويقول المقريزى فى نفس المرجع «وإن صدور مرسوم الإعادة كان بمسعى كريم الدين فاستجاب السلطان له» .

ذكر الجوامع التى خطب وأقيمت صلاة الجمعة بها بظاهر مدينة دمشق فى هذه السنة

ذكر الجوامع التى خطب وأقيمت صلاة الجمعة بها بظاهر مدينة دمشق فى هذه السنة وفى هذه السنة خطب بظاهر دمشق فى ثلاثة جوامع مستجدة منها الجامع الذى أنشأه الأمير سيف الدين تنكز [120] نائب السلطنة بالشام وهو بظاهر دمشق خارج باب النصر فى الشارع المسلوك منه إلى القصر الأبلق بالميدان، وقد تقدم ذكر الشروع فى عمارته وكملت فى هذه السنة وأقيمت الخطبة به فى يوم الجمعة العاشر من شعبان وخطب فيه وصلى بالناس الشيخ نجم الدين [1] على بن داود الحنفى المعروف بالقحفازى، وحضر الصلاة فيه نائب السلطنة وسائر القضاة والأعيان وقراء القرآن وأنشدت المدائح فى بانيه. وخطب أيضا فى يوم الجمعة التى تلى هذه الجمعة فى سابع عشر شعبان بالجامع الذى أنشاه القاضى كريم الدين [2] وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد ابن الشيخ عبد الواحد بن يوسف بن الوزير الحرانى ثم الآمدى الحنبلى [3] ثم أجرى إليه الماء من نهر داريا [4] وعمل له قناة من النهر إلى كفر سوسية [5] وكان وصول الماء إلى الجامع فى العشر الأول من شوال سنة عشرين وسبعمائة وانتفع أهل تلك الناحية به انتفاعا كثيرا وخطب فى يوم الجمعة السابع عشر من ذى الحجة بالجامع الذى أنشأه شمس الدين عبد الله [6] ناظر النظار بالشام وهو بظاهر دمشق خارج الباب الشرقى بجوار قبر ضرار بن الأزور وخطب فيه الشيخ المقرئ محمد المعروف بالنيربانى [7] وكان ابتداء الشروع فى عمارة هذا الجامع فى شعبان من هذه السنة.

_ [1] هو على بن داود بن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكريا بن كليب بن جميل نجم الدين القحفازى الحنفى الدمشقى المتوفى بعد العشرين وسبعمائة (الدليل الشافى 1: 455، والدرر الكامنة 3: 116 وفيه توفى سنة 725 هـ، وفوات الوفيات 3: 23. وفيه توفى سنة 744 هـ، وشذرات الذهب 6: 143، والبداية والنهاية 14: 214) . [2] جامع كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله بالقبيبات، وقد سبق ذكره فى أخبار سنة 717 هـ، وانظر الدارس فى تاريخ المدارس 2: 416، وفيه ترجمة وافية لكريم الدين المذكور. [3] له ترجمة فى الدرر الكامنة 3: 489، والدارس فى تاريخ المدارس 2: 418، وذيول العبر 234، وتوفى سنة 743 هـ. [4] نهر داريا: بظاهر دمشق، وهو أحد فروع نهر بردى السبعة (السلوك 1/1: 230 تعليق الدكتور زيادة) . [5] كفر سوسية: من قرى دمشق (معجم البلدان لياقوت) . [6] هو شمس الدين عبد الله بن صنيعة. المعروف بشمس الدين غبريال الأسمرى المتوفى سنة 734 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 8، 9. [7] هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن أبى العيش، أبو عبد الله الأنصارى النيريانى، وتوفى سنة 734 هـ (البداية والنهاية 14: 167.

ووقف على كل من هذه الجوامع الثلاثة من الأوقاف ما يعرف ريعها فى مصالحه - أثاب الله تعالى واقفيها

ووقف على كل من هذه الجوامع الثلاثة من الأوقاف ما يعرف ريعها فى مصالحه- أثاب الله تعالى واقفيها وفيها فى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من ذى الحجة عقد السلطان بدار السعادة مجلسا حضره القضاة والفقهاء وأحضر الفقيه زين الدين عبد الرحمن ابن عبيدان البعلبكى الحنبلى وأحضر خطه أنه رأى الحق سبحانه وشاهد الملكوت الأعلى ورأى الفردوس ورفع إلى فوق العرش وسمع الخطاب وقيل له قد وهبتك حال الشيخ عبد القادر [1] وأن الله تعالى أخذ شيئا كالرداء فوضعه عليه وأنه سقاه ثلاثة أشربة مختلفة الألوان وأنه قعد بين يدى الله تعالى مع محمد وإبراهيم وموسى وعيسى والخضر عليهم السلام، وقيل له إن هذا مكان لا يجاوزه وليا قط وقيل له إنك تبقى قطبا عشرين سنة وذكر أشياء أخر فاعترف أنه خطه فأنكر عليه فبادر وجدد إسلامه وحكم قاضى القضاة الشافعى بحقن دمه وأمر بتعزيره فعزر وطيف به فى البلد وحبس أياما ثم أفرج عنه، وكان قد أذن له فى الفتيا وعقود الأنكحة فمنع من ذلك. وفى هذه السنة فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر توفى الأمير شمس الدين سنقر الكمالى [2] الحاجب كان فى معتقله بقلعة الجبل، وكان قبل ذلك معتقلا بالكرك فرسم بإحضاره وإحضار الأمير سيف الدين كراى فأحضرا وما شكا ولا شك الناس فى الإفراج عنهما، فاعتقلا بقلعة الجبل ببرج فمات الأمير شمس الدين الآن رحمه الله تعالى وتوفى قاضى القضاة زين الدين أبو الحسن على بن الشيخ رضى الدين القاسم مخلوف بن تاج الدين أبى المعالى ناهض المالكى النويرى الجزولى [3] ، وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء الحادى عشر من جمادى الآخرة بمنزله بالقاهرة، ودفن فى يوم الأربعاء عند الزوال بتربته بسفح المقطم- رحمه الله تعالى-

_ [1] المقصود هو عبد القادر الجيلانى صاحب الطريقة القادرية، توفى سنة 561 هـ، وانظر ترجمته فى شذرات الذهب 4: 198. [2] انظر النجوم الزاهرة 9: 243. [3] هو على بن مخلوف بن ناهض بن مسلم النويرى المالكى قاضى القضاة زين الدين. وانظر البداية والنهاية 14: 90، والدرر الكامنة 3: 202، وشذرات الذهب 6: 49.

ولما مات قاضى القضاة زين الدين فوض السلطان

ومولده فى سنة ست وعشرين وستمائة وكان رحمه الله تعالى كثير المروءة كثير الاحتمال والإحسان إلى الناس يحمل الجفوة من أصحابه ويصبر منهم على كثير من الأذى خصوصا من أهل بلده وكانت أفعاله جميلة، [121] ومقاصده حسنة وولى القضاء بالديار المصرية فى سنة خمس وثمانين وستمائة، وكانت مدة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة تقريبا، وعرضت عليه الوزارة فى الدولة المنصورية فأباها وتنصل منها كل التنصل وبالغ فى ردها كل المبالغة وانتهى حاله فى التنصل منها إلى أن حضر إلى الدركاه بباب القلعة وقلع طيلسانه وقلع عمامته وفوقانيته، وبقى بقبع ودلق وهو قائم فقام الأمراء لقيامه وصاروا حوله حلقه وهم لا يعرفون موجب فعله لذلك ثم جاء نائب السلطنة الأمير حسام الدين طرنطاى وهو على هذه الصورة فتألم وسأله عن خبره فقال له أنا إنما وصلت من بلدى بمثل هذا الملبوس الذى علىّ، وأنا أكتسبت بصحبتكم وخدمة السلطان زيادة على ما جئت به هذا الطيلسان وهذه الجبة والعمامة فإن ضمنت لى عند السلطان إعفائى من هذا الأمر الذى طلبنى بسببه وإبقائى على ما أنا عليه وإلا فلا أرجع إلى لباس هذا أبدا وأرجع إلى بلدى بهذه الحالة. فبكى الأمراء وعظموه وألبسه نائب السلطنة قماشة، وضمن له صرف الوزارة عنه واندفعت وأمن بذلك غائلة الأمير علم الدين سنجر الشجاعى فإنه كان [1] إذا ذكر أحد للوزارة أو ذكرها عمل على هلاكه. ولما مات قاضى القضاة زين الدين فوض السلطان القضاء بعده لنائبه القاضى تقى الدين محمد ابن الشيخ شمس الدين ابى بكر ابن عتيق الإخنائى [2] . وفيها فى عاشر شهر رمضان توفى الأمير علاء الدين أقطوان الساقى [3] الظاهرى أحد الأمراء بدمشق بها، وصلى عليه بجامعها ودفن بالقبيبات وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى.

_ [1] كذا فى ص. وفى ك «فإنه لما كان» . [2] هو محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الإخنائى، توفى سنة 750 هـ كذا فى السلوك 2/2: 814، وحسن المحاضرة 1: 460. وفى الدرر الكامنة 4: 270، والبداية والنهاية 14: 160، وشذرات الذهب 6: 103، وطبقات الشافعية 9: 309، والوافى بالوفيات 2: 269، وذيول العبر 175، والدليل الشافى 2: 582 «توفى سنة 732 هـ» . [3] النجوم الزاهرة 9: 242.

وتوفى قاضى القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد

وتوفى فى ليلة الإثنين سلخ شوال الشيخ العالم كمال الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ جمال الدين أبى بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سجمان البكرى الوايلى الشريشى [1] بمنزلة الحسابين الكرك ومعان وهو متوجه إلى الحجاز الشريف ودفن بالمنزلة ومولده فى شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وستمائة بمدينة سنجار [2] وكان شيخا فاضلا من أعيان الشافعية المدرسين المفتيين وولى المناصب الجليلة الدينية بدمشق من التدريس ووكالة بيت المال ونيابة الحكم، وتعين لقضاء القضاة ولم يل ذلك رحمه الله تعالى. وتوفى قاضى القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى تاج الدين أبى الخير سلامة بن القاضى زين الدين أبى العباس أحمد بن سلامة الإسكندرى [3] المالكى قاضى المالكية بدمشق، وكانت وفاته بالمدرسة الصارمية [4] فى بكرة الأربعاء غرة ذى الحجة وصلى عليه بالجامع الأموى ودفن بمقابر باب الصغير، ومولده فى شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة- رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير سيف الدين الشمسى [5] بقلعة دمشق فى يوم السبت حادى عشر ذى الحجة ودفن بسطح المزة- رحمه الله تعالى.

_ [1] وانظر الدرر الكامنة 1: 252، والبداية والنهاية 14: 91، وذيول العبر 99. [2] سنجار: بكسر أوله وسكون ثانيه ثم جيم: مدينة مشهورة من نواحى الجزيرة بينها وبين الموصل ثلاثة أيام، وانظر معجم البلدان 3: 297 بتحقيق فريد الجندى. [3] وانظر البداية والنهاية 14: 92 والدرر الكامنة 1: 140، والسلوك 2/1: 187، وشذرات الذهب 6: 47. [4] المدرسة الصارمية: داخل باب النصر والجابية قبلى شرق العذراوية بدمشق. بناها صارم الدين أزبك مملوك قايماز النجمى سنة 622 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 326) . [5] وانظر النجوم الزاهرة 9: 244.

ذكر الغلاء الكائن بديار بكر [1] والجزيرة وغيرها من بلاد الشرق

ذكر الغلاء الكائن بديار بكر [1] والجزيرة وغيرها من بلاد الشرق وفى هذه السنة وردت الأخبار إلى الشام بما حصل بديار بكر والموصل وإربل وماردين [2] والجزيرة وميافارقين [3] وغيرها من الغلاء العظيم والجلاء وخراب البلاد وبيع الأولاد. أما ماردين فبلغ ثمن الرطل الخبز بالدمشقى بها من ثلاثة دراهم إلى أربعة دراهم وعدم غالبا مع عدم بقية الأقوات، ومات خلق كثير من أهلها وأكل الناس الميتة، ومنهم من باع أولاده. وأما الجزيرة [4] العمرية فقيل إنه مات منها من أول هذه السنة إلى سلخ شهر ربيع الآخر خمسة عشر ألفا بالجوع والوباء وأبيع من الأولاد نحو ثلاثة آلاف صبي، وكان الصبى يباع من خمسين درهما إلى عشرة دراهم [122] ويشتريهم التتار وكان المار بها يمر من باب الجبل إلى باب الشط فلا يجد أحدا إلا أنه يشم روائح الجيف خارجة من البيوت وصارت الكلاب تأكل جيف الناس وتأوى إلى المسجد الجامع، وبطلت الجمعة نحو شهر. وأما ميا فارقين فمات غالب أهلها بحيث إن المار بأسواقها لم يجد غير ستة حوانيت وأما الموصل فكان الغلاء والجلاء وبيع الأولاد فيها أشد من ماردين حتى خلت الدور من أهلها بعد أن باعوا كل عزيز ونفيس وأكلوا الميتة وحكى أن بعض أهلها باع ولده باثنى عشر درهما وقال هذا الولد أنفقت على

_ [1] ديار بكر: هى بلاد كبيرة واسعة، تنسب إلى بكر بن وائل، وهى ذات قرى ومدن كثيرة بين الشام والعراق، وقصبتها الموصل، وحران، ومن مدنها حصن كيفا وآمد وميا فارقين، وبها دجلة والفرات. (ياقوت- معجم البلدان) . [2] ماردين: مدينة عظيمة فى ديار بكر «تركيا» وتعد من أمنع الحصون حيث تقع على قنة جبل شاهق، وتشرف على دنيسر، وأرواد، ونصيبين، ودورها كالدرج كل دار فوق الأخرى، ولها ربض عظيم به أسواق كثيرة وخانات ومدارس وربط والماء فيها قليل، وشرب أهلها من الصهاريج (ياقوت: معجم البلدان) . [3] ميا فارقين: أشهر مدينة بديار بكر ولما مات أبو عبيدة عامر بن الجراح. أنقذ عمر رضى الله عنه عياض ابن غنيم بجيش كثيف إلى أرض الجزيرة فجعل يفتحها موضعا موضعا، ويقال إن الذى فتحها خالد بن الوليد والأشتر النخعى. وقيل بل فتحت صلحا. [4] الجزيرة العمرية، أو جزيرة ابن عمر: منطقة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام وبهار ستاق مخصب واسع الخيرات، ويقال إن أول من عمرها الحسن بن عمر بن خطاب التغلبى، وكان له امرأة بالجزيرة، وهذه الجزيرة يحيط بها نهر دجلة إلا من ناحية واحدة شبه الهلال، وتفصل بين العراق وتركيا (ياقوت: معجم البلدان) .

ختانه خمسين دينار وكان المشترون يمتنعون من شراء أولاد المسلمين وكانت المرأة والصبية تقول: إنها نصرانية لتشترى. وأما مدينة إربل فأكل أهلها جميع النبات الموجود ثم أكلوا [لحاء] [1] الأشجار وقلوبها ثم أكلوا الميتة وجاءهم الموت الذريع ثم شرعوا فى الجلاء فنزح منهم جماعة من الحواضر [2] نحو أربعمائة بيت لقصد مدينة مراغة [3] فسقط عليهم ثلج وأصابهم برد شديد فماتوا بأجمعهم وخرجت طائفة أخرى أكثر من الأولى من البلد والسواد والفلاحين صحبة أردوا [4] التتار فوصلوا إلى عقبة فتركهم التتار أسفل العقبة، ومنعوهم من الصعود معهم لعجزهم عن إطعامهم فماتوا بجملتهم ووصل كتاب من البلد إلى الموصل وفيه إنا اعتبرنا جملة من بقى من أهل البلد فكانوا خمسمائة بيت من خمسة عشر ألف بيت المتعينون بمن بقى نحو خمسين بيتا والباقون ضعفاء وفقراء. وأما أهل سنجار فكان أمرهم أخف وكذلك أهل العراق خصوصا بغداد ولم يصل آمرهم إلى بيع الأولاد وأكل الميتة ومما حكى أن رجل دخل ثلاثمائة وستين قرية زرع منها ست قرى وخرب باقيها لانقطاع ماء دجلة عنها والنخل أصابه فى سنة سبع عشرة وسبعمائة برد وسقط عليه ثلج أفسد بعضه وأضعف بعضه وانقطع المطر [فى سنة ثمانى عشرة] [5] فلم يحصل منه شئ وكان سبب هذا الغلاء أولا بمدينة سنجار وديار بكر ظهور الجراد فى سنة ست عشرة وسبعمائة فأفسد المزروعات. واستهلت سنة سبع عشرة بغير مطر فاشتد الغلاء وتضاعف فلما هلت سنة ثمان عشرة اشتد الغلاء وعظم البلاء لقلة الأمطار وموت الفلاحين وجلاهم من البلاد لما نالهم من جور التتار وغارات كانت ببلادهم من جهة الشام والأكراد ثم ارتفع الوباء فى شهر رجب وشعبان ورمضان وقل الموت لكن الغلاء مستمر

_ [1] ما بين القوسين زيادة من ص، وف. [2] فى ك «الخواص» والمثبت من ص، وف. [3] مراغة بلدة عظيمة من أشهر بلاد أذربيجان، وكانت تدعى أفراز هرووذ، فعسكر بها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم عند عوده من الغزو، وكان فيها سرجين كثير، فكانت دوابه ودواب أصحابه ترعى وتتمرغ فيها. فقال ابنوا قرية المراغة (النجوم الزاهرة 3: 84 هامش، ومعجم البلدان 5: 109) . [4] أردوا التتار: فرقة من فرق الجيش، كما تطلق على القائد وعلى المعسكر. وانظر ما سبق ص 145. [5] ما بين القوسين من ص، وف.

ذكر مقتل الرشيد المتطبب

بالموصل والعراق وما سنجار وماردين فرخص القوت فيهما ونقلت هذه الحادثة من تاريخ الشيخ علم الدين البرزالى [1] وبعض ألفاظها أوردتها بالمعنى وقال المذكور إنه نقل ذلك من خط عز الدين الحسن بن أحمد ابن ذفر الإربلى الصوفى الطبيب [2] واختصر بعضه- نسال الله العافية من بلائه. ذكر مقتل الرشيد المتطبب وفى النصف الثانى من جمادى الأولى من هذه السنة قتل رشيد الدولة أبو الفضل فضل الله بن أبى الخير بن غالى الهمدانى الطبيب [3] وهو الذى كان قد وصل صحبة غازان إلى الشام، وكان يتحدث فى دولته حديث الوزراء، ولما مات خربندا عزل الرشيد من وظائفه ومناصبه، ودارى عن نفسه بجملة كثيرة من الأموال، ثم نسب إليه سقى الملك خربندا السم فمات وطلب على البريد إلى المدينة السلطانية، وأحضر بين يدى جوبان نائب الملك أبى سعيد وقيل له: [123] أنت قتلت الملك؟ فقال كيف أفعل ذلك وقد كنت رجلا يهوديا عطارا طبيبا ضعيفا بين الناس فصرت فى أيامه وأيام أخيه أتصرف فى أموال المملكة ولا تتصرف النواب والأمراء فى شئ إلا بأمرى وحصلت فى أيامهما من الأموال والجواهر والأملاك ما لا يحصى فأحضر الطبيب الجلال ابن الحزان [3] طبيب خربندا وسئل عن موت خربندا وقيل له: أنت قتلته فقال إن الملك أصابته هيضة قوية فانسهل بسببها نحو ثلاثمائة مجلس وتقايأ قيئا كثيرا، فطلبنى وعرض على هذا الحال فاجتمع الأطباء بحضور الرشيد على إعطائه أدوية قابضة مخشنة للمعدة والأمعاء فقال الرشيد عنده امتلاء وهو يحتاج إلى الاستفراغ بعد فسقيناه برأيه دواء مسهلا، فانسهل بسببه نحو سبعين مجلسا ومات وصدّقه الرشيد على ذلك فقال جوبان فأنت يا رشيد قتلته، وأمر بقتله فقتل واستأصلوا جميع أملاكه وأمواله [4] ، وقتلوا قبله ولده إبراهيم

_ [1] هو القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالى الإشبيلى المتوفى سنة 739 هـ صنف المقتفى فى التاريخ ذيلا على الروضتين لأبى شامة (وفات الوفيات 2: 30، والبداية والنهاية 14: 185، والدرر الكامنة 3: 227، وشذرات الذهب 6: 122) . [2] له ترجمة فى البداية والنهاية 14: 87، والدرر الكامنة 3: 232، وشذرات الذهب 6: 44، وذيول العبر 92، ودول الإسلام 2: 171، والسلوك 2/1: 189. [3] هو الجلال الطبيب ابن الحزان اليهودى له ترجمة فى الدرر الكامنة 3: 232، وأنظر السلوك 2/1: 188. [4] فى ص «أمواله وأملاكه» .

واستهلت سنة تسع عشرة وسبعمائة بيوم الجمعة

من أبناء ست عشرة سنة، وحمل رأس الرشيد إلى تبريز ونودى عليه: هذا رأس اليهودى الذى بدل كلام الله، لعنه الله، وقطعت أعضاؤه وحمل كل عضو إلى بلد وأحرقت جثته وقام فى ذلك الوزير تاج الدين على شاه التبريزى، وقتل الرشيد وهو من أبناء الثمانين، وخلف عدة أولاد، وكان يتستر بالإسلام فيما قيل عنه. وفيها فى التاسع عشر أو العشرين من شهر رمضان قتل الحاجى الدلقندى قتله جوبان نائب الملك أبى سعيد وسبب ذلك أنه بلغه أنه اتفق هو وجماعة من الأمراء على قتله وقتل الوزير على شاه فبادر بقتله ودلقند قوية من عمل منسوب إلى مدينة سمنان من مدن خراسان نقلته وما قبله من تاريخ البرزالى. واستهلت سنة تسع عشرة وسبعمائة بيوم الجمعة وفى أول ليلة من المحرم هبت ريح شديدة بمدينة دمشق رمت كثيرا من الستائر [1] والطبلات [2] وسقط بسببها جدران كثيرة، وهلك تحت الردم جماعة واقتلعت أشجار كثيرة من أصولها وقصفت أغصانا وامتنع كثير من الناس من النوم بسببها واجتمع خلق كثير بالجامع يتضرعون إلى الله تعالى فى سكونها فسكنت، ثم ثارت فى ليلة الثلاثاء المسفرة عن تاسع عشر الشهر، وهو أول الاعتدال الربيعى ولم يبلغ مبلغ الأول. وفى يوم الخميس السابع من المحرم وصل الأمير شمس الدين آق سنقر الناصرى أحد الأمراء من الحجاز الشريف إلى قلعة الجبل بعد أن وقف بعرفة مع الحاج فى سنة ثمان عشرة وسبعمائة وصحب الركب إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وصلى بها الجمعة وركب لست بقين من ذى الحجة سنة ثمان عشرة وردت الأخبار معه أنه قبض على الأمير أسد الدين رميثه أمير الحجاز الشريف وعلى الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمى أحد الأمرآء وهو الذى كان قد جرد بسبب الأمير عز الدين حميضة [3] والذى ظهر لنا فى سبب القبض عليهما أن رميثة نسب إلى مباطنة أخيه حميضة [3] وأن الذى يفعله

_ [1] المراد: ما يبنى فوق السطح من أسوار. فيقال ستّرة السطح ما يبنى حوله والجمع ستر. والستارة ما يستر به، والجمع ستائر. [2] كذا فى الأصول. ولم أهتد إلى المراد. [3- 3] ما بين الرقمين من ص، وف. وانظر الخبر فى غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام 2: 64، 65، 85، 86، وإتحاف الورى 3: 159، 160.

بحميضة هو القبض عليه ولكنه ركب إليه وتقاربا من بعضهما بعضا، وباتا على ذلك ولم يقدم الإبراهيمى على مهاجمته والقبض عليه فاقتضى ذلك سجنه، واتصل بالسلطان أيضا أن الإبراهيمى ارتكب فواحش عظيمة بمكة شرفها الله تعالى، فرسم بالقبض عليهما ووصل الأمير أسد الدين رميثة ورسم عليه بالأبواب السلطانية أياما، ثم حصلت الشفاعة فيه فرفع عنه الترسيم وأقام يتردد إلى الخدمة السلطانية مع الأمراء إلى أثناء شهر ربيع الآخر من السنة فحضر إلى الخدمة فى يوم الإثنين رابع عشر ثم ركب فى عشية النهار على هجن أعدت له وهرب نحو الحجاز فعلم السلطان بذلك فى يوم الثلاثاء فجرد خلفه جماعة من الأمراء وهم: الأمير سيف الدين أقبغا آص والأمير سيف الدين قطلوبغا [1] المعزى [124] والأمير ناصر الدين الجرمكى وجماعة من عربان العايد فتوجهوا خلفه وتقدم الأميران المبدأ بذكرها ومن معهما من العربان فوصلوا إلى منزلة [2] حقلى وهى بقرب أيلة مما يلى الحجاز فأدركوه بالمنزلة فقبضوا عليه وأعادوه إلى الباب السلطانى، فكان وصوله فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر فرسم السلطان باعتقاله فى الجب فاعتقل واستمر فى الاعتقال إلى يوم الخميس الثامن من صفر سنة عشرين وسبعمائة فرسم بالإفراج عنه وخلع عليه. وفى العاشر من صفر نودى بدمشق بالصلاة للاستسقاء وقرئ صحيح البخارى بجامع دمشق تحت النسر فى سبعة أيام واستسقى الخطيب على المنبر فى أيام الجمع مرار ثم برز الناس كافة نائب السلطان والقضاة وغيرهم مشاة إلى ظاهر البلد عند مسجد القدم [3] فى يوم السبت نصف صفر وهو سابع نيسان، وصلى بهم الخطيب صدر الدين سليمان الجعبرى، وخطب واستسقى وعاد الناس، وأمطروا بفضل الله تعالى ورحمته فى بكرة يوم الأحد ويوم الإثنين حتى خرب المذاريب، ووصلت الأخبار بنزول الغيث على البلاد البرانية، وفى آخر صفر فوضت نيابة السلطنة بحمص للأمير سيف الدين بلبان [4] البدرى عوضا عن الأمير بدر الدين بكتوت، فتوجه إليها، ووصل القرمانى إلى دمشق فى رابع شهر ربيع الأول، واستقر على عادته فى جملة الأمراء المقدمين.

_ [1] كذا فى ك وفى ص «المغربى» وفى السلوك 2/1: 193، 194 «أن السلطان بعث فى طلبه الأمير قطلوبك المغربى، والأمير آقبغا آص الجاشنكير» . [2] منزلة حقلى. وفى السلوك «حقل» وتقع على مسافة ستة عشر ميلا جنوبى أيلة فى الطريق إلى الحجاز (معجم البلدان 2: 299) . [3] مسجد القدم: هو من الآثار التى فى مدينة دمشق وغوطتها، يقال إن هناك قبر موسى بن عمران عليه السلام، وإنه مما يرجى فيه إجابة الدعاء عند القطيعة. وأنظر النجوم الزاهرة 6: 126 تعليق 1. [4] فى ك «هبان» والمثبت من ص، وف.

وفى هذه السنة فوض السلطان قضاء القضاة بدمشق

وفى هذه السنة فوض السلطان قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام مالك بن أنس للقاضى شرف الدين محمد ابن القاضى معين الدين أبى بكر بن القاضى سديد الدين مظفر الهمدانى المالكى [1] الفيومى وكان ينوب عن قاضى القضاة تقى الدين بن الإخنائى المالكى بالجامع الصالحى خارج باب زويلة فنقل إلى دمشق، وتوجه إليها وكان وصوله يوم الثلاثاء خامس جمادى الآخرة، وكان المعتنى به والقائم فى حقه القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، وكان قد عين للقضاء بدمشق الشيخ فخر الدين أبو عمر ابن الشيخ القدوة العابد علم الدين يوسف النويرى المالكى وأثنى عليه جماعة من الأمراء والأكابر فى مجلس السلطان منهم الأمير بدر الدين جنكلى [2] بن البابا واستقرار من أمره فى الولاية ورسم السلطان بذلك وحضر الأكابر إليه وهنئوه بالولاية فنهض القاضى فخر الدين فى ولاية القاضى شرف الدين المذكور وبالغ فى أمره أتم المبالغة وجّود الاعتناء حتى ولى ورسم السلطان بتعويض الشيخ فخر الدين عن القضاء بما يليق به فولى إعادة المدرسة [3] الناصرية، ونيابة الحكم بالجامع الصالحى نقل إليه من نيابة الحكم بالجامع الطولونى فولى ثم عزل نفسه، واقتصر على حضور الدروس ومشيخة الخانقاه الفخرية بمصر وتعاهد الحج نفع الله به. وفى هذه السنة عاد الأمير سليمان ابن الأمير حسام الدين منها من بلاد العراق وكان قد التحق بالتتار فعاد الآن ووصل إلى دمشق فى ثامن جمادى الآخرة وتلقاه نائب السلطنة وحضر إلى الأبواب السلطانية وأحضر عدة من الخيل الجياد، ومثل بين يدى السلطان وسأل الصفح عن ذنبه وتنصل وأظهر التوبة والندم على ما صدر منه، فشمله [125] العفو السلطانى والصفح وأنعم عليه بالأموال الجزيلة والتشاريف وأنعم عليه من الأموال بدمشق بمائتى ألف درهم وخمسين ألف درهم وزاده السلطان على إقطاعه الذى كان بيده وعاد إلى دمشق فى شهر رجب.

_ [1] انظر فى ترجمة الوافى بالوفيات 2: 270، وذيول العبر 263، والدرر الكامنة 3: 44، والنجوم الزاهرة 10: 182، وقد توفى سنة 748 هـ. [2] هو جنكلى بن محمد بن البابا بن جنكلى بن خليل بن عبد الله العجلى بدر الدين، المتوفى سنة 746 هـ (الدرر الكامنة 1: 539، والدليل الشافى 1: 251، والنجوم الزاهرة 10: 143) . [3] أى إعادة المدرسة الناصرية إليه للتدريس فيها.

ذكر الخلف الواقع بين جوبان [1]

ذكر الخلف الواقع بين جوبان [1] نائب سلطنة أبى سعيد بن خدبندا ملك التتار وبين الأمراء مقدمى التوأمين [2] وقتالهم وانتصار جوبان عليهم وقتلهم. وفى هذه السنة تواترت الأخبار بوقوع الخلف بين مقدمى التتار والحرب بينهم وقد نقل الشيخ علم الدين البرزالى فى تاريخه أن الشيخ محمد بن أبى بكر القطان الإربلى ورد إلى دمشق وأخبره تفصيل ذلك على جليته قال: كان سبب هذه الحرب أن الملك أبا سعيد بن خربندا حصل له الحصار من نائبه جوبان وأنه استقل بتنفيذ الأمور دونه ولم يبق له فى المملكة إلا مجرد التسمية، وأبعد أقواما كانوا مقربين من الملك أبى سعيد وقتل الأمير ربنوا [3] وهو الذى تولى ترتيب الملك لأبى سعيد فذكر الملك ما حصل له من القلق للأمير إيرنجى [4] خال أبيه خربندا، والأمير قرمشى ابن التياج [5] ، والأمير دقماق وهم من مقدمى التمانات فقالوا للملك إن أردت أن نخرج عليه ونكبسه ونقتله فعلنا وإن أحببت أن ننابذه الحرب فعلنا ما أردت، فوقع الاتفاق على أنهم يفعلون به كيف ما تهيألهم فاتفق الحال من الأمراء الثلاثة ومن وافقهم الأمير أرس أخو دقماق، ومحمد هرزه ويوسف بكا وبهاء الدين يعقوبا وهم من أعيان الأمراء على أن يعملوا لجوبان دعوة ويقبضوا عليه فيها، فسأله [6] قرمشى أن يعمل له دعوة فى نواحى عمله بالقرب من بلاد كرجستان وأرسل إليه تقادم وهدايا كثيرة، فقبلها جوبان وأجاب إلى حضور الدعوة فعمل قرمشى الدعوة فى مكان يسمى سرمارى [7] من نواحى كرجستان، وهى منزلة قرمشى ومن انضاف إليه، وتهيأ جوبان لحضور الدعوة، فبينما هو على ذلك إذ جاءه رجل اقطى من جماعة قرمشى فى خفية وأخبره بما انطوى عليه الجماعة

_ [1] أشار المقريزى فى السلوك 2/1- 195 إلى هذه الأحداث بإيجاز شديد، وكذلك البداية والنهاية 14: 93، وزاد عنهما قليلا ذيول العبر 101- 103. [2] مقدمو التوأمين: أمراء أو قادة الفرق. [3] كذا فى الأصول. [4] كذا فى الأصول، وذيول العبر 102، 103، والنجوم الزاهرة 9. [5] كذا فى الأصول، وذيول العبر 103 «البياخ» . [6] أى فسأل قرمشى جوبان. [7] سرمارى: قلعة عظيمة، وولاية واسعة بين تفليس وخلاط، مشهورة مذكورة (معجم البلدان 3: 243 بتحقيق فريد الجندى) .

خفية وأخبره بما انطوى عليه الجماعة وأشار عليه بمفارقة مخيمه وقال له: الآن يكبسوك. فرجع جوبان إليه واحتاط لنفسه، وركب لوقته وترك مخيمه وخزائنه وخيوله بحالها، ولم يخبر أحدا من أصحابه، ولم يستصحب غير ولده حسن، وأقبل قرمشى فى عشرة آلاف فارس من التتار والكرج والفرس، فسأل عن جوبان فقيل له، هو جالس فى مخيمه ينتظر حضور الدعوة فقصده وهجم على مخيّمه وشهر السيف وثار أصحاب جوبان وهم لا يدرون ما الخبر، وقاتلوا قتالا شديدا، قتل من الفريقين نحو ثلاثمائة فارس، وخلص قرمشى إلى خيمة جوبان فلم يجد غير إنسان اسمه أخى [1] ابو بكر فسأله عن جوبان فقال: هرب ولم يعرفّنا فضرب قرمشى عنق أخى أبو بكر، ونهب مخيم جوبان، وأمواله وخيوله وغير ذلك، وذلك فى جمادى الأولى وساق خلف جوبان فلم يدركه. وأما جوبان فإنه استمر به السير إلى مدينة مرند [2] فوصل إليها وليس معه غير نفرين من أصحابه، فتلقاه الأمير ناصر الدين ملكها وأمده بالخيل والمال والسلاح، ووصل معه إلى قرية بالقرب من تبريز [3] تسمى دية صوفيان، ووصل خبره إلى تبريز فخرج إليه الوزير تاج الدين على شاة التبريزى- وزير الملك أبى سعيد- ومعه ألف فارس فأنزله وأكرمه، وأخرج إلى لقائه أهل تبريز بالفرح بمقدمه، ونصبت له القباب، وأمدوه بالخيول والسلاح، فبات بتبريز ليلة واحدة، وتوجّه إلى المدينة السلطانية، وصحبته الوزير على شاه وتقدم الوزير واجتمع بالملك أبى سعيد وتلطّف فى أمر جوبان وأحسن الثناء عليه، وذكر شفقته على الدولة واهتمامه بأمرها وحرمته وغض ممن نازعه، وخرج عليه، وقال: إن هؤلاء يحسدونه ويقصدون أن يتغير خاطر الملك عليه، فإذا قتله تمكنوا من الدولة وفعلوا ما أرادوا، وبلغوا أغراضهم الفاسدة قال: وقد بلغنى عن الأمير إيرنجى أنه يقول إن ابنه عليا أحق بالملك، لأنه من العظم الثانى، وأغراه به غاية، الإغراء فمال إلى قوله ورضى عن جوبان، وأذن له فى الدخول عليه فدخل [126] ومعه كفنه ويكى بين يدى الملك بكاء شديدا

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «أحى بو بكر» . [2] مرند: من مشاهير مدن أذربيجان، بينها وبين تبريز يومان، وقد تشعثت الآن وبدأ فيها الخراب منذ نهبها الكرج وأخذوا جميع أهلها (معجم البلدان 5: 129) . [3] تبريز: أشهر مدن أذربيجان، وهى مدينة عامرة حسناء ذات أسوار محكمة. فى وسطها عدة أنهار، والبساتين محيطة بها (معجم البلدان 2: 15) .

أو قال قتلت رجالى وأعوانى الذين انتخبتهم لخدمة القان [1] ونهبت أموالى التى جمعتها من نعمه، وانكسرت حرمتى التى أقامها فإن كان القان يقصد قتلى فها أنا بين يديه، وأنا من جملة مماليكه. فتبرأ أبو سعيد من ذلك وقال: لم أقصد بك سوءا قط وهؤلاء أعداؤك وقد حسدوك على قربك منى وخرجوا على وعليك وقد مكنتك منهم، فإنهم ارتكبوا هذا الأمر بغير أمرى. فأستأذنه فى حربهم فأذن له فسأله، أن يمده بالجيش، فأمده بعشرة آلاف فارس يقدمهم الأمير طاز ابن كتبغانوينّ، الذى قتل بعين جالوت، وركب قراسنقر المنصورى [2] فى ثلاثمائة فارس بالسلاح التام على عادة العساكر المصرية، وجاء ابنه تمرتاش من جهة ثغر الروم بطائفة كثيرة من الجيوش وركبوا وركب الملك أبو سعيد أيضا [3] فى خاصته وساق معهم ليتحقق جوبان أنه معه لامعهم. وأما قرمشى وإيرنجى ودقماق فإنهم ساقوا خلف جوبان إلى أن وصلوا إلى بتبريز، فغلقت أبوابها دونهم، وخيف منهم القتل والنهب وخرج إليهم نائبها وهو الحاجى قطق بمأكول ومشروب وعلوفات فعلقوه برجليه وأخذوا منه سبعين ألف دينار- الصرف عن كل دينار ستة دراهم- كون أهل البلد تلقوا جوبان وخدموه وأغلقوا الأبواب دونهم، ثم ساقوا من يومهم حتى وصلوا إلى مدينة من أعمال أذربيجان اسمها ميانه، ثم ساقوا منها إلى مدينة زنكان [4] ومنها إلى ضيعة اسمها دية منارة فتوافواهم وجوبان فى هذا المكان فلما شاهد الأمير إيرنجى الملك أبا سعيد وأعلامه تحير فى أمره واستشار من معه فيما يفعل فقال له قرمشى لا بدّ من الحرب فإن الملك فى الباطن معنا، فتصاف الجيشان، وخاف إيرنجى أن يبدأ الملك بالحرب، وكذلك من معه إلا قرمشى فإنه سيّر إلى جوبان يقول له اجعل لى إشارة أقصدها وأحضر إلى خدمتك وطاعتك، فرفع له جوبان علما ولم يقف تحته بل تحيز إلى جهة أخرى، فحمل قرمشى على

_ [1] كذا فى ك، وف. وفى ص «الخان» . [2] فى ك «الموصلى» والمثبت من ص، وف. [3] هذا اللفظ زيادة من ص، وف. [4] زنكان: هى زنجان من نواحى الجبال بين أذربيجان وبينها، وهى قريبة من أبهر. والعجم يقولون زنكان.

ذلك المكان بمن معه حملة منكرة، ظنا أن جوان ثم فلم يجده فالتحم القتال، وقاتل الأمير طاز وقرا سنقر المنصورى قتالا شديدا، فانهزم إيرنجى ومن معه وانضم أكثرهم إلى عسكر الملك جوبان وقبض على إيرنجى وقرمشى ودقماق وأخيه وغيرهم. وحملوا إلى المدينة السلطانية وعمل لهم يزغو ومعناه عقد مجلس، وسئلوا عن سبب تعديهم وخروجهم وارتكابهم لهذا الأمر العظيم، فقالوا بأجمعهم إنما فعلناه عن أمر الملك وإذنه وقال قرمشى لجوبان أنا جاءنى يوسف بكا، ومحمد هرزه برسالة الملك أبى سعيد فى حربك وقتلك، فأحضرهما جوبان وسألهما عن ذلك فاعترفا به فأنكر الملك ذلك وقال كذبا على فافعل معهما ما يجب عليهما من حد الكذب والافتراء على. فحكم على جميعهم بالقتل بمقتضى ياسا جنكيز خان [1] ، فعند ذلك أخرج إيرنجى من خريطته ورقة وقال للملك أبى سعيد هذا خطّك معى بقتل جوبان. وشتم الملك واجترأ عليه، لأنه خال والده، فأنكر الملك ذلك وقال لجوبان أعمل معهم بمقتضى الياسا؛ فإن هؤلاء خرجوا علىّ وعليك وقصدوا إفساد الحال. فتسلمهم جوبان وقتلهم، وبدأ بإيرنجى وقال هذا ينبغى أن يعذب قبل قتله. فقيدوه [2] من أضلاعه بقناطير الحديد فبسط لسانه بالسب الفاحش للملك، فأرادوا قطع لسانه فعجزوا عن ذلك، فضربوه بسيخ حديد تحت حنكة خرج من دماغه فمات وبقى مقيدا [3] يومين ثم قطعوا رأسه وطافوا به بلاد خراسان وأذربيجان، والعراقين والروم، وديار بكر وقتلوا قرمشى ودقماق نقلت ذلك ملخصا، وبعضه بالمعنى من تاريخ الشيخ علم الدين البرزالى. وقال فى تاريخه ثم [4] ورد علاء الدين على بن التخت التاجر السّفار من المدينة السلطانية، وأخبرنى بنحو الذى تقدم، وقال كنت بالمدينة المذكورة وجوبان قد تتبع الأمراء الذين خرجوا عليه فقبض منهم من أول جمادى الآخرة

_ [1] ياسا جنكيزخان: هو القانون الذى وضعه جنكيزخان القائم بدولة التتار فى بلاد المشرق، وتضمن الأحكام الخاصة بالجزاء والعقاب، ويشتمل على عقوبات صارمة توقع على المذنبين. وكان هدف جنكيز خان من إصدارها توحيد شعوب الإمبراطورية وإخضاعها جميعا لنظام صارم ووضع حد للحروب بين القبائل. وانظر الخطط للمقريزى 2: 220، 221، فؤاد عبد المعطى الصياد: المغول فى التاريخ ص) Grousset:L-Empire des Steppes ,P.316 (..237 [2] كذا فى ك. وفى ص، وف «فقتروه» أن ضموا بعضه إلى بعض، وهنا ضموا أضلاعه بعضها إلى بعض. [3] كذا فى ك. وفى ص، وف «مقترا» . [4] هذا اللفظ من ص، وف.

إلى آخر شوال نحو ستة وثلاثين أميرا فقتلهم، وأخذ أموالهم، وصادر عمالهم وتجارهم، وحصّل من الأموال أضعاف ما عدم له قال وبقى إيرنجى ثلاثة أيام مقيدا ميتا وقتل معه فى يومه دقماق وأخوه أرس والأمير بكتوت. قال وفى اليوم الثانى قتلوا يوسف بكا وأخاه الأمير نوماى، وفى اليوم الثالث قتل لدقماق ابنان عمر كل واحد منهما سبع سنين وفي اليوم الرابع قتلوا ابنا لإيرنجى اسمه وفادار من أبناء خمس عشرة سنة وقتل له ابن فى الوقعة اسمه الأمير على وقطعوا رأسه [127] وألقوه إلى أمه كيخشك [1] ابنة السلطان أحمد ابن أبغا وكانت حاضرة المصاف، فحملت على أبى سعيد فصرعت وماتت تحت أرجل الخيل قال: وفى اليوم السابع أحضروا قرمشى بن النياج فحلقوا ذقنه وألبسوه طرطورا وسمروه، وطافوا به المدينة السلطانية، ثم أحضروه بين يدى جوبان وقتل بالنشاب إلى أن مات، ثم أحضروا أخاه من ثغر خراسان، وقتل حال وصوله قال وأحضروا بنت إيرنجى واسمها قطلو شاه خاتون وكانت إحدى زوجات الملك [2] خربندا فقال أبو سعيد هذه سقت أبى السّمّ فقصد قتلها فشفع فيها الوزير، على شاه وزوجها فى الحال بخواجا دمشق أحد أولاد جوبان. قال: وأما امرأة دقماق فتزوجت بالأمير طاز بن كتبغانوين، وولى وظيفة قرمشى على ثغر خراسان، وسكنت الفتنة وأحرق جميع من قتل بالنار ولم يدفنوا. وفى هذه السنة فى الساعة الثانية من يوم السبت الخامس من شهر رمضان الموافق للعشرين من تشرين الأول والثالث عشر من بابه جاء سيل ظاهر مدينة دمشق وارتفع على وجه الأرض مقدار قامة وكان جريانه من جبل عربا وآيل السوق ووادى هريره والحسينية أمطرت هذه الأماكن مطرا عظيما وسال منه هذا السيل وحمل ما كان أمامه من الحجارة حتى سد عين الفيحة وانقطع جريان الماء منها يومين وليلتين، ثم خرجت على عادتها ومر إلى البحيرة.

_ [1] كذا فى الأصول. [2] هذا اللفظ من ص، وف.

ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف وهى الحجة الثانية

وفى عاشر شهر رمضان أمر نائب السلطنة بدمشق بهدم العمائر التى على جسر باب الحديد إلى باب الفراديس [1] فهدم منها إلى حد باب الفرج، ثم أقر ما بقى على حاله. وفى التاسع والعشرين من شهر رمضان جمع القضاة والفقهاء بدار السعادة [2] فى مجلس نائب السلطنة، وقرئ عليهم مثال سلطانى يتضمن الإنكار على الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية بمسألة الطلاق [3] وكان أيضا قد تقدم المرسوم قيل ذلك بمنعه من الفتيا بها، فامتنع ثم أفتى بها فحصل الإنكار عليه الآن وتأكد المنع وصنف فى هذه المسألة كلاما كثيرا ليس هذا موضع إيراده. ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف وهى الحجة الثانية وفى هذه السنة أمر السلطان بتجهيز ما يحتاج إليه إلى الحجاز الشريف وأظهر لذلك احتفالا عظيما قبل الخروج إلى الحجاز بستة أشهر وحمل من الإقامات والحوائج خاناه والشعير بالمنازل شيئا كثيرا، وتوجّه فى صحبته جماعة من الأعيان الأمراء والملك عماد الدين صاحب حماه وعدة من أصحاب الوظائف ورسم بجميع من توجه فى خدمته أن تكون كلفهم [4] وما يحتاجون إليه من المآكل والعليق على البيوت السلطانية والإسطبلات فكان يحتاج فى كل ليلة من العليق خاصة ألف إردب شعير وقيل ألف إردب ومائة إردب. وجهز معه

_ [1] باب الفراديس: هو أحد أبواب جامع دمشق، وينسب إلى محلة كانت تسمى الفراديس، وهى الآن خراب، والفراديس بلغة الروم تعنى البساتين، وهذا الباب هو الرابع من أبواب جامع دمشق (المقدسى: أحسن التقاسيم، ص 158- 159. والنجوم الزاهرة هامش 4: 157، و 6: 148) . [2] دار السعادة: اسم يطلق على دار الحكم، ودار الإمارة، أو مركز الحاكم الذى يباشر منه شئون الولاية (النجوم الزاهرة 9: 28 هامش) . [3] مسألة الطلاق: هذه المسألة التى تفرد بها الإمام ابن تيمية فى عصره بالقول بها، ورأيه ألا يقع الطلاق بالحلف به بدل الحلف بالله، ولكن الحالف إذ أحنث فى يمينه فعليه كفارة اليمين المعروفة فى القرآن الكريم. كما كان رأيه أن طلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة رجعية. وأنظر الكتاب ابن تيمية للدكتور محمد يوسف موسى أعلام العرب 106 ومجموع الفتاوى ج 35: 241- باب الإيمان والنذور. [4] أى نفقاتهم وكافة حوائجهم فى رحلة الحج سفرا وإقامة وعودة.

فى هذه السفرة ما لم يسافر به ملك قبله- فيما بلغنا- فكان مما حمل معه على الظهر ثلاثة عشر حملا من المحاير [1] المحكمة المقيّرة، وجعل فيها الطين الإبليز وزرع فيه الرياحين والخضراوات وهو بنفسج حملان هندبا ثلاثة أحمال، فجل حمل واحد أسفا ناخ، حمل واحد كسفرة خضراء حمل واحد طرخون: حمل- نعناع: حمل- سلق: حمل- حوائج بقل: حمل- شمار: حمل- وعمل له مطبخ يطبخ عليه وهو محمول على الظهر، وكان يطبخ فيه والجمل سائر فلا يصل إلى المنزلة إلّا وقد تهيأ الطعام، وحمل له من ماء النيل ماء، شربه مدة سفره ومقامه وعوده هو وجماعة ممن معه، وحملت الخراف المسمنة المعلوفة فى المحاير على الجمال وهى تعلف وتسقى فى طول الطريق فى ذهابه ومقامه وعوده، وضحى منها بمنى، ولما عزم على الرحيل أمر نائبه الأمير سيف الدين أرغون بالمقام بقلعة الجبل ورسم لمن تأخر من الأمراء أن يتوجهوا إلى نواحى أقطاعهم فيكون كل منهم ببلاد أقطاعه إلى حين عوده، ولا يجتمع أمير بأمير فى غيبته، وكتب إلى النواب بالشام [128] أن يستقر كل نائب بمقر مملكته ولا يتوجه إلى صيد إلى حين عوده، فامتثلت أوامره. وكان ركوبه من قلعة الجبل فى يوم السبت مستهل ذى القعدة، وأقام بظاهر القاهرة ما بين قلعة [2] الجب ومنزلة العش [3] إلى يوم الخميس السادس من الشهر، واستقل ركابه فى هذا النهار إلى الحجاز الشريف فى أمن الله ورعايته ثم توجه بعد ركاب السلطان الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة فكان توجهه من القاهرة فى يوم الإثنين سابع عشر ذي القعدة وأدرك الحج ووصل والسلطان بمكة شرفها الله تعالى، وتصدق السلطان بمكة- شرفها الله تعالى- بصدقات مبرورة وصلات موفورة وإنعام دان فأغنى بذلك الفقير وسد حاجة ذوى الحاجات وأحسن إلى أهل مكة إحسانا عاما شمل غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم.

_ [1] المحاير: جاء فى القاموس المحيط إن المحاير جمع محارة وهى شبه الهودج أى أشبه بصندوقين يشدان على جانبى الرحل. انظر: (القاموس المحيط، المقريزى، المواعظ، ج 2 ص 101، كتاب السلوك، الجزء الثانى ص 233 حاشيه 2 للمرحوم الدكتور زيادة) . [2] قلعة الجب: المراد جب عميرة نسبة إلى عميرة بن جزء التجيبى، وهى المنزلة الأولى فى طريق الحج. وتشتهر بمزلة الحاج، وكانت من متنزهات القاهرة، وينزل عندها الحجاج، وينطلقون منها فى طريق الحاج، كما ينزلون عندها عند عودتهم، وتقع فى الشمال الشرقى من القاهرة. شرقى محطة المرج وبالقرب منها. (وانظر الخطط للمقريزى 2: 163) . [3] منزلة العش: تقع غربى البركة المعروفة بالعكرشة. وحوض العكرشة لا يزال موجودا ومعروفا تحت رقم 47 بأراضى ناحية أبى زعبل وشرقى سكنها، وتسمى حاليا بكفر الشيخ سعيد بجوار مساكن أبى زعبل بمركز شبين القناطر، والنجوم الزاهرة 10: 341 هامش) .

واتفق فى هذه السنة وصول ركب من العراق وفيه جماعة من التتار صحبه ثلاثة من أكابر مقدميهم فلما علموا بوصول ركاب السلطان أخفوا أنفسهم خشيه أن يقبض عليهم فاطلع السلطان على ذلك فأمر بإحضارهم فحضروا بين يديه فأحسن إليهم وأنعم عليهم، وشملهم بالخلع السنية بالكلاوت الزركش ومكنهم من العود إلى بلادهم. ولما قضى السلطان مناسك حجه ولم يبق إلا عوده تسحب ثلاثة من مماليك الأمراء الخاصكية مملو كان من مماليك الأمير سيف الدين طقز دمر [1] مملوكا من مماليك الأمير سيف الدين بكتمر الساقى [2] ، والتحقوا بالأمير عز [3] الدين حميضة فظن السلطان أنهم انضموا إلى التتار فسار إلى مقدميهم وأمرهم بالكشف عنهم فقام المشار إليه من مقدميهم الثلاثة وأحضر من معه، فلم يجدهم معهم، وأقسموا على ذلك، ثم تحقق السلطان وهو بالمدينة النبوية أنهم التحقوا بحميضة وكان من خبرهم ما نذكره. ولما عاد السلطان من الحجاز الشريف تبعه جماعة من المشاة، فكان السلطان يسوق فى آخر الناس فإذا مر فى طريقه بمن انقطع منهم وعجز عن المشى يقف عنده ويحدثه ولا يفارق مكانه إلى أن يستصحبه معه، فإذا علم ذلك الرجل أنه السلطان انبعثت نفسه ونهض ومن عجز منهم عن المشى أمر بحمله ففعل ذلك حتى حمل على جميع ما معه من الظهر الذى يمكن الحمل عليه ثم مر بعد ذلك بمن عجز عن المشى فتحدث معه على عادته وأمره بالقيام فقال لا أقدر على ذلك فقيل له إن السلطان يحدثك، فقال قد علمت أنه السلطان ولكن على والله لا أستطيع المشى فأمر بحمله، فقيل له إن الظهر قد حمل عليه، فأمر بطرح ما فى المحاير من الطين والخضراوات والبقولات

_ [1] هو الأمير سيف الدين طقز دمر (طقز تمر) بن عبد الله الحموى الناصرى الساقى، وأصله من مماليك الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل الأيوبى صاحب حماة، ثم انتقل إلى ملك الناصر محمد بن قلاوون وحظى عنده ورقاه حتى صار أمير مائة ومقدم ألف وزوجه ابنته وصار من عظماء الدولة وتوفى سنة 746 هـ (أنظر ابن حجر الدرر الكامنة ج 2 ص 225، وكذلك) (النجوم الزاهرة 9: 142 هامش. [2] هو بكتمر بن عبد الله الركنى الساقى الناصرى، توفى سنة 733 هـ فى عوده من الحجاز صحبة أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون (ابن حجر: الدرر الكامنة 2: 19 ابن تغرى بردى النجوم الزاهرة 9: 300، ابن العماد الحنبلى: شذرات الذهب 6: 104) . [3] فى ك «علاء الدين» وما أثبته من ص، وف.

وغيرها، وأن يحمل على جمالها من عجز عن المشى، فامتثل أمره ورفق بالناس غاية الرفق واتصل به أن كريم الدين وكيله قد ضيق على بعض من معه فى العطاء والرواتب، فنقم عليه وضربه وهمّ بقتله مع تمكنه من دولته ثم استعطف عليه فسكن غضبه ووصل إلى السلطان هدايا النواب وتقادمهم والإقامات الوافرة والفواكه من حين خرج من مكة شرفها الله تعالى. ولما وصل السلطان إلى وادى بنى سالم فى عوده وهو من المدينة على ثلاث مراحل جهز الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون، والأمير سيف الدين قطلوبغا المعزّى بالبشارة بمقدمه، فوصلا إلى القاهرة فى يوم الثلاثاء مستهل المحرم، وعلى أيديهما كتب البشائر فضربت البشائر [1] وزينت المدينتان أحسن زينة وبات الناس فى حوانيتهم ليالى واستبشروا بسلامته [2] . وكانت غيبة السلطان الملك ناصر الدين محمد عن القاهرة فى ذهابه وحجه وعوده ثلاثة وأربعين يوما. ثم وصل السلطان إلى قلعة الجبل فى بكرة نهار السبت الثانى عشر من المحرم ستة عشرين وسبعمائة، ولما مر بعقبة أيلة وشاهد ضيقها وصعوبة مسلكها أمر بترتيب جماعة من الحجارين لإصلاح طريقها، وقطع ما بها من الصخور المانعة من السلوك المضيقة على الناس فسطرت هذه المثوبة العظمى فى صحائف حسناته. وفى سنة تسع عشرة وسبعمائة توفى الأمير سيف الدين كراى المنصورى [3] بمعتقله بالبرج بقلعة الجبل فى يوم السبت سادس عشر المحرم رحمه الله تعالى [129] . وتوفى الأمير سيف الدين أغزلوا [4] العادلى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق، فى يوم الخميس سلخ جمادى الأولى بداره بظاهر دمشق ودفن

_ [1] ما بين القوسين من ص، وف. [2] مكان هذه الكلمة بياض فى ك، والمثبت من ص، وف. [3] أنظر الدرر الكامنة لابن حجر: 3: 351، وذيول العبر 107، والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى 9: 245. [4] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 199 «أغرلوا» وأنظر الوافى بالوفيات 9: 294، والدرر الكامنة 1: 417، والدليل الشافى 1: 135، والبداية والنهاية 14: 94، وشذرات الذهب 6: 52.

وتوفى الشيخ الصالح العابد العارف العلامة

بتربته بقاسيون، وكان أميرا شجاعا مقداما، شهد الحروب وأبلى فيها بلاء حسنا، وقد تقدم ذكر نيابة دمشق فى الأيام العادلية الدينية- رحمه الله تعالى- وتوفى الصدر بدر الدين محمد بن الصدر ناصر الدين منصور بن إبراهيم بن منصور بن [1] الجوهرى الحلبى وكانت وفاته بدمشق بالعادلية يوم السبت سادس عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون، ومولده بحلب فى ثالث عشر صفر سنة اثنتين وخمسين وستمائة سمع الحديث النبوى وأسمعه، وكان يعد من الرؤساء بالقاهرة، وتمكن فى سلطنة الملك العادل كتبغا تمكنا عظيما وعرض عليه وزارته فأباها، وكان من ذوى الأموال العريضة ثم نفدت [2] أمواله فى آخر عمره واستدان ومات وعليه جملة من المال- رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى فخر الدين أبو عمر وعثمان بن على بن يحيى بن هبة الله ابن على بن ابراهيم بن مسلم بن على الأنصارى الشافعى المعروف بابن بنت أبى سعيد [3] وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأحد الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ودفن من الغد بالقرافة ومولده فى الحادى والعشرين من شهر رجب سنة تسع وعشرين وستمائة بقرية داريا من قرى دمشق وكان رحمه الله من العلماء الفضلاء الذين يرجع إلي فتاويهم، وكان حسن العشرة والمودة والمذاكرة لطيفا ولى نيابة الحكم بالقاهرة مدة وولى قبل ذلك قضاء الأعمال القوصية وغيرها رحمه الله تعالى. وتوفى الشيخ الصالح العابد العارف العلامة القدوة الورع الزاهد أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنيخى تغمده [4] الله تعالى برحمته ورضوانه بزاويته المشهورة، ومولده تخمينا فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة وكان- قدس الله روحه- عالما زاهد عابدا، مخشوشنا فى مأكله ومشربه وملبسه سمع الحديث بحلب على أبى إسحاق إبراهيم بن خليل

_ [1] ما بين القوسين زيادة من ص، وف. وأنظر ذيول العبر 107، والدرر الكامنة 4: 266، والنجوم الزاهرة 9: 246، وشذرات الذهب 6: 52. [2] فى ك «فقدت، والمثبت من ص، وف. [3] أنظر البداية والنهاية 14: 95، والنجوم الزاهرة 9: 247. [4] هو الشيخ أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجى الحنفى. وانظر ترجمته فى الدرر الكامنة 4: 392، وغاية النهاية 2: 166، والنجوم الزاهرة 9: 244، وحسن المحاضرة 1: 524، وشذرات الذهب 6: 52.

ابن عبد الله الدمشقى وقدم إلى الديار المصرية بعد الستين، وقرأ القرآن على الشيخ كمال الدين بن على بن شجاع وصدره فى مجلسه ثم قرأ على الشيخ جمال الدين بن فارس، والشيخ على الدهان وأجازوه بذلك وأتقن القراءات ووجوهها وعللها وسمع صحيح البخارى على الشيخ كمال الدين الهاشمى وصحيح مسلم على ابن البرهان وكتاب السنن لأبى داود على أبى الفضل محمد ابن محمد البكرى، والسنن للنسائى على أصحاب أبى بكر بن باقا، وسمع علي النجيب الحرانى، وعبد الهادى القيسى وابن عملاق وغيرهم، وأجاز له الرشيد العطار وغيره وحدث بذلك مرار وقرأ عليه القرآن جماعة فأجاز منهم الشيخ أبا عبد الله محمد بن حسن الضرير دون غيره لإتقانه وكان يقول قرأ على خلق من أهل البلد وما جازلى أن أجيز غير أبى عبد الله وقرأ الشيخ رحمه الله النحو والتصريف على الشيخ بهاء الدين بن النحاس واشتغل على مذهب الإمام أبى حنيفة واشتغل بأصول الفقه على أبى عبد الله محمد بن الحرانى، وكتب الحديث هذا كله مع الزهد والانقطاع والعبادة وأقبل عليه ملوك عصره وأكابر أمراء [1] الدول والأعيان وترددوا إليه فى الدولة الظاهرية وما بعدها وكان أكثرهم به خصوصية واجتماعا وترددا إليه وامتثالا لأمره ورجوعا إلى إشاراته الأمير ركن الدين بيبرس العثمانى المنصورى الجاشنكير، وهو الذى ملك الديار المصرية ولقب فى سلطنته بالملك المظفر فكان يقضى عنده حوائج الناس، ويصل أرزاقهم واستماله الشيخ إلى الخير وحسن فعله فوقف بأمره وإشارته ما قدمنا ذكره بجامع الحاكم والخانقاه والرباط وغير ذلك من وجوه البر، وكان الشيخ يكره الاجتماع بالأكابر وتلجئه الضرورة إلى ذلك لما يحصل بسبب اجتماعهم به من النفع المتعدى إلى غيره، ومما يدل على كراهته لذلك أنه كان ينقطع عن الاجتماع بالناس ومشافهتهم أربعة أشهر فى السنة وهى رجب وشعبان ورمضان وذو الحجة ثم انقطع ستة أشهر من السنة ثم جعل انقطاعه [130] فى آخر عمره ثمانية أشهر وفى مدة انقطاعه لا يشافه [2] بكلامه غير خادمه وابن أخته الشيخ قطب الدين عبد الكريم وأخبرنى المشار إليه أن الشيخ ما زال يسأل الله تعالى أن يخفف عنه تردد الناس إليه فاستجاب الله تعالى له وانقطع الناس عنه قبل وفاته مدة تفرغ فيها لعبادة ربه، وكنت اجتمع به فى بعض الأحيان

_ [1] كذا فى ص. وفى ك، وف «أكابر ملوك» . [2] فى الأصول «لا يشافهه» ولعل الصواب ما أثبته.

وفى هذه السنة كانت وفاة الملك المعظم شرف الدين عيسى

بزاويته وأخلو به فى خلوته فيتحدث معى ويدعو لى وتظهر لى منه دلائل المحبة والميل إلى، وكنت أقصد رؤيته فى زمن انقطاعه عن الاجتماع بالناس فأحضر إلى الجامع الحاكمى فى يوم الجمعة قبل حضوره فإذا جاء قمت إليه وتلقيته وسلمت عليه وصافحته فيرد على السلام الشرعى لا يزيدنى ولا غيرى عن ذلك، وأما فى غير زمن انقطاعه فيسألنى عن حالى وما تجددلى، وأخبرنى الشيخ قطب الدين ابن أخيه نفع الله به أن الشيخ سأله فى الساعة الثالثة من يوم وفاته هل قارب أذان العصر؟ قال فقلت له: يا سيدى بقى للعصر كثير، ثم ذكر ذلك فى الخامسة، ثم أعاده وقت أذان الظهر قال: ورأيته يفرح بأذآن العصر فلما أذن المؤذن بالعصر خرجت روحه الطاهرة المطمئنة ورجعت إلى ربها راضية مرضية- قدس الله تعالى روحه ونفعنا ببركاته. وفى هذه السنة كانت وفاة الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن الملك القاهر ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه الكبير [1] ابن شادى بالقاهرة بدار الشريف ابن ثعلب فى ثامن [2] عشر ذى القعدة وكان قد حضر إلى الأبواب السلطانية يسعى فى الإمرة، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق فمات قبل عوده إلى وطنه ومولده بدمشق فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر رمضان سنة خمس وخمسين وستمائة. ذكر الحرب الكائنة بجزيرة الأندلس [3] بين المسلمين والفرنج وانتصار المسلمين عليهم كانت هذه الوقعة المباركة التي أجلت عن الظفر والغنيمة فى شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة [4] ، ووصل الخبر بها إلى الديار المصرية فى سنة عشرين وسبعمائة، واجتمع بى من حضر هذه الوقعة وقص على نبأها وعلقت ذلك منه ثم

_ [1] هذا اللفظ إضافة من النجوم الزاهرة 9: 247. [2] كذا فى الأصول، وفى السلوك 2/1: 200 «ثانى ذى القعدة» وكذا فى المرجع السابق. [3] أورد الدكتور محمد مصطفى زيادة نص خبر تلك الحرب نقلا عن النويرى فى نهاية الأرب تحت الملحق رقم 2 لكتاب السلوك 2/1: 952 وما بعدها. وقد أشار إلى هذه الوقعة بإيجاز كل من لسان الدين بن الخطيب فى كتاب الإحاطة فى أخبار غرناطة 1: 221- الطبقة الأولى، وابن خلدون فى تاريخه 4: 173. والمقرى فى كتابه نفح الطيب 1: 423 تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد، الذهبى فى ذيول العبر 104، ودول الإسلام 2: 173. [4] وتوافق هذه السنة سنة 1319 م.

فقدته ورأيت هذه الواقعة قد ذكرها الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه عن الشيخ محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحيى بن ربيع المالقى وملخص ما نقله عنه: أنه لما بلغ النصارى حال، أمير المسلمين بجزيرة الأندلس وهو السلطان الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل ابن كبير الرؤساء أبى سعيد فرج بن إسماعيل بن نصر سبط أمير المؤمنين المجاهد الغالب بالله أبى عبد الله محمد ابن أمير المسلمين يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر وأنه أخذ بالعزم فى تحصين البلاد والثغور وإصلاح حال الرعية وحياطتهم كبر ذلك عليهم [1] وعزموا على منازلة الجزيرة الخضراء وانتدب لذلك سلطان قشتالة واسمه دون [2] بطره وجهز المراكب والرجالة وجاء إلى طليطلة [3] ، وهى مقام بابهم [4] الذى يرجع الملوك إليه ويقفون عند أمره، وعرفه ما عزم عليه من غزو الجزيرة الخضراء واستئصال من بها من المسلمين وسأله أن يتقدم أمره لملوك جزيرة الأندلس بمساعدته وإعانته على ذلك فسره ذلك [5] وتقدم إلى الملوك بالاهتمام فى هذا الأمر وإعانته عليه، واتصل خبر إهتمامهم بأمور المسلمين أبى الوليد إسماعيل فكتب إلى سلطان بلاد المغرب أبى سعيد عثمان بن أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينى، وعرفه مادهم المسلمين من هذا العدو الثقيل واجتماعه وكلبه على البلاد الإسلامية، وسأل إنجاده بطائفة من جيشه وسير إليه بكتابه أبا عبد الله الطنجالى محدثا الأندلس وعالمها، وأبا عبد الله الساحلى عابد الأندلس وأبا جعفر بن الزيات الصوفى، وأبا تمام غالب الأغرناطى [6] التتارى الصالح الزاهد [131] وصحبتهم جماعة من الناس، فتوجهوا إليه فى البحر والبرحتى انتهوا إلى مدينة فاس واجتمعوا به وسألوه

_ [1] فى ك «عليه» والمثبت من ص، وف. [2] المقصود DomPedro وكان أحد أوصياء الفونس الحادى عشر ملك قشتالة. وقد قتل معه وصى ثان اسمه دون جوانDonJuan. [3] طليطلة: مدينة من أشهر مدن الأندلس، فتحها المسلمون سنة 93 هـ- 711 م واستردها المسيحيون سنة 477 هـ- 1085 م وغدت عندئذ عاصمة قشتالة. أشتهرت بعدد من المجامع الكنسية عقدت فيها وتمتع كبير أساقفتها بنوع من الزعامة على الكنيسة الإسبانية أنظر: ياقوت: معجم البلدانand Porugal.Ahisr.Of SPai Ar Kinson) W (:، [4] يعنى كبير أساقفة طليطلة وكان بمثابة الزعيم الدينى للمسيحيين فى أسبانيا. [5] فى ك «فسيرى» والمثبت من ص، وف. [6] كذا فى الأصول وقد ورد فى نفح الطيب 6: 208 أسماء هذا الوفد ولم يكن فيهم هذا الاسم.

إغاثة المسلمين وإعانتهم فتقاعد عن نصرتهم واستصعب هذا الأمر فعادوا عنه وقد أيسوا من نصره فلجأ المسلمون إلى الله تعالى وأخذوا فى إصلاح الجزيرة الخضراء وتحصينها واتصل خبر تقاعد المرينى بالفرنج فاستبشروا بذلك [1] وتحققوا أنهم يملكون البلاد ويستأصلون المسلمين، وقدموا فى جيوش عظيمة اشتملت على خمسة وعشرين ملكا منهم صاحب أشبونة [2] وقشتالة [3] والفرنتيرة [4] ، وأرغونة [5] وطلبيرة [6] ووصلت إليهم الأثقال والمجانيق والآت الحصار والأقوات فى المراكب التى جهزوها وانتهت المراكب بذلك الى جبل الفتح وطريف لمجاورتهما للجزيرة [7] الخضراء ووصل إلى الزقاق [8] ثلاث عشرة جفنا [9] كبار غزوانية وترددوا بين الجزيرة والمرية [10] ووصلت جموع الفرنج إلى أغرناطة [11] ونزلوا منها على عشرة أميال بموضع يقال له

_ [1] كذا فى ك، وفى ص «لذلك» . [2] فى الأصول «أشقونة» وأشبونه: مدينة بالأندلس، يقال لها لشبونة، وهى متصلة بشنترين قريبة من البحر المحيط على مصب نهر شنترين، وقال أبو الفدا فى تقويم البلدان 173 «وأشبونة، وعن بعض المسافرين أن أولها لام، وكانت فى آخر وقت مضافة إلى بطليموس، وملكها ابن الأفطس. وأنظر معجم البلدان 1: 131 وهوامش محققه فريد الجندى. [3] قشتالة: إقليم عظيم بالأندلس نصبته اليوم طليطلة، وجميعه بيد الفرنج (معجم البلدان 4: 400) . [4] الفرنتيرة: لفظ معناه الحدود، ويراد به المنطقة التى تفصل بين المملكة الإسلامية، وبين المملكة المسيحية بالأندلس (صفة جزيرة الأندلس) . [5] أرغونة: هى أرجونة: بلد من ناحية جيان بالأندلس (معجم البلدان 1: 173) . [6] طلبيرة: مدينة أندلسية، وهى أقصى ثغور المسلمين، وباب من الأبواب التى يدخل منها إلى أرض المسيحيين وهى قديمة وتقع على نهر تاجه، وبينها وبين طليطلة سبعون ميلا (صفة جزيرة الأندلس 127) . [7] الجزيرة الخضراء: مدينة مشهورة بالأندلس، وقبالتها من البر بلاد البربر سبتة، وأعمالها متصلة بأعمال شذونة، وهى شرقى شذونة وقبلى قرطبة، ومدينتها من أشرف المدن، وسورها يضرب به ماء البحر، ولا يحيط بها البحر كما تكون الجزيرة، ولكنها متصلة ببر الأندلس لا حائل من الماء دونها، ومرساها من أجود المراسى للجواز، وأقربها من البحر الأعظم. وبين الجزيرة الخضراء وقرطبة خمسة وخمسون فرسخا، وأنظر معجم البلدان 2: 158 بتحقيق فريد الجندى) . [8] الزقاق يراد به مضيق جبل طارق. [9] الجفن والجفنة: نوع من السفن الحربية وجمعها جفون وأجفان وجفان (درويش النخيلى: السفن الإسلامية؛ ص 23) . [10] المرية مرفأ فى إسبانيا على البحر المتوسط، وهى قاعدة إقليم المرية بمملكة غرناطة (الروض المعطار 183) . [11] أغرناطة، والعامة يسقطون ألفها ويقولون غرناطة. ومعنى غرناطة: رمانة بلسان عجم الأندلس، وهى أقدم مدن إلبيرة من أعمال الأندلس، وأعظمها وأحسنها وأحصنها، يشقها نهر قلزم المعروف بنهر حداره، يلقط منه سحالة الذهب الخالص، وبينها وبين مدينة إلبيرة أربعة فراسخ، وبينها وبين قرطبة ثلاثة وثلاثون فرسخا (معجم البلدان 4: 221) .

ولما كان فى عشية يوم الأحد أغارت سرية من العدو

قنطرة بينوش بالقرب من جبل البيرة [1] فامتلأت بهم تلك الأرض وامتدت جيوشهم فى طول وادى شنيل [2] ولم يكن لهم بدّ من النزول على الوادى بطوله بسبب الماء [3] ولما علم المسلمون بوصولهم [4] إلى هذا المكان عزم أمير المسلمين على أمير جيشه الشيخ الصالح أبى سعيد عثمان بن أبى العلاء أن يخرج إليهم بأنجاد المسلمين وشجعانهم فى صبيحة يوم الاثنين الخامس عشر من شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبعمائة فتأهب الناس لذلك فى الأحد. ولما كان فى عشية يوم الأحد أغارت سرية من العدو على ضيعة من ضياع السلطان القريبة من البلد فخرج إليهم جماعة من فرسان الأندلس الرماة المعروفين برماة الديار فقطعوهم عن الجيش وفروا أمامهم بجهة أرض المسلمين فتبعوهم طول الليل وأصبحوا بأرض لوشة [5] فاستأصلهم المسلمون بالقتل والأسر، وكان ذلك أول النصر وأصبح المسلمون فى يوم الإثنين وقد غاب من جمعهم هذه الطائفة المشهورة بالشجاعة والرمى، فلم يتوقف الشيخ أبو سعيد عن لقاء العدو بسبب غيبتهم وعزم على الخروج لقتالهم، وذلك يوم عيدهم عيد العنصره وهو الرابع عشرين من حزيران، فخرج إليهم فى طائفة يسيرة من الفرسان مع أبناء أخيه وهما [6] الشيخان الشقيقان أبو يحيى وأبو معروف أمير جيش مالقة [7] ابنا الشيخ الشهيد أبى محمد عبد

_ [1] إلبيرة: كورة كبيرة من كور الأندلس، جليلة القدر، وقاعدتها بإسمها وكانت إحدى مدن الأندلس الشهيرة، وتتصل بأراضى كورة قبرة، وقد خربت فى الفتنة وهاجر أهلها إلى غرناطة وبينها ستة أميال. وبينها وبين قرطبة تسعون ميلا وبالكورة عدة مدن منها قطبلية وغرناطة، وأنظر الروض المعطار 29، ومعجم البلدان 1: 289. [2] يعرف هذا الوادى باسم نهر شنيل. [3] فى ك «المساء» والمثبت من ص، وف. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «على هذا» . [5] أرض لوشة: من إقليم إلبيرة بالأندلس، وبها جيل فيه غار يصعد إليه وعلى قمة الغار شجرة (الروض المعطار 173. وانظر معجم البلدان 5: 30) . [6] ما بين الحاصرتين إضافة يقتضيها السياق. [7] مالقة: مدينة بالأندلس، كانت ثغرا حصينا على بحر الروم، أسسها الفينيقيون، وكان لها شهرة أيام الرومان والقرطاجيين، وكان بها بنو حمود من ملوك الطوائف، ولد فيها ابن البيطار صاحب التآليف الجليلة فى الطبيعيات والنبات المتوفى سنة 646 هـ (النجوم الزاهرة 9: 251 هامش، وأنظر معجم البلدان 5: 52) .

الله بن أبى العلاء ومنهم أخوهم الشيخ أبو عامر خالد أمير جيش رنده [1] ومنهم الشيخ العارف أبو مسعود محمد بن الثابتى ومنهم أمير جيش الخضرا، الشيخ المرابط أبو عطية مناف بن ثابت المغراوى وأمير لوشه الشيخ أبو المكارم ريان بن عبد المؤمن ولكل واحد من هؤلاء أولاد وأتباع، وأمر مطاع، وخرج مع هؤلاء الفرسان جماعة رجال أنجاد نحو خمسة آلاف رجل من أهل أغرناطة وسلكوا مع الشيخ أبى سعيد طريق الجبل لكونه أمنع، وأوصاهم، أن يكونوا بموضع عينه لهم ووصل فرسان المسلمين الثالثة من النهار إلى قرب الجيش فلما شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم عليهم مع قلتهم بالنسبة إلى كثرة الفرنج، وخرج إليهم وزير ملك الفرنج، فقال ما هذا الذى فعلتموه، وكيف أتيتم والملك فى يوم عيده؟ فارجعوا وابقوا على أنفسكم فإنه إن علم بكم ركب لقتالكم ولا ملجا لكم منه فعند ذلك حصل للشيخ أبى سعيد حال أخرجه عن عقله فنزل عن فرسه باكيا متضرعا إلى الله تعالى، وارتفعت أصوات المسلمين بالدعاء لهم ثم أتاهم من كان قد بقى بأغرناطة من فرسان المسلمين يتبعون آثارهم فحرض الشيخ أبو سعيد المسلمين على قتال عدوهم، وصلى ودعا وبينما هو فى صلاته ركب العدو بجملتهم وحملوا على المسلمين- ولم يعلموا برجال المسلمين التى وصلت من أغرناطة فنزلوا بجهة العلياء من المنزلة الخالية، وقصدوا المسلمين فلم ترعهم كثرتهم واستمر الشيخ أبو سعيد فى صلاته حتى أكملها، ووقف المسلمون ينتظرون ركوبه، ولما رأى العدو ثباتهم توقفوا وتهيئوا وخرج من الفريقين فرسان يحركون القتال فاستشهد أمير رندة فاجتهد أقرباؤه فى أخذ ثأره وأمر الشيخ أصحابه أن يقصدوا طرف المحلة ففعلوا فأفادهم ذلك، ومال الروم [132] إلى جهة المحلة بجملتهم، فألقى الله الرعب فى قلوبهم فانهزموا أقبح هزيمة وأخذتهم السيوف الإسلامية فما زال المسلمون يقتلونهم من الساعة السابعة إلى الغروب، ولما أظلم الليل أخذ

_ [1] رندة: من مدن تاكورنا بالأندلس، وهى مدينة قديمة بها آثار كثيرة، وتقع على نهر ينسب إليها (الروض المعطار 79) .

وأخبرنى من شهد هذه الوقعة كما زعم

الفرنج فى الهرب وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وغاب الجيش عن أغرناطة [1] ثلاثة أيام وخرج أهل أغرناطة [1] بجمع الأموال وأخذ الأسرى، فاستولوا على الأموال وأسروا وسبوا ما يزيد على خمسة آلاف من الرجال والنساء والأولاد، وأحصى من قتل من العدو فزادوا على خمسين ألفا، ومنهم من قال ستين ألفا، ويقال إنه هلك منهم بالوادى مثل هذا العدد لقلة معرفتهم به وثقلهم بالعدد ولم تبلغ القتلى من المسلمين بالمحلة عشرة وأما الذين قتلوا بالجبال والشعارى وسائر بلاد المسلمين من العدو فلا يحصى عدده كثرة ووجد الملوك الخمسة والعشرون بالمحلة قتلى، منهم دون بطره وعمه دون جوان وعلق دون بطره على باب الحمراء بأغرناطة وأما عمه وكان ممن يخدم المسلمين ففديت جثته بشئ كثير وأسارى وأسر من العدو فى بقية الشهر خلق كثير فكان المسلمون يحتاجون فى كل يوم لقوت الأسرى وقوت من يحرسهم [2] ويحفظ الدواب خمسة آلاف درهم قال: وزعم الناس أن الذى وجد من الذهب والفضة بالمحلة [كان] [3] سبعين قنطارا ولم يظهر سوى ربع هذا المقدار وأما الدواب والعدد والأخبية فشئ كثير. قال ولقد عزم على بيع ما يحصل من ذلك وقسمته فتعذر ذلك، واستمر البيع فى الأسرى [4] وبعض الأسلاب والدواب ستة أشهر متوالية ولم يكمل قال وبعضها باق إلى الآن وضجر الناس وملوا من كثرة البيع قال ونهاية عدد ما كان من فرسان المسلمين فى ذلك اليوم بعد رجوع الرماة مما كانوا فيه ألفان وخمسمائة ولم يستشهد منهم غير أحد عشر رجلا، منهم خالد بن عبد الله المذكور وعمر بن باحرزت، وكان من خيار المسلمين- رحمه الله تعالى- هذا آخر كلامه فى هذا الفصل وبعضه بمعناه. وأخبرنى من شهد هذه الوقعة كما زعم وظاهره غير متّهم فإن عليه آثار الخير أنه شاهد رجلا يقاتل العدو ويقتل منهم فى هذه الوقعة قال فشبهته ببعض من أعرفه فجعلت أحرضه على القتال

_ [1- 1] ما بين الرقمين من ص، وف. [2] مكان هذا اللفظ فى الأصول كلمة لا تقرأ والمثبت من ذيول العبر 105. [3] سقط فى ك، والمثبت من ص، وف. [4] كذا فى ك وف. وفى ص «الأسارى» .

ثم دنوت منه فلم أجده ذاك وشبهته بآخر فحرضته كذلك فلما قربت منه نظر إلى وقال لست فلانا ولا فلانا النصر من عند الله، ثم غاب عني وفى هذا دلالة على أن الله تعالى أمد هذه الطائفة بالملائكة فى هذه الغزاة، فإن القدرة البشرية تضعف عن مقاومة هذه الجموع الكثيرة بهذه الطائفة اليسيرة [1] . وقد ورد كتاب إلى الديار المصرية من أغرناطة من جهة الشيخ حسين بن عبد السلام تضمن من خبر هذه الغزاة أنه قال جاء دون بطرا وجوان وهما ملكا قشتالة جيشا جيشا هائلا ما رأى المسلمون قط مثله، وعزموا على دخول أغرناطة فأول نزولهم على حصن يقال له طشكر [2] وفيه صاحبه ابن حمدون فلما نازلوه بعث إليهم صاحب الحصن فى تسليمه على إبقاء المسلمين فأجاب ملك الروم إلى ذلك واستقر أن يسكن المسلمون والروم فى الحصن فواعدهم صاحب الحصن أن يبعثوا إليه فى نصف الليل خمسمائة فارس من الشجعان فبعثهم الملك إليه مع قائد يقال له أرمند فلما دخلوا الحصن فرقهم صاحب المجالس وقتلهم عن آخرهم ولم يشعر بعضهم ببعض فلما علم ملك الروم أنه عذر بهم حلف أن لا يرجع إلى بلاده حتى يدخل مدينة أغرناطة غلبة وقهرا [3] فنازلها بمن معه على أربعة أميال منها [4] فلم يخرج إليه أحد ثم تقرب حتى صار منها على ميلين فلما رأى المسلمون قربه من المدينة وقع فى نفوسهم رعب عظيم وتضرعوا إلى الله تعالى، فلما رأى سلطان البلد ما نزل بالمسلمين بعث إلى ملك الفرنج يقول له: ارحل عنى بأجنادك وأنا أعطيك عشرين حملا من المال ولا تفسد زرع البلاد، فامتنع من قبول ذلك وأبى إلا أخذها غلبة وقهرا فبعث إليه ثانيا وبذل له خمسة وعشرين حملا من الذهب، [133] وفى كل يوم مائة دينار وفى كل جمعة ألف دينار. فامتنع ملك الروم من القبول وحبس رسول المسلمين، فعلم المسلمون حينئذ أنه لا ينجيهم إلا النصر من الله تعالى فبعثوا

_ [1] فى ك «البشرية» والمثبت من ص، وف. [2] حصن طشكر: حصن حصين فى كورة جيان من أعمال الأندلس، لا يرتقى إلا بالسلاليم (معجم البلدان: 4: 40، وأنظر الإحاطة 397) . [3] فى ك «عليه قهرا» وكذلك ملحق السلوك 2: 957، والمثبت من ص، وف. [4] فى ك «فيها» والمثبت من ص، وف.

وأما ما وزن من الذهب من المغنم منهم

إلى أمير يعرف بأبى الجيوش من بنى مرين وسألوه إنجادهم بنفسه، فجاء ومعه ألف فارس [1] ونزل بموضع يقال له إلبيرة، وخرج عثمان بن أبى العلاء وهو من بنى مرين فى ألف فارس [1] فكمن فى موضع آخر وخرج ملك المدينة بعد خروج عثمان المذكور وخرج بعد الملك أمير يعرف بالمغراوى فى ثلاثمائة فارس من بنى مرين ومع كل طائفة منهم نقارتان [2] وصناجق ووقع [3] عليهم ملك المدينة واقتتلوا فانهزم المسلمون أمامهم إلى جهة المدينة استجرارا لهم فتبعهم الفرنج طمعا فيهم ثم عطف المسلمون عليهم وخرج عليهم الكمناء من كل جهة، ورفعوا أصواتهم بذكر الله تعالى، [4] فهزم الله تعالى الكفار [4] وألقى الرعب فى قلوبهم فقتل منهم ثمانون ألفا وسبى من الأولاد والنساء تسعة آلاف وأسر ما لا يحصى كثرة قال: وأما ما وزن من الذهب من المغنم منهم فثلاثة وأربعون قنطارا [5] ومن الفضة مائة وأربعون قنطارا [5] ولم يفلت من الفرنج إلا من نجا به فرسه وقتل الملكان فيمن قتل [6] وجميع زعمائهم [6] وحصلت امرأة جوان وأولاده فى الأسر فبذلت فى نفسها مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصنا فلم يقبل المسلمون ذلك قال: واستشهد من المسلمين سبعة، ثلاثة من بنى مرين وأربعة من الأندلسيين من أعيانهم، قال: ثم وصلنا أنه خرج من إشبيلية أربعة عشر مركبا، ونزلوا على سبتة [7] فخرج إليهم

_ [1- 1] ما بين الرقمين من ص، وف. [2] كذا فى ك، وف. وفى ص «نقارات» والنقارات نوع من الطبول، وهى من الآلات الملكية المختصة بالمواكب بمصر منذ العهد الفاطمى، وكانت تحمل على عشرين بغلا على كل بغل ثلاث نقارات، وكانت تلازم الجيوش فى الحروب. وانظر صبح الأعشى 3: 475. [3] كذا فى ك، وف. وفى ص «ودفع» . [4- 4] ما بين الرقمين من ص. [5- 5] ما بين الرقمين من ص. [6] ما بين القوسين من ص، وف. [7] سبتة: بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب، ومرساها أجود مرسى على البحر، وهى على بر البرير تقابل جزيرة الأندلس على طرف الزقاق الذى هو أقرب ما بين البر والجزيرة، وهى مدينة حصينة تشبه المهدية التى بإفريقية على ما قيل؛ لأنها ضاربة فى البحر داخلة فيه، وهى ذات أخياف وخمس ثنايا مستقبلة الشمال وبحر الزقاق. ومن جنوبها ينعطف عليها من بحر الزقاق، وبينها وبين فاس عشرة أيام. وانظر معجم البلدان 3: 206.

المسلمون فأخذوا منهم أجفانا وأسروا من بها، قال ووقعت الغزوة المباركة فى الخامس عشر من الشهر فكان بين الوقعتين ليلة واحد، هذا ملخص كتابه ومعناه ونقل الشيخ محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحيى الحاكى الأول قال: ولما كان فى يوم الخميس مفتتح سنة عشرين وسبعمائة هكذا قال يوم الخميس مفتتح سنة عشرين [1] وهى استهلت عندنا بيوم الثلاثاء عزم الشيخ أبو يحيى أمير جيش مالقة أن يتوجه إلى رندة ويجتمع فيها بابنه مسعود الذى تولى أمر جيشها بعد عمه الشهيد خالد ويصل إليه الشيخ أبو عطية مناف بن ثابت ويتوجهوا للإغارة على شريش [2] من بلاد النصارى فعلم بذلك النصارى المجاورون لمالقة ولبلاد المسلمين فعزموا على أن يغيروا على قامرة [3] وحصن نوح [4] من شطر [5] مالقة وبالقرب منها، فارتقبوا يوم انفصاله وكان يوم الخميس، فاجتمعوا فى نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل من أهل استجة [6] وسبتباله [7] وأشونة [8] وستبة [9] وبلى [10] وأليسانه [11] وقبرة [12] ومرشانة [13] وكان الفرنج فى الحشد الأول قد خافوا على هذه البلاد المجاورة

_ [1] ما بين الرقمين من ص. [2] شريش: بفتح أوله، مدينة كبيرة من كورة شذونه بالأندلس، وهى قاعدة هذه الكورة، واليوم تسمى شرش (معجم البلدان 3: 386) . [3] فأمره: وربما تأمرة. [4] كذا فى ك، وف. وفى ص «توج» . [5] كذا فى ك، وف. وفى ص «من نظر» . [6] إستجه: مدينة قديمة: ومعناها: جامعة الفرائد، وكان يقال لها: إستجة البغى، مذكورة باللعنة والخزى، يذهب خيارها، ويبقى شرارها. فتحها طارق بن زياد، وبها آثار كثيرة، ورسوم تحت الأرض، وبينها وبين مرشانة عشرون ميلا (الروض المعطار) 14- وفى معجم البلدان 1: 207 «أسم لكورة بالأندلس متصلة بأعمال ربة بين القبلة والمغرب من قرطبة، وهى كورة قديمة، واسعة الرساتيق والأراضى على نهر سنجل؛ وهو نهر غرناطة، وبينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متصلها بأعمال قرطبة. [7] فى ك «سبتياله» وفى ص، وف «سنتيالة» ولم أهتد إلى تعريف بأى منهما. [8] فى الأصول «أشبونة» ولكن أشبونة (لشبونه) بعيدة عن هذه المواضع. ولعل الصواب ما أثبته؛ فأشبنة حصن بالأندلس من نواحى إستجه (معجم البلدان 1: 139) وفى الروض المعطار 60 «أشونة من كور إستجة بالأندلس بينهما نصف يوم، وحصن أشونة مدن كثيرة السكان» . [9] فى ك، وف «ستبة» وفى ص «استبة» . [10] بلى- بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد الياء: ناحية بالأندلس من فحص البلوط. (معجم البلدان 1: 586. [11] فى الأصول «النسابة» ولعل الصواب ما ذكرته؛ فألسانة قريبة من إستجة. [12] قبرة: كورة من أعمال الأندلس تتصل بأعمال قرطبة من قبليها، وهى أرض زكية تشمل على نواح كثيرة ورساتيق ومدن تذكر، وقصبتها بيانة (معجم البلدان 4: 346) . [13] مرشانة: مدينة من أعمال قرمونة بالأندلس، (معجم البلدان 5: 126) .

للمسلمين فتركوا أهلها بها لحراستها فوصلوا صبيحة السبت ودخلوا قامرة فأخذوا جميع كسب سلطان المسلمين وكثيرا من كسب الرعية وخرجوا مطمئنين. وكان قد خرج فارسان من المسلمين ليلحقا الجيش فظفر الفرنج بأحدهما وهرب الآخر، فأدرك الشيخ أبا يحيى [1] بحيطين خضر الوزير بن الحكيم يعرفه الحال وهو بجماعة مالقة خاصة فرجع لقصد العدو فحضر على حصن طبية فتبعه من فرسانها نحو ثلاثمائة فارس ممن يعتمد عليهم، وترك الضعفاء والثقلة البقلة ونهض إلى حيث ذكر له الفارس أنه لقيهم فى أول الليل فى دخولهم فوجدهم قد خرجوا بالمغنم بموضع يقال له برجمه من [2] تحت حصن سم لى [3] وذلك بعد الظهر فارتفع الفرنج فى كدية عالية، ونزل أنجاد فرسانهم للقتال فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا فقتلوا أكثرهم، واستشهد من المسلمين رجل واحد يقال له سعد الهمدانى، ثم ظهرت ساقة المسلمين، فارتفع من سلم من مقاتلة النصارى إلى الكدية وتحصنوا بها بالبرادع والدرق والدواب [4] وامتنعوا ووصل الرماة من أنتقيرة [5] وحصن المنشأة، وكان العون من الله تعالى عليهم فما زالوا يجاولونهم [6] ويقاتلونهم إلى ثلث الليل الآخر فأذعن من سلم من النصارى إلى الإسار، فنزل نيف على خمسمائة فأسروا وقتل بقيتهم بالرماح والسهام ورجع الشيخ أبو يحيى بهم إلى مالقه وجعل منهم أربعمائة أسير اثنين وثمانين أسيرا فى حبل واحد، وسائرهم مثقلون بالخراج وأركبهم على دوابهم وأخذ منهم قاضى النصارى بأستجة [7] وحمل ما غنم [134] من عدوهم من السيوف والرماح على خمسة وأربعين جملا ومن القسى على خمسة وأربعين دابة، والدرق على نحو من ثلاث عشرة دابة، وأراح الله تعالى من هؤلاء الأعداء ونصر عليهم وله الحمد والمنة.

_ [1] كذا فى الأصول. إلا أنها غير منقوطة فى ص. [2] هذا اللفظ من ص. [3] حصن سم لى: كذا فى الأصول. [4] فى ك «الدراريب» والمثبت من ص، وف. [5] أنتقيرة: حصن بين مالقة وغرناطة (معجم البلدان 1: 307) . [6] فى الأصول «يجادلونهم» ولعل الصواب ما أثبته، أو لعلها يجادلونهم» . [7] فى ك «من بارسخه» والمثبت من ص، وف، وملحق السلوك 2: 958.

واستهلت سنة عشرين وسبعمائة بيوم [1] الثلاثاء

واستهلت سنة عشرين وسبعمائة بيوم [1] الثلاثاء فى هذه السنة فى شهر المحرم عاد السلطان الملك الناصر من الحجاز الشريف كما قدمنا ذكر ذلك فى سياقة أخبار حجته ولما عاد إلى الديار المصرية شمل نواب السلطان وأكابر الأمراء بالإنعام والتشاريف على عادته. ذكر تفويض السلطنة بحماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل كان الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين على ابن الملك المظفر تقى الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد توجه فى خدمة السلطان إلى الحجاز الشريف فى سنة تسع عشرة وسبعمائة فلما عاد فى هذه السنة رأى السلطان أن يفوض إليه السلطنة بحماة على عادة عمه وأجداده، فأمر بذلك وأركبه بشعار السلطنة فى يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة عشرين وسبعمائة ولبس التشريف بالمدرسة المنصورية التى بين القصرين بالقاهرة وهو بغلطاق [2] أطلس معدنى أحمر بطرز زركش، بسنجاب مقندز [3] وقباء تحتانى أطلس معدنى أصفر، وشاش تساعى مقصب بقصبات زركش وكلوته [4] زركش وسيف وحياصة [5] ذهب وركب فرسا أشهب من مراكيب السلطان نرنارى أطلس أحمر بداير أصفر برقبة سلطانية مزركشة وسرج سلطانى محلى بذهب وحمل السلاح له الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، وحملت الغاشية [6] السلطانية بين يديه، وركب فى خدمته الجمدارية السلطانية والحجاب، والنقباء

_ [1] فى ك «بالثلاثاء» والمثبت من ص، وف. [2] البغلطاق: لفظ فارسى معناه قباء بلا أكمام أو بأكمام قصيرة جدا، يلبس تحت الفرجية. وكان يصنع من القطن البعلبكى أو من السنجاب كما هنا، (خطط المقريزى 2: 99، وانظر الملابس المملوكية ص 44) . [3] مقندز: أى محبوك بفراء القندس. [4] الكلوتة: غطاء للرأس يشبه الطاقية، وانظر الملابس المملوكية ص 58. [5] الحياصة: منطقة كالحزام تكون من معدن وأفضلها ما كان معدنها هو الفضة المذهبة. وقد تكون مجوهرة أيضا. وهى التى تهدى لكبار النواب والأمراء. [6] الغاشية السلطانية: هى سرج من أديم مخروزة بالذهب يخالها، الناظر جميعها من الذهب، تحمل بين يدى السلطان عند الركوب فى المواكب يحملها الركابدارية رافعا إياها على يديه، ويلفتها يمينا، وشمالا (صبح الأعشى 4: 7) .

وفى هذه السنة أعفى الصاحب أمين الدين عبد الله

وحملت العصائب [1] على رأسه، وخلع على أرباب الوظائف من الأمراء الأكابر، وكان يوما ما مشهودا وطلع إلى قلعة الجبل وقبل الأرض بين يدى السلطان وجلس رأس الميمنة ثم أعطى الدستور الشريف فتوجه من يومه على خيل البريد محبورا مجبورا، ووصل إلى دمشق فى يوم الخميس الرابع والعشرين من المحرم وأقام بعض يوم وتوجه إلى حماة والله أعلم. وفى هذه السنة أعفى الصاحب أمين الدين عبد الله من نظر المملكة الطرابلسية وكان قد تكرر سؤاله في الإعفاء وأن يكون مقامه بالقدس الشريف فأجيب سؤاله وتوجه من طرابلس إلى القدس فى شهر المحرم ورتب له فى كل شهر ثمانمائة درهم، وأربع غرائر قمحا بكيل القدس، واستقر مقامه بالقدس إلى أن أعيد إلى الوزارة على ما نذكره إن شاء الله تعالى ذكر الإفراج عمن يذكر من الأمرآء المعتقلين وفى العشر الأوسط من صفر من هذه السنة أفرج السلطان عن جماعة من الأمراء المعتقلين الذين اعتقلوا فى ابتداء الدولة وهم الأمير علم الدين سنجر البروانى والأمير علم الدين الشيخ على التبريزى [2] [135] والأمير سيف الدين طوغان المنصورى والأمير سيف الدين طاجار تكبرى، والأمير صارم الدين أزبك العينتابى، والأمير علم الدين أيدمر الشيخى، والأمير علاء الدين مغلطاى السيواسى والأمير شمس الدين سنقر الكمالى الصغير والأمير بدر الدين الحاج بيلبك، وسيف الدين منكجار وناصر الدين منكلي وشرف الدين موسى وشهاب الدين غازى أخو حمدان بن صلغاى وخلع عليهم خلع الجند ورتب جماعة منهم فى البحرية ثم أمر بعضهم بطبلخاناه، وقدم بعضهم على رجال الحلقة، ولما أفرج السلطان عن هؤلاء هرب من الاعتقال بثغر الإسكندرية من الأمراء علاء الدين أيدغدى التترى [3] وسيف الدين بهادر الإبراهيمى فمسكا وجىء بهما إلى السلطان وكان معهما فى الاعتقال أحد المماليك السلطانية واسمه

_ [1] انظر ما سبق ص 244. [2] فى الأصول «التترى» والمثبت من السلوك 2/1: 202. [3] كذا فى ك وف. وفى ص «التقوى» .

ذكر إسماعيل [2] الزنديق ومقتله

رمضان فلم يوافقهم على الهرب فلما جىء بهم أفرج السلطان عنه وأمر بسمل [1] أعين بهادر الإبراهيمى وأيدغدى التترى فسملت أعينهما فى يوم الأربعاء خامس عشرين صفر من السنة. ذكر إسماعيل [2] الزنديق ومقتله وفى هذه السنة رمى هذا المذكور بالزندقة، وادعى عليه بمجلس الحكم عند القاضى علاء الدين الجوجراى أحد نواب قاضى القضاة تقى الدين بن الإخنائى المالكى، وشهد عليه جماعة كثيرة بأمور شنيعة تقتضى الزندقة نعوذ بالله من ذلك واعتقل مدة حتى استوضح الحاكم أمر الشهود وعرف عدالة بعضهم فقبل شهادته وزكى عنده بقيتهم وتضمن المحضر أقاويل شهد عليه بها لا يصدر مثلها عمن يعتقد بعثا ولا نشورا فثبت ذلك كله على الحاكم المذكور وأعذر إلى إسماعيل المذكور هل له مطعن فى الشهود يدفع به شهادتهم؟ وأمهله ثلاثة أيام أولها يوم الجمعة الثالث والعشرون من صفر فلما انقضى الأجل جلس قاضى القضاة تقى الدين المالكى ونائبه القاضى علاء الدين الجوجراى المذكور، وغيره من نواب الحكم، وجماعة من فقهاء المالكية وغيرهم بالمدرسة الناصرية بالقاهرة فلما صلوا المغرب ودخلت ليلة الإثنين وانقضت مدة الإعذار ولم يأت يدافع حكم عليه النائب بما ثبت عليه عنده من أمره وأشهد عليه أنه هدر دمه ونفذ قاضى القضاة تقى الدين المالكى المذكور ما حكم به نائبه وحكم به، وكان هذا الرجل قد حكى عنه كلام كثير منه ما ثبت بمقتضى المحضر ومنه ما شاع مما تنزه كتابنا عن ذكره وأخبرنى الشيخ زين الدين أبو بكر بن الفرج الهيثمى فى يوم الأحد لخمس بقين من صفر سنة عشرين وسبعمائة قال: رأيت فى الليلة المسفرة عن هذا اليوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه بجامع الحاكم فى صحنه مما يلى الدرابزين من الجهة

_ [1] السمل: يكون بوضع الحديد المحمى بالنار أو المرآة المحماة أمام العين حتى تفقد البصر. وانظر السلوك 2/1: 203. [2] وفى ذيول العبر 109 «إسماعيل بن سعيد الكردى المقرئ» وانظر الدرر الكامنة 367، والنجوم الزاهرة 9: 249.

القبلية ومعه لوط عليهما السلام وهما قائمان فسلمت عليهما فردوا على السلام فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قل لتقى الدين بن الإخنائى بقتل هذا أما سمعت ما قال أو ما سمع ما قال الشك من الراوى فى سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لوط وكان قد ذكر عن هذا الزنديق فى حق لوط عليه السلام كلام شنيع، وقال لى الراوى وغيره ممن أثق بهم أنهم فى تلك الليلة كانوا قد ذكروا عن هذا الرجل ما وقع فيه، فلما نام رأى هذه الرؤيا وقصها على قاضى القضاة تقى الدين وأبلغه رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك اليوم آخر أيام الإعذار فهدر دمه كما تقدم فلما كان فى يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر اجتمع القضاة بدار العدل فى مجلس السلطان على العادة وطولع السلطان بما حكم به من هدر دم إسماعيل المذكور، وكان قد طولع قبل ذلك بخبره فسأل السلطان من الشهود الذين شهدوا عليه؟ وكان بعض الناس قد أراد الاعتناء به فلم يفده ذلك وقال قضاة القضاة بأجمعهم للسلطان، هذا لا بد من قتله إسنادا لحكم الحاكم فأمر السلطان متولى القاهرة يومئذ وهو الأمير علم الدين سنجر الخازن بالركوب فى صحبة القضاة وامتثال ما يأمرونه به فى أمره فاجتمع قضاة القضاة الأربعة وغيرهم من النواب والعلماء [136] فى المدرسة الصالحية بالإيوان المرصد للمالكية واتفقوا على ضرب عنقه فراجع متولى القاهرة السلطان فى ذلك، فأمره بتنفيذ ما أمر به القضاة، فضرب عنقه بعد صلاة العصر من يوم الإثنين وعرض عليه قبل ذلك أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لعل ذلك ينفعه فيما بينه وبين الله تعالى إن أخلص فلم يقل ذلك وشرع يخلط فى كلامه ويذكر ألفاظا غير مستقيمة وظن أن ذلك التخليط ينفعه أو يشكل على القضاة بزوال عقله فيؤخروه، فلم يفده ذلك وضربت عنقه كما تقدم وألقيت جثته ورأسه بين القصرين إلى بعد المغرب من يوم مقتله، ثم حمل أعاذنا الله مما قال بمنه وبكرمه.

ذكر قتل رجل ادعى النبوة بدمشق

ذكر قتل رجل ادعى النبوة بدمشق وفى هذه السنة ادعى رجل بدمشق اسمه أقجبا رومى الجنس، من مماليك الأمير ركن الدين بيبرس التاجى أنه نبى وتسمى عبد الله وكان قبل ذلك يلازم الجامع بدمشق ويكثر من تلاوة القرآن فادعى ذلك وأصر عليه ورجع فلم يرجع وخوف بالقتل فلم يفد ذلك فاعتقد أولياء الأمر أن يكون قال هذا القول من حاجة مسته أو فاقة، فوعد بإزالة ضرورته وأن يرتب له كفايته، فأبى قبول ذلك وأصر على دعواه فضربت عنقه بظاهر دمشق فى يوم الإثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول. ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى مكة شرفها الله تعالى [1] وخبر مقتل حميضة بن أبى نمى كان السلطان لما كان بمكه شرفها الله تعالى سأله المجاوزون بمكة ومن بها من التجار أن يخلف بها عسكرا يمنع عز الدين حميضة بن أبى نمى إن هو قصد أهل مكة بسوء، فجرد ممن كان معه الأمير شمس الدين آق سنقر ومعه، مائة فارس فأقام بمكة فلما عاد السلطان إلى قلعة الجبل جرد الأمير سيف الدين بيبرس الحاجب [كان] وهو من الأمراء مقدمى الألوف ببعض عدته وجرد معه جماعة من المماليك السلطانية، فكانت عدة من توجه معه مائة فارس وخرج من القاهرة فى يوم الأربعاء السادس من شهر ربيع الأول من هذه السنة ووصل إلى مكة شرفها الله تعالى، وأقام بها ومنع أهلها من حمل السلاح السكين فما فوقها وبعث إلى الأمير عز الدين حميضة وكان بقرب نخلة تستميله إلى مراجعة الطاعة والتوجه إلى الأبواب السلطانية فسأل رهينة عنده من أولاد الأمير ركن الدين تكون عند أهله ويحضر فأجاب الأمير ركن الدين إلى ذلك وجهز أحد أولاده، وهو الأمير على وجهز معه هدية لحميضة ولم يبق إلا أن يتوجه فأتاه فى ذلك اليوم رجل من العرب وأخبره بقتل حميضة فأنكر وقوع ذلك وظن أن ذلك مكيدة لأمر ما، لكنه توقف عن إرسال ولده حتى يتبين

_ [1] وانظر إتحاف الورى بأخبار أم القرى 3: 166- 169.

ذكر تجريد جماعة من العساكر الشامية إلى بلاد سيس ورجوعهم

له الحال، فلما كان فى مساء ذلك اليوم طرق باب المعلى بمكة ففتح فإذا مملوك اسمه أسندمر، وهو أحد المماليك الثلاثة الذين كانوا قد التحقوا بحميضة من مماليك الأمراء كما تقدم وهو راكب حجرة [1] حميضة التى تسمى جمعة وكان السلطان قد طلبها من حميضة فشح بإرسالها وأخبر أنه قتل حميضة غيلة وهو نائم، وجرد سيفه فإذا به أثر الدم وذلك فى جمادى الآخرة فأرسل الأمير ركن الدين ولديه ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد إلى الأبواب السلطانية بهذا الخبر فوصلا إلى السلطان فأنعم عليهما وجهزا الأمير ركن الدين من توجه لإحضار سلب حميضة والمملوكين اللذين بقيا فأحضر السلب وأخذا المملوكين وقيل إن الثالث مات وهو مملوك الأمير سيف الدين بكتمر الساقى فألزم صاحب نخلة بإحضاره وتوعده إن تأخر فأحضره واستمر الأمير ركن الدين بمكة إلى أن عاد الجواب السلطانى بطلبه، فتوجه من مكة- شرفها الله تعالى-[137] فى مستهل شعبان وصحبته المماليك الثلاثة الذين كانوا قد هربوا، وكان وصوله إلى الأبواب السلطانية فى العشر الأول من شهر رمضان، ولما وصل شمله الإنعام والتشريف، وأمر السلطان بقتل أسندمر قاتل حميضه قودا به فى شوال من السنة. ذكر تجريد جماعة من العساكر الشامية إلى بلاد سيس ورجوعهم وفى هذه السنة أمر السلطان بتجريد العساكر من الشام والسواحل، فجرد جماعة من دمشق وهم الأمير سيف الدين جوبان المنصورى، والأمير سيف الدين بكتوت القرمانى، والأمير بدر الدين بكتوت الشمسى ومضافيهم والمقدم عليهم جوبان المذكور وتوجهوا فى يوم الإثنين السادس والعشرين من شهر رجب وجرد العساكر بجملتها والعسكر الصفدى وبعض العساكر الحلبية وتوجهوا إلى جهة سيس والمقدم على سائر العساكر الأمير شهاب الدين قرطاى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية.

_ [1] فى ص «مهرة» والحجرة: هى انثى الخيل (محيط المحيط) .

ذكر وصول الخاتون دلنبية وقيل فيها طولونية ابنة [3] وبناء السلطان الناصر بها

وسبب ذلك أن الهدنة التى كانت بين السلطان وبين صاحب سيس انقضت فسأل صاحب سيس تجديد هدنته على ما كانت عليه فامتنع السلطان من ذلك وطلب منهم عدة قلاع كانت قد أحدثت فى الأيام المنصورية الحسامية كما تقدم فتوقفوا فى إعطائها ثم بذلوا بعضها فلم يوافق السلطان على ذلك، وجرد هذه العساكر، ودخلوا إلى بلاد سيس، ولما وصلوا إلى نهرجان [1] وأرادوا قطعه غرق من العساكر نحو ألف فارس أكثرهم من عسكر طرابلس والتركمان، ثم دخل العسكر وأغاروا وشعثوا وأقاموا ببلاد سيس سبعة عشر يوما، ثم خرج العسكر وأقام بسليمة [2] ثم رسم السلطان لهم أن يسوقوا خلف العرب حتى يخرجوهم من المملكة الشامية، ومات فى هذه السفرة من الجيش المجرد من دمشق الأمير بدر الدين بكتوت الشمسى، وكانت وفاته بحلب، ولم يدخل إلى سيس لمرضه- رحمه الله تعالى. ذكر وصول الخاتون دلنبية وقيل فيها طولونية ابنة [3] وبناء السلطان الناصر بها كان السلطان الملك الناصر قد خطب إلى الملك أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان ملك البلاد الشمالية من تكون الذرية الجنكيز خانية، وجهز إليه الأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى وغيره كما تقدم فى سنة ست عشرة وسبعمائة، فلما عرضت كتب السلطان على الملك أزبك قال الترجمان للرسول لما أراد أن يتكلم بالمشافهة: إن القاضى [4] يعنى الملك أزبك يقول إن كان فى مشافهتك غير السلام فخاطب به الأمراء، ثم جمعت الأمراء مقدمى التمانات، وهم سبعون أميرا،

_ [1] نهرجان: هذه تسمية عامية. والصحيحة نهرجيحان: ويخرج من بلاد الروم عند زبطرة، وتقع عليه المصيصة، ويصب فى البحر الأبيض قريبا منها (معجم البلدان 2: 227 بتحقيق فريد الجندى) . [2] سلمية: بليدة فى ناحية البرية من أعمال حماه بينهما مسيرة يومين. وكانت تعد من أعمال حمص. وأهل الشام يقولون: سلجية. بكسر الميم وتشديد الياء. وانظر معجم البلدان 3: 272. [3] بعد هذه بياض فى الأصول، وقد جاء فى كنز الدرر لابن أيبك الدوادارى 9: 302: أنها الآدر الشريفة بنت أخى أزبك. وجاء فى السلوك 2/1: 203 وصلت الستر الرفيع الخاتون طلنباى، ويقال دلنبيه، ويقال دلنبيه، ويقال ذو لونية بنت طغاى بن هندو بن باطو بن دوشى خان بن جنكيز خان. وفى النجوم الزاهرة 10: 74 فى ترجمة أزبك خان وتزوج الملك الناصر محمد بابنته» وفى ذيول العبر 109 «وعقد السلطان على أخت أزبك التى قدمت فى البحر» . [4] فى ك «القاضى» والتصويب من ص، وف.

فكلمهم الرسول فى ذلك فنفروا منه، وقالوا هذا لم يقع مثله فيما تقدم من حين ظهور جنكزخان وإلى هذا الوقت. وفى مقابلة ماذا تجهز ابنة ملك من الذرية الجنكزخانية إلى الديار المصرية، وتقطع سبعة بحور؟ ونحو هذا من الكلام، ولم يوافقوا على ذلك فى أول يوم، ثم اجتمعوا فى يوم آخر بعد أن وصلت إليهم هداياهم التى جهزها السلطان إليهم وأعيد الحديث فى ذلك فأجابوا إليه وسهلوه، وقالوا، ما زالت الملوك تخطب إلى الملوك. وملك مصر ملك عظيم يتعين إجابته إلى ما طلب إلا أن هذا الأمر لا يكون إلا بعد أربع [1] سنين سنة كلام، وسنة خطبة، وسنة مهاداة، وسنة زواج، واشتطوا فى طلب المهر والشروط فلما اتصل ذلك بالسلطان فرجع عن الخطبة والحديث فيها وتكررت رسله إلى الملك؛ أزبك ورسل الملك أزبك إليه والسلطان لا يذكر أمر الخطبة ولا تتضمن رسائله غير السلام والمودة على العادة، ثم توجه الأمير سيف الدين أطرجى [2] من جهة السلطان إلى الملك أزبك بالهدايا والتحف وخلعة سلطانية مزركشة مكللة [138] فلبسها الملك أزبك ثم ابتدأ الأمير سيف الدين أطرجى بذكر الزواج، وقال: قد جهزت لأخى السلطان الملك الناصر ما كان قد طلب، وقد عينت له ابنة من البيت الجنكزخانى من نسل الملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، فقال أطرجى إن السلطان لم يرسلنى فى هذا الأمر، وهذا أمر عظيم لو علم السلطان بوقوعه جهز لهذه الجهة المعظمة ما يليق وما يصلح لها وأراد بذلك رفع الأمر إلى وقت آخر فقال الملك أزبك أنا أرسلها إليه من جهتى فما وسع الرسول إلا مقابلة أمره بالسمع والطاعة فلما استقر هذا الأمر قال الملك أزبك للرسول أحمل مهر هذه الجهة [3] فاعتذر أنه لا مال معه. فقال نحن نأمر التجار أن يقرضوك ما تحمله فأمرهم بذلك. فاقترض عشرين آلف دينار عينا وحملها ثم قال له إنه لا بد لها من عمل فرح يجتمع فيه الخواتين، فاقترض مالا آخر قيل إنه سبعة آلاف دينار، وعمل الفرح وجهزت الخاتون،

_ [1] فى الأصول «أربعة» . [2] كذا فى الأصول، كنز الدرر 9: 302، وفى السلوك 2/1: 204، والدليل الشافى 1: 360، والدرر الكامنة 2: 317 «طرجى» .

ولما طلعت الخاتون من المركب جعلت فى خركاة مذهبة على عجلة

وصحبها جماعة من الرسل، وعدة فى الخواتين وقاضى مدينة صراى، وتوجهوا من جهة الملك أزبك وركبوا البحر فى ثانى شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة، وحصل لهم مشقة عظيمة إلى أن وصلوا إلى ثغر الإسكندرية فى شهر ربيع الأول سنة عشرين وسبعمائة. ولما طلعت الخاتون من المركب جعلت فى خركاة مذهبة على عجلة وجرها المماليك إلى دار السلطنة بالثغر، وأجريت لهم الإقامات المتوفرة، وجهز السلطان إلى خدمتها جماعة من الحجاب وثمان عشرة حراقة [1] فركبت الخاتون فى الحراقة الكبرى السلطانية وركب بقية من معها فى بقية الحراريق، ووصلت الخاتون إلى الساحل المقابل للقاهرة من بحر النيل فى يوم الإثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة عشرين وسبعمائة وفرشت مناظر الميدان السلطانى لنزولها، ولما وصل ركب الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة الشريفة وجماعة من الأمراء والمماليك السلطانية الأكابر، وتوجهوا إلى خدمتها وحملت من الحراقة فى محفة على أكتاف مماليك نائب السلطنة إلى أن استقرت بقاعة الميدان السلطانى، وضرب لها أيضا بالميدان دهليز أطلس معدنى كان قد عمل للسلطان، ومد لها ولمن معها أسمطة تصلح لمثلها، وأجريت عليهم الإقامات. فلما كان فى يوم الخميس الثامن والعشرين من الشهر أحضر السلطان الرسل وهم رسل الملك أزبك ورسل ملك الكرج ورسل الأشكرى فمثلوا بين يديه، أو أدوا ما معهم من الرسائل وأحضروا الكتب والتقادم، ثم أمر السلطان نائبه الأمير سيف الدين أرغون والأمير سيف الدين بكتمر [2] الساقى وهو من أخص مماليكه أن يتوجها إلى الميدان وينظرا الخوند الخاتون الواصلة، فتوجها إليها ورأياها- فيما بلغنى- ونقلت فى بقية النهار إلى قلعة الجبل وحملت

_ [1] الحراقة: نوع من السفن الحربية كانت تستخدم لحمل الأسلحة النارية، وكانت بها مرام تلقى منها النيران على العدو، وكان فى مصر نوع آخر منها استخدم فى النيل لحمل الأمراء ورجال الدولة فى الاستعراضات البحرية والحفلات الرسمية. وأنظر محيط المحيط، وخطط المقريزى 2: 194، 195. [2] فى ك «أكتمر الساف «» والمثبت من ص، وف، والنجوم الزاهرة 9: 300، والدليل الشافى 1: 194.

ذكر تسحب الأمير حسام الدين مهنا وأولاده

على عربة [1] يجرها بغل يقوده أحد مماليكها حتى استقرت بقاعة أعدت لها بقلعة الجبل كان السلطان قد أنشأها لم يبن بالمملكة الإسلامية مثلها ثم عقد العقد المبارك فى يوم الإثنين السادس من شهر ربيع الآخر على ثلاثين ألف مثقال عينا حالة منها ما قدم وهو عشرون ألف دينار التى تقدم ذكرها وعقد العقد قاضى القضاة بدر الدين محمد بن ابراهيم بن جماعة وقبل العقد عن السلطان بوكالته نائبه الأمير سيف الدين أرغون وبنى السلطان بها ثم أعاد الرسل ومن حضر فى خدمتها بعد أن شملهم بالإنعام الوافر وجهز معهم الهدايا الجليلة إلى الملك أزبك وغيره وكان عودهم فى شعبان وتأخر منهم قاضى مراى بسبب الحج فحج وعاد إلى بلاده فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. ذكر تسحب الأمير حسام الدين مهنا وأولاده ومن يلوذبه من العربان آل فضل [139] من البلاد الشامية ولحاقهم بالعراق وإمرة الأمير محمد شمس الدين محمد بن أبى بكر. وفى سنة عشرين وسبعمائة تسحب الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى وأولاده وإخوته وغيرهم ممن يلوذ بهم وينسب إليهم من آل فضل وفارقوا البلاد الشامية وتوجهوا نحو العراق وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر كان قد أحسن إلى هذه الطائفة من العربان وقدمهم على غيرهم، ووصلهم بالعطايا الجزيلة والإقطاعات الوافرة التى لم يسمع بمثلها، ولا يسمح الملوك بها ولا ببعضها الأكابر النواب وأعيان الأمراء، وكان ينعم على الرجل الواحد من أولاد مهنا بثلاثمائة ألف درهم فما دونها وأقطعهم جلّ [2] الخواص بالبلاد الشامية زيادة على ما بأيديهم ثم طلبوا أكثر خواص القلاع بالممالك الإسلامية فأقطعهم ذلك وأخذوا أيضا بعض إقطاعات الأمراء بالشام وهم لا يطلبون شيئا إلا أنعم عليهم به وأقطعه لهم والسلطان فى غضون هذا الإحسان يقصد وصول الأمير حسام الدين مهنا إلى بابه وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، وتكررت

_ [1] فى الأصول «حملت على أربة» والمثبت هو الصواب. [2] فى ك «جبل» والتصويب من ص، وف.

رسائل [1] السلطان إليه وهو يظهر الطاعة ولا يوافق على الوصول إلى الأبواب السلطانية، ثم خشى عاقبة السلطان، وارتاب من كثرة إنعامه على العربان، فكاتب السلطان مرارا فى استرجاع ما أعطاه لأولاده وإخوته من الزيادات فى الإقطاعات واختصار كثرة الصلات وأن يجرى الأحوال على ما كانت عليه من العوائد والسلطان يأبى ذلك فظن أن الإنعام على هذه الطائفة إنما هو بسببه فلما كان فى شهر ربيع الأول رسم السلطان بتجريد العساكر إلى بلاد سيس فغلب على ظنه أنها تقصده ففارق البلاد ووصل إلى عانة [2] فأمر السلطان بإيقاع الحوطة على إقطاعات العربان من يومه والاحتراز على متحصلاتها، فوض إمرة العرب للأمير شمس الدين محمد بن أبى بكر بن على بن حذيفه وجهز السلطان الأمير سيف الدين قجليس إلى الشام بنصف عدته وأمر أن يتوجه معه جيش من دمشق لإخراج العربان، فجرد الأمير سيف الدين كجكن فى جماعة من العسكر، ووصل الأمير سيف الدين قجليس إلى دمشق فى حادى عشر جمادى الأولى، فتوجه منها الجمعة ثانى عشر الشهر وصحبته جماعة من العسكر الشامى والأمير شمس الدين محمد بن أبى بكر، واجتمعوا هم والجيوش المجردة إلى بلاد سيس وساقوا خلف العرب حتى أخرجوهم من بلاد الشام، وكانت مدة غيبة الأمير سيف الدين عن دمشق أربعة أشهر، وعاد فى خامس شهر رمضان إلى دمشق، وكان تأخره هذه المدة بسبب ضبط ما يتحصل من أقطاع العربان النازحين. وأما الجيش المجرد من دمشق إلى سيس فإنه عاد فى يوم السبت حادى عشر جمادى الآخرة ثم ورد الخبر إلى دمشق من الرحبة فى يوم الأحد ثانى شعبان إلى أن جماعة من عرب مهنا وصلوا إلى بلاد الرحبة لرعى زرعها، فجهز جماعة من الأمراء وقدم عليهم الأمير سيف الدين بهادر آص، وتوجهوا فى يوم الأثنين ثالث شعبان.

_ [1] فى ك «مسائل» والمثبت من ص، وف. [2] عانة: بلد مشهور بين الرقة وهى تعد من أعمال الجزيرة وهى مشرفة على الفرات قرب حديثة النورة، وبها قلعة حصينة وانظر معجم البلدان 4: 81.

ذكر إبطال مكس الملح بالديار المصرية

وفى جمادى الآخرة من السنة عاد إلى الأبواب السلطانية بعض العربان الذين توجهوا مع مهنا فأمر السلطان بالإفراج عن إقطاعاتهم وإجرائهم على عاداتهم. ذكر إبطال مكس الملح بالديار المصرية وفى العشر الآخر من شهر ربيع الآخر رسم السلطان بإبطال مكس الملح [1] وكتب بذلك مثال شريف سلطانى، وقرئ على المنابر فى يوم الجمعة الخامس من جمادى الأولى من سنة عشرين وسبعمائة، وكان المقرر على ذلك جملة كبيرة فى كل سنة فبطلت هذه المعاملة، واجتثت من أصلها وسطر الله هذه الحسنة فى صحائف حسناته. وفى هذه السنة فى يوم الإثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة وصل إلى الأبواب السلطانية [140] رسل صاحب اليمن الملك المؤيد هزبر الدين داود بالتقادم والهدايا والتحف، وكان مما أحضروه حمار وحشى أبلق مخططا قدر البغل لم يصل إلى الديار المصرية مثله فيما سلف فقبلت هديتهم وشملهم بالإنعام السلطانى ثم أعيدوا إلى مرسلهم بما جرت العادة به. وفى هذه السنة تجهز ركب إلى الحجاز الشريف فيه جماعة من الأعيان وطلبة الحديث وغيرهم والمقدم على الركب بأمر السلطان الأمير جمال الدين عمر بن كراي أحد أمراء العشرات وكان رحيل هذا الركب فى السابع عشر من رجب، ووصل إلى مكة- شرفها الله تعالى- فى يوم الأحد مستهل شهر رمضان، ولم يجدوا فى سفرهم إلا خيرا ورفقا [2] وتيسيرا [2] والله أعلم [3] . ذكر منع الشيخ تقى الدين بن تيمية من الفتيا واعتقاله بقلعة دمشق قد قدمنا أن المراسم الشريفة السلطانية كانت قد تقدمت بمنع الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية من الفتيا فى مسألة الطلاق وتكررت مرة بعد أخرى، ثم

_ [1] وفى النجوم الزاهرة 9: 62 «فأبيع الأردب الملح بثلاثة دراهم بعد ما كان بعشرة دراهم» . [2] ما بين القوسين زيادة من ص، وف. [3] عبارة «والله أعلم» لم ترد فى ص، وف.

ذكر القبض على الأمير علم الدين الجاولى نائب السلطنة بغزة

اتصل بالأبواب السلطانية أنه لم يمتنع عن ذلك فلما كان فى بكرة نهار الخميس الثانى والعشرين من شهر رجب سنة عشرين وسبعمائة عقد المجلس بدار السعادة بدمشق بحضور نائب السلطنة، وقضاة القضاة الأربعة وجماعة من الأعيان، وحضر الشيخ تقى الدين وسئل عن فتياه فى مسألة الطلاق، وأن المراسيم الشريفه السلطانية تكررت بمنعه من ذلك وهو يفتى بها، فأنكر أن يكون أفتى بها بعد المنع فحضر خمسة نفر ذكروا أنه أفتاهم بها بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فشهد عليه تقى الدين به طليس أنه أفتى بها لحّاما [1] اسمه قمر، وأن ذلك كان فى بستان شرف الدين ابن منجا فقام شرف الدين وعلاء الدين أبناء زين الدين بن منجا ليشهدا بخلاف ما شهد به ابن طليس، فقال قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى لهم: أنتما فاسقان لا تقبل شهادتكما ثم أمر بإخراجهما من المجلس فأخرجا، وقيل للشيخ أكتب خطك أنك لا تفتى بها ولا بغيرها فكتب أنه لا يفتى بها، ولم يكتب بغيرها فأمر قاضى القضاة نجم الدين باعتقاله وحكم بذلك، فقال له، حكمك باطل فإنك [2] عدوى فلم يرجع إلى قوله وحبس بقلعة دمشق واستمر فى الاعتقال إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فأفرج عنه حسب الأمر السلطانى، واستمر بداره بدمشق. ذكر القبض على الأمير علم الدين الجاولى نائب السلطنة بغزة وفى شعبان سنة عشرين وسبعمائة أمر السلطان بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الجاولى [3] نائب السلطنة ومقدم العسكر بغزة، وكان قد تقدم فى الدولة وعظم شأنه وكثرت أتباعه ومماليكه وميز إقطاعه حتى كان فيما قيل- يقارب إقطاع نائب السلطنة بدمشق، ولم يكاتب من ديوان الإنشاء بما كان يكاتب [4] به من قبله من النواب، بل ألحق بنواب الممالك الشريفة فى رسم المكاتبة السلطانية وغيرهم وكان قد استأذن على الحج وتجهز لذلك تجهزا عظيما فاتصل بالسلطان عنه من أحد أستاذ دارية المذكور [5] أمورا أنكرها

_ [1] اللحام» الذى يبيع اللحم. [2] فى ك «فإنه» والمثبت من ص، وف. [3] وأنظر ترجمته فى ذيول العبر 247، والدرر الكامنة 2: 226، والنجوم الزاهرة 10: 109، وشذرات الذهب 6: 142. [4] فى ك «بكاتبه» والمثبت من ص، وف.

ذكر إبطال المعاملة بالفلوس عددا بالديار المصرية وبيعها بالرطل

عليه ونسب إلى ما لعله برئ منه فأمر السلطان بالقبض عليه وتوجه الأمير سيف الدين الماس الحاجب لذلك وأظهر أنه إنما توجه لزيارة البيت المقدس والخليل صلوات الله عليه وسلامه، ولما عاد من الزيارة قبض عليه وأوقع الحوطة على موجوده، وذلك فى يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان وجهز إلى الديار المصرية، [141] فلما وصل أمر السلطان بإرساله إلى ثغر الإسكندرية واعتقاله، فأرسل من وقته واعتقل بالثغر وكان أحسن الله عاقبته كثير الصدقة على الفقراء المقيمين بغزة والواردين إليها وغيرهم ممن هو بالقدس الشريف وحرم الخليل صلوات الله تعالى عليه وأثر بتلك الجهات أثارا حسنة، فانقطع كثير من الفقراء بسبب اعتقاله، عامله الله تعالى بلطفه وبمنه وكرمه. ذكر إبطال المعاملة بالفلوس عددا بالديار المصرية وبيعها بالرطل وفى هذه السنة فى مستهل ذى الحجة رسم بإبطال المعاملة بالفلوس عددا وكانت المعاملة بها حسابا عن كل درهم ثمانية وأربعين فلسا، وكان سبب ذلك أنها كثرت فى أيدى الناس وهم، يتعاملون بها عددا على العادة فضربها الزغلية [1] وخففوها إلى أن صار كل ستة فلوس منها زنة درهم، وكان السلطان قبل ذلك قد رسم بإبطال المعاملة فى الشام بالفلوس على ما كانوا يتعاملون بها بينهم [2] بالقراطيس [3] والقرطيس ستة فلوس عدد أخفافا، وكان الناس يتعاملون بها بالشام حسابا عن كل درهم أربعة وعشرون قرطاسا، فأبطلها السلطان وأمر بضرب فلوس جدد ناصرية، زنة كل فلس بها درهم وتعامل الناس بها بالشام على عادة الديار المصرية كل ثمانية وأربعين فلسا بدرهم فنقل الناس تلك الفلوس الخفاف من الشام إلى الديار المصرية [4]

_ [1] الزغلية: مزيفو النقود. (السلوك 2/1: 205 هامش الدكتور زيادة) . [2] هذا اللفظ من ص، وف. [3] القراطيس: نوع من الفلوس النحاسية، أو دراهم ملفوفة على شكل أصبع (السلوك 2/1: 205 هامش الدكتور زيادة) . [4] ما بين الحاصرتين إضافة يقتضيها السياق.

ذكر خبر الحاج فى هذه السنة

وخلطوها مع فلوس المعاملة، فخرجت فيها وتمادت عليها الأيام إلى أن كثرت وقلت الأولى، فتوقف الناس فى المعاملة بها وتزايد الأمر إلى أن غلقت الدكاكين وارتفعت الأسعار وتضاعفت، وكان السلطان قد توجه إلى الصيد بجهة الصعيد، ووصل إلى الأعمال القوصية، فلما عاد أنهى إليه حال الناس ووقوف معائشهم فأمر بأبطالها عددا وأن تدور بين الناس بالميزان حسابا عن كل رطل بالمصرى ثلاثة دراهم، وأمر بضرب فلوس جدد بدار الضرب عليها اسم السلطان وتاريخ ضربها زنة كل فلس منها نصف وربع وثمن، وأن يتعامل الناس بهذه الجدد عددا على العادة فمشت معائش الناس فى شهر ذى الحجة لكن غرم الناس جملة كثيرة فيما بين العدد والميزان، فكان الرطل منها إذا عد يكون سبعة دراهم عددا أو أكثر من ذلك وأقل ثم كان من أمر وقوفها ما نذكره فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وما بعدها. ذكر خبر الحاج فى هذه السنة فى هذه السنة وقف الناس بعرفه فى يوم الجمعة بغير خلاف بينهم وحج من الديار المصرية خلق كثير فكانت الركوب [1] التى خرجت من الديار المصرية سبعة وهم ركب توجه فى شهر رجب كما تقدم وأربعة ركوب في شوال على العادة صحبة المحمل، رحل الركب الأول منهم فى يوم الإثنين سادس عشر شوال من بركة الجب، وآخرهم فى يوم الجمعة وتوجه نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون بجماعة فى ذى القعدة وسبق الناس إلى مكة شرفها الله تعالى وتوجه القاضى فخر الدين ناظر الجيوش فى جماعة معه من مصر إلى البيت المقدس ومنه إلى مكة شرفها الله تعالى وتوجه من جهة البحر من ثغر عيذاب خلق كثير واجتمع بالموقف بعرفه ما يزيد على ثلاثين ركبا، ووصل ركب العراق إلى مكة وفيه خلق كثير وجماعة من أمراء التتار ومحمل من جهة الملك أبى سعيد بن خربندا، عليه غشاء أطلس، مرصع بأنواع الجواهر واليواقيت واللآلى والزمرد، وكان إذا وضع عن ظهر البختى ضرب عليه جسر عظيم واحتفال كثير، وكان مع أمراء الركب العراقى [142] صناجق سلطانية ناصرية وصناجق عليها رقوك [2] الأمراء فجعل المحمل العراقى

_ [1] الركوب: جمع ركب: وهى تعادل أفواج الحجاج فى عصرنا هذا. [2] الرنوك: جمع، رنك: وهى كلمة فارسية معناها اللون. ولكنها فى إصطلاح المؤرخين تعنى الشعار الذى يتخذه الأمير لنفسه- عند تأمير السلطان له- علامة على وظيفة الإمارة التى عين عليها، ويجعل ذلك دهانا ملونا على أبواب بيته، والأماكن المنسوبة إليه، وعلى قماش خيامه وخيوله وجماله، وربما جعلت على السيوف والأقواس والصناجق وغيرها (صبح الأعشى 4: 61، 64) .

وفى هذه السنة توفى الشيخ الفقيه العالم

وصناجقهم، خلف محمل السلطان وصناجقه، ومحمل صاحب اليمن خلف محمل العراق، وكانت عادة الركب العراقى إذا قصد الحج ومرأهله على منازل العربان يأخذون منهم خفرا جملة من الأموال فلما وصل هذا الركب والمحمل فى هذه السنة ومروا على تلك الأعراب دفعوا إليهم ألف دينار وخمسمائة دينار فامتنع العربان من تمكينهم من العبور إلا بثلاثة آلاف دينار فقالوا نحن إنما جئنا بأمر السلطان الملك الناصر صاحب الديار المصرية والحجاز وكتابه إلينا فأعادوا عليهم الذهب وقالوا إذا كنتم جئتم بأمر السلطان فلا نأخذ منكم خفرا ومكنوهم من الجواز بغير شئ فلما اتصل ذلك بالسلطان أحسن إلى تلك [1] الطائفة من العربان وأثابهم على ذلك بجزيل الإنعام والخلع السنية. وفى هذه السنة توفى الشيخ الفقيه العالم القاضى زين الدين أبو القاسم محمد ابن الشيخ علاء الدين محمد بن الحسين بن عتيق ابن عبد الله بن رشيق [2] المصرى المالكى وكانت وفاته بمصر فى ليلة الجمعة الحادى عشر من شهر المحرم سنة عشرين وسبعمائة ودفن فى يوم الجمعة بتربتهم بالقرافة الصغرى، وكان من فضلاء المالكية وأعيانهم ومفتيى المذهب ولى القضاء بثغر الإسكندرية نحو اثنتى عشرة سنة، وولى مرة نحو سنة قبل ولاية القاضى شرف الدين بن الرفقى [3] ولما عزل من الثغر عاد إلى مصر فكان بها إلى أن مات- رحمه الله تعالى. وتوفى شيخنا المحدث الفاضل العدل شرف الدين يعقوب ابن الشيخ الإمام المقرى جمال الدين أحمد بن يعقوب ابن عبد الله الحلبى، المعروف بابن الصابونى، وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر رجب من هذه السنة، ودفن من يومه بمقبرة باب النصر،- رحمه الله تعالى- وليس هو من بنى الصابونى وإنما عرف

_ [1] فى ك «ملك» والمثبت من ص، وف. [2] وأنظر ترجمته فى ذيول العبر 112، والدرر الكامنة 4: 174، والنجوم الزاهرة 9: 25، وحسن المحاضرة 1: 458، وفيه مات سنة خمس وعشرين وسبعمائة. [3] فى ك «الربعى» وفى ص شرف القضاة ابن الرفقى.

ذكر إراقة الخمور بالمدينة السلطانية وتبريز وغيرها من ممالك التتار [4]

بذلك [1] لتربية الشيخ جمال الدين بن الصابونى له، وكان قد تزوج خالته ورباه وقرأ عليه شيئا من الحديث ولازمه فعرف به، وغلبت عليه [2] هذه النسبة. سمعت عليه- رحمه الله تعالى- كتاب السنن لأبى داود وسليمان بن الأشعث السجستانى [3] بالقاهرة بالمدرسة الناصرية بقراءة ولده الشيخ جمال الدين أحمد فى جماعة. وسمعت عليه أيضا وعلى الشيخ زين الدين أبى محمد عبد الحق ابن فتيان بن عبد المجيد القرشى [4] جمعا كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم بسندها إلى مؤلفه القاضى عياض بن موسى بن عياض اليحصبى، وذلك بالمدرسة الناصرية أيضا بقراءة الشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد بن الحسين الهكارى، فى مجالس ثمانية آخرها فى اليوم الثانى عشر من شعبان عام ثمانية وسبعمائة، وتوفى القاضى زين الدين ابو بكر بن بدر الدين نصر بن شمس الدين الحسين الأسعردى وكيل بيت المال بالديار المصرية وناظر الحسبة بالقاهرة وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم الإثنين سادس عشر شهر رمضان وكان كثير السكون والعقل رحمه الله تعالى وإيانا. ذكر إراقة الخمور بالمدينة السلطانية وتبريز وغيرها من ممالك التتار [4] وفى العشر الأول من شعبان أمر أبو سعيد بإراقة الخمور فأريقت، وكان سبب ذلك أنه وقع فى شهر رجب بالمدينة السلطانية برد كبار وزنت واحدة [5] منها فكانت ثمانية عشر درهما، وأهلك ذلك مواشي كثيرة، وأعقبه سيل خيف منه على البلد، واشتد الخوف ولجأ الناس إلى الله تعالى ثم سلم البلد فسأل

_ [1] فى ك «من ذلك» والتصويب من ص، وف. [2] هذا اللفظ زيادة من ص، وف. [3] فى ك «السختيانى» والمثبت من ص، وف. [4] من هنا إلى آخر الجزء ساقط من ك، والمثبت من ص، وف. وانظر خبر إراقة الخمر بعاصمة التتار فى ذيول العبر 110، والبداية والنهاية 14: 97. [5] كذا فى ص. وفى ف «وزنت منها واحدة» بالتقديم والتأخير.

الملك أبو سعيد الفقهاء عن سبب ذلك، فقالوا: من الجور والظلم، وإظهار الفواحش، وأنه بالقرب من المساجد والمدارس والخوانق خمارات وحانات، فأمر بتيطيل الخمارات والحانات فى سائر مملكته، وأبطل مكس الغلة، ورسم على الخمارين بالمدينة السلطانية، وألزموا بإحضار الخمور فى الظروف إلى تحت القلعة، وأحضرت، فاجتمع منها أكثر من عشرة آلاف ظرف ولما كمل جمعها حضر الوزير تاج الدين على شاة راجلا- وأعوانه، وخواص الدولة معه، وأريقت الظروف جميعها فى الخندق، ثم أحرقت الظروف وبقيت النار تعمل فيها يومين- نقلت ذلك من تاريخ الشيخ علم الدين البرزالى المترجم بالمقتفى، وقال فيه: حكى ذلك تاجر موصلى، حضر الواقعة قال: وسافرت بعد ذلك إلى تبريز، فرأيت الخمور مراقة فى الأزقة وقد فعل من ذلك بتبريز دون ما فعل بالسلطانية. قال: ثم قدمت الموصل فرأيت الذى فعل بها من ذلك دون ما شاهدته بمدينة تبريز بكثير. نجز الجزء الثانى والثلاثون [1] . من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

_ [1] فى ص، وف «نجز الجزء الموفى ثلاثين والمثبت هو ما اقتضته تجزئه الكتاب فى الطبع.

فهرس موضوعات الجزء الثانى والثلاثين

فهرس موضوعات الجزء الثانى والثلاثين من كتاب نهاية الأرب للنويري مقدمة 5- 11 واستهلت سنة إحدى وسبعمائة للهجرة النبوية بيوم الأربعاء فى هذه السنة 13 ذكر توجه العساكر إلى الصعيد للإيقاع بالعربان 16 ذكر فتح جزيرة أرواد 21 ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين ابن دقيق العيد 22 ذكر وصول غازان ملك التتار إلى الرحبه 26 ذكر توجه السلطان الملك التاصر من الديار المصرية 28 ذكر خبر المصاف وهزيمة التتار 30 ذكر حدوث الزلزلة 59 ذكر وفاة الأمير زين الدين كتبغا المنصورى وهو الملك العادل 61 ذكر الجلوس بالمدرسة الناصرية والقبة وأوقاف ذلك وشروطه 63 ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس 77 ذكر وفاة الشيخ زين الدين الفارقى 81 ذكر عمارة الجامع الحاكمى بالقاهرة 85 ذكر ما وقع فى هذه السنة بدمشق من الحوادث والولايات 91 ذكر الإغارة على بلاد سيس وأسر الأمراء 97 ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان وإبادة من بها وتدميرها 99 ذكر حادثة الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية 101 ذكر حادثة غربية 124 ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الناصر والأمراء 129 ذكر الاهتمام بقصد اليمن والاحتفال لذلك 132

ذكر وفاة الأمير سيف الدين بيبغا المعروف بالتركمانى 134 ذكر توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك 140 ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس 141 ذكر ما كان من أمر النيل هذه السنة 145 ذكر اضطراب أمر الملك المظفر ركن الدين بيبرس 146 ذكر خلع الملك المظفر ركن الدين بيبرس 148 ذكر سلطنة السلطان الملك الناصر 150 ذكر استعادة ما أخذه الملك المظفر بيبرس 158 ذكر ما رتبه السلطان وقرره من النواب 158 ذكر القبض على المظفر ركن الدين بيبرس وقتله 160 ذكر الاستبدال بقاضى القضاة الشافعى والحنفى بالديار المصرية 164 ذكر القبض على الأمير سيف الدين سلار ووفاته رحمه الله تعالى 165 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية 166 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحموية 167 ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب 168 ذكر تفويض الوزارة بدمشق للرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى 168 ذكر القبض على الأمير سيف الدين أسندمر كرجى 169 ذكر حادثة الأميرين: مظفر الدين موسى بن الملك الصالح وسيف الدين بتخاص والقبض عليهما 171 ذكر انتقال الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى 176 ذكر القبض على الأمير سيف الدين بكتمر 177 ذكر جلوس السلطان بدار العدل 177 ذكر عدة حوادث بالشام فى إحدى عشرة وسبعمائة 178 ذكر عزل الصاحب عز الدين بن القلانسى عن وزارة الشام 179 ذكر طلب أعيان دمشق وما قرر عليهم من استخدام الخيالة وما وقع بسبب ذلك من الفتن 180

ذكر القبض على الأمير سيف الدين كراى 182 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام 183 ذكر مفارقة الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى 185 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية 196 ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس العلائى نائب السلطنة بحمص ومن يذكر من الأمراء بدمشق 198 ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار 199 ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام 200 ذكر تفويض السلطنة بالباب الشريف للأمير سيف الدين أرغن 200 ذكر عرض العساكر والنفقة فيها وتجريدها وتوجه السلطان إلى الشام 201 ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف 202 ذكر تفويض نيابة العدل وشد الأوقاف للأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى 206 ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة 207 ذكر روك الإقطاعات بالشام 207 ذكر تجريد جماعة من الأمراء إلى مكة 208 ذكر واقعة الشيخ نور الدين على البكرى وغضب السلطان عليه وخلاصه 212 ذكر وفاة سيف الدين سودى نائب السلطنة بحلب وتفويض نيابة السلطنة بها للأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب 215 ذكر عزل الأمير سيف الدين بلبان طرناه 216 ذكر إرسال العسكر إلى ملطية صحبة الأمير سيف الدين تنكر وفتحها 219 ذكر القبض على من يذكر من الأمراء بالديار المصرية 222 ذكر القبض على الأمير بن سيف الدين تمر الساقى 223 ذكر وصول السيد الشريف أسد الدين رميثة إلى الأبواب السلطانية وتجريد العسكر معه إلى الحجاز الشريف 225 ذكر الإفراج عن الأمير جمال الدين آقش الأفرمى 225 ذكر ما أمر السلطان بإبطاله من المكوس والمظالم وما أسقطه من أرباب الوظائف 226

ذكر حادثة السيول والأمطار ببلاد الشام وما أثر ما وقع من العجائب التى لم تعهد 233 ذكر تفويض إمرة العرب بالشام للأمير شجاع الدين فضل 233 ذكر وفاة الأمير سيف الدين كستاى 236 ذكر تجريد العسكر إلى النوبة وملك عبد الله برشنبوا النوبة ومقتله 237 ذكر تجريد العسكر إلى العرب ببرية عيذاب ودخوله إلى بلاد هلنكة وغيرها وعوده 239 ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب وإرساله إلى نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الصفدية 244 ذكر حادثة السيل ببعلبك 249 ذكر حادثة الهواء بالبلاد الحلبية وما حصل بسببه 251 ذكر توجه السلطان إلى الشام ووصوله إلى الكرك وإفراجه عمن يذكر من الأمراء وعوده 253 ذكر خبر النيل المبارك فى هذه السنة 254 ذكر إفرار مصر عن قاضى الحنفية 255 ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله 256 ذكر روك المملكة الطرابلسية وما يتصل بذلك من أبطال الجهات المنكرة بها وأخبار النصيرية 257 ذكر ظهور رجل ادّعى أنه محمد بن الحسن المهدى وقتله 277 ذكر إرسال الصاحب أمين الدين إلى نظر المملكة الطرابلسية 282 ذكر عزل الأمير بدر الدين محمد بن التركمانى عن وظيفة الشاد بالديار المصرية 283 ذكر إرسال الأمير سيف الدين طوغاى نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية والقبض عليه ووفاته 283 ذكر إنشاء الجامع بقلعة الجبل 285 ذكر وثوب الأمير عز الدين حميضة بن أبى نمىّ بمكة شرفها الله تعالى 285 ذكر حادثه الريح بالجون من طرابلس 286

ذكر هدم الكنيسة بحارة الروم 287 ذكر الجوامع التى خطب وأقيمت صلاة الجمعة بها 288 ذكر الغلاء الكائن بديار بكر والجزيرة وغيرها من بلاد الشرق 292 ذكر مقتل الرشيد المتطبب 294 ذكر الخلف الواقع بين جوبان 298 ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف 303 ذكر الحرب الكائنة بجزيرة الأندلس 309 ذكر تفويض السلطنة بحماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل 319 ذكر الإفراج عمن يذكر من الأمراء المعتقلين 320 ذكر إسماعيل الزنديق ومقتله 321 ذكر قتل رجل ادعى النبوة بدمشق 323 ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى مكة شرفها الله تعالى وخبر مقتل حميضة ابن أبى نمى 323 ذكر تجريد جماعة من العساكر الشامية إلى بلاد سيس ورجوعهم 324 ذكر وصول الخاتون دلنبية وقيل فيها طولونية ابنته وبناء السلطان الناصر بها. 325 ذكر تسحّب الأمير حسام الدين مهنا وأولاده 328 ذكر إبطال مكس الملح بالديار المصرية 330 ذكر منع الشيخ تقى الدين بن تيمية من الفتيا واعتقاله بقلعة دمشق 330 ذكر القبض على الأمير علم الدين الجاولى نائب السلطنة بغزة 331 ذكر إبطال المعاملة بالفلوس عددا بالديار المصرية وبيعها بالرطل 332 ذكر خبر الحاج فى هذه السنة 333 ذكر إراقة الخمور بالمدينة السلطانية تبريز وغيرها من ممالك التتار 335

الجزء الثالث والثلاثون

الجزء الثالث والثلاثون تقديم بقلم المحقق هذا هو الجزء الثالث والثلاثون [1] من كتاب: «نهاية الأرب فى فنون الأدب» لمؤلفة أحمد بن عبد الوهاب النويرى، وهو آخر أجزاء هذا الكتاب، وجدير بنا- وقد بلغ الكتاب غايته- أن نسترجع هنا بعض ما ذكره النويرى فى خطبة هذا الكتاب الموسوعة، لنرى الأساس الذى بنى عليه كتابه، والمنهج الذى جرى عليه فى تصنيفه، فقد قال- رحمه الله- إنه ضمنه من «فنون الأدب خمسة فنون حسنة الترتيب، بيّنة التقسيم والتبويب، كلّ فن منها يحتوى على خمسة أقسام» [2] وكل قسم يشتمل على أبواب، وهذه الفنون- كما أوردها النويرى- هى:- 1- الفن الأول: فى السماء والآثار العلوية والأرض والمعالم السفلية. 2- الفن الثانى: فى الإنسان وما يتعلق به. 3- الفن الثالث: فى الحيوان الصامت، ويعنى به ما عدا الإنسان من سائر الحيوان. 4- الفن الرابع: فى النبات. 5- الفن الخامس: فى التاريخ. وقد استغرقت الفنون الأربعة الأولى الأسفار من الأول حتى نهاية السفر الثانى عشر، أما الفن الخامس- وهو التاريخ- فقد جاء أوسع هذه الفنون وأشملها، ورتّبه- كغيره من الفنون- فى خمسة أقسام، أربعة منها اشتملت عليها الأسفار: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وتحدث فيها-

_ [1]- هذه تجزئة نهاية الأرب المطبوع، ويقابله فى تجزئة المخطوط- فى نسختى كوبريلى والآستانة- الجزء الحادى والثلاثون. [2] انظر نهاية الأرب 1/3 وما بعدها.

كغيره ممن سبقوه- عن بدء الخليقة، وخلق آدم وحواء، وأخبار الرسل والأنبياء، وأخبار ملوك الأصقاع، وملوك الأمم والطوائف، ووقائع العرب فى الجاهلية. وافتتح السفر السادس عشر بالقسم الخامس من فن التاريخ، وقد عقده لأخبار الملّة الإسلامية، وجعله اثنى عشر بابا، أولها: فى سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وآخرها- وهو الباب الثانى عشر الذى افتتح به السفر الثامن والعشرين- ابتدأ به «أخبار ملوك الديار المصرية الذين ملكوا فى خلال الدولة العباسية نيابة عن خلفائها، وهم الملوك العبيديّون.. وما كان من أمرهم، وما ملكوه من بلاد المغرب، وكيف استولوا على الديار المصرية، والبلاد الشامية والحلبية، والثغور والسواحل، وغير ذلك إلى أن انقرضت دولتهم، وقيام الدولة الأيوبية، وأخبار ملوكها بمصر والشام إلى حين انقراضها؛ وقيام دولة الترك، ومن ملك منهم من أبنائهم، وما حازوه من الأقاليم، وما فتحوه من الممالك، وما استقر فى ملك ملوك هذه الدولة، إلى حين وضعنا لهذا التأليف فى سنة [1] ... وسبعمائة فى أيام مولانا الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون. وقد عاش النويرى حياته فى عهد الملك المنصور قلاوون [2] ، وعهد ولديه: الملك الأشرف صلاح الدين خليل [3] ، والملك الناصر [4] محمد بن قلاوون، فقد ولد النويرى- كما يذكر لنا فى حوادث سنة 677 هـ- «فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من ذى القعدة بمدينة إخميم من صعيد مصر» [5] وكانت ولاية المنصور قلاوون ملك مصر فى السنة التالية، يوم الأحد العشرين من شهر رجب سنة 678 هـ، وحين آل الملك إلى ابنه الناصر محمد سنة 693 هـ- فى ولايته الأولى- كان عمر النويرى ست عشرة سنة، ومات سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة- فى ولاية الناصر الثالثة- وعمره ست وخمسون سنة.

_ [1] هكذا بيّض له النويرى فى الأصل وكأنه أراد أن يظل حبل التأليف ممدودا ما امتد به العمر من سنى هذا القرن، وانظر نهاية الأرب 1/25. [2] الملك المنصور قلاوون هو السابع من ملوك دولة الترك بمصر، وانظر: نهاية الأرب 31/7. [3] الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن المنصور قلاوون هو الثامن من ملوك دولة الترك بمصر، وانظر: نهاية الأرب 31/177. [4] الملك الناصر محمد بن قلاوون هو التاسع من ملوك دولة الترك بمصر، وانظر: نهاية الأرب 31/267. [5] انظر: نهاية الأرب. 3/386 و 387 فقد أورد النويرى خبر مولده، وذكر نسبه مطولا، وهو: «أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم بن عبادة ... » وارتفع به إلى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده.

وهذا الجزء هو آخر أجزاء الكتاب، وفيه يواصل النويرى الكلام فى «أخبار الملك الناصر محمد بن قلاوون، مبتدئا بحوادث سنة إحدى وعشرين وسبعمائة التى «استهلت بيوم السبت المبارك» وكان أول ما أرّخ له فيها: «وصول أوائل الحاج الذين وقفوا بعرفة سنة عشرين وسبعمائة فى أول ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين الثالث من المحرم سنة إحدى وعشرين وسبعمائة» وقد مضى فيه على منهجه فى ذكر الوقائع والأخبار، ووفيات الأعيان، سنة بعد أخرى، حتى اختتمه بنهاية حوادث سنة ثلاثين وسبعمائة. وأغلب الظن أن النويرى رصد ما وقع من الحوادث والأخبار فيما تلا هذا التاريخ، ليجمع منها مادة الجزء الذى يليه، ثم يشرع فى تدوينه حين يصبح لديه من هذه المادة ما يصلح لتصنيف جزء جديد، هكذا صح عزمه، وحالت دونه منيته التى حانت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، فقد ورد فى آخر هذا الجزء من نسخة كوبريلى ما نصّه: «آخر الجزء الحادى والثلاثين [1] من نهاية الأرب فى فنون الأدب، يتلوه- إن شاء الله تعالى فى أول الجزء الثانى والثلاثين منه-: واستهلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة بيوم الأحد، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وصحبه..» . وهكذا يكون النويرى قد أنجز ما وعد به القارئ فى مقدمته من تأليف هذا الكتاب الموسوعة، وأتى على آخر ما أراده فى الباب الثانى عشر من القسم الخامس من فن التاريخ، وهو «ذكر قيام دولة الترك، ومن ملك منهم من أبنائهم بمصر.. إلى أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون» . وقد لاحظنا أن النويرى حين أخذ يؤرخ للحقبة التى عاشها فى دولة المنصور قلاوون، وفى دولتى ابنيه- الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والملك الناصر محمد- بدت خطواته بطيئة شيئا ما، حتى رأينا الجزء الحادى والثلاثين لم يشتمل إلا على أخبار اثنتين وعشرين سنة، والجزء الثانى والثلاثين ضم أخبار عشرين سنة، ورأينا هذا الجزء الثالث والثلاثين- يشتمل فقط على أخبار عشر سنوات (من سنة 721 هـ إلى 730 هـ) ويرجع ذلك- فى تقديرنا- إلى أمرين:

_ [1]- هذه تجزئة المخطوطتين وقد أسلفنا القول أن هذا الجزء يقابله فى المطبوع الجزء الثالث والثلاثون.

أولهما: أن النويرى لم يكن فيما أورده من تاريخ هذه الفترة مؤرخا فحسب، بل كان شاهدا على عصره، وواحدا من رجال هذه الدولة، حيث قربه إليه الناصر محمد بن قلاوون، فكانت له عنده حظوة كبيرة، حتى وكلّه فى بعض أموره، وتقلب فى الوظائف الديوانية، فولى نظارة البيمارستان المنصورى [1] ، ونظارة الجيش فى طرابلس، ونظر الديوان فى إقليم الدقهلية والمرتاحية.. فأتاح له موقعه أن يشهد من الحوادث، ويعرف من الأخبار ما ضمنه كتابه فى تاريخ هذه الفترة. وثانيهما: أن النويرى فى هذا الجزء- فى حوادث سنة خمس وعشرين وسبعمائة- استطرد بذكر تاريخ اليمن من الفتح الإسلامى إلى هذه السنة، وذكر أنه اقتبسه من كتاب: «بهجة الزمن فى تاريخ اليمن» لمؤلفه القاضى عبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، الذى قدم إلى الديار المصرية فى هذه السنة، وأطلع النويرى على كتابه هذا، فنقله مختصرا [2] . وقد استغرق تاريخ اليمن من هذا الجزء أكثر من ثلثه [3] . وفى تحقيق هذا الجزء اعتمدنا على نسختين مصورتين عن أصليهما المحفوظين بالآستانة: 1- النسخة الأولى مكتوبة بقلم نسخى معتاد، ومسطرتها 35 سطرا، وعدد صفحاتها 107 من قطع الربع، وفى صفحتها الأخيرة خاتم نقشه: «هذا ما أوقفه الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبى عبد الله محمد، عرف بكوبريلى، أقال الله عثارهما» وهى محفوظة بدار الكتب تحت رقم 549

_ [1] باشر النويرى هذه الوظيفة أربع سنوات: من شوال سنة 703 إلى آخر رمضان سنة 707 وانظر نهاية الأرب 31/108. [2] نشر كتاب «بهجة الزمن فى تاريخ اليمن» لابن عبد المجيد اليمانى بتحقيق عبد الله الحبشى، ومحمد أحمد السّنبانى سنة 1988 (ط. دار الحكمة بصنعاء) وقد اطلعنا عليه فلاحظنا أن ما اختصره النويرى منه لا يعدو الأشعار التى كان يمدح بها بعض شعراء اليمن ملوكهم، وأكثرها نظم ركيك، أما الحوادث والأخبار فإنها تكاد تكون متطابقة مع رواية النويرى فى هذا الجزء. [3] يشغل هذا الكتاب من نسخة كوبريلى الصفحات من 21 إلى 61 ومن نسخة الآستانة الصفحات من 74 إلى 199.

(معارف عامة) وقد رمزنا إليها فى الحواشى بالحرف (ك) ووضعنا أرقام صفحاتها بين قوسين هكذا (فى الهامش وقد اعتمدنا هذه النسخة أصلا للتحقيق. 2- والنسخة الثانية مكتوبة بخط واضح، وبها بعض هوامش استدراكية، وعدد صفحاتها 286 صفحة، وتقع فى قسمين: الأول منهما يضم 142 صفحة، والثانى 144 صفحة، ومسطرتها 19 سطرا، ومساحة صفحتها 11 17 سم، وهى مأخوذة بالتصوير الشمسى عن أصلها المخطوط بالآستانة، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 551 (معارف عامة) وقد رمزنا إليها فى الحواشى بالحرف (أ) ووضعنا أرقام صفحاتها- فى هامش المتن- بين قوسين فى صفحتها. هذا. وكنت قد فرغت من تحقيق هذا الجزء فى سنة 1962 م، وقام بمراجعته سنة 1963 م المرحوم الأستاذ الدكتور محمد مصطفى زيادة، فأثنى على ما بذلته من جهد فى تحقيقه، وأجازه للنشر حينذاك، وبقيت بعد ذلك أنتظر صدوره، حتى «طال الأمد على لبد» كما يقولون، وخشيت أن ينقضى العمر قبل أن أراه مطبوعا، ولكن شاء الله- وله الحمد والمنّة- أن يصدر أخيرا برعاية الأستاذ الفاضل الدكتور محمود فهمى حجازى رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، وبعناية الأستاذ السيد حسن عرب المدير العام لمركز تحقيق التراث، ومعاونيه من الباحثين بالمركز، وأخص منهم بالذكر الأستاذ سيد على حسين- الباحث الأول- الذى تابع هذا الجزء، وراجع تجارب المطبعة، والأستاذ مصطفى موسى الباحث بالمركز، فلهم منى جميعا جزيل الشكر، وجزاهم الله عنى خير الجزاء. وبعد. فلا يفوتنى أن أنبه إلى حاجة هذا الكتاب الجليل إلى فهارس فنية تفصيلية، تيسر الانتفاع به، وتعين الدارسين والباحثين على الإفادة مما حواه من فوائد جمّة، ومعارف عامة، ولم يعد خافيا على أحد ما لهذه الفهارس من قيمة عظيمة فى الكشف عما اشتملت عليه أمثال هذه الكتب من خبايا يصعب

التهدّى إليها بدونها، فضلا عن اختزالها للوقت، وتوفيرها للجهد، ولعل من أهم هذه الفهارس: فهرس الأعلام، وتمييز من ترجم لهم، أو ذكر وفياتهم. فهرس أعلام القبائل والأمم والطوائف.. وما إليها. فهرس البلدان ونحوها من الحصون والقلاع والقصور. فهرس أعلام المواضع والجبال والمياه. فهرس الشعراء. فهرس القوافى. فهرس الأمثال. فهرس الألفاظ الاصطلاحية فى مختلف شئون الحياة الاجتماعية من: وظائف، وآلات، وأدوات، وآنية، وطعام، وشراب، ولباس ... إلخ فهرس الكتب المنسوبة إلى أصحابها ... إلخ ولا شك أن لكل كتاب طبيعته التى ترشد إلى صنع فهارسه، وما أكثر ما يمكن عمله من فهارس لهذا الكتاب الموسوعة. ومركز تحقيق التراث مأمول للنهوض بهذا العمل الدقيق الذى يحتاج إلى الخبرة الجيدة، والجهد الجهيد، وهو بما لديه من الباحثين الأكفاء قادر- إن شاء الله- على تحقيق هذا الأمل العزيز تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ والله من وراء القصد، وهو الموفق والهادى إلى سبيل الرشاد. 3 من رجب سنة 1417 هـ الدقى فى- 14 من نوفمبر سنة 1996 م عضو مجمع اللغة العربية

تتمة الفن الخامس في التاريخ

[تتمة الفن الخامس في التاريخ] [تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية] [تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية] [ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر] (بسم الله الرحمن الرحيم) (وبه توفيقى) [1] واستهلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بيوم السبت المبارك ذكر وصول أوائل الحاج الذين وقفوا بعرفة فى سنة عشرين وسبعمائة واستهلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بيوم السبت المبارك، وفى أول ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين الثالث من المحرم من هذه السنة وصل إلى مصر المحروسة القاضى فخر الدين محمد ناظر الجيوش المنصورة الإسلامية من الحجاز الشّريف بعد أن وقف بعرفة فى يوم الجمعة، ولم يبلغنا أن أحدا ممن وقف بعرفة وصل فى مثل هذا التاريخ، وكما وصل الأمير شمس الدين آقسنقر الناصرى شادّ [2] العمائر من الحجاز فى سابع المحرم سنة تسع عشرة وسبعمائة- كما تقدم- استعظم الناس ذلك، وكان الناس قبل ذلك إذا أسرع من يحضر منهم بالبشارة يصل يوم عاشوراء. ولما وصل القاضى شمس الدين توجّهت إليه، وسلّمت عليه، وسألته عن خبر سفره فى ذهابه وإيابه، فأخبرنى أنه ركب من داره بمصر المحروسة فى سادس عشر شوال سنة عشرين وسبعمائة، وتوجه إلى زيارة الخليل عليه الصلاة والسلام، فزاره، وتوجه إلى بيت المقدس، وأقام به أياما، وأحرم من بيت المقدس، ووصل مكّة شرّفها الله تعالى، فأقام بها شهرا كاملا، ووقف يوم الجمعة بعرفة، وتعجّل من منى فى يوم الاثنين ثانى عشر من ذى الحجة، ووصل إلى المدينة النّبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- فى يوم الجمعة السادس عشر من الشهر، فصلّى الجمعة، وخرج منها فى يوم السبت السابع عشر، وساق على الدّرب الشامى مراحل، ثم عطف إلى أيلة، ومنها إلى مصر، فكانت مدة مسيرة من منى إلى مصر واحدا وعشرين يوما، منها مقامه بالمدينة النبوية- شرفها الله تعالى.

_ [1] ما بين الحاصرتين من نسخة «أ» ص 1 [2] الضبط من السبكى (معيد النعم ومبيد النقم ص 127) وانظر فيه صفة هذه الوظيفة.

ومع هذا السّوق الشّديد، والسّير العنيف، كان من خبره عند وصوله إلى منزله أنه طلب المياومات التى أنفقت فى غيبته، مما يتعلق بالجيوش، فتصفحها، وتأملها، وشطب منها على حسابه ما يحتاج إلى شطبه، ثم ركب [فى الثلث الأخير [1]] من الليلة المذكورة إلى قلعة الجبل المحروسة، وجلس على بابها إلى أن فتحت بعد طلوع الفجر، ودخلها، وانتهى إلى الأبواب السلطانية [2] ، [فدخل بعض الجمدارية [3] إلى السلطان] وأخبره بوصوله، فأنكر السلطان ذلك؛ لخروجه عن العادة. فأعيد عليه القول أيضا بوصوله، ثم قيل له: إنه قد وصل إلى الباب الشريف، فأذن له، وعجب من سرعة وصوله، وجلس بين يدى السلطان، وباشر وظيفته على عادته لوقته، ثم خلع عليه فى اليوم الثانى من مقدمه. وتأخر وصول نائب السلطنة إلى يوم الأربعاء الثانى عشر من شهر المحرم، وهذا السوق الذى ساقه القاضى «فخر الدين» ما ساقه حاجّ قبله. وأما غير الحاج، فبلغنى من الثقات أن الشيخ شرف الدين بن القسطلانى- رحمه الله تعالى- لما أرسله الشريف الأمير نجم الدين أبو نمى أمير مكة- شرفها الله تعالى- منها إلى السلطان الأشرف صلاح الدين خليل بن السلطان الملك المنصور قلاوون، وصل إلى قلعة الجبل المحروسة فى اليوم الثالث عشر من يوم مسيره من مكة، واجتمع بالسلطان، وقرأ كتابه، وكتب جوابه فى يومه. وسأله السلطان عن راحلته: هل يعود عليها إلى مكة؟ فقال: إنها خلأت [4] ، فأمره السلطان أن يختار لنفسه راحلة من الهجن السلطانية، فاختار منها هجينا، وترك راحلته، وركب وعاد فى بقية يومه إلى مكة شرفها الله تعالى بعد مضى اثنى عشر يوما، فكانت مدة غيبته عن مكة منذ ركب منها إلى أن عاد إليها ثلاثة وعشرين يوما كوامل، ويوم خروجه/ منها، ويوم دخوله إليها، وهذا ما لم يسمع بمثله، ولا استطاعه أحد قبله، والله أعلم.

_ [1] فى الأصل (فى الثلاث الأخر) وما هنا من «أ» ص 2. [2] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 2، والسياق يقتضيه. [3] انظر السبكى (معيد النعم ومبيد النقم ص 35) حيث جاء أن مفرد هذا اللفظ جمدار، وهو الذى يتولى إلباس السلطان أو الأمير ثيابه، واللفظ مركب من جاما- الثوب، دار- ممسك) . [4] يقال: خلأت الناقة، إذا بركت فلم تقم، أو حرنت من غير علة (لسان العرب) .

ذكر إبطال المعاملة بالفلوس العتق [1] ، بالقاهرة ومصر، وأعمال الديار المصرية

ذكر إبطال المعاملة بالفلوس العتق [1] ، بالقاهرة ومصر، وأعمال الديار المصرية قد ذكرنا إبطال المعاملة بالفلوس [عددا] [2] واستقرارها حسابا عن كل [رطل] ثلاثة دراهم، وفى يوم الاثنين العاشر من المحرم توقف أرباب المعايش عن المعاملة بها بهذه القيمة لكثرتها، فرسم بالمعاملة بها حسابا عن كل رطل درهمين ونصف درهم، فتعامل الناس بها، ثم توقفوا فيها، فلما كان يوم الجمعة الحادى والعشرين من المحرم نودى فى المدينتين بالأمر السلطانى بإبطال المعاملة بالفلوس العتق، وأن تكون المعاملة بين الناس بفلوس جدد أمر بضربها بدار الضرب فاضطرب الناس لذلك اضطرابا شديدا، وأغلق كثير من أرباب المعايش حوانيتهم. وأبيعت [الفلوس] فى بقية يوم الجمعة، وبكرة نهار السبت كل رطل منها بدرهم واحد ونصف درهم. ووقفت معايش الناس، فإنه لم يكن قد ضرب من الفلوس الجدد الناصرية ما يدور فى أيدى الناس. ونودى فى المدينتين فى بكرة نهار السبت أنه من كان عنده شىء من الفلوس يحمله إلى دار الضرب، ويأخذ ثمنه حسابا عن كل رطل درهمين، هذا والناس يتعاملون بها (فيما) [3] بينهم على حسب اتفاقهم بدرهم ونصف، وأقل منه، وأكثر، وأحوال الناس فى المعاملة بها على غاية الاضطراب، ثم رسم بالمعاملة بها الرطل بدرهمين، والفلوس الجدد عددا على العادة القديمة، وخرجت الفلوس الجدد من دار الضرب، وعلى أحد وجهيها اسم السلطان، وعلى الوجه الآخر مثال بقجة مربعة، وزنة كل فلس منها نصف وربع وثمن درهم، فتعامل الناس بذلك إلى شهر رجب من هذه السنة، إلى أن كثرت الفلوس الجدد، وضربها الزغلية [4] ، وخففوا وزنها، فصار الفلس منها زنة نصف درهم، ونحو ذلك، فعاد الناس وتوقفوا فى أخذها، فرسم فى يوم السبت السادس والعشرين من شهر رجب بالمعاملة بالفلوس الجدد والعتق، الرطل بدرهمين ونصف، واستمرت الحال إلى سادس المحرم سنة أربع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره.

_ [1] الفلوس: النقود النحاسية (المقريزى: إغاثة الأمة ص 66) العتق: جمع عتيق وهو القديم. وفى المقريزى (النقود الإسلامية القديمة- ص 22 نشر الكرملى ط. القاهرة 1939) : «النقود التى كانت للناس على وجه الدهر على نوعين: السود الوافية، والطبرية العتق، وهما ما كان البشر يتعاملون به» وانظر أيضا السلوك (2/206 حاشية 5) [2] فى «الأصل» (عملا) وما أثبتناه من «أ» ص 3 لصحته. [3] ما بين القوسين زيادة عن «أ» ص 4 [4] الزغلية: المنسوبون إلى الزغل وهو الغش يريد المزيفين (عن تاج العروس مادة ز غ ل، وانظر (السلوك) (2/205 حاشية 4)

ذكر وصول هدية الملك أبى سعيد بن خربندا ملك التتار [1] إلى الأبواب السلطانية

ذكر وصول هدية الملك أبى سعيد بن خربندا ملك التتار [1] إلى الأبواب السلطانية وفى هذه السنة وصل مجد الدين إسماعيل بن [محمد] [2] بن ياقوت السّلامى التاجر إلى الأبواب السلطانية على خيل البريد، وعلى يده كتاب الملك أبى سعيد ملك التتار، ثم وصلت الهدية فى يوم السبت التاسع والعشرين من المحرم من هذه السنة إلى قلعة الجبل، وهى ختمة شريفة [ستون جزءا كبارا] [3] ، وخركاه [4] عظيمة مكلّلة، وغير ذلك من التحف الجليلة والنفائس، فقبلت الهدية، وجهز [السلطان] له هدية تليق به. ذكر تفويض نظر أوقاف الجامع الطولونى للقاضى كريم الدين [5] وكيل الخواص الشريف [6] وفى شهر ربيع الأول فوض السلطان نظر أوقاف الجامع الطولونى الذى هو بظاهر القاهرة المحروسة للقاضى كريم الدين عبد الكريم ناظر الخواص الشريفة السلطانية ووكيلها، [كان النظر] فى ذلك على شرط الواقف لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وكان بيده من سنين كثيرة، فرفعت يده الآن عنه.

_ [1] أبو سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار وصاحب العراق والجزيرة وخراسان والروم وهو آخر بيت هولاكو. قال الصفدى: الناس يقولون أبو سعيد بلفظ الكنية، ولكن الذى ظهر لى أنه علم ليس فى أوله ألف، رأيته كذلك فى المكاتبات التى ترد منه إلى الناصر (الدرر 1/501) وقد درجت كتب التاريخ على ذكر اسم أبيه «خربندا» كما فعل النويرى هنا، وكما يورده ابن تغرى بردى فى النجوم، والمقريزى فى السلوك، ولكن القلقشندى فى صبح الأعشى (4/420) ذكر اسمه خدابندا (بدال مكان الراء وبعدها ألف) وذكر أن العامة تقول خربندا وانظر المقريزى (السلوك 2/7 حاشية 2) والدرر (3/378) . [2] أضيف ما بين الحاصرتين من ابن حجر (الدرر الكامنة، ج 2 ص 381) حيث ورد أن مجد الدين السلامى هذا كان تاجر الخاص السلطانى فى الرقيق. [3] ما بين الحاصرتين زيادة عن «أ» ص 5. [4] الخركاه: لفظ فارسى معناه الخيمة الكبيرة تكون على هيئة القبة، ووصفها القلقشندى (صبح الأعشى ج 2 ص 138) بأنها «بيت من خشب مصنوع على هيئة مخصوصة يغشى بالجوخ ونحوه تحمل فى السفر لتكون فى الخيمة للمبيت فى الشتاء وقاية من البرد. [5] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 2/401- 404) وسيورد النويرى فى هذا الجزء ترجمة مفصلة له وطائفة من أخباره. [6] كذا فى الأصل وفى «أ» ص 5 الشريفة.

وكان سبب ذلك أن الوقف ضاق ريعه عن المرتب عليه، فأراد قاضى القضاة اختصار بعض المرتّبين، ليتسع الريع على من بقى، وعزم على قطع درس الطب وغيره، فقام فى ذلك مدرس الطب بالمكان، وهو علم الدين الشوبكى [1] ، وسعى فى مباشرة الوقف، ووقع فى ذلك تشنيع كثير، وشكاوى ممن حصل الغرم على توفيرهم، واتصلت الشكاوى بعلم السلطان، ففوض النظر فيه وفى أوقافه لوكيله المشار إليه، ففعل فى أمر الوقف ما لا يتمكن القاضى بدر الدين من فعله ولا يمكنه، وذلك أنه نجّز توقيعا شريفا سلطانيا بمسامحة الوقف بما على ناحية «منية اندوانة» من عمل الجسور السلطانية وغيرها مما كان يحمل إلى بيت المال، وهو فى السنة نحو عشرة آلاف درهم، ووفر جامكية [2] جماعة من المباشرين بشرط الواقف، وتقديرها نحو ذلك، واسترجع جهات من الوقف كانت مؤجّرة بأجاير شرعية، فأخذها ممن هى فى يده بالإيجار الشرعى وحماها، فتميز ريعها، وتحدث مع السلطان فى عمارة الجامع من أموال الخاص، فرسم بذلك، فعمر، ووقف/ السلطان عليه وقفا من جهته، وحمى أوقافه المسقفة، ونقل السكان إليها، فحصلت الزيادة فيها جملة فى كل سنة، فاتسع المال بهذه الأسباب، وفاض المتحصل عن كفاية المرتبين عليه، وعلم القاضى كريم الدين أنه لا يستحق جامكية النظر التى شرطها الواقف للناظر، وهى فى كل شهر أربعمائة درهم، فامتنع من أخذها، وبعثها إلى قاضى القضاة بدر الدين، فردها ولم يقبلها، فتوفرت هى وجامكية نيابة النظر، وهى فى كل شهر مائة درهم، وكان قد تأخر فى مدة قاضى القضاة للمدرسين والمعيدين والطلبة خمسة أشهر، فامتنع كريم الدين من صرف ذلك إليهم، [لاستقبال] [3] مباشرته، واستمر الصرف لهم كل شهر فى مستهل الشهر الذى يليه.

_ [1] علم الدين الشوبكى، واسمه توما بن إبراهيم الطبيب، كان من أطباء السلطان الناصر، وترجمة مدرس الطب هذا فى (الدرر 1/528) . [2] الجامكية، والجومك: رواتب موظفى الدولة من الملكية والعسكرية وهو لفظ فارسى مركب من جامه- قيمة، وكى: وهى أداة النسب (الألفاظ الفارسية المعربة ص 45، ومحيط المحيط) . [3] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 7 وعبارة «ك» (لاستبقاء) وما أثبتناه هو الصحيح.

ذكر حفر البركة الناصرية

ذكر حفر البركة الناصرية وفى هذه السنة أمر السلطان الملك الناصر بحفر بركة بخط الزهرى ظاهر القاهرة المحروسة مساحتها [سبعة أفدنة] [1] وأن يجرى الماء إليها من نهر النيل المبارك، وأن يحكّر ما حولها بنسبة بركة الفيل وغيرها من البرك، وكان فى جملة هذه الأرض سبعة أفدنة جارية فى وقف، فأمر السلطان وكيله باستئجارها للسلطان بأجرة معلومة، وكانت أرض هذه البركة قبل ذلك مقاطع يقطع منها الطين الإبليز برسم العماير، ثم رمى الناس فيها زبايلهم، فصار فى مواضع منها كيمان كثيرة، وفى بعضها حفر من آثار القطع، ورسم السلطان أنه مهما قطع من أتربة تلك البركة يرمى فى البركة المجاورة للميدان التى هى مقاطع الطين الإبليز، وأن يمهد ويضاف إلى الميدان توسعة له، فحصل الشروع فى حفرها فى يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول، ورسم للأمراء بحفرها، فوزعت عليهم على قدر مراتبهم، وندب الأمراء أجنادهم، والأجناد غلمانهم، وعملوا بأنفسهم وبأتباعهم، وأخرج كل أمير صنجقة [2] وطبلخاناه، وجماله وبغاله، واهتموا بحفرها اهتماما عظيما، ورتب السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب مشدّا على حفرها، فنزل بها ولازمها، إلى أن كمل حفرها، ونجزت فى أقرب مدة [3] . وفى أثناء حفر هذه البركة وقعت حادثة الكنايس، وكان بسبب ذلك من الحوادث ما نذكره إن شاء الله. ذكر حادثة الكنايس [4] وفى يوم الجمعة- بعد الصلاة- التاسع من شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة اجتمع جماعة من الغلمان والعوام والفعلة، الذين كانوا

_ [1] ما بين الحاصرتين بياض فى «أ» و «ك» ، وما هنا من السلوك (2/216 حاشية 3) . [2] الصنجق من الأعلام، وهى كما فى القلقشندى ثلاثة على الترتيب: الجاليش، والصنجق، والراية. وانظر صبح الأعشى (5/458) . [3] يذكر المقريزى فى (السلوك 2/216) أن سبب حفر هذه البركة هو حاجة السلطان إلى طين كثير حين عزم على إنشاء زريبة بجوار جامع الطيبرسى على النيل. وذكر خبرها بعبارة أبسط مما أورده النويرى هنا. [4] أورد المقريزى فى (السلوك 2 ص 216- 220- هذه الحادثة فى شىء من الإطناب.

ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر [4]

يحفرون البركة المستجدة الناصرية، وتقدموا إلى كنيسة كانت مجاورة للبركة المذكورة، وارتقوا عليها، وحركت طبلخاناة الأمراء حربيا، فكان ذلك على صفة الزحف، فهدمها أولئك، ولم يتمكن الأمير ركن الدين بيبرس المندوب لحفر البركة، ولا الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار [1] أمير النقباء من ردّهم، ولا قدروا على منعهم؛ لكثرتهم، ونهبوا ما كان فى الكنيسة بعد تشعيثها [2] بالهدم، وكسرت أبوابها وما كان بها من الأوانى، وأريق ما بها من الخمور. ولما اتصل خبر هدمها بالسلطان غضب، لانتهاك حرمة السلطنة، وتجرّى العوام وإقدامهم على هذا الأمر، ثم لم يكتف العوام بذلك إلى أن تقدموا إلى عدة كنايس، بالقاهرة ومصر، فنهبوها، ونبشوا قبور بعض أموات النصارى وحرقوهم، وشعّثوا الأبنية، واجتمع بعض عوام مصر، وتوجهوا إلى الكنيسة المعلّقة [3] ، وقصدوا هدمها، فما مكّنوا من ذلك، فاشتد حرج السلطان، وأمر بالقبض على من أقدم على ذلك، فمسك بعض العوام وحبسوا، واستفتى السلطان القضاة فيما يلزم هؤلاء الذين انتهكوا الحرمة، فأفتوه بتعزيرهم بحسب رأى الإمام، فضرب بعضهم، وشق مناخير بعض، وأخرج من الاعتقال من أرباب الجرايم من وجب عليهم القتل، فوسّط منهم جماعة، وعلقوا فى أماكن تخويفا للعوام، ثم أعقب هذه الحادثة من الفتن ما نذكره. ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر [4] لما وقع ما ذكرناه/ من هدم الكنايس، وقع أثر ذلك الحريق بمصر المحروسة، فكان أول ذلك أن احترقت دار الوكالة بالقاهرة فى شهر ربيع الآخر [5] ، وهى التى عند باب البحر، وتعرف بفندق الخزّ، فاحترق فيها متاجر الناس من الزيت والعسل والأصناف، فعدم لهم جملة كثيرة، وظن الناس أن ذلك

_ [1] الضبط من (السبكي معيد النعم ص 31) وفى هامشه أنه مركب من مهمن- الضيف، دار- ممسك أو حافظ، وفى صبح الأعشى (5/459) هو الذى يتصدى لتلقى الرسل والعربان الواردين على السلطان، وينزلهم دار الضيافة، ويتحدث فى القيام بأمرهم. [2] يقال تشعث رأس الوتد أو المسواك: إذا تفرق والمعنى من ذلك على التشبيه. [3] الكنيسة المعلقة- كما فى المقريزى (الخطط ج 2/511) بمدينة مصر فى خط قصر الشمع وهى جليلة القدر عند النصارى. [4] فى «أ» ص 9 ومصيره. [5] فى المقريزى (السلوك 2/220) أن ابتداء الحريق كان يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى وتواتر إلى سلخه «وقد أورد تفاصيل كثيرة لحوادث الحريق، وانظر فى هذا الخبر: النجوم (9/65- 68) .

عن غير قصد، وأنها إنما احترقت على جارى العادة فى وقوع النيران فى أماكن على سبيل الغلط وعدم التحفظ والاحتراز، ثم سكن ذلك إلى يوم السبت الخامس عشر من جمادى الأولى، فوقع الحريق فى القاهرة ومصر، وكان أول الحريق بخط حارة الدّيلم [1] ، فاحترقت دار الشريف بدر الدين نقيب الأشراف، وما يجاورها من دور [الأشراف] [2] والمسلمين، فكان جملة ما احترق من الدور المتجاورات ما ينيف على ثلاثين دارا يقارب المائة مسكن، واشتدت النار وعظمت، واستمرت بذلك المكان أياما، وخيف أن تتصل بدار «القاضى كريم الدين» ناظر الخواص السلطانية ووكيلها، وبها أموال السلطان والأقمشة وغير ذلك من التحف، وهو يوم ذاك بثغر الإسكندرية، فرسم السلطان بركوب الأمراء لذلك، فحضر الأمراء وغلمانهم، والسقايين والقصارين وغيرهم، وركب نائب السلطنة والحجاب وأمير جاندار [3] ، وغيرهم من أعيان الأمراء، واجتهدوا فى أمر النار إلى أن طفيت، بعد أن هدم وعدم بسببها من الدور والأموال والأقمشة والأصناف ما لا تحصى قيمته. واختلفت الأقاويل، فقائل يقول: إنها من السماء، وقائل يقول: لعلها من قبل الملوك والأعداء، وآخر يقول: إنما فعله البطالون من الجند والحرافيش [4] لقصد النهب، وقائل يقول: إنما هو من فعل النصارى. وترادف الحريق، وتوالى، فاحترقت عدة دور من مساكن الأمراء، وكانت النيران تقع فى أعالى الدور والباذهنجات [5] ، فاحتفل الناس لذلك وتأهبوا، واستكثروا من الدّنان والخوابى، وملئوها ماء، ووضعوها فى الطرقات وعلى أبواب الحوانيت

_ [1] فى المقريزى (الخطط 2/8) إنها عرفت بذلك لنزول الديلم الواصلين مع هفتكين الشرابى حين قدم ومعه أولاد مولاه معز الدولة البويهى وجماعة من الديلم والأتراك فى سنة 368 هـ فسكنوا بها فعرفت بهم. [2] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 9 وعبارة «ك» من دور المسلمين. [3] فى «أ» ص 10 وأمير خاندار. [4] الحرافيش واحدهم حرفوش، ويفهم من السياق أن مراده العامة أو الرعاع (وانظر أيضا: معيد النعم ص 96) ، ولعلها من أحرنفش: إذا تهيأ للشر، أو من الحرنفش وهو الغليظ الجافى الطبع (وانظر مادة أحرنفش فى تاج العروس 4/297) . [5] الباذهنجات: جمع الباذهنج، ويقال له أيضا البادنج وهو منفذ فى سطح الدار على هيئة إسطوانة لها فتحة فى الجهة الغربية يدخل منها النسيم (عن قاموس استينجاس، وشفاء الغليل) وانظر أيضا (السلوك 2/222) ومطالع البدور (1/45) .

والأسواق والقياسير والاصطبلات والدروب والدور، والحريق لا يفتر، وهو لا يقع غالبا إلا فى النهار، وصار الناس يسهرون طول الليل بالنوبة، خصوصا على دور الأمراء، فإن مماليكهم وغلمانهم كانوا يبيتون على أسطحة دورهم، ويضربون الطبول بازات، ويصرخ بعضهم لبعض، وامتنع كثير من الناس من حضور الجمعة لملازمتهم أسطح بيوتهم. ولقد صلّيت فى [بعض] [1] الجمع بالجامع الحاكمى مع أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف، وكانت عادته أن يصلى معه من مماليكه وألزامه جماعة كثيرة، فرأيت الذين حضروا إلى الجامع نحو الربع ممن كان يحضر، فسألته عن سبب تخلّفهم عن الحضور، فأخبرنى أنه تركهم لحراسة داره [2] خوفا أن تقع النار فيها، فيتداركوها بالإطفاء قبل تمكّنها. فلما كان فى يوم الخميس العشرين من الشهر وجد ثلاثة من النصارى فى حارة العطوف، وقد رموا نارا فى بعض الدور، فما شك الناس عند ذلك أن الحريق من النصارى، وانتقلوا من الظن والاختلاف إلى اليقين والإجماع، وضرب هؤلاء وقرّروا، فاعترفوا بالحريق، ثم اعتنى بهم، فقيل: إنهم من الفلاحين، وإنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما أقروا لما حصل لهم من ألم الضرب، فأطلقوا، هذا والسلطان ينكر أن يكون ذلك من فعل النصارى؛ لما يلقيه إليه من له اعتناء خاص بهم، ويقول المعتنى بهم: النصارى أضعف أبدانا وقلوبا من الإقدام على هذا الأمر الكبير، ويستدلون على ذلك ويوجهونه، فيقولون: إن النار غالبا إنما تقع فى رءوس الباذهنجات، وأعالى الدور، ودور أكابر الأمراء، ومن أين يصل النصارى إلى ذلك؟ فيرجع السلطان إليهم، ويقول: هذا لا يتوصل إليه إلا بالنّشّاب، وأشاع بعضهم أنه رأى بعض الجند بمصر يرمى النشاب إلى بعض الدور، وأن السهم لما أبعد عن القوس وأصابه الهواء أورى نارا، وكان السلطان قبل ذلك قد عرض جماعة من الجند، وقطع أخباز [جماعة منهم

_ [1] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 10. [2] فى «أ» ص 11 (دوره) .

نحو] [1] السبعين، واعتقلهم بخزانة البنود لما بلغه عنهم من اللعب والتفريط فى إقطاعاتهم، وصرفها فى المحرّمات، فكان اعتقالهم لطفا بهم، ولو كانوا فى بيوتهم ما شك السلطان أن هذا من فعلهم، ثم أمسك فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من الشهر أربعة من النصارى الروم الملكيين [2] فاعترفوا أنهم أحرقوا الدور والأماكن، ولم يتحاشوا ولا توقفوا، بل أقروا بذلك من غير ضرب ولا تهديد، وقالوا: نحن فعلنا هذا فى مقابلة هدم كنائسنا، ونحن جماعة خرجنا عراة، واعترفوا على رهبان دير البغل [3] ،/فأنهى إلى السلطان أن هؤلاء من النصارى العرب الملكيين، وأنهم ليسوا من اليعاقبة [4] الذين هم نصارى البلاد، وإنما فعل هؤلاء هذا لجهلهم، وحسّن من له اعتناء باطن بالنصارى وميل إليهم أن يأمر بقتلهم، وإنما قصد تعجيل إعدامهم خشية أن يقرّوا على غيرهم، فأمر السلطان بهم، فحرقوا فى يوم السبت الثانى والعشرين من الشهر، والسلطان بالميدان. ثم قيل للعوام والناس: هؤلاء الذين كانوا يحرّقون حرّقناهم، فمن احترقت بعد هذا داره فليمسك جاره ونحن نقابله، فاشتد ذلك على الناس، واستغاث العوام، واتهموا القاضى كريم الدين وكيل السلطان بالاعتناء بالنصارى والذّب عنهم، وكان ذلك يظهر عليه، فلما ركب من الميدان بعد الظهر للانصراف إلى داره شغب جماعة من العوام عليه، واستغاثوا ورفعوا أصواتهم بسبه، ورجموه بالحجارة والطوب، فعطف نحو الميدان، وركض فرسه وخلص منهم، وأنهى ذلك إلى السلطان، فحرج السلطان حرجا كثيرا، واشتد غضبه، وانضاف ذلك إلى ما عنده من الحرج على العوام، فإنه لما كان ركب من القلعة إلى الميدان فى بكرة

_ [1] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 11 وعبارة «ك» «وقطع أخبازهم نحو السبعين» . [2] فى القلقشندى (صبح الأعشى 11/392) أنهم أتباع ملكا الذى ظهر قديما ببلاد الروم قال: والروم والفرنج كلهم أتباعه، وبالديار المصرية منهم النزر اليسير، ولهم بطرك يخصهم، وانظر أيضا صبح الأعشى (ج 13/276 و 277) وانظر: نهاية الرتبة فى طلب الحسبة ص 120 حاشية 1 و 2. [3] دير البغل: كان يقع فى أعلى جبل المقطم شرقى طرة وحلوان، واسمه الأصلى «دير القصير» (المقريزى- الخطط 2/515) النجوم الزاهرة (9/68) . [4] اليعاقبة (ويقال لهم: اليعقوبية) قال القلقشندى (صبح الأعشى ج 3/278 و 280) : هم أتباع ديسقورس بطرك الإسكندرية فى القديم. وهو الثامن من بطاركتها من حين بطركية مرقس الإنجيلى نائب بطرس الحوارى بها، وانظر ص 120 حاشية 1 و 2 من كتاب: نهاية الرتبة فى طلب الحسبة للشيزرى.

نهار السبت المذكور استغاث العوامّ والحرافيش، وبلغنى من جماعة أنهم رفعوا أعلاما ثلاثة: أحدها أبيض، والثانى أحمر، والثالث عليه صليب، فتغافل السلطان عن ذلك، ولم يأمر فيهم بشىء، فلما وقع منهم هذا الفعل اشتد غضبه، وجرّد جماعة من الحجّاب والنقباء والمماليك حتى أوصلوا كريم الدين إلى داره. ثم ذكر السلطان هذه الواقعة لأكابر الأمراء كل منهم على انفراده، فبدأ بالأمير سيف الدين بكتمر الأبى بكرى [1] ، واستشاره فيما يفعل فى ذلك، والمذكور رجل تركى جافى الطبع، عديم السياسة، فقال للسلطان: المصلحة أن السلطان يرسل إلى العوام فيقول لهم: يا خوشداشيّة [2] أنتم رعايانا والسواد الأعظم، وإن كنتم قد كرهتم هذا الخنزير عزلناه عنكم، وولينا غيره، ونطيّب خواطرهم، فغضب السلطان من كلامه، وشتمه واستقل عقله، وسفّه رأيه، وواجهه بالسب، ونفر فى وجهه، وكان من أمره ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ثم استشار الأمير جمال الدين آقش الأشرفى [3] بعده، ولم يعلم ما قاله الأمير سيف الدين المذكور، ولا ما قيل له، فقال: يا مولانا السلطان، الناس قد كرهوا هذين الرجلين- يشير إلى كريم الدين الوكيل، وكريم الدين الناظر- والمصلحة عزلهما، وصدقات السلطان كثيرة تشملهما فى العطلة كما تشملهما فى العمل- أو نحو هذا ومعناه من الكلام- وإذا عزلهما السلطان سكنت هذه الفتنة، فكره السلطان كلامه أيضا، لكنه لم يواجهه بما واجه به الأبى بكرى، بل قال له: والله لا بد أن آمر بوضع السيف فى العوامّ، وسفك دمائهم، حتى لا يتجرّأ من بعدهم من العوام على الملوك.

_ [1] بكتمر الأبوبكرى: من أكابر الأمراء فى دولة الناصر، تنقل من الجندية إلى الطبلخاناه، ثم عظم قدره إلى أن صار أمير سلاح، غضب عليه السلطان سنة 722 فسجنه بالقلعة، فبقى فى سجنه إلى أن مات فى شعبان 728 هـ (الدرر 1/482) . [2] خوشداشية: الفرد خوشداش، وهو لفظ مركب من خوش- طيب أو جيد وداش (فى التركية) نا للمتكلمين ويمكن تفسيره ب «يا رفاقنا الطيبين» . [3] آقش الأشرفى: جمال الدين البرناق المعروف بنائب الكرك، وانظر ترجمته فى: الدرر (1/395) ، وليلاحظ أن المدة فى آق وآقش علامة تفخيم الحرف التالى لها فى اللغة التركية.

ثم استدعى الأميرين: سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب. كان. وسيف الدين الملك الحاج [1] . وهما من الأمراء الأكابر الخصّيصين بخدمة السلطان ويعرفان أخلاقه، ويبتغيان مراضيه، فسايراه بالميدان، فذكر لهما ما فعله العوامّ بكريم الدين، وقال: هذا الرجل هو وكيلى ووزيرى، والمتصرف فى دولتى، وحرمته من حرمتى، وقد تجرأ العوام عليه، ورجموه وأخرقوا [2] حرمته، فما الذى تريان أن أفعله فى ذلك؟ فاستعظما فعل العوام، وقالا: لقد وقع العوامّ فى أمر عظيم ما سبقهم أمثالهم إلى مثله، وكان ينبغى أنهم لما فعلوا ذلك أن يمسك منهم جماعة، ويوقع بهم من النّكال ما يكفّ غيرهم عن التجرّى والتعدّى. فرسم السلطان أن يتوجّه الحاجب ونقيب النقباء، وجماعة معهم، ويقبضوا على من ظفروا بهم من العوام، فأخبرنى الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى المشار إليه قال: والله لما قال السلطان ذلك دخل علىّ وعلى رفيقى من الألم ما علمه الله تعالى، وعلمنا أننا قد تكلمنا بكلام أوجب سفك دماء جماعة من المسلمين، فتلطّفنا بالسلطان، وقلنا: إن الذى فعل هذا الفعل، وأقدم على هذا الأمر العظيم علم أنه صاحب ذنب وهرب، واختلط المذنب بالبرىء ونخشى أن نمسك من لا أذنب ولا أقدم على هذا الأمر، فنعاقب البرىء بذنب المجرم، فيكون ذلك فى ذمة السلطان، ونحن لا نختار هذا، ولكن المصلحة أن يخرج القاضى كريم الدين على عادته، وتتفرق جماعة من المماليك السلطانية، فيكونوا بالقرب منه، لعل البعض يتعرض إليه، فيمسك منهم من فعل ذلك، ويعاقب المذنب حقيقة، ويسلم البرىء، وتبرأ ذمة السلطان، قال: ولم نزل نتلطف به، ونسكن غضبه، إلى أن سكن حرجه بعض السكون. ولما قرب وقت انصراف السلطان من الميدان أمر الحاجب [3] والنقباء قبل خروجه بضرب العوامّ والحرافيش، وطردهم عن طريق السلطان فيما بين

_ [1] هكذا فى «أ» ص 12 و «ك» وفى السلوك: سيف الدين آل ملك الجوكندار الأمير الحاج، ومثله فى ابن حجر (الدرر 1/411) والحاج: من ألقاب مقدمى الدولة ومن فى معناهم وإن لم يكن قد حج (عن: صبح الأعشى 6/11) . [2] أخرقوا: يريد انتهكوا، وهذا الفعل يستعمل بهذا المعنى كثيرا عند مؤرخى هذه الفترة. [3] فى «أ» ص 13 (الحجاب) بلفظ الجمع.

الميدان والقلعة، فطردوا، وركب السلطان إلى القلعة وهو على غاية الحرج، والحدّة والغضب، وكان قد أمر بالقبض على العوام، فمسك منهم جماعة كثيرة، فأحضر السلطان القضاة فى يوم الأحد الثالث والعشرين من الشهر، واستفتاهم فى أمرهم، وأنهم انتهكوا الحرمة، وتعدّوا على وكيله، مع جلالته عنده، ورجموه، فأفتوه بتعزير من ثبت عليه أنه رجم، فلم يرضه ذلك، فأمر بقطع أيدى من عرف بالفساد منهم، فقطعت أيدى أربعة، وجرّسوا [1] ، ولم يحسم أيديهم، فمات بعضهم، وأمر السلطان أن يقيد بقية من مسك، ويستعملوا فى جسور الجيزية، ففعل ذلك بهم، والعوام لا يرتدعون ولا [يتركون] [2] العاثة. وفى يوم الأحد المذكور أمسك بالجامع الظاهرى ثلاثة من النصارى قد لبسوا العمائم البيض، وتراءوا فى زى [3] المسلمين، ودخلوا الجامع، وقصدوا إحراقه، فجىء بهم إلى متولّى القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن [4] ، فأنكر على نائبه بالحسينية- وهو الذى أحضرهم- وقال: من يشهد على هؤلاء أنهم حرقوا؟ وشتمه، وإنما فعل ذلك [رعاية [5]] لخاطر من يعتنى بهم، فتوجه النائب المذكور، وهجم بيوت هؤلاء النصارى الذين وجدوا فى الجامع، فوجد فيها آلات الحريق، وفتايل قد عملت بالزيت والكبريت، وغير ذلك من الأصناف المحرقة، فضرب أولئك ضربا خفيفا، فاعترف اثنان، وأنكر الثالث، فاعتنى بهم فأطلقوا، ولم ينه خبرهم إلى السلطان، وقرر عنده أنه لم يحرق من النصارى إلا أولئك الغرب الذين حرقوا، وهو لا يشك فى ذلك. ولما كان فى يوم الاثنين الرابع والعشرين من الشهر جلس السلطان بدار العدل على العادة، [وحضر القضاة والأمراء وغيرهم على جارى العادة] [6] ،

_ [1] جرسه: شهره، وأصله أن من يشهر يجعل فى عنقه جرس، ويركب على دابة مقلوبا، أى وجهه من جهة ذنبها (شفاء الغليل ص 76 و 77) . [2] ما بين الحاصرتين زيادة عن «أ» ص 13 والعاثة: يريد بها الإفساد، من عاث يعيث، وقياس مصدره العيث والعيوث، والعيثان. [3] فى «أ» ص 13 (وتزيوا بزى) . [4] سنجر الخازن: هو سنجر السرورى الأشرفى، كان من المماليك المنصورية فلم يزل يترقى إلى أن صار والى القاهرة (من 712- 724) وإليه ينسب حكر الخازن بالقاهرة قريبا من بركة الفيل، وله خانفاه بالقرب من الإمام الشافعى (الدرر 2/172) . [5] ما بين الحاصرتين زيادة عن «أ» ص 14. [6] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، والزيادة من «أ» ص 14.

فاستفتى القضاة فى أن يلبس النصارى العمائم البيض على عادتهم القديمة، وقال: هذا إنما جدّد عليهم فى أيامى، وقد رأيت أن أعيدهم إلى ما كانوا عليه، فقالوا له: هذه سنة [كانت] [1] أميتت، وقد أحياها الله تعالى فى أيام السلطان، ولا ينبغى إزالتها، وقال له قاضى القضاة، شمس الدين الحنفى: «مذهب أبى حنيفة أن السلطان إذا قرر شيئا على أهل الذمة فليس له ولا لغيره نقضه؛ وقرأ له النص فى ذلك، فسكت ولم يرضه ذلك. وكان سبب ذلك أن من له اعتناء بالنصارى حسّن ذلك للسلطان، وقال: إن النصارى يحمّلون على ذلك ما لا، فتكلم فى ذلك فأجيب بهذا الجواب. ولما انقضى مجلس دار العدل، وانصرف القضاة، وقدّم إلى السلطان طعام الطارئ، أخرج الأمير جمال الدين يغمور، أحد أستاذ داريّة السلطان، من صولقه فتيلة من الفتايل التى أخذت من النصارى الذين وجدوا بالجامع الظاهرى، ورآها الأمير ركن الدين بيبرس [2] الأحمدى أمير جندار [3] ، فتقدم بها أمير جاندار إلى السلطان، وعرضها عليه، فسأله عنها، فقال: هذه مما وجد مع النصارى الذين قصدوا إحراق الجامع الظاهرى، ولم يكن السلطان أطلع على ذلك، فغضب وسأل عنهم، فقيل: إنهم أطلقوا، فألزم متولى [4] القاهرة بإحضارهم، فأحضرهم، فاعترف اثنان أنهم حرقوا، وقالوا: إنهم جماعة كبيرة، منهم من يحرق المدينة، [ومنهم] من خرج إلى الأرياف ليحرق الزروع، وأنكر الثالث، فسلمه السلطان للأمير سيف الدين «الدمر» أمير جاندار، فقرّره، فأقر، بالتهديد والتخويف قبل الضرب، واعترف على راهب بالخندق، فما شك السلطان عند ذلك فى أن الحريق من قبل النصارى اليعاقبة، فغضب عند ذلك، وأنكر غاية الإنكار، ثم قبض على جماعة من النصارى، وجىء بهم، وهم

_ [1] ما بين الحاصرتين زيادة عن «أ» ص 14. [2] بيبرس الأحمدى أمير جاندار، كان أحد الأبطال الفرسان الشجعان، وكان أحد من يشار إليهم فى الحل والعقد بعد موت الناصر، ولى نيابة طرابلس وكانت وفاته 746 هـ (عن الدرر 1/502) . [3] جاندار، ويرسم أيضا جندار، لقب فارسى مركب من جان- روح، ودار- حافظ. ومعناه حارس ذات الملك (الألفاظ الفارسية المعربة ص 46) وفى صبح الأعشى (5/461) : لقب على الذى يستأذن على الأمراء وغيرهم فى أيام المواكب، فلا يأذن فى الدخول عليهم إلا لمن يأمن عاقبته. [4] المتولى- الوالى: كان قديما لا يسمى به إلا نائب السلطان وهو الآن (770 هـ) اسم لمن إليه أمر الجرائم من اللصوص وغيرهم (معيد النعم ص 43) والنويرى يورده بهذا المعنى.

يعترفون، ومنهم من اعترف على بعض كتّاب ومتولّى النصارى أنهم أعانوهم بالمال حتى أقدموا على ذلك، فلم يزادوا على الاعتقال، لتظافر العناية بهم ممن تقدم إسلامه من القبط. فلما كان فى يوم الخميس السابع والعشرين من الشهر جلس السلطان على العادة، وحضر الأمراء وغيرهم إلى الخدمة، فخاطب السلطان أكابر الأمراء فى هذا الأمر، وقال: قد قررت على النصارى مضاعفة الجزية/ فيؤخذ منهم جزيتان، وأمر أن ينادى فى المدينتين أن يلبسوا الثياب الزّرق مضافة إلى العمائم، وأن يشدوا الزنانير فوق ثيابهم، وأن يميّزوا إذا دخلوا الحمام بجلجل يجعلونه فى أعناقهم، وألا يستخدموا فى الدواوين السلطانية، ولا فى دواوين الأمراء، ولا فى الأعمال والبرور، فنودى بذلك. وخرجت الأمثلة الشريفة السلطانية به، وقرئت على المنابر بالمدينتين، وأنفذت إلى العاملين، وتضمن المثال المجهّز [1] منها إلى الوجه القبلى الذى قرىء على منابر المدن ما مثاله- بعد البسملة: «الحمد لله مظهر هذا الدين المحمدى على كل دين، ومؤيد بنا الإسلام وأهله وما حق [2] بنا المشركين، الذى قهر بتأييدنا جميع الأعداء، وحقن بعفونا وحلمنا دماء الكافرين، نحمده على ما أولانا من فضله العميم، ونصره المبين، ونشكره شكرا نستزيد به من كرمه، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة باليقين، ونشهد أن سيد البشر محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء الذين أرسلهم إلى العاملين، وأن عيسى ابن مريم عبده ورسوله الذى بشر بمبعثه، وآمن برسالته قبل ظهور دينه المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه [3] خصوصا على مؤيد شرعه أول خلفاء المسلمين، وعلى من فتح البلاد، وضرب الجزية على أهل الكتاب فى كل ناد، وأعلن بالتأذين [4] ، وعلى من جهز جيش العسرة

_ [1] فى «ك» (المحاسن» وما أثبتناه من «أ» ص 16. [2] فى ك «ومحق» والمثبت من 1. [3] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» وأثبتناه من «أ» ص 16. [4] فى «ك» (بالبادين) وما أثبتناه من «أ» ص 16.

وثوقا بضمان سيد المرسلين، وعلى ممزّق جموع الكفر وجامع شمل المسلمين، صلاة باقية مستمرة إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. وبعد: فإن الله تعالى لما أقامنا لنصرة الإسلام وأهله، وصرفنا فى عقد كل أمر وحلّه، وأيّدنا بنصره وعصمنا بحبله، لم نزل نعلى كلمة الإيمان، ونظهر شعائر الإسلام فى كل مكان، ونقف عند الأوامر الشرعية، لتكون كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هى العليا، وكان جماعة من مفسدى النصارى قد تعدوا وطمعوا، وتمادوا فى المخالفة إلى ما يقتضى نقض العهود، وبغوا، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً ، وتعرضوا لرمى نيران أطفأها الله بفضله، ومكروا مكرا سيئا، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ اقتضى رأينا الشريف أن نأخذهم بالشرع الشريف فى كل قضية، ونجدد عليهم العهود العمرية، وأن يقرر على من شمله عفونا ممن ضعف منهم ضعف الجزية ما تكون به أنفسهم تحت سيوفنا مرتهنة، ونضرب عليهم فى لباسهم وحرماتهم الذّلة والمسكنة، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالى المولوى السلطانى الملكى الناصرى، لا يزال ناصر الدين بجوده [وعدله] [1] ، مظهر دين الحنيفية على الدين كلّه، أن تستقر الجزية على سائر النصارى بالوجه القبلى ضعف ما عليهم الآن، فيؤخذ من كل نصرانى ماليّتان: المستقرة أولا واحدة، والزيادة نظير ذلك، للخاص الشريف، مهما كان مستقرّا بسائر النواحى فى الوجه القبلى فى الإقطاع حسب ما قررت فى الرّوك المبارك الناصرى، يكون للمقطعين، والزيادة الثانية المضاعفة الآن تكون للخاص الشريف، وأن يلبس سائر النصارى عمائم زرقاء، وثيابا [2] زرقا، ويشدوا الزنّار [3] فى أوساطهم، وألا يستخدم أحد من النصارى فى جهة من الجهات الديوانية، والأشغال السلطانية، وكذلك لا يستخدم أحد من الأمراء أحدا من النصارى عنده، وأن يبطلوا جميعهم من الجهات التى كانوا يخدمون بها، والحذر ثم الحذر من أن أحدا منهم يخرج عما رسمنا به، ومن فعل ذلك منهم

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، وما أثبتناه من «أ» ص 17. [2] فى «أ» ص 18 وجبابا. [3] الزنّار: حزام يشده النصرانى على وسطه، ثم صار فى الإسلام علامة مميزة لهم.

كانت روحه قبالة ذلك، ولا ينفعه بعدها فدية ولا جزية، ويحسم مادة فسادهم، وينكشف بذلك ما أظهروه من سوء اعتمادهم، فليثبت [حكم] [1] هذا المرسوم الشريف، وليدخل تحت أمره المطاع كل قوى وضعيف، وليستقر ضرب هذه الجزية استقرارا بلا زوال، مستمرّا بدوام الأيام والليال [2] ، باقية بدوام الأعوام والسنين، مخلّدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فإنها حسنة ساقها الله تعالى لدولتنا الشريفة ومثوبة، وذخيرة صالحة لم تزل فى صحائفنا الطاهرة مكتوبة، ومعدلة نشرها الله تعالى على يدينا فى الآفاق، وأجر يكون ثوابه عند الله باق، وسبيل كل واقف عليه- واليا ونائبا، وحاضرا وغائبا، وناهيا وآمرا، وشادّا وناظرا، ومأمورا وأميرا، وكبيرا/ وصغيرا- الانتهاء عند هذا التحذير، فيبادرون إلى امتثال هذا المرسوم الشريف ويسمعونه، ويسارعون إلى العمل بما فيه وينفذونه، ويقفون عند حكمه ويمتثلونه، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ، والله تعالى يعلى منار الإسلام ويزيده قوة وإظهارا، ويجعل الدائرة على أعداء الدين، ولا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، يعدّ الخط الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، وكتب فى سابع عشرين جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة حسب الأمر الشريف [3] . ولما برز هذا المثال، وغيره من الأمثلة، لم ينفذ حكمها، ولا طولب نصرانى بزيادة، ومنع النصارى من المباشرات أياما قلائل، وأسلم بعض كتّاب الأمراء، فاستقروا على وظائفهم، ثم استقر سائر المباشرين من النصارى على مباشراتهم، وذلك أن كريم الدين الناظر أنهى إلى السلطان أن جماعة منهم فى الأشغال السلطانية، ومتى صرفوا قبل انتهاء السنة فسدت الأحوال، وتعطلت المصالح، وسأل أن يستمرّوا بقية هذه السنة، وينفصلوا بعد رفع الحساب، ووافقه السلطان على ذلك، وتدافعت الأيام فاستمروا. ولما رسم فى حقهم بما رسم، ونودى بما تقدم ذكره، كفّ عوام المسلمين أيديهم عن النصارى، وظهروا بعد استتارهم، وكان عوامّ المسلمين فى هذه

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، وأثبتناه من «أ» ص 18. [2] فى «ك» (بدوام الليالى والأيام) وما أثبتناه من «أ» ص 18، وهو أولى لتصح السجعة. [3] هذا المرسوم أورده محقق كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك «وأثبته كاملا بنصه نقلا عن النويرى هنا، وجعله الملحق الثالث من ملاحق الجزء الثانى، فى الصفحات من (959- 962) طبعة سنة 1958.

الأيام المتقدمة يضربون من ظفروا به من النصارى الضرب الذى يبلغ بهم حد الموت، مع إشهار النداء بالأمر السلطانى ألا يتعرض أحد إلى ذمة السلطان للنصارى، ومن تعرض إليهم بأذيّة سفك دمه، والعوام لا يزيدهم ذلك إلا تماديا، وحصل للسلطان حرج على العوام شديد، فلما شاع هذا الأمر أمسكوا عنهم. ونودى فى يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى ألا يفتح أرباب المعايش حوانيتهم التى على طريق الميدان ما بين الميدان والقلعة فى يوم السبت خاصة، وذلك بسبب ركوب السلطان إلى الميدان، وألا تفتح طاقات الدور التى ينظر سكانها إلى الطريق الذى يسلكه السلطان فى مروره إلى الميدان وعوده، ومنع العوام من الخروج لرؤية السلطان، وركب السلطان إلى الميدان فى يوم السبت سلخ الشهر، ولعب بالكرة على جارى عادته. وفى اليوم المذكور، وقع الحريق بقلعة الجبل فى الدار المعروفة بسكن الأمير سيف الدين ألماس الحاجب، وكان ذلك والسلطان بالميدان، ثم طفيت. [وأنكر السلطان على متولى القلعة أشد إنكار كونه أهمل هذا الأمر، وأحضر نائب السلطنة والأمراء الخاصّكيّة، فاجتمعوا للفكرة فى هذا الأمر] [1] . ووقعت النار أيضا فى ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة بقيساريّة بقلعة الجبل أيضا، وهى سكن جماعة من المماليك السلطانية تجاور باب القرافة، ففتح باب القلعة ليلا، واجتمع الأمراء الذين بالقلعة، والمماليك السلطانية واجتهدوا فى إطفائها، فطفيت، وهدم ما حول ذلك المكان من الدروب، ورسم السلطان أن ينتقل من بالقلعة فى المكان المعروف بخراب التّتر [2] إلى المدينة. ثم وقعت النار فى وقت الظهر فى يوم الاثنين التاسع من جمادى الآخرة بدار نائب السلطنة بقلعة الجبل، فاحترق منها مكان يعرف بالمنظرة الحسامية بأعلى الدار، فتبادر الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم من الغلمان والسقّايين إلى إطفائها فطفئت، وسكن أمر الحريق بعد ذلك.

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، وأثبتناه من «أ» ص 20. [2] فى «أ» ص 20 «بخراب التتار» . وفى خطط المقريزى (2/204 و 205 فى صفة القلعة « ... وبها مساكن تعرف بخرائب التتر كانت قدر حارة خربها الملك الأشرف برسباى فى ذى القعدة سنة 828 هـ» .

وفى يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة منع المنجّمون وأرباب الخلق من المشعوذين وغيرهم من الانتصاب لذلك، ورسم بغلق قاعات العلاج وغيرها، ورسم أيضا بالقبض على جماعة من الحرافيش، وأن يعملوا بالجسور السلطانية بالجيزية، فقبض على جماعة منهم، وعملوا فى الجسور إلى يوم الثلاثاء العاشر من الشهر، ثم أمر السلطان بإطلاقهم، فأطلقوا. وفى يوم الاثنين الثانى من جمادى الآخرة سمّر اثنان من النصارى، وطيف بهم على الجمال، أما أحدهما: فإنه كان قد أسلم تبعا لأبيه، واستمر فى دين الإسلام مدة تزيد عن عشر سنين، ثم ارتدّ، فأحضر فى هذا الوقت، وسئل فاعترف أن أباه أسلم وهو دون البلوغ، وعرض عليه الآن الإسلام فأباه، فرسم السلطان بتسميره، وأما الآخر: فإنه من النصارى الذين اعترفوا بالحريق/ وماتا على ذلك. وفى يوم الاثنين التاسع من جمادى الآخرة ظهر النصارى بعد استتارهم، وفتحوا دكاكينهم، وانتصبوا فى معايشهم على عادتهم قبل وقوع هذه الحادثة. [وفيها [1] ، فى يوم الخميس السادس والعشرين من جمادى الآخرة أمر السلطان بالقبض على الأمير صلاح الدين طرخان بن الأمير المرحوم بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى، النجمى والده، ولم يكن لذلك سبب إلا أنه حصل بينه وبين ابن أخيه علاء الدين على بن فارس الدين ألكبيه محاكمة شرعية، فرسم له بإرضائه، فامتنع أن يعطيه إلا ما يثبت له شرعا، فرسم بالقبض عليه. وأودع الزّردخاناه [2] ، ثم نقل إلى البرج، ثم إلى الإسكندرية، ورسم ببيع موجوده، وإعطائه لابن أخيه المذكور، فابيع من موجوده بمبلغ تسعين ألف

_ [1] ما بين الحاصرتين ورد فى «ك» هكذا: «واعتقل بالجب مدة، ثم نقل إلى الإسكندرية، وأخذ منه قبل توجهه إلى الإسكندرية لابن أخيه المذكور ذهب ونقرة بمبلغ تسعين ألف درهم، وأودع فى قبة البيمارستان المنصورى تحت يد الشيخ قطب الدين السنباطى وكيل بيت المال المعمور، ثم قبضها علاء الدين المذكور من المودع، واستمر فى اعتقال الإسكندرية إلى أن توفى بها رحمه الله تعالى» . وما أثبتناه من «أ» ص 21، أورده فى هامشه، وقد ترجح عندنا صوابه بعد مراجعة المقريزى فى السلوك (2/332 و 282 و 288) فقد ورد ذكر الأمير صلاح الدين طرخان وذكر فى خبره أنه بقى فى سجنه أربع عشرة سنة إلى أن مات فى جمادى الأولى سنة 735 هـ، أى بعد وفاة المصنف بأكثر من عامين. [2] : الزردخاناه من الدور السلطانية، وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء، وانظر خطط المقريزى (2/205) .

ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله صحبتهم وعودهم

درهم، وقبضت لابن أخيه المذكور، واستمر الأمير صلاح الدين فى الاعتقال أحسن الله تعالى خلاصه بمنه وكرمه] . وفى هذه السنة أمر السلطان أن يتوجه الأمير شرف الدين حسين بن جندر [بك] [1] الرومى أمير شكار [2] ، أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بالديار المصرية إلى دمشق وكان قبل ذلك من أمراء الطّبلخاناه بها، فلما عاد السلطان إلى الديار المصرية فى سنة تسع وسبعمائة حضر فى خدمته، فأمّره [3] فى الديار المصرية، ثم جعله من أمراء المائة مقدمى الألوف، وأمير شكار، وتقدم عند السلطان، وقرب منه، ووفر إقطاعه وميّزه، ثم أعاده الآن إلى الشام على إقطاع الأمير سيف الدين جوبان المنصورى، وكان نائب السلطنة بدمشق قد غضب على جوبان لأمر صدر منه، وضربه، فطلب إلى الأبواب السلطانية، وأقرّ فى جماعة الأمراء بها، وأعطى إمرة ستين فارسا، وتوجه الأمير شرف الدين حسين بن جندر إلى دمشق، فكان وصوله إليها فى يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة إحدى وعشرين. وفيها فى يوم الأربعاء ثامن عشر شوال جلس قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة لإلقاء الدروس بزاوية الإمام الشافعى بجامع مصر عوضا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصارى، وذلك أن الفقهاء بالزاوية المذكورة شكوا منه، وقالوا: إنه استولى على الوقف، واختص بأكثره، فعزل من هذه الزاوية وغيرها، ثم اعتنى به فولى وكالة بيت المال بحلب، فتوجه فى ذى القعدة من السنة، ولم يطل مقامه بها. ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله صحبتهم وعودهم وفى هذه السنة- فى ذى القعدة- عادت رسل السلطان الذين كان قد بعثهم إلى الملك أزبك، وهم: الأمير سيف الدين طقصبا الظاهرى [4] ، ومن

_ [1] الزيادة من «أ» ص 21. [2] أمير شكار: لقب مركب من أمير، وشكار- بكسر الشين- ومعناها فى الفارسية: الصيد. وهو لقب على الذى يتولى أمر الطيور والكلاب المعدة للصيد، السبكى (معيد النعم ومبيد النقم ص 37) . [3] فى «أ» ص 22 بالديار. [4] طقصبا الظاهرى، كان ممن ولى نيابة قوص، وغزا النوبة مرتين (فى سنتى 705 هـ، 716 هـ) وعمر حتى جاوز المائة وهو يرمى النشاب ويركب الخيل، ومات سنة 745 هـ (عن الدرر 2/255) .

ذكر توجه أدر السلطان إلى الحجاز الشريف ومن توجه فى خدمتهم

معه، وحضر صحبتهم رسل الملك أزبك، ومثل طقصبا بين يدى السلطان حال وصوله، وأرجأ السلطان الرسل إلى أن عاد من الصيد، واستقر بقلعة الجبل، ثم استحضر الرسل فى يوم الإثنين ثامن ذى الحجة، فأدوا الرسالة ولم يكونوا على عادة أمثالهم من رسل مرسلهم، ولا خلع عليهم، وعادوا إلى المكان الذى رسم بإنزالهم فيه، وهو مناظر الكبش، ثم أحسن السلطان إليهم بعد ذلك، وخلع عليهم، وأعادهم إلى مرسلهم صحبة رسله. ذكر توجه أدر السلطان إلى الحجاز الشريف ومن توجه فى خدمتهم وفى هذه السنة- فى شوال- توجهت الخوند [1] طغاى [2] المحمودية، وهى إحدى زوجتى السلطان، إلى الحجاز الشريف، وجهزت أعظم جهاز سمع الناس بمثله وجهز لها عدة أربات [3] ومحفّات، والأربات: مقاعد من الخشب يجلس عليها، وهى مركبة على عجل أمثال أتراس السواقى، تجر بكديش [4] واحد، أو جمل بختىّ، وتسرع فى المرور غاية الإسراع، وجهّز فى خدمتها عدة من نساء الأمراء، وجماعة من الأمراء المشار إليهم، منهم: الأمير سيف الدين قجليس [5] ، وتوجه أيضا القاضى كريم الدين وكيل السلطان، وجهز معها عدة أحمال/ من الكوسات والصناجق الخليفتية والسلطانية. وتوجه أيضا من الشام إلى الحجاز- الأمير سيف الدين تنكز، واستناب السلطان عنه بدمشق فى مدة غيبته الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب (كان) ،

_ [1] الخوند: لقب كان يستعمل للملوك فقط، أما الملكات والأميرات فكن يلقبن غالبا بلفظ خاتون، وانظر (السلوك 2/231 حاشية 8) و (الألفاظ الفارسية المعربة ص 58) . [2] طغاى: كانت جارية تركية اشتراها تنكز نائب الشام من دمشق بتسعين ألف درهم، وبعث بها إلى السلطان الناصر، وكانت بارعة الجمال، فحظيت عنده وولدت له ابنه آنوك وجهزها إلى الحجاز لتحج بما لم يسمع بمثله (الدرر 2/221) أبو الفداء (4/91) السلوك (2/231) . [3] هذا اللفظ ورد فى «ك» غير منقوط، وكذلك فى «أ» ص 23 واستظهرنا أنها أربات مما سيأتى فى غير موضع، وقد سماها المقريزى فى السلوك (2/232) عربات، وعبارته (وعمل الأمير أرغون النائب برسم- سفر الخاتون- ثمانى عربات كعادة بلاد الترك لتسافر فيها) . [4] فى صبح الأعشى (2/17) أورد ذكر أصناف الخيل فقال: الثانى من أصناف الخيل العجميات، وهى البراذين، ويقال لها: الهماليج، وتعرف الآن بالأكاديش، وتجلب من بلاد الترك والروم..» . [5] سيف الدين قجليس الناصرى السلاح دار، وكان من خواص الناصر، يندبه فى المهمات، وكان قويا شديد البأس، فعظمت مهابة الناس له. توفى سنة 731 هـ (الدرر 3/243 و 244) .

ذكر وصول بعض من وقف بعرفة فى هذه السنة إلى القاهرة المحروسة

فتوجه من الأبواب السلطانية إلى دمشق، فوصل إليها فى سابع شوال، ونزل بالمدرسة النّجيبيّة ظاهر دمشق، وكان يحضر إلى دار السعادة فى يومى الخميس والاثنين، ويجلس وكتاب الإنشاء بين يديه، ويقف الحجاب وغيرهم، وتقضى الأشغال، ويمد السّماط، ثم يركب فى الرابعة من النهار ويعود إلى النّجيبية، وينتصب بها فى بقية النهار لقضاء الأشغال، ولم يزل كذلك إلى أن بلغه عود الأمير تنكز من الحجاز، ففارق دمشق فى يوم الأحد تاسع عشر المحرم سنة اثنتين وعشرين، وتوجه إلى الديار المصرية، والتقى الأمير سيف الدين تنكز [1] بها بمنزلة الصمّان [2] ، وسلم عليه وودعه، فخلع تنكز [3] عليه، وأنعم عليه بمال، وتوجه إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية. ذكر وصول بعض من وقف بعرفة فى هذه السنة إلى القاهرة المحروسة وفى يوم الجمعة السادس والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وصل إلى القاهرة المحروسة سيف الدين أوجى [4] ، أحد مماليك الأمير سيف الدين قجليس، وحسام الدين طرنطاى أحد مماليك القاضى كريم الدين بعد أن وقفا بعرفة، فذكر لى حسام الدين طرنطاى المذكور أن خروجهما من مكة- شرفها الله تعالى- كان فى يوم السبت ثالث عشر الشهر بعد العصر، وأن الوقوف بعرفة كان فى يومى الثلاثاء والأربعاء، ونحروا يوم الخميس، فكانت مسافة مسيرهما من مكة إلى القاهرة اثنى عشر يوما ونصف وربع يوم، على التحرير، وحضرا بين يدى السلطان، وتضمنت الكتب سلامة الأدر السلطانية، فخلع السلطان عليها، وأنعم عليهما من بيت المال بخمسة

_ [1] تنكز نائب الشام، أورد له ابن حجر فى الدرر (1/520- 528) ترجمة مطولة، وضبطه ابن تغرى بردى فى النجوم 9/34 بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه، وفى صبح الأعشى بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه (صبح الأعشى 5/425) . [2] الصّمّان: من نواحى الشام بظاهر البلقاء (معجم البلدان 5/383) . [3] فى «أ» فخلع نائب السلطنة عليه. [4] فى «ك» وحى، وفى «أ» ص 24 أوحى «وكلا الاسمين، واحتمالات التصحيف فيهما- لم أجده فى الدرر، ولا فى غيره، ولعله «أطرجى» .

ذكر حوادث كانت بدمشق فى هذه السنة

آلاف درهم، وعادا إلى مرسلهما فى اليوم الثانى بالأجوبة السلطانية، ولم يسمع أن أحدا ممن وقف بعرفة وصل إلى القاهرة فى سنته، وفيما مضى من الزمان وإلى الآن، وقد صغر ذلك ما كان استعظم من مجىء من تقدم ذكره فى ليلة ثالث المحرم. ذكر حوادث كانت بدمشق فى هذه السنة فى يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة أقيمت الخطبة، وصلاة الجمعة بمسجد القصب خارج باب السلامة ظاهر دمشق، وخطب فيه وصلى بالناس علاء الدين على الباخلى وهو من أولاد الجند، منسوب إلى ابن باخل. وفيها- فى يوم الجمعة خامس عشر شهر رمضان- أقيمت الخطبة وصلاة الجمعة بجامع استجدّه القاضى كريم الدين وكيل مولانا السلطان بأرض القابون [1] ظاهر دمشق، وكان الشروع فى عمارته، والاجتماع على تحرير محرابه فى مستهل جمادى الأولى من هذه السنة وكمل، وخطب به فى التاريخ المذكور، وفوضت خطابته للشيخ الصالح جمال الدين عبد الوهاب التركمانى الحنفى إمام القابون، وحضر الخطبة قضاة القضاة والأعيان. ذكر هدم كنيسة اليهود القرّائين بدمشق وفى هذه السنة برزت المراسيم السلطانية بهدم كنيسة اليهود القرّائين بدمشق بدرب الفواخير، فهدمت فى يوم السبت التاسع عشر من شهر رجب، وسبب ذلك: أن جماعة من المسلمين ادعوا أنها محدثة، فأثبت اليهود أنها قديمة مستمرة بأيديهم- عند بعض الحكام- فأقرت بأيديهم، ونجزوا مرسوما سلطانيا بالحمل على ما ثبت وإبقائها، فعارضهم المسلمون بإثبات عند حاكم أنها محدثة، فورد المرسوم السلطانى/ بالحمل على ما ثبت آخرا، وهدمها. قال الشيخ شمس الدين الجزرىّ فى تاريخه: إن هذه الكنيسة كانت من نحو مائة سنة بيتا يجتمع فيه طائفة من اليهود القرّائين، ثم أضيف إليها شىء

_ [1] فى ك: القانون، وما أثبتناه من أص 25 لموافقته ما جاء فى ترجمة كريم الدين الوكيل الواردة فى الدرر (2/402) وعبارته أنه «لما دخل دمشق سنة 718 عمر جامع القبيبات وجامع القابون، والقابون: موضع بينه وبين دمشق ميل واحد (2 ك م فى طريق القاصد إلى العراق وسط البساتين (عن ياقوت، ومراصد الاطلاع) .

بعد شىء، حتى كبرت واتسعت، وأصلحت عمارتها، فلما كان فى سنة تسع وتسعين وستمائة عند دخول التتار إلى دمشق تمكن اليهود من إصلاحها؛ وعملوا بها منبرا، كل ذلك والمسلمون لا يعلمون؛ وذلك أنها بدرب الفواخير وغالب سكانه اليهود، وهى فى درب داخل درب جوار سور باب كيسان، والباب يومئذ مسدود، وبذلك تمكنوا من عمارتها وما شعر بهم المسلمون، ثم ظهرت فى ذلك الوقت، فهدمت. وفى هذه السنة- فى الثامن من شهر ربيع الأول- توفى القاضى الخطيب مجد الدين أحمد بن القاضى معين الدين أبى بكر بن ظافر الهمدانى [1] المالكى الخطيب والمدرس بمدينة الفيوم، وكانت صورته كبيرة عند الأكابر، وولى قضاء القضاة بدمشق فى سنة عشر وسبعمائة، وخلع عليه، ولبس التشريف، ثم امتنع من ذلك واستعفى فأعفى، وكان رحمه الله تعالى رجلا كريما سمحا مشهورا بالمكارم، تزيد مكارمه على ريع أملاكه، وتأبى نفسه الاختصار، فاحتاج إلى أن استدان الأموال، واضطر إلى وفاء الدّين بالدّين، كل ذلك رغبة فى المكارم. وكان رحمه الله تعالى جميل الصورة كامل الخلق، حسن الزى والملبس والمركب، جيد الشّعر، أرسل إلىّ مرة يلتمس أن يقف على مقدمة كتابى هذا الذى ألفته، فأرسلت إليه المجلدة الأولى، فوقف عليها وكتب إلىّ بيتين من نظمه وهما: وتوفى القاضى تاج الدين أبو الهدى أحمد بن محيى الدين أبى الفضل محمد بن الشيخ كمال الدين على بن شجاع بن سالم القرشى الهاشمى كتاب جلّ أن نحصيه وصفا ... حوى علما وآدابا وظرفا رأينا منه عنوانا بديعا ... وعنوان المحاسن ليس يخفى

_ [1] فى ك: الهمدانى (بالدال) وكذلك فى: النجوم الزاهرة (9/254) وفى «أ» ص 26 جاء رسمه بالذال. ولم ترد ترجمته فى المنهل الصافى فيمن اسمه أحمد بن أبى بكر، وأورد ابن حجر ترجمته فى الدرر (1/111) فقال: أحمد بن أبى بكر بن ظافر مجد الدين بن معين الدين المالكى سبط الشيخ المجد الأخميمى و «لم يذكر فى نسبه همدان ولا همذان» .

العباسى، المعروف بابن الأعمى [1] ، والأعمى- الذى عرف به- هو جده الشيخ كمال الدين المقرئ وكانت وفاته بداره بمنشاة المهرانى، ودفن بالقرافة، ومولده فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وكان يلى نظر ديوان الملك الأشرف بن السلطان الملك المنصور قبل سلطنته، ثم عزل بالصاحب شمس الدين محمد بن السّلعوس [2] وعطل مدة، ثم ولى نظر الكرك، وعزل فى سنة ثمان وسبعمائة، وحضر إلى الديار المصرية، فولى نظر بيت المال مدة لطيفة، ثم عطل عن الخدمة، ورتب له فى آخر عمره راتب، فكان يتناوله إلى أن مات رحمة الله عليه، وكانت وفاة جده الشيخ كمال الدين الضرير فى سنة إحدى وستين وستمائة. وتوفى الصدر الرئيس شهاب الدين أحمد بن محمود بن أبى الفتح بن الكويك [3] التاجر الكارمى، وكانت وفاته بداره بمصر فى ليلة الأربعاء التاسع عشر من شوال، وترك دنيا عريضة وأملاكا، وورثه أولاده، وكان من بقايا أعيان التجار الكارميّة، ومشايخهم يرجعون إليه ويقتدون برأيه، رحمه الله تعالى. وتوفى القاضى الفاضل كمال الدين محمد بن القاضى عماد الدين إسماعيل بن القاضى تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير الحلبى، أحد أعيان كتّاب الإنشاء [4] ، وكانت وفاته بالقاهرة فى بكرة نهار الاثنين للنصف من ذى الحجة، وصلى عليه تحت القلعة، ودفن بالقرافة، وكان رحمه الله فاضلا خيّرا لطيفا حسن العشرة والمذاكرة، جيد الإنشاء، قد ذكرنا من إنشائه فى أثناء هذا التاريخ ما يقف عليه من يقصده، رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير زين الدين كتبغا [5] الصغير المنصورى رأس نوبة الحاجب بالشام فى آخر نهار الجمعة الثامن والعشرين من شوال بداره بظاهر دمشق

_ [1] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/282) والمقريزى (السلوك 2/233) . [2] محمد بن عثمان، شمس الدين المعروف بابن السلعوس كان وزيرا للسلطان الملك الأشرف، ومات مقتولا سنة 692 هـ (أبو الفداء 4/31) . [3] فى ك «الكوند» وما أثبتناه من «أ» ص 28 والكارمى نسبة إلى الكارم، وهو البهار والتوابل. [4] فى ابن حجر (الدرر 3/386) أنه كان موقع الدست بالديار المصرية، وكان فاضلا فى صناعته حسن الخط والإشارة والإنشاء. [5] كتبغا العادلى الحاجب: كان تنكز نائب الشام يحبه ويعظمه. وترجمته فى ابن حجر (الدرر 3/264) وانظر أيضا (السلوك 2/234) .

ودفن من الغد بتربته برأس ميدان الحصار، رحمه الله تعالى، وولى الحجبة [1] بعده الأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى، جهز من الأبواب السلطانية على إقطاع سنقر الإبراهيمى، فقدم دمشق فى يوم الأحد عاشر صفر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة. وتوفى فى يوم الاثنين السادس عشر من ذى الحجة- عز الدين إبراهيم ابن الملك الحافظ غياث الدين محمد بن الملك السعيد شاهنشاه بن الملك الأمجد بهرام شاه بن عزّ الدين فرخان شاه بن شاهنشاه بن أيوب، وكانت/ وفاته بقرية جسرين من غوطة دمشق، ودفن بتربتهم بباب الفراديس، ومولده فى الخامس من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين وستمائة بحمرانيسان [2] عند مرجعهم من القدس، سمع الحديث من إسماعيل العراقى، ورواه عنه، وكان رحمه الله تعالى كثير التواضع والاحتمال حسن المودّة. وتوفى الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول صاحب [3] اليمن، وكانت وفاته فى مستهل ذى الحجة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وحصل بعد وفاته من الاختلاف والفتن بين ولده وأخيه ما نذكره بعد- إن شاء الله تعالى- عند ذكرنا لأخبار اليمن. وتوفى الشيخ الصالح العابد نجم الدين عبد الله بن محمد الأصفهانى بمكة شرفها الله تعالى [4] ، وورد الخبر بوفاته فى شعبان، وكان شخصا جليلا صالحا فاضلا مشهورا مقصودا للزيارة منقطعا عن الناس، جاور بمكة سنين كثيرة رحمه الله تعالى.

_ [1] الحجبة: وظيفة الحاجب، وهو الذى يقف بين يدى السلطان ونحوه فى المواكب ليبلغ ضرورات الرعية إليه، ويتصدى للفصل فى المظالم بين المتنازعين فيما لا تسوغ الدعوى فيه من الأمور الديوانية، وانظر فى تطور هذه الوظيفة (صبح الأعشى 5/449 و 450) . [2] هكذا فى «أ» و «ك» ، ولعل صوابه «بيسان» ، وهى مدينة بالأردن بالغور الشامى بين حوران وفلسطين (مراصد الاطلاع 1/241) . [3] فى المقريزى (السلوك 2/234) على بن رسول التركمانى، وفى النجوم (9/253) التركمانى الأصل اليمنى المولد والمنشأ تسلطن بعد أخيه فى المحرم سنة 696 هـ» . وترجمته فى ابن حجر (الدرر 2/99- 100) . [4] ترجمته فى الدرر (2/302) وفيها أنه كان صالحا عابدا وللناس فيه اعتقاد زائد ومولده 643 هـ.

ذكر ما وصل إلينا من الحوادث الكائنية ببغداد فى هذه السنة

ذكر ما وصل إلينا من الحوادث الكائنية ببغداد فى هذه السنة فى نصف شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبعمائة كبس الحراميّة [1] بغداد وقت الظهر ونهبوا سوق الثلاثاء، وخرج الناس، وقتلوا منهم نحو المائة وأسر منهم جماعة، وكان ذلك جرأة عظيمة منهم. نقلت ذلك من تاريخ الشيخ علم الدين بن البرزالى، وقال: كنت قرأت ذلك فى كتاب وصل إلى شمس الدين ابن منتاب البغدادى، وفيها أيضا ورد كتاب من بغداد من جهة أحمد البالوادى إلى شمس الدين بن منتاب بدمشق، وهو مؤرخ بالحادى والعشرين من جمادى الآخرة، وكان وصوله إلى دمشق فى مدة عشرين يوما، وفيه «.. والذى أعرفكم به أنه جرى فى بغداد شىء ما جرى فى زمان الخليفة إلى هذا التاريخ: خرّبوا البازار [2] من أوله إلى آخره، وما يعلم ما عزموا عليه إلا الله تعالى، وما خلّوا فى البلد خاطية إلا توّبوها وزوجوها، وما خلّوا أحدا يعصر فى البلد شرابا، وبدّدوا الشراب العتيق، ولو بدّدوه من الشط غرقت بغداد، وبعد ذلك نادت المنادية أن كل من تخلّف عنده شىء من الشراب يكون دمه وماله للسلطان، وطلع بعد ذلك عند شخص من العقبة جرّه، فعلّقوها فى حلقه، وقتلوه فى باب النوبة، وطلع عند عبد الله بن الجبّار الذى من درب دينار جرّتين من الشراب فقطعوا رأسه فى باب النوبة، وجعلوا جرة عند رأسه، وجرة عند رجليه، ودفع فيه ألف وخمسمائة دينار فما خلاه محمد حسيناه، وعلّموا [3] اليهود والنصارى، وأسلم الرّفى الجوهرى، وبركة، وإبراهيم الكاغدى، والعماد الصيرفى، وكل يوم جمعة يسلم أربعة خمسة» نقلته من تاريخ الشيخ علم الدين البرزالى أيضا. واستهلت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة يوم الأربعاء الموافق الخامس والعشرين [4] من طوبة من شهور القبط.

_ [1] الحرامى: اللص- مولد (المعجم الوسيط) وقد شاعت هذه اللفظة على أقلام الكتاب فى هذه الفترة وانظر صبح الأعشى (7/314) . [2] البازار: السوق (فارسية) . [3] المراد: ميزوهم بعلامات خاصة. [4] هكذا فى «ك» ، وانظر: التوفيقات الإلهامية 361، وفى «أ» الخامس عشر من طوبة.

ذكر وصول أدر السلطان من الحجاز الشريف

ذكر وصول أدر السلطان من الحجاز الشريف كان وصول الأدر السلطانية من الحجاز الشريف فى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من المحرم، فركب السلطان لتلقيهم، ومد سماطا، ثم طلعت الأدر السلطانية إلى قلعة الجبل على أربة، وتقدمها نساء الأمراء على الأربات، والكوسات تضرب، والعصائب منشورة، وكان يوما مشهودا [1] . ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس [2] ، وفتح مدينة آياس [3] وأبراجها وفى هذه السنة رسم السلطان بتجريد العساكر إلى جهة سيس، فجرّد من الأمراء المقدمين بالديار المصرية خمسة وهم: الأمير جمال الدين أقش [4] الأشرفى، وهو مقدّم/ الجيوش، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، والأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب، والأمير سيف الدين طرجى أمير مجلس، الأمير سيف الدين أصلم السلاح دار، ومضافيهم من أمراء الطبلخانات، وهم: قلبرس بن طيبرس محمد ابن أمير سلاح الدمر أمير جندار أيدمر العمرى، [و] أروم [5] بغا، قطلوبغا الجمالى، [و] طرمحى الساقى، [و] خضر بن نوكيه، [و] طيفر الجمدار، وطرنطاى السلاح دار، [و] أيدغدى البلبلى، أراق السلاح دار، خاص ترك الجمدار، بيلك الجمدار، أقسنقر السلاح دار، بيبرس السلاح دار، أيبك عبد الملك، سنقر السعدى، بهادر الغنمى، وأمير العراواب خليل بن الأربلى، على بن دامر بن على بن سلار، على بن التركمانى، ومحمد بن ملكشاه، كجكن الكرمونى، [و] بهادر بن قرمان، ومحمد بن أيبك الخزندار، وما جار فتحى بكا [6] ، وجماعه من الحلقة [7]

_ [1] وصف المقريزى استقبال السلطان للأدر السلطانية فى عبارة أكثر تفصيلا (السلوك 2/235) . [2] سيس: بلد من أعظم الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس، سماها ياقوت: سيسيه (معجم البلدان) . [3] آياس: مدينة ببلاد الأرمن على ساحل البحر (صبح الأعشى 4/133) . [4] فى المقريزى (السلوك 2/235) أقوش. [5] ما بين الحاصرتين إضافة للتوضيح. [6] ما بين الحاصرتين لم يرد فى «أ» ، وقد ذكر المقريزى خبر هذه الحملة موجزا، ولم يذكر غير الأمراء الخمسة المقدمين (السلوك 2/235) . [7] فى القلقشندى (صبح الأعشى 4/16) أجناد الحلقة: عدد جم، وخلق كثير، وربما دخل فيهم من ليس بصفة الجند من المعممين وغيرهم، ولكل أربعين مقدم منهم، ويمثلون الطبقة الثانية.

المنصورة، والمماليك السلطانية [1] ، وكان خروجهم من القاهرة المحروسة فى يوم السبت الثانى من صفر. وجرد من الشام الأمير سيف الدين بهادر والأمير سيف الدين كجكن [2] ، والأمير شرف الدين حسين بن جندر، ومضافيهم، والعسكر الحلبى بكماله، والأمير شهاب الدين قرطاى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، وجماعة من العسكر الطرابلسى، وخرج المرسوم السلطانى لهم أن يتوجهوا إلى بلاد سيس، ولا ينتظروا مرسوما، ولا يقيموا بمدينة من مدن الشام. وكان سبب إرسال [3] هذه الجيوش أن السلطان كان قد أرسل الأمير بدر الدين محمد بن الحاج أبى بكر- أحد الأمراء بطرابلس- رسولا إلى متملك سيس فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فتوجه وأخذ منه القطيعة المقررة على بلاده، وهى ألف ألف درهم ومائتا ألف درهم فضة حجر، والمقرّر من الخيل والبغال وتطابيق النعال والمسامير وغير ذلك، وجهزها إلى الأبواب السلطانية من غير عهد ولا عقد، ولا تقرير هدنة، فأخبرنى الأمير بدر الدين المذكور عند وصوله إلى الأبواب السلطانية أنه لما توجه [إلى سيس] [4] اجتمع بمتملك بلاد الأرمن وهو صغير يكون عمره نحو ثمان سنين جمع [متملك بلاد سيس] [4] أكابر مملكته وحضر خليفتهم بزعمهم واستشاروه فى إرسال القطيعة قبل تقرير [الهدنة واليمين] [5] فأشار عليهم بدفعها، وإطفاء الثائرة. وتعريف السلطان أنهم بأجمعهم دخلوا تحت طاعته وانتسبوا إلى غلمانيته وعبوديته، وخلعوا طاعة من سواه من التتار وغيرهم. وسألوا مراحم السلطان، وبذلوا له الرغبات، فكان مما عرضوه على الرسول المذكور أن قالوا له: إن اختار السلطان أن

_ [1] المماليك السلطانية: هم الطبقة الأولى من الجند، وهم أعظمهم شأنا، ومنهم تؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة (المصدر نفسه 4/15) . [2] فى «أ» و «ك» (كحكن) وفى الدرر (3/264 بالجيم، وهو كجكن المنصورى أحد الأمراء الكبار بدمشق، مات سنة 739 هـ. [3] أورد المقريزى فى السلوك (2/236) سببا آخر لهذه الحملة. [4] ما بين الحاصرتين أضيفت للتوضيح. [5] فى «ك» (الهدية واليمن) وما أثبتناه من «أ» لموافقته السياق.

يقاسمنا على متحصل البلاد، وأن يقرّر علينا الجزية عن كل إنسان دينارين حتى على رأس الملك فمن دونه فعلنا ذلك، ويرسل إلينا نوّابه يستخرجون ذلك، وإن أحب أن يسلّم إلى نوابه ما هو قاطع نهرجهان [1] مما يلى المملكة الحلبية من القلاع والبلاد فعلنا ذلك على أن يضع عنا فى مقابلة هذه القلاع والأعمال ثلث المال المقرّر، وهو أربعمائة ألف درهم فضة. وأرسل [2] الأرمن امرأة من عند الملك تسأل مراحم السلطان، فلم تمكن من الوصول إلى الأبواب السلطانية وأعيدت من حلب. وجرّد السلطان هذه العساكر وأرسل الأمير بدر الدين المذكور على خيل البريد أمام العسكر المنصور ليطالبهم بتسليم البلاد والقلاع وتقرير الهدنة على ذلك، فإن سلموها تسلمها نواب السلطان، وكفّ العسكر عنهم، وإن شغبوا أو توقّفوا أدخل العسكر إلى بلادهم. وكان موجب خروجهم عن طاعة التتار وغيرهم أن مقدم التتار بالروم- وهو تمرتاش بن جويان- اجتمع هو وابن قرمان ودخلوا إلى بلاد سيس فى أواخر سنة إحدى وعشرين، وغاروا وشعّثوا ونهبوا، وعادوا إلى بلادهم، فتوجه العسكر الآن ووصل إلى دمشق فى يوم الخميس الثامن والعشرين من صفر، ثم توجه منها إلى حلب فوصل إليها فى العشر الأول من شهر ربيع الأول. وتوجهت العساكر منها إلى مدينة آياس فى أوائل شهر ربيع الآخر، واستصحبوا المجانيق من بغراس محمولة على العجل وأعناق الجند. ولما وصل العسكر إلى ثغر آياس وجد أهلها قد أخلوا المدينة من الأموال والرجال وغير ذلك، وبقيت/ خالية، فدخلها العسكر بغير ممانع ولا مدافع، وانتقل أهلها إلى القلعة، وهى قلعة مستجدة عمرها الأرمن فى أول المائة

_ [1] فى ك جهان، وكذلك فى أبى الفدا (4/119) وفى صبح الأعشى (4/133) نهر جاهان ويقال له أيضا نهر جيحان، ويعبر عنها أحيانا بالفتوحات الجاهانية، وقد ذكر أيضا أن الناصر محمد بن قلاوون قد استعاد بلاد الأرمن سنة 738 هـ، أيضا المقريزى (السلوك 2/236- 237) . [2] هذا الخبر لم يرد فى «أ» .

السابعة، ولها باب من جهة البر وبقيتها فى البحر، فتقدم العسكر لمحاصرتها وأخذ النقّابون فى النقوب يوما وليلة، فانتقل من كان بها إلى قلعة هناك فى وسط البحر تسمى قلعة أطلس، وإلى أبراج ثلاثة، منها برج مثمّن وأشعلوا النيران بالليل فيها، وأحرقوا [1] ما تركوه بها من أعواد المجانيق والأمتعة وغير ذلك، فملكها المسلمون، وارتفع الصنجق السلطانى عليها، وشرع العسكر فى إخرابها فعلّقها النقابون، وأطلقت فيها النيران، فهدمت فى البحر وحصر الأرمن بالقلعة والأبرجة التى فى البحر، والوصول إليها متعذر لبعدها عن البر، فنصبت المجانيق السلطانية على القلعة الكبرى، ونصب الأرمن أيضا مجانيقهم على العسكر، وتراموا بها فاتفق الأمراء على أن العسكر يردم ما بين المدينة وبين القلعة والأبرجة من البحر، فتعذر عليهم لعمق البحر، وبعد المسافة، فنصبوا جسورا من الأخشاب والبتاتىّ، فانتهت إلى مقدار ثلثى المسافة إليها، هذا والمجانيق ترمى بأحجارها من كل من الطائفتين ووصل النقابون إلى البرج المثمّن، فسأل من به الأمان على أن يسلّموه فأجيبوا إلى ذلك، ثم نكثوا، ورجعوا عن التسليم، فوصل المسلمون إليه، وشرع النقابون فى تعليقه ثم يسر الله تعالى الفتح، فحصل الاستيلاء على ذلك برا وبحرا فى يوم الأحد والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودخل العسكر إلى بلاد سيس، وأغاروا ووصلوا إلى قلعة كوارا، ثم عادت العساكر المنصورة إلى مستقرها من الممالك، ولما حصل هذا الحصار أمر الباب [2]- وهو الحاكم على ملوك الفرنج- من تحت يده وطاعته منهم أن يتوجهوا إلى ثغر اللاذقية ويحاصروه لعلهم ينالون [3] منه منالا، لاشتغال العساكر الإسلامية بثغر آياس، فعمّر الفرنج نحو تسعين شينيا وشحنوها بالرجال والمقاتلة، وقصدوا ثغر اللاذقية وبه يومئذ الأمير شرف الدين عيسى بن البرطاسى فاجتهد فى أمر الثغر، واحترز فأقامت تلك الشوانى أياما فى البحر قبالة ثغر اللاذقية، ثم عادت إلى أماكنها ولم يظفروا بشىء، وكفى الله تعالى شرهم وله الحمد والمنة؛ ولنذكر خلاف ذلك ما اتفق.

_ [1] فى الأصل: (وحرقوا) . [2] الباب: يريد «البابا» فهكذا كان مؤرخو هذه الفترة يكتبون اسمه، وانظر صبح الأعشى (5/408) . [3] بالأصل «ينالوا» والصواب ينالون.

ذكر اجتماع المماليك السلطانية وشكواهم وما حصل بسبب ذلك

ذكر اجتماع المماليك السلطانية وشكواهم وما حصل بسبب ذلك وفى يوم الخميس الثامن والعشرين من صفر اجتمع جماعة من المماليك السلطانية الساكنين بالطّباق [1] بباب السلطان، واستغاثوا وشكوا إلى السلطان أنهم نقصوا من مرتبهم، وغيرت عادتهم فى طعامهم وتأخرت جامكيّتهم عنهم وكساويهم، وبالغوا فى الشكوى والأساة، فأرسل السلطان إليهم أن يختاروا من أعيانهم من يعبر إليه، ويشكوا ضررهم، ويشافهوه بحالهم، فامتنعوا من ذلك، وكانوا فى جمع كثير، فخرج السلطان إلى الرحبة، وسمع شكواهم، ولطف بهم، وقابل جهلهم بحلمه وسياسته ووعدهم إزالة ضررهم، وأنه يتولى ذلك بنفسه، وصرفهم إلى أماكنهم فانصرفوا إليها وكشف عمن حملهم على الجرأة ممن يعلم أحوال المماليك، فعين جماعة من المماليك أرباب الاقطاعات، فرسم بإخراجهم من القلعة وإسكانهم المدينة، فخرجوا فى يوم السبت سلخ صفر، وأخرج أيضا جماعة من الخدّام المقدمين والسواقين، ورسم بالنفقة فى أرباب الجامكيّات، وزيادة مرتبهم، وإصلاح أطعمتهم، ففعل ذلك، وسكنت أمورهم [2] . ذكر وصول الأمير «علاء الدين الطنبغا» [3] نائب السلطنة/ بالمملكة الحلبية إلى الأبواب السلطانية وعوده وفى يوم السبت سلخ صفر وصل الأمير علاء الدين الطّنبغا نائب السلطنة بالمملكة الحلبية إلى الأبواب السلطانية، وكان قد رسم بحضوره، فأرجف الناس به، وظن كثير منهم أنه لا يحضر، وأنه إذا حضر اعتقل، فلما وصله شمله الإنعام السلطانى بالتشريف والخيل والإحسان، وقدم له أعيان الأمراء التقادم [4] ، وبالغ القاضى كريم الدين وكيل السلطان فى خدمته وإكرامه، وأرسل إليه عدة كثيرة

_ [1] الطباق: كان معدا لسكنى المماليك السلطانية بقلعة الجبل، وانظر المقريزى (الخطط 2/204) . [2] ورد هذا الخبر فى المقريزى (السلوك 2/229) مخالفا لما أورده النويرى هنا وعلق عليه ثمة محققه بما أورده النويرى هنا، وبينهما اختلاف فى الطريقة التى عالج بها السلطان هذه الفتنة، وقد أوردها فى حوادث سنة 721، وانظر أيضا (النجوم 9/72 و 73) . [3] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/408 و 409) وفيه أنه مات مخنوقا بالإسكندرية سنة 742 هـ. [4] التقادم: جمع تقدمة ويقصد بها الهدايا التى جرت العادة بتقديمها فى مناسبات، وكانت تختلف تبعا لمكانة المهدى إليه، وتبعا للمناسبة التى تقدم فيها.

ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك التتار

من الأقمشة والتعابى والتشاريف ليخلعها على من يحضر إليه بتقادم الأمراء، وأعطاه خيلا وجملة من المال، وحضر هو صحبة القاضى كريم الدين إلى داره، وترجّل عند قربه من الدار، ومشى والقاضى كريم الدين مستمر الركوب على ما هو عليه إلى أن نزل فى مكانه المعتاد، هكذا أخبرنى جماعة ممن ذكروا أنهم شاهدوا ذلك، ثم رسم بعود الأمير المذكور إلى المملكة الحلبية، فعاد فى يوم السبت ثانى شهر ربيع الأول على خيل البريد، وأدرك العسكر بحلب، ودخل معهم إلى آياس. ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك التتار وفى العشر الآخر من ربيع الأول وصلت رسل الملك أبى سعيد بن خربندا- ملك العراقين وخراسان وما والى ذلك- إلى الأبواب السلطانية، وهم: الأمير حسن بن شادى بن سونجاق، ومعه أمير آخور، وقاضى قضاة تبريز نصر الدين محمد بن محمد القزوينى الشافعى، فأمر السلطان بإنزالهم فى قلعة الجبل، ومثلوا بين يديه فى يوم الاثنين مستهل ربيع الآخر، فاستقبلهم بدر الدين بيبرس الصالحى [1] .

_ [1] يلى هذا فى «أ» سقطة طويلة يبدو أنها من سهو الناسخ، وليس فى «ك» ما يساعد على ملء هذه السقطة تماما، غير أنه بالرجوع إلى L steen LL L K. V. Zetter LL رجح أن هذه السقطة تبدأ بسنة 723 هـ وتشمل أخبار شهور المحرم وصفر وربيع الأول منها، ولذا فسوف نعتمد أولا على هذا المرجع فى تكميل المتن، وثانيا على المقريزى فى السلوك (ج 2/243 فى ربط السياق حتى يستقيم المتن تماما.

[ذكر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فى يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر قبض على كريم الدين الكبير [1]]

[ذكر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فى يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر قبض على كريم الدين الكبير [1]] [بعد [2] ما تجهز ليسافر يوم الجمعة خامس عشره إلى الشام، فعندما طلع إلى القلعة على العادة، ووصل إلى الدّركاه منع من الدخول إلى السلطان، وعوق بدار النيابة هو وولده علم الدين عبد الله، وكريم الدين أكرم الصغير ناظر الدولة، ووقعت الحوطة على دور كريم الدين الكبير خاصة التى بالقاهرة وبركة الفيل، ونزل شهود الخزانة بولده إلى داره ببركة الفيل، وحملوا ما فيها إلى القلعة، وتوالت مصادرته، فوجد له شىء كثير جدا] [3] (34) [ووجد له عدة من المماليك والجوارى الأتراك، وكان من مماليكه جماعة قد أخذ لهم الإقطاعات الوافرة فى جملة رجال الحلقة المنصورة، فأمر السلطان بقطع أخبازهم، وبيع المماليك الأرقاء والجوارى، وأنعم على ثلاثة منهم بأخباز غير ما كان بأيديهم قليلة العبرة بالنسبة إلى ما كان بأيديهم، وعادت الخزانة التى كان قد جهزها إلى ثغر اللاذقية فى يوم الاثنين ثامن عشر الشهر، فعرض ذلك على السلطان، وكان فى جملة ما وجد بها ثلاثة حوايص ذهبا مجوهرة كان قد أعدها لمن نذكر فى جملة خلعه عليهم، وهم: الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماه، والأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام والأمير علاء الدين الطنبغا نائب السلطنة بحلب.] ولما رسم بالحوطة عليه [4] ، وقعت الحوطة على أملاكه وأوقافه وحواصله وغير ذلك، فاعترف أن ساير الأملاك التى أنشأها وابتاعها وما وقفه كان قد اشتراها وعمرها من مال السلطان دون ماله، فأفاد هذا الاعتراف فى الأملاك،

_ [1] ما بين الحاصرتين حتى.. كريم الدين الكبير من L steen LL L K. V. Zetter LL ص 173. [2] ما بين الحاصرتين من المقريزى (السلوك 2/243) . [3] ما بعد الحاصرة من نسخة «أ» من ص 34 إلى ص 61. [4] هذه الأرقام لصفحات نسخة «أ» التى انفردت بهذه الزيادة. [5] يعنى كريم الدين الكبير، وانظر ترجمته فى الدرر (2/401- 404) وفى السلوك (2/243) أن ذلك كان فى ربيع الآخر 723 هـ، وانظر (كنز الدرر وجامع الغرر 9/308 و 314) .

فحكم أنها ملك السلطان دون ملكه [1] وشهد جماعة من المعدّلين أن الأملاك التى وقفها ابتاعها من أموال السلطان دون ملكه فحكم بإبطال أوقافه، ونقضت بعد ما أبرمت، وكتبت بذلك مكاتبة حكمية ثبتت على قضاة القضاة. ولما اشتد الطلب عليه وخشى على نفسه أن يقتل، أرسل إلى السلطان يقول: إن أموال السلطان [2] كثيرة، وهى مفرّقة فى أقطار الأرض، منها ما/ (35) سفّرته إلى بلاد الإفرنج ومنها ما أرسلته إلى العراق وإلى اليمن وإلى الهند، ومنها ما هو مفرّق بأعمال الديار المصرية بالوجهين القبلى والبحرى، ومنها ما هو بالشام، وإذا عدمت عدم ذلك كلّه، وطمع فيه من هو عنده، فاقتضى ذلك إبقاءه، وأفرج عنه السلطان، ورسم أن يستقر [3] مقامه بتربته التى أنشأها بالقرافة، فنزل إليها هو وولده علم الدين، وأقام بها، ثم شملته عواطف السلطان، وأنعم عليه بمبلغ عشرين ألف درهم، فقبضها، وأرسل إليه فرسين من جملة خيله، وقماش ملبوسه، والخلع التى كان السلطان قد خلعها عليه، وأعيدت إلى الخزانة عند إيقاع الحوطة، وأفرج عن معصرتين من معاصر الأقصاب التى كانت له بالوجه القبلى، ثم رسم السلطان بعد ذلك بسفره إلى الشّوبك [4] يقيم هناك، ورتب له فى كل شهر ألف درهم على حكم الراتب، فتوجه هو وولده وأهله وألزامه، وكان خروجهم فى يوم السبت تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة، فأقام بالشوبك إلى أثناء شهر رمضان من السنة، وطالع الأمير سيف الدين أرغون [5] نائب السلطنة، وسأله أن ينتقل إلى القدس، فلم يجب إلى ذلك أولا، ثم تلطّف نائب السلطنة فى أمره إلى أن رسم بانتقاله إلى

_ [1] هذا الخبر أورده المقريزى فى السلوك (2/248) وذكر أن السلطان أبقى من هذه الأوقاف على أوقاف الخانقاه بالقرافة، وأوقاف الجامع بدمشق وعبارة النويرى هنا لا تفيد هذا الاستثناء. [2] مراده أموال السلطان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير كما يتضح من السياق فى الصفحات التالية. [3] المعنى أن السلطان حدد إقامته فى هذه التربة وعبارة السلوك (2/247) أن الإفراج عنه كان فى يوم الأربعاء رابع عشرى جمادى الآخرة، وألزم بالإقامة فى تربته من القرافة. [4] الشوبك: الضبط من: مراصد الاطلاع 2/818، وذكر أنها «قلعة حصينة فى أطراف الشام بين عمان وأيلة قرب الكرك» . [5] أرغون الناصرى: جرت نسخة ك على رسمه أرغون- بواو بعد الغين- وهكذا تورده مصادر التاريخ الأخرى وفى نسخة «أ» يرد رسمه بدون الواو.

القدس الشريف، فكان وصوله إلى القدس فى يوم الجمعة تاسع عشر شوال، وأقام إلى أن تغيّر خاطر السلطان عليه لأسباب نقلت عنه. فلما كان فى يوم الأربعاء السابع عشر من ربيع الأول سنة أربع [1] وعشرين وسبعمائة/ (36) رسم السلطان بتجديد الحوطة عليه، وعلى أسبابه، وتوجه لإحضاره من القدس الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربى الناصرى، وكان وصوله إلى قلعة الجبل هو وولده عشية نهار الخميس الخامس والعشرين من الشهر، ولما وصل سلم للأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، فأنزله بداره، وسلّم ولده عبد الله ومملوكه طوطاج إلى الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى استادار، وطولب بحمل المال، فاعتذر بأنه لم يبق له ما يحمله إلا ثمن الأملاك التى كان السلطان قد أفرج له عنها، فأمر ببيعها، فبيعت بمبلغ أربعمائة ألف درهم، وحمل عنها، واستمر على ذلك إلى يوم الجمعة الحادى عشر من شهر ربيع الآخر، فرسم باعتقاله، فاعتقل فى برج الأتابكى [2] بقلعة الجبل بمفرده بغير غلام يخدمه، وسدّدت المرامى والمناور، ورتب له فى كل يوم ثمانية أرطال لحم وكماجه، واستمر بالبرج إلى يوم الجمعة الثامن عشر من الشهر، فأخرج من البرج وسفرّ إلى الصعيد الأعلى، ورسم باستقراره بثغر أسوان، وكان قد سفر ولده عبد الله قبله، وقطع السلطان أخباز مملوكيه طرنطاى، وطوطاج من الحلقة. فلما كان فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين حادى عشريه حضر إلى الصاحب أمين الدين من ذكر أن [لكريم الدين] [3] وديعة عند رجل موّان نصرانى، فطلب، وطولب بالوديعة، فأحضر صندوقا ضمّنه من المصوغ والجوهر ما قيمته- فيما بلغنى- نحو عشرين ألف دينار. ولما استقرّ كريم الدين بثغر أسوان أمر السلطان أن يرتّب له ولولده/ (37 فى كل شهر ستماية درهم وستة أراد ب لنفسه، ولولده عبد الله ماية درهم وإردبان، واستمرت إقامته بثغر أسوان إلى أن مات به، وكانت وفاته

_ [1] كذا بالأصل، والصواب ثلاث، وانظر المقريزى (السلوك 2/41، وما بعدها L ZettersteeY LL (ص 173. [2] عبارة السلوك (2/244) ونقل كريم الدين وولده علم الدين إلى البرج المرسوم للمصادرين بباب القرافة من القلعة، وطولب بالحمل ... » . [3] فى الأصل «أن له» وقد آثرنا الإظهار ليتضح المعنى.

فى ليلة الخميس العشرين من شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ووصل الخبر إلى الأبواب السلطانية فى يوم الاثنين مستهل ذى القعدة، وأنه شنق نفسه، ووجد فى بكرة النهار وهو معلق بسلبة [1] فى الدار التى كان قد نزل بها، وتعرف بدار «ابن يحيى» . هذا هو الذى ظهر من أمر وفاته. وأخبرنى متولّى ثغر أسوان [2]- وهو أحد من تولّى قتله- أنه وصل إلى الثغر فى ليلة الأربعاء ركن الدين بن موسك، نائب متولّى الأعمال القوصية، وصحبته بعض مماليك متولى الأعمال، فأقام بالثغر يوم الأربعاء، وأظهر أنه إنما حضر لتحرير ما سقط من النخل فى شهر رمضان بسبب هواء كان قد هب فسقط لهبوبه نخل كثير، وطلب أرباب السواقى فى ذلك اليوم، وشاع أنه إنما وصل إلى الثغر بسبب ذلك. فلما كان فى ليلة الخميس توجه المتولى بالثغر، وابن موسك ومن معهما إلى داره، وطرق المتولى الباب على كريم الدين فخرج إليه غلام، فقال له من وراء الباب: من هذا؟ فقال: عرّف القاضى أن مملوكه فلان حضر «يعنى المتولى نفسه» فأعلمه الغلام، وعاد ففتح الباب فقال متولى الثغر: فلما صرت من داخل الباب أرسلت الغلام الذى فتح لى الباب إلى الاعتقال، وخرج غلام ثان ففعلت به كذلك، فدخل غلام آخر وأخبر كريم الدين بذلك، ودخلت/ (38) فى إثره فوجدت كريم الدين على تخت [3] ، وابنه عبد الله عنده فسلمت عليه، وقلت لولده عبد الله: يا علم الدين تعالى إلىّ أعرفك، فلما جاء إلىّ أخذته وخرجت من عند أبيه، فصرخ بى كريم الدين، وجعل يقول: يا شمس الدين، يا شمس الدين، يكرر هذا القول، فلم ألتفت إليه، ودخل عليه أولئك القوم

_ [1] السلبة: الحبل من الكتان أو التيل ونحوه، تقاد به الماشية (عامية) وأصل السلب- بفتحتين-: ليف المقل، وهو أبيض، أو هو لحاء شجر معروف باليمن تعمل منه الحبال، قال الزبيدى فى (تاج العروس) مادة (س ل ب) : وعلى هذا يخرج قول العامة للحبل المعروف: سلب. «وفى النجوم (9/75) أنه أصبح مشنوقا بعمامته. [2]- هذه الرواية لم نجدها فى المصادر الأخرى لتاريخ هذه الفترة على مثل ذلك النحو من التفصيل والدقة، وفى كنز الدرر وجامع الغرر (9/308) ورد خبر القبض عليه وإيقاع الحوطة على موجوده فى حوادث سنة 723 هـ وفيه (ص 314) ورد خبر وفاة كريم الدين فى حوادث سنة 724 هـ. [3] تخت: كلمة فارسية، معناها لوح من خشب (الألفاظ الفارسية ص 34) .

فخنقوه، وعلقوه بسلبة بعد أن أغلقوا بينه وبين نسائه بابا، وأغلق باب الدار من داخله وتوجه القوم فعرّفت ولده الحال، وقررت معه أن يقول فى بكرة النهار إذا طلب: إنه تخاصم مع أبيه وخرج من عنده، وأنه حرج منه، ففعل ذلك بنفسه، قال: فلما كان من بكرة النهار توجه المتولى وابن موسك إلى باب دار كريم الدين، وطرقوا الباب، فلم يجبهم أحد، فتوجه المتولى إلى دار قاضى البلد، وهو القاضى شرف الدين شعيب بن القاضى جمال الدين يوسف السيوطى [1] وهو يصرخ ويقول: هرب كريم الدين، والله لئن تم هربه لأشنقن بنى الكنز، وأخذ القاضى وجماعة من العدول وحضروا إلى الدار، وكسروا الباب، ودخلوا الدار، فوجدوا كريم الدين مشنوقا، فأخبر القاضى شرف الدين المذكور حاكم الثغر بأنه وجد فى عنقه سلبة ليف كانت وشيجة [2] لفرس، وعليها آثار زبل الدواب، وطلب ولده، وسئل عن خبره، فقال ما لقّنه؛ أنه تخاصم معه بالأمس وخرج من عنده، وقد أغضبه، فكأنه وجد [3] فى نفسه من ذلك فشنق نفسه، فنظم بذلك مشروح وسير إلى الأبواب السلطانية فى التاريخ المذكور. ودفن بثغر أسوان/ (39) ولما وصل الخبر بوفاته إلى الأبواب السلطانية رسم بطلب ولده من ثغر أسوان، ولما تحقق الناس موته، وعلموا طلب ولده خشى من كان عنده وديعة له أن ولده إذا وصل يعترف عليهم، فظهر من ودائعه جملة عظيمة منها ما أحضره الأمير علاء [4] الدين على بن هلال الدولة- فيما بلغنى- ذهب مصكوك بثمانية عشر ألف دينار، ومصوغ، وزركش وجوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار، أحضر صارم الدين أستاذ دار كريم الدين- وهو الذى كان استاذ دار الأمير علم الدين سنجر الجاولى- صندوقا كبيرا ضمنه من الجواهر والحوايص المجوهرة والفصوص وغير ذلك ما قيمته- فيما قيل- ماية ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك.

_ [1] ترجمته فى الدرر (2/194) وذكر أن وفاته كانت فى حدود سنة 730 هـ وفى (الطالع السعيد) أن وفاته كانت فى يوم الأحد سابع ربيع الآخر سنة 757 هـ. [2] الوشيجة: ليف يفتل ثم يشبك بين خشبتين ينقل فيها البر المحصود وغيره (المعجم الوسيط) . [3] وجد فى نفسه يعنى حزن. [4] علاء الدين على بن هلال الدولة، ولد بشيزر ثم قدم مصر وباشر شد العمارة بها، وتدرج فى عدة مناصب، ثم عاد إلى شيزر ومات بها فى سنة 739 هـ. ترجمته فى الدرر (3/136) .

ذكر شىء من أخبار كريم الدين المذكور وابتداء أمره «وتنقلاته وما كان قد انتهى إليه من القرب من السلطان والتمكن من دولته»

ولما حضر ولده علم الدين طولب بالمال، وسعط بالخل والجير [1] ، فاعترف أن له وديعة عند صارم الدين أستاذ دار والده، فطلب فأحضر نحو عشرة آلاف دينار، وأنكر عليه كونه أخّر إحضار هذا المال، فقال: هذا كان وديعة عندى لهذا، وقد أحضرته الآن، فلم يؤاخذ بذلك. ثم أفرج عن ولده [علم الدين] [2] عبد الله بعد ذلك، واستقر بحارة الدّيلم بدار أبيه الصغرى. هذا ما كان من خبر القبض على كريم الدين ووفاته. فلنذكر خلاف ذلك من أخباره. ذكر شىء من أخبار كريم الدين المذكور وابتداء أمره «وتنقّلاته وما كان قد انتهى إليه من القرب من السلطان والتمكّن من دولته» (40) /كان كريم الدين المذكور فى ابتداء أمره فى حالة شبيبته فى خدمة خاله تاج الرياسة [3] بن سعيد الدولة، وكان معه بمدينة قوص لما كان كاتبا للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى البريدى متولى الأعمال القوصية- كان- فى الدولة المنصورية السيفية، وكان هو وخاله إذ ذاك- وبعده بسنين كثيرة- على دين النصرانية، وتوجّه معه إلى الأعمال القوصية، ورتب كريم الدين فى كتابة المسطبة بقوص، وهى كتابة نائب الولاية، ثم خدم بعد ذلك الأمراء، فكان ممن خدمه منهم: الأمير سيف الدين جاورشى الحسامى، والأمير سيف الدين قجقرا وغيرهما، وباشر بعد ذلك وظيفة كتابة فى البيوت السلطانية، ثم أسلم فى الدولة الناصرية، وباشر نظر ديوان الأمير ركن الدين بيبرس أستاذ دار العالية؛ إذ تمكّن منه، وظهر اسمه، وشاع ذكره ونوّه الناس به، وأظهر

_ [1] يقال: سعط الدواء، وأسعطه إياه: إذا أدخله فى أنفه. والتسعيط بالخل والجير كان من أنواع التعذيب التى عرفت فى مصر فى العصور الوسطى. [2] الزيادة من السلوك، والنجوم (9/74) . [3] ترجمته فى الدرر (1/515) وورد اسمه فيه: تاج الدين بن سعيد الدولة القبطى وسيورده النويرى بعد قليل بلقب تاج الدين، ووفاته سنة 709 هـ.

المكارم، وبذل ماله، فمدحه الشعراء، ورغب الناس فى صحبته والاجتماع به، ولم يزل على ذلك وحاله تتزايد إلى أن استقر بيبرس الجاشنكير فى السلطنة كما تقدم، فعظم عند ذلك شأنه [1] ، وارتفع مكانه، وعلت رتبته، وسمت همّته، وهو مع ذلك تبع لخاله تاج الدين بن سعيد الدولة، يأتمر بأمره، ويتصرف عن رأيه، ويقف بين يديه، وإذا خاطبه تاج الدين لا ينعته غالبا بل يكنّيه بأبى الفضايل لا يزيده على ذلك، سمعته يخاطبه بذلك، وكان تاج الدين المذكور قد تمكن فى دولة بيبرس الجاشنكير المنعوت بالملك المظفّر، وكان يباشر نظر الدولة، ويجلس إلى جانب نائب السلطنة الأمير سيف الدين/ (41) سلّار بدركاة باب القلّة، ويكتب على ساير ما يكتب عليه السلطان قبل خط السلطان ما مثاله «يحتاج إلى الخط الشريف» ولا تقدم الدّواداريّة للعلامة إلا بعد مشاهدة خطّه بذلك، إلا كتب البريد خاصة، وكانت كتب السلطان الملك المظفر إلى النواب والولاة وغيرهم بالشام وغيره لا تختم إلا بعد عرضها عليه إذا كان فيها ذكر الأموال، فلما مات تاج الدين بن سعيد الدولة فى سنة تسع وسبعماية فى سلطنة المظفر بيبرس استقر كريم الدين فى وظيفته، فلم تطل المدة إلى أن خلع بيبرس من السلطنة كما ذكرناه، فكانت هذه الولاية كسحابة صيف، أو زيارة طيف. ولما توجه المظّفر بيبرس إلى الصعيد توجه كريم الدين معه، فلما استقر السلطان الملك الناصر بقلعة الجبل حضر كريم الدين إلى الأبواب السلطانية برسالة مخدومه، وأعاد الخزانة التى كانت معه، فخلع السلطان عليه بسبب ذلك، ثم قبض عليه لما قبض على بيبرس، ورسم بمصادرته، وسلّمه السلطان للأمير جمال الدين آقش الأشرفى، وأمره باستصفاء أمواله، وإعدامه بعد ذلك من الوجود، لما كان يبلغ السلطان عنه فى زمن خدمته لبيبرس الجاشنكير، عند ذلك بذل كريم الدين الأموال، وفرّقها فيمن يقبلها من مماليك السلطان وغيرهم، فأعطى مالا كثيرا، فيقال: إنه أعطى للأمير سيف الدين بكتمر الجوكاندار

_ [1] انظر فى خبر تمكن كريم الدين فى دولة بيبرس الجاشنكير ما أورده ابن تغرى بردى فى: النجوم الزاهرة 9/76.

نائب السلطنة يومئذ عشرة آلاف دينار، وأعطى غيره، وأقلّ ما بذل خمسماية دينار عينا فيما بلغنى، فمال إليه المماليك السلطانية، واعتنوا به، وتكلم الأمير جمال الدين/ (42) آقش الأشرفى مع السلطان فى أمره، وتلطف غاية التلطف من غير أن يأخذ منه مصانعة، ولا قبل له بذلا، ولا حسّن للسلطان إبقاءه، وقال للسلطان: هذا مطّلع على أموال بيبرس ومتاجره، وهى كثيرة ببلاد الفرنج وغيرها، ومتى مات ضاعت على السلطان، فلم يزل يتلطف إلى أن رسم السلطان بالإفراج عنه، ورسم له أن ينظر الخاصّ بالوجه القبلى وهو الخاصّ الذى كان لبيبرس فى زمن إمرته، وأقرّ له فى السلطنة، فسأل كريم الدين المذكور شهاب الدين أحمد بن (على بن) [1] عبادة- وكيل الخاص الشريف السلطانى- أن يكون وكيله فيما يختص بنفسه، فأجابه إلى ذلك ووكّله، وكان يتردد إلى خدمته فى كل يوم، ويسلك معه من الآداب ما لا مزيد عليه، ولا يخرج عن أمره، وهو مع هذا يجتمع بالمماليك السلطانية، ويتقرب إليهم بالهدايا والألطاف، ويبذل لهم الرغبات، فرسم له بنظر ديوان الملك المنصور «علاء الدين على» [2] ولد السلطان. ثم مرض شهاب الدين أحمد بن عبادة ومات فى سنة عشر وسبعماية، فتكلم الأمراء المماليك السلطانية مع السلطان فى أمره، فوكّله وجعله ناظر خواصّه على عادة شهاب الدين بن عبادة، وذلك فى جمادى الأولى سنة عشر وسبعماية، فباشر هذه الوظيفة، وخدم الأمراء، وبالغ فى ذلك، وأفرد السلطان لخاصّة ثغر الإسكندرية، فاستقل كريم الدين بمباشرته، وانفرد به دون وزير الدولة وغيره، وأخذ من السلطان مالا للمتجر، فحصل منه فوايد كثيرة، وأخذ أمره فى/ (43) التّمكّن، وانتمى إلى الأمير سيف الدين طغاى الحسامى [3] الناصرى، فكان يحمل إليه الألطاف والتحف، ويبالغ فى خدمته، وهو يقربّه من

_ [1] الزيادة من الدرر (1/210) وله فيها ترجمة مطولة، ووفاته فى سنة 710 هـ. [2] علاء الدين على بن الناصر محمد بن قلاوون لم يكن للناصر حين عاد من الكرك ولد غيره فكان يحبه كثيرا، توفى سنة 710 (الدرر 3/115) . [3] كان من مماليك الناصر، وتمكن منه إلى الغاية، ثم نقم الناصر عليه فاعتقله بالإسكندرية فمات بها فى سنة 718 هـ- ترجمته فى الدرر (2/221 و 222) .

السلطان، ويشكره، ويذكر محاسنه، واحتفاله بالمصالح، وحسن مباشرته، فتمكن بذلك عند السلطان، وظهر اسمه وعلت رتبته، فعلم أنه لا يستقيم له ما يرومه، ويحصل تمكنه على ما فى نفسه مع بقاء الوزير، فتلطف إلى أن كان من عزل الصاحب أمين الدين ما ذكرناه، وحسّن للسلطان اختصار الوزارة، وأنّ السلطان يشاور فى جميع الأمور، ويتصرف فيها عن أمره، ويطّلع على أحوال دولته، ما قرب منها وما بعد، فوقع ذلك من السلطان بموقع، ووافق عليه، واختصرت الوزارة، وأضاف السلطان إلى كريم الدين ما كان بيد الصاحب أمين الدين من نظر البيمارستان المنصورى والقبة والمدرسة، ومكتب السّبيل، وأوقاف ذلك، فعندها استقل كريم الدين بالأمر، وأظهر القوة برفق، ولم يزل أمره يأخذ فى الازدياد والظهور والتقدم وعلو الشأن، وهو مع ذلك يراجع الأمير سيف الدين طغاى؛ ويتردد إليه، ولا يخالف أمره، ثم مال إلى غيره من الأمراء المماليك السلطانية، ورأى فى نفسه أنه قد كبر على مراجعة طغاى أو غيره، فظهر ذلك لطغاى، فتنكر له، وغضب لميل كريم الدين إلى غيره، فأعمل كريم الدين الحيلة والتلطف إلى أن كان من إخراج طغاى إلى نيابة صفد والقبض عليه ما قدّمنا ذكره، فلم يبق له عند ذلك منازع ولا مشارك فى الكلمة، ومال السلطان إليه ميلا عظيما، وقرب منه قربا ما قربه منه أحد، ولا سمع بمثله، حتى ولا ما بلغنا عن الرشيد والبرامكة ما لو شرحناه لطال، وزاده السلطان فى التشاريف، فكان يخلع عليه أولا «كنجى» (44) مطلق ثم خلع عليه «كنجى» منقوشا ثم رفعه عن هذه الرتبة فخلع عليه أطلسا معدنيا أبيض، وتحتانية أطلس أخضر بطرززركش على الفرجتين، ولم يخلع مثل ذلك على متعمّم قبله، ولا على نائب سلطنة، وبلغنى أنه رسم له أن يلبس فى خلعته الشاش المثمر الذى لا يخلع إلا على صاحب حماة، وهو شاش سكندرى مقفّص بحواش زرق بقبضات ذهب مصرى، فاستعفى من ذلك. ثم فوّض السلطان إليه بعد ذلك جميع ما بيده من التصرّف فى الأموال والولايات، والبيع والابتياع والنكاح والعتق وغير ذلك، أقامه فى جميع ذلك مقام نفسه، وقال السلطان فى مجلس عام: «فوّضت إليه ما هو مفوّض إلىّ» .

وزاد معلومه المقرّر له على الدولة، فقرر له ما لم نعلم أنه قرّر لمتعمّم قبله، وكان يستدعى من الحوايج خاناه والمطبخ السلطانى ما يحتاج إليه من الطارى، فيحمل إليه من غير استئذان أحد، وأضاف السلطان إليه النظر على أوقاف الجامع الطولونى عوضا عن قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعى، وكان قاضى القضاة يلى ذلك بشرط الواقف، فانتزعه منه، وفوضه إلى كريم الدين، فباشره أحسن مباشرة، وحصل له من السعادة فى مباشرته أنه كان إذا اختلت جهة من الجهات ففوضت إليه صلح أمرها، وتميّزت أموالها، وصار هو الآمر فى الدولة مصرا وشآما، وكان أمره يصدر لفظا لا خطا، ولا يراجع إذا أمر بولاية أو عزل أو طلاق أو منع أو زيادة أو توفير، فكان يرسل إلى القاضى علاء الدين [1] على بن الأثير صاحب ديوان الإنشاء أن يوقع بكذا، أو يكتب بكذا، فيفعل ذلك من غير مراجعة ولا توقف على استئذان السلطان، بل يكتب لوقته ما يأمر به، ويكتب فى آخر/ (45) المرسوم أو التوقيع حسب الأمر الشريف، فتصرّف كريم الدين فى أموال المملكة وولاياتها ووظايفها بلفظه، فكان ساير أرباب الوظايف يتصرفون عن أمره. ولقد انتهى أمره فى التعاظم إلى أن حضر الأمير علاء الدين الطنبغا [2] ، نائب السلطنة بحلب إلى الأبواب السلطانية فى سنة اثنتين وعشرين وسبعماية، وركب فى خدمة كريم الدين إلى داره، فلما قرب من الدار ترجل عن فرسه ومشى وكريم الدين راكب ما تغير عن حاله إلى أن انتهى إلى المكان الذى عادته أن يركب منه وينزل فيه، وانتهى تمكنه إلى أن ركب السلطان إلى داره، مرارا، فركب مرة إلى تربته بالقرافة، ونزل ودخل الخانقاه التى أنشأها كريم الدين بها، وأكل طعامه فيها، وركب مرة ثانية إلى داره التى أنشأها ببركة الفيل، ووقف السلطان بنفسه، وقسّمها المهندسون بحضوره، والسلطان يشاركهم فى الهندسة والقسمة.

_ [1] على بن أحمد بن سعيد بن الأثير ولد فى سنة 680 هـ، ترجمته فى الدرر (3/14) وسيورد النويرى ترجمته فى هذا الجزء فى حوادث سنة 730 هـ. [2] الطنبغا الحاجب الناصرى، ولاه الناصر نيابة حلب سنة 714، ثم أعيد إلى مصر أميرا سنة 727، ثم عاد إلى نيابة حلب سنة 731 هـ ثم عزله الناصر فى 732، ومات مخنوقا- أو مسموما- فى ذى القعدة سنة 742 هـ. ترجمته فى الدرر (1/408 و 409) .

ولقد مرض قبل أن يأمر السلطان بالقبض عليه بأيام، فأظهر السلطان عليه من القلق والألم ما لا مزيد عليه، وكان يرسل إليه فى كل يوم جماعة من مماليكه الأمراء الخاصّكية يسألون عنه، ويعودون إلى السلطان بخبره، ثم يرسل آخرين بعدهم، هذا دأبه فى طول نهاره، وأرسل إليه جملة من المال يتصدق بها فى مرضه. ولما عوفى زينت له القاهرة أحسن زينة، كما تزين للفتوحات الجليلة، ولعود السلطان من الغزوات المنصورة عند هزيمة أعدائه، وبات الناس بالأسواق، ونصب فى بعض الجهات أبراج من الخشب، ولبست الأطلس، والذهب وغيره، وكانت الملاهى فى عدة مواضع من القاهرة بالأسواق أياما، وبظاهر القبة المنصورية، وفعل مثل ذلك/ (46 فى مرضه عند عافيته فى غير هذه المرة، وإنما كانت أكثرها احتفالا المرة الأخيرة. ولما عوفى من المرضة الأخيرة أمر أن يتصدّق بقمصان بالبيمارستان من وقفه، فاجتمع الفقراء لذلك، وازدحموا قبل وصوله إلى البيمارستان، فمات منهم من شدة الازدحام ثلاثة عشر إنسانا من الرجال والنساء، وتأخر عن الحضور فى ذلك اليوم. هذه حاله فى أمر الدولة والتمكّن منها، والقرب من السلطان، ونفوذ الكلمة. وأما حاله فى نفسه وأمواله ومتاجره، فإنه اتسعت أمواله ونمت، وكثرت أملاكه، وتضاعفت متاجره، إلى أن منع التجار أن يتّجروا فى صنف من الأصناف إلا أن يبتاعوه من حواصله بما يختاره من الثمن، واحتكر الأصناف قليلها وكثيرها حتى حبال القنب للورّاقات وقصب الغاب، وقش الحصر، وما بين ذلك إلى المسك والعنبر والعود، وماء الورد، وساير الأصناف، لا يستثنى منها شيئا؛ وكان فى كل مدة ينادى بجمع التجار إلى داره واصطبله لحضور حلقة البيع، فتغلق الأسواق، ويحضر الناس على اختلاف طبقاتهم، فيخرج الأصناف من الأقمشة وغيرها، فيبيعها عليهم بما يختاره هو أو أتباعه، لا يقدر أحد منهم على الامتناع.

فلما كثرت الشّناعة فى ذلك صار يجمع الناس ويخرج إليهم من القماش الكمخا والصوف والنّصافى [1] وغير ذلك، فينادى منه على خمسة قطع أو عشرة من أجوده، ويقول للتجار: اشتروا بالقيمة، فينتهى إلى قيمتها/ (47) ثم ترفع إلى حاصله، ويخرج من جنسها ما يساوى أقل من نصف قيمتها، فيعطاه الناس بما انتهت إليه قيمة الجيّد منه، ويفرق عليهم، فكان الذى يأخذه الناس لا يقوم لهم بنصف الثمن الذى يعطونه، ومنه ما لا يحفظ الثلث- وحكى لى بعض من أثق به من التجار العدول كثيرا من ذلك- ثم يستخرج الثمن منهم بأشد طلب وأعنفه، فتضرّر الناس لذلك، وانكسر جماعة منهم، وغلّقوا دكاكينهم، ومنهم من تسحب. ثم خرج عن هذا الحد إلى تعطيل الأحكام الشرعية، والعمل بغير حكم الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان يخرج ما لا فى بعض الأوقات إذا برض [2] ، ويرسم أن يصالح أرباب الديون على مالهم فى ذمة من اعتقلوه، ويفرج عنهم، فيطلب المعتقل ومن اعتقله، ويسأل رب الدين عن دينه، ويلزم باحضار وثيقته، فإن اعتذر عن إحضارها رسم عليه حتى يحضرها، فإذا أحضرها أخذت منه، وأمر أن يصرف له عشر مبلغها، أو أقل منه، أو أكثر بيسير، فإن رضى بذلك وإلا قطعت وثيقته، وأفرج عن المعتقل، ويرسم فى بعض الأوقات على بعض أرباب الديون حتى يشهدوا عليهم ببراءة غرمائهم فإذا تكامل ذلك أمر كريم الدين أن تغلق أبواب السجون الحكمية، ويمنع نواب الحكام من سماع الدعاوى فى الديون الشرعية، فتعطلت الأحكام الشرعية، وتضرر الناس، وكان هذا الفعل من أشد ما فعله، ولا يتجاسر أحد أن يذكر ذلك له، ولا يعيبه عليه، حتى صار المنكر لذلك ينكره بقلبه، وهو أضعف الإيمان. وكان كثير من المرائين يحسنون/ (48) له فعله، ويشكرونه عليه، ويدعون له، فحصل للناس التضرر التام، حتى كادت المعاملات أن تنقطع من بين الناس.

_ [1] لعله جمع النصيف، وهو الخمار، والعمامة، وكل ما يغطى الرأس، ومن معانيه أيضا: البرد- بضم فسكون- له لونان (تاج العروس مادة/ ن ص ف) . [2] يقال: برض فلان (بالبناء للمجهول) إذا نفد ماله من كثرة العطاء، ويقال: برض له من ماله: إذا أعطاه شيئا قليلا (المعجم الوسيط) ، والمعنى على هذا: أنه يلجأ إلى هذه الحيلة كلما بدت له ضائقة مالية.

وعمل نوابه مع بعض من اعتنوا به من التجار عكس هذا، فكان بعض التجار يبيع السلعة الكاسدة على بعض المضرورين من التجار وغيرهم إلى الأجل الطويل، فيرغبون فى ابتياعها لطول المدة، ويرجون بذلك أن يتسببوا فيها لصلاح أحوالهم، ويشترونها بمثلى القيمة، فإذا استقر البيع، وتسلم المشترى السلعة، وأشهد على نفسه بالثمن أحال التاجر البائع إلى ديوان كريم الدين بالثمن، فيطلب المشترى، ويرسم عليه، ويستخرج الثمن بالضرب والاعتقال، ولا يحملون فيه على حكم الشرع، ولا يستنكف نوابه من ذلك ولا يتحاشون، فتضرر الناس من هذا الوجه أيضا، حتى كان منهم من يبيع السلعة بعينها بنصف ما ابتاعها به من الثمن، ويعطيه، ويكلف ما بقى، فيستدينه ويعطيه. وأما غير ذلك من حال كريم الدين فإنه كان قد تعاظم فى نفسه، فيخلع الخلع السنية أشرف من خلع السلطان، فكان السلطان إذا خلع على أحد ملونا خلع كريم الدين مصمتا، وإن خلع مصمتا خلع هو طردوحش، وإن خلع طردوحش خلع طردوحش مقصّبا، وإن خلع السلطان مقصّبا خلع الأطلس المعدنى بالطرز الزركشى، وأنعم بالحوايص الذهب والكلّوتات الزركشى وغير ذلك، وإذا خلع على من يخلع السلطان عليه الأطلس/ (49) بطرز الزركش خلع عليه المزركش المكلّل باللّؤلؤ والمرصّع بالجوهر، وأنعم عليه بالخيول المسوّمة، وبغالى الأقمشة وغير ذلك، وإذا أنعم السلطان بمال أنعم بأضعافه، فكان ذلك مما حقده السلطان عليه، وذكره من عيوبه، وتعاطيه ما لا يصلح. وكان مما فعله أنه جعل لنفسه بيوتات نحو بيوت السلطان من شرابخاناه، وطست خاناه، وفراش خاناه وغير ذلك، وفى كل بيت منها من الآلات المناسبة له ما لا يكون مثله إلا عند أكابر الملوك، ثم أخذ لنفسه أخيرا بما يفعله الملوك، فكان يمدّ سماطه وأمامه أستاذ الدار، ومقدم المماليك، والجاشنكير، والمشرف، ويأكل من ذلك الطعام من حضر من الأكابر وغيرهم، وهو بارز عنه لا يأكل منه شيئا، فإذا رفع ذلك السماط استدعى الطارى بعد ذلك فيأكل منه، وكان فى ليالى شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبعماية يمد بين يديه

السماط الذى لا يمد لنائب سلطنة مثله، ويتقدمه المشروب، ويأكل من حضر السماط من الأعيان وغيرهم، فيأكلون بعد المشروب، ثم تمدّ الحلوى بعد السماط، وهو جالس على مرتبته لا يأكل من ذلك شيئا، ثم يؤذن للناس فى الانصراف، ويمد له طعام الطارى فيأكل منه، وبلغنى أنه كان يفعل ذلك فى أسفاره إلى الشام وغيره، وكانت رواتبه وافرة لم يكن لنائب سلطنة نظيرها، وعطاياه وصلاته وإنعامه وتشاريفه متواصلة بمن يتعلق بالسلطان من خواصه وأمرائه/ (50) ومماليكه وغلمانه، لا ينقضى يوم إلا وقد أنعم فيه بالجمل الكثيرة. وكان الذى أعانه على ذلك أنه تخوّل [1] فى أموال الدولة، واتسع جاهه، وكثرت متاجره، وتقرب الناس إليه ببذل فوائد المتاجر، وضايق الناس فيما بأيديهم حتى كان يرسل كل سنة إلى تجّار الكارم- عند وصولهم من اليمن إلى ثغر عيذاب- من يأخذ منهم جملة من الفلفل بأقل من قيمته بعدن، ويلزمهم بحمله والقيام بما عليه من الحقوق والمكوس [2] إلى أن يصل إلى ساحل مصر، ويقبض منهم، فإذا وصل تجّار الكارم إلى ثغر الإسكندرية لا يمكنون من البيع على تجار الفرنج إلا بعد بيع ما عنده، وحواصله كثيرة جدا فأضر ذلك بالتجار من الكارمية والفرنج حتى لو استمرت ولايته لأدت إلى انقطاع الواصل عن الديار المصرية، وكانت له عدة معاصر أقصاب، ودواليب [3] بالوجه القبلى والبحرى، بحيث أنه لا يخلو إقليم من أقاليم الديار المصرية، ولا بلد كبير إلا وله فيه تعلق من دواليب أقصاب وبساتين، أو زراعة أو متجر أو مسلف أو معاملة أو مخرج على صنف من الأصناف التى تكون بذلك البلد. ولما عزله السلطان أمر بإبطال هذه المتاجر، ومكن الناس من ابتياع الأصناف وبيعها، ورفع عنهم الحجر فى ذلك، فاستبشر الناس بذلك، وانبسطت

_ [1] المراد أنه صار مطلق التصرف فى أموال الدولة، وهذا المعنى ليس فى استعمالات هذا الفعل، وإن كان من هذه المادة الخولى: القائم بأمر الناس السائس له (المعجم الوسيط) . [2] المكوس: جمع المكس وهى الضريبة التى تؤخذ من التجار على ما يدخلونه البلد من تجارة، وهى ما يعرف اليوم باسم الضريبة الجمركية. [3] الدولاب: من آلات الاستقاء (مفاتيح العلوم ص 71) وانظر المخصص (9/162) ويفهم من السياق أنه كان يكريها، ويأخذ أجرا لها.

ذكر تفويض الوزارة للصاحب الوزير أمين الدين عبد الله «وهى الوزارة الثانية له» [1]

آمالهم، وطابت نفوسهم، وتحقّقوا عدل السلطان، وانحلت أسعار الأصناف التى كان يحتكرها، فتضاعفت الأدعية بدوام دولة السلطان، وعلموا أن تلك الأفعال الشنيعة لم تكن عن أمر السلطان، ولا برضاه، وقد كان يوهم الناس ويصرح/ (51) لبعضهم أنه لولا ما يفعله من إرضاء السلطان بما يحصل له من فايدة المتاجر والدواليب، وسدّ ما يحتاج إليه السلطان بتدبيره كان السلطان قد استصفى ما فى أيدى الناس من الأموال، فعلم الناس الآن أن الأمر ليس كذلك، فرجوا من الله تعالى دوام الخير، وزيادة العدل والإنصاف. ولما عزله السلطان فوّض ما كان بيده لمن نذكر: فوّض نظر خواصّه ووكالته للقاضى تاج الدين أبى إسحاق إبراهيم وكان قبل ذلك يلى نظر الدواوين بالديار المصرية، وفوّض النظر على البيمارستان المنصورى والقبّة والمدرسة ومكتب السبيل وأوقاف ذلك للأمير جمال الدين آقش الأشرفى، وهو رأس الميمنة، وفوّض نظر الجامع الطولونى وأوقافه للأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح. ذكر تفويض الوزارة للصاحب الوزير أمين الدين عبد الله «وهى الوزارة الثانية له» [1] قد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا أن الصاحب الوزير أمين الدين عبد الله بعد عزله من الوزارة فى سنة ثلاث عشرة وسبعماية فوض إليه نظر النظار والصحبة، ثم عزل عن ذلك، ولزم داره، ثم رسم له بنظر المملكة الطرابلسية، ورتّب له على هذه الوظيفة نظير معلومه الذى كان له على وظيفة نظر النظار

_ [1] أورد المقريزى هذا الخبر فى السلوك (2/348) وفى كنز الدرر وجامع الغرر (9/312) أورد له وزارة فى سنة 723، وذكر اسمه هكذا «الصاحب أمين الدين أمين الملك بن العنام» وقد ترجم له ابن حجر فى الدرر (2/251) باسم: عبد الله بن تاج الرياسة القبطى، أمين الدين الوزير، وذكر أنه ولى الوزارة ثلاث مرات: الأولى سنة 711 بعد بكتمر الحاجب، فأقام سنتين، ثم وليها ثانيا، ثم أخرج إلى نظر طرابلس سنة 718 هـ ثم أعيد إلى الوزارة بعد أن أمسك كريم الدين سنة 722 هـ ومات فى سنة 740 أو 741. ورواية ابن حجر هذه تختلف عما أورده النويرى هنا. والدوادارى فى كنز الدرر وجامع الغرر (9/312) وانظر أيضا السلوك (2/553) .

بالديار المصرية، فتوجه إليها كارها فى سادس عشر صفر سنة ثمانى عشرة وسبعماية، وأقام بها إلى أن سأل أن يفسح له فى التوجه إلى الحجاز الشريف، فأذن له فى/ (52) ذلك، فحج ولم يعد إليها، واستعفى من المباشرة، فرسم له بالإقامة بالقدس الشريف، فأقام هناك، ورتّب له على سبيل الراتب فى كل شهر ثمانمائة درهم وثمانية غراير [1] ، فلم يزل بالقدس الشريف إلى أن قبض على كريم الدين كما تقدم، فرسم السلطان بطلبه إلى الأبواب العلية، وكتب بذلك إلى نائب السلطنة الشريفة بالشام على يد الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى، فتوجه إلى دمشق، وأرسل إليه البريد منها، فحضر إلى الأبواب السلطانية. وكان وصوله فى بكرة نهار الأحد الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبعماية، فمثل بين يدى المقام الشريف، فأقبل عليه غاية الإقبال، والبسه تشريفا، ونزل إلى داره، فلم يستقر به الجلوس حتى طلبه ثانيا، ففوض إليه الوزارة، وأنعم عليه بالدواة والبغلة، وأقام بالقلعة إلى عشية النهار ينفّذ الأشغال، ثم ركب منها إلى داره واجتمع الناس ببابه، وامتلأت الأزقة والشوارع والرحبة التى أمام الدار على سعتها، وازدحموا حتى كاد يعجز عن الوصول إلى باب داره والدخول إليها إلا بجهد كبير. وأصبح فى يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر، وركب فى موكب الوزارة، وجلس بدار العدل الشريف مع السلطان إلى أن انقضى المجلس، وقام إلى قاعة الوزارة، وفتح له الشبّاك بها، وكان قد أغلق بعد عزله عن الوزارة، فلم يفتح إلا فى هذا اليوم، فجلس فيه، وأظهر الإحسان إلى الناس، ونشر فيهم العدل، ووعدهم عن نفسه وعن السلطان بكل جميل، فسر الناس بمقدمه، وازدحموا عليه حتى منعوه من تنفيذ أشغال الدولة، فكانت قلعة الجبل تغص بالناس من أرباب/ (53) الأشغال والوظايف والبطّالين والمتفرّجين، إلى أن رسم بمنع كثير من العوام من طلوع القلعة، وأقام على ذلك أياما حتى خف الناس، ولما ركب إلى مصر فى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من الشهر تلقاه الناس بالفرح والسرور والدعاء له، وازدحموا عليه فيما بين مصر والقاهرة، حتى امتلأت بهم الطرق.

_ [1] الغرائر: جمع الغرارة، وهى وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح ونحوه، وهى أكبر من الجوالق.

ذكر القبض على كريم الدين الصغير [4] «وشىء من أخباره»

ولما استقر فى الوزارة رسم للقاضى شرف الدين عبد الهادى [1] بن زنبور مستوفى الصحبة أن يكون ناظر النظار والصحبة، رفيقا للقاضى موفق الدين [2] ، ورتب فى استيفاء الصحبة القاضى شمس الدين بن قروينة [3] وهو صهر الصاحب أمين الدين على ابنته، وأحضر الصاحب جماعة من أصحاب كريم الدين وألزامه، فصادرهم بمال حمل من جهتهم إلى بيت المال، وكان فى الطلب لين، ثم أفرج عنهم فى أثناء جمادى الآخرة. ذكر القبض على كريم الدين الصغير [4] «وشىء من أخباره» كان كريم الدين هذا يخدم الأمراء الأصاغر، وكان ممن خدمه الأمير علاء الدين أيدغدى التليلى أستاذ دار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وهو من أمراء الأربعين، ثم توصل إلى أن باشر من جملة عمال الجيش بالديار المصرية، فلما قوى أمر كريم الدين- وهو من أقاربه- نقله من عمالة الجيش إلى نظر النظار والصحبة ليس بين ذلك وظيفة أخرى، فباشر مدة، ثم عزل عن نظر النظار خاصة، ثم أعيد إلى/ (54) الوظيفة ثانيا كما تقدم، فلما باشر عسف بالناس وظلمهم، واستخف بالأكابر، وشدّد على المباشرين والتجار والرعايا، وعاقب بين يديه، واقترح نوعا من العقوبة سماه «المقترح» ، وبسط يده ولسانه فى أبشار الناس وأعراضهم حتى ضاقوا بذلك ذرعا، وبلغت منهم القلوب الحناجر، وهو لا يزداد إلا تماديا، واستخفافا بخلق الله تعالى، ثم ترقّى عن ذلك إلى الاستخفاف بأمراء الدولة الأكابر مقدّمى الألوف، وتزايد ظلمه وتفاحش، وضرب جماعة بين يديه حتى ماتوا، وكان إذا علم أنه يشتكى إلى السلطان من أمر من الأمور بادر بالدخول إلى السلطان، وأنهى إليه أنه فعل

_ [1] فى السلوك (2/248) شرف الدين إبراهيم بن زنبور، ولم أجده فى ترتيبه من أعلام الدرر الكامنة، وفى الجزء الثانى منه ص 240 ترجمته لمن اسمه علم الدين عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن زنبور، وذكر أن أول ظهور أمره كان سنة 737 هـ حين ولى نظر الإسطبل وكانت وفاته سنة 751 هـ، ويستبعد أن يكون هو المذكور هنا. [2] فى السلوك (2/248) موفق الدين هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم. [3] فى السلوك (2/248) شمس الدين إبراهيم بن قروينة. [4] أورد النويرى ترجمته حين ذكر وفاته فى حوادث سنة 726 هـ. وانظر ص 197 حاشية رقم (2) من هذا الجزء.

كذا وكذا مما يعود نفعه على الدولة، وأن الناس قد كرهوه وربما شكوه، وأنه لا غرض له إلا فى مصلحة السلطان، ويقرر معه ذلك، فإذا اشتكى للسلطان لا يسمع فيه شكوى، ولا يلتفت إلى قول قائل، ويقرر فى ذهن السلطان أنه أنصح الناس له، وأن سائر الناس كرهوه بسبب نصحه للسلطان، وتحصيل أمواله، فبقى لا يسمع فيه شكوى، فكف الناس عن شكواه. فلما قبض السلطان على كريم الدين الكبير، استمر هذا على وظيفته فى النظر إلى آخر يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الآخر، فرتبه السلطان فى صحابة ديوان الجيوش المنصورة عوضا عن القاضى معين الدين هبة الله بن حشيش [1] ، وخلع عليه على عادة من تقدمه، وباشر الوظيفة فى يوم الاثنين الثامن عشر من الشهر، وأعيد القاضى معين الدين إلى نظر الجيوش بالشام عوضا عن قطب الدين/ (55) بن شيخ السلامية، واستمر كريم الدين فى هذه الوظيفة، وهو مع ذلك يكتب على عادته فى نظر الدواوين، وينفذ الأشغال إلى أن حضر الصاحب أمين الدين وفوضت إليه الوزارة، فمنع من ذلك، واستمر فى صحابة ديوان الجيوش، والناس فى أشد ألم بسبب سلامته. فلما كان فى يوم السبت سلخ ربيع الآخر أمر السلطان بالقبض عليه، فقبض عليه هو وولده سيف الدين، وألزم بالحمل، واعتقل بالبرج بباب القرافة، ولو تمكن الناس منه أو ظهر لهم قتلوه، وكان ولده سيف الدين يخرج فى الترسيم ويركب حمارا، ويبيع قماش أبيه، ويحمل الثمن عنه، وأبيعت أملاكه، ثم سأل أن يحمل أربعماية ألف درهم، ويتصدق السلطان عليه بالإفراج عنه، فأجيب إلى ذلك، ثم نقل من البرج إلى القرافة، فأقام هناك بتربة الأمير سيف الدين طقتمر [2] الدمشقى، بجوار تربة كريم الدين الوكيل، واستمر على ذلك إلى أن رسم بتوجهه إلى مباشرة نظر المملكة الصّفدية، فتوجه إلى ذلك فى يوم السبت الثانى عشر من جمادى الآخرة من السنة، وخرج من القرافة ليلا خوفا

_ [1] أورد النويرى ترجمته عند ذكر وفاته فى أخبار سنة 729 ص 294 من هذا الجزء. [2] كان «طقتمر الدمشقى» من مماليك الناصر وهو صبى، وكان الناصر يميل إليه كثيرا، فأمّره سنة 712 ومات فى رجب سنة 716 وانظر ترجمته فى (الدرر 2/224) .

ذكر وصول رسل متملك الأرمن إلى الأبواب السلطانية

على نفسه أن يقتل، وضمن على ولده «سعد الدين فرج الله» أن يبيع بقية أملاك والده، ويحمل عنها ليكمّل ما قرّر على أبيه، ولم يكن طلبه شديدا على العادة فى مثل ذلك إذا طولب أمثاله بحمل الأموال. واستمر بصفد إلى أن رسم بإحضاره منها عند ما أحضر كريم الدين الوكيل من القدس، فعزل منها فى شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين، وكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس العاشر/ (56) من شهر ربيع الآخر منها، وعند وصوله اعتقل بالبرج بباب القرافة بقلعة الجبل، وطولب بحمل المال، فحمل من جهته ماية ألف درهم، وأفرج عنه فى يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وكان من أمره بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى [1] . ذكر وصول رسل متملك الأرمن إلى الأبواب السلطانية وفى سنة ثلاث وعشرين وسبعماية فى العشر الاخر من جمادى الأولى وصل رسل متملّك الأرمن إلى الأبواب السلطانية، وفيهم الخليفة عليهم بزعمهم، وأم الملك، وجماعة من أكابرهم يسألون مراحم السلطان فى الكفّ عنهم، وأن يحملوا إلى الخزانة السلطانية قطيعة [2] فى كل سنة ألف ألف درهم ومائتى ألف درهم، وما جرت به العادة من البغال المساقة إلى الإسطبلات، والنعال الحديد، وغير ذلك من التقادم، وسألوا أن يأذن لهم فى عمارة ثغر آياس، وأن يكون ما يتحصّل منه مناصفة بين السلطان وبينهم، فامتنع السلطان من إجابتهم إلى المناصفة إلا أن يبذلوا عن الثغر فى كل سنة ثمانمائة ألف درهم لتكملة ألفى ألف درهم. ثم وصلت رسل الملك أبى سعيد ملك التتار، وكان فى جملة رسالتهم سؤال السلطان فى أمرهم [3] ، والشفاعة فيهم، فاستقر حالهم على حمل القطيعة المذكورة، ولم تحصل الموافقة على عمارة ثغر آياس، وأعيدوا إلى بلادهم.

_ [1] أورد النويرى أخبار كريم الدين الصغير فى حوادث سنة 726 هـ فذكر اعتقاله، ومصادرة أمواله، ومصيره بعد ذلك، وانظر (ص 197) من هذا الجزء. [2] القطيعة: المال المقرر على جهة من الجهات. [3] فى أمرهم: يعنى فى أمر الأرمن كما يفهم من السياق.

(57) ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد

(57) ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد بن خربندا ملك العراقين وخراسان وغير ذلك، وكان وصولهم إلى قلعة الجبل فى يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة، ومثلوا بين يدى المقام الشريف فى هذا اليوم، وكانوا ثلاثة، المشار إليه منهم من مقدمى التّوامين [1] . ولما وصل هذا الرسول إلى حلب، أظهر كبرا عظيما، وحمقا زائدا، فتلطف الأمير علاء الدين الطّنبغا نائب السلطنة بحلب به، وأكرمه وعامله بنهاية الإكرام والاحترام والأدب، فتمادى على حمقه، ولما وصل إلى حمص تلقاه نائبها، فمد يده إلى النايب ليقبلها، واتصلت هذه الأخبار بالأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام المحروس، فأرسل للقائه الأمير سيف الدين جوبان أحد الأمراء المقدّمين، فلما قدم على الرسول لم يكرمه، ولم يقم له، بل مد إليه يده ليقبلها، فصرف الأمير جوبان يده، وولّى ولم يسلم عليه. ولما قرب الرسول من دمشق المحروسة أمر نائب السلطنة بها العسكر الشامى بالركوب فى أتم زينة، فركبوا بالكلاوت الزّركش والطّرز الزركش والخيول المسوّمة، والعدد المذهبة والمزركشة، والكنابيش الحرير المذهبة، وخرجوا فى أحسن زى وأجمله، وأمرهم أن يقفوا سماطين [2] من القابون [3] إلى باب دار السعادة، وهى سكن نائب السلطنة، ففعلوا ذلك وما ركب نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز للقائه، ولا خرج من دار السعادة، ولما حضر الرسول قدم بين يدى/ (58) نائب السلطنة، وقد حفت به الحجاب، فلم يتحرك له ولا نظر إليه كل النظر، وأوقف بين يديه، فسأله عن جوبان نائب الملك أبى سعيد، وعن الأمراء، فأجابه الرسول أنهم فى عافية، ثم أمر بإخراجه ليستريح، فأخرج، وأنزل بالميدان فى جتر [4] أمر بنصبه له، فلما صار الرسول بالدّهليز سأل العود إلى نائب السلطنة فاستؤذن على ذلك، فلم يؤذن له،

_ [1] مقدمو التوامين فى مملكة التتار نظراء لمقدمى الألف فى دولة المماليك بمصر فى هذه الفترة. [2] تثنية سماط، وهو الصف (المعجم الوسيط) . [3] القابون: موضع بينه وبين دمشق ميل واحد فى طريق القاصد إلى العراق، وسط البساتين (عن معجم البلدان لياقوت) . [4] الجتر:- بكسر فسكون- الخيمة والشمسية فارسيتها جتر- بفتح فسكون- والضبط من الألفاظ الفارسية المعربة ص 38.

فأرسل الرسول إليه يقول: أنا إنما أتيت من قبل الملك، ولم أجىء من قبل جوبان النائب، ولا الأمراء، فكيف سألنى نائب السلطان عنهم، ولم يسألنى عن الملك؟ فأجابه الأمير سيف الدين (تنكز) بقوله: أنا نائب سلطنة لا أسأل إلا عن نائب سلطنة مثلى أو أمير، وأما الملك فإنما يسأل عنه السلطان خلّد الله ملكه، ثم أرسل إليه يعنّفه على ما صدر منه من الحمق والترفع على الأمير الذى سيره للقائه، وقال: «إن ما وراء الفرات من البلاد الحادثة فى مملكتكم هى بلاد كفر ونفاق وخوارج، وأما ما وراء الفرات مما يلى الشام فهى بلاد إسلام، ومساكن أنبياء، ومقر العبّاد والصّلحاء والعلماء والفقهاء، فينبغى لمن يحضر إليها أن يتأدب بأدب الله تعالى» ، فاستعظم الرسول نائب السلطنة بالشام، وتهذبت أخلاقه وتأدب بعد ذلك مع من يصل إليه، ثم أمره بالمسير إلى الأبواب السلطانية، فتوجه وطالع نائب السلطنة السلطان بصورة الحال، فشكر فعله. ولما وصل الرسل إلى الأبواب السلطانية، ومثلوا بين يدى السلطان أحسن إليهم وأكرمهم، وأجلسهم فى مجلسه، وأدوا الرسالة، فكان مضمونها طلب الصلح، والحلف على ذلك، فحلف لهم السلطان/ (59) . وكان الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى لما توجه فى الرسالة إلى الملك أبى سعيد حلفه أيضا على انتظام الصلح، وإطفاء نايرة الحرب، وكف الغارات من الجهتين، وأحضر الرسل معهم هدية من جهة الملك إلى السلطان حياصتين وقماشا، فقبل السلطان تقدمتهم، وذكروا أن التقادم واصلة صحبة تاجر الملك أبى سعيد، فأقبل السلطان عليهم، وأنزلهم برواق بدار النيابة بقلعة الجبل، ورتب لهم الرواتب الوافرة من المأكل والحلويات والفواكه وأنواع الأشربة المباحة وغير ذلك، ثم أحضرهم يوم الخميس وخلع عليهم؛ فخلع على المشار إليه منهم أطلسا معدنيا بطرززركش، وحياصة وكلّوتة وسيفا محلى بالذهب، وخلع على الاثنين [الآخرين] طردوحش مقصبا بذهب وحوايص وكلّوتات، وخلع على من معهم من الأتباع والكبلجية والغلمان ما يناسبهم. ولما كان فى يوم السبت تاسع عشر جمادى الآخرة أمر السلطان بركوبهم بين يديه إلى الميدان، وأنعم عليهم بثلاثة أرؤس خيل، فركبوا فى خدمته

ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى بلاد النوبة

وشاهدوا مواكبه العظيمة، فرأوا ما لم يروا مثله، ثم أحضرهم السلطان فى يوم الاثنين الحادى والعشرين من الشهر، وخلع عليهم ثانيا نظير تلك الخلع، وأجابهم عن رسالتهم، وأنعم عليهم بالأموال الكثيرة، وأحسن إليهم غاية الإحسان. وكان فى جملة رسالتهم سؤال السلطان أن يزوج ابنته من ابن الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد، فاعتذر السلطان عن ذلك بصغرها، وقال: إن هذه عمرها خمس سنين، وإذا صلحت للتزويج أجبنا سؤالكم إن شاء الله تعالى، وأعادهم مكرمين، فكان توجههم من قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء/ (60) الثانى والعشرين من الشهر، وتوجه معهم الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى حتى أوصلهم إلى غزة، هذا ما كان من خبرهم. ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى بلاد النوبة وفى هذه السنة- فى شوال منها- أمر السلطان بتجريد طائفة من العسكر المنصور المصرى إلى بلاد النوبة، فجرد ثلاثة من الأمراء [1] وهم: سيف الدين طقصبا [2] الناصرى الحسامى، وهو المقدم على العسكر، وعلاء الدين على بن قرا [3] سنقر المنصورى، وعز الدين أيدمر الكبكى [4] ، وجرّد جماعة من المماليك السلطانية، ومن الحلق، ومن أجناد الأمراء، من كل أمير ماية جنديان، ومن كل أمير طبلخاناه جندى، فبلغت عدتهم نحو خمسماية فارس، وكان خروجهم من القاهرة فى مستهل ذى الحجة.

_ [1] أورد المقريزى فى (السلوك 2/250) هذا الخبر فى حوادث سنة 723 هـ. ولم يجر على ترتيب النويرى فى ذكر أمراء الحملة. [2] فى المصدر السابق أورد اسمه الأمير طقصبا، المرتبة فديته بقوص، وذكر ابن حجر فى الدرر (2/225) طقصبا الظاهرى، وقال فى ترجمته: أنه ولى نيابة قوص وغزا النوبة مرتين فى سنة 705 هـ، وفى سنة 716 هـ ومات فى سنة 745 هـ. [3] ترجمته فى الدرر (3/95) ووفاته سنة 748 هـ. [4] كذا أورد اسمه أيضا فى المقريزى (السلوك 2/250) ولم يذكره ابن حجر فى الدرر فيمن اسمه «أيدمر» ولم يرد له ذكر فى النجوم.

وسبب تجريد هذا العسكر أن كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز، لما تملك النوبة بعد وفاة خاله إبرام أخى كرنبس [1]- كما تقدم- واستقل بالملك، واتصل ذلك بالسلطان أفرج عن كرنبس، وجهزه إلى النوبة، وجرّد هذا العسكر لنصرته فتوجهوا، فلما قاربوا البلاد فارقها كنز الدولة، وتوجه وصحبته من انضم إليه من العربان، فتبعه العسكر إلى الأبواب، فلم يظفروا به، فلما حصل أمانهم منه، عادوا إلى دنقلة [2] ، وملكوا كرنبس بها، وعاد العسكر وتركه، ولما علم كنز الدولة بعود العسكر جمع العربان وعاد إلى دنقلة، وأخرج كرنبس منها، واستقل بملكها، ووصل كرنبس إلى ثغر أسوان، فرسم له بالمقام به، فأقام به إلى أواخر/ (61) سنة ست وعشرين وسبعمائة، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة أيضا، فى ليلة يسفر صباحها عن نهار الثلاثاء ثالث المحرم توفى الملك المجاهد أنس [3] بن الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى الضرير بالقاهرة، ودفن بتربة والده بالقرافة، وقد جاوز خمسين سنة، وكانت زوجته ابنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى] [4] قد اشترت منه ما يخصه من الدار المعروفة بإنشاء والده بالقاهرة، وحصل بينها وبينه خصام قبل وفاته أوجب انتقالها عنه إلى دار الشريف بن ثعلب، وسكنتها بالأجرة، فلما مات حصل بينها وبين إخوته خصام، فباعت ما ملكته من الدار الزينية لوكيل زوجة السلطان طغاى أم ولده، واشترى الوكيل من بقية الورثة ما يخصهم من الدار بستمائة ألف وثلاثين ألف درهم، وأخرج أولاد العادل منها، وتفرقوا بالقاهرة، وسكنوا فى عدة مساكن بالأجرة.

_ [1] الضبط من السلوك (2/250) . [2] رسمها المقريزى فى السلوك (2/250) دمقلة بميم مكان النون. [3] فى النجوم (9/261) والسلوك (2/252) «الملك المجاهد سيف الدين أنص» وفى الدرر (1/417) يقال له: أنس (بالسين والصاد) ابن السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، مات فى المحرم سنة 723 هـ بعد ما كف بصره من سهم أصابه. [4] نهاية الصفحات التى سقطت من نسخة ك، وأضفناها إلى المتن من نسخة «أ» وقد سبقت الإشارة إلى ذلك فى ص 42 حاشية 3.

واستهلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة بيوم الجمعة الموافق للثالث من طوبة من شهور القبط.

وتوفى الصدر الأمير نجم الدين محمد بن الشيخ فخر الدين عثمان بن الشيخ صفى الدين أبى القاسم بن محمد بن عثمان البصروى [1] الحنفى، وكانت وفاته بمدينة بصرى [2] فى يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان، ودفن بها، وهو من أبناء الخمسين، وكان قد تقدم واشتهر بتحصيل الخيول الجياد، وسياقتها إلى الأبواب السلطانية، وتقدمتها إلى أعيان الأمراء، فأوجب له ذلك التقدم، فولى نظر الحسبة بدمشق، ثم نظر الخزانة، ثم وزر بالشام، ثم سعى فى إقطاع فأنعم عليه بإمرة عشرة، وأقطع إقطاعا جيدا، وكان قبل ذلك مدرسا ببصرى، وكان يذكر بكرم رحمه الله تعالى/ (62) . وفى يوم الخميس الحادى والعشرين من شعبان توفيت [3] بدمشق محمودة خاتون ابنة الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن [أيوب توفيت بدارها] [4] وتعرف بدار كافور، وصلى عليها بجامع دمشق عقيب صلاة المغرب من ليلة الجمعة ودفنت بالمدرسة الصالحية داخل دمشق بتربة جدتها، وكانت جليلة، ولم تتزوج قط، ولم يكن فى بيت العادل من هو فى درجتها رحمها الله تعالى. نقلت وفاتها من تاريخ الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالى. واستهلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة بيوم الجمعة الموافق للثالث من طوبة من شهور القبط. وفى يوم الأربعاء السادس من المحرم نودى بالقاهرة ومصر المحروستين أن يتعامل الناس بالفلوس حسابا عن كل رطل درهمين [5] ، وكانت قبل ذلك

_ [1] فى الأصل «اليصورى» وما أثبتناه من أص 61، وكذلك رسمه فى السلوك (2/252) وشذرات الذهب (6/62) . [2] بصرى: يوجد بهذا الاسم موضعان: أحدهما بالشام وهو قصبة إقليم حوران، والآخر قرية من قرى بغداد قرب عكبراء (معجم البلدان) . [3] ما بين الحاصرتين من أص 62. [4] ما بين القوسين من: (الدارس فى تاريخ المدارس 1/318) ولم يذكر فيه أن اسمها محمودة وعبارته «توفيت الخاتون المصونة خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل.. إلخ، وارد وفاتها فى سنة 723 هـ. [5] كذا فى الأصل وفى السلوك (2/253) نودى على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرطل على أن كل رطل منها بدرهمين.

ذكر وفاة الخوند أردكين ابنة نوكاى [3] زوج السلطان الملك الناصر

/ بدرهمين ونصف، فجرت على ذلك، تضرب بدار الضرب فلوس جدد، زنة كل فلس منها أرجح من درهم [1] ، مكتوب على أحد وجهيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وعلى الوجه الآخر- بدائرة- «السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد» فى وسط حلقة مستديرة فى وسط الفلس، واستمر الأمر على ذلك إلى يوم الخميس الحادى عشر من شهر ربيع الأول من السنة، فرسم السلطان بإبطال المعاملة بالفلوس العتق جملة. ونودى بذلك، وأن من كان عنده شىء منها يحمله إلى دار الضرب ويتعوض عنه [2] ، وأن يتعامل الناس بالفلوس الجدد الناصرية عددا وحسابا، عن كل درهم ثمانية وأربعين فلسا على ما كانت عليه قديما. وإنما أوردنا ذكر الفلوس فى كل واقعة منها؛ لأن كل دفعة من/ (63) إبطال المعاملة بها غرم الناس فيها الجمل الكثيرة من أموالهم، حتى اضمحلت أموال بعضهم، وكانت قد كثرت بالقاهرة عند أرباب الأموال ودواوين الأمراء، حتى اجتمع عند بعضهم منها مائة ألف درهم وأكثر من ذلك وأقل، وهى باقية محفوظة عند أكثر الناس يرجون أن يتعامل بها عددا. ذكر وفاة الخوند أردكين ابنة نوكاى [3] زوج السلطان الملك الناصر كانت وفاتها فى يوم السبت عشية النهار الثالث والعشرين من المحرم من هذه السنة بدارها بالقاهرة، وكان السلطان قبل ذلك قد أخرجها من القلعة، وأنزلها بدارها التى بالقاهرة التى بحارة زويلة، وأجرى عليها فى كل شهر خمسة آلاف درهم ومائة وخمسين درهما، وفى كل يوم من اللحم والتوابل والفواكه والقلويات والسكر والحلوى والكساوى وغير ذلك ما تزيد قيمته فى كل شهر على خمسة عشر ألف درهم، ولما خرجت من القلعة شاع عند الخواص

_ [1] فى المصدر السابق (2/253) زنة كل فلس منها درهم وثمن. [2] فى المصدر السابق (2/253) ومن عنده منه شىء يحضره إلى دار الضرب ويأخذ عنها فضة. [3] فى النجوم (9/275) أردوكين بنت نوكاى بن قطغان الأشرفية، وفى السلوك (2/258) والدرر (1/347) أردكين بنت نوكاى بن قطغان زوج الأشرف خليل بن قلاوون، ومن بعده تزوجها أخوه الناصر محمد بن قلاوون سنة 700 هـ وولدت له ولدا مات وهو صغير سنة 710 هـ.

والعوام أن السلطان طلقها [1] ، إلا أن السلطان ما صرّح بطلاقها، فلما توفيت حضر أخوها الأمير جمال الدين خضر بن نوكية إلى دارها، وقصد عرض ما خلّفته، وطلب الجوارى المتسلمات قماشها ومالها، وتهددهن بالقتل إن عدم من مالها شىء، فبينا هو على ذلك إذ دخل الطواشى شجاع الدين عنبر أمير لا لا [2] ، وزمام الأدر، وأنكر عليه فعله، وأخرجه من الدار، فتوجه إلى منزله،/ (64) ولم يشهد جنازتها، ثم ورد مرسوم السلطان قبل دفنها- وكان السلطان يتصيد بأعمال الجيزية- بمنع الأمير جمال الدين أخوها [3] من التعرض إلى تركتها والإنكار عليه، والاحتراز على الموجود وضبطه، وإقرار ما كان باسمها من المرتب على جواريها، وخدمها إلى أن يعود السلطان إلى القلعة. ولما كان فى يوم الأحد مستهل صفر أرسل السلطان إلى أخيها المذكور مائة ألف درهم وعشرة آلاف درهم، ووقع الإشهاد عليه بالبراءة من جميع ما خلفته أخته من الأموال والمصوغ والأملاك وسائر الأصناف على اختلافها، وأشهد عليه أنه وصل إلى حقه من ذلك كله، وأبرأ ذمة السلطان. وفى هذه السنة أمر السلطان بحفر خليج الذكر [4] من فمه مما يلى نهر النيل إلى أن ينتهى إلى الخليج الحاكمى، فقسم ذلك على الأمراء، وحفر حفرا جيدا حتى نبع الماء فى بعضه، وأصرف [5] الأمراء على هذا الحفر الحفير جملة كثيرة من أموالهم وكان الشروع فى الحفر فى العشر الأخر من جمادى الآخرة فلما فتح كادت القاهرة أن تغرق لكثرة المياه الجارية منه وحدتها، فاقتضى ذلك سد القنطرة التى عليه وكان قد بنى لها عضادتان [6] مما يلى البحر؛

_ [1] فى الدرر (1/347) أن الناصر طلقها سنة 717 هـ. [2] فى السلوك (2/258) «زمام الدور» ، وفى الدرر (3/199) ورد فى ترجمته أنه زمام الوقف، وانظر فى تفسير زمام الدور السلوك (2/577 حاشية 1) وأمير لالا- أمير+ لالا، ومعنى لالا: المربى من الخدم، وانظر شفاء الغليل 201. [3] كذا بالأصل، والصواب أخيها. [4] خليج الذكر: نسبة إلى شمس الدين الذكر الكركى الذى تولى تطهيره زمن الملك الظاهر بيبرس فعرف به. وكان يعرف هذا الخليج فى الدولة الأيوبية بخليج المقسى نسبة إلى البستان المقسى الذى كان يروى منه، وهذا الخليج كان كافور الأخشيدى قد أنشأه لرى البستان الكافورى والبساتين الأخرى الواقعة فى غربى الخليج الكبير (وانظر تفصيلات كثيرة فى «النجوم الزاهرة 9 ص 124 حاشية 1» ) . [5] يريد «أنفق» . [6] العضادتان: دعامتان تنصبان للتقوية.

ذكر خبر النيل فى هذه السنة

ليدفعا عنها صدمة الماء، فتحامل الماء على القنطرة فاقتلعها، ولم يفد ما عضّدت به، ولم يحصل منه من الإفادة ما كان يظن به، فأمر السلطان بحفر خليج مستجد، على ما نذكره فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ذكر خبر النيل فى هذه السنة (65) وفى سنة أربع وعشرين وفى النيل المبارك بمقياس مصر فى يوم الأربعاء تاسع شعبان الموافق للثامن من مسرى، وحصل التحليق والكسر فى يوم الخميس عاشر الشهر، ثم أخذ فى الزيادة على تدريج إلى أن انتهى إلى ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا بمقياس مصر، ولم ينتهى [1] فى الزيادة فى هذا العصر إلى مثل هذه الغاية، فغرقت البساتين والأقصاب، وفاض الماء على الجروف حتى أخبرنى جماعة ممن حضر من الصعيد الأعلى أنهم سافروا من مدينة قوص إلى ساحل مصر لم يجدوا من السواحل ما يضرب فيه أوتاد المراكب إلا ساحل أخميم، وكوما بمنية بنى خصيب، وما عدا ذلك من السواحل فإن الماء طما عليها، وثبت الماء على ذلك زمنا، حتى خشى الناس من بقائه، ثم أخذ فى الهبوط عند الحاجة إلى نقصه، فانكشفت الأراضى، وزرع الناس، ولولا هذا الثبات- الذى كره الناس- كان قد شرق جملة من الأراضى مع وجود هذه الزيادة العظيمة، فإن سائر الجسور التى تحبس المياه تقطعت وخرج الماء منها، فلما حصل ثبات النيل بقى الماء على المزارع، حتى استوفت حقها من الرى، فسبحان اللطيف الخبير القادر [2] . وقد ذكرنا فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة- فى أيام الحافظ عبد المجيد [3]- أن زيادة النيل انتهت إلى تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع

_ [1] هكذا فى أوك، والصواب: ولم ينته. [2] أورد المقريزى فى السلوك (2/258) هذا الخبر موجزا، وانظر (النجوم الزاهرة 9/262) . [3] الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبى القاسم بن المستنصر العلوى توفى سنة 544 هـ ومدة خلافته بمصر عشرون سنة إلا خمسة أشهر، وخلفه عليها ابنه الظافر بأمر الله (أبو الفدا 3/20) .

بمقياس مصر، وبسبب هذه الزيادة العظيمة فى سنتنا هذه شرق [1] إقليم الفيّوم، لأن سكر [2] النهر انقطع، وخرج الماء بجملته إلى البحيرة، فغرق ما حولها، وشرق ما سوى ذلك، واجتهد السلطان بعد ذلك فى إصلاح السّكر، وندب لذلك الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب/ (66) كان- وهو من أكابر أمراء المشورة الذين يجلسون فى مجلس السلطان، فأصلحه وأتقنه إتقانا جيدا، فتدارك الناس بسبب إصلاحه زراعة الصيفى خاصة بإقليم الفيوم. وفيها- فى شهر ربيع الآخر- وصلت رسل الملك أزبك [3] متملك صراى [4] والبلاد الشمالية إلى الأبواب السلطانية، ومثلوا بين يدى السلطان، وأحضروا ما معهم من الهدايا فقبلت، وشملهم الإنعام، وأعيدوا إلى مرسلهم بالهدايا صحبة رسل السلطان إليه. وفيها وصل إلى الديار المصرية الملك موسى [5] متملك بلاد التّكرور [6] لقصد الحج، وتوجه إلى الحجاز الشريف، ورجع إلى بلاده فى سنة خمس وعشرين، وكان قد أحضر صحبته جملة كثيرة من الذهب، فأنفقها بجملتها وفرّقها، وتعوّض ببعضها قماشا، واحتاج إلى أن استدان جملة من التجار وغيرهم قبل سفره.

_ [1] فى السلوك (2/258) وغرقت الفيوم لانقطاع جسرها «وعلق محققه بقوله: وفى إحدى النسخ شرقت» . ومعنى شرقت الأرض: جفت من عدم الرى. [2] السكر- بكسر السين وسكون الكاف-: ما يسد به النهر ونحوه. [3] أزبك خان- ولقبه (القان) بن طغرلجا- (وفى الدرر ابن طقطاى) ابن منكوتمر بن طغاى بن باطو بن جنكيزخان ملك التتار بالمملكة الشمالية توفى سنة 742 ومدة ملكه ثمان وعشرون سنة (السلوك 2/614) والنجوم (9/226) . [4] صراى- بفتح الصاد والراء المهملتين- مدينة عظيمة تقع فى مستو من الأرض غربى بحر الخزر كانت قاعدة البلاد الشمالية من مملكة التتار (المصدر السابق) . [5] اسم هذا الملك- كما ورد فى البداية والنهاية ج 14/112- الملك الأشرف موسى بن أبى بكر، وفى المقريزى (السلوك 2/255) منسا موسى ملك التكرور، وقد أورد خبر وصوله فى شىء من التفصيل. [6] بلاد التكرور مملكة واسعة تقع إلى الجنوب الغربى للسودان وكانت تضم أربعة عشر إقليما من بينها غانة والسنغال ومالى، وتكرور قاعدتها مدينة على النيل تقع بالقرب من ضفافه (وانظر صبح الأعشى 5/286، 287، والنجوم الزاهرة 9/173 حاشية 3) .

ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة

ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة وصرف من نذكر من ولاة المناصب [1] ، وتفويض الوزارة إلى الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى وترتيب من نذكر. وفى يوم الخميس الثامن من شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة عزل الصاحب أمين الدين عبد الله [2] عن الوزارة، وسبب ذلك أنه لما فوّض إليه أمر الوزارة ألان جانبه للناس، وكفّ لسانه ويده عن أذاهم، وأخذ نفسه بالتأنى والسكون وعدم القلق، فطمع الناس، وقصر الولاة والمباشرون/ (67) فى استخراج الأموال، وتحصيل الغلال، فانساق بعضها إلى الباقى، واتصل ذلك بالسلطان، فأجمع رأيه على عزله، وشاع ذلك بين الناس فى أوائل الشهر، فلما كان فى هذا اليوم رسم السلطان بانفصاله، وعامله حالة العزل بإحسان كثير، وذلك أنه رسم له فى يوم الخميس هذا تنفيذ الأشغال والكتابة على عادته إلى ما بعد صلاة العصر، ثم قام من مجلس الوزارة، وخرج وحجابه بين يديه، ومن جرت العادة بركوبه فى موكبه من أرباب المناصب، وركب والناس يدعون له، ويستبشرون ببقائه واستمراره، فلما وصل إلى داره بالقاهرة، واستقر بها خرج خادمه، وصرف من على بابه من الغلمان والمقدمين والسعاة وغيرهم، وأعلم من كان على الباب بانفصاله، ولم يستقر فى خدمته من غلمانه إلا من كان فى خدمته من قبل وزارته، وانقطع بداره ولم يركب/ فى يوم الجمعة إلى الجامع، ولا أذن لأحد فى الدخول عليه، ثم رسم السلطان ألا يتعرض إليه، وأقر باسمه ما كان قد رتب له عند انفصاله من طرابلس، وأذن له أن يتصرف ويركب فى مصالحه. واستوزر السلطان بعده مملوكه الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى، وهو يومئذ أستاذ الدار العالية [3] ، وأقره فى الوظيفتين، وخلع عليه فى يوم الجمعة

_ [1] انظر فى هذا الخبر المقريزى (السلوك 2/256، 257) . [2] هو أمين الدين عبد الله بن تاج الرياسة القبطى، أسلم على يد بيبرس الجاشنكير، توفى سنة 740 أو سنة 741، وترجمته فى ابن حجر (الدرر 2/251، 252) . [3] راجع ابن حجر (الدرر 2/252) ففيه أن الصاحب أمين الدين هو الذى أشار على السلطان بتولية مغلطاى الجمالى الوزارة من بعده، وقال له: إن الوزارة، لا تصلح إلا إذا وليها تركى.

التاسع من الشهر، وأمر السلطان بصرف ناظرى النظار، وهما: القاضى موفق الدين والقاضى شرف الدين بن زنبور [1] ، ورتب القاضى شهاب الدين بن سعد الدين الأقفاصى [2] فى نظر الدواوين، وكان يلى نظر البيوت السلطانية، وخلع عليه بغير طرحه، وكتب إلى الشام بطلب القاضى شمس الدين غبريال [3] ناظر الشام، فحضر على خيل البريد، وكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس/ (68) الثانى والعشرين من الشهر فرتب ناظر النظار والصحبة، وخلع عليه. ورتب كريم الدين عبد الكريم المعروف بالصغير فى نظر الشام عوضا عن شمس الدين غبريال [4] ، وخلع عليه فى يوم السبت الرابع والعشرين من شهر [5] رمضان، وتوجه من الشام على خيل البريد فى يوم السبت السادس [6] عشر من شوال، فوصل إلى دمشق فى يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر، وخلع عليه بدمشق أيضا فى يوم الأحد، وباشر الوظيفة. وكان قد رسم بطلب الأمير علم الدين سنجر الحمصى- شادّ الدواوين بحلب- ليرتب فى شد الدواوين بالأبواب العالية، فحضر، وخلع عليه، ورتب فى وظيفة الشد، وحضر مع الوزير فى المجلس وشاركه فى الكلمة والتنفيذ، فرسم له ألا يتعدى عادة المشدين فى الجلوس على باب دار الوزارة، فامتنع من ذلك، فلما وصل القاضى شمس الدين من الشام رتب علم الدين المذكور فى ولاية الجيزية، وأظهر له أن الوظيفتين معه ورسم له أن يتوجه إلى الجيزية، ويحضر إلى القلعة فى يومى الخميس والاثنين، ويعود فى بقية النهار إلى

_ [1] «ابن زنبور» فى الدرر (2/241) أن اسمه عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم علم الدين المعروف بابن زنبور، ويبدو أنه غير المذكور هنا فهذا لقبه شرف الدين. وانظر: المنهل الصافى (1/177 حاشية 1) . [2] فى «أ» و «ك» (الأقفاصى) وفى السلوك (2/256) شهاب الدين بن الأقفهسى، وفى مراصد الاطلاع: أن أقفاص هو نطق العوام لأقفهس، وهى بلدة بصعيد مصر من كورة البهنسا، وأوردها ابن مماتى فى قوانين الدواوين (104 فى كورة البهنساوية، وضبطها أقفهس بكسر الهمزة. [3] عبد الله بن صنيعة القبطى أسلم سنة 701 هـ ومات فى شوال 734 هـ (الدرر 2/262) . [4] فى «أ» ص 68 «عوضا عن شمس الدين المذكور» [5] ما بين القوسين زيادة عن «أ» ص 68. [6] فى المقريزى (السلوك 2/256) أن توجهه على خيل البريد إلى الشام كان فى يوم الاثنين السابع والعشرين من شوال.

الجيزية، وندب معه شهاب الدين الناظر، ثم رسم بعد ذلك أن يتوجه الأمير علم الدين المذكور إلى طرابلس على وظيفة [1] الشد بها، فتوجه وباشر الوظيفة المذكورة مدة يسيرة ثم عزل عنها. وأما ناظرا النظار المنفصلان فإن القاضى شرف الدين بن زنبور لما أفصل من النظر، رتب فى نظر خزائن السلاح، وخلع عليه، ونقل ناظر خزائن السلاح- وهو القاضى علاء الدين بن القاضى برهان الدين البرلسى [2]- إلى نظر بيت المال على عادته القديمة، وأعيد القاضى تاج الدين بن السكرى ناظر بيت المال إلى شهادة الخزانة/ (69) . وفى ذو القعدة من السنة طولب الصاحب أمين الدين والقاضى موفق الدين ناظر النظار- كان- بتفاوت ثمن كتان كان الصاحب قد رسم بأخذه من بعض فلاحى الجيزية من جملة ما عليهم من البواقى بمبلغ مائة ألف درهم، ولم يحفظ القيمة وقرر على الصاحب أمين الدين خمسون ألف درهم، وعلى القاضى موفق الدين خمسة وعشرون ألف درهم [3] ، ورسم باستخراج جامكية شهرين من سائر مباشرى الدواوين السلطانية، فاستخرج ذلك منهم. وفى هذه السنة سقط من منارة الإسكندرية أكثرها، وكان سقوط ذلك شيئا فشيئا، وفيها- فى ذى الحجة- وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد صاحب خراسان والعراقين وما مع [4] ذلك، ومثلوا بين يدى المقام الشريف السلطانى بقلعة الجبل المحروسة فى يوم الاثنين ثامن الشهر، وأحضروا صحبتهم من التقادم والهدايا ما لم تجر بمثله عادة لكثرته، وخلع السلطان عليهم، وشملهم بالإنعام الوافر، ورسم بعودهم فى يوم الخميس حادى عشر الشهر.

_ [1] فى المصدر السابق أنه حين عزل من شد الدواوين ولى الجيزة نحو شهرين ثم أخرج إلى طرابلس شادا للدواوين بها، وفى (الدرر 2/173) أن وفاته سنة 743 هـ. [2] فى المقريزى (السلوك 2/245) علاء الدين البرلسى، وفيه صفحة 1011 علاء الدين على بن البرهان إبراهيم بن ظافر البرلسى. [3] انظر فى هذا الخبر المصدر السابق ص 257. [4] فى «أ» ص 69 وتابع ذلك.

ذكر متجددات وحوادث كانت بالشام

ذكر متجددات وحوادث كانت بالشام فى هذه السنة غلت أسعار الغلال بالشام وانتهت غرارة [1] القمح بدمشق إلى مائة وعشرين درهما، فلما اتصل ذلك بالسلطان الملك الناصر- خلد ملكه [2]- برز أمره المطاع بما أوجب انحطاط الأسعار/، وذلك أنه رسم بإبطال ما على الغلال من المكس فى سائر البلاد الشامية، وذلك فى شهر ربيع الآخر، ثم رسم للنائب بالكرك المحروس أن ينقل إلى دمشق المحروسة/ (70) جملة من الغلال التى بها، فانحلت الأسعار، ثم رسم لسائر الأمراء بالديار المصرية أن يحملوا الغلال إلى دمشق، وقرر على كل أمير حمل جملة معينة من الغلال، وأن يحضر نائبه ما يدل على وصول ذلك إلى دمشق، فحملت الغلال، وانحطت الأسعار انحطاطا كثيرا، ولله الحمد. وفيها- فى شهر ربيع الآخر- رسم بعزل قاضى القضاة بالشام جمال الدين الزّرعى [3] بسبب شكوى نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز [4] منه، فوصل المثال السلطانى إلى دمشق بعزله فى الخامس والعشرين من الشهر، وعرض القضاء على الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين فامتنع عن الإجابة إلى ذلك، واعتذر بالعجز والمرض، وصمم على الامتناع، فعند ذلك طلب الخطيب القاضى جلال الدين محمد بن قاضى القضاة سعد الدين عبد الرحمن بن قاضى القضاة إمام الدين عمر القزوينى [5] ، فوصل إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل المحروسة فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى، واجتمع بمولانا

_ [1] الضبط من: الألفاظ الفارسية المعربة ص 115 وفارسيته بكسر الغين. [2] فى «أ» ص 69 (خلد الله سلطانه) . [3] سليمان بن عمر بن سالم بن عمر بن عثمان الشافعى، أصله من المغرب، ولد بأذرعات فعرف بالأذرعى، واشتهر بجمال الدين الزرعى توفى سنة 734 (الدرر 2/159- 162) . [4] تنكز- بضم أوله وثالثه- ومعناه بالتركية البحر (صبح الأعشى 5/425) ويكنى أبا سعيد، جلب إلى مصر وهو صغير فاشتراه الأشرف، ثم أخذه لاجين ثم صار إلى الناصر، وأصبح له فى دولته نفوذ، له ترجمة مطولة فى (الدرر 1/520- 528) . وضبطه ابن تغرى بردى فى النجوم ج 9 فى جميع المواضع بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه. [5] مولده سنة 666 هـ بالموصل، ووفاته بدمشق فى سنة 739، وله فى الدرر (4/3) ترجمة وافية، وانظر وفاته فى النجوم (9/318) .

السلطان وخطب بجامع القلعة، وصلى بالسلطان فى يوم الجمعة، وفوض إليه القضاء بالشام، وخلع عليه فى يوم الخميس ثالث عشر من جمادى الآخرة، وأنهى إلى السلطان أن عليه دينا شرعيا، فأنعم عليه بألف دينار ومائة دينار وستين دينارا عينا، وأرسل الذهب صحبة البريد إلى نائب السلطنة بالشام [وكره] [1] أن يحضر أرباب الديون، ويعطوا أموالهم بمقتضى حججهم، ففرق ذلك عليهم، وتوجه القاضى جلال الدين المذكور من الأبواب السلطانية إلى دمشق فى يوم الاثنين الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ووصل إلى دمشق فى خامس شهر رجب، وفوض قضاء العسكر الشامى للقاضى جمال الدين أحمد بن القاضى الصدر المرحوم شرف الدين/ (71) محمد بن محمد القلانسى التميمى [2] ، وخلع عليه فى سادس شهر رجب بدمشق، وخوطب بقاضى القضاة، هكذا ذكر الشيخ علم الدين البرزالى [3] فى تاريخه [وأقام القاضى جمال الدين الزرعى بدمشق بعد أن عزل عن القضاء إلى أواخر سنة ست وعشرين ففارقها، وحضر إلى القاهرة المحروسة فوصل إليها فى يوم الأربعاء منتصف ذى الحجة منها، واجتمع بالسلطان فى تاسع المحرم سنة سبع وعشرين، ولم يفوض إليه ولاية، وسكن قرب السلمية خارج باب النصر] [4] . وفيها فوض السلطان قضاء القضاة بحلب المحروسة للقاضى كمال الدين ابن الزّملكانى [5] ، وجهز إليه التقليد السلطانى بالولاية إلى دمشق، فوصل فى يوم السبت تاسع عشر شعبان، فامتنع من قبول ذلك، فطولع السلطان بذلك، فغضب منه، وأمر بعزله من مناصبه بدمشق، ثم شفّع فيه، فعاد المرسوم بتوجهه، ووصل المثال بذلك إلى دمشق فى ثانى عشر شهر رمضان، فقبل

_ [1] الزيادة من «أ» ص 70. [2] أحمد بن محمد بن محمد بن نصر الله التميمى جمال الدين بن شرف الدين القلانسى، وفاته فى ذى القعدة سنة 731 هـ (الدرر 1/300) وقد أورد النويرى ترجمته فى وفيات سنة 730 هـ- من هذا الجزء) . [3] القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف: علم الدين بن البرزالى مولده سنة 665 هـ وفاته فى ذى الحجة سنة 739 هـ (عن الدرر 3/237 والنجوم 9/318 و 319) . [4] ما بين القوسين ورد فى «أ» بهامش ص 71. [5] محمد بن على بن عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصارى الدمشقى ابن الزملكانى نسبة إلى زملكان بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، قرية بغوطة دمشق يسميها أهلها أحيانا زملكا- بفتح أوله وثانيه وسكون ثالثه وإسقاط النون- ولد سنة 667 وتوفى سنة 727 (عن الدرر 4/74- 78 ومراصد الاطلاع) .

الولاية، وتوجه إلى حلب فى يوم الخميس رابع عشر شوال، ووصل إلى حلب فى السادس والعشرين منه، وكان سبب هذه الولاية [1] أن قاضى القضاة زين الدين عبد الله بن محمد بن عبد القادر الأنصارى [2] الشافعى قاضى حلب توفى إلى رحمه الله تعالى بحلب [فى يوم الخميس تاسع عشر شهر رجب منها] [3] . وفى هذه السنة يوم الاثنين- عند الزوال- سابع شهر ربيع الآخر توفى الشيخ الإمام العالم نور الدين على بن يعقوب بن جبريل بن عبد المحسن بن يحيى بن الحسن بن موسى بن يحيى بن يعقوب بن نجم بن عيسى بن شعبان بن عيسى بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه [4] ، وكانت وفاته بمصر بدار القاضى فخر الدين بن مسمار المعروف بابن شكر، ودفن بالقرافة الصغرى فى بكرة نهار الثلاثاء بتربة ابن عم والده الشيخ عبد المؤمن بن إسماعيل بن عبد المحسن البكرى، ويعرف بالطواشى عطا [الله، وكان رحمه] [5] / (72) الله تعالى من العلم بالمكان الذى لا يجهل وله مصنفات منها: شرح التسهيل لابن مالك فى مجلدين، وكتاب فى علم البيان، وغير ذلك مما لم يكمله رحمه الله تعالى وإيانا. وفيها توفى الطواشى الأمير شجاع الدين عنبر أمير لالا الخزندار، وزمام الأدر [6] ، السلطانية، وكانت/ وفاته بقلعة الجبل فى ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى، ودفن بتربته التى أنشأها بالقرافة بجوار الدينورى، وكان يتولى نظر المدرسة الناصرية والمدرسة الأشرفية والتربة الخاتونية ونظر الأحواض، ومشيخة الخدام النبوية، وله إمرة عشرة طواشيه، وكان سىّء الخلق، كثير

_ [1] أورد ابن حجر (الدرر 4/76) سببا آخر لرفض ابن الزملكانى للولاية أولا ثم قبوله إياها بعد ذلك. [2] زين الدين الأنصارى: عبد الله بن عبد القادر بن ناصر بن الحسين بن على ولد سنة 654 ومات سنة 724 هـ (الدرر 2/295 و 296) . [3] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 71. [4] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 3/139) وقد أورد النويرى نسبه كاملا فى هذا الجزء لأنه بكرى مثله. [5] زيادة من «أ» ص 71. [6] هكذا فى «أ» و «ك» ، وفى السلوك (2/258) ومات الطواشى عنبر الأكبر زمام الدور. وفى النجوم (9/262) زين الدين عنبر الأكبر زمام الدور السلطانية.

الحمق شحيحا، يستقل لنفسه الكثير، ويستكثر لغيره القليل، وكان كثير التحصيل يبيع ما يهدى إليه من [المآكل] [1] وغيرها، ومع ذلك فلم يوجد له طائل موجود، ولما ولى نظر المدرسة الناصرية حجب كتاب وقفها أن يطّلع عليه أحد من مستحقى الوقف، ولم يسلك فيها شرط واقفها، وصرف للفقهاء والمعيدين [2] نصف ما شرط لهم فى كتاب الوقف، واقتطع مما صرفه أولا فى كل سنة ثلاثة أشهر، فلما مات وفوض السلطان نظر المدرسة لنائبه الأمير سيف الدين أرغن الناصرى [3] أظهر كتاب الوقف، وتتبع ما شرطه السلطان الواقف فيه، وصرف بمقتضاه، وزاد عدة الفقهاء، وضاعف معلومهم، أثابه الله تعالى. وفيها توفى القاضى بهاء الدين أبو المنصور محمد بن أحمد [بن أحمد] [4] بن الشيخ صفى الدين الحسين بن على بن ظافر بن حسين الأنصارى الخزرجى المعروف بابن أبى المنصور المصرى المالكى،/ (73) وكانت وفاته بمصر فى العشر الأخر من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى. وتوفى الأمير نصر [5] الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، أحد أمراء الطبلخانات، وكانت وفاته بداره بالقاهرة فى يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بتربة حميه الأمير شمس الدين قشتمر العجمى خارج باب النصر، وكان رحمه الله حسن المعاملة، كثير الصدقة من بقايا الخير.

_ [1] ما أثبتناه من «أ» ص 72 وفى «ك» (الأكل) . [2] المعيد: الذى يتولى تفهيم بعض الطلبة ونفعهم وعمل ما يقتضيه لفظ الإعادة: (معيد النعم ومبيد النقم 108) . [3] جرت نسخة «أ» على رسمه هكذا من غير واو بعد الغين، وكذلك يأتى فى «ك» أحيانا وفى السلوك والنجوم (9/14 و 27 و 38) يرسم بالواو، وهو أرغون بن عبد الله الدوادار الناصرى، وانظر ترجمته فى الدرر. [4] ما بين الحاصرتين لم يرد فى سلسلة نسبه كما ذكرها ابن حجر (الدرر 3/313) . [5] ترجمته فى الدرر (3/395) وفى النجوم (9/262) ناصر الدين، وذكر أنه كان من مقدمى الألوف بالديار المصرية.

/ (74) واستهلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة بيوم الأربعاء الثالث والعشرين من كيهك من شهور القبط.

وتوفى الأمير محمد بن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وكانت وفاته بسلمية [1] فى يوم السبت سابع شهر رجب، ودفن عند والده بقرية الأساود [2] رحمه الله تعالى. وفيها ورد الخبر بوفاة الوزير تاج الدين على شاه بن أبى بكر التبريزى وزير الملك [3] أبى سعيد بن خربندا، وأن وفاته كانت فى ثامن جمادى الآخرة بأرجان [4] ، وحمل إلى تبريز، فدفن بتربته، وكان شيخا جليلا، ولى الوزارة بعد مقتل سعد الدين الساوى فى شوال سنة إحدى عشرة وسبعمائة، واستمر فى الوزارة إلى أن مات رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة الثلاثاء الثانى والعشرين [5] من شعبان توفى الشيخ المحدّث نجم الدين أبو بكر عبد الله بن على بن عمر بن سبل بن رافع بن محمود الصنهاجى الحمزى بالقرافة الصغرى ودفن بها، ومولده فى سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، سمع الكثير من الحديث، وأسمع قبل وفاته، وكان سهلا فى الإسماع رحمه الله. / (74) واستهلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة بيوم الأربعاء الثالث والعشرين من كيهك من شهور القبط. فى هذه السنة ورد إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية رسل الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول متملك [6] اليمن يستنجد السلطان، ويستغيث به، ويستصرخ به على ابن عمه

_ [1] سلمية (بفتح أوله وثانيه وسكون الميم) بليدة بناحية البرية من أعمال حماه بينهما مسيرة يومين بسير الإبل، وأهل الشام ينطقونها بكسر الميم وتشديد الياء (النجوم الزاهرة 2/119 حاشية 2) . [2] الأساود: الذى فى ياقوت (معجم البلدان 1/219 ط. القاهرة) أنه اسم ماء على يسار الطريق للقاصد إلى مكة من الكوفة. [3] انظر ترجمته فى الدرر (3/34) وفيها أنه «كان فى أول أمره سمسارا، وأنه تمكن من دولة أبى سعيد، وكان مغرما بالعمارة، وكان محبا لأهل السنة، مصافيا للناصر محمد بن قلاوون. [4] أرجان (براء مفتوحة مشددة) مدينة كبيرة كثيرة الخير وهى قصبة كورة من مور فارس (عن معجم البلدان 1/180) . [5] ترجمته فى الدرر (3/276، 277) وفيها أن وفاته كانت فى عاشر شعبان. [6] فى «أ» ص 74 ملك اليمن. وانظر ترجمته فى الدرر (3/49 و 50) وفيها أن وفاته كانت سنة 764 أو 767 هـ. وفى الخزرجى (العقود اللؤلؤية 2/124) أنها كانت فى الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 764 هـ.

الملك الظاهر أسد الدين عبد الله بن الملك المنصور زين الدين أيوب بن الملك المظفر شمس الدين، وغيره ممن خرج عليه من المماليك، واستولوا على بلاده، وحصروه بقلعة تعز على ما نذكر ذلك. وقد رأينا أن نبدأ فى هذا الموضع بذكر أخبار بلاد اليمن، وسياقة أخبار ملوكها، إلى أن انتهى الملك إلى الملك المجاهد هذا المرسل الآن.

ذكر أخبار اليمن ومن وليه من العمال ومن استقل بملكه وسميت أيامهم بالدولة الفلانية

ذكر أخبار اليمن ومن وليه من العمال ومن استقل بملكه وسميت أيامهم بالدولة الفلانية اعلم- وفقك الله تعالى وإيانا- أيها المطالع/ لهذا الكتاب، المتأمل لما اشتمل عليه من الفصول والأبواب، الباحث عن جمله وتفصيله، المستوعب لتراجمه وفصوله، أننا لم نترك إفراد بلاد اليمن بباب مستقل يشتمل على أخبارها، ويستدل/ (75) من مضمونه على آثارها، ويعلم منه أخبار من وليها من العمال فى السنين السالفة، ومن استقل بملكها فى المدد الماضية والآنفة، ذهولا عنه ولا إهمالا، ولا أخرناه استخفافا بقدرها ولا استقلالا، لكنا لم نقف فيما سلف على تاريخ جرّد لذكرها وألّف، ولا كتاب أفرد فى أخبارها وصنّف، وإنما كنا نقف من أخبارها على النّبذة الشاردة، والإشارة التى تكون فى أخبار غيرها من الدول واردة، فنورد من ذلك ما نقف عليه فى أثناء أخبار الدولة الأموية والعباسية، والملوك الأيوبية، والأيام المنصورية والناصرية، ونحن مع ذلك نتوكّف [1] أن نقف على مؤلّف يجمع سيرها وأخبارها، ومصنّف يكشف أستارها ويبرز أسرارها، ونسأل عن ذلك كل قادم ووارد، فلا نجد من يرد ضالّة هذه الشوارد، إلى أن وصل إلى الديار المصرية المولى القاضى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد بن عبد الله اليمانى كاتب درج [2] الملك المؤيد داود- كان- من البلاد اليمنية وهو الذى أشرنا إليه فيما سلف من هذا الكتاب، وذكرنا جملة من رسائله البليغة، وآدابه البديعة، فأوقفنى على كتاب ألفه لما عاد إلى البلاد اليمنية سماه: «بهجة الزمن فى تاريخ اليمن» وهو فى مجلّدة خدم بها الملك الظاهر المذكور آنفا، فلخصت منه ما أورده الآن، فاجتمعت أخبار اليمن فى هذا المكان بحسب الإمكان، وهى نبذة/ (76) يستدل بها على أخباره، ولمعة تهدى المتأمل إليها إلى آثاره، وإذا انتهينا- إن شاء الله تعالى إلى آخر ما أورده من أخبار اليمن- إلى آخر سنة أربع وعشرين وسبعمائة، عدنا إلى سياقة أخبار الدولة الناصرية لسنة خمس وعشرين وسبعمائة وما بعدها.

_ [1] يقال: توكف الأثر إذا تتبعه. [2] كاتب الدرج: هو الذى يكتب المكاتبات والولايات وغيرها غالبا، وربما شاركه فى ذلك كتاب الدست. (صبح الأعشى 5/465) .

قال- أدام الله الانتفاع بفوائده، وأجزاه [1] من ألطافه على أجمل عوائده- فى كتابه ما مختصره- وفى بعض ألفاظه ما أوردناه بالمعنى-: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة اليمن ثلاثة، وهم: أبان بن سعيد بن العاص بن أمية على صنعاء وأعمالها، ومعاذ بن جبل الأنصارى على الجند ومخاليفها، والمهاجر بن أبى أمية المخزومى على حضرموت. فلما ظهر الأسود العنسى باليمن- كما قدمناه- لحق الأمراء المذكورون بأبى بكر الصديق رضى الله عنه، فاستخلف معاذ على عمله عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى، وهو والد عمر بن أبى ربيعة الشاعر المشهور، واستخلف أبان بن سعيد على عمله يعلى بن منبه [2] التميمى حليف بنى نوفل بن عبد مناف، واستخلف المهاجر عكرمة بن أبى جهل [3] . فلما قتل العنسى، وفاء أهل اليمن إلى الإسلام، أقر أبو بكر رضى الله تعالى عنه عبد الله بن أبى ربيعة على الجند ومخاليفه، ويعلى على صنعاء وأعمالها، واستمر أهل حضر موت على الردة والعصيان. فلما ولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أقر عبد الله ويعلى على عمليهما، ثم عزل عمر يعلى لشكاية، واستعمل المغيرة بن شعبة على صنعاء، فشخص يعلى إلى عمر يظهر بطلان/ (77) الشكاية وأن الحق كان بيد يعلى، فرده عمر إلى عمله بعد سنتين، فأقام ما شاء الله، ثم شكى إلى عمر، فأمر بإشخاصه إليه ماشيا، فخرج حتى إذا كان على أميال من صنعاء لقيه الخبر

_ [1] كذا بالأصل، والصواب أن يقال: جزاه أو جازاه. [2] فى المقتطف من تاريخ اليمن ص 44 «يعلى بن أمية» ، وفى زامباور (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 175 يعلى بن منيه (بياء مشددة) أو أمية. وفى صبح الأعشى (5/26) يلى بن منبه- بالباء مكان الباء. [3] فى هامش «أ» ص 76 وردت العبارة الآتية بخط مغاير «قلت: إن النبى صلى الله عليه وسلم رأى فى منام أنه دخل الجنة، فرأى فى الجنة عذقا لطيفا، فسأل عن صاحبه، ولمن أعده الله تعالى؟ قالوا: لأبى جهل، فانتبه فزعا، وكان يقول- صلى الله عليه وسلم- حينا بعد حين: ما لأبى جهل والجنة؟ فو الله الذى نفس محمد بيده لا يصير هذا أبدا، فلما جاء عكرمة مريدا الإسلام، ورآه صلى الله عليه وسلم من بعيد، فبادر يقول: هذا هو العذق الذى كنت رأيته فى الجنة، فأسلم عكرمة، وحسن إسلامه رضى الله عنه» .

بقتل عمر وخلافه عثمان، وإقراره على عمله، فعاد راكبا، فلم يزل على عمله إلى أن قتل عثمان، وكذلك ابن أبى ربيعة. فلما استخلف على بن أبى طالب رضى الله عنه استعمل على جميع اليمن ابن عمه عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ففارق يعلى وابن أبى ربيعة اليمن، وأتيا مكة، وانضمّ يعلى إلى طلحة والزبير وعائشة، وخالف عليا، وأعان بمال وإبل كما قدمنا فى أخبار على بن أبى طالب رضى الله عنه، واستمر عبيد الله باليمن أيام على، ثم تخاذل عنه أصحابه. وأرسل معاوية بسر بن [1] أرطأة إلى اليمن، فسفك الدماء وارتكب الأفعال الشنيعة، وقتل ابنى عبيد الله كما تقدم، فلما ولى معاوية بعث إلى اليمن عثمان الثقفى، ثم عزله وجمع اليمن بكماله لأخيه عتبة بن أبى سفيان، فولى ثلاث سنين، ثم مات فاستعمل/ معاوية على اليمن النعمان بن بشير الأنصارى، فمكث سنة ثم عزله واستعمل [سعيد بن] [2] دادوية من أبناء الفرس، فولى تسعة أشهر، ومات، فاستعمل الضحاك بن فيروز، فولى بقية أيام معاوية. فلما مات معاوية استعمل يزيد بجير بن زيان الحميرى على المخلافين: مخلاف صنعاء ومخلاف الجند، قاطعه عليهما بمال عظيم فى كل سنة يرسله إليه، وكان بجير عاتيا متجبرا، فكان باليمن حتى هلك يزيد بن معاوية، وظهر عبد الله بن الزبير بمكة فأطاعه أهل اليمن إلا القليل منهم، فاستعمل ابن الزبير الضحاك بن/ (78) فيروز فمكث سنة، ثم عزله بعبد الله بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فولى سنة، ثم عزله بعبد الله بن أبى وداعه السهمى، فمكث سنة وثمانية أشهر، ثم عزله بأخيه عبيدة بن الزبير، فمكث خمسة أشهر، وعزله وولى قيس بن يزيد السعدى أحد بنى تميم، فمكث عشرة أشهر، ثم عزله واستعمل ولاة كان الرجل منهم يلى أربعة أشهر وخمسة أشهر ويعزله، حتى قتل عبد الله بن الزبير.

_ [1] فى «ك» «بشر» وما أثبتناه من «أ» ص 77 وتاج العروس (3/42) . ويقال بسر بن أبى أرطاة العامرى القرشى. [2] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 77.

وولى الحجاج بن يوسف لعبد الملك بن مروان، فبعث الحجاج على اليمن أخاه محمد بن يوسف، فولى إلى آخر أيام عبد الملك وتوفى، وكان قد جمع المجذومين بصنعاء، وجمع لهم الحطب ليحرقهم، فمات قبل ذلك، فاستعمل الحجاج- بأمر الوليد بن عبد الملك- ابن عمه أيوب بن يحيى [1] الثقفى، فولى مدة أيام الوليد. فلما تولى سليمان بن عبد الملك استعمل على اليمن عروة بن محمد السعدى، فولى ست سنين. فلما ولى يزيد بن عبد الملك استعمل مسعود بن عوف الكلبى، فولى أيام يزيد. فلما ولى هشام بن عبد الملك بعث يوسف بن عمر الثقفى على جميع مخاليف اليمن، فمكث عليه ثلاث عشرة سنة، ثم نقله هشام بن عبد الملك إلى ولاية العراق، كما قدمناه فى سنة ست وعشرين ومائة، واستخلف على اليمن ابنه الصلت، فولى خمس سنين إلى أن توفى هشام. وولى الوليد بن يزيد، فاستعمل مروان بن محمد بن يوسف، وهو ابن أخى الحجاج. فلما ولى يزيد بن الوليد الناقص استعمل الضحاك بن واصل السّكسكى [2] . فلما غلب مروان بن محمد على الأمر استعمل القاسم بن عمر [3] الثقفى أخا يوسف بن عمر. وكان قد/ (79) ثار بحضرموت الأعور الخارجى [4] ، فلم يلبث القاسم أن قصده الأعور إلى صنعاء فانهزم عنه، وقتل ابن أخيه الصلت بن يوسف، وغلب

_ [1] فى الواسعى (تاريخ اليمن ص 147) أيوب بن يحيى الثقفى، وفى الجرافى (المقتطف 47) أيوب بن محمد. [2] السكاسك: من بطون كندة، قال ابن خلدون (العبر 2/276) لهم مجالات شرقى اليمن متميزة، وهم معروفون بالسحر. [3] فى الواسعى (تاريخ اليمن 147) «القاسم بن عميرة الثقفى» . [4] هو عبد الله بن يحيى الحضرمى، وانظر المصدر السابق 147 و 148 والمقتطف للجرافى ص 48.

ذكر عمال اليمن فى الدولة العباسية

عبد الله بن يحيى الأعور على اليمن سنة وأربعة أشهر، واستولى نايبه أبو حمزة الخارجى على مكة، وقتل أهل قديد [1] ، وسار فاستولى على المدينة فأقام بها أربعة أشهر، ثم سار يريد الشام، فبلغ وادى القرى، فلقيه جيوش الشام الذين بعثهم مروان بن محمد مع عبد الملك بن عطية السعدى، فقتلهم عبد الملك بوادى القرى حتى أصفى اليمن منهم، وسار إلى حضرموت، فأتاه كتاب مروان بتوليه الموسم، فصالحهم وسار فى ركب قليل، فقتل كما قدمنا، فبعث مروان الوليد بن عروة بن محمد على اليمن، فكان عليه إلى أن انقضت الدولة الأموية. ذكر عمال اليمن فى الدولة العباسية لما بويع أبو العباس السفاح بالخلافة فى سنة اثنين وثلاثين ومائة بعث على الحجاز واليمن عمه داود بن على بن عبد الله بن العباس، فاستخلف داود على اليمن عمر بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب العدوى القرشى، فمكث خمسة أشهر ومات، فاستعمل أبو العباس على اليمن محمد بن زيد [2] بن عبد الله بن زيد بن عبد المدان الحارثى، فقدمها لسبع مضين [3] من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث أخا له على عدن، وقصد إحراق المجذومين بالنيران بصنعاء، وجمع لهم الحطب، فمرض أياما يسيرة ومات قبل إحراقهم، ومات أخوه بعدن، وكانت ولاية محمد بن زيد خمسة أشهر/ (80) فبعث السفاح عبد الله بن مالك الحارثى، فمكث أربعة أشهر ثم عزله واستعمل على بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان، فولى أربع سنين وأشهرا. فلما استخلف أبو جعفر المنصور استعمل على اليمن عبد الله بن الربيع/ ابن عبد الله بن عبد المدان الحارثى، فأقام مدة وسار نحو المنصور، واستخلف ابنه، فأقام باليمن حتى قدم عليه معن بن زائدة الشيبانى فى شهر ربيع الأول

_ [1] قديد: موضع قرب مكة (مراصد الاطلاع) وفى المقتطف 49: أن هذه الوقعة كانت فى مكان يقال له «بدبد» وعبارته: وقتل أهل المدينة فى واد يقال له واد بدبد» . [2] فى تاريخ ابن خلدون (3/177) محمد بن يزيد بن عبيد الله. [3] فى المقتطف ص 48 «لسبع بقين» .

سنة أربعين ومائة، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وبعث معن ابن عم له يقال له سليمان إلى المعافر [1] ، فقتلوه، فغزاهم، فقتل منهم وأكثر، ثم انتقضت حضرموت على معن فسار إليهم، وأوقع بهم عدة وقعات قيل بلغت قتلاهم خمسة عشر ألفا، فأعظم الناس ذلك، ثم رجع إلى صنعاء وكتب إلى المنصور بذلك فاستصوب فعله؛ لأنهم بقية الخوارج الذين قتلوا أهل قديد ومن أهل المدينة. ثم سار معن إلى المنصور، واستخلف ابنه زائدة، فلما قدم العراق استعمله المنصور على سجستان، فكانت ولايته اليمن- بمقام ابنه- تسع سنين. وبعث المنصور على اليمن الضّراب [2] بن سالم العبسى، فمكث ثلاث سنين، ثم عزله بيزيد بن منصور الحميرى ابن خال [3] المهدى، وذلك فى سنة أربع وخمسين ومائة، فأقام بقية خلافة أبى جعفر، وأقره المهدى بعده، فلما كان الموسم كتب إليه بموافاته ففعل، واستخلف عبد الخالق بن محمد الشهابى [4] فولى شهرين ونصفا، وقدم عليه رجاء بن روح الجذامى [5] فى ذى الحجة سنة تسع وخمسين ومائة فأقام رجاء ثلاثة عشر شهرا. ثم بعث المهدى على اليمن على بن سليمان بن على بن عبد الله بن عباس، فقدمها فى المحرم سنة إحدى وستين ومائة، فأقام إلى سنة اثنتين وستين، وسار نحو العراق/ (81) واستخلف رجلا يقال له واسع بن عقيمة [6] ، فأقام أحد عشر شهرا، ثم بعث إلى اليمن عبد الله بن سليمان أخا على، فقدم

_ [1] المعافر- بفتح الميم وكسر الفاء- من مخاليف اليمن (مراصد الاطلاع) وفى المقتطف 57 مخلاف المعافر: أشهر مخاليف منطقة الجبال والسهول الشرقية، وهو بلاد الحجرية. [2] فى «أ» ص 80 تقرأ الكلمة أقرب إلى لفظ الضراب، فى «ك» وردت مهملة من النقط. وفى المقتطف ص 50 «الفرات بن سالم العبسى» . [3] أم المهدى هى «أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن شمر بن يزيد الحميرى» (طرفة الأصحاب فى معرفة الأنساب ص 82 ط. المجمع العلمى بدمشق) . [4] فى المقتطف ص 50 «عبد الخالق بن محمد الشيبانى» . [5] كذا فى «أ» و «ك» ، ومثله فى الخزرجى، وفى المقتطف ص 50 نقلا عن تاريخ الكبسى «رجاء بن حيوة الجذامى» . [6] كذا فى «ك» ، وفى «أ» ص 81 عصمه، وهو يوافق ما جاء فى المقتطف ص 50.

لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين ومائة، فأقام سبعة عشر شهرا، وبعث المهدى منصور بن زيد بن منصور الحميرى، فقدم فى سنة خمس وستين [وماية] ، فمكث سنة، ثم عزله بعبد الله بن سليمان النوفلى فمكث سنة، ثم عزله بسليمان بن يزيد بن عبد المدان فأقام بقية خلافة المهدى. فلما ولى الهادى- فى المحرم سنة تسع وستين ومائة- استعمل عبد الله ابن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عباس، ثم عزله بإبراهيم بن سليمان بن قتيبة بن مسلم الباهلى، فمكث أربعة أشهر، وتوفى الهادى. فلما ولى الرشيد فى شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة استعمل خاله الغطريف بن عطاء فقدم اليمن والفتنة ثائرة بين الجند وأهل صنعاء، فأصلح أمرهم، وأقام على اليمن ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم سار نحو الرشيد واستخلف عبّاد بن محمد الشهابى، فبعث الرشيد على اليمن الربيع بن عبد الله ابن عبد المدان فقدم آخر سنة أربع وسبعين، فمكث سنة ثم عزله الرشيد بعاصم ابن عتبة الغسانى، فمكث سنة، ثم [عزل بأيوب بن جعفر بن سليمان بن على ابن عبد الله، فمكث سنة، ثم] [1] عزل بالربيع بن عبد الله الحارثى، والعباس ابن سعيد مولى بنى هاشم: الربيع على الصلاة والحرب، والعباس على الجباية، فأقام سنتين، وعزلا بمحمد بن إبراهيم القاسمى، وقد جمع له الحجاز واليمن، فأقام بالحجاز وبعث ابنه العباس فشكاه الناس، فعزله، وولى الرشيد اليمن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن الزبير [2] ،/ (82) وكان رزق عامل صنعاء فى الشهر ألف دينار، فجعل له الرشيد ألفى دينار، فقال له يحيى بن خالد: هذا يفسد عليك من توليه من أهل بيتك، فرد رزقه إلى ألف دينار ووصله بصلة جليلة، فأقام سنة ثم عزله، واستعمل أحمد بن إسماعيل بن على الهاشمى فى سنة إحدى وثمانين ومائة، ثم عزله واستعمل إبراهيم بن عبد الله بن طلحة بن أبى طلحة، من بنى عبد الدار، فأقام سنة ووثب به الجند، فعزله الرشيد، واستعمل محمد بن خالد بن برمك [3] ، فدخل صنعاء فى شوال سنة ثلاث

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، والزيادة عن «أ» ص 81. [2] فى الجرافى (المقتطف ص 51) «عبد الله بن مصعب بن عبد الله بن الزبير» . [3] توصف ولاية محمد بن خالد بن برمك على اليمن بالعدل، ومن آثار هذا الوالى أنه استخرج النهر الذى فى جنوبى صنعاء والمعروف «بغيل البرمكى» .

وثمانين، فأقام سنة ثم عزله الرشيد، واستعمل مولاه حمادا البربرى، فقدم فى شوال سنة أربع وثمانين، فلم يزل على اليمن بقية خلافة الرشيد إلى سنة ثلاث وتسعين، وعمّر اليمن فى أيامه، وأمّنت السبل، وظفر بالهيصم بن عبد الحميد [1] لما خالف عليه. ولما ولى الأمين الأمر أقر حمادا مديدة، ثم سار نحو العراق واستخلف ابن أخيه، فكتب أهل اليمن إلى الأمين يشكونه، فعزله واستعمل محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعى، فقدم خليفة له، ثم قدم فاستخرج من عمال حماد أموالا جليلة، وعدل فى الناس ثم عزله الأمين واستعمل سعيد بن السرح الكنانى، فقدم صنعاء/ فى شعبان سنة خمس وتسعين، فأقام حتى ثارت الفتنة بين الأمين والمأمون، وسار طاهر بن الحسين لمحاربة الأمين، وضعف أمره. فبعث طاهر بن الحسين على اليمن يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسرى [2] ، فقدم صنعاء آخر سنة ست وتسعين، فقبحت سيرته فى الناس، ثم آتاه رجل من أهل العراق يكنى أبا الصلت/ (83) قدم عليه طالبا، فلم يعطه شيئا، فرجع حتى إذا كان بضمر من بلد همدان وجد عمر بن إبراهيم بن واقد بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان نازلا مع أخواله أرحب من السلمانيين، فأخبره خبره، فقال: بئس والله ما صنع يزيد، ووصله بعشرين دينارا، فقال أبو الصلت: لا جرم، لأحسنن مكافأتك إن شاء الله تعالى، فخرج من عنده ومكث وقتا، ثم قدم عليه بكتاب افتعله بولايته اليمن [3] ، فقدم عمر ابنه محمدا فى نفر من الأعراب وقوم جمعهم، فقدم صنعاء فى صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وحبس يزيد بن جرير، ثم قدم أبوه فأقام وقتا، وأخرج يزيد من الحبس ميتا، وكانت ولاية عمر شهرا، ثم عزله المأمون

_ [1] كذا فى «أ» و «ك» ، وفى المقتطف (51/52) الهيصم بن عبد المجيد، وأنه ثار فى جبل مسور، وحارب جند بنى العباس وهزمهم. [2] فى الواسعى (تاريخ اليمن ص 149) : «يزيد بن جرير بن زيد بن خالد القسرى» وفى الجرافى (المقتطف ص 52) : «يزيد بن جرير بن يزيد بن جرير بن خالد بن عبد الله القسرى» . [3] فى المصدرين السابقين- الموضع نفسه- وردت ولاية عمر بن إبراهيم بن واقد المذكور دون إشارة إلى هذه القصة، وكلا المرجعين يذكر أن المأمون هو الذى عزل يزيد بعمر، وأن ولايته لم تكن مفتعلة.

بإسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى، فقدمها فى ذى القعدة سنة ثمان وتسعين [وماية] ، فأقام بها سنة تسع وتسعين [وماية] ، ثم سار يريد الحجاز، واستخلف ابن عمه القاسم بن إسماعيل وذلك حين بلغه ظهور محمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا بالكوفة، واستيلائه عليها، وإرساله جماعة من الطالبيّين نحو الحجاز، فاستولوا على المدينة ومكة، فلما انتهى إسحاق إلى ضمر وثب به الأعراب فقاتلوه، فرجع إلى صنعاء، فاتصل به قدوم إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الطالبى واليا على اليمن بعثه الحسين بن الحسن الطالبى المعروف بالأفطس لما استولى على مكة والموسم، فقدم إبراهيم اليمن فى صفر سنة مائتين، فأسرف فى القتل حتى سمى الجزّار، ولم تزل أموره مستقيمة باليمن حتى ثار محمد بن إبراهيم، وقام بعده محمد بن محمد بن محمد بن زيد بن على، فلما أسر محمد، وقتل أبو السرايا- كما/ (84) قدمناه- انحلت أمور الطالبيّين بالحجاز واليمن، فبعث المأمون محمد بن على بن عيسى بن ماهان [1] ، فكانت بينه وبين إبراهيم وقائع استظهر فيها ابن ماهان على إبراهيم، فأقام إبراهيم يتردّد فى القرى التى حول صنعاء حتى قدم عليه عهد المأمون بولاية اليمن، فأبى ابن ماهان أن يسلمها إليه، فالتقيا عند صنعاء فهزمه ابن ماهان، فعاد إبراهيم، ولم يستقم له أمر بعد ذلك، فقدم عيسى بن يزيد الخلودى [2] التميمى واليا، فجمع ابن ماهان عشرة آلاف مقاتل وخرج إليه ولده عبد الله من صنعاء، وقد خندق الخلودى على نفسه، فالتقوا فهزمه الخلودى، ودخل صنعاء، واستمرت الهزيمة بعبد الله حتى دخل مكة، واختفى أبوه بصنعاء، فقبض عليه الخلودى وحبسه، وفرّق عماله فى المخاليف، وشخص نحو العراق.

_ [1] ورد اسمه فى المقتطف ص 53 «حمدويه بن عيسى بن ماهان» وفى الواسعى (تاريخ اليمن ص 149) ورد اسمه كما ذكره النويرى هنا، ولم يذكره زامباور (معجم الأنساب ص 176) فيمن ولى اليمن من قبل العباسيين. [2] فى «أ» ص 84 الحلودى «بمهملة» والغالب على هذه النسخة عدم الإعجام، وفى «ك» الخلودى (بخاء معجمة) وأورده الجرافى (المقتطف ص 53) عيسى بن يزيد الجلودى بجيم مفتوحة، وذكره الواسعى (تاريخ اليمن: 149) عيسى بن زيد الجلودى بالجيم أيضا. وانظر معجم البلدان (جلود) .

ذكر أخبار دولة بنى زياد

ذكر أخبار دولة بنى زياد كان المأمون قد قلد محمد بن عبد الله بن زياد الأعمال التهامية، وما استولى عليه من الجبال، فقدم اليمن فى سنة ثلاث ومائتين ومعه رجل تغلبى يسمى محمد بن هارون قاضيا، وهو جد بنى عقامة، ولم يزل الحكم فيهم يتوارث حتى أزالهم ابن مهدى حين أزال دولة الحبشة على رأس الخمسين وخمسمائة، فاستولى ابن زياد على تهامة بعد حروب جرت بينه وبين العرب، واختط مدينة زبيد فى سنة أربع ومائتين، وكان مع ابن زياد مولى له يسمى جعفر، وهو الذى نسب إليه مخلاف جعفر،/ (85) وكان فيه دهاء وكفاية حتى كانوا يقولون: «ابن زياد بجعفره» واشترط على عرب تهامة ألا يركبوا الخيل، وسيره مولاه إلى المأمون فى سنة خمس ومائتين بهدايا جليلة وأموال عظيمة، فعاد فى سنة ست ومعه ألفا فارس فيهم من مسودة خراسان تسعمائة فعظم أمر ابن زياد، وملك حضر موت وديار كندة والشحر ومرباط، وأبين ولحج وعدن والتّهايم إلى حلى، وملك من الجبال أعمال المعافر/ والجند والمخلاف وقلده جعفرا [1] ، فاختط به مدينة المذيخرة فى جبل ذى أنهار ورياحين واسعة، وخطب لابن زياد بصنعاء وصعدة ونجران وبيحان، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين. وقام بعده زياد بن إبراهيم فلم تطل مدته. فملك بعده أخوه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم، فامتنع عليه أهل الأطراف، وانقطعت الخطبة له فى الجبال، واستولى سليمان بن طرف على المخلاف، وهو من الشّرجة إلى حلى، وجعل السّكة والخطبة باسمه، فكان مبلغ ارتفاع [2] عمله فى السنة خمسمائة ألف دينار عثرية [3] ، وهذا المخلاف هو

_ [1] رواية ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 1/67 و 2/183 فى هذا الموضع هكذا: «وملك ابن زياد حضرموت، وديار كندة، والشحر، والمرباط وأبين ولحج وعدن والتهايم إلى حلى، وملك من الجبال:: الجند وأعماله، ومخلاف جعفر المعافر، وصنعاء، وصعدة، ونجران، وبيحان، وواصل ابن زياد الخطبة لبنى العباس، وحمل الأموال والهدايا السنية هو وأولاده من بعده» . [2] الارتفاع: يقصد به النويرى، العمل الجامع الشامل لكل عمل، (نهاية الأرب 8/285) . [3] فى الهمدانى (صفة جزيرة العرب ص 120) عثر- بفتح العين وسكون الثاء- وفى الجرافى (المقتطف ص 55 حاشية 1) مخلاف مشهور فى أقصى تهامة الشمالية كان به معدن الذهب، وفى المقدسى (أحسن التقاسيم ص 86) ضبطه بفتح العين والثاء المشددة.

المعروف بالسليمانى، نسبته إلى سليمان هذا، وخرج أيضا من ولاية أبى الجيش- لحج وأبين وما عداها- إلى البلاد الشرقية. ومات أبو الجيش فى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة عن طفل اسمه عبد الله، وقيل زياد، فتولت كفالته أخته هند بنت أبى الجيش وعبد لأبيها يسمى رشدا،/ (86) أستاذ حبشى، فقام بأمر الطفل، فلما مات رشد قام بكفالته حسين بن سلامة، وصيف من أولاد النوبة، وينسب إلى أمه، وقد كان هذّبه رشد وأحسن تأديبه، فخرج حازما حفيفا وقام بالأمر، ووزر لولد أبى الجيش وأخته، وكانت دولتهم قد تضعضعت أطرافها، وغلبت ملوك الجبال على الحصون والمخاليف، فقام الحسين [1] بحربهم حتى استرجع أكثر مملكة ابن زياد الأولى، واختطّ مدينة الكدرا أعلى وادى سهام، ومدينة المعقر على وادى ذؤال، وكان عادلا فى الرعية، كثير الصدقات، وأنشأ الجوامع الكبار، والمنارات الطوال والقلب [2] العاديّة فى المفاوز المنقطعة، وبنى الأميال والفراسخ والبرد على الطرقات من حضرموت إلى مكة شرفها الله تعالى. ومات حسين فى سنة اثنتين وأربعمائة، وقد انتقل الأمر إلى طفل آخر من آل زياد، فتولت كفالته عمة له وعبد أستاذ اسمه مرجان من عبيد الحسين بن سلامة، وكان له عبدان فحلان من الحبشة رباهما صغيرين، وولاهما الأمور كبيرين، أحدهما يسمى نفيسا جعل إليه تدبير الحضرة، والثانى يسمى نجاحا، وهو والد سعيد الأحول وجيّاش، وكان يتولى أعمال الكدرا والمهجم ومور والواديين، فوقع التنافس بين نجاح ونفيس على وزارة الحضرة، وكان نفيس غشوما مرهوبا، ونجاح ذا رفق بالناس عادلا محببا/ (87) إلى الرعية، وكان مولاهما مرجان يميل إلى نفيس، فنمى إلى نفيس، أن عمة ابن زياد تكاتب نجاحا، وتميل إليه، فأعلم مولاه، فأمره بالقبض عليها وعلى ابن زياد، فقبض

_ [1] يعنى حسين بن سلامة المذكور قبلا، ويورده مؤرخو اليمن دائما باسم الحسين (بأل) وانظر «المقتطف 55 و 62 و 69» وابن المجاور (صفة بلاد اليمن (72 و 73) ، وبلوغ المرام ص 35. [2] القلب: جمع القليب وهى البئر.

عليهما، وبنى عليهما جدارا وهما حيان يناشدانه الله حتى ختم عليهما، فكان بموت هذا الصبى انقراض دولة بنى زياد، وكانت مائتى سنة وثلاثا وستين سنة [1] . وكان بنو زياد قائمين بخدمة خلفاء الدولة العباسية، وتولى صلتهم بالهدايا والأموال، فلما اختلّ أمرهم، وغلب أهل الأطراف على ما بأيديهم، فغلب بنو زياد على ما بأيديهم من أعمال اليمن، وركبوا بالمظلة، وساسوا قلوب الرعية بإبقاء الخطبة العباسية. قال: «ولما بلغ نجاحا ما فعله نفيس فى مواليه استنفر الناس، وجمع العرب وقصده بزبيد، فجرت بينهما عدة وقائع قتل نفيس فى آخرها على باب زبيد، واستولى نجاح على زبيد فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وقال نجاح [لمرجان] [2] مولاه: ما فعل مواليك وموالينا [3] ؟ قال: هم فى ذلك الجدار فأخرجهما وصلى عليهما، وجعل مرجان فى موضعهما وبنى عليه حيا، وركب بالمظلة، وضربت السكة باسمه، وكاتب أهل العراق، وبذل لهم الطاعة. وقد كان حين توفى الحسين بن سلامة، واختلف عبيده، هرب ملوك الجبال من سجنه، ولحقوا ببلادهم، فغلب بنو معن على عدن ولحج وأبين والشحر وحضرموت، وغلب بنو الكرندى [4]-/ (88) وهم قوم من حمير كانت لهم سلطنة ومكارم ظاهرة ومفاخر- على السوا والسّمدان والدّملوة وحصن صبر وحصن ذخر والتّعكر ومخاليفها، والمعافريّة والجعفرية والجندية، وتغلب على حبّ/ وحصن الشعر رجل يعرف بالحسين بن النّبّعى [5] ، وبنو عبد الواحد على

_ [1] فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 71) كانت دولة بنى زياد فى اليمن مائتين وثلاث سنين لأنهم اختطوا مدينة زبيد سنة أربع ومائتين، وزالت عنهم سنة سبع وأربعمائة. [2] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 88. [3] فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 72 ما فعل مولاك بموالينا، وفى هامشه «ما فعل بمواليك وموالينا. [4] فى «ك» الكربدى ومثله فى بلوغ المرام ص 20، وفى «أ» ص 88 غير منقوط، وفى صفة بلاد اليمن 72 (قوم من حمير يقال لهم بنو الكرندى) «وفى المقتطف ص 55» يعفر بن أحمد الكرندى الحميرى. [5] فى «ك» ، وفى «أ» ص 88 غير منقوط، وفى المقتطف ص 55 «أبو عبد الله الحسين التبعى- بالتاء والباء المشددتين/ نسبة إلى تبع. وهو ما رجحناه.

ذكر أخبار صنعاء ومن وليها بعد الخلودى

برع والعمد [1] ونعمان، ولم يزل نجاح متوليا على الأعمال التّهامية حتى ملكها الصّليحى على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ثم كانت لهم دولة يأتى ذكرها بعد أخبار الصليحى- إن شاء الله تعالى- فنرجع إلى أخبار صنعاء، ومن وليها بعد الخلودى [2] . ذكر أخبار صنعاء ومن وليها بعد الخلودى قال: ولما شخص الخلودى إلى العراق قيل: إنه استخلف رجلا يقال له حصن بن المنهال، فأقام حتى قدم عليه إبراهيم الإفريقى، وهو رجل من بنى شيبان بن ربيعة، فأقام على اليمن مدة، ثم عزل بنعيم بن الوضاح [3] الأزدى، والمظفّر بن يحيى الكندى اشتركا فى العمل، فقدما صنعاء فى صفر سنة ست ومائتين، وسار المظفر يجبى الجند ومخاليفها، وقام بها مدة، ورجع إلى صنعاء فمات بعد أيام من رجوعه، فاستقل نعيم بالأمر حتى عزل بمحمد بن عبد الله ابن محرز [4] مولى المأمون، فقدم اليمن سنة ثمان ومائتين ولم يلبث أن شغب عليه/ (89) الجند، فخرج نحو الحجاز واستخلف عبّاد بن الغمر [5] الشهابى، فأقام حتى قدم إسحاق بن العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس اليمن، وهى ولايته الثانية وكان مقدمه آخر شهر رجب سنة تسع [ومائتين] [6] فأساء السيرة، وظلم الناس، ونال من التّهامية كل منال، فكان لا يسأل أحدا عن نسبه فينتسب إلا ضرب عنقه، حتى كان من سأله بعد ذلك عن نسبه قال: مولى بنى العباسى، ولم يترك بحمير ذكرا ولا رسما، ولم يزل كذلك حتى مات سنة عشرة ومائتين، وقيل: إن أهل صنعاء شكوه إلى المأمون، فأمر بإشخاصه، فلما مثل بين يديه، قال له المأمون: ضع يدك على رأسى، ففعل، قال: قل:

_ [1] لم أجده فى كتب البلدان بهذا الاسم، ولعله تحريف يعمد (بوزن يضرب) وذو يعمد قرية باليمن- أو تحريف القمر، وهو من جبال اليمن. [2] انظر الحاشية السابقة (2) ص 87. [3] فى تاريخ اليمن للواسعى ص 150، (وضاح) من غير أل. [4] فى «ك» محبوب، وفى «أ» ص 88 محرز، وما أثبتناه من تاريخ اليمن ص 150 وعبارته: «وعزل نعيم بمحمد بن عبد الله بن محرز مولى المأمون» ومثله فى بلوغ المرام ص 12. [5] فى بلوغ المرام ص 12 وتاريخ اليمن ص 150» عباد بن عمر الشهابى. [6] زيادة عن المصدرين السابقين والسياق يقتضيها.

وحياة رأسك لا ضربت عنقا، فقال، فقال له: «عد إلى عملك» فعاد، فكان بعد ذلك يوسّط [1] الناس. ولما مات إسحاق استخلف عند موته ابنه يعقوب، فحاربه أهل الجند وأهل صنعاء فسار إلى ذمار [2] ، وقدم إلى صنعاء- من قبل المأمون- عبد الله ابن عبيد الله بن العباس الهاشمى، فكان بها حتى توفى المأمون سنة ثمان عشرة ومائتين، فلحق بالعراق واستخلف عباد بن الغمر الشهابى، وبايع الناس للمعتصم بالله بن الرشيد، فأقر الغمر سنين. ثم ولى المعتصم صنعاء ومخاليفها عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن على الهاشمى، فقدم صنعاء آخر المحرم سنة إحدى وعشرين ومائتين، فأقام مدة، وحبس عبّاد بن الغمر الشهابى، وابنه عند يعفر بن عبد الرحيم الحوالى. ثم عزل عبد الرحيم بجعفر بن دينار،/ (90) مولى المعتصم، فقدم خليفة له يقال له منصور بن عبد الرحمن التّنوخى فى صفر سنة خمس وعشرين، فضبط البلد ووجه عماله، ثم قدم عليه عبد الله بن محمد بن على بن ماهان، وقد أشرك مع جعفر فى الولاية، فأقام مع منصور وقتا، ثم عزل جعفر بإيتاخ التركى مولى المعتصم، فأقر منصورا وعبد الله على عمليهما. ومات المعتصم سنة سبع وعشرين ومائتين وولى الواثق، فأقر إيتاخ على اليمن فوجه أبا العلاء أحمد بن [3] العلاء العامرى، فلما وصل صعدة أرسل يعفر الحوالى غلامه طريف بن ثابت فى عسكر نحو صنعاء، فخرج إليه من بها من الجند مع منصور بن عبد الرحمن الذى كان خليفة لجعفر بن دينار، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من موالى يعفر نحو ألف رجل، وأسروا أسرى ثم ضرب منصور أعناقهم، وقدم أبو العلاء صنعاء بعد الوقعة بأيام، فأقام حتى توفى، واستخلف أخاه عمرو بن [4] العلاء، فأقام واليا حتى ولى إيتاخ هرثمة بن البشير مولى المعتصم، فورد كتاب هرثمة على منصور بن عبد الرحمن يستخلفه، وقدم هرثمة آخر المحرم سنة ثلاثين ومائتين فأقام أياما، وخرج لمحاربة يعفر [4] بن

_ [1] يوسّطه: يضرب وسطه بالسيف ليقطعه نصفين. [2] الضبط من تاريخ اليمن (32 و 33) وفيها أنها مدينة آهلة بالسكان بينها وبين صنعاء عشرون ساعة. [3] فى بلوغ المرام ص 12 وتاريخ اليمن ص 150 «عامر بن العلاء» . [4] فى المصدرين السابقين: «يعفر بن عبد الرحيم الحوالى» .

عبد الرحمن وهو بشبام، فنزل بالجيش أسفل وادى ضلع، وأقام هنالك محاربا ليعفر وقتا، ثم عاد. وعزل الواثق إيتاخ عن اليمن، وولاه جعفر بن دينار مولاهم، فقدم وحاصر يعفر مدة، وعاد إلى صنعاء فأقام بها سنة، وسار نحو العراق، واستخلف ابنه محمدا، فأتته ولايته من المتوكل، فلم يزل على ولايته حتى/ (91) قتل المتوكل وأقره/ المنتصر والمستعين ومن بعدهما إلى أن انتهت الخلافة إلى المعتمد على الله، وفوض الأمور لأخيه أبى أحمد الموفّق، فوردت كتب الموفّق فى سنة ثمان وخمسين ومائتين على محمد بن يعفر بولاية اليمن، فوجه عماله على المخاليف، وفتح حضرموت وكانت قد امتنعت على من قبله. ثم أنه استخلف فى سنة اثنتين وستين ومائتين على عمله ابنه إبراهيم بن محمد، وحج وجدد له عهدا من الموفق، واستمر إبراهيم على ولايته إلى سنة سبعين ومائتين، وأمره جده يعفر بقتل ولديه محمد وأحمد ابنى يعفر، فقتلا بعد المغرب فى صومعة مسجد شبام، فانتشرت الأمور [1] عليه، وخالف عليه الفضل بن يونس المرادى بالجوف، وولد طريف غلامه بيحصب ورعين والمكرمان ببيجان، ومالوا إلى جعفر بن إبراهيم المناخى [2] فوجه ابن يعفر إلى المخالفين عليه من حاربهم فكانت سجالا، وولى إبراهيم محمد الدّعّام [3] الجوفين، ثم تغير عليه الدعام ونصب له الحرب، فسارت إليه عساكر إبراهيم فالتقوا بورور، فهزمهم الدعام وقتل منهم بشرا كثيرا، وقدم عهد بن يعفر على صنعاء ومخاليفها من الوزير صاعد [4] بن مخلد وزير المعتمد، فاعتزل إبراهيم ابن محمد عن الإمارة، وولى أبو يعفر ابنه عبد الرحيم، فأقام بصنعاء مدة، ثم عزله أبوه حين قدم صنعاء سنة ثلاث وسبعين ومائتين، واستعمل على صنعاء ولاة كثيرة، وكان أكثر مقامه بشبام، ثم اجتمع أهل صنعاء- من الأبناء

_ [1] فى المقتطف (56 و 57) وردت هذه الحادثة مفصلة وعبارته «أن إبراهيم بن محمد قتل أباه وعمه نزولا على أمر جده يعفر بن عبد الرحيم، وانظر أيضا (بلوغ المرام ص 18) . [2] فى «ك» ، وفى «أ» ما بعد الميم غير منقوط، وفى بلوغ المرام ص 18 جعفر بن أحمد المناخى صاحب المذيخر، وهو ما رجحناه. [3] يرد اسمه فى المراجع الأخرى: «الدعام بن إبراهيم» وفى الإكليل قال الهمدانى: كان الدعام بن إبراهيم كبير أرحب وسيد همدان فى عصره، وانظر فى خبره معدنى يعفر الحوالى «المقتطف 56 و 57» . [4] فى زامباور ص 7 ورد اسمه الحسن بن مخلد بن الجراح توفى فى ذى القعدة 263.

وغيرهم- والشهابيون على عماله بصنعاء، فقاتلوهم فقتل منهم/ (92) خلق كثير، ثم طردوهم، ونهبوا دار أبى يعفر، وأحرقوها، ولم يلبث أبو يعفر بعد ذلك أن قتل بشبام آخر المحرم سنة تسع وسبعين ومائتين، فقام بالأمر بعده عبد القاهر بن أحمد بن أبى يعفر أياما حتى قدم من العراق على بن الحسين المعروف بجفتم [1] فى صفر من السنة عاملا على صنعاء وأعمالها، فقاتله الدعّام بمدينة صنعاء فهزمهم جفتم، وأقام بها إلى سنة اثنين وثمانين [ومايتين] ، ورجع إلى العراق فسار الدعام نحو صنعاء، فدخلها ثم هرب منها، ورجع الأمر إلى بنى يعفر ومواليهم. ثم إن أبا العتاهية بن الرّويّة المذحجى استدعى الهادى إلى الحق يحيى ابن الحسين بن القاسم من صعدة إلى صنعاء، فدخلها فى آخر المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين، فدعا الهادى إلى نفسه، فبايعه الناس، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكتب فى الطّرز، ووجه عماله إلى المخاليف، فقبضوا الأعشار، وخرج إلى يحصب ورعين ونواحيها، واستخلف على صنعاء أخاه عبد الله بن الحسين، فأقام أياما، وعاد إلى صنعاء، ثم خرج منها إلى [2] شبام واستخلف ابن عمته على بن سليمان على صنعاء، وكان بنو يعفر وآل طريف بعضهم فى سجن صنعاء، وبعضهم فى سجن شبام، فاجتمعت همدان [3] وسواها، وقصدوا الهادى إلى شبام، فقابلوه بها، ووثب من بصنعاء على نائبه فأخرجوه، وكسروا السجن، وأخرجوا من به من آل يعفر وآل طريف، فاستولى عبد القاهر بن أبى الخير بن يعفر على صنعاء وخرج الهادى من شبام فأقام/ (93) بريدة وبيت [4] زود شهرا ثم عاد إلى صنعاء فى جيش كبير وجعل صاحب جيشه أبا العتاهية فلقيته جيوش آل يعفر بالرحبة [5] ، فهزمهم، ودخل

_ [1] الضبط من المقتطف ص 57. [2] شبام- ككتاب- جبل عظيم بصنعاء، وفى اليمن أربعة مواضع تضاف إلى شبام هى: شبام كوكبان، وشبام سخيم، شبام حراز، وشبام حضرموت. (مراصد الاطلاع 2/779 وتاج العروس ش ب م) . [3] فى الإكليل (للهمدانى ج 10) آل طريف بن ثابت: من بنى مرب من همدان منهم فرسان العرب وذوو شوكتها، وكانت لهم ولادة يعفر الحوالى (المقتطف 60 حاشية ص 1) . [4] فى ك «وثبت بزود» تحريف، والمثبت من «أ» ص 92 بريدة: مدينة باليمن شمالى صنعاء بينهما عشرون ميلا (بلوغ المرام ص 136) وزود: من ظاهر همدان (الإكليل 10/46) من قرى جبل تخلىء (صفة جزيرة العرب ص 190) . [5] الرحبة، ويقال لها رحبة صنعاء، وتبعد عنها ستة أميال (مراصد 2 ص 608) .

/ (94) ذكر أخبار على بن الفضل والمنصور بن حسن بن زادان دعاة عبيد الله المنعوت بالمهدى

صنعاء، وانحاز آل يعفر [1] إلى شبام، ومتولى الأمر فيهم أسعد بن أبى يعفر، وابن عمه عثمان بن أبى الخير، فأقامت الحرب بينهم سجالا مدة، ثم رجع الهادى إلى صعدة فى جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين، فعادت صنعاء إلى آل أبى يعفر، ودخلها مولاهم إبراهيم بن خلف، وصالح أبا العشيرة ابن الرّويّة على أن مخاليف مذحج فى جميع اليمن إليه. ولما توفى المعتضد بالله فى سنة تسع وثمانين [ومايتين] ، وولى ولده المكتفى، ولى اليمن مولاهم نجح بن نجاح، فوردت كتبه على عثمان بن أبى الخير، وأسعد بن أبى يعفر بتجديد ولايتهم، ثم قدم جفتم للمرة الثانية واليا على اليمن، فلما وصل إلى يأزل (قرية من قرى بنى شهاب) خرج إليه جرّاح وإبراهيم ابنا خلف كالمسلّمين عليه، فقبضا عليه، وصار جيشه إليهما، وحبساه مدة، ثم احتال وخرج، وسار إلى صنعاء فانضم إليه الجند الذين بها، وأصحابه الذين وصلوا معه، وأسعد وعثمان يغدوان عليه فى كل يوم يسلمان عليه، وسألهما تسليم الأمر إليه فاستنظراه أياما، فجمع أصحابه وكبسهما،/ فأراد [2] الهرب، فلم يمكنهما، فخرجا فى مواليهما ومن انضم إليهما من أهل صنعاء فقاتلاه، فقتل فى نفر من أصحابه، ومال الجيش إليهما وأكل قوم من أهل صنعاء من لحم جفتم، ثم وثب أسعد على ابن عمه عثمان فحبسه، واستبد بالأمر إلى سنة ثلاث وتسعين ومائتين. / (94) ذكر أخبار على بن الفضل والمنصور بن حسن بن زادان دعاة عبيد الله المنعوت بالمهدى قال: ودخل على بن الفضل القرمطىّ، وأصله من اليمن من حمير، والمنصور وهو [ابن] الحسن بن زادان بلاد اليمن داعيين لعبيد الله المنعوت بالمهدى، وتحيّلا وتلطّفا، واستمالا الناس حتى غلبا على أكثر البلاد، وكانت

_ [1] فى «أ» ص 93 «وانحازت آل جعفر» . [2] الزيادة من «أ» ص 94، وفى المقتطف ص 59 «منصور بن حسن الكوفى» ، وفى بلوغ المرام ص 22 ورد اسمه «منصور بن حسن بن جيوشب بن باذان، قيل: إنه من ولد عقيل بن أبى طالب.

لهما حروب باليمن، وقتلى كثيرة يطول الشرح بذكرها، وخرج الأمر فى غالب بلاد اليمن عن بنى العباس سنين كثيرة، ثم ظهر الزّيديّة والإماميّة، وكانت لهم حروب كثيرة، ووقائع مشهورة، حتى استولى على بن الفضل على صنعاء، فانهزم منه أسعد بن أبى يعفر، فعند ذلك أظهر ابن الفضل مذهبه الخبيث، وادعى النّبوّة، وكان يؤذن فى عساكره بالشهادة أنه رسول الله، وأباح المحرمات، وفى ذلك يقول شاعر فى عصرهم [1] : خذى الدفّ يا هذه واضربى ... وغنى هزارك ثم اطربى تولّى نبى بنى هاشم ... وهذا نبىّ بنى يعرب لكلّ نبىّ مضى شرعة ... وهذى شريعة هذا النبى فقد حطّ عنا فروض الصلاة ... وحطّ الصيام ولم يتعب إذا الناس صلوا فلا تنهضى ... وإن صوّموا فكلى واشربى ولا تطلبى السعى عند الصفا ... ولا زورة القبر فى يثرب / (95) ولا تمنعى نفسك المعرسي ... ن [2] من الأقربين ومن أجنبى فمن أين حلّلت للأبعدي ... ن وصرت محرّمة للأب؟ أليس الغراس لمن أسّه ... وسقّاه فى الزمن المجدب وما الخمر إلا كماء السماء ... حلال فقدّست من مذهب وجعل دار ملكه المذيخرة. ولما ادعى ابن الفضل النبوة، وأسقط اسم عبيد الله المهدى، وغضب المنصور بن الحسن بن زادان- وهو صاحب مسور-

_ [1] المراجع التى أوردت هذه الأبيات لم تنسبها لشاعر بعينه، وفى بعضها تختلف الرواية كثيرا أو قليلا عما ورد هنا، وفى بلوغ المرام ص 23 وتاريخ اليمن ص 160) ورد بعد البيت الرابع هنا البيت التالى: وحل البنات مع الأمهات ... ومن فضله زاد حل الصبى [2] فى «أ» ص 95 (المعزبين) والمعرس: الذى أعرس بالمرأة، أى دخل بها، ولا يبعد أن تكون المعربين، والمعرب: طالب الفحش كما فى: (اللسان) .

ذكر نبذة من أخبار الزيدية وغيرهم

لذلك، وخالف على ابن الفضل، خرج ابن الفضل لحربه، وذلك فى سنة تسع وتسعين ومائتين، فذكّره المنصور حقوق عبيد الله المهدى وابنه، وأنهما نعمة من نعمهما، فلم يلتفت إليه ابن الفضل وحصره ببيت دحان [1] أشهرا، ثم انصرف عنه ابن الفضل. ومات المنصور فى سنة اثنتين وثلاثمائة، ثم مات ابن الفضل بالمذيخرة فى سنة ثلاث وثلاثمائة، وذلك أنه احتاج إلى الفصاد، فأحضر طبيبا وجرده من ثيابه، وغسل المفصد، وهو ينظر إليه، وكان الطبيب قد جعل السمّ فى شعر رأسه، فلما غسل المفصد مسحه على شعره كالمجفف له، فعلق به السم، فلما فصده أهلكه الله تعالى، فاجتمعت رؤساء اليمن مع الحوالى، وقصدوا المذيخرة، فحصرها سنة ورماها بالمجانيق، حتى تسلمها، وسبى منها بنات على بن الفضل، ففرقهن فى رؤساء العرب، واضمحل أمر القرامطة الدعاة للعبيديين باليمن إلى أن قام بأمرهم على بن محمد الصّليحى فى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، على ما نذكر ذلك،/ (96) إن شاء الله تعالى، فلنذكر أخبار الزيدية [2] . ذكر نبذة من أخبار الزيدية وغيرهم / قال: وقام الناصر أحمد بن الهادى يحيى بن الحسين بن القاسم بعد موت أبيه، واعتزال أخيه المرتضى، فاستولى على أكثر اليمن الأعلى، ودخل عدن فى ثمانين ألفا، ومات فى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان أسعد بن أبى يعفر قد صالح ابن الفضل، فوّلاه صنعاء، فلم يزل عليها وعلى مخاليفها إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ومات بحصن كحلان، ودامت صنعاء بيد بنى يعفر ومواليهم مع كثرة اختلافهم وقيام من قام عليهم بسبب ذلك إلى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، ووصل المختار بن الناصر بن الهادى إلى ريدة، فخرج من بصنعاء من بنى الضحاك إليه، فولاها المختار أبا القاسم بن يحيى بن

_ [1] هكذا فى «ك» ، ولم يتضح فى «أ» ، وفى مراصد الاطلاع 1/237 بيت دبان (بالباء وقبلها دال مضمومة) قرية من قرى اليمن: وفى معجم البلدان والقبائل اليمنية 232 «دحّان: فرع من المعافر من كهلان» . [2] أورد الجرافى أخبار الزيدية فى الباب الخامس من كتابه (المقتطف) تحت اسم الدولة الهاشمية، وقال: إنها الدولة الشرعية التى قامت بالأمر فى اليمن، وانظر المقتطف من أول 102- 111) .

خلف، ولم يلبث الضحاك أن غدر بالمختار، فحبسه فى قصر ريدة فى صفر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، فاستمر فى الحبس إلى شوال من السنة، وقتله [1] ، وكان على بن وردان- من موالى آل يعفر- قد غلب على صنعاء، وثار الأسمر يوسف ابن أبى الفتوح- وقام معه قومه خولان- يعارض بنى يعفر وبنى الضحاك، فقصدوه وهو بجدان [2] ، فهزمهم، وقتل من همدان خلقا كثيرا، ثم مات فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة واستخلف أخاه سابورا، فسار إليه الضحاك وابن أبى الفتوح إلى/ (97) بلد خولان فلم يظفرا منه بشىء، فعاد الضحّاك إلى صنعاء، وسار سابور يريد ذمار، فلحقه الأسمر فقتله فى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وكاتب الضحاك أبا الجيش ابن زياد صاحب زبيد بالطاعة، وخطب له بصنعاء فى شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. ولما تعطلت المخاليف من يحصب ورعين، وظهر أمر السفهاء اجتمع الوجوه إلى الأسمر بن أبى الفتوح، وسألوه أن يكاتب الأمير [3] عبد الله بن قحطان بن أبى يعفر- وهو يومئذ بشبام- أن يقوم بالأمر، فخرج الأمير [3] عبد الله بن السرّ [4] فأقام به مع ابن أبى الفتوح أياما، ثم سار نحو كحلان، فأقام به مدة، ورجع إلى صنعاء، فدخلها فى سنة ثلاث وخمسين [وثلاثمائة] ، فانهزم الضحّاك منها [5] ، ولم يلبث ابن قحطان أن خرج من صنعاء، واستعادها الضحاك، وأعاد الخطبة لابن زياد، فلم يستقر له أمر، وعاد أمر البلاد لابن قحطان، فأقام يتردد من شبام إلى كحلان إلى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وتجهز للنزول بزبيد [6] ، فلقيه صاحبها ابن زياد، واقتتلوا، وكانت الدائرة على ابن زياد، وقتل من عسكره خلق كثير، ودخل ابن قحطان زبيد فى شهر ربيع من السنة، فنهب دور ابن زياد، ونهب عسكر زبيد أقبح نهب، وأقام بها ستة أيام، وعاد نحو كحلان،

_ [1] فى ابن خلدون (4/111) أن المختار قتله أبو القاسم الضحاك الهمدانى سنة 344 هـ. [2] لم أجده فى كتب البلدان، ولعله تحريف «حدان» أو «جران» أو «جداد» ، وانظر الأكليل 8/138، 178) أو جهران وهو من مخاليف اليمن (مراصد 1/236) . [3] فى «أ» ص 97 (الأمين فى الموضعين. [4] السر من مخاليف اليمن، قبالته مرسى للبحر (مراصد 2/707) . [5] فى «أ» ص 97 (منه) . [6] فى «أ» ص 97 (لنزول زبيد) .

وخطب للعزيز صاحب مصر، وقطع ذكر بنى العباس، ثم قصد ابن قحطان مخلاف جعفر، فملكه فى سنة ثمانين [وثلاثمائة] ، وأقام بإبّ، فاضطرب عليه أهل المخلاف، فأمر بعمارة المنظر، وتحول إليه من إب وجعل أمر ألهان [1] إلى أسعد بن أبى الفتوح. ثم مات فى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة،/ (98) فقام بما كان إليه بعده ولده أسعد بن عبد الله، وكان ظهور الإمام يوسف بن يحيى بن الناصر بن الهادى فى سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وكانت له حروب مع ابن أبى الفتوح وابن الضحاك وغيرهما، ودخل صنعاء ثم فارقها، وكان يحارب ابن أبى الفتوح مرة ويصالحه أخرى، ولم يزل أمر صنعاء فى غاية الاضطراب إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، تارة يغلب عليها الإمام وابن أبى الفتوح، وتارة الضحّاك، وتارة حاشد، والعرب من همدان وحمير وخولان وبنى شهاب مفترقة على هؤلاء، فمن كثر جمعه غلب عليها، ولم يكن الإمام يوسف هذا من الأئمة السابقين عند أهل البيت، ولا عدّوه من أئمة الزيدية. فلما كان فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وصل الإمام المنصور القاسم بن على بن عبد الله/ بن محمد بن القاسم بن إبراهيم، وهو أحد أئمة الزيدية فاضلا فيهم مصنفا، وكان مقامه قبل ذلك بترح [2] من بلد خثعم، ثم أقام بتبالة، ووصل صعدة وملكها، وسار إلى نجران، وأرسل إلى صنعاء من قبله شريفا يعرف بالقاسم بن الحسين الزيدى، فتصرف فى صنعاء بأحكام الإمامية، ثم خالف أهل نجران على الإمام، وكانت له حروب إلى أن مات سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، فوصل ابن أبى حاشد إلى صنعاء، وخطب للزّيدى، ثم تغيرت عليه الأحوال، فخرج منها بغير سلطان، ودامت الفتنة بصنعاء، وهى فى أكثر أوقاتها/ (99) بغير سلطان، والغالب عليها الضحاك إلى سنة أربعمائة، فسار جماعة من همدان وبنى شهاب إلى الزيدى إلى ذمار، فسار معهم إلى صنعاء، فدخلها فى ذى القعدة من السنة.

_ [1] ألهان: قال الهمدانى فى الأكليل (8/83) جبل ألهان معروف فى مخلاف أنس بن ألهان بن مالك، وفى بلوغ المرام ص 157 «جبل أبى أنس ألهان بن زيد بن مالك، وهو وجبل ضوران. وفيه الحجر العتيق من العقيق اليمانى» . [2] هكذا فى «أ» و «ك» ، ولم أجده فى البلدان ولعله تحريف برع، وهو جبل فى أسفل سهام. وانظر الأكليل (10/109) أو ترج، وفى ياقوت ترج- بفتح فسكون- واد إلى جنب تباله على طريق اليمن.

فلما كان فى صفر سنة إحدى وأربعمائة وصل الحسين بن القاسم بن على إلى قاعة [1] وادعى أنه المهدى الذى بشّر به النبى صلى الله عليه وسلم، فأجابه حمير وهمدان وسائر أهل المغارب، وتخلوا عن الزيدى، فوصل إلى صنعاء اليمن، وكانت بينه وبين الزيدى حروب، فقتل الزيدى فى حقل [2] صنعاء فى سنة ثلاث وأربعمائة، ورجع الإمام الحسين بن القاسم الزيدى إلى ريدة وترك أخاه جعفرا بصنعاء، ثم كانت له حروب مع محمد بن القاسم الزيدى، وكان ابن الزيدى قد جمع جموعا كثيرة، فانهزم ابن الزيدى، واستولى الحسين على صعدة وغيرها، ثم خالفه المنصور بن أبى الفتوح بصنعاء وبنو شهاب وبنو حريم وغيرهم، ونهبوا داره، وخرجت الشيعة من صنعاء بعد أن نهبت دورهم، فجمع الإمام عسكرهم، فقاتلوه فهزموه، وقتل من عسكره خلق كثير، وأعاد الناس أبا جعفر قيس بن الضحّاك إلى إمارة صنعاء، فأقام بها إلى المحرم سنة أربع وأربعمائة، فبلغه ما جمع الإمام من العساكر، فخرج من صنعاء محتقرا مهزوما، وكانت القبائل المخالفة على الإمام تجتمع إليه فاضطربوا، ثم قويت قلوبهم وساروا إلى الإمام فقاتلوه فهزموه، فبقى فى مائة فارس، فعلمت به همدان فلقوه وقاتلوه/ (100) فغشيهم بنفسه مرارا فى كلها. يخرق صفوفهم، ثم قتلوه، وذلك فى صفر سنة [3] أربع وأربعمائة، وقتل وهو لم يبلغ الثلاثين سنة. ولما قتل سار ابن أبى حاشد إلى صنعاء فأقام بها إلى ذى الحجة من السنة ولم يتم له أمر مع همدان، فخرج منها، وتعطلت من السلطنة إلى النصف من شوال سنة خمس وأربعمائة، ووصلها أبو جعفر أحمد بن قيس [بن محمد بن الضحاك الهمدانى] [4] فأقام بها إلى ربيع سنة ست [وأربعمائة] وخرج منها، ورفع أيدى عماله، فتعطلت أيضا إلى سنة ثمان [وأربعمائة] ، وراجعت همدان أبا جعفر فى الرجوع إلى الإمام، فأجابهم.

_ [1] القاعة: من ديار سعد من بنى تميم قبل ببرين (مراصد 1059) وفى أحسن التقاسيم ص 91: أنها من مخاليف اليمن. [2] فى مراصد الاطلاع (1/415) «مخلاف الحقل باليمن، ويقال له: حقل جهران، وقيل: الحقل من بلاد خولان من نواحى صعدة. [3] هذا التاريخ يوافق ما ذكره الواسعى (تاريخ اليمن ص 174) وفى المقتطف أنه قتل سنة 403. [4] ما بين الحاصرتين من المقتطف 109 وتاريخ اليمن 174، وفى بلوغ المرام ص 20 كان بنو الضحاك الحاشدى سكان ريده ملوك همدان وعظماءها.

وفى سنة عشر وأربعمائة ثار يزيد بن القاسم الزيدى مع قوم من بنى شهاب بن مروان، فقتلوه بأشيح [1] ، فسار إليهم ابن أبى الفتوح، وأمده القائد مرجان صاحب الكدراء، وعاضده ابن أبى حاشد، ثم نزل ابن أبى الفتوح إلى تهامة، فتلقاه القائد بالكدراء بأحسن لقاء، وعاد فأقام بألهان، حتى خرج زيد من أشيح وسلمه للقائد، وتحالفت همدان والأبناء على بنى شهاب بأمر القائد، فحاربوهم مرارا، ثم اصطلحوا، ووصل جعفر بن القاسم أخو الحسين من صعدة إلى [محلة] [2] عيان، فاستدعته همدان وحمير، فسار إلى صنعاء، فدخلها آخر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، فأقام بها إلى المحرم، وسار إلى صعدة بطائفة من الناس، فنهبها، وخرّب دورا، وقتل ناسا، وقد كان ذعفان [3] وابن أبى حاشد خالفا عليه عند مسيره إلى صنعاء، فلما رجع جعفر إلى عيان سألته همدان/ (101) العود إلى صنعاء فكرهه، ثم وقع الخلف بين همدان وذعفان وابن أبى حاشد، فاستدعوا جعفر بن القاسم، فأدخلوه صنعاء فى صفر سنة خمس عشرة، وطالب الناس مطالبة شديدة، وأقام بها مدة يحارب ذعفان وابن أبى/ الفتوح ثم اصطلحوا ونزل ذعفان إلى القائد فى الكدراء فأحسن القائد تلقيه، وأمده بأموال جليلة، وكتب معه إلى المنتاب صاحب مسور، وأمرهم جميعا بحرب جعفر، فاجتمعوا عليه، فخرج إلى بيت شعيب، فحصرته همدان وحمير، وأعادوا ابن أبى حاشد إلى إمارة صنعاء، وهجم أهل بيت خولان على محطة حمير، وقتلوا منهم مائة رجل، وانهزم عسكر المنتاب، وذلك فى المحرم سنة ست عشرة وأربعمائة، ثم تهادنوا إلى آخر السنة. ولما كان فى ثمان عشرة وأربعمائة ظهر إنسان بناعط، ولم يعرف الناس اسمه، وذكر أنه يتسمى عند ظهور رايته من المشرق، وسار إلى مأرب وبها المؤمن [4] بن أسعد بن أبى الفتوح، وتلقاه أحسن لقاء، وأقام عنده وسطر كتبه

_ [1] أشيح- كأحمر- اسم حصن منيع عال جدا فى جبال اليمن (مراصد الاطلاع 1/85) وهو فى آنس، وكان به مقام سبأ بن أحمد الصليحى (معجم البلدان) . [2] الزيادة عن المقتطف: 110، وفيه أنها من بلاد سفيان. [3] ذعفان: ينسبون إلى ذعفان بن سلمان، ويعرفون بهجن أرحب، لأنهم لأمهات شتى غرائب (الأكليل 10/228) . [4] بنو المنتاب أهل جبل مسور، وجدهم عبد الحميد بن محمد بن الحجاج صاحب نفائس كان من حزب الباطنية، وابنه إبراهيم الذى أخرج أولاد منصور بن حسن من جبل مسور، ومنهم الحسين المنتاب (بلوغ المرام ص 20) .

من عبد الله الإمام المعيد لدين الله الداعى إلى طاعة الله الدافع لأعداء الله، وأنفذها إلى النواحى، فبلغ القائد مرجان قيام المؤمن [1] بن أسعد معه، فغضب على المنصور بن أسعد، وأعاد كتبه مختومة، فغضب المنصور، وانضم إلى هذا الإمام، ودخل صنعاء فى شهر رمضان سنة ثمان عشرة (وأربعمائة) وخطب له بها ابن التّقوى قاضى صنعاء بالإمامة، ثم خرج منها، وخالف عليه من كان انضم إليه، فقتلوه فى آخر ذى الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، واشتد القحط باليمن من هذه السنة إلى سنة اثنتين وعشرين، وصنعاء خالية من/ (102) السلطنة. وفى شهر رجب سنة ست وعشرين وأربعمائة ظهر الإمام أبو [2] هاشم الحسن بن عبد الرحمن إماما، وتسمى بالنفس الزّكيّة، ومعه ولده حمزة بن أبى هاشم وإليه ينسب الأشراف الحمزيون، فقصد صنعاء، فهرب منه ابن أبى حاشد، ووصل المنصور بن أبى الفتوح، فبايعه ورجع إلى بلده، واستمر هذا الإمام إلى سنة تسع وعشرين، فخالفت عليه همدان، فدخل ابن أبى حاشد صنعاء، ثم خرج منها فتعطلت من السلطنة إلى سنة إحدى وثلاثين، فاستدعت همدان جعفر بن القاسم، فدخل صنعاء فى ربيع من السنة، ثم كان بينهم اختلاف يطول شرحه، وخلت صنعاء أيضا من السلطنة إلى شوال سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. ووصل الإمام أبو الفتح الناصر بن الحسين الدّيلمىّ [3] مدّعيا للإمامة، وانضمت إليه همدان وجميع العساكر، ونهب صعدة، وخرب دورا، وقتل من خولان مقتلة عظيمة، ودخل صنعاء فى ذى القعدة من السنة، وأقام إلى صفر

_ [1] فى بلوغ المرام ص 36 وتاريخ اليمن ص 175 يرد اسمه «عبد المؤمن بن أسعد بن أبى الفتوح. [2] فى بلوغ المرام ص 36 وتاريخ اليمن ص 135 «أبو هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، وأنه وصل من الحجاز، ومعه ابناه: حمزة وعلى، فدعا بناعط، وتلقب بالمعيد لدين الله، وعضده الأشراف وغيرهم ورؤساء همدان، وابن أبى الفتوح» . [3] كان وصوله من بلاد الديلم، ورواية النويرى هنا تتفق مع ما أورده الجرافى فى المقتطف ص 111 وفى بلوغ المرام ص 36 وتاريخ اليمن ص 175 أن الديلمى وصل طالبا الجهاد سنة 430، وكانت بينه وبين على بن محمد الصليحى حروب طويلة، وقتله الصليحى سنة 444 فى وقعة بينهما بنجد الحاج من بلاد عنس وقبره بردمان. وفى المقتطف ص 111 أنه قتل بقاع فيد، وقبره بقرية أفيق.

ذكر أخبار دولة على بن محمد الصليحى

سنة ثمان وثلاثين [وأربعمائة] ، ودخل ابن أبى الفتوح، فبنى له فى حصن علب قصرا بالجص والآجر، وكاتب له المنصور عبسا، فأقبل من رؤسائهم مائة فارس، فدخلوا فى طاعة الإمام، وبايعوه، والتحق به أيضا الأمير جعفر بن القاسم، فجعله أمير الأمراء بينهما، ولم يتم. وتمالأ جعفر وابن أبى حاشد على حرب الإمام، وخرجا من صنعاء فأمر الإمام بخراب دور بنى الحارث،/ (103) وبنى مروان، فغضب ابن أبى الفتوح وابن أبى حاشد لذلك، ودخلا صنعاء، ورفعا أيدى ولاة الإمام، وقطعا اسمه من الخطبة، فخرج هاربا، ثم رجع إلى بلد عنس، ووصل إليه جعفر، وأقاموا بصنعاء، ثم مات السلطان يحيى بن أبى حاشد فى أول سنة أربعين وأربعمائة، فأغلقت أبواب صنعاء ولم يبايع الناس ثلاثة أيام، وأقام الناس ابنه أبا حاشد، وحلفت له همدان. ذكر أخبار دولة على بن محمد الصّليحىّ وفى ليلة الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة [1] ظهر على بن محمد الصليحى/ واستولى على اليمن فى أقرب مدة داعيا إلى الدولة العبيدية، وكان من خبر قيامه وابتداء أمره أنه لما مات المنصور الحسن ابن زادان صاحب مسور الذى قدمنا ذكره- وهو أحد الداعيين لبنى عبيد [الله] فى سنة اثنتين وثلاثمائة- كما ذكرنا- استخلف على أهل دعوته رجلا من بنى شاور يقال له «عبد الله بن عباس» [2] وابنه حسين بن المنصور، وأمرهما بالمحافظة على دينهما، وألا يقطعا دعوة بنى عبيد الله، وأمرهما بمكاتبة المهدى، فإذا ورد أمره بولاية أحدهما سمع الآخر له وأطاع، وكان المهدى يعرف عبد الله بن عباس [2] فكتب إليه ابن عياس [2] يعرفه وفاة المنصور،

_ [1] ما أورده النويرى هنا فى تاريخ ظهور على بن محمد الصليحى يتفق مع ما رجحه المقتطف ص 64، وهو يختلف عما جاء فى بلوغ المرام ص 24، وتاريخ اليمن ص 162. [2] فى «أ» ص 103 (عياش) وفى «ك» (عباس) وفى المقتطف ص 61 «عبد الله الشاورى» وفى بلوغ المرام ص 24، وتاريخ اليمن ص 161 «عبد الشاورى» .

وأنه قد قام بالدعوة فوصلت إليه كتب المهدى بولايته، وعزل أولاد المنصور، وبعث إليه سبع رايات، فسار أبو الحسين [1] بن المنصور إلى المهدى/ (104) بإفريقية، فأمره بطاعة ابن عياش [2] وقد أيس من الرئاسة، فعمل على قتل ابن عياش [3] فنهاه أخوته فلم ينته، واستولى على الأمر، ولم يدع مكاتبة المهدى، ثم خرج أبو الحسين [4] بن منصور إلى عين محرم، وفيه رجل من قبله يقال له ابن العرجى واستخلف على مسور إبراهيم بن عبد الحميد السباعى [5] ، وهو جد [6] بنى المنتاب، فوثب ابن العرجى على أبى الحسين [7] فقتله، فاستولى إبراهيم على مسور، وادعى الأمر لنفسه، وأخرج أولاد المنصور وحريمهم عن مسور إلى جبل بنى أعسب، فوثب عليهم المسلمون، فقتلوهم الصغير والكبير، وسبوا حريمهم. ثم اتفق إبراهيم وابن العرجى، فاقتسما المغرب نصفين، لكل واحد منهما ما يليه، ورجع إبراهيم إلى مذهب السّنّيّة، وخطب للخليفة العباسى، وتتبع القرامطة بالقتل والسبى [8] ، ونصّب من بقى منهم داعيا يعرف بابن الطّفيل، فقتله إبراهيم، ثم مات إبراهيم، فولى بعده ابنه المنتاب بن إبراهيم، وانتقلت الدعوة الخبيثة بعد ابن الطفيل إلى رجل يعرف بابن أقحم [9] ، فخاف على نفسه من المنتاب، فكان لا يستقر فى موضع واحد، وكاتب المعز بعد وصوله إلى مصر، فلما حضرته الوفاة استخلف رجلا من شبام [10] يعرف بيوسف بن الأسد [11] ، فأقام دعوتها مدة حياته، واستخلف رجلا من شبام اسمه سليمان بن عبد الله الزواحى [12] من حمير، فدعا إلى الحاكم ومن بعده، وكان كثير المال والجاه، فاستمال الرعاع والطغام إلى مذهبه، وكان إذا هم به المسلمون يقول:

_ [1] فى المصادر السابقة يرد اسمه «حسن بن منصور» . [2] انظر الهامش رقم (2 فى الصفحة السابقة. [3] انظر الهامش رقم (2 فى الصفحة السابقة. [4] فى المصادر السابقة يرد اسمه «حسن بن منصور» . [5] فى بلوغ المرام ص 24 وتاريخ اليمن ص 161» ورد اسمه «إبراهيم بن عبد الحميد» من غير هذه النسبة. [6] فى «ك» : وهو أحد بنى المنتاب، وما أثبتناه من «أ» ، وهو الصواب لأن المنتاب هو ابن إبراهيم المذكور، فيكون إبراهيم جدا لبنيه. [7] فى المصادر السابقة يرد اسمه «حسن بن منصور» . [8] انظر فى هذا الخبر الجرافى (المقتطف ص 61) والواسعى (تاريخ اليمن ص 161) والعرشى (بلوغ المرام ص 24) . [9] فى «أ» ص 104 محم «غير منقوط» وفى بلوغ المرام ص 24 فخيم. [10] فى «أ» ص 104 «من شبام حمير» . [11] فى «أ» ص 104 «الأشر» ورجحنا ما فى بلوغ المرام ص 24 وتاريخ اليمن ص 162 «يوسف بن الأسد» وفى المقتطف ص 62 «رجلا من حراز يعرف بابن الأسد» . [12] فى هامش «أ» ص 104 بخط مغاير: الزواجى (بالجيم) نسبة إلى زواجى وذكر أنها قرية من أعمال حراز، وفى المقتطف ص 62 «زواحة: قرية من بلاد حراز، وحراز قبيلة من حمير وإليها ينسب مخلاف حراز. وفى مراصد الاطلاع 2/673 زواخى (مثل قوافى) قرية من مخلاف حراز فى أوائل اليمن.

«أنا رجل مسلم فكيف يحل قتلى؟» ، وكان فيه كرم نفس،/ (105) وإفضال على الناس. وكان الصّليحى كثير الاختلاط به، والحظوة لديه، فتفرّس فيه، فلما حضرته الوفاة أوصاه بالدعوة، وأعطاه مالا كثيرا كان قد جمعه من أهل دعوتهم، وأقام الصليحى باليمن دليلا للحاج على طريق السراة خمس عشرة سنة، وهو مع ذلك يعمل الحيلة فى ظهور أمره، فطلع مسارا [1] ، وهو أعلى ذروة فى جبال حراز [2] ، ومعه قوم قد بايعوه على الموت، فأحاط بهم جميع أهل حراز [2] ، وتهددوه بالقتل، فدافعهم بالحيل، وقال: إنما لزمته خوفا أن يلزمه الغير فتلحقنا جميعا المضرّة، ولم يمض عليه أشهر حتى بناه وحصّنه وأمره يستفحل، وشأنه يظهر، فلما ظهر بمسار [1]- ومعه قوم من الحجاز وسنحان ويام وجشم وهبرة- حصره جعفر بن القاسم فى الأحبوش، وهم خلق كثير، ورجل يسمى جعفر بن العباس [شافعى المذهب سار مع جعفر لحصاره فى ثلاثين ألفا، فأوقع الصليحى بجعفر بن العباس] [3] فى محطته فى شعبان من السنة، فقتله فى جمع عظيم، فتفرق الناس عنه، ثم طلع إلى جبل حضور فافتتحه، وأخذ حصن يناع، وجمع له ابن أبى حاشد صاحب صنعاء فالتقوا [بصوف] [4] ، فقتل ابن أبى حاشد وألف رجل، وسار إلى صنعاء فملكها، وطوى اليمن طيا بسهله وجبله. وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة استقرّ ملك الصّليحى بجميع اليمن من مكة إلى حضرموت سهلها وجبلها، واستقر بصنعاء، وأسكن معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم، واختط بصنعاء عدة قصور، واستعمل صهره/ (106) أخا زوجته- أسعد بن شهاب على زبيد، فدخلها فى سنة ست وخمسين وأربعمائة، وأحسن سيرته فى الرعية، وفسح لأهل السنة فى إظهار مذاهبهم، وكان يحمل من تهامة/ إلى صنعاء فى كل سنة- بعد أرزاق الجند الذين بها وغير ذلك من الأسباب اللازمة- ألف ألف دينار عينا.

_ [1] هكذا فى «أ» ص 105 و «ك» وفى مراصد الاطلاع 3/1273 ومعجم البلدان «مشار: قلة فى أعلى جبل حراز، وحراز مخلاف باليمن قرب زبيد «وانظر المقتطف ص 64» . [2] سنحان من مخاليف اليمن، وبام اسم قبيلة أضيف إليها مخلاف من مخاليف اليمن (مراصد 3/1472) وجشم وهبيرة قبيلتان. [3] ما بين القوسين زيادة من «أ» ص 105. [4] زيادة عن معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 388 وقال: «صوف: قرية خربة بالقرب من قرية يازك» كانت بها الوقعة التى مهدت السبيل لملك على بن محمد الصليحى.

ذكر مقتل الصليحى وقيام ابنه المكرم

ذكر مقتل الصّليحى وقيام ابنه المكرّم وفى سنة تسع وخمسين وأربعمائة توجه الصليحى إلى مكة شرفها الله تعالى، واستخلف ابنه المكرم على الملك، وسار فى ألفى فارس منهم من آل الصليحى مائة وستون رجلا واستصحب معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم خوفا أن يثوروا بعده فى البلاد، وسار حتى نزل بظاهر المهجم بضيعة تعرف بأم الدّهيم وبئر أم معبد، وخيمت عساكره حوله، فلما كان فى الثانى عشر من ذى القعدة لم يشعر الناس فى نصف النهار إلا وقد قيل لهم قتل الصّليحى. وكان سبب قتله أنه لما استولى على زبيد فى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وقتل صاحبها نجاحا بالسم، وكان قد أهدى له جارية وأمرها فسمّته، فهرب أولاد نجاح: سعيد الأحول وجيّاش وغيرهما، فلحقوا بأرض الحبشة، وشاع على ألسنة المنجّمين وأهل الملاحم أن سعيدا الأحول قاتل على ابن محمد الصّليحى، وبلغ ذلك الصّليحى فاستشعره، وبلغ سعيدا فترقت إليه همته، وتهيّأ لأسبابه، فلما بلغه مسير/ (107) الصليحى إلى الحجاز خرج من أرض الحبشة، فعارضه فى خمسة آلاف حربة كان قد انتقاها حين خرج من ساحل المهجم، وهجم على الصليحى فى نصف النهار، والناس مقيلون فى خيامهم غير مستعدين لحرب، فدخل عليه خيمته فى أهل بيته، وعنده دوابّ النوبة، وهو يريد الركوب، فقتلوه [1] ، وقتلوا أخاه عبد الله، وتفرّقوا فى المحطة، فقتلوا من وجدوا، واستولى سعيد الأحول على خزائن الصليحى وأمواله، وكان قد استصحب منها أموالا جليلة، وجمع آل الصليحى خاصة فقتلهم رميا بالحراب، وأخذ أسماء بنت شهاب، فأركبها هودجا، وجعل رأس الصليحى ورأس أخيه أمام هودجها حتى دخل زبيد، وتركها فى دار والرأسان منصوبان قبالة طاق الدار التى هى فيها، وفى ذلك يقول شاعرهم العثمانى [2] من قصيدة:

_ [1] راجع خبر مصرع الصليحى فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 75 و 167) . [2] أورده عمارة فى: مختصر المفيد فى أخبار زبيد ص 152، وذكر له هذه الأبيات، ومعها مناسبتها كما جاءت هنا.

بكرت مظلّته عليه فلم ترح ... إلا على الملك الأجلّ سعيدها ما كان أقبح وجهه فى ظلها ... ما كان أحسن رأسه فى عودها سود الأراقم قابلت أسد الشّرى ... يا رحمتا لأسودها من سودها فأقامت تحت الأسر سنة، ثم تلطفت فى الكتابة إلى ابنها المكرّم تقول: إنها قد حملت من الأحول، ولم يكن رآها قطّ وإنما أرادت أن تستنفر حفايظ العرب، فلما وصل الكتاب الى ابنها جمع رؤوس القبائل، وقرأه عليهم، فثارت حفائظهم، وخرج من صنعاء فى ثلاثة [1] آلاف فارس غير الراجل، فخطبهم فى الطريق، وقال: «إنما تقدمون على الموت، فمن أراد أن يرجع فمن مكانه» فيقال: إنه رجع بعضهم وسار فى الباقين، وبلغ الأحول،/ (108) فجمع جموعه فى عشرين ألف حربة، فطحنتهم خيل العرب، وقتل أكثرهم، فركب الأحول فى خواصّه وأهل بيته خيولا مضمّرة كان أعدها للهرب، وهرب إلى الساحل، وقد أعدت له هناك سفن فركبها، وتوجه نحو دهلك [2] ، ودخلت العرب زبيد، فكان أول فارس وقف تحت طاق أسماء ولدها المكرم، فسلم عليها، فلم تعرفه، وقالت: من أنت؟ فقال: أحمد بن على، فقالت أحمد بن على فى العرب كثير، وأمرته أن يرفع المغفر، فرفعه، فقالت: مرحبا بمولانا المكرم، فأصابته ريح ارتعش لها، واختلج وجهه، فكان كذلك سنين كثيرة حتى مات، وأعاد المكرّم خاله أسعد بن شهاب إلى ولاية زبيد والأعمال التهامية، ورجع بأمه إلى صنعاء فأقامت مدة وماتت. ثم جمعت الحبشة لأسعد بن شهاب، فأخرجوه من زبيد، وعادت إلى ملكهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. قال: ثم إن المكرم بن الصليحى فوّض الأمور إلى زوجته الحرة، واسمها سيّدة [3] ابنة أحمد بن جعفر الصليحى، وكان الصليحى يكرمها/ قبل مقتله،

_ [1] فى الأصل، ومثله فى «أ» ص 107 «ألف» والصواب ما أثبتناه. [2] دهلك- ويقال دهنك أيضا-: جزيرة فى بحر اليمن، وهى مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة حارة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها (مراصد الاطلاع 2/546) . [3] فى المقتطف ص 68 أن «اسمها أروى بنت أحمد بن جعفر بن موسى بن محمد الصليحى» وموسى هو أخو على بن محمد الصليحى.

السلطان سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحى

ويقول لزوجته أسماء: هى والله كافلة ذرارينا، القائمة بهذا الأمر لمن بقى منا، فلما ماتت أسماء فوض المكرم الملك والأمر لزوجته الحرّة، وخلا للشراب واللذات، فارتحلت من صنعاء حتى بنت دارها بذى [1] جبلة، وتعرف بدار العز، ونقلته إليها، فاستخلف على صنعاء عمران بن الفضل اليامى، حتى مات فى سنة/ (109) أربع وثمانين وأربعمائة، فأسند الأمر إلى ابن عمه. السلطان سبأ بن أحمد بن المظفّر الصّليحى وكان دميم الخلق لا يكاد يظهر من السرج بطائل، وكان جوادا شاعرا قائما بأحوال الملك، وأياه عنى ابن [2] القم بقوله: ولما مدحت الهبرزىّ [3] ابن أحمد ... أجاز وكافانى على المدح بالمدح وعوّضنى شعرا بشعرى وزادنى ... عطاء فهذا رأس مالى وذا ربحى شققت إليه الناس حتى رأيته ... فكنت كمن شقّ الظلام إلى الصّبح وكان مستقر ملكه حصن أشيح وما إليه من الجبال المطلّة على زبيد، وكانت الحرب بينه وبين أهل نجاح سجالا، فبيّتوه فى بعض الليالى، وكبسوا عسكره، فقتلوا أكثرهم، ونجا سبأ على قدميه عامة ليلته حتى وجد من حمله على فرس فى آخر الليل، فلم تعد العرب بعد ذلك إلى تهامة. وخطب سبأ الحرّة السيدة، فلم تجبه، وأنكرت ذلك غاية الإنكار، فتحاربا مدة، فقيل له: ما تجيب إلا بأمر المستنصر خليفة مصر، فأرسل فى ذلك إلى المستنصر رسولين، فعادا ومعهما خادم من أكابر خدّام المستنصر بألفاظ حسنة، فردت بأحسن منها، وقال لها: أمير المؤمنين يقول لك:

_ [1] ذى جبلة من مخلاف جعفر (وانظر صفة البلاد اليمن ص 168) . [2] فى المقتطف 68 الحسين بن القم، وضبطه بكسر القاف، وفى ابن المجاور ص 173 عبد الله بن الحسن ابن على بن القم، بضم القاف. [3] كذا فى «الأصل» ، وفى اللسان أنها يمانية، ومن معانيها: الجيد الرمى بالسهام والحسن الثبات على ظهر الفرس، وفى «أ» 109 الهبزرى (بتقديم الزاى على الراء) وفى هامشه الهبزرى: الجواد.

المفضل بن أبى البركات بن الوليد الحميرى

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [1] قالت: وما ذاك؟ قال: «قد زوّجك أمير المؤمنين من الداعى الأوحد المظفر عمدة الخلافة، أمير الأمراء أبى حمير سبأ بن أحمد/ (110) بن المظفّر الصّليحى على ما حضر من المال، وهو مائة ألف دينار عينا، وخمسون ألفا من التحف والألطاف والطيب والكساء» ، فقالت: أما كتاب مولانا صلوات الله عليه، وأمره فأقول فيه: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [2] ولا أقول فى أمر مولانا يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [3] وأجابت إلى العقد، فأقبل سبأ فى جموع عظيمة إلى ذى جبلة، فتلقتهم من الضّيافات والعطايا الواسعة للناس، والنفقات على العساكر بما بهر سبأ، وصغّر قدر نفسه عنده، وأقام هو ومن معه على ذلك شهرا، ثم استأذنها فى الدخول عليها، فأذنت له، فقيل: إنه اجتمع بها ساعة واحدة، وقيل بعثت إليه بجارية تشبهها، وأصبح سائرا، فلم يجتمعا بعد ذلك، ومات سبأ، فأقامت الحرة للذبّ عن ملكها، والقيام بأمرها. المفضّل بن أبى البركات بن الوليد الحميرى وهو تربيتها، فعظم شأنه وعلت كلمته، وغزا تهامة مرارا، وكان إليه ولاية التّعكر [4] وبه ذخائر بنى الصليحى وأموالهم، وكان يتولاه من قبله رجل من الفقهاء فطلع إليه جماعة من الفقهاء السّنّية من المخلاف، فحسنوا له الخلاف، فخالف على المفضل، واستولى على الحصن وما فيه من الذخائر، فجاء المفضل، وحصره أشد حصار، فقال بعض الفقهاء: والله لا بت حتى أقتل المفضل، فعمد إلى حظايا المفضل اللواتى يميل إليهن،/ (111) فألبسهن فاخر الحلى والحلل، وأطلعهن أسطح القصور، فضربن بالدفوف والمعازف بحيث يراهن المفضل وجميع عسكره، وكان المفضل أشد الناس غيرة، فمات

_ [1] سورة الأحزاب آية 36. [2] سورة النمل آية 27، 28. [3] سورة النمل الآية 32. [4] فى مراصد الاطلاع 1/265 ضبطه بضم الكاف وقال: قلعة حصينة باليمن فى مخلاف جعفر مطلة على ذى جبلة ليس فى اليمن قلعة أحصن منها. وفى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن) والواسعى (تاريخ اليمن) ضبطت بفتح الكاف.

من ليلته كمدا وقيل: امتص خاتما فأصبح/ ميتا والخاتم فى فمه، فعند ذلك طلعت الحرة من ذى جبلة، فخيمت بالرّبادى، وكاتبت الفقهاء ولا طفتهم، وكتبت لهم خطها بما اقترحوه من أمان وأموال، وتسلمت الحصن فولته أحد مواليها. وقدم على أثر ذلك على بن أحمد [1] المعروف بابن نجيب الدولة رسولا من قبل الخليفة بمصر إلى الحرة، وكان عاقلا حسن التدبير فقام بأمر الحرة، وغزا أهل الأطراف، فاستقر أمره، واشتدت شوكته، واستخدم أربعمائة فارس من همدان وغيرهم من عرب اليمن، فقوى بهم، وغزا ملوك زبيد، ولم تزل أموره مستقيمة حتى بلغ الحرة عنه أنه قال: إنها قد خرفت ولا تصلح لتدبير الملك، فتنكرت له، وأغرت به ملوك اليمن، وكانوا تحت طاعتها كعمران اليامى، وعمرو الجنبى، وكل منهما يسير فى ألف فارس، فحصروه حتى جهد، فلما اشتد به الحصار فرقت الحرة عشرة آلاف دينار مصرية، وأشاعت فى الناس أنها من ابن نجيب الدولة، فطلبت العساكر من ملوكها الأموال والأرزاق، فغالطوهم فارتحلوا، وتفرق الناس، فقيل لابن نجيب الدولة: هذا من تدبير التى قلت إنها قد خرفت، فركب إليها إلى ذى جبلة، فاعتذر إليها. ثم قدم رسول/ (112) من الديار المصرية، فلم يحتفل به ابن نجيب الدولة، فشق عليه ذلك، والتحق به أعداء ابن نجيب الدولة، فقال لهم: اكتبوا على يدى كتابا «أنه دعاكم إلى البيعة لنزار [2] ، واضربوا سكة نزار، وأنا أوصلها إلى الخليفة الآمر [3] بأحكام الله» ففعلوا ذلك وفعل، فبعث الآمر أميرا، فقبض عليه، وسيره إلى مصر، فأرسلت الحرة إلى مصر رسولا، فشفع فيه، فلما توسطوا البحر غرّقهم الموكّلون بهم بمواطأة ذلك الأمير، وانتقلت الدعوة إلى آل زريع.

_ [1] فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن ص 122) «على بن إبراهيم بن نجيب الدولة» . [2] أبو منصور نزار بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم، أخو المستعلى، وعم الآمر بأحكام الله بن المستعلى، وانظر المصدر السابق ص 146. [3] فى «ك» الحاكم بأمر الله، وهو خطأ من الناسخ، لأن الحاكم مات سنة 411 هـ أما الآمر فهو المعاصر لهذا التاريخ، لأنه قتل سنة 524 وما أثبتناه من «أ» 112 وانظر زامباور (معجم الأنساب 1/145) ..

ذكر أخبار ملوك الدولة الزريعية

ذكر أخبار ملوك الدولة الزّريعيّة قال: ولما جهز ابن نجيب الدولة إلى الديار المصرية انتقلت الدعوة إلى الداعى سبأ بن أبى السعود بن زريع بن العباس بن المكرم بن يام بن أصبى [1] ، من حاشد من همدان، وهو من بيت شرف ورئاسة، وكان لجده العباس سابقة محمودة، وبلاء حسن مع الصليحى فى القيام بالدعوة، ومع المكرم فى نزول زبيد. ولما تغلب بنو معن على عدن وافتتحها المكرم، ونفى بنى معن، ولاها العباس ومسعود ابنى المكرم، فكانا كذلك إلى أن سارا مع المفضل بن أبى البركات إلى زبيد لقتال الحبشة، فقتلا على باب زبيد، فانتقل الأمر بعدن إلى أبى السعود بن زريع،/ (113) وأبى الغارات بن مسعود حتى ماتا، فولى الأمر بعدهما الداعى سبأ بن أبى السعود، ومحمد بن أبى الغارات، فلما مات محمد ولى ما كان إليه من الأمر أخوه على بن أبى الغارات، وبيد الداعى سبأ مع عدن تبالة [2] ، وله فى الجبال حصن الدّملوة، والسّانة، ومطر، وغيدان، وذبحان [3] وبعض المعافر وبعض الجند، ثم وقع بينه وبين ابن عمه خلاف وقتال أجلت الحرب عن هزيمة أبى الغارات واستقلال الداعى سبأ بالأمر بمفرده، وصفت له البلاد، ودخل عدن، وأقام بها سبعة أشهر، ومات فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، فولى الأمر بعده ولده على الأعز، ووصل القاضى الرشيد أحمد بن الزبير من مصر بتقليده الدعوة، فوافاه قد مات فى سنة أربع وثلاثين، فقلدها أخاه. محمد بن سبأ، ولقبه المعظّم المتوّج المكين وكان الداعى محمد هذا ممدّحا [يقصده الشعراء، فيجزل لهم العطاء، وكان جوادا كريما، وتوسع فى الملك، وغلب على أكثر البلاد [4]] ، وتوفيت الحرة السيدة بذى جبلة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وانتقل ما كان بيدها

_ [1] فى «ك» (أصنى) بالنون، وما أثبتناه من «أ» ص 112 لموافقته ما أورده ابن المجاور (صفة بلاد اليمن ص 121) وعبارته: أن نسبهم من همدان ثم من جشم بن يام بن أصبى. [2] تبالة: يضرب بها المثل فى الخصب وانظر: مراصد الاطلاع 1/251 وتاج العروس مادة (ت ب ل) . [3] فى أ، ك ديحان- تصحيف- والمثبت عن معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 248. [4] ما بين القوسين زيادة عن «أ» ص 113.

السلطان حاتم بن أحمد بن عمران اليامى

من الحصون والذخائر إلى المنصور بن المفضل، فابتاع الداعى محمد بن سبأ هذا منه الحصون والبلاد فى سنة ست وأربعين وخمسمائة، مثل مدينة جبلة والتّعكر وحب/ وغيرها من حصون المخلاف وسواه، وطلع/ (114) الداعى المخلاف، فسكن بذى [1] جبلة، وكانت وفاته فى سنة ستين وخمسمائة، ولم يزل الأمر فى ذراريهم إلى أن نفاهم سيف الإسلام بن أيوب. وأما صنعاء فملكها بعد الداعى سبأ بن أحمد الصّليحى رجل من همدان يعرف بحاتم بن الغشم [2] ، وكان ناهضا كافيا، وكان له ولد اسمه محمد لم يشاركه أحد فى شجاعته وجوده، إلا أنه كانت فيه لوثة واختلاط عقل، فكان إذا تزوج امرأة وأحبها قتلها، فتحاماه الناس فلم يزوجه [3] أحد بعد ذلك، فخطب إلى بنى الصليحى أهل قيضان [4] ، فأبوا أن يزوجوه، فألح عليهم فقالوا: «إذا ضمن أبوك زوّجناك» ، فلم يزل بأبيه حتى ضمن، وقال له أبوه: «إن قتلتها قتلتك» فقتلها بعد مدة، ولحق بحصن براش صنعاء، فلم يزل أبوه يخادعه ويلاطفه، حتى التقيا تحت المدرج، فوثب عليه أبوه فقتله، وقطع برأسه ودخل به صنعاء على رمح، وكانت لمحمد بنية فى بيت جدها، وقد سمعت أن جدها خرج ليأتى بأمها، فلم يفجأها إلا رأس أبيها على الرمح، فماتت فجأة، ثم مات حاتم بن الغشم، فانتقل ملك صنعاء ومخاليفها إلى: السلطان حاتم بن أحمد بن عمران اليامى وذلك فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكانت له حروب مع الإمام أحمد ابن سليمان، ومات حاتم بن أحمد فى سنة ست [5] وخمسين وخمسمائة، فولى بعده ابنه حميد الدولة على بن حاتم، فخالفت عليه همدان، وقتلوا أخاه عمران،

_ [1] ذو جبلة: مدينة باليمن تحت جبل صبر، ويقال لها: ذات النهرين (مراصد الاطلاع 1/312 وصفة بلاد اليمن ص 171) . [2] فى «أ» 114 وك «الغشيم» ، ورجحنا المثبت عن المقتطف 71 وتاريخ اليمن 178 «حاتم بن الغشم الهمدانى، وفى بلوغ المرام 29 «حاتم المغنم الهمدانى المغلسى، وسمى الجرافى فى المقتطف هذه الدولة باسم «دولة السلاطين بنى حاتم الهمدانيين» . [3] فى «ك» فلم يزوجوه أحد، وما أثبتنا عبارة «أ» ص 114. [4] فى ياقوت (معجم البلدان 7/197) قيظان: مخلاف باليمن قرب ذى جبلة. [5] فى المقتطف ص 72 أن وفاته كانت سنة خمسين وخمسمائة.

ذكر أخبار سعيد الأحول، واستيلائه على زبيد ثانيا ومن ملك بعده من آل نجاح

ثم استقاموا له،/ (115) وقويت شوكته ونزل اليمن الأسفل لقتال بنى مهدى، فأوقع بهم فى الجبال، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وذلك فى ربيع سنة تسع وستين [وخمسمائة] . ذكر أخبار سعيد الأحول، واستيلائه على زبيد ثانيا ومن ملك بعده من آل نجاح قد ذكرنا أن المكرم هزم سعيدا الأحول، وقتل رجاله واستولى على زبيد، وأعاد إليها خاله أسعد بن شهاب فى سنة ستين وأربعمائة، فلما رجع المكرم بأمه إلى صنعاء وثب سعيد الأحول، فطرد أسعد بن شهاب من زبيد فلحق بابن أخته، واستولى سعيد الأحول على زبيد والأعمال التهامية بها إلى أن تحيلت الحرة السيدة على قتله، فأمرت والى الشعر أن يكاتبه، ويباطنه أنه يسلم إليه جبل الشعر [1] ، ومنه يستولى على الحرة وما بيدها من الأعمال، فطمع فى ذلك فخرج للميعاد، وأمرت الحرة ملوك اليمن الأعلى بحشد عساكرهم وراءهم ونزولهم من الجبال المطلة على زبيد، وأن يطووا المراحل خلف سعيد، فلما صار تحت الشعر أطبقت عليه جيوش العرب وجيوش الحرة، فقتل هو وأكثر من معه، وذلك فى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. وعادت زبيد إلى المكرّم، وأعادت الحرة إليها أسعد بن شهاب، ثم انتزعها منه «جيّاش بن نجاح» أخو سعيد، وذلك أنه كان عند مقتل أخيه ببلاد الهند، وكان قد توجه إليها/ (116) متنكرا فى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، فلما عاد وجد أخاه قد قتل، وخرجت زبيد عنهم، فدخل زبيد متنكرا، ولم يزل يتحيّل ويتلطّف حتى اجتمع له من مواليه وأصحابه خمسة آلاف حربة، وساعده على ظهوره على ابن القم [2] الشاعر، وكان وزيرا لأسعد بن شهاب، فوثب بزبيد، وملكها وأعانه عوام المدينة، وأتى بأسعد بن شهاب أسيرا، فأكرمه وأطلقه، وكان جياش قد أحضر معه جارية من الهند حاملا، فولدت له ابنه

_ [1] جبل الشعر معروف قرب زبيد، واشتهر سكانه بصنع نوع من الثياب تشبه الغزلية فى مصر والألاجة فى الشام والعراق، ضبطه فى بلوغ المرام ص 145 بفتح الشين، وضبطه الواسعى (تاريخ اليمن ص 164) بكسرها. [2] فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن ص 173) ضبطه بضم القاف وفى موضع آخر منه ضبطه بالكسر. وانظر (ص 108 حاشية 2) من هذا الجزء.

فاتكا، وفى ساعة وضعها كان وثوبه بزبيد، ولم يزل جيّاش فى ملك زبيد وتهامة من سنة اثنتين/ وثمانين وأربعمائة إلى سنة ثمان وتسعين، فمات فى ذى الحجة منها، وقيل فى شهر رمضان سنة خمسمائة [1] . قال: والأول أظهر، وخلف من الأولاد الفاتك- ابن الهندية- ومنصورا وابراهيم وعبد الواحد والذخيرة ومعاركا، فولى بعده ابنه الفاتك، وخالف عليه أخوه إبراهيم، وخالف عليه أيضا أخوه عبد الواحد، وجرت بينهم وقائع وحروب، فظفر فاتك بأخيه عبد الواحد، فعفا عنه، وأكرمه، ونزل إبراهيم بن جياش بأسعد بن وائل بن عيسى الوحاظى، فأكرمه إكراما عظيما، وكانت عبيد فاتك بن جياش قد عظم شأنهم، وكثروا واشتدت شوكتهم، ثم مات فاتك فى سنة ثلاث وخمسمائة، وترك ولده المنصور بن فاتك صغيرا، فملكه عبيد أبيه، وحشد إبراهيم بن جياش بعد موت أخيه/ (117) فاتك، فتواقعوا [2] ، وحين خلت زبيد منهم وثب بها عبد الواحد بن جياش فملكها، وحاز دار الإمارة، فأخرج الأستاذون والوصفان مولاهم منصور بن فاتك ودلوه من سور البلد خوفا عليه، ولحق بعبيد أبيه. ولما بلغ إبراهيم بن جياش أن أخاه عبد الواحد قد حصل على زبيد وسبقه [3] إليها، توجّه إلى الحسين بن أبى الحفاظ الحجورى. وأما عبيد فاتك، فإنهم توجهوا بالمنصور ابن مولاهم، ونزلوا بالملك المفضل بن أبى البركات الحميرى صاحب التّعكر، وبالحرة السيدة بنت أحمد الصليحى بذى جبلة، فأكرما مثواهم، والتزم عبيد فاتك للمفضّل بريع البلاد على نصرتهم على «ابن جياش» فأخرجه من زبيد، وملكهم إياها، وهمّ المفضّل أن يغدر بآل فاتك، ويملك البلاد، فبلغه ما كان من أمر الفقهاء، واستيلائهم على حصن التّعكر، ففارق زبيد، وتوجه إليهم، وكان من أمر وفاته ما قدمناه.

_ [1] اقتصر المقتطف ص 63 على التاريخ الأول. وذكر أن جياشا كان من أهل العلم، وأنه وضع تاريخا اسمه المفيد، ويقال له «مفيد جياش» تمييزا له من المفيد الذى وضعه عمارة اليمنى. [2] فى «أ» ص 117 فتواقفوا. [3] فى «أ» ص 117 وسبق.

واستقر الأمر بتهامة للمنصور بن فاتك وعبيد أبيه، فمن أولاد فاتك الأمراء ومن عبيده الوزراء، فأما الأمراء فمنهم [المنصور بن فاتك، ثم فاتك بن المنصور [1]] وهو ابن الحرّة الصالحة الحاجة. ثم مات فاتك بن منصور، فانتقل الأمر إلى ابن عمه، واسمه أيضا الفاتك ابن محمد بن منصور بن فاتك بن جياش فى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وقتله عبيده فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وعنهم زالت الدولة إلى على بن مهدى الخارج باليمن فى شهر رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة، ولم يكن لأولاد فاتك/ (118) بن جيّاش من الأمر شىء سوى النّواميس الظاهرة، من الخطبة لهم، بعد بنى العباس، والسكة، والركوب بالمظلّة فى أيام الموسم، وعقد الآراء فى مجالسهم [2] ، وما عدا ذلك من الأمر والنهى والتدبير وإقامة الحدود، وإجازة الوفود، فلعبيدهم الوزراء، وهم عبيد فاتك بن جياش، وعبيد منصور ابنه. وأول من وزر منهم أنيس الفاتكى، وكان من بطن فى الحبشة يقال لهم الجرليون [3] ، وملوك بنى نجاح من هذا البطن، وكان أنيس هذا جبارا غشوما مهوبا [4] ، وبنى قصورا عظيمة، ولما اشتدت شوكته عزم على قتل مولاه المنصور بن فاتك، وتهيأ للاستقلال بالملك، فبدره [5] ابن مولاه، بأن عمل وليمة واستدعاه، فقطع رأسه واستصفى أمواله. ووزر بعده الشيخ أبو منصور منّ الله الفاتكى، وكان كريما شجاعا، وله وقعات مشهورة فى العرب، ومآثر مذكورة، ولما وزر لمنصور بن فاتك بن جياش فى سنة تسع عشرة وخمسمائة لم يقدم شيئا على قتل منصور ابن مولاه بالسم، وملّك ابنه فاتك بن منصور، وهو طفل صغير، ثم تعرض إلى حريم مولاه، فيقال: إن منصور بن فاتك وأباه فاتك ابن جياش، وغيرهما من آل نجاح، ماتوا عن أكثر من ألف سرّية، ما منهن واحدة سلمت من الوزير «منّ الله» إلا عشرة نساء من حظايا منصور بن فاتك

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، والزيادة من «أ» ص 117. [2] فى «أ» ص 118 «محالهم» . [3] فى مختصر المفيد فى أخبار زبيد ص 97 «السحرتيون» . [4] فى المصدر السابق «غشوما متهورا» . [5] يقال: بدره بالشىء إذا عاجله به.

منهن الحرّة الملكة أم فاتك بن المنصور الملك، وكانت/ (119) من جوارى الوزير أنيس ابتاعها منصور من ورثته، وكانت حبشية مغنية، واسمها علم، فخرجت امرأة صالحة خيّرة كانت تحج بأهل اليمن برا وبحرا فى خفارتها من الأخطار والمكوس، فاعتزلت القصر، وسكنت خارج المدينة، وبنت لها دارا. هذا والملك ولدها. قال: ولما أراد الله تعالى هلاك الوزير «منّ الله» حاول بنت معارك بن جياش وراودها، وكانت موصوفة بجمال، فافتدت [نفسها [1]] منه بأربعين بكرا فذكرت ذلك لعبيد عمها فاتك، وعبيد ابن عمها منصور بن فاتك فهابوه، ولم يقدروا على شىء فقالت/ لهم الحرة أم أبى الجيش- وكانت مولدة ذات جمال-: أنا أكفيكموه، ثم أرسلت إلى الوزير منّ الله. تقول له: «إنك أسأت السّمعة علينا وعليك فيما تقدم، ولو كنت أعلمتنى خدمتك أتمّ خدمة، ولم يعلم بك أحد، ففرح الوزير بذلك، وتواترت الرسائل بينه وبينها، حتى قال: فإنى أزورك فى هذه الليلة إلى دارك متنكرا، فقالت لرسوله: إن الله قد أجلّ قدر الوزير عن ذلك، بل أنا أزوره فى داره، وأتته عند المساء، فغنّته وشرب وطرب، فيقال: إنها مكّنته من نفسها، فوقع عليها، فلما فرغ مسحته بخرقة مسمومة، فتهرّأ ومات [2] من ليلته، فدفنه ولده منصور فى إسطبله، وسوى به الأرض، فلم يعرف له قبر، وكانت وفاته فى ليلة السبت خامس عشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وخمسمائة. ثم وزر بعده لفاتك بن منصور زريق الفاتكى [3] «وكان شجاعا كريما، وكان له من الأموال والأراضى ما لا تحصى قيمته،/ (120) وكان له ثلاثون ولدا إلا أنه لم يكن له نفاذ فى سياسة العسكر، ولا خبرة بإقامة نواميس السلطنة، فاستقال من الوزارة، واستدعى لها الوزير أبا منصور مفلحا الفاتكى،

_ [1] ما بين الحاصرتين زيادة من «مختصر المفيد» ، وقد أورد هذه القصة مفصلة فى صفحتى 100 و 101. [2] يقال: تهرأ اللحم، إذا اشتد نضجه حتى سقط عن العظم. [3] فى ابن خلدون (4/218) أنه كان من موالى أم فاتك المختصين بها.

وهو من بطن من الحبشة يقال لهم «سحرت» ، وكان يكنى بولده منصور، وكان منصور هذا من الأعيان أهل الخبرة والفقه والأدب والصباحة والسماحة والشجاعة والرئاسة الكاملة، وكان مفلح ينبز فى صغره «بالبغل» ، وكان يقال: «مفلح البغل» ولا يغضب من ذلك، وكان عفيفا لم تعلم له صبوة فى صغر ولا كبر، ولما عظم شأنه فى الوزارة ثقل على أهل الدولة، فتحيّل فى إخراجه، فأخرج من الوزارة، وكانت له حروب مع سرور الفاتكى، ثم مات فى سنة سبع [1] وعشرين وخمسمائة. وكان لمنصور ابنه مع العساكر حروب، ثم خذله أصحابه وتفلّلوا [2] عنه، فاستأمن إلى القائد «سرور» ودخل معه إلى زبيد، والوزير يومئذ «إقبال» الفاتكى، فخلع على منصور، وأنزله فى دار أبيه، ثم قبض عليه من الغد، وقتل فى دار الوزير «إقبال» ، فأنكر الملك فاتك ذلك، وهمّ بإقبال، ثم أبقاه على دخن، فتلطف إقبال، حتى سقى مولاه فاتكا السم، فمات فاتك بن منصور فى شعبان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ومنهم القائد «أبو محمد سرور الفاتكى» وجنسه من الحبشة «أمحرة» ، وكانت له مآثر وصدقات وصلات/ (121) يطول الشرح بذكرها. وكان كثير الصلاة والعبادة والخير والبر، فكانت هذه حاله من سنة تسع وعشرين وخمسمائة إلى أن قتل فى مسجده بزبيد فى الركعة الثالثة من صلاة العصر يوم الجمعة الثانى عشر من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، قتله رجل يقال له «محرّم» من أصحاب على بن مهدى، ثم قتل قاتله فى تلك العشية بعد أن قتل جماعة من الناس، ولم تلبث الدولة بعد قتله إلا يسيرا حتى أزالها على بن مهدى، وملك زبيد وأعمالها فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فى آخر يوم من شهر رجب.

_ [1] فى زامباور (معجم الأنساب 1/182) أن وفاته كانت سنة تسع وعشرين وخمسمائة. [2] تفللوا عنه: انهزموا، وتخلوا عنه.

ذكر أخبار دولة على بن مهدى الحميرى وبنيه

ذكر أخبار دولة على بن مهدى الحميرىّ وبنيه وهم من أهل قرية يقال لها العنبرة من سواحل زبيد، وكان أبوه رجلا صالحا سليم القلب، ونشأ ولده علىّ هذا على طريقة أبيه فى العزلة والتمسك بالصلاح، وحج وزار ولقى حاجّ العراق وعلماءها ووعّاظها، وتضلّع فى [1] معارفهم، وعاد إلى اليمن، فاعتزل وأظهر الوعظ، وإطلاق التحذير من صحبة العسكرية، وكان فصيحا صبيحا أخضر اللون طويل القامة مخروط الجسم بين عينيه سجّادة [2] ، حسن الصوت، طيب النغمة، حلو الإيراد، غزير المحفوظات، قائما بالوعظ والتفسير وطريقة الصوفية، وكان يحدّث بشىء من أحواله المستقبلات فيصدق، وكان ذلك من أقوى عدده فى استمالة قلوب العالم، وظهر أمره بساحل زبيد بقرية العنبرة وقرية واسط وقرية القضيب والأهواب/ (122) والمقتفى وساحل الفازة وكان يتنقل بينها. وكانت عبرته لا ترقأ على ممر الأوقات، ولم يزل يعظ الناس فى البوادى من سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فإذا دنا الموسم خرج حاجا على نجيب له إلى سنة ست وثلاثين [وخمسمائة] . ثم أطلقت الحرة أم فاتك ابن منصور له ولأخوته وأصهاره ومن يلوذ بهم خراج أملاكهم، فلم تمض بهم هنيهة حتى أثروا، واتسعت حالهم، فركبوا الخيل. ثم حالفه قوم من أهل الجبال على النصرة، فخرج من تهامة إليهم فى سنة ثمان وثلاثين، فجمع جموعا تبلغ أربعين ألفا، وقصد بهم مدينة الكدراء، فلقيه القائد إسحاق بن مرزوق السحرتى [3] فى قومه، فهزموا أصحابه، وقتلوا خلقا من جموعه، وعفوا عن أكثرهم، وعاد ابن مهدى إلى الجبال، وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين [وخمسمائة] ، ثم كاتب الحرّة بزبيد، وسألها فى ذمّة له ولمن يلوذ به، ويعود إلى وطنه، ففعلت له ذلك على كره من أهل دولتها، ومن فقهاء عصرها، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.

_ [1] فى «أ» ص 121 «من معارفهم» . [2] السجادة: أثر السجود فى الجبهة. [3] فى «أ» ص 122 والمثبت من المفيد ص 218.

وأقام ابن مهدى يستغل أملاكه سنين عدة، وهى مطلقة الخراج، فاجتمع له من ذلك مال، وكان يقول فى وعظه: «أيها الناس، دنا الوقت، أزف الأمر، كأنّكم بما أقول لكم وقد رأيتموه عيانا» ، فما هو إلا أن ماتت الحرة فى سنة خمس وأربعين حتى أصبح فى الجبال فى موضع يقل له الداشر [1] «من بلاد خولان» ثم ارتفع منه إلى حصن يقال له الشرف، وهو لبطن من خولان، يقال لهم خيوان- بإسكان الياء- وسماهم الأنصار وسمى كل/ (123) من صعد معه من تهامة المهاجرين، ثم [ساء ظنّه] [2] /بكل أحد ممن معه خوفا على نفسه، فأقام للأنصار رجلا من خولان يسمى سبأ بن يوسف وكناه «شيخ الإسلام» وللمهاجرين رجلا يسمى التّويتى لقبه أيضا شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على الطائفتين، ولا يخاطبه ولا يصل إليه أحد سواهما، وربما احتجب فلا يرونه وهم يتصرفون فى الغزو، فلم يزل يغادى الغارات ويراوحها على تهامة حتى أخرب الحزوز المصاقبة [3] للجبال، والحبشة يومئذ تبعث الأبدال فى المراكز، فلا يغنون شيئا، فلم يزل ذلك دأبه مع أهل زبيد إلى أن أخلى جميع أهل البوادى، وقطع الحرث، ومنع القوافل، وكان يأمر أصحابه أن يسوقوا الأنعام والقوافل، وما عجز عن السير عقروه، ففعلوا من ذلك ما أرعب وأرهب، وقضى بخراب الأعمال، ثم توجه إلى الداعى محمد بن سبأ صاحب عدن إلى مدينة ذى جبلة فى سنة تسع وأربعين وخمسمائة، يستنجده على أهل زبيد، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد إلى حصن الشرف، ودبر فى قتل القائد «سرور الفاتكى» فقتل فى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة كما تقدم. وانشغل رؤساء زبيد بالتنافس والتحاسد على رتبة القائد سرور، فكان ذلك مما أعان ابن مهدى، وفارق ابن مهدى حصن الشرف، وهبط إلى الداسر، وبينه وبين زبيد أقل من نصف يوم، فانضمت إليه الرعايا وعرب البلاد، فلما كثر جمعه زحف إلى زبيد فى جموع لا تحصى كثرة وحصر أهل زبيد بها،

_ [1] فى «أ» الداسر، وما أثبتناه من «ك» وانظر مراصد الاطلاع (2/509) ففيه أنها مدينة باليمن على مسيرة ليلة من زبيد، وهى لخولان، وفى معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 230 «انه حصن.. ويسمى اليوم «المصباح» . [2] ما بين الحاصرتين بياض فى «ك» ، وأثبتناه من «أ» ص 123 وهو متفق مع المفيد ص 231. [3] المصاقبة: المجاورة والمتاخمة.

فصبروا، وقاتلوه اثنين وسبعين زحفا يقتل من أصحابه مثل ما يقتل منهم، واشتد بهم الضر والبلاء/ (124) والجوع حتى أكلوا الميتة، فاستنجدوا بالشريف الزيدى ثم الرّسى، أحمد بن سليمان صاحب صعدة، وشرطوا له أن يملكوه عليهم، فقال: «إن قتلتم مولاكم فاتكا حلفت لكم ونصرتكم، فوثب عبيد فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش بن نجاح مولى مرجان، ومرجان مولى أبى عبد الله الحسين بن سلامة، والحسين بن سلامة مولى رشد الزمام، ورشد مولى زياد بن إبراهيم بن أبى الجيش إسحاق بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زياد- فقتلوه فى شهور سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، ثم عجز الشريف عن نصرهم على ابن مهدى، ثم كانت بينهم وبين ابن مهدى حروب، وهم يتحصنون بالمدينة إلى أن فتحها فى يوم الجمعة رابع عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين، وأقام بها على بن مهدى بقية شهر رجب وشعبان ورمضان، ومات فى شوال من السنة، فكانت مدة ملكه أحد وثمانين يوما. ثم انتقل (الملك) بعده إلى ولده «المهدى» ثم إلى ولده «عبد النبى» ، ثم إلى ولده «عبد الله» ، ثم عاد الأمر إلى [عبد النبى] [1] والأمر فى اليمن بأسره إليه ما عدا عدن، فإن أهلها هادنوه عليها بمال فى كل سنة، واجتمع لعبد النبى هذا ملك الجبال والتهايم، وانتقل إليه ملك جميع ملوك اليمن وذخائرها، يقال: إنه حصل فى خزائن ابن مهدى ملك خمس وعشرين دولة من دول أهل اليمن. قال: «وكان ابن مهدى يتمذهب بمذهب أبى حنيفة فى الفروع، ثم أضاف إلى عقيدته التكفير بالمعاصى، والقتل بها/ (125) وقتل من خالف اعتقاده من أهل القبلة، واستباحة الوطء لنسائهم، واسترقاق ذرايهم، وكان اعتقاد أصحابه فيه أن الواحد من آل مهدى إذا قتل جماعة من عسكره ثم قدروا عليه لم يقتلوه دينا وعقيدة، وإذا غضب ابن مهدى على رجل من أكابرهم وأعيانهم حبس المغضوب عليه نفسه فى الشمس، ولم يطعم ولم يشرب ولم يصل إليه ولد ولا زوجة، ولا يقدر أحد أن يشفع فيه حتى يرضى عنه ابتداء من نفسه،

_ [1] فى «ك» بياض، والزيادة من «أ» ص 124 ومثله فى المقتطف ص 73 وبلوغ المرام 17 و 18.

/ (126) ذكر أخبار ملوك الدولة الأيوبية باليمن

ومن طاعتهم له أن كل واحد يحمل ما تغزله زوجته وبناته إلى بيت المال، ويكون ابن مهدى هو الذى يكسوهم [هم] وأهاليهم من عنده، وليس لأحد من العسكرية فرس يملكه ولا يرتبطه، ولا عدة من سلاح ولا غيرها، بل الخيل فى إسطبلاته، والسلاح فى خزائنه، فإذا عنّ له أمر دفع من الخيل والسلاح ما يحتاجون إليه، ومن سيرته قتل من انهزم من عسكره ولا سبيل إلى حياته، وقتل من شرب المسكر، ومن سمع الغناء، ومن زنى، وقتل من تأخر عن صلاة الجماعة، أو عن مجلس وعظه فى يومى الخميس والاثنين، وقتل من تأخر فيهما عن زيارة قبر أبيه، هذه رسومه فى العسكرية [1] . ولم يزل أمره على ذلك حتى اتصل خبره بالسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واتصل به أن عبد النبى يزعم أن دولته تطبق الأرض، وأن ملكه يسير مسير الشمس، فجهز أخاه الملك المعظم فخر الدين [2] فى شهر رجب سنة تسع وستين وخمسمائة، وملك زبيد، وأسر عبد النبى، وقتله على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة الأيوبية. / (126) ذكر أخبار ملوك الدولة الأيّوبية باليمن قد ذكرنا أخبار الدولة الأيوبية بالديار المصرية والشام وبلاد الشرق، فيما تقدم من كتابنا، وأتينا على أخبار ملوكها ملكا ملكا، وأشرنا إلى نبذ يسيرة من أخبار ملوكهم باليمن، ونحن الآن نذكر أخبار ملوكهم ببلاد اليمن بما هو أبسط مما تقدم، لتكون أخبار اليمن سياقة يتلو بعضها بعضا. كان من خبر دولتهم باليمن أن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب لما ملك الديار المصرية، وأزال الدولة العبيدية كان من جملة من اتصل بخدمته عمارة اليمنى الشاعر، فذكر له أخبار اليمن قال:

_ [1] عبارة عمارة فى هذا الموضع هى: «وهذه الرسوم إنما هى على العسكرية، وأما الرعايا فالأمر فيهم ألطف من العسكرية، وقد بلغنى فى هذا الوقت (563 هـ) أن الأمر قد هان عما كان عليه ... » (مختصر المفيد فى أخبار زبيد ص 121) . [2] فخر الدين: «هو الملك المعظم تورانشاه بن أيوب خرج إليها وفى صحبته خمسة من آل رسول كانوا يقيمون فى مصر، وكانوا موصوفين بالشجاعة والقوة وهم: على بن رسول، وبنوه: الحسن وعمر وأبو بكر، وموسى. (الخزرجى: العقود اللؤلؤية 1/28) .

/ (127) [فى [1] سنة تسع وستين وخمسمائة، توجه إلى مكة شرفها الله تعالى، ومنها إلى مدينة زبيد، فلما شاهده أهلها انهزموا عن الأسوار إلى المدينة، فلما انتهى العسكر إلى السور وجده خاليا، فنصب عليه السلاليم، وصعدوا عليها إلى السور، فنال البلد عنوة، وذلك فى يوم الاثنين التاسع من شوال من السنة، وأسر عبد النبى بن على مهدى، فسلمه الملك المعظم إلى الأمير سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فاستخرج منه شيئا كثيرا، وأظهر دفائن كانت له، ودلّتهم الحرّة على ودائع لها كثيرة. ومات عبد النبى فى أسره، وقيل شنقه، وخطب من بعده لأخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف. ثم سار من زبيد إلى ثغر عدن، وصاحبها يومئذ بلال بن جرير [2] المحمدى. نائب آل زريع بها، فخرج إليه وقاتله، فانهزم هو ومن معه، فسبقهم عسكر المعظم إلى الثغر، فدخلوه، وأسر صاحبه، وقصد العسكر نهب البلد، فمنعهم الملك المعظم، وقال: «ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لنملكها ونعمرها» ثم توجه من عدن إلى صنعاء فى أول المحرم سنة سبعين وخمسمائة، فملكها، وبنى بها المبانى، ثم ملك الحصون والمعاقل منها: قلعة تعز، وهى الدّملوة [3] ، ورتب النواب فى بلاد اليمن: فرتب فى زبيد سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، وبثغر عدن عز الدين عثمان الزنجيلى، وفى تعز ياقوت التعزى/ (128) وفى ذى جبلة مظفر الدين قايماز، ورتب فى كل حصن نائبا، ولم يعجب الملك المعظم المقام باليمن، ففارقها وعاد إلى أخيه السلطان الملك الناصر إسماعيل إلى دمشق بعد أن ملكها الملك الناصر، وكان وصوله فى سنة إحدى وسبعين [4]] /. قال: ثم ادعى كل من النواب الملك لنفسه، وضرب سكة باسمه، وكان كل واحد لا يتعامل بسكة الآخر، فأما سيف الدولة [مبارك بن كامل] بن منقذ فإنه

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» ، وقد أثبتناه من «أ» ص 127 و 128. [2] لم يتضح فى «أ» ص 127 وفى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 1/126) «ياسر بن بلال بن حرير المحمدى مولى الداعى محمد بن أبى المسعود بن زريع» . [3] الضبط من مراصد الاطلاع 2/534، ودرج الخزرجى فى (العقود اللؤلؤية) على كتابتها بالهمزة بدلا من الواو. [4] آخر ما سقط من نسخة «ك» .

مرض، وكره المقام باليمن، فعاد إلى الملك الناصر، واستناب أخاه خطاب [1] ابن منقذ بزبيد، وأما مظفر الدين قايماز فإنه ضعف أمره ولم ينقذ بلده. ولما علم الملك الناصر بفساد الحال، وما وقع باليمن، أرسل الأمير المقدم فارس الدين خطلبا فى البحر إلى فخر الدين عثمان الزنجيلى [2] بعدن، فلما وصل إليه قابله بالإجلال والتعظيم، واتفقا على المسير إلى خطاب بن منقذ، وسارا فلقيهما ياقوت التغرى وقايماز، فاصطلحوا ساروا جميعا إلى خطاب [1] ، فلما سمع بذلك خطاب ارتفع إلى حصن قوارير، وأخلى زبيد، ودخل خطلبا زبيد، وملكها فى سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وكان خطاب يغير فى بعض الأوقاف على أطراف زبيد، ثم مرض خطلبا وأشرف على الموت، فراسل خطابا سرا، وقال له: أنت أولى بالأمر من عثمان الزنجيلى [2] ، فدخل خطاب [1] زبيد مختفيا، وبلغ ذلك عثمان، فسار بجيشه إلى زبيد فخذل، ومات خطلبا، واستمر خطاب [1] / (129) بزبيد إلى سنة تسع وسبعين وخمسمائة. ولما اتصل ذلك بالملك الناصر بعث أخاه الملك العزيز أبا الفوارس سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، ومعه ألف فارس وخمسمائة جبلى، فتوجه فى سنة تسع وسبعين [وخمسمائة] ، ودخل مكة معتمرا فى شهر رمضان، وبها صاحبها الشريف فليتة بن مطاعن الهاشمى، فتلقاه الشريف، وخلع عليه الملك العزيز خلعة سنية قيمتها ألف دينار، وتوجه إلى اليمن قبل الحج، فوصل إلى زبيد فى أواخر سنة تسع وسبعين [وخمسمائة] ، فتلقاه خطاب، فخلع عليه الملك العزيز وعلى عسكره، ودخلا جميعا زبيد، فأقام معه أياما، واستأذنه خطاب فى المسير إلى الشام، فأذن له، فأخرج جميع أثقاله وأمواله إلى ظاهر زبيد، فعند ذلك أمر سيف الإسلام بالقبض على خطاب، والاحتياط على أثقاله، وخنق بعد ليال بحصن تعز، وأما ياقوت، فسلم إليه حصن تعز ومعشاره، وأما مظفر الدين قايماز فتغلب على جبلة ومخاليفها، وأرسل إليه من أخذه، وأما عثمان الزنجيلى [2] فعمر سفنا عظيمة وشحن فيها جميع ما يملكه من الصامت [3] والناطق، وتوجه إلى العراق.

_ [1] فى ابن خلكان 1/442، وزامباور 1/165 «حطان» [2] فى ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 1/127) «الزنجبيلى» . [3] الصامت من المال: الذهب والفضة، والناطق: الإبل والغنم (اللسان: ص م ت) .

الملك المعز [2] فتح الدين أبو الفدا إسماعيل

وملك سيف الإسلام اليمن كله وعره وسهله، ودخل أماكن ما دخلها أحد قبله بالسيف، وجرت بينه وبين الإمام عبد الله بن حمزة عدة وقائع على صنعاء، وأقام خمس سنين وصنعاء ليست فى ملكه. وفى سنة خمس وثمانين استولى على حصن كوكبان/ (130) ودان له ملك اليمن بكماله، وأزال ملك بنى حاتم من صنعاء، وسوّر زبيد سورا جديدا، وسوّر [1] صنعاء بعد أن أخرب سورها، ورمى النفط فى دورها، واستمر فى الملك إلى أن مات بالمنصورة بين الجند وجبلة فى شوال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وكان حسن السيرة، إذا تعرض له أحد وهو فى موكبه وقف له، ولا ينصرف من مكانه حتى يكشف ظلامته، وكانت مدة ملكه أربع عشرة سنة، وكان قبل وفاته قد سلطن مملوكه «همام الدين أبو زبا» وأرسله إلى البلاد العليا، ولما مات ملك بعده ولده. الملك المعزّ [2] فتح الدين أبو الفدا إسماعيل وكان الملك المعزّ هذا قبل وفاة والده قد غضب على أبيه وفارقه، وأراد اللحاق بأعمامه بالديار المصرية، فأدركته الرجال على النّجب بوفاة والده، وهو على ساعد حرض [3] فجزّ شعره، ولبس السواد حزنا على أبيه، وعاد، وملك البلاد وقتل جماعة كثيرة من غلمان أبيه، ثم صعد إلى صنعاء فقبض على «همام الدين أبو زبا» ، وقتله، وذلك فى المحرم سنة أربع وتسعين، وعاد إلى اليمن. ثم أقام الإمام المنصور الدعوة فى سنة أربع وتسعين، وانضم إليه جماعة من عسكر سيف الاسلام، فبلغ ذلك المعزّ، فرجع من فوره إلى صنعاء، فوجد الإمام على الحقل [4] ومعه الأمير جكوا [5] فى مائتى فارس، فلما تراءى

_ [1] فى الجرافى (المقتطف ص 75) أنه حين سور صنعاء أدخل فيها الجهة الغربية من السائلة إلى السّبحه، وبنى دارا فى البستان المعروف الآن ببستان السلطان. [2] فى المقتطف ص 76: العزيز وفى الخزرجى (العقود اللؤلؤية 1/29) المعز. [3] حرض بفتحتين: بلد فى أول اليمن من جهة مكة (مراصد الاطلاع 1/392) وانظر بلوغ المرام ص 41. [4] الحقل، ويقال له حقل جهران: مخلاف باليمن، وقيل الحقل من بلاد خولان من نواحى صعدة (مراصد الاطلاع 1/415) . [5] الضبط من: المقتطف ص 117.

الجمعان انحاز أصحاب جكوا إلى المعز، وثبت جكوا، وقاتل إلى أن قتل وانهزم/ (131) الإمام، ودخل المعز صنعاء، وعاد منها إلى زبيد، وبنى المدرسة المعروفة بالميلين، ثم داخلته الخيلاء فى عقله، وادعى الخلافة، وانتمى إلى بنى أمية، وتقلب بالإمام الهادى بنور الله المعزّ لدين الله أمير المؤمنين، فكتب إليه أعمامه ينكرون هذه الدعوى، ثم أخاف مماليك أبيه، فهرب منهم سنقر الأتابك فى طائفة كبيرة من المماليك، وبقى أكثر من معه من الأكراد. ولما تفاحش أمره بدعوى الخلافة قتله الأكراد على باب زبيد فى سنة ثمان وتسعين، ونهب الأكراد زبيد نهبا شنيعا، وكانت ولايته ست سنين. ولما مات أرجع الأتابك سنقر حصون حجّة، فوصل إلى تهامة، فتلقاه الأكراد والعساكر، وجعلوه أتابكا/ للملك الناصر أيوب بن سيف الإسلام، وهو يومئذ صغير، وقيل: إن الأكراد لم يمكنوا الأتابك من زبيد، وكان للأتابك عدن، ومخلاف جعفر، ومخلاف تعز، وصنعاء وأعمالها، ونائبه فيها وفى حرب الإمام المنصور علم الدين ورد سار [1] ، ونزل الأتابك إلى تهامة، فقتل الأكراد قتلا ذريعا بقرية الزّربية [2] ، وهزمهم إلى زبيد، ودخلها الأتابك، وأمر بغلق مدرسة المعز، وأخرج الفقهاء الشافعية منها، وأخرج وقفها، وبنى مدرسة كبيرة بزبيد تعرف الآن بمدرسة ابن دحمان [3] وبنى بالدملوة قناطر ومبانى، واستقامت أحوال الأتابك إلى سنة ثمان وستمائة، فمات/ (132) بحصن تعز، والأتابك هو والد بنت جورا [4] .

_ [1] هكذا فى «أ» ص 131 و «ك» ، وفى بلوغ المرام ص 42 وفى ص 400 «وردشار» وفى تاريخ اليمن ص 182 «وردسال» وفى المقتطف ص 117 «وردسان» . [2] فى مراصد الاطلاع 2/662 وتاج العروس (1/287) الزرائب- بلفظ الجمع- وفسرها فيهما بأنها بليدة فى أول اليمن من ناحية زبيد، وفى معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 290 «الزريبة: قرية من ناحية زبيد» . [3] فى تاج العروس (8/287) أن اسمها الدحمانية، واشتهرت باسم العاصمية نسبة إلى نجم الدين عمر بن عاصم الكنانى، لأنه أول من درس فيها. [4] درج الخزرجى فى: العقود اللؤلؤية على تسميتها باسم «بنت حوزه» بالحاء المهملة وبالزاى مكان الراء.

سليمان بن شاهانشاه بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب [1]

واستقل الملك الناصر أيوب بالأمر، ووزر له غازى بن جبريل، وطلع إلى صنعاء فى جيوش عظيمة، فلما استقر بها سمّه أستاذ داره غازى بن جبريل فى المحرم سنة إحدى عشرة وستمائة، واستقل بالملك، وخطب له، وضربت السكة باسمه، فلما صار بالسّحول وثب عليه مماليك الملك الناصر فقتلوه، ورجع الإمام المنصور إلى صنعاء بعد أن كان الملك الناصر أخرجه منها. ثم وصل سليمان بن موسى الحمزى إلى ذمار بعسكر جرّار، فمر على طريق بنى حبيش، فغزا لحجا، فأخذها، وأقام بالرّعارع أياما، وعاد فافتقر أهل اليمن إلى سلطان فوجدوا: سليمان بن شاهانشاه بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب [1] وكان قد تجرّد وخرج فى زى الصوفية، فوصل إلى اليمن، وأهله على هذه الحال، فملكوه عليهم، وأطلعوه حصن تعز، وذلك فى أواخر سنة إحدى عشرة وستمائة، وتزوج بأم الملك الناصر، وكانت أموره ضعيفة. ذكر ملك الملك المسعود صلاح الدين أتسر وهو أقسيس بن السلطان الملك الكامل بن السلطان الملك العادل [أبو بكر [2]] بن أيوب. كان من خبر ملكه اليمن أنه لما اتصل خبر اليمن بالسلطان/ (133) الملك الكامل ناصر الدين محمد، وكان ينوب عن والده السلطان الملك العادل بالديار المصرية، جهز ابنه الملك المسعود المذكور إلى اليمن فى سنة إحدى عشرة وستمائة، فرحل من بركة الجبّ ظاهر القاهرة فى يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان، ومعه ألف فارس، ومن الجاندارية والرماة خمسمائة، فتوجه إلى مكة شرفها الله تعالى، وحج، ثم توجه إلى اليمن، فكان دخوله إلى زبيد فى مستهل المحرم سنة اثنتى عشرة وستمائة، فملكها من غير قتال، وندب قطعة

_ [1] فى الخزرجى (العقود 1/30) سليمان بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المعروف بالصوفى. [2] زيادة من الخزرجى (العقود 1/30) وانظر مرآة الزمان (8/569 و 658) .

من العسكر لحصار تعز، وكان سليمان قد تحصن بها، ففتح الحصن فى ثالث صفر من السنة، وقبض على سليمان واعتقله، ثم جهزه إلى الديار المصرية هو وزوجته، وتزوج الملك المسعود بنت جوزا وشغف بها، وكانت صنعاء فى يد الإمام المنصور، فخرج منها فى شهر ربيع، ودخلها الأتابك فليت بطائفة من العسكر المسعودى فى مستهل جمادى الأولى، ونزل الإمام بموضع يسمى الليطة، وقامت الفتنة بينهما، وكانت بينهم وبين عز الدين محمد- ولد الإمام- وقائع كثيرة. ثم مات الإمام بكوكبان فى المحرم سنة أربع عشرة وستمائة، فدفن ثم نقل إلى مشهده بظفار، وتوفى الأتابك فليت بعده بصنعاء فى شهر ربيع الأول من السنة. ثم وقع الصلح بين الملك مسعود وبين عز الدين بن الإمام على تسليم كوكبان، فسلمه، ولحق عز الدين ببلاده، وتسلم الملك مسعود حصن براش [1] صنعاء فى جمادى الآخرة، وعاد إلى اليمن فى شهر رجب،/ (134) وعاد إلى صنعاء فى شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة، وعاد إلى اليمن فى شهر ربيع الآخر، ثم عاد إلى صنعاء مرة ثالثة فى شهر رمضان من السنة، وعاد عنها، ورجع إليها مرة رابعة فى شهر رجب سنة سبع عشرة، فحط على حصن بكر، وهو بيد عماد الدين يحيى بن حمزة، وبه من أولاد الإمام وأمهات أولاده طائفة، فأقام عليه تسعة أشهر، وأنفق أموالا جليلة، فجمع عز الدين جموعا كثيرة، وقصد تهامة، فخالف عليه علم الدين سليمان بن موسى الحمزوى [2] ، ووصل إلى محطة بكر، فتلقاه الملك المسعود وأكرمه، وأعطاه العطايا الجليلة، وجهز معه جيشا لحرب عز الدين، فكانت بينهما حروب عظيمة، وتسلم الملك المسعود حصن بكر فى شهر ربيع الأول سنة ثمانى عشرة وستمائة، وسار إلى مكة لقتال الشريف حسن بن قتادة، فدخلها بالسيف فى شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة، وعاد إلى اليمن، ثم فارق تعز فى شهر رمضان سنة عشرين وستمائة، وتوجه إلى الديار المصرية [لخدمة والده السلطان [3] الملك] الكامل،

_ [1] فى «ك» براس- بالسين- وما أثبتناه من «أ» ص 133 وفى مراصد الاطلاع (1/174) براش: حصن على جبل نقم مطل على مدينة صنعاء. [2] كذا فى الأصل، وقياسى الحمزى. [3] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 134 وعبارة «ك» فى هذا الموضع «لخلافة والده الكامل» .

ذكر أخبار الدولة الرسولية ببلاد اليمن

واستناب باليمن الأمير نور الدين عمر بن على بن رسول، وهو أتابك عسكره، ووصل إلى/ الديار المصرية فى سنة إحدى وعشرين وستمائة كما ذكرنا، ولما فارق اليمن أقام مرغم [1] الصوفى فتنة فى الحقل وبلاد زبيد، فسار إليه عسكر من جهة الأمير نور الدين النائب، عليه راشد بن مظفر بن الهرش، فهزمهم مرغم، وقتل راشد، وذلك فى سنة/ (135) اثنتين وعشرين، وكانت وقعة [عصر [2]] بين الأمير بدر الدين حسن بن على بن رسول، وهو مقطع صنعاء وأعمالها، وبين عز الدين بن الإمام بعد العصر فى يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وعشرين. ثم عاد الملك المسعود من الديار المصرية فى سنة أربع وعشرين وستمائة، وقبض على بدر الدين حسن بن على بن رسول وإخوته فى سنة ست وعشرين، وسيّرهم مقيّدين إلى مصر، ثم توجه إلى الديار المصرية فى سنة ست وعشرين، واستناب نور الدين عمر بن على بن رسول، فمات الملك بمكة شرفها الله تعالى فى ثالث [3] عشر جمادى الأولى من السنة، كما ذكرنا فى أخبار والده الملك الكامل. ثم كانت الدولة الرسولية. ذكر أخبار الدولة الرسولية ببلاد اليمن أول من ملك منهم الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول [4] بن هارون بن أبى الفتح بن نوحى [5] من ولد جبلة بن الأيهم كما زعموا، وذلك أنه كان ينوب عن الملك المسعود، كما ذكرنا، فلما مات بمكة استولى على زبيد والأعمال التّهامية فى سنة ست وعشرين وستمائة، وتلقب بالملك المنصور،

_ [1] فى الخزرجى (العقود 1/33 و 34) يزعم، وذكر من خبره أنه قام فى الحقل وبلاد زبيد، وجبل مسلم المسمى سحمّر، فدعا لنفسه، وأخبرهم أنه داع لإمام حق فانضاف إليه من الناس جم غفير. [2] ما بين الحاصرتين زيادة من الخزرجى (العقود 1/34) . [3] فى العقود اللؤلؤية (1/42) روايات كثيرة فى تاريخ وفاة المسعود، وأقربها إلى رواية المؤلف هو يوم الاثنين 14 من جمادى الآخرة سنة 626. [4] فى (طرفة الأصحاب فى معرفة الأنساب) 24 «على بن الرسول» والرسول اسمه محمد بن هارون. [5] فى المرجع السابق ص 88 لم يرد اسم نوح أو نوحى فى سلسلة نسبه، وفى بلوغ المرام ص 44 « ... بن نوح بن رستم» .

وتزوج زوجة الملك المسعود، وهى بنت جوزا، وأقام بزبيد حتى قرر قواعدها، وسار منها إلى حصن تعزّ/ (136) وتسلم التّعكر فى سنة سبع وعشرين، ثم استولى فى السنة على الأعمال الصنعانية. فأقطعها ابن أخيه الأمير أسد الدين محمد بن بدر الدين، وتسلم حصنى بيت عز وحبّ فى سنة ثمان وعشرين وستمائة. وفيها طلع إلى صنعاء، وحصل الصلح بينه وبين الأمير شمس الدين بن الإمام، وعمه عماد الدين يحيى بن حمزة، وعقدوا صلحا عاما بينهم، وطلع المنصور صنعاء مرة أخرى فى سنة تسع وعشرين، وتسلم حصنى بكر وكوكبان، وحصن براش [1] ، واستولى على بلد علوان [بن عبد الله بن سعيد [2]] الجحدرى وحصونه فى سنة ثلاثين، وتسلم حصون حجّة والمخلافة، ومخلافيهما فى سنة أربع وثلاثين، وهى من حصون الإمام، ثم أعادهما عليه، وتم الصلح بينهما، ثم طلع المنصور مرة ثالثة إلى صنعاء فى سنة سبع وثلاثين، وتسلم حصن الكميم، وأتاه وهو بصنعاء خبر مقتل نجم الدين بن أبى زكرى [3] بحضرموت، وتسلم جبل حفاش، وهو من معاقل اليمن المشهورة فى سنة إحدى وأربعين، واستولى على جبال العوادر وحصونهم فى سنة خمس وأربعين، وكانت بينه وبين الإمام أحمد بن الحسين القاسمى الحسنى [4] فى سنة ست وأربعين حروب وعاد إلى صنعاء فى شهر رمضان سنة ست وأربعين، ورجع منها فى شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين، فلما استقر بمستقر ملكه، ونزل قصر الجند، وثبت عليه جماعة من مماليكه فقتلوه وذلك فى/ (137) سنة سبع وأربعين وستمائة باتفاق من أسد الدين محمد، وفخر الدين أبى بكر ولدى أخيه بدر الدين حسن، وكان سبب ذلك أن أسد الدين استشعر من عمه [أنه يقصد أخذ صنعاء [5]] منه، ويقطعها لابنه الملك المظفر يوسف، فكره ذلك، وباطن مماليك عمه ووعدهم، وحسّن لهم قتله، فقتلوه، وكان ملكا حازما كريما سريع النهضة حسن السياسة.

_ [1] ضبطه فى تاج العروس (مادة ب ر ش) بفتح الباء، وعبارته براش (كسحاب) وبريش (كزبير) حصنان من حصون صنعاء اليمن. وفى ياقوت (معجم البلدان 2/98) بكسر الباء، قال وهو حصن على جبل نقم مطل على صنعاء. [2] الزيادة من الخزرجى (العقود 1/73، 94) وانظر فهرس أعلام العقود اللؤلؤية. [3] فى المصدر السابق (1/64) نجم الدين أحمد بن أبى زكرى. [4] كان الزيدية قد أقاموه فى «ثلا» إماما عليهم فى شهر صفر من السنة (العقود اللؤلؤية 1/75) . [5] ما بين الحاصرتين من «أ» ص 137، وفى «ك» «استشعر عمه أن يأخذ صنعاء منه» .

المظفر أبو المنصور شمس الدين يوسف

ومن جملة سياسته ودهائه أنه لما ملك اليمن، جهّز الملك الكامل إليه أسد الدين جفريل وصحبته ألفى فارس، فلما اتصل به ذلك كتب أجوبة عن كتب الأمراء الذين كانوا مع الأسد جفريل، وتحيّل فى وصولها إلى الأسد جفريل، فلما ظفر بها وقرأها ظن أنها حقيقة، وأن العسكر قد فسدت نياتهم، فرجع بالعسكر قبل وصوله إلى مكة، والتحق بالمنصور من العسكر الكاملى من أمراء الطبلخاناه ابن برطاس وفيروز [1] . وملك بعد المنصور ولده الملك: المظفّر أبو المنصور شمس الدين يوسف وهو الثانى من ملوكهم، وذلك أنه لما قتل والده كان الملك المظفر بإقطاعه بالمهجم، وكانت المماليك المنصورية لما قتلوا الملك المنصور بالجند أقاموا الأمير فخر الدين أبا بكر بن بدر الدين حسن بن على، ولقبوه بالملك المعظم، وساروا به نحو تهامة، وكانت الشمسية ابنة الملك المنصور بزبيد/ (138) وزمام دارها/ الطواشى تاج الدين بدر الصغير فى السجن، فحين بلغها قتل والدها أخرجت الخادم، واستولت على المدينة، وحفظتها، فجاء فخر الدين والمماليك، فوجد المدينة قد حفظت، فنزل على باب المجرى. أما الملك المظفر فإنه لما بلغه قتل والده سار من المهجم بمن معه، وكان كلما مر بقوم من العرب استصحبهم معه، فارسهم وراجلهم، حتى نزل بالأقواز، فراسل مماليك والده ووعدهم، وكان من جملة رسالته لهم: «لا تجمعوا علينا بين قتل أبينا وخروج الملك [2] منا» فأجابوه، ودخلوا على فخر المعظم وهو فى خيمته، فكتفوه بطنب من أطناب الخيمة، وساروا بأجمعهم إلى ابن مولاهم الملك المظفر يوسف، فقبض على فخر الدين، ودخل زبيد فى موكب عظيم، واستولى عليها وعلى الأعمال التهامية، ثم سار فى سنة ثمان وأربعين إلى عدن فاستولى عليها وعلى لحج وأبين فى صفر من السنة، وطلع الجبال، فاستولى

_ [1] مبارز الدين على بن الحسين بن برطاس، وفيروز من ذريته الأمراء بنو فيروز أصحاب «إب» وانظر الخزرجى (العقود 1/68 و 69) . [2] فى الخزرجى (العقود 1/91) «وإخراج الملك من أيدينا» .

على بلد المعافر وحصونها فى الشهر أيضا، وحطّ على تعز، وبه الخدام [1] والأمير علم الدين سنجر الشعبى فى ربيع الأول، وتسلّمه فى جمادى الأولى، وتسلّم حصن حبّ [2] ، وطلع صنعاء فى ذى الحجة آخر السنة. وكان الأمير شمس الدين بن الإمام اتفق هو والإمام أحمد بن الحسين وقصدا أسد الدين بصنعاء فأخرجاه منها إلى حصن براش، وقابلته عساكر الأشراف بالمدرج، فكانت هناك وقائع مشهورة، فلما قرب السلطان من صنعاء، خرج منها/ (139) الإمام إلى سناع، وترك الحسن بن وهاس الحمزى [رتبه فى صفوة [3]] فقصده الأمير أسد الدين بعساكر المظفر فأسره وطائفة من أصحابه، وعاد الملك المظفر إلى اليمن فاستولى على حصن التّعكر سنة تسع [وأربعين وستمائة [4]] ووصل الأمير بدر الدين حسن بن على بن رسول من الديار المصرية فى سلخ المحرم سنة تسع، فلقيه إلى حيس، وقبض عليه، وحمله إلى حصن تعز، فأودعه دار الأدب، وبها ولده فخر الدين. ثم اتفق الأمير أسد الدين هو والإمام أحمد بن الحسين فى سنة خمسين، ودخل أسد الدين فى طاعته، وباع عليه حصن براش صنعاء [بمائتى [5]] ألف درهم، وسيره بعساكره وعساكر من قبله عليهم الشريف هبة الله [6] بن الفضل العلوى إلى ذمار، واستولى الطواشى المظفّرى على حصن الدّملوة وهو بيد بنت جوزا، وكانت فيه هى وولداها الفائز والمفضّل، وخدامها، ومعها أربعمائة فارس، وكان الملك المظفر قد هادنها، ورهن ولده الأشرف عندها، ومعه مولاه الخادم ياقوت، وكان خادما حازما، فغافل أهل الحصن، ثم أمر من قال لها:

_ [1] عبارة الخزرجى فى هذا الموضع: «وكان أمير الحصن يومئذ علم الدين الشعبى، والزمام أستاذ دار يقال له عنبر» (العقود 1/94) . [2] الضبط من ابن المجاور (صفة بلاد اليمن 1/73) وفى الخزرجى (العقود 1/95) أنه تسلمه فى رجب 648. [3] لم يتضح فى «أ» و «ك» وما بين الحاصرتين من الخزرجى (العقود 1/97) وعبارته فى هذا الموضع قريبة من عبارة النويرى هنا. [4] الزيادة من المصدر السابق، وكان ذلك فى أول المحرم من السنة. [5] فى «الأصل» (بثمانين) وما بين الحاصرتين من «أ» ص 139 لموافقته للخزرجى (1/100) . [6] هكذا فى «الأصل» ، وفى «أ» 139 هبة بن الفضل، وفى الخزرجى (1/100) عز الدين هبة بن الفضل العلوى.

«إن البقرة الفلانية ولدت عجلا برأسين بالجوة» ، فنزلت لتنظر إلى ذلك، فتسلم الحصن فى تاسع عشر ذى القعدة سنة خمسين، وأوقد النار بأعلاه، وكانت هذه إشارة بينه وبين مولاه الملك المظفر، فركب المظفر من فوره وطلع إلى الحصن، وسير الطواشى تاج الدين بدر إلى ذمار، ففر عنها أسد الدين وهبة بن الفضل، ثم عاد أسد الدين إلى طاعة/ (140) السلطان، فأكرمه السلطان، وأمده بالعساكر، فعاد إلى صنعاء، فخرج منها الإمام، وطلع الملك المظفر إلى صنعاء، ثم عاد فى شهر رجب سنة إحدى وخمسين وستمائة، واختلف الأمير شمس الدين الإمام وأصحابه، فاستنصروا بالمظفر، وأمر أسد الدين بمساعدتهم، فخرج إليهم إلى البيون [1] ، وتسلم المظفر حصن براقش والزاهر [2] ، وسار شمس الدين وأسد الدين إلى صعدة إلى الإمام، فخرج منها وترك بها السيد الحسن بن وهاش، فدخلا عليه قهرا بالسيف فأسراه وعاد أسد الدين إلى صنعاء وشمس الدين إلى الظاهر، ثم اجتمعا وقصدا الإمام بالظرف من بلد ابن شاور، فالتقوا بحلملم [3] فانكسر الإمام، وقتل من عسكره طائفة، وأسر شمس الدين أحمد بن يحيى بن حمزة، وكان بعسكره مع الإمام، وذلك فى شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين. وجهز المظفّر مبارز الدين بن برطاس إلى مكة فى شوال من السنة، فجرت الوقعة المشهورة بينه وبين الشريف ابن أبى نمى، وإدريس بن قتادة، فكانت الدائرة عليه، فانهزم، وقتل بعض عسكره، وأخذ ما كان معه. قال: «ولما ضعف الأمير شمس الدين بن الإمام عن مناوأة الإمام أحمد بن الحسين قصد الملك المظفر بزبيد، فأكرمه المظفر، وأعطاه أموالا جزيلة، وأقطعه مدينة القحمة [4] ، وذلك فى شوال سنة اثنتين وخمسين، فعاد/ (141) وسكن بصنعاء.

_ [1] هكذا فى «أ» و «ك» ، وفى الخزرجى «النوب» وانظر: معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 667. [2] فى «ك» الراهن، وفى «أ» 140 «الزاهر» وفى الخزرجى (1/107) «فاستولوا على براقش ثم ساروا جميعا فحطوا على الزهراء فأخذوه وأخربون» وقد أورد الخزرجى فى مواضع كثيرة اسم الزاهر من بين حصون اليمن. [3] فى «أ» و «ك» ، حلكم. ولم أجده فى البلدان، والمثبت من: بهجة الزمن ص 149 تحقيق عبد الله الحبشى، وحلملم: قريتان من عزلة الأشمور. [4] القحمة: بلد قرب زبيد، وهى قصبة وادى ذؤال بينها وبين زبيد يوم واحد من ناحية مكة.

ثم اختلف الزيدية على الإمام، وطعنوا عليه فى شىء من سيرته، وكان بينهم اختلاف وحروب، قتل فيها الإمام أحمد بن الحسين، ووقع الخلاف بين الملك المظفر وبين عمه أسد الدين، فأخرجه من صنعاء، فتوجه إلى ظفار. ولما قتل الإمام أحمد بن الحسين طلع شمس الدين على بن يحيى، فحط على الكميم بعسكره المظفر، فتسلم المظفر حصن أشيح فى ذى الحجة سنة ست وخمسين، وتسلم الكميم وهداد [1] فى سنة سبع، وطلع نحو رداع، فأخذ براش العرش [2] /بالسيف، وأسر منه ولد أسد الدين فى جماعة كثيرة، وقصد الملك المظفر صنعاء ودخلها فى المحرم سنة ثمان وخمسين، وقد خرج منها أسد الدين، فأقام المظفر بصنعاء أياما، ورتب بها جيشا، وعاد إلى اليمن، فجمع أسد الدين جيشا، وكانت له حروب مع عسكر صنعاء، فجهز الملك المظفر الأمير علم الدين سنجر الشعبى إلى صنعاء، فارتحل أسد الدين، ولحق ببلاد الأشراف، ولم تقم له بعد ذلك راية، ثم حصل له ضرر شديد، حتى باع ثيابه، فاضطر إلى مكاتبة المظفر وكتب إليه: «فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركنى ولما أمزّق [3] » ثم سار إلى زبيد فى شوال سنة ثمان وخمسين، فقبض عليه وعلى شمس الدين بن على بن يحيى وأرسلهما إلى تعز، واجتمع أسد الدين بها بابنه وأخيه فى حبس المظفر، وكان أسد الدين فى حبسه إلى أن/ (142 مات فى ثالث عشر ذى الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة. وفى سنة تسع وخمسين فى رجب تسلم الملك المظفر حصن براش صنعاء من الشريف أحمد بن محمد وعوضه عنه بالمصنعة [4] وعزّان ببلاد حمير، وبمال أعطاه إياه، ثم استعادهما فى سنة أربع وستين، وعوّضه حصن اللحام [5] ومال.

_ [1] الضبط من تاج العروس مادة (هـ د د) والكميم: «لم أجده فى البلدان، وفى تاج العروس كمم- كصرد- موضع. [2] لم ترد هذه الإضافة فى الخزرجى (1/127) والذى فيه أنه طلع إلى مخلاف ذمار فأخذ براش قهرا. [3] البيت للممزق العبدى، وبه لقّب. [4] فى «أ» ص 142 و «ك» عوان، والذى أثبتناه من الخزرجى (1/133) وعبارته «ثم تسلم براش فى رجب من الشريف أحمد بن محمد العلوى وعوضه عنه المصنعة وعزان من بلاد حمير» . وفى ياقوت: بيت عزان، من حصون اليمن. [5] فى «أ» و «ك» (بالحدم) وما أثبتناه من الخزرجى حيث ورد ذكره فى هذا الخبر.

وفى شوال سنة تسع وخمسين طلع الأمير علم الدين سنجر الشّعبى إلى صنعاء مقطعا لهما، وفيها فى شوال أيضا توجه الملك المظفر لقصد الحج، فحج، وعاد فى صفر سنة ستين. وفى سنة إحدى وستين وستمائة تسلم المظفر حصن الجاهلى [1] وحجّه وسراة من الشريف أحمد بن قاسم القاسمى بمال. وفى سنة اثنين وستين تسلم حصن مدع من بنى وهيب، وعوضهم حصن بيت أنعم ودراهم اشترطوها، وفيها دخلت عساكره صعدة. وفى سنة ثلاث وستين قبض على محمد بن [2] الوشّاح الشهابى، وقبض على حصون بيت برام وصوايب، وفيها فى شعبان تسلم حصن ذى مرمر [3] وبعده الفص الكبير، وفى جمادى الآخرة سنة أربع وستين تسلم الشعبى حصن ونعان [4] وهو للأمير شجاع الدين يحيى بن الحسن. وفيها تسلم المظفر حصن الفصّ الصغير، وفيها تسلم حصن بيت ردم وحصن اللحام بالابتياع من الأشراف أولاد سليمان بن موسى. وفيها توجه بكتمر الغلاب [5] بعسكر المظفر لعمارة الزاهر فى/ (143) الجوف فقصده الأشراف الحمزيون، فقتلوه فى بعض عسكره، وانحاز من سلم إلى براش. وفيها تسلم الملك المظفر حصن مبين بحجّة وتسلم الموقّر وحصونه والمخلافة من الشريف أحمد بن قاسم القاسمى، وأعطاه مالا جزيلا. وفى المحرم سنة ست وستين تسلم حصن العرايس وبلادها من علوان الجحدرى.

_ [1] لم يورد الخزرجى فى هذا الخبر ذكرا لغير حصن الجاهلى، وذكر أن المظفر اشتراه من الشريف أحمد بن قاسم القاسمى فى ربيع الأول من السنة. [2] فى «أ» ص 142 و «ك» (الوساج) وفى الخزرجى (1/146) الوشاح- بشين مشددة وحاء مكان الجيم. [3] يرد فى الخزرجى، ومراصد الاطلاع 2/587 «ذمرمر» بدون ياء بعد الذال. [4] فى «أ» 142 (دبغان) وفى «ك» (ونعان) ولم أجدها فى البلدان، وفى الخزرجى (العقود 1/153) أن الذى تسلمه الشعبى فى هذا التاريخ هو حصن «ردمان» وفى بهجة الزمن ص 154 (تحقيق عبد الله الحبشى) : ذيفان. [5] فى: بهجة الزمن ص 154 «القلّاب» بالقاف.

وفى سنة سبع وستين تسلم حصن براش صعدة من عز الدين [محمد] [1] ابن شمس الدين، وكان فى سجنه، ففدى نفسه به. وفيها كان بين جيوش المظفّر وبين الأشراف اختلاف وحروب استمرت إلى سنة اثنتين وسبعين، ثم صالحهم واستقر كل منهم ببلده. وفى سنة ثلاث وسبعين وستمائة كان باليمن قحط شديد، ومات خلق كثير، وأكل من عاش الميتة. وفى سنة أربع وسبعين توجه الأمير علم سنجر الشعبى إلى مخلاف ذمار لقبض الحقوق، وترك الأسدية بصنعاء مع ابن الغلاب، ومعه منهم رجل، فوقع بينه وبين مملوكه المعروف بالداوى خصومة على شراب، فقتله الداوى، فلما بلغ ذلك الأسدية استولوا على صنعاء، وقبضوا ما وجدوه للشعبى، وذلك فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، وكاتبوا الأشراف بالوصول إليهم، فوصل إليهم الشريف على بن عبد الله يوم السبت التاسع والعشرين بسبعة آلاف رجل، فسكن القصر، وجاء الإمام والأمير صارم الدين داود [2] ، وعز الدين، وسار الأشراف فى خامس جمادى الأولى، فأقاموا بصنعاء إلى نصف الشهر،/ (144) وخرجوا متوجهين نحو ذمار لقصد الشعبى، وظنوا أن الملك المظفر لا يبادر بالحضور، فلما وصلوا جهران أتاهم الخبر بطلوعه، فهموا بالرجوع واستقبحوه، فانحازوا إلى أفق، وسار إليهم المظفر، والتقوا فى يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، فانهزم الأشراف بعد قتال يسير وكان الإمام منحازا فى الحصن، فقبضت عليه العساكر، وأحضر إلى المظفر، فأكرمه وآنسه وأركبه بغلة، وكان يسايره حتى دخل حصن [3] تعز، ودعا الإمام المطهر إلى نفسه. ثم كانت بين الأشراف وبين الأمير علم الدين الشعبى حروب، وانتصر عليهم فيها، فصالحوه على تسليم الحصون الحضورية، وتسليم ردمان، وعلى خروج من فيها من الأشراف.

_ [1] الزيادة من الخزرجى (1/170) . [2] أورد الخزرجى هذا الخبر مفصلا فى العقود اللؤلؤية (1/190 وما بعدها) . [3] فى الخزرجى (1/190 وما بعدها) أن السلطان بعد أن أدخله حصن تعز أودعه فيه دار الأدب، وأمر بإكرامه فلم يزل بها إلى أن توفى.

ذكر استيلاء المظفر على ظفار وحضرموت ومدينة شبام

ذكر استيلاء المظفر على ظفار وحضرموت ومدينة شبام كان سبب ذلك أن شوانى [1] [سالم [2]] بن إدريس الحبوظى أغارت على ثغر عدن، فعظم ذلك على المظفر، ونزل إلى ثغر عدن، وجهز الجيوش فى البر والبحر، وسارت ثلاث قطع: قطعة فى البحر، وهم معظم الرّجّالة ومعهم الأزواد، وقطعة/ فيها أربعمائة فارس مع شمس الدين أزدمر المظفرى استاذ الدار وطريقهم على الساحل معارضين لسفنهم، والقطعة الثالثة فيها الشيخان عبد الله بن عمرو [3] الجند، وشهوان بن منصور العبيدى وهم مائتا فارس من فرسان العرب/ (145) وطريقهم حضرموت، فالتقت العساكر الثلاثة قريبا من ظفار، وقصدوا سالما، فلما قاربوا المدينة خرج إليهم سالم، وصفّ لهم، والتقوا، فأجلت المعركة عن قتله فى جماعة كثيرة من عسكره، وذلك فى يوم السبت السابع والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين [وستمائة] ، ودخلت أعلام المظفر المدينة فى الثامن والعشرين، ودخل شمس الدين أزدمر والعساكر فى سلخ الشهر، وخطب للمظفر بها، ورتب بها أزدمر سنقر البرنجلى [4] ، والخادم ألتوزيرى [4] ، وعاد إلى اليمن، وتسلم حضرموت ومدينة شبام، واستعاد المظفر حصن كوكبان من الحواليّين بحصن ردمان، ومال يسير، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة تسع [5] وستين [وستمائة] . وفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة فى الثامن عشر من شهر ربيع الآخر سقط القصر بصنعاء على مقطعها الأمير علم الدين سنجر الشعبى، فمات ومات معه تحت الهدم الأمير على بن حاتم وصهره محمد بن الجحافى [6] وجماعة من مماليكه وكتّابه، وأقطع الملك المظفر صنعاء لولده الملك الواثق

_ [1] الشوانى: جمع الشونة وهى المركب المعد للجهاد فى البحر، قال فى (تاج العروس مادة (ش ون) وهى لغة مصرية. [2] زيادة من «أ» ص 144 والخزرجى (1/207) . [3] فى الخزرجى (1/209) بدر الدين عبد الله بن عمرو بن الجنيد، وفى ص 210: «.. بن الجند» ولم يرد فى هذا الخبر ذكر لشهوان بن منصور العبيدى المذكور هنا. [4] فى المصدر السابق (1/213) «سيف الدين سنقر الترنجلى» و «حسام الدين لؤلؤ التوريزى» والتوريزى نسبة إلى توريز- تبريز. [5] كذا فى «أ» و «ك» ، وصوابه سنة تسع وسبعين كما فى الخزرجى 1/218. [6] فى ك تقرأ الحمامى، وفى أص 145 الححامى من غير نقط، وفى الخزرجى 1/228 وكان فيمن سقط عليهم القصر صهره محمد بن يزيد، والمثبت من: بهجة الزمن ص 162 (تحقيق الحبشى) .

نور الدين إبراهيم، فطلع إليها، ودخلها فى الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وتسلم حصن براش صنعاء، وقبض على الأمير سيف الدين بلبان الدوادار العلمى، واستمرت صنعاء فى إقطاع الواثق إلى أن أخرجها الملك المظفر عنه لولده الملك الأشرف فى سنة ست وثمانين وستمائة، ثم أقطعها هى وأعمالها لولده الملك/ (146) المؤيد هزبر الدين داود فى سنة سبع وثمانين فدخلها فى رابع عشر ذى القعدة. وفى صفر سنة تسع وثمانين توفى الأمير صارم الدين داود بن الإمام، وكانت له فيما تقدم حروب وخلاف وطاعة للملك المظفر يطول بذكرها الشرح، وقام مقامه بعده ابن أخيه الأمير همام الدين سليمان بن القاسم، وملك حصون ظفار، فقبض تلمّص [1] صعدة. وكان سبب استيلائه على ذلك أن الملك المظفر نزل إلى زبيد ليختن أولاد أولاده، ونزل بسبب ذلك الملك المؤيد، والشريف على بن عبد الله، والأمير نجم الدين موسى بن أحمد بن الإمام، فخلت تلك النواحى منهم، فاستولى على ذلك، وكان بسبب ذلك حرب بين المؤيد والأشراف، انتصر فيها المؤيد، واستولى على تنعم [2] فى سنة تسعين وستمائة، وأخربها وعاد إلى صنعاء وأقطع الملك المظفر ولده الملك الواثق ظفار الحبوظى [3] ، فركب البحر من عدن فى سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وفى السنة المذكورة خالف الأشراف، واجتمعت كلمتهم على الخلاف، وكان بينهم وبين المؤيد بصنعاء حرب إلى سنة أربع وتسعين، فنزل المؤيد من صنعاء إلى اليمن، وطلع الملك الأشرف إلى صنعاء للصلح، ودخل إليه الشريف على بن عبد الله، وانعقد الصلح العام، وذلك أول المحرم من السنة، ثم نزل الملك الأشرف من صنعاء إلى اليمن، فقلده والده الملك المظفّر المملكة بإقليم اليمن جميعه، وأسكنه حصن تعز، وأقام هو بثعبات [4] ، وتوجه

_ [1] فى ك تلمض، وفى أص 146 نلمص غير منقوط والضبط من (مراصد الاطلاع) 1/273. [2] تنعم: قرية من أعمال صنعاء (مراصد الاطلاع 1/277) . [3] نسبة إلى آل الحبوظى وظفار هذه واقعة بين عمان وحضرموت وميناؤها على البحر مرباط، ويوردها الخزرجى فى العقود اللؤلؤية باسم ظفار الحبوضى، وانظر المقتطف ص 11 و 78. [4] فى الأصل غير منقوط، وكذلك فى «أ» ص 146 والضبط والنقط من الخزرجى 1/275.

ذكر وفاة الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وملك ولده الأشرف

الملك المؤيد/ (147) إلى جهة المشرق- الشّحر وحضرموت- وفى نفسه ما فيها من تخصيص الأشرف بالأمر، وسارت معه عمته الشمسية. ذكر وفاة الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وملك ولده الأشرف كانت وفاته آخر نهار الثلاثاء ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع وتسعين وستمائة [1] وهو ابن أربع وسبعين سنة وثمانية أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات تقريبا، ومدة ملكه ستة وأربعون سنة وعشرة أشهر وأحد عشر يوما، وكان ملكا جوادا كريما كثير البذل للأموال فى الحروب خاصة، حسن السياسة، وكان له من الأولاد خمسة، هم: الملك الأشرف ممهّد الدين عمر، والملك المؤيّد هزير الدين داود، والملك الواثق نور الدين إبراهيم، والملك المسعود تاج الدين حسن، والملك المنصور زند الدين أيوب، ولما مات ملك بعده ولده. الملك الأشرف ممهّد الدين عمر ولما اتصل خبر ملكه بأخيه الملك المؤيّد أقبل من الشّحر لطلب الملك، ولما قرب من اليمن وصل إليه كتاب من أخيه الملك المنصور يحذره التقدم إلى جهة اليمن، وعرض عليه حصن السّمدان، وكان بيد المنصور، ولم يقع بينه وبين أخيه الأشرف اتفاق، فمال إلى المؤيد، ثم وصله كتاب الوزير [2] موفق الدين على بن محمد يخبره أن الملك/ (148) الأشرف/ أرسل إليه نفرين من الفداويّة، وأوصاه أن يحترز على نفسه، فعند ذلك جهز حريمه وأثقاله إلى السّمدان، وتوجهه إلى عدن، فاستولى عليها فى مدة ثلاثة عشر يوما، وكان النائب بثغر عدن الأمير سيف الدين بن برطاس. ولما اتصل الخبر بالملك الأشرف جهز ولده الملك الناصر جلال الدين فى ثلاثمائة فارس، وألحقه بجيوش صنعاء منهم الأمير الشريف جمال الدين على

_ [1] أورد الخزرجى (العقود 1/275) خبر وفاة المظفر وعبارته متفقة مع ما أورده النويرى هنا. [2] فى الخزرجى (العقود 1/284) القاضى موفق الدين على بن محمد اليحيوى.

/ (149) ذكر ملك الملك المؤيد هزبر الدين داود

بن عبد الله الحمزى، وولدا أزدمر: نجم الدين وبدر الدين، ومع المؤيد والده المظفّر والظافر، وعسكره الذى وصل معه من الشّحر، وجماعة من الجحافل مقدمهم عمر بن سهل، فالتقوا فيما بين تعز وعدن بمكان يسمى الدّعيس [1] . وذلك فى آخر المحرم سنة خمس وتسعين، فحمل المؤيد على جيش الأشرف، فضعضعه، ثم خذله الجحافل، وتفرقوا عنه، وبقى فى نفر يسير، فتقدم إليه الملك الناصر جلال الدين بن الملك الأشرف، وألان له القول، وأشار عليه فى الدخول فى الطاعة، وحذره عاقبة المخالفة، فمال إلى ذلك، ورجع إلى الطاعة، فأراد الناصر أن يتوجه به إلى والده على حالته، فامتنع الشريف جمال الدين على بن عبد الله [الحمزى [2]] : وقال: أمر هذا الجيش إلىّ وقيد المؤيد، وحمله إلى الملك الأشرف، ووصل إليه وهو بالجوّه، وهو تحت حصن الدّملوة، فنقله إلى الحصن، واعتقله ببعض القاعات، فاستمر فى الاعتقال إلى أن مات الملك الأشرف، وكانت وفاته لسبع خلون [3] من المحرم سنة ست وتسعين وستمائة والله أعلم. / (149) ذكر ملك الملك المؤيّد هزبر الدين داود [وهو] ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول. ملك فى ليلة وفاة أخيه الملك الأشرف لسبع خلون من المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، وذلك أنه لما مات الأشرف كان والده: الملك الناصر [4] بالقحمة، والملك العادل صلاح الدين بصنعاء، فنهضت عمته الشمسية فى أمره، واستمالت الخدّام ومن بالحصن، فامتثلوا أمرها، وحضر الخدام إلى الملك فظن أنهم يقصدون قتله، فأخبروه بوفاة أخيه الملك الأشرف، وأخرجوه من

_ [1] لم أجده فى كتب البلدان وأورده الخزرجى فى: (العقودفى مواضع من الجزء الأول (301 و 304 و 330 و 339) محرفا إلى الدعبس، والدعنس، وصوبه ناشره فى فهرس العقود اللؤلؤية (2/452) الدعيس. [2] الزيادة من الخزرجى 1/289 [3] فى المصدر السابق (1/297) لسبع بقين من المحرم. [4] فى الأصل بالمقحمة، وما هنا من أص 149، وياقوت (معجم البلدان 7/34) .

الدار التى هو معتقل بها إلى دار السلطنة، فلما شاهد أخاه ميتا سكن روعه عند ذلك، وأصبح الحراس، فأعلنوا بالترحّم على الملك الأشرف، والدعاء والصياح للملك المؤيّد، وكانت حاشية الملك المؤيد قد تفرّقوا، فأعلن المنادى من رأس الحصن بجمعهم من تلك الليلة، فاجتمعوا من خادم ومملوك، وغلام، وحملوا فى المكاتل والحبال، فلما وثق بمن اجتمع له من حاشيته وغلمانه أمر بفتح أبواب الحصن، فكان أول من صعد إلى الحصن، الصاحب حسام الدين حسان بن محمد العمرانى، وزير أخيه الملك الأشرف، فاجتمع بالمؤيد، وحلف له الأيمان المؤكدة، واستحلف له الأمراء والجند وأعيان الدولة،/ (150) وأمر بتجهيز الملك الأشرف وأخرج من الحصن فى تابوته، وأمامه ولدا [المؤيد [1]] المظفر والظافر، وأعيان الدولة، ودفن بمدرسته التى أنشأها بمغرية تعز، وأنشأ تاج الدين بن الموصلى فى ذلك اليوم الكتب عن المؤيّد إلى بلاد التّهايم، وبلاد الجبال بأجمعها، وإلى جهة صنعاء والأشراف يعلمهم أمر سلطنة المؤيد، فدخل الناس فى الطاعة، وأتته كتب الأشراف ورسلها بالتهنئة بالملك، وعقد الصلح، وكانوا عقيب موت الأشرف استولوا على عدة حصون [2] وعلى صعدة فوقع الصلح، وأعيدت الحصون. وكان حصن الدّملوة بيد الطواشى «فاخر الأشرفى» قد ولاه إياه الملك الأشرف، ونقل إليه ذخائره التى كانت بالتّعكر، وأربعا من بناته، فراسله الملك المؤيد مرارا، فامتنع فاخر من تسليم الحصن، فجهز إليه المؤيد الأمير شمس الدين الطّنبا «أمير جاندار» بالعسكر، فحاصروه، فلم يتمكنوا منه، وامتنع الخادم من تسليمه إلا أن تصل إليه كتب أولاد مولاه الناصر والعادل، فكتب المؤيد إليهما فى ذلك، فكتبا إلى الخادم وأمراه بالتسليم، فامتنع من قبول الكتب، وقال: لا أقبلها حتى يأتينى ثقتيهما، فثقة الناصر خادمه مسك، وثقة العادل أنيس، فأرسل الملكان خادميهما إليه بالرسالة، فاشترط فاخر أن ينزل بجميع المال الذى طلع به من التّعكر، فأجابه المؤيد إلى ذلك، فنزل ببنات مولاه الأربع، وبما كان عنده، واقتسمه الورثة الأشرفية، ولم يكن فيه نقد غير

_ [1] عبارة الأصل (وأمامه ولداه) وقد آثرنا إظهار المراد بالضمير منعا للبس، وهكذا وردت العبارة فى الخزرجى (العقود 1/299) . [2] أورد الخزرجى (العقود 1/304) أسماء هذه الحصون وهى: الكولة، واللحام، ونعمان.

ذكر وصول أولاد [3] الملك الأشرف إلى عمهما الملك المؤيد، ونزولهما عما بأيديهما

الأقمشة النفيسة،/ (151) وتسلم نواب الملك المؤيد حصن الدملوة فى السنة المذكورة، وزوج [المؤيد [1]] ولديه الظافر والمظفر باثنتين من بنات عمهما الأشرف، واستمر الوزير حسام الدين بالوزارة، وفى خاطر المؤيد منه ومن أخوته ما فيه. ثم استوزر الصاحب موفّق الدين على بن محمد فى جمادى الأولى سنة ست وتسعين [وستمائة] ، وتمكن منه تمكنا عظيما، وكان بين الملك/ المؤيد وبين الفقيه رضى الدين محمد بن أبى بكر بن محمد بن عمر اليحيوى [2] صحبة متأكدة، ومودة قديمة، وكان من الصلحاء العلماء الفضلاء، فكره وزارة أخيه، فلم يجتمع به منذ وزر. ثم قبض الملك المؤيد على جماعة من الأمراء، وهم: نجم الدين وبدر الدين ولدا أزدمر، وابن الهكارى، وقبض بعدهما على الطّنبا أمير جاندر، ونقلهم إلى حصن الدملوة، واعتقلهم بمكان يعرف بدار الأدب. ثم قبض على الوزراء العمرانين: حسام الدين حسان، وأخوته، لأمور بلغته عنهم، وأحضرهم قبل القبض عليهم، وقال لهم: «أنتم قضاة القضاة وبأيديكم أموال الأيتام ودفاترها وحساب الأوقاف» . فقالوا: «لا نعلم شيئا منها» ، فراجعهم مرارا، فأصروا على الإنكار، فأمر بهجم منازلهم، فوجد بها عدة صناديق فارغة، فسئلوا عما كان فيها، فقالوا: أثاث، ولم يقروا بشىء، وأمر بهم إلى عدن، وبنى لهم سجن مفرد على باب دار الولاية/ (152) فحبسوا به، وأمر بقبض أملاكهم لبيت المال. فقبضت، وكانت كثيرة. ذكر وصول أولاد [3] الملك الأشرف إلى عمّهما الملك المؤيّد، ونزولهما عما بأيديهما قال: ووصل الملك الناصر جلال الدين محمد، وكان مقطعا بالقحمة، ثم وصل إليه أخوه الملك العادل صلاح الدين، وكان بصنعاء فأكرمهما، وأحسن إليهما، وعرض عليهما أن يستمرا على إقطاعيهما، فاستعفيا من الخدمة،

_ [1] ما بين الحاصرتين للتوضيح. [2] فى الأصل اليحيوى، وفى أص 151 غير منقوط، وورد فى الخزرجى (العقود اللؤلؤيةفى مواضع كثيرة وفى نقطه اضطراب فمرة يذكره اليحيوى كالرسم المثبت، ومرة التحيوى- بتاء قبل الحاء. [3] كذا فى «ك» و «أ» ص 152 والسياق يقتضى التثنية لا الجمع.

/ (153) ذكر خلاف الملك المسعود تاج الدين [الحسن [5]] ابن الملك المظفر على أخيه الملك المؤيد

وقالا: «لا نحب الخدمة بعد أبينا، ولكنا نكون فى ظلّ أسياف السلطان» وحلفا له على المناصحة، وعدم المنازعة، وحلف لهما على ما أرادا، وتوثقوا بالعهود بواسطة الفقيه رضى الدين، فعند ذلك عقد السلطان الألوية لولديه المظفر والظافر، وأقطع المظفر ضرغام الدين صنعاء، والظافر عيسى الفخرية والحازّتين [1] ، وتوجه المظفّر إلى صنعاء فى شهر رجب سنة ست وتسعين، واستعاد حصن ود من بنى الحارث فى شعبان بالمنجنيق. وتوجه الملك المؤيد إلى زبيد فى جمادى الآخرة من السنة، ففرح به أهلها، ثم رجع إلى تعز فى شعبان، وفى آخر السنة أخذ الحصون الحجّيّة والمخلافية من الأمير الصارم إبراهيم بن يوسف [بن منصور [2]] وكانت فى يده من سنة إحدى وتسعين وستمائة، واشترط الصارم شروطا منها: إقطاع موزع ونصف خيس [3] ، والذمة الأكيدة [والعفو [4]] عما جناه. / (153) ذكر خلاف الملك المسعود تاج الدين [الحسن [5]] ابن الملك المظفر على أخيه الملك المؤيد قال: «ولما ولى الملك المؤيد كان أخوه الملك المسعود مقطعا للأعمال السّرددية [6] من جهة أخيه الملك الأشرف، فتألم أن أفضت السلطنة إلى المؤيد، فلما استقر الصلح بين السلطان والأمير الصارم إبراهيم بن يوسف، وسأل الأمان على تسليم الحصون الحجّية على ما تقدم، سأل أن يكون تسليمها إلى الملك المنصور زند الدين أيوب أخى المؤيد، والقاضى الوزير موفق الدين، وأن يحضر معهما إلى الملك المؤيد، فأمر الملك المؤيد أخاه ووزيره بذلك، فقيل للملك المسعود: إن ذلك أحبولة ومكيدة للقبض عليه، وأخذ المهجم منه،

_ [1] فى «أ» و «ك» غير منقوطة، والنقط والضبط من: (مراصد الاطلاع) 1/371، وهما حازة بنى شهاب: مخلاف باليمن، وحازة بنى موفق: بلد دون زبيد قرب حرض فى أوائل أرض اليمن. وفى: (بهجة الزمن) ص 188 (تحقيق حبشى) القحرية والحازتين. [2] زيادة عن الخزرجى (العقود 1/305) . [3] ضبطه الخزرجى (1/305) بفتح الخاء وسكون الياء، وفى المراصد 1/495 بكسر الخاء. [4] بياض فى «أ» و «ك» ، والزيادة من الخزرجى (1/305) وقد وردت فيه عبارة المصنف هنا بنصها. [5] زيادة عن «أ» ص 153. [6] نسبة إلى سردد- بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه- وهى ولاية قصبتها المهجم (مراصد الاطلاع 2/706) .

وكان طريقهما عليه، فاستوحش من ذلك، وكتب إلى أخيه المؤيد يستعطفه ويترقّق له، ويقول: «إنه خائف، ويسأله أن يكون هو الذى يقبض الحصون الحجّية، وأنه لا فرق بينه وبين أخيه المنصور، فأجابه الملك المؤيد: أن إبراهيم لم يطلب إلا صنونا الملك المنصور، والوزير، ولو طلبك لفعلنا، فاتركهما يمرّان الطريق، ولا يكن لك إليهما سبيل اعتراض، فلم يجب إلى ذلك، فكتب إليه ثانيا ذمّة أنه باق على ما بينه وبينه، وأن ليس القصد فى تجهيز العسكر إلا أخذ الحصون/ (154) الحجّيّة، وإذا كرهت أن أخاك المنصور لا يصل إلى المهجم أمرناه بطريق الحازة، فلا يصل إليك، وكتب إلى المنصور أن يتوجه على طريق الحازة، ففعل ذلك، ولما صار المنصور بالفخرية حسّن أتباع الملك المسعود له الخروج، فخرج وقصد المحالب، وتم إلى حرض [1] ، وأقام الفتنة، وأما المنصور والوزير فطلعا إلى جهة حجّة، وقبضا الحصون الحجّية. وجمع المسعود العربان من كل ناحية، وكان عقيد رأيه والمدبر لجيشه على بن محمد بن إبراهيم [2] ، وكان مقدما بحرض فى الدولة الأشرفية، فلما اتصل خبره بالملك المظفر جهز ولده الملك الظافر عيسى، وكتب إلى المنصور والصاحب [على بن محمد اليحيوى [3]] أن يكون مع ولده، وفوض تدبير الحرب إليهما، فتوجهوا إليه والتقوا فيما بين حرض/ والمحالب، فلم يكن للمسعود بهم طاقة، وتفرق جمعه، وقبض على المسعود وولده أسد الإسلام فى المحرم سنة سبع وتسعين وستمائة، فلما أحضرا إلى الملك المؤيد جعلهما فى «دار الأدب» ، فكانا فيها دون السنة، ثم أطلقهما وأسكنهما حيس [4] ، وقرر لهما ولغلمانهما جامكيّة.

_ [1] حرض- بفتحتين- بلد فى أوائل اليمن من جهة مكة (مراصد الاطلاع 1/392) [2] هكذا فى ك، أص 154 والصواب «المؤيد» كما فى الخزرجى وعبارته «فواجهه العسكر السلطانى المؤيدى صحبة الملك الظافر عيسى بن الملك المؤيد (العقود 1/308) . [3] الزيادة من الخزرجى (1/308) . [4] فى «ك» (حسن) وفى أص 154 «حيس» ، وفى الخزرجى (1/309) خيس وفى ياقوت حيس- بالحاء المهملة- بلد وكورة من نواحى زبيد.

ذكر متجددات كانت فى شهور سنة سبع وتسعين وستمائة

ذكر متجددات كانت فى شهور سنة سبع وتسعين وستمائة فى شهر ربيع الأول منها قتل الأمير علم الدين سليمان بن محمد بن سليمان بن موسى، قتله عبيده بالوادى الحار. وفيها فى جمادى الآخرة/ (155) توجه الملك المظفر من صنعاء إلى خدمة والده الملك المؤيّد متبرئا من الأعمال الصنعانية، ثم عاد إليها فى السنة المذكورة، واستولى على حصن غراس، وأخذه بالسيف، ثم انتقل إلى حصن إرياب [1] فاستولى عليه بعد حرب، وطلع إلى جهة صنعاء مقطعا لها. وفى جمادى الآخرة وقع مطر شديد عظيم لم ير مثله عم القطر اليمانى بكماله، وحصل رعد شديد، وريح باردة، وكان معظم ذلك بتهامة، وأخرجت الريح سفنا- من الأهواب وساحل الشّرجة [2]- بما فيها إلى البر، وكسرت بعضها ببعض، وهدمت حصونا شامخة، واقتلعت أشجارا كبارا بأصولها. وفى يوم الاثنين ثانى عشر من شهر رمضان من السنة توفى الشريف المطهر بن يحيى بن حمزة بحصنه بذروان [3] . وفى شعبان تجهز العسكر المؤيدى إلى جهة حجة، وتقدمه الأمير بدر الدين محمد بن عمر بن ميكائيل أستاذ الدار، والفقيه شرف الدين أحمد بن على بن الجنيد ونزلا على «ابن الصليحى» بمبين، وعلى عمر بن يوسف بظفر، وأخذا منهما الحصنين، ونزلا على الذمة. وفى السنة المذكورة توجه الملك المؤيد إلى البلاد العليا، وذلك عند امتناع الأشراف من الصلح، ودخل صنعاء لخمس مضين من ذى القعدة، وطلع

_ [1] فى أ، ك أرباب، وفى ياقوت (معجم البلدان 1/210) أرباب- بكسر الهمزة وفتحها وياء بعد الراء- وفى مراصد الاطلاع 1/63 أرباب (بباء مكان الياء) وفسره بأنه قرية باليمن من مخلاف قيظان من أعمال ذى جبلة. [2] الشرجة: من أوائل أرض اليمن، وهو أول كورة عثر (ياقوت/ معجم البلدان 5/251) . [3] الضبط من المقتطف 126، وفيه وفى الخزرجى (1/310) أن وفاته كانت بحصنه بذروان حجه.

إلى الظاهر عن طريق حدّة [1] فى رابع عشر ذى الحجة، واستقر فيه بعسكره، ثم سار نحو الميقاع بعساكره، فقاتل عليه وعاد إلى منزلته، وأقام بالعسكر ثمانية عشر يوما، وفى انتهائها دخلت عساكره صعدة/ (156) مع جمال الدين [على [2]] بن بهرام، والأمير أسد الدين محمد بن أحمد بن عز الدين. وفى يوم الخميس أول المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة نهض الملك المؤيد من محطته «وهى منزلة العسكر» ، طالبا للظاهر لقطع الأعناب [2] فوقف بها ثمانية أيام، ثم نهض منها إلى جهران، فأقام بها ثمانية أيام، وحط بالظاهر الأسفل، وسار نحو جبل ظفار، فتأهب الأشراف للحرب، وأخرب ما حوله من الأعناب [3] ونهض فى يوم الاثنين ثالث صفر من محطته بالسّبيع، فبات عند الكولة، ثم سار منها وحط على الميقاع، وهو إذ ذاك بيد الأمير جمال الدين على بن عبد الله، ونصب المجانيق على الحصن، وبه الأمير عماد الدين إدريس ابن على، وتوالى الزحف على الحصن، ثم حصل الاتفاق، وحضر الأمير عماد الدين على إلى خدمة الملك المؤيد، فلما قرب من مخيّمه ركب إليه وتلقاه وانعقد الصلح بينهم، وأخذ لأصحابه الأشراف ذمة سبعة [4] أشهر، ودخلت الأعلام المؤيدية الميقاع، لإظهار الطاعة، وأنعم عليه المؤيد بالطبلخاناة والأموال والكساء والخلع، وأعاد عليه بلاده التى كانت بيده. ثم توجه الملك المؤيد فى يوم السبت أول شهر ربيع الأول قاصدا صنعاء، ولما استقر بها وصل إليه الأمراء الأشراف ومشايخ العربان، وفى جملتهم الأمير أحمد بن على بن موسى لتمام صلح الأشراف، فتم صلح الأشراف على تسليم نعمان واللحام وصعدة، وقسمة بلاد مدع [5] كما كانت فى/ (157) زمن الملك المظفر، ثم توجه إلى تعز وصحبته الأمير جمال الدين على بن عبد الله، والأمير

_ [1] فى بهجة الزمن ص 193 (تحقيق الحبشى) حمدة. [2] زيادة عن الخزرجى (1/311) . [3] هكذا فى ك، وفى «أ» ص 156 غير منقوط، وعبارة الخزرجى فى هذا الموضع «وتأهب الأشراف لقتاله فأحرقت ما حوله من الأعشاب» (العقود 1/311) . [4] فى المصدر السابق (1/315) أن الأمير جمال الدين المذكور سلم السلطان- ثمنا لهذه الذمة- حصن ذيقان. [5] مدع- بضم أوله وفتح ثانيه- من حصون حمير باليمن (مراصد الاطلاع 3/1245) .

أحمد بن على، والأمير ابن وهّاس، وأمراء العرب، ثم توجه إلى زبيد فى جمادى الآخرة، وصحبته الأشراف والأمراء، وطلع من زبيد فى آخر شعبان، فلما كان عيد الفطر ودعه الأمير جمال الدين على السّماط، وتوجه إلى البلاد العليا، والذى حصل له من الإنعام من حين خرج من الميقاع إلى أن عاد إلى بلاده ما يزيد على سبعين ألف دينار «الدينار: أربعة دراهم، والدرهم: عشرة قراريط» . وفى شوال من السنة توجه الملك المؤيد إلى عدن، فأقام إلى ثانى ذى الحجة وعيّد عيد النحر بفور [1] ، وعاد إلى تعز فى آخر ذى الحجة سنة ثمان وتسعين. وفى سنة تسع وتسعين وستمائة توفى الأمير جمال الدين على بن عبد الله المقدّم الذكر، وكان من أكابر الأشراف وأعيانهم، ورؤسائهم وصدورهم، وقد ناف عمره على السبعين، ولما مات أجمع أهله على تقديم ولده الأمير عماد الدين إدريس، وكاتب الملك المؤيد فى ذلك، فكوتب بأن يصل إلى بابه/ فطلب ذمّة، فكتب إليه، وحضر إلى الملك المؤيد فى ذى القعدة، والمؤيد يومئذ بثعبات. فلما كان بعد عيد النحر تقررت الحال على أن يسلّم الحصون التى بيده- وهما الميقاع والعظيمة- فتسلمهما نواب الملك المؤيد فى سنة سبعمائة، وأنعم على الشريف عماد الدين إدريس بعشرة أحمال طبلخاناة، وثمانية عشر ألف درهم، وسنجقا وخلعا وملابس ومماليك وخيول/ (158) وبغال، وركب معه الأمراء، وأعطى القحمة. وفى سنة تسع وتسعين وستمائة حطّ الملك المظفر على أشيح، وأخذ حصن إرياب وغراس بالحقل قهرا، فزينت صنعاء لذلك. وفى سنة سبعمائة توجه الملك الظافر عيسى بن المؤيد مقطعا لصنعاء وأعمالها، فدخل صنعاء فى العشر الأخر من شهر رمضان.

_ [1] هكذا فى الأصل، ومثله فى ص 157 ولم أجده فى رسمه من كتب البلدان ولعله تحريف «قوّر» ففي مراصد الاطلاع 3/1132 قور- بضم أوله وكسر ثانيه مشددا- جبل باليمن من ناحية الدملوة، وفى الخزرجى «أن الملك المؤيد أقام بعدن من آخر شوال إلى سلخ ذى الحجة وعيد عيد النحر بها، فلعل ما هنا تحريف «بعدن» .

وفى رابع عشر شهر رجب من السنة أخذ الأمير صارم الدين داود بن على حصن الجميمة بجبال شظب [1] والأمير على بن أحمد حصن العجرد بشظب بموافقة من فيها. وفى سنة إحدى وسبعمائة خالف الأشراف السلمانيون، وقتلوا المقدم خطلبا، وكان مقيما بالراحة [2] ، فأخذوا من خيله أربعين فرسا، فرسم الملك المؤيد إلى الأمير عماد الدين إدريس بالتوجه إلى الراحة، وأضاف إليه عسكرا من الحلقة، وأمر الأمير شهاب الدين أحمد بن الخرتبرتى [3] شادّ تهامة، وأمر متولى حرض بالمسير، فسار العسكر، بكماله، ودخلوا الراحة، وأحرقت بلاد المفسدين، وتتبعوهم إلى قريب [4] اللؤلؤة، وسألوا الصلح، وأعادوا الخيل التى أخذوها، وتسلم نائب الملك المؤيد- وهو الشريف على بن سليمان- الراحة وبلادها، وعاد العسكر. وفيها أوقع الأمير سيف الدين طغريل- وهو مقطع لحج- بالجحافل والعجالم، وقتل منهم ما ينيف على أربعين رجلا، واتفقت له وقعة أخرى بالدّعبس، فقتل منهم ما ينيف على سبعين.

_ [1] فى أ، ك تقرأ شطنب، ولعله تحريف شطب أو شظب، ففى (مراصد الاطلاع) 2/797 شطب بفتحتين: جبل باليمن به قلعة سميت به، وفى (تاج العروس) ش ظ ب أورده بالظاء وقال: موضع باليمن قرب صنعاء، وفى: (القاموس) شطيب: جبل وفى الخزرجى (1/236 و 266 و 397) ورد شطب وشظب، وانظر معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 356. [2] الراحة: قرية فى أوائل أرض اليمن، قال صاحب (مراصد الاطلاع) (2/592) وهى غير راحة فروع التى فى بلاد خزاعة. [3] فى أالخرتبرتى، وفى ك الحربترتى، وفى الخزرجى (1/330) الحربترى، وعبارته: «وأضاف إليه عسكرا من الحلقة المنصورة ومشد زبيد أحمد بن الحربترى، وخرتبرت: بلد ذكرها ياقوت. [4] فى ك إلى بلاد اللؤلؤة، وما أثبتناه من ألموافقته الخزرجى (1/330) .

/ (159) ذكر ما وقع بين الأشراف من الاختلاف وما وقع بسبب ذلك من الحرب والحصار

/ (159) ذكر ما وقع بين الأشراف من الاختلاف وما وقع بسبب ذلك من الحرب والحصار وفى سنة إحدى وسبعمائة توجه الملك المؤيد إلى البلاد العليا، فأقام بالجند أياما، وبالموسعة أياما، وبصنعاء أياما، ثم خرج منها إلى الظاهر، وطلع من نقيل [1] عجيب، والموجب لطلوعه ما جرى بين الأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى، وبين الشيخ قاسم بن منصور الضّربوه- صاحب [2] ثلا- من التشاجر على البلاد التى بينهما، فأخرب كل منهما على الآخر بعض بلاده، وكان الشيخ ممن يحالف الملك المؤيد، فاجتمع الأشراف إلى ظفار: منهم الأمير همام الدين سليمان بن القاسم، فسألهم تاج الدين القيام معه لمحاربة صاحب ثلا، فذكروا أنه حليف الملك، ولا يمكن حربه إلا بمحاربة السلطان، ورأوا إخراب القنّة، وبعض ثغر ظفار من المصلحة، وأن يرسلوا القاضى أحمد بن محمد الذمارى إلى الملك المؤيد ليتحقق رأيه، فأرسلوه، وعاد كل منهم إلى بلاده. فأما الأمير موسى بن أحمد فإنه لما وصل إلى صعدة قبض بعض بلاد الأمير سليمان بن القاسم، وكتب إلى الأمير شرف الدين شكر بن على يستدعيه إلى صعدة، فوصل إليه فأرسله إلى الملك المؤيد [3] ، وسير معه ابنه الأمير علم الدين موسى، وقبض منه رهينة، فلما وصل إلى صنعاء ترك الرهينة فى حصن ذهبان عند الأمير محمد بن أحمد الحاتمى/ (160) الهمدانى، ثم وصل إلى المؤيد وهو على الحركة إلى البلاد العليا، فأكرمة المؤيد، وأنعم عليه، وسار معه إلى الموسعة، ومن هناك تقدم إلى صوب ابنه. وأما الأمير تاج الدين فإنه تقدم إلى الجهات الغربية، وأوقد نار الحرب فى بلاد الموقّر والعارضة [4] وما يليها من بلاد السلطان، ومال إليه بنو شاور [5] ، وجماعة من قبائل العرب ودخل المؤيد صنعاء، وأقام بها أياما، ثم

_ [1] نقيل: جبل عظيم بين مخلاف جعفر وحقل ذمار وفى رأسه قلعة تسمى سمارة (مراصد 1/298) وفى ياقوت 8/314 نقيل صيد. [2] ثلا- بضم أوله- حصن من حصون اليمن. [3] ذهبان- بفتحتين- قرية بينها وبين حرض يوم من نواحى زبيد (المراصد 2/590) . [4] العارضة، ويقال: العارضة السفلى، من قرى اليمن من الأعمال البعدانية (المراصد 1/908) . [5] هكذا فى ك، أ، ص 160 وفى الخزرجى (1/331) بنو ساور.

سار إلى اليمن، ولقيه الأمير نور الدين موسى بن أحمد، والأمير عبد الله بن وهّاس، وطلع الملك المؤيد القنّة من طريق جبل [1] صبيح، وتسنم سعده القنّة، ونزل فيها بجميع عساكره، وذلك يوم العيد، وأشرف على أخذ ظفار من الجهة التى تلى القاهرة من غربيها، ولم يبق إلا أخذها، وعاد المؤيد إلى القنة، وأقام بها ثمانية أيام، وشرع فى عمارتها، وسماها المنصورة، وحصل للعسكر ضرر شديد، لعدم الماء والطعام والعلف، حتى بيعت القربة بعشرة دراهم، والزبدى الدقيق بعشرة دراهم، فعند ذلك أمر السلطان بضرب مخيمه بورور [2] ، ورتب فى القنة الأمير نجم الدين موسى بن أحمد، ورتب فى تعز وهو الحصن المقدم الذى أخربه الأمير سليمان بن قاسم- الحسام بن مسعود بن طاهر، وأمر بعمارة الموضعين، ونصب فى تعز منجنيقين ترمى إلى ظفار وإلى المدينة فأضرهم المنجنيق غاية الضرر، وعيد الملك المؤيد عيد الأضحى فى محطة ورور. ثم طلع المؤيد إلى تعز ليشاهد العمارة،/ (161) ورمى المنجنيق، فعلم الأمير علم الدين سليمان بن قاسم صاحب ظفار أنه إن دام هذا الأمر أدى إلى خراب [بلاده [3]] ، فأعمل الحيلة، وأخرج بنى أخيه وجماعة من الأشراف إلى خارج درب ظفار ومعهم وزيره على بن دحروج، وصاح بأعلى/ صوته أن الأمير والأشراف قصدهم أن يخدموا السلطان، وسؤالهم أن يشرف عليهم، فأشرف عليهم فخدموا [4] بأجمعهم، وقالوا: نحن غلمان السلطان، وهذه المواضع مواضعه، وأشار ابن دحروج أن معه خطابا يفضى إلى المصلحة، ويسأل أن يرهن به الفقيه شرف الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل الشيخ ابن دحروج، واجتمع بالملك المؤيد بحضور القاضى الوزير موفق الدين، واستقر الأمر أن الأمير سليمان بن قاسم يبيع المؤيد حصن تلمّص بخمسين ألف دينار، ويرهن بذلك ولدى أخيه محمدا وداود، ووزيره على بن محمد بن دحروج، وأن يخرب الملك

_ [1] أرض صبيح باليمامة، وجبال صبيح فى ديار فزارة (المراصد 2/831) والقنة الثانية: القلة، وهى أعلى الجبل أراد الجناس. [2] ورور- بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه- حصن باليمن من جبال صنعاء فى بلاد همدان (مراصد 3/1435) . [3] الزيادة من الخزرجى 1/332. [4] ترد كلمة «يخدم، وخدم» بهذا الاستعمال عند مؤرخى هذه الفترة مرادا بها تأدية التحية اللائقة، وإظهار الولاء والطاعة.

المؤيد تعز المعمورة على ظفار والقنّة، فأشار من حول الملك المؤيد عليه بذلك وقالوا: السلطان يملك صعدة بغير شريك، والرهائن توثقة لمن صدق، فركن إلى ذلك، وقبض الرهائن، ونزل الفقيه شرف الدين أحمد بن علي من ظفار، وأطلع لهم المال المشروط، وأرسل الملك المؤيد الفقيه شرف الدين أحمد بن على (الجنيد) [1] بعسكر لقبض تلمّص، وأرسل الشريف سليمان بن قاسم ثقة [2] منه، وتقدموا إلى جهة صعدة. وتوجه المؤيد من محطة ورور، والرهائن صحبته، وقصد صنعاء فى يوم الجمعة نصف ذى الحجة، فانتهى إلى جربان [3] فى يوم الأحد سابع عشر الشهر، فزحف العسكر فى اليوم الثانى، وقاتلوا قتالا عظيما وبلغ الشفاليت [4] / (162) باب الحصن، ونزل للشفاليت الكسوة، فأخرب أهل الحصن الحمولة وعاد الشفاليت فوجدوها خرابا، وكان قد تجمع إليه خلق كثير من همدان وغيرهم، ونصب الملك المؤيد المنجنيق، وأقام ثمانية أيام على جربان، ثم توجه إلى صنعاء، وتولى الحصار الأمير شمس الدين عباس بن محمد، والأمير عماد الدين إدريس والأمير محمد بن حاتم، ومحمد بن أحمد بن عمرو، ووصل المؤيد إلى صنعاء فى المحرم سنه اثنين وسبعمائة. وأما سليمان بن قاسم صاحب ظفار، فإنه لما نظر إلى المال عنده والخلع، وقد أخربت القنّة وتعز، وارتفعت عساكر السلطان عنها، نوى الغدر، وزهد فى الرهائن، فكتب إلى المقيم بتلمّص أن يسلم تلمّص إلى الشريف أبى سلطان، ففعل ذلك، وكتب سليمان بن قاسم إلى الملك المؤيد: أنة غلب على تلمّص أبو سلطان، وأنه قد صار فى حرزه، وانتقض ما كان تقرر، فأرسل المؤيد شكر بن على إلى صاحب ظفار يطالبه بإعادة المال، وأخذ الرهائن، فغالظ فى الجواب، وبادر بعمارة تعز الذى كان أخربه، وأكد بناءه، وعاد الذين توجهوا ليتسلموا تلمّص، وتهدد السلطان صاحب ظفار أنه إذا لم يعد المال أشهر رهائنه، فلم

_ [1] الزيادة من الخزرجى (1/332) . [2] المراد أنه أرسل رسولا ممن يثق بهم، وعبارة الخزرجى ... وأرسل الشريف سليمان بن قاسم رسولا معهم من أحد ثقاته (العقود 1/332) . [3] هكذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (1/334 و 335) خربان- بخاء. [4] الشفاليت: ويفهم من السياق أن المراد بها الرعاع والدهماء. وفى: (بهجة الزمن) ص 214 (تحقيق الحبشى) حاشية (2) أن الشفاليت: جمع شفلوت: طائفة من العسكر غير النظاميين، واللفظة عامية.

يحتفل بالرهائن، فتقدم المظفر بإشهار [1] ولديه، وولد عمه، ونعاه بالعيب، كعادة العرب فى الغادر بعد الوفاء، ولما نظر الشيخ على بن محمد بن دحروج أن الشهرة لا حقته لا محالة، بذل للملك المؤيد/ (163) الخدمة والنصيحة، ووثقه من نفسه، وأرسله صحبة سيف الدين طغريل- بعد إقطاعه صنعاء، وذلك فى يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعمائة- بالعساكر إلى عمارة المنصورة وهى القنّة، وكان عند الأشراف أن العسكر لا يطلع إليها، ولا يعمرها فطلعها العسكر قهرا، وتسنموا القنة، وعمرت المنصورة، واستمرت العمارة بها، واستمرت المحطة بورور، ولحق الناس قحط شديد، بلغ الزيدى فى ورور أربعة دنانير وأكثر من ذلك، فخلا كثير من أهل [2] البلاد. فلما كان فى أثناء شهر رجب تداعى الناس إلى الصلح على رد المال المسلم فى تلمص، فردوا منه ستة عشر ألف دينار نقدا، وحريرا وحليا باثنى عشر ألف دينار، ورهنوا على ما بقى ولدى الأمير أحمد بن قاسم وحصن [3] المدارة على يد الأمير ابن وهاس إلى عشرة أيام فى شوال والقنة للسلطان. ومالت قبائل المرقان وبنو أسد الصيد، وبنو حسن ومخلاف تلمص وبنو دحروج إلى جنب السلطان، وما كان إليهم من مال وغيره، وأخرجوا حريمهم من ظفار وسكنوا صنعاء، وسلم الأمير تاج الدين الحدّة [4] وخرّب شريب، ورهن ولده مع رهينة الأمير همام الدين سليمان بن القاسم، وانعقد الصلح بين الملك المؤيد وبين أصحاب ظفار وتاج الدين، على أن المؤيد يحارب تلمص، ويعمل فيه ما شاء. وعاد الملك المؤيد إلى اليمن فى الثامن عشر من شعبان سنة اثنتين وسبعمائة ووصل تعز فى غرة/ (164) رمضان منها.

_ [1] الصواب «ولدى أخيه» كما تقدم، وقد صرح بذلك الخزرجى فى (1/338) . [2] فى بهجة الزمن ص 216 (ط. الحبشى) «فخلا كثير من البلاد عن أهلها» . [3] لم يتضح فى أ، ك، وفى الخزرجى (1/339) المدارة. [4] كذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (1/339) الحدود، والصواب الحدة- بالحاء المفتوحة والدال المشددة- وهى- كما فى مراصد الاطلاع 1/386: حصن باليمن من أعمال حب.

وفيها توفى الملك العادل صلاح الدين أبو بكر ابن الملك الأشرف بن الملك المظفّر، ودفن فى أول شهر رمضان فى [1] ضراس. وتوفى الأمير نجم الدين موسى بن شمس الدين بنواحى صعدة. وفيها أمر الملك المؤيد بإنشاء مدرسة بمغربة تعز، ووقفها على طائفة الشافعية، ورتب بها مدرسا ومعيدا وعشرة من الطلبة، ومتصدرا لإقراء القراءات السبعة، ومعلما يقرىء جماعة من الأيتام القرآن، وأماما يصلى بالناس الخمس، ووقف بها خزانة كتب، ونقل إليها كتبا كثيرة من كتب العلوم [2] والتفاسير. / وفى سنة ثلاث وسبعمائة فى العشرين من المحرم توفى الملك الظافر قطب الدين عيسى بن الملك المؤيد بحصن تعز، ودفن بمدرسة أبيه، ورتب والده قراء يقرأون القرآن على قبره، وتألم والده عليه، وأمر بذبح خيله الخواص فذبحت، وتصدّق بلحمها حالة حمله إلى قبره، وعملت له الأعزية فى سائر المملكة. وفيها توفى الأمير أبو سلطان المتولى على تلمّص المتقدمة الذكر، فغلب المرتبون فى الحصن عليه، وباعوه من الأمير على بن موسى بن شمس الدين، فسار نحوه، ونقل إليه الطعام، ووقعت الحرب بين عسكر السلطان والأشراف بسبب ذلك، وذلك فى/ (165) النصف الأخير من شعبان، ثم حصل الصلح، وانعقدت الذمة إلى سلخ ذى الحجة على إخلاء صعدة من الفئتين. وفى سنة أربع وسبعمائة أمر الملك المؤيد بالقبض على الأمير أسد الدين محمد بن أحمد بن عز الدين، وولده، والشريف شكر بن على، وسبب ذلك أنه بلغه مباطنتهم فى صعدة وتلمص. وفى ذى الحجة من السنة فارق الأمير سيف الدين طغريل الخزندار صنعاء وأقطعها السلطان ولده الملك المظفر، وأقطع طغريل الخزندار المذكور

_ [1] ضراس: قرية فى جبال اليمن (مراصد الاطلاع 2/867) ،. [2] فى الخزرجى (1/343) أن هذه المدرسة عرفت باسم المدرسة المؤيدية وأن المؤيد وقف عليها من الأراضى والكروم ما يقوم بكفاية المرتبين عليها» .

ذكر إنشاء القصر المعقلى والمنتخب

الأعمال الأبينيّة [1] ، ونزل إليها فى المحرم سنة خمس وسبعمائة، ثم فارق المظفر صنعاء فى آخر شعبان من هذه السنة، وتوجه إلى أبيه، فأقطعت الأمير سيف الدين طغريل المذكور، وأقطع الأمير عماد الدين إدريس [بن على [2]] الأعمال الأبينية، وفيها تم الصلح بين الملك المؤيد والأشرف، وقبض رهائنهم، ورجع أهل مدينة صعدة إليها وسكنوها. وفى سنة سبع [3] وسبعمائة ملك الملك المؤيد حصن القرانع [4] وهو مزاحم الطويلة بينهما رمية حجر، وحصلت الحرب بين تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة وبين الأمير سيف الدين طغريل مقطع صنعاء. وفيها فى جمادى الأولى خالف ابن أصهب بأصاب [5] وأخذ حصن السانة [6] بها، وهو حصن منيع/ (166) مرتفع، فتوجه الملك المؤيد إليه بعسكر، وحصره به، فراجع ابن أصهب إلى الطاعة، ونزل على الذّمة هو وأولاده وحريمه، واستعاد الحصن ومعه حصونا أخر، ورجع إلى زبيد، وأقيمت التهانى والأفراح بسائر المملكة، ومدحه الشعراء. ذكر إنشاء القصر المعقلى والمنتخب وفى سنة ثمان وسبعمائة فى النصف من صفر من عمارة القصر المسمى بالمعقلى بثعبات، وهو مجلس طوله خمسة وعشرون ذراعا فى عرض عشرين ذراعا بسقفين مذهبين بغير أعمدة بأربع مناظر بأربع رواشن [7] ، وفيه طشتيات [8] من رخام شكل حلزون، وفى صدره شبابيك تفتح على بستان، وكذلك الرواشين وأمامه بركة طولها مائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعا على

_ [1] الأعمال الأبينية: نسبة إلى أبين، وكان يليها قبله ابن بهرام فانفصل عنها بتوليتها سيف الدين طغريل (الخزرجى 1/367) . [2] الزيادة عن الخزرجى (1/367) . [3] فى بهجة الزمن ص 245 (ط. الحبشى) ذكره فى حوادث سنة ست وسبعمائة. [4] أورده الخزرجى (1/369) باسم الفرائع، وذكره فى حوادث سنة ست وسبعمائة، وفى مراصد الاطلاع 3/1075 القرانع- بضم القاف وكسر النون- حصن حصين من حصون صنعاء يقابل المصانع. [5] هكذا فى ك، أ، ولعله تحريف وصاب، أو لغة فيه، وفى المراصد 1/1439 وصاب: جبل يحاذى زبيد باليمن، فيه عدة حصون وبلاد. [6] السانة: من حصون جبل وصاب (مراصد 2/685) . [7] الرواشن: الرفوف جمع روشن (تاج العروس مادة ر ش ن) . [8] فى بهجة الزمن ص 251 (ط. الحبشى) «طشتان.. حلزونيان» .

حافتيها الأوزّ الصّفّر [1] ترمى بالماء من أفواهها، ويقابل المجلس شاذروان [2] بعيد المدى ينصب ماؤه إلى البركة، ولما كمل أمر الملك المؤيد بمجتمع حضره الأمراء والوزراء والفقهاء والأعيان والعامة من أهل البلد، وجلس الملك فى الطبقة الثانية ينظر إلى الناس، وخلع على الأعيان وامتدحه الشعراء. وعند الفراغ من هذا القصر أمر ببناء قصر ثان سمّاه المنتخب، وبستان/ (167) وفى السنة المذكورة توجه الملك المؤيد إلى زبيد فى رابع جمادى الأولى، فأقام بها نصف شهر، وتوجه إلى المهجم، فأقام به إلى تاسع عشر شهر رجب، وسار إلى جهة حجّة، ورجع منها فى تاسع عشر شعبان، ودخل المهجم فى الثالث والعشرين منه، وخرج منه وعيّد بزبيد. وفى السادس عشر من شوال وصل الأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة إلى الملك المؤيد، ولم يطأ بساطه قبل ذلك، وهو من أعيان الأشراف ورؤسائهم، وله حصون منها كحلان والطويلة وعدة حصون غيرهما، فأكرمه المؤيد، وأنعم عليه، وتوجه به إلى صوب البحر [3] ، وركب الملك المؤيد فيلا، وأردف الشريف تاج الدين خلفه، ودخل البحر فلجج الفيل بهما فى الماء، فبادر الفيال بأن ركب فيلة، ودخل البحر، واتبع الفيل وأسرع حتى أدركه، فلما شم الفيل رائحة الفيلة رجع إليها، ورجع الفيال بالفيلة أمامه، واتبعه الفيل إلى البر، وهذا دليل على خفة وطيش، وعدم ثبات وتغرير بالنفس، وكانت سقطة من الملك المؤيد، ثم عاد إلى زبيد، ثم إلى تعز، ودخلها فى السابع والعشرين من ذى القعدة والشريف تاج الدين معه، وفرّجه فى قصور ثعبات. وفى سنة تسع وسبعمائة رسم الملك المؤيد للأمير عماد الدين إدريس أن يتوجه إلى صوب الشرفين [4] لاستفتاحهما بعد أن استخدم له مذحج، وأصحبه جماعة من العسكر فتوجه وطلع من الطهرة/ (168) إلى الشرف الأعلى،

_ [1] الصفر: النحاس، وعبارة الخزرجى (1/277) «.. وعلى حافاتها صفة طيور ووحوش من صفر أصفر ترمى الماء» . [2] الشاذروان: أساس يوثق حول القناطر ونحوها (الألفاظ الفارسية المعربة) وفى: (شفاء الغليل) 135 ما يترك من عرض الأساس فى الجدار خارجا» عربيته إزار. [3] أورد الخزرجى هذا الخبر فى شىء من التفصيل، وذكر أن هذه الحادثة كانت بالأهواب على ساحل زبيد (العقود 1/382) . [4] الشرفان: جبلان دون زبيد باليمن (مراصد الاطلاع 2/791) أحدهما يسمى الشرف الأسفل والآخر يسمى الشرف الأعلى.

ذكر [6] مقتل الأمير سيف الدين طغريل مقطع صنعاء

واستولى على جبل سعد ببلد الجبر، وحصن القاهرة ببلد المحاسبة، وأخذها من أهل الشرفين، وتوجه إلى الشرف الأسفل وحط بقلحاح [1] ، وتسلم فى ذلك اليوم حصن/ القفل وكان يومئذ بيد ابن مقرعة مولى الشريف إبراهيم بن قاسم، ثم توجه إلى جبل الشاهل، فاستولى على حصن أقتاب [2] وحصن الناصرة واستولى على الشرف الأسفل بكماله، ولم يبق إلا حصن المسوكة [3] للأشراف أهل جبل حرام، ومنهم عند الملك المؤيد [محمد [4]] بن على، وأخوه يقصدان بيع الحصن عليه، فأخذه الأمير عماد الدين بمصالحة على ألفى دينار، وكتب إلى المؤيد بذلك فصادف وصول كتابه وقد عقد القاضى الصاحب موفق الدين مجلسا لشراء الحصن من الشريف محمد بخمسة آلاف دينار وكساوى، ولم يبق إلا وقوع المعاقدة، فقرأ الملك المؤيد الكتاب، وأمر بنقض المجلس، ثم تسلم الأمير عماد الدين حصن المفتاح فى سنة عشر، وسلم جميع ذلك إلى غلام الدولة حسن بن الطماح [5] بن ناجى بحكم ما بيده من ولايتها من جهة الملك المؤيد. ذكر [6] مقتل الأمير سيف الدين طغريل مقطع صنعاء وفى سنة تسع وسبعمائة غدر الأكراد بالأمير سيف الدين طغريل الخزندار مقطع صنعاء، وقتلوه فى يوم الاثنين سادس عشر/ (169) شهر ربيع الآخر. وسبب ذلك أنهم توهموا أنه يريد القبض عليهم، وأتاه النذير بذلك في تلك الليلة، فلم يعبأ به، فخرج الأكراد من المدينة، وقصدوا عسكر صنعاء فعقروا خيلهم، وتوجهوا نحو القصر الذى به الأمير المذكور، فاستولوا على اسطبله وحالوا بينه وبين مراكبيه، وسألوه الخروج إليهم على ذمة، فامتنع، فحصروه إلى أن طلعت الشمس، فخرج إليهم على ذمتهم، فقتلوه، وقتل معه

_ [1] قلحاح- بكسر فسكون-: جبل قرب زبيد، به قلعة يقال لها شرف قلحاح (المراصد 3/1117) . [2] فى أ، ك «أقباب» والمثبت من بهجة الزمن (ط. الحبشى) . [3] فى الخزرجى (1/385) المسولة. ولم يذكر ياقوت فى رسمه. وفى بهجة الزمن ص 259 المشوكة. [4] زيادة من الخزرجى (1/385) . [5] فى الأصل «الطماع» والمثبت من الخزرجى (1/393) حسن بن الطماح بن ناجى نائب السلطان. [6] انظر هذا الخبر فى الخزرجى (العقود 1/386) فقد أورده مبسوطا عما ذكره النويرى هنا.

صهره وهو أستاذ داره، وكاتبه، ووالى ذمار، ونقيبه، وأربعة من مماليكه، فوصل عسكر صنعاء إلى الملك المؤيد فعوضهم ما أخذه الأكراد، وجرّد الأمير شجاع الدين عمر بن القاضى العماد أمير جاندارة، والأمير شمس الدين عباس ابن محمد إلى جهة صنعاء من طريق تهامة، فدخلا ذمار، وانحازت الأكراد بجملتها إلى الوادى الحار، فقصدهم العسكر، وقاتلوهم ثلاثة أيام، وقتل من الأكراد ثلاثة نفر، وأخذت خيلهم، ثم تفرقت الأكراد فى كل ناحية، وعاد الأميران إلى ذمار، ثم حصر الأميران الأكراد بمصنعة عبيدة ثلاثة أشهر إلى نصف رمضان، وأنفقت أموال جليلة، فلم تجد المحاصرة شيئا، فتركا الحصار، وسار الأمير عباس بعسكر صنعاء إلى صنعاء، واجتمع الأكراد إلى الإمام ابن المطهر [1] ، وحالف بنى شهاب وأهل الحصون، فقويت شوكته، وقصد حصن ظفار، فأخذه وحط فى حدّة، فقاتل من بصنعاء، ووقعت حرب عظيمة على باب صنعاء ولم يكن فيها إلا/ (170) الأمير شمس الدين عباس فى جمع قليل من عسكرها، فثبت حتى وصلت إليه عساكر السلطان، وابن المطهّر مقيم فى حدّة، وظهره بلاد بنى شهاب، فلما اتصل ذلك بالملك المؤيد بادر بنفسه إلى صنعاء، فدخلها فى يوم الخميس الثالث والعشرين من شوال، ووجه ولده الملك المظفر إلى قاع بيت الناهم [2] فنزل به يوم الاثنين السادس من ذى القعدة، واستولى على بيت [3] خبص، وانهزم ابن المطهر هو ومن معه من الأكراد إلى حاقد [4] ، ثم طلعوا إلى سبأ، وأقام ابن المطهر بجبل رهقة، والأكراد فى البروية، ثم افترقوا فسار الأكراد نحو طوران، وقد باطنوا أصحابه، وسار ابن مطهر نحو ذروان. وفى سنة عشر وسبعمائة تسلم الأمير شمس الدين عباس حصن عزّان، ونقل محطته نحو ظفار فحط بالطّفة [5] ، ونصب المنجنيق على حصن تعز، فرغب الأشراف فى الصلح، فوقع، وعاد الملك المؤيد من صنعاء إلى تعز فى

_ [1] هو الإمام محمد بن المطهر بن يحيى، خلف والده المطهر بن يحيى بن المرتضى بن القاسم وتوفى سنة 728 هـ فى ذى الحجة بحصن ذمرمر، ودفن به (المقتطف 127) . [2] فى الخزرجى (1/388) «إلى قاع بيت الباهم» ومثل المثبت فى بهجة الزمن ص 262 (ط. الحبشى) وقال فى هامشه: وبعضهم يقول الفاهم بالفاء، وهو من حضور. [3] كذا فى أ، ك، وفى (مراصد الاطلاع) 1/431 حنص- بضم الحاء والنون- من نواحى ذمار باليمن. [4] حاقد: من حصون صنعاء من حازة بنى شهاب (مراصد 1/372) . [5] فى الخزرجى (1/393) الطفة: الطفة مشرفة على حصن تعز.

الخامس والعشرين من صفر سنة عشر وسبعمائة، وأقطع صنعاء للأمير أسد الدين محمد بن حسن بن [1] نور، وفى سنة تسع توفى الفقيه رضى الدين أبو بكر بن محمد بن عمر صاحب الملك المؤيد، وأخو وزيره، وكانت وفاته بزبيد، وفيها توفى الأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة. وفى عشر وسبعمائة فى سابع عشر جمادى الآخرة دخل الأكراد فى/ (171) الطاعة، وبذلوها من أنفسهم، ورهنوا رهائن وأعطوا حصن هرّان [2] واستخدم من أراد الخدمة منهم. وفيها أقطع المؤيد الأمير جمال الدين نور بن حسن بن نور الأعمال الصعدية والجوفية [3] والجثّة بتهامة وعوض الإمام عماد الدين عن الجثّة [3] بالقحمة. وفى سنة إحدى عشرة وسبعمائة توفي الملك الواثق نور الدين إبراهيم بن الملك المظفر يوسف بن عمر، وكانت وفاته فى آخر المحرم بظفار الحبوظى. وفى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وفى شهر رجب احترقت دار المرتبة بتعز، واحترق فيها أشياء كثيرة. وفيها فى يوم الأحد سادس ذى القعدة توفى الملك المظفر ولد الملك المؤيد بتعز وأوصى قبل يوم وفاته ألا يصاح عليه، ولا يشق عليه ثوب، ولا يغطى نعشه إلا بثوب قطن، وأن/ يدفن فى مقابر المسلمين، وألا يعقر عليه شىء من خيله، فنفذت وصيته فى جميع ذلك إلا الدفن، فإنه دفن مع أخيه الظافر فى المدرسة المؤيدية، وكان من جملة وصيته أن يعمل له فى تربة المحاريب [4] مدرسة، وأن يجرى لها الماء، ويجرى الماء منها إلى حوض تحتها، ففعل ذلك، ورتب بها جماعة من الطلبة. وفى ثالث ذى الحجة توفى الصاحب القاضى موفق الدين وزير الملك المؤيد المقدم الذكر، وكان مكينا عند السلطان كما تقدم.

_ [1] ورد هذا الاسم فى ك محرفا، فمرة يذكر نوز، ومرة بوز، وفى أص 170 ورد غير منقوط، وقد جارينا الخزرجى فى العقود (1/393 فى رسمه، فقد ذكره «أسد الدين محمد بن حسن بن نور» . [2] هران: من حصون ذمار باليمن (المراصد 3/1455) . [3] فى أ، ك (بالحاء فى الموضعين) وفى الخزرجى (1/394) الجثه- بالجيم- وفى (مراصد الاطلاع) : 1/341 الجث: من قرى اليمن. [4] فى الخزرجى (1/403) المحارب، وفى بهجة الزمن ص 269 (ط. الحبشى) «المخادر» وقال محققه: هى بلدة فى الشمال من اب بمسافة 20 كم.

ذكر وصول الأمير علاء الدين كشتغدى [3] إلى خدمة السلطان الملك المؤيد

وفى السنة المذكورة أمر الملك المؤيد بإنشاء قصر ظاهر/ (172) الشّبارق بزبيد فى البستان الذى أمر بإنشائه هنالك. قال: وصورة بنائه أن وضع به أيوان طوله خمسة وأربعون ذراعا، وفي صدره مقعد عرضه ستة أذرع، وله دهليز متسع، وفوق الدهليز قصر بأربعة [1] أواوين، والجميع [2] جملون، وفيه المبانى الغريبة المشرفة على البستان المذكور من جميع نواحيه. وفى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة توجه الملك المؤيد من تعز إلى الجند، وكان قد رسم للأمير أسد الدين محمد بن نور أن يخرج من ذمار، وينازل حصن هرّان الذى هو بيد الأكراد، وينصب عليه المنجنيق، ففعل ذلك، وقتل الأكراد بعض المماليك وجماعة، فأردفه الملك المؤيد بالأمير شمس الدين عباس فى خمسين فارسا غير عسكره الذين معه، فراسل الأكراد السلطان المذكور، ما سبق لهم من الذمة، فأبقى عليهم لشهامتهم، وأمر بحضور أعيانهم، فحضر الأميران إبراهيم بن شكر، والجلال بن أسد إلى السلطان بالجند، فاستقرت الحال بينهم على أن يسلموا هرّان، وعادوا إلى ذمار على عادتهم، وذلك فى مستهل شهر رجب من السنة، وتوجه الملك المؤيد إلى زبيد، فدخلها فى ثانى عشر شهر رجب. وفى سنة أربع عشرة توفى الأمير عماد الدين إدريس المقدّم ذكره. ذكر وصول الأمير علاء الدين كشتغدى [3] إلى خدمة السلطان الملك المؤيد / (173) وفى سنة خمس عشر وسبعمائة وصل الأمير علاء الدين كشتغدى من الشام إلى خدمة الملك المؤيد باستدعاء من المؤيد، وكان قبل ذلك أستاذ دار الملك المظفّر صاحب حماه، وكان خبيرا باللعب بالجوارح،

_ [1] الأواوين: جمع إيوان، وهو مجلس كبير على هيئة صفة لها سقف محمول من الأمام على عقد، يجلس فيها كبار القوم (المعجم الوسيط 1/31) . [2] الجملون: سقف محدب على هيئة سنام الجمل (المعجم الوسيط 1/137) . [3] فى الخزرجى (1/415) ذكر اسمه بدال مكان التاء هكذا «كشدغدى» وفى النجوم 9/25 رسمه بدال مكان التاء وضبطه بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه وكسر رابعه.

فتقدم عند الملك المؤيد تقدما عظيما، ونادمه فى خلواته، ثم استنابه بعد ذلك، ورد إليه أمور دولته على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها ولى القاضى جمال الدين محمد بن الفقيه رضى الدين أبى بكر- الذى تقدم ذكر والده وعمه- قضاء الأقضية وعمره عشرون سنة، وكان الملك المؤيد يكرمه ويعظمه لحقوق أبيه السالفة، فلما كان فى سنة ست عشرة مرض الملك المؤيد مرضا خيف عليه فيه التلف، وأرجف الناس بموته، فراسل القاضى المذكور الملك الناصر جلال الدين بن الملك الأشرف بالأمور الباطنة، وأشار عليه بنشر الدعوة، وآيسه من عمه، فلما اتصل بذلك المؤيد خرج من تعز إلى الجند، وبه بقية التوعك، فخاف ابن أخيه الناصر من ذلك، ولجأ إلى جبل يقال له السّورق [1] ، وهو جبل حصين، وحوله أناس من العربان، وهو مطل على مدينة الجند، فجهز له المؤيد العساكر، ومقدمها الأمير جمال الدين بن نور، فنزل الناصر بذمّة، وحضر إلى خدمة عمه الملك المؤيد، ووقع الصلح بينهم والاتفاق، ويقال: إنه عرفه ما وصل إليه من كتب القاضى، فعزله عن القضاء، واعتقله بحصن تعز، وفوض القضاء إلى القاضى رضى الدين أبى بكر بن أحمد الأديب الشافعى/ (174) . وفى سنة سبع عشرة وسبعمائة، وصل القاضى الفاضل تاج الدين عبد الباقى بن عبد المجيد من دمشق إلى اليمن إلى خدمة الملك المؤيد باستدعاء منه له، وولاه كتابة إنشائه، وأكرمه وقربه. وفيها دخل عسكر المؤيد فللة [2] وملكوها، وضربت البشائر فى سائر البلاد. وفى سنة ثمان عشرة وسبعمائة وصل صفى الدين عبد الله بن عبد الرازق الواسطى، وهو من جملة الكتاب ببلد حماة، وباشر كتابة بيت المال بطرابلس

_ [1] كذا فى ك، ومثله فى الخزرجى (1/418) وفى «أ» ص 173 «الشورق» بالشين. [2] هكذا فى أ، ك، ولم أجده فى كتب البلدان، وفى معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 497 «أنها بصعدة بالقرب من هجرة قطابر» .

الشام، فلما استقر علاء الدين كشتغدى فى الخدمة المؤيدية نوه بذكره وشكره، وأثنى عليه، وذكر معرفته ونهضته، فاقتضى ذلك طلبه، فطلب طلبا حثيثا وأنفق عليه إلى حين وصوله من الذهب العين ألفى مثقال، ولما وصل فوّض إليه شادّ الاستيفاء، وحظى عند المؤيد وانبسطت يده فى الدواوين، والمذكور زوج ابنة الأمير علاء الدين كشتغدى، وتوجه المذكور فى السنة المذكورة إلى عدن وحمل منها ثلاثمائة ألف دينار، وعاد بها والمؤيد بالجند فأكرمه وعظمه. وفى السنة المذكورة رتب الأمير علاء الدين كشتغدى الجيش اليمنى على قاعدة الجيوش المصرية، وجعل له حاجبا للميمنة، وحاجبا للميسرة، ورتّب خلف السلطان إذا ركب العصايب والجمدارية والطّبرداريّة [1] ، فركب المؤيد بهذا الزى/ (175) . وفى سنة تسع عشر وسبعمائة فوض الملك المؤيد للأمير علاء/ الدين كشتغدى نيابة السلطنة وأتابكية العسكر، وتقدم عنده تقدما لم يسمع بمثله، وقرىء منشوره بأيوان الراحة، وكان يوما مشهودا، ووقع بينه وبين صهره صفى الدين منافسة ظاهرا، وباطنا، ثم كانت وفاة كشتغدى فى سنة عشرين وسبعمائة. وفى سنة عشرين وسبعمائة حصلت مرافعات [2] من الكتاب على صفى الدين، وحاققه الكتّاب بمجلس الملك المؤيد، ونسبوا إليه أنه أخذ جملة من المال، ولم يظهر عليه أثر ذلك، فعزله المؤيد عن شد الاستيفاء، وفوض ذلك إلى الأمير جمال الدين يوسف بن يعقوب بن الجواد. وفيها وصل القاضى محيى الدين يحيى بن القاضى سراج الدين عبد اللطيف التكريتى الكارمى من الديار المصرية على طريق مكة، واجتمع بالملك المؤيد، وقدم له جملة من الزّمرّد واللآلىء، وتقدم عنده تقدما كثيرا، وأحله محل

_ [1] الطبردارية: اسم الواحد منهم طبردار، مركب من لفظين فارسيين هما: طبر- فأس- دار- ممسك. أى حملة الفأس حول السلطان حين ركوبه (صبح الأعشى 5/458) والمراد بالفأس هنا البلطة. [2] مرافعات: شكاوى واتهامات. وفى مفاتيح العلوم ص 62 المرافعة، والمصادرة والمفارقة والمصالحة كلها متقاربة المعانى، وفى اللسان: فارقت فلانا من حسابى على كذا وكذا: إذا قطعت الأمر بينك وبينه على أمر وقع اتفاقكما عليه، وكذلك صادرته.

ذكر وفاة الملك المؤيد هزبر [1] الدين داود

الوزارة، وفوض إليه الوكالة، وصرّفه فى عدن تصرفا عاما تاما مطلقا، وأعطاه من ماله- على حكم المتجر- مائة ألف دينار، وأطلق له من عدن خمسين ألف دينار، وتوجه إلى عدن، وعاد منها فى سنة إحدى وعشرين، وحصل بينه وبين صفى الدين مرافعات [1] بمجلس السلطان، ولم ينتصر أحدهما على الآخر، وركب السلطان ومحيى الدين فى يوم العيد فى موضع الوزارة، وركب بالطرحة على عادة وزراء مصر/ (176) . ذكر وفاة الملك المؤيد هزبر [1] الدين داود كانت وفاته رحمه الله تعالى فى نصف الليلة المسفرة عن يوم الثلاثاء مستهل ذى الحجة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وكان قد هم بالنزول من تعز إلى زبيد على عادته، فنزل قصر الشجرة، وحصل له وجع، فأقام بالقصر عشرة أيام، ومات وغسل بدار العدل أسفل الحصن، ودفن بمدرسته التى أنشأها [بمغربة [2] تعز] وكانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما. وكان ملكا حازما فاضلا محبا للعلوم مقربا لأهلها يستميلهم إليه حيث كانوا، ويرغب فيهم، ويرغبهم فيما عنده، ويكرم من وفد عليه من الديار المصرية وغيرها، وكان محبا لجمع الكتب والتحف، جمع من مصنفات العالم على اختلافها وتباينها ما ينيف على مائة ألف مجلدة، وحملت إليه الكتب والتحف من كل جهة، وكان عنده مع ذلك زيادة على عشرة نساخ ينسخون الكتب، وترفع إلى خزانته بعد مقابلتها وتحريرها، رحمه الله تعالى. وملك بعده ابنه سيف الاسلام.

_ [1] أورد خبر وفاته مفصلا فى العقود اللؤلؤية (1/440) وترجمته فى الدرر الكامنة (2/99- 100) وفى أبى الفدا (4/93) أنه توفى بمرض ذات الجنب. [2] زيادة عن الخزرجى (1/441) .

ذكر ملك الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزبر داود بن الملك المنصور عمر بن على بن رسول وخلعه من الملك/ (177)

ذكر ملك الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزبر داود بن الملك المنصور عمر بن على بن رسول وخلعه من الملك/ (177) ملك بعد وفاة والده رحمه الله تعالى، وعمره يوم ذاك خمس عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما، فإن مولده فى ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ست وسبعمائة. وكان سبب ملكه أنه لما مات والده نزل الأمير جمال الدين يوسف بن يعقوب بن الجواد- وكان الملك المؤيد قد فوض إليه الأستادارية والأتابكية، ونيابة السلطنة- فتوجه إلى الشجرة حفظا للجهات السلطانية، ومعه جماعة من العسكر وأعيان الأمراء، وثبت ثباتا حسنا فى تلك الليلة وحفظ نظام السلطنة، وضرب بركا على الشجرة [1] . وكان الملك المجاهد عصر تلك الليلة قد تقدم إلى الحصن ودخله، فكاتب الأمراء والأعيان، ورغبهم فرغبوا إليه، وصعدوا إلى خدمته، وتم له نظام السلطنة، فلما استقر فى الملك عزل الأمير جمال الدين، وفوض النيابة والأتابكية إلى الأمير شجاع الدين عمر بن يوسف بن منصور، وكان شاد الدواوين، وكتب له منشور وقرىء فى دار الضيف، وفى ذلك اليوم عقد لولدى أخيه المفضل والفائز الألوية، ورفع لهما الطبلخاناة، وقرىء منشور شجاع الدين بحضورهما، فتغيرت قلوب الأمراء والجند من تلك الساعة، وحصل بينه وبين ابن عمه الملك الناصر مراسلة اقتضت أيمانا وعهودا، فأرسل إليه من جهته الطواشى صلاح الدين، والفقيه وجيه الدين عبد الرحمن معلمه، فحلف الناصر اليمن المغلظة. ولما تمكن شجاع الدين من الملك المجاهد، حسن له أشياء منها أن يقبض على/ (178) الناصر، وسعى شجاع الدين فى خلاص المعتقلين بمعقل الدملوة، وكان فيه الأميران نجم الدين وبدر الدين ولدا أزدمر المظفرى، وشمس الدين الطّنبا [2] أمير جندار والشريفان داود وأخوه، ولدا الشريف قاسم بن

_ [1] يريد قصر دار الشجرة الذى مات به الملك المؤيد، وعبارة الخزرجى (1/440) وضرب أركا على الشجرة إلى آخر الليل، وفى: (بهجة الزمن) ص 285 (ط. الحبشى) «يزكا» وقال محققه: اليزك: (الطّلاع من العسكر أو حراس الليل) ، واللفظة فارسية، ومنها «يسك» العامية المستعملة فى صنعاء. [2] هكذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (2/2) «شمس الدين أطينا» أمير خازندار الخليفة.

ذكر ملك الملك المنصور زند [4] الدين أيوب بن الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور عمر بن على بن رسول، وخلعه

حمزة، ونجم الدين أحمد بن أيدمر الخزندار الفارس المظفرى، وكانت لهم مدة طويلة، ومنها أن يغير مماليك أبيه، ويستجد له عسكرا، وكان هو والفقيه عبد الرحمن [1] مدبرى دولته، وفوض قضاء الأقضية للفقيه عبد الرحمن المذكور، فأرسل شجاع الدين جماعة رايتهم/ الشيخ عيسى بن الحريرى [2] ناظر المخلاف، وبدر الدين محمد بن الصليحى، والشيخ أحمد بن عمران رأس مذحج، للقبض على الناصر، فلما علم بذلك لجأ إلى تربة الفقيه عمر بن سعيد بذى عقيب من أعمال جبلة، فأحاطوا به، وأخذوه من التربة، ودخلوا به تعز، ثم نقل إلى عدن. ونزل الملك المجاهد من الحصن فى ثالث المحرم إلى الشجرة، فلبث بها إلى مستهل شهر ربيع الأول، ثم تقدم إلى الجند فلبث بها أياما، ثم توجه إلى الدّملوة، فدخلها وخرج منها، ولم يعط أحدا مما جرت به العادة إلا قليلا ممن يختص به، ومنع الملوك من الدخول إلى المنصورة، فتغيرت قلوب الناس عليه، ولما نزل من الدملوة توجه إلى ثعبات، وعزم على أخذ حصن السمدان من عمه الملك المنصور. فلما علم الأمراء البحرية وأكابر الدولة ما أضمره شجاع الدين لهم، بادر جماعة/ (179) منهم فى النصف الأخير من جمادى الآخرة، فقتلوا شجاع الدين المذكور فى داره بالمحاريب هو وقاضيه الفقيه عبد الرحمن، ثم قبضوا على الملك المجاهد وهو بثعبات، ونهبت تلك الليلة دور كثيرة بالمغربة [3] والمحاريب. ذكر ملك الملك المنصور زند [4] الدين أيوب بن الملك المظفر يوسف بن الملك المنصور عمر بن على بن رسول، وخلعه قال: ولما قبض الأمراء والعسكر على الملك المجاهد بادروا إلى عمه الملك المنصور وملّكوه، وحلفوا له، وصعد إلى الحصن، وبذل الأموال، وأنفق

_ [1] ذكر الخزرجى (2/3) اسمه «عبد الرحمن الظفارى» وكان المجاهد قد جعله فى منصب قاضى القضاة. [2] فى أص 178 حريرى من غير أل. [3] فى الخزرجى (2/3) (المغربة والمجاذيب) والمثبت من بهجة الزمن ص 288 (ط. الحبشى) . [4] لم يذكر الخزرجى هذا اللقب فى اسم الملك المنصور، ويورده دائما «الملك المنصور أيوب» .

ذكر عود الملك المجاهد إلى الملك والقبض على عمه الملك المنصور ووفاته

فى العساكر وصرف فى مدة سلطنته سبعمائة ألف دينار خارجا عن التشاريف، وكاتبه الأشراف، وهنئوه، فبعث إلى كل شريف منهم ما جرت العادة به، وفوض نيابة السلطنة إلى الأمير شجاع الدين عمر بن علاء [1] [الشهابى] فأقام أياما، ثم حصل بينه وبين الأمراء البحرية منافرة أوجبت أن استبدل به الأمير جمال الدين يوسف بن يعقوب [بن [2] الجواد] المقدم ذكره، وفوض إليه أمر بابه بكماله. قال: وفى ليلة جلوس الملك المنصور أرسل إلى الملك الناصر جلال الدين ابن أخيه الملك الأشرف يطالبه، فلما وصل إلى الجند تلقاه بالطبلخاناة، وأقطعه المهجم، وعقد أيضا للأمير بدر الدين حسن بن الأسد الألوية، ورفع له/ (180) الطبلخاناة وأقطعه صعدة وما والاها، وعقد للأمير نجم الدين أحمد بن أزدمر الألوية، ورفع له الطبلخاناة، وأقطعة حرض، وعقد لولديه الملك الكامل تامور الدين، والملك الواثق شمس الدين الألوية، ورفع لهما الطبلخاناة وعين لهما الإقطاعات، وأرسل ولده الملك الظاهر أسد الدين عبد الله إلى حصنى الدملوة والمنصورة، وفى خدمته الشيخ افتخار الدين ياقوت العزيزى [3] فتسلم الحصنين. ذكر عود الملك المجاهد إلى الملك والقبض على عمه الملك المنصور ووفاته وكان الملك المنصور لما ملك أبقى على حاشية أخيه الملك المؤيد، ولم يغير أحدا منهم، وكان منهم من يميل إلى الملك المجاهد ولد مخدومهم، فتقدم بعض غلمان المجاهد إلى بلاد العريبين، واتفق هو وجماعة منهم مقدمهم بشر الذهابى [4] ، وكانوا عاملوا شخصا يقال له صالح ابن القواس [5] على طلوع الحصن من ورائه باتفاق جماعة من عبيد الشراب

_ [1] زيادة من الخزرجى (2/4) . [2] زيادة من الخزرجى (2/4) وفيه أنه كان يلقب بالخصى. [3] فى الخزرجى (2/4) التعزى. [4] فى ك الهمدانى، وفى أالذهابى ومثله فى الخزرجى (2/4) وبهجة الزمن ص 289 (ط. الحبشى) . [5] فى أ، ك تقرأ: «القواس» أو «القواس» وفى الخزرجى (2/5) الفوارس.

خاناة وكانوا مؤيديه، فوصل العرب إلى المكان الذى تقرر طلوعهم منه، وكان بينهم وبين العبيد إشارة، فلما علم العبيد بهم أرسلوا لهم الحبال التى أعدوها للطلوع، فطلع الحصن أربعون رجلا، وباتوا تلك الليلة فى الشراب خاناة، وهى الليلة السادسة من شهر رمضان، فلما نزل الطواشى شهاب الدين/ (181) موفق الخادم بمفاتيح أبواب الحصن خرجوا عليه فضربوه بالسيوف وأخذوا منه المفاتيح، ودخلوا على الملك المنصور، وطلع العرب بظاهر البيوت، ونادوا باسم المجاهد، فترامى العرب المنصورية من الحصن، وقاتل شمس الدين الطّنبا والى الحصن قتالا عظيما، فقتل. ولما علم الناصر بهذه الحادثة ركب فى جماعة من العسكر إلى أسفل الحصن، فلم يتهيأ لهم ما أرادوا، وقام سواد البلد على الناصر، ونادوا بشعار المجاهد، وحمل الناس إلى المجاهد بالحبال، وملك الحصن ثانيا، واستولى على ما فيه، وقبض على عمه المنصور، فلم يزل فى اعتقاله إلى أن مات فى المحرم سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، ودفن بمدرسة أبيه المظفّر. ولما ملك المجاهد ثانيا حلف لمماليك أبيه، وكتب لهم ذرّاعة [1] بالأمان والوفاء، وجمع ملوك بنى رسول كلهم عنده تحت الاحتياط ما خلا ولدى الواثق، فإنه لم يعثر عليهما، واستناب فى السلطنة الأمير جمال الدين نور، وكان شديد الكراهية له، وطلب من عمه الملك المنصور أن يكتب إلى ولده الملك الظاهر بتسليم الدملوة، فكتب إليه كتابا شافيا، فامتنع الظاهر من/ تسليمها، فأرسل إليه عسكرا مقدمه الأمير شجاع الدين عمر بن علاء الدين والشيخ أحمد بن عمران الغياتى [2] ، والشيخ عمران بن أبى بكر المغلسى [3] ، فخامر [4] جماعة من الأشعوب على الظاهر مقدمهم، ومكنوا عسكر المجاهد من طريق يفضى بهم إلى الصلىّ [5] ، وحاصروا/ (182) حصن المنصورة،

_ [1] فى بهجة الزمن ص 289 «ذمامة» . [2] هكذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (2/6) العبابى. [3] هكذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (2/6) الشيخ عمر بن أبى بكر العنسى وورد فى (2/30) « ... وكان طريقه على بلاد المغلسى» وفى بهجة الزمن ص 290 «العيانى» . [4] فى أص 181 «جامر» وما أثبتناه من ك، والخزرجى (2/6) والذى فى اللغة «المخامرة: المقاربة والمخالطة والاستتار» . [5] الضبط من: (مراصد الاطلاع 2/851) وفسره بأنه ناحية قرب زبيد باليمن، وفى بهجة الزمن ص 290 «الصلو» وفى هامشه «انه جبل فى بلاد المعافر» .

وحصل بينهم وبين عسكر الظاهر زحوف كثيرة، ولم ينالوا من الحصن شيئا، فرجعوا وتركوا أكثر أثقالهم وخيامهم، فخرج أصحاب الظاهر من المنصورة، فانتهبوا ذلك. وفى آخر سنة اثنتين وعشرين اختل أمر المخلاف، وخرج عن السلطنة، وثار به مشايخ العربان والقبائل، وملكوا أملاك الملوك، ونهبوا جبلة، وأخذوا جميع ما فيها حتى حصر المسجد الجامع، وخالف بنو فيروز وعسكر الدروب، واتسعت دائرة الخلاف. وفى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة التحق جماعة من الجند إلى الملك الظاهر، وجماعة من عرب ذمار، فأكرمهم، وصاروا يغيرون على أطراف بلاد الملك المجاهد، وسار جماعة من المماليك إليه، ووصل إليه الأمير غياث الدين محمد بن يحيى بن منصور الشبابى [1] ، فأكرمه، وكاتب الأمير بدر الدين حسن بن الأسد والى ذمار، فأجابه، وكان فى جملة المماليك البحرية جماعة يكاتبون الظاهر، ويميلون إليه، منهم،: الأمير عز الدين أيبك الدوادار المؤيدى فجيش الأمير بدر الدين حسن ابن الأسد، وجمع وحشد، ودخل إلى الجند قاصدا حصار تعز، وأمده الظاهر بأموال جمة من الذهب والفضة، فخرج إليه العسكر المجاهدى، ومقدمهم إبراهيم بن شكر، وكان قد نزل إلى المجاهد من بلاده لما عاد الملك إليه، ومعهم الفائز قطب الدين بن أخى المجاهد، فلما تراءى الجمعان/ (183) نكس جماعة من المماليك والجند رماحهم، والتحقوا بعسكر الظاهر، وصار العسكر بكماله ظاهريا، وعاد الفائز من ليلته بمساعدة إبراهيم بن شكر، وحصل بين ابن شكر وبين الأمير بدر الدين حسن بن الأسد أيمان وعهود [2] ، وأجمع العسكر على دخول تعز، ولاقاهم الأمير غياث الدين بن الشبابى [1] من ناحية الدملوة، وضربت الخيام بمزارع عدنية، وأقامت المحطة سبعة أيام، وكان أهل تعز فى أشد ما يكون من التعب من قوة الحصار، ثم التحق جماعة من العسكر بالمجاهد، فارتفعت المحطة.

_ [1] كذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (2/11) «الغياث بن الشيبانى» . [2] فى الخزرجى (2/11) ورجع ابن شكر إلى تعز على موادعة بينه وبين ابن الأسد.

ثم اضطربت أحوال المجاهد واختلفت آراء من حوله، فأشار عليه بعض من عنده- ويقال إنه ابن شكر- بالقبض على الأمراء البحرية والمماليك، وكان المحرض له عبد الرحمن المعروف بابن العنقاء، وهجموا عليهم سحرا، فنجا بعضهم، وقبض على جماعة كثيرة، ونهبت منازلهم، وشنق بعضهم، والتحق من هرب بالظاهر وانضموا إليه، فلما تحقق نفورهم عن المجاهد، ووثق بمناصحتهم، وكان منهم الأمير بهاء الدين بهادر الصقرى، أرسلهم الظاهر إلى الخوخية [1] ، وكان للظاهر بها محطة تبلغ مائتى فارس، وكانوا بين إقدام وإحجام، فلما انتهوا إليهم، وكان الحاث لهم على النزول، والمتدرك لهم بالبلاد بهادر الصقرى فنزلوا [إلى تهامة، ودخلوا السلامة، وتوجهوا إلى حيس، ثم توجهوا [2]] إلى زبيد، فلما صاروا بالقرتب [3] اختلفت آراؤهم، فهم جماعة منهم/ (184) بالتوجه إلى جهة أخرى، وهمّ آخرون بالرجوع إلى الظاهر، ثم جمعهم الصقرى، وثبتهم، وتوجه هو وجماعة من المماليك إلى زبيد، وكان بها الأمير بدر الدين محمد بن طرنطاى، وأمر البلد إليه، فكاتبه الصقرى، فلم يعد إليه جوابا، وأصر على حفظ البلد. وكان أهل زبيد يرغبون فى الصقرى، ويميلون إليه لتقدم ولايته عليهم فى الأيام المؤيدية، ووقع بين أهل زبيد اختلاف على قتيل، فخرج جماعة من عوارين [4] البلد إلى الصقرى والعسكر بكماله قد نزل بستان الراحة بباب الشبارق، فتكفلوا للعسكر أنهم يطلعون رجالهم بالحبال، فبادر عسكر الظاهر إلى ذلك ودخلوا البلد فى مستهل شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وقت الظهر، ونهبت بيوت مخصوصة منسوبة إلى المجاهد: كدور بنى النقاش، ومن والاهم، وكان بها جملة من الطعام، وظفر الصقرى بآلات وتحف للمجاهد منها:

_ [1] فى الخزرجى (2/12) «ساروا إلى قرية الخوخية» . [2] ما بين الحاصرتين سقط من ك، وأثبتناه من أص 183، والخزرجى (2/12) وعبارته: «فنزلوا إلى تهامة، ودخلوا قرية السلامة» . [3] هكذا فى أ، ك، وفى الخزرجى (2/13) القرتب، وفى (مراصد الاطلاع 3/1075) القرتب- بضم القاف والتاء وسكون الراء-: من قرى وادى زبيد. [4] هكذا فى ك، وفى أص 184 «الغوارين» بالغين المعجمة، وكلاهما غير واضح المعنى، وقد وردت فى الخزرجى (2/27 فى سياق يفهم منه أنهم جماعة يستعين بهم من أراد نصرتهم لقاء مال، ويعرفون بالقوة والفتك. وفى ص 42 ذكر أن المجاهد استأصلهم وقبض على شيخهم أحمد الأسد فى جمادى الآخرة سنة 726 هـ

حياصتان مرصعتان بالجواهر النفسية، وكانت للملك المؤيد، وسر موزه مرصّعة بالجوهر يقال أنها كانت لبنت جوزا، أخذها المجاهد من الدملوه حال طلوعه، فأحضرها الصقرى إلى الظاهر، واستولى الظاهر على زبيد والبلاد التهامية. وقامت دعوته بها، وضربت السّكّة باسمه، وخطب له فى التهايم كلها، وسكن عسكر الظاهر بكماله زبيد. ولما اتصل ذلك بالمجاهد جهز عسكره، وقدم عليهم الأمير نجم الدين أحمد بن أزدمر:/ (185) وابن العماد، والزعيم بن الافتخار، وكانوا يزيدون على ثلاثمائة فارس، وأربعمائة راجل، ومقدم الرجّالة أخو الورد بن الشبيلى، ولما دخلوا إلى السلامة [1] نهبوا أكثر بيوتها، وساروا إلى جهة زبيد، فخرج إليهم جماعة من العسكر وأقام الصقرى بالبلد، فالتقوا بالمنصورة، فانهزم عسكر المجاهد، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ العلم والحمل الذى كان مع ابن أزدمر وأسروه، ودخل رديفا خلف الشريف صارم الدين داود بن قاسم بن حمزة، وقتل أخو الورد بن الشبيلى [2] ، وابن العماد، وتفرق العسكر، واستأمن منهم جماعة، وقوى الظاهر بذلك. / وكانت عدن بيد الملك المجاهد، وواليها ابن النقاش، فوقع بينه وبين الأمير شجاع الدين عمر بن بلبان العلمى [3] منافرة، فكتب إلى المجاهد يشكو منه، فظفر بعض غلمان الظاهر بإنسان وصل من عدن [4] ومعه كتب فقتله، وأخذ كتبه، وأحضرها إلى الظاهر، فوجد فى جملتها جوابا لابن النقاش، وفيه فصول تتعلق بالأمير شجاع الدين المذكور وإخوته لا ترضى، وكان قبل ذلك قد توجه شجاع الدين إلى المجاهد بمال، وصحبته جماعة من الجحافل، فلم يقابلهم المجاهد بما جرت به العادة، فنفروا، ونفر شجاع الدين معهم، وانضم إلى ذلك أن المجاهد طلب من شجاع الدين أن يقرضه سبعين ألف دينار فرفض فزاد نفوره مع مشاحنة ابن النقاش. فلما وقف/ (186) الظاهر على الكتاب أرسل به إلى الأمير شجاع الدين، فلما وقف عليه أعلن أنه ظاهرى، وتوجه من ساعته، وحاصر عدن،

_ [1] السلامة: من قرى تهامة. [2] فى بهجة الزمن ص 294 «السبئى» ظنا وفى العقود «السنبلى» . [3] فى ك المعملى، والاسم المثبت من أص 185، وفى الخزرجى (2/19) «عمر بن تاليال العلمى الدويدار» . [4] فى بهجة الزمن ص 294 «من تعز» .

فأقام عليها عشرين ليلة، ثم افتتحها فى الثامن والعشرين من شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة برجال أدخلهم، وتحيّلوا على فتح الباب، ودخلوا البلد دخولا صعبا، نهبت فيه أكثر البيوت الخصوصية، وعاث الجحافل فى البلد، وقبضوا على ابن النقاش، ونهبوا داره، واستقر الثغر للأمير نجم الدين يوسف ابن على الصليحى، وهو رجل شهم من بيت الزعامة والرئاسة، واستقرت المملكة كلها بيد الظاهر ونوابه، ولم يبق مع الملك المجاهد غير حصن تعز، وهو يبذل لأهل صبر [1] فى كل شهر جملة من المال، خوفا منهم أن يقطعوا عنه الماء ويحاصروه. وفى سنة أربع وعشرين وسبعمائة ثار الزعيم ابن الافتخار ببلاد المحالب، وتوجه إليه البحرية من قبل الظاهر، وكسروه كسرة شنيعة، وقتلوا من أصحابه جماعة. وفى السنة المذكورة عقد الظاهر للأمير بهاء الدين بهادر الصقرى الألوية ورفعت إليه الطبلخاناة، ودخل زبيد دخولا لم يعهد مثله، وعامله الظاهر بأتم إحسان، وهو مع ذلك «يسرّ حسوا فى ارتغاء [2] » وفى السنة المذكورة خالف أهل صبر على المجاهد، وقطعوا المياه عنه، وضعف حاله، وشعث أهل المغربة وعدنية بين أهل صبر والمجاهد/ (187) فجهز الظاهر الأمراء البحرية ومقدمهم الأمير نجم الدين محمد بن طرنطاى، ووافاه الأمير شجاع الدين عمر بن بلبان الدوادار العلمى من عدن، فحطوا على الحصن وحاصروه. وكان غياث الدين بن بوز [3] من خواص أصحاب المجاهد قد فوض إليه أمر أستاذ داريته، وأتابكية عسكره، فلما حوصر المجاهد استأذنه غياث الدين

_ [1] صبر- بفتح أوله وكسر ثانيه-: جبل شامخ عظيم مطل على قلعة تعز فيه عدة حصون وقرى، وبه قلعة تسمى صبر أيضا (مراصد الاطلاع 2/832) . [2] مثل يضرب فيمن يظهر طلب القليل وهو يسر أخذ الكثير، وانظر مجمع الأمثال 2/312 ط. بولاق، ولسان العرب مادة: ر غ و. [3] هكذا فى ك، وفى أص 187 غير منقوط، وفى الخزرجى (2/19) وكان الغياث بن نور مع السلطان فى الحصن» .

فى اللحاق بهم، وقال: إنه إذا وصل إليهم تحيّل على استمالتهم إليه، فإن مالوا إليه، وإلا تحيل أن يسقى ابن الدوادار السم، فأذن له: فلما التحق بهم قالوا له: لا نقبلك ونتحقق نصحك إلا إذا نصبت المنجنيق على تعز، ورميتها به، وبالغت بالنصيحة للملك الظاهر، فراسل المجاهد فى ذلك، وقال له: إنهم لا يرضون منى إلا أن أرميك بالمنجنيق [1] ، فأذن له فى ذلك، فنصب عليه المنجنيق ورموه بها، وأزالوا ما بتعز من المناظر والمنازل. قال القاضى تاج الدين: فأخبرنى المحقق للحال، أن الذى وصل إلى الحصن من الحجارة المنحوتة أربعة آلاف حجر، وحصل قتل كثير، وخربت تعز خرابا لا يتدارك، وخلت أكثر بيوتها، واستمر الحصار إلى ذى الحجة سنة أربع وعشرين وسبعمائة. ولما اشتد الحصار على المجاهد، ورأى تألّب الناس عليه، وخروج البلاد عنه، راسل السلطان الملك الناصر [2] فى ذلك، واستغاث به، وتضرع إلى مراحمه، والتزم تحمل الأموال، والتحف والنفقة فى العساكر، فوصلت رسله إلى الأبواب السلطانية/ (188) وذلك فى سنة خمس وعشرين كما تقدم، فكان من تجهيز العساكر المصرية ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: واتفق أن الأشراف كانوا قد استولوا على صنعاء بعد وفاة الملك المؤيد عند ما وقع الاختلاف بين الملكين باليمن، فلما علموا أن الصقرى ومن معه من المماليك استولوا على زبيد وبلاد تهامة، وأنهم مظهرون الطاعة للملك الظاهر بن الملك المنصور، مخالفون على المجاهد، وأنهم استقلوا بأموال البلاد لا يحملون منها إلى الظاهر شيئا، تحرك الأشراف عند ذلك، ونزلوا فى جمع كبير يقال إن عدتهم كانت خمسمائة فارس وكثير من الرجال، وراسلوا الأمير بهاء الدين بهادر الصقرى أن يعطيهم نصف بلاد تهامة، فقال: لا جواب لكم عندنا إلا السيف، فوقعت الحرب [3] بينهم على وادى سهام من عمل الكدراء،

_ [1] المنجنيق: آلة ترمى بها الحجارة، فارسيتها من جه نيك- وانظر (الألفاظ الفارسية المعربة ص 146) ويقال فيه المنجنيق والمنجنوق (ج) مجانق ومجانيق (شفاء الغليل 207) . [2] يعنى الناصر «محمد بن قلاوون الصالحى» وهذا الخبر أورده ابن تغرى بردى فى (النجوم الزاهرة 9/84) وأبو الفدا (4/94) وابن خلدون (5/434) والمقريزى (السلوك 2/264) . [3] أورد الخزرجى هذه الوقعة، وذكر أنها تعرف بيوم جاحف، نسبة إلى الوادى الذى وقعت فيه، وأورده بعبارة مبسوطة عما ذكره النويرى هنا (العقود اللؤلؤية 2/22 وما بعدها) .

/ ذكر تجريد طائفة من العساكر المنصورة إلى البلاد اليمنية وما كان من خبرها إلى أن عادت [3]

فكانت الدائرة على المماليك، وأسر الأشراف جماعة من أعيانهم، فعند ذلك اضطربت المحطة [1] الذين كانوا يحاصرون المجاهد بتعز، وفارقوا الحصار، وتوجهوا لإنجاد أصحابهم، وأظهر الأشراف عند ذلك الانتصار للمجاهد. وكان الحامل لهم على ذلك ولدا المظفر أخى المجاهد، وهما: الملك المفضّل شمس الدين يوسف، والملك الفائز قطب الدين أبو بكر، فإنهما التمسا من الأشراف نصرة عمهما الملك المجاهد. ولما حصل من الأشراف ما حصل رجع المماليك البحرية- الصقرى وغيره، وغياث [2] بن نور- إلى خدمة الملك المجاهد، ورجعت زبيد وتهامة إليه. / (189) هذا ما أورده المولى تاج الدين فى تاريخه، وبعضه شافهنى به، فلنرجع إلى سياقة أخبار الدولة الناصرية لسنة خمس وعشرين وسبعمائة، وما بعدها. / ذكر تجريد طائفة من العساكر المنصورة إلى البلاد اليمنية وما كان من خبرها إلى أن عادت [3] قد ذكرنا وصول رسل [4] الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزبر الدين داود إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية يستغيث به، ويستنجده لتفريج ما به من الكرب، وإعادة ما أخذ من بلاده إليه، فبرزت المراسيم الشريفة السلطانية فى يوم الاثنين الخامس من صفر سنة خمس وعشرين وسبعمائة بتجريد طائفة من العساكر المنصورة لإنجاده، فجرّد لذلك من نذكر من الأمراء والمماليك السلطانية، ورجال الحلقة، وأجناد الأمراء، وهم:

_ [1] المحطة فى استعمال المؤلف يراد بها الجماعة المرابطة فى مكان ما للغارة أو للحصار. [2] فى الخزرجى (2/23) «الغياث بن نور» وعبارته: «.. فلما ارتفعت المحطة عن تعز رجع جماعة إلى السلطان منهم الغياث بن نور، فقابله السلطان بالقبول» . [3] ما أورده النويرى من أخبار هذه الحملة لا نجده عند غيره على هذا النحو من التفصيل. [4] فى النجوم (9/84) أن رسل المجاهد كان على رأسهم كافور الشبلى خادم الملك، وفى السلوك (2/265) «كافور الشبيلى» .

الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، كان وهو مقدّم العسكر، وصحبته من طلبة خمسين [خمسون [1]] فارسا، ومن المماليك السلطانية سبعة عشر فارسا ومن الأجناد والأمراء ثلاث وسبعين فارسا، ومضافيه ومن أمراء الطبلخاناة خمسة وهم:/ (190) الأمير سيف الدين أقول الحاجب، وصحبته اثنين [2] وخمسين فارسا من طلبة عشرين، ومن المماليك السلطانية عشر، ومن أجناد الأمراء اثنين وعشرين. والأمير سيف الدين قجماز بنخاص [3] وصحبة ثمانية وأربعين فارسا من طلبه عشرين، ومن المماليك السلطانية عشرة، ومن أجناد الأمراء ثمانية عشر، والأمير سيف الدين بلبان الصرّخدى، وصحبة ثلاثة وخمسين فارسا من طلبة خمسة وعشرين، ومن المماليك السلطانية عشرة، ومن أجناد الأمراء ثمانية عشر. والأمير سيف الدين بكتمر العلائى أستاذ [4] الدار، كان، وصحبة خمسة وخمسين فارسا من طلبة خمسة وعشرين، ومن المماليك السلطانية عشرة، ومن أجناد الأمراء عشرين. والأمير سيف الدين ألجاى الساقى الناصرى، وصحبته ثلاثة وخمسون فارسا من طلبة خمسة وعشرين، ومن المماليك السلطانية عشرة، ومن أجناد الأمراء ثمانية عشر. ومن أمراء العشرات الأمير عز الدين أيدمر الكوندكى، وثلاثة من أصحابه. والأمير شمس الدين إبراهيم التّركمانى كذلك، ومن مقدمى الحلقة المنصورة خمسة، وهم: سيف الدين ككتمر بن كراى الظاهرى، ومضافية ثلاثين فارسا. علاء الدين على بن أميرك الدّوادار، ومن مضافية ثلاثة وثلاثين. عز الدين

_ [1] زيادة من «أ» ص 189. [2] كذا فى الأصلين والصواب اثنان وكذلك ما بعده فى هذا السرد، ويمكن تصويبه على الإضافة «ومن صحبة كذا..» . [3] فى أ، ك غير منقوط، وفى الدرر (1/472) رجح بنخاص فى الحاشية. وفى السلوك (2/260) قجمار الجوكندار ومعرف باسم بشاش. [4] فى السلوك (2/260) أستادار، وفى صبح الأعشى (5/457) الإستدار- بكسر الهمزة وتشديد الدال، قال ومعناه: متولى الأخذ، سمى بذلك لأنه يتولى قبض المال وخطأ القلقشندى من يقوله أستادار أو أستاذ الدار.

أيدمر الحسامى، ومن مضافية اثنين وثلاثين، بهاء الدين بكمش [1] الحسامى ومضافية كذلك، عز الدين أزدمر السيفى [2] ، ومن/ (191) مضافية تسعة وعشرين. هذه التقدمة الأولى، والتقدمة الثانية: الأمير سيف الدين طينال حاجب الميسرة، وهو أحد مقدّمى الألوف، وصحبته من طلبة أربعين فارسا، من المماليك السلطانية، خمسة عشر فارسا، ومن أجناد الأمراء اثنين وأربعين فارسا، ومضافيه من أمراء الطبلخاناة خمسة، وهم: الأمير سيف الدين [3] ططقر العفيفى الناصرى وصحبة أربعة وخمسين فارسا من طلبة خمسة وعشرين فارسا، ومن المماليك السلطانية تسعة نفر، ومن أجناد الأمراء عشرين، والأمير سيف الدين كوكاى طاز وصحبة تسعة وأربعين فارسا من طلبة عشرين فارسا، ومن المماليك السلطانية تسعة، ومن أجناد الأمراء عشرين فارسا، والأمير علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين طغريل الإتقانى [4] وصحبته كذلك، والأمير عز الدين أيبك الكوندكى، وصحبة ستة وأربعين فارسا من طلبة عشرين فارسا، ومن المماليك السلطانية ثمانية، ومن أجناد الأمراء ثمانية عشر، والأمير سيف الدين جرباش [5] أمير علم، وصحبة أحد وأربعين فارسا من طلبة خمسة عشر، ومن المماليك السلطانية تسعة، ومن أجناد الأمراء سبعة عشر، ومن أمراء العشرات: الأمير سيف الدين بلبان الدّوادارى، وثلاثة من أصحابه، والأمير حسام الدين طرنطاى الإسماعيلى كذلك. / (192) ومن مقدّمى الحلقة المنصورة خمسة، وهم: سيف الدين سوندك الجاشنكير، ومن مضافية ثلاثين فارسا بدر الدين بيليك أمير آخور، ومن مضافية تسعة وعشرين: سيف الدين طاجار الفخرى، ومن مضافيه كذلك شمس الدين سنقر الشمسى، ومن مضافية ثمانية وعشرين سيف الدين أسندمر السّيفى، ومن مضافية كذلك.

_ [1] لم أجده ولعله تحريف بكتمش. [2] هو أزدمر الكاشف الأعمى، وقد ولى- بعد عودته من اليمن- البهنسا، ثم تولى الكشف بالوجه القبلى، ثم البحرى، وعمى سنة 742 هـ (الدرر الكامنة 1/355) . [3] فى السلوك (2/260) ططر الناصرى، وفى النجوم 9/78 ططقرا من غير ضبط. [4] فى «أ» و «ك» ، وكذلك فى السلوك 2/260، الايغانى، والمثبت من (الدرر 2/222) وورد اسم والده فيه طغريل الأتقانى من مماليك اتقان الملقب بسم الموت. وترجمته فى الدرر (3/56) . [5] فى ك (جربابين) وهو تحريف وما أثبتناه من أص 191 والسلوك (2/260) . والنجوم 9/78 وضبط فيه كما أثبتناه.

فكانت عدة هذا العسكر ألف فارس وخمسة وسبعين فارسا، ومن أمراء الطّبلخاناة اثنى عشرة، عدتهم ثلاثمائة، وخمسة من أمراء العشرات ممن عدتهم ستة عشر، ومن المماليك السلطانية مائة وستة وعشرين، ومن مقدمى الحلقة المنصورة ومضافيهم ثلاثمائة ومن أجناد الأمراء ثلاثمائة وستة [1] ، فتجهز هذا العسكر أحسن جهاز وأجمله، وجهز السلطان- خلد الله ملكه- معهم خزانة مال، ورسم/ لمقدم الجيش الأمير ركن الدين المذكور [أن ينفق [2] المال] لمن نفق له فرس، أو تنبّل [3] له جمل، وجهز صحبة المقدم المذكور عدة تشاريف لملك [4] اليمن، وأمراء الحجاز، وغيرهم من العربان. قال: وكان بروز هذا العسكر من القاهرة المحروسة فى يوم الخميس خامس شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ورحل أوائل العسكر من بركة الجب بظاهر القاهرة المحروسة فى يوم الاثنين التاسع [5] من الشهر، وتكامل رحيله فى يوم الأربعاء حادى عشر، واستمر بهم السير إلى أن وصلوا إلى/ (193) مكة- شرفها الله تعالى- معتمرين فى السادس والعشرين من جمادى الأولى، وأقاموا بمكة عشرة أيام، وكتب الأمير ركن الدين مقدم العسكر الأمانات، وسيرها أمامه إلى العربان، وإلى أهل حلى بن يعقوب [6] ، وإلى الأشراف بالمخلاف السليمانى، وضمنها ما برزت به الأوامر السلطانية من الوصية بمن تمرّ العساكر عليه منهم، وعدم التعرض إلى أموالهم وغلالهم، والإحسان إليهم، فاستقرت خواطرهم بذلك، ولم ينفروا من العسكر.

_ [1] فى الخزرجى (العقود 2/32) «أنهم كانوا ألفى فارس، وألف راحلة. فيهم أربعة أمراء، والمعوّل على أميرين منهم، وهما: سيف الدين (ركن الدين) بيبرس، وجمال الدين طيلان (طينال) وكان معهم اثنان وعشرون ألف جمل، تحمل عددهم وأزوادهم..» . [2] ما بين الحاصرتين سقط من ك، والزيادة من أص 192. [3] يقال: تنبل البعير، والرجل: مات. (تاج العروس: ن ب ل) . [4] فى أص 192 «لملكى اليمن» . [5] فى السلوك (2/261) «.. وبرزوا من القاهرة إلى بركة الحاج يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر» . [6] فى تاج العروس (ح ل ى) حلى بنى يعقوب، وفى (أحسن التقاسيم) 86 حلى: مدينة ساحلية عامرة، وفى مراصد الاطلاع 1/421 أن بينها وبين السرين يوم واحد وبينها وبين مكة ثمانية أيام.

وحضر الرسل إلى مقدم العسكر وهو بمكة، وسألوه أن يكتب إلى الملك المجاهد كتابا يخبره فيه بوصول العسكر، فكتب إليه، وجهز الكتاب على يد بعض رفقتهم إليه فى البحر، ورحل العسكر من مكة- شرفها الله تعالى- فى السادس من جمادى الآخرة، وفى صحبته الأمير السيد الشريف سيف الدين عطيفة [1] أمير مكة، والأمير الشريف ناصر الدين عقيل أمير ينبع، وتأخر الأمير عز الدين رميثة [2] عن الحضور، حتى حلف له مقدم العسكر وأمنه، فلحق بالعسكر المنصور فى الخامس والعشرين من الشهر فى أثناء الطريق، ووصل العسكر إلى حلى ابن يعقوب فى سادس عشر الشهر، وأقام العسكر به يومين للراحة والاستراحة، ورحل فى تاسع عشر الشهر، ونزل جعل، وتعرف بعمق وهو أول بلاد اليمن، ووصل إلى حرض فى التاسع والعشرين من جمادى الآخرة، وهى أول بلد يجبى خراجه لملك [3] اليمن، وهى/ (194) خاص الملك، وعند الوصول إليها أشهر مقدم العسكر النداء بالعدل، وألا يتعرض أحد للرعية، ورحل منها ووصل إلى المحالب فى ثالث شهر رجب. ووصل جواب الملك المجاهد إلى مقدم العسكر بهذه المنزلة، وظهر من فحوى جوابه ما دل على أنه سقط فى يده، وندم على طلب العسكر، وخاف على نفسه، فأعيد جوابه صحبة جمال الدين عبد الله الدوادارى البريدى بما يسكّن خاطره، ويطيّب نفسه، وكان الحصار قد ارتفع عن الملك المجاهد لما بلغهم إقبال العسكر، وأطاعه جماعة ممن كان خالفه، وخرج عليه كما تقدم، وقبض المجاهد عند ذلك على ابن عمه جلال الدين بن الملك الأشرف وابن طرنطاى وحضر إلى مدينة زبيد، ليتلقى العسكر، فلما قرب العسكر من زبيد قويت إشاعة أن الملك المجاهد عزم على ألا يتلقى العسكر، وأن يعود إلى تعز، ووصل العسكر إلى بلد تسمى فشال [4] فى ثامن رجب، فأرسل مقدم العسكر

_ [1] عطيفة بن محمد بن حسن بن على بن قتادة بن إدريس الحسنى أمير مكة ترجمته فى الدرر (2/455) . [2] الضبط من الدرر (2/111) وترجمته واردة فيه، وفاته سنة 748 هـ. [3] فى «أ» ص 193 لمتملك. [4] فشال- بفتح أوله- قرية كبيرة بينها وبين زبيد نصف يوم على وادى رمع، وهى أم قرى الوادى المذكور (مراصد الاطلاع 3/1037) .

إلى المجاهد ملطّفا كان على يده من جهة السلطان يخبره فيه بما رسم فيه باطنا وأرسله على يد الأميرين: عز الدين أيدمر [1] الكوندكى، وحسام الدين طرنطاى الإسماعيلى، وهما من أمراء العشرات، فتوجها إليه، وعرفاه أن يقف على الملّطف، ويكتم ما تضمنه، وإذا وصل المثال السلطانى، وقرىء فى المجلس العام تقابل الأوامر فيه بالسمع والطاعة. ثم وصل العسكر إلى زبيد فى يوم الأحد/ (195) عاشر رجب الفرد، وخرج الملك المجاهد للقائه، فتلقاه بالقرب من أسوار البلد، وألبسه مقدم العسكر التشريف [2] السلطانى، وعاد المجاهد والعساكر فى خدمته إلى داره، وترجل مقدم الجيش والأمراء فى خدمته حسب ما أمرهم السلطان، ومشوا حتى انتهوا إلى الإيوان الذى يمد فيه الإخوان [3] ، فعضده الأمير ركن الدين بيبرس عند نزوله عن فرسه، وبذلك كله كان السلطان أمره عند توجهه، وقرىء عليه المثال السلطانى، فى المجلس العام بعد أن قبل الملك المجاهد الأرض عند رؤية المثال، ومد المجاهد للعسكر إخوانا [3] . وتحدث مقدم العسكر مع الملك المجاهد فى إرسال رسول إلى الملك [الظاهر [4]] بقلعة الدّملوة بالمثال السلطانى إليه، فوافق على ذلك، ثم كرهه بعد الموافقة، فجهز إلى الظاهر عز الدين الكوندكى، وحسام الدين طرنطاى الإسماعيلى، فتوجها من زبيد نحو الدّملوة ولما توجها تحدث الملك المجاهد مع مقدم العسكر أن يجرد معه مائتى فارس، ليتوجه أمامه إلى تعز، وذكر له أنه بلغه أن الملك الظاهر قد عزم على مفارقة الدّملوة، واللحاق بحصن السّمدان، وأنه حصن حصين، ومتى صار به تعذر الوصول إليه، وذكر أن الطريق لا تسع العساكر بجملتها، فجرد معه الأمير سيف الدين ططقر العفيفى السلاح دار، والأمير سيف الدين قجماز بنخاص، وتوجهوا من زبيد فى سادس عشر رجب، ووصلوا إلى تعز فى العشرين من الشهر/ (196) .

_ [1] الضبط من القلقشندى (صبح الأعشى 5/425) والنجوم 9/87. [2] فى الخزرجى (العقود 2/32) وصف لهذا الاستقبال فى شىء من التفصيل، وذكر أن التشريف السلطانى كان عمامة بعذبتين، وخلعة فاخرة، وفى السلوك (2/266) أنه كان كلفتاه زركش، وحياصة ذهب. [3] الاخوان: لغة فى الخوان- بضم الخاء وكسرها-: ما يؤكل عليه (تاج العروس- خ ون) . [4] فى ك المجاهد- وهو خطأ، وما أثبتناه من «أ» ص 195.

ثم توجه الأمير ركن الدين ببقية العسكر إلى تعزّ، فوجد رسله الذين أرسلهم إلى الملك الظاهر قد منعهم نائب قلعة تعزّ من التوجه إلى الدّملوة، واعتذر أنه خشى عليهم من الطرقات، فجهز معهم الأمير سيف الدين عطيفة أمير مكة، وتوجهوا إلى الملك الظاهر، واجتمعوا به، فوقف على المثال/ السلطانى، وكان يتضمن الاتفاق بين الملكين، فسأل الظاهر الكشف عن سيرته وسيرة المجاهد، وأن تكون قلعة الدّملوة للسلطان، ويكون نائبه بها، وأكرم الرسل غاية الإكرام، وأعادهم، وحصل من الملك المجاهد فى خلال ذلك اضطراب كثير، وعدم موافاة بما كان التزم به، وقرره على نفسه من النفقة على العسكر، وكان جميع ما أعطاهم فى جملة ثمن ما تنبّل للجند من الجمال ثمانية وأربعين ألف درهم، وطولب بعلوفات دوابهم، فاعتذر أن خيله لها سبعة أيام ما أكلت عليقا، وأنه لا شىء عنده، فالتمس منه أن يأمر رعيته ببيع العليق للجند، والجند يقومون بالثمن، فقال: ما عندى إلا ما تأخذونه بسيوفكم، ولم يكن مع المقدم مرسوم بالقبض على المجاهد، ولا نهب البلاد [1] ، فلذلك كف العسكر عنهم، وضاقت الميرة على العسكر، ومرض جماعة منهم، وتوجه جماعة من أجناد الحلقة إلى بعض الجهات ليبتاعوا ذرة برسم عليق دوابهم، فخرج عليهم جماعة من أهل جبل صبر، فأخذوا الجمال، وجرحوا الجمّال [2] ، فوصل الخبر إلى مقدم العسكر، فأرسل جماعة لكشف الخبر، فقاتلهم أهل/ (197) الجبل وكاثروهم، فركب بنفسه، وتوجه إليهم، فاعتصموا منه بالجبل، وهو جبل وعر صعب المسلك لا ماء فيه، فصعد جماعة من العسكر إلى الجبل مشاة، وقتلوا من أهله نحو ثلاثمائة نفر، واشتد العطش بالعسكر، فمات منهم خمسة [3] أحدهم من المماليك السلطانية، والآخر من الحلقة، وثلاثة من أصحاب الأمير سيف الدين قجماز بنخاص.

_ [1] أورد المقريزى فى (السلوك 2/266 و 267) تفاصيل هذا الموقف بعبارة مبسوطة. [2] فى المصدر السابق و «وتخطفوا الجمال والغلمان» . [3] فى السلوك (2/267) «ففقد من العسكر ثمانية من الغلمان» .

وظهر لمقدم العسكر أن الملك المجاهد قد ضاق من العسكر، وعمل على ما يحصل به الضرر التام، وسأل أن يفرق العسكر، ويتوجه بعضه إلى عدن، وبعضه إلى لحج وأبين وضبا [1] ونواحيها، وبعضهم إلى مخلاف جعفر، وبعضهم إلى بلاد المغلسى [2] وغير ذلك من الجهات، وقصد بذلك أن يفرق العسكر فى البلاد خوفا على نفسه منه، وقابل إحسان السلطان بالإساءة على ما نقل مقدم العسكر عنه. ثم بلغ المقدم أن بهادر الصقرى قرر مع المجاهد أن يمنع أهل البلاد من بيع العلوفات على العسكر، وربما شهر النداء بذلك، وكان الأمر السلطانى قد برز لمقدم العسكر أنه متى ظفر ببهادر الصقرى يقتله، فأخر المقدم قتله ليطمئن غيره ممن كان قد خالف الملك المجاهد، ويحضروا، ثم ينفذ فيهم أمر السلطان. فلما تحقق المقدم سوء طويته ركب إلى خيمة بهادر الصقرى، وقبض عليه وعلى الغياث بن نور، وكانا ممن خالف المجاهد وألّبا عليه كما تقدم، ثم رجعا إلى طاعته لما بلغهم قرب العسكر، ثم عملا على إفساد العسكر، ولما قبض على الصقرى،/ (198) وسّطه [3] لوقته، وقيد الغياث بن نور، وهو أيضا ممن رسم السلطان بقتله، وشهد عليه جمال الدين [محمد [4]] بن مؤمن، والزعيم عند مقدم العسكر- على ما حكاه المقدم فى مطالعته للسلطان- أنه عمل على الإضرار بالعسكر، ومنع الأجلاب عنه، فلم يزل فى القيد إلى أن رجع العسكر، ووصل إلى حرض فوسّطه [3] المقدم بالقرب من المخلاف السليمانى. وأما الملك المجاهد، فإنه لما ضاق بالعسكر، واشتد خوفه منه، قال للمقدم: إن كان السلطان قد رسم لكم بالإقامة باليمن فالأمر إليه، وإن كان إنما أرسلكم لنصرتى فارجعوا إلى أبواب السلطان، وأحضر القاضى والشهود، وأشهد على نفسه أنه أذن للعسكر فى [5] العود، ثم طلع المجاهد إلى القلعة،

_ [1] فى أ، ك «صبا» والمثبت من الخزرجى (2/44) وادى ضبا، والضبط من معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 393. [2] فى المصدر السابق (2/32) بلاد المغلسى: فى وادى نخلة. وانظر: معجم البلدان والقبائل اليمنية ص 616. [3] وسطه: قطعه نصفين، وكان التوسيط من طرق الإعدام فى هذه العصور. [4] ما بين الحاصرتين زيادة عن الخزرجى (2/62- 64) وقد أورد طائفة من أخباره. [5] انظر فى هذا الخبر الخزرجى (العقود 2/33) والمقريزى (السلوك 2/268) .

وامتنع من النزول إلى العسكر، فأرسل إلى المقدم أن يرحل بالجيش، وأنه يلحقه إلى زبيد، فعاد العسكر من تعزّ فى التاسع من شعبان، ووصل إلى زبيد، وأقام بها فى ميعاد المجاهد، فوصل الزعيم إلى مقدم العسكر، وأخبره أن الملك المجاهد توجّه من تعزّ إلى بعض الجهات، فانتظره المقدم ثمانية أيام، فلم يصل فعاد بالعسكر. ولما وصل إلى منزلة بالقرب من بئر على، توفى الأمير سيف الدين ططقر [1] العفيفى السلاح دار الناصرى، وكان رحمه الله تعالى رجلا جيدا كريما، صادق اللهجة، ووصل أوائل العسكر إلى مكة شرفها الله تعالى عائدا إلى الديار المصرية فى عاشر شهر رمضان، وآخره فى ثالث عشره/ (199) وأقام بها بقية شهر رمضان، ثم توجه منها إلى الديار المصرية. وكان وصول جاليش [2] العسكر إلى القاهرة المحروسة فى يوم الخميس مستهل ذى القعدة من السنة، ووصل المقدم وبقية الجيش فى يوم السبت ثالث الشهر، ومثلوا بين يدى السلطان فى يوم الاثنين خامس الشهر، وخلع على الأمراء فى هذا اليوم، فخلع على الأميرين المقدمين خلعا كاملة بكلّوتات زركش، وحوائص ذهب، وخلع على بقية الأمراء خلعا كاملة على عادتهم، وزيد الأمير سيف الدين كوكاى فى خلعته كلّوتة زركشا، ثم كان بعد ذلك من أمر الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، والقبض عليه ما نذكره، إن شاء الله تعالى. وفى سنة خمس وعشرين وسبعمائة أيضا، فى العاشر من شهر ربيع الأول وصل إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل بالمحروسة الأمير سيف الدين تنكز [3] نائب السلطنة بالشام المحروس على خيل البريد، وشمله الإنعام السلطانى والتشاريف، وعاد إلى دمشق على عادته فى النيابة، وكان وصوله إليها فى يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة.

_ [1] أورده المقريزى فى السلوك (2/229) قطز، وعبارته «ومات الأمير سيف الدين قطز عند عوده من اليمن، وحمل إلى مكة، فدفن بها. «ولم أجده فى رسمه من تراجم: الدرر الكامنة. [2] الجاليش: راية عظيمة فى رأسها خصلة من الشعر، وانظر القلقشندى (صبح الأعشى 4/8) . [3] الضبط من القلقشندى (صبح الأعشى 5/425) وفى النجوم بفتح أوله وكسر ثالثه وسكون ثانيه.

ذكر حفر الخليج الناصرى [1]

ذكر حفر الخليج الناصرى [1] وفى هذه السنة أمر السلطان بحفر خليج مستجدّ سمى الخليج الناصرى عوضا عن خليج الذكر [2] ، وجعل فوهته من قبلى خليج// (200) الذكر، وتولى أمره نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون الناصرى، وولاه الأعمال البرانية، وابتدأ بحفره من فم البحر، ومر به على باب اللوق، ثم إلى بركة قرموط، واتصل الحفر إلى أن انتهى إلى الخليج الحاكمى، وبطل خليج الذكر، وسد فمه وبنى على هذا الخليج الناصرى عدة قناطر فى عدة أماكن منه، لسلوك المارة عليها فأنشأ القاضى فخر الدين ناظر الجيوش قنطرة عند فم الخليج بقرب البحر، وأنشأ الأمير سيف الدين قدودار [3] متولى القاهرة قنطرة عند باب اللوق، وأنشأ القاضى شمس الدين عبد الله غبريال قنطرة عند دائرة [4] بركة قرموط، وأمر السلطان بإنشاء قنطرة عند باب البحر بظاهر القاهرة، وأنشأ بعد ذلك فى سنة ست وعشرين الأمير سيف الدين بكتمر الحسامى- الحاجب كان- قنطرة فى أرض الطّبّالة خارج باب الشعرية، وأنشأ الأمير جمال الدين آقوش الأشرفى المعروف بنائب الكرك قنطرة قبلى قناطر الأوز عند اجتماع الخليجين الحاكمى والناصرى، وحصل بهذا الخليج نفع كثير، وجرى مدة طويلة بعد انقطاع الخليج الحاكمى، ثم نشف. وفيها فى يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر ضرب عنق نصرانى تعرض إلى ذكر دين الإسلام، وأغض منه، وأصرّ على إظهار ذلك، فحكم قاضى القضاة تقى الدين بن الأخنائى المالكى [5] بإراقة دمه، وأنهى أمره إلى

_ [1] انظر فى هذا الخبر: المقريزى (السلوك 2/261 و 262) والخطط (2/145) وابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة 9/80) . [2] هذا الخليج أنشأه كافور الأخشيدى، وكان يعرف فى الدولة الأيوبية باسم خليج المقسى، ثم عرف باسم خليج الذكر نسبة إلى شمس الدين الذكر الكركى الذى قام بتطهيره فى عهد الظاهر (النجوم الزاهرة 9/124 حاشيته 2) . [3] يرد فى السلوك والنجوم باسم قدادار، وفى الدرر (3/244) ترجمته وقد ورد اسمه فيه «قديدار» ومثله فى 174 STEEN ZETTER وفى النجوم بالرسمين: قديدار، وقدادار وضبطه بفتح أوله. [4] هكذا فى ك، وفى أص 200 عند داره ببركة قرموط» . [5] هو تقى الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الأخنائى المالكى ولد سنة 660 هـ ولى قضاء المالكية بالديار المصرية، وكان الناصر يحبه ويرجع إليه فى أمور كثيرة، ومات فى الطاعون سنة 750 هـ (الدرر 3/409) وأخوه علم الدين محمد بن أبى بكر الأخنائى السعدى الشافعى.

ذكر عمارة القصر والخانقاة بسماسم والجلوس بالخانقاة

السلطان، فرسم بتنفيذ حكمه، فجلس بعد صلاة العصر من اليوم المذكور/ (201) بالمدرسة الصالحية بإيوان المالكية، وضربت عنقه بين يديه. ذكر عمارة القصر والخانقاة بسماسم والجلوس بالخانقاة وفى هذه السنة كملت عمارة القصر والخانقاة الناصرية بأراضى سماسم بالقرب من سرياقوس، وحصل الجلوس فى يوم الخميس [1] التاسع من جمادى الآخرة، ورسم السلطان بحضور قضاة القضاة، والعلماء، وسائر مشايخ الزوايا والخوانق والربط بالقاهرة ومصر المحروستين والقرافتين، ومن معهم من الفقراء، وحضر السلطان ونائبه، وأكابر أمراء دولته، واجتمعوا بالخانقاة، ومدت الأسمطة الكثيرة من الأطعمة اللذيذة، والأشوية، والحلويات والمشروب، وخلع على شيخ الشيوخ علاء الدين القونوى [2] ، وشيخ الخانقاة المذكورة الشيخ مجد الدين الأقصرائى [3] وغيرهما من المشايخ والقضاة، وفرقت الأموال الكثيرة على سائر فقراء الخوانق والزوايا والربط من الذهب والفضة، وكان يوما مشهودا. ورتب السلطان بالخانقاة أربعين صوفيا، ورتب لهم فوق الكفاية، ورتب لكل منهم فى كل شهر أربعين درهما، وفى كل يوم ثلاثة أرطال خبز [4] ، ورتب سماطا عاما يمد فى كل يوم يأكله الفقراء المقيمون بها، والواردون إليها، وجعل للواردين إليها ضيافة، وأنشأ بها حماما للسبيل،/ (202) وجامعا، ورتب له خطيبا، واحتفل بالمكان غاية الاحتفال، وأنشأ به بساتين، ووقف على الخانقاة أوقافا كثيرة، يفضل [ريعها [5]] عن كفايتها، ثم زاد بعد ذلك عدّة الصوفية، فجعلهم مائة، ووصلهم بالافتقاد [6] الوافر، ورتب لهم فى كل شهر

_ [1] فى (السلوك 2/262) أن التوجه إلى الخانقاه كان فى يوم الاثنين وعمل السماط العظيم فى يوم الخميس تاسعه، وكذلك فى (النجوم 9/83) وفى ص 79 ورد خبر الشروع فى بنائها وتحديد موقعها. [2] هو علاء الدين أبو الحسن على بن إسماعيل بن يوسف القونوى الشافعى، كان عالما مصنفا بارعا فى فنون العلوم توفى سنة 729 فى يوم السبت رابع عشر ذى القعدة (النجوم الزاهرة 9/279) وفى الدرر (3/24) أن مولده كان بقونية من بلاد الروم 668 هـ. وقد أورد له ترجمة طويلة. [3] هو مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائى الحنفى، كان شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس، وكان إماما فقيها بارعا مفتيا توفى سنة 740 هـ فى شهر ربيع الثانى (النجوم 9/324) والدرر (4/373) . [4] فى المقريزى (الخطط 2/422 وما بعدها) وصف مطول لما رتبه السلطان لهذه الخانقاه وصوفيتها، وانظر السلوك (2/262) حاشية رقم (5) . [5] الزيادة من «أ» ص 202. [6] يعنى تفقد أحوالهم.

ذكر روك [2] الإقطاعات بالمملكة الحلبية

عند وصوله إلى الخانقاة سبعة آلاف درهم يخص الشيخ منها بألفى درهم، وتفرق منها خمسة آلاف على الفقراء، وليس هذا المال [من] الوقف، وإنما هو من ديوان الخاصّ السلطانى، وسمع السلطان فى هذا اليوم أحاديث نبوية على قاضى القضاة بدر الدين [محمد بن جماعة [1]] بقراءة ولده القاضى عز الدين عبد العزيز، وانفصل هذا الجمع بأوفر الصلات، وأتم الإنعام. ذكر روك [2] الإقطاعات بالمملكة الحلبية وفى هذه السنة أمر السلطان بروك المملكة الحلبية، فإنه لم يتأخر من الممالك بغير روك سواها، وتوجه لذلك الأمير علاء الدين مغلطاى [3] الجمالى الناصرى مدبّر المملكة فى العشر الأخر من جمادى الآخرة وصحبته مكين الدين إبراهيم بن قروينة مستوفى الصحبة، وكان عوده فى يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رمضان، وحصل الانتصاب لتحرير الرّوك، وتعين فيه جملة أقطع عليها جماعة من المماليك السلطانية والحلقة، وفيها فى يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رمضان/ (203) عادت رسل السلطان من جهة الملك أزبك صاحب البلاد الشمالية، وهم: الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهرى، والأمير بدر الدين بيليك السّيفى السّلارى المعروف بأبى غدّة، وصحبتهما رسله ورسل الأشكرى [4] ، ومعهم التقادم، فسمع السلطان رسالتهم، وأنعم عليهم، وأعادهم صحبة رسله، وهم الأمير سيف الدين أضجلى [5] أحد الأمراء، وسيف الدين قرادمر أحد المقدمين، وأصحبهم

_ [1] زيادة عن السلوك (2/262) وترجمته فيه، وفى النجوم الزاهرة (9/298) والدرر الكامنة (3/281) . ووفاته سنة 733 هـ بعد أن جاوز الرابعة والتسعين. [2] الروك: لفظ جرى فى مصطلح الإدارة المالية بمصر والشام فى العصور الوسطى للدلالة على عملية قياس الأراضى ومسحها، وتقويم العقارات الثابتة ومتعلقاتها مرة كل ثلاثين سنة. وهو ما يعرف اليوم باسم فك الزمام وتعديله، وهو مأخوذ من الكلمة القبطية روش، ومعناها قياس الأرض بالحبل (السلوك 2/146 حاشية 1) وانظر: التذكرة التيمورية ص 193. [3] الأمير علاء الدين مغلطاى بن عبد الله الجمالى كان يلقب بخرز- بضم الخاء وسكون الراء- ومعناه: ديك. ترجمته فى الدرر (4/354) وسيورد النويرى وفاته فى سنة 730 هـ. [4] فى فهرس النجوم الزاهرة الجزء التاسع ص 343: الأشكرى: صاحب الدولة البيزنطية. [5] كذا فى ك، وأ ص 203 ولم تتضح لنا صحته.

ذكر وفاة الأمير ركن الدين بيبرس [1] المنصورى

الهدايا، فتوجهوا، وكان خروج رسل الملك أزبك من بين يدى السلطان فى يوم الاثنين السادس من شوال، بعد أن شملهم بالخلع والإنعام، وتوجهوا فى يوم الجمعة عاشر الشهر. ذكر وفاة الأمير ركن الدين بيبرس [1] المنصورى / وفى ليلة الخميس المسفر صباحها عن خامس عشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة كانت وفاة الأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورى، وهو من أكابر مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون فى زمن إمرته، وكان رحمه الله تعالى أجلّ الأمراء فى وقته لا يتخطّاه أحد، ولا يجلس فى مرتبته، وهو رأس الميسرة [2] ، وتأمّر فى ابتداء الدولة المنصورية السيفية، ثم فوض السّلطان الملك المنصور إليه نيابة قلعة الكرك كما تقدم، ونقل منها إلى الديار المصرية فى جملة الأمراء فى الدولة الأشرفية الصّلاحية، وردّ إليه فى/ (204) ابتداء الدولة الناصرية أمر ديوان المكاتبات لصغر سن السّلطان فى ذلك الوقت، وتنقلّ فى المراتب؛ فكان ينوب عن السلطنة الشريفة فى الغيبة، ثم ولى نيابة دار العدل الشريف، ونظر البيمارستان المنصورى فى أول الدولة النّاصريّة الثالثة، ثم فوض إليه نيابة السلطنة الشريفة استقلالا، ثم قبض عليه بعد ذلك، وأفرج عنه كما تقدم ذكر ذلك، واستقر فى جملة أكابر الأمراء، وجلس رأس الميسرة، وكان رحمه الله تعالى مولعا بالتاريخ، يديم مطالعته، وألف كتابا سماه: «زبدة الفكرة فى تاريخ الهجرة [3] » فى أحد عشر مجلدا، وتاريخا مختصرا منه فى مجلدين، واستعان على تأليفه فى ابتدائه بكاتبه شمس الرئاسة بن كبر [4] النصرانى، وكان الأمير ركن الدين رحمه الله تعالى من بقايا الخير. ولما مات فرق السلطان إقطاعه، فأعطى الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى مدبّر الدولة وأستاذ الدار العالية منه خمسين فارسا على ما بيده،

_ [1] ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصورى الخطائى الدوادارى ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/509 و 510) والمقريزى (السلوك 2/269) وابن تغرى بردى (النجوم 9/263) . [2] فى النجوم الزاهرة (9/264) «رأس الميمنة» . [3] هذا الكتاب رأيت نسخة منه مصورة فى مكتبة جامعة القاهرة سنة 1950. [4] فى ك تقرأ «ركبى» وما أثبتناه من «أ» ص 204 لموافقته (النجوم 9/264) والسلوك (2/269) والدرر (1/510) وعبارته نقلا عن الصفدى: «وأعانه على كتابة التاريخ كاتب له نصرانى يقال له «ابن كبر» .

ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب وتنقل الأمراء فى الإقطاعات والتقادم

وقدمه على ألف فارس، وأعطى بقيته للأمير سيف الدين بلبان السّنائى [1] أحد أمراء العشرات وأمّره بطبلخاناه، وجعل الأمير عز الدين أيدمر الخطيرى [2] رأس الميسرة. وفى سنة خمس وعشرين أيضا كان عيد الفطر بالقاهرة، والديار المصرية فى يوم الأربعاء، وأما دمشق فإن الناس ارتقبوا الهلال فى ليلة الثلاثاء فلم يره أحد، فصلى الناس التراويح، وسحّر المؤذّنون بالمواذن [3] ، وأصبح الناس صياما إلى نصف النهار، ثم ثبت على الحكام/ (205) بدمشق رؤية الهلال، ونودى بذلك، وأفطر الناس بقية النهار، وصلى صلاة العيد فى يوم الأربعاء قضاء بالجامع الأموى دون المصلى، نقلت ذلك من تاريخ الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالى ... وفيها توجه الحاج على العادة وكان رحيل المحمل السلطانى من بركة الجب فى يوم الجمعة سابع عشر شوال، وأمير الحاج الأمير سيف الدين طرجى [4] أمير مجلس، فلما وصل الناس إلى منزلة السويس، حصل حر شديد مفرط، وقل الماء، فرجع من الناس خلق كثير من الأعيان وغيرهم. ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب وتنقل الأمراء فى الإقطاعات والتّقادم قد ذكرنا فى هذه السنة أن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب [5] عاد من بلاد اليمن بمن معه من العسكر فى يوم السبت الثالث من ذى القعدة، وأنه خلع

_ [1] بلبان السنائى: كان أحد أمراء الناصر، وولاه نيابة ألبيرة ثم الأستادارية بالقاهرة زمن الناصر حسن وتوفى سنة 754 هـ (عن الدرر 1/493) . [2] كذا فى الأصل، ومثله فى أص 204، وكذلك فى السلوك (2/269) وفى النجوم (9/312) أصله من مماليك الخطير الرومى والد مسعود، وفى الدرر (1/429) الحظيرى- بالحاء والظاء المعجمة- من مماليك أوحد بن الحظير توفى سنة 738 هـ. [3] كذا فى الأصل ومثله فى أص 205 وصوابه المآذن جمع المئذنة. [4] فى النجوم (9/287) سيف الدين طرجى بن عبد الله الساقى أمير مجلس، وفى تاريخ سلاطين المماليك «أطرجى» مات سنة 731 هـ. [5] بيبرس الحاجب- ترجمته فى الدرر الكامنة (1/508) ووفاته سنة 743 هـ.

عليه وعلى الأمراء فى يوم الاثنين خامس الشهر، وقدم تقدمته، وأهدى للأمراء هداياه، وقبل ذلك منه، ثم أعطى بعد ذلك بأيام قباء الشّتاء بطردوحش. فلما كان فى يوم الاثنين تاسع عشر الشهر المذكور، وحضر إلى الخدمة السلطانية على عادته، ومشى فى خدمته نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون [1] إلى دار النيابة، فقال له نائب السلطنة: قد برز أمر السلطان أن تتوجه إلى نيابة السلطنة وتقدمة العسكر/ (206) بغزّة، فظن أن المراد بذلك القبض عليه، فامتنع من قبول الولاية، فقال: ما المملوك من هذا القبيل، أنا من جملة أوشاقية السلطان، فإن كان قد رسم فىّ بأمر فمن الآن، وحل سيفه بيده، فغضب نائب السلطنة منه، وعوّقه بدار النيابة، واجتمع بالسلطان، وأخبره بذلك، فأرسل السلطان إليه الأمير سيف الدين قجليس [2] أمير سلاح، وأمره بأنه متى أصر على الامتناع يقتله، فكلمه فى ذلك وراجعه، فصمم على أنه لا يتوجه إلى غزة أبدا، واختار الاعتقال على ذلك، فاعتقل [فى برج عند باب القلعة] [3] وخرج إقطاعه للأمير سيف الدين طينال، وفرق إقطاع طينال، فكمل للأمير سيف الدين أيتمش المحمدى مائة فارس، وقدم على ألف، وأمر فى يوم الخميس الثانى والعشرين من الشهر اثنان بطبلخاناة، أحدهما: على ما بقى من الإقطاع المحلول عند تنقل الأمراء، والثانى: على إقطاع الأمير سيف الدين، ونقل بهادر البدرى إلى نيابة السلطنة [بقلعة الكرك، وتضمن تقليده أن يكون نائبا عن أولاد السلطان بالكرك، ونقل نائب السلطنة بالكرك إلى نيابة السلطنة] [4] وتقدمة العسكر بغزة المحروسة. وعرض السلطان فى يوم الخميس المذكور المماليك الكتابية، وعين منهم سبعين مملوكا لخدمة ولده الذى تقرر إرساله إلى الكرك.

_ [1] أرغون بن عبد الله الناصرى، نائب السلطنة، ثم نائب حلب من مماليك الناصر محمد بن قلاوون اشتراه ورباه وتبنى به، ومات بحلب فى ربيع الأول سنة 731، وانظر فى ترجمته وأخباره (الدرر 1/351) والنجوم (9/288) والسلوك (2/268 و 339 حاشية 1) . [2] قجليس بن عبد الله: أمير سلاح، كان من خواص الناصر يندبه فى المهمات، وزوجه ابنته. انظر ترجمته فى الدرر 3/243 و 244) والنجوم (9/287) والسلوك (2/339) ووفاته سنة 731 هـ. [3] عبارة «ك» فى هذا الموضع مضطربة ونصها: «فاعتقل بالبرج المعروف بالأتابكى بعد أن رسم لبهادر العلمى نائب الصاح بتقييده، فقيد «وما أثبتناه من «أ» ص 206 ومثله فى السلوك (2/268) . [4] ما بين الحاصرتين سقط من ك، وأثبتناه من «أ» ص 206.

ذكر توجه السلطان إلى الصيد والإفراج عمن نذكر من الأمراء

وفيها، فى يوم الاثنين ثالث ذى الحجة أمر السلطان/ (207) بالقبض على الأمير أبى إسحاق إبراهيم ولد [1] أخى الخليفة أبى الربيع سليمان، واعتقاله، وسبب ذلك أنه تزوج امرأة مغنية تعرف بفالحة بنت [2] المغربية، فوقفت أمها للسلطان، وشكته، وادعت أنه تمم على الشهود، وأحضر امرأة غيرها، وسماها باسمها، واستأذنها الشهود فأذنت، وعقد العقد عليها ولم تكن هى، وادعى هو أن العقد إنما وقع عليها دون غيرها، وشهد الشهود بصحة العقد، فأمره/ السلطان بطلاقها، وأرسل إليه يقول: إنكم من بيت الخلافة، ولا يصلح أن تفعل مثل هذا، وزواج هذه عار عليك، فصمم على ألا يفارقها، واعتذر أنه يمسكها خشية أنه إذا فارقها تعود إلى الغناء، فيكون عليه عارها، فرسم السلطان أنها لا تمكن من الغناء، وراجعه فى طلاقها، فأصر وأبى ذلك، وامتنع منه، فأمر باعتقاله، فاعتقل بالبرج فى قلعة الجبل، وادعى أنه غرم عليها نحو خمسين ألف درهم، وأمر السلطان أن يستخرج ذلك منها، واعتقلت عند الشيخة البغدادية، وأخذوا جواريها المغنيات، وبقى الأمير إبراهيم المذكور فى الاعتقال أياما أفرج عنه نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغن، وأرسل إليه مع بهادر العلمى نائب الفتاح [3] يقول له: رسم لك السلطان إن لم تطلقها حصل لك ما لا يمكن أن تستدرك فارطه، وأشهد عليه بطلاقها، فعرفه بهادر المذكور الرسالة، وشدد عليه الجواب، وما فارقه إلى أن شهد عليه بطلاقها، فتوجه بهادر، وعرف الأمير سيف الدين أرغن أنه تلفظ بالطلاق، [فشاور عليه السلطان فأفرج عنه] [4] حين أذن، ففارقها وعادت لما كانت عليه من الغناء. ذكر توجه السلطان إلى الصيد والإفراج عمن نذكر من الأمراء وفى هذه السنة فى يوم الخميس الثالث عشر من ذى الحجة توجه/ (208) السلطان إلى الصيد المبارك، وقصد جهة [البحيرة] [5] .

_ [1] كذا فى الأصل ومثله فى أ، وفى السلوك (2/268) إبراهيم بن الخليفة أبى الربيع وأبو الربيع هو «المستكفى بالله سليمان بن أحمد الخليفة العباسى «كانت وفاته بقوص سنة 740 هـ (الدرر 2/141) . [2] فى «أ» ص 207 «مغنية تعرف بابنة المغربية» . [3] كذا فى الأصل ولم يتضح المراد. [4] ما بين الحاصرتين زيادة لم ترد فى نسخة «أ» ص 207. [5] فى «أ» ص 208 غير منقوطة، وفى «الأصل» تقرأ البحيرة، وفى السلوك (2/269) الجيزة وما اخترناه أنسب للسياق.

ولما قارب ثغر الإسكندرية أرسل الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى مدبر المملكة وأستاذ دار العالية إلى الثغر، وأمره بالإفراج عن الأميرين سيف الدين طاجار المحمدى [1] ، وسيف الدين كيتم [2] ، وأمره أن يكشف أحوال الأمراء المعتقلين بالثغر، ومن اختار أن يكتب قصة [3] فليستصحبها معه، ففعل ذلك، وكتب الأمراء قصصا بما أحبوا، وامتنع الأمير بهادر النقوى [4] أمير جاندار- كان- والأمير سيف الدين بلبان الشمسى من كتابة قصة، وقالوا: نحن لنا ذنوب عند السلطان، وبأى وجه نرفع إليه قصة، فلما عاد الأمير علاء الدين إلى السلطان عرض على السلطان قصص الأمراء وأخبره بامتناع الأميرين المذكورين من كتابة قصة، وبما قالاه، فشملتهما عواطفه، وأمر بالإفراج عنهما، وأحضرا إلى المخيم المنصورى، وخلع على الأمراء الأربعة المذكورين، وحضروا إلى القاهرة فى يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذى الحجة. وفيها فى ليلة الأحد ثامن عشر صفر توفى الشيخ الإمام المقرئ المتقن المعمر تقى الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن على بن سالم ابن مكى المصرى الشافعى المعروف بالصائغ [5] شيخ القراءات فى وقته، وكانت وفاته بمصر، وصلى عليه يوم الأحد بعد صلاة الظهر بالجامع العمرى بمصر، وأمّ الناس فى الصلاة/ (209) عليه قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى، ودفن بالقرافة، ومولده فى ثامن عشر جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وستمائة بمصر، قرأ القرآن على الكمال الضرير، وسمع الحديث من الرشيد العطار، وابن البرهان، وغيرهما رحمهما الله تعالى. وتوفى فى ليلة السبت مستهل شهر ربيع الأول الخطيب جمال الدين محمد بن الخطيب تقى الدين محمد بن مجد الدين الحسن بن الشيخ تاج الدين

_ [1] هكذا فى الأصل، ومثله فى أص 208 وكذلك فى السلوك (2/269) وفى النجوم (9/146) والدرر (2/213) طاجار الماردينى الناصرى. [2] الضبط من الدرر (3/270) وترجمته فيه، ووفاته سنة 749 هـ. [3] القصة- فى اصطلاحهم- تعنى الشكوى أو الالتماس. [4] فى «أ» ص 208 ما قبل القاف غير منقوط، والتحرير من السلوك (2/269) والدرر (1/498) . [5] فى «أ» ص 208 غير منقوط، وفى ك الصانع، وما أثبتناه من السلوك (2/270) والدرر (3/320) وله فيه ترجمة طويلة.

أبى الحسن [1] على بن أحمد بن على بن [أحمد] [2] بن القسطلانى خطيب جامع قلعة الجبل المحروسة، وإمام الجامع العمرى بمصر، ودفن من الغد بالقرافة، سمع من ابن خطيب المزّة، وصحب الشيخ العارف أبا محمد المرجانى، وحج معه ولازمه، ومولده سنة ثلاث وستين [3] وستمائة تقريبا، وخطب بالجامع العمرى بمصر بعد والده فى سنة خمس وتسعين وستمائة، وخطب والده بالجامع المذكور قبله ثمانى عشرة سنة. ولما مات الخطيب جمال الدين، عرض جماعة من الخطباء على السلطان وخطب كل منهم بجامع القلعة، ومنهم من خطب فى مجلس السلطان فى غير يوم الجمعة، ثم استقرت الخطابة بجامع قلعة الجبل باسم ابن أخيه الخطيب تقى الدين بن الخطيب نور الدين، واستقر ولده الخطيب زين الدين أحمد [بن جمال الدين [4]] فى خطابة جامع عمرو بمصر، وإمامته ونظره. وتوفى فى يوم السبت الحادى والعشرين من شهر/ (210) ربيع الآخر من السنة الشيخ الفقيه المفتى شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح القرقشندى [5] الشافعى، أحد المفتين، وأحد المعيدين بزاوية الإمام الشافعى بالجامع العمرى بمصر، ودفن من يومه بالقرافة، رحمه الله تعالى. وفيها. فى يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الآخر، توفى القاضى الفقيه الإمام العالم سراج الدين يونس بن عبد المجيد بن على بن داود الهذلى الشافعى الأرمنتى، قاضى الأعمال القوصيّة، وكانت وفاته بظاهر مدينة قوص بالمشهد الذى يسكنه الحكام بقوص من لسعة عقرب [6] ، ومولده بأرمنت من عمل قوص فى المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان فقيها فاضلا أصوليا وله مصنفات وشعر ليّن، رحمه الله تعالى.

_ [1] لم يرد هذا الجد فى سلسلة نسبه كما أورده الدرر (4/173) والسلوك (2/270) والنجوم (9/265) . [2] فى «أ» ص 209 محمد، ومثله فى النجوم (9/265) وما أثبتناه عبارة الأصل، والدرر (2/173) والسلوك (2/270) . [3] فى الدرر (2/173) سنة ثلاث وسبعين وستمائة. [4] زيادة عن: السلوك (2/270) . [5] فى السلوك (2/270) والنجوم (9/265) وقوانين الدواوين ص 167 رسمت باللام مكان الراء (قلقشنده) وفى الدرر (4/485) بالراء كما أوردها النويرى هنا، وفى القاموس الجغرافى لمحمد رمزى (1/46) قرقشنده، واسمها القديم قلقشنده: من بلاد مركز طوخ بالقليوبية. [6] فى الدرر (4/488) من لسعة ثعبان.

وتوفى فى الليلة المسفرة عن ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة القاضى فتح الدين محمد بن القاضى كمال الدين أحمد بن عيسى السّعدى المعروف بابن القليوبى [1] وكان فيما مضى ينوب عن قاضى القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعى فى بعض الأعمال، ونقل إلى قضاء [2] صفد نيابة عنه أيضا، ثم صرف منها، وعاد إلى الديار المصرية، فناب فى أعمال الدقهلية والمرتاحية عن قاضى القضاة المشار إليه، ونقل إلى قضاء أبيار [3] ، ثم عزل وعطل مدة، حتى ضاق عليه الحال، فتوجه/ إلى مدينة المحلة، وناب بها عن القاضى عز الدين الحاكم بالغربية/ (211) مدة تقارب أربع سنين، ثم فارق الجهة، وحضر إلى القاهرة وهو مضعف، فاستمر به المرض، واشتدت علته إلى أن مات رحمه الله تعالى، ودفن بالقرافة، وكان رحمه الله رجلا كريما فاضلا جيد الشعر والنثر، جيد البديهة لسنا حسن الفكاهة والمحاضرة والمذاكرة، رحمه الله وإيانا، وكان بينه وبين نجم الدين سعيد بن أحمد بن عيسى الغمارى المالكى [4] عداوة مستحكمة ثابتة على الحكام، فلما أيس من الحياة أرسل إليه، وسأله الصلح عما مضى والمحاللة، ففعل، ثم لم تطل حياة نجم الدين المذكور بعده، فإنه مرض أثر ذلك، ومات بالمدرسة الصالحية النجمية فى ليلة الخميس ثانى جمادى الآخرة ودفن من الغد بمقبرة باب النصر رحمه الله تعالى وإيانا. وتوفى فى عشية الأربعاء قبل أذان المغرب فى الثانى والعشرين من جمادى الآخرة الشيخ المحدث نور الدين أبو الحسن على بن جابر بن على بن موسى بن خلف بن منصور بن عبد الله بن مالك [5] الهاشمى الشافعى المعروف

_ [1] لم ترد وفاته فى النجوم ولا فى السلوك ضمن وفيات هذه السنة، وقد أورد ابن حجر له ترجمة ناقصة فى الدرر (1/233) وذكر اسمه: أحمد بن عيسى بن رضوان القليوبى. [2] صفد: من بلاد الشام من جبل لبنان (تاج العروس 2/400) وفى L Zettersteen LL ص 172 رسمت بتاء مكان الدال. [3] أبيار: من أعمال محافظة الغربية بمصر- ذكرها ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 95) وفى مراصد الاطلاع (1/21) قرية بجزيرة بنى نصر. [4] سعيد بن أحمد بن عيسى الغمارى نجم الدين- ترجمته فى الدرر (2/134) ووفاته سنة 725 هـ. [5] مكان هذا الجد فى الدرر (3/35) «.. ابن أبى بكر» وأورد له ترجمة مطولة، وطائفة من أشعاره.

باليمنىّ شيخ الحديث بالقبة المنصورية، وكانت وفاته بالمدرسة الظاهرية، وصلى عليه فى يوم الخميس بالمدرسة المذكورة، وأمّ الناس فى الصلاة عليه قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم صلى عليه بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، وكانت جنازته مشهودة، ودفن بالقرافة./ (212) ومولده بمكة شرفها الله تعالى، فى سنة ثمان وأربعين وستمائة تقريبا [1] ، وكان رحمه الله جيد النظم، ورحل إلى الهند وغيره من البلاد، وخلف كتبا كثيرة جدا. وولى تدريس الحديث بعده بالقبة المنصورية الشيخ العالم زين الدين عمر ابن أبى الحزم [2] بن يونس الشافعى المعروف بابن الكتّانى وجلس لإلقاء الدروس بالقبة فى يوم الأربعاء رابع عشر رجب، وتكلم الناس عليه لقبوله الولاية، فإنه لم يشتهر بطلب الحديث، ولا الاشتغال به وأما فقهه ومعرفته بمذهب الإمام الشافعى فغير مدفوع عنه. وفيها فى ليلة الخميس السادس من شعبان كانت وفاة الشيخ الصالح الإمام العالم القاضى عز الدين أبى عبد الله محمد بن الشيخ كمال الدين أبى العباس أحمد بن الشيخ جمال الدين أبى إسحاق إبراهيم بن يحيى بن أبى المجد اللخمى المعروف جده جمال الدين بالأسيوطى [3] ، قاضى الكرك بها، وكان قد وليها فى شهر رجب سنة ست وتسعين وستمائة من قبل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى، واستقر بها إلى أن مات، ومولده بالقاهرة المعزية بالجامع الظافرى المعروف الآن بالفاكهى [4] عند أذان الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة،

_ [1] فى الدرر (3/35) أن الزركشى ذكر أن مولده سنة 647 هـ، قال وبه جزم الذهبى. [2] ترجمته فى الدرر (3/161) وذكر اسمه عمر بن أبى الحرم- براء مكان الزاى- بن عبد الرحمن بن يونس الدمشقى ثم المصرى الشافعى المعروف بابن الكتانى تصدر بالجامع الحاكمى ودرس بالمنكوتمرية، وأعاد بالقراسنقرية، ومات سنة 738 هـ. [3] فى «أ» ص 212 (الأميوطى) وانظر الدرر (4/159 و 160) . [4] فى «أ» ص 212 الفكاهين. والمثبت من «ك» وفى تاريخ المساجد الأثرية 74، ذكر أن اسم الجامع الأفخر المعروف الفاكهانى، وقال: إن الذى أنشأه الظافر بنصر الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبى الميمون عبد المجيد بن الآمر بأحكام الله سنة 543 وفى القرن السابع الهجرى عرف بجامع الفاكهيين.

ودفن بمقبرة تعرف بالقبر الجديد، وكان رحمه الله فقيها عالما متقنا محققا من أجلّ مشايخ القراءات،/ (213) والعلوم مقتصدا فى مأكله وملبسه وسائر أحواله، وكان من قضاة العدل والحق، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ولا يخشى سطوة ملك، تساوى عنده فى الحق الآمر والمأمور، رحمه الله تعالى. وتوفى فى ليلة السبت الثانى والعشرين من شعبان الشيخ الفاضل العالم البارع شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبى، ثم الدمشقى كاتب الإنشاء بدمشق، وصلى عليه بجامعها، ثم بسوق الخيل، ودفن بسفح قاسيون، بتربة بناها لنفسه، ومولده فى شعبان سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان رحمه الله رجلا فاضلا، كاتبا أديبا شاعرا، انتهت إليه كتابة الإنشاء، ولو قيل فيه كاتب الشرق والغرب لاستحق ذلك غير مدفوع عنه ولا منازع فيه [1] ، وكان يكتب التقاليد والتواقيع والمناشير من رأس [2] القلم، ويأتى فيها بما لم يأت به سواه مع الفكرة والرويّة، رحمه الله تعالى، وولى بعده كتابة الإنشاء بدمشق ولده شمس الدين محمد، رسم له بذلك فى شهر رمضان من السنة باعتناء نائب السلطنة بالشام به، وقدم على غيره لهذه الوظيفة مع توفر الأعيان والأكابر بدمشق. وفيها فى يوم الخميس رابع شهر رمضان توفيت الست الجليلة فالحة [3] ابنة الملك الأمجد، مجد الدين حسن بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، ودفنت من يومها بالتربة المعظمية بسفح قاسيون، وتعرف هذه المتوفاة «بدار دينار» وكان لها بر ومعروف وإيثار، رحمها الله تعالى.

_ [1] ترجمته فى الدرر (4/324) وذكر ابن حجر من مؤلفاته: حسن التوسل فى صناعة الترسل، ومن شعره مجموعة من المدائح النبوية أسماها: أهنى المنائح، فى أسنى المدائح، وفى السلوك (2/270) أنه مات عن إحدى وثمانين سنة. [2] يعنى النويرى بهذا التعبير سرعة البديهة والقدرة على الارتجال» . [3] فى «أ» 213 (فاطمة) .

/ ذكر غرق مدينة بغداد

وتوفى فى يوم الجمعة خامس شهر رمضان الأمير شرف الدين عيسى بن عمر البرطاسى [1] الكردى، أحد أمراء الطبلخاناة بمدينة طرابلس، وشادّ الدواوين بها، وكان رحمه الله تعالى رجلا شهما شجاعا مقداما، وأنشأ مدرسة بمدينة طرابلس، رافقته فى سنة عشر وسبعمائة بطرابلس، فكان حسن المرافقة، كثير الاحتمال، رحمه الله تعالى. وفيها فى الرابع والعشرين من شهر رمضان قتل الأمير السيد الشريف ناصر الدين أبو عامر منصور بن الأمير عز الدين جمّاز بن شيحة الحسينى أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، قتله شاب من أقاربه بالبرية [2] ، وكان قد كبر وأسن، وولى إمرة المدينة بعده الأمير بدر الدين كبيش [3] . وفيها فى يوم السبت ثالث ذى القعدة توفى نجم الدين أبو بكر بن القاضى بهاء الدين محمد ابن الشيخ بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر، كان بالمدرسة الناصرية بالقاهرة وكان يقول: إن ما يخاطب به يستغنى الآن عن إعادته، ولم يزل يدعى ذلك إلى آخر وقت، رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. / ذكر غرق مدينة بغداد وفى جمادى الأولى من هذه السنة زادت دجلة زيادة عظيمة، وكان ابتداء الزيادة فى يوم السبت ثالث عشر الشهر، واستمرت الزيادة إلى يوم الثلاثاء، وعظمت فغرق دائر البلد جميعه، بحيث أنه ما بقى أحد من الناس يستطيع الخروج من البلد، وانحصر الناس واجتهدوا فى عمل السّكورة [4] ، وتساوى فى العمل الرئيس والمرءوس، والكبير والصغير، [ونقل التراب- حتى الحكام

_ [1] فى الدرر (3/208) : عيسى بن عمر بن عيسى الكردى: شرف الدين البرطاسى ولد سنة 665 وولى شد الدواوين بطرابلس. [2] فى السلوك (2/269) أن الذى قتله هو حديثه- بضم أوله وفتح ثانيه- وهو ابن أخيه. [3] هكذا فى ك، وقد ضبطه محقق السلوك (2/269) كبيشه- بضم أوله وفتح ثانيه- نقلا عن القلقشندى (صبح الأعشى 4/301) وفى ابن حجر كبيس بسين فى آخره (الدرر 3/262 فى النجوم (9/264) كبيش بن منصور بن جماز الحسينى المدنى. [4] يقال سكر النهر ونحوه: سده وحبسه، والسكر- بكسر السين- ما يسد به النهر، والجمع سكور.

والقضاة والمترفين- فى حجورهم] وبقيت بغداد جزيرة فى وسط الماء، واستدار الماء عليها، ودخل الماء الخندق وكان له هدير عظيم، وغرق ما حول البلد، وخربت أماكن كثيرة منها البازار [1] ، وسائر الترب والبساتين والسواد [2] والجانبين المتقابلين لسوق الخيل والدكاكين والساباط [3] ، وخرب بستان الصاحب جميعه، والمصلى، وبعض الكمش، وسائر البساتين التى حوله، ووصل الماء إلى الثلاث نخلات، ووقعت قبة الجعفرية [4] ، وخربت مدرسة عبيد الله، وغرقت خزانة الكتب التى بها، وكانت فيما قيل تساوى عشرة آلاف دينار، وسطّح الماء وعلا بمقدار عشر قامات، وكان الإنسان إذا وقف لم ير ما امتد بصره إلا ماء وسماء، وفتح فى الرّقّة [5] وخرّب إلى الحارثية، وما ترك طرفه قائمة، وغرق خلق كثير من المزارعين الذين كانوا عند زروعهم ممن لم يحسن السباحة، وغرقت بساتين الرّقّة مثل بستان القاضى، وبستان ابن العفيف، والخاتونى، وبستان جمال الدين الدكروالى، وغرقت بساتين الحارثية، مثل: بستان الخادم، وابن الأمليس، وسديد الدولة، وبقى الناس فى خلقة ضيّقة، وامتنعوا من النوم ليلا والمعايش نهارا من شدة الزّعقات [6] ، وخوف الغرق، وغلق البلد ستة أيام، والناس ينظرون إلى الخندق والشط هل زاد أو نقص، وتحول كثير من الناس إلى المحال العالية مثل تل الزينية، وتل اللوازه بالمستضيئيّة، وأسكرت سائر أبواب المحال العالية ببغداد، وأبواب الخانات بها، وسد باب خان السلسلة، وبقى إذا انفتح من الخندق فتح تداركه الناس بالسد، والناس يدورون فى الأسواق مكشوفى الرءوس، والرقعات الشريفة على رءوسهم، وهم يضجّون بالبكاء ويخرّون إلى الله تعالى، ويسألونه كشف هذه الحادثة عنهم، وودّع بعض الناس بعضا، ولو انخرق إليهم من الخندق أدنى شىء لغرقوا، وزاد الماء فى الخندق حتى ركب القنطرة الجديدة بسوق الخيل،

_ [1] البازار: السوق (فارسية معربة) . [2] السواد: جماعة الشجر والنخل والنبات، لأن الخضرة تقارب السواد، ويقال: خرجوا إلى سواد المدينة أى إلى ما حولها من القرى والريف، ومنه سواد العراق (المعجم الوسيط) . [3] الساباط: سقيفة بين حائطين أو دارين، يمر من تحتها طريق نافذ (لسان العرب) . [4] الضبط من (المراصد 2/626) والرقة المقصودة هنا هى البستان المقابل لدار الخلافة ببغداد. [5] الجعفرية: محلة كبيرة مشهورة فى الجانب الشرقى من بغداد (المراصد 2/336) . [6] جمع الزعقة، وهى المرة من الصياح، يقال زعق- كفتح- إذا صاح صيحة فزع (المعجم الوسيط) .

وعلا فيها أكثر من ذراعين، وبلغ الماء إلى شباك دار شيخ المشايخ، ولو لم يعلّ السور بالسّكر كان انقلب إلى البلد، ولولا ما حصل من هذه البثوق- بثق الخندق، وبثق الرّقّة، وبثق التعسار- لغرقت بغداد. قال الناقل: ومع ذلك فإلى عشر سنين ما يمكن عمارة ما خرب بالجانب الغربى؛ فإنه غرق أكثره، وغلت الأسعار أياما، ثم نقص الماء بعد أن أشرف الناس على الهلاك، وكان ابتداء النقص يوم الأربعاء، وذكر القاضى ابن السباك: أن جملة ما خرب من البيوت بالجانب الغربى خمسة آلاف وستمائة بيت. نقلت ذلك- وبعضه بمعناه- من تاريخ الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالى، وقال فى تاريخه: إنه كتبه من كتاب ابن الساعى، وأنه اختصر بعضه. ومن غريب ما وقع فى ذلك الغرق أن مقبرة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل تهدمت قبورها، ولم يبق إلا قبر الإمام أحمد فإنه سلم من الغرق، واشتهر هذا الأمر بها واستفاض. قال: وورد كتاب شمس الدين بن منتاب يتضمن أن الماء حمل خشبا عظيم الخلقة، وزنت خشبة منه فكانت بالبغدادى ستمائة رطل، وجاء على الخشب حيّات كبار خلقتهن غريبة منها ما قتل، ومنها ما صعد فى النخل والشجر، وكثير منها مات، ولما نضب الماء أنبت على الأرض نباتا صورته صورة البطيخ، وشكله على قدر الخيار وفى طعمه محوحه [1] ، وأشياء غريبة الشكل من النبات. قال: ومحلة الصّراصرة صعد الماء فى دورها إلى الوسط وأكثر وأقل، وذكر أشياء من أمر الغرق اختصرتها، قال: وأما محلة الرقيقة [2] فإنها بقيت أرضا بغير حائط قائم، وغرقت مقبرة معروف، وتربة بنت المنذر وغيرها. هذا ملخص ما حكاه مما لخصه هو، والله تعالى أعلم بالصواب.

_ [1] لم يتضح بالأصل، ولعله تحريف «حموضة» . [2] هكذا فى ك، وفى المراصد 2/627 الرقيق (شارع دار الرقيق) : محلة ببغداد متصلة بالحريم الظاهرى قال مؤلفه (صفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحق المتوفى سنة 739) قد بقيت منها بقية بها سوق الحريم الآن.

واستهلت سنة ست وعشرين وسبعمائة بيوم الأحد الموافق لثانى عشر كيهك من شهور القبط

واستهلت سنة ست وعشرين وسبعمائة بيوم الأحد الموافق لثانى عشر كيهك من شهور القبط ، والسلطان الملك الناصر بالوجه البحرى من الديار المصرية يتصيّد، والديار المصرية المحروسة فى غاية ما يكون من الرخاء والأسعار فى غاية الرّخص، والخبز العلامة ثمانية عشر رطلا بدرهم نقرة، والقمح الطيب الإردب بثمانية دراهم، والشعير الإردب بخمسة دراهم، والفول بستة دراهم، وسائر الحبوب رخيصة الأسعار إلى الغاية. هذا، وقد قصّر النيل فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة بحيث أن غالب بلاد الصعيد الأعلى صارت قليلة الرى جدا، ومع ذلك فإن الأسعار فى سائر أعمال الديار المصرية رخيصة متساوية، أو متقاربة فى الرخص. وفى شهر المحرم من هذه السنة عاد السلطان من الوجه البحرى وتوجه إلى/ «دهشور» من الأعمال الجيزية، وعاد إلى قلعة الجبل فصعد إليها فى الساعة الثالثة من يوم الخميس ثانى عشر الشهر، وأقام بها إلى يوم السبت الحادى والعشرين من الشهر، وتوجه فى بكرة هذا النهار إلى جهة سرياقوس [1] ، ودخل الخانكاه الناصرية، ورسم بزيادة عدد القراء بها، لتكملة مائة، ثم توجه منها وعدّى إلى بر الجيزية، ورسم بإنشاء جسر بها يحبس الماء ويصرف منه إلى جهة البحيرة، وأمر الأمراء ورجال الحلقة المنصورة بعمله، فعمل فى صفر. وتوجه السلطان إلى جهة الحمامات، وتصيد، ثم عاد إلى قلعة الجبل فى الساعة الثالثة من نهار الخميس ثانى شهر ربيع الأول، وتوجه إلى جهة سرياقوس، ثم توجه منها إلى الجيزية، ورتب من أحوال المباشرين ما نذكره، وتوجه من صفد إلى جهة الكحيليات لصيد الرخمة، فتصيد وعاد إلى قلعة الجبل فى العاشرة من يوم الثلاثاء الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول. ذكر وصول رسل متملّك الحبشة وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل متملّك الحبشة [2] ،

_ [1] سرياقوس: من القرى القديمة بمصر، وهى الآن إحدى قرى مركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية، تقع على الشاطىء الشرقى لترعة الإسماعيلية فى شمالى القاهرة، وتبعد عنها مسافة 18 كم. [2] فى السلوك (2/270 حاشية 1) أن متملك الحبشة حينذاك هو جبرة مصقل، واسمه الأصلى «عمدة صيون» وكان حكمه من (712- 743 هـ) وكان فى هذه الفترة يشن حروبا كثيرة ضد مسلمى الحبشة وقد أورد المقريزى هذا الخبر موجزا مشيرا إلى فحواه، ومما يذكر أن الكنيسة الحبشية كانت فى تلك الفترة تابعة لبطاركة الإسكندرية من النصارى اليعاقبة، ولم يكن يعين مطرانها إلا من طائفة الأقباط اليعاقبة بالديار المصرية، وانظر (صبح الأعشى 5/308) ودولة بنى قلاوون فى مصر ص 156.

ذكر عزل وتولية من يذكر من أرباب المناصب الديوانية بالدولة الناصرية

ومثلوا بين يدى المقام الشريف السلطانى بقلعة الجبل المحروسة فى يوم الاثنين سادس عشر المحرم. وكان مضمون رسالتهم عن ملكهم أنه بلغه أن كنائس النصارى بالديار المصرية غلّقت، وأن النصارى فى ذلّة وهوان، والتمس من السلطان الإحسان إلى النصارى، وفتح كنائسهم، وأنهم متى لم يعاملوا بالإحسان عامل من ببلاده من المسلمين وما بها من المساجد كما يفعل بأهل دين النصرانية وكنائسهم بالديار المصرية، وذكروا عنه أنه قال: نيل مصر الذى به قوام أمرها وصلاح أحوال ساكنيها مجراه من بلادى، وأنا أسده، ونحو هذا من الكلام، فضحك السلطان من كلامهم، واستقل عقل مرسلهم، وعوملوا بغاية الإطّراح والإهانة، وعادوا إلى مرسلهم. ذكر عزل وتولية من يذكر من أرباب المناصب الديوانية بالدولة الناصرية وفى هذه السنة- فى يوم الجمعة ثامن عشر صفر- رسم بإفصال القاضى شمس الدين عبد الله المعروف بغبريال من نظر [النّظّار] [1] والصحبة بالديار المصرية، وخلع عليه، ورسم له بعوده إلى دمشق على عادته الأولى، عوضا عن كريم الدين عبد الكريم [2] المعروف [بكريم الدين] [3] الصغير، وتوجه على خيل البريد فى يوم الاثنين الحادى والعشرين من الشهر، فوصل إلى دمشق فى بكرة نهار الاثنين ثامن عشر من الشهر، ورسم بطلب كريم الدين إلى الأبواب السلطانية، فوصل إلى المخيم المنصور السلطانى بالجيزية فى يوم الاثنين ثالث عشر [4] شهر ربيع الأول، وكانت الشاعة [5] قد قويت أن السلطان يفوّض

_ [1] الزيادة من السلوك (2/271) . [2] فى السلوك (2/271) كريم الدين أكرم الصغير، وفى الدرر (1/400) أكرم بن خطيرة- أو خطير- القبطى، كريم الدين الصغير، وتسمى لما أسلم عبد الكريم، وهو ابن أخت كريم الدين الكبير. [3] زيادة عن ابن حجر (الدرر 1/400) . [4] فى السلوك (2/271) أن وصوله كان فى يوم الاثنين سادس ربيع الأول، وفى الدرر (1/401) أن عوده من دمشق إلى مصر كان فى أواخر السنة. [5] فى ك غير واضحة، وفى «أ» رسمت «الساعة» والشاعة: الأخبار المنتشرة.

إليه نظر الدولة، ومن الناس من أشاع أنه يلى الوزارة، ومنهم من أشاع أنه يفوّض إليه نظر الوكالة السلطانية، وقلق الناس لذلك قلقا عظيما، فلما وصل إلى المخيّم السلطانى لم يجد قبولا من السلطان، وأنكر عليه إنكارا شديدا، ثم رسم له بملازمة داره بظاهر القاهرة، وطلب القاضى شرف الدين عبد الرحمن الخطير- وهو ناظر ديوان نائب السلطنة الشريفة- فى ليلة الثلاثاء سادس شهر ربيع الأول، وفوض إليه نظر النّظّار والصحبة، على عادة شمس الدين غبريال، وخلع عليه، وذلك بمنزلة سفط [1] من الأعمال الجيزية، وباشر ذلك، واستمر كريم الدين بمنزله بخط بركة قرموط، ومنع من فتح بابه، واجتماع الناس إليه إلى أن عاد السلطان إلى قلعة الجبل، فكتب له توقيع بإشارة الوزير الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى بنظر منفلوط، ورسم له بتشريف على عادة نظّار الجهة، فقلق لذلك قلقا شديدا، فاعتنى به نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون، وخاطب السلطان فى أمره، وأوضح له التحامل عليه، فقطع التوقيع، وبطل ما كان قد رسم به فيه. وفى ليلة الاثنين رابع شهر ربيع الآخر توجه كريم الدين المذكور إلى الحمّام فرصده جماعة [2] إلى أن خرج منه، فوثبوا عليه، وضربه أحدهم بسيفه، فالتقى الضربة بدبوسه، ثم هرب بفرسه، فسلم، وقتل اثنان ممن كانوا معه، وجرح الثالث، فأما أحد المقتولين فاحتمله الرجال الذين وثبوا على كريم الدين، فلم يعلم خبره، وأما الثانى فأثخنته الجراحة فمات فى يوم الاثنين صبيحة تلك الليلة، وأمسك الذى جرح وكان من الجند من أصحاب كريم الدين ممن كان معه فى الحمام، وقيل له: إنما كنت مع الذين قصدوا قتله، فاعتقل بسجن الولاية، وكان معه أيضا نفران من خير الحرسة، فمسكوا وقيّدوا، واستعملوهم فى جملة المقيدين بالعمارة السلطانية، وسأل كريم الدين عقيب هذه الحادثة أن يفسح له فى سكن القاهرة، فرسم له بذلك فسكنها.

_ [1] فى ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 150) سفط نهيا: من أعمال الجيزية. [2] فى السلوك (2/271) أن السلطان هو الذى رسم للوزير مغلطاى بقتل كريم الدين أكرم الصغير خفية، فتقدم الوزير إلى والى القاهرة بذلك، فوضع له أعينا يترقبون فرصة، إلى أن ركب من داره يريد الحمام بعد العشاء الآخرة من ليلة الاثنين رابع ربيع الآخر ... » ثم يسوق المقريزى بقية خبر كريم الدين بعبارة قريبة من عبارة النويرى هنا.

فلما كان فى يوم السبت تاسع شهر ربيع الآخر رسم السلطان بطلب كريم الدين وأولاده، فطلبوا إلى قلعة الجبل أشد طلب، وأحضروا بين يدى الوزير، / فطالبه بالمال، فقال: لا مال عندى، وأنا ما تعرضت لمال السلطان، وأشباه هذا من الكلام، فضرب ابنه سعد الدين فرج الله بالمقارع، وسلم ولده الصغير لمتولى القاهرة، وعرض كريم الدين على الضرب فوجد فى كمّه أوراقا تشتمل على مرافعات [1] ، وقصد الوزير أخذها منه، فامتنع، وقال: لا أسلمها إلا للسلطان، فطولع السلطان بذلك، فأرسل الأمير سيف الدين بلبان الساقى إليه، فتسلمها منه، وعرضت على السلطان، فطلب الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى الوزير، وأمره بالإفراج عن أولاد كريم الدين، وأن يكون هو عنده فى مكان من داره، ففعل ذلك فى اليوم المذكور، ثم رسم فى بقية النهار بعقوبة كريم الدين، وتقريره على المال، فسعّطه بالخل والجير [2] ، فناله من ذلك شدة عظيمة، حتى خرج الدم من حلقه، ورسم عليه وعلى ولده سعد الدين فرج الله فى بقية يوم السبت والأحد، ثم رسم بإخراجهما وإرسالهما إلى ثغر أسوان، فسأل كريم الدين أن يكون اعتقاله بغزّة، فلم يجب إلى ذلك، وأخرج من باب القرافة من فى أول يوم الاثنين الحادى عشر، شهر ربيع الآخر، هو وولده سعد الدين، فتسلمهما متوليا القاهرة ومصر وشادّ الصناعة، فتوجهوا بهما وحجّلا [3] فى سلّورة [4] ، وأرسلا إلى ثغر أسوان، وفرّق بينهما، فجعل كل منهما فى خنّ [5] لم يجتمع أحدهما بالآخر على ما بلغنى من المحقق للحال إلى أن وصلا إلى ثغر أسوان، فكان وصولهما فى ليلة الاثنين الخامس والعشرين من الشهر، فأنزل بدار تعرف بدار يحيى، وهى الدار التى [أنزل] بها من قبل

_ [1] عبارة السلوك (2/271) «وسلم أكرم إلى والى القاهرة فوجد فى كمه مرافعات فى جماعة من أهل الدولة..» . [2] يقال: سعطه الدواء، وأسعطه الدواء: إذا أدخله فى أنفه، والعبارة الواردة تشير إلى نوع من أنواع التعذيب فى مصر فى العصور الوسطى، وانظر (السلوك 2/271 حاشية 3) . [3] هكذا فى الأصل والمعنى قيدا، يقال حجل الدابة: قيدها، (المعجم الوسيط) . [4] الضبط من السلوك (2/271) وعلق عليها محققه بأنها نوع من السفن، والجمع سلالير. [5] الخن (والجمع أخنان) شبه المقاصير تكون فى السفن يأوى إليها الركاب من البرد وعند النوم ويرى فرامان L) L element Persanete (LL أن خن: معرب خانة الفارسية، ومعناها منزل (العرب والملاحة فى المحيط الهندى ص 227) .

ذكر وصول رسل الملك المجاهد متملك اليمن بالتقادم

كريم الدين الوكيل، فبات بها بعض ليلة الاثنين، ويوم الاثنين بكماله، وتوفى فى ليلة الثلاثاء فى الثلث الأول، ودفن فى بقية الليلة، ولم يصل عليه، ودفن بين مقابر المسلمين وأهل الذمة، أخبرنى بذلك القاضى شرف الدين شعيب بن القاضى جمال الدين يوسف السّيوطى [1] ، وهو الحاكم بثغر أسوان يومئذ. ذكر وصول رسل الملك المجاهد متملك اليمن بالتّقادم وفى هذه السنة فى سادس عشرين شهر ربيع الأول وصل إلى الأبواب الملكية السلطانية الناصرية رسل الملك المجاهد سيف الإسلام [2] على- المتقدم ذكره- وهو صاحب زبيد وتعزّ وما مع ذلك من بلاد اليمن، وهما: جمال الدين محمد بن يونس، وابن الجلال، وأحضرا على أيديهما كتاب مرسلهما، وتقادم وتحفا سنية، فمثلا بين يدى السلطان بعد عوده من الصيد، وقدما له ما أحضراه، فقبل ذلك، وأنعم عليهما بما جرت به عادة أمثالهما، وأعيدا إلى مرسلهما. ذكر إرسال الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى إلى أبى سعيد وفى يوم الخميس سابع جمادى الأولى من هذه السنة جهز السلطان الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى الناصرى- أحد الأمراء مقدمى الألوف- برسالة وهدية جليلة إلى الملك أبى سعيد صاحب العراقين وخراسان وما مع ذلك، فتوجه فى هذا التاريخ [3] ، وأقام بحلب مدة، ثم رسم بتوجهه، فتوجه وكان عوده إلى الأبواب السلطانية فى يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شعبان من السنة المذكورة.

_ [1] فى ابن حجر (الدرر 2/194) شعيب بن يوسف بن محمد الأسيوطى، وهما واحد. [2] الملك المجاهد نور الدين على بن داود بن يوسف بن عمر بن على بن رسول ملك اليمن (العقود اللؤلؤية) . وفى ابن حجر (الدرر 3/49) أنه ولى الملك بعد أبيه فى ذى الحجة سنة 721 هـ ومات سنة 764 هـ. [3] ذكر المقريزى فى السلوك (2/272) أن موضوع الرسالة كان ترغيبه فى مصاهرة السلطان.

ذكر إرسال السلطان ولده إلى الكرك [1] المحروس

ذكر إرسال السلطان ولده إلى الكرك [1] المحروس قد تقدم أن السلطان الملك الناصر فوّض نيابة الكرك إلى الأمير سيف الدين بهادر البدرى، فتوجه إليها، وتضمن تقليده أن يكون نائبا عن أولاد مولانا السلطان بالكرك، وجهز أيضا من ذكرنا من المماليك السلطانية، ولهج الناس أن السلطان قد عزم على إرسال ولده إلى الكرك. فلما كان فى يوم الخميس السادس من جمادى الأولى، توجه السلطان فى أوائل النهار من قلعة الجبل إلى القصور بسرياقوس بعد أن قرر خروج ولده الأكبر الأمير أحمد- وسنه يومئذ نحو ثمانى سنين [2]- فتوجه من قلعة الجبل وقت المغرب من ليلة الجمعة السابع من الشهر، وتوجه فى خدمته الأمير سيف الدين قجليس الناصرى- أمير سلاح- ليوصله إلى الكرك، وأصحبه السلطان خزانة المال فيما بلغنى، وجهزها صحبة الأمير سيف الدين طقتمر الخزندار، وتوجهوا إلى الكرك، ووصلوا إليها، واستقر ولد السلطان بها، وعاد الأمير سيف الدين قجليس، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء الثانى من جمادى الآخرة من السنة المذكورة. ذكر تجديد عمارة البيمارستان المنصورى والقبّة والمدرسة / وفى مستهل هذه السنة حصل الشروع فى إصلاح البيمارستان المنصورى والقبة والمدرسة، وكان الأمير جمال الدين آقش الأشرفى- ناظر الأوقاف قبل ذلك- قد رسم ألا يترك أحدا من المرضى بالبيمارستان، ومن هو فى أوائل يخرج منه، فخلت بذلك الأواوين من المرضى وأكثر القاعات، ولم يبق بالبيمارستان إلا الممرورون [3] وبعض المرضى، وحصل الشروع فى العمارة، فأصلحت العمران [4] وجدّد البياض والأدهان، ونحت ظاهر القبة والمدرسة

_ [1] الكرك- بفتحتين- قلعة حصينة جدا فى طرف الشام من نواحى البلقاء فى جبالها، وتقع على جبل عال (مراصد الاطلاع 3/1159) . [2] ترجمته فى الدرر (1/294 وما بعدها) وفيه أن مولده كان فى سنة 716 هـ فيكون عمره حين أرسل إلى الكرك عشر سنين. [3] الممرورون: جمع ممرور، وهو المصاب بمرض فى مرارته (المعجم الوسيط) . [4] كذا بالأصل، والعمران: البنيان. والراء فى رسمها أقرب إلى صورة الدال فلعلها العمدان، ولو أنه لم يسمع جمع العمود على عمدان، وانظر السلوك (2/273) .

ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى برقة

والمئذنة بالأزاميل، واستمرت العمارة إلى أواخر جمادى الأولى، وخلت الأواوين الأربعة بالبيمارستان من مستهل هذه السنة إلى يوم الثلاثاء حادى عشر جمادى الأولى، فرسم فى هذا اليوم بتنزيل المرضى، وكان جملة ما صرف على هذه العمارة يقارب ستين ألف دينار [1] . ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى برقة وفى هذه السنة حضر الأمير فايد بن غرّاز ومعه سليمان بن خالد [2] ، وأنهيا إلى السلطان أن العربان ببرقة منعوا الزكاة [3] ، وهى مقطعة لهما، ولمن معهما من رفقتهما، بمنشور سلطانى، فأمر السلطان بطائفة من العسكر المنصور، وهم: الأمير سيف الدين أسندمر العمرى وهو المقدم على الجيش، والأمير سيف الدين بلكتمر [4] الإبراهيمى السلحدار، والأمير سيف الدين قطلوبغا الطويل، والأمير عز الدين أيدمر العلائى الجمقدار، وجماعة من أجناد الأمراء من كل أمير مائة جنديان، ومن كل أمير طبلخاناه جندى واحد، وتوجهوا فى العشر الأخر [5] من جمادى الأولى، وكان عودهم فى يوم الاثنين السابع والعشرين من شعبان من السنة. ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات إلى الأمير سيف الدين طينال [6] الحاجب وفى يوم الخميس رابع جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبعمائة، فوض السلطان نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات إلى الأمير سيف الدين طينال الحاجب- وهو حاجب الميسرة- عوضا عن الأمير بهادر قرطاى الصالحى العلائى، وخلع عليه، ولم يجر فى التشريف على عادة من

_ [1] فى السلوك (2/273) أن نفقات هذه العمارة كلها من مال السلطان دون مال الوقف. [2] ذكر المقريزى (السلوك 2/272) أن هذين القادمين كانا أميرى العربان ببرقة. [3] فى المصدر السابق «.. وكانت شكواهم من العربان أنهم منعوا زكاة الغنم» . [4] كذا فى الأصل، وفى السلوك (2/272) ملكتمر. [5] فى المصدر السابق «أن خروجهم كان فى الثانى والعشرين من جمادى الأولى. [6] أورد المقريزى هذا الخبر فى السلوك (2/272) وذكر أن السلطان حين ولاه نيابة طرابلس أمر بزيادة إقطاعه وعقد له على إحدى بناته، وقد ترجم له ابن حجر فى (الدرر 2/232) وذكر طائفة من أخباره، وكانت وفاته سنة 752 هـ.

تقدمه، فإنه خلع عليه طردوحش، وعادة نائب هذه المملكة الأطلس المعدنى بالطّرزالزّركش، ونقل الأمير بهادر قرطاى [1] المذكور إلى دمشق من جملة الأمراء مقدمى الألوف، وأقطع إقطاع الأمير بدر الدين بكتوت القرمانى، وكان القرمانى قد اعتقل فى تاسع عشرين جمادى الأولى، وسبب اعتقاله أنه رسم له أن يتوجه إلى متملّك سيس، لإحضار ما عليه من القطيعة فى كل سنة، فاستعفى من ذلك، وامتنع من الاجابه إليه، فرسم باعتقاله بدمشق، فاعتقل بقلعتها. واستمر بالاعتقال بها إلى ليلة الأحد حادى عشر شوال سنة سبع وعشرين، فأخرج من القلعة مقيدا، وحمل على خيل البريد إلى الديار المصرية بعد أن وكّل وأوصى، ولما فوضت نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسيّة إلى الأمير سيف الدين طينال المذكور تألّم لذلك، ومرض وانقطع فى بيته أياما، ثم عوفى، وتوجه إلى المملكة الطّرابلسية على خيل البريد فى يوم السبت ثالث عشر الشهر المذكور، وتوجه طلبه بعد ذلك، فكان خروج طلبه من القاهرة يوم الثلاثاء منتصف شهر رجب، من السنة، ورسم بقيمة الإقطاع الذى كان لطينال بالديار المصرية- وهو الإقطاع الذى انتقل إليه عن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب- فأعطى الأمير سيف الدين قوصون منه «فاتوا وتقليفه [2] » من الأعمال الفيومية زيادة على إقطاعه، وكمل له بذلك مائة فارس، وقدّم على ألف، وأعطى أطفيح [3] ودلجة [4] للأمير ناصر الدين محمد بن نائب السلطنة الأمير سيف الدين أرغون الناصرى عوضا عن إقطاعه، وخرج إقطاعه الذى كان بيده لغيره.

_ [1] لم يورده ابن حجر فيمن اسمه بهادر، وذكر فى ترجمة قراطاى الأشرفى الجوكندار ما يدل على أنه هو الذى ناب فى طرابلس سنة 726 ثم أمر بدمشق فى هذه السنة، ثم أعيد إلى نيابة طرابلس سنة 733، وكانت وفاته سنة 734 هـ وفى السلوك (2/272) ورد اسمه شهاب الدين قرطاى الصلاحى. [2] هكذا فى ك، وفى ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 167) ورد اسمها (فانو ونقليفه) وعدها فى أعمال الفيومية، وأشار محققه إلى بعض التحريف فى نسخ الأصل الخطبة. [3] أطفيح: من القرى القديمة واقعة على الضفة الشرقية للنيل جنوبى حلوان، وهى تابعة لمركز الصف فى محافظة الجيزة. [4] دلجه: قرية فى صعيد مصر فى الجبل بعيدة عن شاطىء النيل (مراصد الاطلاع 1/531) .

ذكر الجلوس بخانقاة الأمير سيف الدين بكتمر الساقى بالقرافة

ذكر الجلوس بخانقاة الأمير سيف الدين بكتمر الساقى بالقرافة وفى يوم الثلاثاء ثامن رجب الفرد من السنة حصل الجلوس بخانقاة أنشأها الأمير سيف الدين بكتمر [1] الساقى الناصرى بالقرافة، وحصل الاحتفال بذلك، وحضر مشايخ الصوفية وغيرهم، ومدّ سماط عظيم، ورتّب فى مشيختها وإمامتها الشيخ شمس الدين الرومى المعروف بالطّويل [2] ، وكان قبل ذلك إماما بصفّة النفيس بالخانقاة الصلاحية بالقاهرة، ورتب له على وظيفة المشيخة فى كل شهر مائة درهم، وعن الإمامة خمسون درهما، ورتّب بها عشرون صوفيا، لكل منهم فى الشهر ثمانون/ درهما من غير خبز ولا طعام ولا غيره. ذكر وصول رسل التتار وأقارب السلطان إلى الأبواب السلطانية وفى يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد، وصحبتهم- من أقارب السلطان- سيف الدين طايربغا [3] وولده يحيى، فمثل الرسل بين يدى السلطان فى هذا النهار، وشملهم الإنعام بالتشاريف، وكان طايربغا وولده قد وصلا فى يوم الأحد ثالث عشر الشهر، ومثلا بين يدى السلطان، وذكر طايربغا ما دلّ على صدق دعواه فى انتسابه، فلما كان فى يوم الخميس سابع عشر الشهر أمر السلطان الأمير سيف الدين طايربغا بطبلخاناه، وأمر ولده يحيى بعشرة، وأمر أيضا أخا [4] الأمير سيف الدين بكتمر الساقى بطبلخاناة، وأمر أحد المماليك بحلب وذهبوا بشعار الإمرة من المدرسة المنصورية [5] بالقاهرة على العادة، وخلع على الرسل مرة ثانية، وأعيدوا إلى مرسلهم فى يوم الخميس رابع عشرين الشهر.

_ [1] فى ك بكتمش، وما أثبتناه فى الموضعين من السلوك (2/273) والنجوم (9/284) وهذه الخانقاه أوردها المقريزى فى الخطط (2/423) وذكر أنها بطرف القرافة فى سفح الجبل مما يلى بركة الحبش، وفى النجوم الزاهرة (9/284 حاشية 3) تحديد أدق لموقعها الحالى. [2] شمس الدين الرومى: محمد بن محمد شيخ خانقاه بكتمر الساقى، وسيورد النويرى ترجمته فى وفيات 730. [3] فى الأصل «طاربغا» وما أثبتناه بضبطه عن السلوك (2/273) والنجوم (9/88) . [4] فى السلوك (2/273) وفى سابع عشرة (يعنى شهر رجب) أنعم على أحمد بن بكتمر الساقى بإمرة، فلعله المقصود هنا. [5] المدرسة المنصورية: كانت بخط بين القصرين، وانظر النجوم (7/325 حاشية 2) .

ذكر وصول رسل جوبان [1]

ذكر وصول رسل جوبان [1] ثم وصل من جهة الأمير جوبان المذكور فى يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر رمضان ثلاثة من أعيان الصوفية على خيل البريد برسالة مضمونها: السؤال فى مصاهرة السلطان لابن الأمير جوبان على إحدى بناته، فمثلوا بين يدى السلطان، وكان من جملة سؤالهم عن مرسلهم، أن يكون الذى يمشى بينهم فى الخطبة الشيخ تقى الدين بن تيمية، وكان قد اعتقل على ما نذكره، فأجيبوا عن ذلك أن المذكور فى حبس الشرع لأمور صدرت عنه، ورسم السلطان للقاضى بدر الدين أن يسمع كلام الرسل، فسمع كلامهم، ثم أعيدوا إلى مرسلهم على خيل البريد. وفيها فى يوم الاثنين السابع والعشرين من شعبان أفرج السلطان عن الأمير سيف الدين بلبان طرنا [2] نائب المملكة الصّفدية كان، وكان فى الاعتقال منذ انفصل من نيابة السلطنة بالمملكة الصّفدية وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة بدمشق، ثم نقل بعد ذلك إلى مقدمة ألف. وفيها- فى سلخ شعبان- احترقت مدينة بيسان [3] من غور الشام حريقا فاحشا، وأكثر عمارتها بالقصب، فلذلك أسرعت النار فيها. ثم طفئت، وأعيد ما احترق. ذكر وصول صاحب حصن كيفا [4] إلى الأبواب السلطانية، وعوده إلى بلاده، وخبر مقتله وملك أخيه وفى يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان من هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية فى قلعة الجبل المحروسة الملك الصالح صلاح الدين يوسف بن

_ [1] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/541) ووصفه بالأمير الكبير نائب المملكة القانية، وذكر أن الملك أبا سعيد- ملك التتار- تزوج ابنته. [2] الضبط من الدرر (1/494) وفيه أنه اعتقل فى سنة 714 بسعاية تنكز، وأفرج عنه فى سنة 726 وفى السلوك (2/274) أنه بقى فى اعتقاله إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر، وسبعة أيام، وكانت وفاته فى سنة 734 هـ. [3] فى الأصل بستان، وما أثبتناه عن (مراصد الاطلاع 1/241) ففيه: بيسان: مدينة بالغور الشامى. [4] حصن كيفا- بفتح فسكون- ويقال كيبا: بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر (مراصد الاطلاع 2/407) وانظر السلوك (2/276 حاشية 2) .

الملك الكامل سيف الدين أبى بكر [1] شادى ابن الملك الموحّد تقى الدين عبد الله بن الملك المعظم غياث الدين طورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، وهو صاحب حصن كيفا. وكان سبب حضوره أنه أقام مدة سنين لا ينزل من الحصن إلى نواب الملك أبى سعيد إذا حضروا إلى البلاد على جارى عاداتهم، بل يرسل إليهم الهدايا والتقادم الجارية بها العادة، وتحصن بالحصن، ثم شرع بنهب من ينفرد من التتار، ويتعرض إلى إقطاع الأمير الذى أقطع له أعمال حصن كيفا، فشكاه الأمير المقطع إلى الملك أبى سعيد، وقال: إنه يأخذ أكثر ما يتحصل من إقطاعه، وأنهى إلى الملك أنه عصى بالحصن، وأنه لا ينزل إلى نائب الملك إذا وصل، فكتب أبو سعيد إلى نائبه فى تلك الجهة يستعلم منه: هل هو فى الطاعة على عادته أو خرج عنها؟ فأجابه النائب أنه على عادته فى الطاعة، وأنه ينزل إليه إذا حضر إلى جهة الحصن، وأرسل النائب إلى الملك الصالح المذكور يعرفه ما ورد عليه، وما أجاب به، وقدم إليه تقادم كثيرة بسبب ذلك، وواعده أنه إذا وصل إلى الحصن ينزل إليه، ثم خاف على نفسه أنه إن نزل إليه قبض عليه، فحضر إلى الأبواب السلطانية، وأشاع أنه إنما حضر بسبب الحج. أخبرنى بذلك المحقق للحال، وهو الأمير علاء الدين على بن الملك الموحّد، وهو عم الملك الصالح. ولما وصل الملك الصالح إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية شمله الإنعام السلطانى بتشريف طردوحش بقصب وكلّوته [2] بزركش، وحياصة ذهب،

_ [1] هكذا فى الأصل، وفى السلوك (2/276) سيف الدين أبو بكر بن شادى. [2] الكلوته- بتشديد اللام المضمومة- فارسية معناها الطاقية الصغيرة المصنوعة من الصوف، المضربة بالقطن، كانت غطاء الرأس فى الدولتين: الأيوبية والمملوكية، وكانت شارة الأمراء لبسها بغير عمامة فوقها، ولا كلاليب تعقد تحت الذقن وهى الكلبندات. وانظر صبح الأعشى (4/49) وخطط المقريزى (2/98 و 217) ودوزى (الملابس عند العرب ص 378) .

وثلاثين [1] ألف درهم، ورسم له بعوده إلى مملكته بحصن كيفا، وكتب على يده كتابا إلى الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد يتضمن الوصية به، والإحسان إليه، وأعاده فى العشر الأوسط من الشهر على خيل البريد إلى دمشق المحروسة، وتوجه/ منها على خيله بمن حضر معه من إلزامه، وكتب السلطان إلى نائب السلطنة بحلب المحروسة أن يجرد معه من العسكر الحلبى خمسمائة فارس ومائتى فارس من العربان- من كلاب- إلى أن يصل إلى مأمنه، فتوجهوا معه إلى أن شارف بلاده وأعادهم وحال وصوله إلى الحصن وثب عليه أخوه شقيقه الملك العادل محيى الدين فقتله، وملك الحصن بعده، وكتب إلى الملك أبى سعيد، وأنهى إليه أنه إنما قتله لأنه كان باغيا، وتوجه إلى الديار المصرية، وحضر إلى البلاد بعسكر، وقصد إفساد البلاد، فأقره الملك أبو سعيد على الحصن، وطالع الملك العادل محيى الدين هذا الأبواب السلطانية [بذلك] ، واعتذر عن قتله، وجهّز مختصرا يتضمن سوء سيرته، وطالع نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس أيضا بمثل ذلك، وسأل الصفح عنه فيما فعل، وأنه إنما قتل لسوء سيرته [2] ، ومن قتله من أهله، فسكن الحال فى ذلك. وفيها فى يوم الخميس خامس شوال توجه الأمير سيف الدين أرغن [3] الناصرى نائب السلطنة الشريفة إلى الحجاز الشريف هو وأولاده وابنة السلطان زوجة ولده، الأمير سيف الدين وأولاده، وكان استقلال ركابه من قلعة الجبل فى الثالثة من هذا اليوم. وفيها- فى يوم الجمعة خامس ذى القعدة- قرىء بالجامع على المنابر بالقاهرة ومصر مثال [4] شريف سلطانى، مضمونه الإعفاء من المظالم، وطرح الأصناف على التجار والمبعثين، ومنع الولاة من الضرب بالمقارع، وإبطال المقدمين من أبواب الولاة.

_ [1] فى السلوك (2/276) وبعث له عشرة آلاف درهم، ثم ذكر أن السلطان أنعم عليه حال رحيله بألف دينار. [2] أورد المقريزى فى (السلوك 2/277) المقصود بسوء سيرته، وعبارته «وكتب محيى الدين إلى نائب الشام يقول: أنه لم يقتله إلا لما ثبت عليه من شرب الخمر والفسق وقتل الأنفس، واستباحة الأموال والتلفظ بالكفر غير مرة» . [3] يرد رسمه فى السلوك (2/277) والنجوم (9/289) «أرغون» بواو بعد الغين. [4] عبارة السلوك (2/278 فى هذا الموضع: «وفيها كتب مرسوم السلطان- وقرىء على المنابر- بألا يضرب أحد فى ديار مصر والشام بالمقارع، والمثال والمرسوم فى لغة مؤرخى هذا العصر بمعنى واحد.

/ (214) ذكر خبر مولود ولد فى هذه السنة

/ (214) ذكر خبر مولود ولد فى هذه السنة أخبرنى ركن الدين عمر بن الشيخ الصالح ناصر الدين محمد بن الشيخ الصالح العارف إبراهيم بن معضاد بن شدّاد بن مالك بن ماجد القشيرى الجعبرى [1] نفع الله به وببركات أسلافه الصالحين أنه ولد له فى الساعة الرابعة من الليلة المسفرة عن رابع عشر ذى الحجة سنة ست وعشرين وسبعمائة ولد من موطوءته سماه موسى، وأنه أقام فى بطن أمه منذ حملت به سنتين وشهرين، وحين وضعته لم تر معه دما كثيرا ولا ماء، بل أرمت على [2] عادة الحوامل لتسعة أشهر وأنه وضع قوى اليافوخ غير ليّنه على هادة المولود حين يولد، قال: وطلعت أسنانه لشهرين وثلاثة أيام من مولده، وقال: ومشى فى غرّة الشهر الخامس من مولده، أنشأه الله تعالى نشأة صالحة. ذكر خبر إجراء الماء إلى مكة شرفها الله تعالى وفى هذه السنة أجريت عين إلى مكة شرفها الله تعالى، وكان وصول الماء إليها فى الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وعشرين وسبعمائة وذلك أن الأمير جوبان/ (215) نائب الملك أبى سعيد صاحب العراقين وخراسان اهتم بهذا الأمر اهتماما عظيما، وأرسل بعض التجار بجملة كثيرة من المال، يقال: إنه نحو ثلاثمائة ألف درهم، فبذلها فى إجراء الماء إلى مكة، ويسر الله تعالى ذلك له، وحصل الظفر بآثار العيون القديمة التى كانت أجريت فيما سلف من السنين، وقطع التراب الذى كان يمنع جريان الماء، ونظف فجرت العين بماء كثير. وهذه العين قد كانت قديمة، وقد ذكر الشيخ أبو الوليد محمد بن [عبد الله [3]] الأزرقى فى (أخبار مكةما أجرى فى الحرم من العيون، فقال: ما ملخصه [4]- وبعضه بمعناه-: أن رجلا من بنى سليم قال لعمر بن الخطاب

_ [1] وردت ترجمته فى ابن حجر (الدرر 3/297) وذكر أنه ولد بقلعة جعبر سنة 650 هـ، وأن وفاته فى المحرم سنة 734 هـ. [2] يقال: أرمى على كذا، أى زاد عليه. [3] الزيادة وردت فى اسمه كما جاء فى كتابه «أخبار مكة» برواية أبى محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق (ط. ليبزج 1858 م) ففى ص 3 «هو أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد بن الوليد بن عقبة الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبى شمر الغسانى الأزرق» . [4] راجع هذا الخبر فى كتاب: أخبار مكة من ص 442- 445.

رضى الله عنه بمكة: يا أمير المؤمنين، أقطعنى حيف الأرين [1] حتى أملأه عجوة، فقال له عمر: نعم، فبلغ ذلك أبا سفيان بن حرب، فقال: دعوه فليملأه ثم لينظر [أينا يأكل جناه] [2] ، فبلغ ذلك السلمى فتركه، فكان أبو سفيان يدعيه، ثم كان معاوية هو الذى عمله وملأه عجوة، وذلك أنه أجرى فى الحرم عيونا عشرة [3] ، واتخذ لها أخيافا [4] ، فكانت حوائط [5] فيها النخل والزرع، ذكرها أبو الوليد فى كتابه، قال أبو الوليد: واتخذت بعد ذلك ببلدح عيون سواها، ومنها: عين سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ببلدح، وحائط سفيان، والخيف الذى أسفل منه. قال ثم انقطعت عيون معاوية تلك وذهبت، فأمر أمير المؤمنين/ (216) هارون الرشيد بعيون منها فعملت وأحييت وصرفت فى عين واحدة يقال لها الرشاد؛ لتسكب فى المأجلين [6] اللّذين أحدثهما الرشيد بالمعلى [7] ، ثم تسكب فى البركة التى عند المسجد الحرام، ثم كان الناس بعد تقطع هذه العيون فى شدّة الماء، وكان أهل مكة والحاج يلقون من ذلك المشقة، حتى أن الرواية لتبلغ فى الموسم عشرة دراهم وأكثر وأقل. فبلغ ذلك أم جعفر بنت أبى الفضل جعفر بن المنصور، فأمرت فى سنة أربع وتسعين ومائة بعمل بركتها التى بمكة، فأجرت لها عينا من الحرم، فجرت بماء قليل لم يكن فيه رى لأهل مكة، وغرمت فى ذلك غرما عظيما، فبلغها ذلك، فأمرت [جماعة من] [8] المهندسين أن يجروا/ لها عيونا من الجبل، فأرسلت بأموال عظيمة، ثم أمرت من نزف [9] عينها الأولى، فوجدوا فيها فسادا، فأنشأت عينا أخرى إلى جنبها، وأبطلت تلك العين، وعملت هذه العين بأحسن ما يكون من العمل، حتى بلغت ثنية جبل، وإذا الماء لا يظهر فى

_ [1] الضبط من الأزرقى ص 442، وفى مراصد الاطلاع 1/64 خيف الأرين موضع ورد فى حديث أبى سفيان «.. أقطعنى خيف الأرين أملأه عجوة» . [2] لم يتضح في ك، وما أثبتناه عن أص 215، والأزرقى ص 442 [3] عدّد الأزرقى هذه العيون العشر مفصلة (ص 442- 444) . [4] الأخياف: جمع خيف، وهو ما انحدر من غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء (المعجم الوسيط) . [5] الحوائط جمع حائط، ومعناه هنا البستان. [6] الواحد ماجل: مستنقع الماء، وأبو عبيد يهمزه فيقول مأجل والجمع مآجل (لسان العرب) . [7] فى الأزرقى 444 «فى المأجلين اللّذين أحدهما لأمير المؤمنين بالمعلاة» . [8] الزيادة من الأزرقى ص 444 [9] فى «ك» «من يرف» والمثبت من «أ» ص 216، وفى الأزرقى «يزن» .

ذلك الجبل إلا بعمل شديد، وضرب فى الجبل، فأمرت بالجبل فضرب فيه، وأنفقت فى ذلك من الأموال ما لا يمكن أن تطيب به نفس كثير من الناس [1] حتى أجراها الله عز وجل لها، وأجرت فيها عيونا من الحلّ منها: عين من المشاش [2] واتخذت لها بركا تجتمع فيها السيول إذا جاءت، ثم أجرت لها عيونا من حنين، واشترت/ (217) حائط حنين، فصرفت عينه إلى البركة، وجعلت حائطه سدا يجتمع فيه السيل، فصارت لها مكرمة لم تكن لأحد قبلها. قال: ثم إن أمير المؤمنين أمر صالح بن العباس فى سنة عشرين [3] ومائتين أن يتخذ لها بركا من السوق خمسا، لئلا يتعنّى [4] أهل أسفل مكة والثّنيّة وأجيادين [5] والوسط إلى بركة أم جعفر، فأجرى عينا من بركة البطحاء [6] عند شعب ابن يوسف من وجه دار ابن يوسف، ثم تمضى إلى بركة عند الصّفا، ثم تمضى إلى بركة عند الحنّاطين، ثم تمضى إلى بركة بفوّهة سكة الثنية دون دار أويس، ثم تمضى إلى بركة عند سوق الحطب بأسفل مكة، ثم تمضى فى سرب ذلك إلى مأجل أبى صلاية، ثم إلى المأجلين اللذين فى حائط ابن طارق بأسفل مكة [7] ، فهذه العين التى أجريت الآن إنما هى من ذلك الأصل القديم. وكان السلطان الملك الناصر قد عزم على إجراء هذه العين، فصرفه بعض أرباب الأمر من أتباعه عنها، وقال: «إن هذا متعذر الإمكان» فلما أجريت الآن تألّم السلطان من كون هذه الحسنة العظيمة لم تجر على يديه.

_ [1] عبارة الأزرقى فى هذا الموضع «.. ما لم يكن تطيب به نفس كثير من الناس» . [2] الضبط من المراصد 3/1273 وفيه: «المشاش: قناة ماء بجبال الطائف يجرى بعرفات ويصل إلى مكة» . [3] هكذا فى أ، ك، وفى الأزرقى ص 445 «فى سنة عشر ومائتين» . [4] لم يتضح فى أ، ك، وما أثبتناه من الأزرقى. [5] أجيادان: محلتان بمكة (المراصد 1/33) . [6] عبارة الأزرقى 445 «فأجرى عينا من بركة أم جعفر من فضل مائها فى عين تسكب فى بركة البطحاء عند شعب ابن يوسف» . [7] أورد الأزرقى (445) تتمة لهذا الخبر فقال: «ولما فرغ صالح بن العباس منها ركب بوجوه الناس إليها، فوقف عليها حين جرى فيها الماء، ونحر عند كل بركة جزورا، وقسم لحمها على الناس» .

ذكر عدة حوادث كانت بدمشق فى سنة ست وعشرين وسبعمائة خلاف ما ذكرنا

ذكر عدة حوادث كانت بدمشق فى سنة ست وعشرين وسبعمائة خلاف ما ذكرنا فى هذه السنة وصل إلى دمشق فى يوم الأحد منتصف المحرم الأمير محمد ابن عبد القادر بن يوسف بن الأمير أبى القاسم عبد العزيز بن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، فرسم نائب السلطنة بالاحتياط عليه، وطولع فى أمره الأبواب السلطانية، ورسم أن يعود إلى أهله، فرجع، ولم يدخل مدينة دمشق. قال الشيخ علم الدين بن البرزالى فى تاريخه عنه: وهو رجل حسن فيه أدب ومعرفة وديانة، اجتمعت به وسألته عن مولده، فذكر أنه قبل دولة اليهود بسنة، وكانت دولة اليهود سنة تسعين وستمائة، وسألته عن مولد أبيه، فذكر أنه قبل سنة براق فى الدولة العباسية، قال: وسألته عن مولد جدّه، فذكر أنه فى واقعة بغداد كان عمره سبع سنين أو ثمان سنين، وذكر أن جد والده عبد العزيز توفى قبل أخذ بغداد بسنة أو نحوها/ (218) . وفى هذه السنة فى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الأول ضربت عنق ناصر بن أبى الفضل بن إسماعيل الهيتى المقرئ الصالحى بسوق الخيل بدمشق، وسبب ذلك أنه ثبت عليه الزندقة، وكان المذكور حسن الصوت بالقراءة، وصحب ابن الباجربقّى، وابن المعمار وغيرهما، فانحلت عقيدته، وشهد عليه فى ذلك بما تقدم، فهرب إلى بلاد الروم [1] ، ثم عاد إلى حلب فى أواخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وحضر عند قاضى القضاة بها كمال الدين ابن الزّملكانىّ الشافعى، وتاب وقبل توبته، وحقن دمه، ثم عاد إلى ما كان عليه من الزندقة فحمل إلى دمشق، وثبت عليه ما تلفظ به، فحكم بإراقة دمه [2] فنسأل الله العافية فى ديننا وفى دنيانا. وفيها فى يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الأولى ضربت عنق «توما بن عبد الله النصرانى» من قرية الحمّان، كان قد أسلم على يدى الشيخ تقى الدين

_ [1] فى ابن حجر (الدرر 4/387) أنه هرب إلى ماردين، ثم فر منها إلى حلب. [2] فى شذرات الذهب (6/74) أن ثبوت زندقته كان على يد القاضى شرف الدين بن مسلم الحنبلى، ونقل الثبوت إلى شرف الدين المالكى فأنفذه، وحكم بإراقة دمه، وعدم قبول توبته.

ذكر اعتقال الشيخ تقى الدين بن تيمية

ابن تيمية قديما، وجاور بالمئذنة الشرقية بجامع دمشق مدة، ثم ارتد، وتكلم فى القرآن بكلام، وقامت البينة عليه بذلك عند قاضى القضاة شرف الدين المالكى بدمشق، فحكم بإراقة دمه، فقتل. ذكر اعتقال الشيخ تقى الدين بن تيمية وفى هذه السنة- فى يوم الاثنين السادس من شعبان-/ (219) اعتقل الشيخ تقى الدين أحمد [1] بن تيمية بقلعة دمشق المحروسة، حسب الأمر الشريف السلطانى، واعتقل معه أخوه زين الدين عبد الرحمن [2] ، ومنع من الفتيا واجتماع الناس به. وسبب ذلك أنه أفتى أنه لا يجوز زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قبر إبراهيم الخليل، ولا غيرهما من قبول الأنبياء والصالحين، وتوجه بعض أصحابه وهو الشمس محمد بن أبى بكر [3] إمام المدرسة الجوزية فى هذه السنة لزيارة البيت المقدس، فرقى منبرا فى حرم القدس الشريف، ووعظ الناس وذكر هذه المسألة فى أثناء وعظه، وقال: ها أنا من هنا أرجع ولا أزور الخليل، وجاء إلى نابلس [4] ، وعمل مجلس وعظ، وأعاد كلامه، وقال: ولا يزار قبر النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يزار إلا مسجده، فقصد أهل نابلس قتله،/ فحال بينهم وبينه متولّيها، وكتب أهل القدس وأهل نابلس ودمشق بما وقع منه، فطلبه قاضى القضاة شرف الدين المالكى، فتغيب عنه، وبادر بالاجتماع بقاضى القضاة شمس الدين محمد بن مسلم الحنبلى قاضى الحنابلة، وتاب عنده، وقبل توبته، وحقن دمه، ولم يعزّره.

_ [1] ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم الخضر بن على بن عبد الله. سيورد النويرى ترجمته فى وفيات سنة 728 هـ، وانظر أيضا: الدرر 1/144- 160) المنهل الصافى (1/336- 340) . [2] ترجم له ابن حجر (الدرر 2/329) وذكر أنه كان يشتغل بالتجارة مع ما كان له من علم وفضل وأنه حبس نفسه مع أخيه تقى الدين بالإسكندرية وبدمشق محبة له وإيثارا لخدمته. مولده سنة 663 هـ، ووفاته سنة 747 هـ. [3] ابن قيم الجوزية، ترجمته فى الدرر (3/400) والوافى بالوفيات (2/270) وفيهما أن مولده فى صفر سنة 691 هـ ووفاته فى رجب سنة 751 هـ، وانظر تتمة هذا الخبر فى السلوك (2/273) . [4] الضبط من مراصد الاطلاع 3/1347، وفيه أنها مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين مستطيلة لا عرض لها بينها وبين المقدس عشرة فراسخ.

فنهض الفقهاء بدمشق عند ذلك، وتكلموا على الشيخ تقى الدين، وكتبوا فتيا تتضمن ما صدر منه، وذكروا هذه المسألة وغيرها [1] ، فأفتى العلماء بكفره، وعرضت/ (220) الفتيا على نائب السلطنة بالشام، الأمير سيف الدين تنكز، فطالع السلطان بذلك، فجلس السلطان فى يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رجب بالميدان الذى هو بذيل قلعة الجبل، وأحضر القضاة والعلماء، وعرض عليهم ما ورد فى أمره من دمشق، فأشار قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى باعتقال تقى الدين المذكور، فرسم باعتقاله ومنعه من الفتيا، ومنع الناس من الاجتماع به، وأن يؤدّب من هو على معتقده، وتوجه البريد بذلك، فوصل إلى دمشق فى يوم الاثنين سادس شعبان، فاعتقل، وقرىء المثال السلطانى بعد صلاة الجمعة العاشر من الشهر على السدة بجامع دمشق. ثم طلب قاضى القضاة القزوينى جماعة من أصحاب تقى الدين فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر إلى المدرسة العادلية [2] ، وكانوا قد اعتقلوا بسجن الحكم، فادعى على العماد إسماعيل صهر الشيخ جمال الدين المزّى أنه قال: إن التوراة والإنجيل لم يبدّلا، وأنهما كما أنزلا، فأنكر، فشهد عليه بذلك، فضرب بالدّرّة، وأشهر وأطلق. وادعى على عبد الله الإسكندرى، والصلاح الكتبى، وغيرهما بأمور صدرت منهم، فثبت ذلك عليهم، فضربوا بالدرة، وأشهروا فى البلد. وطلب الشمسى أمام المدرسة الجوزية وسئل/ (221) عما صدر منه فى مجلس وعظه بالقدس ونابلس، فأنكر ذلك، فشهد عليه من حضر مجلسيه بما تلفظ ممن كان قد توجه من عدول دمشق لزيارة البيت المقدس، فثبت ذلك عليه فضرب بالدّرّة، وأشهر على حمار بدمشق والصالحية [3] ، وقيّد، واعتقل

_ [1] فى السلوك (2/273) إشارة إلى أن من المسائل التي أخذت على ابن تيمية قوله: «أن الطلاق بالثلاث لا يقع بلفظ واحد» . وأورد ابن حجر فى ترجمته مسائل أخرى مما أخذ عليه (الدرر 2/266) . [2] المدرسة العادلية: هما عادليتان: العادلية الكبرى، والعادلية الصغرى، والمراد هنا الكبرى التى بناها نور الدين محمود بن زنكى، ولم يتمها، ثم بنى بعضها الملك العادل سيف الدين، وأوقف عليها قرى دريج وركيس ونيطا، ثم بناها بعده الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح الدين (الدارس فى تاريخ المدارس 1/359- 362) . [3] الصالحية: قرية كبيرة ذات أسواق وجامع فى سفح جبل قاسيون المشرف على دمشق، وأكثر أهلها مهاجرة من نواحى بيت المقدس (مراصد 2 ص 830) أنشئت على رأس المائة الخامسة، وسببها مهاجرة المقادسة حين استيلاء الإفرنج على بيت المقدس (المروج السندسية فى تلخيص تاريخ الصالحية ص 2) .

بقلعة دمشق، فلم يزل فى الاعتقال إلى يوم الثلاثاء العشرين من ذى الحجة سنة ثمان وعشرين، فأفرج عنه فى هذا اليوم، وحضر إلى قاضى القضاة الشافعى، فشرط عليه شروطا، فالتزمها، وأطلق. وفى هذه السنة فى ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول توفى الشيخ عز الدين [1] بن أبى زكريا يحيى بن الشيخ الخطيب شمس الدين إبراهيم بن شيخ الإسلام عز الدين أبى محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام السلمى الدمشقى، وكانت وفاته بالقاهرة بسكنه بحارة بهاء الدين، ودفن بالقرافة بتربة جده الشيخ عز الدين، وتوليت تجهيزه ودفنه بوصية منه إلىّ، وكان قد أوصانى ألا أدفنه إلا خارج باب التربة، فدفنته هناك حيث أوصى، وكانت قد طالت مرضته، مرض فى أثناء شوال، ومولده بدمشق فى يوم الأحد عاشر صفر سنة ثمان وخمسين [2] وستمائة، وسمع من النجيب فراس بن العسقلانى، وابن الأوحد وغيرهما، وحدّث قبل وفاته، وكان رحمه الله تعالى يباشر الأشغال الديوانية، والأوقاف، وآخر مباشراته شهادة الحوائج خاناه السلطانية بقلعة الجبل المحروسة. وفيها فى ثامن شهر ربيع الأول توفى الشيخ الصالح شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ العارف القدوة السيد الشريف أبى الحسن على بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف الشاذلى الحسنى، وكانت وفاته بدمنهور الوحش، وهو من المشايخ الصلحاء المشهورين. ويقال: إنه كان فى صحبة والده لما توجه إلى الحجاز الشريف. ومات فى سمرة عيذاب [3] بمنزلة حمتيره فى سنة ست وخمسين وستمائة، وكان إذ ذاك صغير السن رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة السبت سادس جمادى الآخرة توفى القاضى شرف الدين عبد الهادى بن زنبور، وهو إذ ذاك/ (222) يباشر نظر خزائن السلاح بالقاهرة

_ [1] لم يورده ابن حجر فى الدرر، وذكر ترجمة والده يحيى بن إبراهيم بن عبد العزيز (الدرر 4/409) وكذلك لم ترد وفاته فى وفيات هذه السنة لا فى السلوك ولا فى النجوم ولا فى الشذرات. [2] فى ابن حجر (الدرر 4/409) أن الذى ولد فى هذه السنة هو يحيى بن إبراهيم والد المذكور وأن وفاته كانت سنة 710 هـ. وهذا يعنى خطأ النويرى فى تاريخ ميلاد الابن، أو خطأ ابن حجر فى تاريخ وفاة الأب. [3] عيذاب: بليدة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) وهى مرسى المراكب التى تقدم من عدن إلى الصعيد، ومنها يعدى إلى جدة (مراصد الاطلاع 3/974) .

المحروسة. ولى ذلك بعد انفصاله من نظر الدواوين بالديار المصرية، ودفن من الغد بالقرافة. ومولده فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى رجلا عاقلا قليل الشر، وهو خال القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة. وفيها فى العشرين من شهر رجب توفيت الست [1] الجليلة صالحة خاتون ابنة الملك المعز فخر [2] الدين يعقوب بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وهى فى درجة الملك الصالحى [3] نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، ودفنت بقاسيون، ومولدها تقريبا فى سنة خمسين وستمائة، ولم يكن فى البيت الأيوبى أقرب إلى السلطان الملك العادل منها، رحمهما الله تعالى. وفيها فى عشية نهار الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان توفى الأمير [4] صلاح الدين أبو الحسن محمد بن الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك الناصر داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، وكانت وفاته بظاهر دمشق ببستان النعامات، ودفن فى يوم الأربعاء بالتربة المعظمية بقاسيون، وهذه التربة هى دير مرّان المذكور فى أشعار المتقدمين [5] ، ومولده فى الرابع والعشرين من ذى القعدة سنة أربع وستين وستمائة سمع حضورا من والده وروى عنه، وسمع/ (223) من ابن البخارى، ومن الشيخ عز الدين الفاروثى [6] وغيره، وأسمع، رحمه الله تعالى.

_ [1] الست: السيدة قال الخفاجى فى: (شفاء الغليل) قولهم ستى بمعنى سيدتى خطأ وهى عامية مبتذلة. [2] فى «أ» ص 222 (مجير) . [3] فى «أ» ص 222 (الصالح) . [4] انفرد النويرى بذكر وفاة هذا الأمير، ولم أجده فى غيره من مؤرخى هذه الفترة. فيمن وردت وفياتهم فى هذه السنة. [5] دير مران: بالقرب من دمشق على تل مشرف على مزارع الزعفران، وفيه يقول يزيد بن معاوية ... إذا اتكأت على الأنماط مرتفعا ... بدير مران عندى أم كلثوم ويقول أبو بكر الصنوبرى أيضا: أمر بدير مران فأحيا ... وأجعل بيت لهوى بيت لهيا (مراصد الاطلاع 2/575) . [6] عز الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر بن الفرج بن أحمد بن سابور بن على بن غنيمة، الفاروثى الواسطى، ولد بواسط فى ذى القعدة سنة 614 روى الكثير بالحرمين وبالعراق وقدم دمشق فى سنة 691 هـ فولى مشيخة الحديث بالظاهرية وبالنجيبية ومات بواسط فى ذى الحجة سنة 694 وله ترجمة مطولة فى: (الدارس فى تاريخ المدارس 1/355 وما بعدها) .

وفيها فى ليلة الخميس ثالث عشر شوال توفى ببعلبك الشيخ قطب الدين أبو الفتح موسى بن الشيخ الإمام القدوة الحافظ أبى عبد الله/ محمد بن أبى الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن اليونينى البعلبكى الحنبلى، ودفن ضحى يوم الخميس بمقبرة باب سطحا، ومولده فى بكرة الجمعة ثامن صفر سنة أربعين وستمائة بالديار الفاضلية بمدينة دمشق. سمع من والده ومن الشيخ شرف الدين الحسين الأربلى، وشيخ الشيوخ شرف الدين الحموى، وابن عبد الدايم، وحدث عنه بصحيح مسلم، وسمع بالديار المصرية من الشيخ رشيد الدين العطار وغيره، وكان له تعلق بالتاريخ، اختصر (مرآة الزمان) لابن قزاوغلى [1] وذيّل عليه [2] ، وقد نقلنا عنه مواضع يسيرة فى كتابنا هذا، نقلت وفاته من تاريخ الشيخ علم الدين بن البرزالى رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من ذى القعدة توفى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحى الحنبلى، قاضى الحنابلة بدمشق، وكانت وفاته بالمدينة النبوية، وكان قد توجه لقصد الحج فى هذه السنة، فمرض عند رحيل الركب من منزلة العلا [3] ، واشتد به المرض، فيقال أنه سأل الله تعالى أن يصل إلى المدينة النبوية، ويزور رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فاستجاب الله له، ووصل إلى المدينة فى يوم الاثنين قبل وصول الركب بيوم، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى بالحرم النبوى، وبات فى تلك الليلة ببعض الرّبط، ومات من ليلته، فدفن بالبقيع بجوار قبر عقيل بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، ومولده بالصالحية بظاهر دمشق فى سنة اثنتين وستين وستمائة، وولى القضاء بدمشق فى ثامن صفر سنة ست عشرة وسبعمائة، بعد وفاة قاضى

_ [1] شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزاوغلى التركى الشهير بسبط ابن الجوزى، وكتابه: مرآة الزمان فى تاريخ الأعيان مشهور، طبع منه الجزء الثامن فى مجلدين بالهند سنة 1951 م. [2] فى ابن حجر (الدرر 4/382) ترجمة اليونينى، وأخبر أن الذيل الذى وضعه لمرآة الزمان فى أربعة مجلدات. [3] العلا- بضم العين والقصر-: قرية من نواحى وادى القرى بعد ديار ثمود للذاهب إلى المدينة، والعلاء- بفتح العين والمد-: موضع بالمدينة أيضا (المراصد 2/955) والرسم الوارد يحتملها.

القضاة تقى الدين سليمان الحنبلى، وسلك فى ولايته سيرة السلف الصالح، ولم يغير هيئته ولا لباسه، ولا جدد مركوبا بسبب ولاية القضاء، وكان يمشى غالبا من الصالحية إلى/ (224) دمشق، ولا أضاف إلى نفسه ولاية مدرسة، ولا نظر وقف بمعلوم، وكان رحمه الله تعالى رجلا صالحا ديّنا خيّرا فاضلا عالما محدثا، سمع الحديث من ابن عبد الدايم، وابن البخارى، وغيرهما، فسمع من مائتى شيخ وعشرة شيوخ، وسمع بمكة والمدينة والقدس ونابلس وبعلبك، وحضر عدة غزوات وفتوحات منها طرابلس وعكّا وقلعة الروم، وخرّج له الشيخ جمال الدين المزّى أربعين حديثا تساعيا، وخرج له غير ذلك [1] . وفيها فى يوم الأربعاء ثامن ذى الحجة توفى الأمير مجد [2] الدين يعقوب ابن الملك الأشرف شرف الدين عبد الحق بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، وكانت وفاته ببستانه بالمزّة ظاهر دمشق. وصلّى عليه بجامع المزّة فى يوم عرفة، ودفن بمقبرتها، رحمه الله تعالى، وكان رجلا خيّرا [3] كثير التواضع، وله مكارم، وكان يحفظ شعرا كثيرا. وفيها فى ذى الحجة توفى الأمير بدر الدين حسن بن الملك الأفضل نور الدين على بن الملك المظفر محمد [4] بن الملك المنصور بحماة وهو أخو الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وهو من جملة الأمراء بحماة، رحمه الله تعالى/ (225) .

_ [1] أورد ابن حجر ترجمته بعبارة مماثلة فى الدرر (4/258) . [2] فى «ك» «محيى الدين» وفى «أ» ص 224 «مجير الدين» وماأثبتناه من ابن حجر (الدرر 4/434) كما ورد فى ترجمته، وفيه يقول ابن حجر: كان كثير الفكاهة حاد النادرة ضيق ذات اليد. [3] فى «ك» (جيدا) وما أثبتناه من «أ» ص 224 لمناسبته السياق. [4] فى النجوم (9/267) عن (المنهل الصافى) ، و (الدرر الكامنة) «على بن محمود» .

ذكر عزل الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة، وانتقاله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية

واستهلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة بيوم الخميس الموافق لأول كيهك من شهور القبط. ذكر عزل الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة، وانتقاله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية قد ذكرنا فى سنة ست وعشرين وسبعمائة أن الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة توجه إلى الحجاز الشريف فى يوم الخميس خامس شوال، وصحبته ابنة السلطان زوجه ولده الأمير سيف الدين أبى بكر، وزوجة السلطان دلنبيه [1] وهى التى وصلت من جهة الملك ازبك. فلما كان فى هذه السنة عاد بهم من الحجاز الشريف بعد قضاء الحج والمناسك والزيارة، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى الساعة الأولى من نهار الأحد حادى عشر المحرم من هذه السنة، وحال وصوله رسم السلطان للأمير سيف الدين قجليس الناصرى أمير سلاح بالقبض عليه وعلى ولده الأمير ناصر الدين محمد [2] ، فلما عبر إلى الخدمة السلطانية، وسار فى الدّهليز، قبض عليه الأمير سيف الدين المشار إليه وعلى ولده، وأخذ سيفيهما، وعدل بهما إلى قاعة رسم أن يكونا بها، وأعلم السلطان بذلك، فأرسل السلطان إليه الأمير سيف الدين بكتمر الساقى/ (226) وأرسل له مأكولا، ولم يضيق عليه. وبات تلك الليلة بالقاعة، فلما كان فى يوم الاثنين أحضره السلطان بين يديه، وخلا به، وحدّثه طويلا، وبكيا، وأفرج عنه وعن ولده، وخلع على الأمير سيف الدين تشريفا على عادته، ورسم له أن يتوجه إلى نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الحلبية عوضا عن الأمير علاء الدين الطّنبغا، فخرج من بين يدى السلطان من ساعته، فى عشية نهار الاثنين، وصحبته الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى أحد الأمراء مقدمى الألوف، وتوجها/ إلى دمشق [فوصلاها فى] [3] يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم.

_ [1] فى «أ» ص 225 غير منقوط، وفى «ك» (دلبيه) وما أثبتناه- وكذلك الضبط- عن: السلوك (2/203 و 204 و 338) وفيه أنه يقال لها أيضا «طلنباى وطولونية، وهى بنت طغاى بن هندو بن باطو بن دوشى خان بن جنكزخان» . وانظر فى خبر زواج الناصر قلاوون بها السلوك (2/203 و 204) . [2] فى ابن حجر (الدرر 3/379) محمد بن أرغون: ناصر الدين بن النائب مات فى حلب فى شعبان سنة 727 هـ. [3] الزيادة من أ، ص 226 وهو يوافق ما ورد فى النجوم فى هذا الموضع (9/88) .

وكان السلطان- حال القبض على الأمير سيف الدين أرغون- أرسل الأمير سيف الدين ألجاى الدوادار على خيل البريد إلى حلب، لإخراج الأمير علاء الدين الطّنبغا نائب السلطنة الشريفة منها، وإحضاره إلى الأبواب السلطانية، وإخلاء مساكن النيابة للأمير سيف الدين أرغون، فتوجه ووصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم، وتوجه منها إلى حلب، وعاد هو والأمير علاء الدين الطّنبغا فوصلا إلى دمشق على خيل البريد فى عشية نهار الخميس ثانى عشرين الشهر، فوصلوا كلهم الجمعة، بدمشق [1] ، وتوجه الأمير سيف الدين أرغون إلى حلب، فوصل إليها فى يوم الجمعة سلخ المحرم. وتوجه الأمير علاء الدين الطّنبغا إلى/ (227) الأبواب السلطانية فكان وصوله فى يوم السبت مستهل صفر، وخلع عليه السلطان على عادته تشريفا وحياصة، وأنعم عليه بخيل، وأسكنه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بإمرة مائة فارس من جملة الإقطاع المحلول عن الأمير سيف الدين أرغون، وقدمه على ألف [2] ، وفرق السلطان إقطاع النيابة، فأعطى الأمير سيف الدين بكتمر الساقى منه «منية بنى خصيب» وكمل الأمير سيف الدين طايربغا مائة فارس، وتقدمه ألف من جملة تقدمه نائب السلطنة، فزادت التقادم تقدمة، فكملت بهذه التقدمة خمسة وعشرين تقدمة [3] ، وأعطى السلطان بقية إقطاع النيابة زيادة على إقطاعات الأمراء مماليكه، وقطع أخباز جماعة من مماليك الأمير سيف الدين أرغون وألزامه. ثم توجه طلب الأمير سيف الدين أرغون وصحبته ولده الأمير ناصر الدين محمد فى يوم الأربعاء خامس صفر، وتوجه معهم الأمير سيف الدين بلك [4] الجمدار، ورسم ألا ينشر علما، ولا يحرك طبلخاناه، ولا يشدّ من معه دركاشا إلى حين وصولهم إلى حلب، فأوصلهم الأمير سيف الدين بلك، وعاد إلى الأبواب السلطانية فى يوم الخميس ثامن عشر [5] شهر ربيع الأول، وتأخر

_ [1] عبارة النجوم الزاهرة (9/88) هنا هى: «وقرر السلطان مع كل من أيتمش والجاى أن يكونا بمن معهما فى دمشق يوم الجمعة ثالث عشرينه، ولم يعلم فيه الآخر حتى توافيا بدمشق فى يوم الجمعة المذكور «وهى عبارة المقريزى أيضا فى السلوك (2/279) » . [2] فى «أ» ص 227 (وتقدمة ألف) وهى أشبه بلغة المؤلف. [3] أورد ابن تغرى بردى هذا الخبر بعبارة مماثلة فى النجوم (9/88) ونصه: «فصار أمراء الألوف خمسة وعشرين مقدم ألف بالديار المصرية» . [4] الضبط من ابن حجر (الدرر 1/495) وعبارته: بلك الجمدار الناصرى، ولى نيابة صفد أيام الصالح إسماعيل، ثم عاد إلى مصر فى سنة 746 هـ فولى إمرة مائة ومات في سنة 749 هـ. [5] فى «أ» ص 227 ثامن عشر شهر ربيع الأول.

بالأبواب السلطانية من أولاد الأمير سيف الدين أرغون الأمير سيف الدين أبو بكر، والأمير ركن الدين عمرو، والأمير شهاب الدين أحمد إلى/ (228) أثناء جمادى الأولى، ثم رسم أن يتوجّهوا إلى حلب، فتوجهوا هم وعائلة الأمير سيف الدين أرغون، وابنة السلطان زوجة الأمير سيف الدين أبى بكر فى يوم الاثنين خامس جمادى الأولى، وصحبتهم الأمير سيف الدين آقبغا [بن] [1] عبد الواحد رأس نوبة الجمدارية، ليوصلهم ويعود، فوصلوا إلى دمشق فى ليلة السبت رابع عشرين الشهر، فنزلوا بالقصر الأبلق، وتوجهوا إلى حلب فى ليلة الأحد، واستقر أولاد الأمير سيف الدين أرغون الثلاثة فى جملة الأمراء بحلب المحروسة، وخرجت إقطاعاتهم التى بالديار المصرية لغيرهم من الأمراء. ثم رسم السلطان ببيع ما نقل من جهاز ابنته زوجة الأمير سيف الدين أبى بكر، فأبيع بالمدرسة الناصرية بالقاهرة، وكان فى جملة ما أبيع قصر فضة، وتخت، ودكّة فضة، الجميع ملبّس على خشب، وأبيع غير ذلك [2] . وفى هذه السنة فى يوم الثلاثاء ثالث عشر من المحرم فوض السلطان نظر النّظّار والصحبة إلى القاضى مجد الدين إبراهيم بن القاضى المرحوم مكين الدين عبد الله بن لفيتة [3] وخلع عليه. وأفصل القاضى شرف الدين عبد الرحمن الخطيرى من الوظيفة المذكورة، وفوّض إليه نظر البيوت السلطانية عوضا عن القاضى مجد الدين المذكور، واستقر أيضا فى أشغال الأمير سيف الدين أرغون فى غيبته على عادته قبل مباشرة نظر النظّار/ (229) .

_ [1] الزيادة من ابن حجر (الدرر 1/391) وعبارته: آقبغا بن عبد الواحد الناصرى، تنقل فى الخدمة عند الناصر، وتقدم إلى الاستدارية وشد العمائر ومقدم المماليك، وكان سبب تقدمه عنده أن الناصر كان قد تزوج أخته طغاى، ومات فى سنة 744. [2] فى السلوك (2/280) أن الفخر- ناظر الجيوش- كان سبب تغير السلطان على الأمير أرغون، وأنه هو الذى أغراه به، وقد أورد هذا الخبر بتفصيل أكثر مما ذكره النويرى هنا. [3] الضبط من النجوم (9/292) عن الدرر (1/53) وفى هذا الأخير: إبراهيم بن لفيته مجد الدين ناظر الدولة كان نصرانيا فأسلم، وتنقل فى الخدمة الديوانية ومات سنة 731 هـ. ومثله فى السلوك (2/280) وقد انفرد النويرى بتسمية أبيه عبد الله بن لفيته.

وفيها فى يوم الأحد الثامن عشر من المحرم ولد للسلطان الملك الناصر ولد ذكر من زوجته عتيقته طغاى [1] ، وكان السلطان قد توجه فى هذا اليوم إلى الصيد بجهة القصور بناحية سرياقوس، فطولع فى ذلك، فعاد فى يوم الخميس الثانى والعشرين من الشهر [وعمل مهمّ [2] فى يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر] [3] وأقام السلطان بقلعة الجبل إلى آخر يوم السبت مستهل صفر. وتوجه فى يوم الأحد ثانى الشهر إلى جهة القصور بسرياقوس، ثم توجه من هناك، وعدّى إلى جهة المنوفية، فتصيد هناك، وعاد إلى الجيزية، فأقام بها أياما، وحضر الرسل الذين وصلوا من جهة الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد بين يدى السلطان، فسمع كلامهم، وخلع عليهم، وأعادهم، وعاد السلطان إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس العشرين من صفر. وفى يوم الخميس الرابع من شهر ربيع الأول من السنة انتقل [4] ركاب السلطان من قلعة الجبل المحروسة إلى جهة القصور بسرياقوس، فأقام إلى يوم السبت، وتوجه إلى جهة الأهرام، واستقر بتلك المنزلة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من الشهر، ثم توجه إلى جهة البحيرة للصيد المبارك، وناب عنه فى الغيبة الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، وأمر أن يركب فى مماليكه الخاصة، وأن جميع من تأخر من الأمراء وأمراء العشرات، ومقدمى الحلقة،/ (230) بالقاهرة وبقلعة الجبل لا يركبون فى مدة غيبة السلطان لموكب ولا لغيره، وأن يلزم كل منهم بيته إلى حين عودة ركاب السلطان [فلم يزل الأمراء على ذلك إلى أن عاد السلطان] [5] وكان عوده ووصوله إلى قلعة الجبل المحروسة فى يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول.

_ [1] هى أخت آقبغا بن عبد الواحد الذى سبقت الإشارة إليه آنفا. [2] المهم فى لغة مؤرخى هذه الفترة كان يطلق على الوليمة والسماط العام فى أمثال هذه المناسبات. [3] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 229. [4] فى «أ» ص 229 «استقل» . [5] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 230.

/ ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية والقبض على الأميرين سيف الدين طشتمر البدرى [1] وسيف الدين قطلوبغا [2] الفخرى والإفراج عنهما

وفيها فى يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الأول أنعم السلطان على الأمير سيف الدين ألماس الحاجب بسكن دار النيابة خلا القاعة الحسامية، فإنه رسم بإفرادها، فأفردت، وسكن فيما عداها من المساكن. / ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية والقبض على الأميرين سيف الدين طشتمر البدرى [1] وسيف الدين قطلوبغا [2] الفخرى والإفراج عنهما وفى يوم الجمعة الرابع والعشرين [3] من شهر ربيع الآخر من هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية الأمير سيف الدين تنكز [4] نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس على خيل البريد، وكان ركوبه على خيل البريد [من غزة، فإنه وصل إليها بطلبه ومماليكه/ (231) يتصيد، فرسم له بالحضور إلى الأبواب السلطانية على خيل البريد] [5] فوصل، وتلقّاه الأمير سيف الدين بكتمر الساقى إلى سرياقوس، وتصيد معه فى تلك الجهة، ولما وصل توجه، فمثل بين يدى المقام الشريف، وشمله الإنعام السلطانى على عادته، ونزل عند الأمير سيف الدين بكتمر الساقى بداره بقلعة الجبل. ولما كان فى يوم الأحد سادس الشهر جلس السلطان، ووقف الأمير سيف الدين تنكز بين يديه والأمراء المماليك السلطانية، فنظر السلطان إلى الأميرين

_ [1] طشتمر البدرى الساقى الناصرى، كان يلقب بحمص أخضر، لأنه كان يحب أكل الحمص الأخضر، وردت ترجمته فى: الدرر (2/219) والسلوك (2/218) . [2] الضبط من النجوم (9/269) وهو قطلوبغا الساقى الناصرى المعروف بالفخرى، كان من أخص مماليك الناصر وأكثرهم إدلالا عليه، وكان يلقب بالفول المقشر، وفى الدرر (3/250) وردت فى خلال ترجمته أسباب القبض عليه هو وزميله. [3] فى «أ» ص 230 الرابع من شهر ربيع الآخر، وهو يوافق رواية المقريزى فى السلوك (2/281) والسياق هنا يؤيد صحته. [4] ضبطه فى النجوم الزاهرة (9/13 و 34 و 38 ... ) بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه، وفى صبح الأعشى 5/425 ضبط بضم أوله وثالثه وسكون ثانيه، وذلك عند الكلام فى أسماء الترك وعبارته «وربما أفردوا الاسم بالوصف كدمر بمعنى حديد.. وتنكز بمعنى بحر» . [5] ما بين الحاصرتين سقط من ك، وأثبتناه من «أ» ص 230 و 231.

سيف الدين طشتمر البدرى، وسيف الدين قطلوبغا الفخرى، وقال لقطلوبغا: قد ضجرت مما أسمع عنك، وهذا كلام كثير، وما أعرف رضاكم فى أى شىء حتى أفعله، وأشباه هذا من الكلام، وأظهر الغضب الشديد، والحرج والحدّة، وأمر الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح بالقبض عليهما، فتقدم إلى كل منهما وأخذ سيفه، وتوجه بهما إلى الاعتقال، فاعتقلهما، وكان ذلك [ببرج السباع] [1] بالقلعة واشتد الأمر عليهما، وقيل: إنهما قيّدا. فلما كان عشية النهار اضطرب المماليك السلطانية سكان الطباق لذلك اضطرابا شديدا، ويقال: إنهم امتنعوا من الدخول فى الخدمة، وقالوا نحبس جميعا، فإن هؤلاء هم أكابرنا، وأخص الناس بالسلطان، فإذا قبض عليهما بغير ذنب فكلنا نحبس، فطالع الأمير سيف الدين صواب- المقدم عليهم- السلطان بذلك [2] ، فطلب الأمير سيف الدين/ (232) تنكز، وعرفه ذلك، فتلطف فى أمرهما وقبّل الأرض مرارا بين يدى السلطان، وشفع فيهما، فأفرج عنهما فى بقية النهار [3] ، وأقر الأمير سيف الدين طشتمر على إقطاعه، وأسكنه فى القاعة الحسامية التى أفردت من دار النيابة، وكان قبل ذلك يسكن داخل باب القلعة بقرب مساكن السلطان. وأما الأمير قطلوبغا الفخرى، فإن حرج السلطان عليه كان أشد، لما كان يتكلم به بين يديه من الرد عليه، وكثرة الإدلال، فأنزل إلى إسطبله، ورسم السلطان بإخراجه إلى الشام [4] ، فعين له إقطاع الأمير علاء الدين أيدغدى التّليلى [5] وهو من جملة أمراء الطبلخاناه، وكان قد أنهى إلى السلطان أنه عجز عن الخدمة، وقلّ نظره، وتغير ذهنه، فوفّره من الخدمة، وأنعم عليه براتب،

_ [1] ما بين الحاصرتين غير موجود فى «أ» ص 231 وبرج السباع: أحد أبراج قلعة القاهرة فى سورها الشرقى وقد هدم وقت تجديد السور فى أيام الظاهر برقوق (النجوم 9/115 حاشية 2) [2] عبارة «أ» ص 132 فطالع الأمير سيف الدين صواب- مقدم المماليك السلطانية- السلطان بذلك. [3] ورد هذا الخبر فى السلوك (2/281) موجزا، وفى الدرر (3/250) أورده ابن حجر فى ترجمة قطلوبغا بمثل تفصيل النويرى هنا. [4] فى السلوك (2/281) أن إخراج قطلوبغا إلى دمشق كان فى يوم السبت الثانى والعشرين من ربيع الأول. [5] الضبط من الدرر (1/425) وفيه أن وفاته كانت بدمشق فى سنة 728 هـ.

وأخرج إقطاعه للأمير المذكور، وزاد عليه قرية عنجرا [1] ، وعبرتها [2] فى السنة عشرون ألف درهم، وتوجه صحبته الأمير سيف [الدين تنكز إلى الشام، وذلك فى يوم السبت ثانى عشر شهر ربيع الآخر، وقدم السلطان على ألفه الأمير سيف] [3] الدين طغيتمر [4] العمرى الناصرى. ولما توجه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخرى إلى الشام أوصى ألا يسكّن اصطبله لأحد من الأمراء، فاتصل ذلك بالسلطان، فأمر بهدمه، وهو الأصطبل الذى كان قد أنشأه الأمير سيف الدين طغاى، وهو تحت القلعة فيما بين القلعة وبين البرقية، وله باب آخر/ (233) من جهة التبانة فيما بين المصلى وقلعة الجبل، وبه حوض سبيل لسقى الدواب، فهدم الأصطبل وحوض السبيل، وعفّى أثره، وبنى بنقضه، وصار طريقا يسلكه من يمر إلى القلعة من خارج السور، كما كان أول مرة قبل عمارته. وفى هذه السنة فى يوم السبت الثانى عشر من شهر ربيع الآخر الموافق الحادى عشر من برمهات من شهور القبط- وذلك فى أواخر فصل الشتاء- حصل بالقاهرة ومصر حر شديد، وزاد فى يوم الأحد، واشتد فى يوم الاثنين، وهبت فى هذه الأيام ريح شرقية حارة جدا، وكان أشدها يوم الاثنين، وحصل من الحر ما لا يحصل فى أيام الصيف أكثر منه، حتى لبس الناس فى هذه الأيام فى فصل الشتاء ما يلبسونه فى فصل الصيف من القمصان الرفاع [5] ، وكانت الأيام قبل ذلك شديدة البرد، واستمر ذلك كذلك بقية يوم الاثنين، وهبت ريح غربية قبيل العشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء خف الحر بسببها يسيرا، ثم سكنت

_ [1] هكذا فى «أ» و «ك» ، ولم أجده فى كتب البلدان. [2] العبرة فى الاصطلاح المالى القديم تعنى «مقدار المربوط من الخراج أو الأموال على كل إقطاع من الأرض، وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف (النجوم 9/53 حاشية 1) وانظر الخوارزمى (مفاتيح العلوم ص 60) . [3] ما بين الحاصرتين سقط من «ك» والزيادة من «أ» ص 232 وترجمة طغيتمر العمرى فى: الدرر (2/223) وفيه أنه كان من مماليك الناصر، وحظى عنده لجماله البارع، وسكونه وعقله، فترقى فى خدمته، وزوجه الناصر ابنته، وصار من أمراء المشورة. [4] فى النجوم (9/89) طغاى تمر. [5] الرفاع: جمع الرفيع، مثل الكرام جمع الكريم، ومراده القمصان المصنوعة من نسيج ذى خيوط رفيعة ويقال: رفع- بفتح فضم- الثوب إذا رق ودق. (المعجم الوسيط) .

ذكر حادثة وقعت بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

بسرعة، وعاد الحر فى ليلة الثلاثاء، وتزايد إلى الثلث الأخير من الليل، ثم نقص الحر فى يوم الثلاثاء، وحصل غيم مطبق قبيل المغرب من يوم الثلاثاء، ورعد وبرق شديد فيما بين المغرب والعشاء من ليلة الأربعاء، وانهل مطر يسير لكنه غليظ القطر حار جدا، كأنه سخن بالنار، وعاد/ (234) البرد إلى ما كان عليه فى يوم الأربعاء السادس عشر من شهر ربيع الآخر، وهو الخامس عشر من برمهات، فسبحان من يدبّر ملكه كيف شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال، وبسب هذا الحر حصل فى الزرع نقص، وهاف بعضه فى كثير من البلاد بالديار المصرية. ذكر حادثة وقعت بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام / وفى يوم السبت العشرين من شهر ربيع الأول وصل إلى الأبواب السلطانية الأمير طفيل أخو الأمير بدر الدين كبيش بن منصور بن جمّاز بن شيحة من المدينة النبوية، وأخبر أن أخاه الأمير بدر الدين كبيش توجه من المدينة إلى البر لبعض أوطاره، وأن عمه الأمير ودىّ [1] لما علم خلو المدينة منه وصل إليها بجموع من العرب، وحاصرها فى ثامن عشر صفر، واستولى عليها فى الخامس والعشرين [من] الشهر بعد أن حرق بعض [2] أبوابها، وقتل القاضى شهاب الدين هاشم بن على بن سنان قاضى الشيعة بالمدينة، وجرح بعضهم، وقتل نفر يسير، واستولى ودىّ على حواصل الأمير كبيش وذخائره وأمواله، ثم وصل الأمير بدر الدين كبيش إلى الأبواب السلطانية، وجرد معه طائفة من العسكر إلى المدينة، فوصل إليها فى/ (235) العشر الأخر من شوال، وخرج من كان بالمدينة من أصحاب ودىّ، وأقام العسكر بالمدينة ثلاثة أيام، وعاد إلى الديار المصرية.

_ [1] ضبطه فى النجوم (9/273) بضم أوله وكسر ثانيه مشددا، ثم استدرك فى ص 419 خطأ هذا الضبط مكتفيا بتشديد الياء وحدها، والضبط المثبت هنا من السلوك (2/175) عن صبح الأعشى (4/301) . [2] فى «أ» 234 (أحد أبوابها) .

ذكر القبض على من يذكر من الأمراء، وإعادة الأمير شرف الدين حسين بن جند ربيك إلى الديار المصرية

ذكر القبض على من يذكر من الأمراء، وإعادة الأمير شرف الدين حسين بن جند ربيك إلى الديار المصرية وفى هذه السنة فى يوم الخميس مستهل جمادى الأولى بعد العصر أمر السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين القفجاقى [1] أحد الأمراء مقدمى الألوف، وعلى أخيه سيف الدين قرمشى [2] واعتقالهما، وأمر أيضا بالقبض على طائفة من المماليك السلطانية القفجاقية، وجهز- فى ليلة الجمعة إلى ثغر الإسكندرية- ممن كان فى الاعتقال بقلعة الجبل بالجب من الأمراء صلاح الدين طرخان بن الأمير بيبرس [3] الشمسى، وسيف الدين برلغى [4] وهو ابن عم السلطان، ورسم باعتقالهم بالثغر، أحسن الله تعالى خلاصهم. ولما قبض على أصلم [5] أمر السلطان بإعادة الأمير سيف الدين حسين بن جندر بيك إلى الخدمة الشريفة بالأبواب السلطانية- وقد قدمنا خبر إرساله إلى الشام [6]- فوصل إلى الأبواب السلطانية فى يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى، وشمله الأنعام بالتشريف الأطلس بالطّرزالزّركش، والكلّوتة الزّركش والحياصة الذهب/ (236) المجوهرة، وأنعم عليه بإقطاع الأمير سيف الدين أصلم وتقدمته. وفيها فى يوم الاثنين خامس جمادى الأولى توجه الأمير حسام الدين حسين بن خربندا إلى بلاد التتار، وكان هذا الأمير قد حضر إلى الأبواب السلطانية من مدة سنين، وشمله الإنعام السلطانى بأمرة طبلخاناه بالديار

_ [1] فى النجوم (9/89) بهاء الدين أصلم القبجاقى (بباء مكان الفاء) . [2] فى السلوك (2/281) والنجوم (9/89) ورد سبب القبض عليهما، وفى المصدرين المذكورين «أن السلطان قبض على جماعة من المماليك القبجاقية معهما» وفى النجوم قرمجى بجيم مكان الشين. [3] هكذا فى «الأصل» ، وفى «أ» ص 235.. طرخان بن الأمير المرحوم بدر الدين بيسرى الشمسى. وهو يوافق السلوك (2/282) والنجوم (9/89) وفى الدرر (2/216) طرجاى بن بيسرى: صلاح الدين بن الأمير المشهور، أمره الناصر ثم سجنه، ومات سنة 735 هـ. [4] الضبط من النجوم (9/89) . [5] فى «أ» ص 235 ولما قبض على الأمير سيف الدين أصلم. [6] كان السلطان قد نفاه إلى الشام، لأنه لما عمر جامعه فتح بابا من سور القاهرة. وانظر ترجمته فى ابن حجر (الدرر 2/50) .

ذكر اتصال الأمير سيف الدين قوصون بابنة السلطان الملك الناصر

المصرية، فتكرر طلب التتار له لما وقع الصلح، وسألوا السلطان إرساله إليهم، وذكروا أن له إخوة وعيالا يبكون عليه، فعرض السلطان عليه العود إلى بلاده فيما تقدم، فأبى، فلما كان فى هذا الوقت عاد سيف الدين كرماس أحد مماليك الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى من جهة الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد- وكان قد توجه إليه برسالة- فأكد عليه فى سؤال السلطان فى إعادته، فرسم بعوده إلى بلاده، وخلع السلطان عليه وزوّده، فتوجه فى هذا التاريخ، ثم عاد الأمير المذكور فى هذه السنة رسولا من جهة الملك أبى سعيد، فسمع السلطان رسالته، وخلع عليه [وأعاده] [1] . ذكر اتصال الأمير سيف الدين قوصون بابنة السلطان الملك الناصر وفى يوم الاثنين الثالث من جمادى الآخرة من هذه السنة/ (237) عقد نكاح الأمير سيف الدين قوصون الناصرى على إحدى بنات السلطان الملك الناصر بحضور قضاة القضاة وأمراء الدولة الشريفة، وذلك بقلعة الجبل، وتولى عقد النكاح بالإذن السلطانى قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الحريرى الحنفى، وبنى بها فى ليلة الجمعة الثالث عشر من شهر رجب، وكان ابتداء الفرح من يوم الاثنين تاسع الشهر. وهذا الأمير- سيف الدين قوصون المذكور- لم يكن قديم الهجرة فى الخدمة السلطانية، وإنما ابتاعه السلطان من سنيّات من رسل أزبك، فأحسن إليه، وأمّره، وزاد فى الإحسان إليه حتى انتهى إلى هذه الغاية، ثم قدمه على ألف، وعظم شأنه، وارتفع محله، وتميز إقطاعه، وكثرت عصائره، واتسع ملكه، وتقدم فى الدولة تقدما عظيما، ووصل إخوته من بلاد الملك أزبك، وتزوج السلطان بعد ذلك بأخته، وكان من تمكنه وبسطته ما نذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه [2] .

_ [1] زيادة من «أ» . ص 236. [2] ورد هذا الخبر مختصرا فى (السلوك 2/283) والنجوم (9/89) .

/ ذكر استعفاء قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى من القضاء بالديار المصرية، وإجابته إلى ذلك، وتفويض القضاء بعده لقاضى القضاة جلال [2] الدين القزوينى

وفى هذه السنة فى العشر الأول من جمادى الأولى وصل إلى الأبواب السلطانية رسل صاحب إسطنبول، فلما مثلوا بين يدى السلطان، وأدوا الرسالة أسلم أحدهم وهو آقسنقر الرومى، وتلفظ بالشهادتين المعظمتين، فسر السلطان بإسلامه، وأحسن إليه، وأنعم عليه، ثم أمّره بعشرة طواشية، ولبس بالإمرة فى يوم السبت رابع عشرين شوال من السنة/ (238) وأسلم أيضا أخ لهذا الرسول اسمه بهادر [1] ونزل فى جملة المماليك السلطانية، والله أعلم. / ذكر استعفاء قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى من القضاء بالديار المصرية، وإجابته إلى ذلك، وتفويض القضاء بعده لقاضى القضاة جلال [2] الدين القزوينى وكان سبب ذلك أن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن جماعة الشافعى ضعف بصره، ونزل الماء فى إحدى عينيه، وكمل، وتحدر إلى العين الثانية، فقل نظره جدا، وتبين ذلك وظهر فى أواخر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة، فلما كان فى يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة حضر إلى دار العدل، وأنهى ذلك إلى السلطان، وسأله أن يعفيه من الحكم، وانفصل المجلس ثم أتته الرسالة السلطانية بالإجابة إلى الإعفاء. واستدعى السلطان ولده القاضى عز الدين عبد العزيز إلى بين يديه فى يوم الجمعة السابع من الشهر، وتحدث معه فى معنىّ والده، وسبب ضعف بصره، وسأله عن الجهات التى بيده، ثم حضر قاضى القضاة بدر الدين فى يوم الاثنين عاشر الشهر أو حادى عشرة [3] / (239) إلى مجلس السلطان بدار العدل الشريف، وأعاد السؤال فى الإعفاء، فأجابه السلطان إلى ذلك من غير أن يصرح له بعزله، ثم سأله السلطان عمن يصلح للقضاء، وأن يعين له من يوليه،

_ [1] فى السلوك (2/283) أن السلطان أنعم على بهادر هذا بخبز جندى، وفى نسخة «أ» وردت زيادة هى «وأنعم عليه بإقطاع وراتب على عادة المماليك» . [2] فى «ك» (جمال الدين) وما أثبتناه من «أ» ص 238 لموافقته ما فى السلوك (2/283) والنجوم (9/96) والدرر (3/4) . [3] فى «أ» ص 238 فى عاشر، أو حادى عشر الشهر.

فاستعفى من ذلك، ولم يعين، ورسم له فى ذلك المجلس أن يحكم فى قضية كانت بين الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب وبين خصومه، فنزل إلى المدرسة الصالحية بالقاهرة، وجلس فى قاعته، وحكم فى عشية نهار الاثنين المذكور بين الأمير سيف الدين وغرمائه، وبلغنى أنه قال لمن حضر مجلسه: «هذا آخر الحكم» وتوجه إلى داره التى بساحل مصر بقرب الجامع الناصرى، واستقر بها وأخلى قاعة التدريس بالمدرسة الصالحية بالقاهرة. ورسم له السلطان أن يرتّب له من مال منجّز [1] الخاصّ الشريف فى كل شهر ألف درهم نقرة بحكم استعفائه من الحكم، فكتب له توقيع سلطانى بذلك، ولم يكتب له فيه ما جرت العادة به من النعوت، واستقر بيده من جهاته تدريس زاوية الإمام الشافعى بجامع عمرو بن العاص بمصر، فاستمر يلقى فيها الدرس، واستمر نوابه فى القاهرة ومصر والأعمال على ولايتهم منه، وأحكامهم نافذة. وذكر بين يدى السلطان من يصلح للقضاء بالديار المصرية، فعين جماعة لم يقع اختياره على أحد منهم، فاجتمع رأى السلطان على إحضار قاضى القضاة جلال الدين محمد بن قاضى القضاة/ (240) سعد الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة إمام الدين عمر القزوينى [2] قاضى القضاة بدمشق، وخطيب الجامع الأموى بها، فرسم بطلبه وأن يحضر على خيل البريد. وتقرر أن ينقل القاضى كمال الدين بن الزّملكانى قاضى حلب منها إلى دمشق، ويتوجه القاضى جمال الدين الزرعى- الذى كان قاضى الشام وعزل بالقاضى جلال الدين- إلى حلب، ولم ينعقد فى ذلك ولاية.

_ [1] لم يتضح فى «ك» ، والرسم المثبت من «أ» ص 239، وفى السلوك (2/283) «من مال المتجر» . [2] ترجمته فى الدرر (4/3) والنجوم (9/318) والسلوك (2/470) والوافى بالوفيات (3/242) وفيها أن مولده كان سنة 666 هـ بالموصل وأن وفاته كانت فى جمادى الأولى سنة 739 هـ وأنه دفن بمقبرة الصوفية.

وتوجه البريد لإحضار قاضى القضاة جلال الدين المذكور إلى الأبواب السلطانية، فوصل إلى دمشق فى يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة، وتوجه القاضى جلال الدين من دمشق إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأربعاء التاسع عشر من الشهر، فوصل إلى الخانقاة الناصرية بسماسم فى يوم الجمعة الثامن والعشرين من الشهر، ونزل عند شيخها، مجد الدين الأقصرائى [1] ، وسأله الشيخ والفقراء أن يخطب لهم بالجامع، فاستأذن الخطيب شهاب الدين أحمد ابن السّبتى فى الخطبة، فأذن له، فخطب وصلى بالناس بالجامع الناصرى بالخانقاه الناصرية، وركب من الخانقاة، ووصل إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل المحروسة بكرة نهار السبت التاسع والعشرين من جمادى الآخرة، وهو سلخه، وحضر بين يدى السلطان، فأكرمه وشافهه بالولاية، وأنعم عليه، وخلع عليه خلعة القضاء، وأنعم عليه ببغلة بسرج وزنّار [2] من جوخ، وقام من/ (241) المجلس السلطانى، وجلس بمصاطب [3] باب القلعة [4] وكتب على الفتيا على عادة القضاة فى ذلك، ونزل من القلعة إلى المدرسة الصالحية [5] ، وحكم بين الناس، وأقرّ النواب على ما كانوا عليه من جهة قاضى القضاة بدر الدين، ثم أنعم السلطان عليه بزيادة على معلوم القضاء، واستقر بيده- مما كان بيد القاضى بدر الدين- تدريس المدرسة الصالحية، والمدرسة الناصرية [6] ، ودار الحديث، بالكاملية [7] ، وخطب بجامع قلعة الجبل

_ [1] مجد الدين الأقصرائى: أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائى الحنفى، شيخ الشيوخ بخانقاه سرياقوس بسماسم توفى فى ربيع الثانى سنة 731 هـ (النجوم 9/324) وفى الدرر 4/373 ترجمته ووردت نسبته الأقصرى لا الأقصرائى. [2] الزنار: فى الأصل حزام يشده النصرانى على وسطه تمييزا له، وهو هنا قد جعل شارة خاصة مميزة كالوشاح للقضاة. وفى «أ» ص 240 «وزنادى جوخ» [3] جمع مصطبة: بناء أشبه بدرجة السلم يقعد عليه. [4] فى أص 241 «باب القلة» . [5] الصالحية: منسوبة إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب. [6] نسبة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون. وكانت تقع بشارع المعز لدين الله (النجوم 8/208 حاشية 2) . [7] فى السلوك (2/283) دار الحديث الكاملية.

من غير معلوم مع استمرار خطيبه ابن القسطلانى، فصار يخطب جمعة وقاضى القضاة جمعة، هذا إذا كان السلطان بقلعة الجبل، وإذا كان السلطان بالصيد أو غيره خطب الخطيب المستقرّ بمفرده، والجامكية للخطيب خاصة. وكان قد حضر مع قاضى القضاة جلال الدين ولده القاضى بدر الدين محمد، ففوض السلطان إليه خطابة الجامع الأموى بدمشق، وتدريس المدرسة الشامية الجوّانية [1] ، وعاد إلى دمشق على خيل البريد، وكان وصوله إليها فى يوم السبت/ الثانى والعشرين من الشهر، وجلس للتدريس بالمدرسة الشامية [2] فى يوم الأربعاء سابع عشر شعبان من السنة.

_ [1] يريد المدرسة الظاهرية الجوانية التى أنشأها الظاهر بيبرس سنة 676 هـ وجعلها مدرسة ودارا للحديث وتربة له، وهي واقعة بين بابى الفرج والفراديس قبلى الإقباليتين والجارروخية وشرقى العادلية الكبرى (النجوم 9/255 حاشية) وفى الدراس فى تاريخ المدارس (1/348 وما بعدها) أنها اليوم مقر دار الكتب الوطنية بدمشق. [2] هما شاميتان: الشامية البرانية، وكانت بالعقيبة بمحلة العونية وتعرف أيضا بالحسامية نسبة إلى حسام الدين لاجين. والشامية الجوانية قبلى المارستان النورى أنشأتها ست الشام، وقد درست هذه المدرسة ولم يبق إلا بابها وفوقه عتبة عليها عبارة باسم منشئتها (الدارس 1/277 و 301) .

ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك العراقين وخراسان إلى الأبواب السلطانية/ (242)

ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك العراقين وخراسان إلى الأبواب السلطانية/ (242) وفى يوم الأربعاء الرابع من شهر رجب من هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية رسل الملك أبى سعيد بن خربندا ملك العراقين وخراسان وبلاد الروم وغير ذلك، وكان المشار إليه منهم سيف الدين أسندمر، وهو من أكابر الأمراء مقدمى التّوامين [1] ، ووصل صحبتهم محمد بيه بن جمق أحد أقارب السلطان، وهو ابن أخت [الأمير سيف الدين [2]] طايربغا، فمثلوا بين يدى السلطان فى يوم الخميس، فسمع رسالتهم، وقبل هدية مرسلهم، وأحسن إليهم، وأنزلهم عند الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى بقلعة الجبل، وشملهم السلطان بالتشاريف والإنعام. وكان مضمون رسالتهم من الملك أبى سعيد- فيما بلغنى من المحقق لها- خطبة ابنة السلطان للأمير خواجا [3] دمشق بن الأمير جوبان نائب الملك أبى سعيد، فأجاب السلطان إلى ذلك، واشترط حضور بن جوبان إلى أبوابه، وتوجه الرسل فى خدمة السلطان إلى الميدان فى يوم السبت سابع الشهر، وشاهدوا من مواكبه العظيمة ما لم يروا مثله، وتوجهوا إلى القبة المنصورية لزيارة ضريح السلطان الملك المنصور والد السلطان، وذلك فى يوم الجمعة ثالث عشر الشهر، ودخلوا المدرسة، ومدّ لهم سماط بالإيوان القبلى [4] ، وحضر الفقهاء بجملتهم فى الإيوان البحرى. ثم توجه الرسل أيضا فى خدمة السلطان فى يوم السبت إلى الميدان،/ (243) وعادوا إلى مرسلهم بعد أن شملهم الإنعام الوافر من الخلع والأموال،

_ [1] مقدمى التوامين: من ألقاب أمراء الجند في مملكة التتار، وهم أشبه بمقدمى الألوف فى دولة المماليك. [2] ما بين الحاصرتين زيادة من «أ» ص 242. [3] هذا الرسم موافق لما فى السلوك (2/292) ففيه: دمشق خواجا، وفى النجوم (9/273) دمشق خجا. والمعروف- فى الفارسية- أن الواو فى هذا الموضع لا تنطق، فهم يكتبون خواجا، وينطقونها خاجا، ومثلها خواهر- خاهر، خوارزم- خارزم. [4] فى ك «الإيوان المصرى» وما أثبتناه من «أ» ص 242 لموافقته السلوك (2/284) ومقابلته بالإيوان البحرى.

ذكر الفتنة الواقعة بثغر الإسكندرية [5]

وكان توجههم فى يوم الاثنين السادس عشر من شهر رجب، وجهّز السلطان معهم الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربى الحاجب. وأما محمد بيه بن جمق الواصل صحبتهم فإن السلطان أنعم عليه بإمرة طبلخاناة، وأقطعه إقطاع الأمير عز الدين أيبك البكتوتى أمير علم، ونقل البكتوتى إلى صفد على إقطاع نجم الدين فيروز، وكان قد قبض عليه واعتقل بها. وفيها فى يوم الاثنين تاسع [1] عشر شهر رجب أمر السلطان بالقبض على أولاد الأمير سيف الدين بكتمر [2] الأبى بكرى الثلاثة [3] وهم: علاء الدين أمير على، وسيف الدين أسنبغا [4] ، وشهاب الدين أحمد، فقبض عليهم وعوّقوا بدار الأمير سيف الدين ألماس الحاجب أياما إلى أن سكنت الفتنة التى وقعت بثغر الإسكندرية، ونقل الأمراء منها على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ثم أفرج عنهم، ورسم لهم بالدخول إلى الخدمة السلطانية، فدخلوا، ووقفوا مع الجند، فأمر السلطان الحجّاب أن يرفعوا منزلتهم، وأن يقفوا مع الأمراء، وأن يلبسوا أقبية فوقانية على عادة الأمراء فى ذلك. ذكر الفتنة الواقعة بثغر الإسكندرية [5] وفى يوم الخميس خامس شهر رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة،/ (244) وقع بثغر الإسكندرية المحروس فتنة عظيمة بين أهل الثغر ومتولّيه ركن الدين بيبرس الكركى [6] .

_ [1] فى أص 243 «تاسع شهر رجب» والسياق يقضى بصحته. [2] فى النجوم بكتمر البوبكرى، وفى الدرر (1/482) الأبوبكرى المنصورى، وأورد ترجمته، ومبلغ تقدمه فى دولة الناصر إلى أن صار أمير سلاح يجلس رأس الميسرة، وسيورد النويرى ترجمته فى حوادث سنة 728. [3] فى (الدرر) 1/482 أنه خلف ولدين من أمراء الطبلخاناة. [4] سيف الدين أسنبغا. ترجمته فى (الدرر) 1/386. [5]- هذه الحادثة أوردها المقريزى بإيجاز فى (السلوك 2/284) وأهملها ابن تغرى بردى فلم يذكرها فى النجوم بين حوادث هذه السنة. [6] فى أ، ص 244: «ركن الدين بيبرس الكركرى» وفى (السلوك) 2/284 ركن الدين الكركى.

وسبب هذه الفتنة أن جماعة من عوام الثغر اجتمعوا فى هذا اليوم ليتفرجوا على عادتهم، فوقفوا على حلقة قاصّ ظاهر الثغر بين بابى الأخضر والبحر، وكان فى الحلقة فرنجى من أتباع رسل صاحب إسطنبول، فشرع القاصّ إذا ذكر فى قصصه النبى صلى الله عليه وسلم رفع المسلمون أصواتهم بالصلاة على عادة المسلمين فى ذلك، فقال بعضهم: أخرجوا هذا الفرنجى من بيننا، فإننا نحن نصلى على النبى صلى الله عليه وسلم وهو لا يصلى عليه، فأرادوا إخراجه من الحلقة، فامتنع من الخروج، فدفع منها، فأعانه بعض رجّالة [1] الولاية بالثغر، وقال: هذا من أتباع الرسل الذين وصلوا إلى السلطان، فضرب بعض العوام ذلك الراجل [1] ، فاستنفر بجماعة من رفقته رجالة الولاية، فكاثرهم العوام وضربوهم، وثارت الفتنة، فركب المتولى ليرد الناس، فرجمه أهل الثغر، فغلّق أبواب البلد بين العوام وبين مساكنهم، وتحصن منهم، وأحضر إليه ريّس الخلافة [2] قاربا فيه نشّاب، فرمى العوام بالنّشاب، فقتل منهم جماعة. وحضر القاضى بالثغر عماد الدين الكندى، وأشار على المتولى بالكفّ، فلم يوافقه، واستمر هو وأصحابه على رشق العوام بالنشاب، فقيل: إن القاضى قال للعوام: قد حل لكم قتالهم، فعند ذلك عظمت الفتنة، وحوصر/ (245) المتولى، وتوجه جماعة من العوام إلى دار ريّس الخلافة، فانتهبوا جميع ما فيها، وقتلوا جماعة من العوام، وتوجه بعضهم وكسروا السجن، فأخرجوا ما فيه من المعتقلين، وكان عبيد أهل الثغر قبل ذلك قد خرجوا للعب فى عيد اللّنجات على عادتهم، فضرب المتولى منهم جماعة واعتقلهم، فخرجوا الآن،/ وقصد العوام إخراج الأمراء المعتقلين بالثغر، فامتنعوا من ذلك. فعند ذلك بادر المتولى بمطالعة السلطان بهذه الحادثة، فوصلت مطالعته فى بكرة يوم الأحد ثامن شهر رجب، فندب السلطان الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى مدبر الدولة وأستاذ الدار العالية، وصحبته من الأمراء: الأمير سيف

_ [1] كذا فى الأصل، وصوابه رجال، إلا أن يكون مراده ما يقابل الفرسان فمفرده راجل. [2] قال القلقشندى فى ألقاب أرباب الوظائف: رئيس الحراقة: وهو الذى يحكم على رجال الحراقة السلطانية ويتولى أمرها، وكان فى الزمن المتقدم يقال له رئيس الخلافة (صبح الأعشى 5/467) .

الدين ألدمر [1] أمير جاندار، والأمير سيف الدين طوغان شادّ الدواوين، وغيرهما [2] ، فتوجّهوا إلى الثغر فى بقية نهار الأحد لكشف هذه الحادثة، ومقاتلة من تعدّى، ورسم بإهانة القاضى عماد الدين الكندى الحاكم بالثغر، والإخراق به، وعزله عن القضاء، وفوّض [قضاؤه] إلى القاضى علم الدين بن الأخنائى الشافعى فى العشر الأوسط من شهر رجب، وهو أول شافعى ولى قضاء الثغر. ولما وصل الأمير علاء الدين مغلطاى والأمراء إلى الثغر أحضر القاضى عماد الدين الحاكم، وأهانه، وصادره هو وشمس الدين المؤذن البلبيسى [3] نائبه وجماعة من أهل الثغر والتجار، فأخذ من جهتهم نحو خمسين ألف دينار [4] . منها من التجار الكارميّة [5] نحو عشرين ألف دينار وبقية ذلك/ (246) من أهل الثغر، ووسّط جماعة من العوام، ومسك جماعة من العبيد بالثغر وغير العبيد، وأحضر منهم نحو تسعين رجلا، فقيدوا واستعملوا فى العمارة، وحصل لأهل الثغر ضرر عظيم. وكان ممن وسّط رجل صاحب قاعة فزارة يعرف بابن رواحة [6] كان قد حضر إلى الأمير علاء الدين، والتزم بحفظ ميناء الثغر، وأنه مقيم من رجاله من يحفظها بغير جامكية، ويوفر جامكية الرماة بالبحر، وكان هذا الرجل عنده أربعمائة عدّة يلبسها الرجال المقاتلة إذا دهم الثغر [7] عدو، فأخرجوا من البلد

_ [1] فى السلوك (2/284) ضبطه بفتح الميم، وفى النجوم (9/285) بضمها، وفى صبح الأعشى (5/425) ضبطها بضم الميم والدال، قال: معنى هذا اللفظ «دمر» - فى لغة الترك- «حديد» وترجمة الدمر فى ابن حجر (الدرر 1/407) . [2] ذكر المقريزى فى (السلوك 2/285) أن فيمن توجهوا إلى الاسكندرية لهذا الغرض أيضا ناظر الخاص فى جماعة من المماليك. [3] فى السلوك (2/268) » ... وقدم عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسى قاضى الإسكندرية ليشنق، ثم أخره، وكاتب السلطان بأنه كشف عن أمره فوجد ما نقل عنه غير صحيح. [4] فى المصدر السابق أن ما جمعه ينيف على مائتين وستين ألف دينار» . [5] التجار الكارمية: يقال إن أصل الكارمى الكانمى نسبة إلى الكانم: فرقة من السودان، ذلك أن طائفة منهم كانوا مقيمين بمصر شأنهم التجارة فى البهار من الفلفل والقرنفل ونحوهما مما يجلب من الهند واليمن فعرف ذلك بهم (ضوء الصبح المسفر وجنى الدوح المثمر 1/253) . [6] فى السلوك (2/285) وتطلب ابن رواحة كبير دار الطراز ووسطه من أجل أنه وشى به أنه كان يغرى العامة بالفرنج ويمدهم بالسلاح. وقد علق عليه محققه بما أورده النويرى هنا. [7] فى أ، ص 246 «البلد» .

فتوجهوا إلى منية مرشد [1] إلى الشيخ محمد المرشدى، وطولع فى أمره، وأنهى المتولى إلى السلطان أن هذا الرجل رأس فتنة، فطلب وأحضر إلى الثغر ووسّط، وأخليت قاعات الرماة بالثغر. وعاد الأمير علاء الدين والأمراء إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأربعاء خامس عشرين الشهر، والثغر وأهله على أسوأ الأحوال. ورسم السلطان بنقل جماعة من الأمراء المعتقلين، أحضر منهم فى يوم الأحد الثانى والعشرين من الشهر عشرة نفر جهّز منهم إلى الكرك [2] الأمير سيف الدين بكتمر الأبى بكرى، وسيف الدين تمر الساقى واعتقل ببرج السباع بقلعة الجبل الأمير علم الدين سنجر الجاولى، والأمير سيف الدين بهادر المغربى [3] ، واعتقل بالجبّ ستة وهم: سيف الدين طغلق، وأمير غانم بن أطلس خان/ (247) وسيف الدين قطلوبك المعلائى [4] المعروف بالأوشاقى، وعز الدين أيدمر اليونسى، وسيف الدين كجكن، وفخر الدين أياز [5]- نائب قلعة الروم كان- ثم أفرج عن فخر الدين أياز المذكور فى يوم الخميس السادس والعشرين من الشهر لكبر سنه وعجزه، وخلع عليه على عادة مقدمى الحلقة المنصورة، وسكن بالقاهرة عند أولاده. وتأخر بثغر الإسكندرية من الأمراء المعتقلين به صلاح الدين طرخان بن بيسرى [6] ، وسيف الدين بلاط الجوكندار [7] ، وسيف الدين برلغى، وحسام

_ [1] فى ابن مماتى (قوانين الدواوين 189) منية ابن مرشد، وفى هامشه عن ابن الجيعان: منية بنى مرشد، وعدها من أعمال النستراوية، وفى مراصد الاطلاع 3/1370 نسترو: جزيرة بين دمياط والإسكندرية يصاد بها السمك، وهى ذات أسواق فى بحيرة منفردة. [2] فى أ، ص 246 «إلى قلعة الكرك. [3] فى أ، ص 246 «المعزى» وما أثبتناه من ك، والسلوك (2/286) . [4] فى أ، ص 247 «العلائى» . [5] فى السلوك (2/286) إياس نائب قلعة الروم، وفى (النجوم) أورده بالرسمين وضبط همزته بالكسر، والأوشاقى، ويقال الأوجاقى: وانظر (صبح الأعشى 5/454) . [6] فى ك بيبرس، وما أثبتناه من «أ» ، ص 247 وفى الدرر (2/216) طرجاى بن بيسرى وانظر ص 175 حاشية (1) من هذا الجزء. [7] فى ك «بلاد» وما أثبتناه من أ، ص 247 والسلوك (2/286) ، والجوكندار- (بفتح الكاف كما فى صبح الأعشى 5/448، وفى النجوم بضمها) ، هو الذى يحمل الجو كان مع السلطان فى لعب الكرة، والجو كان: المحجن.

ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام لشيخ المشايخ علاء الدين القونوى [4]

الدين لا جين العمرى، وسيف الدين ايتزا، وركن الدين بيبرس العلمى [1] ، وسيف الدين طشتمر أخو بنحاص [2] أحسن الله خلاصهم. وفيها فى يوم الأحد التاسع والعشرين من شهر رجب- وهو سلخه- جلس الأمير علاء الدين مغلطاى بقاعة الوزارة التى استجدت له بقلعة الجبل المقابلة لديوان الإنشاء، وجلس نظار الدولة والمستوفون وكتّاب الدّرج بين يديه خارج الشّبّاك على مصطبة بنيت برسم جلوسهم، ووقف شادّ الدواوين سيف الدين طوغان وحجّاب الوزارة من أسفل المصطبة التى جلس عليها من ذكرنا أمام الشباك، [ولم يعبر إليه أحد بداخل القاعة التى/ (248) هو بها- وبها الشباك- سوى مماليكه وحاشيته] [3] . ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام لشيخ المشايخ علاء الدين القونوى [4] وكان السلطان لما نقل قاضى القضاة جلال الدين القزوينى من دمشق إلى الديار المصرية المحروسة رسم بطلب القاضى كمال الدين بن الزّمكانى [5] قاضى حلب منها ليفوض إليه قضاء الشام، فتوجه البريد إليه فى أوائل شعبان، ووصل البريد إلى دمشق فى ثامن شعبان، وتوجه إلى حلب، وعاد صحبة القاضى كمال الدين المذكور، فكان وصوله إلى دمشق فى يوم السبت العشرين من شعبان، وتوجه إلى الأبواب السلطانية فى يوم الخميس الخامس والعشرين من شعبان على خيل البريد.

_ [1] في السلوك (2/286) أن المذكورين أنزلوا فى الجب بالقلعة، ويفهم من عبارة النويرى هنا أن اعتقالهم كان بثغر الاسكندرية. [2] لم يتضح فى ك، وما أثبتناه من «أ» ص 247 لموافقته ما فى السلوك (2/286) والنجوم (9/306) . [3]- هذه العبارة وردت فى ك هكذا «ولم يعبر إليه أحد بداخل الشباك سوى مماليكه وحاشيته وما أثبتناه هو عبارة أص 247 و 248 لكونها أوضح. [4] ترجمته فى الدارس (1/161 و 162) والدرر (3/25- 29) وسيورد النويرى ترجمته فى حوادث سنة 729 هـ. [5] له ترجمة مطولة فى (الدرر 4/74) والدارس فى تاريخ المدارس (1/190- 194) وسيورد النويرى ترجمته بعد قليل.

فلما وصل إلى مدينة بلبيس درج بالوفاة إلى رحمة الله تعالى على ما نذكره إن شاء الله فى الوفيات، ولما اتصلت وفاته بنائب السلطنة بالشام طلب القاضى بدر الدين أبا اليسر [1] محمد بن قاضى القضاة عز الدين محمد [بن محمد بن محمد [2]] بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل الأنصارى المعروف بابن الصايغ، وكان معتكفا بالجامع الأموى، فخرج من اعتكافه، وتوجه إليه، فتحدث معه نائب السلطنة فى ولاية القضاء/ (249) ، وتلطف به، فامتنع كل الامتناع، وصمم على ألّا يلى القضاء أبدا، فلم يزل يتلطف به إلى أن قال: استخير الله تعالى فى ذلك، فكتب نائب السلطنة إلى الأبواب السلطانية فى ولايته القضاء، فكتب تقليده بالقضاء، وسيّر إلى دمشق، فوصل فى يوم الخميس خامس عشر شوال، فحمل إليه التقليد والتشريف [3] ، فامتنع من قبول الولاية، وأصر على الامتناع، ومرض بسبب ذلك، وردّ التقليد والتشريف. فطالع/ نائب السلطنة بذلك، فاتفق رأى السلطان على تفويض القضاء لشيخ الشيوخ [4] علاء الدين أبى الحسن على بن الشيخ نور الدين إسماعيل بن جمال الدين يوسف القونوىّ الشافعى، فأحضره السلطان إلى مجلسه فى يوم الاثنين السادس والعشرين من شوال سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وفوض إليه قضاء القضاة بالشام، وخلع عليه فى هذا اليوم، وأذن له فى الحكم بالقاهرة، فأثبت كتبا تتعلق بالشام، وأنعم السلطان عليه بمبلغ ألف درهم وخمسمائة درهم، ورسم أن يجهز له من ديوان الخاص ما ينقل عليه عياله إلى دمشق، فجهز له أربعة محاير [5] وعدّة جمال، وصرفت أجرتها من ديوان الخاص السلطانى، ورسم لعائلة فى كل يوم- من حين سفرهم إلى أن يصلوا دمشق- بثلاثين درهما نقرة، عن عشرين يوما ستمائة درهم.

_ [1] فى الأصل أبا البشر وما أثبتناه من أص، 248 [2] الزيادة من الصفدى (الوافى بالوفيات 1/332) والدرر (4/226) وفيهما أن مولده سنة 676 هـ ووفاته سنة 739 هـ. [3] فى «أ» ص 249 فحمل إليه التفويض وخلعة القضاء. [4] فى السلوك (2/287) شيخ خانقاه سعيد السعداء، وانظر التعريف بهذه الخانقاه فى (النجوم 8/148 حاشية 1) . [5] المحاير، الواحدة محارة، وقد استعملها المولدون فى الهودج الصغير (معيد النعم ص 53 وشفاء الغليل) .

ذكر تفويض ما كان بيد الشيخ علاء الدين من الجهات لمن يذكر، وما وقع فى أمر الصوفية بالخانقاة الصلاحية

وتوجه هو إلى دمشق على خيل البريد بعد صلاة الظهر من يوم السبت التاسع من ذى القعدة، ووصل إلى دمشق/ (250 فى بكرة نهار الاثنين الخامس والعشرين من الشهر، واجتمع بنائب السلطنة بدار السعادة، ولبس التشريف وتوجه إلى المدرسة العادليّة [1] ، وقرئ تقليده، وجلس للحكم، وسلك فى ولايته سبيل السلف الصالح، ولم يحتجب عن أحد من الناس، ثم فوض إليه مشيخة الشيوخ بدمشق عوضا عن قاضى القضاة شرف الدين المالكى، وذلك فى ذى الحجة من السنة، وجلس بالخانقاة السّميساطيّة [2] فى يوم الجمعة رابع المحرم سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ذكر تفويض ما كان بيد الشيخ علاء الدين من الجهات لمن يذكر، وما وقع فى أمر الصوفية بالخانقاة الصلاحية لما توجه شيخ الشيوخ إلى دمشق المحروسة فوض ما كان بيده من تدريس المدرسة الشريفية بالقاهرة لقاضى القضاة جلال الدين، وفوّضت مشيخة الشيوخ بالخانقاة الصلاحية للشيخ مجد الدين الأقصرائى شيخ الخانقاة الناصرية بسماسم، ورسم له أن يستنيب عنه بالخانقاة الصلاحية الشيخ جمال الدين الحويزائى [3] ، وتولى مشيخة الخانقاة الركنية الشيخ افتخار الدين الخوارزمى، ونقل شيخها الشيخ مجد الدين الزّنكلونى [4] إلى تدريس الحديث بالقبة الركنية [5] ، ورتب معه معيد وقارىء وطلبة بمقتضى شرط الواقف،/ (251) وهو أول من درّس بهذه القبة، وكانت قبل ذلك معطّلة منذ وقفت.

_ [1] المدرسة العادلية: سبقت الاشارة إليها فى هذا الجزء، ص (212) حاشية (2) . [2] منسوبة إلى سميساط، وهى- كما فى مراصد الاطلاع 1/471 (مدينة على شاطىء الفرات من الضفة الغربية فى طريق الروم. [3] ضبطها ياقوت: حويذان، وذكر أنها صقع يمان (بلدان 2/371) وفى مراصد الاطلاع 1/439 رسمت بذال مكان الزاى. [4] مجد الدين الزنكلونى: أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز، ترجمته فى الدرر (1/441) ورسمه السنكلونى بسين مكان الزاى. [5] فى السلوك (2/287) ونقل الزنكلونى إلى مشيخة تدريس الحديث النبوى بالقبة البيبرسية.

ولما ولى الشيخ مجد الدين الخانقاة الصلاحية تحدث مع السلطان فى أمر الفقراء بالخانقاتين المذكورتين، فندب السلطان لذلك الأمير سيف الدين قجليس الناصرى أمير سلاح، وقاضى القضاة جلال الدين القزوينى، فحضرا إلى الخانقاة فى يوم الاثنين حادى عشر ذى القعدة، وعرض الفقراء بها وبالخانقاة الركنية، فأخبرنى الأمير سيف الدين قجليس المشار إليه أنه أنهى إلى السلطان أمر العرض، وأنه رسم أنه من حضر إلى الخانقاة فى وقت الوظيفة وأدّاها يستمر ولا يقطع، ومن كانت له وظيفة تعارضه فى الوقت يخيّر فى إحداهما [1] ، ثم حضر الشيخ مجد الدين واجتمع بالسلطان، وقرّر معه قطع جماعة العدول [2] الجالسين بسوق الورّاقين من الخانقاة، وأرباب الوظائف، فقطع من الخانقاة الصلاحية من له عدالة بارزة، وجلوس بسوق الوراقين، وقطع أيضا جماعة من أرباب الوظائف، فصارت العدالة البارزة وصمة عليهم، وسببا لحرمانهم، وقويت الشناعة فى ذلك، فأعيد بعض من قطع، وكره الناس من الشيخ مجد الدين هذه الواقعة، أشد الكراهة، وتكلموا عليه وعلى ابن أخيه أوحد الدين أحمد بهذا السبب، ثم انفصل الشيخ افتخار الدين من مشيخة الخانقاة الركنية، ولم يطل مقامه بها، ثم سكنت الأحوال فى ذلك/ (252) . وفيها فى ليلة الجمعة ثالث عشر ذى الحجة بنى الأمير شهاب الدين أحمد [3] بن الأمير سيف الدين بكتمر الساقى الركنى الناصرى بابنة الأمير سيف الدين تنكز [4] نائب السلطنة بالشام، وكان قد تقدم عقد النكاح عليها عند حضور والدها فى هذه السنة إلى الأبواب السلطانية، ووصلت من دمشق فى ليلة الجمعة مستهل ذى القعدة، وحصل الاهتمام بأمر الفرح، ووصل بسببه الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماة، وقدّم التّقادم الوافرة، وكان بسبب هذا المهمّ من الاحتفال والتقادم وحمل الشموع شىء كثير.

_ [1] عبارة أص 251 فى هذا الموضع: «ومن كانت له وظيفة معارضة يخير فى إحداهما» . [2] العدول يعنى الشهود، وهم قوم يتعرفون أحوال الناس ويشهدون فى القضايا، وقد نصبوا أنفسهم لذلك فصارت تلك حرفتهم، وكانت لهم حوانيت كالمكاتب اليوم لطائفة المحامين (معيد النعم ومبيد النقم ص 63 هامش 2) . [3] أحمد بن بكتمر الساقى: ترجمته فى الدرر (1/114) مولده سنة 713 ووفاته سنة 732 هـ ذكر ابن حجر أن السلطان كان يقربه جدا، ويحبه كثيرا، وأعطاه إمرة مائة وهو صغير، وزوجه بنت تنكز، وعمل له العرس بنفسه، قال: ولشدة تعلق السلطان به كان أكثر الناس يقول إنه ابن السلطان. [4] الضبط فى القلقشندى (صبح الأعشى 5/425) تنكز وفى النجوم: تنكز.

ذكر وصول رسل الباب [1] فرنسيس إلى الأبواب السلطانية

ذكر وصول رسل الباب [1] فرنسيس إلى الأبواب السلطانية وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الباب [2] ، وهو القائم ببلاد الفرنج مقام الخليفة، ورسل الملك فرنسيس، واسمه ديكردين فلب [3] ، ومثلوا بين يدى السلطان [4] ، وأحضروا ما معهم من التقادم، وكان مضمون رسالتهم سؤال السلطان أن يبرز أمره بالوصاة بالنصارى، وذكروا أن ببلاد الفرنج جماعة كثيرة من المسلمين، وأن السلطان إن أحسن إلى من فى مملكته من أهل الذمة النصارى أحسنوا إلى من ببلادهم من/ (253) المسلمين، فسمع السلطان رسالتهم، وقبل تقدمتهم، وأكرم وفادتهم، وأعادهم إلى مرسلهم، ولم يصل إلى الديار المصرية من جهة هذا الملك رسول من الأيام الصالحية النجمية إلى حين وصول هؤلاء/ الرسل الآن. ذكر متجدّدات كانت بالشام فى هذه السنة خلاف ما ذكرناه فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول فوض قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام «أحمد بن حنبل» لقاضى القضاة عزّ الدين محمد بن قاضى القضاة تقى الدين سليمان الحنبلى [5] عوضا عن قاضى القضاة شمس الدين بن مسلم بحكم وفاته، كما تقدم، ووصل تقليده إلى دمشق فى يوم الخميس الثامن عشر من الشهر، وخلع عليه، وقرىء تقليده فى يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وجلس للحكم بالمدرسة الجوزية على عادة والده رحمه الله تعالى.

_ [1] يريد البايا. [2] فى السلوك (2/286 حاشية 2) أن البابا المقصود هنا هو حنا الثانى والعشرين (1316- 1334 م- 716- 735 هـ) وأن قدوم هؤلاء الرسل كان من آفينون. [3] فى المصدر السابق- الموضع نفسه- أن ملك فرنسا حينذاك هو شارل الرابع (1322- 1328 م- 722- 729 هـ) أما فيليب المذكور، فهو فيليب الجميل (1285- 1314 م- 684- 714 هـ) وانظر: التوفيقات الإلهامية من 342- 368. [4] فى أ، ص 252 بين يدى المقام السلطانى. [5] محمد بن سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن أبى عمر بن قدامة، عز الدين الحنبلى مولده سنة 665 هـ ووفاته سنة 731 هـ، ترجمته فى الدرر (3/448) .

وفيها فى مستهل شعبان فوضت مشيخة المشايخ بدمشق لقاضى القضاة شرف الدين محمد بن القاضى معين الدين أبى بكر المالكى [1] مضافة إلى الحكم، وجلس بالخانقاة السّميساطية لذلك فى يوم الجمعة السادس والعشرين من الشهر. وفيها فى سابع شهر رمضان فوض قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام أبى حنيفة للقاضى عماد الدين أبى الحسن على بن محيى الدين أحمد ابن عبد الواحد الطّرسوسى الحنفى [2] عوضا عن القاضى صدر الدين البصروى [3] بحكم وفاته على ما نذكره، ووصل تقليده إلى دمشق فى يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان، وخلع عليه فى يوم الخميس/ (254) سابع عشر الشهر، وجلس للحكم بالمدرسة النّوريّة [4] . وفيها فوض قضاء القضاة بحلب المحروسة للقاضى فخر الدين عثمان بن [محمد بن] [5] عبد الرحيم بن إبراهيم البارزى [6] الحموى الشافعى، وكان يلى الخطابة بحماة، وينوب عن عمه قاضى القضاة شرف الدين فى الحكم بحماة. وفيها فى نصف رمضان وصل إلى دمشق المحروسة جماعة من الأسرى [المسلمين] [7] من بلاد الفرنج نحو مائة وأربعين أسيرا، ومعهم جماعة من تجار الفرنج تولوا استيفادهم، فجعلوا فى المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، ورسم بإعطاء التجار الفرنج ما ذكروا أنهم صرفوه وأنفقوه عليهم، بعد تحليفهم وتحليف الأسرى [وكان ذلك نحو ستين ألف درهم، فلما قبض التجار ذلك من

_ [1] محمد بن أبى بكر بن ظافر بن عبد الوهاب- قاضى القضاة شرف الدين المالكى توفى سنة 748 هـ ترجمته فى الدرر (3/18) وانظر: الدراس فى تاريخ المدارس (1/621) . [2] على بن عبد الواحد الطرسوسى الحنفى، ولد بمنية ابن خصيب بمصر 669 هـ وتوفى سنة 748 هـ ترجمته فى الدرر (3/18 وانظر: الدارس فى تاريخ المدارس (1/621) . [3] سيورد النويرى ترجمته فى وفيات هذه السنة، وانظر: الدارس فى تاريخ المدارس (1/621) . [4] هما نوريتان: النورية الكبرى بخط الخواصين بدمشق: أنشأها نور الدين محمود بن زنكى، والنورية الصغرى: بجامع قلعة دمشق وقفها نور الدين محمود بن زنكى أيضا. والمراد هنا النورية الكبرى، فقد ورد اسمه فيمن تولى التدريس بها، وانظر: (الدارس فى تاريخ المدارس 1/606 و 622 و 648) . [5] الزيادة من أص 254 والدرر 2/448. [6] فى ك البرزى، وما أثبتناه من «أ» والدرر (2/448) . [7] زيادة من السلوك (2/289) .

ريع الأوقاف على فكاك الأسرى أطلق الأسرى] [1] وكان سبب سعى التجار فى فكاك هؤلاء الأسرى أن قاضى القضاة جلال الدين القزوينى أشهد على نفسه أنه جعل لكل من يحضر أسيرا من المكان الفلانى مبلغا عيّنه، وكتب بذلك مكتوبا، وعرف التجار ذلك، فسعوا فيه، وجعلوه من جملة متاجرهم، و «نقلت هذه الواقعة من تاريخ الشيخ علم الدين بن البرزالى [2] » . وفى يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذى القعدة فوضت نيابة السلطنة بقلعة دمشق المحروسة إلى الأمير علاء الدين مغلطاى الخازن أحد الأمراء بدمشق عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الدميثرى [3] واستقر الدميثرى [3] من جملة الأمراء بدمشق المحروسة. وفيها فى يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذى القعدة أيضا خلع على الأمير سيف الدين بلبسطى [4] ، وفوض إليه نيابة بحمص عوضا عن بلبان البدرى، رحمه الله تعالى، وكانت وفاة البدرى فى ليلة عيد الفطر من السنة بحمص، وحمل إلى دمشق، وصلى عليه بسوق الخيل، ودفن يوم السبت بسفح قاسيون. وفيها فى التاريخ أيضا فوّض نظر أوقاف القدس الشريف، وحرم الخليل عليه الصلاة والسلام إلى الأمير سيف الدين إبراهيم بن الأمير علم الدين الجاكى [5] ، وخلع عليه، وتوجه. وفيها فى العشر الأول من ذى الحجة كمل ترخيم الحائط الشمالى بالجامع الأموى بدمشق، وكان فى الدولة الظاهرية/ (255) الركنية قد رخّم

_ [1] ما بين الحاصرتين سقط من ك، وأثبتناه من «أ» ص 254. [2] أورد المقريزى هذه الواقعة فى السلوك (2/289) وذكر أن «تنكز افتدى كل أسير بمائة وعشرين درهما، وأنه كسا هؤلاء الأسرى، وزودهم، وحملهم إلى مصر، فسر المسلمون بهم» . [3] فى أ، ص 254 «الدميثرى» فى الموضعين، ولعله تحريف الأيدمرى، وهو علم الدين سنجر بن عبد الله الأيدمرى توفى سنة 729 هـ، وانظر النجوم 9/280. [4] فى أ، ك باسطى وما أثبتناه من السلوك (2/288) ، ولم يرد له ذكر فى النجوم. [5] فى أ، ص 254 علاء الدين الحاكمى.

من جهة الشرق إلى باب الكلّاسة [1] ، ولم يكمل، واستمر كذلك إلى الآن، فرسم بترخيمه، فكان ذرع الذى استجد الآن من باب الكلّاسة إلى زاوية الغزالى ستون ذراعا طولا وفى الارتفاع ستة، وعمل بأعلاه طراز مذهّب. وفى هذه السنة توفى أحد أولاد السلطان الملك الناصر وهو طفل، لعله الذى ذكرنا أنه ولد فى ثامن عشر المحرم من هذه السنة [2] ودفن بتربة الخوند أردكين [3] ابنة نوكاى زوج السلطان. وتوفى فى ليلة الاثنين المسفرة عن السادس والعشرين من جمادى الأولى قبيل العشاء الآخرة الشيخ الصالح ضياء الدين محمد المعروف بالمعبدى [4] وهى نسبة إلى معبد الشيخ محيى الدين الفارسى بالقرافة، وكانت وفاته بمنزله بجوار الزاوية المعروفة به بخطّ موردة الخلفاء بمصر، بشاطىء نيلها، وصلّى عليه بالجامع الناصرى، وأم الناس فى الصلاة عليه قاضى القضاة بدر الدين الشافعى، ثم صلّى عليه ثانيا فى جامع عمرو بن العاص بمصر، ودفن بالقرافة بتربته فى قبر كان قد حفره لنفسه، وأعده لدفنه فى حال حياته، وكان رحمه الله تعالى كثير الخدمة للفقراء، والتكرم عليهم والإنفاق، وله مروءة وافرة، كثير التعصب والقيام مع من يقصده، يطّرح/ (256) الكلفة جدا، كان ينفق على الفقراء الواردين وغيرهم ممن يقصده النفقات الكثيرة، ويطعمهم الأطعمة اللذيذة الفاخرة، ويفرّجهم فى المستنزهات، وهو فى غالب أوقاته يلبس الدّلق المرقّع بغير قميص، وكان حسن المحاضرة، كثير النوادر، مشهورا بالخلاعة والانبساط رحمه الله تعالى/.

_ [1] الكلاسة: مدرسة قديمة بدمشق، عمّرها نور الدين الشهيد سنة 555 هـ، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها كانت فى موضع عمل الكلس أيام بناء الجامع الأموى، وكان موضعها لصيق الجامع الأموى من شمال، ولها باب يؤدى إليه (الدارس فى تاريخ المدارس 1/447) وقد درست هذه المدرسة منذ عهد قريب (مخطط المنجد 32) . [2] لم يورده المقريزى فى وفيات هذه السنة (السلوك 1/290 و 291) ولا ابن تغرى بردى (النجوم 9/268- 271) . [3] رسمه ابن تغرى بردى «بواو بعد الدال هكذا: أردوكين» (النجوم 9/275) . [4] لم ترد وفاته فى السلوك 2/290، ولا فى النجوم (9/268 وما بعدها) ولا فى الشذرات (6/75..) .

وتوفى فى يوم الأحد الثامن من شهر رجب القاضى الإمام الفاضل العالم نجم الدين أبو العباس أحمد بن صدر الدين محمد بن رشيد الدين حرمى الشافعى [1] القمولى نائب الحكم العزيز بمصر، وناظر الحسبة بها، وكانت وفاته [بداره] [2] بمصر، وصلّى عليه بجامع عمرو بن العاص عقيب صلاة الظهر من اليوم المذكور، وكانت جنازته مشهودة، حضرها القضاة والحكام والأكابر وغيرهم من العوام، ومولده فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة تقريبا بقمولة من غربية مدينة قوص [3] ، وكان رحمه الله تعالى رجلا ديّنا فاضلا فقيها عالما، صنف: «كتاب البحر المحيط فى شرح الوسيط» فى نحو ثمانية عشر مجلدا كبارا، واختصره فى ثمانى مجلدات وسمى المختصر: «جواهر البحر» وشرح مقدمة الشيخ أبى عمر بن الحاجب فى النحو فى مجلدين وشرح الأسماء الحسنى، وغير ذلك من التآليف رحمه الله تعالى/ (257) . وتوفى فى ليلة الأحد خامس عشر شهر رجب الشيخ الصالح أبو القاسم عبد الرحمن بن موسى بن خلف الحدافى [4] وكانت وفاته بالبرج بقلعة الجزيرة مقابل مصر، وبه كان يسكن، وصلّى عليه بجامع عمرو بن العاص بعد صلاة الظهر، ودفن بسفح المقطّم بتربة الشيخ تاج الدين بن عطاء الله، بجوار تربة الشيخ أبى محمد بن أبى حمزة، وكان الشيخ عبد الرحمن رجلا صالحا زاهدا عابدا منقطعا متخلّيا عن الدنيا، رحمه الله تعالى. وتوفى بحلب الأمير [5] ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة والده، وكانت وفاته فى يوم السبت ثالث عشر [6] شعبان، ونقل الشيخ علم الدين بن البرزالى فى تاريخه أنه توفى فى

_ [1] فى الدرر (1/304) والسلوك (2/290) أحمد بن محمد بن أبى الحزم مكى المخزومى بن ياسين القمولى، وفى هامش السلوك (2/290 حاشية 1) ابن أبى الحزم حرمى بن ياسين.. الخ وفى الشذرات (6/75) أحمد بن محمد بن مكى بن ياسين القرشى المخزومى القمولى، نسبة إلى قمولة- بالفتح والضم- بلد بصعيد مصر. [2] زيادة من «أ» ص، 256 [3] يريد أنها غربى النيل، وفى مراصد الاطلاع: أنها تقع على الشاطئ الغربى للنيل. [4] فى أ، ص 257 «الجذامى» . [5] ترجمته فى الدرر (3/379) وفيه أن وفاته فى شعبان 727 هـ. وورد ذكره فى (النجوم 9/269) والسلوك (2/291) . [6]- هذه الرواية تتفق وما ورد فى السلوك والنجوم، ولم يحدد ابن حجر فى الدرر يوم وفاته.

يوم الجمعة ثانى عشره، ودفن يوم السبت، وكان قد استقر عند انتقال والده إلى نيابة السلطنة بحلب فى جملة الأمراء مقدمى الألوف بحلب، فمرض ومات، فوصل الخبر إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأربعاء رابع عشرين الشهر، وكان قبل ذلك قد توفى أخوه الصغير أحمد، وهو من أمراء العشرات بحلب، ووصل الخبر أيضا بمرض والده وأخوته، فرسم السلطان أن يتوجه صلاح الدين بن البرهان أحد الأطباء بالباب الشريف، فتوجه إليهم على خيل البريد فى يوم الجمعة تاسع عشر الشهر. وتوفى فى يوم الثلاثاء ثامن شهر رمضان/ (258) القاضى عز الدين عبد العزيز بن [أحمد بن] [1] عمر بن عثمان بن الخضر الهكّارى قاضى الأعمال الغربية، ويعرف بابن خطيب الأشمونين [2] ، وكانت وفاته بالقاهرة، وكان قد حضر من المحلة للسلام على قاضى القضاة جلال الدين [3] فمرض ودامت به العلة إلى أن مات، وكان فقيها فاضلا نزها كريم الأخلاق، رحمه الله تعالى. وتوفى فى يوم الثلاثاء ثامن شهر رمضان أيضا الأمير سيف الدين قطلوبغا [بن عبد الله] [4] المغربى الناصرى الحاجب، وكان قد توجه صحبة الرسل إلى حلب كما ذكرنا، فمرض فى سفره، وعاد فعجز عن الركوب، فحمل فى محفّة، ورحل إلى القاهرة فى يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان، فبات بداره ليلة واحدة، ومات رحمه الله تعالى، وكان السلطان قد أعده لمهمّاته، ووعده بتقدمة ألف، فعاجلته المنية عن بلوغ الأمنية. وفيها فى آخر ليلة الأربعاء سادس شهر رمضان توفى القاضى كمال الدين أبو المعالى محمد بن الشيخ علاء الدين على بن الشيخ كمال الدين عبد الواحد

_ [1] الزيادة من أ، ص 258 وفى الدرر (2/368) عبد العزيز بن أحمد بن عثمان الهكارى، ثم المصرى الشافعى. وفى شذرات الذهب (6/77) عبد العزيز بن أحمد بن عثمان بن عيسى الكردى الشافعى، وكذلك ورد فى طبقات الشافعية. [2] الأشمونين: هى اليوم إحدى قرى مركز ملوى بمحافظة المنية وانظر (النجوم 9/40 حاشية/ 1) . [3] فى الدرر (2/268) أنه عين لقضاء القضاة بعد أن صرف القاضى بدر الدين بن جماعة بسبب عماه، وأنه طلب من المحلة، وكان ينوب بها عن قاضى القضاة ابن جماعة، فدخل القاهرة وهو مريض، ومات بعد قليل، وأورد فى الشذرات بعض مصنفاته. [4] الزيادة عن النجوم (9/269) .

ابن خطيب زملكا [1] زين الدين عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصارى الشافعى، المعروف بابن الزّملكانى [2] ، وكانت وفاته بمدينة بلبيس مدينة الأعمال الشرقية من الديار المصرية، وكان قد استدعى من حلب بالأمر السلطانى، لينقل إلى قضاء الشام، فجاء على خيل البريد، فلما انتهى/ (259) إلى منزلة الصالحية مرض، فوصل إلى بلبيس، وقد اشتد به المرض فمات، وحمل إلى القرافة فى ليلة الخميس، فدفن بالقرب من قبر قاضى القضاة إمام الدين القزوينى جوار قبة الإمام الشافعى، ومولده فى ليلة الاثنين ثامن شوال سنة سبع وستين وستمائة، وكان من أعيان العلماء بمذهب الإمام الشافعى ومن الفضلاء، ولى كتابة الدّرج بدمشق مدة طويلة، وتنقل فى الولايات ودرس فى أجلّ مدارس [3] دمشق، ثم نقل إلى قضاء حلب، كما تقدم، وله شعر حسن، وترسّل جيد، رحمه الله تعالى. وتوفى فى يوم الأحد تاسع عشرين ذى الحجة الأمير سيف الدين كوجرى [ابن عبد الله] [4] أمير شكار، وهو من أمراء المائة مقدمى الألوف، رحمه الله تعالى. وتوفى بدمشق فى مستهل شهر ربيع الأول الأمير ناصر الدين إبراهيم بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك الزاهد [5] داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن الملك القاهر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى، ودفن بقاسيون، وكان من جملة مقدمى الحلقة بدمشق المحروسة، رحمه الله تعالى.

_ [1] الضبط من مراصد الاطلاع 2/670 وفيه: زملكان قرية ببلخ، وقرية بغوطة دمشق، وربما أسقطوا من هذه النون، فقالوا زملكا- بفتح أوله وثانيه وسكون اللام، وحكى ياقوت أيضا فتح أوله وثالثه وسكون ثانيه. [2] ترجمته فى (الدرر 4/74 وما بعدها) والنجوم (9/270) والسلوك (2/290) والوافى بالوفيات (4/214) والشذرات (6/76) والدارس فى تاريخ المدارس (1/194) . [3] هى المدرسة الأمينية. وكان أبوه علاء الدين الزملكانى يدرس بها أيضا. وانظر: (الدارس فى تاريخ المدارس 1/193 وما بعدها) . [4] الزيادة من النجوم (9/268) . [5] فى أ، ص 259 الملك الزاهر.

وتوفى بدمشق أيضا فى عشية نهار الأربعاء العشرين [1] من جمادى الآخرة الملك الكامل، وهو الأمير/ (260) ناصر الدين محمد بن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن [نجم الدين] [2] أيوب، وصلّى عليه بعد صلاة الظهر بالجامع الأموى، وحمل إلى تربة الملك الكامل بن الملك العادل وهو عم أبيه، وجده لأمه ربيعة خاتون ابنة الملك الكامل، فأغلق باب التربة دون تابوته عامل التربة موسى بن أخت صاين الدين خطيب مصلّى العيدين، وامتنع من الموافقة على دفنه بها، فتألم الناس لذلك، وضربوا موسى المذكور، ولم يفتح الباب، فتوجّهوا/ بجنازته إلى تربة أم جده الملك [الصالح، وكشفوا الأزج [3] فوجدوه مملوءا بالأموات] [4] فجاءوا به إلى قبر أبيه فوجدوه ضيقا، فأحضروا الحجّارين فشقوا له قبرا ودفن [عند مغيب الشمس وكان نائب السلطنة] [4] يومئذ بالمرج، فطولع بذلك، فرسم أن يدفن عند والدته، فامتنع أهله من نقله، ومولده فى ليلة [الاثنين بطريق الحجاز الشريف، بمنزلة تسمى العقاب، بثنيّة راطية [5] خامس ذى القعدة سنة ثلاث] [6] وخمسين وستمائة سمع صحيح مسلم من ابن عبد الدايم وسمع من غيره، وحدث وكان من أمراء [الطبلخاناة بالشام، كثير التواضع والمجون [7]] حسن المذاكرة والمداعبة، كثير النوادر، ولما مات أنعم السلطان على ولده صلاح الدين [بإمرة طبلخاناه، وعلى ولده] الأصغر بإمرة عشرة، وركبا بالخلع فى رابع عشرين رجب بدمشق. وتوفى بدمشق أيضا فى يوم الأربعاء [الرابع والعشرين [7] من] جمادى الأولى الشيخ العالم شرف الدين أبو محمد عبد الله/ (261) بن الشيخ

_ [1] فى النجوم (9/269 فى حادى عشرين. [2] الزيادة من السلوك (2/291) والنجوم (9/269) . [3] الأزج: بناء مستطيل مقوس السقف (المعجم الوسيط) وترد هذه اللفظة كثيرا عند الهمدانى (فى الإكليل) مرادا بها القبور القديمة المطمورة. [4] ما بين القوسين فى الموضعين زيادة من «أ» ص 260. [5] الصواب أن يقال بثنية العقاب براط. ففى مراصد الاطلاع 1/301: ثنية العقاب: مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد إلى دمشق، وثنية العقاب بالثغور الشامية قرب المصيصة، وراطية- فى مراصد الاطلاع 1/595- قال فى تفسيرها: موضع، ولم يزد على ذلك. [6] ما بين القوسين بياض فى ك، والزيادة من «أ» ص 260 و 261. [7] فى الشذرات (6/76) رابع عشر جمادى الأولى.

شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم بن محمد [1] بن تيمية الحرّانى الحنبلى، وهو أخو الشيخ تقى الدين، وصلّى عليه بعد صلاة الظهر بجامع دمشق، ثم صلى عليه بباب قلعة دمشق، وكانت جنازته مشهودة، ثم حمل إلى ظاهر باب النصر فصلى عليه مرة ثالثة، ثم صلى عليه مرة رابعة، ودفن بمقبرة الصوفية عند والده وأهله رحمهم الله، ومولده بحران [2] فى الحادى والعشرين من المحرم سنة ست وستين وستمائة. وتوفى فى يوم الأربعاء بعد العصر الثالث من شعبان قاضى القضاة صدر الدين أبو الحسن على بن الشيخ صفى الدين أبى القاسم [بن محمد بن عثمان ابن محمد البصروى] [3] الحنفى ببستانه بأرض سطرا [4] ظاهر دمشق، وصلّى عليه بكرة [الخميس بسوق الخيل، ودفن بسفح قاسيون، وأوصى بثلث ماله فى بكرة نهار] [5] وفاته صدقة على الفقراء والمساكين، ومولده فى ثالث شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة بقلعة بصرى، وسمع من ابن عبد الدايم وابن عطاء وغيرهما، وحدث رحمه الله تعالى. وتوفى بدمشق الصدر شمس الدين محمد بن الشيخ الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحلبى [6] صاحب ديوان المكاتبات بدمشق فى ليلة السبت عاشر شوال، وصلى عليه بالجامع الأموى، ودفن من الغد بتربة والده

_ [1] أورد ابن حجر فى (الدرر 2/266) مكان هذا الجد (خضر) ، وأهمل ذكر وفاته المقريزى فى السلوك (2/290) وابن تغرى بردى فى (النجوم 9/268) وأورده ابن العماد الحنبلى فى الشذرات (6/76) .. ابن عبد السلام بن أبى القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية، وذكر أن مولده فى حادى عشر المحرم سنة 666 هـ. [2] حران: قرية بغوطة دمشق، وأخرى من قرى حلب، وهناك مواضع أخرى بهذا الاسم (مراصد الاطلاع 1/389) . [3] فى السلوك (2/290 و 291) البصراوى، وكذلك فى النجوم (9/268) وكلا الرسمين صحيح، فالنسب إلى ما رابعه ألف وثانيه ساكن مثل بصرى يصح فيه بصرى وبصروى، وبصراوى. وانظر فى ترجمته (الدرر 3/96) والشذرات (6/78) والدارس فى تاريخ المدارس (1/620) . [4] سطرا: من قرى دمشق، وقد ذكرها ابن منير الطرابلسى فى متنزهات دمشق فقال: «فالقصر فالمرج فالشرف الا ... على فسطرا فجرمانا فقلبين» . المراصد 2/714. [5] الزيادة عن السلوك، والنجوم، والدرر. [6] أورده ابن تغرى بردى فى النجوم (9/268) والمقريزى (السلوك 2/290) وابن العماد (الشذرات 6/80) وابن حجر (الدرر 4/251) .

واستهلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة [2] بيوم الثلاثاء الموافق للعشرين من هاتور من شهور القبط

بسفح جبل/ (262) قاسيون، ومولده فى يوم الأحد ثامن شوال سنة تسع وستين وستمائة رحمه الله تعالى، ولما توفى استقر فى كتابة الدّرج [1] بعده بدمشق القاضى محيى الدين بن فضل الله، ولبس التشريف، وباشر الوظيفة فى يوم السبت الثالث والعشرين من ذى القعدة، واستقر شرف الدين ولد شمس الدين فى التوقيع بين يدى نائب السلطنة على ما كان عليه القاضى محيى الدين بن فضل الله، وخلع عليه أيضا فى اليوم المذكور، والله أعلم. واستهلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة [2] بيوم الثلاثاء الموافق للعشرين من هاتور من شهور القبط ، ورئى فى كثير من البقاع يوم الاثنين، والسلطان الملك الناصر- خلد الله ملكه- بمقر ملكه بقلعة الجبل المحروسة، ولا نائب للسلطنة بالأبواب العالية، فإنه منذ عزل الأمير سيف الدين أرغون الناصرى عن النيابة، وتوجّهه إلى حلب، لم يفوّض السلطان النيابة إلى غيره، وإنما الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب يتحدث فى أمر الجند، والأمير علم الدين مغلطاى الجمالى الناصرى فى وظيفتى الوزارة وأستاذ الدّارية العالية على عادته، والديار المصرية والشام والبلاد الحلبية والساحلية والجبلية وغيرها، من الممالك الإسلامية الداخلة فى مملكة السلطان الملك الناصر، على غاية الرخاء والخير، وانحطاط الأسعار. وفى يوم الخميس ثالث المحرم من هذه السنة أمر السلطان أن يتقدم الأمير سيف الدين [بشتاك [3] على ألف فارس، وهى التقدمة التى انحلت عن الأمير سيف الدين كوجرى [4]] أمير شكار، وأعطاه السلطان من خبز كوجرى ملّوى [5] ، وكمل له على ما بيده من الإقطاع مائة فارس،/ (263) وأمر الأمير

_ [1]- هذه الوظيفة ذكرها القلقشندى فى (صبح الأعشى 5/464) وذكر أن صاحبها هو الذي يكتب المكاتبات والولايات وغيرها فى الغالب، وربما شاركه فى ذلك كتاب الدست، ويعبر الآن (زمن القلقشندى) عن كاتب الدرج بالموقع. [2] انظر فى أخبار هذه السنة ابن تغرى بردى (النجوم 9/90 و 271 وما بعدها) والمقريزى (السلوك 291- 305) وتاريخ أبى الفداء (4/94 وما بعدها) وابن العماد (شذرات الذهب 6/80 وما بعدها) . [3] الضبط من النجوم (9/103) ويرد رسمه فيه أحيانا بلا ألف بعد التاء بشتك، وهو بشتاك الناصرى. وانظر ترجمته فى الدرر (1/477 مات مقتولا فى ربيع الثانى سنة 742 هـ. [4] ما بين الحاصرتين سقط من ك، والزيادة من أ، ص 262 والدرر (1/478) . [5] ملوى: عدها ابن مماتى (قوانين الدواوين 193 فى أعمال الأشمونين، وسماها ملوى وجزايرها. وهى اليوم أحد مراكز محافظة المنية.

ووصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك

سيف الدين نوروز بطبلخاناة، وأمر ناصر الدين بن كوجرى بعشرة طواشيّة، وأمر سيف الدين چهاركس [1] بعشرة طواشية، وجعل أحد أمراء شكارية، وركب الأمراء فى يوم الخميس ثالث شهر المحرم بالتشاريف والشّرابيش [2] على عادة أمثالهم. وفيها فى يوم الاثنين السابع من المحرم توجه السلطان إلى جهة القصور بسرياقوس، فتصيد بتلك الجهة إلى يوم الاثنين رابع عشر الشهر ورجع، ومر تحت قلعة الجبل ولم يصعد إليها، ومر على طريق سوق الخيل إلى الصّليبة إلى قناطر السباع، حتى انتهى إلى بولاق، فركب إلى جهة الجيزية، واستقر فى نيابة السلطنة- فى مدة غيبة السلطان- الأمير سيف الدين قجليس الناصرى أمير سلاح. ووصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد بن خربندا ملك العراقين وخراسان، فكان وصولهم إلى باب الدّهليز [3] المنصورى بمنزلة الأهرام فى يوم الأحد السابع/ والعشرين من المحرم، فمثلوا بين يدى السلطان، وسمع رسالتهم، وأحسن إليهم، ورسم بإعادتهم إلى مرسلهم، فتوجهوا بعد دخولهم إلى القاهرة فى يوم السبت رابع صفر، واستمر السلطان بمنزلة الأهرام أياما، ثم توجه منها إلى جهة المنوفية، وعاد إلى قلعة الجبل المحروسة فى منتصف نهار الأحد ثانى عشر صفر، فأقام بقلعة الجبل إلى يوم/ (264) الخميس سلخ صفر، وتوجّه فى بكرة النهار إلى جهة القصور بسرياقوس، ثم عدى البحر إلى الجانب الغربى، وتوجّه إلى جهة المنوفية، وتصيد هناك وعاد، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأول من السنة، والله أعلم.

_ [1] الضبط من النجوم (9/214) والكلمة فارسية مركبة من: جهار- أربعة، وكسى (أو) كسى- شخص، أو نفس، فمعناها أربعة أنفس. [2] الشرابيش: جمع شربوش، وهو غطاء للرأس كان على هيئة خاصة، وكان من شارات الإمارة، وفى السلوك (2/343) والنجوم (9/99) شربوش مكلل مزركش، ويفهم من هذا أنها كانت أنواعا مختلفة على حسب منزلة من تخلع عليهم. [3] الدهليز: أورده المقريزى فى مواضع كثيرة فى السلوك، ويفهم منه أنه خيمة على صفة معينة تقام للسلطان فى رحلاته، وقد أورد أبو الفداء صفتها فى تاريخه (4/97) .

ذكر وفود الأمير تمرتاش بن الأمير جوبان بن تلك بن بدوان [1] نائب الملك أبى سعيد بمملكة الروم إلى الأبواب السلطانية

ذكر وفود الأمير تمرتاش بن الأمير جوبان بن تلك بن بدوان [1] نائب الملك أبى سعيد بمملكة الروم إلى الأبواب السلطانية وسبب وفوده. وما كان من خبره إلى أن قبض عليه وقتل، ولنبدأ بذكر السبب الذي أوجب مفارقته المملكة الرومية، وحضوره إلى الديار المصرية، وهو ما وصل إلينا من أخبار والده وإخوته ومقتلهم، ثم نذكر أخبار تمرتاش [2] فنقول: كان الأمير جوبان بن تلك [3] بن بداون نائب الملك أبى سعيد بن خربندا صاحب العراقين وخراسان والروم وأولاده قد استولوا علي مملكة التتار ما قرب منها وما بعد، وتحكموا فيها تحكم الملوك من غير منازع لهم ولا مناوئ، وزاد تحكمهم حتى لم يبق للملك أبى سعيد معهم إلا اسم السلطنة، وانفرد جوبان بالأمر كله بعد وفاة الوزير على شاه، وقد تقدم من أخبار جوبان وتمكنه وقتله من قتل من أكابر الأمراء وأقارب الملك ما ذكرناه فى حوادث/ (265) سنة تسع عشرة وسبعمائة ما لا يحتاج إلى إعادته، فلما كان فى سنة سبع وعشرين وسبعمائة توجه الأمير جوبان وولده الأمير حسن إلى بلاد خراسان، واستصحب معه معظم الجيوش، وتوجه لقصد محاربة أولاد الملك كبك [4] على عادة التتار، وتأخر بالأردو [5] من أولاد جوبان دمشق خواجا، فأنهى إلى الملك أبى سعيد عنه أنه قد عزم علي الوثوب عليه وقتله، حتى صح ذلك عنده، واتهم أيضا ببعض نساء الملك خربندا والد أبى سعيد، فعند ذلك أمر الملك أبو سعيد بقتله، واتصل الخبر به فركب فى طائفة يسيرة من مماليكه، وقصد الهرب إلى أبيه فأدرك لوقته، وقتل بظاهر مدينة سلطانية [6] ، وترك ملقى بعد قتله، وذلك فى شوال سنة سبع وعشرين.

_ [1] فى أ، وك غير منقوط، وفى السلوك (2/292) تداون، وفى النجوم (9/272) نداون، وفى هامشه بداون فى إحدى نسخ الأصل. [2] فى المقريزى (السلوك 2/292) دمرداش- بدالين- وفى الدرر (1/518) تمرتاش- بتاءين-. [3] تلك: ضبطه فى السلوك بضم أوله وكسر ثانيه، وفى النجوم (9/272) بضم أوله وفتح ثانيه. [4] الضبط من السلوك 2/292، وفى موضع آخر منه كبك خان. [5] الأردو: إقليم ببلاد فارس قصبته تيمارستان. (مراصد الاطلاع 1/53) . [6] مدينة سلطانية: فى النجوم (9/239) أن السلطان خربندا بن ارغون بن ابغا بن هولاكو بن تولو بن جنكيزخان هو الذى أنشأها فى أرض قنغرلان وفى هامشه: أنها تقع فى سمت المشرق من تبريز على مسيرة ثمانية أيام (240 ك م) منها، وتبعد من جبال جيلان مسيرة يوم (30 ك م) وأن السلطان خربندا جعلها عاصمة ملكه، وسماها سلطانية، وفى صبح الأعشى (4/358) نقل القلقشندى عن مسالك الأبصار وصفا مطولا لها.

ولما اتصل خبر مقتله بوالده الأمير جوبان أظهر الخلاف، وعزم على حرب الملك أبى سعيد، ورجع بالعساكر التى كانت معه من خراسان، وتوجه الملك أبو سعيد لقتاله بمن بقى عنده من العساكر، وتقدم كل منهما بعساكره إلى الآخر، حتى بقى بينهما منزلة أو نحوها، ففارقه أكثر من كان معه من الأمراء أولا فأولا، والتحقوا بالملك أبى سعيد، فعند ذلك رجع جوبان بمن بقى معه إلى خراسان، ففارقه من بقى معه من الأمراء إلى خدمة الملك، وبقى فى نحو ستمائة فارس من ألزامه ومماليكه، فتوجه بهم، ولم يتبعه الملك أبو سعيد، ولا جرّد خلفه عسكرا، بل رضى كل منهما من الغنيمة بالإياب، ولعله إنما ترك ذلك خشية أن يكون لحاق من كان مع جوبان من العساكر/ (266) به مكيدة، وعزم جوبان على اللحاق بأولاد الملك كبك، والاستنصار بهم على حرب الملك أبى سعيد. فلما وصل إلى هراة [1]- من أعمال خراسان- خرج إليه نائبها، وهو أمير جرىء مقدام، له فتكات معروفة، وهو ممن أنشأه جوبان وقدمه فتلقاه وخدمه وعرض عليه الدخول إلى هراة والإقامة بها إلى انقضاء فصل الشتاء، ويتوجه بعد ذلك إلى حيث أحب، فركن إلى قوله، ووثق به، ويقال: إن ابنه حسن كره ذلك ونهى والده عنه، وذكره بغدراته، وكان قد حصل لجوبان مرض منعه من إدامة الحركة والسير، فترجح عنده الدخول إلى هراة، فدخل إليها، وفارقه ابنه حسن، والتحق بالملك أزبك صاحب صراى والبلاد الشمالية، فأكرمه أزبك، وأحسن إليه، ولما صار جوبان بهراة بادر نائبها بالقبض عليه وقتله، وكتب إلى الملك أبى سعيد بذلك. وقتل أيضا ولد لجوبان بكردستان [2] ، ثم حمل جوبان فى تابوت، وجىء به إلى بغداد فى سابع عشرين شوال سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وصلى عليه بالمدرسة المستنصرية، ثم حمل إلى مكة- شرفها الله تعالى- فى جملة الركب

_ [1] هراة: مدينة مشهورة من أمهات مدن خراسان، كثيرة المياه والبساتين. مراصد الاطلاع 3/1145، وكانت من مدن العلم قبل العصر التترى. [2] كردستان: كانت قديما إقليما هاما من بلاد فارس يقع شمالى كرمانشاه وجنوبى أذربيجان، وعاصمته سنندج (صفحات عن إيران ص 15) .

وأما الأمير دمرداش [2] بن جوبان

العراقى وطيف به، وحمل إلى عرفة، ثم إلى منى، وأعيد إلى مكة، وحمل منها إلى المدينة النبوية ليدفن فى تربته التى أنشأها بالمدينة، فلما اتصل ذلك بالسلطان الملك الناصر كتب إلى أمير المدينة النبوية ألا يدفن فى التربة، فدفن فى البقيع، وكان السبب فى الاحتفال به، وحمله/ (267) إلى مكة والمدينة أن الملك تزوج ببغداد خاتون ابنة جوبان بعد مقتل والدها وأخويها، وحظيت عنده، وشغف بها، وكان يحبها قبل ذلك، وقصد زواجها، فزوجها والدها من الأمير/ الشيخ حسن بن الجتيه [1] ، فلما قتل جوبان أمره الملك أبى سعيد بطلاقها، وتزوجها وشغف بها، وتمكّنت من دولته أكثر من تمكّن أبيها على ما نذكر مما يصل إلينا إن شاء الله تعالى من أخبارها، فأمرت بحمل أبيها إلى الحجاز الشريف، هذا ما بلغنا من أخبار جوبان. وأما الأمير دمرداش [2] بن جوبان وهو نائب الملك أبى سعيد بالمملكة الرومية، وكان قد استقل بأمرها، واستولى على أموالها وعساكرها من غير منازع له فيها ولا معارض، فإنه لما اتصل إليه خبر مقتل أخيه دمشق خواجا، وما كان من خلاف أبيه علم أنه لا يمكنه الإقامة بالمملكة الرومية، وأنه متى يفرغ وجه الملك أبى سعيد من أمر جوبان يقصده بالعساكر، فكتب إلى السلطان الملك الناصر يسأله الإذن له في اللحاق به، والانضمام إليه والالتجاء إلى حرمه، فأذن له فى ذلك، وكتب السلطان إلى نوابه بالشام بتلقيه وإكرامه. ولما ورد عليه جواب السلطان حصّن أهله وولده وأمواله بقلعة حصينة، وجعل فيها ذخائره وحصّنها بالعدد والأقوات الكثيرة، ثم ركب في عسكر الروم. وأظهر أنه يتوجه فى مهم بأمر الملك أبى سعيد، فلما كان بأثناء

_ [1] فى أ، ص 267 الجتية بتاء مكان النون، وفى ترجمة بغداد بنت جوبان (الدرر 1: 480) قال ابن حجر: وكانت قبل أن تتزوج بو سعيد زوجا للشيخ حسن، ولم يذكر بقية اسمه، وكذلك فعل حين ذكر اسمه فى ترجمة الحسن بن تمرتاش (الدرر 2/15) . [2] فى أ، ص 267 تمرتاش، وكذلك رسمه فى الدرر (1/518) وفى ك دمرداش- بدالين- وكذلك رسمه فى السلوك (2/292) وهما سواء.

/ (268) الطريق نزل بمنزلة، ولبس لأمة حربه هو ومن يعتمد عليه من ألزامه ومماليكه، وقال لمن معه من العسكر: أنا متوجه إلى الديار المصرية، فمن أحب أن يصحبنى فليعتزل العسكر، ومن أحب الرجوع إلى بلاد الروم فليرجع، ومن أحب القتال فليبرز للحرب، فما جسر أحد منهم علي قتاله، ولا أقدم على حربه، بل ترجّلوا وخدموه [1] ، ورجعوا إلى بلادهم، وتقدم هو إلى الشام فى نحو ستمائة فارس، فكان وصوله إلى دمشق فى يوم الأحد خامس عشرين صفر سنة ثمان وعشرين وسبعمائة فتلقّاه نائب السلطنة بها الأمير سيف الدين تنكز [2] وأكرمه وجهّزه إلى الديار المصرية، فوصل إلى خدمة السلطان، والسلطان بمنزلة أوسيم من الأعمال الجيزية فى ليلة الخميس المسفرة عن سابع عشر شهر ربيع الأول، ومثل بين يدي السلطان فى بكرة نهار الخميس المذكور، فأكرمه السلطان، وأحسن إليه، وأنعم عليه بتشريف أطلس معدلى [3] بطرززركش وكلّوته زركش، وشاش رقيم وحياصه ذهب مجوهرة على عادة نواب السلطنة الشريفة، وحضر فى خدمة السلطان فى بقية نهار الخميس إلى قلعة الجبل المحروسة، وأسكنه السلطان بالقلعة بدار كان يسكنها خاصّ ترك [4] الناصرى، ثم رسم بتجديد عمارة دارين بقلعة الجبل وإصلاحهما، فأصلحا، وأسكنه بهما هو ومن معه من الأمراء أصحابه، ووكّل السلطان بخدمته وملازمته وقضاء حاجته الأمير سيف الدين طرغاى [5] الجاشنكير،/ (269) وأنعم السلطان عليه بالأموال والأقمشة والخيول، ورتب له ولمن معه الرواتب المتوفرة، فرتب له في كل يوم من اللحم ثلاثمائة وأربعين رطلا، وغير ذلك مما يحتاج إليه. وركب في يوم الاثنين حادى عشر الشهر في الموكب بالأقبية الإسلامية [6] والكلّوتة والشاش على عادة العساكر المصرية، وحضر إلى

_ [1] يرد هذا الفعل كثيرا فى أسلوب مؤرخى هذه الفترة مرادا به أداء التحية وإظهار الولاء والخضوع. [2] الضبط عن القلقشندى (صبح الأعشى 5: 425) وأصل لفظه تركى ومعناه: البحر، وفى النجوم (9/93) جرى ضبطه بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه. [3] فى أ، ص 268 معدنى. [4] الضبط من النجوم (9/304) حيث وردت ترجمته فى وفيات سنة 734 هـ. قال: وهو الأمير سيف الدين خاص ترك بن عبد الله الناصرى من خواص مماليك الناصر، وقد صار أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية. [5] فى ك طرغية، وما أثبتناه من أ، ص 268 والنجوم (9/277) والسلوك (2/294) وذكر أن السلطان جهزه لاستقباله فى غزة واستصحابه فى قدومه إلى القاهرة. [6] فى السلوك (2/295 حاشية (1) ورد ما يفهم منه أن هذه التسمية كانت تطلق على القباء العربى تمييزا له من القباء السلارى التترى، وهو البغلطاق.

الخدمة السلطانية، وأجلس فى مجلس السلطان بدار العدل الشريف بالإيوان إلى جانب سيف الدين آل ملك [1] الجوكان دار دونه بلواء تلو الأمراء مقدمى الألوف [2] . ووصل في يوم السبت تاسع [عشر [3]] شهر ربيع الأول الأمير شاهنشاه وهو ابن عم الأمير جوبان، وكان وصوله من جهة الرحبة، وذكر أن ابن عمه جوبان أرسله إلى خدمة السلطان يعرفه ما وقع، وذكر أنه فارقه من بلاد خراسان عند عزمه علي دخول غزنة إلى أولاد الملك كبك، ولعله فارقه قبل وصوله إلى هراة، فخلع السلطان على شاهنشاه تشريفا كنجيا أحمر، وكلّوتة زركش، وأنزله عند تمرتاش، ثم وصل طلب تمرتاش وأنقاله إلى القاهرة المحروسة فى يوم الخميس ثامن عشرين شهر ربيع الأول، فأنزلوا بدار الضّيافة، وهم نحو ستمائة فارس، فرسم السلطان بعرضهم في يوم الأحد مستهل شهر ربيع الآخر، فعرضوا وفرّق أكثرهم على الأمراء، ورسم للأمراء أن يقوموا بكلفهم من خواصّهم من غير إقطاع، وسأل جماعة منهم العود إلي بلادهم، فأذن لهم السلطان، وزوّدهم وكتب إلى نواب الشام/ (270) بتمكينهم من العود، فتوجه منهم نحو تسعين فارسا. ووصل إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأحد مستهل شهر ربيع الآخر رسل الملك أبى سعيد بن خربندا، وهما اثنان، فمثلا بين يدي السلطان لوقتهما، وأديا رسالتهما، وخلع عليهما، وذكرا أنهما توجها من جهة الملك قبل وصول الخبر إليه بمفارقة تمرتاش البلاد الرومية، ولحاقه بالديار المصرية، ثم مثلا بين يدى السلطان فى يوم الاثنين، وأقام بالأبواب السلطانية إلى يوم الاثنين تاسع الشهر، فأعيدا إلي مرسلهما وجهز السلطان من جهته الأمير سيف الدين أرج [مملوك قبجق] [4] وكتب معه إلى الملك أبى سعيد يشفع فى تمرتاش

_ [1] فى أوك رسم (الملك) وفى السلوك (2/294) والنجوم (9/102) رسمت آل ملك، وقد تابعناهما على رسمها كذلك، وقد أورد ابن حجر ترجمته فى الدرر (1/411 فى ترتيبه من حرف الهمزة واللام وما يثلثهما ورسمه أيضا آل ملك: سيف الدين الحاج النائب. [2] أورد المقريزى خبر قدوم تمرتاش مفصلا وفيه زيادة على ما أورده النويرى هنا (السلوك 2/292) . [3] ما بين الحاصرتين زيادة من السلوك (2/295) . [4] ما بين الحاصرتين زيادة من السلوك (2/296) وعبارته: «وبعث السلطان الأمير سيف الدين أروج- بضم أوله وثانيه- مملوك قبجق إلى أبى سعيد يشفع فى دمرداش ومعه رسل أبى سعيد إلى السلطان فساروا فى تاسع جمادى الأولى» .

ووصل رسل الملك أبى سعيد إلى الأبواب السلطانية

ويستوهبه/ منه ويسأله إطلاق عياله وألزامه من بلاد الروم، واستمر تمرتاش فى الخدمة السلطانية، والسلطان يضاعف له الإكرام، ويصله بالإنعام الواصل والخيول، وتوجه فى خدمة السلطان إلى الصيد بجهة البحيرة [1] وعاد ثم رسم السلطان له أن يرسل فى إحضار ولده وأهله وأمواله من بلاد الروم، وكتب فى ذلك إلى الأمير ابن قرمان صاحب الجبال ورئيس التركمان، فتوجه رسوله صحبة رسول السلطان إلى القلعة التى بها ولده، فلم يوافق على الحضور، وقال: ان بينه وبين أبيه أمارة لم تصل إليه، وظهر للسلطان من تمرتاش خبث طوية، وسوء نية، فأمر عند ذلك بالقبض عليه وعلى الأعيان الذين معه، فقبض عليه وعلى الأميرين/ (271) شاهنشاه ومحمود في يوم الخميس العشرين من شعبان من السنة، واعتقل تمرتاش ببرج السباع، ومحمود وأخوه عثمان وشاهنشاه بالبرج الصغير [2] . ووصل رسل الملك أبى سعيد إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأربعاء حادي عشر شهر رمضان، وهم ثلاثة نفر، المشار إليه منهم أياجى أمير جاندار الملك أبى سعيد، ومثلوا بين يدى السلطان، وشملهم الإنعام بالتشاريف على عادة أمثالهم، وأرسلهم السلطان إلى تمرتاش فى معتقله صحبة الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، فاجتمعوا به، وتحدثوا معه، وقيل كان مضمون رسالتهم طلب تمرتاش من السلطان، وأنه إذا أسلم إليهم أرسل الملك أبو سعيد إلى السلطان فى مقابل ذلك الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى [3] ، فمال السلطان إلى ذلك، ورسم للأمير سيف الدين أيتمش المحمدى أن يتوجه إلى الملك أبى سعيد برسالة السلطان لتقرير الحال فى ذلك، وتوجه طلبه فى يوم الاثنين سادس عشر شهر رمضان، ثم عدل السلطان عن هذا الأمر، وترجح عنده أنه لا يرسله إلى الملك [أبى سعيد] [4] .

_ [1] فى ك الجزيرة، وما أثبتناه من أ، ص 270 وفى السلوك (2/296) : «وفى يوم الثلاثاء عاشره توجه السلطان إلى الوجه البحرى ومعه دمرداش» وسيورده النويرى بعد قليل. [2] أورد المقريزى فى السلوك (2/297) خبر القبض على دمرداش، وسبب ذلك بتفصيل أكثر مما أورده النويرى هنا. وانظر أيضا (كنز الدرر وجامع الغرر 9/345- 348) . [3] فى هذه العبارة إشارة إلى أن ما نعبر عنه اليوم بحق اللجوء السياسى كان معروفا حينذاك، وكذلك تبادل المجرمين. [4] ما بين الحاصرتين زيادة من السلوك (2/299) .

ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية وعوده

فلما كان فى ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أخرج تمرتاش من معتقله بالبرج، وفتح باب السّرّ [1] من جهة القرافة، وأخرج منه وهو مقيد مغلول [وقد جمعت يداه إلى عنقه] [2] وطلب رسل الملك أبى سعيد، وشاهدوه على هذه الحال، ثم خنق وشاهدوه بعد موته، وقطع رأسه وسلخ وصبّر وحشى وأرسل السلطان الرأس إلى أبى سعيد، ودفن/ (272) الجسد بمكان قتله، وحضر الرسل إلى الخدمة السلطانية فى يوم الخميس رابع شوال، وركبوا فى خدمة السلطان فى يوم السبت إلى الميدان، ثم حضروا إلى الخدمة فى يوم الاثنين ثامن شوال، وشملهم بالخلع والإنعام، وأعيدوا إلى مرسلهم فى هذا اليوم، وتوجه أيضا الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى برسالة السلطان إلى الملك أبى سعيد. هذا ما كان من أخبار تمرتاش علي سبيل الاختصار، والله تعالى أعلم بالصواب [3] . فلنرجع إلى سياقة الحوادث فى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وفي هذه السنة [توجه السلطان أيضا] [4] إلى الصيد بالوجه البحرى فى يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر، وتصيد بجهة البحيرة [5] وغيرها، وعاد إلى قلعة الجبل فى الثانية من نهار الخميس سادس عشرين الشهر، وهى السفرة التى كان تمرتاش معه فيها. ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية وعوده وفى يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر جمادى [6] الآخرة وصل الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس إلى الأبواب

_ [1] فى أ، ص 271 وفتح باب القلعة من جهة القرافة. [2] ما بين الحاصرتين لم يرد فى ك وأثبتناه من أ، ص، 271 [3] فى كنز الدرر وجامع الغرر (9/348) لم ترد إشارة إلى أن تمرتاش قد قتل، بل ذكر أن وفاته كانت طبيعية وعبارته: «ثم إن البلاد لم توافقه، فحصل له توعك، وسقط بالوفاة يوم الأربعاء ثانى وعشرين ذي القعدة سنة 728 هـ» . [4] ما بين الحاصرتين بياض فى ك والزيادة المثبتة من أص 272 [5]- هذه السفرة هى التى خرج معه فيها تمرتاش، وسبقت الاشارة إليها فى ص 255 من هذا الجزء. [6] فى أ، ص 272 جمادى الأولى.

ذكر وفاة قاضى القضاة شمس الدين بن الحريرى الحنفى وتفويض القضاء بعده إلى القاضى برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق

السلطانية وشمله التشريف والإنعام والزيادة/ (273 فى إقطاعه ثم رسم بعوده إلى الشام، فعاد وتوجه فى عوده لزيارة الخليل صلوات الله عليه، والبيت المقدس، وشاهد العين التى أجريت إلى القدس الشريف، وكان قد جرّد إليها من دمشق فى شوال سنة سبع وعشرين وسبعمائة الأمير سيف الدين قطلوبك بن الجاشنكير فتوجه ولازم العمل، واجتهد فيه، ووجد آثار قنى [1] قديمة قد سدت، وقلفطت [2] ، فيسر الله تعالى فتحها، ووصل الماء إلى القدس/ فى شهر ربيع الأول من هذه السنة، ولما شاهد نائب السلطنة [المذكور] [3] العين رسم بعمارة حمام على فائض الماء [4] . ذكر وفاة قاضى القضاة شمس الدين بن الحريرى الحنفى وتفويض القضاء بعده إلى القاضى برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق وفى يوم السبت خامس جمادى الآخرة بعد أذان العصر توفى القاضى شمس الدين محمد بن صفى الدين عثمان بن زكىّ الدين أبى الحسن بن عبد الوهاب الأنصارى الحنفى المعروف بابن الحريرى [5] قاضى الحنفية بالديار المصرية، وكانت وفاته بالمدرسة الصالحية [6] النجمية بالقاهرة المحروسة، وكان قد مرض وطالت مرضته، فركب فى أثناء مرضه مرارا إلى المدارس لإلقاء الدروس، وحضر دار العدل الشريف، ثم عاوده المرض غير مرة، وتمادت العلة به حتى مات، رحمه الله تعالى [7] ودفن فى يوم الأحد بالقرافة الصغرى بتربته التى أنشأها، ومولده فى عاشر صفر سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وخلّف تركة طائلة، وكان رحمه الله تعالى قاضيا عالما بمذهبه، شديدا فى أحكامه، غير متحاش من أرباب الدولة من الأمراء وغيرهم.

_ [1] كذا فى أ، وك، وحقه أن يرسم بالألف فهو اسم جنس جمعى للقناة: المجرى الضيق للماء والجمع قنوات. [2] كذا فى أوك ولعل أصله من قلفط السفينة إذا أعدها، وسد خلالها بالليف والقار لغة فى جلفط. [3] الزيادة من أص، 273 [4] فى السلوك (2/302) أن العمل فى هذه العين استغرق سنة، وأنه بنى لها حوضا سعته نحو مائتى ذراع، وأنشأ إلى جوارها خانقاة وحماما وقيسارية، فعمرت القدس. [5] ترجمته فى السلوك (4/93) والوافى بالوفيات (4/90) وشذرات الذهب (6/88) وكلها تذكر أن مولده فى صفر سنة 653 هـ، وانفرد النويرى هنا بتحديد يوم مولده من الشهر. [6] المدرسة الصالحية: نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، وانظر فى تحديد مكانها الحالى (النجوم 6/190 حاشية 1) . [7] نهاية ص 273 من نسخة أ، وتبدأ ص 274 فيها بعد انقطاع نحو عشرين صفحة من نسخة ك.

ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله، وعودهم إلى مرسلهم

ولما توفي رحمه الله تعالى تحدّث مع السلطان فى ولاية القضاء، واعتنى عنده بقوم، ثم وقع الاختيار على القاضى برهان الدين [إبراهيم] المذكور بن القاضى كمال الدين أبى الحسن على بن القاضى بهاء الدين أحمد ابن الشيخ زين الدين على بن عبد الحق [1] ، فرسم بطلبه من دمشق، وكتب لنائب السلطنة بها، وتوجه البريد بذلك فى يوم الثلاثاء ثالث الشهر، وكان وصوله إلى القاهرة المحروسة فى يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الآخرة، ومثل بين يدى السلطان، وفوض إليه القضاء، وما كان بيد القاضى شمس الدين الحريرى من المدارس والأوقاف، وخلع عليه وأنعم عليه ببغلة، وأنزل إلى المدرسة الصالحية بالقاهرة، وحكم فى بقية يومه، وجلس بدار العدل فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر، وأجلس دون قاضى القضاة تقى الدين بن الأخنائى [2] المالكى على العادة القديمة. ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله، وعودهم إلى مرسلهم وفى يوم السبت العاشر من شهر رجب عاد الأمير سيف الدين أطوجى [3] ورفيقه من جهة الملك أزبك صاحب صراى [4] والبلاد الشمالية، وصحبته رسل الملك أزبك، فمثلوا بين يدى السلطان، وأحضروا ما معهم من الهدايا والتقادم، وأدوا الرسالة، فشملهم الأنعام والخلع على عادة أمثالهم، وأنزلوا بالميدان، وتكرر حضورهم بين يدي السلطان، ثم أحضروا فى يوم الخميس حادى عشر شوال من السنة إلى مجلس السلطان، وعاد وخلع عليهم تشاريف طردوحش مذهّب، ورسم بعودهم إلى مرسلهم، فتوجهوا إلي ثغر الإسكندرية فى

_ [1] ترجمته فى الدرر (1/46 و 47) وتتمة اسمه كما ورد فيه: (إبراهيم بن على بن محمد بن أحمد بن على بن يوسف بن إبراهيم الحنفى) وقد ولى قضاء الحنفية عشرين سنة وعاد إلى دمشق سنة 738 هـ ومات بها سنة 744 هـ، وانظر (السلوك 2/658) . [2] تقى الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الأخنائى المالكى: ترجمته فى الدرر (3/407) والشذرات (6/103) والوافى بالوفيات (2/272) . [3] الضبط من السلوك (2/296) . [4] فى السلوك (2/296) ملك القبجاق، والمقصود بهما واحد.

ذكر مقتل الأمير بدر الدين كبيش أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وتولية أخيه طفيل

يوم السبت العشرين من الشهر، وتوجه من جهة السلطان الأمير سيف الدين أطارس أنان [1] أحد أمراء العشرات، وصحبته عمه تيلق [2] . وفيها فى يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر رجب الفرد عقد نكاح الأمير سيف الدين طغيتمر [3] العمرى الناصرى أحد الأمراء المماليك السلطانية مقدمي الألوف علي إحدى بنات السلطان، ورسم السلطان بإعفاء الأمراء من التقادم، وحمل الشمع، وأنعم على الأمير المشار إليه من مال السلطان بأربعة آلاف دينار عوضا عما كان يصل إليه من تقادم الأمراء. ذكر مقتل الأمير بدر الدين كبيش أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وتولية أخيه طفيل وفى يوم السبت مستهل شعبان من هذه السنة وثب أولاد الأمير ودىّ بن منصور بن جمّاز بن شيحه على الأمير بدر الدين كبيش أمير المدينة النبوية فقتلوه خارج المدينة، ووصل الخبر بذلك إلى الأبواب السلطانية فى أواخر الشهر، ففوّض السلطان الإمرة لأخيه الأمير سيف الدين طفيل، وكان قد حضر إلى الأبواب السلطانية، فخلع عليه، وتوجه إلى المدينة النبوية. وفيها فى شهر رمضان فوّض السلطان قضاء المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- والخطابة بها لصاحبنا وأخينا فى الله تعالى القاضى شرف الدين محمد بن القاضى عز الدين محمد بن الشيخ كمال الدين أحمد بن الشيخ جمال/ الدين إبراهيم بن يحيى بن أبى المجد اللّخمى المعروف جد أبيه جمال الدين بالأسيوطى، ولى القضاء عوضا عن شرف الدين يعقوب المدنى، والخطابة عوضا عن القاضى بهاء الدين موسى بن سلامة، وخلع عليه، ورسم له بمال، يوفى منه ما عليه من الدين، ويتجهز ببقيته، وكانت ديونه تزيد على سبعة آلاف درهم، وتجهز أحسن جهاز، وتوجه صحبة الركب فى شوال، كتب الله سلامته، وأعانه على ما ولاه.

_ [1] لم يتضح فى الأصل ولم أجده فى المقريزى، ولا فى النجوم، ولعله تحريف سيف الدين أيناق الذي أصبح فيما بعد من مقدمى الألوف، وكان من خواص الناصر وتوفى سنة 736 هـ. [2] كذا فى ك، ولم أجده ولعله تحريف بيلك. [3] فى السلوك (2/296) والنجوم (9/89) رسم: طغاى تمر، وفى الدرر (2/223) رسمه: طغيتمر كما جاء هنا. والضبط من النجوم (9/89 و 103) .

ذكر ما قرر من استيمار [1] الدولة الناصرية ومن رتب من المباشرين

ذكر ما قرر من استيمار [1] الدولة الناصرية ومن رتب من المباشرين وفى هذه السنة فى شوال منها حسن (جماعة) [2] للسلطان أن يوفّر من جامكية مباشرى الدولة الشريفة، ومباشرى المعاملات بالقاهرة ومصر والأعمال البرانية وأرباب الوظائف جملة، ومنهم من وفّر. فلما كان فى يوم الأحد رابع عشر شوال قرىء الاستيمار على السلطان وتعين من توفر، ثم أحضر مباشرى الدولة فى يوم الاثنين، وتجدد الحديث فى ذلك، فلما انفصلوا من بين يديه رسم بطلب الصاحب أمين الدين عبد الله [3] ، فطلب من داره فحضر ومثل بين يدى السلطان بعد العصر، وخلع عليه وعلى القاضى مجد الدين بن لفيتة [4] بغير طرحات [5] ، ورتّبهما السلطان فى نظر النظار والصحبة، ونقل القاضى شمس الدين بن قروينة ناظر الدواوين إلى نظر البيوت [6] السلطانية، وخلع عليه أيضا معهما، وباشر الصاحب أمين الدين النظر وكشف الرواتب، وأوقف أربابها إلا بعد العرض على من ندب لذلك، ومن عرض شطب اسمه، وكتب إلى سائر الممالك الشامية الساحلية بأوقاف أرباب الرواتب المقيمين بالديار المصرية المرتّبين على الشام، ولا يصرف لأحد منهم شىء إلا بتوقيع جديد لاستقبال شوال من السنة، وشدد فى ذلك، فاجتمعت به، وسألته عن هذا الحال ومقصده فيه، فحلف لى بالله أنه لا غرض له فى قطع مستحق، وأن غرضه فى الكشف، والعرض أن جماعة من أرباب الرواتب درجوا

_ [1] يفهم من عبارة المؤلف هنا أن المراد بالاستيمار السجل الذى تدون فيه الرواتب والأرزاق، وكذلك أورده المقريزى فى (السلوك 1/850) وعبارته: «وفيها- يعنى سنة 697 هـ- رسم بعمل استيمار يجمع أرباب الرواتب ليحضروا بتواقيعهم للعرض على منكوتمر ليقطع من يختار منهم» . [2] الزيادة عن السلوك (2/298) . [3] فى السلوك (2/298) أمين الدين عبد الله بن الغنام، وترجمته فى ابن حجر (2/251) ولم يرد فى نسبه «الغنام» . [4] فى ابن حجر (الدرر 1/53) إبراهيم بن لفيته: مجد الدين ناظر الدولة كان نصرانيا فأسلم مات فى جمادى الأولى سنة 731 هـ. [5] فى «ك» بغر حاجات، ولعله تحريف، وما أثبتناه عن السلوك (2/298) . [6] انظر البيوت السلطانية فى المقريزى (الخطط 2/205) .

ذكر الإفراج عمن يذكر من الأمراء والمعتقلين

بالوفاة، وتسمى غيرهم بأسمائهم، وقبض مرتبهم ممن للكتّاب بهم عناية، وأن ذلك لا يتميز له إلا بالعرض والكشف، ثم كتب قصّة [1] بعد ذلك إلى السلطان يطلب فيها الإعفاء من المباشرة، فلم يجب إلى ذلك، فكتب قصّة ثانية، فأجيب إلى سؤله، وأعفى من المباشرة بعد العصر من يوم الأربعاء تاسع عشرين ذى القعدة، وهو سلخة، فكانت مدة مباشرته أربعة وأربعين يوما تحريرا. وفيها فى يوم الاثنين تاسع شوال عقد نكاح الأمير سيف الدين منكلى بغا السلاح دار الناصرى على الخوند دلنبيه [2] زوج السلطان- كانت- وهى التى وصلت من بلاد أزبك وهى من البيت الجنكيزخانى، وكان السلطان قد أبانها بالطلاق، وبنى الأمير سيف الدين بها فى ليلة الخميس ثانى ذى القعدة. ذكر الإفراج عمن يذكر من الأمراء والمعتقلين وفى هذه السنة فى يوم الخميس ثامن ذى الحجة أمر السلطان بالإفراج عن الأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير المنصورى المعروف بزيرباج [3] وقد ذكرنا اعتقاله فى يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر لسنة اثنتى عشرة وسبعمائة، فكانت مدة اعتقاله ست عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام، وأفرج أيضا فى هذا اليوم عن الأمير جمال الدين فرج بن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى [4] وأفرج فى يوم الجمعة- يوم عرفة- عن الأمير علم الدين سنجر الجاولى، وقد ذكرنا أنه كان قبض عليه فى يوم الجمعة ثامن عشرين شعبان سنة عشرين وسبعمائة، فكانت مدة اعتقاله ثمانى سنين وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما [5] .

_ [1] المراد بالقصة- فى أسلوب النويرى، وعند مؤرخى هذه الفترة- ما نسميه اليوم ملتمسا؛ أو شكوى. [2] فى السلوك (2/298) طلباى، وقد سبقت الإشارة إلى ضبط هذا الاسم. [3] تتفق عبارة النويرى هنا مع ما أورده المقريزى فى السلوك (2/298 و 299 فى خبر الإفراج عن هذين الأميرين، وزاد المقريزى: أن الأول كان فى سجنه يغزل الصوف ويعمل منه كوافى بديعة ويبيعها، وأن الثانى كان ينسخ القرآن وكتب الحديث وغيرها. [4] فى السلوك (2/299) أنه أعيد إلى سجنه فى يومه. [5] فى المصدر السابق ورد هذا الخبر فى موضعين أولهما فى ص 299 وتتفق عبارته فيه مع ما أورده النويرى هنا والثانى فى ص 304 وفيه أن مدة سجنه ثمانى سنين وثلاثة أشهر وتسعة أيام.

ذكر متجددات كانت بدمشق فى هذه السنة

وفيها فى يوم الاثنين ثانى عشر ذى الحجة توجه السلطان إلى الصيد بجهة سرياقوس، وتصيد بتلك الجهة، وعاد إلى قلعة الجبل عشية نهار الجمعة سادس عشر الشهر، فأقام بقلعة الجبل إلى آخر يوم الأربعاء الثامن والعشرين من الشهر، وتوجه فى بكرة نهار الخميس تاسع عشرين الشهر إلى الصيد بجهة سرياقوس. وفيها فى آخر نهار/ الثلاثاء السابع والعشرين من ذى الحجة وصل إلى الأبواب السلطانية من الحجاز الشريف- ممن وقف بعرفة فى هذه السنة- سيف الدين ألناق السيفى أحد مماليك الأمير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار ورفيقه أحد مماليك الأمير سيف الدين طقزدمر العمادى [1] ومثلا بين يدي السلطان فى بكرة نهار الأربعاء، وشملهما الإنعام والتشاريف على عادة أمثالهما، وأخبرنى سيف الدين ألناق المذكور أن الوقفة بعرفة كانت يوم الجمعة من غير شك فى ذلك، وأن الحاج فى خير ورخاء، وأن المياه كانت كثيرة متيسرة ولله الحمد على ذلك، وسألته عن يوم مفارقته الحاج، فذكر أنه ركب من مكة شرفها الله تعالى بعد المغرب من نهار الاثنين ثانى عشر الشهر، فمدة سفره خمسة عشر يوما وتسع ساعات، وقد ذكرنا فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وصول أوجى مملوك قجليس وطرنطاى الكريمى فى اثنى عشر يوما وتسع ساعات. ذكر متجددات كانت بدمشق فى هذه السنة من ذلك كانت عمارة الحائط القبلى بالجامع الأموى، وذلك أنه فى أول شهر ربيع الأول فكّ الرخام الذى بالجدار القبلى من الجهة الغربية ليصلح ويعاد، فظهر فى الحائط عند كشفه ميل ظاهر، فأخر إصلاحه إلى أن عاد نائب السلطنة من الديار المصرية، فطولع بذلك، فحضر فى يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخر إلى الجامع، وصحبته قاضى القضاة علاء الدين وغيره، وأحضر المهندسين، وعمل تقدير ما يحتاج إليه لنقضه وإعادته، فكان مائة ألف درهم، فطولع السلطان بذلك، فورد المثال السلطانى بهدمه وإعادته فى يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى، فهدم الحائط بعد صلاة الجمعة، فنقض منه ثمانية

_ [1] كذا فى ك، وفى السلوك (2/303) والدرر (2/255) طقزدمر الناصرى.

معازب وعشرة أوتار جسورة [1] ، وانتهوا إلى نقض الحجارة فى يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة، وحضر نائب السلطنة، وشاهدها قبل نقضها، فنقضت، وهى حجارة كبار تشبه عمارة [2] القلاع، وانتهوا إلى الأساس فى يوم الجمعة سابع عشر الشهر، وحصل الشروع فى البنيان فى يوم الأحد تاسع عشر الشهر، وانتهت عمارة الحائط فى خمسة وعشرين يوما. وجدّد فى الحائط محراب يشبه المحراب المعروف بمحراب الصحابة الذى فى الجهة الشرقية بين باب الزيارة وباب الخطابة، واستقر أن يصلّى فيه أمام الحنفية، وكملت العمارة وإعادة السقف وغيره فى يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر رجب، وخلع على ناظر الجامع والمشد والمغاربة فى هذا اليوم، وفرش الجامع على عادته فى يوم الجمعة ثالث عشرين شهر رجب، وصرف علي عمارته- فيما قيل- نحو خمسين ألف درهم، ووجد سلّم عظيم لصومعة مبنى بالحجارة المنحوتة، فنقض السلم، وحملت حجارته على العتّالين إلى هذا الحائط، فعمّر [2] به، وأعان ذلك إعانة كبيرة، ولولا ذلك لاحتاج إلى كلفة عظيمة، ورخّم الحائط، فكان الفراغ من ترخيمه فى يوم الخميس سادس عشرين صفر سنة تسع وعشرين، وصلّى تحت الحائط بعد ترخيمه فى يوم الجمعة سابع عشرين الشهر، وفتح باب الزيارة- وكان قد أغلق بسبب العمارة- واستقر فى أمر الأئمة وترتيبهم فى الصلاة فى صلاة العصر من يوم الجمعة ثالث عشرين شهر رجب من هذه السنة ما نذكره، فصلى إمام الكلّاسة [3] أولا على عادته، وصلى بعده إمام مشهد على بن زين العابدين بن الحسين بن على رضى الله عنه، وصلى الخطيب بعدهما، وهو إمام الشافعية، وصلى بعده إمام الحنفية فى المحراب المستجد، ثم إمام المالكية نقل إلى محراب الصحابة، وبعده إمام الحنابلة صلى بالمحراب الذى كان المالكى يصلي فيه غربى الجامع بمقصورة الخطابة، ووسع المحراب المذكور، ورفع عنه العمارة، وصلى بعده إمام مشهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وبعده إمام

_ [1] كذا فى الأصل، ولم يتضح لنا مراده. [2] العمارة: البناء، ومراده ما تبنى به القلاع من حجارة كبار. [3] الكلاسة (انظر الحاشية رقم (1) ص 243 من هذا الجزء) .

مشهد ابن عروة، ونقل الإمام الذى كان يصلى بمحراب الصحابة إلى محراب الكلّاسة القديم بالمعلوم الذى كان له بمحراب الصحابة، واستقرت الحال على ذلك. وفيها فى أول ليلة السبت خامس جمادى الأولى وقع حريق عظيم بسوق الفرّانين بدمشق، كان مبدأه من دكان قطّان فى طريق قيسارية الفرش، وامتد إلى سوق الفرّانين وإلى القيسارية المستجدة وقيسارية البيمارستان وبعض حوانيت سوق على، وعجز الناس عن طفيه، واستمرت النار إلى يوم الأحد، ثم طفى. وفيها أمر نائب السلطنة بدمشق بعمارة المدارس بها، ومنع من التصرف فى شىء من ريع الأوقاف إلى أن تكمل عمارتها، ففعل ذلك، ورسم بتقرير مال يجبي لعمارة قنى بدمشق، فقرر لذلك نحو ثلاثمائة ألف درهم، وندب لعمارة القنى ناصر الدين النّجيبى، فعمر منها في هذه السنة إلى آخر سنة تسع وعشرين إحدى وعشرين قناة، وبقى نحو أربع قنى تعمر إن شاء الله فى سنة ثلاثين وسبعمائة. / وفيها فى يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة ورد مرسوم شريف سلطانى إلى دمشق بمنع الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية من الكتابة مطلقا فى التصنيف والفتيا، فأخذ ما عنده من الكتب والأوراق والدواة والأقلام وأودع ذلك عند متولى قلعة دمشق، فكان عنده إلى مستهل شهر رجب، ثم أرسل المتولى ذلك إلى قاضى القضاة علاء الدين، فجعل الكتب فى خزانة المدرسة العادلية، لأنها كانت عارية [1] ، وأما الأوراق التى كانت بخطه من تصانيفه فكانت نحو أربع عشرة ربطة، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وفرّقت بينهم.

_ [1]- هذه إشارة واضحة إلى أن نظام إعارة الكتب كان معروفا لديهم فى هذا الوقت.

ذكر حادثة السيل بعجلون [2]

وكان سبب ذلك أنه وجد له جواب عما ردّه عليه قاضى القضاة تقى الدين المالكى، فأعلم السلطان بذلك، فاستشار قاضى القضاة، فأشار بذلك، فرسم به، فحينئذ عدل الشيخ عن ذلك إلى تلاوة القرآن. وفيها فى يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة رسم القاضى الصدر علاء الدين على بن الصدر المرحوم شرف الدين محمد بن محمد التميمى القلانسىّ [1]- أحد كتاب الإنشاء بدمشق المحروسة- أن يجلس بين يدي نائب السلطنة يوقع على القصص المرفوعة، عوضا عن أخيه جمال الدين القاضى، بما كان له من المعلوم على وظيفة الكتابة، وأن يستقر ما كان باسم القاضى جمال الدين من المعلوم عن الوظيفة المذكورة له على قضاء العسكر الشامى، وخلع عليهما بسبب ذلك، والله أعلم. ذكر حادثة السيل بعجلون [2] وفى هذه السنة في يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة كانت حادثة السيل بمدينة عجلون، وورد محضر بذلك إلى دمشق نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذى يرسل آياته تخويفا للعباد، ويريهم باهرات قدرته ليسلكوا سبل الرشاد، ويظهر لهم جبروته فى ملكوته، ليحسنوا لأنفسهم الارتياد، ويعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله لا يخلف الميعاد، ثم يدركهم برأفته ورحمته، ويكشف ما نزل بهم من المعضلات الشداد، ولما كان فى يوم الأربعاء ثانى عشرين ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أرسل الله تعالى بقدرته ومشيئته بمدينة عجلون ريحا عاصفا، فأثارت سحابا ثقالا هطلت بماء منهمر يدوّى وريح زعزع، فلم تزل

_ [1] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 3/118) وهو على بن محمد بن محمد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة التميمى، علاء الدين القلانسى، مولده سنة 673 هـ ووفاته سنة 736 هـ. [2] عجلون: قلعة كانت من جهة الأردن، مبنية على جبل عوف الذى يسكنه قوم من بنى عوف من جرم قضاعة فعرف بهم. وفى (مسالك الأبصار) : كان فى مكانها دير راهب اسمه عجلون، فعرفت به، وهى حصن منيع على صغره، ومدينة هذه القلعة هى الباعونة على شوط فرس من عجلون (المنهل الصافى 1/139 حاشية 2) .

الأمطار متواترة الهطل والبروق تلمع، وأصداء الجبال والأودية بأصوات الرّعود للقلوب تصدع، حتى ظن أهلها أنها قد أزفت الآزفة، فارتفعت الأصوات بأن ليس لها من دون الله كاشفة، ولفت الرءوس، ووجلت القلوب، وذرفت العيون، وطاشت الألباب، وخضعت الرقاب، ومدت الأيدى بالدعاء لمن بيده أمر الأرض والسماء، وعاينوا فى ذلك اليوم هولا عظيما، وأشفقوا أن يكون أرسل الله عليهم عذابا أليما، فبينما الناس على ذلك الحال ذاهلين، يقولون رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [1] إذ دهمهم سيل عظيم ماؤه، طام عبابه هام سحابه، له دوى شديد، قد اجتمع من عيون الجبال وبطون الأودية وقرار الوهاد، فالتقى الماء على أودية بأمر قد قدر، إن فى ذلك لآية فهل من مدّكر [2] ، فارتفع العويل، وسكبت العبرات، واشتد الخوف، وتضاعفت الحسرات، وفر كل واحد من الناس يطلب النجاة لنفسه، واحتسب عند الله جميع ماله وعقاره وغرسه، فأخذ هذا السيل العظيم ما كان فى ممرّه من الدور والقياسير والأسواق، ودخل الطواحين والبساتين، وأخذ جانبا من حارة المشارقة المجاورة للوادى، وأخذ العرصة وسوق الأدميّين، وسوق القطانين، وبعض دار الطعن وسوق الأقباعين، وسوق الخليع، وقيسارية التجار المعروفة بإنشاء الأمير سيف الدين بكتمر، والقيسارية القديمة، وأخذ من قيسارية ملك الأمراء الموقوفة على البيمارستان بصفد عشرين حانوتا، وضعضع بقية الجدر، وهدم الأبواب وهدم سوق الصاغة، وهدم سوق النامية، الذى بقرب العين، وهدم وقف الجامع، وسوق السقطيين، وأما السوق المعروف بإنشاء الأمير علاء الدين بن معبد وسوق اللحامين وحوانيت الخبّازين فإنه أخذه، وأخذ السوق المعروف بإنشاء الأمير سيف الدين النائب كان بقلعة عجلون، والحوانيت المعروفة بوقف القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية الموقوفة على مدرسته بنابلس وأخذ المدرسة النفيسيّة [3]

_ [1] سورة الأعراف 23. [2] اقتباس لأسلوب القرآن، فى الآية الكريمة وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟. [3] فى «ك» النفيسة» وصوابه «النفيسية» وهى «بالرصيف، قبلى المارستان الدقاقى، وباب الزيارة (وهو باب الجامع الأموى القبلى) قال الذهبى فى العبر: أنشئت سنة 696 هـ، وهى منسوبة إلى النفيس إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن صدقة الحرانى ثم الدمشقى ناظر الأيتام، وواقف النفيسية بالرصيف (الدارس فى تاريخ المدارس 1/114) .

وهدم رواق الجامع القبلى وباب الجامع الشرقى، وهدم جانبا من الحمام الصالحى/ المعروف بأمير موسى، وبعض الحمام السلطانى، وأخذ ظهارة [1] الجامع والمربعة والمسلخ المعروف بابن معبد، وأخذ ما كان فى مجراه من الجسور والقناطر والأقباء [2] التى كان يجوز الناس عليها عندما تمدّ الأودية وعدم من عجلون تقدير عشرة أبقار، وهذه قدرة الملك الجبار، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وكان مدة تواتر الأمطار والسيل من أول ساعة من النهار المذكور إلى وقت العصر، وفى ذيل المشروح خط جماعة من الشهود. هذا ما أورده الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه. ونقل الشيخ علم الدين بن البرزالى فى تاريخه نسخة الكتاب الوارد من عجلون فقال: الحمد لله المحمود فى السراء والضراء، المشكور على الشدة والرخاء الذى يخوّف عباده بما شاء من معضلات اللأواء، ويريهم باهرات قدرته فى ملكوت الأرض والسماء، ثم يعود عليهم برحمته، ويجللهم بسوابغ النعماء، أحمده حمدا يزيد على الإحصاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، ومبلغ الأنباء صلى الله عليه وعلى آله الأمناء، وأصحابه الأتقياء، صلاة دائمة بلا نفاد ولا انقضاء، وبعد: فإنه لما كان بتاريخ نهار بكرة الأربعاء ثانى عشرين ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أرسل الله تعالى بقدرته ريحا عاصفة، فأثارت سحبا واكفة [3] فى خلالها بروق خاطفة، ليس لما جاءت به من دون الله كاشفة فطبقت الوهاد، وجللت الآكام، وأطبقت على مدينة عجلون وما قاربها من أرض الشام، ثم أرخت عزاليها [4] كأفواه القرب، حتى خيّل لمن رآها أن الوعد الحق قد اقترب، فلم يكن إلا كحلب شاة من الضأن، أو ما قارب ذلك من الزمان،

_ [1] الظهارة- من الثوب وغيره: ما يظهر للعين، وهو خلاف البطانة. [2] جمع قبو: الطاق المعقود بعضه إلى بعض فى البناء على شكل قوس (المعجم الوسيط) . [3] يقال: وكف الماء وغيره وكفا ووكيفا: سال وقطر، والواكف: المطر المنهل. [4] يقال: أرسلت السماء عزاليها: انهمرت بالمطر (المعجم الوسيط) .

حتى صارت مدينة عجلون كما قال الله تعالى فى كتابه المكنون: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [1] فوجلت القلوب لهول ذلك وتصدعت، وكادت الحوامل أن تضع حملها وتذهل كل مرضعة عما أرضعت [2] ، واندهش أهل البلد عند معاينة هذا الهول الكبير، واختلفت همومهم، فكل إلى ما اشتمل عليه قلبه يشير، فمن باك على ما فى يده من متاع الدنيا الحقير، ومن مشفق خائف على ولده الصغير، ومن غريق عدم نفسه النفيسة، ما له من ملجأ يومئذ وما له من نكير، ومن ناج يقول: أشهد أن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شىء قدير، ومن ضارع إلى من ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، ومن قائل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [3] ولسان الحال يتلو قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [4] ولم تزل الأمطار متواترة، والسيول من كل فج متواترة، حتى تحير من حضر ذلك من الإنس والجان، وشغلوا بما عاينوه عن الأموال والأولاد والإخوان، وظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فتلاقى على البلد واديان: أحدهما من شمالها يسمى الجود والآخر من شرقها يسمى جنان [5] ، فأخرب وادى الجود بهذه الآية الخارقة جانبا من حارة المشارقة، ودمّر وادى جنان ما كان على جانبه من البنيان، ثم اختلطا فرأى الناس منهما ما لا يطاق، وأخربا ما مرا عليه من رباع وقياسير وأسواق، فأخربا العرصة والمصبغة والفرانين والعلافين، وحوانيت الدق وسوق الأدميين وسوق البر العتيق والأقباعية والقطانين، وحوانيت الصاغة وما يليها من البساتين، وردم أمام دار الطعم [6]- بعد إخراب بعضها- أحجارا وصخورا، وكل ذلك ليتّعظ أهل المكر وما يزيدهم إلا

_ [1] سورة القمر (11 و 12) . [2] من الآية الكريمة يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الحج (2) . [3] سورة الممتحنة، الآية 4. [4] سورة الشورى، الآية 30. [5] فى مراصد الاطلاع 1/349: باب الجنان موضع بالرقة- رقة الشام، وباب من أبواب حلب. ورحبة من رحاب البصرة. [6] فى نسخة المحضر السابقة «دار الطعن» .

نفورا، وذهب هذا السيل العظيم الطامى بجميع سوق الخليع لبكتمر الحسامى، وأخرب من قيسارية ملك الأمراء للتجار نحو عشرين حانوتا، وذهب بكل ما فيها من ثمين، ثم ردم باقيها على ما فيه بالأخشاب والأحجار والطين، حتى رجعت قيمة ما سلم من المائة إلى العشرين، وأخرب ما جاوز بحر المدينة من سوق أم معبد واللّحّامين، ومن وقف السقطيين والحضريين وحوانيت العجز وسوق الأمير ركن الدين ثم دمر فى وقف الجامع على ما فيه من الأمتعة والبضائع، ثم ردم العين بالأحجار والخشب والصخور، حتى خشى عليها أهل البلد أن تفور، ثم أخرب حوانيت الطبّاخين وجانبا من حمام الأمير موسى، وكان ذلك على من لم يرض بقضاء الله يوما منحوسا ثم أخرب الدباغة وجانبا من حمام السلطان وما يلى ذلك من المطهرة [1] ومسلخ [2] المعز والضان، وأعظم من ذلك إخرابه المدرسة النفيسية والرواق القبلى من المسجد الجامع، وفى ذلك ما يحرق قلب كل منيب وخاشع، وردم داخل الجامع بغثاء السيل والطين والأخشاب، فاعتبروا يا أولى الألباب/ وبلغ الماء فى داخل الجامع إلى القناديل المعلقة، وذلك بتقدير من يعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة، ولم يقرب شيئا من غالب ما ذكر إلا أتى على ما فيه من الأمتعة والبضائع والأموال، حتى أتيح لكثير من أرباب ذلك أن يمد يده للسؤال، وكان مدة استدامته من بكرة النهار إلى وقت العصر، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وكان عرض السيل قدر رمية بحجر، وارتفاعه على بسيط الأرض قدر قامتين أو أكثر، وقدّر ما ذهب فيه من الأمتعة والبضائع والأموال وقيمة الأملاك بهذا القضاء المبرم، فكان ذلك يزيد على خمسمائة ألف درهم، وذلك خارج عن الغلات والمواشى والبساتين والطواحين ظاهر مدينة عجلون. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [3] ومن جملة لطف الله تعالى مجيؤه بالنهار، فحذر الناس منه، فلم يعلم فى البلد غريق إلا

_ [1] المطهرة: كل أناء يتطهر منه. [2] فى نسخة المحضر السابقة ورد: «المسلخ المعروف بابن معبد» وهو تحريف، وما هنا هو الصواب. [3] سورة البقرة الآية 156.

سبعة أنفار [1] ولو كان- والعياذ بالله- ليلا لزادوا على الإحصاء فى المقدار إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ* [2] ، وليس الخبر فى جميع ما ذكرنا كالعيان، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان. وفى هذه السنة فى يوم الخميس سادس عشر صفر توفى الشيخ الصالح المعروف بقوام الدين عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازى شيخ الخانقاة بالجامع الناصرى بساحل مصر المحروس، ومولده- كما أخبرنى- رحمه الله تعالى- فى تاسع عشر صفر سنة ثمان وثلاثين وستمائة بشيراز، وكان عمره تسعين سنة إلا ثلاثة أيام. سمع من الشخ عز الدين الفاروثى، وله إجازة بخطه شاهدتها، وقد جعل فيها لكل من جعل خطه تحت خطه فيها أن يروى عن الشيخ عز الدين المذكور ما يجوز له روايته، وكتبت خطّى تحت تلك الإجازة، فصار لى بهذا الاعتبار أن أروى عن الشيخ عز الدين الفاروثى بالإجازة. وتوفى الأمير الكبير سيف الدين جوبان [3] المنصورى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق وكانت وفاته فى ليلة الثلاثاء العشرين من صفر بداره بظاهر دمشق، ودفن بتربته بالمزّة [4] ، وأنعم بإقطاعه على الأمير شهاب الدين قرطاى الصالحى العلائى، عوضا عما كان بيده من الاقطاع. وتوفى فى النصف من يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من صفر القاضى موفق الدين عبد الرحيم بن الأسعد بن المعتمد، وهو من مسالمة [5] القبط، وكان فى

_ [1] المفرد نفر، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة يقال هؤلاء عشرة نفر، أى عشرة رجال (لسان العرب) . وعلى هذا فكان حقه أن يقول «.. إلا سبعة نفر» إن كان مراده بالسبعة هذا العدد المفرد. وفى: الوسيط: «والنفر: المفرد من الرجال (محدثة) . وأخشى أن يكون تحريف «أبقار» ففى المحضر السابق «وعدم من عجلون تقدير عشرة أبقار» . [2] سورة آل عمران (13) . [3] ترجمته فى الدرر (1/542) والسلوك (2/304) والنجوم (9/274) . [4] الضبط من النجوم (9/235) وفى مراصد الاطلاع 3/1266: المزه- بكسر الميم- قرية كبيرة غناء فى أعلى الغوطة فى سفح الجبل من أعلى دمشق. [5] فى اللسان (مادة س ل م) يقال: كان فلان كافرا ثم هو اليوم مسلمة- بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه- والجمع مسالم، زيدت التاء فيه مثل زيادتها فى قشاعمة.

ابتداء أمره يتولى عمالة قليوب، ثم تنقل فى المباشرات إلى أن ولى استيفاء ديوان الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة كان، وحصل أموالا جليلة، ثم ولى استيفاء النظر بالباب السلطانى، وانتقل منه إلى نظر الدواوين، إلى أن عزل فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة- كما ذكرنا- ولزم داره، ورتب له من الصدقات السلطانية فى كل شهر ثلاثمائة درهم، إلى أن مات فى التاريخ المذكور، وكانت وفاته بداره بشاطىء النيل بمصر بقرب صناعة الإنشاء، ومولده فى سنة أربع وخمسين وستمائة. وفيها فى ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى توفى الشيخ الإمام العالم الصالح الورع السيد الشريف تقى الدين أبو الفتوح محمد بن الشيخ [1] ضياء الدين جعفر بن الشيخ محمد بن الشيخ القطب عبد الرحيم بن أحمد بن [أحمد] ابن حجّون الحسنى الشافعى شيخ خانقاة الأمير بهاء الدين أرسلان الدّوادار بمنشاة المهرانى [2] ، وصلّى عليه بكرة النهار، ودفن بالقرافة، وكان رحمه الله تعالى حسن الصحبة والعشرة والمودة، وله نثر جيد، ومولده فى سنة خمس وأربعين وستمائة تقريبا. وتوفى فى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الآخرة الشيخ كمال الدين [] [3] الغمارى المغربى، وكان رجلا منقطعا، لا يتردد إلى أحد، حسن اللباس والمأكل، يأكل غالبا خبز الشعير، ويطعم أهله ما يختارونه من الأطعمة وكان من فقهاء المالكية، وكنت أعهد له كشفا، اجتمعت به فى سنة سبعمائة وهو يوم ذاك بالمدرسة الشريفية [4] بالقاهرة، وكاشفنى فى قضية

_ [1] الزيادة عن (الدرر 3/415) وفى الوافى بالوفيات (2/307) لم ترد هذه الزيادة، وقد ذكر أن وفاته فى سنة 728، وهو بذلك يوافق النويرى هنا، ويخالفهما ابن حجر الذى ذكر وفاته 727 هـ. [2] كذا فى ك، وفى المقريزى (الخطط 1/345) حدد موضعها بين النيل والخليج الكبير وكان مكانها يعرف باسم الكوم الأحمر حيث كانت تعمل منه أقمنة الطوب، ولما أنشأ الوزير بهاء الدين بن حنا (بكسر الحاء) الجامع بخط الكوم الأحمر أنشأ الأمير سيف الدين بلبان المهرانى دارا وسكنها وبنى إلى جوارها مسجدا عرفت هذه الخطة بمنشاة المهرانى، وفى النجوم (9/184 حاشية 3) أنها كانت واقعة بين سيالة الروضة والخليج المصرى بأوله من جهة فم الخليج. [3] هكذا بياض بالأصل وتقدم (فى ص 189) ذكر من اسمه نجم الدين سعيد بن أحمد بن عيسى الغمارى المالكى، وأظنه غير المذكور هنا. [4] فى النجوم (9/67 حاشية 3) المدرسة الشريفية هى المعروفة الآن بجامع بيبرس الخياط بشارع الجودرية بالقاهرة.

تتعلق بى، فوقعت كما قال، ثم ذكر لى بعد ذلك قضية أخرى تتفق بى، فاتفق بعضها كما قال، وتأخر بعضها، فاجتمعت به بعد ذلك فى سنة ست وسبعمائة، وسألته عن حاله وما كنت أعهده فيه من الكشف، فأجاب: قد زال ما كنت تعهده منذ استقليت بهذه النّميلة- يشير إلى ابنته فاطمة- وكان قد رزقها، وكانت من الذكاء على أمر عظيم لم يشاهد مثله من سرعة الحفظ، وجودة الاتقان مع صغر السن. أحضرت إلى مجلس شيخنا شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى [1] رحمه الله تعالى/ لتسمع عليه جزءا من مسموعاته، فامتنع أن يكتب اسمها إلا حضورا، وقال: هذه صغيرة السن عن السماع، فلقّنها معلمها سرى الدين أبو القاسم الزيدى الحديث الذى كانت تريد أن تسمعه، فحفظته بسنده، وأحضرها إلى الشيخ فجلست بين يديه، وعمرها يوم ذاك أربع سنين أو نحوها، فقالت مخاطبة الشيخ: حدثك- رضى الله عنك الشيخ فلان- وسردت السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث إلى آخره من حفظها فبهت الشيخ من ذلك، واستعظمه منها، وكساها فوطة حرير، وكتب اسمها سماعا، أخبرنى بذلك معلمها سرى الدين المذكور، وكان صدوقا رحمه الله، ثم اشتغلت بعد ذلك وقرأت الكتاب العزيز بالسبع، وأتقنت قراءته واشتغلت بالفقه والعربية والأصول وغير ذلك من العلوم، وكتبت الخط الجيد المنسوب عدة أقلام، فكانت تكتب الدّروج المشتملة على عدة أقلام كتابة جيدة، وتكتب فى آخرها: «كتبته فاطمة الغمارية» واشتغل والدها بأشغالها اشتغالا كثيرا، فلذلك قال لى ما قال، وأصيب بها، وكان رحمه الله تعالى صعب الخلق شديد الحرج كبير الحدّة ما اجتمع به أحد من الأمراء والأعيان والأكابر وفارقه عن رضى، وكان يسب من يجتمع به ويتركه أقبح سب عن غير تحاش، ولعل ما حصل له من سوء الخلق نتج عن خشونة مأكله، رحمه الله تعالى وسامحه. وتوفى فى ليلة الأربعاء سابع شهر رجب القاضى كمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى [2] بكر بن محمد بن محمود الحلبى البسطامى الحنفى

_ [1] ترجمته فى الدرر الكامنة (1/417) ومولده سنة 613 ووفاته سنة 705 هـ وله ترجمة فى الشذرات (6/12) . [2] ترجمته فى الدرر (2/326) وقد أورد اسمه: عبد الرحمن بن أبى بكر بن أبى بكر بن محمد بن محمود البسطامى ثم الحلبى.

[ناب فى الحكم ودرّس] [1] بالمدرسة الفارقانية بالقاهرة، ودفن من الغد بالقرافة، وكان قد مرض من مدة، وطالت مرضته وعجز عن الحركة وانقطع ولزم بيته، ونزل عن جهاته لولده الفقيه سراج الدين عمر [2] ، سمع كمال الدين بن النجيب عبد اللطيف وحدّث، ومولده فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة. وتوفى فى يوم السبت خامس عشر شعبان الأمير سيف الدين بكتمر الأبى [3] بكرى فى معتقله ببرج السباع بقلعة الجبل، وكان السلطان قد رسم بإحضاره من الكرك هو والأمير سيف الدين تمر الساقى [4] ، فأحضرا فى شهر رجب من السنة، وقويت الشناعة أنه يفرج عنهما فاعتقلا ببرج السباع، واعتل المذكور ومات رحمه الله تعالى، وقد تقدم ذكر اعتقاله، وأنه كان فى ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة اثنين وعشرين وسبعمائة، فكانت مدة اعتقاله ست سنين إلا ثمانية عشر يوما. وتوفى فى ليلة السابع عشر من شعبان صاحبنا ووالد صاحبنا الشيخ الصالح العدل شرف الدين أبو حفص عمر بن الشيخ معين الدين عبد الرحيم بن أبى القاسم بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن منصور بن حيدر الجزرى الشافعى المعروف بالخياط، ويعرف أيضا بإمام قفجاق، وهو صاحب الشيخ أبى إسحاق اللّوزى، وكانت وفاته بالقدس الشريف، وصلى عليه من الغد بالمسجد الأقصى، ودفن بمقبرة ماملا [5] ، ومولده فى المحرم سنة سبع وأربعين وستمائة بالموصل، سمع من النجيب عبد اللطيف وغيره، وأسمع، وكان يؤم نواب السلطنة بدمشق الأمير حسام الدين لاجين المنصورى فى نيابته بدمشق قبل سلطنته، ثم كان إماما عند الأمير سيف الدين قبجاق بدمشق وحماة، وهو من بيت مشهور معروف بالجزيرة العمرية بالتجارة والحشمة والاتصال بالملوك، وكان هو من أعيان الصوفية حيث حل بدمشق والقاهرة والقدس. صحبته رحمه الله تعالى، وصحبت ولده الشيخ أمين الدين

_ [1] الزيادة من الدرر (2/326) . [2] كذا فى الأصل، وفى ابن حجر (الدرر 2/327) و (3/169) عمر بن عبد الرحمن بن أبى بكر البسطامى زين الدين. [3] فى الدرر (1/482) الأبو بكرى، وفى النجوم (9/274) والسلوك (2/304) البو بكرى. [4] ترجمته فى الدرر (2/519) وفيها: أنه كان من مماليك المنصور قلاوون، وأنه اعتقل بالكرك سنة 715 ثم حول إلى مصر، وأفرج عنه سنة 735 هـ ومات سنة 743 هـ. [5] كذا فى ك، ولعلها الملا، وهى من ضواحى الرملة. وانظر: مراصد الاطلاع 3/1304.

محمد من سنة تسع وسبعمائة، وتأكدت الصحبة بيننا، فكانا من خيار من صحبت، وكان لى بهما اجتماع قبل ذلك، وكان رحمه الله كريما حسن الصحبة والمودة، وجلس مع العدول بدمشق والقاهرة وشهد على القضاة، وما زال يعظمه الأكابر والأمراء والوزراء ويجلّونه رحمه الله تعالى. وتوفى فى آخر ليلة السبت المسفرة عن رابع عشر شهر رمضان الأمير جمال الدين خضر بن نوكية [1] أحد أمراء الطبلخاناة بداره، بخط الهلالية بظاهر القاهرة، ودفن فى ليلة السبت، وكان قد مرض نحو ثلاثة أشهر وعوفى، وطلع إلى الخدمة السلطانية قبل وفاته بيومين، فى يوم الخميس ثانى عشر الشهر فبلغنى أن السلطان سأله عن حاله، فلما خرج من الخدمة، قال السلطان لبعض خواصه من الأمراء لمن يعطى خبز هذا؟ فقيل له: وكيف يقطع السلطان خبزه؟ فقال السلطان: «هذا ما يعيش أكثر من يومين» فكان كذلك، ولعمرى لو قال هذا القول من يتصدى للناس ممن ينسب إلى الصلاح والكشف لعدت من كراماته، ولهرع الناس إليه، وبلغنى أنه صلى الجمعة ببركة الحبش [2] ، وأفطر فى ليلة السبت، وتسحر، ومات قبيل أذان الصبح. وفيها فى ليلة السبت المسفرة عن سابع عشرين شوال كانت وفاة الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى [3] بمدينة مراغة [4] من عمل أذربيجان [5] ، ودفن فى مستهل ذى القعدة، وكان سبب تأخير دفنه أنه كتب إلى الملك أبى سعيد بخبر وفاته، واستؤذن فى دفنه، فتأخر إلى أن ورد جوابه، ورد الخبر إلى الأبواب/ السلطانية بوفاته فى يوم الثلاثاء حادى عشرين ذى القعدة، وقد

_ [1] فى السلوك (2/305) والنجوم (9/275) الأمير جمال الدين خضر بن نوكاى التتارى أخو خوند أردوكين الأشرفية، وفى L Zetersteen LL وفى تاريخ سلاطين المماليك 174 «ابن نكية» وترجمته فى الدرر (2/84) . [2] بركة الحبش (انظرها فى: النجوم 6/381) . [3] ترجمته فى السلوك (2/305) والنجوم (9/273) وفى الدرر الكامنة (3/247) ترجمة مطولة له باسم قراسنقر الجوكندار الجركسى المنصورى. [4] مراغة: مدينة مشهورة بإقليم أذربيجان كانت عاصمة الإقليم، وكان اسمها القديم «أفراهروذ» المراصد 3/1250. [5] أذربيجان: إقليم واسع يقع بين بلاد الجبال جنوبا، وبلاد الكرد غربا والديلم وبحر قزوين شرقا، وأرمينية وموقان شمالا، ومن أشهر مدنه أردبيل ومراغة وتبريز، وكانت بها الدولة السلارية. (النجوم 9/273 حاشية 7) .

ذكرنا ما كان من تسحّبه إلى بلاد التتار فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، ولما اتصل خبر وفاته بالسلطان رسم بالإفراج عن جماعة من مماليكه كانوا قد اعتقلوا بعد تسحّبه، ووعدهم الإحسان، ثم رسم بإخراج ولديه الأميرين: علاء الدين على، وعز الدين فرج إلى دمشق، وأقطع الأول إمرة طبلخاناة، وفرج إمرة عشرة بدمشق، وتوجّها فى سنة تسع وعشرين، ووصلا إلى دمشق فى ثالث شهر ربيع الآخر، واستقرا بها. وفيها فى الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن العشرين من ذى القعدة كانت وفاة الشيخ العالم الورع تقى الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبى البركات عبد السلام ابن عبد الله بن أبى القاسم بن محمد بن تيمية الحرّانى ثم الدمشقى [1] فى معتقله بدمشق، ومرض سبعة عشر يوما، ولما منع من الكتابة والتصنيف عكف على تلاوة كتاب الله تعالى، فيقال إنه قرأ ثمانين ختمة، وقرأ من الحادية والثمانين إلى سورة الرحمن، وأكملها أصحابه الذين دخلوا عليه حال غسله وتكفينه، وتولى غسله مع المغسّل الشيخ تاج الدين الفارقىّ، والشيخ شمس الدين بن إدريس، وصلّى عليه فى عدة مواضع فصلى عليه أولا بقلعة دمشق وأمّ الناس فى الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام الصالحى الحنبلى، ثم حمل إلى الجامع الأموى، ووضعت جنازته فى أول الساعة الخامسة، وامتلأ الجامع بالناس، وغلّقت أسواق المدينة، وصلّى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل وأخرج من باب الفرج، وازدحم الناس حتى تفرقوا فى أبواب المدينة وصلّى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل فخرجوا من باب النصر وباب الفراديس وباب الجابيه، وامتلأ سوق الخيل بالناس، وصلى عليه مرة ثالثة وأمّ الناس فى الصلاة عليه أخوه الشيخ زين الدين عبد الرحمن [2] ، وحمل إلى مقبرة الصوفية،

_ [1] ترجمته فى شذرات الذهب (6/80- 86) والنجوم (9/271) والسلوك (2/304) وله فى الدرر الكامنة (1/144- 160) ترجمة مفصلة وردت فيها طائفة من أخباره وآرائه التى أدت إلى اعتقاله. وفى النجوم (9/92) أن السلطان الملك الناصر أفرج عن الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية بشفاعة الأمير جنكلى بن البابا. وهذا الخبر يخالف ما أورده النويرى هنا، والمقريزى فى السلوك (2/304) وابن حجر فى الدرر (1/160) والمصادر الأخرى التى تجمع على أنه مات فى معتقله. وصاحب النجوم نفسه يذكر ذلك فى ص 291 من الجزء التاسع. أو لعل هذه اعتقالة أخرى غير التى مات فيها. [2] ترجمته فى الدرر (2/329) وفيها أن مولده سنة 663 هـ ووفاته فى ثالث ذى الحجة سنة 747 هـ وله ترجمة فى شذرات الذهب (6/152) .

واستهلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة بيوم الجمعة الموافق لثامن هاتور من شهور القبط

فدفن قريبا من وقت العصر لازدحام الناس عليه، ومولده بحرّان فى يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده فى حال صغره، واشتغل عليه وسمع من جماعة من المشايخ، وكان شيخا حافظا مفرط الذكاء، حسن البديهة، وله تصانيف كثيرة منها ما ظهر، ومنها ما لم يظهر، وشهرته بالعلم تغني عن بسط القلم فيه، وكان علمه أرجح من عقله، وقد قدمنا من أخباره ووقائعه ما يغنى عن إعادته، وكانت مدة اعتقاله من يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة إلى حين وفاته سنتين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، رحمه الله تعالى، ولما مات أفرج عن أخيه الشيخ زين الدين عبد الرحمن فى يوم الأحد سادس عشرين ذي القعدة، وكان قد اعتقل معه، فلما مات كان يخرج فى كل يوم إلى تربة أخيه، ويعود عشية النهار يبيت بقلعة دمشق، إلى أن حضر نائب السلطنة من الصيد، فأفرج عنه. واستهلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة بيوم الجمعة الموافق لثامن هاتور من شهور القبط ، والسلطان الملك الناصر يتصيد بجهة سرياقوس، فأقام بتلك الجهة إلى يوم الاثنين، وعاد إلى قلعة الجبل المحروسة فى بكرة نهار الاثنين رابع المحرم، وفى يوم السبت ثانى المحرم وصل القاضى فخر الدين محمد ناظر الجيوش المنصورة من الحجاز الشريف إلي خدمة السلطان بالقصر بسماسم، وخلع عليه ووصل إلى داره بمصر فى يوم الأحد ثالث الشهر. وفيها فى يوم الأحد سابع عشر المحرم فوّض السلطان صحابة ديوان الإنشاء السعيد بالأبواب العالية للقاضى محيى الدين [يحيى] بن جمال الدين فضل الله [بن] المجلّى القرشى العدوى [1] وسبب ذلك أن القاضى علاء الدين على بن الأثير [2] كان قد حصل له مرض فالج فى شهور سنة ثمان وعشرين

_ [1] وردت ترجمته فى الدرر (4/424) وذكر اسمه: يحيى بن فضل الله بن مجلى بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبيد الله بن على بن محمد بن أبى بكر بن عبد الله بن عمر العدوى، محيى الدين أبو المعالى ولد بالكرك سنة 645 وتوفى بمصر سنة 738 ودفن بالقرافة ثم نقل تابوته إلى دمشق بعد دفنه بأشهر، وما بين الحاصرتين زيادة من الدرر، والسلوك 2/309 والنجوم 9/316. [2] على بن أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الحلبى الأصل، ترجمته فى: الدرر 3/14 ومولده فى حدود سنة 680 ووفاته فى المحرم سنة 730 هـ.

وسبعمائة، واستمر مدة شهور، وهو يتكلف الدخول مع البريد وحضور دار العدل بين يدى السلطان، فلما دخل فصل الخريف اشتد به المرض، وتمكن من جسده، وتزايد الحال به، فعجز عن المشى، واعتقل لسانه، وبطلت يده، فرسم بعد ذلك بتوفيره، ونزل من القلعة فى يوم الخميس رابع عشر الشهر، واستقر بداره، وكان ولده فى الحجاز الشريف، فوصل فى يوم السبت الثانى من المحرم وخلع عليه، وجلس فى مرتبة أبيه، وظن الناس أنه يستقر فى الوظيفة، وكان السلطان قبل ذلك قد رسم بطلب القاضى محيى الدين المشار إليه من دمشق فطلب، وكان رأس كتاب الدّرج بها، فتوجه منها فى يوم الجمعة ثامن الشهر، ووصل إلي الأبواب السلطانية في هذا اليوم/ هو وولده القاضي شهاب الدين [1] أحمد، وشرف الدين بن شمس الدين بن شهاب الدين محمود، ومثلوا بين يدى السلطان وهو بالإسطبل، وخلع عليهم، واستقر القاضى محيى الدين صاحب ديوان الإنشاء وولده شهاب الدين أحمد كاتب السر [2] الشريف، وشمس الدين بن شرف الدين رأس كتّاب الدرج بدمشق فى وظيفة القاضى محيى الدين، وتوجه إلى دمشق المحروسة. وفى هذه السنة فى يوم الأحد رابع عشرين المحرم أنعم السلطان علي الأمير علم الدين سنجر الجاولى بإمرة طبلخاناة، وأقطعه إقطاع الأمير علاء الدين على بن الأمير شمس الدين قراسنقر، ونقل علاء الدين إلى دمشق كما تقدم، وأنعم على الأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير المعروف بزيرباج [3] بإمرة طبلخاناة بالديار المصرية، وأقطع إقطاع الأمير ناصر الدين محمد بن جمق الذى كان قد وصل من بلاد التتار، وذكر أنه من أقرباء السلطان، فعاد الآن إلى بلاد التتار بطلب من الملك أبى سعيد، فرسم بعوده. وفيها فى يوم الأحد الرابع والعشرين من الشهر وصل إلي الأبواب السلطانية الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى، عاد من جهة الملك أبى سعيد ابن خربندا على خيل البريد، ووصل الرسل بعده، وفيها فى بكرة نهار الثلاثاء ثالث صفر استقل ركاب السلطان من قلعة الجبل لقصد الصيد، فتوجه إلى

_ [1] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/331) ومولده سنة 700 هـ ووفاته فى يوم عرفة سنة 749 هـ. [2] كاتب السر: هو صاحب ديوان الإنشاء وانظر: صبح الأعشى 5/464. [3] فى الأصل (البراج) وما أثبتناه من السلوك (2/298) ففيه حسام الدين لاجين العمرى المعروف بزيرباج الجاشنكير، وفى: السلوك أيضا ص 309 وفيه- يعنى المحرم سنة 729 هـ- أنعم على لاجين الخاصكى بإمرة طبلخانة عوضا عن محمد بيه بن جمق.

الجيزية، وعدى من ساحل بولاق، وأقام إلى يوم الخميس، وتوجه فى بكرة نهار الجمعة إلى جهة المنوفية، وفرّق الأمراء مماليكه بالجهات ولم يستصحب من مماليكه إلا أرباب الوظائف. وفى يوم السبت سابع صفر وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد، وجهّزوا إلى السلطان إلى جهة المنوفية، فمثلوا بين يديه، وأدوا رسالتهم وأمر أن يتوجهوا إلى قلعة الجبل، وأقاموا بها إلى حين عود السلطان، وكان عوده من الصيد المبارك فى الساعة الثانية من يوم الخميس [1] تاسع عشر صفر. وفيها فى يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول أعيد القاضي شمس الدين ابن قروينة إلى نظر الدواوين على ما كان عليه، نقل إلى هذه الوظيفة من نظر البيوت السلطانية، وأضيف نظر البيوت إلى القاضى مجد الدين [إبراهيم] [2] ابن لفيتة ناظر النظار والصحبة، وخلع عليهما. وفيها فى يوم الأحد سادس شهر ربيع الأول توجه السلطان إلى الصيد بجهة سرياقوس، ثم توجه منها إلى الجيزية، وأقام بها إلى بكرة نهار الاثنين الحادى والعشرين من الشهر، وعاد إلى قلعة الجبل، وكان صعوده إليها فى الساعة الأولى من النهار المذكور، واستقر بها بكرة نهار الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر، وتوجه إلى جهة القليوبية، وعاد ظهر يوم الأربعاء رابع عشر الشهر، وأقام بقلعة الجبل إلى يوم الاثنين ثالث جمادى الأولى، فتوجه فى الأول من النهار وعدّى من جهة بولاق لقصد الصيد بجهة البحيرة، وعاد إلى قلعة الجبل فى الساعة الثالثة من يوم الأحد سادس عشر جمادى الأولى. وفيها فى يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى رسم السلطان بهدم الجبّ الذى يعتقل به الأمراء بقلعة الجبل وردمه، وألا يعتقل به أحد من الناس فهدم وردم بما نقض من الإيوان الكبير الذي بالرحبة عند جامع القلعة [3] ، وكان قد رسم بهدمه وإنشاء غيره أصغر منه، ففعل ذلك.

_ [1] فى المقريزى (السلوك 2/310) أن عود السلطان من الصيد كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر صفر وقد تقدم هنا أن يوم السبت كان يوافق سابع الشهر. [2] الزيادة من: النجوم (9/292) والدرر (1/53) والسلوك (2/310) . [3] فى السلوك (2/310) والنجوم (9/92) أن سبب هدمه وردمه ما بلغ السلطان من أنه شنيع المنظر شديد الظلمة، كريه الرائحة، كثير الوطاويط، وأنه يمر بالمحابيس فيه شدايد عظيمة، فردم، وعمر فوقه طباق للمماليك السلطانية، وكان هذا الجب قد عمل فى سنة إحدى وثمانين وستمائة فى أيام الملك المنصور قلاوون.

ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد/ ورغبته فى الاتصال بمصاهرة السلطان

وفيها فى هذا اليوم المذكور وصل إلى الأبواب السلطانية رسل نائب الملك أبى سعيد بن خربندا الذى استقر فى النيابة بعد جوبان وهو الشيخ حسن ابن الجتية [1] ، وهو ابن عمة الملك أبى سعيد، أمّه أخت غازان وخربندا، وحسن هذا هو الذى كان زوج بغداد خاتون ابنة جوبان، وأحضر رسله قماشا وفهدين تقدمة من جهته إلى السلطان، فقبلت تقدمته، وعومل رسله بما جرت به عادة أمثالهم. وفيها فى يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة وصل إلى الأبواب السلطانية الأمير سيف الدين أرغون [2] الناصرى نائب السلطنة الشريفة بحلب، وأكرمه السلطان إكراما كثيرا، وخلع عليه على عادته فى نيابة السلطنة بالأبواب السلطانية، وأنزله بمناظر الكبش [3] ، وأنعم عليه بخيل وقماش، وأقام إلى يوم الخميس سادس عشرين الشهر، فخلع عليه فى هذا اليوم قباء مقصّبّا بطرز زركش، وعاد إلى حلب، بعد انقضاء الخدمة السلطانية فى هذا اليوم المذكور من التاريخ من السنة المذكورة. ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد/ ورغبته فى الاتصال بمصاهرة السلطان وفى يوم الأحد التاسع والعشرين من جمادى الآخرة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد بن خربندا، والمشار إليه منهم اسمه تمربغا المرغينانى [4] أحد مقدمى التّوامين، ومثلوا بين يدى السلطان بقلعة الجبل فى يوم الاثنين سلخ الشهر، وقدموا ما معهم من الهدية، فكان منها اثنا عشر أكديشا [5] عشرة منها مجلّلة بالجوخ الأحمر المبطن بالصندات، واثنان بغير

_ [1] كذا فى الأصل وفى السلوك (2/310) ابن الجلايرى وفى هامش الصفحة نفسها (حاشية رقم 4) الجلايرى نسبة إلى قبيلة جلاير، وهو الذى أسس الدولة الجلايرية بفارس بعد وفاة أبى سعيد سنة 736 هـ ولم تذكر الكتب المتداولة فى تاريخ هذه الفترة سبب قدوم رسل الشيخ حسن فى هذه السنة. [2] فى الأصل «أرغن» والرسم المثبت تابعنا فيه السلوك والنجوم والدرر الكامنة. [3] انظر فى التعريف بمناظر الكبش (النجوم الزاهرة 7/119 حاشية رقم 2) و (9/189 حاشية رقم 1) . [4] مرغينان من بلاد فرغانة فيما وراء النهر، وهي من أشهر مدنها (مراصد الاطلاع 3/1259) . [5] فى الأصل بكديشا، والرسم المثبت من السلوك (2/311) وفى صبح الأعشى (2/17) عد الأكاديش فى الصنف الثانى من أصناف الخيل، قال: «وتسمى العجميات، وهى البراذين، ويقال لهما الهماليج، وتعرف الآن بالأكاديش وتجلب من بلاد الترك ومن بلاد الروم، وتطلب للصبر على السير وسرعة المشى» .

جلال، ذكران لها قيمة كثيرة، وأحضروا غير ذلك من التحف مما خفي أمره، وكان مضمون الرسالة رغبة الملك إلى السلطان الاتصال بابنته، فأجاب السلطان الملك الناصر سؤاله إلى ذلك، فاعتذر بصغر سنها الآن، ووعدهم إلى انقضاء ثلاث سنين، فعند ذلك أحضر الرسول ثمانا دراهم، وهو ستون ألف درهم، وسأل عن مرسله، أن يعمل بذلك مهمّ، ويمدّ سماط يأكله الأمراء، فرسم السلطان بقبول ذلك، وعمل المهم فى يوم الخميس عاشر شهر رجب، وسلك السلطان فى ذلك نايب [1] التتار، وشرط السلطان عليهم شروطا منها: أن طلب فى مهرها أعمال «ديار بكر» [2] وخلع على الرسل فى يوم الخميس ثالث شهر رجب، ثم خلع عليهم مرة ثانية في يوم الاثنين سابع الشهر، ثم رسم بإعادتهم إلى مرسلهم، وتوجهوا فى يوم الاثنين رابع عشر الشهر، ووصلوا دمشق فى مستهل شعبان، وتوجهوا منها فى يوم السبت رابع الشهر. وفيها فى يوم الخميس عاشر رجب وصل إلى الأبواب السلطانية الأمير سيف الدين طينال [3] الساقى، نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية، وخلع عليه تشريف أطلس أحمر بطرز زركش على أطلس أصفر وشاش رقم، وكلّوتة زركش، وحياصة ذهب مجوهرة، وأنعم عليه بثلاثة رءوس خيل، وأقام فى الخدمة السلطانية إلى يوم الخميس رابع عشرين الشهر، وتوجه إلى طرابلس على عادته فى يوم الجمعة خامس عشرين الشهر، وأثّر حضوره أثرا سيئا، فإنه شكا إلى السلطان ما على المملكة الطرابلسية من الكلف، وأن خالصها لا يقوم بالمرتب عليها، وحسّن للسلطان قطع ما على المملكة المذكورة من الرواتب لأرباب الصلات المقيمين بالديار المصرية ومرتبهم بطرابلس، فقطع جميع ذلك بطرابلس، وشمل هذا القطع ما هو مرتب لهم على سائر الممالك الشامية والحلبية والصّفدية، فحصل للناس الضرر التام بذلك،

_ [1] لم يتضح بالأصل، ولعلها آيين، بمعنى النظام والدستور والتقليد، فيكون المراد نظام التتار فى مثل هذه الولائم، كما يقضى السياق. [2] فى مراصد الاطلاع 2/547 (دياربكر: بلاد واسعة، حدها ما عرب من دجلة من بلاد الجبل المطل على نصيبين إلى دجلة، ومنه حصن كيفا وآمد وميافارقين، وقد يتجاوز دجلة إلى سعرت وحيزان وحينى وما تخلل من البلاد، ولا يتجاوز السهل. [3] كذا فى الأصل، وفى الدرر (2/232) سيف الدين طينال الحاجب، وأورد ترجمته، ووفاته سنة 743 هـ وفى السلوك (2/311) سيف الدين طينال الحاجب نائب طرابلس، وقد ذكر أن سبب حضوره كان ليحاقق شكاته، فوقف وحاققهم، وساعده الأمراء إلى أن عاد فى خامس عشريه.

ذكر الاستبدال بمن يذكر من مباشرى الدولة، ومصادرتهم وإفصال الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى من الوزارة

ثم سأل الزيادة لنفسه على ما بيده من الإقطاع، فأنعم عليه بزيادة ثلاثين ألف درهم فى كل سنة أو نحوها من الذى يوفّر بطرابلس. ذكر الاستبدال بمن يذكر من مباشرى الدولة، ومصادرتهم وإفصال الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى من الوزارة وفى يوم الأحد العشرين أو الحادى والعشرين من شهر رجب من هذه السنة رسم السلطان بعزل القاضى مجد الدين إبراهيم بن لفيتة عن نظر النظار بالديار المصرية والصحبة، وشمس الدين بن قروينة عن نظر الدواوين، وفوض نظر النظار والصحبة للقاضيين: علم الدين إبراهيم بن القاضى تاج الدين إسحاق [1] وكيل الخواص الشريفة وناظرها، وتقى الدين عمر بن الصاحب شمس الدين محمد بن فخر الدين عثمان الشوخى المعروف بابن السّلعوس [2] الدمشقى وزير الدولة الأشرفية الصلاحية والده كلف وكان قبل ذلك يتولى صحابة الديوان بدمشق، ذكره بعض الأمراء الأكابر بين يدى السلطان وأثنى عليه، فرسم بطلبه فتوجه من دمشق فى يوم الخميس العاشر من رجب ووصل إلى الأبواب السلطانية فى يوم الجمعة ثامن عشر الشهر، فرسم له بالمباشرة، وخلع عليهما فى اليوم المذكور، وفوض نظر خزانة الخاص الذى كان يباشره علم الدين المذكور لأخيه شمس الدين موسى [3] ، وباشر الناظران- علم الدين وتقى الدين- مدة والأمير علاء الدين الجمالى الوزير على حالته فى الوزارة، إلا أنه مشغول بما حصل له من المرض، يترددان إلى خدمته، ويستأذنانه، فلما كان فى يوم الأحد ثانى شوال رسم بتوفير الوزارة، واستقر الأمير علاء الدين فى الأستاذ دارية خاصة مع ملازمة المرض به، وهو مع ذلك يتجلد فى بعض أيام المواكب، ويعبر إلى الخدمة، ويقف على عادة الأستاذ دارية يسيرا، ثم

_ [1] فى الأصل علم الدين بن القاضى تاج الدين أبى أسحاق «والزيادة والتصويب من السلوك (2/311) وفى النجوم (9/136 حاشية (1) هو المعلم إبراهيم بن عبد الوهاب بن عبد الكريم الوزير، شمس الدين ابن تاج الدين إسحاق القبطى، تسمى والده إسحاق لما أسلم بعبد الوهاب. [2] ترجمته القبطى فى الدرر (3/188) وقد أورد اسمه «عمر بن عثمان بن أبى رجاء بن أبى الزهر بن شمس الدين بن السلعوس مات فى ذى القعدة سنة 731 هـ [3] شمس الدين موسى بن إسحاق- ويدعى عبد الوهاب- بن عبد الكريم المصرى القبطى شمس الدين بن تاج الدين، ولى الوزارة عدة مرات، ومات فى ذى القعدة سنة 771 هـ (الدرر 4/374) .

يعود إلى داره بقلعة الجبل، فلما كان فى يوم الأحد خامس عشر ذى القعدة جلس السلطان فى الميدان تحت قلعة الجبل، وعرض كتاب الأمراء ليستصلح منهم من يستخدمه، ثم طلب القاضيين مجد/ الدين بن لفيتة وشمس الدين بن قروينة الناظرين المنفصلين، ومكين الدين بن قروينة مستوفى الصحبة وأمين الدين مستوفى الخزانة المعروف بقرموط [1] ، وأمر بالترسيم عليهم، وسلمهم للأمير سيف الدين الدمر [2] أمير جاندار، ورسم أن يستخرج منهم ستمائة ألف درهم. وسبب ذلك أنه كان قد رسم بكشف الجيزية، فكشفت [3] فوجد فيها بواقيا كثيرة، فرسم بمصادرة واليها سيف الدين قشتمر، وهو من ألزام الأمير علاء الدين الجمالى الوزير- كان- ومستوفيها ابن سقرون، فحمل من جهة قشتمر مائتى ألف درهم، ومن جهة ابن سقرون المستوفى ما يزيد على سبعين ألف درهم، فاضطر المستوفى المذكور إلى أن أنهى إلى السلطان ما أخذ من الجيزية، فرسم عند ذلك بمصادرة من ذكرنا، وإفصال المستوفين. وكان السلطان قبل ذلك قد عرض مشدّى الجهات بالقاهرة ومصر، ورسم بقطع أخبازهم من الحلقة، واستبدل بهم، وانتصب السلطان بنفسه أياما لمصالح دولته، وأحضر مشايخ بلاد الجيزية، وسجلوا بلادها فى مجلس السلطان، وهذا ما لم يسمع بمثله فى دولة من الدول، وشرع بالاستبدال بالمباشرين، وصار يستخدم بنفسه، ويتحدث مع كل مباشر، ويسأله عن مباشراته، وغير ذلك [4] ، ثم أفرج السلطان عن الناظرين المنفصلين والمستوفين، بعد أن استخرج منهم- بعد ما قرر عليهم- جملة من المال.

_ [1] انظر: النجوم الزاهرة (9/81 حاشية رقم 4) [2] الدمر: أحد الأمراء بالقاهرة، وكان أمير جاندار، وحج بالناس سنة 730 هـ فثارت الفتنة بمنى، فقتل فيها هو وولده خليل فى يوم عيد النحر من السنة المذكورة (الدرر 1/407) وسيورد النويرى خبره ووفاته فى حوادث سنة 730 من هذا الجزء. [3] فى السلوك (2/312) أن الذى تولى الكشف عليها الأمير أيتمش. [4] انظر فى هذا الخبر (السلوك 2/312) .

ذكر رؤيا رأيتها فى المنام أحببت إثباتها لدلالتها على صحة نسبى

وفيها فى خامس شهر رمضان رسم السلطان للأمير علاء الدين [1] قلبرس ابن الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى أحد أمراء الطبلخاناة أن يتوجه إلى دمشق المحروسة من جملة الأمراء مقدمى الألوف، وأنعم عليه بإقطاع الأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى [2] الحاجب بدمشق، وزاده عليه إمرة عشرة طواشية، وتوجه من القاهرة المحروسة فى خامس عشر شوال من السنة، ووصل إلى دمشق فى الاثنين سادس عشر ذى القعدة، وكانت وفاة الأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمى- الحاجب المذكور- فى ليلة الأحد ثانى عشر شعبان من السنة. ذكر رؤيا رأيتها فى المنام أحببت إثباتها لدلالتها على صحة نسبى وفي ليلة الجمعة ثالث عشر ذى القعدة رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم فى المنام، وهو جالس بالإيوان البحرى بالمدرسة الناصرية، التى هى بين القصرين، من الجهة اليمنى لمن يقصد صدر الإيوان فى ذيل الإيوان بينه وبين الحائط نحو ذراعين، أو أقل من ذلك، وأنا جالس بين يديه الكريمتين، وهو يذكر عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها بخير، فقلت له: يا رسول الله هى عمتى، ثم قلت ثانيا: يا رسول الله عائشة أم المؤمنين عمتى؛ لأننى أحمد بن عبد الوهاب ابن محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على بن طرّاد بن خطّاب بن نصر بن إسماعيل بن إبراهيم. فلما انتهيت فى سرد نسبى إلى إبراهيم قال النبى (صلى الله عليه وسلم) ابن جعفر، قلت: نعم يا رسول الله، ابن جعفر بن هلال ابن الحسين بن ليث بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، فعائشة أم المؤمنين يا رسول الله عمتى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نعم، واستيقظت من النوم، وسررت بهذه الرؤيا، وأثبتها ولله الحمد.

_ [1] كذا فى الأصل، وفى ابن حجر (الدرر 3/255) قلبوس بن طبرس الوزيرى، وذكر وفاته فى سنة 730 هـ وقد أورد النويرى أيضا وفاته فى سنة 730 هـ [2] ترجمته فى ابن حجر (الدرر 1/425) وذكر أنه كان ممن يرسلهم السلطان الناصر إلى الجهات وأنه مات وهو حاجب دمشق.

ذكر متجددات كانت بدمشق فى سنة تسع وعشرين وسبعمائة

ذكر متجدّدات كانت بدمشق فى سنة تسع وعشرين وسبعمائة فى هذه السنة فى أوائل شهر ربيع الأول تجرّأ رجل يقال له محيى الدين ابن الحكم الكاتب جرأة عظيمة لم يسبق إلى مثلها فيما بلغنا، وذلك أنه اتفق مع أربعة من الرسل المتصرّفين بباب الحكم العزيز، وجلس فى قاعة تعرف بدرب البلسانى بخطّ عتبة الكتاب بدمشق، وسمى نفسه عماد الدين، وأحضر نصرانيا له مال، وأوهمه هو والرسل أنه نائب قاضى القضاة المالكى بدمشق، وقال للنصرانى: قد ثبت عندى أنك قلت لرجل مسلم أنك أخى وأنا أخوك ولا فرق بينى وبينك، وبمقتضى هذا القول تكون مسلما، وتهدّده بالقتل، وتحدث الرسل مع النصرانى، وأشاروا عليه أن يعطيه مالا، فتقررت الحال على ألف درهم ومائتى درهم عجّل النصرانى منها ستمائة درهم، وأحضر شهودا إلى باب الدار، وكتب عليه حجة بستمائة درهم، ورفع عنه الترسيم، فلما أطلق النصرانى توجه إلى القاضى شمس الدين ناظر النظار، وأنهى له الصورة، وأحضر نائب قاضى القضاة المالكى، فلما رآه النصرانى قال: ما هو هذا، ثم أحضر عماد الدين نائب قاضى القضاة الحنفى، فقال/ كذلك، فسير جماعة إلى الدار وهجمت فمسك، وأحضر إليه والدراهم والحجة معه، فاستنقذ ذلك منه وأطلقه شمس الدين الناظر، فلما اتصل الخبر بمتولى دمشق اعتقله، وطالع نائب السلطنة بأمره، فرسم بضربه وضرب الرسل الذين اتفقوا معه على ذلك، وشقّ منا خيرهم، وإشهارهم على الحمر، ففعل بهم ذلك فى يوم الأحد سادس شهر ربيع الأول، واعتقلوا. وفيها فى يوم الاثنين ثالث جمادى الأولى أنعم على الأمير علاء الدين ولد قاضى القضاة نجم الدين أحمد بن صصرى [1] بإمرة عشرة طواشية بدمشق، ولبس التشريف فى اليوم المذكور.

_ [1] أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن الربعى بن صصرى، ترجمته فى الدرر (1/263) والدارس فى تاريخ المدارس (1/132) .

وفيها فى شهر ربيع الأول دخل نائب السلطنة بدمشق الأمير سيف الدين تنكز إلى المدرسة القليجيّة [1] ، وهى بجوار داره التى جدد عمارتها المعروفة بدار الفلوس [2] فنظر إلى بيوت المدرسة، فرأى على بعضها أقفال حديد مغلقة علي الأبواب، فسأل عن البيوت وهل هى للفقهاء؟ فقال قيم المدرسة: هذا البيت لفخر الدين بن شهاب الدين الحنفى، وهذه البيوت لجماعة آخرين- سماهم- لهم فيها قماش وغيره، فطلب فخر الدين المذكور، وأنكر عليه كونه ضيق على الفقهاء فى مساكنهم مع استغنائه عنها، فقال: ما انفردت بهذا، وشمس الدين بن حميد- رفيقى فى ديوان الإنشاء- له بيت بالمدرسة العزيزية وجماعة غيره، فرسم نائب السلطنة لشادّ الأوقاف بطلب كل من أشغل بيتا من بيوت المدارس وليس هو من الفقهاء، وتقويم أجرة البيت، وإلزامه بالقيام بالأجرة منذ أشغله وإلى ذلك اليوم، فأحضر شهود القيمة وقوّموا أجرة البيوت فأخذ من شمس الدين بن حميد ستمائة درهم، ومن شهاب الدين أحمد بن المهذّب ستمائة درهم وثلاثة عشر درهما، ومن أولاد عفيف الدين الحنفى أربعمائة درهم، وهؤلاء من الذين كان لهم بيوت بالمدرسة العزيزية، وأخذ من غيرهم. وفيها فى شهر رجب خلع ما كان بجامع دمشق عند قبر يحيى بن زكريا عليه السلام من الخشب بين العامودين وبين الحجارة، ورخّم البناء المجدّد من جهة القبلة، والتأم، وكتب بالرخام الأبيض بالرخام الأسود قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [3] . وفيها فى أول شهر رمضان رسم نائب السلطنة بدمشق أن يوسّع طريقا سويقة مسجد القصب خارج باب سلامة، وأن يوسّع من كل ناحية قدر ذراعين،

_ [1] هما قليجيتان: القليجية المجاهدية، وبانيها مجاهد الدين قليج بن محمد بن محمود وهى فى موضع يعرف بقصر ابن أبى الحديد داخل البابين الشرقى وباب توما، شرقى المسمارية. والقليجية الحنفية: وواقفها سيف الدين على بن قليج النورى ويظن أنها قبلى الجامع الأموى شمالى الصدرية وغربى تربة قاضى القضاة الجمال المصرى (الدارس فى تاريخ المدارس 1/434 و 569) وفى مخطط المنجد ص 72 أنها ملاصقة لقصر العظم فى جنوبيه. [2] فى الأصل بدار فلوس وما أثبتناه من: الدارس فى تاريخ المدارس (1/569 وعلق ناشره بأن هذه الدار بنى على أنقاضها قصر العظم فى سوق البرزوية. [3] سورة مريم الآية 7.

فهدم فى ثالث شهر رمضان ثم عمر فى مدة شهر، إلى أن انتهى العمل إلى خان دار الطّعم والمدرسة الزّنجيلية [1] ، ثم رسم فى أول شوال بهدم مساطب حوانيت القوّاسين لتوسيع الطريق، فهدمت من الجانبين، واستقرت الحوانيت بغير مساطب، وجلس أهلها داخل الدكاكين، فاتسع ذلك نحو أربعة أذرع، ثم رسم بعمارة رصفان الكعبين وباب البريد، فحصل الرّفق بذلك للمارّة، ثم رسم بهدم جميع المساطب وبعض الحوانيت التى هى خارج باب الجابية إلى قرب باب النصر لتوسعة الطريق، وهدمت فى يوم الثلاثاء رابع عشرين ذى القعدة، واستمر العمل فيها؛ فمنها ما أزيل بجملته، ومنها ما أزيل نصفه وبقى النصف، وبقى ذرع الطريق من عشرين ذراعا إلى عشرة أذرع. وفيها فى يوم الاثنين خامس ذى الحجة رسم نائب السلطنة بدمشق بقتل الكلاب بدمشق وظواهرها، فقتل منها من بكرة النهار إلى بعد العصر [أكثر من خمسة آلاف] [2] ثم رسم إلى متولى دمشق أن يبنى مقبرة للكلاب فى آخر الخندق ما بين الباب الصغير وباب كيسان، يفصل بينها بحائط، يكون أحد الموضعين للكلاب الذكور والآخر للإناث، فحصل الشروع فى البناء فى يوم السبت فى العشرين من ذى الحجة إلى يوم الأحد ثامن عشرين للشهر، وجمعت الكلاب، وأنزلت فى المكانين، فصار الذكور في خمسة ألايات فى جهة، ورسم للنادشتية بإلقاء الجيف بعد سلخها فيها. وفى هذه السنة فى يوم الخميس رابع عشر المحرم توفى الشيخ الإمام العالم المفتى نجم الدين [أبو] [3] عبد الله [محمد] [4] بن الشيخ شمس الدين عقيل بن الخطيب جلال الدين [أبى] [5] الحسن [بن عقيل] [6] البالسى، نائب الحكم العزيز بمصر المحروسة، وكانت وفاته بالمدرسة الطّيبرسية [7] بمصر

_ [1] تنسب إلى عثمان الزنجيلى الذى خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين إليها- فسكن الشام فأنشأ هذه المدرسة خارج باب توما، وتجاه دار الطعم سنة 626 ويقال لها المدرسة الزنجارية أيضا (الدارس فى تاريخ المدارس 1/526) . [2] الزيادة من السلوك (2/313) والنجوم (9/93) . [3] الزيادة عن الشذرات (6/91) والسلوك (2/135) والدرر (4/50) والنجوم (9/280) . [4] الزيادة عن الشذرات (6/91) والسلوك (2/135) والدرر (4/50) والنجوم (9/280) . [5] الزيادة عن الشذرات (6/91) والسلوك (2/135) والدرر (4/50) والنجوم (9/280) . [6] الزيادة عن الشذرات (6/91) والسلوك (2/135) والدرر (4/50) والنجوم (9/280) . [7] فى الأصل الطبرسية، وما أثبتناه من الدرر (4/50) والنجوم (9/143 و 199) أنشأها علاء الدين طيبرس الخازندارى نقيب الجيوش وانتهت عمارتها سنة 709 هـ وجعلها مسجدا زيادة فى الجامع الأزهر. (خطط المقريزى 2/382) وانظر أيضا (النجوم 9/199 حاشية 2) .

المحروسة وكان آخر ما تكلم به- فيما بلغنى- «أنا عند ربى يطعمنى ويسقينى» ، وكان رحمه الله تعالى من العلماء العاملين، ولم يخلّف دينارا ولا درهما، ومولده فى سنة ستين وستمائة. وفيها فى النصف من ليلة الخميس سابع المحرم توفى الأمير الكبير شرف الدين حسين بن الأمير سيف الدين أبى بكر بن إسماعيل بن جندربك الرومى [1] ، وهو من الأمراء/ مقدمى الألوف بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته بالقاهرة بالدار المعروفة بشاطىء، ودفن فى يوم الخميس بتربته الملاصقة لجامعه بظاهر القاهرة بالحكر [2] وهذا الأمير قدم من بلاد الروم فى الدولة الظاهرية الرّكّنية فى سنة خمس وسبعين وستمائة، ولما مات أنعم السلطان على ابن أخيه بإمرة طبلخاناة بصفد المحروسة، وأنعم بإقطاعه وتقدمته على الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد رأس نوبة الجمداريّة، وأنعم بإقطاع آقبغا على الأمير سيف الدين سوسون أخى الأمير سيف الدين قوصون. وفيها فى الساعة الحادية عشر من يوم الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الآخر توفى الأمير الكبير سيف الدين بكتمر الحسامى- الحاجب كان- رحمه الله بداره التى أكمل عمارتها خارج باب النصر المعروفة قبله بدار نهرداس، ودفن بتربته التى أنشأها الملاصقة لداره المذكورة فى الساعة الأولى من يوم الأربعاء وكان قبل ذلك قد حصل له نهج [3] إذا مشى فى الخدمة السلطانية، فجمع جماعة من الأطباء لذلك وقالوا: إنه حدث من ريح مجاور للكبد، وعولج منه وبرأ، ثم عاوده، وحصل له دوخة فى دماغه، فلما كان فى يوم الخميس ثامن الشهر طلع إلى الخدمة السلطانية، فلما خرج من مجلس السلطان وهو يمشى فى قلعة الجبل قريبا من دار الأمير سيف الدين طرجى- والتى كانت دار عدل- حصلت له الدوخة، فسقط منها على الأرض، فاحتمل وأجلس على

_ [1] ترجمته فى (الدرر 2/50) والنجوم (9/276) وقد أورد مكان إسماعيل فى اسمه «أسعد» وما هنا يوافق ما فى السلوك (2/213) والمنهل الصافى (1/171 حاشية 1) . [2] الحكر المراد هنا هو حكر جوهر النوبى، ذكره المقريزى فى الخطط (2/119) وينسب إلى جوهر النوبى أحد الأمراء فى زمن الملك الكامل محمد أبى بكر، وانظر النجوم (9/276 و 202 حاشية رقم 5) . [3] النهج: الربو، وتواتر النفس من شدة الحركة (المعجم الوسيط) .

مسطبة ظاهر الدار المذكورة حتى سكن ما حصل له، وقام ومشى إلى ظاهر القلعة، وركب وعاد إلى داره، وعولج، ثم ركب إلى الخدمة السلطانية على عادته، وتوجه فى خدمة السلطان إلى جهة القليوبية فى يوم الاثنين ثانى عشر الشهر، وعاد فى الخدمة فى يوم الأربعاء رابع عشره، فلما كان فى يوم الجمعة سادس عشر الشهر المذكور واجتمعت به بعد صلاة العصر، وقد صلى وتوجه ليعود الأمير علاء الدين الجمالى لمرض حصل له، وعاد إلى داره فرأيته وهو يشكو من النّهج، واجتمع بعض الأطباء عنده، وشكا ذلك لهم، فهوّنوه عليه، وقالوا: إنه يزول. وكان قبل ذلك قد نقبت خزانته التى بداره من ظاهرها، وسرق منها ما يزيد على تسعين [1] ألف درهم، وظهر ذلك فى يوم السبت تاسع المحرم، فانزعج لذلك، واتهم جماعة بالمال، فطلبوا وعاقبهم متولى القاهرة، فأقر بعضهم على بعض مماليكه أنه عاملهم على ذلك، فحصل له من ذلك نكد كثير، فاجتمعت به فى يوم الجمعة المذكور بهذا السبب، وكان لى عليه دالّة كثيرة، فتحدثت معه فيما حدث له، وهوّنته عليه، وذكّرته بما ضاع له من الأموال الكثيرة قبل ذلك عند اعتقاله، وماله من البواقى الكثيرة عند من داينه ومات أو عجز عن القيام به، ولم أزل به إلى أن هوّنت له ما عدم له، وكان السلطان قد رسم له أن يعاقب خزنداره بخشى [2] الذى أقر عليه الذين اتهموا وعوقبوا فسألته عنه، وقلت له: اتّهمه بالمواطأة على مالك، وتتهم غيره من مماليكه، وقال: لا والله هم برايا من مالى، ولا أتهمهم بخيانة ولا مواطأة، قلت له: فإذن لا يجوز لك أن تعاقبهم، وإن فعلت أثمت، ولم أزل به إلى أن أشهدنى على نفسه أنه ترك الحديث عن المال الذى عدم له، وأنه لا يطالب به، وأنه إن وجد يكون صدقة للفقراء أو لبيت المال، وقررت معه أن يسأل السلطان

_ [1] فى الدرر (1/484) أن ما سرق منه كان كثيرا جدا، وعبارته: وادعى فى الظاهر أن ما سرق منه هو مائتا ألف درهم، ويقال إنه كان فى الباطن أضعاف ذلك. [2] فى ك نجشى، ومثله فى النجوم (9/278) وما أثبتناه من الدرر (1/484 وقد ورد فيه أن وفاته كانت سنة 728 هـ، وابن حجر ينفرد يذكر وفاته فى هذه السنة مخالفا بذلك ابن تغرى بردى فى النجوم، والمقريزى فى السلوك. والخزندار: بكسر الخاء وفتح الزاى- انظر صبح الأعشى (5/462) والألفاظ الفارسية المعربة ص 54.

أن يفرج عن المعتقلين بسبب ماله، وفارقته على ذلك بعد أن توثقت منه أن يفعل ففعل، وأفرج عنهم فى يوم السبت فى سابع عشر الشهر، فلما كان فى يوم الاثنين تاسع عشر الشهر ركب إلى الخدمة السلطانية على عادته، فلما انتهى إلى سوق الخيل قال له الحاجب: رسم السلطان ألا تتكلّف الطلوع إلى الخدمة حتى تستقل من الضعف، فعاد إلى داره، وجلس، ومدّ سماطه على عادته، وأكل هو مما أشار به الأطباء، ثم اشتد به المرض فى ليلة الثلاثاء، وتزايد فى يوم الثلاثاء فمات رحمه الله تعالى، وكان من أجود [1] الناس وأحسنهم لقاء لأصحابه ومعارفه، وتفقدا لأحوالهم، وسؤالا عنهم إذا حضروا إليه، وأكثرهم بذلا بجاهه، لا يبخل به على أحد ممن يقصده، سواء كان قديم الصحبة أو حديثها، لكنه يرعى لمن يقصده حق قصده، وإذا طالت غيبة أحد أصحابه عنه ثم جاء إليه لا يجد مودته قد تغيرت عليه عما يعهد، بل يسأله عن حاله، ويظهر له البشاشة والبشر، وكان شجاعا حسن الرأى، رحمه الله تعالى. وكان هذا الأمير المذكور من جملة مماليك الأمير حسام الدين طرنطاى المنصورى- نائب السلطنة كان- أخبرنى عن نفسه أنه كان فى صغره فى جملة مماليك السلطان حسام الدين كنجيز [2] ، وابن السلطان ركن الدين بلج أرسلان السّلجوقى صاحب الروم، فلما عبر السلطان الملك الظاهر إلى الروم، ودخل قيسارية [3] كما ذكرنا فى سابع عشر ذى القعدة سنة خمس وسبعين وستمائة، وفارقها السلطان غياث الدين كيخسرو [4] والبرواناه إلى توقات [5]

_ [1] انفرد النويرى بوصف سيف الدين بكتمر هذا بالجود، والذى فى النجوم (9/278) أنه كان معروفا بالشح وجمع المال، وأن غالب أولاده، وذريته كانوا كذلك، وهى صفته أيضا فى السلوك (2/315) وعبارته: وكان بكتمر من أغنياء الأمراء الكثيرين المال المعروفين بالشح. ونقل ابن تغرى بردى عن الصفدى فى تاريخه أنه: «كان عظيم الحرص على جمع المال إلى الغاية، وكان له الأملاك الكثيرة فى كل مدينة، وكان له قدور يطبخ فيها الحمص والفول وغير ذلك من الأوانى تكرى، وكان بخيلا جدا» النجوم (9/278) . [2] كذا فى الأصل ولم أجده ولعله تحريف جنكيز. [3] فى السلوك (2/314) ورد رسمه هكذا «قيصرية الروم» والذى أورده النويرى فى رسمها يوافق مراصد الاطلاع 3/1139، وذكر أنها مدينة كبيرة فى بلاد الروم كانت كرسى ملك سلجوق، وفى النجوم (9/277) ورد رسمها قيسرية. [4] الزيادة من السلوك (2/314) والنجوم (9/277) . [5] توقات: الضبط من مراصد الاطلاع 1/281، وفيه: أنها بلدة بأرض الروم بين قونية وسيواس ذات قلعة حصينة تبعد عن سيواس مسيرة يومين (نحو 60 كم) .

أخذ هذا الأمير فى ذلك اليوم من جملة ثمانية عشر مملوكا من مماليك السلطان غياث الدين، وعرضوا على السلطان الملك الظاهر فأمر بإرسالهم إلى الدّهليز السلطانى، قال: فسرقنى الذى توجه بى، وباعني، ثم اشترانى الأمير حسام/ الدين طرنطاى بعد ذلك، ولم يزل فى جملة مماليكه إلى أن أعتقه، ولما قتل الأمير حسام الدين المذكور، كان الأمير سيف الدين بكتمر هذا عنده أمير آخور [1] ، فانتقل إلى المملكة السلطانية الأشرفية، وجعله السلطان الملك الأشرف صلاح [2] الدين فى جملة أمراء آخورية فى الإسطبل السلطانى، واستمر على ذلك إلى أن ملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى، فأمّره بعشرة طواشية، ثم أمّره بطبلخاناة، وأقطعه إقطاع الأمير سيف الدين بلبان الأنصارى أمير النقباء، وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا تنقله فى المناصب والولايات، وكان فى الدولة الناصرية [3] الثانية أمير آخور، ثم نقل إلى دمشق وأمّر بطبلخاناة بها، ثم ولى الحجبة بالشام، ونقل منها إلى أستاذ داريته وشادّ الدواوين، ثم أعيد إلى الشام، وحضر فى ركاب السلطان فى سنة تسع وسبعمائة إلى الديار المصرية المحروسة، ورسم له بتقدم العسكر بغزة فى السنة المذكورة ثم نقل منها إلى الأبواب السلطانية، وولى الوزارة، وأعطى تقدمة ألف وإمرة مائة فى سنة عشر وسبعمائة، ثم نقل فى سنة إحدى عشرة إلى الحجبة إلى الأبواب السلطانية، إلى أن قبض عليه، ثم توجه بعد الإفراج عنه إلى نيابة المملكة الصّفدية، وأعيد إلى الأبواب السلطانية فى سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واستقر فى جملة الأمراء المائة مقدمى الألوف، ورسم له بالجلوس فى مجلس السلطان، فكان يجلس أخيرا ثانى الميسرة، وقرب من السلطان قربا كثيرا، وكان يرجع إليه فى أكثر ما يتحدث فيه. ولما تمكن من السلطان بعد عوده من صفد أنهى له ما قدمنا ذكره من أخباره، وأنه كان من مماليك السلطان غياث الدين [كيخسرو] [4] فأحضر

_ [1] الذى فى السلوك (2/314) أن بكتمر كان أمير أخور عند حسام الدين لاجين، لا عند حسام الدين طرنطاى كما يفهم من عبارة النويرى هنا، وانظر أيضا النجوم (9/278) [2] فى السلوك (2/314) والنجوم (9/278) الملك الأشرف خليل بن قلاوون. [3] كان تولى الناصر السلطنة بمصر فى المرة الأولى فى المحرم سنة 693، وكانت ولايته الثانية فى جمادى الآخرة سنة 698 هـ وكانت ولايته الثالثة فى سنة 710 هـ. [4] الزيادة من النجوم (9/277) والسلوك (2/314) .

السلطان قضاة القضاة إلى مخيمه وهو يتصيد بالقرب من طنان [1] وذلك فى سنة [] [2] وسبعمائة، واستفتاهم فى ذلك فأفتوه أنه بهذا الاعتبار باق على الرّقّ لسلطان غياث الدين وذريته، فتحيّلوا فى ذلك، وفكروا فى طريق يخلصه من الرق، فأبيع على الغائب، وأرث السلطان غياث الدين بإذن قاضى القضاة نور الدين الشافعى بمبلغ خمسة آلاف درهم، اشتراه ولدا الأمير حسام الدين طرنطاى، وهما الأميران: ناصر الدين محمد وعلاء الدين على بالثمن المذكور، وأنعم السلطان بالثمن من ماله، وأودع للغائب، وعتقاه، وجدّد نكاحه وأعتق ثانيا جميع من كان أعتقه أولا. ولم يزل رحمه الله فى الخدمة السلطانية على غاية الإكرام والقرب من السلطان وملازمته فى أسفاره وصيده، ولو غاب يوما واحدا كان معه إلى أن مات رحمه الله تعالى، وأوصى بثلث ماله صدقة، وثبتت وصيته ونفذت، وخلف تركة جليلة، وأحسن السلطان إلى ورثته بعده؛ فأنعم على ولده الأمير ناصر الدين محمد بإمرة عشرة طواشية، وعمره يوم ذاك نحو ثلاثة عشرة سنة، وأنعم على ولده الأمير عبد الله بإقطاع، وعمره نحو خمس سنين، وعرض مماليكه، فنزل جماعة منهم فى جملة المماليك السلطانية، وفرّق السلطان إقطاعه، فكمل منه للأمير سيف الدين طرغاى الجاشنكير على ما بيده، فأكمل له مائة فارس، وقدمه على ألف، وأعطى جوجر [3] للأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد وجعله شاد الدواوين، وأعطى الأمير سيف الدين طوسون منه منية [4] زفتى، عوضا عما ارتجعه من إقطاعه.

_ [1] أوردها ابن مماتى فى (قوانين الدواوين ص 160) وذكر أنها من أعمال الشرقية، وكذلك فى (تحفة الإرشاد) ، وهى من القرى القديمة، وذكرها ياقوت فى (معجم البلدان) فقال: من أعيان قرى مصر، قريبة من الفسطاط، وفى القاموس الجغرافى (1/قسم 2 ص 57) وردت فى قرى مركز قليوب بمحافظة القليوبية. [2] بياض بالأصل، ولم يرد هذا الخبر فى ترجمته فى الدرر (1/484) والنجوم (9/278) والسلوك (2/314 و 315) . [3] جوجر: من قرى مصر من أعمال السمنودية. [4] فى النجوم (9/277) منية زفتة، وهى من المدن المصرية القديمة واسمها فى القبطية زبتة، وقد ذكرها الأدريسى فى (نزهة المشتاق) ، وابن مماتى فى (قوانين الدواوين) 181 وسماها منية زفتى جواد، وفى معجم البلدان: منية زفتى بلدة فى شمال مصر على فوهة النهر الذى تؤدى إلى دمياط ويقابلها منية غمر، وفى تاريخ سنة 1263 هـ وردت باسم زفتى، وهو اسمها الحالى، وهى قاعدة مركز زفتى بمحافظة الغربية، واقعة على الفرع الشرقى للنيل.

وفيها فى سحر يوم الجمعة السابع من جمادى الأولى توفى الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد العلامة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الإمام العلامة تاج الدين أبي محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزارى [1] البدرى الشافعى المعروف والده بالفركاح، سمى كذلك لعرج كان برجله، وكانت وفاته بمنزلة بمدرسة البادرائيّة [2] ، وصلى عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الجمعة، وكانت جنازته مشهودة، وصلّى عليه ثانيا عند باب جامع جرّاح، ومرة ثالثة عند باب التّربة، ودفن بتربتهم بمقبرة الباب الصغير، ومولده بدمشق فى شهر ربيع الأول سنة ستين وستمائة، ومحله من العلوم والزهد والنزاهة المحل الذى لا يجهل، وامتنع من قبول قضاء القضاة بدمشق مرارا، ولم يوافق على قبول الولاية، وله تصانيف فى العلوم، وسمع من نحو مائة شيخ، منهم ابن عبد الدائم، وابن أبى اليسر، وحدّث بصحيح البخارى وغيره. قال الشيخ علم الدين البرزالى فى تاريخه عنه: وله اختصاص بمعرفة الفرائض، وله فيها تصنيف، وله تعليقة كبيرة على كتاب التنبيه فى عدة مجلدات، وله مصنفات صغار وأشياء مفيدة، وله مشاركة فى معرفة الأصول والنحو، وله مصنف فى المنطق، وغير ذلك. قال: وطلبت من الشيخ كمال الدين بن الزّملكانى أن يكتب لى ترجمته فكتب: هو إمام فاضل، وفقيه عالم، كثير الديانة غزير الفضائل، متقشف متزهد متورع متواضع حسن الصمت، لطيف الكلام، متصدّ للنفع والإفادة وشغل الطلبة وإفتاء المستفتين، وإرشاد الطالبين، تقدم فى معرفة مذهب الشافعى ونقله، وأفتى ودرس فى شبيبته، وعرضت عليه المناصب فأباها، وترك الخطابة بجامع دمشق بعد أن وليها وامتنع منها، وروجع فى ذلك فلم يقبل [3] ، وتصدر ليلا ونهارا للإقراء والإفتاء، والجمع والإفادة، ملازم الخير

_ [1] ترجمته فى المنهل الصافى (1/80) والدرر الكامنة (1/34) والدارس فى تاريخ المدارس (1/208) والشذرات (6/88) . [2] فى الدارس فى تاريخ المدارس (1/205) البدرائية: داخل باب الفراديس والسلامة شمالى جيرون، وشرقى الناصرية الجوانية، كانت تعرف بدار أسامة، نسبة لأسامة الجبلى أحد أكابر الأمراء قال ابن شداد: أنشأها الشيخ العلامة نجم الدين عبد لله بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن عثمان الباذرائى البغدادى الفرضى، وأصله من باذريا (بلد بالعراق من قرى واسط) . [3] فى الدارس فى تاريخ المدارس (1/208 و 209) ورد هذا الخبر نقلا عن ابن كثير، وعبارته: «فى سنة خمس وسبعمائة وفى يوم الخميس ثانى عشر ذى القعدة وصل البريد من مصر بتولية الفزارى الخطابة عوضا عن عمه شرف الدين فباشرها يوم الجمعة ثالث عشر، ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة، وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقى منصب الخطابة شاغرا.

وحسن الطريقة، متقللا من الدنيا/ متحرّزا فى فتواه، لا يفتى إلا فيما تحقق نقله، وإذا أفتى احترز وقيّد ألفاظه، ولو بالقيود العامة، لئلا يكون عليه مطعن أو مأخذ، وكان بيده تدريس المدرسة البادرائية، وليها بعد والده، واستقر بها، واقتصر على شرح واقفها، وإذا فرغ من تدريسه بها تصدر فى الجامع للإقراء والتعليم والفتوى، وإذا رجع إلى منزله عاوده الشغل والمذاكرة، ولم يزل هذا دأبه، انتهى كلام الشيخ كمال الدين فيه، رحمهما الله تعالى. وفيها فى ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة توفى القاضى معين الدين أبو المواهب هبة الله بن معين [1] الدين مسعود بن عبد الله بن أبى الفضائل أو المفضل [2] حشيش، صاحب ديوان الجيوش المنصورة بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته بالقاهرة بدار كان يسكنها برأس حارة الجوجرية، ودفن فى يوم الاثنين بالقرافة الصغرى بتربة القاضى فخر الدين ناظر الجيوش، ومولده فى أواخر شهور سنة ست وستين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى حسن المودة والمحاضرة والمذاكرة، وله شعر جيد ونثر، كان كاتبا أتقن صناعة كتابة التصرف، ما رأيت أجود من ذهنه وإتقانه وضبطه، سألته فى سنة ست عشرة وسبعمائة عن بلدة تسمى (بدويه) [3] من أعمال الدقهلية والمرتاحية، لمن أقطعت فى الرّوك الناصرى، فذكر لى أنها كانت قبل الروك لسبعة من رجال الحلقة المنصورة، وسمى بعضهم، ثم ذكر من أقطعت باسمه فى الرّوك الناصري من غير أن يكشف حسابه، فقلت له: أرنى الحساب الذى يدل على هذا، وقصدت بذلك تحقيق نقله، فأخرج حسابه، فتأملته، فما وجدته أخل بشىء منه، حتى كأنه كان يشاهده، فعجبت من ذلك، وحكيته عنه رحمه الله تعالى، واشتغل بأنساب العرب، ونظر فى التاريخ رحمه الله تعالى.

_ [1] فى السلوك (2/315) «أبو المواهب هبة الله بن علم الدين» وترجمته فى: (الدرر 4/304) . [2] الشك من النويرى، ولم ترد هذه الكنية فى اسمه كما جاء فى السلوك وفى الدرر (4/403) هبة الله بن مسعود بن أبى الفضائل- معين الدين بن حشيش. [3] هذا هو اسمها على ألسنة العامة اليوم، وهو الاسم الأصلى لها ووردت فى ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 112) باسم بدويه وحصتها، وعدها فى أعمال الدقهلية/ وفى القاموس الجغرافى (ج 1 قسم 2 ص 217) إحدى قرى المنصورة، وتبعد عنها إلى الشمال مسافة 10 ك م.

وفيها فى يوم السبت رابع عشر ذى القعدة- بعد أذان العصر- توفى قاضى القضاة شيخ المشايخ علاء الدين أبو الحسن على بن الشيخ نور الدين أبى الفداء إسماعيل بن جمال الدين أبى المحاسن يوسف القونوىّ التبريزى الأصل الشافعى قاضى القضاة بدمشق [1] ، وكانت وفاته ببستان بالسّهم [2] ظاهر دمشق، وصلّى عليه بمصلى الجامع المظفّرى بكرة نهار الأحد، وأمّ الناس فى الصلاة عليه الخطيب بدر الدين [3] محمد بن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جلال الدين القزوينى، وحمل إلى تربة اشتراها له الأمير حسام الدين طرنطاى البشمقدار الحاجب بمبلغ أربعمائة درهم بوصية منه أن يدفن فى أرض لم يدفن فيها أحد، فاشترى له دارا كانت لأولاد قمر الدولة، واحترقت لما دخل غازان الشام، فحفر له فى وسط [4] الدار، وله يومئذ نحو ستين سنة، فإن مولده بقونية [5] فى سنة ثمان وستين وستمائة تقريبا، وقد ذكرنا من أخباره وحسن سيرته فى ولاية قضاء الشام ما فيه كفاية، رحمه الله تعالى. وفيها فى ليلة السبت سادس ذى الحجة- بعد أذان العشاء الآخرة- توفى الرئيس الصاحب عز الدين أبو يعلى [6] حمزة بن الصدر الرئيس مؤيد الدين أبى المعالى أسعد بن الصدر عز الدين أبى غالب المظفر بن الوزير مؤيد الدين أبى المعالى أسعد بن الرئيس العميد أبى يعلى حمزة بن أسد بن على بن محمد التميمى الدمشقى، المعروف بابن القلانسىّ، مولده فى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر جمادى [7] الآخرة سنة تسع وأربعين وستمائة،

_ [1] ترجمته فى (الدرر 3/24- 28) والشذرات (6/90- 91) والنجوم (9/279) والسلوك (2/315) والدارس فى تاريخ المدارس (1/161) [2] السهم: يقع فى حد الصالحية من جهة الغرب إلى القبلة بين أرض أرزة وحارة الجوبان ويقال له السهم الأعلى وانظر: (المروج السندسية فى تلخيص تاريخ الصالحية (65- 67) [3] ترجمته فى الدرر (3/185) ومولده فى سنة 701 هـ ووفاته سنة 742 هـ [4] فى الشذرات (6/91) والدارس فى تاريخ المدارس (1/162) أنه دفن فى سفح قاسيون. [5] فى المراصد 3/1134 قونية: من أعظم مدن المسلمين ببلاد الروم (آسيا والصغرى) . [6] وردت ترجمته فى الدارس فى تاريخ المدارس (1/96) عند الكلام على دار الحديث القلانسية، ويختلف نسبه عما جاء هنا فقد ذكر أنه: عز الدين أبو ليلى حمزة بن أسعد بن غالب بن المظفر بن الوزير أبى المعالى أسعد بن العميد بن يعلى حمزة.. أحد أمراء دمشق الكبار، وله ترجمة فى الدرر (2/75) . [7] فى الدرر (2/75) أن مولده سنة تسع وأربعين وستمائة، أو سنة ست وأربعين.

وكانت وفاته ببستانه بسفح جبل قاسيون، وصلّى عليه بمصلى الجامع المظفّرى، وأمّ الناس فى الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام، ثم صلى بعد ذلك عليه وأمّ الناس قاضى القضاة عز الدين الحنبلى، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون. وكان رحمه الله تعالى رجلا ديّنا صدرا جليلا معظّما، لا يرتفع عليه أحد فى المجلس، ولى وكالة الخواص السلطانية الملكية الناصرية فى سنة سبع وسبعمائة، ثم ولى وزارة الشام كما تقدم، وانفصل منها، واستقر فى ولاية الخواص، ثم انفصل من ذلك كله، وكان من أغنياء الناس وأكابرهم، وله عدة مماليك فى جملة رجال الحلقة المنصورة الشامية، وكان رحمه الله تعالى حسن المودة، قدمت إلى دمشق سنة ثنتى عشرة وسبعمائة عند عودى من طرابلس بعد وزارته، فجاءنى للسلام على، وكنت نزلت عند قاضى القضاة نجم الدين صصرى [1] بدار ابن عمه شرف الدين رحمهم الله، وأظهر الألم من كونى لم أنزل عنده، وعتب على أصحابى كونهم ما عرفوه قبل قدومى، ليتلقانى وينزلنى عنده. وفيها فى يوم الخميس حادى عشر ذى الحجة توفى الصاحب ناصر الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الوزير تاج الدين محمد بن الشيخ فخر الدين محمد بن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف جد أبيه بابن حنّا [2] أحد وزراء الدولة الناصرية والده، ووزير الدولة الظاهرية الركنية جد أبيه، وكان يلقب بالصاحب، ولم يل وزارة ولا ما يقاربها، وإنما يلقب بذلك على عادة أسلافه، وكانت وفاته بداره ببركة الحبش، ودفن يوم الجمعة بالقرافة عند قبر والده رحمهما الله تعالى، وكان مباشر صحابة ديوان الأحباس، باشر هذه الوظيفة لفاقة نالته، وحاجية مسته، والله أعلم.

_ [1] ترجمته فى النجوم (9/258) والدارس فى تاريخ المدارس (1/132) والدرر الكامنة (1/263) واسمه كما ورد فيها: أحمد بن محمد بن سالم، نجم الدين بن صصرى، مولده فى ذي القعدة سنة 655 هـ ووفاته فى ربيع الأول سنة 723 هـ. وانظر فى بنى صصرى (المنهل الصافى 1/43 حاشية 3) . [2] الضبط من: تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر ص 473.

واستهلت سنة ثلاثين وسبعمائة بيوم الأربعاء الموافق الثامن والعشرين من بابة من شهور القبط

واستهلت سنة ثلاثين وسبعمائة بيوم الأربعاء الموافق الثامن والعشرين من بابة من شهور القبط ، والسلطان الملك الناصر يتصيّد بجهة سرياقوس، وكان قد توجه لذلك من قلعة الجبل فى يوم السبت السابع والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ووصل إلى مخيّمه المنصور الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وكان وصوله فى يوم الثلاثاء سلخ ذى الحجة، ثم وصل السلطان إلى قلعة الجبل فى هذا النهار، وهو مستهل المحرم، وصحبته الأمير سيف الدين تنكز، وقد لبس للتشريف على عادة، وأقام فى الخدمة السلطانية يركب على عادة نواب السلطنة إلى بكرة نهار السبت الحادى عشر من الشهر، فتوجّه فى خدمة السلطان إلى سرياقوس فى بكرة يوم السبت المذكور، وتوجه منها إلى دمشق، واستمر السلطان بتلك الجهة إلى نهار الثلاثاء رابع عشر الشهر، فعاد إلى قلعة الجبل فى هذا النهار، وأقام بها، ثم توجه أيضا إلى سرياقوس، وعاد. وأما الأمير سيف الدين تنكز فإنه لما فارق الخدمة السلطانية عائدا إلى الشام توجه إلى القدس الشريف وبلد الخليل- صلوات الله عليه- فزار، وكان قد أنشأ مدرسة بالقدس الشريف، فشاهدها، ثم توجه إلى دمشق، فكان وصوله فى يوم الجمعة رابع عشرين المحرم [1] .

_ [1] ورد هذا الخبر موجزا فى: النجوم (9/93) والسلوك (2/316) .

ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام إلى القاضى علم الدين بن الإخنائى [1]

ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام إلى القاضى علم الدين بن الإخنائى [1] لما اتصل بالسلطان- خلّد الله سلطانه- وفاة قاضى القضاة الشيخ علاء الدين القونوىّ قاضى الشام، استشار فيمن يفوض إليه القضاء بالشام، فوقع الاختيار على قاضى القضاة علم الدين محمد بن القاضى زين الدين أبى بكر بن القاضى ضياء الدين عيسى بن بدر بن [رحمه] [2] السعدى الإخنائى [3] وكان يلى قضاء الإسكندرية، كما قدمناه، فطلب إلى الأبواب السلطانية، فحضر من الثغر فى أوائل ذى الحجة سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ففوض السلطان إليه القضاء بالشام، وخلع عليه تشريف القضاة، وأنعم عليه ببغلة، وذلك فى يوم السبت رابع المحرم من هذه السنة، وتوجه من القاهرة المحروسة على خيل البريد، فى بكرة نهار السبت حادى عشر الشهر، صحبة نائب السلطنة بالشام الأمير سيف الدين تنكز، ووصل معه لزيارة الخيل صلوات الله عليه والبيت المقدّس، وألقى الدرس بمدرسة نائب السلطنة التى أنشأها بالقدس الشريف، ثم توجه إلى دمشق، فوصل إليها فى يوم الجمعة رابع عشرين المحرم، وقرىء تقليده فى الشّبّاك الكمالى لجامع دمشق فى يوم الجمعة مستهل صفر، وجلس لإلقاء الدروس بالمدرسة العادليّة [4] والغزاليّة [5] فى يوم الأحد ثالث صفر من السنة. وفيها فى يوم الاثنين- سادس المحرم- توجه الأمير سيف الدين بكتمر العلائى- أستاذ الدار كان- من الأبواب السلطانية إلى نيابة السلطنة. وتقدمة

_ [1] ترجمته فى الدرر (3/407) وطبقات السبكى (6/45) والوافى بالوفيات (2/269) والشذرات (6/103) والسلوك (2/316) . [2] فى الأصل أحمد وما أثبتناه من ترجمته فى المصادر السابقة. [3] نسبة إلى إخنا وهى- كما فى مراصد الاطلاع 1/43- مدينة قديمة ذات عمل منفرد بمصر، وفى قوانين الدواوين ص 90 إخنويه- بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه- من أعمال الغربية. [4] العادلية: سبقت الإشارة اليها فى هذا الجزء ص 238 حاشية (1) . [5] الغزالية: فى الزاوية الشمالية الغربية، شمالى مشهد عثمان، المعروف الآن بمشهد النائب من الجامع الأموى تنسب إلى الشيخ نصر المقدسى، وتنسب إلى الغزالى رحمهما الله، قالوا: لأن الغزالى لما دخل دمشق قصد الخانقاة السميساطية ليدخل إليها فمنعه الصوفية من ذلك لعدم معرفتهم به، فعدل عنها وأقام بهذه الزاوية إلى أن علم مكانه وعرفت منزلته (الدارس فى تاريخ المدارس 1/413 و 414) .

ذكر وصول الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة إلى الخدمة السلطانية وتوجهه فى خدمة السلطان إلى الصيد وعوده إلى حماة [1]

العسكر بغزة المحروسة عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الجمالى، ونقل الجمالى إلى نيابة ألبيرة بحكم وفاة نائبها الأمير حسام الدين لاجين المنصورى الحسامى، ولما توجه الأمير سيف الدين بكتمر إلى غزة أنعم السلطان بإقطاعه على الأمير سيف الدين بهادر الناصرى، وهو من مماليك تمرتاش بن جوبان. ذكر وصول الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة إلى الخدمة السلطانية وتوجهه فى خدمة السلطان إلى الصيد وعوده إلى حماة [1] كان وصوله إلى الأبواب السلطانية فى يوم الاثنين العشرين من المحرم وخلع عليه وعلى ولده فى هذا اليوم قبل طلوعهم إلى الخدمة، فطلعا إلى الخدمة السلطانية وعليهما التشاريف، واستمرا فى الخدمة السلطانية، وتوجّها فى خدمة السلطان إلى الصيد فى الوجه القبلى، وكان استقلال الركاب السلطانى من قلعة الجبل فى يوم السبت تاسع صفر، وأقام بمنزلة الأهرام بالجيزية إلى بكرة نهار الأربعاء ثالث عشر صفر، وعاد إلى قلعة الجبل. وكان سبب عوده أنه حصل له فى يده اليسرى دمّل صغير قلق بسببه، واشتد به الألم، فاقتضى ذلك عوده فى هذا اليوم، وأقام بقلعة الجبل حتى فتح الدمل وبرىء [2] منه، ثم توجه فى يوم الخميس حادى عشرين الشهر إلى الأهرام، واستقل ركابه إلى الصيد المبارك بالوجه القبلى، فانتهى إلى ناحية «هو [3] والكوم الأحمر [4] » وعاد إلى مكان وصوله- إلى قلعة الجبل المحروسة- فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر وقت الصلاة، والملك المؤيد وولده فى خدمته، وفى يوم الاثنين ثامن الشهر خلع السلطان عليهما على عادة الملوك

_ [1] فى السلوك (2/317) والنجوم (9/93) ورد هذا الخبر فى حوادث سنة 730 هـ ولم يورده أبو الفدا نفسه فى تاريخه ضمن حوادث هذه السنة، وأورد خبرا مشابها له فى حوادث سنتى 727 هـ و 728 هـ (تاريخ أبى الفدا 4/96 و 97 و 98) . [2] انظر فى هذا الخبر (السلوك 2/317) والنجوم (9/93) . [3] الضبط من السلوك (2/317) وفيه «مدينة هو: بالصعيد الأعلى، وفى النجوم (9/93 حاشية 2) هو: من قرى مركز نجع حمادى بمديرية قنا. [4] الكوم الأحمر: من قرى مركز البدارى بمحافظة أسيوط.

/ ذكر توجه السلطان إلى الصيد وعوده وسبب ما حصل فى يده من التصدع ومعالجة ذلك وبرئه

أصحاب حماة ورسم بعوده إلى مقر ملكه بحماة، فعاد فى هذا اليوم بعد أن شمله الإنعام السلطانى على عادته. / ذكر توجه السلطان إلى الصيد وعوده وسبب ما حصل فى يده من التصدع ومعالجة ذلك وبرئه لما عاد السلطان من الصيد بالوجه القبلى أقام بقلعة الجبل إلى يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الآخر، وتوجه فى بكرة النهار إلى الصيد بالوجه البحرى، ثم عاد فى عشية نهار الجمعة. وسبب عوده أنه تقنطر عن فرسه فى يوم الجمعة المذكور، فانكسرت يده اليسرى، فعاد واستقر بقلعة الجبل، وعولج [1] وكان الأمراء يركبون فى أيام المواكب إلى سوق الخيل، ويطلعون إلى الخدمة على العادة إلى أن ينتهوا إلى دركاة باب القلعة [2] ، ثم يؤمروا بالانصراف، ولا يصل السلطان غير مماليكه الأمراء الخاصكية، واستمرت الحال على ذلك إلى يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة. وفى بكرة النهار جلس السلطان بالقصر الأبلق بقلعة الجبل، ودخل عليه أمير جاندار والحجاب، فخلع على أرباب الوظائف، وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدى أمير جاندار [3] ومن معه، والأمير سيف الدين ألماس الحاجب [4] ، والأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى أستاذ الدار خلعا كاملة بكلّوتات زركش، وحوايص ذهب، وخلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء والمماليك السلطانية، ثم جلس فى يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة بالقصر

_ [1] فى النجوم (9/93) أن الذى أشرف على علاج يد السلطان رجل من المجبرين يعرف بابن بوسقة، وفى السلوك (2/318) ابن بوسنة، وكلا المصدرين أورد الخبر فى شىء من التفصيل. [2] الدركاة: كلمة فارسية معناها: الفضاء، أو الممر المؤدى إلى مدخل بناء من الأبنية الكبرى. وفى السلوك (2/149) أن الناصر محمد بن قلاوون أنشأ إيوانا جليلا، وعمل به قبة عالية متسعة، ورخمه رخاما عظيما، وجعل قدامه دركاة فسيحة. [3] ترجمته فى الدرر (1/502) ووفاته فى سنة 746 هـ. [4] من كبار أمراء المماليك، وكان بمصر بمنزلة النائب بها، ولكنه لم يتسم نائبا، ترجمته فى الدرر (1/410 و 411) ووفاته سنة 747 هـ.

ذكر إقامة الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة الصالحية [3] النجمية بالقاهرة المحروسة

الأبلق [1] أيضا جلوسا عاما، ودخل إلى الخدمة سائر الأمراء الأكابر مقدمى الألوف، وأمراء الطبلخاناة والعشرات، ومقدمى الحلقة وغيرهم، ولما عوفى السلطان استبشر الناس بذلك، وزيّنت المدينتان زينة عظيمة فى يوم الأحد رابع الشهر، ولازم الناس الأسواق ليلا ونهارا، ولم يقتصر فى الزينة على قصبة المدينتين بل سائر الأسواق والقياسير وغيرها، وأنشئت كتب البشائر بعافية السلطان وصحته إلى النواب بسائر الممالك السلطانية، وتوجه بها الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد الجمدار أحد الأمراء مقدمى الألوف، وكان توجهه بعد صلاة الجمعة تاسع الشهر، ووصل إلى دمشق فى يوم الأربعاء رابع عشر الشهر، وتوجه منها إلى حلب وعاد. وفى يوم الجمعة تاسع الشهر أيضا حضر السلطان إلى الجامع بقلعة الجبل، وصلى الجمعة، وزفت البشائر بباب الإسطبل السلطانى، وعلى أبواب الأمراء بقلعة الجبل والقاهرة، واستمر ذلك إلى الظهر من يوم الأحد حادى عشر جمادى الآخرة [2] ، فرسم بإزالة الزينة والطبلخاناة، وكانت هذه الأيام المذكورة أياما مشهودة حتى غصت المدينة بالناس لكثرة الازدحام، حتى عجز الناس فى بعض الأوقات عن المرور بقصبة المدينة، وكانوا يمشون فى بطائن الأزقة. ذكر إقامة الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة الصالحية [3] النجمية بالقاهرة المحروسة وفى يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول سنة ثلاثين وسبعمائة حضر الأمير جمال الدين أقش الأشرفى المنصورى المعروف بنائب الكرك [4] ، وهو أجل أمراء الدولة وأقربهم من السلطان مجلسا إلى المدرسة الصالحية النجمية

_ [1] هذا القصر ذكره المقريزى فى الخطط (2/209) فقال: إن هذا القصر يشرف على الإسطبل السلطانى، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 713 هـ وانتهت عمارته سنة 714 هـ، وانشأ بجواره جنينته وفى النجوم (9/36 حاشية 3) تحديد لموقعه الحالى. [2] كانت مدة الاحتفال بشفاء السلطان أسبوعا، وقد أورد المقريزى هذا الخبر فى السلوك (2/318) وأورد وصفا لهذه الاحتفالات. [3] الصالحية النجمية: تنسب إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 647 هـ-. [4] هذا الخبر أورده المقريزى مجملا فى السلوك (2/317) .

ذكر إنشاء الخانقاة العلائية بالقاهرة

التى بالقاهرة بخطّ بين القصرين، وجلس بإيوانها القبلى، ومعه قاضى القضاة جلال الدين القزوينى الشافعى فى جماعة من أعيان الفقهاء الأكابر، وأحضر منبرا استجده، وأمر بنصبه بالإيوان القبلى المذكور من المدرسة المذكورة، وهو الإيوان الموقوف على طائفة الفقهاء الشافعية، فنصب، وأحضر دكّة يقرأ عليها المصحف الشريف، ويؤذّن عليه المؤذنون الأذان الثانى، ويبلّغون عن الخطيب، وأقيمت الخطبة بها وصلاة الجمعة فى يوم الجمعة حادى عشرين الشهر، خطب بها القاضى جمال الدين إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الغزّى. ورتب الأمير المشار إليه من ماله فى كل شهر ما يذكر، وهو للخطيب المذكور خمسين درهما، ولستة نفر من المؤذنين أحدهم يقوم أمام الخطيب لكل منهم عشرة دراهم، ولقارىء المصحف عشرة دراهم، ولفراشين لفرش الحصر فى يوم الجمعة ورفعها بعد الصلاة خمسة وعشرين درهما، ولمن يحمل المصحف الشريف ثلاثة دراهم، وثلث درهم، ولمن ينحر يوم الجمعة ثلاثة دراهم وثلث درهم، ولسقّاء يسقى الماء ثلاثة دراهم وثلث، ولخدام القبة الصالحية فى كل سنة خمسين درهما، ولجماعة من التّكرور بالمدرسة خمسين درهما فى السنة. ذكر إنشاء الخانقاة العلائية بالقاهرة كان الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى الناصرى أستاذ الدار العالية قد أنشأ خانقاه قبالة داره برأس درب ملوخيا بالقاهرة/ المعزية [1] ، وكملت عمارتها فى هذه السنة، وحصل الجلوس فيها فى يوم الأربعاء السابع من جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبعمائة. ورتب المشيخة بها والتدريس للقاضى علاء الدين على بن القاضى فخر الدين عثمان الماردينى الحنفى المعروف والده بالتّركمانى [2] ، وشرط أن يجلس

_ [1] فى النجوم (9/96) أن علاء الدين مغلطاى الجمالى ابتدأ فى هذه السنة- سنة 730- عمارة جامع بين السورين، وسمى جامع التوبة لكثرة ما كان هناك من الفساد. وفى السلوك (2/323) «وفيها- سنة 730 هـ- ابتدأ علاء الدين مغلطاى الجمالى فى عمارة مدرسة بجوار داره قريبا من درب ملوخيا بالقاهرة، ووقف عليها أوقافا جليلة» وانفرد النويرى بتسميتها خانقاة. [2] على بن عثمان بن مصطفى الماردينى الأصل علاء الدين بن التركمانى الحنفى مولده سنة 683 هـ ووفاته سنة 750 هـ (الدرر 3/84) .

فى أول النهار لإلقاء درس على مذهب الإمام أبى حنيفة، ويجلس بعد صلاة العصر هو وجماعة الصوفية، ورتب له فى كل شهر عن المشيخة والتدريس ستين درهما، وثمن خبز ولحم أربعين درهما، ورتب بها عشرين من الصوفية، يحضرون الدرس لكل منهم فى كل شهر واحدا وعشرين درهما من ذلك جامكية سبعة دراهم ونصف، وثمن خبز ستة دراهم، وثمن طعام سبعة دراهم ونصف درهم، ورتب الواقف من فائض الوقف أحد عشر طالبا لحضور الدرس خاصة، وجعل للمنتهى منهم فى كل شهر عشرة دراهم، وللمبتدىء ثلاثة دراهم وما بين العشرة والثلاثة، ورتب أيضا من فائض الوقف لخادم الفقراء فى كل شهر تسعة دراهم، ورتب من أصل الوقف لإمام بالمكان فى كل شهر ثلاثين درهما، ورتب لعشرة نفر من القرّاء يقرءون القرآن العظيم بالمدفن الذى أنشأه لنفسه لكل منهم فى كل شهر عشرة دراهم، شرط فى كتاب الوقف أربعة، وزاد من الفائض ستة، ورتّب لهم أن يقرءوا فى الأوقات التى تذكر: عند طلوع الشمس نفرين [1] ، وبعد صلاة الظهر ثلاثة، وبعد صلاة المغرب نفرين، وبعد صلاة العشاء نفرين، ولوظيفة الصوفية قارئا، ورتب لقارىء الميعاد فى كل شهر عشرة دراهم، ومن الفائض درهمين، ورتب للمؤذنين فى كل شهر أربعين درهما، ولخادم زمام بالمدفن فى كل شهر خمسين درهما ولفراش فى كل شهر عشرين درهما ومن الفائض عشرين درهما فى الشهر، ورتب لمن يتولى المزولة [2] فى كل شهر من الفائض عشرة دراهم، ورتب للبواب فى كل شهر عشرين درهما، وللقيّم عشرين درهما، وللسّوّاق [3] فى كل شهر عشرين درهما، ورتب زيتا برسم الوقود فى كل شهر خمسين رطلا، ورتب مكتب سبيل فيه عشرون نفرا من الأيتام رتب لكل منهم فى كل يوم ثمن درهم يكون فى كل شهر ثلاثة دراهم ونصف وربع درهم، ورتب لهم كسوة فى فصل الشتاء والصيف، لجميعهم ستمائة درهم، وثمن أدوية ومداد فى كل شهر درهما

_ [1] راجع الحاشية رقم 1 ص 271 من هذا الجزء. وأراد بالنفر هنا الفرد من الرجال وانظر الوسيط: (نفر) . [2] فى الأصل مزواة، ويبدو أنها تحريف المزولة: وهى ساعة شمسية كان يعين بها الوقت بظل الشاخص الذى يثبت عليها (المعجم الوسيط) . [3] كذا فى الأصل، ولعل مراده من يحضر الطعام من السوق، وفصيحة سوقى، أو الذى يسوق ثور الساقية الوارد ذكرها بعد ذلك.

ذكر وصول رسل ريدافرنس إلى الأبواب السلطانية

ونصف، ورتب غير ذلك ممّا يحتاج إليه المكان فى كل شهر ثمن مشاق [1] للفتايل ثلاثة دراهم، وثمن عبى لمسح الرخام ومكانس ثلاثة دراهم، وغير ذلك من علوفة ثور الساقية وثمن طونس وقواديس، ورتب فى السنة لملو الصّهريج من الماء العذب، وأجرة غسله، وثمن أضحية مائة درهم، وثمن حلوى فى شهر رمضان خمسين درهما، وثمن زيت زيادة فى شهر رمضان، وثمن قناديل مائة درهم، ووقف على ذلك من أملاكه ما يقوم به وزيادة، أثابه الله تعالى. ذكر وصول رسل ريدافرنس إلى الأبواب السلطانية وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل ريدافرنس فليب [2]- بالفاء وبعدها لام وياء مثناة من تحت وآخره باء- وهو صاحب فرانسة، وانتهت بهم سفنهم إلى ميناء عكّا من الساحل الشامى، وكان وصولهم إليها فى يوم الخميس خامس عشرين ربيع الأول، وعدتهم مائة وعشرون نفرا، ومثلوا بين يدى السلطان فى يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة، وكان قد جلس بالإيوان جلوسا عاما، وذلك بعد صحته مما كان حصل له. وكان مضمون رسالتهم- فيما قيل- طلب بلاد الساحل الشامى والبيت المقدس، فأنكر السلطان عليهم وعلى مرسلهم، وأهانهم ورتّب لهم فى كل يوم مائة درهم وخمسين درهما، زيادة على ذلك، ثم استحضرهم ثانيا فى يوم الخميس بدار العدل، ورسم بعودهم. ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بهادر وفى يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبعمائة أمر السلطان بالإفراج عن الأمير سيف الدين بهادر المعزّى [3] ، وهو من المماليك المنصورية الحسامية [4] ، وكان قد اعتقل- كما ذكرنا- فى يوم

_ [1] المشاق: المشاقة، وهى ما يسقط من الشعر والكتان ونحوهما عند المشط. [2] المشتغلون بمراجع التاريخ المصرى فى العصور الوسطى يقولون إن المقصود بهذا الاسم ملك فرنسا L» Roide Franc «LL وكان ملك فرنسا حينذاك هو فيليب السادس (1328- 1350 م) وهو أول ملك من بيت قالوا L) Valois (LL وقد اشتهر فى عصره بأنه من المتحمسين لفكرة الحروب الصليبية على النحو القديم. (السلوك 2/319 حاشية 1) [3] فى الأصل تقرأ «المغربى» وما أثبتناه من السلوك (2/319) والنجوم (9/40، 102) وترجمته فى الدرر (1/496) . [4] الحسامى: نسبة إلى حسام الدين لاجين، لأنه هو الذى اشتراه ورباه (الدرر 1/496) .

ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد

السبت العاشر من شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة، فكانت مدة اعتقاله خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوما، وأنعم عليه بإقطاع الأمير سيف الدين سنجر الجمقدار أحد أمراء المائة ومقدمى الألوف، إلا أنه اختصر من إقطاعه صنبو [1] من الأعالى أضيفت إلى الخاص السلطانى، «وبجام» [2] من القليوبية أعطيت للأمير سيف الدين بهادر الناصرى التّمرتاشى زيادة على ما بيده، وتوجه الأمير علم الدين سنجر الجمقدار إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين بهادر آص المنصورى [3] على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد / وفى هذه السنة فى يوم الخميس العشرين من شهر رجب وصل إلى الأبواب السلطانية رسل الملك أبى سعيد بن خربندا، والمشار إليه منهم الأمير حمزة، فمثلوا بين يدى السلطان فى يوم السبت الثانى والعشرين من الشهر، وأجراهم السلطان على عوائدهم فى الإنعام والتشاريف. وبلغنا أن مضمون رسالتهم السلام على السلطان، وتهنئته بالعافية والسلامة، وغير ذلك من الكلام المحبب للخواطر المستميل للقلوب، وعاد إلى مرسلهم فى يوم الخميس السابع والعشرين من الشهر المذكور، وتوجه لوداعهم الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى، فوصلهم إلى قطيا [4] ، وعاد. ووصل قبل توجههم إلى الأبواب السلطانية رسل نائب الملك أبى سعيد الشيخ حسن [الجلايرى] [5] ، فأخّروا عن المثول بين يدى السلطان إلى يوم الخميس السابع والعشرين من الشهر بعد رحيل الأمير حمزة، ومثلوا بين يدى

_ [1] فى ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 151) رسمت بالسين سنبو، وعدها فى أعمال الأشمونين (مركز ملوى بمحافظة المنية) وفى مراصد الاطلاع 2/743 سنبو: قرية بالصعيد على غربى النيل. [2] بجام: أوردها ابن مماتى (قوانين الدواوين ص 110) وعدها فى أعمال الشرقية، وفى (تحفة الإرشاد) أنها من أعمال ضواحى القاهرة، وانظر القاموس الجغرافى (1 قسم 2/12) . [3] ترجمه فى الدرر (1/497) ووفاته بدمشق سنة 730 هـ. [4] فى مراصد الاطلاع 3/1111 رسمت قطية، وقال فى تعريفها: قرية فى طريق مصر فى وسط الرمل قرب الفرما- والفرما الاسم القديم للمكان الذى تقع فيه بور سعيد اليوم. [5] الزيادة من السلوك (2/320) .

السلطان يوم الخميس السابع والعشرين من الشهر فى اليوم المذكور، وأدوا الرسالة، وخلع عليهم دون عادة رسل الملك، وأعيدوا إلى مرسلهم. وفيها فى شهر رجب احترقت كنيسة النصارى الملكيين [1] التى بمصر حريقا عظيما، وصار بعض عواميدها الرخام جيرا لشدة الحريق، وكان بجوار الكنيسة مسجدان لم ينلهما من النار شىء، ثم رسم [2] بإعادة الكنيسة المذكورة، فأعيدت. وفيها فى يوم الأربعاء ثالث شعبان فوض السلطان قضاء ثغر الإسكندرية للقاضى علم الدين صالح بن القاضى المرحوم نجم الدين عبد القوى الإسنائى، وكان قبل ذلك يلى قضاء الأعمال الغربية نيابة عن قاضى القضاة جلال الدين القزوينى، فلما شغر ثغر الإسكندرية عن القضاء عند انتقال قاضيه علم الدين بن الإخنائى إلى دمشق- كما تقدم- عين السلطان لقضاء الثغر القاضى العالم شمس الدين محمد بن عدلان الشافعى، فامتنع من قبول الولاية، واستعفى، واعتذر بضعف، فأجيب إلى الإعفاء، وعين جماعة وعرضوا على السلطان فلم يول أحدا منهم، وعيّن القاضى علم الدين المذكور، فطلب من مدينة المحلة- وهى كرسى الغربية- فى يوم الخميس السابع والعشرين من رجب، فحضر إلى الأبواب السلطانية فى يوم الأحد سلخ الشهر، ومثل بين يدى السلطان فى يوم الأربعاء المذكور، وشافهه بالولاية، وشمله الإنعام بالتشريف الصوف والطّرحة- على عادة القضاة- فى يوم الاثنين ثامن الشهر، ومثل بين يدى السلطان ثانيا فى يوم الثلاثاء، وتوجه إلى الثغر، ووصل إليه فى يوم الثانى والعشرين من شعبان، ولم تطل مدة إقامته بالثغر، فإنه عزل عن القضاء فى يوم الاثنين ثانى عشر شوال منها [3] .

_ [1] الملكانية: فى: صبح الأعشى (13/276 و 277) قال الشهرستانى: هم أتباع ملكان صاحب مذهبهم، ورأيت فى بعض المصنفات أنهم منسوبون إلى مركان أحد قياصرة الروم من حيث أنه كان يقوم بنصرتهم فقيل لهم مركانية ثم عرب إلى ملكانية. وانظر نهاية الرتبة (ص 120 حاشية 1، 2) . [2] فى السلوك (2/320) «ثم رسم للنصارى بإعادتها فأعبدت» . [3] فى السلوك (2/319) «أنه عزل لمضادته الأمير بيبرس الجمدار نائب الثغر» .

وفيها فى يوم الجمعة حادى عشر [ى] [1] رمضان أقيمت الخطبة بالجامع الذى أنشأه الأمير سيف الدين قوصون الناصرى خارج بابى [2] زويلة بالشارع الأعظم بجوار حمامى قاتل السّبع [3] بخطّ حوض ابن هنّس [4] وولى خطابته القاضى فخر الدين محمد بن يحيى بن مسمار [5] المعروف بابن شكر، ولم يخطب به فى هذه السنة، بل خطب قاضى القضاة جلال الدين القزوينى الشافعى، ثم استمر خطيبه المذكور فى الخطابة. وفيها فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال وصل إلى الأبواب السلطانية رسل متملك اليمن، وهو الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزير الدين داود بالهدايا والتحف، ومن جملتها فيلان، فقبلت هدية مرسلهم، وحصل الإنكار الشديد عليه وعليهم، فإنه اتصل بالسلطان أن ملك مدينة دهلى وبلاد الهند [6] أرسل إلى السلطان هدية عظيمة لم يرسل مثلها لملك قبله، وأنها لما وصلت إلى ثغر عدن قتل الرسول باتفاق من الملك المجاهد ووزيره، واستولى الملك المجاهد على الهدية بكمالها، وأن الذى أهداه الملك المجاهد إنما هو شىء يسير من جملتها، فغضب السلطان لذلك، وأمر باعتقال رسله وخاله، وهو ابن النّقّاش، واعتقلوا مدة، ثم أفرج عنهم بعد ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.

_ [1] الزيادة عن (تاريخ المساجد الأثرية 139) . [2] كذا فى ك، وفى خطط المقريزى (2/307) أن هذا الجامع بالشارع، خارج باب زويلة ابتدأ عمارته الأمير قوصون سنة 730، وبنى له مئذنتيه بناء من أهل توريز (تبريز) على مثال المئذنة التى عملها خواجا على شاه لجامعه بمدينة توريز. وقد ورد هذا الخبر بعبارة مبسوطة فى السلوك (2/321) وفى النجوم (9/94 و 95 حاشية 1) مع تحقيق لموقعه الحالى، وأنه المعروف الآن على ألسنة العامة باسم جامع قيسون بشارع القلعة، وانظر (تاريخ المساجد الأثرية 139- 142) . [3] الأمير أقوش الموصلى الحاجب، المعروف بآقوش نميله، وكان يقال له «آقوش قتال السبع» ترجمته فى الدرر (1/399) وتاريخ المساجد الأثرية 139. [4] هو سعد الدين مسعود بن هنس. (النجوم 9/388) . [5] ترجمته فى السلوك (2/638) وقد ورد اسمه فيه: محمد بن يحيى بن عبد الله بن شكر المالكى، وذكر وفاته فى سنة 743 هـ. [6] المقصود ببلاد الهند هنا البلاد الإسلامية منها، وكان ملكها فى هذه السنة هو «غياث الدين أولوغ خان محمد جنا بن طغلق (725- 752 هـ) وانظر (السلوك 2/322 حاشية 1) .

ذكر خبر يوسف الكيماوى ومقتله

ذكر خبر يوسف الكيماوى ومقتله وفى هذه السنة فى يوم الخميس سابع عشر شهر رمضان وصل إلى الأبواب السلطانية إنسان اسمه يوسف الكركى، ويعرف جوك [1] من جهة نائب السلطنة الشريفة بالشام، وهو من مسالمة نصارى الكرك، كان يدّعى أنه وصل إلى علم الكيمياء، واشتهر أمره بالشام، واتصل ببعض الأمراء، وهو بهادر التّقوى [2] الجمقدار [3] بدمشق، وتحيّل عليه، وأخذ منه جملة من المال، وتنقل فى مدن الشام وقراها، وتحيل على أهلها، وأفسد عليهم أموالهم، واعتقل بقلعة صفد مدة، ثم أفرج عنه، وعاد إلى دمشق، وسلك طريقه، فانتهى أمره إلى نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز، فأحضره، واتضح له حاله، فهمّ بقتله وإعدامه، فقال له: أرسلنى إلى السلطان فإننى إذا وصلت إليه ملأت له قلعة الجبل ذهبا وفضة، فجهزه إلى الأبواب السلطانية، فوصل فى التاريخ المذكور، ومثل بين يدى السلطان، وادّعى أنه يعرف صناعة الكيمياء [4] ، فسلمه إلى الأمير سيف الدين بكتمر الساقى، فتحيل، وداك شيئا من الفضة الحجر، وألقى عليه الزّئبق فصعد الزئبق واستقر ما كان داكه فلم يشك السلطان فى صدقه، وخلع عليه خلعة سنية، وطلب من السلطان فضة مصفاة مشحرة، وذهبا أفلوريّا [5] ، وزئبقا، فطلب الزئبق من القاهرة ومصر والإسكندرية، واستنفد جميع ما عند الناس من الزئبق، وأخذ جملة من الذهب، وأحضر إلى السلطان ألف دينار [6] ، وادعى أنها من صنعته، فأنعم عليه بها،

_ [1] كذا فى الأصل، ولم ترد هذه الزيادة فى السلوك (2/321 وما بعدها) حيث وردت هذه القصة بعبارة قريبة مما ذكره النويرى هنا. [2] فى الأصل غير منقوطة، وما أثبتناه من السلوك (2/321) . [3] الجمقدار: حامل الدبوس، وهو من السلاح: قضيب من حديد فى نهايته كتلة من حديد (عن: معيد النعم ومبيد النقم ص 34.) . [4] أورد المقريزى فى (السلوك 2/321 و 322) هذا الخبر بعبارة أوضح مما أورده النويرى هنا، وذكر أن يوسف الكيماوى حين اتصل بتنكز أراد أن يخدعه فلم ينخدع، بل أمر بشنقه، فصاح يوسف قائلا: أنا جيت للسلطان حتى أملأ خزائنه ذهبا وفضة «وأن تنكز أرسله إلى السلطان مقيدا مع بعض ثقاته على البريد وكتب إلى السلطان بخبره، وحذره منه» [5] الأفلورى (إيطالية L Florino LL نقد بندقى كان مستعملا فى مصر فى العصر المملوكى، وأبطل التعامل به فى سنة 831 هـ- 1427 م/ وانظر (الخطط التوفيقية 20/142) . [6] فى السلوك (2/322) أنه لم يحضر هذه الدنانير وإنما أجرى تجربته لتحويل بعض المعادن إلى ذهب بمشاهدة السلطان وجماعة من الأعيان ذكرهم بأسمائهم فاستخلص سبيكة من الذهب زنتها ألف مثقال فأعجب السلطان بها وأنعم عليه وأعاد يوسف تجربته فكاد السلطان يطير فرحا، وصار يثق به» .

وخلع عليه/ خلعة سنية، وأنعم عليه بفرس بسرج ولجام وكنبوش حرير، وبقى يعد ويمنّى، ثم رجع إلى الكرك على خيل البريد لإحضار حشائش، فتوجه وصحبه من يحفظه [1] ، وعاد [وقد ظهر] [2] للسلطان كذبه، فضيّق عليه فتحيل [3] / (274) وهرب فى شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، فحرج السلطان لذلك، وشدد على الولاة فى طلبه، فنودى عليه فى المدينتين، وكتب إلى الوجهين- القبلى والبحرى- بطلبه حيث كان، وكتب إلى الشام بطلبه، وإلى ساير الجهات، فقبض عليه فى ذى الحجة من السنة بمدينة أخميم من الصعيد، وجهز إلى الأبواب السلطانية، فوصل فى يوم السبت الرابع والعشرين من ذى الحجة [4] والسلطان بالميدان، فسأله عن المال الذى أخذه، فقال: المال راح، فرسم بضربه، فضرب ضربا شديدا، وحمل فى قفص إلى خزانة شمائل [5] ، فاعتقل بها ومات فى ليلة الأحد [خامس عشرى ذى الحجة] [6] ، فرسم السلطان بتسميره [7] ، فسمّر فى عشية نهار الأحد المذكور بعد أن مات وورم، وبات ليلة الاثنين على خشب التسمير، وحمل فى يوم الاثنين على جمل شق به المدينة إلى باب النصر ودفن. هذا ما كان من أمره. وفى هذه السنة فى ذى القعدة أمر السلطان بإخراج المجذومين والبرصى [8] من القاهرة ومصر إلى بلدة من أعمال الفيوم، فجمعوا، واعتقلوا حتى كملوا، وأخرجوا فى ليلة السبت سادس عشر الشهر، فوصلوا إلى تلك القرية، وهى خراب لا ساكن بها، فتفرقوا فى البلاد، ثم عاد بعضهم إلى القاهرة ومصر، وسكن أمرهم، والله تعالى أعلم.

_ [1] فى المصدر السابق أن السلطان بعث به مع طقطاى مقدم البريد. [2] ما بين الحاصرتين زيادة من السلوك (2/322) . [3] نهاية ما سقط من نسخة «أ» بين صفحتى 273، 274 من صفحاتها، وقد سبقت الإشارة إلى بدايته فى ص 258 حاشية (7) . [4] أورد المقريزى فى المصدر السابق خبر القبض على يوسف الكيماوى بعد هربه ونهايته على نحو ما ذكره النويرى هنا- فى حوادث سنة 731 هـ (السلوك 2/333 و 334) . [5] فى السلوك (2/334) أن خزانة شمائل هذه كانت سجنا لأرباب الجرائم، وكانت بجوار باب زويلة من القاهرة. [6] الزيادة من السلوك (2/334) . [7] التسمير: إحدى العقوبات الشنيعة بمصر وغيرها من البلاد الأخرى فى العصور الوسطى، وانظر (السلوك 1/404 حاشية 1) و 2/301 حاشية 5) . [8] المرضى بالجذام والبرص.

ذكر الفتنة بمكة شرفها الله تعالى

ذكر الفتنة بمكة شرفها الله تعالى / (275) وفى هذه السنة فى يوم الجمعة رابع عشر ذى الحجة وقعت الفتنة بمكة- شرفها الله تعالى- وسبب ذلك: أن الحاجّ لما قضوا مناسك الحج توجه بعضهم عائدا إلى الديار المصرية، منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولى، ومن صحبه فى يوم الأربعاء ثانى عشر الشهر، وتأخر أمير الركب، وهو الأمير سيف الدين خاص ترك الجمدار الناصرى، والأمير سيف الدين الدمر أمير جاندار، والأمير شهاب الدين أحمد، ومن معهم من بقية الحاج، لصلاة الجمعة بمكة، فلما كان الخطيب على المنبر تعبّث بعض عبيد الأشراف ببعض حاج العراق، الذين حضروا فى الركب العراقى، وتخطفوا شيئا من أموالهم [1] ، والشريف عطيفة بن أبى نمىّ أمير مكة جالس إلى جانب أمير الركب، فاستصرخ الناس، واستغاثوا بالأمير سيف الدين الدمر أمير جاندار، فنهض وتقدم لمنعهم، وتقدمه ولده [خليل] وضرب بعض العبيد، فطعن بحربة، فمات، فاحتد والده، وبادر لطلب ثأره، فقتل أيضا بحربة، وقتل معه أحد أولاد الأمير ركن الدين بيبرس التاجى- متولى القاهرة كان- فوثب الأمير عطيفة، وجرد سيفه، وتوجه نحو العبيد ليردهم، فلم يصنع شيئا، وظهر من ذلك أن إثارة هذه الفتنة كان برأيه وأمره، وذكر أن الذى قتل الدمر هو مبارك بن عطيفة، وثارت الفتنة، فعجل الخطيب الصلاة، وخرج الناس من المسجد الحرام إلى رحالهم وخيامهم، واستحل/ (276) الحرم فى هذا اليوم، وتلطف أمير الركب فى الخروج بالناس إلى خيامهم، ووقف فى وجوه القوم من الأشراف والعبيد، فمنعهم من التعرض إلى الحاج، ومن غريب ما وقع فى هذه القضية أنه شاع بالقاهرة المعزية الخبر بقتل الدمر فى يوم مقتله وهو يوم الجمعة المذكور، [وسمعت أنا بعض الناس يتحدث بذلك بعد صلاة العصر من يوم الجمعة المذكور] [2] ورددت القول على ناقله،

_ [1] فى السلوك (2/323 و 324) أن ذلك كان بتدبير من الملك الناصر مع الشريف عطيفة، وكان الغرض منه التحيل على قتل أمير الركب العراقى المعروف بمحمد الحجيج، وأصله من أهل تبريز، وكان يتقرب من أولاد جوبان، وبلغ عند أبى سعيد منزلة كبيرة، وكان رسوله إلى الملك الناصر غير مرة وكان الناصر يعجب به إلى أن بلغه أنه ذكره فى مجلس أبى سعيد بما لا يحب، فأسرها فى نفسه إلى أن كانت هذه السنة وعرف الناصر أن المذكور هو أمير الركب العراقى، فكتب إلى الشريف عطيفة سرا أن يتحيل فى قتله، فاستجاب لأمر السلطان، وكانت هذه الفتنة التى لم تؤد إلى هدفها، فقد نجا أمير الركب العراقى. [2] ما بين القوسين زيادة من نسخة «أ» ص 276.

ذكر متجددات كانت بدمشق المحروسة فى سنة ثلاثين وسبعمائة مما نقلته من تاريخى البرزالى، والجزرى

وكان الركب العراقى قد حضر فى هذه السنة إلى مكة شرفها الله تعالى وأحضر متوليه المندوب من جهة الملك أبى سعيد بن خربندا معه فيلا صغيرا، وشهد به الموقف بعرفة، فتطاير الناس، وتشاءموا بمقدمه، وقال بعضهم: «هذا عام الفيل» فوقع ما وقع، فلما رجعوا به، وقربوا من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وانتهوا إلى الفرش [1] الصغير قبل البيداء الذى ينزل منها إلى ذى الحليفة، وقف الفيل وتقهقر، وكلما أرادوه على التقدم تأخر، فضربه الموكّلون به، وبقى يرجع إلى ورائه القهقرى، فلم يزل على ذلك إلى أن سقط على الأرض ميتا، وذلك فى يوم الأحد ثالث عشر ذى الحجة، ويقال: أنه صرف على كلفة هذا الفيل منذ جهّز من [العراق] [2] إلى أن مات زيادة على ثلاثين ألف درهم، وما علم مقصد الملك أبى سعيد فى إرساله إلى مكة شرفها الله تعالى [3] / (277) . ذكر متجددات كانت بدمشق المحروسة فى سنة ثلاثين وسبعمائة مما نقلته من تاريخى البرزالى، والجزرى فى هذه السنة فى مستهل شهر ربيع الأول حضر نائب السلطنة/ بالشام [4] [الأمير سيف الدين تنكز إلى الجامع الأموى بدمشق وصحبته قاضى القضاة علم الدين الشافعى، وشاهد الجامع، فاقتضت الآراء أن ينقض الرخام القائم بالجدار القبلى من الجهة الشرقية ومحراب الصحابة، وأن يجدد بشبه]

_ [1] الضبط من: مراصد الاطلاع 3/1027 قال: وهو واد بين غميس الحمائم وملل، وفرش وصخيرات الثمام منازل نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر. [2] فى ك من الحجاز، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من «أ» ص 276 والسلوك (2/325) وقد أورد المقريزى فيه هذا الخبر بعبارة أوضح مما ذكره النويرى هنا. [3] ورد هذا الخبر موجزا فى النجوم (9/282 و 283) وفيه زيادة على ما أورده النويرى هنا والمقريزى فى السلوك هى: «أن الملك الناصر لما أخبر بما وقع جهز إلى مكة عسكرا كثيفا، وعليه عدة من الأمراء فتوجهوا وأخذوا بثأر الدمر وابنه، وقتلوا جماعة كثيرة من العبيد وغيرهم، وأسرفوا فى ذلك، وتشتت أشراف مكة والعبيد عن أوطانهم وأخذت أموالهم، وحكمت الترك مكة من تلك السنة إلى يومنا هذا (874 هـ) ، وزالت منها سطوة أشراف الرافضة والعبيد إلى يومنا هذا. [4] ما بعد الحاصرة زيادة من نسخة أ، تقع فى الصفحات من (277 إلى السطر العاشر من ص 284) منها ولم نجد ما يقابلها فى نسخة ك، وقد رأينا إثباتها لورود ما اشتملت عليه فى السلوك والنجوم ضمن حوادث هذه السنة، ولاشتمالها على وفيات أوردها ابن العماد فى الشذرات ج 6 فى هذه السنة أيضا.

الجهة الغربية، فحصل الشروع فى ذلك، وكمل فى أواخر ذى الحجة من السنة، وصرف على العمارة من فائض وقف الجامع، فإنه كان قد تحصّل [1] به بعد كلفه ونفقاته- فيما قيل- نحو خمسة وسبعين ألف درهم. وفيها- فى مستهل ربيع الآخر- حصل بدمشق اضطراب بسبب الذهب، وأن عياره قد تغير ونقص، فأحضر محمد بن اليحشور ضامن دار الضرب بدمشق، والصّيرفى، وعلق الذهب، فنقصت المائة دينار خمسة عشر دينارا، ووجدت عدة سكك متقدمة التواريخ وأسماء الملوك، ونسب ذلك إلى أن القاضى شمس الدين عبد الله غبريال ناظر الشام أمر بذلك، وصرف منه جملة كبيرة خارج دار الضرب، وخرج ما صرف من الذهب وسافر به التجار/ (278) والعربان والتركمان الذين يجلبون الأغنام من بلاد الشرق وغيرها إلى ساير الأمصار، فاضطرب الحال فى ذلك اضطرابا شديدا، وبقى ما يوجد من هذا الذهب يصرف فى القاهرة من ثمانية عشر درهما الدينار إلى أحد وعشرين درهما، وصرف الدرهم الجيد بخمسة وعشرين درهما. وفيها فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر، أصبح الناس بدمشق فوجدوا الأنهار قد امتلأت ماء متغير اللون من غير سبب ظاهر لهذه الزيادة، فسقيت البساتين والزراعات، واستمر ذلك إلى يوم الأحد سابع الشهر، ونقص قليلا، وكان المطر فى هذه السنة قد تأخر بدمشق، فأمطرت فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر مطرا خفيفا، وفى ليلة السبت، ثم حصل الغيث الكثير فى ليلة الأحد سابع الشهر، وذلك فى آخر كانون الثانى، وفيها- فى جمادى الآخرة- كملت عمارة مصلى العيدين بظاهر دمشق، وتجديد سقوفه وبياضه وإصلاح أبوابه، وكان قد تداعى، فرسم السلطان بعمارته، فجدّد، وصلى خطيبه فى صدره، وخطب فى يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة، وكان فى مدة العمارة يخطب ويصلى الجمعة بظاهره، وجعلت أبوابه أحد عشر بابا جدد الآن منها سبعة، وكانت أبوابه مرتفعة بثلاث درجات بنيت كذلك خوفا من عبور الدواب إليه فألصقت الآن بالأرض،/ (279) وفيها فى العشر الأوسط من

_ [1] يريد أن فائض الدخل من الوقف- بعد نفقات الجامع- بلغ المقدار الذى ذكره.

شهر رجب ذكر الدرس بمحراب الحنفيّة بجامع دمشق، ودرس به الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الحق الحنفى، ورتب معه عشرة فقهاء، والذى رتبه القاضى فخر الدين محمد ناظر الجيوش، وكان قد رتب قبله درسا للمالكية فى محراب الصحابة الذى استقر محراب المالكية، وفوض تدريسه لقاضى القضاة شرف الدين المالكى، ورتب فيه جماعة من الفقهاء المالكية. وفيها- فى يوم الخميس ثامن عشر شعبان- رسم نائب السلطنة بالشام الأمير سيف الدين تنكز بإخراب الحوانيت والبيوت التى بظاهر [دمشق المجاورة] [1] لباب النصر من حد الجسر إلى المسجد الذى فى وسط الطريق، فهدمت، وأخرجت أخشابها وصارت الأبنية كوما، ثم أحضرت الأنفار والجراريف ومهدت أتربتها حتى تساوت بالأرض، ومر نائب السلطنة المذكور أيضا فى هذا اليوم بالحويرة بالقوّاسين، فوصل رأسه إلى السقف، فرسم بإخراب السقف ورفعه، فقيل له: إن الأرض قد علت، فرسم أن تحرث الأرض، وينقل التراب منها، ففعل ذلك. وفيها- فى يوم السبت رابع شوال- رسم نائب السلطنة بتوسعة الطريق بسوق الخوّاصين، وندب لذلك شادّ الدواوين، ومتولى دمشق، وناظر الحسبة، فهدمت مساطب الحوانيت بالجانبين، وجعلت كل مسطبة منها قدر ذراع واحد ونصف بالقاسمى، فاتسع الطريق لذلك/ (280) . ورسم أيضا فى يوم السبت سابع عشر شوال بإخراب الجانب القبلى من سويقة دار بطيح، لأجل توسعة سوق الخيل، فأخرب ذلك وهو نحو عشرين حانوتا، ومهّد ترابه بالأرض. وفيها- فى يوم الأربعاء تاسع عشرين شوال- حكم قاضى القضاة شرف الدين المالكى بإراقة دم نصرانى كان أسلم ثم ارتد، فضربت عنقه بسوق الخيل بدمشق، ثم حرقه العوام بالنار حتى صار رمادا، وذرّى رماده بنهر بردى.

_ [1] فى أبظهر باب النصر، والتعديل من السلوك (2/323) .

وفى هذه السنة توفى القاضى علاء الدين على بن القاضى تاج الدين أبى الطاهر أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبى [1]- صاحب ديوان الإنشاء السعيد كان- وكانت وفاته فى بكرة نهار الأربعاء خامس عشر المحرم بداره بالقاهرة بجوار الجامع الأزهر، ودفن فى يوم الخميس سادس عشر الشهر، وكان قد مرض وحصل له فالج، واشتد به الأمر، وتزايد به المرض إلى أن عجز عن الحركة والنطق وتحريك شىء من أعضائه، وعطل عن المباشرة- كما تقدم- فلزم داره فى يوم الخميس رابع عشر المحرم سنة تسع وعشرين، فكانت مدة انقطاعه سنة كاملة، وولى صحابة ديوان الإنشاء فى ذى الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فكانت مدة ولايته ثمانى عشرة سنة وأياما، رحمه الله تعالى. وتوفى ليلة الأحد الثانى عشر من المحرم الشيخ العالم الفاضل الوزير أبو القاسم محمد بن أبى عبد الله محمد بن أبى الحسن سهل بن أحمد بن/ (281) سهل الأزدى الغرناطى [2] الأندلسى بالقاهرة عند مقدمه من الحج، ودفن بمقبرة باب النصر، ومولده يوم عرفة سنة اثنتين وستين وستمائة، وهو من بيت كبير مشهور بالرياسة والملك، وله اشتغال بالعلم، ورغبة فى طلبه. رحمه الله تعالى. وتوفى الشيخ فخر الدين عثمان بن الشيخ جمال الدين أبى العباس أحمد ابن محمد بن عبد الله الظاهرى جده، وهى نسبة إلى الملك الظاهر غازى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب كان، فإنه عتيقه، وكانت وفاته فى ليلة الخميس سادس شهر رجب، ودفن من نهاره عند قبر والده بتربة الأمير سيف الدين بكتمر الساقى العزيزى، ومولده فى تاسع عشرين المحرم سنة سبعين وستمائة [3] رحمه الله تعالى.

_ [1] ترجمته فى الدرر (3/14، 15) ومولده فى حدود سنة 680 هـ، وأورده ابن تغرى بردى فى النجوم (9/283) والمقريزى فى السلوك (2/327) . [2] فى أص 281 الأغرناطى، وما أثبتناه من السلوك (2/327) حيث وردت وفاته وترجمته فى الدرر (4/178، 179) والوافى بالوفيات (1/236) . [3] ترجمته فى الدرر الكامنة (2/426) وفيه أن مولده سنة 671 هـ.

وتوفى الصدر الفاضل ناصر الدين شافع بن نور الدين علي [1] بن الفقيه عماد الدين أبى الفضل عباس بن إسماعيل بن عساكر بن شافع [2] بن رافع بن عبد الله بن فارس الكنانى العسقلانى سبط الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء رابع عشرين شعبان المكرم سنة ثلاثين وسبعمائة، ومولده فى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وأربعين وستمائة، وكان قد أضرّ [3] عقيب وقعة حمص، أصابه سهم فى رأسه من التتار فانصب من دماغه إلى عينيه ما أعماه. رحمه الله تعالى. وتوفى الصدر نور الدين على بن شرف الدين يوسف بن مظفر الدين مجاهد/ (282) مشارف الكحّالين بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته فى ليلة الخميس ثامن شوال، ودفن يوم الخميس ثامن شوال بتربته بالقرافة، ومولده فى سنة ثلاث وأربعين وستمائة رحمه الله تعالى. وتوفى الصاحب سعد الدين محمد بن محمد بن عبد العزيز بن عطايا فى يوم السبت بعد صلاة العصر السابع والعشرين من شهر رمضان، ودفن بالقرافة فى يوم الأحد، وكان إذ ذاك يتولى نظر الأحباس، رحمه الله تعالى [4] . وتوفى بدمشق الأمير الكبير سيف الدين بهادر آص المنصورى فى تاسع عشر صفر، وكان من الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بالشام، وهو أكبر أمراء الشام تأمر فى الدولة المنصورية السيفية، وصلى عليه بجامع دمشق ثم صلى عليه مرة ثانية بظاهر البلد، ودفن بتربته التى أنشأها ظاهر باب الجابية رحمه الله تعالى، ولما مات أنعم السلطان بإقطاعه على الأمير علم الدين سنجر الجمقدار المنصورى، وهو من أكابر أمراء الدولة مقدمى الألوف ممن يجلس فى مجلس السلطان، وتوجه إلى دمشق فى يوم السبت السابع والعشرين من شعبان.

_ [1] فى السلوك (2/327) شافع بن محمد بن على بن عباس بن إسماعيل الكنانى العسقلانى سبط ابن عبد الظاهر. [2] فى الدرر (2/184) ابن شافع بن إسماعيل بن رافع بن شافع بن عبد الله بن فارس الكنانى ... ، وذكر له ترجمة مفصلة. [3] أضر: صار ضريرا، وعبارة الدرر فى هذا الموضع أنه: «أصابه سهم فى صدغه فى وقعة حمص سنة 680 هـ فكان سبب عماه» ومثله فى النجوم (9/284، 285) . [4] ترجمته فى الدرر (4/187) والسلوك (2/327) ويعنى بنظر الأحباس نظارة الأوقاف.

وتوفى بدمشق أيضا الأمير سيف الدين بلبان المعروف بالكركند [1] ، من مقدمى الألوف بالشام، وأنعم بإقطاعه وتقدمته على الأمير سيف الدين طيبغا حاجى ووصل إلى دمشق فى يوم السبت سابع عشرين شعبان. وتوفى شيخنا المعمّر المحدث شهاب الدين أبو العباس/ (283) أحمد ابن أبى طالب بن أبى النعم [بن] [2] نعمة الصالحى الحجار [المعروف بابن الشّحنة] [2] قبيل العصر من يوم الاثنين خامس عشرين صفر سنة ثلاثين وسبعمائة بقاسيون، وصلى عليه يوم الثلاثاء بالجامع المظفرى عقيب صلاة الظهر، ودفن بتربته بقاسيون، وكان قد تفرد برواية صحيح البخارى، فإنه سمع على ابن الزبيدى فى سنة ثلاثين وستمائة، وكان يقول: كنت أنصرف من السماع على ابن الزبيدى، وأسبح فى نهر لورا مع الصبيان، وذكر أن مولده فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأخبر عن نفسه أنه يذكر وفاة الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، وكانت وفاة المعظم فى سلخ ذى القعدة أو مستهل ذى الحجة سنة تسع وعشرين وستمائة، وحدث هذا الشيخ أيضا بغير البخارى سمعت عليه صحيح البخارى، فى سنة خمس عشرة وسبعمائة، ومتّع بحواسه إلى حين وفاته، وكان قوى التركيب، وتزوج قبيل وفاته ببكر، وافترعها. رحمه الله تعالى. وتوفى بحلب قاضى القضاة فخر الدين عثمان [3] بن القاضى كمال الدين محمد بن قاضى القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن قاضى القضاة شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن المسلم هبة الله بن البارزى الجهنى الشافعى فجأة، وكان يعلّم على كتاب، فسقط القلم من يده، واستند إلى الحائط فمات وقت العصر من يوم الأربعاء العشرين من صفر، وصلى عليه بكرة الخميس، ودفن

_ [1] فى أص 282 الكوكند بواو مكان الراء، وما أثبتناه من السلوك (2/326) وقد مات فى هذه السنة أربعة اسم كل منهم بلبان، وهم: سيف الدين بلبان الصرخدى، وسيف الدين بلبان الكوندى المهمندار وسيف الدين بلبان الكوندكى، وسيف الدين بلبان الجمقدار المعروف بالكركند (عن السلوك 2/326) . [2] الزيادة فى الموضعين من النجوم (9/280) والسلوك 2/326) وترجمته فى الدرر (1/142) وذكر أن مولده سنة 623 هـ. [3] ترجمته فى الدرر (2/448) ومولده فى سنة 668 هـ، والدارس فى تاريخ المدارس (1/268) والشذرات (6/94) والسلوك (2/325) .

داخل المقام وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة فى ولايته، ومولده فى ذى الحجة سنة ثمان وستين وستمائة بحماة، رحمه الله، وفوّض قضاء حلب بعده للقاضى شمس الدين بن النّقيب [1] / (284) قاضى طرابلس نقل منها إلى حلب، وولى قضاء المملكة الطرابلسية القاضى شمس الدين محمد بن عيسى بن محمود البعلبكى المعروف بابن المجد [2] وذلك فى شهر ربيع الآخر من السنة ولم يطل مقامه بطرابلس فإنه مات فى يوم الأحد سادس رمضان. رحمه الله تعالى. وتوفى فى ليلة الأربعاء سابع شوال الصدر جلال الدين محمد [3] بن وجيه الدين سليمان بن همام بن مرتضى المعروف بابن البياع أحد كتاب الدرج بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون، ومولده فى سنة خمس وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى. وتوفى فى ليلة الجمعة ثامن ذى القعدة بدمشق الأمير علاء الدين قلبرص ابن الأمير الكبير علاء الدين [4] طيبرس الوزيرى أحد الأمراء مقدمى الألوف بالشام، وكانت وفاته ببستان قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى، وصلى عليه عقيب صلاة الجمعة بالجامع المظفّرى، وخلف ولدا ذكرا اسمه ناصر الدين محمد عمره نحو عشرين سنة، وابنتين: خديجة وعائشة، وأوصى لألزامه وعتقائه بجملة كبيرة من الذهب تقارب عشرة آلاف دينار، وكان رحمه الله تعالى رجلا جيدا خيّرا عفيفا [5]] حسن المعاملة ... كثير الصدقة رحمه الله تعالى. وتوفى بدمشق أيضا فى ليلة الخميس رابع عشر ذى القعدة الفقيه [6] الفاضل بدر الدين محمد بن فخر الدين عثمان بن أبى الوفا بن نعم الله بن أبى

_ [1] شمس الدين محمد بن أبى بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن نجد بن حمدان الشهير بابن النقيب (السلوك 2/325) وترجمته فى الدرر (3/398 و 399) والشذرات (6/144) وفيهما أن مولده، سنة 661 هـ أو 662 هـ ووفاته سنة 745 هـ. [2] ترجمته فى الدارس (1/439) وفى (الدرر 4/139) محمد بن المجد عيسى بن محمد بن عبد اللطيف البعلى الشافعى المعروف بابن المجد. [3] ترجمته فى الدرر (3/450) وفيه أنه يعرف بابن البياعة. [4] فى النجوم (9/282) قلبرس بن سيف الدين طيبرس، وفى السلوك (2/326) قلبرص بن الحاج طيبرس الوزيرى، ترجم له ابن حجر فى الدرر (3/255) وأورد اسمه محرفا إلى قلبوس بن طبرس الوزيرى. [5] نهاية ما سقط من نسخة ك، وأشرنا إلى بدايته فى ص 311 بالحاشية (4) . [6] فى أص 284 الصدر، وترجم له ابن حجر فى الدرر (4/55) . وذكر خطأ أن وفاته فى ثلاث وسبعمائة.

الوفا العزّازى [1] أحد كتاب الدّرج بدمشق، وصلى عليه ظهر/ (285) يوم الخميس بالجامع الأموى، ودفن بتربة والده بمقبرة الباب الصغير، ومولده فى سنة ست وسبعين [2] وستمائة. وكان رحمه الله تعالى حسن الصورة والهيئة والكتابة، كتب فى ديوان المكاتبات مدة بدمشق زيادة على عشرين سنة، وكان حسن الصحبة، كثير المودة وله نظم ونثر، رحمه الله تعالى وإيانا. وتوفى أيضا بدمشق بعد العصر- من يوم الخميس العشرين من ذى الحجة- صاحبنا الصدر محيى الدين محمود بن محمد بن محمد التميمى شرف الدين محمد بن محمد بن نصر الله بن المظفر بن سعيد بن [حمزة] [3] التميمى المعروف بابن القلانسىّ ببستانه بقرى، وصلى عليه عقيب صلاة الجمعة بالجامع المظفّرى، ودفن عند والده بتربة قاضى القضاة نجم الدين بسفح قاسيون، وكانت جنازته مشهودة، وكان رحمه تعالى رجلا حسنا جيدا عاقلا متواضعا، ومولده فى سنة سبع وسبعين وستمائة. وتوفى قدودار [4] متولّى القاهرة المحروسة فى يوم الأربعاء [5] سادس عشر صفر، وأنعم بإمرته على الأمير ماجار [6] القبجاقى، وأصل قدادار هذا من مماليك الأمير برلغى الأشرفى، وترقى إلى أن ولى كشف الغربية، وولاية البحيرة من أعمال الديار المصرية، ثم ولاية القاهرة، وتمكّن منها تمكّنا زائدا، وكان جريئا على الدنيا، ثم صرف عن ولاية القاهرة بناصر الدين محمد بن المحسنى، وأقام فى داره إلى أن خرج للحج، ثم عاد وهو مريض، فلزم الفراش إلى أن مات فى التاريخ المذكور.

_ [1] فى ك الفزارى والتصحيح من أ، ص 284 والدرر (4/55) . [2] فى الدرر (4/55) سنة ست وستين. [3] الزيادة من الدرر (4/338) . [4] فى النجوم (9/283) قدادار- بفتح أوله- وفى الدرر (3/244) قديدار. [5] ما بين الحاصرتين من النجوم (9/283 و 284) والسلوك (2/327) وعبارة الأصل فى هذا الموضع ناقصة ومضطربة، وترجمته فى الدرر (3/244) . [6] فى السلوك (2/327) طاجار.

[وتوفى الأمير بلبان الديسنى فى الخامس] [1] عشر من ربيع الأول، وانتقلت إمرته إلى برلغى الناصرى. وتوفى من أمراء العشرات القفجاقى الذى كان [قد] راح رسولا لبلاد اوادر فى تاريخه. وتوفى الأمير سيف الدين نائب السلطنة، وانتقلت إمرته إلى بكمان [2] . وتوفيت زوجة أمير مسعود الحاجب خامس شوال، وتوفيت بنت بيكتا الساقى فى سادس صفر [3] . وتوفى محمد بن محمد الرومى شيخ خانقاة بكتمر الساقى بالقرافة يوم الأحد ثالث وعشرين ذى الحجة، وتولى مكانه الشيخ شمس الدين زاده الدّوقاتى [4] ، رحمه الله تعالى وإيانا. وتوفى بمكة- شرفها الله تعالى- أواخر جمادى الآخرة- الشيخ الإمام الفاضل القاضى نجم الدين أبو حامد [5] محمد بن القاضى جمال الدين محمد بن الشيخ الإمام المحدث محب الدين أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن إبراهيم الطبرى المكى، قاضى مكة شرفها الله تعالى، ودفن بمقبرة المعلى [6] ، ومولده بمكة فى سنة ثمان وخمسين وستمائة، رحمه الله وإيانا، وولى قضاء مكة- شرفها الله تعالى- بعده ولده شهاب [7] الدين أحمد [8] .

_ [1] ما بين الحاصرتين بياض فى الأصل والزيادة من السلوك (2/327) . [2] فى المصدر السابق أن الذى أنعم بإقطاعه بعد وفاته على (بكمان) هو الأمير ناصر الدين محمد بن ملكشاه فى ثانى عشر صفر. [3] فى ك وردت هذه العبارة مضطربة هكذا: وتوفيت بنت بيكتا الساقى فى سادس صفر، ونقلت امرته سنقر الحلافى» . [4] فى النجوم (9/284) الدوقانى، وأشار فى هامشه إلى الرسم الوارد هنا وفى السلوك (2/328) الدوقانى وما بعد الألف غير منقوط. [5] ترجمته فى الدرر (4/162 و 163) والشذور (6/94، 95) والوافى بالوفيات (1/228- 230) وفيه أن تاج الدين اليمنى ذكر وفاته فى سنة 731 هـ. [6] المعلى هى المعلاة: مقبرة مكة بالحجون (تاج العروس) . [7] ترجمته فى الدرر (1/297 و 298) ووفاته سنة 760 هـ، وفيه، وفى الشذرات (6/188) أن مولده سنة 718 هـ، وهذا يعنى أنه ولى القضاء وعمره اثنا عشرة سنة (؟) [8] نهاية ما جاء فى ص 285 من نسخة أ، وهى آخر صفحات هذه النسخة، ولم يرد فيها إشارة إلى الاستمرار أو ما يفيد الانتهاء.

صورة ما ورد فى آخر نسخة «ك»

صورة ما ورد فى آخر نسخة «ك» آخر الجزء الحادى والثلاثين [1] من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه- إن شاء الله تعالى- فى أول الجزء الثانى والثلاثين منه: «واستهلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة بيوم الأحد» والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ [1] أشرنا فى مقدمتنا لهذا الجزء أن هذه تجزئة النويرى، ويقابله الجزء الثالث والثلاثون فى تجزئة هذه الطبعة.

فهرس موضوعات الجزء الثالث والثلاثين

فهرس موضوعات الجزء الثالث والثلاثين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب الموضوع الصفحة تقديم بقلم المحقق 5 «واستهلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.» 11 ذكر وصول أوائل الحاج الذين وقفوا بعرفة فى سنة عشرين وسبعمائة 11 ذكر إبطال المعاملة بالفلوس العتق بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية 13 ذكر وصول هدية الملك أبى سعيد بن خربندا- ملك التتار- إلى الأبواب السلطانية 14 ذكر تفويض نظر أوقاف الجامع الطولونى للقاضى كريم الدين وكيل الخواص الشريف 14 ذكر حفر البركة الناصرية 16 ذكر حادثة الكنايس 16 ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر 17 ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك ووصول رسله صحبتهم وعودهم 28 ذكر توجه ادر السلطان إلى الحجاز الشريف، ومن توجه فى خدمتهم. 31 ذكر وصول بعض من وقف بعرفة فى هذه السنة إلى القاهرة المحروسة 32 ذكر حوادث كانت بدمشق فى هذه السنة 33 ذكر هدم كنيسة اليهود القرائين بدمشق 33 ذكر ما وصل إلينا من الحوادث الكائنة ببغداد فى هذه السنة 37 «واستهلت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة» 37 ذكر وصول أدر السلطان من الحجاز الشريف 38 ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس وفتح مدينة آياس وأبراجها 38 ذكر اجتماع المماليك السلطانية، وشكواهم، وما حصل بسبب ذلك 42

الموضوع الصفحة ذكر وصول الأمير علاء الدين الطنبغا نائب السلطان بالمملكة الحلبية، إلى الأبواب السلطانية وعوده 42 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك التتار 43 «واستهلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.» 44 ذكر القبض على كريم الدين الكبير 44 ذكر شىء من أخبار كريم الدين المذكور وابتداء أمره «وتنقلاته وما كان قد انتهى إليه من القرب من السلطان والتمكن من دولته» 49 ذكر تفويض الوزارة للصاحب الوزير أمين الدين عبد الله «وهى الوزارة الثانية له» 58 ذكر القبض على كريم الدين الصغير «وشىء من أخباره» 60 ذكر وصول رسل متملك الأرمن إلى الأبواب السلطانية 62 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد 63 ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى بلاد النوبة 65 «واستهلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة» 67 ذكر وفاة الخوندا أردكين ابنة نوكاى 68 ذكر خبر النيل فى هذه السنة 70 ذكر عزل الصاحب أمين الدين عن الوزارة 72 ذكر متجددات وحوادث كانت بالشام 75 «واستهلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة» 79 ذكر أخبار اليمن ومن وليه من العمال 81 ذكر عمال اليمن في الدولة العباسية 85 ذكر أخبار دولة بنى زياد 90 ذكر أخبار صنعاء ومن وليها بعد الخلودى [الجلودى] 93 ذكر أخبار على بن الفضل والمنصور بن الحسن بن زادان دعاة عبيد الله المنعوت بالمهدى 97 ذكر نبذة من أخبار الزيدية وغيرهم 99

الموضوع الصفحة ذكر أخبار دولة على بن محمد الصليحى 105 ذكر مقتل الصليحى، وقيام ابنه المكرم 108 ذكر السلطان سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحى 110 ذكر المفضل بن أبى البركات بن الوليد الحميرى 111 ذكر أخبار ملوك الدولة الزريعية 113 ذكر محمد بن سبأ، ولقبه المعظم المتوج المكين 113 ذكر السلطان حاتم بن أحمد بن عمران اليامى 114 ذكر أخبار سعيد الأحول، واستيلائه على زبيد ثانيا، ومن ملك بعده من آل نجاح 115 ذكر جياش بن نجاح أخو سعيد 115 ذكر أخبار دولة علي بن مهدى الحميرى وبنيه 120 ذكر أخبار ملوك الدولة الأيوبية باليمن 122 ذكر الملك المعز فتح الدين أبو الفدا إسماعيل 126 ذكر سليمان بن شاهنشاه بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب 128 ذكر ملك الملك المسعود صلاح الدين أتسر 128 ذكر أخبار الدولة الرسولية ببلاد اليمن 130 ذكر الملك المظفر أبو المنصور شمس الدين يوسف 132 ذكر استيلاء المظفر علي ظفار، وحضر موت، ومدينة شبام 138 ذكر وفاة الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وملك ولده الأشرف 140 الملك الأشرف ممهد الدين عمر 140 ذكر ملك الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر شمس الدين يوسف 141 ذكر وصول أولاد الملك الأشرف إلى عمهما الملك المؤيد، ونزولهما عما بأيديهما 143 ذكر خلاف الملك المسعود تاج الدين الحسن بن الملك المظفر، على أخيه الملك المؤيد 144

الموضوع الصفحة ذكر متجددات كانت فى شهور سنة سبع وتسعين وستمائة 146 ذكر ما وقع بين الأشراف من الاختلاف، وما وقع بسبب ذلك من الحرب والحصار 150 ذكر إنشاء القصر المعقلى والمنتخب 155 ذكر مقتل الأمير سيف الدين طغريل مقطع صنعاء 157 ذكر وصول الأمير علاء الدين كشتغدى إلى خدمة السلطان الملك المؤيد 160 ذكر وفاة الملك المؤيد هزبر الدين داود 163 ذكر ملك الملك المجاهد سيف الإسلام على بن الملك المؤيد هزبر الدين داود 164 ذكر ملك الملك المنصور زند الدين أيوب بن الملك المظفر يوسف بن عمر بن على بن رسول، ثم خلعه 165 ذكر عود الملك المجاهد إلى الملك، والقبض على عمه الملك المنصور ووفاته 166 ذكر تجريد طائفة من العساكر المنصورة إلى اليمن، وما كان من خبرها إلى أن عادت 173 ذكر حفر الخليج الناصرى 182 ذكر عمارة القصر والخانقاة بسماسم، والجلوس بالخانقاة 183 ذكر روك الإقطاعات بالمملكة الحلبية 184 ذكر وفاة الأمير ركن الدين بيبرس المنصورى 185 ذكر القبض على الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وتنقل الأمراء فى الإقطاعات والتقادم 186 ذكر توجه السلطان إلى الصيد، والإفراج عمن نذكر من الأمراء 188 ذكر غرق مدينة بغداد 194 «واستهلت سنة ست وعشرين وسبعمائة.» 197 ذكر وصول رسل متملك الحبشة 197

الموضوع الصفحة ذكر عزل وتولية من يذكر من أرباب المناصب الديوانية بالدولة الناصرية 198 ذكر وصول رسل الملك المجاهد متملك اليمن بالتقادم 201 ذكر إرسال الأمير سيف الدين أيتمش المحمدى إلى أبى سعيد 201 ذكر إرسال السلطان ولده إلى الكرك المحروس 202 ذكر تجديد عمارة البيمارستان المنصوري، والقبة، والمدرسة 202 ذكر تجريد طائفة من العسكر إلى برقة 203 ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات إلى الأمير سيف الدين طينال الحاجب 203 ذكر الجلوس بخانقاة الأمير سيف الدين بكتمر الساقى بالقرافة 205 ذكر وصول رسل التتار وأقارب السلطان إلى الأبواب السلطانية 205 ذكر وصول رسل جوبان 206 ذكر وصول صاحب حصن كيفا إلى الأبواب السلطانية، وعوده إلى بلاده، وخبر مقتله وملك أخيه 206 ذكر خبر مولود ولد فى هذه السنة 209 ذكر خبر إجراء الماء إلى مكة شرفها الله تعالى 209 ذكر عدة حوادث كانت بدمشق فى سنة ست وعشرين وسبعمائة خلاف ما ذكرنا 212 ذكر اعتقال الشيخ تقى الدين بن تيمية 213 «واستهلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة» 219 ذكر عزل الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة، وانتقاله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية 219 ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية 222 ذكر حادثة وقعت بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام 226

الموضوع الصفحة ذكر القبض على من يذكر من الأمراء وإعادة الأمير شرف الدين حسين بن جندر بيك إلى الديار المصرية 227 ذكر اتصال الأمير سيف الدين قوصون بابنة السلطان الملك الناصر 228 ذكر استعفاء قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وإجابته إلى ذلك، وتفويض القضاء بعده لجلال الدين القزوينى 229 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد ملك العراقين وخراسان إلى الأبواب السلطانية 232 ذكر الفتنة الواقعة بثغر الإسكندرية 234 ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام لشيخ المشايخ علاء الدين القونوى 238 ذكر تفويض ما كان بيد الشيخ علاء الدين من الجهات لمن يذكر، وما وقع فى أمر الصوفية بالخانقاة الصلاحية 240 ذكر وصول رسل الباب فرنسيس إلى الأبواب السلطانية. 242 ذكر متجددات كانت بالشام في هذه السنة 242 «واستهلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة» 251 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد إلى الأبواب السلطانية 252 ذكر وفود الأمير تمرتاش بن جوبان.. إلى الأبواب السلطانية 253 ذكر [أخبار] الأمير تمرتاش بن جوبان 255 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد إلى الأبواب السلطانية 258 ذكر وصول الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام المحروس إلى الأبواب السلطانية، وعوده 259 ذكر وفاة قاضي القضاة شمس الدين الحريرى الحنفى، وتفويض القضاء إلى برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق 259 ذكر عود رسل السلطان من جهة الملك أزبك، ووصول رسله وعودهم إلى مرسلهم 261

الموضوع الصفحة ذكر مقتل الأمير بدر الدين كبيش أمير المدينة، وتولية أخيه «طفيل» 262 ذكر ما قرر من استيمار الدولة الناصرية، ومن رتّب من المباشرين 263 ذكر الإفراج عمن يذكر من الأمراء والمعتقلين 264 ذكر متجددات كانت بدمشق فى هذه السنة 265 ذكر حادثة السيل بعجلون 268 «واستهلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة» 279 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد، ورغبته فى الاتصال بمصاهرة السلطان 282 ذكر الاستبدال بمن يذكر من مباشرى الدولة ومصادرتهم، وإفصال الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالى من الوزارة 284 ذكر رؤيا رأيتها فى المنام 286 ذكر متجددات كانت بدمشق فى سنة تسع وعشرين وسبعمائة 287 «واستهلت سنة ثلاثين وسبعمائة.» 299 ذكر تفويض قضاء القضاة بالشام إلى القاضى علم الدين بن الإخنائى 300 ذكر وصول الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل- صاحب حماة- إلى الخدمة السلطانية، وعوده 301 ذكر توجه السلطان إلى الصيد وعوده، وسبب ما حصل فى يده من التصدع، ومعالجة ذلك وبرئه 302 ذكر إقامة الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة الصالحية النجمية بالقاهرة المحروسة 303 ذكر إنشاء الخانقاة العلائية بالقاهرة 304 ذكر وصول رسل «ريدافرنس» إلى الأبواب السلطانية 306 ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بهادر 306 ذكر الإفراج عن الأمير سيف الدين بهادر 306 ذكر وصول رسل الملك أبى سعيد 307

الموضوع الصفحة ذكر خبر يوسف الكيماوى ومقتله 310 ذكر الفتنة بمكة شرفها الله تعالى 312 ذكر متجددات كانت بدمشق المحروسة سنة ثلاثين وسبعمائة 313 صورة ما ورد فى آخر نسخة (ك) 322 فهرس موضوعات الجزء الثالث والثلاثين من كتاب نهاية الأرب 323 فهرس بأسماء بعض المراجع التى اعتمدنا عليها فى التحقيق 331

«بعض المراجع التي اعتمدنا عليها في تحقيق هذا الجزء» (1) النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة. (الأجزاء المطبوعة) لأبى المحاسن جمال الدين يوسف بن تغرى بردى الأتابكى ط. دار الكتب. (2) صبح الأعشى فى كتابة الإنشا. للقلقشندى: أبى العباس أحمد: ط. دار الكتب. (3) السلوك لمعرفة دول الملوك (ج 1 و 2 فى ست مجلدات للمقريزى (تقى الدين أحمد بن على) تحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر. (4) المختصر فى تاريخ البشر المعروف بتاريخ أبى الفداء فى أربعة أجزاء ط. الحسنية سنة 1325 لأبى الفداء (عماد الدين إسماعيل) . (5) شذرات الذهب فى أخبار من ذهب (ثمانية أجزاء) لابن العماد: أبى الفلاح عبد الحى (نشر مكتبة المقدسى) القاهرة سنة 1350 هـ. (6) تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر) سبعة مجلدات لابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن محمد.. ط. بولاق. سنة 1284 هـ. (7) نهاية الأرب فى فنون الأدب (الأجزاء المطبوعة) للنويرى: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. ط. دار الكتب. (8) تاريخ اليمن: فرجة الهم والحزن فى حوادث وتاريخ اليمن، للواسعى: عبد الواسع بن يحيى الواسعى اليمانى ط. القاهرة سنة 1947 م. (9) بلوغ المرام فى شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك أو إمام للعرشى: القاضى حسين بن أحمد، تحقيق وتعليق الكرملى ط. القاهرة 1939.

(10) تاريخ المستبصر المسمى صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز (فى جزأين) ، لابن المجاور: جمال الدين أبى الفتح يوسف بن يعقوب بن محمد. نشر اوسكر لوفغرين ط. ليدن سنة 1951. (11) العقود اللؤلؤية فى تاريخ الدولة الرسولية. (فى مجلدين) الخزرجى: على بن الحسن، وتصحيح محمد بسيونى عسل. ط. القاهرة سنة 1911. (12) مختصر المفيد فى أخبار صنعا وزبيد: عمارة بن على بن زيدان اليمنى نسخة مصورة بدار الكتب تحت رقم 8048 ح (13) طرفة الأصحاب فى معرفة الأنساب: للملك الأشرف عمر بن يوسف بن رسول (تحقيق ك. و. سترستين) ط. المجمع العلمى العربى بدمشق سنة 1949. (14) مرآة الزمان فى تاريخ الأعيان (الجزء الثامن فى قسمين) : سبط ابن الجوزى: شمس الدين يوسف بن قزاوغلى التركى. ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند سنة 1951. (15) المقتطف من تاريخ اليمن: للجرافى: القاضى عبد الله بن عبد الكريم الجرافى ط. الحلبى بالقاهرة سنة 1951. (16) أخبار مكة- شرفها الله- وما جاء فيها من الآثار: للأزرقى: أبى الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقى ط. ليبزج سنة 1858 م (17) الدر الفاخر فى سيرة الملك الناصر (وهو الجزء التاسع من كنز الدرر وجامع الغرر) للدوادارى: أبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى ط. القاهرة سنة 1962 (18) تاريخ المساجد الأثرية (الجزء الأول) حسن عبد الوهاب ط. دار الكتب بالقاهرة سنة 1946

(19) معجم الأنساب والأسرات الحاكمة فى التاريخ الإسلامى (الجزء الأول) المسشرق زامباور (ترجمة زكى محمد حسن وآخرين) ط. القاهرة سنة 1951. (20) الدارس فى تاريخ المدارس. للنعيمى: عبد القادر بن محمد النعيمى الدمشقى (تحقيق جعفر الحسنى) ط. المجمع العلمى العربى بدمشق سنة 1948. (21) المروج السندسية الفسيحة فى تلخيص تاريخ الصالحية. لمحمد بن عيسى بن كنان. (تحقيق محمد أحمد دهمان) ط. مديرية الآثار القديمة العامة بدمشق سنة 1947 (22) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- جزآن. للمقريزى (تقى الدين أحمد بن على) ط. بولاق سنة 1270 هـ. (23) الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة (فى أربعة أجزاء) . لابن حجر العسقلانى (شهاب الدين أحمد بن على بن محمد) ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند سنة 1348 هـ (24) المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى (الجزء الأول) . لابن تغرى بردى (جمال الدين أبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى) تحقيق أحمد يوسف نجاتى ط. دار الكتب سنة 1956 (25) الوافى بالوفيات (الأجزاء من الأول إلى الرابع) . للصفدى: صلاح الدين ابن أيبك (1 و 2 ط. استانبول) (3 و 4) ط. دمشق 1953 و 1959 (26) الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد. للأدفوى: جعفر بن ثعلب بن جعفر. ط. القاهرة سنة 1914 م (27) دولة بنى قلاوون فى مصر. الدكتور محمد جمال الدين سرور ط. القاهرة سنة 1947 م

(28) تاريخ دولة المماليك فى مصر. وليم موير (ترجمة محمود عابدين وسليم حسن) ط. القاهرة سنة 1924 م (29) معجم البلدان (عشرة أجزاء) الأصل والتكملة. ياقوت الحموى ط. الخانجى بالقاهرة سنة 1907 م. (30) مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (فى ثلاثة أجزاء) . لصفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادى (تحقيق على البجاوى) ط. الحلبى سنة 1954 م. (31) أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم. للمقدسى المعروف بالبشارى (محمد بن أحمد بن أبى بكر) ط. ليدن 1906 م (32) صفة جزيرة العرب (فى جزأين) . للهمدانى: أبى محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب) ط. ليدن (1884- 1891 م) (33) الإكليل. للهمدانى (أبى محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب) . الجزء الثامن بتحقيق الكرملى (الأب أنستاس) ط. بغداد سنة 1936 م الجزء العاشر بتحقيق محب الدين الخطيب ط. القاهرة سنة 1368 هـ (34) قوانين الدواوين. لابن مماتى: الأسعد بن مماتى الوزير الأيوبى (تحقيق عزيز سوريال) ط. القاهرة سنة 1943 (35) القاموس الجغرافى للبلاد المصرية، محمد رمزى. ط. دار الكتب (1954- 1955) (36) تاج العروس (عشرة أجزاء) للزبيدى (السيد محمد مرتضى الحسينى) القاهرة- المطبعة الخيرية (1306- 1307 هـ) . (37) النقود العربية. للمقريزى (نشر الكرملى) القاهرة سنة 1939.

(38) العرب والملاحة فى المحيط الهندى. لجورج فضلو حورانى، ترجمه عن الإنجليزية الدكتور يعقوب بكر (نشر مؤسسة فرنكلين) (القاهرة سنة 1958 (39) الألفاظ الفارسية المعربة: أدى شير (ط. بيروت 1908 م) (40) شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل لشهاب الدين أحمد الخفاجى ط. الأميرية 1282 هـ (41) معيد النعم ومبيد النقم للسبكى. تاج الدين عبد الوهاب السبكى بتحقيق محمد على النجار وآخرين. (ط. دار الكتاب العربى سنة 1948) . (42) بهجة الزمن فى تاريخ اليمن، لعبد الباقى بن عبد المجيد اليمانى، تحقيق عبد الله الحبشى، محمد السنبانى، ط. دار الحكمة اليمانية، صنعاء 1988. (43) معجم البلدان والقبائل اليمنية، إعداد إبراهيم أحمد المقحفى، ط.

§1/1